الكتاب: دراسات في الحديث والمحدثين
المؤلف: هاشم معروف الحسني
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الثانية مزيدة ومنقحة
سنة الطبع: ١٣٩٨ - ١٩٧٨ م
المطبعة:
الناشر: دار التعارف للمطبوعات - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

دراسات في الحديث والمحدثين
تأليف
هاشم معروف الحسني
دار التعارف للمطبوعات
بيروت لبنان
3

الكتاب - دراسات في الحديث والمحدثين.
المؤلف - هاشم معروف الحسني.
الناشر - دار التعارف للمطبوعات.
بيروت - لبنان - ص. ب 6430 - تلفون 247280.
حقوق الطبع والتصوير محفوظة للمؤلف
الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة
1398 ه‍ - 1978 م
4

تأليف
هاشم معروف الحسني
دراسات في
الكافي للكليني، والصحيح للبخاري
يعرض هذا الكتاب لمحة عن الكتابة قبل الاسلام ومراحلها بعده،
وعن الحديث ومراحل تدوينه وأقسامه وأصنافه وعن علمي الدراية
والرجال، ويتعرض للصحابة والعدالة وآراء المحدثين والفقهاء فيهما،
ويقارن بين العدالة التي أثبتها المحدثون لجميع الصحابة وبين العصمة
التي أثبتها الشيعة لأئمتهم (ع) كما يتعرض لموقف كل من الشيعة والسنة
من الرواة ومجاميع الحديث، وللبخاري والكليني وتاريخهما والى صحيح
البخاري والكافي ومكانتهما عند الفريقين ويقدم أمثلة منهما في مختلف
المواضيع إلى غير ذلك مما يتصل بموضوع الكتاب مع الاختصار
والتوضيح حسب الامكان، ويعتمد في جميع مباحثه على المصادر الموثوقة
عند الفريقين.
5

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله والصلاة على محمد وآل بيته وصحبه الطيبين
وبعد...
لقد وجدت وانا أدرس تاريخ التشريع وأصوله اسرافا في التهم
وغلوا لا مبرر له من السنة والشيعة في أحكامهم على الفقهاء والمحدثين
من الفريقين ذلك الغلو الذي اتخذ طابع التعصب الطائفي الذي أطاح
بالقيم واحدث فجوة بينهما فرقتهم شيعا وأحزابا، وأصبحوا ينظرون من
هذه الزاوية وحدها إلى آثارهم ومؤلفاتهم على اختلاف أنواعها
ومقاصدها، مع العلم بان تلك المؤلفات وبخاصة ما الفه الفريقان في
الحديث يمكن الاستفادة منه والاعتماد عليه إلى أبعد الحدود ما دام
ينتهي في واقعه إلى مصدر واحد وهو الرسول الأعظم (ص) الذي يروي
عنه الفريقان السنة بوسائطهم والشيعة بواسطة أئمتهم (ع) وغيرهم
من الموثوقين، ولكنهم بدلا من دراستها دراسة واعية شاملة بقصد الاستفادة
7

منها وتصفيتها انكمش كل فريق على مؤلفاته وآثاره، واتهم الاخر
بالتعصب والانحراف عن الحق، وقال السنة: ان الشيعة لا يقبلون الا
المرويات عن أئمتهم على شرط ان يكون الراوي لها اماميا، ويرفضون
جميع المرويات ولو كانت عن الرسول (ص) إذا رواها غيرهم صحابيا كان
أم غيره ولو كان في أعلى درجات الايمان والاستقامة، وقد نبهت على خطا
هؤلاء الغلاة في كتابي المبادئ العامة للفقه الجعفري بما حاصله انه إذا
كان بين الشيعة من لا يعتمد على مرويات الموثوقين من السنة عن
الرسول (ص) فهو لا يمثل الشيعة، ولا يعبر عن رأيهم في هذه المسألة،
لان كتب الحديث والرجال التي تعد بالعشرات تنص على قبول مرويات
الثقاة من السنة وغيرهم، ولدينا من الأرقام ما يؤكد هذه الحقيقة كما
سنتعرض لذلك في الفصول الآتية من هذا الكتاب.
والى جانب هذه النسبة إلى الشيعة، نجد الشيعة أنفسهم ينسبون
إلى السنة بأنهم لا يعتمدون على مرويات الشيعة ويطرحون الحديث إذا
كان رواته كلهم أو بعضهم من الشيعة استنادا إلى كثير من المصادر السنية
التي تؤكد هذه الحقيقة، تلك المصادر التي ينص بعضها على وجوب طرح
الحديث لمجرد انه يتفق مع بعض معتقداتهم، أو لان فيه رائحة التشيع
هذا بالإضافة إلى ما ينسبه كل فريق إلى الاخر من خلال بعض المرويات
المدونة في مجاميع الحديث عند الطرفين بدون تدبر في مضامينها وتحقيق
في أسانيدها وقبل ردها إلى الأصول المقررة عند الفريقين، ونتيجة لهذا
الاسراف والغلو في الاتهامات ولما تولد عن ذلك من المضاعفات اتسعت
المسافة بينهما واتخذت شكلا كريها بعيدا عن منطق الدين والحق، ونبذ
كل منهما ما عند الآخر من ثروة فكرية يمكن الاستفادة منها إلى أبعد
الحدود.
وكان بالامكان لو كانت النفوس طيبة، وتجرد الباحثون إلى طلب
8

الحق الاستفادة من كتب الحديث واستغلالها لخدمة الدين سنية كانت أم
شيعية لأنها وان اختلفت من حيث رواتها ومصادرها الا انها تلتقي في كثير
من محتوياتها ومضامينها، وتعبر عن السنة النبوية المطهرة، بالرغم من
اننا لا نؤمن بكل ما جاء فيها من المرويات سواء في ذلك الصحاح الستة
المعتمدة عند السنة، أو الكتب الأربعة التي يعتمدها الشيعة من المصادر
الموثوقة في جملتها بين كتب الحديث.
اجل أقول ذلك وبين يدي كتابان من كتب الحديث وهما الصحيح
للبخاري والكافي للكليني، ولست مبالغا إذا قلت بأنهما من أوثق الكتب
في موضوع الحديث عند السنة والشيعة وأغناها بالآثار الاسلامية التي
تناولت جميع الشؤون الاسلامية وأمدت الفكر بالانتاج والابداع في
مختلف المواضيع، ذلك لان ما جاء به الاسلام من القوانين والأنظمة
والأخلاق والآداب وغير ذلك من المناهج التربوية والاجتماعية وضع
أصول هذه المناهج وقواعدها القرآن أولا، وتعهدت السنة بتفاصيلها
وتوضيح مشكلاتها ومجملاتها، وستبقى السنة إلى جانب القران مصدرا
غنيا بتلك الثروة التي تمد الاسلام بالخلود والبقاء حتى يرث الله الأرض
ومن عليها.
ولو وقف المسلمون بعد وفاة الرسول (ص) من السنة موقفا سليما
وعملوا على تدوينها وجمعها من صدور الحفاظ قبل ان تأكلهم الحروب
والغزوات وقبل ان تعبث بها أيدي الدساسين والمخربين، لو وقفوا منها
هذا الموقف لقطعوا الطريق على هؤلاء وغيرهم من المرتزقة
الذين كانوا يتقربون إلى الحكام بوضع الأحاديث التي تمس أخصامهم السياسيين
وتؤيد عروشهم، ولكن الحكام بعد وفاة الرسول (ص) بدلا ان
يفسحوا المجال لجمعها من الصدور قبل ان تعبث بها الأيدي، منعوا من
تدوينها وجمعها في الكتب بحجة المحافظة والحرص على كتاب الله كي
9

لا تحتل مكانته من القلوب والنفوس، كما تحدد أكثر الروايات موقف
الخليفة الثاني من هذه المسألة.
ومهما كان الحال فقد عبثت الأيدي في الحديث بسبب هذا الموقف
السلبي من تدوينه، ولعبت السياسة والطائفية دورهما البغيض في
مرويات المحدثين من السنة والشيعة كما شاء لها الهوى والغرض خنى
حدثت تلك الفجوة العميقة بين الفريقين، وأصبحت المجاميع الشيعية
بنظر إخوانهم من السنة أداة طيعة لهدم الدين، وتشويه معالمه - لان
أصحابها ورواة أحاديثها وضاعون كذابون على حد زعمهم، تفوح منم
رائحة الرفض وتبدو من محتوياتها مبادئ التشيع الهدامة على حد تعبير
بعضهم، والشئ الطبيعي في مثل هذه الحالات ان يكون لهذا التعصب
اثاره السيئة في نفوس الشيعة التي تفرض عليهم ان ينظروا إلى صحاح
السنة ومجاميعهم نظرة مليئة بالريبة والحذر والتشكيك لا سيما وهم
يرون البخاري بصفته من أوثق المؤلفين عند السنة وكتابه من أصح المجاميع
في الحديث لا يروي عن جعفر بن محمد الصادق ولا عن الأئمة سن ولده
الأطهار، ويروي عن الأشرار والفجار كمعاوية ومروان بن الحكم وعمران
ابن حطان الخارجي، الذي قرض عبد الرحمن بن ملجم وامتدحه لأنه
قتل امام المسلمين وسيدهم عليا (ع) ويعتمد على العشرات ممن لم تتوفر
فيهم الشروط التي تيسر للباحث الاطمئنان بصدور الحديث عن الرسول
(ص) وغيره من اعلام الصحابة الذين اخذوا من الرسرل مباشرة، لهذا
ولغيره من الأسباب والملابسات كان من المفروض على الشيعة ان يقفوا من
مرويات السنة موقف المتحفظ الذي يريد ان يستوحي أقواله واعماله من
الواقع الذي يحسه ويطمئن إليه، وإذا شذ بعضهم عن هذا المبدأ وتأثر
بالاستفزازات الموجهة إلى الشيعة ووقف من مروياتهم موقفا سلبيا متنكرا
لما فيها من الغرر والدرر فهو لا يعبر عن رأي الشيعة ولا يمثلهم في مثل
هذه المواضيع.
10

ومهما كان الحال فقد الف الشيعة في الحديث عشرات الكتب خلال القرون
الثلاثة من الهجرة وكانت هذه الكتب مصدرا لكتب الأربعة التي
ألفها الكليني والصدوق، والطوسي في القرنين الرابع والخامس، كما
الف السنة في الحديث بعد أن اتجه العلماء إلى التدوين العشرات من
الكتب بما في ذلك الصحاح الستة في الفترة نفسها، وظهر من خلال
المدونات الشيعية، ان الشيعة قد اعتمدوا على مرويات الأئمة أكثر من
غيرها باعتبارهم المصدر الأمين الحاكي لأقوال الرسول وأفعاله، واخذوا
عنهم أكثر مدوناتهم، كما اتجه السنة فيما دونوه إلى غيرهم ممن يثقون
به من الرواة والصحابة، واعتبروا الأئمة (ح) من ولد الرسول (ص)
كغيرهم من الرواة والفقهاء يخضعون للنقد والتجريح والتوثيق، فروى
عنهم فريق، وتجاهلهم آخرون ولعل محمد بن إسماعيل البخاري الوحيد
بين أصحاب الصحاح من حيث تجاهله لأكثر الأئمة وتلامذتهم المنتشرين
في جميع البلدان وبخاصة البلاد التي رحل إليها في طلب الحديث كمدن
العراق والحجاز وغيرهما.
ونظرا لان الكافي من أبرز كتب الحديث عند الشيعة، والصحيح
للبخاري من أصح المجاميع عندهم قد اخترتهما لهذه الدراسات التي
تضمنها هذا الكتاب بروح مجردة عن التعصب والهوى، متحريا الحق
أينما كان، وابراز بعض الحقائق التي أحيطت بالغموض والتشويش،
نتيجة لعامل السياسة والطائفية والزمن وغير ذلك من الملابسات والأسباب
كما واني قد حاولت التخفيف من حدة الموقف الذي أوجد تلك الفجوة
الواسعة بين الفريقين، وعرضت لهذه الغاية بعض موارد الالتقاء بين
الجامعين وما تفرد به كل منهما مما يتفق مع روح الاسلام وسماحته وما
هو بعيد عنها، ولم أجد بدا هن الوقوف عند بعض المرويات والتعليق
عليها أحيانا بدافع الحرص على كرامة السنة وتنزيهها عما الصق بها زورا
وبهتانا.
11

كما واني عندما وقفت بجانب الكليني في بعض المواضيع لم يكن
ذلك مني بدافع التحيز له، ويستطيع القارئ ان يتأكد من هذه الحقيقة
من موقفي معه في كثير من مروياته قي كتاب الحجة، وإنما وقفت إلى جانبه
في بعض المواضيع لأنه قد تعرض لأعنف الهجمات من بعض مؤلفي السنة
بدون مبرر لذلك.
ومن أمثلة ذلك الهجوم الذي تعرض له من أبي زهرة في كتابيه
الإمام الصادق (والامام زيد بن علي) لأنه دون في الكافي بعض المرويات
التي تشعر بتحريف القران، فقد اتهمه أبو زهرة وغيره بالنفاق من اجل
ذلك، ودعا إلى التشكيك بجميع مروياته، مع العلم بان أحاديث التحريف
التي تستر بها المهاجمون للكليني رواها البخاري وغيره من المحدثين في
مجاميعهم بشكل أوسع وأصرح في التحريف مما رواه الكليني حول هذا
الموضوع، ومع ذلك لم يتعرض البخاري وغيره من المحدثين لمثل تلك
الهجمات والاتهامات ولم يطالبوا بطرح مرويات تلك الصحاح بكاملها،
كما طالبوا بذلك بالنسبة لمرويات الكافي، ولا أغالي إذا قلت بان الحملات
التي وجهت إلى الكافي، لو وجهت إلى البخاري وحده في موضوع يشترك
فيه مع الكليني لوقفت إلى جانبه بنفس الروح التي وقفت فيها إلى جانب
الكليني.
ومجمل القول هو اني قد اخذت على نفسي في الدراسات التي
تضمنها هذا الكتاب ان لا أجامل أحدا، ولا أحابي فريقا مهما كانت
النتيجة، ولا أقول الا ما اعتقد انه الحق، لا ابتغي من وراء ذلك الا رضا
الله سبحانه فان وفقت لذلك فما أبالي بغضب من سواه، وان أخطأني
الحظ فأرجو ان أحظى برضاه فيما بقي من عمري.
وقد اعتمدت في جميع المواضيع التي اشتمل عليها هذا الكتاب على
المصادر الموثوقة عند الفريقين السنة والشيعة، ومنه سبحانه استمد
التوفيق لما يرضيه ويقربني إليه والاخلاص في العمل انه قريب مجيب.
12

الفصل الأول
لمحات عن الكتابة والحديث ومراحل تدوينه
13

لا يخرج الباحث في أحوال العرب وتأريخهم صفر اليدين من معرفة
العرب للكتابة، ذلك لان الدراسات العلمية تؤكد ان العرب ولا سيما
سكان الأطراف الشمالية للجزيرة قد تعلموا الكتابة وأتقنوها قبل الاسلام
بزمن بعيد، نتيجة لاتصالهم الوثيق بالفرس والرومان، وتدل المصادر
التاريخية ان جماعات كثيرة من عرب الحيرة قد أتقنوا اللغة الفارسية
وكتابتها، وتولى بعضهم إدارة دواوين ملوك الفرس والترجمة لهم
والاشراف على الكثير من شؤونهم، ومن هؤلاء عدي بن زيد وولده
اللذان كانا من الصق العرب بقصور الفرس والامارات العربية بالحيرة
وغيرها.
وجاء في فجر الاسلام لأحمد امين، ان لعرب الحيرة وأمرائهم
وتأريخهم اثرا كبيرا في الأدب العربي والحياة العقلية للعرب عامة كما تدل
على ذلك أحاديث جذيمة الأبرش وأساطير الزباء، والخورنق والسدير
وما جاء حول سنمار باني الخورنق، ويوما النعمان، يوم بؤسه ويوم
نعيمه وغير ذلك من القصص والأساطير التي احتلت الصدارة في شعر
العرب وأدبهم قبل ظهور الاسلام، وظلت زمنا طويلا تحتل الصدارة في
المدونات التاريخية والقصصية بعد ظهور الاسلام.
15

وجاء في الأعلاق النفيسة (لابن رسته) ان عرب الحيرة علموا قريشا
الزندقة في الجاهلية والكتابة في صدر الاسلام، ولا يعنينا تقييم هذه
النصوص من الناحية العلمية والتاريخية بل أوردناها كشاهد على أن
الأمية ل ا تكن متفشية بين العرب بالشكل الذي يتصوره بعض الكتاب
والمستشرقين وبخاصة عرب الجهيرة وبادية الشام لأنهم عاشوا زمنا طويلا
مع جيرانهم الفرس والرومان، وبحكم الظروف التي كانت تحيط بهم
والمراحل التي مروا بها مع تلك الأمم المتحضرة ليس من البعيد عليهم ان
يتعلموا الكتابة، وان يأخذوا عنهم العلوم والعادات التي تمس حياتهم
وتسهل لهم سبل العيش والحياة الحرة الكريمة كما لا نستبعد ان يكون
لعرب الحجاز ميزة على غيرهم من عرب الجزيرة من هذه النواحي ذلك
لأنهم جعلوا مكة المكرمة قاعدة لتجارتهم التي كانت تسيطر على الأسواق
في الشام ومصر، حيث كان الحجازيون يشترون السلع من اليمنيين
والأحباش، لتصديرها على حسابهم إلى أسواق الشام ومصر، وعلى
تجارة المكيين كان يعتمد الرومان قي أكثر الحاجيات وقد بالغ بعض
المستثمرين فادعى انهم اتخذوا من مكة نفسها بيوتا استخدموها للتجارة
والتجسس على العرب، وكانت قبيلة قريش من أشهر القبائل العربية
التي كانت تتماطى التجارة، وجاء في الكشاف وغيره من كتب التفسير،
ان القرشيين كانوا يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام،
والذي سهل لهم الاستيراد والتصدير، والاستيلاء على الأسواق، ان
العرب كانوا يعظمون البيت ويحترمون جيرانه وخدامه وقد امتازت بذلك
قريش عن غيرها من سائر العرب لأنها تحصنت بجواره من غزو العرب
وقطاع الطرق (1).
وليس بالبعيد عادة ان تزودها هذه المرحلات، المتتالية بسبب اتصالها

(1) انظر فجر الاسلام لأحمد امين ص 13 و 14.
16

المباشر بتلك الأمم المتحضرة ببعض المنافع بالإضافة، إلى الفوائد المادية
التي كانت تدرها هذه الرحلات، ومن أيسر ما يمكن ان تجره على المكيين
هذه المهنة هي تعليم الكتابة والقراءة، هذا بالإضافة إلى أن يهود المدينة
كانوا يحسنون الكتابة ويعلمونها الصبيان قبل هجرة الرسول (ص) إليها
كما تؤكد ذلك بعض النصوص التاريخية.
ومن مجموع ذلك تبين ان الكتابة لم تكن بتلك الندرة بين المكيين
كما يدعى البلاذري في (فتوح البلدان) حيث قال: " لقد ظهر الاسلام
وبين القرشيين سبعة عشر رجلا يحسنون الكتابة لا غير وفي الأوس
والخزرج سكان المدينة إحدى عشر رجلا تعلموها من جيرانهم اليهود ".
وإذا صح ان الذين كانوا يحسنون الكتابة لا يتجاوزون هذا العدد
الضئيل فلابد وأن تكون في غيرهم معدومة أو أقل من ذلك، وبعد
ملاحظة الظروف التي أحاطت بالمكيين وبخاصة القرشيين منهم الذين كانوا
على اتصال دائم بالأمم المتحضرة نستبعد كل البعد ان يكون هذا
الاحصاء الذي، ادعاه البلاذري وغيره صحيحا وفي نفس الوقت لا نبالغ
في تقديره، ولا ندعي انتشارها بينهم كما كانت بين جيرانهم الفرس
والرومان، لان العلم والكتابة ينتشران حيث توجد الحضارة ويكثر
العمران، والحجازيون يفقدون جميع هذه النواحي.
ومما يؤكد ان الأمية كانت تغلب على العرب قبل ظهور الاسلام
الآية من سورة الجمعة، هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو
عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي
ضلال مبين.
وجاء في غيرها من الآيات ما يؤكد أن النبي نفسه كان أميا لا يحسن
الكتابة ولا القراءة كما تدل على ذلك النصوص القرآنية والنبوية.
دراسات - 2
17

قال تعالى: " الذين يتبعون الرسول الأمي الذي يجدونه مكتوبا في
التوراة " وجاء عنه (ص) أنه قال: انا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب إلى
غير ذلك من النصوص والحوادث التي تؤكد ان الأمية كانت تغلب على
العرب قبل الاسلام، ولا يتنافى ذلك مع ما ذكرناه أولا من أن عرب
الحيرة ومكة بصورة خاصة من بين عرب الجزيرة كانوا يقرؤون ويكتبون،
فانا لم نقصد من ذلك أن الأغلبية منهم كانوا يحسنونها كغيرهم من الأمم
المتحضرة والذي أردناه انه قد كان بينهم عدد لا يستهان به يحسنون
الكتابة والقراءة بحكم الظروف والملابسات التي كانت تحيط بهم ولا
يتنافى ذلك مع جهل الأغلبية لها.
ومهما كان الحال فالتحديد الذي ذكره البلاذري لغير الأميين،
والغلو الذي ذهب إليه بعض المستشرقين من مساواة العرب لغيرهم في
هذه الناحية، هذان الرأيان لا تؤيدهما الدراسات الملمية ولا النصوص
الاسلامية كما ذكرنا.
ومما لا شك فيه ان الكتابة قد بدأت تنتشر في مكة وما حولها
بظهور الاسلام على نطاق أوسع مما كانت عليه أولا بسبب التحول الذي
طرأ على العرب نتيجة لاعتناقهم الدين الجديد الذي يدعو إلى العلم
ويحث عليه.
وتؤكد المصادر التاريخية ان مساجد المدينة التسعة كانت محط
أنظار المسلمين، يتعلمون فيها القران وتعاليم الاسلام والكتابة وغير ذلك
مما تدعو إليه الا حاجة، والى جانب هذه المساجد انتشرت المكاتب لتعليم
الصبيان ومحاربة الأمية بأشكالها، وعندما نلاحظ موقف النبي من
الاسرى الذين كانوا يحسنون القراءة والكتابة بعد نجاحه قي معركة بدر
الكبرى واعفاءهم من الفدية التي فرضها على كل أسير حسب امكانياته
18

مع العلم بأنه كان هو ودولته الفتية الناشئة في أمس الحاجة إلى المال عندما
نلاحظ ذلك وتتأكد بأنه قد أعفاهم منها، وفرض علي كل أسير منهم ان
يعلم عشرة من الأميين في مقابلها، ندرك مدى اهتمامه في محاربته الجهل
والأمية حتى استطاع في خلال سنوات معدودات ان يهيئ عددا كبيرا
يقرؤن ويكتبون، ويحسنون إدارة الأعمال وتصريف الأمور، ومضت
حركة التعليم تتسع بين المسلمين في أنحاء الجزيرة، ويحث عليها بمختلف الأساليب
والمناسبات، وقد بلغ به الحرص على توجيه الناس نحو التعليم، ان جعل
طلب العلم من الفرائض، وقال كلمته المشهورة، (طلب العلم فريضة على
كل مسلم ومسلمة) وقال أيضا: (اطلبوا العلم ولو بالصين) والوصول
إلى الصين في عصره أعسر من الوصول إلى القمر في عصرنا هذا، وكان
من نتيجة تلك الجهود التي بذلها لمحاربة الأمية ان أصبح المتعلمون من
المسلمين وأبنائهم يعدون بالألوف، بعد أن كانوا لا يتجاوزون العشرات
كما يظهر من احصاءات المؤلفين الذين كتبوا في هذه المواضيع.
ويؤيد ذلك ما جاء عن أبي الدرداء. أنه قال لبعض جلسائه اعداد
من يقرأ عندي القران فعدهم فبلغوا ألفا وستماية.
وكان لكل عشرة منهم مقرئ، (اي معلم) وأبو الدرداء يشرف
على الجميع (1).
ومن مجموع ذلك نستطيع ان نؤكد أن تأخير المسلمين عن تدوين
الحديث والآثار الاسلامية لا يعود بالدرجة الأولي إلى ندرة وسائل
التدوين وتفشي الأمية كما يدعي بعض المؤلفين من العرب والمستشرقين،

(1) انظر السنة قبل التدوين، عن النهاية في طبقات القراءة، والتهذيب لابن عساكر.
19

ذلك لان وسائل التدوين لم تكن بتلك الندرة حتى قبل ظهور الاسلام
كما ذكرنا، ولو تعازلنا عن جميع الشواهد والأدلة التي ذكرناها وقلنا إن
العرب قبل الاسلام على اختلاف مناطقهم لا يحسنون الكتابة، لو
افترضنا ذلك بالنسبة للعرب قبل الاسلام، فلا يصح هذا الافتراض بعد
ظهور الاسلام وبعد تلك الجهود التي بذلها الرسول الأعظم (ص) لمحاربة
الجهل والأمية، فلا بد لنا والحال هذه من تلمس الأسباب التي صرفت
المسلمين عن تدوين أحاديث الرسول خلال القرن الأول من الهجرة، ومن
خلال المصادر التي تعرضت لهذا الموضوع قديما وحديثا نجد ان أكثرها
تعزو ذلك إلى الرسول نفسه، اعتمادا على ا لمرويات عنه، والى الخليفة
الثاني الذي اشتهر بمعارضة فكرة التدوين، وتوعد الناس بالعقاب عليها،
فرووا عن الرسول (ص) أنه قال: لا تكتبوا عي شيئا، ومن كنب عني
غير القران فليمحه. وقد اخذ الخليفة الثاني بهذا النص حينما راجت
فكرة التدوين بين المسلمين كما يدعي بعض المؤلفين وعلله بان التدوين
قد يؤدي إلى التباس القرآن بالحديث وانصراف المسلمين عن كتاب الله
إلى أقواله وأحاديثه كما جرى ذلك بالنسبة إلى الأمم السابقة.
وفي مقابل الرواية التي تنص على أن الرسول نهاهم عن تدوين
أقواله وأفعاله رووا عنه انه رخص لعبد الله بن عمرو بن العاص ان يكتب
عنه ما يشاء فجمع من أحاديثه الصحيفة المسماة بالصادقة، وانه قال لرجل
من الأنصار: استعن على حفظك بيمينك، وقال لانس بن مالك: قيدوا
العلم بالكتابة، إلى غير ذلك من المرويات ونظرا لتعارض هذه الطائفة من
المرويات عنه للروايات المانعة، رجح أكثر المحدثين بأنه نهى عنه أولا
مخافة ان يختلط حديثه بالقران الكريم ولما تركز القرآن في نفوسهم
واحتل منها المكان اللائق به، وأصبحوا يميزونه عن غيره أباح لهم ان
يكتبوا عنه ما يشاؤن، ونتيجة هذا الجمع بين هاتين الطائفتين من المرويات
20

عنه (ص) فقد توفي والتدوين مباح للجميع، وامر عبد الله بن عمرو أبن
العاص ان يكتب عنه في حالتي الرضا والغضب، كما يدعون، انه دون صحيفته
المسماة بالصادقة من أقواله وأفعاله مباشرة (1) ومن البعيد ان تخفى هذه
النصوص على الخليفة، وإذا افترضنا بأنه كان على علم بها، فلماذا منع
من التدوين في حين انه لم برد عن الخليفة الأول ما يشير إلى أنه نهى عن ذلك.
وجاء في بعض المصادر التي تعرضت لهذا الموضوع انه منعهم عن تدوين الأحاديث
حرصا على كتاب الله، وانه أحرق كتبا كانت لبعض الصحابة لهذه الغاية.
فقد روى عنه عروة بن الزبير، انه أراد ان يكتب السنن، فاستفتى
أصحاب رسول الله، (ص) فأشاروا عليه ان يكتبها فطفق عمر يستخير
الله شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال: اني كنت أريد ان
اكتب السنن، واني ذكرت قوما قبلكم كتبوا كتبا فانكبوا عليها وتركوا
كتاب الله، واني والله لا أشوب كتاب الله بشئ.
وجاء عنه انه لما حدث أبي بن كعب عن بيت المقدس واخباره انتهره
عمر بن الخطاب، وهم بضربه، فاستشهد أبي بجماعة من الأنصار ولما
شهدوا بأنهم سمعوا الحديث من رسول الله (ص) تركه، فقال له أبي بن
كعب: أتتهمني على حديث رسول الله، فقال يا أبا المنذر: والله ما
اتهمتك، ولكني كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله ظاهرا إلى غير

(1) لقد تحدثنا عن هذه الصحيفة المزعومة مفصلا في كتابنا تاريخ
الفقه الجعفري، وأثبتنا بالأرقام انها ليست من أحاديث الرسول، بل هي من
الكتب التي استولى عليها المسلمون في معركة اليرموك، وكان هو يحدث عن تلك
الكتب وينسبها إلى الرسول (ص) وقد جمع فيها طائفة من الأحاديث وادعى بأنه
اخذها من الرسول.
21

ذلك من المرويات الكثيرة التي تؤكد أن الخليفة لم يعتمد على الرسول في
منعه عن التدوين، وانه قد تفرد بهذا التصرف حرصا على كتاب الله،
ولكن الرواية التي تنص على أنه قد انتهر أبي بن كعب لما حدث عن بيت
المقدس، وقوله فيها: اني كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله
ظاهرا، هذه الرواية تدل على أنه كان حريصا على أن لا ينتشر الحديث
عن رسول الله (ص)، مع العلم بان حديث الرسول مكمل للتشريع، ومبين
لمجملات القرآن ومخصص لعموماته ومطلقاته، وقد تكفل لكثير من
النواحي الأخلاقية والاجتماعية والتربوية، ولو تقصينا الأسباب التي
يمكن افتراضها لتلك الرغبة الملحة في بقاء السنة في طي الكتمان لم نجد
سببا يخوله هذا التصرف، ولا نستبعد انه كان يتخوف من اشتهار
أحاديث الرسول في فضل علي وأبنائه (ع).
ويؤكد ذلك ما رواه عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه. ان علقمة
جاء بكتب من اليمن أو مكة تحتوي على طائفة من الأحاديث في فضل أهل البيت
(ع)، فاستأذنا على عبد الله بن مسعود فدخلنا عليه ودفعنا إليه
الكتب، قال: فدعا الجارية ثم دعا بطشت فيه ماء، فقلنا له: يا أبا عبد الله
انظر فيها فان فيها أحاديث حسانا، فلم يلتفت، وجعل يميثها في الماء
ويقول: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القران،
القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن، وعبد الله بن مسعود كان منحرفا عن
علي (ع) ويساير المنحرفين عنه، كما تؤكد ذلك النصوص التاريخية.
ولو افترضنا ان الخليفة كان حسن النية في هذا الامر، وانه لم يمنع
الا بدافع الحرص على كتاب الله، فقد كان من نتائجه، ان اتسع المجال
للكذابين والمنحرفين عن المخطط الاسلامي، والمرتزقة ان يضعوا من
الأحاديث ما توحيه إليهم الأهواء والمطامع، بالإضافة إلى ما ضاع منها
22

بسبب الحروب والغزوات، التي فتكت بالصحابة بعد وفاة الرسول " ص "..
على أن الذين يحاولون ان يعتذروا عنه، ويقرون المرويات التي
تنص على أنه خاف ان يختلط الحديث بالقرآن، هؤلاء يسيئون إليه من
حيث لا يقصدون، لأنه لم يكن قصير النظر ولا محدود التفكير ولا
جاهلا بأساليب البيان وبلاغة القول، ويعلم جيدا ان القرآن قد استولى
على النفوس وتحكم بمشاعرهم وأحاسيسهم، وكان له الأثر البالغ في
سير الدعوة وانتشارها، هذا بالإضافة إلى وجود الفوارق الكثيرة بين
الأسلوبين التي لا تخفى على أحد منهم.
ومع التغاضي عن جميع ذلك، فقد كان بالامكان لو كانت النوايا
طيبة التفرغ إلى جمع الحديث وتدوينه بعد تدوين القرآن الكريم
والتثبت من احصائه في مجموعة واحدة بواسطة لجنة مختارة من الامناء
المعروفين بالوثاقة والاستقامة، ولو فعلوا ذلك لقطعوا الطريق على كل
أفاك أثيم، وعلى المرتزقة الذين شوهوا معالم السنة وطمسوا من أضوائها
النيرة والصقوا فيها من الموضوعات التي جرت على المسلمين أسوأ أنواع
البلاء وفرقتهم شيع أو أحزابا.
ومهما كانت الأسباب التي فرضت على الخليفة ان يقف من السنة
هذا الموقف، فالنصوص التاريخية تؤكد بأنه لم يكن موفقا فيه ولم ينجح
كل النجاح في هذا التدبير، فقد ظهرت بعض المدونات الاسلامية في
فترات متعاقبة من عصر الصحابة وبعده للشيعة وغيرهم، ومن ذلك
الجامعة التي ألفها علي (ع) وقد تناول فيها جميع أبواب الفقه، وإليها
كان يرجع الأئمة (ع) في أحكامهم وأقضيتهم في كثير من المناسبات،
كما دون عبد الله بن العباس في الفقه والتفسير وغير ذلك من العلوم، وجاء
23

في بعض المرويات انه ترك حمل بعير من مدوناته، وكان يحمل قسما منها
إلى مجالسه وحلقات التدريس، وكتب سعيد بن جبير أحد تلاميذه كل
ما املاه عليه. ومجمل القولي ان حركة التدوين بدأت تتسع في الشطر
الأخير من عصر الصحابة ولكنها لم تنتشر بين المسلمين الا في أوائل القرن
الثاني حينما أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر محمد بن حزم بجمع الحديث
وتدوينه، وجاء في المذكرة إلي وجهها إليه. انظر ما كان من حديث
رسول الله (ص) أو سنة ماضية فاكتبه فاني خفت، دروس العلم وضياعه،
واكد عليه كما تنص بعض المرويات ان يدون ما روته عمرة بنت
عبد الرحمن الأنصارية والقاسم بن محمد بن أبي بكر (ا) فهب الناس إلى
التدوين وأحسوا بخطر الركود الذي مر عليه في القرن الأول وأصبح من
الضرورات الملحة بنظر الجميع، لا سيما وقد ندب إليه عمر بن عبد العزيز
المعروف بالاعتدال والحرص على الآثار الاسلامية ولكن التدوين الذي
كان يوم ذاك لم يكن مرتبا على أبواب الفقه وفصوله ولم يقتصر الكتاب
على موضوع واحد، بل كان المؤلف يحشد في كتابه من جميع المواضيع
والأصناف، بما في ذلك التفسير واللغة والأدب ونحو ذلك من المواضيع
اما التدوين المرتب على الأبواب الفقهية فلم في قبل أواخر النصف الأول
من القرن الثاني، ويدل على ذلك ما أورده الحافظ الذهبي في حوادث
143 قال: وفي هذا العصر شرع علماء الاسلام في تدوين الحديث والفقه
والتفسير وغير ذلك من المواضيع، فصنف ابن جريح المتوفى 150 تصانيفه
الكثيرة في مكة، وصنف ابن اي عروبة المكنى بابي النظر العدوي، وفي
خلال ذلك صنف أبو حنيفة في الفقه والرأي، كما صنف حماد بن سلمة
وسفيان الثوري والأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، وهشيم بن بشير،
وغيرهم في فترات متعاقبة تتراوح بين سنة 150 و 175 عشرات الكتب

(1) انظر تاريخ الفقه ص 176 والأضواء ص 224.
24

في مختلف المواضيع وإذا لاحظنا ما أنتجته مدرسة الامامين الباقر والصادق
(ع) في هذه الفترة من القرن الثاني تقريبا من المدونات التي بلغت ستة
آلاف كما أحصاها أكثر المؤلفين في هذا الموضوع من الشيعة وأشرنا إلى
مصادرها في كتابنا (المبادئ العامة في الفقه الجعفري) إذا لاحظنا ذلك
تدرك أهمية هذا الدور من ناحية اتساع حركة التأليف وتدوين الآثار
الاسلامية وغيرها من آثار الفرس واليونان في مختلف المواضيع، وقد
أحصى المؤلفون في أحوال الرجال والتراجم عددا كبيرا لجماعة من
أصحاب الأئمة كصفوان بن يحيى، وشعيب بن أعين الحداد، وهشام بن
الحكم، وإسماعيل بن موسى بن جعفر (ع) وعبد الله بن المغيرة البجلي
الكوفي، وعبد الله بن سنان مولى بني هاشم، ومحمد بن عمير ويونس
ابن عبد الرحمن، وأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، والفضل بن
شاذان النيسابوري إلى غير ذلك ممن تتراوح مؤلفاتهم بين العشرين
والثلاثين كتابا.
وجاء عن محمد بن مسعود العياشي انه أنفق على تدوين العلم
ثلاثمائة ألف دينار، وان داره كانت تعج بالناس وهم بين ناسخ وقارئ
ومقارن ولو كتب البقاء لمؤلفات الشيعة في القرنين الثاني والثالث، لكانت
دور الكتب اغنى ما تكون بالآثار الشيعية، ولكن الظروف التي أحاطت
بهم، والحروب الدامية التي كانت قي الغالب تستهدف دمائهم وآثارهم
كل ذلك قد ساهم في تبديد تلك الثورة الغنية بالكنوز والنفائس، وليس
أدل على ذلك من اقدام الحكام والغزاة وبخاصة الأيوبيين منهم على
حرق المكتبات الشيعية مباشرة. كمكتبة الطوسي، والوزير (نصر سابور بن
أردشير) وزير بهاء الدولة، ومكتبة الأزهر التي أسسها
الفاطميون في مصر وحشدوا فيها مئات الألوف من المجلدات في مختلف
مواضيع وبقيت أكثر من قرنين من الزمن منهلا كريما لرواد العلم من
25

مختلف الأقطار إلى أن جاء صد الأيوبيين الذي استهدف الشيعة وآثارهم
وأكثر من اي شئ آخر ذلك العهد الذي مثل فيه صلاح الدين وأبناؤه
الجريمة بأقبح صورها وأشكالها إلى غير ذلك من دور الكتاب التي كانت
أكثر محتوياتها من كتب الشيعة وآثارهم.
ومهما كان الحال فلم يطرأ على التدوين تطور قبل نهاية القرن
الثاني، وبنهايته شرع فريق من العلماء بتطويره فأفردوا أحاديث الرسول
عن آراء الصحابة وأقضيتهم، ووزعوا الأحاديث على أبواب الفقه وفصوله
حسب المناسبات ومضى العلماء على ذلك، فألف أحمد بن حنبل جامعه،
وإسحاق بن راهويه وغيرهما عشرات الكتب وظلت حركة التدوين تتسع
إلى أن دخلت طورا جديدا، هو طور الاختيار والتنقيح، وكان أول من
اتجه إلى هذه الناحية من السنة محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله.
قال الحافظ بن حجر في مقدمة فتح الباري على صحيح البخاري،
ولما رأى البخاري هذه التصانيف ورواها وانتشق رياها واستجلى محياها
وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت الصحيح وغيره والكثير
منها يشمله التضعيف، حرك همته لجمع الحديث الصحيح، فألف كتابه
المعروف بصحيح البخاري، كما الف كل من مسلم، وأبو داود سليمان
ابن الأشعث السجستاني، والترمذي والنسائي، وابن ماجة، ومحمد بن
يزيد كتبهم الستة المعروفة بين اعلام السنة بالصحاح خلال القرنين الثالث
وأوائل القرن الرابع، وكان لمحمد بن إسماعيل البخاري الفضل الأكبر في
هذا الاتجاه من التأليف، لأنه أول من حرك همته لتحري الأحاديث
الصحيحة ودونها في صحيحه سنة 250 تقريبا، واخرهم النسائي احمد
ابن شعيب المتوفى سنة 303 شهيدا في مكة كما قي رواية الذهبي وغيره.
وجاء في سبب وفاته. انه خرج من مصر وافدا على دمشق فاجتمع
26

عليه المحدثون والقراء وغيرهم، وفي بعض مجالسه سأله بعضهم أيهما
أفضل علي أم معاوية؟ فقال: على الفور اما رضي معاوية ان يخرج رأسا
برأس حتى يفضل، وجاء عنه أنه قال: والله لا اعرف له فضيلة الا قولي
النبي (ص) له: (لا أشبع الله بطنك) فداسوه بأرجلهم وأخرجوه من
الشام مضرورا، فتوجه نحو مكة المكرمة وتوفي بها متأثرا بما اصابه،
وجاء في ترجمته أنه قال: دخلت الشام، والمنحرف عن علي (ع) بها كثير
فصنفت كتاب الخصائص رجوت بذلك ان يهديهم الله (1).
وفي هذا الدور الذي ظهر فيه أصحاب الصحاح ودونوا صحاحهم،
نجد بين المؤلفين من الشيعة من هو أكثر انتاجا وأحسن تنظيحا من غيرهم،
كما تؤكد ذلك كتب الرجال والحديث التي تعرضت لمؤلفات الشيعة في
الفترة الواقعة بين عصر البخاري والنسائي، وبخاصة المؤلفات الفقهية
الموزعة على أبواب الفقه وفصوله، واشتهر من بينهم القميون بتصلبهم
وتشددهم على كل متهم بالانحراف عن العقيدة، كمحمد بن عيسى بن
عبد الله الأشعري شيخ القميين في القرن الثالث على حد تعبير علماء الرجال
ومحمد بن أحمد ابن أبي قولويه، ومحمد بن إسماعيل بن بشير البرمكي،
ومحمد بن خالد الأشعري القمي، ومحمد بن علي بن محبوب أحد
الشيوخ الاجلاء في قم، وصاحب المؤلفات الكثيرة في مختلف المواضيع
وقد أحصى له النجاشي والمامقاني في تنقيح المقال نحوا من ثلاثين مؤلفا
وفي كتابه الجامع تعرض لجميع أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات
والحدود، ومن هذه الطبقة محمد بن المحسن بن فروخ الصفار المعروف
بالوثاقة وحسن السيرة وسلامة العقيدة، والمعاصر للإمامين الهادي
والعسكري (ع)، كما عاصر البخاري وغيره من أصحاب الصحاح، إلى غير ذلك
من العشرات الذين اتجهوا إلى تصفية الحديث وتصنيفه على

(1) انظر شذرات الذهب لابن العماد ج - 2 ص 240.
27

أبواب الفقه وفصوله، وقد أحصى النجاشي لبعضهم أكثر من تسعين كتابا.
وجاء في الفهرست لابن النديم. ان الفضل بن شاذان النيسابوري
ترك نحوا من 180 كتابا من مؤلفاته قي مختلف المواضيع، وبلغ الحمال
بالقميين وغيرهم انهم كانوا يخرجون من قم كل متهم بالغلو والانحراف
عن التشيع السليم ويرفضون مروياتهم مهما كان نوعها. وبالتالي فقد
اتجهوا إلى التأليف في أحوال الرواة، ووضعوا أصول علم الرجال
والدراية حتى لا تختلط مرويات المنحرفين والمتهمين بمرويات الموثوقين
من الشيعة المعتدلين في تشيعهم وعقائدهم، ومن هؤلاء علي بن الحسين
ابن علي بن فضال. فقد جاء في الفهرست للشيخ الطوسي. انه ممن يعتمد
على قوله في الرجال، ويستند إليه في الجرح والتعديل، واكد هذه
الحقيقة في منتهى المقال، واستنتج بعضهم انه من المؤلفين في الرجال.
ومنهم الفضل بن شاذان، فقد نص جماعة ان له كتبا في الرجال
وأحوال الرواة، ومنهم محمد بن أحمد بن داود بن علي شيخ القميين في
زمانه كما نص على ذلك النجاشي، والعلامة في الخلاصة.
وجاء في الفهرست، انه الف كتابا في الممدوحين، والمذمومين رجال الحديث.
ومنهم محمد بن الحسن أبو عبد الله المحاربي، قال النجاشي،
والعلامة في الخلاصة. انه كان خبيرا بأحوال الرواة والف في هذا
الموضوع كتابا عرض فيه أحوالهم ومراحل حياتهم.
ومنهم نصر بن الصباح المكنى بابي قاسم من أهالي بلخ فقد الف
28

ومنهم محمد بن خالد البرقي ومحمد بن مسعود السمرقندي
المعروف بالعياشي وغيرهم ممن نص أصحاب الفهارس على أنهم قد ألفوا
في أحوال الرجال ووضعوا أصول علم الدراية في القرن الثالث وأوائل
القرن الرابع، قد اكد ذلك الشيخ الطوسي قي العدة، وجاء فيها ان
الطائفة ميزت الرجال الناقلين لهذه الأخبار فوثقوا الثقاة منهم، وضعفوا
الضعفاء، وفرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته، ومن لا يعتمد
عليه، ومدحوا الممدوحين، وذموا المذمومين، وقالوا فلان متهم في حديثه:
وفلان كذاب، وفلان مخلط ومخالف في المذهب والاعتقاد إلى غير ذلك
من الطعون التي وصفوا بها الرواة والمحدثين، وأضاف إلى ذلك انهم
صنفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف
في فهارسهم، حتى إذا واحدا منهم إذا أنكر حديثا نظر في اسناده وضعفه
بروايته وأصبحت هذه الطريقة عادة لهم لا تنخرم ولولا أن العمل بما
يسلم من الطعون جائز، لا يكون فائدة لما شرعوا فيه من التضعيف
والتوثيق (1) هؤلاء وغيرهم من المؤلفين في الحديث وأحوال الرجال
وشروط الرواية وأقسامها الذين بذلوا كل ما لديهم من الامكانيات لتصفية
الحديث من الموضوعات ومن المشتبهات هؤلاء وضعوا الأساس
للمتأخرين، وكانوا الركيزة التي اعتمدها لمحمدون الثلاثة، محمد بن
يعقوب الكليني، ومحمد بن بابويه الصدوق، ومحمد بن الحسن
الطوسي في اختيار مجاميعهم الأربعة (2) تلك المؤلفات التي اعتمد مؤلفوها
على كتب القميين وغيرهم من أصحاب الأئمة وتلاميذهم كالأصول
الأربع التي كانت بمجموعا محلا لثقة الرواة والمحدثين، من حيث
معرفتهم بمؤلفيها ووثوقهم بصحة ما فيها من المرويات، هذا بالإضافة

(1) ص 53 من العدة.
(2) الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والتهذيب
والاستبصار للطوسي.
29

إلى القرائن الأخرى التي اعتمد عليها المحمدون الثلاثة بالنسبة لبعض
المرويات، وان لم تكن من حيث أسانيدها مستوفية لشروط العمل
بالرواية، ومن جملتها مطابقة مضمون الرواية للنص القرآني، أو للسنة
الصحيحة، أو لما أجمعت الطائفة عليه، أو لموافقته لحكم العقل أو لغير
ذلك من القرائن التي تؤكد مضمون الخبر وان رواه من لا يصح الاعتماد
على مروياته (1).
ومجمل القول إن المحدثين من الشيعة نشطوا في تصفية الحديث من
الموضوعات ومن مرويات المنحرفين في عقائدهم والمندسين بين صفوف
الشيعة ووضعوا النواة الأولى لعلمي الرجال والدراية وألفوا فيهما، قبل
ان يقوم البخاري ورفاقه من أصحاب الصحاح بمهمة تصفية الحديث
وتصنيفه، وأصبح علم الرجال والدراية من العلوم التي يتوقف عليها
استنباط الاحكام من الأدلة، لان الحديث هو المصدر الثاني للأحكام
بعد كتاب الله، ولولاه لم يتم التشريع ولم يبلغ تلك المرتبة العالية من
الإحاطة والشمول التي تناولت جميع المواضيع ووضعت الحلول لجميع
لحياة على اختلاف تطورها ومراحلها.

(1) العدة للشيخ الطوسي ص 52.
30

الفصل الثاني
في أصناف الحديث
31

لقد قسم الباحثون في الحديث وأحوال الرواة الخبر إلى قسمين
متواتر وآحاد، وتحدثوا عنهما من حيث معناهما، وأقسامهما وشرائط
الاعتماد عليهما باسهاب في مؤلفاتهم الموضوعة لهذه الغاية، واختلفت
آراؤهم في كثير من النظريات والأفكار المتعلقة بهذه المواضيع كما هو
الحال في جميع المباحث التي يدخلها عنصر الاجتهاد، وما لا شك فيه
ان تحديد التواتر وشروطه، واخبار الآحاد وأصنافها، وما يتعلق بذلك
من المواضيع التي تنصل بعلمي الرجال والدراية مباشرة، هذه المواضيع
وما يتعلق بها تتسع لاختلاف الأنظار وتضارب الآراء ولذلك لا يصح ان
ننسب رأيا إلى الشيعة أو السنة في هذه المواضيع وغيرها من المواضيع
الاجتهادية الا إذا اتفق الأكثر عليه، أو كان معبرا عن رأي الأغلبية منهم،
اما نسبته إلى أحد الفريقين الشيعة أو السنة لمجرد وجوده في كتاب، أو
لمجرد كونه يعبر عن رأي بعض الافراد، أو الجماعات، فهو من الأغلاط
التي وقع فيها أكثر المؤلفين.
وفي جميع الأحوال فالتواتر هو عبارة عن اخبار جماعة كثيرة
يستحيل عادة اتفاقهم على الكذب، ولو انضمت بعض القرائن إلى المخبرين
دراسات - (3)
33

بحيث كان حصول العلم مستندا إلى المجموع لا يمنع ذلك من حجية التواتر.
ولو أخبر جماعة بشئ، ولكنهم لم يبلغوا الحد الموجب للعلم لا
يصدق التواتر بالمعنى المصطلح عليه بينهم، كما وان العلم لو لم يستند
إلى الكثرة بان حصل العلم به من الخارج، أو حصل العلم من اخبار
ثلاثة أو أربعة معروفين بالصدق والأمانة، أو كان خبر الكثيرين موافقا
لدليل مقطوع به ومعمول بمقتضاه كل ذلك ليس من التواتر المقابل
للآحاد.
بل لا بد وأن يكون العلم مستفادا من اخبار جماعة يستحيل عليهم
بحسب العادة ان يتفقوا على الكذب وكما ذكرنا لا يمنع من حصول التواتر
وجود بعض القرائن المؤيدة لأخبارهم حتى ولو كان العلم الحاصل منه
مستندا إلى الجميع.
وقال الشيخ الطوسي في تحديد معنى التواتر: ان الخبر إذا لم يكن
من باب ما يجب وقوح العلم عند حصوله، واشتراك العقلاء، وجاز وقوع
الشبهة به هو ان يراد به جماعة قد بلغت من الكثرة حدا لا يصح معه
ان يتفق الكذب منها عن المخبر الواحد، ولابد بالإضافة إلى ذلك من
العلم بأنه لم يجمعها على الكذب جامع كالتواطؤ وما يقوم مقامه، ولا بد
أيضا من العلم بان المخبر الأول على يقين من امره لم يخبر وهو متردد أو
غافل عما أخبر به، هذا إذا لم يكن بين الجماعة وبين المخبر الأول واسطة،
فإن كان بينهما واسطة لابد من مراعاة هذه الشروط في جميع الوسائط
حتى ينتهي الحال إلى نفس المخبر الأول (1).

(1) انظر العدة للطوسي ص 31.
34

ولا بد في العلم الحاصل من التواتر من الشروط التالية.
الأول ان لا يكون السامع عالما بمضمون الخبر، كما لو أخبر
الجماعة شخصا عما شاهدوه وعلم به مباشرة، وقد عللوا ذلك بأن خبر
الجماعة لو أفاد العلم في هذه الحالة، فاما أن يكون عين العلم الحاصل له
بالمشاهدة، أو غيره، فإن كان عينه، يكون من تحصيل الحاصل، وإن كان
غيره يلزم اجتماع المثلين، ولا يصح في مثل ذلك أن نفترض كون
الخبر مؤكدا ومقويا للعلم الحاصل عن طريق الحس والمشاهدة لان العلم
الحاصل للسامع عن هذا الطريق يكون ضروريا، والضروري لا يقبل
الترديد والتشكيك ولا الزيادة والنقصان.
الشرط الثاني ان لا يكون الخبر مسبوقا بشبهة تخالف مضمونه في
ذهن السامع، وان لا يكون السامع معتقدا خلاف مدلوله تقليدا أو
لسبب آخر، إذ لا يمكن حصول العلم من الخبر غالبا الا إذا كان ذهن
السامع خاليا عن الشبهة والمعتقدات المخالفة له مهما بلغ رواته من الكثرة.
الشرط الثالث ان يستند المخبرون إلى الحس، فلو كان أخبارهم
مستندا إلى حكم عقلي أو نص قرآني أو غيرهما لا يكون من التواتر
المقابل للآحاد.
الرابع، أن تكون جميع الوسائط عالمة بمضمون الخبر، بنحو
يستند على الطبقة الأولى إلى الحس والمشاهدة، والثانية إلى التواتر
الحاصل باخبار الطبقة الأولى، والثالثة من أخبار الثانية، وهكذا بالنسبة
إلى بقية الطبقات.
أما العدد الذي يتحقق به التواتر: فالظاهر أن أكثر المؤلفين في علم
الحديث لا يشترطون عددا معينا فيه، وكل ما في الامر لابد فيه من
35

الكثرة التي يحصل من اخبارها العلم بمضمون الخبر، والعلم فد يحصل
أحيانا من اخبار العشرة، وأحيانا لا يحصل من اخبار العشرين والثلاثين
والأكثر من ذلك.
اما تحديدها بأكثر من أربعة كما نسب إلى القاضي الباقلاني، وبأكثر
من عشرة كما جاء عن (الإصطخري)، وباثني عشر مخبرا عدد نقباء بني إسرائيل
، وبأكثر من عشرين كما جاء أبى الهذيل العلاف، وبسبعين
كما جاء عن بعض المحدثين وبثلاثمائة عدد أصحاب النبي (ص) في بدر
كما نص على ذلك بعضهم، هذه التقديرات كلها لأهل السنة، ولا وجود
لها في كتب الشيعة، والظاهر اتفاقهم على عدم تحديده بعدد معين (1).
ومهما كان الحال فالخبر المتواتر، اما ان يكون متواترا بلفظه
ومعناه، كما لو اتفق المخبرون على نقل الحديث بلفظ واحد، واما ان
يكون متواترا من حيث المعنى، كما لو اختلفت ألفاظ المخبرين مع وحدة
المعنى، وحصل العلم بذلك المعنى من ألفاظهم المختلفة بواسطة دلالة
الخبر على المعنى بالتضمن أو الالتزام، أو بالمطابقة إذا كانت الألفاظ
المختلفة مشتركة في معنى واحد، وهذا النوع من التواتر الذي أطلقوا
عليه اسم التواتر المعنوي موجود ومطرد بين المرويات في الفروع
والأصول، اما التواتر اللفظي في جميع مراحله ووسائطه هذا النوع من
التواتر ربما يكون قليلا ونادرا بين المرويات عن الأئمة والرسول (ص)
كما يبدو ذلك بعد التتبع والاستقصاء، وقد بالغ بعضهم فأنكر وجوده
من الأساس.
قال الشيخ عبد الصمد في رسالته التي ألفها في علم الدراية: المتواتر

(1) انظر مقباس الهداية للمامقاني، والعدة للطوسي وغيرهما من
مؤلفات الشيعة في علم الحديث.
36

هو ما رواه جماعة يحصل العلم بقولهم، للقطع بعدم امكان تواطؤهم على
الكذب عادة، ويشترط ذلك في كل طبقاته صحيحا كان أولا، وأضاف
إلى ذلك. وهذا لا يكاد يعرفه المحدثون في الأحاديث لقلته، وهو
كالقران وظهور النبي (ص) والقبلة والصلات وعدد الركعات، والحج
ونصب الزكاة ونحو ذلك (ا) وتشبيه التواتر بهذه الأمور الثابتة
بالضرورة من دين الاسلام، هذا التشبيه يشعر بان التواتر في الحديث
يكاد ان يكون في حكم المعدوم من حيث ندرته وعدم وجوده بين
المرويات عن النبي والأئمة (ع

(1) انظر الوجيزة للشيخ عبد الصمد الحارثي ص 76.
37

التواتر عند محدثي السنة
لا يجد المتتبع في المؤلفات الشيعية والسنية حول الحديث وأصنافه
وحالاته فروقا جوهرية بين الفريقين في المراد في المتواتر وشروطه وأقسامه
وإذا استثنينا التقديرات المختلفة التي نقلناها عن السنة تلك التقديرات
التي لا يتحقق التواتر بأقل منها على حد زعمهم، إذا استثنينا هذه الناحية
نجد انهم يلتقون التقاء كاملا في جميع النواحي المتعلقة به.
قال الدكتور صبحي الصالح في كتابه علوم الحديث: فالمتواتر هو
الحديث الصحيح الذي يرويه جمع يحيل العقل والعادة تواطئهم على
الكذب عن جمع مثلهم في أول السند وآخره ووسطه، وأضاف إلى ذلك.
ان التواتر ينقسم إلى لفظي ومعنوي فاللفظي هو ان يتفق المخبرون على
ألفاظ الحديث في جميع الوسائط، والمعنوي، يرجع إلى اتفاقهم على
المعنى مع الاختلاف في الألفاظ الحاكية للمعنى، ولم يستبعد الرأي الذي
يرجح كثرة الأحاديث المتواترة لفظا ومعنى، وعد منها حديث انشقاق
القمر، وحديث من كذب علي معتمدا فليتبوأ مقعده من النار من حيث إن
الذين رووا هذا الحديث عن النبي (ص) بلغوا اثنين وسبعين صحابيا كما
جاء عن بعض المحدثين وحديث الترغيب في بناء المساجد، والشفاعة،
وانين الجذع، والمسح على الخفين، والاسراء، والمعراج، ونبع الماء بين
أصابعه واطعام الجيش الكبير من الزاد القليل الذي لا يكفي عادة لاثنين
38

أو ثلاثة، إلى غير ذلك من المرويات الكثيرة التي نص جماعة من محدثي
السنة على تواترها لفظا ومعنى، كما جاء ذلك عن السيوطي في تدريب
الراوي، والحافظ بن حجر في شرح النخبة وغيرهما.
وفي مقابل هؤلاء المغالين في اعطاء هذه المرويات صفة التواتر، نص
جماعة على ندرة التواتر اللفظي، وارجع الأمثلة التي ذكرناها إلى القسم
الثاني من قسمي التواتر، وهو المعنوي نظرا للاختلاف الواقع في ألفاظها
بين المحدثين.
ومهما كان الحال، فلم أجد فيما ذكره الفريقان ما يشير إلى بعد
المسافة بينهما في هذه المسألة، وفيما يتعلق بكميات الاخبار عن المتواترة بين
المرويات المدونة في كتب الحديث عند الطرفين، فكل منهما يدعى وجود
كمية كبيرة من مروياته تحمل هذا الاسم، ولكن المحدثين من الشيعة
يعترفون بندرة التواتر اللفظي بين مروياتهم عن الرسول والأئمة (ع) بينما
بالغ جماعة من محدثي السنة في كمية هذا النوع من التواتر بين مروياتهم.
39

اخبار الآحاد وأصنافها
لقد اصطلح المؤلفون في علم الحديث على تقسيم الخبر من حيث
رواته إلى متواتر وآحاد، وعدوا كل حديث لا تتوفر فيه شروط التواتر
من نوع الآحاد، سواء كان الراوي له واحدا، أو أكثر.
وخبر الواحد ينقسم من حيث رواته إلى مستفيض، ومشهور
وغريب، وعزيز، كما ينقسم من حيث متنه إلى اقسام كثيرة، كما سنبين
ذلك في خلال هذا الفصل الذي وضعناه لبيان الحديث وأقسامه وأصنافه
وحد المستفيض عندهم ان يرويه أكثر من ثلاثة قي جميع مراحله، سواء
رووه بلفظ واحد، أو بألفاظ مختلفة مع وحدة المعنى، كما نص على ذلك
أكثر المحدثين.
ونص بعضهم على أنه لو اختلفت ألفاظه يخرج عن كونه مستفيضا،
وفرق جماعة بين المشهور والمستفيض، بأن الخبر لا يوصف بالاستفاضة
الا إذا رواه أكثر من ثلاثة في جميع مراحله حتى ينتهي إلى الطبقة الأخيرة
ويوصف بالشهرة ولو كان الراوي الأول له واحدا، على شرط ان يشتهر
بين الطبقة الثانية، ويرويه جماعة عن الراوي الأول، وجماعة عن الطبقة
الثانية وهكذا.
ومن أمثلته الحديث المعروف المروي عن النبي (ص) (الأعمال
بالنيات) فان هذا الحديث معدود من الأحاديث المشهورة، مع أن الذي
40

رواه عن النبي (ص) واحد، ورواه عنه غيره بالتسلسل إلى أن أصبح
معروفا مشهورا بين جميع الطبقات التي تناقلته، فيكون الاختلاف بين
المشهور والمستفيض في الطبقة الأولى، حيث إنه لا يكفي وحدة الراوي
في اعطاء الخبر صفة الاستفاضة، ويكفي ذلك في اعطائه صفة الشهرة إذا
رواه الجماعة في غيرها من الطبقات.
ويلتقي المستفيض مع المتواتر في أن كلا منهما لا بد وان يرويه
جماعة عن مثلهم في جميع المراحل، فان حصل العلم بصدور الحديث من
النبي ص أو الإمام (ع) من اخبار الجماعة أعطي الحديث صفة التواتر،
والا يوصف بالاستفاضة أو الشهرة، ولو حصل العلم بصدق رواته من
القرائن والملابسات التي تحيط به.
والمراد من الغريب قي عرف المحدثين، هو الذي يشتمل على لفظ
غامض بعيد عن الافهام نظرا لقلة استعماله.
والعزيز هو الذي ا يرويه عن مصدره اثنان فصاعدا، ولعل السر في
تسميته بهذا الاسم، هو قلة وجود هذا النوع بين المرويات عن النبي (ص)
والأئمة (ع)، كما يجوز اعطاؤه هذا الوصف باعتبار قوته الحاصلة من
روايته بطريقتين في جميع المراتب (1).
وقد صنف المحدثون المرويات عن النبي والأئمة " ع " إلى الأصناف
الأربعة التالية الصحيح، والحسن، والموثق، والضعيف، وشاع هذا
التصنيف في عصر العلامة الحلي المتوفى سنة 726 وأستاذه، أحمد بن
موسى بن جعفر (2) ونسب أكثرهم هذا التصنيف إلى العلامة وأستاذه،
ولأجل ذلك فقد تعرضا لهجوم عنيف من الأخباريين الذين قطعوا بصحة
جميع ما رواه المحمدون الثلاثة في كتبهم الأربعة، والواقع ان هذه

(1) انظر مقباس الهداية للمامقاني.
(2) المعروف بابن طاووس المتوفى سنة 673.
41

المصطلحات ليست من مخترعات العلامة، ولا من مبتكرات أستاذه. لان
المتتبع لكتب الرجال والدراية يجد في طياتها ما يوحى باستعمال المتقدمين
لهذه الاصطلاحات، فلقد قالوا: بأن فلانا صحيح الحديث، وفلانا ضعيف
في أحاديثه وفلانا ثقة فيما يحدث به إلى غير ذلك مما يؤكد انهم قد
استعملوا هذه الأوصاف في تقريض الأحاديث والرجال ونقدهما، ولما
جاء دور العلامة الحلي استعمل هذه المصطلحات ونسقها، ووضع كل
واحد منها في المحل المناسب، ونظر إلى الحديث بلحاظ ذاته مع قطع
النظر عن الملابسات والقرائن التي كانت تحيط به، وطبق هذا المبدأ على
جميع المرويات المدونة في الكتب الأربعة وغيرها، والنتيجة الحتمية التي
ينتهي إليها الباحث عندما ينظر إلى الحديث من حيث ذاته، هي وجود
هذه الأصناف الأربعة في الكتب التي بنى الأخباريون على صحة جميع
ما جاء فيها وغيرها، ولا يعني ذلك أن العلامة الحلي كان يتنكر للقرائن
ولغيرها من الملابسات التي تؤكد صدور الحديث المنسوب إلى النبي أو
الإمام (ع) ولكنه يرى أن ذلك لا يجعله من قسم الصحيح، وان جاز
الاخذ به والعمل بمقتضاه من غير ناحية السند، بينما نرى ان المتقدمين
قد توسعوا في وصف الحديث بالصحة، واستعملوه في كل حديث
اقترن بما يقتفي الاعتماد عليه، وان لم يكن صحيح بذاته، كوجوده في
أحد الأصول الأربعمائة، أو لأنه محفوف ببعض القرائن، أو موافق
لحكم العقل، أو للكتاب وللسنة القطعية، أو لوجوده في أحد الكتب
التي ألفها أحد الجماعة الذين اجمعوا على صحة ما صدر عنهم، أو
لوجوده في أحد الكتب التي عرضت على الأئمة، ونالت استحسانهم،
ككتاب عبيد الله الحلبي، المعروض على الإمام الصادق (ع) وكتابي
يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على الحسن
العسكري (ع) أو لكونه مأخوذا من أحد الكتب التي شاع في عصر الأئمة
الاعتماد عليها والوثوق بها ككتاب الصلاة لحريز بن عبد الله السجستاني،
42

وكتب بي سعيد، وعلي بن مهزيار، وحفص بن غياث وغيرها من الكتب
والمؤلفات في الحديث، مع العلم بان بعض مؤلفي هذه الكتب ليسوا من
الامامية، والبعض الآخر كان منحرفا عن المذهب الامامي. ويرجع إلى
غير الإمام الشرعي، إلى غير ذلك من القرائن والمناسبات التي تؤكد صحة
مضمون الخبر، وان لم يكن في نفسه وبلحاظ سنده مستوفيا لشرائط
الصحيح التي يجب ان تتوفر في الراوي حسب الأموال المقررة في علم
الدراية (1).
ومن ذلك تبين ان الصحيح في عرف المتقدمين يتسع لكل ما يجوز
الاعتماد عليه، سواء كان ذلك لناحية السند أو لغيره من الأسباب التي
ذكرناها فيدخل في ذلك الموثق، والحسن وحتى الضعيف المقترن ببعض
القرائن، وما عدا ذلك فهو من نوع الضعيف الذي لا يجوز الاعتماد
عليه بحال من الأحوال، ولعل الذي سهل للمتقدمين ان يتوسعوا في
استعمال الصحيح إلى هذا الحد في حين ان كثيرا من الاخبار المقبولة لم
تتوفر فيها عند المتأخرين القرائن التي تؤكد صحة مضمونها، لعل الذي
سهل لهم ذلك قربهم من عصر الأئمة (ع) واتصالهم بالطبقة التي اهتمت
بتصفية الحديث، ووضعت الحواجز والسدود في طريق المنحرفين والمهتمين
بالكذب على أهل البيت (ع) بالإضافة إلى ثقتهم بأصحاب الأصول
الأربعمائة ومؤلفاتهم وإحاطتهم بالقرائن التي ترجح صدق الراوي وان لم
يكن في نفسه من الممدوحين بالصدق والأمانة، في حين ان أكثر هذه
العوامل تلاشت بسبب بعد الزمان، وضياع أصول تلك المؤلفات
التي دونها أصحابها وأشرف على تصفيتها القيمون وغيرهم في الفترة
الواقعة بعد النصف الأول من القرن الثاني إلى أواسط القرن الثالث.

(1) انظر ص 54 و 55 من العدة الطوسي، وانظر مقياس
الهداية في علم الدراية للمامقاني.
43

وكيف كان فقد عرف الصحيح جماعة من المؤلفين في علم الحديث
كما نص على ذلك الشهيد الثاني في كتابه (البداية في علم الدراية) بأنه
عبارة عن الحديث المتصل سنده بالمعصوم بواسطة الامامي العدل عن مثله
في جميع الوسائط الواقعة بين المعصوم والراوي الأخير، فلو كان بين
رواته واحد يفقد هذه الصفات، أو بعضها لا يتصف الحديث بالصحة،
كما وانه لو انقطع السند مثلا، بان رواه خمسة واحدا عن واحد وكانوا
من عدول الامامية، ولكن الراوي الأول عن الإمام (ع) لم يذكر في سند
الرواية لا تكون الرواية من نوع الصحيح كما يستفاد من هذا التعريف
ومن تصريحاتهم.
وأضاف بعضهم قيدا اخر إلى تعريف الصحيح، وهو ان يكون
الراوي ضابطا، اي متقنا، لان من لم يكن كذلك لا يحصل الوثوق
بأقواله ومروياته، ولكن أكثر المؤلفين في علم الدراية لم يعترضوا لهذا
القيد، اعتمادا على أن اشتراط العدالة في الراوي يدل عليه بالملازمة،
ذلك لان العادل إذا أحس من نفسه النسيان أو السهو وعدم الاتقان
يمتنع من تلقاء نفسه عن الرواية إذا لم يكن جازما ومطمئنا لما يرويه عن
غيره، وافتراض غفلته وعدم التفاته إلى كثرة سهوه، ونسيانه هذا
الافتراض وإن كان ممكنا في ذاته، الا ان مصاديقه ان لم تكن معدومة
فهي نادرة للغاية، وإذا بلغ الحال بالراوي إلى هذا الحد. لم يعد محلا
للوثوق والاطمئنان عند عامة الناس، وتصبح مروياته بنظر العقلاء كغير ما
من المرويات التي يجب التثبت فيها ان لم تكن أسوأ حالا منها. ونص
جماعة على أن القسم الصحيح من الأحاديث يشتمل على ثلاثة مراتب
أعلاها ان تثبت عدالة الرواة بالعلم أو بشهادة العدلين، ويدخل في هذه
المرتبة، ما لو كانت صفة العدالة ثابتة لبعضهم بالعلم، وللبعض لآخر
بشهادة العدلين.
وأوسطها ان يكون انصاف الراوي بالصفات المطلوبة بشهادة العدل
44

الواحد، الذي يحصل الوثوق والاطمئنان من شهادته، أو يكون اتصاف
بعضهم بتلك الصفات بواسطة شهادة العدلين، والبعض للاخر بشهادة
العدل الواحد.
والمرتبة الثالثة، هي ان يتصف الراوي بالصفات المطلوبة بواسطة
القواعد والأصول المعمول بها في موارد الشك وعدم العلم بالواقع، أو
من دراسة تاريخ الرواة وتتبع أحوالهم.
ومع، ان الجعفريين حتى بعد تصنيف الحديث إلى الأصناف الأربعة
يشترطون في الصحيح ان يكون جامعا للصفات التي ذكرناها، تراهم أحيانا
يتوسعون في اطلاقه على بعض المرويات اتي لم تتوفر فيها تلك الشروط،
كمراسيل محمد بن أبي عميرة، وبعض الروايات التي يقتصر رواتها على
بعض السند، ومن الجائز ان يكون وصف هذا النوع من المرويات
بالصحة من حيث جواز العمل بها والاعتماد عليها بسبب القرائن المؤكدة
لصدورها عن المعصوم (ع) لا لأنها من الافراد الحقيقية للصحيح بمعناه
المعروف بين المحدثين وعلماء الدراية.
الصنف الثاني من أصناف الحديث (الحسن) وهو الحديث الذي
يرويه الامامي الممدوح في دينه مدحا معتدا به عند العقلاء من غير أن
ينص أصد على وثاقته، ولا على فسقه وانحرافه عن المذهب، ولا بد
وإذ يرويه الامامي الجامع لهذه الصفة عن امامي مثله إلى إذ ينتهي إلى
النبي أو الإمام (ع).
الصنف الثالث (الموثق) وهو الحديث الذي يرويه المستقيم في
دينه، المتمسك بعقيدته، المعروف بحسن السيرة والسلوك والصدق
والأمانة على شرط ان لا يكون اماميا سواء كان من الشيعة الذين
انحرفوا عن المخطط الامامي، كالواقفية والفطحية والزيدية وغيرهم، أم
45

كان من غير الشيعة كاهل السنة وغيرهم من المذاهب الأخرى، وسواء
كان جميع رواته من المخالفين للمذهب الامامي، أم كان بعضهم اماميا:
والبعض الآخر عاميا، وقد نص المؤلفون في علم الدراية ان هذا النوع
من الأحاديث أقوى من النوع الثاني ويقوم عليه لو تعارضا في مورد
واحد.
الصنف الرابع (الضعيف) وهو الفاقد للشروط المعتبرة في الأصناف
الثلاثة الصحيح، والحسن والموثق بر ومن ذلك ما لو رواه من هو متصف
بالفسق ير أو ببعض الصفات التي تشعر بعدم تورعه عن الكذب ونحوه
من المعاصي، أو كان جميع رواته أو بعضهم من المجهولين الذين لم يتبين
حالهم من حيث استقامتهم وسلامة عقيدتهم.
ومجرد الانحراف عن العقيد ة الشيعية الصحيحة لا يوجب ضعف
الحديث ما لم يقترن ببعض الصفات كالفسق، وعدم التورع عن الكذب
ونحو ذلك مما يوحي بعدم الاطمئنان إليه، وقد ذكرنا ان غير الامامي
إذا كان مستقيما في دينه ومعروفا بالصدق والأمانة يصح الاعتماد على
مروياته، ولها الأفضلية على مرويات الامامي الممدوح الذي لم تثبت
عدالته فيما لو تعارضت معها في مورد واحد (1).
وتختلف مراتب الحديث الضعيف باختلاف الأسباب الموجبة
لتضعيفه، فالذي يرويه المعروف بالفسق، أو الكذب من الامامية أسوأ
حالا من الذي يرويه مجهول الحال والذي يرويه مجهول الحال من غيرهم
أسوأ حالا مما يرويه المجهول منهم، وهكذا كلما كانت أسباب للضعف
واضحة جلية لا تقبل المراجعة، كان الخبر أبعد عن الاعتبار وأشد ضعفا،
والأجل ذلك أيضا بالنسبة إلى الأصناف الثلاثة، فالذي يرويه العدل

(1) انظر مقابس الهداية في علم الدراية.
46

الامامي الفقيه الورع الضابط، أصح مما يرويه العدل الامامي الفاقد
لبقية هذه الصفات، والحديث الحسن المروي بطريقين أو ثلاثة أقوى من
المروي بطريق واحد وهكذا بالنسبة إلى الموثق، وربما يكون الحسن في
مرتبة الصحيح، كما لو روي بطريقين أو أكثر، واقترن ببعض المرجحات،
ومرد ذلك إلى قوة الاطمئنان بصحة الحديث والوثوق بصدور عن
المعصوم في أمثال هذه الموارد.
ثم إن هذا التصنيف المنسوب إلى المتأخرين، لا يعني ان الأحاديث
التي يصح العمل بها والاعتماد عليها في اثبات الاحكام وغيرها تنحصر في
الأصناف الثلاثة الصحيح والحسن والموثق وغيرها يسقط عن الاعتبار
مهما كان حاله، وإنما هو لتمييز الاخبار الصالحة للعمل عن غيرها، مع
قطع النظر عن القرائن والملابسات التي قد تجعل غير الصالح صالحا،
والصحيح غير صالح، ولذا فان الفقهاء في كثير من المناسبات يتركون
الصحيح، أو الموثق، ويأخذون بالضعيف المعارض لهما اعتمادا على
القرائن الخارجة من الحديث، أو شهرة العمل به، أو لأنه مروي عن
طريق الجماعة الموثوقين عند المحدثين الذين لا يروون الا عن الثقاة
كأصحاب الاجماع وغيرهم من أصحاب الأئمة (ع) (1).

(1) أصحاب الاجماع هم الذين أجمع المحدثون والرواة على تصديقهم
فيما يروونه عن الأئمة (ع) وهؤلاء ستة من أصحاب الباقر، وستة
من أصحاب الإمام الصادق (ع) وستة من أصحاب الإمام موسى بن
جعفر (ع) كما نص على ذلك الشيخ أبو عمرو الكشي في رجاله،
فالستة من أصحاب الباقر زرارة بن أعين، ومعروف بن خربوذ
وبريد العجلي، وأبو بصير الأسدي والفضيل بن يسار، ومحمد بن
مسلم الطائفي، والستة من أصحاب الصادق (ع) جميل بن دراج،
وعبد الله بن مسكان، وعبد الله بن بكير، وحماد بن عيسى، وحماد
أبى عثمان، وأبان بن عثمان، والستة من أصحاب موسى، وحماد
هم يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن أبي
عمير، وعبد الله بن المغيرة، والحسن بن محبوب: وأحمد بن محمد
أبن أبي نصر.
47

ومن مجموع ذلك تبين ان الفرق بين الصحيح في عرف المتقدمين،
والصحيح عند المتأخرين، ان الصحيح عند المتقدمين هو الذي يصح
العمل به والاعتماد عليه ولو لم يكن من حيث سنده مستوفيا للشروط
التي ذكرناها والصحيح في عرف المتأخرين هو جامع لتلك الشروط،
فتكون النسبة بينهما هي العموم المطلق كما نص على ذلك في مقباس
الهداية نقلا عن فوائد الوحيد البهبهاني.
وقد قسم علماء الدراية الحديث إلى اقسام كثيرة بالإضافة إلى
الأصناف الأربعة السالفة، كالمعنعن، والمسند، والمتصل، والمعلق والمفرد
والمدرج، والمشهور، والغريب، والمصحف والمرسل، والمقطوع، وغير
ذلك، ولا يعنينا استقصاء جميع النواحي المتعلقة بهذا الموضوع.
48

الحديث وأصنافه عند السنة
لا يختلف الحال كثيرا بين المحدثين من سنيين وشيعيين من حيث
تصنيف الحديث إلى أكثر من صنفين، مع الاعتراف بان التقسيم الطبيعي
للحديث الذي تنطوي فيه جميع الأقسام وتتفرع عنه جميع الأصناف،
هو اما ان يكون مقبولا، أو مردودا، والمقبول يرادف الصحيح كما وان
المردود يرادف الضعيف، ولكنهم مع ذلك اصطلحوا على تقسيمه إلى
الأقسام الثلاثة التالية.
الصحيح، والحسن، والضيف ى وبقية الفروع والمصطلحات
تتفرع عن هذه الأصناف الثلاثة، وقد أنهاها بعضهم إلى مائة نوع، كل
نوع منها علم مستقل على حد تعبيرهم (1).
والصحيح عندهم هو الحديث المسند الذي يتصل اسناده بنقل
العدل الضابط عن العدل الضابط حتى ينتهي إلى رسول الله (ص) أو إلى
مصدره من صحابي أو من هو دونه على شريطة ان لا يكون شاذا ولا
معللا.
والشاذ ص الذي يرويه ثقة مقبول الحديث بنحو يكون مخالفا لما
يرويه الثقات، كما نص على ذلك الحافظ بن حجر في شرح النخبة،
والمعلل هو المشتمل على علة خفية تخدش في صحته.
دراسات - 4

(1) انظر علوم الحديث ومصطلحاته ص 143.
49

والتقسيم الأولي للصحيح لا يعدو هذين القسمين، الصحيح لذاته
والصحيح لغيره فالصحيح لذاته هو الذي يتمتع رواته بأفضل الصفات
وأكرمها، والصحيح لغيره هو المحكوم بصحته لأمر خارج عنه كالحديث
الحسن الذي يقترن بما يوجب صحته، أو بما يؤكد صدوره عن النبي
(ص) أو غيره من الصحابة.
ونص النووي في كتابه قواعد التحديث، ان للصحيح أقساما سبعة
أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما
انفرد به مسلم، ثم ما كان جامعا لشروطهما في الصحيح، وان لم يدوناه
في صحاحهما، ثم ما كان على شرط البخاري في الرواية، ويأتي من بعده
ما كان على شرط مسلم، والنوع الأخير ما صححه غيرهما من المؤلفين
في الحديث.
وقال ابن تيمية: ان أهل العلم قد اتفقوا على أن أصح الأحاديث ما
رواه أهل المدينة ثم ما رواه أهل البصرة، ثم ما رواه أهل الشام وتجاهل
أكثرهم مرويات الكوفيين، ووصفها بعضهم بكثرة الدغل وعدم السلامة
من العلل، ولعل من أبرز أسباب هذا التنكر لمرويات الكوفيين هو التشيع
الغالب على أهلها، والشيعة عند أكثر المحدثين من السنة مبتدعة وضاعون
كذابون على حد تعبيرهم يغلب على حديثهم الدغل والخلل اما أحاديث
الشاميين فهي أصح من أحاديثهم، لان رواتها قد تخرجوا من مدرسة
معاوية وآل مروان الأئمة البررة، وتلمذوا على أبي هريرة راوية الأمويين
وصنيعة معاوية بن أبي سفيان الحريص على مصلحة الاسلام، والمحتاط
في أمور الدين ومصالح المسلمين.
50

الحسن
الحديث الحسن، هو الذي يتصل سنده بواسطة العدول واحدا
عن واحد ولم يبلغوا درجة غيرهم من حيث الضبط والاتقان، ولا بد فيه
بالإضافة إلى ذلك أن يسلم من الشذوذ والتعليل، وهو اما حسن لذاته،
وبلا توسط أمر خارج عن حقيقته، واما ان يستمد حسنه من أمر خارج
عنه، كما لو كان أحد رواته مستورا لم تثبت أهليته أو عدمها، ولكنه
لم يكن مغلا ولا متهما بالكذب، وبالإضافة إلى ذلك كان معتضدا
برواية أخرى مماثلة له باللفظ، أو مؤيدة لمعناه (1) فالحديث في مثل
هذه الحالة يستمد حسنه من الرواية المماثلة له، أو الرواية المؤيدة لمعناه.
والمعروف بين المحدثين ان تصنيف الحديث إلى الأصناف الثلاثة لم
يكن قبل الترمذي المتوفي سنة 279، ولما الف كتابه الجامع في الحديث
صنفه إلى هذه الأصناف الثلاثة (2).
ويدعى بعض المؤلفين في الحديث، ان البخاري، وان لم يتعرض
لهذا النوع من الحديث، الا انه قد أشار إليه واعتبره من افراد الصحيح
الذي يصح العمل به والاعتماد عليه.

