الكتاب: معالم المدرستين
المؤلف: السيد مرتضى العسكري
الجزء: ٢
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٠ - ١٩٩٠ م
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النعمان للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

معالم المدرستين
1

مؤسسة النعمان
للطباعة والنشر والتوزيع
الحاج حسن الكتبي
تتعهد المؤسسة لكافة المؤلفين والناشرين الكرام داخل لبنان وخارجه بطبع
كتبهم وصفها (بالكمبيوتر): وكذلك التصحيح والورق والتجليد الفني بأسعار
مرضية، كما نزود المكتبات ودور النشر بكتبها وكتب دور النشر الأخرى وحسب
الطلب
اتصلوا بنا على العنوان التالي:
بيروت - لبنان حارة حريك - شارع دكاش ص. ب: 229 / 25.
2

معالم المدرستين
بحوث ممهدة لتوحيد كلمة المسلمين
الجزء الثاني
بحوث المدرستين
في
مصادر الشريعة الاسلامية وسبل الوصول إليها
تأليف
العلامة السيد مرتضى العسكري
مؤسسة النعمان
للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - حارة حريك - شارع دكاش - ص ب: 229 / 25
3

حقوق الطبع محفوظة
1410 ه‍ - 1990 م
مؤسسة النعمان
للطباعة والنشر والتوزيع
حسن محمد إبراهيم علي
لبنان - بيروت - ص. ب.: 229 / 25 - هاتف: 834221
العنوان - حارة حريك شارع دكاش بناية الكنار شاهين سنتر
4

بسم الله الرحمن الرحيم
فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا
الألباب.
الزمر 17 - 18
5

معالم المدرستين
القسم الأول
البحث الثالث
مصادر الشريعة الاسلامية لدى المدرستين -
المدخل: أربعة مصطلحات اسلامية
الفصل الأول: موقف المدرستين من القرآن الكريم
الفصل الثاني: موقف المدرستين من سنة الرسول (ص)
الفصل الثالث: موقف المدرستين من الفقه والاجتهاد
الفصل الرابع: القرآن والسنة هما مصدرا التشريع لدى مدرسة أهل البيت (ع)
الفصل الخامس: خلاصة بحوث المدرستين في مصادر الشريعة الاسلامية
7

في دراسة مصادر الشريعة الاسلامية لدى المدرستين، نبدأ بدراسة المصطلحات
الأربعة الآتية: القرآن والسنة والفقه والاجتهاد. ثم ندرس موقف المدرستين من كل
منها، وندرس خلال البحوث مصطلحات أخرى مما يدور بعض البحوث حولها إن شاء الله
تعالى.
9

معالم المدرستين - القسم الأول
البحث الثالث
المدخل
أربعة مصطلحات اسلامية
11

بسم الله الرحمن الرحيم
12

" 1 "
القرآن
القرآن: هو كلام الله الذي نزله نجوما على خاتم أنبيائه محمد (ص) ويقابله
الشعر والنثر في الكلام العربي. وعليه فان الكلام العربي، ينقسم إلى قرآن وشعر ونثر،
وكما أنه يقال لديوان الشاعر " شعر "، وللقصيدة في الديوان " شعر "، وللبيت الواحد
فيه " شعر "، وللشطر الواحد أيضا " شعر "، كذلك يقال لجميع القرآن " قرآن "،
وللسورة الواحدة " قرآن "، وللآية الواحدة " قرآن "، وأحيانا لبعض الآية " قرآن " 1،
مثل " ومما رزقناهم " في الآية من سورة البقرة. والقرآن بهذا المعنى، مصطلح اسلامي
وحقيقة شرعية، لان منشأ هذه الاستعمالات، وروده في القرآن الكريم والحديث
النبوي الشريف.
أسماء أخرى للقرآن
استخرج العلماء من القرآن أسماء أخرى للقرآن، وهي في حقيقتها، من باب
ذكر الشئ بصفاته. ومن أشهرها " الكتاب "، قال الله سبحانه:
" ذلك الكتاب لا ريب فيه " البقرة / 2. فان المقصود من الكتاب هنا،
القرآن الذي بأيدي المسلمين في مقابل كتاب التوراة لليهود، والإنجيل للنصارى
وإنما شخص المقصود من الكتاب هنا بالألف واللام للعهد في أوله.
وورد لفظ " الكتاب " في القرآن وأريد به التوراة في قوله تعالى: " ومن قبله

(1) والحمل والتبادر علامتان للحقيقة، كما قررهما العلماء في محله من الكتب العلمية.
13

كتاب موسى ". وهنا شخص المقصود بالإضافة إلى صاحبه موسى.
وقد اشتهر لدى النحويين كتاب سيبويه في النحو ب‍ " الكتاب ".
قال في باب الكتاب من كشف الظنون:
" كتاب سيبويه في النحو: كان كتاب سيبويه لشهرته وفضله علما عند
النحويين، فكان يقال بالبصرة: " قرأ فلان الكتاب " فيعلم انه كتاب سيبويه، و " قرأ
نصف الكتاب " فلا يشك انه كتاب سيبويه... "
وشرحه أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن خروف النحوي الأندلسي
الإشبيلي (ت: 609 ه‍) وسماه: تنقيح الألباب في شرح غوامض الكتاب.
وشرح أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري البغدادي الحنبلي (ت: 616 ه‍)
أبياته وله " لباب الكتاب ".
ولأبي بكر محمد بن حسن الزبيدي الأندلسي الإشبيلي (ت: 380 ه‍) أبنية
الكتاب 1.
إذا فليس " الكتاب " اسما للقرآن في القرآن الكريم ولا في عرف المسلمين.
ومن تلكم الأسماء " النور "، قال تعالى: " وأنزلنا إليكم نورا مبينا النساء /
174. ومنها: " الموعظة "، قال تعالى: " قد جاءكم موعظة من ربكم " يونس / 59.
وكذلك " كريم " 2 لقوله تعالى: " انه لقرآن كريم " الزخرف / 41.
هذه الأسماء مما وردت في القرآن، ليست بأسماء للقرآن كما قاله العلماء، وإنما
هي من باب التعبير والتعريف بصفات القرآن.
ومن أسماء القرآن لدى مدرسة الخلفاء " المصحف "، وهذه اللفظة لم ترد في
القرآن الكريم ولا الحديث النبوي الشريف.
روى الزركشي وغيره وقالوا:
" لما جمع أبو بكر القرآن قال: سموه، فقال بعضهم: سموه إنجيلا، فكرهوه

(1) كشف الظنون لحاجي خليفة مصطفى بن عبد الله (ت: 1076 ه‍) تركيا، ج 2 / 1427 و 1428.
وسيبويه، أبو مبشر أو بشر، عمرو بن عثمان بن قنبر البصري مولى بني الحارث بن كعب. توفي سنة
180 ه‍.
2) البرهان في علوم القرآن للزركشي (ت: 794 ه‍)، ط. القاهرة، (النوع الخامس عشر: معرفة
أسمائه)، ج 1 / 273 و 276.
14

وقال بعضهم: سموه " السفر " فكرهوه من يهود، فقال ابن مسعود: رأيت للحبشة كتابا
يدعونه " المصحف " فسموه به 1.
اذن فإنه تسمية القرآن بالمصحف من نوع تسمية المسلمين ومصطلح
المسلمين، وليس اصطلاحا اسلاميا، وحقيقة شرعية.

(1) ن. م، ج 1 / 282.
والاتقان للسيوطي (ت: 911 ه‍)، القاهرة 1368 ه‍، ص 63.
15

" 2 "
السنة
السنة في اللغة السيرة، وفي اصطلاح المسلمين إذا قيل سنة الرسول، قصد بها
قول الرسول (ص) المسمى بحديث النبي، وفعله المسمى بسيرة الرسول، وتشمل
تقريره أيضا، وهو ان يرى رسول الله (ص) عملا من مسلم، ولا ينهاه عن ذلك. فإنه قد
أقر بسكوته صحة ذلك الفعل.
وإنما كانت سنة رسول الله (ص) من مصادر الشريعة الاسلامية لقوله تعالى:
" ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا ". الحشر / 7.
وقوله تعالى: " ما ينطق عن الهوى، ان هو الا وحي يوحى ". النجم / 3.
وقوله تعالى: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله
واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ". الأحزاب / 21.
وقوله تعالى: " قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم
ذنوبكم ". آل عمران / 31.
وقوله تعالى: " فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته
واتبعوه ". الأعراف / 158.
إلى آيات أخرى...
وورد في أحاديث كثيرة عنه (ص) حث المسلمين على اتباع سنته ونهاهم عن
مخالفتها، مثل قوله: " من رغب عن سنتي فليس مني " 1.

(1) راجع مادة " السنة " في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث.
16

وعلى هذا، فان السنة مصطلح اسلامي وحقيقة شرعية وينحصر طريق وصول
سنة الرسول اي " سيرته وحديثه وتقريره " إلينا بالروايات المروية عنه (ص) والمدونة
في عصرنا في كتب الحديث والسيرة والتفسير وغيرها من مصادر الدراسات الاسلامية.
17

" 3 "
الفقه
أ - الفقه في اللغة، كما ورد في المعاجم: الفهم.
ب - الفقه في الكتاب والسنة، كما يأتي بيانه:
قال الله سبحانه: " فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " التوبة / 122.
وقال رسول الله: " نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه فبلغها، فرب حامل فقه غير
فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " 1.
وروى أنه قال: " فقيه أشد على الشيطان من الف عابد " 2.
و " من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم " 3.
و " خياركم أحاسنكم أخلاقا إذا فقهوا " 4.
و " خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الاسلام إذا فقهوا " 5.
و " خصلتان لا تجتمعان في منافق، حسن سمت ولا فقه في الدين " 6.

(1) ابن ماجة، المقدمة باب 18 " من بلغ علما " الحديث، 23 و 231 و 236 وكتاب المناسك باب
الخطبة يوم النحر، وسنن أبي داود، كتاب العلم باب فضل نشر العلم، ح 3660، باب 10. والترمذي، كتاب
العلم باب 7 ما جاء في الحث على تبليغ السماع، والدارمي 1 / 74 - 76، المقدمة باب 24، ومسند أحمد
3 / 225 و 4 / 80 و 82 و 5 / 173. 2) سنن الترمذي 10 / 154.
3) صحيح البخاري 1 / 18، وكتاب العلم باب 20 ومسلم كتاب الفضائل ح 15، مسند أحمد
4 / 399. 4) مسند أحمد 2 / 467 و 469 و 481.
5) صحيح البخاري 2 / 175 - ومسلم كتاب الفضائل ح 199 باب خيار الناس، وسنن الدارمي
المقدمة ص 73 باب 24، ومسند أحمد 2 / 257 و 260 و 391 و 431 و 485 و 498 و 525 و 539 و 3 / 367
و 383 و 4 / 101. 6) سنن الترمذي 10 / 157.
18

و " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " 1.
و " إن رجالا يأتونكم من أقطار الأرضين يتفقهون في الدين. فإذا اتوكم
فاستوصوا بهم خيرا " 2.
وانه دعا لابن عباس وقال: " اللهم فقهه في الدين " 3.
وورد في محاورات أهل البيت والصحابة بعد رسول الله:
أ - قول الإمام علي: " ان الفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله،
ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله " 4.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: ما أدركت فقهاء ارضنا الا يسلمون في
كل اثنتين من النهار " 5.
وقال عمر: " تفقهوا قبل ان تسودوا " 6.
فمن سوده قومه على فقه كان حياة له ولهم، ومن سوده قومه على غير فقه كان
هلاكا له ولهم 7.
وقال ابن عبد الرحمن في وصف ابن عباس: " انه قارئ لكتاب الله، فقيه في
دين الله " 8.
وفي باب اختلاف الفقهاء من سنن الدارمي: " كتب عمر بن عبد العزيز إلى
الآفاق ليقضي كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم " 9.
وفي سنن الدارمي: " وإذا جلسوا العشاء - الآخرة - جلسوا في الفقه. " 10،

(1) صحيح البخاري 1 / 16، و 4 / 175، وسنن الدارمي 1 / 74، ومسند أحمد 1 / 306 و 2 / 234 و
4 / 92 و 93 و 95 - 99 و 101.
2) سنن الترمذي 10 / 119، وسنن ابن ماجة المقدمة الباب 22.
3) صحيح البخاري 1 / 28، ومسند أحمد 1 / 266 و 314 و 328 و 335.
4) سنن الدارمي 1 / 89، والكافي، وتحف العقول، ومعاني الأخبار للصدوق، وكنز العمال، وحلية
الأولياء 1 / 77، والبحار 17 / 407.
5) صحيح البخاري 1 / 141، كتاب التهجد باب 25.
6) صحيح البخاري كتاب العلم 1 / 16، وسنن الدارمي 1 / 79.
7) سنن الدارمي 1 / 79.
8) مسند أحمد 1 / 349.
9) سنن الدارمي 1 / 151.
10) سنن الدارمي 1 / 149.
19

" ولا بأس بالسمر في الفقه. " 1، " وكانوا يتجالسون بالليل ويذكرون الفقه. " 2
وفي صحيح البخاري باب السمر في الفقه 3. وقال الشعبي: " لما قدم عدي
بن حاتم الكوفة اتيناه في نفر من فقهاء أهل الكوفة. " 4
وعن عمران المنقري قال: قلت للحسن يوما في شئ قاله: " يا أبا سعيد ليس
هكذا يقول الفقهاء! فقال: ويحك ورأيت أنت فقيها قط إنما الفقيه الزاهد في الدنيا
الراغب في الآخرة البصير بأمر دينه المداوم على عبادة ربه. " 5
هذا بعض ما ورد في كتب حديث مدرسة الخلفاء، وورد في كتب حديث
مدرسة أهل البيت:
أ - عن رسول الله (ص): " الفقهاء امناء الرسول ما لم يدخلوا في الدنيا. " 6،
" من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها ينتفعون بها في أمر دينهم، بعثه الله يوم
القيامة فقيها عالما " 7.
ب - في نهج البلاغة من كلام الإمام علي: " من أتجر بغير فقه فقد ارتطم في
الربا. " 8، " وربيعا لقلوب الفقهاء. " 9، " وتفقه في الدين. " 10.
ج - وعن الإمام الصادق: " ليت السياط على رؤس أصحابي حتى يتفقهوا في
الحلال والحرام. " 11، " لا يكون الرجل منكم فقيها حتى يعرف معاريض كلامنا. " 12.

(1) سنن الدارمي 1 / 150.
2) سنن الدارمي 1 / 150.
3) صحيح البخاري 1 / 79، كتاب المواقيت باب 40.
4) سنن ابن ماجة ح 87.
5) سنن الدارمي 1 / 89.
6) البحار 2 / 110.
7) البحار 2 / 156 الحديث 10، ونظيره الحديث 9.
8) نهج البلاغة باب الحكم الرقم 447 ج 3 / 259.
9) نهج البلاغة في وصف القرآن الخطبة 196 ج 2 / 252.
10) نهج البلاغة من وصية له للإمام الحسن رقم 31 ج 3 / 42.
11) البرقي في المحاسن الحديث 161 والبحار ط أمين الضرب 1 / 66.
12) البحار 2 / 184 ح 5.
20

وقول: " من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه،
مطيعا لأمر مولاه، فللعوام ان يقلدوه. " 1
كان هذا مدلول الفقه والفقيه في الكتاب والسنة. ثم اختص لدى علماء
مدرسة أهل البيت بالعلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية.
قال جمال الدين الحسن بن زين الدين (ت: 1011 ه‍) في كتابه معالم الدين
المشهور بمعالم الأصول: " فصل، الفقه في اللغة: الفهم، وفي الاصطلاح هو العلم
بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية " 2.
يقصد بالاصطلاح، اصطلاح علماء مدرسة أهل البيت.

(1) سفينة البحار 1 / 381 بمادة فقه.
2) معالم الدين، تصحيح محمد على بقال ص 66.
21

" 4 "
الاجتهاد
أولا - الاجتهاد في اللغة
قال ابن الأثير: " الاجتهاد بذل الجهد في طلب الامر، وهو افتعال من الجهد
الطاقة " 1.
وفي هذا المعنى، استعمل على عهد الرسول وأصحابه إلى آخر القرن الأول.
فقد ورد عن رسول الله:
أ - أما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن ان يستجاب لكم 2.
ب - صلوا علي واجتهدوا في الدعاء 3.
ج - فضل العالم على المجتهد مائة درجة 4 أي المجتهد في العبادة.
وعن محمد القرظي: " كان في بني إسرائيل رجل فقيه عالم، عاد مجتهد. " 5
وعن عائشة: " كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره 6.
أي يجتهد في العبادة ".
وفي حديث طلحة عن رجلين على عهد رسول الله: " كان أحدهما أشد اجتهادا

(1) مادة جهد من نهاية اللغة لابن الأثير.
2) صحيح مسلم كتاب الصلاة ح 207، ومسند أحمد 1 / 219.
3) سنن النسائي 1 / 190 باب الأمر بالصلاة على النبي، وفي مسند أحمد 1 / 199 باختصار.
4) مقدمة سنن الدارمي 1 / 100.
5) موطأ مالك كتاب الجنائز ح 43.
6) مسلم كتاب الاعتكاف ح 8، وسنن ابن ماجة كتاب الصيام ح 1767.
22

من الاخر فغزا المجتهد منهما فاستشهد. " 1
وعن أبي سعيد: " كان رسول الله (ص) إذا حلف واجتهد في اليمين، قال. " 2
وفي خبر عبد الله بن أبي في غزوة بني المصطلق: " فأجتهد بيمينه ما فعل. " 3
وفي سؤال الصحابية أم حارثة من شأن ابنها حارثة عن رسول الله: " إن كان
في الجنة، صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء. " 4
نعرف من هذه الموارد والكثرة الكاثرة من نظائرها، انه كان المتبادر من
الاجتهاد في القرن الأول، هو بذل الجهد، ثم تطور مدلول الاجتهاد لدى المسلمين،
وأصبح يدل في اصطلاحهم على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
ثانيا - الاجتهاد في اصطلاح المسلمين
قال الغزالي في تعريف الاجتهاد: " هو عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع
في فعل من الافعال. ولا يستعمل إلا في ما فيه كلفة وجهد... لكن صار اللفظ في
عرف العلماء مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة... " 5
وقال الدهلوي: " حقيقة الاجتهاد استفراغ الجهد في إدراك الأحكام الشرعية
من أدلتها التفصيلية الراجعة كلياتها إلى أربعة أقسام: الكتاب والسنة والاجماع
والقياس. " 6
وكذلك عرف أدلة الاحكام محمد أمين في كتاب تيسير التحرير 7.

(1) سنن ابن ماجة كتاب الرؤيا ح 3925، ومسند أحمد 1 / 163 و 2 / 323 و 363 و 6 / 82 و 123 و
256 و 5 / 40.
2) مسند أحمد 3 / 33 و 148.
3) صحيح البخاري 3 / 136 بتفسير سورة المنافقون ومسلم كتاب المنافقين ح 1 ومسند أحمد 4 / 373.
4) صحيح البخاري 2 / 93 كتاب الجهاد، ومسند أحمد 3 / 260 و 283.
5) أبو حامد محمد الغزالي (ت: 505 ه‍) في كتاب المستصفى في أصول الفقه، ط مصطفى البابي بمصر
سنة 1356 ه‍ (ج 2 / 101)، راجع ترجمته بكشف الظنون 2 / 1673، وراجع الاحكام للآمدي 4 / 141.
6) نقل ذلك محمد فريد وجدي في مادة جهد من دائرة معارف القرن العشرين 3 / 236 عن رسالة
الانصاف في بيان سبب الاختلاف لأحمد بن عبد الرحيم الدهلوي الفاروقي الحنفي المحدث الفقيه (ت 1176 أو
1179 ه‍) ترجمه الزركلي في الاعلام 1 / 144.
7) أصل الكتاب اسمه التحرير في أصول الفقه للعلامة كمال الدين محمد بن عبد الواحد الشهير بابن
همام الحنفي (ت: 861 ه‍) وشرحه تلميذه الفاضل محمد بن محمد بن أمير الحاج الحلبي الحنفي (ت: 879 ه‍)
وشرح الشرح المحقق محمد امين المعروف بأمير بادشاه البخاري نزيل مكة وسماه تيسير التحرير. ورجعنا إليه ط
مصطفى البابي بمصر سنة 1351 ه‍ (ج 1 / 171) راجع تراجمهم بكشف الظنون (1 / 358).
23

كان هذا لدى اتباع مدرسة الخلفاء، وقد شاع هذا الاصطلاح لدى علماء
مدرسة أهل البيت بعد القرن الخامس كما ورد في كتاب مبادئ الأصول للعلامة الحلي
(ت: 726 ه‍) في الفصل الثاني عشر، البحث الأول في الاجتهاد ما ملخصه:
" الاجتهاد: هو استفراغ الوسع في النظر فيما هو من المسائل الظنية الشرعية، على
وجه لا زيادة فيه.
ولا يصح في حق النبي (ص) لقوله تعالى " وما ينطق عن الهوى " (النجم
53 / 4). ولان الاجتهاد إنما يفيد الظن، وهو (عليه السلام) قادر على تلقيه من الوحي.
ولأنه كان يتوقف في كثير من الاحكام حتى يرد الوحي ولو ساغ له الاجتهاد لصار إليه.
ولأنه لو جاز له، لجاز لجبرئيل عليه السلام.
وذلك يسد باب الجزم، بأن الشرع الذي جاء به محمد (عليه السلام) من الله
تعالى.
ولان الاجتهاد قد يخطئ وقد يصيب، فلا يجوز تعبده (عليه السلام) به لأنه
يرفع الثقة بقوله.
وكذلك لا يجوز لاحد من الأئمة (عليهم السلام) الاجتهاد عندنا، لأنهم
معصومون، وإنما أخذوا الاحكام بتعليم الرسول (عليه السلام) واما العلماء فيجوز لهم
الاجتهاد، باستنباط الاحكام من العمومات، في القرآن والسنة، وبترجيح الأدلة
المتعارضة.
أما بأخذ الحكم من القياس والاستحسان فلا. " 1
ونرى أن علماء مدرسة أهل البيت حين استعملوا مصطلح الاجتهاد والمجتهد لم
يتركوا اصطلاح الفقه والفقيه بل جمعوا بين الاصطلاحين كما فعل ذلك جمال الدين
صاحب المعالم فإنه قال في أول كتابه كما مر علينا:

1) مبادئ الوصول إلى علم الأصول ص 240 - 241.
24

" الفقه في اللغة الفهم.
وفي الاصطلاح: هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية ".
وعقد بعد ذلك فصلا لتعريف الاجتهاد وقال في فصل آخر:
" الاجتهاد في اللغة: تحمل الجهد... واما في الاصطلاح: فهو استفراغ الفقيه
وسعه في تحصيل الظن بحكم شرعي... " 1.
وبالإضافة إلى ما سبق تختلف المدرستان في بعض أدلة الأحكام الشرعية كما
سنبينه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
بعد دراستنا للمصطلحات الأربعة الماضية، ندرس في ما يأتي بحوله تعالى
موقف المدرستين من كل منها.

(1) معالم الدين، المطلب التاسع في الاجتهاد والتقليد، ص 381.
25

معالم المدرستين - القسم الأول
البحث الثالث
الفصل الأول
موقف المدرستين من القرآن الكريم
27

كان رسول الله (ص) يتلو على عامة من حضره من المسلمين كلما نزلت عليه
آيات من القرآن الكريم، ويفسر لهم منها من يحتاجون إلى تفسيرها، ويلقن ذلك خاصة
الامام عليا (ع) ويأمره بكتابتها كما يأتي بيانه في بحوث هذا الكتاب - إن شاء الله
تعالى -.
ولما هاجر إلى المدينة، حث المسلمين على تعلم الكتابة، فتبادروا إليها، وحثهم
على كتابة القرآن وحفظه، فتسابقوا إليهما، وكانوا يكتبون ما يتلقونه من آيات القرآن
على ما حضرهم من جلود وغيرها، وكان رسول الله (ص) يعلمهم أسماء السور ومكان
الآيات في السور كما علمه الله، ولما ان توفاه الله كان في المدينة عشرات الصحابة ممن
حفظ جميع القرآن، وأكثر منهم من كتب جميع القرآن، غير أن ما لديهم لم يكن كتابا
مدونا كما هو عليه اليوم، وإنما كان أوزاعا في قطع كتبوه عليها، ولما توفي الرسول (ص)
بادر الإمام علي (ع) إلى تدوين القرآن في كتاب واحد، كما أن عددا من الصحابة غير
الامام أيضا مثل ابن مسعود كانت لديهم نسخة من القرآن مدونة، لكن الخليفة أبا بكر
لم يقتن تلك النسخ، بل أمر جمعا من الصحابة بتدوين القرآن ككتاب، ثم أودعها عند
أم المؤمنين حفصة حتى إذا كان عصر الخليفة عثمان، واتسعت الفتوح، وانتشر
المسلمون، أمر الخليفة باستنساخ عدة نسخ على النسخة المحفوظة لدى حفصة، ووزعها
على بلاد المسلمين، وكتب المسلمون على تلك النسخ وتداولوها جيلا بعد جيل إلى يومنا
الحاضر ولم يكن لدى أحد من المسلمين في يوم ما نسخة غيرها، ولم يكن في يوم من
الأيام لدى أحد من المسلمين نسخة فيها زيادة كلمة أو نقصان كلمة على هذا المتداول
29

اليوم بين المسلمين سواء في ذلك جميع فرق المسلمين: سنيهم وشيعيهم، أشعريهم
ومعتزليهم، حنفيهم وشافعيهم وحنبليهم ومالكيهم وزيديهم واماميهم ووهابيهم إلى
الخوارج. لم تكن لدى فرقة منها أو غيرها في يوم من الأيام نسخة فيها زيادة كلمة أو
نقصان كلمة، أو يكون ترتيب السور والآيات فيها مخالفا لهذا المتداول بين المسلمين
اليوم.
اما ما ورد في بعض كتب الحديث من نقص مزعوم في القرآن الكريم، فقد بقي
في مكانه من كتب الحديث ولم ينتقل إلى نسخة واحدة من نسخ القرآن في يوم من
الأيام، مثل ما ورد في الصحاح الست: البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن
ماجة والدارمي وغيرها.
عن الخليفة عمر (رض) أنه قال وهو على المنبر: " ان الله بعث محمدا (ص)
بالحق، وانزل عليه الكتاب. فكان مما انزل الله، " آية الرجم " فقرأناها وعقلناها
ووعيناها رجم رسول الله (ص) ورجمنا بعده، فأخشى ان طال بالناس زمان أن يقول
قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله والرجم في
كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن " 1.
والآية المزعومة في رواية ابن ماجة عن عمر قال وقد قرأتها: " الشيخ والشيخة
إذا زنيا فارجموهما البتة ". وفي موطأ مالك: " الشيخ والشيخة فارجموهما البتة " فانا قد
قرأناها.
وفي نفس الحديث في صحيح البخاري: ثم إنا كنا نقرأ من كتاب الله: " ان
لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم ان ترغبوا عن آبائكم ".
والحديث المروى عن أم المؤمنين عائشة (رض) انها قالت: كما فيما انزل من

(1) أ - البخاري ج 4 / 120 باب رجم الحبلى من الزنا من كتاب الحدود واللفظ له.
ب - ومسلم ج 5 / 116.
ج - وسنن أبي داود ج 2 / 229 باب في الرجم من كتاب الحدود.
د - والترمذي ج 6 / 204 باب ما جاء في تحقيق الرجم من كتاب الحدود.
ه‍ - وابن ماجة باب الرجم من كتاب الحدود الحديث المرقم 2553.
و - والدارمي ج 2 / 179 باب في حد المحصنين بالزنا من كتاب الحدود.
ز - والموطأ ج 3 / 42 كتاب الحدود.
30

القرآن " عشر رضعات معلومات " فتوفي رسول الله (ص) وهن فيما يقرأ من القرآن 1.
وفي صحيح ابن ماجة: قالت نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشرا. ولقد
كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله (ص) تشاغلنا بموته فدخل داجن
فأكلها.
وفي صحيح مسلم ان أبا موسى الأشعري بعث إلى قراء أهل البصرة وكانوا
ثلاثمائة رجل، فقال فيما قال لهم: " وانا كنا نقرا سورة كنا نشبهها في الطول والشدة
ببراءة فأنسيتها غير اني قد حفظت منها " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا
ثالثا ولا يملا جوف ابن آدم الا التراب ".
وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير اني حفظت منها
" يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم
القيامة 2 ".
مع وجود هذه الأحاديث في صحاح مدرسة الخلفاء، لم يرم أحد من اتباع
مدرسة أهل البيت اتباع مدرسة الخلفاء ويقول إن اتباع مدرسة الخلفاء يقولون بنقصان
القرآن، أو انهم يضيفون إلى القرآن سورا وجملا عن عند أنفسهم. وعلى العكس في ذلك
لما وردت نظير هذه الأقوال في بعض كتب حديث اتباع مدرسة أهل البيت، أثار بعض
الكتاب بمدرسة الخلفاء، ضجة كبيرة على اتباع مدرسة أهل البيت وقالوا انهم يقولون
بنقصان القرآن ويضيفون إلى القرآن من عند أنفسهم عبارات وجملات، ويستدلون على
قولهم بما ورد في بعض كتب الحديث. على أن اتباع مدرسة أهل البيت لا يلتزمون
بصحة كتاب ما عدا كتاب الله، واتباع مدرسة الخلفاء يلتزمون بصحة جميع ما ورد في

(1) أ - صحيح مسلم ج 4 / 167 باب التحريم بخمس رضعات، من كتاب الرضاع.
ب - وأبو داود ج 1 / 279 باب هل يحرم ما دون خمس رضعات، من كتاب النكاح.
ج - والنسائي ج 2 / 82 باب القدر الذي يحرم من الرضاعة، من كتاب النكاح.
د - وابن ماجة ج 1 / 626 باب رضاع الكبير، من كتاب النكاح الحديث 1944.
ه‍ - والدارمي ج 1 / 157 باب كم رضعة تحرم، من كتاب النكاح.
و - وموطأ مالك ج 2 / 118 باب جامع ما جاء في الرضاعة، من كتاب الرضاع.
2) صحيح مسلم ج 3 / 100 باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى واديا ثالثا، من كتاب الزكاة.
31

صحيح البخاري ومسلم، ويعالجون هذه الأحاديث بقولهم نسخت تلاوتها 1.
وأقام بعض الكتاب أيضا ضجة مفتعلة أخرى على أصحاب مدرسة أهل البيت
وقالوا بأن لهم قرآنا آخر اسمه " مصحف فاطمة (ع) " وذلك لان كتاب
فاطمة سمي بالمصحف، والقرآن أيضا سمي من قبل بعض المسلمين بالمصحف، مع أن
الأحاديث تصرح بان مصحف فاطمة ليس فيه شئ من القرآن، وإنما فيه ما
سمعته من اخبار من يحكم الأمة الاسلامية، حتى أن الإمام جعفر الصادق لما ثار محمد
وإبراهيم من أبناء الإمام الحسن (ع) على أبي جعفر المنصور قال: " ليس في كتاب
أمهم فاطمة اسم هؤلاء في من يملك هذه الأمة 2. "
وفي مدرسة الخلفاء سموا كتاب سيبويه في النحو بالكتاب. أضعف إلى ذلك
ان لفظ " المصحف " لم يرد في القرآن ولا الحديث النبوي الشريف.
وورد تسمية القرآن بالكتاب في القرآن في قوله تعالى:
" ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " البقرة / 2.
" أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " البقرة / 85.
" ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم " البقرة / 89.
" ويعلمهم الكتاب والحكمة " البقرة / 129.
" ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون " البقرة / 151.
إلى عشرات آيات أخرى مع هذا لو قال أحد ان كتاب سيبويه حجمه ضعف
كتاب الله، لم يقصد ان كتاب سيبويه قرآن أكبر من كتاب الله، ولم يعترض على هذه
التسمية من اتباع مدرسة أهل البيت أحد.
وأخيرا ان هذه الأقوال يستفيد منها خصوم الاسلام ويتخذون منها وسيلة
للطعن في القرآن، بصر الله بعض الكتاب ليكف عن هذا الهذيان.
ان القرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم، هو الذي أكمل الله انزاله على خاتم
أنبيائه في أخريات حياته، وجمعه الصحابة بعد وفاته ودونوه واستنسخوه ووزعوه على

(1) صحيح البخاري كتاب الحدود باب رجم الحبلى من الزنى ح 1، وصحيح مسلم كتاب الحدود
باب رجم الثيب في الزنى ح 15.
2) راجع اخر الكتاب باب مصدر الشريعة الاسلامية لدى أهل البيت.
32

المسلمين. أوله: " بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين "، وآخره: " من
الجنة والناس "، لم يكن في يوم من الأيام منذ ذلك العصر إلى يومنا هذا قرآن بيد
مسلم، يزيد على هذا المتداول كلمة أو ينقص كلمة. لا خلاف في ذلك بينهم. وإنما
الخلاف في تفسير القرآن وتأويل متشابهه، وذلك لأنهما مأخوذ ان من الحديث وقد
اختلف المسلمون في شأن حديث رسول الله (ص) كما سنذكره في باب موقف
المدرستين من السنة الآتي إن شاء الله تعالى.
33

معالم المدرستين - القسم الأول
البحث الثالث
الفصل الثاني
موقف المدرستين من سنة الرسول (ص)
35

تتفق المدرستان في الايمان بوجوب العمل بسنة الرسول (ص) من مصادر
الشريعة الاسلامية. ولما كانت سنة الرسول (ص) سيرة وحديثا وتقريرا، تصل إلينا
بواسطة الرواية عن الرسول (ص) تختلف المدرستان:
أولا: في بعض الوسائط لنقل الرواية عن الرسول (ص).
وثانيا: اختلفتا في جواز نقل الرواية عن رسول الله في القرن الهجري الأول.
وسندرس كلا من الامرين على حدة في ما يأتي.
37

" 1 "
موقف المدرستين ممن روى عن رسول الله (ص)
لما سبق ذكره في باب الصحابة والإمامة يأخذ أتباع مدرسة أهل البيت بعد
عصر الرسول معالم دينهم من أئمة آل البيت الاثني عشر في مقابل أتباع مدرسة الخلفاء
الذين يأخذون معالم دينهم من أي فرد من أصحاب رسول الله دونما تمييز بينهم فان
جميعهم عدول عندهم، بينما لا يرجع أتباع مدرسة أهل البيت إلى صحابة نظراء مروان 1
و عبد الله بن الزبير 2 اللذين حاربا عليا يوم الجمل، ولا معاوية 3 وعمرو بن العاص 4

(1) أبو محمد طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي، وأمه الصعبة أخت العلاء الحضرمي آخى النبي بينه
وبين الزبير. كان من أشد المؤلبين على عثمان، فلما قتل عثمان سبق إلى بيعة علي بن أبي طالب ثم خرج إلى
البصرة مطالبا دم عثمان من علي بن أبي طالب ورآه مروان يوم الجمل فرماه بسهم قتل منه سنة 36 ه‍. روى
عنه أصحاب الصحاح 38 حديثا. راجع أحاديث عائشة ج 1 / 109 - 196، وجوامع السيرة ص 281.
2) أبو خبيب عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي، أمه أسماء بنت أبي بكر. كانت أم المؤمنين تحبه
وتكنى به، وكان يبغض آل البيت وكان الإمام علي يقول: ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله.
وكان من المحرضين لها في حرب الجمل، واستقل بمكة بعد استشهاد الحسين وقتله الحجاج سنة ثلاث وسبعين
في مكة. روى عن أصحاب الصحاح 33 حديثا. راجع ترجمته بأسد الغابة وواقعة الجمل في أحاديث عائشة
وجوامع السيرة ص 281.
3) أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان القرشي الأموي. أمه هند بنت عتبة. أسلم بعد الفتح، وولاه
أخوه لما طعن في عمواس سنة 18، فأقره عمر وبقي واليا على الشام حتى قتل عثمان، فتمرد على الامام وجهز
جيشا لقتاله فتلاقيا بصفين سنة 36 ه‍، ولما لاح النصر لجيش الامام خدعهم برفع المصاحف ودعوتهم إلى حكمه
فقرروا التحكيم فغدر عمرو بن العاص بأبي موسى. وفي سنة 41 صالحه الإمام الحسن فأصبح خليفة المسلمين
وتوفي سنة 60 ه‍ روى عنه أصحاب الصحاح 163 حديثا. راجع فصل مع معاوية في أحاديث عائشة وجوامع
السيرة ص 277.
4) أبو عبد الله عمرو بن العاص القرشي السهمي. وأمه النابغة كانت من شهيرات البغايا في
الجاهلية، أسلم عام خيبر وفتح مصر ووليها لعمر، ولما عزله عثمان أصبح من أشد المؤلبين عليه. وبعد قتله
اشترط على معاوية أن يعطيه مصر على نصره إياه. فاشترك في صفين وأشار على معاوية برفع المصاحف، وغدر
بأبي موسى في التحكيم، ثم ذهب إلى مصر وقتل محمد بن أبي بكر ووليها حتى توفي بها بعد سنة أربعين. وروى
عنه أصحاب الصحاح 39 حديثا. راجع فصل مع معاوية بأحاديث عائشة، وجوامع السيرة ص 280.
38

اللذين حارباه في وقعة صفين، ولا ذي الخويصرة 1 و عبد الله بن وهب 2 اللذين حارباه
يوم النهروان.
وكذلك لا يأخذون من نظرائهم من أعداء علي سواءا كانوا معدودين من
الصحابة أو التابعين أو اتباع التابعين أو من سائر طبقات الرواة 3.
فبينا نجد مثلا امام المحدثين البخاري لا يخرج حديثا واحدا في صحيحه عن
جعفر بن محمد الصادق سادس أئمة أهل البيت 4 والذي يروي عنه آلاف المحدثين من
أتباع مدرسة أهل البيت آلاف الأحاديث. يروي هو وأبو داود والنسائي في صحاحهم
عن عمران بن حطان 5 الخارجي الذي يقول في عبد الرحمن بن ملجم وقتله للإمام علي:
يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما وأحسبه * أو في البرية عند الله ميزانا
ويروى النسائي مثلا في صحيحه عن عمر بن سعد 6 قاتل الحسين ويقول علماء
الرجال في ترجمته: " صدوق، لكن مقته الناس، لكونه أميرا علي الجيش الذين قتلوا
الحسين بن علي ". بينما يلعنهما أتباع مدرسة أهل البيت.

1) ذو الخويصرة التميمي. اسمه الحرقوص. كان رسول الله ذات يوم يقسم فقال: يا رسول الله اعدل
فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل وأخبر عن خروجه وقتله، فقتل بالنهروان مع الخوارج وطلبه على فوجده كما
أخبر عنه الرسول. ترجمته بأسد الغابة.
2) عبد الله بن وهب الراسبي السبائي بايعه الخوارج على أنه خليفتهم سنة 37 ه‍ فقتل في النهروان راجع
عبد الله بن سبا ج 2 / 235 - 236.
3) وقد يروون من هؤلاء ما كان في فضل علي وما شابهه، وذلك لان الفضل ما شهدت به الأعداء أو
ما كان منهم اعترافا بحق.
4) أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق قال المفيد في الارشاد ص 254. " ان أصحاب الحديث قد جمعوا
أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل " توفى سنة 148 ه‍.
5) عمران بن حطان البكري ثم الشيباني السدوسي من شعراء الشراة. ترجمته في الأغاني ط ساسي ج
16 / 147 - 152.
6) أبو حفص عمر بن سعد القرشي الزهري قتله المختار سنة 65 أو 66 أو 67. ترجمته بتقريب التهذيب
ج 7 / 451.
39

نشأ الخلاف الفكري بين المدرستين كما رأينا إلى هنا حول من يأخذون منه
حديث الرسول (ص).
40

" 2 "
موقف المدرستين من نشر حديث الرسول (ص) في القرن الأول
بالإضافة إلى ما ذكرنا حدد معالم المدرستين وأطر كلا منهما باطارها الخاص
بها نشاط رجال المدرستين في نشر الحديث، فبينا منع الخلفاء من كتابة حديث رسول
الله (ص) ونشره نشطت المدرسة الأخرى في سبيل نشره متحدية جهود مدرسة الخلفاء
في سبيل منعه، وقد بدأت المعركة سافرة صريحة منذ آخر ساعات حياة الرسول عندما
قال 1: " آتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فقالوا: يهجر رسول
الله (ص) ".
وقد عين البخاري في حديث آخر يرويه عن ابن عباس قائل هذا القول قال:
" لما حضر النبي (ص) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال: هلم أكتب
لكم كتابا لن تضلوا بعده، قال عمر: ان النبي (ص) غلبه الوجع وعندكم كتاب الله،
فحسبنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول ما قال عمر، فلما
أكثروا اللغط والاختلاف، قال: قوموا عنى ولا ينبغي عندي التنازع " 2.

