الكتاب: معالم المدرستين
المؤلف: السيد مرتضى العسكري
الجزء: ١
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٠ - ١٩٩٠ م
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النعمان للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

معالم المدرستين
1

مؤسسة النعمان
للطباعة والنشر والتوزيع
الحاج حسن الكتبي
تتعهد المؤسسة لكافة المؤلفين والناشرين الكرام داخل لبنان وخارجه بطبع
كتبهم وصفها (بالكمبيوتر): وكذلك التصحيح والورق والتجليد الفني بأسعار
مرضية، كما تزود المكتبات ودور النشر بكتبها وكتب دور النشر الأخرى وحسب
الطلب.
اتصلوا بنا على العنوان التالي:
بيروت - لبنان حارة حريك - شارع دكاش ص. ب: 229 / 25.
2

معالم المدرستين
بحوث ممهدة لتوحيد كلمة المسلمين
الجزء الأول
بحوث المدرستين في الصحابة والإمامة
تأليف
العلامة السيد مرتضى العسكري
مؤسسة النعمان
للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - حارة حريك - شارع دكاش - ص ب: 229 / 25
3

الاهداء
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليك يا امام العصر ورحمة الله وبركاته
سيدي يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله
إليك أهدي هذا المجهود الضئيل.
" يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة
مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا أن الله يجزي
المتصدقين ".
أيها الجواد الكريم اشفع لنا عند الله ليغفر لنا ذنوبنا
ويكشف عنا وعن قومنا الضر إنه أرحم الراحمين.
صغير خدامكم
مرتضى العسكري
5

كلمة الناشر:
بسمه تعالى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء وسيد
المرسلين محمد صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد، فيسر مؤسسة النعمان التي عودت قراءها على نشر نفائس
الكتب لخيرة المؤلفين أن تتحفهم هذه المرة بكتاب (معالم المدرسين)
لمؤلفه حجة الاسلام والمسلمين السيد مرتضى العسكري دام تأييده.
أما المؤلف فغني عن التعريف، فهو صاحب الخدمات المشكورة في
كل الميادين الاجتماعية والثقافية، من تأسيس الجمعيات الخيرية إلى تأسيس
المدارس الدينية، وناهيك ما في تأسيسه لكلية أصول الدين ببغداد وتربية
جيلا من خيرة الشباب.
ثم تحقيقاته وأبحاثه القيمة التي أتحف بها المكتبة الاسلامية فكانت
في الطراز الأول مما أنتجه الباحثون الخبراء من عمق في التفكير وبعد في
النظر فاقرأ إن شئت أي مؤلف من مؤلفاته الغزيرة الفائدة (مائة وخمسون
صحابي مختلف، أو أحاديث السيدة عائشة، أو ابن سبأ) لتقف على حقيقة ما
ذكرنا وتتأكد من صحة ما قلناه.
ثم جاء هذا المؤلف النفيس ليكمل تلك الأبحاث الجليلة، ويصحح
أخطاء التاريخ، ويحاكم الاحداث بأسلوبه الرصين الحجة، الواضح
الديباجة، السلس البيان، البليغ العبارة، إحقاقا للحق، وذبا عن الدين،
وجلاء للحقيقة، وأداء للواجب فجزاه الله عن الاسلام وأهله خير الجزاء،
ووفاه أجر المجاهدين.
وقد تشرفت بزيارته في العام الماضي ببيروت وأبديت رغبتي بإعادة
طبعه، وكان طبع منه جزء واحد في إيران، فتلقى طلبي هذا برحابة صدر
وشجعني وأخبرني أن جزئين آخرين قد أنجزا وأجازني بطبع الاجزاء الثلاثة،
وها أنا ذا أقدمها للقراء الكرام سائلا المولى عز وجل أن يتقبل هذا الجهد
الجليل من مؤلفه دام ظله ويطيل عمره الشريف لاكمال مشروعه الضخم
ويوفقني لنشره إنه سميع مجيب. حسن الشيخ إبراهيم الكتبي
6

مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء
وأفضل المرسلين محمد وآله الطاهرين وعلى أصحابه الميامين من
الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد منعني المرض في الطبعة الأولى من كتابة البحوث
اللازمة في مقدمة الكتاب وبعد أن خفت وطأته نوعا ما
والحمد لله انجزت قسما من البحوث الهامة وقدمتها امام
الكتاب، مع يسير من الإضافات اللازمة في أصل الكتاب
وعاقني المرض - أيضا - عن التنظيم والتعبير كما ينبغي.
هذا عذري لأهل العلم والمعرفة في ما يجدونه فيها من
خلل ونقص. واني حين أقدم الكتاب إلى الملا الاسلامي
الكريم أرجو ان يقرؤوه بتجرد علمي وينبهوني إلى ما فيه من
خطأ يلازم الانسان غير المعصوم، أخذ الله بأيدينا جميعا إلى
ما فيه الخير والصواب.
المؤلف
7

بسم الله الرحمن الرحيم
فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا
الألباب.
الزمر 17 - 18
8

مخطط بحوث الكتاب
بحوث تمهيدية تبين منشأ الخلاف بين مدرستي الإمامة والخلافة وتنقسم بحوث
الكتاب بعدها إلى قسمين:
القسم الأول - بحوث مصادر الشريعة الاسلامية لدى المدرستين وسبل
الوصول إليها وعليها تبنى العقيدة الاسلامية واحكامها وتشمل والبحوث الخمسة الآتية:
أ - بحوث المدرستين في الصحبة والصحابة.
ب - بحوث المدرستين في الإمامة والخلافة وهما من سبل الوصول إلى الشريعة
الاسلامية وتكوين الرؤية الصحيحة للاسلام.
ج - بحوث المدرستين في مصادر الشريعة الاسلامية وبحث كيفية اتخاذ مدرسة
الخلفاء الاجتهاد والعمل بالرأي من مصادر الشريعة الاسلامية في عداد كتاب الله وسنة
رسوله (ص) وبها يتم بحث مصادر الشريعة الاسلامية وسبل الوصول إليها لدى مدرسة
الخلفاء.
د - قيام الإمام الحسين (ع) ضد الانحراف عن سنة الرسول بسبب الاجتهاد
والعمل بالرأي.
ه‍ - تمكن أئمة أهل البيت (ع) من إعادة سنة الرسول إلى المجتمع بعد قيام الإمام الحسين
، وتمكن مدرستهم من نشر سنة الرسول (ص) بعد ذلك، وبهذا يتم بحث مصادر
الشريعة الاسلامية وسبل الوصول إليها لدى مدرسة أهل البيت وتتم بذلك بحوث
الأسس الفكرية لدى المدرستين.
القسم الثاني - في بيان أنواع نشاط اتباع المدرستين الفكري والسياسي
والاجتماعي ويشمل الأبواب الأربعة الآتية انشاء الله تعالى:
ا - انتشار أفكار مدرسة الخلافة من إيران وقيام دول اتباعهم فيها.
ب - حملة المغول على البلاد الاسلامية وتقويظهم الخلافة العباسية ببغداد.
ج - انتشار التشيع في القسم التابع لبلد الكوفة من إيران خاصة ونشاط
سكانه في نشر أفكار مدرسة أهل البيت (ع) وقيام دول اتباعهم فيه.
د - افتراءات على مدرسة أهل البيت (ع).
9

بحوث تمهيدية
11

بسم الله الرحمن الرحيم
12

- 1 -
شرع الله للانسان بمقتضى ربوبيته من الدين ما ينظم حياته ويسعده ويوصله
إلى درجة الكمال الانساني وهداه بواسطة أنبيائه إليه وسماه الاسلام (1). كما سن لجميع
مخلوقاته أنظمة تتناسب وفطرتهم وتوصلهم إلى درجة الكمال في وجودهم وهداهم إلى
السير بموجبها الهاميا أو تسخيريا (2).
وكان النوع الانساني كلما توفي رسول من رسل الله في أمة منه قام أصحاب
الطول والسلطان من تلك الأمة بتحريف ما يخالف هوى أنفسهم من شريعة نبيهم أو
كتمانه ثم ينسبون ما لديهم من الشريعة المحرفة إلى الله ورسوله (3).

(1) قال الله سبحانه وتعالى: " ان الدين عند الله الاسلام " آل عمران / 19 وقال: " ومن يبتغ غير
الاسلام دينا فلن يقبل منه ". آل عمران / 85.
(2) قال الله سبحانه وتعالى: " سبح اسم ربك الاعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي اخرج
المرعى فجعله غثاء أحوى ". الاعلى / 1 - 6
وقال: ربنا الذي اعطى كل شئ خلقه ثم هدى. طه / 50
وقال سبحانه: وأوحى ربك إلى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتا... النحل / 68.
وقال سبحانه: والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره. الأعراف / 54
(3) قال الله سبحانه: وان منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من
الكتاب، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. آل عمران / 78.
وقال أفتطمعون ان يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه وهم
يعلمون. البقرة / 75.
وراجع الآيات: البقرة / 42 و 146 و 159 و 174. وآل عمران / 187 والنساء 46، والمائدة / 12 -
15، 41، 59 - 61.
13

ثم يجدد الله دين الاسلام بارسال نبي جديد ينسخ بعض الشعائر والطقوس
التي لامسها التحريف. ولما ارسل الله خاتم أنبيائه محمد (ص) بالقرآن انزل فيه أصول
الاسلام من عقائد واحكام في آيات محكمة وأوحى إليه تفصيل ما انزل في القرآن ليبين
للناس ما نزل إليهم (1) فعلمهم الرسول شرائع الاسلام من كيفية ركعات الصلاة
وتعدادها، وما يمسكون عنه في الصوم وشرائطه، والطواف وأشواطه وبدايته ونهايته. إلى
غيرها من احكام واجبة ومستحبة ومحرمة، فتكون منها لدى المسلمين الحديث النبوي
الشريف، وكذلك جعل الله تجسيد الاسلام في سيرة رسول الله (ص) وأمر الناس
باتباعه في قوله تعالى:
" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " الأحزاب / 21. وسمي مجموع
السيرة والحديث النبوي في الشرع الاسلامي بالسنة وأمرنا الله ورسوله باتباع سنة
الرسول (2).
وهكذا أكمل الله تبليغ الاسلام إلينا في القرآن والسنة النبوية، وتوفي
الرسول (ص) بعد ان أخبر أمته وحذرها بأنه يجري في هذه الأمة ما جرى في الأمم
السابقة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة وأنه لو دخل من الأمم السابقة أحدهم في جحر
ضب لدخل من هذه الأمة أحدهم كذلك في جحر ضب (3).
وكان من أمر التحريف في هذه الأمة أن الله سبحانه وتعالى حفظ القرآن من

(1) قال سبحانه: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " النحل / 44.
(2) أمر الله في آية: " كان لكم في رسول أسوة حسنة بالاقتداء بسيرة الرسول (ص)، وفي آية:
" ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " الحشر / 7، أمر بالعمل بحديث الرسول (ص): والسنة
عبارة عنهما.
(3) تجد تفصيل الأحاديث الواردة في هذا الشأن في البحث الخامس من البحوث التمهيدية بالجزء الثاني
من (مائة وخمسون صحابي مختلق). وراجع - أيضا - نصوص الأحاديث في المصادر التالية:
أ - اكمال الدين للصدوق ص 576 وروى المجلسي عنه في البحار (8 / 3)
وفي تفسير الآية " لتركبن طبقا عن طبقا " في كل من:
مجمع البيان للطبرسي.
وجلاء الأذهان لكازر -
ب - صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (ح / 3).
ج 2 / 171 وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي (ص) " لتتبعن سنن من كان
قبلكم... " الحديث (ح 1 و 2) ج 4 / 176
وفتح الباري بشرح البخاري (17 / 63 و 64).
ج - وصحيح مسلم بشرح النووي (16 / 219) كتاب العلم.
د - صحيح الترمذي (9 / 27 - 28) و 10 / 109.
ه‍ - سنن ابن ماجة (ح 3994).
و - مسند الطيالسي (ح 1346) و (2178)
ز - مسند أحمد (2 / 327 و 367 و 450 و 511 و 527) و (3 / 84 و 94) و (4 / 125 و 5 / 218
و 340).
ح - ومجمع الزوائد (7 / 261) عن الطبراني.
ط - كنز العمال 11 / 123 عن الطبراني في الأوسط والحاكم في المستدرك.
ي - في تفسير الآية (ولا تكونوا كالذين تفرقوا) من سورة آل عمران في الدر المنثور للسيوطي عن
المستدرك للحاكم.
14

أن تناله يد التحريف وقال: " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون " وقال: " لا يأتيه
الباطن من بين يديه ولا من خلفه ".
وأما السنة التي رويت لنا سيرة وحديثا في روايات كثيرة فان الله لم يحفظها
من التحريف كما يتضح ذلك جليا في اختلاف الروايات النبوية التي بأيدي جميع
المسلمين اليوم ولتعارض بعضها مع بعض. وأدى الاختلاف في الحديث الشريف إلى
أن يهتم بعض العلماء بمعالجتها وألفوا كتبا أمثال:
تأويل مختلف الحديث (1) وبيان مشكل الحديث (2) وبيان مشكلات الآثار (3).
ومن جراء اختلاف الأحاديث اختلف المسلمون في فهم القرآن وتشتتت
كلمتهم أبد الدهر، أضف إليه وجودهم في بيئات مختلفة، ومعاشرتهم أهل الآراء والملل
والنحل الأخرى، كل ذلك أدى إلى اختلاف رؤيتهم للاسلام، وبادر بعضهم
إلى تأويل الآيات الكريمة والصحيح مما بأيديهم من الحديث الشريف وفقا
لرأيهم ورؤيتهم للاسلام، وأدى بهم ذلك إلى القطيعة في ما بينهم وعدم استماع بعضهم
آراء الآخرين، والى تكفير بعضهم البعض الاخر، ثم هاجمت قوى الكفر الغازية بلاد

(1) الف ابن قتيبة عبد الله بن مسلم (ت 280 ه‍) أو (276 ه‍) تأويل مختلف الحديث.
(2) الف ابن فورك محمد أو حسين (ت 446 أو 406 ه‍)، بيان مشكل الحديث.
(3) الف أبو جعفر أحمد بن محمد الأزدي المعروف بالطحاوي (ت 331 أو 332 ه‍) بيان مشكلات
الآثار.
15

الاسلام والمسلمين بأفتك سلاح هدام حين حاربت الاسلام بسلاح الفكر المستورد من
بلادهم والتي أعدها ونظمها المبشرون المستشرقون من النصارى واليهود وروجها دعاة
أفكارهم في بلادنا باسم (الاسلام المتطور حسب حاجة العصر) وسلط الغزاة الكفرة
الأضواء على خريجي مدارس المستشرقين في بلادنا ونوهوا بأسمائهم ودفعوهم إلى
الواجهة باسم المصلحين للاسلام ومنوري الفكر والتقدميين، فكان في الهند منهم السير
سيد احمد مؤسس جامعة على كرة الاسلامية وفي مصر أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل،
وقاسم أمين نصير المرأة، وفي العراق علي الوردي أستاذ علم الاجتماع (1)، وفي غيرها
غيرهم، وكان افتك سلاح بأيدي هؤلاء ما تذرعوا به في حرب الاسلام باسم تعريف
الاسلام وتعريف الشخصيات الاسلامية مثل ما فعل السير سيد احمد حين كتب تفسير
القرآن حسب زعمه، وكل محاولات هؤلاء وأساتذتهم المستشرقين ترمي إلى شئ واحد
وتستهدفه، وهو ما قاله أحدهم " لا يقتل الدين الا بسيف الدين " وفي سبيل تحقيق هذه
الخطة يفسرون القرآن ويشرحون الحديث النبوي الشريف ويكتبون سيرة الرسول
والأئمة، يحاولون في كل ما يعملون ان يجردوا الجميع من الاتصال بالغيب، واراءتها على أنها
من طبيعة البشر، ثم يلوحون من طرف خفي وأحيانا يصرحون جليا أن كل فرد
منهم وكل شئ من الاسلام كان متناسبا مع زمانه وكان تقدميا في عصره ونافعا للبشر
في حينه اما اليوم فنحن بحاجة إلى تطوير الاسلام وتجديده ليطابق مقتضيات العصر
وحاجة أهله، وهؤلاء مع سلاحهم هذا الخفي اثره على الكثير أضر على الاسلام
والمسلمين من بعض السياسيين العملاء للغزاة الكفرة في بلادنا والذين نصبوهم حكاما
لبلاد المسلمين بما قاموا به في الحرب الفكرية من تحريف لحقائق الاسلام باسم تعريف
الاسلام أحيانا والاسلام المتطور الملبي لحاجات العصر آونة أخرى (2)، من كل ما ذكرنا
يظهر جليا أن المسلمين في هذا اليوم وبعد كل ما مر على الاسلام من تيارات فكرية
بحاجة شديدة إلى دراسات مستفيضة لأقوال الفرق الاسلامية وتمحيص ما لديها خلافا
لما يراه بعض المسلمين الغيارى الذين يرون السكوت عن كل ذلك أولى حفظا لوحدة

(1) هؤلاء من دعاة الحضارة الغربية في البلاد الاسلامية ومهدمي الأعراف الاسلامية ومخالفي
أحكامها.
(2) ان أفضل بيان لهذا المكر كتاب أجنحة المكر الثلاثة، تأليف عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، من
سلسلة أعداء الاسلام، ولنا بعد بعض المؤاخذات على الكتاب.
16

المسلمين! ولست أدري كيف يتم دلك مع وجود الخوارج (1) الذين بنيت أصول
عقائدهم على تكفير عامة المسلمين وأنهم هم وحدهم المسلمون وما عداهم مشركون
وعلى التبري من الخليفة عثمان والإمام علي وأم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومن
كان معهم ثم لعن أولئك ولعن جميع المسلمين.
كيف يتم ذلك وفي المسلمين من تتوق نفسه إلى زيارة قبر الرسول الأكرم (ص)
وأئمة المسلمين والتبرك بها والاستشفاع والتوسل بهم إلى الله، وفيهم من يرى كل ذلك
شركا لله وخروجا على الاسلام وبدعة محرمة وبذلك يرون أن جميع المسلمين بعد القرن
الثالث الهجري إلى اليوم مشركون وقد هدموا مساجد المسلمين التي بنيت في طريق غار
حراء وأمثاله من الأماكن المتبركة إلى جانب تهديمهم قبور أئمة المسلمين وأمهات
المؤمنين وعم الرسول وابن الرسول وصحابته وشهداء أحد!؟
ولا يفعل مثل ذلك مع اليهود وتوراتهم والنصارى وبيعهم وكنائسهم وفيها
ما فيها من الصلبان وتماثيل عيسى ومريم عليهما السلام وهم يعلنون ان عيسى ربهم وان
الله ثالث ثلاثة معاذ الله وإنما يعاهدون ولا يقال لهم أنتم مشركون.
ثم إن المسائل المذكورة ونظائرها ليست مسائل تخص الفرد المسلم مثل اسبال
اليدين في الصلاة الذي تراه مدرسة أهل البيت والمالكية خلافا للأحناف والحنابلة
الذين يرون وجوب التكتيف ومثل الاختلاف في غسل الرجلين أو مسحهما في الوضوء
مما يتيسر للفرد المسلم ان يعمل بموجب ما ثبت لديه حكمه اجتهادا أو تقليدا ويستطيع
الفرد الآخر المخالف له في الرأي - أيضا - ان يعمل بموجب ما ثبت لديه حكمه ويمكن
لهما مع ذلك ان يعيشا في وفاق في مجتمع اسلامي واحد وإنما هي مما يبنى المجتمع عليها،
فاما أن يبني المجتمع على هذه العقيدة وتزول تلك أو يبني على تلك وتزول هذه.
وهي ليست بعد قضايا سياسية غير دينية يمكن التغاضي عنها حفظا لوحدة
المسلمين، وان نشر ملايين النسخ من أمثال كتاب " وجاء دور المجوس " بأسماء مستعارة
وغير مستعارة وانفاق بعض الحكومات على أمثالها لتنسب إلى أمة كبيرة من المسلمين
الخروج عن الاسلام وانفاقها ملايين في نشر دعايتها في آلاف المعاهد
والمساجد والمدارس بجميع أقطار الأرض: أن ما عداهم من المسلمين مشركون بالإضافة

(1) منتشرون في الجانب الشرقي من جزيرة العرب وشمال أفريقيا ولهم دولة قائمة في عمان، ويسمون
اليوم بالاباضية.
17

إلى ايفاد آلاف المبعوثين كذلك إلى جميع أقطار الأرض لنشر دعايتها من جانب واحد،
ان كل ذلك لم يكن بدافع سياسي غير ديني.
كما أنها ليست من قضايا أوجدها الاستعمار لإيجاد التفرقة بين المسلمين
ليحسن السكوت عليها، بل هي قضايا كانت قائمة ومنتشرة في المجتمع الاسلامي منذ
عصر امام الحنابلة أحمد (ت 240 ه‍) وعصر الشيخ ابن تيمية (ت 728 ه‍) من
أتباع مدرسته بل وقبلهما وبعدهما إلى اليوم، وان قتل مئات الألوف من المسلمين وحرق
مكتباتهم في شتى العصور ومختلف البلاد خير دليل علي ما نقول، فهي اذن مما يستفاد
منها سياسيا من قبل تلك الحكومة أو ذلك الاستعمار، متى ما شاءت تلك أو شاء هذا، في
ما إذا لم تعالج، ثم إنها كما ذكرنا عقائد راسخة والسكوت عنها على مضض لن يحقق وحدة
بين المسلمين ولا تقاربا ولا تفاهما، بل يعمق الجرح ويوسع شقة الخلاف ويطيل أمدها.
ولمزيد التوضيح وإقامة الدليل على ما بينت، أذكر بعض مشاهداتي من آثار مسائل
الخلاف بين أبناء الأمة الاسلامية في ما يأتي:
18

- 2 - بعض ما شاهدت من آثار الخلاف بين أبناء الأمة الاسلامية
اعتمدت في ما أشرت إليه آنفا من تكفير المسلمين بعضهم البعض الاخر
وما سأذكره منها في ما يأتي مع أنواع من استدلالهم بالإضافة إلى ما ورد في الكتب
المطبوعة إلى مشاهداتي في أسفاري إلى البلاد الاسلامية واجتماعي بعلماء فرق المسلمين
ومفكريهم وأبناء شعوبهم وخاصة في سفراتي الشعر لحج بيت الله الحرام.
في السفرة الأولى
وكان مما رأيت في سفري الأول للحج على عهد الملك عبد العزيز آل سعود: ان
ركبنا - ركب الحاج العراقي - عندما بلغ مدينة الرماح من بلاد الحكومة السعودية، مكثنا
فيها أربعا وعشرين ساعة واشتركنا جميعا في أداء الفرائض جماعة بمسجدهم ولما دنت
ساعة الرحيل اجتمع علينا لفيف من أهالي المدينة يشاهدون رحيلنا فحضر حشدهم من
بدا عليه انه كان من ذوي معرفتهم، وخطب فيهم وأشار إلى افراد الحاج وقال " هؤلاء
مشركون " وقال أيضا " هؤلاء يبكون على الحسن والحسين " ثم أشار إلي وقال: " هذا
مطوعهم لو يطيح بيدي اذبحوا والطع دمو " فانبرى له أحد الحجاج وقال " لماذا نحن
مشركون نحن حججنا بيت الله، زرنا قبر النبي... " فإذا به يرعد ويزبد ويقول له:
" أشركت، لو يجي أبو أبو سعود ما يحامي عنك. ويش محمد: محمد رجالا مثلي " أي
لا يستطيع الملك بسلطته ولا يستطيع جده سعود ان ينجيك مني. وأي شئ كان محمدا
محمد كان رجلا مثلي وقد مات وانتهى اثره.
فارتعد الحاج العراقي وقال: ماذا أقول؟ ماذا أقول؟ فقال له: قل ما هو ضار الا
الله، ما هو نافع الا الله، فردد الحاج ما لقنه إياه، فانبرى له حاج عراقي آخر وقال له:
19

" محمد رجالا مثلك؟ " فأكد قوله ثانية وقال: " محمد رجالا مثلي، مات " فقال له
الحاج " محمد نزل عليه القرآن وينزل عليك القرآن؟ " فلم يحر جوابا، وبادرنا ركوب
السيارات وتحركت بنا.
وكان في ركبنا حاج يحمل جواز سفر سعودي ويسكن العراق، فلما بلغنا
الحدود وشاهده موظف الجوازات السعودي، انتهره وقال له مستهزئا ومستنكرا: تترك
بلاد الاسلام وتسكن بلاد الشرك فأخذ الحاج السعودي يتذلل له ويتخشع ويدعو له
ويطلب جوازه حتى ارجع إليه جوازه!!!
في السفرة الثانية:
كان علماء العراق يومذاك يحملون هم إعادة الاحكام الاسلامية إلى المجتمع،
يوقظون أبناء الأمة الاسلامية في سبيل المطالبة بها، في مساجدهم واحتفالاتهم
ومهرجاناتهم ويعارضون السلطة في تشريعاتها قوانين مخالفة للأحكام الاسلامية،
وكنا نتنسم أخبار تحركات المسلمين في هذا السبيل في أي مكان كان، نؤيد ثورة
الجزائر ضد فرنسا وندعم الثورة الفلسطينية بكل ما أوتينا من حول وقوة ونستطلع أخبار
الثورة الإريتيرية ضد الأحباش ونرى من لوازم نجاح المعركة في سبيل إعادة الاحكام
الاسلامية توعية المسلمين في هذا السبيل ثم تكاتفهم وتعاونهم في هذا الصدد ونسيان
مسائل الخلاف في ما بينهم.
ولما نشبت المعركة الاسلامية في إيران بين سلطة الطاغوت وعلماء المسلمين
يومذاك بدءا بمعركتهم من المدرسة الفيضية في الجامعة الاسلامية الكبرى بقم في
اليوم الخامس والعشرين من شوال سنة 1382 ه‍، استبشرنا بها خيرا وحشدنا كل
طاقاتنا لمساعدتها وجندنا أنفسنا لخدمتها، فقام علماء العراق بكل ما أوتوا من حول
وقوة بتأييدها، جزاهم الله جميعا خيرا.
وكنت ممن أقام الحفلات التأبينية وأقمت ثلاث ليال حفلة تأبينية كبرى في
بغداد، ألقيت فيها خطب توجيهية توضح أبعاد المعركة الاسلامية في إيران وآثارها
ومغزاها.
في مثل هذا الظرف سافرت إلى الحج وانا احمل معي شعارا وأطروحة، شعاري
الدعوة لتوحيد كلمة المسلمين في سبيل إعادة حياة اسلامية في البلاد الاسلامية
وأطروحتي النهضة الاسلامية المتمثلة بالنهضة الاسلامية التي بدت طلائعها في إيران من
20

قبل علماء المسلمين، وكنت أبذل الجهد في شرح دوافعها لقادة المسلمين ومفكريهم
واستنهاضهم لمساعدتها وبيان ان معركة المسلمين في سبيل إعادة الاحكام الاسلامية
واحدة وانه إذا نجحت المعركة في أي بلد اسلامي فإنه ستنتشر آثارها إلى غيرها ويعم
المسلمين خبرها، وكلي أمل ورجاء أني سوف أجد اذنا صاغية لما أعرض من مأساة
المسلمين في إيران مع بيان وحدة القضية ووحدة المصير.
اجتمعت في هذه السفرة بقادة الاخوان المسلمين في سوريا وسعيد رمضان بمكة
ومحمد آدم، رئيس الثورة الإريترية في موقف عرفات ومثقفي الفلسطينيين في الأردن
وبيت المقدس ومحرري الصحف الاسلامية وعلماء المسلمين وخطبائهم وقادة الحركات
الاسلامية أمثال أبي الحسن الندوى وأبي الاعلى المودودي رئيس الجماعة الاسلامية
بباكستان يومذاك إلى غيرهم.
بدأت عملي في المدينة بالمساهمة في كتابة المناشير التي كانوا يعدونها
للتوزيع على الحجيج، فأجريت تعديلات على صيغ المناشير، شرحنا فيها أبعاد
النهضة الاسلامية في إيران وتبين ظلم حكومة الطاغوت وعمالتها لدول الكفر،
نستنهض فيها المسلمين لإعانة أبناء الأمة الاسلامية في إيران، ورجحت توزيعها ليلة
العيد على الحجاج في المشعر الحرام، غير أني بوغت مساء السابع من ذي الحجة في
مكة المكرمة بأن الشيخ المسؤول عن توزيعها وزع بعضها في الحرم المكي الشريف
فألقي القبض عليه وزج في السجن وحجزت النشرات كافة. فاجتمعنا نحن علماء
العراق وإيران يوم العيد بولي العهد فيصل، يومذاك، نطلب منه اطلاق سراح
الموقوف والنشرات المحجوزة، فاغتنمت الفرصة وقلت إن حكومتكم رفعت شعار
تنفيذ أحكام القرآن في هذا البلد، وعليه يقتضي أن تعينوا المسلمين الذين يجاهدون
في سبيل تطبيق أحكام القرآن في بلادهم ويصدمون بحكومات بلادهم الذين يريدون
تنفيذ أحكام الكفر، وأن تجعلوا من البلد الحرام ملجأ للمشردين منهم وتساعدوهم
في شرح ظلامتهم لاخوانهم الحجيج، وذلك هو مصداق قوله تعالى: " ليشهدوا
منافع لهم ". ثم ذكرت قيام علماء المسلمين في الجامعة الاسلامية الكبرى بقم
وأسهبت في شرح أبعاد النهضة الاسلامية الطالعة بإيران، وواجب قادة المسلمين
خاصة الحكومة السعودية تجاهه، وختمت حديثي بشرح قضية العالم الذي وزع
نشرات التظلم على المسلمين وتوقيفه، وجرت حول ذلك بيننا مناقشات، أدت إلى
إطلاق سراح الموقوف.
21

ونشرت الصحف بعد أداء المناسك ورجوعنا إلى مكة دعوة للحضور في المسجد
الهندي بمكة مساء الجمعة للاستماع إلى خطبة الأستاذ المودودي فحضرنا الاحتفال بعد
صلاة العشاء والقى الأستاذ المحاضر خطبة (1) ذكر فيها ثمانية أمور تلزم المسلمين لإعادة
الحياة الاسلامية إلى المجتمع وتقدمت بعده خلف المذياع وخطبت معلقا على خطابه
وقلت:
ان المسلمين في نهضتهم اليوم بحاجة إلى ثلاثة أمور:
أولا - ان المسلمين بعد مضي أربعة عشر قرنا من بعثة الرسول الأكرم (ص)
والظروف التي مرت عليهم بحاجة إلى دراسة موضوعية مستوعبة لكيفية استنباط
الاحكام من مصادر الشريعة الاسلامية ودراية الحديث وفقه السنة وترك البقاء على
تقليد العلماء السلف في كل ذلك.
ثانيا - ان الغزاة الكفرة لبلاد الاسلام - المستعمرين - استطاعوا ان يشتتوا
كلمة المسلمين وبذلك استطاعوا ان يقضوا على كل حركة اسلامية في أي مكان تظهر،
ثم شرحت ثورة الجزائر ضد الفرنسيين والإريتيريين ضد الأحباش وعلماء إيران ضد
الطاغوت العميل وأسهبت في شرحه واستنهضت همم المسلمين لمساعدتهم.
وذكرت ثالثا اننا اليوم بحاجة إلى ايمان كايمان أبي ذر وعمار وسمية وشرحت
ما تحملوا من الأذى في ارض مكة التي نحن عليها في سبيل الاسلام.
وفي المدينة المنورة بلغ عميد الجامعة الاسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز خبر
لقاءاتي بالوفود الاسلامية وان أحد علماء بغداد، من وصفه كذا وكذا، فظنني من اتباع
مدرسة الخلفاء ورغب أن أزور الجامعة الاسلامية بالمدينة وكانت جديدة التأسيس
وأرسل إلينا من سيارات الجامعة ما حملتنا إليها مع بعض علماء بغداد ومثقفيها ووجهائها
وكان أساتذتها قد اجتمعوا في بهو كبير بانتظارنا واستقبلونا فيه واحتشد على نوافذ البهو
فريق من الطلاب لمشاهدتنا ولما استقربنا الجلوس بدأت بعد حمد الله والثناء عليه
بتقديم تحايا علماء المسلمين في العراق لهم وتهانيهم بتأسيسهم الجامعة الاسلامية في

(1) كان قد أعدها ليلقيها في ندوات رابطة العالم الاسلامي التي دعي للاشتراك في جلسات تأسيسها،
ولما لم يسمح له بذلك ألقاها في ذلك المسجد.
22

المدينة المنورة ثم قلت:
ان رسول الله (ص) لما حل بهذا البلد المبارك بدأ بعقد التآخي بين المسلمين
المهاجرين والأنصار، وبنى على ذلك التآخي مجتمعه الاسلامي المجيد وأنتم بوجود طلبة
من خمس وأربعين دولة عندكم تستطيعون ان تقتدوا به وتقدموا هذه الخدمة الجليلة
للاسلام والمسلمين. والمسلمون اليوم بأمس الحاجة إليها فإنهم في شتى أصقاع الأرض
ابتلوا بالاستعمار - الغازي الكافر - منهم من يئن تحت وطأته مباشرة ومنهم من يسيطر
عملاؤه عليهم وبدؤا اليوم يجاهدون الاستعمار وعملاءه فهذى الجزائر يجاهد مسلموها
فرنسا ويجرى عليهم... وفي إريتيريا يجاهد ثوارها هيلاسيلاسي إمبراطور الحبشة ويجرى
عليهم... وعلماء المسلمين في إيران يجاهدون الطاغوت وسيده المستعمر ويكافحون لطرد
أقسى استعمار كافر على وجه الأرض لإعادة الاحكام الاسلامية إلى البلد الاسلامي
وجرى عليهم كذا وكذا...
قلت هذا بعد ان أفضت الحديث عن مأسي التفرقة بين المسلمين وضربت
الأمثال لذلك وأتممت الحديث وجاء دور مضيفي الشيخ بن باز للحديث - وكان قد
أنبئ باني من أتباع مدرسة أهل البيت وكان ضريرا لا يبصر - فإذا به يتنحنح ثم يقول
بالحرف الواحد: " أنتم مشركون أسلموا ثم اطلبوا من المسلمين أن يتحدوا معكم ". فثار
الدم في عروقي واشتركت معه في نقاش طويل وذكره خارج عن الصدد (1).
استمعت في سفراتي إلى الحج إلى خطباء الجمعة والجماعة في مكة والمدينة
واشتركت في النقاش أحيانا مع الخطباء بين صلاتي المغرب والعشاء بمسجد الخيف
وحضرت ندوات رابطة العالم الاسلامي بمكة مستمعا واجتمعت في أسفاري بعلماء مصر
وخاصة الأزهر الشريف وسائر بلاد المسلمين في لبنان وبلاد الخليج والهند وباكستان
وكشمير وغيرها وطارحتهم سمعت أحيانا ما لا يصلح نقله اليوم وأدركت من خلال
مطارحاتي مع مفكري المسلمين وعلمائهم وقادتهم - ولا ينبئك مثل خبير - انه لن
يتحقق أي تقارب أو تفاهم بين المسلمين دون تدارس مسائل الخلاف والبحث عن

(1) إنما أشرت إلى أحاديثي في هذه السفرة ليعلم مدى اخلاصي للشعار الذي كنت ارفعه والأطروحة
التي كنت أطرحها وأحيانا كان الألم يعصر قلبي حين التحدث والدمع ينحدر من عيني. وإذا بي أجابه تلك المجابهة
الفظة من هذا الشيخ.
23

منشئها ثم المبادرة إلى علاجها وإذا كان لابد لنا من معرفة منشأ الخلاف في مسائل
الخلاف من أجل علاجها فسنذكر في ما يأتي أمثلة منها ثم نختم البحوث بما ينبغي أن
نعمله في سبيل علاج مسائل الخلاف بحوله تعالى.
24

- 3 - بعض صفات الله جل اسمه
ومنشأ الخلاف حولها
في المسلمين من يرى أن الله:
خلق آدم على صورته (1). وأن له أصابع (2) وساقا (3) وقدما.
وأنه يضع قدمه يوم القيامة على نار جهنم أو على جهنم فتقول قط، قط، قط (4).
وأن له مكانا، وأنه ينتقل من مكان إلى مكان، وذلك لما رووا: أن رسول الله
قال:
" كان ربنا قبل أن يخلق خلقه في عماء - أي ليس معه شئ - ما تحته هواء،
وما فوقه هواء، وما ثم، خلق عرشه على الماء (5).

(1) صحيح البخاري، كتاب الاستئذان، باب بدء السلام.
صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير الحديث 28،
وكتاب البر، باب النهي عن ضرب الوجه الحديث 115، وارشاد الساري ج 10 / 490، ومسند أحمد ج 2 / 244
و 251، و 365 و 323 و 424 و 462 و 569.
(2) صحيح البخاري، تفسير سورة الزمر ج 2 / 122 وكتاب التوحيد، باب قول الله: لما خلقت بيدي
ج 4 / 186 وباب وجوه يومئذ ناضرة ج 4 / 192.
صحيح مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، الحديث: 19، 21، 22.
(3) صحيح البخاري، تفسير قوله تعالى " يوم يكشف عن ساق " من سورة ن والقلم، الآية 43.
(4) صحيح البخاري، تفسير سورة ق، وكتاب التوحيد، باب أن رحمة الله قريب من المحسنين، ج 4 / 191
والترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في خلود أهل الجنة وأهل النار.
وصحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها
الضعفاء، الحديث: 35 و 36 و 37 و 38.
(5) سنن ابن ماجة، المقدمة، باب في ما أنكرت الجهمية الحديث رقم 182.
سنن الترمذي، تفسير سورة هود، الحديث الأول وفيه العلماء - أي ليس معه شئ، ومسند أحمد
ج 4 / 11 و 12.
25

وأنه قال:
أن عرشه على سماواته كهكذا، وقال بأصابعه مثل القبة عليه، وانه ليئط به
أطيط الرجل بالراكب (1).
وانه قال: ينزل الله في آخر الليل إلى السماء الدنيا فيقول من يسألني فأستجيب
له ومن يسألني فأعطيه... (2).
وأنه قال: ينزل في ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر... (3).
وانه قال عن يوم القيامة:
يقال لجهنم هل امتلأت وتقول: هل من مزيد فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه
عليها فتقول: قط قط.
وفي رواية:
فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول قط قط فهنالك تمتلئ ويزوى
بعضها إلى بعض (4).

(1) سنن أبي داود، كتاب السنة، باب في الجهمية، رقم الحديث 4726.
وسنن ابن ماجة المقدمة باب في ما أنكرت الجهمية.
وسنن الدارمي، كتاب الرقائق، باب في شأن الساعة ونزول الرب تعالى
وراجع كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب (ت 1206 ه‍) ومنهاج السنة.
(2) صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة في آخر الليل، وكتاب التوحيد باب قوله
تعالى " يريدون أن يبدلوا كلام الله "، وكتاب الدعوات باب الدعاء نصف الليل.
صحيح مسلم، كتاب الدعاء، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.
وسنن أبي داود، كتاب السنة، باب في الرد على الجهمية، الحديث رقم 4733
سنن الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في نزول الرب إلى السماء الدنيا كل ليلة ج 2 / 233 و 235
وكتاب الدعوات، باب حدثني الأنصاري ج 13 / 30.
وسنن ابن ماجة، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في أي ساعات الليل أفضل، الحديث رقم 1366.
وسنن الدارمي، كتاب الصلاة، باب ينزل الله إلى السماء الدنيا.
وموطأ مالك، كتاب القرآن، باب 30.
ومسند أحمد ج (2 / 264، 267، 282، 419، 433، 487، 504، 521 ج 3 / 34، ج 4 / 16).
(3) سنن الترمذي، أبواب الصوم، باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان.
سنن ابن ماجة، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان مسند أحمد ج 2 / 433.
(4) كلتا الروايتان عن الصحابي أبي هريرة في تفسير سورة ق من صحيح البخاري، ج 3 / 128 وفي باب
" وجوه يومئذ ناضرة " من كتاب التوحيد منه، ج 4 / 191.
وعن أنس حديث القدم في باب قول الله تعالى وهو العزيز الحكيم " سبحان ربك... " من كتاب
التوحيد منه ج 4 / 129.
وراجع سنن الترمذي، كتاب الجنة، باب ما جاء في خلود أهل الجنة وأهل النار ج 10 / ومسند أحمد
2 / 396.
26

حول رؤيته:
رووا ان رسول الله (ص) يرى ربه يوم القيامة.
فقد قال (ص): يأتيني المؤمنون للشفاعة بعد اباء الأنبياء من الشفاعة.
" فانطلق فاستئذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا - إلى
قوله - ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا... "
الحديث (1).
وأنه قال:
أن الله تبارك وتعالى ينزل يوم القيامة إلى العباد ليقضي بينهم (2).
وأنه قال:
انكم سترون ربكم عيانا (3).
وأن المسلمين يرون ربهم يوم القيامة كما يرون القمر لا يضامون في رؤيته (4).
وأن الله يقول يومئذ:
من كان يعبد شيئا فليتبع، فمنهم من يتبع الشمس ومنهم من يتبع القمر ومنهم
من يتبع الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون
فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا
عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا
فيتبعونه... (5).

(1) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى " لما خلقت بيدي " ج 4 / 185 وفي باب
قول الله تعالى " وجوه يومئذ ناضرة " بتفصيل أو في راجع ج 4 / 190 منه.
(2) سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الرياء والسمعة.
(3) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة " ج 4 / 188.
(4) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى " وجوه يومئذ ناضرة " وكتاب الصلاة،
باب فضل صلاة العصر وباب وقت العشاء إلى نصف الليل وكتاب التفسير باب سورة ق.
صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب فصل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما.
(5) صحيح البخاري، باب قول الله تعالى " وجوه يومئذ ناضرة " ج 4 / 188 وراجع تفسير سورة ق منه
ج 3 / 128. صحيح مسلم، كتاب الايمان، باب اثبات رؤية المؤمنين في الآخرة لربهم.
27

وفي رواية:
حتى إذا لم يبق الا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى
صورة من التي رأوه فيها فيقال: ماذا تنظرون، تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا...
نحن ننتظر ربنا الذي نعبد. فيقول أنا ربكم فيقولون لا نشرك بالله شيئا مرتين أو
ثلاثا... فيقول هل بينكم وبينه علامة فتعرفونه بها فيقولون الساق فيكشف عن ساق
(ثم يسجدون) (1). ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال
أنا ربكم فيقولون أنت ربنا (2).
في الجنة.
وأنه قال عن المؤمنين في الجنة:
ما بينهم وما بين أن ينظروا إلى ربهم الا رداء الكبر على وجهه في جنة
عدن (3).
وأن أهل الجنة إذا دخلوها يقول الله تبارك وتعالى:
تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا
من النار؟ فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل (4).
وأن رسول الله (ص) قال:
بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب قد
أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة!! قال:
وذلك قول الله " سلام قولا من رب رحيم " قال: فينظر إليهم وينظرون إليه فلا
يلتفتون إلى شئ من النعيم، ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره
وبركته (5).

(1) ما بين القوسين ملخص من لفظ الحديث في السجدة.
(2) صحيح مسلم كتاب الايمان، باب معرفة طريق الرؤية الحديث: 299 واللفظ منه.
وصحيح البخاري في تفسير سورة النساء، باب قوله إن الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة (ج 3 / 80) واللفظ
فيه مختصر، وكذلك في كتاب التوحيد منه، باب قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة (ج 4 / 189.
لو تفضل الراؤون ربهم ووصفوا لنا صورة ربهم التي رأوه عليها وساقه التي هي علامة بينهم وبين ربهم
لكان ذلك فضلا منهم كبيرا يشكرون عليه ويحمدون.
(3) صحيح البخاري كتاب التوحيد باب قول الله تعالى وجوه إلى ربهم... (ج 4 / 191).
وفي صحيح مسلم كتاب الايمان باب اثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم، الحديث: 296.
(4) صحيح مسلم، كتاب الايمان، باب اثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم، الحديث 297.
(5) سنن ابن ماجة، كتاب المقدمة، باب في ما أنكرت الجهمية الحديث 184.
28

وأنه قال... أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيا ثم قرأ رسول
الله (ص) " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربهم ناظرة ". (1).
وان رسول الله (ص) أخبر وقال إن أهل الجنة يزورون الله عز وجل ويبرز لهم
عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ولا يبقى في ذلك المجلس أحد الا حاضره
الله عز وجل محاضرة حتى أنه يقول للرجل منكم: " الا تذكر يا فلان يوم عملت كذا
وكذا " فيقول يا رب أفلم تغفر لي، فيقول " بلى... " ثم ننصرف إلى منازلنا فتلقانا
أزواجنا فيقلن أهلا ومرحبا لقد جئت وان بك من الجمال والنور والطيب أفضل مما
فارقتنا عليه فنقول انا جالسنا اليوم ربنا عز وجل ويحقنا ان ننقلب بمثل ما انقلبنا (2).
نكتفي بايراد ما أوردنا من الأحاديث الكثيرة الوفيرة في صفات أعضاء الله
ورؤية العباد ربهم يوم القيامة لأننا بصدد ضرب المثل لبيان منشأ الخلاف ولسنا بصدد
الاحصاء وندرس في ما يأتي الخلاف حول تأويل هذه الأحاديث.
الخلاف على تأويل تلكم الأحاديث.
في المسلمين من يؤمن بظواهر تلكم الأحاديث ويرى الايمان بها ايمانا بالله
ودليلا على القول بتوحيده تعالى. ويسمون من يؤولها إلى غير معنى الجسمية: بمعطلة
الصفات، أي معطلة صفات الله.
وقد دون مسلم تلك الأحاديث في كتاب الايمان من صحيحه والبخاري في
كتاب التوحيد من صحيحه.
وألف ابن خزيمة كتابا سماه " التوحيد واثبات صفات الرب عز وجل التي
وصف بها نفسه في تنزيله وعلى لسان نبيه نقل الأخبار الصحيحة نقل العدول عن
العدول من غير قطع في اسناد ولا جرح في ناقلي الاخبار الثقات " (3).
وهذا فهرس بعض أبواب الكتاب كما جاء في آخره:

(1) سنن الترمذي، كتاب صفة الجنة باب رؤية الرب، ج 10 / 18 - 19.
(2) سنن الترمذي أبواب صفة الجنة باب ما جاء في سوق الجنة (ج 10 / 16).
سنن ابن ماجة كتاب الزهد باب صفة أهل الجنة الحديث: 4336 ص: 1451.
(3) هو الحافظ الكبير امام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت: 311 ه‍)، أستاذ البخاري ومسلم في
الحديث، طبع الكتاب سنة 1378 ه‍. نشر مكتبة الكليات الأزهرية بميدان الأزهر في القاهرة.
راجع ترجمة المؤلف في مقدمة الكتاب.
29

أبواب كتاب ابن خزيمة ص
اثبات النفس لله ص 6
اثبات وجه لله ص 10
باب ذكر صورة ربنا جل وعلا ص 19
باب ذكر اثبات العين لله جل وعلا ص 42
باب اثبات السماع والرؤية لله جل وعلا ص 44
باب اثبات اليد ص 53
باب ذكر اثبات الرجل لله عز وجل ص 80
باب ذكر البيان أن الله عز وجل ينظر إليه جميع المؤمنين ص 167
باب ذكر البيان أن جميع المؤمنين يرون الله يوم القيامة مخليا به 178
والف الامام الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي (ت 280 ه‍) في الرد على
الجهمية ومن أبوابه:
باب استواء الرب على العرش وارتفاعه إلى السماء وبينونته من الخلق.
باب النزول ليلة النصف من شعبان.
باب النزول يوم عرفة.
باب نزول الرب يوم القيامة للحساب
باب نزول الله لأهل الجنة
باب الرؤية (1).
وألف الذهبي كتاب (العلو العال للعلي الغفار) (2) أورد فيه الآيات
والأحاديث التي يفهمون منها أن مكان الله في العلو المكاني، ثم ذكر أقوال الصحابة
والتابعين والعلماء والمحدثين في تأييد ذلك.

(1) ط. ليدن سنة 1960 م.
(2) الامام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي (ت: 748 ه‍) نشر المكتبة
السلفية في المدينة المنورة، باب الرحمة، ط. الثانية سنة 1388 ه‍.
30

منشأ الخلاف حول بعض صفات الله ورؤيته
في المسلمين من درسنا آراءهم في صفات الله المذكورة وفيهم من يتلو في رد تلكم
الأقوال، قول الله تعالى: " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار ".
ويقول: ان قول الله " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " أي إلى أمر ربها ناظرة
" أي منتظرة وذلك مثل قوله تعالى في حكاية قول أولاد يعقوب لأبيهم " واسأل القرية
التي كنا فيها " أي وأسأل أهل القرية " قدر (أمر) في تلك الآية وفي قد هذه الآية (أهل)
وهكذا تؤول سائر الآيات التي ظاهرها يدل على أن الله تبارك وتعالى جسم.
ويسمون أهل تلك الأقوال بالمجسمة والمشبهة أي الذين يشبهون ربهم بمخلوقاته
ويقولون انه جسم.
ويروون عن الإمام جعفر بن محمد الصادق أنه قال:
من زعم أن الله فوق العرش فقد صير الله محمولا ولزمه أن الشئ الذي يحمله
أقوى منه، ومن زعم أن الله في شئ، أو على شئ أو يخلو منه شئ أو يشغل به شئ
فقد وصفه بصفة المخلوقين والله خالق كل شئ، لا يقاس بالقياس ولا يشبه بالناس، لا
يخلو منه مكان، ولا يشتغل به مكان (1).
يستشهدون بقول الإمام علي (ع):
ان الله لا ينزل ولا يحتاج أن ينزل وإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص وزيادة
وكل متحرك يحتاج إلى من يحركه أو يتحرك به فاحذروا في صفاته من أن تقضوا له على
حد تحدونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو تحرك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود (2).
وقال الراوي للإمام علي بن موسى الرضا:
انا روينا ان الله عز وجل قسم لموسى الكلام ولمحمد الرؤية فقال أبو الحسن -
الرضا - فمن المبلغ عن الله عز وجل إلى الثقلين الجن والإنس " لا تدركه الابصار وهو
يدرك الابصار ولا يحيطون به علما وليس كمثله شئ أليس محمدا (ص) قال: بلى،
قال: فكيف يحيى رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم انه جاء من عند الله وانه يدعوهم إلى

(1) راجع الكافي ج 1 / كتاب التوحيد
والتوحيد للصدوق
والبحار للمجلسي ج 4 ط الجديدة. كتاب التوحيد
(2) الكافي باب ابطال الرؤية.
التوحيد للصدوق.
البحار للمجلسي ج 4 باب نفي الرؤية.
31

الله بأمر الله ويقول " لا تدركه الابصار... الآيات ثم يقول انا رأيته بعيني وأحطت به
علما وهو على صورة البشر اما تستحون: ما قدرت الزنادقة ان ترميه بهذا أن يكون يأتي
عن الله بشئ ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.
قال الراوي فإنه يقول: " ولقد رآه نزلة أخرى " فقال أبو الحسن ان بعد هذه
الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: ما كذب الفؤاد ما رأى، يقول ما كذب فؤاد
محمد (ص) ما رأت عيناه ثم أخبر بما رأى يقول ما كذب فؤاد محمد (ص) ما رأت عيناه ثم
أخبر بما رأى فقال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى فآيات الله عز وجل غير الله وقد قال:
" ولا يحيطون به علما " فإذا رأته الابصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة، فقال أبو قرة
فتكذب بالروايات فقال أبو الحسن (ع) إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبت
بها... (1).
وهكذا بين أئمة أهل البيت تفسير الآيات التي فيها شبهة رؤية الله وتجسيمه
وكشفوا عن المقصود عن الساق واليد والعرش ونظائرها في الآيات الكريمة وان الله
خلق آدم على صورته في الحديث (2) وتركنا ايرادها لأنا لسنا بصدد ايراد أدلة المدرستين
واستقصاء أدلتهما في ما ارتأيا بل أردنا ان نورد أمثلة مما ورد من الأحاديث المتعارضة في
صفات الله لدى المدرستين وان أحاديث كل مدرسة تؤول آيات القرآن باتجاهها
الخاص، وانه هكذا نشأ الخلاف حول صفات الله ثم ندرس في ما يأتي منشأ الخلاف في
بعض صفات الأنبياء بحوله تعالى:

(1) توحيد الصدوق ط. تهران سنة 1387 ه‍ ق ص 111 - 112 وأحاطت به العلم أي أحاطت به
الابصار علما وقد أوردنا الحديث موجزا.
(2) يراجع بشأن صفات الله كتب الكافي للشيخ الكليني والتوحيد وعيون اخبار الرضا للشيخ
الصدوق.
32

- 4 -
الخلاف في صفات الأنبياء وما خصهم الله بها ومنشؤها
يرى البعض حول صفات الأنبياء:
ان التبرك بآثار الأنبياء واتخاذ قبورهم محلا للعبادة شرك.
وأن البناء على قبورهم في حد الشرك.
وأن الاحتفال بأيام مواليدهم ومواليد الأولياء معصية وبدعة محرمة.
وأن التوسل إلى الله بغيره في حد الشرك، والاستشفاع برسول الله (ص) بعد
وفاته مخالف للشرع الاسلامي.
ويستدل مخالفوهم بما يأتي:
أ - التبرك بآثار الأنبياء
يستدلون في مشروعية التبرك بآثار الأنبياء بما تواتر نقله في جميع كتب الحديث
أن الصحابة تبركوا برسول الله (ص) وآثاره في حياة الرسول (ص) بمباشرته، و
دعوته بذلك، وتبركوا - أيضا - بآثاره بعد وفاته، وفي ما يأتي بعض ما يستدلون به:
التبرك ببصاق النبي.
في صحيح البخاري عن سهل بن سعد في باب ما قيل في لواء النبي (ص) من
كتاب المغازي (1) ان رسول الله (ص) قال يوم خيبر لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح
الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم

(1) صحيح البخاري ج 3 / 35.
33

أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله (ص)، كلهم يرجو ان يعطاها فقال:
أين علي فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، فأرسل فأتي به... ولفظه في كتاب
الجهاد والسير (1) (فأمر فدعي له فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شئ...)
الحديث.
وفي لفظ مسلم بن الأكوع بصحيح مسلم:
قال فأتيت عليا فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله (ص) فبصق
في عينيه فبرأ وأعطاه الراية... الحديث (2).
التبرك بوضوء النبي.
في صحيح البخاري عن انس بن مالك قال: رأيت رسول الله (ص) وحانت
وقت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فاتى رسول الله (ص) بوضوء فوضع
رسول الله في ذلك الاناء يده وامر الناس ان يتوضأوا منه فرأيت الماء ينبع من تحت
أصابعه حتى توضؤا من عند آخرهم (3).
التبرك بنخامة النبي.
روى البخاري في صلح الحديبية عن عروة بن مسعود قال عن رسول الله (ص)
وأصحابه.
والله ما تنخم رسول الله (ص) نخامة الا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها
وجهه وجلده وانه إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه (4).
التبرك بشعر النبي (ص)
روى مسلم في صحيحه:

(1) باب دعاء النبي إلى الاسلام ج 2 / 107.
(2) صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير الحديث 132.
(3) صحيح البخاري كتاب الوضوء باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة ج 1 / 31.
(4) صحيح البخاري كتاب الشروط / باب (الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة
الشروط).
وكتاب الوضوء منه باب البزاق والمخاط ونحوه... 1 / 38 وباب استعمال فضل وضوء الناس... 1 / 33
ومسند أحمد 4 / 329، 330.
34

ان رسول الله (ص) اتى منى وحلق رأسه بعد ان رمى ونحر " ثم جعل يعطيه
الناس ".
وفي رواية أخرى:
انه دعا الحالق فحلقه فأعطاه أبا طلحة فقال: اقسمه بين الناس (1).
وروى أيضا عن انس قال:
لقد رأيت رسول الله (ص) والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه. فما يريدون ان
تقع شعرة الا في يد رجل (2).
وفي ترجمة خالد بأسد الغابة:
ان خالد بن الوليد كان له الأثر المشهور في قتال الفرس والروم، وافتتح
دمشق، وكان في قلنسوته التي يقاتل بها شعر من شعر رسول الله (ص) يستنصر به و
ببركته، فلا يزال منصورا.
وفي ترجمته - أيضا - بأسد الغابة والإصابة ومستدرك الحاكم واللفظ له:
ان خالد بن الوليد فقد قلنسوة له يوم اليرموك فقال اطلبوها، فلم يجدوها ثم
طلبوها فوجدوها وإذا قلنسوة خلقة فقال خالد اعتمر رسول الله (ص) فحلق رأسه وابتدر
الناس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة فلم اشهد قتالا وهي
معي الا رزقت النصر (3).
وروى البخاري:
انه كان عند أم سلمة زوج النبي (ص) شئ من شعر النبي فإذا أصاب انسانا

(1) صحيح مسلم كتاب الحج.
(باب: بيان ان السنة يوم النحر ان يرمي ثم ينحر ثم يحلق، والابتداء في الحلق بالجانب الأيمن من رأس
المحلوق) (ح / 323) و (ح / 326).
وراجع الحديث 324 و 325 منه في سنن أبي داود بكتاب المناسك باب وطبقات
ابن سعد 1 / 135 ومسند أحمد 3 / 111، 133 و 137 و 146 و 208 و 214 و 239 و 256 و 287 و 4 / 42
ومغازي الواقدي ص 429
(2) صحيح مسلم كتاب الفضائل باب قرب النبي (ص) من الناس وتبركهم به الحديث 74 ص 1812
(3) المستدرك للحاكم كتاب معرفة الصحابة كتاب مناقب خالد ج 3 / 299 واللفظ له وبترجمة خالد
في أسد الغابة والإصابة وموجز الخبر بمنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 5 / 178 تاريخ ابن كثير ج 7 / 113.
35

عين أرسلوا إليها قدحا من الماء تغمس الشعر فيه فيداوي من أصيب (1).
وفي صحيح البخاري وغيره:
قال عبيدة لان تكون عندي شعرة منه - أي النبي - أحب إلي من الدنيا وما
فيها (2).
التبرك بسهم النبي (ص)
روى البخاري في صلح الحديبية وقال:
" نزل الرسول (ص) بجيشه في أقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه
الناس تبرضا فلم يلبثه الناس حتى نزحوه وشكوا لي رسول الله (ص) العطش فانتزع سهما
من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فوالله ما يزال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه (3).
التبرك بموضع كف النبي (ص).
في ترجمة حنظلة من الإصابة ومسند أحمد ما موجزه:
قال حنظلة دنا بي جدي إلى النبي (ص) فقال إن لي بنين ذوي لحى ودون ذلك
وان ذا أصغرهم فادع الله له فمسح رأسه وقال: بارك الله فيك أو بورك فيه، قال الراوي
فلقد رأيت حنظلة يؤتى بالانسان الوارم وجهه أو البهيمة الوارمة الضرع فيتفل على يديه و
يقول: باسم الله ويضع يده على رأسه ويقول على موضع كف رسول الله (ص) فيمسحه
عليه وقال الراوي فيذهب الورم (4).
وفي لفظ الإصابة: ويقول باسم الله ويضع يده على رأسه موضع كف رسول
الله فيمسحه عليه ثم يمسح موضع الورم فيذهب الورم.
كان انتشار البركة من رسول الله (ص) إلى من حوله كانتشار الضوء من

(1) أوردناه ملخصا من صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب ما يذكر في الشيب، ج 4 / 27.
(2) صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الانسان ج 1 / 31. ومسند أحمد
4 / 329 و 330. وسيرة ابن هشام.
(3) صحيح البخاري، كتاب الشروط، (باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة
الشروط ج 2 / 81 وراجع كتاب المغازي منه، باب غزوة الحديبية، وراجع طبقات ابن سعد ج 3 / 29، وباب
ذكر علامات بعد نزول الوحي ج 1 / ق 1 / 118، ومغازي الواقدي ص 247.
(4) مسند أحمد 5 / 68 وتفصيله بترجمة حنظلة بن حذيم بن حنيفة التميمي في الإصابة وفي لفظه، وأورد
الخبر أيضا بأسناد أخرى.
36

الشمس والشذى من الزهر، لا ينفك عنه أينما حل، في صغره وكبره، سفره وحضره ليله
ونهاره، سواء أكان في خباء حليمة السعدية رضيعا، أم في سفره إلى الشام تاجرا أم في
خيمة أم معبد مهاجرا، أم في المدينة قائدا وحاكما، وما أوردناه أمثلة من أنواعها وليس
من باب الاحصاء فان احصائها لا يتيسر للباحث، وفى ما أوردناه الكفاية لمن كان له
قلب أو القى السمع وهو شهيد. وندرس بعد هذا في ما يلي مسألة الاستشفاع برسول
الله (ص) ثم ندرس منشأ الخلاف في جملة ميزات رسول الله على سائر الناس إن شاء الله
تعالى:
ب - الاستشفاع برسول الله (ص).
يستدل القائلون بمشروعية التوسل برسول الله (ص) والاستشفاع به في كل
زمان بأن ذلك وقع برضا من الله قبل ان يخلق النبي وفي حياته وبعد وفاته وكذلك يقع
يوم القيامة وفي ما يأتي الدليل على ذلك:
أ - التوسل بالنبي قبل أن يخلق:
روى جماعة منهم الحاكم في المستدرك من حديث عمر بن الخطاب (رض) أن
آدم لما اقترف الخطيئة قال: (يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله وكيف
عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت
رأسي فرأيت قوائم العرش مكتوب عليها " لا إله إلا الله محمد رسول الله " فعرفت لم
تضف إلى اسمك الا أحب الخلق إليك فقال الله تبارك وتعالى صدقت يا آدم انه لأحب
الخلق إلي إذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك).
وذكره الطبراني وزاد فيه " وهو أخر الأنبياء من ذريتك " (1).
وأخرج المحدثون والمفسرون في تفسير الآية " ولما جاءهم كتاب من عند الله
مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفحتون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا
به فلعنة الله على الكافرين ".
ان اليهود من أهل المدينة وخيبر إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من

(1) مستدرك الحاكم كتاب التاريخ في اخر كتاب البعث، ج 2 / 615 ومجمع الزوائد 8 / 253 وتحقيق
النصرة للمراغي (ت: 816 ه‍)، ص 113 - 114. وهو الذي نقله عن الطبراني.
37

الأوس والخزرج وغيرهما قبل أن يبعث النبي كانوا يستنصرون به عليهم ويستفتحون لما
يجدون ذكره في التوراة فيدعون على الذين كفروا ويقولون: " اللهم انا نستنصرك بحق
النبي الأمي الا نصرتنا عليهم " أو يقولون " اللهم ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك... (1)
فينصرون فلما جاءهم كتاب من عند الله وهو القرآن مصدق لما معهم وهو التوراة
والإنجيل وجاءهم ما عرفوا وهو محمد (ص) ولم يشكوا فيه كفروا به لأنه لم يكن من
بني إسرائيل (2).
ج - التوسل بالنبي في حياته.
روى أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجة والبيهقي عن عثمان بن حنيف ان
رجلا ضرير البصر أتى النبي (ص) فقال ادع الله ان يعافيني، قال إن شئت دعوت وان
شئت صبرت فهو خير لك، قال فادعه، قال فأمره ان يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا
الدعاء:
" اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد اني توجهت بك إلى ربي
في حاجتي لتقضى لي، اللهم شفعه في " (3) صححه البيهقي والترمذي.
التوسل بالنبي بعد وفاته.
روى الطبراني في معجمه الكبير من حديث عثمان بن حنيف.
ان رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان (رض) في حاجة له فكان لا يلتفت
إليه ولا ينظر في حاجته فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال عثمان بن حنيف ائت

(1) يظهر من الروايات أنهم كانوا يدعون بأمثال هذه الأدعية مما فيه التوسل بالنبي إلى الله جل اسمه.
(2) تواترت الروايات بالمضمون الذي أوردناه في كل من:
دلائل النبوة للبيهقي ص 343 - 345 وتفسير الآية 89 من سورة البقرة وتفسير محمد بن جرير الطبري ج
1 / 324 - 328 وتفسير النيسابوري بهامشه ج 1 / 333.
والحاكم بتفسير الآية 89 بسورة البقرة من كتاب التفسير بمستدركه ج 4 / 263 وتفسير السيوطي عن
دلائل النبوة لأبي نعيم وتفسير محمد بن عبد حميد وتفسير أبي محمد عبد الرحمن بن أبي خاتم بن إدريس الرازي وتفسير
أبو بكر محمد بن إبراهيم المنذر النيسابوري.
(3) مسند أحمد 4 / 138. وسنن الترمذي، كتاب الدعوات ج 13 / 80 - 81 وسنن ابن
ماجة، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الحاجة الحديث 1385 ص 441 وابن الأثير
بسنده بترجمة عثمان بن حنيف من أسد الغابة والبيهقي برواية صاحب تحقيق النصرة عنه. تحقيق النصرة / 114.
وأوردنا لفظ امام الحنابلة أحمد لان المنكرين للشفاعة من أتباع الشيخين ابن تيمية وابن عبد الوهاب من
أتباع ابن حنبل.
38

الميضاة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل ركعتين ثم قل:
اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد (ص) نبي الرحمة، يا محمد اني أتوجه بك
إلى ربي فتقضي حاجتي وتذكر حاجتك. فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثم أتى باب
عثمان بن عفان فجاءه البواب فأخذ بيده، فادخله على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة
فقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له ثم قال له ما ذكرت حاجتك حتى كانت
الساعة وقال ما كان لك من حاجة فاذكرها.
الاستشفاع بالعباس عم النبي (ص)
في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب (رض) كان إذا قحطوا استسقى
بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم انا كنا نتوسل بنبينا فتسقينا وانا نتوسل إليك بعم
نبينا فاسقنا، قال فيسقون (2).
كان الاستشفاع بالعباس لأنه عم رسول الله (ص) وليس لصفة أخرى فيه.
مع وجود هذه الأحاديث من سنة الرسول (ص) لا ينبغي أن يكون ثمة
خلاف في مسألة صفات الأنبياء وخاصة خاتم الرسل المذكورة وما فضلهم الله بها،
وخصهم على سائر الناس، وفي ما يأتي سنذكر بعض ما نراه سببا للخلاف في صفات
خاتم الرسل خاصة.
منشأ الخلاف حول صفات رسول الله (ص)
مع صراحة النصوص المتواترة المذكورة آنفا حول بعض صفات الأنبياء كيف
نشأ الخلاف حولها؟
الجواب انا إذا أمعنا النظر في روايات جمة أخرى رويت في انتقاص شأن
الأنبياء وانتشرت في كتب الحديث مما تنزل منزلة الأنبياء عن مستوى سائر الناس

(1) تحقيق النصرة ص 114 - 115. رواه عن الطبراني في معجمه الكبير.
(2) صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الامام الاستسقاء إذا قحطوا. وكتاب
فضائل أصحاب النبي، باب مناقب العباس بن عبد المطلب.
صحيح البخاري 1 / 124 و 2 / 200.
وسنن البيهقي، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الاستسقاء بمن ترجى بركة دعائه، ج 3 / 352.
39

تكون للمعتقد بصحتها رؤية خاصة تناقض محتوى الأحاديث الآنفة ولئلا يطول بنا
المقام نقتصر في ما يأتي بالإشارة إلى بعض ما روى بشأن خاتم الأنبياء وأفضل المرسلين
صلى الله عليهم وسلم، ففيه كفاية لمن أراد أن يتدبر ويتبصر، منها:
1 - ما رواه البخاري في صحيحه وقال:
ان رسول الله (ص) قبل ان ينزل عليه الوحي قدم إلى زيد بن عمرو بن نفيل
سفرة فيها لحم فأبى ان يأكل منها ثم قال: اني لا آكل الا مما ذكر اسم الله عليه (1)
إذا فان زيدا كان في الجاهلية أفضل من رسول الله يتجنب من أمر الجاهلية
مالا يتجنبه رسول الله (ص).
2 - روى البخاري ومسلم:
ان رسول الله (ص) لما جاءه جبرائيل بآيات " اقرأ باسم ربك الذي خلق - إلى
قوله - علم بالقلم " رجع النبي (ص) إلى بيته ترجف بوادره وقال لخديجة اني خشيت على
نفسي فقالت له خديجة: ابشر، كلا فوالله لا يخزيك الله أبدا وانطلقت به إلى ورقة بن
نوفل وكان امرءا تنصر في الجاهلية فأخبره رسول الله (ص) خبر ما رآه. فقال ورقة: هذا
الناموس الذي أنزل على موسى... الحديث (2).
إذا فان ورقة النصراني كان أدرى بالوحي وجبرائيل من رسول الله الذي
خوطب بالوحي ومن كلام ورقة اطمأن النبي بمصيره. والا فإنه كان يريد أن يلقي بنفسه
من حالق جبل. حسب ما رواه ابن سعد في طبقاته وقال أيضا ان رسول الله (ص) قال: إن
الابعد يعني نفسه لشاعر أو مجنون لا تحدث بها عني قريش ابدا (3).

(1) البخاري كتاب الذبائح، باب ما ذبح على النصب والأصنام ج 3 / 207 ومسند أحمد 2 / 69 و
86. وزيد بن عمرو بن نفيل كان ابن عم الخليفة عمرو والد زوجته، ورد ذكره في ترجمة ابنه سعيد في
الاستيعاب 2 / 4.
(2) صحيح البخاري: باب بدء الوحي، الجزء 1 / 3 وتفسير سورة اقرأ وصحيح مسلم: كتاب الايمان
باب بدء الوحي الحديث 252، ومسند أحمد 6 / 223 و 233.
والبوادر: اللحمة بين المنكب والعنق تضطرب عند الفزع.
وقد لخصنا الخبر.
وناقشنا روايات بعثة النبي الواردة في كتب الحديث والسيرة والتفسير وذكرنا عللها في الجزء الرابع من
" نقش أئمة " وهو سلسلة دراسات عن أثر أئمة أهل البيت (ع) في احياء الاسلام نشر منها سبعة أجزاء باللغة
الفارسية وأوردنا الخبر الصحيح في ذلك، والحمد لله.
(3) طبقات ابن سعد ج 1 / 129 - 130 وخبر البعثة بتاريخ الطبري.
40

3 - روى البخاري ومسلم وقالا:
ان رسول الله كان يغضب فيلعن ويسب ويؤذى من لا يستحقها ودعا الله ان
يجعلها لمن بدرت منه إليه زكاة وطهورا (1).
4 - ورويا أيضا وقالا:
ان بعض اليهود سحر رسول الله حتى يخيل إليه انه يفعل الشئ وما فعله (2).
5 - روى مسلم:
ان رسول الله مر بقوم يلقحون النخل فقال: لو لم تلقحوها لصلح فتركوا تلقيحها
فخرج شيصا فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم (3).
6 - ورويا أيضا: ان رسول الله استمع إلى غناء جوار من الأنصار فنهرهن
أبو بكر (4).
7 - روى مسلم:
ان رسول الله رفع عائشة على منكبه لتنظر إلى الحبشة الذين يلعبون في المسجد
فنهرهم عمر (5).
وفي رواية الترمذي:
إذ طلع عمر فانفض الناس فقال رسول الله (ص) اني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس
قد فروا من عمر (6).
وفي رواية:

(1) صحيح البخاري كتاب الدعوات، باب قول النبي (ص) من آذيته. وصحيح مسلم كتاب البر
والصلة باب من لعنه النبي (ص) وليس له أهلا.
(2) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده وكتاب الطب باب هل يستخرج
السحر وباب السحر وكتاب الأدب باب ان الله يأمر بالعدل وكتاب الدعوات باب تكرير الدعاء وصحيح
مسلم باب السحر.
(3) صحيح مسلم، كتاب الفضائل باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش
الناس... وسنن ابن ماجة باب تلقيح النخل.
(4) صحيح البخاري: كتاب فضائل أصحاب النبي، باب مقدم النبي وأصحابه المدينة وكتاب
العيدين باب سنة العيدين لأهل الاسلام وصحيح مسلم كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في لعب يوم العيد.
(5) صحيح مسلم: كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد.
الحديث 18 و 19 و 20 و 21 و 22.
(6) سنن الترمذي أبواب المناقب، باب مناقب عمر.
41

ان جارية سوداء ضربت بالدف وغنت بين يدي رسول الله (ص) بعد رجوعه
من إحدى غزواته فدخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليها فقال رسول
الله (ص) ان الشيطان ليخاف منك يا عمر. (1)
8 - روى البخاري ومسلم في صحيحيهما:
عن عائشة أن النبي سمع رجلا يقرأ في المسجد فقال: رحمه الله أذكرني كذا و
كذا آية أسقطتها من سورة كذا (2).
رأينا في ما مر أن زيد بن عمرو بن نفيل ابن عم الخليفة عمر كان أتقى لله من
رسوله يمتنع من أكل ما ذبح على الأنصاب والأصنام بينما يأكله رسول الله.
وأن ورقة بن نوفل النصراني يدرك أن الذي جاء إلى رسول الله (ص) هو
جبرائيل ورسول الله لم يعرفه، وخشي أن يكون اصابه مس من الجن وان آيات سورة
اقرأ هي من سجعهم.
وان سحر اليهود اثر في رسول الله (ص) فكان يرى أنه يفعل الشئ وما فعله.
وانه أسقط من القرآن آيات نسيها حتى قرأها بعض الصحابة.
وأنه أمر بعدم تلقيح النخيل ليصلح فلما أصبح شيصا قال لهم أنتم أعلم بأمور
دنياكم مني.
وأنه استمع إلى غناء جوار من الأنصار وكرهها أبو بكر وقال في شأن عمر ان
الشيطان ليفر منك.
ان تلكم الأحاديث وأمثالها تثبت ان رسول الله كان دون زيد في الجاهلية
وبعد الاسلام كان ورقة النصراني أدرى بالوحي وجبرئيل من رسول الله وان أبا بكر
وعمر كانا أكثر تجنبا من اللهو واللغو من رسول الله (ص) وأن الصحابي الذي قرأ من
القرآن ما كان قد أسقطه الرسول منه كان أقوى ذاكرة من رسول الله (ص) وأن رسول
الله كسائر الناس لا يعصمه الله من عبث اليهود وسحرهم وأنه يغضب ويلعن ويسب

(1) سنن الترمذي: أبواب المناقب، باب مناقب عمر. ومسند أحمد ج 5 / 353.
وقد ناقشنا هذه الأحاديث وذكرنا عللها في الجزء 2 و 3 و 4 و 5 من كتاب (نقش أئمة) والحمد لله.
(2) صحيح البخاري، باب قول الله " وصل عليهم "، وكتاب الشهادات باب شهادة الأعمى
ونكاحه، وصحيح مسلم، كتاب فضائل القرآن، باب الأمر بتعهد القرآن.
42

من لا يستحق (1).
ومن آمن بصحة الأحاديث المذكورة آنفا تتكون له رؤية تناقض محتوى
الأحاديث التي أشرنا إليها فيما خص الله به خاتم أنبيائه وميزه عن سائر الناس بفضائل
جمة وحق للرجل ذي معرفة السعوديين أذن أن يقول " محمد رجالا مثلي مات ".
أضف إلى هذه الأحاديث التي كونت رؤية تناقض تلك الفضائل ما فعله
الخليفة الصحابي عمر بن الخطاب واجتهاده في قطعه الشجرة التي بويع تحتها رسول
الله (ص) (2). وتفصيل الخبر في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 / 59.
وينقض جميع الأحاديث التي تنقص من منزلة رسول الله (ص) ما أخبر عنه
الامام على عن رسول الله في خطبته القاصعة حيث قال:
ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من
ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه
اتباع الفصيل إثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به ولقد كان
يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري ولم يجمع يومئذ في الاسلام غير رسول الله صلى
الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة ولقد
سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله. فقلت يا رسول الله
ما هذه الرنة؟ قال هذا الشيطان أيس من عبادته (3).
ولست أدري كيف لم يكن الرسول (ص) يعرف نفسه وعلى كتفه خاتم النبوة
التي يعرفه بها كل من شاهده من أهل الكتاب (4).

(1) لما كانت أحاديث مدرسة الخلفاء تكون رؤية تنزل من مستوى الرسول الأكرم (ص) عن مستوى
الانسان العادي وخاصة في مثل الخبر المختلق في قصة الغرانيق التي بينا زيفها في الجزء الرابع من (نقش أئمة)
ويمكن من خلالها القاء الشبهات في الوصي والقرآن استند المستشرقون من مبشري النصارى في دراساتهم للاسلام
إلى أحاديث مدرسة الخلفاء وتركت أحاديث مدرسة أهل البيت ظهريا.
(2) شفاء الصدور، ص 27، وهي شجرة بيعة الرضوان في صلح الحديبية.
(3) نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الخطبة رقم 192.
(4) صحيح البخاري: كتاب المناقب والمرضى والأدب، وصحيح مسلم: كتاب الفضائل، وسنن أبي
داود، كتاب اللباس، والترمذي: كتاب المناقب ومسند أحمد ج 2 / 223 و 3 / 434 و 442 و 4 / 195 و 5 / 35 و
77 و 82 و 83 و 90 و 95 و 98 و 104 و 340 و 341 و 354 و 438 و 442 و 443 و 6 / 329.
43

وتنقضها أيضا الروايات التي ذكرت دلائل النبوة التي صدرت منه وله قبل أن
يبعث مثل ما تم له في سفرته الأولى إلى الشام مع عمه أبي طالب والثانية في تجارة خديجة
وأخبار الرهبان بأمر بعثته وتضليل سحابة له مما علمه جميع من كان معه في السفرتين
وانتشرت أخبارها في كتب الحديث والسير (1).
واخبار أهل الكتاب بظهوره قبل أن يبعث وخبره في التوراة (2).
وتسليم الشجر والحجر عليه قبل بعثته (3).
كيف كان لا يعرف نفسه وقد بشر به عيسى بن مريم (ع) كما أخبر تعالى عنه
بقوله " ومبشرا بنبي يأتي من بعدي اسمه أحمد " الصف / 6.
كيف لا يعرف نفسه وأهل الكتاب كانوا " يعرفونه كما يعرفون أبنائهم "
البقرة / 146، الانعام / 20.
يعرفون " الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة
والإنجيل " الأعراف / 157.

(1) طبقات ابن سعد، ط. أوربا ج 1 / ق 1 / 76 و 98 و 99 و 109 و 83 و 101 و 73 و 100 منه،
والجزء الثالث ق 1 / 153.
وما رواه البخاري في آخر كتاب بدء الوحي من اخبار هرقل عن ظهوره.
وسنن الترمذي كتاب المناقب باب ما جاء في بدء النبوة ج 13 / 106.
وسيرة ابن هشام ج 1 / 194 و 203 وراجع أيضا: 231 و 239 و 251 منه.
(2) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب كراهية النحب في الأسواق، ج 2 / 10 وكتاب التفسير،
باب تفسير سورة الفتح، وكتاب فضائل القرآن، الباب الأول.
طبقات ابن سعد، ط. أوربا ج 1 / 123 وق 2 / 17 و 87 و 89 وسنن الترمذي كتاب المناقب، الباب
الأول.
سنن الدارمي، المقدمة، الباب الأول ومسند أحمد 2 / 174 و 3 / 467، طبقات ابن سعد ج 1 / ق 1 / 64
و 103 و 104 و 106 و 108 و 111.
(3) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب نسب النبي، الحديث: 2، ص 1782 ومسند أحمد 5 / 89 و
95 و 105.
ومسند الطيالسي، الحديث 781.
وطبقات ابن سعد، ج 8 / 179.
وتسليم الشجر عليه في:
سنن الدارمي، المقدمة، الباب رقم 3.
وطبقات ابن سعد، ج 8 / 179.
44

سيأتي في بحوث مصادر الشريعة الاسلامية من هذا الكتاب محاولات
السلطات الاسلامية برفع مقام الخلافة في أنظار المسلمين على مقام النبوة ونذكر هنا منها
مثالا واحدا من سيرة الحجاج بن يوسف الثقفي والي الخليفة عبد الملك على العراق حيث
خطب في الكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول الله (ص) بالمدينة، فقال: " تبا لهم! إنما
يطوفون بأعواد ورمة بالية! هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك! ألا يعلمون أن خليفة
المرء خير من رسوله (1).
وان الذي نجده من اتجاه بعض المسلمين في القرون المتأخرة من تهوين أمر
الرسول (ص)، ان هو الا نتيجة لتلك المحاولات مدى القرون سواء في ما رووا من
روايات تحط من قدر رسول الله (ص) أم ما أولوا من آيات القرآن وغير ذلك مما فعلوا في
توجيه المسلمين إلى ما أرادوا. ومنها ما رأوا في الاحتفال بذكرى ميلاد الرسول (2) كما
سنذكره في ما يأتي:

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 15 / 242، وراجع الكامل للمبرد ط. النهضة بمصر، ص
222.
(2) أفتى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة
والارشاد في السعودية في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 3 / 12 / 1984 تحت عنوان " حكم الاحتفال بالمولد
النبوي وغيره من الموالد " وقال:
" لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول (ص) ولا غيره لان ذلك من البدع المحدثة في الدين... "
45

- 5 - الخلاف حول الاحتفال بذكرى الأنبياء
وذكرى عباد الله الصالحين
يستدل من يرى استحباب الاحتفال بذكرهم بأن جل مناسك الحج احتفال
بذكرى الأنبياء والأولياء كما سنذكر أمثلة منها فيما يأتي:
أ - مقام إبراهيم:
قال سبحانه وتعالى:
" واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى... " (البقرة / 125).
وفي صحيح البخاري (1) ما ملخصه:
ان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لما كانا يبنيان البيت: جعل إسماعيل يأتي
بالحجارة وإبراهيم يبنى حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو
يبني وإسماعيل يناوله الحجارة.
وفي رواية بعدها حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ على نقل الحجارة فقام على
حجر المقام فجعل يناوله الحجارة.
ان الله سبحانه أمر الناس كما هو واضح أن يتبركوا بموطئ قدمي إبراهيم (ع)

(1) صحيح البخاري: كتاب الأنبياء، باب يزفون النسلان في المشي، ج 2 / 158 و 159.
46

في بيته الحرام ويتخذوا منه مصلى احياء لذكرى إبراهيم وتخليدا وليس فيه شئ من أمر
الشرك بالله جل اسمه.
ب - الصفا والمروة:
قال الله سبحانه:
" ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن
يطوف بهما " (البقرة / 158).
وروى البخاري ما ملخصه:
ان هاجر لما تركها إبراهيم عليه السلام مع ابنها إسماعيل بمكة ونفد ماؤها
وعطشت وعطش ابنها وجعل يتلوى فانطلقت إلى جبل صفا كراهية أن تنظر إليه
فقامت عليه تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي
سعت سعي الانسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت
هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس، قال النبي (ص) فذلك سعي الناس بينهما... الحديث (1).
جعل الله السعي بين الصفا والمروة من مناسك الحج احياء لذكرى سعي
هاجر بينهما واحتفالا بعملها هاجر واستحباب الهرولة في محل الوادي الذي سعت فيه
هاجر سعي الانسان المجهود احياء لذكرى هرولتها هناك.
ج - رمي الجمار:
روى أحمد والطيالسي في مسنديهما عن رسول الله (ص) أنه قال:
" ان جبريل ذهب بإبراهيم إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع
حصيات فساخ، ثم أتى الجمرة الوسطى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ،
ثم أتى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ... (2).
هكذا جعل الله احياء ذكرى رمي إبراهيم الشيطان والاحتفال بذكره من

(1) صحيح البخاري: كتاب الأنبياء، باب يزفون النسلان في المشي، ج 2 / 158، وراجع معجم
البلدان، مادة زمزم، بذكر تاريخ إسماعيل من تاريخ الطبري وابن الأثير.
(2) مسند أحمد 1 / 306، وقريب منه في 127 ومسند الطيالسي الحديث 2697، وراجع مادة الكعبة
من معجم البلدان وتاريخ إبراهيم وإسماعيل من تاريخ الطبري وابن الأثير.
47

مناسك الحج
د - الفدية:
قال الله سبحانه في قصة إبراهيم وإسماعيل:
" فبشرناه بغلام حليم "، " فلما بلغ مع السعي قال يا بني اني أرى في المنام اني
أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين "،
" فلما أسلما وتله للجبين "، " وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا انا كذلك نجزى
المحسنين "، " ان هذا لهو البلاء المبين "، " وفديناه بذبح عظيم " (الصافات / الآيات
101 - 107).
وكذلك جعل الله احياء ذكر فداء إبراهيم ابنه إسماعيل وارسال الله الكبش
فدية له والاحتفال بها من مناسك الحج، وأمر الحجاج بالفدية في منى اقتداء
بإبراهيم واحتفالا بذكر موقفه من طاعة الله.
في مقام إبراهيم انتشرت البركة من قدمي إبراهيم عليه السلام إلى موطئ
قدميه. وامر الله باتخاذه مسجدا في بيته الحرام وجعله الله احياءا لذكره.
وفي ما يأتي نذكر انتشار البركة من آدم (ع) أبي البشر.
انتشار البركة من آدم عليه السلام والاحتفال بذكره
وفي بعض الأخبار أن الله جل اسمه تاب على آدم عصر التاسع من ذي الحجة
بعرفات ثم أفاض به جبرائيل عند المغيب إلى المشعر الحرام وبات فيه ليلة العاشر
يدعو الله ويشكره على قبول توبته ثم أفاض منه صباحا إلى منى وحلق فيه رأسه يوم
العاشر امارة لقبول توبته وعتقه من الذنوب فجعل الله ذلك اليوم عيدا له ولذريته وجعل
كل ما فعله آدم أبد الدهر من مناسك الحج لذريته يقبل توبتهم عصر التاسع بعرفات
ويذكرون الله ليلا بالمشعر الحرام ويحلقون رؤوسهم يوم العاشر بمنى، ثم أضيف إلى هذه
المناسك ما فعله بعد ذلك إبراهيم وإسماعيل وهاجر وتم بها مناسك الحج للناس، إذا فان
أعمال الحج كلها تبرك بتلك الأزمنة والأمكنة التي حل بها عباد الله الصالحون أولئك
وكلها احتفال بذكرهم أبد الدهر وفي ما يأتي نضرب مثالا لانتشار الشؤم إلى المكان من
المكين.
48

انتشار الشؤم إلى المكان من المكين
روى مسلم أن رسول الله (ص) عام تبوك نزل بالناس الحجر عند بيوت ثمود
فاستسقى الناس من الأبار التي كان يشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم
فأمرهم رسول الله (ص) فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم
على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، قال
أني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم (1).
وفي لفظ مسلم: ولا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم الا أن تكونوا باكين،
حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ثم زجر وأسرع حتى خلفها.
وفي لفظ البخاري: ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي.
وفي رواية أخرى بمسند أحمد وتقنع بردائه وهو على الرحل (2).
منشأ الشؤم والبركة في المكان.
من أين نشأ شؤم بلاد ثمود وآبار ثمود وانتشر إليها عدا أنه نشأ من قوم ثمود؟
وانتشر منهم إلى بلادهم وآبارهم وبقي فيها إلى عصر خاتم الأنبياء والى ما شاء الله، و
من أين نشأ فضل بئر ناقة صالح؟ عدا ما كان من شرب ناقة صالح منها وانتشر الفضل
منها إلى البئر وبقي فيها إلى عصر خاتم الأنبياء والى ما شاء الله.
وليست ناقة صالح وبئرها بأكرم على الله من إسماعيل وبئره زمزم بل كذلك
جعل الله البركة في زمزم من بركة إسماعيل أبد الدهر.
وكذلك شأن انتشار البركة مما يفيضه الله على عباده الصالحين في أزمنة خاصة
مثل بركة يوم الجمعة.
بركة يوم الجمعة.
في صحيح مسلم:
" أن الله خلق آدم يوم الجمعة وأدخله الجنة يوم الجمعة... " (3)

(1) أورده مسلم باختصار في صحيحة، كتاب الزهد والرقايق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا
أنفسهم... الحديث: 40، واللفظ لمسند أحمد ج 2 / 117، صحيح البخاري، كتاب المغازي باب نزول
النبي (ص) الحجر.
(2) مسند أحمد ج 2 / 66.
(3) صحيح مسلم: كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، الحديث: 17 و 18.
49

هذا وغيره مما أفاضه الله على عباده الصالحين في يوم الجمعة خلد البركة في يوم
الجمعة أبد الدهر.
البركة في شهر رمضان
وكذلك الشأن في بركة شهر رمضان فقد قال سبحانه " شهر رمضان الذي أنزل
فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان " (البقرة / 185).
وقال سبحانه:
" انا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف
شهر... " (القدر).
إذا فقد انتشرت البركة من ليلة القدر التي أنزل فيه القرآن على خاتم أنبياء الله
إلى جميع أزمنة شهر رمضان وتخلدت البركة في ذلك الشهر من تلك الليلة إلى أبد الدهر.
بعد انتهائنا من الإشارة إلى رجحان الاحتفال بذكرى أصفياء الله نؤكد أننا
نقصد من الاحتفال بذكر أصفياء الله - مثلا - قراءة سيرة رسول الله (ص) الصحيحة
غير المنحرفة في ليلة ميلاده وإطعام الطعام في سبيل الله وإهداء ثوابه لرسول الله (ص)
مع الاجتناب من القيام بأعمال ابتدعها بعض المتصوفة. ونشير في ما يأتي إشارة عابرة إلى
الخلاف حول مسألة البناء على القبور واتخاذها محلا للعبادة.
50

- 6 - الخلاف حول البناء على قبور الأنبياء
واتخاذها محلا للعبادة
استدل قسم من المسلمين بتحريم البناء على القبور بروايات أهمها ما يأتي:
أ - عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال أيكم
ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا الا كسره ولا قبرا الا سواه ولا صورة الا لطخها؟ فقال
(رجل): أنا يا رسول، فانطلق فهاب أهل المدينة، فرجع، فقال علي: أنا أنطلق يا رسول
الله، قال فانطلق، فانطلق ثم رجع، فقال يا رسول الله لم أدع بها وثنا الا كسرته ولا قبرا
الا سويته، ولا صورة الا لطختها.
وقد تكرر ورود هذا الحديث في كتب الحديث واكتفينا بايراد أتم لفظ منه (1)
علة الحديث:
أولا - مر علينا أن رسول الله (ص) زار قبر أمه وبكى وأبكى من حوله
وكانت أمه قد توفيت في السنة السادسة من عمره الشريف بالمدينة المنورة وعلى هذا فقد
زار الرسول قبر أمه بعد نيف وأربعين سنة حين هاجر إلى المدينة المنورة، وأن أثر قبر أمه
عند ذاك كان ماثلا للعيان والا لما عرف قبرها، وإذا كان الحكم الاسلامي، هو تسوية
القبور فلم لم يأمر النبي (ص) بهدم قبر أمه عند ذاك.
ثانيا - أن أهل المدينة بعد أن أسلم بعضهم أرسل لهم الرسول (ص) بادئ
ذي بدء مصعب بن عمير يعلم من أسلم منهم ما ورد من الاسلام يوم ذاك ولما وفدوا إلى

(1) مسند أحمد 1 / 87 و 89، 96، 110، 111، 128، 138، 139، 145، 150، ومسند
الطيالسي، الحديث: 96، 155.
51

الحج حضر المسلمون منهم العقبة وبايعوا رسول الله سرا ولم ينتشر الاسلام بينهم حتى
هاجر الرسول إليهم وتبعه بعد ثلاث أو أكثر الإمام علي، وقصة وروده المدينة بعد ذلك
مشهورة.
وتدرج الرسول في بسط حكمه على المدينة بعد ان عاهد يهود قريضة والنظير
وبني قينقاع ودخل أهل المدينة كلهم في الاسلام متدرجا. فمتى كان ارسال النبي الامام
عليا من تشييع جنازة إلى المدينة ليهدم الأصنام ويسوى القبور ويلطخ الصور كالحاكم
الذي لا راد لامره. أضف إليه ان محتوى الخبر: أن المرسل الأول ذهب وهم في تشييع
الجنازة ورجع خائبا ثم ارسل النبي الامام عليا بعده وهم لا يزالون في تشييع الجنازة،
فكيف يتم ذلك؟.
ثالثا - وفي بقية الحديث ان الامام عليا قال لأبي الهياج الأسدي: أبعثك فيما
بعثني رسول الله (ص) امرني أن أسوي كل قبر واطمس كل صنم (1).
ولا يكون ارسال الامام أبي الهياج الأسدي في أمر الا في عصر خلافته، وعليه
يتجه هذا السؤال: ان في عصر خلافة الإمام علي وبعد الفتوحات الاسلامية في زمن
الخلفاء الثلاثة قبله، إلى أي بلد بعث الإمام علي أبا الهياج لتهديم القبور وطمس
الأصنام؟
وأخيرا في كلا الخبرين أمر من الرسول والإمام علي ان صح الخبران بتهديم
قبور المشركين في بلد الشرك، وكيف يدل ذلك على انتشار هذا الحكم إلى قبور
المسلمين ووجوب تهديمها؟.
ب - رووا عن النبي (ص) أنه قال: اللهم لا تجعل قبري وثنا لعن الله قوما
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2).
وفي الرواية الثانية شخص الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقال:
قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3).