(1) وتسمى المماثلة له باللفظ (بالمتابع)، والمؤيدة لمعناه
بالشاهدة.
(2) الترمذي، هو محمد بن عيسى صاحب الجامع الكبير في الحديث.
51

الضعيف
هو الحديث الذي لم تتوفر فيه الشروط التي ذكرناها في قسمي
الصحيح والحسن، ومنه المرسل والمنقطع وغير ذلك من الأصناف الآتية
ومع أن المرسل ليس حجة في الدين كما ينص على ذلك مسلم في مقدمة
صحيحه، فأكثرهم يعتمدون على مراسيل الصحابة، ويحتجون بها، ذلك
لان الصحابي على حد زعمهم إذا روي حديثا لم يتيسر له سماعه من
النبي (ص) فالراجح في حقه انه يرويه ص صحابي مثله، وسقوط الراوي
الأول من سند الحديث لا يمنع من صحته ولا يجب البحث عن بقية
السند، كما لا يجب البحث عن عدالة الصحابي، لان شرف الصحبة فوق
جميع الاعتبارات والامتيازات.
ونص السيوطي في كتابه التدريب. على أن في الصحيحين من
مراسيل الصحابة ما لا يحصى، وان أكثر رواياتهما تنتهي إليهم، لأنهما
لم يرويا الا عن العدول، والصحابة فوق الشبهات والأهواء، وأعلى
مراتب المرسل عند المحدثين ما رواه صحابي ثبت سماعه، ويأتي من بعده
ما رواه صحابي رأى النبي (ص) ولم يثبت سماعه منه، ثم المخضرم وهو
من عاصر النبي (ص) ولم يتمكن من لقائه والاجتماع به، ثم المتقن
كسعيد بن المسيب وأمثاله، ويلي ذلك من كان يتحرى الأفضل من
الشيوخ، كالشعبي ومجاهد، ودون ذلا لي مراسيل من كان يأخذ عن كل
أحد كالحسن البصري وأمثاله، ومن أصناف الضعيف (المنقطع)، وهو
52

من سقط من سنده واحد ا وأكثر، أو كان بين رواته أحد المبهمين (1) وهو
أسوأ حالا من المرسل.
ومن أنواع الضعيف المعضل، وهو الحديث الذي سقط من سنده
راويان فأكثر على سبيل التوالي ولذلك سمي بالمعضل.
ومن أنواعه المدلس، وهو الذي يرويه شخص عمن عاصره ولقيه،
مع أنه لم يسمع منه، وقد اشتهر جماعة من كبار الرواة بهذا الوصف،
وتوقف جماعة في مروياتهم، كهشيم بن بشير بن اي حازم المتوفى سنة
183، وجاء عن الذهبي أنه قال: لا نزاع في أنه كان من الحفاظ ولكنه
كان كثير التدليس، ومنهم سفيان بن عيينة المتوفى سنة 198، روى عن
جماعة من التابعين كالزهري، وزيد بن أسلم، وعمر بن دينار وغيرهم،
ومع أنه كان معدودا في طليعة المدلسين، كما يبدو من نصوصهم في علم
الحديث فقد احتجوا بحديثه، واعتمدا عليه في أمور الدين،
ومنهم سليمان بن مهران المعروف بالأعمش، المتوفى سنة 148،
وقتادة بن دعامة بن عزيز السدوسي البصري المتوفى سنة 117، وهو من
المعروفين بين المحدثين بالتدليس لأنه روى عن جماعة لم يسمع منهم.
ومنهم الحسن البصري، أحد مشاهير التابعين، المتوفى سنة 110،
ونص الذهبي في ميزان الاعتدال على أنه كان من قضاة الأمويين، ومن
المدلسين في الحديث.
ومنهم عبد الرزاق الصنعاني المتوفى سنة 211، والوليد بن مسلم
الدمشقي وجاء عنه انه كان يدلس عن الكاذبين والموثوقين، توفي سنة
195 ومنهم سفيان الثوري، كما نص على ذلك المؤلفون في أحوال
المحدثين.

(1) المبهم هو الذي لم يعرف أصله ونسبه ولم تثبت
عدالته.
53

وجاء في توضيح الأفكار المجلد الأول ص 353 و 354، ان جميع
هؤلاء الأئمة المشاهير من رواة الصحيحين، ولذلك فقد اعتذر المحدثون
عنهم بان تدليسهم يرجع إلى ابهام الراوي، ومثل ذلك لا يوجب تجريحهم
بالكذب والاغراء ونحو ذلك مما يخل بوثاقتهم، وحاول بعضهم اخراج
مرويات هؤلاء من التدليس، وادخالها في المرسل، وحجتهم في ذلك أن
التدليس يختص بمن روى عمن لاقاه ولم يسمع منه، فان روى شخص
عمن عاصره ولم يلتق به، فالرواية من المرسل (1).
وقال الخطيب البغدادي في الكفاية، في معرض التفرقة بين المدلس
والمرسل ان الراوي لو بين انه لم يسمع الحديث من الراوي الذي دلسه
منه وكشف ذلك يصبح الحديث مرسلا غير مدلس فيه، لان الارسال لا
يرافقه الابهام من طرف المرسل بأنه قد سمع الحديث ممن لم يسمع منه،
وانه قد التقى به، والتدليس الذي نقلناه عن هؤلاء يتضمن الارسال لا
محالة، من حيث إن المدلسين قد أمسكوا عن ذكر من دلسوا عنه،
ويفترق هذا النوع عن المرسل من ناحية انهم أبهموا السماع ممن لم
يسمعوا منه لا غير، ولم يظهر منهم ايهام السامع بأنهم قد التقوا بالراوي
وسمعوا منه، والذي يوهن الحديث المدلس فيه، ملازمة التدليس لايهام
السامع انه قد سمع ممن لم يسمع منه، ولأجل ذلك ذم العلماء من دلس
في الحديث، ولم يذموا من أرسله (2).
لقد حاول المؤلفون في علم الحديث بهذا اللف والدوران تنقية
اخبار الصحيحين من الضعف، ودفع جميع الشبه والشكوك التي تحوم
حولهما ولو بالمغالطات والتحملات، حتى كأنهما من كتب الله المنزلة التي
لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، مع العلم بان مؤلفيها من

(1) انظر علوم الحديث ص 183.
(2) الكفاية في علم الحديث الخطيب البغدادي ص 357.
54

البشر الذين يخطئون ويصيبون كغيرهم من جميع بني الانسان الا من
عصمه الله.
ومن الجائز ان يكون منشأ اعتمادهما على مرويات هؤلاء المدلسين
كما وصفهم بذلك علماء الحديث هو وثوقهما بها ولو من القرائن
والملابسات الخارجة عن نطاق الحديث، والاعتذار عنهما بهذا الأسلوب
ليس بعيدا عن المنطق، وفي الوقت ذاته بعيد عن الغلو والاسراف في
تقديسهما، هذا بالإضافة إلى أن اعطاء تلك المرويات صفة الارسال لا
ينفي عنها صفة الضعف لان المرسل من افراد الضعيف كما نص على ذلك
المؤلفون في دراية الحديث.
ومن اقسام الضعيف الحديث المعلل، وهو الذي ينطوي على علة
تمنع من صحته، وان بدا سالما من العلل، وأكثر ما يكون التعليل في
الاسناد الجامع شروط الصحة ظاهرا وحينئذ قد تدرك العلة بتفرد الراوي
وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه الناقد على وهم وقع من
الراوي بان يرسل حديثا موصولا، أو يكون الحديث من نوع الموقوف،
وهو في واقعه مما يسمى في عرف المحدثين بالمرفوع، أو يكون مصدر
العيب فيه دخول حديث في حديث، بنحو يغلب على ظن الراوي ان
الحديث غير صحيح أو يتردد في صحته، ويستحسن من الراوي إذا روى
حديثا معللا ان يذكر علته (1).
ومن أقسامه المضطرب، وهو الذي يتعدد رواياته نجو تتساوى
وتتعادل ولا يمكن ترجيح أحدهما على للآخر بشئ من طرق الترجيح،
ومنشأ الضعف في هذا النوع ما يقع فيه من الاختلاف من ناحية حفظ رواته
وضبطهم ومن أمثلة ما جاء عن أبي بكر أنه قال لرسول الله (ص):

(1) والمراد بالمعلل هو المشتمل على علة اي عيب يمنع
من صحته، وإن كان بظاهره يبدو سالما من العيوب.
55

أراك شبت يا رسول الله، قال: شيبتني هود وأخواتها رواه
أبو إسحاق وحده، واختلفوا فيه على وجوه، فمنهم من رواه مرسلا، ورواه
بعضهم موصولا، ورواه جماعة مسندا إلى اي بكر، واخرون أسندوه
إلى عائشة، وأسنده فريق إلى سعد، وكل هؤلاء من الثقاة الذين لا يمكن
ترجيح بعضهم على بعض وترك الباقي، والاضطراب في السند امارة على
ضعف الحديث، لان تساوي الروايات في الدرجة وعدم تعارضها يمنع
من الحكم بالأصح منها، وقد يحصل الاضطراب في متن الحديث كما لو
اختلفت الروايات في متنه سواء اتفقت في سنده أو اختلفت فيه.
ومن أقسامه المقلوب، وهو الذي يقدم الراوي فيه المتأخر، أو يأخر
فيه المتقدم، أو يضع شيئا مكان شئ وقد ضعفوا هذا النوع من
الأحاديث نظرا إلى إذ التقديم والتأخير يكشفان في الغالب عن عدم ضبط
الراوي، وذلك قد يؤدي إلى عدم تفهم المراد من الحديث.
ومن أقسامه الشاذ، والمنكر، والمتروك، والمراد من الشاذ هو ما
يرويه الثقة بنحو يختلف عن رواية غيره من الثقاة، أو لرواية غيره له ممن
هو أولى منه بالقبول، والمراد من المنكر هو ما يرويه الضعيف بنحو
يتعارض مع رواية الثقة الضابط، والمتروك هو الذي يرويه المتهم بالكذب
أو من هو ظاهر الفسق، أو من غلبت عليه الغفلة والأوهام الباطلة إلى غير
ذلك من أنواع الضعيف وأصنافه.
وقد تبين من هذا العرض الموجز لاقسام الحديث ومراتبه، ان
تقسيم الحديث وتصنيفه إلى هذه الأقسام والأصناف يلتقي فيها الطرفان
السنة والشيعة في الغالب، وموارد الخلاف بينهما لا تزيد عن الخلافات
الواقعة بين علماء المذهب الواحد في هذا الموضوع وغيره من المواضيع.
والذي تجدر الإشارة إليه ان هذه العناية البالغة في الحديث وأصنافه
56

وحالا كان من الممكن الاستفادة منها إلى أبعد الحدود، لو تجرد الذين
اهتموا بهذه المواضيع عن نزعاتهم واخذوا بالواقع الذي تفرضه الدراسة
العلمية الواعية، وعرضوا الأحاديث سندا ومتنا على علمي الدراية
والرجال عرضا عمليا بقصد تصفيته مما يسئ إلى السنة، بل وحتى إلى
الاسلام نفسه، واهتموا بأحاديث الاحكام وغيرها مما هو مدون في
مجاميع الحديث على علاته ومصائبه، ولكنهم لم يوفقوا لذلك، فقد
رافقتهم النزعات الموروثة في جميع المراحل التي مروا بها واهتموا
بالأسانيد أكثر من اهتمامهم بالمتون، مع العلم بان الاخطار الناتجة عن
متونها لا تقل عن اخطار الأسانيد، واحتضنوا أحاديث الاحكام تاركين
غيرها من المرويات في مختلف المواضيع كأنها لا تعنيهم، مع أنها ان لم
تكن أولى بالدراسة والتصفية من أحاديث الاحكام، فليست تلك بأولى
منها ولا أكثر شمولا وأعم نفعا، ذلك لان الدساسين والمرتزقة قد وجدوا
متسعا لهم عن طريقها للوصول إلى ما يهدفون إليه وقد بلغ الحال
بالوضاعين انهم كانوا إذا استحسنوا أمرا صيروه حديثا، كما نص على
ذلك بعضهم، وحجتهم في ذلك انهم يضعون له لا عليه على حد تعبيرهم.
هذا بالإضافة إلى أن الخلافات المذهبية قد استحوذت عليهم في
الدراسات المتعلقة بهذه المواضيع منذ تدوين الحديث إلى آخر مرحلة من
المراحل التي مروا بها، فقد ظهر كل فريق بمظهر المدافع عن مروياته
ومجاميعه لا بمظهر الناقد النزيه الذي يهمه ان ينتقي الجوهر من الحصى،
وان يدفع عن الحق شبه المبطلين والمنحرفين ولو كان الحق بجانب أخصامه
ومنافسيه.
57

العدالة
لما كانت العدالة من الشروط الأولية للحديث الصحيح عند الفريقين
السنة والشيعة، ولما كانت عدالة الصحابة من الأمور المتفق عليها بين
محدثي السنة، كان من المفروض ان نتعرض لهذين الموضوعين في هذه
الدراسات حول الصحيح للبخاري، والكافي للكليني، ذلك لأنهما لم
يدونا في هذين الكتابين الا ما صح عندهما من المرويات في مختلف
المواضيع، ولأن البخاري أكثر ما يعتمد في صحيحه على مرويات الصحابة
مهما كان حالهم، ولا يتردد في مروياتهم ولو كانت لا تنسجم مع أصول
الاسلام ومبادئه، أو كانت عن طريق أبي سفيان، والحكم بن أبي العاص
وأمثالهما من أعداء الاسلام.
والمراد من العدالة كما يظهر من موارد استعمالها عندهم، استقامة
الراوي في أمور الدين، وسلامته من الفسق، ومنافيات المروءة في جميع
الحالات ونص الخطيب البغدادي في (الكفاية) على أن العدل من عرف
بأداء الفرائض، ولزوم ما أمر به، وتوقي ما نهي عنه، وتجنب الفواحش
المسقطة، وتحرى الحق والواجب في أفعاله ومعاملاته، والتوقي في لفظه
مما يثلم الدين والمروءة، وأضاف إلى ذلك. ان من كانت هذه حاله فهو
الموصوف بأنه عدل في دينه، واستدل على ذلك بقول النبي (ص).
من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم
58

يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت اخوته،
وحرمت غيبته. وأكثرهم يفرق بين تعديل الراوي وتزكية الشاهد،
فيكتفون في تعديله بشاهد واحد، ويشترطون التعدد في التزكية،
لأنها نوع من الشهادة التي لا بد فيها من التعدد.
ويبدو من هذا النص وغيره من النصوص ان العدالة من الصفات
القائمة بالنفس التي تعرف بآثارها كأداء الفرائض وتجنب المحرمات
ومنافيات المروءة وغير ذلك مما يكشف غالبا عن وجود تلك القوة الدافعة
على العمل بالواجبات وترك المحرمات، وتحري الحق والواجب في جميع الأفعال
والمعاملات، فلا بد والحالة هذه من تتبع أحوال الراوي في أكثر
حالاته ليصح الحكم عليه بالعدالة أو عدمها.
وقال الدكتور صبحي الصالح: ولا ريب ان العدالة شئ زائد على
مجرد التظاهر بالدين والورع، لا تعرف الا بتتبع الافعال واختبار
التصرفات لتكون صورة صادقة عن الراوي (1).
ونص في المجلد الثاني من توضيح الأفكار على أنه لا فرق بين
تزكية الراوي وتزكية الشاهد من حيث الاكتفاء بشاهد واحد، وأيد ذلك
القاضي أبو بصر الباقلاني، واحتج لذلك، بان التعدد إنما يجب في
الشهادة، وتزكية الشاهد ليست شهادة (2).
ونص الشيخ عبد الصمد والد الشيخ البهائي أحد اعلام الامامية
في كتابه الوجيزة في دراية الحديث، ان عدالة الراوي وجرحه يثبتان

(1) انظر ص 133 من علوم الحديث.
(2) الباقلاني أحد الشيوخ الذين انتهت إليهم زعامة المذهب الأشعري في
النصف الثاني من القرن الرابع، توفي سنة 403.
59

بشهادة عدل واحد عند الأكثر، ولو اجتمع الجارح والمعدل فالمشهور
تقديم الجارح.
كما وان أكثر النصوص الشيعية تؤكد ان العدالة صفة قائمة في
النفس، وان الطريق إلى معرفتها هو فعل الواجبات وترك المحرمات، كما
نص على ذلك العلامة الحلي وأكثر من تأخر عنه، وأضاف بعضهم إلى
ذلك ترك ما يتنافى مع المروءة وان لم يكن بذاته من المحرمات، وفي مقابل
ذلك نص جماعة على أنها ليست شيئا آخر وراء فعل الواجبات وترك
الحرام فمن فعل الواجب وترك الحرام كان عادلا، وان لم يكن ذلك ناتجا
عن وجود صفة في النفس تدفعه إلى فعل الواجب وترك الحرام، وتشدد
فريق ثالث في تحديدها، فقالوا: بأنها الاستقامة في أمور الدين الناتجة
عن الملكة القائمة في النفس، وفرعوا على ذلك بان من فعل الواجبات
وترك جميع الكبائر إذا لم يكن ذلك منه بتأثير تلك القوة الدافعة على
العمل والإطاعة لا يكون عادلا، واحتجوا لذلك ببعض المرويات عن الأئمة
(ع) وقد جاء فيها.
ان العادل هو المعروف بالستر والعفاف، وكف البطن والفرج واليد
واللسان، واجتناب الكبائر التي توعد الله عليها سبحانه بالنا ر: وهذه
الصفات لا تجتمع في شخص ما لم يكن الخوف من الله مسيطرا عليه
ومتأصلا في نفسه، وليست الملكة في واقعها غير الخوف والرجاء الدافعين
على الطاعة والاستقامة في أمور الدين.
ومهما كان الحال فالظاهر أن الجميع متفقون على أن العدالة التي
هي شرط في الشاهد وامام الجماعة والراوي وغير ذلك تترتب اثارها إذا
كان الانسان معروفا بالستر والعفاف وترك المعاصي، وفعل الواجبات
سواء كانت من الأمور القائمة بالنفس وهذه الأمور كواشف عنها، أم
60

كانت هي العدالة الشرعية التي اعتبرها الشارع موضوعا للآثار المختلفة
حسب المقامات، وتفسيرها بهذا المعنى ليس بعيدا عن ظاهر النصوص التي
تعرضت لحا لها، وقد جاء في بعضها، صن عامل الناس فلم يظلمهم،
وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن حرمت غيبته، وكملت
مروءته وظهرت عدالته، وفي بعضها إذا كان ظاهر الانسان مأمونا جازت
شهادته، وليس عليك ان تسأل عن باطنه إلى غير ذلك من النصوص التي
تشير إلى أن العدالة ليست شيئا آخر وراء فعل الواجبات وترك
المحرمات.
وقد تعرض الفقهاء بمناسبة حديثهم عن العدالة ومنافياتها إلى
تصنيف المعاصي إلى صغائر وكبائر واصرارهم على أن الاصرار على
الصغائر وعدم التوبة عنها من نوع الكبائر، لان الاصرار عليها يلازم
الاستخفاف بأوامر الله والامن من العقوبة، جاء عن الإمام محمد الباقر
(ع) ان الاصرار على الذنب امن من مكر الله ولا يامن مكر الله الا القوم
الخاسرون، ونص أكثرهم على أن الكبيرة هي ما توعد الله عليه بالعذاب
في كتابه وعلى لسان نبيه (ص) واعتمدوا في ذلك على رواية عبد العظيم
ابن عبد الله الحسني عن أبي جعفر الجواد (ع) وجاء فيها ان عمرو بن
عبيد دخل على الإمام الباقر (ع) وبعد إذ استقر به المجلس تلا قوله
تعالى: ان تجتنبوا كبائر الاثم والفواحش، ثم قال: أحب ان اعرف
الكبائر من كتاب الله، قال أبو جعفر (ع): يا عمرو أكبر الكبائر الاشراك
بالله، قال سبحانه: ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، وبعده
الياس من روح الله، لان الله يقول: لا ييأس من روح الله الا القوم
الكافرون، ومضى الإمام (ع) يعدد الكبائر التي نص عليها القرآن حتى
عد اثنين وعشرين نوعا منها.
وجاء عن الإمام الرضا (ع) انها خمس وثلاثون نوعا، وعد منها
61

قتل النفس، والزنا والسرقة، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين. والفرار
من الزحف. واكل مال اليتيم. ومعونة الظالمين والركون إليهم. والربا.
وقذف المحصنات وغير ذلك من المحرمات المنصوص عليها في الكتاب
والسنة وتقسيم المعاصي إلى الصغائر والكبائر. هذا التقسيم يمكن ان
يكون نسبيا بمعنى ان كل معصية بالنسبة لما فوقها صغيرة، وبالنسبة لما
هو دونها كبيرة فلو قلنا بذلك تصبح كل معصية من المعاصي صالحة
للوصفين، ويكون الفاعل مستحقا للعقاب باعتبار كونه عاصيا مع قطع
النظر عن نوع المعصية ووصفها، ويدل على ذلك قوله تعالى!
ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم، حيث إن الآية بظاهرها
تنص على أن مطلق المعصية سبب لهذا الجزاء.
ومما لا شك فيه ان عدالة الراوي تثبت بشاهدين عدلين بمقتضى
الأدلة الدالة على حجية البينة وقيامها مقام العلم في جميع موارد العمل
بها، اما الشاهد الواحد، فقد نص أكثر الفقهاء على الاكتفاء به في تعديل
الراوي، كما نص على ذلك الشيخ عبد الصمد في الوجيزة، والمامقاني
في مقباس الهداية وغير هما، وفي مقابل ذلك لم يكتف بعض الفقهاء
بالشاهد الواحد لان عدالة الراوي كغيرها من الموضوعات التي لا بد من
احرازها بطريق العلم أو ما يقوم مقامه، وليس ذلك الا البينة التي تتألف
من شاهدين.
ورجح الشيخ الأنصاري. الاكتفاء بكل ما يفيد الوثوق والاطمئنان
بعدالته بما في ذلك العدل الواحد إذا حصل من شهادته الاطمئنان بها
اعتمادا على بعض النصوص التي لم تشترط أكثر من الوثوق والاطمئنان
كقوله (ع) لا تصلي الا خلف من تثق بدينه وورعه، وقوله: إذا كان
مأمونا جازت شهادته، ونحو ذلك مما يشير إلى أن المعول على الاطمئنان
بالشاهد وامام الجماعة والراوي، سواء حصل ذلك من استقصاء حاله
62

مباشرة، أو من شهادة العدلين. أو العدل الواحد (1) وأضاف إلى ذلك
بعضهم ان الاقتصار على البينة في هذه المسألة يؤدي إلى الغاء كثير من
المرويات، لعدم تيسر البينة على عدالة الراوي، لا سيما مع بعد المسافة
بينه وبين الشاهد، على أن التعديل والتجريح الموجودين في كتب الرجال
مبنيان على الحدس الذي لا يفيد الا الظن، والاكتفاء به يرجع إلى
الاعتماد على الاطمئنان من اي طريق كان، وشهادة العدل الواحد لا تقصر
أحيانا عن إفادة هذه المرتبة.

(1) انظر رسالة الشيخ مرتضى في العدالة
63

الفصل الثالث
في الصحابة
65

الصحابي في اللغة مشتق من الصحبة، ويوصف بها كل من صحب غيره طالت المدة
أو قصرت.
وعند المحدثين، هو كل مسلم رأى رسول الله (ص) قال البخاري
في صحيحه: من صحب رسول الله (ص) أو رآه من المسلمين فهو من
أصحابه.
وجاء عن أحمد بن حنبل أنه قال: أفضل الناس بعد صحابة الرسول
من البدريين كل من صحبه سنة أو شهرا، أو يوما، أو رآه، وله من
الصحبة على قدر ما صحبه (1).
ونص بعضهم على أن أصحاب الحديث يعطون وصف الصحبة لكل
من روى عن النبي حديثا أو كلمة أو رآه، وممن صرح بذلك ابن حجر في
المجلد الأول من الإصابة: وأضاف إلى ذلك مؤمنا به، ثم قال: ويدخل
في قولنا مؤمنا به، كل مكلف من الجن والإنس ونص غيره على دخول
الجن الذين آمنوا به في الصحابة أيضا (2)، وفي مقابل ذلك يشترط بعضهم

(1) انظر الكفاية ص 51، وتلقيح فهوم أهل الآثار ص 27.
(2) انظر المجلد الأول من الإصابة ص 10 و 11.
67

في اعطاء المسلم وصف الصحبة، ان يقيم معه سنة أو سنتين، ويغزو معه
غزوة أو غزوتين، كما جاء عن سعيد بن المسيب.
ونص القاضي أبو بكر الباقلاني، على أن الصحبة لا يوصف بها الا
من كثرت صحبته، واتصل لقاؤه، ولا يجري هذا الوصف على من لقي
النبي ساعة ومشى معه خطا، أو سمع منه حديثا (1) والرأي الشائع الذي
يؤيده أكثرهم هو اعطاء هذا الوصف لكل من رأى النبي (ص) أو ولد
في حياته، وعدوا محمد بن أبي بكر من الصحابة، مع أنه ولد في حجة
الوداع اخر ذي القعدة قبل وصول النبي (ص) إلى مكة في السنة
العاشرة من الهجرة وقبل وفاته بثلاثة أشهر، وتتفاوت درجات الصحابة
عندهم فقد نص بعضهم انهم اثنا عشر طبقة أعلاها السابقون إلى الاسلام
من الطبقة الأولى، وأدناها الذين أدركوه في حجة الوداع لا غير،
وقد اجمعوا على أن أفضلهم أبو بكر وعمر، ويأتي من بعدهما
عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب (ع) ومن بعدهما الباقون من العشرة
المبشرين بالجنة، ثم تتسلسل درجاتهم وطبقاتهم حسب تقدم اسلامهم،
ومواقفهم من الجهاد والخدمات التي قدموها إلى الاسلام والرسو ل (ص)
وتثبت الصحبة بالأمور التالية.
التواتر، والشهرة، والشياع الذي لم يبلغ حد التواتر، وبخبر
الصحابي الواحد وخبر التابعي، ولو كان واحدا بناء على الرأي ا الراجح
من كفاية الواحد في التزكية، (2).
ومهما كان الحال في تحديد المقصود من الصحابي حسب اصطلاحهم
فلقد توسع المؤلفون.

(1) الكفاية ص 51.
(2) السنة قبل التدوين ص 4 39 والإصابة ج / 1 ص 13 و 14.
68

في علمي الحديث والرجال في البحث عن الحديث وأقسامه والرواة
وأحوالهم، درسوا أحوال الرجال جيلا بعد جيل، حتى إذا تحققوا من
أحوال الراوي، وانه كان نقي السيرة صادق الايمان ضابطا متقنا أمينا،
وصفوه بالوثاقة، ووصفوا مروياته بالصحة، وإذا وجدوا فيه ما يشعر
بعدم الأمانة في الحديث، أو عدم الاستقامة في الدين، وصفوه بما
يتناسب مع حاله، وتركوا جميع مروياته، الا إذا اقترنت ببعض القرائن
التي تؤكد صدورها عن النبي (ص) أو عن صحابته، ولو وجدوا له
قادحا ومادحا وجارحا ومعدلا اخذ وا بالجارح وتركوا المادح والمعدل،
وبهذه المناسبة يقول ابن الصلاح:
إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل، فالجرح مقدم لأنه يخبر عما
ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل، فإذا كان عدد
المعدلين أكثر من عدد الجارحين، قبل تعين الاخذ بالتعديل، والصحيح
الذي عليه الجمهور ان الجر ح أولى بالرعاية والاعتبار، ومع أنهم احتاطوا
في الاخذ بالحديث إلى هذا الحد، وضعوا الأصول والقواعد للتأكد من
أحوال الراوي وسلامة الحديث مما يوجب عدم الاطمئنان بصحته،
وطبقوا أصول علمي الدراية والرجال على جميع الرواة مهما بلغوا من
العظمة والعلم والدين، مع أنهم وضعوا الجميع على اختلاف طبقاتهم
ومكانتهم في قفص الاتهام، وبحثوا عن أحوالهم بتحفظ ودقة، وقفوا
من الصحابة مكتوفي الأيدي واعتبروهم من العدول الذين لا يجوز
عليهم نقد أو تجريح وقالوا: (ان بساطهم قد طوي) على اختلاف
طبقاتهم وأعمارهم، وأضافوا إلى لك ان جميع ما صدر عنهم من الغلط
والانحراف والشذوذ لا يسلبهم صفة العدالة لان صحبتهم للنبي (ص)
تكفر عنهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، مهما بلغ شانها وتعاظم خطرها
على حد تعبير الجمهور الأعظم من محدثي السنة ومؤلفيهم في هذه
المواضيع، والذين خرجوا على هذا الرأي ولم يفرقوا بين الصحابة
69

وغيرهم لا يمثلون رأي السنة في هذه المسألة، بل تعرضوا لأعنف
الهجمات وأسوأ الاتهامات المعادية من الجمهور الأعظم، الذين يقدسون
كل من رأى النبي، أو سمع حديثه ولو كان طفلا صغيرا، ولعلنا بهذه
الوقفة القصيرة مع الجمهور القائلين بان الصحابة لا يخضعون للنقد
والتجريح وان جميع الشروط التي ينص عليها علم الدراية يجب ان
تطبق على الراوي والرواية ما لم يكن الراوي لها صحابيا.
لعلنا بهذه الوقفة معهم نستطيع ان نكشف عما يكمن وراء هذا
الافراط في الغلو بجميع من أسموهم بالصحابة من الاخطار التي تسئ
إلى السنة النبوية والى الاسلام نفسه الذي ألغى بجميع الامتيازات
والاعتبارات التي لا تعكس جهات الخير والكرامة في الانسان واعتبر
العمل الصالح هو المائز بين الطيب، والخبيث والصالح والفاسد مع العلم
بان الكثير منهم قد أسرفوا في ارتكاب المعاصي والمنكرات وخالفوا
الضرورات من دين الاسلام.
70

عدالة الصحابة
يدعى الجمهور من السنة، ان للصحبة شرفا عظيما يمنح المتصف
بها امتيازا يجعله فوق مستوى الناس أجمعين، ولو باشر المنكرات،
وأسرف في المعاصي واتباع الشهوات، وينطلقون من هذا الغلو إلى انهم
عدول مجتهدون في جميع ما صدر منهم. فمن أصاب في آرائه واعماله
الواقع فله ثواب من أدرك الحق وعمل به، ومن أخطأ فله أجر المجتهدين
العارفين فعدالتهم ثابتة بتعديل الله لهم وثنائه عليهم على حد تعبير
الغزالي في المستصفى، وعندما تنتهي الرواية إليهم يجب الوقوف عندها،
وليس لاحد ان يطبق عليها أصول علم الدراية وقواعده، ولو كان
الراوي لها مروان بن الحكم أو أبو سفيان أو غيرهما ممن وصفهم
القرآن بالنفاق والرسول الكريم بالارتداد.
قال ابن حجر ي المجلد الأول من الإصابة: اتفق أهل السنة على أن
الجميع عدول، ولم يكن خالف في ذلك الا شذاذ من المبتدعة، وأضاف إلى
ذلك أن عدالتهم ثابتة بتعديل الله لهم، ونقل عن ابن حزم. بأنهم جميعا
عدول ومن أهل الجنة قطعا على حد تعبيره، ومن قال بأنهم كغيرهم من
الناس يتفاوتون بمقدار أعمالهم وخدماتهم وجهادهم فقد تعرض لأعنف
الهجمات من جمهور أهل السنة.
وقال الغزالي في المستصفى: والذي عليه السلف وجماهير الخلف
ان عدالتهم معلومة بتعديل الله: عز وجل إياهم وثنائه عليهم في كتابه وهو
71

معتقدنا فيهم الا ان يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه
به، وذلك مما لم يثبت، فلا حاجة لهم إلى التعديل، قال تعالى: كنتم
خير أمة أخرجت للناس ومضى يسرد الأدلة على عدالتهم من الكتاب
والسنة، وأضاف إليها انه لو لم ترد النصوص القرآنية والنبوية بعدالتهم
لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والأموال
وقتل الآباء والأهل في موالاة رسول ا لله (ص) ونصرته، لو لم ترد
النصوص لكانت هذه النواحي كافية في عدالتهم، وبعد ان تعرض لبعض
الآراء التي تحملتم مسؤولية أعمالهم وتصرفاتهم المنسوبة إلى بعض أعيان
المعتزلة وغيرهم، بعد أن عرضها قال: وكل هذه الأقوال جرأة على
السلف، ومخالفة للسنة، وأخيرا رجح الرأي الشائع بين فقهاء السنة
ومحدثيهم فيما يتعلق بتصرفات الصحابة المنافية لأصول الاسلام وفروعه،
الذي ينص على أنهم مجتهدون في كل ما وقع منهم، فالمصيب منهم
مأجور، والمخطئ معذور (1).
ويؤكد البعض من السنة ان الصحابة كغيرهم من الرواة من حيث
وجوب الفحص عن عدالتهم والتوثق منها (2)، وأنصار هذا القول بين
من يرى أنهم كغيرهم من الناس، وان الصحبة لا ترفع من شان أحد
طالت أم قصرت، وبين من يدعى ان عدالتهم استمرت إلى أن وقع الخلاف
بينهم، وباشروا الفتن وأراقوا الدماء، وتنافسوا على أمور الدنيا، ومنذ
ذلك الحين أصبحوا كغيرهم معرضين للنقد والتجريح والتفسيق ولغير
ذلك مما يجوز على جميع الناس، وأسرف بعض المعتزلة اسرافا لا مبرر
له في حكمه على تلك الفئات المتخاصمة، فذهب واصل بن عطاء وعمرو بن
عبيد إلى وجوب طرح الرواية إذا انتهت إليهم ولو كان الراوي لها
عليا (ع)، لاحتمال ان يكون هو المبطل في خصومة لعائشة ورفيقيها،

(1) انظر المستصفى ص 204 و 205.
(2) القائلون بذلك لا يمثلون رأي الجمهور كما ذكرنا سابغا.
72

ولمعاوية وأنصاره، كما يرى ذلك واصل بن عطاء، بينما يورد عمرو بن
عبيد، الزعيم الثاني للمعتزلة بعد واصل انهم جميعا قد خرجوا عن
العدالة ولا تصح شهادتهم على باقة بقل، على حد تعبيره.
وجاء في الفرق بين للبغدادي. ان أبا الهذيل العلاف،
والجاحظ، وأكثر القدرية على رأي واصل بن عطاء في علي (ع) وطلحة
والزبير وعائشة وغيرهم ممن اشترك في الحروب والخصومات في تلك
الفترة من تاريخ الاسلام.
ومهما كان الحال فالمحدثون والفقهاء من المنتسبين إلى المذاهب
الأربعة الا ما شذ منهم متفقون على عدالة الصحابة وعدم التوقف في
مروياتهم عن الرسول (ص) ورجحان الاقتداء بهم في أمور الدين وغيرها،
ولم يعرف الخلاف في ذلك الا من بعض المتأخرين، كالشيخ صالح مهدي
المقبلي، المتوفى في أوائل القرن الثاني عشر الهجري، والشيخ محمد
عبدو، والشيخ رشيد رضا، وغيرهم، ولكن هؤلاء وان كانوا من اعلام
السنة، ولكنهم لا يمثلون الا أنفسهم في هذه المسألة.
قال الأستاذ محمود أبو رية: وإذا كان الجمهور على أن الصحابة
كلهم عدول، ولم يقبلوا الجرح والتعديل فيهم كما قبلوه في سائر
الرواة، واعتبروهم جميعا معصومين عن الخطأ والسهو والنسيان، فان
هناك كثير من المحققين لم يأخذوا بهذه العدالة المطلقة لجميع الصحابة،
وإنما قالوا: كما قال العلامة المقبلي: انها أغلبية لا عامة، وانه يجوز
عليهم ما يجوز على غيرهم من الغلط والنسيان والسهو والهوى،
ويؤيدون رأيهم بان الصحابة ان هم الا بشر يقع منهم ما يقع من غيرهم،
مما يرجع إلى الطبيعة البشرية، ويعززون حكمهم بما وقع، في عهده من
المنافقين والكذابين وبما وقع بعده من الحروب والفتن والخصومات التي
لا تزال اثارها إلى اليوم، وستبقى إلى ما بعد هذا اليوم (1).

(1) انظر الأضواء ص 322 و 323، والمستصفى ص 105.
73

واستدل القائلون بعدالة الصحابة ببعض الآيات والأحاديث
المروية عن النبي (ص) التي تثبت هذه الصفة لجميع الصحابة على حد
زعمهم. فمن ذلك قوله تعالى في للآية من سورة الفتح: " محمد رسول
الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا
يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوهم من اثر السجود،
ذلك مثلهم في القرآن ومثلهم في الإنجيل كزرع اخرج شطأه فآزره
فاستغلظ، فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد
الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ".
وقال تعالى في سورة التوبة: " والسابقون الأولون من المهاجرين
والأنصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم
جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ".
وقال في سورة الأنفال: " والذين آمنوا وهاجروا في سبيل الله
والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم ".
وقال في سورة الحشر: " للفقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم
وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، أولئك هم الصادقون والذين
تبوأوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في
صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
ومن يوق شح نفسه، فأولئك هم المفلحون، والذين جاءوا من بعدهم
يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في
قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم ".
وقال في سورة الفتح: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك
تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم
فتحا مبينا ".
بهذه الا يأت وغيرها مما اشتمل على مدحهم بالايمان والصدق
74

وعلى وعدهم بالمغفرة والجنان. التي أعدها الله للمؤمنين العاملين، قد
استدل الجمهور من السنة على عدالة الصحابة وانهم فوق الشبهات
والأهواء (وان بساطهم قد طوي) وليس لاحد ان يتردد في شئ من
تصرفاتهم وأعمالهم على حد تعبير بعض المحدثين من السنة والذي الا
يمكن التنكر له، هو ان هذه الآيات ونظائرها تدل دلالة واضحة لا تقبل
الجدل والتشكيك على أن لبعضهم من القداسة وعلو المنزلة ما ليس لأحد
من الناس وبخاصة من اشترك معه في حروبه وغزواته، وضحى في
سبيل تسلك الدعوة بالمال والنفس والأولاد، وأخلص له في السر والعلانية،
هؤلاء لا يجحد فضلهم الا كل معاند لا يؤمن بيوم الحساب، اما ثبوت
العدالة والقداسة لكل من رآه أو سمع حديثه، أو أدرك عصره ولو طفلا
صغيرا مهما صنع بعد ذلك من المنكرات واقترف من الذنوب والآثام
كما جرى ذلك لكثير منهم، فهو نوع من التهويش والتضليل الذي لا
يقره المنطق بل ولا العقل، ولا تؤيده تلك النصوص ولو من بعيد، ذلك
لان من وصفهم الله بتلك الآيات بالشدة على الكفار والركوع والسجود
والهجرة والجهاد وغير ذلك من الأوصاف لا ينكر أحد فضلهم، ولا
يتردد في عدالتهم، ومن المعلوم ان الذين عاصروا الرسول ورووا حديثه،
بل وحتى الذين ناصروا دعوته لم تتوفر في أكثرهم تلك الصفات التي
اشتملت عليه الآيات الكريمة، بل من بينهم المنافق والفاسق
والمتخاذل والمتستر بالاسلام خوفا أو طمعا، ومن ينتظر الفرص ويراقب
الظروف ويهيئ المناسبات ليقوم بدوره في وجه تلك الدعوة المباركة،
ولو بالفتك بالرسول إذا اقتضى الامر، كما أشار القرآن نفسه إلى ذلك
في بعض آياته، هذا بالإضافة إلى أن المتتبع لسير الحوادث، وتاريخ
الصحابة في حياة الرسول وبعد وفاته لا يرتاب في أن الذين عاصروا
الرسول بل وحتى الذين كانوا ألصق به من جيع الناس لم يلتزموا
سيرته وسنته وساقتهم الأهواء إلى ممارسة ما استطاعوا من الملذات
75

والشهوات، لقد أحبوا وكرهوا وخاصموا وانتقموا واستحل بعضهم
دماء الآخرين في سبيل الجاه والسلطان. ان هؤلاء الذين ألبسوا جميع
الصحابة ثياب القديسين وأعطوهم صفات الأنبياء المرسلين، قد ناقضوا
أنفسهم فصدقوا التاريخ فيما رواه من أعمالهم الطيبة ومواقفهم الخالدة،
وكذبوه في غير ذلك من المرويات التي تصور لنا جشعهم وانهماكهم في
المعاصي والمنكرات، مع العلم بأن التاريخ الذي روى لنا محاسن
اخبارهم، روى لنا سيئات أعمالهم بشكل أوثق وأقرب إلى منطق
الاحداث التي توالت خلال تلك الفترة من تاريخهم المشحون بالاحداث
والمتناقضات، والتنافس على المال الحرام والجاه والسلطان.
ومجمل القول، ان للآيات التي استدل بها الجمهور على عدالة
الصحابة لا يستفاد منها أكثر من التنويه بفضل من جاهد في سبيل الله
بماله ونفسه ابتغاء مرضاة الله وطمعا في ثوابه، كما يبدو ذلك بعد
الرجوع إليها وملاحظة أسباب نزولها وملابساتها فالآية الأولى بمنطوقها
تنص على أن جماعة من أنصار النبي (ص) كانوا أشداء على الكفار
رحماء بينهم، قد انصرفوا إلى العبادة حتى ظهرت آثار ذلك في جباههم
ووجوههم، وهذه الصفات لم تتوفر الا في عدد محدود من الصحابة
فضلا عن جميعهم.
والآية الثانية لم تتعرض الا للسابقين في فعل الخيرات والطاعات
وتفضيلهم على غيرهم من الكسالى والمقصرين، فهي من حيث مؤداها
أشبه بقول الرسول (ص) من سن سنة حسنة كان له اجر من عمل بها:
ومن سن سنة سيئة كان عليه وزر من عمل بها.
وجاء عن جماعة من المفسرين، ان للآية تشير إلى من صلى مع
النبي القبلتين، وقال آخرون: أفأنزلت فيمن بايع بيعة الرضوان،
76

وقال بعضهم انها فيمن أسلم قبل الحجرة، وعلى جميع التقادير فهي لا
تفيد الجمهور، ولا تؤيد ادعائهم من قريب أو بعيد (1).
والآية الثالثة، نزلت فيمن هاجر من مكة إلى المدينة، بعد أن
هاجر الرسول إليها، كما جاء في مجمع البيان للطبرسي، وقد مدحهم
الله سبحانه، لأنهم هاجروا من ديارهم وأوطانهم في مكة ولحقوا
بالرسول (ص) إلى المدينة، كما مدح من آواهم ونصر الرسول
ووصفهم بأنهم المؤمنون حقا، ولا يعارض أحد من المسلمين في أن أولئك
بهجرتهم، وهؤلاء بنصرتهم وتضحياتهم وايثارهم على أنفسهم من
المرضيين عند الله سبحانه بالنسبة إلى هذا الموقف الذي وقفوه مع
النبي (ص) وهذا لا يمنع من صدور المخالفات الكثيرة من بعضهم التي
توجب وصفهم بالنفاق أو الارتداد كما نصت على ذلك بعض المرويات،
على أن الصفات التي اشتملت عليها الآية لم تتوفر في جميع الصحابة،
كي تثبت لهم العدالة التي يدعيها الجمهور، وهكذا الحال بالنسبة إلى
الآية من سورة الحشر، فان ثبوت الفضل للفقراء والمهاجرين، والذين
تلقوهم ونصروهم وآثروهم علي أنفسهم، ولمن بايعه بيعة الرضوان، في
مقابل هذه التضحيات، لا يلزم منه ثبوته لكل من رأى النبي أو روى
عنه ولو حديثا، أو سمع منه كلمة (1). وقد استدل القائلون بعدالة
الصحابة بالإضافة إلى تلك للآيات ببعض المرويات عن الرسول (ص)،
فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري ان
رسول الله (ص) قال: لا تسبوا أحدا من أصحابي، فان أحدكم لو أنفق
مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحد ولا نصيفه.
وروى الترمذي عنه في صحيحه أنه قال: الله الله في أصحابي لا
تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي

(1) انظر أحكام القران للجصاص: ج 3 ص 180 ومجمع البيان:
ج 3 تفسير سورة التوبة.
(2) انظر مجمع البيان وغيره من كتب التفسير ج 5.
77

أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن اذاني فقد آذى الله ومن آذى
الله يوشك ان يأخذه.
وجاء عن أبي موسى الأشعري ان رسول الله قال النجوم آمنة
للسماء، فإذا ذهب النجوم أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي آمنة
لامتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون.
وجاء عنه (ص) أنه قال: خير القرون قرني، ثم الذي يلونهم ثم
الذي يلونهم ثم يفشو الكذب.
وقد أورد هذه المرويات الأستاذ محمد عجاج الخطيب في كتابه
الستة قبل التدوين، كما استدل بها كل من نكلم عن الصحابة وأحوالهم،
وانتهى الأستاذ الخطيب من هذه المرويات إلى النتيجة التالية.
فقال: وقد أجمعت الأمة على عدالتهم جميعا الا افرادا معدودين
اختلف في عدالتهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، فلا يجوز
لاحد ان يتعداهم خشية ان يخالف الكتاب والسنة الذين نصا على
عدالتهم، وبعد تعديل رسول الله (ص) لهم لا يحتاج أحد منهم إلى
تعديل أحد، وأضاف إلى ذلك. على أنه لو لم يرد من الله تعالى ورسوله
الكريم شئ في تعديلهم لوجب تعديلهم، لما كانوا عليه من دعم الدين
والدفاع عنه، ومناصرتهم للرسول والهجرة إليه والجهاد بين يديه، وبذل
المهج والأموال وأخيرا انتحل صفة الاجتهاد لهم، حيث لم يجد ما يعتذر
به عن بعض تصرفاتهم وللمجتهد ان بصنع ما يشاء، ما دام يفعل بوحي
من اجتهاده، حتى ولو خالف الضرورات، واستحل جميع المنكرات،
كما وقع لكثير منهم. ومما ذكرنا تبين ان الجمهور القائلين بعدالة جميع
من رأى النبي، أو سمع حديثه، لا يملكون الأدلة الكافية، التي تغنيهم
عن التعسف واللف والدوران لاثبات العدالة المزعومة، ذلك لان ما جاء
78

عن النبي (ص) من المرويات التي تدل على تمجيدهم، وعدم ايذائهم،
وانهم أمان لأهل الأرض، هذه المرويات لو صحت لا تدل على أنهم قد
بلغوا من الدين مبلغا يعصمهم عن اتباع أهوائهم وشهواتهم، ويدفعهم
إلى الامتثال واجتناب المحرمات، ومن، الجائز ان يكون الثناء عليهم
باعتبار ان صحبتهم لا نبي والتفافهم حوله يشكل مجموعة متماسكة
لحماية الاسلام من اخطار الغزو المرتقب في كل لحظة من داخل البلاد
وخارجها، هذا التكتل باعتباره من مظاهر القوة التي تمكن سير الدعوة
كان محبوبا لله سبحانه. مع قطع النظر من خصوصيات الافراد التي.
تخص كل واحد من حيث تصرفاته وأعماله. هذا بالإضافة إلى أن حديث
لا تسبوا أصحابي، وأصحابي كالنجوم (1). هذا الحديث من حيث
اشتماله على صيغة الجمع، لا يتعين للشمول والاستيعاب، بل يصح منه
ولو بالنسبة إلى المخلصين في ولائهم العاملين بأوامر الله المتمسكين بسنته
وسيرته، ولا ينكر أحد وجود مجموعة كبيرة بين اتباعه، قد تفانوا في
خدمة الاسلام، وأخلصوا في أعمالهم وجهادهم طمعا في مرضاة الله
وثوابه، والحديث ونظائره على تقدير صدوره من النبي لا بد وأن يكون
ناظرا إلى تلك الفئة من بين اتباعه، ومن غير المعقول ان يقصدهم
النبي (ص) على جهة العموم، وهو المخاطب بتلك للآيات التي وصفت
فريقا منهم بالنفاق والبغي وفريقا بالتآمر على حياته واحباط جميع
مساعيه وجهوده التي بذلها في سبيل الدين، تثبيت دعائمه، من غير
المعقول إذ يقصدهم جميعا من تلك النصوص، ويقف موقف المدافع
عنهم المجامل لهم، والآيات الكثيرة تنادي. بنفاقهم، وتكشفهم على
واقعهم كي لا يغتر بهم أحد من أصحابه الطيبين، وحتى لا تكون الصحبة
ستارا لأصحاب الشهوات والمطامع يستغلونها لأغراضهم ولكي لا تكون

(1) لقد ذكر هذا الحديث ابن القيم في الجزء الثاني من اعلام الموقعين:
ونص على أنه من الأحاديث الموضوعة (ص) 223.
79

للصحابي تلك الحصانة التي تمنع من نقده وتجريحه.
وقلما تخلو سورة من سور القران من التشهير بهم والتحذير من
دسائسهم، وسميت سورة التوبة بالفاضحة، كما جاء عن عبد الله بن
العباس لأنها فضحتهم وكشفت عن واقعهم.
وجاء عنه أنه قال: ما زال القرآن ينزل بالمنافقين حتى خشينا ان
لا يبقى أحد امين من الصحابة.
وسميت المبعثرة لأنها تبعثر أسرار المنافقين وتبحث عنها، كف
سميت البحوث، والمدمدمة والحافرة والمثيرة إلى غير ذلك من الأسماء
التي تتناسب مع مضامين تلك السورة بكاملها (1).
قال تعالى: في معرض التهديد والتوبيخ لله منافقين " لو كان عرضا
قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك، ولكن بعدت عليهم الشقة، وسيحلفون
بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون،
عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ".
وهذه للآية قد كشفت عن سوء نواياهم، وأشارت إلى المخطط
الذي تبنوه ضد الدعوة كما تشعر بعتاب الله للنبي (ص) حيث اذن لهم
بالتخلف عنه في بعض غزواته كما توكد ذلك الآية التي بعدها.
قال تعالى: " لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ان
يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين، إنما يستأذنك الذين لا
يؤمنون بالله واليوم للآخر، وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون،
ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عنه، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم
وقيل اقعدوا مع القاعدين، لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا،

(1) انظر مجمع البيان طبع صيدا / ج / 3 وغيره من كتب
التفسير.
80

ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة من قبل، وقلبوا لك الأمور حتى
جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ".
فالآية المذكورة تنص بصراحة إلى أن بين صفوف الصحابة في
المدينة وغيرها جماعة كانوا يسرون الغدر والنفاق، ويتربصون الظروف
والمناسبات للفتك بالمسلمين وايقاع الفتنة بهم، وتضيف الآية إلى ذلك "
ان هؤلاء حتى لو خرجوا معك الجهاد، لا تستفيدون من خروجهم
شيئا يعود عليكم بالخير، لأنهم يبيتون الفتنة والشر لكم وتنص الآية
بالإضافة إلى ما ذكرنا، على أن لهم أنصارا بين الذين خرجوا معك
يتجسسون عليكم وينقلون إليهم أسراركم " وفيكم سماعون لهم والله
عليم بالظالمين "، ويستفاد من مجموع ذلك أن النفاق كان متفشيا بين
الصحابة والتنظيم السري، كان يشمل مجموعة ممن تظاهروا بالاسلام
واشتركوا في غزوات الرسول ضد المشركين، وان الغاية منه كانت
تستهدف القضاء على الاسلام والرجوع إلى تاليه الأصنام والأوثان،
ولولا أن الله سبحانه قد أحاط تلك الدعوة المباركة بعنايته، وحفظها من
مكرهم ودسائسهم وأظهرهم على واقعهم، لولا ذلك كان من الميسور
عليهم القضاء عليها بين عشية وضحاها. ولا أحسب ان المتتبع لنصوص
القرآن يتردد في هذه الحقيقة.
قال تعالى: " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني الا في الفتنة
سقطوا، وان جهنم لمحيطة بالكافرين، ان تصبك حسنة تسؤهم، وان
تصبك سيئة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل، ويتولوا وهم فرحون ".
وجاء في تفسير قوله الا في الفتنة سقطوا. انهم وقعوا في العصيان
والكفر بمخالفتهم لك، وتخلفهم عن الجهاد معك.
وقال مخاطبا لهم: " قل انفقوا ضوعا أو كرها لن يقبل منكم انكم
دراسات - 6
81

كنتم قوما فاسقين، وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم الا انهم كفروا بالله
ورسوله ولا يأتون الصلاة الا وهم كسالى، ولا ينفقون الا وهم
كارهون، ويحلفون بالله انهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون،
لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ".
نم عرض القران جانبا اخر من جوانب نفاقهم فقال سبحانه.
" ومنهم من يلمزك في الصدقات فان أعطوا منها رضوا وان لم
يعطوا منها إذا هم يسخطون، ولو أنهم رضوا بما آتاهم الله ورسوله
وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله انا إلى الله راجعون ".
وجاء عن أبي عبد الله الصادق (ع) ان المعنيين بهذه لآية أكثر من
ثلثي الناس ممن كانوا في عصر الرسول، وأشارت بعض الآيات إلى
فريق آخر من المنافقين. كانوا يتعمدون ايذاء النبي (ص) بما ألصقوا
فيه من التهم الباطلة فقال: " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن
قل اذن خيم ر لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم
والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم ".
وجاء في أسباب نزولها ان جماعة من المسلمين قالوا في الرسول ما
لا ينبغي، فقال رجل منهم: لا تفعلوا فانا نخاف ان يبلغ محمدا ما
تقولون فيوقع بكم، فقال الجلاس بن سويد: بل نقول ما شئنا ثم نأتيه
فيصدقنا بما نقول: فان محمدا اذن سامعة فأنزل الله هذه الآية.
وقال سبحانه في الآية 62 وما بعدها: " ليحذر المنافقون أن تنزل
عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، قل استهزؤا ان الله مخرج ما تحذرون،
ولئن سألتهم ليقولن انا كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله
كنتم تستهزؤون: لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ان نعف عن طائفة منكم
نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ".
82

وجاء في مجمع البيان وغيره من كتب التفسير في أسباب نزولها. ان
اثني عشر رجلا من المسلمين وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله (ص)
عند رجوعه من تبوك. فأخبر الله رسوله بذلك وأمره ان يرسل إليهم
ويضرب وجوه رواحلهم، وكان عمار بن ياسر يقود دابة رسول الله (ص)
وحذيفة بن اليمان يسوقها فقال الرسول (ص) لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم
فضربها حتى نحاهم. فلما نزل رسول الله (ص) قال لحذيفة: من عرفت
من القوم؟ قال لم اعرف منهم أحدا: فعدهم رسول الله (ص) بأسمائهم
واحدا واحدا، فقال له حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم، فقال: أكره أن
تقول العرب: لما ظفر بأصحابه قتلهم (1).
وقال سبحانه: " يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن
نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله، ثم
تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون، سيحلفون
بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم، فأعرضوا عنهم انهم رجس
ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ".
هذه الآيات نزلت في ثمانين رجلا من الأصحاب قد تخلفوا عن الخروج
مع النبي (ص) إلى تبوك، فلما رجع منها فاتحا جاءوه يعتذرون عن تخلفهم
عنه، فأخبره الله سبحانه بما انطوت عليه ضمائرهم، ونهاه ان يقبل
معذرتهم لعلمه سبحانه بأنهم يسرون غير ما يظهرون، إلى غير ذلك من
الآيات التي اشتملت عليها هذه السورة وغيرها كالحشر والمنافقين والأنفال
والأحزاب وغير ذلك من السور التي قلما تخلو من ذكرهم والتحذير من
غدرهم ودسائسهم في داخل المدينة وخارجها.
ومما يلتفت النظر ان المتآمرين قد انتشروا داخل المدينة وخارجها،

(1) انظر مجمع البيان ج / 3 ص 46، وقيل إنها نزلت فيمن كان
يسخر منه ويهزأ من اخباره وتصرفاته.
83

وان نشاطهم قد تعدى حدود المدينة كما تدل على ذلك بعض لآيات
الكريمة.
قال سبحانه: " الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعرفوا
حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ".
" ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم
دائرة السوء والله سميع عليم ".
ويبدو من مجموع ما ورد في القرآن بشأنهم ان الخطر منهم على
الدعوة الاسلامية لم يكن بأقل من المشركين الذين لم يخضعوا لسلطان
الاسلام، ومن الجائز القريب ان يكون خطر المنافقين أشد وأبلغ اثرا من
اخطار غيرهم لأنهم كانوا معهم وبين صفوفهم يراقبون جميع تصرفاتهم
ويحصون عليهم أنفاسهم: وقد اطمئن إليهم أكثر المسلمين، بل وحتى
النبي (ص) لم يكن يعرف واقعهم، لولا الوحي الذي كان يكشفهم له
بين حين وآخر، ولولا أنهم كانوا يشكلون خطرا عظيما على الدعوة
الاسلامية وعلى الرسول نفسه لما ألح القرآن الكريم على التحذير مضم
بتلك الأساليب المختلفة. ويؤيد ذلك ما جاء عن الإمام الصادق الصدوق
في تفسير الآية 59 من سورة التوبة، ان المعنيين بها أكثر من ثلثي الناس،
ولو كانوا قليلي العدد وليسوا من ذوي الشأن، ولا يملكون من الوسائل
التي تمكنهم من تنفيذ مخططاتهم وأهدافهم، إذا كانوا كذلك فهل
يستحقون هذا الاهتمام البالغ الذي ظهر في كثير من الآيات والسرر وهل
يحسن التحذير والتخويف ممن لا خطر منه ولا شان له؟، ولماذا لم
بتجاهل القرآن تلك الفئات الظالمة كما تجاهل أكثر العصاة ولم يتعرض
إلى خطرهم على الدعوة ولو بآية تشير إليهم فن قريب أو بعيد. وتؤكد
النصوص التاريخية: ان القرآن الكريم لم يقف هذا الموقف من الصحابة،
84

ولم يحدث عنهم بتلك القسوة بشتى الأساليب الا بعد أن تكتل فريق
منهم بقصد الفتك بالرسول، واحباط مساعيه. تضامنا مع مشركي
قريش وغيرهم من العرب، وما كان وقوف الاثني عشر رجلا الذين أشارت
إليهم الآية 64 من سورة براءة، في طريق الرسول للفتك به وهو راجع
من غزوة تبوك الا إحدى المحاولات التي تعاقد المتآمرون على تنفيذها،
ومما لا شك فيه ان وراء هؤلاء الاثني عشر عدد كبير، كان ينتظر نجاح
المؤامرة ليقوم كل بدوره المعد له، وقد بلغ الحال بالمنافقين انهم كانوا
يسهلون للمشركين واليهود احتلال المدينة ليناصروهم على محمد (ص)
كما تشير إلى ذلك الآية 14 من سورة الأحزاب.
قال تعالى: " ولو دخلت عليهم من أقطارها، ثم سألوا الفتنة
لأتوها، وما تلبثوا بها الا يسيرا ".
وجاء في تفسيرها. لو دخل المشركون المدينة وطلبوا من المنافقين
قتال المسلمين لأجابوهم إلى ذلك.
وعن قتادة ان المقصود بالآية لو دخل المشركون إلى المدينة، وطلبوا
من المنافقين الدخول معهم في الشرك لأسرعوا إلى اجابتهم.
ومجمل القول إن هذه للآيات على كثرتها توحي بوجود مجموعة
من المنافقين قد تستروا بالاسلام لها اثرها وفعاليتها كانت تعمل بالخفاء
للقضاء على الدعوة الاسلامية ولو بالفتك بالرسول، أو باعلان العصيان
والتمرد عليه داخل المدينة وخارجها، بعد أن عجزوا عن مقاومته مع
صفوف المشركين في المعارك التي دارت بينهم وبينه ووترهم بآبائهم
وأبنائهم وعشائرهم ومعتقداتهم واضطرهم إلى الاستسلام وأطاح
بأمجادهم وألغى جميع الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها،، ويتحكمون
85

بالضعفاء والفقراء بسببها هؤلاء بلا شك لم يخالط الايمان قلوبهم، بل
أظهروا الاسلام خوفا وطمعا، وقد وصف الله قصة اسلامهم بقوله:
" لا تقولوا آمنا بل قولوا أسلمنا، ولما يدخل الايمان في قلوبكم ".
ليس بغريب على من أسموهم بالصحابة ان لا يدخل الايمان في
قلوب الكثيرين منهم وأن يكون فيهم المنافق والصالح، والمطيع والعاصي
والطيب والخبيث لأنهم حديثوا عهد بالدين الجديد، الذي أقر الكثيرون
به خوفا وطمعا، وأرغمهم على الاستسلام حين لم يجدوا سبيلا للمقاومة،
وفرض عليهم مبادئه وأصوله في حين انهم ورثوا عن آبائهم وأسلافهم ما لا
يتفق مع تلك المبادئ وأصول ذلك الدين الجديد، ليس بغريب ان يكونوا
كما وصفهم القران، وكما نقل عنهم المحدثون والمؤرخون، لان النظر
إلى النبي، أو سماع حديثه لا يغيران طبيعة الانسان، ولا يقتلعان منها
نوازع الشر، إنما الغريب ان يحكم جمهور السنة على كل من رآه أو سمع
حديثه بالعدالة والاستقامة، مع وجود هذه الآيات على كثرتها التي وصفت
مجموعة منهم بالنفاق، وعدم الايمان بالله وبمبادئ الاسلام وأصوله
وحذرت النبي من غدرهم ونفاقهم وكشفت عن واقعهم.
ونحن لا نريد ان نطعن في جميع الصحابة، ولا ان نجحد فضل
المجاهدين منهم والعاملين معه وبعده باخلاص لنشر الاسلام وتطبيق مبادئه
وأصوله، الذين أثروه طي أعز ما لديهم، وأغلى ما يملكون وتسابقوا
إلى الشهادة والموت في سبيله، انا لا نريد ذلك ولا نقر من يهاجم جميع
الصحابة ويجحد فضلهم، ونعتبر ذلك إساءة للرسول نفسه وجحودا
لنصوص القران الكريم الذي أشاد بفضل المجاهدين منهم في سبيل الله
والعاملين بأصوله وفروعه ووعدهم اجرا عظيما وجزاء كريما، وإنما الذي
نريده، انهم كغيرهم من المسلمين في مختلف العصور فيهم الصالح
والطالح، والشقي والسعيد، والمؤمن والمنافق وهم في ايمانهم ونفاقهم
86

يتفاوتون، فمنهم من بلغ القمة في ايمانه واخلاصه وتضحياته، ومنهم من
انحط إلى أسفل درك بسبب اسرافه في المنكرات والمعاصي، وبالرغم من أن
التاريخ قد حاباهم فلقد سجل عليهم ما لا تقره الأديان والشرائع
والأعراف في مختلف النواحي والمراحل التي مروا بها ولو أردنا ان نحصي
تصرفاتهم التي لا يمكن ان تقرها الأديان بحال من الأحوال بل وحتى
شريعة الغاب ولا يمكن افتراضها من نتائج الاجتهاد الذي يعذر فيه
المجتهدون كما يحاول بعض الاعلام من السنة، لو أردنا ان نحصي عليهم
تلك المخالفات الصريحة لنصوص القران لبلغت كتابا مستقلا، وقبل
الحديث عن بعض تصرفاتهم لا بد من الإشارة إلى بعض النصوص التي
تؤيد انحراف الكثير منهم في حياة الرسول وبعده عن المخطط الاسلامي
الذي وضعه القرآن والرسول (ص)، كسا جاء في مجاميع الحديث
الموثوقة عند السنة.
فقد جاء في البخاري عن عبد الله بن العباس. ان النبي (ص) قال:
انكم تحشرون حفاة عراة، وان أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال،
فأقول أصحابي أصحابي: فيقول: انهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم
منذ فارقتهم، فأقول: كما ا قال العبد الصالح: وكنت عليم شهيدا ما
دمت فيهم.
وجاء فيه أيضا عن أبي هريرة، ان النبي (ص) قال: بينا انا قائم
فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم: قلت
إلى أين، قال إلى النار والله: قلت وما شأنهم؟ قال: ارتدوا على أدبارهم
القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل وقال هلم: قلت إلى
أين: قال إلى النار والله: قلت وما شأنهم قال: انهم ارتدوا على أدبارهم
القهقرى، فلا أراه يخلص منهم الا مثل همل النعم (1). وجاء فيه ان

(1) وهمل النعم هي الإبل الهاملة التي تتخلف عن السير مع
القافلة، والمراد من ذلك أنه لا يخلص من النار الا القليل.
87

النبي (ص) قال يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض
فأقول يا رب أصحابي. فيقول: انك لا علم لك بما أحدثوا بعدك. انهم
ارتدوا على أدبارهم القهقرى.
وجاء في الصحيح للبخاري عن سهل بن سعد ان النبي (ص) قال: ليوردن
علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول انهم مني،
فيقال: انك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سحقا سحقا لمن غير
وبدل.
وجاء فيه عن عبد الله ان النبي (ص) قال: انا فرطكم على الحوض،
وليرفعن رجال منكم، ثم ليختلجن دوني، فأقول يا ربي أصحابي! فيقال:
انك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
وروي عن أسماء بنت أبي بكر، ان النبي (ص) قال إني على
الحوض حتى انظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ ناس دوني، فأقول
يا ربي مني ومن أمتي فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك والله ما برحوا
يرجعون على أعقابهم، إلى غير ذلك من المرويات في مجاميع الحديث عند
السنة.
والجدير بالذكر ان هذه المرويات لم تتعرض للمنافقين والمتآمرين في
عهد الرسول (ص) على سلامة الدعوة الاسلامية وعلى الرسول نفسه
بصفته الحامل للوائها كما نصت على ذلك سورة التوبة وغيرها بل تعرضت
لأصحابه من بعده وما سينتهي إليه أمرهم من حيث خروجهم عن الجادة
والمخط الذي وضعه لهم، وهي تصرح بأنهم سيرتدون من بعده
ويرجعون على أعقابهم إلى الوراء، اي إلى ما يشبه حالتهم قبل الاسلام
وبذلك تكون قد أضافت مجموعة منهم إلى المجموعة التي تعرضت لها
سورة التوبة وغيرها من سور القرآن وآياته، وبضميمة الذين وصفهم
88

بالارتداد إلى الفئة الأولى ينتج ان أكثر الصحابة قد خالفوا الرسول ولم
يتبعوا سنته وسيرته، ومع ذلك فالجمهور من السنة يقفون منهم موقف
المغالي، ويصفونهم بالعدالة والاستقامة والرسول يصفهم بالارتداد،
ويقول (لا ينجو منهم الا مثل همل النعم)، وهم يقولون: بأنهم ناجون
ولو خالفوا الضرورات واستحلوا المنكرات لأنهم مجتهدون، والمجتهد
مأجور على كل حال وإذ تخطى الحق وتعمد الباطل وخالف الضرورات من
دين الاسلام كما فعل العشرات منهم.
وكيف يصح وصفهم بالعدالة، وفيهم من عاب على النبي (ص)
تصرفه في الصدقات كما جاء في الآية من سورة المائدة،
وفيهم من آذاه كما تنص على ذلك الآية من سورة البقرة،
وفيهم من اتخذ مسجدا ضرارا وكفرا تفريقا بين المؤمنين
كما تنص على ذلك الآية من سورة التوبة وفيهم الذين تخلفوا عن غزوة
تبوك، وكانوا أكثر من ثمانين رجلا، وحلفوا له الايمان الكاذبة، كما
نصت على ذلك الآية. " يحلفون لكم لترضوا عنهم، فان الله لا يرضى عن
القوم الفاسقين " وفيهم أربعة عشر رجلا تعاقدوا على اغتيال الرسول في
ظلمات الليل، وفيهم من إذا أصابت الرسول حسنة تسؤهم، وان اصابته
مصيبة سرتهم وفرحوا بها، إلى غير ذلك من الأصناف التي نص عليها القرآن،
وفيهم من ارتدوا بعد موته وغيروا وبدلوا، ولم ينفذوا وصيته في علي وأهل بيته
(ع) وأذوا ابنته حتى ماتت وهي غضبى عليهم كما نص على ذلك
البخاري في صحيحه، مع أنهم سمعوه أكثر من مرة يقول، فاطمة بضعة
مني من آذاها فقد آذاني، وفيهم من أراقوا دماء المسلمين وخاضوا جميع
الفتن، ومارسوا أنواع الشهوات، وغرروا بزوجة النبي (ص) السيدة
عائشة حتى قادت جيشا مع أهل الأهواء والأطماع لحرب امام المسلمين
89

وسيدهم علي (ع) فأراقوا الدماء ونهبوا الأموال وروعوا الآمنين
واستباحوا الاعراض.
وفيهم من قال، عندما تولى الخلافة قريبه عثمان: تلقفوها يا بني
أمية تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار ولا
حساب ولا عقاب، وهو بعينه القائل لعلي (ع) حينما استولى أبو بكر
على الخلافة: غلبكم على هذا الامر أرذل بيت في قريش، اما والله
لأملأنها عليه: خيلا ورجالا، فقال له علي (ع)، ما زلت عدوا للاسلام
وأهله، فما ضر ذلك الاسلام وأهله شيئا (1).
وفيهم من قتل مالك بن نويرة وعشيرته ودخل بزوجته ساعة قتله،
لأنه امتنع من تسليم الزكاة لغير الحاكم الشرعي، وقد قال رسول الله
(ص) الحدود تدرء بالشبهات، وقال الله تعالى: ولا تقولوا لمن ألقى
إليكم السلام لست مسلما.
وفيهم طريد رسول الله (ص) مروان بن الحكم وأبوه وأسرته
الذين لم يؤمنوا بالله ورسله طرفة عين ابدا وقد لعنهم الرسول وحذر
المسلمين من مكرهم ودسائسهم، وهم الذين استغلوا خلافة عثمان بن
عفان، واستهتروا بجميع الحقوق والمقدسات حتى ضج المسلمون في
مختلف الأقطار من تصرفاتهم، ولما رفض اقصاءهم عن الحكم، لم يجد
المسلمون بدا من التخلص منه عن طريق القوة! التي أودت بحياته، ولما

(1) انظر ص 245 من الإستيعاب لابن عبد البر المطبوع على
هامش الإصابة لابن حجر ج 2.
90

اتفق المسلمون في داخل المدينة وخارجها على الخليفة الشرقي علي (ع)
وضاق عدله بفريق ممن أسموهم بالصحابة، تكتلوا بقيادة الشيخين طلحة
والزبير للثورة ضد الحكم القائم، وأغروا زوجة النبي على أن تتزعم
حركة للثورة ليضللوا بخروجها البسطاء والمغفلين، فعرضوها للهتك
والخطر، وصانوا نساءهم بالرغم من تأكيد القرآن على صيانة نساء النبي،
وحرص الرسول على أن يحفظه المسلمون في أهله ونسائه، وكان من
نتيجة ذلك أن مروان بن الحكم نفسه تولى قتل طلحة بيده، لأنه كان
من المحرضين على قتل قريبه عثمان بن عفان، وجاء في بعض المرويات عنه
أنه قال لأبان بن عثمان: قد كفيناك بعض قتلة أبيك (1).
وروى البخاري في صحيحه ان ابن عمر جمع أهله وولده في وقعة
الحرة: وأمرهم ان لا يخلعوا بيعة يزيد بن معاوية، وروى لهم عن رسول
الله أنه قال: واني لا اعلم غدرا أعظم صن ان يبايع رجل على بيع الله
ورسوله ثم ينصب له القتال (2) وأي غدر أعظم من الفتنة التي اثارتها
عائشة وزميلاها طلحة والزبير، تلك الفتنة التي قتل فيها أكثر من ثلاثين
الف مسلم كما تؤكد النصوص التاريخية الموثوق بها بعد أن بايعا عليا (ع)
طالعين غير مكرهين، ومع ذلك فالصحابة كلهم عدول حتى مروان بن الحكم
والأسرة الأموية لأنهم عاصروا الرسول وسمعوا أحاديثه، ويجب ان
تتضاعف عدالة معاوية لأنه من كتاب الوحي على حد زعم الأخباريين من
السنة، وكتاب الوحي كانوا ألصق بالرسول من غيرهم وأطول صحبة له
من جميع الناس.
وبينهم أمثال كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما ممن كانوا
يزودون بعض الصحابة بمفترياتهم التي تسئ إلى الاسلام والسنة الكريمة

(1) أنظر الاستيعاب على هامش الإصابة لابن حجر ص 214.
(2) انظر ج 16 من فتح الباري على صحيح البخاري ص 173.
91

وكان هؤلاء مصدرا ضخما لأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص
وأمثالهما.
وجاء في المجلد السابع والعشرين من المنار للسيد رشيد رضا. ان
كعب الأحبار كان من زنادقة اليهود الذين أظهروا الاسلام والعبادة لتقبل
أقوالهم في الدين، وقد راجت دسائسه وانخدع به بعض الصحابة ورووا
عنه وتناقلوا أقواله بدون اسناد إليه، وأضاف إلى ذلك. وان شر رواة
هذه الإسرائيليات، وأشدهم تلبيسا وخداعا للمسلمين وهب بن منبه وكعب
الأحبار، فلا تجد خرافة دخلت كتب التفسير والتاريخ الاسلامي في أمور
الخلق والتكوين والأنبياء وأقوالهم والفتن والساعة وللآخرة الا وهي
منهما (1).
هذان الرجلان وان لم يكونا من الصحابة لأنهما دخلا في الاسلام
بعد وفاة الرسول، (ص) ولكن الصحابة قد اعتمدوا عليهما فيما يتعلق
بالمواضيع المذكورة، بل وحتى فيما يتعلق بتقريض بعض الأشخاص
والبلدان ونسبوها إلى الرسول مباشرة، كما يبدو ذلك من مرويات أبي
هريرة حينما التحق بمعاوية ووفر له أسباب الرفاهية والنعيم.
وقد جاء عن كعب الأحبار انه التقى برجل، فسأله من أين هو؟ فقال
له: من أهل الشام، قال: لعلك من الجند الذي يدخل الجنة منه سبعون
ألفا بغير حساب ولا عذاب، قال له ومن هم؟ قال: أهل دمشق قال: لست
منهم، قال: فلعلك من الجند الذين ينظر الله إليهم كل يوم مرتين، قال
ومن هم؟ قال: أهل فلسطين.
وروى عنه السيوطي في الجامع الصغير. أنه قال: الشام صفوة الله

(1) ص 541 إلى 783 من المجلد المذكور.
92

من بلاده، إليها يجتبي صفوته من عباده فمن خرج من الشام إلى غيرها
فبسخطه ومن دخلها فبرحمته.
هذه المرويات وفي ها في فضل الشام وجندها وأصحابها تؤكد
عدالة معاوية ومن تبعه كعمرو بن العاص وولده عبد الله وأبي هريرة
ومروان وزمرته وغيرهم ممن انضم إلى معاوية من الصحابة وأبنائهم، لان
هؤلاء قد دخلوا الشام وسكنوها، ومن دخل الشام فقد دخل رحمة الله
كما يدعي كعب الأحبار وتلامذته.
ومنهم أبو هريرة الذي، روى عن الرسول (ص) انه ما من مولود
يولد الا ويمسه الشيطان، فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم
وابنها فان الله جعل دون الطعنة حجابا، فأصاب الحجاب ولم يصبها (1)،
ولازم ذلك أن الأنبياء جميعهم لم يسلموا من طعنة الشيطان حتى محمد
ابن عبد الله (ص) فقد أصيب بتلك الطعنة وتأثر بها كغيره من الناس كما
يقتضيه الاستثناء الذي اقتصر على مريم وابنها وكان أبو هريرة من صنائع
معاوية، والمقربين إليه، وقد ولاه على المدينة وروى له ما يشاء في
علي (ع) واتباعه، وجاء في شرح النهج. انه لما دخل العراق عام الجماعة
دخل أبو هريرة مسجد الكوفة، فلما اجتمع حوله الناس جثا على ركبتيه
وضرب صلعته بيده مرارا، وقال يا أهل العراق تزعمون اني اكذب على
رسول الله (ص) واحرق نفسي بالنار، والله لقد سمعت رسول الله
يقول: ان لكل نبي حرما، وان المدينة حرمي فمن أحدث فيها حدثا فعليه
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ثم قال: واشهد بالله ان عليا أحدث
فيها (2).
وهو الذي وصف مسيرة الجيش الذي بعثه النبي (ص) إلى

(1) انظر البخاري ص ج ل.
(2) انظر شرح النهج ج 1 ص 359.
93

البحرين بقيادة العلاء بن الحضرمي، وكان مؤلفا من أربعة آلاف مقاتل،
وفي ذلك يقول أبو هريرة. لقد ساروا حتى اتوا على خليج من البحر ما
خاصة أحد قبلهم، ولا يخوضه أحد بعدهم، فاخذ العلاء بعنان فرسه
وسار على وجه الماء فسار الجيش وراءه، فوالله ما ابتل لنا قدم ولا حافر،
وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة (1).
وهو الذي روى كما جاء في الصحيحين للبخاري ومسلم، ان ملك
الموت جاء إلى موسى، فقال له أجب ربك! فلطمه موسى على عينه
ففقأها، فرجع ملك الموت إلى الله تعالى فقال له: انك أرسلتني إلى عبد
لا يريد الموت ففقأ عيني، فرد الله عليه عينه، وقال له ارجع إلى عبدي.
وقل له: ان كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما توارت بيدك
من شعرة فإنك تعيش بها سنة.
وهو الذي روى إذ بني إسرائيل كانوا يتهمون موسى بعيب في
جسمه، فنزل ذات يوم إلى الماء ليغتسل، ووضع ثوبه على حجر قريب
منه، فاخذ الحجر الثوب وفر به، فخرج موسى من الماء في طلبه عاريا،
والحجر يسير ومعه الثوب حتى وصل إلى أسواق المدينة، وموسى يجد
في طلبه، ويقول: ثوبي حجر ثوبي حجر إلى غير ذلك من مروياته التي
سنعرض قسما منها في الفصول الآتية، تلك المرويات التي لا يقرها العقل،
ولا تتلائم مع واقع الاسلام البعيد عن الخرافات والأساطير والأوهام ولقد
عرفه الصحابة الأولون، وادركوا خطره على السنة الكريمة من خلال
مروياته التي كان يتلقاها من كعب الأحبار وغيره ويسندها إلى الرسول
(ص) وقال له عمر بن الخطاب، كما جاء قي رواية ابن سعد في طبقاته:

(1) انظر الإصابة لابن حجر، والاستيعاب لابن عبد البر المطبوع
على هامش الإصابة.
94

انك عدو الله والاسلام يا أبا هريرة، وقال فيه علي بن أبي طالب (ع):
اكذب الناس على رسول الله (ص) أبو هريرة الدوسي (1).
وجاء في تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة. ان عمر بن الخطاب
وعثمان بن عفان، و، علي بن أبي طالب (ع) كذبوا أبا هريرة في مروياته
عن الرسول (ص) وفي كتاب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر عن
طاووس أنه قال: كنت جالسا عند ابن عمر، فأتاه رجل فقال: إذ الوتر
ليس بحتم فخذوا منه ودعوا، فقال ابن عمر كذب أبو هريرة.
وقد كذبه كل من الزبير بن العوام وابن مسعود وعائشة وغيرهم،
ولذلك كان مقلا من الحديث في تلك الفترة من تاريخ الصحابة ولكنه وجد
منفسا له ومجالا واسعا بعد اتصاله بالأمويين وبخاصة بعد أن استتب
الامر لمعاوية وأصبح من المقربين إليه، ومعاوية يهمه أكثر من اي شئ ان
يجد إلى جانبه من يكيل له ولأسرته المدح والثناء، ويضع المطاعن في علي
وأسرته وينسبها إلى رسول الله (ص)، وللحديث النبوي اثره البالغ
في تأييد الحكام وتبرير تصرفاتهم لأنهم يحكمون ويتصرفون باسم الدين،
ولأن الخلافة امتداد لسلطة الرسول وحكومته.
وقد بلغ من ولائه لمعاوية ان ولده أبا بردة قال: ان معاوية لم يغلق
دوني بابا، ولم أقصده في حاجة الا قضيت لي بالغة ما بلغت (2) ومنهم
بسر بن أرطاة (3) أحد القواد البارزين في جيش معاوية، الذي كان مولعا
في تقتيل المسلمين واستباحة اعراضهم وقد أرسله معاوية، بعد تحكيم

(1) انظر ص 360 من ج 1 شرح النهج لابن أبي الحديد.
(2) انظر شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي لمحمود أبي رية ص 43.
(3) عده في الإصابة من الصحابة، لأنه ولد قبل وفاة الرسول بسنتين،
كما جاء في رواية الواقدي ووصفه الدارقطني بالصحبة، ونص
ابن يونس على أنه صحابي " اخذ من الرسول حديثين. انظر
المجلد الأول من الإصابة ص 152 ".
95

الحكمين بقيادة جيش من أهل الشام إلى مكة والمدينة واليمن وأمره ان
يقتل كل من يوالي عليا (ع) ولا يدين بولاء آل أبي سفيان، فقتل في
طريقه كل متهم بالتشيع والولاء لأهل البيت، وخافه الناس، وقبل ان
يدخل المدينة خرج منها أبو أيوب الأنصاري، الوالي عليها من قبل
علي (ع)، فدخلها بسر بن أرطاة بدون اية مقاومة، فصعد منبر الرسول
في المسجد، وتوعد من كان فيها من المهاجرين والأنصار وأبنائهم بالقتل
ان لم يبايعوا معاوية بن أبي سفيان، ثم قال: اما والله لولا ما عهد إلي
معاوية ما تركت في المدينة محتلما الا قتلته، وامر الناس بالبيعة لمعاوية،
ومن تمنع عن ذلك أمر بقتله، وأرسل إلى بنى سلمة، وقال لهم: والله
ما لكم عندي أمان ولا اقبل منكم بيعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله
الأنصاري، فذهب جابر إلى أم سلمة زوجة النبي (ص) واستشارها
بالامر وكان مما قاله لها: ان هذه البيعة التي يريدها لمعاوية بيعة ضلال،
وأخاف ان اقتل، فأشارت عليه ان يبايع كما أشارت على ولدها بذلك،
ثم مضى يتتبع المهاجرين والأنصار فمن لم يجده منهم هدم داره، ومضى
إلى مكة ففعل فيها مثل ذلك، وفي طريقه إلى اليمن قتل جماعة من الأبرياء،
ولما انتهى إليها فر منها عبيد الله بن العباس وكان واليا لعلي فيها فقتل
طفلين لعبيد الله وأمهما تنظر إليهما وكان من نتيجة ذلك أن فقدت عقلها
ورثتهما بالأبيات التالية فرق لها القريب والبعيد.
ها من أحس بابني اللذين هما كالدرتين تشظى عنهما الصدف
ها من أحس بابني اللذين هما سمعي وعقلي فعقلي اليوم مختطف
حدثت بسرا وما صدقت ما زعموا من قتلهم ومن الاثم الذي اقترفوا
أنحى على ودجي ابني مرهفة مشحوذة وكذاك الاثم يقترف.
وأغرى معاوية بسرا في يوم من صفين بمبارزة علي (ع)، وكان
من ابطاله المبرزين، فلم يجد بسر بن أرطاة سبيلا للتهرب، ولما دنا من
96