(1) البخاري في صحيحه باب جوائز الوفد من كتاب الجهاد 2 / 120، وباب اخراج اليهود من جزيرة
العرب من كتاب الجزية 2 / 136، ومسلم في صحيحه 5 / 75 باب ترك الوصية. رواه مسلم بسبعة أسانيد.
ومسند أحمد، تحقيق محمد شاكر الحديث 1935، وطبقات ابن سعد ط بيروت 2 / 244، وتاريخ
الطبري 3 / 193، وفي لفظهم: ما شأنه أهجر قال الراوي يعني: هذى! استفهموه فذهبوا يعيدون عليه فقال:
دعوني... الحديث.
وفي صحيح مسلم 5 / 76، وتاريخ الطبري 3 / 193، وطبقات ابن سعد 2 / 243 ولفظه: " إنما يهجر
رسول الله).
2) البخاري كتاب العلم باب العلم 1 / 22.
41

وفي رواية لعمر ذكر كيفية تنازعهم قال:
كنا عند النبي وبيننا وبين النساء حجاب فقال رسول الله (ص): اغسلوني
بسبع قرب، وأتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده فقالت النسوة 1:
إئتوا رسول الله بحاجته فقال عمر فقلت: اسكتن فإنكن صواحبه إذا مرض عصرتن
أعينكن وإن صح أخذتن بعنقه، فقال رسول الله (ص): هن خير منكم " 2.
وفي رواية أخرى ان زينب زوج النبي (ص) قالت: ألا تسمعون النبي (ص)
يعهد إليكم فلغطوا فقال: قوموا فلما قاموا قبض النبي مكانه 3.
ويظهر من بعض الأحاديث أنهم نشطوا لمنع كتابة حديث الرسول قبل ذلك
وفي زمان صحة الرسول، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: " كتب أكتب كل شئ
أسمعه من رسول الله (ص) فنهتني قريش وقالوا: تكتب كل شئ سمعته من رسول
الله (ص) ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة فذكرت
ذلك لرسول الله فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: " اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه
إلا حق. 4 "
قد كشفوا النقاب في حديثهم مع عبد الله عن سبب منعهم من كتابة حديث
الرسول، وهو خشيتهم من أن يروى عنه حديث في حق أناس قاله فيهم حال رضاه
عنهم، وفي حق آخرين ما قاله في حال غضبه عليهم.
ومن هنا نعرف سبب منعهم كتابة وصية الرسول في آخر ساعات حياته،

(1) في إمتاع الأسماع ص 546 فقالت زينب بنت جحش وصواحبها.
2) طبقات ابن سعد ط بيروت 2 / 243 - 244 باب الكتاب الذي أراد ان يكتبه الرسول لامته،
ونهاية الإرب 18 / 357، وكنز العمال الطبعة الأولى 3 / 138 و 4 / 52.
3) طبقات ابن سعد 2 / 244.
4) سنن الدارمي 1 / 125 باب من رخص في الكتابة من المقدمة وسنن أبي داود 2 / 126 باب كتابة
العلم، ومسند أحمد 2 / 162 و 207 و 216، ومستدرك الحاكم 1 / 105 - 106، وجامع بيان العلم وفضله
لابن عبد البر 1 / 85 ط. الثانية، ط العاصمة بالقاهرة سنة 1388.
و عبد الله بن عمرو بن العاص قرشي سهمي وأمه ريطة بنت منبه السهمي كان أصغر من أبيه بإحدى
عشرة أو اثنتي عشرة سنة. اختلفوا في وفاته أكان بمصر أو الطائف أو مكة وعام 63 أو 65. راجع ترجمته بأسد
الغابة 3 / 23، والنبلاء 3 / 56، وتهذيب التهذيب 5 / 337.
42

ولماذا أحدثوا اللغط والضوضاء حتى توفي دون أن يكتب وصيته.
وسبب منعهم من كتابة حديث الرسول عندما ولوا الحكم ولم يبق مانع من
ذلك.
43

منع كتابة الحديث على عهد الخلفاء الثلاثة
في طبقات ابن سعد: " ان الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد
الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بما أمر بتحريقها 1 ".
وبقى هذا المنع نافذا حتى ولي الحكم عمر بن عبد العزيز الأموي 2 فرفع المنع
وكتب إلى أهل المدينة: " ان انظروا حديث رسول الله فاكتبوه فاني قد خفت دروس
العلم وذهاب أهله. "
وكان ابن شهاب الزهري أول من دون الحديث على رأس المائة بأمر عمر بن
عبد العزيز ثم كثر التدوين والتصنيف 3.
منعت مدرسة الخلفاء من تدوين حديث الرسول إلى رأس المائة من هجرة
الرسول وليتهم اكتفوا بذلك بل منعوا من رواية حديث الرسول كذلك.
روى الذهبي أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: " إنكم تحدثون عن
رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن
رسول الله شيئا فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا
حرامه 4. "

(1) طبقات ابن سعد 5 / 140 بترجمة القاسم بن محمد بن أبي بكر.
2) أبو حفص عمر بن عبد العزيز. ولي الخلافة سنة 99 فرفع اللعن عن الإمام علي، وأرجع فدكا إلى
ورثة الزهراء، وامر بكتابة الحديث وله حسنات أخرى. توفي سنة 101 ه‍. راجع ترجمته بتاريخ الخلفاء للسيوطي،
وتقرب التهذيب. مقدمة الدارمي ص 126. 3) فتح الباري باب كتابة العلم 1 / 218.
4) تذكرة الحفاظ للذهبي بترجمة أبي بكر 1 / 2 - 3.
44

وروى عن قرظة بن كعب أنه قال: " لما سيرنا عمر إلى العراق مشى معنا
عمر إلى صرار، ثم قال: أتدرون لم شيعتكم؟ قلنا: أردت ان تشيعنا وتكرمنا. قال: إن
مع ذلك لحاجة، إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم
بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم قال قرظة: فما حدثت بعده حديثا عن رسول
الله (ص) ".
وفي رواية أخرى: فلما قدم قرظة بن كعب قالوا: حدثنا، فقال: نهانا عمر 1.
وعن عبد الرحمن بن عوف قال: ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى
أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة
بن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟
قالوا: تنهانا؟
قال: لا، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم نأخذ
منكم ونرد عليكم فما فارقوه حتى مات 2.
وروى الذهبي ان عمر حبس ثلاثة ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود

(1) أخرجها ابن عبد البر بثلاثة أسانيد في جامع بيان العلم باب ذكر من ذم الاكثار من الحديث دون
التفهم له 2 / 147، وتذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 4 - 5.
وقرظة بن كعب أنصاري خزرجي، في أسد الغابة هو أحد العشرة الذين وجههم عمر مع عمار بن ياسر
إلى الكوفة. شهد أحدا وما بعدها، وفتح الري سنة 23. ولاه علي على الكوفة لما سار إلى الجمل، وتوفي بها في
خلافته. أسد الغابة 4 / 203.
2) الحديث رقم 4865 من الكنز. ط الأولى ج 5 / 239، ومنتخبه ج 4 / 61. و عبد الرحمن بن عوف
القرشي الزهري، آخى الرسول بينه وبين عثمان من المهاجرين وجعل عمر تعيين الخليفة بيده في الشورى
فصفق على يد عثمان توفي بالمدينة عام 31 أو 32 ه‍. روى عنه أصحاب الصحاح 65 حديثا. راجع فصل
الشورى من عبد الله سبأ ج 1 وجوامع السيرة ص 279.
و عبد الله بن حذيفة لم أجد ترجمته ولعله عبد الله بن حذافة القرشي السهمي من قدماء المهاجرين مات
بمصر في خلافة عثمان: تقريب التهذيب 1 / 49.
وأبو الدرداء عويمر أو عامر بن مالك الأنصاري الخزرجي، وأمه محبة بنت واقد ابن الإطنابة تأخر
اسلامه وشهد الخندق وما بعدها، آخى النبي بينه وبين سلمان، ولى قضاء دمشق على عهد عثمان، وتوفي بها
عام 33 أو 32 ه‍. روى عنه أصحاب الصحاح 179 حديثا. أسد الغابة 5 / 159 - 160 و 187 و 188،
وجوامع السيرة ص 277.
وعقبة بن عامر اثنان: جهني وروى عنه أصحاب الصحاح 55 حديثا، وأنصاري سلمي أسد الغابة
4 / 417، وجوامع السيرة ص 179.
45

الأنصاري فقال: أكثرتم الحديث عن رسول الله 1.
وكان يقول للصحابة: أقلوا الرواية عن رسول الله إلا في ما يعمل به 2.
هذه الرواية تتفق مع رواية عبد الله بن عمرو بن العاص في المغزى من أن
قريشا نهته ان يكتب كل شئ سمعه عن رسول الله.
كان ما ذكرناه على عهد الخليفتين أبي بكر وعمر، أما عثمان فقد أقر ذلك
حيث قال على المنبر: " لا يحل لاحد يروي حديثا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا في
عهد عمر 3. "
ويظهر ان في هذا العصر كان ما رواه الدارمي وغيره: ان أبا ذر كان جالسا
عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع الناس يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه، ثم قال: ألم
تنه عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه، فقال: أرقيب أنت على؟! لو وضعتم الصمصامة على
هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت اني أنفذ كلمة سمعت من رسول الله (ص) قبل ان تجيزوا
علي لأنفذته 4.
وفي هذا العصر كان - أيضا - ما رواه الأحنف بن قيس قال: أتيت الشام
فجمعت 5 فإذا رجل لا ينتهي إلى سارية إلا خر 6 أهلها، يصلي ويخف صلاته. قال:
فجلست إليه، فقلت له: يا عبد الله من أنت؟ قال أنا أبو ذر، فقال لي: فأنت من

(1) تذكرة الحفاظ 1 / 7 بترجمة عمر.
وابن مسعود هو أبو عبد الرحمن، عبد الله بن مسعود الهذلي، وأمه أم عبد بنت عبد ود الهذلي. كان أبوه
حليف بني زهرة. أسلم عبد الله قديما واجهر بالقرآن في مكة فضربوه حتى أدموه وهاجر إلى الحبشة والمدينة،
وشهد بدرا وما بعدها وقطع عثمان عطاءه سنتين لانكاره على الوليد ما ارتكبه أزمان ولايته على الكوفة ومات
سنة اثنتين وثلاثين وأوصى ان لا يصلي عليه عثمان. أسد الغاية 3 / 256 - 260. ومستدرك الحاكم 3 / 315
و 320 وراجع أحاديث عائشة 62 - 65 وأبو مسعود الأنصاري عقبة بن عمرو البدري، اختلف في وفاته. أسد
الغابة 5 / 296.
2) تاريخ ابن كثير 8 / 107.
3) منتخب الكنز بهامش مسند أحمد 4 / 64.
4) إنما قلنا كان ذلك في عصر عثمان لان أحدا من الصحابة ما كان يجرأ على تحدى أوامر السلطة على
عهد الخليفة عمر، والرواية في سنن الدارمي 1 / 132، وطبقات ابن سعد 2 / 354 بترجمة أبي ذر واختز له
البخاري وأورده في باب العلم قبل القول في صحيحه 1 / 161، وأجاز على الجريح: أجهز عليه.
5) فجمعت اي حضرت الصلاة يوم الجمعة.
6) لعل الصواب: فر أهلها.
46

أنت؟ قال: قلت: الأحنف بن قيس. قال: قم عني لا أعدك بشر، فقلت له: كيف
تعدني بشر، قال: إن هذا - يعني معاوية - نادى مناديه: " ألا يجالسني أحد 1. "
ومن أجل مخالفته لأوامر السلطة، نفى أبو ذر من بلد إلى بلد حتى لقى حتفه
طريدا فريدا بالربذة سنة 31 ه‍.
هذه أمثله مما كان على عهد الخلفاء الثلاثة من الحظر على الصحابة في نشر
أحاديث الرسول، غير أنهم جمجموا في الكلام ولم يفصحوا عن السبب كما فعله معاوية
على عهده.
على عهد معاوية
روى الطبري ان معاوية لما استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى
وأربعين وأمره عليها دعاه وقال له: قد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها
اعتمادا على بصرك. ولست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمه،
والترحم على عثمان والاستغفار له والعيب لأصحاب علي والاقصاء لهم، والاطراء
لشيعة عثمان والادناء لهم، فقال له المغيرة: قد جربت وجربت، وعملت قبلك
لغيرك، فلم يذممني وستبلو فتحمد أو تذم، فقال: بل نحمد إن شاء الله 2.
وروى المدائني في كتاب الاحداث وقال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى

(1) طبقات ابن سعد 4 / 168.
وأبو بحر الأحنف بن قيس التميمي السعدي لقب بالأحنف لحنف كان برجله. أدرك الرسول ولم يره.
اعتزل الحرب في الجمل وشهد صفين مع الإمام علي، وتوفي بالكوفة سنة سبع وستين. روى عنه جميع أصحاب
الصحاح. ترجمته بأسد الغاية وتقريب التهذيب.
2) في ذكر حوادث سنة 51 ه‍ من كل من الطبري 2 / 112 - 113 و 2 / 38، وابن الأثير 3 / 102.
والمغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي، أمه امامة بنت الأفقم، أسلم عام الخندق وكان سبب اسلامه ما
ذكره الواقدي في مغازيه 2 / 595 - 598 قال كان قد خرج مع أربعة عشر إلى المقوس فآثرهم عليه.
فلما رجعوا وكانوا بين خيبر والمدينة، شربوا خمرا فكف المغيرة عن بعض الشراب فسكر ثلاثة عشر من
حلفائه فوثب عليهم وقتلهم عن آخرهم وهرب الرابع عشر فأخذ أمتعتهم وأموالهم ولحق بالنبي وأظهر الاسلام.
فقال النبي لا اخمسه هذا غدر، فدفع عمه عروة بن مسعود ثلاثة عشر دية عنه وفي زمن ولايته على البصرة
شهدوا عليه بالزنى وأثر الخليفة عمر على أحدهم فحرف شهادته فدرأ عنه الحد، كما أوردناه في فصل زناء المغيرة
من " عبد الله بن سبا ج 1 " ومات في ولايته على الكوفة سنة 50 ه‍. روى عنه أصحاب الصحاح 136 حديثا.
ترجمته بأسد الغابة وجوامع السيرة ص 278.
47

عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته
وكان أشد البلاء حينئذ أهل الكوفة 1.
وفى هذا السبيل قتل حجر بن عدي وأصحابه صبرا وقتل وصلب رشيد
الهجري وميثم التمار 2.
هكذا خنقت مدرسة الخلفاء أنفاس الصحابة والتابعين وقضت على من
خالف سياستهم، وفي مقابل ذلك فتحت الباب لآخرين أن يتحدثوا بين المسلمين كما
يشاؤن وكما نشير إليه في ما يأتي:
فتح الروافد الإسرائيلية
ان مدرسة الخلفاء حين أغلقت على المسلمين باب التحديث عن رسول
الله (ص) كما أشرنا إليه في ما مضي، فتحت لهم باب الأحاديث الإسرائيلية على
مصراعيه. وذلك بالسماح لأمثال تميم الداري الراهب النصراني 3، وكعب أحبار

(1) برواية ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عنه.
2) حجر بن عدي بن معاوية الكندي المعروف بحجر الخير. وفد على النبي وشهد القادسية وشهد مع علي
الجمل وصفين، وكان على كندة وعلى الميسرة بنهروان. ولما أنكر على زياد بن أبيه لعن الإمام علي وحصبه
يوما لتأخيره الصلاة فبعثه وجماعة بأمر من معاوية إلى الشام فأمر معاوية بقتل من لم يتبرأ من الامام وقتل على
ذلك حجر " بمرج عذراء " سنة إحدى وخمسين ه‍. راجع تفصيل قصته في عبد الله بن سبأ ج 2 فصل حقيقة ابن
سبأ والسبائية.
ورشيد الهجري نسبة إلى مدينة هجر باليمن. قيل هو رشيد الفارسي مولى بني معاوية من الأنصار ترجمته
في الاستيعاب وأسد الغابة وفي لغة الهجري من اللباب عداده في أهل الكوفة كان يؤمن بالرجعة وتكلم في ذلك
بالكوفة، فقطع زياد لسانه وصلبه، ترجمته برجال الكشي ص 78.
وميثم بن يحيى التمار، كان عبدا لامرأة من بني أسد فاشتراه الإمام علي وأعتقه ولما جلبه ابن زياد قال:
سلوني قبل ان اقتل فلما سأله الناس وحدثهم ارسل ابن زياد من ألجمه بلجام وهو أول من ألجم في الاسلام.
خبره في رجال الكشي ص 81 - 84.
3) أبو رقية تميم بن أوس الداري كان نصرانيا من علماء أهل الكتابين وراهب أهل عصره وعابد
فلسطين.
قدم المدينة بعد غزوة تبوك وأظهر الاسلام بعد سرقة ثبتت عليه ليدفع باسلامه ما أدين به، وذلك أنه
خرج مع رجل من بني سهم وعدي بن بداء في تجارة إلى الشام، فمات السهمي وأوصى ان يبلغا متاعه إلى أهله
وكان قد دس فيه وصيته واخذا من متاعه ما أعجبهما وكان في ما أخذا اناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا
مموها بالذهب. فلما دفعا بقية المال إلى ورثته فقدوا بعض متاعه فنظروا إلى الوصية فوجدوا المال فيه تاما لم يبع منه
ولم يهب، فرفعوا أمرهما إلى النبي فحلفهما النبي عند المنبر بعد صلاة العصر، فحلفا انهما لم يخونا فخلى سبيلهما. ثم
وجدا الآنية عند تميم فرفعوهما إلى النبي ثانية فنزلت الآيات: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " فحلف
السهميان ان الآنية من متاع صاحبنا فأخذوها وبقية المتاع من تميم وصاحبه ثم اعترف تميم بالخيانة فقال له
النبي ويحك يا تميم أسلم يتجاوز الله عنك فأسلم.
عاش هذا في المدينة إلى عصر عمر وعلى عهده كان يعظمه عمر ويقول فيه خير أهل المدينة وألحقه
بأهل بدر في العطاء، ولما سن قبام شهر رمضان في العام الرابع عشر أمره وأبيا أن يصليا بالناس، وبعد قتل
عثمان انتقل إلى الشام وعاش في كنف معاوية وتوفي في سنة أربعين للهجرة قد أوردنا قصة تميم وترجمته بإيجاز
في كتاب (من تاريخ الحديث) وهناك تفصيل قضاياه ومصادرها.
48

اليهود. وكانا قد أظهرا الاسلام بعد انتشار الاسلام، وتقربا إلى الخلفاء بعد الرسول
ففسحت مدرسة الخلفاء لهما ولأمثالهما المجال أن يبثوا الأحاديث الإسرائيلية بين
المسلمين كما يشاؤن، وقد خصص الخليفة عمر للأول ساعة في كل أسبوع يتحدث فيها
قبل صلاة الجمعة بمسجد الرسول، وجعلها عثمان على عهده ساعتين في يومين.
أما كعب أحبار اليهود 1 فكان الخلفاء عمرو عثمان 2 ومعاوية يسألونه عن
مبدأ الخلق وقضايا المعاد، وتفسير القرآن، إلى غير ذلك.
وروى عنهما صحابة أمثال أنس بن مالك وأبي هريرة 3 و عبد الله بن عمر بن
الخطاب و عبد الله بن الزبير ومعاوية ونظرائهم من الصحابة والتابعين.
ولم يقتصر نقل الإسرائيليات بهذين العالمين من علماء أهل الكتاب وتلاميذهما

1) أبو إسحاق كعب بن مانع. كان من كبار علماء أهل الكتاب ومن أحبار اليهود باليمن. قدم المدينة،
وأظهر الاسلام على عهد عمر وبقى بها بطلب منه. وارتحل منها إلى الشام عندما ظهرت أمارات الثورة على
عثمان. وعاش في كنف معاوية مرعى الجانب. ومات بحمص سنة 34 ه‍ بعد ان بلغ أربعا ومائة سنة. راجع
ترجمته بكتابنا من تاريخ الحديث.
وان كعب أحبار اليهود هذا والمعلوم وجوده هو الذي أثر على الفكر الاسلامي في بعض جوانبه وليس
عبد الله بن سبا المختلق هو الذي اثر على الصحابة والتابعين كما زعموا. ارجع كتاب عبد الله بن سبأ للمؤلف.
2) عثمان بن عفان بن أبي العاص القرشي الأموي، وأمه اروى بنت كريز الأموي. وأم اروى
البيضاء، بنت عبد المطلب عمة النبي، وتزوج من رقية بنت رسول الله وهاجرا إلى الحبشة ثم المدينة. وبعد
وفاتها، تزوج من أختها أم كلثوم التي توفيت على أثر التعذيب ولم يعقب منهما. وبايعه عبد الرحمن بن عوف لما
أبى علي من شرط العمل بسيرة الشيخين غرة محرم 24 ه‍ وفي خلافته، أساء بنو أمية ولاته على الولايات السلوك
مع المسلمين فثاروا عليه بقيادة قريش في ذي الحجة سنة 36 ه‍ ومنعوا دفنه في البقيع فدفن في حش كوكب.
روى عنه أصحاب الصحاح 146 حديثا جوامع السيرة ص 277، وأحاديث عائشة فصل في عصر الصهرين.
3) أبو هريرة الدوسي اختلفوا في اسمه ونسبه رووا عنه 5374 حديثا، وتوفي سنة 57 أو 58 راجع
جوامع السيرة 276، وكتاب شيخ المضيرة لعالم مصر الراحل الشيخ محمود أبو رية.
49

فحسب، بل قام به ثلة معهما ومن بعدهما كذلك وامتد حتى عهد الخلافة العباسية ما
عدا فترة حكم الإمام علي الذي طردهم من مساجد المسلمين، وسمي هؤلاء
بالقصاصين. وأثروا على الفكر الاسلامي بمدرسة الخلفاء أثرا عظيما، ومن ثم دخلت
الثقافة الإسرائيلية في الاسلام وصبغته في جانب منه بلونها، ومن هنا انتشر بمدرسة
الخلفاء الاعتقاد بأن الله جسم، وأن الأنبياء تصدر منهم المعاصي، والنظرة إلى المبدأ
والمعاد إلى غيرها من أفكار إسرائيلية، وعظم نفوذ هؤلاء على العهد الأموي وخاصة في
سلطان معاوية، حيث اتخذ بطانة من النصارى أمثال كاتبه سرجون، وطبيبه ابن
أثال 1، وشاعره الأخطل 2 من نصارى عصره، ومن المعلوم ان هؤلاء عندما شكلوا

(1) سرجون، في ذكر اخبار معاوية من تاريخ الطبري ج 2 / 205، وابن الأثير ج 4 / 7. وكان كاتبه
وصاحب سره سرجون بن منصور الرومي. وكتب بعده ليزيد، وفي الأغاني ج 16 / 68 كان يزيد ينادم على
شرب الخمر سرجون النصراني مولاه وهو الذي أشار على يزيد ان يولي على الكوفة ابن زياد لما بلغه خبر مسلم بن
عقيل بها. الطبري ج 2 / 228 و 239، وابن الأثير ج 4 / 17، وكتب ابنه لعبد الملك. التنبيه والاشراف
للمسعودي ص 261، وراجع الخطط للمقريزي ج 1 / 159.
ابن أثال، لما أراد معاوية ان يبايع لابنه يزيد بولاية العهد من بعده، رأى ميل أهل الشام إلى عبد الرحمن
بن خالد بن الوليد. فأمر طبيبه ابن أثال ان يسمه، ووعده ان يضع عنه الخراج لمدة سنة ويوليه على خراج
حمص، ففعل وبر بوعده معاوية فقتله خالد بن عبد الرحمن أو ابن أخيه المهاجر. الأغاني 15 / 12 - 13،
وتاريخ الطبري 2 / 82 - 83، وابن الأثير 3 / 378، وقال اليعقوبي في ج 2 / 223 من تاريخه: استعمل معاوية
ابن أثال النصراني على خراج حمص لم يستعمل النصارى أحد من الخلفاء قبله... الحديث.
2) أبو مالك غياث بن غوث الأخطل من نصارى تغلب. ولد في أوائل خلافة عمر، وتوفي سنة 95 ه‍.
ذكر الجاحظ في سبب تقربه للأمويين، أن معاوية أراد أن يهجو الأنصار لان أكثرهم كانوا أصحاب
علي بن أبي طالب، ولا يرون رأى معاوية في الخلافة. فطلب ابنه يزيد من كعب ابن جعيل ان يهجوهم فأبى ذلك
وقال: ولكني أدلك على غلام منا نصراني كان لسانه لسان ثور لا يبالي ان يهجوهم فدلهم على الأخطل، البيان
والتبيين ج 1 / 86.
وفي الأغاني 13 / 142 عن كعب بن جعيل، قال: إن يزيد بن معاوية قال له: ان ابن حسان قد فضح
عبد الرحمن بن الحكم وفضحنا - كانت له قصة مع زوجة ابن الحكم - فاهج الأنصار، فقال له: أرادي أنت
في الشرك؟ أأهجو قوما نصروا رسول الله وآووه ولكني أدلك على غلام منا نصراني... الحديث.
وفى رواية أخرى بعدها: ان معاوية دس إلى كعب وأمر بهجائهم فدله على الأخطل... فهجاهم
وكان في شعره:
ذهبت قريش بالمكارم والعلا * واللؤم تحت عمائم الأنصار
وروي ان الأنصار استعدوا على الأخطل معاوية فقال: لكم لسانه الا أن يكون ابني قد أجاره ودس
إلى يزيد من وقته: " اني قد قلت للقوم كيت وكيت فأجره... " ج 13 / 147.
وفي ج 8 / 299 قالوا فيه: " نصراني كافر يهجو المسلمين وكان يجئ وعليه جبة خز وحرز خز في عنقه
سلسلة ذهب فيها صليب ذهب تنفض لحيته خمرا حتى يدخل على عبد الملك بن مروان بغير اذن.
وكذلك أنشد شعرا بباب مسجد الكوفة ج 8 / 321.
وكان ينادم يزيد ويسكر معه ج 16 / 68، وخرج مع يزيد عام حج به. الأغاني ج 8 / 301.
50

البلاط الأموي لم يتركوا أفكارهم المسيحية وأعرافهم خلفهم، بل حملوها معهم إلى
بلاط الخلافة الأموية. أضف إلى هذا ان عاصمة معاوية الشام كانت قبل ذلك عاصمة
لنصارى الروم البيزنطيين، وكانت ذات حضارة عريقة. هذا ما كان من أمر المحيط
الذي انتقل إليه معاوية.
أما معاوية نفسه، فكان قد نشأ في وسط أغلظ الجاهليات القبلية التي حاربت
الاسلام وأعرافه حتى أخضعها الاسلام بقوة السيف. نشأ فيها حتى صلب عوده،
وانتقل على كبر سنه من مكة بعد فتحها إلى المدينة، ومن الجاهلية إلى الاسلام 1، ولم
يمكث في المجتمع الاسلامي الناشئ إلا وقتا قصيرا لا يكفي ليتطبع فيه بالطابع
الاسلامي الجديد عليه ويتمرن به ليستطيع أن يؤثر على ذلك المجتمع الذي امتدت
حضارته إلى آماد بعيدة في الدهر، بل هو الذي تأثر بها.
وكان معاوية يبعد من ذلك المجتمع من كان يعترض سبيله من صحابة تطبعوا
بالطابع الاسلامي الأصيل نظراء أبي ذر وأبي الدرداء وقراء أهل الكوفة 2.
كل تلكم كانت عوامل أدت إلى صبغ مدرسة الخلفاء منذ عصر معاوية بطابع
ثقافة أهل الكتاب، ولم تدرس تلك العوامل حتى اليوم دراسة موضوعية ليعرف مدى
اثرها على تلكم المدرسة.
وكان معاوية بالإضافة إلى ما ذكرنا متطبعا بالطابع الجاهلي ملتزما بأعرافه
من التعصب القبلي، وإحياء آثاره 3، وكانت له مع ذلك أهداف أخرى من قبيل

1) راجع باب مع معاوية من كتاب أحاديث عائشة.
2) راجع أحاديث عائشة فصل مع معاوية ص 237، وشرح النهج للمعتزلي ط. مصر الأولى 1 / 159
- 160.
3) في الأغاني ط. دار الكتب 2 / 241 - 251.
عندما كان مروان واليا لمعاوية على المدينة، حد عبد الرحمن بن أرطاة على شرب الخمر. وكان في
الجاهلية حليف حرب جد معاوية، فكتب إليه معاوية أما بعد فإنك جلدت حليف حرب امام الناس ثمانين
جلدة، ولو كان حليف أبيك مروان لما فضحته. اما والله اما ان تفسد حدك وتعلن خطأك وترد اعتباره، أو ان
أبطل حدك وآمره بجلدك ثمانين قصاصا... ففعل مروان ما أمره معاوية، الحديث.
ومن ذلك أيضا الحاقه زيادا بنسب أبيه وفقا للأعراف الجاهلية، وخلافا للأحكام الاسلامية، والتي
تنص على أن الولد للفراش وللعاهر الحجر. راجع أحاديث أم المؤمنين عائشة وفصل استلحاق زياد من عبد الله
بن سبأ ج 1.
وروى ابن عبد ربه في العقد الفريد ج 3 / 413 ان معاوية دعا الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب
فقال: " اني رأيت هذه الحمراء (لقب يطلق على غير العرب) قد كثرت، وأراها قد طعنت على السلف وكأني
انظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان، فقد رأيت أن أقتل شطرا وادع شطرا لإقامة السوق وعمارة
الطريق... ".
فخالفه الحنف ورد عليه وقال سمرة " اجعلها إلي أيها الأمير فانا أتولى ذلك منهم وأبلغ إلى ما تريد
منه " وأخيرا عدل معاوية عن رأيه في قتلهم.
51

توريث السلطة في عقبه، وكسر شوكة المعارضين له من المحافظين الذي يشهرون في
وجهه سلاح سيرة الرسول، وكان لابد له في علاج كل ذلك للوصول إلى أغراضه
الجاهلية وأهدافه الخاصة أن يصنع شيئا، فاستمد في هذا السبيل من بعض بقايا
الصحابة ممن كان في دينه رقة، وفي نفسه ضعف من أمثال عمرو بن العاص، وسمرة
بن جندب 1، وأبي هريرة. فاستجابوا له ووضعوا له من الحديث ما يساعده، ثم رووه
عن رسول الله (ص).
مثال ذلك ما رواه المدائني في كتاب الاحداث قال:
كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة 2 أن برئت الذمة ممن
روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته.
وكتب إليهم ان انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته
والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم، وقربوهم وأكرموهم واكتبوا إلي بكل
ما يروى كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتى أكثروا في
فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعث إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء
والقطائع ويفيضه في العرب منهم والموالي فكثر ذلك وتنافسوا في المنازل والدنيا فليس

1) سمرة بن جندب بن الهلالي الفزاري. قدمت به أمه المدينة بعد موت أبيه، فتزوجها شيبان بن ثعلبة
الأنصاري. وحالف سمرة الأنصار قال رسول الله لبعض أصحابه وفيهم سمرة: آخركم موتا في النار. فكان
سمرة آخرهم موتا. مات سنة 59 في البصرة. ترجمته بأسد الغابة والنبلاء، اخرج له جميع أصحاب الصحاح
واخباره مع معاوية وما وضع له من حديث وعدد من قتل في امارته بكتاب أحاديث عائشة ص 297 - 298.
2) عام الجماعة يأتي تفسيره.
52

يجئ أحد مردود من الناس عاملا من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة
إلا كتب اسمه وقربه وشفعه فلبثوا بذلك حينا. ثم كتب إلى عماله: إن الحديث في
عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا
الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من
المسلمين في أبي تراب إلا وأتوني بمناقض له في الصحابة مفتعلة فان هذا أحب إلي،
وأقر لعيني، وادحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله
فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها.
وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، والقي إلى
معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه
كما يتعلمون القرآن وحتى علموهم بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك
ما شاء الله.
فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة
والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون والمستضعفون الذين يظهرون
الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم
ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي
الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق ولو
علموا انها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها 1.
وقد سمى ابن أبي الحديد قوما من الصحابة والتابعين ممن وضعهم معاوية
لرواية الاخبار، وأخرجنا بعضها في كتابنا أحاديث عائشة 2.
وقد سموا كل تلكم الأحاديث الموضوعة بسنة النبي والويل لمن أنكرها ولم
يؤمن بها ولم يصدقها 3.

(1) ابن أبي الحديد في شرح " من كلام له (ع) وقد سأله سائل عن أحاديث البدع " رقم / 208
ج 3 / 15 - 16، واحمد امين في فجر الاسلام 275.
2) في شرح: ومن كلام له (ع) لأصحابه " اما انه سيظهر عليكم بعدي رجل " ج 1 / 358.
وفي كتاب أحاديث عائشة فصل نتائج البحث من باب مع معاوية ص 295 - 297.
3) روى الخطيب في ج 14 / 7 من تاريخ بغداد، انه ذكر عند الرشيد وعنده رجل من وجوه قريش
حديث أبي هريرة " ان موسى لقي آدم فقال: أنت آدم الذي أخرجتنا من الجنة. " فقال القرشي: أين لقي آدم
موسى قال: فغضب الرشيد وقال: النطع والسيف زنديق والله يطعن في حديث رسول الله، فما زال الراوي
- أبو معاوية - يسكنه ويقول: كانت منه بادرة ولم يفهم يا أمير المؤمنين، حتى سكنه.
53

كيف وجد الحديثان المتناقضان
لعل من الأحاديث التي رويت على عهد معاوية وسجلت في عداد أحاديث
الرسول واعتبرت من سنته، هي الأحاديث الآتية:
في صحيح مسلم وسنن الدارمي ومسند أحمد واللفظ للأول، ان رسول
الله (ص) قال:
" لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه 1 ".
وفي رواية: " انهم استأذنوا النبي (ص) في أن يكتبوا عنه فلم يأذن لهم 2 ".
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود عن زيد بن ثابت:
ان رسول الله (ص) نهى ان يكتب شيئا من حديثه 3.
وفي مسند أحمد، عن أبي هريرة قال: كنا قعود نكتب أو نسمع من النبي (ص)
فخرج علينا فقال: ما هذا تكتبون؟
فقلنا: ما نسمع منك.
فقال: أكتاب مع كتاب الله؟
فقلنا: ما نسمع.
فقال: اكتبوا كتاب الله، امحضوا كتاب الله. أكتاب غير كتاب الله؟ امحضوا
كتاب الله.
فقال: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد، ثم أحرقناه بالنار 4.
ان صحت هذه الأحاديث فما على المسلمين الا ان يجمعوا جميع مصادر
الدراسات الاسلامية والتي حوت أحاديث الرسول، أو كان فيها شئ من حديثه مثل
الصحاح والسنن والمسانيد والسير والتفاسير ويحرقوها أو يلقوها في البحر!!!
وبناء على ذلك لست أدري ماذا يبقى من شرائع الاسلام إذا ألقينا بجميع

1) صحيح مسلم 4 / 97 - كتاب الزهد، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم ح 72. وسنن
الدارمي 1 / 119 المقدمة باب 42، ومسند أحمد 3 / 12 و 39 و 56.
2) سنن الدارمي المقدمة باب 42.
3) مسند أحمد 3 / 12 - 13.
4) مسند أحمد 5 / 182، وسنن أبي داود كتاب العلم 3 / 319.
54

مصادر سنة الرسول في البحر؟ لا. لم يتفوه رسول الله (ص) بتلك الأحاديث، وإنما قال
في خطبته بمنى في حجة الوداع:
" نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم يسمعها، فكم من حامل فقه
إلى من هو أفقه منه " الحديث 1.
وفي حديث آخر " فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه
منه. 2 "
وفي رواية أخرى قال رسول الله: " نضر الله امرءا سمع منا حديثا فأداه كما
يسمع، فرب مبلغ أوعى من سامع " 3.
وفي أخرى قال النبي (ص):
ليبلغ الشاهد الغائب، فان الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه 4.
وقال (ص):
" اللهم ارحم خلفائي! اللهم ارحم خلفائي! اللهم ارحم خلفائي! قيل له
يا رسول الله من خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنتي 5 ".
وفي باب كتابة العلم من البخاري: ان رجلا من أهل اليمن سمع حديث
رسول الله فقال: اكتب لي يا رسول الله فقال: اكتبوا لأبي فلان 6.
وروى أن رجلا من الأنصار كان يجلس إلى النبي فيسمع من الحديث فيعجبه

1، 2، 3) راجع مصادره فيما سبق باب تعريف مصطلح الفقه، وبدائع المنن ج 1 / 14.
4) صحيح البخاري ج 1 / 24، ط بولاق، كتاب العلم باب قول النبي: رب مبلغ...، وفي كنز
العمال ط / 102 / 133، ح 1126، سنن ابن ماجة ج 1 / 85، ح 233، بحار الأنوار ج 2 / 152، ح 42.
5) معاني الأخبار ص 374 - 375، عيون الأخبار ط النجف الاشراف ج 2 / 36، من لا يحضره
الفقيه، تحقيق علي أكبر غفاري ج 4 / 420، بحار الأنوار ج 2 / 152، ح 7.
وفي مصادر مدرسة الخلفاء: المحدث الفاصل للرامهرمزي، باب فضل الناقل عن رسول الله ص 163،
وقواعد التحديث للقاسمي، باب فضل راوي الحديث ط 2 ص 48، شرف أصحاب الحديث للخطيب
البغدادي، باب كون أصحاب الحديث خلفاء الرسول ص 30، جامع بيان العلم لابن عبد البر ج 1 / 55، اخبار
أصبهان لأبي نعيم ج 1 / 81، الفتح الكبير للسيوطي، عن أبي سعيد ج 1 / 233، كنز العمال للمتقي، كتاب العلم
باب آداب العلم، فصل رواية الحديث وآداب الكتابة، عن علي (ع) وابن عباس ط 2 ج 10 / 128 و 133
ح 1086 و 1127 و ج 10 / 181، ح 1407، والالماع للقاضي عياض، باب شرف علم الحديث و. شرف
أهله، ص 11.
6) صحيح البخاري ج 1 / 22 وأبو فلان هو أبو شاة كما في الترمذي ج 10 / 135.
55

ولا يحفظه فشكا ذلك إلى النبي (ص) فقال له رسول الله (ص): " استعن بيمينك "
وأومأ بيده أي خط 1.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قلت: يا رسول الله اكتب كل
ما أسمع منك؟ قال: " نعم " قلت: في الرضا والغضب؟ قال: (نعم فاني لا أقول في
ذلك كله الا حقا).
وفي رواية اني اسمع منك أشياء فأكتبها؟ قال: نعم 2.
وعن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول
الله (ص) أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا تكتب كل شئ سمعته من رسول
الله (ص) ورسول الله (ص) بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتابة
فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال اكتب فوالذي نفسي بيده ما
خرج منه الا حق 3.
وفي رواية أخرى بعد هذا: ان أتى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله (ص)
اني أروي من حديثك فأردت أن أستعين بكتاب يدي مع قلبي ان رأيت ذلك، فقال
رسول الله (ص): " إن كان حديثي ثم استعن بيدك مع قلبك. "
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
قلت: يا رسول الله انا نسمع منك أحاديث لا نحفظها، أفلا نكتبها؟ قال: بلى،
فاكتبوها 4.
إذا كان الرسول (ص) قد أمر وحث على تدوين أحاديثه ونشرها كما قرأناها
في الأحاديث الصحيحة الأخيرة، إذا فكيف رويت عنه الأحاديث السابقة التي كانت
تقول: ان الرسول نهى عن كتابة حديثه!
الجواب: انا رأينا ان قريشا اي المهاجرين من الأصحاب كانت تمنع من
كتابة حديث رسول الله في حياته، وأنها هي التي منعت من كتابة وصية الرسول قبيل

(1) سنن الترمذي كتاب العلم باب: ما جاء في الرخصة فيه ج 10 / 134.
2) مسند أحمد ج 2 / 207.
3) ذكرنا مصادره في أوائل باب موقف المدرستين من نشر حديث الرسول في القرن الأول.
4) مسند أحمد ج 2 / 215.
56

وفاته، وبعد وفاته - أيضا - رأينا الخليفة القرشي الثاني يمنع بشدة عن كتابة حديث
الرسول، ويحرق ما كتب منها، ويمنع من نشر حديث الرسول، ويسجن في المدينة من
خالف من الصحابة. وعلى نهجه سار الخليفة القرشي الثالث عثمان، وكان من
الطبيعي ان يسير في ركاب السلطة جمع من الصحابة.
ورأينا في الجانب الآخر في الصحابة من يخالف هذا الاتجاه، وينشر أحاديث
الرسول ويناله الارهاق والشدة مثل الصحابي أبو ذر. وسيأتي في البحوث الآتية بهذا
الكتاب إن شاء الله تعالى ان الإمام علي (ع) كان مشجعا لهذا الاتجاه، وكان من
الطبيعي تشجيعه لنشر حديث الرسول على عهد خلافته، ولما استشهد في محرابه وولي
معاوية الحكم لم يكن من الهين على معاوية بعد ذلك ان يمنع كتابة حديث الرسول ما
لا يريد نشره، وكان لابد له من مؤيد على هذا الاتجاه فرويت أحاديث " منع الرسول
من كتابة الحديث " في هذا العصر، وأنتج كل ذلك ان نجد في أحاديث الرسول هذا
التناقض:
أحاديث تروى عن رسول الله أنه قال: " اكتبوا حديثي ".
وأحاديث تروى أنه قال: " لا تكتبوا حديثي ".
وهكذا وجدت الأحاديث المتناقضة في الأحاديث المروية عن رسول
الله (ص).
وعلى هذا متى ما وجدنا الأحاديث متعارضة، ينبغي ان نترك ما يوافق اتجاه
السلطة الحاكمة مدى العصور.
ولا يفوتنا أخيرا ان نقول: إن المنع كان بقصد منع نشر فضائل الإمام علي (ع)
على المسلمين، خاصة على عهد معاوية الذي كان يأمر بلعن الامام في خطب الجمعة
على منابر المسلمين.
أشرنا في ما سبق إلى جانب مما اقتضته سياسة الحكم لدى معاوية وهو صرف
الناس من تجاه مدرسة أهل البيت إلى مدرسة الخلفاء، وبالإضافة إلى ذلك كان معاوية
بحاجة إلى تغيير رؤية المسلمين لامامهم أكثر فأكثر. فان رؤية المسلمين للحاكم
الاسلامي الأول رسول الله (ص)، وانه مثال للكمال الانساني، وانه لا تصدر منه
المعاصي، ولا ينساق وراء هوى نفسه. كان ذلك يمنع غير المنحرفين من أفراد الأمة من
57

الانسياق وراء معاوية، ومن قبول يزيد المخمور المعلن بالفسق لولاية العهد، ومن هنا
كان معاوية بحاجة إلى تغيير رؤية المسلمين إلى مثلهم الا على رسول الله، ولهذا ظهرت
أحاديث تري رسول الله في مستوى يزيد ومعاوية في الانجراف وراء هوى نفسه وقد
رويت تلك الأحاديث عن بعض أمهات المؤمنين وبعض صحابة رسول الله 1.
وكان - أيضا - في الأحاديث الإسرائيلية عن الأنبياء السابقين والتي
كان ينشرها علماء أهل الكتاب بين المسلمين إسنادا وتأييدا لما تتطلبه سياسة معاوية في
هذا الجانب، وزاد في الطين بلة المنع من كتابة حديث الرسول والاعتماد على ذاكرة
الرواة في ما يحدثون. ولهذا اختلط الحابل بالنابل، وامتزجت الإسرائيليات بالمروي من
أحاديث الرسول.
وهكذا تشكل الفكر الاسلامي في مدرسة الخلفاء بطابعه الخاص به على عهد
معاوية وكما أراده معاوية، وأصبح هذا الفكر الخاص بمدرسة الخلفاء هو الاسلام
الرسمي منذ عهد معاوية، وأصبح ما يخالفه مرفوضا ومنبوذا. وبقي الاسلام الرسمي أو
الفكر الاسلامي الذي رسمه معاوية كما أراده على ذلك الشكل والمحتوى حتى اليوم بعد
أن وضع استشهاد الحسين سبط رسول الله وأهل بيته حدا للانحراف بعد معاوية،
وكشف عن واقع الخليفة يزيد وجرد مقام الخلافة عن هالة القداسة التي كانت تتبرقع
بها، فأصبحت السلطة في جانب، والتمثيل الديني في جانب آخر.
كان هذا موقف مدرسة الخلفاء من حديث الرسول (ص) وسندرس موقف
مدرسة أهل البيت من حديث الرسول في ما يأتي من أبواب هذا الكتاب - إن شاء الله
تعالى -.

(1) راجع بعد هذا فصل ذكر الاختلاف في جانب العقائد لترى كيف رسمت مدرسة الخلفاء صورة خاتم
الأنبياء فانا نرى انها وضعت في عصر معاوية ولحساب معاوية.
58

معالم المدرستين - القسم الأول
البحث الثالث
الفصل الثالث
موقف المدرستين من الفقه والاجتهاد
59

ان الفقه والاجتهاد اختلط أحدهما بالآخر في المجتمع الاسلامي وامتزجا أخيرا
ولا يتيسر الفصل بينهما، وسوف نبدأ بدراسة الاجتهاد في مدرسة الخلفاء، ثم نشير إلى
موقف مدرسة أهل البيت من الفقه والاجتهاد في آخر الباب - إن شاء الله تعالى -.
تطور مدلول الاجتهاد بمدرسة الخلفاء
ان مصطلح الاجتهاد والمجتهد متأخر عن عصر الصحابة والتابعين بدهر. فان
الصحابة والتابعين كانوا يسمون تغيير الاحكام من قبلهم بالتأويل مثل ما ورد في خبر
قتل خالد بن الوليد عامل رسول الله مالك بن نويرة، فان خالدا اعتذر عن فعله وقال
للخليفة أبي بكر: " يا خليفة رسول الله! اني تأولت وأصبت وأخطأت ".
وقال أبو بكر في جواب عمر حين قال: إن خالدا زنى فارجمه: " ما كنت أرجمه
فإنه تأول فأخطأ " 1.
ومثل ما ورد في رواية الزهري عن عروة عن عائشة: " ان الصلاة أول ما
فرضت ركعتين فأقرت الصلاة في السفر وأتمت صلاة الحضر ".
قال الزهري: فقلت لعروة، ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال: إنها تأولت كما
تأول عثمان 2.

(1) راجع موارد اجتهاد أبى بكر.
2) صحيح مسلم باب صلاة المسافرين وقصرها ح 3، والبخاري 1 / 134 باب تقصير الصلاة وقد حذف
" في السفر " من لفظ الحديث حفظا لكرامة أم المؤمنين.
61

وقال ابن حزم في الفصل: وعمار (رض) قتله أبو الغادية. شهد - اي
عمار - بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وانزل السكينة عليه،
ورضي عنه فأبو الغادية متأول مجتهد مخطئ باغ عليه مأجور اجرا واحدا وليس هذا
كقتلة عثمان (رض) لأنهم لا مجال لهم للاجتهاد في قتله 1.
وقال ابن حجر في ترجمة أبي الغادية: والظن بالصحابة في كل تلك الحروب،
انهم كانوا فيها متأولين وللمجتهد المخطئ اجر. وإذا ثبت هذا في حق آحاد الناس
فثبوته للصحابة بالطريق الأولى 2.
وقال ابن حزم في المحلى وابن التركماني في الجوهر النقي: ولا خلاف بين
أحد من الأمة في أن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل عليا الا متأولا مجتهدا مقدرا انه على
صواب وفي ذلك يقول عمران بن حطان:
يا ضربة من تقي ما أراد بها * الا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
اني لأذكره يوما فأحسبه * أو في البرية عند الله ميزانا 3
وقال الشيخ عبد اللطيف في هامش الصواعق: وجميع الصحابة ممن كان على
عهد علي اما مقاتل معه أو عليه أو معتزل عن المعسكرين متأول لا يخرج بما وقع عنه عن
العدالة 4.
وقال ابن كثير في حق يزيد: وحملوا ما صدر منه من سوء التصرفات على أنه
تأول فأخطأ وقالوا، انه مع ذلك كان إماما فاسقا لا يعزل... ولا يجوز الخروج عليه،
واما ما ذكر ان يزيد لما بلغه خبر أهل المدينة وما جرى عليهم عند الحرة، فرح بذلك
فرحا شديدا، فإنه يرى أنه الامام وقد خرجوا عن طاعته، وأمروا عليهم غيره، فله قتالهم
حتى يرجعوا إلى الطاعة، ولزوم الجماعة 5.
في الخبر الأول سمى كل من الصحابي خالد بن الوليد والخليفة الصحابي
أبو بكر: قتل مالك ونكاح زوجته بالتأويل.

(1) الفصل 4 / 161.
2) الإصابة 4 / 151.
3) المحلى لابن حزم 10 / 484، والجوهر النقي لابن التركماني الحنفي (ت 750 ه‍) بذيل سنن البيهقي 8 / 85
و 59.
4) بهامش الصواعق ص 209.
5) تاريخ ابن كثير 8 / 223 أوردتها باختصار.
62

وفي الخبر الثاني سمى التابعي عروة بن الزبير اتمام عائشة الصلاة في السفر
خلافا لما ترويه، تأولا، مثل فعل عثمان.
وبعد ذلك بدهر نجد ابن حزم المتوفى 456 ه‍ يصف أبا الغادية في قتله عمار
ابن ياسر متأولا مجتهدا مأجورا اجرا واحدا.
ونجده مع ابن التركماني الحنفي المتوفى (750 ه‍) يصفان ابن ملجم في قتله
الامام عليا متأولا مجتهدا.
ونجد ابن حجر المتوفى (852 ه‍) يصف الصحابة في كل تلك الحروب
متأولين وللمجتهد المخطئ اجر!.
هكذا سمي العمل بالرأي أولا بالتأويل، وأخيرا بالاجتهاد، ثم اتبع علماء
مدرسة الخلفاء الصحابة والخلفاء في ذلك وفتحوا لأنفسهم باب هذا الاجتهاد اي العمل
بالرأي، غير أنهم اكتشفوا للعمل بالرأي قواعد، ووضعوا له أسماء، وعقدوا له أبوابا في
علم الأصول، وسموا أيضا رجوعهم إلى تلك القواعد التي وضعوها، واستخراجهم
الاحكام بموجبها " الاجتهاد "، وسموا من يقوم بذلك " المجتهد " بينما المصطلح الشرعي
لعلم الدين هو " الفقه " ولعالمه " الفقيه "، وعلى هذا فينبغي البحث في ما يلي حول
ثلاثة أمور:
1 - التسمية.
2 - المجتهدون في القرن الأول وموارد اجتهادهم.
3 - الاجتهاد في القرن الثاني فما بعد واستنباط الاحكام من عمل الصحابة.
63

" 1 "
تسمية الاجتهاد
التأويل لغة وشرعا
قال أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب (ت 291 ه‍): " التأويل،
والمعنى، والتفسير، بمعنى 1. "
وقال الجوهري (ت 396 ه‍): " التأويل، تفسير ما يؤل إليه الشئ وقد
أولته، وتأولته تأولا، بمعنى 2. ".
وقال الراغب (ت 502 ه‍): " التأويل من الأول اي الرجوع إلى الأصل، ومنه
الموئل للموضع الذي يرجع إليه، ومعنى التأويل في اللغة، رد الشئ إلى الغاية المرادة
منه، وقد ورد في القرآن الكريم بهذا المعنى في:
1 - " ما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم ".
2 - " هل ينظرون الا تأويله يوم يأتي تأويله " اي بيانه الذي هو غايته 3.
واستعمل التأويل في الكتاب والسنة في تعبير الرؤيا كما ورد في قصة يوسف
" نبئنا بتأويله " وفي تعبير الرسول رؤيا في خبر خيبر: " فأولت أن الدرع المدينة " 4.