(1) مسند أحمد 1 / 89 و 96.
(2) مسند أحمد ج 1 / 246.
(3) مسند أحمد ج 2 / 285.
52

علة الحديث:
إن بني إسرائيل بعد أن ساروا من مصر وعبروا البحر وجازوا التيه وبلغوا
فلسطين أصبح لهم بيت عبادة وهو " بيت المقدس " لم يكن لهم بيت عبادة غيره. و
في عصر سليمان أصبح لسليمان الملك النبي بلاطا يسمى هيكل سليمان، فأين كانت
قبور أنبيائهم التي اتخذوها؟ وإن بيت المقدس وبلده تحت أنظار المسلمين والعرب
قبل عصر رسول الله (ص) وما بقي من قبور أنبيائهم قبر الخليل وموسى بن عمران
لم نر ولم نسمع ولم يكتب أحد أن اليهود اتخذوهما وثنا وعلى فرض أن قبرا اتخذ وثنا
فإنه لا يصدق على احترام القبر وزيارة القبر فإن اتخاذه وثنا يعني أن يستقبل القبر كما
تستقبل الكعبة في الصلوات، فأين هذا من ذاك؟
ليس مورد الشك في كل ما ذكرناه وما سنذكره بعد هذا أحاديث رسول
الله (ص) معاذ الله، وإنما البحث يجري حول رواة الأحاديث الذين لم يعصمهم الله من
الخطأ والسهو والنسيان.
أدلة من رأى جواز اتخاذ مقابر الأنبياء محلا للعبادة
يستدل من يرى صحة اتخاذ مقابر الأنبياء محلا للعبادة بان الطائفين حول
الكعبة يطوفون حول حجر إسماعيل ويتمسحون بجداره وفيه قبر إسماعيل وأمه هاجر
فقد روى ابن سعد في طبقاته:
ان إسماعيل لما بلغ عشرين سنة توفيت أمه هاجر وهي ابنة تسعين سنة فدفنها
إسماعيل في الحجر.
وان إسماعيل توفي بعد أبيه فدفن في الحجر مما يلي الكعبة مع أمه هاجر.
وفي رواية بعدها:
قبر إسماعيل تحت الميزاب بين الركن والبيت (1).
وروى أبو بكر الفقيه عن النبي (ص) أنه قال:
ما من نبي هرب من قومه الا هرب إلى الكعبة يعبد الله فيها حتى يموت.

(1) لخصنا روايات ابن سعد الثلاثة من طبقاته ج 1 / 25 ط أوربا
53

وان قبر هود وشعيب وصالح في ما بين زمزم والمقام وان في الكعبة قبر ثلاثمائة
نبي وما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود قبر سبعين نبيا (1)
ويستدلون على صحة البناء على القبر بالإضافة إلى ما سبق بان قبور رسول
الله (ص) والخليفتين أبي بكر وعمر في بناء مسقف منذ ان توفوا إلى يومنا الحاضر.
ويستدلون أيضا بقوله تعالى: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " البقرة الآية
125.
وقوله تعالى في ما أخبر عن قصة أصحاب الكهف " قال الذين غلبوا على أمرهم
لنتخذن عليهم مسجدا " الكهف 21.
هكذا كان اختلاف الأحاديث في بناء القبور أو بالأحرى اختلاف فهم
الأحاديث منشأ هذا الخلاف.
وفي ما يأتي نذكر الخلاف حول البكاء على الميت ومنشؤه:

(1) مختصر كتاب البلدان تأليف أبو بكر أحمد بن الفقيه الهمداني (ت 340 ه‍) ط. ابريل بليدن سنة
1302 ص 17.
54

- 7 -
الاختلاف في البكاء على الميت ومنشؤه
كان البكاء على الميت وخاصة الشهيد من سنة الرسول (ص) فقد روى
البخاري في صحيحه:
ان النبي نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم وقال:
" أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب،
وعيناه تذرفان... " (1).
وفي ترجمة جعفر من الاستيعاب وأسد الغاية والإصابة وخبر غزوة مؤتة من
تاريخ الطبري وغيره ما ملخصه:
لما أصيب جعفر وأصحابه دخل رسول الله (ص) بيته وطلب بني جعفر فشمهم
ودمعت عيناه فقالت زوجته أسماء بابي وأمي ما يبكيك أبلغك عن جعفر وأصحابه
بشئ؟ قال نعم أصيبوا هذا اليوم، قالت أسماء فقمت أصيح واجمع النساء ودخلت
فاطمة وهي تبكي وتقول واعماه، فقال رسول الله (ص) على مثل جعفر فلتبك
البواكي.
بكاء الرسول على ابنه إبراهيم
وفي صحيح البخاري:
قال انس: دخلنا مع رسول الله (ص)... وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا

(1) صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي باب مناقب خالد بن الوليد ج 4 / 204.
55

رسول الله تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف (رض) وأنت يا رسول الله! فقال يا ابن
عوف انها رحمة ثم اتبعها بأخرى فقال إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول الا ما يرضي
ربنا وانا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
وفي سنن ابن ماجة: " فانكب عليه وبكى " (1)
بكاء الرسول (ص) على حفيده
في صحيح البخاري ان ابنة النبي (ص) أرسلت إليه: ان ابنا لي قبض فاتنا،
فقام ومعه سعد بن عبادة ورجال من أصحابه فرفع إلى رسول الله (ص) ونفسه تتقعقع
ففاضت عيناه، فقال سعد يا رسول الله ما هذا؟ فقال هذه رحمة جعلها الله في قلوب
عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء (2).
ندب الرسول (ص) إلى البكاء على عمه حمزة
لما سمع رسول الله (ص) بعد غزوة أحد، البكاء من دور الأنصار على قتلاهم
ذرفت عينا رسول الله وبكى، وقال: لكن حمزة لا بواكي له. فسمع ذلك سعد بن معاذ
وا سيد بن حضير، فرجع إلى نساء بني عبد الأشهل فساقهن إلى باب رسول الله (ص)
فبكين على حمزة، فسمع ذلك رسول الله (ص) فدعا لهن وردهن، فلم تبك امرأة من
الأنصار بعد ذلك إلى اليوم على ميت الا بدأت بالبكاء على حمزة ثم بكت على ميتها (3).

(1) صحيح البخاري كتاب الجنائز، باب قول النبي (ص): انا بك لمحزونون ج 1 / 158 واللفظ له.
وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته بالصبيان والعيال، الحديث 62. وسنن ابن ماجة، كتاب
الجنائز، باب ما جاء في النظر إلى الميت، الحديث 1475. وطبقات ابن سعد ط، أروپا، ج 1 / ق / 1 / 88. و
مسند أحمد ج 3 / 194
(2) تتقعقع: أي تضطرب روحه لها صوت وحشرجة كصوت الماء إذا ارتقى في القربة الخالية.
صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي (ص) " يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه واللفظ
له، وكتاب المرضى، باب عيادة الصبيان، ج 4 / 3
وصحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، الحديث 11، ص: 636
وسنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، الحديث 3125 و 3126.
وسنن النسائي، كتاب الجنائز، باب الأمر بالاحتساب والصبر.
ومسند أحمد، ج 2 / 306 و ج 3 / 83 و 88 و 89.
(3) أوردناه من ترجمة حمزة في طبقات ابن سعد ط. دار صادر بيروت 1377 و ج 3 / 11، وأكثر تفصيلا
منه في مغازي الواقدي ج 1 / 315 - 317 وبعده إمتاع الأسماع 1 / 163. ومسند أحمد 2 / 40 وتاريخ الطبري.
وأورده ابن عبد البر بإيجاز بترجمة حمزة من الاستيعاب وباختصار أيضا ابن الأثير بترجمته من الأسد.
56

بكى الرسول على قبر أمه وأبكى من حوله
زار رسول الله (ص) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله
أمر الرسول بإرسال الطعام لأهل المصاب
لما جاء نعي جعفر قال النبي (ص) اصنعوا لأهل جعفر طعاما فإنه قد جاءهم
ما يشغلهم (2).
عين الرسول أيام الحداد على الميت
تواتر عن النبي انه عين حداد المرأة على غير زوجها ثلاثا وعلى زوجها فكما قال
الله أربعة أشهر وعشرا (3) (البقرة / 224).

(1) سنن النسائي كتاب الجنائز باب زيارة قبر المشرك
سنن أبي داود كتاب الجنائز باب زيارة القبور الحديث 3234.
سنن ابن ماجة كتاب الجنائز باب ما جاء في زيارة قبور المشركين.
(2) سنن ابن ماجة، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت، ص 511، الحديث
1610 و 1611.
وفي سنن الترمذي، ج 4 / 219، أبواب الجنائز، باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت وقال هذا
حديث حسن صحيح.
سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب صنعة الطعام لأهل الميت الحديث: 3132. مسند أحمد 1 / 205،
6 / 370.
(3) البخاري كتاب الجنائز باب حداد المرأة على غير زوجها 1 / 154
وكتاب 23 الطلاق باب تحد المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا 3 / 189 وباب 68 الكحل للحادة
وباب القسط للحادة عند الطهر وباب تلبس الحادة ثياب العصب وباب والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا
3 / 189 - 190 وصحيح مسلم كتاب الطلاق باب وجوب الاحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك الا ثلاثة
أيام ج / 1486 و 1487، 1490، 1491 ص 1124 و 1125 و 1126 و 1127 و 1128.
وسنن أبي داود كتاب الطلاق باب حداد المتوفى عنها زوجها ح / 2299
وباب فيما تجتنبه المعتدة في عدتها ح / 2302.
وسنن الترمذي كتاب الطلاق واللعان باب ما جاء في عدة المتوفي. عنها زوجها 5 / 171 - 174 و
سنن النسائي كتاب الطلاق باب عدة المتوفى عنها زوجها وباب الاحداد وباب سقوط الاحداد عن الكتابية
المتوفي عنها زوجها.
وباب ترك الزينة للحادة المسلمة دون اليهودية والنصرانية وباب ما تجتنب الحادة من الثياب المصبغة
وباب الخضاب للحادة.
وسنن ابن ماجة كتاب الطلاق باب هل تحد المرأة على غير زوجها (ح / 2085 - 2087)
وسنن الدارمي كتاب الطلاق باب 11
وموطأ مالك كتاب الطلاق ح / 101، 105
وطبقات ابن سعد 4 / ق 1 / 27، 28 و 8 / 70
ومسند أحمد 5 / 8 و 6 / 37، 184، 249، 281، 286، 287، 324، 325، 326، 369، 408،
426.
ومسند الطيالسي (ح / 1587، 1589، 1591).
57

منشأ الخلاف حول البكاء على الميت
مر في ما سبق أن رسول الله (ص) بكى على المتوفي قبل أن يتوفى وبعده، خاصة
الشهيد وانه أمر بالبكاء على الشهيد وبكى على قبر أمه وأبكى من حوله، وامر بصنع
الطعام لأهل الميت وعين حداد المرأة على غير الزوج ثلاثا. اذن فالبكاء على المتوفى
والحداد عليه وصنع الطعام لأهله من سنة الرسول فما هو منشأ الخلاف والنهي عن البكاء
على الميت؟ نرجع أيضا إلى صحيحي البخاري ومسلم فنجد حديث المنع عن البكاء
من الخليفة عمر (رض).
الخليفة عمر يروي ان رسول الله (ص) نهى عن البكاء وأم المؤمنين عائشة
تستدرك عليه.
في صحيح البخاري ومسلم، عن ابن عباس: لما أن أصيب عمر دخل صهيب
يبكي ويقول: وا أخاه! وا صاحباه! فقال عمر: يا صهيب أتبكي وقد قال رسول الله
" ان الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " فقال ابن عباس. فلما مات عمر ذكرت ذلك
لعائشة.
فقالت رحم الله عمر والله ما حدث رسول الله (ص) ان الله ليعذب المؤمن
ببكاء أهله عليه ولكن رسول الله (ص) قال إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه
وقالت حسبكم القرآن " ولا تزر وازرة وزر أخرى " قال ابن عباس (رض) عند
ذلك: " والله هو اضحك وأبكى " (1).
وفي صحيح مسلم: ذكر عند عائشة ان ابن عمر يرفع إلى النبي " ان الميت
يعذب في قبره ببكاء أهله عليه " فقالت:
إنما قال رسول الله " انه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وان أهله ليبكون عليه ".

(1) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي (ص) يعذب الميت ببكاء أهله عليه ج 1 / 155 -
156، وصحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، الحديث: 23، ص 642
58

وفي رواية قبله:
ذكر عند عائشة قول ابن عمر: الميت يعذب ببكاء أهله عليه فقالت: رحم الله
أبا عبد الرحمن سمع شيئا فلم يحفظه إنما مرت جنازة يهودي على رسول الله وهم يبكون
عليه فقال " أنتم تبكون وانه ليعذب " (1).
قال الامام النووي (ت 177 ه‍) في شرح صحيح مسلم عن روايات النهى
عن البكاء المروية عن رسول الله (ص) " وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب
؟ بنه عبد الله رضي الله عنهما وأنكرت عائشة ونسبتها إلى النسيان والاشتباه عليهما
وأنكرت أن يكون النبي (ص) قال ذلك (2).
ويظهر من الحديث الآتي أن منشأ الخلاف كان اجتهاد الخليفة عمر في النهي
عن البكاء في مقابل سنة الرسول بالبكاء، فقد ورد في الحديث أنه:
مات ميت من آل الرسول (ص) فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهن
ويطردهن فقال رسول الله (ص) دعهن يا عمر فان العين دامعة والقلب مصاب والعهد
قريب (3).
وفي صحيح البخاري:
كان عمر (رض) يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة ويحثي بالتراب (4).
هكذا كان منشأ الخلاف في شأن البكاء على الميت، الأحاديث المتعارضة
الواردة بشأنه في كتب الصحاح ولعل اجتهاد الخليفة عمر (رض) في المنع كان منشأ

(1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز باب الميت يعذب ببكاء الله أهله عليه الحديث 25 والحديث 27
وقريب منه لفظ الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت، وسنن أبي داود، كتاب
الجنائز، الحديث 3129.
(2) شرح النووي بهامش صحيح مسلم ط. المطبعة المصرية 1349 ه‍ ج 6 / 228 باب الميت يعذب
ببكاء أهله عليه.
(3) سنن النسائي كتاب الجنائز باب الرخصة في البكاء على الميت. ابن ماجة كتاب الجنائز باب
ما جاء في البكاء على الميت الحديث 1587 ص: 505.
مسند أحمد 2 / 110، 273، 333، 408، 444.
(4) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض، ج 1 / 158، وقوله " يضرب فيه " أي
يضرب لأجل المنع من البكاء.
59

للأحاديث المروية في منع البكاء على الميت.
فقد رووا غير ما ذكرنا بعض الحديث في تأييد اجتهاد الخليفة الصحابي عمر،
ولا مجال في هذه العجالة لبيان علل تلك الأحاديث وفي ما ذكرنا الكفاية في معرفة منشأ
الخلاف في شأن البكاء والذي نحن بصدده.
إلى هنا استعرضنا أمثلة من مسائل الخلاف التي كان منشؤها اختلاف
الأحاديث في كل منها ونذكر في ما يأتي آيات من كتاب الله نشأ الخلاف حول
تأويلها بحوله تعالى:
60

- 8 -
آيات من كتاب الله نشأ الخلاف
حول تأويلها
من أمثلة ما نشأ الخلاف حولها خلاف في تأويل بعض آيات من كتاب الله
المجيد نذكر أمثلة منها في ما يأتي:
حكم غير الله ودعاء غير الله:
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي في كتابه (الأصول
الثلاثة وأدلتها) ص 4 منه:
" اعلم رحمك الله انه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم هذه الثلاث مسائل
والعمل بهن (1):
الأولى: ان الله خلقنا...
الثانية: ان الله لا يرضى ان يشرك معه في عبادته أحد، لا ملك مقرب ولا نبي
مرسل والدليل قوله تعالى " وان المساجد لله فلا تدع مع الله أحدا " (الجن آية 18 " (2).
وقال في ص 5 منه:
" ان الحنيفية ملة إبراهيم ان تعبد الله وحده مخلصا له الدين وبذلك أمر جميع
الناس وخلقهم لها كما قال تعالى " وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون " ومعنى يعبدون

(1) كذا ورد في الأصل.
(2) رسالة الأصول الثلاثة ط. مطبعة المدني 295 شارع رمسيس بالقاهرة سنه 1380 ه‍ ورسالة الدين
وشروطها أيضا طبع فيها وكذلك استدلوا بقوله تعالى: " قل ادعوا الذين زعمتم من دونه، فلا يملكون كشف الضر
عنكم ولا تحويلا " (الاسراء / 56) وآيات أخرى نظيرها.
61

يوحدوني وأعظم ما أمر الله به التوحيد وهو افراد الله بالعبادة وأعظم ما نهى عنه الشرك
وهو دعوة غيره معه... إلى قوله في ص 8 منه والدليل قوله تعالى " وان المساجد لله... "
وقال في ص 46 منه " القاعدة الرابعة: ان مشركي زماننا أغلظ شركا من
الأولين لان الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة ومشركو زماننا شركهم دائما
في الرخاء والشدة والدليل قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين
فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون " العنكبوت آية 65.
وقال في ص 8 من رسالته (الدين وشروط الصلاة) (1) ما ملخصه: العبادة لها
أنواع كثيرة منها الدعاء الدليل قوله تعالى " وان المساجد لله... ".
وورد في رسالة " شفاء الصدور " التي أصدرته دار الافتاء العامة في الرد على
رسالة الجواب المشكور ص 3 (رفعوا إلى خليفة زعماء دعوة التوحيد والذين أزاحوا
غيا هب الشرك عن هذه البلاد - أي عن مكة المكرمة والمدينة المنورة - وطهروها من
ادرانه وقضوا على كل اثر له...) (2).
يقصدون بدعاء غير الله أو مع الله أن يقول المسلم مثلا يا رسول الله. للتوسل به
إلى الله أو يدعو غيره من أولياء الله كذلك وأدلتهم كلها تدور حول قوله تعالى " لا تدعوا
مع الله " ونظائرها مما نهى الله عن الدعاء مع الله أو غير الله.
وقال مخالفوهم ما أشبه الليلة بالبارحة وما أشبه هذا الاستدلال باستدلال
الخوارج في تكفير من رضي بالتحكيم في صفين بأمثال قوله تعالى:
" ان الحكم الا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون " (يوسف 67) (3)
وقوله: " أفغير الله ابتغي حكما وهو الذي نزل إليكم الكتاب " (الانعام 114)
وكان بداية ذلك في معركة صفين عندما أمر معاوية برفع القرائين على الرماح
ودعوة جيش العراق إلى قبول حكم القرآن وانخداع أكثرية قراء جيش العراق بذلك
واجبارهم الامام عليا بترك القتال وقبول دعوة معاوية بالتحكيم ثم تعيين معاوية من

(1) رسالة الأصول الثلاثة ط. مطبعة المدني 295 شارع رمسيس بالقاهرة سنه. 1380 - ورسالة الدين
وشروطها أيضا طبع فيها بلا تاريخ.
(2) رسالة شفاء الصدور. ط. الأولى مؤسسة النور للطباعة والتجليد.
(3) نكرر قولنا: بأننا لسنا بصدد احصاء أدلة الطرفين في البحث وإنما نأتي بأمثلة منها.
62

قبله عمرو بن العاص حكما واجبار جيش العراق الامام عليا على تعيين أبي موسى
الأشعري حكما من قبله فلما اجتمع الحكمان وخدع عمرو بن العاص أبا موسى وقال له
نخلع عليا ومعاوية ونترك الامر للناس ليختاروا لهم إماما وسبق أبو موسى عمروا بالكلام
وقال: إنما اخلع عليا ومعاوية عن الامر ليختار المسلمون لهم إماما ثم خطب بعده ابن
العاص وقال: انه خلع صاحبه كما رأيتم وانا انصب صاحبي للإمامة فتنازعا وتسابا
وافترقا، بعد هذا أدرك من قبل التحكيم من جيش العراق بخطأهم ونادوا بشعار:
" لا حكم الا لله " وقالوا: انا كفرنا بقبولنا التحكيم وتبنا إلى الله ويجب على الباقي ان
يعترفوا بالكفر ثم يتوبوا مثلنا ومن لم يفعل فأولئك هم الكافرون.
وهكذا كفروا أولا من اشترك في تلك الحوادث من عائشة وعثمان وعلي
وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص ومن تبعهم، ثم شمل حكمهم بالكفر عامة
المسلمين وسموا أنفسهم بالشراة ووضعوا سيوفهم قرونا طويلة على عواتقهم يقتلون بها
المسلمين ويقتلون (1) وصدق رسول الله حيث أخبر عن الخوارج وقال: يقتلون أهل الاسلام
ويدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد (2) وفي أحاديث أخرى
لأقتلنهم قتل ثمود (3).
جواب مخالفيهم في المسألتين
يقول في جواب هؤلاء وأولئك مخالفوهم بان القرآن يفسر بعضه بعضا وإذا كان
قد ورد في القرآن قوله تعالى: " ان الحكم الا لله " فقد ورد فيه أيضا قوله تعالى:
" فان جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم وان تعرض عنهم فلن يضروك شيئا
وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط " المائدة 42.

(1) راجع اخبار يوم صفين في تاريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير ثم اخبار الخوارج فيها وفي غيرها من
كتب التاريخ.
(2) كان ذلك عندما بعث ابن عم الرسول علي من اليمن بذهيبة إلى الرسول فقسمها بين أربعة من المؤلفة
قلوبهم فتغضبت قريش والأنصار فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا قال: إنما أتألفهم فاقبل رجل... محلوق
الرأس فقال: يا محمد اتق الله فقال النبي (ص): فمن يطع الله إذا عصيته أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني، فلما
ولى قال النبي (ص) ان من ضئضئ هذا قوما يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام مروق السهم
من الرمية يقتلون أهل الاسلام... الحديث صحيح البخاري كتاب التوحيد باب قول الله تعالى بعرج
الملائكة... ج 4 / 188 وصحيح مسلم كتاب الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم الحديث 143 ص 741.
(3) صحيح مسلم الحديث 144 و 145 و 146.
63

فقد خول نبيه في هذه الآية ان يحكم بين أهل الكتاب وفي آية أخرى أمر
بان يتخذوا حكما من الناس بقوله تعالى " وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله
وحكما من أهلها إن يريدا اصلاحا يوفق الله " النساء 35.
ولا منافاة بين الآيتين فان الآية الأولى عندما أثبتت (الحكم) لله لم تثبت له
حكما محدودا مثل ما للقضاة في المحاكم بان لهم أن يحكموا بين الناس بموجب القوانين
المرعية وانه ليس لهم ان يعينوا حاكما من قبلهم وإنما ذلك لذي سلطة أعلى، وعلى هذا
فليس للقضاة (الحكم) مطلقا وإنما لهم أن يحكموا بين الناس فحسب ولكن الله له ان
يحكم بين الناس بموجب حكمه وله ان يأذن لغيره بالحكم أي له ان يعين حاكما على أي
جهة في ملكه فله الحكم مطلقا وعلى هذا فان الأنبياء بحكم الله يحكمون حين يحكمون
وكذلك الاثنان اللذان يحكمان بين الزوجين - إذا فان حكم أولئك الحكام إذا حكموا
بموجب ما أمر الله ليس حكم ما سوى الله ولا حكم غير الله ولا حكم دون الله ولا حكم
مع الله وإنما هو حكم بأمر الله وحكم بإذن الله.
وكذلك الشأن بالنسبة إلى بعض الآيات الأخرى التي تثبت بعض الصفات لله
فإنها لا تثبتها لله محدودة بحد وإنما تثبتها لله مطلقا. مثل اثبات صفة الملك لله تعالى.
صفة الملك لله.
لا منافاة في اثبات صفة الملك لله في قوله تعالى: " ولله ملك السماوات والأرض
وما بينهما واليه المصير " (المائدة 18)
وقوله تعالى " لم يتخذ ولد ولا شريك له في الملك " الاسراء 111 والفرقان 2،
وأمثالهما وبين قوله تعالى:
وما ملكت ايمانكم " النساء 3 و 24 و 25 و 36 وآيات أخرى مثلها لأنه سبحانه
وتعالى يقول: " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من
تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شئ قدير ". (آل عمران / 26).
إذا فان الله تعالى حين يملك عبده لم يملك العبد عندئذ مع الله، ولم يملك غير الله
ولا سوى الله ولا دون الله، وإنما العبد وما يملك لمولاه، وان تملك العبد بإذن الله من أجلى
مصاديق " الملك لله " أي ان ملك الله ليس محدودا كملك عبيده الذي يحد بحدود مشيئة
الله واذن الله ولا حول للعبد ان يتصرف في ما خوله الله بأكثر مما حدد الله له في التصرف
من زمان ومكان وسيطرة وكذلك الشأن في صفة الخالقية.
64

الخالق والمحيي.
كذلك شأن صفة " الخالق و " المحيي " فإنه سبحانه وتعالى " خالق كل
شئ " الانعام 102 و " هل من خالق غير الله " فاطر 38 وقال تعالى " الا له الخلق
والامر " الأعراف 54 وقال تعالى " وهو الذي يحيي ويميت " المؤمنون 80 وقال " فالله هو
الولي وهو يحيي الموتى " الشورى 9 ولا منافاة بين هذا وبين ان يأذن لعيسى بن مريم ان
يخلق ويحيى كما قال سبحانه مخاطبا إياه " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير باذني فتنفخ
فيه فيكون طيرا باذني. وتبرئ الأكمه والأبرص وتخرج الموتى باذني " المائدة 110.
وقوله تعالى عن لسان عيسى " اني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه
فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله. " الانعام 49.
فان الله سبحانه حين يخلق ليس كالآلة الصانعة لا يحول عن عمله ولا يزول
جل عن ذلك وليس كالبشر حين يعمل لا يستطيع ان يهب قدرة العمل لغيره.
بل إنه قادر ان يخلق الحياة انسانا كان أو حيوانا من طريق اللقاح بين
الزوجين ويستطيع ان يخلقه بيديه دون أب ولا أم مثل آدم ويقدر كذلك أن يأذن
لعيسى فيخلق بأذنه والخالق في كل ذلك هو الله تعالى.
وكذلك شأن الاحياء فإنه قادر على أن يحيى الموتى بلا واسطة يوم القيامة وقادر
على أن يهب الاحياء لرسوله عيس بن مريم (ع) فيحيى الموتى باذنه.
وقادر على أن يجعل الاحياء في ضرب بعض بقرة بني إسرائيل الصفراء بميتهم
المقتول فيحيا المقتول ويخبرهم عن قاتله (1).
وان عيسى بن مريم حين خلق الطير وأحيا الموتى كان الخلق والاحياء بإذن الله
وعلى هذا فان عيسى حين خلق الطير وأحيا الموتى لم يخلق مع الله ولم يحيي مع الله ولم
يخلق ولم يحيي غير الله ولا دون الله وإنما خلق وأحيا بإذن الله.
الولي والشفيع.
وكذلك شأن صفة الولي والشفيع فإنه لا منافاة في شأن الشفاعة بين قوله تعالى:
" أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون ولا يعقلون. قل لله
الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون " الزمر: 43، 44 وقوله

(1) إشارة إلى الآيات 67 - 73 من سورة البقرة.
65

" مالك من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون " السجدة / 4 وقوله " ليس لهم من
دونه ولي ولا شفيع " الانعام / 51 وقوله " وذكر به ان تبسل نفس بما كسبت ليس لها
من دون الله ولي ولا شفيع " الانعام / 70.
وبين قوله تعالى:
أ - " ما من شفيع الا من بعد اذنه " يونس / 3.
ب - " من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه " البقرة / 255.
وقوله " يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من اذن له الرحمن ورضي له قولا " طه / 109
وقوله " ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن اذن له... " سبأ / 23.
وقوله " لا يملكون الشفاعة الا من اتخذ عند الرحمن عهدا " مريم / 87.
وقوله " ولا يشفعون الا لمن ارتضى " الأنبياء / 28
فإنه تعالى حين يأذن لعباده الصالحين ان يشفعوا كانت الشفاعة لله فأذن لهم
ان يشفعوا فالشفيع عندئذ ليس دون الله وكذلك شأن الولي فان قوله تعالى:
- الولي -
ان الله له ملك السماوات والأرض يحيى ويميت ومالكم من دون الله من ولي
ولا نصير " التوبة / 116.
ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ومالكم من دون الله من ولي
ولا نصير البقرة / 107.
وقوله: أفحسب الذين كفروا ان يتخذوا عبادي من دوني أولياء، انا اعتدنا
جهنم للكافرين نزلا. الكهف / 102.
هذه الأقوال لا ينافي قوله تعالى
" إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
وهم راكعون " المائدة / 55.
لا منافاة بينهما وليس شركا ان نقول: الله ولينا ورسوله ومن يقيم الصلاة ويؤتي
الزكاة في الركوع من المؤمنين، لان الولاية لله وهو الذي اعطى هذه الولاية لهما كما
اعطى للوالد الولاية على ولده.
في كل الصفات المذكورة صح ان يقال: الله، هو الحاكم والمالك والشفيع
والولي و... وصح - أيضا - ان يقال لمن منح من عبيده هذه الصفات: المالك والحاكم
66

والشفيع والولي وان أوضح مثال لما قلنا المورد الآتي:
من يتوفى الأنفس
قال تعالى: الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم النحل / 28
وقال: تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم النحل / 32
وقال: توفته رسلنا وهم لا يفرطون الانعام / 61
وقال: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون السجدة / 11
وقال: الله يتوفى الأنفس حين موتها - الزمر / 42
فمن قال إن الملائكة تتوفى الأنفس حين موتها بإذن الله لم يكذب ولم يشرك،
ومن قال ملك الموت عزرائيل يتوفى الأنفس حين موتها بإذن الله لم يكذب ولم يشرك،
ولا منافاة بين القولين وبين القول بان الله يتوفى الأنفس حين موتها، وفي كل هذه
الحالات لم يتوفى الأنفس غير الله ولا مع الله بل إن الله هو الذي توفاها (1) وكذلك الشأن
بالنسبة إلى الصفات الأخرى المذكورة سابقا.
دعوة الرسول والتوسل به إلى الله
بناء على ما بينا بان كلا من الحاكم والمالك والشفيع والخالق والمحيي والمميت
والولي إذا كان بإذن الله فليس ثمة غير الله ولا دون الله ولا مع الله. بناء على ذلك فان
دعوة النبي (ص) في المتوسل به إلى الله - أيضا - إذا كان بإذن الله فليس ثمة دعاء غير
الله ولا دون الله ولا مع الله وليس من مصاديق ما نهى الله عنه في قوله تعالى: " ولا تدعوا
مع الله أحدا " وقد مر بنا في الحديث المروى بمسند احمد وسنن الترمذي وابن ماجة
ورواية البيهقي والتي صححوها بان رسول الله (ص) علم الصحابي الضرير ان يدعو بعد
الصلاة ويقول " اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد اني توجهت بك
إلى ربي في حاجتي لتقضي لي اللهم فشفعه لي " (2)

(1) هذا الاستدلال مستفاد من قول الإمام علي، برواية الصدوق عنه في باب الرد على الثنوية
والزنادقة بكتاب التوحيد
(2) راجع مصادره في باب الاستشفاع برسول الله في حياته من هذه المقدمة.
67

فقضى الله حاجته وشفع رسوله فيه وشافاه وان هذه النوع من التوسل من
مصاديق قوله تعالى (وابتغوا إلى ربكم الوسيلة) المائدة - 35.
إلى هنا استعرضنا بعض مسائل الخلاف وأشرنا إلى ما كان ظاهرا من منشأ
مسائل الخلاف وفي ما يلي ندرس الباعث الحقيقي لما نشأ من خلاف بادئ ذي بدء.
الباعث الحقيقي لما نشأ من خلاف بادئ ذي بدء
لقد ذكرنا في ما سبق أمثلة من منشأ الاختلاف في الأحاديث وفي تأويل آيات
من الكتاب العزيز ونرى وراء كل ذلك باعثان حقيقيان نشأ منهما مسائل الخلاف
بادئ ذي بدء ثم قلد الخلف السلف في ما ارتأوا بعد ذلك، أولهما ما حكى الله سبحانه
عما جرى من إبليس حين لم يسجد لآدم بقوله:
" قال يا إبليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من
العالين، قال: انا خير منه... سورة ص 75 - 76.
و " قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون الحجر 31 و
33.
ان إبليس عبد الله وحده لا شريك له عمر الملائكة ثم لم يخضع لآدم صفي الله
في عصره واستهان به فكان من أمره ما كان، اما الناس الذين استكبروا واستهانوا بأنبياء
الله وأصفيائه بعد ذلك فاليكم أمثلة من أمرهم في ما يأتي.
في عصر خاتم الأنبياء:
روى ابن حجر في ترجمة ذي الخويصرة رأس الخوارج من الإصابة عن انس،
قال:
كان في عهد رسول الله (ص) رجل يعجبنا تعبده واجتهاده وقد ذكرناه لرسول
الله (ص) فلم يعرفه فوصفناه بصفته فلم يعرفه فبينا نحن نذكره إذ طلع الرجل علينا فقلنا
هو هذا قال: انكم لتخبروني عن رجل ان في وجهه لسعفة من الشيطان فاقبل حتى
وقف عليهم ولم يسلم فقال له رسول الله (ص) أنشدك الله، هل قلت حين وقفت على
المجلس ما في القوم أحد أفضل مني أو خير مني؟ قال: اللهم نعم! ثم دخل يصلي فقال
68

رسول الله (ص) من يقتل الرجل... الحديث وفي آخر الحديث قال (ص) لو قتل ما
اختلف من أمتي رجلان... (1).
في الأمم السابقة:
قال قوم نوح لنبيهم نوح:
" ما نراك الا بشرا مثلنا... وما نرى لكم علينا من فضل " هود 27. وقالوا
" ما هذا الا بشر مثلكم يريد ان يتفضل عليكم " المؤمنون 24. وقال قوم نوح وعاد وثمود
لرسلهم:
" ان أنتم الا بشر مثلنا... " إبراهيم - 9
وقالوا لنبيهم (" ما هذا الا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما
تشربون " المؤمنون - 33
وكان جواب الأنبياء لأممهم في هذا الاعتراض والاستهانة بهم ما أخبر الله عنه
وقال:
" قالت لهم رسلهم ان نحن الا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من
عباده " إبراهيم 11 - 12.
ان إبليس لا يرى فضلا لصفي الله ونبيه آدم على نفسه فلا يخضع له ويقول عنه
انه بشر.
وقوم نوح وعاد وثمود لا يرون لأنبيائهم من فضل عليهم ويقولون لأنبيائهم ان
أنتم الا بشر مثلنا.
وذو الخويصرة رأس الخوارج يقول لجمع فيهم رسول الله ما في القوم أفضل مني
أو خير مني.

(1) راجع ترجمة ذي الخويصرة من الإصابة.
وذو الخويصرة التميمي حرقوص بن زهير أصل الخوارج قال لرسول الله عندما كان يقسم قسما يا رسول
الله اعدل فقال له ويحك من يعدل إذا لم اعدل وقال فيه: ان له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه
مع صيامهم، يمرقون من الدين كمروق السهم من الرمية - راجع ترجمة ابن الخويصرة في أسد الغابة وتفصيل
قول رسول الله فيه وفي الخوارج وقتال الإمام علي إياهم في صحيح مسلم باب ذكر الخوارج وباب التحريض
على قتل الخوارج وباب الخوارج شر الخلق والخليقة.
والسعفة: قروح تخرج في الوجه والرأس ويكون المعنى اثر ضربة الشيطان في وجهه.
69

ويقول الرجل ذو المعرفة من السعوديين: " محمد رجالا مثلي مات "
إذا فان الباعث الأول للاستهانة بأصفياء الله هو الاستكبار.
والباعث الثاني: لاستهانة أصفياء الله وخاصة في الأمة الاسلامية مدى
القرون، حاجة السلطات الحاكمة على المسلمين إلى إراءة حياة القدوات الانسانية من
الأنبياء والأصفياء بما لا يناقض حياتهم الغارقة في الشهوات والمنهمكة في اتباع هوى
النفس، وكان من اثر العاملين الأول والثاني أن أولت آيات من الذكر الحكيم إلى
ما يبين صدور المعاصي من أنبياء الله وأصفيائه ووضعت روايات في انغماسهم في
الملاهي والشهوات وأحيانا استفادوا من الاخبار الإسرائيلية في ذلك مثل ما رووا عن
داود وزوجة أوريا (1) إلى غيرها والكثير من أمثالها التي رووها في سيرة الأنبياء، وقد مر
بنا أمثلة مما رووا في سيرة أفضل الأنبياء وخاتمهم محمد (ص)، وفي هذا السبيل، سبيل
تهوين أمر أنبياء الله وأصفيائه وعدم وجود ميزة لهم عمن سواهم أولوا آيات من الكتاب
العزيز المصرحة بمعجزات الأنبياء مثل خلق عيسى (ع) من الطين طيرا بإذن الله
ونظائره، ووضعت روايات تتفق وما يروجونه من عدم وجود ميزة لأصفياء الله عمن
سواهم من البشر.
وفي مقابل تلكم الأحاديث وتأويلات آيات كتاب الله بدافع العاملين
المذكورين آنفا نجد في كتب التفسير والحديث والسيرة أحاديث أخرى تدل على ميزات
أصفياء الله فآمن بها طائفة من المسلمين وأولت آيات كتاب الله بما يوافق تلك
الأحاديث وانتج ذلك لكل طائفة منهما رؤية خاصة لصفات الله وصفات أنبيائه وعن
العرش والكرسي وسائر المعارف الاسلامية تناقض رؤية الطائفة الأخرى وكل طائفة
آمنت بما لديها بما يبلغ به إلى تكفير من يخالفه في الرأي. وان ما وقع من التفرقة مدى
القرون كان من اثر ما ذكرناه، اما العلاج فسنذكره بحوله تعالى في الخاتمة الآتية:

(1) راجع اخبار سيرة النبي داود (ع) في تاريخ الطبري وغيره.
70

- 9 -
خلاصة وخاتمة
شرع الله للانسان الاسلام نظاما مناسبا مع فطرته وهداه بواسطة
أنبيائه وكان كلما توفي نبي وغيرت أمته شريعته جدد الله دينه بارسال نبي جديد
واقتضت حكمته ختم الشرائع بشريعة خاتمهم فحفظ أصول الاسلام بحفظ القرآن من
الزيادة والنقصان أبد الدهر، وجعل بيان الاحكام وشرحه في سنة رسوله (ص) ولم
يحفظها مثل القرآن من الزيادة والنقصان، ولم يعصم رواته عن السهو والنسيان، ولم
يعصم نساخ كتب الحديث من الخطأ والزلل، ومضى على رواية سنة الرسول (ص)
أربعة عشر قرنا وتداول المسلمون من روايات سنة الرسول (ص) سيرة وحديثا ما
تعارض بعضه مع بعض الشئ الكثير مع وجود المجمل والمبين والعام والخاص فيها
والعوامل الخارجة المؤثرة في رواية الحديث والتي أشرنا إليها سابقا فاختلفت اجتهادات
المجتهدين في ترجيح بعضها على بعض مضافا إلى اجتهاداتهم الخاصة في مختلف معارف
الاسلام واحكامه، فتعصب كل لآرائه فتكونت لكل فرقة رؤية خاصة للاسلام أولت
بموجبها آيات متشابهات في كتاب الله الكريم وحملت عليها آيات محكمات أخرى.
وهكذا انقسم المسلمون إلى فرق ومذاهب، ومضت عليهم قرون طويلة كفر
خلالها المسلمون بعضهم البعض الاخر، وقتلت من خالفها في الرأي أحيانا وهدمت
ديارهم! فكيف يمكن توحيد كلمة المسلمين مع وجود هذه المفارقات؟ ووجود مسائل
الخلاف بينهم مما أوردنا أمثلة منها في ما سبق. لا، لن يتم التقارب بين المسلمين هكذا
71

ومع بقائهم على تقليد اجتهادات السلف ولابد للمسلمين من أن تبدي كل طائفة منهم
ما لديها من رؤى للاسلام وتأويل القرآن وحديث مروي واجتهادات للسلف نشأ منها
الخلاف على شرط أن يتم ذلك بأسلوب الدعوة إلى الحق والبحث العلمي الرصين ودون
الركون إلى السباب والشتائم والافتراء انتصارا لرأيها وطائفتها أعاذنا الله من ذلك ثم
الاستماع بتجرد إلى ما لدى الطوائف الأخرى كذلك، والحقيقة بنت البحث.
والسبيل الصحيح للوصول إلى ذلك أن يتبادر علماء المسلمين إلى تلك
الدراسات بتجرد علمي بحث ثم تعرض نتائج تلك الدراسات على الأندية العلمية
الاسلامية الكبرى مثل الجامع الأزهر الشريف في القاهرة والجامعة الاسلامية في المدينة
المنورة ورابطة العالم الاسلامي في مكة المكرمة والجوامع الاسلامية الكبرى في النجف
الأشرف وقم وخراسان والقيروان والزيتونة لبحثها وتمحيصها، ثم لتنشر بعد ذلك
حكومات البلاد الاسلامية ما تتمخض عنه دراسات تلك الجامعات على المسلمين كافة
ليتسنى لجميع المسلمين لمن أراد منهم ان يفهم رأي البعض الآخر تفهما واعيا لا لبس فيه
ولا غموض ولا نبز وله بعد ذلك أن يتقبل رأى غيره بقبول حسن أو يعذر أخاه المسلم في
ما اتخذ له من رأي وهكذا يتيسر للمسلمين ان يتفهم بعضهم البعض الآخر ويتقاربوا
ويوحدوا جهودهم في ما يصلح لهم (1).
ومن الضروري في هذا السبيل أن يبدأ بالبحث عن مصادر الشريعة الاسلامية

(1) لقد شرحت ضرورة القيام بدراسات مقارنة لسنة الرسول بتجرد علمي بحت لعلماء المسلمين وكتابهم
ومفكريهم بمصر والحجاز والشام ولبنان والهند وباكستان والعراق وغيرها سواء في الجامعات الاسلامية والأندية
العلمية بها أو في اجتماعي مع العلماء على الفراد واستعنت الله وقمت منذ نيف وخمسين سنة بهذه الدراسات
ولما كانت أم المؤمنين عائشة أكثر من تحدثت عن سيرة الرسول الأكرم (ص) بين أمهات المؤمنين وأهل البيت
وجميع الصحابة وكان أكثر الباحثين مسلمين وغير مسلمين من المستشرقين وتلاميذهم يتعرفون على سيرة
السول (ص) من خلال الأحاديث المروية عنها ولن تتيسر دراسة سيرة الرسول دون الدراسة العلمية لمجموعة
الأحاديث المروية عنها بتجرد علمي بحث، لهذا اضطررت إلى دراسة أحاديثها دراسة مقارنة وطبعت الجزء الأول
منها ولما يطبع الجزء الثاني منها ورأيت خلال دراساتي من الاختلاف في اخبار السيرة واخبار العصر الاسلامي
الأول ما أكرهني على نشر بعض دراساتي باسم (خمسون ومائة صحابي مختلق) وقصدي من هذه التسمية ان انبه
العلماء إلى ما في أخبار العصر الاسلامي الأول من عظيم الاختلاق وطبع منها فملأن ترجم فيها ثلاثة وتسعون
صحابيا مختلقا ونيف وسبعون راويا للحديث مختلقون - أيضا - أسندت إليهم روايات في الفتوح والردة وغير ذلك
مختلقة جميعها وكتبت مقدمة لهذه الدراسة مجلدي عبد الله بن سيأ وبقي نشر المجلد الثالث من (خمسون ومائة صحابي
مختلق) والثالث من عبد الله بن سبأ والى الله أشكو ما لاقيت من الارجاف في هذا السبيل.
72

وكيفية أخذ المسلمين منها وسبل الوصول إلى السنة النبوية وللوصول إلى هذا الهدف
الجليل قمت مستعينا بالله تعالى إلى تأليف هذا الكتاب على المنهج التالي:
منهج البحث في الكتاب:
أوردنا في ما سبق أمثلة من مسائل الخلاف ومنشأ الاختلاف والباعثان إليهما
وبقى لنا درس جذور الخلاف والاختلاف وسندرسها في أبواب القسم الأول من هذا
الكتاب ليدرسها المصلحون الغيارى على الاسلام والمسلمين وينسقوا جهودهم في ضوء
معرفتها في تقريب أبناء الأمة الاسلامية وتوحيد كلمتهم ضد أعداء الاسلام إن شاء الله
تعالى.
وفي هذا الصدد لما كان جميع طوائف المسلمين ينتهون إلى مدرستين (1) مدرسة
الإمامة ومدرسة الخلافة بحثت في الكتاب:
أولا: عن رأي المدرستين في الصحابة وعدالتهم، لأنهم من سبل الوصول إلى
سنة الرسول (ص). وترى مدرسة الخلافة أنهم جميعا عدول لا يتطرق الشك في عدالة أي
واحد منهم ويؤخذ الحديث من جميعهم، وترى المدرسة الأخرى أن في الصحابة البر التقي
الذي يؤخذ منه الحديث وفيهم من وصمه الله في كتابه بالنفاق وقال: " من أهل المدينة
مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم " التوبة 101.
وهكذا درست أدلة الطرفين في هذا الباب بتجرد علمي ثم بحثت عن رأي
المدرستين في الإمامة والخلافة وأدلتهما في ما ارتأيا لان الخلفاء الأربعة الأوائل لدى
إحداهما من سبل الوصول إلى الشريعة الاسلامية وتروي في حقهم عن الرسول أنه قال:
" خذوا بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ "، ثم أنها تتخذ
من اجتهاداتهم مصدرا للشريعة الاسلامية (2).
وكذلك الأئمة الاثنا عشر لدى (مدرسة أهل البيت) فإنهم يرونهم من سبل
الوصول إلي الشريعة الاسلامية ويأخذون منهم كل ما يروون عن الرسول (ص) من
أحكام بلا تردد فلابد مع هذا من تمحيص أدلة الطرفين في هذا السبيل.
ثانيا: درست بحوث المدرستين في مصادر الشريعة الاسلامية بكل أمانة
علمية، وختمت البحوث بذكر بعض أنواع نشاط المدرستين الثقافي والسياسي

(1) سيأتي بيانه في بداية البحوث إن شاء الله تعالى.
(2) يأتي بحثها مفصلا في باب (بحوث المدرستين في مصادر الشريعة الاسلامية) إن شاء الله تعالى.
73

والاجتماعي وآثارها على المجتمع الاسلامي.
ثالثا: أوردت في الأخير بعض ما افتري به على مدرسة أهل البيت (ع)
وحاولت القيام بتمحيصه، وها هي البحوث أعرضها على الملا الاسلامي الكريم راجيا
أن ينظروا فيها بتجرد علمي وينبهوني إلى أخطائي في سبيل نشر المعرفة الاسلامية وتيسير
التقارب والتفاهم بين المسلمين إن شاء الله تعالى.
" قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا
من المشركين ".
74

القسم الأول
بحوث المدرستين في مصادر الشريعة الاسلامية
75

توطئة
في تاريخ الفكر الاسلامي نجد انقساما بينا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله
بين مدرستين متعارضتين، مدرسة السلطة الحاكمة بعد الرسول حتى آخر الخلفاء
العثمانيين (1) ومدرسة أئمة أهل البيت حتى الإمام الثاني عشر، ولم يزل الخلاف قائما بين
خريجي المدرستين وأتباعهما من المسلمين ولا يزال كذلك حتى عصرنا الحاضر والى
ما شاء الله.
وفي ما يلي من هذا البحث نسمي المدرسة الأولى بمدرسة الخلفاء، والأخرى
بمدرسة أهل البيت ونبدأ بذكر منشأ الخلاف بينهما ثم نورد أمثلة من وجوه الخلاف إن
شاء الله تعالى.
منشأ الخلاف:
تتفق المدرستان في القرآن الكريم، وتلتزمان بما أحله وحرمه وفرضه وندب
إليه، وتختلفان في تأويله وخاصة متشابه آياته أشد الاختلاف، ثم تختلفان في الأمور
الثلاثة التالية:
أ) في الصحابة.

(1) إنما حددنا مدرسة السلطة الحاكمة بآخر الخلفاء العثمانيين ومدرسة أهل البيت بالامام الثاني عشر
من أئمة أهل البيت، لان مدرسة الخلفاء تلتزم بشرعية حكومة الخلفاء بعد النبي وتسميهم بخلفاء النبي، وتلتزم
مدرسة أهل البيت بأحقية الأئمة الاثني عشر في الحكم وتسميهم أوصياء النبي، ولهذا سمينا الأولى بمدرسة
الخلفاء والثانية بمدرسة أهل البيت.
77

ب) في الإمامة والخلافة وهما من سبل الوصول إلى مصادر الشريعة الاسلامية
ج) في مصادر الشريعة الاسلامية بعد القرآن.
وسندرس بحوث المدرستين في كل منها بعد دراسة المصطلحات الواردة في بابه
في أول الباب ونبدأ هنا بدراسة المصطلحات المشتركة في جميع أبواب الكتاب
أولا، ثم بدراسة كيفية تدوين معاجم اللغة العربية ثانيا
78

اللغة العربية والمصطلحات الاسلامية
أولا: تعريف المصطلحات وهي:
أ) لغة العرب.
ب) المصطلح الشرعي أو المصطلح الاسلامي.
ج) مصطلح المتشرعة أو مصطلح المسلمين.
ونسمي الأول أحيانا ب‍ " تسمية العرب "، والثاني ب‍ " تسمية الشارع "
والثالث ب‍ " تسمية المسلمين " ونقول:
أ) لغة العرب
ان جل الألفاظ العربية التي نستعملها اليوم، كانت شائعة في معانيها قبل
الاسلام وبعد الاسلام حتى اليوم، مثل: الاكل والنوم والليل والنهار.
ومن تلكم الألفاظ ما ورد في لغة العرب في معان متعددة، مثل لفظ: غنم،
الذي كان في البدء بمعنى كسب الغنم، ثم استعمل أيضا في لغة العرب بمعنى الفوز
بالشئ بلا مشقة ثم استعمل في الاسلام في الفوز بالشئ مطلقا، سواء أكان الفوز
بمشقة أم من دون مشقة.
وقد يرد لفظ عند قبيلة بمعنى وعند أخرى بمعنى آخر مثل: " الأثلب " فإنه في
لغة أهل الحجاز: الحجر، وفي لغة تميم: التراب (1).
وفي عصرنا يستعمل لفظ: " المبسوط " ويراد به عند العراقيين المضروب،
ولدى الشاميين واللبنانيين: المسرور، وفي مثل هذه الحالة يجب ان نقول مثلا:

(1) تهذيب اللغة للأزهري، ط / القاهرة، سنة: 1384 ه‍، ج 15 / 91.
79

" الأثلب " في لغة تميم بمعنى كذا، وفي لغة الحجازيين بمعنى كذا، وكذلك الامر في
" المبسوط ".
ب) المصطلح الشرعي أو المصطلح الاسلامي.
عندما بعث الله خاتم أنبيائه صلى الله عليه وآله، استعمل بعض الألفاظ
العربية في غير معانيها الشائعة لدى العرب، مثل: " الصلاة " التي كانت تستعمل في
مطلق " الدعاء "، واستعملها رسول الله صلى الله عليه وآله، في عبادة خاصة لها
قراءات خاصة مقارنة بأفعال خاصة من قيام وركوع وسجود، مما لم تكن معروفة لدى
العرب، وهذا ما نسميه ب‍ " المصطلح الشرعي أو الاسلامي " سواء في ذلك أغير المعنى
اللغوي للفظ مثل " الصلاة "، أم جاء الشارع الاسلامي بلفظ جديد في معنى جديد،
مثل: " الرحمن " صفة لله تعالى.
ويعرف " المصطلح الشرعي " بورود اللفظ في معناه في القرآن الكريم أو
الحديث النبوي الشريف، وبدون ذلك لا يوجد المصطلح الشرعي.
إذا فالمصطلح الشرعي: ما استعمله الشارع في معنى خاص وبلغ الرسول صلى
الله عليه وآله ذلك.
ج) مصطلح المتشرعة أو " تسمية المسلمين "
من الألفاظ ما هي شائعة في معان خاصة بها لدى المسلمين عامة مثل:
" الاجتهاد " و " المجتهد " الشائعين لدى عامة المسلمين في الفقه والفقيه، وكان
اللفظان في لغة العرب بمعنى بذل الجهد في طلب الامر (1)، وباذل الجهد، واستعملا
بنفس المعنى اللغوي في حديث الرسول صلى الله عليه وآله كما روي عن رسول الله
صلى الله عليه وآله أنه قال:
" فضل العالم على المجتهد مائة درجة "، أي على المجتهد في العبادة (2).
وفي ما روي عن سيرته صلى الله عليه وآله، وقيل:
" كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيره. " (3)

(1) مادة: جهد، من نهاية اللغة، لابن الأثير.
(2) مقدمة سنن الدارمي، باب فضل العلم والعالم، ح - 32، ج 1 / 100.
(3) صحيح مسلم، كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان، ح - 1175.
80

ولم يرد " الاجتهاد " و " المجتهد " بمعنى: الفقه والفقيه، في القرآن الكريم ولا
الحديث النبوي الشريف، ونسمي هذا النوع من التسمية ب‍ " عرف المتشرعة " و
" تسمية المسلمين ".
ومن هذا النوع من التسمية مالا يكون شائعا لدى عامة المسلمين بل يكون
شائعا لدى بعضهم، مثل كلمة: " صوم زكريا " المستعمل لدى بعض المسلمين في
الصوم مع الالتزام بالصمت والامتناع عن التكلم، وهذا النوع من المصطلح ينبغي أن
نسميه باسم البلد الشائع فيه، فنقول: هذا اصطلاح المسلمين من أهل بغداد، أو
اصطلاح المسلمين في القاهرة مثلا، ولا يصح أن نسميه ب‍ " اصطلاح المسلمين " أو
" عرف المتشرعة " أو " تسمية المسلمين " مطلقا وبدون تقييد.
وكذلك الامر بالنسبة إلى التسمية الشائعة لدى أهل مذهب من المذاهب
الاسلامية أو لدى فرقة تنتمي إلى الاسلام.
مثل: " الشاري " والمشرك " لدى الخوارج، ف‍ " الشاري " عندهم بمثابة
المجاهد عند كافة المسلمين، و " المشرك " عندهم: جميع المسلمين وكل من لا ينتمي إلى
الخوارج.
ومثل: " الرافضي " الذي ينبز به بعض أتباع مدرسة الخلفاء بعض أتباع
مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
و " الناصبي " عند أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، الذي يسمون به:
كل من يبغض الأئمة من أهل البيت عليهم السلام.
وفي مثل هذه الحالة، نسمي الأول: ب‍ " اصطلاح الخوارج " والثاني:
ب‍ " اصطلاح مدرسة الخلفاء " والثالث: ب‍ " اصطلاح مدرسة أهل البيت
عليهم السلام ".
وبناء على ما ذكرنا، فإذا ورد لفظ " الناصبي " لدى أتباع مدرسة الخلفاء
لا ينبغي أن نفهم منه أعداء أهل البيت عليهم السلام، وكذلك إذا ورد لفظ
" الشاري " عند غير الخوارج لا نفهم منه ما اصطلح عليه الخوارج.
د: الحقيقة والمجاز
إذا شاع استعمال اللفظ في معناه بحيث لم يتبادر إلى ذهن السامع عند استماع
81

الكلمة غير ذلك المعنى، مثل لفظ: " الأسد " الذي يفهم منه: الحيوان المفترس،
لا غيره.
ومثل لفظ: " الصلاة " التي لا يفهم منها لدى المسلمين غير: القيام بالاعمال
الخاصة المقرونة بأذكار خاصة.
في مثل هذه الحالة، يوصف " الأسد " بأنه حقيقة في الحيوان المفترس،
و " الصلاة " بأنها حقيقة في الأعمال المخصوصة ويسمى الأول: ب‍ " الحقيقة اللغوية "
والثاني ب‍ " الحقيقة الشرعية ".
وقد يستعمل لفظ " الأسد " ويقصد به: الرجل الشجاع، ويقال: رأيت أسدا
يتكلم في المسجد. وهذا الاستعمال يسمى استعمالا مجازيا ويقال: استعمل " الأسد "
مجازا في الرجل الشجاع، ولابد عند ذلك من وجود قرينة في الكلام أو في المقام يدل على أنه
لم يقصد من " الأسد " المعنى الحقيقي، مثل قولك هنا: " يتكلم في المسجد " فان
الأسد لا يتكلم، وهذه قرينة على أن القائل لم يقصد الحيوان المفترس وإنما قصد رجلا
شجاعا.
ثانيا: كيفية تأليف مجاميع اللغة العربية
عندما قام علماء اللغة العربية بتدوين اللغة العربية في القرنين الثاني والثالث
الهجريين، سجلوا أمام كل لفظ ما وجدوا له من معنى، منذ العصر الجاهلي إلى زمانهم
سواء أكان ذلك المعنى شائعا عند أهل اللغة أم في الشرع الاسلامي، أو لدى المسلمين
غير أن فقهاء المسلمين، بذلوا جهدا مشكورا مدى القرون في تحديد المصطلحات
الاسلامية الفقهية وتعريفها، مثل مصطلح الصلاة والصوم والحج وغيرها، فأصبحت
المصطلحات الاسلامية الفقهية معروفة لدى جميع المسلمين، ولما لم يبذل نظير ذلك
الجهد في تعريف المصطلحات الاسلامية غير الفقهية، أصبح بعض المصطلحات غير
معروف لدى المسلمين، أهي من نوع الاصطلاح الشرعي أم من نوع تسمية المسلمين
واصطلاح المتشرعة؟ وأدى ذلك إلى اللبس والغموض في ادراك المفاهيم الاسلامية
وأحيانا في معرفة بعض الأحكام الشرعية نظير ما وقع في لفظ الصحابي، والصحابة،
كما سندرسهما في ما يلي.
82

معالم المدرستين
القسم الأول
البحث الأول
بحوث المدرستين في الصحبة والصحابة -
الفصل الأول: تعريف الصحابي لدى المدرستين
الفصل الثاني: عدالة الصحابة لدى المدرستين
الفصل الثالث: خلاصة بحث الصحابة لدى المدرستين
83

معالم المدرستين - القسم الأول
البحث الأول
الفصل الأول
تعريف الصحابي لدى المدرستين
85

تعريف الصحابي لدى المدرستين
تعريف الصحابي في مدرسة الخلفاء:
قال ابن حجر في مقدمة الإصابة، الفصل الأول في تعريف الصحابي:
" الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وآله مؤمنا به ومات على الاسلام،
فيدخل في من لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا
معه أو لم يغز ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ومن لم يره لعارض كالعمى (1) ".
وذكر في " ضابط يستفاد من معرفته صحبة جمع كثير " قال: " انهم كانوا في
الفتوح لا يؤمرون إلا الصحابة ".
" وانه لم يبق بمكة ولا الطائف أحد في سنة عشر إلا أسلم وشهد مع النبي
حجة الوداع " و " انه لم يبق في الأوس والخزرج أحد في آخر عهد النبي صلى الله عليه
وآله إلا دخل في الاسلام " و " ما مات النبي صلى الله عليه وآله وأحد منهم يظهر
الكفر " (2).
وإذا راجع باحث أجزاء كتابنا " خمسون ومائة صحابي مختلق " يرى مدى
تسامحهم في ذلك ومبلغ ضرره على الحديث.

(1) الإصابة 1 / 10.
(2) المصدر السابق ص 16 وقبله ص 13.
87

تعريف الصحابي بمدرسة أهل البيت
الصاحب وجمعه: صحب، وأصحاب، وصحاب، وصحابة (1) و " الصاحب:
المعاشر (2) والملازم (3) " " ولا يقال الا لمن كثرت ملازمته " (4)، وان المصاحبة تقتضي طول
لبثه " (5).
وبما أن الصحبة تكون بين اثنين، يتضح لنا أنه لابد أن يضاف لفظ
" الصاحب " وجمعه " الصحب و... " إلى اسم ما في الكلام، وكذلك ورد في القرآن
في قوله تعالى " يا صاحبي السجن " و " أصحاب موسى "، وكان يقال في عصر
الرسول صلى الله عليه وآله " صاحب رسول الله " و " أصحاب رسول الله " مضافا إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله كما كان يقال: " أصحاب بيعة الشجرة " و " أصحاب
الصفة " مضافا إلى غيره، ولم يكن لفظ الصاحب والأصحاب يوم ذلك أسماءا
لأصحاب الرسول (ص)، ولكن المسلمين من أصحاب مدرسة الخلافة تدرجوا بعد ذلك
على تسمية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله بالصحابي والأصحاب، وعلى هذا
فان هذه التسمية من نوع تسمية المسلمين ومصطلح المتشرعة.
كان هذا رأي المدرستين في تعريف الصحابي.
ضابطتهم لمعرفة الصحابي ومناقشتها.
بالإضافة إلى ما ذكرنا عرف مترجمو الصحابة بمدرسة الخلفاء ضابطة لمعرفة
الصحابي كما نقلها ابن حجر في الإصابة وقال:
" ومما جاء عن الأئمة من الأقوال المجملة في الصفة التي يعرف بها كون الرجل
صحابيان وان لم يرد التنصيص على ذلك، ما أورده ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق لا
بأس به: أنهم كانوا في الفتوح لا يؤمرون الا الصحابة " (6).
والرواية التي جاءت من طريق لا بأس به بهذا الصدد هي التي رواها الطبري
وابن عساكر بسندهما عن سيف عن أبي عثمان عن خالد وعبادة قال فيها: " وكانت
الرؤساء تكون من الصحابة حتى لا يجدوا من يحتمل ذلك " (7).

(1) راجع لسان العرب، مادة " صحب ".
(2) راجع لسان العرب، مادة " صحب ".
(3) مفردات الراغب، مادة " صحب ".
(4) مفردات الراغب، مادة " صحب ".
(5) مفردات الراغب، مادة " صحب ".
(6) الإصابة 1 / 13.
(7) الطبري ط. أوربا 1 / 2151.
88

وفي رواية أخرى عند الطبري عن سيف قال:
" ان الخليفة عمر كان لا يعدل أن يؤمر الصحابة إذا وجد من يجزي عنه في
حربه فإن لم يجد ففي التابعين باحسان، ولا يطمع من انبعث في الرواة في
الرئاسة... " (1).
مناقشة ضابطة معرفة الصحابي
ان مصدر الروايتين هو سيف المتهم بالوضع والزندقة (2).
وسيف يروي الضابطة عن أبي عثمان، وأبو عثمان الذي يروي عن خالد
وعبادة في روايات سيف، تخيله سيف يزيد بن أسيد الغساني وهذا الاسم من
مختلقات سيف من الرواة (3).
ومهما تكن حال الرواة الذين رووا هذه الروايات وكائنا من كان، فان الواقع
التاريخي يناقض ما ذكروا.
فقد روى صاحب الأغاني وقال:
" أسلم امرؤ القيس على يد عمر وولاه قبل أن يصلي لله ركعة واحدة " (4).
وتفصيل الخبر في رواية بعدها عن عوف بن خارجة المري قال:
والله اني لعند عمر بن الخطاب (رض) في خلافته إذ أقبل رجل أفحج أجلح
أمعر يتخطى رقاب الناس حتى قام بين يدي عمر فحياه بتحية الخلافة.
فقال له عمر: فمن أنت؟
قال أنا امرؤ نصراني، أنا امرؤ القيس بن عدي الكلبي، فعرفه عمر، فقال له:
فما تريد؟
قال: الاسلام.
فعرضه عليه عمر، فقبله ثم دعا له برمح فعقد له على من أسلم بالشام من

(1) الطبري ط. أوربا 1 / 2457 - 2458.
(2) راجع ترجمة سيف في أول الجزء الأول من كتاب عبد الله بن سبأ.
(3) راجع مخطوطة " رواة مختلقون " وكتاب عبد الله بن سبأ ط. بيروت سنة 1403 ه‍ ج 1 / 117.
(4) الأغاني ط. ساسي 14 / 158.
(5) الأفحج: من تدانت صدور قدميه وتباعد عقباه، والأجلح: الذي انحسر شعره عن جانبي رأسه.
والأمعر: القليل الشعر.
89

قضاعة (1) فأدبر الشيخ واللواء يهتز على رأسه... " الحديث (2).
ويخالفه - أيضا - ما في قصة تأمير علقمة بن علاثة الكلبي بعد ارتداده،
وقصته كما في الأغاني والإصابة (3) بترجمته ما يلي:
أسلم علقمة على عهد رسول الله وأدرك صحبته ثم ارتد على عهد أبي بكر
فبعث أبو بكر إليه خالد ففر منه.
قالوا ثم رجع فأسلم.
وفي الإصابة:
شرب الخمر على عهد عمر فحده فارتد ولحق بالروم فأكرمه ملك الروم، قال
له: أنت ابن عم عامر بن الطفيل، فغضب وقال: لا أراني أعرف إلا بعامر (4) فرجع
وأسلم.
وفي الأغاني والإصابة واللفظ للأول:
لما قدم علقمة بن علاثة المدينة وكان قد ارتد عن الاسلام، وكان لخالد ابن
الوليد صديقا فلقيه عمر بن الخطاب (رض) في المسجد في جوف الليل وكان عمر
(رض) يشبه بخالد فسلم عليه وظن أنه خالد.
فقال له: عزلك؟
قال: كان ذلك.

(1) قضاعة قبائل كبيرة، منهم قبائل حيدان وبهراء وبلى وجهينة، ترجمتهم في جمهرة أنساب ابن حزم
440 - 460 وكانت ديارهم في الشحر ثم في نجران ثم في الشام فكان لهم ملك ما بين الشام والحجاز إلى
العراق، راجع مادة قضاعة، معجم قبائل العرب 3 / 957.
(2) الأغاني ط. ساسي 14 / 157، وأوجزه ابن حزم في جمهرة أنساب العرب ص 284.
(3) ترجمته في الإصابة 2 / 496 - 498 والأغاني ط. ساسي 15 / 56 وقصة تنافر علقمة وعامر في
الأغاني 15 / 50 - 55، وفي جمهرة ابن حزم ص 284.
(4) وقعت منافرة بين علقمة وعامر ذكرها الأخباريون، قال في الأغاني ط / ساسي 15 / 50: ان
علقمة كان قاعدا ذات يوم يبول، فبصر به عامر فقال لم أر كاليوم عورة رجل أقبح..
فقال علقمة: أما والله ما وثبت على جاراتها ولا تنازل كناتها، يعرض بعامر...
فقال عامر: والله لأنا أكرم منك حسبا وأثبت منك نسبا...
فقال علقمة: لأنا خير منك ليلا ونهارا.
فقال عامر: لأنا أحب إلى نسائك... إلى آخر القصة في الأغاني.
وترجمة علقمة في الإصابة ولذلك أنف علقمة من أن يكرم لأنه ابن عم عامر ويشتهر ذلك عنه.
90

قال: والله ما هو إلا نفاسة عليك وحسدا لك.
فقال له عمر: فما عندك معونة على ذلك؟
قال: معاذ الله، ان لعمر علينا سمعا وطاعة وما نخرج إلى خلافه.
فلما أصبح عمر (رض) أذن للناس فدخل خالد وعلقمة.
فجلس علقمة إلى جنب خالد، فالتفت عمر إلى علقمة فقال له:
ايه يا علقمة أنت القائل لخالد ما قلت؟
فالتفت علقمة إلى خالد، فقال:
يا أبا سليمان أفعلتها؟
قال: ويحك! والله ما لقيتك قبل ما ترى، واني أراك لقيت الرجل.
قال: أراه والله.
ثم التفت إلى عمر (رض) فقال:
يا أمير المؤمنين! ما سمعت إلا خيرا.
قال: أجل، فهل لك أن أوليك حوران (1).
قال: نعم.
فولاه إياها فمات بها، فقال الحطيئة يرثيه... الحديث.
وزاد في الإصابة:
فقال عمر: لان يكون من ورائي على مثل رأيك أحب إلي من كذا وكذا.
كان ما نقلناه هو الواقع التاريخي غير أن علماء مدرسة الخلفاء استندوا إلى ما
رووا واكتشفوا مما رووا ضابطة لمعرفة صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وأدخلوا
في عداد الصحابة مختلقات سيف بن عمر المتهم بالزندقة مما درسناه في كتابنا " خمسون
ومائة صحابي مختلق ".
بعد دراسة رأي المدرستين في تعريف الصحابي، ندرس في ما يلي أمر عدالة
الصحابة لدى المدرستين.

(1) حوران: كورة واسعة من أعمال دمشق ذات قرى كثيرة ومزارع - معجم البلدان 2 / 358.
91

معالم المدرستين - القسم الأول
البحث الأول
الفصل الثاني
عدالة الصحابة لدى المدرستين
93

عدالة الصحابة لدى المدرستين
رأي مدرسة الخلفاء في عدالة الصحابة
ترى مدرسة الخلفاء أن الصحابة كلهم عدول وترجع إلى جميعهم في أخذ معالم
دينها.
قال إمام أهل الجرح والتعديل الحافظ أبو حاتم الرازي (1) في تقدمة كتابه:
" فأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فهم الذين شهدوا الوحي
والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله عزول لصحبة نبيه
صلى الله عليه وآله ونصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة، وجعلهم
لنا أعلاما وقدوة، فحفظوا عنه صلى الله عليه وآله ما بلغهم عن الله عز وجل، وما سن
وشرع، وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدب، ووعوه وأتقنوه ففقهوا في
الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وآله ومشاهدتهم
منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقفهم منه واستنباطهم عنه، فشرفهم الله عز وجل بما
من عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة، فنفى عنهم الشك والكذب
والغلط والريبة والفخر واللمز وسماهم عدول الأمة فقال عز ذكره في محكم كتابه:
" وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس "، ففسر النبي صلى الله عليه
وآله عن الله عز ذكره قوله " وسطا " قال: " عدلا ". فكانوا عدول الأمة، وأئمة الهدى،

(1) هو أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي المتوفى سنة 327 ه‍ وكتابه هذا " تقدمة المعرفة لكتاب
الجرح والتعديل " ط / حيدر آباد سنة 1371 ه‍ نقلنا ما أوردناه من ص 7 - 9 منه.
95

وحجج الدين، ونقلة الكتاب والسنة.
وندب الله عز وجل إلى التمسك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم
والاقتداء بهم فقال: " ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى " الآية (1).
ووجدنا النبي صلى الله عليه وآله قد حض على التبليغ عنه في أخبار كثيرة
ووجدناه يخاطب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال: " نضر الله امرءا سمع مقالتي
فحفظها ووعاها حتى يبلغها غيره ". وقال صلى الله عليه وآله في خطبته: " فليبلغ
الشاهد منكم الغائب "، وقال: " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عني ولا حرج ".
ثم تفرقت الصحابة رضي الله عنهم في النواحي والأمصار والثغور، وفي فتوح
البلدان والمغازي والامارة والقضاء والاحكام، فبث كل واحد منهم في ناحيته والبلد
الذي هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله صلى الله عليه وآله (2) وأفتوا في ما سئلوا عنه
مما حضرهم من جواب رسول الله صلى الله عليه وآله عن نظائرها من المسائل،
وجردوا أنفسهم مع تقدمة حسن النية والقربة إلى الله تقدس اسمه لتعليم الناس
الفرائض والاحكام والسنن الحلال والحرام، حتى قبضهم الله عز وجل رضوان الله
ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين ".
وقال ابن عبد البر في مقدمة كتابه الاستيعاب (3):
" ثبتت عدالة جميعهم " ثم أخذ بايراد آيات وأحاديث وردت في حق المؤمنين
منهم نظير ما أوردناه من الرازي.
وقال ابن الأثير في مقدمة أسد الغابة: (4)
"... إن السنن التي عليها مدار تفصيل الاحكام ومعرفة الحلال والحرام إلى
غير ذلك من أمور الدين إنما ثبتت بعد معرفة رجال أسانيدها ورواتها، وأولهم والمقدم

(1) ترى مدرسة أهل البيت ان المقصود من كل ذلك المؤمنون منهم كما نضت الآية عليه وسيأتي مزيد
بيانه إن شاء الله تعالى.
(2) سترى في ما يأتي إن شاء الله ان مدرسة الخلافة منعت نشر حديث الرسول وخاصة كتابته إلى رأس
المائة من الهجرة!
(3) الاستيعاب في أسماء الأصحاب للحافظ المحدث أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر
النمري القرطبي المالكي 363 - 463 ه‍ وقد نقلنا من نسخة هامش الإصابة ص 2.
(4) أسد الغابة في معرفة الصحابة لأبي الحسن عز الدين علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري المعروف
بابن الأثير (ت 630 ه‍) ج 1 / 3.
96

عليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فإذا جهلهم الانسان كان بغيرهم أشد
جهلا وأعظم إنكارا، فينبغي أن يعرفوا بأنسابهم وأحوالهم...
والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلا في الجرح والتعديل فإنهم
كلهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح... ".
وقال الحافظ ابن حجر في الفصل الثالث: في بيان حال الصحابة من العدالة
من مقدمة الإصابة (1):
" اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من
المبتدعة... "
وروى عن أبي زرعة أنه قال:
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى
ذلك إلينا كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة،
والجرح بهم أولى وهم زنادقة " (2).
كان هذا رأي مدرسة الخلفاء في عدالة الصحابة، وفي ما يلي رأي مدرسة أهل
البيت في ذلك:
رأي مدرسة أهل البيت في عدالة الصحابة
ترى مدرسة أهل البيت تبعا للقرآن الكريم: أن في الصحابة مؤمنين أثنى عليهم
الله في القرآن الكريم وقال في بيعة الشجرة مثلا: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك
تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا " الفتح /
18. فقد خص الله الثناء بالمؤمنين ممن حضروا بيعة الشجرة ولم يشمل المنافقين الذين

(1) الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني الشافعي
المعروف بابن حجر (773 - 852 ه‍) وقد رجعنا إلى ط المكتبة التجارية سنة 1358 ه‍ بمصر ج 1 / 17 - 22.
(2) الإصابة ج 1 / 18 وأبو زرعة هو عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد قال ابن حجر في تقريب التهذيب
ج 2 / 536 الترجمة 1479: امام حافظ ثقة مشهور من الطبقة الحادية عشرة من الرواة مات سنة أربع وستين
ومأتين وروى عنه من أصحاب الصحاح مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة
أقول: لست أدري ماذا يقول الإمام أبو زرعة في حق المنافقين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله.
97

حضروها مثل عبد الله بن أبي وأوس بن خولي (1).
وكذلك تبعا للقرآن ترى فيهم منافقين ذمهم الله في آيات كثيرة مثل قوله تعالى
" وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن
نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم " التوبة / 101.
وفيهم من أخبر الله عنهم بالإفك، أي من رموا فراش رسول الله صلى الله عليه
وآله بالإفك (2) - نعوذ بالله من هذا القول - وفيهم من أخبر الله عنهم بقوله " وإذا رأوا
تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما " - الجمعة / 11 - وكان ذلك عندما كان
رسول الله قائما في مسجده يخطب خطبة الجمعة.
وفيهم من قصد اغتيال رسول الله في عقبة هرشى عند رجوعه من غزوة تبوك
أو من حجة الوداع (4).
وان التشرف بصحبة النبي صلى الله عليه وآله ليس أكثر امتيازا من التشرف
بالزواج بالنبي صلى الله عليه وآله، فان مصاحبتهن له كانت من أعلى درجات
الصحبة، وقد قال الله تعالى في شأنهن: " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة
يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا، ومن يقنت منكن لله ورسوله
وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين واعتدنا لها رزقا كريما يا نساء النبي لستن كأحد من
النساء... " الأحزاب / 30 - 32.
وقال في اثنتين منهما: " ان تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وان تظاهرا عليه
فان الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير " إلى قوله تعالى
" ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا
صالحين فخانتاهما فلن يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين، وضرب

(1) راجع خبر بيعة الشجرة = بيعة الرضوان في مغازي الواقدي وخطط المقريزي.
(2) إشارة إلى قصة الإفك التي نزلت في شأنها الآيات (11 - 17) من سورة النور في براءة أم المؤمنين
عائشة عما رميت به كما روتها هي، أو في براءة مارية عما رميت به على قول غيرها كما في ج 2 من أحاديث
أم المؤمنين عائشة.
(3) مسند أحمد 5 / 390 و 453 وراجع صحيح مسلم 8 / 122 - 123 باب صفات المنافقين ومجمع
الزوائد ج 1 / 110 و ج 6 / 195 ومغازي الواقدي ج 3 / 1042 وإمتاع الأسماع للمقريزي ص 477 وفي تفسير
" هموا بما لم ينالوا به " الآية 74 من سورة التوبة بتفسير الدر المنثور للسيوطي ج 3 / 258 - 259.
(4) ورد في أحاديث الشيعة ان ذلك كان عند مرجعه من حجة الوداع وبمناسبة واقعة غدير خم بأرض
الجحفة، راجع البحار، ط المكتبة الاسلامية بطهران سنة 1392 ج 28 / 97.
98

الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة... ومريم
ابنة عمران... " التحريم من أول السورة إلى آخرها.
ومنهم من أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وآله في قوله عن يوم القيامة:
" وانه يجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا رب
أصيحابي، فيقال انك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح:
" وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم " فيقال ان
هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم (1). "
وفي رواية: " ليردون علي ناس من أصحابي الحوض حتى عرفتهم اختلجوا دوني
فأقول: أصحابي فيقول لا تدري ما أحدثوا بعدك " (2).
وفي صحيح مسلم: " ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم
رفعوا إلي اختلجوا دوني فلأقولن أي رب أصيحابي، فليقالن لي انك لا تدري ما أحدثوا
بعدك " (3).
ضابطة لمعرفة المؤمن والمنافق
لما كان في الصحابة منافقون لا يعلمهم إلا الله، وقد أخبر نبيه بأن عليا
لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق كما رواه الإمام علي (ع) (4) وأم المؤمنين

(1) البخاري تفسير سورة المائدة (باب) أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك، وتفسير سورة الأنبياء،
والترمذي أبواب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحشر وتفسير سورة طه.
(2) البخاري، كتاب الدعوات، باب في الحوض وابن ماجة، كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر،
الحديث 5830 وراجع مسند أحمد ج 1 / 453 و ج 3 / 28 و ج 5 / 48.
(3) صحيح مسلم كتاب الفضائل، باب اثبات حوض نبينا الحديث 40.
(4) الإمام علي ابن عم الرسول أبي طالب بن عبد المطلب ولد في جوف الكعبة كما رواه الحاكم في
المستدرك ج 3 / 483 والمالكي في الفصول المهمة والمغازلي الشافعي في المناقب والشبلنجي في نور الابصار
ص 69 وكانت ولادته في 13 رجب سنة ثلاثين من عام الفيل وبايعه المهاجرون والأنصار سنة 35 وضربه
ابن ملجم المرادي ليلة التاسعة عشرة من شهر رمضان سنة 40 للهجرة في محراب مسجد الكوفة وتوفي في يوم 21
منه، روى عنه أصحاب الصحاح 536 حديثا، راجع ترجمته في الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة وص 276
من جوامع السيرة، وروايته في المنافقين في صحيح مسلم ج 1 / 61 " باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من
الايمان وبغضهم من علامات النفاق " وصحيح الترمذي ج 13 / 177، باب مناقب علي، وسنن ابن ماجة
الباب الحادي عشر من مقدمته، وسنن النسائي ج 2 / 271، باب علامة المؤمن وباب علامة المنافق من كتاب
الايمان وشرائعه وخصائص النسائي ص 38، ومسند أحمد ج 1 / 84 و 95 و 128 وتاريخ بغداد ج 2 / 255 و
ج 8 / 417 و ج 16 / 426، وحلية الأولياء لأبي نعيم ج 4 / 185 وقال حديث صحيح متفق عليه، وتاريخ
الاسلام للذهبي ج 2 / 198، وتاريخ ابن كثير ج 7 / 354، وبترجمته في كل من الاستيعاب ج 2 / 461 وأسد
الغابة ج 4 / 292 وكنز العمال ج 15 / 105 والرياض النضرة ج 2 / 284.
99

أم سلمة (1)، و عبد الله بن عباس (2)، وأبو ذر الغفاري (3) وأنس بن مالك (4) وعمران بن حصين (5)،
وكان ذلك شائعا ومشهورا في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله، قال أبو ذر: ما كنا
نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله والتخلف عن الصلوات والبغض لعلي بن
أبي طالب (6).
وقال أبو سعيد الخدري: انا كنا لنعرف المنافقين - نحن معاشر الأنصار -
ببغضهم علي بن أبي طالب (7).

(1) أم سلمة هند ابنة أبي أمية بن المغيرة القرشي المخزومي كانت قبل رسول الله عند أبي سلمة بن
عبد الأسد المخزومي أسلما قديما وهاجرا إلى الحبشة ثم إلى المدينة ولما جرح أبو سلمة بأحد وتوفي سنة ثلاث من
الهجرة تزوجها رسول الله وكانت مصبية، وتوفيت بعد قتل الحسين سنة ستين.
روى عنها أصحاب الصحاح 378 حديثا. راجع ترجمتها وترجمة زوجها بأسد الغابة وجوامع السيرة
ص 276 وتقريب التهذيب 2 / 617.
وحديثها في شأن المنافقين في صحيح الترمذي ج 13 / 168، ومسند أحمد ج 6 / 292، والاستيعاب
ج 2 / 460، بطرق متعددة وتاريخ ابن كثير ج 7 / 354، وكنز العمال ط الأولى 6 / 158.
(2) عبد الله ابن عم النبي عباس بن عبد المطلب: ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وتوفي سنة ثمان وستين
بالطائف وروى عنه أصحاب الصحاح 1660 حديثا، ترجمته بأسد الغابة والإصابة وجوامع السيرة ص 276.
(3) أبو ذر جندب أو بريد بن جنادة أو عبد الله أو السكن أو غير ذلك: تقدم اسلامه وتأخرت هجرته
فشهد ما بعد بدر من غزوات رسول الله توفي منفيا بالربذة سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة روى عنه أصحاب
الصحاح 281 حديثا ترجمته في التقريب ج 2 / 420 وجوامع السيرة ص 277 والجزء الثاني من عبد الله بن سبا.
(4) انس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي: روى هو أنه خدم النبي عشر سنين، كان يخلق
ذراعيه بخلوق للمعة بياض كانت به، وكان ذلك من دعاء الإمام علي عليه لكتمانه الشهادة بحديث الغدير ان
يضربه الله بيضاء لا تواريها العمامة، أشار إليه في الاعلاق النفيسة ص 122 وتفصيله بشرح نهج البلاغة 4 / 388
وتوفي في البصرة بعد التسعين، روى عنه أصحاب الصحاح 2286 حديثا، ترجمته بأسد الغابة والتقريب وجوامع
السيرة ص 276، وروايته في شأن المنافقين بكنز العمال ط الأولى ج 7 / 140.
(5) أبو نجيد عمران بن حصين الخزاعي الكعبي: أسلم عام خيبر وصحب الرسول وقضى بالكوفة، وتوفي
بالبصرة سنة 52، روى عنه أصحاب الصحاح 180 حديثا، وروايته بشأن المنافقين بكنز العمال ط الأولى
ج 7 / 140، ترجمته في التقريب ج 2 / 72 وجوامع السيرة ص 277.
(6) مستدرك الصحيحين ج 3 / 129 وكنز العمال ج 15 / 91.
(7) أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخزرجي الخدري: شهد الخندق وما بعدها مات بالمدينة سنة
ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين وروى عنه أصحاب الصحاح 1170 حديثا ترجمته بأسد
الغابة ج 2 / 289 والتقريب 1 / 289 وجوامع السيرة ص 276 وحديثه في شأن المنافقين في صحيح الترمذي
ج 13 / 167 وحلية أبي نعيم ج 6 / 284.
100

وقال عبد الله بن عباس: إنا كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ببغضهم
علي بن أبي طالب (1).
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن
أبي طالب (2).
لهذا كله ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله في حق الإمام علي:
" اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " (3).
فهم يحتاطون في أخذ معالم دينهم من صحابي عادى عليا ولم يواله، حذرا من
أن يكون الصحابي من المنافقين الذين لا يعلمهم إلا الله.

(1) في تاريخ بغداد ج 3 / 153 قال كانوا عند ابن مسعود فتلى ابن عباس " يعجب الزراع ليغيظ بهم
الكفار " قال علي بن أبي طالب ثم قال انا كنا نعرف... الحديث.
(2) جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري السلمي: صحابي ابن صحابي شهد بيعة العقبة مع أبيه وشهد
17 غزوة مع النبي وصفين مع الإمام علي ومات بالمدينة بعد السبعين وروى عنه أصحاب الصحاح 1540
حديثا ترجمته بأسد الغابة ج 1 / 256 - 257 والتقريب ج 1 / 122 وجوامع السيرة ص 276 وروايته في شأن
المنافقين في الاستيعاب ج 2 / 464 والرياض النضرة ج 2 / 284 وفي تاريخ الذهبي ج 2 / 198 ولفظه " ما كنا
نعرف منافقي هذه الأمة " وفي مجمع الزوائد ج 9 / 133 ولفظه " ما كنا نعرف منافقينا معشر الأنصار... "
(3) صحيح الترمذي ج 13 / 165 باب مناقب علي، وسنن ابن ماجة باب فضل علي الحديث المرقم
116.
وخصائص النسائي ص 4 و 30 ومسند أحمد ج 1 / 84 و 88 و 118 و 119 و 152 و 330 و
ج 4 / 281 و 368 و 370 و 372 ج 5 / 307 و 347 و 350 و 358 و 361 و 366 و 419 و 568 ومستدرك
الصحيحين ج 2 / 129 و 3 / 9 والرياض النضرة 2 / 222 - 225 وتاريخ بغداد ج 7 / 377 و ج 8 / 290 و
ج 12 / 343 ومصادر أخرى كثيرة.
101

معالم المدرستين - القسم الأول
البحث الأول
الفصل الثالث
خلاصة بحث الصحابة لدى المدرستين
103

خلاصة بحث الصحابة لدى المدرستين
الصحابي وعدالته في مدرسة الخلافة
ترى مدرسة الخلفاء أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وآله مؤمنا به ولو
ساعة من نهار ومات على الاسلام.
وأنه لم يبق بمكة والطائف أحد سنة عشر الا من أسلم وشهد مع النبي صلى
الله عليه وآله حجة الوداع.
وأنه لم يبق في الأوس والخزرج أحد في آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله الا
دخل في الاسلام.
وأنهم " كانوا في الفتوح لا يؤمرون الا الصحابة " وبهذه القاعدة عدوا جمعا في
عداد الصحابة ممن برهنا في كتابنا " خمسون ومائة صحابي مختلق " أنهم مختلقون لم يكن
لهم وجود في التاريخ.
وترى أن جميع الصحابة عدول لا يتطرق إليهم الجرح ومن انتقص أحدا منهم
فهو من الزنادقة، ثم يلتزمون بصحة كل ما رواه من سمي في اصطلاحهم بالصحابي،
ويأخذون من جميعهم معالم دينهم.
الصحابي في مدرسة أهل البيت
ترى مدرسة أهل البيت أن لفظ الصحابي ليس مصطلحا شرعيا، وإنما شأنه
شأن سائر مفردات اللغة العربية، و " الصاحب " في لغة العرب بمعنى الملازم والمعاشر
105

ولا يقال الا لمن كثرت ملازمته، والصحبة نسبة بين اثنين ولذلك لا يستعمل
الصاحب وجمعه الأصحاب والصحابة في الكلام الا مضافا كما ورد في القرآن الكريم
" يا صاحبي السجن " و " أصحاب موسى " وكذلك كان يستعمل في عصر الرسول
صلى الله عليه وآله ويقال: صاحب رسول الله، وأصحاب رسول الله مضافا إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله، أو مضافا إلى غيره مثل قولهم " أصحاب الصفة "، لمن كانوا
يسكنون صفة مسجد الرسول صلى الله عليه وآله، ثم استعمل الصحابي بعد رسول الله
صلى الله عليه وآله بلا مضاف إليه وقصد به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
وصار اسما لهم، وعلى هذا فان " الصحابي " و " الصحابة " من اصطلاح المتشرعة
وتسمية المسلمين وليس اصطلاحا شرعيا.
اما عدالتهم: فان مدرسة أهل البيت ترى تبعا للقرآن الكريم ان في الصحابة
منافقين مردوا على النفاق، ورموا فراش رسول الله صلى الله عليه وآله بالإفك، وحاولوا
اغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله، وأخبر عنهم الرسول انهم يوم القيامة يختلجون
دون رسول الله صلى الله عليه وآله، فينادي أصحابي أصحابي، فيقال له انك لا تدري
ما أحدثوا بعدك، لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.
وان منهم مؤمنين اثنى الله عليهم والرسول صلى الله عليه وآله في أحاديثه،
وانهم المقصودون في ما ورد من الثناء في القرآن والحديث، وقد عين النبي صلى الله
عليه وآله العلامة الفارقة بين المؤمن والمنافق حب الإمام علي وبغضه، ومن ثم فإنهم
ينظرون في حال الراوي فإن كان ممن قاتل الامام عليا أو الأئمة من أهل البيت
وعاداهم فإنهم لا يلتزمون بأخذ ما يروي أمثال هؤلاء صحابيا كان أو غير صحابي.
كان هذا رأي المدرستين في تعريف الصحابي وعدالته، وفي ما يلي بحوثهما في
الإمامة والخلافة.
106

معالم المدرستين
القسم الأول
البحث الثاني
بحوث المدرستين في الإمامة -
الفصل الأول: الواقع التاريخي للخلافة في صدر الاسلام
الفصل الثاني: بحوث مدرسة الخلفاء في الإمامة
الفصل الثالث: بحوث مدرسة أهل البيت (ع) في الإمامة
الفصل الرابع: خلاص بحث الإمامة لدى المدرستين
107

معالم المدرستين - القسم الأول
البحث الثاني
الفصل الأول
الواقع التاريخي للخلافة في صدر الاسلام
109

ينبغي لنا قبل الشروع في دراسة رأي المدرستين في الإمامة والخلافة أن ندرس
الواقع التاريخي لإقامة الخلافة في صدر الاسلام، فنقول:
الواقع التاريخي للخلافة في صدر الاسلام
بدئ الخلاف في أمر الحكم في الاسلام يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه
وآله، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله عقد لواءا بيده لمولاه وابن مولاه أسامة
ابن زيد لحرب الروم، وأمره على جيش لم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين
والأنصار إلا انتدب فيه، فيهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة، وسعد بن
أبي وقاص، وسعيد بن زيد... فعسكر بالجرف - موضع على ثلاثة أميال من
المدينة -، فتكلم قوم وقالوا يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين، فغضب رسول
الله صلى الله عليه وآله غضبا شديدا، وخرج معصبا، عليه قطيفة، فصعد المنبر وقال:
" ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولقد طعنتم في امارة أبيه قبله. وأيم
الله إن كان للامارة خليقا، وان ابنه من بعده لخليق للامارة " ثم نزل، وجاءه الذين
يخرجون مع أسامة يودعونه ويمضون إلى المعسكر. وثقل رسول الله صلى الله عليه وآله
وجعل يقول: " أنفذوا بعث أسامة " فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله صلى الله
عليه وآله وجعه.
وفي يوم الاثنين أمر أسامة الجيش بالرحيل، فجاءهم الخبر أن رسول الله صلى
111

الله عليه وآله يموت، فأقبل أسامة وعمر وأبو عبيدة إلى المدينة (1).
أمر كتابة وصية رسول الله صلى الله عليه وآله
روى ابن عباس وقال:
لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب
قال: " هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده "، قال عمر: ان النبي غلبه الوجع
وعندكم كتاب الله، فحسبنا كتاب الله، واختلف أهل البيت فمنهم من يقول ما قال
عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال: " قوموا عني، لا ينبغي عندي التنازع " (2).
وفي رواية: بكى ابن عباس حتى خضب دمعه الحصباء فقال: اشتد برسول
الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: " آتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده
أبدا "، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي التنازع فقالوا هجر رسول الله صلى الله عليه
وسلم.. (3).
وفي رواية فكان ابن عباس يقول، أن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (4).
موقف الخليفة عمر في وفاة الرسول صلى الله عليه وآله
توفي رسول الله صلى الله عليه وآله نصف النهار يوم الاثنين وأبو بكر غائب
بالسنح، وعمر حاضر، فاستأذن عمر ودخل عليه مع المغيرة بن شعبة، وكشف الثوب
عن وجهه، وقال عمر: وا غشياه ما أشد غشي رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال

(1) أوردتها ملخصة من طبقات ابن سعد ط. بيروت ج 2 / 190 - 192 وراجع بقية مصادره في باب
بعث أسامة من عبد الله بن سبأ ج 1.
(2) البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم.
(3) البخاري، باب جوائز الوفد من كتاب الجهاد، وباب اخراج اليهود من جزيرة العرب، وفي صحيح
مسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية، وراجع سائر مصادر الخبر ونصوصه في أول خبر السقيفة في حديث غير
سيف من كتاب عبد الله بن سبأ ط. 5 بيروت، سنة 1403 ه‍، ج 1 / 98 - 102.
(4) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب كراهية الخلاف، وباب قول المريض
قوموا عني من كتاب المرضى، وفي باب مرض النبي من كتاب المغازي، وبآخر باب ترك الوصية من كتاب
الوصية من صحيح مسلم وسائر مصادره في كتاب عبد الله بن سبأ 1 / 101.
112

المغيرة: مات والله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: كذبت ما مات رسول
الله صلى الله عليه وآله، ولكنك رجل تحوسك فتنة، ولن يموت رسول الله حتى يفني
المنافقين (1).
أخذ عمر يقول: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي، ان رسول
الله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى عن قومه وغاب أربعين ليلة، والله
ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي رجال وأرجل من يزعمون أنه مات (2)، من قال إنه
مات علوت رأسه بسيفي، وإنما ارتفع إلى السماء (3).
فتلي عليه في المسجد " وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات
أو قتل انقلبتم على أعقابكم " (4).
وقال العباس بن عبد المطلب: ان رسول الله قد مات واني رأيت في وجهه ما لم
أزل أعرفه في وجوه بني عبد المطلب عند الموت، وقال: هل عند أحدكم عهد من رسول
الله صلى الله عليه وآله في وفاته فليحدثنا، قالوا: لا، فقال: اشهدوا أيها الناس ان أحدا
لا يشهد على رسول الله بعهد عهد إليه في وفاته... (5).
فما زال عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه (6)، حتى جاء الخليفة أبو بكر من السنح
وتلا: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل - الآية " فقال عمر: هذا في كتاب
الله؟ قال: نعم، فسكت عمر (7).