علي (ع) وحرك يده بالسيف، رمى بنفسه عن ظهر فرسه إلى ارض
وكشف عورته كما صنع زميله ابن العاص من قبل، فصرت علي (ع) وجهه
عنه ضاحكا، وبهذه المناسبة يقول بعض الشعراء لأهل الشام:
أفي كل يوم فارس تندبونه له عورة وسط العجاجة بادية
يكف لها عنه علي سنانه ويضحك منها في الخلاء معاوية
فقولا لعمرو ثم بسر ألا انظرا سبيلكما لا تلقيا الليث ثانية (1)
ومنهم عمرو بن العاص المستشار الأول لمعاوية الذي ساهم في جميع
الفتن والحروب الدامية التي اثارها ابن هند ضد علي (ع) لقاء مصر
وخراجها ما دام حيا، وتم له الاستيلاء على مصر بعد فشل مؤتمر التحكيم
الذي أنتجته معركة صفين، والتي لعب فيها ابن العاص دورا بارزا إلى
جانب معاوية بن أبي سفيان، وكان يردد في مرضه الذي مات فيه لقد
أصلحت من دنياي قليلا وأفسدت من ديني كثيرا، فلو كان الذي أصلحت
هو الذي أفسدت، والذي أفسدت هو الذي أصلحت لفزت، ولو كان
ينفعني أن أطلب طلبت، ولو ينجيني أن أهرب هربت، فصرت كالمختنق
بين السماء والأرض لا أرقى بيدين، وأهبط برجلين (2).
قال ذلك ابن النابغة وهو على فراش الموت حيث لا يجديه الندم،
ولا تنفعه التوبة، وكيف يجديه ذلك وقد أراق الدماء وأشعل الفتن،
وافتعل لمعاوية المكائد والحيل، وأغرى آلاف الناس بتلك الفتن العمياء
التي تزعمها هو وسيده ابن أبي سفيان، وعانى المسلمون من آثارها
المصائب والويلات زمنا طويلا، وقبل ذلك شاغب على عثمان وأغرى الناس

(1) انظر الاستيعاب هامش الإصابة ج 1 ص 162 و 163 وما بعدها
وقد عده من الصحابة ومن الرواة عن الرسول (ص) جماعة منهم
أبو الحسن الدارقطني وغيره.
(2) الاستيعاب ص 505 و 506 المطبوع مع الإصابة ج 3.
97

بقتله، كما جاء في الاستيعاب وشرح النهج لابن أبي الحديد، والتحق
بمعاوية بعد أن وجد أن عليا لا يشتري من بضاعته شيئا ولا يعتمد على
أمثاله من المنافقين، ولا يتخذ المضلين عضدا.
تسعون عاما قضاها ابن النابغة بين الكفر والاسلام المزيف لم يخالط
الايمان قلبه، ولم ينحرف عن الباطل طرفة عين ابدا ومع ذلك فهو من
عدول الصحابة ومروياته الكثيرة تحتل الصدارة في صحيح شيخ المحدثين
محمد بن إسماعيل البخاري، وروى عنه البخاري في جملة ما رواه عنه
انه سمع النبي (ص) يقول: آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء.
ومنهم معاوية بن أبي سفيان المشهور باخلاصه وخدماته للاسلام
والمسلمين والقائل لأهل العراق حينما دخل الكوفة ظافرا بعد أن تركها
الخليفة الشرعي الحسن بن علي " ع ". والله ما قاتلتكم لتصوموا ولا
لتصلوا ولا لتحجوا وتزكوا، واني لاعلم انكم تفعلون ذلك ولكني
قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون، والذي
قال فيه الحسن البصري: لو لم يكن لمعاوية الا واحدة من ثلاثة لكفى.
تأمره على الأمة بغير مشورة منها ولا اختيار والحاقه زيادا بأبيه، وقد قال
رسول الله: الولد للفراش وللعاهر الحجر واكراه الناس على مبايعة ولده
يزيد المستهتر في دين الله، وقتله لحجر بن عدي وأصحابه البررة ظلما
وعدوانا، فالويل له من حجر وأصحابه. وقال فيه الفقيه الجليل سعيد
ابن المسيب: قاتل الله معاوية كان أول من غير قضاء رسول الله (ص) وقد
قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر (1).
هذا بالإضافة إلى تاريخه الحافل بالمنكرات والتنكر للقيم، ولجميع
المبادئ التي جاء بها القرآن والرسول (ص) وأي جريمة بقيت في نفس

(1) انظر شرح النهج وحلية الأولياء لأبي نعيم ج 3 ص 167.
98

معاوية، ولم يشبع منها نهمه وشرهه، لقد امضى شطرا من حياته مع أبيه
يجاهدان ويعملان بكل ما لديهما من قوة لاطفاء نور الله، والقضاء على
الدعوة الاسلامية التي جاء بها محمد بن عبد الله، ولم يدخلا في الاسلام
الا بعد إذ وجدا ان لا مفر لهما من سيوف المسلمين، فنطقا بالشهادتين
مرغمين، وتسترا بالاسلام، وهما يكيدان له ويعملان في جو من السرية
والتكتم مع المنافقين لتقويض دعائمه بمختلف الوسائل وكان الله لهما
ولغيرهما بالمرصاد يخبر رسوله بما يسرون وما يعلنون وظن أبو سفيان
ان الفرصة قد سنحت له بوفاة الرسول (ص)، وكان غائبا عن المدينة
حين ذاك كما جاء في رواية أبي هريرة، ولما رجع وبلغه ان أبا بكر قام
بالامر، قال أبو الفضيل يعني بذلك أبا بكر: اني لأرى فتقا لا يرأبه
الا الدم (1) فجاء ليغري عليا بالحشود التي تؤيده ضد الحكم القائم على
حد زعمه متخذا من ذلك وسيلة للقضاء على رسالة محمد (ص) التي
حاربها هو وزوجته وأولاده من قبل، ولكن عليا الذي لا يفكر الا في
مصلحة الاسلام، والذي وهب حياته وكل ما لديه في هذا السبيل، يدرك
جيدا ما تنطوي عليه تلك العروض المغرية من رجل كأبي سفيان ويرى من
واجبه ان يكون الدعامة الأصيلة للاسلام، أيا كان الحاكم فرد عليه معلنا
له رأيه فيه وفي أمثاله الذين يبيتون الغدر والمكر والنفاق، فقال: انك
يا أبا سفيان ما زلت تكيد للاسلام وتعاديه، وانك تنوي من وراء ذلك
الشر والغدر، فانطوى على نفسه هو وولده ومن على شاكلتهما من
المنافقين يحز الألم تموسهم، ويكل الحقد قلوبهم، لا سيما والاسلام قد
تغلب على حركة المرتدين واكتسح الامبراطوريتين الفارسية والرومانية
في بضع سنوات ممدودات، ففقد أبو سفيان وأسرته الامل في مقاومة
الاسلام عن طريق الثورات الداخلية التي وضعها في حسابه، واتجه إلى
العمل بأسلوب جديد، فتملق إلى الخليفة الحاكم ليحتفظ لولده بمركز

(1) نفس المصدر السابق.
99

من مراكز الدولة لعلم ينفذون منه ولو في المستقبل إلى تحقيق شئ من
أهدافهم المعادية للاسلام، وظل هو وولده يتملقون إلى الخليفة الثاني
حتى ولاهما الشام وجهاتها على التعاقب، ولكنه استطاع بحكمته وحنكته
ان يحدد تصرفاتهما وان يفرض عليهما هيبته طيلة حياته، ومع ذلك فقد
بعثت هذه الولاية التي استمرت عشرين عاما الامل في نفس معاوية
والأسرة الأموية في أن يصبح الحاكم المطلق في مستقبل حياته الذي يصدر
الأوامر من على منبر الشام لجميع الأقطار وبالفعل بدأ هذا الامل يشع
ويتسع في نفس معاوية ويسري في دمه وعروقه وبخاصة عندما انتهت
الخلافة الاسلامية إلى قريبه عثمان فغمرت معاوية وأباه نشوة الفرح،
واستعاد الشيخ العجوز نشاطه، فخرج من وكره يدب على عصاه متجها
إلى قبر حمزة بن عبد المطلب يرفسه برجله، وهو يقول: قم يا أبا عمارة
ان الذي تقاتلنا عليه أصبح بيد صبياننا، ومن ثم انطلق به قائده نحو
المسجد ليقول كلمته التي تنبع من أعماق قلبه، والغي كتمها طيلة هذه المدة
خوفا من سطوة الاسلام، تلقفوها يا بني أمية تلقف الكرة فوالذي يحلف
به أبو سفيان ما من جنة ولا نار ولا حساب ولا عقاب - قال ذلك: وهو
يظن أن المسجد خال من كل انسان، الا من أسرته، ولولا أن عليا (ع)
قد فأجابه بقوله:
أعمى الله بصيرتك كما أعمى بصرك، لأظهر أكثر من ذلك مما تنطوي
عليه نفسه الحاقدة المشركة ولكن صوت الحق الذي أخرس أسلافه في
بدر والأحزاب زعزع كيانه، فلاذ بالفرار إلى وكره معتصما فيه حتى مضى
إلى ربه، وفي أعماق نفسه لا جنة ولا نار ولا حساب ولا عقاب، وبقي
الولد الطموح أميرا على الشام يجد في تحقيق آماله وأمانيه وتوالت
الاحداث لمصلحته واستفاد من نقمة المسلمين على قريبه عثمان أكثر من
اي انسان، فتقاعد عن نصرته، مع أنه يملك من العدة والعدد ما يسهل
عليه الخروج من تلك الأزمة (لو أنه) أسرع إلى نجدته منذ ان استغاث
100

به واستنصره ولكنه تجاهله وكان الامر لا يعنيه وجاء بعد ذلك يطالب
بدمه متخذا من قميص لوثه بدماء حيوان وسيلة لتضليل أهل الشام
واستجداء عطفهم ونجدتهم للمطالبة بدمه وأغراهم بولايته الشرعية التي
تخوله وحده ان يثأر للخليفة المقتول ظلما وعدوانا على حد زعمه وزعم
الذين قادوا الثورة للبصرة في حين انهم كانوا يزودون الثائرين على عثمان
بكل ما يضمن لهم النجاح والقضاء عليه.
وتم له الاستيلاء على الحكم بالخداع والمكر وإراقة الدماء وتبذير
الأموال لشراء الخونة من أهل العراق وغيرهم، وظل نحوا من عشرين
عاما يحكم باسم الدين ويداه تقطران من دماء الأبرياء والصلحاء ومضى
إلى ربه وهو يحث الجماهير ويشتري الضمائر بالأموال لينتقموا له من علي
والطيبين من ذرية الرسول (ص) بدلا من الاستغفار والندم والتوبة وان
كانت لا تجديه شيئا.
ومن تتبع تاريخه وأحصى تصرفاته لا يرتاب في أنه كان يعمل بكل
ما لديه من قوة للقضاء على الاسلام والرجوع إلى الجاهلية الأولى بكل
مظاهرها وأشكالها.
وهو مع كل ذلك من عدول المسلمين ومجتهديهم المعذورين فيما
صدر منهم، والمأجورين على جميع جرائمهم حتى في اغراء جعدة بنت
الأشعث على قتل الحسن، ريحانة الرسول (ص)، وقتله الصحابي الجليل
حجر بن عدي وأصحابه البررة والحاقه زيادا بأبيه وغير ذلك من جرائمه
التي لا تحصى.
وقد مضى الأمويون طيلة حكمهم في محاربة الاسلام باحياء مظاهر
الجاهلية بجميع اشكالها وحاول عبد الملك وولده هشام بن عبد الملك
101

التوهين من مقام النبي محمد (ص) عن طريق دعاتهما المنتشرين في أنحاء
البلاد، ويؤكد ذلك ما جاء في تاريخ التمدن الاسلامي لجرجي زيدان.
قال: كان الحجاج بن يوسف عامل عبد الملك يفضل الخلافة على
النبوة، ويقول: ما قامت السماوات والأرض الا بالخلافة، وان الخليفة
عند الله أفضل من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين، وإذا حاجه أحد
في ذلك قال: أخليفة أحدكم في إهله أكرم عليه أم رسوله إليهم، وكان
عبد الملك إذا سمع ذلك أعجب به، واقتدى بالحاج من جاء بعده من
العمال الأشداء كخالد القسري عامل هاشم بن عبد الملك فقد كان يقول
بمقاله: وخطب الناس في مكة، فقال: أيها الناس أيهما أعظم أخليفة
الرجل على أهله أم رسوله إليهم؟ يعرض به رسول اله (ص)، وقد بلغ
الحال ببعض المتملقين إليهم ان أحدهم وقف مرة ليخطب الناس فأخطأ في
آية من القرآن، فوقف بعض المتملقين، وقال: لا يهولنك أيها الأمير ما
رأيت عاقلا قط حفظ القرآن إنما يحفظه الحمقى من الرجال (1).
ومهما كان الحال فمعاوية بصفة صحابيا مأجور على جميع أعماله،
قال ابن كثير في كتابه " الباعث الحثيث ": واما ما شجر منهم بعد
الرسول (ص) فمنه ما وقع من غير قصد كيوم الجمل، ومنه ما كان عن
اجتهاد كيوم صفين، والاجتهاد يخطئ ويصيب، ولكن صاحبه معذور
وان أخطأ ومأجور أيضا، واما المصيب فله اجران اثنان وأضاف إلى
ذلك. ان ما ذهبت إليه المعتزلة من أن الصحابة كلهم عدول الامن قاتل
عليه قول مردود ومرذول (2). ومنهم سمرة بن جندب الصحابي صاحب النخلة
ساومه النبي

(1) انظر ص 2 ج 2 تاريخ التمدن الاسلامي عن العقد الفريد
والمسعودي وابن الأثير والأغاني.
(2) انظر ص 182 من الباعث الحثيث.
102

عليها بالجنة، فأبى ان يقبل شيئا من تلك العروض المغرية،، أصر على
الدخول على الأنصاري وايذائه، والنبي (ص) يستعطفه حرصا على
حقه وصونا لكرامة الأنصاري، ولما رأى النبي تعنته واصراره على ايذاء
الأنصاري، قال له: اذهب فاقلعها وارم بها وجهه، لا ضرر ولا ضرار في
الاسلام.
وكان سمرة من أنصار المنحرفين عن علي (ع)، وخاض الفتن معهم،
واشترك في جميع المخازي، المنكرات التي أظهرها معاوية، وجاء عن
أبي هريرة أنه قال لرجل من أهل البصرة: ما فعل سمرة بن جندب، قال إنه
حي يرزق قال أبو هريرة: ما أحد أحب إلي طول حياة منه، لان رسول
الله (ص) قان لي وله ولحذيفة اليمان: آخركم موتا في النار.
وكان يتلذذ بقتل الأبرياء، وجاء عنه انه قتل في البصرة ثمانية آلاف
ممن لا يحل قتلهم في دين الله، ولما ضج أهلها من قسوته واستهتاره
بالدماء قال لهم: وأي بأس على المقتول، فمن كان من أهل الجنة عجلناه
إليها، ومن كان من أهل النار مضى إلى مقره، وقتل من بنى سوار العدوي
سبعة وأربعين رجلا من حفاظ القرآن في يوم واحد، وحرض التابعين
على الخروج لحرب الحسين بن علي (ع) وقتاله، وأعطاه معاوية خمسمئة
ألف درهم مقابل ان ينسب إلى الرسول (ص) ان الآية " ومن الناس من
يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله "، تعني ابن ملجم لأنه قتل عليا (ع)، وان
الآية " ومن الناس من يجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في
قلبه: وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله
لا يحب الفساد " نزلت في علي بن أبي طالب (ع) (1) إلى غير ذلك من
المنكرات التي ارتكبها ويكفيه ذما قول النبي (ص): انك رجل مضار
ووقوفه إلى جانب معاوية وتحريضه على قتل الحسين (ع)، ومع ذلك

(1) انظر لشرح النهج ج 1 ص 361 و 363.
103

فهو من عدول المسلمين، ومن المجتهدين المأجورين على جميع أعمالهم.
ومنهم المئات ممن كانوا يكيدون للاسلام، ويتعاطون جميع المعاصي
والمنكرات على اختلاف أنواعها، ومن أراد ان يتتبع اخبارهم ويحصي
عليهم تصرفاتهم لا يكفيه مجلد خاص في هذا الموضوع.
ونحن لا نريد من وراء ذلك انتقاص الصحابة، وانكار فضلهم،
فان للصحبة شرفها وللعمل الصالح اجره ر وللجهاد فضله، وإنما الذي
أردناه ان الصحبة ليست من أسباب العصمة عن الذنوب، وان الاسلام
قد نظر إلى الانسان من خلال أعماله وتصرفاته، لا من خلال أمجاده
وألقابه وأوصافه ولم يجعل لقرابة الدم والعرق ميزة فضلا عن الألقاب
والصفات، نريد ان نقول لمن يشترطون عدالة الراوي، وتزكيته بشاهدين
عدلين، ان جلال السنة ومكانتها من التشريع، واثرها في حفظ الثروة
الاسلامية، كل ذلك يفرض علينا ان نتأكد من صحة الحديث أيا كان
الراوي له، ولا يكفينا ان نتثبت من أحوال الرواة، حتى إذا انتهينا إلى
الصحابي الراوي للحديث، نقف امامه خاشعين وأجمعين كأنه قرآن منزل
من غير أن تتأكد صحته ومن غير أن ننظر إلى متن الرواية نظرة فاحصة
واعية ونعرضها على العقل والقرآن وأصول الاسلام..
ان هذا الغلو في تقديس مرويات الصحابة، قد ادخل على السنة
النبوية مجموعة من الخرافات والأحاديث المكذوبة، لا يزال المسلمون
ينظرون إليها نظرة تقديس واحترام لان رواتها من الصحابة، وهي في
واقعها وصمة على السنة، سلاح بيد أعداء الاسلام للهدم والتخريب،
والتشنيع على المسلمين ومعتقداتهم ومن الغريب المؤسف ان يغالي السنة
في الصحبة إلى حد القول: بان يوما واحدا حضره معاوية بن هند مع
رسول الله، خير من عمر بن عبد العزيز وأهل بيته، مع العلم بان عمر بن
عبد العزيز كان من خيرة الحكام في سيرته وسياسته وعدله وزهده.
104

لقد قال الشيعة بعصمة الأئمة الاثني عشر فأقاموا الدنيا وأقعدوها
وقالوا هم بعصمة الألوف من البشر من حيث لا يشعرون، وإذا أنكر
عليهم الشيعة عدالة مروان وأبيه الذي كان يحكي النبي في مشيته ساخرا
ويدلع له لسانه ويغمز عليه عينه. وعدالة معاوية وأمثاله، وصفوهم
بالرفض والغلو وغيرها من الأوصاف.
وليست العصمة في حساب الشيعة الا ترك المعاصي على اختلاف
أصنافها وفعل الواجبات، ليس ذلك بنظر العقل من المحالات، وتاريخ
الأئمة (ع) يؤكد ما يدعيه الشيعة فقد بذل أخصامهم السياسيون
والمذهبيون أقصى ما لديم من تجهد في سبيل انتقاصهم فلم يستطيعوا ان
يلصقوا بهم عيبا، أو تساهلا في واجب وانحرافا عن الحق.
لقد أنكر السنة عصمة علي (ع)، وقالوا بعدالة معاوية ومروان بن
الحكم وعمرو بن العاص وبسر بن أرطاة وغيرهم من العشرات الذين
وصفهم القرآن بالنفاق معلنا بذلك في كثير من آياته وسوره، ووصفهم
الرسول بالارتداد عن الدين والرجوع إلى جاهليتهم الأولى، وإذا جازت
العدالة التي تشد الانسان إلى الله، وتحول بينه وبين انتهاك حرماته، إذا
جازت على معاوية وأبيه، ومروان وأمثاله، فكيف يستسيغ أصحاب هذه
الفرية ان يهاجموا من يذهب إلى عصمة علي (ع) القائل: والله لو
أعطيت الأقاليم السبعة بها تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها
جلب شعيرة ما فعلت، والقائل إذ أمرتكم لا تساوي نعلا بالية إذا لم تكن
وسيلة لاحقاق الحق وازهاق الباطل، والى عصمة أبنائه الأئمة الهداة
الذين نهجوا نهجه، واتبعوا سيرة جدهم الأعظم، وحاربوا لظلم
والظالمين، والطغاة والمتجبرين. واستهانوا في حياتهم في سبيل الله وخير
الانسانية.
وهل العصمة الا الرجوع إلى الله سبحانه في جميع الأمور صغيرها
105

وكبيرها وترك ما نهى الله عنه بنحو تكون هذه المرتبة من الايمان وكأنها
طبيعة له تلازمه ملازمة الضوء للشمس والظل لذي الظل.
وجاء عن الإمام زين العابدين (ع) أنه قال: لا يكون الامام منا
الا معصوما، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فتعرف، قيل له فما معنى
المعصوم قال: المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن لا يفترقان إلى
يوم القيامة، فالامام يهدي إلى القرآن والقرآن يهدي إلى الامام (1).
وإذا كان مرد العصمة التي يدعيها الامامية لعلي والأئمة من ذرية
الرسول (ص) إلى هذا المعنى، فهل هي بنظر العقل والعادة من المحالات
حتى تتعرض لتلك الهجمات العنيفة من جانب أهل السنة، مع العلم بأنهم
أثبتوها مصغرة لآلاف المسلمين بما فيهم الذين ساروا باتجاه معاكس
لمبادئ الاسلام والقرآن طيلة حياتهم، ولولا أن الاسلام قد تساهل في
اطلاق لفقد المسلم واعطاءه لكل من نطق بالشهادتين ولو بلسانه، لكان
من الواجب اخراجهم من صفوف المسلمين حتى في التسمية.
وأعود لأكرر ان الشيعة لا يستخفون بالصحابة جميعهم كما يدعي
المهوشون والمضللون، ولا يخالفون قول ربهم وسنة نبيهم بالنسبة إليهم
فيتبعون الصالحين الصادقين في ايمانهم، ويستخفون بمن عناهم الله
سبحانه بقوله: ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم،
سنعذبهم مرتين، ثم يردون إلى عذاب عظيم، وبمن عناهم الرسول بقوله:
" ارتدوا على أدبارهم القهقرى، ولا يخلص منهم الا مثل همل
النعم " ولا يتخطون رأي أئمتهم في الصحابة وغيرهم من الناس على
اختلاف أصنافهم وأديانهم الذين نظروا إلى الناس من خلال أعمالهم
وآثارهم لا من خلال ألقابهم وأمجادهم.

(1) انظر مجمع البحرين مادة عصم.
106

وقد جاء في دعاء الإمام زين العابدين الذي كان بدعوته للأنبياء
واتباعهم، ما يؤكد ان الأئمة لم يترددوا في تعظيم الطيبين من الصحابة
وتقديسهم.
قال (ع) اللهم وصل على أصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا
الصحبة، وأبلوا البلاء الحسن في نصره، وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا
إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته، وفارقوا الأزواج
والأولاد في اظهار كلمته، وقاتلوا الأبناء والآباء في تثبيت دعوته وانتصروا
به، وحتى كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته،
والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ
سكنوا في ظل قرابته، فلا تنسى لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم
من رضوانك، واشكرهم على هجرتهم فيك ديار قومهم وخروجهم من
سعة المعاش إلى ضيقه يا ارحم الراحمين.
هؤلاء الذين عناهم الامام بتلك الدعوات المباركات من بين من
أسموهم بالصحابة ينظر الشيعة إليهم بكل تقديس وتقدير ولا يرتاب
أحد في عدالتهم واستقامتهم وولائهم للرسول ودعوته المباركة طيلة حياتهم
وجهادهم المخلص لاحيائها وارساء قواعدها إلى أن فارقوا الدنيا بقلوب
عامرة بالايمان ونفوس مطمئنة بما وعد الله به العاملين والمجاهدين.
107

الفصل الرابع
البخاري وصحيحه بنظر المحدثين
109

هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري صاحب الصحيح
المعروف (بصحيح البخاري).
وجاء في ترجمته انه ولد في شوال سنة 194 ه‍، وتوفي في قرية
تسمى (خرتنك) من بلاد سمرقند سنة 256 ص في اليوم الأول من شوال،
وهو من أصل فارسي يعتنق المجوسية وأول من أسلم منهم جد أبيه
المغيرة بواسطة اليمان الجعفي والي بخارى، وكان ولاؤه وولاء أولاده
إليه، ولذلك فقد انتسب إليه فقال في نسبه: محمد بن إسماعيل
أبو عبد الله الجعفي، فتكون نسبته إليه بالولاء لا بالنسب، وكان أبوه
محدثا مات وهو صغير السن، وترك له مالا جليلا فنشأ محمد بن
إسماعيل في حجر أمه، ولما بلغ العاشرة من عمره بدأ في حفظ الحديث
فحفظ كتب ابن المبارك ووكيع وهما من مشاهير المحدثين في القرن الثاني،
قبل ان يتجاوز السادسة عشر من العمر ونشط في طلب الحديث وحفظه
إلى أن نبغ في هذه الناحية وأصبح بنظر محدثي السنة من أوثق المحدثين
وأعرفهم فيه، وقضى شطرا من حياته يطلب الحديث حيث كان من بلد
إلى بلد حتى جمع ستمئة الف حديث انتخب منها كتابه المعروف بصحيح
البخاري كما جاء في أكثر كتب التراجم التي تعرضت لتاريخه.
111

ونقل عنه بعض المحدثين أنه قال: ما وضعت في كتابي الصحيح
حديثا الا اغتسلت وصليت ركعتين، وبقي ستة عشرة سنة يتتبع الأحاديث
ويستقصيها حتى أتمه، وبلغ من ثقة المحدثين به ان أبا الحسن المقدسي
كان يقول: كل من روى عنه البخاري في صحيحه فقد جاز القنطرة، اي
لا بد أن تكون شروط الراوي بكاملها متوفرة فيه.
وقال الخطيب البغدادي في ترجمة الأمين أبي الهيثم، خالد بن أحمد
المتوفى سنة 270 ه‍ انه تولى امارة بخاري وسكنها وترك فيها آثارا
محمودة واخذ الحديث عن ابن راهويه وغيره، وأنفق قي طلب العلم أكثر
من الف ألف درهم، ولما استوطن بخارى وفد عليه حفاظ الحديث، فبسط
يده بالاحسان إليهم، وطلب من محمد بن إسماعيل البخاري ان يلازم
مجلسه، فامتنع عن ذلك وأظهر الاستخفاف به، فأخرجه من بخارى إلى
سمرقند فلم يزل بها حتى وافته المنية.
وقال أبن العماد الحنبلي: ان البخاري قد نقل عن الف من العلماء،
ولم ينقل الا عمن كان يقول: الايمان قول وعمل.
وجاء عنه انه قان: الذي دفعني إلى تأليف الصحيح، هو اني رأيت
النبي (ص) وكأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب عنه، فسألت
بعض الذين يتعاطون تفسير الأحلام عن تأويل ذلك، فقال: انك تذب
عنه الكذب، فاتجهت إلى اختيار الصحاح من المرويات عنه (ص).
وجاء عن الفريري. انه سمع محمد بن أبي حاتم البخاري الوراق
يقول: رأيت محمد بن إسماعيل البخاري في المنام يمشي خلف النبي (ص)
فكلما رفع النبي (ص) قدمه وضع البخاري قدمه في ذلك الموضع.
وأثنى عليه من ناحية احاطته بعلم الحديث واستخراج الصحيح منه
جماعة من المحدثين ثناء بالغا، فقد روى حمدون الأعمشي. انه رأى محمد
112

ابن إسماعيل البخاري في جنازة أبي عثمان سعيد بن مروان، ومحمد بن
يحيى يسأله عن الأسامي والكنى والعلل، فيمر عليها محمد بن إسماعيل
كالسهم كأنه يقرأ قل هو الله أحد.
وقال فيه أحمد بن حنبل ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل
البخاري.
وجاء عن محمد بن يوسف الفريري أنه قال: لقد سمع كتاب
الصحيح من محمد بن إسماعيل تسعون الف رجل، وما بقي أحد يروي
عنه غيري.
وقال محمود بن عمر العقيلي: لما ألف البخاري كتابه الصحيح
عرضه على أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المدني وغيرهم
فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة الا في أربعة أحاديث قال العقيلي والقول
فيها قول البخاري.
وجاء في هدى الساري للعسقلاني. ان الإسماعيلي في المدخل قال:
بعد أن اثنى على صحيح البخاري وبالبر في الثناء عليه، ونحا نحوه في
التصنيف جماعة منهم الحسن بن علي الحلواني، ومنهم أبو داود
السجستاني وكان معاصرا له، ومنهم مسلم بن الحجاج، فرام مرامه
واخذ عنه وعن كتبه، الا انه لم يضايق نفسه مضايقة أبي عبد الله البخاري،
وروى عن جماعة لم يعترض لهم البخاري.
وقال الحاكم أبو أحمد النيسابوري: رحم الله محمد بن إسماعيل
فإنه ألف أصول الاحكام من الأحاديث. وبين للناس، وكل من جاء بعده
فقد اخذ من كتابه كمسلم بن الحجاج وغيره.
وقال الدارقطني: لولا البخاري لما ذهب مسلم وما جاء، وأضاف
113

إلى ذلك، وأي شئ صنع مسلم إنما اخذ كتاب البخاري فعمل عليه وزاد
فيه بعض الزيادات.
ونص على ذلك القرطبي في كتابه المفهم في شرح صحيح مسلم،
وبعد ان استعرض ابن حجر في مقدمة فتح الباري آراء المحدثين والعلماء
في صحيح البخاري، وسرد الجهات المؤدية إلى تفضيله على صحيح مسلم
وتجميع كتب الحديث، اخذ في بيان الخصائص والكرامات التي امتاز
بها صحيح البخاري، ونقل عن أبي أحمد بن أبي حمزة أنه قال: قال لي
بعض السادات المقر لهم بالفضل: ان صحيح البخاري ما قرئ في شدة
الا فرجت، ولا ركب به في مركب فغرق.
وجاء في المقدمة. ان البخاري قد فقد بصره في حداثة سنه وذهبت
عيناه، فرأت والدته إبراهيم الخليل في المنام فقال لها: يا هذه قد رد الله
على ابنك بصره، فأصبح وقد رد الله عليه بصره، وكان بعد ذلك يكتب
في الليالي المقمرة وأورد من فضائله وكراماته حيا وميتا ما لم يثبت مثله
للأنبياء والمقربين (1). ومن أمثلة ذلك، أن النبي (ص) قد أمر الناس
بتدريس كتاب البخاري. وروي عن أبي زيد المروزي ان النبي (ص)
جاءه وهو نائم بين الركن والمقام، فقال له: إلى متى تدرس كتاب الشافعي
ولا تدرس كتابي قلت: يا رسول الله وما كتابك؟ قال جامع محمد بن
إسماعيل. وجاء في المقدمة أيضا ان الروائح العطرة الطيبة كانت تفوح
من قبره بعد أن وضع فيه واستمرت زمنا طويلا بعد دفنه، مما أدى إلى
ازدحام الناس حول قبره ليأخذوا من ترابه العطر الفواح، ولم يمتنعوا
عنه الا بعد أن أحيط بحاجز يحول بين الناس وبينه، وعد من كراماته انه
كان يحفظ ستمئة الف حديث، وانه كان يحفظ كل ما يسمع وما يتلى
عليه لأول مرة، ويمر بالكتاب مرة واحدة من أوله لآخره فيحفظه بالغا

(1) انظر مقدمة فتح الباري الجزء الأول والثاني.
114

ما بلغ، وانه وفد على البصرة، وهو غلام ليسمع الحديث، فذهب مع
جماعة إلى مشايخ البصرة ومحدثيها، وكلهم يكتب ما يتلى عليه، الا هو
فإنه كان يستمع ولا يكتب، وفي خلال خمسة عشر يوما دون أصحابه
خمسة عشر الف حديث، ولما لاموه على عدم الكتابة، أعاد عليهم كل ما
سمعه وسمعوه، مما اضطرهم ان يعرضوا ما دونوه على محفوظاته (1).
ومن تتبع ما قيل فيه. وما نسب إليه، يجد ان اتباعه قد غالوا في
تقديسه وتعظيمه حتى خرجوا بذلك عن الحد المألوف ووضعوه في
مستوى الأساطير، وكلمة المقدسي وحدها، " كل من روى عنه البخاري
فقد جاز القنطرة " التي تعبر عن رأي الجمهور فيه، هذه الكلمة وحدها
تكفي للتعبير عن غلوهم المتطرف فيه، ولو نزهوه عن هذه المبالغات
والمقالات، وتركوه لآثاره ومؤلفاته، التي توفيه حقه كاملا غير منقوص
لو فعلوا ذلك لأبعدوا عنه وعن صحيحه الطعون المسددة التي وجهها
ويوجهها لهما كل باحث منصف ينشد الحقيقة مجردا عن جميع العوامل
والمؤثرات ى ولكنهم لما أبوا الا ان يجعلوه ثاني القرآن، أبى الباحثون
المنصفون الا ان ينظروا إلى البخاري. كمحدث اجتهد في جميع الحديث
وتدوينه يخطئ ويصيب، والى كتابه كغيره من مجاميع الحديث التي
جمعت الغث والسمين، والصحيح والفاسد.

(1) انظر ص 251 وما بعدها من الجزء الثاني مقدمة فتح
الباري وانظر شذرات الذهب ج 2 ص 134 و 135.
115

الصحيح بنظر العلماء والمحدثين
الظاهر أن المحدثين من السنة متفقون على أن محمد بن إسماعيل
البخاري أول من تطوع لتمييز الصحيح عن غيره، بعد أن كانت الطبقة
الأولى التي دونت الحديث لا يعنيها من امره الا جمع حديث الرسول
وأقوال الصحابة وأقضيتهم من غير ترتيب وتبويب، وجائت الطبقة الثانية
فوزعته على الأبواب الفقهية ووضعت كل حديث في المحل المناسب له،
فكان البخاري مجددا في الطريقة التي سلكها، ومهد لمن الف من بعده
كمسلم بن الحجاج، وابن ماجة المتوفى 273 ه‍، وأبي داود المتوفى
275 ه‍، والترمذي المتوفى 279 ه‍، والنسائي المتوفى 303 ه‍.
وقال ابن كثير في الباعث الحثيث: أول من اعتنى بجمع الحديث
الصحيح محمد بن إسماعيل، وتلاه تلميذه وصاحبه مسلم بن الحجاج
النيسابوري فهما أصح كتب الحديث، والبخاري أرجح منه، لأنه
اشترط في كتابه هذا ان يكون قد عاصر شيخه وثبت عنده سماعه منه،
واكتفى مسلم بالمعاصرة ولو لم يسمع منه (1).

(1) انظر الباعث الحثيث ص 25 وجاء في ص 30 من
المجلد الأول من هدى الساري عن أبي المعمر المبارك بن أحمد ان شرط الصحيح
عند البخاري ان يخرج الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي
المشهور من غير اختلاف بين الثقات الاثبات ويكون اسناده متصلا
غير مقطوع وإن كان للصحابي راويان فصاعدا فحسن، وان لم
يكن الا راو واحد وصح الطريق إليه كفى، وأضاف إلى ذلك
أبو بكر الحازمي ان يكون راويه مسلما صادقا غير مدلس ولا
مختلط متصفا بصفات العدالة ضابطا سليم الذهن والاعتقاد.
116

وجاء عنه انه استخرج كتابه الصحيح من ستمئة الف حديث، وانه
كان يحفظ مائة الف حديث من الصحاح، ومائتي الف من غيرها.
وقال جماعة: ان أصح الأحاديث ما في الصحيحين، ثم ما انفرد به
البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ويأتي بعد ذلك المرويات على شرطهما في
صحة الحديث، وهي التي تكون جامعة للشروط المعتبرة عندهما ويأتي
في المرتبة الآخرة ما كان من المرويات على شرط أحدهما.
ولما ألف الحافظ أبو الفرج الجوزي المتوفى سنة 597 ه‍ كتابه
الموضوعات لم ينتقد البخاري الا في حديث واحد، فجاء العلماء من بعده
فأقروا أكثر ما أورده في كتابه الا ما يتعلق بانتقاده البخاري ومسلما (1).
وقال السيد رشيد رضا: ان أحاديث الجامع الصحيح للبخاري في
جملتها أصح في صناعة الحديث وتحري الصحيح من كل ما جمع في
الدفاتر من كتب الحديث، ويليه في ذلك صحيح مسلم، وأضاف إلى ذلك
ويوجد في غيرهما من دواوين السنة أحاديث أصح من بعض ما فيها، وما
روي من رفض البخاري لمئات الألوف من الأحاديث التي كانت تروى
يؤيد ذلك، فنفوا ما نفوا ليتقوا الصحاح الثابتة (2).
وجاء في التعليقة على الباعث الحثيث. الحق الذي لا مرية فيه عند
أهل العلم بالحديث من المحققين ومن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة
من الامر، ان أحاديث الصحيحين كلها صحيحة ليس في واحد منها مطعن،
أو ضعف، وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث على
معنى ان ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد

(1) انظر ص 140 من السنة للدكتور السباعي.
(2) الأضواء على السنة ص 252.
117

منهم في كتابه، واما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف فيها أحد، فلا
يهولنك ارجاف المرجفين: وزعم الزاعمين ان في الصحيحين أحاديث غير
صحيحة (1).
ويبدو من تتبع آراء المحدثين والفقهاء في الصحيح للبخاري ان
أكثرهم يرجحه على صحيح مسلم؟ وانهما معا أصح المؤلفات في الحديث
والذين يفضلونه على جميع الصحاح، بين من بلغ بهم الغلو إلى تصحيح
جميع مروياته، وبين من ضعف قسما من أحاديثه تفرد هو ببعضها،
واشترك معه مسلم في اثنين وثلاثين حديثا، كما نص على ذلك في مقدمة
فتح الباري ص 81 وبالإضافة إلى ذلك فقد تناول جماعة من المحدثين
رجال البخاري واتهموا عددا كبيرا منهم بما يوحي بضعفهم وعدم جواز
الاعتماد على مروياتهم، ومع ذلك فلم تتزعزع ثقة الجمهور فيه، وبالغوا
في تقديسه والدفاع عنه حتى خرجوا عن المألوف والمعقول، وقد حدد
المقدسي موقفهم منه بقوله: " كل من روى عنه البخاري فقد جاز
القنطرة " اي يصبح فوق الشبهات والاحتمالات.
والواقع الذي لا يجوز التنكر له هو ان البخاري في اختياره لتلك
المرويات التي دونها في صحيحه، والتي نظر إليها الجمهور وكأنها من
وحي السماء يمكن ان نتلمس له المعذرة بالنسبة لمن لم يكن أمره واضحا
من حيث دينه وسيرته، فلا بد له والحال هذه من البحث عن حال الراوي
والرجوع إلى المصادر التي تبحث عن أحوال الرجال وتأريخهم حتى إذا
تبين له انه مستوف للشروط من حيث العدالة والاستقامة وجب الرجوع
إلى متن الحديث من حيث موافقته للكتاب ومخالفته له واشتماله على
العلل والقرائن وغير ذلك مما يؤكد صحته، أو يمنع من الاعتماد عليه،
وقد اختلفت آراء المحدثين في ذلك أشد الاختلاف، فالمعروف عن مالك

(1) الباحث الحثيث ص 35.
118

ابن انس انه كان يعتمد على أحاديث أهل المدينة أكثر من غيرها، كما
اعتمد ابن جريح على أحاديث المكيين، والكثير من المحدثين لم يعتمدوا
على مرويات العراقيين بحجة انها لا تخلو من التعليل في الغالب، هذا
بالإضافة إلى أن الأنظار تختلف في تحديد العدالة باعتبارها من الشروط
الأساسية في الراوي، فرب شخص يوثق رجلا، ولا يراه غيره ثقة، لأنه
اطلع منه على ما يخل بالعدالة أو على ما لم يطلع عليه غيره لا سيما وقد
وجد البخاري وغيره في عصر تشعبت فيه الآراء والمعتقدات، وتفرق
المسلمون فيه شيعا وأحزابا وتراشقوا بالتكفير والتفسيق، واستحل
بعضهم دماء البعض الآخر وكان من أبرز ما حدث النزاع الذي استحكم
بين المحدثين من جهة والمعتزلة من جهة أخرى. ففي مثل ذلك يمكن ان
نتلمس للبخاري ولغيره العذر في اعتمادهم على هذا النوع من الرواة أجل
قد يعذر البخاري في اعتماده على بعض الرواة ما دام بالامكان ان نجد
له ولو ما يشبه العذر.
أما إذا كانت حالة الراوي واضحة ومخالفاته تأبى عن التأويل الذي
ومهما كان الحال. فقد نص ابن حجر في هدى الساري، على
مروياتهم مهما حاول المتعصبون لهم اعطائهم صفة البراءة وسلامة القصد،
وسنتعرض في الفصول الآتية لبعض الطعون الموجهة لبعضهم كما جاء في
كتب التراجم وأحوال الرواة، بالإضافة إلى من أشرنا إليهم من رواة
أحاديثه.
ومهما كان الحال. فقد نص ابن جر في هدى الساري، على
أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد المستعلي قال: انتسخت كتاب البخاري من
أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفريري، فرأيت فيه أشياء لم
تنم، وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شئ، ومنها أحاديث لم
يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض، قال أبو الوليد: ومما يدل على
119

صحة هذا القول، ان رواية أبي إسحاق المستعلي، ورواية أبي محمد
السرخسي، ورواية أبي الهيثم الكشمهيني، ورواية أبي زيد المروزي
مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك
بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة انه من
موضع ما فأضافه إليه.
ويبين ذلك انك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينهما
أحاديث (1) وقد انتقد المحدثون والحفاظ البخاري بأنه لم يتقيد بالنص
الحرفي للرواية، وأحيانا ينقل الرواية بالمعنى، وان رواياته تشتمل على
المكرر والمعلق والموقوف، والمقطوع (2) وغير ذلك من عيوب الرواية.
ومن الجائز القريب ان يكون البخاري رحمه الله قد وضع في حسابه
ان لا يضع الصيغة النهائية لكتابه الا بعد جمعه أولا ثم تمحيص أسانيده،
ومحاكمة متونه، ولكن الاجل قد وافاه بعد الفراغ من الجولة الأولى،
التي تم له فيها ان يجمع تلك الكمية من الأحاديث بعد أن أنفق شطرا
كبيرا من عمره متجولا في المدن الاسلامية الكبرى التي تحولت مساجدها
ونواديها، وبيوت علمائها إلى معاهد لتدريس الحديث وتدوينه ولغير
ذلك من العلوم والفنون، وفي هذه المرحلة كان يدون الأحاديث أحيانا كما
تنقل إليه وأحيانا يعتمد على ذاكرته التي كانت أشبه بآلة للتسجيل تلتقط
جميع ما يصل إلى فضائها من الأصوات كما يستنتج ذلك من كتب التراجم
التي وضعته في مستوى الأساطير، ولم يمهله الاجل لتمحيص أسانيده

(1) انظر الأضواء ص 348 عن مقدمة فتح الباري.
(2) المراد من المعلق هو الحديث الذي لم يذكر فيه السند من أوله،
كأن يرويه ابتداء عن أبن عمر عن النبي (ص) والموقوت هو الذي
ينتهي سنده إلى الصحابي من غير أن يتعرض للنبي في قول أو فعل
والمقطوع هو الذي ينتهي سنده إلى التابعي ولا يتعداه.
120

ومحاكمة متونه وحذف ما يجب حذفه بعد دراسة متونه وعرض أسانيده
على أصول علم الدراية، فقام تلاميذه من بعده بنقله من مسوداته وتدوينه
على عيوبه وعلاته، كما تؤيد ذلك رواية إبراهيم بن أحمد المستعلي
المتقدمة ورواية أبي محمد السرخسي وغيرهما من المرويات التي تؤكد ان
البخاري رحمه الله قد وافاه اجله قبل تصفيته وتمحيص أسانيده ومتونه.
ولذا يرى المتتبع الحديث الواحد مكررا بنصه الحرفي في مختلف الأبواب
بدون مناسبة واختلاف في السند غالبا.
ومن أمثلة التكرار وإن كان لا يخلو باب من أبوابه من حديث
مكرر حديث أم حرام بنت ملحان زوجة عبادة بن الصامت.
وجاء في الحديث عنها، ان رسول الله (ص) دخل عليها فأطعمته
وجعلت تفلي رأسه، فنام وهي تفليه ثم استيقظ وهو يضحك، قالت ما
يضحكك يا رسول الله قال: أناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل
الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة، قالت ادع الله ان يجعلني
منهم فدعا لها فركبت البحر هي وزوجها في بعض الغزوات التي غزاها
معاوية، ولما رجعت صرعتها دابة قدمت إليها لتركبها وماتت نتيجة لذلك،
وروى هذه الرواية انس بن مالك ودونها البخاري في صحيحه وكررها
بلا زيادة في مختلف الأبواب، وتكررت في المجلد الثاني من الصحيح
أربع مرات في ص 134 و 137 و 149 و 153 هذا بالإضافة إلى بقية
المجلدات التي لا يخلو منها هذا الحديث ومن الأمثلة أيضا الحديث الذي
ينص على صعود النبي إلى السماء واجتماعه بالنبيين، ومن بينهم موسى
(ع) الذي نصح محمدا (ص) في أن يراجع الله سبحانه في التخفيف عن
أمته، وكان قد فرض عليها خمسين صلاة في اليوم على حد زعم الراوي،
فرجع إليه، وطلب منه التخفيف عملا بنصيحة موسى (ع) فجعلها أربعين،
121

ولما أخبر موسى بذلك أشار عليه ان يرجع ويطلب تخفيفها، فاستجاب
لطلبه وجعلها ثلاثين ثم رجع النبي إلى ربه ثالثة ورابعة بايعاز من النبي
موسى إلى أن استقرت على ما هي عليه الآن، وفي المرة الخامسة لم
يستجب محمد (ص) لنصيحة موسى ورضي بالصلاة الخمس كما تنص
على ذلك الرواية التي رواها البخاري في صحيحه. ويجدها القارئ في
جميع مجلداته وبخاصة الثاني منها مكررة في ص 211 و 328 بصيغة
واحدة. الا في عدد المراجعات التي راجع فيها النبي (ص) ربه بإشارة من
موسى بن عمران.
ومن الأمثلة أيضا حديت الثلاثة الدين أطبقت عليهم الصخرة،
وسدت عليهم منافذ الحياة فاستعرضوا حسناتهم، ودعا كل واحد منهم
بعمل من أعماله الصالحات، فارتفعت عنهم الصخرة وخرجوا من تحتها
مشيا على اقدامهم، وهي في ص 25 و 35 و 47 من الثاني أيضا كما
يجدها القارئ في بقية المجلدات إلى غير ذلك من الأمثلة التي يتعسر
احصاؤها، ويستطيع المتتبع ان يؤكد ان المرويات التي لم تتكرر في صحيح
البخاري لا تتجاوز الفين وبضع مئات من مجموع مروياته، هذا بالإضافة
إلى بقية العيوب التي أحصى بعضها جماعة من المؤرخين والمحدثين.
وروى الخطيب البغدادي في تاريخه عنه أنه قال يوما: رب حديث
سمعته في البصرة، وكتبته في الشام، ورب حديث سمعته في الشام،
وكتبته بمصر، فقيل له: يا أبا عبد الله بكماله فسكت.
وجاء في مقدمة فتح الباري عن أحيدر والي بخارى ان البخاري قال
له: رب حديث سمعته في البصرة وكتبته في الشام، ورب حديث سمعته
بها وكتبته بمصر، فقلت له يا أبا عبد الله بتمامه فسكت.
وقال ابن حجر العسقلاني: انه كان يروي الحديث الواحد تاما
122

باسناد واحد بلفظين، وانه كان لا يكتب الأحاديث التي يسمعها، فإذا
رجع إلى بخاري كتبها عن حفظه. وسأل بعضهم ابن عقدة أيهما احفظ
البخاري أو مسلم؟ فقال كان محمد عالما، ولأن مسلم عالما، فأعدت عليه
مرارا فقال: يقع لمحمد الغلط في أهل الشام، وذلك لأنه اخذ كتبهم ونظر
فيها فربما ذكر الرجل بكنيته، ويذكره في موضع آخر باسمه يظنهما اثنين
واما مسلم فقلما يقع له الغلط في العلل: لأنه كتب كتب المسانيد ولم يكتب
المقاطيع ولا المراسيل.
وقد أحصيت أحاديث البخاري، كما جاء في (هدى الساري)
فبلغت 7397 حديثا، بما في ذلك الأحاديث المكررة، فإذا أضيف إليها
ما فيه من المعلقات، والمتابعات تبلغ 9072 (1)، وإذا حذفنا المكررات
منها
واقتصرنا على الأحاديث التي يتصل سندها بمصدرها تبلغ 2762 حديثا.
قال في هدى الساري: فجميع ما في صحيح البخاري من المتون
الموصولة بلا تكرير على التحرير ألفا حديث وستماية وحديثان، ومن
المتون المعلقة المرفوعة التي لم يوصلها في موضع آخر من الجامع المذكور
مائة وتسعة وخمسون حديثا، فجميع ذلك ألفا حديث وسبعمائة واحدى
وستون حديثا.
روى عنهم، وعد منهم مروان بن الحكم، وأبا سفيان، ومعاوية، وعمرو
ابن العاص، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والنعمان
ابن بشير الأنصاري، الذي لازم معاوية وولده يزيدا إلى اللحظة الأخيرة
من حياته، واشترك معهما في جميع الجرائم والفتن، ولم يذكر الحسن

(1) المتابعات هي الأحاديث التي يرويها اثنان أو أكثر
عن الصحابي الذي روى الحديث عن النبي (ص).
123

والحسين (ع) في جملة من روى من الصحابة، مع العلم بأنهما صحابيان
حسب تحديدهما للصحبة كما ذكرنا.
وأكثر من روى عنه أبو هريرة وعائشة، وعمر بن الخطاب، وعبد الله
ابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فقد روى عن أبي هريرة أربعمائة
وستة وأربعين حديثا، وعن عبد الله بن عمر مائتين وسبعين حديثا، وعن
عائشة مائتين واثنين وأربعين حديثا ولم يرو عن فاطمة الزهراء سيدة
النساء الا حديثا واحدا، ورى عن علي بن أبي طالب (ع) تسعة وعشرين
حديثا، وروى عن أبي موسى الأشعري سبعة وخمسين حديثا وروى عن
معاوية ثمانية أحاديث وعن المغيرة بن شعبة الذي استحق حد الزنا لولا
عطف عصر بن الخطاب عليه كما تنص كتب التاريخ روى عنه أحد عشر
حديثا وعن النعمان بن بشير ستة أحاديث، ولم يرو عن المقداد بن الأسود
الا حديثا واحدا ولا عن عمار بن ياسر الا أربعة أحاديث ولا عن سلمان
الفارسي الا أربعة أحاديث وروى عن عبد الله بن العباس نحوا من مأتين
وسبعة عشر حديثا وقد صحت عنده أحاديث عبد الله لان أكثرها جاء عن
طريق عكرمة المتهم باعتناق فكرة الخوارج كما سنتعرض لتاريخه في
الفصل الآتي (1).

(1) ضحى الاسلام ج 2 ص 111 و 112، والباعث الحثيث، ص 25
ومقدمة فتح الباري ج 3 ص 248 و 249.
124

الكليني
محمد بن يعقوب الكليني الرازي صاحب المؤلفات الغنية بالفوائد
في مختلف المواضيع، ومن أبرز مؤلفاته كتابه المعروف بالكافي جمع فيه
أحاديث أهل البيت في الأصول والفروع والأخلاق وغيرها من المواضيع
وجاء في كتب التراجم. انه لقب بالكليني نسبة إلى قرية من بلاد إيران في
منطقة الري (تسمى كلين)، وفيها دفن والده يعقوب بن إسحاق الكليني
الرازي، ويعرف أيضا بالسلسلي (1) وكان من أبرز شيوخ الشيعة في
الري وأوجههم، ثم انتقل إلى بغداد وسكن بها إلى أن توفي بها سنة 328
هجرية، وقيل سنة 329 ه‍، وليس في كتب التراجم التي تعرضت لتاريخه
ما يشير إلى تاريخ ولادته، لذلك لم يكن من السهل تحديد عمره على
التحقيق، ومن الجائز ان يكون قد أدرك في صباه الامام الحادي عشر
الحسن العسكري (ع) الذي توفي ستة مأتين وستين هجرية، ومما لا
شك فيه ان حياته كلها كانت في عهد السفراء الأربع وكلاء الإمام الثاني
عشر محمد بن الحسن (ع) لان عهدهم استمر سبعين عاما تقريبا، اي
إلى حدود سنة 330 هجرية والكليني لم يتخط هذا الرقم عند الجميع.
والذي يؤيد انه أدرك الإمام العسكري (ع) كما يرجح ذلك
العلامة الطباطبائي في رجاله هو انه قد اخذ الحديث عن جماعة عاصروا

(1) لعل الوجه في هذه النسبة انه سكن أخيرا في بغداد في محلة
تدعى درب السلسلة بباب الكوفة.
125

الأئمة الثلاثة الرضا والجواد والهادي (ع) ورووا عنهم، منهم أحمد بن
محمد بن عيسى الأشعري شيخ القميين ووجههم، ولم يذكر المؤلفون في
الرجال تاريخ وفاته، ولكنهم نصوا على أنه لم يلتق بالامام العسكري،
وهذا التعبير يشعر بوفاته قبل انتقال الإمامة إليه. ومهما كان الحال فلم
أجد فيما لدي من كتب التراجم ما يشير إلى تاريخ ولادة الكليني،
والمقطوع به انه عاش في النصف الثاني من القرن الثالث وفي أوائل القرن
الرابع.
وقد اتفق الطرفان السنة والشيعة على تعظيمه واجلاله، وانه كان
من أظهر علماء عصره وأوثقهم في دينه وحديثه، وجميع من تعرض له من
مؤلفي السنة وصفه بذلك.
وجا، عن (البغوي) أحد المحدثين من السنة في تفسير الحديث
المشهور عن النبي (ص) ان الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من
يجدد لها دينها، ان المبعوث على رأس المائة الأولى من أولي الامر عمر
ابن عبد العزيز، ومن الفقهاء محمد الباقر (ع) والقاسم بن محمد وسالم
ابن عبد الله بن عمر، وغيرهم من تلك الطبقة، وعلى رأس المائة الثانية من
الحكام المأمون العباسي، ومن الفقهاء الشافعي، واللؤلؤي من الأحناف،
وأشهب من المالكية، والإمام علي بن موسى الرضا من الامامية ومن
المحدثين يحيى بن معين، وعلى رأس المائة الثالثة من الحكام المقتدر
العباسي، ومن الفقهاء أبو جعفر الطحاوي الحنفي، وابن جلال الحنبلي
وأبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، وعد السيد المرتضى ممن بعث من
الامامية على رأس المائة الرابعة بالإضافة إلى جماعة من فقهاء المذاهب
الأربعة.
وجاء عن التبصير لابن حجر وغيره من المؤلفين في الرجال والتراجم
ما يؤكد انه كان من أبرز الفقهاء والمحدثين في عصره، ومن المساهمين
126

بجد ونشاط واخلاص في تدعيم الدين ونشر الثقافة الاسلامية من جميع
نواحيها.
ونظر إليه الشيعة بعين الاحترام والتقدير في جميع الأدوار التي
مروا بها واشتهر من بين مؤلفاته الغنية بالفوائد كتابه الجليل الكافي، ذلك
الكتاب الذي تحرى فيه أقصى ما لديه من جهد لتصفية الأحاديث
الصحيحة عن غيرها كما نص على ذلك في مقدمة كتابه، حتى تم له تأليفه
بعد جهاد ورحلات استمرا نحوا من عشرين عاما يجوب فيها البلدان من
بلدة إلى بلدة في البحث عن الحديث ومذاكرة المحدثين في الحديث
وأصنافه ومصادره، والتنقيب عن الأصول الأربعمائة التي ألفها تلامذة
الأئمة في الحديث، وعن مؤلفات القميين وغيرهم التي جمعوها في أواخر
القرن الثاني من مرويات أصحاب الإمامين جعفر بن محمد وأبيه الباقر
(ع) وقد ذكرنا في الفصل السابق ان القميين والأشعريين والبعض من
الكوفيين قد تطوعوا لجمع الأحاديث وتصفيتها، وألفوا في علمي الرجال
والدراية ووضعوا أصول هذين العلمين خلال النصف الأول من القرن
الثالث ه‍ ومهدوا الطريق للطبقة الثالثة التي برز فيها الكليني والف كتابه
الجامع ونال اعجاب العلماء والمحدثين على اختلاف مذاهبهم وطبقاتهم.
ورجح جماعة من المؤلفين الاعلام انه كان على اتصال بسفراء الإمام محمد
بن الحسن الذين كانوا يتصلون به. كما نص على ذلك المحدث
النيسابوري في كتابه منية المراد والسيد علي بن طاووس وغيرهما، وانطلق
هؤلاء من هذه المرحلة إلى أن الكافي قد عرضه سفراء الامام عليه وأقر
العمل به، وتمسكوا بما جاء عنه (ع) أنه قال: (الكافي كاف لشيعتنا)،
وأضافوا إلى ذلك أن بعض الشيعة من البلدان النائية كلف الكليني
بتأليف كتاب في الحديث يجمع مختلف المواضيع، لكونه على اتصال دائم
بالسفراء الذين كانوا يتصلون بالامام، ويروون عنه، فألفه إجابة لطلبهم
في عشرين عاما، ولا بد وأن يكون قد راجعهم فيما اشتبه عليه امره.
127

ولكن المؤلفات التي تعرضت للكليني وكتابه ليس فيها ما يؤيد هذا
الادعاء ونص جماعة من المحدثين وغيرهم على عدم صحة الحديث المروي
عن الإمام (ع) حول هذا الموضوع، نظرا لان الرواة له لم تتوفر فيهم
شروط الاعتماد على هذه الرواية هذا بالإضافة إلى أن الإمام (ع) في
الغيبة الصغرى لم يكن الاتصال به ممكنا الا في الضرورات وليس منها
تمحيص مرويات الكافي لامكان التوصل إلى معرفة الصحيح من غيره
بالرجوع إلى أصول علم الدراية وأحوال الرجال، على أن بعض مرويات
الكافي لو عرضت على الإمام محمد بن الحسن (ع) لا يمكن ان يقره
عليها كما سنتعرض لبعضها في الفصول الآتية ولو افترضنا ان الإمام (ع)
قال في تقريضه (الكافي كاف لشيعتنا) كما تنص على ذلك الرواية، لو
افترضنا ذلك فلا يستفاد من هذه الجملة انه صحيح بكل محتوياته، لجواز
كونه كافيا لشيعتهم من حيث اشتماله على كمية من الأحاديث في الفروع
والأصول صادرة عن الأئمة (ع) ومما لا ريب فيه ان المرويات الصحيحة
والمقترنة ببعض القرائن المؤكدة لصدورها بين مرويات الكافي سواء في ذلك
ما ورد منها لبيان الاحكام وما ورد في الأخلاق والآداب والسنن وغير
ذلك هذه الأصناف لو طبقها الشيعة لكانت كفيلة بان تجعلهم في القمة
بين أصناف الناس ومهما كان الحال فليست الرواية نصا في أن جميع
مروياته صادرة عنهم (ع).
وقد عد المؤلفون في علم الدراية الكليني من الطبقة الرابعة بين
المحدثين. فالطبقة الأولى حسب اصطلاحهم يمثلها الطوسي والنجاشي
والثانية يتزعمها الشيخ المفيد، وابن الغضائري، والثالثة هي طبقة
الصدوق، وأحمد بن محمد بن يحيى وأمثالهما، والرابعة طبقة الكليني
وهكذا إلى الطبقة السادسة عشر التي تنتهي بالمعاصرين للحسين وأبيه
أمير المؤمنين (ع) بينما ابتدأ السنة في تسلسل الطبقات من الصحابة، ثم
128

كبار التابعين، وهكذا إلى الطبقة الثانية عشر التي تنتهي بالترمذي،
والنسائي وبعض شيوخه.
وللكليني عدد من المؤلفات في مختلف المواضيع، منها كتابه في
تاريخ القرامطة والرد عليهم، ومنها في تعبير الرؤيا، وفي رسائل الأئمة
(ع) وما قيل فيهم من الشعر، وفي الرجال وغير ذلك من المواضيع
المختلفة بالإضافة إلى الكافي الذي عرف به الكليني أكثر من جميع
مؤلفاته.
وقد بلغت أحاديثه بعد الاحصاء ستة عشر الف حديث ومائة وتسعين
حديثا موزعة على جميع أبوابه ومواضيعه (1).

(1) انظر روضات الجنات للخونساري ج 4 ص 552 و 553.
129

الكافي بنظر الشيعة
لقد وقف علماء الشيعة من الكافي موقفا يمكن ان يكون بالقياس
إلى موقف السنة من صحيح البخاري سليما وبعيدا عن المغالاة والاسراف
فلم يتنكروا لحسناته ولم يتجاهلوا ما فيه من السيئات والنقص الذي لا
يخلو منه كتاب مهما اتخذ المؤلف الحيطة لاخراجه كما يريد ويحب.
ومع أنهم لم يغالوا فيه غلو محدثي السنة وفقهائهم في صحيح البخاري، فلقد
وضعه فريق من المحدثين القدامى فوق مستواه وأحاطه الأخباريون بهالة
من التقديس والاكبار، ولكن من جاء بعدهم من اعلام الطائفة قضى على
تلك الهائلة وألفتوا الأنظار إلى ما فيه من نقص وعيوب. ومع كل ذلك
فلقد عده الكثير من العلماء والمحدثين مجددا بالنسبة إلى من تقدمه من
المؤلفين في الحديث، بالرغم من أن الذين تقدموه من المحدثين والمؤلفين
قد تحروا جهدهم لتصفية الأحاديث من المكذوب والمشبوه، وتشدد
القيمون في أحاديث المتهمين بالغلو والوقف وغيرهما من المنحرفين عن
المذهب الاثني عشري، ولكنهم كما اعتقد لم يوفقوا إلى اخراج جامع
للمواضيع المختلفة التي اشتمل عليها الكافي، ولا أظن أنهم صنفوا
الأحاديث حسب المواضيع ووزعوها على الأبواب، وفي المحل الذي
يناسبها كما صنع الكليني، ولم يجمع أحد قبله الأصول والمرويات التي
يترجح لديه صدورها عن المعصوم، ولو من جهة القرائن التي تحيط بها،
حتى ولو كان الراوي لها يعتنق الغلو والوقف، أو اي مذهب آخر، كما
جمعها هو في كتابه ووضعها في المحل المناسب، فان الذين باشروا عملية
130

التصفية من قبله، كانوا ينظرون إلى الراوي قبل اي شئ، فإذا وجدوا
فيه مغمزا أو انحرافا تركوا مروياته مهما كان حالها ولو أحيطت بعشرات
القرائن، بينما درس الكليني الرواية من ناحية السند والمتن والملابسات
التي تحيط بها، واعتبر الوثوق بالصدور مهما كان مصدره شرطا أساسيا
للاعتماد على الرواية، ولذلك احتاج إلى عشرين عاما لانهاء هذه الدراسة
التي أعطت هذه النتائج الغنية بالفوائد في مختلف المواضيع.
وقال فيه الشيخ المفيد الذي أدرك شطرا من حياته: ان كتاب الكافي
من اجل كتب الشيعة وأكثرها فائدة.
وقال المرزا حسين النوري في مستدرك الوسائل بعد أن أورد كلمة
الشيخ المفيد: إنما كان أكثر فائدة من غيره من حيث إنه جامع للأصول
والأخلاق والفروع والمواعظ والآداب، وغير ذلك من المواضيع، وهو
اجل من غيره من حيث الاعتبار والاعتماد، لأنه جمع الأصول الأربعمائة،
التي كانت بتمامها موجودة في عصره، كما يظهر في ترجمة أبي محمد
هارون بن موسى التلعكبري المتوفى سنة 385، وقد جاء في ترجمته انه
روى جميع الأصول والمصنفات، والف منها ومن غيرها كتابه المسمى
(بالجوامع في علوم الدين) (1).
ويؤيد ذلك ما جاء في أسباب تأليف الكافي، من أنه ألفه إجابة لن
طلب منه كتابا جمع من جميع فنون الدين ما يكتفي به المتعلم، ويرجع
إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل بالآثار الصحيحة
عن الصادقين (ع)، والسنن القائمة التي عليها العمل، وبها يؤدي فرض
الله عز وجل وسنة نبيه (ص) فاستجاب لطلبهم، وألفه في تلك المدة

(1) انظر الكنى والألقاب للشيخ عباس القمي، ورجال
المرزا محمد ص 358.
131

الطويلة التي حددها كل من ترجمه وتعرض لتاريخه بعشرين عاما، فجاء
جامعا لما يحتاج إليه المحدث والفقيه والمتكلم والواعد، والمجادل،
والمتعلم، والكتاب الذي يحتوي على هذه المواضيع، لا بد وان يلفت
الأنظار، ويصادف تقدير الباحثين من العلماء، لأنه يوفر عليهم عناء البحث
عن الروايات ويسد حاجة الفقيه، والحدث والمتكلم وغيرهم في آن
واحد.
هذا بالإضافة إلى ما كان يتمتع به مؤلفه من ثقة غالية، وشهرة
واسعة، ومكانة في العلم والدين تؤهله لان يحتل المكانة التي تليق به
في النفوس. ولأن يكون أحد المعنيين بالحديث الشريف، (سيبعث الله
لامتي على رأس كل مائة من يجدد لها دينها (1) كما يرى ذلك جماعة من
الفريقين السنة والشيعة، ومع أنه نال اعجاب الجميع وتقديرهم، لم يغال
به أحد غلو محدثي السنة في البخاري، ولم يدع أحد بأنه صحيح بجميع
مروياته لا يقبل المراجعة والمناقشة سوى جماعة من المتقدمين تعرضوا للنقد
اللاذع من بعض من تأخر عنهم من الفقهاء والمحدثين، ولم يقل أحد: بان من
روى عنه الكليني فقد جاز القنطرة كما قال الكثيرون من محدثي السنة
في البخاري، بل وقف منه بعضهم موقف الناقد لمروياته من ناحية ضعف
رجالها، وارسال بعضها، وتقطيعها، وغير ذلك من الطعون، التي تخفف
من حدة الحماس له، والتعصب لمروياته، وحتى ان الذين لم يقروا تلك
الاتهامات الموجهة إليه، ووصفوه بأنه أفيد كتب الحديث واجلها، وقالوا:
بأنه لم يصنف مثله، واخذوا بجميع مروياته، هؤلاء لم يدعوا بان جميع
ما فيه مروي بواسطة العدول في جميع مراتب السند، والذي يستفاد من
نصوصهم انه جامع للمرويات التي تثق النفس بصدورها عن المعصوم من
حيث إن مؤلفه بقي زمنا طويلا يبحث وينقب ويقطع المسافات البعيدة من
بلد إلى بلد فنى جمعه من الصدور والمجاميع بعد الوثوق بصدور مروياته

(1) اي يظهره على واقعه، ويزيح الشبه عن مقاصده وأهدافه.
132

عن الأئمة (ع) ولو بواسطة القرائن والامارات الخارجة عن متونها،
ولو لم يكن الراوي مستوفيا للشروط المطلوبة في الرواة.
ويتأكد ذلك عندما نلاحظ ان الصحيح في عرف المتقدمين يختلف
أشد الاختلاف عن عرف المتأخرين: ذلك لان الصحة لا تتوقف على عدالة
الراوي، بل يصح وصف الحديث بالصحة لمجرد الوثوق بصدوره، ولو
من حيث وجوده في أحد الأصول الأربعمائة. أو في أحد الكتب المعروضة
على الامام ككتاب عبيد الله الحلبي الذي عرضه على الإمام الصادق (ع)
وأثنى عليه وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين
على الإمام العسكري (ع) أو لكونه مطابقا لدليل آخر مقطوع به ونحو
ذلك من القرائن المفيدة للاطمئنان بالصدور. ولو لم يكن الرواة كلهم من
حيث ذاتهم ممن يصح الاعتماد عليهم.
والمتحصل من ذلك أن أكثر الذين اعتمدوا على الكافي واعتبروا
جميع ضرورياته حجة عليهم فيما بينهم وبين الله سبحانه، هؤلاء لم يعتمدوا
عليها الا من حيث الوثوق والاطمئنان بالكليني الذي اعتمد عليها بعد
جهاد طويل استمر عشرين عاما، بالإضافة إلى أن احتمال تقريض الإمام الثاني
عشر (ع) كتلك المرويات كان يراود أذهان الكثيرين ممن تأخروا
عنه كما ذكرنا من قبل وان كنا لم نجد مصدرا مقبولا بهذا الاحتمال ولا
نستبعد ان يكون الحديث المروي حول هذا الموضوع من موضوعات مقلدة
الأخباريين الذين تضاعف حماسهم له بعد تصنيف العلامة الحلي للحديث
إلى الأصناف الأربعة، وكما ذكرنا فان وثوق الكليني بها لم في مصدره
بالنسبة إلى جميعها عدالة الرواة بل كان في بعضها من جهة القرائن التي
تيسر له الوقوف عليها نظرا لقرب عهده بالأئمة (ع)، ووجود الأصول
المختارة في عصره هذا بالإضافة إلى عنصر الاجتهاد الذي يرافق هذه
البحوث في الغالب. ويؤيد ذلك أن الكليني نفسه لم يدع ان مرويات
133

كتابه كلها من الصحيح المتصل سنده بالمعصوم بواسطة العدول، فإنه قال
في جواب من سأله، تأليف كتاب جامع يصح العمل به والاعتماد عليه
قال: وقد يسر لي الله تأليف ما سئلت وأرجو ان يكون بحيث توخيت.
وهذا الكلام منه كالصريح في أنه قد بذل جهده في جمعه واتقانه معتمدا
على اجتهاده وثقته بتلك المجاميع والأصول الأربعمائة، التي كانت
مرجعا لأكثر المتقدمين عليه ومصدرا لأكثر مرويات كتابه.
ومهما كان الحال فالكافي مع أنه كان من أوثق المجاميع في الحديث
منذ تأليفه إلى عصر العلامة الحلي وأستاذه أحمد بن طاووس أكثر من
ثلاثة قرون من الزمن مع أنه كان بهذه المنزلة عند المتقدمين، فان جماعة
منهم كالمفيد وابن إدريس، وابن زهرة، والصدوق لم يثقوا بكل
مروياته ووصفوا بعضها بالضعف كغيرها من المرويات التي لم تتوفر فيها
شروط الاعتماد على الرواية.
ومن ذلك تبين ان المتقدمين لم يجمعوا على الاعتماد على جميع
مروياته جملة وتفصيلا، فان شهادتهم له بأنه من أوثق كتب الحديث
وأفيدها واعتباره مرجعا لهم، لا تعني ان كل ما فيه حجة شرعية يجوز
الاعتماد عليه في الفروع والأصول كما يدعي أكثر الأخباريين.
ويمكن تحديد موقف العلماء والمحدثين من مرويات الكافي بالبيان
التالي، وهو ان تصحيح الكليني لمروياته واعتباره لها حجة فيما بينه
وبين ربه، هل هو شهادة منه بتزكية رواة تلك الأحاديث، وبوجود
قسم منها في الكتب المعتبرة التي عرضت على الأئمة (ع) وأقروا العمل
بها من اعتبر تصحيحه لا واعتماده عليها من باب الشهادة لا بد وان
يعتمد عليها لجواز الاكتفاء بالشاهد الواحد في مقام التزكية وفي
الموضوعات كما لو شهد الثقة بأن هذا الكتاب لزيد مثلا وهذا الحديث
موجود في الكتاب الفلاني، أو في المحل الفلاني مثلا.
134

ويؤيد ذلك ما جاء قي مستدرك الوسائل حيث قال: ان شهادة
الكليني على صحة خبر ترجع إلى أن الخبر موجود في الأصول والكتب
المعمول بها، المعلومة الانتساب إلى أربابها، والمتصلة طرفه وأسانيده
إليها وقد أخرجه منها أو تلقاه من الثقاة الذين لا تتوقف معرفتهم على
الأمور النظرية: لكونهم من مشايخه أو مشايخ مشايخه، وقرب عصره
منهم، وعدم اشتباههم بغيرهم، وكلها شهادة حسية مقبولة عند الفقهاء،
فلو شهد عادل بان هذا الكتاب لفلان، وهذا الكلام موجود في كتاب
فلان أو شهد بأن فلانا ثقة، فهل رأيت أحدا يستشكل في ذلك، بل عليه
مدار الفقه في نقل الآراء والفتاوى والأقوال، والتزكية والجرح (1)،
فمن اعتبر تصحيح الكليني لمرويات الكافي شهادة منه بتزكية رواتها
وبوجود قسم منها في الكتب المعتبرة. بنى على صحتها وجاز له العمل
بها في الاحكام وغيرها، ومن بنى على أن تصحيحه لها. كان من نتيجة
فحصه واجتهاده ودراسته لاسناد الحديث ومتونه خلال تلك المدة
الطويلة، من بنى على ذلك لم يفرق بين مرويات الكافي وغيرها من حيث
كونها خاضعة للنقد والجرح والتعديل، لان اجتهاد شخص لا يكون
حجة على غيره، ولابد في مثل ذلك من عرض ذلك الموضوع على
الأصول والقواعد الموضوعة لتمييز الصحيح من غيره، وبالتالي قد
ينتهي إلى عين النتيجة، وقد ينتهي لخلافها، وفي الحالين يتعين عليه ان
يعمل بما أدى إليه اجتهاده. ومن الجائز القريب ان يكون المضعف لبعض
مرويات الكافي متجها إلى هذه الملاحظة.
قال السيد في المفاتيح: ان اخبار الكليني بصحة ما دونه في الكافي
كما يمكن ان يكون باعتبار علمه بها، وقطعه بصدورها عن الأئمة (ع)
فيجوز الاعتماد عليها والحال هذه كسائر اخبار العدول، كذلك يمكن

(1) الفائدة الرابعة ص 538.
135

ان يكون باعتبار اجتهاده وظهورها عنده ولو بالدليل الظني، فلا يجوز
اذن الاعتماد عليه، فان ظن المجتهد لا يكون حجة على مثله، كما هو
الظاهر من الأصحاب، بل ومن العقلاء، وحيث لا ترجيح للاحتمال
الأول وجب التوقف.
ومهما كان الحال، فالكتب الأربعة وعلى رأسها الكافي كانت بنظر
المتقدمين من الفقهاء والمحدثين إلى أواخر القرن السابع الهجري الذي
ظهر فيه العلامة الحلي، وأستاذه أحمد بن طاووس، كانت من أوثق
المصادر في الحديث، ولم يتردد في قبول مروياتها سوى من أشرنا إليهم
على أن بعض المحدثين قد فسر كلام المفيد والصدوق، الذي، يدل بظاهره
على التشكيك ببعض مرويات الكافي، قد فسر كلامهما بما يرجع إلى
انهما يترددان في بعض مروياته إذا تعارضت مع غيرها وكان المعارض لها
أقوى سندا وأظهر دلالة، وذلك لا يعني انها من نوع الضعيف، لان
تعارض الصحيح مع الأصح لا يمنع من وصفه بالصحة، كما لا يمنع من
جواز العمل به والاعتماد عليه في غير مورد التعارض مع الأصح منه
والشئ الطبيعي ان تتضاءل تلك الثقة التي كانت للكافي على مرور
الزمن بسبب بعد المسافة بين الأئمة (ع) وبين الطبقات التي توالت مع
الزمن، وبمجئ دور العلامة الحلي انفتح باب التشكيك في تلك
المرويات على مصراعيه بعد أن صنف الحديث إلى الأصناف الأربعة،
فتحرر العلماء من تقليد المتقدمين فيما يعود إلى الحديث، وعرضوا
مرويات الكافي وغيره، على أصول علم الدراية وقواعده، فما كان منها
مستوفيا للشروط المقررة أقروا العمل به والاعتماد عليه، وردوا ما لم
تتوفر فيه الشروط المطلوبة. وعلى هذا الأساس توزعت أحاديث
الكافي التي بلغت ستة عشر الف حديث ومائة وتسعة وتسعين حديثا على
النحو التالي.
الصحيح منها خمسة آلاف واثنان وسبعون حديثا، والحسن مائة
136

وأربعة وأربعون حديثا، والموثق الف ومائة وثمانية وعشرون حديثا،
والقوي ثلاثمائة وحديثان (1)، والضعيف تسعة آلاف وأربعمائة
وخمسة وثمانون حديثا (2).
ومما تجدر الإشارة إليه ان اتصاف هذا المقدار، من مرويات الكافي
بالضعف لا يعني سقوطها بكاملها عن درجة الاعتبار، وعدم جواز الاعتماد
عليها في أمور الدين، ذلك لان وصف الرواية بالضعف من حيث سندها
وبلحاظ ذاتها لا يمنع من قوتها من ناحية ثانية كوجودها في أحد الأصول
الأربعمائة، أو في بعض الكتب المعتبرة، أو موافقتها للكتاب والسنة،
أو لكونها معمولا بها عند العلماء، وقد نص أكثر الفقهاء ان الرواية
الضعيفة إذا اشتهر العمل بها والاعتماد عليها، تصبح كغيرها من الروايات
الصحيحة، وربما تترجح عليها في مقام التعارض.
وجاء في مقباس الهداية للمامقاني. ان الذي ألجأ المتأخرين إلى
العدول عن طريقة القدماء، واضطرهم إلى تصنيف الحديث إلى الأصناف
الأربعة، هو تطاول الأزمنة بينهم وبين الطبقة الأولى، وضياع بعض
الأصول المعتمدة التي دونها أصحاب الأئمة (ع) والتباس المأخوذ منها
بغيرها، وخفاء القرائن التي اعتمد عليها المتقدمون إلى غير ذلك من
الأسباب التي اضطرتهم إلى هذا التصنيف لتمييز الصحيح عن غيره (3).
وسبب آخر أشرنا إليه من قبل، ولعله أقرب إلى الواقع من غيره،

(1) القوي ما كان سنده كله أو بعضه من غير الإماميين وليس فيه
ضعف.
(2) انظر روضات الجنات إلى محمد باقر الخونساري (حرف الجيم
ص 553، والمستدرك الفائدة الرابعة).
(3) لم انظر مقباس الهداية الملحق بالمجلد الثالث من تنقيح المقال في علم
الرجال.
137

وهو ان أصحاب الكتب الأربعة قد اعتمدوا على اجتهاداتهم ووثوقهم
بتلك المرويات التي دونوها في مجاميعهم كما يبدو ذلك من بعض كلماتهم
التي تشير إلى هذا المعنى، فان قول الكليني: وقد يسر لي الله تأليف ما
سألت، وأرجو ان يكون بحيث توخيت، ظاهر في أنه اعتمد على
اجتهاداته ودراسته في انتقاء الأحاديث التي دونها في الكافي، وقد تلقى
العلماء تلك المجاميع بالقبول والتقدير نظرا لثقتهم بأصحابها في دينهم
وعلمهم، فحسن الظن بالكليني وغيره من مؤلفي الكتب الأربعة.
يسر لهذه الكتب ان تحتل تلك المكانة الرفيعة في نفوس العلماء والمحدثين
نحوا من ثلاثة قرون تقريبا، وبلغ الحال ببعض الأخباريين الذين لا
يتخطون حرفية النصوص، ولا يفسحون حتى للعقل ان يتدخل في شئ
من أمور الدين، بلغ الحال بهم ان اعتبروها من نوع
المقطوع بصدوره عن المعصوم، واستمروا على تعصبهم لها إلى العصور
المتأخرة، ووجهوا إلى العلامة الحلي وأستاذه التهم والشتائم، واعتبروا
تصنيفه للحديث إلى الأصناف الأربعة من نوع البدعة والخروج على
طريقة السلف إلى الصالح وسيرتهم، ولا تزال فلولهم إلى اليوم تتمسك
بمرويات الكافي وكأنها من وحي السماء، مع العلم بأن العلامة قد خدم
السنة والمذهب، وفضح أساليب الدساسين والمنحرفين الذين ألصقوا
بالمرويات الصحيحة آلاف الروايات التي اتخذها أخصام الشيعة سلاحا
للهدم والتخريب، والتشويش على الشيعة وأئمتهم (ع).
هذه الثقة العظيمة بالمحمدين الثلاثة - محمد بن يعقوب الكليني
ومحمد بن الحسن الطوسي ومحمد بن بابويه - وبخاصة الكليني هي
التي جعلت للكافي تلك الحصانة عند المتقدمين من فقهاء الإمامية
ومحدثيهم، ولما جاء دور العلامة الحلي وأستاذه ووجدا بين مرويات
الكافي وغيره من كتب الحديث ما لا يجوز الاعتماد عليه والركون إليه
وقفا منها موقف المتحرر من التقليد والتبعية العمياء، وتابعهما على ذلك
138

كل من جاء بعدهما من العلماء والمحدثين.
فكان موقفهما من مرويات الكليني أشبه ما يكون بموقف
محمد بن أحمد بن إدريس الحلي من فتاوى الشيخ الطوسي وآرائه في
الفقه، تلك الآراء التي ظلت أكثر من قرن من الزمن وكأنها من وحى السماء.
ولا مصدر لذلك الا انه استطاع ان يفرض نفسه على تلاميذه وعلماء
عصره، بالإضافة إلى شخصيته العلمية وشهرته الواسعة، ولما ظهر ابن إدريس
المتوفى سنة 598 هجرية ووقف من آرائه موقف الناقد المتحرر
خالفه في كثير من آرائه ككل باحث متحرر لا يهمه الا إحقاق الحق
من مصادره. فأعاد الثقة إلى النفوس، وبدأ هو وغيره من العلماء
المعاصرين والمتأخرين عنه في تقييم آراء الطوسي ومؤلفاته وارجاعها إلى
الأصول والقواعد، بمد ان سيطرت على عقول العلماء والمفكرين وكادت
ان تنسيهم فتح باب الاجتهاد الذي امتاز به فقهاء الشيعة على غيرهم من
فقهاء المذاهب الأربعة، ولذلك شواهد وأمثلة أخرى في تاريخ العلماء
والمفكرين يدركها الباص المتتبع في تاريخهم ومؤلفاتهم تؤكدان شخصية
العالم وثقته في النفوس تسيطران أحيانا على اتباعه وتلاميذه وتستبد في
عقولهم وتفكيرهم، حتى يخيل إليهم ان جميع آرائه ونظرياته فوق الشبهات
والأوهام.
139

الكليني يختصر السند أحيانا
السنة حسب اصطلاح المحدثين هو الرواة الذين ينقلون الحديث
بالتسلسل عن مصدره الأول نبيا كان أو إماما، أو صحابيا أو غير هؤلاء
حتى ينتهي إلى الراوي الأخير والكليني يحرص في الكافي كما يبدو،
بعد التتبع على ذكر السند بكامله. وقد يحذف بعضه، أو أوله اعتمادا
على بعض القرائن الدالة عليه. قال المامقاني في خاتمة المجلد الأول
من رجاله: وقد يحذف نادرا صدر السند، ولعله لنقله عن الأصل الذي
يروي عنه من غير واسطة، أو لحوالته على ما ذكره قريبا، كما لو
ذكر رواية بسندها الكامل، وبنفس السند روى رواية غيرها، فيحذف
من السند حينئذ اعتمادا على ما ذكره أولا، وقد يختصر السند أحيانا،
ويقول عن عدة من أصحابنا عن فلان، ويعني بالعدة جماعة من مشاهير
الرواة نبه عليهم بأسمائهم كي لا يحصل الالتباس.
قال العلامة في خاتمة الخلاصة من كتابه في الرجال: نقلا عن
الكليني نفسه، وكلما ذكرته في كتابي عدة من أصحابنا عن أحمد بن
محمد بن خالد البرقي، فهم علي بن إبراهيم، وعلي بن محمد بن عبد الله
ابن أذينة، وأحمد بن عبد الله عن أبيه، وعلي بن الحسين السعد آبادي،
وكلما ذكرته في كتابي عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد فهم علي بن
محمد بن علان، ومحمد بن أبي عبد الله، ومحمد بن الحسن، ومحمد
ابن عقيل، وأضاف إلى ذلك العلامة وغيره، ان الكليني إذا قال: عدة
140

من أصابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى، فهم محمد بن يحيى، وعلي بن
موسى الكمنداني،، وداوود بن كورة، وأحمد بن إدريس، وعلي بن
إبراهيم (1).
وفي بعض أبواب الكافي يصرح هو بالمراد من العدة، فقد جاء
في الباب التاسع من العتق. عدة من أصحابنا، علي بن إبراهيم ومحمد
ابن جعفر، ومحمد بن يحيى، وعلي بن محمد بن عبد الله القمي،
وأحمد بن عبد الله، وعلي بن الحسين جميعا عن أحمد بن محمد بن
خالد عن عثمان بن عيسى.
والروايات المصدرة بلفظ العدة في الكافي أكثرها عن أحمد بن
محمد بن عيسى، وعن سهل بن زياد، وعن أحمد بن محمد بن خالد
البرقي، وقد نص الكليني نفسه على أن الذي تعنيه كلمة العدة هؤلاء
الثلاثة باستثناء ثلاثة عشر رواية مصدرة بلفظ العدة كما أحصاها جماعة
من المحدثين قد أهمل المعنيين فيها ولم ينص على أسمائهم.
قال في المستدرك: واما القسم الثاني وهم العدة الذين لم يتعرض
لهم هو وغيره، فلا بد من الفحص عنهم والنظر في أحوالهم، فإذا تبين
للباحث حسن حالهم اخذ بمروياتهم، والا يتعين التوقف بشأنها.
ومجمل القول انه قد يبدو لغير المتتبع ان الكليني يختصر السند
أحيانا اعتمادا على ثقته وعلمه بحال بعض الرواة كما هو الشأن بالروايات
التي يصدرها بلفظ العدة ونحوه، ولكنه في الواقع قد اعتمد لفظ العدة
بدلا من التنصيص عليهم بأسمائهم في كل رواية من باب الاختصار
وتهربا من التطويل وبين بعد ذلك المعنيين من هذا اللفظ بأسمائهم
واشخاصهم دفعا للالتباس عدا ثلاثة عشر موردا كما أحصاها في الفائدة

(1) انظر الخلاصة في الرجال للعلامة ص 133.
141

الرابعة من مستدرك الوسائل لم ينبه هو وغيره عن المعنيين من لفظ العدة
فيها، واكد ذلك المامقاني في خاتمة كتابه تنقيح المقال. على أن أكثر
المتقدمين لم يفرقوا بين العدة التي نبه على الأشخاص المعنيين منها، وبين
التي أهمل المراد منها بل وحتى بين مروياته التي اختصر السند في أولها،
وبين التي ذكر فيها السند بكامله، لأنه لا يروي الا عن الثقة على حد
تعبيرهم، ونص بعضهم على أن الكليني لا يروي عن مجهول، وأضاف
إلى ذلك. وناهيك بحسن حال أولئك الرواة رواية الكليني عنهم،
وما أشبه هذا النص بالنص الذي نقلناه عن بعض محدثي السنة بشأن من
روى عنهم البخاري " لكل من روى عنه في الصحيح فقد جاز القنطرة "
الا ان هذه الكلمة تعكس رأي الجمهور وأظهر في المغالاة والمبالغة من
الكلمة الأولى التي لا تعكس الا رأي قائلها وبعض المقلدة من
الأخباريين.
وكما يصدر السند أحيانا بلفظ العدة، يصدره أيضا بلفظ الجماعة،
وقد أكثر منه في كتاب الصلاة عن أحمد بن محمد، وفي بعضها بزيادة
ابن عيسى، ورجح جماعة من المؤلفين في علمي الرجال والدراية ان الذي
يعنيه من الجماعة هو عين ما يعنيه من العدة، وعلى ذلك فإذا ورد بعد
لفظ الجماعة أحد الثلاثة الذين ذكرهم بعد لفظ العدة، تكون الرواية
كغيرها من الروايات التي صدرها بلفظ العدة عن أحد الثلاثة، وان لم
يرد بعد لفظ الجماعة أحد الثلاثة، فلا بد من الفحص عن الجماعة وعن
أحوالهم، ونص بعض المؤلفين في الرجال. على قبول الرواية المصدرة
بلفظ الجماعة على كل حال. قال المامقاني في الفائدة الثانية من ملحقات
رجاله: لكن لا يبعد قبول الرواية ان لم يكن فيها عيب من وجه آخر،
لوضوح بمد اتفاق الجماعة المذكورين على الكذب، سيما بعد كونهم
ممن يروي عنهم ثقة الاسلام (1).