(1) مادة " أول " في السان العرب.
2) مادة " أول " في الصحاح.
3) مادة " أول " في مفردات الراغب. وقد أوجزت ما نقلت عنه، وراجع البخاري كتاب الاذان باب
139 وتفسير سورة 110، وصحيح مسلم كتاب الصلاة ح 217، وسنن ابن ماجة كتاب الإقامة الباب 20.
4) سنن الدارمي 2 / 129، وراجع في موطأ مالك كتاب اللبس باب ما جاء في الانتعال ح 16، والدارمي
كتاب الرؤيا الباب 13.
64

كان هذا معنى التأويل في اللغة وتلك أمثلة من موارد استعماله، واستعار
الصحابة والتابعون لفظ التأويل وسموا تغيير الاحكام بالتأويل، ومن ثم أصبح
للتأويل في عرف مدرسة الخلفاء معنى جديد.
قال ابن الأثير: التأويل من آل الشئ يؤل إلى كذا، أي رجع وصار إليه،
والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك
ظاهر اللفظ 1.
هكذا غيروا مدلول اللفظ وانتشر هذا التغيير في كتب الحديث، فقد قال
البخاري في كتاب الأدب من صحيحه: " باب من أكفر أخاه من غير تأويل
فهو كما قال ". و " باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا وجاهلا " 2.
وفي شرح " باب ما جاء في المتأولين " من فتح الباري: والحال ان من
أكفر المسلم نظر، فإن كان بغير تأويل، استحق الذم، وربما كان هو الكافر، وإن كان
بتأويل نظر، إن كان غير سائغ استحق الذم ولا يصل إلى الكفر بل يبين له وجه خطئه
ويزجر بما يليق به، ولا يلتحق بالأول عند الجمهور وإن كان - تكفيره - بتأويل سائغ
لم يستحق الذم، بل تقام عليه الحجة حتى يرجع إلى الصواب.
قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله، ليس بآثم إذا كان تأويله سائغا في
لسان العرب، وكان له وجه في العلم 3.
هكذا طوروا مدلول التأويل، وأخيرا سموا موارد التأويل في عرفهم بالاجتهاد
وسندرس في ما يأتي المجتهدين في العصر الأول وموارد اجتهادهم.

(1) نهاية اللغة مادة " أول ".
2) صحيح البخاري بهامش فتح الباري 13 / 129 - 30.
3) فتح الباري (15 / 333) لست أدري ماذا يقولون في تكفير الخوارج عامة المسلمين، بلى انهم
لا يعذرونهم ويسمونهم المارقين عن الاسلام، عدا ابن ملجم قاتل أمير المؤمنين، فهو متأول معذور!!!.
65

" 2 "
مجتهد ومدرسة الخلفاء في القرن الأول وموارد اجتهادهم
أ - خاتم الأنبياء وسيد الرسل (ص)
قال ابن أبي الحديد المعتزلي في مقام الاعتذار عن تخلف الخليفتين أبي بكر وعمر
عن جيش أسامة: " إنه - اي الرسول - (ص) كان يبعث السرايا عن اجتهاد لا عن
وحي يحرم مخالفته 1. " ثم أطال الحديث عن اجتهاد الرسول في هذه القضية.
ويأتي في باب اجتهاد الخليفة عمر مورد آخر مما وصفوا فيه حكم الرسول
بالاجتهاد. كما نعرض أدلتهم على اجتهاد الرسول بشئ من التفصيل مع بيان رأينا
حولها في ما يأتي من هذه البحوث - إن شاء الله تعالى -، لهذا كله صدرنا أسماء
المجتهدين عندهم باسم النبي الأكرم خلافا لما عليه المذهب الامامي الذي ينفي الاجتهاد
عنه بتاتا.
ب - الخليفة الأول أبو بكر (رض)
أجاب القوشجي في شرح التجريد على اعتراض الطوسي على الخليفة أبي بكر
من أنه " أحرق الفجاءة السلمي، ولم يعرف الكلالة، وميراث الجدة ".
قال: " إحراقه الفجاءة بالنار من غلطة في اجتهاده فكم مثله للمجتهدين، واما
مسألة الكلالة والجدة فليس بدعا من المجتهدين إذ يبحثون عن مدارك الأحكام

(1) في شرح " ومن كتاب له إلى أهل مصر مع مالك " من شرح نهج البلاغة ج 4 / 178 ط. مصطفى البابي
بمصر سنة 1329 ه‍ تأليف عز الدين عبد الحميد بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني المعتزلي الأديب
المؤرخ (586 - 655 ه‍) ببغداد.
66

ويسألون من أحاط بها... " 1.
وقال في جواب اعتراضه على أبي بكر بأنه لم يحد خالدا ولا اقتص منه: " تزوج
امرأته في دار الحرب لأنه من مسائل المجتهدين ".
قال: " وإنكار عمر عليه لا يدل على قدحه في امامة أبي بكر ولا على قصده إلى
القدح فيها، بل أنكر عليه كما ينكر بعض المجتهدين على بعض. " 2
ج - الصحابي المجتهد خالد بن الوليد
قال ابن كثير: " واستمر أبو بكر بخالد على الامرة وإن كان قد اجتهد في قتل
مالك بن نويرة وأخطأ " 3.
د - الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رض)
نقل ابن أبي الحديد في الخامس مما انتقد عليه: " إنه كان يعطي من بيت
المال مالا يجوز حتى أنه كان يعطي عائشة وحفصة وعشرة آلاف درهم كل سنة ومنع
أهل البيت خمسهم... "
وذكر في الجواب عن هذا: " إن بيت المال إنما يراد لوضع الأموال في حقوقها
ثم وإلى المتولي للامر الاجتهاد في الكثرة والقلة فأما أمر الخمس فمن باب
الاجتهاد... "
وقال: " فلم يخرج عمر بما حكم عن طريقة الاجتهاد ومن قدح في ذلك فإنما
يقدح في الاجتهاد الذي هو طريقة الصحابة 4 ".

(1) قاله الخواجة نصير الدين محمد بن محمد الطوسي الجهرودي (ت 672 ه‍) في كتابه تجريد الكلام في
شرح عقايد الاسلام. راجع الذريعة 3 / 351.
وشرح التجريد لعلاء الدين علي بن محمد لقب أبوه بالقوشجي لأنه كان حافظ البازي لملك ما وراء النهر.
شارك علاء الدين في بناء رصد سمرقند، و. سافر إلى تبريز ومنها إلى القسطنطنية للاصلاح بين سلطانها
العثماني وسلطان تبريز حسن الطويل فأكرمه السلطان العثماني محمد وولاه على مدرسة أيا صوفيا وتوفي بها سنة
897 ه‍. راجع ترجمته بهدية العارفين 1 / 736، والكنى والألقاب 3 / 77.
2) هذه أقوال القوشجي في شرح التجريد ط. تبريز عام 1301 ه‍ ص 407 وقد تكرر هذا الرقم في هذه
الطبعة، وراجع شرح النهج 4 / 183 في الطعن السادس.
3) ابن كثير في تاريخه 6 / 323.
4) شرح النهج ج 2 / 153 في ذيل شرح " ومن كلام له (ع) لله بلاد فلان " وقال أيضا في ج 3 / 180 في
جواب هذا النقد: " أدى إليه اجتهاده ".
67

ونقل عن ابن الجوزي أنه قال في الخمس: " إنها مسألة اجتهادية 1 ".
ونقل في السابع مما انتقد عليه قولهم: " أنه كان يتلون في الاحكام حتى روى أنه
قضى في الجد بسبعين، وروى بمائة قضية وانه كان يفضل في العطاء وقد سوى الله
تعالى بين الجميع وانه قال في الاحكام من جهة الرأي [الحدس 2] والظن ".
وذكر في الجواب أنهم قالوا: " مسائل الاجتهاد يسوغ فيها الاختلاف والرجوع
عن رأي إلى رأي بحسب الامارات وغالب الظن ".
وقال: " إنما الكلام في أصل القياس والاجتهاد فإذا ثبت خرج ذلك أن
يكون طعنا " 3.
وقال القوشجي في جواب نقد الطوسي عليه: " انه أعطى أزواج النبي،
وأفرض، ومنع فاطمة وأهل البيت من خمسهم، وقضى في الجد بمائة قضية وفضل في
القسمة والعطاء ولم يكن ذلك في زمن النبي ".
قال القوشجي: " وأجيب عن الوجوه الأربعة بان ذلك ليس مما يوجب قدحا
فيه فإنه من مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية " 4.
يقصد أن مخالفة الخليفة عمر بن الخطاب (رض) لرسول الله (ص) في هذه الأحكام
، هي من باب مخالفة مجتهد وهو عمر، لمجتهد وهو رسول الله ولا قدح فيه
عليه!!! 5
ه‍ - الخليفة الثالث عثمان بن عفان
قال القوشجي في جواب ما انتقد عليه من اسقاطه القود عن عبيد الله بن عمر:
" انه اجتهد ورأي أنه لا يلزمه حكم هذا القتل، لأنه وقع قبل عقد الإمامة له " 6.
وأجاب ابن تيمية عنه بأنها " مسألة اجتهادية " 7.

(1) المصدر السابق ص 154.
2) في الأصل (الحدث) تصحيف.
3) المصدر السابق ص 165.
4) شرح التجريد ص 408. 5) يا ناعي الاسلام قم فانعه!
6) شرح التجريد ص 409، وراجع شرح النهج ج 1 / 243.
7) في منهاج السنة ج 3 / 203 تأليف أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم بن تيمية
الحراني الدمشقي الحنبلي مؤسس المدرسة السلفية. أفتى علماء عصره بفساد عقيدته فحبسه الوالي حتى توفي بسجن
دمشق (661 - 728 ه‍). ترجمته في تاريخ ابن كثير 14 / 135.
68

ونقل المعتزلي في جوابهم على ما انتقد من رد الحكم انهم قالوا: " إن الرسول
لو لم يأذن في رده لجاز أن يرده إذا أداه اجتهاده إلى ذلك / لان الأحوال تتغير " 1.
وقال ابن تيمية - أيضا -: " هو أمر اجتهادي ".
وقال في جواب ما انتقد عليه مما وقع بينه وبين ابن مسعود: " إذا كان كل
واحد منهما مجتهدا في ما قاله أثابه الله على حسناته وغفر له سيئاته ".
وقال: " قد يكون الامام مجتهدا في العقوبة مثابا عليها وأولئك مجتهدون في ما
فعلوه لا يأثمون به، بل يثابون عليه لاجتهادهم مثل شهادة أبي بكرة على المغيرة، فان
أبا بكرة رجل صالح بن خيار المسلمين قد كان محتسبا في شهادته معتقدا أنه يثاب على
ذلك 2. فلا يمتنع أن يكون ما جرى من عثمان في تأديب ابن مسعود وعمار من هذا
الباب. وإذا كان المقتتلون قد يكون كلا منهم مجتهدا مغفورا له خطؤه 3، فالمختصمون
أولى بذلك 4. "
وأجاب عما أورد عليه في زيادة الاذان الثالث يوم الجمعة، أنها من مسائل
الإجتهاد 5.
وقال ابن حجر الهيتمي في صواعقه: " واما ابن مسعود، فكان ينقم على
عثمان كثيرا فظهرت المصلحة في عزله 6. على أن المجتهد لا يعترض عليه في أموره
الاجتهادية، لكن أولئك الملاعين المعترضين لا فهم لهم بل ولا عقل 7 ".
وقال: " ان حبسه لعطاء ابن مسعود وهجره له فلما بلغه عنه مما يوجب ذلك
لا سيما وكل منهما مجتهد فلا يعترض بما فعله أحدهما مع الآخر " 8.

(1) بشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 / 233.
2) لست أدري ماذا يقول في المغيرة وفي ما شهد الشهود الأربعة عليه بأنه جلس بين رجلي أم جميل، وهل
يراه مجتهدا مثابا على فعله لأنه من صحابة رسول الله (ص)!؟
3) حتى في ما إذا كان اجتهاده مخالفا لنصوص الكتاب والسنة؟!
4) منهاج السنة ج 3 / 193، وكل ما أورد ابن تيمية هنا من أمثلة اجتهاد الصحابة دفاعا عن عثمان، هي
من قبيل المصادرة بالمطلوب.
5) المصدر السابق ج 3 / 204.
6) مصلحة من؟ مصلحة ابن مسعود أم المسلمين أم بني أمية؟!
7) الصواعق المحرقة لابن حجر شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر المصري الهيتمي الأنصاري
909 - 974 ه‍، ط. مكتبة القاهرة بمصر سنة 1375 ه‍، ص 111.
8) المصدر السابق ص 112.
69

وأجاب على ما اعترض عليه من اتمامه الصلاة بمنى عندما حج بالناس: " ان
هذه، مسألة اجتهادية فالاعتراض بها جهل وقبيح وغباوة ظاهرة إذ أكثر العلماء على أن
القصر جائز لا واجب " 1.
و - المجتهدة أم المؤمنين عائشة (رض)
قال ابن تيمية في جوابه على اعتراض العلامة عليها: " واما قوله وخالفت أمر الله
في قوله تعالى " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى "، فهي رضي الله عنها لم
تتبرج تبرج الجاهلية الأولى والامر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة... "
" وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزا لعائشة، اعتقدت ان ذلك السفر مصلحة
للمسلمين فتأولت في هذا ".
" والمجتهد المخطئ مغفور له خطأه ".
" فالمغفرة لعائشة لكونها لم تقر في بيتها إذ كانت مجتهدة أولى ".
" وبهذا يجاب عن خروج عائشة - رضي الله عنها - وإذا كان المجتهد مخطئا فالخطأ
مغفور بالكتاب والسنة " 2.
وقال القرطبي في الاعتذار عنها " مجتهدة، مصيبة، مثابة في ما تأولت، مأجورة في
ما فعلت، إذ كل مجتهد في الاحكام مصيب " 3.
ز - الفقيه المجتهد الذي لا يبارى والحبر الذي لا يجارى 4 معاوية ابن أبي سفيان
ح - وزيره عمرو بن العاص
قال ابن حزم في فصله ما موجزه: " ان معاوية ومن معه مخطئون مجتهدون
مأجورون أجرا واحدا " 5

(1) المصدر السابق ص 113.
2) منهاج السنة لابن تيمية ج 3 / 190.
3) تفسير القرطبي ج 14 / 182 بتفسير الآية " ولا تبرجن ".
4) هكذا وصفه ابن حجر الهيتمي في تطهير لسانه ص 22.
5) الفصل في الملل والأهواء والنحل تصنيف أبي محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري (ت / 456 ه‍)
ط، مصر أحمد ناجي الجمالي ومحمد أمين الخانجي سنة 1321 ه‍، وبهامشه الملل والنحل للشهرستاني راجع الفصل
4 / 161.
70

وقال: " معاوية رحمه الله مخطئ مأجور مرة لأنه مجتهد " 1.
وذكر مرة أخرى معاوية وعمرو بن العاص وقال: " إنما اجتهدوا في مسائل دماء
كالتي اجتهد فيها المفتون، وفي المفتين من يرى قتل الساحر وفيهم من لا يراه فأي فرق بين
هذه الاجتهادات واجتهاد معاوية وعمرو وغيرهما لولا الجهل والعمى والتخليط بغير
علم " 2.
واعتذر ابن تيمية - أيضا - لمعاوية في ما فعل بأنه مجتهد وقال: " انه كعلي بن
أبي طالب في ذلك " 3.
وقال ابن كثير: " معاوية مجتهد مأجور إن شاء الله " 4.
وقال بعد ايراده قصة التحكيم بين عمرو وأبي موسى: " فأقر - أي أقر عمرو بن
العاص - معاوية لما رأى ذلك من المصلحة، والاجتهاد يخطئ ويصيب " 5.
قال ابن حجر الهيتمي في صواعقه: " ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة
- أيضا - ان معاوية (رض) لم يكن في أيام علي خليفة، وإنما كان من الملوك وغاية
اجتهاده أنه كان له أجر واحد على اجتهاده وأما علي فكان له أجر ان أجر على اجتهاده
وأجر على اصابته... " 6.
وقال ابن حجر - أيضا - في كتابه تطهير الجنان واللسان عن الخطور والتفوه
بثلب سيدنا معاوية بن أبي سفيان: " كان معاوية مأجورا على اجتهاده للحديث ان المجتهد
إذا اجتهد فأصاب فله اجران وان اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، ومعاوية مجتهد بلا شك فإذا
أخطأ في تلك الاجتهادات كان مثابا وكان غير نقص فيه " 7، ثم عقد فصلا طويلا في
اثبات اجتهاد معاوية 8.
ونقل في تأويل معنى الباغي في صواعقه وقال: " وفي الأنوار من كتب أئمتنا

(1) الفصل لابن حزم 4 / 89.
2) الفصل لابن حزم 4 / 160.
3) راجع منهاج السنة ج 3 / 261 و 275 - 266 و 284 و 288 - 298.
4) بتاريخ ابن كثير ج 7 / 279.
5) تاريخ ابن كثير ج 7 / 283.
6) الصواعق المحرقة لابن حجر ص 216.
7) تطهير الجنان لابن حجر ص 15.
8) المصدر السابق ص 19 - 22.
71

المتأخرين، والباغون ليسوا بفسقة ولا كفرة، ولكنهم مخطئون في ما يفعلون ويذهبون إليه
ولا يجوز الطعن في معاوية لأنه من كبار الصحابة " 1.
وقال الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف في تعليقه على تطهير الجنان بعد ما نقل عن
كتاب دراسات اللبيب: " أنه أنكر كثير من الصحابة على معاوية في محدثاته ":
" وذكر من ذلك وقائع وفتاوى كثيرة مرجعها ما يقع لكل المجتهدين من
الاختلاف في الرأي أو عدم العلم بالنص ومثلها وقع من الصحابة وغيرهم فلا تنزل
بمعاوية عن صف المجتهدين " 2.
ط - المجتهد أبو الغادية قاتل عمار
قال ابن حزم في الفصل: " وعمار (رض) قتله أبو الغادية يسار بن سبع السلمي،
شهد بيعة الرضوان. فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وانزل السكينة عليه ورضي
عنه فأبو الغادية (رض) متأول مجتهد مخطئ باغ عليه، مأجور أجرا واحدا وليس هذا
كقتلة عثمان (رض) لأنهم لا مجال لهم للاجتهاد في قتله... " 3.
وكذلك قال ابن حجر بترجمته من الإصابة وعدة من الصحابة المجتهدين كما
سيأتي.
ى - مجتهدون بالجملة
قال ابن تيمية في جواب قول العلامة 4: " أما المطاعن في الجماعة فقد نقل الجمهور
منها أشياء كثيرة حتى صنف الكلبي في مثالب الصحابة ولم يذكر فيه منقصة واحدة لأهل

(1) الصواعق المحرقة لابن حجر ص 221.
2) الشيخ عبد الوهاب كان مدرسا بكلية الشريعة في القاهرة ونقلنا تعليقه على ص 18 من تطهير ابن حجر
وقد نقل ما أورده عن الدراسة الثانية من كتاب دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب للمعين بن الأمين.
1) الفصل لابن حزم 4 / 161.
2) العلامة أبو منصور جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي (647 - 726 ه‍) من مؤلفاته منهاج
الكرامة وهو الذي رد عليه ابن تيمية وسماه بمنهاج السنة ورجعنا في بحثنا هذا إلى ط. الأميرية بمصر عام 1322 ه‍.
ويقصد بالكلبي أبا المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، قال الذهبي في العبر 1 / 346: وتصانيفه تزيد
على مائة وخمسين أثبت أسماء 141، منها أحمد زكي في ثبت مصنفاته بملحق الأصنام، وورد ذكر كثير مما لم يذكره
أحمد زكي بترجمته من رجال النجاشي وصفه علماء أهل السنة بالرفض والغلو في التشيع. راجع ترجمته بطبقات
الحفاظ وأنساب السمعاني توفي سنة 204 أو 206 ه‍.
72

البيت ".
قال ابن تيمية في جواب هذا القول: " وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها
عن أن تكون ذنوبا، وتجعلها من موارد الاجتهاد التي ان أصاب المجتهد فيها فله أجران، وان
أخطأ فله أجر وعامة المنقول عن الخلفاء الراشدين، من هذا الباب ".
ثم أطال الحديث حول ذلك في صفحات 19 - 30 من الجزء الثالث من منهاجه،
ثم أجاب بعدها عن كثير مما أوردها العلامة على الكبراء النابهين بأنها من موارد
الاجتهاد 1.
وقال ابن حجر في ترجمة أبى الغادية من الإصابة: " والظن بالصحابة في كل تلك
الحروب انهم كانوا فيها متأولين، وللمجتهد المخطئ أجر. وإذا ثبت هذا في حق آحاد
الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأولى " 2.
وقال الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف في هامش الصواعق: " وجميع الصحابة
ممن كان على عهد علي، اما مقاتل معه، أو عليه، أو معتزل عن المعسكرين فلم يقاتله،
وامتنع عن قتاله جماعة منهم: أصحاب ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص واعتزل
الفريقين حذيفة وابن مسلمة وأبو ذر وعمران بن حصين وأبو موسى الأشعري والجميع
مجتهد متأول لا يخرج بما وقع عنه عن العدالة " 3.
هكذا أجمع اتباع مدرسة الخلفاء منذ القرن الثاني الهجري حتى اليوم - أوائل
القرن الخامس عشر - على أن الصحابة كلهم مجتهدون، وان الله سبحانه يثيبهم على كل ما
فعلوا من خصومات وإراقة دماء لم يقتصر على رفع القلم عنهم، بل يثيبهم على سيئاتهم.
وعلى ما يزعمون! ما أعدله من حاكم ديان حين يجازينا بسيئاتنا سيئات
ويجازيهم بها حسنات!!!.

(1) منهاج السنة ج 3 / 19.
2) الإصابة بتراجم حرف الغين المعجمة من الكنى 4 / 151.
3) بهامش الصواعق ص 209، وأكد ذلك في فصل عدالة الصحابة من كتابه المختصر.
لم نعرف من هم أصحاب ابن مسعود الذين هم اعتزلوا الفتنة كما أن حذيفة لم يكن يومذاك في المدينة، وإنما
كان في المداين، وتوفي فيها وأوصى بمتابعة الامام. وأبو ذر أعلن بالانكار على احداث الحكام حتى نفي من بلد إلى
بلد، وأخيرا قضى نحبه طريدا في الربذة. وابن أبي وقاص ندم على تخلفه عن الامام، وأبو موسى كان هواه مع
مخالفي الامام.
73

أجمعوا على هذا القول في حق الصحابة حتى عصر معاوية، وقال بعضهم: ان ذلك
يجري حتى عصر يزيد كما قاله ابن خلدون عمن كان يومذاك قال: إن منهم من رأى
الانكار على يزيد ومنهم من رأى محاربته ثم قال: " وهذا كان شأن جمهور المسلمين
والكل مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين، فمقاصدهم في البر وتحري الحق معروفة،
وفقنا الله للاقتداء بهم " 1.
لست أدري إن كان كل هؤلاء مجتهدين لادراكهم صحبة الرسول فما بال قتلة
عثمان ولم لم يعدوا من المجتهدين! قال ابن حزم بعد ما سبق ذكره في باب اجتهاد أبي الغادية
قاتل عمار:
" وليس هذا كقتلة عثمان (رض) لأنه لا مجال للاجتهاد في قتله، لأنه لم يقتل
أحدا ولا حارب ولا قاتل ولا دافع ولا زنا بعد إحصان ولا ارتد فيسوغ المحاربة تأويل، بل
هم فساق محاربون سافكون دما حراما عمدا بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان فهم
فساق ملعونون " 2.
وقال ابن الحجر الهيتمي: " ان الذي ذهب إليه كثيرون من العلماء ان قتلة
عثمان لم يكونوا بغاة، وإنما كانوا ظلمة وعتاة لعدم الاعتداد بشبههم، ولأنهم أصروا على
الباطل بعد كشف الشبهة وايضاح الحق لهم، وليس كل من انتحل شبهة يصير بها مجتهدا
لان الشبهة تعرض للقاصر عن درجة الاجتهاد " 3.
لست أدري إذا كيف أصبح قاتل الإمام علي مجتهدا متأولا وقد ضربه بالسيف
في الصلاة وبمحراب مسجد الكوفة كما يأتي التصريح به في ما يلي:
ك - المجتهد المتأول عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي
قال ابن حزم في المحلى، وابن التركماني في الجوهر النقي، واللفظ للأول:
" لا خلاف بين أحد من الأمة في أن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل عليا إلا متأولا مجتهدا
مقدرا انه على صواب، وفي ذلك يقول عمران بن حطان شاعر الصفرية:
يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

(1) مقدمة ابن خلدون ط. دار الكتاب اللبناني سنة 1956 م ص 380، وهو أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون
(732 - 808 ه‍) دفن بمقابر الصوفية بمصر ويقصد بمن حاربه ابن الزبير بمكة وأهل المدينة بواقعة الحرة.
2) الفصل لابن حزم ج 4 / 161.
3) الصواعق المحرقة لابن حجر ص 215.
74

اني لأذكره يوما فأحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا 1
لست أدري كيف أصبح عبد الرحمن بن ملجم مجتهدا، ولم يكن من الصحابة!
ولست أدري كيف أصبح يزيد - أيضا - مجتهدا كما يأتي التصريح به، ولم يكن
من الصحابة!
ل - الخليفة الامام يزيد بن معاوية
قال أبو الخير الشافعي في حق يزيد: " ذاك امام مجتهد " 2.
وقال ابن كثير بعد ما نقل عن أبي الفرج 3 تجويز لعنه: " ومنع من ذلك آخرون
وصنفوا في ذلك أيضا لئلا يجعل لعنه وسيلة إلى [لعن 4] أبيه أو أحد من الصحابة، وحملوا ما
صدر منه من سوء التصرفات على أنه تأول فأخطأ وقالوا: انه مع ذلك كان إماما فاسقا،
والامام إذا فسق لا يعزل بمجرد فسقه على أصح قولي العلماء، بل ولا يجوز الخروج عليه لما في
ذلك من إثارة الفتنة ووقوع الهرج وسفك الدم الحرام... واما ما ذكره بعض الناس من أن
يزيد لما بلغه خبر أهل المدينة وما جرى عليهم عند الحرة من مسلم بن عقبة 5 وجيشه فرح
بذلك فرحا شديدا، فإنه يرى أنه الامام وقد خرجوا عن طاعته، وأمروا عليهم غيره فله قتالهم
حتى يرجعوا إلى الطاعة ولزوم الجماعة " 6.
ونقل ابن حجر في الصواعق عن الغزالي والمتولي القول بأنه: " لا يجوز لعن يزيد
ولا تكفيره، فإنه من جملة المؤمنين. وأمره إلى مشيئة الله إن شاء عذبه وان شاء عفا عنه " 7.

(1) ابن حزم في المحلى ج 10 / 484 وابن التركماني في الجوهر النقي بذيل سنن البيهقي 8 / 58 و 59، والجوهر
النقي تأليف الشيخ علاء الدين علي بن عثمان المعروف بابن التركماني الحنفي (ت 750 ه‍) قال في مقدمته:
" هذه فوائد علقتها على السنن الكبيرة... " والسنن لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 ه‍)، قال حاجي
خليفة في كشف الظنون: " لم يؤلف في الاسلام مثله " راجع كشف الظنون 2 / 1007.
2) بتاريخ ابن كثير 13 / 9، وأبو الخير هو أحمد بن إسماعيل بن يوسف الشافعي الأشعري المفسر كان يعظ
بالمدرسة النظامية ببغداد (ت 590 ه‍).
3) أبو الفرج ابن الجوزي عبد الرحمن بن علي بن محمد البكري الحنبلي الواعظ المحدث المفسر، له كتاب
الرد على عبد المغيث بن زهير الحنبلي الذي ألف كتابا في فضائل يزيد توفى ببغداد سنة 597 ه‍.
4) يقتضيه السياق ولم يكن في الأصل.
5) مسلم بن عقبة قائد جيش يزيد في واقعة الحرة بمدينة الرسول (ص).
6) بتاريخ ابن كثير 8 / 223 - 224.
7) في الصواعق المحرقة لابن حجر ص 221.
الأصولي الفقيه الشافعي النيسابوري تولى التدريس بالنظامية ببغداد (ت 478 ه‍). الكنى والألقاب 3 / 119.
75

شرح موارد اجتهاد المذكورين
أ - رسول الله (ص)
كان رسول الله (ص) أول من وصف في مدرسة الخلفاء بالاجتهاد كما مر قولهم في
قصة بعث أسامة " انه كان يبعث السرايا عن اجتهاد " فما هي قصة بعث أسامة وكيف
كان تخلف الخليفتين عنه؟
في طبقات ابن سعد وأنساب الأشراف وعيون الأثر وغيرها واللفظ للأول:
" لما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من مهاجر رسول الله
أمر رسول الله (ص) الناس بالتهيؤ لغزو الروم فلما كان من الغد دعا أسامة بن زيد فقال:
" سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش... "
فلما كان يوم الأربعاء بدئ برسول الله (ص) فحم وصدع فلما أصبح يوم
الخميس عقد لأسامة لواءه بيده... فخرج بلوائه معقودا وعسكر بالحرف 1 فلم يبق أحد
من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة فيهم أبو بكر الصديق وعمر
بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد و... فتكلم قوم، وقالوا يستعمل هذا
الغلام على المهاجرين الأولين، فغضب رسول الله غضبا شديدا، فخرج وقد عصب على
رأسه عصابة وعليه قطيفة، فصعد المنبر وقال:
" ما مقالة بلغني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولقد طعنتم في إمارتي أباه قبله،
وأيم الله انه كان للامارة لخليقا، وان ابنه من بعده لخليق للامارة ".

(1) الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام. معجم البلدان.
76

ثم نزل وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعونه ويمضون إلى المعسكر
بالجرف، وثقل رسول الله (ص) فجعل يقول: " أنفذوا بعث أسامة " فلما كان يوم الأحد
اشتد برسول الله وجعه فدخل أسامة من معسكره والنبي مغمور 1 فطأطأ أسامة فقبله،
ورسول الله لا يتكلم، ورجع أسامة إلى معسكره، ثم دخل يوم الاثنين وأصبح رسول
الله (ص) مفيقا فقال له " اغد على بركة الله " فودعه أسامة وخرج إلى معسكره فأمر
الناس بالرحيل فبينما هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاء يقول " ان رسول الله
يموت " فأقبل واقبل معه عمر وأبو عبيدة فانتهوا إلى رسول الله (ص) وهو يموت فتوفي حين
زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول " 2.
وفي شرح النهج: فلما أفاق رسول الله (ص) سأل عن أسامة والبعث فأخبر
انهم يتجهزون فجعل يقول: " أنفذوا بعث أسامة، لعن الله من تخلف عنه فكرر ذلك.
فخرج أسامة واللواء على رأسه والصحابة بين يديه حتى إذا كان بالجرف نزل ومعه
أبو بكر وعمر وأكثر المهاجرين، ومن الأنصار أسيد بن حضير وبشير بن سعد وغيرهم من
الوجوه فجاءهم رسول أم أيمن يقول... الحديث 3.
هذا ما كان من أمر بعث أسامة في حياة الرسول وروى عروة عن أمره بعد وفاة
الرسول وقال: " لما فرغوا من البيعة واطمأن الناس قال أبو بكر لأسامة: امض لوجهك
الذي بعثك له رسول الله (ص) " 4.
فذهب أسامة بجيشه وتخلف عنه الخليفتان أبو بكر وعمر لانشغالهما بإدارة شؤون
الخلافة.
وكان الخليفة عمر يقول لأسامة:

(1) مغمور: يغمى عليه.
2) طبقات ابن سعد ط. داري صادر وبيروت عام 1376 ه‍ 2 / 190 - 192 في ذكر سرية أسامة،
وعيون الأثر كذلك 2 / 281 وممن نص على أن أبا بكر وعمر كانا في بعث أسامة كل من صاحب الكنز، ط. الأولى
5 / 312، ومنتخبه بهامش مسند أحمد 4 / 180 عن عروة، وبترجمة أسامة من أنساب الأشراف 1 / 474 عن
ابن عباس وبترجمة أسامة أيضا من طبقات ابن سعد 4 / 66 عن ابن عمر وبترجمته في تهذيب ابن عساكر ولفظه
" استعمله على جيش فيه أبو بكر وعمر "، وبتاريخ اليعقوبي ط. بيروت 2 / 74 في ذكر وفاة الرسول وابن الأثير في
تاريخه 2 / 123.
3) شرح النهج لابن أبي الحديد ج 2 / 21.
4) تاريخ ابن عساكر 1 / 433.
77

مات رسول الله (ص) وأنت علي أمير، وحتى ان ولي الخلافة إذا رأى
أسامة (رض) قال: " السلام عليك أيها الأمير! " فيقول أسامة: غفر الله لك يا أمير المؤمنين
تقول لي هذا! فيقول: لا أزال أدعوك ما عشت، الأمير، مات رسول الله (ص) وأنت على
أمير 1.
وقد انتقدوا الخليفتين على تخلفهما عن بعث أسامة فكان في ما اعتذروا عنهما ما مر
من قولهم أنه كان يبعث السرايا عن اجتهاد 2 وعلى هذا فيجوز مخالفة أوامر الرسول في
السرايا باجتهاد من الصحابة المجتهدين 3.
ب - موارد اجتهاد أبي بكر
أما موارد اجتهاد أبي بكر فمنها قصة حرقه الفجاءة السلمي كما رواها الطبري وابن
الأثير وابن كثير واللفظ للأول قال: قدم على أبي بكر رجل من بني سليم اسمه الفجاءة وهو
أياس بن عبد الله بن عبد يا ليل بن عميرة بن خفاف 4، فقال لأبي بكر: اني مسلم وقد
أردت جهاد من ارتد من الكفار فاحملني وأعني، فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحا،
فخرج يستعرض الناس المسلم والمرتد يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم ومعه رجل
من بني الشريد يقال له نجبة بن أبي الميثاء، فلما بلغ أبا بكر خبره كتب إلى طريفة بن حاجر 5
ان عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنه مسلم ويسألني ان أقويه على من ارتد عن الاسلام
فحملته وسلحته، ثم انتهى إلي من يقين الخبر ان عدو الله قد استعرض الناس المسلم
والمرتد، يأخذ أموالهم، ويقتل من خالفه منهم فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله، أو
تأخذه فتأتيني به. فسار إليه طريفة بن حاجر. فلما التقى الناس كانت بينهم الرميا بالنبل
فقتل نجبة بن أبي الميثاء بسهم رمي به فلما رأى فجاءة من المسلمين الجد قال لطريفة: والله
ما أنت بأولى مني أنت أمير لأبي بكر وانا أميره، فقال له طريفة: ان كنت صادقا فضع

(1) راجع سرية أسامة في السيرة الحلبية ص 237.
2) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ج 4 / 173 - 178.
3) ويرد نظير ذلك في مخالفتهم لنصوص أخرى وردت عن رسول الله راجع شرح ابن أبي الحديد للخطبة 3
الشقشقية 1 / 53.
4) في جمهرة انساب ابن حزم ص 261 بباب ذكر نسب بنو سليم بن منصور " الفجاءة وهو بجير بن أياس بن
عبد الله بن عبد يا ليل بن سلمة بن عميرة بن خفاف المرتد أحرقه أبو بكر (رض) بالنار ".
5) طريفة أبان بن سلمة بن حاجر السلمى ترجمته في الإصابة 2 / 215.
78

السلاح وانطلق معي إلى أبي بكر، فخرج معه فلما قدما عليه أمر أبو بكر طريفة بن حاجر
فقال: اخرج به إلى هذا البقيع فحرقه فيه بالنار فخرج به طريفة إلى المصلى فأوقد له نارا
فقذفه فيها.
وفي رواية قبلها عند الطبري: " فأوقد له نارا في مصلى المدينة على حطب كثير،
ثم رمى به فيها مقموطا. "
وفي لفظ ابن كثير: فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار فحرقه وهو مقموط " 1.
وندم أبو بكر على فعله ذلك وقال في مرض موته:
" ثلاث فعلتهن وددت انى تركتهن، وددت اني لم اكشف بيت فاطمة عن
شئ وان كانوا قد غلقوه على الحرب، ووددت أني لم أحرق الفجاءة السلمي واني كنت
قتلته تسريحا أو خليته نجيحا، ووددت اني يوم سقيفة بنى ساعدة كنت قذفت الامر في عنق
أحد الرجلين يريد عمر وأبا عبيدة " 2.
واعترض على أبي بكر في ذلك لان حكم مفسد كالفجاءة جاء في القرآن الكريم
مصر حاجه في سورة المائدة لآية 33: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من
الأرض. ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ".
ووردت روايات عن رسول الله في النهي عن الاحراق كما في صحيح البخاري
ومسند أحمد قول (ص) 3. " لا يعذب بالنار إلا رب النار "، و " ان النار لا يعذب بها الا
الله "، و " لا يعذب بالنار الا ربها ".
وورد قوله: " من بدل دينه فاقتلوه " 4. وقوله " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ان
لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد احصان فإنه يرجم، ورجل

(1) تاريخ الطبري ط. مصر الأولى 3 / 234 - 235، وابن الأثير 2 / 146، وابن كثير 9 / 319 في ذكرهم
حوادث السنة الحادية عشرة.
2) الطبري 4 / 52 في ذكر حوادث السنة الثالثة عشرة، وراجع بقية مصادره في فصل التحصن بدار فاطمة
من عبد الله بن سبا 1 / 106.
3) صحيح البخاري 4 / 325 باب لا يعذب بعذاب الله من كتاب الجهاد، ومسند أحمد 2 / 207 و 3 / 494،
وسنن أبي داود كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدو بالنار، ح 2673، 2675، ج 3 / 55، 56، وكتاب
الأدب باب في قتل الذر ح 5268، ج 4 / 367 - 368، والبيهقي 9 / 71 و 72.
4) صحيح البخاري كتاب استتابة المرتدين وسنن أبي داود، كتاب الحدود، باب الحكم في من ارتد.
79

يخرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب، أو ينفى من الأرض، أو يقتل نفسا فيقتل
بها " 1.
واعتذر العلماء عن مخالفته للنصوص الصريحة في هذه القضية بقولهم: " احراقه
فجاءة السلمي من غلطة في اجتهاده فكم مثله للمجتهدين ".
ومنها فتواه في مسألة الكلالة، والكلالة الميت الذي لا ولد له في ورثته ولا والد و
ورثته أيضا يقال لهم: الكلالة 2.
وقد ورد في القرآن الكريم في سورة النساء الآية 12: " وإن كان رجل يورث
كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس وان كانوا أكثر من ذلك فهم
شركاء في الثلث 3 ".
وفي الآية 176: " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ان امرؤ هلك ليس له ولد
وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد، فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان
مما ترك وان كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين. يبين الله لكم ان تضلوا
والله بكل شئ عليم 4. "
وقد سئل أبو بكر (رض) عنها فقال: اني سأقول فيها برأيي فان يك صوابا فمن الله،
وان يك خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه. أراه ما خلا الولد والوالد فلما
استخلف عمر (رض) قال إني لأستحيي الله ان أرد شيئا قاله أبو بكر 5.
وقال مرة: الكلالة من لا ولد له 6.
ومنها جوابه عن ارث الجدة، كما في موطأ امام المالكية، وسنن الدارمي، وسنن
أبي داود، وسنن ابن ماجة وغيرها واللفظ للأول قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق
تسأله ميراثها فقال لها أبو بكر: مالك في كتاب الله شئ، وما علمت لك في سنة رسول الله
شيئا فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول
الله (ص) أعطاها السدس فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري

(1) سنن البيهقي 9 / 71.
2) راجع تفسير الكلالة بمفردات الراغب.
3) قصد بالكلالة هنا الأخ والأخت من الام اجماعا ونصا راجع تفسير الآية في التفاسير.
4) وأريد بأخ الميت واخوته من كانوا من الأبوين أو من الأب حسب.
5) سنن الدارمي 2 / 365، واعلام الموقعين لابن القيم الجوزية 1 / 28، وسنن الكبرى للبيهقي 6 / 223.
6) تفسير القرطبي 5 / 77.
80

فقال مثل ما قال المغيرة، فانفذه لها أبو بكر الصديق... الحديث 1.
وفي ترجمة سهل بن عبد الرحمن من الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة وفي موطأ
مالك بإيجاز قالوا: " اتته جدتا أم الام وأم الأب فأعطى الميراث أم الام دون أم الأب.
فقال عبد الرحمن بن سهل أخو بني حارثة: يا خليفة رسول الله! لقد أعطيت التي لو أنها
ماتت لم يرثها فجعله أبو بكر بينهما يعني السدس 2. "
ومنها قصة مقتل مالك بن نويرة وتزويج امرأته في ليلة مقتله ومالك بن نويرة
التميمي اليربوعي يكنى أبا حنظلة ويلقب الجفول 3 كان شاعرا شريفا فارسا من فرسان
بني يربوع في الجاهلية واشرافهم فلم أسلم استعمله النبي (ص) على صدقات قومه فلما
توفي النبي أمسك الصدقة وفرقها في قومه وقال في ذلك:
فقلت خذوا أموالكم غير خائف * ولا ناظر في ما يجئ من الغد
فان قام بالدين المخوف قائم * أطعنا وقلنا الدين دين محمد 4
وفي الطبري عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: لما نزل خالد بالبطاح 5 بعث
ضرار بن الأزور 6 في سرية وفيهم أبو قتادة 7 فداهموا قوم مالك ليلا.
وكان أبو قتادة يحدث: " انهم غشوا القوم وراعوهم تحت الليل فاخذ القوم السلاح
قال:

(1) موطأ مالك 2 / 54، وسنن الدارمي 2 / 359، وأبي داود 2 / 38، وابن ماجة ص 910 وبداية المجتهد
2 / 278.
2) الاستيعاب بهامش الإصابة 2 / 411، وأسد الغابة 3 / 299، والإصابة 2 / 394، وبداية المجتهد
2 / 379، وموطأ مالك 2 / 54.
3) الجفول: الريح التي تجفل السحاب وجفل الشعر جفولا ثار شعثا وتنصب.
4) معجم الشعراء للمرزباني ص 260، وترجمته بإصابة 3 / 336.
5) البطاح: ماء في ديار أسد بن خزيمة - معجم البلدان.
6) ضرار بن الأزور أبو الأزور الأسدي كان شاعرا فارسا شجاعا بترجمته في الإصابة 2 / 200 - 201.
بعثه خالد في سرية فأغاروا على حي من بني أسد، فاخذوا امرأة جميلة فسأل ضرار أصحابه ان يهبوها له ففعلوا فوطئها
ثم ندم فذكر ذلك لخالد فقال قد طيبتها لك فقال: لا حتى تكتب إلى عمر، فكتب ارضخه بالحجارة فجاء الكتاب
وقد مات فقال خالد ما كان الله ليخزي ضرارا وقيل إنه ممن شرب الخمر مع أبي جندل... الحديث.
7) أبو قتادة الحارث الأنصاري الخزرجي السلمي شهد أحدا وما بعدها كان يقال له فارس رسول الله،
وشهد مع علي مشاهده كلها، اختلفوا في وفاته بالكوفة سنة 38 أو 40 أو بالمدينة سنة 54 ترجمته بالاستيعاب
1 / 110 - 111 وبهامش الإصابة 4 / 160 - 161، والإصابة 4 / 157 - 158.
81

فقلنا: إنا المسلمون!
فقالوا: ونحن المسلمون!
قال: فما بال السلاح معكم؟
قالوا لنا: فما بال السلاح معكم؟
قلنا: فان كنتم كما تقولون فضعوا السلاح.
قال: فوضعوها، ثم صلوا وصلينا 1.
وفي شرح ابن أبي الحديد: " فلما وضعوا السلاح ربطوا أسارى فأتوا بهم
خالدا ".
وفى الإصابة: " ان خالدا رأى امرأة مالك وكانت فائقة في الجمال فقال مالك
بعد ذلك لامرأته: " قتلتيني " يعنى سأقتل من أجلك " 2.
وفى تاريخ اليعقوبي: " فلما رآها أعجبته، فقال: والله ما نلت ما في مثابتك حتى
أقتلك " 3.
وفي كنز العمال: " ان خالد بن الوليد ادعى ان مالك بن نويرة ارتد بكلام بلغه
عنه، فأنكر مالك ذلك، وقال: أنا على الاسلام ما غيرت ولا بدلت وشهد له أبو قتادة
و عبد الله بن عمر، فقدمه خالد وأمر ضرار بن الأزور الأسدي فضرب عنقه، وقبض خالد
امرأته أم تميم فتزوجها 4. "
وفي وفيات الأعيان وفوات الوفيات وتاريخ أبي الفداء وابن شحنة واللفظ
للأول: " كان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري حاضرين، فكلما خالدا في أمره فكره
كلامهما. فقال مالك: يا خالد! ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا فإنك بعثت
إليه غيرنا ممن جرمه أكبر من جرمنا.
فقال خالد: لا أقالني الله ان أقلتك، وتقدم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه.
فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد: هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال.
فقال له خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الاسلام.