(1) مسند أحمد 6 / 219 وسائر مصادره في عبد الله بن سبأ ج 1 / 102 - 103.
(2) تاريخ الطبري ط. أوربا 1 / 1818.
(3) تاريخ أبي الفداء 1 / 164.
(4) رواه ابن سعد في طبقاته ج 2 ق 2 / 57، وفي كنز العمال ج 4 / 53 رقم الحديث 1092، وابن كثير
في ج 5 / 243 من تاريخه. ورواه الأميني في غديره عن شرح المواهب للزرقاني ج 8 / 281. وراجع ابن ماجة
الحديث: 627، والآية: 144 من سورة آل عمران.
(5) رواه ابن سعد في طبقاته ج 2 / ق / 2 / 57. وابن كثير في تاريخه ج 5 / 243، وفي السيرة الحلبية
ج 3 / 390 - 391، وكنز العمال ج 4 / 53، الحديث: 1092، والتمهيد للباقلاني ص 192 - 193.
(6) أنساب الأشراف ج 1 / 567، وابن سعد ج 2 / ق 2 / 53، وكنز العمال ج 4 / 53، تاريخ الخميس
ج 2 / 185، والسيرة الحلبية ج 3 / 392.
(7) الطبقات لابن سعد ج 2 ق 2 / 54، والطبري 1 / 1817 - 1818، وابن كثير ج 5 / 243، والسيرة
الحلبية ج 3 / 392، وابن ماجة، الحديث: 1627، وان هذه الآية التي قرأها على عمر هي التي كان ابن
أم مكتوم قد قرأها عليه قبل ذلك. وكان التشكيك في موت الرسول يوم وفاته من خصائص الخليفة عمر بن
الخطاب، فان أصحاب السير والمؤرخين لم يذكروا هذا التشكيك عن غيره.
113

السقيفة وبيعة أبي بكر
اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وتبعهم جماعة من المهاجرين، ولم يبق
حول رسول الله الا أقاربه، وهم تولوا غسله وتكفينه وهم: علي والعباس، وابناه
الفضل وقثم، وأسامة بن زيد، وصالح مولى رسول الله، وأوس بن خولي الأنصاري (1).
السقيفة برواية الخليفة عمر
قال: إنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه، ان الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني
ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى اخواننا
الأنصار، فانطلقنا حتى أتيناهم، فإذا رجل مزمل، فقالوا هذا سعد بن عبادة يوعك، فلما
جلسنا قليلا، تشهد خطيبهم فأثنى على الله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله، وكتيبة
الاسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط... فأردت ان أتكلم، فقال أبو بكر على رسلك،
فتكلم هو، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري الا قال مثلها أو أفضل قال: ما
ذكرتم فيه من خير له أهل، ولن يعرف هذا الامر الا لهذا الحي من قريش، هم أوسط
العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي
وبيد أبي عبيدة فلم أكره مما قال غيرها، فقال قائل من الأنصار: إنا جذيلها المحكك
وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللغط، وارتفعت
الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف، فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته
وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة إلى قوله:
فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن
يقتلا (2).
روى الطبري (3) في ذكر خبر السقيفة وبيعة أبي بكر وقال:

(1) راجع النص لابن سعد في الطبقات: ج 2 / ق 2 / 70، وفي البدء والتاريخ قريب منه. وكنز العمال
ج 4 / 54 و 60، وهذه عبارته: " ولي دفنه وأجنانه أربعة من الناس " ثم ذكر ما أوردناه، والعقد الفريد 3 / 61
وقريب منه نص الذهبي في تاريخه: 1 / 321 و 324 و 326.
(2) صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا (4 / 120)
(3) نقلنا هذا الخبر ملخصا من تاريخ الطبري في ذكره حوادث بعد وفاة الرسول، وما كان من غير
الطبري أشرنا إليه في الهامش، وقد أوردنا تفصيل الخبر في كتاب " عبد الله بن سبأ " الجزء الأول.
114

اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وتركوا جنازة الرسول يغسله أهله،
فقالوا: " نولي هذا الامر بعد محمد، سعد بن عبادة، وأخرجوا سعدا إليهم وهو
مريض.. ".
فحمد الله وأثنى عليه، وذكر سابقة الأنصار في الدين وفضيلتهم في الاسلام،
واعزازهم للنبي وأصحابه وجهادهم لأعدائه، حتى استقامت العرب، وتوفي الرسول
وهو عنهم راض، وقال: استبدوا بهذا الامر دون الناس فأجابوه بأجمعهم: أن قد
وفقت في الرأي، وأصبت في القول ولن نعدوا ما رأيت نوليك هذا الامر، ثم إنهم
ترادوا الكلام بينهم، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش؟ فقالوا نحن المهاجرون،
وصحابة رسول الله الأولون، ونحن عشيرته، وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الامر بعده؟
فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذا: منا أمير ومنكم أمير، فقال سعد بن عبادة: هذا أول
الوهن (1).
سمع أبو بكر وعمر بذلك، فأسرعا إلى السقيفة مع أبي عبيدة بن الجراح
وانحاز معهم أسيد بن حضير (2) وعويم بن ساعدة (3) وعاصم بن عدي (4) من
بني العجلان (5).

(1) الطبري في ذكره لحوادث سنة 11 ه‍، ج 2 / 456 ط. أوربا ج 1 / 1838 عن عبد الله بن
عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، وابن الأثير 2 / 125 وتاريخ الخلفاء لابن قتيبة ج 1 / 5 قريب منه وأبو بكر
الجوهري في كتابه السقيفة ج 2 من ابن أبي الحديد في خطبة " ومن كلام له في معنى الأنصار ".
(2) ورد اسمه في سيرة ابن هشام 4 / 335، وأسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ
القيس ابن زيد بن عبد الأشهل بن الحرث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأشهلي، شهد
العقبة الثانية وكان ممن ثبت في أحد، وشهد جميع مشاهد النبي وكان أبو بكر لا يقدم أحدا من الأنصار عليه.
توفي سنة 20 أو 21 ه‍ فحمل عمر نعشه بنفسه، الاستيعاب ج 1 / 31 - 33 والإصابة ج 1 / 64.
(3) عويم بن ساعدة بن عائش بن قيس بن النعمان بن زيد بن أمية بن مالك بن عوف بن عمرو بن
عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي، شهد العقبة وبدر وما بعدها، وتوفي في خلافة عمر وبترجمته في
النبلاء انه كان أخا الخليفة عمر. وقال عمر على قبره: " لا يستطيع أحد من أهل الأرض أن يقول: أنا خير من
صاحب هذا القبر. ". الاستيعاب ج 3 / 170 والإصابة ج 3 / 45 وأسد الغابة ج 4 ص 158.
(4) عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان بن حارثة بن ضبيعة بن حرام البلوي العجلاني، حليف
الأنصار وكان سيد بني عجلان، شهد أحدا وما بعدها، توفي سنة 45 هجرية، الاستيعاب ج 3 / 133، والإصابة
ج 2 / 237 وأسد الغابة ج 3 / ص 75.
(5) ابن هشام 4: 339.
115

تكلم أبو بكر - بعد أن منع عمر عن الكلام - وحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر
سابقة المهاجرين في التصديق بالرسول دون جميع العرب، وقال: " فهم أول من
عبد الله في الأرض وآمن بالرسول وهم أولياؤه، وعشيرته، وأحق الناس بهذا الامر من
بعده، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم "، ثم ذكر فضيلة الأنصار، وقال: " فليس بعد
المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الامراء. وأنتم الوزراء ".
فقام الحباب بن المنذر، وقال: " يا معشر الأنصار أملكوا عليكم أمركم فإن
الناس في فيئكم، وفي ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ولا تختلفوا، فيفسد
عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم. فان أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنهم
أمير ".
فقال عمر: هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن... والله لا ترضى العرب أن
يؤمروكم ونبيها من غيركم. ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة
فيهم، وولي أمورهم منهم. ولنا بذلك على من أبى الحجة الظاهرة، والسلطان المبين من ذا
ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته (1) إلا مدل بباطل أو متجانف
لاثم أو متورط في هلكة.
فقام الحباب بن المنذر (2) وقال: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا
تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الامر، فإن أبوا عليكم ما
سألتموهم، فاجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا
الامر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من لم يكن يدين به. انا جذيلها المحكك (3)

(1) لما سمع علي بن أبي طالب هذا الاحتجاج من المهاجرين قال: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة،
النهج وشرحه ج 2 في الصفحة الثانية منه.
(2) الحباب بن المنذر بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري شهد
بدرا وما بعدها، وتوفي في خلافة عمر، الاستيعاب ج 1 / 353 والإصابة ج 1 / 302 وأسد الغابة 1 / 364
ونسبه في جمهرة ابن حزم ص 359.
(3) جذيلها، تصغير الجذل: أصل الشجرة والمحكك عود ينصب في مبارك الإبل لتتمرس به الإبل
الجربى.
116

وعذيقها المرجب (1) أما والله لو شئتم لنعيدنها جذعة (2). قال عمر: إذا يقتلك الله.
قال: بل إياك يقتل.
فقال أبو عبيدة: " يا معشر الأنصار إنكم كنتم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا
أول من بدل وغير ".
فقام بشير بن سعد الخزرجي أبو نعمان بن بشير، فقال: " يا معشر الأنصار إنا
والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضا
ربنا، وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ولا
نبتغي به من الدنيا عرضا، فإن الله ولي النعمة علينا بذلك، الا ان محمدا صلى الله عليه
وسلم من قريش، وقومه أحق به، وأولى، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الامر
أبدا، فاتقوا الله، ولا تخالفوهم، ولا تنازعوهم. "
فقال أبو بكر: هذا عمرو هذا أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا، فقالا: " والله
لا نتولى هذا الامر عليك " (3) - الخ.
" وقام عبد الرحمن بن عوف، وتكلم فقال: " يا معشر الأنصار إنكم وإن
كنتم على فضل، فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي ". وقام المنذر بن الأرقم
فقال: ما ندفع فضل من ذكرت، وإن فيهم لرجلا لو طلب هذا الامر لم ينازعه فيه أحد
- يعني علي بن أبي طالب " (4).
" فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلا عليا " (5).
" قال عمر: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف فقلت
ابسط (6) يدك لأبايعك " (7) فلما ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه فناداه

(1) وعذيق تصغير العذق وهي النخلة، والمرجب ما جعل له رجبة وهي دعامة تبتنى من الحجارة حول
النخلة الكريمة إذا طالت وتخوفوا عليها أن تنعقر في الرياح العواصف.
(2) أعدت الامر جذعا أي جديدا كما بدأ، وإذا طفئت حرب بين قوم فقال بعضهم إن شئتم أعدناها
جذعة أي: أول ما يبتدأ فيها.
(3) لم نسجل هنا بقية الحوار وتعليقنا عليه طلبا للاختصار.
(4) رواه اليعقوبي بعد ذكر ما تقدم في ص 103 ج 2 من تاريخه والموفقيات للزبير بن بكار، ص 579.
(5) في رواية الطبري ج 3 ص 208 (وط - أوربا ج 1 / 1818) عن إبراهيم، وابن الأثير 2 / 123
" أن الأنصار قالت ذلك بعد أن بايع عمر أبا بكر ".
(6) قد قال عمر لأبي بكر أبسط يدك لأبايعك.
(7) عن سيرة ابن هشام 4 / 336 وجميع من روى حديث الفلتة، راجع بعده حديث الفلتة في ذكر رأي
عمر في بيعة أبي بكر.
117

الحباب بن المنذر: يا بشير بن سعد عققت عقاق! أنفست على ابن عمك الامارة،
فقال: لا والله ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله لهم. ولما رأت الأوس ما
صنع بشير بن سعد وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة،
قال بعضهم لبعض، وفيهم أسيد ابن حضير وكان أحد النقباء: والله لئن وليتها
الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا
أبدا فقوموا فبايعوا أبا بكر. (1)
فقاموا إليه فبايعوه فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له
من أمرهم... فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطؤون سعد بن
عبادة.
فقال أناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدا لا تطؤوه.
فقال عمر: اقتلوه قتله الله.
ثم قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك. فأخذ قيس
بن سعد بلحية عمر فقال: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة.
فقال أبو بكر: مهلا يا عمر الرفق ها هنا أبلغ.
فأعرض عنه عمر (2).
وقال سعد: أما والله لو أن بي قوة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في
أقطارها وسككها زئيرا يجحرك وأصحابك: أما والله إذا لألحقنك بقوم كنت فيهم
تابعا غير متبوع، احملوني من هذا المكان. فحملوه فأدخلوه داره (3).
وروى أبو بكر الجوهري: " أن عمر كان يومئذ - يعنى يوم بويع أبو بكر -
محتجزا يهرول بين يدي أبي بكر ويقول: ألا إن الناس قد بايعوا أبا بكر (4) " الخ.

(1) وفي رواية أبي بكر في سقيفته: لما رأت الأوس أن رئيسا من رؤساء الخزرج قد بايع قام أسيد بن
حضير وهو رئيس الأوس فبايع حسدا لسعد ومنافسة له أن يلي الامر. راجع شرح النهج ج 2 / 2 في شرحه " ومن
كلام له في معنى الأنصار ".
(2) إن هذا الموقف يوضح بجلاء جماع سياسة الخليفتين من شدة ولين.
(3) الطبري: ص 455 - 459، وط، أوروبا 1 / 1843 " وتندر عضوك " كذا ورد ويعني تسقط
أعضاؤك.
(4) في كتابه السقيفة، راجع ابن أبي الحديد: 1 / 133. وفي 74 منه بلفظ آخر.
118

" بايع الناس أبا بكر وأتوا به المسجد يبايعونه فسمع العباس وعلي التكبير في
المسجد ولم يفرغوا من غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ".
فقال علي: ما هذا؟
قال العباس: ما روي مثل هذا قط!! ما قلت لك (1)؟!.
النذير
وجاء البراء بن عازب فضرب الباب على بني هاشم وقال.
يا معشر بني هاشم! بويع أبو بكر.
فقال بعضهم لبعض: ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه ونحن أولى
بمحمد!!.
فقال العباس: فعلوها ورب الكعبة!
وكان عامة المهاجرين وجل الأنصار لا يشكون أن عليا هو صاحب الامر بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله (2).
وكان المهاجرون والأنصار " لا يشكون في علي ".
روى الطبري: " أن أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فبايعوا
أبا بكر فكان عمر يقول:
ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر " (3).
فلما بويع أبو بكر أقبلت الجماعة التي بايعته تزفه زفا إلى مسجد رسول الله صلى
الله عليه وسلم فصعد على المنبر - منبر رسول الله (ص) - فبايعه الناس حتى أمسى،
وشغلوا عن دفن رسول الله حتى كانت ليلة الثلاثاء (4).

(1) ابن عبد ربه في العقد الفريد 3: 63، وأبو بكر الجوهري في كتابه السقيفة برواية ابن أبي الحديد
عنه في ج 1 / 132 ويروى تفصيله في 74 منه والزبير بن بكار في الموفقيات كما يروي عنه ابن أبي الحديد في شرح
النهج ج 2 في شرحه " ومن كلام له في معنى الأنصار ".
(2) الموفقيات للزبير بن بكار، ص 580.
(3) الطبري ج 2 / 458. وط. أوروبا 1 / 1843 وفي رواية ابن الأثير 2 / 224 " وجاءت أسلم
فبايعت " وقال الزبير بن بكار في الموفقيات برواية النهج ج 6 / 287 " فقوي بهم أبو بكر " ولم يعينا متى جاءت
أسلم ويقوى الظن أن يكون ذلك يوم الثلاثاء. وقال المفيد في كتابه " الجمل " ان القبيلة كانت قد جاءت
لتمتار من المدينة (الجمل ص 43).
(4) الموفقيات، ص 578، والرياض النضرة 1 / 164، وتاريخ الخميس ج 1 / 188.
119

البيعة العامة
" ولما بويع أبو بكر في السقيفة وكان في الغد جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر
فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه.. وذكر أن قوله بالأمس لم يكن من كتاب
الله ولا عهدا من رسوله ولكنه كان يرى أن الرسول سيدبر أمرهم ويكون آخرهم " ثم
قال:
" وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسوله، فان اعتصمتم به هداكم
الله لما كان هداه له وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه ".
فبايع الناس أبا بكر بيعته العامة بعد بيعة السقيفة.
وفي البخاري: " وكان طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة،
وكانت بيعة أبي بكر العامة على المنبر ". قال أنس بن مالك: " سمعت عمر يقول
لأبي بكر يومئذ إصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة ".
ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
" أما بعد أيها الناس فاني قد وليت عليكم ولست بخيركم فان أحسنت
فأعينوني وإن أسأت فقوموني.. - إلى قوله: - أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا
عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله (1) ".
بعد بيعة أبي بكر العامة
" توفي رسول الله يوم الاثنين حين زاغت الشمس فشغل الناس عن دفنه (2) ".
شغل الناس عن رسول الله بقية يوم الاثنين حتى عصر الثلاثاء، شغل الناس

(1) ابن هشام، 4 / 340. والطبري، 3 / 203 (وط. أوروبا 1 / 1829) عيون الأخبار لابن قتيبة،
2 / 234. والرياض النضرة، 1 / 167. وابن كثير، 5 / 248. والسيوطي في تاريخ الخلفاء: 47. وكنز العمال،
3 / 129، الحديث: 2253، والحلبية 3 / 397، وذكر البخاري في صحيحه ص 165 من ج 4 كتاب البيعة عن
أنس، خطبة عمر باختلاف يسير.
وممن ذكر خطبة أبي بكر فقط، أبو بكر الجوهري في كتابه السقيفة حسب رواية ابن أبي الحديد عنه،
1 / 134، وصفوة الصفوة، 1 / 98
(2) طبقات ابن سعد ج 2. ق 2 ص 78 ط ليدن.
120

بخطب السقيفة. ثم ببيعة أبي بكر الأولى ثم ببيعته العامة وخطبته وخطبة عمر حتى
صلى بهم.
قالوا: " فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله يوم الثلاثاء " (1) " ثم
دخل الناس يصلون عليه " (2) " وصلي على رسول الله بغير إمام. يدخل عليه المسلمون
زمرا زمرا يصلون عليه " (3).
دفن رسول الله ومن حضر دفنه
" ولي وضع رسول الله في قبره هؤلاء الرهط الذين غسلوه: العباس وعلي
والفضل وصالح مولاه. وخلى أصحاب رسول الله بين رسول الله وأهله فولوا
إجنانه (4) ".
" ودخل القبر علي، والفضل وقثم ابنا العباس، وشقران مولاه. ويقال:
أسامة بن زيد وهم تولوا غسله وتكفينه وأمره كله (5) ". " وإن أبا بكر وعمر لم يشهدا
دفن النبي (6) ".
وقالت عائشة: " ما علمنا بدفن الرسول حتى سمعنا صوت المساحي من
جوف الليل ليلة الأربعاء (7) ".
" ولم يله إلا أقاربه ولقد سمعت بنو غنم صريف المساحي حين حضر وإنهم

(1) سيرة ابن هشام: 4 / 343 والطبري: 2 / 450 (وط. أوربا ج 1 / 1830). وابن الأثير: 2 / 126.
وابن كثير: 5 / 248. والحلبية: 3 / 392 و 394. وهذا الأخير لم يعين اليوم الذي انتهوا فيه من بيعة أبي بكر
وأقبلوا على جهاز رسول الله.
(2) ابن هشام 4 / 343.
(3) طبقات ابن سعد 2 ق 2 ص 70 والكامل لابن الأثير ج 2 في ذكر حوادث سنة 11 ه‍.
(4) النص لابن سعد في الطبقات: 2 / ق 2 / 70 وفي البدء والتاريخ قريب منه. وكنز العمال 4 / 54 و
60 وهذه عبارته: " ولي دفنه واجنانه أربعة من الناس " ثم ذكر ما أوردناه.
(5) العقد الفريد: 3 / 61. وقريب منه نص الذهبي في تاريخه: 1 / 321 و 324 و 326.
(6) كنز العمال: 3 / 140.
(7) ابن هشام: 4 / 344 والطبري: 2 / 452 و 455 (وط. أوربا ج 1 / 1833 و 1837) وابن كثير:
5 / 270 وابن الأثير في أسد الغابة: 1 / 34، في ترجمة الرسول وقد ورد في روايات أخرى أن سماعهم صريف
المساحي كان ليلة الثلاثاء كما في طبقات ابن سعد: 2 / ق 2 / 78 وتاريخ الخميس 1 / 191. والذهبي في تاريخه
1 / 327 والأصح أن ذلك كان ليلة الأربعاء. وفي مسند أحمد 6 / 62: في آخر ليلة الأربعاء وفي ص 242 منه و
ص 274: " ما علمنا أين يدفن حتى سمعنا... ".
121

لفي بيوتهم (1) ".
وقال شيوخ الأنصار من بني غنم: " سمعنا صوت المساحي آخر الليل (2) ".
بعد دفن الرسول
اندحر سعد ومرشحوه، وبقي علي وجماعته - بعد أن أصبحوا أقلية -
يتناحرون وحزب أبي بكر الظافر وكل يجتهد في جلب الأنصار لحوزته. قال الزبير بن
بكار في الموفقيات: لما بويع أبو بكر واستقر أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته
ولام بعضهم بعضا، وذكروا علي بن أبي طالب وهتفوا باسمه (3).
قال اليعقوبي (4): " وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار
ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم العباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس،
والزبير بن العوام، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر
الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب (6)، وأبي بن كعب (7) فأرسل أبو بكر إلى

(1) ابن سعد 2 / ق 2 / 78.
(2) ابن سعد 2 / ق 2 / 78.
(3) الموفقيات: ص 583.
(4) في تاريخه ج 2 / 103، والسقيفة لأبي بكر الجوهري حسب رواية ابن أبي الحديد 2 / 13، والتفصيل
ج 1، ص 74 منه. وبلفظ قريب منه في الإمامة والسياسة ج 1 / 14.
(5) المقداد بن الأسود الكندي هو ابن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود
البهراني.
أصاب دما في قومه فلحق بحضرموت فحالف كندة وتزوج امرأة فولدت له المقداد فلما كبر المقداد وقع
بينه وبين أبي شمر بن حجر الكندي فضرب رجله بالسيف وهرب إلى مكة فحالف الأسود بن عبد يغوث
الزهري فتبناه الأسود فصار يقال له: المقداد بن الأسود الكندي. فلما نزلت " ادعوهم لآبائهم " قيل له:
المقداد بن عمرو. وقال الرسول: " إن الله عز وجل أمرني بحب أربعة من أصحابي وأخبرني أنه يحبهم ".
فقيل: من هم؟
فقال: " علي والمقداد وسلمان وأبو ذر ". توفي سنة 33 ه‍. الاستيعاب ج 3 / 451 والإصابة ج 3
ص 433 - 434.
(6) أبو عمر والبراء بن عازب بن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن الحارث بن عمرو بن مالك
بن الأوس الأنصاري الأوسي، كان ممن استصغره الرسول يوم بدر ورده. وغزا مع الرسول 14 غزوة وشهد مع
علي الجمل وصفين والنهروان. سكن الكوفة وابتنى بها دارا وتوفي بها في إمارة مصعب بن الزبير. الاستيعاب
ج 1 / 144، والإصابة ج 1 ص 147.
(7) أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار وهو تيم اللات بن
ثعلبة بن عمرو بن الخزرج الأكبر، شهد العقبة الثانية وبايع النبي فيها وشهد بدرا وما بعدها، وكان من كتاب
النبي، مات في آخر خلافة عمر أو صدر خلافة عثمان.
الاستيعاب ج 1 ص 27 - 30، والإصابة ج 1 ص 31 - 32.
122

عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح، والمغيرة بن شعبة
فقال: ما الرأي؟
قالوا: (1) الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب فتجعل له في هذا الامر نصيبا
يكون له ولعقبه من بعده فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب " وتكون لكما حجة (2) "
على علي إذا مال معكم.
فانطلق أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح، والمغيرة، حتى دخلوا على
العباس ليلا (3) فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، ثم قال:
" إن الله بعث محمدا نبيا، وللمؤمنين وليا، فمن عليهم بكونه بين أظهرهم
حتى اختار له ما عنده فخلى على الناس أمورهم (4) ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم
مشفقين (5) فاختاروني عليهم واليا ولأمورهم راعيا، فوليت ذلك وما أخاف بعون الله
وتسديده وهنا، ولا حيرة، ولا جبنا، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وما
أنفك يبلغني عن طاعن بقول الخلاف على عامة المسلمين يتخذكم لجأ فتكونوا حصنه
المنيع، وخطبه البديع، فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا عليه، وإما صرفتموهم عما
مالوا إليه، ولقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الامر نصيبا يكون لك ويكون
لمن بعدك من عقبك، إذ كنت عم رسول الله، وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان
صاحبك " فعدلوا الامر عنكم (6) " على رسلكم بني هاشم فإن رسول الله منا ومنكم.
فقال عمر بن الخطاب: وأخرى إنا لم نأتكم لحاجة إليكم، ولكن كرها أن
يكون الطعن في ما اجتمع عليه المسلمون منكم فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا
لأنفسكم!

(1) في نص الجوهري أن قائل هذا الرأي هو المغيرة بن شعبة وهذا هو الأقرب إلى الصواب.
(2) هذه الزيادة في نسخة الإمامة والسياسة ج 1 / 14.
(3) في رواية ابن أبي الحديد أن ذلك كان في الليلة الثانية بعد وفاة النبي.
(4) إن ضمير " هم " موجود في رواية ابن أبي الحديد.
(5) في نسخة الإمامة والسياسة وابن أبي الحديد ج 1 ص 74 " متفقين " وهو الأشبه بالصواب
(6) الزيادة في نسخة ابن أبي الحديد والإمامة والسياسة.
123

فحمد العباس الله وأنثى عليه وقال: إن الله بعث محمدا كما وصفت نبيا،
وللمؤمنين وليا، فمن على أمته به حتى قبضه الله إليه واختار له ما عنده، فخلى على
المسلمين أمورهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين الحق لا مائلين بزيغ الهوى، فإن كنت
برسول الله طلبت فحقنا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين أخذت فنحن منهم فما تقدمنا في
أمرك فرطا، ولا حللنا وسطا، ولا برحنا سخطا، وإن كان هذا الامر وجب لك
بالمؤمنين فما وجب إذا كنا كارهين. ما أبعد قولك من أنهم طعنوا عليك من قولك أنهم
اختاروك ومالوا إليك، وما أبعد تسميتك خليفة رسول الله من قولك خلى على الناس
أمورهم ليختاروا فاختاروك. فأما ما قلت: إنك تجعله لي، فإن كان حقا للمؤمنين
فليس لك أن تحكم (1) فيه، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض وعلى رسلك فإن
رسول الله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها. فخرجوا من عنده.
التحصن بدار فاطمة
قال عمر بن الخطاب: " وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه أن عليا
والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة " (2).
وذكر المؤرخون في عداد من تخلف عن بيعة أبي بكر وتحصن بدار فاطمة مع
علي والزبير كلا من:
1) العباس بن عبد المطلب. 2) عتبة بن أبي لهب.
3) سلمان الفارسي. 4) أبو ذر الغفاري.
5) عمار بن ياسر. 6) المقداد بن الأسود.
7) البراء بن عازب. 8) أبي بن كعب.
9) سعد بن أبي وقاس (3). 10) طلحة بن عبيد الله.

(1) في نسخة الجوهري والإمامة والسياسة: فإن يكن حقا لك فلا حاجة لنا فيه.
(2) مسند أحمد 1 / 55 والطبري 2 / 466 (ط. أوربا 1 / 1822)، وابن الأثير 2 / 124، وابن كثير
5 / 246 وصفوة الصفوة 1 / 97، وابن أبي الحديد ج 1 / 123، وتاريخ السيوطي في مبايعة أبي بكر ص 45، وابن
هشام ج 4 ص 338، وتيسير الوصول 2 / 41.
(3) أبو إسحق سعد بن أبي وقاص واسم أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب
القرشي، وكان سابع سبعة سبقوا إلى الاسلام شهد بدرا وما بعدها وهو أول من رمى بسهم في الاسلام،
وكان رأس من فتح العراق وكوف الكوفة ووليها لعمر وعينه في الستة أصحاب الشورى واعتزل الناس بعد
مقتل عثمان ومات بمسكنه في العقيق في خلافة معاوية وحمل إلى المدينة ودفن بالبقيع.
الاستيعاب ج 2 ص 18 - 25، والإصابة ج 2 / 30 - 32.
124

وجماعة من بني هاشم وجمع من المهاجرين والأنصار (1).
وقد تواتر حديث تخلف علي ومن معه عن بيعة أبي بكر وتحصنهم بدار فاطمة
في كتب السير، والتواريخ، والصحاح والمسانيد، والأدب، والكلام، والتراجم، غير
أنهم لما كرهوا ما جرى بين المتحصنين والحزب الظافر لم يفصحوا ببيان حوادثها إلا ما
ورد ذكره عفوا. ومن ذلك ما رواه البلاذري وقال: بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى
علي رضي الله عنهم حين قعد عن بيعته وقال: " ائتني به بأعنف العنف فلما أتاه جرى
بينهما كلام، فقال: إحلب حلبا لك شطره والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤثرك
غدا... " الحديث (2).
قال أبو بكر في مرض موته: " أما اني لا آسي على شئ في الدنيا إلا على
ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلهن - إلى قوله - فأما الثلاث التي فعلتها فوددت أني لم
أكشف عن بيت فاطمة وتركته ولو أغلق على حرب (3) ".
وفي اليعقوبي: " وليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله وأدخله الرجال
ولو كان أغلق على حرب (4) "، وقد عد المؤرخون في الرجال الذين أدخلوا بيت فاطمة
بنت رسول الله كلا من:

(1) صرحت المصادر الآتية بالإضافة إلى المصادر المذكورة آنفا أن هؤلاء كانوا قد تخلفوا عن بيعة
أبي بكر واجتمعوا بدار فاطمة. ومن هذه المصادر ما ذكرت اسم بعضهم وانهم إنما اجتمعوا ليبايعوا عليا، الرياض
النضرة 1 / 167 وتاريخ الخميس 1 / 188، وابن عبد ربه 3 / 64، وتاريخ أبي الفداء 1 / 156 وابن شحنة
بهامش الكامل 112، والجوهري حسب رواية ابن أبي الحديد ج 1 ص 130 - 134 والحلبية 3 / 394 و 397.
(2) أنساب الأشراف ج 1 ص 587.
(3) الطبري 2 / 619 (وط. أوربا 1 / 2140) عند ذكره وفاة أبي بكر، ومروج الذهب 1 / 414؟ وابن
عبد ربه 3 / 69 عند ذكره استخلاف أبي بكر لعمر، والكنز 3 / 135 ومنتخب الكنز ج 2 / 171، والإمامة
والسياسة 1 / 18، والكامل للمبرد حسب رواية ابن أبي الحديد 1 / 130 - 131 وقد ذكر أبو عبيد في
الأموال ص 131 قول أبي بكر هكذا: " أما الثلاث التي فعلتها فوددت أني لم أكن فعلت كذا وكذا - لخلة
ذكرها - قال أبو عبيد: لا أريد ذكرها " انتهي وأبو بكر الجوهري برواية النهج ج 9 ص 130. ولسان الميزان
4 ص 189 وراجع ترجمة أبي بكر في ابن عساكر ومرآة الزمان لسبط ابن الجوزي، وتاريخ الذهبي 1 / 388.
(4) ج 2: ص 115.
125

1) عمر بن الخطاب. 2) خالد (1) بن الوليد.
3) عبد الرحمن بن عوف. 4) ثابت بن قيس (2) بن شماس
5) زياد (3) بن لبيد. 6) محمد (4) بن مسلمة.
7) زيد بن ثابت (5). 8) سلمة (6) بن سالم بن وقش.
9) سلمة (7) بن أسلم. 10) أسيد بن حضير (8).
وقد ذكروا في كيفية كشف بيت فاطمة وما جرى للمتحصنين وهؤلاء
الرجال:

(1) أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، وأمه لبابة بنت
الحارث بن الحزن الهلالية أخت ميمونة زوجة النبي، وكانت إليه أعنة الخيل في الجاهلية، هاجر بعد الحديبية
وشهد فتح مكة وأمره أبو بكر على الجيوش، وكال يقال له سيف الله، وتوفي بحمص أو بالمدينة سنة 21 أو
22 ه‍. الاستيعاب ج 1 / 405 - 408.
(2) ثابت بن قيس بن شماس بن زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن
الخزرج الأنصاري. شهد أحدا وما بعدها وقتل مع خالد في اليمامة.
الاستيعاب ج 1: 193 والإصابة ج 1: 197.
(3) زياد بن لبيد بن ثعلبة بن سنان بن عامر بن عدي بن أمية بن بياضة الأنصاري من بني بياضة بن
عامر بن زريق مهاجري أنصاري. خرج إلى رسول الله بمكة وأقام معه حتى هاجر معه إلى المدينة، شهد العقبة
وبدرا وما بعدها، مات في أول خلافة معاوية.
الاستيعاب ج 1 / 545 والإصابة 1 / 540. في نسبه بجمهرة ابن حزم ص 356 سقط بياضة.
(4) محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو
بن مالك بن الأوس، شهد بدرا وما بعدها. وكان ممن لم يبايع علي بن أبي طالب ولم يشهد معه حروبه وتوفي سنة
43 أو 46 أو 47 ه‍.
الاستيعاب ج 3 / 315 والإصابة ج 3 / 363 - 364. ونسبه في جمهرة ابن حزم ص 341.
(5) راجع أنساب الأشراف ج 1 / 585.
(6) أبو عوف سلمة بن سلامة بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل الأنصاري، وأمه سلمى
بنت سلمة بن خالد بن عدي الأنصارية، شهد العقبة الأولى والآخرة ثم شهد بدرا وما بعدها، توفي بالمدينة سنة
45 ه‍.
الاستيعاب ج 2 / 84 والإصابة ج 2 / 63.
(7) أبو سعيد بن سلمة بن أسلم بن حريش بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج ابن
عمرو بن مالك الأوس الأنصاري، شهد بدرا وما بعدها وقتل يوم جسر أبي عبيد سنة 14 ه‍.
الاستيعاب ج 2 / 83 والإصابة ج 2 / 61.
(8) الطبري: 2 / 443 و 444 وأبو بكر الجوهري حسب رواية ابن أبي الحديد ج 1: 130 - 134 و
ج 2 ص 19.
126

إنه " غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر منهم علي بن أبي طالب
والزبير فدخلا بيت فاطمة ومعهما السلاح (1) " " فبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من
المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول
الله (2) " " وإنهم إنما اجتمعوا ليبايعوا عليا (3) " " فبعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب
ليخرجهم من بيت فاطمة، وقال له: إن أبوا فقاتلهم.
فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيتهم فاطمة فقالت: يا بن
الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم أو تدخلوا في ما دخلت فيه الأمة (4) ".
وفي أنساب الأشراف: فتلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يا بن
الخطاب أتراك محرقا على بابي؟ قال: نعم... (5). والى هذا أشار عروة بن الزبير حين كان
يعتذر عن أخيه عبد الله بن الزبير فيما جرى له مع " بني هاشم وحصره إياهم في الشعب
وجمعه الحطب لاحراقهم... ليدخلوا في طاعته كما أرهب بنو هاشم وجمع لهم الحطب
لتحريقهم إذ هم أبوا البيعة في ما سلف (6) " يعني ما سلف لبني هاشم من قضية الحطب
والنار عند امتناعهم عن بيعة أبي بكر، وفي هذا يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:
وقولة لعلي قالها عمر * أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرقت دارك لا أبقي عليك بها * إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بها * أمام فارس عدنان وحاميها
وقال اليعقوبي: " فأتوا في جماعة حتى هجموا على الدار (إلى قوله) وكسر
سيفه - أي سيف علي - ودخلوا الدار (7)! ".

(1) الرياض النضرة: 1 / 167، وأبو بكر الجوهري برواية ابن أبي الحديد 1 / 132 و 6 ص 293
والخميس ج 1 ص 188.
(2) اليعقوبي، ج 2، ص 105.
(3) ابن شحنة، ص 113، بهامش الكامل ج 11، وابن أبي الحديد، ج 1، ص 134.
(4) ابن عبد ربه، ج 3، ص 64، وأبو الفداء، ج 1، ص 156.
(5) أنساب الأشراف، ج 1، ص 586. وراجع كنز العمال 3 / 140 والرياض النضرة، ج 1،
ص 167 وأبو بكر الجوهري برواية ابن أبي الحديد، ج 1 / 132 و ج 6 في الصفحة الثانية منه، والخميس
ج 1 / 178، وأبو بكر الجوهري برواية ابن أبي الحديد ج 1 / 134.
وتاريخ ابن أبي شحنة، ص 113 بهامش الكامل، ج 11.
(6) مروج الذهب 2 ص 100 وأورده ابن أبي الحديد في ج 20 ص 481 ط إيران عند شرحه قول
الأمير: " ما زال الزبير منا حتى نشأ ابنه ".
(7) اليعقوبي 2 / 105.
127

وقال الطبري: " أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال
من المهاجرين فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه
فأخذوه (1) ".
وعلي يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله، حتى انتهوا به إلي أبي بكر فقيل له
بايع، فقال: أنا أحق بهذا الامر منكم لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا
الامر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله فأعطوكم المقادة وسلموا
إليكم الامارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، فانصفونا إن كنتم
تخافون الله من أنفسكم واعرفوا لنا من الامر مثل ما عرفت الأنصار لكم وإلا فبوءوا
بالظلم وأنتم تعلمون. فقال عمر: إنك لست متروكا حتى تبايع، فقال له علي: احلب يا
عمر حلبا لك شطره اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غدا. لا والله، لا أقبل قولك ولا
أتابعه، فقال له أبو بكر: فإن لم تبايعني لم أكرهك.
فقال له أبو عبيدة. يا أبا الحسن انك حدث السن وهؤلاء مشيخة قريش قومك
ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الامر منك
وأشد احتمالا له واضطلاعا به، فسلم له هذا الامر وارض به فإنك إن تعش ويطل
عمرك فأنت لهذا الامر لخليق وعليه حقيق في فضلك وقرابتك وسابقتك وجهادك.
فقال علي: يا معشر المهاجرين الله الله، لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته
إلى بيوتكم ودوركم ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر
المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الامر منكم ما كان منا القارئ لكتاب الله
الفقيه لدين الله العالم بالسنة المضطلع بأمر الرعية. والله إنه لفينا فلا تتبعوا الهوى
فتزدادوا من الحق بعدا.
فقال بشير بن سعد: " لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل
بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان، ولكنهم قد بايعوا " وانصرف علي إلى منزله ولم
يبايع. رواه أبو بكر الجوهري كما في شرح النهج 6 / 285. وروى أبو بكر الجوهري أيضا
وقال: " ورأت فاطمة ما صنع بهما - أي بعلي والزبير - فقامت على باب الحجرة

(1) الطبري 2 / 443 و 444 و 446 (وط. أوروبا 1 / 1818 و 1820 و 1822) وقد أورده العقاد في
عبقرية عمر ص 173، وذكر كسر سيف الزبير المحب الطبري في الرياض النضرة 167، والخميس، 1 / 188،
وابن أبي الحديد ج 1 / 122 و 132 و 134 و 58 و ج 6 في الصفحة الثانية، وكنز العمال ج 3 ص 128.
128

وقالت: يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله، والله لا أكلم عمر
حتى ألقى الله (1) ".
وفي رواية أخرى: " وخرجت فاطمة تبكي وتصيح فنهنهت من الناس (2) ".
وقال اليعقوبي: " فخرجت فاطمة، فقالت: والله لتخرجن أو لأكشفن شعري
ولأعجن إلى الله فخرجوا وخرج من كان في الدار " (3).
وقال المسعودي: " لما بويع أبو بكر في السقيفة وجددت له البيعة يوم الثلاثاء
خرج علي فقال: أفسدت علينا أمورنا ولم تستشر ولم ترع لنا حقا! "
فقال أبو بكر: " بلى ولكني خشيت الفتنة " (4).
وقال اليعقوبي: " واجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلي البيعة فقال
لهم: اغدوا علي محلقين الرؤوس، فلم يغد عليه إلا ثلاثة نفر " (5).
ثم إن عليا حمل فاطمة على حمار وسار بها ليلا إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة
وتسألهم فاطمة الانتصار له فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا
الرجل، ولو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به، فقال علي: أفكنت أترك
رسول الله صلى الله عليه وآله ميتا في بيته لم أجهزه وأخرج إلى الناس أنازعهم
في سلطانه؟ فقالت فاطمة: " ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما
الله حسيبهم عليه!! " (6).
ولقد أشار معاوية إلى هذا وإلى ما نقلناه عن اليعقوبي قبله في كتابه إلى علي:
وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار ويداك في يدي ابنيك
الحسن والحسين يوم بديع أبو بكر الصديق، فلم تدع أحدا من أهل بدر والسوابق إلا
دعوتهم إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدللت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على
صاحب رسول الله، فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة، ولعمري لو كنت محقا
لأجابوك ولكنك ادعيت باطلا، وقلت ما لا يعرف ورمت ما لا يدرك، ومهما نسيت

(1) برواية ابن أبي الحديد ج 1 / 134 و 6 / 286.
(2) السقيفة لأبي بكر الجوهري برواية ابن أبي الحديد ج 1 / 134.
(3) تاريخ اليعقوبي 2 / 105.
(4) مروج الذهب ج 1 / 414، والإمامة والسياسة ج 1 / 12 - 14 مع اختلاف.
(5) تاريخ اليعقوبي ج 2 / 105، وفي شرح النهج ج 2 / 4.
(6) أبو بكر الجوهري في كتابه السقيفة برواية ابن أبي الحديد ج 6 ص 28، وابن قتيبة ج 1 / 12.
129

فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حركك وهيجك لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم
لناهضت القوم (1).
وروى معمر عن الزهري عن أم المؤمنين عائشة في حديثها عما جرى بين فاطمة
وأبي بكر حول ميراث النبي صلى الله عليه وآله قالت:
" فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم
ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها. وكان لعلي من
الناس وجه حياة فاطمة فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي. ومكثت
فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توفيت ". قال معمر: فقال
رجل للزهري: فلم يبايعه علي ستة أشهر؟ قال: لا (2) ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه
علي. فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر... الحديث (3).
وقال البلاذري: لما ارتدت العرب، مشى عثمان إلى علي. فقال: يا ابن عم،
انه لا يخرج أحد إلى قتال هذا العدو، وأنت لم تبايع فلم يزل به حتى مشى إلى
أبي بكر، فبايعه فسر المسلمون، وجد الناس في القتال وقطعت البعوث (4).
ضرع علي إلى مصالحة أبي بكر بعد وفاة فاطمة وانصراف وجوه الناس عنه، غير
أنه بقي يشكو مما جرى عليه بعد وفاة النبي حتى في أيام خلافته. وذكر شكواه في خطبته
المشهورة بالشقشقية التي سنوردها في آخر هذا الباب.

(1) ابن أبي الحديد ج 2 ص 67 وصفين لنصر بن مزاحم ص 182.
(2) في تيسير الوصول 2 ص 46 " قال لا والله ولا أحدا من بني هاشم ".
(3) قد أوردت هذا الحديث مختصرا من كل من الطبري ج 2 / 448 (وط. أوربا ج 1 / 1825)
وصحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة خيبر ج 3 / 38، وصحيح مسلم ج 1 / 72 و ج 5 / 153. باب قول
رسول الله " نحن لا نورث: ما تركناه صدقة "، وابن كثير ج 5 / 285 - 286 وابن عبد ربه 3 / 64، وقد أورده
ابن الأثير 2 / 126 مختصرا، والكنجي في كفاية الطالب 225 - 226. وابن أبي الحديد ج 1 / 122،
والمسعودي ج 2 / 414 من مروج الذهب، وفي التنبيه والاشراف له ص 250 " ولم يبايع علي حتى توفيت
فاطمة " والصواعق ج 1 / 12، وتاريخ الخميس 1 / 193، وفي الإمامة والسياسة (1 / 14) أن بيعة علي كانت
بعد وفاة فاطمة وأنها قد بقيت بعد أبيها 75 يوما، وفي الاستيعاب أن عليا لم يبايعه إلا بعد موت فاطمة ج 2
ص 244، وأبو الفداء ج 1 / 156، والبدء والتاريخ ج 5 / 66 وأنساب الأشراف ج 1 / 586، وفي أسد الغابة
ج 3 / 222 بترجمة أبي بكر " كانت بيعتهم بعد ستة أشهر على الأصح " وقال اليعقوبي ج 2 / 105 " لم يبايع علي
إلا بعد ستة أشهر " وفي الغدير ج 3 / 102 عن الفصل لابن حزم ص 96 - 97.
(4) أنساب الأشراف، ج 1 / 587.
130

من تخلف عن بيعة الخليفة أبي بكر
أ) فروة بن عمرو
قال الزبير بن بكار في الموفقيات: " كان فروة بن عمر ممن تخلف عن بيعة
أبي بكر، وكان ممن جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاد فرسين في سبيل الله،
وكان يتصدق من نخله بألف وسق في كل عام، وكان سيدا، وهو من أصحاب علي
وممن شهد معه يوم الجمل ".
وذكر الزبير بن بكار بعد ذلك عتاب فروة لبعض الأنصار الذين ساعدوا
أبا بكر في بيعته (1).
ب) خالد بن سعيد الأموي
كان عاملا لرسول الله على صنعاء اليمن " فلما مات رسول الله رجع هو وأخواه
أبان وعمر عن عمالتهم، فقال أبو بكر: مالكم رجعتم عن عمالتكم؟ ما أحد أحق
بالعمل من عمال رسول الله صلى الله عليه وآله، ارجعوا إلى أعمالكم. فقالوا: نحن بنو
أحيحة لا نعمل لاحد بعد رسول الله " (2).
وتأخر خالد وأخوه أبان عن بيعة أبي بكر، فقال لبني هاشم: إنكم لطوال
الشجر طيبوا الثمر نحن تبع لكم (3).
و " تربص ببيعته شهرين يقول: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم
يعزلني حتى قبضه الله، ولقي علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، فقال يا بني عبد

(1) الموفقيات، ص 590.
وفروة بن عمرو الأنصاري البياضي شهد العقبة وبدر وما بعدهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله،
أسد الغابة، ج 4 / 178.
(2) خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس. أسلم قديما فكان ثالثا أو رابعا وقيل كان
خامسا، وقال ابن قتيبة في المعارف ص 128: " أسلم قبل إسلام أبي بكر ". وابن أبي الحديد، ج 2 ص 13.
وكان ممن هاجر إلى الحبشة واستعمله رسول الله مع أخويه على صدقات مذحج واستعمله على صنعاء
اليمن، ثم رجعوا بعد وفاة النبي ثم مضوا جميعا إلى الشام فقتلوا هناك واستشهد خالد بإجنادين يوم السبت لليلتين
بقيتا من جمادي الأولى سنة 13 ه‍.
الاستيعاب ج 1 ص 398 - 400 والإصابة ج 1 ص 406، وأسد الغابة ج 2 ص 82، وراجع ابن
أبي الحديد ج 6 ص 13 و 16.
(3) أسد الغابة ج 2 ص 82 وابن أبي الحديد ج 2 ص 135. ط المصرية الأولى.
131

مناف لقد طبتم نفسا عن أمركم يليه غيركم، فأما أبو بكر فلم يحفل بها عليه، وأما عمر
فأضغنها عليه " (1).
" وأتى عليا، فقال: هلم أبايعك فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد
منك " (2)، " فلما بايع بنو هاشم أبا بكر بايعه خالد " (3).
" ثم بعث أبو بكر الجنود إلى الشام وكان أول من استعمل على ربع منها خالد
بن سعيد، فأخذ عمر يقول: أتؤمره وقد صنع ما صنع وقال ما قال، فلم يزل بأبي بكر
حتى عزله، وأمر يزيد بن أبي سفيان " (4).
ذكروا (6) " إن سعدا ترك أياما ثم بعث إليه أن أقبل فبايع، فقد بايع الناس
وبايع قومك، فقال: أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل وأخضب سنان
رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي
فلا أفعل، وأيم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الانس ما بايعتكم حتى أعرض على
ربي واعلم ما حسابي ".
فلما أتي أبو بكر بذلك، قال عمر: لا تدعه حتى يبايع.
فقال له بشير بن سعد: إنه قد لج وأبى، وليس بمبايعكم حتى يقتل، وليس

(1) الطبري. أوروبا 1 / 2079 ج 2 ص 586 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 5 ص 48. وفي
أنساب الأشراف 1 / 588 ذكر أن خالد بن سعيد تأخر عن البيعة.
(2) اليعقوبي ج 2 ص 105.
(3) أسد الغابة ج 2 ص 82، وراجع تفصيل ذلك في ابن أبي الحديد ج 1 ص 135 نقلا عن سقيفة
أبي بكر الجوهري.
(4) الطبري ج 2 ص 586 وفي ط أوروبا 1 / 2079 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 5 ج 48.
وفي أنساب الأشراف 1 / 588 ذكر أن خالد بن سعيد تأخر عن البيعة.
(5) سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن
كعب بن الخزرج الأنصاري، شهد العقبة ومغازي رسول الله عدا بدر، فإنه اختلف في أنه هل شهدها أم لم
يشهدها، كان جوادا سخيا وكانت راية الأنصار بيده يوم الفتح، ولما نادى: " اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى
الحرمة " نزع رسول الله اللواء منه وأعطاه لابنه قيس، ولم يبايع أبا بكر حتى قتل بسهمين في الشام سنة 15 ه‍
ودفن بحوارين نسبه في جمهرة ابن حزم ص 65 الاستيعاب ج 2 ص 23 - 37 والإصابة ج 2 ص 27 - 28.
(6) الطبري ج 3 ص 459، وابن الأثير ج 2 ص 126 أورد الرواية إلى: فاتركوه. وكنز العمال ج 3
ص 134، الحديث المرقم 2296، الإمامة والسياسة ج 1 ص 10، والسيرة الحلبية ج 4 ص 397. بعده
" لا يسلم على من لقي منهم ". والطبري ط / أوروبا 1 / 1844.
132

بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فاتركوه فليس تركه
بضاركم إنما هو رجل واحد.
فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد، واستنصحوه لما بدا لهم منه، فكان سعد لا
يصلي بصلاتهم ولا يجتمع معهم ولا يحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم.. الخ " فلم يزل
كذلك حتى توفي أبو بكر وولي عمر " (1).
و " لما ولي عمر الخلافة لقيه في بعض طرق المدينة.
فقال له: إيه يا سعد؟
فقال له: إيه يا عمر؟
فقال له عمر: أنت صاحب المقالة؟
قال سعد: نعم أنا ذلك، وقد أفضى إليك هذا الامر كان والله صاحبك أحب
إلينا منك وقد أصبحت والله كارها لجوارك.
فقال عمر: من كره جوار جار تحول عنه.
فقال سعد: ما أنا غير مستسر بذلك وأنا متحول إلى جوار من هو خير منك،
فلم يلبث إلا قليلا حتى خرج إلى الشام في أول خلافة عمر... إلخ " (2).
وفي رواية البلاذري: " أن سعد بن عبادة لم يبايع أبا بكر وخرج إلى الشام
فبعث عمر رجلا، وقال: ادعه إلى البيعة واحتل له فإن أبى فاستعن الله عليه، فقدم
الرجل الشام فوجد سعدا في حائط بحوارين (3) فدعاه إلى البيعة ".
فقال: لا أبايع قرشيا أبدا.
قال: فإني أقاتلك.
قال: وإن قاتلتني.
قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة؟
قال: أما من البيعة فإني خارج فرماه بسهم فقتله (4).
وفي تبصرة العوام: أنهم أرسلوا محمد بن مسلمة الأنصاري فرماه بسهم.

(1) الرياض النضرة ج 1 ص 168 مضافا إلى المصادر.
(2) طبقات ابن سعد ج 3 ق 2 ص 145، وابن عساكر ج 6 ص 90 بترجمة سعد من تهذيبه وكنز
العمال ج 3 ص 134، برقم 2296، والحلبية ج 3 ص 397.
(3) من قرى حلب معروفة، معجم البلدان.
(4) أنساب الأشراف ج 1 / 589، العقد الفريد ج 3 ص 64 - 65 باختلاف يسير.
133

وقيل إن خالدا كان في الشام يومذاك فأعانه على ذلك (1).
قال المسعودي: " وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع فصار إلى الشام فقتل
هناك " سنة 15 ه‍ 2.
وفي رواية ابن عبد ربه " رمي سعد بن عبادة بسهم فوجد دفينا في جسده
فمات، فبكته الجن فقالت:
وقتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة * ورميناه بسهمين فلم يخط فؤاده " (3)
وروى ابن سعد (4) " أنه جلس يبول في نفق فاقتتل فمات من ساعته ووجدوه
قد اخضر جلده ".
وفي أسد الغابة (5): " لم يبايع سعد أبا بكر ولا عمر، وسار إلى الشام فأقام
بحوارين إلى أن مات سنة 15 ه‍، ولم يختلفوا في أنه وجد ميتا على مغتسله وقد اخضر
جسده ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول من بئر ولا يرون أحدا " إلخ.
هكذا انتهت حياة سعد بن عبادة، ولما كان قتل سعد بن عبادة من الحوادث
التي كره المؤرخون وقوعها أغفل جمع منهم ذكرها (6) وأهمل قسم منهم بيان كيفيتها
ونسبوها إلى الجن (7) غير أنهم لم يكشفوا عن منشأ العداء بين الجن وسعد بن عبادة،
ولماذا فوقت سهمها إلى فؤاد سعد دون سائر الصحابة، فلو أنهم أكملوا الأسطورة
وقالوا: إن صلحاء الجن كرهت امتناع سعد عن البيعة فرمته بسهمين فما أخطأ فؤاده
لكانت أسطورتهم تامة.
من روى أن سعدا لم يبايع:
(1) ابن سعد في الطبقات. (2) ابن جرير في تاريخه. (3) البلاذري في ج 1
من أنسابه. (4) ابن عبد البر في الاستيعاب. (5) ابن عبد ربه في العقد الفريد. (6)

(1) تبصرة العوام ط المجلس بطهران ص 32.
(2) في مروج الذهب ج 1 ص 414 و ج 2 ص 194.
(3) العقد الفريد ج 4 ص 259 - 260.
(4) في الطبقات ج 3 ق 2 ص 145 وأبو حنيفة الدينوري في المعارف ص 113.
(5) في ترجمة سعد والاستيعاب ج 2 ص 37.
(6) كابن جرير وابن كثير وابن الأثير في تواريخهم.
(7) كمحب الدين الطبري في الرياض النضرة، وابن عبد البر في الاستيعاب.
134

ابن قتيبة في الإمامة والسياسة في ج 1 ص 9 (7) المسعودي في مروج الذهب. (8)
ابن حجر العسقلاني في الإصابة ج 2 ص 28. (9) محب الدين الطبري في الرياض
النضرة ج 1 ص 168. (10) أسد الغابة ج 3 / 222. (11) تاريخ الخميس. (12)
علي بن برهان الدين في السيرة الحلبية ج 3 ص 396، 397. (13) أبو بكر الجوهري،
برواية أبن أبي الحديد عنه.
كان ما ذكرناه خلاصة من خبر استخلاف أبي بكر وبيعته أوردناه ملخصة من
كتاب عبد الله بن سبأ الجزء الأول.
وفي ما يلي خبر استخلاف عمر وبيعته:
استخلاف عمر وبيعته.
دعا أبو بكر عثمان خاليا فقال: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد
أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد.
قال: ثم أغمي عليه فذهب عنه، فكتب عثمان:
أما بعد فإني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم الكم خيرا، ثم أفاق
أبو بكر فقال: أقرأ علي، فقرأ عليه، فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس
ان أسلمت نفسي في غشيتي، قال: نعم، قال: جزاك الله خيرا عن الاسلام وأهله
وأقرها أبو بكر (رض) من هذا الموضع.
وذكر قبل ذلك عن عمر أنه كان جالسا والناس معه وبيده جريدة ومعه
شديد مولى لأبي بكر معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر وعمر يقول: " أيها الناس
اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله أنه يقول: أني لم الكم نصحا " (1).
كم من الفرق بين موقف أبي حفص هذا وموقفه من كتابة وصية الرسول؟
الشورى وبيعة عثمان
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد:
لما طعن الخليفة عمر قيل له لو استخلفت، فقال:
لو كان أبو عبيدة الجراح حيا لاستخلفته، فان سألني ربي قلت نبيك يقول: إنه

(1) تاريخ الطبري ط. أوربا 1 / 2138.
135

آمين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته، فان سألني ربي قلت
سمعت نبيك يقول: إن سالم ليحب الله حبا لو لم يخف الله ما عصاه (1).
وانهم قالوا له: يا أمير المؤمنين لو عهدت، فقال: لقد كنت أجمعت بعد مقالتي
لكم أن أولي رجلا أمركم أرجو أن يحملكم على الحق - وأشار إلى علي - ثم رأيت
أن لا أتحملها حيا وميتا " الخ.
وروى البلاذري في أنساب الأشراف (2) قال عمر: ادعوا لي عليا وعثمان
وطلحة والزبير و عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص فلم يكلم أحدا منهم
غير علي وعثمان، فقال: يا علي لعل هؤلاء سيعرفون لك قرابتك من النبي صلى الله
عليه وسلم وصهرك وما أنالك الله من الفقه والعلم، فإن وليت هذا الامر فاتق الله
فيه. ثم دعا عثمان وقال: يا عثمان لعل هؤلاء القوم يعرفون لك صهرك من رسول الله
وسنك فان وليت هذا الامر فاتق الله ولا تحمل آل أبي معيط على رقاب الناس. ثم
قال: ادعوا لي صهيبا فدعي، فقال: صل بالناس ثلاثا وليخل هؤلاء النفر في بيت فإذا
اجتمعوا على رجل منهم فمن خالفهم فاضربوا رأسه، فلما خرجوا من عند عمر قال: إن
ولوها الأجلح (3) سلك بهم الطريق وقريب منه ما في طبقات ابن سعد ج 3 ق 1
ص 247. وراجع ترجمة عمر من الاستيعاب ومنتخب الكنز ج 4 ص 429.
وفي الرياض النضرة ج 2 ص 72 قال: أخرجه النسائي وفيه أيضا " لله درهم
إن ولوها الأصيلع كيف يحملهم على الحق وإن كان السيف على عنقه. قال محمد بن
كعب: فقلت: أتعلم ذلك منه ولا توليه؟ فقال: إن تركتم فقد تركهم من هو خير
مني ".
روى البلاذري في أنساب الأشراف: 5 / 17 عن الواقدي بسنده. قال: " ذكر
عمر من يستخلف فقيل: أين أنت عن عثمان؟ قال لو فعلت لحمل بني أبي معيط على
رقاب الناس، قيل الزبير؟ قال: مؤمن الرضى كافر الغضب. قيل: طلحة؟ قال: أنفه
في السماء وأسته في الماء، قيل: سعد؟ قال صاحب مقنب (4)، قرية له كثير، قيل: عبد

(1) العقد الفريد ج 4 / 274 أوردناه ملخصا.
(2) أنساب الأشراف، ج 5 / 16.
(3) الأجلح، من ا؟؟ سر شعره من جانبي رأسه.
(4) المقنب: جماعة من الخيل تجتمع للغارة.
136

الرحمن قال بحسبه أن يجري على أهل بيته ".
وروى البلاذري في ج 5: 18 من أنساب الأشراف: أن عمر بن الخطاب
أمر صهيبا مولى عبد الله بن جدعان حين طعن أن يجمع إليه وجوه المهاجرين والأنصار،
فلما دخلوا عليه قال: اني جعلت أمركم شورى إلى ستة نفر من المهاجرين الأولين
الذين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ليختاروا أحدهم لإمامتكم
وسماهم، ثم قال لأبي طلحة زيد بن سهل الخزرجي: اختر خمسين رجلا من الأنصار
يكونوا معك، فإذا توفيت فاستحث هؤلاء النفر حتى يختاروا لأنفسهم وللأمة أحدهم
ولا يتأخروا عن أمرهم فوق ثلاث، وأمر صهيبا أن يصلي بالناس إلى أن يتفقوا على
إمام، وكان طلحة بن عبيد الله غائبا في ماله بالسراة (1)، فقال عمر: ان قدم طلحة في
الثلاثة الأيام وإلا فلا تنتظروه بعدها وأبرموا الامر واصرموه وبايعوا من تتفقون عليه،
فمن خالف عليكم فاضربوا عنقه، قال، فبعثوا إلى طلحة رسولا يستحثونه ويستعجلونه
بالقدوم فلم يرد المدينة إلا بعد وفاة عمر والبيعة لعثمان. فجلس في بيته وقال: أعلى
مثلي يفتات! فاتاه عثمان، فقال له طلحة: إن رددت أترده؟! قال: نعم، قال: فاني
أمضيته فبايعه. وقريب منه ما في العقد الفريد ج 3 ص 73.
وروى في ص 20 منه قال: فقال عبد الله بن سعد ابن أبي سحر: ما زلت
خائفا لان ينتقض هذا الامر حتى كان من طلحة ما كان فوصلته رحم ولم يزل عثمان
مكرما لطلحة حتى حصر فكان أشد الناس عليه.
وروى البلاذري في ص 18 من كتابه أنساب الأشراف بسند ابن سعد قال:
" قال عمر: ليتبع الأقل الأكثر فمن خالفكم فاضربوا عنقه ".
وروى في ص 19 منه عن أبي مخنف أنه قال: " أمر عمر أصحاب الشورى
أن يتشاوروا في أمرهم ثلاثا فإن اجتمع اثنان على رجل واثنان على رجل رجعوا في
الشورى فإن اجتمع أربعة على واحد وأباه واحد كانوا مع الأربعة وان كانوا ثلاثة
" وثلاثة " كانوا مع الثلاثة الذين فيهم ابن عوف إذ كان الثقة في دينه ورأيه المأمون
للاختيار على المسلمين " وقريب منه ما في العقد الفريد ج 3 ص 74.
وروى أيضا عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال: " إن

(1) السراة: الجبل الذي فيه طرف الطائف ويقال لأماكن أخرى (معجم البلدان).
137

اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة فاتبعوا صنف عبد الرحمن بن عوف وأسمعوا وأطيعوا "
وأخرجه ابن سعد في الطبقات ج 3 ق 1 ص 43.
وفي تاريخ اليعقوبي 2 / 160: وروى البلاذري في أنساب الأشراف ج 5 / 15
أن عمر قال: " ان رجالا يقولون إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، وإن بيعة عمر
كانت عن غير مشورة والامر بعدي شورى فإذا اجتمع رأي أربعة فليتبع الاثنان
الأربعة، وإذا اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة فاتبعوا رأي عبد الرحمن بن عوف فاسمعوا
وأطيعوا وأن صفق عبد الرحمن بإحدى يديه على الأخرى فاتبعوه ".
وروى المتقي في كنز العمال ج 3 ص 160 عن محمد بن جبير عن أبيه أن
عمر قال: " ان ضرب عبد الرحمن بن عوف إحدى يديه على الأخرى فبايعوه " وعن
أسلم أن عمر بن الخطاب قال: " بايعوا لمن بايع له عبد الرحمن بن عوف فمن
أبى فاضربوا عنقه ".
ومن كل هذا يظهر ان الخليفة كان قد جعل أمر الترشيح بيد عبد الرحمن بن
عوف، وبيت معه ان يشترط في البيعة العمل بسيرة الشيخين وهم يعلمون ان الامام
عليا يأبى ان يجعل العمل بسيرة الشيخين في عداد العمل بكتاب الله وسنة رسوله
(ص) وان عثمان يوافق على ذلك فيبايع عثمان بالخلافة ويخالفهم الإمام علي فيعرض
على السيف، والدليل على ما قلنا بالإضافة إلى ما سبق، ما رواه ابن سعد في طبقاته
عن سعيد بن العاص ما خلاصته: ان سعيد بن العاص اتى الخليفة عمر يستزيده
في الأرض ليوسع داره فوعده الخليفة بعد صلاة الغداة وذهب معه حينئذ إلى داره قال
سعيد:
" فزادني وخط لي برجليه فقلت يا أمير المؤمنين زدني فإنه نبتت لي نابتة من ولد
وأهل فقال حسبك واختبئ عندك انه سيلي الامر من بعدي من يصل رحمك ويقضي
حاجتك قال فمكثت خلافة عمر بن الخطاب حتى استخلف عثمان وأخذها عن
شورى ورضي فوصلني وأحسن وقضى حاجتي وأشركني في أمانته (1) "
إذا فالخليفة عمر قد أنبأ سعيد بن العاص انه سيلي بعده ذو رحم سعيد وهو
عثمان وطلب منه أن يخبئ الامر عنده، ويتضح من هذه المحاورة ان أمر استيلاء
عثمان على الخلافة كان قد بت فيه في حياة الخليفة عمر، وتعيين الستة في الشورى
كان من أجل تمرير هذا الامر بصورة مرضية لدى الجميع. اما تعريض الإمام علي

(1) بترجمة سعيد بن العاص من الطبقات، ط / أوربا، (ج 5 / 30 - 31).
138

للقتل مما يدل عليه بالإضافة إلى ما مر ما رواه ابن سعد أيضا بترجمة سعيد بن
العاص: ان عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص: " مالي أراك معرضا كأنك
ترى اني قتلت أباك؟ ما أنا قتلته ولكنه قتله علي بن أبي طالب. (1) " وقال قد قتله
ببدر.
أليس في هذا القول تحريش على الإمام علي وإثارة للضغائن عليه.
الإمام علي يعلم بأن الخلافة زويت عنه
كان الإمام علي يعلم بأن الخلافة زويت عنه وإنما اشترك معهم في الشورى كي
لا يقال: هو الذي زهد في الخلافة، ويدل على أنه كان يعلم ما بيت له الحديث
الآتي:
روى البلاذري في ج 5 / 19 من كتابه أنساب الأشراف أيضا " ان عليا شكا
إلى عمه العباس ما سمع من قول عمر: كانوا مع الذين فيهم عبد الرحمن ابن عوف؟
وقال: والله لقد ذهب الامر منا، فقال العباس: وكيف قلت ذلك يا ابن أخي؟
فقال: ان سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن و عبد الرحمن نظير عثمان وصهره
فأحدهما لا يخالف صاحبه لا محالة، وإن كان الزبير وطلحة معي فلن انتفع بذلك إذ
كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين. وقال ابن الكلبي: عبد الرحمن بن عوف زوج
أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأمها أروى بنت كريز وأروى أم عثمان فلذلك
قال صهره " وقريب منه ما في العقد الفريد ج 3 ص 74.
وروى في ص 21 منه عن أبي مخنف قال: " لما دفن عمر أمسك أصحاب
الشورى وأبو طلحة يؤمهم فلم يحدثوا شيئا، فلما أصبحوا جعل أبو طلحة يحوشهم
للمناظرة في دار المال، وكان دفن عمر يوم الأحد وهو الرابع من يوم طعن. وصلى عليه
صهيب بن سنان، قال: فلما رأى عبد الرحمن تناجي القوم وتناظرهم وأن كل واحد
منهم يدفع صاحبه عنها، قال لهم: يا هؤلاء أنا أخرج نفسي وسعدا على أن أختار
يا معشر الأربعة أحدكم، فقال طال التناجي، وتطلع الناس إلى معرفة خليفتهم

(1) وسعيد بن العاص بن سعيد بن أحيحة بن أمية، توفي رسول الله (ص) وهو ابن تسع سنين أو نحوه
طبقات ابن سعد (ج 5 / 30 - 32)
139

وإمامهم، واحتاج من أقام الانتظار ذلك من أهل البلدان الرجوع إلى أوطانهم،
فأجابوا إلى ما عرض عليهم إلا عليا فإنه قال: أنظر.
وأتاهم أبو طلحة فأخبره عبد الرحمن بما عرض وبإجابة القوم إياه إلا عليا
فأقبل أبو طلحة على علي. فقال يا أبا الحسن ان أبا محمد ثقة لك وللمسلمين فما بالك
تخالف وقد عدل الامر عن نفسه فلن يتحمل المأثم لغيره فأحلف علي عبد الرحمن بن
عوف أن لا يميل إلى هوى وأن يؤثر الحق وأن يجتهد للأمة، وأن لا يحابي ذا قرابة
فحلف له، فقال: اختر مسددا، وكان ذلك في دار المال ويقال في دار المسور بن
مخرمة.
ثم إن عبد الرحمن احلف رجلا رجلا منهم بالايمان المغلظة، وأخذ عليهم
المواثيق والعهود انهم لا يخالفونه إن بايع منهم رجلا وان يكونوا معه على من يناويه
فحلفوا على ذلك، ثم أخذ بيد علي فقال له: " عليك عهد الله وميثاقه إن بايعتك أن
لا تحمل بني عبد المطلب على رقاب الناس، ولتسيرن بسيرة رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا تحول عنها ولا تقتصر في شئ منها، فقال علي، لا أحمل عهد الله وميثاقه على
مالا أدركه ولا يدركه أحد. من ذا يطيق سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني
أسير من سيرته بما يبلغه الاجتهاد مني، وبما يمكنني وبقدر علمي " فأرسل عبد الرحمن يده
ثم أحلف عثمان وأخذ عليه العهود والمواثيق أن لا يحمل بني أمية على رقاب الناس
وعلى أن يسير بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ولا يخالف شيئا
من ذلك، فحلف له. فقال علي: قد أعطاك أبو عبد الله الرضا فشأنك فبايعه، ثم إن
عبد الرحمن عاد إلى علي فأخذ بيده وعرض عليه ان يحلف بمثل تلك اليمين أن
لا يخالف سيرة رسول الله وأبي بكر وعمر، فقال علي: علي الاجتهاد، وعثمان يقول:
نعم علي عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذ على أنبيائه ان لا أخالف سيرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في شئ ولا اقصر عنها، فبايعه عبد الرحمن
وصافحه وبايعه أصحاب الشورى، وكان علي قائما فقعد، فقال له عبد الرحمن: بايع
وإلا ضربت عنقك، ولم يكن مع أحد يومئذ سيف، فيقال: إن عليا خرج مغضبا
فلحقه أصحاب الشورى، فقالوا: بايع وإلا ما جاهدناك، فأقبل معهم يمشي حتى بايع
عثمان " 1 ه‍.
في هذا الخبر حذف من أول قول عبد الرحمن [وسيرة الشيخين] ونقل أول كلام
الإمام علي بتصرف وحذف آخره، وتمام الخبر في الرواية الآتية:
140

في تاريخ اليعقوبي ج 1 / 162، أن عبد الرحمن خلا بعلي بن أبي طالب،
فقال: لنا الله عليك، إن وليت هذا الامر، أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة
أبي بكر وعمر. فقال: أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت. فخلا بعثمان
فقال له: لنا الله عليك، إن وليت هذا الامر، أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه
وسيرة أبي بكر وعمر. فقال: لكم أن أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر
وعمر. ثم خلا بعلي فقال له مثل مقالته الأولى، فأجابه مثل الجواب الأول، ثم خلا
بعثمان فقال له مثل المقالة الأولى، فأجابه مثل ما كان أجابه، ثم خلا بعلي فقال له
مثل المقالة الأولى، فقال: إن كتاب الله وسنة نبيه لا يحتاج معهما إلى إجيري (1) أحد
أنت مجتهد أن تزوي هذا الامر عني. فخلا بعثمان فأعاد عليه القول، فأجابه بذلك
الجواب، وصفق على يده.
وفي ذكر حوادث سنة 23 من تاريخ الطبري 3 / 297، وكذلك ابن الأثير
3 / 37، قال الإمام علي لعبد الرحمن لما بايع عثمان في اليوم الثالث: " حبوته حبوة دهر،
ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله
ما وليت عثمان الا ليرد الامر إليك، والله كل يوم في شأن " وكذلك ورد في العقد
الفريد 3 / 76، في العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم برقم: 5.
بيعة الإمام علي عليه السلام
قتل عثمان وعاد إلى المسلمين أمرهم وانحلوا من كل بيعة سابقة توثقهم
فتهافتوا على ابن أبي طالب يطلبون يده للبيعة قال الطبري (2) فأتاه أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من إمام ولا نجد اليوم
أحق بهذا الامر منك، لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: لا تفعلوا فاني أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا، فقالوا: لا والله ما نحن
بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد فان بيعتي لا تكون خفيا ولا تكون إلا عن
رضي المسلمين...

(1) الأجيري بالكسر والتشديد: العادة والطريقة.
(2) الطبري 5 / 152 - 153، وراجع الكنز 3 / 161 الحديث 2471 فإنه يروي تفصيل بيعة علي
ومجيئ طلحة والزبير إليه وامتناعه عن البيعة...، وكذلك حكاه ابن أعثم بالتفصيل في ص 160 - 161
من تأريخه.
141

وروى بسند آخر وقال: اجتمع المهاجرون والأنصار فيهم طلحة والزبير فاتوا
عليا.
فقالوا: يا أبا الحسن، هلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم أنا معك فمن
اخترتم فقد رضيت به، فاختاروا، فقالوا: والله ما نختار غيرك، قال: فاختلفوا إليه
بعدما قتل عثمان (رض) مرارا ثم أتوه في آخر ذلك، فقالوا له: إنه لا يصلح الناس إلا
بإمرة وقد طال الامر فقال لهم: انكم قد اختلفتم إلي وأتيتم وإني قائل لكم قولا إن
قبلتموه قبلت أمركم وإلا فلا حاجة لي فيه.
قالوا: ما قلت قبلناه إن شاء الله، فجاءه فصعد المنبر فاجتمع الناس إليه فقال
إني قد كنت كارها لامركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم. ألا وإنه ليس لي أمر دونكم،
ألا إن مفاتيح ما لكم معي. ألا وانه ليس لي أن آخذ منه درهما دونكم، رضيتم؟
قالوا: نعم.
قال: اللهم اشهد عليهم. ثم بايعهم على ذلك
وروى البلاذري (1) وقال: وخرج علي فأتى منزله، وجاء الناس كلهم
يهرعون إلى علي، أصحاب النبي وغيرهم، وهم يقولون: " إن أمير المؤمنين علي "
حتى دخلوا داره، فقالوا له: نبايعك، فمد يدك فإنه لابد من أمير، فقال علي: ليس ذلك
إليكم إنما ذلك إلى أهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة، فلم يبق أحد من أهل
بدر إلا أتى عليا، فقالوا: ما نرى أحدا أحق بهذا الامر منك... فلما رأى علي ذلك
صعد المنبر وكان أول من صعد إليه فبايعه طلحة بيده، وكانت إصبع طلحة شلاء
فتطير منها علي وقال: ما أخلقه أن ينكث.
وروى الطبري (2): أن حبيب بن ذؤيب نظر إلى طلحة حين بايع فقال: أول
من بدأ بالبيعة يد شلاء لا يتم هذا الامر...) إنتهى.
بعد دراسة الواقع التاريخي في إقامة الحكم في صدر الاسلام، ندرس في ما يأتي
رأي المدرستين في الخلافة والإمامة ونبدأ بذكر آراء مدرسة الخلافة.

(1) الأنساب 5 / 70 وقد روى الحاكم في المستدرك 3 / 114 تشاؤم علي من بيعة طلحة.
(2) الطبري 5 / 153.
142

معالم المدرستين - القسم الأول
البحث الثاني
الفصل الثاني
بحوث مدرسة الخلفاء في الإمامة
143

رأي مدرسة الخلافة وما استدلوا به
أولا: قال الخليفة أبو بكر.
لن يعرف هذا الامر الا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا
وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: " عمر وأبي عبيدة " فبايعوا أيهما شئتم (1).
ثانيا: قال الخليفة عمر بن الخطاب:
فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وانها قد
كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر،
من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا (2).
ثالثا: آراء أتباع مدرسة الخلفاء:
قال أقضى القضاة الماوردي " ت 450 ه‍ " في الأحكام السلطانية (3) والامام

(1) البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى. و " التغرة ": مصدر غررته: إذا ألقيته في الغرر
وهي من التغرير، كالتعلة من التعليل، والمقصود ان الذي يبايع آخر دون مشورة من المسلمين، فإنهما قد غررا
بالمسلمين وجزاء المبايع والمبايع له ان يقتلا. (راجع معاجم اللغة).
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) الأحكام السلطانية لأبي الحسن علي بن محمد البصري البغدادي والماوردي نسبة إلى " بيع ماء
الورد " كان من وجوه فقهاء الشافعية، له مصنفات كثيرة، توفي 450 ه‍، ط. الثانية سنة 1387 ه‍، ص 6 -
7.
145

علامة الزمان القاضي أبو يعلى " ت 458 ه‍ " في الأحكام السلطانية (1)، كلاهما، قالا
في كتابيهما:
" الإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما باختيار أهل العقد والحل، والثاني بعهد
الامام من قبل. "
فاما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد
به الإمامة منهم على مذاهب شتى، فقالت طائفة:
لا تنعقد الا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضا به عاما
والتسليم لامامته اجماعا، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر (2) رضي الله عنه على الخلافة
باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
وقالت طائفة أخرى أقل من تنعقد به الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو
يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالا بأمرين: أحدهما بيعة أبي بكر (رض) انعقدت
بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها وهم عمر بن الخطاب (3)، وأبو عبيدة بن
الجراح، وأسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وسالم مولي أبي حذيفة (رض)، والثاني ان

(1) الأحكام السلطانية للشيخ أبي يعلى محمد بن الحسن الفراء الحنبلي ط. الأولى بمصر سنة 1356 ه‍
ص 7 - 11.
وإنما اعتمدنا عليهما أكثر من غيرهما من كتب مدرسة الخلفاء لان هذا النوع من الكتب مثل كتاب
الخراج لأبي يوسف إنما ألف لتدوين الاحكام التي تخص شؤون الحكم على رأي مدرسة الخلفاء ومن أجل
العمل به، خلافا للكتب التي دونت في مقام المناظرة وليس للعمل بها وكل ما نورده في ما يلي من كلا الكتابين
وما انفرد به أحدهما ذكرنا ذلك في الهامش.
(2) أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر القرشي التيمي، وأمه أم الخير سلمى أو ليلى بنت
صخر التيمي، ولد بعد الفيل بسنتين أو ثلاث، صاحب الرسول في هجرته إلى المدينة وسكن (سنح) خارج
المدينة وكان يحلب للحي أغنامهم حتى ولي الخلافة، انتقل إلى المدينة بعد ستة أشهر من ذلك وتوفي سنة ثلاث
عشرة وروى عنه أصحاب الصحاح 142 حديثا راجع ترجمته بأسد الغابة وفي تاريخ ابن الأثير ج 2 / 163 في
ذكر بعض أخباره، وجوامع السيرة ص 278.
(3) أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي وأمه حنتمة بنت هاشم أو هشام ابن المغيرة
المخزومي أسلم بعد نيف وخمسين بمكة وشهد بدرا وما بعده استخلفه أبو بكر في مرض موته وتوفي من طعنة أبي
لؤلؤة إياه ودفن هلال محرم سنة 24 ه‍ إلى جنب أبي بكر روى عنه أصحاب الصحاح 537 حديثا - ترجمته في
الاستيعاب وأسد الغابة وجوامع السيرة ص 276.
وأبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح كان حفارا للقبور بمكة شهد بدرا وما بعدها ومات بطاعون
عمواس - كورة قرب بيت المقدس - سنة 18 ه‍ روى عنه أصحاب الصحاح 14 حديثا ترجمته بأسد الغابة
وجوامع السيرة ص 284، وطبقات ابن سعد ط. أوروبا، ج 2 / 2 / 74.
وأسيد بن حضير بن سماك الأنصاري الأشهلي شهد بيعة العقبة الثانية وجميع مشاهد النبي كان
أبو بكر لا يقدم أحدا من الأنصار عليه توفي سنة 20 أو 21 ه‍ فحمل عمر نعشه بنفسه روى عنه أصحاب
الصحاح، 18 حديثا، ترجمته في الاستيعاب والإصابة وجوامع السيرة ص 283.
وبشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي يقال أول من بايع أبا بكر - وكان حاسدا لسعد وقتل يوم عين التمر
مع خالد اخرج حديثه النسائي في سننه - عبد الله بن سبأ ج 1 / 96، والتقريب 1 / 103 وأسد الغابة.
وأبو عبد الله سالم مولى أبي حديفة بن عتبة ربيعة الأموي كان من إصطخر فارس أعتقته ثبيتة الأنصارية
زوج أبي حذيفة فتبناه أبو حذيفة ولذلك عد من المهاجرين هاجر إلى المدينة قبل رسول الله وكان يؤم المهاجرين
فيها وفيهم عمر بن الخطاب لأنه كان اقرأهم للقرآن، آخى الرسول بينه وبين معاذ من الأنصار قتل يوم اليمامة
ترجمته بأسد الغابة.
146

عمر (رض) جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر
الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. قال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة
يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكما وشاهدين كما يصح عقد النكاح بولي
وشاهدين وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد، لان العباس (1) قال لعلي رضوان الله
عليهما: امدد يدك أبايعك، فيقول الناس عم رسول الله صلى الله عليه وآله بايع
ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان، ولأنه حكم وحكم واحد نافذ " (2).
وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الاجماع على جوازه ووقع
الاتفاق على صحته لامرين عمل المسلمين بهما ولم يتناكروهما، أحدهما: ان
أبا بكر (رض) عهد بها إلى عمر (رض) فأثبت المسلمين إمامته بعهده.
والثاني أن عمر (رض) عهد بها إلى أهل الشورى..
إلى قوله: لان بيعة عمر (رض) لم تتوقف على رضا الصحابة، ولان الامام
أحق بها (3).
ونقل اختلاف العلماء في لزوم معرفة الامام وان بعضهم قال:

(1) أبو الفضل العباس بن عبد المطلب وأمه نتيلة بنت خباب النمري شهد مع رسول الله بيعة العقبة وامر
في بدر ففدى نفسه وابني أخويه عقيل ونوفل، هاجر قبل فتح مكة وشهده استسقى به عمر بن الخطاب في عام
الرمادة - عام الجدب والقحط - توفي سنة 32، روى عنه أصحاب الصحاح 35 حديثا ترجمته بأسد الغابة
وجوامع السيرة ص 281.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 6 - 7.
(3) المصدر السابق ص 10، ويظهر من أقوالهم بأنهم يدينون بان الامر الواقع هو الدين ولا يختلفون في
ذلك وإنما الاختلاف في كيفية ما وقع.
147

" واجب على الناس كلهم معرفة الامام بعينه واسمه، كان عليهم معرفة الله
ومعرفة رسوله. "
ثم قال: " والذي عليه جمهور الناس، ان معرفة الامام تلزم الكافة بالجملة دون
التفصيل " (1).
وأضاف قاضي القضاة أبو يعلى " ت 458 ه‍ " في الأحكام السلطانية (2) على
تلكم الأقوال قول بعضهم:
" إنها تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد ".
" ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، فلا يحل
لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما برا كان أو فاجرا، فهو
أمير المؤمنين ".
وقال في الامام يخرج عليه من يطلب الملك فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم:
" تكون الجمعة مع من غلب " واحتج بأن ابن عمر صلى بأهل المدينة في زمن الحرة
وقال: " نحن مع من غلب " (3).
وقال امام الحرمين الجويني " ت 478 ه‍ " في باب الاختيار وصفته وذكر ما
ينعقد به الإمامة من كتاب الارشاد:
" إعلموا أنه لا يشترط في عقد الإمامة الاجماع، بل تنعقد الإمامة وإن لم تجمع
الأمة على عقدها، والدليل عليه أن الإمامة لما عقدت لأبي بكر ابتدر لامضاء أحكام
المسلمين، ولم يتأن لانتشار الاخبار إلى من نأى من الصحابة في الأقطار، ولم ينكر عليه
منكر، ولم يحمله على التريث حامل، فإذا لم يشترط الاجماع في عقد الإمامة، لم يثبت

(1) المصدر السابق ص 15.
(2) الأحكام السلطانية ص 7 - 11.
(3) المصدر السابق ص 7 - 8 في طبعة وفي أخرى ص 20 - 23.
وابن عمر هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، أمه زينب بنت مظعون الجمحية، استصغره الرسول في أحد
وشهد ما بعدها، روي عنه في الثناء على نفسه وأبيه روايات متعددة، أفتى ستين سنة بعد رسول الله في الموسم،
قالوا كان جيد الحديث، ولم يكن جيد الفقه، لم يشهد شيئا من الحروب مع علي، ثم ندم من ذلك لما حضرته
الوفاة قال " ما أجد في نفسي من الدنيا الا اني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي بن أبي طالب، وكان سبب وفاته
ان الحجاج أمر رجلا فوضع زج رمح مسموم على قدمه في الزحام فمات سنة 73 ه‍، وروى عنه أصحاب
الصحاح " 2630 حديثا " ترجمته بأسد الغابة وسير النبلاء وجوامع السيرة " ص 275 ".
148

عدد معدود، ولا حد محدود، فالوجه الحكم بأن الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحل
والعقد " (1).
وقال الإمام ابن العربي " ت 543 ه‍ ": " لا يلزم في عقد البيعة للامام أن
تكون من جميع الأنام بل يكفي لعقد ذلك اثنان أو واحد " (2).
وقال الشيخ الفقيه الامام العلامة المحدث القرطبي " ت 671 ه‍ " في المسألة
الثامنة من تفسير " انى جاعل في الأرض خليفة " من تفسير سورة البقرة: " فان عقدها
واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت، ويلزم الغير فعله، خلافا لبعض الناس حيث
قال: لا تنعقد الا بجماعة من أهل الحل والعقل، ودليلنا أن عمر (رض) عقد البيعة
لأبي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك، فوجب ألا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر
العقود.
قال الإمام أبو المعالي: من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز
خلعه من غير محدث وتغير أمر، قال: وهذا مجمع عليه. "
وقال في المسألة الخامسة عشر من تفسير الآية:
" إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد على ما تقدم وجب
على الناس كافة مبايعته " (3).
قال أقضى القضاة عضد الدين الا يجي " ت 756 ه‍ " في المواقف: المقصد الثالث
فيما تثبت به الإمامة ما ملخصه: إنها تثبت بالنص من الرسول، ومن الامام السابق
بالاجماع، وتثبت ببيعة أهل الحل والعقد خلافا للشيعة دليلنا ثبوت إمامة أبي بكر
(رض) بالبيعة.
وقال: إذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة، فاعلم أن ذلك لا يفتقر إلى
الاجماع، إذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع، بل الواحد والاثنان من أهل الحل
والعقد كاف، لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا بذلك كعقد عمر
لأبي بكر، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان، ولم يشترطوا اجتماع من في المدينة فضلا

(1) الارشاد في الكلام لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني ط. القاهرة 1369 ه‍، ص 424.
(2) الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله الإشبيلي المشهور بابن العربي في شرحه سنن الترمذي 13 / 229.
(3) القرطبي هو أبو عبد الله محمد بن أحمد أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي في كتاب
جامع أحكام القرآن ط. مصر سنة 1387 ه‍، ج 1 / 269، 272.
149

عن اجماع الأمة. هذا ولم ينكر عليهم أحد، وعليه انطوت الأعصار إلى وقتنا هذا (1).
ووافق القاضي الإيجي شراح كتابه كتاب المواقف مثل السيد الشريف
الجرجاني (ت 816 ه‍) (2).
وجوب طاعة الامام وان خالف الرسول.
روى مسلم في صحيحه عن حذيفة قال: قال رسول الله:
" يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال
قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان انس " قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن
أدركت ذلك؟ قال: " تسمع وتطع للأمير وان ضرب ظهرك واخذ مالك فاسمع
وأطع ".
وروى عن ابن عباس ان رسول الله قال:
" من رأى من إمامه شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات،
مات ميتة جاهلية ".
وفي أخرى: " ليس أحد خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة
جاهلية ".
وروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب انه حين كان من أمر الحرة ما كان
زمن يزيد بن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من خلع يدا
من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة
جاهلية " (3).
وقال النووي في شرحه بباب لزوم طاعة الامراء في غير معصية " وقال جماهير

(1) المواقف في علم الكلام، ط. مصر 1325 ه‍، ج 8 / 351 - 353 تأليف القاضي عبد الرحمن بن
أحمد الإيجي، توفي بالسجن عام 756 ه‍.
(2) السيد الشريف الجرجاني في شرحه على المواقف والذي طبع مع الكتاب بمصر.
(3) صحيح مسلم ج 6 / 20 - 22 باب الأمر بلزوم الجماعة.
وروى الحديث عن حذيفة، وهو ابن اليمان العبسي كان أبوه أصاب دما في الجاهلية، فهرب إلى
المدينة، وتزوج بها وحالف بني عبد الأشهل، وسمي اليمان لمحالفته اليمانية واسمه حسل، شهد حذيفة الخندق
وما بعدها، وولى لعمر المدائن ومات بها سنة ست وثلاثين، أربعين ليلة بعد بيعة الإمام علي روى عنه
أصحاب الصحاح 225 حديثا ترجمته في الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة وبجوامع السيرة ص 277.
150

أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل
الحقوق، ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث
الواردة في ذلك ". وقال قبله:
" وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام باجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين،
وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة انه لا ينعزل السلطان
بالفسق (1) ".
قال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتاب التمهيد (2)
" ت 403 ه‍ " في باب ذكر ما يوجب خلع الامام وسقوط فرض طاعته ما ملخصه:
قال الجمهور من أهل الاثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع الامام " بفسقه
وظلمه بغصب الأموال، وضرب الابشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق،
وتعطيل الحدود " ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في
شئ مما يدعو إليه من معاصي الله، واحتجوا في ذلك بأخبار كثيرة متظافرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمة وإن جاروا واستأثروا
بالأموال، وانه قال عليه السلام: اسمعوا وأطيعوا ولو لعبد أجدع، ولو لعبد حبشي،
وصلوا وراء كل بر وفاجر. وروي أنه قال: أطعهم وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك.
استدلال اتباع مدرسة الخلافة في القرون الأخيرة
في القرون الأخيرة غالبا ما يستدل اتباع مدرسة الخلافة على صحة قيام حكم
الخلافة في الماضي على أنه كان قائما على أساس الشورى بين المسلمين للخليفة،
وبعضهم يستنتج من ذلك أن الحكم الاسلامي أيضا يقام اليوم على أساس البيعة فمن
بايعه المسلمون أصبح حاكما اسلاميا يجب على جميع المسلمين بذل الطاعة له.
كان ذلكم رأي مدرسة الخلفاء في كيفية إقامة الحكم الاسلامي وأدلتهم على
ما يرتأون، وقبل البدء بدراسة ما ارتأوا وما استدلوا عليه ينبغي أن ندرس المصطلحات
التي يدور عليها البحث في ما يأتي:

(1) ج 12 / 229 في شرحه على مسلم وراجع سنن البيهقي ج 8 / 158 - 159.
(2) التمهيد، ط. القاهرة. 1366 ه‍.
151

مصطلحات بحث الإمامة والخلافة
يدور بحث الإمامة والخلافة على المصطلحات السبعة التالية:
أ) الشورى
ب) البيعة
ج) الخليفة
د) أمير المؤمنين
ه‍) الامام
و) الامر وأولوا الامر
ز) الوصي والوصية
وفي ما يلي تعريف المصطلحات المذكورة آنفا:
أولا: الشورى
التشاور، والمشاورة، والمشورة في لغة العرب: استخراج الرأي بمراجعة البعض
البعض الاخر.
وشاوره: استخرج ما عنده من رأي.
وأشار عليه بالرأي، يشير: إذا ما وجه الرأي.
" وأمرهم شورى بينهم " من صار هذا الشئ شورى بين القوم إذا تشاوروا
فيه (1).