(1) انظر الفائدة الثانية من ملحقات كتابه في الرجال ص 84.
142

الكليني يروي عن الإماميين وغيرهم
لقد ذكرنا فيما تقدم ان الحديث الذي يوصف بالصحة عند المتقدمين
لا يختص بما يرويه الامامي العادل عن مثله حتى ينتهي إلى النبي
والإمام (ع) بل يتسع وصف الصحة له ولغيره مما كان محاطا ببعض
القرائن المرجحة لصدوره عن المعصوم (ع) ولما هو موجود في الكتب
التي عرضت على الامام فأقرها، أو في الأصول الأربعمائة، أو في الكتب
التي شاع بين الطبقة الأولى العمل بها والاعتماد عليها ككتاب الصلاة
لحريز بن عبد الله السجستاني، وكتاب حفص بن غياث القاضي، وكتب
بي سعيد، وعلي بن مهزيار وغيرها من الكتب التي اعتمد عليها محدثوا
الشيعة ودونوا مروياتها في مجاميعهم كالكافي وغيره، وعدوها من صحاح
الأحاديث مع العلم بان مؤلفي تلك الكتب، ورواة أحاديثها يختلفون في
مذاهبهم أشد الاختلاف، فهم بين من هو عامي المذهب كحفص بن غياث
القاضي الذي تولى القضاء للرشيد، كما جاء في خلاصة اخبار الرجال
للعلامة الحلي وبين من هو من الفطحية كبني فضال، الذين قال الإمام (ع)
فيهم، خذوا ما رووا وذروا ما رأوا، أو من الواقفية وغير ذلك من
المذاهب المختلفة، وذكرنا سابقا ان التصنيف الذي أحدثه العلامة
وأستاذه للحديث قد تخطى الحدود التي اصطلح عليها المتقدمون،
وأصبح الموثق المقابل للصحيح والحسن، الذي يرويه غير الامامي
الموثوق به من الأصناف المعتبرة المعمول بها بين الفقهاء، ويقدم على
الحسن، مع أن رواته من الإماميين، سواء كان الرواة للحديث
143

المعروف في عرف المحدثين بالموثق ممن يدينون بالتشجع كالفطحية
والواقفية، أو من السنيين الموثوق بهم، هذا الصنف من الحديث يأتي
بعد الصحيح مباشرة، وذكرنا ان بين أحاديث الكافي من هذا الصنف
الفي حديث ومائة وثمانية عشر حديثا، وفي ذلك دلالة على أن الشيعة
لم يبلغ بهم التعصب إلى عدم جواز الاخذ بكل ما يرويه المخالفون لهم
في العقيدة، كما يدعي السنة، حتى ولو كان الراوي عن المعصوم
معروفا بالاستقامة في دينه، والضبط لأسانيد الروايات ومتونها.
ويؤكد ذلك أن الكليني نفسه روى عن جماعة من العامة كحفص بن
غياث القاضي الذي تولى القضاء للرشيد، وغياث بن كلوب، ونوح بن
دراج، وطلحة بن زيد، وعباد بن يعقوب الرواجني، والنوفلي والسكوني،
وعن الزهري ووهب بن وهب أبي البختري، وجاء في بعض كتب الرجال
انه كان من قضاة العباسيين، وعن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا،
وغيرهم ممن ورد ذكرهم في أسانيد الكافي. وإذا كان الأكثر من الشيعة
يتشددون في رواية غير الامامي أو يعتبرون كون الراوي اماميا، فذلك
لا يعني انه من ضرورات مذهبهم في الحديث، وإنما هو من الاجتهاد
الذي تختلف فيه الأنظار والآراء، وكما ذكرنا ان اعتمادهم على مرويات
الفطحية وغيرهم، وتدوينها في مجاميعهم، مع العلم بأنهم كانوا يسمونهم
(بالكلاب الممطووة) مما يؤكد ان جماعة منهم يكتفون بعدالة الراوي
في مذهبه، وان الاختلاف في العقيدة لا يمنع من الاعتماد على ما يرويه،
إذا كان صادقا ومأمونا في النقل، والذي يؤيد هذا المبدأ ويؤكده قول الإمام
العسكري (ع) في جواب من سأله عن مرويات بني فضال باعتبارهم
من المنحرفين ص المخطط الاثني عشري: خذوا ما رووا وذروا ما رأوا
هذا الحديث يرشد إلى أن فساد العقيدة لا يسري إلى فساد القول، فإذا
قال المخالف لك، حقا وصدقا فخذ بقوله واعتمد عليه إذا كنت تثق
بصدقه واستقامته، واترك رأيه ما دمت تعتقد بفساده.
144

موقف السنة من مرويات الخالفين لهم
ثم إن القائلين من الشيعة بعدم جواز الاعتماد على رواية غير
الامامي، هؤلاء على قلتهم لا يفرقون بين أصناف المخالفين لهم، ولا
يفضلون مخالفا على غيره، كما فعل السنة مع المخالفين لهم، فإنهم عدوا
الشيعة من المبتدعة المخالفين كالخوارج وغيرهم من الفرق، ولكنهم
فضلوا عليهم الخوارج واخذوا به رواياتهم بحجة انهم لا يستحلون
الكذب، والشيعة يستحلونه على حد زعمهم.
قال السباعي في كتابه السنة ومكانتها من التشريع الاسلامي.
والذين يظهر لي انهم يرفضون رواية المبتدع إذا روى ما يوافق بدعته
كالشيعة أو كان من طائفة عرفت بإباحة الكذب، ووضع الحديث في
سبيل أهوائها، ولهذا رفضوا رواية الرافضة. وقبلوا رواية بعض الشيعة
الذين عرفوا بالصدق والأمانة، كما قبلوا رواية المبتدع، إذا كان هو
وجماعته لا يستحلون الكذب كعمران بن حطان وبعض الخوارج.
وجاء في منهاج السنة. نكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن
داعية الا الرافضة فإنهم يكذبون (1).
ويقصد السباعي ببعض الشيعة الذين عرفوا بالصدق والأمانة
الزيدية كما يدل على ذلك قوله في ص 149 وهؤلاء، اي الزيدية يعدون

(1) انظر السنة ومكانتها من التشريع الاسلامي للسباعي ص 110
ومنهاج السنة ج / 1 ص 13.
145

أكثر طوائف الشيعة اعتدالا، وفقههم قريب من فقه أهل السنة، اما
الرافضة ويعني بهم من يفضلون عليا ويقولون بأنه هو صاحب الحق
بعد رسول الله فهؤلاء لا يشفع لهم شئ عند السباعي وأمثاله.
وجاء في الكتاب المذكور في خلال حديثه عن الفرق السياسية.
إن الرافضة أكثر الفرق كذبا، وان مالك سئل عنهم فقال: لا تكلمهم
ولا تروى عنهم وانهم يكذبون، وان شريك بن عبد الله القاضي وغيره
قالوا عنهم: احمل عن كل من لقيت الا الرافضة فإنهم يضعون الحديث
ويتخذونه دينا، وانهم وضعوا الحديث في ذم معاوية وابن العاص، كما
وضعوا في فضائل علي وأهل بيته ثلاثمائة الف حديث، وقد أطال
السباعي الحديث عمن أسماهم بالرافضة، وحشد مجموعة من الأراجيف
والأباطيل حولهم، وحاول ان يصورهم بألد أعداء الاسلام الذين لم يكن
يهمهم الا تحطيمه وتقويض دعائمه، كما نص على ذلك في ص 95 من
كتابه.
ونحن لا نريد ان نخوض معه ومع أمثاله ممن استحوذ عليهم
النصب والتعصب، وأعمى قلوبهم الحقد على أهل البيت وشيعتهم، فقد
سبقه إلى هذه الافتراءات سلفه الصالح من اتباع الأمويين وعملائهم
الذين كان معاوية والأمويون من بعده يشترون ضمائرهم بالأموال لكي
يضعوا الأحاديث في فضله وفضل اتباعه، وفي التشنيع على الشيعة
والتوهين لأمرهم وانتقاص علي وأبنائه (ع)، ورد عليهم الشيعة قديما
حديثا وفندوا جميع مفترياتهم، ودسائسهم، ومع كل ذلك فالسباعي
والجبهاني والسفياني وغيرهم، من المأجورين والمفرقين لا يعنيهم الا
تفريق الصفوف وتمزيق وحدة المسلمين وبث الأحقاد في النفوس لقاء
أجر معلوم من أسيادهم أعداء الاسلام، هؤلاء وغيرهم يجترون أقوال
المتقدمين حنقا وحقدا على الشيعة، وعداوة لأهل البيت الذين أذهب
146

الله عنهم الرجس وطهرهم من البدع على رغم انف الحاقدين والمفترين.
كالسباعي والجبهاني وابن تيمية وأمثالهم المأجورين.
لقد رفض السنة رواية الشيعي لأنه مبتدع كذاب، وقبلوا رواية
الخوارج لأنهم وان كانوا من أهل البدع كالشيعة على حد تعبيرهم، الا
انهم صادقون متدينون لا يستحلون الكذب ولا الفسق. وكانوا من
التقوى على جانب عظيم كما جاء في كتابه ص 96.
ويعود في ص 97 ليؤكد هذه الحقيقة فيقول: لقد حاولت ان أعثر
على دليل علمي يؤيد نسبة الوضع إلى الخوارج. فرأيت الأدلة العلمية
على العكس، تنفي عنهم هذه التهمة، فقد كانوا يكفرون مرتكب الكبيرة
من الذنوب أو مرتكب الذنوب مطلقا والكذب من الكبائر، فكيف إذا
كان على رسول الله (ص) ومضى في حديثه ينتحل لهم أسباب الزهد
والصدق والعبادة الخالصة، ويصف الرافضة (اي الشيعة) بالكذب
ووضع الأحاديث، محتجا لتزكية الخوارج بقول أبي داوود: ليس في
أهل الأهواء أصح حديثا من الخوارج، ويقول ابن تيمية، ليس في أهل
الأهواء أصح حديثا وأصدق وأعدل من الخوارج، إلى غير ذلك من
الهراء الذي لا يرتكز على العلم والمنطق والدين.
وكنت أتمنى لنفسي ان لا تضطرني مطالعاتي حول الموضوع الذي
يبدي إلى الخوض مع هؤلاء الدساسين المأجورين في مثل هذه المواضيع
وكان بالامكان ان أتغاضى وأتجاهل بعض التهم والأراجيف التي يلصقها
الحاقدون بالشيعة، لولا (ان الساكت عن اظهار الحق شيطان أخرس)
ولولا أن الحقيقة تفرض نفسها على الباحث المجرد، وتأبى عليه ان يمر
بمثل هذه الآراء من غير أن يكشفها على واقعها لتكون سلاحا بيد الباحث
البرئ الذي لا يعنيه الا الحق من اي مصدر كان.
147

لا لقد اتفق أكثر السنة على أن مرويات الشيعة لا يجوز الاعتماد
عليها لأنهم في طليعة المبتدعة المتسترين بالاسلام ومن الدعاة إلى بدعتهم،
لأنهم يدعون بأن الرسول نص على علي (ع) بالخلافة في غدير خم وغيره
من المواقف، ووضعوا على حد تعبيرهم آلاف الأحاديث في فضله وفضل
السيدة فاطمة وولديها الحسن والحسين (ع)، لذلك فهم من المبتدعة
الكذابين، والخوارج من المبتدعة الصادقين. ونحن لا نريد ان نناقش
ونجادل في المرويات حول استخلاف علي وفضائل أهل البيت، لا نريد
ذلك، لان الحديث حول هذه المواضيع يتصل بتاريخ الاسلام، وقد
تكلم فيه الشيعة والسنة في عشرات المناسبات وكتبوا حوله عشرات
الكتب، ولكن الذي أريد ان أقوله لمن يحتج في رفض مروياتهم، بأنهم
من المبتدعة الداعين إلى بدعتهم. كيف سوغ هؤلاء لأنفسهم قبول
مرويات مروان ومعاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص، وطلحة
والزبير والنعمان بن بشير الأنصاري، وأمثال هؤلاء ممن أراقوا الدماء
و استباحوا الحرمات، وأعلنوها حربا شعواء لا هوادة فيها على الإمام الشرعي
الذي اختاره المهاجرون والأنصار، والمسلمون من جميع البلدان
والأقطار.
أليس خروج عائشة أم المؤمنين وزوجة النبي (ص) تقود جيشا إلى
حرب علي (ع) يقتل الأبرياء وينهب الأموال ويروع الآمنين، والقرآن
يناديها ويؤكد عليها وعلى غيرها من أمهات المؤمنين، بان يقرن في بيوتهن
ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، أليس ذلك فسادا في الأرض، وبدعة
في دين الله لا تقل أخطاره عن أخطار فكرة الخوارج وغيرهم من المبتدعة
وهل البدعة الا ادخال ما ليس من الدين في الدين، وارتكاب ما يتنافى
مع أصول الاسلام وقواعده، وهل تتفق سيرة معاوية واتباعه ممن قبل
المحدثون أحاديثهم، هل تتفق سيرتهم مع أصول الاسلام وفروعه
وقواعده ونحن لا نريد ان نجادلهم فيما ينسبونه إلى الشيعة من الوضع
148

والكذب: ونفترض ذلك أمرا واقعا، ولكن هل يستطيع باحث مجرد ان
ينزه أخصام علي كمعاوية واتباعه ومن يحمل روحه ومبادئه عن الوضع
والكذب وبذل الأموال لهذه الغاية. مع أن التاريخ مشحون بالشواهد
على أنه قد أصدر أمرا وزعه على جميع عماله في مختلف العواصم وأمرهم
بوضع الأحاديث في فضل الخلفاء وبخاصة قريبه عثمان، ووضع الأحاديث
التي تسئ إلى علي وبنيه.
أصحيح ان رسول الله (ص) قال: من أراد ان ينظر إلى رجلين
من أهل النار فلينظر إلى هذين. فنظرت السيدة عائشة وإذا بعلي والعباس
قد أقبلا نحو رسول الله (ص) كما روى ذلك جماعة من المحدثين عنها،
أصحيح ان رسول الله (ص) قال: ان عليا يموت على غير ديني، كما
روى عروة بن الزبير عن خالته عائشة أو ليست بعض المرويات المدونة في
الصحاح عن جماعة من الصحابة كأبي هريرة وأمثاله أضر على الاسلام
وأكبر خطرا مما يسميه السباعي وأسلافه بالبدع كما سنشير إليها خلال
الفصول الآتية، أوليس معاوية أول من ادخل البدع في دين الله ودعا
إليها وعاقب على تركها وفرض مسبة علي وبنيه على الخطباء وأئمة المساجد.
واستمر الامر على ذلك قرنا كاملا من الزمن وقد قال رسول الله (ص):
من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن
سن سنة حسنة كان له اجرها واجر من عمل بها.
أو لم يقل رسول الله (ص) لعمار: يا عمار تقتلك الفئة الباغية
وهل ينكر أحد من المحدثين، قتل معاوية واتباعه لعمار بن ياسر ومن على
شاكلته من صحابة النبي الميامين.
أفلا يكفي معاوية ان يكون في عداد المبتدعة تسليط ولده الفاجر
المستهتر في دين الله على المسلمين: مع العلم بأنه قد خالف بذلك سيرة
149

الشيخين الجليلين أبي بكر وعمر الذين لم يجعلا لأولادهما نصيبا فيها.
وفي ولدهما من هو أبر وأصلح وأتقى من معاوية وأولاده بعشرات المرات
ولو أردنا ان نستقصي البدع والمنكرات التي أحدثها جماعة من الصحابة
وماتوا وهم مصرون عليها لخرجنا من ذلك بمجلد أضخم من كتاب
السباعي (السنة ومكانتها من التشريع) وكنت أتمنى ان لا ادخل في هذا
الموضوع، ولكني كما ذكرت أولا قد رأيت نفسي مضطرا لتقديم هذه
الأمثلة التي تؤكد ان الذين يرفضون مرويات الشيعة يتسترون بتلك
الأسباب التي يدعونها، والواقع ان السبب الأول والأخير الذي لا يمكن
التكفير عنه، ولا يدخله عنصر الاجتهاد الذي دخل على تصرفات معاوية
واتباعه وعلى من وصفهم القرآن بالمنافقين. السبب الأول والأخير هو
موالاة الشيعة لعلي وأهل بيته (ع) والرجوع إليهم في أمور الدين
والتكفير عن هذه البدع لا يمكن ان يكون الا بالرجوع عن موالاتهم
والتمرغ على أعتاب بعض الصحابة بما فيهم معاوية واتباعه، وما داموا
مصرين على ذلك فهم مبتدعة كذابون، والخوارج قوم صلحاء لا يجاملون
ولا يستعملون التقية كما يصنع الشيعة، ولم يكن وسطهم بالوسط الذي
يقبل الدسائس والزندقة والشعوبيين، كما هو الحال بالنسبة إلى الرافضة
على حد تعبير السباعي وغيره (1).
ونحن إذ نبارك له ولأسلافه من العلماء والمحدثين، فكرة الرجوع
إلى الخوارج واخذ الدين عنهم، نريد ان نلفت نظر القراء إلى أن أهل السنة
يشترطون العدالة في الراوي بالإضافة إلى الاسلام، ويفسرون
العدالة بفعل الواجبات واجتناب المحرمات، مع العلم بان الخوارج
يكفرون جميع المسلمين، لأنهم لم يشتركوا معهم في جهاد الأمويين،
ويكفرون عليا واتباعه، وعثمان وحزبه، ويستحلون دماء وأموال جميع

(1) انظر ص 95 من الكتاب المذكور.
150

من لم يساندهم ويدين بآرائهم، هذا بالإضافة إلى تشريعاتهم المنافية
لأصول الاسلام ومبادئه، لان فيهم من جوز نكاح بنات الأولاد وبنات
أولاد الإخوة (1).
وادعى يزيد بن أنيسه أحد قادتهم ان الله سيبعث نبيا من العجم
بكتاب ينسخ شريعة محمد بن عبد الله (ص).
و فيهم من ادعى بان سورة يوسف ليست من القرآن، إلى غير ذلك
من الآراء المنافية لضرورات الاسلام والتي تجعلهم في عداد الكفار
والملحدين (2)، ومع ذلك فالخوارج صادقون لا يستحلون الكذب،
والشيعة مبتدعة كذابون.
وجاء عن بعض المحدثين من السنة انه سمع شيخا منهم بعد ما تاب
يقول: ان هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فانا كنا
إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا.
وبهذه المناسبة يقول الحافظ ابن حجر: هذه والله قاسمة الظهر
للمحتجين بالمراسيل، إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الاسلام، والصحابة
متوافرون، ثم في عصر التابعين فمن بعدهم، وهؤلاء إذا استحسنوا أمرا
جعلوه حديثا وأشاعوه، فربما سمع الرجل الشئ فحدث به، ولم يذكر
من حدثه به فيحمله منه غيره، ويجئ الذي يحتج بالمنقطعات فيحتج به
مع كون أصله ما ذكرنا (3).
على أن السباعي يرسل أقواله جزافا وينسبها إلى أهل السنة ليؤيد
بها ادعاءه ويركز على أساسها حملاته المسعورة على الشيعة.

(1) وهم العجاردة اتباع ميمون المجردي أحد أمرائهم.
(2) انظر مقالات الاسلاميين للأشعري، والتبصير في الدين للأسفرائيني،
وكتابنا الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ص 56 وما قبلها.
(3) انظر ص 98 من شيخ المضيرة عن توجيه النظر ص 245.
151

والواقع ان الباحث المتتبع يمكن ان ينتزح من آرائهم ونصوصهم
حول هذه المواضيع ان الأكثرية الغالبة ترفض رواية الشيعي بقول مطلق
بنحو يصح نسبته إلى جمهور أهل السنة واحسب ان هذا هو أول ما
يهتدي إليه الباحث بعد استقصاء آرائهم وتمحيصها لأنهم متفقون على أنهم
من أهل البدع والأهواء وبدعتهم ليست كغيرها من البدع التي يمكن
ان يجد لها الانسان تفسيرا مقبولا على حد زعمهم، ومع ذلك فلا يصح
نسبته إلى الجميع.
وجاء في الباعث الحثيث للشيخ احمد محمد شاكر ما يؤيد ذلك،
حيث قال: أهل البدع والأهواء إذ كانت بدعتهم مما يحكم بكفر القائلين
بها لا تقبل روايتهم بالانفاق كما نص على ذلك النووي، وأضاف إلى
ذلك أن السيوطي أنكر الانفاق الذي يدعيه النووي، لوجود القائل
بقبول روايتهم مطلقا، ووجود من يقول بقبولها إذا اعتقد الراوي حرمة
الكذب.
واما من كانت بدعته لا توجب الكفر، فان بعضهم لم يقبل روايته
مطلقا، وبعضهم قبلها إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه،
وروى ذلك عن الشافعي، حيث قال: ما رأيت في أهل الأهواء والبدع
اشهد بالزور من الرافضة.
وقال بعضهم: تقبل رواية المبتدع إذا لم يكن داعية إلى بدعته ولا
تقبل إذا كان داعية إليها، وفي رأي النووي ان الأكثر يذهبون إلى
ذلك (1).
ومن مجموع ذلك تبين انهم لم يتفقوا على رأي واحد في هذه
المسألة، وان بينهم من يرجح قبول رواية المبتدع في الأحوال كلها، وان

(1) انظر الباعث الحثيث ص 100.
152

كان الأكثر يشترط ان لا يكون داعية إليها كما نص على ذلك النووي
وقال الحافظ الذهبي في المجلد الأول من الميزان في ترجمة أبان بن تغلب:
ان الشيعي إذا لم يكفر الشيخين أبي بكر وعمر ولم يتبرأ منهما تقبل
روايته، ثم قال في وصف ابان: انه شيعي جلد، لكنه صدوق فلنا صدقة
وعليه بدعته، وأضاف إلى ذلك. فلقائل ان يقول: كيف ساغ توثيق
مبتدع؟ وحد الثقة العدالة والاتقان، فكيف يكون عدلا وهو صاحب
بدعة، وجوابه ان البدعة على ضربين صغرى كالتشيع بلا غلو، وغلو
التشيع، وهذه كثيرة في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق،
فلو رد حديث هؤلاء لذهبت جملة الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة، ثم
بدعة كبرى كالرفض الكامل، والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر،
والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة، ولا استحضر من
هذا النوع رجلا صادقا ولا مأمونا، بل الكذب شعارهم والتقية والنفاق
دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله، حاث ا وكلا فالغالي في زمان
السلف وعرفهم، هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة
ممن حارب عليا (ع) وتعرض لسبهم، والغالي في زماننا هو الذي يكفر
هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضا، فهذا ضال مفتر كذاب ونقل
عن الحافظ ابن حجر ما هو قريب من هذا النص (1).
وهذا النص من الذهبي يكاد ان يكون صريحا في أن صدق الراوي
ووثاقته لا بد من مراعاتهما في الراوي أيا كانت صفته، والشيعي مع أنه
على جميع حالاته مبتدع، ولكن إذا لم يبلغ الحال به إلى تفكير من حارب
عليا (ع) والبراءة من الشيخين لا ترد روايته إذا كان صدوقا وضابطا
للحديث، وهو وان لم يعبر عن رأي الجمهور في هذه المسألة، الا ان
الكثير منهم على ذلك، كما يبدو من نصوصهم وتصريحاتهم.

(1) المصدر السابق ص 101.
153

قال ابن حجر في هدى الساري في تحديد المبتدع الذي لا تقبل
مروياته: ان الموصوف بالبدعة، اما ان يكون ممن يكفر بها أو يفسق
فالمكفر بها لا بد وأن يكون التكفير متفقا عليه من قواعد جميع الأئمة،
كما في غلاة الرافضة المدعين حلول الألوهية في علي (ع) وغيره، والايمان
برجوعه إلى الدنيا قبل يوم القيمة أو غير ذلك، وليس في الصحيح من
حديث هؤلاء شئ.
والبدعة الموجبة للفسق كبدع الخوارج والروافض الذين لا يغلون
ذلك الغلو، وغير هؤلاء من الطوائف المخالفين لأصول السنة خلافا ظاهرا
والمستندين في خلافهم إلى تأويل ظاهر سائغ، فقد اختلف أهل السنة في
قبول حديث من هذا سبيله، إذا كان معروفا بالتحرز من الكذب مشهورا
بالسلامة من خوارم المروءة، موصوفا بالديانة والعبادة، فقيل يقبل حديثه
مطلقا، وقيل يرد مطلقا، وفصل آخرون بين ان يكون داعية لبدعته، أو
غير داعية لها فقبلوا حديث غير الداعية، وردوا حديث الداعية لها
وأضاف إلى ذلك. ان هذا المذهب هو الأعدل وصارت إليه طوائف من
الأئمة، وادعى ابن حيان اجماع أهل النقل عليه. وفصل بعضهم في رواية
المبتدع الذي لا يدعو لبدعته، بما حاصله ان غير الداعي إلى بدعته إذا
اشتملت روايته ولو من بعيد على ما يؤيد بدعته، أو يحسنها في ظاهر
الحال فلا يصح التعويل على حديثه، وان لم يشتمل حديثه على شئ من
ذلك يصح الاعتماد عليه إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة التي أوردها
العسقلاني في مقدمة فتح الباري (1). وكما ذكرنا لا يستطيع الباحث ان
ينتزع مبدأ عاما صريحا في عدم قبول مرويات الشيعة بقول مطلق يعبر عن
رأي الجميع ويصح اعتباره مذهبا لهم والذي يمكن نسبته إلى الأكثرية
ان الشيعي إذا لم يعلن البراءة ممن تقدم على علي (ع) في الخلافة ولم

(1) انظر ص 144 و 145 من المجلد الثاني من هدى الساري.
154

يكن داعيا إلى تشيعه ولا متحمسا له يصح الاعتماد على حديثه إذا كان
معروفا بالصدق ومتحررا من منافيات الوثاقة والمروءة على حد تعبير
بعضهم، أما إذا كان ممن يتبرأ من أخصام علي (ع) ويدعو إلى بدعته
التي هي التشيع في اصطلاحهم، أو يروي ما يؤيدها فلا يكون مقبول
الحديث، ومن هنا يصح ان يقال إن الشيعي الاثني عشري لا يصح
الاعتماد على مروياته عند الأكثرية الغالبة، لعدم توفر الشروط التي
يشترطونها لقبول روايته مع التشيع بهذا المعنى.
ويجد الباحث هنا وهناك في خلال أحاديثهم من يرجح الاخذ برواية
الشيعي إذا لم يكن مغاليا، وهؤلاء على قلتهم قد فصل بعضهم بين ما
إذا وردت رواية الشيعي من طريق السنة أيضا، وبين ما إذا تفرد بها
الشيعي، ففي الأول ترد روايته اطفاء لناره واخمادا لبدعته على حد
تعبيرهم وفي الحالة الثانية يصبهم الاخذ بها والاعتماد عليها إذا كان معروفا
بالصدق ولم يكن لروايته صلة ببدعته، تقديما لمصلحة انتشار الحديث
على مصلحة إهانة المبتدع، لان من مصلحة الحديث نشره واظهاره. وفي
مقابل هذه المصلحة رد حديث المبتدع المستلزم لإهانته والتشهير بكذبه
حتى لا تتسرب دسائسه إلى النفوس، ولكن مصلحة انتشار الحديث
المرتبة على الاخذ برواية المبتدع الصادق أولى بالمراعاة من تلك
المصلحة (1).
وقد وقف الغزالي من هذه المسألة موقفا معتدلا بالنسبة إلى غيره
من شيوخ السنة، يرجع حاصله إلى أن اشتراط العدالة في الراوي إذا كان
من جهة تحصيل الاطمئنان والوثوق بحديثه والعادل يتجنب الكذب

(1) المصدر السابق، وهذا التفصيل يصور لنا مدى الحقد والتعصب
ضد الشيعة الذي امتزج بدماء هؤلاء وتحكم ا في تفكيرهم ومداركهم
وأعماهم عن ادراك أبسط الحقائق وأقربها إلى النفوس البريئة
التي لا ترى للحق بديلا.
155

ويتحرز الاخذ من غير الموثوقين، فالمبتدع بناء على ذلك مهما كانت بدعته
إذا كان صدوقا يتجنب الكذب ويتحرى الصواب، ويبتعد عن غير
الموثوقين. ينبغي ان تؤخذ روايته بعين الاعتبار، وإذا كان اشتراط
العدالة راجعا إلى أن الفسق بذاته يمنع من قبول الشهادة والرواية، من
حيث كونه نقصا يسلب المتصف به أهلية الاعتماد عليه كالكفر مثلا،
فالمبتدع من حيث كونه فاسقا يفقد أهلية تحمل الشهادة والرواية.
وقد رجح مانعية الفسق من الاعتماد على الرواية لا من حيث ذاته
بل من حيث إن الفاسق متهم في حديثه، ولا يكون محلا للوثوق
والاطمئنان في الغالب، وانتهى من هذه المقدمة إلى أن المبتدع مهما كانت
بدعته، إذا كان ورعا صدوقا متمسكا في دينه لا يستحل الكذب، يصح
الاخذ بمروياته والاعتماد عليه في الحديث وغيره، وإذا لم يكن بهذه
الصفات لا يعتمد عليه في شئ من أمور الدين (1).
وهذا التفصيل من الغزالي أقرب إلى المنطق والصق بالواقع من
جميع ما قيل حول المبتدع ومروياته وتؤيده الآية الكريمة.
(ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا
على ما فعلتم نادمين) حيث إن الظاهر من الآية الكريمة ان الفاسق إنما
وجب التبين في حديثه والفحص عن صحته والوقوف عنده حتى ينكشف
الحال من حيث احتمال كذبه، وعدم صدقه فيما أخبر به لا من حيث
مانعية الفسق بذاتها. ولعل البخاري، لا ينظر إلى المبتدعة من الزاوية التي
نظر منها الغزالي فلم يرو عمن ثبت تشيعه الا عن عدد لا يتجاوز أصابع
اليد الواحدة ولم يرد ذكر لاحد منهم في أكثر من رواية أو روايتين، ولعل
ذلك من حيث إن الروايات التي وردت عن طريقهم رواها غيرهم من السنة

(1) انظر المستصفي ص 102 من الجزء الأول.
156

كما اعتذر بعض المحدثين عنه بالنسبة لروايته عن حمران بن أعين، وروى
عن بعض المتهمين بالتشيع، وعلى قلة تلك المرويات فقد ضعفها جماعة من
محدثي السنة لمجرد هذه التهمة، كما روى عن عدد كبير من الخوارج،
والنواصب. والقدرية والمرجئة وغيرهم ممن وصفهم علماء السنة
ومحدثوهم بالمبتدعة ولكن بدعتهم لا تمنع من صدقهم على حد تعبيرهم.
وقد فرق العسقلاني في مقدمة فتح الباري بين التشيع والرفض،
والغلو في الرفض بما حاصله ان التشيع هو محبة علي (ع) وتفضيله
على الصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو رافضي غال في التشيع،
ومن لم يقدمه عليهما فهو شيعي، فإذا ذكر الشيعي سبب التقدم على
الشيخين، أو صرح ببغضهما فهو غال في الرفض، ومن كان يعتقد بالرجعة
فأشد غلوا (1).
وبنتيجة هذه الفروق التي ذكرها ابن حجر لمراتب التشيع، يتبين
ان الذين روى عنهم من الشيعة ممن يقدمون عليا (ع) على الخليفتين
أبى بكر وعمر لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، كما تؤيد ذلك
الاحصاءات التي أجراها النقاد لأحاديث البخاري، وجميع المتهمين
بالتشيع بين رجاله كما يظهر من كتب أهل السنة المؤلفة في التراجم
وأحوال الرواة لا يتجاوزون خمسة عشر تقريبا، ويتسع التشيع عندهم
لكل من يحب عليا أو ينتقد أخصامه. فإذا وجدوا شخصا معتدلا في
تقديره للحوادث ومنصفا في عرضها، أو وجدوه ينتقد سيرة بعض الخلفاء
والحكام الأمويين، اتهموه بالتشيع، ووقفوا موقف المتحفظ من مروياته،
وقد يتهم الراوي بالتشيع لمجرد أنه يروي فضيلة لعلي أو حديثا حسنا
فيه. ويؤيد ذلك ما جاء في المجلد الثالث من الميزان للذهبي في أثناء
حديثه عن محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 210، فقد قال في وصفه:

(1) انظر هدى الساري ص 333.
157

انه ثقة صادق فيه تشيع يسير وموالاة لا تضر ولازم ذلك أن الموالاة التي
تبلغ اعطاء علي صفة الأفضلية على غيره تمنع من قبول مروياته.
وقال فيه أحمد بن علي السليماني الحافظ: انه كان يضع
للروافض (1) وقد ضعف المؤلفون في الحديث وأحوال الرواة إسماعيل
ابن سليمان بن المغيرة الأزرق التميمي الكوفي لأنه ممن روى حديث
الطائر المشوي.
وقال فيه أبو حاتم سمعت ابن نمير يقول: كان إسماعيل بن الأزرق
من غلاة الشيعة، ولا مصدر لمن أعطاه هذه الصفة الا روايته للحديث
المذكور، وليس في كتب الرجال ما يشير إلى تشيعه فضلا عن غلوه في
التشيع. ومما يؤيد انهم كانوا لا يتحملون من الراوي ما يرويه في
فضائل علي (ع) ان الحافظ عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي المتوفى
سنة 373 أحد الاعلام في عصره، كان يدرس عددا من تلاميذه، فاتفق
له انه املي عليهم حديث الطائر المشوي، فلم يتحملوا منه ذلك، بل
وثبوا عليه فأقاموه من مكانه وغسلوا موضعه، فلزم بيته ولم يحدث أحدا
بعد ذلك، ولذا قل حديثه عند الواسطيين كما نص على ذلك في تذكرة
الحفاظ (2) ومن الشواهد على ذلك. ان عباد بن يعقوب أبا سعيد الكوفي
المتوفى سنة 250 ممن روى عنه البخاري حديثا واحدا، ورواه غيره من
محدثي السنة، وورد لعباد بن يعقوب ذكر في بعض أسانيد البخاري
وتعرض للنقد والطعن عليه، لروايته عنه، بحجة انه كان داعية إلى
الرفض، مع اعترافهم بأنه كان صدوقا في حديثه. كما يؤيد ذلك ابن
العماد الحنبلي، والحافظ الذهبي، وكان ابن خزيمة إذا حدث عنه يقول
حدثنا الثقة في روايته المتهم في رأيه، ولا مصدر لهم في تشيعه وغلوه في

(1) انظر ص 599 من المجلد 3 من ميزان الاعتدال.
(2) انظر الإمام الصادق والذاهب الأربعة ج 6 ص 310.
158

الرفض الا انه كان يقول: ان الله اعدل من أن يدخل الجنة طلحة والزبير،
لأنهما بايعا عليا ثم نكثا بيعته وقاتلاه.
وروى عن جماعة ان النبي (ص) قال: إذا رأيتم معاوية على منبري
فاقتلوه ى والف كتابا في أحوال الصحابة لم يتحيز فيه وروى ما يتعلق
بفضل علي (ع) مع العلم بان كتب التراجم الشيعية لا تنص على تشيعه،
بل ينص أكثرها انه كان عامي المذهب، وممن نص على ذلك المرزا
محمد في اتقان المقال، والطوسي في كتابه الفهرست (1) ومهما كان الحال
فالباحث بعد التمحيص لأحوالهم وآرائهم حول هذا الموضوع يطمئن إلى أن
الرأي الشائع عندهم الذي يصح نسبته إليهم هو عدم قبول مرويات
الشيعة الإمامية الذين يفضلون عليا على غيره من الخلفاء ويرونه وأبناءه
(ع) أحق بالخلافة بعد الرسول ممن تولاها على التعاقب ومن الجائز
القريب ان يكون هذا الموقف السلبي من مرويات الشيعة في مختلف
العصور هو من نتائج الحظر الشامل الذي وضعه معاوية وولاته على
مرويات الشيعة وحتى على شهاداتهم، ولقد اكد هذا الحظر في وثيقته
التاريخية التي وزعها في مختلف الأقطار الاسلامية واقتدى به غيره من
الأمويين طيلة حكمهم الذي استمر نحوا من ثمانين عاما فكان من نتيجة
ذلك أن أصبح من المرتكزات في أذهانهم يرثها الخلف عن سلفه في مختلف
العصور / انظر ج / 3 النهج.

(1) انظر شذرات الذهب ج 3 ص 121 وتهذيب التهذيب ص 109
و 100 وهدى الساري 411 ومنهج المقال في علم الرجال للمرزا محمد.
159

الفصل الخامس
من رجال البخاري
161

بالرغم من تلك الهالة التي للبخاري وجامعه في نفوس آلاف العلماء
والمحدثين من السنة، التي بلغت حدود الغلو المفرط. والتقديس لكل
مروياته، بالرغم من ذلك فقد تعرض للنقد والطعن كغيره من كتب
الحديث، من ناحية الاسناد والمتن، وعرض بعض النقاد عيوب جماعة
من رواته ونص على عدم توفر الشروط المطلوبة فيهم، ولكن أكثر المؤلفين
في الرجال قد تطوعوا للدفاع عنهم، وحاولوا تغطية عيوبهم بمختلف
الأساليب، وأسرف بعضهم في دفاعه بعدما عجز عن اثبات برأتهم مما
الصق بهم، فقال: لا يجوز الطعن في اي كان من رجال البخاري ما لم
يكن امره واضحا لا يقبل التأويل والتوجيه، وما دام التأويل والتوجيه
ممكنا، فكلهم فوق الشبهات والأهواء، واستشهد هؤلاء بقول المقدسي
وغيره من المحدثين: قال في هدى الساري في الموضوع نفسه، وقد كان
الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول:
كل من روي عنه من الصحيح فقد جاز القنطرة، كما نص على ذلك
القشيري، الشيخ أبو الفتح في مختصره، وأضاف إلى ذلك. انه لا
يجوز الخروج عن هذا الأصل الا بحجة ظاهرة، وبيان شاف يزيد في غلبة
الظن على المعنى الذي قدمناه، من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية
كتابيهما بالصحيحين.
وأقر هذا المبدأ ابن حجر في مقدمة فتح الباري، ودافع دفاعا قويا
عن الرجال الذين تعرضوا للنقد والتجريح من رجال البخاري بعد أن
163

عرض ما قيل فيهم من قدح ومدح، ولم يستطع ان يستر تحيزه لهذا
المبدأ، ولا غلوه في تعظيم الصحيح وتقديس رجاله، كما يبدو ذلك من
الفصل، الذي عرض فيه الأسماء التي تعرضت للنقد في كتب الرجال (1).
إليهم وتضعيفها، ونؤكد ما ذكرنا أولا من انا لا نستبعد على البخاري ان
يكون قد اعتمد على ما يعتقد بسلامته من العيوب متنا وسندا. ككل
باحث يتحرى الصحيح حسب اجتهاده، ولكل انسان ان يجتهد كما اجتهد
هو وغيره، ولكن لا يلزم انسان باجتهاد غيره مهما بلغت مرتبته من العلم
والتدقيق والإحاطة. وسنعرض في هذا الفصل جماعة من رجال الصحيح
للبخاري والكافي للكليني معتمدين فيما قيل فيهم على المؤلفات التي تبحث
في هذه المواضيع عند السنة والشيعة.
وقد تعرضنا في الفصول السابقة لجماعة من الصحابة الذين اعتمد
عليهم البخاري في صحيحه وروى عنهم المئات من الأحاديث، مع العلم
بأن الذين كتبوا في الجرح والتعديل لم يتعرضوا لمن أسموهم بالصحابة
الا بما يوحي بالقداسة والفضل العظيم، لان شرف الصحبة جعلهم فوق
مستوى الناس أجمعين، لذا فان الذين تعرضوا للنقد والتجريح من رجال
البخاري كلهم من الطبقة الثانية وما بعدها.
ولا نريد في هذا الفصل ان نستقصي جميع المشبوهين والمتهمين
بالبدع والانحرافات الخلقية والعقائدية، لان استيعاب هذه الناحية
بكاملها لا يتسع لها كتاب واحد، لا سيما وان هذه الدراسات التي تناولت
كتابين من أبرز كتب الحديث واجلها عند السنة والشيعة لم تكن لهذه
الغاية.

(1) انظر 144 جزء 2 من المقدمة.
164

ومهما كان الحال فالكتابان قد تعرضا للنقد والهجوم وبخاصة فيما
يتعلق برجالهما. لا سيما بين المتأخرين من اعلام الفريقين وان كانت
الهجمات التي تعرض لها البخاري وصحيحه من بعض اعلام السنة قد
تطوع لردها العشرات من العلماء والمحدثين لان من روى عنه فقد جاز
القنطرة وصحيحه أصح كتاب بعد كتاب الله كما يؤكد ذلك أكثرهم.
ونقدم أولا بعض النماذج من المعتمدين عند البخاري قال ابن الصلاح:
لقد احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الطعن بهم كعكرمة مولى ابن
عباس، وإسماعيل بن أويس، وعاصم بن علي وعمر بن مرزوق وغيرهم
وغيرهم.
وقال العراقي في شرح ألفيته في مقام الرد على من قال إن من شرط
البخاري انه لا يخرج الا عن الثقة حتى ينتهي إلى الصحابي: قال: هذا
القول ليس بجيد، لان النسائي ضعف جماعة اخرج لهم الشيخان، وقال
البدر العيني: في الصحيح جماعة جرحهم بعض المتقدمين. وجاء في العلم
الشامخ: في رجال الصحيحين من صرح كثير من الأئمة بجرحهم وتكلم
فيهم من تكلم بالكلام الشديد.
وقال الشيخ احمد شاكر في شرحه لألفية السيوطي: وقد وقع في
الصحيحين كثير من رواية بعض المدلسين، والتدليس في الرواية من
الأسباب الموجبة لضعف الراوي، وعدم وثاقته، لان التدليس في واقعه
يرجع إلى الكذب والاغراء.
وقال شعبة بن الحجاج امام الجرح والتعديل على حد تعبير بعض
المؤلفين في أحوال الرواة: لان أزني أحب إلي من أن أدلس، وأضاف إلى
ذلك، ان التدليس أضر من الكذب.
ونص جماعة من الفقهاء والمحدثين منهم الشافعي على عدم قبول
165

روايته مطلقا (1) وقال جماعة: من اشتهر بالتدليس أصبح من المجروحين
الذين لا تقبل مروياتهم مطلقا، وان صرح بالسماع بعد ذلك.
وممن اشتهر بالتدليس أبو هريرة الذي اعتمد عليه البخاري أكثر
من جميع الصحابة. قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: كان
أبو هريرة يقول: قال رسول الله (ص) كذا وإنما سمعه من غيره، ونص
الذهبي في سيرة أعلام النبلاء. على أن يزيد بن إبراهيم سمع شعبة بن
الحجاج يقول: كان أبو هريرة مدلسا. وجاء في البداية والنهاية. ان
يزيد بن هارون سمع شعبة يقول فيه ذلك. ويروي ما سمعه من كعب
الأحبار ومن رسول الله (ص) ولا يميز بين هذا وهذا، وعندما يتصدى
له أحد بالسؤال ويحقق معه في الحديث الذي ينسبه لرسول الله (ص)
يتراجع أحيانا ويقول اخبرني به مخبر، ولم أسمعه من رسول الله (ص)
وبلغ عائشة انه يروي عن الرسول انه سمعه يقول: من أصبح جنبا فلا
صوم له، فأنكرت عليه وقالت له: متى سمعت رسول الله (ص) يقول
ذلك فقال لها كما جاء في رواية البخاري، وابن سعد، وابن كثير وغيرهم:
لقد شغلك عن حديث رسول الله (ص) المرآة والمكحلة والخضاب
فأصرت على انكارها عليه والتشهير به وروت عن الرسول بأنه كان يدركه
الفجر وهو جنب من غير احتلام، فيغتسل ويصوم، فتراجع بعد ذلك،
وقال إنها اعلم مني: اني لم أسمعه من رسول الله (ص) وإنما سمعته
من الفضل بن العباس.

(1) التدليس في الرواية ان يروي الراوي عمن عاصره ولم يسمع
منه بقصد ايهام الغير انه قد سمع منه. كما لو روى بلفظ سمعت فلانا
أو قال لي فلان من غير أن يسمع منه أو يراه.
166

قال ابن قتيبة: لقد استشهد أبو هريرة بالفضل بن العباس بعد
موته، ونسب الحديث إليه ليوهم الناس بأنه قد سمعه منه (1).
وقال الحافظ الذهبي: التدليس من الصحابة كثير الا انه لا يضر،
ولا عيب فيه، هذا مع العلم بان التدليس من العيوب التي لا تقل خطرا
عن الكذب، ان لم يكن أفظع منه، وقد عده علماء الجرح والتعديل
سببا كافيا لتضعيف الرواية وسقوطها عن درجة الاعتبار، ولكنه إذا صدر
من صحابي فلا حكم له، لان الله سبحانه قد رفع عنهم ما وضعه على
غيرهم، ولأنهم مجتهدون في كل ما يفعلون وعدالتهم أثبت من الجبال
الرواسي لا تتصدع بجميع المنكرات والمعاصي. ولذا فان النقاد وعلماء
الجرح والتعديل قد وضعوا عددا كبيرا من رجال البخاري في قفص الاتهام
وألصقوا بكل واحد عيوبه، ولم يذكروا في عدادهم من الصحابة الا
مروان بن الحكم لأنه قتل طلحة في أعقاب واقعة الجمل، وشهر السيف
طلبا للخلافة على حد تعبير بعضهم، واعتذر عنه جماعة منهم ابن حجر في
مقدمة فتح الباري، بأنه كان متأولا فيه (2).
ويقصدون بذلك انه خاف ان ينسحب من المعركة كما انسحب منها
القائد الثاني الزبير، وتلك جريمة لا مبرر لها، لأنهم يقاتلون قوما أشركوا
بالله واستحلوا حرماته بنظر مروان وعصابته، ونص بعضهم انه كان
متأولا من حيث إنه كان مقتنعا بان طلحة ممن حرض على عثمان وأعان
على قتله.
ومهما كان الحال فقد روى البخاري عن جماعة من الخوارج
والنواصب والقدرية والمرجئة وغيرهم ممن وصفهم المحدثون والفقهاء

(1) انظر شيخ المضيرة عن سير أعلام النبلاء وموطأ مالك.
(2) انظر هدى الساري ص 678.
167

بالمبتدعة، ومن بين هؤلاء نحوا من خمسة عشر راويا طعن فيهم المحدثون
بتهمة التشيع، وسنعرض قي هذا الفصل جماعة ممن تعرضوا للنقد
واتهموا بالانحراف من رجال البخاري. فمن هؤلاء عكرمة مولى عبد الله
ابن العباس، وقد تعرض لأعنف الهجمات وأسوأ الاتهامات من المتقدمين
على البخاري والمتأخرين عنه ومرد الطعون الموجهة إليه إلى الأمور التالية
الأول انه كان يكذب في الحديث وينسب لعبد الله بن العباس وجاء عن
ابن سيرين وسعيد بن المسيب، وعطاء ويحيي بن سعيد الأنصاري، ومالك
ابن انس، والقاسم بن محمد وغيرهم انه كان من الكذابين المعروفين
وحبسه علي بن عبد الله في بيت الخلاء لأنه أسرف في الكذب على أبيه،
وقال سعيد بن المسيب لغلامه: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على
عبد الله، إلى غير ذلك من النصوص التي تصفه بالكذب والوضع.
الثاني من الطعون الموجهة إليه انه كان يعتنق فكرة الخوارج.
ويدعو إليها في إفريقيا وغيرها وانتشرت في تلك البلاد بسببه، فقد روى
الحاكم في تاريخ نيسابور قال: كنت قاعدا عند عكرمة، فاقبل مقاتل ابن
حيان وأخوه، فقال له مقاتل: يا أبا عبد الله ما تقول في نبيذ الجر فقال
عكرمة: هو حرام، قال ما تقول فيمن شربه: قال أقول إنه كافر.
وقال أبو سعيد بن يونس في تاريخ الغرباء: وبالمغرب إلى وقتنا
هذا قوم على مذهب الأباضية يعرفون بالصفرية يزعمون أنهم اخذوا عن
عكرمة. وقال ابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 227: كان عكرمة عبدا
لعبد الله بن العباس فباعه علي بن عبد الله لخالد بن يزيد بن معاوية
بأربعة آلاف دينارا، ثم رجع عكرمة إلى علي وقال له: أتبيع علم أبيك
بأربعة آلاف دينارا، فاستقاله فأقاله وأعتقه، وأضاف إلى ذلك أن عبد الله
ابن الحرث قال: دخلت على علي بن عبد الله وعكرمة موثق على باب كنيف
فقلت له: أتفعلون هذا بمولاكم، قال إن هذا يكذب على أبي: واستطرد
168

في حديثه عنه ووصفه بأنه كان خارجيا يرى رأي الخوارج ويدعو إليه
ومات وله من العمر ثمانون عاما (1).
واكد هذه الحقيقة كل من يحي بن بكير، وخالد بن أبي عمران
الحصري، ومعصب الزبيري، وأحمد بن حنبل وغيرهم، ودافع عنه
جماعة من المحدثين، وكان من أشدهم حماسا له ابن حجر في مقدمة فتح
الباري، وما ذاك الا لان البخاري يعتمد عليه في جامعه ويكثر من الرواية
عنه (2).
الثالث من الطعون، انه لان يساير الامراء ويقف على أبوابهم طمعا.
في جوائزهم، ومن كانت هذه حالته يضطر إلى مجاراتهم وتقريض
أعمالهم.
وقد أسهب في مقدمة فتح الباري في سرد ما قيل فيه من مدح وذم،
ودفع جميع الطعون الموجهة إليه اعتمادا على نصوص بعض المحدثين الذين
أثنوا على دينه وعلمه، مع العلم بان الرأي الشائع المعمول به عند جمهور
المحدثين فيما لو تعارض الجارح والمعدل، هو تقديم الجارح، لان المعدل
يخبر عما ظهر من حاله والجارح يخبر عن باطن خفي على غيره، وإذا كان
عدد المعدلين أكثر، فقد قيل بتقديم التعديل، والصحيح الذي عليه
الجمهور كما نص ابن الصلاح ان الجرح مقدم على كل حال (3).
ومن الغريب ان يطعن الحفاظ والمحدثون فيمن كان يساير الحكام
ويطمع في جوائزهم ولا يطعنون فيمن كان يشترك معهم مباشرة في الحكم
والظلم والبغي وقتل الأبرياء كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة بي مروان

(1) انظر المعارف لابن قتيبة ص 201.
(2) انظر المقدمة ص 192، 193 و 194.
(3) انظر الأضواء ص 281.
169

ابن الحكم وبسر بن أرطاة وأمثال هؤلاء من العشرات الذين روى عنهم
البخاري في صحيحه عشرات الروايات، ولم يجرأ أحد من النقاد ان
يتعرض لهم بنقد أو تجريح.
ومنهم إسماعيل بن أويس، وقد ضعفه النسائي، وقال
فيه سلمة بن شبيب ما يوجب طرح روايته على حد تعبير
ابن حجر في مقدمة فتح الباري، كما ضعفه ابن معين والدارقطني وغيرهما،
ولم يستطع ابن حجر ان يثبت امام الطعون الموجهة إليه، ولكنه اعتذر
عنه، بأنه قد اجتمع بمحمد بن إسماعيل البخاري، واخرج له أحاديثه
لينتقي منها وطلب منه ان يرشده إلى الصحيح من غيره ليحدث به،
واستنتج من ذلك أن البخاري لم يدون في صحيحه الا الصحيح منها (1).
ومنهم عروة بن الزبير، أحد الحاقدين على علي (ع) الذين كانوا
يروون فيه الأكاذيب ارضاء لسيدهم معاوية بن أبي سفيان، وروى عنه
الزهري بأنه سمع عائشة تقول: كنت عند رسول الله (ص) إذ اقبل علي
والعباس، فقال النبي (ص) يا عائشة ان هذين يموتان على غير ديني.
وروى عنها انها قالت: كنت عند رسول الله (ص) فقال النبي (ص) يا
عائشة: ان سرك ان تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين،
فنظرت وإذا بعلي والعباس قد أقبلا علينا.
وجاء في شرح النهج لابن أبي الحديد عن جرير بن عبد الحميد عن
محمد بن. شيبة قال: شهدت مسجد المدينة فإذا الزهري وعروة بن الزبير
جالسان يذكران عليا (ع) فنالا منه، فبلغ علي بن الحسين (ع) فجاء
حتى وقف عليهما، فقال اما أنت يا عروة فان أبي حاكم أباك إلى الله
فحكم لأبي على أبيك، واما أنت يا زهري، فلو كنت بمكة لأريتك بيت
أبيك، وأضاف إلى ذلك. إذ عاصم بن أبي عامر الجبلي حدث عن يحيى
ابن عروة أنه قال: كان أبي إذا ذكر عليا (ع) نال منه إلى غير ذلك مما

(1) المقدمة ص 151، ج 2.
170

يؤكد انه كان ناصبيا كارها لعلي (ع)، وقد أكثر البخاري من الرواية
عنه وعن ولده هشام بن عروة، الذي روى عن أبيه وورث عنه النصب
والعداء الشديد لعلي وأهل بيته (ع) (1).
ومنهم حريز بن عثمان أحد المتعصبين والمبغضين لعلي وبنيه (ع)
وجاء في المجلد الأول من شرح النهج، ان حريز بن عثمان كان ينتقصه
ويبغضه ويروي عنه اخبارا مكذوبة، وقد قيل ليحيى بن صالح الوضاحي:
لقد رويت عن مشايخ من نظراء حريز بن عثمان، فما بالك لم تحمل عنه،
قال لقد اتيته: فناولني كتابا، فإذا فيه حدثني فلان عن فلان ان النبي
(ص) لما حضرته الوفاة أوصى ان تقطع يد علي بن أبي طالب (ع)
فرددت الكتاب ولم استحمل ان أروي عنه شيئا.
وجاء في تاريخه انه كان إذا دخل المسجد ليصلي فيه لا يخرج منه
في يلعن عليا سبعين مرة، وجاء عن إسماعيل بن عياش أنه قال: رافقت
حريزا من مصر إلى مكة فجعل يسب عليا ويلعنه، ثم قال لي: هذا الذي
يرويه الناس ان النبي (ص) قال لعلي أنت مني بمنزلة هارون من موسى
حق، ولكن أخطأ السامع، قلت: فما هو؟ قال: إنما هو أنت مني بمكان
قارون من موسى (2).
وجاء عنه أنه قال: يا أهل العراق أنتم تحبون عليا ونحن نبغضه ولما
سألوه عن سبب ذلك أجاب بأنه قتل أجداده (3).
ومنهم أبو بردة بن أبي موسى الأشعري أحد النواصب المغالين في
بغضهم لعلي (ع) قال في المجلد الأول من شرح النهج: ومن المبغضين

(1) انظر المجلد الأول من شرح النهج 358 - 370.
(2) المصدر السابق ص 363.
(3) نفس المصدر ص 370.
171

القالين له أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، ورث البغض له لا عن كلالة
وجاء عن عبد الرحمن بن جندب ان أبا بردة قال لزياد بن أبيه: اشهد ان
حجر بن عدي قد كفر بالله كفرة أصلع، عنى بذلك انه اخذ الكفر عن
علي (ع).
وروى عبد الرحمن المسعودي عن ابن عياش المنتوف أنه قال:
سمعت أبا بردة يقول لأبي العادية الجهني قاتل عمار بن ياسر، أنت
قتلت عمارا قال نعم: فتناول يده وقبلها، ثم قال له: لا تمسك النار
ابدا (1).
ومن الغريب ان ابن حجر في مقدمته عد أكثر من أربعمائة من رجال
البخاري. ممن طعن فيهم جماعة من المحدثين بما يوجب ضعفهم وعدم
الوثوق بهم وعد منهم ستة من النواصب المعروفين بعدائهم لعلي (ع)
ولم يذكر أحدا من النواصب الذين ذكرناهم، مع أنهم قد اشتهروا بهذه
الصفة أكثر من غيرهم، ولعله من حيث إنه لا يجد سبيلا للدفاع عنهم.
ومهما كان الحال، فإذا أضفنا هؤلاء إلى الستة الذين ذكرهم ابن
حجر في مقدمته وأضفنا الجميع إلى النواصب من الصحابة، يبلغ عدد
النواصب بين رجال البخاري نحوا من ستين ناصبيا على وجه التقريب.
كما يبلغ عدد الخوارج الذين روى عنهم في صحيحه أكثر من ثلاثة عشر
خارجيا حسب التهم الموجهة إليهم في كتب التراجم وأحوال الرجال.
وإذا أردنا ان نتلمس له ولأمثاله من المحدثين العذر بالنسبة إلى
نواصب الصحابة من حيث إنهم قد اجتهدوا في كل ما صدر عنهم كما يزعم
أهل السنة فهل يجد لهم الباحث عذرا مقبولا يبرر اعتمادهم على مرويات
هذا النوع من التابعين، ويسوغ لهم رد مرويات الشيعي الداعي إلى

(1) المجلد الأول من شرح النهج: ص 370.
172

تشيعه كما رجح ذلك أكثرهم، ولماذا كان المفضل لعلي (ع) على غيره
والقائل بأنه هو الخليفة الشرعي بعد رسول الله (ص) أسوأ حالا ممن
كان يقول في حجر بن عدي الكندي الصحابي الجليل، لقد كفر بالله
كفرة أصلع، كأبي بردة بن أبي موسى الأشعري وعروة بن الزبير وأمثالهما
من السبابين الفحاشين الذين قد أكثر البخاري من الرواية عنهم، وهم
أسوأ حالا من الخوارج الذين كانوا يكفرون جميع المسلمين ويستحلون
دماءهم وأموالهم لمجرد انهم لم يقفوا إلى جانبهم في المعارك التي دارت
بينهم وبين الأمويين، ولم يقروا آراءهم التي لا ترتكز على أساس صحيح
من العلم والدين والمنطق، مع العلم بأنه قد عاصر الامامين الهادي
والعسكري (ع) ولا بد وأن يكون قد أدرك الإمام الجواد ولم يرو
عنهم شيئا كما وانه لم يرو عن الأئمة الصادق والكاظم والحسن الزكي،
ولا عن غيرهم من السادة العلويين والرواة لأحاديث أهل البيت الذين
عاصرهم وعرف عن نشاطهم قي جمع الحديث وتدوينه وتصفيته في الفترة
التي مر بها في معالجة هذه المواضيع.
ومجمل القول إن الشيخ محمد بن إسماعيل البخاري، مع أنه وجد
في عصر كانت مدارس الفقه والحديث في منتهى نشاطها عند جميع الفرق
والمذاهب الاسلامية ونشاط الشيعة كان بارزا ملموسا في أوائل القرن
الثالث الذي ظهر فيه البخاري في مختلف العواصم والمناطق الاسلامية.
لا سيما الكوفة وبغداد وقم وغيرها من المدن الكبرى التي كانت تجمع
العشرات ممن تفرغوا لدراسة الحديث وتدوينه، ومع ذلك فلم يرو عن
أحد منهم. ولا عن الأئمة الثلاثة الذين عاصرهم، ولا عن الإمام الصادق
(ع) مؤسس مدرسة الفقه والحديث وولده الإمام موسى بن جعفر، ولا
عن أحد من العلويين كزيد بن علي وغيره. مع العلم بان زيد بن علي قد
ترك اثرا في الفقه والحديث، من أبرز مؤلفات ذلك العصر، وترك تلاميذ
173

الأئمة (ع) آلاف المؤلفات كما تدل علي ذلك الفهارس المخصصة لاحصاء
مؤلفات الشيعة (1).
هذه المؤلفات علي سعتها أكثرها من مرويات الامامين الصادق
وأبيه محمد الباقر، وهي لا تتعدى أحاديث الرسول وأقضية على وفتاويه
خلال ثلاثين عاما قضاها بعد وفاة الرسول في نشر العلم والآثار الاسلامية
ومع ذلك فالبخاري لم يرو عنه في صحيحه سوى تسعة عشر حديثا، بينما
روى عن أبي هريرة أكثر من أربعمائة وخمسين حديثا، وعن انس بن
مالك المعروف بعدائه لعلي (ع) أكثر من مأتي حديث، وقد تجاهل
الحسن بن علي (ع) الذي نشأ في أحضان الرسول وتخرج من مدرسة
علي أمير المؤمنين (ع) وبقي بعد جده وأبيه منهلا لرواد العلم ومصدرا
كريما لكل مسترشد يروي لهم أحاديث جده، ويعلمهم احكام الاسلام
كما نزلت من عند الله، ومع ذلك فلم يرو عنه البخاري شيئا وروي عن
عبد الله ابن الزبير، وعده صحابيا فوق الشبهات والأهواء مع أنه هو
والحسن بن علي (ع) في سن واحدة تقريبا، وهو الذي ترك الصلاة على
النبي أربعين يوما عداوة لعلي وال علي (ع).
هذه المواقف من البخاري مع الشيعة وأئمة الشيعة من الصعب ان
يجد لها الباحث تفسيرا مقبولا لا سيما وهو يروي عن الخوارج والنواصب
وأمثالها من المنحرفين و المفسرين في الشهوات والمنكرات وجميع الآثام.
وإذا قلنا إن البخاري لا يروي عن الشيعة ولاعن أئمتهم، فلا نقصد
من ذلك أن صحيحه خال من الشيعة، وإنما الذي نعنيه ان الشيعة في
عصره وقبله ان لم يكونوا أبرز من غيرهم في جميع الميادين والمواضيع
العلمية، فلا أقل من أنهم كانوا كغيرهم من علماء السنة ومحدثهم وقد

(1) انظر الفهرست في أسماء المؤلفين من الشيعة والنجاشي
وغيرهم.
174

انصرفوا إلى تصفية الحديث وتصنيفه قبل لم ان يقوم البخاري بمهمته التي
تعد تجولا جديدا في تاريخ الحديث عند السنة، ومع ذلك لم يرو عن
هذه الطبقات التي عاصرته ولا عن التي قبلها وتجاهل الأئمة الكرام الذين
حدثوا ص جدهم الرسول وأبيهم علي (ع) وعن كرام الصحابة، لا نقصد
ان ندعي انه خال من الرواة المعتنقين لفكرة التشيع، لان الباحث يجده
في بعض الأسانيد يعتمد أحيانا على بعض الشيعة كسعيد بن المسيب،
وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، وعبد الملك بن أعين في حديث واحد
رواه عنه سفيان بن عيينة في كتاب التوحيد من صحيحه، والثلاثة الأول
وان أحيط تشيعهم بأكثر من شبهة عند السنيين والشيعيين، ولكنهم في
واقعهم أقرب إلى التشيع من التسنن، لا سيما سعيد بن جبير الذي قتله
الحجاج بن يوسف لأنه لم يعلن براءته من علي وبنيه (ع) كما نص على
ذلك أكثر المؤرخين، هذا بالإضافة إلى أن كتب التراجم السنية لا تعد
سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد من رجال الشيعة.
وهب أن هؤلاء وأكثر منهم ممن اتهم بالتشيع بين رجال البخاري
من الشيعة البارزين والداعين إلى التشيع، فهل يرفع ذلك عن البخاري
الذي جاء لتصفية الحديث، وجمع صحيحه من ستماية الف حديث
مسؤولية اهماله لآلاف الرواة والمحدثين من الشيعة الذين شاركوه في
رحلاتهم الطويلة لدراسة الحديث، واهماله لثلاثة من الأئمة الذين
عاصروه (1) وتجاهله للإمام الصادق وولده الكاظم وحفيده الإمام علي
ابن موسى (ع) وللحسن السبط، مع اكثاره من مرويات أبي هريرة
المدلس (2) وابن هند واتباعه، وعكرمة الخارجي، وعروة الناصبي،
وروايته عن عمران بن حطان ورفاقه من الخوارج، لذا فان الباحث لم

(1) الجواد والهادي والعسكري (ع).
(2) بشهادة ابن قتيبة. وشعبة بن الحجاج امام أهل الجرج والتعديل
وغيرهما.
175

يجد بدا، من التسائل، بل وحتى من اتهامه بالتعصب ضد الشيعة كما
ذكرنا.
ولو افترضنا ان له عذرا بالنسبة لاهماله لرواة الشيعة ومحدثيهم
فهل يستطيع أحد ان يجد له عذرا مقبولا يجعله في حل من تجاهله للإمام الصادق
والأئمة الهداة من ذرية الرسول (ع) الذين كانوا يروون عنه
وعن جدهم علي (ع) وكانوا على صلة بآراء جميع الفقهاء والمحدثين
على اختلاف مذاهبهم ونزعاتهم.
ومنهم محمد بن شهاب الزهري أحد علماء التابعين، المتوفى سنة 122،
وكانت صلاته بقصور الأمويين من أوثق الصلاة، وتولى لهم القضاء
فأفاضوا عليه من عطائهم وهباتهم، كما تؤكد ذلك المصادر التاريخية.
ومن المعلوم ان الحكام وبخاصة الأمويين منهم كانوا أبعد عن الدين
وأهله من غيرهم، ولم يقربوا من العلماء الا من كان يؤيد تصرفاتهم،
ويمنحهم صفات الخلفاء الشرعيين لرسول الله (ص).
وجاء في تاريخ اليعقوبي، ان عبد الملك بن مروان لما منع الناس من
الحج إلى مكة يوم كان ابن الزبير مسيطرا على الحجاز، ضج الناس من
منعهم عن أداء فريضة الحج، فاستنجد عبد الملك بالزهري لكي يجعل
له مخرجا من تلك الأزمة، فوضع له حديثا عن الرسول (ص) ينص على أنه
قال: لا تشد الرحا ل الا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجد
المدينة، ومسجد بيت المقدس، وان الصخرة التي وضع رسول الله قدمه
عليها تقوم مقام الكعبة فبنى عبد الملك على الصخرة قبة وعلق عليها ستور
الديباج، وأقام لها سدنة واخذ الناس ان يطوفوا حولها كما يطوفون
حول الكعبة نكاية بأخصامه السياسيين (1).

(1) انظر ص 8 من المجلد الثاني من تاريخ اليعقوبي.
176

وقد وصفه الذهبي في المجلد الرابع من ميزان الاعتدال
بالتدليس (1).
6 - أحمد بن بشير الكوفي روى عنه البخاري في صحيحه، وعده
النسائي، وعثمان الدارمي من الضعفاء، واكد عثمان الدارمي بأنه من
المتروكين الذين لا يعتمد على مروياتهم توفي سنة 197.
7 - أحمد بن صالح المصري أبو جعفر الحافظ، قال النسائي فيه:
ليس بثقة ولا مأمون، تركه محمد بن يحيى، ووصفه ابن معين بالكذب
وقال معاوية بن صالح: سألت يحيى بن معين عن أحمد بن صالح، فقال
كذاب يتفلسف وقد دافع عنه ابن حجر في مقدمة فتح الباري على عادته
مع المتهمين من رجال البخاري.
8 - أحمد بن أبي الطيب المروزي، وصف أحاديثه أبو حاتم الرازي
بالضعف، وجاء في ميزان الاعتدال. انه كان يروي المناكير، وتولى
شرطة بخارى من قبل حكامها.
9 - إبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي، ضعفه أحمد بن حنبل، ويحيى
ابن سعيد، وترك حديثه الدارقطني، ورجح تركه النسائي، ومع ذلك
فقد روى عنه البخاري حديثين، واعتمد عليه في بعض الأسانيد.
10 - أحمد بن عيسى المصري، قال في التهذيب: لقد حلف ابن معين
بأنه كذاب وقال سعيد بن عمرو اليربوعي: لقد أنكر أبو زرعة على مسلم
روايته عنه وأضاف إلى ذلك، ان أبا زرعة قال: ما رأيت أهل مصر
يشكون في أنه وأشار إلى لسانه، اي انه كذاب.

(1) انظر ص 40، ج 4، من الميزان.
177

11 - إسحاق ين سويد بن هبيرة العدوي، كان ناصبيا يهاجم الإمام علي
بن أبي طالب (ع) ضعفه جماعة من المحدثين، ومع ذلك فقد روى
عنه البخاري، ومسلم وأبو داوود والنسائي.
12 - إسحاق بن محمد بن إسماعيل، ضعفه أبو داوود والنسائي،
وقال الدارقطني والحاكم في المستدرك، لقد تعرض البخاري للنقد من
جهة روايته عنه.
13 - إسماعيل بن ابان الوراق أحد شيوخ البخاري ضعفه جماعة من
المحدثين، ووصفه بعضهم بالانحراف عن الحق، يعنون بذلك انه كان
يميل إلى التشيع (1).
14 - أسيد بن زيد الجمال، ضعفه كل من النسائي وابن معين
والدارقطني ورجح ضعفه كل من ابن عدي وابن حيان، وأضاف ابن حيان
انه كان يروي المناكير ويسرق الحديث، ويظهر منهم انه كان متهما
بالتشيع، فقد جاء في كلام البزار عنه، احتمل حديثه مع شيعية شديدة
عنه (3).
15 - ثور بن يزيد الحمصي، كان من القائلين بالقدر، وقد نهى
الأوزاعي وابن المبارك عن كتابة حديثه والاعتماد عليه.
16 - حصين بن نمير الواسطي ضعفه ابن معين، وأبو أحمد الحاكم
في الكنى، وقال فيه جماعة: انه كان ناصبيا يشتم عليا (ع).

(1) وقد ورد ذكره في كتب الرجال عند الشيعة، ولم يظهر منها
ما يشعر بتشيعه أو وثاقته ولم يذكروا له مدحا ولا ذما الا عن طريق التقريب
لابن حجر.
(2) ليس في كتب الرجال ما يشير إلى تشيعه. ولا هو من الشيعة.
والظاهر أنه كان معتدلا في تسننه.
178

17 - الحسن بن عمارة الكوفي كان كذابا، وقد اطبقوا على تركه،
كما جاء في مقدمة فتح الباري.
18 - خالد بن مخلد القطراني الكوفي من كبار شيوخ البخاري، طعن
في أحاديثه جماعة منهم أحمد بن حنبل، وتوقف في امره آخرون لأنه كان
غاليا في التشيع على حد زعمهم، وقال فيه ابن سعد: انه منكر الحديث
مفرط في التشنيع، وعد له ابن عدي عشرة أحاديث من المنكرات.
وروى عنه البخاري بسنده إلى أبي هريرة ان رسول الله (ع)
قال: ان الله عز وجل قال: من عادى لي وليا فقد آذنني بالحرب وما تقرب
إلي عبدي بشئ أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي
بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي
يبصر به، ويده انني يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، فلئن سألني
عبدي لأعطينه، ولإن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شئ انا فاعله
ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد
له منه (1).
وقد عد المحدثون هذا الحديث من الغرائب، ولكن هيبة الجامع
الصحيح الذي دون فيه هذا الحديث تمنعهم من طرحه، وعدوه من
منكرات خالد بن مخلد على حد تعبير الذهبي في المجلد الأول من
الميزان.
وقال ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب: كان خالد بن مخلد

(1) والواقع ان الحديث يشتمل على بعضي الفقرات المنكرة
والتي لا يمكن الالتزام بها بالنسبة إلى الله تعالى " مثل قوله وما ترددت في شئ
انا فاعلة ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن " فان نسبة التردد إلى
الله لا تنفك عن الجهل بالمصالح والنتائج المرتقبة. ولعل هذه
الزيادة في الحديث من موضوعات أبي هريرة.
179

أحد الحفاظ بالكوفة، رحل واخذ الحديث عن مالك وطبقته، وتوفي
سنة 213.
وليس في كتب الرجال الشيعية له ذكر، ولو كان من الشيعة أو من
المفرطين في التشيع كما يدعى ابن سعد وغيره لورد ذكره حتما بين رجال
الشيعة، لأنهم لم يهملوا أحدا، بل تعرضوا حتى لمن كان تشيعه محاطا
بشئ من الغموض، وخالد بن مخلد لو كان من رجال الشيعة كما تنص
على ذلك بعض المؤلفات السنية لا يمكن اهماله لا سيما وهو من كبار
شيوخ البخاري.
19 - داود بن الحصين المدني، قال فيه الذهبي: قد تفرد بأشياء
منها ولاؤه لعثمان وآله ومنها انه كان خارجيا يرى رأي الخوارج، ويروي
الأحاديث المنكرة، وكان يتقي حديثه سفيان بن عيينة، وتوقف فيه
أبو حاتم، وكان علي بن المديني يقول: مرسل الشعبي وسعيد بن المسيب
أحب إلي من مسند داوود عن عكرمة عن ابن عباس (1).
20 - رفيع أبو العالية الرياحي: قال فيه الشافعي: ان أحاديث
أبي العالية الرياحي رياح لا يعتد بها (2).
21 - زكريا بن يحيى بن عمر بن حصين من شيوخ البخاري، طعن
فيه الدارقطني، وأضاف: بأنه متروك الحديث، ووصفه الحاكم، بأنه
يخطئ في أحاديثه.
22 - زياد بن عبد الله بن الطفيل ضعفه علي بن المديني وابن سعد وقال
ابن حيان: لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد به، كما ضعفه النسائي
وجماعة آخرون، ومن غرائب أحاديثه ما رواه عن عطاء بن السائب بسنده

(1) انظر ميزان الاعتدال ص 5 ج 2.
(2) نفس المصدر ص 54.
180

إلى ابن عباس، ان رجلا قال: يا رسول الله، أيصبغ ربك؟ قال نعم
صبغا لا ينقض أحمر وأصفر وأبيض (1).
23 - سالم بن عجلان الأفطس مولى بني أمية، كان من دعاة المرجئة،
وينفرد برواية المعضلات من الأحاديث، ويقلب الاخبار كما يريد، وجميع
من ترجمه ذكر انه قد اتهم بأمر سوء، فقتل لهذه الغاية، ونص في الميزان
على أن الذي تولى قتله عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس.
24 - سلمة بن رجاء التميمي ضعفه النسائي وقال فيه ابن معين: ان
حديثه ليس بشئ، وقال ابن عدي: انه حدث بأحاديث لا يتابع عليها.
25 - سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي كان يروي عن الضعفاء
والمجاهيل، وكان على حد تعبيرهم، لو أن رجلا وضح له حديثا لم يفهم
ولم يميز، وأضاف إلى ذلك الدارقطني. انه كان يروي المناكير، يأخذها
عن الضعفاء ويحدث بها، وقد ذكره العقيل في كتاب الضعفاء.
26 - عاصم بن علي بن عاصم، قال فيه يحيى بن معين: كل عاصم
في الدنيا ضعيف، وضعفه كل من ابن معين والنسائي، وأورد له ابن
عدي بعض الأحاديث المنكرة عن شعبة (2).
27 - عباد بن راشد التميمي، ضعفه يحيى القطان، والنسائي
وأبو داود، وجاء في ميزان الاعتدال ان البخاري ذكره في كتابه
الضعفاء.
28 - عبد الله بن صالح الجهني كاتب الليث بن سعد كذبه جماعة
في الحديث واتهمه آخرون، ونفى عنه النسائي الوثاقة، وذمه أحمد بن

(1) نفس المصدر، ص 93.
(2) مقدمة فتح الباري، ج 2 ص 176.
181

حنبل، ووصفه بعضهم بالتدليسي في بعض أحاديثه، وقال أحمد بن حنبل
لقد روى عبد الله بن صالح عن الليث عن اي ذؤيب، وما سمع الليث
ابن سعد من اي ذؤيب شيئا. ووثقه جماعة من المحدثين، كما دافع عنه
ابن حجر في مقدمته، وجاء في هدى الساري: ان خالد بن نجيح كان
مصاحبا له، ويضع الحديث في كتبه بخط يشبه خطه وربما كتب الحديث
ورماه في داره فيظن عبد الله انه من خطه فيأخذه ويحدث به إلى غير ذلك
مما قيل فيه من الطعون (1).
29 - عبد الله بن عبيدة الزيدي أخو موسى بن عبيدة، كما جاء
عن ابن معين، ولم يرو عنه غير أخيه موسى، وحديثهما من نوع الضعيف
عند المحدثين.
30 - عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن انس، طعن فيه كل من
النسائي وزكريا الساجي، والعقيلي، ونص زكريا الساجي انه كان
ضعيفا يروي المناكير.
31 - عبد الحميد بن عبد الرحمن، وصفه ابن معين بضعف
العقل، وضعفه في الحديث ابن سعد والعجلي، ونسب إليه أبو داود
انه كان داعية للارجاء.
32 - عبد الكريم ابن أبي المخارق أبو أمية البصري متروك ضد
أئمة الحديث وقد نص النسائي على ضعفه، روى عنه البخاري في كتاب
التهجد من صحيحه.
33 - عبيد الله بن موسى ابن أبي المختار العبسي أحد الشيوخ

(1) انظر مقدمة فتح الباري، ص 178، ج 2 و ج 2 من الميزان ص 441
و 442.
182

للبخاري اتهمه المحدثون بالتشيع، وانه كان يروي فيه بعض الأحاديث
المنكرة وفد ضعفوه لهذه الغاية ونص ابن معين: على أنه كان يستضعف
فيما يرويه عن جامع سفيان الثوري (1).
34 - عدي بن ثابت الأنصاري التابعي المشهور على حد تعبير ابن
حجر في مقدمة فتح الباري، تردد في مروياته جماعة من المحدثين، لأنه
كان يغلو في التشيع بزعمهم.
وقال عنه أبو حاتم: انه كان امام مسجد الشيعة وقاضيهم، ونص
ابن حجر، ان البخاري لم يرو عنه شيئا يقوي بدعته.
وقال الذهبي في الميزان: لو كانت الشيعة مثله لقل شرهم، وقال
عنه ابن معين: انه شيعي مفرط، وأضاف إلى ذلا لي الدارقطني، انه
رافضي غال (2).
35 - عمر بن أبي سلمة التنيسي الدمشقي صاحب الأوزاعي،
ضعفه يحيى بن معين، وزكريا الساجي، وقال أبو حاتم، لا يحتج
بحديثه، وأضاف إلى ذلك أحمد بن حنبل، انه روى أحاديث باطلة عن
زهير بن محمد.
36 - عمر بن هاني العبسي كان داعية إلى القول بالقدر بمعنى
التفويض ومن أنصار الأمويين ومن الدعاة المتحمسين لبيعة يزيد بن

(1) لم يرد له ذكر في رجال الشيعة. وكما ذكرنا من قبل ان
الراوي يتهم بالتشيع أو الغلو فيه لأنه يروي فضيلة لعلي (ع) أو ينتقد
أخصامه كطلحة والزبير ومعاوية.
(2) والظاهر أن التشيع المنسوب لعدي بن ثابت من نوع التشيع المنسوب
لغيره ولذا فان المؤلفين في الرجال لم يذكروه في عداد الشيعة ويبدو
انه لم يكن يتشدد في مواقفه على أخصام علي (ع).
183

عبد الملك، وقد قتله مروان الحمار آخر حكام الدولة الأموية، روى
عنه البخاري في صحيحه ثلاثة أحاديث.
قال العباس بن الوليد بن صبيح: قلت لمروان بن محمد لا أرى
سعيد بن عبد العزيز روى عن عمير بن هاني العبسي، فقال: كان عمير
أبغض إلى سعيد من النار، قلت ولما قال: أوليس هو القائل على المنبر
حين بويع ليزيد بن عبد الملك، سارعوا إلى هذه البيعة، إنما هما
هجرتان هجرة إلى الله ورسوله، وهجرة إلى يزيد، ولاه الحجاج أمر
الكوفة وعزله عنها، لأنه لم ينفذ له جميع أوامره على حد زعمه (1).
37 - فليح بن سليمان الخزاعي، ضعفه يحيى بن معين، والنسائي،
وأبو داود، وقال الدارقطني: انه مختلف في امره، وقال ابن عدي ان
أحاديثه بين صالح وغريب.
38 - محمد بن طلحة بن مصرف الكوفي، قال ابن معين: ثلاثة
يتقى حديثهم، محمد بن طلحة، وفليح بن سليمان، وأيوب بن عتبة،
ونص ابن سعد على أنه له أحاديث منكرة، وقال عثمان: ان الناس كانوا
يكذبونه، وتردد في امره يحيى بن معين، ولم يرجح وثاقته، كما خطأه
أبو داود وغيره.
39 - محمد بن زياد الألهاني، أبو سفيان الحمصي، كان هو
وحريز بن عثمان معروفين بالنصب والعداء لعلي (ع) ومع ذلك فقد وثقه
جماعة من المحدثين وروى عنه البخاري وغيره (2).
40 - محمد بن فضيل بن غزوان الكوفي كل وثقه جماعة، وتوقف

(1) انظر دلائل الصدق للمظفري، ج 1، ص 53.
(2) المصدر السابق ص 6.
184

في امره آخرون لتشيعه، كما يدعي ابن حجر في مقدمة فتح الباري
وأضاف إلى ذلك.
ان أبا هاشم حدث عنه انه كان يقول: رحم الله عثمان، ولا رحم
من لا يترحم عليه: وانه رأى عليه اثار أهل السنة والجماعة (1).
41 - مطرح بن يزيد أبو المهب، مجمع على ضعفه كما نص على
ذلك الذهبي في المجلد الرابع من الميزان، وأضاف إلى ذلك، لقد ضعفه
أبو حاتم، والنسائي، وقال يحيى: ليس بثقة، وقال ابن حيان: مطروح
لا يروي الا عن ابن زهر، وعلي بن يزيد، وهما ضعيفان.
وهو الذي روى عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة،
أنه قال: خرج رسول الله (ص) من عند عمه حين قبض وهو يقول:
ما زلت بعمي حتى تركته في ضحضاح من نار (2).
42 - معلى بن منصور أبو ليلى كذبه أحمد بن حنبل، ونقل
عبد الحق عن أحمد بن حنبل، انه رماه بالكذب، ونص ابن سعد على أن
جماعة من أصحاب الحديث لا يروون عنه.
43 - المغيرة بن مقسم، أبو هشام أحد فقهاء الكوفة، كان يدلس
في حديثه كما نص على ذلك ابن فضيل، وضعف حديثه أحمد بن حنبل
عن إبراهيم النخعي، وادعى ان ما رواه عن إبراهيم إنما سمعه عن حماد،
ويزيد بن الوليد.