(1) الطبري ط. أوروبا 1 / 1927 - 1928.
2) الإصابة 3 / 337.
3) تاريخ اليعقوبي 2 / 131.
4) كنز العمال ط. الأولى ج 3 / 132.
82

فقال مالك: أنا على الاسلام.
فقال خالد: يا ضرار! اضرب عنقه.
فضرب عنقه وجعل رأسه اثفية لقدر وكان من أكثر الناس شعرا " 1.
وتزوج خالد بامرأة مالك أم تميم بنت المنهال في تلك الليلة 2.
فقال في ذلك أبو زهير السعدي:
الأقل لحي أوطأوا بالسنابك * تطاول هذا الليل من بعد مالك
قضى خالد بغيا عليه لعرسه * وكان له فيها هوى قبل ذلك
فأمضى هواه خالد غير عاطف * عنان الهوى عنها ولا متمالك
فأصبح ذا أهل وأصبح مالك * إلى غير أهل هالكا في الهوالك 3
ومر المنهال على أشلاء مالك بن نويرة هو ورجل من قومه حين قتله خالد،
فأخرج من خريطته ثوبا فكفنه فيه ودفنه 4.
وفي تاريخ اليعقوبي: " فلحق أبو قتادة بابي بكر فأخبره الخبر وحلف ان لا يسير
تحت لواء خالد لأنه قتل مالكا مسلما ".
وبرواية عبد الرحمن بن أبي بكر في الطبري: " وكان ممن شهد لمالك بالاسلام
أبو قتادة، وكان قد عاهد الله ان لا يشهد مع خالد حربا أبدا ".
وفي تاريخ اليعقوبي، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر:
يا خليفة رسول الله! ان خالدا قتل رجلا مسلما وتزوج امرأته من يومها،
فكتب أبو بكر إلى خالد فأشخصه، فقال: يا خليفة رسول الله اني تأولت 5 وأصبت

(1) بترجمة وثيمة من وفيات الأعيان لابن خلكان 5 / 66، وفوات الوفيات 2 / 627 كلاهما نقلا الخبر
عن ردة ابن وثيمة والواقدي، وبتاريخ أبي الفداء ص 158، وتاريخ ابن شحنة بهامش تاريخ الكامل
11 / 114. 2) تاريخ اليعقوبي 2 / 110.
3) في الوفيات 5 / 67، والفوات 2 / 626 - 627، وأبي الفداء 158، وابن شحنة 11 / 114 بهامش
ابن الأثير.
4) بترجمة المنهال من الإصابة 3 / 478، والخريطة كالحقيبة وعاء من جلد وغيره بجمع على ما فيه.
5) المراد من التأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل كما ورد في ذيل حديث
أم المؤمنين في صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 478، كتاب صلاة المسافر، الحديث رقم: 3،
حديث قال الزهري فقلت لعروة ما بال عائشة تتم في السفر يعني الصلاة، قال تأولت كما تأول عثمان أراد
بتأويل عثمان أنه أتم الصلاة بمكة.
83

وأخطأت.
وفي وفيات الأعيان وتاريخ أبي الفداء وكنز العمال وغيرها 1 واللفظ للأول:
" لما بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر: ان خالدا قد زنى فارجمه. قال: ما كنت
ارجمه فإنه تأول فأخطأ. قال: فاعزله. قال: ما كنت اغمد سيفا سله الله.
وفي رواية الطبري عن عبد الرحمن بن أبي بكر: " فلما بلغ قتلهم عمر بن
الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال:
عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته. واقبل خالد بن الوليد
قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد معتجرا بعمامة 2 له قد غرز في
عمامته أسهما، فلما ان دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم
قال أرياء! قتلت امرءا مسلما ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنك بأحجارك، ولا
يكلمه خالد بن الوليد ولا يظن الا رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه حتى دخل على
أبي بكر، فلما ان دخل عليه اخبره الخبر واعتذر إليه فعذره أبو بكر وتجاوز عما كان في
حربه تلك.
قال: فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر وعمر جالس في المسجد، فقال:
" هلم إلي يا ابن أم شملة. " قال: فعرف عمر ان أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلمه
ودخل بيته.
وفي وفيات الأعيان وتاريخ اليعقوبي: وكان أخوه متمم بن نويرة أبو نهشل
شاعرا فرثى أخاه بمراثي كثيرة، ولحق بالمدينة إلى أبى بكر، وصلى خلفه صلاة الصبح،
فلما فرغ أبو بكر من صلاته قام متمم فوقف بحذائه واتكأ على سية قوسه ثم أنشد:
نعم القتيل إذ الرياح تناوحت * خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور
أدعوته بالله ثم غدرته * لو هو دعاك بذمة لم يغدر
وأومأ إلى أبي بكر (رض) فقال أبو بكر: والله ما دعوته ولا غدرته... الحديث.
هذه قصة مقتل مالك وتزوج خالد بامرأته في يوم مقتله، تأول خالد في مسلم
صلى فأسره، ثم تأول فيه فقتله، ثم تأول في زوجته فتزوجها يوم مقتله، ثم تأول
أبو بكر فأسقط عنه القود وتأول فأسقط عنه الحد، اجتهد الصحابيان فأخطئا ولكل

(1) كنز العمال ط. الأولى ج 3 / 132 الحديث 228 وبقية المصادر مر تعيين صفحاتها.
2) اعتجر: لف عمامته دون التلحي.
84

منهما أجر على كل خطأ، وللصحابي عمر أجر ان حيث اجتهد ورآى رجم خالد
وأصاب، أما مالك ابن نويرة الصحابي العامل لرسول الله فلا أجر له على أسره، ولا
أجر له في قتله لأنه أسر وقتل من قبل خالد بن الوليد القائد الكبير!!!
ج - شرح الأمور التي ذكروها في باب اجتهاد الخليفة عمر
منها أنه أفرض وفضل في العطاء
قال الطبري في باب " حمله الدرة وتدوينه الدواوين من سيرة عمر في حوادث سنة
ثلاث وعشرين من تاريخه: " هو أول من دون للناس في الاسلام الدواوين، وكتب
الناس على قبائلهم وفرض لهم العطاء ".
وقال بعده: " ان عمر بن الخطاب (رض) استشار المسلمين في تدوين
الدواوين فقال له علي ابن أبي طالب، تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من مال فلا تمسك
منه شيئا، وقال عثمان: أرى مالا كثيرا يسع الناس، وان لم يحصوا حتى تعرف من
أخذ ممن لم يأخذ، خشيت ان ينتشر الامر. فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة يا
أمير المؤمنين قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا، وجندوا جندا فدون ديوانا
وجند جندا، فاخذ بقوله، فدعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم
وكانوا من نساب قريش فقال: اكتبوا الناس على منازلهم... " الحديث 1.
وذكر ابن الجوزي في اخبار عمر وسيرته تفصيل فرضه العطاء، وتفضيل
بعضهم على بعض. قال: " فرض للعباس بن عبد المطلب اثني عشر ألف درهم.
ولكل واحدة من زوجات الرسول عشرة آلاف درهم، وفضل عليهن عائشة
بألفين، ثم فرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرا لكل واحد خمسة آلاف ولمن شهدها من
الأنصار أربعة آلاف.
وقيل: فرض لكل من شهد بدرا خمسة آلاف من جميع القبائل.
ثم فرض لمن شهد أحدا فما بعدها إلى الحديبية أربعة آلاف.

(1) بتاريخ الطبري 2 / 22 - 23، وفتوح البلدان ص 549. تراجم المذكورين في الخبر: لم أجد في
كتب التراجم والرجال الوليد بن هشام بن المغيرة ولعله الوليد بن الوليد بن المغيرة. راجع ترجمته بأسد الغابة
5 / 92، وأنساب قريش ص 322، وعقيل بن أبي طالب توفي في خلافة معاوية ترجمته بأسد الغابة 3 / 412.
مخرمة بن نوفل القرشي الزهري ترجمته بأسد الغابة 4 / 337 وجبير بن مطعم القرشي النوفلي توفي بعد الخمسين
للهجرة، أسد الغابة 1 / 271.
85

ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد الحديبية ثلاثة آلاف.
ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد وفاة رسول الله (ص) ألفين وألفا
وخمسمائة وألفا واحدا إلى مائتين.
قال: ومات عمر على ذلك.
قال: وجعل نساء أهل بدر على خمسمائة، ونساء من بعد بدر إلى الحديبية على
أربعمائة، ونساء من بعد ذلك على ثلاثمائة، وجعل نساء أهل القادسية على مائتين
مائتين ثم سوى بين النساء بعد ذلك 1.
وتختلف رواية اليعقوبي عن هذه الرواية وفيها: " ولأهل مكة من كبار قريش
مثل أبي سفيان بن حرب ومعاوية بي أبي سفيان في خمسة آلاف " 2.
هكذا فضل بعضهم على بعض في العطاء حتى بلغ العطاء لبعضهم ستين مرة
أكثر من الآخرين مثل عطاء أم المؤمنين عائشة الاثني عشر ألفا بالنسبة للمائتين عطاء
قسم من النساء المسلمات وبذلك أوجد النظام الطبقي داخل المجتمع الاسلامي خلافا
لسنة الرسول فاجتمعت الثروة في جانب وبان الاعسار في الجانب الآخر، وتكونت
طبقة مترفة تتقاعس عن العمل، ويبدو أن الخليفة أدرك خطورة الامر بآخر حياته فقد
روى الطبري أنه قال:
" لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها
على فقراء المهاجرين " 3.
وفي ما تمنى - أيضا - فضل فقراء المهاجرين على فقراء الأنصار وفقراء
ساير المسلمين! 4
ومن أوضار تقسيم بيت المال على صورة عطاء سنوي ان المسلمين أصبحوا بعد
ذلك تحت ضغط الولاة وكان الولاة يقطعون عطاء من خالفهم، ويزيدون في عطاء من
وافقهم مثل ما وقع في زمان الخليفة عثمان، وما وقع من زياد وابنه عبيد أزمان

(1) روى عنه ابن أبي الحديد في الطعن الخامس بشرح " لله بلاد فلان... " من شرح النهج 3 / 154،
وورد هذا أيضا في باب ذكر العطاء في خلافة عمر من فتوح البلدان ص 550 - 565.
2) بتاريخ اليعقوبي 2 / 153.
3) تاريخ الطبري 5 / 22 في ذكر سيرة عمر باب حمله الدرة.
4) ولست أدري ما معنى أخذه أموال الناس في غير ما فرض الله، لو فعل ذلك.
86

ولاياتهم على الكوفة 1.

(1) راجع فصل عصر الصهرين وسيرة عثمان ومعاوية من " أحاديث عائشة ".
وزياد كانت أمه سمية جارية للحرث بن كلدة الطبيب الثقفي ومن البغايا ذوات الرايات بالطائف،
وتسكن حارة البغايا خارجا عن الحضر. وتؤدى الضريبة للحرث وكان قد زوجها من غلام رومي له اسمه
عبيد وفي أحد أسفار أبي سفيان للطائف طلب من أبي مريم الخمار بغيا، فقدم له سمية فعلقت بزياد ووضعته على
فراش عبيد سنة إحدى من الهجرة وكان ينسب إليه ثم أصبح كاتبا لأبي موسى في البصرة، ثم واليا على الري
وهناك الحقه معاوية بابي سفيان وقيل له زياد بن أبي سفيان ومن تحرج من ذلك على عهد بني أمية قال له: زياد
بن أبيه، ولاه معاوية البصرة والكوفة، ولما أبى ان يأخذ البيعة ليزيد... توفي فجأة بالكوفة سنة 53 ه‍ راجع
أحاديث عائشة ص 255 - 261.
وابنه عبيد الله أمه أمة اسمها مرجانة ولد بالبصرة سنة 28 ه‍ ولاه معاوية خراسان بعد أبيه سنة 53 ه‍
ثم البصرة سنة 55 ه‍ وضم له يزيد الكوفة إلى البصرة سنة 60 ه‍ ليقاتل الحسين (ع) فقتله وأهل بيته سنة
61 ه‍، وقتله إبراهيم بن الأشتر قائد جيش المختار بخازر سنة 67 ه‍ راجع فهرست الطبري ص 366.
87

اجتهاد الخليفتين أبي بكر وعمر في الخمس
ومن موارد اجتهاد الخليفتين أبي بكر وعمر منعهما أهل البيت حمسهم كما
ذكروا، وخاصة حق ابنة الرسول فاطمة (ع). ولابد لنا في معرفة كيفية اجتهادهما في
هذا المورد أن ندرس:
أولا: الزكاة والصدقة والفئ والصفي والأنفال والغنيمة والخمس لغة
وشرعا. ثم ندرس شأن الخمس وحق ابنة الرسول (ع) - في عصر الرسول (ص) -
ليتيسر لنا بعد ذلك درس اجتهاد الخليفتين في الخمس عامة وفي حق ابنه الرسول (ع)
خاصة، فنقول:
أ -، ب - الزكاة والصدقة:
الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة والمدح 1 مثل قوله تعالى: " أيها
أزكى طعاما " 2 اي أطهر، وما روي عن الإمام الباقر أنه قال " زكاة الأرض
يبسها " 3 اي طهارتها يبسها. وقول الإمام علي " العلم يزكو على الانفاق " 4 أي ينمو،
وقولهم " زكا الزرع " 5 إذا حصل منه نمو وبركة، وقوله تعالى: " الذين يزكون
أنفسهم " 6 أي يمدحونها.

(1) راجع مادة " زكا " من نهاية اللغة لابن الأثير.
2) الكهف - 19.
3) بمادة " زكا " من نهاية اللغة.
4) نهج البلاغة كتاب الحكم العدد 147.
5) بمادة " زكا " من مفردات الراغب. 6) النساء - 49.
88

وفي الشرع: ما يخرجه الانسان من حق الله تعالى إلى مستحقيه، وتسميته بذلك
لما يكون فيها رجاء البركة أو لتزكية النفس اي تنميتها بالخيرات والبركات أولهما
جميعا فان الخيرين موجودان فيها 1.
وزكى أدى زكاة ماله.
هذا ملخص ما ذكره أهل اللغة في بيان معنى الزكاة 2.
اما الصدقة فقد قال الراغب في مفرداته: " الصدقة ما يخرجه الانسان من ماله
على وجه القربة كالزكاة لكن الصدقة تقال في الأصل للمتطوع به والزكاة
للواجب 3. "
وقال الطبرسي في مجمع البيان: " الفرق بين الصدقة والزكاة ان الزكاة
لا تكون إلا فرضا، والصدقة قد تكون فرضا وقد تكون نفلا 4. "
ومن ثم نرى ان الزكاة لوحظ فيها معنى الوجوب وقصد منها حق الله في المال
كما لوحظ في الصدقة التطوع اي اعطاء المال قربة إلى الله تعالى وقد تلحظ فيها الرحمة
على المعطى له مثل قول اخوة يوسف له " وتصدق علينا " 5.
وبما ان الزكاة لوحظ فيها الوجوب اي حق الله في المال نرى انها تشمل أنواع
الصدقات الواجبة والخمس الواجب وغيرهما من كل ما كتب الله على الانسان في
المال.
ويشهد لهذا ما ورد في كتاب رسول الله (ص) لملوك حمير: " وآتيتم الزكاة من
المغانم خمس الله وسهم النبي وصفيه وما كتب الله على المؤمنين من الصدقة " 6.
فان لفظ " من " بعد الزكاة لبيان أنواع الزكاة المذكورة بعدها وهي:
أ - من المغانم خمس الله.

(1) راجع مادة " زكا " من مفردات الراغب.
2) راجعنا في هذا وما يأتي بترجمة المصطلحات الآتية الراغب في مفرداته، وابن الأثير في نهاية اللغة،
وابن منظور في لسان العرب، والقاموس وشرحه مضافا إلى تفاسير القرآن مثل تفسير الطبري والطبرسي
وغيرهما.
3) بمادة " صدق ".
4) مجمع البيان ج 1 / 384 بتفسير الآية 272 من البقرة.
5) يوسف 88.
6) يأتي ذكر مصادر الكتاب في ما بعد إن شاء الله.
89

ب - سهم النبي وصفيه.
ج - ما كتب الله على المؤمنين من الصدقة. أي القسم الواجب من الصدقة.
وهكذا جعل الصدقة الواجبة قسما واحدا من أقسام الزكاة. وقد حصر الله
الصدقة بالمواضع الثمانية المذكورة في قوله تعالى: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين
والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل
فريضة من الله والله عليم حكيم " 1 ولم يحصر الزكاة بمورد ما، وقرنها بالصلاة في خمس
وعشرين آية من كتابه الكريم 2 وكلما قرنت الزكاة بالصلاة في كلام الله وكلام رسوله
قصد منها مطلق حق الله في المال والذي منه: حقه في ما بلغ النصاب من النقدين
والانعام والغلات اي الصدقات الواجبة، ومنه حقه في المغانم اي الخمس، وحقة في
غيرهما.
وإذ قرنت في كلامهما بالخمس، قصد منها الصدقات الواجبة خاصة. وكذلك
إذا أضيفت في الكلام إلى أحد موارد أصناف الصدقة مثل " زكاة الغنم " أو " زكاة
النقدين " قصد منها عند ذاك أيضا صدقاتها الواجبة. ويسمى العامل على الصدقة في
الحديث والسيرة بالمصدق 3 ولا يقال " المزكي " ويقال لمعطي الصدقة: " المتصدق " 4
ولا يقال المزكي أو المتزكي و " الصدقة " هي التي حرمت على بني هاشم 5 وليست
الزكاة، ولم ينتبه مسلم إلى هذا وكتب في صحيحه " باب تحريم الزكاة على رسول
الله (ص) وعلى آله... " 6 وأورد في الباب ثمانية أحاديث تنص على حرمة الصدقة
عليهم وليست الزكاة كما قال، وعلى هذا فكل ما ورد في القرآن الكريم من أمثال قوله
تعالى " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " 7، فهو أولا أمر بإقامة كل ما يسمى صلاة سواء

(1) التوبة 60.
2) راجع مادة " الزكاة " من المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
3) راجع مادة " صدق " بمفردات الراغب ونهاية اللغة ولسان العرب.
4) قال الله تعالى " ان المصدقين والمصدقات " الحديد 18 وقال " والمتصدقين والمتصدقات "
الأحزاب 35، وراجع أبواب الزكاة في صحيح مسلم 3 / 172، وسنن أبي داود 1 / 202، والترمذي 3 / 172.
ولا يعبأ بما ورد عند بعض المتأخرين مثل المتقي في كنز العمال.
5) يأتي تفصيله في ما بعد إن شاء الله.
6) صحيح مسلم 3 / 117.
7) راجع مادة " الزكاة " في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
90

اليومية منها أو صلاة الآيات أو غيرهما. وثانيا أمر بأداء حق الله في المال سواء حقه في
موارد الصدقة الواجبة، أو حقه في موارد الخمس أو في غيرهما.
وكذلك المقصود في ما روي عن رسول الله أنه قال " إذا أديت زكاة مالك
فقد قضيت ما عليك 1 " أنك إذا أديت حق الله في مالك أي جميع حقوق الله في المال
فقد قضيت ما عليك، وكذلك ما روي عنه أنه قال " من استفاد مالا فلا زكاة عليه
حتى يحول الحول " 2 أي لا حق لله في ماله. وورد في أحاديث أئمة أهل البيت: (وحق
في الأموال الزكاة) 3. ولعل سبب خفاء ذلك على الناس، أن الخلفاء لما أسقطوا
الخمس بعد رسول الله ولم يبق مصداق للزكاة في ما يعمل به غير الصدقات، نسي
الخمس متدرجا، ولم يتبادر إلى الذهن من الزكاة في العصور الأخيرة غير الصدقات!
ج - الفئ:
الفئ في اللغة: الرجوع ومنه ما يقال الفئ لرجوع الظل بعد زوال الشمس.
وفي الشرع كما في لسان العرب: " ما حصل من أموال الكفار من غير
حرب ". " ما رد الله تعالى على أهل دينه من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال، إما
بأن يجلوه عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين أو يصالحوا على جزية يفتدون بها من سفك
دمائهم فهذا المال هو الفئ في كتاب الله " 4.
وقوله تعالى في سورة الحشر: " وما أفاء الله علي رسوله من أهل القرى فلله
وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " الآية 7.
هذا الآية وسورة الحشر كلها، نزلت في قصة بني النضير. وذلك أن يهود
بني النضير، نقضت عهدها مع رسول الله، وأرادت أن تغدر به وتقتله بالقاء صخرة عليه
حين ذهب مع عشرة من أصحابه إليهم، فأخبره الوحي بما بيتوا من نية الغدر فخرج
مسرعا كأنه يريد حاجة، ومضى إلى المدينة فلما أبطأ لحق به أصحابه فبعث النبي
إليهم يخبرهم بغدرهم ويأمرهم بالجلاء فأبوا وتحصنوا 15 يوما ثم نزلوا على أن لهم ما

(1) سنن الترمذي 3 / 97 باب ما جاء إذا أديت الزكاة فقد قضيت ما عليك.
2) سنن الترمذي 3 / 125 باب ما جاء لا زكاة على المال المستفاد حتى يحول عليه الحول.
3) الكافي 2 / 19 و 20، وتفسير العياشي 1 / 252، والبحار 68 / 337 و 389.
4) بمادة الفئ.
91

حملت الإبل غير الحلقة أي السلاح فخرجوا على ستمائة بعير وذهبوا إلى خيبر وغيرها
فجعل الله ما خلفوه من سلاح كثير وأراضي ونخيل لرسول الله، فقال عمر: ألا تخمس
ما أصبت أي تأخذ خمسه وتقسم الباقي على المسلمين؟ فقال رسول الله (ص) لا أجعل
شيئا جعله الله لي دون المسلمين بقوله: " ما أفاء الله على رسوله " الآية كهيئة ما وقع فيه
السهمان للمسلمين.
وقال الواقدي وغيره:
إنما كان ينفق على أهله من بني النضير، كانت له خالصة، فأعطى من أعطى
منها وحبس ما حبس، واستعمل على أموال بني النضير مولاه أبا رافع 1.
د - الصفي:
الصفي ويجمع على الصفايا كان يقال في العصر الجاهلي، لما يأخذه الرئيس
من المال المسلوب من العدى قبل القسمة. وفي الشرع الاسلامي، لما كان لرسول الله
خالصة دون المسلمين من مال منقول وغير منقول من أراضي وعقار، غير سهمه في
الخمس.
روى أبو داود بسننه في " باب صفايا رسول الله " من كتاب الخراج 2 عن
الخليفة عمر أنه قال:
أ - كانت لرسول الله ثلاث صفايا: بنو النضير وخيبر وفدك... الحديث.
ب - وفي حديث آخر له:
إن الله خص رسول الله (ص) بخاصة لم يخص بها أحدا من الناس، فقال " فما
أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله بكل شئ
قدير " وكان الله أفاء على رسوله بنى النضير... الحديث.

(1) كلما أوردناه في قصة بني النضير فمن مغازي الواقدي ص 363 - 378، وكذلك قال المقريزي في
إمتاع الأسماع ص 178 - 182 غير أنه أوردها بإيجاز، وراجع تفسير الآية بتفسير الطبري.
وأبو رافع اسمه إبراهيم أو صالح. قيل كان عبدا قبطيا للعباس فوهبه للنبي فاعتقه وزوجه مولاته
سلمى، أسلم بمكة وشهد أحدا وما بعدها وكان ابنه رافع كاتبا لعلى (ع) توفي في خلافة عثمان أو بعده. أسد
الغابة 1 / 41 و 77.
2) سنن أبي داود 2 / 47، والأموال لأبي عبيد ص 9.
92

ج - وقال في حديث آخر بعد ان ذكر الآية الآنفة: " هذه لرسول الله خاصة قرى
عربية فدك وكذا وكذا ".
وروى أبو داود عن الزهري أنه قال:
صالح النبي أهل فدك وقرى وهو محاصر قوما آخرين فأرسلوا إليه بالصلح،
قال: " فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب " يقول، بغير قتال، قال: وكانت
بنو النضير للنبي خالصا لم يفتحها عنوة " إفتتحوها على صلح " ويثبت مما ذكرنا ان
البحاثة ابن الأثير لم يصب في قوله بمادة " صفا " من نهاية اللغة حين قال: الصفي ما
كان يأخذه رئيس الجيش ويختاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة ويقال له الصفية
والجمع الصفايا ومنه حديث عائشة كانت صفية (رض) من الصفي يعنى صفية بنت
حيي كانت ممن اصطفاه النبي (ص) من غنيمة خيبر وقد تكرر ذكره في الحديث.
أي ذكر الصفي والصفايا.
وقال: " وفي حديث علي والعباس انهما دخلا على عمر (رض) وهما
يختصمان في الصوافي التي أفاء الله على رسوله (ص) من أموال بني النضير، الصوافي:
الاملاك والأراضي التي جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لها واحدها صافية، قال
الأزهري: يقال للضياع التي يستخلصها السلطان لخاصته: الصوافي ".
واخذ من الأزهري وابن الأثير من جاء بعدهما من اللغويين مثل ابن منظور
بمادة " صفا " من لسان العرب.
وخلاصة قولهم: ان الصفي ويجمع على الصفايا يقال: لما يصطفيه الرئيس
من غنائم الحرب غير المنقولة. والصافية ويجمع على الصوافي لما يستخلصها السلطان من
أراضي وضياع ولست أدري كيف يصح ذلك وقد رأينا الخليفة عمر يسمي فدك
وخيبر وقرى عربية أخرى بصفايا رسول الله.
ووجدنا أبا داود 1 المتوفى سنة (275 ه‍) يعقد بابا في سننه باسم " باب
صفايا رسول الله " يذكر شأن تلك القرى التي وردت في حديث عمر وغير عمر.

(1) أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب كتاب السنن، قال: كتبت عن رسول الله
خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب يعني السنن، جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث
ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه. سكن البصرة وتوفي بها.
93

ورأينا التقسيم المذكور استفيد من الأزهري 1 المتوفى سنة (370 ه‍) أي بعد
ما يقارب قرنا من أبي داود، ولعله أخذه من المتعارف في عصره وليس من قبله،
وخاصة من القرامطة الذين عاشرهم دهرا وهو في أسرهم واستفاد من محاوراتهم
كثيرا.
وخلاصة القول:
ان الصفايا ومفردها الصفي كانت تطلق حتى عصر أبي داود على كل ما
كانت خالصة لرسول الله من أموال وضياع وعقار.
ه‍ - الأنفال:
الأنفال جمع النفل والنفل في اللغة: العطية والهبة والنفل بالسكون: الزيادة
على الواجب ونفله نفلا وتنفيلا ونفله وأنفله إياه أعطاه نفلا اي زيادة ومنه نفله سلب
القتيل ونوافل الصلاة 2.
واستعمل الأنفال في الشرع الاسلامي لأول مرة بسورة الأنفال في قوله تعالى
" ويسألونك عن الأنفال... " الآية. وشأن نزول هذه السورة ان المسلمين خاضوا أول
معركة حربية تحت لواء قائدهم الأعظم رسول الله (ص) في غزوة بدر الكبرى في السنة
الثانية من الهجرة، ولما انتهت المعركة بفوزهم الساحق على قريش اختلفوا في ما ظفروا
به من جهة العدى ورجعوا إلى رسول الله (ص) في ذلك فنزلت الآيات الكريمة من أول
سورة الأنفال:
" ويسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات
بينكم وأطيعوا الله ورسوله ان كنتم مؤمنين " الآيات.
في سيرة ابن هشام والطبري وسنن أبي داود 3 وغيرها واللفظ للأول: " ان

(1) الأزهري أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي الشافعي اللغوي أسرته القرامطة فبقي معهم
دهرا طويلا يسكن البادية، فاستفاد من محاوراتهم الفاظا جمة. من تصانيفه التهذيب ولعله استفاد ما ذكره في
تعريف " الصوافي " من محاورات القرامطة في ما يخص الغزو والسلب والنهب. وعلى هذا فليس تعريفه هذا
تعريف مصطلح شرعي ليفسر بموجبه ما ورد في الحديث الشريف.
1) راجع مادة (نفل) من معاجم اللغة خاصة لسان العرب.
2) سنن أبي داود 2 / 9 باب في النفل من كتاب الجهاد.
94

رسول الله (ص) أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع فاختلف المسلمون فيه، فقال
من جمعه: هو لنا، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: والله لولا نحن ما أصبتموه،
لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم، وقال الذين كانوا يحرسون رسول
الله (ص) مخافة أن يخالف إليه العدو: والله ما أنتم بأحق به منا، لقد رأينا ان نقتل
العدو إذ منحنا الله أكتافهم، ولقد رأينا ان نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه،
ولكنا خفنا على رسول الله (ص) كرة العدو، فقمنا دونه، فما أنتم بأحق به منا.
وروى عن عبادة بن الصامت أنه قال عن سورة الأنفال: " فينا أصحاب بدر
نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول
الله (ص) فقسمه رسول الله بين المسلمين على السواء.
وروى عن أبي أسيد الساعدي قال: أصبت سيف بني عائذ المخزومين المرزبان
يوم بدر فلما أمر رسول الله (ص) الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت حتى
ألقيته في النفل.
قال ابن هشام: ثم اقبل رسول الله (ص) قافلا إلى المدينة ومعه الأسارى من
المشركين حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب، فقسم هنالك النفل
الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء 1.
نفهم من كل ما سبق ان الله سبحانه حين استعمل لفظة الأنفال في الآية
الكريمة قصد منها معناها اللغوي وهو الهبة والعطية، اي ان ما استوليتم عليها من أموال
العدى ليست من باب السلب والنهب وفق قواعد الجاهلية لتتملكوها، بل هي عطاء
من الله، ثم هي لله ولرسوله وعليكم أن تردوها إلى رسوله ليعمل فيها وفق رأيه.
ومن هنا نعرف المناسبة في ما استعملت فيه لفظة الأنفال بأحاديث أئمة أهل

(1) سيرة ابن هشام 2 / 283 - 286، وتفسير الآية بتفسير الطبرسي وغيره.
وعبادة بن الصامت أبو الوليد الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة الأولى والثانية ومشاهد رسول الله
كلها وكان أحد نقباء الأنصار وممن حفظ القرآن على عهد النبي، وتوفي سنة 32 أو 45 بالرملة أو البيت
المقدس ترجمته بأسد الغابة 3 / 107.
وأبو أسيد مالك بن ربيعة الأنصاري الخزرجي، شهد بدرا وما بعدها. اختلف في وفاته أكانت في
ستين أو خمس وستين للهجرة ترجمته بأسد الغابة 4 / 279.
وبنو عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم من قريش نسبهم في نسب قريش لمصعب الزبيري ص 299.
ومضيق الصفراء بوادي الصفراء بينه وبين بدر مرحلة معجم البلدان.
95

البيت وأريد بها: " كل ما اخذ من دار الحرب بغير قتال، وكل ارض انجلى عنها أهلها
بغير قتال، وعلى قطائع الملوك إذا كانت في أيديهم من غير غصب، والآجام وبطون
الأودية والأرضون الموات وما شابهها " 1 فإنها جميعا عطاء من الله، وهبة لرسوله ثم
للأئمة من بعده. وبهذا الاستعمال الأخير أصبحت الأنفال في العرف الاسلامي لدى
مدرسة أئمة أهل البيت اسما لما ذكرناه بين القوسين آنفا.
و - الغنيمة والمغنم:
ان الغنيمة والمغنم قد تطور مدلولاهما بعد العصر الجاهلي مرتين: مرة في التشريع
الاسلامي، وأخرى لدى المتشرعة أي بين المسلمين حتى أصبح أخيرا مدلولاهما عندهم
مساوقين للسلب والنهب والحرب وبيان ذلك أن العرب كانت تقول: سلبه سلبا إذا
اخذ سلبه وسلب الرجل ثيابه، وما يأخذه القرن من قرنه مما يكون عليه ومعه من
لباس وسلاح ودابة وغيرها، والجمع أسلاب.
وتقول: حربه حربا، إذا سلبه كل ماله وتركه بلا شئ، وحرب الرجل
ماله سلبه فهو محروب وحريب والجمع حربي وحرباء وحريبته ماله الذي سلب منه،
وأخذت حريبته أي ماله الذي يعيش به، واحربه: دله على ما يسلبه من عدوه.
وتقول: نهبه ونهبه إذا اخذ ماله قهرا، والنهب والنهبى والنهيبى: اخذ المال قهرا
والجمع النهاب والنهوب، والنهب أيضا ضرب من الغارة والسلب، وانهب عرضه
وماله أباحه لمن شاء.
هكذا فسرت الألفاظ الآنفة في معاجم اللغة 2 واستعملت في تلكم المعاني
أيضا في السيرة والحديث ومن قبل الصحابة كما يأتي في ما يلي:
في الحديث:
" من قتل قتيلا فله سلبه " 3.

(1) راجع البحار للمجلسي باب الأنفال من كتاب الخمس ج 96 / 204 - 214 ط. الجديدة.
2) مثل الصحاح للجوهري، ونهاية اللغة لابن الأثير، ولسان العرب لابن منظور والقاموس وشرحه.
3) سنن الدارمي 2 / 229 باب من قتل قتيلا فله سلبه من كتاب السير، ومسند أحمد 5 / 295 و 306 و
12، وراجع سنن أبي داود كتاب الجهاد ج 2 / 3، وسنن أبي داود أيضا باب في السلب يعطى القاتل من كتاب
الجهاد 2 / 13.
96

وفي قول رسول الله للمغني الذي استجازه ان يغني في المدينة " وأحللت سلبك
نهبة لفتيان أهل المدينة " 1.
وفي السيرة:
لما اعطى رسول الله (ص) في غزوة حنين كلا من أبي سفيان بن حرب
وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عباس
بن مرداس دونهم قال عباس بن مرداس: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع،
الأبيات 2.
وقالت قريش في قصة بدر: " اخرجوا إلى حرائبكم " 3.
وفي حديث رسول الله: " فان قعدوا قعدوا موتورين محروبين " 4.
وفي حديث عمر: " إياكم والدين فان أوله هم وآخره حرب " 5.
وفي تاريخ عصر الصحابة: قال معاوية في وصيته لسفيان بن عوف الغامدي لما
بعثه لغزو بلاد المسلمين خارج بلاد الشام: " فاقتل من لقيته ممن ليس هو على رأيك،
وأحرب كل ما مررت به من القرى واحرب الأموال فان حرب الأموال شبيه بالقتل
وهو أوجع للقلب " 6، يقصد اسلب جميع أموالهم.

(1) سنن ابن ماجة كتاب الحدود، الحديث 2613.
2) صحيح مسلم 3 / 108 باب اعطاء المؤلفة قلوبهم من كتاب الزكاة وفي الأغاني بترجمة عباس بن
مرداس 14 / 290 وترجمته بأسد الغابة، والعبيد اسم لفرسه وغزوة حنين كانت في السنة الثامنة وبعد فتح مكة،
وأبو سفيان بن حرب حارب رسول الله في أحد والخندق وفي غيرهما. وأظهر الاسلام بعد الفتح وتوفي
سنة 31 ه‍.
وصفوان بن أمية القرشي الجمحي توفي بمكة في عصر عثمان أو معاوية.
وعيينة بن حصن الفزاري قيل إن الخليفة عمر قتله، وقيل مات في عصر عثمان.
والأقرع بن حابس التميمي أصيب بالجوزجان مع الجيش الغازي بلاد خراسان.
اعطى النبي هؤلاء في حنين سهم المؤلفة قلوبهم فاعترض عليه ابن مرداس وقال دفعت سهمي وسهم
فرسي العبيد إلى عيينة والأقرع.
3) بمادة " حرب " من نهاية اللغة لابن الأثير، وحرائب جمع حريبة.
4) مسند أحمد 4 / 328، والبخاري 3 / 31 واللفظ للأول ومحروبين: مسلوبي المال.
5) موطأ مالك 2 / 236 باب جامع القضاء وكراهيته من كتاب الوصية وآخره حرب: اي ذهاب
المال.
6) أورد هذا إبراهيم بن محمد الثقفي ت 280 ه‍ في كتابه الغارات حسب رواية ابن أبي الحديد عنه في
شرح النهج ج 2 / 58 - 90 تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، والغامدي توفي بأرض الروم بعد الخمسين من الهجرة
أميرا على الصائفة من قبل معاوية راجع أحاديث عائشة ص 242.
97

وفي الحديث: ان أصحاب النبي أصابوا غنما فانتهبوها فطبخوها فقال
النبي (ص): " ان النهبى أو النهبة لا تصلح " فاكفأوا القدور 1.
وفي غزاة كابل أصاب الناس غنما فانتهبوها فامر عبد الرحمن مناديا ينادي:
إني سمعت رسول الله يقول " من انتهب نهبة فليس منا " فردوا هذا الغنم فردوها
فقسمها بالسوية 2.
كانت هذه معاني السلب والنهب والحرب، اما الغنيمة والمغنم فقد قال
الراغب والأزهري في مادة غنم: " الغنم معروف... والغنم اصابته والظفر به ثم
استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم، قال: " واعلموا إنما غنمتم من
شئ " " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " والمغنم ما يغنم وجمعه مغانم قال " فعند الله
مغانم كثيرة " انتهى 3.
وفي لسان العرب وتهذيب اللغة للأزهري ونهاية اللغة، وفي معجم ألفاظ القرآن
الكريم: " الغنم: الظفر بالغنم، ثم استعمل في كل ما يظفر به من جهة العدو وغيرهم.
غنم كسمع غنما والغنم ما يغنم وجمعه مغانم.
" الغنم: الفوز بالشئ من غير مشقة ".
" وغنم الشئ، فاز به والاغتنام انتهاز الغنم " 4.
وفيه وفي نهاية اللغة لابن الأثير بنفس المادة: في الحديث " الرهن لم رهنه،
له غنمه وعليه غرمه " غنمه: زيادته ونماؤه وفاضل قيمته انتهى.

1) مسند أحمد 5 / 367، وسنن ابن ماجة كتاب الفتن الحديث 3938 واللفظ للأول.
2) مسند أحمد 5 / 62 و 63، و عبد الرحمن بن سمرة القرشي توفي بالبصرة سنة خمسين أو إحدى وخمسين
ترجمته بأسد الغابة 3 / 297.
3) مفردات القرآن للراغب الأصبهاني ص 372 بمادة " غنم " والآية الأولى بسورة الأنفال 41 والثانية
الآية 69 منها والثالثة الآية 94 من سورة النساء، تهذيب اللغة للأزهري (ت 370 ه‍) ج 8 / 149، ومعجم
ألفاظ القرآن 2 / 293.
4) مادة " غنم " بنهاية اللغة لابن الأثير 3 / 173، ولسان العرب ج 12 / 445 وتهذيب اللغة للأزهري،
(ت 370 ه‍)، ومعجم مقائيس اللغة لابن فارس (ت 395 ه‍) ج 4 / 397، وتفسير الفخر الرازي
ج 15 / 166.
98

وفي صحاح الجوهري: " المغنم والغنيمة بمعنى " 1.
وورد في الحديث من هذه المادة وأريد به الفوز بالشئ في باب ما يقال عند
اخراج الزكاة من سنن ابن ماجة عن رسول الله (ص): " اللهم اجعلها مغنما ولا
تجعلها مغرما " 2.
وفي مسند أحمد عن رسول الله (ص): " غنيمة مجالس الذكر الجنة " 3.
وفي وصف شهر رمضان " هو غنم للمؤمن " 4. إلى غير هذه الموارد من
الحديث. وورد في كتاب الله تعالى: " فعند الله مغانم كثيرة " 5.
ويتلخص ما سبق:
ان العرب كانت تقول في الجاهلية والاسلام: سلبه إذا أخذ ما مع المسلوب
وما عليه من ثياب وسلاح ودابة وتقول: حربه إذا أخذ كل ماله، وكانت النهيبة
والنهبى عندهم تساوق الغنيمة والمغنم في عصرنا.
ووجدنا غنم الشئ غنما عندهم بمعنى فاز به بلا مشقة، والاغتنام: انتهاز
الغنم، والمغنم: ما يغنم وجمعه مغانم. وفي الحديث " له غنمه " أي نماؤه وفاضل قيمته،
وفي وصف شهر رمضان " هو غنم للمؤمن "، وفي الدعاء عند أداء الزكاة " اللهم
اجعلها مغنما " و " غنيمة مجالس الذكر الجنة ".
وقالوا: الغنم في الأصل: الظفر بالغنم ثم استعمل في كل ما ظفر به من جهة
العدى وغيرهم. وارى شمول الغنم لما ظهر بن من جهة العدى وغيرهم صار في العصر
الاسلامي لا قبله.
وذلك لان المسلمين خاضوا أول معركة حربية تحت لواء رسول الله في بدر
وتنازعوا في الأسلاب بعد انتصارهم وسلب الله عنهم ملكية ما استولوا عليه من أموال
العدى وجعلها لله ولرسوله وسماه بالانفال، وبعد نزول هذا الحكم في سورة الأنفال،
كان الغزاة في جميع الغزوات يأتون بكل ما ظفروا به إلى القائد ليتصرف فيه كما يراه،

(1) بمادة " غنم " من صحاح اللغة للجوهري ص 1999.
2) سنن ابن ماجة كتاب الزكاة الحديث 1797.
3) مسند أحمد 2 / 177.
4) مسند أحمد 2 / 330 و 374 و 524.
5) النساء / 94.
99

ولم يكن لاحد منهم أن يهب شيئا جهارا أو يغله سرا فقد حرم رسول الله الانتهاب كما
رواه ابن ماجة وأحمد واللفظ للأول، قال: قال رسول الله: " ان النهبة لا تحل ".
وقال: " من انتهب نهبة فليس منا " 1.
وفى صحيح البخاري ومسند أحمد واللفظ للأول عن عبادة قال: بايعنا النبي
على ألا ننتهب 2.
وفي صحيح البخاري عن رسول الله. " لا ينتهب نهبة ذات شرف وهو
مؤمن " 3.
وفي سنن أبي داود باب النهي عن النهبي عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع
رسول الله في سفرنا فأصاب الناس حاجة شديدة وجهدوا وأصابوا غنما فانتهبوا، فان
قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله يمشي متكأ على قوسه، فأكفأ قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل
اللحم بالتراب ثم قال: " ان النهبة ليست بأحل من الميتة " 4.
وحرم الله ورسوله الأغلال قال الله سبحانه: " ومن يغلل يأت بما غل يوم
القيامة " 5.
وفي حديث رسول الله: " لا نهب ولا أغلال ولا اسلال ومن يغلل يأت بما
غل يوم القيامة " 6. الأغلال: السرقة الخفية والاسلال: السرقة.
في هذا الحديث ذكر النهب والأغلال في عداد السرقة.
وفي حديث آخر قال: " أدوا الخيط والمخيط فما فوق ذلك فما دون ذلك، فان
الغلول عار على أهله يوم القيامة وشنار وعار " 7.
قال ابن الأثير: الغلول: الخيانة في المغنم، والسرقة من الغنيمة قبل القسمة
والشنار أقبح العيب.