(1) راجع مادة " شور " من: مفردات الراغب، ولسان العرب، ومعجم ألفاظ القرآن الكريم.
152

لم يتغير معنى مشتقات هذه المادة في استعمال القرآن الكريم، والحديث
الشريف، ولدى المسلمين عما كانت عليه في لغة العرب وإنما الكلام في مورد الشورى
والمشاورة في الشرع الاسلامي وحكمها.
ثانيا: البيعة
أ) البيعة في لغة العرب
البيعة في لغة العرب: الصفقة على ايجاب البيع (1)، وصفق يده بالبيعة والبيع،
وعلى يده صفقا: ضرب بيده على يده عند وجوب البيع، وتصافقوا: تبايعوا (2)، كان هذا
معنى البيعة لدى العرب.
أما العهد والحلف: فقد كانت العرب تعقد الحلف والعهد بأساليب مختلفة،
مثل ما فعل بنو عبد مناف حين أرادوا أن يقاتلوا بني عبد الدار على من يقوم بحجابة
البيت وسقاية الحج وغيرهما من أعمال السيادة بمكة.
روى ابن إسحاق أن بني عبد مناف أخرجوا جفنة مملوءة طيبا فوضعوها في
المسجد عند الكعبة، ثم غمسوا أيديهم فيها، وتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم
مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم وسموا " المطيبين " (3).
وروى ابن إسحاق في أمر تجديد الكعبة: أن البنيان عندما بلغ موضع الركن
اختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا
وتحالفوا، وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو
عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا
" لعقة الدم " (4).
ب) البيعة في الاسلام
كانت البيعة اي: صفق اليد على اليد، في لغة العرب علامة على وجوب
البيع، وأصبحت في الاسلام علامة على معاهدة المبايع المبايع له ان يبذل له الطاعة في

(1) لسان العرب، مادة: " بيع ".
(2) لسان العرب، مادة: " صفق ".
(3) سيرة ابن هشام 1 / 141 - 143.
(4) سيرة ابن هشام 1 / 213.
153

ما تقرر بينهما، ويقال: بايعه عليه مبايعة: عاهده عليه.
وورد في القرآن الكريم في قوله تعالى:
" ان الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما
ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه اجرا عظيما " (1).
ونذكر من سنة الرسول صلى الله عليه وآله ثلاث مرات اخذ الرسول صلى
الله عليه وآله فيها البيعة من المسلمين:
1) البيعة الأولى
أول بيعة جرت في الاسلام بيعة العقبة الأولى، أخبر عنها عبادة بن الصامت
وقال:
وافى موسم الحج من الأنصار اثنا عشر رجلا ممن أسلم منهم في المدينة وقال
عبادة:
بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء وذلك قبل أن يفترض علينا
الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي
ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فان وفيتم فلكم الجنة،
وان غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له، وان سترتم عليه إلى يوم
القيامة فأمركم إلى الله عز وجل: ان شاء عذب، وان شاء غفر (2)، وسميت هذه البيعة
ببيعة العقبة الأولى.
2) البيعة الثانية الكبرى بالعقبة
روى كعب بن مالك وقال:
خرجنا من المدينة للحج وتواعدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة
أواسط أيام التشريق، وخرجنا بعد مضي ثلث الليل متسللين مستخفين حتى اجتمعنا
في الشعب عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان، فجاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومعه عمه العباس، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا
إلى الله ورغب في الاسلام ثم قال:

(1) سورة الفتح، الآية 10.
(2) سيرة ابن هشام 2 / 40 - 42.
154

" أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون نساءكم وأبناءكم " فاخذ البراء بن
معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع به أزرنا (1)، فبايعنا
يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب... ".
فقال أبو الهيثم بن التيهان: يا رسول الله ان بيننا وبين الرجال حبالا، وانا
قاطعوها " يعني اليهود " فهل عسيت ان نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله ان ترجع إلى قومك
وتدعنا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " بل الدم الدم والهدم
الهدم... " اي: ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " اخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا
ليكونوا على قومهم بما فيهم " فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من
الأوس، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " أنتم على قومكم بما فيكم كفلاء ككفالة
الحواريين لعيسى بن مريم، وانا كفيل على قومي " يعني: المسلمين، قالوا: نعم.
واختلفوا فيمن كان أول من ضرب على يده، أسعد بن زرارة أم أبو الهيثم بن
التيهان؟ (2).
3) بيعة الرضوان، أو بيعة الشجرة
في سنة سبع من الهجرة، استنفر رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه للعمرة
فخرج معه الف وثلاثمائة، أو الف وستمائة، ومعه سبعون بدنة، وقال لست احمل
السلاح، إنما خرجت معتمرا واحرموا من ذي الحليفة، وساروا حتى دنوا من الحديبية
على تسعة أميال من مكة، فبلغ الخبر أهل مكة فراعهم، واستنفروا من أطاعهم من
القبائل حولهم وقدموا مائتي فارس عليهم خالد بن الوليد أو عكرمة بن أبي جهل، فاستعد
لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: ان الله امرني بالبيعة، فاقبل الناس يبايعونه
على ألا يفروا، وقيل بايعهم على الموت، وأرسلت قريش وفدا للمفاوضة فلما رأوا ذلك
تهيبوا وصالحوا رسول الله صلى الله عليه وآله... (3)
هذه ثلاثة أنواع من البيعة على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وهي:
أ) البيعة على الاسلام

(1) " أزرنا ": نساءنا، والمرأة يكنى عنها بالإزار.
(2) سيرة ابن هشام 2 / 47 - 56.
(3) إمتاع الأسماع للمقريزي ص 274 - 291.
155

ب) البيعة على إقامة الدولة الاسلامية
ج) البيعة على القتال.
والبيعة الثالثة تجديد للبيعة الثانية، وذلك لان الرسول صلى الله عليه وآله
كان قد استنفرهم للعمرة. وبعد تبدل الحالة من العمرة إلى القتال، كانت الحالة
الحادثة مخالفة للعمل الذي استنفرهم له وخرجوا من اجله، فكأنه كان مخالفا لما
عاهدهم عليه، فلذلك احتاج إلى اخذ البيعة للقيام بالعمل الجديد، وفعل ذلك وأعطى
ثمره في ارعاب أهل مكة، وحصول النتيجة المطلوبة.
ونختم البحث بست روايات وردت في البيعة وطاعة الامام:
1) روى ابن عمر قال: كنا نبايع رسول الله (ص) على السمع والطاعة ثم
يقول لنا: " فيما استطعت " (1).
2) وفي رواية، وقال علي: " ما استطعتم " (2).
3) وفي رواية، وقال جرير، قال قل: " في ما استطعت " (3).
4) وروى الهرماس بن زياد قال: مددت يدي إلى النبي (ص) وانا غلام
ليبايعني فلم يبايعني (4).
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله (ص): " على المرء المسلم السمع والطاعة
فيما أحب وكره، الا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " (5).

(1) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب البيعة، ح: 5 وصحيح مسلم، كتاب الامارة، باب:
البيعة على السمع والطاعة في ما استطاع ح: 90 وسنن النسائي، كتاب البيعة باب: البيعة في ما يستطيع
الانسان.
(2) سنن النسائي، كتاب البيعة، باب: البيعة في ما يستطيع الانسان.
(3) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب البيعة، ح: 5.
(4) البخاري كتاب الأحكام، باب بيعة الصغير، وسنن النسائي، كتاب البيعة، باب بيعة الغلام،
والهرماس بن زياد أبو حيدر البصري الباهلي من قيس عيلان مات باليمامة بعد المائة.
راجع ترجمته بأسد الغابة، وتقريب التهذيب.
(5) صحيح البخاري: كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للامام ما لم تكن معصية ح: 3.
صحيح مسلم، كتاب الامارة، باب وجوب طاعة الامراء في غير معصية، ح: 1839.
سنن ابن ماجة، كتاب الجهاد، باب لا طاعة في معصية الله، ح: 2863.
سنن النسائي، كتاب البيعة، باب جزاء من أمر بمعصية.
مسند أحمد، ج 2 / 17 و 142.
156

5) وعن ابن مسعود قال:
قال: " سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة ويعملون بالبدعة، ويؤخرون
الصلاة عن مواقيتها " فقلت: يا رسول الله! ان أدركتهم كيف أفعل؟ قال: " تسألني يا
ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله " (1).
6) وعن عبادة بن الصامت في حديث طويل آخره: " فلا طاعة لمن عصى الله
تبارك وتعالى فلا تعتلوا بربكم " (2).
وفي رواية: " لا تضلوا بربكم " (3).
يتضح لنا من دراسة البيعة في سنة الرسول صلى الله عليه وآله ان للبيعة ثلاثة
أركان:
أ) المبايع.
ب) المبايع له.
ج) المعاهدة على الطاعة للقيام بعمل ما.
وتقوم البيعة أولا على تفهم ما يطلب الطاعة على القيام به، ثم تنعقد المعاهدة
بضرب يد المبايع على يد المبايع له بالكيفية الواردة في السنة، والبيعة على هذا مصطلح
شرعي، غير أن شروط تحقق البيعة المشروعة في الاسلام غير واضحة لكثير من المسلمين
اليوم فنقول:
تنعقد البيعة في الاسلام إذا توفر فيها الشروط الثلاثة التالية:
أ) أن يكون المبايع ممن تصح منه البيعة، ويبايع اختياريا.
ب) أن يكون المبايع له ممن تصح مبايعته.
ج) أن تكون البيعة لأمر يصح القيام به.
وعلى ما بينا لا تصح البيعة من صبي أو مجنون، لأنهما غير مكلفين بالأحكام في
الاسلام، ولا تنعقد بيعة المكره، لان البيعة مثل البيع فكما لا ينعقد البيع بأخذ المال من
صاحبه قهرا ودفع الثمن له، كذلك البيعة لا تنعقد بأخذها بالجبر وفي ظل السيف.

(1) سنن ابن ماجة، ج 2 / 956 الحديث: 2865 ومسند أحمد 1 / 400 وفي لفظ ليس طاعة لمن عصى
الله.
(2) مسند أحمد، 5 / 325 عن عباده بن الصامت وانه روى الحديث في دار عثمان عندما شكاه معاوية
إلى عثمان فجلبه عثمان إلى المدينة، ومختصر الحديث برواية عبادة في ص 329 منه.
(3) تهذيب تاريخ ابن عساكر 7 / 215.
157

وكذلك لا تصح البيعة للمتجاهر بالمعصية، ولا تصح البيعة للقيام بمعصية
الله. إذن فالبيعة مصطلح إسلامي، ولها أحكامها في الشرع الاسلامي.
ثالثا: الخلافة والخليفة في لغة العرب
الخلافة في لغة العرب: النيابة عن الغير (1)، والخليفة: من يقوم مقام الغير ويسد
مسده (2).
وفي تعريف أخر، الخليفة: من يخلف غيره، ويقوم مقامه وبهذا المعنى ورد في
القرآن الكريم:
" يا داود انا جعلناك خليفة في الأرض " (3).
وفي حديث الرسول صلى الله عليه وآله:
" اللهم ارحم خلفائي، اللهم ارحم خلفائي، اللهم ارحم خلفائي، قيل له يا
رسول الله صلى الله عليه وآله من خلفاؤك؟
قال: " الذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنتي ".
وكذلك استعمل على عهد الخليفة الأول.
قال ابن الأثير في نهاية اللغة:
وفي حديث أبي بكر، جاءه أعرابي فقال له: أنت خليفة رسول الله؟
فقال: لا، فقال: فما أنت؟ قال: انا الخالفة بعده.
قال ابن الأثير: الخالفة: الذي لا غناء عنده ولا خير فيه، وإنما قال ذلك
تواضعا... (4)
واستعمل في المعني اللغوي أيضا في عصر الخليفة الثاني فقد روى السيوطي
" ت: 911 ه‍ " في تاريخه، قال: " فصل في نبذ من قضاياه " أخرج العسكري في
" الأوائل " والطبراني في " الكبير " والحاكم في " المستدرك ": ان عمر بن عبد العزيز
سأل أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة: لأي شئ كان يكتب " من خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم " في عهد أبي بكر؟ ثم كان عمر كتب أولا " من خليفة أبي بكر "

(1) مفردات الراغب، مادة " خلف ".
(2) نهاية اللغة لابن الأثير، ولسان العرب، مادة " خلف ".
(3) سورة ص، الآية 26.
(4) وعن ابن الأثير نقل ذلك في لسان العرب.
158

فمن أول من كتب " من أمير المؤمنين "؟ فقال: حدثتني الشفاء - وكانت من
المهاجرات - أن أبا بكر كان يكتب: من خليفة رسول الله، وكان
عمر يكتب من خليفة خليفة رسول الله، حتى كتب عمر إلى عامل العراق ان يبعث إليه
رجلين جلدين يسألهما عن العراق وأهله، فبعث إليه لبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم،
فقدما المدينة، ودخلا المسجد، فوجدا عمرو بن العاص، فقالا: استأذن لنا على
أمير المؤمنين، فقال عمرو: أنتما والله أصبتما اسمه، فدخل عليه عمرو، فقال: السلام
عليك يا أمير المؤمنين، فقال: ما بدا لك في هذا الاسم؟ لتخرجن مما قلت فأخبره وقال:
أنت الأمير ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب بذلك من يومئذ.
وروى عن النووي في تهذيبه: وقال: قال عمر للناس: أنتم المؤمنون وأنا
أميركم فسمي أمير المؤمنين. وكان قبل ذلك يقال له: خليفة خليفة رسول الله، فعدلوا
عن تلك العبارة لطولها (1).
جرت العادة على تسمية الخلفاء بأمير المؤمنين حتى عصر العباسيين، وأحيانا
كانوا يصفونهم بالخليفة، ويقصدون انه خليفة الله.
فقد قال الحجاج في خطبة صلاة الجمعة:
فاسمعوا وأطيعوا لخليفة الله وصفيه عبد الملك بن مروان (2).
ولما قيل في مجلس المهدي العباسي ان الخليفة الأموي الوليد كان زنديقا، قال
المهدي: " خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق " (3).
وفي عصر العثمانيين استعمل لفظ الخليفة وأريد به خليفة رسول الله حتى صار
لفظ الخليفة اسما لسلطان المسلمين الأعظم (4).
الخلاصة
استعمل لفظ الخليفة في القرآن ولم يقصد بها خليفة رسول الله، وفي حديث
رسول الله صلى الله عليه وآله وقصد بها رواة أحاديثه.

(1) تاريخ السيوطي، ط / مطبعة السعادة بمصر، 1371 ه‍، ص 137 - 138.
(2) سنن أبي داود ج 2 / 210، ح 4645 باب في الخلفاء.
(3) تاريخ ابن كثير 10 / 7 - 8.
(4) راجع المعجم الوسيط مادة خلف.
159

وفي عصر الخليفتين استعملت في معناها اللغوي وقيل لعمر بن
الخطاب (رض): خليفة خليفة رسول الله.
واستعملت في عصر الأمويين والعباسيين وقصد بها خليفة الله، وعلى عهد
العثمانيين وقصد بها خليفة رسول الله، اذن فهذه التسمية من مصطلحات المتشرعة
وتسمية المسلمين، وليست مصطلحا شرعيا.
رابعا: أمير المؤمنين
مما أوردنا سابقا عرفنا أن لفظ أمير المؤمنين استعمل منذ عصر الخليفة عمر بن
الخطاب وأريد به الحاكم الاسلامي الاعلى، وبقي متداولا كذلك إلى عصر
العثمانيين.
خامسا: الامام
الامام في اللغة: الانسان الذي يؤتم به ويقتدى بقوله أو فعله محقا كان أو
مبطلا (1)، كما ورد في قوله تعالى:
" يوم ندعو كل أناس بامامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم
ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " (2).
ومن الثاني ما ورد ذكره في قوله تعالى:
" فقاتلوا أئمة الكفر انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون " (3).
والامام في الاسلام هو الهادي إلى سبيل الله بأمر من الله انسانا كان كما ورد
ذكره في قوله تعالى:
" وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال
ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " (4).
وقوله تعالى: " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا... " (5).

(1) راجع مادة " أم " من معاجم اللغة.
(2) سورة الإسراء، الآية 71 - 72.
(3) سورة التوبة، الآية 12.
(4) سورة البقرة، الآية 124.
(5) سورة الأنبياء، الآية 73.
160

أو كان كتابا كما ورد ذكره في قوله تعالى:
" ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة " (1).
وندرك من فحوى الآيتين المذكورتين أعلاه ان شرط الامام في الاسلام إن كان
كتابا أن يكون منزلا من قبل الله على رسله لهداية الناس كما كان شأن كتاب
محمد صلى الله عليه وآله: القرآن الكريم، ومن قبله كتاب موسى: التوراة، وكذلك
شأن كتب سائر الأنبياء (2).
وإن كان انسانا أن يكون معينا من قبل الله لقوله تعالى:
" جاعلك للناس إماما " و " عهدي ".
وأن يكون غير ظالم لنفسه ولا لغيره اي غير عاص لله لقوله تعالى: " لا ينال
عهدي الظالمين ".
وفي ضوء ما سبق يصح القول بان الامام في الاصطلاح الاسلامي هو:
أ) الكتاب المنزل من قبل الله على رسله لهداية الناس.
ب) الانسان المعين من قبل الله لهداية الناس وشرطه أن يكون معصوما من
الذنوب.
سادسا: الامر وأولوا الامر
لمعرفة معنى " الامر " و " أولي الامر " وهل هما مصطلحان شرعيان أم لا؟
نستعرض في ما يلي موارد استعمالهما في لغة العرب وعرف المسلمين والنصوص
الاسلامية كتابا وسنة، فنقول:
أ) في لغة العرب
ورد في سيرة ابن هشام، والطبري، وغيرهما، أن رسول الله كان يعرض نفسه
في المواسم على قبائل العرب، يدعوهم إلى الاسلام، ويخبرهم أنه نبي مرسل من قبل
الله، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به.
" قال وأنه أتى بني عامر بن صعصعة ذات مرة فدعاهم إلى الله عز وجل،

(1) سورة هود، الآية 17.
(2) راجع مادة " الكتاب " في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
161

وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس (1): والله لو اني أخذت
هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ثم قال له: أرأيت ان نحن تابعناك على أمرك ثم
أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الامر من بعدك؟ قال: " الامر إلى الله يضعه
حيث يشاء " قال: فقال له: أفنهدف نحورنا (2) للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الامر
لغيرنا؟!! لا حاجة لنا بأمرك (3).
ان هذا العربي كان يفهم (أمر رسول الله) على أنه سيادة وحكم على العرب،
فأراد أن يعقد مع الرسول حلفا يكون لقبيلته الحكم والسيادة على العرب من بعد
الرسول، لكن الرسول امتنع من اجابته رغم حاجته الشديدة يومذاك إلى المؤازرين،
لان الامر ليس إليه وإنما الامر إلى الله يضعه حيث يشاء.
وكذلك كان شأن هوذة بن علي الحنفي في طلبه من الرسول حين دعاه الرسول
إلى الاسلام كما في طبقات ابن سعد، ما ملخصه:
كتب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى هوذة بن علي الحنفي يدعوه إلى
الاسلام، فكتب في جواب النبي صلى الله عليه وآله " ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله،
وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الامر أتبعك، فقال
النبي صلى الله عليه وآله: " لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت " (4).
نرى أن الرسول صلى الله عليه وآله قصد من " سيابة ": الأرض المهملة. اذن
فقد طلب هوذة من الرسول أن يجعل له بعض الامر: امارة ما على أرض أو قبيلة وما
شابههما فأجابه الرسول أنه لا يؤمره ولا على سيابة من الأرض، وهذا القول من الرسول
نظير قول أهل الكوفة أو البصرة عندما وظف واليهم على كل واحد منهم نقل كمية من

(1) قال ابن هشام: فراس: ابن عبد الله بن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
سيرة ابن هشام 2 / 33.
(2) " أفنهدف نحورنا " معناه نصيرها هدفا، والهدف: الغرض الذي يرمى بالسهام إليه.
(3) سيرة ابن هشام ج 2 ص 31 - 34، والطبري.
(4) طبقات ابن سعد، ط. أوربا ج 1 / ق 1 / 18.
وقالوا في السيابة: واحدة السياب: البسر الأخضر، وعلى هذا لم يكن من المناسب أن يقول ولا سيابة
أي لا بسر من الأرض بل كان المناسب أن يقول ولا بسر من التمر. ونرى أن السيابة مشتقة من السيب وهو
كل سيب وخلي ومنه السائبة: أي الدابة المهملة، ويكون المعنى: الأرض الخالية والمتروكة.
162

الحصباء إلى مسجدهم الجامع ليفرشه بالحصباء، وأمر عليهم أحدهم وكان يتصعب في
قبول الحصباء منهم، فقالوا: يا حبذا الامارة ولو على الحجارة! وكذلك الامر في الخبر
السابق، فان هوذة طلب من الرسول الامارة " ولو على الحجارة " فأجابه الرسول: لا،
ولا على الحجارة.
ب) في عرف المسلمين:
كان أكثر استعمال " الامر " في عرف المسلمين يوم السقيفة وما بعدها، قال
سعد بن عبادة للأنصار يوم السقيفة:
" استبدوا بهذا الامر دون الناس... ".
واجابته الأنصار بقولهم: " نوليك هذا الامر ".
ثم ترادوا الكلام وقالوا: فان أبت مهاجرة قريش فقالوا... نحن عشيرته
وأولياؤه فعلام تنازعوننا هذا الامر من بعده؟ ".
وقال أبو بكر في احتجاجه عليهم يومذاك: " ولن يعرف هذا الامر الا لهذا
الحي من قريش... ".
وقال - أيضا - في قريش: " هم أحق الناس بهذا الامر من بعده ولا
ينازعهم ذلك الا ظالم ".
وقال عمر - أيضا - يوم السقيفة: " من ذا ينازعنا سلطان محمد وامارته
ونحن أهله وعشيرته ".
وقال الحباب بن المنذر في جوابه " لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا
بنصيبكم من هذا الامر... فأنتم والله أحق بهذا الامر... ".
وقال بشير بن سعد عندئذ في حق قريش: " لا يراني الله أنازعهم هذا الامر
أبدا " (1).
ج) النصوص الاسلامية:
لقد ورد في حديث الرسول ذكر " الامر " كثيرا مما سندرسه في البحوث الآتية

(1) كل هذه المحاججات وردت في خبر السقيفة بتاريخ الطبري، ط. أوربا 4 / 1837 - 1851.
163

إن شاء الله تعالى ونقتصر هنا بتسجيل كلمة الرسول صلى الله عليه وآله في جواب
العامري:
" ان الامر إلى الله يضعه حيث يشاء ".
وقد ورد في كتاب الله تعالى:
" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم... ".
النساء / 59.
في كل هذه الموارد سواء في لغة العرب، وعرف المسلمين، والنصوص
الاسلامية سنة وكتابا، إنما أريد من الامر أمر الإمامة والحكم على المسلمين.
وعلى هذا فان " الامر " استعمل في الشرع الاسلامي بنفس المعنى الذي
استعمل فيه لدى العرب والمسلمين ولا مانع بعد ذلك أن نسمي " أولي الامر "
مصطلحا شرعيا وتسمية اسلامية وأريد به الامام بعد النبي صلى الله عليه وآله ولا
خلاف في ذلك ولكن الخلاف بين المدرستين في من يصدق عليه تسمية أولي الامر،
فان مدرسة أهل البيت ترى أنه لما كان المقصود من أولي الامر: الأئمة، فلابد أن يكون
منصوبا من قبل الله معصوما من الذنوب على التفصيل الذي سيأتي بيانه في بابه إن شاء الله.
وترى مدرسة الخلافة أن " أولي الأمر ": من بايعه المسلمون بالحكم. وبناء
على ذلك يرون وجوب طاعة كل من بايعوه، وعلى هذا الأساس أطاعوا الخليفة يزيد بن
معاوية فقتلوا وسبوا آل بيت رسول الله بكربلاء، وأباحوا مدينة الرسول ثلاثة أيام،
ورموا الكعبة بالمنجنيق كما سيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى.
سابعا: الوصي والوصية
ورد مصطلح الوصي والوصية ومشتقاتهما في كلام العرب بالمعاني الآتية:
يقال لانسان حي يعهد لانسان آخر أن يقوم بأمر يهمه بعد وفاته: الموصي،
وللاخر: الوصي، وللامر الموصى به: الوصية، وتجري الوصية بلفظ الوصية
ومشتقاتها تارة مثل أن يقول الموصي لوصيه: أوصيك بعدي برعاية أهلي أو إدارة
مدرستي، وأن تفعل كذا وكذا، وأخرى بلفظ يؤدي معنى الوصية، مثل أن يقول
164

الموصي لوصيه: أطلب منك أن تقوم بعدي برعاية أهلي ومدرستي وتفعل كذا
وكذا...
ويخبر الموصي الآخرين عن وصيته أحيانا بلفظ: أوصيت إلى فلان، ووصي
فلان، وأخرى يقول: عهدت إلى فلان، أو أوكلت إليه أن يقوم بكذا، وكلا اللفظان
يؤديان معنى واحدا وهكذا نظائرهما.
كان هذا موجز معنى مصطلح الوصي والوصية ومشتقاتهما في لغة العرب،
وبنفس المعنى وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة: قال الله سبحانه في
سورة البقرة الآيات 180 - 183: " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا
الوصية - إلى قوله تعالى - فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم " وفي سورة
المائدة الآية 106 " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين
الوصية اثنان ذوا عدل منكم... " وكذلك وردت في سورة النساء الآية 11 - 12.
ومما ورد في السنة النبوية ما رواه كل من البخاري في أول كتاب الوصايا من
صحيحه ومسلم في كتاب الوصية من صحيحه:
" أن رسول الله (ص) قال: ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه أن يبيت
ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ".
وللوصية أحكامها في الفقه الاسلامي وبناءا على ما ذكرنا إن لفظي الوصي
والوصية من المصطلحات الاسلامية.
والوصية من الأنبياء والرسل كما سننقل أمثلة منها من التوراة والإنجيل أن تعهد
الرسل إلى أوصيائهم من بعدهم من حمل شريعتهم إلى الناس ورعاية أمتهم من
بعدهم.
وفي هذه الأمة لقب الإمام علي بلقب الوصي وأصبح علما له، ومعناه أنه وصي
النبي (ص) وأن خاتم الأنبياء فعل مثل من سبقه من الرسل وعهد إلى الإمام علي
(ع) تبليغ شريعته ورعاية أمته من بعده وبواسطته عهد ذلك إلى بنيه الأئمة الأحد عشر
من بعده وأخبر النبي المسلمين بكل ذلك تارة بلفظ الوصي والوصية ومشتقاتهما،
وأخرى بألفاظ أخرى تؤدي نفس المعنى. كما سيأتي بيان كل ذلك في باب النصوص
الواردة عن رسول الله (ص) في تعيين ولي الأمر من بعده مع بيان قول من أنكر ذلك
ورأي أن رسول الله (ص) لم يهتم بأمر المسلمين ولم يوص إلى أحد من بعده، إن شاء
الله تعالى.
165

دراسة رأي مدرسة الخلفاء
بعد دراسة المصطلحات السبعة الماضية تتيسر دراسة رأى المدرستين في الخلافة
والإمامة وما استدلوا به في هذا المقام، ونبدأ بدراسة آراء مدرسة الخلافة في ما يلي:
رأي مدرسة الخلافة وما استدلوا به:
أولا: قال الخليفة أبو بكر:
لن يعرف هذا الامر الا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا،
وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين " عمر وأبي عبيدة " فبايعوا أيهما شئتم (1).
ثانيا: قال الخليفة عمر بن الخطاب:
فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وأنها قد
كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر،
من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا (2).
مناقشة الاستدلالين.
أشرنا هنا أولا إلى استدلال الخليفة أبي بكر في السقيفة، وثانيا إلى رفع الخليفة
عمر شعار الشورى لولاية الامر من بعده. اما ما كان من احتجاج الخليفة أبي بكر في
السقيفة، فان الحقيقة في أمر احتجاجات جميعهم يوم ذاك، هي انها كانت تجري وفق

(1) البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى.
(2) البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى.
166

المنطق القبلي، فان الأنصار لما تركوا جنازة رسول الله صلى الله عليه وآله ملقى بين
أهله، وبادروا إلى سقيفة بني ساعدة ليولوا سعدا ما قالوا إن سعدا أفضل من غيره وأولى
بهذا الامر، بل قالوا: إن الناس في فيئكم ولا يجترئ مجترئ عليكم.
وان مهاجرة قريش - أيضا - لما التحقوا بهم احتجوا بالمنطق القبلي حين
قالوا: إن قريشا أوسط العرب دارا، وقالوا من ذا ينازعنا سلطان محمد ونحن أهله
وعشيرته.
وكذلك كان قول الأنصاري حين قال: منا أمير ومنكم أمير، وقول المهاجري
حين قال: نحن الامراء وأنتم الوزراء.
وكذلك كان دافع أسيد بن حضير وسائر من حضر من افراد قبيلته الأوس
قبليا حين خافوا سلطة الخزرج عليهم، وتذكروا حرب البعاث بينهم، والتي لم يكن قد
مضى عليها عقدان من الزمن وقالوا: والله لئن وليتها عليكم الخزرج مرة، لا زالت لهم
عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا ابدا، فقوموا فبايعوا أبا بكر.
وتمت الغلبة أخيرا لمهاجرة قريش بمجئ قبيلة " أسلم " التي ملأت سكك
المدينة، وبايعت أبا بكر ونصرت مهاجرة قريش على الأنصار، وحق للخليفة عمر بعد
ذلك ان يعتبر بيعة أبي بكر فلتة!
كانت هذه حقيقة تلك الواقعة مهما كان نوع الاستدلال فيها.
اما ما ذكر الخليفة عمر من أمر الشورى فسندرسه بحوله تعالى ضمن دراسة آراء
اتباع مدرسة الخلفاء في ما يلي.
ثالثا: آراء اتباع مدرسة الخلفاء في أمر الخلافة:
تتلخص آراء مدرسة الخلفاء في شأن الخلافة وإقامتها في الامرين التاليين:
أولا: تقام الخلافة:
أ) بالشورى
ب) بالبيعة
ج) باتباع ما عملته الصحابة في اقامتها
د) بالقهر والغلبة
167

ثانيا: يجب طاعة الخليفة بعد ما بويع، وان عصى ربه.
بعد دراسة المصطلحات المذكورة تتيسر لنا دراستها واحدة بعد الأخرى في ما
يأتي:
أولا: مناقشة الاستدلال بالشورى
ان أول من ذكر الشورى وأمر بها لإقامة الخلافة هو الخليفة عمر بن الخطاب،
غير أنه لم يأت بدليل على أن الإمامة في الاسلام تقام بالشورى، واستدل المتأخرون
من أتباع مدرسة الخلفاء على صحة إقامة الإمامة بالشورى بآيتين من كتاب الله، وبما
ورد عن رسول الله انه كان يستشير أصحابه في بعض الأمور الهامة، وبكلمة عن الإمام علي
، ونحن نبدأ هنا بدراسة ما استدلوا به في هذا الصدد ثم ندرس الشورى التي أمر بها
الخليفة عمر.
الاستدلال للشورى بكتاب الله وسنة رسوله
أ) استدلوا بقوله تعالى للمؤمنين: " وأمرهم شورى بينهم " (1).
ب) بقوله تعالى لرسوله: " وشاورهم في الامر " (2).
ج) أن رسول الله كان يستشير أصحابه في الأمور الهامة، فنقول:
أولا: الاستدلال بآية " وأمرهم شورى ".
ان هذه الجملة من آية 38 من سورة الشورى جاء بعدها " ومما رزقناهم
ينفقون " كلتا الجملتين تدلان على رجحان الفعل فيهما، وليس على وجوب التشاور
والانفاق.
هذا أولا، وثانيا إنما يصح التشاور في أمر لم يرد فيه من الله ورسوله حكم، فقد
قال الله سبحانه: " ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم
الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا " الأحزاب - 35،
وسيأتي بعيد هذا ما ورد عن الله ورسوله في أمر الإمامة مالا يبقى معه مورد للتشاور.

(1) الشورى / 38.
(2) آل عمران / 159.
168

ثانيا: الاستدلال بآية " وشاورهم في الامر " ان هذا الآية التاسعة والخمسين
بعد المائة من سورة آل عمران وقد وردت ضمن سلسلة من آيات 139 - 166 منها
وكلها في أمر غزوات الرسول وكيف نصرهم الله فيها، وفي بعضها يخاطب المسلمين
وخاصة الغزاة منهم ويعظهم، وفي بعضها يخاطب الرسول خاصة ومن ضمنها هذه
الآية:
" فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك،
فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله، ان الله يحب
المتوكلين ". يظهر جليا أن الامر بالمشاورة في هذه الآية بقصد الملاينة معهم والرحمة
بهم، وليس مأمورا بالعمل برأيهم، بل يقول له وإذا عزمت فتوكل واعمل برأيك، ومن
المجموع أيضا أن مقام المشاورة الراجحة إنما هي في الغزوات، وما ذكر من مشاورة
الرسول مع أصحابه أيضا كانت في الغزوات كما سنذكرها في ما يلي:
ثالثا: الاستدلال بمشاورة الرسول مع أصحابه:
ان مشاورة الرسول مع أصحابه كانت في الغزوات، وأشهرها مشاورته معهم
في غزوة بدر، وقصتها كما يلي:
ندب رسول الله أصحابه للتعرض لقافلة قريش التجارية الراجعة من الشام
بقيادة أبي سفيان وخرج معه 313 شخصا ممن استعد للاستيلاء على القافلة التجارية
وليس للقتال، وبلغ الخبر أبا سفيان فانحرف في سيره عن الطريق، واستصرخ قريشا
بمكة فخرجت مستعدة للقتال في جيش يقارب الألف محارب، وأفلت أبو سفيان
والقافلة، فكان الرسول صلى الله عليه وآله أمام خيارين: التراجع إلى المدينة بسلام،
أو مقاتلة جيش قريش المتأهب للقتال بجيشه غير المتكافئ عددا وعدة.
تفصيل الخبر:
روى ابن هشام في سيرته وقال:
واتاه الخبر عن قريش ومسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن
قريش، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم
قام المقداد... (1).
ثم ذكر ما قاله المقداد وما قالته الأنصار. بينا لم يذكر ما قاله أبو بكر ثم عمر!

(1) سيرة ابن هشام ج 2 / 253.
169

وفي صحيح مسلم:
فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام المقداد... (1).
ان مسلما هكذا ذكر أيضا ولم يذكر ما تكلم به أبو بكر وكلاهما لم يتما ذكر
الخبر، ونحن ننقل تمام الخبر من مغازي الواقدي وإمتاع الأسماع للمقريزي واللفظ
للأول قال، قال عمر:
يا رسول الله، إنها والله قريش وعزها، والله ما ذلت منذ عزت، والله ما
آمنت منذ كفرت، والله لا تسلم عزها أبدا، ولتقاتلنك، فاتهب لذلك أهبته وأعد لذلك
عدته. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لأمر الله فنحن معك، والله
لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا
قاعدون " (2)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق لو
سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك - وبرك الغماد من وراء مكة بخمس ليال من
وراء الساحل مما يلي البحر، وهو على ثمان ليال من مكة إلى اليمن. فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أشيروا علي أيها الناس! " وإنما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار،
وكان يظن أن الأنصار لا تنصهر إلا في الدار، وذلك أنهم شرطوا له أن يمنعوه مما
يمنعون منه أنفسهم وأولادهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشيروا علي! "
فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أجيب عن الأنصار، كأنك يا رسول الله تريدنا! قال:
" أجل ". قال: إنك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أوحى إليك في غيره، وإنا قد
آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن كل ما جئت به حق، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا
على السمع والطاعة، فامض يا نبي الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر
فخضته لخضناه معك، ما بقي منا رجل، وصل من شئت، واقطع من شئت، وخذ من
أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت. والذي نفسي بيده،
ما سلكت هذا الطريق قط، ومالي بها من علم، وما نكره أن يلقانا عدونا غدا، إنا
لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقربه عينك.
حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني محمد بن صالح، عن عاصم

(1) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر 3 / 1403.
(2) سورة المائدة 24.
170

بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد قال: قال سعد: يا رسول الله، إنا قد خلفنا من
قومنا قوما ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولا أطوع لك منهم، لهم رغبة في الجهاد ونية، ولو
ظنوا يا رسول الله أنك ملاق عدوا ما تخلفوا، ولكن إنما ظنوا أنها العير. نبني لك عريشا
فتكون فيه ونعد لك رواحلك، ثم نلقي عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان
ذلك ما أحببنا، وإن تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا. فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم خيرا، وقال: " أو يقضي الله خيرا من ذلك يا سعد! "
قالوا: فلما فرغ سعد من المشورة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" سيروا على بركة الله، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. والله، لكأني أنظر إلى
مصارع القوم. " قال: وأرانا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصارعهم يومئذ، هذا
مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، فمنا عدا كل رجل مصرعه. قال: فعلم القوم أنهم
يلاقون القتال، وأن العير تفلت، ورجوا النصر لقول النبي صلى الله عليه وسلم (1).
كانت هذه استشارة رسول الله في هذا المقام.
ان رسول الله صلى الله عليه وآله يستشير أصحابه في ماذا يفعلون، وقد أخبره
الله سبحانه وتعالى بأنهم سيقاتلون وينتصرون، وأخبره بمصارع القوم، والرسول صلى
الله عليه وآله أيضا يخبر أصحابه بمصارع القوم بعد أن وافقوه على القتال، فهو إذ
يستشيرهم لا يريد الاستفادة من رأيهم، وإنما هو نوع من الملاينة واخبار بافلات عير
قريش وتغيير الامر من الاستيلاء على مال التجارة إلى القتال فليستعدوا للقتال.
كانت هذه مشاورة الرسول صلى الله عليه وآله أصحابه في هذا المقام، وفي
ما يلي قصة مشورة أصحاب الرسول في غزوة أحد، وفي هذه المشاورة عمل رسول الله
صلى الله عليه وآله برأي أصحابه كما ورد في مغازي الواقدي وإمتاع الأسماع
للمقريزي قالا: ان رسول الله صلى الله عليه وآله صعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه
ثم قال: " أيها الناس، إني رأيت في منامي رؤيا: رأيت كأني في درع حصينة،
ورأيت كأن سيفي ذا الفقار انقصم (2) من عند ظبته (3)، ورأيت بقرا تذبح، ورأيت كأني
مردف كبشا. " فقال الناس يا رسول الله، فما أولتها؟ قال: " أما الدرع الحصينة

(1) مغازي الواقدي، ط. أكسفورد 1 / 48 - 49. وإمتاع الأسماع للمقريزي، 74 - 75.
(2) انقصم: تكسر وتثلم.
(3) الظبة: حد السيف من قبل ذبابه وطرفه.
171

فالمدينة، فامكثوا فيها، وأما انقصام سيفي من عند ظبته فمصيبة في نفسي، وأما البقر
المذبح فقتلي في أصحابي، وأما أني مردف كبشا فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله. "
وفي رواية: " وأما انقصام سيفي فقتل رجل من أهل بيتي. " وقال: أشيروا علي. "
ورأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يخرج من المدينة فوافقه عبد الله بن أبي
والأكابر من الصحابة مهاجرهم وأنصارهم، وقال عليه السلام: " امكثوا في المدينة
واجعلوا النساء والذراري في الآطام، فإن دخل علينا قاتلناهم في الأزقة - فنحن أعلم
بها منهم - ورموا من فوق الصياصي والآطام (1). " وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من
كل ناحية فهي كالحصن، فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا وطلبوا الشهادة وأحبوا
لقاء العدو: اخرج بنا إلى عدونا. وقال حمزة، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك
بن ثعلبة، في طائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا
الخروج إليهم جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في
ثلاثمائة رجل فظفرك الله عليهم، ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو
الله به، فساقه الله إلينا في ساحتنا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرى من
إلحاحهم كاره، وقد لبسوا السلاح. وقال حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم
اليوم طعاما حتى أجالدهم (2) بسيفي خارجا من المدينة، وكان يوم الجمعة صائما ويوم
السبت صائما. وتكلم مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، والنعمان بن مالك بن
ثعلبة، وإياس بن أوس بن عتيك، في معنى الخروج للقتال. فلما أبوا إلا ذلك صلى (3)
رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة بالناس وقد وعظهم وأمرهم بالجد والجهاد،
وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، ففرح الناس بالشخوص (4) إلى عدوهم، وكره ذلك
المخرج كثير. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بالناس وقد حشدوا،
وحضر (5) أهل العوالي (6) ورفعوا النساء في الآطام: ودخل صلى الله عليه وسلم بيته ومعه

(1) الصياصي جمع صيصية: وهي الحصون، والآطام جمع أطم: وهي بيوت من حجارة كانت لأهل
المدينة
(2) جالد بالسيف، ضرب به كأنه يجلد بسوط لسرعة ضربه وتتابعه.
(3) في الأصل: " صلى الله ".
(4) الشخوص: الخروج.
(5) في الأصل: " حضرو ".
(6) العوالي: منية بينها وبين المدينة ثلاثة أميال.
172

أبو بكر وعمر (رض) فعمماه ولبساه. وقد صف الناس له ما بين حجرته إلى منبره،
فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقالا للناس: قلتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ما قلتم واستكرهتموه على الخروج، والامر ينزل عليه من السماء، فردوا الامر إليه فما
أمركم فافعلوه، وما رأيتم فيه له هوى أو رأي فأطيعوه. فبينا هم على ذلك إذ خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبس لامته (1)، ولبس الدرع فأظهرها وحزم وسطها
بمنطقة (2) [من أدم] (3) من حمائل سيف، واعتم، وتقلد السيف. فقال الذين يلحون:
يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك، فقال: " قد دعوتكم إلى هذا
الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين
أعدائه، انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم ".
لعل الحكمة في استجابة رسول الله صلى الله عليه وآله لالحاح أصحابه في
الخروج أنه لو لم يستجب لهم الرسول أثر في نفوسهم تأثيرا سيئا، وأولد فيهم الضعف
والاستكانة بدل الاقدام والشجاعة، أما عدم استجابته لهم بعد أن طابقوا رأيه فقد
ذكر هو صلى الله عليه وآله حكمته.
مثال آخر من عمل الرسول برأي أصحابه فيما أشاروا عليه: قصة جرت في غزوة
الخندق نوردها في ما يلي:
غزوة الخندق
روى الواقدي والمقريزي وقالا عن غزوة الخندق:
وأقام صلى الله عليه وسلم وأصحابه محصورين بضع عشرة ليلة حتى اشتد
الكرب، وقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إنك
إن تشأ لا تعبد. " وأرسل إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف - وهما رئيسا
غطفان - أن يجعل لهما ثلث ثمر المدينة ويرجعان بمن معهما، فطلبا نصف الثمر فأبى
عليهم إلا الثلث، فرضيا. وجاءا في عشرة من قومهما حتى تقارب الامر، وأحضرت
الصحيفة والدواة ليكتب عثمان بن عفان (رض) الصلح - وعباد بن بشر قائم

(1) اللامة: أداة الحرب ولباسها، كالرمح والبيضة والمغفر والسيف والنبل.
المنطقة والنطاق، كل ما يشد به الواسط كالخرام.
(3) الذي بين القوسين كان في الأصل بعد قوله " حمائل سيف "، وهذا حق موضعه.
173

على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم مقنع في الحديد -، فأقبل أسيد بن حضير،
وعيينة ماد رجليه فقال له: يا عين الهجرس، اقبض رجليك. أتمد رجليك بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله لولا رسول الله لأنفذت حضنيك بالرمح! ثم
قال: يا رسول الله صلى الله عليك، إن كان أمرا من السماء فامض له، وإن كان غير
ذلك فوالله لا نعطيهم إلا السيف. متى طمعتم بهذا منا؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه
وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما خفية، فقالا: إن كان هذا أمرا من
السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر فيه ولك فيه هوى فسمع وطاعة، وإن كان
إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني
رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة فقلت أرضيهم ولا أقاتلهم. " فقالا: يا رسول
الله، والله إن كانوا ليأكلون العلهز في الجاهلية من الجهد، ما طمعوا بهذا منا قط: أن
يأخذوا ثمرة إلا بشراء أو قرى! فحين أتانا الله بك وأكرمنا بك، وهدانا بك، نعطي
الدنية! لا نعطيهم أبدا إلا السيف. فقال صلى الله عليه وسلم: " شق الكتاب. "
فشقه سعد، فقام عيينة والحارث. فقال صلى الله عليه وسلم: " ارجعوا بيننا السيف "
رافعا صوته. كانت هذه قصة استشارة الرسول صلى الله عليه وآله مع أصحابه في هذه
الغزوة، ويظهر من محاورة الرسول فيها أنه صلوات الله عليه أراد أن يوقع الخلاف بين
القبائل المحاربة، وخاصة أن في آخره يرفع صوته ويقول: " ارجعوا بيننا السيف " فان
هذا الخبر ينتشر ويبلغ قريشا ويقع بينهم الخلاف، وقد رويا بعد هذا: أن رسول الله
صلى الله عليه وآله أمر نعيم بن مسعود بذلك ونجح، فالقى الشك والترديد والخلاف بين
بني قريضة وقريش وكان ذلك من أسباب انكسارهم (1).
في ضوء ما بيناه من مشاورات الرسول صلى الله عليه وآله، يتضح لنا جليا أنه
لم تكن الغاية من تلك المشاورات ان يتعلم الرسول صلى الله عليه وآله من أصحابه
الرأي الصائب ليعمل به، بل كانت الغاية أحيانا ان يعلمهم الرسول صلى الله عليه
وآله بأسلوب المشورة الرأي الصائب الذي كان يعلمه الرسول صلى الله عليه وآله
مسبقا ليعملوا به.

(1) مغازي الواقدي " ج 1 / 235 - 237 "، وإمتاع الأسماع للمقريزي 235 - 236. والعلهز: كان
أهل الجاهلية في سني القحط والجماعة يخلطون الوبر بالدم ويشوونه ويأكلونه، ويسمونه العلهس.
الهجرس: ولد الثعلب، وقيل هو القرد أو دويبة أخرى.
174

كما كان شأن مشورته إياهم في غزوة بدر فان الله كان قد اعلم رسوله صلى
الله عليه وآله النتيجة مسبقا من أنهم سيقاتلون قريشا وينتصرون عليهم، وبعد المشاورة
اعلمهم الرسول صلى الله عليه وآله نتيجة الامر، وأراهم مصارع قريش. إذا كانت
الغاية من المشاورة توجيه المسلمين بأسلوب المشاورة إلى ما ينبغي ان يعملوه خلافا
لإسلوب الملوك الجبارين الذين يملون آراءهم على الناس بقولهم مثلا: نحن ملك...
أصدرنا أمرنا الملكي بكذا...
وان صدر الآية يدل بوضوح على ما ذكرنا، فإنه تعالى قال: " فبما رحمة من الله
لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم
وشاورهم في الامر... " فالمشاورة هنا من مصاديق الليونة وكونه رحمة من الله، اللتين
وردتا في صدر الآية.
تارة تكون الغاية من المشاورة الملاينة كالمثال السابق، وتارة تكون الغاية تربية
نفوس المسلمين، كما كان شأن المشاورة في غزوة أحد فان رسول الله صلى الله عليه
وآله بعد ان اخذ برأيهم ولبس لامة حربه بقصد السير إلى أحد، ندموا على الحاحهم على
الرسول صلى الله عليه وآله بالخروج، وقالوا يا رسول الله صلى الله عليه وآله ما كان
لنا ان نخالفك فاصنع ما بدا لك، فقال: " قد دعوتكم إلى هذا فأبيتم، ولا ينبغي لنبي
إذا لبس لامته ان يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه ".
يظهر من المحاورات التي دارت بين الرسول صلى الله عليه وآله وأصحابه في
هذه الواقعة، ان عدم استجابة الرسول صلى الله عليه وآله لرغبتهم العارمة في الخروج
كان يؤثر على نفوسهم تأثيرا سيئا، ويولد فيهم ضعف النفس والتردد وعدم الاقدام في
الحروب.
ثانيا: مناقشة الاستدلال بالبيعة
عرفنا في ما سبق: ان البيعة كالبيع تنعقد بالرضا والاختيار وليس بحد السيف
والجبر،
وانه لا بيعة في معصية،
ولا في خلاف ما أمر الله به،
وانه لا بيعة لمن يعصي الله.
175

وعرفنا ان أول بيعة أخذت بعد رسول الله هي البيعة للخليفة أبي بكر وعلى
صحتها تتوقف صحة بيعة الخليفة عمر لأنها أخذت بأمر من الخليفة أبي بكر، وعلى صحة
بيعة الخليفة عمر تتوقف صحة بيعة الخليفة عثمان، لأنها أخذت بأمر من الخليفة عمر
حين أمر ان يبايعوا من الستة القرشيين من بايعه عبد الرحمن بن عوف، وان يقتلوا من
خالف.
وعرفنا كيف أخذت البيعة للخليفة أبي بكر غلابا في سقيفة بني ساعدة ثم
بمساعدة قبيلة بني أسلم في سكك المدينة، وكيف حمل النار إلى بيت فاطمة عليها السلام
ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله، لأنه قد تحصن فيه من أبى ان يبايع، وان بني هاشم
لم يبايعوا مدة حياة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله، وان الجن قتلت سعد بن عبادة
بسهمين لأنه لم يبايع، كان هذا شأن اخذ البيعة في المدينة. اما خارج المدينة، فكان
شأن من امتنع عن بيعة الخليفة أبي بكر وأبى ان يدفع الزكاة لجباة الخليفة، قتل
الرجال، وسبي النساء، وسلب الأموال.
كما كان شأن مالك بن نويرة عامل رسول الله صلى الله عليه وآله (1) وأسرته
من قبيلة تميم حين دهمهم جيش خالد بن الوليد ليلا، وأخذوا السلاح، فقال جيش
خالد: انا المسلمون، فقال أسرة مالك: ونحن المسلمون، فقال لهم جيش خالد: فان
كنتم كما تقولون، فضعوا السلاح فوضعوها ثم صلوا مع جيش خالد (2) ثم أخذوهم إلى
خالد بن الوليد، فأمر بضرب عنق مالك فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد: هذه
التي قتلتني وكانت في غاية الجمال، فقال خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الاسلام،
فقال مالك: انا على الاسلام، وبعد قتله أمر خالد برأسه فنصب اثفية للقدر وتزوج
بامرأته في تلك الليلة ولما يدفن مالك (3).
وكما كان شأن قبائل كندة فان زياد بن لبيد البياضي، عامل أبي بكر اخذ
ناقة لفتى من كندة، فسأله الكندي اخذ غيرها فأبى ذلك، لأنه وسمها بميسم الصدقة (4)
فذهب الفتى إلى رجل من سادات كندة يقال له حارثة بن سراقة، وقال له: يا ابن عم

(1) راجع ترجمته في الإصابة 3 / 336، رقم الترجمة: 7698.
(2) تاريخ الطبري ط. أوربا 1 / 1927 - 1928 وراجع تاريخ اليعقوبي ط. بيروت، 2 / 110.
(3) راجع تاريخ أبي الفداء ص 158، ووفيات الأعيان، ترجمة وثيمة، وكذلك فوات الوفيات، وبقية
المصادر مع تفصيل الخبر في كتاب عبد الله بن سبأ ط. بيروت سنة 1403 ه‍، ج 1 / 185 - 191.
(4) فتوح البلدان، ردة بني وليعة والأشعث بن قيس.
176

ان زياد بن لبيد قد أخذ لي ناقة فوسمها وجعلها مع إبل الصدقة، وانا مشغوف بها، فان
رأيت أن تكلمه فيها فلعله ان يطلقها ويأخذ غيرها من ابلي، فأقبل حارثة إلى زياد
وقال له: ان رأيت أن ترد ناقة هذا الفتى عليه وتأخذ غيرها فعلت منعما، فقال زياد،
قد وضع عليها ميسم الصدقة، فترادا الكلام، فأقبل حارثة إلى إبل الصدقة فأخرج
الناقة، بعينها، وقال للفتى خذ ناقتك فان كلمك أحد سأحطم انفه بالسيف وقال:
نحن إنما أطعنا رسول الله صلى الله عليه وآله إذ كان حيا ولو قام رجل من
أهل بيته لاطعناه واما ابن أبي قحافة فلا والله ماله في رقابنا طاعة ولا بيعة وأنشأ أبياتا
من جملتها:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا * فيا عجبا ممن يطيع أبا بكر
وقال له الحارث بن معاوية من سادة كندة:
انك لتدعو إلى طاعة رجل لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد فقال له: زياد،
صدقت ولكنا اخترناه لهذا الامر.
فقال له الحارث: اخبرني لم نحيتم عنها أهل بيته، وهم أحق الناس بها لان الله
عز وجل يقول: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " فقال له زياد: ان
المهاجرين والأنصار انظر لأنفسهم منك! فقال له الحارث: لا والله ما أزلتموها عن أهلها
الا حسدا منكم، وما يستقر في قلبي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا
ولم ينصب للناس علما يتبعونه، فارحل عنا أيها الرجل فإنك تدعو إلى غير رضا، ثم أنشأ
الحارث يقول:
كان الرسول هو المطاع فقد مضى * صلى عليه الله لم يستخلف
فأرسل زياد إبل الصدقة امامه إلى المدينة ثم سار إلى المدينة وأخبر أبا بكر
فجهزه في أربعة آلاف مقاتل فسار زياد يريد حضرموت وفي طريقه كان يباغت قبائل
كندة ويقتل منهم ويستأسر، مثل بني هند الذين هاجمهم وقتل منهم جماعة واحتوى على
نسائهم وذراريهم.
ووافى حي بني العاقل من كندة غافلين فلما أشرفت الخيل عليهم تصايحت
النساء واقتتل الرجال ساعة ووقعت الهزيمة عليهم، واحتوى زياد نساءهم وأموالهم.
وكبس بخيله في جوف الليل حي بني حجر من كندة فقتل منهم مائتي رجل
وأسر خمسين وفر الباقون واحتوى على النساء والأولاد.
177

ثم قاتله الأشعث بن قيس وحاصره في مدينة " تيم " واسترجع منه الأموال
والذراري وردها إلى أهلها فأرسل الخليفة إلى الأشعث كتابا يسترضيه فقال الأشعث
للرسول: " ان صاحبك أبا بكر يلزمنا الكفر بمخالفتنا له، ولا يلزم صاحبه الكفر بقتله
قومي وبني عمي ".
" فقال له الرسول: نعم يا أشعث! يلزمك الكفر لان الله تبارك وتعالى قد
أوجب عليك الكفر بمخالفتك لجماعة المسلمين ".
فضربه غلام من بني عم الأشعث بسيفه فقتله، واستحسن فعله الأشعث
فغضب من ذلك عامة أصحاب الأشعث حتى بقي في قريب من الفي رجل، فكتب زياد
إلى أبي بكر يخبره بقتل الرسول وانهم محاصرون، فاستشار الخليفة المسلمين في ما يصنع
فأشار عليه أبو أيوب الأنصاري وقال: ان القوم كثير عددهم وإذا هموا بالجمع جمعوا
خلقا كثيرا فلو صرفت عنهم الخيل في عامك هذا رجوت ان يحملوا الزكاة إليك بعد هذا
العام طائعين. فقال أبو بكر والله لو منعوني عقالا واحدا مما كان النبي وظفه عليهم
لقاتلتهم عليه ابدا أو ينيبوا إلى الحق، ثم كتب إلى عكرمة بن أبي جهل ان يسير بمن
أجابه من أهل مكة إلى زياد ويستنهض من مر عليه من احياء العرب، فخرج في الفي
فارس من قريش ومواليهم وأحلافهم ثم سار إلى مأرب، وبلغ ذلك أهل دبا فغضبوا
وقالوا نشغله عن محاربة بني عمنا من كندة، وأخرجوا عامل أبي بكر، فكتب أبو بكر إليه
ان يسير إليهم، وان لا يقصر فيهم، وإذا فرغ منهم ان يبعث بهم اسراء، فسار إليهم عكرمة
وقاتلهم وحاصرهم، فسألوا الصلح وان يؤدوا الزكاة، فأبى الا ان ينزلوا على حكمه
فأجابوه، فدخل عكرمة حصنهم، وقتل اشرافهم صبرا، وسبى نساءهم وأولادهم،
وأخذ أموالهم ووجه بالباقين إلى أبي بكر، فهم ان يقتل الرجال ويقسم النساء
والذرية، فقال له عمر:
يا خليفة رسول الله، ان القوم على دين الاسلام يحلفون بالله مجتهدين ما كنا
رجعنا عن دين الاسلام، فحبسهم أبو بكر إلى أن توفى وأطلق عمر سراحهم على عهده.
فسار عكرمة إلى زياد فبلغ خبره الأشعث فانحاز إلى حصن النجير وجمع فيه
نساءه ونساء قومه، فبلغ ذلك قبائل كندة ممن كان تفرق عن الأشعث لما قتل رسول
أبي بكر فتلاوموا ان يتركوا بني عمهم محاصرين فسارت لقتال زياد فجزع لذلك فقال له
عكرمة: أرى ان تقيم محاصرا لمن في الحصن وأمضي انا فالقى هؤلاء القوم، فقال له
178

زياد: نعم ما رأيت ولكن ان ظفر الله بهم فلا ترفع السيف حتى تبيدهم عن آخرهم.
فقال عكرمة: لست آلو جهدا في ما أقدر عليه.
فسار عكرمة حتى وافي القوم فتقاتلوا وكانت الحرب بينهم سجالا والأشعث
لا يعلم عن ذلك شيئا، وطال عليهم الحصار واشتد بهم الجوع والعطش فطلب من زياد
الأمان له ولأهل بيته وعشرة من وجوه أصحابه وكتب بينهم، فبعث زياد الكتاب إلى
عكرمة فأخبر عكرمة قبائل كندة بذلك وأراهم الكتاب فتركوا القتال وانصرفوا،
ودخل زياد الحصن وأخذ يضرب أعناق المقاتلة صبرا، ووافاه كتاب أبي بكر ان يحمل
من نزل على حكمه إلى المدينة، فصفد من بقي منهم بالحديد وأرسلهم إلى المدينة (1).
هكذا تمت بيعة الخليفة أبي بكر والتي يصفها الخليفة عمر بأنها كانت فلتة،
وعليها بنيت خلافة الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان وبها يستدلون.
ثالثا: مناقشة الاستدلال بعمل الصحابة
إن الاستدلال بعمل الصحابة يتم لو كانت سيرتهم مصدرا للتشريع الاسلامي
في عداد الكتاب والسنة ونزل فيهم ما نزل في رسول الله صلى الله عليه وآله مثل قوله
تعالى:
" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " (2).
وقوله:
" ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " (3).
وبدون ذلك لا حجة علينا في عمل الصحابة، ثم لسنا ندري بمن نقتدي،
وعمل بعضهم وأقوالهم يخالف البعض الاخر، ومن ثم اختلفت آراء العلماء في كيفية
إقامة الخلافة، أتقام ببيعة رجل لان العباس عم النبي صلى الله عليه وآله قال لعلي
عليه السلام: امدد يدك أبايعك يبايعك الناس أم بقول الخليفة عمر حين قال: بيعة
أبي بكر فلتة، أم نقتدي بمعاوية حين شهر السيف في وجه الخليفة الشرعي الإمام علي
عليه السلام؟ ولا نرى حاجة إلى المناقشة أكثر مما بينا، اما ما استدل بعضهم بقول

(1) لقد لخصنا الخبر مما رواه البلاذري في الفتوح والحموي في مادة " حضرموت " من معجم البلدان
وفتوح أعثم 1 / 57 - 85، وتمام الخبر في عبد الله بن سبا 1 / 393 - 410.
(2) سورة الأحزاب، الآية 21.
(3) سورة الحشر، الآية 7.
179

الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة فسندرسها في ما يأتي:
الاستدلال بما ورد في نهج البلاغة على صحة الاستدلال بالشورى والبيعة
وعمل الأصحاب.
استدل بعضهم على ما ارتأى في الشورى والبيعة والاقتداء بعمل الصحابة بما
رواه الشريف الرضي عن الإمام علي عليه السلام بباب الكتب من نهج البلاغة وهذا
نصه:
ومن كتاب له إلى معاوية:
إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه فلم
يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار.
فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك [لله] رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج
بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين،
وولاه الله ما تولى... (1)
فان الامام قد احتج في هذا الكتاب على معاوية بالبيعة والشورى واجماع
المهاجرين والأنصار، وبناء على هذا فان الامام يرى صحة إقامة الإمامة بما ذكره،
والجواب أن الشريف الرضي كان أحيانا يتخير نتفا من كتب الامام وخطبه مما يجده
في أعلى درجات البلاغة ويترك سائره وكذلك فعل مع هذا الكتاب وقد أورد الكتاب
بتمامه نصر بن مزاحم في كتاب صفين وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا
أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن
يرد. وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك
لله رضا، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى
قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا.
وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي، وكان نقضهما كردهما، فجاهدتهما على ذلك
حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب

(1) نهج البلاغة، الكتاب السادس من باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين.
180

الأمور إلي فيك العافية، إلا أن تتعرض للبلاء. فإن تعرضت له قاتلتك واستعنت الله
عليك. وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم إلي
أحملك وإياهم على كتاب الله. فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن.
ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان. واعلم أنك
من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا تعرض فيهم الشورى. وقد أرسلت إليك
والى من قبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الايمان والهجرة، فبايع ولا قوة الا
بالله " (2).
اتضح لنا من هذا الكتاب أن الإمام علي يحتج على معاوية بما التزم به هو
ونظراؤه ويقول له: ان بيعتي بالمدينة لزمتك يا معاوية وأنت بالشام، كما التزمت ببيعة
عثمان بالمدينة وأنت بالشام، وكذلك لزمت بيعتي نظراءك خارج المدينة كما لزمتهم
بيعة عمر في المدينة وهم في أماكن أخرى.
هكذا يلزمه الإمام علي بكل ما التزم به هو ونظراؤه من مدرسة الخلافة
يومذاك، وهذا وارد لدى العقلاء، فإنهم يحتجون على الخصم بما التزم به هو، هذا أولا.
وثانيا قوله: " فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما، كان ذلك لله رضا " فإنه
قد ورد في بعض النسخ " كان ذلك رضا " (3)، أي كان لهم رضا، على أن يكون ذلك
باختيار منهم ولم تؤخذ البيعة بالجبر وحد السيف. وعلى فرض أنه كان قد قال " كان
لله رضا " نقول: نعم، ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار بما فيهم الإمام علي والإمام الحسن
والإمام الحسين كان ذلك لله رضا.
وأخيرا لست أدري كيف استشهدوا بهذا القول من نهج البلاغة ونسوا أو
تناسوا سائر أقوال الامام التي نقلها الشريف الرضي أيضا في نهج البلاغة مثل قوله في
باب الحكم:
لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنباء السقيفة بعد وفاة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم قال عليه السلام: ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت: منا أمير ومنكم

(1) الطلقاء: جمع طليق، وهو الأسير الذي أطلق عنه إساره وخلى سبيله. ويراد بهم الذين خلى عنهم
رسول الله يوم فتح مكة وأطلقهم ولم يسترقهم.
(2) صفين لنصر بن مزاحم ط. القاهرة سنة 1832 ه‍، ص 29.
(3) راجع نهج البلاغة ط. الاستقامة بالقاهرة تجد لفظ الجلالة " لله " بين علامتين إشارة إلى أنه لم يرد
لفظ الجلالة بين النسخ.
181

أمير، قال عليه السلام:
فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصى بأن
يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم؟!
قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟
فقال عليه السلام:
لو كانت الامارة فيهم لم تكن الوصية بهم!!
ثم قال عليه السلام:
فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول صلى الله عليه وسلم،
فقال عليه السلام: احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة (1).
وقوله - أيضا - في باب الحكم:
وقال عليه السلام: واعجباه أتكون الخلافة في الصحابة والقرابة.
قال الرضي: وله شعر بهذا المعنى:
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب
وان كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب
وأجمع أقواله في هذا الباب ما وردت في الخطبة الشقشقية " خ: 190 " التي
قال فيها عليه السلام:
" أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب
من الرحى ينحدر عنى السيل ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها
كشحا. وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء (2) أو أصبر على طخية عمياء (3) يهرم
فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه (4) فرأيت أن

(1) يريد من الثمرة آل بيت الرسول صلى الله عليه وآله.
(2) وطفقت الخ: بيان لعلة الاغضاء. والجذاء: بمعنى المقطوعة: ويقولون: رحم جذاء، أي: لم توصل،
وسن جذاء أي متهتمة. والمراد هنا ليس ما يؤيدها. كأنه قال: تفكرت في الامر فوجدت الصبر أولى فسدلت
دونها ثوبا وطويت عنها كشحا.
(3) طخية أي: ظلمة، ونسبة العمى إليها مجاز عقلي، وإنما يعمى القائمون فيها إذ لا يهتدون إلى الحق،
وهو تأكيد لظلام الحال واسودادها.
(4) يكدح: يسعى سعي المجهود.
182

الصبر على هاتا أحجى (1) فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا (2) أرى تراثي
نهبا، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده (3) " ثم تمثل بقول
الأعشى ".
شتان ما يومي على كروها * ويوم حيان أخي جابر (4)
فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته (5) إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما
تشطرا ضرعيها (6) فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها (7)، ويخشن مسها، ويكثر
العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة (8) إن أشنق لها خرم، وإن

(1) أحجى: ألزم، من حجى به كرضى: أولع به ولزمه. ومنه هو حجى بكذا أي: جدير، وما احجاه
وأحج به، أي: أخلق به، وأصله من الحجا بمعنى العقل فهي أحجى أي أقرب إلى العقل، وهاتا بمعنى هذه،
أي: رأى الصبر على هذه الحالة التي وصفها أولى بالعقل من الصولة بلا نصير.
(2) الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه. والتراث: الميراث.
(3) أدلى بها: ألقي بها إليه.
(4) الكور بالضم: الرحل أو هو مع أداته، والضمير راجع إلى الناقة المذكورة في الأبيات قبل. وحيان:
كان سيدا في بني حنيفة مطاعا فيهم، وله نعمة واسعة ورفاهية وافرة، وكان الأعشى ينادمه، والأعشى هذا: هو
الأعشى الكبير أعشى قيس، وهو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل.
وجابر: أخو حيان أصغر منه، ومعنى البيت أن فرقا بعيدا بين يومه في سفره وهو على كور ناقته وبين
يوم حيان في رفاهيته، فان الأول كثير العناء شديد الشقاء، والثاني وافر النعيم وافي الراحة. ووجه تمثل الامام
بالبيت ظاهر بأدنى تأمل.
(5) رووا أن أبا بكر قال بعد البيعة: " أقيلوني فلست بخيركم ".
(6) لشد ما تشطرا ضرعيها: جملة شبه قسمية اعترضت بين المتعاطفين والشطر أيضا: أن تحلب شطرا
وتترك شطرا، فتشطرا أي: أخذ كل منهما شطرا. وسمى شطري الضرع ضرعين مجازا: وهو ههنا من أبلغ أنواعه
حيث إن من ولى الخلافة لا ينال الامر إلا تاما، ولا يجوز أن يترك منه لغيره سهما، فأطلق على تناول الامر واحدا
بعد واحد اسم التشطر والاقتسام، كأن أحدهما ترك منه شيئا للآخر، وأطلق على كل شطر اسم الضرع نظرا
لحقيقة ما نال كل منهما.
(7) الكلام - بالضم - الأرض الغليظة وفي نسخة كلمها. وإنما هو بمعنى الجرح كأنه يقول: خشونتها
تجرح جرحا غليظا.
(8) الصعبة من الإبل: ما ليست بذلول، وأشنق البعير، وشنقه: كفه بزمامه حتى ألصق ذفراه " العظم
الناتئ خلف الاذن " بقادمة الرحل، أو رفع رأسه وهو راكبه، واللام هنا زائدة للتحلية ولتشاكل أسلس.
وأسلس: أرخى، وتقحم: رمى بنفسه في القحمة، أي: اهلكها.
قال الرضى: " كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم " يريد أنه إذا شدد عليها في
جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها، وإن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها: يقال:
أشنق الناقة، إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه، وشنقها أيضا، ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق: وإنما
قال: " أشنق لها " ولم يقل " أشنقها " لأنه جعله في مقابلة قوله " أسلس لها " فكأنه عليه السلام قال: إن رفع
لها رأسها بمعنى أمسكه عليها ".
الصعبة: اما ان يشنقها فيخرم أنفها، وإما أن يسلس لها فترمي به في مهواة تكون فيها هلكته.
183

أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله - بخبط وشماس (1) وتلون واعتراض،
فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة
زعم أني أحدهم، فيالله وللشورى (2) متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى

(1) مني الناس: ابتلوا وأصيبوا، والشماس - بالكسر - إباء ظهر الفرس عن الركوب، والنفا؟
والخبط: السير على غير جادة. والتلون: التبدل والاعتراض: السير على غير خط مستقيم، كأنه يسير عرضا في
حال سيره طولا يقال: بعير عرضي، يعترض في سيره لأنه لم يتم رياضته، وفي فلان عرضية، أي: عجرفة
وصعوبة.
(2) لقد أوردنا تفصيل القصة من أوثق المصادر في ما سبق، وقال الشيخ محمد عبده في شرحه لهذه
الكلمة:
كان سعد من بني عم عبد الرحمن كلاهما من بني زهرة، وكان في نفسه شئ من علي كرم الله وجهه من
قبل أخواله لان أمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس، ولعلي في قتل صناديدهم ما هو معروف مشهور.
و عبد الرحمن كان صهرا لعثمان، لان زوجته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت أختا لعثمان من أمه،
وكان طلحة ميالا لعثمان لصلات بينهما، على ما ذكره بعض رواة الأثر. وقد يكفي في ميله إلى عثمان انحرافه
عن علي لأنه تيمي وقد كان بين بني هاشم وبني تيم مواجد لمكان الخلافة في أبي بكر وبعد موت عمر بن الخطاب
رضي الله عنه اجتمعوا وتشاوروا فاختلفوا، وانضم طلحة في الرأي إلى عثمان، والزبير إلى علي، وسعد إلى
عبد الرحمن. وكان عمر قد أوصى بأن لا تطول مدة الشورى فوق ثلاثة أيام، وأن لا يأتي الرابع إلا ولهم أمير
وقال: إذا كان خلاف فكونوا مع الفريق الذي فيه عبد الرحمن. فأقبل عبد الرحمن على علي وقال: عليك عهد
الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده. فقال علي: أرجو أن أفعل وأعمل على
مبلغ علمي وطاقتي، ثم دعا عثمان وقال له مثل ذلك، فأجابه بنعم. فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد
حيث كانت المشورة وقال: اللهم اسمع واشهد. اللهم إني جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، وصفق
بيده في يد عثمان. وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين وبايعه. قالوا: وخرج الإمام علي واجدا، فقال المقداد بن
الأسود لعبد الرحمن والله لقد تركت عليا وإنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون. فقال: يا مقداد لقد تقصيت
الجهد للمسلمين. فقال المقداد: والله إني لاعجب من قريش، إنهم تركوا رجلا ما أقول ولا أعلم أن رجلا
أقضى بالحق ولا أعلم به منه. فقال عبد الرحمن: يا مقداد، إني أخشى عليك الفتنة فاتق الله. ثم لما حدث في
عهد عثمان ما حدث من قيام الاحداث من أقاربه على ولاية الأمصار ووجد عليه كبار الصحابة روي أنه قيل
لعبد الرحمن: هذا عمل يديك، فقال: ما كنت أظن هذا به! ولكن لله على أن لا أكلمه أبدا، ثم مات
عبد الرحمن وهو مهاجر لعثمان، حتى قبل: إن عثمان دخل عليه في مرضه يعوده فتحول إلى الحائط لا يكلمه!
والله أعلم، والحكم لله يفعل ما يشاء.
184

صرت أقرن إلى هذه النظائر (1)!! لكني أسففت إذ أسفوا (2) وطرت إذ طاروا، فصغى
رجل منهم لضغنه (3) ومال الآخر لصهره (4) مع هن وهن (5) إلى أن قام ثالث القوم نافجا
حضنيه (6) بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة
الربيع (7) إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله (8) وكبت به بطنته (9) فما راعني إلا
والناس كعرف الضبع إلي (10) ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان،
وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم (11) فلما نهضت بالامر نكثت طائفة،
ومرقت أخرى، وقسط آخرون (12) كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: " تلك الدار
الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين " بلى!
والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم (13) وراقهم زبرجها، أما

(1) المشابه بعضهم بعضا دونه.
(2) أسف الطائر: دنا من الأرض، يريد أنه لم يخالفهم في شئ.
(3) صغى صغيا وصغا صغوا: مال، والضغن: الضغينة يشير إلى سعد.
(4) يشير إلى عبد الرحمن.
(5) يشير إلى أغراض أخرى يكره ذكرها، وقد أشرنا إلى بعضها في باب مناقشة الشورى.
(6) يشير إلى عثمان وكان ثالثا بعد انضمام كل من طلحة والزبير وسعد إلى صاحبه كما تراه في خبر
القضية. ونافجا حضنيه: رافعا لهما، والحضن: ما بين الإبط والكشح. يقال للمتكبر: جاء نافجا حضنيه.
ويقال مثله لمن امتلأ بطنه طعاما والنثيل: الروث. والمعتلف: من مادة علف موضع العلف وهو معروف، أي:
لا هم له إلا ما ذكر.
(7) الخضم، على ما في القاموس: الاكل مطلقا، أو بأقصى الأضراس، أو مل. الفم بالمأكول، أو
خاص بالشئ الرطب. والقضم: الاكل بأطراف الأسنان أخف من الخضم. والنبتة - بكسر النون -
كالنبات في معناه.
(8) انتكث فتله: انتقض. وأجهز عليه عمله: تمم قتله، تقول: أجهزت على الجريح، وذففت عليه.
(9) البطنة - بالكسر - البطر والأشر والكظة " أي: التخمة والاسراف في الشبع "، وكبت به: من
كبا الجواد إذ أسقط لوجهه.
(10) عرف الضبع: ما كثر على عنقها من الشعر، وهو ثخين، يضرب به المثل في الكثرة والازدحام.
وينثالون: يتتابعون مزدحمين، والحسنان: ولداه الحسن والحسين وشق عطفاه: خدش جانباه من الاصطكاك.
وفي رواية " شق عطافي " والعطاف الرداء. وكان هذا الازدحام لأجل البيعة على الخلافة.
(11)؟ ربيضة الغنم: الطائفة الرابضة من الغنم، يصف ازدحامهم حوله وجثومهم بين يديه.
(12) الناكثة: أصحاب الجمل، والمارقة: أصحاب النهروان. والقاسطون - أي الجائرون - أصحاب
صفين.
(13) حليت الدنيا: من حليت المرأة إذا تزينت بحليها. والزبرج: الزينة من وشي أو جوهر.
185

والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة (1) لولا حضور الحاضر (2) وقيام الحجة بوجود الناصر،
وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم (3)، لألقيت
حبلها على غاربها (4)، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد
عندي من عفطة عنز (5).
قالوا: وقام إليه رجل من أهل السواد (6) عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته
فناوله كتابا، فأقبل ينظر فيه، قال له ابن عباس رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين، لو
اطردت خطبتك من حيث أفضيت.
فقال: هيهات يا بن عباس، تلك شقشقة (7) هدرت ثم قرت.
قال ابن عباس: فوالله ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام أن
لا يكون أمير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد.
نسوا أو تناسوا كل هذه الأقوال من الإمام علي وتمسكوا بقول احتج به الإمام علي
على معاوية لالتزام معاوية ونظرائه به.
رابعا: مناقشة الاستدلال بان الخلافة تقام بالقهر والغلية
من سبر التاريخ الاسلامي وجد أن حكم الخلافة إلى عهد الخلفاء العثمانيين

(1) النسمة - محركة - الروح، وبرأها: خلقها.
(2) من حضر لبيعته، ولزوم البيعة لذمة الامام بحضوره.
(3) والناصر: الجيش الذي يستعين به على إلزام الخارجين بالدخول في البيعة الصحيحة، والكظة: ما
يعتري الآكل من امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق. والسغب: شدة الجوع، والمراد منه
هضم حقوقه.
(4) الغارب: الكاهل، والكلام تمثيل للترك وإرسال الامر.
(5) عفطة العنز: ما تنثره من أنفها، تقول: عفطت تعفط من باب ضرب، غير أن أكثر ما يستعمل ذلك
في النعجة. والأشهر في العنز النفطة بالنون، يقال: ماله عافط ولا نافط، أي: نعجة ولا عنز، كما يقال: ماله
ثاغية ولا راغية. والعفطة الحبقة أيضا، لكن الأليق بكلام أمير المؤمنين هو ما تقدم.
(6) السواد: العراق، وسمي سوادا لخضرته بالزرع والأشجار، والعرب تسمى الأخضر أسود. قال الله
تعالى " مدهامتان " يريد الخضرة، كما هو ظاهر.
(7) الشقشقة - بكسر فسكون فكسر - شئ كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج، وصوت البعير بها
عند إخراجها هدير، ونسبة الهدير إليها نسبة إلى الآلة، قال في القاموس: والخطبة الشقشقية العلوية، وهي
هذه.
186

الأتراك كان يقوم على الساس القسر، وشذ قيامه خلاف ذلك مثل حكم الإمام علي
عليه السلام وهذا هو الصحيح في الامر ولا مناقشة لنا في ذلك.
اما ما قالوا: " من غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين
فلا يحل لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يبيت ولا يراه إماما برا كان أو فاجرا ".
لست أدري عم يتكلم هؤلاء الاعلام: عن شريعة الله في إقامة الحكم في
المجتمع الاسلامي، أم عن شريعة الغاب لمجتمع الأسود والفهود، ولكي لا يؤاخذنا
البعض على ايراد أقوال السابقين باعتقاد أن أهل هذا العصر لا يوافقونهم في أرائهم
ومعتقداتهم ويقول الآخرون: " فلنكن اليوم في حاضر الاسلام " (1).
نثبت هنا صورة غلاف كتاب طبع لمدارس بلد فيه الكعبة البيت الحرام
ومسجد الرسول وحرمه، والكتاب يثني على يزيد ويروي الحديث في مدحه، يزيد
الذي رمى الكعبة بالمنجنيق وأباح مسجد الرسول وحرمه لجيشه ثلاثة أيام يقتلون
الناس ويقعون على النساء، كما سيأتي تفصيله في باب " جيش الخلافة يستبيح حرم
الرسول " وباب " مسير جيش الخلافة إلى مكة " ينشر في الحرمين الشريفين للدفاع عن
يزيد والثناء عليه هذا الكتاب:

(1) مجلة الأزهر، مجلد 32، باب الكتب من جلد 10، سنة 1380 ص 1150 - 1151 في نقده
لكتاب عبد الله بن سبأ.
187

المملكة العربية السعودية
وزارة المعارف
المكتبات المدرسية
حقائق عن أمير المؤمنين
يزيد بن معاوية
189

إطاعة الامام الجائر المخالف لسنة الرسول (ص)
رأينا في بحث وجوب طاعة الامام بمدرسة الخلفاء كيف رووا عن رسول الله
(ص) النهي عن الخروج على السلطان الجائر المخالف لسنة الرسول (ص) ووجوب
طاعته، أما مدرسة أهل البيت (ع) فقد رووا عن رسول الله (ص) روايات تناقض
تلك الروايات مثل رواية الإمام الحسين (ع) سبط رسول الله (ع) عن جده قال:
" من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا عهده مخالفا لسنة رسول الله (ص)
يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله
ان يدخله مدخله (1) "
وبمقارنة نظير هذه الروايات برواية مدرسة الخلفاء أدركنا ان تلكم الروايات
بمدرسة الخلفاء إنما رويت عن رسول الله (ص) احتسابا للخير وتأييدا للسلطات
الحاكمة على المسلمين وكان ذلك في أوائل العصر الأموي ثم دونوها في عصر تدوين
الحديث أوائل القرن الثاني الهجري بكتب الحديث صحاحها ومسانيدها (2) وتسالموا
جميعا على صحتها والعمل بها. شرحها وعلق عليها وأكدها علماء بلاط السلطات
الحاكمة من محدثين وقضاة وخطباء وأئمة الجمعة والجماعة وأشباههم مدى
العصور في شتى البلاد منذ عصر الخلافة الأموية بالشام والأندلس ثم العباسية في
بغداد والعثمانيين في تركيا وحكام المماليك في مصر والسلاجقة والغزنويين في إيران
والأكراد في الشام وأغدقت تلك السلطات عليهم الجاه والمال والحضوة في بلاطها
وتابعهم على ذلك الملا من اتباعهم.
وهكذا انقسم المسلمون إلى مدرستين، مدرسة الخلفاء التي أغدق حكامها:
المال والجاه والمناصب والحضوة على مروجي أفكار مدرستها، ومدرسة أهل البيت
(ع) التي قاومت تلك الأفكار والروايات المروية تأييدا للسلطات واجتهاداتها فبذلت
لها السلطات الحاكمة القتل والسجن والتشريد وحملات الإبادة وحرق الكتب
والمكتبات مدى العصور (3) لابعاد أفكارها المحافظة على سنة الرسول (ص) من
المجتمع واخفائها عن انظار المسلمين (4) وبعد كل ما ذكرنا ماذا يصل إلينا من
الحقائق في هذا العصر!؟

(1) في خطبة الإمام الحسين (ع) لجيش حر بن يزيد الرياحي، بتاريخ الطبري وابن الأثير ومقتل الخوارزمي.
(2) تأتي الإشارة إليه في أوائل الجزء الثاني انشاء الله تعالى.
(3) يأتي شرحها في بحث حملة المغول على البلاد الاسلامية من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
(4) ندرس تفصيل كل ما ذكرناه في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.
190

خلاصة البحث
كان المنطق السائد يوم السقيفة في الافعال والأقوال هو المنطق القبلي سواءا
أكان لدى المهاجرين أم الأنصار، وكانت بيعة أبي بكر يومذاك فلتة حسب تقييم الخليفة
عمر لها.
ولم يستند الخليفة عمر إلى اي دليل من الكتاب والسنة في ما طرحه من إقامة
الخلافة بالشورى وإنما اعتمد اجتهاده الخاص.
اجتهد فجعل تعيين ولي الأمر من بعده بين ستة اشخاص لا أكثر من ذلك.
واجتهد فجعلهم من المهاجرين دون الأنصار.
واجتهد فجعل الترشيح بيد عبد الرحمن بن عوف دون الآخرين وقال: إذا اتفق
اثنان على واحد واثنان على واحد، كونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن.
واجتهد وقال: إذا صفق عبد الرحمن بإحدى يديه على الأخرى فاتبعوه، فمن
اتخذ من اجتهاد الخليفة عمر في عداد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله مصدرا
للتشريع الاسلامي، قال: بان الإمامة تقام بالشورى بين ستة، يبايع خمسة منهم الواحد
منهم، واما ما استشهد به اتباع مدرسة الخلفاء بآية وأمرهم شورى بينهم فان الآية
لا تدل على أكثر من رجحان الشورى في الامر، لان الله سبحانه كلما أراد الفرض في أمر
قال: كتب الله عليكم كذا، أو فرض كذا، أو جعل أو وصى، أو غيرها من الألفاظ
الدالة على الوجوب، وأما آية: " وشاورهم في الامر " في الخطاب للرسول صلى الله
عليه وآله فان القصد المشاورة في الغزوات، ومن أجل تربية نفوس المسلمين أو ايجاد
الشك والخلاف بين المشركين، وكلها كانت من أجل تعيين اجراء الحكم الشرعي،
وليس من أجل معرفة الحكم الشرعي، ثم إنهم لم يعينوا كيف تكون الشورى من أجل
تعيين الامام، وقد رأينا كيف تمت الشورى لإقامة خلافة عثمان، هذا من الشورى.
وأما البيعة فإنها لا تنعقد بالاجبار وحد السيف، ولا تنعقد للقيام بمعصية، ولا
لمن يعصي الله.
وأما سيرة الأصحاب، فان اتخذت في عداد الكتاب والسنة مصدرا للتشريع
الاسلامي، صح الاستدلال بها، والا فلا.
وما استشهد به في هذا المقام، من كلام الإمام علي عليه السلام، فإنه كان
191

لمحاججة الخصم بما التزم به، وهذا متعارف لدى العقلاء، ثم إن اجماع الصحابة بما فيهم
الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين يدل على رضا الله كما عبر عنه الامام، اما
قولهم من غلب بالسيف فهو أمير المؤمنين تجب طاعته برا كان أو فاجرا فهو الواقع الذي
دأبوا عليه، كما يظهر ذلك لمن يدرس تاريخ الخلفاء في الاسلام.
كانت هذه آراء مدرسة الخلفاء وأدلتهم عليها أما مدرسة أهل البيت فسندرس
آراءهم وأدلتهم في البحث الآتي بحوله تعالى.
192

معالم المدرستين - القسم الأول
البحث الثاني
الفصل الثالث
بحوث مدرسة أهل البيت (ع) في الإمامة
193

في البحث السابق ذكرنا آراء مدرسة الخلفاء في الإمامة وأدلتهم عليها، اما
اتباع مدرسة أهل البيت فإنهم يشترطون في الامام بعد النبي أن يكون معصوما من
الذنوب، منصوبا من قبل الله عز وجل، منصوصا عليه من قبل نبيه صلى الله عليه
وآله، لقوله تعالى لخليله إبراهيم (ع):
" إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " (1).
إذا فالامامة عهد من الله يخبر نبيه عمن عهد الله إليه كما يخبر عن سائر أوامر
الله وأحكامه، وانه لا ينال عهد الإمامة من الله من كان ظالما، وان كل من لم يتصف
بالظلم إلى نفسه ولا إلى غيره فهو معصوم، وعلى هذا فالامامة عهد وتعيين من الله،
والرسول مبلغ إياها ويلزمها العصمة، وقد تحقق هذان الشرطان في أئمة أهل البيت (ع)
كما يلي بيانهما.

(1) سورة البقرة 2 / 124.
195

عصمة أهل البيت عليهم السلام
أخبر الله سبحانه وتعالى بأن أهل البيت وهم محمد وعلي وفاطمة والحسن
والحسين صلوات الله عليهم معصومون من الذنوب في قوله تعالى:
" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (1).
روى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (2) قال:
" لما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الرحمة هابطة، قال:
" ادعوا لي، ادعوا لي " فقالت صفية: من يا رسول الله؟ قال: " أهل بيتي عليا وفاطمة

(1) الأحزاب - 33.
(2) بمستدرك الصحيحين ج 3 / 147.
و عبد الله بن جعفر ذي الجناحين: ابن عم النبي أبي طالب وأمه أسماء بنت عميس الخثعمية، ولد
بأرض الحبشة في هجرة أبويه إليها وهاجر أبوه به إلى المدينة، وكان حليما كريما يقال له بحر الجود، توفي بالمدينة
سنة ثمانين عام الجحاف - عام جاء فيه سيل عظيم ببطن مكة جحف الحاج وذهب بالإبل عليها أحمالها،
وروى عنه أصحاب الصحاح 25 حديثا. ترجمته بأسد الغابة وجوامع السيرة ص 282.
وصفية بنت حي بن اخطب: من سبط هارون بن عمران من بني إسرائيل، وأمها برة بنت السموأل من
بني قريظة، كانت زوجة كنانة بنت الربيع من يهود بنى النضير فقتل عنها يوم خيبر فاصطفاها النبي وقال لها:
" ان اخترت الاسلام أمسكتك لنفسي وأن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك "، فقالت يا رسول
الله لقد هويت الاسلام وصدقت بك قبل ان تدعوني حيث صرت إلى رحلك، ومالي في اليهودية ارب ومالي فيها
والد ولا أخ، وخيرتني الكفر والاسلام فالله ورسوله أحب إلى من العتق وأن ارجع إلى قومي، فاعتدت ثم
تزوجها النبي وتوفيت في سنة 53 ه‍ وروى عنها أصحاب الصحاح 10 أحاديث، ترجمتها بطبقات ابن سعد ج
8 / 120 - 129 وجوامع السيرة ص 285.
196

والحسن والحسين " (1) فجئ بهم فألقى عليهم النبي صلى الله عليه وآله كساءه ثم

(1) فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وأمها أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها.
في ترجمتها بأسد الغابة والإصابة: أن كنيتها أم أبيها وانه انقطع نسل رسول الله الا منها، وقال رسول الله
صلى الله عليه وآله لفاطمة " ان الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك " أخرجه - أيضا - الحاكم في مستدركه
ج 3 / 153 وبميزان الاعتدال ج 2 / 77 وتهذيب التهذيب ج 12 / 441 وفي باب مناقب فاطمة بصحيح البخاري
ج 4 / 200 و 201 و 205: قال رسول الله: " فاطمة بضعة مني، من أغضبها أغضبني ".
وفي رواية أخرى فيه بباب ذب الرجل عن ابنته من كتاب النكاح ج 3 / 177، وباب فضائل فاطمة
من صحيح مسلم، والترمذي، وبمسند احمد ج 4 / 41 و 328 ومستدرك الصحيحين، ج 3 / 153 " يؤذيني ما
آذاها، أو يؤذيها ".
وكان آخر الناس عهدا برسول الله إذا سافر فاطمة، وإذا قدم من سفر كان أول الناس عهدا به
فاطمة، كما في مستدرك الصحيحين ج 3 / 156 و 155 و ج 1 / 489، ومسند أحمد ج 5 / 275، وسنن البيهقي
ج 1 / 26.
وفي باب فرض الخمس من صحيح البخاري ج 2 / 124، عن عائشة ان فاطمة سألت أبا بكر الصديق
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ان يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله مما أفاء الله عليه، فقال أبو بكر: ان
رسول الله قال: " لا نورث ما تركنا صدقة "، فغضبت فاطمة بنت رسول الله فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته
حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ستة أشهر.
وفي باب غزوة خيبر منه ج 3 / 38، فلما توفيت دفنها زوجها على ليلا، ولم يؤذن بها أبو بكر، وصلى عليها،
وكان لعلى وجه حياة فاطمة فلما توفيت استنكر على وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر...
ورواه مسلم كذلك في صحيحه بكتاب الجهاد ج 5 / 154، ومسند أحمد ج 1 / 9، وسنن البيهقي
ج 6 / 300.
وبترجمتها في أسد الغابة وأوصت إلى أسماء أن تغسلها ولا تدخل عليها أحد، فلما توفيت جاءت عائشة
فمنعتها أسماء.
قال العسكري: ولم يعرف موضع قبرها حتى اليوم.
وروى عنها أصحاب الصحاح 18 حديثا، جوامع السيرة ص 283، والحسنان سبطا رسول الله وابنا
علي وفاطمة.
ولد الحسن في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة وولد الحسين لثلاث خلون من شعبان
سنة أربع من الهجرة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما، في سنن
ابن ماجة باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومستدرك الصحيحين ج 3 / 167، ومصادر
كثيرة غيرهما.
بايع المسلمون الحسن بعد وفاة أبيه سنة أربعين وبقى أكثر من ستة أشهر في الخلافة، ثم اقتضت مصلحة
الاسلام العليا ان يصالح معاوية، ولما أراد معاوية ان يأخذ البيعة لابنه يزيد دس إليه السم فقتله سنة خمسين -
أحاديث عائشة ج 1 ص 251 - 266.
وفي سنة ستين أبى الحسين ان يبايع يزيد وقال " وعلى الاسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد "
فقتله جيش يزيد بكربلاء عاشوراء سنة إحدى وستين (اللهوف لابن طاووس).
روى أصحاب الصحاح عن الحسن 13 حديثا، عدا البخاري ومسلم وعن الحسين 8 أحاديث، جوامع
السيرة ص 284 و 286، وتقريب التهذيب ج 1 / 168.
197

رفع يديه ثم قال: " اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد وآل محمد " وأنزل الله عز وجل
" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ".
وفي رواية أم المؤمنين عائشة ان الكساء كان مرطا مرحلا من شعر أسود (1).
وفي رواية الصحابي واثلة بن الأسقع أن رسول الله أدنى عليا وفاطمة
أجلسهما بين يديه وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه... الحديث (2).
وفي رواية أم المؤمنين أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي: " إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس... " وفي البيت سبعة جبريل وميكائيل (ع) وعلى وفاطمة
والحسن والحسين (رض) وأنا على باب البيت، قلت: يا رسول الله ألست من أهل
البيت؟ قال: " إنك إلى خير، انك من أزواج النبي " (3).

(1) المرط: كساء من صوف أو خز والمرحل من الثياب: ما اشبهت نقوشه رحال الإبل.
وعائشة بنت أبي بكر وأمها أم رومان، ولدت في السنة الرابعة بعد البعثة، بنى بها الرسول بعد ثمانية
عشر شهرا من هجرته إلى المدينة، وتوفيت سنة 57 أو 58 أو 59 وصلى عليها أبو هريرة وروى عنها أصحاب
الصحاح 2210 أحاديث، راجع كتابنا أحاديث عائشة.
وروايتها في شأن نزول آية التطهير في صحيح مسلم ج 7 / 13، باب فضائل أهل بيت النبي، ومستدرك
الصحيحين ج 3 / 147، وبتفسير الآية في تفسير ابن جرير والدر المنثور للسيوطي وآية المباهلة في تفسير الزمخشري
والرازي وسنن البيهقي ج 2 / 149.
(2) واثلة به الأسقع الليثي: أسلم والنبي يتجهز إلى تبوك، وقيل إنه خدم النبي ثلاث سنوات ومات
سنة خمس وثمانين أو ثلاث وثمانين بدمشق أو ببيت المقدس، وروى عنه أصحاب الصحاح 56 حديثا،
ترجمته بأسد الغابة وجوامع السيرة ص 279 وروايته في شأن آية التطهير بسنن البيهقي 2 / 152، ورواية أخرى
منه بمسند احمد ج 4 / 107، ومستدرك الصحيحين ج 2 / 416 و ج 3 / 147، ومجمع الزوائد ج 9 / 167. وابن
جرير والسيوطي في تفسير الآية من تفسيريهما وأسد الغابة ج 2 / 20.
(3) رواية أم سلمة في تفسير الآية بتفسير السيوطي ج 5 / 198 و 199.
ورواية أخرى في صحيح الترمذي ج 13 / 248، ومسند أحمد ج 6 / 306، وأسد الغابة ج 4 / 29،
و ج 2 / 297، وتهذيب التهذيب ج 2 / 297.
وأخرى بمستدرك الصحيحين ج 2 / 416 و ج 3 / 147، وسنن البيهقي ج 2 / 150، وأسد الغابة 5 / 521
و 589، وفي تاريخ بغداد ج 9 / 126.
وأخرى: بمسند أحمد ج 6 / 292.
198

وقد روى غير من ذكرنا شأن نزول آية التطهير كل من:
أ) عبد الله بن عباس
ب) عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وآله
ج) أبو سعيد الخدري
د) سعد بن أبي وقاص
ه‍) انس بن مالك وغيرهم (1).
واستشهد بها الحسن السبط على المنبر (2) وعلي بن الحسين في الشام (3).