(1) ولعلهم لذلك لم يقفوا منه موقف المتصلب وقد عده
المرزا محمد والشيخ محمد طه من رجال الشيعة الموثوقين.
(2) الميزان ص 122، ج 4.
185

وقال العجلي: انه كان عثمانيا (1). وأكد ابن حيان وإسماعيل
القاضي، بأنه كان مدلسا.
44 - محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبد الله ابن أخي الزهري،
حدث ثلاثة أحاديث عن النبي لا أصل لها كما جاء في مقدمة فتح الباري،
وقد ضعفه يحيى بن معين، ونص أبو حاتم على أن حديثه ليس بقوي.
45 - المنهال بن عمر الأسدي، ضعفه جماعة من المحدثين، وقال
فيه يزيد بن أبي زياد: ان شهادته على درهمين لا تقبل، وكان المغيرة بن
مقسم، ينهي الأعمش عن الرواية عنه، ونص ابن الجوزجاني، على أنه
سئ المذهب (2).
46 - عبد الله بن سالم الأشعري الحمصي كان ناصبيا يشتم
عليا (ع) وقد ضعفه جماعة، ومع ذلك فقد روى عنه البخاري.
47 - قيس بن أبي حازم البجلي، هاجر إلى النبي (ص) فلم يتوفق
لرؤيته مع أنه أدرك الجاهلية، ولأنه لم يلق النبي (ص) لم يكن في عداد
الصحابة، وقد ضعفه جماعة من المحدثين، وبالغ آخرون في تزكيته وكان
ناصبيا يهاجم عليا (ع) ويروي أحاديث منكرة.
48 - فليح بن سليمان الخزاعي أبو يحيى المدني، ضعفه يحيى بن
معين، والنسائي، وأبو داوود، وتردد فيه الدارقطني، وغمزه الساجي
ونص ابن عدي على أن له أحاديث من نوع الغرائب، وقد اعتمد عليه
البخاري واخرج عنه في المناقب وغيرها من مواضيع كتابه.

(1) وكلمة عثمانيا. تعنى النصب والكراهية لعلي (ع).
(2) ليس في كتب الرجال ما يؤكد تشيعه. والظاهر أنه كان معتدلا في
تسننه ينكر على معاوية واتباعه تصرفاتهم. ولا يتعرض لعلي وآله
بسوء.
186

49 - قطر بن خليفة المخزومي، قد ضعفه جماعة من المحدثين، وجاء،
عن أبي بكر بن العياش انه ترك حديثه لسوء مذهبه، اي لان فيه تشيعا
قليلا على حد تعبير ابن عدي، ونص الجوزنجاني على عدم وثاقته.
وقال أحمد بن يونس: كنا نمر به وهو مطروح ولا نكتب عنه
شيئا.
50 - ثور بن زيد الديلمي، شيخ الامام مالك، كان يرى رأي
الخوارج ويقول بالقدر.
51 - خيثم بن عراك بن مالك، قال ابن حازم: لا تجوز الرواية
عنه، وقال سعيد بن زيز، ومصعب الزبيري: استفتى أمير المدينة مالكا
عن شئ فلم يفته، فأرسل إليه ما منعك من ذلك، قال لأنك وليت خيثما
على المسلمين، فلما بلغه ذلك عزله.
52 - نعيم بن حماد الخزاعي، ضعفه النسائي، ونسبه بعض
المحدثين إلى الوضع في الحديث، ونص ابن معين على أنه يتوهم الشئ
فيخطئ فيه.
وقد روى بسنده إلى النبي (ص) انه كان يقول: رأيت ربي في
أحسن صورة، شابا موقرا رجلاه في خضرة طيه نصلان من ذهب (1).
53 - هشام بن حجير المكي، ضعفه يحيى بن معين، ويحيى القطان
وعده من الضعفاء أبو جعفر العقيلي، وقال سفيان بن عيينة: لم نأخذ
عنه الا ما لم نجده عند غيره.

(1) الميزان ج 4 ص 869.
187

54 - هشام بن عروة الزبيري، كان يحدث أحاديث فينكرها عليه
أهل بلده، وجاء عن مالك انه كان لا يرتضي حديثه، وجاء عنه انه نسي
في اخر عمره فكان يحدث ولا يعرف ماذا يحدث به، كما نص على ذلك
ابن القطان وغيره، والظاهر أن الامام مالك كان سئ الرأي فيه من غير
ناحية الحديث كما يظهر من هدى الساري، لابن حجر (1).
55 - هشام بن عمار الدمشقي أحد الشيوخ للبخاري، قال فيه
أبو داود حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها، وجاء عن عبد الله بن
محمد بن سيار الفرهياني أنه قال: كان هشام يلقن كل شئ ما كان من
حديثه ويقول: قد أخرجت هذه الأحاديث صحاحا.
وقال صالح جزرة، وعبد الله بن محمد بن سيار: انه كان يأخذ
أجرة على الرواية، على كل رواية ورقتين درهما (2).
56 - وهب بن منبه الصنعاني ضعفه جماعة لأنه من القائلين بالقدر،
وروى عنه حماد بن سلمة أنه قال: كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة
وسبعين كتابا من كتب الأنبياء، تنص على أن من جعل لنفسه شيئا من
المشيئة فقد كفر فتركت قولي.
وروى سفيان بن عيينة عن عمر بن دينار أنه قال: دخلت على
وهب بن منبه داره بصنعاء، فاطعمني من جوزة في داره، فقلت وددت
انك لم تكن كتبت في القدر كتابا: قال: وانا والله لوددت ذلك.
ونص جماعة من المؤلفين في أحوال الرجال. ان وهب بن منبه كان
وضاعا يحدث عن الكتب التي وجدها في اليمن وجهاتها وينسبها إلى

(1) ص 118 من المجلد الثاني.
(2) انظر الميزان ص / 303 / ج / 4.
188

رسول الله (ص) وهو وأخوه همام اخذا عن أبي هريرة واخذ عنهما
الإسرائيليات. التي حدث بها. وكان لهما ولأبي هريرة وكعب الأحبار
دورا بارزا في ادخال الموضوعات على الحديث وتشويه معالمه. ومن
هؤلاء اخذ عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفته التي ادعى ان الرسول
اذن له بتدوينها من أقواله وأفعاله في حالتي الرضا والغضب على حد
تعبيره. وتجد أكثر من الطعن عليه الحافظ ابن كثير في المجلد الأول من
تاريخه البداية والنهاية (1).
57 - يحيى بن أبي زكريا الغساني، ضعفه أبو داوود، ووصفه
بالجهالة ابن معين، ونص ابن حيان على أنه لا تجوز الرواية عنه.
58 - يعقوب بن حميد بن كاسب المدفي، ضعفه النسائي وغير،
ونفى عنه الوثاقة يحيى بن معين، ونص أبو داوود ان في مسنده أحاديث
منكرة، وأضاف إلى ذلك. انا قد طالبناه بالأصول فدافعنا، ثم أخرجها
بعد ذلك، فإذا تلك الأحاديث بخط طري، زاد فيها وأسندها.
59 - يحيى بن عبد الله بن بكير المصري، ضعفه النسائي، وجاء
عن ابن معين أنه قال: حديثه ليسى بشئ، ونص البخاري في تاريخه
الصغير، ان ما رواه يحيى بن عبد الله عن أهل الحجاز في التاريخ فاني
أتقيه.
60 - هشيم بن بشير السلمي، قال الثوري لا تكتبوا عنه، وقد
اشتهر في التدليس والكذب، واتفق له ان جماعة من أصحابه قد اجمعوا
على إذ لا يأخذوا عنه شيئا مما يحدث به، ففطن لذلك، نجعل يقول
في كل حديث يذكره، حدثنا حصين. ومغيرة عن إبراهيم، فلما فرغ قال

(1) انظر الأضواء وفجر الاسلام لأحمد امين، وتاريخ الفقه الجعفري
والمبادئ العامة للمؤلف.
189

لهم: هل دلست اليوم؟ قالوا لا، ضال والله لم اسمع من مغيرة مما
ذكرته حرفا واحدا.
61 - الوليد بن مسلم مولى بني أمية، روى عن مالك عشرة
أحاديث لا أصل لها كما جاء في ميزان الاعتدال وهدى الساري.
وقال عنه أبو مسهر: كان يأخذ من أبي السفر حديث الأوزاعي،
وأبو السفر كان كذابا، ونص أكثرهم على أنه كان يدلس في الحديث،
وأحيانا يدلس عن الكذابين.
62 - الوليد بن كثير بر يحيى المدني، كان خارجيا يرى رأي
الأباضية، وقد ضعفه ابن سعد، وتردد في امره الأساجي، واعتذر عنه
ابن حجر بأنه لم يكن داعية إلى الخوارج، وإن كان منهم ويرى رأيهم.
63 - عمران بن حطان السدوسي، قال الدارقطني: انه متروك
الحديث وخبيث في مذهبه، وقال البرد في الكامل، كان من رؤساء
الصفرية وفقهائهم، والدعاة إلى مذهبهم، وهو الذي امتدح ابن ملجم
لأنه قتل سيد المسلمين وامامهم علي بن أبي طالب بالأبيات المشهورة التي
يقول فيها:
اني لأذكره يوما فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا
إلى غير ذلك من الرواة الذين اعتمد عليهم البخاري في صحيحه،
وقد ذكر في مقدمة فتح الباري أكثر من أربعمائة من رواة الصحيح
تضاربت فيهم آراء المحدثين، من حيث وثاقتهم وجواز الاعتماد على
مروياتهم ونص جماعة من أئمة الجرح والتعديل على عدم وثاقتهم
وتضعيف مروياتهم. على أن علماء الجرح والتعديل أنفسهم، كابن معين،
190

وابن المديني، ومحمد بن حيان، ويحيى بن سعيد القطان، والذهبي
محمد بن أحمد بن عثمان، مؤلف الميزان، وابن حزم علي بن أحمد بن
سعيد وغيرهم، قد طعن بعضهم في بعض، ونسب كل منهم إلى الآخر
الانحراف والعيوب التي توهن أمره، وتوحي بعدم الوثوق في مروياته
وأقواله (1).
واكتفي بهذه الأمثلة من المشبوهين والمتهمين في دينهم وروايتهم
بين رجال الصحيح الذين يعدون بالمئات تهربا من التطويل والملل، مع
العلم بأن هذه الأمثلة اليسيرة تكفي القارئ البرئ لان ينظر إلى
البخاري كغيره من المؤلفين الذين يعتمدون على اجتهادهم حينا، وعلى
غيرهم ممن يحسنون به الظن حينا آخر فيخطئون ويصيبون ككل انسان
لم يعصمه الله من الخطأ والزلل، وتكفي أيضا لان يكون صحيحه بنظر
القراء كغيره من مجاميع الحديث التي جمعت الغث والسمين والصحيح
والفاسد مع الاعتراف له بالفضل والعمل الطيب، والجهد المثمر.

(1) انظر دلائل الصدق من ص 9 ح إلى 12 وقد اعتمدنا في هذه
اللمحة عن هؤلاء الأشخاص على ميزان الاعتدال، وهدى الساري، واقتصرنا
على هذا المقدار من المهتمين بالانحراف والمضعفين من رجال الصحيح
تهربا من التطويل والملل.
191

من رجال الكافي
لم يستطع المغالون في تقديس مرويات الكافي من المتقدمين
والمتأخرين على حماسهم له ان يدفعوا الطعون القاسية التي الصقها علماء
الرجال والحديث بكثير من مروياته ولا ان يثبتوا صحة ما جاء فيه بشكل
عام في حين ان وصف الصحة كاد ان يكون من أبرز صفاته عند فئة من
الأخباريين هم أشبه بحشوية العامة لم يستطيعوا أن يثبتوا صحة مروياته
لأنه قد اعتمد على اجتهاداته في توثيق الرواة واختيار المرويات، والانسان
مهما بلغ شأنه ومهما بالغ في البحث والتنقيب لا يخرج عن كونه انسانا
يخطئ ويصيب، ولكن الكليني مع أخطائه الكثيرة لم يشذ شذوذ
البخاري، فلم يرو عن صنائع الحكام وخدام القصور ولا عن أحد من
لا الصحابة ما لم تسمو به الصحبة وترتفع به عن الدنايا والأجرام إلى حيث
الكرامة والاعتزاز بالفضيلة والاقتداء بالرسول (ص) بالقول والفعل.
ولكنه في الوقت ذاته قد روى عن الغلاة وبعض المنحرفين عن
الطريق القويم كما يبدو للمتتبع في كتب التراجم وأحوال الرواة، ولعله
كان يكتفي بوجود بعض الموثوقين في سند الرواية، وهو مع ذلك لم
يوفق لدراسة متون بعض الأحاديث دراسة علمية بقصد التمحيص
ومقارنة مضمونها مع منطق أهل البيت وأسلوبهم الذي يتفق مع العلم
والعقل ومنطق الحياة، ولو فعل ذلك لوجد لزاما عليه ان يتجنب بعض
تلك المرويات التي لا تعكس مبدأ الأئمة ولا تنسجم مع واقعهم الرفيع
الذي يمثل أسلوب جدهم الأعظم وكتاب الله الكريم، مع العلم بأنه قد
192

دون في الكافي إلى جانب تلك المرويات أقوالهم المتكررة وتوصياتهم بان
يعرضوا أحاديثهم على كتاب الله وانهم لا يحدثون الا بما تقبله العقول
ويتفق مع الكتاب، وان ما لا يتفق مع الكتاب يجب طرحه.
ومهما كان الحال فسنتعرض في هذا الفصل لجماعة من المتهمين
بالانحراف والمطعون بهم من رجال الكافي معتمدين على الكتب الشيعية
التي تعرضت لأحوال الرجال وتأريخهم مع الاختصار حسب الامكان
تهربا من التطويل والملل الذي يحسه الكثير من القراء.
1 - احمد ابن أبي زاهر أبو جعفر الأشعري، كان يروي عن
الضعفاء والمجاهيل، ولم يكن قويا في نفسه، ومن اجل ذلك لم يسلم
حديثه من العيوب كما جاء في الخلاصة للعلامة الحلي.
2 - أحمد بن مهران، ضعفه ابن الغضايري والعلامة في الخلاصة،
ولم يشر أحد من المؤلفين في الرجال إلى توثيقه.
3 - يونس بن ظبيان، نص المؤلفون في الرجال على أنه ضعيف لا
يلتفت إلى حديثه واتفقوا على أنه من الغلاة الوضاعين.
وجاء عنه أنه قال: كنت في بعض الليالي في الطواف فإذا بنداء من
فوق رأسي اني انا الله لا اله الا انا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري فرفعت
رأسي فإذا أبو الحسن الرضا (ع) ولما بلغ حديثه هذا أبا الحسن
الرضا (ع) غضب غضبا لم يملك معه نفسه ثم قال للرجل لعنك الله
ولعن من حدثك. ولعن يونس بن ظبيان الف لعنة يتبعها الف لعنة.
اما ان يونس مع أبي الخطاب في أشد العذاب.
193

وجاء عنه ان بنتا لأبي الخطاب ماتت. فوقف يونس على قبرها
وقال: السلام عليك يا بنت رسول الله (1).
4 - علي بن حسان. كان من الغلاة المعروفين في عصره بالكذب.
وتأويل الآيات والأحاديث حسب معتقداته. وقد الف كتابا في تفسير
القرآن. أسماه تفسير الباطن. روى أكثره عن عمه عبد الرحمن بن
كثير. وروى عنه الكليني رحمه الله في تفسير بعض الآيات ما يؤكد غلوه
وفساد عقيدته. وسنتعرض لبعض مروياته في الفصول الآتية.
5 - علي بن أسباط. المعروف بأبي الحسن المقري كان من القائلين
بامامة عبد الله الملقب بالأفطح ابن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، عده
المؤلفون في الرجال من الضعفاء لذلك ولغيره من أسباب التضعيف. ونص
بعضهم انه رجع عن رأيه بعد جدال جرى بينه وبين علي بن مهزيار،
فألف ابن مهزيار رسالة في الرد عليه بقصد ارجاعه إلى الإمام الشرعي.
6 - عبد الرحمن بن كثير من موالي العباس بن محمد بن عبد الله
ابن العباس. كان من الوضاعين كما جاء في كتب الرجال. واخذ عنه
ابن أخيه علي بن حسان. واعتمد عليه في كتابه تفسير الباطن كما ذكرنا.
وقد أكثر عنه وعن علي بن حسان الكليني في كتاب الحجة من الكافي.
وقل ان تجد رواية من مروياتهما سالمة عن الشذوذ والعيوب والغلو
المفرط الذي حاربه الأئمة أنفسهم في مختلف المناسبات ووضعوا المروجين
لهذه الأفكار في مستوى الجاحدين الذين لعنهم الله واعد لهم العذاب
الأليم.

(1) انظر الاتقان لشيخ محمد طه ص 394 ورجال المرزا محمد
حرف إليه.
194

7 - محمد بن الحسين بن سعيد الصايغ. جاء في النجاشي والخلاصة
للعلامة الحلي. انه ضعيف جدا ومتهم بالغلو المنافي لأصول الاسلام.
8 - علي بن العباس الجرازيني. قال في الاتقان: انه ضعيف جداء
ونص في الخلاصة ان له تصنيفا في الممدوحين والمذمومين يدل على خبثه
وفساد مذهبه لا يلتفت إليه. ولا يعبأ بما رواه.
9 - علي بن حمزة البطائني. كان ممن وقف على امامة موسى بن
جعفر (ع) وادعى بأنه غاب وسيرجع.
وجاء في الخلاصة للحلي. انه أصل الوقف، وأشد الخلق عداوة
للولي بعد أبي إبراهيم موسى بن جعفر (ع) ونص الكشي في رجاله، ان
علي بن الحسن بن فضال قال: علي بن اي حمزة كذاب متهم ملعون،
رويت عنه أحاديث كثيرة، وكتبت عنه تفسير القرآن من أوله إلى آخره،
الا اني لا استحل ان أروي عنه حديثا واحدا.
وروى اللاهجي في رجال الفقيه ص يونس بن عبد الرحمن أنه قال:
مات أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام وليس أحد من قوامه الا
وعنده له المال الكثير، وكان ذلك سبب وقوفهم عليه وانكارهم لموته،
وله عند علي ابن أبي حمزة ثلاثون الف دينارا، وقيل فيه أكثر من
ذلك (1).
10 - عمر بن شمر بن يزيد الجعفي، ضعفه المؤلفون في الرجال،
ونسبوا إليه انه دس أحاديث في كتب جابر الجعفي ونسبها إليه، وأضاف
إلى ذلك في الخلاصة. اني لا اعتمد على شئ مما يرويه.

(1) انظر اتقان المقال ص 322 و 323.
195

11 - صالح بن أبي حماد أبو الخير الرازي، ضعفه أكثر المؤلفين
في الرجال وتوقف في امره العلامة في الخلاصة.
12 - صالح بن يحيى المزني ضعفه جماعة من المحدثين، ونسبوا
إليه ما يشعر بعدم جواز الاعتماد عليه، واتفقوا على أنه كان زيدي
المذهب.
13 - صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان، جاء في نقد الرجال
للتفريشي انه كان من الغلاة الكذابين، لا يلتفت إلى أحاديثه، واكد ذلك
في الخلاصة، ولم يرد عن أحد من المؤلفين في الرجال ما يشير إلى جواز
الاعتماد على مروياته، أو وثاقته.
14 - محمد بن جمهور العمي البصري، جاء في النجاشي عنه. انه
ضعيف في الحديث فاسد المذهب، وأضاف إلى ذلك، انه قد قيل فيه
أشياء الله اعلم بها من عظمها، واكد ذلك عنه أكثر المؤلفين في الرجال
ونصوا على أن له شعرا يحلل فيه محرمات الله (1).
15 - محمد بن سليمان بن عبد الله الديلمي، نص في اتقان المقال.
على أنه ضعيف جدا لا يعول عليه في شئ، ومع ذلك فهو متهم بالغلو
والانحراف في عقيدته، كما نص على ذلك أيضا المؤلفون في أحوال
الرواة.
16 - محمد بن سنان الزاهري، جاء في رجال النجاشي عنه انه
ضعيف جدا لا يعول عليه، ولا يلتفت إلى ما تفرد به.
وجاء عن الفضل بن شاذان أنه قال: لا أحل لكم ان ترووا أحاديث

(1) انظر ص 342 من الاتقان ورجال المرزا محمد وغيره.
196

محمد بن سنان، وعده مع الكذابين المعروفين، كأبي الخطاب ويونس بن
ظبيان، ويزيد الصائغ وغيرهم.
ورووا عنه أنه قال: لا ترووا عني مما حدثت به شيئا، فإنما هي
كتب اشتريتها من السوق، وأطال المؤلفون في الرجال الحديث عنه،
وذكروا له ما قيل فيه من مدح وذم، ولم ينتهوا إلى ما يوجب الاطمئنان
لمروياته.
17 - سليم بن قيس بن سمعان، وثقه جماعة، وضعفه آخرون،
وادعى جماعة من المحدثين، ان الكتاب المعروف بكتاب سليم بن قيس
من الموضوعات، وأطالوا الحديث حوله وحول كتابه، وجاء فيه ان الأئمة
ثلاثة عشر إماما، وان محمد بن أبي بكر وعظ أباه عند الموت مع أنه كان
في حدود السنتين.
18 - المفضل بن صالح أبو جميلة الأسدي، جاء فيه انه ضعيف
كذاب يضع الأحاديث ويرويها عن الأئمة (ع).
19 - المفضل بن عمر الجعفي، نص النجاشي في رجاله عنه، بأنه
كان فاسد المذهب، مضطرب الرواية لا يعبأ به، وروى حماد بن عثمان
ان الإمام الصادق عليه السلام قال له: يا كافر يا مشرك مالك ولابني
إسماعيل. وجاء عن ابن مسكان ان حجر بن زائدة وعامر بن جداعة
الأزدي دخلا على الإمام الصادق (ع) فقالا له جعلنا الله فداك: ان
المفضل بن عمر يقول: انكم تقدرون أرزاق العباد، فقال: والله ما يقدر
أرزاق العباد وأرزاقنا الا الله، ولقد احتجت إلى طعام لعيالي فضاق
صدري وأبلغت إلى الفكر في ذلك، حتى أحرزت قوتهم فعندها طابت
نفسي، لعنه الله وبرئ منه، قالا أفنلعنه ونبرأ منه قال نعم وجاء في
197

بعض المرويات ما يشعر بوثاقته والاطمئنان إليه الا ان مجرد ذلك لم يكن
كافيا لبرائته مما نسب إليه.
20 - المنخل بن جميل الكوفي، نص المؤلفون في الرجال على أنه
ضعيف فاسد الرواية، وأضافوا إلى ذلك أنه من الغلاة المعروفين.
21 - القاسم بن محمد الجوهري، كان واقفي المذهب روى عن
أبي الحسن موسى بن جعفر (ع)، وقد ضعفه جماعة من المحدثين، ولعل
سبب تضعيفهم له انحرافه عن مخطط التشيع.
22 - صالح بن محمد بن سهل الهمداني، من الغلاة الكذابين كما
نص على ذلك المؤلفون في الرجال، وجاء عنه أنه قال: كنت أقول في الصادق
بالربوبية: فدخلت عليه فلما نظر إلي قال: يا صالح انا والله عبيد
مخلوقون لنا رب نعبده وان لم نعبده عذبنا.
ورجح بعضهم ان الغالي الكذاب هو محمد بن سهل الهمداني من
أصحاب الإمام الجواد (ع)، وهو الذي اشعار إليه الشيخ الطوسي في
كتابه الغيبة، ونص على أنه من المذمومين والمتهمين في عقيدتهم (1).
23 - عبد الله بن عبد الرحمن، جاء في الاتقان وغيره عنه انه غال
ضعيف ليس بشئ، ونص التفريشي وغيره على أنه كان من كذابة أهل البصرة
، وله كتاب الزيارات يدل على خبث عظيم على حد تعبيرهم.
24 - عبد الله بن القاسم الخضرمي المعروف بالبطل، وصفه المؤلفون
في الرجال، بأنه كذاب غال يروي عن الغلاة لا خير فيه ولا يعتد برواياته.
25 - عبد الله بن القاسم الحارثي، كان من أصحاب معاوية بن

(1) انظر رجال المرزا محمد ورجال الشيخ محمد طه ص 301.
198

عمار ثم فارقه وقال بالغلو، وجاء عنه في الخلاصة وغيرها. انه غال
كذاب ضعيف متروك الحديث. معدول عن ذكره.
26 - محمد بن الحسن بن شمون، جاء عنه. انه كان واقفيا، ثم
غلا، ضعيف فاسد المذهب، ونص في نقد الرجال، انه ضعيف متهافت لا
يلتفت إليه ولا إلى مروياته. وأضاف إلى ذلك أنه عاش مائة وأربعة عشر
عاما.
27 - سلمة بن الخطاب، وصفه المؤلفون في الرجال بالضعف في
حديثه، ورجح بعضهم قوته ووثاقته نظرا لاعتماد جماعة منهم أحمد بن
إدريس، ومحمد بن الحسن الصفار ومحمد بن بابويه الصدوق على
مروياته.
28 - محمد بن الوليد الصيرفي شباب، ممن اتفقوا على ضعفه
بلسان واحد، ولم يشر أحد إلى التردد في امره.
29 - محمد بن علي أبو جعفر القرشي، قال في اتقان المقال: ضعيف
جدا فاسد الاعتقاد ة لا يعتمد عليه في شئ، وأضاف إلى ذلك أنه ورد قم
بعد أن اشتهر بالكذب في الكوفة، فنزل علي أحمد بن محمد بن عيسى،
ولما اشتهر امره بالغلو تخفى، وأخيرا أخرجه منها أحمد بن محمد قهرا (1)
30 - محمد بن علي بن بلال، من المذمومين عند المحدثين، ونص
الطبرسي في الاحتجاج على وجود بعض المرويات في ذمه والتشهير به،
وأضافوا إلى ذلك أنه كان لديه بعض الأموال إلى الإمام (ع) فأنكرها
وتمنع من صرفها في مواضعها إلى غير ذلك من الطعون الموجهة إليه.

(1) انظر الاتقان ومنهج المقال وغيرهما من كتب الرجال.
199

31 - أحمد بن هلال، جاء في الخلاصة عنه انه ملعون على لسان
الحجة محمد بن الحسن (ع) كما ينص على ذلك التوقيع الوارد على يد
أبي القاسم بن روح، وجاء في فهرست أسماء المؤلفين للطوسي. انه كان
غاليا متهما في دينه، توفي سنة 267.
32 - أمية بن علي، ضعفه المؤلفون في الرجال، وجاء في الخلاصة
ونقد الرجال انه ضعيف الرواية، في مذهبه ارتفاع، اي غلو مفرط.
33 - الحسين بن مياح. من غلاة الشيعة ومن الضعفاء في الحديث
كما نص على ذلك في الاتقان والخلاصة، ومنتهى المقال، ولم يتردد في
امره أحد ممن تعرضوا لحاله.
34 - محمد بن أرومة، جاء في الاتقان وغيره عنه انه من المتهمين
بالغلو، وبلغ من تشدد القميين على المتهمين بالغلو انهم قد دسوا من
يقتله في جوف الليل، فجاءه الموكل بهذا الامر فوجده يصلي نوافل الليل
فتركه ورجع عنه، وينسب إليه انه الف كتابا في تفسير الباطن، وكان ذلك
من أسباب النقمة عليه (1).
35 - عبد الكريم بن عمرو بن صالح الخثعمي، جاء عنه انه واقفي
خبيث. ونص في الخلاصة على أن الواقفية تدعيه. والغلاة تروي عنه
كثيرا.
36 - محمد بن عيسى اليقطيني، ضعفه جماعة من المحدثين، وجاء
عنه انه كان يذهب مذهب الغلاة، ووثقه جماعة منهم، واعتمدوا على
مروياته، وقد أطال المؤلفون في الرجال الحديث عنه وذكروا كل ما قيل
فيه من مدح وذم ولم ينتهوا إلى نتيجة حاسمة في امره (3).

(1) انظر الاتقان ص 339.
(2) نفس المصدر ص 356.
200

37 - عبد الله بن بحر، وصفه المؤلفون في الرجال بأنه ضعيف
مرتفع القول. اي انه من الغلاة المبالغين في غلوهم، ولم يتول الدفاع
عنه أحد منهم.
38 - عمر بن عبد العزيز، يروي المناكير ويخلط في أحاديثه كما
نص على ذلك أكثر المحدثين، ولم يتحمس للدفاع عنه أحد، ولا وصفه
أحد بالوثاقة.
39 -. مسعدة بن صدقة، كان بتري المذهب، كما نص على ذلك
الكشي في رجاله، ولم يتعرض أحد إلى توثيقه.
40 - وهب بن وهب، أبو البختري، قال عنه النجاشي: انه كان
كذابا، وقال غيره: انه كان من اكذب البرية، وله عن الصادق (ع) أحاديث
كلها لا يوثق بها.
41 - الحسن بن العباس بن الحريش، نص في اتقان المقال على أنه
ضعيف جدا له كتاب انا أنزلناه في ليلة القدر، ردئ الحديث مضطرب
الألفاظ وجاء في الخلاصة ونقد الرجال ان كتابه فاسد الألفاظ موضوع،
وهذا الرجل لا يلتفت إليه ولا يكتب حديثه، وقد روى عنه الكليني في
الكافي، باب انا أنزلناه في ليلة القدر.
واحسب ان هذا العدد اليسير من المتهمين بالانحراف عن المخطط
الاسلامي الصحيح يكفي لدحض مزاعم القائلين بان الشيعة يصححون
جميع مرويات الكافي، ولا يرتابون في شئ منها، ذلك لأن الصحيح كما
ذكرنا في الفصول السابقة هو الذي يرويه العادل المستقيم في دينه عن
مثله إلى أن يتصل بالنبي أو الإمام (ع) ووجود منحرف واحد في سند
الرواية يكفي لعدم الاعتداد بها ما لم تقترن ببعض القرائن التي تؤكد صدورها.
201

الواجب في صحيح البخاري
بالامكان ان ينتزع الباحث صفات الواجب عند البخاري من مروياته
عن النبي (ص) حول هذا الموضوع المنتشرة في صحيحه هنا وهناك،
وبالطبع انه لم يدون فيه الا الأحاديث الصحيحة عنده، لأنه اختاره من
ستمائة الف حديث على حد زعم المؤلفين في التراجم كما ذكرنا، مع العلم
بان البخاري في صحيحه لم يوفق إلى توزيع الأحاديث على المواضيع التي
تعرض لا توزيعا كاملا، ذلك لأنه يعنون الموضوع أحيانا ويروي فيه
بعض الأحاديث التي تناسبه وأحيانا يروي فيه ما لا يتناسب معه، لذلك
فان الباحث إذا أراد ان ينتهي إلى رأيه الأخير في موضوع من المواضيع
التي دونها في كتابه لا بد وان ينتهي بقية الأبواب ويتتبع المرويات فيها
إذا كانت هذه المدونات تعبر عن رأيه في تلك المواضيع.
ولعل السر في ذلك أن البخاري لم يمهله الاجل إلى انجاز كتابه
ونقله من المسودات التي جمعه فيها، فوافاه الاجل قبل تبييضه وتوزيع
أحاديثه في الأماكن التي تناسبها، وحذف المكررات منه، كما ذكرنا سابقا
ولما جاء دور تلاميذه من بعده دونوه على علاته، ولو أمهله الاجل لجاء
كتابه مصنفا ومرتبا على الأبواب والمواضيع ووافيا بالغرض الذي اراده
من تأليفه، وسليما من أكثر العيوب التي لا يستطيع الباحث تجاهلها.
كما وانه لم يتعرض للواجب بعنوان خاص، بل تعرض لصفاته
تعالى وبعض الخصائص التي تشير إلى حقيقته في مختلف المناسبات
202

والأبواب ففي الباب الذي عقده لتفسير قوله تعالى:، ولتصنع على عيني "
قارن بين عين الدجال، وعين الله في أكثر من رواية، وكلها تنص على أن
الدجال أعور العين اليمنى، وان الله ليس باعور. وبهذه المناسبة روى
عن موسى بن إسماعيل عن جويرية عن نافع عن عبد الله أنه قال: ذكر
الدجال عند النبي (ص) فقال: ان الله لا يخفى عليكم انه ليس باعور
وأشار بيده إلى عينه، وان الدجال أعور العين اليمنى، كان عينه عنبة
طافية.
وروى عن انس ان النبي (ص) قال: ما بعث الله من نبي الا انذر
قومه الأعور الكذاب، انه أعور وان ربكم ليس باعور مكتوب بين عينيه
كافر، هو الخالق المصور البارئ.
وقد أكثر من الروايات التي تنص على خروج الدجال وان عينه
اليمنى عوراء وعين الله سليمة من العور، وفي خلال مروياته التي أوردها
في هذا الباب روى عن عبيدة عن عبد الله أنه قال، جاء حبر من الأحبار
إلى رسول الله (ص) فقال: يا محمد انا نجد ان الله جعل السماوات
على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى
على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يقول انا الملك، فضحك
النبي (ص) حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ورواها مرة ثانية
وأضاف إليها انه ضحك تعجبا وتصديقا (1).
وفيما يتعلق برؤية الله سبحانه وتعالى عما يصفه الجاهلون علوا
كبيرا روى في شرح قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " عن
جرير أنه قال: كنا جلوسا عند النبي (ص) إذ نظر إلى القمر ليلة البدر
فقال: انكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته.

(1) انظر ص 278 و 280 و 300 المجلد الرابع من الصحيح
للبخاري.
203

وروى عن جرير بن عبد الله أنه قال: قال النبي (ص) انكم سترون
ربكم عيانا.
وروى عنه أيضا أنه قال: خرج علينا رسول الله ليلة البدر فقال إنكم
سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته وروى
عن أبي هريرة مجموعة من الأحاديث بهذا المضمون، وزاد فيها أنه قال:
فهل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها حجاب؟ قالوا لا يا رسول الله:
قال إنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد
شيئا فليتبعه. فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد
القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها
شافعوها ومنافقوها، فيأتيهم الله فيقول انا ربكم فيقولون له: هذا
مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته
التي يعرفون.
وجاء فيما رواه عن انس ان المؤمنين يحبسون يوم القيامة فيتشفعون
بالأنبياء، فكل نبي يأتونه يذكر خطيئته فيعتذر عن مقابلة الرب، فيأتون
محمدا (ص) فيستأذن على ربه في داره فيؤذن له، وعندما يراه في داره
يخر له ساجدا ويبقى زمنا طويلا، ثم يقول له: ارفع رأسك فيرفع رأسه
ويستشفع بمن يريد فيخرج من الدار التي فيها ربه ويدخلهم الجنة،
ويخرج جماعة من النار ويدخلهم الجنة أيضا، ثم يعود فيدخل على ربه
في داره، فيؤذن له ثانيا فيسجد لله، ثم يرفع رأسه ويشفع فيمن يشفع
له، فيخرج منها ويدخلهم الجنة، ثم يدخل الدار التي فيها الله ثالثا،
وهكذا يصنع ذلك مرارا حتى لا يبقى في النار الا من يستحق الخلود
فيها (1).

(1) نفس المصدر ص: 283 و 287.
204

ويحدث البخاري عن الله سبحانه في بعض مروياته عن الرسول
(ص) انه ينزل عن عرشه الجالس عليه في السماء السابعة إلى سماء الدنيا
في ثلث الليل الأخير، فقد روى عن إسماعيل عن مالك عن ابن شهاب عن
أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة ان رسول الله (ص) قال: ينزل ربنا
تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول
من يدعوني فاستجيب له من يسألني فاعطيه، من يستغفرني فاغفر له،
وروى هذه الرواية بألفاظها من غير زيادة في ص 100 عن أبي سلمه ابن
عبد الرحمن، وتكرر منه هذا المضمون بهذا السند وغيره.
وفي مناسبة ثانية يصور انس بن مالك وأبو هريرة الله سبحانه
بصورة رجل له رجلان يضع أحدهما في جهنم فيملأها، بينما جميع
العصاة والكفار لا يملأون الا جانبا منها.
فقد روى عن انس انه سمع النبي (ص) يقول: يلقى العصاة في
النار فتقول هل من مزيد فيضع قدمه فيها فتقول قط قط:
وروى عن أبي هريرة ان الرسول (ص) قال: يقال لجهنم هل
امتلأت فتقول هل من مزيد فيضع قدمه فيها فتقول قط قط:
وروى عن أبي هريرة أيضا ان النبي (ص) قال تحاجت الجنة والنار
فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة مالي لا
يدخلني الا ضعفاء الناس وسقطهم، فقال الله سبحانه للجنة: أنت رحمتي
ارحم بك من أشاء من عبادي: وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك
من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فاما النار فلا تمتلئ
حتى يضع رجله فيها، فتقول قط قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها
205

إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدا. واما الجنة فينشئ الله لها
خلقا تمتلئ بهم.
وروى عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ان النبي (ص) قال:
يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان
يسجد في الدنيا رئاء ا وسمعة فيذهب ليسجد فيعود وظهره طبقا واحدا (1)
وجاء في المجلد الرابع من صحيح البخاري، ان رجلا سأل الله سبحانه
ان يخرجه من النار، فاشترط عليه ان لا يسأله غير ذلك، فلما أخرجه
منها سأله ان يقربه من باب الجنة، فاخذ عليه العهود والمواثيق ان لا يسأله
غير ذلك، فلما قربه منها سأله ان يدخله الجنة وألح في سؤاله حتى ضحك
منه الله واذن له بالدخول إلى الجنة (2).
وروى في صفحة 312 من المجلد الثاني ان رجلا اتى للنبي (ص)
فقال النبي (ص) للمسلمين من يضيف هذا فأخذه أحدهم وآثره على
نفسه وعياله فلما أصبح جاء إلى النبي (ص) فقال له: لقد ضحك الله
الليلة من فعالكما.
ويروي البخاري أيضا عن صفوان بن محرز ان رجلا سأل ابن عمر
كيف سمعت رسول الله (ص) يقول في النجوى قال يدنو أحدكم من
ربه حتى يضع كتفه عليه، فيقول: أعملت كذا وكذا فيقول نعم: ثم
يقول له أعملت كذا وكذا، وهكذا وأخيرا يقول له: اني سترت عليك في
الدنيا، وانا أغفرها لك اليوم، إلى غير ذلك من المرويات التي أوردها
البخاري في صحيحه حول رؤية الله وصفاته.
ولو أنه درس هذه المرويات دراسة موضوعية وحاكم بينها وبين
كتاب الله وعرضها على العقل، لو فعل ذلك لا بد وان ينتهي إلى طرحها

(1) انظر صر 191 و 192 المجلد الثالث من الصحيح للبخاري.
(2) المجلد الرابع للبخاري.
206

لأنها لا تنفك عن التجسيم الذي لا يقره العقل ولا الكتاب الكريم الذي
ينص على إنه " لا تدركه الابصار ولا يحيطون به علما " وكيف تتفق هذه
الآية مع رواية أبي هريرة التي تنص على أن الله يضع رجله في جهنم ليفي
لها بوعده، فتمتلئ عند ذلك ويسكن غضبها، وكيف يرى كما يرى
القمر ليلة تمامه والشمس ساعة تنجلي عنها السحب والغيوم، والله
يقول: " لا تدركه الابصار ". وهل ينفك القول بان له ساقا عن انه جسم
كبقية الأجسام المركبة من الساق والرجل واليد والعين وغير ذلك.
وكيف يضحك على من يرجوه طمعا في كرمه وجوده وأين تكون
الدار التي يسكنها رب أبي هريرة، أفي السماوات أم في الأرض، وإذا
كان يسكن في دار، ويحويه مكان معين، فقد خلت منه بقية الدور
والأمكنة والجهات، وأصبح كسائر الممكنات التي لا توجد الا بأسبابها،
تعالى عن ذلك علوا كبيرا. ومن الغريب ان البخاري قد دون هذه
الأحاديث في صحيحه واختارها من ستمائة الف حديث كما يزعم كل من
ترجمه وكتب عن صحيحه ودون إلى جانبها بعض المرويات التي تنص على أن
الحديث الذي يصح الاعتماد عليه هو الذي يوافق كتاب الله ولا
ينكره العقل، مع العلم بان الكتاب والعقل لا يقرآن شيئا من تلك المرويات
ولا تتفق معهما الا بعد تأويلها والتأويل وإن كان ممكنا، وواقعا بالنسبة
إلى بعض المرويات، ولكنه لا يتعين الا إذا كانت شروط الاعتماد على
الرواية متنا وسندا متوفرة فيها، ولم يتوفر في هذه المرويات شئ من
ذلك.
على أنه قد دون في ص 274 من المجلد الرابع ان السيدة عائشة
قالت. من حدثكم ان محمدا رأى ربه فقد كذب، لان الله لا تدركه
الابصار، ومن حدثكم انه يعلم الغيب فقد كذب، لأنه لا يعلم الغيب الا
الله " وجاء في رواية ثانية عنها انها قالت لعامر بن مسروق وقد سألها عن
207

الله هل يرى: ولقد وقف شعري مما قلت، من حدثك ان محمدا رأى ربه
فقد كذب، ثم قرأت: " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار، وهو
اللطيف الخبير " " وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا أو من وراء
حجاب " ومن حدثك انه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: " ما تدري
نفس ماذا تكسب غدا " ومن حدثك بأنه قد كتم شيئا مما أوحي إليه
فقد كذب (1).
هذه الرواية تتنافى مع المرويات التي تنص على أنه يرى كما يرى
القمر ليلة تمامه والشمس ساعة تنجلي عنها السحب والغيوم، ولا بد من
تكذيب إحدى الطائفتين، ولا شك إذ رواية السيدة عائشة تتفق مع
الكتاب ويؤيدها العقل فهي أولى بالقبول والاعتبار، ومروياتها أقرب إلى
الواقع من مرويات أبي هريرة، ولو قال قائل ان تلك المرويات مستوحاة
من كتاب الله تعالى حيث جاء في بعض آياته ما يشير إلى أن له وجها ويدا
ورجلا، وانه يجلس على عرشه وغير ذلك، قلنا في جوابه ان القرآن يفسر
بعضه بعضا ولا بد من ملاحظة سياق الآية وأسباب نزولها، وضم أولها
إلى آخرها وبالإضافة إلى ذلك لا بد من تحكيم العقل عندما يصطدم به
الظاهر منها، لا سيما بعد أن كان القرآن يتحمل أكثر من معنى واحد،
وكل واحد من المعاني إذا كان مقبولا تتحمله الآيات بمجموعا ومفرداتها،
ومما لا شك فيه ان تفسير اليد بالقوة، والوجه بالقدرة، والاستواء
بالاستيلاء، ومجئ الرب بمجئ أوامره ونواهيه هو المتعين من تلك
للآيات، ويتناسب مع الأسلوب القرآني وبلاغته، وفي نفس الوقت يندفع
محذور التجسيم والتشبيه الذي يلازم الاخذ بظواهر تلك المفردات.
ولعل الذي دعا المحدث الجليل محمد بن إسماعيل إلى تدوين هذه
المرويات في جامعه، ان رواتها من الصحابة والصحابة لا ينطقون عن
الهوى لأنهم فرق الشبهات والأهواء كما زعم الجمهور من أهل السنة.

(1) انظر ص 274 / ج / 4 وص 193 / ج / 3.
208

الواجب في الكافي
لقد تعرض الكليني في كتابه الكافي للواجب وصفاته، ودون فيه
بعض المرويات التي تتعرض لحدوث العالم واثبات الصانع وصفاته
الثبوتية والسلبية وغير ذلك مما يليق بذاته، فروى عن محمد بن عبد الله
الخراساني خادم الإمام علي بن موسى الرضا (ع) أنه قال:
دخل رجل من الزنادقة على أبي الحسن الرضا (ع) وعنده جماعة
من أصحابه فقال له الإمام (ع): أيها الرجل أرأيت إن كان القول قولكم
وليس هو كما تقولون السنا وإياكم شرعا سواء لا يضرنا ما صمنا وصلينا
وزكينا وأقررنا، فسكت الرجل، ثم قال أبو الحسن الرضا (ع) وإن كان
القول قولنا وهو الحق ألستم قد هلكتم ونجونا فقال رحمك الله:
أوجدني كيف هو وأين هو، فقال الإمام (ع) ويلك ان الذي ذهبت إليه
غلط، هو أين الأين بلا أين، وكيف الكيف بلا كيف، فلا يعرف بالكيفية
ولا بالأينية، ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشئ، فقال الرجل: اذن انه لا
شئ إذا لم يدرك بحاسة من الحواس. فقال أبو الحسن: ويلك لما عجزت
حواسك عن ادراكه أنكرت ربوبيته، ونحن إذا عجزت حواسنا عن
ادراكه أيقنا انه ربنا لا يشبه شيئا من الأشياء. فقال له الرجل: فأخبرني
متى كان، فقال أبو الحسن: فأخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان.
قال الرجل: فما الدليل عليه؟ قال أبو الحسن عليه السلام: اني
لما نظرت إلى جسدي ولم يكن فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول
209

ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه، علمت أن لهذا البنيان بانيا فأقررت
به، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته، وانشاء السحاب وتصريف
الرياح ومجرى الشمسي والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات
المبينات علمت أن لهذا مقدرا ومنشأ (1).
وروى عن هشام بن الحكم ان أبا عبد الله الصادق (ع) قال في
جواب بعض الملحدين: لا يخلو قولكم انهما اثنان من أن يكونا قديمين
قويين، أو يكونا ضعيفين، أو يكون أحدهما قويا والاخر ضعيفا، فان
كانا قويين فلم لا يدفع أحدهما صاحبه ويتفرد بالتدبير، وان زعمت أن
أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت انه واحد للعجز الظاهر في الثاني.
فان قلت إنهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة أو
مفترقين من كل جهة، فلما رأينا ان الخلق منتظم، والفلك جار، والتدبير
واحد والشمس والليل والقمر والنهار دل صحة الامر والتدبير وائتلاف
الامر على أن المدبر واحد، ثم إن ادعيت انهما اثنان يلزمك فرجة ما بينهما
حتى يكونا اثنين، فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما، فيلزمك
ثلاثة، فان ادعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتى يكون بينهما فرجة
فيكونوا خمسة، ثم يتناهى العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة. فقال
الزنديق: فما الدليل عليه؟ قال أبو عبد الله الصادق (ع) وجود الأفاعيل
دلت على أن صانعا صنعها، الا ترى انك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني
علمت أن له بانيا وان كنت لم تر الباني ولم تشاهده.
قال فما هو؟ قال الإمام (ع): شئ لا كالأشياء غير أنه لا جسم ولا

(1) هذا الأسلوب في مقام الاستدلال على وجود الصانع قد
تكرر في أحاديث أهل البيت (ع) وقد أورد في الكافي مجموعة من الأحاديث
بهذا المضمون وتكرر في القران أيضا هذا النوع من الاستدلال
بالمعلول على وجود العلة.
210

صورة ولا يحس ولا يجس، ولا يدرك بالحواس الخمس لا تدركه
الأوهام، ولا تنقصه الدهور ولا تغيره الأزمان (1).
وقد أورد الكليني عشرات الأحاديث عن الأئمة (ع) حول التوحيد
والصفات، وأكثرها تنص على أنه واحد لا يشبه شيئا من مخلوقاته،
ولا يدرك بالحواس، ولا تحيط به الأوهام، ولا تحويه الأمكنة
والأزمان.
وجاء في بعضها عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال: إياكم والتفكر في
الله، ولكن إذا أردتم ان تنظروا إلى عظمته، فانظروا إلى عظيم خلقه.
وجاء في بعضها عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال: إياكم والتفكر في
الخلق ولكن إذا أردتم ان تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه.

(1) وملخص هذا الدليل الذي استدل به الامام على وجود الصانع،
هو ان المبدأ الأول لو كان اثنين. فلا يخلو من أن يكونا قديمين
قويين أو ضعيفين، أو يكون أحدهما قويا والأخر ضعيفا، والمراد
بالقوي ان يكون قادرا على فعل الكل وفاعلا له بالإرادة والمراد
بالضعيف هو الذي لا يقوى على فعل الكل ولا يستبد به ولا يصلح
لمقاومة القوي، فان كانا قويين فيلزم ان يدفع كل منهما صاحبه
ويتفرد به. ولازم ذلك عدم وقوع الفعل في مثل هذه الحالة. وإن كان
أحدهما ضعيفا. فيلزم من ضعف وجود احتياجه إلى العلة
الموجدة. فيكون ممكنا وان كانا ضعيفين. فلا يخلو من أن يكونا
متفقين في الحقيقة من كل جهة بحيث لا يكون لكل منهما جهة
تشخيص يتعين بها عن صاحبه ولازم ذلك وحدتهما وهو خلاف
الفروض. وان كانا مفترقين من كل جهة. فانتظام الخلق وائتلاف
الامر يدل على وحدة المدبر. ثم إن فرض الاثنينية ولو من جهة
يلزمه ان يكون بينهما مميز فاصل وقد عبر عنه الإمام (ع) بالفرجة.
وهذا المميز لا بد وأن يكون قديما موجودا بذاته ولازم ذلك تعدد.
القديم كما ذكر الإمام (ع).
211

وتعرض في كتاب التوحيد لمسألة الرؤية التي أثبتها أهل السنة وأورد
مجموعة من الأحاديث تنص على أنه لا يرى في الدنيا والآخرة.
فمن ذلك ما رواه أبو الحسن الموصلي عن أبي عبد الله الصادق (ع)
أنه قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فقال يا
أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ قال (ع) ويلك ما كنت لأعبد ربا لم أره.
قال: وكيف رأيته؟ قال ويلك: لا تدركه العيون بمشاهدة
الابصار ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان:
وروى عن أبي هاشم الجعفري أنه قال: سألت أبا الحسن الرضا (ع)
عن الله هل يوصف فقال: اما تقرأ القرآن قلت بلى: قال: اما قرأت قوله
تعالى: لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار قلت بلى. قال: ان أوهام
القلوب أكبر من ابصار العيون، فهو لا تدركه الأوهام وهو يدرك
الأوهام.
وأضاف إلى ذلك أبو هاشم الجعفري في رواية أخرى ان أبا الحسن
قال: يا أبا هاشم ان أوهام القلوب أدق من ابصار العيون، أنت قد تدرك
بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولا تدركها ببصرك،
وأوهام القلوب لا تدركه فكيف تدركه ابصار العيون.
وروى عن صفوان بن يحيى أنه قال: سألني أبو قرة المحدث ان
أدخله على أبي الحسن الرضا (ع) فأستأذنته في ذلك، فاذن له ودخل
عليه، فسأله عن الحلال والحرام والاحكام حتى انتهى إلى التوحيد،
فقال أبو قرة انا روينا ان الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين، فجعل لموسى
الكلام ولمحمد الرؤية فقال أبو الحسن الرضا (ع) فمن المبلغ عن الله
إلى الثقلين من الإنس والجن لا تدركه الابصار، ولا يحيطون به علما،
212

وليس كمثله شئ، أليس محمد (ص)؟ قال بلى: قال كيف يجئ رجل
إلى الخلق جميعا فيخبرهم انه جاء من عند الله وانه يدعوهم إلى الله
بأمر الله، فيقول: لا تدركه الابصار، ولا يحيطون به علما، وليس كمثله
شئ، ثم يقول: انا رأيته بعيني وأحطت به علما، وهو على صورة البشر
اما تستحون، اما قدرت الزنادقة ان ترميه بهذا ان يكون يأتي من عند
الله بشئ، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.
قال أبو قرة، فإنه يقول: ولقد رآه نزلة أخرى، فقال أبو الحسن:
ان بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: ما كذب الفؤاد ما رأى
يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ثم أخبر بما رأى فقال: لقد
رأى من آيات ربه الكبرى، وآيات الله غير الله، وقال: ولا يحيطون به
علما، وإذا رأته الابصار فقد أحاطت به علما ووقعت المعرفة.
فقال أبو قرة فنكذب الروايات (1) فقال أبو الحسن (ع) إذا
كانت الرواية مخالفة للقرآن كذبتها، وقد أجمع المسلمون على أنه لا
يحاط به علما، ولا تدركه الابصار، وليس كمثله شئ، إلى غير ذلك
من الروايات التي أوردها في الكافي حول امتناع الرؤية في الدنيا
والآخر ة (2).
وجاء في الكافي المجلد الأول في باب النهي عن وصفه بغير ما وصف
به نفسه، ان عبد الرحيم القصير قال: كتبت على يدي عبد الملك بن أعين
إلى أبي عبد الله الصادق (ع) ان قوما بالعراق يصفون الله بالصورة
والتخطيط، فان رأيت جعلني الله فداك ان تكتب إلي بالمذهب الصحيح

(1) المراد من الروايات التي أشار إليها أبو قرة ما أوردناه
عن البخاري حول هذا الموضوع من مرويات أبي هريرة وأنس بن مالك وغيرهما
مما هو موجود في صحاح أهل السنة.
(2) انظر ص 96 من المجلد الأول أصول الكافي.
213

من التوحيد، فكتب إلي. سألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه
من قبلك، فتعالى الله الذي ليس كمثله شئ وهو السميع البصير وتعالى
عما يصفه الواصفون المشبهون الله بخلقه المفترون على الله فاعلم رحمك
الله، ان المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله
عز وجل، فانف عن الله البطلان والتشبيه، فلا نفي ولا تشبيه (1) هو الله
الثابت الموجود تعالى الله عما يصفه الواصفون ولا تعدوا القرآن فتضلوا
بعد البيان (2).
وقد أورد في الكافي اثنتي عشر رواية في هذا الباب وكلها تؤكد
مضمون هذه الرواية. وروى في باب النهي عن التجسيم والتصوير عن
علي بن حمزة أنه قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (ع) سمعت هشام بن
الحكم يروي عنكم ان الله جسم صمدي نوري معرفته ضرورة يمن الله
بها على من يشاء من خلقه، فقال (ع) سبحان من لا يعلم أحد كيف هو
الا هو ليس كمثله شئ وهو السميع البصير، لا يحد ولا يحس، ولا
تدركه الابصار ولا الحواس، ولا يحيط به شئ، ولا جسم، ولا صورة،
ولا تخطيط ولا تحديد.
وروي عن محمد بن زيد أنه قال: جئت إلى الرضا (ع) أسأله عن
التوحيد، فأملى عليه. الحمد لله فاطر الأشياء انشاء ومبتدعا ابتداعا
بقدرته وحكمته، لا من شئ فيبطل الاختراع، ولا لعلة فلا يصح الابتداع
خلق ما شاء كيف شاء متوحدا بذلك لاظهار حكمته وحقيقة ربوبيته لا

(1) المراد من نفي البطلان هو النهي عن تجريده عن الصفات لان
تجريده عن جميع الصفات يلزم منه التعطيل والمراد من نفى التشبيه اي
عدم وصفه بصفات مخلوقاته بنحو يلزم منه تشبيهه بهم والمقصود
بقوله (ع): فلا نفي ولا تشبيه عدم جواز نفى الصفات عنه نفيا
باتا وعدم جواز تشبيهه بمخلوقاته كما يصنع الأشاعرة.
(2) ص 100 ج 1.
214

تضبطه العقول ولا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الابصار، ولا يحيط به
مقدار عجزت دونه العبارة، وكلت دونه الابصار، وضلت فيه تصاريف
الصفات، احتجب بغير حجاب، واستتر بغير ستر، وعرف بغير رؤية،
ووصف بغير صورة، ونعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال.
وأكثر المرويات التي ذكرها الكليني حول نفي التجسيم تشير إلى أن
هشام بن الحكم، وهشام بن سالم كانا يذهبان إلى القول به، ولعل
نسبة التجسيم التي ألصقت بهما ظلما وعدوانا، كانت من جملة الدوافع
لسؤال الأئمة عن هذه الناحية، بالإضافة إلى شيوع هذه المقالة بين
محدثي السنة وفقهائهم.
ولكن المتتبع لتاريخ هشام بن الحكم بصورة خاصة يطمئن إلى
براءته من هذه التهمة (1) وقد ذكرنا في الفصول السابقة ان مرويات الكافي
ليست كلها جامعة لشروط الصحة، وان القسم الأكبر منها يدخل في نوع
الضعيف نتيجة للتصنيف الذي أحدثه الحلي وأستاذه.
ويؤيد ذلك أن بين هذه المرويات التي تنسب التجسيم لهشام بن
الحكم رواية علي بن أبي حمزة التي يدعى فيها ان هشاما يقول: ان الله
جسم صمدي نوري، وعلي بن اي حمزة من ضعفاء الرواة، ومتهم بالكذب،
ووضع الأحاديث، وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان من وكلاء الإمام موسى
ابن جعفر، وتحت يده من أمواله ثلاثون الف دينارا، أنكرها بعد وفاته،
وانحرف عن المخطط الاثني عشري، وقد أطال المؤلفون في الرجال
الحديث عنه، وجاء في بعض نصوصهم انه كان من المجدين في اطفاء نور
الله.

(1) لقد تعرضنا لهذا الموضوع مفصلا في كتابنا الشيعة بين
الأشاعرة والمعتزلة في خلال حديثنا عن التجسيم وما يترتب عليه من اللوازم
الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها بحال من الأحوال.
215

وقد روى عنه الكليني في مختلف المواضيع، ولعل ذلك من حيث
اعتماد محمد بن عمير، وصفوان بن يحيى على بعض مروياته، وهما لا
يرويان الا عن ثقة، كما يدعي ذلك بعض المؤلفين في الرجال (1).
وممن نسب التجسيم لهشام بن الحكم يونس بن ظبيان، فقد روى
عنه في الكافي أنه قال دخلت على أبي عبد الله الصادق (ع)، فقلت له:
ان هشام بن الحكم يقول قولا عظيما ويزعم: ان الله جسم ويونس بن
ظبيان من الغلاة الوضاعين للحديث، وقد لعنه الإمام علي بن
موسى (ع) (2) ومنهم علي بن العباس الذي يروي عن الحسن بن
عبد الرحمن الحماني، فقد روى عن الحسن بن عبد الرحمن أنه قال: قلت
لأبي عبد الله: ان هشام بن الحكم زعم أن الله جسم ليس كمثله شئ،
عالم قادر سميع بصير متكلم ناطق، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى
واحد، ليس شئ منها مخلوقا، فقال قاتلة الله، اما علم أن الجسم محدود
والكلام غير المتكلم، معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول.
وعلي بن العباس من المذمومين، والمتهمين بالغلو كما نص على ذلك
المؤلفون في الرجال (3).
ومهما كان الحال فالروايات التي تنسب التجسيم لهشام بن الحكم
وغيره من أصحاب الأئمة، والتي تعطي للأئمة خصائص الخالق، وغير
ذلك من الروايات المنافية لكتاب الله وسنة نبيه، هذا النوع من بين
مرويات الكافي، لم تتوفر فيها شروط الرواية التي يصح الاعتماد عليها
في الأصول والفروع كما ذكرنا.

(1) انظر اتقان المقال ص 222 و 223.
(2) نفس المصدر ص 394 و 395.
(3) المصدر السابق ص 327.
216

وروى في الكافي في باب صفات الذات عن محمد بن مسلم ان أبا جعفر
الباقر (ع) قال في تحديد صفاته: انه واحد أحدي المعنى، ليس
بمعان كثيرة مختلفة: قال قلت: جعلت فداك يزعم قوم من أهل العراق
انه يسمع بغير الذي يبصر، ويبصر بغير الذي يسمع، فقال: كذبوا
وألحدوا وشبهوه، تعالى عن ذلك، انه سميع بصير يسمع بما يبصر،
ويبصر بما يسمع، قال قلت: يزعمون أنه بصير على ما يعقلونه (1) فقال
(ع) كذبوا إنما يعقل ما كان بصفة المخلوق، وليس الله كذلك.
وروى عن هشام بن الحكم ان الإمام الصادق (ع) قال في جواب
الزنديق الذي سأله عن الله سبحانه: هو سميع بصير يسمع بغير جارحة
ويبصر بغير آلة، سميع بنفسه، ويبصر بنفسه، وليس قولي انه سميع
بنفسه انه شئ والنفس شئ آخر، ولكني أردت عبارة عن نفسي إذ كنت
مسؤولا وافهاما لك إذ كنت سائلا، فأقول سميع بكله لا ان كله له بعض،
لان الكل لنا له بعض، ولكني أردت افهامك، وليس مرجعي في ذلك كله
الا انه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف
المعنى (2).
وفي بيان المراد من الآية: " الرحمن على العرش استوى " من كتاب

(1) أي من الابصار بآلة البصر اما لأنه جسم مركب من مجموعة
اجزاء ومنها آلة البصر. أو لان صفاته غير ذاته كما يدعى الأشاعرة
وملخص الجواب. انهم يثبتون لله تعالى ما يعقلونه من صفاتهم.
والله منزه عن مشابهتهم.
(2) والذي اراده الإمام (ع) من ذلك أن الله ليس له نفس وبعض كما
هو الحال بالنسبة لمن يسمع ويبصر من مخلوقاته بل جرى في
كلامه مع السائل على المألوف في مقام التخاطب بقصد افهام السائل
ويعني بذلك انه لا يسمع ويبصر بآلة ترسم الصور في عقله وذهنه.
ولو كان كذلك لزم تعدد القديم.
217

التوحيد أورد بعض المرويات التي تفسر المراد من العرش والاستواء عليه،
والحركة والانتقال فقد روى عن عيسى بن يونس ان ابن أبي العوجاء قال
لأي عبد الله الصادق (ع) في بعض محاوراته معه: ذكرت الله فأحلت
على غائب، فقال أبو عبد الله: ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه
شاهدهم واليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم، ويرى أشخاصهم،
ويعلم اسرارهم.
فقال ابن أبي العوجاء أهو في كل مكان، أليس إذا كان في السماء
كيف يكون في الأرض، وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء فقال
أبو عبد الله: إنما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل من مكان اشتغل به
مكان وخلا منه مكان، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما يحدث في
المكان الذي كان فيه، فاما الله العظيم، فلا يخلو منه مكان، ولا يشتغل
به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان.
وروى عن عبد الرحمن الحجاج أنه قال: سألت أبا عبد الله
الصادق (ع) عن قول الله تعالى " الرحمن على العرش استوى " فقال:
استوى في كل شئ، فليس شئ أقرب إليه من شئ، لم يبعد عنه بعيد،
ولم يقرب منه قريب استوى في كل شئ (1).
وقد أطال في الكافي في عرض المرويات عن الأئمة (ع) حول
التوحيد، وما يتفرع عنه، وتضمنت تلك المرويات دفع جميع الشبه والآراء
التي راجت في ذلك العمر بين فرق المسلمين، وتنزيهه عن الجسمية والشبه

(1) ومن هذه الرواية وغيرها مما جاء حول تفسير هذه الآية ان
المراد من العرش هو جميع مخلوقاته. والاستواء عليه كناية عن الاستيلاء.
والاشراف فيكون المعنى المتحصل من هذه الآية انه قد استولى
وأشرف على جميع مخلوقاته وتساوت نسبته إلى جميعها من حيث
علمه وقدرته عليها واحاطته بها.
218

بمخلوقاته عن كل ما لا يليق بذاته تعالى من الصفات والنعوت وغير
ذلك مما أثبته له الملاحدة والمشبهة والأشاعرة، واقتصرنا على هذه النماذج
من المرويات تهربا من التطويل. على أن بقية الروايات لا تختلف عن هذه
النماذج الا بالأسلوب وعرض الفكرة، وأحيانا قد يختصر الامام أو
يطيل في عرض الفكرة وتقريبها حسب المناسبات ويختلف ذلك باختلاف
حال السائل (1).

(1) انظر ص 78 و 81 و 96 و 100 و 117 و 128 وما بعدها
المجلد الأول.
219

البداء في الكافي
لقد روى الكليني في باب البداء ست عشرة رواية، وجاء في بعضها.
ان الاقرار والاعتراف لله بالبداء من الايمان، وفي بعضها الآخر. ان
الايمان لا يتم بدونه، وانه من أفضل العبادات.
وجاء في رواية زرارة عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: ما عبد الله
بشئ مثل البداء، وفي رواية هشام بن سالم، ما عظم الله بمثل البداء.
وفي رواية محمد بن مسلم ان أبا عبد الله الصادق (ع) قال: ما
بعث الله نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال، الاقرار له بالعبودية،
وخلع الأنداد، وان الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء.
وروى الفضيل بن يسار عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال: العلم
علمان، فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه، وعلم علمه
ملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله، فإنه سيكون، لا يكذب
نفسه، ولا ملائكته ورسله، وعلم عنده مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر
ما يشاء، ويثبت ما يشاء.
وجاء في رواية أبي بصير ان هذا النوع من العلم منه يكون البداء،
إلى غير ذلك من المرويات التي أوردها الكليني وغيره حول البداء ومن
هذه المرويات تكونت فكرة البداء عند الإمامية، ولكن المشوشين على
220

الشيعة قد أسرفوا في التشنيع عليهم من غير أن يتفهموا المراد منه، مع
العلم بان البداء بالمعنى الذي نذهب إليه لا يتنافى مع أصول الاسلام،
ولا يلزمه شئ من المحاذير، وغالى أكثرهم في التشنيع على الشيعة
فادعوا بأن فكرة البداء من مخترعات المختار بن عبيدة الثقفي ومنه
انتقلت إلى الشيعة وأصبحت عقيدة لهم على حد تعبيرهم، وذلك حينما
بلغ الصراع أشده بينه وبين مصعب بن الزبير، وأرسل جيشا لحرب
مصعب بقيادة أحد اتباعه (أحمد بن شميط) وقال لهم: إذ الوحي قد
أخبره بان الظفر سيكون لكم، وشاءت الصدف ان ينهزم اتباعه في جميع
المعارك التي دارت بينهم وبين الزبيريين، فقال لهم، لقد وعدني ربي
بالنصر، ثم بدا له، وتلي عليهم قوله تعالى:
" يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " وأضافوا إلى ذلك أنه
كان أحيانا يخبر أصحابه بأمور ينسبها إلى الله تعالى بقصد تضليل
البسطاء والمغفلين من اتباعه، فإذا ظهر لهم خلافها، قال بدا لربكم،
وانطلقوا من هذه الأساطير إلى أن هذه المقالة راجت بين الشيعة،
وأصبحت جزء من عقائدهم، فأضافوا إلى أقوال الأئمة على حد تعبيرهم،
وفسروا البداء بأن الله سبحانه يتعلق علمه بشئ، ثم يبدو له تركه
لوجود مفسدة فيه كانت خافية عليه أولا، أو لرجحان تركه على فعله،
ولازم ذلك تبدل ارادته وتجدد علمه، وذلك لا يكون الا لمن يجهل
العواقب وتخفى عليه جهات الصلاح والفساد، وتعالى الله عن ذلك علوا
كبيرا.
بهذا التسلسل لتاريخ البداء، وبهذا المعنى الذي لا يتناسب مع
عظمة الخالق انطلق الكتاب والمؤلفون وغيرهم للهجوم على الشيعة قديما
وحديثا، مع العلم بان الشيعة وبخاصة الاثنا عشرية منهم ينزهون الله
سبحانه ويعظمونه أكثر من جميع الفرق، ويرون ان البداء بهذا المعنى
221

كفر وجحود يستحق قائله الخزي والعذاب الأليم، وقد لعن الامام
أصحاب هذه المقالة كما جاء في بعض مرويات الكافي حول هذا الموضوع.
فقد روى عن منصور بن حازم أنه قال: سألت أبا عبد الله (ع)
هل يكون اليوم شئ لم يكن في علم الله بالأمس؟ فقال: لا من قال
هذا أخزاه الله، قلت أرأيت ما كان، أرأيت ما هو كائن إلى يوم القيامة
أليس في علم الله؟ قال: بلى قبل ان يخلق الله الخلق.
ومهما كان الحال فلفظ البداء يتحمل المعنيين التاليين، الأول
الظهور والإبانة، ومنه قوله تعالى: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا
يحتسبون ". وقوله: " وبدا لهم سيئات ما كسبوا ".
الثاني تغير الإرادة وتبدل العزيمة، تبعا لتغير العلم وتجدده، وهو
بهذا المعنى لا يجوز بالنسبة إليه تعالى، ولا يقول به أحد من الامامية
كما ذكرنا.
والمعنى الأول هو الذي يقصده الشيعة من البداء الذي، نصت عليه
بعض المرويات عن الأئمة (ع).
قال الشيخ المفيد في رسالته التي شرح فيها رسالة الصدوق في
الاعتقادات: والأصل في البداء هو الظهور، قال تعالى في سورة
الزمر:
" وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " اي ظهر لهم من أفعال
الله ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، وقال في السورة المذكورة:
" وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم " اي ظهر لهم جزاء كسبهم
وبان لهم. وأضاف إلى ذلك. ان العرب تقول: قد بدا لفلان عمل
222

حسن، وكلام فصيح، كما يقولون بدا من فلان، فتكون اللام بمعنى
من وقائمة مقامها، والمعنى في قول الإمامية بدا لله كذا اي ظهر له فيه،
وبتقدير ان اللام بمعنى من، يكون المراد من هذه الكلمة، ظهر منه.
والمتحصل من ذلك أن البداء الذي لا نقول به هو بمعنى الظهور
والإبانة، ونسبته إلى الله فيما لو قلنا بدا لله كذا اي ظهر من الله ما
كان خافيا على جميع مخلوقاته ولم يكن في حسابهم.
وقد اكد هذا المعنى الشيخ الكراجكي في كنز الفوائد حيث قال:
ان المراد من البداء ان يظهر للناس خلاف ما توهموه، وينكشف لهم في -
ما كانوا يعتقدون من دوام الامر واستمراره، وسمي هذا النوع بالبداء
لمشابهته لمن يأمر بالشئ أو يخبر به ثم ينهى عنه في وقته.
وتفسير البداء بهذا المعنى ليس بعيدا عن مفاد بعض الروايات التي
جاء فيها انه من علم الله المكنون الذي لم يظهر لاحد، حتى للأنبياء
والمرسلين، وانه من أفضل ما عبد به الله إلى غير ذلك من المرويات التي
ربطت بين الايمان به والايمان الأكيد بالله، ذلك بأن هذا التفسير للبداء،
مفاده ان ما ظهر للناس هو من علمه المكنون الذي لم يطلع عليه أحدا من
عباده ولم يكن محتسبا ظهوره أو مظنونا وقوعه، وافتراض البداء من
هذا العلم لا بد وان يقترن بالاقرار والاعتراف لله سبحانه بالإحاطة بكل
شئ والقدرة المطلقة التي لا تحيط بها الظنون ولا تحدها الأوهام، وإذا
بلغ الانسان من الايمان بالله إلى هذه المرتبة يصبح في أعلى درجات
الايمان وفي مصاف الأولياء والصديقين الذين يراقبون الله في جميع
حالاتهم وتصرفاتهم.
ومما يؤكد إرادة هذا المعنى من البداء، ما جاء في أوائل المقالات
للمفيد رحمه الله. حيث قال: وإنما يوصف من أفعاله بالبداء ما لم
223

يكن محتسبا ظهوره أو مظنونا وقوعه، إماما علم كونه، أو غلب في
الظن حصوله فلا يستعمل فيه لفظ البداء.
هذا مع العلم بأن نسبة البداء إلى الله والحالة هذه لا تخلو من
التجوز كما نص على ذلك الكراجكي في كنز الفوائد.
ولو تغاضينا عن كل ذلك. وقلنا إن البداء المنسوب إليه من صفاته
تعالى، فلا بد وأن يكون المراد منه حين ينسب إليه انه قادر على أن يرفع
وبضع ويمحو ويثبت، واثبات القدرة له بهذا النحو لا يعني تجددا في
علمه ولا تغييرا في ارادته، ذلك لان علمه وارادته يتعلقان بالأشياء بما
هي مقدورة له وتحت تصرفه وسلطانه.
224

البداء في صحيح البخاري
على أن البداء الوارد في مرويات الشيعة وارد بهذا اللفظ في
مرويات السنة وفي صحاحهم.
فقد روى البخاري، عن أبي عمرة ان أبا هريرة حدثه انه سمع
رسول الله (ص) يقول: ان ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأعمى وأقرع
بدا لله ان يبتليهم، فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص، فقال: اي شئ
أحب إليك، فقال لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس، فمسحه
فذهب عنه، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، ثم قال له: اي المال أحب
إليك، فقال: الإبل، فأعطي ناقة عشراء، وأتى الأقرع فقال: اي شئ
أحب إليك، قال شعر حسن، ويذهب عني هذا قد قذرني الناس فمسحه
فذهب عنه وأعطي شعرا حسنا، ثم قال له: فأي المال أحب إليك، فقال:
والبقر، فأعطاه بقرة حاملا، وأتى الأعمى فقال: اي شئ أحب إليك،
قال: يرد الله إلي بصري، فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال
أحب إليك، قال: الغنم، فأعطاه شاة ولودا، وجاء في الحديث ان الإبل
والبقر والغنم تكاثرت عند هؤلاء حتى أصبح لكل واحد منهم قطيعا من
هذه الأصناف، ثم إن الملك أتى الأبرص والأقرع والأعمى كلا على
صورته، وطلب من كل واحد منهم ان يعطيه مما عنده، فرده الأقرع
والأبرص، فأرجعهما الله إلى ما كانا عليه، وأعطاه الأعمى فزاده الله
وأبقاه مبصرا (1).
فهذه الرواية صريحة في نسبة البداء إلى الله تعالى وربما كانت أظهر
في المعنى المنسوب إلى الشيعة من الرواية التي ورد فيها هذا اللفظ بين
مروياتهم كما يبدو ذلك من صيغة الرواية التي ورد فيها لفظ البداء.

(1) انظر المجلد الثاني من الصحيح البخاري ص 259.
225

هذا بالإضافة إلى بعض المرويات التي تؤدي معنى البداء المنسوب
إلى الشيعة وان لم يرد فيها لفظه صريحا، فقد جاء في رواية البخاري
التي وصف فيها النبي (ص) رحلته إلى السماء ليلة المعراج، انه مر على
موسى (ع) فقال له: بما أمرك ربك؟ فقال: أمرني بخمسين صلاة كل
يوم، فقال له: ان أمتك لا تستطيع ذلك، واني والله لقد جربت الناس
قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك واسأله
التخفيف قال (ص): فرجعت إليه فوضع منها عشرا، فأخبرت موسى
بذلك فأمرني أن أرجع إليه مرة أخرى، فرجعت إليه مرة ثانية وثالثة
ورابعة وخامسة بأمر من موسى وفي كل مرة يخفف منها عشرا حتى
استقرت على الخمس صلوات في اليوم الواحد، وجاء في الرواية ان
موسى أشار عليه أن يرجع ويطلب منه، تخفيفها فامتنع محمد (ص) حياء
من ربه (1).
ونحن لا ننسب لإخواننا أهل السنة من خلال هذه المرويات ما لا
يتفق مع أصول الاسلام وفروعه ولا نستغل وجودها بين مروياتهم
للتشنيع والتشويه لآثارهم ومعتقداتهم ولو كنا نحمل مثل هذه الروح
الشريرة لكان ذلك من أيسر الأمور علينا ونرغب إليهم ان ينظروا إلى
المقامين بعين واحدة وان يرجعوا إلى كتب علماء الشيعة التي تعبر عن رأيهم
في مثل هذه المواضيع، وان لا يستبدوا بتفسير بعض المرويات حسب
أهوائهم ونزعاتهم لأنا أقدر منهم علي رد الصاع صاعين.