(1) الحديثان في كتاب الفتن من سنن ابن ماجة باب النهبى عن النبي ص 1298 - 1299 والحديث
الأول بمسند احمد 4 / 194، والثاني في مسنده ج 3 / 140 و 197 و 312 و 323 و 380 و 395 و ج 4 / 439 و
443 و 446 و ج 5 / 62.
2) صحيح البخاري 2 / 48 باب النهى بغير اذن صاحبه، ومسند أحمد 5 / 321 وعبادة سبقت ترجمته.
3) صحيح البخاري 3 / 214 كتاب الأشربة، وراجع 2 / 48.
4) سنن أبي داود 2 / 12.
5) آل عمران الآية 161. 6) سنن الدارمي 2 / 230.
7) بسنن الدارمي 2 / 230 باب " ما جاء من أدوا الخيط والمخيط " من كتاب السير.
100

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: كان رسول الله إذا أصاب غنيمة أمر بلالا
فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل من ذلك بزمام من شعر،
فقال: يا رسول الله هذا ما كنا أصبنا من الغنيمة، فقال. " أسمعت بلالا نادى ثلاثا "
قال: نعم، قال " ما منعك ان تجئ به؟ " فاعتذر، فقال " كن أنت تجئ به يوم
القيامة فلن أقبله منك " 1.
وفي باب الغلول من كتاب الجهاد بسنن ابن ماجة: توفي رجل من أشجع بخيبر
فقال النبي " صلوا على صاحبكم " فأنكر الناس ذلك وتغيرت له وجوههم فلما رأى
ذلك قال: " أن صاحبكم قد غل " 2.
وفي باب " ما جاء في الغلول من الشدة " من كتاب السير بسنن الدارمي عن
عمر بن الخطاب قال: " قتل نفر يوم خيبر فقالوا: فلان شهيد حتى ذكروا رجلا فقالوا:
فلان شهيد فقال رسول الله " كلا اني رأيته في النار في عباءة أو في بردة غلها " 3.
وفي باب الغلول من كتاب الجهاد بسنن ابن ماجة: كان على ثقل النبي رجل
يقال له كركرة فمات فقال النبي: " وهو في النار " فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء
أو عباءة قد غلها 4.
وفي صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود بلفظ آخر وفي آخر الحديث:
فجاء رجل حين سمع ذلك بشراك أو بشراكين فقال رسول الله (ص) " شراك أو
شراكان من نار " 5.
وإذا كان الاسلام قد منع أفراد الجيش من النهب اي استملاك المال المظفور
به من جهة العدى جهارا حتى أن الرسول اكفأ قدور الجائعين الذين كانوا قد نهبوا
الأغنام وأرمل لحومها. ونهى عن الاستيلاء عليه سرا وسماه الغلول اي الخيانة وقال

(1) بسنن أبي داود 2 / 13 باب تعظيم الغلول من كتاب الجهاد، وفي الكتاب باب في عقوبة الغال ذكر
فيه انهم كانوا يحرقون متاع الغال وفيه باب من كتم غالا فهو مثله.
2) بسنن ابن ماجة ص 950.
3) بسنن الدارمي 2 / 230.
4) بسنن ابن ماجة ص 950.
5) تمام الحديث في صحيح البخاري 3 / 37 باب غزوة خيبر، وصحيح مسلم 1 / 75 بكتاب الايمان،
وسنن أبي داود 2 / 13 من كتاب الجهاد، وراجع باب تحريم الغلول من كتاب الامارة بصحيح مسلم 6 / 10.
101

الرسول: " أدوا الخيط والمخيط فما فوق فما دون " ولم يصل على من غل ولم يسم القتيل
الذي غل عباءة بشهيد، وبذلك سلب الاسلام عن أفراد الجيش الغازي ملكية المال
المظفور به من جهة العدى مهما كان، ولو كان شراك نعل، وكيفما كان، سرا أو
جهارا، وسماه القرآن أنفالا، وجعله لله ولرسوله وليتصرف فيه رسول الله كيفما يرى،
فماذا فعل رسول الله بالمال المظفور به من جهة العدى.
أعطى الرسول في غزواته للراجل ما رآى أن يعطيه وللفارس كذلك 1، سواء
أكانا ممن استولى على المظفور به أو لم يكونا منهم، ورضخ للمرأة 2.
وأكثر من ذلك أنه أعطى لمن لم يشهد الغزاة بالمرة، مثل ما فعل مع عثمان في
غزاة بدر، ومع أصحاب جعفر في غزاة خيبر، كما في صحيح البخاري ومسندي
الطيالسي وأحمد وطبقات ابن سعد: أن رسول الله خلف عثمان في غزاة بدر على
زوجته ابنة رسول الله وكانت مريضة، وأسهم له في ما أصابوا كواحد ممن حضر
الغزوة 3.
وفي نفس الصفحة من صحيح البخاري عن أبي موسى (رض) قال: بلغنا
مخرج النبي (ص) ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه في بضع وخمسين رجلا من
قومي، فركبنا سفينة فألقتنا إلى النجاشي بالحبشة، ووافقنا جعفر بن أبي طالب
وأصحابه، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا فوافقنا النبي (ص) حين افتتح خيبر، فأسهم لنا
أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه وقسم لهم معهم 4.
وكذلك أعطى النبي المؤلفة قلوبهم في حنين كما مر ذكره، اضعاف سهم
المؤمن المجاهد.
هكذا سلب الاسلام ملكية المال المظفور به من جهة العدى ممن ظفر به
وجعله لله ولرسوله فتصرف فيه الرسول وقسمه حسب ما رآه، وصح بهذا الاعتبار ان

(1) في صحيح البخاري 3 / 36 " باب غزوة خيبر " أنه قسم للفارس سهمين وللراجل سهما.
2) رضخ له: أعطاه عطاء غير كثير.
3) صحيح البخاري 2 / 131 باب إذا بعث الامام رسولا إلى حاجة أو أمر بالمقام هل يسهم له من
كتاب الجهاد والسير، وبمسند الطيالسي الحديث 1985 ومسند أحمد 1 / 68 و 75 و ج 2 / 101 و 102،
وطبقات ابن سعد 3 / 56، وبداية المجتهد 1 / 410 - 412 في الفصل الثاني من كتاب الجهاد.
4) أوردنا الحديث من البخاري باختصار.
102

نقول: إن الذي أصابه سهم من المظفور به سواء من حضر الغزوة أو من لم يحضرها، ظفر
به بلا مشقة لأنه ظفر به من يد رسول الله وليس من الغزو وصح بهذا الاعتبار ان
نحسب المظفور به من نوع " الغنيمة والمغنم " بعد ما كانت الغنيمة والمغنم لدى العرب
تدلان على ما ظفر به بلا مشقة من غير جهة العدى، وكان للذي ظفر به من جهة العدى
تسميات أخرى ذكرناها في ما سبق. وبهذا الاعتبار نزلت آية " واعلموا إنما غنمتم " في
هذه الغزوة بعد نزول آية الأنفال بصدر السورة، أو نزلت في غزوة أحد، وأصبح للغنيمة
بعد نزول هذه الآية معنيان:
1 - معنى لغوي: وهو الفوز بالشئ بلا مشقة وليس من ضمنه المظفور به من
جهة العدى، فان له تسميات خاصة وهي، السلب والنهب والحرب.
2 - معنى شرعي: وهو " ما ظفر به من جهة العدى وغيرهم ". كما فسره
الراغب وهكذا جعل الاسلام اسلاب الحرب من مصاديق المغنم بعد ان لم تكن من
مصاديقه.
ووجدنا الغنيمة والمغنم مستعملين في الحديث والسيرة، في معناهما اللغوي
تارة، كما يستعمل اللفظ في معناه الحقيقي دونما حاجة إلى قرينة كما مر معنا سابقا.
وتارة في معناهما الشرعي مع وجود قرينة في الكلام، أو في حال التخاطب تدل على
المعنى الشرعي المقصود.
هكذا استعمل اللفظان في المعنيين حتى عصر انتشار الفتوح على عهد الخليفة
عمر فما بعد حيث كثر استعمال مشتقات مادة " غنم " في ما ظفر به من جهة العدى
خاصة مع وجود قرائن حالية أو مقالية تدل على هذا القصد. وعند ما جاء اللغويون بعد
ذلك، واستقرؤا موارد استعمال مادة " غنم " لدى العرب في عصرهم فما فوق، وجدوها
مستعملة كما يلي:
أ - في الفوز بالشئ بلا مشقة، في العصر الجاهلي وصدر الاسلام لدى العرب
عامة.
ب - في الفوز بالشئ من جهة العدى وغيرهم، بعد نزول آية الخمس لدى
المسلمين خاصة منذ عصر الرسول حتى عصر الصحابة.
ج - في ما ظفر به من جهة العدى خاصة، في عصر الفتوح مع قرائن لم ينتبه
إليها، ثم استعملت متدرجا إلى عصر اللغويين بلا قرينة في المجتمع الاسلامي خاصة
103

وعند ما قام رواد اللغة بتدوينها لم ينتبهوا إلى تطور مدلول مادة " غنم " كما ذكرنا، وأنتج
ذلك ان بعضهم لاحظ استعمالها في المدينة بعد تشريع الخمس مثل الراغب فقال:
" استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم ".
ولاحظ ابن منظور وغيره تارة استعمالها في العصر الجاهلي، وقالوا: " غنم
الشئ: فاز به، والاغتنام: انتهاز الغنم.. ".
وتارة استعمالها في عصر الفتوح مع قرينة خفيت عليهم وبعدها بلا قرينة،
فقالوا: " الغنيمة ما أصيب من أموال أهل الحرب ".
وتردد صاحب القاموس في " الغنم " وهل هو بمعنى الفوز والفئ 1 كليهما أي
أنه مشترك بين المعنيين، أو أن الغنيمة بمعنى الفئ وسائر مشتقات المادة بمعنى الفوز
بالشئ 2.
هكذا خلطوا في تفسير مادة " غنم "، والصواب ان نلاحظ تطور مدلول المادة
كما ذكرنا ونقول: ان مادة " غنم " كانت:
أ - في العصر الجاهلي وصدر الاسلام، في اللغة: حقيقة في الفوز بالشئ بلا
مشقة.
ب - بعد نزول آية الخمس في الشرع: حقيقة في ما ظفر به من جهة العدى
وغيرهم، إلى جنب حقيقتها اللغوية فإنها لم تكن منسية يومذاك.
ج - في عصر تدوين اللغة فما بعد: حقيقة عند المتشرعة - اي المسلمين - في ما
ظفر به من جهة العدى خاصة، وذلك أيضا إلى جنب حقيقتها اللغوية.
وعلى هذا فانا إذا وجدنا إحدى مشتقات هذه المادة مستعملة في الكلام حتى
صدر الاسلام، ينبغي أن نحملها على معناها اللغوي خاصة أي " الفوز بالشئ
بلا مشقة " وفي غير ما ظفر به من جهة العدى.
وإذا وجدناها مستعملة بعد تشريع الخمس عند المسلمين أو في التشريع
الاسلامي، فاما ان يحمل على معناها اللغوي المذكور أو على معناها الشرعي " الظفر
بالشئ من جهة العدى وغيرهم " فإنها مشتركة بينهما.
وإذا وجدناها مستعملة عندهم في عصر تدوين اللغة فما بعد، فالأرجح حملها

(1) فسر صاحب القاموس الفئ في مادة (الفئ) بالغنيمة.
2) مادة " غنم " من القاموس.
104

على المشهور منها يومذاك عندهم أعنى الظفر بمال العدى خاصة.
ويتضح مما ذكرنا انا إذا وجدنا إحدى مشتقات هذه المادة مستعملة في
الحديث وغيره بعد تشريع الخمس منذ عصر الرسول وحتى عصر الصحابة، فلابد ان
نحملها على أحد معنيين اما اللغوي " الفوز بالشئ بلا مشقة "، أو الشرعي " الظفر
بالشئ من جهة العدى وغيرهم " فينبغي والحالة هذه ان نبحث عند ذاك عن قرينة
تدل على المقصود.
وفي استقرائنا لموارد استعمال هذه الكلمة في ذلك العصر غالبا ما وجدناها
مصحوبة بقرينة حالية أو مقالية تدل على المعنى الشرعي، مع وجود موارد كثيرة
استعملت فيها في معناها اللغوي دونما قرينة.
ز - الخمس:
الخمس في اللغة: أخذ واحد من خمسة، وخمست القوم: أخذت خمس
أموالهم. اما معناه الشرعي فينبغي لدركه أن نرجع أولا إلى عرف العرب في العصر
الجاهلي لمعرفة نظامهم الاجتماعي يومذاك في هذا الخصوص، ثم نعود إلى التشريع
الاسلامي لندرس الخمس فيه وندرس أمره بعد ذلك لدى المسلمين بالتفصيل إن شاء الله
تعالى. فإلى دراستهما في ما يلي:
أولا: في العصر الجاهلي
كان الرئيس عند العرب يأخذ في الجاهلية ربع الغنيمة ويقال: ربع القوم
يربعهم ربعا أي أخذ ربع أموالهم، وربع الجيش أي أخذ منهم ربع الغنيمة، ويقال
للربع الذي يأخذه الرئيس: المرباع. وفي الحديث، قال الرسول لعدي بن حاتم قبل
أن يسلم: " انك لتأكل المرباع وهو لا يحل في دينك " 1. وقال الشاعر:
لك المرباع منها والصفايا * وحكمك والنشيطة والفضول
الصفايا ما يصطفيه الرئيس، والنشيطة ما أصاب من الغنيمة قبل ان تصير

(1) بمادة ربع من القاموس واللسان وتاج العروس ونهاية اللغة لابن الأثير وفي صحاح الجوهري
بعضه. وسيرة ابن هشام 4 / 249.
105

إلى مجتمع الحي، والفضول ما عجز ان يقسم لقلته فخص به الرئيس 1.
وفي النهاية: " إن فلانا قد ارتبع أمر القوم، أي انتظر ان يؤمر عليهم، وهو على
رباعة قومه أي هو سيدهم ".
وفي مادة " خمس " من النهاية: ومنه حديث عدي بن حاتم " ربعت في
الجاهلية وخمست في الاسلام " أي قدت الجيش في الحالين، لان الأمير في الجاهلية
كان يأخذ ربع الغنيمة وجاء الاسلام فجعله الخمس وجعل له مصاريف، انتهى 2.
ثانيا: في العصر الاسلامي
هذا ما كان في الجاهلية، أما في الاسلام فقد فرض الخمس في التشريع
الاسلامي، وذكر في الكتاب والسنة كما يلي:
أ - الخمس في كتاب الله:
قال الله سبحانه: " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ان كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم
الفرقان يوم التقى الجمعان، والله على كل شئ قدير " الأنفال / 41.
هذه الآية وإن كانت قد نزلت في مورد خاص، ولكنها أعلنت حكما عاما
وهو وجوب أداء الخمس من أي شئ غنموا - أي فازوا به - لأهل الخمس. ولو
كانت الآية تقصد وجوب أداء الخمس مما غنموا في الحرب خاصة، لكان ينبغي أن يقول
عز اسمه: واعلموا ان ما غنمتم في الحرب، أو ان ما غنمتم من العدى وليس يقول إن
ما غنمتم من شئ.
في هذا التشريع: جعل الاسلام سهم الرئاسة الخمس بدل الربع في الجاهلية،
وقلل مقداره، وكثر أصحابه فجعله سهما لله، وسهما للرسول، وسهما لذوي قربى
الرسول، وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل من فقراء أقرباء الرسول،
وجعل الخمس لازما لكل ما غنموا من شئ عامة ولم يخصصه بما غنموا في الحرب،

(1) في نهاية اللغة 2 / 62
2) في نهاية اللغة 1 / 321، ومسند أحمد 4 / 257، وعدى أبو طريف أسلم سنة 9 ه‍ وشهد فتح العراق
والجمل وصفين ونهروان مع الامام وفقئت عينه بصفين روى عنه المحدثون 66 حديثا توفي بالكوفة سنة 68 ه‍
ترجمته بالاستيعاب وأسد الغابة والتقريب.
106

وسماه الخمس مقابل المرباع في الجاهلية.
ولما كان مفهوم الزكاة مساوقا لحق الله في المال كما أشرنا إليه في ما سبق،
فحيث ما ورد في القرآن الكريم حث على أداء الزكاة في ما ينوف على ثلاثين آية 1،
فهو حث على أداء الصدقات الواجبة والخمس المفروض في كل ما غنمه الانسان، وقد
شرح الله حقه في المال في آيتين: آية الصدقة وآية الخمس، كان هذا ما استفدناه من
كتاب الله في شأن الخمس.
ب - الخمس في السنة:
أمر الرسول باخراج الخمس من غنائم الحرب ومن غير غنائم الحرب مثل
الركاز كما روى ذلك كل من ابن عباس، وأبي هريرة، وجابر وعبادة بن الصامت،
وأنس ابن مالك كما يلي:
في مسند أحمد وسنن ابن ماجة واللفظ للأول عن ابن عباس قال: " قضى
رسول الله (ص) في الركاز الخمس 2. "
وفي صحيحي مسلم والبخاري، وسنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجة،
وموطأ مالك، ومسند أحمد واللفظ للأول: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص):
" العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس " وفي بعض الروايات عند
أحمد: البهيمة عقلها جبار 3.
شرح هذا الحديث أبو يوسف في كتاب الخراج وقال: كان أهل الجاهلية إذا
عطب الرجل في قليب جعلوا القليب عقله، وإذا قتلته دابة جعلوها عقله، وإذا قتلته

(1) راجع مادة " الزكاة " في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
2) مسند أحمد 1 / 314، وسنن ابن ماجة ص 839.
3) صحيح مسلم 5 / 127 باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار اي هدر من كتاب الحدود بشرح
النووي 11 / 225، وصحيح البخاري 1 / 182 باب " في الركاز الخمس "، و 2 / 34 باب " من حفر بئرا في
ملكه لم يضمن " من كتاب المساقاة وسنن أبي داود 2 / 254 باب " من قتل عميا بين قوم " من كتاب الحدود،
وباب ما جاء في الركاز "، 2 / 70، وسنن الترمذي 3 / 138 باب " ما جاء في العجماء جرحها جبار وفى الركاز
الخمس "، وسنن ابن ماجة ص 803 باب من " أصاب ركازا " من كتاب اللقطة، وموطأ مالك ج 1 / 244
باب " زكاة الشركاء ". ومسند أحمد ج 2 / 228 و 239 و 254 و 274 و 285 و 319 و 382 و 386 و 406 و
411 و 415 و 454 و 456 و 467 و 475 و 482 و 493 و 495 و 499 و 501 و 507، والأموال لأبي عبيد
ص 336.
107

معدن جعلوه عقله، فسأل سائل رسول الله (ص) عن ذلك فقال: " العجماء جبار،
والمعدن جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس " فقيل له: ما الركاز يا رسول الله؟
فقال: " الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت 1 " انتهى.
وفي مسند أحمد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (ص):
" السائمة جبار، والجب جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس " قال الشعبي:
الركاز الكنز العادي 2.
وفي مسند أحمد عن عبادة بن الصامت قال: من قضاء رسول الله (ص) ان
المعدن جبار، والبئر جبار، والعجماء جرحها جبار، والعجماء البهيمة من الانعام
وغيرها. والجبار هو الهدر الذي لا يغرم وقضى في الركاز الخمس 3.
وفي مسند أحمد عن أنس بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله (ص) إلى خيبر
فدخل صاحب لنا إلى خربة يقضي حاجته فتناول لبنة ليستطيب بها فانهارت عليه تبرا
فاخذها فاتى بها النبي (ص) فأخبره بذلك، قال " زنها " فوزنها فإذا مائتا درهم فقال
النبي " هذا ركاز وفيه الخمس " 4.
وفي مسند أحمد: ان رجلا من مزينة سأل رسول الله مسائل جاء فيها: فالكنز
نجده في الخرب والآرام فقال رسول الله (ص): " فيه وفي الركاز الخمس " 5.

(1) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ولد بالكوفة 113 ه‍ وتلمذ على أبي حنيفة وهو أول من
وضع الكتب على رأي أبي حنيفة وولي القضاء ببغداد أيام المهدي والهادي والرشيد، وتوفي سنة 182 ه‍ ونقلنا
عن كتاب خراجه ط القاهرة 1346 ه‍ ص 26 وقد وضعه لخليفة عصره الرشيد. وعطب اي هلك. والقليب:
البئر لم تطو. والعقل: الدية.
2) مسند أحمد 3 / 335 و 336 و 356 و 353 - 354، ومجمع الزوائد 3 / 78 باب " في الركاز
والمعادن " وأبو عمر وعامر بن شراحيل الكوفي الشعبي. نسبة إلى شعب بطن من همدان. روى عن خمسين ومائة
من أصحاب رسول الله. توفي بالكوفة سنة 104 ه‍، أنساب السمعاني ص 336.
3) مسند أحمد 5 / 326.
4) مسند أحمد 3 / 128، ومجمع الزوائد 3 / 77 باب " في الركاز والمعادن "، ومغازي الواقدي
ص 682.
5) مسند أحمد 2 / 186 و 202 و 207 واللفظ للأول، وفي سنن الترمذي 1 / 219 باب اللقطة من
كتاب الزكاة مع اختلاف في اللفظ. والأموال لأبي عبيد ص 337.
وأشار إلى هذه الأحاديث الترمذي في باب ما جاء العجماء جرحها جبار، وفي الركاز الخمس قال:
" وفي الباب عن أنس بن مالك و عبد الله بن عمرو وعبادة بن الصامت وعمرو بن عوف المزني وجابر ".
108

وفي مادة " سيب " من نهاية اللغة ولسان العرب وتاج العروس وفي نهاية
الإرب والعقد الفريد وأسد الغابة واللفظ للأول: " وفي كتابه - أي كتاب رسول
الله - لوائل بن حجر: " وفي السيوب الخمس " السيوب: الركاز ".
وذكر انهم قالوا: " السيوب عروق الذهب والفضة تسيب في المعدن أي
تتكون فيه وتظهر " " والسيوب جمع سيب يريد به - أي يريد النبي بالسيب - المال
المدفون في الجاهلية أو المعدن لأنه من فضل الله تعالى وعطائه لمن أصابه ".
وتفصيل كتاب رسول الله هذا في نهاية الإرب للقلقشندي 1.
تفسير ألفاظ الأحاديث:
في سنن الترمذي 2: العجماء: الدابة المنفلتة من صاحبها فما أصابت في انفلاتها
فلا غرم على صاحبها والمعدن: جبار يقول إذا احتفر الرجل معدنا فوقع فيها انسان
فلا غرم عليه، وكذلك البئر إذا احتفرها الرجل للسبيل فوقع فيها إنسان فلا غرم على
صاحبها، وفي الركاز الخمس. والركاز، ما وجد من دفن أهل الجاهلية، فمن وجد
ركازا أدى منه الخمس إلى السلطان وما بقي له، انتهى.
وفي نهاية اللغة لابن الأثير بمادة " ارم ": الآرام، الاعلام وهي حجارة تجمع
وتنصب في المفازة يهتدى بها، واحدها ارم كعنب، وكان من عادة الجاهلية انهم إذا
وجدوا شيئا في طريقهم لا يمكنهم استصحابه تركوا عليه حجارة يعرفونه بها حتى إذا
عادوا اخذوه.
وفي لسان العرب وغيره من معاجم اللغة: ركزه يركزه: إذا دفنه. والركاز:
قطع ذهب وفضة تخرج من الأرض أو المعدن واحده الركزة كأنه ركز في الأرض.
وفي نهاية اللغة: والركزة: القطعة من جواهر الأرض المركوزة فيها، وجمع
الركزة الركاز.

(1) نهاية الإرب ص 221 يرويه عن كتاب الشفاء للقاضي عياض، والعقد الفريد 2 / 48 في الوفود،
وبترجمة الضحاك من أسد الغابة 3 / 38 وأشار إلى الكتاب صاحبا الاستيعاب وأسد الغابة بترجمة وائل.
ووائل بن حجر كان أبوه من أقيال اليمن وفد إلى النبي (ص) وكتب له عهدا جاء فيه ما أوردناه في
المتن، بعث الرسول معه معاوية بن أبي سفيان فقال له معاوية: اردفني فقال: لست من أرداف الملوك، توفي وائل
في خلافة معاوية، ترجمته بالإصابة 3 / 592.
2) سنن الترمذي 6 / 145 - 146 باب " ما جاء في العجماء جرحها جبار ".
109

خلاصة الروايات السابقة:
خلاصة ما يستفاد من الروايات السابقة، ان رسول الله (ص) أمر بدفع
الخمس من كل ما يستخرج من الأرض من ذهب وفضة سواء كان كنزا أو معدنا
وكلاهما ليسا من غنائم الحرب، كما زعموا انها - أي غنائم الحرب - هي المقصود من
" غنموا "، في الآية الكريمة، وإنما تدل تلكم الأحاديث على ما برهنا عليه ان ما
" غنموا " قصد به في التشريع الاسلامي " ما ظفر به من جهة العدى وغيرهم " فثبت
من جميع ما سبق أن الخمس لا يخص غنائم الحرب وحدها في الاسلام، وكذلك استفاد
الفقهاء من تلكم الروايات مثل القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج 1، فإنه استنبط
من الروايات حكم وجوب أداء الخمس من غير غنائم الحرب.
قال أبو يوسف: في كل ما أصيب من المعادن من قليل أو كثير الخمس، ولو أن
رجلا أصاب في معدن أقل من وزن مائتي درهم فضة أو أقل من وزن عشرين ذهبا،
فان فيه الخمس. ليس هذا موضع الزكاة 2، إنما هو على موضع الغنائم، وليس في تراب
ذلك شئ إنما الخمس في الذهب الخالص، والفضة الخالصة، والحديد، والنحاس
والرصاص، ولا يحسب لمن استخرج ذلك من نفقته عليه شئ، قد تكون النفقة
تستغرق ذلك كله، فلا يجب اذن فيه خمس عليه وفيه الخمس حين يفرغ من تصفيته
قليلا كان أو كثيرا، ولا يحسب له من نفقته شئ من ذلك وما استخرج من المعادن سوى
ذلك من الحجارة - مثل الياقوت والفيروزج والكحل والزئبق والكبريت والمغرة -
فلا خمس في شئ 3 من ذلك إنما ذلك كله بمنزلة الطين والتراب.
قال: ولو أن الذي أصاب شيئا من الذهب أو الفضة أو الحديد أو الرصاص
أو النحاس، كان عليه دين فادح لم يبطل ذلك الخمس عنه. الا ترى لو أن جندا من
الأجناد، أصابوا غنيمة من أهل الحرب، خمست ولم ينظر أعليهم دين أم لا. ولو كان
عليهم دين، لم يمنع ذلك من الخمس.
قال: واما الركاز فهو الذهب والفضة الذي خلقه الله عز وجل في الأرض يوم
خلقت، فيه أيضا الخمس، فمن أصاب، كنزا عاديا في غير مالك أحد فيه ذهب أو فضة

(1) الخراج ص 25 - 27.
2) قصد بالزكاة هنا ما يقابل الخمس اي الصدقة.
3) هذا يخالف عموم آية الخمس ويخالف ما في فقه أئمة أهل البيت.
110

أو جوهر أو ثياب، فان في ذلك الخمس وأربعة أخماسه للذي أصابه، وهو بمنزلة الغنيمة
يغنمها القوم فتخمس وما بقي فلهم.
قال: ولو أن حربيا وجد في دار الاسلام ركازا، وكان قد دخل بأمان نزع ذلك
كله منه، ولا يكون له منه شئ. وإن كان ذميا اخذ منه الخمس، كما يؤخذ من
المسلم، وسلم له أربعة أخماسه. وكذلك المكاتب يجد ركازا في دار الاسلام فهو له بعد
الخمس...
وقال أبو يوسف في " فصل ما يخرج من البحر ": " وسألت يا أمير المؤمنين عما
يخرج من البحر فان في ما يخرج من البحر من حلية والعنبر الخمس " 1.
استعرضنا في ما سبق روايات رسول الله التي أمرت بدفع الخمس عن أشياء
غير غنائم الحرب، وكذلك ما استفادوه من تلك الروايات، وفي ما يلي نستعرض كتب
الرسول (ص) وعهوده التي ورد فيها أمر بدفع الخمس.
الخمس في كتب الرسول (ص) وعهوده:
أ - في صحيحي البخاري ومسلم وسنن النسائي ومسند أحمد واللفظ للأول:
أن وفد عبد القيس لما قالوا لرسول الله (ص): " ان بيننا وبينك المشركين من مضر،
وانا لا نصل إليك إلا في أشهر حرم، فمرنا بجمل الامر إن عملنا به دخلنا الجنة وندعو
إليه من وراءنا ".
قال: " آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالايمان بالله. وهل تدرون
ما الايمان بالله، شهادة أن لا إله إلا الله، وأقام الصلاة، وايتاء الزكاة، وتعطوا
الخمس من المغنم... " الحديث 2.

(1) الخراج ص 83. ونقل أبو عبيد في كتاب الأموال ص 345 - 348 قولين فيه: أ - ان فيه الزكاة.
ب - ان فيه الخمس.
2) بصحيح البخاري 4 / 205 باب " والله خلقكم وما تعلمون " من كتاب التوحيد، و ج 1 / 13 و
19 منه، و ج 3 / 53، وفي صحيح مسلم 1 / 35 و 36 باب الأمر بالايمان عن ابن عباس وغيره، وسنن النسائي
2 / 333، ومسند أحمد 3 / 318 و ج 5 / 136، و عبد القيس قبيلة من ربيعة كانت مواطنهم بتهامة، ثم انتقلوا إلى
البحرين وقدم وفدهم على الرسول في السنة التاسعة ولفظه في ص 12 من الأموال لأبي عبيد: " وأن
تؤدوا خمس ما غنمتم ".
111

إن الرسول لما أمر وفد عبد القيس أن يعطوا الخمس من المغنم، لم يطلب
اخراج خمس غنائم الحرب من قوم لا يستطيعون الخروج من حيهم في غير الأشهر الحرم
من خوف المشركين من مضر، وإنما قصد من المغنم معناه الحقيقي في لغة العرب وهو
الفوز بالشئ بلا مشقة كما سبق تفسيره، أي ان يعطوا خمس ما يربحون، أو لا أقل من أنه
قصد معناه الحقيقي في الشرع وهو " ما ظفر به من جهة العدى وغيرهم ".
وكذلك الامر في ما ورد في كتب عهوده للوافدين إليه من القبائل العربية وفي
ما كتب لرسله إليهم، وولاته عليهم مثل ما ورد في فتوح البلاذري، قال:
" لما بلغ أهل اليمن ظهور رسول الله وعلو حقه، أتته وفودهم، فكتب لهم
كتابا باقرارهم على ما أسلموا عليه من أموالهم وأراضيهم وركازهم، فأسلموا ووجه
إليهم رسله وعماله لتعريفهم شرايع الاسلام وسننه وقبض صدقاتهم وجزى رؤس من
أقام على النصرانية واليهودية والمجوسية ".
ثم ذكر هو وابن هشام والطبري وابن كثير واللفظ للبلاذري قال: كتب لعمرو
بن حزم حين بعثه إلى اليمن:
ب - " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا بيان من الله ورسوله، " يا أيها الذين
آمنوا أوفوا بالعقود 1 " عهد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن.
أمره بتقوى الله في أمره كله، وأن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين
من الصدقة من العقار عشر ما سقى البعل وسقت السماء، ونصف العشر مما سقى
الغرب " 2.
البعل: ما سقي بعروقه، والغرب: الدلو العظيمة.
ج - ومثل ما كتب لسعد هذيم من قضاعة، وإلى جذام كتابا واحدا يعلمهم
فرائض الصدقة وأمرهم أن يدفعوا الصدقة والخمس إلى رسوليه أبي وعنبسة أو من

(1) السورة 5، الآية 1.
2) فتوح البلدان 1 / 84 باب " اليمن "، وسيرة ابن هشام 4 / 265 - 266، والطبري 1 / 1727 -
1729، وتاريخ ابن كثير 5 / 76، وكتاب الخراج لأبي يوسف ص 85 واللفظ للأول. وهناك رواية أخرى
أوردها الحاكم في المستدرك 1 / 395 و 396، وفى كنز العمال 5 / 517.
وعمرو بن حزم أنصاري خزرجي شهد الخندق وما بعدها، توفي سنة إحدى أو ثلاث أو أربع
وخمسين ه‍ بالمدينة. أسد الغابة 4 / 99.
112

ارسلاه " 1.
ان الرسول حين طلب من قبيلتي سعد وجذام ان يدفعوا الصدقة والخمس إلى
رسوليه أو لمن يرسلاه إليه، لم يكن يطلب منهم خمس غنائم حرب خاضوها مع الكفار،
وإنما قصد ما استحق عليهما من الصدقة وخمس أرباحهما.
د - وكذلك ما كتب لمالك بن أحمر الجذامي، ولمن تبعه من المسلمين أمانا
لهم ما أقاموا الصلاة واتبعوا المسلمين وجانبوا المشركين وأدوا الخمس من المغنم وسهم
الغارمين وسهم كذا وكذا، كتاب 2.
ه‍ - وما كتب للفجيع ومن تبعه: " من محمد النبي للفيج ومن تبعه
وأسلم وأقام الصلاة وآتى الزكاة [وأطاع] 3 الله ورسوله، وأعطى من المغانم خمس
الله، ونصر النبي وأصحابه، وأشهد على إسلامه، وفارق المشركين فإنه آمن بأمان الله
وأمان محمد " 4.
و - وما كتب للاسبذيين:
" من محمد النبي رسول الله لعباد الله لاسبذيين ملوك عمان، من منهم
بالبحرين انهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله، وأعطوا حق
النبي، ونسكوا نسك المسلمين فإنهم آمنون وان لهم ما أسلموا عليه، غير أن مال بيت
النار ثنيا لله ولرسوله، وان عشور التمر صدقة ونصف عشور الحب وان للمسلمين

(1) طبقات ابن سعد 1 / 270، وجذام حي كبير من القحطانية، نسبهم بجمهرة ابن حزم ص 420 -
421، وسعد هذيم من بطون قضاعة ينسبون إلى قحطان نسبهم بجمهرة ابن حزم ص 447 أما أبى وعنبسة ففي
الصحابة عدد بهذين الاسمين، ولم يميز ابن سعد رسولي النبي بكنية أو لقب أو نسب لنعرفهما.
2) بترجمة مالك من أسد الغابة 4 / 271، والإصابة 3 / برقم 7593، ولسان الميزان 3 / 20، وفى الأخير
ورد اسمه مبارك بدلا من مالك.
ومالك بن أحمر من جذام بن عدي، بطن من كهلان وكانت مساكنهم بين مدين إلى تبوك ولما أسلم
مالك سأل الرسول أن يكتب له كتابا يدعو قومه إلى الاسلام، فكتب له في رقعة ادم عرضها أربعة أصابع
وطولها قدر شبر.
3) هكذا في أسد الغابة ورجح عندنا هذا على ما في طبقات ابن سعد: " وأعطى ".
4) بطبقات ابن سعد 1 / 304 - 305، وأسد الغابة 4 / 175، والإصابة 4 / الترجمة 6960 واللفظ
للأول في ذكر وفد بني البكاء وهم بطن من بني عامر من العدنانية والفجيع ابن عبد الله البكائي. ترجمته في
أسد الغابة والإصابة وذكرا وفادته إلى الرسول أيضا بترجمة بشر بن معاوية بن ثور البكائي. الإصابة 1 / 160.
113

نصرهم ونصحهم وان لهم ارحاءهم يطحنون بها ما شاؤوا " 1.
ان المقصود من حق النبي في هذا الكتاب هو الخمس وحده أو الخمس
والصفي معا وقد سبق شرح الصفي.
ز - وكذلك المقصود من " حظ الله وحظ الرسول " هو الخمس في ما كتب
" لمن أسلم من حدس ولخم " وأقام الصلاة وأعطى الزكاة وأعطى حظ الله وحظ
الرسول وفارق المشركين فإنه آمن بذمة الله وذمه محمد، ومن رجع عن دينه فان ذمة الله
وذمة رسوله منه بريئة.. " الكتاب 2.
ح - وفي ما كتب لجنادة الأزدي وقومه ومن تبعه: " ما أقاموا الصلاة وآتوا
الزكاة وأطاعوا الله ورسوله وأعطوا من المغانم خمس الله وسهم النبي وفارقوا المشركين
فان لهم ذمة الله وذمة محمد بن عبد الله " 3.
ط - وفي ما كتب لبني معاوية بن جرول الطائيين: " لمن أسلم منهم وأقام
الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من المغانم خمس الله وسهم النبي
وفارق المشركين وأشهد على اسلامه انه آمن بأمان الله ورسوله وأن لهم ما أسلموا
عليه " 4.
وكتاب آخر لبني جوين الطائيين، أو أنه رواية أخرى للكتاب الأول مع

(1) مجموعة الوثائق السياسية لمحمد حميد الله نقلا عن الأموال لأبي عبيد ص 52، وصبح الأعشى
للقلقشندي 6 / 380.
والاسبذي نسبة إلى قرية بهجر كان يقال لها: الاسبذ، وما قيل: إنه نسبة إلى الاسبذيين الذين كانوا
يعبدون الخيل لا يتفق وما ورد في كتاب الرسول " لعباد الله الاسبذيين " فان الرسول قد نسبهم إلى عبودية الله
وهذا ينافي ان ينسبهم بعده إلى عبادة الخيل. راجع فتوح البلدان ص 95.
2) طبقات ابن سعد 1 / 266 وحدس بن أريش بطن عظيم من لخم من القحطانية ونسبهم بجمهرة ابن
حزم ص 423.
3) طبقات ابن سعد 1 / 270 باب ذكر بعثة رسول الله (ص) بكتبه. وفي ترجمة جنادة بأسد الغابة
1 / 300 وراجع كنز العمال ط. الأولى ج 5 / 320.
وذكروا لجنادة الأزدي أربع تراجم: 1 - لجنادة بن أبي أمية. 2 - لجنادة بن مالك 3 - لجنادة
الأزدي وهذا لم يذكروا اسم أبيه 4 - جنادة غير منسوب، وأوردوا هذا الخبر بترجمة الأخير ولعل الأربعة
شخص واحد. راجع أسد الغابة 1 / 298 - 300. 4) طبقات ابن سعد 1 / 269.
114

اختلاف يسير في اللفظ 1.
ي - وفي ما كتب لجهينة بن زيد: " ان لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع
الأودية وظهورها على أن ترعوا نباتها وتشربوا ماءها، على أن تؤدوا الخمس. وفي
التيعة والصريمة، شاتان إذا اجتمعتا فان فرقتا فشاة شاة، ليس على أهل المثير
صدقة... " 2.
قال ابن الأثير في نهاية اللغة: " التيعة: اسم لأدنى ما يجب فيه الزكاة ". و
" الصريمة: القطيع من الإبل والغنم ".
وقال: " المراد بها - أي بالصريمة - في الحديث في مائة وأحد وعشرين شاة
إلى المائتين، إذا اجتمعت ففيها شاتان وإن كانت لرجلين وفرق بينهما ففي كل واحدة
منهما شاة " انتهى.
وأهل المنير: أهل بقر الحرث الذي يثير الأرض وليس عليهم فيه صدقة.
ك - وقد ورد في بعض كتب الرسول ذكر " الصفي " بعد لفظ سهم النبي
مثل ما ورد في كتابه لملوك حمير الآتي: " اما بعد فان الله هداكم بهدايته إن أصلحتم
وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة من المغانم خمس الله وسهم النبي
وصفية وما كتب الله على المؤمنين من الصدقة... " الكتاب 3.

(1) طبقات ابن سعد 1 / 269.
وجرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طي نسبهم بجمهرة ابن حزم ص 400 - 401.
2) روى هذا الكتاب محمد حميد الله في مجموعة الوثائق السياسية ص 142 رقم 157 عن جمع الجوامع
للسيوطي.
وأورد بمادة " صرم " قسما من الكتاب كل من ابن الأثير في نهاية اللغة وابن منظور في لسان العرب.
وجهينة بن زيد من قضاعة من القحطانية، نسبهم بجمهرة ابن حزم ص 444 - 446، وذكرت
المصادر الثلاثة الانفة ان الرسول كتب الكتاب مع عمرو بن مرة الجهني ثم الغطفاني وكنيته أبو مريم. وفد إلى
النبي وشهد أكثر غزواته، وسكن الشام وأدرك حكومة معاوية أسد الغابة 4 / 130، وفى الإصابة 3 / 16: انه
رجع إلى قومه فدعاهم إلى الاسلام فأسلموا ووفدوا إلى رسول الله، وانه توفي في خلافة معاوية.
3) فتوح البلدان 1 / 85، وفى سيرة ابن هشام 4 / 258 - 259 بلفظ آخر وكذلك في مستدرك الحاكم
1 / 395، وراجع تهذيب تاريخ ابن عساكر 6 / 273 - 274، وكنز العمال ط. الأولى 6 / 165، وص 13 من
الاموالى لأبي عبيد.
وجمير بطن عظيم من القحطانية من بنى سبأ بن يشجب، سكنوا اليمن قبل الاسلام ترجمتهم بجمهرة ابن
حزم ص 432 - 438 وفدوا إلى النبي في السنة التاسعة هجرية، والكتاب إلى الحارث بن عبد كلال والنعمان
من ملوك حمير.
115

ل - وما ورد في كتابه لبنى ثعلبة بن عامر: " من أسلم منهم وأقام الصلاة
وآتى الزكاة وخمس المغنم وسهم النبي والصفي فهو آمن بأمان الله " الكتاب 1.
م - وما ورد في كتابه لبني زهير ألعكليين: " أنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله فأقمتم الصلاة ووآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم
النبي وسهم الصفي أنتم آمنون بأمان الله "، الكتاب 2.
ن - وما ورد في كتابه لبعض افخاذ جهينة: " من أسلم منهم وأقام الصلاة
وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من الغنائم الخمس وسهم النبي الصفي " 3.
ان الصفي في هذه الكتب ويجمع على الصفايا، هو كل ما كانت خالصة
لرسول الله من أموال وضياع وعقار بالإضافة إلى سهمه من الخمس كما شرحناه سابقا.
وعدا ما أوردنا في ما سبق ورد ذكر الخمس أيضا في كتابين آخرين نسبا إلى
رسول الله لم نعتمدهما لما ورد في الأول انه كتبه لعبد يغوث من بلحارث 4.
ولم يكن الرسول يكتب " لعبد يغوث " ويغوث اسم صنم، بل كان يغير أسماء
كهذا مثل عبد العزى الذي بدله بعبد الرحمن، وعبد الحجر 5. وعبد عمرو الأصم الذي
بدلهما بعبد الله 6.
والكتاب الثاني قيل، انه كتبه لنهشل بن مالك الوائلي 7 وقد بدء فيه بلفظ

(1) ورد الكتاب بترجمة صيفي بن عامر من الإصابة 2 / 189 الترجمة 4111، وأشار إليه بترجمته في كل
من الاستيعاب بهامش الإصابة 2 / 186، وأسد الغابة 3 / 34 ووصفه ابن الأثير بسيد بني ثعلبة وبنو ثعلبة بن عامر
بطن من بكر بن وائل من العدنانية ونسبهم بجمهرة ابن حزم ص 316 وذكرت وفادة لبني ثعلبة على رسول الله في
السنة الثامنة ولست أدري أكان صيفي هذا فيهم أم لا، راجع طبقات ابن سعد 1 / 298، عيون الأثر 2 / 248.
2) سنن أبي داود 2 / 55 الباب 20 من كتاب الخراج وسنن النسائي 2 / 179، وطبقات ابن سعد
1 / 179، ومسند أحمد 5 / 77 و 78 و 363، وأسد الغابة 5 / 4 و 389، والاستيعاب واللفظ للأول، وفي بعض
الروايات " أعطيتم من المغانم الخمس وص 13 من الأموال لأبي عبيد. وزهير بن اقيش في تاج العروس 4 / 280
حي من عكل كتب لهم رسول الله، وفى جمهرة ابن حزم ص 480 بنو عكل بن عوف بن أد بن طابخة بن الياس
بن مضر.
3) طبقات ابن سعد 1 / 271. 4) ذكره ابن سعد في الطبقات 1 / 268.
5) راجع ترجمتهما بأسد الغابة.
6) راجع طبقات ابن سعد 1 / 305.
7) طبقات ابن سعد 1 / 248.
116

" باسمك اللهم " بدلا من بسم الله الرحمن الرحيم الذي كان الرسول يبدء به كتبه.
في ما مر من كتب وعهود عندما كتب الرسول لسعد هذيم " ان يدفعوا الصدقة
والخمس إلى رسوليه أو من يرسلاه " لم يكن يطلب منهم ان يدفعوا خمس غنائم حرب
اشتركوا فيها، بل كان يطلب ما استحق في أموالهم من خمس وصدقة.
وكذلك في ما كتب لجهينة أن يشربوا ماء الأرض، ويرعوا اكلاءها على أن
يؤدوا الخمس والصدقة لم يشترط للخوض في الحرب واكتساب الغنائم دفع الخمس،
بل جعل دفع الخمس والصدقة شرطا للانتفاع من مرافق الأرض اي علمهم الحكم
الاسلامي في ما يكسبون.
وكذلك عندما علم وفد عبد القيس ان يدفعوا الخمس من المغنم ضمن
تعليمهم جملا من الامر ان عملوا بها دخلوا الجنة لم يطلب منهم وهو لا يستطيعون
الخروج من حيهم في غير الأشهر الحرم من خوف المشركين ان يدفعوا إليه خمس غنائم
حرب يخوضونها ضد المشركين وينتصرون فيها، بل طلب منهم دفع خمس أرباحهم.
وكذلك في ما كتب من عهد لعامله عمرو بن حزم أن يأخذ الصدقات
والخمس من قبائل اليمن، لم يعهد إليه أن يأخذ خمس غنائم حرب اشتركت القبائل
فيها. وكذلك في ما كتب لتلك القبائل أو غيرها ان يدفعوا الخمس، وما كتب لغير
عمرو بن حزم من عماله ان يأخذوا الخمس من القبائل، ان شأن الخمس في كل تلك
الكتب والعهود شأن الصدقة فها وهما حق الله في أموالهم حسبما فرضه الله في أموالهم.
ويؤكد ما ذكرناه من أن الخمس فيها ليس خمس غنائم الحرب ويوضحه ان
حكم الحرب في الاسلام يخالف ما كان عليه لدى القبائل العربية قبل الاسلام في أن
يكون لكل مجموعة أو فرد الاختيار في الإغارة على غير أفراد القبيلة وغير حلفائها لنهب
أموالهم كيف ما اتفق، وأنه عند ذاك يملك كل فرد ما نهب وسلب وحرب، وما عليه
سوى دفع المرباع للرئيس، ليس الامر هكذا في الاسلام ليصح للنبي أن يطالبهم
بالخمس بدل الربع في ما يثيرون من حرب على غيرهم، لا. ليس لفرد مسلم في
الاسلام ولا لجماعة اسلامية فيه أن يعلن الحرب على غير المسلم من تلقاء نفسه ويسلب
وينهب كما يشاء ويقدر! وإنما الحاكم الاسلامي هو الذي يقدر ذلك ويقرر وفق قوانين
117