أ - رواية ابن عباس بمسند أحمد ج 1 / 330، وخصائص النسائي ص 11، والرياض النضرة
ج 2 / 269، ومجمع الزوائد ج 9 / 119 و 207، وتفسير الآية بالدر المنثور.
ب - عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد أبو حفص المخزومي: ربيب رسول الله، أمه أم سلمة ولد في
الحبشة شهد مع علي الجمل، واستعمله على البحرين وعلى فارس، توفى سنة 83 ه‍ روى عنه أصحاب الصحاح
12 حديثا، ترجمته بأسد الغابة وجوامع السيرة 284، وحديثه بشأن آية التطهير بالرياض النضرة ج 2 / 269،
ومجمع الزوائد ج 9 / 119 و 207، وتفسير الآية في الدر المنثور.
ج - رواية أبي سعيد في تفسير الآية بتفسير ابن جرير والسيوطي وتاريخ بغداد ج 10 / 278، ومجمع
الزوائد ج 9 / 167 و 169.
د - سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب القرشي الزهري وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية: أسلم قديما
وشهد مع الرسول مشاهده، ولى فتح العراق حتى جلولاء، ومصر الكوفة وأبى أن يبايع عليا، وأبى على معاوية
ان يسب عليا، ودس إليه معاوية السم لما أراد ان يبايع ليزيد، فمات، وروى عنه أصحاب الصحاح 271
حديثا، ترجمته بأسد الغابة وصحيح مسلم ج 7 / 120، وأحاديث عائشة ج 1 / 265، ورواية بشأن آية التطهير في
خصائص النسائي ص 4 - 5، وصحيح الترمذي ج 13 / 171 - 172.
ه‍ - رواية انس بن مالك في صحيح الترمذي ج 13 / 248، ومجمع الزوائد 9 / 206.
(1) مثل قتادة في تفسير الآية عند ابن جرير والسيوطي وعطية بترجمته بأسد الغابة ج 3 / 413، ومعقل
بن يسار راجع صحيح الترمذي ج 13 / 248.
(2) روى استشهاد السبط بمستدرك الصحيحين ج 3 / 172، ومجمع الزوائد 9 / 146 و 172.
(3) علي بن الحسين: أمه بنت يزدجرد كما في الباب العاشر من ربيع الأبرار للزمخشري راجع ج 2 ورقة
44، مصورة مكتبة أمير المؤمنين في النجف تسلسل 2059، أدب، وماتت في نفاسها به فكفله بعض أمهات ولد
أبيه وزوجها علي بن الحسين بعد أبيه (عيون أخبار الرضا ج 2 / 128) ويبدو انها كانت تسمى غزالة، توفى علي
بن الحسين بالمدينة سنة خمس وتسعين وروى عنه أصحاب الصحاح بعض الأحاديث واستشهاده بآية التطهير
ورد في تفسير الآية بتفسير الطبري.
ترجمته بوفيات الأعيان ج 2 / 429 وتاريخ اليعقوبي ج 2 / 303.
199

كان رسول الله بعد نزول هذه الآية عدة أشهر يأتي إلى باب دار علي وفاطمة
يسلم عليهم ويقرأ الآية. قال ابن عباس:
" شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله تسعة أشهر يأتي كل يوم باب
علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول: " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أهل البيت، إنما يريد الله... الصلاة رحمكم الله " كل يوم خمس مرات (1).
وعن أبي الحمراء، قال: حفظت رسول الله ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرة
يخرج إلى صلاة الغداة إلا أتى باب على فوضع يده على جنبتي الباب ثم قال " الصلاة
إنما يريد الله... " (2).
وقال أبو برزة انه صلى مع رسول الله سبعة أشهر، فإذا خرج من بيته أتى باب
فاطمة... (3).
وعن انس بن مالك ستة أشهر (4) وروى - أيضا - غيرهم في ذلك في هذه
الآية، أخبر الله عن المعصومين في عصر رسول الله خاصة، وعينهم الرسول بما فعل من نشر
الكساء عليهم وقراءة الآية في ملا من أصحابه عدة شهور على باب بيتهم.
ان هذه الآية، وما ورد عن رسول الله (ص) من قول وفعل في تفسيرها تكفي
دليلا لاثبات عصمة أهل البيت (ع).
ومن الناحية العملية، لم يسجل التاريخ عن أئمة أهل البيت (ع) ما ينافي
عصمتهم، على أن التاريخ الاسلامي دون من قبل علماء مدرسة الخلفاء، وغالبا ما دونوا
في كتب التاريخ الاسلامي ما يجلبون به رضا الخلفاء مدى العصور، وكان الخلفاء
مدى العصور جادين لاطفاء نور أئمة أهل البيت (ع) خشية ميل المسلمين إليهم (ع)
ومبايعتهم بالخلافة، ولهذا السبب قتلوا منهم من قتلوا، وسجنوا منهم من سجنوا،

(1) رواية ابن عباس في تفسير الآية وآية " وأمر أهلك " من الدر المنثور.
(2) أبو الحمراء: مولى رسول الله، اسمه هلال بن الحارث أو ابن ظفر، والحديث بترجمته في الاستيعاب
ج 2 / 598، وأسد الغابة 5 / 174، ومجمع الزوائد 9 / 168.
(3) أبو برزة الأسلمي اختلفوا في اسمه، توفى في البصرة سنة ستين أو أربع وستين، روى عنه أصحاب
الصحاح 20 أو 46 حديثا، ترجمته بأسد الغابة وجوامع السيرة ص 280 و 283 وحديثه المذكور في مجمع الزوائد
9 / 169، لفظه سبعة عشر شهرا ونراه من غلط النساخ.
(4) رواية انس بمسند أحمد ج 3 / 252، والطيالسي ج 7 / 274، الحديث 2509 وأسد الغابة 5 / 521،
وتفسير الآية عند ابن حرير والسيوطي.
200

وشردوا منهم من شردوا، وخاصة بنو أمية الذين أمروا بلعن الإمام علي (ع) في خطب
صلاة الجمعة على منابر المسلمين، ولم ينج من عذابهم ومطاردتهم محبو أئمة أهل البيت
وشيعتهم ومن اعتقد بإمامتهم مع كل ذلك لا نجد في التاريخ المدون اية صغيرة أو هفوة
نسبت إلى أئمة أهل البيت (ع)، وكفى بهذا دليلا على أن الله عصمهم من الرجس
وطهرهم تطهيرا.
كان هذا أهم أدلة مدرسة أهل البيت على عصمة أهل البيت (ع)، وفي
ما يأتي بيان بعض النصوص الواردة عن رسول الله (ص) في أمامتهم، وقد قال الله تعالى
في حق رسوله:
" وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي بوحي " (1).

(1) سورة النجم، الآية 3 - 4.
201

اهتمام الرسول صلى الله عليه وآله
بأمر تعيين أولي الأمر من بعده
قبل ان ندرس النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله في تعيين
أولي الامر من بعده، ندرس شيئا من اهتمام الرسول صلى الله عليه وآله بهذا الامر في
ما يأتي:
ان أمر الإمامة بعد الرسول صلى الله عليه وآله كان من الأمور الهامة التي لم
تغب عن بال الرسول صلى الله عليه وآله، ومن كان حوله، بل كانوا يفكرون فيه منذ
البدء، فقد رأينا بيحرة من بني عامر بن صعصعة يشترط على رسول الله صلى الله عليه
وآله لاسلامهم أن يكون لهم أمر من بعد الرسول صلى الله عليه وآله، ورأينا هوذة
الحنفي يطلب من الرسول صلى الله عليه وآله منحه شيئا من الامر.
وكذلك - أيضا - كان الرسول صلى الله عليه وآله فإنه كان يفكر في الامر
من بعده ويدبر له منذ أول يوم دعا إلى الاسلام، وأول يوم اخذ فيه البيعة لإقامة المجتمع
الاسلامي.
اما تدبيره في أول يوم اخذ فيه البيعة لإقامة المجتمع الاسلامي، فقد كان ما
رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، والنسائي وابن ماجة في سننهما ومالك في الموطأ
واحمد في المسند، وغيرهم في غيرها، واللفظ للأول، قال:
قال عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع
والطاعة والعسر واليسر والمنشط والمكره. وان لا ننازع الامر أهله... (1)

(1) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الامام الناس، ح - 1، صحيح مسلم كتاب
الامارة، باب وجوب طاعة الامراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، الحديث: 41 و 42، وسنن النسائي
كتاب البيعة، باب البيعة على أن لا ننازع الامر أهله، وسنن ابن ماجة، كتاب الجهاد، باب البيعة، الحديث:
2866، وموطأ مالك كتاب الجهاد، باب: الترغيب في الجهاد، الحديث: 5، ومسند أحمد 5 / 314 و 316 و
319 و 321، وراجع 4 / 411 منه.
وترجمة عبادة بسير أعلام النبلاء 2 / 3 وتهذيب ابن عساكر 7 / 207 - 219.
202

وعبادة هذا كان أحد النقباء الاثني عشر على الأنصار يوم بيعة العقبة
الكبرى (1) حين قال النبي صلى الله عليه وآله للنيف والسبعين من الأنصار الذين بايعوه
اخرجوا إلي اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا من بينهم اثني عشر
نقيبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم، كفلاء
ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم عليه السلام... (2)
ان عبادة بن الصامت أحد أولئك النقباء الاثني عشر روى من بنود البيعة التي
بايعوا الرسول عليها: " ان لا ينازعوا الامر أهله ".
وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله من " أمر " الوارد في هذا الحديث
الصحيح، والذي يذكر فيه اخذ البيعة من اثنين وسبعين رجلا وامرأتين من الأنصار
ان لا ينازعوا أهله، هو الامر الذي تنازعوا عليه في سقيفة بني ساعدة (3) وأهل الامر هم
الذين ذكرهم الله تعالى في قوله " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " (4).
وان رسول الله صلى الله عليه وآله وان لم يشخص هنا ولي الأمر من بعده،
لأنه لم يكن من الحكمة ان يعرف ولي الأمر من بعده وهو من غير قبيلة الأنصار، ولعل
نفوس بعض المبايعين لم تكن تتحمل ذلك يومئذ، غير أنه اخذ البيعة منهم ان لا ينازعوه
حين يعينه لهم بعد ذلك.
وقد عين الرسول صلى الله عليه وآله ولي الأمر من بعده وشخص وصيه
وخليفته في مجتمع أصغر من هذا المجتمع، وذلك في أول يوم دعا الأقربين إليه للاسلام،

(1) ترجمة عبادة في الاستيعاب ج 2 / 412، وأسد الغابة 3 / 106 - 107.
(2) الطبري، ط. أوروبا 1 / 1221.
(3) راجع نزاع الأنصار القبلي مع المهاجرين في: فصل السقيفة وبيعة أبي بكر، بأول الكتاب.
(4) النساء 59. ويأتي تفسيرها والأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله حوله في بحوث
الكتاب إن شاء الله تعالى.
203

كما رواه جمع من أهل الحديث والسير مثل: الطبري وابن عساكر، وابن الأثير، وابن
كثير والمتقي، وغيرهم، واللفظ للأول (1)، قال: عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال:
لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله " وأنذر عشيرتك الأقربين "
دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لي:
يا علي ان الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا، وعرفت
أني متى بادءتهم بهذا الامر أرى ما أكره فصمت عليه حتى جاءني جبرئيل فقال يا
محمد إن لا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعا من طعام، واجعل عليه رجل
شاة، واملا لنا عسا من لبن، ثم أجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما
أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو
ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب، فلما اجتمعوا إليه
دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله
عليه وآله حذية (أي قطعة) من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة،
ثم قال: خذوا بسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشئ من حاجة، وما أرى الا موضع
أيديهم، وأيم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت
لجميعهم، ثم قال: اسق القوم فجئتهم بذاك العس فشربوا منه حتى رووا منه جميعا،
وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه
وآله ان يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لشد ما سحركم صاحبكم، فتفرق القوم
ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: الغد يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى
ما قد سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعدلنا من الطعام بمثل ما
صنعت ثم اجمعهم إلي، قال: ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام فقربته لهم، ففعل
كما فعل بالأمس فأكلوا حتى مالهم بشئ حاجة، ثم قال: أسقهم فجئتهم بذاك العس
فشربوا حتى رووا منه جميعا، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا بني
عبد المطلب اني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، اني

(1) تاريخ الطبري ط. أوربا 1 / 1171 - 1172، وابن عساكر تحقيق المخمودي ج 1 من ترجمة
الامام، وتاريخ ابن الأثير 2 / 222، وشرح ابن أبي الحديد 3 / 263، وفي تاريخ ابن كثير 3 / 39، وقد حذف
الألفاظ، وقال: كذا وكذا، وكنز العمال للمتقي ج 15 / 100 ص 115 و 116 منه، وفي ص 130 يكون: أخي
وصاحبي ووليكم بعدي. والسيرة الحلبية نشر المكتبة الاسلامية ببيروت، 1 / 285.
204

قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى ان أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني
على هذا الامر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها
جميعا وقلت - واني لأحدثهم سنا، وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأحمشهم
ساقا - أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي
وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد
أمرك ان تسمع لابنك وتطيع.
كانت هذه الدعوة في السنة الثالثة من البعثة وهي أول مرة أظهر فيها الرسول
صلى الله عليه وآله الدعوة إلى الاسلام، وشخص فيها الامام من بعده وعرفه للأقربين
إليه، وإنما فعل ذلك هنا ولم يفعله بعده بعشر سنوات ويوم اخذ البيعة من الأنصار
لإقامة المجتمع الاسلامي لان الامام كان من غير قبائل الأنصار وكان بناء المجتمع
عندهم على أساس قبلي ولم يكن من الحكمة ان يأخذ البيعة منهم لمن يلي الامر بعده وهو
ليس من قبائل الأنصار فاكتفى في ذلك المقام بأخذ البيعة منهم ان لا ينازعوه في الامر.
وهنا أيضا شخصه للأقربين إليه في محاورة شبيهة بمشاورة أصحابه في غزوة
بدر، فإنه مع علمه في غزوة بدر بعاقبة الامر كما أخبر بها أصحابه بعد الانتهاء من
المشاورة وأراهم مصارع المشركين، مع ذلك استشارهم أول الأمر في ما يفعل، وكذلك
فعل هنا، فإنه مع علمه بالعاقبة وان الذي يقبل مؤازرته هو الإمام علي، مع ذلك علق
تعيين الوزير والوصي والخليفة من بعده على قبول المؤازرة في التبليغ وليتقدم بالقبول
أيهم شاء ولما أبى كلهم ذلك وبادر بالقبول ابن عمه علي اخذ برقبته وقال فيه ما مر
وأمرهم بطاعته.
رأينا في ما مر بنا إلى هنا اهتمام الرسول بأمر الإمامة من بعده، يشخصه في
مكان ويأخذ البيعة ان لا ينازعوه في مكان آخر ويقابل طمع الطامعين بالرفض في
غيرهما.
ومن أجل أن ندرك مدى اهتمام الرسول صلى الله عليه وآله بأمر من
يستخلفه من بعده ندرس في ما يأتي ما كان يعمله صلى الله عليه وآله وسلم عندما
يغيب عن المدينة أياما معدودات في الغزوات وكيف كان يعين خليفة عليهم من بعده.
205

باب ذكر من استخلف الرسول صلى الله عليه وآله على المدينة في غزواته
في السنة الثانية من الهجرة:
اذن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال في صفر من السنة الثانية،
فغزا بالمهاجرين يعترض عيرا لقريش فبلغ ودان والابواء (1).
1) استخلف سعد بن عبادة سيد الخزرج من الأنصار خمس عشرة ليلة مدة
غيبته عن المدينة.
2) استخلف في غزوة بواط (2) سعد بن معاذ من سادة الأوس من الأنصار في
ربيع الأول.
3) استخلف مولاه زيد بن حارثة في غزوته لطلب كرز بن جابر الفهري
- وكان أغار على سرح المدينة - فبلغ صلى الله عليه وآله سفوان وفاته كرز
والسرح (3).
4) استخلف أبا سلمة المخزومي في غزوة ذي العشيرة، حين ذهب في جمادى
الأولى أو الثانية يعترض عيرا لقريش ذاهبة إلى الشام ففاتته وكان القتال ببدر في
رجوعها من الشام (4).
5) استخلف ابن أم مكتوم الضرير في غزوة بدر الكبرى وغاب عن المدينة

(1) الأبواء قرية من اعمال فراض على بعد 23 ميلا من المدينة، فيها قبر آمنة أم النبي صلى الله عليه
وآله.
وودان: قرية على مرحلة من الجحفة بينها وبين الأبواء ستة أميال. معجم البلدان.
(2) بواط: في معجم البلدان بمادة بواط " بواط من جبال جهينة من طريق الشام، وبين بواط والمدينة
ثمانية برد، وبرد: جمع البريد ويبلغ البريد اثني عشر ميلا ".
يبدو جليا مراعاة رسول الله صلى الله عليه وآله في الغزوتين الأوليين مشاعر الأنصار القبلية حين
استخلف في الأولى سيد الخزرج وفي الثانية سيدا من الأوس.
(3) كانت هذه الغزوة أيضا في ربيع الأول وبعد بواط وسفوان: واد بناحية بدر.
كرز بن جابر بن حسل الفهري قتل يوم الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وآله راجع جمهرة انساب
العرب لابن حزم في ذكر نسب بني محارب ابن فهر، وبترجمته من الإصابة.
(4) ذو العشيرة كما في التنبيه، بناحية ينبع يبعد عن المدينة تسعة برد.
وأبو سلمة: عبد الله بن عبد الأسد أمه برة عمة الرسول صلى الله عليه وآله وابنة عبد المطلب، هاجر إلى
الحبشة ثم إلى المدينة، حضر بدرا وخرج في أحد ومات منه في جمادى الآخرة سنة ثلاث من الهجرة راجع ترجمته
في أسد الغابة.
206

تسعة عشر يوما (1).
6) استخلف أبا لبابة الأنصاري الأوسي في غزوة بني قينقاع (2).
7) استخلف أيضا أبا لبابة في غزوة السويق، وكان خروجه (صلى الله عليه
وآله وسلم) في طلب أبي سفيان حين اقبل في مائتي راكب ليبر بنذره ان لا يمس الطيب
والنساء حتى يثأر لأهل بدر، وانتهوا إلى عريض، فبلغهم خروج النبي صلى الله عليه
وآله، فجعلوا يلقون جرب السويق تخففا فسميت غزوة السويق (3).
في السنة الثالثة:
8) استخلف ابن أم مكتوم في غزوة قرقرة الكدر، وسار صلى الله عليه وآله
وسلم للنصف من المحرم يريد سليم وغطفان - قبيلتين من قيس عيلان - فانجفلوا،
وغنم من أموالهم، ورجع ولم يلق كيدا (4).
9) استخلف ابن أم مكتوم في غزوة بفران وغاب عن المدينة عشرة أيام من
جمادى الآخرة، فتفرقوا ولم يلق كيدا (5).
10) استخلف عثمان بن عفان في غزوة ذي أمر بنجد، سار صلى الله عليه
وآله يريد غطفان، فانجفلوا من بين يديه ولم يلق كيدا، وغاب فيها عن المدينة عشرة
أيام.
11) استخلف ابن أم مكتوم في غزوة أحد، وقاتل المشركين في سفح جبل
أحد - على بعد ميل من المدينة - غاب فيها عن المدينة يوما واحدا.

(1) خرج الرسول صلى الله عليه وآله من المدينة لثلاث خلون من شهر رمضان ووقع القتال يوم الجمعة
السابع عشر منه.
(2) قال أهل السيرة: لما قدم اليهود المدينة نزلوا السافلة منها، فاستوخموها فأتوا العالية فنزل بنو النضير
بطحان ونزلت بنو قريظة مهزورا - وهما واديان يهبطان من حرة هناك - فاتخذ بنو النضير الحدائق والآطام
وأقاموا فيها، وأقاموا بها إلى أن غزاهم النبي صلى الله عليه وآله وأخرجهم منها. راجع مادة (بطحان) و
(مهزور) من (معجم البلدان).
وأبو لبابة: بشير أو رفاعة بن عبد المنذر، اشتهر بكنيته، أحد النقباء في بيعة العقبة، راجع ترجمة بشير
ورفاعة وأبي لبابة في أسد الغابة.
(3) العريض: وادي المدينة، معجم البلدان، مادة " عريض ".
(4) قرقرة الكدر: ناحية معدن بني سليم مما يلي حارة العراق إلى مكة وهي على بعد ثمانية أيام من
المدينة. معجم البلدان، مادة " قرقرة " سار إليها النبي في النصف من المحرم.
(5) بفران: معدن بني سليم بناحية الفرع من المجاز. معجم البلدان، مادة " بفران ".
207

12) استخلف ابن أم مكتوم في غزوة حمراء الأسد - على بعد عشرة أميال من
المدينة - سار في طلب أبي سفيان حين بلغه أنه يريد الكر على المدينة، ففاته أبو سفيان
ومن معه فأقام فيها ثلاثة أيام، ثم عاد إلى المدينة.
في السنة الرابعة:
13) استخلف ابن أم مكتوم في غزوة بني النضير بناحية الغرس حصرهم خمسة
عشر يوما، ثم أجلاهم عنها (1).
14) استخلف عبد الله بن رواحة الأنصاري في غزوة بدر الثالثة ستة عشر
يوما، وأقام فيها ثمانية أيام لموعد أبي سفيان إياهم في أحد أنه سيقاتلهم العام القادم في
بدر، وخرج أبو سفيان من مكة إلى عسفان، ثم عاد منها إلى مكة (2).
في السنة الخامسة:
15) استخلف في غزوة ذات الرقاع عثمان بن عفان خمس عشرة ليلة وخرج
لعشر خلون من المحرم، فأجفلت العرب من بين يديه ولحقوا برؤوس الجبال وبطون
الأودية (3).
16) استخلف ابن أم مكتوم في غزوة دومة الجندل حين سار إلى أكيدر بن
عبد الملك النصراني - وكان يعترض سفر المدينة وتجارتهم - فهرب وتفرق أهلها، فلم
يجد بها أحدا، فأقام أيام وعاد إلى المدينة وهي أول غزواته إلى الروم (4).
17) استخلف مولاه زيد بن حارثة في غزوة بني المصطلق على ماء المريسيع:
ثمانية عشر يوما خرج فيها لليلتين خلتا من شعبان (5).

(1) كانت منازل بني النضير من اليهود ببئر غرس بقبا وما والاها، وقبا قرية على ميلين من المدينة،
واصله اسم بئر هناك عرفت القرية به، معجم البلدان: مادة غرس وقبا.
(2) عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجي: كان نقيب بني الحارث في بيعة العقبة، شهد المشاهد مع
رسول الله صلى الله عليه وآله وكان أحد الامراء الثلاثة الذين استشهدوا في مؤتة. ترجمته في (الاستيعاب) و
(أسد الغابة).
(3) ذات الرقاع: جبل قريب من النخيل مما يلي السعد والشقرة مختلفة ألوانه فيه بقع حمر وسود وبيض.
راجع ترجمة الغزوة من التنبيه والاشراف للمسعودي.
(4) دومة الجندل كانت حصنا مبنيا بالجندل في متسع من الأرض خمسة فراسخ، وهي على سبع مراحل
من دمشق، بينها وبين مدينة الرسول صلى الله عليه وآله خمس عشرة ليلة. راجع مادة (دومة) بمعجم البلدان
وترجمة الغزوة في (التنبيه والاشراف) للمسعودي.
(5) ماء المريسيع: على طريق الفرع والفرع ثمانية برد من المدينة.
208

18) استخلف في غزوة الخندق ابن أم مكتوم، وهو يقاتل الأحزاب دون
الخندق من داخل المدينة في شهر شوال أو ذي القعدة.
19) استخلف أبا رهم الغفاري في غزوة بني قريضة، وهم على بعض يوم من
المدينة، حصرهم خمسة عشر يوما أو أكثر، بدأهم بسبع بقين من ذي القعدة (1).
في السنة السادسة:
20) استخلف في غزوة بني لحيان من هذيل، بالقرب من عسفان، ابن
أم مكتوم، أربع عشرة ليلة ورجع ولم يلق كيدا (2).
21) استخلف ابن أم مكتوم، خمس ليال في غزوة ذي قرد، على ليلتين من
المدينة (3).
22) استخلف ابن أم مكتوم في غزوة الحديبية (4).
في السنة السابعة:
23) استخلف سباع بن عرفطة في غزوة خيبر، وهي على بعد ثمانية برد من
المدينة، وبعد فتح قلاعها عنوة وصلحا سار إلى وادي القرى فحصرهم أياما حتى
افتتحها عنوة ثم صالح أهل تيماء وهي على ثمانية مراحل من الشام، ووادي القرى بينها
وبين المدينة (5).
24) واستخلف أيضا سباع بن عرفطة في عمرة القضاء (6).
في السنة الثامنة:
25) استخلف على المدينة أبا رهم الغفاري في غزوة مكة.

(1) أبورهم: كلثوم بن الحصين أسلم بعد قدوم النبي صلى الله عليه وآله المدينة، شهد أحدا فرمي
بسهم في نحره فبصق عليه النبي فبرأ. انظر ترجمته في أسد الغابة.
(2) بنو لحيان، نسبهم في جمهرة أنساب ابن حزم ط. مصر سنة 1382، ص 196 - 198.
وعسفان بين مكة والمدينة، اختلفوا في تعيين موضعه. معجم البلدان مادة: عسفان.
(3) ذي قرد: من طريق خيبر، وكان عيينة بن حصن الفزاري أغار على لقاحه وهو بالغابة وهي على
بريد من المدينة أو أكثر. فخرج صلى الله عليه وآله يوم الأربعاء لثلاث أو لأربع خلون من شهر ربيع الأول
فاستنقذ بعضها وعاد إلى المدينة. التنبيه والاشراف، ذكر السنة السادسة.
(4) خرج الرسول صلى الله عليه وآله يوم الاثنين هلال ذي الحجة للعمرة فصده المشركون عن دخول
مكة فأقام بالحديبية على تسعة أميال من مكة ثم وقع الصلح بين الرسول وقريش على أن يعتمر في السنة القادمة.
(5) سباع بن عرفطة الغفاري استعمله النبي على المدينة لما سار إلى خيبر وتيماء. ترجمته بأسد الغابة.
(6) سار النبي صلى الله عليه وآله لست ليال خلون من ذي القعدة.
209

26) سار بعد غزوة مكة إلى هوازن لغزو حنين وحنين واد إلى جانب ذي
المجاز يبعد ثلاث ليال عن مكة، وبقي - أيضا - أبورهم كذلك واليا على المدينة في
هذه الغزوة.
27) واستخلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك - على بعد تسعين فرسخا
من المدينة -.
وهي آخر غزواته، وكانت غزواته ثماني وعشرين غزوة ان اعتبرنا خيبر
ووادي القرى غزوتين، والا فهي سبع وعشرون غزوة.
رجعنا في ذكر أسماء من استخلفهم رسول الله صلى الله عليه وآله على
المدينة في غيابه عنها إلى التنبيه والاشراف للمسعودي في ذكره التأريخ من السنة
الثانية إلى السنة الثامنة من الهجرة وقد يختلف في ذكر أسماء من ولاه رسول الله صلى الله
عليه وآله على المدينة مع غيره أحيانا اما ما ذكره في استخلاف الإمام علي على المدينة في
غزوة تبوك فقد قال ذلك أيضا امام الحنابلة في مسنده فيما رواه عن سعد بن أبي وقاص
قال: إن
رسول الله صلى الله عليه وآله حين خرج في غزوة تبوك استخلف عليها
عليا رضي الله عنه على المدينة فقال علي: يا رسول الله ما كنت أحب ان تخرج وجها
الا وانا معك فقال أو ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي
بعدي (1).
ويؤيد ذلك أيضا ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق باب غزوة
تبوك حيث روى عن سعد بن أبي وقاص أيضا أنه قال: إن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا فقال
أتخلفني في الصبيان والنساء قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا
انه ليس نبي بعدي (2).
وما رواه مسلم أيضا في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص أنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه فقال

(1) مسند أحمد ج 1 / 177.
(2) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب غزوة تبوك ج 3 / 58.
210

له علي يا رسول الله خلفتني مع الصبيان والنساء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه
(وآله) وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة
بعدى (1).
هكذا لم يغب الرسول صلى الله عليه وآله في غزواته عن المدينة أياما معدودات دون ان
يستخلف عليهم من يرجعون إليه مدة غيابه عن المدينة، بل إنه لم يغب يوما عن المدينة أو
بعض يوم دون ان يستخلف عليهم من يرجعون إليه، كما كان الشأن في غزوة
أحد، وكان جبل أحد على بعد ميل من المدينة، فإنه صلى الله عليه وآله قد عين خليفته
عليهم مدة غيابه عنهم، بل وفي غزوة الخندق أيضا حيث كان يقاتل في المدينة واستقر
دون الخندق، عين لأهل المدينة المرجع لانشغاله عنهم في الحرب، إذا كان هذا دأب
الرسول صلى الله عليه وآله في غيابه عن المدينة بعض يوم، وكذلك في حال انشغاله
عنهم بالحرب داخل المدينة، فماذا فعل لامته من بعده وهو يتركهم أبد الدهر؟ هل
تركهم هملا، ولم يعين لهم المرجع من بعده؟ هذا ما سندرسه في ما يأتي من فصول هذا
الكتاب إن شاء الله تعالى.

(1) صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة، باب فضل علي بن أبي طالب، الحديث 32، وراجع أيضا
مسند أبي داود الطيالسي ج 1 / 29، وحلية الأولياء لأبي نعيم ج 7 / 195 و 196، ومسند أحمد ج 1 / 173،
182، 184، 330 و ج 4 / 153، وتاريخ بغداد للخطيب ج 11 / 432، وخصائص النسائي ص: 8، 16،
وطبقات ابن سعد ج 3 / ق 1 / 15.
211

النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله
في تعيين ولي الأمر من بعده
نبدأ هذا الباب بذكر ما فعله الأنبياء في تعيين الوصي وولي الامر لأممهم من
بعدهم
الوصية في الأمم السابقة
قد سلسل المسعودي (1) اتصال الحجج وأوصياء الأنبياء من لدن آدم حتى خاتم
لنبيين صلوات الله عليهم أجمعين وأوصيائه فقد ذكر - مثلا -:
أن وصي آدم كان هبة الله وهو شيث بالعبرانية.
وأن وصي إبراهيم كان إسماعيل (ع).
وأن وصي يعقوب كان يوسف (ع).
وأن وصي موسى كان يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف (ع) وخرجت عليه
صفورا زوجة موسى (ع).
وأن وصي عيسى كان شمعون (ع).
وأن وصي خاتم الأنبياء محمد (ص) كان علي بن أبي طالب، ثم الأحد عشر
من ولده (ع).

(1) إثبات الوصية، للمسعودي، مطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، والمسعودي هو:
أبو الحسن، علي بن الحسين المسعودي، ينتهي نسبه إلى الصحابي عبد الله بن مسعود، توفي سنة 346 ه‍
وفي ترجمته بطبقات الشافعية (ج 2 / 307): قيل كان معتزلي العقيدة، وأشار إلى هذا الكتاب الكتبي في فوات
الوفيات (ج 2 / 45) وياقوت الحموي في معجم الأدباء (ج 13 / 94) وقالا: له كتاب البيان في أسماء الأئمة، وفي
الميزان، لابن حجر (ج 4 / 224) له كتاب تعيين الخليفة وسماه في الذريعة وغيرها: (إثبات الوصية).
212

ونحن نقتصر هنا بذكر خبر ثلاثة من الأوصياء المذكورين أعلاه
أ - خبر وصية آدم لشيث
قال اليعقوبي في خبر وصية آدم لشيث.
" لما حضر آدم الوفاة... جعل وصيته إلى شيث ".
وقال الطبري:
" هبة الله، وبالعبرانية: شيث، واليه أوصى آدم... وكتب وصيته، وكان
شيث في ما ذكر وصي أبيه آدم (ع). "
وقال المسعودي في خبر وصية آدم لشيث ثم وفاته:
" ثم إن آدم حين أدى الوصية إلى شيث، احتقبها واحتفظ بمكنونها، وأتت
وفاة آدم...... "
وقال ابن الأثير:
" وتفسير شيث: هبة الله، وهو وصى آدم، ولما حضرت آدم الوفاة عهد إلى
شيث. "
وقال ابن كثير:
ذكر وفاة آدم ووصيته إلى ابنه شيث عليه السلام:
" ومعنى شيث: هبة الله... ولما حضرت آدم الوفاة عهد إلى
ابنه شيث..... ".
ب - خبر يوشع بن نون وصي موسى
أولا: يوشع بن نون في التوراة:
ورد في مادة يوشع من قاموس الكتاب المقدس نقلا عن التوراة:
" أن يوشع بن نون كان مع موسى في جبل سينا ولم يتلوث بعبادة العجل على عهد
هارون "
وفي آخر الأصحاح السابع والعشرين من سفر العدد (1) ورد خبر تعيينه من قبل
الله وصيا لموسى كالآتي نصه:

(1) التوراة من الكتاب المقدس، بيروت، المطبعة الأمريكية سنة: 1907 م.
213

فكلم موسى الرب قائلا. 16 ليوكل الرب اله
17 - أرواح جميع البشر رجلا على الجماعة 17 يخرج أمامهم ويدخل أمامهم ويخرجهم
18 - ويدخلهم لكيلا تكون جماعة الرب كالغنم التي لا راعي لها. 18 فقال الرب لموسى
19 - خذ يشوع بن نون رجلا فيه روح وضع يدك عليه 19 وأوقفه قدام ألعازار الكاهن
20 - وقدام كل الجماعة وأوصه أمام أعينهم. 20 واجعل من هيبتك عليه لكي يسمع له كل
21 - جماعة بني إسرائيل. 21 فيقف أمام ألعازار الكاهن به فيسأل له بقضاء الاوريم أمام الرب.
حسب قوله يخرجون وحسب قوله يدخلون هو وكل بني إسرائيل معه كل
22 - الجماعة. 22 ففعل موسى كما أمره الرب. أخذ يشوع وأوقفه قدام ألعازار الكاهن
23 - وقدام كل الجماعة 23 ووضع يديه عليه وأوصاه كما تكلم الرب عن يد موسى
وورد خبر قيامه بأمر بني إسرائيل وحروبه في ثلاثة وعشرين اصحاحا من سفر
يوشع بن نون.
وجه الشبه بين وصي خاتم الأنبياء ووصي موسى عليهم السلام
أن يوشع بن نون كان مع موسى في جبل سينا ولم يعبد العجل. وأمر الله نبيه
موسى أن يعينه وصيا من بعده لئلا تكون جماعة الرب كالغنم بلا راعي.
وكان الإمام علي مع النبي في غار حراء ولم يعبد صنما قط وأمر الله نبيه في
رجوعه من حجة الوداع ان يعينه أمام الحجيج قائدا للأمة من بعده، ولا يترك أمته
هملا، وقد صدع بذلك رسول الله (ص) في غدير خم وعينه وليا للعهد من بعده
كما سنذكره في ما يأتي، وصدق رسول الله (ص) حيث قال:
ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل... " وقد أوردنا
مصادره في أول الجزء الثاني من " خمسون ومائة صحابي مختلق ".
ثانيا: في القرآن الكريم ومصادر الدراسات الاسلامية:
في القرآن الكريم، عرب يوشع ب‍ (اليسع) في سورة الأنعام، الآية: 86 و
سورة ص، الآية: 48.
وفي تاريخ اليعقوبي:
" وكان موسى لما حضرته وفاته امره الله عز وجل أن يدخل يوشع بن نون إلى قبة
الزمان فيقدس عليه ويضع يده على جسده لتتحول فيه بركته ويوصيه أن يقوم بعده
214

في بني إسرائيل.
ج - خبر شمعون وصي عيسى
أولا: شمعون في الإنجيل.
ورد في قاموس الكتاب المقدس ذكره عشرة أشخاص بهذا الاسم، منهم:
شمعون بطرس وشمعون اسمه في التوراة سمعون، وقد ورد خبره في إنجيل متى
الأصحاح العاشر كالآتي:
" ثم دعا - يعني عيسى - تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانا على أرواح
نجسة حتى يخرجوها، ويشفوا كل مرض وكل ضعف. وأما الأسماء الاثني عشر
رسولا فهي هذه: الأول سمعان الذي يقال له بطرس.... ".
وفي إنجيل يوحنا، الأصحاح 21 العدد: 15 - 18 أن عيسى أوصى إليه
وقال له: " ارع غنمي " كناية عن رعاية من آمن به.
وجاء في قاموس الكتاب المقدس أيضا:
" عينه المسيح لهداية الكنيسة ".
ثانيا: شمعون في مصادر الدراسات الاسلامية:
ذكر خبره اليعقوبي وسماه سمعان الصفا.
وقال المسعودي في 1 / 343 قتل برومية بطرس واسمه باليونانية شمعون
والعرب تسميه سمعان.
وفي مادة دير سمعان من معجم البلدان:
" دير سمعان: بنواحي دمشق، وسمعان هذا الذي ينسب إليه الدير، أحد
أكابر النصارى، ويقولون أنه شمعون الصفا.
أوردنا نتفا من أخبار هؤلاء الأوصياء الثلاثة كمثال لاخبار بقية أوصياء الأنبياء
في الأمم السابقة.
ولم يكن خاتم الأنبياء بدعا من الرسل ليترك أمته دون تعيين ولي الأمر من بعده
وهو الذي لم يغب عن المدينة، المجتمع الاسلامي الصغير، في غزواته ولا ساعة
من نهار دون أن يستخلف عليها أحدا، لم يترك خاتم الأنبياء والمرسلين المجتمعات
الاسلامية للأبد دون أن يعين أولي الامر من بعده، بل عينهم بألفاظ مختلفة وفي
أماكن متعددة، منها ما خص بالذكر الامام من بعده ومنها ما ذكر فيها جميع الأئمة
ومما خص بالذكر الإمام علي بن أبي طالب وحده الأحاديث الآتية:
215

وزير الرسول صلى الله عليه وآله ووصيه وولي عهده وخليفته من بعده
الوصي في أحاديث الرسول (ص)
أوردنا في أول الباب قصة انذار بني هاشم وفي ذلك اليوم وبمحضر من رجال
بني هاشم قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي بن أبي طالب عليه السلام: " إن
هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا " وبهذا القول عين الرسول
صلى الله عليه وآله وصيه وخليفته فيهم وأمرهم بإطاعته " وما أتاكم الرسول
فخذوه.
وروى الطبراني عن سلمان قال قلت يا رسول الله: إن لكل نبي وصيا فمن
وصيك؟ فسكت عني فلما كان بعد رآني فقال يا سلمان فأسرعت إليه قلت لبيك
قال: تعلم من وصي موسى قال نعم، يوشع بن نون قال لم؟ قلت: لأنه كان
أعلمهم يومئذ قال: فإن وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي وينجز عدتي
ويقضي ديني علي بن أبي طالب (1).
وعن أبي أيوب أن رسول الله (ص) قال لابنته فاطمة:
اما علمت أن الله عز وجل اطلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبيا
ثم اطلع الثانية فاختار بعلك فأوحى إلي فأنكحته واتخذته وصيا (2).
وعن أبي سعيد أن رسول الله (ص) قال:
إن وصيي وموضع سري وخير من اترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني

(1) رواه الهيتمي عن الطبراني في مجمع الزوائد (ج 9 / 113)، ورواه سبط ابن الجوزي في كتاب تذكرة
خواص الأمة باب حديث النجوى عن كتاب الفضائل لأحمد بن حنبل وهذا لفظه:
قال أنس قلنا لسلمان:
سل رسول الله (ص) من وصيك؟ فسأل سلمان رسول الله (ص) فقال: من كان وصي موسى بن عمران؟
فقال: يوشع بن نون. قال: إن وصيي ووارثي ومنجز وعدي علي بن أبي طالب.
(2) مجمع الزوائد للهيتمي (ج 8 / 253) وفي (ج 9 / 165) منه عن علي بن علي الهلالي: ووصيي خير
الأوصياء وأحبهم إلى الله وهو بعلك.... الحديث. ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد (ج 5 / 31) وكنز
العمال، كتاب الفضائل، الفصل الثاني، فضائل علي بن أبي طالب، الحديث رقم: (1163)، (ج 12 / 204)
وأبو أيوب الأنصاري اسمه خالد بن زيد الخزرجي، شهد بيعة العقبة وجميع مشاهد رسول الله (ص) وشهد
مع الإمام علي الجمل وصفين ونهروان، وتوفي عند مدينة القسطنطينية سنة خمسين أو إحدى وخمسين، أسد الغابة
(ج 5 / 143)
216

علي بن أبي طالب (1).
وعن أنس بن مالك أن الرسول توضأ وصلى ركعتين وقال له:
" أول من يدخل عليك من هذا الباب امام المتقين وسيد المسلمين ويعسوب
الدين وخاتم الوصيين... فجاء علي (ع) فقال (ص) من جاء يا أنس؟ فقلت:
علي، فقام إليه مستبشرا فاعتنقه " (2) الحديث.
وعن الصحابي بريدة قال:
قال النبي: " لكل نبي وصي ووارث وإن عليا وصيي ووارثي " (3).
وفي المحاسن والمساوئ للبيهقي، ما موجزه:
" ان جبرائيل جاء بهدية من الله ليهديها الرسول (ص) إلى ابن عمه ووصيه
علي بن أبي طالب " (4) الحديث.
كان هذا ما وجدناه في الوصية في أحاديث الرسول (ص)
الوصية في كتب الأمم السابقة
روى نصر بن مزاحم في كتابه وقعة صفين والخطيب في تاريخ بغداد واللفظ
للأول:
ان الإمام علي في مسيره إلى صفين عطش جيشه في صحراء فانطلق بهم حتى
أتى بهم على صخرة فأعانهم حتى اقتلعوها وشرب الجيش حتى ارتووا وكان بالقرب
منهم دير فلما اطلع صاحب الدير على هذا الامر قال: ما بني هذا الدير الا بذلك

(1) كنز العمال، كتاب الفضائل، الفصل الثاني، فضائل علي بن أبي طالب، الحديث رقم: 1192،
ط، الثانية (ج 12 / 209).
وأبو سعيد الخدري، سعد بن مالك الخزرجي، كان من الحفاظ لحديث رسول الله (ص) (ت: 54 ه‍)
، أسد الغابة (ج 5 / 211)
(2) حلية الأولياء (ج 1 / 63)، وتاريخ ابن عساكر (ج 2 / 486)، وشرح نهج البلاغة، ط، مصر الأولى
(ج 1 / 450).
وأنس بن مالك أبو ثمامة الخزرجي، روى عنه البخاري ومسلم 2286 حديثا. اختلف في سنة وفاته من
(90 - 93 ه‍)، الاستيعاب، وأسد الغابة، الإصابة.
(3) تاريخ دمشق لابن عساكر (ج 3 / 5)، والرياض النضرة (ج 2 / 178) عن بريدة وهو:
أبو عبد الله بريدة بن الحصيب بن عبد الله الأسلمي قدم المدينة بعد أحد فشهد مع رسول الله (ص) مشاهده
وتحول بعده إلى البصرة وابتنى بها دارا ثم خرج غازيا إلى خراسان فأقام بمرو وتوفي بها، أسد الغابة (ج 1 / 175)
(4) المحاسن والمساوئ لمحمد بن إبراهيم البيهقي (كان حيا قبل: 320 ه‍)، تحقيق محمد أبو الفضل
إبراهيم، ط، القاهرة سنة: 1380 ه‍، (ج 1 / 64 - 65).
217

الماء وما استخرجه الا نبي أو وصي نبي (1).
خبر آخر يؤيد الخبر السابق
في صفين لنصر بن مزاحم وتاريخ ابن كثير واللفظ للأول:
قال: لما نزل علي الرقة بمكان يقال له بليخ على جانب الفرات، فنزل راهب
هناك من صومعته فقال لعلي: ان عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا، كتبه أصحاب
عيسى بن مريم، أعرضه عليك قال علي: نعم، فما هو؟ قال الراهب:
بسم الله الرحمن الرحيم.
[الذي قضى فيما قضى، وسطر فيما سطر، أنه باعث في الأميين رسولا منهم
يعلمهم الكتاب والحكمة، ويدلهم على سبيل الله، لا فظ ولا غليظ، ولا صخاب
في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون الذين
يحمدون الله على كل نشز، وفي كل صعود وهبوط، تذل ألسنتهم بالتهليل والتكبير
والتسبيح، وينصره الله على كل من ناواه، فإذا توفاه الله اختلفت أمته
ثم اجتمعت، فلبثت بذلك ما شاء الله ثم اختلفت، فيمر رجل من أمته بشاطئ
هذا الفرات، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقضي بالحق، ولا يرتشي في
الحكم. الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح، والموت أهون عليه
من شرب الماء على الظماء، يخاف الله في السر، وينصح له في العلانية، ولا يخاف
في الله لومة لائم. من أدرك ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من أهل هذه البلاد
فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره، فإن
القتل معه شهادة]. ثم قال له: فأنا مصاحبك غير مفارقك حتى يصيبني ما أصابك
قال: فبكي علي ثم قال: الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسيا، الحمد لله الذي
ذكرني في كتب الأبرار. ومضى الراهب معه، وكان - فيما ذكروا - يتغدى مع علي
ويتعشى حتى أصيب يوم صفين، فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم قال علي: اطلبوه
فلما وجدوه، صلى عليه ودفنه، وقال: هذا منا أهل البيت. واستغفر
له مرارا (2).

(1) وقعة صفين، ط، المدني بمصر سنة 1382 ه‍: 145 وتاريخ الخطيب (ج 12 / 305) وقد أوردنا الخبر
بإيجاز من الأول.
وقد بني في مكان الدير منذ قرون مسجد براثا وتغير مجرى نهر دجلة فأصبح قريبا من المسجد المذكور
(2) صفين، ص: 147 - 148. وابن كثير (ج 7 / 254).
والبليخ: اسم نهر بالرقة، يجتمع فيه الماء من عيون. معجم البلدان.
218

الوصية في حديث الأشتر عندما بويع الإمام علي (ع)
قال مالك بن الحارث الأشتر لما بويع أمير المؤمنين (ع):
(أيها الناس هذا وصي الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، العظيم البلاء
الحسن العناء، الذي شهد له كتاب الله بالايمان، ورسوله بجنة الرضوان من
كملت فيه الفضائل، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل) (1).
الوصية في كتاب محمد بن أبي بكر.
كتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية:
بسم الله الرحمن الرحيم
" من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي بن صخر. سلام على أهل طاعة الله ممن
هو مسلم لأهل ولاية الله. أما بعد فإن الله..... انتخب محمدا صلى الله عليه
وآله وسلم، فاختصه برسالته، واختاره لوحيه، وائتمنه على أمره، وبعثه رسولا
مصدقا لمن بين يديه من الكتب، ودليلا على الشرائع، فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة
والموعظة الحسنة، فكان أول من أجاب وأناب، وصدق ووافق، وأسلم وسلم،
أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام، فصدقه بالغيب المكتوم، وآثره على
كل حميم فوقاه كل هول، وواساه بنفسه في كل خوف، فحارب حربه، وسالم
سلمه، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل، ومقامات الروع، حتى برز سابقا
لا نظير له في جهاده، ولا مقارب له في فعله. وقد رأيتك تساميه وأنت أنت. وهو
هو المبرز السابق في كل خير، أول الناس اسلاما، وأصدق الناس نية، وأطيب
الناس ذرية، وأفضل الناس زوجة، وخير الناس ابن عم..... ثم لم تزل أنت
وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله، وتجهدان على اطفاء نور الله، وتجمعان على ذلك
الجموع، وتبذلان فيه المال، وتخالفان فيه القبائل. على ذلك مات أبوك، وعلى
ذلك خلفته، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية
الأحزاب، ورؤس النفاق والشقاق لرسول الله صلى الله عليه وآله. والشاهد
لعلي مع فضله المبين وسبقه القديم، أنصاره الذين ذكروا بفضلهم في القرآن فأثنى
الله عليهم، من المهاجرين والأنصار، فهم معه عصائب وكتائب حوله، يجالدون
بأسيافهم، ويهريقون دماءهم دونه، يرون الفضل في اتباعه، والشقاء في خلافه،

(1) تاريخ اليعقوبي (ج 2 / 178)
219

فكيف - يا لك الويل - تعدل نفسك بعلي، وهو وارث رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، ووصيه وأبو ولده وأول الناس له اتباعا، وآخرهم به عهدا، يخبره بسره
ويشركه في أمره "
وكتب معاوية في جوابه:
" من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر. سلام على
أهل طاعة الله. أما بعد فقد أتاني كتابك، تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه
وما أصفى به نبيه، مع كلام ألفته ووضعته، لرأيك فيه تضعيف، ولابيك فيه
تعنيف. ذكرت حق ابن أبي طالب، وقديم سوابقه وقرابته من نبي الله صلى الله
عليه، ونصرته له ومواساته إياه في كل خوف وهول، واحتجاجك علي بفضل غيرك
لا بفضلك. فأحمد الها صرف الفضل عنك وجعله لغيرك. وقد كنا وأبوك معنا في
حياة من نبينا صلى الله عليه، نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا، وفضله مبرزا علينا
فلما اختار الله لنبيه صلى الله عليه وآله ما عنده، وأتم له ما وعده، وأظهر دعوته
وأفلج حجته. قبضه الله إليه، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه. على ذلك
اتفقا واتسقا، ثم دعواه إلى أنفسهم فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما، فهما به الهموم، وأرادا
به العظيم، فبايع وسلم لهما، لا يشركانه في أمرهما، ولا يطلعانه على سرهما، حتى
قبضا وانقضى أمرهما. ثم قام بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان، يهتدي
بهديهما... " إلى آخر الكتاب
أوردنا جواب معاوية لما فيه الاعتراف بما ذكره محمد بن أبي بكر، وأورد تمام
الكتابين نصر بن مزاحم في كتابه وقعة صفين والمسعودي في مروج الذهب. وأشار
إليهما الطبري وابن الأثير في ذكرهما حوادث سنة ست وثلاثين هجرية. روى الطبري
بسنده عن يزيد بن ظبيان:
" ان محمد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لما ولي فذكر مكاتبات
جرت بينهما كرهت ذكرها لما فيه مما لا يحتمل سماعه العامة... "
إذا فإن الطبري لم يورد في موسوعته التاريخية الكبرى ما دار بين محمد بن أبي
بكر ومعاوية من مكاتبات لأنه لم ير من الحكمة ان يطلع عليها عامة الناس وليس من
باب عدم اعتماده على صحة الخبر. وتبعه العلامة ابن الأثير ولم يورد تلك المكاتبات
في موسوعته التاريخية الكامل وذكر نفس العلة وقال: كرهت ذكرها لما فيه مما لا
يحتمل سماعه العامة (1).

(1) صفين لنصر بن مزاحم، ط، القاهرة سنة: 1382 ه‍، ص: 118 - 119 وتاريخ الطبري ط، أروپا
(ج 1 / 3248) وتاريخ ابن الأثير، ط، أروپا (ج 3 / 108) ومروج الذهب للمسعودي، ط، بيروت سنة:
1385 ه‍ (ج 3 / 11)، وقال: ان محمد بن أبي بكر كتب الكتاب إلى معاوية من مصر لما ولاه الإمام علي.
220

الوصية في كتاب عمرو بن العاص
روى الخوارزمي كتابا لعمرو بن العاص إلى معاوية قال فيه:
" فاما ما دعوتني إليه....، وإعانتي إياك على الباطل، واختراط السيف
في وجه علي وهو أخو رسول الله (ص) ووصيه ووارثه، وقاضي دينه ومنجز وعده
وزوج ابنته.... " (1)
الوصية في كلام الإمام علي (ع) واحتجاجه
روى الخوارزمي من كلام الإمام علي (ع): (2)
" أنا أخو رسول الله (ص) ووصيه.... ".
وروى ابن أبي الحديد، من كتاب للإمام علي (ع) إلى أهل مصر:
" واعلموا انه لا سوى امام الهدى وامام الردى ووصي النبي وعدو النبي " (3)
وذكر اليعقوبي احتجاج الخوارج على الإمام علي (ع) وجاء فيه:
أنه ضيع الوصية، فكان من جوابه (ع): " أما قولكم اني كنت وصيا فضيعت
الوصية فان الله عز وجل يقول: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " أفرأيتم هذا البيت لو لم يحج إليه أحد كان
البيت يكفر؟ إن هذا البيت لو تركه من استطاع إليه سبيلا كفر، وأنتم كفرتم بترككم
إياي لا أنا بتركي لكم... الخ " (4).
الوصية في خطب الإمام علي (ع).
في الخطبة 182 من نهج البلاغة، قال الامام:
" أيها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم وأديت
إليكم ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم.... "
وفي الخطبة: 88 منه، قال:
" ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها

(1) مناقب الخوارزمي، ص: 125.
(2) مناقب الخوارزمي، ص: 143.
(3) شرح النهج لابن أبي الحديد (ج 2 / 28).
(4) تاريخ اليعقوبي (ج / 192).
221

لا يقتصون أثر نبي ولا يقتدون بعمل وصي. "
وفي الخطبة الثانية منه، قال:
" لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم من
جرت نعمتهم عليه أبدا هم أساس الدين.... ولهم خصائص حق الولاية وفيهم
الوصية والوراثة..... ".
الوصية في خطبة الإمام الحسن (ع)
خطب الإمام الحسن (ع) بعد مقتل أبيه وقال في خطبته:
" أنا الحسن بن علي أنا ابن الوصي... " (1) الحديث.
الوصية في خطبة الإمام الحسين (ع)
خطب الإمام الحسين (ع) يوم العاشر من محرم على جيش الخليفة يزيد وقال
في خطبته في مقام الاحتجاج عليهم:
" أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها هل يجوز
لكم قتلي وانتهاك حرمتي. ألست ابن بنت نبيكم (ص) وابن وصيه وابن عمه
وأول القوم اسلاما وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه. أوليس
حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمي؟ " (2).
إذا كان ما وصف به الإمام الحسين أباه الامام عليا من أنه وصي رسول الله صلى
الله عليه وآله مشهورا عندهم كشهرة نبوة جده وأن عم أبيه سيد الشهداء حمزة وأن
عمه الطيار ذو الجناحين جعفر ولذلك ذكره في ذكر نسبه ولم يرد عليه أحد منهم.
عبد الله بن علي عم الخليفة العباسي السفاح يحتج بالوصية
دعا العباسيون في بادئ أمرهم الناس إلى القيام ضد الأمويين باسم آل محمد

(1) نقلنا الخبر من مستدرك الحاكم (ج 3 / 172) وراجع ذخائر العقبى، ص: 138، وفي مجمع الزوائد
للهيتمي (ج 9 / 146) عن الطبراني وغيره.
(2) في الخطبة التي رواها الطبري في، ط، أروپا (ج 2 / 329) وابن الأثير، ط، أروپا (ج 4 / 52) وأورد
الخطبة ابن كثير في (ج 8 / 179) وحذف منها ما ذكره الإمام الحسين في وصف أبيه وكتب بدلها " وعلي أبي " وأورد
الباقي.
222

وكان يدعى أبو مسلم أمير آل محمد (1) وكانوا يحتجون على خصومهم بالنصوص
التي وردت عن رسول الله (ص) في حق آله بالحكم، ولما تم لهم الاستيلاء على
الحكم أداروا ظهرهم لآل محمد، وممن احتج بالوصية عم السفاح أول الخلفاء
العباسيين، فقد روى الذهبي عن أبي عمرو الأوزاعي (2) ما ما موجزه:
لما قدم عبد الله بن علي عم السفاح الشام وقتل بني أمية بعث إلي وقال في
كلامه:
" ويحك أوليس الامر لنا ديانة؟ قلت: كيف ذاك؟ قال: أليس كان رسول
الله صلى الله عليه وآله أوصى لعلي؟ قلت لو أوصى إليه لما حكم الحكمين. فسكت
وقد اجتمع غضبا فجعلت أتوقع رأسي يسقط في يدي، فقال بيده هكذا أومى أن
أخرجوه فخرجت.... الحديث.
إن الأوزاعي احتج في رد الوصية بما احتج به الخوارج على الإمام علي وجوابه
جواب الامام للخوارج.

(1) تاريخ اليعقوبي والتنبيه والاشراف للمسعودي ص: 293 وتاريخ ابن الأثير (ج 5 / 139] 142]
194 في ذكر حوادث سنة 129 و 130.
(2) بترجمته في تذكرة الحفاظ (ج 1 / 181).
223

شهرة لقب وصي النبي (ص) للإمام علي
وانتشار ذكره في أشعار الصحابة والتابعين وكتب اللغة
كان لقب الإمام علي (ع) بالوصي مشهورا في الصدر الاسلامي الأول وانتشر
ذلك في كتب اللغة، فقد ورد في مادة الوصي من تاج العروس: " والوصي كغني لقب
علي رضي الله تعالى عنه ".
وفي لسان العرب: " وقيل لعلي (ع) وصي "، وسيأتي قول المبرد في الكامل في
اللغة بعيد هذا.
وورد ذكره في شعر الشعراء منذ عصر الصحابة مثل قول حسان بن ثابت شاعر
النبي (ص) في قصيدته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله:
جزى الله عنا والجزاء بكفه * أبا حسن عنا ومن كأبي حسن
حفظت رسول الله فينا وعهده * إليك ومن أولى به منك من ومن
ألست أخاه في الهدى ووصيه * وأعلم منهم بالكتاب والسنن (1)
وروى الزبير بن بكار في الموفقيات عن بعض شعراء قريش في مدح عبد الله
ابن عباس قوله:
والله ما كلم الأقوام من بشر * بعد الوصي علي كابن عباس (2)
وقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط في مقتل عثمان.
ألا ان خير الناس بعد ثلاثة * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
فأجابه الفضل بن عباس بأبيات جاء فيه:
ألا ان خير الناس بعد محمد * وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر
وأول من صلى وصنو نبيه * وأول من أردى الغواة لدى بدر (3)

(1) الموفقيات للزبير بن بكار، ط، بغداد، سنة: 1972 م، ص: 591 - 598 وورد شعر حسان في
تاريخ اليعقوبي (ج 2 / 128) مع اختلاف في اللفظ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ط، الأولى (ج 1 / 15).
(2) الموفقيات ص: 575، وشرح نهج البلاغة، ط، مصر الأولى (ج 1 / 13).
(3) تاريخ الطبري، ط، اروپا (ج 1 / 3064 و 3065) وتاريخ ابن الأثير، ط، اروپا (ج 3 / 152) في
ذكرهما ما رثي به عثمان.
والوليد بن عقبة بن أبي معيط ابن ذكوان وكان ذكوان عبدا لامية فتبناه وألحقه بنسبه، وأم الوليد اروى أم الخليفة
عثمان، أرسله رسول الله (ص) مصدقا إلى بني المصطلق فخرجوا يتلقونه فهابهم فعاد إلى رسول الله (ص) وأخبر
انهم ارتدوا ومنعوا الصدقة فنزلت فيه " ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " الآية، فأرسل إليهم رسول الله (ص) غيره
فأخبروه أنهم متمسكون بالاسلام. ولاه الخليفة عثمان الكوفة فشرب الخمر وصلى بهم صلاة الصبح أربعا وهو سكران
فعزله عثمان وقد ذكرنا تفصيل خبره في أول ذكر أخبار عصر الصهرين من كتاب أحاديث عائشة.
أقام في الرقة بعد عثمان وتوفي بها. ترجمته في أسد الغابة والإصابة.
والفضل بن العباس، بن عبد المطلب، أكبر ولد العباس، شهد مع النبي (ص) فتح مكة وحنينا وثبت معه
حين انهزم الناس وشهد غسل رسول الله (ص) ودفنه واستشهد يوم مرج الصفراء أو أجنادين بالشام وكلاهما سنة ثمان
عشرة هجرية وقيل استشهد يوم اليرموك. وترجمته في الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة.
224

وقال النعمان بن عجلان شاعر الأنصار في قصيدته - أيضا - بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وآله:
وكان هوانا في علي وإنه * لأهل لها يا عمر ومن حيث لا تدري
وصي النبي المصطفى وابن عمه * وقاتل فرسان الضلالة والكفر
قال ذلك في جواب عمرو بن العاص حين أغاض الأنصار في حوادث السقيفة
وانتصار الإمام علي للأنصار من مهاجرة قريش (1)
وقال ابن أبي الحديد:
ومن الشعر المقول في صدر الاسلام المتضمن كونه عليه السلام وصي رسول الله
(ص) قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب:
ومنا علي ذاك صاحب خيبر * وصاحب بدر يوم سالت كتائبه
وصي النبي المصطفى وابن عمه * فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه؟
وقال عبد الرحمن بن جعيل:
لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة * على الدين معروف العفاف موفقا
عليا وصي المصطفى وابن عمه * وأول من صلى أخا الدين والتقى (2)
الوصية في الاشعار التي قيلت في حرب الجمل (3)
وقال ابن أبي الحديد أيضا:

(1) النعمان بن عجلان الزرقي الأنصاري لسان الأنصار وشاعرهم استعمله علي على البحرين.
ترجمته في الاستيعاب، ط، حيدر آباد (ج 1 / 298) رقم: 1323، وأسد الغابة (ج 5 / 26) والإصابة
(ج 3 / 532) ونسبه في الجمهرة ص: 327 - 338 والاشتقاق ص: 461 والأبيات عن كتاب الموفقيات للزبير بن
بكار ص: 592 - 594، ورواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل، (ج 6 / 31).
(2) شرح نهج البلاغة، (ج 1 / 47).
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 1 / 47 - 49).
225

وقال أبو الهيثم بن التيهان وكان بدريا:
قل للزبير وقل لطلحة اننا * نحن الذين شعارنا الأنصار
نحن الذين رأت قريش فعلنا * يوم القليب أولئك الكفار
كنا شعار نبينا ودثاره * يفديه منا الروح والابصار
ان الوصي امامنا وولينا * برح الخفاء وباحت الاسرار
وقال عمر بن حارثة الأنصاري في محمد بن الحنفية من أبيات أنشأها يوم
الجمل:
سمي النبي وشبه الوصي * ورايته لونها العند م
وقال رجل من الأزد يوم الجمل:
هذا علي وهو الوصي * آخاه يوم النجوة النبي
وقال هذا بعدي الولي * وعا واع ونسي الشقي
وخرج يوم الجمل غلام من ضبة شاب معلم من عسكر عائشة وهو يقول:
نحن بنو ضبة أعداء علي * ذاك الذي يعرف قدما بالوصي
وفارس الخيل على عهد النبي * ما أنا عن فضل علي بالعمي
لكنني انعي ابن عفان التقي * ان الولي طالب ثار الولي
وقال سعيد بن قيس الهمداني يوم الجمل، وكان في عسكر علي (ع):
قل للوصي أقبلت قحطانها * فادع بها تكفيكها همدانها
وقال حجر بن عدي الكندي في ذلك اليوم أيضا:
يا ربنا سلم لنا عليا * سلم لنا المبارك المرضيا
المؤمن الموحد التقيا * لا خطل الرأي ولا غويا
بل هاديا موفقا مهديا * واحفظه ربي واحفظ النبيا
فيه فقد كان له وليا * ثم ارتضاه بعده وصيا
وقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وكان بدريا يوم الجمل أيضا:
يا وصي النبي قد أجلت الحر * ب الأعادي وسارت الاضعان
واستقامت لك الأمور من الشام * وفي الشام يظهر الاذعان
حسبهم ما رأوا وحسبك منا * هكذا نحن حيث كنا وكانوا
وقال خزيمة يوم الجمل أيضا في أبيات يخاطب بها أم المؤمنين عائشة:
وصي رسول الله من دون أهله * وأنت على ما كان من ذاك شاهد
وخطب ابن الزبير يوم الجمل، وخطب الحسن (ع) بعده فقال عمر بن أحيحة
في ذلك:
226

حسن الخير يا شبيه أبيه * قمت فينا مقام خير خطيب
......... *........
لست كابن الزبير لجلج في القول * وطأطأ عنان فسل مريب
وأبى الله ان يقوم بما قام * به ابن الوصي وابن النجيب
إن شخصا بين النبي - لك * الخير - وبين الوصي غير مشوب
وقال ابن أبي الحديد بعد ايراد الأبيات التي أوردنا مختصرا منها:
ذكره هذه الاشعار والأراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن يحيى في كتاب
وقعة الجمل، وأبو مخنف من المحدثين وممن يرى صحة الإمامة بالاختيار وليس من
الشيعة ولا معدودا من رجالها، ومما رويناه من أشعار صفين التي تتضمن تسميته
عليه السلام بالوصي ما ذكره نصر بن مزاحم بن يسار المنقري في كتاب صفين وهو
من رجال الحديث.
الوصية في الاشعار التي قيلت بصفين
لما كتب الإمام علي إلى جرير بن عبد الله البجلي والأشعث بن قيس الكندي
وكانا من ولاة عثمان في البلاد الإيرانية فأجاب جرير بشعر جاء فيه:
أتانا كتاب علي فلم * نرد الكتاب بأرض العجم
........ *.........
عليا عنيت وصي النبي * نجالد عنه غواة الأمم (1)
ومما قيل على لسان الأشعث في جواب كتاب الامام (2)
أتانا الرسول رسول علي * فسر بمقدمه المسلمونا

(1) صفين ص: 15 - 18.
(2) كان الامراء إذا لم يكونوا ممن ينظم الشعر يطلبون ممن معهم في موارد خاصة ان ينظموا في الجواب عنهم
وكان هذا المقام من الأشعث من تلك الموارد.
وجرير بن عبد الله البجلي أسلم قبل وفاة النبي (ص) بأربعين يوما، شهد حرب القادسية أرسله رسول الله
(ص) لتهديم صنم لخثعم في ذي الخلصة فذهب إليها وأحرقها توفي سنة إحدى أو أربع وخمسين هجرية، ترجمته
في: الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة.
والأشعث بن قيس الكندي أسلم مع وفد قومه إلى رسول الله (ص) في السنة العاشرة ولم يدفع الصدقة لجباة
الخليفة أبي بكر فقاتلوه وأسروه فأطلقه الخليفة وزوجه أخته أم فروة، وشهد بعض فتوح الشام والعراق، واستعمله
عثمان على اذربيجان، وشهد صفين مع علي وكان ممن الزم علينا بالتحكيم وشهد الحكمين بدومة الجندل، وتوفي بالكوفة
بعد مقتل الإمام علي بأربعين ليلة. ترجمته في: الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة.
227

رسول الوصي وصي النبي * له الفضل والسبق في المؤمنينا
........ *........
وزير النبي وذو صهره * وسيف المنية في الظالمينا
وقيل على لسانه أيضا:
أتانا الرسول رسول الوصي * علي المهذب من هاشم
رسول الوصي وصي النبي * وخير البرية من قائم
وزير النبي وذو صهره * وخير البرية في العالم (1)
وبعد أن أعطى معاوية مصر لعمرو طعمة ليعينه على قتال الإمام علي، قال
الامام في ذلك شعرا، جاء فيه:
يا عجبا لقد سمعت منكرا * كذبا على الله يشيب الشعرا
يسترق السمع ويغشي البصرا * ما كان يرضى أحمدا لو خبرا
ان يقرنوا وصيه والأبترا * شانئ الرسول واللعين الا خزرا (2)
ولما وقع خلاف بين جيش الإمام علي في عزل الأشعث من قيادة قبيلته وتعيين
غيره، قال النجاشي في ذلك:
رضينا بما يرضى علي لنا به * وإن كان في ما يأتي جدع المناخر
وصي رسول الله دون أهله * ووارثه بعد العموم الأكابر (3)
ومما ورد في الاشعار التي قيلت في يوم صفين ما ورد في شعر النضر بن عجلان
الأنصاري قوله:
كيف التفرق والوصي امامنا * لا كيف الا حيرة وتخاذلا
وذروا معاوية الغوي وتابعوا * دين الوصي تصادفوه عاجلا (4)

(1) صفين، ص: 20 - 24.
(2) صفين، ص: 34 - 43.
(3) صفين، ص: 137.
والعموم جمع العم.
والنجاشي قيس بن عمرو شاعر مخضرم اشتهر في الجاهلية والاسلام أصله من نجران اليمن، سكن
الكوفة، توفي نحو 40 ه‍، الأعلام للزركلي.
(4) صفين، ص: 365.
228

وقال حجر بن عدي الكندي:
يا رب سلم لنا عليا * سلم لنا المهذب النقيا
المؤمن المسترشد المرضيا * واجعله هادي أمة مهديا
لا خطل الرأي ولا غبيا * واحفظه ربي حفظك النبيا
فإنه كان له وليا * ثم ارتضاه بعده وصيا (1)
وقال عبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي:
ألا أبلغ معاوية بن حرب * أما لك لا تنيب إلى الصواب
.......... *..........
فان تسلم وتبقى الدهر يوما * نزرك بجحفل شبه الهضاب
يقودهم الوصي إليك حتى * يردك عن غواءك وارتياب (2)
وقال المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب:
يا شرطة الموت صبرا لا يهولكم * دين ابن حرب فإن الحق قد ظهرا
.......... *..........
فيكم وصي رسول الله قائدكم * وأهله وكتاب الله قد نشرا (3)
وقال الفضل بن العباس أيضا:
وصي رسول الله من دون أهله * وفارسه ان قيل هل من منازل (4)
وقال المنذر بن أبي حميضة الوادعي في شعره:
ليس منا من لم يكن لك في * - الله وليا يا ذا الولا والوصية (5)

(1) صفين، ص: 381.
وحجر بن عدي الكندي المعروف بحجر الخير، وفد على النبي صلى الله عليه وآله وشهد القادسية وشهد
مشاهد الإمام علي وكان على كندة بصفين، وأرسله زياد مع جماعة إلى معاوية فقتلهم بمرج عذراء سنة إحدى وخمسين
هجرية، وقال حجر: إني لأول المسلمين كبر في نواحيها، أي عندما فتحها المسلمون.
(2) صفين، ص: 382.
(3) صفين، ص: 385.
والمغيرة بن حارث بن عبد المطلب وهو أخو أبو سفيان بن الحارث الشاعر، وقال بعضهم انهما شخص
واحد. ترجمتهما بأسد الغابة في الأسماء والكنى.
(4) صفين، ص: 416، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ط، الأولى، (ج 1 / 284).
(5) صفين، ص: 436، وكان فارس همدان وشاعرهم، ووداعة: بطن من همدان، الاشتقاق لابن
دريد.
وفي ترجمته في الإصابة: " له ادراك، وهو أول من جعل سهم البراذين دون سهم العراب فبلغ الخبر الخليفة
عمر فأعجبه ذلك وقال: امضوها على ما قال: الإصابة، (ج 3 / 478).
229

الوصية في شعر المأمون
قد دفعت سياسة التقرب إلى العلويين الخليفة العباسي المأمون، أن ينتخب
الامام عليا الرضا وليا للعهد ويذكر الوصية في شعره فقد قال:
ألام على حبي الوصي أبا الحسن * وذلك من أعاجيب الزمن (1)
وقال المأمون أيضا:
ومن غاو يغص علي غيضا * إذا أدنيت أولاد الوصي (2)
وروى المبرد في الكامل وقال: قال الكميت:
والوصي الذي أمال التجوبي * به عرش أمة لا انهدام
.......... *..........
قال المبرد " قوله الوصي، فهذا شئ كانوا يقولونه ويكثرون " (3)
إذا فالإمام علي كان مشهورا بأنه وصي الرسول (ص) حتى أصبح الوصي لقبا له كما
كان مشهورا بكنيته أبي تراب.
واستشهد المبرد على قوله بأن الامام عليا كان مشهورا بلقب الوصي بما ورد في
شعر أبي الأسود الدؤلي قوله " الوصي " مع اسم حمزة والعباس، بلا تعريف
لأحدهم حيث قال:
أحب محمدا حبا شديدا * وعباسا وحمزة والوصيا (4)
وقول الحميري:

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 2 / 22).
(2) المحاسن والمساوئ للبيهقي، 1 / 105.
(3) التجوبي، كذا ورد في الأصل. الكامل للمبرد، ط، مكتبة المعارف، بيروت، (ج 2 / 151).
والمبرد هو، أبو العباس، محمد بن يزيد الأزدي الثمالي البصري، قال الخطيب البغدادي بترجمته: شيخ
أهل النحو وحافظ علوم العربية، من تأليفه: " الكامل في اللغة " توفي ببغداد سنة: 285 ه‍، ترجمته بتاريخ بغداد
(ج 3 / 380)، وكشف الظنون، مادة، الكامل.
والكميت: أبو المستهل ابن زيد الأسدي، من أهل الكوفة، كان عالما بآداب العرب ولغاتها وأخبارها
وأنسابها، ثقة في علمه. ترجم شعره الهاشميات إلى الألمانية، (ت: 126 ه‍). الأعلام للزركلي 6 / 92.
(4) الكامل للمبرد (ج 2 / 152). وأورده أبو الفرج بترجمة الحميري في الأغاني، ط، ساسي، 7 / 10.
وأبو الأسود، ظالم بن عمرو الدؤلي، من الفقهاء والأعيان والشعراء، واضع علم النحو، رسم له علي بن
أبي طالب شيئا من أصول النحو فكتب فيه أبو الأسود، وأخذ عنه جماعة، وهو أول من نقط المصحف، شهد مع
علي (ع) صفين، توفي بالبصرة سنة: 69 ه‍ الأعلام للزركلي 3 / 34.
230

اني أدين بما دان الوصي به * يوم النخيلة من قتال المحلينا (1)
وقوله أيضا:
والله من عليهم بمحمد * وهداهم وكسا الجنوب وأطعما
ثم انبروا لوصيه ووليه * بالمنكرات فجرعوه العلقما (2)
حديث عائشة يدل على أن عليا كان وصي الرسول
ومما يدل على أن الامام عليا كان مشهورا بين الصحابة بأنه وصي رسول الله
(ص) مضافا إلى ما أوردناه، رواية أم المؤمنين عائشة كما في صحيح مسلم، قال:
ذكروا عند عائشة أن عليا كان وصيا فقالت متى أوصى إليه فقد كنت مسندته إلى
صدري أو قالت حجري فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنه قد
مات فمتى أوصى إليه (3).
كانت أم المؤمنين عائشة بحاجة إلى استنفار الناس للحرب ضد الإمام علي
والتي سميت في التاريخ باسم حرب الجمل ومن ثم نرى أن هذه المذاكرة لم تجر عفوا
وإنما كانت شبيهة بالاحتجاج عليها في ما اشتهر للامام بأنه وصي النبي وكان هذا
الموقف منها متناسبا مع هذا الواقع التاريخي وكذلك متناسبا مع مواقفها الأخرى مع
الإمام علي فقد روى ابن سعد عن عائشة في خبر مرض رسول الله (ص) انها
قالت:
" فخرج بين رجلين تخط رجلاه في الأرض بين ابن عباس تعني الفضل، وبين
رجل آخر، قال: عبيد الله: فأخبرت ابن عباس بما قالت قال: فهل تدري من
الرجل الاخر الذي لم تسم عائشة، قال: قلت: لا! قال ابن عباس: هو

(1) الكامل للمبرد (ج 2 / 175) وأورد البيت وتفصيل سبب انشاد السيد الحميري الشعر، في
الأغاني، ط، ساسي (ج 7 / 21).
والسيد الحميري، إسماعيل بن محمد، كان واحدا من ثلاثة أكثر الناس شعرا في الجاهلية والاسلام، كان
مقدما عند الخليفتين المنصور والمهدي العباسيين، توفي سنة: 173 ه‍. الأعلام للزركلي 1 / 320.
(2) في ترجمة السيد الحميري، من الأغاني (ج 9 / 6).
(3) صحيح مسلم * شرح النووي، كتاب الوصية، (ج 11 / 89)، وصحيح البخاري، كتاب
الوصية، باب الوصايا، فتح الباري (ج 6 / 291)
231

علي! ان عائشة لا تطيب له نفسا بخير " (1)
وفي مسند أحمد، (ج 6 / 113):
جاء رجل فوقع في علي وفي عمار عند عائشة فقالت: اما علي فلست قائلة لك
فيه شيئا وأما عمار فإني سمعت رسول الله (ص) يقول فيه: " لا يخير بين أمرين الا
اختار أرشدهما " هكذا كانت أم المؤمنين تدفع عن عمار الوقيعة وتسكت عمن ينال
من الإمام علي
حديث ثالث
في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ لمسلم:
عن عائشة ان رسول الله (ص) بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في
صلاتهم ب‍ (قل هو الله أحد) فلما رجعوا ذكر ذلك لرسول الله (ص) فقال سلوه لأي
شئ يصنع ذلك، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ
بها، فقال رسول الله (ص): أخبروه أن الله يحبه (2)
يا ترى من يكون هذا الرجل الذي يحبه الله ولم تر عائشة ان تذكر اسمه، انه
لو كان والدها الخليفة أبا بكر أو الخليفة عمر أو غيرهما من ذوي عصبتها مثل ابن عمها
طلحة ونظرائهم لذكرت اسمه ومهما بحثنا في مصادر مدرسة الخلفاء لم نجد اسمه
فاضطررنا إلى مراجعة مصادر مدرسة أهل البيت فوجدنا الخبر في تفسير سورة
الاخلاص من تفسير مجمع البيان وتفسير البرهان، وباب معنى، قل هو
الله أحد، من كتاب التوحيد للشيخ أبي جعفر محمد بن علي الصدوق
(ت: 381 ه‍) واللفظ للأخير:
عن الصحابي عمران بن حصين
ان النبي (ص) بعث سرية واستعمل عليها عليا (ع) فلما رجعوا سألهم، فقالوا
كل خير، غير أنه قرأ بنا في كل صلاة ب‍ " قل هو الله أحد " فقال: لم فعلت هذا؟
فقال: لحبي ل " قل هو الله أحد " فقال النبي (ص): ما أحببتها حتى احببك

(1) طبقات ابن سعد، ط، بيروت، (ج 2 / 232)
وقد أورد البخاري الحديث نفسه في صحيحه باب مرض النبي ووفاته (ج 3 / 63) وهذا لفظه: " فقال ابن
عباس: هل تدري من الرجل الاخر الذي لم تسم عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب
" حذف البخاري من الحديث قول ابن عباس " ان عائشة لا تطيب له نفسا بخير ".
(2) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة قل هو الله أحد، الحديث
رقم: 263، ص: 557.
صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي (ص) أمته في توحيد الله
تبارك وتعالى، (ج 4 / 182).
232

الله عز وجل (1)
ولصحة هذا الحديث شاهدان قويان:
أ - في صحيح البخاري وغيره، ان أم المؤمنين عائشة عبرت في حديثها عن
الإمام علي بلفظ رجل وكذلك فعلت في هذا الحديث.
ب - ورد في صحيح البخاري وغيره ان رسول الله (ص) قال لعلي: يحبه الله
كما قال في هذا الحديث: أحبك الله.
هكذا لا تذكر أم المؤمنين عائشة اسم علي في حديثها وتكني عنه بالرجل، ولم
تقتصر بهذا المقدار من الجفوة بل زادت، كما سنذكر بعضها في ما يأتي.
أم المؤمنين تظهر السرور بقتل الإمام علي
وأكثر من كل ما ذكرناه ما رواه أبو الفرج في مقتل الإمام علي وقال:
" لما أن جاء عائشة قتل الإمام علي سجدت " (2) أي: سجدت شكرا لله مما
بشروها به.
وروى الطبري وأبو الفرج وابن سعد وابن الأثير وقالوا:
لما أتى عائشة نعي علي قالت:
فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر
ثم قالت: من قتله؟ فقيل: رجل من مراد، فقالت:
فان يكن نائيا فلقد نعاه * غلام ليس في فيه التراب
فقالت زينب بنت أم سلمة: العلي تقولين هذا؟ فقالت: إذا نسيت
فذكروني (3)
ثم تمثلت:
ما زال إهداء القصائد بيننا * باسم الصديق وكثرة الألقاب
حتى تركت كأن قولك فيهم * في كل مجتمع طنين ذباب (4)

(1) تفسير مجمع البيان للشيخ أبي علي أمين الدين، الفضل بن الحسن الطبرسي (ت: 548 ه‍)،
تصحيح احمد عارف الزين، مطبعة العرفان، صيدا، سنة 1333 - 1356 ه‍، (ج 10 / 567)، وتفسير البرهان
للسيد هاشم البحراني، (ت: 1107 أو 1109 ه‍) ط، الثالثة، قم، سنة، 1394 ه‍، (ج 4 / 521).
توحيد الصدوق، ط، تهران، سنة 1387 ه‍، ص: 94، 11.
وعمران بن حصين أبو نجيد الخزاعي أسلم عام خيبر بعثه عمر ليفقه أهل البصرة وكان من فضلاء الصحابة
ومجاب الدعوة توفي بالبصرة سنة 52 ه‍. أسد الغابة (ج 4 / 137 - 138).
(2) مقاتل الطالبيين، ط، القاهرة، سنة، 1368 ه‍، ص: 43.
(3) تاريخ الطبري في ذكر سبب عن مقتل أمير المؤمنين من حوادث سنة 40 ه‍، وكذلك ابن الأثير وطبقات
ابن سعد (ج 3 / 27)، ومقاتل الطالبيين ص: 42 وفي لفظه: (بغاه غلام) وفي لفظ غيره: (نعاه).
(4) ورد تمثل أم المؤمنين بالبيتين في مقاتل الطالبيين، ص: 42.
233

مقارنة أحاديث أم المؤمنين عائشة بأحاديث غيرها
كان ما ذكرناه بعض مواقف أم المؤمنين عائشة من الإمام علي، أما قولها متى
أوصى إليه وانخنث فمات في صدري أو حاقنتي وذاقنتي، فقد تفردت هي بروايتها
ويعارضها الروايات الآتية:
قال ابن سعد في طبقاته باب من قال توفي رسول الله (ص) في حجر علي بن
أبي طالب، عن الإمام علي:
" قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في مرضه ادعوا لي أخي،
قال: فدعي له علي فقال: ادن مني، فدنوت منه فاستند إلي فلم يزل مستندا إلي
وإنه ليكلمني حتى أن بعض ريق النبي، صلى الله عليه وسلم، ليصيبني ثم نزل
برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وثقل في حجري.... " الحديث.
وروى عن علي بن الحسين، قال:
" قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورأسه في حجر علي. ".
وعن الشعبي، قال:
" توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورأسه في حجر علي وغسله
علي. ".... الحديث.
وروى عن أبي غطفان، قال:
" سألت ابن عباس أرأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، توفي ورأسه في
حجر أحد؟ قال: توفي وهو لمستند إلى صدر علي، قلت: فإن عروة حدثني عن
عائشة أنها قالت توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين سحري ونحري!
فقال ابن عباس: أتعقل؟ والله لتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لمستند
إلى صدر علي، وهو الذي غسله... " الحديث.
وروى عن جابر بن عبد الله الأنصاري:
" ان كعب الأحبار قام زمن عمر فقال ونحن جلوس عند عمر أمير المؤمنين:
ما كان آخر ما تكلم به رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: سل عليا،
قال: أين هو؟ قال: هو هنا، فسأله فقال علي: أسندته إلى صدري فوضع رأسه
على منكبي فقال: الصلاة الصلاة! فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أمروا
وعليه يبعثون، قال فمن غسله يا أمير المؤمنين؟ قال سل عليا، قال فسأله فقال:
234

كنت أنا أغسله وكان عباس جالسا وكان أسامة وشقران يختلفان إلي بالماء. " (1)
لو كان النبي انخنث وتوفي بين سحر عائشة ونحرها أو حاقنتها وذاقنتها كما قالت
هي لقال الخليفة عمر لكعب الأحبار: سل أم المؤمنين عائشة عن آخر ما تكلم به
رسول الله (ص) ولم يكن يحيله على الإمام علي.
وأقوى من كل الروايات السابقة رواية من شهدت ذلك من أمهات المؤمنين
وهي أم سلمة قالت:
" والذي أحلف به أن كان علي لأقرب الناس عهدا برسول الله (ص) عدناه
غداة وهو يقول: جاء علي، جاء علي، مرارا فقالت فاطمة كأنك بعثته في حاجة،
قالت: فجاء بعد، فظننت أن له إليه حاجة، فخرجنا من البيت فقعدنا
عند الباب، قالت أم سلمة: وكنت من أدناهم إلى الباب، فأكب عليه
رسول الله (ص) وجعل يساره ويناجيه، ثم قبض (ص) من يومه ذلك فكان
أقرب الناس به عهدا " (2)
وفي رواية عبد الله بن عمرو
" أن رسول الله (ص) قال في مرضه ادعوا لي أخي - إلى قوله - فدعي له علي
فستره بثوبه وأكب عليه..... " (3) الحديث.
ومما قاله الإمام علي (ع) عن وفاة رسول الله (ص) قوله:
" فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك فإنا لله
وإنا إليه راجعون " (4).
وقال أيضا:
" ولقد قبض رسول الله - صلى الله عليه وآله - وان رأسه لعلى صدري. ولقد

(1) هذه الأحاديث الخمسة في طبقات ابن سعد، باب، من قال: توفي رسول الله (ص) في حجر علي
بن أبي طالب. ط، أوربا، (ج 2 / ق 2 / 51).
(2) أخرجه الحاكم في مستدركه (ج 3 / 139) وقال هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه، واعترف
بصحته الذهبي في تلخيص المستدرك، وأخرجه ابن عساكر في باب، انه كان أقرب الناس عهدا برسول الله (ص)
من ترجمة الإمام علي (ج 3 / 14 - 17) بطرق متعددة، وفي مصنف ابن أبي شيبة (ج 6 / 348) ومجمع الزوائد
(ج 9 / 112) وكنز العمال، ط، الثانية، كتاب الفضائل، فضائل علي بن أبي طالب، الحديث: 374،
(ج 15 / 128) وأخرجه سبط ابن الجوزي، في تذكرة خواص الأمة، باب حديث النجوى والوصية عن كتاب
الفضائل لأحمد بن حنبل.
(3) كنز العمال، ط، الأولى، (ج 6 / 392)، وتاريخ ابن كثير (ج 7 / 359)، وترجمة الإمام علي من
تاريخ ابن عساكر، ط، بيروت، سنة 1395 ه‍ (ج 2 / 484).
(4) نهج البلاغة، الخطبة: 202.
235

سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي. ولقد وليت غسله - صلى الله عليه
وآله - والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية: ملا يهبط، وملا يعرج، وما
فارقت سمعي هينمة منهم يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه (1) "
مناقشة أحاديث أم المؤمنين عائشة
تفردت أم المؤمنين عائشة برواية، أن النبي (ص) توفي في حجرها في مقابل
كل تلكم الأحاديث.
وأغلب الظن كما قلنا سابقا أنها قالت ذلك في حرب البصرة، أي بعد زمان
الخليفتين عمر وعثمان وكذلك يناسب هذا القول عصر معاوية حيث كان ينهى عن
نقل فضائل الامام ويأمر بنقل ما يناقضها.
وعلى فرض صحة قول عائشة أن النبي (ص) توفي على صدرها، هل كان
ذلك مناقضا لما تواتر من أن الامام عليا كان وصي رسول الله (ص)؟ وألم يكن ثمة
زمان آخر ليدلي الرسول (ص) بوصاياه للإمام علي؟ كما تدل عليه روايات كثيرة مثل
ما رواه أصحاب السنن والمسانيد عن الإمام علي، قال:
" كان لي من رسول الله (ص) مدخلان: مدخل بالليل، ومدخل بالنهار
فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح. " (2)
وفي رواية:
" كانت لي من رسول الله (ص) منزلة لم تكن لاحد من الخلائق، اني كنت
آتيه كل سحر فأسلم عليه حتى يتنحنح.... " (3) الحديث.
ومن تاريخ ابن عساكر عن جابر:
" لما كان يوم الطائف، ناجى رسول الله (ص) عليا، فأطال نجواه فقال
بعض أصحابه: لقد أطال نجوى ابن عمه، فبلغه ذلك، فقال: ما أنا انتجيته،
بل الله انتجاه. "
وفي لفظ آخر للرواية:

(1) نهج البلاغة، الخطبة: 197.
(2) سنن ابن ماجة، كتاب الأدب، باب الاستئذان، الحديث: 3708 ومسند أحمد (ج 1 / 80).
(3) مسند أحمد (ج 1 / 85 و 107) ويأتي تفصيله في باب مصادر الشريعة الاسلامية لدى مدرسة أهل
البيت.
236

" فناجاه طويلا، وأبو بكر وعمر ينظران والناس، قال ثم انصرف إلينا فقال
الناس: قد طالت مناجاتك اليوم يا رسول الله، فقال: ما أنا انتجيته ولكن الله
انتجاه " (1)
أوردنا هذه الروايات من مصادر أخرى - أيضا - في باب ذكر حاملي علوم
الرسول (ص) من هذا الكتاب، وفي باب مصادر الشريعة الاسلامية لدى مدرسة
أهل البيت.
مقارنة بين حديث أم المؤمنين عائشة وحديث الإمام علي
تفردت أم المؤمنين عائشة برواية ما أخبرت به عن خبر آخر ساعات حياة الرسول
الأكرم (ص) أنه طلب طستا ليبول فانخنث ومات بين حاقنتها وذاقنتها، وأمثال هذه
الألفاظ أضف إليه حديثها وحديث غيرها:
أن رسول الله (ص) عندما تلقى أول وحي هبط به جبرائيل من الله بآيات
سورة إقرأ شك في جبرائيل أنه شيطان يريد أن يتلعب به وشك في الآيات الكريمة
أنها من قبيل سجع الكهان حتى طمأنه الرجل النصراني ورقة بن نوفل أنه نبي أوحي
إليه كموسى بن عمران فاطمأن وأدرك أنه نبي، إلى أحاديث أخرى لهذه المدرسة عن
سيرة رسول الله (ص) ان تلكم الأحاديث كما ذكرنا في البحوث التمهيدية كونت
رؤية خاصة عن رسول الله (ص) لمن يعتقد بها تنزل مقام أفضل الرسل عن مستوى
الانسان العادي ولهذا حق للرجل ذي المعرفة السعودي أن يقول " محمد رجالا مثلي
مات ".
اما في حديث الإمام علي عن بدء نزول الوحي وهو الشاهد الوحيد الذي كان
عندئذ مع الرسول في غار حراء: أنه سمع رنة حينئذ وأن الرسول (ص) أخبره أن
الرنة من الشيطان لأنه أيس من عبادته.
وفي حديثه أيضا: ان الله قرن برسول الله (ص) منذ أن كان فطيما أعظم ملك
من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره.
وفي حديثه عن وفاة رسول الله (ص) أنه أدناه إليه وأخذ يناجيه ويسر إليه

(1) أخرج الحديثان ابن عساكر بترجمة الإمام علي (ج 2 / 310 و 311) وابن كثير في تاريخه (ج 7 / 356)
وفي شرح نهج البلاغة ط، مصر الأولى (ج 2 / 78) ما ملخصه:
دخلت عائشة وهما يتناجيان، فقالت: يا علي ليس لي الا يوم من تسعة أيام أفما تدعني يا ابن أبي طالب.
237

ويوصي حتى قبض (ص) (1) وسالت نفسه في كفه فأمرها على وجهه وأنه أخذ في
تغسيله وتكفينه والملائكة أعوانه في ذلك وقد ضجت الدار والأفنية ملا يهبط وملا
يعرج وانه ما فارقت سمعه هينمة منهم يصلون عليه حتى واراه في ضريحه.
إن أمثال هذه الأحاديث عن سيرة الرسول بمدرسة أهل البيت - أيضا - كونت
رؤية خاصة لمن يعتقد بها ولن يتيسر تقارب بين المسلمين ما لم تدرس المجموعتان من
الأحاديث معا دراسة مقارنة لنصل إلى الحقيقة المنشودة ثم يتفاهم الاخوة المسلمون
في ضوء تلك الدراسات إن شاء الله تعالى. ونؤكد مرة أخرى أن في مقدمة ما ينبغي
دراسته دراسة مقارنة، أخبار سيرة الرسول الأكرم (ص) وتاريخ عصر الرسول
(ص) وعصر من تشرف بصحبته.
حديثان متعارضان من أم المؤمنين عائشة
وموقفان مختلفان
روى ابن عساكر أن امرأتين سألتا عائشة، فقالتا: يا أم المؤمنين أخبرينا عن
علي، قالت: أي شئ تسألن عن رجل وضع يده من رسول الله (ص) موضعا
فسالت نفسه في يده فمسح بها وجهه، واختلفوا في دفنه، فقال: إن أحب البقاع
إلى الله مكان قبض فيه نبيه. قالت: فلم خرجت عليه، قالت: أمر قضي لوددت
أن أفديه بما في الأرض (2)
إن حديثها هذا يتفق مع حديث الإمام علي الذي قال فيه:
قبض رسول الله (ص) وان رأسه على صدري ولقد سالت نفسه في كفي
وأمررتها علي وجهي، ويتعارض مع حديثها:
انخنث بين حاقنتي وذاقنتي.
وروى ابن عساكر - أيضا - عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله (ص) وهو
في بيتها لما حضره الموت
ادعوا لي حبيبي...... فدعوا عليا فأتاه فلما رآه أفرد الثوب الذي كان عليه
ثم أدخله فيه فلم يزل يحتضنه حتى قبض عليه (3)
حديثها هذا يتفق مع حديث عبد الله بن عمر الذي قال فيه:
ان رسول الله قال في مرضه: ادعوا لي عليا..... ويعارض أحاديثها، في
أن الرسول (ص) توفي بين سحرها ونحرها. وأمثالها، ومنشأ صدور الحديثين