(1) ص 338 وص 211 ج 2 وتكررت في المجلد الرابع وغيره.
والجمود على ظاهر الرواية يلزمه أحد أمرين اما تكليف العباد بما
لا يطيقون حيث إنه كلفهم بما لا يقدرون عليه كما جاء فيها عن لسان
موسى واما ان الله سبحانه حينما فرض الصلاة على المسلمين لم
يكن يعلم قدرتهم على أداء هذا المقدار، كما وأن محمدا (ص) لم
يكن يعلم ذلك حتى جاء موسى وكشف لله ولرسوله عن واقع
حالهم تعالى الله عما يرويه أبو هريرة وكعب الأحبار وحشوية العامة
علوا كبيرا.
226

القدر في صحيح البخاري والكافي
فقد روى عن زيد بن وهب عن عبد الله ان رسول الله (ص) قال:
ان أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون
مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع برزقه وأجله أشقى أو
سعيد، فوالله ان الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها
غير باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها،
وان الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو
ذراعين، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
وروي عن انس بن مالك ان النبي (ص) قال: وكل الله بالرحم
ملكا فيقول: اي ربي نطفة، اي ربي علقة. اي ربي مضغة، فإذا أراد
الله ان يقضي خلقا، قال: أي ربي ذكر أم أنثى، أشقى أم سعيد،
فما الرزق، فما الاجل فيكتب كذلك في بطن أ مه.
وروى عن عمران بن حصين ان رجلا قال يا رسول الله: أيعرف
أهل الجنة من أهل النار قال نعم، قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: كل
يعمل لما خلق له.
وروى عن أبي هريرة ان النبي (ص) قال: احتج آدم وموسى
فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، قال له
آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده أتلومني على أمر
227

قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فقال النبي (ص) فحج آدم
موسى وكررها ثلاثا. إلى غير ذلك من المرويات التي أوردها البخاري
في صحيحه حول القدر المتفقة في مضامينها (1).
وجاء في الكافي حول هذا الموضوع عن منصور بن حازم ان
أبا عبد الله الصادق (ع) قال: ان الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق
خلقه، فمن خلقه الله سعيدا لم يبغضه أبدا، وان عمل شرا أبغض عمله
ولم يبغضه، وإن كان شقيا لم يحبه ابدا، وان عمل صالحا أحب عمله،
وأبغضه لما يصير إليه، فإذا أحب الله شيئا لم يبغضه ابدا، وإذا أبغض
شيئا لم يحبه ابدا (2).
وروى عن أحمد بن محمد بن خالد بسنده إلى علي بن حنظلة ان
أبا عبد الله الصادق (ع) قال: يسلك بالسعيد طريق الأشقياء حتى
يقول الناس: ما أشبهه بهم، بل إنه منهم، ثم تتداركه السعادة، وقد
يسلك بالشقي طريق السعادة حتى يقول الناس: ما أشبهه بهم بل إنه
منهم، ثم تتداركه السعادة، وقد يسلك بالشقي طريق السعادة حتى

(1) انظر ص 143 وما بعدها من المجلد الرابع.
(2) والمراد من قوله ان الله خلق السعادة والشقاء قبل ان يخلق خلقه
انه تعالى علم ما سيكون من أمر الانسان من حيث اختياره لسلوك
طريق لسعادة أو الشقاء فقدر عليه ما يختاره وكتبه مع السعداء
أو الأشقياء فأحب السعيد وابغض الشقي. ومع ذلك فلو صدر
من الشقي عمل مالح أحب منه ذلك العمل. ولو صدر من السعيد
عمل قبيح أبغضه وإن كان هو في ذاته محبوبا له سبحانه. فهذه
الرواية وما ورد بهذا المضمون لا تدل على أن الانسان مسير في
أعماله لما قدر عليه ولا يختار من امره شيئا كما يدعي القائلون بهذه
المقالة ولعل المرويات التي أوردها البخاري وغيره من محدثي السنة
من جملة الدوافع على انتشار هذه المقالة بين محدثي السنة
وفقهائهم وجميع أصنافهم مع أنها لو صحت عن النبي (ص) لا بد
من تأويلها بما ذكرنا.
228

يقول الناس، ما أشبهه بهم بل هو منهم، ثم يتداركه الشقاء، ان من
كتبه الله سعيدا وان لم يبق من الدنيا فواق ناقة ختم له بالسعادة (1).
وروى عن أبي بصير أنه قال: كنت بين يدي أبي عبد الله
الصادق (ع) جالسا وقد سأله سائل فقال: جعلت فداك يا بن رسول
الله من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتى حكم الله عليهم في علمه
بالعذاب على عملهم، فقال: أيها السائل حكم الله عز وجل لا يقوم له
أحد من خلقه بحقه، فلما حكم بذلك وهب لأهل محبته القوة على
معرفته، ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ما هم أهله، ووهب لأهل المعصية
القوة على معصيتهم لسبق علمه فيهم، ومنعهم إطاقة القبول فوافقوا ما
سبق لهم في علمه، ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم من عذابه، لان
علمه أولى بحقيقة التصديق (2).
وروى في الكافي في باب الجبر والقدر ما يرفع الالتباس ويفسر
المراد من القدر، عن سهل بن زياد وإسحاق بن محمد، قالا: كان
أمير المؤمنين جالسا في الكوفة بعد منصرفه من صفين، إذ أقبل شيخ فجثا بين
يديه، وقال له: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء
من الله وقدر؟ فقال (ع) أجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد
الا بقضاء من الله وقدر، فقال له الشيخ: عند الله احتسب عنائي يا
أمير المؤمنين، فقال له مه يا شيخ، والله لقد عظم الله لكم الاجر في مسيركم
وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرفكم وأنتم

(1) هذا الحديث يتفق مع الحديث الذي رواه البخاري عن النبي
اتفاقا كليا.
(2) فحكم الله عليهم نشأ من علمه باختيارهم طرق الشقاء. والسعادة
وحيث علم منهم ذلك وعلمه لا يمكن ان يخلف حكم عليهم وأمدهم
بالقوة والقدرة فهم قادرون على الشر والخير وجودا وعدما. إذ لا
تصدق القدرة الا إذا تساوت بالنسبة للوجود والعدم وبذلك يصح
الثواب والعقاب والمدح والذم.
229

متصرفون ولم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين، ولا إليه مضطر ين.
فقال له الشيخ، كيف لم نكن في شئ من حالاتنا مكرهين ولا
إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟ فقال له
أتظن انه كان قضاء حتما وقدرا لازما، انه لو كان كذلك لبطل الثواب
والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله، وسقط معنى الوعد والوعيد،
ولم تكن لائمة لمذنب ولا محمدة لمحسن، ولكان المذنب أولى بالاحسان
من المحسن، والمحسن أولى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة عبدة
الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمة ومجوسها.
ان الله كلف تخييرا، ونهى تحذيرا، وأعطى على القليل كثيرا ولم
يعص مغلوبا، ولم يطع مكرها ولم يملك مفوضا، ولم يخلق السماوات
وما بينهما باطلا، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثا، ذلك ظن الذين
كفروا فويل للذين كفروا من النار (1).

(1) ان النزاع في القضاء والقدر ونسبتهما إلى الافعال يرجع
تاريخه إلى القرن الأول الذي انتشرت فيه الدعوة الاسلامية خارج البلاد
العربية واتصل المسلمون العرب بغيرهم من الأمم ذات الديانات
المختلفة، وقد تشعبت فيهما الآراء، فقال فريق بان تعلق الإرادة
بالأشياء يوجب سلب الاختيار، ولازم ذلك أن يكون الانسان
مجبورا في أفعاله، وقال فريق آخر وهم المفوضة بأن الانسان
مختار في أفعاله، والإرادة الإلهية لم تتملق بشئ من أفعال الانسان
وقد نفى الإمام (ع) في جوابه للسائل كلا الامرين فقال: لو كان كذلك
لبطل الثواب والعقاب اي لو كان قضاء حتما وقدرا لازما بنحو لا
يكون للعبد إرادة واختيار في أفعاله يكون العقاب من الله على القبيح
ظلما لأنه هو الفاعل ولا يستحق الانسان على الخير شيئا لأنه مدفوع
إلى فعله قهرا وبدون إرادة واختيار وقد دفع شبهة التفويض
بقوله (ع): ولم يعص مغلوبا. اي ان الانسان لو كان خالقا لفعله
من غير أن يكون لله رأي في ذلك. كانت مخالفته لما كلفه الله به
من الافعال غلبة منه على الله سبحانه. كما وان قوله (ع) ولم يطع
مكرها تعريض بالمجبرة الذين ذهبوا إلى أن الانسان مسير للقضاء
الحتمي والقدر اللازم ولا يملك الاختيار في شئ من حالاته.
230

وقد أورد في الكافي مجموعة من المرويات عن الأئمة (ع) تفسر
المراد من القدر والقضاء الذي يجب الايمان بهما وتنص على أن القدر
والقضاء لا يسلبان إرادة العبد وقدرته على أفعاله، مع العلم بأنه هو
الذي أمد الانسان شقيا كان في علم الله، أم سعيدا بالقدرة والقوة على
مزاولة أعماله والآتيان بها.
فقد جاء في رواية يونس بن عبد الرحمن عن حفص بن قرط عن
أبي عبد الله الصادق (ع) ان رسول الله (ص) قال: من زعم أن الله يأمر
بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر بغير
مشيئة الله فقد اخرج الله عن سلطانه، ومن زعم أن المعاصي بغير قوة
الانسان فقد كذب على الله، ومن كذب على الله أدخله الله النار (1).
وروى عن علي بن الحكم عن صالح النيلي أنه قال: سألت
أبا عبد الله (ع) هل للعباد من الاستطاعة شئ فقال: إذا فعلوا الفعل كانوا
مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها الله فيهم، قلت وما هي؟ قال الآلة،
مثل الزاني إذا زنى كان مستطيعا للزنى حين زنى ولو أنه ترك الزنى ولم
يزن كان مستطيعا لتركه إذا ترك، ثم قال: ليس له من الاستطاعة قبل
الفعل قليل ولا كثير، ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعا، قلت فعلى
ماذا يعذبه! قال بالحجة البالغة: والآلة التي ركبها فيهم، ان الله لم
يجبر أحد! على معصيته، ولا أراد إرادة حتم الكفر من أحد، ولكن حين

(1) فقد أبطل بهذه الرواية مزاعم الفريقين المجبرة والمفوضة
لان من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء يدعى بأن إرادة الله هي التي تسير
الانسان بنحو لا يملك من امره شيئا ومن زعم بأن الخير والشر بغير
مشيئته تعالى فقد عزل الله من سلطانه فلا بد من الواسطة بين
القولين وذلك بأن نقول: مع أن الله قض وقدر فقد اعطى الانسان
القدرة على أفعاله والقوة عليها فهو يفعل بالقدرة التي وهبها له
على الفعل والترك، فإذا فعل أو ترك يصح نسبة الفعل أو الترك
إليه من حيث تساوي قدرته بالنسبة إليهما.
231

كفر كان في إرادة الله ان يكفر، وهم في ارادته وفي علمه ان لا يصيروا إلى
شئ من الخير، قلت: أراد منهم ان يكفروا قال ليس هذا أقول ولكني
أقول علم أنهم سيكفرون فأراد الكفر لعلمه يخم وليست هي إرادة
حتم وإنما هي إرادة اختيار (1).

(1) والفقرة الأخيرة من هذه الرواية تؤيد ما علقناه على
الرواية السابقة كما يبدو ذلك من قوله: علم أنهم سيكفرون فأراد الكفر
لعلمه فيهم، اي انه لما علم بأنهم سيختارون الكفر بالقدرة التي خلقها
الله فيهم بنحو يكون الوجود والعدم في مقدورهم. لما علم فيهم
ذلك اراده فيهم إرادة اختيار اي إرادة تتعلق به من حيث اختيارهم
له وقدرتهم على ايجاده وليست الإرادة في المقام الا علمه باختيارهم
الكفر والعصيان.
232

من كتاب العلم في صحيح البخاري
لقد اشتمل كتاب العلم من الصحيح للبخاري على مجموعة من
الأبواب المختلفة، وحشد فيها طائفة من المرويات عن الرسول (ص)
نذكر منها نماذج بنصها الحرفي، وتترك للقارئ الحكم على هذه
المرويات ومناسباتها، فقد جاء في باب فضل العلم عن عطاء بن يسار عن
أبي هريرة أنه قال: بينما النبي (ص) في مجلس يحدث القوم جاءه اعرابي
فقاله: متى الساعة يا رسول الله؟ فمضى النبي في حديثه، فقال بعض
القوم: لقد سمع رسول الله وكره قوله. وقال آخرون، انه لم يسمع
حتى إذا أنهى حديثه، قال أين أراد السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا
رسول الله، قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها
قال: إذا أسند الامر إلى غير أهله (1).
وفي باب ما جاء في العلم روى عن انس بن مالك أنه قال: بينما
نحن جلوس مع النبي (ص) في المسجد، دخل رجل على جمل فأناخه في
المسجد ثم عقله، وقال لهم: أيكم مصد (ص)، والنبي متكئ بين
ظهرانيهم، فقلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال الرجل للنبي (ص)
اني سائلك ومشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك، فقال

(1) واسناد الامر إلى غير أهله إنما يكون إذا غلب الجهل على
العلم وعمت الفوضى وانتشر الفساد والمنكر بين الناس. وأصبح أولياء
الأمور من دعاة الشر والفساد. فعندها ينبغي للانسان ان يعتصم
بدينه ويترقب ساعة الخلاص والفرج.
233

النبي (ص) سل عما بدا لك، فقال أسألك بربك ورب من قبلك، الله
أرسلك إلى الناس كلهم، فقال اللهم نعم، قال أنشدك بالله الله أمرك
ان نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة، قال اللهم نعم، قال
أنشدك بالله الله امرك ان تأخذ هذه الصدقة من اغنيائنا وتقسمها على
فقرائنا، قال اللهم نعم، قال الرجل: آمنت بما جئت به وانا رسولك لمن
ورائي من قومي (1).
وفي باب فضل من علم وعلم، روى عن أبي بردة عن أبي موسى
ان النبي (ص) قال: مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث
الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب
الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا
وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء
ولا تنبت كلاء، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به
فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي
أرسلت به.
وفي باب رفع العلم وظهور الجهل روى عن انس بن مالك أنه قال:
لأحدثنكم حديثا لا يحدثكم به أحد بعدي،، سمعت رسول الله (ص)
يقول: من اشراط الساعة ان يقل العلم، ويظهر الجهل والزنا، وتكثر

(1) لم يكن الذين آمنوا بمحمد على وتيرة واحدة فمنهم المعاند
الذي كان يتحكم ويقترح على النبي المعجزات والخوارق التي يعجز عن
ايجادها الانسان كانشقاق القمر وتكليم الحجر وتسبيح الحصى
ونحو ذلك ومعلوم ان هذا النوع من الآيات إذا وجد النبي ضرورة
ملحة إليها دعا الله لايجادها ومنهم من آمن به حينما سمع آيات
القران التي يعجز البشر عن الاتيان بمثله ومنهم من آمن به لأنه
يعلم من حاله بأنه لا يعرف الكذب ولا يقول الا الحق كالذي ردد
عليه هذه الأسئلة ومنهم من أسلم دجلا أو خوفا وطمعا.
234

النساء وتقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد (1).
ومن الممكن ان يكون المراد من قلة العلم وكثرة النساء وغيرهما
من الفقرات التي تشتمل عليها، هو انه اخبار سينتهي إليه الانسان وقد
انتهى إلى أكثره وهو عدم استعمال العلماء علمهم فيما يعود على البشرية
بالخير ويخفف عنها آلام الفقر والبؤس والمرض، وقد استعملوه بدلا
عن ذلك للسيطرة على الشعوب واستغلال ثرواتها وخيراتها وضع آلات
الدمار والخراب التي تستنزف القسم الأكبر من امكانيات الشعوب
وخيرات الأرض، كما تضع الدول الكبرى في عصرنا الحاضر التي تنفق
آلاف المليارات على وسائل الدمار وعشرات الملايين يموتون جوعا
هنا وهناك.
فالعلم الذي يعطي هذه النتائج السيئة لا يعد علما ما دام مسخرا
لشهوات الانسان وأهوائه بل هو في واقعه أسوأ من الجهل، واضرار
الجهل إذا قيست بأضراره لا تكون شيئا مذكورا، ولو قدر لتلك الدول
الكبرى التي تملك آلات الدمار ان تصطدم تتعرض البشرية لكارثة لا
يحصي نتائجها الا الله ويصبح لكل خمسين امرأة رجل واحد، كما وان
أكثر المتقمصين لثوب رجل الدين ويتاجرون به يتسببون لتنكر الناس
منه وحتى للخروج منه أحيانا.
وفي باب فضل العلم روى عن ابن عمر أنه قال: سمعت النبي (ص)
يقول: بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى اني لأرى الري

(1) انظر ج 1 من صحيح البخاري ص 21 و 23 و 26 والظاهر أن
هذه الأمور ليست من العلامات الحتمية لقيام الساعة وليست من
أسبابها وإنما هي من المقارنات بمعنى انه عند حدوث الساعة لا بد
وأن يكون العالم في مثل هذه الحالات من الفوضى وانتشار الفساد
والمنكرات وانصراف لناس عن الأديان وأهلها.
235

يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا فما أولته يا
رسول الله قال: بالعلم!
وفي باب الحرص على الحديث روى عن أبي هريرة أنه قال: قيل
يا رسول الله: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة فقال لقد ظننت
يا أبا هريرة ان لا يسألني عن هذا الحديث أحد قبلك لما رأيت من حرصك
على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله
خالصا من قلبه ونفسه.
لقد روى هذا الحديث أبو هريرة ليثبت ان الرسول قد شهد له
بالحرص على رعاية الحديث في مقابل الشبهات التي أثيرت حو له حينما
أكثر من الرواية عنه وتعرض للتكذيب والضرب أحيانا وأعرض الناس عن
حديثه.
وفي باب كتابة العلم روى عن عبد الله بن العباس أنه قال: لما اشتد
برسول الله الوجع قال: آتوني بدواة وكتف اكتب لكم كتابا لن
تضلوا بعده أبدا، فقال عمر بن الخطاب: ان النبي قد غلبه الوجع وعندنا
كتاب الله حسبنا فاختلفوا وكثر اللغط، فقال النبي (ص) قوموا عني
لا ينبغي عندي التنازع فخرج ابن عباس وهو يقول: الرزية كل الرزية
ما حال بين رسول الله وبين كتابه (1).
وأكثر المحدثين رووا عنه أنه قال إن النبي ليهجر اي انه يتكلم
بدون وعي وتصور من شدة الوجع والألم.
وروى في باب حفظ العلم عن أبي هريرة أنه قال: ان الناس
يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت أحدا، ثم

(1) انظر ج 1 ص 27 و 30 و 32 من الصحيح للبخاري.
236

قال: ان إخواننا المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وان إخواننا
الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وان أبا هريرة كان يلزم رسول
لله (ص) ليشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون.
وروى عنه أنه قال قلت لرسول الله: اني اسمع منك حديثا كثيرا
أنساه، قال ابسط ردائك فبسطته فغرف بيده،، ثم قال ضمه فضممته
فما نسيت شيئا بعده وقال: حفظت من رسول الله وعائين، اما أحدهما
فبثثته، واما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم (1).

(1) وبالطبع ان الوعاء الثاني الذي لم يحدث به أبو هريرة
هو الاسرار الإلهية التي لا تتحملها عقول البشر، ولم يحط بها علما سوى
النبي (ص) وأبو هريرة، ولذا لو حدث بها لقطع المسلمون بلعومه
لان العقول لا تتحملها في عصر الصحابة الأولين، ولما جاء دور
معاوية والأمويين وجد مجالا لبثة فحدث منه عن فضل الأمويين
والشام وسكانها وفضائل عثمان ومعاوية وغيرهما ممن أعلن العداء
لعلي (ع) وآله الكرام. انظر ص، 24 و 37.
237

من كتاب العلم في الكافي
روى الكليني في باب فرض العلم ووجوب طلبه عن أبي عبد الله
الصادق (ع) ان رسول الله (ص) قال: طلب العلم فريضة على كل مسلم،
الا ان الله يحب بغاة العلم.
وروى عن الفضل بن عمر أنه قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول:
عليكم بالتفقه في الدين، لا تكونوا اعرابا، فان من لم يتفقه في دين الله
لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزك له عملا.
وروى عن جميل بن دراج ان أبان بن تغلب قال: سمعت الإمام الصادق
يقول: لوددت ان أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى
يتفقهوا في دينهم. وروى عن أبي حمزة الثمالي ان أبا جعفر الباقر كان
يقول: عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين عابدا (1).
وروى عن السكوني أنه قال: روى الإمام الصادق عن آبائه ان
رسول الله (ص) قال: لا خير في العيش الا لرجلين عالم مطاع أو
مستمع داع.

(1) ومن هذه الرواية يظهر ان العلم مهما كان نوعه إذا أفاد
الناس في معاشهم أو معادهم يكون محبوبا لله سبحانه. والعالم الذي يتجه
بعلمه لخير الانسان إذا كان مؤمنا بالله ورسله أفضل من العابد
بسبعين مرة لان العابد لا ينفع الا نفسه، والعالم الذي يستعمل
علمه في الخير ينفع الملايين من البشر لأنه يسهل لهم سبيل الحياة
الحرة الكريمة، ويقربهم إلى الله سبحانه.
238

وروى عن حماد بن عيسى عن القداح عن أبي عبد الله الصادق (ع)
ان رسول الله (ص) قال: ان فضل العالم على العابد كفضل القمر على
النجوم ليلة البدر. وان العلماء ورثة الأنبياء، وانهم لم يورثوا غير العلم
فمن أخذ منه اخذ بحظ وافر.
وروى عن أبي بصير ان أبا عبد الله الصادق (ع) قال: من علم
خيرا فله مثل أجر من عمل به، قلت فان علمه غيره يجري ذلك له؟
قال: ان علمه الناس كلهم جرى له، قلت فان مات، قال: وان مات.
وفي باب صفة العلماء، روى عن معاوية بن وهب أن أبا عبد الله
الصادق (ع) قال: اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا
لمن تعلمونه العلم، ولمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين
فيذهب باطلكم بحقكم.
وروى عن الحارث بن المغيرة، ان أبا عبد الله الصادق (ع) قال:
في تفسير قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء " ان الآية تعني
بالعلماء من صدق فعله قوله ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم.
وروى عن الحلبي عن أبي عبد الله الصادق (ع) ان أمير المؤمنين (ع)
كان يقول: الا أخبركم بالفقيه؟ الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله،
ومن لم يؤمنهم من عقاب الله، ولم يرخص لهم في معصية ا لله، ولم
يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، الا لا خير في علم ليس فيه تفهم، الا
لا خير في عبادة ليس فيها تدبر، الا لا خبر في عبادة لا فقه فيها، الا لا
خير في نسك لا ورع فيه.
وروى عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (ع) ان
أمير المؤمنين (ع) كان يقو ل: يا طالب العلم ان للعلم ثلاث علامات. العلم
239

والحلم والصمت، وللمتكلف ثلاث علامات، ينازع من فوقه بالمعصية،
ويظلم من دونه بالغلبة، ويظاهر الظلمة (1).
وروى عن أبي جعفر الباقر: ان علي بن الحسين (ع) كان يقول:
يسخي نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قول الله عز وجل: " أولم يروا
انا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " وهو ذهاب العلماء (2).
وروى عن سفيان بن عيينة بر ان أبا جعفر الباقر (ع) قال:. لمجلس
أجلسه إلى من أثق به أوثق في نفسي من عمل سنة.
وروى في باب النهي عن القول بغير علم روي عن أبي عبيدة الحذاء
ان أبا جعفر الباقر (ع) قال: من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته
ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه.
وروى عن داود بن فرقد ان عبد الله بن شبرمة أحد القضاة لأبي
جعفر المنصور قال: ما ذكرت حديثا سمعته من جعفر بن محمد، الا كاد
قلبي ان يتصدع. قال: حدثني أبي عن جدي عن رسول الله (ص) قال
ابن شبرمة وأقسم بالله ما كذب أبوه على جده ولا جده على
رسول الله (ص)، وان رسول الله (ص) قال: من عمل بالمقاييس فقد هلك
وأهلك، ومن أفتى الناس بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ
والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك.
وفي باب استعمال العلم روى عن أمير المؤمنين (ع) انه سمع

(1) اي يكون لهم عونا ونصيرا على ظلمهم.
(2) والمقصود من الرواية ان الآية الكريمة تجعل نفسه سخية في حب
الموت أو القتل. انظر ص 20 و 31 و 32 و 35 و 36 و 38 من
المجلد الأول أصول الكافي.
240

النبي (ص) يقول: العلماء رجلان: رجل عالم اخذ بعلمه فهذا ناج،
وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وان أهل النار ليتأذون من ريح العالم
التارك لعلمه، وان أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله
فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الجنة، وادخل الداعي النار
لتركه عمله واتباعه الهوى وطول الامل، وأضاف إلى ذلك، ان اتباع
الهوى يصد عن الحق، وطول الامل ينسي الآخرة.
وروى في باب المستأكل بعلمه، والمباهي به عن حفص بن غياث
القاضي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: إذا رأيتم العالم محبا لدنياه
فاتهموه على دينكم، فان كل محب لشئ يحوط ما أحب، وأضاف إلى
ذلك أن الله أوصى إلى داود، لا تجعل بيني وبينك عالما مفتونا بالدنيا
فيصدك عن طريق محبتي، فان أولئك قطاع طريق وان أدنى ما انا صانع
بهم ان انزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم.
وروق النوفلي عن السكوني ان أبا عبد الله الصادق (ع) روى عن
رسول الله (ص) أنه قال: الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا،
قيل يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا قال: اتباع السلطان فإذا فعلوا
ذلك فاحذروهم على دينكم (1).
وروى عن أبي بصير ان أبا جعفر الباقر (ع) قال: ان المقصود
بقوله تعالى: " فكبكبوا فيها هم والغاوون " هم قوم وصفوا عدلا
بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره (2).

(1) لقد روى الكليني في هذه الأبواب عن ابن عيينة، وابن شبرمة
والسكوني والنوفلي وحفص بن غياث. وكلهم من محدثي العامة
وفقهائهم. ومن ذلك يتبين افتراء من يدعى ان الشيعة لا يروون
عن غيرهم. ولا يقبلون مرويات السنة عن الرسول حتى ولو كان
رواتها من المعروفين بالصدق والاستقامة.
(2) انظر ص 45 و 46 و 47 نفس المصدر.
241

وقد روى الكليني في كتاب العلم مجموعة من الأحاديث حول
العلم واثره في توجيه الانسان توجيها صحيحا يرفع من شأنه ويسهل له
العيش الكريم والحياة الحرة الآمنة. ولا يهمنا ان نستقصي جميع ما
رواه حول هذه المواضيع، والذي يعنينا عرض بعض الأمثلة من الكتابين
الكافي والصحيح للبخاري للمقارنة بينهما في مختلف المواضيع، مع
العلم بأنهما يلتقيان في كثر من المرويات في الجوهر والغاية ان اختلفا في
الأسلوب والاسناد.
وفي باب البدع والرأي والمقاييس روى عن يونس بن عبد الرحمن
ان أبا الحسن موسى بن جعفر (ع) قال: يا يونس لا تكونن مبتدعا،
من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيه ضل، ومن ترك كتاب
الله وقول نبيه كفر.
وروى عن يونس عن قتيبة ان رجلا سأل أبا عبد الله (ع) عن
مسألة فأجابه عليها فقال الرجل: أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون
القول فيها قال له الإمام (ع) مه ما أجبتك عن شئ فهو عكن
رسول الله (ص) لسنا من أرأيت في شئ (1).
وجاء في باب اختلاف الحديث عن سليم بن قيس الهلالي ان
أمير المؤمنين عليا (ع) قال في جواب من سأله عن الأحاديث المختلفة حول
تفسير القران وأحاديث الرسول. ان الناس كانوا يكذبون على
رسول الله (ص) في حياته، فقام خطيبا في أصحابه، وكان مما قال: أيها
الناس لقد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار

(1) هذه الرواية تنص على أنهم (ع) لا يقولون شيئا عن
عن طريق الظن والاجتهاد وكل ما يقولونه في أمور الدين فهو مما ورثوه عن جدهم
الرسول (ص) وروى في الكافي بهذا المضمون أكثر من رواية لتأكيد هذا
المعنى.
242

وأضاف إلى ذلك علي (ع): ان الناس قد كذبوا عليه بعد وفاته، وقد
اتاكم الحديث من أربعة لا خامس لهم. رجل منافق يظهر الايمان متصنع
بالاسلام لا يتأثم ولا يتحرج ان يكذب على رسول الله متعمدا فلو علم
منه الناس انه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه، ولكنهم قالوا
هذا قد صحب رسول الله (ص) ورآه وسمع منه، فأخذوا عنه وهم لا
يعرفون حاله. وقد أخبر الله سبحانه عن المنافقين بقوله وإذا رأيتهم
تعجبك أجسامهم وان يقولوا تسمع لقولهم، وبقي هؤلاء بعده فتقربوا
إلى أئمة الضلال والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم
الأعمال وحملوهم على رقاب الناس.
ورجل سمع من رسول الله (ص) شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه
لم يتعمد كذبا، فهو في يده يقول به ويعمل فيه ويرويه فيقول انا سمعته
من رسول الله (ص) ولو علم المسلمون انه وهم لم يقبلوه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله (ص) شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو
لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شئ، ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ منسوخه
ولم يحفظ الناسخ، ولو علم أنه منسوخ لرفضه ولو علم المسلمون بحاله
لرفضوه.
ورجل رابع لم يكذب على رسول الله (ص) مبغض للكذب خوفا
من الله وتعظيما لرسول الله (ص) حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به
كما سمع، وعلم الناسخ من المنسوخ، فان أمر النبي مثل أمر القرآن
ناسخ ومنسوخ، وعام وخاص، ومحكم ومتشابه، وقد كان يكون من
رسول الله الكلام له وجهان، مثل القرآن، وقد قال الله في كتابه: ما
آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، فيشتبه الحال على من لم
يعرف وما يدري ما عنى الله به ورسوله، وليس كل أصحاب رسول الله
كان يسأله عن الشئ فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه، حتى أنهم
كانوا يحبون ان يجئ الأعرابي والطاري فيسأل الرسول حتى
243

يسمعوا، وكنت ادخل على رسول الله كل يو م دخلة، وكل ليلة دخلة
فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله انه لم
يفعل ذلك مع أحد من الناس غيري، فكنت ان سألته أجابني، وان سكت
عنه وفنيت مسائلي ابتدأني فما نزلت عليه آية الا أقرأنيها وأملاها على
فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها
وعامها وخاصها، ودعا الله ان يعطيني فهما وحفظا فما نسيت آية من
كتاب الله ولا علما أملاه علي وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا.
وروى عن ابن عائشة البصري ان أمير المؤمنين (ع) قال: أيها
الناس اعلموا انه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه، ولا بحكيم
من رضي بثناء الجهال عليه، الناس أبناء ما يحسنون، وقد ركل امرء ما
يحسن، فتكلموا في العلم تبن أقداركم.
وروى في باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب، عن السكوني ان
أبا عبد الله الصادق (ع) قال إن رسول الله كان يقول: ان على كل حق
حقيقة، وعلى كل جواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف
كتاب الله فدعوه.
وروى عن ابن أبي يعفور، ان الإمام الصادق (ع) قال: إذا ورد
عليكم حديث ووجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله،
والا فالذي جاءكم به أولى به، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو
زخرف ومردود على من جاء به، إلى غير ذلك من المرويات الكثيرة التي
تؤكد ان آرائهم في أصول الدين وفروعه لا تتخطى كتاب الله وسنة
رسول الله (ص)، وان ما عندهم من العلم قد ورثوه عن جدهم
الأعظم (ص) لا يبتني على الاجتهاد والحدس، ولا على القياس
والاستحسان، وقد صح عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: حديثي حديث
أبي وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي، حديث رسول الله، وحديث
رسول الله قول الله، لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحى يوحى.
244

من كتاب الايمان في صحيح البخاري
لقد تحدث البخاري في صحيحه، والكليني في الكافي عن الايمان
بعنوان كتاب الايمان، وعرض كل منهما تحت هذا العنوان، المرويات التي
لديه في مختلف الأبواب حسب المناسبات وسنقدم من الكتابين نماذج من
تلك المرويات بنصها الحرفي مع التعليق على بعضها إذا دعت الحاجة لذلك.
فقد جاء في الصحيح للبخاري عن أبي هريرة ان رسول الله (ص)
قال: بني الاسلام على خمس، شهادة ان لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله، وأقام الصلاة وايتاء الزكاة والحج وصوم شهر رمضان.
وروي عن ابن عمر ان الرسول قال: المسلم من سلم المسلمون من
يده ولسانه، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
وفي باب اطعام الطعام، روى عن أبي موسى الأشعري ان رجلا
سأل رسول الله (ص) اي الاسلام خير؟ قال تطعم الطعام، وتقرأ السلام
على من عرفت ومن لم تعرف (1).

(1) ان صح الحديث لا بد وأن يكون السؤال للنبي (ص) في
ظروف الحاجة الملحة والفقر البالغ. فيكون الاطعام في هذه الحالات من
أفضل ما يقدمه الانسان لأخيه. وقراءته السلام على من عرف ومن
لم يعرف كوسيلة إلى التقرب إلى الناس والتحبب إليهم ولو بهذا
النوع من التودد الذي يعبر عن صفاء القلوب وبرائتها من الغل
الحقد في الغالب.
245

وروى عن انس بن مالك، ان النبي (ص) قال: لا يؤمن أحدكم
حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
وروى عن أبي سعيد الخدري ان رسول الله (ص) قال: بينما انا
نائم، رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي ومنها
ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره قالوا: فما
أولت ذلك يا رسول الله قال الدين (1).
وروى في كتاب الايمان عن ابن عباس، ان النبي (ص) قال: أ ريت
في النار فإذا أكثر أهلها النساء قيل أيكفرن بالله يا رسول الله؟ قال
يكفرن العشير، ويكفرن الاحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم
رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط (2).
وروى عن عبادة بن الصامت، ان رسول الله (ص) خرج من بيته
ليخبر الناس بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فرفعت، وعسى ان
يكون خيرا لكم التمسوها في السبع والتسع والخمس.
وجاء في فتح الباري في تفسير الحديث انه تخاصم رجلان ومعهما
الشيطان، فنسيها النبي (ص).
وروى في الباب الذي خصصه لليلة القدر مجموعة من المرويات

(1) لقد أكثر البخاري في صحيحه من المرويات بهذا المضمون.
وهي كالصريحة في أن الناس كلهم لم يبلغ منهم أحد ما بلغه أبو حفص في
الدين فقد ملئ من قرنه إلى قدمه وزيادة والناس لم يأخذوا منه
الا القليل اي بنسبة ما يستر ربع أجسادهم ولعله يكنى بذلك عن
معاصيهم.
(2) لقد روى البخاري عن النبي (ص) في المرأة أكثر من عشرة أحاديث
وقد وصفها في دينها وعقلها بمثل ما وصفها به أمير المؤمنين علي (ع)
مما يؤكد ان رأي علي فيها مستمد من رأي النبي (ص).
246

عن النبي (ص) وأكثرها تنص على أنها في العشر الأواخر من رمضان،
وجاء في بعضها: اني أريت ليلة القدر، ثم أنسيتها أو نسيتها فالتمسوها
في العشر الأواخر من رمضان في الوتر (1).
ولا تختلف مرويات البخاري بمجموعها من حيث تحديد زمانها عن
المرويات الشيعية وأكثرها تنس على أنها في العشر الأواخر من رمضان
اما المختصات بتلك الليلة بالإضافة إلى الذي أشارت إليه السورة التي
تعرضت لها، فالروايات عن النبي (ص) والأئمة (ع) قد اشتملت على
الكثير من اثارها وخصائصها وحثت على العمل والتقرب إلى الله فيها.
وروى في باب صلة الرحم عن قيس بن حازم عن عمرو بن العاص
انه سمع النبي (ص) يقول: ان آل اي ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله
وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحما أبلها ببلالها (2)، والمقصود آل
أبي طالب كما فهم منها جميع المحدثين، وقد ترك البخاري ذكر طالب لان
محمد بن جعفر أحد الرواة لها ترك بياضا محل طالب كما نص على ذلك
البخاري في صحيحه.
ومن الغريب ان مؤلف فتح الباري بعد إذ اكد ان الحديث الذي
رواه ابن العاص عن رسول الله (ص) هو ان آل أبي طالب: بعد أن
اكد ذلك قال ما محصله: ان الحديث لا يعني عليا وجعفرا (ع).
ومن غير البعيد ان يكون المعني به أبو طالب وحده، وأضاف إلى
ذلك أن جماعة رجحوا، بان الذي يعنيه النبي (ص) بقوله وصالح المؤمنين

(1) نظر ص 245 وما بعدها. وإذا جاز عليه ان ينسى ليلة
القدر بعد أن رآها ووعاها فمن الجائز عليه ان ينسى غيرها من الاحكام قبل
تبليغها. وهذا لا يتلائم مع مقام النبوة وأهدافها.
(2) اي أصلها بصلتها.
247

هم أبو بكر وعمر وعثمان (1) مع العلم بان كلمة آل فلان لا تشمل فلانا
نفسه بل تختص بآله الذين ينتسبون إليه، فالرواية اذن لا تشمل
أبا طالب بل تختص بآله وآله في عصر الرسول (ص) هم أولاده الثلاثة علي
وجعفر وعقيل وابنته أم هاني، ولو استثنينا جعفرا وعقيلا وعليا لم يبق
لهذا الحديث من مورد، ولم يتعرض أحد لسنده الا من ناحية الراوي له
عن ابن العاص، وهو قيس بن أبي حازم فقد احتمل جماعة بأن الحديث
من موضوعاته لأنه كان ناصبيا منحرفا عن علي (ع)، كما نص على ذلك
في فتح الباري.
ومما لا شك فيه ان هذا الحديث من موضوعات ابن النابغة ارضاء
لسيده معاوية بن هند، ويستحيل على رسول الله (ص) ان يتنكر لجهاد
أبي طالب وآله ومكانتهم من الاسلام واخلاصهم لدعوته منذ انبثاق
فجرها، وهل يجوز على من علم الناس الوفاء ودعا إليه ان يتنكر للطالبيين،
وهم الذين حضنوه صغيرا وجاهدوا بين يديه كبيرا جهادا لم يعرف
التاريخ له نظيرا، ولولاهم لقضي على الاسلام وهو في مهده.
وإذا لم يكن أبو طالب وأولاده أولياء لرسول الله فمن هم الأولياء
المحبون لرسول الله وليس ببعيد على الذين وضعوا هذا الحديث ان
يكونوا بصدد ايهام الناس بأن أولياءه هم، ابن النابغة، وابن الزرقاء،
وابن هند وأمثالهم ممن غمرهم الاسلام بخيراته وتنكروا لقيمه ومبادئه
وكانوا حربا على أولياء الله ورسوله، ان الذين دونوا هذا الحديث بين
المرويات عن الرسول في مجاميعهم يعلمون بان ابن النابغة يقصد عليا من
بين آل أبي طالب ليرضي سيده معاوية، وكان عليهم ان لا يناقضوا أنفسهم
ويدونوا في نفس تلك المجاميع الروايات التي تؤكد ان عليا (ع) وجعفرا

(1) انظر ص 25 من المجلد الثالث عشر من فتح الباري.
248

كانا من أقرب المقربين إلى الرسول (ص) ومن تلك المرويات حديث الراية
في غزوة خيبر التي قال فيها النبي (ص).
لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله
كما جاء في المجلد الثالث وغيره من مجلدات البخاري، هذا بالإضافة إلى
ما جاء عنه (ص) مما في فضل جعفر بن أبي طالب وتقديره لاخلاصه وبطولاته
كما نص على ذلك البخاري وغيره (1).
وروى في باب لبس القميص عن نافع عن عبد الله، انه لما توفي
عبد الله بن أبي، جاء ابنه إلى رسول الله (ص)، فقال يا رسول الله
اعطني قميصك ألفه فيه وصل عليه واستغفر له، فأعطاه رسول الله
قميصه وقال له إذا فرغت فآذنا، فلما فرغ اذنه، فجاء ليصلي عليه فجذبه
عمر بن الخطاب وقال له:
أليس قد نهاك ربك ان تصلي على المنافقين، وقال لك: استغفر لهم
أو لا تستغفر لم ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، فنزلت
بهذه المناسبة الآية: " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا "، فعند ذلك
ترك النبي (ص) الصلات عليهم (2).

(1) انظر المجلد الثالث من الصحيح.
(2) انظر ص 25 من المجلد الرابع. ان الذين وضعوا هذه الرواية
حسبوا ان هذا الأسلوب الجاف الأرعن فضيلة لعمر بن الخطاب.
والواقع ان الحديث لو صح يكون من سيئات عمر بن الخطاب ومن
الشواهد على عدم انقياده للرسول واقتدائه به وفي الوقت ذاته يدل
الحديث على تجاهل النبي (ص) للقرآن أو غفلته عن احكامه لأنه
لم يتنبه لرأي القرآن فيهم الا بعد أن نبهه الخليفة وقرأ عليه الآية
وفي تلك اللحظة جاء الوحي مؤيدا لعمر في موقفه من المنافقين على
حد زعمهم. وبالتالي ان الذين وضعوا هذه الرويات ليسوا بأسوأ
حالا من الذين دونوها في صحاحهم للأجيال على مر الدهور
واختاروها من ستماية الف حديث. هذا بالإضافة إلى أن راوي
الحديث عبد الله بن صالح بن محمد المصري متهم بالكذب كما جاء
في التهذيب والميزان وغيرهما.
249

وروى في باب ما يجوز من الهجران عن عائشة انها قالت إن
رسول الله (ص) قال لها: اني لأعرف غضبك من رضاك، قالت: وكيف ذاك
يا رسول الله: قال: انك إذا كنت راضية قلت بلى ورب محمد: وإذا
كنت ساخطة قلت لا ورب إبراهيم، قالت: أجل لست أهجر الا اسمك.
وفي باب التبسم والضحك روى عن محمد بن سعد عن أبيه ان عمر
ابن الخطاب استأذن على رسول الله (ص) وعنده نسوة من قريش يسألنه
ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب
فأذن له النبي (ص) فدخل والنبي يضحك فقال: أضحك الله سنك يا
رسول الله بابي أنت وأمي، فقال: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي
لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب، فقال أنت أحق أن يهبن يا رسول الله
ثم أقبل عليهن وقال: يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله (ص)
فقلن انك أفك وأغلظ من رسول الله، فقال رسول الله: ايه يا ابن الخطاب
والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا الا سلك فجا
غير فجك (1).
وروى في باب الانبساط إلى الناس عن هشام بن عروة ان عائشة
قالت: كنت العب بالبنات عند النبي (ص) وكان لي حواجب يلعبن معي
فكان رسول الله إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي.
وفي باب من دعا صاحبه ونقص من اسمه حرفا روى عن أبي سلمة
ابن عبد الرحمن ان عائشة زوجة النبي (ص) قالت: قال لي رسول الله (ص)

(1) انظر ص 64 من المجلد الرابع ومقتضى الحديث ان
الشيطان يهاب عمر بن الخطاب أكثر من رسول الله لان الرسول على حد زعم
الراوي وصف أبا حفص بهذه الصفة لأن النساء هبنه وخفن سطوته
حين ان الحديث ينص على انهن لم يهبن الرسول ولم يتسترن منه
كما فعلن مع عمر بن الخطاب.
250

يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام قلت وعليه السلام يا رسول الله
ورحمة الله وبركاته وأضافت إلى ذلك أنه يرى ما لا ترى.
وفي باب كنية المشرك روى عن عبد الله بن نوفل عن العباس بن
عبد المطلب أنه قال لرسول الله: هل نفعت أبا طالب بشئ فإنه كان يحوطك
ويغضب لك قال نعم: هو في ضحضاح من نار ولولا انا لكان في الدرك
الأسفل من النار (1).
وإذا كان آل أبي طالب ليسوا للنبي بأولياء كما يزعم ابن العاص
فليس بغريب إذا كان سيدهم وزعيمهم أبو طالب في ضحضاح من نار أو
في الدرك الأسفل من النار كما تنص على ذلك تلك المرويات التي صنعها
معاوية بن هند وعملاؤه ليبرز من خلالها فضل أبيه المتضلع بالاسلام، على
أبي طالب المؤمن برسالة ابن أخيه ايمانا صادقا قويا منذ بعثه الله رسولا
لعباده حتى النفس الأخير من حياته.
ولولا أنه والد الإمام علي بن أبي طالب لكان عند جمهور السنة
من أصدق المسلمين ايمانا وأخلصهم عملا وفي أعلى درجات النعيم.
وما أدري كيف سوغ هؤلاء لأنفسهم ان يلصقوا الكفر بابي طالب
بعد تلك المواقف الخالدة التي وقفها في سبيل الدعوة المباركة بماله وجاهه
وجميع إمكانياته، ولم يكفهم قوله من جملة أبيات كما جاء في تاريخ ابن
كثير ص 87.
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا نبيا كموسى خط في أول الكتب
وقوله في الكتاب المذكور ص 57:
وأيده رب العباد بنصره وأظهر دينا حقه غير زائل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعنى بقول الا باطل
وقوله في ص 42 من التاريخ المذكور:

(1) ص 69 نفس المصدر.
251

وعرضت دينا فد عرفت بأنه من خير أديان البرية دينا
إلى غير ذلك من أقواله ومواقفه التي لا يرتاب فيها الا كل أفاك أثيم.
وقوله في ص 42 من التاريخ المذكور وعرضت دينا قد عرفت بأنه
من خير أديان البرية دينا، إلى غير ذلك من أقواله ومواقفه التي لا يرتاب
فيها الا كل أفاك أثيم.
وروى في باب نكث العود في الماء والطين عن أبي موسى الأشعري،
انه كان مع النبي (ص) في حائط من حيطان المدينة وفي يده عود يضرب
به بين الماء والطين فجاء رجل يستفتح، فقال النبي (ص) افتح وبشره
بالجنة فذهبت فإذا هو أبو بكر ففتحت له وبشرته بالجنة، ثم استفتح
رجل آخر، فقال النبي (ص): افتح له وبشره بالجنة، فإذا هو عمر بن
الخطاب، ففتحت له وبشرته بالجنة، ثم استفتح رجل آخر وكان متكئا
فجلس وقال: افتح وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فإذا هو عثمان (1).
وفي باب الحجاب روي عن عائشة انها قالت: كان عمر بن الخطاب
يقول لرسول الله (ص) احجب نساءك فلم يستجب لطلبه، وكان أزواج
النبي يخرجن ليلا إلى ليل قبل المناصع فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت
امرأة طويلة فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس، فقال عرفتك يا
سودة حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله عند ذلك آية الحجاب،
تنفيذا لرغبة عمر بن الخطاب في ذلك (2).

(1) انظر ص 83 / ج / 4
(2) والذين وضعوا هذا الحديث أرادوا ان يثيروا الشكوك حول التشريع
وأسبابه وان يخلقوا فضيلة لعمر ولو على حساب الطعن في جوهر
الاسلام لان الله كما يزعم الراوي قد احترم رأي عمر وشرع بناء
لرغبته وتلك فضيلة لا يعادلها شئ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
وكل من رجع إلى كتب التفسير وأسباب النزول يخرج وهو على
يقين بان تشريع الحجاب كغيره من التشريعات التي كان الله سبحانه
يراعى فيها مصلحة العباد لا رغبة محمد بن عبد الله (ص) ولا غيره
من الناس.
252

وروى في باب المناجاة عن عامر بن مسروق ان عائشة قالت: كنا
أزواج النبي عنده جميعا لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة (ع) تمشي
لا والله ما تخفي مشيتها عن مشية رسول الله (ص)، فلما رآها رحب بها
وقال: مرحبا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه وسارها فبكت بكاء شديدا،
فلما رأى حزنها سارها الثانية إذا هي تضحك، فقلت لها انا من بين نسائه
خصك رسول الله بالسر من بيننا ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله (ص)
سألتها عما سارك، قالت ما كنت لأفشي لرسول الله سرا، فلما توفي قلت
لها عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني قالت اما الآن فنعم، اما
حين سارني أولا فإنه اخبرني ان جبرائيل كان يعارضه بالقرآن كل سنة
مرة وانه عارضه به العام مرتين ولا أرى الاجل الا قد اقترب فاتقي الله
واصبري فاني نعم السلف لك، فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى
جزعي سارني الثانية وقال لي يا فاطمة الا ترضين ان تكوني سيدة نساء
المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة (1).
وروى في باب الصلاة على النبي (ص) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
أنه قال: لقيت كعب بن عجرة، فقال: خرج علينا النبي (ص) فقلنا يا
رسول الله كيف نصلي عليك، قال قو لوا: اللهم صل على محمد وعلى
آل محمد كما صليت على آل إبراهيم انك حميد مجيد، اللهم بارك على
محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم انك حميد مجيد.
وجاء في رواية ثانية رواها البخاري عن أبي سعيد الخدري،
و عبد الله بن خباب ان أبا سعيد قال: يا رسول الله كيف نصلي عليك
قال قولوا: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم
وبارك على محمد وال محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم وروى

(1) انظر ص 84 و 88 و 96، ج 4.
253

غير هاتين الروايتين بهذا المضمون (1).
وروى في باب تكرير الدعاء عن هشام بن عروة عن عائشة ان رسول
الله (ص) طب، اي سحر حتى ليخيل إليه انه صنع الشئ وما صنعه،
وانه دعا ربه، ثم قال: أشعرت ان الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه، قالت
عائشة: فما ذاك يا رسول الله قال: جائني رجلان فجلس أحدهما عند
رأسي والاخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال
مطبوب، قال من طبه؟ قال لبيد بن الأعصم، قال فيما قال: في مشط
ومشاطه، وجف طلعة، قال فأين هو: قال: في ذروان، وذروان في بني
زريق، قالت فأتاها رسول الله (ص) ثم رجع إلى عائشة، فقال والله
لكأن ماءها نقاعة الحناء، وكان نخلها رؤوس الشياطين، قالت فأتى
رسول الله (ص) وأخبرها عن البئر، فقلت يا رسول الله فهلا أخرجته،
قال اما انا فقد شفاني الله وكرهت ان أثير على الناس شرا وقد روى
البخاري حديث سحر النبي في موضع آخر من صحيحة بهذا المضمون (2).

(1) ومع أن الروايات في صحيح البخاري وغيره تنص على أن
الصلاة عليه لا تتم الا بذكر آله، حيث إن السائل سأله عن كيفية الصلاة عليه،
وكان جوابه قولوا اللهم صل على محمد وال محمد، ومع ذلك
فأهل السنة يقتصرون عليه وحده ويخالفون النصوص المروية في
صحاحهم بدون مدرك بل وحتى البخاري نفسه الراوي لتلك
المرويات إذا ذكره ينص عليه وحده ويتجاهل آله الذين لا تتم
الصلاة عليه بدونهم. انظر ص 106 و 107 ج / 4.
(2) والمراد من المشط الذي سحر به النبي (ص) على حد زعم الراوي هو
العظم العريض الوجود في الكتف، وقيل غيره وجف الطلعة هو
القشر الملاحق للطلع الذي يلقح فيه النخل وقيل غير لذلك وبئر
ذروان يقع خارج المدينة وقد ارسل النبي (ص) عليا وعمارا فنزلا
البئر واستخرجا آلة السحر التي سحر بها. و قيل كما في فتح الباري:
ان الذي نزل رجل آخر وقد وجد فيه تمثالا من شمع لرسول الله
وفيه أبر مغروزة وإذا وتر فيه أحد عشر عقدة فنزل جبريل
بالمعوذتين وكلما قرأ آية انحلت عقدة وكلما نزع إبرة وجد لها ألما.
انظر فتح الباري ج 12 ص 34 وما بعدها وانظر في ص 112 ج 4.
254

وقد تكرر هذا الحديث في الصحيح بهذا المضمون ورواه في المجلد
الثاني ص 204 عن هشام بن عروة عن أبيه عن السيدة عائشة وجاء فيه،
ان النبي (ص) سحر حتى كان يخيل إليه انه صنع شيئا وما صنعه،
والأحاديث المروية حول هذا الموضوع كلها تنص على أن النبي قد اثر به
السحر إلى حد أصبح يخيل إليه انه قد صنع الشئ وما صنعه، ولازم ذلك أن
يكون قد فقد رشده، ومن الجائز عليه في تلك الحالة ان يتخيل انه
قد صلى ولم يصل، وان يتخيل شيئا يتنافى مع نبوته، بل مع انسانيته،
فيفعله، وبالرغم من اني قد اخذت على نفسي ان لا أهاجم أحدا في هذا
الكتاب، ولكني أراني مضطرا للهجوم في هذا المورد وارى لزاما علي ان
أقول: ان الذين رووا هذا الحديث ودونوه هم المسحورون لأنهم لا
يفكرون بما يكتبون، ويروون ولا يتثبتون، وكيف يصح على نبي لا
ينطق عن الهوى كما وصفه ربه، ان يكون فريسة للمشعوذين، فيفقد
شعوره ويغيب عن رشده، ومع ذلك يصفه القرآن بأنه لا ينطق الا بما
يوحى إليه، ويفرض على الناس أجمعين ان يقتدوا بأقواله وأفعاله،
والمسحور قد يقول غير الحق ويفعل ما لا جوز فعله على سائر الناس
وقد يخرج عن شعوره وادراكه.
وكما روى البخاري حديث السحر، روى أحاديث كثيرة تنص على أن
النبي كان ينسى في صلاته فيزيد فيها أحيانا وينقص حينا آخر.
فروى عن علقمة عن عبد الله ان رسول الله (ص) صلى الظهر خمسا
فقيل له: أزيد في الصلاة يا رسول الله فقال وما ذاك؟ قيل له: صليت
خمسا فرجع وسجد سجدتين واكتفى بصلاته (1).

(1) مع العلم بان زيادة الركعة مبطلة للصلاة سواء كانت من
عمد أو سهو وقد كذب الجصاص في المجلد الثاني من احكام القران حديث سحر
النبي (ص) ونزهه عن هذه الأباطيل التي لا تتفق مع الغاية التي
ارسل الله الرسل من اجلها ولا أظن أحدا من اعلام السنة يعرف
مقام النبوة ويقر أمثال هذه المرويات.
255

وروى عن أبي هريرة ان رسول الله (ص) صلى صلاة العصر
ركعتين ثم سلم وقام إلى خشبة في المسجد ووضع يده عليها، وفي المسجد
أبو بكر وعمر، فهابا ان يكلماه وخرج الناس وقالوا قصرت الصلاة،
فسأله رجل منهم يدعى ذو اليدين، فقال: أنسيت أم قصرت الصلاة يا
رسول الله، فقال النبي (ص) لم أنس ولم تقصر، قال: بلى لقد نسيت،
فرجع النبي وصلى بهم ركعتين وسلم ثم سجد سجدتين وروى غير هاتين
الروايتين عن سهو النبي ونسيانه في باب السهو في الصلاة (1).
وفي أحاديث قيام الساعة روى عن أبي هريرة، ان رسول الله (ص)
قال: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها
الناس أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل، أو
كسبت في ايمانها خيرا، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما
فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فمه
فلا يطعمها.
وروى في باب كيفية الحشر عن عبد الله بن عباس، ان رسول الله (ص)
وقف خطيبا في الناس. فقال: ا انكم محشورون حفاة عراة كما
بدأنا أول خلق نعيده، وان أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم،

(1) انظر ص 212 و 213 من الصحيح، ونسبة السهو والنسيان إلى
النبي (ص) من المنكرات عند الإمامية ولم يرد في الكافي ما يشير إلى
ذلك ومال إلى جواز السهو عليه محمد بن بابويه المعروف بالصدوق
أحد محدثي الامامية ولكنه تعرض لأعنف الهجمات من الامامية في
جميع العصور وإذا جاز عليه اللهو والنسيان في صلاته جاز في
غيرها حتى في حال تبليغ الأحكام والوحي وغيرهما وإذا كان بهذه
الحالة فهل يحصل للناس الجزم والوثوق بما يأتي به بعد أن كان
معرضا للسهو وللنسيان ولأن يدخل عليه السحر وينفعل به كغيره
من سائر الناس.
256

وانه سيجاء برجال من أمني فيؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال، فأقول
يا رب أصحابي! فيقول: انك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال
العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، فيقال انهم لم يزالوا
مرتدين على أعقابهم القهقرى وقد روى عن أبي هريرة ان النبي (ص) قال
يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض، فأقول يا
رب أصحابي، فيقول: انك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، انهم ارتدوا
على أدبارهم القهقرى.
وروى بهذا المضمون أكثر من عشر روايات، وجاء في بعضها انه لا
يخلص منهم الا مثل همل النعم (1).
وبلا شك ان المراد من أصحابه في هذه الروايات على كثرتها هم
الصحابة الذين عاصروه واستمعوا لأحاديثه وأقواله واشتركوا في غزواته
هؤلاء بلا شك هم المعنيون بهذه الأحاديث، والذي يلفت النظر ويدعو
إلى التسائل، هو وصفهم بالارتداد والتغيير والتبديل، مع أنهم حاربوا
المرتدين وكانوا يحرصون على نشر الاسلام وتطبيق أصوله وفروعه،
ومن البعيد ان يصفهم الله والرسول بهذه الصفات لمجرد مخالفتهم لبعض
الاحكام وارتكابهم لبعض المعاصي، لان المعصية لا تسوغ وصفهم
بالارتداد ولا بالخروج من الدين ولا توجب هلاكهم فلا بد وأن يكون
السبب في ذلك أبعد من المخالفات والمعاصي التي لا يسلم فيها الا من عصمه
الله، وإذا رجعنا إلى الاحداث التي تلت وفاة الرسول والتطورات التي
حدثت من بعده لا نجد سببا معقولا سوى الموقف السلبي الذي وقفوه
من الخليفة الشرعي ذلك الموقف الذي أنتج تلالي المضاعفات والتناقضات
الخطيرة وهيأ للأمويين ان يحكموا باسم الدين والاسلام ويمارسوا

(1) انظر ص 120 و 132 و 133 و 141 و 143 وص 158.
257

جميع أنواع الفساد والمنكرات واحياء جميع مظاهر الجاهلية، بعدما
حاربها النبي وكاد ان يجتث جذورها، ولم يكتفوا بكل ذلك وحاولوا
بواسطة أنصارهم وعمالهم المنتشرين هنا وهناك ان يضعوا الخليفة فوق
مستوى الرسول كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الثالث من فصول هذا
الكتاب.
وروى البخاري عن جنادة بن أبي أمية أنه قال: دخلنا على عبادة
ابن الصامت وهو مريض فقلنا له أصلحك الله! حدثنا بحديث ينفعنا الله
به سمعته من رسول الله (ص) فقال: دعانا النبي فبايعناه فكان فيما اخذ
علينا ان بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا،
وان لا تنازعوا الامر أهله الا إذ تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه
برها ن (1).
وروى في باب إذا حرم الانسان طعامه، ان عبيد الله بن عمر كان يقول:
سمعت عائشة تزعم أن النبي (ص) كان يمكث عند زينب بنت جحش
ويشرب عندها عسلا، فتواصيت انا وحفصة، ان أيتنا دخل عليها
النبي (ص) فلتقل اني أجد منك ريح مغافير اكلت مغافير فدخل على
إحداهما فقالت ذلك له، قال: لا بل شربت عسلا عند زينب ولن أعود

(1) ص 212 المصدر السابق وتشير هذه الرواية إلى أن النبي (ص)
كان يحثهم ويؤكد عليهم ان يستسلموا للحاكمين ممن يتولون الأمور من
بمده حتى ولو ظلموا وأفسدوا ومارسوا المنكرات والمحرمات ولا
يعارضوهم في شئ من ذلك مع العلم بان الثورة على الظلم والطغيان
والاستبداد من أبرز المبادئ التي جاء بها الاسلام واكد النبي (ص)
في عشرات المناسبات مواصلة الكفاح ضد الظلم والطغيان والتمرد
على احكام الله وسننه مهما كانت النتائج فلا بد وأن تكون هذه
الرواية وأمثالها من صنع الذين دونوا الحديث في قصور الخلفاء
ليصرفوا الناس عن واقع أولئك الحكام الملوث بكل أنواع الجرائم
والمنكرات وظلم العباد.
258

فنزلت الآية: " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لد تبتغي مرضات
أزواجك ".
وفي باب الرؤيا روى عن ابن عمر انه سمع النبي (ص) يقول: بينا
انا نائم اتيت بقدح من لبن فشربت منه حتى اني لأرى الري يخرج من
أظفاري، ثم أعطيت فضلي لعمر بن الخطاب، قالوا فما أولته يا رسول الله
قال: العلم.
وروى عن أبي هريرة ان رسول الله (ص) قال: بينما انا نائم
رأيتني على قليب وعليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم اخذها أبو بكر
فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت
غربا فأخذها عمر بن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر
حتى ضرب الناس بعطن.
وروى عن أبي هريرة أيضا ان النبي (ص) قال: بينما انا نائم رأيتني
في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، قلت لمن هذا القصر قالوا:
لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته ووليت مدبرا، وقد تكرر هذا النوع من
المرويات في صحيح البخاري عن طريق أبي هريرة، وفي بعضها انه رأى
قصرا من ذهب لعمر بن الخطاب في الجنة، وقد امتنع النبي من دخوله
تهيبا من غيرته.
وروى في فضائل عثمان ان امرأة رأت عينا جارية لعثمان، فسألت
النبي (ص) عنها فقال: هي علمه (1).
وروى عن أبي جاء عن ابن عباس ان النبي (ص) قال: من كره
من أميره شيئا فليصبر، فان من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية،

(1) ص 213 و 214 و 216.
259

وقد تكرر هذا المضمون بين مرويات البخاري، فروى عن عطاء عن
أبي رجاء العطاردي ان عبد الله بن عباس سمع النبي (ص) يقول: من رأى
من أميره شيئا يكرهه فليبصر عليه، فان من فارق الجماعة شبرا ومات،
مات ميتة جاهلية (1).
وروى في باب هلاك أمتي على أيدي أغيلمة، من عمر بن يحيي عن
سعيد عن جده أنه قال: كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي (ص)
بالمدينة ومعنا مروان بن الحكم، فقال أبو هريرة: سمعت الصادق
الصدوق يقول: هلكت أمتي على يدي غلمة من قريش، فقال مروان:
لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو شئت ان أقول بني فلان وبني
فلان لفعلت، وأضاف إلى ذلك الراوي كنت اخرج مع جدي إلى بني
مروان حين ملكوا في الشام، فإذا رآهم غلمانا احداثا قال لنا: عسى
هؤلاء ان يكونوا منهم، قلنا أنت اعلم.
وروى أيضا عن الزهري عن أسامة بن زيد أنه قال: أشرف
النبي (ص) على اطم من آطام المدينة فقال: هل ترون ما أرى، قالوا

(1) انظر ص 222 / ج 4 هذا النوع من المرويات من صنع الأمويين
واتباعهم الذين كانوا يحاذرون من يقضة المسلمين ومراقبة تصرفاتهم واعلان
الثورة على تلك الأنظمة الفاسدة التي أحدثوها منذ ان تيسر لهم
الاستيلاء على الحكم بالسلاح والمال والخداع والمراوغة، ولو صحت
هذه المرويات عن الرسول (ص) فلابد وأن يكون المقصود منها
الخروج عن طاعة الامام الذي يحكم بالحق والعدل لا غيره ممن غير
وبدل وأراق الدماء وانتهك الحرمات ليتآمر على المسلمين ويتحكم
في رقابهم حسب شهواته وأهوائه.
260

لا قال فاني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر (1).
وروى عن حذيفة اليمان، ان الناس كانوا يسألون رسول الله (ص)
عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة ان يدركني، فقلت يا رسول الله
انا كنا في جاهلية وشر فجاء فالله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من
شر؟ قال نعم، وفيه دخن: قلت وما دخنه؟ قال قوم يهدون بغير هدى
تعرف منهم وتنكر (2) قلت: في بعد ذلك الخير من شر، قال نعم. دعاة
على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت صفهم لنا: قال هم من
جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت فما تأمرني ان أدركني ذلك، قال تلزم
جماعة المسلمين وامامهم، قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا امام، قال
فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت.
وروى عن نافع أنه قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، جمع
ابن عمر ولده وحشمه وقال: اني سمعت رسول الله (ص) يقول: ينصب
لكل غادر لواء يوم القيامة، وانا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله
ورسوله، واني لا اطم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله.
ثم ينصب له القتال واني والله لا اعلم أحدا منكم خلعه وبايع غيره الا
كانت الفيصل بيني وبينه.
وروى عنه أيضا انه لما انتهت الخلافة إلى عبد الملك بن
مروان في له ببيعته وبيعة ولده وذويه واكد له وفاءه بها
عليا (ع) تمنع عن بيعته هو وولده ووقف منها موقف المحتاط لدينه على
حد زعمه، وهو مع ذلك يحتضن نبأ استخلاف عبد الملك ويستبق الناس

(1) انظر ص 222 نفس المصدر هذه الرواية والتي قبلها
تشير إلى الأمويين وأبو هريرة يعرفهم بأسمائهم وانهم بنو سفيان وبنو مروان
ولكنه وفاء منه لأسياده الأمويين لم يشأ ان يصرح بهم في حديثه مع
مروان وهم أول من مشى في خط عريض يتنافى مع الأنظمة الاسلامية
وسيرة الرسول (ص) وخلفائه الطيبين.
(2) يريد بذلك انهم اخذوا بشئ من الحق وشئ من الباطل.
261

للاقرار له بالطاعة ويعده العمل باخلاص ونصيحة، ويتوعد أهله وأصحابه
ان هم خلعوا يزيد بن معاوية وبايعوا غيره.
وروى في باب اشراط الساعة، ان النبي (ص) قال: يوشك
الفرات ان يحسر عن كنز من ذهب، فمن حضره لا يؤخذ منه شيئا، وفي
رواية أخرى، انه يحسر عن جبل من ذهب.
وروى أيضا ان رسول الله (ص) قال: لا تقوم الساعة حتى تقتتل
فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة دعوتهما واحدة، وحتى يبعث
دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض
العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وحتى يكثر المال ويتطاول
الناس في البنيان وحتى تطلع الشمس من مغربها (1).
وروى في باب خير الامرأة عن الشعبي أنه قال: قاعدت ابن عمر
قريبا من سنتين فلم أسمعه يحدث عن النبي (ص) غير هذا قال: كان
ناس من أصحاب رسول الله فيهم سعد، فذهبوا يأكلون من لحم فنادتهم
امرأة من بعض أزواج النبي (ص) انه لحم ضب فأمسكوا فقال
رسول الله (ص): كلوا فإنه حلال لا بأس به ولكنه ليس من طعامي وقد تكرر

(1) ص 231 لقد أخبر النبي (ص) عن هذه الحوادث قبل
وقوعها بمئات السنين ووقع الكثير مما أخبر به، فلقد انحسر الفرات عن
كنوز من الذهب وأنهر من البترول والذهب الأسود، وكثر الدجالون
الكذابون الذين يتظاهرون بالدين ويزعمون انهم يحملون رسالة الله
لعباده وهم يحملون رسالة أسيادهم أعداء الاسلام ولا يريدون ان
يتكلم غيرهم باسم الدين كما يزعم بعض الأدعياء. وتقارب الزمان
بسبب الوسائل الحديثة التي ربطت العالم بعضه ببعض، وتطاول
الناس بالبنيان حتى أصبحت البناية الواحدة تتسع للآلاف من
البشر.
262

هذا الحديث في كتاب الأطعمة والأشربة من الصحيح (1).
وروى عن جابر بن سمرة أنه قال: سمعت النبي يقول يكون بعدي
اثنا عشر أميرا وقال كلمة لم اسمعها فقال أبي أنه قال: كلهم من قريش.
ومن المعلوم ان النبي (ص) لم يقصد بالخلفاء الاثني عشر امراء
الأمويين لأنهم أكثر من ذلك ولا العباسيين أيضا لان حكام الأمويين من
بعده أربعة عشر حاكما وإذا أضفنا إليهم من يسمونهم بالراشدين بلغوا
ثمانية عشر خليفة، والعباسيين أكثر من عشرين حاكما، فلا ينطبق هذا
العدد الا على الأئمة الاثني عشر (ع) من ذريته وجاء في بعض المرويات
الشيعية وبعض المرويات السنية عن النبي ما يؤكد انهم هم المعنيون من
هذا العدد لا غيرهم.
وقد أكثر الحافظ ابن كثير في ص 153 من المجلد الأول من تاريخه
البداية والنهاية من اللف والدوران في تأول الحديث بما يتفق مع عقيدته
ليسد الطريق على الرافضة على حد تعبيره بعد أن رأى أن الحديث لا
ينطبق على الاثني عشر من ذرية الرسول وانطلق من الحديث المذكور إلى
أسطورة السرداب في سامرا وانكار الإمام الثاني عشر، فقال بأن ما
يعتقده الشيعة هوس في الرؤوس وهذيان في النفوس لا حقيقة له ولا
في ولا اثر ولم يستطع ان يكتم حقده ونصبه على أهل البيت الذين
اذهب الله عنهم الرجس وطهر نفوسهم مما تحمله نفس الحافظ ابن كثير
وأمثاله من الحقد والكذب.
فقال: ان ما يسمونهم بالأئمة كانوا عاديين كغيرهم من الرعايا
وليس فيهم الا عليا لأنه من الراشدين والحسن حيث سلم الامر لمعاوية

(1) والضب حيوان أشبه بالحرذون في تفصيله قبيح الشكل والمنظر
يكثر وجوده في البوادي ويتخذ جحرا له في الرمال يقتات على
حشرات البر، وكان الطعام المفضل لعرب الصحراء وهو من
الحرمات عند الشيعة لأنه من نوع الحشرات.
263

على حد تعبيره، ويبدو من كلامه ان الحسن إنما كان مرضيا عنده حيث
سلم الامر لمعاوية لا لفضائله التي لا تحصى ولا لان الرسول أشاد بفضله.
ولم يشأ ان يمر بالحديث كمؤرخ يعرض الحوادث ولا يحقق فيها كغيره
من المؤرخين القدامى، لم يشأ ان يمر به بدون ان يعبث في تأويله، فقال إن
المراد بالاثني عشر الذين أخبر الله بهم إسماعيل النبي حينما بشره
بمحمد (ص) وأخبر عنهم النبي الكريم كما جاء في رواية البخاري فقال إن
المراد بهم الراشدون الأربعة وعمر بن عبد العزيز والباقون من خلفاء
بني العباس من غير أن يعين أحدا منهم باسمه ووصفه وقد أورد هذا
الحديث بالإضافة إلى البخاري كل من مسلم في صحيحه وأي داود في
جامعه وأحمد بن حنبل في مسنده وأخرجه الطبراني وأضاف إليه لا
تضرهم عداوة من عاداهم كما رواه أكثر المحدثين في مجاميعهم وصحاحهم
بصيغ قد يختلف بعضها عن البعض الاخر مع الاتفاق على العدد الذي
ذكرناه وفي بعضها ما يشير إلى انهم من ذريته بنحو لا ينطبق الا على
الأئمة الاثني عشر (ع).
وفي باب ما يكره من التنازع روى عن عروة عن خالته عائشة انها
قالت: ان رسول الله (ص) قال في مرضه: مروا أبا بكر يصلي بالناس
قالت عائشة قلت: ان أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع من البكاء
فمر عمر يصلي، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت عائشة قلت
لحفصة: قولي ان أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء
تمر عمر ليصلي بهم، ففعلت حفصة، فقال رسول الله: إنكن لأنتن
صواحب يوسف مروا أبا بكر، قالت حفصة: ما كنت لأصيب منك
خيرا، وتكرر هذا الحديث بهذا النص، وبما هو قريب منه في المجلدات
الأربعة من الصحيح للبخاري (1).

(1) انظر ص 261 / ج 4.
264

وفي باب دعاء أمته إلى التوحيد، روى البخاري عن عمرة بن
عبد الرحمن، ان عائشة قالت: ان النبي بعث رجلا على سرية، وكان
يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بقل هو الله أحد، فلما رجعوا ذكروا
ذلك للنبي (ص) فقال سلوه لأي شئ كان يصنع ذلك فسألوه فقال لأنها
صفة الرحمن وانا أحب ان أقرأ بها، فقال النبي (ص) أخبروه ان الله
يحبه (1).
وفي باب قول الله إنما قولنا لشئ: روى عن معاوية بن أبي سفيان
انه سمع النبي (ص) يقول: لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ما
يضرهم من كذبهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك،
وأضاف إلى ذلك أن مالك بن يخامر سمع معاذا يقول وهم بالشام فقال
معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذا يقول، وهم بالشام (2).
وفي باب الصلاة على الفراش روى عن أبي سلمه بن عبد الرحمن،
ان عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله (ص) ورجلاي في قبلته،
فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتها والبيوت يومئذ ليس
فيها مصباح، و هذه الرواية من المكررات في البخاري، فقد رواها عن
السيدة عائشة بمناسبة ذكره للرواية التي تنص على أن مرور الكلب
والحمار بين يدي المصلي يقطع الصلاة (3).

(1) الرجل الذي أخبرت عنه السيدة عائشة هو علي بن أبي طالب (ع)
وعائشة تعرف ذلك جيدا، ولكنها لما سمعت النبي يقول: ان الله
يحبه منعها حقدها عليه ان تصرح باسمه.
(2) لقد خص النبي الشام بهذه الفضيلة لأنها عاصمة معاوية الحريص
على احكام الله وشريعته وأهلها كانوا من اتباعه المناصرين له، وفيها
ولده يزيد، وهشام بن عبد الملك، والوليد صاحب " حبابه "
وغيرهم من هذه الشجرة المباركة.
(3) انظر ص. 8 ج 1.
265

وفي باب مباشرة الحائض روى عن عائشة انها قالت: كنت اغتسل
انا والنبي من اناء واحد وكلانا جنب، وكان يأمرني وانا حائض فأئتزر
فيباشرني وانا حائض، وروى عنها انها قالت: كانت إحدانا إذا حاضت فأراد
رسول الله ان يباشرها أمرها ان تأتزر في فور حيضتها، ثم يباشرها،
وأضافت إلى ذلك وأيكم يملك إربه.
وروى هذا المضمون عن ميمونة أيضا (1).
وروى عن انس ان عمر بن الخطاب قال: وافقني ربي في ثلاث،
قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت،
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وقلت له يا رسول الله: لو أمرت نسائك
ان يحتجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر فنزلت آية الحجاب، وقلت لهن
عسى ربه ان طلقكن ان يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت هذه الآية (2).

(1) نفس المصدر ص 64، وكلمة المباشرة تعني ان النبي
ص كان يستعملهن في حال الحيض كما يستعمل الرجل المرأة ما عدا الوطئ
كما نص على ذلك ابن حجر في المجلد الأول من فتح الباري بقصد
بيان الحكم الشرعي على حد تعبيره، وهذه الرواية من المكذوبات
على الرسول (ص) وهو ارفع شأنا من أن تغلبه شهوته وتضطره إلى
مباشرتهن في حال الحيض مع العلم بأنه لو احتاج إلى النساء يمكنه
استعمال غير الحائض من نسائه الكثرات، وبالامكان ان يبين الحكم
الشرعي بغير هذا الأسلوب الذي يتنافى مع مكانته. ويضعه في
المستوى الذي يترفع عنه الكثير من الناس.
(2) انظر ص 83 / ج / 1 ويبدو من هذه الرواية ان الآية الأخيرة هي من
كلام عمر بن الخطاب بمادتها وهيئتها، وان الله أنزلها كما نطق بها
أبو حفص رحمه الله. بدون تغيير أو تحريف، وفي ذلك ما يؤكد ان
الرواية المذكورة وضعت لإثارة الشبه حول القرآن وان بعضه من صنع
الصحابة كما يرى الحاقدون من أعداء الاسلام وليس بغريب على
الأمويين وأنصارهم ان يوفروا الأجواء للتشكيك برسالة محمد
(ص) لأنهم لم يؤمنوا بها طرفة عين ابدا كما يدل على ذلك تاريخهم
الطويل.
266

وروى عن عكرمة، ان عبد الله بن عباس قال: خرج رسول
الله (ص) في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر
فحمد ربه وأثنى عليه، ثم قال: انه ليس من الناس أحد امن علي في
نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت
أبا بكر خليلا، ولكن خلة الاسلام أفضل. سدوا كل خوخة في المسجد
غير خوخة أبي بكر (1).
وفي باب صلاة المريض روى عن عائشة انها قالت: لما مرض
رسول الله مرضه الذي مات فيه، قال: مروا أبا بكر يصلي بالناس، فقيل له
ان أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع الصلاة، فأعادها عليهم
ثلاثا فخرج أبو بكر وبعد ان شرح في الصلاة وجد النبي (ص) في نفسه
خفة فخرج يتهادى بين رجلين كأني انظر إلى رجليه تخطان من الوجع،
فأراد أبو بكر ان يتأخر، فأومأ إليه النبي ان مكانك وجلس إلى جانبه،
وقال الأعمش: ان أبا بكر كان يصلي بصلاة النبي والناس يأتمون
بأبي بكر (2).
وفي باب الحراب والورق يوم العيد، روى عن عروة عن خالته
عائشة انها قالت دخل علي رسول الله (ص) وعندي جاريتان تغنيان بغناء
بغاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني،

(1) 199 نفس المصدر.
(2) ص نفس المصدر ص 122 وهل يتفق هذا الالحاح الأكيد من الرسول
على أن يتولى الصلاة مكانه أبو بكر كما تدل على ذلك المرويات الكثيرة
عن السيدة عائشة التي رواها البخاري عنها بأشكال مختلفة متباينة،
هل يتفق هذا الالحاح على أبى بكر للصلاة بالناس مع خروج النبي
متوكئا على علي والعباس وهو في حالة المرض الشديد كما تنص على
ذلك هذه الرواية بمجرد ان دخل الرجل في الصلاة، الا ان يكون
خروجه وهو بهذه الحالة ليختم حياته مؤتما بأبي بكر ويقبل على
الله قرير العين بهذه الصلاة التي وفق لها في آخر لحظة من حياته.
267

وقال مزمارة الشيطان عند النبي (ص)، فأقبل عليه رسول الله وقال:
دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد، يلعب فيه السودان
بالورق والحراب، فقال النبي (ص) تشتهي تنظرين فقلت نعم، فأقامني
وراءه خدي على خده، وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة حتى إذا مللت
قال حسبك قلت نعم.
وروى أيضا عن هشام عن أبيه عروة ان عائشة قالت: دخل أبو بكر
وعندي جاريتان تغنيان مما تقاولت الأنصار يوم بغاث، فقال أبو بكر
مزامير الشيطان في بيت رسول الله (ص)، فقال رسول الله (ص): يا
أبا بكر ان لكل قوم عيدا وهذا عيدنا (1).
وفي باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله الا الله، روى عن ابن
شهاب ان سعيد بن المسيب اخبره، انه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه
رسول الله (ص) فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة،
فقال له رسول الله: يا عم قل لا إله الا الله اشهد لك بها عند الله، فقال
أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل
رسول الله يعرضها عليه، وهما يعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب
آخر ما كلمهم به انه على ملة إبراهيم وأبى ان يقول: لا إله الا الله،
فقال رسول الله: اما والله لأستغفرن لك ما لم انه عن ذلك، فأنزل
الله تعالى فيه:

(1) ص 159 من المصدر السابق، وكان من المفروض على البخاري
كمحدث قد اختار جامعه من آلاف الأحاديث المروية عن النبي (ص)
ان يتجنب تدوين هذا النوع من المرويات الذي يصور النبي العظيم
وكأنه آلة بيد امرأة يحاول ارضاءها ولو بحضور مجالس الغناء
والرقص، والوقوف إلى جانبها على الشرفات لترى المغنيات
الراقصات يلعبن في مواسم الأعياد، ان الرسول لأعظم من أن
ينحط إلى هذه المستويات التي ترفع عنها أبو بكر وعمر، كما نصت
على ذلك تلك المرويات.
268

" ما كان للنبي والذين امنوا معه ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا
ذوي قربى " (1).
- لقد أسند الزهري هذه الرواية إلى سعيد بن المسيب وهي من جملة
موضوعاته التي كان يتقرب بها للأمويين لأنه كان من اتباعهم وقضاتهم،
وغير بعيد عليه ان يضع لهم هذا الحديث، بعد أن نسب إلى الرسول أنه قال
: لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجد المدينة
والمسجد الأقصى، وان الصخرة التي وضع رسول الله قدمه عليها تقوم
مقام الكعبة (2).
ويهمهم أكثر من اي شئ ترويج المرويات التي تضع أبا طالب في
صفوف المشركين وتمنح أبا سفيان زعيم الأسرة الأموية صفات الصديقين
المؤمنين مع العلم بان الذين وصفوا أبا طالب بالمشرك لم يستطيعوا ان
يتنكروا لجهوده التي بذلها في سبيل الرسول ودعوته، والذين وصفوا
أبا سفيان بالاسلام لم يفلحوا في كتم مكائده ودسائسه التي بذلها
لتقويض دعائم الاسلام حتى بعد اسلامه المزعوم.
وفي باب بدء الوحي روى عن عائشة انها قالت: أول ما بدأ به
رسول الله من الوير الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا الا
جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء
فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل ان ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم

(1) المصدر السابق ص 235.
(2) انظر تاريخ اليعقوبي ص 8 ج 2، لقد وضع الزهري هذا الحديث
استجابة لطلب عبد الملك حينما منع الناس من الحج إلى مكة في
عهد ابن الزبير، وبعد ان أذاع حديث الزهري بين الناس بنى على
الصخرة قبة وأمر الناس ان يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة
في موسم الحج.
269

يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاء الحق وهو في غار حراء، فجاءه
الملك، فقال اقرأ فقال ما انا بقارئ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني
الجهد، ثم أرسلني فقال اقرأ، قلت ما انا بقارئ، فأخذني فغطني
الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ قلت ما انا بقارئ،
فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق
خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم، فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده،
فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني وكررها ثلاثا
حتى ذهب عنه الروع فأخبر زوجته خديجة بالخبر، وقال لها: لقد
خشيت على نفسي فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله ابدا. انك
لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسي المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على
نوائب الدهر، ثم انطلقت به إلى عمها ورقة بن نوفل بن عبد العزى،
وكان قد تنصر، وكتب الإنجيل بالعبرانية وبلغت به الشيخوخة حدها
الأقصى، وبعد ان قص عليه النبي (ص) ما اصابه، اجابه ان هذا الذي
ترى هو الناموس الذي انزل على موسى ليتني فيها جذعا ليتني أكون
حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله: أو مخرجي هم؟ قال نعم: لم
يأت رجل قط بمثل ما جئت به الا عودي، وان يدركني يرمك أنصرك
نصرا مؤزرا (1).
- وروى في باب من لا أحب الدفن في الأرض المقدسة عن أبي هريرة
أنه قال: ارسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صك ملك الموت وجهه،

(1) انظر ج ا، ص 6 و 7 وقد نص هذا الحديث بصراحة ان
النبي (ص) مع تلك العلامات التي أظهرها الله له، ومع أنه رأى الملك
وأوحى إليه هذه الآيات من القرآن الكريم، كان شاكا في امره، وخائفا من
مصيره، ولم يطمئن على نفسه الا بعد أن بشره ورقة بن نوفل
بالنبوة التي انتهت إليه، ومن ناحية السند فان راوي هذا الحديث
يحيى بن بكير وهو ليس من الموثوق بهم عند المؤلفين في الرجال،
كما نص على ذلك الذهبي في الميزان، وابن حجر في تهذيب التهذيب.
270

ففقأ عينه فرجع إلى ربه، فقال له أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت فرد
الله عليه عينه، وقال ارجع فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكل ما
غطت به يده بكل شعرة سنة، قال موسى: اي رب ثم ماذا، قال ثم
الموت، قال: فالآن، فسأل الله ان يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر،
قال رسول الله: فلو كنت ثم لأريتك قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب
الأحمر (1).
وروى في باب استعمال البقر للحراثة عن أبي هريرة ان النبي (ص)
قال: بينما رجل راكب على بقرة التفتت إليه وقالت له: اني لم أخلق
لهذا بل خلقت للحراثة، قال النبي: آمنت به انا وأبو بكر وعمر،
واخذ الذئب شاة فتبعها الراعي، فقال الذئب: من لها يوم السبع، يوم
لا راعي لها غيري، فقال النبي: آمنت انا وأبو بكر وعمر، قال أبو سلمة
راوي الحديث عن أبي هريرة، وما هما يومئذ في القوم، اي حينما
حدث الرسول بهذا الحديث لم يكونا معه، (2).
وفي باب مسح الغبار روى عن عكرمة ان ابن عباس قال له ولعلي
ابن عبد الله آتيا أبا سعيد فاسمعا من حديثه، فأتياه وهو وأخوه في

(1) ص 232،، وان المتتبع في مرويات أبي هريرة يجده فنانا
في مروياته التي ينسبها إلى الرسول (ص)، وكثر منها لا يجد الباحث مفرا
من التشكيك به، وان دلت هذه الرواية على شئ، فإنها تدل على أن
موسى قد بلغ به الحمق إلى حد أفقده وعيه فبطش بملك الموت
ولطمه لطمة أفقدته عينه، واضطر ان يراجع ربه شاكيا من هذا
النبي الذي يرفض تنفيذ أوامره ويبطش برسله.
(2) ص 45 من ج 2، وأكثر روايات أبي هريرة في صحيح البخاري من
النوع الذي ليم. له شبه في السنة ولا في الكتاب، ولا يؤيده العقل،
ولعل هذا النوع من المرويات من الوعاء الذي لم يحدث به في عصر
الصحابة ولو حدثهم بهذه الأحاديث في ذلك العصر لقطعوا بلعومه
على حد تعبيره.
271

حائد لهما يسقيانه، فلما رآنا جاء فاحتبى وجلس، فقال كنا ننقل لبن
المسجد لبنة لبنة، وكان عمار ينقل لبنتين، فمر به رسول الله (ص)
ومسح عن رأسه الغبار، وقال ويح عمار: تقتله الفئة الباغية عمار
يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار (1).
وروى في باب طلب الولد للجهاد عن أبي هريرة ان النبي (ص)
قال: قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن يأتي
بفارس، فلم تحمل منهن الا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي
نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله: لجاهدوا في سبيل الله فرسانا
أجمعون (2).
ان سليمان بن داود كان من أنبياء الله الصالحين، وقد وهبه الله
ملكا ليس لأحد مثله، فسخر له الجن والإنس، وعلمه منطق الطير
وجميع الحيوانات، وليس على الله بمحال ان يعطيه قوة عشرات الرجال
ويمدد له في ليلته، ليستطيع ان يقوم بعملية الجنس مع مائة امرأة في
ليلة واحدة، ليس ذلك بمحال عقلا ولكن مقام النبوة اسمى وأعلى من
أن ينحدر بصاحبه إلى هذا المستوى الذي لا يليق حتى بالحيوانات وهل
بلغ بهذا النبي الكريم الغرور إلى حد انه أصبح يرى نفسه مستطيعا لان
يحقق هذه الأعجوبة بغير مشيئة الله سبحانه، فينشئ جيشا مؤلفا من
مائة فارس في ليلة واحدة، مع العلم بأن هذا الزمان لا يتسع للاتصال
بمائة امرأة، ومهما كان الحال فالله يغفر لمحمد بن إسماعيل البخاري،
لو أنه ترك هذا الحديث مع الستماية إلى التي اختار منها صحيحه، لكان
من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

(1) ومن المعلوم ان الذين كانوا يدعونه إلى النار هم الذين
حاربوه في البصرة وقتلوه في صفين لأنه دعاهم إلى الجنة والرجوع عن ضلالهم
وعلى رأسهم معاوية وابن العاص وزمرتهما، الذين روى عنهم
البخاري في صحيحه عشرات الروايات.
(2) ص 139 و 141، ج 2.
272

وروى في باب قتال اليهود عن عبد الله بن عمر ان رسول الله (ص)
قال: تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر. فيقول الحجر
يا عبد الله: هذا يهودي ورائي فاقتله.
وروى عن أبي هريرة ان النبي قال: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا
اليهود، وحتى يقون الحجر وراءه اليهودي، يا مسلم هذا يهودي ورائي
فاقتله.
ولا بد ان يجئ هذا اليوم الذي وعد به الرسول (ص) الذي لا
بنطق عن الهوى وقد ظهرت تباشيره بعدوانهم الأخير الذي هيأه لهم
المستعمر الغادر. ومكنهم من تشريد شعب بأسره.
وروى في باب لواء النبي (ص) عن سلمة بن الأكوع ان عليا (ع)
كان قد تخلف عن النبي (ص) في غزوة خيبر لرمد أصاب عينه فقال: انا
أتخلف عن رسول الله، ثم خرج ولحق به. فلما كان مساء الليلة التي
فتحت في صباحها خيبر قال رسول الله (ص): لأعطين الراية غدا رجلا
يحب الله ورسوله، ورواها في المجلد الثالث بزيادة ويحبه الله ورسوله،
فبات الناس يدكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على
رسول الله، وكلهم يرجوها، فأعطاها رسول الله (ص) لعلي (ع)
ورواها عن طريق سهل بن سعد، مع الزيادة التالية.
ان عليا كان أرمد العين. فبصق النبي (ص) في عينه فبرأ من
ساعته، ثم اخذ الراية وتم الفتح على يده (1).
وروى عن أبي سعيد الخدري ان النبي (ص) قال: كان في بني إسرائيل
رجل قتل تسعة وتسعين انسانا، ثم خرج فأتى راهبا، فسأله هل

(1) انظر ص 157 و 161 و 166 ج 2.
273

من توبة؟ قال لا: فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا.
فأدركه الموت فمال بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة
العذاب. فأوحى الله إلى هذه ان تقربي، وأوحى إلى هذه ان تباعدي،
وقال قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له (1).
وروى عن أبي هريرة ان رسول الله (ص) قال: ان موسى كان
رجلا حييا يتستر كي لا يرى من جلده شئ استحياء منه. فآذاه من آذاه
من بني إسرائيل، فقالوا ما استتر هذا الا من عيب بجلده، اما برص، واما
أدرة، واما آفة، وان الله أراد ان يبرئه مما قالوا فيه، فخلا يوما وحده
ووضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ اقبل إلى ثيابه ليأخذها،
وان الحجر عدا بثوبه، فاخذ موسى عصاه وطلب الحجر وجعل يقول:
ثوبي حجر، ثوبي حجر، ثم انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا
أحسن مما خلق الله وأبرأه مما يقولون، وقام إلى الحجر فأخذ ثوبه
فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه، والله ان بالحجر لندبا من اثر ضربه
ثلاثا أو أربعا أو خمسا، كما جاء في الرواية، وأضاف إلى ذلك أن الآية:
" يا أيها الذين امنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما
قالوا وكان عند الله وجيها " نزلت بهذه المناسبة (2).
وروى في باب صفة إبليس عن أبي هريرة ان النبي (ص) قال: إذا
مر بين يدي أحدكم شئ وهو يصلي فليمنعه، فان أبى فليقاتله، فإنما هو
شيطان.
وروى أيضا عن أبي هريرة ان الرسول قال: إذا نودي بالصلاة ادبر

(1) ص 261 ولا شك في أن هذه الرواية وأمثالها من صنع
المرتزقة الذين كانوا يتقربون بالحكام السفاكين بمثل هذه المرويات التي
تصور لهم ان التوبة تدفع عنهم مسؤولية جرائمهم مهما كان نوعها.
(2) ص 247.
274

الشيطان وله ضراط، وفي رواية ثانية عنه ان النبي قال: إذا سمعتم نهيق
الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطانا وان الملائكة لا تدخل
بيتا فيه كلب أو صورة (1).
وروى عن أبي موسى ان النبي (ص) قال: كمل من الرجال كثير.
ولم يكمل من النساء الا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وان
فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وهذا الحديث
من المكررات في صحيح البخاري.
وروى عن علي (ع) انه سمع النبي (ص) يقول: خير نسائها مريم
ابنة عمران: وخير نسائها خديجة بنت خويلد (2).
وروى في باب من انتسب إلى آبائه في الجاهلية والاسلام عن
أبي هريرة ان النبي (ص) قال: يا بني عبد مناف اشتروا أنفسكم من الله
يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله، يا أم الزبير بن العوام عمة
رسول الله، ويا فاطمة بنت محمد اشتريا أنفسكما اشتريا أنفسكما من
الله، فاني لا أملك لكم من الله شيئا، سلاني من مالي شيئا.
هذه الرواية تتفق مع روح الاسلام ومع القرآن الكريم، فالقرابة
والصحبة لا يغنيان من الله شيئا إذا لم يعمل الانسان بما أمر الله ولم
ينته عنها نهى عنه الله، وقد أكدت هذا المعنى طائفة من المرويات عن
الأئمة (ع) دونها الكليني في مختلف المناسبات.