الشرع الاسلامي، والفرد المسلم ينفذ قراره، ثم أن الحاكم الاسلامي بعد ذلك،
أو نائبه هما اللذان يليان بعد الفتح قبض جميع غنائم الحرب، ولا يملك أحد الغزاة عدا
سلب القتيل شيئا مما سلب، وإنما يأتي كل غاز بما سلب إليهما، والا عد من الغلول العار
على أهله وشنار ونار يوم القيامة، والحاكم الاسلامي هو الذي يعين بعد اخراج الخمس
للراجل سهمه وللفارس سهمه، ويرضخ للمرأة، وقد يشرك الغائب عن الحرب في
الغنيمة ويعطى للمؤلفة قلوبهم اضعاف سهم المؤمن المجاهد.
وإذا كان اعلان الحرب واخراج خمس غنائم الحرب على عهد النبي من شؤون
النبي في هذه الأمة فماذا يعنى طلبه الخمس من الناس وتأكيده ذلك في كتاب بعد
كتاب وعهد بعد عهد إن لم يكن الخمس في تلك الكتب والعهود مثل الصدقة مما يجب
في أموال المخاطبين وليس خاصا بغنائم الحرب.
وعلى هذا فلابد إذا من حمل لفظ الغنائم والمغنم في تلك الكتب والعهود على
معناهم اللغوي: " الفوز بالشئ بلا مشقة "، أو معناهما الشرعي: " ما ظفر به من جهة
العدى وغيره ".
أضف إلى هذا ما ذكرناه بتفسير الغنيمة في أول البحث من أن الغنيمة
أصبحت حقيقة في غنائم الحرب في المجتمع الاسلامي بعد تدوين اللغة لا قبله. ولا
يصح مع هذا، حمل ما ورد في حديث الرسول على ما تعارف عليه الناس قرابة قرنين
بعده، وأما ما ورد في بعض تلك الكتب والعهود بلفظ " حظ الله وحظ الرسول "، أو
" حق النبي "، أو " سهم النبي " وما شابهها، فان تفسيرها في الآية الكريمة " واعلموا
ان ما غنمتم من شئ فان الله خمسه وللرسول... " وفي السنة النبوية التي تبين هذه
الآية وتشرحها حيث تعينان سهم الله وسهم النبي في " المغنم " وهو الخمس وهو أيضا
حقهما وحظهما.
وبعد ما ثبت مما أوردناه في ما سبق ان النبي كان يأخذ الخمس من غنائم
الحرب ومن غير غنائم الحرب، ويطلب ممن أسلم ان يؤدى الخمس من كل ما غنم عدا
ما فرض فيهن الصدقة، بعد هذا نبحث في ما يلي عن مواضع الخمس.
118

مواضع الخمس في الكتاب والسنة:
في القرآن الكريم:
نصت آية الخمس أن الخمس لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل.
فمن هم ذو القربى؟ ومن هم من ذكروا بعده؟
أ - ذو القربى
ان شأن ذي القربى، والقربى، وأولى القربى، في كلام شأن الوالدين فيه
فكما أن " الوالدين " أين ما ورد في الكلام قصد منه والدا المذكورين قبله ظاهرا أو
مضمرا أو مقدرا، كذلك القربى وأولوه وذووه ومثال المذكور منها ظاهرا قبله في القرآن
الكريم قوله تعالى: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى
قربى " التوبة / 113.
فالمراد من " أولى قربى " هنا أولو قربى النبي والمؤمنين المذكورين ظاهرا قبل
" أولى القربى ".
ومثال المذكور مضمرا قوله تعالى: " وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى " الانعام
/ 152، والمراد من ذي القربى هنا قربى مرجع الضمير في " قلتم " و " اعدلوا ".
ومثال المذكور مقدرا قوله تعالى: " وإذا حضر القسمة أولوا القربى " النساء /
8. والمراد قربى الميت المقدر ذكره في ما سبق من الآية، وكذلك شأن سائر ما ورد فيه
ذكر ذي القربى وأولي القربى في القرآن الكريم.
وقد جمع الله في الذكر بين الوالدين وذي القربى في مكانين منهما، قال سبحانه:
" وبالوالدين إحسانا وذي القربى " البقرة 83، والنساء / 36.
في الآية الأولى قصد والدا بني إسرائيل وذوو قرباهم والمذكور ظاهرا قبلهما،
وفي الآية الثانية قصد والدا مرجع الضمير وذووه في " واعبدوا " و " ولا تشركوا " وهم
المؤمنون من هذه الأمة.
وإذا ثبت هذا فنقول: لما قال الله سبحانه في آية الخمس " واعلموا أنما غنمتم
من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى.. " فلابد أن يكون المراد من " ذي
القربى " هنا ذا قربى الرسول المذكور قبله بلا فاصلة بينهما، وإن لم يكن هذا فذا قربى من
119

قصد الله في هذا المكان!؟
وكذلك المقصود من ذي القربى في قوله تعالى " ما أفاء الله على رسوله من أهل
القرى فلله وللرسول ولذي القربى... " 1 هم قربى الرسول وهو الاسم الظاهر المذكور
قبله.
وكذلك المقصود من القربى في قوله تعالى " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة
في القربى " 2 هم قربى ضمير فاعل " أسألكم " وهو الرسل 3.
ب - اليتيم
اليتيم هو الذي مات أبوه وهو صغير قبل البلوغ.
ج - المسكين
المسكين هو المحتاج الذي تسكنه الحاجة عما ينهض به الغني.
د - ابن السبيل
ابن السبيل هو المسافر المنقطع به في سفره 4.
ويدل سياق آية الخمس على أن المقصود يتامى أقرباء الرسول ومساكينهم
وأبناء سبيلهم. وأن شأن هذه الألفاظ في الآية، شأن " ذي القربى " المذكور قبلها.
مواضع الخمس في السنة ولدى المسلمين:
كان يقسم، - الخمس - على ستة: لله وللرسول سهمان وسهم لأقاربه حتى
قبض 5.
وعن أبي العالية الرياحي: كان رسول الله يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة
تكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي

(1) سورة الحشر / 7.
2) سورة الشورى / 23.
3 / قد يرى العلماء من بعدنا في بحثنا هذا عن ذي القربى ونظائرها توضيحا للواضحات التي لا ينبغي
صرف الوقت في شرحها ولا يعلمون ما وجدنا في عصرنا وفي أقوال نابتة عصرنا من انحراف بعيد عن فهم
مصطلحات الاسلام وعقائده وأحكامه فالجأنا ذلك إلى أمثال هذا الشرح والبسط.
4) راجع تفسير آية الخمس بمجمع البيان ومادة " سبل " من مفردات الراغب.
5) تفسير النيشابوري بهامش الطبري ج 10.
120

قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم الله، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم
للرسول وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل.
قال: والذي جعله للكعبة هو سهم الله 1.
تصرح هاتان الروايتان ان الخمس كان يقسم ستة أسهم وهذا هو الصواب
لموافقته لنص آية الخمس. وما في رواية أبي العالية بان الرسول كان يجعل سهم الله
للكعبة، لعله وقع ذلك مرة واحدة، وأرى الصواب في ذلك ما رواه عطاء بن أبي رباح
قال: " خمس الله وخمس رسوله واحد وكان رسول الله يحمل منه ويعطى منه ويضعه
حيث شاء ويضع به ما شاء " 2.
ومثلها ما رواه ابن جريج قال: "... أربعة أخماس لمن حضر البأس
والخمس الباقي لله ولرسوله خمسه يضعه حيث شاء وخمس لذوي القربى - الحديث " 3.
الصواب في رواية أبي العالية وابن جريج ما ورد فيهما أن أمر سهم الله وسهم
رسوله من الخمس كان إلى رسول الله يحمل منهما ويعطى منهما ويضعهما حيث شاء
ويصنع بهما ما شاء. اما ما يفهم من الروايتين أن " سهم الله وسهم الرسول واحد " فإنه
يخالف ظاهر آية الخمس حيث قسم الله فيها الخمس إلى ستة أسهم، إلا إذا قصدوا أن
أمر السهمين واحد ولم يقصدوا أن السهمين سهم واحد.
وكذلك لا يستقيم ما رواه قتادة قال: كان نبي الله إذا غنم غنيمة جعلت
أخماسا فكان خمس لله ولرسوله ويقسم المسلمون ما بقي وكان الخمس الذي جعل لله
ولرسوله، لرسوله ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. فكان هذا الخمس

(1) الأموال لأبي عبيد ص 325 وص 14 وتفسير الطبري ج 10 / 4 واحكام القرآن للجصاص
ج 3 / 60، وفي ص 61 منه بإيجاز واللفظ للأول.
وأبو العالية الرياحي هو رفيع بن مهران مات سنة تسعين أو بعدها، أخرج حديثه أصحاب الصحاح.
تهذيب التهذيب 1 / 252.
2) الأموال لأبي عبيد ص 14.
وعطاء ابن أبي رباح واسم أبى رباح أسلم المكي مولى قريش، أخرج حديثه أصحاب الصحاح مات
سنة 114 ه‍، تهذيب التهذيب 2 / 22.
3) تفسير الطبري ج 10 / 5 بسندين.
وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز المكي مولى بني أمية، اخرج حديثه أصحاب الصحاح توفي سنة
150 ه‍ أو بعدها. تهذيب التهذيب 1 / 520.
121

خمسة أخماس، خمس لله ولرسوله. الحديث 1.
ويظهر من رواية ابن عباس في تفسير الطبري أن جعل السهمين سهما واحدا
كان بعد النبي قال: " جعل سهم الله وسهم الرسول واحدا، ولذي القربى فجعل هذان
السهمان في الخيل والسلاح 2. "
وروى الطبري - أيضا - عن مجاهد أنه قال: كان آل محمد (ص) لا تحل
هم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس 3.
وقال: قد علم الله أن في بني هاشم الفقراء فجعل لهم الخمس مكان
الصدقة 4.
وقال: هؤلاء قرابة رسول الله (ص) الذين لا تحل لهم الصدقة 5.
وقال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام: أما قرأت في الأنفال: " واعلموا
أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى. " الآية.
قال نعم،
قال فإنكم لأنتم هم؟
قال نعم 6.
كان هذا تفسير لفظ " ذي القربى " الوارد في آية الخمس وغيرها. أما اليتامى
والمساكين، فقد قال النيسابوري في تفسير الآية: روي عن علي بن الحسين (ع) أنه قيل
له: أن الله تعالى قال: " واليتامى والمساكين ". فقال: ايتامنا ومساكيننا 7.

(1) تفسير الطبري ج 10 / 4.
وقتادة بن دعامة الدوسي أبو الخطاب البصري أخرج حديثه أصحاب الصحاح مات سنة بضع عشرة
ومائة. تهذيب التهذيب 2 / 123.
2) تفسير الطبري ج 10 / 6.
3 و 4 و 5 و 6) تفسير الطبري ج 10 / 5.
7) تفسير النيسابوري بهامش الطبري، وتفسير الطبري ج 10 / 7.
والمنهال بن عمرو الأسدي - مولاهم - الكوفي من الطبقة الخامسة، اخرج حديثه أصحاب الصحاح
عدا مسلم. تهذيب التهذيب 2 / 278.
و عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب توفي في الشام سنة 199 ه‍، اخرج حديثه أصحاب الصحاح.
تهذيب التهذيب 2 / 448.
والإمام علي بن الحسين بن زين العابدين توفي سنة 193 ه‍، اخرج حديثه أصحاب الصحاح تهذيب
التهذيب 2 / 34.
122

وروى الطبري عن منهال بن عمر وقال سألت عبد الله بن محمد بن علي،
وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا: هو لنا.
فقلت لعلي: ان الله يقول: " واليتامى والمساكين وابن السبيل ".
فقالا: يتامانا ومساكيننا 1.
إلى هنا اعتمدنا كتب الحديث والسيرة والتفسير لدى مدرسة الخلفاء في ما
أوردناه من أمر الخمس، وفي ما يلي مواضع الخمس لدى مدرسة أهل البيت.
مواضع الخمس لدى مدرسة أهل البيت:
تواترت الروايات عن أئمة أهل البيت أن الخمس يقسم على ستة أسهم: سهم
منه لله، وسهم منه لرسوله، وسهم لذي القربى، وسهم ذي القربى في عصر الرسول
لأهل البيت خاصة ومن بعده لهم، ثم لسائر الأئمة الاثني عشر من أهل البيت وأن
السهام الثلاثة لله ولرسوله ولذي القربى للعنوان، وأن سهم الله لرسوله يضعه حيث
يشاء وما كان للنبي من سهمه وسهم الله يكون من بعده للامام القائم مقامه، فنصف
الخمس في هذه العصور كملا لامام العصر، سهمان له بالوراثة وسهم مقسوم له من الله
تعالى وهو سهم ذي القربى، وأن هذه الأسهم الثلاثة لامام العصر من حيث إمامته،
والاسهم الثلاثة الأخرى سهم لأيتام بني هاشم وسهم لمساكينهم وسهم لأبناء
سبيلهم، وهؤلاء هم قربة النبي الذين ذكرهم الله في قوله " وانذر عشيرتك
الأقربين ".
وهو بنو عبد المطلب، الذكر منهم والأنثى، وهم غير أهل بيت النبي. وملاك
الاستحقاق في الطوائف الثلاث أمران:
أ - قرابتهم من رسول الله.
ب - افتقارهم إلى الخمس في مؤنتهم، خلافا لأصحاب السهام الثلاثة
الأول الذين كانوا يستحقونها بالعنوان.
ويقسم نصف الخمس على الطوائف الثلاث من بني هاشم على الكفاف
والسعة ما يستغنون به في سنتهم، فان فضل عنهم شئ فللوالي وأن عجز أو نقص عن
استغنائهم فان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به، وإنما صار عليه ان

(1) الطبري ج 10 / 7.
123

يمولهم لان له ما فضل عنهم.
ويعتبر في الطوائف الثلاث انتسابهم إلى عبد المطلب بالأبوة، فلو انتسبوا بالام
خاصة لم يعطوا من الخمس شيئا وتحل لهم الصدقات لان الله يقول " ادعوهم
لآبائهم ".
وروي عن الإمام الصادق: أن المطلبي يشارك الهاشمي في سهام الخمس ففي
الحديث المروي عنه: " لو كان العدل ما احتاج هاشمي ولا مطلبي إلى صدقة، أن الله
عز وجل جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم، ثم قال: إن الرجل إذا لم يجد شيئا حلت
له الميتة، والصدقة لا تحل لاحد منهم إلا ألا يجد شيئا ويكون ممن حلت له الميتة.
وان ما قبضه واحد من افراد الطوائف الثلاث من باب الخمس وتملكه،
يصبح بعد وفاته كغيره مما تركه ينتقل إلى وارثه، وكذلك ما كان قد قبضه النبي أو
الامام الماضي من الأسهم الثلاثة وتملكه ينتقل بعد وفاته إلى وارثه على حسب ما
تقتضيه آية المواريث لا آية الخمس 1.
رواية واحدة تبين موضع الخمس في عصر الرسول:
في سنن أبي داود ومسند أحمد وتفسير الطبري وسنن النسائي وصحيح
البخاري واللفظ للأول في باب مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى من كتاب
الخراج عن جبير بن مطعم، قال:
لما كان يوم خيبر وضع رسول الله (ص) سهم ذي القربى في بني هاشم
وبني المطلب، وترك بنى نوفل وبني عبد شمس فانطلقت انا وعثمان بن عفان حتى
أتينا النبي (ص) فقلنا: يا رسول الله! هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي
وضعك الله به منهم، فما بال اخوان بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة، فقال
رسول الله (ص):
أنا وبني المطلب لا نفترق - وفي رواية النسائي: إن بني المطلب لم
يفارقوني - في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شئ واحد وشبك بين أصابعه 2.

(1) رجعت في هذا البحث إلى مصباح الفقيه للهمداني كتاب الخمس ص 144 - 150، وأوجزت
متون الأحاديث التي استشهد بها وأوردته هنا بالإضافة إلى رجوعي إلى الموسوعات الحديثية الأخرى.
2) رواه أبو داود في سننه ج 2 / 50، والطبري في تفسيره 10 / 50، وأحمد في مسنده 4 / 81، ويختلف
لفظهم مع لفظ البخاري في صحيحه 3 / 36 باب غزوة خبير، ومع لفظ النسائي في سننه 2 / 178، وباب قسمة
الخمس من كتاب الجهاد في سنن ابن ماجة ص 961 والواقدي في مغازيه ص 696، وفيه ان ذلك كان بإشارة
جبرئيل، وأبو عبيد في الأموال ص 331.
وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وأم أمه أم حبيب بنت العاص بن أمية وكان أبوه
أحد من قام بنقض صحيفة المقاطعة. أسلم بعد الحديبية أو بعد الفتح. أسد الغابة 1 / 281.
124

وفي رواية أخرى بمسند أحمد ان ذلك كان في غزوة حنين 1.
وفي رواية ثالثة بسنن أبي داود وسنن النسائي ومسند أحمد لن تعين فيها
الغزوة 2.
وسبب قول عثمان وجبير لرسول الله ما قالا وجوابه إياهما بما مر، ان
عبد مناف ولد بنين أربعة:
أ - هاشم واسمه عمرو.
ب - المطلب.
ج - عبد شمس.
د - نوفل 3.
وأجمعت بنو هاشم وبنو المطلب على نصرة رسول الله، وحاربتهم قريش جميعا
وكتبت عليهم صحيفة بمقاطعتهم، فدخلوا جميعا شعب أبي طالب ومكثوا فيه سنى
المقاطعة خلافا لبني عبد شمس وبني نوفل الذين شاركوا قريشا في أمرهم، وفى ذلك
يقول ابن أبي الحديد:
وكان مما بطأ ببني نوفل عن الاسلام ابطاء اخوتهم من بني عبد شمس، فلم
يصحب النبي منهم أحد، ولا شهد مشاهده الكريمة خلافا لبني المطلب، فقد حثهم على
الاسلام فضل محبتهم لبني هاشم لان أمر النبي كان بينا، وإنما كان يمنع عنه الحسد
والبغض ومن لم يكن فيه هذه العلة، لم يكن له دون الاسلام مانع وشهد بدرا من
بني المطلب بنو الحارث بن المطلب كلهم: عبيدة وطفيل وحصين، ومسطح بن أثاثة بن
عباد بن المطلب، وقال أبو طالب لمطعم بن عدي بن نوفل في أمر النبي لما تمالات عليه
قريش:

1) مسند أحمد 4 / 85.
2) سنن أبي داود 2 / 51 - 52، وسنن النسائي 2 / 178، ومسند أحمد 4 / 83.
3) راجع جمهرة نسب ابن حزم ص 14.
125

جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * جزاء مسئ عاجلا غير آجل
الأبيات - انتهى 1.
ذكر الراوي في هذا الحديث وهو جبير بن مطعم أن الرسول وضع " سهم ذي
القربى " في بني هاشم وبني المطلب، ونحن نرى ان الذي شاهده الراوي في هذا الخبر،
هو أن الرسول دفع إلى هؤلاء من سهام الخمس ولم يدفع منها إلى بني أمية وبنى نوفل.
أما تشخيص السهم الذي دفع الرسول منه إلى هؤلاء، فهذا ما ذكره الراوي من عند
نفسه ولم يرو أن الرسول قال ذلك. ومن الجائز أن الرسول قد أعطى بعض أولئك من
سهم الله وسهم رسوله، فان الرسول كان يضعهما حيث يشاء كما سبق ذكره، وأنه
أعطى بعضهم من سهم المساكين فان الصدقة كانت محرمة على فقرائهم كما يأتي بيانه
في ما يلي.
تحريم الصدقة عل الرسول وذوي قرباه
أن الأحاديث في ذلك كثيرة منها ما رواه مسلم في صحيحه: أن النبي (ص)
كان إذا أتي بطعام سأل عنه فان قيل هدية أكل منها وإن قيل صدقة لم يأكل منها 2.
ومنها ما رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما، وأبو داود والدارمي في السنن:

(1) أوردناه باختصار من شرح النهج 3 / 486، وعبيدة " عبيد في المتن محرف " وطفيل وحصين أمهم
سخيلة بنت خزاعي الثقفي أسلم عبيدة قبل دخول النبي دار الأرقم، وكان أسن من النبي بعشر سنين وهاجر مع
اخوته وابن عمهم مسطح إلى المدينة في وقت واحد. وفي ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة، عقد له رسول الله
أول لواء عقد وبعثه في ستين راكبا من المهاجرين فالتقوا مع المشركين ورئيسهم أبو سفيان بثنية المرة وبارز
عبيدة عتبة الأموي ببدر فاختلفا ضربتين أثبت كل منهما صاحبه فذفف علي وحمزة على عتبة وحملا عبيدة إلى
رسول الله فوضع رأسه على ركبته وتوفي بالصفراء مرجعهم من بدر وعمره ثلاث وستون سنة - أسد الغابة
3 / 356، وتوفي الطفيل سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين وتوفى أخوه الحصين بعده بأربعة أشهر. أسد الغابة
3 / 52.
روى ابن الأثير بترجمة الحصين في أسد الغابة 3 / 24 عن ابن عباس ان قوله تعالى " فمن كان يرجو لقاء
ربه " الآية 110 من سورة الكهف نزلت في علي وحمزة وجعفر وعبيدة والطفيل والحصين بني الحارث ومسطح
بن أثاثة بن عباد بن المطلب.
ومسطح أمه ابنة أبي رهم بن المطلب وأم أمه رائطة بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر قيل توفي سنة
أربع وثلاثين وقيل شهد صفين مع علي وتوفي سنة 37. أسد الغابة 4 / 354.
2) صحيح مسلم 3 / 121 باب قبول النبي الهدية ورده الصدقة ومجمع الزوائد 3 / 90.
126

أن النبي مر بتمرة بالطريق فقال: " لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها، وأن الحسن بن
علي أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله: كخ كخ إرم بها أما
علمت أنا لا نأكل الصدقة.
وفي رواية " أنا لا تحل لنا الصدقة " 1.
وكان الرسول يأبى أن يستعمل بني هاشم على الصدقات، فينتفعوا من سهم
العاملين عليها كما رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وأبو عبيد وغيرهم
واللفظ للأول، قال:
اجتمع ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، والعباس بن عبد المطلب، فقالا:
والله لو بعثنا هذين الغلامين " لعبد المطلب بن ربيعة 2 والفضل بن عباس " إلى
رسول الله (ص) فكلماه فأمرهما على هذه الصدقات، فأديا على يؤدي الناس، وأصابا
مما يصيب الناس. قال: فبينا هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب فوقف عليهما فذكرا
له ذلك فقال علي بن أبي طالب: لا تفعلا فوالله ما هو بفاعل فانتحاه ربيعة بن
الحارث فقال: والله ما تصنع هذا إلا نفاسة منك علينا، فوالله لقد نلت صهر رسول
الله (ص) فما نفسناه عليك، قال علي: ارسلوهما فانطلقا واضطجع علي.
وفي رواية: فألقى علي رداءه ثم اضطجع عليه وقال: أنا أبو الحسن القرم،
والله لا أريم مكاني حتى يرجع اليكما ابناكما بحور ما بعثتما به.
قال عبد المطلب: فلما صلى رسول الله (ص) الظهر سبقناه إلى الحجرة فقمنا
عندها حتى جاء فأخذ بآذاننا ثم قال: " أخرجا ما تصرران "، ثم دخل ودخلنا عليه
وهو يومئذ عند زينب بنت جحش، قال: فتواكلنا الكلام ثم تكلم أحدنا فقال: يا
رسول الله! أنت أبر الناس وأوصل الناس وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض
هذه الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدي الناس، ونصيب كما يصيبوا قال: فسكت

(1) صحيح البخاري 1 / 181 باب ما يذكر في الصدقة للنبي من كتاب الزكاة، وصحيح مسلم
3 / 117 باب تحريم الزكاة على رسول الله وعلى آله، وسنن أبي داود 1 / 212 باب الصدقة على بني هاشم بن
كتاب الزكاة، وسنن الدارمي 1 / 383 باب الصدقة لا تحل للنبي ولا لأهل بيته، وراجع ص 373 منه، ومجمع
الزوائد 3 / 89، ودعائم الاسلام ص 246 والبحار 96 / 76 باب حرمة الزكاة على بني هاشم.
2) روى مسلم في هذا الباب من صحيحه روايتين في هذا الامر ورد في الأولى منهما خطأ اسم " نوفل بن
الحارث " بدلا من " عبد المطلب بن ربيعة " والتصويب من الرواية الثانية.
127

طويلا حتى أردنا أن نكلمه - وجعلت زينب تلمع علينا من وراء الحجاب أن
لا تكلماه - ثم قال: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس، ادعو
إلي محمية " وكان على الخمس " ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب " قال: فجاءاه،
فقال لمحمية: " أنكح هذا الغلام ابنتك ". للفضل بن عباس، وقال لنوفل بن الحارث:
أنكح هذا الغلام ابنتك ". لي، فأنكحني وقال لمحمية أصدق عنهما من الخمس كذا
وكذا 1.
هكذا أبى الرسول أن يستعمل واحدا من بني هاشم على الصدقات. ومن ثم
نعرف خطأ من توهم، أن الرسول بعث عليا إلى اليمن مصدقا والصواب ما قاله ابن قيم
الجوزية 2 في " فصل في أمرائه " من كتاب زاد المعاد قال: " وولى علي بن أبي طالب
الأخماس باليمن والقضاء بها ".

(1) صحيح مسلم 3 / 118 باب تحريم الزكاة على آل النبي، ومسند أحمد 4 / 166، وسنن النسائي
1 / 365 باب استعمال آل النبي، وسنن أبي داود 2 / 52 كتاب الخراج والامارة باب في بيان مواضع قسم
الخمس وسهم ذي القربى ح 2985، وط دار إحياء السنة النبوية 3 / 147 - 148، والأموال لأبي عبيد ص
329، ومجمع الزوائد 3 / 91، وفي ترجمة عبد المطلب ابن ربيعة ونوفل بن الحارث ومحمية بأسد الغابة، وفي تفسير
العياشي 2 / 93، ومغازي الواقدي ص 696.
وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان أسن من عمه العباس، وشريك عثمان في التجارة وأعطاه
الرسول من خيبر مائة وسق. توفي بالمدينة سنة 23. أسد الغابة 2 / 66.
وابنه عبد المطلب توفي بدمشق سنة 61 ه‍. أسد الغابة 3 / 331.
والفضل بن عباس، كان أكبر ولد أبيه، شهد غسل النبي اختلفوا في سنة وفاته ومكان وفاته في اليرموك
أو عمواس أو يوم مرج الصفر أسد الغابة 4 / 183، اخرج له أصحاب الصحاح الست 24 حديثا، تقريب
التهذيب 2 / 110، وجوامع السيرة ص 282.
ونوفل ابن الحارث آخى الرسول بينه وبين العباس وكانا شريكين في الجاهلية توفي بالمدينة سنة خمس
عشرة أسد الغابة 5 / 46.
ومحمية بن جزء بن عبد يغوث الزبيدي كان قديم الاسلام شهد غزوة المريسيع. أسد الغابة 4 / 234.
تفسير الألفاظ من النووي شارح صحيح مسلم:
فانتحاه ربيعة: اي عرض له وقصده. وما تصرران: اي تجمعانه في صدوركما من الكلام وكل شئ
جمعته فقد صررته. وتواكلنا: اي وكل أحدنا الكلام إلى صاحبه. وتلمع بثوبه أو بيده: يشير به. القرم: السيد
وقصد منه المقدم في معرفة الأمور وبحور ما بعثتما به أي بجوابه.
2) شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية 691 - 751 ه‍ من تآليفه
" زاد المعاد في هدى خير العباد " رجعنا إلى ط. الحلبي بمصر سنة 1390 ه‍ ج 1 / 47.
128

وقال قبله في " فصل في كتبه ورسله (ص) إلى الملوك ": وبعث أبا موسى
الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن عند انصرافه من تبوك وقيل: بل سنة عشر من ربيع
الأول داعيين إلى الاسلام، فأسلم عامة أهلها طوعا من غير قتال. ثم بعث بعد ذلك
علي بن أبي طالب إليهم ووافاهم بمكة في حجة الوداع 1.
ولعل سبب الوهم عند بعضهم ما أصبح بعد الرسول وبعد اسقاط الخلفاء
فريضة الخمس كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فإنه لم يبق ما يجبى من المسلمين غير
الصدقات الواجبة فحسب أولئك عصر الرسول مثل عصورهم ومن هنا نشأ الوهم
عندهم أن الرسول بعث عليا مصدقا وفاتهم ان الرسول كان يمنع مولاه من المشاركة مع
المصدق في عمله فكيف بابن عمه وأبى عترته؟
كما رواه أبو داود والنسائي والترمذي في سننهم، قالوا:
أن النبي بعث رجلا على الصدقة من بني مخزوم - قال الترمذي اسمه الأرقم
ابن أبي الأرقم - فقال لأبي رافع: أصحبني كي ما تصيب منها.
قال: لا حتى آتي رسول الله فأسأله.
فانطلق إلى النبي فسأله فقال: مولى القوم من أنفسهم وأنا " لا تحل لنا
الصدقة " 2.
هكذا منع النبي أبا رافع أن يصاحب المصدق فيصيب من سهم العاملين على
الصدقة لأنه مولاه، وكذلك فعل أئمة أهل البيت بعد الرسول فإنهم امتنعوا من أخذها،
ومنعوا بني هاشم كافة عنها. في دعائم الاسلام أن الإمام جعفر بن محمد الصادق لما
قيل له، فإذا منعتم الخمس هل تحل لكم الصدقة؟.
قال: لا، والله ما يحل لنا ما حرم الله علينا بغصب الظالمين حقنا، وليس

(1) زاد المعاد 1 / 46، وراجع سنن أبي داود 3 / 127 باب كيف القضاء.
2) سنن أبي داود 1 / 212 باب " الصدقة على بني هاشم " من كتاب الزكاة، والنسائي 1 / 366
باب " مولى القوم منهم " من كتاب الزكاة، والترمذي 3 / 159 باب " ما جاء في كراهية الصدقة للنبي وأهل
بيته ومواليه " من كتاب الزكاة، ومجمع الزوائد 3 / 90 - 91، وكنز العمال 6 / 252 - 256، وأمالي
الطوسي 2 / 17، والبحار 96 / 57، وفي ألفاظ رواياتهم بعض الاختلاف. وسنن البيهقي 7 / 32.
وأبو الأرقم، اسمه عبد مناف وكان الأرقم من السابقين إلى الاسلام واستخفى الرسول في بيته بأصل
الصفا بمكة حتى كملوا أربعين رجلا، شهد بدرا وما بعدها وتوفي بالمدينة سنة خمس وخمسين ودفن بالبقيع. أسد
الغابة 1 / 59 - 60.
129

منعهم إيانا ما أحل الله لنا بمحل لنا ما حرم الله علينا 1.
وفي الخصال عن الصادق عن أبيه (ع) قال: لا تحل الصدقة لبني هاشم الا
في وجهين: ان كانوا عطاشا وأصابوا ماء شربوا، وصدقة بعضهم على بعض 2.
ومن هنا نعرف ان ما كان يقبله أئمة أهل البيت مما يدفعه إليهم حكام
عصورهم من أموال بيت المال، كان من باب بعض حقهم في الفئ والأنفال، وجزي
رؤس أهل الذمة، وخمس غنائم الفتوح، وليس من باب الصدقات الواجبة كما توهمه
البعض.
اما المياه المسبلة للشرب، فجلها من باب الأوقاف التي أوقفها أصحابها
لانتفاع عامة المسلمين. وشأنها في ذلك، شأن المنازل المشيدة في طرق المسلمين
ومساجدهم، فهي وإن كان أصحابها قد تقربوا إلى الله بانفاقها في سبيله وبهذه المناسبة
قد تسمى بالصدقات، غير أنها ليست من باب الصدقات على الافراد موضوع البحث
كي لا يصح لغير الفقير من غير بني هاشم، الانتفاع بها بل هي لانتفاع المسلمين كافة
سواء فيها الفقير والغني والأمير والسوقة والهاشمي وغيره، فهي لهذا خارجة عن موضوع
البحث.
إلى هنا ذكرنا ما وجدنا في مصادر الدراسات الاسلامية من أمر الخمس،
وأصحاب سهامه في عصر الرسول، وحرمة الصدقة على بني هاشم ومواليهم وامتناعهم
عنها في عصره ومن بعده، اما ما فعل الخلفاء في فريضة الخمس وكيفية اجتهادهم فيه
وفي حق ابنة الرسول خاصة فيلزمنا أيضا لفهمها درس ما خلفه الرسول من ضياع
وعقار، ثم درس ما جرى عليها من قبل الخلفاء، وشكوى فاطمة منهم في أمرها وفي أمر
الخمس، فإلى دارسة كل ذلك في ما يلي:
تركة الرسول وشكوى فاطمة من تصرفهم فيها وفي سهمها من الخمس
قال القاضيان الماوردي (ت: 450 ه‍) وأبو يعلي (ت: 458 ه‍): صدقات
رسول الله (ص) التي أخذها بحقيه فان أحد حقيه الخمس من الفئ والغنائم والحق

(1) دعائم الاسلام ص 246، والبحار 96 / 76.
2) الخصال 1 / 32، والبحار 96 / 74.
130

الثاني أربعة أخماس الفئ الذي أفاءه الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل
ولا ركاب... إلى قولهما: فأما صدقات النبي (ص) فهي ثمانية:
إحداها وهي أول ارض ملكها رسول الله (ص) وصية مخيريق اليهودي
" الحوائط السبعة ".
والصدقة الثانية: أرضه من أموال بني النصير بالمدينة.
والصدقة الثالثة والرابعة والخامسة ثلاثة حصون من خيبر.
والصدقة السادسة النصف من فدك.
والصدقة السابعة: الثلث من ارض وادي القرى.
والصدقة الثامنة: موضع سوق بالمدينة يقال له مهزور 1.
وقال القاضي عياش (ت: 544 ه‍): انها صارت إليه بثلاثة حقوق:
أحدها: ما وهب له (ص) وذلك وصية مخيريق اليهودي له عند اسلامه يوم
أحد، وكانت سبع حوائط في بني النضير وما أعطاه الأنصار من أرضهم وهو مالا يبلغه
الماء، وكان هذا ملكا له (ص).
الثاني: حقه من الفئ من ارض بني النضير حين أجلاهم، كانت له خاصة
لأنها لم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب. واما منقولات بني النضير، فحملوا منها
ما حملته الإبل، غير السلاح كما صالحهم، ثم قسم (ص) الباقي بين المسلمين، وكانت
الأرض لنفسه ويخرجها في نوائب المسلمين. وكذلك نصف أرض فدك، صالح أهلها
بعد فتح خيبر على نصف أرضها، وكانت أيضا خالصة له، وكذلك ثلث أرض وادى
القرى اخذه في الصلح حين صالح أهلها اليهود، وكذلك حصنان من حصون خيبر
وهي الوطيح والسلالم اخذهما صلحا.
والثالث: سهمه من خمس خيبر، وما افتتح فيها عنوة فكانت هذه كلها ملكا
لرسول الله (ص) خاصة لا حق فيها لاحد غيره... " 2.

(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 168 - 171، والاحكام السلطانية لأبي يعلي ص 181 -
185.
2) بشرح النووي على صحيح مسلم 12 / 82 باب حكم الفئ من كتاب الجهاد.
والقاضي عياش هو أبو الفضل بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، عالم المغرب، وامام أهل
الحديث في وقته. له تصانيف شهيرة منها " شرح صحيح مسلم " مخطوط، ولعل النووي نقل منه ما أورده هنا.
توفي في مراكش سنة 544 ه‍، راجع ترجمته في " وفيات الأعيان والاعلام ".
131

انتهى ما قاله القضاة الثلاثة، وفي ما يلي شرح بعض أقوالهم:
أ - قولهم: " صدقات رسول الله (ص) ". اصطلح علماء مدرسة الخلفاء من
محدثين ومؤرخين وفقهاء ولغويين إلى غيرهم على تسمية كل ما خلفه الرسول من ضياع
وعقار بالصدقات استنادا على ما رواه أبو بكر وحده عن رسول الله أنه قال: " ما تركنا
صدقة ".
ب - ما ذكروا من املاك رسول الله. وفي ما يلي شرحها ومنشأ تملكه إياها:
بيان ما تملكه الرسول ومنشؤه:
أ - وصية مخيريق: كان مخيريق أيسر بني قينقاع، وكان من أحبار يهود وعلمائها
بالتوراة 1. وعند ما هاجر رسول الله إلى المدينة، ونزل قبا في أول الأمر، أتى إليه مخيريق
وأسلم 2.
وفي يوم أحد خاطب قومه وقال: " يا معشر اليهود! والله انكم لتعلمون أن
محمدا نبي وأن نصره عليكم لحق ".
قالوا: إن اليوم يوم السبت!
قال: لا سبت، ثم اخذ سلاحه ثم حضر مع النبي (ص) فأصابه القتل، فقال
رسول الله " مخيريق خير يهود " وقد كان مخيريق حين خرج إلى أحد قال: إن أصبت
فأموالي لمحمد 3.
وكانت أمواله حوائط سبعة وهي: الاعواف والصافية والدلال والميثب
وبرقة وحسنى ومشربة أم إبراهيم التي كانت تسكنها مارية جارية النبي 4.
وتفصيل قصة هذه الحوائط في وفاء الوفاء 5، وكتابي الأحكام السلطانية

(1) طبقات ابن سعد 1 / 502. 2) إمتاع الأسماع ص 46.
3) مغازي الواقدي ص 262 - 263 وإمتاع الأسماع ص 146، والإصابة 3 / 373.
4) طبقات ابن سعد 1 / 501 - 503، ومادة " ميثب " من معجم البلدان.
والحوائط جمع الحائط: البستان المسيج. والمشربة: الغرفة. وجارية النبي مارية القبطية أهداها المقوقس
صاحب الإسكندرية إلى النبي فأسكنها في أحد الحوائط السبعة وولدت لرسول الله ابنه إبراهيم في ذي الحجة سنة
ثمان من الهجرة، وتوفي بعد ستة أو ثمانية عشر شهرا ودفنه الرسول بالبقيع. أسد الغابة 1 / 38 وتوفيت مارية سنة
ست عشرة. أسد الغابة 5 / 543 ووفاء الوفا 1128 و 1190.
5) وفاء الوفا ص 944 - 988.
132

للماوردي، ولأبي يعلى 1 والاكتفاء 2.
وروى السمهودي عن الواقدي: ان النبي وقف الاعواف وبرقة وميثب
والدلال وحسنى ومشربة أم إبراهيم سنة سبع من الهجرة 3.
ب - ما وهب الأنصار من أرضهم للنبي: عن ابن عباس، قال: إن رسول الله لما
قدم المدينة جعلوا له كل ارض لا يبلغها الماء يصنع بها ما يشاء 4.
ج - ارض بنى النصير: لما قدم اليهود المدينة نزل بنو النضير بطحان من العالية،
وبنو قريظة مهزورا منها وهما واديان يهبطان من حرة هناك، وكانت تنصب منها مياه
عذبة 5 ولما أفاء الله على رسوله هذه الأرض قال له عمر: الا تخمس ما أصبت؟ فقال
له الرسول: " لا أجعل شيئا جعله الله لي دون المسلمين بقوله تعالى " ما أفاء الله على
رسوله... " كهيئة ما وقع فيه السهمان للمسلمين 6.
وأجمع علماء السير 7 والحديث 8 والتفسير 9 على أن ارض بني النضير 10
كانت خالصة لرسول الله، صافية له، يتصرف فيها تصرف الملاك في أملاكهم، ينفق
منها على أهل بيته، ولما ينتابه ويهب منها ما يشاء لمن يشاء. اقطع منها أبا بكر
و عبد الرحمن بن عوف وأبا دجانة سماك بن خرشة الساعدي وآخرين وكان ذلك في
سنة أربع من الهجرة 11.

(1) كتابي الأحكام السلطانية للماوردي ص 169، ولأبي يعلي ص 183.
2) الاكتفاء 2 / 103.
3) وفاء الوفا ص 989. وفي البحار ج 8 / 108 عن أبي الحسن الرضا: " ان رسول الله خلف حيطانا
بالمدينة صدقة ".
4) الأموال لأبي عبيد ص 282 باب الاقطاع من كتاب احكام الأرضين.
5) معجم البلدان مادة " بطحان " بضم أوله أو فتحه وسكون ثانيه وراجع " البويرة " منه.
6) راجع بحث الفئ من هذا الكتاب.
7) مغازي الواقدي ص 363 - 378، وإمتاع الأسماع للمقريزي ص 178 - 182.
8) سنن أبي داود 3 / 48 كتاب الخراج، والنسائي باب قسم الفئ 2 / 178 وشرح النهج 4 / 78.
9) تفسير سورة الحشر بتفسير الطبري 28 / 24 - 25، والنيسابوري بهامش الطبري 28 / 38 والدر
المنثور 6 / 192.
10) في كتابي الأحكام السلطانية للماوردي ص 169، ولأبي يعلي ص 183: الا ما كان ليامين بن
عمير وأبي سعد بن وهب فإنهما أسلما قبل الظفر فاحرز لهما اسلامهما جميع أموالهما.
11) فتوح البلدان للبلاذري 1 / 18 - 22.
133

د - أراضي خيبر: خيبر على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام ويطلق هذا
الاسم على الولاية، وكانت تشتمل على سبعة حصون منيعة أو ثمانية 1 ومزارع ونخل
كثير 2 يقطنها عتاة اليهود وقد تحالفوا مع القبائل العربية.
قصدهم رسول الله بعد عودته من الحديبية في صفر سنة سبع أو هلال
ربيع الأول منها 3.
ولم يأذن لاحد تخلف عن الحديبية ان يشهد معه خيبر الا جابر عن عبد الله بن
حرام الأنصاري 4، وكانوا قد تخلفوا عنه في الحديبية وارجفوا بالمسلمين 5.
حاصر النبي اليهود في حصونهم بخيبر قريبا من شهر، وكانوا يخرجون كل يوم
عشرة آلاف مقاتل 6 ففتح بعضها عنوة وبعضها صلحا 7، فخمس ما أخذها عنوة،
وقسم أربعة أخماسها بين المسلمين ممن كان شهد خيبر من أهل الحديبية 8. ولما لم
يكن له من العمال من يكفيه عمل الأرض، دفعها إلى اليهود يعملونها على نصف
ما خرج منها 9.
قالوا: قسم النبي خيبر على 36 سهما، وجعل كل سهم مائه سهم. لرسول الله
18 سهما، و 18 سهما للمسلمين اقتسموها بينهم ولرسول الله مثل سهم أحدهم 10.
وقالوا: قسم سهمان المسلمين بين من حضر الحديبية، ومن قدم مع جعفر بن
أبي طالب من ارض الحبشة 11.

(1) في كتابي الأحكام السلطانية للماوردي ص 169، ولأبي يعلي ص 184.
2) مادة خيبر من معجم البلدان وفيها ان خيبر بلسان اليهود الحصن وسميت خيابر لأنها كانت
تشتمل على عدة حصون.
3 و 5) مغازي الواقدي ص 634.
4) الدر المنثور للسيوطي 6 / 194.
6) مغازي الواقدي ص 637.
7) وفاء الوفا ص 1210.
8) فتوح البلدان للبلاذري 1 / 31.
9) فتوح البلدان 1 / 26 - 28. وفي مغازي الواقدي ص 698 - 699: لما توفي أبو بكر (رض)
كان ولده ورثته يأخذون طعمته من خيبر مائة وسق في خلافة عمر وعثمان - إلى قوله - حتى كان زمن
عبد الملك أو بعده فقطع.
10) فتوح البلدان 1 / 29. والأموال لأبي عبيد ص 56.
11) فتوح البلدان 1 / 32.
134

قالوا: وكان سهم الخمس منها، الكتيبة وكان الشق والنطاة وسلالم
والوطيح للمسلمين فأقرها بيد يهود على الشطر، ويقسم ما يخرج الله منها بين المسلمين
حتى كان عمر، فقسم رقبة الأرض بينهم على سهامهم 1.
وفي سيرة ابن هشام والاكتفاء وغيرهما واللفظ للأول: كانت الكتيبة خمس
الله وسهم النبي وسهم ذوي القربى والمساكين وطعم أزواج النبي وطعم رجال مشوا
بين رسول الله وأهل فدك بالصلح 2.
وفي فتوح البلدان: وجعل لأزواج النبي فيها نصيبا وقال: " أيتكن شاءت
أخذت الثمرة، وأيتكن شاءت أخذت الضيعة لها ولورثتها " 3.
وقد ورد في مغازي الواقدي تسمية سهمان الكتيبة بتفصيل واف 4.
وفي وفاء الوفاء: ان أهل الوطيح وسلالم صالحوا عليها النبي (ص)، فكان ذلك
له خاصة وخرجت الكتيبة في الخمس وهي مما يلي الوطيح والسلالم فجمعت شيئا
واحدا، فكانت مما ترك رسول الله من صدقاته 5، وهو يقتضي ان بعض خيبر فتح
عنوة وبعضها صلحا. وبه يجمع بين الروايات المختلفات في ذلك 6.
وقال القاضيان الماوردي وأبو يعلى: " وملك من هذه الحصون الثمانية ثلاثة
حصون: الكتيبة والوطيح والسلالم. اما الكتبية فاخذها بخمس الغنيمة، واما الوطيح
والسلالم فهما مما أفاء الله عليه لأنه فتحهما صلحا فصارت هذه الحصون الثلاثة بالفئ
والخمس خالصة لرسول الله (ص) " 7.
قال المؤلف: يؤيد ما ذكروا ان سهام رسول الله في خيبر كانت 18 سهما،

(1) فتوح البلدان 1 / 28.
2) سيرة ابن هشام 2 / 404، والاكتفاء في مغازي رسول الله، والثلاثة الخلفاء 2 / 268، وراجع
مغازي الواقدي ص 692 - 693، وإمتاع الأسماع ص 329.
3) فتوح البلدان 1 / 32.
4) مغازي الواقدي ص 693، وراجع فتوح البلاذري 1 / 27 وطبعة أخرى 1 / 33.
5) اصطلحوا كما ذكرنا على تسمية كل ما ترك رسول الله من ضياع بالصدقة اخذا برواية أبي بكر عن
النبي " ما تركنا صدقة ".
6) وفاء الوفا ص 1210، وراجع سيرة ابن هشام.
7) في كتابي الأحكام السلطانية للماوردي ص 170، ولأبي يعلي ص 184 - 185، وراجع
الأموال لأبي عبيد ص 56.
135

وهي مثل مجموع سهام سائر الغزاة في خيبر، وهذا يقتضي أن يكون قسم من خيبر مما
أفاء الله على رسوله بلا ايجاف خيل ولا ركاب، وان ذلك أضيف إلى سهم الخمس مما
فتح منها عنوة وبذلك صار مجموع سهام النبي مساويا لمجموع سهام المسلمين منها.
ه‍ - فدك: قال ياقوت، فدك قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل
ثلاثة، وفيها عين فوارة ونخيل كثير 1.
بعث رسول الله إلى أهل فدك وهو بخيبر أو منصرفه منه يدعوهم إلى الاسلام
فأبوا 2. فلما فرغ رسول الله (ص) من خيبر، قذف الله الرعب في قلوبهم فبعثوا إلى رسول
الله (ص) يصالحونه على النصف فقبل ذلك منهم 3.
وفي الأموال لأبي عبيد: كان أهل فدك قد أرسلوا إلى رسول الله (ص) فبايعوه
على أن لهم رقابهم ونصف أرضيهم ونخلهم، ولرسول الله شطر أرضيهم ونخلهم 36.
وفي فتوح البلدان: فكان نصف فدك خالصا لرسول الله، لأنه لم يوجف
المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكان يصرف ما يأتيه منها 4.
وفي شواهد التنزيل للحسكاني، وميزان الاعتدال للذهبي، ومجمع الزوائد
للهيثمي، والدار المنثور للسيوطي، ومنتخب كنز العمال واللفظ للأول عن أبي سعيد
الخدري: لما نزلت " وآت ذا القربى حقه " دعا النبي فاطمة وأعطاها فدك 5.
وفي تفسير الآية (38) من سورة الروم عن ابن عباس كذلك 6.
و - وادى القرى: وادي القرى واد بين المدينة والشام، ما بين تيماء وخيبر، وتيماء
بليد بأطراف الشام 7.