(1) وقد أيد حديثه، حديث أم سلمة، وغيرها في ذلك.
(2) و (3) كلا الحديثين أخرجهما ابن عساكر في ترجمة الإمام علي (ج 3 / 15).
238

المتعارضين من أم المؤمنين عائشة، وسببه اختلاف موقفها من الإمام علي، وبيانه:
موقفان مختلفان تجاه الإمام علي
بعد وفاة أبي بكر بويع الخليفة أبو بكر وبقي علي ومعه جميع بني هاشم ستة
أشهر حسب رواية أم المؤمنين عائشة لم يبايعوه حتى توفيت فاطمة (1) ثم بقي الإمام علي
بعيدا عن الساحة حتى أخريات خلافة عثمان حيث قادت أم المؤمنين عائشة (2)
المعارضين من طلحة والزبير وغيرهما ضد الخليفة أملا منها بأن يلي بعد عثمان ابن عمها
طلحة ولما قتل عثمان وبايع المسلمون عليا أقامت ضده حرب الجمل، وانكسرت فيها
وأرجعها الإمام علي إلى المدينة وبقيت حانقة عليه حتى استشهد، ومر بنا تظاهرها
بالسرور من مقتله، ثم ولي الحكم معاوية وجمع بينهما الموقف الواحد من الامام ثم
فترت العلاقة بينهما على أثر قتل معاوية لحجر بن عدي، ولما أراد معاوية أن يأخذ
البيعة ليزيد، كان شقيقها عبد الرحمن بن أبي بكر من أشد المعارضين لبيعة يزيد،
خطب مروان في مسجد الرسول (ص) وكان واليا على الحجاز من قبل معاوية،
فقال:
إن أمير المؤمنين قد اختار لكم، فلم يأل، وقد استخلف لابنه يزيد بعده،
فقام عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال كذبت والله يا مروان! وكذب معاوية ما الخيار
أردتما لامة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل،
فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه والذي قال لوالديه " أف لكما " الآية،
فسمعت عائشة مقالته من وراء الحجاب، فقامت من وراء الحجاب، وقالت: يا
مروان! يا مروان! فأنصت الناس، وأقبل مروان بوجهه، فقالت أنت القائل لعبد
الرحمن أنه نزل فيه القرآن، كذبت والله ما هو به، ولكنه فلان بن فلان، ولكنك
فضض من لعنة الله.
وفي رواية، فقالت: كذب والله ما هو به، ولكن رسول الله (ص) لعن أبا

(1) مر مصادر الخبر في بحث السقيفة من هذا الكتاب.
2) أوردنا تفاصيل موقف عائشة من عثمان ومعاوية في كتابنا " أحاديث عائشة وأوردنا فهرستا من تلك
الوقائع.
239

مروان ومروان في صلبه، فمروان فضض من لعنة الله عز وجل (1)
وأخرج البخاري الحديث في صحيحه وقال:
" كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن
معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال خذوه فدخل
بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان ان هذا الذي أنزل الله فيه، والذي قال
لوالديه أف لكم أتعدانني؟ فقالت عائشة من وراء الحجاب ما أنزل الله فيه شيئا من
القرآن الا ان الله أنزل عذري " (2).
هكذا حذف البخاري قول عبد الرحمن " تريدون أن تجعلوها هرقلية... "
وأبدله بقوله: " قال شيئا " وحذف رواية أم المؤمنين عائشة في حق مروان. بينا
أوردها ابن حجر في شرحه لصحيح البخاري المسمى بفتح الباري مفصلا، وفي لفظ
بعضها: ولكن رسول الله (ص) لعن أبا مروان ومروان في صلبه (3).
وإنما فعل الشيخ البخاري ذلك لان معاوية ويزيد هما من خلفاء المسلمين،
ولا يرى البخاري أن يسمع العامة قول عبد الرحمن في حقهما، أنهما جعلا الخلافة
هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل مقامه، وحذف رواية أم المؤمنين عائشة في مروان.
- أيضا - لان مروان أصبح خليفة للمسلمين ولا ينبغي ذكر ما يشينه، وهكذا فعل
الشيخ البخاري في صحيحه فإنه حذف أي شئ يشين الخلفاء والحكام في كل
حديث ورد من ذلك شئ ومن ثم اعتبرت مدرسة الخلفاء كتابه أصح الكتب بعد
كتاب الله، وعد هو امام أهل الحديث لديهم.
لما لم يستطع مروان من أخذ البيعة في الحجاز ليزيد قدم معاوية الحجاز حاجا و
دخل المدينة وكان من خبره ما رواه ابن عبد البر، حيث قال:
" قعد معاوية على المنبر يدعو إلى بيعة يزيد، فكلمه الحسين بن علي، وابن
الزبير، و عبد الرحمن بن أبي بكر، فكان كلام ابن أبي بكر،: أهرقلية!؟ إذا

(1) تاريخ ابن الأثير (ج 3 / 199) في ذكره حوادث سنة 56 ه‍.
والفضض: القطعة من الشئ.
(2) صحيح البخاري (ج 3 / 126) باب، والذي قال لوالديه من تفسير سورة الأحقاف.
(3) فتح الباري (ج 10 / 197 - 198) وأخرج القصة بتفصيلها أبو الفرج في الأغاني (ج 16 / 90 - 91)
وراجع ترجمة الحكم بن أبي العاص من الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة ومستدرك الحاكم (ج 4 / 481) وتاريخ
ابن كثير (ج 8 / 89) والإجابة في ما استدركته عائشة على الصحابة، وترجمت عبد الرحمن بن أبي بكر في تاريخ
دمشق لابن عساكر.
240

مات كسرى كان كسرى مكانه، لا نفعل والله أبدا، وبعث إليه معاوية بمائة ألف
درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد، فردها عليه عبد الرحمن، وأبى أن يأخذها، وقال:
أبيع ديني بدنياي!؟ فخرج إلى مكة، فمات بها قبل أن تتم البيعة ليزيد بن
معاوية (1). "
وذكر ابن عبد البر بعده وقال: " إن عبد الرحمن مات فجأة بموضع يقال له:
" الجشي " (2) على نحو عشرة أميال من مكة فدفن بها، ويقال أنه توفي في نومة
نامها، ولما اتصل خبر موته بأخته عائشة أم المؤمنين (رض) ظعنت من المدينة حاجة
حتى وقفت على قبره، وكانت شقيقته، فبكت عليه وتمثلت:
وكنا كندماني جذيمة حقبة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت معا (3)
أما والله لو حضرتك لدفنتك حيث مكانك، ولو حضرت ما بكيت ".
وفي مستدرك الحاكم:
رقد في مقيل قاله فذهبوا يوقظونه فوجدوه قد مات، فدخل في نفس عائشة تهمة
أن يكون صنع به شرا وعجل عليه فدفن وهو حي (4).
لو بقي عبد الرحمن حيا لما تمت بيعة يزيد مع موقفه الصارم ضد بيعته ومعه
أم المؤمنين عائشة فمات في طريق مكة، كما مات مالك الأشتر في طريق مصر مسموما
بسم دس إليه معاوية (5).
مات عبد الرحمن ليفسح الطريق لبيعة يزيد كما توفي قبله الإمام الحسن بسم
دس إليه معاوية، اغتيل عبد الرحمن في هذا السبيل كما اغتيل سعد بن أبي وقاص

(1) راجع ترجمة عبد الرحمن بن أبي بكر من الاستيعاب (ج 2 / 393) وأسد الغابة (ج 3 / 306)
والإصابة (ج 2 / 400) وشذرات الذهب في ذكر حوادث سنة 53 ه‍ وقريب منه ما في مستدرك الحاكم (ج 3 / 476).
(2) في معجم البلدان.
الجشي: جبل بأسفل مكة، بينه وبين مكة ستة أميال، مات عنده عبد الرحمن بن أبي بكر فجأة، فحمل
على رقاب الرجال إلى مكة، فقدمت عائشة من المدينة وأتت قبره وتمثلت:
وكنا كندماني جذيمة....... البيتين.
(3) راجع ترجمة عبد الرحمن بن أبي بكر من الاستيعاب.
(4) مستدرك الحاكم (ج 3 / 476) وكذلك في تلخيص المستدرك للذهبي.
(5) راجع فصل، مع معاوية من كتابنا " أحاديث أم المؤمنين عائشة ".
241

و عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ولم يخف ذلك على أم المؤمنين عائشة، فأقامت
على بني أمية عامة حربا شعواء من الدعاية القوية ضدهم بدأتها بنشر ما سمعتها من
النبي (ص) في شأن مروان وأبيه الحكم وقابلت سياسة معاوية خاصة والتي كانت
ترمي إلى طمس فضائل بني هاشم عامة وبيت الامام خاصة، لمقام الحسنين عند
المسلمين وهو يريد أن يورث الخلافة في عقبه وبلغ الامر به أن أمر بلعن الإمام علي
على منابر المسلمين، عندئذ قابلت أم المؤمنين عائشة هذه السياسة مقابلة قوية و
أخذت في هذا الدور تنشر فضائل الإمام علي وشبليه الحسن والحسين سبطي رسول
الله (ص) وزوجته فاطمة ابنة رسول الله (ص) ومن ثم روي عنها في فضائلهم
بعض ما كانت سمعته من رسول الله (ص) وما شاهدتها ومن جملتها الحديثين
الأنفين المتعارضين مع أحاديثها الأخرى في وفاة الرسول (ص).
242

دراسة عمل مدرسة الخلفاء بنصوص سنة الرسول (ص) التي تخالف
اتجاهها.
في هذه العجالة نضرب - مثلا - لما فعلته مدرسة الخلفاء بالنصوص التي تخالف
اتجاهها بعملها مع النصوص التي فيها ذكر صفة الوصي للإمام علي في سنة الرسول
(ص) وأقوال الصحابة ونقول:
روت الصحابة روايات متعددة موثوقة ومعتبرة أن رسول الله (ص) قال: علي
وصيي ووزيري ووارثي، وفي بعضها، وخليفتي، واشتهر الإمام علي بلقب
الوصي من بين هذه الألقاب وأصبح علما له ولم يعرف غيره بهذا اللقب كما كناه
رسول الله (ص) بأبي تراب فاختص به واشتهر وأصبح علما له ولم تعرف لغيره هذه
الكنية، ثم أكثرت الصحابة والتابعون ومن جاء بعدهم من الشعراء ذكره بالوصي
في أشعارهم كما ورد ذكره عند علماء أهل الكتاب وأخبروا الناس بذلك.
انكار الوصية.
ولما كانت شهرة لقب الوصي للإمام علي تخالف سياسة مدرسة الخلفاء سعوا في
مقابلة هذه الشهرة بانكارها وكتمان النصوص الدالة عليها.
بدأت أم المؤمنين عائشة بحملة دعاية قوية ضد شهرة الإمام علي بلقب الوصي
وأنكرته ثم استمرت حملاتهم ضد هذه الشهرة بأشكال أخرى مدى القرون.
ومن أهم ما فعلته مدرسة الخلفاء في هذا المقام كتمان النصوص الواردة في شأن
الوصية، ويجد الباحث المتتبع من كتمان النصوص التي تخالف سياسة الخلفاء
بمدرستهم سواء ما كان منها في شأن الوصية أو في غيرها، أمرا هائلا خطيرا.
ومن أمثلة الكتمان لدى مدرسة الخلفاء، الأصناف العشرة الآتية نذكرها حسب
243

أهميتها في كتمان سنة الرسول (ص) بدء بالمهم ثم الأهم:
أ - حذف بعض الحديث من سنة الرسول (ص) وتبديله بكلمة مبهمة.
ب - حذف تمام الخبر من سيرة الصحابة مع الإشارة إلى الحذف.
ج - تأويل معنى الحديث من سنة الرسول (ص).
د - حذف بعض أقوال الصحابة مع عدم الإشارة إليه.
ه‍ - حذف تمام الرواية من سنة الرسول (ص) مع عدم الإشارة إليه.
و - النهي عن كتابة سنة الرسول (ص).
ز - تضعيف الروايات ورواة سنة الرسول (ص) والكتب التي تنتقص
السلطان.
ح - حرق الكتب والمكتبات.
ط - حذف بعض الخبر من سيرة الصحابة وتحريفه.
ي - وضع الروايات المختلقة بدلا من روايات سنة الرسول (ص) الصحيحة
وسيرة الصحابة الصحيحة.
أ - حذف بعض الحديث من سنة الرسول (ص) وتبديلها بكلمة مبهمة.
من أنواع الكتمان بمدرسة الخلفاء حذف بعض الحديث من سنة الرسول
(ص) وتبديلها بكلمة مبهمة بدل ما حذف، مثل ما فعله الطبري وابن كثير بخبر
دعوة بني هاشم في تفسير الآية: " وأنذر عشيرتك الأقربين " حيث حذفا قول رسول
الله (ص): " ووصيي وخليفتي فيكم " وأبدلاه بقولهما: [وكذا وكذا].
ومن هذا النوع من الكتمان ما فعله البخاري في صحيحه مع سيرة الصحابة
في خبر عبد الرحمن الذي مر بنا سابقا، حيث حذف كلام عبد الرحمن لمروان و
قال: [فقال عبد الرحمن شيئا] بدل كلام عبد الرحمن بقول مبهم وأضاف إلى
ذلك حذف ما روته أم المؤمنين عائشة عن رسول الله (ص) من الحديث في حق
الحكم والد الخليفة مروان.
ومن هذا النوع من الكتمان - أيضا - ما فعلوه مع خبر استشارة رسول الله
(ص) أصحابه في شأن غزوة بدر وجواب أصحابه له.
فقد روى ابن هشام والطبري وقالا:
244

(وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار الناس وأخبرهم عن
قريش فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن
ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله
لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا
قاعدون " ولكن، اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون) إلى قوله: (فقال
رسول الله (ص) خيرا ودعا له به).
وجاء في جواب سعد بن معاذ الأنصاري قوله:
(فامض يا رسول الله (ص) لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو
استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل... فسر رسول الله
(ص) قول سعد ونشطه ذلك.)
يا ترى ماذا كان جواب الصحابيين أبي بكر وعمر لرسول الله (ص) الذي
حذف من هذه الرواية وأبدل بقول مبهم وهو [وأحسن] ولو كان القول حسنا
فلم حذف القول؟! بينا أثبت قول المقداد المهاجري وسعد بن معاذ الأنصاري،
نرجع إلى صحيح مسلم فنجد في روايته:
ان رسول الله (ص) شاور أصحابه حين بلغه اقبال أبي سفيان قال:
(فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه...) الحديث.
يا ترى لماذا أعرض الرسول (ص) عن الصحابيين لو كان قولهما حسنا؟ و
نبحث عن قولهما لدى الواقدي والمقريزي فنجدهما يقولان هكذا، واللفظ للأول:
(قال عمر: يا رسول الله إنها والله قريش وعزها، والله ما ذلت منذ عزت
والله ما امنت منذ كفرت والله لا تسلم عزها أبدا، ولتقاتلنك، فاتهب لذلك
أهبته وأعد لذلك عدته...) (1).
عرفنا من رواية ابن هشام والطبري ومسلم أن الصحابي عمر تكلم بعد
الصحابي أبي بكر ووصف الطبري وابن هشام قول كل منهما ب‍ [فأحسن] وفي
رواية مسلم أن الرسول (ص) أعرض عن أبي بكر ثم عن عمر ومن ثم نعرف أن
قولهما كان أمرا واحدا، وعندما صرح الواقدي والمقريزي عن قول عمر وكتما قول
أبي بكر، كشف لنا قول عمر - أيضا - عن قول أبي بكر.
ولما كان قول الصحابيين يسوء ذكره بعض الناس حذف قولهما من رواية ابن
هشام والطبري ومسلم، ومن أجل هذا النوع من الكتمان أصبحت هذه الكتب من

(1) مر بنا ذكر مصادر الخبر في بحث مناقشة الاستدلال بالشورى بهذا الكتاب.
245

أوثق الكتب بمدرسة الخلفاء.
وأصبح صحيح البخاري الذي لم يذكر شيئا من هذا الخبر، مبهما وغير مبهم
أكثر إشتهارا بالصحة والوثاقة من جميع الكتب.
إن الطبري وابن كثير أبدلا من حديث الرسول (ص) " وصيي وخليفتي ".
ب‍ [كذا وكذا] لان هذا الخبر ينبه العامة إلى حق الإمام علي في الحكم ولا يحسن
انتشاره.
وأبدل البخاري قول عبد الرحمن ب‍ (شيئا) لان قول عبد الرحمن كان يسوء
الخلفاء، معاوية ويزيد ومروان وينبه العامة إلى مالا ينبغي أن ينتبهوا إليه.
وأبدل قول أبي بكر وعمر في جواب رسول الله (ص) بكل من سيرة ابن هشام
وتاريخ الطبري وحذف من رواية صحيح مسلم لما فيه ما لا يزين الخليفتين أبي بكر
وعمر، وكلهم حذف بعض الخبر مع الابهام في القول، وهذا النوع من الكتمان
كثير عند علماء مدرسة الخلافة.
ب - حذف تمام الخبر من سيرة الصحابة مع الإشارة إلى الحذف.
ومن أنواع الكتمان عندهم ما فعلوه مع مكاتبات جرت بين محمد بن أبي بكر
ومعاوية فقد وجدنا في كتاب صفين لنصر بن مزاحم (ت: 212 ه‍) ومروج
الذهب للمسعودي (ت: 346 ه‍) تفصيل كتاب محمد بن أبي بكر لمعاوية وفيه
ذكر فضائل الإمام علي بما فيها أنه وصي النبي واعتراف معاوية في جوابه بها وفي
الكتابين ذكر مالا يزين الخلفاء نشره فحذفهما الطبري (ت: 310 ه‍) مع ذكره
لسنده إلى الكتابين واعتذر عن ذلك بعدم احتمال العامة لسماع ما فيهما، أي أنه
أخفى الحقائق عن الناس، وجاء بعده ابن الأثير (ت 630 ه‍) وفعل كذلك
واعتذر بنفس العذر وجاء بعدهما ابن كثير وأشار إلى كتاب محمد بن أبي بكر في
موسوعته التاريخية الكبرى (1) واقتصر بقوله: " وفيه غلظة ".
يقصد الطبري وابن الأثير من قولهما: (عدم احتمال العامة لسماع ما فيهما):
أن العامة لا تبقى على عقيدتها بالخلفاء بعد سماع الكتابين.
وهذا الصنف من الكتمان، أي حذف تمام الخبر مع الإشارة إلى الخبر المحذوف
نادر عند علماء مدرسة الخلفاء.

(1) البداية والنهاية (ج 7 / 314).
246

ج - تأويل معنى الحديث من سنة الرسول (ص)
من أنواع الكتمان بمدرسة الخلفاء تأويل معنى الرواية كما فعل الذهبي (1) بترجمة
النسائي صاحب السنن، فإنه قال: سئل النسائي أن يخرج فضائل معاوية، قال:
أي شئ أخرج؟ حديث اللهم لا تشبع بطنه، فقال الذهبي:
(قلت لعل هذه منقبة لمعاوية لقول النبي صلى الله عليه وآله: اللهم
من لعنته أو شتمته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة).
قال الذهبي (ت: 748 ه‍): [لعله]. وجاء بعده ابن كثير (ت:
774 ه‍) وقال:
(وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه) وهذا نص كلامه (2) في
الرواية التي وردت في شأن معاوية، في صحيح مسلم، باب " من لعنه النبي أو
سبه، جعله الله له زكاة وطهورا " من كتاب البر والصلة، عن ابن عباس قال:
كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله (ص) فتواريت خلف باب، قال:
فجاء فخطاني خطاة وقال: " اذهب وادع لي معاوية " قال: فجئت فقلت: هو
يأكل، قال ثم قال لي: " اذهب فادع لي معاوية " قال فجئت فقلت: هو يأكل،
فقال: " لا أشبع الله بطنه " (3) كان هذا لفظ مسلم.
وأورد الحديث ابن كثير في تاريخه وزاد على كلام رسول الله (ص) بعد قوله:
" اذهب وادع لي معاوية " جملة (وكان يكتب الوحي) وهذا لفظ ابن كثير:
" عن ابن عباس. قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله (ص) قد
جاء، فقلت: ما جاء الا إلي، فاختبأت على باب فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين،
ثم قال: " اذهب فادع لي معاوية - وكان يكتب الوحي - قال: فذهبت فدعوته ".
له، فقيل: انه يأكل، فأتيت رسول الله (ص) فقلت انه يأكل، فقال: اذهب
فادعه، فأتيته الثانية فقيل: انه يأكل فأخبرته، فقال في الثالثة: لا أشبع الله بطنه
قال: فما شبع بعدها، وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه، أما في
دنياه فإنه لما صار إلى الشام أميرا كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم
كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى و

(1) تذكرة الحفاظ ص: 698 - 701.
(2) البداية والنهاية، ج 8 / 119.
(3) صحيح مسلم كتاب البر والصلة، الحديث: 96، وخطاني: ضربني باليد المبسوطة بين الكتفين،
ص: 2010
أ) وهذه الإضافة إلى آخرها من كلام ابن كثير.
247

الفاكهة شيئا كثيرا ويقول والله ما أشبع وإنما أعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها
كل الملوك. وأما في الآخرة فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه
البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة. أن رسول الله (ص) قال:
اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل
ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة. فركب مسلم من الحديث الأول وهذا
الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له غير ذلك " (1) انتهى كلام ابن كثير، وأراد بما
قال أن دعاء الرسول على معاوية دعاء له في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فبما ذكره من
مزية كثرة الاكل للملوك وأما الآخرة فاعتمد الأحاديث التي نسبت إلى رسول الله
(ص) أنه كان يلعن المؤمنين - معاذ الله - ودعا أن يكون لهم زكاة وطهورا. وأن مسلما
حين أورد هذا الحديث في آخر هذا الباب أثبت لمعاوية رضوانا وتقربا إلى الله يوم
القيامة، وهكذا يؤولون الأحاديث والاخبار التي فيها ذم لذوي السلطة من الخلفاء
والولاة إلى ما فيه مدحهم والثناء عليهم.
ولنا هنا نظرة تأمل في ما رووا أن النبي لعن المؤمنين - معاذ الله -.
نظرة تأمل في ما رووا في باب من لعنه النبي.
رووا واللفظ هنا لمسلم في صحيحه، باب من لعنه النبي أن رسول الله (ص)
قال: " اللهم إني اتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر فأي المؤمنين آذيته شتمته
لعنته جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة ". أشعر وأنا
أكتب هذا بمثل وخز المدى في قلبي من عظم ما نسب إلى رسول الله (ص)!!
يروون هذا الحديث في مقابل قول الله سبحانه وتعالى لرسوله " وانك لعلى خلق عظيم "
وينبغي دراسة هذا الحديث في الصنف الثامن من أنواع الكتمان: (وضع الروايات
المختلقة بدلا من الروايات الصحيحة) فإنها نسبت إلى رسول الله (ص) في مقابل
ما تواتر عند جميع المسلمين من سنة رسول الله الصحيحة في باب سمو أخلاقه
الكريمة وإنما رويت أمثال هذه الرواية عن رسول الله (ص) لكتمان ما مر بنا من
رواية أم المؤمنين عائشة أن رسول الله (ص) لعن الحكم بن أبي العاص والد الخليفة
الأموي مروان، وكتمان ما تواتر روايته عن رسول الله (ص) في حق الخليفة معاوية
التي أولها ابن كثير إلى ما فيه مدح معاوية وبما إنا قد ناقشنا هذه الأحاديث في الجزء
الثاني من كتاب " أحاديث أم المؤمنين عائشة " والثالث من نقش أئمة در احياء دين
- أي عمل الأئمة في إحياء الدين - لا نعيد تلك البحوث في هذا الكتاب.

(1) راجع الهامش رقم 4.
248

عود على بدء
نعود إلى بحث تأويل معنى الرواية من أصناف الكتمان ونقول:
ومن هذا الباب من التأويل كان ما مر بنا في خبر درأ سعد الوقاص حد شرب
الخمر عن أبي محجن، وتمحل ابن فتحون وابن حجر في تأويل قول سعد لأبي
محجن " والله لا نجلدك على الخمر ". وسيأتي في بحث نص رسول الله (ص)
على أن عدد الأئمة الخلفاء بعده اثنا عشر، كيف ارتبكوا في تأويله عندما رأوا أنه لا
يصدق على غير الأئمة الاثني عشر من آل رسول الله (ص) وأول كل واحد من
العلماء الحديث على غير الأئمة الاثني عشر من آل الرسول (ص) بما لم يرض به العالم
الاخر ونقضه.
ومن هذا الباب من الكتمان ما فعله الطبراني مع الحديث الآتي كما في مجمع
الزوائد (1):
(عن سلمان قال قلت: يا رسول الله ان لكل نبي وصيا، فمن وصيك؟
فسكت عنى، فلما كان بعد رآني فقال " يا سلمان " فأسرعت إليه قلت: لبيك قال:
" تعلم من وصي موسى؟ " قال نعم: يوشع بن نون، قال " لم " قلت: لأنه كان
أعلمهم يومئذ، قال: " فان وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي وينجز
عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب " رواه الطبراني وقال وصيي: أنه أوصاه بأهله
لا بالخلافة).
انتهى ما نقله الهيتمي عن الطبراني في مجمع الزوائد.
نظرة تأمل ودراسة للحديث النبوي الشريف وتأويل الطبراني إياه
لمعرفة مدى صحة تأويل الطبراني للحديث الشريف ندرس ثلاثة جوانب من
الحديث: السائل والسؤال وحكمة النبي في الجواب.
السائل هو: سلمان الفارسي نسبا ولم يكن من بني عبد المطلب أو أقرباء أزواج
الرسول أو أصهاره ليعنيه من يخلفه الرسول على أهله وإنما كان ممن عاشر رهبان
النصارى وعلماءهم قبل أن يسلم على يدي الرسول (ص)، وأخذ منهم علم الأمم
السابقة وأنبياءها وأوصياءها ومن ثم قال للرسول (ص) (ان لكل نبي وصيا فمن
وصيك؟) فهو إذن يسأل عن وصي النبي على شريعته وولي عهده في أمته، ولم يقل
له أن رب كل عائلة يعين وصيا فمن وصيك من بعدك؟ ليفهم منه أنه يسأل عن
خليفته على أهله.

(1) ج 9 / 113 - 114.
249

أما جواب النبي (ص) وتأخره عن الإجابة فقد كان هذا شأن النبي (ص)
في الأمور الهامة ينتظر أمر السماء مثل انتظاره في المدينة أمر السماء في تحويل القبلة إلى
الكعبة وهو يعلم أنها قبلته، حتى نزلت عليه " قد نرى تقلب وجهك في السماء
فلنولينك قبلة ترضاها " ولما كان رسول الله (ص) يعلم تنافس الانسان العربي على
الامرة كما مر بنا ببعض أخباره فيما سبق وكان المجتمع الاسلامي الصغير في المدينة
الذي بدأ النبي (ص) بتأسيسه لا يتحمل نشر خبر ولاية عهد الإمام علي بعد النبي
(ص)، تأخر النبي (ص) في جواب سلمان، ولعله أجاب سلمان حين أذن له
بذلك وعندئذ فاتح سلمان وأعده لاستماع الجواب بالسؤال منه عن وصي موسى و
هو يعلم أن سلمان يعلم ذلك بما عنده من علماء أهل الكتاب فلما أجابه بأن يوشع بن
نون كان وصي موسى، سأله النبي (ص) وقال له: " لم " فلما قال سلمان في جوابه:
" لأنه كان أعلمهم يومئذ " قال النبي (ص): (فان وصيي و... علي بن أبي
طالب).
والحكمة في جواب النبي لسلمان بهذا الأسلوب ما يأتي:
أولا: ضرب النبي (ص) المثل بيوشع بن نون لأنه كان أشهر أوصياء الأنبياء،
ولان موسى بن عمران (ع) كان قد استخلفه على أمته من بعده، فقاد بني إسرائيل
ومارس الحروب كما فعل الإمام علي بعد النبي (ص) في مدة حكمه.
ثانيا: سأل عن سبب كون يوشع وصيا لموسى وأجاب سلمان أنه كان أعلمهم،
بهذه المحاورة بين الرسول (ص) أن عليا وصيه ليس لكونه ابن عم الرسول (ص)
أو لأنه دافع عن الاسلام في حروب النبي (ص) ببسالة فائقة بل لأنه أعلمهم أي
أنه كشف عن قابلية الإمام علي للوصاية على الاسلام والمسلمين وأكد على ذلك بقوله
صلى الله عليه وآله: " موضع سري وخير من أترك بعدي " وهذا الكلام أيضا أوله
الطبراني وقال: (خير من أترك بعدي من أهل بيتي) كان هذا تأويل الطبراني في
حديث لم يجد فيه مغمزا من ضعف وما شاكله من القول.
حيرة عالم آخر في تأويل معنى الوصية
قال ابن أبي الحديد الشافعي في شرح الوصية في كلام الإمام علي:
(لا يقاس بآل محمد (ص) من هذه الأمة أحد... هم أساس الدين...
ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة).
(أما الوصية فلا ريب عندنا أن عليا (ع) كان وصي رسول الله (ص) وان
خالف في ذلك من هو منسوب عندنا إلى العناد ولسنا نعني بالوصية النص على
250

الخلافة ولكن أمورا أخرى لعلها إذا لمحت أشرف وأجل). انتهى كلام ابن أبي
الحديد ونقول في جوابه:
أن الإمام علي (ع) لم يقل لي حق الولاية والوصية والوراثة كي يمكن تأويل
قوله أن له حق الولاية والوصية على أهل رسول الله (ص)، بل قال: " آل محمد
هم أساس الدين... وفيهم الوصية ". أثبت الامام الصفات المذكورة لآل رسول
الله (ص) بما فيها الوصية ولا معنى للقول بأن آل رسول الله (ص) لهم حق
الوصية على آل رسول الله (ص)، أثبتها الامام لآل رسول الله (ص) وهو أحدهم
وسائرهم الأئمة الأحد عشر من بنيه. ومن ثم حار العلامة الشافعي في تأويل
الوصية هنا ولم يستطع أن يردد تأويل الطبراني وإنما قال: " لسنا نعني بالوصية النص
على الخلافة ولكن أمورا أخرى " فما هي الأمور الأخرى التي لم تذكرها أيها العالم
المحتار في تأويل الحديث؟
وخلاصة القول أن العلماء في هذا الصنف من الكتمان يؤولون من سنة رسول
الله (ص) حديثه وسيرته وسيرة أهل بيته وأصحابه ما يخالف مصلحة السلطة
الحاكمة على المسلمين من خلفاء وولاة وما فيه نقدهم إلى ما فيه مصلحتهم ومدحهم
والثناء عليهم.
د - حذف بعض من أقوال الصحابة مع عدم الإشارة إليه.
من أنواع الكتمان بمدرسة الخلفاء حذف بعض الخبر الذي ينقلونه دونما إشارة
إلى المحذوف مثل ما فعلوه مع قصيدة الصحابي الأنصاري النعمان بن عجلان التي
استشهدنا ببيتين منها في باب الاشعار التي قيلت في الوصية، وقد رواها الزبير بن
بكار بتمامها ضمن ايراده أخبار السقيفة وما وقع بين المهاجرين والأنصار من خصومة
ومحاججات منها أقوال عمرو بن العاص ضدهم فأجابه النعمان بقصيدة ذكر فيها
مواقف الأنصار في حروب رسول الله صلى الله عليه وآله مع قريش ثم إيواءهم
مهاجرة قريش وكيف قاسموهم الأموال ثم ذكر حوادث السقيفة وقال:
وقلتم: حرام نصب سعد ونصبكم * عتيق بن عثمان حلال أبا بكر
وأهل أبو بكر لها خير قائم * وان عليا كان أخلق بالامر
وكان هوانا في علي وانه * لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري
فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى * وينهى عن الفحشاء والبغي والنكر
وصي النبي المصطفى وابن عمه * وقاتل فرسان الضلالة والكفر
وهذا بحمد الله يهدي من العمى * ويفتح آذانا ثقلن من الوقر
251

نجي رسول الله في الغار وحده * وصاحبه الصديق في سالف الدهر
الأبيات (1).
وأورد ابن عبد البر تمام القصيدة بترجمة النعمان بن عجلان من الاستيعاب غير
أنه حذف منها البيتين الآتيين:
فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى * وينهى عن الفحشاء والبغي والنكر
وصي النبي المصطفى وابن عمه * وقاتل فرسان الضلالة والكفر
حذف هذين البيتين لما في ثنائه على ابن عم الرسول (ص) أنه
وصي الرسول (ص) وأبقى البيتين الذين فيهما مدح أبي بكر، وجاء بعده ابن الأثير
وقال بترجمة النعمان من أسد الغابة: " ومن شعره يذكر أيام الأنصار ويذكر الخلافة
بعد النبي (ص) " ثم ذكر من أول القصيدة أبياته في أيام الأنصار فحسب وحذف
من القصيدة الأبيات التي يشير فيها إلى الخلاف الذي وقع يوم ذاك في أمر الخلافة و
البيتين الذين مدح فيهما الامام عليا وخاصة أنه كان وصي النبي.
وجاء ابن حجر بعده فقال في ترجمته: " وهو القائل يفخر بقومه من أبيات "
ثم أورد أبياته في المفاخرة بأيام الأنصار ولم يذكر أن من أبيات هذه القصيدة ما فيه ذكر
الخلافة. وهكذا كلما تأخر الزمن حذف العلماء من الروايات ما لم يرق لهم ذكره،
فابتعدنا عن فهم الواقع التاريخي.
إذا نرى أن الزبير بن بكار (ت 256 ه‍) غفل وذكر في كتابه الموفقيات ما
وقع من الاختلاف في أمر الخلافة بعد رسول الله (ص) وما تقاولوا فيه من خطب
وشعر ومن ضمنها قصيدة النعمان بن عجلان التي فيها بيتان ذكر فيها فضائل الإمام علي
وخاصة انه وصي النبي وانتبه لها ابن عبد البر (ت 463 ه‍) فحذف البيتين
وجاء بعده ابن الأثير (ت 630 ه‍) وانتبه إلى ذكر ما وقع من الخلاف في الخلافة -
أيضا - لا يصلح وحذف من القصيدة ما فيه ذكر الاختلاف في أمر الخلافة وقال:
" ويذكر الخلافة " بالإضافة إلى حذفه ما فيه وصف الإمام علي.
وجاء بعدهما ابن حجر (ت 852 ه‍) فحذفها كذلك ولم يقل أن في القصيدة
ذكر للخلافة، وهكذا كلما تأخر الزمن زاد العلماء من حذف الحقائق ما لا يصلح
ذكره لمدرسة الخلفاء.
إذا راجعنا ما سبق ايراده في بحث الوصية وما يأتي في بحث أصناف الكتمان،

(1) راجع مصادر ترجمته وشعره في الهامش رقم 21 في باب: شهرة لقب وصي النبي (ص) للإمام علي و
انتشار ذكره في أشعار الصحابة والتابعين من هذا الكتاب.
252

ما كتموه من خبر الوصية، يتضح جليا، ان انتشار تعيين الرسول عليا وصيا له كان
يسوء مدرسة الخلفاء، فحذفوا من القصيدة والخبر هذا القسم دون أن يشيروا إلى
انهم حذفوا منهما شيئا وهذا النوع من الكتمان من أكثر أصناف الكتمان بمدرسة
الخلفاء سواء في حديث الرسول (ص) أو سيرته أو سيرة صحابته ويطول بنا المقام لو
أردنا أن نأتي بأمثلة منها في غير شأن الوصية من سنة الرسول (ص) في هذا المقام.
ه‍ - حذف تمام الرواية من سنة الرسول (ص) مع عدم الإشارة إليه.
إن ابن هشام (1) أخذ من سيرة ابن إسحاق برواية البكائي ما أورد في سيرته من
روايات سيرة الرسول (ص) وقال في ذكر منهجه بأول الكتاب:
" وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب.... وأشياء يشنع
الحديث به وبعض يسوء الناس ذكره... ".
وكان مما حذفه ابن هشام من سيرة ابن إسحاق (مما يسوء الناس ذكره) خبر
دعوة الرسول بني عبد المطلب عندما أوحى الله إليه " وأنذر عشيرتك الأقربين " فقد
روى الطبري في تاريخه عن ابن إسحاق بسنده ان رسول الله (ص) قال في دعوته
لبني عبد المطلب:
" فأيكم يؤازرني على هذا الامر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم،
فأحجم القوم عنها جميعا ".
وقال علي بن أبي طالب:
" أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي - رقبة علي بن أبي طالب - ثم
قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، قال فقام القوم
يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع " (2)
حذف ابن هشام هذا الخبر وأخبارا كثيرة أخرى كان يرى أنها يسوء الناس ذكرها

(1) ابن هشام أبو محمد عبد الملك بن هشام الحميري، قال ابن خلكان: (جمع سيرة رسول الله (ص)
من المغازي والسير لابن إسحاق وهذبها...).
وقال السيوطي في بغية الوعاة (ص: 315): مهذب السيرة النبوية، سمعها من زياد البكائي صاحب ابن
إسحاق ونقحها...) قصدوا من هذبها ونقحها، أنه حذف من سيرة ابن إسحاق ما كان مخالفا لمصلحة السلطة
الحاكمة.
توفي بمصر سنة 218 أو 213 ه‍.
والبكائي هو زياد بن عبد الله بن طفيل البكائي العامري (ت: 183 ه‍).
وابن إسحاق هو أبو عبد الله أو أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي ولاء كتب السيرة بأمر الخليفة
العباسي أبي جعفر المنصور لابنه الخليفة المهدي توفي سنة 151 أو 152 أو 154 ه‍.
أوردنا هذه التراجم من مقدمة محمد حسين هيكل على سيرة ابن هشام، ط، القاهرة سنة 1356 ه‍، و
رجعنا إلى هذه الطبعة في ما أوردناه في المتن.
(2) أوردتها ملخصة من تاريخ الطبري، ط، مصر الأولى، (ج 2 / 216 - 217).
253

وهم عصبة الخلافة (1)، ومن ثم أهملت سيرة ابن إسحاق لان فيها أخبارا لا يرغبون
نشرها حتى فقدت نسخها (2). واشتهرت سيرة ابن هشام وأصبحت أوثق سيرة عند
الناس.
وقد أدرك الطبري أهمية هذا النص في حق الإمام علي بعد أن أثبته في تاريخه
فتدارك في تفسيره ما غفل عنه في تاريخه، فإنه لما أورد الخبر بنفس السند في تفسيره
آية " وأنذر عشيرتك الأقربين " قال:
فأيكم يؤازرني على هذا الامر على أن يكون أخي وكذا وكذا.... ثم قال:
إن هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا، قال فقام القوم يضحكون ويقولون
لأبي طالب... الحديث (3).
وكذلك فعل - أيضا - ابن كثير في تاريخه (4) وبتفسير الآية من تفسيره.
وأكثر من هذا ما فعله محمد حسين هيكل حيث أورد الخبر في ص 104 من
الطبعة الأولى من كتابه (حياة محمد) ولفظه:
" فأيكم يؤازرني هذا الامر وأن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم " وحذفها
في الطبعة الثانية سنة 1354 ص: 139 من كتابه (5)
وهذا ما نسميه بحذف بعض الخبر مع الابهام في القول.
وهذا الصنف من الكتمان أي كتمان تمام الخبر دونما إشارة إليه كثير عند علماء
مدرسة الخلفاء
و - النهي عن كتابة سنة الرسول (ص)
من أهم أصناف كتمان سنة الرسول (ص) بمدرسة الخلفاء نهي الخلفاء عن
كتابة سنة الرسول (ص) وكان بدء النهي في عصر رسول الله (ص) حيث نهت
قريش عبد الله بن عمرو بن العاص عن كتابة حديث الرسول (ص) وقالوا له تكتب
كل ما سمعته من رسول الله (ص) ورسول الله (ص) بشر يتكلم في الرضا
والغضب وقريش هنا هم المهاجرون من أصحاب رسول الله (ص) وهم الذين
منعوا الرسول عن كتابة وصيته في آخر ساعة من حياته، ثم لما ولوا الحكم بعد رسول
الله (ص) نهوا عن كتابة حديث الرسول (ص) وبقي منع كتابة الحديث ساريا

(1) ذكرنا بعضها في كتابنا المخطوط " من تاريخ الحديث ".
(2) طبع أخيرا قسم من سيرة ابن إسحاق في الرباط المغرب سنة 1396 ه‍.
(3) تفسير الطبري، ط، الأولى، بولاق، سنة: 1323 - 1330 ه‍ (ج 19 / 72 - 75).
(4) البداية والنهاية (ج 3 / 40).
(5) نقلناه من كتاب الغدير للحبر الحجة الأميني، ط، طهران، سنة 1372 ه‍ (ج 2 / 288 - 289).
254

حتى عصر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز حيث رفع الحضر وأمر بتدوين حديث
الرسول وسيأتي تفصيل أخبار النهي عن كتابة حديث رسول الله (ص) في الجزء
الثاني من الكتاب في بحث مصادر الشريعة الاسلامية لدى المدرستين ومضى ذكر
خير منع الرسول (ص) من كتابة وصيته في خير السقيفة.
والله أعلم كم من حديث لرسول الله (ص) في أمر الوصية نسي مع ما نسيت
من سنة الرسول (ص) بسبب عدم كتابتها في كل هذه القرون.
نهى الخلفاء عن نشر سنة الرسول (ص) وكان مصير من يخالفهم ويروي أو
يكتب ما يخالف اتجاههم مدى القرون القتل المعنوي أو الجسدي كما سنشير إلى
أمثلة منها في ما يأتي إن شاء الله.
ز - تضعيف الروايات ورواة سنة الرسول (ص) والكتب التي تنتقص
السلطان وقتل المخالفين أحيانا
لا يستطيع الباحث أن يحصي عمل العلماء في تضعيف الراوي والكتاب الذين
ينتقصان السلطان وكذلك تضعيفهم للروايات التي فيها انتقاص لمقام السلطة من
خليفة ووال وأمير وأحيانا تقتل العامة العالم المخالف لهذا الاتجاه، وكي لا يطول
البحث عن هذا الصنف من الكتمان نقتصر بذكر أربعة أمثلة منها في ما يأتي:
1 - قال ابن كثير ما موجزه:
" وأما ما يغتر به كثير من جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء، من أنه أوصى إلى
علي بالخلافة، فكذب وبهت وافتراء، يلزم منه خطأ كبير من تخوين الصحابة و
ممالاتهم بعده على ترك انفاذ وصيته - إلى قوله - أما ما يقصه القصاص من العوام من
الوصية لعلي في الآداب والأخلاق... كل ذلك من الهذيانات فلا أصل لشئ منه
بل هو اختلاق بعض السفلة الجهلة ولا يعول على ذلك ولا يغتر به الا غبي غبي. ".
هكذا تكلم ابن كثير بتوتر عصبي شديد من عناء هذه المشكلة، ولنرى من هم
الذين اغتر بهم جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء، هم كل من الصحابة الآتية
أسماؤهم.
أ - الإمام علي بن أبي طالب المهاجري.
ب - سلمان المحمدي (الفارسي)
ج - أبو أيوب الأنصاري.
د - أبو سعيد الخدري الأنصاري.

(1) البداية والنهاية (ج 7 / 224).
255

ه‍ - أنس بن مالك الأنصاري.
و - بريدة بن الحصيب الأسلمي المهاجري.
ز - عمرو بن العاص القرشي.
ح - أبو ذر الغفاري.
ط - الإمام الحسن سبط الرسول الأكبر.
ي - الإمام الحسين السبط الحسين.
ك - حسان بن ثابت الأنصاري.
ل - الفضل بن العباس بن عبد المطلب.
م - النعمان بن عجلان الأنصاري.
ن - عبد الله بن أبي سفيان الحرث بن عبد المطلب.
أأنت - أبو الهيثم التيهان الأنصاري.
ع - سعيد بن قيس الأنصاري.
ف - حجر بن عدي الكندي.
ص - خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين.
ومن التابعين:
ق - جرير بن عبد الله البجلي.
ر - النجاشي الشاعر قيس بن عمرو.
ش - محمد بن أبي بكر الخليفة الأول.
ت - مالك الأشتر.
ث - عمر بن حارثة الأنصاري.
ومن حكام مدرسة الخلفاء:
خ - الأمير علي بن عبد الله عم الخليفة العباسي السفاح
ذ - المأمون الخليفة العباسي.
والمخالفون الذين أخرجوا أحاديث الوصية عن رسول الله (ص) هم كل من:
أ - امام الحنابلة أحمد بن حنبل (ت 241 ه‍) في مناقب علي.
ب - امام المؤرخين الطبري (ت 310 ه‍) في تاريخه.
ج - مسند الدنيا الطبراني امام المحدثين في عصره (ت 360 ه‍) في معاجمه.
د - أبو نعيم الأصبهاني (ت 430 ه‍) في حلية الأولياء.
ه‍ - الحافظ ابن عساكر الشافعي (ت 571 ه‍) في تاريخ مدينة دمشق.
هؤلاء، هم جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء حسب تعبير ابن كثير الذين اغتروا
256

بروايات الوصية ورووها وأخرجوها في كتبهم إلى نظرائهم من الصحابة والتابعين
الذين اغتروا بها واحتجوا بها في أشعارهم وخطبهم ورواها عنهم أمثال:
الزبير بن بكار في الموفقيات والطبري وابن الأثير في تاريخيهما والخطيب
البغدادي في تاريخ بغداد والمسعودي الشافعي في مروج الذهب والامام المقدم في
الحديث الحاكم في المستدرك والذهبي في تذكرة الحفاظ وأمثالهم.
كتم ابن كثير كل ما ذكرناه آنفا وكتم أكثر مما أشرنا إليه مما كان بمتناول يد علماء
ذلك العصر، وذهبت عنا لتكتمهم الشديد عليها وإخفائها عن الناس، كتمها
جميعا ولم يخرج منها شيئا في موسوعته التاريخية.
وكتمها - أيضا - بتضعيف الرواة والروايات والكتب التي خرجتها، و
تسخيف المحتجين بها كي لا يصدق من يصل إليه شئ مما كتمها من كتاب آخر و
قال: " ما يغتر به جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء ".
وهذا النوع من الكتمان كثير عند علماء مدرسة الخلفاء.
2 - نقل ابن عبد البر عن الشعبي أنه قال في الحارث الهمداني:
" حدثني الحارث وكان أحد الكذابين. " قال ابن عبد البر: " ولم يبن من
الحارث كذب، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي وتفضيله له على غيره ومن هاهنا
والله أعلم كذبه الشعبي لان الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر وإلى أنه أول من
أسلم " (1) انتهى قول ابن عبد البر.
3 - الطعن بأئمة الحديث
يطعنون بأئمة الحديث في مدرسة الخلفاء أحيانا الذين يروون حديثا يخالف
اتجاهها، مثل ما جرى للحاكم الشافعي كما رواه الذهبي بترجمته (2) وفي ما يلي
ما أورده بإيجاز:
(الحافظ الكبير امام المحدثين، أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن محمد
بن حمدويه النيسابوري المعروف بابن البيع، ولد سنة 312 ه‍ وتوفي سنة 405 ه‍،
طلب الحديث من الصغر ورحل إلى العراق وحج وجال في خراسان وما وراء
النهر وسمع من ألفي شيخ أو نحو ذلك، بلغت تصانيفه قريبا من خمسمائة جزء و
من تآليفه فضائل الشافعي، ونقل أن مشايخ الحديث كانوا يذكرون أيامه وأن الأئمة
من مقدمي عصره كانوا يقدمونه على أنفسهم ويراعون حق فضله ويعرفون له الحرمة
الأكيدة.

(1) جامع بيان العلم، باب حكم العلماء بعضهم في بعض، (ج 2 / 189).
(2) تذكرة الحفاظ، ص: 1039 - 1045.
257

قال الذهبي: وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال: " لا يصح ولو صح لما
كان أحد أفضل من علي (رض) بعد النبي (ص) ".
وقال: ثم تغير رأي الحاكم وأخرج حديث الطير في مستدركه.
ونقل الذهبي عن العلماء أنهم قالوا عن مستدركه: أنه جمع فيه أحاديث
وزعم أنها على شرط البخاري ومسلم منها حديث الطير، ومن كنت مولاه فعلي
مولاه، فأنكرها عليه أصحاب الحديث فلم يلتفتوا إلى قوله.
وقال الذهبي: أما حديث الطير فله طرق كثيرة جدا قد أفردتها بمصنف و
مجموعها هو يوجب أن يكون الحديث له أصل وأما حديث من كنت مولاه فعلي
مولاه. فله طرق جيدة وقد أفردت ذلك أيضا. يعني الذهبي أنه ألف في حديث
من كنت مولاه فعلي مولاه، كتابا خاصا.
قال المؤلف:
أما حديث من كنت مولاه فسيأتي بحثه في ذكر النصوص الواردة عن الرسول
(ص) في حق الإمام علي إن شاء الله تعالى.
وحديث الطير برواية الصحابي أنس وغيره من الصحابة، أنه أهدي إلى رسول
الله طير مشوي فدعا أن يأتيه الله بأحب الخلق إليه - أي بعد الرسول (ص) - فيأكل
معه، فجاء علي وأكل معه وبما أن الحديث يدل على أن الامام عليا أفضل الناس
بعد رسول الله (ص) أنكروا على الحاكم وغيره رواية هذا الحديث، ولم نخرجها
نحن في باب النصوص لأننا لسنا بصدد إيراد فضائل الإمام علي وإنما نورد النصوص
الصريحة في حق آل الرسول في الحكم.
نقل الذهبي فضل الحاكم الشافعي في علم الحديث بمدرسة الخلفاء وبما أنه
خرج في مستدركه أحاديث في فضل الإمام علي وما فيه انتقاص لمعاوية، طعنوا فيه و
قالوا ما نقله الذهبي:
(ثقة في الحديث، رافضي خبيث).
(كان يظهر التسنن في التقديم والخلافة وكان منحرفا عن معاوية وآله - يعني
يزيد - متظاهرا بذلك ولا يعتذر منه).
قال الذهبي:
قلت أما انحرافه عن خصوم علي فظاهر وأما أمر الشيخين فمعظم لهما بكل
حال فهو شيعي ولا رافضي، وليته لم يصنف المستدرك فإنه غض من فضائله بسوء
تصرفه). انتهت أقوال الذهبي.
ولامام المحدثين بمدرسة الخلفاء أسوة بإمام المذهب الشافعي محمد بن إدريس
258

(ت 204 ه‍) حيث رمي بالرفض كما رواه البيهقي فقال الشافعي في ذلك:
قالوا ترفضت، قلت كلا * ما الرفض ديني ولا اعتقادي
لكنني توليت غير شك * خير امام وخير هادي
إن كان حب الولي (1) رفضا * فإنني أرفض العباد
ومما قال أيضا:
إن كان رفضا حب آل محمد * فليعلم الثقلان اني رافضي
ويظهر أنه كان يضطر إلى الكتمان أحيانا فقد قال:
ما زال كتما منك حتى كأنني * لرد جواب السائلين لأعجم
وأكتم ودي مع صفاء مودتي * لتسلم من قول الوشاة وأسلم (2)
غير أنه لم ينفعه الكتمان ورمي بالرفض كغيره من العلماء الذين لا يكتمون رأيهم
في ما ورد عن سنة الرسول (ص) وسيرة الصحابة، وإن أغلب علماء المذهب
الشافعي بمدرسة الخلفاء لا يكتمون الحديث كما يفعله علماء المذاهب الآخرى في
تلك المدرسة ولذلك يرمون بالرفض.
في هذا الباب لاحظنا أنواعا من الانكار بدأ بتضعيف الراوي والرواة إلى طعنهم
بالتشيع والرفض والذي كان يؤدي إلي إسقاط الحديث عن الاعتبار. وكل أنواع
الانكار من أسهل الأمور في باب الاحتجاج للمنكر ومن أصعب الأمور عندئذ
إثبات الحق فإن المنكر يسهل عليه أن يقول: الحديث ضعيف، باطل، كذب و
على صاحب الحق أن يأتي بالدليل تلو الدليل وليس للمنكر في مقابله أكثر من الانكار
وعدم القبول وهو في حقيقته قتل معنوي للرواة وأحيانا يقتل جسديا الراوي الذي
يروي ما يخالف مصلحة مدرسة الخلفاء، كما نذكر مثالا منه في ما يأتي لما جرى لاحد
أصحاب الصحاح الست بمدرسة الخلفاء.
4 - النسائي أحد مؤلفي الصحاح الست وقصة قتله.
ننقل خبره وقصة قتله من كتابي الذهبي وابن خلكان بترجمته (3) قالا ما موجزه:
الحافظ الامام شيخ الاسلام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي كان
إمام أهل عصره في الحديث وله كتاب السنن تفرد بالمعرفة وعلو الاسناد واستوطن

(1) ورد في النصائح الكافية لمن تولى معاوية: (الوصي) بدلا من (الولي) في الصواعق.
(2) هذا موجز ما أورده الهيتمي (ت 974 ه‍) في الصواعق، ط، مصر الثانية، سنة 1385 ه‍، ص
33، مع قول البيهقي أورد جميعها مفصلا والبيت: إن كان رفضا مع بيتين آخرين رواها أيضا ابن الصباغ المالكي
المكي (ت 855 ه‍) في كتابه الفصول حسب نقل صاحب الكنى والألقاب بترجمة الشافعي.
(3) تذكرة الحفاظ (ج 1 / 198)، ووفيات الأعيان (ج 1 / 59).
259

مصر وكان يصوم يوما ويفطر يوما ويجتهد في العبادة ليلا وخرج مع أمير مصر و
إلى الغزو وكان يحترز عن مجالسه والانبساط في المأكل، وخرج في اخر عمره حاجا
وبلغ دمشق، وصنف في دمشق كتاب الخصائص في فضل علي بن أبي طالب
(رض) وأهل البيت، وأكثر رواياته فيه عن أحمد بن حنبل فأنكروا عليه ذلك،
فقال دخلت دمشق والمنحرف عن علي بها كثير فصنفت كتاب الخصائص رجوت
أن يهديهم الله بهذا الكتاب، فقيل له ألا تخرج فضائل معاوية، فقال أي شئ
أخرج؟ حديث اللهم لا تشبع بطنه، فسكت السائل وسئل - أيضا - عن معاوية وما
جاء من فضائله، فقال: ألا يرضى رأسا برأس حتى يفضل، فما زالوا يدفعون في
خصييه وداسوه حتى أخرج من المسجد وحمل إلى الرملة. قال الحافظ أبو نعيم:
مات بسبب ذلك الدوس وهو منقول، وقال الدارقطني امتحن بدمشق وأدرك
الشهادة. وكان ذلك سنة 303 ه‍.
ولا ينحصر من أوذي وقتل في سبيل نشر سنة الرسول (ص) بالنسائي وحده
فقد لاقى الصحابي أبو ذر أيضا ما سيأتي ذكره بعيد هذا في بقية بحوث كتمان سنة
الرسول (ص) وقتل عدد غير قليل من العلماء، ترجم بعضهم العلامة الحبر الأميني
في كتابه شهداء الفضيلة.
ومن يجرء مع هذه الحالة أن يروي النصوص الواردة عن رسول الله (ص) في
فضائل آله فضلا عن ذكر النصوص الواردة في حق آله في الحكم.
وألا يحق لابن كثير إذا كان يريد أن يداري من يطالب العلماء بإيراد فضائل
معاوية أن يؤول ما فيه إنتقاص لمعاوية إلى ما فيه له فضيلة في الدنيا والآخرة!!!
وكيف يتيسر نشر سنة الرسول مع هذه الحالة.
ذكرنا شيئا من مصير من يخالف مدرسة الخلفاء ويروي أن يكتب من سنة
الرسول (ص) ما يخالف مصلحة الخلفاء وفي ما يأتي نشير إلى مصير الكتب التي
حوت من سنة الرسول (ص) ما يخالف سياسة مدرسة الخلفاء.
ح - حرق الكتب والمكتبات
من أصناف الكتمان بمدرسة الخلفاء حرق الكتب التي فيها سنة الرسول (ص)
سيرة وحديثا مما لا ترغب نشرها مدرسة الخلفاء. وقد بدأ ذلك الخليفة عمر بن
الخطاب كما سيأتي ذكره في باب بحوث مدرسة الخلفاء من مصادر الشريعة الاسلامية
عن طبقات ابن سعد قال: أن الأحاديث كثرت على عهد عمر فأنشد الناس أن
260

يأتوه بها، فلما أتوه بها، أمر بتحريقها.
وروى الزبير بن بكار (1) أن سليمان بن عبد الملك في زمان ولايته للعهد مر
بالمدينة حاجا، وأمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي (ص) ومغازيه فقال أبان
هي عندي أخذتها مصححة ممن أثق به فأمر عشرة من الكتاب بنسخها فكتبوها في
رق فلما صارت إليه نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين - يقصد بيعة الأنصار في
العقبتين الأولى والثانية وذكر الأنصار في بدر، فقال سليمان: ما كنت أرى لهؤلاء
القوم هذا الفضل فأما أن يكون أهل بيتي - أي الخلفاء الأمويين - غمصوا عليهم،
وأما أن يكونوا ليس هكذا، فقال أبان بن عثمان: أيها الأمير! لا يمنعنا ما صنعوا
بالشهيد المظلوم - يقصد الخليفة عثمان - من خذلانه، أن نقول الحق. هم على ما
وصفنا لك في كتابنا هذا. قال سليمان: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره
لأمير المؤمنين - يقصد والده عبد الملك - لعله يخالفه، فأمر بذلك الكتاب فحرق،
ولما رجع أخبر أباه بما كان فقال عبد الملك وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه
فضل تعرف أهل الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها، قال سليمان فلذلك أمرت بتحريق
ما نسخته حتى أستطلع رأي أمير المؤمنين فصوب رأيه.
هكذا يأمر خلفاء المسلمين وأولياء عهدهم بحرق كتب سنة الرسول لئلا يعرف
المسلمون ما يخالف مصالحهم وقد فعلت السلطة أكثر من ذلك حين حرقت مكتبات
فيها من كتب سنة الرسول (ص) ما يخالف اتجاههم نظير ما يأتي بيانه:
حرق مكتبة اسلامية ببغداد
قال ابن كثير (2) في ذكر حوادث سنة 416 ه‍ بترجمة سابور بن أردشير: كان
كثير الخير سليم الخاطر إذا سمع المؤذن لا يشغله شئ عن الصلاة وقد وقف دارا
للعلم في سنة 381 ه‍ وجعل فيها كتبا كثيرة جدا ووقف عليها غلة كبيرة فبقيت
سبعين سنة ثم أحرقت عند مجئ طغرل في سنة 450 ه‍ وكانت في محلة بين
السورين.
وقال الحموي بترجمة بين السورين في معجم البلدان: بين السورين، اسم
لمحلة كبيرة كانت بالكرخ وبها كانت خزانة الكتب التي وقفها وزير بهاء الدولة ولم
تكن في الدنيا أحسن كتبا منها كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحررة و

(1) الموفقيات ص: 332 - 333.
(2) البداية والنهاية (ج 12 / 19).
261

احترقت في ما أحرق من محال الكرخ عند ورود طغرل بك أول ملوك السلجوقية
لبغداد.
وقال ابن كثير (1) - أيضا - بترجمة الشيخ أبي جعفر الطوسي من حوادث سنة
460 ه‍ أحرقت داره بالكرخ وكتبه سنة 448 ه‍.
وفعل أكثر من ذلك مع مخازن كتب الخلفاء الفاطميين بمصر كما ذكره
المقريزي (2) (ت: 848 ه‍) في ذكر الخزانات التي كانت في قصر الفاطميين عن
خزانة الكتب، وكانت من عجائب الدنيا ويقال أنه لم يكن في جميع بلاد الاسلام
دار كتب أعظم من التي كانت بالقاهرة في القصر ويقال: أنها كانت تشمل
الف وستمائة ألف كتاب، وقال قبلها [أخذ جلودها عبيدهم وإماؤهم برسم عمل
ما يلبسونه في أرجلها وأحرق ورقها تأولا منهم أنها خرجت من قصر السلطان وأن
فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم سوى ما غرق وتلف وحمل إلى سائر
الأقطار وبقي منها ما لم يحرق وسفت عليه الرياح التراب فصارت تلألأ باقية إلى
اليوم في نواحي آثار تعرف بتلال الكتب].
أسس مكتبة الكرخ وزير البويهيين من أتباع مدرسة أهل البيت فلما استولى
السلجوقيين من أتباع مدرسة الخلفاء أحرقوها وأحرقوا مكتبة الشيخ الطوسي بالكرخ
، وفعل أكثر من ذلك مع خزائن كتب الخلفاء الفاطميين بمصر عند استيلاء صلاح
الدين على الحكم.
يا ترى كم كتم عنا من سنة الرسول بسبب تحريق الكتب والمكتبات التي كان
أصحابها من مخالفي مدرسة الخلفاء، وكم كان فيها أحاديث صحيحة مسلسلة عن
رسول الله (ص) في حق آل الرسول بما في ضمنها أحاديثه في الوصية، ذهبت عنا
بسبب هذا النوع من الكتمان والله أعلم بذلك.
وأهم من كل ما ذكرنا من أصناف كتمان سنة الرسول (ص) تحريف سنة
الرسول وسيرة الصحابة الآتي ذكره في البحثين التاليين:
ط - حذف بعض الخبر من سيرة الصحابة وتحريفه
من أنواع الكتمان بمدرسة الخلفاء حذف بعض الخبر وتحريفه كما فعل ذلك
ابن كثير في خطبة الإمام الحسين بتاريخه، فقد أورد الخطبة الطبري وابن الأثير في
تاريخيهما وفي لفظهما:

(1) نفس المصدر، (ج 12 / 97).
(2) خطط المقريزي (ج 2 / 255).
262

" أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، هل يجوز
لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم (ص) وابن وصيه وابن عمه و
أول القوم اسلاما وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟ أوليس
حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الطيار ذو الجناحين عمي... ".
حرف ابن كثير هذا الخبر في تاريخه ونقل أن الإمام الحسين قال: " راجعوا
أنفسكم وحاسبوها هل يصلح لكم قتال مثلي، وأنا ابن بنت نبيكم، وليس على
وجه الأرض ابن بنت نبي غيري وعلي أبي، وجعفر ذو الجناحين عمي وحمزة سيد
الشهداء عم أبي " (1).
ان ابن كثير حذف من خطبة الإمام الحسين ذكر الوصية لان ذكره كما قلنا ينبه
العامة إلى حق الإمام علي وسبطي الرسول (ص) في الحكم وهو ما يسوء السلطة
نشر خبره، ثم حرف الخطبة. وهذا نوع من أنواع الكتمان بمدرسة الخلفاء، و
يوجد نظير هذا الحذف في سيرة الرسول (ص) وسنشير إلى شئ منه في الصنف العاشر
من أصناف الكتمان الآتي بحثه بعد هذا.
ي - وضع الروايات والاخبار المختلقة بدلا من الروايات الصحيحة
من أنواع الكتمان بمدرسة الخلفاء وضع الاخبار ونشر الروايات المختلقة بدلا
من الروايات الصحيحة، ونذكر في ما يأتي مثالا واحدا منها:
روى الطبري في تاريخه خبر أبي ذر وقال: " وفي هذه السنة أعني سنة ثلاثين
كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة وقد
ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها فأما العاذرون معاوية في ذلك فإنهم
ذكروا في ذلك قصة كتب إلي بها السري يذكر أن شعيبا حدثه سيف.... " الحديث.
وكذلك تبعه ابن الأثير وقال: " وفي هذه السنة كان ما ذكر من أمر أبي ذر و
إشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة من سب
معاوية إياه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ونفيه من المدينة
على الوجه الشنيع لا يصلح النقل به... ".
فمن هو سيف هذا الذي أورد الطبري القصة التي رواها في خبر أبي ذر و
تمسك بها العاذرون معاوية وما هو نوع أخباره ورواياته:
هو سيف بن عمر التميمي (توفي حدود سنة 170 ه‍) روى أخبارا عن عصر

(1) ابن كثير 7 / 179.
263

الرسول (ص) والسقيفة وبيعة أبي بكر وحروف الردة والفتوح وحرب الجمل.
وصفه علماء الرجال وقالوا في نعته:
ضعيف، متروك الحديث، ليس بشئ، كذاب، كان يضع الأحاديث،
اتهم بالزندقة (1)
نوع أخباره ورواياته:
اختلق في رواياته أكثر من خمسين ومائة صحابي لرسول الله (ص) نشرنا
دراسات مفصلة عن ثلاث وتسعين منهم في المجلد الأول والثاني من كتاب "
خمسون ومائة صحابي مختلق " جعل تسع وعشرون منهم من قبيلته تميم، اختلق
سيف لهم أخبارا في الفتوح وكثيرا من المعجزات والشعر ورواية الحديث، غير أن
الله سبحانه وتعالى لم يخلق أشخاصهم ولا شيئا من أخبارهم بل اختلق جميعها
سيف كما اختلق عشرات الرواة وروى عنهم أخباره وقد نشرنا في جزئي عبد الله
ابن سبأ وخمسون ومائة صحابي مختلق دراسات عن نيف وسبعين راويا منهم،
تتبعنا في حدود قدرتنا روايات سيف عنهم فوجدنا لراو واحد منهم والذي سماه محمد
بن سواد بن نويرة 216 رواية ومنهم من روى عنه أقل من ذلك إلى رواية واحدة.
وكذلك خلق شعراء للعرب وقادة للفرس والرومان وأراض في البلاد الاسلامية و
غيرها وحرف سني الحوادث التأريخية كما حرف أسماء أشخاص ذكروا في التاريخ
الاسلامي ونشر الخرافات بين المسلمين في ما اختلق منها في أحاديثه، واختلق حروبا
في الردة والفتوح لم تقع، وذكر مئات الألوف ممن قتلهم المسلمون قتلا فظيعا في تلك
الحروب مما لم يكن شئ منها، وأشاع في ما وضع واختلق أن الاسلام انتشر بحد
السيف، وقد بينا زيفها في أول الجزء الثاني من عبد الله بن سبأ. انتشرت رواياته
الموضوعة في أكثر من سبعين مصدرا (2) من كتب الحديث والتاريخ والأدب وغيرها
من مصادر الدراسات الاسلامية بمدرسة الخلفاء انتشر فيها ما روى سيف واختلق
عن عصر الرسول (ص) حتى عصر معاوية وكان أكثر من أخذ عنه الطبري في
تاريخه وروى عنه أمثال الاخبار (3) الآتية:

(1) كان ما ذكرناه بعض ما ذكره في وصفه علماء أمثال: يحيى بن معين (ت: 233 ه‍)، النسائي صاحب
الصحيح (ت: 303 ه‍)، أبو داود (ت: 316 ه‍)، ابن أبي حاتم الرازي (ت: 327 ه‍)، ابن حبان (ت
: 354 ه‍)، الحاكم (ت: 405 ه‍). وتفصيل ما ذكروا في حق سيف ومصادر ترجمة سيف بكتاب عبد الله
بن سبأ الجزء الأول.
(2) ذكرنا أسماء أكثرها في أول الجزء الأول من كتاب خمسون ومائة صحابي مختلق.
(3) راجع أخبارها في ذكر فتح دارين والقادسية والسوس وبهرسير ودراسة مقارنة لاخبار سيف هذه
بروايات صحيحة لغيره في كتاب " خمسون ومائة صحابي مختلق " الجزء الأول بتراجم عفيف بن المنذر وعاصم بن
عمرو والأسود بن قطبة من الصحابة الذين اختلقهم سيف بن عمر التميمي من قبيلته تميم.
264

أ - مسير الجيش على ماء البحر من الساحل إلى دارين مسيرة يوم وليلة لسفن
البحر، يمشون على مثل رملة ميثاء فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل.
ب - تكلم الأبقار لعاصم بن عمرو التميمي الصحابي المختلق في حرب
القادسية بلسان عربي فصيح. وإن بكيرا قال لفرسه أطلال عند نهر أراد أن يعبره
يومئذ: " ثبي أطلال " فنطقت وقالت: " وثبا وسورة البقرة " أي أنها أقسمت
بسورة البقرة، ثم وثبت!!!.
ج - انشاد الأجنة الشعر في فتح القادسية وثناءهم لموقف تميم في الحرب.
د - فتح السوس بضرب الدجال باب السوس برجله وقوله: " انفتح بظار ".
ه‍ - تكلم الملائكة على لسان الأسود بن قطبة التميمي في فتح بهرسير.
ومن تاريخ الطبري انتشرت أكاذيب سيف في كتب التاريخ الاسلامي التي
ألفت بعده إلى عصرنا الحاضر كما سنشير إلى بعض ذلك فيما يأتي:
انتشار أحاديث سيف من تاريخ الطبري إلى كتب التاريخ وسببه
قال ابن الأثير في مقدمة تاريخه الكامل:
إني قد جمعت في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد، فابتدأت بالتاريخ
الكبير الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطبري إذ هو الكتاب المعول عند الكافة عليه و
المرجوع عند الاختلاف إليه.... فلما فرغت منه أخذت غيره من التواريخ المشهورة
فطالعته وأضفت إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه،.... الا ما يتعلق
بما جرى بين أصحاب رسول الله (ص) فإني لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئا الا
ما فيه زيادة بيان أو اسم انسان، أو ما لا يطعن على أحد منهم في نقله، على أني
لم أنقل إلا من التواريخ المذكورة والكتب المشهورة ممن يعلم صدقهم في ما نقلوه و
صحة ما دونوه...... (1)
وقال ابن كثير بعد انتهائه من ذكر أخبار الصحابة في الردة والفتوح والفتن:
هذا ملخص ما ذكره ابن جرير الطبري رحمه الله عن أئمة هذا الشأن، و
ليس في ما ذكره أهل الأهواء من الشيعة وغيرهم من الأحاديث المختلقة على
الصحابة والاخبار الموضوعة التي ينقلونها بما فيها (2)
وقال ابن خلدون:
هذا آخر الكلام في الخلافة الاسلامية وما كان فيها من الردة والفتوحات و
الحروب ثم الاتفاق والجماعة أوردتها ملخصة عيونها ومجامعها من كتب محمد بن

(1) تاريخ ابن الأثير طبعة، مصر سنة 1348 ه‍ (ج 1 / 5).
(2) تاريخ ابن كثير (ج 7 / 246).
265

جرير الطبري وهو تاريخه الكبير فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك وأبعد عن المطاعن و
الشبه في كبار الأمة من خيار الأمة وعدو لهم من الصحابة والتابعين (1)
نظرة تأمل في سبب اختيار كبار العلماء الأفذاذ روايات سيف في أخبار صدر الاسلام
قال الطبري في خبر أبي ذر الصحابي الفقير - مثلا - مع معاوية الأمير " كرهت
ذكر أكثرها، فأما العاذرون معاوية في ذلك فإنهم ذكروا في ذلك قصة.... عن
سيف ".
وقال ابن الأثير:
" من سب معاوية إياه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء
ونفيه من المدينة عل الوجه الشنيع لا يصلح النقل به ". ثم أورد قصة سيف و
وصفهم كذلك بالعاذرين.
إن العالمين الكبيرين لم يتركا روايات غير سيف لعدم اعتمادهما عليها بل لأنهما
لم يجدا فيها العذر للسلطة الحاكمة ووجدا العذر عند العاذرين معاوية الأمير وعثمان
الخليفة وهم سيف الزنديق وسلسلة رواته المختلقين، فحشى الطبري تاريخه
الكبير بروايات سيف، و؟ نفس السبب أخذ ابن الأثير روايات سيف من تاريخ
الطبري وكذلك فعل ابن كثير حيث قال في آخر ذكره خبر واقعة الجمل من أخبار
سنة ست وثلاثين هجرية عما نقله من أخبار سيف في حوادث بعد وفاة رسول الله
(ص) إلى واقعة الجمل:
" هذا ملخص ما ذكره ابن جرير الطبري رحمه الله عن أئمة هذا الشأن " و
قصد من أئمة هذا الشأن الذين ذكر ابن جرير الطبري الاخبار عنهم سيف الزنديق
ورواته المختلقين.
وقد أفصح العلامة ابن خلدون أكثر منهم في سبب اختيارهم روايات سيف
المنتشرة في تاريخ الطبري عن أخبار الخلافة أي بيعة الخلفاء والردة والفتوح والجماعة
أي الاجتماع على بيعة معاوية وقال:
" انه أوثق ما رأيناه في ذلك وأبعد عن المطاعن والشبهة في كبار الأمة ".
إذا فإن روايات سيف في تاريخ الطبري عن تلك الأخبار أوثق عندهم لأنها
أبعد عن المطاعن والشبهة في كبار الأمة من الصحابة والتابعين وهم الخلفاء والولاة
وذويهم، وإليكم دليل آخر على أنه من المعيب أن يذكر ما يورد النقد على الكبراء

(1) تاريخ ابن خلدون (ج 2 / 457).
266

وينبغي البحث عن العذر لهم في ما يوجه النقد إليهم كيف ما كان، في خبر درء سعد
بن أبي وقاص الحد عن أبي محجن والبحث عن العذر لسعد الأمير،
كان أبو محجن الثقفي كما بترجمته من الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة،
مدمنا للخمر وحده الخليفة عمر سبع مرات لذلك وأخيرا نفاه من المدينة، والتحق
بسعد بن أبي وقاص في حرب القادسية فقيده لشربه الخمر وأطلقت زوجة سعد
سراحه وكانت له مواقف مشهورة في الحرب فدرأ سعد الحد عنه لموقفه وقال: والله
لا نجلدك على الخمر أبدا، قال أبو محجن: وإذن لا أشربها أبدا.
كان هذا خبر درأ سعد الحد عن أبي محجن، وفي هذا الشأن نقل ابن حجر
بترجمة أبي محجن في كتابه الإصابة عن كتاب ابن فتحون (ت: 519 ه‍)، " التذييل
على استيعاب أبي عمر بن عبد البر " وقال:
" وقد عاب ابن فتحون أبا عمر على ما ذكره في قصة أبي محجن، أنه كان
منهمكا في الشراب - إلى قوله - وأنكر ابن فتحون من روى أن سعدا أبطل عنه الحد
وقال: [لا يظن هذا بسعد] ثم قال: [لكن له وجه حسن] ولم يذكره وكأنه
أراد بقوله لا يجلده في الخمر بشرط أضمره وهو: إن ثبت عليه أنه يشربها فوفقه الله
أن تاب توبة نصوحا فلم يعد إليها.... " (1)
هكذا يبحث أتباع مدرسة الخلفاء عما يرفع النقد عن الكبراء وهم الخلفاء و
الولاة وذووهم من الخلفاء الأوائل حتى معاوية ومروان بن الحكم ويزيد بن معاوية
وولاتهم الذين يسمونهم الكبراء أو كبراء الصحابة والتابعين. وبما أن سيف بن
عمر الزنديق عرف من أين تؤكل الكتف ووضع روايات موافقة لرغبات جميع
الطبقات بمدرسة الخلفاء مدى العصور وطلا رواياته بطلاء الدفاع عن الخلفاء و
ذويهم في ما انتقدوا عليه ونشر فضائلهم وتحت هذا الغطاء السميك استطاع أن
يخفي أهدافه في الطعن بالاسلام والاضرار به ونشر الخرافات الضارة بالعقائد
الاسلامية بين المسلمين وكذلك استطاع أن ينشر ويذيع بين الناس أن الاسلام
انتشر بحد السيف، استطاع سيف أن يصل إلى كل أهدافه في ما اختلق بدافع
زندقته، وسنورد أمثلة مما ذكرنا في ما يأتي، ومن أمثلة نشره الخرافات الضارة
بالعقيدة الاسلامية ما رواه في خبر الأسود العنسي المتنبئ وخبر مناجاة كسرى مع
الرسول (ص) عند الله كالآتي:

(1) الإصابة (ج 4 / 173 - 175).
267

أولا - قصة الأسود العنسي في روايات سيف
روى الطبري في قصة الأسود العنسي (1) عدة روايات عن سيف تتلخص في
ما يلي: أن الأسود لما ادعى النبوة وتغلب على اليمن وقتل ملكها شهر ابن باذان و
تزوج امرأته وأسند أمر الجيش إلى قيس بن عبد يغوث وأسند أمر الأبناء - وهم أبناء
الفرس باليمن - إلى فيروز وداذويه، كتب النبي (ص) إلى هؤلاء بقتال الأسود أما
مصادمة أو غيلة، فاتفقوا على اغتياله فأخبره شيطانه فأرسل إلى قيس وقال: يا قيس!
ما يقول الملك، قال قيس: " وما يقول؟ " قال: يقول: " عمدت إلى قيس فأكرمته
حتى إذا دخل منك كل مدخل، وصار في العز مثلك، مال ميل عدوك، وحاول
ملكك، وأضمر على الغدر! أنه يقول: يا أسود، يا أسود يا سوءة! يا سوءة! اقطف
قنته (2) وخذ من قيس أعلاه والا سلبك أو أخذ قنتك! " فقال قيس وحلف به و
كذب " وذي الخمار (3) لانت أعظم في نفسي وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي ".
قال الأسود: " ما أجفاك! أتكذب الملك؟! وعرفت الآن انك تائب مما اطلع عليه
منك " يعني ما اطلع عليه شيطانه الذي يسميه الملك.
وقال سيف: ثم خرج قيس وأخبر جماعته بما جرى له مع الأسود وتواطؤوا
على إنفاذ ما اتفقوا عليه من قتله، فدعا الأسود قيسا ثانية، وقال له: " ألم أخبرك
الحق وتخبرني الكذابة أنه يقول - يعني شيطانه الذي يسميه الملك -: يا سوءة!
يا سوءة! الا تقطع من قيس يده يقطع قنتك العليا " فقال له قيس: " ليس من الحق
أن أقتلك وأنت رسول الله فمر بي بما أحببت، فإما الخوف والفزع فأنا فيهما مخافة!
اقتلني! فموتة أهون علي من موتات أموتها كل يوم "، قال سيف: فرق له فأخرجه!
وقال دعا الأسود بمائة جزور بين بقرة وبعير، وخط خطا فأقيمت من وراء الخط،
وقام من دونها، فنحرها غير محبسة ولا معقلة، ما يقتحم الخط منها شئ، ثم
خلاها فجالت إلى أن زهقت، ونقل سيف عن الراوي أنه قال: " ما رأيت أمرا
كان أفظع منه، ولا يوما أوحش منه ".
قال سيف: وتواطؤوا مع زوجته على اغتياله - ليلا - فلما دخلوا عليه ليقتلوه بادره
فيروز، فأنذره شيطانه بمكان فيروز وأيقظه فلما أبطأ تكلم الشيطان على لسانه وهو
يغط في نومه وينظر إلى فيروز قال له: " مالي ولك يا فيروز " فدق فيروز رقبته وقتله.

(1) نسبة إلى عنس بن مذحج وهم حي من زيد بن كهلان بن سبأ ترجمتهم في أنساب ابن حزم، ص:
381.
(2) اقطف قنته أي اقطع رأسه، وقنة كل شئ أعلاه مثل القلة.
(3) كان الأسود يلقب ذا الخمار أو ذا الحمار.
268

قال: ثم دخل الباقون ليحتزوا رأسه فحركه شيطانه فاضطرب فلم يضبطوا
أمره حتى جلس اثنان على ظهره وأخذت المرأة شعره، فجعل يبربر بلسانه فاحتز
الآخر رقبته فخار كأشد خوار ثور سمع قط، فابتدر الحرس الباب، وقالوا: ما هذا؟
فقالت المرأة: النبي يوحى إليه فخمد... " الحديث.
روى هذا الخبر عن سيف كل من الطبري والذهبي في تاريخيهما وأخذها من
الطبري كل من ابن الأثير وابن كثير وابن خلدون غير أن الأخير أوردها بإيجاز.
دراسة خبر الأسود العنسي
أ - رواة الخبر:
روى سيف هذا الخبر في إحدى عشرة رواية رواها عن أربعة رواة اختلقهم وهم
كل من:
1 - سهل بن يوسف الخزرجي السلمي.
2 - عبيد بن صخر الخزرجي السلمي.
3 - المستنير بن يزيد النخعي.
4 - عروة بن غزية الدثيني.
هكذا تخيلهم سيف الزنديق غير أن الله لم يخلق رواة بهذه الأسماء وإنما
خلقهم سيف لرواياته.
ب - دراسة متن الخبر:
قد قارنا روايات سيف المختلقة في خبر الأسود العنسي بالروايات الصحيحة و
بينا اختلاقه الروايات والرواة في هذا الخبر في الجزء الثاني من عبد الله ابن سبأ.
ثانيا - خبر مناجاة كسرى مع الرسول عند الله في رواية سيف
روى سيف في قصة مسير يزدجرد إلى خراسان بعد واقعة جلولاء وقال:
" كان يزدجرد بن شهريار بن كسرى وهو يومئذ ملك فارس، لما انهزم أهل
جلولاء خرج يريد الري وكان ينام في محمله والبعير يسير به ولا يعرسون، فانتهوا
به إلى مخاضة وهو نائم في محمله فأنبهوه ليعلم ولئلا يفزع إذا خاض البعير، فعنف
وقال: بئسما صنعتم، والله لو تركتموني لعلمت ما مدة هذه الأمة، إني رأيت:
أني ومحمدا تناجينا عند الله، فقال له:
- أملكهم مائة سنة.
269

فقال: - زدني.
فقال: - عشرا ومائة سنة.
فقال: - زدني.
فقال: - عشرين ومائة سنة.
فقال: - لك.
وأنبهتموني، فلو تركتموني لعلمت ما مدة هذه الأمة... " (1).
دراسة خبر مناجاة كسرى والرسول (ص)
أ - دراسة رواة الخبر:
روى سيف أسطورة مناجاة كسرى والرسول (ص) عند الله عن مختلقاته من
الرواة الآتية أسماؤهم:
1 - محمد وقد تخيله محمد بن عبد الله بن سواد بن نويرة.
2 - المهلب وهو عنده المهلب بن عقبة الأسدي.
3 - عمرو وقد اختلق سيف راويين باسم عمرو، تخيل أحدهما عمرو بن ريان
والآخر عمرو بن رفيل، وبينا اختلاقه هذه الأسماء في الجزء الأول من " عبد الله
بن سبأ " و " خمسون ومائة صحابي مختلق ".
ب - دراسة متن الخبر:
درسنا متن الخبر في أول الجزء الأول من " خمسون ومائة صحابي مختلق " و
بينا زيفه ولا حاجة لإعادة البحث في هذه العجالة.
ماذا استهدف الزنديق من وضع هذين الخبرين:
إن الأسود الذي ادعى النبوة كان يخبر قيسا بكل ما ينويه مرة بعد أخرى ويقول
" قال الملك! " وكان الملك الذي يخبره هو الشيطان! وظهرت من الأسود
مدعي النبوة معجزة باهرة حين خط خطا أوقف وراءه مائة جزور بين بقرة وبعير وقام
من دونها ونحرها جميعا غير محبسة ولا معقلة ما يقتحم الخط منها شئ، ثم خلاها
فجالت إلى أن زهقت، وإن الراوي استعظم هذا الامر!
وقال في الخبر الثاني إن كسرى رأى في المنام أنه اجتمع مع الله ورسوله في
مؤتمر ثلاثي... الحديث.

(1) راجع مصادره في البحث الأول من البحوث التمهدية في الجزء الأول من " خمسون ومائة صحابي
مختلق ".
270

أليس مغزى الأسطورة الأولى إن نبي المسلمين ادعى النبوة وكان من يسميه
(الملك) يخبره بالغيب وتصدر منه المعجزات.
والأسود العنسي أيضا ادعى النبوة وكان من يسميه (الملك) يخبره بالغيب و
تظهر منه المعجزات، هل نشر الزنديق هذه الأسطورة دون أن يقصد إلقاء الشبهات
في أذهان المسلمين؟ وفي الأسطورة الثانية ألم يقصد الزنديق الاستهزاء برب المسلمين
ونبيهم حين جمعهم في مؤتمر واحد مع عدوهما يزدجرد ملك الفرس في ما رآه!!؟
هكذا نقل كبار العلماء عن سيف أساطير الخرافة وحشوا بها كتب التاريخ
الاسلامي وأصبحت تلك الأساطير جزءا من مصادر الدراسات الاسلامية، وكذلك
نشروا في كتب التاريخ الاسلامي ما أشاعه سيف الزنديق بأن الاسلام انتشر بحد
السيف، نظير الاخبار الآتية:
إشاعة الزنديق أن الاسلام انتشر بالسيف وإراقة الدماء
أشاع سيف في ما اختلق من أخبار حروب الردة والفتوح بأن الاسلام انتشر
على وجه الأرض بحد السيف وإراقة الدماء ومما اختلق باسم حروب الردة الأكاذيب
والتهويلات الآتية:
تهويلات وأكاذيب في ما رواها سيف عن أخبار حروب الردة:
مهد سيف لما أراد أن يذكر في حروب الردة من تهويلات بما روى في روايات
قصيرة له أوردها الطبري في أول أخبار الردة، قال سيف فيها:
كفرت الأرض وتضرمت نارا، وارتدت العرب من كل قبيلة خاصتها أو عامتها
إلا قريشا وثقيفا، ثم ذكر ارتدادا في غطفان، وامتناع هوازن من دفع الصدقة،
واجتماع عوام طي وأسد على طليحة، وارتداد خواص بني سليم، وقال: " وكذلك
سائر الناس بكل مكان " وقال: وقدمت كتب - أمراء النبي من كل مكان بانتقاض
القبائل خاصتها، أو عامتها. ".
ونقل الخبر كذلك ابن الأثير وابن خلدون بتاريخيهما ونقله ابن كثير بالمعنى
حيث قال في تاريخه (1):
" ارتدت العرب عند وفاة رسول الله (ص) ما خلا أهل المسجدين مكة والمدينة
ثم ذكر سيف في ما اختلقه من حروب الردة كيف أرجع المرتدين إلى الاسلام
271

بحد السيف كما زعمه الزنديق في رواياته. ومن أمثلة ما روى في حروب الردة ما
سماها بحرب الأخابث كالآتي:
ردة عك والأشعرون وخبر طاهر ربيب رسول الله في روايات سيف
وقال سيف في خبر الأخابث من عك:
كان أول من انتفض بتهامة العك والأشعرون لما بلغهم نبأ وفاة النبي تجمعوا
وأقاموا على الأعلاب: طريق الساحل، فكتب بذلك طاهر إلى أبي بكر، ثم سار
إليهم مع مسروق العكي حتى التقى بهم، فاقتتلوا، فهزمهم الله وقتلوهم كل قتلة،
وأنتنت السبل لقتلهم، وكان مقتلهم فتحا عظيما.
وأجاب أبو بكر الطاهر - من قبل أن يأتيه كتابه بالفتح -: " بلغني كتابك
تخبرني فيه مسيرك واستنفارك مسروقا وقومه إلى الأخابث بالأعلاب، فقد أصبت،
فعاجلوا هذا الضرب ولا ترفهوا عنهم، وأقيموا بالأعلاب حتى يأتيكم أمري "
فسميت تلك الجموع ومن تأشب إليهم إلى اليوم الأخابث، وسمي ذلك الطريق
طريق الأخابث، وقال في ذلك طاهر بن أبي هالة:
ووالله لولا الله لا شئ غيره * لما فض بالأجراع جمع العثاعث
فلم ترعيني مثل يوم رأيته * بجنب صحار في جموع الأخابث
قتلناهم ما بين قنة خامر * إلى القيعة الحمراء ذات النبائث
وفئنا بأموال الأخابث عنوة * جهارا ولم نحفل بتلك الهثاهث
قال: وعسكر طاهر على طريق الأخابث، ومعه مسروق في عك ينتظر أمر
أبي بكر.
أدار سيف خبر ردة عك والأشعريين على من تخيله طاهر بن أبي هالة، فمن
هو طاهر في أحاديث سيف؟
طاهر في أحاديث سيف
تخيل سيف طاهر ابن أبي هالة التميمي من أم المؤمنين خديجة وربيب رسول
الله (ص) وعامله في حياته، وذكر من أخباره في عصر أبي بكر إبادته للمرتدين من
عك والأشعريين، ومن أحاديث سيف استخرجوا ترجمته وذكروه في عداد الصحابة
في كل من الاستيعاب ومعجم الصحابة وأسد الغابة وتجريد أسماء الصحابة
272

والإصابة وغيرها، وكذلك ترجم في معجم الشعراء وسير النبلاء.
وذكر خبره في تواريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير وابن خلدون ومير خواند.
واعتمد (شرف الدين) على هذه المصادر وذكر اسم طاهر في عداد أسماء
الشيعة من أصحاب علي في كتابه (الفصول المهمة).
واعتمادا على أخبار سيف ترجم البلدانيون الأعلاب والأخابث في عداد الأماكن
مثل الحموي في معجم البلدان و عبد المؤمن في مراصد الاطلاع.
مناقشة الخبر
روى سيف أخبار طاهر في خمس رواياته في أسنادها خمس رواة اختلقهم
باسم سهل عن أبيه يوسف السلمي وعبيد بن صخر بن لوذان وجرير بن يزيد
الجعفي وأبي عمرو مولى طلحة.
ولم يكن وجود لردة عك والأشعريين.
ولم يخلق الله أرضا باسم الأعلاب والأخابث
ولا صحابيا شيعيا ربيبا لرسول الله (ص) من أم المؤمنين خديجة اسمه طاهر
بن أبي هالة.
ولم تقع حرب الإبادة لعك والأشعريين المرتدين كما تخيله سيف ولا الرواة الذين
روى عنهم أخبار طاهر وردة عك والأشعريين والأخابث.
اختلق سيف الردة وحربها والأراضي والشعر وكتاب أبي بكر والصحابي والرواة
ووصل من خلالها إلى هدفه أن الناس ارتدوا بعد رسول الله (ص) عامة عدا قريش
وثقيف وهكذا حاربهم المسلمون حرب إبادة، وقد ناقشنا كل هذه الأخبار وأسنادها
في ترجمة من سماه بطاهر بن أبي هالة في الجزء الأول من كتاب (خمسون ومائة
صحابي مختلق).
كانت هذه إحدى حروب الردة التي اختلقها سيف ومما اختلق من حروب الردة
واختلق أخبارها، ما سماها بردة طي وردة أم زمل وردة أهل عمان والمهرة وردة اليمن
الأولى وردة اليمن الثانية.
اختلق ارتداد تلك القبائل والبلاد وحروبها وحروب ردة أخرى زعم أنها
وقعت في عصر أبي بكر، كذب فيها جميعا. وكذب وافترى في ذكر عدد من قتل في
تلك المعارك وذكر تهاويل سود بزعمه وجه التاريخ الاسلامي الناصع، وكذلك فعل
في أخبار الفتوح حيث ذكر معارك لم تقع، وقتل وإبادة من قبل جيوش المسلمين لم
يكن له وجود في التاريخ بتاتا كالآتي ذكرها.
273

فتح أليس وتخريب مدينة أمغيشيا في أحاديث سيف
روى الطبري عن سيف في خبر فتح أليس وأمغيشيا من فتوح سواد العراق وقال
في خبر أليس:
فاقتتلوا قتالا شديدا والمشركون يزيدهم كلبا وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن
جاذويه فصابروا المسلمين للذي كان في علم الله أن يصيرهم إليه وحرب المسلمون
عليهم وقال خالد اللهم إن لك علي إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدا قدرنا
عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم، ثم أن الله عز وجل كشفهم للمسلمين ومنحهم
أكتافهم فأمر خالد مناديه فنادى في الناس الأسر الأسر لا تقتلوا إلا من امتنع،
فأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين يساقون سوقا وقد وكل بهم رجالا يضربون
أعناقهم في النهر ففعل ذلك بهم يوما وليلة وطلبوهم الغد وبعد الغد حتى انتهوا إلى
النهرين ومقدار ذلك من كل جوانب أليس فضرب أعناقهم وقال له القعقاع وأشباه
له لو أنك قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم إن الدماء لا تزيد على أن ترقرق منذ
نهيت عن السيلان ونهيت الأرض عن نشف الدماء فأرسل عليها الماء، تبر بيمينك
وقد كان صد الماء عن النهر فأعاده فجرى دما عبيطا فسمي نهر الدم لذلك الشأن
إلى اليوم، وقال آخرون منهم بشير بن الخصاصية قال وبلغنا أن الأرض لما نشفت
دم ابن آدم نهيت عن نشف الدماء ونهي الدم عن السيلان الا مقدار برده.
وقال: كانت على النهر أرحاء فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر ثمانية
عشر ألفا أو يزيدون ثلاثة أيام...
وقال بعده في خبر هدم مدينة أمغيشيا:
لما فرغ خالد من وقعة أليس نهض فأتى أمغيشيا وقد أعجلهم عما فيها وقد جلا
أهلها وتفرقوا في السواد فأمر خالد بهدم أمغيشيا وكل شئ كان في حيزها وكانت
مصرا كالحيرة وكانت أليس من مسالحها فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله قط.
اختلق سيف جميع هذه الأخبار بتفاصيلها مع رواتها ولنتأمل في ما وضع
واختلق في الخبرين.
نظرة تأمل في رواية سيف عن أليس ومدينة أمغيشيا
قال سيف:
في وقعة أليس آلى خالد أن يجري نهرهم بدمائهم فلما غلب غير مجرى الماء
من نهرهم واستأسر فلول الجيش الفارسي والمدنيين من أهل الأرياف من كل جوانب
274

أليس مسافة يومين وأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين ووكل بهم رجالا يضربون
أعناقهم على النهر يوما وليلة والدم يتشف فقال له القعقاع - الصحابي الذي اختلقه
سيف - وأشباه له لو قتلت أهل الأرض لم تجر دماءهم، أرسل عليها الماء تبر يمينك
فأرسل عليها الماء فأعاده فجرى النهر دما عبيطا فسمي نهر الدم لذلك إلى اليوم.
ثم قال ذهب خالد إلى أمغيشيا وكانت مصرا كالحيرة فأمر بهدم أمغيشيا وكل شئ كان
في حيزها وبلغ عدد قتلاهم سبعين ألفا.
أما هدم مدينة أمغيشيا التي اختلق سيف المدينة وحيزها وخبر هدمها، فقد
كان له نظير في التاريخ من قبل طغاة مثل هولاكو وجنكيز وكذلك قتل الاسرى غير
أن سيفا نسب إلى خالد ما لم يجر له نظير في تاريخ الحروب وهو أنه أجرى نهرهم
بدمائهم وأنه سمي نهر الدم إلى اليوم.
اختلق سيف كل هذه الأخبار واختلق أخبار معارك الثني والمذار والمقر وفم
فرات بادقلى وحرب المصيخ وقتلهم الكفار يومذاك حتى امتلأ الفضاء من قتلاهم،
فما شبهوهم الا بغنم مصرعة وكذلك معركة الثني والزميل والفراض وقتل مائة
ألف من الروم فيها.
اختلق سيف جميع أخبار هذه الحروب ونظائرها وانتشرت في تواريخ الطبري
وابن الأثير وابن كثير وابن خلدون وغيرهم ولا حقيقة لواحدة منها وقد ناقشنا أخبارها
وأسنادها في بحث (انتشار الاسلام بالسيف والدم في حديث سيف) من كتاب عبد
الله بن سبأ الجزء الثاني.
ألا يحق لخصوم الاسلام مع هذا التاريخ المزيف أن يقولوا: " ان الاسلام
انتشر بحد السيف ".
وهل يشك أحد بعد هذا من هدف سيف في وضع هذا التاريخ وما نواه من
سوء للاسلام؟! وما الدافع لسيف إلى كل هذا الدس والوضع إن لم تكن الزندقة
التي وصفه العلماء بها؟!
وأخيرا هل خفي كل هذا الكذب والافتراء على إمام المؤرخين الطبري؟ و
علامتهم ابن الأثير؟ ومكثرهم ابن كثير؟ وفيلسوفهم ابن خلدون؟ وعلى عشرات
من أمثالهم؟ كابن عبد البر وابن عساكر والذهبي وابن حجر؟ كلا فإنهم هم الذين
وصفوه بالكذب ورموه بالزندقة! وقد ذكر الطبري وابن الأثير وابن خلدون في
تواريخهم في وقعة ذات السلاسل:
275

أن ما ذكره سيف فيها خلاف ما يعرفه أهل السير! إذا فما الذي دعاهم إلى
اعتماد روايات سيف دون غيرها مع علمهم بكذبه وزندقته، إن هو إلا أن سيفا حلى
مفترياته بإطار من نشر مناقب ذوي السلطة من الصحابة فبذل العلماء وسعهم في
نشرها وترويجها. مع علمهم بكذبها، ففي فتوح العراق - مثلا - أورد مفترياته
تحت شعار مناقب خالد بن الوليد، فقد وضع على لسان أبي بكر أنه قال: بعد
معركة أليس وهدم مدينة أمغيشيا: " يا معشر قريش عدا أسدكم على الأسد فغلبه
على خراذيله، أعجزت النساء أن ينشئن مثل خالد ".
كما زين ما اختلق في معارك الردة بإطار من مناقب الخليفة أبي بكر، وكذلك
فعل في ما روى واختلق عن فتوح الشام وإيران على عهد عمر، والفتن في عصر عثمان،
وواقعة الجمل في عصر علي، فإنه زين جميعها بإطار من مناقب ذوي السلطة
والدفاع عنهم في ما انتقدوا عليها وبذلك راجت روايات سيف وشاعت أكاذيبه و
نسيت الروايات الصحيحة وأهملت على أنه ليس في ما وضعه سيف واختلق - على الأغلب
- فضيلة للصحابة بل فيه مذمة لهم، ولست أدري كيف خفي على هؤلاء
أن جلب خالد عشرات الألوف من البشر وذبحهم على النهر ليجري نهرهم بدمائهم
ليست فضيلة له، ولا هدمه مدينة أمغيشيا ولا نظائرها إلا على رأي الزنادقة في الحياة
من أنها سجن للنور وأنه ينبغي السعي في إنهاء الحياة لانقاذ النور من سجنه (1)
ومهما يكن من أمر فإن بضاعة سيف المزجاة إنما راجت لأنه طلاها بطلاء من
مناقب الكبراء وإن حرص هؤلاء على نشر فضائل ذوي السلطة والدفاع عنهم أدى
بهم إلى نشر ما في ظاهره فضيلة لهم وإن لم تكن لهم في واقعه فضيلة! والأنكى من
ذلك أن سيفا لم يكتف باختلاق روايات في ظاهرها مناقب للصحابة من ذوي السلطة
ويدس فيها ما شاء لهدم الاسلام بل اختلق صحابة للرسول لم يخلقهم الله! ووضع
لهم ما شاء من كرامة وفتوح وشعر ومناقب كما شاء! وذلك معرفة منه بأن هؤلاء
يتمسكون بكل ما فيه مناقب لأصحاب الحكم كيف ما كان، فوضع واختلق ما شاء
لهدم الاسلام! اعتمادا منه على هذا الخلق عند هؤلاء! وضحكا منه على ذقون
المسلمين! ولم يخيب هؤلاء ظن سيف، وإنما روجوا مفترياته زهاء ثلاثة عشر قرنا!.
أوردنا إلى هنا أمثلة مما اختلقها سيف للطعن بالاسلام وأطرها بإطار مناقب
كبراء الصحابة والتابعين أي ذوي السلطة منهم، وفي ما يأتي ندرس أمثلة أخرى منها
مما أطرها بإطار حل معضلة مدرسة الخلافة مدى القرون، كما سيأتي بيانها.