(1) ص 222 و 225 و 227 و 228، ج 2.
(2) ص 248 و 253، لقد روى البخاري الحديث المتعلق بتفضيل
النساء في مختلف المناسبات. وكان النبي (ص) ارضاء لعائشة
ذكرها في معرض حديثه عن آسية وعن مريم. ولم يفضلها على أحد من
النساء الا بمقدار ما للثريد من فضل على بغية المآكل، ولو كانت
أفضل من غيرها لما عدل عن أسلوبه الأول.
275

وفي باب فضائل أبي بكر، روى عن عمر بن العاص ان النبي (ص)
بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتى رسول الله (ص) وسأله اي الناس
أحب إليك، فقال من النساء عائشة، ومن الرجال أبوها، قال ابن العاص:
ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب وعد رجالا.
وروى عن ابن عباس، ان النبي (ص) قال: لو كنت متخذا خليلا
لاتخذت أبا بكر، ولكنه أخي وصاحبي.
وروى عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، ان امرأة أتت
النبي (ص) فأمرها ان ترجع إليه قالت أرأيت ان جئت ولم أجدك، كأنها
تعني الموت كما جاء في الرواية، قال: فأتى أبا بكر.
وروى عن أبي هريرة أيضا ان رسول الله (ص) قال: ان للجنة
أبوابا فمن كان من أهل الصلاة دخل من باب الصلاة، ومن كان من أهل
الصيام دخل من بابه، ومن كان من المتصدقين دخل من باب الصدقات،
ومن كان من المجاهدين دخل من باب الجهاد، اما أبو بكر فإنه يدعى
لدخول الجنة من جميع أبوابها، وان آية التيمم كان الفضل الأول في
نزولها لأبي بكر، وبهذه المناسبة، قال له: أسيد بن الحضير، ما هي
بأول بركتكم يا آل أبي بكر، إلى غير ذلك من المرويات التي أوردها
البخاري في فضله (1).
وفي باب فضائل عمر روى عن محمد بن المكندر عن جابر بن عبد الله
قال: قال النبي (ص) رأيتني ادخل الجنة فإذا انا بارميصاء امرأة أبي
طلحة، وسمعت خشفة، فقلت: من هذا فقال هذا بلال، ورأيت قصرا
بفنائه جارية، فقلت لمن هذا فقال لعمر، فأردت ان أدخله لأنظر إليه

(1) انظر ص 287 و 288 و 298 و 290.
276

فذكرت غيرتك، فقال عمر: بابي أنت وأمي يا رسول الله أعليك أنصار.
وروى عن انس بن مالك. ان النبي صعد على جل أحد ومعه
أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه النبي برجله، وقال له: أثبت
أحد، فما عليك الا نبي وصديق وشهيدان.
وروى عن أبي هريرة ان النبي (ص) قال: لقد كان فيمن كان
قبلكم قوم يكلمون وليسوا بأنبياء، فان يكن من أمتي منهم أحد فعمر بن
الخطاب (1).
وروى في باب فضائل عثمان عن أبي موسى الأشعري، ان
النبي (ص) دخل حائطا وأمره ان يكون على باب الا حائط فدخل أبو بكر
وعمر وعثمان فاذن لهم وبشرهم بالجنة، وقال عبد الله بن عمر: كنا في
زمن رسول الله، لا نعدل بابي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك
أصحاب رسول الله لا نفاضل بينهم.
وروى أن رجلا من أهل مصر حج البيت فرأى قوما جلوسا، فقال
من هؤلاء؟ قالوا هؤلاء من قريش، قال فمن الشيخ فيهم؟ قالوا عبد الله
ابن عمر قال يا ابن عمر: اني سائلك عن شئ فحدثني، هل تعلم أن عثمان
فر يوم أحد؟ قال: نعم قال هل تعلم أنه تغيب عن بدر؟ ولم يشهدها قال
نعم قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان؟ قال: نعم قال: الله أكبر
قال: ابن عمر تعال أبين لك، اما فراره يوء أحد، فاشهد ان الله عفا عنه
وغفر له، واما تغيبه عن بدر، فإنه كان تحته بنت رسول الله (ص) وكانت
مريضة، فقال له رسول الله: ان لك اجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه،
واما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه
مكانه فبعث رسول الله عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان

(1) نفس المصدر. ج 2، ص 292 و 294 و 295.
277

إلى مكة، فقال رسول الله بيده اليمنى: هذه يد عثمان فضرب بها على
يده وقال، هذه لعثمان (1).
وجاء في باب النكاح من صحيح البخاري، ان النبي (ص) قال:
البنت الباكر، تنكح خنى تستأذن، والثيب حتى تستأمر وأضاف إلى
ذلك البخاري. ان البكر إذ لم تستأذن ولم تتزوج من أحد وادعى رجل
بأنه تزوجها زورا، وأقام شاهدي زور عند القاضي فحكم له تصبح زوجة
شرعية له ويصح وطؤها، ومضى يقول: إذا احتال انسان بشاهدي زور
على تزويج امرأة فأثبت القاضي نكاحها والزوج يعلم بأنه لم يتزوجها ولم
يتصرف عليها، فإنه يسعه هذا النكاح ويحل له وطؤها والمقام معها ولو
علم ببطلان ذلك (2).
وروى في باب الفتن ان النبي (ص) قام إلى جنب المنبر وقال:
الفتنة ههنا الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان، ورواها عن نافع عن
ابن عمر، ان النبي (ص) وقف وهو مستقبل المشرق، وقال إن الفتنة
ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان.
وروى عن جويرية عن نافع عن عبد الله أنه قال: قام النبي (ص)

(1) انظر ص 296 و 297، ج 2، لقد اقتصد البخاري في سرد
فضائل عثمان ولم يتحمس له كما تحمس لغيره، مع العلم بأنه قد ظهر له
من الفضائل في عهد معاوية والأمويين ما لا يحص عددا عن طريق
أبي هريرة وابن العاص والمغيرة بن شعبة وأمثالهم من الابدال،
فكيف تجاهلها شيخنا الجليل محمد بن إسماعيل رحمه الله مع أنهم
من الموثوقين عنده، وقد روى عنهم في صحيحه في مختلف
المواضيع.
(2) انظر ص 205، ج 4، والحكم بصحة النكاح في مثل ذلك مبني على أن
الواقع تابع لحكم المجتهد وليس وراء حكمه شئ اخر وهو من
أسوأ أنواع التصويب الذي يقول به أهل السنة ومن أبعد الاحكام
عن منطق الكتاب وسنة الرسول.
278

خطيبا فأشار نحو مسكن عائشة وقال: هنا الفتنة وكررها ثلاثا من حيث
يطلع قرن الشيطان كما جاء في ص 189 من المجلد الثاني.
وروى أيضا عن ابن عمر ان النبي (ص) قال: اللهم بارك لنا في
شامنا اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا وفي نجدنا، فقال في شامنا ويمننا،
قالوا في نجدنا يا رسول الله، قال هناك الفتن وبها يطلع قرن الشيطان (1).
وفى باب مناقب قرابة الرسول (ص) روى عن النبي (ص) أنه قال:
ابنتي فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وانه قال: فاطمة بضعة مني فمن
أغضبها أغضبني (2).
وروى عن عروة بن الزبير عن خالته عائشة ان فاطمة (ع) أرسلت
إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها مما أفاء الله عليه في المدينة وفدك وما
بتي من خمس خيبر، فقال لها: ان رسول الله قال: لا نورث ما تركنا
صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال واني والله لا أغير شيئا من
صدقة رسول الله (ص)، فأبى أبو بكر ان يدفع إليها شيئا فوجدت
فاطمة على أبي بكر وهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي

(1) ص 227 نفس المصدر، ولعل النبي (ص) يشير بقوله
الفتنة ههنا وهو بجانب المنبر إلى أقرب البيوت إليه لان ههنا يشار بها
للقريب كما تؤكد ذلك الرواية الثانية، ويدل على ذلك أيضا انه ذكر نجدا
ولم يستعمل هنا أو ههنا بل استعمل كلمة هناك التي لا يشار بها
الا للبعيد، وقد صدق (ص) فيما وصف به نجدا فان تاريخها ملئ
بالفتن والمجازر ومشحون بالبدع والمنكرات في الماضي والحاضر،
وجاء في فتح الباري ج 16 ان الفتن والبدع نشأت من تلك الجهة،
ولا تزال مصدرا للفتن والبدع وركيزة من ركائز الاستعمار لضرب
البلاد العربية التي تنشد الحياة الحرة الكريمة والتخلص من
المستعمرين وأذنابهم الصهاينة أعداء البشر والانسانية.
(2) انظر ص 201 ج 2 وما بعدها.
279

ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي (ع) ليلا ولم يؤذن بها
أبو بكر (1).
وروى في باب غزوة تبوك عن مصعب بن سعد عن أبيه، ان
رسول الله (ص) خرج إلى غزوة تبوك واستخلف عليا على المدينة فقال
علي (ع) تخلفني في الصبيان والنساء قال: الا ترضى أن تكون مني
بمنزلة هارون من موسى الا انه ليس نبي بعدي.
وروى عن أبي بكرة أنه قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من
رسول الله (ص) أيام الجمل بعد ما كدت ان الحق بأصحاب الجمل وأقاتل
معهم، قال لما بلغ رسول الله ان أهل فارس قد ملكوا عليهم ابنة كسرى،
قال: لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.
وروى عن عبيد بن حنين أنه قال: سمعت ابن عباس يقول: أردت
ان اسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله (ص)،
فما أتممت كلامي حتى قال: هما عائشة وحفصة.
وروى تحت عنوان المدثر ان يحيى سأل أبا سلمه اي القرآن نزل
أولا، فقال يا أيها المدثر، فقلت أنبئت انه اقرأ باسم ربك الذي خلق،
فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله، اي القرآن انزل أولا: فقال: يا
أيها المدثر، فقلت أنبئت انه اقرأ باسم ربك، فقال لا أخبرك الا بما قال
رسول الله قال (ص): جاورت في حراء، فلما قضيت جواري هبطت

(1) ص 55 ج 3، وإذا نسبنا هذه الرواية إلى الرواية التي
قبلها ينتج منهما ان أبا بكر قد اغضب رسول الله (ص) لان فاطمة ماتت وهي
غضبى عليه كما تنص هذه الرواية ولم يحضر جنازتها بوصية منها
ومن اغضب رسول الله فقد اغضب الله سبحانه كما تؤكد ذلك
النصوص الكثيرة من اغضب الله كان معرضا لنقمته وعذابه.
280

فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت امامي وخلفي وعن يميني وشمالي
فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض، فاتيت خديجة وقلت
دثروني: وصبوا علي ماء باردا. فأنزل علي يا أيها المدثر قم فأنذر وربك
فكبر وثيابك فطهر (1).
وروى في باب التمتع عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع انهما
قالا: كنا في جيش، فاتانا رسول الله (ص) وقال: انه قد اذن لكم ان
تستمتعوا في النساء، فاستمتعوا، وأضاف إلى ذلك، ان سلمة بن الأكوع
حدث عن أبيه ان رسول الله (ص) قال: أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما
بينهما ثلاث ليالي، فان أحبا ان يتزايدا. ويتتاركا، فما أدري أشئ كان
لنا خاصة، أم للناس عامة.
وروى عن عمران بن حصين أنه قال: أنزلت آية المتعة في كتاب الله
ففعلناها مع رسول الله (ص) ولم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى
مات، فقال رجل برأيه ما شاء الله (2).
وروى بعض المرويات عن ابن عباس وغيره ان النبي شرعها في
ظروف خاصة ونهى عنها بعد ذلك.

(1) ص 207 و 209، ج 3، وهذا الحديث يناقض الحديث
السابق الذي ينص على أن أول سورة نزل بها الوحي، اقرأ باسم ربك
الذي خلق، كما ذكرنا سابقا من رواية البخاري عن بداية نزول
الوحي وكل من الروايتين تناقض الأخرى.
(2) والرجل الذي قال فيها برأيه ما شاء هو عمر بن الخطاب حيث نهى
عنها وتوعد بالعقاب على فعلها، وقد اخذ الشيعة برأي
رسول الله (ص) الذي شرعها لأنه لا ينطق عن الهوى، وتركوا رأي
الخليفة رحمه الله الذي قال فيها برأيه واجتهاده ما شاء ان يقول.
281

وفي باب نزول عيسى بن مريم (ع) روى عن النبي (ص) خبر
نزوله إلى الأرض ليساهم في نشر العدل وإحقاق الحق ومحاربة المبطلين.
وجاء في رواية أبي هريرة حول هذا الموضوع، ان رسول الله (ص)
قال: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وامامكم منكم (1).
وهذه الرواية ليست بعيدة عما يرويه الشيعة من أن السيد المسيح
ينزل من السماء عند خروج الإمام الثاني عشر فيصلي خلفه، ويشترك معه
في مقاومة المبطلين لاحقاق الحق، ذلك لان الشيعة وحدهم يدعون وجود
الإمام محمد بن الحسن العسكري (ع) وظهوره في آخر الزمان، وان
المسيح ينزل من السماء لنصرته على الدجال وغيره من فرق الضلال.

(1) انظر ص 226، ج 2.
282

الدجال
لقد تكرر الحديث عن الدجال الأعور في أكثر مجلدات البخاري،
ورواه عن جماعة من الصحابة في مختلف أبواب الصحيح، وجاء في بعض
المرويات. انه ما بعث الله نبيا الا وأخبره عن الدجال، وانه أعور العين
اليمنى، وتضيف أكثر المرويات إلى ذلك، ان ربكم ليس باعور، ورواه
غير البخاري من السنة والشيعة، ولكن المرويات الشيعية لم تتعرض
للفقرة الأخيرة منها، وجاء في بعضها انه يتظاهر بالدين ويلبس ثياب
القديسين لتضليل الناس واغرائهم، فيتبعه أكثر الناس، وهو من
الأحاديث المشهورة عند السنة والشيعة.
ومحل السؤال على تقدير صحتها، هو ان هذه المرويات على
كثرتها هل تعني دجالا معينا يظهر على الناس في زمن لا يعلمه الا الله،
أو انها تعي كل منافق يتستر بالدين، ويظهر بمظهر المتدينين لينفذ من
ذلك إلى أغراضه وأهدافه. كما نشاهد هذا النوع من الدجالين المتسترين
بثياب القديسين في زماننا وفي كل زمان، وقد شاهدنا وقرأنا عمن استطاع
إذ يستغل المناسبات الدينية وغيرها ليلفت الأنظار إليه ويحشد حوله
الجماهير باسم الدين، وهو من ألد خصوم الدين وأنكد أعدائه، وأضر
عليه من الأبالسة والشياطين.
وبلا شك ان هؤلاء أضر على الدين من المتجاهرين في مقاومته
وعدائه، لان أساليبهم قد تمضي على الكثير من المغفلين وعوام الناس
283

فيستطيعون بأساليبهم الخاصة ان ينفذوا إلى أغراضهم وخدمة أسيادهم
كما يريدون كما ابتليت الطائفة الشيعية في يومنا هذا بأناس من هذا النوع
لا عهد لنا بأمثالهم، وعلى ذلك يكون قول النبي (ص) لأنه أعور العين
اليمنى كناية عن تعاميه من الحق وانحرافه عنه، وقد عبر القرآن عن أهل
الحق بأصحاب اليمين، وعن أهل الباطل بأصحاب الشمال كما جاء في
الآية 40 من سورة الواقعة والآية 90، هذا المعنى ليس ببعيد كل البعد
عن ظاهر أحاديث الدجال، وإن كان المعنى الأول الصق بظواهرها وأقرب
إلى سياقها.
284

من الكافي
لقد أوردنا هذه النماذج من مرويات الصحيح للبخاري من غير أن
تتعرض لأسانيدها وأحوال رواتها، بالرغم من توفر الطعون في كثير منها
حسب الأصول المقررة عند السنة لمعرفة أحوال الرواة، مع العلم بان تلك
الأصول لا يطبق منها شئ على رجال البخاري ومروياته في الغالب، لان
كل من روى عنه فقد جاز القنطرة على حد تعبير المقدسي.
واكتفينا ببعض التعليقات والملاحظات على بعض تلك المرويات نظرا
لبعدها عن منطق الاسلام القويم، الذي يتحدى الأوهام والخرافات.
ويحكم العقل والكتاب والسنة المطهرة في كل ما ينسب إليه من أقوال
وآراء وتشريعات.
ونتمنى ان لا تضيق صدور إخواننا السنة من تلك الملاحظات، فانا
لم نقصد بها الا إحقاق الحق وتنزيه السنة الكريمة من تلك المرويات التي
تسئ إليها وتطمس من أنوارها ومعالمها.
على انا سنقف من مرويات الكافي نفس الموقف الذي وقفناه من
مرويات البخاري عندما نجد ما يوجب الوقوف وابداء الملاحظات اللازمة.
وسنتعرض لبعض النماذج من مرويات الكافي حول الأصول
والأخلاق والمعرفة ونحو ذلك بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقا من كتاب
التوحيد والعلم والقدر.
285

فقد روى في كتاب العقل والجهل من المجلد الأول عن النوفلي ان
أبا عبد الله الصادق (ع) قال: قال رسول الله: إذا بلغكم عن رجل حسن
حال فانظروا في حسن عقله، فإنما يجازى الانسان بعقله.
وروى عن هشام بن الحكم، ان أبا الحسن موسى (ع) قال له:
يا هشام ان الله أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النببين بالبيان ودلهم
على ربوبيته بالأدلة، فقال: (وإلهكم إله واحد لا إله الا هو الرحمن الرحيم،
ان في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري
في البحر بما ينفع الناس، وما انزل الله من السماء من ماء فأحيا به
الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب
المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون " وأضاف إلى ذلك أن
العقل مع العلم، قال تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا
العالمون).
ومن هذه لآيات والمرو يأت يتبين ان الاسلام قد اعتمد على العقل
والعلم في أصوله وفروعه واعتبر الايمان الحاصل بالوراثة والتقليد ناقصا
إذا لم يتأكد بالدليل والبرهان.
وقد ندد بالذين لا يعقلون بقوله: " وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله،
قالوا بل تتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا
يهتدون ".
وقال: " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع الا دعاء
ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ".
وجاه في الحديث عن هشام، ان الإمام (ع) قال له: يا هشام ان
لله على الناس حجتين، حجة ظاهرة وحجة باطنة فاما الظاهرة فالرسل
286

والأنبياء والأئمة (ع)، واما الباطنة فالعقول، يا هشام كان
أمير المؤمنين (ع) يقول: ما عبد الله بشئ أفضل من العقل، وما تم عقل
امرء حتى تكون فيه خصال شتى، الكفر والشر منه مأمونان، والرشد
والخير مأمولان، فضل قوله مكفوف ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع
من العلم دهره، الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره، والتواضع أحب
إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف
من نفسه، ويرى الناس كلهم خيرا منه، وانه شرهم في نفسه، في حديث
طويل عرض فيه الإمام (ع) الحالات التي تكشف عن عظمة العقل
وخصائصه، وما ينتج عنه من الفوائد التي تسمو بالانسان وترفع من
شأنه، وتساهم في بناء المجتمع السليم الذي تسوده العدالة ويوفر
السعادة والرفاهية لجميع بني الانسان (1).
وروى في باب الاضطرار إلى الحجة عن هشام بن الحكم عن
أبي عبد الله الصادق (ع) ان رجلا سأله، من أين أثبت الأنبياء والرسل؟
قال (ع): انا لما أثبتنا إذ لنا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان
ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز ان يشاهده خلقه، ولا يلامسوه
فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه، ثبت ان له سفراء في خلقه
يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به
بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر،
والمعبرون عنه جل وعز، وهم الأنبياء صفوته من خلقه غير مشاركين للناس
على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان
مما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين لكيلا تخلو ارض الله
من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته (2).

(1) انظر ص 12 إلى ص 22، ج 1، من الكافي.
(2) نفس المصدر، ص 168.
287

وفى باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث روى عن الحسن بن
العباس انه كتب إلى الإمام الرضا (ع) يسأله عن الفرق بين الرسول
والنبي والإمام (ع) فكتب في جوابه، ان الرسول هو الذي ينزل عليه
جبرائيل فيراه ويسمع كلامه، وينزل عليه الوحي، وربما رأى في منامه
نحو رؤيا إبراهيم (ع)، والنبي ربما سمع الكلام، وربما رأى الشخص
ولم يسمع كلامه، والامام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص (1).
وروى عن ثعلبة بن ميمون ان زرارة قال سألت أبا جعفر (ع) عن
قول الله سبحانه، وكان رسولا نبيا؟ قال (ع): ان النبي الذي يرى في
منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول هو الذي يسمع ويرى
في المنام ويعاين الملك، قلت والامام ما صفته: قال يسمع الصوت ولا
يعاين الملك، ثم تلا هذه الآية، وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث
والآية الموجودة في القرآن الكريم، ألم ترد فيها كلمة محدث
والالتزام بصحة الرواية يلزمه القول بنقص القرآن، والامامية سوى من

(1) ص 176، ومقتضى هذه الرواية ان الامام يشارك الرسول
والنبي في سماع الكلام ولكنه لا يرى جبرائيل كما يراه النبي والرسول،
وقد وصف المجلسي في مرآة العقول هذه الرواية بالجهالة، وعلى
تقدير صحة الرواية فسماع الأئمة للكلام ليس عن طريق الوحي.
ونص الشيخ المفيد في أوائل المقالات: على أن العقل لا يحيل
ذلك، ولكن الاجماع قد تم على أن من زعم أن أحدا بعد نبينا (ص)
يوحى إليه فقد أخطأ وكفر لحصول العلم بذلك من دين النبي،
فيكون المراد من السماع الذي يصح بالنسبة إليهم، ان الله
سبحانه قد يلقي في أذهانهم أمورا تتعلق بما سيكون فيخبرون
عنها، أو تبقى مخزونة عندهم وجاء في البخاري عن أبي سلمة
وأبي هريرة، ان النبي قال: لقد كان فيمن كان قبلكم قوم يكلمون
وليسوا أنبياء، فان يكن من أمتي منهم أحد فذاك عمر بن الخطاب.
288

شذ منهم لا يلتزمون بذلك، ومن الجائز ان يكون الحاق الامام لكلمة
ولا محدث بالآية من حيث مرادفتها لهما ولأحدهما، لا من حيث إنها من
القرآن.
هذا بالإضافة إلى أن الراوي لها أحمد بن محمد، والظاهر أنه ابن
خالد البرقي، وهو وإن كان ثقة في نفسه كما يرى ذلك بعض المؤلفين في
الرجال، الا انه يروي عن الضعفاء، ويعتمد المراسيل، وقد أخرجه من
قم محمد بن أحمد بن عيسى، ونسب إليه الغلو في الأئمة (ع) وأكثر
المؤلفين في الرجال متفقون على تضعيف مروياته (1).
والذي يدعو إلى الشك في هذه الرواية أكثر من اي شئ آخر هو
إضافة هذه الزيادة إلى الآية، اما اعطاء الامام صفة المحدث الذي يسمع
ولا يرى، فقد ورد نظيره في صحيح البخاري عن الأمم السابقة وان عمر
ابن الخطاب من هذه الأمة أهل لان يكون محدثا كما تؤكد ذلك رواية
أبي سلمة وأبي هريرة عن النبي (ص) (2).
وإذا جاز ذلك على عمر بن الخطاب وغيره ممن كانوا يجالسون
النبي، (ص) ونالوا بذلك شرف الصحبة، فيجوز ذلك على الأئمة (ع)
أبناء الرسول الذين ورثوا علمه وصفاته، بل وحتى على صلحاء المؤمنين
الذين عملوا بأمره، واتبعوا سيرته وسنته بقلوب عامرة بالايمان مطمئنة
بما أعده الله للعاملين المتقين وللعصاة والمتجبرين.
وروى في باب معرفة الإمام (ع) عن محمد بن الفضيل عن أبي
حمزة، ان أبا جعفر الباقر (ع) قال: إنما يعبد الله من يعرف الله، فاما
من لا يعرفه، فإنما يعبده هكذا ضلالا (3).

(1) انظر اتقان المقال للشيخ محمد طه ص 16.
(2) انظر 295، ج 2، من الصحيح للبخاري.
(3) أي كعبادة جماهير الناس الذين يساقون في أكثر أعمالهم وعباداتهم
تقليدا للآباء والأمهات.
289

قلت جعلت فداك فما معرفة الله، قال: تصديق الله ورسوله وموالاة
علي (ع) والائتمام به وبأئمة الهدى (ع) والبراءة إلى الله من عدوهم،
هكذا يعرف الله عز وجل.
ان، موالاة علي وأبنائه الأئمة الهداة التي تعنيها هذه الرواية لا يراد
منها الا الرجوع إليهم والسير على طريقهم، والتمسك بسيرتهم التي
تعكس وجه الاسلام الصحيح وتجسد روح القرآن ومبادئ النبي الكريم
ذلك لان عليا لم ينحرف لحظة واحدة منذ صباه عن نهج محمد وسيرته،
ولم يقال به النبي (ص) كما يزعم حاسدوه حينما قال له في خيبر، لأعطين
الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وحينما قال له:
لا يبغضك الا منافق، ولا يحبك الا مؤمن، وأنت مع الحق تدور معه
كيفما دار، وحينما قال فيه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر
من نصره إلى غير ذلك من المدائح التي كانت تحز ألما في قلوب حاسديه
حنقا وغيضا، ولما جاء دور أبنائه أعادوه حيا وجسدوه في أعمالهم وسيرتهم،
وجميع المراحل التي مروا بها، لم ينحرفوا لحظة واحدة عن مخططه
ومبادئه، فموالاتهم ومتابعتهم متابعه للاسلام وللرسول وقرآن،
وأعداؤهم أعداء لله ولرسوله ولكتابه.
وروى عن أبي حمزة ان أبا جعفر الباقر (ع) قال لجماعة من
المسلمين يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلا، وأنتم بطرق السماء
أجهل منكم بطرق الأرض فاطلبوا لأنفسكم دليلا (1).
وروى عن محمد بن زيد الطبراني أنه قال: كنت قائما على رأس

(1) ص 182، والمقصود من ذلك أن الخلق لا بد لهم من دليل
على الله ورسوله، والأئمة هم الأدلاء على الله كما نصت على ذلك طائفة من
المرويات في هذا الباب.
290

الإمام الرضا (ع) بخراسان وعنده عدة من بني هاشم وفيهم إسحاق بن
موسى بن عيسى العباسي، فقال إسحاق: بلغني انك تقول: ان الناس
عبيد لنا، فقال (ع) لا وقرابتي من رسول الله ما قلت هذا قط، ولا سمعته
من آبائي، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله. ولكني أقول: ان الناس
عبيد لنا في الطاعة موال لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب (1).
وروى في باب الأئمة نور الله في الأرض عن صفوان بن يحيى
والحسن بن محبوب عن أبي خالد الكابلي، أنه قال: سألت أبا جعفر
الباقر (ع) عن قول الله: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا)
فقال يا أبا خالد النور والله نور الأئمة (ع) من آل محمد إلى يوم القيامة
وهم والله نور الله في السماوات والأرض، والله يا أبا خالد لنور الامام
في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار، وهم والله ينورون
قلوب المؤمنين ويحجب الله نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم، والله يا
أبا خالد لا يحبنا عبد ويتولانا حتى يطهر الله قلبه، ولا يطهر الله قلب عبد
حتى يسلم لنا، فإذا كان سلما لنا سلمه الله من شديد الحساب، وآمنه

(1) ص 187 نفس المصدر، والذي اراده الإمام (ع) ان على
الناس ان يرجعوا إليهم في أمور الدين، ويعملوا بما يأمرون به وينهون
عنه، لأنهم اعرف بالله واحكامه وبالقرآن ومحتوياته من سائر الناس،
فعليهم ان يقولوا وعلى الناس ان يسمعوا ويطيعوا، لأنهم ينطقون
بلسان جدهم، ويحدثون بأحاديثه، وبذلك يمكن تفسير ما جاء في
الكافي حول هذا الموضوع، مثل قولهم من عرفنا كان مؤمنا، ومن
أنكرنا كان كافرا أو ضالا أي ان من اتبع أوامرهم وانتهى عما نهوا
عنه، كان مؤمنا لان أوامرهم لا تعدو أوامر الله ورسوله ومن
أنكرهم وتجاهلهم، فقد أنكر كتاب الله، لأنهما لن يفترقا حتى
يردا على رسول الله.
291

من فزع يوم القيامة (1).
وقد روى الكليني حول هذا الموضوع بعض الروايات التي لا يمكن
الاطمئنان إليها والتغاضي عنها سندا ومتنا، فمن ذلك ما رواه عن صالح
ابن سهل الهمداني ان أبا عبد الله الصادق (ع) قال في تفسير قوله تعالى:
(الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح
المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري) قال: ان المشكاة هي
فاطمة (ع)، والمصباح هو الحسن بن علي (ع) (والمصباح في زجاجة)
الحسين بن علي (الزجاجة كأنها كوكب دري، فاطمة كوكب درى بين
نساء أهل الدنيا، والشجرة المباركة هي إبراهيم، (زيتونة لا شرقية ولا
غربية) اي لا يهودية ولا نصرانية، (يكاد زيتها يضئ) اي يكاد العلم
يتفجر منها، " ولو لم تمسسه نار نور على نور " اي امام بعد امام، " يهدي
الله لنوره من يشاء " اي إلى الأئمة (ع) " وكظلمات في بحر لجي "
الخليفة الأول والثاني، " يغشاه موج " الخليفة الثالث، " ظلمات بعضها
فوق بعض " معاوية بن أبي سفيان وبني أمية، " ومن لم يجعل الله له
نورا " اي إماما من ولد فاطمة (ع) " فما له من نور " اي ما له امام
يوم القيامة.

(1) ص 194، لقد عد المجلسي في شرح أصول الكافي هذه الرواية
من الروايات الضعيفة، لان في سندها أبا خالد الكابلي، ولو تغاضينا
عن هذه الناحية، فالمراد من النور الوارد فيها هو المعرفة التي
ترشد إلى الخير والحق وتدلهم على الله سبحانه، وقد وصف
الأئمة بأنهم نور السماوات في الأرض من حيث إن متابعتهم والاقتداء
بهم من أفضل الطرق الموصلة لمعرفة الله وامتثال أوامره وأقربها
وهم ينورون قلوب المؤمنين بارشاداتهم ونصائحهم وتعاليمهم، فمن
اتبعهم فقد اهتدى إلى الطريق الموصل إلى الله، ومن حاد عنهم
فقد أظلم قلبه وضل سواء السبيل.
292

قد يضطر البا حث إلى التأويل أو التفسير أحيانا لتوضيح المراد من
الرواية على شرط ان لا يكون التأويل بعيدا وان لا يخرج عن حدود
المنطق والعقل، كما هو الحال في الروايات السابقة وأمثالها، اما هذه
الرواية ونظائرها فلا تقبل التأويل ولا يجوز للباحث المجرد ان يتجاهل
عيوبها، ذلك لان التفسير الذي نسبه الراوي إلى الإمام الصادق (ع)
بعيد كل البعد عن ظاهر الآية الكريمة، ولا يزيده الأسلوب القرآني،
هذا بالإضافة إلى أن الإمام الصادق ارفع شأنا وأجل قدرا وابعد تفكيرا
من أن يهاجم الخلفاء الثلاثة بهذا الأسلوب البعيد عن منطقه ومنطق آبائه
الكرام، وينتحل لنفسه ولجدته فاطمة وللأئمة (ع) العظمة عن طريق
هذه التأويلات التي لا يؤيدها النقل، ولا يقرها العقل.
على أن هذه الرواية قد رواها سهل بن زياد عن محمد بن الحسن
ابن شمون.
ورواها ابن شمون عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، ورواها
عبد الله هذا عن عبد الله بن القاسم، ورواها عبد الله بن القاسم عن صالح
ابن سهل الهمداني، وهؤلاء كلهم من المتهمين بالكذب ودس الأحاديث
بين روايات أهل البيت (ع) كما نص على ذلك المؤلفون في الرجال.
فقد جاء في اتقان المقال. ان محمد بن الحسن بن شمون بصري من
الغلاة، وقال عنه النجاشي انه كان واقفيا، ثم غلا في التشيع، وهو
ضعيف جدا وفاسد المذهب على حد تعبير النجاشي.
وقال عنه التفريشي في كتابه نقد الرجال: انه كان من الغلاة ضعيف
متهافت لا يلتفت إليه ولا إلى مصنفاته، وسائر ما ينسب إليه (1).

(1) انظر ص 342 من الاتقان للشيخ محمد طه وغيره من كتب
الرجال.
293

وجاء في الاتقان ان عبد الله بن عبد الرحمن الأصم من الغلاة ضعيف
لا يلتفت إليه، وقال فيه التفريشي في نقد الرجال: ان كتابه الزيارات يدل
على خبث عظيم، ومذهبه متهافت، وكان من كذابة أهل البصرة.
ونس على أن عبد الله بن البطل الحارثي كذاب غال ضعيف متروك
الحديث معدول عن ذكره، واكد ذلك العلامة في كتابه الخلاصة.
وأضاف إلى ذلك في اتقان المقال. ان عبد الله بن القاسم الحضرمي
المعروف بالبطل كذاب من الغلاة، يروي عن الغلاة لا خير فيه ولا يعتد
بمروياته.
وجاء في كتب الرجال عن صالح بن سهل الهمداني الذي روى عن
أبي عبد الله مباشرة، جاء عنه أنه قال: كنت أقول في الصادق بالربوبية،
فدخلت عليه فلما نظر إلي قال يا صالح:. انا والله عبيد مخلوقون لنا رب
نعبده وان لم نعبده عذبنا.
وقال التفريشي في نقد الرجال، ان صالح بن سهل من المذمومين
والغلاة الكذابين وضاع للحديث لا خير فيه ولا في سائر مروياته (1).
ويجد الباحث في مرويات الكافي التي من هذا النوع مجالا واسعا
لرفضها وعدم الاعتداد بها، لا من حيث اشتمالها على ما يخالف ظاهر
الكتاب فحسب بل من حيث إن رواة هذا النوع من الأحاديث لم يثبتوا
في وجه الطعون والانحرافات إلي وجهها إليهم الذين أحصوا تاريخ
الرجال وأحوالهم، كما تبين ذلك من الأمثلة السابقة وهذا لا يعني ان كل
ما يرويه أحد من هؤلاء المتهمين والمشبوهين يتعين طرحه، لجواز أن يروي

(1) انظر الاتقان للشيخ محمد طه ص 306 و 316 ورجال المرزا
محمد وغيره من كتب الرجال.
294

بعض الضعفاء والمذمومين عن أصل معتبر عند الطبقة الأولى من الرواة:
أو يأخذ الرواية ممن يصح الاعتماد عليه والركون إليه، أو تكون الرواية
مدعومة بالقرائن والشواهد، ونحو ذلك مما يوجب الوثوق بصدورها
وان لم يكن الراوي لها من حيث ذاته موثوقا ومعتمدا عند المؤلفين في
أحوال الرواة.
ومن أمثلة ذلك ما جاء عن أحمد بن هلال، فقد قال عنه العلامة في
الخلاصة ان الشيخ أبا علي بن همام قال، انه ملعون على لسان الحجة
محمد بن الحسن (ع).
وجاء في الفهرست للشيخ الطوسي، انه كان غاليا متهما في دينه.
وجاء في الكشي: انه متصنع فاجر، وقيل عنه أيضا انه كان متشيعا
ورجع عن التشيع إلى النصب.
وأكثر المؤلفون في الرجال من الطعن عليه، ومع ذلك، فقد اعتمد
جماعة على مروياته فيما يرويه عن ابن محبوب من كتاب المشيخة، وعن
محمد ابن أبي عمير من نوادره، من حيث إن الكتابين المذكورين من الكتب
المعروفة عند أكثر محدثي الشيعة، أو لأنه روى عنهما في حال استقامته
وقبل خروجه عن التشيع الصحيح (1).
ومن الأمثلة أيضا ما رواه الكليني بعنوان ان الأئمة أركان الأرض
عن أحمد بن مهران، ش محمد بن علي، ومحمد بن يحيى، وأحمد بن
محمد عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، ان أبا عبد الله الصادق (ع)
قال: ما جاء به علي (ع) آخذ به، وما نهى عنه انتهى عنه، جرى له
الفضل مثلما جرى لمحمد (ص)، ولمحمد الفضل على جميع من خلق الله

(1) انظر اتقان المقال ص 258 و 259.
295

عز وجل، المتعقب عليه في شئ من احكامه كالمتعقب على الله ورسوله
والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله كان أمير المؤمنين باب
الله الذي لا يؤتى الا منه، وسبيله الذي من سلك غيره هلك، وأضاف
إلى ذلك. انه كان يقول: انا قسيم الله بين الجنة والنار، وانا الفاروق
الأكبر، وانا صاحب العصا والميسم (1) ولقد أقرت لي جميع الملائكة
والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد (ص) إلى غير ذلك من الصفات
التي اشتملت عليها هذه الرواية ومع أنه يمكن تفسيرها تفسيرا مقبولا
يتفق مع مقام علي (ع) ومكانته، وينسجم مع بعض الروايات الصحيحة
التي جعلته فوق مستوى الناس أجمعين ما عدا النبيين والمرسلين، مع
ذلك فالرواة لها، من المتهمين بالانحراف عن مخطط التشيع الصحيح.
فأحمد بن مهران الراوي الأول لها، قد وصفه العلامة الحلي في خلاصته
بالضعف، واكد ذلك غيره من المؤلفين في أحوال الرواة.
ومحمد بن علي الراوي الثاني لها، فسواء كان ابن إبراهيم
أبا جعفر القرشي، أو كان ابن إبراهيم الهمداني، أو ابن بلال أبا طاهر، أو

(1) المتعقب هو المتعرض عليه أو المتردد في شئ منها،
لأنه لا يحكم الا بحكم الله ورسوله، فمن رد حكمه فقد رفض حكم الله، ومن
طعن عليه فقد طمن على رسوله: وهو باب الله من حيث إنه الدليل
والمرشد إلى الله سبحانه، وقد جعله ا - لله قسيما بين الجنة والنار
بمعنى ان حبه ومتابعته في أقواله وأفعاله يوجب لاتباعه ومحبيه
الجنة والذي لا يتابعه ولا يتولاه وينتقصه خارج عن حدود ما أمر
الله، ومن كان كذلك كان مصيره إلى النار، وقد قال له الرسول:
يا علي لا يحبك الا مؤمن ولا يبغضك الا منافق، فكونه القسيم
للجنة والنار من حيث إن أهل الجنة يعرفون بحبهم له، وأهل
النار يعرفون ببغضهم له، والعصا التي وردت في الرواية كناية
عن قوته وصلابته في الحق، والميسم، هو حبه وبغضه اللذان
يعرف بهما أهل الجنة من أهل النار فعلامة أهل الجنة حبه،
وعلامة أهل النار بغضه.
296

محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن اي العزافري، هؤلاء كلهم من
المذمومين المتهمين بالكذب والمعروفين بانحرافهم عن التشيع الصحيح،
ومحمد بن سنان أحد رواتها المعروف بابي جعفر الزاهري، لقد أطالوا
الحديث عنه ووصفوه بالكذب.
وقال عنه الفضل بن شاذان: انه من الكذابين المشهورين، وبالتالي
فان أكثرهم قد اتفقوا على تكذيبه وعدم جواز الاعتماد على مروياته.
اما المفضل بن عمر الراوي للحديث عن الإمام الصادق (ع) فقد
روى عنه وعن ولده الإمام موسى بن جعفر (ع) وهو من المتهمين بالغلو
والكذب واعتناق فكرة الخطابية.
وجاء عن حماد بن عثمان. أنه قال: سمعت أبا عبد الله الصادق (ع)
يقول للمفضل بن عمر: يا كافر يا مشرك مالك ولابني إسماعيل، وكان
من المتصلين به هو وجماعة من الخطابية، ولعلهم كانوا يحاولون اغراءه
ببعض المقالات الفاسدة.
وقال عبد الله بن مسكان: ان حجر بن زائدة وعامر بن جداعة دخلا
على أبي عبد الله الصادق (ع) فقالا له: جعلنا الله فداك، ان المفضل بن
عمر يقول: انكم تقدرون أرزاق العباد، فقال: والله ما يقدر أرزاقنا الا
الله، ولقد احتجت إلى طعام لعيالي فضاق صدري وأبلغت إلى الفكرة في
ذلك حتى أحرزت قوتهم، فعندها طابت نفسي، لعنه الله وبرئ منه،
قالا أفنلعنه ونبرأ منه: قال: نعم إلى غير ذلك مما نسب إليه من المقالات
التي لا يقرها الاسلام فضلا عن التشيع (1).
على أن هذا النوع من التفسير المعروف عند محدثي الشيعة بتفسير

(1) انظر ص 258 و 254 و 346 و 347 من الاتقان.
297

الباطن موجود بين أحاديث السنة عن الرسول (ص) في مجاميع الحديث
وغيرها، ومن الأمثلة على ذلك ما جاء عن انس أنه قال: لما نزلت سورة
التين على رسول الله (ص) فرح فرحا شديدا حتى بان لنا شدة فرحه،
فسألنا ابن عباس بعد ذلك عن تفسيرها، فقال: اما قول الله والتين فبلاد
الشام، والزيتون بلاد فلسطين، وطور سينين طور سيناء الذي كلم الله
عليه موسى، وهذا البلد الأمين، مكة المكرمة، ولقد خلقنا الانسان في
أحسن تقويم، محمد (ص)، ثم رددناه أسفل سافلين عباد اللات والعزى،
الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أبو بكر وعمر، فلهم اجر غير ممنون،
عثمان بن عفان، فما يكذبك بعد بالدين، علي بن أبي طالب، أليس الله
بأحكم الحاكمين، بعثك فيهم وجمعكم على التقوى يا محمد (1).
ويجد المتتبع الكثير من أمثال هذه التفاسير في مجاميع الحديث
السنية وأحوال الرواة.
ومجمل القول إن هذه المرويات وأمثالها لو نظرنا إليها من ناحية
أسانيدها يتعين طرحها الا إذا تأيدت من حيث مضامينها ببعض الشواهد
والمرويات الصحيحة كما ذكرنا.
وروى في باب من اصطفاه الله على عباده، عن حماد بن عيسى عن
عبد المؤمن عن سالم أنه قال: سألت أبا جعفر (ع) عن قول الله عز
وجل:
" ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم
مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " فقال السابق بالخيرات هو

(1) انظر الغدير، ج 5، ص 320، عن الخطيب في تاريخه،
والذهبي في الميزان.
298

الامام، والمقتصد العارف للامام، والظالم لنفسه الذي لا يعرف الامام.
وفي باب ان الأئمة امامان، امام يدعو إلى الله، وامام يدعو إلى
النار، روى عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن غالب عن جابر ان
أبا جعفر الباقر (ع) قال: لما نزلت " يوم ندعو كل أناس بإمامهم " قال
المسلمون يا رسول الله: الست امام الناس أجمعين فقال: انا رسول الله إلى
الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من أهل بيتي
يقومون في الناس فيكذبون، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشباههم،
فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو مني ومعي وسيلقاني، الا ومن ظلمهم
وكذبهم فليس مني ولا معي وانا منه برئ.
وروى عن محمد بن يحيى بن طلحة عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: ان
الأئمة في كتاب الله عز وجل امامان، قال تعالى:
" وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا " لا بأمر الناس، يقدمون أمر الله
قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم، ثم أشار إلى الفريق الثاني بقوله:
" وجعلناهم أئمة يهدون إلى النار " يقدمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم
قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله (1).
وقد حدد الإمام الصادق (ع) وظيفة الامام كما جاء في رواية الحسين
ابن أبي العلاء بقوله: إنما الوقوف علينا في الحلال والحرام، فاما النبوة
فلا (2).

(1) ص 114 و 216، ج 1.
(2) هذا التحديد في مقابل من ينسب إليهم النبوة أو خصائصها،
ومقتضى الرواية انهم قد ورثوا من رسول الله العلم، فعلى الناس
ان يرجعوا إليهم فيما يعود إلى أمور دينهم، اما النبوة وخصائصها
فهي للأنبياء وحدهم.
299

وروى حول الصحيفة والجفر والجماعة ومصحف فاطمة (ع) عن أحمد
بن عمر الحلبي، عن أبي بصير أنه قال: دخلت على أبي عبد الله
الصادق (ع) فقال: يا أبا محمد لقد علم رسول الله عليا (ع) الف باب
من العلم يفتح له من كل باب الف باب، قلت هذا والله العلم، فنكث
ساعة الأرض ثم قال: انه لعلم وما هو بذاك، يا أبا محمد ان عندنا
الجامعة وما يدريهم ما الجامعة، فقلت جعلت فداك: وما الجامعة، قال
صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله (ص) واملائه من فلق
فيه وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام وكل شئ يحتاج إليه حتى
أرش الخدش، ثم ضرب بيده إلي وقال تأخذني يا أبا محمد وغمزني بيده
وقال حتى أرش هذا، ثم سكت ساعة وقال: ان عندنا الجفر وما يدريهم
ما الجفر، قال قلت: وما الجفر، قال وعاء من ادم فيه علم النبيين
والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل، ثم سكت ساعة
وقال: ان عندنا مصحف فاطمة (ع) وما يدريهم ما مصحف فاطمة،
قلت وما مصحف فاطمة؟ قال: مصحف فيه قرآنكم هذا ثلاث مرات
والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد.
وروى عن علي بن الحكم عن الحسين بن أبي العلاء أنه قال: سمعت
أبا عبد الله الصادق (ع) يقول: ان عندي الجفر الأبيض قلت: فأي
شئ فيه قال: زبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم،
والحلال والحرام، ومصحف فاطمة ما أزعم ان فيه قرآنا، وفيه ما يحتاج
الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد حتى أن فيه الجلدة ونصف الجلدة وربع
الجلدة وأرش الخدش، وعندي الجفر الأحمر، قلت وأي شئ فيه قال:
السلاح، وذلك إنما يفتح للدم يفتحه صاحب السيف للقتل، فقال له
عبد الله بن يعفور، أصلحك الله أيعرف ذلك بنو الحسن، فقال: اي والله
كما يعرفون الليل انه ليل والنهار انه نهار، ولكن يحملهم الحسد وطلب
300

الدنيا على الجود والانكار، ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيرا لهم (1).
ومن هذه المرويات وغيرها مما جاء في مجاميع كتب الحديث حول
الجامعة ومصحف فاطمة والجفر والصحيفة تبين ان هذه المسميات بهذه
الأسماء هي عبارة عن مجاميع في الحلال والحرام والاحكام وبعض
الحوادث الكونية ونحو ذلك من العلوم التي ورثها أهل البيت عن جدهم
الرسول (ص)، هذه المجاميع بخط علي (ع) واملاء رسول الله كما
نصت على ذلك مروية أبي بصير، وقد أخبر علي (ع) عن بعض الحوادث
قبل وقوعا بعشرات السنين، ووقعت كما أخبر عنها.
اما الجفر الأبيض والأحمر فأحدهما وعاء من جلد فيه التوراة
والإنجيل وزبور داود وصحف إبراهيم كما نزلت من عند الله، والثاني
وهو الأحمر وعاء فيه سلاح رسول الله، كما نصت على ذلك رواية
الحسين ابن أبي العلاء.
واما مصحف فاطمة، فقد جمعت فيه أكثر الاحكام وأصول ما
يحتاج إليه الناس كما وصلت إليها من أبيها وابن عمها أمير المؤمنين (ع)،
وليس هو من القرآن كما يدعيه فريق من الناس.
ويدل على ذلك قول الإمام الصادق (ع)، كما جاء في رواية
لحسين بن أبي العلاء، ما أزعم ان فيه قرآنا، وفيه ما يحتاج إليه الناس
ولا نحتاج إلى أحد، حتى أن فيه الجلدة ونصف الجلدة وربع الجلدة،
وأرش الخدش.
وقوله في رواية أبي بصير: والله ان مصحف فاطمة مثل قرآنكم هذا
ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد.

(1) انظر ص 239 و 242، ج 1.
301

قوله (ع) في رواية فضيل بن سكرة: كنت انظر في كتاب فاطمة،
ليس من يملك الأرض الا وهو مكتوب فيه باسمه واسم أبيه، وما وجدت
لولد الحسن فيه شيئا.
ومع أن الروايات التي تعرضت للصحيفة والجامعة والجفر ومصحف
فاطمة (ع) قد نصت على أنها كتب تشتمل على الاحكام والحوادث
واخبار الأمم والملوك في مستقبل الزمان وحاضره، وان الجفر، هو وعاء
فيه كتب الأنبياء السابقين وآثارهم وسلاح رسول الله (ص) مع أن
الروايات التي تعرضت لمحتويات تلك الكتب، فقد وجد بعض المحدثين
والمؤلفين من السنة منفذا للتشويش والطعن على الشيعة، فقالوا: بان
مصحف فاطمة (ع) هو قرآن غير القرآن الذي بين أيدي الناس، وان
الجفر والجامعة كتابان لعلي (ع) ذكر فيهما الحوادث الكونية إلى انقراض
العالم، وبناهما على حروف ورموز، وانتقلا منه إلى أولاده فأخبروا عن
الغيب اعتمادا عليهما، واستطاعوا غراء فئة من الناس آمنت بأنهم يعلمون
ما لا يعلمه أحد من خلق الله.
وممن وضع هذين الكتابين في هذا المستوى، ونسب إلى الأئمة الأطهار
انهم كانوا يخبرون عن بعض الحوادث معتمدين على ما فيهما من
الرموز والحروف، الإيجي قي المواقف والجرجاني في شرحه، وابن الصباغ
المالكي في الفصول المهمة وغيرهم.
وجاء الشيخ أبو زهرة في كتابه الإمام الصادق فنسج على منوال
غيره، وادعى بان الأئمة يستخرجون علم الغيب من هذين الكتابين، مع أن
النصوص التي تعرضت لهذه الكتب صريحة في أن محتوياتها لا تتعدى
الحلال والحرام وبعض الحوادث الكونية التي وقع بعضها بعد زمانهم
بعشرات السنين، ولا بد وان يتكشف المستقبل عن الباقي قبل ان يرث
الله الأرض ومن عليها.
302

اما المرويات التي تعرضت لمصحف فاطمة فقد نصت على أنه كتاب
فيه الحلال والحرام، ومع ذلك فقد ألصقوا بالشيعة قرآنا غير القرآن
المتداول بين الناس، واحتجوا لذلك بمصحف فاطمة، مع العلم بان
مروياتهم تنص على أن لعائشة مصحفا يزيد عن القرآن المنزل، ومع ذلك
فقد تجاهلوها وتعلقوا بمصحف فاطمة تاركين المرويات التي تعرضت
لمحتوياته.
فقد جاء في الاتقان المجلد الثاني ان حميدة بنت أبي يونس قالت
قرأ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: " ان الله وملائكته يصلون
على النبي يا أيها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما، وعلى الذين
يصلون الصفوف الأولى " هذا بالإضافة إلى بعض المرويات التي سنتعرض
لها في حديثنا عن مرويات الكافي حول هذا الموضوع (1) فالرواية صريحة
بان القرآن المنسوب لعائشة يزيد عن القرآن المتداول، والرواية التي
تعرضت لمصحف فاطمة تنص على أنه ليس من نوع القرآن.
وروى عن سدير أنه قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (ع): ان
قوما يزعمون انكم آلهة يتلون بذلك قرآنا، وهو الذي في السماء إله وفي
الأرض إله فقال: يا سدير سمعي وبصري ولحمي ودمي وشعري من
هؤلاء براء، وبرئ الله منهم، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي
والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة الا وهو ساخط عليهم، قال قلت:
وعندنا قوم يزعمون انكم رسل يقرءون علينا بذلك قرآنا: " يا أيها الرسل
كلوا من الطيبات واعملوا صالحا اني بما تعملون عليم ".
قال: يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من

(1) ان هذه الزيادة في مصحف السيدة عائشة تشير إلى
المنزلة العالية التي كان يتمتع بها المصلون في الصف الأول مع النبي (ص)
ولا شك بان أباها كان في طليعتهم.
303

هؤلاء براء ما هؤلاء على ديني ودين آبائي، قال قلت: فما أنتم، قال نحن
خزان علم الله ونحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون أمر الله تعالى
بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة من دون السماء وفوق
الأرض.
وروى عن ابن أذينة عن يزيد بن معاوية انه سأل أبا جعفر وولده
الإمام الصادق (ع) فقال لهما: ما منزلتكما ومن تشبهون ممن مضى؟ قالا:
صاحب موسى وذا القرنين، كانا عالمين، ولم يكونا نبيين (1).
وروى عن عمر بن خالد، ان أبا جعفر الباقر (ع) قال يا معشر
الشيعة: كونوا النمرقة الوسطى، يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي،
فقال له رجل من الأنصار يقال له سعد: جعلت فداك ما الغالي، وما
التالي؟، قال: الغلاة قوم يقولون فينا ما لم نقله: في أنفسنا، فليس
أولئك منا ولسنا منهم، والتالي هو من يريد الخير ويسعى في طلبه ليعمل
به طمعا في مرضاة الله ورجاء في ثوابه (2).
وأضاف الراوي إلى ذلك. ان الإمام (ع) اقبل علينا وقال، والله
ما معنا من الله براءة، ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجة،

(1) انظر ص 269، ج 1، بهاتين الروايتين وغيرهما من عشرات
الروايات دفع لامام (ع) ادعاء المغالين الذين وضعوهم فوق مستوى المخلوقات
وألبسوهم ثوب الأئمة أو المرسلين، جهلا وضلالا، واكد الامام في
مختلف المناسبات بأنهم عبيد لله لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا،
ولا يدفعون عنها موتا ولا حياة، ولم يبلغوا ما بلغوه الا بطاعتهم
لله سبحانه.
(2) والذي يعنيه الإمام (ع) بقوله كونوا النمرقة الوسطى، اي نمطا
بارزا ومثلا في الاستقامة والسر على المخطط الاسلامي ليرجع إليكم
الخارج عن مخطط التشيع، ويلحق بكم التالي، اي ليكون المستقيم
في أعماله تبعا لكم.
304

ولا تتقرب إلى الله الا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعا لله تنفعه ولايتنا،
ويحكم لا تغتروا، ويحكم لا تغتروا.
وروى أبو الصباح الكناني أنه قال لأبي عبد الله (ع) ما نلقى من
الناس فيكم، فقال له أبو عبد الله (ع) وما الذي تلقى من الناس فينا؟
فقال: لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام، فيقول جعفري خبيث
فقال الإمام (ع) يعيركم الناس بي، فقال له أبو الصباح نعم يا ابن
رسول الله، فقال: ما أقل من يتبع جعفرا منكم، إنما أصحابي من اشتد
ورعه، وعمل لخالقه ورجا ثوابه هؤلاء أصحابي (1).
ومن خلال دعواته وابتهالاته إلى الله سبحانه عندما يناجي ربه، أو
تعترضه الحوادث وتهزه النكبات، من خلال تلك الدعوات يبدو الامام
على عظمته ويقينه واتساع علمه " وكأنه من أضعف خلق الله يخاطب
ربه خطاب عبد ذليل قد انقطع أمله من كل شئ لا يستطيع ان يدفع عن
نفسه ضرا ولا يجلب لها خيرا ".
فقد روى في الكافي، ان الإمام الصادق (ع) كان يقول في دعائه،
اللهم آمن خوفي وعافني فيما بقي من عمري، وثبت حجتي، واغفر
خطاياي، واعصمني في ديني، وسهل مطلبي، ووسع علي في رزقي فاني
ضعيف، وهب لي يا الهي لحظة من لحظاتك لكشف بها عني جميع ما به
ابتليتني، فقد ضعفت قوتي وقلت حيلتي، وانقطع من خلقك رجائي،
ولم يبق الا رجاؤك وتوكلي عليك، وقدرتك علي يا ربي ان ترحمني
كقدرتك علي ان تعذبي وتبتليني، إلهي لم أخل من نعمك منذ خلقتني
وأنت ربي ومفزعي وملجئي، والحافظ لي والذاب عني، فليكن يا
سيدي ومولاي فيما قضيت وقدرت وحتمت تعجيل خلاصي مما أنا فيه

(1) انظر ص 70 و 73، ج 2 من أصول الكافي.
305

جميعه، فاني لا أجد لدفع ذلك كله أحدا غيرك، ولا اعتمد فيه الا
عليك (1).
هذه الدعوات والابتهالات التي تنبض بالايمان المطلق والعبودية
الخالصة، والحاجة إليه في صغير الأمور وكبيرها، بالإضافة إلى بعض
المرويات التي حدد فيها الإمام (ع) موقفه من الغلاة والمرجفين والدساسين،
كل هذه وغيرها من مواقفهم (ع) لسد الطريق على كل من يحاول ان
يجعل للامام خصائص الخالق وميزة الأنبياء المرسلين، وتحتم علينا تأويل
بعض المرويات التي تنسب له علم الغيب والقدرة على كل شئ ونحو
ذلك مما يعجز عنه الانسان بالغا ما بلغ.
لا بد من تأويل تلك المرويات حيث يكون التأويل ممكنا، أو طرحها
لا سيما وان أكثر رواتها لم تتوفر فيهم الشروط المطلوبة في الراوي
كما ذكرنا.
وقد روى الكليني في باب ان الأئمة يعلمون متى يموتون ولا
يموتون الا باختيارهم، عن سلمة بن الخطاب عن سليمان بن سماعة
وعبد الله بن محمد عن عبد الله بن القاسم البطل عن أبي بصير، ان
أبا عبد الله الصادق (ع) قال: اي امام لا يعلم ما يصيبه، والى ما يصير
إليه، فليس ذلك بحجة لله على خلقه.
ومع أن هذه الرواية ليس فيها ما يدعو إلى الاستغراب والاستهجان
لان علم الإمام الذي يتسع لهذه الحالات مستمد من النبي (ص) ومن
العلم الذي ورثوه عنه ومع ذلك فان رواتها من المتهمين بالانحراف كما
نص على ذلك المؤلفون في أحوال الرجال، وقد ذكرنا لمحة عنهم في
الفصل الذي تعرضنا فيه لبعض رجال الكافي (2).

(1) نفس المصدر، ص 558.
(2) انظر ص 258، ج 1، من الكافي، ورجال المرزا محمد، ص 192
و 316.
306

وفي باب جهات علم الأئمة (ع) روى عن علي بن إبراهيم
عمن حدثه عن المفضل بن عمر أنه قال قلت: لأبي الحسن موسى بن جعفر،
جاءنا عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: ان علمنا غابر ومزبور ونكث في القلوب
ونقر في الأسماع، فقال (ع) اما الغابر فما تقدم من علمنا، واما المزبور
فما يأتينا واما النكث في القلوب فالهام، واما النقر في الأسماع فامر
الملك (1).
والامر في هذه الرواية سهل من حيث مضمونها، فان الالهام بمعنى
الادراك الصحيح لواقع الأشياء، يحصل من صفاء النفس وحدة الذهن،
ويحصل بالهداية من الله سبحانه إلى الواقع، والنقر في الاسماع مرجعه
إلى أن الله سبحانه يرشد الإمام (ع) إلى احكام الحوادث وبعض ما يجري
في مستقبل الزمان، والايحاء بهذا المعنى ليس من مختصات الأنبياء فقد
ورد في القرآن في مختلف المناسبات ومن ذلك قوله سبحانه: " وأوحى ربك
إلى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون " وهل
معنى ذلك أن الأمين جبرائيل كان ينزل على النحل ليوحي إليها بذلك،
لا أظن أن أحدا يلتزم بهذا الامر.
اما من حيث سندها فهي من قسم الضعيف، لأنها جاءت عن طريق
المفضل بن عمر، المعروف بالغلو والكذب، وقد وصفه الإمام الصادق
بالكفر والشرك، ونهى عن الاخذ بمروياته.
وروى في باب التفويض إلى رسول الله والى الأئمة في أمر الدين،
عن أحمد ابن أبي زاهر بسنده إلى أبي إسحاق النحوي أنه قال: دخلت
على أبي عبد الله (ع) فسمعته يقول: ان الله عز وجل أدب نبيه على
محبته فقال: وانك لعلى خلق عظيم، ثم فوض إليه فقال عز وجل:

(1) ص 264 ج 1.
307

" وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " وقال: " ومن يطع
الرسول فقد أطاع الله " وان نبي الله فوض إلى علي (ع) والأئمة
فسلمتم وجحد الناس فوالله لنحبكم ان تقولوا إذا قلنا وان تصمتوا
إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله عز وجل، وما جعل الله لاحد
خيرا في خلاف أمرنا.
وقد أورد عشر روايات تحت عنوان التفويض إلى رسول الله والى
الأئمة، وكلها تلتقي تقريبا مع هذه الرواية من حيث المضمون.
والذي تعنيه هذه المرويات، ان النبي (ص) كان المسؤول عن تبليغ الأحكام
وبيان الحلال والحرام وبعد وفاته أصبح المسؤول عن ذلك
الإمام (ع) الذي اختاره النبي بأمر من الله سبحانه، بعد أن زوده بكل
ما تحتاج إليه الأمة من أمور دينها، فيكون المراد من التفويض، هو
القيام بمهمات النبي من غير فرق بينهما من هذه الناحية، الا ان النبي (ص)
يخبر عن الله بواسطة الوحي، والامام يخبر عن النبي والكتاب المنزل
عليه.
وليس في هذه المرويات وغيرها ما يشير إلى أن الله قد فوض إلى
النبي كل شئ حتى أمور الخلق والتدبير والنبي قد فوضها إلى الامام كما
ينسب جماعة إلى الشيعة.
ومن الجائز ان يكون المصدر في الصاق هذه الانحرافات بالشيعة
بعض الفرق التي انحرفت عن التشيع الصحيح كالسبعية والخطابية
وغيرهما، ولكن وجود فرق من هذا النوع تنتمي إلى التشيع لا يبرر تلالي
الهجمات الصاعقة على الشيعة الإمامية لمجرد ان بعض الذين كانوا
مندسين في صفوفهم خرجوا عن مخطط التشيع، أو ألحدوا في آرائهم
ومعتقداتهم وقالوا في النبي والأئمة ما يتنافى مع أصول الاسلام ومبادئه.
308

وجاء في بعض النصوص الصحيحة عن الأئمة، ان من زعم أن الله
فوض إلينا أمر الخلق والرزق والاحياء فقد أشرك بالله وضل سواء
السبيل.
وجاء في باب ذكر الأرواح التي في الأئمة (ع) عن محمد بن سنان
عن المفضل بن عمر انه سأل أبا عبد الله الصادق (ع) من علم الأئمة بما
في أقطار الأرض وهو في بيته مرخى عليه ستره فقال: يا مفضل ان الله
تبارك وتعالى جعل في النبي خمسة أرواح، روح الحياة فيه دب ودرج
وروح القوة فيه نهض وجاهد، وروح الشهوة فيه اكل وشرب واتى
النساء من الحلال، وروح الايمان فيه آمن وعدل، وروح القدس فيه
حمل النبوة، فإذا قبض الله النبي (ص) انتقل روح القدس فصار إلى
الإمام (ع) وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو، والأربعة
أرواح تنام وتغفل وتزهو وتلعب، وروح القدس كان يرى به.
وروى ثلاث روايات تحت هذا العنوان بهذا المضمون (1).
وروى في باب ان الإمام (ع) يأخذ علم الإمام الذي كان قبله في

(1) انظر ص 271 و 272، والمراد من الأرواح هي القوى الكامنة
في النبي (ص) وفي كل انسان ما عدا روح ر القدس، وبواسطة تلك
القوى يتحرك ويجاهد ويأكل ويشرب ويحكم بالعدل، أما روح
القدس فهي التي استحق بها النبوة بما لها من الخواص والآثار،
وانتقالها إلى الامام لا يعني انتقال النبوة إليه كما يوهمه ظاهر
الرواية على أن هذه الرواية رواها محمد بن سنان عن المفضل،
وهما ضعيفان لا يعتد بمروياتهما والثانية رواها منخل بن جميل
عن جابر الجعفي، وهما متهمان عند أكثر المؤلفين في أحوال الرجال،
والثالثة رواها إبراهيم بن عمر اليماني عن جابر، وجاء في الخلاصة
ان جل من يروي عن جابر ضعيف هذا بالإضافة إلى أن جابرا
نفسه، كان هدفا لهجوم عنيف من أكثر المؤلفين في الرجال فليس
لروايته تلك الحصانة التي لرواية غيره من الموثوقين.
309

آخر دقيقة من حياته، روى عن جماعة منهم علي بن أسباط، والحكم بن
مسكين، ان بعض الأصحاب اخبره بأنه قال لأبي عبد الله (ع) متى
يعرف الأخير ما عند الأول؟ قال: في آخر دقيقة تبقى من روحه.
وبهذا النص رواها عن علي بن أسباط، والحكم بن مسكين عن
عبيد بن زرارة، ورواها أيضا عن جماعة عن علي بن أسباط.
والظاهر أن المقصود بالمعرفة التي تنتقل إلى الثاني في اخر دقيقة
من حياته، هي الإمامة، وليس في متنها ما يدعو إلى التردد والتشكيك
وبخاصة بعد هذا التفسير.
اما من ناحية سندها، فاحد رواتها علي بن أسباط، وهو فطحي
المذهب متعصب لعقيدته، وقد الف علي بن مهزيار رسالة في الرد عليه
فلم يتراجع عن مذهبه، ولعله لذلك رجح جماعة من المؤلفين في أحوال
الرجال ضعف مروياته.
وورد في سند الرواية الثالثة، محمد بن الحسين بن سعيد الصباغ،
وكان منحرف العقيدة ضعيف جدا على حد تعبير النجاشي (1).
وأكثر الروايات التي أوردها الكليني رحمه الله في هذه الأبواب من
كتاب الحجة لو عرضناها على الأصول والقواعد المقررة في علم الدراية
لا تتوفر فيها الشروط المطلوبة، ولازم ذلك دخول هذا النوع من المرويات
في قسم الضعيف حسب التصنيف الذي أحدثه العلامة الحلي وأستاذه،
وذكرنا سابقا ان ضعف الرواية من ناحية سندها لا يوجب طرحها، لجواز
كونها محاطة ببعض القرائن التي تؤكد صدورها عن الإمام (ع) أو
لوجودها في الكتب المعتبرة عند الطبقة الأولى من الرواة أو لان مضمونها

(1) انظر ص 275 من الكافي ج 1، وص 324 من اتقان المقال.
310

متواتر ولو بالمعنى، أو لموافقتها لظاهر الكتاب والسنة، أو لغير ذلك من - القرائن التي توجب الاطمئنان بصدورها، ولأجل ذلك فقد اعتبر
المتقدمون هذا النوع من المرويات من الصحيح الذي يصح الاعتماد عليه
والركون إليه ولو كان الراوي له من المنحرفين في عقيدته وعمله.
وروى في باب النص على الأئمة (ع) واحدا بعد واحد عن محمد
ابن عيسى بسنده إلى أبي بصير أنه قال: سألت أبا عبد الله الصادق (ع)
عن قوله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ".
فقال: نزلت في علي والحسن والحسين (ع) فقلت له: ان الناس
يقولون: فما له لم يسم عليا وأهل بيته في كتاب الله عز وجل، فقال:
قولوا لهم، ان رسول الله نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله للناس ثلاثا
ولا أربعا حتى كان رسول الله هو الذي فسر ذلك لهم، ونزلت عليه
الزكاة ولم يسم لهم في كل أربعين درهما درهم واحد، ونزل الحج ولم
يقل لهم طوفوا سبعا. فكان رسول الله هو الذي فسر ذلك لهم، ونزلت
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فبين الرسول المراد منها،
وقال في علي (ع): من كنت مولاه فعلي مولاه. وقال: أوصيكم بكتاب
الله وأهل بيتي، فاني سألت الله عز وجل ان لا يفرق بينهما حتى يوردهما
علي الحوض فأعطاني ذلك.
وقال لا تعلموهم فإنهم اعلم منكم، لن يخرجوكم من باب هدى،
ولن يدخلوكم في باب ضلالة، فلو سكت رسول الله ولم يبين من هم أهل بيته
لادعاها. آل فلان وآل فلان، لكن الله أنزله في كتابه تصديقا لنبيه،
فقال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا "
فكان علي والحسن والحسين وفاطمة، فأدخلهم رسول الله تحت الكساء
في بيت أم سلمة، ثم قال: اللهم ان لكل نبي اهلا وثقلا، وهؤلاء أهلي
أهل بيتي وثقلي.
311

فقالت أم سلمة ألست من أهلك يا رسول الله فقال إنك إلى خير
ولكن هؤلاء أهلي وثقلي، فلما قبض رسول الله، كان علي (ع) أولى
الناس بالناس لكثرة ما بلغ فيه رسول الله، فلما مضى علي كان الحسن
أولى بها من بقية أولاد علي، ولما مضى الحسن كان الحسين أولى بها
وهكذا.
وروى الكليني بهذا المضمون أكثر من سبع روايات، وفيها يؤكد
الإمام (ع) ان المراد بأولي الامر في الآية من سورة النساء الأئمة من
أهل البيت (ع) (1).
وروى في باب ان الجن يأتونهم ليأخذوا عنهم معالم دينهم، عن
جماعة منهم سعد الإسكاف أنه قال: اتيت أبا جعفر (ع) أريد الاذن عليه
فإذا رحال إبل مصفوفة على الباب، والأحداج قد ارتفعت ثم خرج قوم
معتمون بالعمائم يشبهون الزط، فدخلت على اي جعفر (ع) فقلت له
جعلت فداك: أبطأ اذنك علي اليوم، ورأيت قوما خرجوا علي معتمين
بالعمائم فأنكرتهم، فقال أو تدري من أولئك يا سعد؟ قلت لا: قال أولئك
إخوانكم من الجن يأتون فيسألون عن حلالهم وحرامهم ومعالم دينهم
وروى سبع روايات بهذا المضمون، وقد وصف المجلسي في مرآة
العقول هذه الروايات كلها بالضعف، ولم يستثن منها الا الرواية الرابعة
التي رواها سدير الصيرفي عن أبي جعفر الباقر (ع) وجاء فيها ان الأئمة
يسخرون الجن لقضاء حوائجهم إذا اقتضى الامر السرعة في انجازها،
وعدها من نوع الحسن بين أصناف الحديث (2).

(1) ص 287 إلى ص 262.
(2) ص 395 و 396 و 398، ومعلوم ان النوع الحسن من الروايات
في مقابل الصحيح، ويأتي في المرتبة الثالثة حسب التصنيف الرباعي
للحديث، واعتبارها من هذا النوع لا يعنى انها من الروايات
المقبولة، ذلك لان الحديث إذا لم يتفق مع كتاب الله وسنة نبيه
يتعين طرحه ولو بلغ أعلى مراتب الصحة من حيث سنده.
312

وروى في باب ان مستقى العلم في بيت آل محمد، عن يحيى بن
عبد الله عن أبي الحسن أنه قال: سمعت جعفر بن محمد (ع) يقول وعنده
ناس من أهل الكوفة، عجبا للناس، انهم أخذوا علمهم كله عن رسول
الله فعملوا به واهتدوا، ويرون ان أهل بيته لم يأخذوا علمه، ونحن أهل بيته
وذريته في منازلنا نزل الوحي، ومن عندنا خرج العلم إليهم، فيرون
انهم علموا واهتدوا وجهلنا نحن وضللنا ان أهذا لمحال.
وفي باب ان حديثهم صعب مستصعب، روى عن عمار بن مروان
عن جابر ان أبا جعفر (ع) قال: ان رسول الله (ص) قال: ان حديث
آل محمد صعب مستصعب، لا يؤمن به الا ملك مقرب أو نبي مرسل،
أو عبد امتحن الله قلبه للايمان فما ورد عليكم من حديث آل محمد (ع)
فلانت له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه، وما اشمأزت منه قلوبكم فأنكرتموه
فردوه إلى الله ورسوله والى العالم من آل محمد، وإنما الهالك ان يحدث
أحدكم بشئ منه لا يتحمله، فيقول: والله ما كان هذا (1).
وروى في باب الولاية عن علي بن حمزة عن اي بصير، ان أبا عبد الله
الصادق (ع) قال: ان الآية " ومن يطع الله ورسوله لما نزلت على النحو
التالي:
ومن يطع الله ورسوله في ولاية. علي وولاية الأئمة من بعده فقد
فاز فوزا عظيما.