(1) بمادة " فدك " من معجم البلدان.
2) فتوح البلدان 1 / 31 و 32 - 34 منه وكتابي الأحكام السلطانية للماوردي ص 170 ولأبي يعلي
ص 185.
3) سيرة ابن هشام 3 / 408، والاكتفاء 2 / 259، وراجع مغازي الواقدي ص 706 - 707،
وإمتاع الأسماع ص 331، وشرح النهج 4 / 78.
4) الأموال لأبي عبيد ص 9.
5) بتفسير الآية 26 من سورة بني إسرائيل في شواهد التنزيل 1 / 338 - 341 بسبعة طرق، والدر
المنثور 4 / 177، وميزان الاعتدال 2 / 228 ط. الأولى وكنز العمال 2 / 158 ط. الأولى ومنتخبه 2 / 158،
ومجمع الزوائد 7 / 49، والكشاف 2 / 446، وتاريخ ابن كثير 3 / 36.
6) شواهد التنزيل للحسكاني 1 / 443.
7) بمادة " تيماء " من معجم البلدان.
136

وسمي وادي القرى، لان الوادي من أوله إلى آخره قرى منظومة، وفيه قرى
كثيرة على طريق حاج الشام وكان يسكنها اليهود 1.
خبر فتح وادى القرى 2:
اتى رسول الله (ص) منصرفه من خيبر في جمادى الآخرة سنة سبع وادي
القرى، فدعى أهلها إلى الاسلام فامتنعوا وقاتلوا، ففتحها عنوة، وغنمه الله أموال
أهلها، وأصاب المسلمون منها أثاثا ومتاعا، فخمس رسول الله ذلك وترك النخل
والأرض في أيدي اليهود، عاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر، وكان له منها
- أيضا - الخمس وأقطع حمزة بن النعمان العذري رمية سوط من وادي القرى 3.
ولهذا قال القاضيان الماوردي وأبو يعلى: كان له الثلث من وادي القرى، لان
الثلث كان لبني عذرة وثلثاها لليهود فصالحهم رسول الله على نصفه فصارت أثلاثا ثلثها
لرسول الله (ص)... 4
ز - مهزور: قال القاضيان الماوردي وأبو يعلى: الصدقة الثامنة موضع بسوق
المدينة يقال له مهزور، استقطعها مروان بن عثمان فنقم الناس عليه 5.
قال المؤلف: كان مهزور واديا في العالية سكنته بنو قريضة، ولعله اتخذ
سوقا بعد اتساع المدينة.
وسوى ما ذكرنا كان النبي قد ورث من أمه آمنة بنت وهب دارها التي ولد
فيها بمكة في شعب بني علي.
وورث من زوجته خديجة بنت خويلد دارها بمكة بين الصفا والمروة خلف
سوق العطارين، فباعها عقيل بن أبي طالب بعد هجرة رسول الله (ص) إلى المدينة فلما
قدم مكة في حجة الوداع قيل له: في اي داريك تنزل؟ فقال: هل ترك لنا عقيل من

(1) مادة " القرى " و " وادى القرى " من معجم البلدان.
2) فتوح البلدان 1 / 39 - 40، ومغازي الواقدي ص 710 - 711، وإمتاع الأسماع ص 332.
3) فتوح البلدان 1 / 40.
وحمزة كان سيد بني عذرة وهو أول أهل الحجاز قدم على النبي بصدقة بنى عذرة.
4) الأحكام السلطانية للماوردي ص 170، ولأبي يعلي ص 185.
5) الأحكام السلطانية للماوردي ص 170 - 171، ولأبي يعلي ص 185.
137

ربع 1.
واما رحل رسول الله (ص) فقد روى هشام الكلبي عن عوانة بن الحكم ان
أبا بكر الصديق (رض) دفع إلى علي (رض) آلة رسول الله (ص) ودابته وحذاءه وقال ما
سوى ذلك صدقة 2.
كانت تلك اخبار ما تملكه الرسول بالخمس والهبة والفئ من الضياع، وهب
شيئا منها إلى بعض صحابته وبعض ذوي قرباه في حياته، وامسك بعضها ضمن
ما يملكه وفي ما يلي اخبار تركته من بعده:
خبر تركة الرسول وخبر شكوى فاطمة
استولى الصحابيان الخليفتان أبو بكر وعمر (رض) مرة واحدة على كل ما تركه
الرسول من ضياع من بعده ولم يتعرضا لشئ مما اقطع منها للمسلمين عدا ما فعلا بفدك
التي كان النبي اقطعها ابنته فاطمة في حياته، فإنهما استوليا عليها كما استوليا على سائر
ضياع النبي ومن هنا نشأ الخلاف بين فاطمة وبينهما على ذلك، وعلى ارثها من الرسول
كما شرحته الروايات الآتية:
أ - رواية عمر:
عن عمر: لما قبض رسول الله (ص) جئت انا وأبو بكر إلى علي فقلنا: ما تقول
في ما ترك رسول الله (ص)؟
قال: نحن أحق الناس برسول الله (ص).
قال: فقلت: والذي بخيبر؟
قال: والذي بخيبر.
قلت: والذي بفدك؟
قال: والذي بفدك.
فقلت: اما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير فلا 3.

(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 171، ولأبي يعلي ص 185 - 186.
2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 171، ولأبي يعلي ص 186.
3) مجمع الزوائد ج 9 / 39 باب في ما تركه الرسول (ص) عن الطبراني في الأوسط.
138

ب - رواية أم المؤمنين عائشة (رض):
في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي وطبقات
ابن سعد واللفظ للأول: عن أم المؤمنين عائشة: ان فاطمة أرسلت إلى أبى بكر تسأله
ميراثها من النبي (ص) في ما أفاء الله على رسوله (ص) تطلب صدقة النبي التي
بالمدينة 1، وفدك وما بقي من خمس خيبر 2.
فقال أبو بكر: ان رسول الله (ص) قال " لا نورث ما تركنا فهو صدقة، إنما
يأكل آل محمد من هذا المال يعني مال الله ليس لهم ان يزيدوا على المأكل " واني والله
لا أغير شيئا من صدقات النبي التي كانت عليها في عهد النبي (ص)، ولا عملن فيها بما
عمل فيها رسول الله (ص) 3.
في هذا الحديث سمى أبو بكر تركة الرسول: " الصدقات " استنادا إلى الرواية
التي رواها هو عن الرسول بأنه قال " ما تركنا فهو صدقة " ومنذ ذلك التاريخ والى
يومنا هذا سميت تركة الرسول بالصدقات.
اما قوله: " لاعملن فيها بما عمل رسول الله فيها " وما هو قصده من العمل
الذي قال إنه سيعمل فيها، فإنه يعرف من الحديث الآتي عن أم المؤمنين عائشة:
ان أول هذا الحديث كالحديث الماضي إلى قولها: "... فغضبت فاطمة بنت
رسول الله (ص)، فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت وعاشت بعد رسول
الله (ص) ستة أشهر، قالت عائشة: فكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول
الله من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة 4. فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركا
شيئا كان رسول الله يعمل به الا عملت به، فاني اخشى ان تركت شيئا من امره ان

(1) تقصد من صدقته بالمدينة الحوائط السبعة اللاتي وهبها مخيريق للنبي كما شرحناه سابقا.
2) تقصد ما بقي من خمس خيبر: ان رسول الله اقطع شيئا من سهمه من الخمس إلى بعض صحابته فما
بقي من خمس خيبر يعني ما عدا ما اقطع.
3) صحيح البخاري 2 / 200 باب مناقب قرابة رسول الله من كتاب المناقب، سنن أبي داود 2 / 49
كتاب الخراج باب صفايا رسول الله، وسنن النسائي 2 / 179 باب قسم الفئ ومسند أحمد 1 / 6 و 9،
وطبقات ابن سعد 2 / 315، و ج 8 منه ص 28 ومنتخب الكنز باب ما يتعلق بميراثه ج 3 / 128.
4) صحيح البخاري 2 / 124 باب فرض الخمس من كتاب الخمس، وصحيح مسلم الحديث 54 من
كتاب الجهاد. وراجع تاريخ الاسلام للذهبي ج 1 / 346 وتاريخ ابن كثير 7 / 285 باب " بيان انه عليه السلام
قال لا نورث " وسنن البيهقي 6 / 300 ومسند أحمد 1 / 6، وطبقات ابن سعد 8 / 18.
139

أزيغ، فاما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس، فاما خيبر وفدك فامسكهما عمر
وقال: هما صدقة رسول الله (ص) كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرهما إلى من
ولى الامر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم 1.
في حديث عائشة: الثاني هذا يصرح الخليفة بان ضياع رسول الله كانت لحقوقه
التي تعروه ونوائبه وأمرهما إلى من ولي الأمر من بعده، اذن فهو الذي ينفق منها لحقوقه
التي تعروه ونوائبه وهذا هو معنى قوله الخليفة في الحديث الأول: لاعملن فيها بما عمل
فيها رسول الله أي لأنفقن منها لحقوقي التي تعرونى ونوائبي.
والى هذا - أيضا - يشير في حديث عائشة الثالث الآتي في صحيح البخاري
ومسلم عن عائشة: ان فاطمة (أأنت) بنت النبي (ص) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها
من رسول الله مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر 2 فقال أبو بكر: ان
رسول الله قال: " لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد (ص) في هذا المال "،
واني لا أغير شيئا من صدقة رسول الله (ص) عن حالها التي كان عليها في عهد رسول
الله (ص)، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله (ص) فأبى أبو بكر ان يدفع إلى فاطمة
منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت
بعد النبي ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبو بكر وصلى
عليها، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة فلما توفيت استنكر على وجوه الناس
فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن بايع تلك الأشهر... الحديث 3.
اقتصرت أم المؤمنين عائشة في ذكرها مورد نزاع فاطمة مع أبي بكر في أحاديثها
المطولة بذكر مطالبتها إياهم ارث أبيها الرسول بينما كانت خصومتها معهم في ثلاثة
أمور:
أ - منحة الرسول، ب - ارث الرسول، ج - سهم ذي القربى. وفي ما يلي
بيان ذلك:

1 و 2) راجع الهامش 4 من الصفحة السابقة.
3) صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب قول النبي لا نورث، الحديث 52 ص 1380، والبخاري
3 / 38 باب غزوة خيبر، وسنن البيهقي 6 / 300، ومشكل الآثار 1 / 47.
140

أ - في منحة الرسول
في فتوح البلدان: ان فاطمة (رض) قالت لأبي بكر الصديق (رض) اعطني فدك
فقد جعلها رسول الله لي، فسألها البينة فجاءت بأم أيمن ورباح مولى النبي فشهدا لها
بذلك فقال: ان هذا الامر لا تجوز فيه إلا شهادة رجل وامرأتين.
وفي رواية أخرى: شهد لها علي بن أبي طالب فسألها شاهدا آخر فشهدت لما أم
أيمن 1.
من البديهي ان هذه الخصومة كانت بعد ان استولى أبا بكر على فدك كما
استولى على ضياع رسول الله غير فدك. وبعد رد أبي بكر شهود فاطمة في شأن فدك ثنت
بخصومة أخرى في شأن ارث الرسول كما توضحه الروايات الآتية بالإضافة إلى
أحاديث أم المؤمنين عائشة السالفة.
ب - خصومتها إياهم في ارث الرسول
1 - رواية أبي الطفيل 2: بمسند احمد وسنن أبي داود وتاريخ الذهبي وتاريخ
ابن كثير وشرح النهج واللفظ للأول عن أبي الطفيل قال: لما قبض رسول الله (ص)
أرسلت فاطمة إلى أبي بكر أنت ورثت رسول الله (ص) أم أهله؟
قال: فقال " لا، بل أهله ".
قالت: فأين سهم رسول الله (ص) 3.
قال فقال أبو بكر: اني سمعت رسول الله يقول " ان الله عز وجل إذا أطعم

(1) فتوح البلدان 1 / 34 - 35.
وأم أيمن بركة الحبشية مولاة رسول الله وحاضنته، أعتقها رسول الله وأسلمت قديما وهاجرت إلى
الحبشة والمدينة تزوجها عبيد الحبشي ومن بعده زيد بن حارثة. توفيت بعد رسول الله بخمسة أشهر أو ستة أو في
خلافة عثمان، اخرج ابن ماجة لها خمسة أحاديث في سننه. أسد الغابة 5 / 567 جوامع السيرة ص 289،
وتقريب التهذيب 2 / 619، ورباح كان مولى اسود لرسول الله يستأذن عليه وصيره بعد قتل يسار مكانه يقوم
بلقاحه أسد الغابة 2 / 160، وجوامع السيرة ص 27، والإصابة 1 / 490.
2) أبو الطفيل: عامر بن واثلة الكناني الليثي عد في صغار الصحابة ولد عام أحد وكان من أصحاب
على المحبين له وشهد معه مشاهده كلها وكان ثقة مأمونا الا انه كان يقدم عليا وهو آخر من مات ممن رأى النبي
مات سنة 100 أو 116. أسد الغابة 3 / 96 اخرج له أصحاب الصحاح الست تسعة أحاديث. جوامع السيرة
ص 286، وتقريب التهذيب 1 / 389.
3) لعل هذا الاحتجاج كان في أمر سهم رسول الله من خمس خيبر ووادي القرى.
141

نبيا طعمة ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده، فرأيت أن أرده على المسلمين.
قالت: فأنت وما سمعت من رسول الله أعلم 1.
وفي شرح النهج بعد هذا: ما انا بسائلتك بعد مجلسي!
2 - رواية أبي هريرة:
أ - في سنن الترمذي عن أبي هريرة: ان فاطمة جاءت إلى أبي بكر
وعمر (رض) تسأل ميراثها من رسول الله (ص) فقالا: سمعنا رسول الله يقول " اني
لا أورث ".
قالت: والله لا أكلمكما ابدا، فماتت ولا تكلمهما 2.
ب - في مسند أحمد وسنن الترمذي وطبقات ابن سعد وتاريخ ابن كثير
واللفظ للأول عن أبي هريرة قال: إن فاطمة قالت لأبي بكر: من يرثك إذا مت؟
قال: ولدي وأهلي.
قالت: فما لنا لا نرث النبي (ص)؟
قال: سمعت النبي (ص) يقول " ان النبي لا يورث " ولكني أعول من كان
رسول الله (ص) يعول وأنفق على من كان رسول الله ينفق عليه 3.
3 - رواية عمر
في طبقات ابن سعد عن عمر قال: لما كان اليوم الذي توفي فيه رسول
الله (ص) بويع لأبي بكر في ذلك اليوم، فلما كان من الغد جاءت فاطمة لأبي بكر معها
علي فقالت: ميراثي من رسول الله أبي (ص) فقال أبو بكر: أمن الرثة أو من العقد؟
قالت: فدك، وخيبر وصدقاته بالمدينة أرثها كما ترثك بناتك إذا مت.
فقال أبو بكر: أبوك والله خير مني وأنت والله خير من بناتي وقد قال رسول
الله (ص): " لا نورث ما تركنا صدقة " يعني هذه الأموال القائمة 4.

(1) مسند أحمد 1 / 4 الحديث 14، وسنن أبي داود 3 / 50 كتاب الخراج، وتاريخ ابن كثير 5 / 289،
وشرح النهج 4 / 81 نقلا عن أبي بكر الجوهري والتتمة من ص 87 منه، وتاريخ الذهبي 1 / 346.
2) رواية أبي هريرة الأولى في سنن الترمذي 7 / 111 أبواب السير ما جاء في تركة الرسول.
3) رواية أبي هريرة الثانية بمسند احمد 1 / 10 الحديث 60، والحديث فيه مروي عن أبي سلمة. وفى سنن
الترمذي 7 / 109 باب ما جاء في تركة الرسول، وطبقات ابن سعد 5 / 372، وابن كثير 5 / 289.
4) رواية عمر في طبقات ابن سعد 2 / 316، والرثة بوزن الهرة: متاع البيت الدون. والعقد: أصحاب
الولايات على الأمصار من عقد الألوية للأمراء، كذا فسرهما ابن الأثير في نهاية اللغة.
142

نرى ان تحديد عمر زمن مجيئ فاطمة إلى أبي بكر، لا يستقيم مع مجرى
الحوادث بعد السقيفة، وإنما الصواب ما قاله ابن أبي الحديد:
" حديث فدك وحضور فاطمة عند أبي بكر كان بعد عشرة أيام من وفاة رسول
الله 1. "
ومهما كان من أمر زمان ذلك، فان أبا بكر منعها ارثها من الرسول بما روى هو
عن الرسول " انا لا نورث ما تركنا صدقة " كما صرحت بذلك أم المؤمنين حيث قالت:
واختلفوا في ميراثه فما وجدوا عند أحد من ذلك علما، فقال أبو بكر سمعت رسول
الله (ص) يقول: " انا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة " 2.
وكذلك قال ابن أبي الحديد في شرح النهج " المشهور انه لم يرو حديث انتفاء
الإرث الا أبو بكر وحده " 3.
وقال: " ان أكثر الروايات انه لم يرو هذا الخبر الا أبو بكر وحده، ذكر ذلك
أعظم المحدثين حتى أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر
برواية الصحابي الواحد، وقال شيخنا أبو علي: لا يقبل في الرواية الا رواية اثنين
كالشهادة، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلهم، واحتجوا بقبول الصحابة رواية أبى بكر
وحده: نحن معاشر الأنبياء لا نورث 4.
وفي تعداد السيوطي لروايات أبي بكر قال: " التاسع والعشرون حديث
لا نورث، ما تركناه صدقة " 5.
قال المؤلف: مع كل هذا وضعوا أحاديث أسندوا فيها إلى غير أبى بكر انه
روى ذلك عن الرسول 6.
ج - خصومتها إياهم في سهم ذي القربى
لما منعوا ابنة الرسول من ارث أبيها بحديث أبي بكر، طالبتهم بسهم ذي القربى
كما روى أبو بكر الجوهري ذلك في ثلاث روايات:

(1) شرح النهج 4 / 97.
2) كنز العمال ج 14 / 130 الفضائل (الافعال) فضل الصديق.
3) شرح النهج 4 / 82.
4) شرح النهج 4 / 85.
5) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 89.
6) راجع شرح النهج 4 / 85.
143

1 - عن انس بن مالك ان فاطمة (أأنت) أتت أبا بكر فقالت لقد علمت الذي
ظلمتنا أهل البيت من الصدقات 1، وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم
ذوي القربى. ثم قرأت عليه قوله تعالى " واعلموا إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه
وللرسول ولذي القربى " الآية، فقال لها أبو بكر: بأبي أنت وأمي ووالد ولدك السمع
والطاعة لكتاب الله ولحق رسول الله (ص) وحق قرابته، وانا اقرأ من كتاب الله
الذي تقرأين منه، ولم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس مسلم إليكم كاملا،
قالت: أفلك هو ولأقربائك؟ قال: لا، بل أنفق عليكم منه وأصرف الباقي في مصالح
المسلمين، قالت: ليس هذا حكم الله... الحديث.
2 - عن عروة قال: أرادت فاطمة أبا بكر على فدك وسهم ذوي القربى فأبى
عليها وجعلها في مال الله تعالى.
3 - عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب (ع) أن أبا بكر منع فاطمة
وبنى هاشم سهم ذوي القربى، وجعله في سبيل الله، في السلاح والكراع 1.
وفي كنز العمال عن أم هاني قالت: إن فاطمة أتت أبا بكر تسأله سهم ذوي
القربى، فقال لها أبو بكر: سمعت رسول الله يقول: " سهم ذوي القربى لهم في حياتي
وليس لهم بعد موتي " 2.
وفي رواية أخرى لام هاني جمعت في الذكر بين خصومتها إياهم في الإرث
وخصومتها في سهم ذوي القربى.
في فتوح البلدان، وطبقات ابن سعد، وتاريخ الاسلام للذهبي، وشرح النهج
واللفظ للأول عن أم هاني قالت: إن فاطمة بنت رسول الله أتت أبا بكر (رض)
فقالت:
من يرثك إذا مت؟
قال: ولدي وأهلي.
قالت: فما بالك ورثت رسول الله دوننا!؟

(1) الروايات الثلاث في شرح النهج 4 / 81 والرواية الأولى في تاريخ الاسلام للذهبي 1 / 347.
والصدقات لعل المقصود منها بعض الحوائط السبعة التي ذكر في بعض الروايات ان الرسول تصدق بها.
2) رواية أم هاني الأولى بكنز العمال 5 / 367 كتاب الخلافة مع الامارة قسم الافعال، أم هاني بنت
أبي طالب أسلمت عام الفتح وماتت في خلافة معاوية اخرج لها أصحاب الصحاح الست 46 حديثا. أسد
الغابة 5 / 624، وجوامع السيرة ص 280، وتقريب التهذيب 2 / 625.
144

قال: يا بنت رسول الله ما ورثت أباك ذهبا ولا فضة.
فقالت: سهمنا بخيبر و " صدقتنا 1 " فدك.
ولفظ طبقات ابن سعد: " قال ما ورثت أباك أرضا ولا ذهبا ولا فضة ولا
غلاما ولا مالا.
قالت: فسهم الله 2 الذي جعله لنا وصافيتنا بيدك.
قال: يا بنت رسول الله سمعت رسول الله يقول: " إنما هي طعمة أطعمني الله
حياتي فإذا مت فهي بين المسلمين 3.
وفي لفظ ابن أبي الحديد وتاريخ الاسلام للذهبي:
قال: ما فعلت يا بنت رسول الله (ص).
فقالت: بلى انك عمدت إلى فدك وكانت صافية لرسول الله (ص) فأخذتها،
وعمدت إلى ما انزل الله من السماء فرفعته عنا!
فقال: يا بنت رسول الله! لم افعل، حدثني رسول الله (ص) ان الله تعالى يطعم
النبي (ص) الطعمة ما كان حيا فإذا قبضه إليه رفعت.
فقالت: أنت ورسول الله اعلم ما انا بسائلتك بعد مجلسي، ثم انصرفت.
تقصد من سهم الله سهامهم من الخمس، ومن الصافية صوافي رسول الله،
ومن قولها " عمدت إلى ما انزل الله من السماء فرفعته عنا " سهم ذوي القربى الذي نزل
في القرآن، وحكم الإرث الذي يعم كافة المسلمين رسول الله ومن عداه.
وذكرت بعض الروايات ان العباس اشترك معها في مطالبة ارث الرسول مثل
ما رواه ابن سعد في طبقاته، وتابعه المتقي في كنز العمال واللفظ للأول قال: جاءت
فاطمة إلى أبى بكر تطلب ميراثها، وجاء العباس بن عبد المطلب يطلب ميراثه، وجاء
معه علي فقال أبو بكر: قال رسول الله: " لا نورث ما تركناه صدقة " وما كان النبي
يعول فعلي. فقال علي: " وورث سليمان داود " وقال " يرثني ويرث من آل يعقوب ".
قال أبو بكر: هو هكذا وأنت والله تعلم مثل ما اعلم.

(1) " صدقتنا " تحريف والصواب ما في طبقات ابن سعد " صافيتنا " وذلك لان فدك كانت صافية
لرسول الله قبل ان يمنحها لفاطمة.
2) فتوح البلدان 1 / 35 - 36، وطبقات ابن سعد 2 / 314 - 315، وشرح النهج 4 / 81، والتتمة في
ص 87 منه، وتاريخ الاسلام للذهبي ج 1 / 346.
3) طبقات ابن سعد 2 / 315، وكنز العمال 5 / 365 كتاب الخلافة مع الامارة من قسم الافعال.
145

فقال على: هذا كتاب الله ينطق! فسكتوا وانصرفوا 1.
نرى في هذه الرواية وهما من الرواة وان العباس لم يأت مع علي ليطلبا إرثا،
وإنما جاءا ليعينا فاطمة. ولعل العباس طالب سهمه من الخمس، فالتبس الامر على
الرواة، وذكروا انه جاء يطلب الميراث.
لما أدلت فاطمة بكل ما لديها من دليل وشهود وأبى أبو بكر ان يقبل منها
ويعطيها شيئا من تركة الرسول ومنحته، رأت ان تبسط الخصومة على ملاء من
المسلمين، وتستنصر أصحاب أبيها، فذهبت إلى مسجده كما رواه المحدثون والمؤرخون.
في سقيفة أبي بكر الجوهري برواية ابن أبي الحديد وبلاغات النساء لأحمد بن
أبي طاهر البغدادي واللفظ للأول: لما بلغ فاطمة اجماع أبي بكر على منعها فدك، لاثت
خمارها على رأسها، واشتملت جلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها
تظأ ذيولها ما تخرم، مشيتها مشية رسول الله (ص) حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد
من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة ثم أنت انه أجهش لها القوم
بالبكاء وارتج المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم،
افتتحت كلامها بالحمد لله عز وجل والثناء عليه، والصلاة على رسول الله ثم قالت:
انا فاطمة ابنة محمد، أقول عودا على بدء، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما
عنتم حريض عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فان تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم واخا ابن
عمي دون رجالكم، ثم استرسلت في خطبتها إلى قولها:
ثم أنتم الان، تزعمون أن لا ارث لنا أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من
الله حكما لقوم يوقنون، يا ابن أبي قحافة! أترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا
فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد
القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون. ثم انكفأت إلى قبر أبيها (ع) تقول: قد كان بعدك
أنباء وهنبثة، الأبيات 2.
قال ولم ير الناس أكثر باك ولا باكية منهم يومئذ، ثم عدلت إلى مسجد
الأنصار، فقالت: يا معشر البقية وأعضاد الملة وحضنة الاسلام، ما هذه الفترة عن

(1) راجع الهامش 3 من الصفحة السابقة.
2) شرح النهج 4 / 87 - 79، وص 93 منه وبلاغات النساء ص 12 - 15.
146

نصرتي، والونية عن معونتي، والغمزة في حقي، والسنة عن ظلامتي. اما كان رسول
الله (ص) يقول " المرء يحفظ في ولده " سرعان ما أحدثتم وعجلان ما أتيتم، الان مات
رسول الله (ص) امتم دينه!؟ ها: ان موته لعمري خطب جليل، استوسع وهنه،
واستبهم فتقه وفقد راتقه واظلمت الأرض له، وخشعت الجبال وأكدت الآمال أضيع
بعده الحريم وهتكت الحرمة وأزيلت المصونة وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته
وأنبأكم بها قبل وفاته فقال: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات
أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله
الشاكرين ".
أيها بني قيلة اهتضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع تبلغكم الدعوة، ويشملكم
الصوت، وفيكم العدة والعدد ولكم الدار والجنن، وأنتم نخبة الله التي انتخب،
وخيرته التي اختار. باديتم العرب وبادهتم الأمور وكافحتم البهم حتى دارت بكم
رحى الاسلام، ودر حلبه وخبت نيران الحرب وسكنت فورة الشرك وهدأت دعوة
الهرج واستوثق نظام الدين أفتأخرتم بعد الاقدام؟! ونكصتم بعد الشدة وجبنتم بعد
الشجاعة عن قوم نكصوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم " فقاتلوا أئمة الكفر
انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون ".
الا وقد أرى ان قد أخلدتم إلى الخفض وركنتم إلى الدعة فجحدتم الذي وعيتم
ودسعتم الذي سوغتم وان تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فان الله لغني حميد.
الا وقد قلت لكم ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم، وخور القناة
وضعف اليقين فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر ناقبة الخف باقية العار موسومة الشعار
موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فبعين الله ما تعملون وسيعلم الذين ظلموا
اي منقلب ينقلبون.
قال: وحدثني محمد بن زكريا، قال حدثنا محمد بن الضحاك، قال حدثنا
هشام بن محمد عن عوانة بن الحكم، قال لما كلمت فاطمة (ع) أبا بكر بما
كلمته به، حمد أبو بكر وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال: يا خيرة النساء وابنة خير
الآباء، والله ما عدوت رأي رسول الله (ص)، وما عملت الا بأمره، وان الرائد
لا يكذب أهله وقد قلت فأبلغت وأغلظت فهجرت فغفر الله لنا ولك، اما بعد فقد
دفعت آلة رسول الله ودابته وحذاءه إلى علي (ع)، واما ما سوى ذلك فاني سمعت
147

رسول الله (ص) يقول: " انا معشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا أرضا ولا عقارا
ولا دارا، ولكنا نورث الايمان والحكمة والعلم والسنة " فقد عملت بما امرني ونصحت
له وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب.
وفي رواية بلاغات النساء: ثم قالت: أيها الناس! انا فاطمة وأبي
محمد (ص) أقولها عودا على بدأ لقد جاءكم رسول من أنفسكم... ثم ساق الكلام على
مثل ما أوردناه إلى قوله:
ثم قالت افعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول الله
تبارك وتعالى: " وورث سليمان داود "، وقال الله عز وجل في ما قص من خبر يحيى
بن زكريا: " رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب "، وقال عز ذكره:
" وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله "، وقال: " يوصيكم الله في
أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين "، وقال: " ان ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين
بالمعروف حقا على المتقين "، وزعمتم ان لا حق ولا ارث لي من أبي ولا رحم بيننا
أفخصكم الله بآية اخرج نبيه (ص) منها أم تقولون: أهل ملتين لا يتوارثون. أولست انا
وأبي من أهل ملة واحدة لعلكم اعلم بخصوص القرآن وعمومه من النبي (ص) أفحكم
الجاهلية تبغون... 1.
قال ابن أبي الحديد: وحديث فدك وحضور فاطمة عند أبي بكر كان بعد عشرة
أيام من وفاة رسول الله (ص)، والصحيح انه لم ينطق أحد بعد ذلك من الناس من ذكر
أو أنثى بعد عود فاطمة (ع) من ذلك المجلس بكلمة واحدة في الميراث 2.
الخلاصة:
دلت الأحاديث الواردة في هذا الباب ان خصومة ابنة الرسول معهم كانت في
ثلاثة أمور:
1 - في منحة الرسول
منح الرسول ابنته فاطمة فدك بعد نزول آية " وآت ذا القربى حقه "، ولما
توفي استولوا عليها مع ما استولوا عليها من تركة الرسول فخاصمتهم فاطمة في ذلك

(1) بلاغات النساء ص 16 - 17.
2) شرح النهج 4 / 97.
148

واستشهدت على صحه تصرفها بشاهد وشاهدة يشهدان على أن الرسول كان قد منحها
إياها في حياته ولم يقبلوا الشهادة لأنها لم تبلغ النصاب ويدل على أن فدك كانت بيدها
بالإضافة إلى ما أوردناه في ما سبق قول الإمام على في كتابه إلى عثمان بن حنيف
واليه على البصرة.
" بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم،
وسخت عنها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم الله " 1.
2 - في ارث الرسول
ترك الرسول من الضياع ما يلي:
أ - الحوائط السبعة اللاتي وهبهن مخيريق إياه.
ب - ما وهبها الأنصار إياه وهي كل ما ارتفع من أراضيهم الزراعية.
ج - أراضي بني النضير الزراعية ونخيلها.
د - 18 سهما من مجموع 36 سهما من أراضي خيبر وكانت ريف الحجاز.
ه‍ - أراضي وادي القرى الزراعية ونخيلها.
وبعد وفاة الرسول استولى الخليفة عليهن جميعا واحتج بحديث رواه عن الرسول
أنه قال " لا نورث ما تركنا صدقة ". وانه قال: " ان الله عز وجل إذا أطعم نبيا طعمة،
جعله للذي يقوم من بعده ".
ولم يجد نفعا ما احتج به الإمام علي وفاطمة من تصريح القرآن بان الأنبياء
ورثوا، وان آيات الإرث عامة وغير ذلك فاستنهضت الأنصار كذلك بلا جدوى فغضبت
على أبي بكر وعمر ولم تكلمهما حتى توفيت واجدة عليهما.
3 - في سهم ذي القربى
طالبت فاطمة من أبي بكر سهم ذي القربى وقالت له لقد علمت الذي
ظلمتنا... وقرأت عليه " واعلموا إنما غنمتم... " فأبى عليها، وجعل سهم ذي القربى
في السلاح والكراع، اي صرفه على حرب الممتنعين من أداء الزكاة إليه، فقالت له:
عمدت إلى ما انزل الله من السماء فرفعته عنا.

(1) عثمان بن حنيف الأنصاري ثم الأوسي ولاه عمر مساحة الأرض وجبايتها بالعراق وولاه علي
البصرة فأخرجه طلحة والزبير منها حين قدماها في وقعة الجمل وسكن الكوفة ومات بها في زمان معاوية. شرح
النهج 4 / 77.
149

كان هذا خلاصة ما سبق وسيأتي مزيد بيان له في ما يلي:
تصرف الخلفاء في الخمس وفي تركة الرسول وفي فدك منحته لابنته:
أ - على عهد أبي بكر وعمر
في كتاب الخراج لأبي يوسف، وسنن النسائي وكتاب الأموال لأبي عبيد،
وسنن البيهقي وتفسير الطبري واحكام القرآن للجصاص واللفظ للأول عن الحسن بن
محمد بن الحنفية قال: اختلف الناس بعد وفاة رسول الله (ص) في هذين السهمين
سهم الرسول (ع) وسهم ذوي القربى، فقال قوم: سهم الرسول للخليفة من بعده.
وقال آخرون: سهم ذوي القربى لقرابة الرسول (ص).
وقال طائفة: سهم ذوي القربى لقرابة الخليفة من بعده، فاجمعوا على أن جعلوا
هذين السهمين في الكراع والسلاح!
وفي سنن النسائي والأموال لأبي عبيد: فكانا في ذلك خلافة أبي بكر وعمر 1.
وفي رواية ابن عباس، قال: جعل سهم الله وسهم رسوله واحدا ولذي القربى
فجعل هذان السهمان في الخيل والسلاح وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل
لا يعطى غيرهم 2.
وفي رواية أخرى قال: فلما قبض الله رسوله رد أبو بكر نصيب القرابة في
المسلمين فجعل يحمل به في سبيل الله 3.
وعن قتادة لما سئل عن سهم ذي القربى، قال: كان طعمة لرسول الله (ص)
فلما توفي حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله 4.
ولعل هذا ما عناه جبير بن مطعم في روايته حيث يقول: لم يكن يعطي

(1) كتاب الخراج 24 - 25، وسنن النسائي 2 / 179، وكتاب الأموال لأبي عبيد ص 332، وتفسير
الطبري ج 10 / 6، واحكام القرآن للجصاص 3 / 62، وسنن البيهقي 6 / 342 - 343.
2) تفسير الطبري 10 / 6.
3) تفسير الطبري 10 / 6، واحكام القرآن للجصاص ج 3 / 60 باب قسمة الخمس قال: وقتادة عن
عكرمة مثله.
4) تفسير الطبري ج 10 / 6.
150

- أبو بكر - قربى رسول الله (ص) ما كان النبي يعطيهم 1.
كان ما ورد في هذه الروايات في أول الأمر وخاصة في عصر أبي بكر حيث
اتجهت سياسة الخلافة إلى ارسال الجيوش لاخضاع الفئات المعارضة لبيعة أبي بكر،
والتي امتنع قسم منهم من أداء الزكاة إلى السلطة أمثال مالك بن نويرة 2 أو الذين
اختلفوا مع المصدق على بعض مال الصدقة، مثل بعض قبائل كندة 3 وهؤلاء سموا
بالمرتدين، ومن بعد اخضاع أمثال هؤلاء، جهزت الخلافة الجيوش للفتوح ومن بعد
اتساع الفتوح وازدياد الثروة وزعوا الخمس على المسلمين بني هاشم وغيرهم، ودفعوا
إلى بني هاشم بعض تركة الرسول على أنها صدقات ليتولوا توزيعها.
روى جابر قال: كان يحمل الخمس في سبيل الله تعالى، ويعطى نائبة القوم
فلما كثر المال جعله في غير ذلك 4.
ويظهر من كثير من الروايات ان هذا التغيير حصل في عصر عمر... وان عمر
أراد ان يعطي بني هاشم شيئا من الخمس فأبوا الا ان يأخذوا كل سهمهم كما جاء في
جواب ابن عباس لنجدة الحروري حين سأله عن سهم ذوي القربى لمن هو.
قال: قد كنا نقول " انا هم فأبى ذلك علينا قومنا 5 وقالوا قريش كلها ذو
قربى " 6.
وفي رواية أخرى: قال ابن عباس: سهم ذي القربى لقربي رسول الله قسمه لهم
رسول الله (ص) وقد كان عمر عرض من ذلك علينا عرضا فرأيناه دون حقنا فرددناه
عليه وأبينا ان نقبله 7.

(1) سنن أبي داود باب بيان مواضع الخمس وسنن البيهقي ج 6 باب سهم ذوي القربى، ومسند أحمد
4 / 83، ومجمع الزوائد 5 / 341. 2) راجع فصل قصة مالك بن نويرة في عبد الله بن سبأ ج 1.
3) راجع فصل خاتمة الكتاب من عبد الله بن سبأ ج 2 / 289 - 304.
4) الخراج لأبي يوسف ص 23، واحكام القرآن للجصاص ص 3 / 61.
5) بصحيح مسلم 5 / 198 باب النساء الغازيات يرضخ لهن 224 ولفظ " وزعم قومنا انه ليس لنا "
من كتاب الجهاد، ومسند أحمد 1 / 248 و 294 و 304 و 308، وسنن الدارمي 2 / 225 كتاب السير،
والطحاوي في مشكل الآثار 2 / 136 و 179، ومسند الشافعي 183 وحلية أبي نعيم 3 / 205.
6) هذه الزيادة بتفسير الطبري ج 10 / 5، والأموال لأبي عبيد ص 333.
7) مسند أحمد 1 / 224 و 320، وسنن أبي داود 2 / 51 كتاب الخراج، وسنن النسائي 2 / 177، وسنن
البيهقي 6 / 344 و 345.
151

وفي رواية أخرى قال: هو لنا أهل البيت وقد كان عمر دعانا إلى أن ينكح منه
ايمنا ويحذي منه عائلنا ويقضي منه عن غارمنا فأبينا الا ان يسلمه لنا وأبى ذلك
فتركناه عليه 1.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: كان عمر يعطينا من الخمس نحوا مما
كان يرى أنه لنا فرغبنا عن ذلك وقلنا: حق ذوي القربى خمس الخمس. فقال عمر:
إنما جعل الله الخمس لأصناف سماها. فاسعدهم بها أكثرهم عددا وأشدهم فاقة.
قال: " فاخذ ذلك منا ناس وتركه ناس " 2.
وكذلك روى عن الإمام علي كما رواه البيهقي في سننه عن عبد الرحمن بن
أبي يعلى قال: لقيت عليا عند أحجار الزيت، فقلت له: بابي وأمي ما فعل أبو بكر
وعمر في حقكم أهل البيت من الخمس - إلى قول علي - ان عمر قال: لكم حق ولا
يبلغ علمي إذا كثر أن يكون لكم كله، فان شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم. فأبينا
عليه الا كله، فأبى أن يعطينا كله 3.
ويظهر ان في هذا العصر كان ما تذكره بعض الروايات من أن الخليفة عمر
دفع إلى عم النبي العباس والإمام علي بعض تركة النبي في المدينة ليتوليا أمرها 4.
ب - على عهد الخليفة عثمان
اعطى عثمان خمس فتوح إفريقيا مرة لعبد الله بن سعد بن أبي سرح 5، وأخرى
لمروان بن الحكم.
قال ابن الأثير في تاريخه: اعطى عبد الله خمس الغزوة الأولى، وأعطى مروان
خمس الغزوة الثانية التي افتتحت فيها جميع إفريقيا 6.