(1) راجع بحث الزندقة والزنادقة من البحوث التمهدية من كتابنا خمسون ومائة صحابي مختلق.
276

كانت شهرة الإمام علي بالوصي معضلة مدرسة الخلافة مدى القرون
رأينا في ما مر بنا كيف دارت المعركة الكلامية بين المدرستين حول نص الوصية
مدى سبعمائة سنة منذ عهد أم المؤمنين عائشة حتى عصر ابن كثير، لان نص الوصية
كان يشخص قصد الرسول (ص) في سائر النصوص التي نص بها على حق آله في
الحكم بدء من الإمام علي إلى الإمام المهدي، مثل حديث الغدير وحديث ان عليا
ولي الأمر بعد الرسول (ص) ووارثه إلى غيرها، بينما كانت مدرسة الخلفاء تؤول تلك
النصوص إلى مدلول الفضيلة لآل الرسول (ص) ومما يوضح ذلك أن علماء أهل
الكتاب - مثلا - عندما كانوا يتكلمون عن وصي خاتم الأنبياء ما كانوا يعنون غير ولي
عهده من بعده وإن أنصار الإمام علي عندما كانوا يذكرون الوصية في خطبهم
وأشعارهم يحتجون بها على حق الإمام علي في الحكم مثل أبي ذر على عهد عثمان
ومالك الأشتر يوم بيعة الإمام علي ومحمد بن أبي بكر في كتابه لمعاوية والمهاجرين
والأنصار في أشعارهم في الجمل وصفين والإمام الحسن عندما خطب ليبايع له
والإمام الحسين عندما خطب على جيش الخلافة بكربلاء، كلهم كانوا يحتجون
بالوصية لأنها كانت تشير إلى جميع النصوص التي وردت بحقهم وتشملها فكأنهم
في احتجاجهم بالوصية يدلون بجميع تلك النصوص وإن قيام العلويين المطالبين
بالحكم لم تنته باستشهاد الإمام الحسين وإنما استمرت ثوراتهم على الخلفاء حتى عصر
العباسيين وكان في مقدمة ما يضايق مدرسة الخلفاء في كل تلكم القرون في المعركة
السياسية شهرة الإمام علي بأنه وصي النبي لما كان يحتج بها المطالبون بالحكم من
العلويين باعتبار أنها تدل كما ذكرنا آنفا على نص النبي (ص) بحق الإمام علي و
ولده في الحكم، ومن ثم لما أراد المأمون تهدئة ثورات العلويين تظاهر بالاستدلال
بالوصية وولى الإمام الرضا للعهد من بعده وبذلك هدأ العلويون في كل مكان و
جلب رؤوسهم إلى عاصمته وقضى على جلهم بالسم وانتصر عليهم. إذا فإن شهرة
الإمام علي بالوصية كانت معضلة مدرسة الخلفاء مدى القرون فكيف حل سيف
هذه المعضلة.
سيف يضع حلا لمعضلة مدرسة الخلفاء
مر بنا كيف كانت مدرسة الخلفاء تعمد إلى كتمان كل ما فيه ذكر للوصية حذفا
وتحريفا وطعنا برواة الحديث والمحتجين بها وتأويل للنصوص الصريحة للوصية
ولم يبلغ أحدهم شأو سيف في ما وضع من حل لهذه المشكلة العويصة بتحريفه
الحقائق إلى ما يناقضها في ما اختلقها من روايات نذكرها في ما يأتي.
277

أ - روى الطبري في أول أخبار سنة خمس وثلاثين للهجرة الرواية الآتية:
عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي قال: كان عبد الله بن سبأ يهوديا من
أهل صنعاء، أمه سوداء فأسلم زمان عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول
ضلالتهم فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام فلم يقدر على ما يريد عند أحد
من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم فقال لهم في ما يقول: لعجب
ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمدا يرجع وقد قال الله عز وجل: إن
الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى، قال:
فقبل ذلك عنه فوضع لهم الرجعة فتكلموا فيها ثم قال لهم بعد ذلك إنه كان ألف نبي
ولكل نبي وصي وكان علي وصي محمد، ثم قال محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم
الأوصياء ثم قال بعد ذلك من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله (ص) ووثب على
وصي رسول الله (ص) وتناول أمر الأمة ثم قال لهم بعد ذلك إن عثمان أخذها بغير
حق وهذا وصي رسول الله (ص) فانهضوا في هذا الامر فحركوه وابدؤا بالطعن على
أمرائكم وأظهروا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى
هذا الامر، فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر
إلى ما عليه رأيهم وأظهروا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلوا يكتبون إلى
الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبوهم إخوانهم بمثل ذلك ويكتب
أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرأه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في
أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة وهم يريدون غير ما
يظهرون ويسرون غير ما يبدون فيقول أهل كل مصر إنا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء،
إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار فقالوا إنا لفي عافية مما فيه
الناس وجامعه محمد وطلحة من هذا المكان، قالوا فأتوا عثمان فقالوا: يا أمير
المؤمنين أيأتيك عن الناس الذي يأتينا، قال لا والله ما جاءني إلا السلامة، قالوا
فإنا قد أتانا وأخبروه بالذي أسقطوا إليهم، قال فأنتم شركائي وشهود المؤمنين،
فأشيروا علي، قالوا نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا
إليك بأخبارهم، فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة وأرسل أسامة بن زيد إلى
البصرة وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام وفرق رجالا
سواهم، فرجعوا جميعا قبل عمار فقالوا أيها الناس ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام
المسلمين ولا عوامهم وقالوا جميعا الامر أمر المسلمين إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم
ويقومون عليهم واستبطأ الناس عمارا حتى ظنوا أنه قد اغتيل فلم يفجأهم إلا كتاب
من عبد الله بن سعد بن أبي سرح يخبرهم أن عمارا قد استماله قوم بمصر وقد انقطعوا
278

إليه، منهم عبد الله بن السوداء وخالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر.
ب - روى الذهبي في أوائل ذكره أخبار سنة خمس وثلاثين هجرية الحديثين
الآتيين.
أولا - " قال سيف بن عمر عن عطية عن يزيد الفقعسي قال لما خرج ابن
السوداء إلى مصر نزل على كنانة بن بشر مرة وعلى سودان بن حمران مرة، وانقطع
إلى الغافقي فشجه الغافقي فكلمه، وأطاف به خالد بن ملجم و عبد الله بن رزين
وأشباه لهم فصرف لهم القول فلم يجدهم يجيبون إلى الوصية... " إلى آخر الحديث
الطويل.
ثانيا - روى بعد هذا الحديث خبر عمار في مصر كالآتي:
" قال سيف عن مبشر وسهل بن يوسف عن محمد بن سعد بن أبي وقاص،
قال قدم عمار بن ياسر من مصر وأبى يسأل، فبلغه فبعثني إليه أدعوه فقام معي وعليه
عمامة وسخة وجبة فراء فلما دخل على سعد قال له ويحك يا أبا اليقظان إن كنت فينا
لمن أهل الخير فما الذي بلغني عنك من سعيك في فساد بين المسلمين والتألب على
أمير المؤمنين أمعك عقلك أم لا، فأهوى عمار إلى عمامته وغضب فنزعها وقال خلعت
عثمان كما خلعت عمامتي هذه، فقال سعد إنا لله وإنا إليه راجعون، ويحك حين
كبرت سنك ورق عظمك ونفد عمرك خلعت ربقة الاسلام من عنقك وخرجت من
الدين عريانا، فقام عمار مغضبا موليا وهو يقول أعوذ بربي من فتنة سعد، فقال سعد
ألا في الفتنة سقطوا، اللهم زد عثمان بعفوه وحلمه عندك درجات، حتى خرج عمار
من الباب فأقبل علي سعد يبكي حتى أخضل لحيته وقال من يأمن الفتنة، يا بني
لا يخرجن منك ما سمعت منه فإنه من الأمانة وإني أكره أن يتعلق به الناس عليه
يتناولونه وقد قال رسول الله (ص) الحق مع عمار ما لم تغلب عليه ولهة الكبر، فقد
وله وخرف. وممن قام على عثمان، محمد بن أبي بكر الصديق، فسأل سالم بن عبد
الله في ما قيل عن سبب خروج محمد، قال الغضب والطمع وكان من الاسلام
بمكان وغره أقوام فطمع وكانت له دالة ولزمه حق فأخذه عثمان من ظهره. "
ج - روى الطبري في أخبار سنة ثلاثين أمر أبي ذر كالآتي:
عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي، قال لما ورد ابن السوداء الشام لقى
أبا ذر فقال يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول المال مال الله، ألا أن كل شئ لله
كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين فأتاه أبو ذر فقال ما يدعوك
إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال يرحمك الله يا أبا ذر ألسنا عباد الله والمال
ماله والخلق خلقه والامر أمره، قال فلا تقله، قال فإني لا أقول إنه ليس لله ولكن
279

سأقول مال المسلمين، قال وأتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له من أنت أظنك والله
يهوديا فأتى عبادة بن الصامت فتعلق به فأتى به معاوية فقال هذا والله الذي بعث
عليك أبا ذر، وقام أبو ذر بالشام وجعل يقول يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء، بشر
الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها
جباههم وجنوبهم وظهورهم فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء
وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس، فكتب معاوية إلى عثمان: إن أبا ذر قد
أعضل بي وقد كان من أمره كيت وكيت فكتب إليه عثمان إن الفتنة قد أخرجت
خطمها وعينها فلم يبق إلا أن تثب فلا تنكأ القرح وجهز أبا ذر إلي وابعث معه دليلا
وزوده وارفق به وكفكف الناس ونفسك ما استطعت فإنما تمسك ما استمسكت،
فبعث بأبي ذر ومعه دليل فلما قدم المدينة ورأي المجالس في أصل سلع قال بشر أهل
المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار، ودخل على عثمان فقال يا أبا ذر ما لأهل الشام
يشكون ذربك فأخبره أنه لا ينبغي أن يقال مال الله ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا
، فقال يا أبا ذر علي أن أقضي ما علي وآخذ ما على الرعية ولا أجبرهم على الزهد وأن
أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد، قال فتأذن لي في الخروج فإن المدينة ليست لي بدار،
فقال أو تستبدل بها إلا شرا منها، قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
أخرج منها إذا بلغ البناء سلعا قال فانفذ بما أمرك به، قال فخرج حتى نزل الربذة
فخط بها مسجدا وأقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين وأرسل إليه أن تعاهد
المدينة حتى لا ترتد أعرابيا ففعل.
دراسة روايات سيف في أخبار الفتن
اختلق سيف هذه الأخبار ونظائرها في الدفاع عن الخلفاء الأمويين عثمان
ومعاوية ومروان والولاة: الوليد وسعد بن أبي سرح وغيرهم من كبراء بني أمية فراجعت
قصصه المختلقة في أخبار تلك الفتن وانتشرت في مصادر الدراسات الاسلامية
انتشار النار في الهشيم كما برهنا على ذلك في أول الجزء الأول من عبد الله بن سبأ،
وأثبتنا الصحيح من أخبار تلك الفتن في فصل " في عصر الصهرين " وفصل " مع
معاوية " من كتابنا أحاديث أم المؤمني عائشة، ج 1، ونشير في ما يأتي إلى أمثلة من
أنواع الاختلاق والتحريف في روايات سيف السابقة.
الاختلاق والتحريف في روايات سيف الآنفة الذكر
في أحاديث سيف السابقة أمثلة من أنواع التحريف والاختلاق عند سيف
كالآتي:
280

أولا - أمثلة من الاختلاق في الروايات السابقة:
أ - اختلق سيف رواة الحديث: عطية ومبشر وسهل بن يوسف ويزيد الفقعسي
وهذا بيانه:
أما عطية، فقد تخيله سيف ابن بلال بن أبي بلال، هلال الضبي واختلق له
ابنا سماه الصعب وأسند إليهم رواية بعض مختلقاته من الروايات، تارة يروي الابن
منهم عن أبيه، وتارة يروي عن غيره. درسناهم وأحصينا الروايات التي أسندها
سيف إليهم في كتابنا " رواة مختلقون " وقارنا بين بعض ما أسند إليهم سيف من
روايات في ترجمة القعقاع الصحابي المختلق بكتابنا " خمسون ومائة صحابي مختلق
وفي خبر العلاء بن الحضرمي بكتاب عبد الله بن سبأ ج (1).
وسهل بن يوسف تخيله سيف نسبهم هكذا: سهل بن يوسف بن سهل بن
مالك الأنصاري، وقد ترجمناهم وأحصينا روايات سيف عنهم في كتاب (رواة
مختلقون) ودرسنا روايات سيف عنهم في ترجمة القعقاع بكتاب خمسون ومائة
صحابي مختلق.
ومبشر تخيله مبشر بن فضيل درسناه ودرسنا رواية سيف عنه في خبر السقيفة
بكتابنا عبد الله بن سبأ، ج (1).
ويزيد الفقعسي لم نجد له ذكرا في ما بحثنا من كتب الحديث والسير والتاريخ
والأدب والأنساب والطبقات وتراجم الرجال عدا خمس روايات لسيف في تاريخ
الطبري ورواية واحدة له في تاريخ الاسلام للذهبي وكأن الله لم يخلقه الا ليروي
سيف عنه ولذلك اعتبرناه من مختلقات سيف من الرواة.
ب - اختلق سيف، الغافقي وغيره، في متون الأحاديث السابقة ونترك إحصاء
ما اختلق فيها والبرهنة عليها، لئلا يطول بنا الكلام.
واختلق في متون الأحاديث السابقة أيضا الاخبار الآتية:
أ - قصة عبد الله بن سبأ في تلك الفتن ويكفي لمعرفة ما اختلقه مقارنتها بالأخبار الصحيحة
التي أوردناها في فصلي (في عصر الصهرين) و (مع معاوية) من كتاب
أحاديث عائشة، ج (1).
ب - من ضمن هذه الأخبار المختلقة متابعة الصحابيين عمار وأبي ذر لعبد الله
بن سبأ الذي تخيله يهوديا من أهل اليمن... وألحق بهما في متابعته عبد الله بن
سبأ، صحابة وتابعين آخرين وسمى جميعهم بالسبأية.
ج - اختلق خبر إرسال الخليفة عثمان رجالا إلى الأمصار لتحقيق ما تصل إليه
من الشكاوى، وتخيلهم هكذا: محمد بن مسلمة إلى الكوفة وأسامة بن زيد إلى
281

البصرة وعمار بن ياسر إلى مصر و عبد الله بن عمر إلى الشام، وإن جميعهم رجعوا
بخبرون عن رضا الناس عن ولاتهم ما عدا عمار بن ياسر الذي تبع عبد الله بن سبأ
اليهودي وبقي في أرض مصر يفسد فيها.
اختلق جميع تلك الأخبار بتفاصيلها سيف ولم يرد ذكر منها عند أي واحد من
المؤرخين غيره والخبر الصحيح في ذلك ما ذكرناه في أحاديث عائشة عن أنساب الأشراف
للبلاذري وغيره.
د - اختلق خبر أبي ذر مع معاوية وحرفه والروايات الصحيحة في خبره - أيضا -
ما أوردناه في كتاب أحاديث عائشة.
ه‍ اختلق غيرها مثل المكاتبات التي تخيل أنها جرت بين الخليفة عثمان وعماله
وغير ذلك.
أما التحريف في تلكم الروايات، فكالآتي:
ثانيا - أمثلة من التحريف في الروايات السابقة:
أ - تحريف في الأسماء:
حرف اسم عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي و عبد الله بن وهب السبائي
من رؤساء الخوارج في حرب النهروان وسماهما خالد بن ملجم و عبد الله بن سبأ كما
برهنا على ذلك في فصل تصحيف وتحريف من كتاب عبد الله بن سبأ ج 2.
ب - تحريف في الاخبار مثل:
تحريفه خبر عبادة بن الصامت ومعاوية والصحيح منه ما أوردناه في فصل (مع
معاوية) من كتاب أحاديث عائشة.
وتحريفه خبر القول بالرجعة وقوله: إن ابن سبأ اخترعه، ويطول بنا البحث عن
أدلته في الكتاب والسنة، ونقتصر على ايراد خبر واحد كالآتي:
لما توفي رسول الله (ص) كان الصحابي أبو بكر بمنزلة في السنح، وأخذ
الصحابي عمر يقول: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي. وإن رسول
الله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين
ليلة ثم رجع بعد أن قيل مات، والله ليرجعن رسول الله (1).
وتحريفه خبر القول بالوصية ونسبته إلى ابن سبأ اليهودي وقد مر بنا البحوث
عنها في ما سبق.
وتحريفه رواية رسول الله (ص) في حق عمار بقوله: " الحق مع عمار ما لم

(1) راجع تفصيل الخبر في فصل وفاة الرسول (ص) من كتاب عبد الله بن سبأ، ج 1.
282

تغلب عليه ولهة الكبر " وإن سعدا قال إن عمارا وله وخرف، بينا قال رسول الله (ص)
في حقه الحديث الآتي:
عن عبد الله بن مسعود، قال قال رسول الله " إذا اختلف الناس كان ابن
سمية مع الحق " (1).
وفي طبقات ابن سعد (2): قال الإمام علي في رثاء عمار: " إن عمارا مع الحق
والحق معه، يدور عمار مع الحق أينما دار ".
إن سيف بن عمر حرف هذه الأحاديث في حق عمار وزاد فيه: " ما لم تغلب عليه
ولهة الكبر ".
ومن حديث رسول الله في عمار ما رواه ابن هشام في خبر بناء مسجد
الرسول (ص) أن رجلا تعرض لعمار، فقال رسول الله " ما لهم ولعمار يدعوهم إلى
الجنة ويدعونه إلى النار، إن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفي، فإذا بلغ ذلك من الرجل
فلم يستبق فاجتنبوه "، روى الحديث ابن هشام ولم يذكر اسم الرجل الذي تعرض
لعمار. وذكر أبو ذر في شرح سيرة ابن هشام أن هذا الرجل هو عثمان بن عفان،
وتفصيل الخبر بكتاب أحاديث عائشة، فصل (في عصر الصهرين).
أما أبو ذر فقد قال رسول الله (ص) فيه: " ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء
أصدق لهجة من أبي ذر " (3).
مقارنة خبر سيف في الفتن بأخبار غيره
قال الذهبي في تاريخه (4) في خبر الفتن على عهد عثمان:
" عن الزهري قال ولي عثمان فعمل ست سنين لا ينقم عليه الناس شيئا وإنه
لأحب إليهم من عمر لان عمر كان شديدا عليهم فلما وليهم عثمان لان لهم و
وصلهم، ثم إنه تواني في أمرهم واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الست الأواخر وكتب
لمروان بخمس مصر أو بخمس أفريقية وآثر أقرباءه بالمال وتأول في ذلك الصلة التي
أمر الله بها واتخذ الأموال واستسلف من بيت المال، وقال إن أبا بكر وعمر تركا من
ذلك ما هو لهما وإني أخذته فقسمته في أقربائي، فأنكر الناس عليه ذلك. قلت ومما

(1) راجع تاريخ الذهبي، ج 2 / 179 وتاريخ ابن كثير ج 7 / 270.
(2) ط. بيروت، ج 3 / 262.
(3) ابن ماجة، المقدمة، الباب 21. وسنن الترمذي، كتاب المناقب. ومسند أحمد 2 / 163 و 175 و 223
و 5 / 351 و 356 و 6 / 442. وطبقات ابن سعد، ط. أروبا، ج 4 / ق 1 / 168.
(4) ج 2 / 122.
283

نقموا عليه أنه عزل عمير بن سعد عن حمص وكان صالحا زاهدا، وجمع الشام
لمعاوية، ونزع عمرو بن العاص عن مصر، وأمر ابن أبي سرح عليها، ونزع أبا موسى
الأشعري عن البصرة وأمر عليها عبد الله بن عامر، ونزع المغيرة بن شعبة (1) عن
الكوفة وأمر عليها سعيد بن العاص " وقال: " دعا عثمان ناسا من الصحابة فيهم عمار
فقال إني سائلكم وأحب أن تصدقوني: نشدتكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يؤثر قريشا على سائر الناس ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟
فسكتوا، فقال: لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوها " (2)
لا يسع المجال لذكر ما فعله الولاة والامراء من بني أمية في السنوات الست التي
ذكروها في مصر والشام والكوفة والبصرة والمدينة وما جرى بينه وبين أبرار الصحابة
والتابعين، وإنما نقتصر على ذكر بعض ما كان من أمر أبي ذر خاصة معهم:
أبو ذر في موسم الحج بمنى
عن أبي كثير عن أبيه، " قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى وقد
اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال: أولم تنه عن الفتيا،
فرقع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت علي، لو وضعتم الصمصامة على هذه - وأشار إلى
قفاه - ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله (ص) قبل أن تجيزوا علي
لانفذتها " (3).
اختزل هذا الخبر البخاري في صحيحه وقال:
" قال أبو ذر لو وضعتم الصمصامة على هذه - وأشار إلى قفاه - ثم ظننت أني
أنفذ كلمة سمعتها من النبي (ص) قبل أن تجيزوا علي لانفذتها " (4).
وفي شرحه من فتح الباري قال ابن حجر: " إن الذي خاطبه رجل من قريش
والذي نهاه عثمان (رض) " (5)
وقال: (ونكر " كلمة ": ليشمل القليل والكثير، والمراد به يبلغ ما تحمله في كل
حال، ولا ينتهي عن ذلك ولو أشرف على القتل). انتهى كلام شارح البخاري وفسر
في ما قال كلام أبي ذر بأنه أراد أنه سيبلغ ما سمعه عن رسول الله (ص) وإن كانت

(1) في النسخة: المغيرة بن شعبة خطأ وإنما نزع سعد بن أبي وقاص.
(2) قال المؤلف: ولكن مفاتيح بيوت أموال المسلمين كانت بيده.
(3) سنن الدارمي ج 1 / 137، وطبقات ابن سعد، ج 2 / 354.
(4) كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل، ج 1 / 16.
(5) ج 1 / 170 - 171.
284

كلمة واحدة ولا ينتهي عن ذلك ولو أشرف على القتل.
وفي تذكرة الحفاظ للذهبي: " وعلى رأسه فتى من قريش، فقال: أما نهاك أمير
المؤمنين عن الفتيا... " (1) الحديث.
أبو ذر في بيت الله الحرام
في مستدرك الحاكم (2) بسنده عن حنش الكناني، قال سمعت أبا ذر يقول وهو
آخذ بباب الكعبة: أيها الناس من عرفني فأنا من عرفتم ومن أنكرني فأنا أبو ذر،
سمعت رسول الله يقول: " مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف
عنها غرق ".
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم (3).
أبو ذر في مسجد الرسول (ص) وغيره
وأورد اليعقوبي تفصيل خبر أبي ذر مع السلطة في تاريخه (4) وقال:
" وبلغ عثمان أن أبا ذر يقعد في مسجد رسول الله، ويجتمع إليه الناس، (5)
فيحدث بما فيه الطعن عليه. وأنه وقف بباب المسجد فقال: أيها الناس من عرفني
فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذي، إن
الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض،
والله سميع عليم، محمد الصفوة من نوح، فالآل (6) من إبراهيم، والسلالة من
إسماعيل، والعترة الهادية من محمد.... ومحمد وارث علم آدم وما فضل به
النبيون، وعلي بن أبي طالب وصي محمد، ووارث علمه. أيتها الأمة المتحيرة بعد
نبيها! أما لو قدمتم من قدم الله، وأخرتم من أخر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في
أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولي الله،
ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلا وجدتم علم
ذلك عندهم، من كتاب الله وسنة نبيه، فأما إذ فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وبال أمركم،
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

(1) ج 1 / 18.
(2) ج 2 / 343.
(3) حنش في الإصابة، رجل من غفار.
(4) ج 2 / 171.
(5) يظهر من سياق الخبر أن أبا ذر كان يفعل ذلك في مسجد الرسول في موسم الحج كفعله في منى وبباب
الكعبة، فإنه لو كان في غير موسم الحج لم يكن بحاجة إلى أن يعرف نفسه لاخوته الذين كانوا يعاشرونه في المدينة.
(6) في النسخة المطبوعة: (فالأول)، خطأ مطبعي.
285

وقال اليعقوبي بعده:
" وبلغ عثمان أيضا أن أبا ذر يقع فيه، ويذكر ما غير وبدل من سنن رسول الله
وسنن أبي بكر وعمر، فسيره إلى الشام إلى معاوية، وكان يجلس في المسجد، فيقول
كما كان يقول ويجتمع إليه الناس حتى كثر من يجتمع إليه ويسمع منه... الحديث
وقال اليعقوبي بعد ذلك ما موجزه:
" إن معاوية كتب إلى عثمان أنك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر فكتب
إليه أن أحمله على قتب بغير وطاء، فقدم به المدينة وقد ذهب لحم فخذيه وجرى له
مع عثمان ما أدى بعثمان أن ينفيه إلى الربذة، وجرى للوليد والي الكوفة مع ابن مسعود
نظير ذلك فجلبه الخليفة إلى المدينة وأمر به فضرب به الأرض وتوفي على أثر ذلك،
وفعل نظير ذلك بعمار " (1)
خلاصة خبر الفتن في أخريات عهد عثمان.
أطلق الخليفة عثمان يد الولاة من بني أمية على المسلمين وفي بيوت أموالهم وكلما
اشتكى المسلمون إلى الخليفة من ظلم ولاته لم يبال بهم فثاروا عليه وأصبحت بني
تيم عندئذ تعارض عثمان وتطمح بالخلافة لطلحة وآل الزبير للزبير، وكان ما عداهم
وما عدا بني أمية جل الأنصار وسائر أصحاب رسول الله (ص) يدعون للإمام علي
وأخيرا قتل الثائرون عثمان ولم ينصره الأنصار وغيرهم ثم تجمهر المهاجرون
والأنصار على الإمام علي فبايعوه وخضع طلحة والزبير للرأي العام وبايعا عليا في
مقدمة من بايعه من صحابة رسول الله (ص) ولما قسم الإمام علي بيوت الأموال
بالسوية ثارت ثائرة الطبقة المتميزة وعلى رأسهم طلحة والزبير فاجتمعوا مع أم المؤمنين
عائشة بمكة وجمعوا حولهم بني أمية وأظهروا الطلب بدم عثمان وساروا إلى البصرة
وتغلبوا عليها وجهزوا جيشا لقتال الإمام علي، فخرج الامام من المدينة والتقى بهم
خارج البصرة وركبت أم المؤمنين عائشة جملا وقادت العسكر وقاتلوا جيش الإمام علي
فقتل في المعركة منهم من قتل واستسلم الباقون، فعفا عنهم الإمام علي.
هذه خلاصة خبر الفتن في عصر عثمان وبيعة الإمام علي وحرب الجمل
بالبصرة، ذكرنا أخبارها ومصادر الاخبار في كتاب أحاديث عائشة.

(1) راجع تفصيل أخبارهما بكتاب أحاديث عائشة.
286

نتيجة البحث المقارن بين روايات سيف المختلقة في الفتن والروايات
الصحيحة
روى سيف أن يهوديا من صنعاء اليمن اسمه عبد الله بن سبأ ابن الأمة السوداء
تظاهر على عهد عثمان بالاسلام وسار في عواصم البلاد الاسلامية ومدنها: المدينة
والشام والكوفة ومصر يدعو إلى القول برجعة الرسول بعد وفاته وأن عليا وصيه وأن
عثمان غاصب حق هذا الوصي، فيجب الوثوب عليه لارجاع الحق إلى أهله فآمن
به أبرار صحابة رسول الله (ص) نظراء أبي ذر وعمار وحجر بن عدي إلى عشرات
أمثالهم ممن سماهم بالسبأية وان ابن سبأ اليهودي علم هؤلاء أن يدعو الناس إلى
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يكتبوا في عيب ولاتهم ويثيروا الناس عليهم
ففعلوا وأن عمار كان قد خرف كما أخبر عنه الرسول وكذلك أبو ذر فامتثل السبأيون
الصحابة والتابعون تعليمات ابن سبأ وجلبوا الناس إلى المدينة وقتلوا عثمان في داره
وبايعوا عليا وسار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة للطلب بدم عثمان وسار خلفهم
الإمام علي والتقوا خارج البصرة وتذكروا في الصلح وقر رأيهم على الصلح فتخوف
السبأيون (1) من سوء عاقبتهم واندسوا في الجيشين ليلا وتراموا بالسهام من الجانبين
وأثاروا الحرب بين الجيشين فقامت الحرب بين الطرفين دون أن ينتبه إلى مكيدتهم من
الجيشين أحد، لم ينتبهوا هم وقادتهم إلى من يرمي السهام مع أن رماة السهام كانوا
مندسين بين صفوفهم.
قال سيف: هكذا وقعت الحرب وانتهت بنصرة جيش الإمام علي.
روى سيف هذه الأخبار في مئات من رواياته المختلقة ورواها عمن اختلقهم
من الرواة من ضمنهم من ذكر اسمهم في الروايات السابقة، وقد أشرنا إلى الصحيح
من أخبارها في ما مضى، ولم يخف على فطاحل العلم أمثال الطبري وابن الأثير وابن
عساكر وابن كثير وبن خلدون وغيرهم.
إن سيف بن عمر متهم بالزندقة وإن علماء الرجال أجمعوا على نعته بالكذب
ولم يوثقه أحد منهم، بل رأيناهم بأنفسهم يضعفون حديثه كما نقلنا عنهم في كتابنا
عبد الله بن سبأ، وكذلك لم يخف عليهم الروايات الصحيحة في تلك الأخبار وإنما
كرهوا ذكرها كما نصوا على ذلك، فكتموا الأخبار الصحيحة لما قالوا إن العامة لا

(1) السبأيون في روايات سيف هم عمار وحجر بن عدي وصعصعة بن صوحان ومحمد بن أبي بكر ومالك
الأشتر ونظرائهم.
287

تحتمل سماعها، وليتهم اكتفوا بكتمان الأخبار الصحيحة في هذا الشأن كما فعلوا مع
كثير من الاخبار الأخرى ولم ينقلوا الاخبار المكذوبة بدلا من الأخبار الصحيحة ولم
ينشروا الاخبار المختلقة بين الناس مع علمهم بكذبها، فإنهم كانوا يعلمون بكذب
ما نسبه سيف إلى عمار وأبي ذر وابن مسعود وحجر بن عدي إلى عشرات غيرهم من
الصحابة والتابعين في ما فتراه عليهم من أنهم اتبعوا يهوديا أمرهم بالافساد بين
المسلمين وإيقاع الفتنة والفساد بينهم حتى قتل بعضهم البعض الآخر وهم لا يدركون
ما يعملون!
على عقول من صدق هذه الخرافات. العفا، كيف يصدقون أن الخليفة عثمان
لم ينتبه إلى هذا اليهودي على حد زعم سيف في إثارته الفتن؟ وكيف لم يسأل عمار وأبو
ذر الامام عليا عما يدعو له هذا اليهودي من أنه وصي رسول الله (ص)؟ وكيف لم
يسأله ربيبه محمد بن أبي بكر عن صدق مزعمة هذا اليهودي؟ لست أدري كيف
يصدقون هذه الأكاذيب؟ ولست أزعم أن العلماء صدقوا بحديث سيف، كلا،
فإنهم يعلمون كذب ما اختلقه وافتراه وإنما عجبي من عامة الناس كيف يصدقون
هذه الأساطير الخرافية، فإن العلماء الذين نشروا أكاذيب سيف كانوا يعلمون كذبه
وإنما تقبلوها لان الزنديق طلاها بطلاء الدفاع عن ذوي السلطة في ما انتقدوا عليه،
مثل ما فعل في ما انتقد عليه خالد على قتله مالك بن نويرة ونكاحه زوجته في ليلته
وفي ما رمي به المغيرة بن شعبة زمان إمارته على البصرة وفي خبر درء سعد بن أبي وقاص
حد شرب الخمر عن أبي محجن وفي خبر الوليد وحده على شرب الخمر. إن سيف
بن عمر عالج جميع ما انتقد عليه هؤلاء وغيرهم من الخلفاء والولاة وذويهم، فلم
يهتم كبار العلماء عندئذ أن ينشروا ما افتراه هذا الزنديق على أبرار الصحابة الفقراء،
أمثال ابن مسعود وأبي ذر وعمار تحت غطاء الدفاع عن أولئك لان المهم عندهم كتمان
ما يعاب عليه الخلفاء والولاة وذووهم عن عامة الناس، وبنشر أكاذيب سيف بلغوا
غايتهم وبلغ سيف - أيضا - غايته من تسخيف صحابة النبي الأبرار ونشر الأراجيف
السخيفة في التاريخ الاسلامي بدافع الزندقة.
ويظهر من قول الطبري في ذكر سبب قتل عثمان: " فأعرضنا عن ذكر كثير منها
لعلل دعت إلى الاعراض عنها ". إن العلل التي دعته إلى كتمان الأخبار الصحيحة،
هي كتمان الاخبار التي يعاب به سلطة الخلافة عن عامة الناس، كما سبق لنا أن
نقلنا منه أنه قال: " مما لا يتحمله عامة الناس ".
وخلاصة القول إن في هذا الصنف من الكتمان يحرفون حديث الرسول وسيرته
وسيرة أهل بيته وأصحابه وأخبارهم الصحيحة ويبدلونها بأخبار مختلقة، كما فعل
288

سيف ذلك بدافع زندقته وإن العلماء يروجون هذه الروايات المختلقة بدلا من
الروايات الصحيحة مع علمهم بأنها غير صحيحة بدافع الدفاع عن السلطة الحاكمة
وذويهم من خلفاء وولاة وأمراء!!!
وهذا النوع من الكتمان غير قليل عند علماء مدرسة الخلفاء.
خلاصة بحث أنواع الكتمان بمدرسة الخلفاء
قد رأينا العلماء بمدرسة الخلفاء مجمعين على كتمان كل رواية أو خبر يسبب
توجيه النقد إلى ذوي السلطة في صدر الاسلام، وولاتهم وذويهم محتجين في ذلك
بأن أولئك كانوا من صحابة الرسول ولا يصح ذكر ما يسبب انتقادهم، بينا هم نشروا
من الروايات المكذوبة ما فيه طعن على أبرار صحابة رسول الله الفقراء أمثال عمار
وأبي ذر وابن مسعود.
وفي سبيل الدفاع عن ذوي السلطة، تارة يكتمون كل الرواية والخبر وأحيانا
يحذفون من الخبر والرواية بعضها الذي يوجه النقد إلى ذوي السلطة بسببها ويأتون
بباقي الرواية مما لا يوجب النقد عليهم، وتارة أخرى يبدلون من الرواية والخبر ما
يسبب النقد على الولاة بكلمة مبهمة لا يفهم منها شئ من المراد، وأخرى يحرف
بعضهم الخبر والرواية بأنواع التحريف حتى يبلغ الامر إلى أن يجعل الحليم البار ظالما
سفيها، والظالم المتعنت بارا حليما، أي يبدل الشئ إلى نقيضه تماما ثم يتسابق
الآخرون إلى نشر ذلك الخبر المحرف والرواية المختلقة وتوثيقها واشاعتها في
المجتمعات الاسلامية بدل الخبر الصحيح والرواية الصحيحة، التي تسبب النقد على
الحكام والامراء ويتسابقون كذلك ويتعاونون في تضعيف الرواية التي تسبب النقد
على ذوي السلطة والطعن براويها وبمؤلف الكتاب الذي أورد الرواية فيه بأنواع
الطعون والتضعيف والتسخيف، وإن لم يستطيعوا كل ذلك أولوا الرواية والخبر إلى ما
فيه مصلحة ذوي السلطة ويبدل النقد الموجه إليهم إلى مدحهم والثناء عليهم.
ويحترمون من التزم بهذا الاتجاه ويجلونه على قدر التزامه بالأسلوب المذكور،
يوثقون الراوي الملتزم بذلك ويصفون خبره بالصحيح ويصفون تأليف المؤلف الملتزم
بهذا النهج بالوثاقة والصحة على قدر التزامهما بالمسلك المتفق عليه ويشهرونهما
ويذكرونهما بكل تجلة واحترام. ومن ثم اشتهرت سيرة ابن هشام في مدرسة الخلفاء
ومن تابعهم بالوثاقة لالتزامهم بما اتفقوا عليه وأهملت سيرة ابن إسحاق لعدم التزامه
بالأسلوب المقبول عندهم وتركوا تدارسها واستنساخها حتى أدى ذلك إلى فقدان سيرة
ابن إسحاق في حين أن ابن هشام أخذ جميع ما حوته سيرته من سيرة ابن إسحاق
289

مع اسقاط (ما يسوء الناس ذكره) من سيرة ابن إسحاق حسب تعبيره.
ومن ثم - أيضا - أصبح تاريخ الطبري أوثق مصادر التاريخ الاسلامي وأكثرها
شهرة واعتبارا وأصبح مؤلفه الطبري إمام المؤرخين بمدرسة الخلفاء لأنه باتباعه المنهج
المذكور بث روايات سيف التي كان يعلم كذبها ومخالفتها للحق والواقع التاريخي
في أخبار عصر الصحابة أو بالأحرى الخلفاء الأوائل ثم تهافت العلماء على أخذ ما ورد
منها في تاريخ الطبري ونشرها في مصادر الدراسات الاسلامية وأهملوا الأخبار الصحيحة
في مقابلها حتى نسيت وفقدت من المجتمعات الاسلامية.
ومن ثم - أيضا - أصبح البخاري إمام المحدثين بمدرسة الخلفاء وأصبح
صحيحه أصح كتاب بعد كتاب الله عندهم وأصبحت الأحاديث الصحيحة في غير
صحيحه وصحيح مسلم غير معتبرة.
منشأ الاختلاف في روايات مصادر الدراسات الاسلامية.
إذا أمعنا النظر في بحوثنا السابقة وما يأتي في بحوث اجتهادات الخلفاء من الجزء
الثاني عرفنا منشأ الاختلاف في روايات مصادر الدراسات الاسلامية فقد وجدنا في
الموردين أحاديث وضعت موافقة لسياسة السلطات الحاكمة ومصلحتها، مقابل
الروايات الصحيحة التي كانت تخالف سياستهم ومصلحتهم ومن ثم انكشف لنا
ميزان ثابت لتمييز الحديث القوي من الضعيف فإن الضعيف من الأحاديث
المتعارضة في صحيح البخاري في شأن البكاء على الميت - مثلا - ما وافق سياسة
السلطة الحاكمة التي تنهى عن البكاء على الميت وتنسب النهي إلى الرسول، والحديث
القوي ما خالفها مثل حديث أم المؤمنين عائشة وحديث غيرها التي أخبرت عن جواز
البكاء على الميت وأنها من سنة الرسول (ص) وكذلك الضعيف في حديثي أم المؤمنين
عائشة المتعارضين في بيان من كان إلى جنب رسول الله (ص) في آخر ساعات حياته
ما فيه " متى أوصى إليه وقد انخنث ومات في صدري "، والقوي منهما حديثها الآخر
الذي ورد فيه أن الإمام علي كان إلى جنب الرسول في آخر ساعات حياته لموافقة
الأول منهما لرغبات الحكام ومخالفة الثاني لسياستهم.
وهذا هو الميزان الثابت لمعرفة القوي من الضعيف في أحاديث سنة الرسول
وسيرة الصحابة والتابعين وسيرة الأنبياء السابقين والاحكام التي اجتهد فيها الخلفاء
وفقا لرأيهم وأمثالها.
290

نتيجة البحوث وحقيقة الامر
إن الباحث المتتبع يرى أن الميزان الثابت لمعرفة الحق من الباطل بمدرسة
الخلفاء إنما هو مصلحة ذوي السلطة وأن كل رواية أو خبر يوجه النقد لهم أو يشينهم
فهو ضعيف وغير صحيح وباطل، وكل كتاب وكل راو أو مؤلف يروي شيئا من ذلك
فهو ضعيف وغير ثقة، ويرمى بأنواع الطعون وإذا ورد الحديث أو الخبر من راو لا
يستطيعون الطعن عليه وعلى مؤلف الكتاب فإنهم حينئذ يؤولون الحديث إلى ما
يرغبون فيه، ومن جهة أخرى كل مؤلف أو راو يذكر مناقب ذوي السلطة ويترك
ما يوجه النقد إليهم فهو ثقة وصدوق، فإذا استطاع أن يدافع عنهم في ما يروي
ويؤلف فهو الثقة المأمون المصدق وتنتشر رواياته في الكتب وتذاع، ومن هذا الباب
الواسع أدخل سيف الزنديق في سنة رسول الله (ص) سيرته وحديثه بمقتضى زندقته
ما شاء ولذلك - أيضا - انتشرت رواياته في أكثر من سبعين مصدرا من مصادر
الدراسات الاسلامية زهاء ثلاثة عشر قرنا.
إن سيف بن عمر أدخل في سنة رسول الله (ص) حديثا وسيرة ما اختلقه ودرسناه
في أبواب (رسل النبي (ص) و (عمال رسول الله (ص) و (الوافدون على رسول
الله (ص) و (ربيب رسول الله (ص)) من كتاب خمسون ومائة صحابي مختلق
وكتابنا (رواة مختلقون) وقد مر بنا في ما سبق كيف حرف سيف حديث رسول الله
(ص) في حق عمار.
كان هذا رأينا في سيف ونظائره مثل أبي الحسن البكري مؤلف كتاب الأنوار
الذي أدخل أحاديث خرافة في كتاب: سيرة النبي المختار وغيره من كتبه مثل كعب
الأحبار الذي أدخل الإسرائيليات في مصادر الدراسات الاسلامية، وقد درسنا
أخبارهم وآثارها في سلسلة (نقش أئمة). كان هذا شأن هؤلاء عندنا.
أما البخاري وصحيحه وابن هشام وسيرته والطبري وتاريخه وأمثالهم من العلماء
الذين ناقشنا إسلوبهم فلهم عندنا شأن آخر فإنهم وإن كانوا ينتقدون في شئ من
إسلوبهم فإنهم مع ذلك قد أوردوا في كتبهم الكثير من سنة رسول الله
(ص) الصحيحة سيرة وحديثا مما نعتمدها ونرويها عنهم، وكذلك دأب علماء مدرسة
أهل البيت مع من يرون خطأ في عملهم العلمي فإنهم عندئذ ينتقدون أسلوبه أشد
الانتقاد رغم أنهم يجلونه ويحترمونه ويأخذون منه غير الذي انتقدوه فيه، وهذا معنى
عدم تقليدهم لمن تقدمهم من العلماء لا في الاحكام الفقهية ولا في دراية الحديث، إن
علماء مدرسة أهل البيت يضعفون الحديث الضعيف في أصول الكافي وصحيح
291

البخاري معا ويأخذون - أيضا - الحديث الصحيح من كليهما وإن المجلسي الكبير
(ت 1111 ه‍) عندما شرح كتاب الكافي في كتابه مرآة العقول نبه فيه على آلاف
الأحاديث الضعيفة الواردة في أبواب كتاب الكافي وهو أشهر كتاب حديث في مدرسة
أهل البيت وهذا الامر بمدرسة أهل البيت مخالف لما عليه أتباع مدرسة الخلفاء الذين
يرون لصحيح البخاري ما يرونه لكتاب الله ويعتقدون أنه ليس فيه حديث غير
صحيح، بل يرون أكثر من ذلك حيث يرون صحة ما ورد في صحيحي البخاري
ومسلم من سنة الرسول (ص) مما لم يرد في كتاب الله، ويصعب عليهم أن يتقبلوا
صحة سنة الرسول (ص) التي وردت في غير صحيحي مسلم والبخاري، والكتب
الأربعة الأخرى التي سميت جميعها بالصحاح الستة. على أن الكثير من حفظة
الحديث بمدرسة الخلفاء غير أولئك الذين ألفوا في الحديث الصحاح والمسانيد والسنن
والمصنفات والزوائد وغيرها أمثال:
صحيح ابن حبان (ت 354 ه‍).
الصحاح المأثورة عن رسول الله (ص) للحافظ أبي علي ابن السكن (ت
353 ه‍).
مسند الطيالسي (ت 204 ه‍).
مسند أحمد (ت 241 ه‍).
سنن البيهقي (ت 458 ه‍).
السنن لأبي بكر الشافعي (ت 347 ه‍).
المعاجم الثلاثة للطبراني (ت 360 ه‍).
مصنف بن أبي شيبة (ت 235 ه‍).
مجمع الزوائد للهيثمي (ت 807 ه‍).
المستدرك للحاكم (ت 405 ه‍).
وعشرات الموسوعات الحديثية الأخرى لمحدثين آخرين.
وفي سيرة النبي والصحابة والفتوح ألف أمثال:
خليفة ابن خياط (ت 240 ه‍) الطبقات والتاريخ.
البلاذري (ت 279 ه‍) فتوح البلدان وأنساب الأشراف.
المسعودي (ت 345 ه‍) التنبيه والاشراف ومروج الذهب (هذا ما في أيدينا
من مؤلفاته).
الواقدي (ت 207 ه‍) المغازي.
ابن سعد (ت 230 ه) الطبقات.
292

وعشرات المؤلفات المعتبرة الأخرى لمؤلفين آخرين.
لماذا اختص بالاهتمام الصحاح الست في الحديث إلى حد إهمال غيرها، وفي
السير والمغازي: سيرة ابن هشام، وفي التاريخ: تاريخ الطبري، مع عدم العناية
بغيرهما.
وخلاصة القول: أن علماء مدرسة الخلفاء يوجه إليهم النقد في عملهم العلمي
لامرين:
أولا - لأنهم يكتمون من سنة رسول الله (ص) سيرة وحديثا ومن سائر الأخبار
ما يخالف سياسة السلطات الحاكمة مدى القرون سواء أكان ذلك مما يخص سيرة
الأنبياء السلف أو سيرة خاتم الأنبياء وأهل بيته وصحابته، أو في العقائد الاسلامية
أو تفسير القرآن كما شاهدنا ذلك من الطبري وابن كثير في تفسير آية " وأنذر عشيرتك
الأقربين " في كتمانهم لفظ (ووصيي وخليفتي) في حق الإمام علي وتبديلها ب
(كذا وكذا)، وكذلك فعلوا مع النصوص التي تبين سنة رسول الله (ص) في
الاحكام الاسلامية التي تخالف اجتهادات الخلفاء كما سيأتي بيانه في بحث مصادر
الشريعة الاسلامية لدى مدرسة الخلفاء في الجزء الثاني من هذا الكتاب إن شاء الله
تعالى.
ثانيا - لا ينبغي للمسلمين في هذا اليوم وهم على أبواب نهضة اسلامية شاملة
أن يبقوا على تقليد أئمة المذاهب الأربعة في الفقه ولا على تقليد أصحاب الصحاح
الست في تصحيح الحديث وتضعيفه وخاصة البخاري ومسلم وكذلك في الاحكام
الاسلامية التي اجتهد الخلفاء فيها في مقابل نصوص سنة رسول الله (ص) حسب
ما رأوه من المصلحة في عصرهم، بل ينبغي أن يبحثوا عن سنة رسول الله (ص)
الصحيحة ويظهروا ما أخفي منها حسب سياسة الخلفاء مدى القرون ثم يجاهدوا في
سبيل الدعوة لتوحيد كلمة المسلمين والعمل بكتاب الله وسنة رسوله الصحيحة،
وبذلك يتيسر توحيد كلمة المسلمين حول كتاب الله وسنة رسوله المجمع عليها وما
ذلك من لطف الله على المسلمين ببعيد.
293

عود على بدء في بحث الوصية
لما كانت النصوص الدالة على حق الإمام علي في الحكم بعد النبي (ص) وحق
الأئمة من ولده، فيه من أهم ما يوجه النقد لمن ولي الحكم دونهم، لم يأل العلماء
بمدرسة الخلفاء جهدا في كتمان تلكم النصوص وكان من أهمها بحث علماء أهل
الكتاب بعد وفاة رسول الله (ص) عن وصيه وأقوالهم فيه، مثل خبر الراهبين الذين
مر عليهما الإمام علي في طريق صفين. بينما حفظ نظير تلك الأخبار علماء مدرسة
أهل البيت في كتبهم (1)، مثل خبر مجئ يهوديين في عصر أبي بكر وسؤالهما عن
وصي النبي وبعد أن أشار الناس إلى أبي بكر، ولم يجدا أجوبة أسئلتهما عنده أرسلوا
إلى الإمام علي، فحضر وأجاب على أسئلتهما، فقالا: أنت وصي خاتم الأنبياء
وأسلما. وخبر آخرين من أهل الكتاب جاؤوا على عهد عمر وجرى لهم مع عمر وعلي
مثل ما سبق ذكره على عهد أبي بكر، وقد مر بنا في ما سبق سؤال كعب الأحبار من
الخليفة عمر عن أشياء من أحوال رسول الله (ص) وإحالة عمر إياه إلى علي بن أبي
طالب، واستمرت أمثال هذه المراجعات من أهل الكتاب وإسلامهم إلى عصور
متأخرة، فقد قال ابن كثير في تاريخه (2) بعدما نقل من التوراة أن الله بشر إبراهيم
بإسماعيل وأنه ينميه ويجعل من ذريته اثنا عشر عظيما، ونقل عن ابن تيمية أنه قال:
" وهؤلاء المبشر بهم في حديث جابر بن سمرة، ولا تقوم الساعة حتى يوجدوا.
قال: وغلط كثير ممن تشرف بالاسلام من اليهود فظنوا أنهم الذين تدعوا إليهم
فرقة الرافضة فاتبعوهم ".
يا ترى ما هي أخبار الكثير من اليهود الذين تشرفوا بالاسلام واتبعوا الرافضة؟
إن العلماء ارتأوا ما قاله الطبري: " لا يحتمل سماعها العامة " فأسقطوا أخبار
أهل الكتاب الذين أسلموا واتبعوا الرافضة جملة وتفصيلا.
كمية الاخبار والروايات والنصوص التي أسقطوها
إذا قارنا ما رواه ابن كثير في تاريخه من الحديث عن رسول الله (ص) في أمر
الخوارج الذين قاتلهم الإمام علي (ع) في نهروان والذي بلغ سبع عشرة صفحة من
كتابه مع النزر اليسير من روايات رسول الله (ص) التي بقيت في الكتب في أمر

(1) راجع أخبارهم في البحار. ط، طهران، الثانية، ج 10 / 10 - 50.
(2) ج 6 / 250.
294

الجمل وصفين أو غيرهما مما فيه فضيلة للإمام علي يمكننا أن نقدر عظم الخسارة في ما
أخفي عن الناس من حديث رسول الله (ص) وإنما أبقوا الروايات التي وردت في
شأن الخوارج الذين خرجوا على الإمام علي، لان الخوارج استمر خروجهم على
السلطة بعد الإمام علي أيضا وكان في نشر تلكم الأحاديث مصلحة للسلطة، فرووها
في جميع كتب الأحاديث وبقيت سالمة إلى يومنا هذا.
ومن أحاديث الرسول التي كانت تخالف سياسة مدرسة الخلفاء وسعوا في
كتمانها، أحاديث الرسول في حق الإمام علي بأنه وصيه وكذلك فعلوا بما ورد في شأنه
في شعر الصحابة أو نثرهم - مثلا - رأينا أم المؤمنين عائشة أنكرت الوصية وناقشنا الخبر
الذي روي عنها في ذلك.
أ - ورأينا بعضهم يحذف من الكلام ما فيه ذكر الوصية دون أن يشير إلى ذلك
كما فعلوه مع قصيدة النعمان بن عجلان الأنصاري.
ب - وبعضهم يحذف بعض الخبر مع الابهام في القول، كما فعله الطبري وابن
كثير في تفسيريهما بلفظ (وصيي وخليفتي) في حديث رسول الله (ص).
ج - وبعضهم يحذف من الخبر لفظ الوصية ويحرف الخبر كما فعله ابن كثير مع
خطبة الإمام الحسين (ع).
د - وبعضهم يحذف تمام الخبر الذي فيه ذكر الوصية مع الإشارة إليه كما فعل
ذلك الطبري وابن الأثير وابن كثير مع كتاب محمد بن أبي بكر.
ه‍ - وبعضهم يحذف تمام الخبر الذي فيه ذكر الوصية مع عدم الإشارة إليه كما
فعل ذلك ابن هشام في خبر دعوة الرسول (ص) لبني هاشم لما فيه قوله في علي " و
وصيي وخليفتي فيكم ".
و - وبعضهم يؤول معنى الوصية كما فعل ذلك الطبراني في حديث الرسول وابن
أبي الحديد في كلام الامام على.
ز - وبعضهم غفل عنها وأثبتها في كتاب له وحذفها وأبدلها بقول مبهم في كتاب
آخر له، كما فعله الطبري في تاريخه وتفسيره.
ح - وبعضهم أثبتها في الطبعة الأولى من كتابه وحذفها في الطبعة الثانية منها
كما فعله محمد حسين هيكل في كتابه حياة محمد.
ما بقي من النصوص الواردة عن الرسول في حق آله في الحكم
كنا في صدد إيراد النصوص الواردة عن رسول الله (ص) في حق الأئمة من آل
الرسول (ص) وكان لابد لنا في هذا السبيل من تقديم البحوث السابقة ليعرف أن
295

النصوص الواردة عن الرسول في حقهم منيت بأنواع من الكتمان الذي ذكرناه لأنها
كانت مخالفة لسياسة الخلفاء مدى القرون ولم يبق منها في كتب مدرسة الخلفاء سوى
النزر اليسير الذي غفل العلماء عنها وأوردوها في كتبهم ووفقنا الله تعالى إلى العثور
عليها، نوردها في ما يأتي بحوله تعالى مضافا إلى ما سبق ايرادها من النصوص.
وزير النبي
أ - في القرآن الكريم مع بيانه من سنة الرسول
سيأتي إن شاء الله قول الرسول (ص) للإمام علي (أما ترضى أن تكون مني
بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وقد ذكر الله منزلة هارون من موسى
في ما حكاه من أمرهما، قال سبحانه في ما حكاه من طلب موسى من ربه: " واجعل
لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري " طه / 29 - 31.
وقال سبحانه في استجابة طلبه " ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه
وزيرا " الفرقان / 35.
ب - متى اتخذ الرسول (ص) عليا وزيرا.
يوم دعا رسول الله (ص) بني عبد المطلب وقال لهم: " أيكم يؤازرني على هذا
الامر... " وأجابه من بينهم الإمام علي وحده. اتخذه رسول الله (ص) يومئذ وزيرا
في أمره.
وروت أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله يقول: " اللهم اجعل لي
وزيرا من أهلي "، دعا رسول الله (ص) ربه وقال: " اللهم إني أقول كما قال أخي
موسى اللهم اجعل لي وزيرا من أهلي أخي عليا، أشدد به أزري " (1).
وبتفسير آية " واجعل لي وزيرا من أهلي " من تفسير السيوطي لما نزلت هذه
الآية دعا رسول الله ربه وقال: اللهم أشدد أزري بأخي علي فأجابه إلى ذلك.
وروى ابن عمر عن رسول الله (ص) أنه قال للإمام علي: " أنت أخي
ووزيري تقضي ديني وتنجز موعدي... إلى آخر الحديث في فضل الإمام علي (2).
وأثبت رسول الله (ص) للإمام علي (ع) بقوله له: " أنت مني بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه لا نبي بعدي " جميع ما كان لهارون من موسى عدا النبوة وفي مقدمة
ما كان لهارون أنه كان وزير موسى، وسيأتي ذكر مصادره.

(1) الرياض النضرة، ج 2 / 163، عن مناقب أحمد بن حنبل.
(2) معجم الزوائد، ج 9 / 121، وكنز العمال، ط. الأولى ج 6 / 155، عن الطبراني.
296

وفي نهج البلاغة (1): أن رسول الله قال للإمام علي لكنك وزير.
وجاء في ما نظم على لسان الأشعث في جوابه لكتاب الإمام علي إليه: " وزير
النبي وذو صهره... ".
خليفة النبي:
ذكرنا في باب من استخلف النبي (ص) على المدينة في غزواته عن صحيح
البخاري، باب غزوة تبوك: أن رسول الله لما خرج إلى تبوك واستخلف عليا فقال
أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه ليس نبي بعدي. وقد حكى الله عن هارون في ذلك وقال: " وقال
موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح... " الأعراف / 142.
وفي لفظ إحدي روايتي أحمد بن حنبل بمسنده (2) عن خبر دعوة الرسول بني
عبد المطلب ورد قول الرسول في حق علي " وخليفتي ".
هذا ما أمكننا ايراده في الوصي والوزير والخليفة في هذه العجالة. وفي ما يأتي
ما تبقى من النصوص بعد الكتمان بمدرسة الخلفاء.
ولي المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وآله:
نص رسول الله صلى الله عليه وآله على أن الامام عليا ولي أمر المسلمين في
أماكن متعددة منها ما في الأحاديث الآتية:
أولا: حديث الشكوى
في مسند أحمد وخصائص النسائي، ومستدرك الحاكم، وغيرها، واللفظ
للأول:
" عن بريدة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثين إلى اليمن، على
أحدهما علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعلى الاخر خالد بن الوليد، فقال: إذا التقيتم
فعلي على الناس، وان افترقتما فكل واحد منكما على جنده، قال: فلقينا بني زيد من أهل اليمن
، فاقتتلنا، فظهر المسلمون على المشركين، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية، فاصطفى
علي عليه السلام امرأة من السبي لنفسه، قال بريدة: فكتب معي خالد بن الوليد إلى

(1) الخطبة: 90.
(2) ج 1 / 111.
297

رسول الله صلى الله عليه وآله يخبره بذلك، فلما أتيت النبي صلى الله عليه وآله رفعت
الكتاب فقرئ عليه، فرأيت الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت: يا
رسول الله هذا مكان العائذ، بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه، ففعلت ما أرسلت به،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي،
وانه مني وانا منه وهو وليكم بعدي.
وفي رواية
" فقلت: يا رسول الله، بالصحبة الا بسطت يدك فبايعتني على الاسلام
جديدا، قال: فما فارقته حتى بايعته على الاسلام ".
وفي صحيح الترمذي، ومسندي احمد والطيالسي، وغيرها، واللفظ للأول،
عن عمران بن حصين:
" أن أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاقدوا - في هذه
الغزوة - أن يشكو عليا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا عليه، قام
أحدهم فقال: يا رسول الله: ألم تر إلى علي بن أبي طالب صنع كذا وكذا فاعرض عنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفعل الثاني منهم والثالث والرابع مثل أولهم، وفي كل مرة يعرض الرسول
عن الشاكي. قال:
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله والغضب يعرف في وجهه، فقال: " ما
تريدون من علي؟! ما تريدون من علي؟! ما تريدون من علي؟! ان عليا مني وانا منه،
ان عليا مني وانا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي ".

(1) مسند أحمد 5 / 356، وخصائص النسائي ص 24، باختلاف يسير ومستدرك الصحيحين 3 / 111
مع اختلاف في اللفظ، ومجمع الزوائد 9 / 127، وفي كنز العمال 12 / 207 مختصرا عن ابن أبي شيبة، وفي
12 / 210 منه عن الديلمي، وراجع كنوز الحقائق للمناوي ص 186.
(2) مسند أحمد 5 / 350 و 358 و 361، ومجمع الزوائد 9 / 128، عن الطبراني في الأوسط عن بريدة
ولفظه: " من كنت وليه فعلي وليه ":
(3) صحيح الترمذي 13 / 165 باب مناقب علي بن أبي طالب ومسند أحمد 4 / 437 ومسند الطيالسي
3 / 111 ح 829، ومستدرك الحاكم 3 / 110، وخصائص النسائي ص 1 و 16، وحلية أبي نعيم 6 / 294،
والرياض النضرة 2 / 171، وكنز العمال 12 / 207 و 15 / 125.
298

شكوى ثانية
في أسد الغابة، ومجمع الزوائد، وغيرهما، واللفظ للأول:
" عن وهب بن حمزة، صحبت عليا (عليه السلام) من المدينة إلى مكة فرأيت
منه بعض ما أكره فقلت: لئن رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله لأشكونك إليه
فلما قدمت لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: رأيت من علي كذا وكذا:
فقال: لا تقل هذا فهو أولى الناس بكم بعدي. " (1)
زمان الشكوى
ذكر المؤرخون وكتاب السير خرجتين للإمام علي إلى اليمن، ونراها ثلاث
خرجات كما يأتي بيانها إن شاء الله تعالى في باب الاجتهاد، وعلى كلا التقريرين، فان
آخرها كانت في السنة العاشرة للهجرة، حيث التحق الامام برسول الله صلى الله عليه
وآله في حجة الوداع قبل يوم التروية، والشكوى المذكورة في خرجاته لليمن إن كانت
قدمت لرسول الله صلى الله عليه وآله مرتين فان أولاهما وقعت في المدينة وقبل العام
العاشر، والثانية في مكة وبعد وصول صحب الامام إلى النبي صلى الله عليه وآله قبل
يوم التروية، حيث إنهم وصلوا مكة قبل أيام الحج، وعلى هذا فقد توهم من العلماء من
قال: إن قصة الغدير وقعت من أجل هذه الشكوى وذلك لان قصة الغدير وقعت بعد
الحج وفي الجحفة وبمحضر من جماهير المسلمين، وحديث الرسول الله صلى الله عليه وآله
هنا كان مع الشاكين خاصة وفي نفس المجلس وبعد اظهارهم الشكوى مباشرة.
اما الشكوى الثانية، فصريح الحديث انها كانت بعد رجوعهما إلى المدينة.
ثانيا: نصوص أخرى لم يعين زمانها
عن ابن عباس:
" ان النبي قال لعلي أنت ولي كل مؤمن بعدي " (2).
وعن علي:
ان النبي قال له:؟ انك ولي المؤمنين بعدي " (3).

(1) أسد الغابة 5 / 94، ومجمع الزوائد 9 / 109.
(2) مسند الطيالسي 11 / 360 ح 2752، والرياض النضرة 2 / 203.
(3) تاريخ بغداد للخطيب 4 / 239، وكنز العمال 15 / 114 و 12 / 221.
299

من النصوص على إمامته ما وردت في يوم الغدير
كما روى الحاكم الحسكاني:
" عن ابن عباس وجابر قالا: أمر الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن
ينصب عليا للناس ليخبرهم بولايته، فتخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يقولوا
حابا ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه (يا أيها الرسول بلغ ما انزل
إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) المائدة - 67
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله بولايته يوم غدير خم " (1).
وروى عن زياد بن المنذر انه كان يقول: " كنت عند أبي جعفر محمد بن علي
(عليه السلام) وهو يحدث الناس إذ قام إليه رجل من أهل البصرة يقال له عثمان
الأعشى - كان يروي عن الحسن البصري - فقال له يا ابن رسول الله جعلني الله فداك
ان الحسن يخبرنا ان هذه الآية نزلت بسبب رجل، ولا يخبرنا من الرجل " يا أيها
الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك... " فقال: لو أراد أن يخبر به لاخبر به، ولكنه
يخاف، ان جبرئيل هبط إلى النبي صلى الله عليه وآله إلى قوله - فقال: ان الله يأمرك
أن تدل أمتك على وليهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم
وحجهم، ليلزمهم الحجة من جميع ذلك، فقال رسول الله: يا رب ان قومي قريبوا عهد
بالجاهلية، وفيهم تنافس وفخر، وما منهم رجل الا وقد وتره وليهم، واني أخاف
- أي من تكذيبهم - فأنزل الله تعالى " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وان
لم تفعل فما بلغت رسالته - يريد فما بلغتها تامة - والله يعصمك من الناس " فلما ضمن
الله له بالعصمة وخوفه اخذ بيد علي... " (2).
وروى الحاكم الحسكاني:
" عن ابن عباس في حديث المعراج، ان الله عز اسمه قال لنبيه في ما قال:
واني لم ابعث نبيا الا وجعلت له وزيرا، وانك رسول الله صلى الله عليه وآله وان عليا
وزيرك ".
قال ابن عباس: [فهبط] (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكره أن يحدث

(1) الحافظ عبيد الله بن عبد الله بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني، الحذاء الحنفي النيسابوري، من
اعلام القرن الخامس الهجري، ترجمته في تذكرة الحفاظ ط. الهند 4 / 390، وط. مصر 3 / 1200، بآخر الطبقة
14 وقد رجعنا إلى كتابه شواهد التنزيل لقواعد التفصيل في الآيات النازلة في أهل البيت، تحقيق محمد باقر
المحمودي ط. بيروت عام 1393 ه‍ والحديث في ج 1 / 192 ورقم الحديث 249.
(2) شواهد التنزيل 1 / 191.
(3) كذا وردت.
300

الناس بشئ منها إذ كانوا حديثوا العهد بالجاهلية إلى قوله: فاحتمل رسول الله حتى إذا
كان اليوم الثامن عشر أنزل الله عليه " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك... " إلى قوله:
فقال: يا أيها الناس، ان الله أرسلني إليكم برسالة، واني ضقت بها ذرعا،
مخافة أن تتهموني وتكذبوني، حتى عاتبني ربي فيها بوعيد أنزله علي... (1).
وروى الحسكاني وابن عساكر:
عن أبي هريرة: أنزل الله عز وجل " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك - في
علي بن أبي طالب - وان لم تفعل فما بلغت رسالته... " (2).
قصد أبو هريرة أن المقصود ان يبلغ ما نزل في علي.
روى الحسكاني:
" عن عبد الله بن أبي أوفى، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
يوم غدير خم وتلا هذه الآية (يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك...) ثم رفع يديه حتى
يرى بياض إبطيه ثم قال: ألا من كنت مولاه... " (3).
وروى الواحدي في أسباب النزول والسيوطي في الدر المنثور عن أبي سعيد
الخدري قال:
نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب:
" يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك... " (4).

(1) شواهد التنزيل للحسكاني 1 / 192 - 193 وفي ص 189 منه نزول الآية فقط.
(2) شواهد التنزيل للحسكاني 1 / 187، ورواها ابن عساكر بترجمة الامام على من تاريخ دمشق بطرق
كثيرة في الحديث 452.
(3) الحسكاني 1 / 190، و عبد الله بن أبي أوفى: علقمة بن خالد الحارث الأسلمي، صحابي شهد
الحديبية، وعمر بعد النبي صلى الله عليه وآله، مات سنة ست أو سبع وثمانين وهو آخر من مات بالكوفة من
الصحابة، واخرج حديثه جميع أصحاب الصحاح، ترجمته بتقريب التهذيب 1 / 402، وأسد الغابة 3 / 121.
(4) أسباب النزول ص 135 والدر المنثور 2 / 298، وأراه هو الحديث المرقم 244 من شواهد التنزيل،
وراجع فتح القدير 2 / 57، وتفسير النيسابوري 6 / 194.
الواحدي، هو أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري (ت 468 ه‍)، ورجعنا إلى كتابه أسباب
النزول ط. بيروت سنة 1395 ه‍.
301

وفي تفسير السيوطي:
" عن ابن مسعود قال كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله يا أيها
الرسول بلغ ما نزل إليك من ربك - ان عليا مولى المؤمنين - وان لم تفعل فما بلغت
رسالته... " (1).
قصد ابن مسعود انهم كانوا على عهد رسول الله يقرؤن في تفسير الآية هكذا.
وكان نزول هذه الآية في غدير خم وفي ما يلي تفصيل الخبر.
خبر يوم الغدير.
لما صدر رسول الله من حجة الوداع (2) نزلت عليه في اليوم الثامن عشر من
ذي الحجة (3) آية " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك... " (4). فنزل غدير خم من الجحفة (5)
وكان يتشعب منها طريق المدينة ومصر والشام (6) ووقف هناك حتى لحقه من
بعده ورد من كان تقدم (7) ونهى أصحابه عن سمرات متفرقات بالبطحاء أن ينزلوا
تحتهن، ثم بعث إليهن فضم ما تحتهن من الشوك (8) ونادى بالصلاة جامعة (9) وعمد
إليهن (10) وظل بثوب على شجرة سمرة من الشمس (11)، فصلى الظهر بهجير (12) ثم قام خطيبا
فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ وقال ما شاء الله أن يقول، ثم قال إني أوشك ان
ادعى فأجيب، واني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا نشهد انك بلغت
ونصحت فجزاك الله خيرا، قال: أليس تشهدون ان لا إله إلا الله وأن محمدا عبده

(1) الدر المنثور 2 / 298، ويقصد من " كنا نقرأ " انهم كانوا يقرؤن تفسيرها كذا.
(2) مجمع الزوائد 9 / 163 - 165، وانقل عن هذه الصفحات في ما يلي.
(3) رواه الحاكم الحسكاني في ج 1 / 192 - 193.
(4) سبق ذكر مصادره.
(5) مجمع الزوائد 9 / 163 - 165، وابن كثير 5 / 209 - 213.
(6) مادة الجحفة من معجم البلدان.
(7) بتاريخ ابن كثير 5 / 213.
(8) مجمع الزوائد، والسمر: نوع من الشجر، وقريب منه لفظ ابن كثير 5 / 209.
(9) مسند أحمد 4 / 281، وسنن ابن ماجة باب فضل علي وتاريخ ابن كثير 5 / 209، و 5 / 210.
(10) مجمع الزوائد 9 / 163 - 165.
(11) مسند أحمد 4 / 372، وابن كثير 5 / 212.
(12) مسند أحمد 4 / 281، سنن ابن ماجة باب فضل علي، وابن كثير 5 / 212.
302

ورسوله وان الجنة حق وان النار حق قالوا: بلى نشهد ذلك قال: اللهم اشهد ثم قال
الا تسمعون؟ قالوا: نعم، قال: يا أيها الناس اني فرط وأنتم واردون علي الحوض وان
عرضه ما بين بصرى إلى صنعاء (1) فيه عدد النجوم قدحان من فضة، وأني سائلكم عن
الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فنادى مناد وما الثقلان يا رسول الله؟ قال:
كتاب الله طرف بيد الله وطرف بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلوا ولا تبدلوا، وعترتي
أهل بيتي وقد نبأني اللطيف الخبير انهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض سألت ذلك
لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهما فهم أعلم
منكم (2).
ثم قال: ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: بلى يا رسول الله! (3)
قال: ألستم تعلمون أو تشهدون اني أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى يا رسول
الله (4).
ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب بضبعيه فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض
إبطيهما (5)، ثم قال:
أيها الناس! الله مولاي وانا مولاكم (6)، فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه (7) اللهم

(1) كانت بصرى اسم لقرية بالقرب من دمشق، وأخرى بالقرب من بغداد.
(2) مجمع الزوائد وبعض ألفاظه في روايات الحاكم 3 / 109 - 110، وابن كثير 5 / 209.
(3) مسند أحمد 1 / 118 و 119، و 4 / 281، وسنن ابن ماجة 1 / 43 ح 116، وورد " نعم " في مسند أحمد
4 / 281 و 368 و 370 و 372، وابن كثير 5 / 209، ولدى ابن كثير 5 / 210: " ألست أولى بكل امرئ
من نفسه ".
(4) مسند أحمد 4 / 281 و 368 و 370 و 372، وابن كثير 5 / 209 و 212.
(5) في رواية الحاكم الحسكاني 1 / 190، فرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه وفي ص 193 منه: حتى
بان بياض إبطيهما.
(6) الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل 1 / 191، وعند ابن كثير 5 / 209: وانا مولى كل مؤمن.
(7) في جميع المصادر التي ذكرناها إلى هنا في جميع روايات الباب.
303

وال من والاه، وعاد من عاداه (1) وانصر من نصره واخذل من خذله (2)، وأحب من
أحبه وابغض ومن أبغضه (3).
ثم قال: اللهم اشهد (4).
ثم لم يتفرقا - رسول الله وعلي - حتى نزلت هذه الآية " اليوم أكملت لكم
دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ".
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر على اكمال الدين واتمام
النعمة، ورضا الرب برسالتي والولاية لعلي (5).
وفي باب ما نزل من القرآن بالمدينة من تاريخ اليعقوبي:
" ان اخر ما نزل عليه " اليوم أكملت... " وهي الرواية الصحيحة الثابتة،
وكان نزولها يوم النص على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بغدير
خم " (6).
فلقيه عمر بن الخطاب بعد ذلك فقال له: هنيئا لك يا ابن أبي طالب، أصبحت
وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة (7).
وفي رواية قال له: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب. (8)
وفي رواية أخرى، هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل
مؤمن ومؤمنة (9).

(1) مسند أحمد 1 / 118 و 119 و 4 / 281 و 370 و 372 و 373 و 5 / 347 و 370، ومستدرك الحاكم
3 / 109، وسنن ابن ماجة والحاكم الحسكاني 1 / 190 و 191، وتاريخ ابن كثير 5 / 209 و 210 - 213،
وقال ابن كثير في 5 / 209: فقلت لزيد هل سمعته من رسول الله؟ فقال: ما كان في الدوحات أحد الا رآه بعينه
وسمعه بأذنيه. ثم قال ابن كثير: قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: وهذا حديث صحيح.
(2) مسند أحمد 1 / 118 و 119، ومجمع الزوائد 9 / 104 و 105 و 107، شواهد التنزيل 1 / 193،
وتاريخ ابن كثير 5 / 210 و 211.
(3) شواهد التنزيل للحسكاني 1 / 191، وتاريخ ابن كثير 5 / 210.
(4) شواهد التنزيل 1 / 190.
(5) رواه الحاكم الحسكاني عن أبي سعيد الخدري 1 / 157 - 158 ح 211 و 212، وعن أبي هريرة
ص 158 ح 213، وفي تاريخ ابن كثير 5 / 214 بإيجاز.
(6) اليعقوبي 2 / 43.
(7) شواهد التنزيل 1 / 157.
(8) شواهد التنزيل 1 / 157.
(9) مسند أحمد 4 / 281، وسنن ابن ماجة باب فضائل علي والرياض النضرة 2 / 169، ولفظ " بعد
ذلك " في تاريخ ابن كثير 5 / 210.
304

تتويج الامام
وكانت لرسول الله عمامة، وتسمى السحاب كساها عليا، (1) وكانت سوداء
اللون، (2) وكان الرسول يلبسها في أيام خاصة، (3) مثل يوم فتح مكة، (4) ورووا في كيفية
تتويج الامام بها يوم الغدير كما يلي:
عن عبد الاعلى بن عدي البهراني قال:
دعا رسول الله صلى الله عليه وآله عليا يوم غدير خم فعممه وأرخى عذبة
العمامة من خلفه (5).
وعن علي عليه السلام قال:
عممني رسول الله صلى الله عليه وآله يوم غدير خم بعمامة سوداء طرفها على
منكبي (6).
وفي مسند الطيالسي وسنن البيهقي قال:
عممني رسول الله صلى الله عليه وآله يوم غدير خم بعمامة سدلها خلفي ثم
قال: إن الله عز وجل أمدني يوم بدر وحنين بملائكة يعتمون هذه العمة... وقال: ان
العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين... (7).
وعن علي عليه السلام:
ان النبي صلى الله عليه وآله عممه بيده، فذنب العمامة من ورائه ومن بين
يديه، ثم قال له النبي صلى الله عليه وآله: أدبر فادبر، ثم قال له: اقبل فاقبل، واقبل
على أصحابه فقال النبي صلى الله عليه وآله: هكذا تكون تيجان الملائكة (8).

(1) في زاد المعاد لابن القيم (فصل في ملابسه) أي الرسول بهامش شرح الزرقاني على المواهب اللدنية
ج 1 / 121.
(2) ورد ذكر لون العمامة التي توج بها الامام في رواية عبد الله بن بشر الآتية والامام نفسه.
(3) أشير إلى ذلك في كتب الحديث.
(4) صحيح مسلم كتاب الحج ح 451 - 452، وسنن أبي داود 4 / 54 باب في العمائم، وشرح
المواهب 5 / 10، عن معرفة الصحابة لأبي نعيم.
(5) الرياض النضرة 2 / 289 في ذكر تعميمه إياه (ص) بيده، وأسد الغابة 3 / 114.
(6) في ترجمة عبد الله بن بشر من الإصابة 2 / 274 قال: أخرجه البغوي.
(7) كنز العمال 20 / 45، ومسند الطيالسي 1 / 23، والبيهقي 10 / 14.
(8) كنز العمال 20 / 45 عن مشيخة ابن باذان.
305

وعن ابن عباس قال:
لما عمم رسول الله صلى الله عليه وآله عليا بالسحاب قال له: يا علي العمائم
تيجان العرب... (1).
وعن عبد الله بن بشر قال.
بعث رسول الله صلى الله عليه وآله (يوم غدير خم) إلى علي فعممه وأسدل
العمامة بين كتفيه وقال وهكذا أمدني ربي يوم حنين بالملائكة معممين وقد اسدلوا
العمائم وذلك حجز بين المسلمين والمشركين (2).
المناشدة
جمع علي الناس في رحبة مسجد الكوفة (3)، ثم قال لهم:
" أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله يقول يوم غدير خم ما سمع الا قام (4)
ولا يقوم الا من قد رآه (5)، فقام ثلاثون من الناس - وفي رواية - فقام ناس كثير (6)
وقال عبد الرحمن: فقام اثنا عشر بدريا، كأني انظر إلى أحدهم (7) فشهدوا حين أخذ بيده
فقال للناس: " أتعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم " قالوا: نعم يا رسول الله (8) قال:

(1) كنز العمال عن الديلمي.
(2) هكذا رواه ابن طاووس في أمان الاخطار، غير أنها في ترجمة عبد الله بن بشر بالإصابة 2 / 274،
رقم الترجمة 4566، ليس فيها لفظ " يوم غدير خم ".
(3) تاريخ ابن كثير 5 / 211.
(4) رواه أبو الطفيل، عامر أو عمرو بن واثلة الليثي، ولد عام أحد، ورأي النبي وعمر إلى أن مات سنة
عشر ومائة، وهو آخر من مات من الصحابة، روى عنه جميع أصحاب الصحاح، التهذيب 1 / 389.
وروايته بمسند احمد 4 / 370، وفي ج 1 / 118 منه بثلاث أسانيد:
أ) عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم.
ب) عن سعيد بن وهب الهمداني الجنواني، وهو كوفي ثقة مخضرم مات سنة خمس أو ست وسبعين،
ترجمته في تهذيب التهذيب وقد رواها احمد عنه مختصرا في ج 5 / 366.
ج) عن زيد بن يثيع الهمداني الكوفي، ثقة مخضرم من الطبقة الثانية من الرواة، ترجمته بتهذيب التهذيب
1 / 277.
5) في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني الكوفي، ثقة من الثانية روى عنه جميع أصحاب
الصحاح، ومات سنة نيف وثمانين ترجمته بتقريب التهذيب 1 / 496 والرواية في مسند أحمد 1 / 119 الحديث
رقم 964.
(6) مسند أحمد 4 / 370 في حديث أبي الطفيل وابن كثير 5 / 212.
(7) حديث عبد الرحمن بمسند احمد ج 1 / 961، وفي 5 / 370، وابن كثير 5 / 211.
(8) في مسند أحمد 1 / 118 و 4 / 370 وابن كثير 5 / 211 ومجمع الزوائد 9 / 105.
306

" من كنت مولاه فهذا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " (1)، " وانصر من
نصره واخذل من خذله " (2).
قال عبد الرحمن: فقام الا ثلاثة لم يقوموا فاصابتهم دعوته (3).
قال أبو الطفيل: فخرجت وكأن في نفسي شيئا فلقيت زيد بن أرقم فقلت له:
اني سمعت عليا (رض) يقول كذا وكذا، قال: فما تنكره قد سمعت رسول الله يقول
ذلك له (4).
وفي رواية فقام ثلاثون من الناس (5).
وفي رواية جاء رهط من الأنصار إلى علي في الرحبة فقالوا: السلام عليك يا
مولانا قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب، قالوا سمعنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم خم يقول من كنت مولاه فان هذا مولاه قال الراوي فلما مضوا اتبعتهم
فسألت من هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار منهم أبو أيوب.
وفي رواية فقال: من القوم. قالوا: مواليك يا أمير المؤمنين (6).

(1) في مسند أحمد 1 / 118 و 119 و 4 / 370 و 5 / 370، وابن كثير 5 / 211.
(2) مسند أحمد 1 / 118، وتاريخ ابن كثير 5 / 210.
(3) مسند أحمد 1 / 119 الحديث 964.
(4) مسند أحمد 4 / 370.
(5) مسند أحمد 4 / 270 والرياض النضرة 2 / 162 وابن كثير 5 / 212.
(6) مسند أحمد 5 / 419 وابن كثير 5 / 212.
307

الولاية وألو الامر في القرآن الكريم
أ) ولاية علي في القرآن الكريم
نصت الأحاديث السابقة على ولاية الإمام علي على المؤمنين بعد رسول الله
وهذا بعينه ما عنته الآية الكريمة " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " الآية 55 من سورة المائدة.
ويؤيد ذلك الروايات الآتية:
في تفسير الطبري، وأسباب النزول للواحدي وشواهد التنزيل للحاكم
الحسكاني وأنساب الأشراف للبلاذري وغيرها (1).
عن ابن عباس وأبي ذر وأنس بن مالك والإمام علي وغيرهم ما خلاصته:
" ان فقيرا من فقراء المسلمين دخل مسجد الرسول وسأل وكان علي راكعا
في صلاة غير فريضة (2)، فأوجع قلب علي كلام السائل، فأومأ بيده اليمنى إلى خلف
ظهره، وكان في إصبعه خاتم عقيق يماني أحمر يلبسه في الصلاة، وأشار إلى السائل بنزعه

(1) تفسير الطبري 6 / 186، وأسباب النزول للواحدي ص 133 - 134، وفي شواهد التنزيل 1 / 161
- 164 خمس روايات عن ابن عباس وفي ص 165 - 166 روايتان عن انس بن مالك، وست روايات أخرى
في ص 167 - 169، وأنساب الأشراف للبلاذري ح 151 من ترجمة الامام 1 / الورقة 225، وغرائب القرآن
للنيسابوري بهامش الطبري 6 / 167 - 168، واخرج السيوطي كثيرا من رواياتها في تفسيره 2 / 293 - 294،
وقال في لباب النقول في أسباب النزول ص 90 - 91 بعد ايراد الروايات: " فهذه شواهد يقوي بعضها بعضا ".
(2) يستفاد ذلك من رواية انس حيث قال: خرج النبي إلى صلاة الظهر فإذا هو بعلي يركع، ونظيرها
رواية ابن عباس، وكلتاهما في شواهد التنزيل 1 / 163 - 164.
308

فنز؟ ه ودعا له، ومضى فما خرج أحد من المسجد حتى نزل جبرئيل عليه السلام بقول
عز وجل " إنما وليكم الله... " الآية (1)، فأنشأ حسان بن ثابت يقول أبياتا منها قوله:
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي * وكل بطئ في الهدى ومسارع
فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكع * فدتك نفوس القوم يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولاية * فاثبتها في محكمات الشرائع (2)
ايراد على دلالة الآية
أورد بعضهم على مفاد الروايات السابقة ان لفظ الآية " والذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " جمع فكيف يعبر بلفظ الجمع ويراد به الواحد
وهو الإمام علي؟
قال المؤلف: توهم من قال ذلك فان الذي لا يجوز إنما هو استعمال اللفظ المفرد
وإرادة الجمع منه، اما العكس فجايز وشايع في المحاورات وقد ورد نظائرها في موارد
متعددة في القرآن الكريم مثل التعابير التي وردت في سورة المنافقين:
" بسم الله الرحمن الرحيم، إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله
يعلم انك لرسوله والله يشهد ان المنافقين لكاذبون " إلى قوله تعالى " وإذا قيل لهم تعالوا
يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون " إلى قوله:
" هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات
والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون، يقولون لئن رجعنا إلى المدينة لنخرجن الأعز منها
الأذل، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون. الآيات 1 - 8.
قال الطبري في تفسير السورة:
إنما عني بهذه الآيات كلها عبد الله بن أبي سلول... وأنزل الله فيه هذه السورة
من أولها إلى اخرها وبالنحو الذي قلنا، قال أهل التأويل وجاءت الاخبار (3).
وروى السيوطي بتفسير الآيات عن ابن عباس أنه قال: وكل شئ أنزله في
المنافقين - في هذه السورة - فإنما أراد عبد الله بن أبي (4).

(1) إلى هنا أوردنا ملخصة من شواهد التنزيل.
(2) نقلا عن كفاية الطالب الباب 61 ص 228، وبقية مصادر الحديث في تاريخ ابن كثير 7 / 357.
(3) تفسير الطبري 28 / 270.
(4) تفسير السيوطي 6 / 223.
309

وموجز القصة كما نقلها أهل السير وورد في التفاسير:
" ان أجير عمر بن الخطاب، جهجاه الغفاري، ازدحم بعد غزوة بني المصطلق
مع سنان الجهني حليف بني الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار!،
وصرخ الجهجاه يا معشر المهاجرين! فغضب عبد الله بن أبي ومعه رهط من قومه وفيهم
زيد بن أرقم، غلام حديث السن فقال: أقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا،
والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه الا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك! أما والله
لئن رجعنا إلى المدينة لنخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره من قومه،
فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، اما والله لو
أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، فسمع ذلك زيد بن أرقم ومشى به
إلى رسول الله وأخبره وعنده عمر بن الخطاب " (1).
فقال عمر بن الخطاب: دعني اضرب عنقه يا رسول الله فقال إذا ترعد له آنف
كثيرة بيثرب قال عمر فان كرهت يا رسول الله ان يقتله رجل من المهاجرين، فمر به
سعد بن معاذ ومحمد بن مسلمة فيقتلانه فقال: اني أكره ان يتحدث الناس ان محمدا
يقتل أصحابه (2).
فذهب عبد الله إلى رسول الله، وحلف انه لم يكن شئ من ذلك فلام الأنصار
زيدا على قوله، وقالوا لعبد الله: لو رأيت رسول الله يستغفر لك فلوى رأسه وقال:
أمرتموني ان أومن فامنت وامرتموني ان أعطي زكاة مالي فأعطيت فما بقي لي الا ان
اسجد لمحمد، فنزلت السورة فيه وهو المقصود بقوله تعالى: " هم الذين يقولون لا تنفقوا
على من عند رسول الله حتى ينفضوا " (2).
وهو المقصود من قوله تعالى " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا
رؤوسهم... " (3).
في هذه السورة عبر الله عن عبد الله بن أبي القائل الواحد، بقوله تعالى: " هم

(1) تفسير الطبري 28 / 75.
(2) تفسير الطبري 28 / 74.
(3) لخصنا روايات متعددة وردت في تفسير الطبري 28 / 71 فما بعدها وتفسير السيوطي 6 / 222 فما
بعدها إلى غير ذلك مما ورد في التفاسير والسير.
310

الذين يقولون " وبقوله عز اسمه " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا
رؤوسهم " القائل والفاعل واحد كما أجمع على ذلك المفسرون وأطبقت الروايات على
ذلك وإنما أوردنا هذا على سبيل المثال والا فنظائرها متعددة في القرآن الكريم مثل قوله
تعالى:
" ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن " التوبة: 61.
" الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم... " آل عمران: 173.
" يقولون هل لنا من الامر شئ... " آل عمران: 154.
هذه إلى غيرها مما عبر فيها بلفظ الجمع وأريد بها الواحد تعدد نظائرها في
القرآن الكريم.
ب) أولو الامر: علي والأئمة من ولده
أثبتت الروايات المتظافرة المتواترة السابقة أن عليا هو مولى المؤمنين وولي
أمرهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، كما انها تفسر المراد من أولي الامر في الآية
الكريمة:
" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " (1).
ودلت على ذلك أيضا الأحاديث الآتية:
أ) في شواهد التنزيل عن علي أنه سأل رسول الله عن الآية وقال: يا نبي الله
من هم؟ قال: أنت أولهم.
ب) وعن مجاهد: " وأولي الأمر منكم " قال: علي بن أبي طالب ولاه الله
الامر بعد محمد في حياته حين خلفه رسول الله بالمدينة فأمر الله العباد بطاعته وترك
الخلاف عليه. "
ج) وعن أبي بصير، عن أبي جعفر:
" أنه سأله عن قول الله " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال:
نزلت في علي بن أبي طالب قلت: ان الناس يقولون: فما منعه أن يسمي عليا وأهل بيته
في كتابه فقال أبو جعفر: قولوا لهم إن الله أنزل على رسوله الصلاة ولم يسم ثلاثا ولا
أربعا حتى كان رسول الله هو الذي يفسر ذلك، وأنزل الحج فلم ينزل طوفوا أسبوعا

(1) سورة النساء: الآية 59.
311

حتى فسر لهم ذلك رسول الله، وأنزل " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم " فنزلت في علي والحسن والحسين وقال رسول الله صلى الله عليه وآله أوصيكم
بكتاب الله وأهل بيتي اني سألت الله ان لا يفرق بينهما حتى يردا علي الحوض
فأعطاني ذلك. " (1)
قول النبي (ص) مثل أهل بيتي كسفينة نوح (ع) ومثل باب حطة في بني إسرائيل
روى من الصحابة وأهل البيت كل من الإمام علي وأبو ذر وأبو سعيد الخدري
وابن عباس وأنس بن مالك.
ان رسول الله (ص) قال: " مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن
تخلف عنها غرق ".
وفي ألفاظ بعضهم:
" ومثل باب حطة في بني إسرائيل ".
المصادر:
ذخائر العقبى للمحب الطبري ص: 20.
مستدرك الحاكم (ج 2 / 343 و ج 3 / 150.
حلية الأولياء لأبي نعيم (ج 4 / 306).
تاريخ بغداد للخطيب (ج 12 / 19).
مجمع الزوائد للهيتمي (ج 9 / 168).
الدر المنثور للسيوطي بتفسير الآية: " وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر
لكم خطاياكم ".
كنز العمال، ط، الأولى، (ج 6 / 153 و 216).
الصواعق لابن حجر، ص: 75، رواها عن الدارقطني والطبراني وابن
جرير وأحمد بن حنبل وغيرهم.