(1) إنما كان حديثهم صعب مستصعب، لأنهم قد يخبرون
أحيانا عن أمور ستحدث في مستقبل الزمان كما وصل إليهم من رسول الله (ص)،
والاخبار عما سيحدث قبل حدوثه لا يؤمن به الا من بلغ أعلى درجات
الايمان وعرفهم على واقعهم، ولذا فان الإمام (ع) قد نهاهم عن
تكذيب ما تنفر منه قلوبهم وطبائعهم وأمرهم برد هذا النوع إلى
مصدره، ويحتمل ان يكون صعبا مستصعبا من حيث إن الذين
كانوا يحملون أحاديثهم ويحدثون بها كانوا يتعرضون لأنواع الظلم
من الحكام وأعداء أهل البيت (ع).
313

وهذه الرواية ضعيفة السند، كما نص على ذلك المجلسي في مرآة
العقول قد رواها علي بن أسباط عن علي بن أبي حمزة، وعلي بن
أسباط كان فطحيا، وابن أبي حمزة كان واقفا، ومتهما بالكذب ووضع
الأحاديث.
وجاء عن علي بن الحسن بن فضال انه كتب تفسير القرآن، وانه
لا يستحل ان يروي عنه حديثا واحدا.
ونسب له المؤلفون في أحوال الرجال، انه استولى على الأموال التي
كانت في حيازته للإمام موسى بن جعفر (ع) وأنكرها بعد وفاته (1).
وعلى تقدير صحة الرواية فلا بد وأن يكون المراد من قوله (ع)
هكذا نزلت انها نزلت بهذا المعنى لا بهذه الألفاظ، وان المعنى المراد منها
هو ولاية على والأئمة من بعده ومع الاعراض عن ذلك فليس ببعيد أن تكون
هذه الزيادة في الآية من موضوعات علي بن حمزة، أو انه قد
اخذها من الكتب التي ألفت في تفسير الباطن، ككتابي علي بن حسان،
وعبد الرحمن بن كثير وغيرهما من الغلاة والإسماعيلية السبعية.
وقد أورد في الكافي نحوا من اثنين وتسعين رواية تتضمن تفسير
أكثر من مئة آية بعلي والأئمة من ولده (ع) وأكثرها بعيدة عن مداليل
الألفاظ وأسلوب القرآن.
ومن أمثلة هذا النوع من المرويات، ما رواه عن علي بن محمد عن أحمد
بن محمد بن عبد الله في تفسير قوله تعالى:
" لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد، ووالد وما ولد " أنه قال:
الوالد وما ولد، علي وما ولد من الأئمة (ع).

(1) انظر رجال الشيخ محمد طه، ص 322 و 323.
314

ومنه ما رواه عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، ان
أبا عبد الله الصادق (ع) قال في تفسير قوله تعالى:
" هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب
وأخر متشابهات " ان الآيات المحكمات، علي والأئمة من ولده والمتشابهات
فلان، وفلان وفلان. والذين في قلوبهم زيغ، هم أصحابهم وأهل
ولايتهم.
وروى عن محمد بن جمهور، عن صفوان وابن مسكان، ان
أبا عبد الله الصادق (ع) قال في تفسير قوله تعالى: ا وان جنحوا للسلم
فاجنح لها " ان المراد من السلم الدخول في ولاية الأئمة (ع).
وروى عن محمد بن سليمان عن عبد الله بن سنان ان أبا عبد الله
الصادق قال: ان الآية، ولقد عهدنا إلى آدم كلمات في محمد وعلي وفاطمة
والحسن والحسين، والأئمة من ذريتهم فنسي، وأضاف الامام على حد
قول الراوي، ان الآية هكذا والله نزلت على محمد (ص) (1).
وروى عن محمد بن جمهور عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر
أنه قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قوله تعالى:، ائت بقرآن غير هذا أو
بدله " قال قولوا: أو بدل عليا، والرواة الثلاثة لهذه الرواية لا يعتد
بمروياتهم كما ذكرنا سابقا، وقد وصف المجلسي هذه المرويات كلها
بالضعف، ومما لا شك فيه ان أكثرها من صنع الغلاة والمنحرفين عن عقيدة
التشيع.

(1) وهذه الرواية تنص بصراحة انه سقط من الآية أكثر من نصفها
والامر في ذلك سهل بمد إن كان أحد رواتها محمد بن سليمان وجاء في
كتب الرجال عنه انه ضعيف لا يعول عليه في شئ كما نص على ذلك
في اتقان المقال والمرزا محمد في رجاله.
315

ومما يؤيد ذلك أن المتتبع في أسانيدها لا يجد رواية يخلو سندها
عن أحد الغلاة أو المتهمين بالانحراف والكذب، وعلي وأبناؤه الأئمة
الهداة الذين اختارهم الله أئمة لعباده يدعون إلى الحق وبه يعملون في
غنى عن هذه التأويلات التي لا تساعد عليها ظواهر تلك الآيات ولا تؤيدها
نصوص القرآن الكريم.
ان أكثر هذه المرويات لا تنسجم مع سيرة أهل البيت (ع) الذين
قالوا: انا إذا حدثنا لا نحدث الا بما وافق كتاب الله، وان ما خالف
كتاب الله فليس منا، وهل ينسجم قولهم هذا: مع تفسير قوله تعالى،
الذي نسبه الغلاة إليهم، ائت بقرآن غير هذا أو بدله، اي بدل عليا (ع)
كما جاء في رواية محمد بن جمهور عن محمد بن سنان عن المفضل بن
عمر، ومع تفسير قوله تعالى: " ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من
المصلين " اي لم نك من اتباع الأئمة (ع) الذين قال الله فيهم:
" والسابقون السابقون، أولئك المقربون ".
ان أبا عبد الله الصادق الصدوق اجل شأنا وارفع قدرا من أن يتصرف
في كتاب الله بما يذهب بهاءه وروعته ويطمس من أضوائه النيرة الساطعة
التي هزمت فصحاء العرب وبلغاءهم وارتدوا على أعقابهم خاسرين
مدحورين.
" قل لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بآية من مثله لا يأتون
بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ".
وروى عن علي بن أسباط وعلي بن أبي حمزة عن أبي بصير ان
أبا عبد الله الصادق (ع) قرأ فستعلمون يا معشر المكذبين حيث أنبأتكم
رسالة ربي في ولاية علي والأئمة من بعده من هو في ضلال مبين.
وانه قال: ان الآية " ان تلووا وتعرضوا أصلها ان تلووا الامر وتعرضوا
316

عما أمرتم به فان الله كان بما تعملون خبيرا، فلنذيقن الذين كفروا بتركهم
ولاية أمير المؤمنين عذابا شديدا في الدنيا، ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا
يعملون (1).
وروى عن محمد بن أرومة عن علي بن حسان عن عبد الرحمن بن
كثير ان أبا عبد الله الصادق (ع) قال في تفسير قوله تعالى: " وهدوا إلى
الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد " ان الذين هدوا إلى الطيب
من القول والى صراط الحميد، هم الذين هدوا إلى أمير المؤمنين (ع)،
وان المراد من قوله تعالى: " حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم " انه
حبب إليكم أمير المؤمنين، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان، الأول
والثاني والثالث (2) إلى غير ذلك من المرويات التي دونها في المجلد الأول
من الكافي في هذا الباب من كتاب الحجة.
وبعد التتبع والدراسة الواعية يطمئن الباحث إلى أن أكثر تلك
الأحاديث لا ينسجم مع واقع أهل البيت (ع) بالإضافة إلى انها غير
جامعة لشروط الاعتماد على الرواية، لان رواة هذا النوع أكثرهم من
الغلاة المعروفين بالكذب والانحراف كما أثبتنا ذلك في الفصل الذي
عرضنا فيه تلك النماذج من رجال الجامعين.

(1) وقد ذكرنا لمحة عن تاريخ العليين علي بن أسباط، وعلي بن
أبي حمزة لذا فان هذه الرواية وأمثالها لا يقرها علماء الشيعة، ولا
تعبر عن رأيهم في مختلف العصور.
(2) ان ابطال هذه الرواية، محمد بن أرومة، وعلي بن حسان،
وعبد الرحمن بن كثير ثلاثتهم من الغلاة المشهورين، وهذا النوع من
التفسير من كتابي تفسير الباطن لعلي بن حسان ومحمد بن أرومة،
انظر ص 413 و 414 وما بعدهما، ج 1.
317

الايمان والاسلام في الكافي
ان عظمة أهل البيت (ع) تتجلى في جميع المراحل التي مروا بها،
وفي جميع مروياتهم واعمالهم وكتاب الكافي بمجموعه يعكس عظمتهم،
ويقدم للباحث عشرات الأدلة على سعة علمهم وحرصهم على توجيه
الانسان إلى ما فيه صلاحه في دينه ودنياه، ذلك لأن علمهم مستمد من علم
الرسول ومن كتاب الله الكريم، لا من الاجتهادات والأقيسة والظنون
والاستحسان التي تخطئ وتصيب.
فقد روى في الكافي عن عمر بن حريث ان أبا عبد الله الصادق (ع)
قال له: اتق الله وكف لسانك الا من خير، ولا تقل اني حديت نفسي، بل
الله هداك، فاد شكر ما أنعم الله عز وجل به عليك، ولا تكن ممن إذا
اقبل طعن في عينه، وإذا ادبر طعن في قفاه ولا تحمل الناس على كاهلك
فإنك أوشك ان حملت الناس على كاهلك ان يصدعوا شعب كاهلك (1).
وروى في باب ان الايمان يشارك الاسلام، والاسلام لا يشارك

(1) اي لا تكن من الأشرار الذين يتعرضون للذم والطعن في حضورهم
وغيابهم ولا تحملهم على كاهلك بالمداهنة والمداراة لهم، فإنك ان
فعلت ذلك يطمعوا فيك ويحملوك على خلاف الحق، وعلى ما لا
يحل لك فان هذه الكلمات من الجوامع التي تحمل في طياتها أبلغ
العظات وأصدقها وأقر بها من منطق القرآن وروح الاسلام
وسماحته.
318

الايمان، عن جميل بن صالح عن سماعة أنه قال: قلت لجعفر بن محمد
الصادق (ع) اخبرني عن الايمان والاسلام، أهما مختلفان؟ فقال: ان
الايمان يشارك الاسلام، والاسلام لا يشارك الايمان. فقلت صفهما لي:
فقال: الاسلام شهادة ان لا إله الا الله والتصديق برسول الله (ص) به
حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس،
والايمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الاسلام، وما ظهر من
العمل به.
وروى عن عبد الرحيم القصير أنه قال: كتبت مع عبد الملك بن أعين
إلى أبي عبد الله أسأله عن الايمان ما هو؟ فكتب لي مع عبد الملك، سألت
رحمك الله عن الايمان، فالايمان هو اقرار في اللسان وعقد في القلب
وعمل بالأركان، وأضاف إلى ذلك. قد يكون العبد مسلما قبل ان يكون
مؤمنا، ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما فالاسلام قبل الايمان ويشارك
الايمان، فإذا أتى العبد كبيرة من المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي
التي نهى الله عنها كان خارجا من الايمان ساقطا عنه اسم الايمان وثابتا
عليه اسم الاسلام، فان تاب واستغفر عاد إلى الايمان، ولا يخرجه إلى
الكفر الا الجحود والاستحلال ان يقول للحلال هذا حرام، وللحرام هذا
حلال، ويدين بذلك فعندها يكون خارجا من الاسلام والايمان (1).
وروى عن محمد بن حماد الخزاز عن عبد العزيز القراطيسي أنه قال:
قال لي أبو عبد الله الصادق (ع) يا عبد العزيز، ان الايمان عشر درجات

(1) وهاتان الروايتان تؤيدان الرأي القائل ان الايمان اقرار
باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، وفي مقابل ذلك الرأي المشهور
بين الامامية، وهو ان الايمان هو الاقرار بأصول الاسلام وامامة
الاثني عشر والمعاصي لا تخرج الانسان عن صفة الايمان (انظر كتابنا
الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة، الفصل الذي تعرضنا فيه للفرق
بين الاسلام والايمان).
319

بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين
لصاحب الواحد لست على شئ حتى ينتهي إلى العاشرة، ولا تسقط من
هو دونك فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة
فارفعه إليك برفق ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فان من كسر
مؤمنا فعليه جبره (1).
وقد أورد مجموعة من الروايات حول درجات الايمان وتفاوته
بمختلف الأساليب، والذي يعنيه هذا النص وغيره، ان الانسان لا يجوز
ان ينظر إلى غيره من زاويته، لان الناس يتفاوتون في تفكيرهم وعقولهم
وجميع مواهبهم، والنتيجة الحتمية لهذا التفاوت أن تكون بينهم الفوارق
والمسافات الواسعة في ايمانهم وأخلاقهم ومواهبهم، فالانسان الذي يملك
مرتبة من الفضل والايمان، ليس لمن فوقه ان ينظر إليه من زاويته ويجرده
عن ايمانه لان ذلك يؤدي إلى التنكر للفضيلة، وجحودها من الأساس،
ولأنه إذا جرد من هو دونه جرده من هو فوقه ومراتب العلم والدين
والأخلاق لا تحدها الحدود، والكمال المطلق لله وحده، وحتى ان الأنبياء
أنفسهم يشعرون بأنهم لم يصلوا إلى منتهى حدود المعرفة ويتفاوتون في
فضلهم ومعرفتهم، ولذا فان الإمام (ع) يقول: لا يقولن صاحب الاثنين
لصاحب الواحد لست على شئ، ويضيف إلى ذلك لا تسقط من هو دونك
فيسقط لي من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة لا تنظر
إليه من زاويتك، بل يجب ان تقدر له فضله، وترفع من شأنه، وتحاول

(1) وهده الرواية صريحة في أن الايمان يزيد وينقص، ولا يحصل
دفعة واحدة، بل تدريجا، ولازم ذلك أن الايمان هو الاقرار
والعمل، ولا بد للقائلين بأنه تصديق واعتقاد، ان يلتزموا بأنه لا
يزيد ولا ينقص، إذ لا يصح وصفه بالزيادة والنقصان الا إذا كان
نتيجة لفعل الانسان واعماله والفروض ان العمل الخارجي ليس
من مقوماته كما يدعى أكثر الامامية، كما وان المعاصي لا تسلب
العبد صفة الايمان إذا كان مصدقا ومعتقدا بالله ورسوله، وبما
جاء به.
320

ان ترفعه إلى مرتبتك برفق واخلاص، ولا تحمله ما لا يطيق فيخرج من
حيث أردت اصلاحه.
ولم يكتف الإمام (ع) بهذه المناهج والقواعد التي تتكون منها
الفضيلة والخلق الرفيع في نفس الانسان، بل ضرب أمثلة على ذلك، كما
جاء في رواية يعقوب بن الضحاك، ان أبا عبد الله الصادق (ع) قال
لأصحابه وهو يحدثهم عن الفضيلة ومراتبها وكيف ينبغي لكل واحد ان
ينظر إلى الآخر ويتعاون معه ليرفع مستواه، قال لهم: ان رجلا كان له
جار نصراني فدعاه إلى الاسلام وزينه له فاجابه إليه، وجاء في اليوم
الثاني عند السحر فقرع عليه بابه، ثم قال له: توضأ والبس ثوبيك لنخرج
إلى الصلاة: فتوضأ وخرج معه فصليا ما شاء الله، ثم صليا الفجر ومكثا
حتى أصبحا، فقام النصراني يريد منزله، فقال له الرجل أين تذهب؟ ان
النهار قصير، والذي بيننا وبين الظهر قليل، فجلس معه إلى أن صلى
الظهر، ثم قال له لم يبق إلى العصر الا القليل، واحتبسه إلى إذ صلى
العصر، ولما أراد ان ينصرف إلى منزله قال له: ان هذا آخر النهار،
واحتبسه حتى صلى المغرب، ثم قال له: لقد بقيت صلاة واحدة فسكت
الرجل وانتظر إلى إذ صلى العشاء، وتفرقا، فلما كان وقت السحر طرق
عليه الباب، وقال له: قم فتوضأ واخرج لنصلي، فقال النصراني: اذهب
واطلب لهذا الدين من هو افرغ مني فانا انسان مسكين ولي عيال فلا
أطيق ان أتحمل دينكم، قال أبو عبد الله الصادق (ع) أدخله في شئ
وأخرجه منه (1).
وروى في باب الطاعة والتقوى، عن عمر بن شمر عن جابر الجعفي
ان أبا جعفر الباقر (ع) قال: يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيع ان يقول:

(1) والذي عناه الامام بذلك، ان المسلم أراد أن يفرض عليه
ايمانه. فلم يتحمل فخرج من الاسلام ولم يعد إليه، ولو أنه تركه وحاول
تقوية ايمانه بالطرق المألوفة تدريجا، لكان باستطاعته ان يرفعه
إلى حيث يريد.
321

يحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا الا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا
يعرفون يا جابر الا بالتواضع والتخشع وصدق الأمانة وكثرة ذكر الله،
والصوم والصلاة، والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل
المسكنة، والغا رمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف
الألسن عن الناس الا من خير، وكانوا امناء عشائرهم في الأشياء.
قال جابر: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحدا بهذه الصفة، فقال
يا جابر: لا تذهبن بك المذاهب، حسب الرجل ان يقول: أحب عليا
وأتولاه، ثم لا يكون مع ذلك فعالا، فلو قال: اني أحب رسول الله (ص)
ورسول الله خير من علي، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه
إياه شيئا، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة
أحب العباد إلى الله عز وجل، وأكرمهم عليه اتقاهم وأعملهم بطاعته، يا
جابر والله ما يتقرب إلى الله الا بالطاعة وما معنا براءة من النار، ولا على
الله لاحد من حجة، من كان مطيعا فهو لنا ولي، ومن كان عاصيا فهو لنا
عدو، وما تنال ولايتنا الا بالعمل والورع.
وروى عن محمد بن حمزة العلوي عن عبيد الله بن علي أن
أبا الحسن الأول (ع) قال: كثيرا ما كنت أسمع أي يقول: ليس من شيعتنا
من لا تتحدث المخدرات بورعه، وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها
اثنا عشر الف رجل وفيهم من خلق الله من هو أورع منه (1).

(1) انظر ص 74 و 75 و 78 وقد تكرر مضمون هاتين الروايتين في
الكافي حسب المناسبات وذكرنا بعضها في المواضيع السابقة، وهذه
الروايات تضع الحد الفاصل بين التشيع الصحيح والمزيف وتنفى
عنه غلو المنحرفين، وأباطيل المرجفين، ودسائس الحاقدين الذين
ألصقوا به الاتهامات والبدع والخرافات، وأرادوا له ان يموت في
مهده، فلم يحقق لله لهم أمنية ولم يمدهم بالقدرة على ذلك، ورد
الله الذين كفروا بكيدهم لم ينالوا شيئا. وبرز التشيع قويا يقتحم
الصعاب ويطوي الأجيال ويثق بمبادئه النيرة الساطعة للانسان
طريق الفوز برضوان الله والسعادة الدائمة ويقدم عشرات الأدلة
على أن دعاة الحق ورسل الخير والمحبة احياء في نفوس المؤمنين
والناس أجمعين إلى قيام الساعة.
322

وروى في باب الحب في الله عن عمرو بن حورك ان النبي (ص)
قال: أوثق عرى الايمان الحب في الله، والبغض في الله، وتولي أولياء
الله، والتبري من أعداء الله.
وقال الإمام أبو جعفر الباقر (ع): إذا أردت ان تعلم أن فيك خيرا
فانظر إلى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصية الله
ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله، ويحب أهل
معصية الله فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب.
وروى عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: ثلاثة أقرب الخلق إلى الله
عز وجل يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب رجل لم تدعه قدرته في حال
غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل
مع أحدهما على الآخر بشعيرة، ورجل قال بالحق فيما له وعليه.
وروى عن عثمان بن جبلة ان أبا جعفر الباقر (ع) كان يقول إن
رسول الله (ص) قال: ثلاث خصال من كن فيه أو واحدة منهن كان في
ظل عرش الله يوم لا ظل الا ظله، رجل اعطى الناس من نفسه ما هو
سائلهم، ورجل لم يقدم رجلا ولم يؤخر رجلا حتى يعلم أن ذلك لله
رضا، ورجل لم يعب أخاه المسلم في عيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه،
فإنه لا ينفي عنها عيبا الا بداله عيب، وكفى بالمرء شغلا بنفسه عن عيوب
الناس (1).
وروى في باب البر بالوالدين عن زكريا بن إبراهيم أنه قال: كنت

(1) ص 144 و 147، ج 2.
323

نصرانيا فأسلمت وحججت، فدخلت على الإمام الصادق (ع) وقلت له:
اني كنت نصرانيا وأسلمت، فقال وأي شئ رأيت في الاسلام؟ قلت قول
الله عز وجل: " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا
نهدي به من نشاء " فقال: لقد هداك الله، ثم قال: سل عما شئت، قلت إن
أبي وأمي على النصرانية وأمي مكفوفة البصر فأكون معهم وآكل من
آنيتهم، فقال: يأكلون لحم الخنزير، فقلت لا ولا يمسونه، فقال لا بأس،
انظر أمك فبرها، وإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، وكن أنت الذي تتولى
أمرها وتقوم بشأنها، ولا تخبرن أحدا انك اتيتني حتى تأتيني بمنى إن شاء الله.
قال فاتيته بمنى والناس حوله كأنه سلم صبيان، هذا يسأله وهذا
يسأله، فلما قدمت الكوفة كنت أطعمها بيدي وأخدمها بنفسي وأتولى
جميع شؤونها كما امرني الإمام جعفر بن محمد (ع) فقالت: يا بني ما
كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني، فقلت لقد امرني بهذا رجل من ولد
نبينا يدعى جعفر بن محمد، فقالت والله ان هذه وصايا الأنبياء، اعرض
علي دينك يا بني، فعرضته عليها، فأسلمت، وأدت ما عليها من فروض
الاسلام، ثم توفيت (1).

(1) لقد اشتمل سند هذه الرواية على أحمد بن محمد البرقي، وعلى
ابن الحكم ومعاوية بن وهب وهؤلاء الثلاثة من الممدوحين في كتب
الرجال، اما الراوي الأخير لها الذي رواها عن الإمام (ع) فلم أجد
من تعرض له بمدح، أو ذم، ويظهر منها ان النهي عن مباشرة أهل
الكتاب من حيث إنهم يباشرون النجاسات كالخنزير ونحوه، لذا
فان الإمام (ع) قد رخصه بمباشرة أبويه، بعد أن تبين له انهما لا
يأكلان الخنزير، ولا يباشرانه، ومن الممكن أن تكون هذه الطائفة
من المرويات المفصلة مفسرة لبقية المرويات التي تعرضت لطهارتهم
ونجاستهم بقول مطلق، بان يراد من الأخبار الناهية عن مباشرتهم
من حيث إنهم لا يتجنبون النجاسات والاخبار التي رخصت
بمباشرتهم من حيث ذاتهم.
324

وروى في الكافي مئات الأحاديث عن النبي والأئمة (ع) حول
التعاون والتسامح والتآخي وحقوق الاخوان وصلة الأرحام والثورة على
الظلم ونبذ الأحقاد. وغير ذلك من المرويات التي تدعو إلى تهذيب النفس
وتطهيرها من الدنايا والأمراض وبخاصة التي تسئ إلى الغير ويلتقي الكافي
مع الصحيح للبخاري في أكثر هذه المواضيع من حيث الجوهر والمؤدى
ولا يضرنا الاختلاف لمني السند والأسلوب ما دامت تنتهي إلى نتيجة
واحدة تتفق مع روح الاسلام وسماحته.
325

التقية في الكافي
لقد روى الكليني في باب التقية 23 حديثا، وكلها تنص بصراحة
تأبى عن التأويل ان للانسان ان يتهرب من الضرر الموجه عليه ممن هو
أقوى منه، ولو أدى ذلك إلى موافقته فيما هو مخالف للحق أو للاعتقاد
من قول أو فعل.
ومن أمثلة ذلك ما رواه عن هشام بن سالم، عن إبراهيم الأعجمي
ان أبا عبد الله الصادق (ع) قال: يا أبا عمر ان تسعة أعشار الدين في
التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شئ الا في النبيذ والمسح
على الخفين.
وهذه الرواية كما وضعت مبدأ التقية عند الخوف من ضرر الغير،
يستفاد منها مشروعيتها في الفروع والأصول وفي كل شئ الا في النبيذ
والمسح على الخفين (1).
وروى عن جابر المكفوف، عن عبد الله بن أبي يعفور ان أبا عبد الله
الصادق (ع) قال: اتقوا على دينكم بالتقية، فإنه لا ايمان لمن لا تقية
له، إنما أنتم في الناس كالنحل في الطير، لو أن الطير تعلم ما في أجواف

(1) ولعل عدم مشروعيتها في النبيذ والمسح على الخفين من حيث إنهما
من غير المتفق على جواز استعمالهما عند جميع أئمة المذاهب الأربعة،
أو من حيث إن عدم جواز استعمالهما معروف من مذهب الإمامية.
326

النحل ما بقي منها شئ الا أكلته، ولو أن الناس علموا ما في أجوافكم من
حبنا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم في السر والعلانية، رحم
الله عبدا منكم مات على ولايتنا.
وروى عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة أنه قال: قيل
لأبي عبد الله (ع) ان الناس يروون ان عليا (ع) قال على منبر الكوفة: أيها
الناس انكم ستدعون إلى سبي فسبوني: ثم تدعون إلى البراءة مني فلا
تتبرأوا مني، فقال (ع) ما أكثر ما يكذب الناس على علي (ع) ان عليا
قال: انكم ستدعون إلى سبي فسبوني، نم ستدعون إلى البراءة مني،
واني لعلى دين محمد (ع) ولم يقل لا تتبرؤوا مني، فقال له السائل:
أرأيت ان اختار القتل دون البراءة، فقال: والله ما ذلك عليه، وماله
الا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالايمان،
فأنزل الله، الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان.
فقال له النبي (ص) يا عمار ان عادوا فعد فقد انزل الله عذرك
وأمرك ان تعود ان عادوا إليك.
وروى عن عبد الله بن أسد عن عبد الله بن عطاء أنه قال: قلت
لأبي جعفر الباقر (ع) رجلان من أهل الكوفة اخذا فقيل لهما ابرءا من علي،
فبرئ أحدهما وأبى الآخر فخلي سبيل الذي برئ وقتل لآخر، فقال (ع)
اما الذي برئ فرجل فقيه في دينه، واما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى
الجنة (1).

(1) انظر ص 217 و 218 و 220 و 221، فالذي برئ فقيه في
دينه لأنه استطاع ان يتخلص من القتل باظهار كلمة البراءة من علي وقلبه
عامر بحبه وولائه فهو كغيره من المسلمين الأولين الذين أكرههم
المشركون على البراءة من محمد (ص) ورسالته فأنزل الله فيهم
" الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان " والثاني تعجل إلى الجنة لأنه لم
يشأ ان يتنازل ولو بلسانه عن ولائه لعلي وآله الطيبين وأعطى لغيره
مثلا رائعا في البطولة والفداء من اجل الحق والعقيدة.
327

إلى غير ذلك من المرويات الكثيرة التي تؤكد مشروعيتها وتفرض
على المكلفين استعمالها في كل شئ يضطر إليه الانسان من يخر فرق بين
الأصول والفروع، الا إذا توقف التخلص من ضرر المغير على قتل انسان
مثلا، فلا تقية في مثل ذلك، لأنها شرعت للتخلص من الضرر، فإذا لزم
من استعمالها ضرر مماثل أو أقوى من الضرر الذي توعد به الظالم فلا
تحصل الغاية المطلوبة منها.
وقد جاء في رواية شعيب الحداد عن محمد بن مسلم ان أبا جعفر
الباقر (ع) قال: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فلا
نقية حينئذ.
وقد تحدث الفقهاء عن التقية في مختلف المواضيع من الفقه حسب
المناسبات وألفوا فيها الرسائل المستقلة التي تحدد موضوعها ومواردها،
حسب الزمان والمكان والأشخاص.
ومع أنها من الضرورات التي يفرضها العقل، بالإضافة إلى الشرع
الذي حث عليها كتابا وسنة، مع أنها كذلك فقد تعرض الشيعة منذ
العصور الأولى لأعنف الهجمات وأسوأ الاتهامات لأنهم يستعملونها حفظا
لدمائهم وصونا لأعراضهم كما يلتجئ غيرهم لذلك عندما تلجئه
الضرورات لمجاراة الغير تهربا من ضرره من حيث لا يشعرون.
ان فكرة التقية ليست من مختصات الشيعة، ولا من مخترعاتهم،
فالانسان بطبعه مفطور على التهرب من الضرر بما يملك من الوسائل التي
تهيئ له السلامة، وعندما يرى نفسه عاجزا عن دفعه بالقوة وبغيرها من
وسائل الدفاع، يفطر إلى مجارات من يخاف ضرره والتسليم له في الفعل
والقول، وقد أقر الاسلام هذا الأسلوب من أساليبه الدفاع عن النفس
منذ ان بزغ فجره يوم كان المسلمون الأولون يتعرضون للأذى والتهذيب
328

من القرشيين وغيرهم، وكان من أمر عمار بن ياسر أحد المعذبين، ان أظهر
لهم التراجع عن الاسلام بلسانه بعد أن رأى أن صموده وتحسبه يؤديان
به إلى الهلاك، فأقره النبي على مجاراتهم، وانزل الله فيه بهذه المناسبة
قوله الا من أكره وقلبه مطمئن للاسلام، وقال له النبي (ص): ان عادوا
فعد، فقد انزل الله فيك قرآنا، وأمرك ان تعود ان عادوا إليك.
وقال تعالى في معرض النهي عن متابعة الكافرين ومجاراتهم في
أفعالهم وأقوالهم: " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين،
ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ الا ان تتقوا منهم تقاة ".
وإذا جازت التقية في اظهار الكفر والشرك تهربا من الضرر تجوز في
غيرهما من الأصول والفروع بالأولوية.
ومهما كان الحال فالتقية تتصف بالوجوب والاستحباب والحرمة،
فتجب في موارد الضرر المترتب على المخالفة، كما وعلم المصلي مثلا بأنه
إذا لم يصل متكتفا يتعرض للإهانة والإيذاء، أو القتل ونحو ذلك من
الاضرار.
وتكون مستحبة عند توهم الضرر، أو عند العلم بحصول الضرر
اليسير الذي لا يضر بالحال.
والمحرم منها هو مجاراة الغير على ترك واجب، أو فعل حرام مع
العلم بعدم الضرر على فعل الواجب وترك الحرام، أو مجاراته على قتل
الغير والتعدي على الناس بما يضر بحالهم كما لو قتل انسانا أو قطع يده
مثلا خوفا من ضرر الحاكم، وجاء في رواية محمد بن مسلم عن
أبي جعفر (ع) أنه قال: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم
فلا تقية.
329

وقد نص الشيخ الأنصاري في رسالته التي ألفها في التقية، على أن
المدرك في وجوب التقية في موارد وجوبها، هو أدلة نفي الضرر، وحديث
الرفع الذي اشتمل على رفع ما يضطر إليه الانسان، بالإضافة إلى أدلة
التقية التي تنص على أنها واسعة وليس شئ منها الا وصاحبها مأجور
عليه.
وهذه الأدلة من حيث معذورية المكلف بمجموعها تحكم على أدلة
الواجبات والمحرمات، ولا تتعارض مع شئ منها، ذلك لان أدلة التقية
تقيد موضوع تلك الأدلة بغير موارد الاضطرار والخوف من الضرر، كما
هو الشأن في جميع الأدلة الحاكمة التي ترجع في واقعها إلى التصرف في
الأدلة المحكومة سعة وضيقا (1).
ومعنى ذلك أن أدلة الواجبات والمحرمات إذا ضممنا إليها أدلة
التقية التي ترخص في ترك بعض الواجبات أو ادخال ما لا يجوز ادخاله في
موضوع التكليف، هذه الأدلة تصبح مختصة بصورة عدم الضرر على
فعل الواجب، أو ترك الحرام، اما من ناحية صحة العمل الواقع على وجه
التقية، فان أدلة تشريعها بلحاظ ذاتها بما في ذلك قوله (ع): التقية في
كل شئ، وليس شئ أوسع منها لا يستفاد منها أكثر من الترخيص في
الاتيان بالعمل الناقص أو الزائد تهربا من الضرر المترقب ممن يخاف من
ضرره، ولا تدل على صحته أو فساده، كما هو الحال في حديثي الضرر
والرفع وأمثالهما من أدلة العسر والحرج الواردة في معرض التسهيل
والتيسير على المكلفين، والتي ترفع المؤاخذة أو الحكم حسب اختلاف
المقامات فمن اضطر إلى الصلاة متكتفا، أو مع من لا تصح معه الصلاة
ونحو ذلك، فأدلة وجوب التقية تفرض عليه ان يصلي متكتفا ومؤتما بمن
لا يصح الائتمام به ولا نظر فيها إلى كفاية هذا العمل عن الواقع وعدمها،

(1) انظر رسالة الشيخ مرتضى الأنصاري في التقية.
330

ولا بد في مثل ذلك من الرجوع إلى أدلة الاحكام التي اعتبرت الشئ جزء
أو شرطا، أو مانعا، فان كانت حسب اطلاقها تشمل حالتي الاضطرار
والخوف من ضرر الغير، فلازم ذلك فساد العمل الواقع لجهة التقية لأنه
يفقد بعض الاجزاء أو لأنه يقترن ببعض الموانع، وان لم يتسع اطلاقها
لحالتي الاضطرار والخوف من ضرر الغير يكون العمل الواقع لجهة التقية
صحيحا لا يجب اعادته في الوقت ولا قضاؤه في خارجه، ولو ارتفع العذر
المسوغ للتقية قبل خروج الوقت في الواجبات المؤقتة وكان المكلف قد
أوجد المأمور به تقية، كما لو اذن المشرع بالصلاة متكتفا، أو امره بالاتيان
بالصلاة، أو بغيرها من العبادات حسبما يراه المخالفون، ثم ارتفع العذر
المسوغ للتقية قبل مضي الوقت فقد نص الشيخ الأنصاري، بأنه لا ينبغي
الاشكال في كفاية العمل الواقع من المكلف على جهة التقية، واحتج لذلك
بان الامر بالكلي كما يسقط بفرده الاختياري كذلك يسقط بفرده
الاضطراري لو كانت أدلة الموانع ظاهرة في المانعية في حال الاختيار،
فيكون المقام شبيها بالطهارة الترابية فيما لو صلى المكلف متيمما، ثم
ارتفع العذر قبل خروج الوقت حيث إن المستفاد من تشريع التيمم عند
الخوف من استعمال الماء، أو عدم وجوده: المستفاد من ذلك جعل فردين
طوليين للطهارة هما الماء والتراب، فإذا تحقق موضوع الثاني، وصلى
المكلف متيمما بعد الإذن الشرعي بالصلاة يتعين سقوط الامر المتعلق
بالعمل المأتي به في هذه الحالة، وهكذا الحال فيما لو كانت أدلة الاجزاء
والشروط والموانع باطلاقها تشمل حالة الخوف من ضرر الغير، وأدلة
التقية التي تفرض على المكلف الاتيان بالعمل الناقص، أو المقترن بالمانع
نتيجتها تقييد اطلاق تلك الأدلة بغير موارد الخوف والاضطرار.
ثم إنه لو كان زوال العذر محتملا قبل خروج الوقت، فجواز
المبادرة إلى الاتيان بالعمل على وجه التقية مبني على أن ذوي الأعذار،
هل لهم ان يبادروا إلى الامتثال في الاجزاء الأولى من الوقت مع احتمال
331

بقاء الوقت الذي يتسع للواجب بجميع اجزائه وشرائطه بعد زوال العذر،
أم يجب عليهم الانتظار في مثل هذه الحالة ليتاح لهم أداء الواجب على
الوجه الشرعي، والمعول في مثل ذلك على الأدلة الخاصة التي تعرضت
لحال التقية موضوعا وحكما.
والذي عليه أكثر الفقهاء جواز المبادرة إلى الاتيان بالعمل تقية على
الوجه المرغوب فيه عند المخالفين، ولو كان المكلف يحتمل اتساع الوقت
لأدائه على وجهه الشرير بعد زوال الخوف الموجب للتقية، وليس ذلك
ببعيد عن بعض نصوصها.
مثل قوله في رواية إبراهيم الأعجمي ان تسعة أعشار الدين في
التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شئ الا في النبيذ والمسح
على الخفين.
وقول أبي جعفر الباقر (ع): التقية في كل شئ يضطر إليه ابن
آدم فقد أحله الله.
فان الظاهر من هذه المرويات جواز المبادرة إلى الفعل عند حصول
السبب المسوغ له، ولو احتمل زواله قبل خروج الوقت.
هذا بالإضافة إلى الموارد التي اذن فيها الشارع بمتابعتهم من غير
تقييد بحالة دون أخرى، كغسل الرجلين بدلا ش مسحهما، والتكتف في
الصلاة والائتمام بهم ونحو ذلك.
ويبدو من النصوص الفقهية ان الفقهاء بين من يرى جواز المبادرة
إلى العمل على وجه التقية وإن كان له فسحة من الاتيان به على وجهه الشرير
في محل آخر أو زمان آخر، ومن هؤلاء الشهيدان والمحقق الثاني في
كتبه الثلاثة، الروض والبيان وجامع المقاصد.
332

وبين من لا يكتفي بالعمل على وجه التقية الا إذا لم يتمكن من
الاتيان به كاملا في محل آخر أو زمان اخر، ومن هؤلاء السيد محمد
صاحب المدارك.
وبين من فصل بين الموارد المأذون بها بالخصوص، وبين غيرها مما
لم يرد فيها نص بخصوصه، كالصلاة إلى غير القبلة، والوضوء بالنبيذ،
والاخلال بالموالاة في الوضوء ونحو ذلك من الموارد التي لم يتعلق بها
اذن خاص.
والذي تؤيده بعض المرويات عن الأئمة (ع) انه لا بد وأن يكون
المكلف غير متمكن من الاتيان بالواجب على وجهه في ذلك الجزء من
الوقت بخصوصه.
فقد جاء في رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر، ان إبراهيم بن شيبة
قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني (ع) عن الصلاة خلف من يتولى عليا
وهو يرى المسح على الخفين، وخلف من يحرم المسح على الخف وهو
يمسح، فكتب (ع) ان جامعك وإياهم موضع لا تجد بدا من الصلاة
معهم فاذن لنفسك وأقم فان سبقك إلى القراءة فسبح.
وجاء في رواية ثانية عنه، لا تصلوا خلف ناصب ولا كرامية (1) الا
ان تخافوا على أنفسكم ان تشهروا أو يشار إليكم فصلوا في بيوتكم ثم
صلوا معهم واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا.
هذا بالإضافة إلى المرويات التي تنص على أن التقية في كل شئ

(1) الكرامية هم اتباع محمد بن كرام، وكان من القائلين
بالتجسيم والتشبيه، وجاء في كتابه (عذاب القبر) ان معبوده مماس للعرش
والعرش مكان له، وكان من أهل البدع والضلال، كما نص على
ذلك الأسفرايني، في التبصير، والشهرستاني في الملل والنحل.
333

يضطر إليه الانسان، إذ بمقتضى تلك النصوص انه لابد من الاضطرار
حتى يسوغ للمكلف الاتيان بالعمل على جهة التقية.
ولو افترضنا ان المكلف يتمكن من تخليص نفسه ولو بالذهاب إلى
بيته لأداء فريضته، أو بطريق اخر لا عسر فيه ولاحرج عليه في سلوكه
لا يصدق الاضطرار المسوغ للامتثال على وجه التقية.
قال الشيخ مرتضى الأنصاري: فمراعاة عدم المندوحة في الجزء
الأول من الزمان الذي يوقع فيه الفعل أقوى مع أنه أحوط، نعم تأخير
الفعل عن أول وقته لتحقق الامن والسلامة وارتفاع الخوف مما لا دليل
عليه، بل الاخبار بين ظاهر وصريح بخلافه (1).
وقد تبين من جميع ما ذكرناه ان موارد التقية لابد فيها من الخوف
على النفس أو المال من الغير القادر على الاضرار، سواء كان مسلما أو
غيره، بل وحتى لو كان من المنتسبين إلى التشيع، وإذا كان المكلف
متمكنا من التهرب من الضرر في الزمان الأول لا يصدق الاضطرار المسوغ
للاتيان بالعمل الناقص أو المخالف لمذهبه، وتؤكد أكثر النصوص انها اي
التقية واسعة لا تختص بأمر دون اخر، فكل شئ يضطر إليه الانسان
يتعين عليه مجاراة الغير فيه من غير فرق بين الأصول والفروع، وليس
شئ أدل على ذلك من موقف المسلمين الأولين مع مشركي مكة الذين كانوا
يعذبون على الاسلام ويظهرون الشرك بألسنتهم وقلوبهم عامرة بالايمان
بالله ونبوة محمد (ص).
ويؤكد ذلك ما جاء عن أمير المؤمنين (ع) في بعض وصاياه
لأصحابه، قال: وأمرك ان تستعمل التقية في دينك، فان الله سبحانه
قال:

(1) رسالة التقية للشيخ مرتضى الأنصاري.
334

لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك
فليس من الله في شئ الا ان تتقوا منهم تقاة.
وأضاف إلى ذلك، وقد أذنت لكم بتفضيل أعدائنا ان ألجأكم
الخوف إليه، وفي اظهار البراءة، وفي ترك الصلاة المكتوبة ان خشيتم
على حشاشتكم الآفات والماهات، وتفضيلكم لأعدائنا عند الخوف لا
ينفعهم ولا يضرنا، وان اظهار البراءة تقية لا يقدح فينا، ولا تبرأ منا
ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتتقي على نفسك وجهها الذي به
قوامها ومالها الذي به قيامها، وجاهها الذي به تمكنها، وتصون بذلك
من عرف من أوليائنا وإخواننا، فان ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك
وتنقطع به من عمل في الدين، وصلاح إخوانك المؤمنين، وإياك إياك ان
تترك التقية التي أمرتك بها، فإنك شاحط بدمك ودم إخوانك، معرض
لنفسك ونفوسهم الزوال، مذل لهم في أيدي أعداء الدين، وقد امرك
الله باعزازهم، وانك ان خالفت وصيتي كان ضررك على نفسك وإخوانك
أشد من ضرر الناصب لنا والكافر بنا.
وهذه الرواية تتعارض مع الرواية المروية عنه (ع)، والتي جاء
فيها. انكم ستعرضون على سبي، فسبوني، ومن عرض عليه البراءة
مني فليمدد عنقه، فان برئ مني فلا دنيا له ولا آخرة.
ولكن الذي يوهن هذه الرواية، انها عرضت على الإمام الصادق (ع)
فأنكرها وقال: ما أكثر ما يكذب الناس على علي (ع).
ونحن إذا لاحظنا الحوادث وملابساتها منذ فجر الخلافة الاسلامية،
وتتبعنا تاريخ الشيعة وأئمتهم والظروف القاسية التي مرت عليهم وما
لاقوه من التعذيب والظلم والجور في جميع الأدوار والمراحل التي مروا
بها، لا نستطيع ان نفاضل بين عصر وعصر، ولا بين حاكم وحاكم، ففي
335

الشطر الأول من العهد الأموي، لم يكن يعني معاوية واتباعه شئ غير
مطاردة الشيعة والتنكيل بهم في مختلف أنحاء البلاد واكراههم على سب
علي والبراءة منه ومن أبنائه، فلم يسلم منهم الا من تستر بعقيدته وأظهر
مجاراتهم في القول والفعل، ونسج على منواله جميع الأمويين وعمالهم
نحوا من قرن من الزمن تقريبا، ولما جاء دور العباسيين، وهم الأقربون
لعلي وآله (ع) ترقب الشيعة انها ساعة الخلاص من ذلك العهد الجائر
وقبل ان تمتلئ رئتاهم من النفس المريح، وإذا بالحكام الجدد الذين
تستروا أولا بمكافحة الظلم، وتباكوا على القتلى من بني عمومتهم،
يمارسون أسلوب أسلافهم بأقبح الصور، وبشكل لم يهتد إليه سلفهم
" الصالح من قبل " حتى قال القائل:
يا ليت جور بني مروان دام لنا وليت عدل بني العباس في النار
وهكذا توالت عليهم النكبات من السلاجقة إلى الأيوبيين، إلى
الأتراك، ولم يتنفسوا من ظلم الحاكم الذي حكم باسم الدين والاسلام
نحوا من ثلاثة عشر قرنا، الا بعد أن تقلص عهد الأتراك البغيض المملوء
بالمخازي والمفاسد، وجاء عهد الانتداب، ومن ثم عهد الاستقلال، العهد
الذي تبدل فيه نوع الحكم، فأحس الشيعة في جميع الأقطار وبخاصة في
لبنان بوجودهم وتفتض لهم نوافذ الحرية، ولكن رواسب تلك العهود
البغيضة ظلت تسيطر على الملايين من المسلمين، وبقي الكتاب من خلالها
ينظرون إلى الشيعة نظرة الحاقد الحسود الذي لا يبصر الا من زاوية
نفسه المعقدة المظلمة فكتبوا عنهم واتهموهم بشتى الالهامات وألصقوا
بهم البدع جزافا وبلا حساب، ولا سبب لذلك الا ان التشيع لا يقر
الحكومة التي لا تقوم على أساس العدل وإحقاق الحق، ولا يعترف باي
سلطة لا تضمن حرية الفرد والجماعة، وتحمي الشعوب من الاستغلال
والجشع ونشر الفوضى، وتحرص على كرامة الانسان وتهيئ له الحياة
الحرة الكريمة مهما كان لونه ونوعه.
336

صحيح ان ما قيل عن الشيعة، وما كتب عنهم ولا يزال المتقولون
والكتاب يجترونه في كل عصر وزمان، هو من صنع تلك العصور المظلمة
الجائرة، ولكن قد باء الوقت المناسب لتجاهل تلك المزامير التي تغنى
بها أسلافهم قرونا وأجيالا، ولأن يملوها كما ملوا من كل قديم لا تفرضه
الحياة في مختلف نواحيها، وان يدرسوا التاريخ ويحاكموه بوعي
وانصاف وتجرد، ونحن على ثقة بأنهم لو فعلوا ذلك سيتراجعون عن أكثر
مدونات التاريخ وأراجيف الحكام وشيوخ السوء، وسيعلمون ان التقية
التي اعتبروها من عيوب التشيع، يفرضها الواقع، ويحكم بها العقل في
مثل تلك الظروف التي أحاطت بالشيعة دون سواهم، وقد ساعدت على
بقاء الأديان وانتشارها أولا وأخيرا، في حين هي أبعد ما تكون عن
الباطنية والسرية والرياء، كما يزعم بعض المؤلفين من السنيين وغيرهم.
فالباطنية مذهب له أصوله وقواعده عند مبتدعيه وواضعيه يتنافى
مع أصول الاسلام وقواعده، وقد كمر أئمة الشيعة المعتنقين لهذه الفكرة
والمرائين، وعدوا الرياء نوعا من الشرك كما جاء في مروية يزيد بن خليفة
عن الإمام الصادق (ع) (1).
ان التقية دعوة إلى الخلود والسكينة، وليست شيئا آخر وراء
مجاراة الغير تهربا من شره وضرره حتى يتهيأ الوقت المناسب للوقوف في
وجه الطغيان والفساد مع العلم بان جميع الأديان والطوائف تقر مبدأ
التقية، وتدفع المهم بالأهم وتقدم الفاسد على الأفسد، وتأخذ بقاعدة
دفع المفاسد أولى من جلب المصالح.
والسنة أنفسهم يقرونها ويعملون بها لدفع الاضرار والمفاسد وجلب
المصالح والمنافع، فقد جاء في الجزء الثالث من احياء العلوم للغزالي،
(باب ما رخص فيه الكذب).

(1) انظر ص 293، ج 2، من الكافي.
337

جاء فيه، ان عصمة دم المسلم واجبة، فإذا كان القصد سفك دم
مسلم قد اختفى من ظالم، فالكذب فيه واجب.
وقال الرازي: وهو يفسر قوله تعالى: (الا ان تتقوا منهم تقاة)
قال: روي عن الحسن أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة،
وأضاف إلى ذلك. ان هذا القول هو الأولى، لان دفع الضرر عن النفس
واجب بقدر الامكان وأنكر الشاطبي في الموافقات على الخوارج القائلين
بان سورة يوسف ليست من القرآن، وان التقية لا تجوز في قول أو
فعل، واكد مشروعيتها في موارد الحاجة إليها.
وقال جلال الدين السيوطي في الأشباه والنظائر: يجوز أكل الميتة
في الخمصة، وإساغة اللقمة في الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر، ولو عم
اسرام قطرا، بحيث لا يوجد فيه حلال الا نادرا فإنه يجوز استعمال ما
يحتاج إليه.
وقال أبو بكر الجصاص: في تفسير قوله تعالى: " الا ان تنقوا منهم
تقاة " اي ان تخافوا تلف النفس، أو بعض الأعضاء، فتتقوهم باظهار الموالاة
من غير اعتقاد لها، وهذا هو الظاهر من الآية الكريمة، وعلى ذلك الجمهور
من أهل العلم، وأضاف إلى ذلك أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة
في تفسير قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون الله "
قال: لا يحل لمؤمن ان يتخذ كافرا وليا في دينه، وقوله تعالى: " الا ان
تتقوا منهم تقاة " هذه الآية تدل على جواز اظهار الكفر عند التقية.
وجاء في الجزء الرابع من السيرة الحلبية. ان رسول الله (ص) لما
فتح خيبر، قال له حجاج بن علاط: يا رسول الله ان لي بمكة مالا وان لي
اهلا، وانا أريد ان آتيهم، فانا في حل ان انا نلت منك، وقلت شيئا، فاذن
له رسول الله ان يقول ما شاء.
338

إلى غير ذلك من النصوص الفقهية والتاريخية الكثيرة الواردة في
كتب مشاهير أهل السنة، والتي يستفاد من خلالها بان التقية من
الضرورات التي لا يمكن الاستغناء عنها والتنكر لها بحال (1).
والشئ الغريب ان بعض السنة مع وجود هذه النصوص والتصريحات
في كتبهم يعدونها من عيوب الشيعة، وينعتونها بالرياء تارة والدجل
والباطنية أخرى ونحو ذلك من النعوت التي ان دلت على شئ فإنها تدل
على أنهم يحاولون ولو بالتمويه والتضليل والافتراء التشنيع على الشيعة
واظهارهم على غير واقعهم ولو بهذه الأساليب المفضوحة.

(1) انظر الشيعة والتشيع، ص 51، شيخ محمد جواد مغنيه،
والموافقات للشاطبي، ص 180، ج 4، والأشباه والنظائر
ص 76، والجزء الثاني من احكام القران للجصاص ص 10،
والجزء الثالث من السيرة الحلبية ص 61.
339

من هنا وهناك
وروى الكليني في باب الكفر، عن مسعدة بن صدقة أنه قال،
سئل الإمام الصادق (ع) ما بال الزاني لا تسميه كافرا وتارك الصلاة قد
سميته كافرا وما الحجة في ذلك؟ فقال: لان الزاني وما أشبهه إنما يفعل
ذلك لمكان الشهوة لأنها تغلبه، وتارك الصلاة لا يتركها الا استخفافا
بها، وذلك لأنك لا تجد الزاني يأتي المرأة الا وهو متلذذ لاتيانها قاصد
إليها، وكل من ترك الصلاة قاصدا لذلك، فلا يكون قصده لتركها
مستندا إلى اللذة، وإذا انتفت اللذة وقع الاستخفاف، وإذا وقع
الاستخفاف وقع الكفر (1).
وروى عن أبي مسروق أنه قال: سألني أبو عبد الله الصادق (ع)
عن أهل البصرة، فقال لي ما هم؟ قلت مرجئة وقدرية وحرورية، فقال:

(1) من المعلوم ان الإمام (ع) لم يقصد بذلك ان ترك الصلاة
يلازمه الاستخفاف بالله دائما بل قصد من ذلك أن دواعي الترك في الغالب
هي الاستخفاف وعدم المبالاة بأوامره ونواهيه سبحانه، إذ لا داعي
إلى تركها سوى ذلك في الغالب، وهذا بخلاف الزنا ونحوه من
المعاصي، فان الشهوة في الغالب تستحوذ عليه وتتغلب على ارادته
الخيرة فتدفعه إلى المخالفة والعصيان.
340

لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة التي لا تعبد الله على شئ (1).
وروى في باب الضلال عن عبد الرحمن بن الحجاج عن هاشم صاحب
البريد أنه قال: تنازعنا انا ومحمد بن مسلم وأبو الخطاب فيمن لا يعرف
هذا الامر (اي الامام)، فلما حججت دخلت على أبي عبد الله (ع)
وأخبرته بما جرى. فقال: انك قد حضرت وغابا، ولكن موعدكم الليلة
فلما اجتمعنا عنده تناول وسادة ووضعها في صدره، ثم قال لنا ما تقولون
في خدمكم ونسائكم وأهليكم أليس يشهدون ان محمدا رسول الله (ص)
قلت: بلى قال أليس يصلون ويصومون ويحجون قلت: بلى، فيعرفون ما
أنتم عليه قلت لا، قال فما هم عندكم: قلت من لم يعرف هذا الامر فهو
كافر، قال سبحان الله: اما رأيت أهل الطريق، وأهل المياه قلت: بلى قال
أليس يصومون ويصلون ويحجون، أليس يشهدون ان لا إله الا الله
وأن محمدا رسول الله قلت بلى: قال فيعرفون ما أنتم عليه قلت لا، قال
فما هم عندكم؟ قلت من لم يعرف هذا الامر فهو كافر، وهكذا مضى
الإمام (ع) يعدد له أصناف الناس على اختلاف حالاتهم ممن يؤمن بالله
ورسوله في معرض الانكار على من يسلب عن المسلمين صفة الاسلام لمجرد
انهم لا يقولون بما يقوله الشيعة في الولاية، وأخيرا وبعد ان لمس منهم
الاصرار والتصلب في ادعائهم، قال: سبحان الله هذا قول الخوارج،

(1) المرجئة هم القائلون بأنه لا يفر مع الايمان بالله معصية،
والقدرية هم المفوضة القائلون بأن الافعال من صنع العبد وليس لله رأي بها
ولا مشيئة، والحرورية هم الخوارج، وقد أعطاهم المؤرخون هذا
الاسم، لأنهم في أول أمرهم قد اجتمعوا في قرية تدعى حروراء في
جوار الكوفة، وذلك بمد فشل مؤتمر التحكيم الذي دعا إليه
معاوية بعد أن أحس بالهزيمة وتبناه القسم الأكبر من الجيش
الذي كان يحارب في صفين مع علي (ع) ومن بين هؤلاء قادة الحرورية
الذين أغروا الناس بالخروج على علي (ع) وزينوا لهم التمرد
والعصيان.
341

وأضاف إلى ذلك: انه لشر عليكم ان تقولوا بشئ ما لم تسمعوه منا (1).
وروى في باب صنوف أهل الخلاف من المرجئة والقدرية، والخوارج
عن مروك بن عبيد، ان أبا عبد الله الصادق (ع) قال: لعن الله القدرية
والخوارج والمرجئة، لعن الله المرجئة، لعن الله المرجئة.
فقال له الراوي: لعنت الخوارج والقدرية مرة ولعنت المرجئة مرتين
قال (ع): ان المرجئة يقولون: بأن قتلتنا مؤمنون، ودماؤنا متلطخة
بثيابهم إلى يوم القيامة، ان الله حكى عن قوم في كتابه انهم قالوا: " لن
نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، قل قد جاءكم رسل من قبلي
بالبينات، فلم قتلتموهم ان كنتم صادقين " وكان بين القاتلين والقائلين
خمسمائة عام، فألزمهم الله القتل برضاهم بما فعلوا.
والقدرية والمرجئة فرقتان ظهرت طلائعهما في العهد الأموي:
ويرجح المؤلفون في الفرق والمعتقدات ان أول من تكلم بالقدرية رجل من
أهل العراق كان نصرانيا دخل في الاسلام ورجع عنه، ومنه اخذ معبد
الجهني وغيلان الدمشقي، فتولى معبد نشر فكرة القدر بمعنى ان الانسان
مختار اختيارا مطلقا في أفعاله يصنعها كما يريد من نكير ان يكون لله مشيئة
في ذلك، هذا المعنى من القدر تولى نشره معبد الجهني في العراق، واتجه
غيلان الدمشقي إلى نشره والتبشير به في جهات الشام، وانضم معبد
الجهني أخيرا إلى عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته ضد الأمويين، فوقع

(1) انظر ص 410 و 402 من المجلد الثاني، والذي عناه
الإمام (ع) بقوله: هذا قول الخوارج، ان انكار الولاية، أو الجهل بها لا
يوجب الكفر، ما دام المسلمون يقرون لله بالوحدانية، ولمحمد
بالنبوة، ويؤدون الفرائض، ولا يشترط في الاسلام أكثر من الاقرار
بالشهادتين، وعدم الانكار لشئ من الضروريات، وتكفير المسلمين
لمجرد انهم لا يقرون بامامة الأئمة يشبه رأي الخوارج حيث كفروا
جميع المسلمين لأنهم لم يوافقوهم في آرائهم ومعتقداتهم.
342

أسيرا بيد الحجاج بن يوسف، بعد أن انهزم ابن الأشعث في المعارك التي
دارت بينه وبينهم، فأرسله إلى عبد الملك بن مروان فقتله صلبا.
واما غيلان الدمشقي، فقد جرت بينه وبين عمر بن عبد العزيز
مناظرات حول القدر فأقنعه بفساد هذه المقالة، وأظهر التراجع عنها، فولاه
عمر بن عبد العزيز بيع خزائن ملوك أسلافه الأمويين، وكان يكثر من سبهم
والتشهير بمخازيهم وبالمنكرات التي ارتكبوها، فأضمرها له هشام بن
عبد الملك ولما تمكن منه في أيام خلافته قطع يديه ورجليه (1).
ومن الثابت ان الحكام كانوا يطاردون أنصار هذه الفكرة لأنها
تحملهم مسؤولية أعمالهم ومنكراتهم، ويتضح ذلك عندما نقارن بين
قسوتهم مع هؤلاء وبين اكرامهم للقائلين، بان القدر هو القضاء المحتوم
على العباد والانسان لا يملك من امره شيئا. كما يدعى الجعد بن درهم،
اخذ الدعاة للقدر بهذا المعنى، الملازم للأمويين، والمعلم لأولادهم، ومنه
اخذ هذه المقالة الجهم بن صفوان الداعية الثاني لها، مع العلم بان القدر
بالمعنى الأول ليس بأسوأ من المعنى الثاني (2) ومع ذلك فقد بالغوا في
اكرامه والاحسان إليه.
ومهما كان الحال، فالإمام (ع) قد لعن المفوضة ووصفهم بالشرك
في بعض المرويات، لان التفويض يلزمه التعطيل وعدم الحاجة إلى بعث
الرسل.
وفي العصر الذي، ظهر فيه القدرية شاعت فكرة الارجاء، وتطوع
لحمايتها الحكا م لأنها تعطيهم صفة المؤمنين الأبرار في وقت يجدون أنفسهم

(1) الانتصار لابن الخياط، ص 139.
(2) لان القدر بمعنى التفويض يلزمه تعطيل إرادة الله سبحانه وعزله
عن سلطانه، والقدر بالمعنى الثاني يلزمه عدم استحقاق الانسان
للثواب والعقاب على الطاعات والمعاصي لأنه لا يملك من امره شيئا.
343

في أمس الحاجة إليها لأنها تحمي ايمانهم من هجمات الخوارج المكفرين
لكل من خالفهم ولم يشترك معهم في الثورة على الأمويين، ومن هجمات
المعتزلة التي تنفي عن العصاة صفتي الايمان والكفر، ومن حملات
المحدثين والفقهاء الذين كانوا يصفونهم بالفسق والنفاق.
في هذا الجو المشحون بالصراع العقائدي ظهرت فكرة الارجاء التي
تنص إلى أن الايمان لا يعتبر فيه أكثر من الاقرار باللسان. ولا تضر معه
المعاصي والمنكرات مهما بلغت وكان نوعها، بل حتى ولو عبد الأوثان،
ولازم اليهودية والنصرانية، كما نسب ذلك لبعضهم، والارجاء الذي
يمنح العصاة صفة القديسين، ويفتح الباب امامهم لجميع المعاصي
والمنكرات، هذا النوع من الارجاء لأنه يطمع الفساق والمستهترين في
عفو الله ويشجعهم على المعاصي، لعن الإمام (ع) أنصاره وشدد على
معتنقيه والقائلين به.
ان المرجئة الذين يمنحون يزيد بن معاوية وأباه صفة العاملين بكتاب
الله والمتبعين لسنة رسول الله وسيرة أوليائه، ويكذبون الكتاب والسنة
الذين وصفا العصاة بالفسق والنفاق، وتوعدا العامي بالعقاب الشديد
والعذاب الأليم، هؤلاء هم الشركاء لجميع العصاة في عصيانهم ومخازيهم،
وأكثر ضررا من الخوارج والقدرية وأحق باللعن والخزي منهم.
واما الخوارج فالشذوذ الجامع بين جميع فرقهم، هو تكفير جميع
المسلمين حيث إنهم لهم يشتركوا معهم في ثورتهم ضد الحكام، ولم يقروا
جميع آرائهم وتصرفاتهم (1).

(1) لقد عقدنا فصلا خاصا في كتابنا (الشيعة بين الأشاعرة
والمعتزلة) عن الخوارج، وعرضنا فيه الجوانب المهمة من تاريخهم وفرقهم
وتشريعاتهم، والأسباب التي أدت إلى فشلهم مع ايمانهم بمبادئهم
وتصلبهم في تنفيذها مهما كان الثمن غاليا.
344

من مرويات الكافي حول القرآن
لقد خصص الكليني فصلا كبيرا من المجلد الثاني للمرويات التي
تشيد بفضل القرآن ومكانته وتلاوته واقتنائه وحفظه، والاعتصام به،
مما يؤكد حرص الأئمة (ع) على تعظيمه وتقديسه والعمل به والاستفادة
من حكمه وآدابه وتعاليمه، وليس بوسعنا ان نستقصي جميع ذلك،
ولا جميع مرويات الكافي التي أحاطت بجميع نواحي الخير والفضيلة
والأخلاق، وعالجت جميع المشاكل ووضعت لها الحلول التي تتناسب مع
جميع العصور.
وقد رأيت أن اختم كتابي هذا ببعض المرويات التي تشعر بتحريف
القرآن، وعليها قد اعتمد من نسب القول بالتحريف إلى الشيعة وأئمتهم
واسقاط بعض الآيات منه.
فمن ذلك ما رواه في باب النوادر عن الأصبغ بن نباتة ان
أمير المؤمنين (ع) كان يقول: نزل القرآن أثلاثا، ثلث فينا وفي عدونا، وثلث
سنن وأمثال، وثلث فرائض واحكام.
وقد استنتج من نسب القول بالتحريف إلى الشيعة من هذه الرواية
ان الثلث الذي هو في أهل البيت وأعدائهم، قد أسقط من القرآن، بنظر
الشيعة لان الموجود بين أيدي المسلمين لم يشتمل على هذا النوع من
الثلث صراحة وقد فاتهم ان الذي يعنيه الإمام (ع) بهذه الرواية من الثلث
345

الأول على صحتها هم ومن كان من سنخهم من المؤمنين والطيبين الذين
طبقوا مبادئهم وعملوا بما جاء به الأنبياء والمرسلون، ويعني بعدوهم كل
منحرف عن الحق لا يؤمن بيوم الحساب، ولا يعمل بما أمر الله ورسوله،
فالآيات التي تعرضت للطيبين والمسارعين إلى الخيرات والأعمال الصالحات
نزلت فيهم، لان من كان بهذه الصفات فهو منهم بعمله وروحه وايمانه
بمبادئهم التي دعا إليها الاسلام وجميع الأديان ونص عليها القران لا فرق
في ذلك بين الأبيض والأسود والعربي وغيره، ولذلك وحده كان سلمان
من أهل البيت وتأكيدا لهذا المبدأ قال الرسول (ص): سلمان من أهل البيت
.
والآيات التي تعرضت للأشرار والفجار والمنافقين في اي عصر كانوا
هي في عدوهم، ولو سبقهم بعشرات القرون، لأنهم لا يعادون الا في
الله، ولا يحبون الا في الله.
ويؤيد ذلك ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال
: يا محمد إذا سمعت الله ذكر أحدا من هذه الأمة بخير فنحن هم،
وإذا سمعت الله ذكر قوما بسوء ممن مضى فهو عدونا.
وجاء عنه (ع) أنه قال: نزل القرآن أثلاثا ثلث فينا وفي محبينا،
وثلث في أعدائنا وأعداء من كان قبلنا، وثلث سنن وأمثال، ولو أن الآية
إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شئ
ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض، ولكل
قوم آية يتلونها هم منها في خير أو شر (1).

(1) والمراد من ذلك أن الآية قد يكون موردها خاصا أحيانا، ولكن
حكمها يسري على من كان سنخ موردها ولو بعد نزولها بعشرات
السنين.
346

هذا بالإضافة إلى أن الرواية من حيث سندها ليست مستوفية
للشروط المطلوبة، لان الراوي لهذه الرواية عن الأصبغ بن نباتة كان من
المعاصرين للإمام الصادق (ع) كما يظهر من كتب الرجال وبينه وبين
الأصبغ أكثر من سبعين عاما، وقد رواه عنه بدون واسطة، وهذا من
نوح التدليس في الرواية الموجب لضعفها، وفوق ذلك فهو من المتهمين
بالوضع عند المؤلفين في الرجال.
وقد روى داوود بن فرقد عن أبي عبد الله الصادق (ع) بسند أقرب
إلى الصحة من الحديث السابق، ان القرآن نزل أربعة أرباع، ربع حلال،
وربع حرام، وربع سنن واحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون
بعدكم، وفصل ما بينكم.
وهذه تنافي الرواية السابقة التي قسمته أثلاثا، ونصت على أن الثلث
الأول نزل في أهل البيت وأعدائهم.
وإذا كان الثلث الأول فيهم وفي أعدائهم بأسمائهم واشخاصهم كما
يقتضيه الجمود على ظاهر الرواية، فلماذا لم يحتج عليهم أمير المؤمنين (ع)
في الأيام الأولى بعد وفاة الرسول (ص) بذلك الثلث، مع أنه وقف معهم
موقف الخصم المطالب بحقه، واحتج عليهم بمختلف الأساليب، ولم
يحدث التاريخ عنه أو عن أصحابه وبنيه انهم احتجوا بذلك، ولو صحت
الرواية وكان المراد منها المعنى الظاهر لكانت تلك للآيات من أقوى الحجج
الدامغة لهم ولكل أفاك أثيم.
ومهما كان الحال فالرواية على تقدير صدورها عن الإمام (ع) تشير
إلى ما ذكرناه أولا.
وروى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر أنه قال: دفع إلي
347

أبو الحسن (ع) مصحفا وقال: لا تنظر فيه، ففتحته وقرأت فيه، لم يكن
الذين كفروا ووجدت فيها سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم،
فبعث إلي أبو الحسن (ع) ابعث إلي بالمصحف.
وروى عن عبد الرحمن بن أبي هاشم عن سالم بن أبي سلمة أنه قال
: قرأ رجل على أبي عبد الله (ع) وانا استمع حروفا من القرآن ليس
على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد الله: كف عن هذه القراءة، واقرأ كما
يقرأ الناس حتى يقوم القائم، فإذا قام قرأ كتاب الله عز وجل على حدة،
واخرج المصحف الذي كتبه علي (ع)، وأضاف إلى ذلك. ان عليا
أخرجه إلى الناس حين فرغ من كتابته، فقال لهم، هذا كتاب الله عز
وجل كما أنزله الله على محمد (ص) وقد جمعته من اللوحين، فقالوا
هوذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن، لا حاجة فيه، فقال: اما والله ما
ترونه بعد يومكم هذا ابدا، إنما علي ان أخبركم حين جمعته لتقرؤوه (1).
وروى في كتاب الحجة من المجلد الأول بعض المرويات التي تشير
إلى تحريفه، وقد عرضنا قسما منها في الصفحات السابقة وأبدينا حولها
بعض الملاحظات التي لا مفر منها ونبهنا على أن رواتها من الغلاة والمنحرفين
عن مخطط التشيع الصحيح لأهل البيت (ع).
ومن هذه المرويات التي أوردها الكليني وغيره من المحدثين في
مجاميعهم تعرض الشيعة وبخاصة الكليني لأعنف الهجمات من السنة
وبالغوا في التشنيع عليهم إلى حد الغلو والافراط الذي لا مبرر له،
وزعموا أن للشيعة قرآنا غير القرآن الموجود بين أيدي المسلمين، ووصف
الشيخ أبو زهرة الكليني بالنفاق والخروج عن الدين، ودعا إلى التشكيك
بجميع مرويات الكافي، لأنه دون فيه هذا النوع من الأحاديث، مع العلم
بان محدثي السنة دونوا في صحاحهم وغيرها أحاديث من هذا النوع لا

(1) انظر ص 627 و 628 و 631 و 623.
348

تقبل التأويل والتوجيه كما يبدو من المرويات التالية التي دونها البخاري
في صحيحه.
فقد جاء في المجلد الثاني منه عن إبراهيم بن علقمة أنه قال: دخلت
في نفر من أصحاب عبد الله الشام فسمع بنا أبو الدرداء فأتانا وقال: أفيكم
من يقرأ القرآن فقلنا نعم: فقال فأيكم اقرأ فأشاروا إلي، فقرأت والليل
إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى، قال: أنت سمعتها من في
صاحبك قلت نعم: قال وانا سمعتها من في النبي (ص) وهؤلاء يأبون
علينا. وما خلق الذكر والأنثى.
وفي رواية ثانية ان أبا الدرداء قال لعلقمة كيف سمعته يقرأ والليل
إذا يغشى، قال علقمة: والذكر والأنثى، قال أبو الدرداء: اشهد اني
سمعت النبي (ص) يقرأ هكذا، وهؤلاء يريدوني على أن اقرأ وما خلق
الذكر والأنثى، والله لا أتابعكم على ذلك.
وروى في المجلد الثاني رواية بهذا المضمون أيضا (1).
وروى في المجلد الرابع عن عبد الله بن عباس أنه قال: قدمنا المدينة
عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجلنا الرواح حين زاغت الشمس
فوجدت سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست
حوله تمس ركبتي ركبتيه، فلم أنشب ان خرج عمر بن الخطاب، فلما
رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف،
فأنكر علي وقال ما عسيت ان يقول ما لم يقله قبله، فجلس عمر بن الخطاب
على المنبر، فلما سكت المؤذنون قام فاثنى على الله بما هو أهله ثم قال:
اما بعد فاني قائل مقالة قد قدر لي ان أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي
فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي ان لا

(1) انظر ص 215، ج 3، و 307، ج 2.
349

يعقلها فلا أحل لاحد ان يكذب علي، ان الله بعث محمدا بالحق وانزل
عليه الكتاب فكان مما انزل عليه آية الرجم فعقلناها ووعيناها، رجم
رسول الله ورجمنا بعده، وأخشى ان طال بالناس زمان ان يقول قائل:
والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فضيلة أنزلها الله.
والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء
إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، وكنا نقرأ فيما نقرأ من
كتاب الله، ان لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ان ترغبوا عن آبائكم.
وروى أيضا عن عكرمة، ان عمر بن الخطاب قال: لولا أني أخشى
ان يقول الناس: زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبت آية الرجم
بيدي (1).
وجاء في النصوص التي تعرضت لها. ان زيد بن ثابت لم يدون
اية الرجم في كتاب الله حينما أوكل إليه أمر جمع القرآن، لأنه كان لا
يدون آية الا بشهادة عدلين، ولم يكتف بشهادة عمر وحده، في حين ان
آخر سورة براعة لم توجد الا مع خزيمة بن ثابت، فقال أبو بكر اكتبوها:
فقد جعل رسول الله شهادته بشهادة رجلين.
وروى في المجلد الثاني عن انس بن مالك ان النبي (ص) دعا على
الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين غداة، على رعل وذكوان وعصية
عصت الله ورسوله، وأضاف إلى ذلك انس، ان الله انزل في الذين قتلوا
بئر معونة قرآنا قرأناه ى ثم نسخ بعد (بلغوا قومنا ان قد لقينا ربنا فرضي
عنا ورضينا عنه) (2).

(1) انظر ص 179 و 265، ج 4.
(2) ص 140، ج 2 ولابد من التنبيه على أن النسخ إنما يكون بالنسبة
إلى الاحكام واما الألفاظ والصيغ فلا نسخ فيها ولذا فان الآيات
التي نسخ حكمها في القرآن لم تقد من أصل القرآن ولم تخرج
عن كونها قرآنا منزلا من الله سبحانه.
350

وقد ذكرنا سابقا عن مصحف عائشة كما جاء في الاتقان، وانها تدعى
بان الله انزل في القرآن، ان الله وملائكته يصلون على النبي، وعلى
الذين يصلون الصفوف الأولى.
وجاء في بداية المجتهد لابن رشد وغيرها، ان القرآن نزل بعشر
رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله
وهن فيما يقرأ من القرآن، كما جاء في رواية السيدة عائشة.
مع العلم بأنه ليس في القرآن ما يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد.
وجاء في الاتقان للسيوطي، عن المسور بن مخزمة ان عمر بن
الخطاب قال لعبد الرحمن بن عوف: لم نجد فيما انزل علينا، ان جاهدوا
كما جاهدتم أول مرة، فانا لا نجدها، قال: أسقطت فيما أسقط من
القرآن.
وجاء في صحيح مسلم. ان أبا موسى الأشعري بعث إلى قراء أهل البصرة
، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال أنتم خيار
أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما
قست قلوب من كان قبلكم، وانا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول
والشدة ببراءة فأنسيتها غير اني قد حفظت منها، لو كان لابن آدم واديان
من مال لابتغى غيرهما واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن ادم الا التراب وكنا
نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير اني حفظت منها، يا
أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم
فتسألون عنها يوم القيامة (1).
إلى غير ذلك من المرويات عند السنة في صحاحهم وغيرها، ومع
ذلك فقد تجاهلوا جميع هذه المرويات ونسبوا القول بالتحريف إلى

(1) البيان في التفسير للسيد الخوئي عن مسلم، ج 3، ص 100.
351

الشيعة وحدهم، مع العلم بان علماء الشيعة تمشيا مع المخطط الذي
وضعه أئمتهم لا يزالون منذ أقدم العصور الاسلامية ينكرون هذه
النسبة في كتبهم ومناظراتهم، ويجادلون أصحاب هذه المقالة بالحجج
والبراهين، ويثبتون بالأدلة التي لا تقبل الريب ان القرآن الموجود بين
المسلمين هو المنزل على محمد (ص) من غير زيادة أو نقصان، لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا ينكرون وجود بعض المرويات في
الكافي وغيره حول هذا الموضوع، ولكنهم يرون ان أكثر تلك المرويات
مكذوبة على الأئمة (ع) لان رواتها من الغلاة والباطنية كما أشرنا إلى
ذلك في المباحث لسابقة والصحيح منها ليس صريحا في التحريف بمعنى
النقصان لامكان ان يكون المراد منه تحريف المعاني مع الاحتفاظ بالصيغة
والألفاظ.
ويؤيد هذا المعنى ما جاء في رواية سعد الخير التي رواها في الكافي
عنه، ان أبا جعفر الباقر كتب إلى سعد الخير كتابا أوصاه فيه بتقوى الله،
وجاء فيه، وكان من نبذهم الكتاب ان أقاموا حروفه وحرفوا حدوده،
فهم يروونه ولا يرعونه.
وهذه الرواية تفسر التحريف الوارد في بعض مرويات الكافي وغيره
من كتب الحديث والتفسير.
ومن خصوص الزيادة الموجودة في مصحف علي (ع) كما جاء في
بعض المرويات، لو تغاضينا عن العيوب الموجودة في أسانيدها والتزمنا
بصحتها من ناحية السند، فلا بد وأن تكون الزيادات المزعومة من قبيل
التفسير والتوضيح للمراد من تلك الآيات عن طريق الوحي أو النبي (ص)
كما نص على ذلك جماعة من علماء الإمامية.
ويدل على ذلك ما جاء في الكافي عن أبي بصير أنه قال: سألت
352

أبا عبد الله الصادق (ع) عن قوله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم ". فقال: نزلت في علي والحسن والحسين (ع) قلت
له: ان الناس يقولون: فما له لم يسم عليا والحسن والحسين في كتاب
الله؟ قال: قولوا لهم: ان رسول الله نزلت عليه الصلاة ولم يسم لهم
ثلاثا ولا أربعا حتى كان رسول الله هو الذي فسر ذلك لهم.
هذا بالإضافة إلى أن عليا والمتخلفين معه عن بيعة أبي بكر لم
يحتجوا على أحد بورود هذه الأسماء في القرآن الكريم ولو كان له
ولأبنائه ذكر صريح في كتاب الله، لكان احتجاجهم بذلك أجدى وأنفع
من جميع الحجج التي استدلوا بها على استخلافه بعد النبي (ص) كما
ذكرنا سابقا.
ومهما كان الحال فروايات التحريف رواها بعض محدثي الشيعة
كالكليني وغيره، ورواها أهل السنة في صحاحهم كالبخاري ومسلم
وغيرهما وهي عند السنة أكثر منها عند الشيعة وبشكل أبشع وأسوأ اثرا
مما رواه محدثوا الشيعة، والذين آمنوا بها من السنة لا يقلون عمن آمن
بها من الشيعة، وان كانوا لا يمثلون رأي الجمهور في ذلك، لان أكثرهم
من المنكرين لها، كما هو الحال بالنسبة إلى الشيعة أيضا.
ولو أن الذين كتبوا من السنة وقفوا عند عرض وجهة نظر الفريقين
واقتصروا على تفنيد هذا الرأي أيا كان قائله، لكان ذلك أقرب إلى منطق
الدين والعقل، وابعد عن التحيز والتعصب الذي يثير الشحناء والبغضاء
ولا يخدم الا العدو الذي يستغل هذه المهاترات لأغراضه ومصالحه.
ولكنهم بدلا من ذلك، ومع وجود تلك المرويات في صحاحهم
ومجاميعهم وقفوا موقف المهاجم العنيد والخصم الحاقد على الشيعة
ليقذفوا بمفترياتهم تلك الحصون المنيعة التي بنيت بتعاليم علي وأهل بيته
الطيبين المستوحاة من الرسول الأعظم والكتاب الكريم ونسي هؤلاء ان
353

حصونهم وبيوتهم من الزجاج الذي لا يصمد لهبات النسيم فضلا عن
العواصف والأحجار.
لقد تعرض لمسألة التحريف من المتأخرين الشيخ أبو زهرة في كتابيه
(الإمام الصادق، والامام زيد بن علي) ووصف فيهما الكليني بالنفاق
والخروج عن مخطط الاسلام، ودعا إلى التشكيك بجميع مروياته في
الكافي وفي نفس الوقت تعرض للسيوطي في الاتقان وغيره ممن روى هذه
المرويات وانتهى إلى النتيجة التالية.
ان ما نقله السيوطي وأشباهه لا يجعل مساغا للتشكيك في دينهم،
وان كنا لا نوافق على سرد الأقوال ذلك السرد الذي سلكه السيوطي في
كتابه من غير تمحيص لها (1).
وإذا كان السيوطي مع أنه دون هذه الأحاديث في كتابه من غير
تمحيص لها لا يصح التشكيك في دينه كما يدعي أبو زهرة، فبماذا يعتذر
حضرته عن البخاري الذي اختار جامعه من ستماية الف حديث ولا بد وأن يكون
قد محصها تمحيصا دقيقا حتى انتهى إلى العدد المختار في صحيحه
الذي بلغ نحوا من سبعة آلاف وستماية حديث تقريبا، ومع هذا
التمحيص فقد روى أحاديث النقص وما يشبهها غرابة واستهجانا كحديث
سحر النبي، ووضع الرب رجله في جهنم، وحديث موسى مع الحجر
ونحو ذلك من الأحاديث التي عرضنا قسما منها، وكتابه أصح كتب
الحديث بل أصح كتاب بعد كتاب الله على حد تعبيرهم، وإذا أخذنا
بمقاييس أبي زهرة يجب التشكيك بدينه والنقد الواعي لجميع مروياته
أو طرحها، ولكنه لم يطبق هذا المبدأ الا على الكليني وحده.
فقد قال عندما تحدث عن البخاري محاولا تبرير موقفه من وجود
مرويات غير مرضية في صحيحه، قال: والبخاري ذاته هو أصح الكتب

(1) انظر ص 326 من " كتابه الإمام الصادق ".
354

اسنادا قد اخذت عليه أحاديث: وما كان ذلك مسوغا لتكذيب البخاري
ولا كان ذلك مسوغا لنقض الصحيح الذي رواه.
ونحن لا ننكر عليه ان وجود بعض المرويات المكذوبة في اي كتاب
كان لا يوجب الطعن والتفسيق لصاحب الكتاب، ولا سقوط جميع
مروياته، والذي أنكرناه انه كان من المفروض عليه وهو يدعى التجرد
والاخلاص للحق ان لا يفرق بين الكليني والبخاري، وان يحكم عليهما
بحكم واحد، لان كلا منهما قد روى أحاديث النقص والتحريف. واخذت
عليه أحاديث لا يمكن الالتزام بها والاطمئنان إليها، فلماذا وهو الباحث
المجرد على حد زعمه، كانت تلك المرويات المكذوبة في الكافي موجبة
للطعن في دينه والتشكيك بجميع مروياته والمرويات المكذوبة في البخاري
لا توجب شيئا من ذلك.
وانني أعود فأكرر ما ذكرته سابقا من اني لم أتحيز في هذه
الدراسات إلى فريق معين، ولكنها الحقيقة تفرض نفسها أحيانا على
الكاتب، فيضطر إلى ابرازها مهما كلفه ذلك من ثمن، وانا واثق باني
سأتعرض بسبب هذه الدراسات إلى النقد والهجوم من مقلدة الشيعة
وحشوية العامة الذين احتضنوا كتب الحديث وغالوا في تقديسها على ما
فيها من العلل والعيوب، من غير تفكير بالاخطار الناجمة عن وجود تلك
المرويات المنتشرة هنا وهناك بين السنة المحمدية والتي تمكن أعداء
الاسلام وأعداء أهل أبيت (ع) من التشنيع عليها وتشويه معالمها النيرة
الساطعة.
وأرجو أن تكون هذه الدراسات المختصرة تمهيدا لدراسات واسعة
تشمل جميع كتب الحديث وتصفيتها من الموضوعات التي تسئ إلى
السنة الكريمة ومنه سبحانه نستمد العون، والاخلاص في العمل
والتوفيق لخدمة الدين والمذهب انه قريب مجيب.
355

مصادر الكتاب
القران الكريم
مجمع البيان للطبرسي
آيات الاحكام للجزائري
احكام القرآن للجصاص
مقدمة البيان في التفسير للسيد الخوئي
الكافي للكليني
الصحيح للبخاري
فوائد الوسائل للحر العاملي
مستدرك الوسائل للميرزا حسين النوري
روضات الجنات للخونساري
فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر
هدى الساري لابن حجر
أنساب الأشراف للبلاذري
تهذيب التهذيب
تاريخ اليعقوبي
المعارف لابن قتيبة
الإصابة لابن حجر
الإستيعاب لابن عبد البر
الباعث الحثيث في شرح علوم الحديث لابن كثير
شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي
356