(1) الأحاديث: أ، ب، ج وردت متواليات في شواهد التنزيل 1 / 148 - 150.
312

الأئمة علي وبنوه عليهم السلام
مبلغون عن رسول الله صلى الله عليه وآله
حصر القرآن الكريم في عدة آيات وظيفة الرسل في التبليغ مثل قوله تعالى:
" ما على الرسول الا البلاغ " (1). وقوله " وما على الرسول الا البلاغ المبين " (2) وقوله:
" إنما على رسولنا البلاغ المبين " (3)، وقوله " فهل على الرسل الا البلاغ المبين " (4).
وحصر كذلك وظيفة خاتم الرسل خاصة في التبليغ بقوله تعالى " فإنما عليك
البلاغ " (5)، وقوله " إن عليك الا البلاغ " (6).
وينقسم التبليغ إلى تبليغ مباشر وتبليغ بواسطة، والى تبليغ ما حان وقت عمله
وما لم يحن، مثل حكم الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين وواجب المسلمين تجاه الحاكم
الجائز وينقسم ما يبلغه الرسول إلى قسمين:
أ) ما أوحي إلى الرسول لفظه ومعناه وهو كتاب الله ويسمى في هذه الأمة
بالقرآن الكريم قال سبحانه " وأوحي إلي هذا القران لأنذركم به ومن بلغ " (7).

(1) سورة المائدة: الآية 99.
(2) سورة النور: الآية 54 وسورة العنكبوت: الآية 18.
(3) سورة المائدة: الآية 92، وسورة التغابن: الآية 12.
(4) سورة النحل: الآية 35.
(5) سورة آل عمران: الآية 20، وسورة النحل: الآية 35، وسورة الرعد: الآية 13.
(6) سورة الشورى: الآية 48.
(7) سورة الأنعام: الآية 19.
313

ب) ما أوحي إلى الرسول معناه دون لفظه وبلغه الرسول بلفظه الشريف مثل
تبليغه تفصيل احكام الشرع، قال الله سبحانه " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا
والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا
فيه " (1).
ان الرسول عندما يعين عدد ركعات الصلاة وأذكارها ويبين سائر احكامها
وسائر احكام الشرع الاسلامي، أو يبلغ أنباء الأمم السابقة والغيوب الآتية في هذه
الدنيا أو العالم الاخر، إنما يبلغ ما أوحى إليه في غير القرآن الكريم وما ينطق عن الهوى
ان هو الا وحي يوحى ويسمى هذا النوع من التبليغ في هذه الأمة بالحديث النبوي
الشريف.
حصرت الآيات السابقة وظيفة الرسول بالتبليغ، وعلى هذا فان الصفة المميزة
للرسول هي التبليغ، وإذا قال الرسول عن شخص (إنه مني) يعني انه منه في أمر التبليغ
ولا نقول هذا اعتباطا، بل قد وجدنا الرسول يصرح بذلك في قسم من تلك الأحاديث
مثل ما ورد في قصة تبليغ آيات البراءة التالية:
قصة تبليغ آيات البراءة
وردت قصة تبليغ سورة البراءة في صحيح الترمذي وتفسير الطبري وخصائص
النسائي ومستدرك الصحيحين وغيرها، عن انس وابن عباس وسعد بن أبي وقاص
و عبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري وعمر بن ميمون وعلي بن أبي طالب (2)، وأبي بكر،
ونختار هنا ذكر رواية أبي بكر الواردة في مسند أحمد، إلى قوله: قال أبو بكر:
" ان النبي بعثه ببراءة لأهل مكة، لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت
عريان ولا يدخل الجنة الا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه
وسلم مدة فأجله إلى مدة، والله برئ من المشركين ورسوله، قال فسار بها ثلاثا ثم قال
لعلي " الحقه فرد علي أبا بكر وبلغها أنت " قال: ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله

(1) سورة الشورى: الآية 13.
(2) صحيح الترمذي 13 / 164 - 165، ومسند أحمد 1 / 151 و 330 و 3 / 283 وراجع ج 1 / 150،
وخصائص النسائي ص 28 - 29، وتفسير الطبري 10 / 46، ومستدرك الصحيحين 3 / 51، ومجمع الزوائد
7 / 29 و 9 / 119.
314

عليه وسلم أبو بكر بكى وقال: يا رسول الله حدث في شئ؟ قال: " ما حدث فيك الا
خير، ولكني أمرت ان لا يبلغه الا أنا أو رجل مني " (1).
وفي رواية عبد الله بن عمر:
" ولكن قيل لي: أنه لا يبلغ عنك الا أنت أو رجل منك " (2).
وفي رواية أبي سعيد الخدري:
" لا يبلغ عني غيري أو رجل مني " (3).
تدلنا القرائن الحالية والمقالية في المقام، ان القصد من التبليغ في هذه
الروايات وما شابهها تبليغ ما أوحى الله إلى رسوله من احكام إلى المكلفين بها في بادئ
الامر، وهذا ما لا يقوم به الا الرسول أو رجل من الرسول.
ويقابل هذا التبليغ التبليغ الذي يقوم به المكلفون بتلك الاحكام بعدما بلغوا
بها بواسطة الرسول أو رجل من الرسول فان لهم عند ذاك ان يقوموا بتبليغها إلى غيرهم،
ويطرد جواز هذا التبليغ ورجحانه ويتسلسل مع كل من بلغه الحكم إلى أبد الدهر.
وواضح أن الرسول عنى بقوله " لا يبلغ عني غيري أو رجل مني التبليغ من
النوع الأول ".
ويفسر أيضا لفظ " مني " في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله حديث
المنزلة الآتي:
علي من النبي بمنزلة هارون من موسى
في صحيح البخاري، ومسلم، ومسند الطيالسي، واحمد، وسنن الترمذي،
وابن ماجة وغيرها (4) واللفظ للأول، ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي:

(1) مسند أحمد 1 / 3 الحديث 4 من مسند أبي بكر وقال احمد شاكر: " اسناده صحيح " وراجع كنز
العمال وذخائر العقبي.
(2) في مستدرك الصحيحين 3 / 51.
(3) في الدر المنثور بتفسير " براءة من الله ".
(4) صحيح البخاري 2 / 200 باب مناقب علي بن أبي طالب وصحيح مسلم ج 7 / 120 باب من
فضائل علي بن أبي طالب والترمذي ج 13 / 171 باب مناقب علي والطيالسي ج 1 / 28 و 29 و ح 205 و
209 و 213 وابن ماجة باب فضل علي بن أبي طالب ح 115، ومسند أحمد ج 1 / 170 و 173 - 175 و 177
و 179 و 182 و 184 و 185 و 330 و ج 3 / 32 و 338 و ج 6 / 369 و 438، ومستدرك الحاكم ج 2 / 337،
وطبقات ابن سعد 3 / 1 / 14 و 15، ومجمع الزوائد ج 9 / 109 - 111، ومصادر أخرى كثيرة.
315

" أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه ليس نبي بعدي "
ولفظ مسلم وغيره:
" الا انه لا نبي بعدي ".
وفي رواية ابن سعد في الطبقات عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم قالا: لما
كان عند غزوة جيش العسرة وهي تبوك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن
أبي طالب: انه لابد من أن أقيم أو تقيم، فخلفه، فلما فصل رسول الله صلى الله عليه
وسلم، غازيا قال ناس: ما خلف عليا الا لشئ كرهه منه فبلغ ذلك عليا فاتبع رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليه فقال له: ما جاء بك يا علي؟ قال: لا يا رسول
الله الا اني سمعت ناسا يزعمون انك إنما خلفتني لشئ كرهته مني، فتضاحك رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا علي اما ترضى أن تكون مني كهارون من موسى
غير انك لست بنبي؟ قال: بلى يا رسول الله، قال فإنه كذلك (1) وقد مر بعض ألفاظ
الحديث في باب من استخلفه النبي صلى الله عليه وآله على المدينة في غزواته.
المراد من لفظ " مني " في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله:
إن لفظ " مني " في حديث " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " يوضح
المراد من هذه اللفظ في أحاديث الرسول الأخرى، وذلك أن هارون لما كان شريك
موسى في النبوة ووزيره في التبليغ وكان علي من خاتم الأنبياء بمنزلة هارون من
موسى باستثناء النبوة يبقى لعلي الوزارة في التبليغ، وعلى هذا فان الرسول فسر لفظ
" مني " في هذه الأحاديث بكل وضوح وجلاء ان القصد منه انه منه في مقام التبليغ
عن الله إلى المكلفين بلا واسطة، ومن ثم يتضح معنى " مني " في أحاديث أخرى
للرسول صلى الله عليه وآله في حق الإمام علي والذي ورد فيها غير مفسرة.

(1) طبقات ابن سعد ج 3 / ق 1 / 15، ومجمع الزوائد للهيتمي ج 9 / 111 باختلاف يسير.
316

مثل ما ورد في رواية بريدة في خبر الشكوى ان الرسول صلى الله عليه وآله
قال له: " لا تقع في علي فإنه مني و... " (1).
ورواية عمران بن حصين: " ان عليا مني... " (2).
في كل هذه الروايات قصد الرسول (ص) أن عليا والأئمة (ع) من ولده، من
رسول الله صلى الله عليه وآله في حمل أعباء التبليغ إلى المكلفين مباشرة وظيفتهم من
نوع وظيفته، وعلى هذا فهم منه وهو منهم، يشتركون في التبليغ ويختلفون في أنه يأخذ
الاحكام التي يبلغها من الله عن طريق الوحي، وهم يأخذونها عن طريق رسول الله
صلى الله عليه وآله فهم مبلغون عن رسول الله إلى الأمة وقد أعدهم الله ورسوله لحمل
أعباء التبليغ وذلك بما عصمهم الله من الرجس وطهرهم تطهيرا كما أخبر سبحانه عن
ذلك في آية التطهير، وبما أفاض الرسول على الإمام علي خاصة مما أوحى الله إليه ثم
ورث الأئمة من أبيهم الإمام علي ذلك واحدا بعد الاخر كما نصت على ذلك الروايات
الآتية.
حامل علوم الرسول صلى الله عليه وآله
في تفسير الرازي وكنز العمال قال علي:
" علمني رسول الله صلى الله عليه وآله الف باب من العلم وتشعب لي من
كل باب الف باب " (3).
وفي تفسير الطبري وطبقات ابن سعد وتهذيب التهذيب وكنز العمال وفتح
الباري واللفظ للأخير:
عن أبي الطفيل قال: شهدت عليا وهو يخطب وهو يقول: سلوني فوالله لا
تسألوني عن شئ يكون إلى يوم القيامة الا حدثتكم به، وسلوني عن كتاب الله فوالله
ما من آية الا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل... " (4).
ومن هنا قال في حقه رسول الله صلى الله عليه وآله كما رواه جابر بن عبد الله

(1) مضى ذكر سندهما في باب: ولي أمر المسلمين.
(2) مضى ذكر سندهما في باب: ولي أمر المسلمين.
(3) بتفسير الآية " ان الله أصطفى آدم... " وكنز العمال ج 6 / 392 و 405.
(4) تفسير ابن جرير ج 26 / 116، وطبقات ابن سعد ج 2 / ق: 2 / 101، وتهذيب التهذيب
ج 7 / 337، وفتح الباري ج 10 / 221، وحلية الأولياء ج 1 / 67، وكنز العمال ج 1 / 228.
317

" أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب " قال الحاكم هذا حديث
صحيح الاسناد (1).
وفي رواية: فمن أراد العلم فليأت الباب (2).
وفي رواية:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وهو آخذ بيد علي
(عليه السلام) يقول: هذا أمير البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من
خذله، - يمد بها صوته - أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد البيت فليأت الباب " (3).
ولفظه في رواية ابن عباس:
" آنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها " (4).
وفي رواية الإمام علي، قال رسول الله (ص):
" أنا دار العلم وعلي بابها " (5).
وقال في حقه أيضا كما رواه ابن عباس:
" أنا مدينة الحكمة وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأت الباب " (6).
وفي رواية الإمام علي، قال رسول الله (ص):
" أنا دار الحكمة وعلي بابها " (7).
وقال في حقه كما في رواية أبي ذر:
" على باب علمي ومبين لامتي ما أرسلت به بعدي... " (8).

(1) مستدرك الصحيحين ج 3 / 126. وفي ص: 127 منه بطريق اخر، وفي تاريخ بغداد ج 4 / 348 و
ج 7 / 172 و ج 11 / 48 وفي ص 49 منه عن يحيى بن معين أنه صحيح وفي أسد الغابة 4 / 22 ومجمع الزوائد
ج 9 / 114 وتهذيب التهذيب 6 / 320 و 7 / 427، وفي متن فيض القدير 3 / 46، وكنز العمال ط 2، ج
12 / 201 ح 1130، والصواعق المحرقة / 73.
(2) مستدرك الصحيحين 3 / 127.
(3) تاريخ بغداد للخطيب ج 2 / 377.
(4) كنز العمال ط 2، ج 12 / 212، ح 1219، وراجع كنوز الحقائق للمناوي.
(5) الرياض النضرة ج 2 / 193.
(6) تاريخ بغداد للخطيب ج 11 / 204، وصحيح الترمذي.
(7) صحيح الترمذي ج 13 / 171 باب مناقب علي بن أبي طالب، قال وفي الباب عن ابن عباس،
وحلية الأولياء لأبي نعيم ج 1 / 64، كنز العمال ط. 1، ج 6 / 156.
(8) كنز العمال ط. 1 ج 6 / 156.
318

وقال كما في رواية انس بن مالك:
ان النبي (ص) قال لعلي (ع):
" أنت تبين لامتي ما اختلفوا فيه بعدي " قال الحاكم: هذا حديث صحيح على
شرط الشيخين:
وفي رواية قال له:
" أنت تؤدي عني وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي " (2).
وقد يسر الله لخاتم أنبيائه أن يزق ابن عمه العلم فيما هيأ لهما من الاجتماع في
بيت واحد منذ أن كان الإمام علي طفلا كما رواه الحاكم:
" كان من نعم الله على علي بن أبي طالب (ع) ما صنع الله واراده به من الخير،
أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب في عيال كثير فقال رسول الله (ص):
لعمه العباس - وكان من أيسر بني هاشم - يا أبا الفضل ان أخاك أبا طالب كثير
العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأمة فانطلق بنا إليه نخفف عنه من عياله
آخذ أنا من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفلهما عنه، فقال العباس: نعم، فانطلقا
حتى أتيا أبا طالب، فقالا: انا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى تنكشف عن
الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما. فأخذ رسول
الله (ص) عليا فضمه إليه وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه فلم يزل علي (ع) مع رسول
الله (ص) حتى بعثه الله نبيا فاتبعه وصدقه وأخذ العباس جعفرا وضمه إليه ولم يزل
جعفر مع العباس حتى أسلم واستغنى عنه " (3).
وروى عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده (ع) قال:
" أشرف رسول الله (ص) من بيت ومعه عماه العباس وحمزة. وعلي وجعفر
وعقيل في أرض يعملون فيها، فقال رسول الله (ص) لعميه: اختارا من هؤلاء، فقال
أحدهما: اخترت جعفرا، وقال الآخر: اخترت عقيلا، فقال: خيرتكما فاخترتما فاختار
الله لي عليا " (4).

(1) مستدرك الصحيحين ج 3 / 122 وكنز العمال ط. 1، ج 6 / 156، وراجع المناوي في كنوز
الحقائق ص 188.
(2) حلية الأولياء ج 1 / 63
(3) مستدرك الصحيحين ج 3 / 576.
(4) مستدرك الصحيحين ج 3 / 576 - 577.
319

وقد أخبر الامام بنفسه عن ذلك وقال:
" وقد علمتم موضعي من رسول الله - صلى الله عليه وآله - بالقرابة
القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره، ويضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه
ويمسني جسده ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في
قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به، صلى الله عليه وآله، من لدن أن كان فطيما
أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره،
ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني
بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت
واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله، وخديجة، وأنا ثالثهما، أرى
نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة.
ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه، صلى الله عليه وآله، فقلت
يا رسول الله، ما هذه الرنة؟ (1) فقال: " هذا الشيطان أيس من عبادته، انك تسمع ما
اسمع، وترى ما أرى، الا إنك لست بنبي، ولكنك وزير، وإنك لعلى خير ". ولقد
كنت معه، صلى الله عليه وآله، لما أتاه الملا من قريش، فقالوا له: يا محمد، انك قد
ادعيت عظيما لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمرا ان (أنت) أجبتنا
إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول، وان لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب. فقال
صلى الله عليه وآله: وما تسألون؟ قالوا: تدعوا لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها
وتقف بين يديك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ان الله على كل شئ قدير، فان
فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق؟ قالوا: نعم، قال: فإني سأريكم ما
تطلبون، وأني لاعلم أنكم لا تفيئون إلى خير (2)، وان فيكم من يطرح في القليب (3)، ومن
يحزب الأحزاب، ثم قال صلى الله عليه وآله: يا أيتها الشجرة ان كنت تؤمنين بالله
واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بأذن الله.
والذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة

(1) الرنة: الصيحة الحزينة.
(2) لا تفيئون: لا ترجعون.
(3) القليب - كأمير - البئر، والمراد منه قليب بدر طرح فيه نيف وعشرون من أكابر قريش،
والأحزاب: طوائف متفرقة من القبائل اجتمعوا على حربه صلى الله عليه وآله في وقعة الخندق.
320

الطير (1)، حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله مرفرفة، وألقت بغصنها
الاعلى على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وببعض أغصانها على منكبي،
وكنت عن يمينه صلى الله عليه وآله، فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علوا
واستكبارا: فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها، فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها
كأعجب اقبال وأشده دويا، فكانت تلتف برسول الله صلى الله عليه وآله،
فقالوا كفرا وعتوا: فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره، صلى الله عليه
وآله وسلم، فرجع فقلت أنا: لا إله إلا الله، فأني أول مؤمن بك يا رسول الله، وأول
من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقا بنبوتك واجلالا لكلمتك،
فقال القوم كلهم: بل ساحر كذاب عجيب السحر خفيف فيه، وهل يصدقك في أمرك
الا مثل هذا؟ (يعنوني) (2).
هكذا كان رسول الله (ص) يرفع للامام في صغره كل يوم من أخلاقه علما
ويأمره بالاقتداء به، ويزقه العلم زقا في كبره ويخصه بمناجاته.
وقد ورد في صحيح الترمذي وغيره واللفظ للترمذي عن جابر قال:
" دعا رسول الله (ص) عليا (ع) يوم الطائف فانتجاه، فقال الناس: لقد طال
نجواه مع ابن عمه فقال رسول الله (ص): ما انتجيته ولكن الله انتجاه " (3).
وفي رواية:
" لما كان يوم الطائف دعا رسول الله (ص) عليا فناجاه طويلا فقال بعض
أصحابه... " الحديث (4).
وفي رواية جندب بن ناجية أو ناجية بن جندب:
" لما كان يوم غزوة الطائف قام النبي (ص) مع علي (ع) مليا ثم مر، فقال له
أبو بكر: يا رسول لله لقد طالت مناجاتك عليا منذ اليوم، فقال: ما انا انتجيته ولكن
الله انتجاه " (5).

(1) القصف: الصوت الشديد. و " ريح قاصف " أي: شديدة. و " رعد قاصف " أي: شديد الصوت.
(2) الخطبة 190 من نهج البلاغة، ج 2 ص 182 - 184.
(3) صحيح الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب ج 13 / 173 وتاريخ بغداد
للخطيب ج 7 / 402.
(4) أسد الغابة ج 4 / 27.
(5) كنز العمال ط 2 ج 12 / 200، ح 1122، والرياض النضرة 2 / 265.
321

وكان الإمام علي حريصا على أن يتلقى من رسول الله (ص) ولما نزلت " يا
أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " (1).
قال الطبري:
" نهوا عن مناجاة النبي (ص) حتى يتصدقوا فلم يناجه أحد الا علي بن
أبي طالب " (2).
وفي أسباب النزول للواحدي وغيره عن الإمام علي:
" كان لي دينار فبعته وكنت إذا ناجيت الرسول (ص) تصدقت بدرهم حتى
نفد " (3).
وفي رواية:
" كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم فكنت إذا جئت إلى
النبي (ص) " (4).
وروى الزمخشري في تفسير الآية:
" أنه تصدق في عشر كلمات سألهن رسول الله (ص) ".
وفي رواية عن الامام:
ان في كتاب الله لاية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي:
آية النجوى " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم... " الآية (1)، كان عندي
دينار... إلى قوله: ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت " أأشفقتم ان تقدموا بين يدي
نجواكم صدقات... " (5).
هكذا كان مع رسول الله (ص) ولم يفارقه حتى آخر لحظة من حياته.
قالت عائشة:
قال رسول الله (ص): لما حضرته الوفاة: " ادعوا لي حبيبي، فدعوا له أبا بكر،
فنظر إليه ثم وضع رأسه ثم قال: ادعوا لي حبيبي، فدعوا له عمر فلما نظر إليه، وضع
رأسه، ثم قال ادعوا لي حبيبي، فدعوا له عليا (ع) فلما رآه ادخله في الثوب الذي كان

(1) سورة المجادلة: الآية 12، تفسير السيوطي 6 / 185.
(2) تفسير الطبري ج 28 / 14، والدر المنثور 6 / 185.
(3) أسباب النزول للواحدي ص 308، الطبري في تفسير الآية.
(4) تفسير الآية في الدر المنثور 6 / 185، والرياض النضرة 2 / 265.
(5) سورة المجادلة: الآية 13. وتفسير السيوطي 6 / 185، والرياض النضرة 2 / 265.
322

عليه فلم يزل يحتضنه حتى قبض ويده عليه " (1).
وعن ابن عباس:
" ان النبي ثقل وعنده عائشة وحفصة إذ دخل علي (ع) فلما رآه النبي (ص)
رفع رأسه ثم قال: ادن مني، ادن مني فاسنده فلم يزل عنده حتى توفي " (2).
وعن أم سلمة قالت:
" والذي أحلف به إن كان علي (ع) لأقرب الناس عهدا برسوله الله (ص)
عدنا رسول الله (ص) غداة وهو يقول: جاء علي؟ جاء علي؟ مرارا فقالت فاطمة:
كأنك بعثته في حاجة، قالت فجاء بعد، قالت أم سلمة فظننت أن له إليه حاجة
فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب وكنت من أدناهم إلى الباب، فأكب عليه رسول
الله (ص) وجعل يساره ويناجيه ثم قبض رسول الله من يومه ذلك، فكان علي أقرب
الناس عهدا. (قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد) " (3).
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص):
" من سره أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي،
فليوال عليا من بعدي، وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من
طينتي، رزقوا فهما وعلما، وويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، القاطعين فيهم صلتي لا
أنالهم الله شفاعتي " (4).

(1) الرياض النضرة 2 / 180، وذخائر العقبى ص 72.
(2) مجمع الزوائد ج 9 / 36.
(3) مسند أحمد ج 6 / 300، وخصائص النسائي ص 40 ومستدرك الصحيحين ج 3 / 138 - 139.
(4) حلية أبي نعيم 1 / 86.
323

ما ورد في حق سبطي رسول الله
صلى الله عليه وآله
ذكرنا في ما سبق شيئا مما ورد في حق الامام الأول علي بن أبي طالب وفي
ما يأتي نذكر ما ورد في حق سبطي رسول الله منها قوله هذا مني وقد عرفنا معنى مني في
البحث السابق.
الحسن والحسين من رسول الله وسبطاه.
في مسند أحمد عن المقدام بن معدي كرب:
ان رسول الله وضع الحسن في حجره وقال: " هذا مني... ".
وعن البراء بن عازب قال:
قال النبي (ص) للحسن أو الحسين " هذا مني " (2).
وروى البخاري والترمذي وابن ماجة واحمد والحاكم عن يعلى بن مرة ان
رسول الله (ص) قال:
" حسين مني وانا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من
الأسباط " (3).

(1) كنز العمال ج 16 / 270.
(2) مسند أحمد ج 4 / 132 وكنز العمال ج 13 / 99 و 100 و ج 16 / 262 ومنتخب الكنز ج 5 / 106
والجامع الصغير بشرح فيض القدير ج 3 / 145.
(3) البخاري في الأدب المفرد باب معانقة الصبي ح - 364، والترمذي ج 13 / 195 في باب مناقب
الحسن والحسين وابن ماجة المقدمة باب 11، ح - 144، ومسند أحمد ج 4 / 172، ومستدرك الحاكم
ج 3 / 177، ووصف هو والذهبي الحديث بأنه صحيح، وأسد الغابة ج 2 / 19 و ج 5 / 130.
324

وفي رواية:
" الحسن والحسين سبطان من الأسباط " (1).
وعن أبي رمثة قال رسول الله (ص):
" حسين مني وأنا منه هو سبط من الأسباط " (2).
وفي رواية:
" الحسن والحسين سبطان من الأسباط " (3).
وعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله (ص):
" حسين مني وأنا منه أحب الله من أحبه، الحسن والحسين سبطان من
لأسباط " (4).
ان قول رسول الله (ص): " مني " في هذه الروايات بحق الحسنين نظير قوله
بحق أبيهما الإمام علي، أراد في جميعها، انهم منه في مقام تبليغ احكام الاسلام.
وكذلك نرى ان قوله في حقهما انهما سبطان من الأسباط، لا يعني أنهما حفيدان
كما أن جميع البشر ما عداهما حفدة، فهذا هذر من القول حاشا رسول الله (ص) منه، بل إن
الألف واللام في الأسباط للعهد الذهني من القرآن الكريم، أي انهما من الأسباط
المذكورين في كتاب الله في قوله تعالى:
" قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما انزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين
أحد منهم ونحن له مسلمون " (5).
وقوله تعالى:
" أم تقولون ان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو
نصارى... " (6)
وقوله تعالى:

(1) كنز العمال ج 16 / 270.
(2) كنز العمال ج 13 / 106.
(3) كنز العمال ج 13 / 101 و 105.
(4) كنز العمال ج 16 / 270.
(5) سورة البقرة: الآية 136.
(6) سورة البقرة: الآية 14.
325

" قل آمنا بالله وما انزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
ويعقوب والأسباط... " (1).
وقوله تعالى:
" انا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون
وسليمان... " (2).
وعليه فأن الألف واللام في " الأسباط " في حديث رسول الله (ص) بحق
الحسنين للعهد الذهني عند المسلمين من هذه الآيات، وأن قول رسول الله (ص) في
حقهما نظير قوله في حق ا؟؟ هما: أنه منه بمنزلة هارون من موسى وقد شرح الله سبحانه تلك
المنزلة فيما حكى عن موسى أنه قال:
" واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري
كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا انك كنت بنا بصيرا قال: قد أوتيت سؤلك يا
موسى... " (3).
وقوله تعالى:
" وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف
أن يكذبون، قال سنشد عضدك بأخيك... " (4).
وقوله تعالى:
" وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل
المفسدين... " (5).
وفيما أخبر سبحانه عنهما وقال:
" ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا... " (6).
وقال:

(1) سورة آل عمران 84.
(2) سورة النساء 163.
(3) سورة طه: الآيات 29 - 36.
(4) سورة القصص: الآية 33.
(5) سورة الأعراف: الآية 142.
(6) سورة الفرقان: الآية 35.
326

" ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين... " (1).
في هذه الآيات جعل الله هارون ردءا لموسى ووزيرا وشريكا في النبوة
استخلفه موسى في قومه، فلما نص خاتم الأنبياء أن عليا منه بمنزلة هارون من موسى
واستثنى من كل ذلك النبوة وأنه لا نبي بعده، بقي منها للإمام علي ردء ووزراة
ومشاركة في التبليغ على عهد الرسول (ص)، ومن بعده الخلافة في قومه وحمل أعباء
التبليغ، وكذلك الامر مع ولديه الحسنين ونستثني النبوة مما كان للأسباط لأنه لا نبي
بعد خاتم الأنبياء،، ويبقى لهما حمل مسؤلية تبليغ الأحكام الاسلامية عن الله.

(1) سورة المؤمنون: الآية 45.
327

بشارات النبي صلى الله عليه وآله
بظهور المهدي عليه السلام في آخر الزمان
المهدي عليه السلام يواطئ اسمه اسم النبي صلى الله عليه وآله
صحيح الترمذي في باب ما جاء في المهدي عليه السلام وأبو داود في كتاب
المهدي وغيرهما قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم:
" لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه
اسمي " (1).
في مستدرك الصحيحين ومسند أحمد وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال
رسول الله صلى الله عليه و (آله) وسلم:
" لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا ثم يخرج من أهل بيتي
من يملاها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا " (2).
ان المهدي عليه السلام من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله
في صحيح ابن ماجة في أبواب الجهاد عن أبي هريرة قال: رسول الله صلى

(1) صحيح الترمذي ج 9 ص 74، ورواه أبو داود في صحيحه في كتاب المهدي ج 2 ص 7، وطبعة دار
إحياء السنة النبوة (د - ت) ج 4 / 106 - 107، ح 4282، وأبو نعيم في حليته 5 / 75، وأحمد بن حنبل في
مسنده ج 1 ص 376، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج 4 ص 388 وكنز العمال (ط. الأولى) ج 7 / 188
بزيادة " وخلقه خلقي ". والسيوطي في تفسير سورة محمد صلى الله عليه وآله في تفسير الآية " فهل ينظرون الا
الساعة... " الدر المنثور ج 6 / 58.
(2) مستدرك الصحيحين ج 4 / 557، ورواه أبو نعيم في حليته ج 3 ص 101 باختلاف يسير في اللفظ
وأحمد بن حنبل في مسنده ج 3 ص 36 وغيرهم، والسيوطي في تفسير الآية " فهل ينظرون الا الساعة... " من
سورة محمد صلى الله عليه وآله ج 6 / 58.
328

الله عليه (وآله) وسلم: " لو لم يبق من الدنيا الا يوم لطوله الله عز وجل حتى يملك رجل
من أهل بيتي، يملك جبل الديلم والقسطنطينية ".
وفي صحيح ابن ماجة - أيضا - في أبواب الفتن في باب خروج المهدي
ومسند أحمد وغيرهما، عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه (وآله)
وسلم: " المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة " ورواه آخرون أيضا (1).
وفي مستدرك الصحيحين قال: عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله
عليه (وآله) وسلم أنه قال: " المهدي منا أهل البيت، أشم الانف اقنى اجلى يملأ الأرض
قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما يعيش هكذا - وبسط يساره وإصبعين
يمينة المسبحة والابهام وعقد ثلاثة " - قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم
يخرجاه ورواه أبو داود أيضا (2).
المهدي من ولد فاطمة
وفي صحيح أبي داود عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه
(وآله) وسلم يقول: " المهدي من عترتي من ولد فاطمة " (3).
وفي كنز العمال قال: عن علي عليه السلام قال: " المهدي رجل منا من ولد
فاطمة " (4).

(1) رواه أبو نعيم في حليته ج 3 ص 177 وزاد فقال: في يومين، ورواه أحمد بن حنبل أيضا ج 1
ص 84، وذكر السيوطي في الدر المنثور ج 6 / 58 في تفسير سورة محمد (ص) الآية " فهل ينظرون الا الساعة "
وقال أخرجه ابن أبي شيبة واحمد وابن ماجة عن علي عليه السلام. كتاب الفتن، باب خروج المهدي ج 4085.
(2) مستدرك الصحيحين ج 4 ص 557، وراه أبو داود في صحيحه ج 6 ص 136، كتاب المهدى من
سنن أبي داود ج 4285 ج 4 / 107.
(3) كتاب المهدي، ح 4284 ج 4 / 7 باب خروج المهدى من كتاب الفتن ج 2 / 1368، صحيح
أبي داود ج 7 ص 134، ورواه ابن ماجة في صحيحه في أبواب الفتن في باب خروج المهدي وقال: المهدي من
ولد فاطمة، ورواه الحاكم أيضا في مستدرك الصحيحين ج 4 ص 557 وقال: هو حق - يعني المهدي عليه
السلام - وهو من بني فاطمة وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2 ص 24 وقال: المهدي من ولد فاطمة،
وذكره السيوطي في الدر المنثور في تفسير سورة محمد (ص) من تفسير الآية فهل ينظرون الا الساعة، ج 6 / 58
وقال: أخرجه أبو داود وابن ماجة والطبراني والحاكم عن أم سلمة.
(4) كنز العمال ط. الأولى ج 7 ص 261.
329

المهدي من ولد الحسين
وفي ذخائر العقبى عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه
(وآله) وسلم: " يولد منهما - يعني الحسن والحسين عليهما السلام - مهدي هذه
الأمة " (1).
وفي ذخائر العقبى - أيضا - قال: عن حذيفة ان النبي صلى الله عليه (وآله)
وسلم قال: " لو لم يبق من الدنيا الا يوم واحد لطول ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلا
من ولدي اسمه كاسمي، فقال سلمان من اي ولدك يا رسول الله؟ قال من ولدي هذا
وضرب بيده على الحسين عليه السلام ".
اكد رسول الله صلى الله عليه وآله في رواياته على امامة الامام
الأول علي بن أبي طالب (ع) أكثر من سائر الأئمة وعلى البشارة بآخرهم المهدي وعلى
أن عددهم اثنا عشر لأنه إذا ثبت الأول والآخر والعدد لا يبقى مجال للتشكيك من هم
الأئمة الذين عددهم اثنا عشر وأولهم الإمام علي وآخرهم المهدي سلام الله عليهم
أجمعين.

(1) ذخائر العقبى ص 136.
330

نصوص على امامة أئمة أهل البيت
النصوص الواردة عن رسول الله (ص) على امامة أهل البيت على الأمة من
بعده كثيرة، منها ما ورد في حق جميع أئمة أهل البيت، وأخرى تخص بعضهم، ومما ورد
في عامتهم حديث الثقلين.
حديث الثقلين
أ) في حجة الوداع
روى الترمذي عن جابر قال:
رأيت رسول الله في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته
يقول:
" يا أيها الناس اني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله
وعترتي أهل بيتي ".
قال الترمذي وفي الباب عن أبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد (1).
ب) في غدير خم
في صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن الدارمي والبيهقي وغيرها واللفظ للأول
عن زيد بن أرقم قال:
" إن رسول الله قام خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة... ثم قال:

(1) الترمذي 13 / 199 باب مناقب أهل بيت النبي وراجع كنز العمال 1 / 48.
331

" الا يا أيها الناس فإنما انا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، واني تارك
فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به...
وأهل بيتي... " (1).
وفي صحيح الترمذي ومسند أحمد واللفظ للأول:
" اني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من
الاخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى
يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما " (2).
وفي مستدرك الصحيحين:
" كأني قد دعيت فأجبت، اني تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الاخر
كتاب الله وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي
الحوض... " (3).
وفي رواية: أيها الناس اني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما، وهما
كتاب الله وأهل بيتي عترتي....
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين (4).
وقد ورد هذا الحديث بألفاظ أخرى في مسند أحمد وحلية الأولياء وغيرهما (5)
عن زيد بن ثابت.
في الحديث السابق أخبر الرسول في آخر سنة من حياته: أنه بشر، أوشك أن

(1) صحيح مسلم باب فضائل علي بن أبي طالب ومسند أحمد 4 / 366، وسنن الدارمي 2 / 431
باختصار، وسنن البيهقي 2 / 148 و 7 / 30 منه باختلاف يسير في اللفظ. وراجع الطحاوي في مشكل الآثار
4 / 368.
(2) الترمذي 13 / 201، وأسد الغابة 2 / 12 في ترجمة الإمام الحسن، والدر المنثور في تفسير آية المودة من
سورة الشورى.
(3) مستدرك الصحيحين وتلخيصه 3 / 109، وخصائص النسائي ص 30، وفي مسند أحمد 3 / 17:
" اني أوشك ان ادعى فأجيب وفي ص 14 و 26 و 59 منه أكثر تفصيلا، وطبقات ابن سعد 2 ق 2 / 2 وكنز
العمال 1 / 47 و 48 وفي 97 موجزا.
(4) مستدرك الصحيحين 3 / 109 بطريقين وقريب منه ما في 3 / 148.
(5) مسند أحمد 4 / 367 و 371 وفي 5 / 181، وتاريخ بغداد للخطيب 8 / 442، وحلية الأولياء 1 / 355
و 9 / 64، وأسد الغابة 3 / 147، ومجمع الزوائد للهيثمي 9 / 163 و 164.
332

يأتيه رسول ربه، ويدعى فيجيب ويلتحق بربه، وقال: " اني تارك فيكم ما إن
تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الاخر كتاب الله حبل ممدود من السماء
إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني
فيهما. "
قاله مرة في عرفة وأخرى في غدير خم، وهذا النص من رسول الله في تعيين
مرجع الأمة من بعده عم جميع الأئمة من عترته، وفي الروايات التالية:
نص الرسول (ص) على عددهم:
حديث عدد الأئمة:
أخبر الرسول أن عدد الأئمة الذين يلون من بعده اثنا عشر كما روى عنه ذلك
أصحاب الصحاح والمسانيد الآتية:
أ) روى مسلم عن جابر بن سمرة أنه سمع النبي يقول:
" لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم
من قريش ".
وفي رواية: " لا يزال أمر الناس ماضيا... ".
وفي حديثين منهما: " إلى اثني عشر خليفة... ".
وفي سنن أبي داود " حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة ".
وفي حديث: " إلى اثني عشر " (1).
وفي البخاري، قال: " سمعت النبي (ص) يقول: يكون اثنا عشر أميرا فقال
كلمة لم اسمعها. فقال أبي، قال: كلهم من قريش ".
وفي رواية: " ثم تكلم النبي (ص) بكلمة خفيت علي فسألت أبي ماذا قال

(1) صحيح مسلم ج 6 / 3 - 4 بباب (الناس تبع لقريش من كتاب الامارة) واخترنا هذا اللفظ من
الرواية لان جابر كان قد كتبها، وفي صحيح البخاري ج 4 / 165، كتاب الأحكام، وصحيح الترمذي باب
ما جاء في الخلفاء من أبواب الفتن، وسنن أبي داود ج 3 / 106، كتاب المهدي، ومسند الطيالسي الحديث 767
و 1278، ومسند أحمد ج 5 / 86 - 90 و 92 - 101 و 106 - 108، وكنز العمال 13 / 26 - 27، وحلية
أبي نعيم 4 / 333 وجابر بن سمرة بن جنادة العامري ثم السوائي، ابن أخت سعد بن أبي وقاص، وحليفهم مات
بالكوفة بعد السبعين، وروى عنه أصحاب الصحاح 146 حديثا، ترجمته بأسد الغابة وتقريب التهذيب وجوامع
السيرة، ص 277.
333

رسول الله (ص)؟ فقال: كلهم من قريش. " (1).
وفي رواية: " لا تضرهم عداوة من عاداهم " (2).
ب) وفي رواية: " لا تزال هذه الأمة مستقيما أمرها، ظاهرة على عدوها، حتى
يمضي منهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، ثم يكون المرج أو الهرج " (3).
ج) وفي رواية: " يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيما لا يضرهم من خذلهم كلهم
من قريش " (4).
د) " لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا " (5).
ه‍) وعن أنس: " لن يزال هذا الدين قائما إلى اثني عشر من قريش فإذا هلكوا
ماجت الأرض بأهلها " (6).
و) وفي رواية: " لا يزال أمر هذه الأمة ظاهرا حتى يقوم اثنا عشر كلهم من
قريش " (7).
ز) وروى احمد والحاكم وغيرهم واللفظ للأول عن مسروق قال: " كنا
جلوسا ليلة عند عبد الله (ابن مسعود) يقرئنا القرآن، فسأله رجل فقال: يا أبا
عبد الرحمن هل سألتم رسول الله (ص) كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله: ما
سألني عن هذا أحد منذ قدمت العراق قبلك، قال: سألناه فقال: اثنا عشر عدة نقباء
بني إسرائيل. " (8)

(1) فتح الباري 16 / 338، ومستدرك الصحيحين 3 / 617.
(2) فتح الباري 16 / 338.
(3) منتخب الكنز 5 / 312، تاريخ ابن كثير 6 / 249، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 10، كنز العمال
13 / 26، الصواعق المحرقة ص 28.
(4) كنز العمال 13 / 27، ومنتخبه 5 / 312.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 12 / 202، الصواعق المحرقة ص 18، وتاريخ الاسلام للسيوطي
ص 10.
(6) كنز العمال 13 / 27.
(7) كنز العمال 13 / 27 عن ابن النجار.
(8) مسند أحمد 1 / 398 و 406 قال احمد شاكر في هامش الأول اسناده صحيح ومستدرك الحاكم
وتلخيصه للذهبي 4 / 501 وفتح الباري 16 / 339 مختصرا، ومجمع الزوائد 5 / 190، والصواعق المحرقة لابن حجر
ص 12، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 10، والجامع الصغير له 1 / 75، وكنز العمال للمتقي ج 13 / 27، وقال
أخرجه الطبراني ونعيم بن حماد في الفتن، وفيض القدير في شرح الجامع الصغير للمناوي 2 / 458، وأورد
الخبرين ابن كثير في تاريخه عن ابن مسعود باب ذكر الأئمة الاثني عشر الذين كلهم من قريش 6 / 248 - 250.
334

ح) وفي رواية قال ابن مسعود قال رسول الله:
" يكون بعدى من الخلفاء عدة أصحاب موسى " (1).
قال ابن كثير: " وقد روى مثل هذا عن عبد الله بن عمر وحذيفة
وابن عباس " (2). ولست أدرى هل قصد من رواية ابن عباس ما رواه الحاكم الحسكاني
عن ابن عباس أو غيره.
نصت الروايات الآنفة أن عدد الولاة اثنا عشر وأنهم من قريش، وقد بين
الإمام علي في كلامه المقصود من قريش وقال:
" ان الأئمة من قريش في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا يصلح
الولاة من غيرهم " (3). وقال:
" اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة اما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا
لئلا تبطل حجج الله وبيناته... " (4).
وقال ابن كثير:
" وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه: أن الله تعالى بشر إبراهيم
بإسماعيل وأنه ينميه ويكثره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيما ".
وقال: " قال ابن تيمية: وهؤلاء المبشر بهم في حديث جابر بن سمرة وقرر
أنهم يكونون مفرقين في الأمة ولا تقوم الساعة حتى يوجدوا ".
وغلط كثير ممن تشرف بالاسلام من اليهود فظنوا أنهم الذين تدعو إليهم فرقة
الرافضة فأتبعوهم (5).
قال المؤلف:
والبشارة المذكورة، أعلاه في سفر التكوين الأصحاح (17 / الرقم:
18 - 20).

(1) ابن كثير 6 / 248، وكنز العمال 13 / 27، وراجع شواهد التنزيل للحسكاني ج 1 / 455، ح 626.
(2) ابن كثير 6 / 248.
(3) نهج البلاغة الخطبة 142.
(4) ينابيع المودة للشيخ سليمان الحنفي في الباب المائة ص 523، وراجع احياء العلوم للغزالي
ج 1 / 54، وفي حلية الأولياء 1 / 80 بإيجاز.
(5) تاريخ ابن كثير 6 / 249 - 250.
335

في خلاصة الأحاديث الآنفة
نستخلص مما سبق ونستنتج: أن عدد الأئمة في هذه الأمة اثنا عشر على
التوالي، وان بعد الثاني عشر منهم ينتهي عمر هذه الدنيا.
فقد ورد في الحديث الأول:
" لا يزال هذا الذين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر
خليفة... ".
فان هذا الحديث يعين مدة قيام الدين ويحددها بقيام الساعة ويعين عدد الأئمة
في هذه الأمة باثني عشر شخصا.
وفي الحديث الخامس:
" لن يزال هذا الدين قائما إلى اثني عشر من قريش فإذا هلكوا ماجت الأرض
بأهلها ".
ويدل هذا الحديث على تأبيد وجود الدين بامتداد الاثني عشر وأن بعدهم
تموج الأرض ".
وفي الحديث الثامن: حصر عددهم باثني عشر بقوله.
" يكون بعدي من الخلفاء عدة أصحاب موسى ".
ويدل هذا الحديث على أنه لا خليفة بعد الرسول عدا الاثني عشر.
وأن ألفاظ هذه الروايات المصرحة بحصر عدد الخلفاء بالاثني عشر وأن بعدهم
يكون الهرج وتموج الأرض وقيام الساعة تبين ألفاظ الأحاديث الأخرى التي قد
لا يفهم من ألفاظها هذا التصريح.
وبناءا على هذا لابد أن يكون عمر أحدهم طويلا خارقا للعادة في اعمار البشر
كما وقع فعلا في مدة عمر الثاني عشر من الأئمة أوصياء النبي (ص).
حيرتهم في تفسير الحديث
لقد حار علماء مدرسة الخلفاء في بيان المقصود من الاثني عشر في الروايات
المذكورة وتضاربت أقوالهم.
فقد قال ابن العربي في شرح سنن الترمذي:
336

" فعددنا بعد رسول الله (ص) اثني عشر أميرا فوجدنا أبا بكر. عمر. عثمان.
علي. الحسن. معاوية. يزيد. معاوية بن يزيد. مروان. عبد الملك بن مروان. الوليد.
سليمان. عمر بن بعد العزيز. يزيد بن عبد الملك. مروان بن محمد بن مروان.
السفاح... ".
ثم عد بعده سبعا وعشرين خليفة من العباسين إلى عصره، ثم قال:
" وإذا عددنا منهم اثني عشر انتهى العدد بالصورة إلى سليمان وإذا عددناهم
بالمعني كان معنا منهم خمسة، الخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز ولم أعلم للحديث
معنى. " (1).
وقال القاضي عياض في جواب القول: أنه ولي أكثر من هذا العدد:
" هذا اعتراض باطل، لأنه (ص) لم يقل: لا يلي الا اثنا عشر، وقد ولي هذا
العدد، ولا يمنع ذلك من الزيادة عليهم " (2).
ونقل السيوطي في الجواب:
" أن المراد: وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الاسلام إلى القيامة يعملون
بالحق وان لم يتوالوا. " (3).
وفي فتح الباري:
" وقد مضى منهم الخلفاء الأربعة ولابد من تمام العدد قبل قيام الساعة " (4).
وقال ابن الجوزي:
" وعلى هذا فالمراد من (ثم يكون الهرج): الفتن المؤذنة بقيام الساعة من
خروج الدجال وما بعده " (5).
قال السيوطي:
" وقد وجد من الاثني عشر الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر
بن عبد العزيز، هؤلاء ثمانية، ويحتمل ان يضم إليهم المهدى العباسي لأنه في العباسيين
كعمر بن عبد العزيز في الأمويين، والطاهر العباسي أيضا لما أوتيه من العدل ويبقى

(1) شرح ابن العربي على صحيح الترمذي 9 / 68 - 69.
(2) شرح النووي على مسلم 12 / 201 - 202 وفتح الباري 16 / 339 واللفظ منه وكرره في
ص 341.
(3) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 12.
(4) فتح الباري 16 / 341، وتاريخ السيوطي ص 12.
(5) فتح الباري 16 / 341، وتاريخ السيوطي ص 12.
337

الاثنان المنتظران أحدهما المهدي لأنه من أهل البيت " (1).
وقيل:
" المراد: أن يكون الاثنا عشر في مدة عزة الخلافة وقوة الاسلام واستقامة
أموره، ممن يعز الاسلام في زمنه، ويجتمع المسلمون عليه " (2).
وقال البيهقي:
" وقد وجد هذا العدد بالصفة المذكورة إلى وقت الوليد بن يزيد بن عبد الملك
ثم وقع الهرج والفتنة العظيمة ثم ظهر ملك العباسية، وإنما يزيدون على العدد المذكور
في الخبر، إذا تركت الصفة المذكورة فيه، أو عد منهم من كان بعد الهرج المذكور " (3).
وقالوا:
والذين اجتمعوا عليه: الخلفاء الثلاثة ثم علي إلى أن وقع أمر الحكمين في
صفين فتسمى معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمعوا على معاوية عند صلح الحسن، ثم
اجتمعوا على ولده يزيد ولم ينتظم للحسين أمر بل قتل قبل ذلك، ثم لما مات يزيد
اختلفوا إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، ثم اجتمعوا على
أولاده الأربعة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد، ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر
بن عبد العزيز، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك اجتمع الناس عليه بعد
هشام تولى أربع سنين (4).
بناء على هذا فان خلافة هؤلاء الاثني عشر كانت صحيحة لاجماع المسلمين
عليهم وكان الرسول قد بشر المسلمين بخلافتهم له في حمل الاسلام إلى الناس.
قال ابن حجر عن هذا الوجه: " أنه أرجح الوجوه ".
وقال ابن كثير:
" ان الذي سلكه البيهقي ووافقه عليه جماعة من أن المراد هم الخلفاء المتتابعون
إلى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق الذي قدمنا الحديث فيه بالذم والوعيد فإنه

(1) الصواعق المحرقة ص 19، وتاريخ السيوطي ص 12. وعلى هذا يكون لاتباع مدرسة الخلفاء،
امامان منتظران أحدهما المهدي في مقابل منتظر واحد لاتباع مدرسة أهل البيت.
(2) أشار إليه النووي في شرح مسلم 12 / 202 - 203، وذكره ابن حجر في فتح الباري 16 / 338 -
341 والسيوطي في تاريخه ص 12.
(3) نقله ابن كثير في تاريخه 6 / 249 عن البيهقي.
(4) تاريخ الخلفاء ص 11، والصواعق ص 19، وفتح الباري 16 / 341.
338

مسلك فيه نظر، وبيان ذلك أن الخلفاء إلى زمن الوليد بن يزيد هذا أكثر من اثني عشر
على كل تقدير، وبرهانه ان الخلفاء الأربعة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلى خلافتهم
محققة... ثم بعدهم الحسن بن علي كما وقع لان عليا أوصى إليه، وبايعه أهل
العراق... حتى اصطلح هو ومعاوية... ثم ابنه يزيد بن معاوية ثم ابنه معاوية بن
يزيد، ثم مروان بن الحكم ثم ابنه عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد بن عبد الملك، ثم
سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن
عبد الملك، فهؤلاء خمسة عشر، ثم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فان اعتبرنا ولاية ابن
الزبير قبل عبد الملك صاروا ستة عشر، وعلى كل تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن
عبد العزيز، وعلى هذا التقدير يدخل في الاثني عشر يزيد بن معاوية ويخرج عمر بن
عبد العزيز، الذي أطبق الأئمة على شكره وعلى مدحه وعدوه من الخلفاء الراشدين،
واجمع الناس قاطبة على عدله، وان أيامه كانت من أعدل الأيام حتى الرافضة يعترفون
بذلك، فان قال: أنا لا اعتبر الا من اجتمعت الأمة عليه لزمه على هذا القول إن لا يعد
علي بن أبي طالب ولا ابنه، لان الناس لم يجتمعوا عليهما وذلك أن أهل الشام بكمالهم لم
يبايعوهما.
وذكر:
أن بعضهم عد معاوية وابنه يزيد وابن ابنه معاوية بن يزيد، ولم يقيد بأيام
مروان ولا ابن الزبير، لان الأمة لم تجتمع على واحد منهما، فعلى هذا نقول في مسلكه هذا
عاد للخلفاء الثلاثة، ثم معاوية، ثم يزيد، ثم عبد الملك، ثم الوليد بن سليمان، ثم عمر
بن عبد العزيز، ثم يزيد، ثم هشام، فهؤلاء عشرة، ثم من بعدهم الوليد بن يزيد بن
عبد الملك الفاسق، ويلزمه منه اخراج علي وابنه الحسن وهو خلاف ما نص عليه أئمة
السنة بل الشيعة (1).
ونقل ابن الجوزي في " كشف المشكل " وجهين في الجواب:
أولا:
" انه (ص) أشار في حديثه إلى ما يكون بعده وبعد أصحابه، وان حكم
أصحابه مرتبط بحكمه، فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم فكأنه أشار بذلك إلى عدد
الخلفاء من بني أمية، وكأن قوله: " لا يزال الدين " أي الولاية إلى أن يلي اثنا عشر

(1) تاريخ ابن كثير 6 / 249 - 250.
339

خليفة، ثم ينتقل إلى صفة أخرى أشد من الأولى، وأول بني أمية يزيد بن معاوية
واخرهم مروان الحمار، وعدتهم ثلاثة عشر، ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير
لكونهم صحابة، فإذا أسقطنا منهم مروان بن الحكم للاختلاف في صحبته، أو لأنه
كان متغلبا بعد ان اجتمع الناس على عبد الله بن الزبير صحت العدة، وعند خروج
الخلافة من بني أمية وقعت الفتن العظيمة والملاحم الكثيرة حتى استقرت دولة
بني العباس، فتغيرت الأحوال عما كانت عليه تغييرا بينا " (1).
وقد رد ابن حجر في " فتح الباري " على هذا الاستدلال.
ونقل ابن الجوزي الوجه الثاني عن الجزء الذي جمعه أبو الحسين بن المنادى في
المهدي، وأنه قال:
" يحتمل أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، فقد وجدت في
كتاب دانيال: إذا مات المهدي ملك بعده خمسة رجال من ولد السبط الأكبر، ثم خمسة
من ولد السبط الأصغر، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر، ثم يملك
بعده ولده فيتم بذلك اثنا عشر ملكا كل واحد منهم امام مهدي، قال: وفي رواية... ثم
يلي الامر بعده اثنا عشر رجلا: ستة من ولد الحسن وخمسة من ولد الحسين، وآخر من
غيرهم، ثم يموت فيفسد الزمان. "
علق ابن حجر على الحديث الأخير في صواعقه وقال:
" ان هذه الرواية واهية جدا فلا يعول عليها. " (2)
وقال قوم:
" يغلب على الظن انه عليه الصلاة والسلام أخبر - في هذا الحديث -
بأعاجيب تكون بعده من الفتن حتى يفترق الناس في وقت واحد على اثني عشر أميرا،
ولو أراد غير هذا لقال: يكون اثنا عشر أميرا يفعلون كذا فلما أعراهم عن الخبر عرفنا أنه
أراد انهم يكونون في زمن واحد... " (3).
قالوا:
" وقد وقع في المائة الخامسة، فإنه كان في الأندلس وحدها ستة أنفس كلهم

(1) فتح الباري 16 / 340.
(2) فتح الباري 16 / 341، والصواعق المحرقة لابن حجر ص 19.
(3) فتح الباري 16 / 338.
340

يتسمى بالخلافة ومعهم صاحب مصر والعباسية ببغداد إلى من كان يدعى الخلافة في
أقطار الأرض من العلوية والخوارج " (1).
قال ابن حجر:
" وهو كلام من لم يقف على شئ من طرق الحديث غير الرواية التي وقعت في
البخاري هكذا مختصرة... " (2).
وقال:
" ان وجودهم في عصر واحد يوجد عين الافتراق فلا يصح أن يكون المراد " (3).
في الأحاديث السابقة ونظائرها نص رسول الله على مرجع الأمة من بعده
وانهم عترته أهل بيته وأن عددهم اثنا عشر.
هكذا لم يتفقوا على رأي في تفسير الحديث ولست أدري لم لم يقل واحد منهم
ان مدرسة أهل البيت (ع) ترى مصداق هذا الحديث واكمال العدد في الأئمة الاثني
عشر من ال بيت رسول الله (ص)، ولا يتحقق هذا العدد في غيرهم كما رأينا ذلك
انفا.

(1) شرح النووي 12 / 202، وفتح الباري 16 / 339، واللفظ للأخير.
(2) فتح الباري 16 / 338.
(3) فتح الباري 16 / 339.
341

معالم المدرستين - القسم الأول
البحث الثاني
الفصل الرابع
خلاصة بحث الإمامة لدى المدرستين
343

الواقع التاريخي لإقامة الخلافة في صدر الاسلام
ينبغي أن ندرس الواقع التاريخي لإقامة الخلافة قبل البدء بعرض آراء
المدرستين في الخلافة والإمامة.
بداية الامر:
عقد رسول الله في مرض وفاته لواء بيده لمولاه أسامة بن زيد وأمره على جيش
فيه المهاجرون والأنصار، مثل أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد بن أبي وقاص، فعسكر
بالجرف وغضب عليهم لما تكلموا في تأميره أسامة عليهم وقال: انه لخليق بالامارة،
فذهبوا إلى معسكرهم وثقل رسول الله فجاء أسامة وودعه، وقال الرسول أنفذوا بعث
أسامة، وفي ما هموا بالرحيل يوم الاثنين جاءهم الخبر أن الرسول قد حضر (1)، فأقبلوا
إلى المدينة، وحضروا في بيت الرسول فقال هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده
أبدا. فقال عمر ان النبي غلبه الوجع وعندكم كتاب الله، فحسبنا كتاب الله، فلما
أكثروا اللغط والاختلاف قال: قوموا عني، لا ينبغي عند نبي التنازع.
قال ابن عباس: فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي التنازع، فقالوا هجر رسول الله،
وبكى ابن عباس حتى خضب دمعه الحصباء.
موقف الخليفة عمر:
توفي الرسول وأبو بكر غائب بالسنح فأخذ عمر يقول: ما مات رسول الله

(1) حضر: حضره الموت.
345

ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وغاب عن قومه أربعين ليلة، والله ليرجعن
رسول الله فليقطعن أيدي رجال يزعمون أنه مات. وقال: من قال إنه مات علوت رأسه
بسيفي، فتلوا عليه الآية " وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل
انقلبتم على أعقابكم ".
وقال له العباس: ان رسول الله قد مات، هل عند أحدكم عهد من رسول الله
في وفاته فليحدثنا.
لم ينته عمر من كلامه وتهديده حتى أزبد شدقاه، ولما أقبل الخليفة أبو بكر
وتلا الآية سكت عمر.
سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر
اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وجثمان رسول الله (ص) بين أهله
يغسلونه، وأخرجوا سعد بن عبادة - وكان مريضا - فذكر سابقة الأنصار وقال:
استبدوا بهذا الامر، فأجابوا قد وفقت في الرأي ولن نعدو ما رأيت، نوليك هذا الامر،
فسمع بذلك أبو بكر وعمر فأسرعا مع جماعتهم إلى السقيفة، وذكر أبو بكر سابقة
المهاجرين وقال: هم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الامر من بعده ولا ينازعهم
ذلك الا ظالم.
فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار أملكوا عليكم أمركم، فان الناس
في فيئكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم فان أبى هؤلاء الا ما سمعتم، فمنا أمير
ومنهم أمير.
فقال عمر: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن... لا ترضى العرب أن يؤمروكم
ونبيها من غيركم.
وهدد أحدهما الاخر بالقتل.
فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع الا عليا، فتخوف عمر من
الاختلاف وقال لأبي بكر ابسط يدك أبايعك وسبقه بشير بن سعد وبايع فناداه الحباب
بن المنذر: عققت عقاق أنفست على ابن عمك الامارة؟
وبايع عمر وأبو عبيدة، وقالت الأوس لئن وليتها الخزرج مرة لا زالت لهم
الفضيلة عليكم وما جعلوا لكم فيها نصيبا، فبايعوا أبا بكر، فانكسر على سعد بن عبادة
346

والخزرج وكادوا يطؤون سعد بن عبادة، فقال أصحابه اتقوا سعدا لا تطؤوه.
فقال عمر: اقتلوه قتله الله.
ثم قام على رأسه فقال لقد هممت أن أطأك حتى تندر (1) عضوك فأخذ قيس بن
سعد بلحية عمر فقال والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة.
فقال أبو بكر: مهلا يا عمر الرفق هاهنا أبلغ، فأعرض عنه عمر.
فحمل سعد إلى بيته.
وأخرج أبو بكر من السقيفة، وجاءت قبيلة أسلم فبايعت فانتصر بهم أبو بكر،
وأقبلت الجماعة تزفه إلى مسجد رسول الله فصعد المنبر، وشغلوا عن دفن رسول الله حتى
كان يوم الثلاثاء، فجاؤوا إلى المسجد ثانية فجلس أبو بكر على منبر رسول الله ووقف
عمر وقال: ان قوله بالأمس لم يكن من كتاب الله ولا عهدا من رسوله ولكنه كان يرى
أن الرسول صلى الله عليه وآله سيدبر أمرهم ويكون آخرهم، وان الله أبقى فيهم القرآن
يهتدون به وقد جمع أمركم على صاحب رسول الله، قوموا فبايعوه، فبايعه الناس عندئذ
بعد بيعة السقيفة ثم خطب أبو بكر فقال قد وليت عليكم ولست بخيركم فان أحسنت
فأعينوني...
شغلوا عن رسول الله بقية الاثنين وليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء، وصلى
المسلمون على رسول الله زمرا زمرا، وخلى أصحاب رسول الله بين جثمانه وبين أهله،
فولوا أجنانه (2) ولم يشهد أبو بكر وعمر غسل الرسول صلى الله عليه وآله وتكفينه ودفنه.
قالت عائشة: ما علمنا بدفن الرسول حتى سمعنا صوت المساحي من جوف
الليل.
وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار وبني هاشم ومالوا مع
علي بن أبي طالب.
فذهبوا إلى العباس ليستميلوه فجابههم بالرد.
وتحصن في دار فاطمة جماعة من بني هاشم وجمع من المهاجرين والأنصار،
فبعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة وقال له: ان أبوا
فقاتلهم. فأقبل بقبس نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيتهم فاطمة فقالت يا بن

(1) تندر عضوك: حتى تسقط أعضاؤك.
(2) تولوا دفنه.
347

الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم أو تدخلوا في ما دخلت فيه الأمة.
واليه أشار أبو بكر في مرض موته حين قال:
" أما اني لا آسي على شئ في الدنيا الا على ثلاث فعلتهن وددت اني لم
أفعلهن... فوددت أني لم أكشف عن بيت فاطمة ولو أغلق على حرب... ".
ثم إن عليا حمل فاطمة ليلا إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة وتسألهم فاطمة
الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله مضت بيعتنا لهذا الرجل ولو كان ابن
عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به، فيقول علي: أفكنت أترك رسول الله (ص) في بيته
لم أجهزه وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه؟ وتقول فاطمة ما صنع أبو الحسن الا
ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسبهم.
وكان معاوية يعير أمير المؤمنين عليا بهذا الموقف ويقول: " وأعهدك أمس.
تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر
الصديق، فلم تدع أحدا من أهل بدر والسوابق الا دعوتهم إلى نفسك ومشيت إليهم
بامرأتك وأدللت إليهم بابنيك واستنصرتهم على صاحب رسول الله... فلم يجبك منهم
الا أربعة أو خمسة... ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حركك وهيجك: لو
وجدت أربعين ذوي عزم لناهضتهم.
وروى البخاري ما دار بين ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وقال:
فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى توفيت بعد ستة أشهر، ودفنها زوجها ولم يؤذن
بها أبا بكر، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة فلما توفيت انصرفت وجوه الناس
عن علي فلم يبايع علي ستة أشهر ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي، فلما رأى علي
انصراف وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر.
وقال البلاذري ولم يخرج أحد إلى قتال العدو قبل أن يبايع علي.
وممن تخلف عن بيعة أبي بكر: فروة بن عمرو، وخالد وأبان وعمر بنو سعيد
الأموي، فلما بايع بنو هاشم بايعوا.
وسعد بن عبادة لم يبايع، وأشار الأنصار أن يتركوه فإنه لا يبايع حتى يقتل
وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته فتركوه، فقال له عمر
في أول خلافته من كره جوار جار تحول عنه، فذهب إلى الشام، فبعث عمر رجلا،
فقال: ادعه إلى البيعة واحتل له فان أبى فاستعن الله عليه، فذهب الرجل إلى الشام
348

ووجد سعدا بحوارين من قرى حلب فدعاه إلى البيعة فأبي فرماه بسهم فقتله.
بيعة عمر
لما حضر (1) أبو بكر دعا عثمان خاليا فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا
ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد - فأغمي عليه - فكتب
عثمان: فاني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم الكم خيرا، ثم أفاق أبو بكر فقرأها
عليه فأقرها أبو بكر.
ثم جاء عمر مع الكتاب إلى مسجد الرسول (ص) وقال للناس: اسمعوا
وأطيعوا قول خليفة رسول الله (ص) أنه يقول: اني لم الكم نصحا.
وهكذا بايع الناس عمر.
الشورى وبيعة عثمان
لما طعن عمر قيل له: لو استخلفت، قال: لو كان سالم حيا لاستخلفته، ولو
كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته، ثم قال: لأجعلنها شورى بين ستة، وعينهم من قريش،
وولى أبو طلحة زيد بن سهل الخزرجي على خمسين من الأنصار، وأمر صهيبا أن يصلي
بالناس ثلاثة أيام، فإذا انتهت الأيام الثلاثة واتفقوا على واحد فليضرب أبو طلحة عنق
الذي يخالف، وان اجتمع ثلاثة على رجل وثلاثة على رجل كانوا مع الذين فيهم
عبد الرحمن بن عوف، وان صفق عبد الرحمن بإحدى يديه على الأخرى، عليهم أن يتبعوه
ومن أبى ضربوا عنقه، فلما توفي الخليفة قال عبد الرحمن: اني أخرج نفسي منها وسعدا
على أن أختار أحدكم فأجابوا الا عليا وأحلف عبد الرحمن أن لا يميل إلى هوى وأن
يؤثر الحق وأن لا يجابي ذا قرابة، فحلف له فقال: اختر مسددا.
ثم اجتمعوا في مسجد الرسول فمد يده إلى علي وقال:
امدد يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين، فقال: أسير
فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت.
ثم مد يده إلى عثمان فوافق على ذلك.
ثم مد يده إلى علي فقال مثل مقالته الأولى فأجابه مثل الجواب الأول.
ثم قال لعثمان مثل المقالة الأولى فأجابه مثل ما كان أجابه، ثم اتجه إلى علي

(1) حضر: حضرته الوفاة.
349

فقال له مثل المقالة الأولى.
فقال الامام على أن كتاب الله وسنة نبيه لا يحتاج معهما إلى طريقة أحد، أنت
مجتهد أن تزوي هذا الامر عني.
فاتجه عبد الرحمن إلى عثمان وأعاد عليه القول فأجابه به مثل بذلك الجواب،
فصفق على يده وبايعه، فقال الإمام علي لعبد الرحمن حبوته حبوة دهر، ليس هذا أول
يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان
الا ليرد الامر إليك، والله كل يوم في شأن.
وبايع أصحاب الشورى عثمان، وكان علي قائما فخرج مغضبا فقال له
عبد الرحمن بايع والا ضربت عنقك، ولم يكن يومئذ سيف مع أحد، ولحقه أصحاب
الشورى فقالوا: بايع والا جاهدناك، فأقبل معهم حتى بايع عثمان.
بيعة الإمام علي
لما قتل عثمان ورجع إلى المسلمين أمرهم وانحلوا من كل بيعة سابقة تهافتوا
على الإمام علي، اجتمع المهاجرون والأنصار فيهم طلحة والزبير فاتوا عليا فقالوا: هلم
نبايعك فقال: لا حاجة لي في أمركم انا معكم، إن اخترتم فقد رضيت به فقالوا: والله
ما نختار غيرك فاختلفوا إليه مرارا ثم أتوه في آخر ذلك فقالوا: إنه لا يصلح الناس الا
بامرة وقد طال الامر " لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال ففي المسجد فان بيعتي
لا تكون خفيا ولا تكون الا عن رضى المسلمين، فاجتمعوا في المسجد يهرعون إليه، وأول
من صعد إليه فبايعه طلحة ثم تتابع المهاجرون والأنصار ثم سائر الناس فبايعوا عليا.
بعد هذا العرض ندرس في ما يأتي آراء المدرستين في أمر الإمامة والخلافة.
350

أقوال مدرسة الخلفاء في أمر الخلافة
أولا - الخليفة أبو بكر، قال يوم السقيفة: لن يعرف هذا الامر الا لهذا الحي من
قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا وقال: رضيت لكم عمر وأبا عبيدة فبايعوا أيهما
شئتم (1).
وفي رواية قال:
هم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الامر من بعده ولا ينازعهم ذلك
الا ظالم (2).
ثانيا - قال عمر في السقيفة مخاطبا للأنصار:
" والله لا ترضى العرب ان يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب
لا تمتنع ان تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من
أبى الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وامارته ونحن أولياؤه
وعشيرته الا مدل بباطل أو متجانف لاثم أو متورط في هلكة؟ (3)
وقال في آخر شهر من عمره عندما بلغه أن أحدهم يقول:
لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلانا.

(1) البخاري، كتاب الحدود، باب: رجم الحبلى، 4 / 120.
(2) تاريخ الطبري، ط / أوروبا، ج 1 / 1840.
(3) تاريخ الطبري، ط / أوروبا، ج 1 / 1841.
351

فقال عمر:
" من بايع رجلا من المسلمين على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا
الذي بايعه تغرة أن يقتلا " (1).
وقال عندما طعن وعين الستة للشورى:
لو أدركني أحد رجلين فجعلت هذا الامر إليه لوثقت به، سالم مولى أبي
حذيفة، وأبي عبيدة الجراح (2).
وقال:
لو كان سالم حيا ما جعلتها شورى (3).
ثالثا - أتباع مدرسة الخلفاء قالوا:
تنعقد الإمامة بعهد الامام من قبل لان أبا بكر عهد بها لعمر ولم تتوقف على
رضا الصحابة، وتنعقد أيضا باختيار أهل الحل والعقد واختلفوا في عددهم، فمن قائل
تنعقد ببيعة خمسة لان الذين بايعوا أبا بكر أيضا كانوا خمسة، ولان عمر جعلها في ستة
ليبايع خمسة منهم السادس.
وقال الأكثر منهم تنعقد بواحد، لان العباس قال لعلي امدد يدك أبايع ولأنه
حكم، وحكم حاكم واحد نافذ.
وقالوا:
" ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل
لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يبيت ولا يراه إماما برا كان أو فاجرا فهو
أمير المؤمنين.
ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: تسمع وتطيع للأمير وان ضرب
ظهرك وأخذ مالك.
وان الخليفة لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز
الخروج عليه بذلك بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة بذلك.
كانت هذه آراء أتباع مدرسة الخلافة وينبغي لنا أن ندرس المصطلحات التي

(1) البخاري، باب رجم الحبلى، 4 / 120.
(2) طبقات ابن سعد 3 / 343.
(3) بترجمة سالم من الاستيعاب وأسد الغابة 2 / 246.
352

تدور في هذا البحث أولا ثم نناقش الآراء المذكورة.
تعريف المصطلحات
أولا: الشورى
التشاور والمشاورة في لغة العرب: استخراج الرأي بمراجعة البعض البعض
الاخر وبهذا المعنى ورد في قوله تعالى " وأمرهم شورى بينهم " أي يتشاورون في أمورهم
فالكلمة ليست مصطلحا شرعيا.
ثانيا: البيعة
أ) البيعة في لغة العرب: الصفقة على ايجاب البيع، وصفق يده وعلى يده
بالبيعة والبيع: ضرب بيده على يده عند وجوب البيع، وتصافقوا: تبايعوا.
وكانت العرب تعقد الحلف والعهد بأساليب مختلفة، مثل انهم كانوا يضعون
أيديهم في جفنة مملوءة طيبا ويتعاهدون على أمر، أو في جفنة مملوءة دما.
ب) البيعة في الاسلام علامة على معاهدة المبايع المبايع له أن يبذل له الطاعة
في ما تقرر بينهما ويقال بايعه عليه مبايعة أي عاهده عليه، قال الله تعالى " ان الذين يبايعونك
إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم... "
وأول بيعة أخذها رسول الله من المسلمين في العقبة الأولى كانت على
الاسلام.
والثانية: البيعة الثانية الكبرى أيضا بالعقبة بايعهم على الحرب لإقامة المجتمع
الاسلامي، وسميت البيعة الأولى بيعة النساء لان البيعة كانت على الاسلام دونما
قتال.
والبيعة الثالثة: أخذها تحت الشجرة في الحديبية عندما ندب الناس إلى
العمرة، فخرجوا محرمين للعمرة، ولما صدتهم قريش عن البيت وتهيأت للقتال، تبدلت
السفرة من العمرة إلى القتال وكانت الحالة الثانية مخالفة لما انتدبهم إليها فاقتضت
الحالة أن يأخذ منهم البيعة على العمل الجديد وغير المعهود، وفعل ذلك وأعطت البيعة
ثمرها في ارعاب أهل مكة، وعلى ما ذكرنا قامت البيعة الأولى على الاسلام دونما
قتال، والثانية على إقامة الدولة الاسلامية والقتال من أجلها، والثالثة البيعة على
353

القتال في تلك السفرة، هذا ما كان في سيرة رسول الله من أمر البيعة. وورد في
حديثه (ص) أنه كان يأخذ البيعة على الطاعة في ما يستطيعون ولم يكن يبايع الغلام غير
البالغ شرعا.
ويتضح لنا من دراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله أن للبيعة ثلاثة
أركان:
أ) المبايع.
ب) المبايع له.
ج) المعاهدة على الطاعة.
وتقوم البيعة على تفهم ما يطلب الطاعة بالقيام به ثم تنعقد المعاهدة بضرب
المبايع على يد المبايع له والبيعة على هذا مصطلح شرعي وشروط تحقق البيعة وفق
الشرع الاسلامي غير واضحة للكثير من المسلمين وهي:
أ) أن يكون المبايع ممن تصح منه البيعة فلا تصح من صبي أو من مجنون لأنهما
غير مكلفين شرعا، وأن يكون مختارا لان البيعة كالبيع لا ينعقد بأخذ المال من صاحبه
قهرا ودفع الثمن له، ولا تنعقد البيعة بأخذها بالجبر وبحد السيف.
ب) أن لا يكون المبايع له من المتجاهرين بالمعصية لان الرسول (ص) قال
" لا طاعة لمن عصى الله تبارك وتعالى " (1).
ج) لا تصح البيعة للقيام بما نهى الله عنه وخلافا لأوامره وأوامر الرسول لان
الرسول قال " فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " (2).
ثالثا ورابعا: الخليفة وأمير المؤمنين
أ) الخلافة في لغة العرب: النيابة عن الغير، والخليفة: من يقوم مقام الغير ويسد
مسده.
وبهذا المعنى ورد في القرآن الكريم مثل: " يا داود إنا جعلناك خليفة في
الأرض " وفي حديث الرسول: " اللهم ارحم خلفائي " وقال في تعريف الخلفاء:
" الذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنتي ".
إذا فالخليفة في القرآن والحديث ليست اسما للذي يحكم باسم النيابة عن

(1) راجع فصل المصطلحات، خامسا: البيعة.
(2) راجع فصل المصطلحات، خامسا: البيعة.
354

رسول الله (ص)، وكذلك كان الامر إلى زمان الخليفة عمر حيث كان يقال له: خليفة
خليفة رسول الله، ثم قيل له: أمير المؤمنين، وبقي الامر كذلك إلى عصر العباسيين وعلى
عهدهم كانوا يصفونهم بخليفة الله إلى جنب تسميتهم بأمير المؤمنين وفي عصر العثمانين
سموا الحاكم الاسلامي الاعلى بالخليفة وبقيت هذه التسمية متداولة بين المسلمين حتى
اليوم.
إذا فان لفظ الخليفة من مصطلحات المسلمين وليست مصطلحا شرعيا وكذلك
أمير المؤمنين.
خامسا: الامام
الامام في اللغة: من يأتم به الناس، وبهذا المعنى ورد في القرآن الكريم غير أنه
قيد الإمامة بشروط ذكرها في قوله تعالى لإبراهيم: " انا جعلناك للناس إماما " وقوله
" لا ينال عهدي الظالمين ".
إذا فالامامة جعل من الله وعهد لا يناله من اتصف بالظلم سواء أكان ظالما
لنفسه أو لغيره وبذلك أصبح " الامام " مصطلحا شرعيا وتسمية اسلامية.
سادسا: الامر وأولوا الامر
ان الامر استعمل في لغة العرب وعرف المسلمين والنصوص الاسلامية بمعنى
الولاية على الناس والحكم. اما أولوا الامر فيصح اعتباره مصطلحا اسلاميا لوروده في
القرآن بمعنى الولاية على الناس في قوله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر
منكم " (1) وتختلف المدرستان في تشخيص أولي الأمر وولي الامر بعد رسول الله صلى
الله وعليه وآله، فان مدرسة أهل البيت ترى أن تعيين الامام وولي الامر بعد الرسول
إلى الله، يعين من يشاء ويبلغ الرسول أمته بذلك وترى مدرسة الخلافة انه يتعين بالبيعة
وبالاستيلاء على الحكم بالقهر والغلبة، وبعد استيلائه على الحكم كيف ما كان يجب
طاعته. ومن ثم أطاعوا الخليفة يزيد وقتلوا وسبوا ذرية الرسول وأباحوا مدينة الرسول
وقتلوا البقية من أصحابه والتابعين ورموا الكعبة بالمنجنيق، وبعد كل تلكم الافعال
لا يزالون يسمونه بأمير المؤمنين إلى عصرنا الحاضر.

(1) النساء / 59.
355

مناقشة آراء مدرسة الخلفاء في أمر الخلافة والإمامة
أولا: الشورى
ان أول من ذكر الشورى لإقامة الخلافة هو الخليفة عمر بن الخطاب، ولم
يستند في ذلك إلى دليل من الكتاب والسنة بل اعتمد اجتهاده الخاص فمن اتخذ سيرة
الصحابة وأقوالهم في عداد كتاب الله وسنة رسوله من مصادر الشريعة الاسلامية فله ان
يتخذ من السنة العمرية هذه سندا لهذا الحكم في إقامة الخلافة. على أن سنته هذه مخالفة
لسنته وسنة الخليفة الأول أبي بكر في إقامة حكم الخليفة الأول أبي بكر فإنها كانت فلتة
حسب تعبير الخليفة عمر وتقييمه لها وكذلك مخالفة - أيضا - لسنتهما في إقامة حكم
الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فان الخليفة الأولى ولى الخليفة عمر على المسلمين من
بعده وكلاهما لم يستشيرا المسلمين في كلا المقامين، ومخالفة - أيضا - لقول الخليفة
عمر: لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته،
فان هذا القول يخالف الالتزام بالشورى!
وعلى فرض صحة إقامة الخلافة على أساس الشورى العمرية، فكيف ينبغي
أن تكون الشورى، وكم ينبغي أن يكون عدد المتشاورين في الأغلب قالوا ينحصر عدد
المتشاورين في ستة، يبايع خمسة منهم السادس، أضف إلى ما سبق السؤال عن المبرر
لاعطاء عبد الرحمن بن عوف خاصة حق اتخاذ القرار النهائي من دون الآخرين في تلك
الشورى ثم ما المبرر لقتل من خالف قرار عبد الرحمن ورأيه! ثم من الذي كان يخشى
منه المخالفة لرأي عبد الرحمن من دون الآخرين وأخيرا هل اتبعت مدرسة الخلافة الشورى
356

العمرية مرة واحدة وأقامت الخلافة كذلك لواحد من الخلفاء طوال القرون.
هذه أسئلة تتوارد على الشورى العمرية.
اما ما استدل بها اتباع مدرسة الخلفاء في هذا الصدد فما كان من استدلالهم
بالآية الكريمة: " وأمرهم شورى بينهم " فإنه لا يستفاد منها أكثر من رجحان التشاور
بين المؤمنين في أمورهم، فان سبحانه وتعالى لو أراد الوجوب في هذا الآمر لقال: كتب
الله على المؤمنين أو قال: فرض عليهم إلى ما شابههما من الألفاظ الدالة على وجوب
الفعل على المؤمنين.
وما كان من استدلالهم بآية " وشاورهم في الامر " فقد أوضحنا في ما سبق
بان الآية في مقام توجيه الرسول ان يدعو المسلمين إلى القتال بأسلوب المشاورة، وليس
بأسلوب الملوك الجبابرة الذين يلقون أوامرهم إلى الناس بقولهم مثلا: أصدرنا أمرنا
الملكي بكذا. وقد صرح الجليل سبحانه بعد هذه الجملة بأن رأى المسلمين ليس ملزما
لرسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: " وإذا عزمت فتوكل " إذا فالقيام بالعمل
يكون على أساس عزم الرسول وليس على ما يرتأيه المؤمنون ويوضح ذلك بجلاء الأمثلة
التي ذكرناها من مشاورة الرسول مع المسلمين في موارد كانت عاقبة الامر معلومة لرسول
الله مسبقا مثل مشاورته إياهم للقتال في غزوة بدر.
ثم إن مشاوراته (ص وآله) كانت في مقام استجلاء رأى المسلمين في كيفية
تنفيذ الاحكام الاسلامية وليست في مقام استنباط الحكم الشرعي بالتشاور، أضف
إلى كل ذلك ان الله تعالى قال: " وما كان لمؤمن ولا لمؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا
أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا " إذا فان
رجحان المشاورة ينحصر بمورد لم يقض الله ورسوله فيه أمرا وفي ما قضى الله ورسوله فيه
أمرا تكون المشاورة معصية لله ورسوله وضلالا مبينا.
ثانيا: البيعة
عرفنا مما سبق: ان البيعة لا تنعقد للقيام بمعصية الخالق ولا لمتجاهر بمعصية
الخالق ولا بالاكراه وحد السيف.
اما أصحاب مدرسة الخلافة فإنهم قالوا: تنعقد الخلافة ببيعة خمسة وقال
بعضهم: تنعقد ببيعة واحد وحضور شاهدين، واستدلوا بعمل الصحابة.
357

ثالثا: عمل الصحابة
يصح الاستدلال بعمل الصحابة في ما إذا اعتقدنا ان سيرة الصحابة مثل
كتاب الله وسنة رسوله مصدر للتشريع الاسلامي، ثم إن عمل الصحابة يخالف بعضه
البعض الآخر كما رأينا في ما سبق ومن ثم وقع الخلاف في آراء اتباع مدرسة الخلافة
كما شاهدنا في ما سبق وعلى هذا بعمل اي من الصحابة نقتدى وقول من منهم ومن
الاتباع نأخذ!؟
الاستدلال بكلام الإمام علي:
اما ما استدلوا به من كلام للإمام علي فإنه كان في مقام الاحتجاج على
معاوية وجماعته بما التزموا به. على أن اجماع الصحابة بما فيهم الإمام علي وسبطا
الرسول الحسن والحسين حجة. وهذا هو مفهوم كلام الامام المذكور.
وجوب طاعة الحاكم وعدم عزله بالفسق واعلان المعصية:
قالوا: لا ينعزل الحاكم الذي سموه بالامام بالفسق والفجور واعلان المعصية.
وقالوا: على المسلم السمع والطاعة للامام الفاسق وان ضرب ظهره واخذ
ماله، ولا يجوز الخروج عليه.
وقالوا: ان يزيد بن معاوية المتجاهر بالفسق والفجور بالبيعة أصبح
أمير المؤمنين، ونتيجة لاعتقادهم بصحة بيعته استطاع ان يجهز جيشا من المعتقدين
بصحة بيعته ويقتل بهم ذرية الرسول بكربلاء ويسبيهم ويسير بهم اسرى من كربلاء
إلى عاصمة ملكه الشام.
وبنتيجة تلك البيعة استطاع ان يجهز جيشا آخر من المعتقدين بصحة بيعته
ويغزو بهم مدينة الرسول ويبيحها لجيشه ثلاثة أيام فقتلوا جمعا من أصحاب الرسول
وتابعيهم وأخذوا البيعة من الآخرين على أنهم عبيد أقنان ليزيد وهتكوا أعراضهم وفعلوا
ما شاءوا من جرائم لم يشهد المسلمون نظيرها في تاريخهم الطويل ثم غزا بهم مكة فضربوا
بيت الله الحرام والكعبة بالمنجنيق. وبعد كل تلك الجرائم يلقبونه بأمير المؤمنين حتى
اليوم ويكتبون في مدحه الكتب وينشرون وانا الله وانا إليه راجعون.
358

الإمامة لدى مدرسة أهل البيت (ع)
كانت تلكم آراء مدرسة الخلفاء في الإمامة والخلافة وأدلتهم، اما مدرسة أهل البيت
فإنها تستدل بخطاب الله لإبراهيم وقوله له: " انا جعلناك للناس إماما "
وجواب الله لطلب إبراهيم حين قال " ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " على أن
الإمامة عهد من الله لا يناله الظالم لنفسه أو لغيره وتستدل بقوله تعالى في حق أهل البيت
" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " على عصمة
أهل البيت محمد وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين من الذنوب، وكذلك تستشهد
بسيرة أهل البيت التي لم يسجل منهم في التاريخ أمر مخالف للعصمة. اما الأدلة على
إمامتهم فإننا إذا درسنا سيرة الرسول في أمر تعيين ولي الأمر من بعده نجد انه لم يغب
عن بال الرسول ومن حوله أمر الإمامة من بعده فان بعضهم طلب من الرسول أن يكون
لهم الامر من بعده فاجابه الرسول: الامر إلى الله يضعه حيث يشاء واخذ منهم البيعة في
إقامة المجتمع الاسلامي " ان لا ينازعوا الامر أهله " وعين الامام عليا في أول يوم دعا
إلى الاسلام وزيرا له وخليفة من بعده وشاهدناه - أيضا - يستخلف على المدينة كلما
غاب عنها لأمر ما وإن كانت المسافة ميلا أو أقل من ذلك.
وكذلك لم يترك أمته هملا أبد الدهر بل عين ولي الأمر من بعده في أماكن
مختلفة وأزمنة متعددة بأقوال تواترت عنه مثل قوله صلى الله عليه وآله:
علي ولي كل مؤمن بعدى.
علي وليكم من بعدي.
359

علي مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي.
وفي غدير خم لما امره الله ان يعين ولي الأمر من بعده ونزلت آية " يا أيها
الرسول بلغ ما انزل إليك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " صعد
منبرا من أحداج الإبل ورفع عليا وقال: الله مولاي وانا مولاكم فمن كنت مولاه فهذا
علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وتوج عليا بعمامته السحاب فنزلت
آية " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ".
ونزلت فيه " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون ".
وقال في حق الحسنين:
هذان مني.
وقال:
الحسن والحسين سبطان من الأسباط.
وفي حق الأئمة من بعده: الإمام علي والأحد عشر بنيه:
أخبر الرسول انهم أولو الامر في اية " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولى الامر منكم ".
وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.
وجعلهم اعدال القران وقال:
" اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن
تضلوا من بعدي وقد أنبأني اللطيف الخبير انهما لا يفترقان حتى يردا علي الحوض ".
ويظهر من قول الرسول هذا: أن أحد الأئمة لابد ان يطول عمره ويبقى مع القرآن
إلى يوم القيامة.
وعين عددهم في قوله:
لا يزال هذا الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر.
وفي رواية:
لا يزال أمر الناس ماضيا إلى اثني عشر.
وفي رواية بعدها: " ثم يكون المرج والهرج ".
360

وفي رواية:
فإذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها.
وفي رواية قال عن عددهم انهم اثنا عشر عدة نقباء بني إسرائيل.
ولا تصدق هذه الروايات على غير الأئمة الاثني عشر من أهل بيت رسول الله
صلى الله عليه وآله الذي طال عمر آخرهم وبعدهم يكون فناء الدنيا وبما ان علماء
مدرسة الخلافة لم يرتضوا أئمة أهل البيت حاروا في تفسير هذه الروايات الصحيحة ولم
يستطيعوا تأويلها بما يرضون به أنفسهم.
اتجاه السلطة الحاكمة زهاء ثلاثة عشر قرنا
اقتصرنا في ما أوردنا من الأدلة على امامة أئمة أهل البيت الاثني عشر عليهم
السلام في ما سبق بما ورد في أوثق مصادر الدراسات الاسلامية بمدرسة الخلفاء
وبالإضافة إلى ذلك قد ورد في مصادر الدراسات الاسلامية بمدرسة أهل البيت
النصوص الكثيرة المتواترة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله في النص على امامة
الأئمة الاثني عشر عليهم السلام بأسمائهم وصفاتهم ومشخصاتهم.
ويقول اتباع مدرسة أهل البيت (ع) ينبغي ان لا يغرب عن بالنا ان صحة
خلافة الخلفاء أمويين وعباسيين وعثمانيين وغيرهم من الخلفاء ومن تبعهم من الامراء
والولاة والقضاة وأئمة الجمعة والجماعة في البلاد الاسلامية زهاء ثلاثة عشر قرنا
كانت متوقفة على كتمان ما ورد في امامة الإمام علي بن أبي طالب والأئمة من ولده
عليهم السلام.
فإنه مثلا في زمن الخلفية هارون الرشيد أصبح أبو يوسف قاضي قضاة
المسلمين بتعيين الخليفة هارون الرشيد ومشروعية منصبه متوقفة على صحة خلافة
هارون الرشيد وصحة خلافة الرشيد متوقفة على عدم وجود نص على امامة الأئمة
الاثني عشر وكذلك الامر بالنسبة إلى وزارة البرامكة فإنهم أصبحوا وزراء لخليفة
المسلمين بسبب صحة خلافة هارون وكذلك جميع امراء جيوش المسلمين في عصره
أصبحوا امراء لجيوش المسلمين بتعيين خليفة المسلمين هارون الرشيد وكذلك شأن ولاة
الخليفة على البلاد فان أمير صنعاء وأمير مكة وأمير المدينة والكوفة والشام
والإسكندرية والري وخراسان وسائر البلاد الاسلامية في جميع الأقاليم وكذلك أئمة
361

الجمعة والجماعة في جميع البلاد الاسلامية من أقصى بلاد إفريقيا إلى ما وراء خراسان
وبلاد الحجاز واليمن والشام والعراق إلى غيرها من البلاد الاسلامية. كل أولئك
أصبحوا في مناصبهم يعيشون معيشة المترفين بشرعية خلافة هارون الرشيد وشرعية
خلافة هارون الرشيد متوقفة على عدم وجود امامة معينة منصوبة من قبل الله ومنصوصة
عليها من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك العصر وهو الإمام موسى بن جعفر (ع)
ولا في امامة سائر الأئمة عليهم السلام قبله.
وهذا الامر كان جاريا وساريا في زمن يزيد ومعاوية وعثمان وغيرهم إلى
آخر خلفاء العثمانيين فان كل أولئك المنتفعين بخلافة الخلفاء جل العصور إنما انتفعوا
بمناصبهم ومعايشهم لعدم وجود نص على امامة أي امام غير الخلفاء ومع كل ذلك
بقيت النصوص السابقة في امامة الأئمة من أهل البيت (ع) منتشرة في مصادر الدراسات
الاسلامية بمدرسة الخلفاء إلى اليوم وذلك لان الله شاء ان يتم الحجة على الناس مدى
العصور وما شاء الله كان.
بعد الانتهاء من دراسة رأى المدرستين في الصحابة والإمامة نستعين الله وندرس في
ما يأتي رأي المدرستين في مصادر الشريعة الاسلامية وكيفية استفادة كل منهما منها، إن
شاء الله تعالى.
362