1) الخراج لأبي يوسف ص 23 و 24 بلفظ اخر، ومغازي الواقدي ص 697، والأموال لأبي عبيد
ص 333، وسنن النسائي 2 / 178، واحكام القرآن للجصاص 3 / 63، وبترجمة نجدة بلسان الميزان، 6 / 148.
2) الأموال ص 335، وكنز العمال 2 / 305.
3) البيهقي ج 6 / 344 باب سهم ذي القربى، ومسند الشافعي ص 187 باب قسم الفئ.
4) صحيح البخاري ج 2 / 125 و ج 3 / 38 كتاب المغازي باب غزوة خيبر، وسنن أبي داود ج 3 / 47
كتاب الخراج في صفايا رسول الله من الأموال، ومسند أحمد 1 / 6، وطبقات ابن سعد 8 / 28، ومنتخب الكنز
2 / 128 باب ما يتعلق بميراثه. 5) راجع تاريخ الذهبي ج 2 / 79 - 80.
6) تاريخ ابن الأثير 3 / 71 ط اروبا وط مصر الأولى 3 / 35.
152

وقال ابن أبي الحديد: اعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح
إفريقية بالمغرب وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحد من
المسلمين 1.
وقال الطبري: " لما وجه عثمان عبد الله بن سعد إلى إفريقية كان الذي
صالحهم عليه بطريق إفريقية جرجير الفي الف وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار
".
وقال: " وكان الذي صالحهم عليه عبد الله بن سعد ثلاثمائة قنطار ذهب.
فامر بها عثمان لآل الحكم. أو لمروان 2.
وروى ابن عبد الحكم في كتاب فتوح إفريقيا، قال: غزا معاوية بن خديج
إفريقية ثلاث غزوات، اما الأولى فسنة أربع وثلاثين قبل قتل عثمان وأعطى عثمان
مروان الخمس في تلك الغزوة وهي غزوة لا يعرفها كثير من الناس " 3.
وروى البلاذري في ذكر ما أنكروا من سيرة عثمان، والسيوطي في تاريخ
الخلفاء قال: وكتب لمروان خمس إفريقية 4.
وروى عن عبد الله بن الزبير أنه قال: أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين إفريقية
فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فأعطى عثمان مروان بن الحكم خمس
الغنائم 5.
وروى أن مروان لما بنى داره بالمدينة دعا الناس إلى طعامه وكان المسور في
من دعا، فقال مروان وهو يحدثهم: والله ما أنفقت في داري هذه من مال المسلمين
درهما فما فوقه، فقال المسور: لو اكلت طعامك وسكت لكان خيرا لك لقد غزوت معنا
إفريقية وانك لاقلنا مالا ورقيقا وأعوانا، وأخفنا ثقلا فأعطاك ابن عفان خمس إفريقية
وعملت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين... الحديث 6.
وقال في ذلك أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي من الخزرج وهو الذي منع ان

(1) شرح النهج 1 / 67.
2) الطبري ط. أوروبا 1 / 2818، وابن كثير 7 / 152.
3) فتوح إفريقيا لابن عبد الحكم 58 - 60.
4) انساب البلاذري 5 / 25 وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 256.
5) انساب البلاذري 5 / 27.
6) أنساب الأشراف 5 / 28.
153

يدفن عثمان بالبقيع:
أقسم بالله رب العبا * د ما ترك الله خلقا سدى
دعوت اللعين فأدنيته * خلافا لسنة من قد مضى
(يعنى باللعين: الحكم.)
وأعطيت مروان خمس العباد * ظلما لهم وحميت الحمى 1.
وفي الأغاني: وكان مروان قد صفق على الخمس بخمسمائة الف فوضعها عنه
عثمان فكان ذلك مما تكلم فيه بسببه وقال فيه عبد الرحمن بن حنبل بن مليل...
الأبيات 2.
كان ذلكم اجتهاد الخليفة عثمان في أمر الخمس، اما اجتهاده في ما تركه
الرسول فقد قال أبو الفداء وابن عبد ربه واللفظ للأول: واقطع مروان فدك وهي
صدقة النبي التي طلبتها فاطمة من أبي بكر 3.
وقال ابن أبي الحديد: واقطع عثمان مروان فدك وقد كانت فاطمة (أأنت)
طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليه تارة بالميراث وتارة بالنحلة فدفعت عنها 4.
وروى في سننه كل من أبي داود والبيهقي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في
ذكره شأن فدك: " فلما ولي عمر (رض) عمل فيه بمثل ما عملا حتى مضى لسبيله ثم
اقطعها - عثمان - مروان.. " 5.
وقال البيهقي بعد ايراده تمام الحديث: " إنما اقطع مروان فدكا في أيام عثمان
بن عفان (رض) وكأنه تأول في ذلك ما روي عن رسول الله (ص): إذا أطعم الله نبيا

(1) أنساب الأشراف 5 / 38 وسمى الشاعر الخمس: خمس العباد - لأنهم اعتادوا في عصر الشيخين
ان يحسبوا الخمس: خمس العباد وليس لله ولرسوله ولذوي قرباه!
2) الأغاني 6 / 57 وفي لفظ الأبيات عنده بعض الاختلاف مع رواية البلاذري والصفق: التبايع.
وكذلك رواه أبو الفداء في تاريخه 1 / 232، وراجع المعارف لابن قتيبة ص 84، والعقد الفريد ج
2 / 283.
3) تاريخ أبي الفداء 11 / 232 في ذكر حوادث سنة 34، والعقد الفريد 4 / 273 كتاب العسجدة
الثانية في الخلفاء وتواريخهم، وإنما قالا: وهي صدقة النبي تبعا لرواية أبى بكر " ما تركنا صدقة ".
4) شرح النهج 1 / 67.
5) سنن أبي داود 2 / 49 - 50 باب صفايا رسول الله من كتاب الخراج كتاب قسم الفئ والغنيمة،
وسنن البيهقي 6 / 310.
154

طعمة فهي للذي يقوم من بعده وكان - اي الخليفة - مستغنيا عنها بماله فجعلها
لأقربائه ووصل بها رحمهم.. "
وقال ابن عبد ربه وابن أبي الحديد واللفظ للأول:
وتصدق رسول الله بمهزور - موضع سوق المدينة - على المسلمين فاقطعها
- عثمان - الحارث بن الحكم أخا مروان 1.
كان هذا ما انتهى إلينا من اجتهاد الخليفة عثمان في أمر الخمس وتركة
الرسول على عهده، اما سبب نقمة الناس عليه فيعود لامرين:
أولا: لان الخليفتين قبله كانا يضعان تلك الأموال في النفقات العامة
وخصصها عثمان لأقربائه.
ثانيا: موضع أقربائه من الاسلام وأهله بيان ذلك كما يلي:
سيرة أقارب عثمان المذكورين أعلاه:
أ - عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري القرشي ابن خالة عثمان 2 واخوه من
الرضاعة 3.
قال الحاكم: كان كاتبا لرسول الله فظهرت خياناته في الكتابة فعزله رسول
الله (ص) 4 فارتد عن الاسلام ولحق باهل مكة 5 فقال لهم: اني كنت اصرف محمدا
حيث أريد كان يملي علي " عزيز حكيم " فأقول أو " عليم حكيم " فيقول: نعم كل
صواب 6 فأنزل الله فيه " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم
يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما انزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت،
والملائكة باسطوا أيديهم اخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على

(1) العقد الفريد 4 / 283، وشرح النهج 1 / 67، وفي لفظ شرح النهج " بهزور " تحريف. وراجع
محاضرات الراغب 2 / 211، والمعارف لابن قتيبة ص 84، وقال القاضيان الماوردي وأبو يعلي في باب بيان
تركة الرسول: ان عثمان اقطع مهزور لمروان.
2) ذكر ذلك الحاكم في المستدرك 3 / 100.
3) ذكر ذلك جميع مترجميه.
4) أجمع مترجموه على ذلك.
5) مستدرك الحاكم 3 / 100.
6) ترجمته بأسد الغابة 3 / 173.
155

الله غير الحق، وكنتم عن آياته تستكبرون، سورة الأنعام الآية 94 1.
فاهدر الرسول دمه ولما فتح مكة امن الناس كلهم الا أربعة نفر وامرأتين، ولو
وجدوا تحت أستار الكعبة، أحدهم عبد الله، ففر إلى عثمان فغيبه عثمان حتى اتى به
رسول الله بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له فصمت رسول الله (ص) طويلا ثم قال:
نعم. فلما انصرف عثمان، قال رسول الله (ص): لمن حوله ما صمت الا ليقوم إليه
بعضكم فيضرب عنقه، فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله، فقال:
ان النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين 2.
هذا هو عبد الله بن سعد 3 ولما استخلف عثمان كان عمرو بن العاص على
مصر فعزله عن الخراج وأقره على الصلاة والجند واستعمل عبد الله على الخراج فتداعيا
فعزل عمروا وأضاف الصلاة إلى ابن أبي سرح. وبعد مقتل عثمان اعتزل عبد الله وكره
معاوية وقال لم أكن لاجامع رجلا عرفته إن كان يهوى قتل عثمان، وتوفى في خلافة
علي بالرملة، قال الذهبي: له رواية حديث 4.
ب و ج - مروان والحارث ابنا الحكم بن أبي العاص عم عثمان
روى البلاذري ان الحكم بن أبي العاص كان جارا لرسول الله في الجاهلية،
وكان أشد اذى له في الاسلام وكان قدومه المدينة بعد فتح مكة وكان مغموصا عليه
في دينه فكان يمر خلف رسول الله فيغمز به ويخلج بأنفه وفمه، وإذا صلى قام خلفه
فأشار بأصابعه، فبقي على تخليجه واصابته خبلة، واطلع على رسول الله ذات يوم وهو في
بعض حجر نسائه فعرفه وخرج إليه بعنزة وقال: من عذيري من هذا الوزغة اللعين، ثم
قال: لا يساكنني ولا ولده.
فغربهم جميعا إلى الطائف فلما قبض رسول الله كلم عثمان أبا بكر فيهم
وسأله ردهم فأبى ذلك وقال ما كنت لآوي طرداء رسول الله، ثم لما استخلف عمر
كلمه فيهم فقال مثل قول أبي بكر فلم استخلف عثمان ادخلهم المدينة 4.
ويوم قدم المدينة كان عليه خزر خلق، وهو يسوق تيسا والناس ينظرون إلى

(1) تفسير الكشاف 2 / 35، وأنساب الأشراف 5 / 49.
2) أجمع مترجموه على ذلك واللفظ بترجمته من أسد الغابة وسنن أبي داود 4 / 128، وراجع تفسير الآية
بتفسير القرطبي والرازي والبيضاوي والخازن والنسفي والشوكاني.
3) من هنا إلى آخر ترجمة عبد الله نقلناه بإيجاز من ترجمته بسير النبلاء للذهبي 3 / 23 - 24.
4) أنساب الأشراف 5 / 27.
156

سوء حاله وحال من معه حتى دخل دار الخليفة، ثم خرج وعليه جبة خز وطيلسان 1.
وكان إذا امسى عامل صدقات المسلمين على سوق المسلمين أتاها عثمان
فقال له: ادفعها إلى الحكم 2 ثم ولاه صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمائة ألف درهم فوهبها
له حين اتاه 3 ولما توفي ضرب على قبره فسطاطا 4.
وكان مروان صهر عثمان من ابنته أم ابان والحارث صهره من ابنته عائشة.
وقد ورد عن رسول الله أحاديث كثيرة في لعنهم وذمهم. لعن رسول الله
الحكم وأولاده 5. وقال: ويل لامتي مما في صلب هذا 6.
وقال: لعنة الله عليه وعلى من يخرج من صلبه الا المؤمنين وقليل هم 7.
وقال: إذا بلغ بنو أبى العاص ثلاثين رجلا اتخذوا دين الله دغلا، وعباد الله
خولا ومال الله دولا 7.
وقال: اني رأيت في منامي كان بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبري
نزو القردة فما رؤي النبي (ص) مستجمعا ضاحكا حتى توفي 7.
وروى الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف قال: كان لا يولد لاحد مولود الا اتى
به النبي (ص) فدعا له فادخل عليه مروان بن الحكم فقال: هو الوزغ بن الوزغ الملعون
بن الملعون 7.
هذا بعض ما ورد عن رسول الله فيهم وفي ما سبق ذكرنا بعض منح عثمان
إياهم.
إلى هنا ذكرنا اجتهاد الخلفاء قبل الإمام علي في الخمس وفي تركة الرسول
فماذا فعل الامام فيهما على عهده:

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 164.
2) تاريخ اليعقوبي 2 / 168.
3) أنساب الأشراف 5 / 28.
4) أنساب الأشراف 5 / 27.
5) أنساب الأشراف للبلاذري 5 / 126، ومستدرك الحاكم 4 / 481.
6) ترجمة الحكم بأسد الغابة 2 / 34.
7) مستدرك الحاكم 4 / 479 - 481.
157

سيرة الإمام علي في الخمس وفي تركة الرسول
عن ابن عباس ان الخمس كان في عهد رسول الله (ص) على خمسة أسهم لله
وللرسول سهم ولذي القربى سهم ولليتامى والمساكين وابن السبيل ثلاثة أسهم.
ثم قسمه أبو بكر وعمر وعثمان (رض) على ثلاثة أسهم، وسقط سهم الرسول
وسهم ذوي القربى وقسم على الثلاثة الباقي، ثم قسمه علي بن أبي طالب كرم الله
وجهه على ما قسمه عليه أبو بكر وعمر وعثمان (رض) 1.
وسئل أبو جعفر الباقر ما كان رأى علي - كرم الله وجهه - في الخمس؟
قال: كان رأيه فيه رأى أهل بيته، ولكنه كره ان يخالف أبا بكر وعمر (رض) 2.
وعن محمد بن إسحاق قال سألت أبا جعفر محمد بن علي فقلت علي بن
أبي طالب حيث ولي من أمر الناس ما ولي كيف صنع في سهم ذي القربى؟ قال: سلك
به سبيل أبي بكر وعمر، قلت: كيف وأنتم تقولن ما تقولون؟ فقال: ما كان أهله
يصدرون الا عن رأيه. قلت: فما منعه؟ قال: كره - والله - ان يدعى عليه خلاف
أبي بكر وعمر 3.
وفي رواية أخرى بسنن البيهقي، قال: ولكن كره ان يتعلق عليه خلاف
أبى بكر وعمر 4.
تدلنا هذه الروايات أن الإمام علي لم يغير شيئا مما فعلوه قبله في الخمس وتركة
الرسول ولم يكن ليستطيع ان يغير شيئا.
وفي سنن البيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه: ان حسنا وحسينا وابن عباس
و عبد الله بن جعفر (رض) سألوا عليا (رض) نصيبهم من الخمس فقال: هو لكم حق،
ولكني محارب معاوية فان شئتم تركتم حقكم منه 5.
قال المؤلف: تدل هذه الرواية ان الامام صرف الخمس في تجهيز الجيش
لحرب معاوية.

(1) الخراج ص 23.
2 و 3) الخراج ص 23 وأبو عبيد في الأموال ص 332، واحكام القرآن للجصاص 3 / 63.
4) سنن البيهقي 6 / 343.
5) سنن البيهقي الكبرى 6 / 343 ثم قال: قال الشافعي (ره) فأخبرت بهذا الحديث عبد العزيز بن محمد
قال: صدق - اي الراوي - هكذا كان جعفر يحدثه...
158

الخمس وتركة الرسول في عصر خلفاء بني أمية
يظهر مما ورد في الاخبار ان اجتهاد معاوية في منع بني هاشم من الخمس ومنع
ذرية الرسول من ارثه كان مشابها لاجتهاد الخلفاء الثلاثة قبله غير أنه أضاف إلى ذلك
ما أدى إليه اجتهاده الخاص. اما منعهم من الخمس فيعلم من الروايتين التاليتين:
في طبقات ابن سعد: ان عمر بن عبد العزيز لما أمر بدفع شئ من الخمس إلى
بني هاشم اجتمع نفر منهم فكتبوا كتابا وبعثوا به مع رسول الله يتشكرون له ما فعل بهم
من صلة أرحامهم، وانهم لم يزالوا مجفيين منذ كان معاوية... الحديث 1.
وفيه أيضا: ان علي بن عبد الله بن عباس وأبا جعفر محمد بن علي قالا: " ما
قسم علينا خمس منذ زمن معاوية إلى اليوم " 2.
اما ما أدى إليه اجتهاده الخاص في ذلك، فقد رواه بترجمة الحكم بن عمرو كل
من الحاكم في مستدركه والذهبي في تلخيصه وابن سعد في طبقاته وابن عبد البر في
الاستيعاب وابن الأثير في أسد الغابة، وذكره في حوادث سنة خمسين من تاريخه كل
من الطبري وابن الأثير والذهبي وابن كثير 3 واللفظ للحاكم ثم للطبري.
قال الحاكم: بعث زياد الحكم بن عمرو الغفاري على خراسان فأصابوا غنائم
كثيرة فكتب إليه زياد " اما بعد فان أمير المؤمنين كتب ان يصطفي له البيضاء
والصفراء ولا تقسم بين المسلمين ذهبا ولا فضة ".
وفي تاريخ الطبري: ان أمير المؤمنين كتب إلي ان اصطفي له كل صفراء
وبيضاء والروائع فلا تحركن شيئا حتى تخرج ذلك.
فكتب إليه الحكم: اما بعد، فان كتابك ورد تذكر ان أمير المؤمنين كتب إلي
ان اصطفي له كل صفراء وبيضاء والروائع ولا تحركن شيئا، فان كتاب الله قبل
كتاب أمير المؤمنين، وانه والله لو كانت السماوات والأرض رتقا على عبد فاتقى الله
لجعل له سبحانه وتعالى مخرجا. وقال للناس اغدوا على غنائمكم فغدا الناس وقد عزل

(1) طبقات ابن سعد ط. أوروبا 5 / 289.
2) نفس المصدر 5 / 288.
3) مستدرك الحاكم وتلخيصه بهامشه ج 3 / 442، وطبقات ابن سعد ط. أوروبا 7 / 1 / 18،
والاستيعاب 1 / 118، وأسد الغابة 2 / 36، والطبري ط. أوروبا 2 / 111، وابن الأثير ط. أوروبا 3 / 391،
والذهبي 2 / 220، وابن كثير 8 / 47.
159

الخمس فقسم بينهم تلك الغنائم.
قال: كتب إليه زياد. والله لان بقيت لك لاقطعن منك طابقا سحتا. انتهت
رواية الطبري.
وقال الحاكم: ان معاوية لما فعل الحكم في قسمه الفئ ما فعل، وجه إليه
من قيده وحبسه فمات في قيوده ودفن فيها وقال: اني مخاصم.
وفي ترجمته بتهذيب التهذيب: فأرسل معاوية عاملا غيره فحبس الحكم وقيده
فمات في قيوده 1.
وقال الطبري وغيره، فقال الحكم: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني
فمات بخراسان بمرو.
قال المؤلف: كره بعض العلماء هذا الخبر فأورده ناقصا محرفا مثل الذهبي،
فإنه قال في تاريخه " فكتب إليه لا تقسم ذهبا ولا فضة فكتب إليه أقسم بالله لو كانت
السماوات رتقا... الحديث.
وكتب ابن كثير: فجاء كتاب زياد إليه على لسان معاوية ان يصطفي من
الغنيمة لمعاوية ما فيها من الذهب والفضة لبيت ماله.
وكتب ابن حجر بترجمته في التهذيب والإصابة واللفظ للأول: ان معاوية
وجهه عاملا على خراسان ثم عتب عليه في شئ فأرسل عاملا غيره فحبس الحكم
وقيده فمات في قيوده.
كانت هذه القصة للحكم بن عمرو كما ذكرنا، ووهم من قال إنها كانت
للربيع بن زياد الحارثي، فان هذا لما اتاه مقتل حجر بن عدي قال اللهم إن كان
للربيع عندك خير فاقبضه فلم يبرح من مجلسه حتى مات - راجع ترجمته في أسد الغابة
(2 / 164).
هذا ما كان من شأن الخمس على عهد معاوية اما شأن تركة الرسول على
عهده فقد ذكروا من شأن فدك ما رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج قال:

(1) تهذيب التهذيب 2 / 437.
نسب الحكم إلى بني غفار وهو من بني عمهم وفي ترجمته بطبقات ابن سعد صحب حتى توفي، اي صحب
الرسول حتى توفي الرسول. وفيه وفي الاستيعاب: انه روى عنه النبي اخرج حديثه أصحاب الصحاح عدا مسلم
تقريب التهذيب 1 / 192، وجوامع السيرة ص 306.
160

اقطع معاوية بعد موت الحسن بن علي مروان بن الحكم ثلث فدك واقطع
عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها واقطع يزيد بن معاوية ثلثها فلم يزالوا يتداولونها حتى
خلصت كلها لمروان 1.
روى ابن سعد في طبقاته ان معاوية لما نزع مروان عن ولاية المدينة وغضب
عليه قبض فدك منه فكانت بيد وكيله في المدينة فطلبها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان
من معاوية فأبى معاوية ان يعطيه وطلبها سعيد بن العاص فأبى معاوية ان يعطيه فلما
ولى معاوية مروان المدينة المرة الآخرة ردها عليه بغير طلب من مروان ورد عليه غلتها في
ما مضى فكانت بيد مروان 2.
ووهم بعضهم فظن أن معاوية كان أول من اقطع فدك مروان حين ان عثمان
اقطعها إياه قبل معاوية ولعل سبب الوهم هو دفع معاوية فدك إلى مروان في المرة
الأخيرة كما ذكرنا.
على عهد خلفاء بني أمية بعد معاوية
كان تصرف سائر خلفاء آل أمية في الخمس - عدا ابن عبد العزيز - تصرف
المرء في ما يملكه يهبونه تارة لمن يشاؤن كما يشاؤن، وأخرى يكتنزونها في كنوزهم مع
غيرها مما يستولون عليه مثل الوليد بن عبد الملك حين دفعها إلى ابنه عمر كما في سنن
النسائي قال:
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد كتابا فيه: وقسم أبيك لك
الخمس كله، وإنما سهم أبيك كسهم رجل من المسلمين وفيه حق الله وحق الرسول
وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فما أكثر خصماء أبيك، فكيف ينجو من
كثرت خصماؤه؟ وإظهارك المعازف والمزمار بدعة في الاسلام ولقد هممت أن ابعث
إليك من يجز جمتك جمة السوء 3.

(1) شرح نهج البلاغة ج 4 / 80.
2) طبقات ابن سعد 5 / 288.
3) النسائي باب قسم الفئ 2 / 178.
وعمر هذا ابن الوليد بن عبد الملك بن مروان. قال السيوطي في تاريخ الخلفاء ص 223 - 224: وكان
الوليد جبارا ظالما وكان لحانا ولي الخلافة في شوال سنة ست وثمانين ومات في نصف جمادي الآخرة سنة ست
وتسعين وله إحدى وخمسون سنة.
161

لم نجد في غير هذا الحديث ذكرا عن أمر الخمس وتركة الرسول بعد معاوية ولا
تغييرا حصل فيها عما كان الامر عليه على عهد معاوية حتى ولي عمر بن عبد العزيز.
على عهد عمر بن عبد العزيز
كتب عمر بن عبد العزيز 1 إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قاضي المدينة
أن يفحص له عن الكتيبة أكانت خمس رسول الله من خيبر أم كانت لرسول الله
خاصة؟ ففحص عنها وأجاب: ان الكتيبة كانت خمس رسول الله، فأرسل إليه عمر بن
عبد العزيز أربعة آلاف دينار أو خمسة وأمره ان يضم إليها خمسة آلاف أو ستة آلاف
دينار يأخذها من الكتيبة حتى يبلغ مجموعها عشرة آلاف ويقسمها على بني هاشم
ويسوي بينهم الذكر والأنثى والصغير والكبير ففعل 2.
وروى ابن سعد عن جعفر بن محمد: ان عمر بن عبد العزيز قسم سهم
ذي القربى بين بني عبد المطلب ولم يعط نساءهم اللاتي كن من غير بني عبد المطلب.
وروى ابن سعد: ان أبا بكر أراد ان ينحي بني عبد المطلب عن الخمس فقالت
بنو عبد المطلب: لا نأخذ درهما واحدا حتى يأخذوا. فكتب إلى عمر بن عبد العزيز
فأجابه: اني ما فرقت بينهم وما هم الا من بني عبد المطلب في الحلف القديم العتيق
فاجعلهم كبني عبد المطلب فاعطوا 3.
وروى أبو يوسف في كتاب الخراج قال: إن عمر بن عبد العزيز بعث بسهم
الرسول وسهم ذوي القربى إلى بني هاشم 4.
قال ابن سعد: فكتبت فاطمة بنت حسين تشكر له ما صنع وتقول: لقد أخدمت
من كان لا خادم له واكتسى من كان عاريا، فسر بذلك عمر 5.

(1) أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي ولد سنة 63 وبويع بالخلافة في صفر سنة تسع
وتسعين ومكث فيها سنتين وخمسة أشهر وتوفي في رجب سنة إحدى ومائة بدير سمعان في سفح قاسيون بدمشق
ترجمته بطبقات ابن سعد ج 5 / 243، وتاريخ السيوطي 228، والعبر ج 1 / 120.
وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري النجاري مات سنة عشرين ومائة واخرج حديثه
أصحاب الصحاح. تقريب التهذيب 2 / 399.
2) طبقات ابن سعد ج 5 / 287 - 288 وقد أوردتها وما يليها بإيجاز.
3) طبقات ابن سعد 5 / 288 - 289.
4) الخرج ص 25.
5) طبقات ابن سعد 5 / 288.
162

وقال: قال عمر بن عبد العزيز. ان بقيت لكم أعطيتكم جميع حقوقكم 1.
أمر فدك
قال ياقوت: لما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى عامله بالمدينة يأمره
برد فدك إلى ولد فاطمة (رض) 2.
وبعد هذا في شرح النهج. فكتب إليه أبو بكر بن حزم: ان فاطمة عليها السلام
قد ولدت في آل عثمان وآل فلان وفلان فعلى من أرد منهم؟
فكتب إليه: اما بعد فانى لو كتبت إليك آمرك ان تذبح شاة لكتبت إلى
أجماء أم قرناء؟ أو كتبت إليك ان تذبح بقرة لسألتني ما لونها فإذا ورد عليك كتابي
هذا فاقسمها في ولد فاطمة (ع) من علي (ع)، والسلام.
قال: فنقمت بنوا أمية ذلك على عمر بن عبد العزيز وعاتبوه فيه وقالوا: هجنت
فعل الشيخين وخرج إليه جماعة من أهل الكوفة فلما عاتبوه على فعله قال إنكم جهلتم
وعلمت ونسيتم وذكرت ان أبا بكر بن عمر بن حزم حدثني عن أبيه عن جده ان رسول
الله (ص) قال: فاطمة بضعة منى يسخطها ما يسخطنى، ويرضينى ما أرضاها وان فدك
كان صافية على عهد أبى بكر وعمر ثم صار أمرها إلى مروان، فوهبها لعبد العزيز
أبى فورثتها انا واخوتي عنه فسألتهم ان يبيعوني حصتهم منها فمن بايع وواهب حتى
استجمعت لي فرأيت أن أردها على ولد فاطمة.
قالوا: فان أبيت الا هذا، فامسك الأصل وأقسم الغلة ففعل 3.
وفي رواية أخرى: لما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، كانت أول ظلامة ردها
دعا حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وقيل بل دعا علي بن الحسين (ع) فردها
عليه وكانت بيد أولاد فاطمة (ع) مدة ولاية عمر بن عبد العزيز 4.
بعد عمر بن عبد العزيز
لا ذكر للخمس بعد ابن عبد العزيز، اما فدك فقد قال ياقوت وابن أبي الحديد

(1) طبقات ابن سعد 5 / 289.
2) بمادة فدك من معجم البلدان.
3) شرح النهج 4 / 103.
4) شرح النهج 4 / 81.
163

لما ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم فصارت في أيدي بني مروان كما كانت، يتداولونها
حتى انتقلت الخلافة عنهم، فلما ولي أبو العباس السفاح ردها على عبد الله بن الحسن بن
الحسن ثم قبضها أبو جعفر لما حدث من بني حسن ما حدث، ثم ردها المهدى ابنه على
ولد فاطمة (ع) ثم قبضها موسى بن المهدي وهارون اخوه، فلم تزل في أيديهم حتى ولي
المأمون فردها على الفاطميين.
قال أبو بكر حدثني محمد بن زكريا، قال حدثني مهدي بن سابق قال جلس
المأمون للمظالم فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها وبكى وقال للذي على رأسه، ناد أين
وكيل فاطمة فقام شيخ عليه دراعة وعمامة وخف ثغرى فتقدم فجعل يناظره في فدك
والمأمون يحتج عليه وهو يحتج على المأمون، ثم أمر أن يسجل لهم بها فكتب السجل
وقرئ عليه فانفذه فقام دعبل إلى المأمون فأنشد الأبيات التي أولها:
أصبح وجه الزمان قد ضحكا * برد مأمون هاشم فدكا 1
وتفصيل الكتاب ورد في فتوح البلدان قال: ولما كانت سنة عشر ومأتين أمر
أمير المؤمنين المأمون عبد الله بن هارون الرشيد، فدفعها إلى ولد فاطمة وكتب بذلك إلى
قثم بن جعفر عامله على المدينة.
" اما بعد فان أمير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسول الله (ص)

(1) شرح النهج 4 / 81، وفتوح البلدان بمادة فدك.
أبو خالد يزيد بن عبد الملك بن مروان وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية. ولد بدمشق وولي الخلافة بعد
عمر سنة 101 ه‍ بعهد من أخيه سليمان. في مرآة الجنان 1 / 224 قال: سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز فأتوه
بأربعين شيخا شهدوا له أن الخلفاء لا حساب عليهم ولا عذاب. وغلبت جاريته حبابة في تولية الولاة وغيرها
وطرب يوما فقال دعوني أطير فقالت على من تدع الأمة قال عليك ولما ماتت تركها ثلاثة أيام حتى انتنت وهو
يشمها ويقبلها ويبكي ومات بعدها بأيام سنة خمس ومائة. قيل مات عشقا ولا يعلم خليفة مات عشقا وغيره.
راجع فهرست الأغاني وابن الأثير 6 / 90 - 93، وتاريخ الخمس 2 / 318.
والسفاح أبو العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أول الخلفاء العباسيين. ولد ونشأ بالشرارة
وبويع له بالخلافة في الكوفة سنة 132 ه‍ توفي بالجدري بالأنبار سنة 136 ه‍. راجع تاريخ ابن الأثير 5 / 125،
وغيره في حوادث سنة 136 ه‍ ولي بعده اخوه أبو جعفر المنصور عبد الله وتوفي سنة 158 ه‍ في طريق مكة ودفن
بالحجون من مكة. راجع حوادث سنة 158 ه‍ من كتب التاريخ.
ولي بعده أبو عبد الله محمد المهدي بن المنصور وتوفي سنة 169 ه‍. ثم ولي بعده أبو محمد موسى الهادي بن
المهدي وتوفي سنة 170 ه‍. ثم ولي بعده أبو جعفر اخوه هارون الرشيد وتوفي سنة 193 ه‍. وولي المأمون أبو جعفر
عبد الله بن الرشيد سنة 198 ه‍ بعد قتل أخيه الأمين وتوفي سنة 218 ه‍.
164

والقرابة به أولى، من استن سنته ونفذ امره وسلم لمن منحه منحة وتصدق عليه بصدقة
منحته وصدقته وبالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته واليه في العمل بما يقر به إليه رغبته.
وقد كان رسول الله (ص) اعطى فاطمة بنت رسول الله (ص) فدك وتصدق بها عليها
وكان ذلك أمرا ظاهرا معروفا لا اختلاف فيه بين آل رسول الله (ص)، ولم تزل تدعى
منه ما هو أولى به من صدق عليه فرأى أمير المؤمنين ان يردها إلى ورثتها ويسلمها إليهم
تقربا إلى الله تعالى بإقامة حقه وعدله والى رسول الله (ص) بتنفيذ امره وصدقته فامر
باثبات ذلك في دواوينه والكتاب به إلى عماله.
فلئن كان ينادى في كل موسم - بعد ان قبض الله نبيه (ص) - ان يذكر
كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك فيقبل قوله وينفذ عدته ان فاطمة (رض)
لاولى بان يصدق قولها فيما جعل (ص) لها وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري
مولى أمير المؤمنين يأمره برد فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله (ص) بحدودها وجميع
حقوقها المنسوبة إليها وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلك وتسليمها إلى محمد بن
يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومحمد بن عبد الله بن
الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لتولية أمير المؤمنين إياهما القيام بها
لأهلها.
فاعلم ذلك من رأى أمير المؤمنين وما ألهمه الله من طاعته ووفقه له من التقرب
إليه والى رسوله (ص) واعلمه من قبلك وعامل محمد بن يحيى ومحمد بن عبد الله بما
كنت تعامل به المبارك الطبري وأعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها إن شاء الله
والسلام.
وكتب يوم الأربعاء لليلتين خلت من ذي القعدة سنة عشر ومأتين: فلما
استخلف المتوكل على الله رحمه الله أمر بردها على ما كانت عليه قبل المأمون رحمه الله 1.
وذكر بقية الخبر ابن أبي الحديد وقال: فلم تزل في أيديهم حتى كان أيام
المتوكل فاقطعها عبد الله بن عمر البازيار وفيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله (ص)
بيده فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها فإذا كان أقدم الحاج اهدوا لهم من ذلك التمر
فيصلونهم فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل فصرم عبد الله بن عمر البازيار ذلك
التمر، وجه رجلا يقال له بشران بن أبي أمية الثقفي إلى المدينة فصرمه ثم عاد إلى البصرة

(1) خبر فدك في فتوح البلدان ص 27 و 28.
165

ففلج 1.
كان هذا آخر العهد باخبار فدك والخمس من قبل الخلفاء المسلمين اما آراء
علمائهم فكما يلي:
استعرضنا في ما سبق رأي الخلفاء في الخمس وفعلهم جيلا بعد جيل ورأينا
كيف ناقض بعضه الآخر. وتضاربت كذلك آراء فقهاء مدرسة. الخلفاء في الخمس تبعا
لما فعله الخلفاء.
قال ابن رشد: واختلفوا في الخمس على أربعة مذاهب مشهورة:
أحدها: ان الخمس يقسم على خمسة أقسام على نص الآية وبه قال الشافعي.
والقول الثاني: أنه يقسم على أربعة أخماس...
والقول الثالث: انه يقسم اليوم ثلاثة أقسام، وان سهم النبي وذى القربى
سقطا بموت النبي.
والقول الرابع: أن الخمس بمنزلة الفئ يعطى منه الغني والفقير.
والذين قالوا يقسم أربعة أخماس أو خمسة اختلفوا فيما يفعل بسهم رسول
الله (ص) وسهم القرابة بعد موته، فقال قوم: يرد على سائر الأصناف الذين لهم
الخمس، وقال قوم: بل يرد على باقي الجيش، وقال قوم: بل سهم رسول الله (ص)
للامام، وسهم ذوي القربى لقرابة الامام. وقال قوم: بل يجعلان في السلاح والعدة.
واختلفوا في القرابة من هم؟ 2.
وقال ابن قدامة في المغني بعد ما روى أن أبا بكر قسم الخمس على ثلاثة
أسهم:
وهو قول أصحاب الرأي - أبي حنيفة وجماعته - قالوا: يقسم الخمس على
ثلاثة: اليتامى والمساكين وابن السبيل وأسقطوا سهم رسول الله بموته وسهم قرابته
أيضا.
وقال مالك: الفئ والخمس واحد يجعلان في بيت المال ".
وقال الثوري والحسن يضعه الامام حيث أراه الله عز وجل.

(1) شرح النهج ج 4 / 81.
2) ابن رشد في الفصل الأول في حكم الخمس ج 1 / 407 من بداية المجتهد.
166

وما قاله أبو حنيفة فمخالف لظاهر الآية فان الله تعالى سمى لرسوله وقرابته
شيئا وجعل لهما في الخمس حقا كما سمى الثلاثة الأصناف الباقية فمن خالف ذلك
فقد خالف نص الكتاب، واما حمل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على سهم ذي القربى
في سبيل الله فقد ذكر لأحمد فسكت وحرك رأسه ولم يذهب إليه ورأي أن قول
ابن عباس ومن وافقه أولى لموافقته كتاب الله وسنة رسول الله (ص)... " 1
ورآى أبو يعلى والماوردي ان تعيين مصرف الخمس منوط باجتهاد الخلفاء 2.
لقد طال بنا الحديث عن اجتهاد الخلفاء في الخمس وحق ابنة الرسول وتشعب
ولابد لنا من أجل استيعاب الفكرة واخذ النتيجة ان نلخص البحث ونضيف إليه
بعض الايضاحات في ما يلي:
خلاصة البحث:
من أجل فهم مغزى اجتهاد الخلفاء في الخمس وفي حق ابنة الرسول بعد ما
لابسهما الغموض خلال احقاب طويلة اضطررنا أولا إلى درس المصطلحات الاسلامية:
الزكاة والصدقة والفئ والصفي والأنفال والغنيمة والخمس فوجدنا:
أ - ان الزكاة في الشرع الاسلامي بمعنى: عامة حق الله في المال.
ب - والصدقة: اسم لما يجب اخراجه من النقدين والغلات والانعام إذا بلغ
أحدها النصاب، وما فرض دفعه يوم عيد الفطر. ومما يدل على ما ذكرنا ان الخمس
والصدقة والصفي ذكرت في كتاب رسول الله لبيان أنواع الزكاة إذا فالصدقة صنف
من أصناف الزكاة وليس مرادفة لها، وبالإضافة إلى ذلك لنا ان نقول: كيف تكون
الزكاة بمعنى الصدقة وقد وردت في الآيات المكية وقبل ان ينزل تشريع الصدقة في
المدينة 3. وعلى ضوء ما ذكرنا تفسر الزكاة في الحديث الشريف " إذا أديت زكاة مالك

(1) المغني لابن قدامة ج 7 / 301 باب تسمية الفئ والغنيمة. وابن قدامة هو موفق الدين: أبو محمد
عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمود بن قدامة (ت 630 ه‍).
2) باب قسم الفئ من الأحكام السلطانية للماوردي ص 126، وص 120 من الأحكام السلطانية
لأبي يعلي.
3) مثل قوله تعالى " والذين هم للزكاة فاعلون " الآية 4 من سورة " المؤمنون "، وقوله تعالى
" فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة " الآية 156 من الأعراف، وكذلك الزكاة في الآيات 13 و 31 و 55
من سورة مريم، و 73 من سورة الأنبياء، وفرضت الصدقة في السنة السابعة أو الثامنة أو التاسعة من بعد هجرة
الرسول إلى المدينة.
167

فقد قضيت حق الله في المال ": بأنه إذا أديت المفروض عليك في مالك فقد قضيت حق
الله، واما الدفع المستحب من المال فهو نفل وليس بحق وكذلك تفسر في الحديث " من
استفاد مالا فلا زكاة حتى يحول الحول " بأنه لا حق لله في ماله حتى يحول الحول.
وكذلك الشأن في نظائرهما.
الصدقة مشتركة في ما ذكرناه آنفا وفي ما يخرجه الانسان من ماله على وجه
القربة نفلا كان أو فرضا، والفرق بينهما ان الحق المفروض في النقدين والغلات
والانعام إذا أخذها الحاكم قهرا يكون زكاة وصدقة واجبة وليس بالصدقة التي يخرجها
الانسان على وجه القربة.
ج - والفئ: ما حصل من أموال الكفار من غير حرب. وأجمعوا على أن أموال
بني النضير كانت من الفئ، وان النبي تصرف فيها تصرف الملاك في املاكهم.
د - الأنفال، جمع النفل: العطية والهبة، والنفل: الزيادة على الواجب،
وأنفله: أعطاه زيادة واستعمل الأنفال في القرآن الكريم في غزاة بدر حين سلب الله عن
المسلمين تملك ما حازوه من المشركين يومذاك. واستعمل في أحاديث أئمة أهل البيت
وأريد به كل ما اخذ من دار الحرب بغير قتال وكل ارض انجلى عنها أهلها بغير حرب
وعلى قطائع الملوك والآجام والأرضين الموات وما شابهها.
ه‍ - الغنيمة والمغنم: كانت العرب في الجاهلية والاسلام تقول: غنم الشئ
غنما إذا فاز به بلا مشقة، والاغتنام: انتهاز المغنم والمغنم ما يغنم، وتقول لما يحصل من
جهة العدى - وهو مالا يخلو من مشقة -: سلبه، إذا اخذ ما على المسلوب وما معه من
ثياب وسلاح ودابة، وتقول: حربه، إذا اخذ كل ماله، وكانت النهيبة والنهبى
عندهم تساوق الغنيمة والمغنم في عصرنا. وأول ما استعمل مادة " غنم " في كسب المال
مطلقا وبلا لحاظ " الفوز بلا مشقة " كان في القرآن الكريم وفي ما جمع من مال العدو
ببدر، وبعد ان سلب الله ملكية الافراد عنه وسماه الأنفال وجعله لله ولرسوله ثم جعله
مغنما للجماعة، وشرع الله في الآية دفع الخمس من مطلق المغانم لله ولرسوله ولذوي
قرباه بعد إن كان في الجاهلية المرباع للرئيس خاصة، وعمم مورد الاخذ وجعله من
مطلق المغانم ونزل الفرض من الربع إلى الخمس ووزعه على ستة سهام بدل أن يكون
168

سهما واحدا وخاصا بالرئيس.
ومما يدل - بالإضافة إلى ما ذكرنا - من أن الخمس فرض دفعه من مطلق
المغانم: اجماع المسلمين على أن الرسول اخذ الخمس من المال المستخرج من الأرض
معدنا كان أو كنزا وهو ليس مما حازه المسلمون من العدى في الحرب.
ويدل على ذلك من السنة أيضا أمر الرسول وفد عبد القيس ان يدفعوا
" الخمس من المغنم "، قال لهم ذلك عندما سألوه ان يعلمهم احكام الاسلام كي
يعلموا قبيلتهم فإنهم لا يستطيعون الخروج من حيهم في غير الأشهر الحرم من خوف مضر
ولا يتصور لهذه القبيلة أن تكون غازية ليكون المراد من المغنم هنا غنائم الحرب فلابد أن يكون
المراد من المغنم مطلق المال المكتسب.
وكذلك الشأن في ما ورد في كتب الرسول لسائر القبائل العربية التي
أسلمت، وكذلك في عهوده لولاته، مثل ما ورد في كتاب عهده لولاته لذين بعثهم إلى
اليمن بعد اسلام أهل اليمن " ان يأخذ - الوالي - من المغانم خمس الله وما كتب على
المؤمنين الصدقة ".
وكذلك ما ورد في كتاب الرسول لقبيلة سعد " ان يدفعوا الخمس والصدقة
لرسوليه " فان هذه القبيلة لم تكن قد خاضت حربا ليطلب النبي منها ان تدفع إلى
رسوليه خمس غنائم حربهم وإنما طلب منهم دفع الصدقة من مواردها ودفع خمس
أرباحهم.
وكذلك المراد من خمس المغنم في سائر كتبه إلى القبائل العربية المسلمة، خمس
أرباح مكاسبها
ويؤكد ما ذكرنا، ان حكم الحرب في الاسلام يخالف ما كانت عليه العرب
في الجاهلية حيث كان لكل قبيلة الحق في الإغارة على غير حلفائها ونهب أموالهم كيف
ما اتفق، وعند ذاك يملك كل فرد ما نهب وسلب وحرب وما عليه شئ عدا دفع
المرباع للرئيس، لم يكن الامر هكذا في الاسلام لتصح مطالبة النبي من القبائل خمس
غنائم حروبهم بدل الربع بل إن الحاكم الاعلى في الاسلام هو الذي يقرر الحرب وفق
قوانين الاسلام، والمسلمون ينفذون أوامره ثم الحاكم هو الذي يلي بعد الفتح قبض
الغنائم أو يلي ذلك نائبه، ولا يملك أحد من الغزاة عدا سلب القتيل شيئا، بل يأتي كل
غاز بما سلب حتى الخيط والمخيط والا عد من الغلول الذي هو عار وشنار على أهله ونار
169

يوم القيامة، ثم إن الحاكم هو الذي يقبض الخمس من الغنائم ويقسم الباقي على
المجموعة.
إذا فالحاكم هو الذي يعلن الحرب في الاسلام وهو الذي يقبض الغنائم ويأخذ
خمسها بنفسه، ثم يقسم الباقي وليس غيره الذي يدفع الخمس إليه، وإذا كان الامر
هكذا في الاسلام وكان اخراج الخمس على عهد النبي من شؤون النبي في هذه الأمة فما
معنى طلب النبي الخمس من الناس وتأكيده ذلك في كتاب بعد كتاب ان لم يكن
الخمس في تلك الكتب مثل الصدقة مما يجب على المخاطبين دفعه من أموالهم، وليس
خاصا بغنائم الحرب؟
وبناء على ما ذكرنا إذا فقد كان النبي يطلب ممن أسلم ان يؤدي الخمس
من كل ما غنم عدا ما فرض فيهن الصدقة، وكان مدلول الغنائم والمغانم يومذاك مساوقا
لمطلق ما ظفر به من المال ثم تطور مدلول هذه المادة عند المسلمين من بعد انتشار الفتوح
ومنع الخلفاء الخمس من أهله ونسيان المسلمين هذا الحكم.
اما مواضع الخمس فقد نصت آية الخمس ان الخمس لله ولرسوله ولذوي قربى
الرسول ويتاماهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم إذا فالخمس يقسم ستة أسهم وما ورد في
بعض الروايات ان سهم الله وسهم الرسول واحد إن كان المقصود ان سبيلهما واحد
وان الرسول يتصرف فيهما فهو صواب والا فهو مخالف لظاهر الآية.
وتواترت الروايات عن أئمة أهل البيت ان سهم ذي القربى لأهل البيت في
عصر الرسول ومن بعده لهم ولسائر الأئمة الاثني عشر من أهل البيت، وان السهام
الثلاثة لله ولرسوله ولذي قرباه للعنوان وان سهم الله لرسوله يضعه حيث يشاء
والسهمان بعد الرسول للامام القائم مقامه. وعلى هذا فنصف الخمس في هذه العصور
لامام العصر من حيث إمامته والنصف الآخر من الخمس لغير أهل بيت النبي من أيتام
أقرباء النبي ومساكينهم وأبناء سبيلهم وهم يستحقونه بقرابتهم من النبي من جهة
الأب وحاجتهم إليه في مؤنتهم وان فضل عنهم شئ فللوالي، وان نقص فعلى الوالي
ان يسد عوزهم وما قبضه أحدهم من الخمس وتملكه ينتقل بعد وفاته لورثته وأقرباء
النبي من غير أهل البيت الذين يستحقون نصف الخمس بالفقر، هم ذكور أولاد
عبد المطلب وذكور أولاد المطلب الذين حرمت عليهم الصدقة، ولم يرض الرسول أن يلي
أحدهم على الصدقات ويصيب من سهم العاملين عليها حتى مولاهم، فإنه منع مولاه
170

من الاشتراك مع عامل الصدقة كي لا يصيب منها 1.
ومن هنا يتضح خطأ من زعم أنه بعث ابن عمه الامام عليا إلى اليمن لقبض
الصدقة مثل ابن هشام، بل بعثه لقبض الخمس كما صرح به غيره.
قال ابن هشام في باب خروج الامراء والعمال على الصدقات من سيرته:
وكان رسول الله (ص) قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات إلى قوله: وبعث علي بن
أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقتهم ويقدم عليه بجزيتهم.
ثم قال في باب موافاة علي رضوان الله عليه رسول الله (ص) في الحج: لما اقبل
علي (رض) من اليمن ليلقى رسول الله (ص) بمكة تعجل إلى رسول الله (ص) واستخلف
على جنده الذين معه رجلا من أصحابه فعمد ذلك فكسى كل رجل من القوم حلة من
البز الذي كان مع علي (رض) فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل، قال:
ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك انزع
قبل ان تنتهي به إلى رسول الله (ص)، قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز.
قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.
قال: فاشتكى الناس عليا (رض)، فقام رسول الله فينا خطيبا فسمعته يقول:
" أيها الناس لا تشكوا عليا، فوالله انه لاخشن في ذات الله أو في سبيل الله من أن
يشكى 2. "
وقال في فصل السرايا والبعوث:
وغزوة علي بن أبي طالب (رض) إلى اليمن، غزاها مرتين قال: بعث رسول
الله (ص) علي بن أبي طالب إلى اليمن، وبعث خالد بن الوليد في جند آخر وقال: ان
التقيتما فالأمير علي بن أبي طالب 3.
إذا فقد ذكروا ثلاث خرجات للامام إلى اليمن غازيا في اثنتين، وجابيا في

(1) سيرة ابن هشام 4 / 273 - 275، والامتاع ص 509، وتابعه على ذلك أهل بيته، فقد روى
البيهقي في سننه الكبرى: ان أم كلثوم منعت من اعطاء مواليها الصدقة، وروت عن جدها الرسول أنه قال " انا
أهل بيت نهينا عن الصدقة وان موالينا من أنفسنا، " وقالت: فلا تأكلوا الصدقة.
2) سيرة ابن هشام 4 / 275.
3) سيرة ابن هشام 4 / 319، ابن كثير 7 / 343، وراجع طبقات ابن سعد 2 / 169، وعيون الأثر
2 / 271.
171

واحدة وقد غم على العلماء اخبار تلك الخرجات، والتبست ونحن نوجز اخبارها في
ما يلي ليتبين لنا الصواب في الامر.
في صحيح البخاري عن البراء بن عازب، قال: بعثنا رسول الله (ص) مع
خالد بن الوليد إلى اليمن، قال: ثم بعث عليا بعد ذلك مكانه، فقال: " مر أصحاب
خالد من شاء منهم ان يعقب معك فليعقب " الحديث 1.
وقد روى البيهقي تفصيل هذا الخبر عن البراء قال: إن رسول الله (ص) بعث
خالد بن الوليد إلى اليمن يدعوهم إلى الاسلام، قال البراء فكنت في من خرج مع خالد
بن الوليد فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الاسلام فلم يجيبوه ثم إن رسول الله (ص) بعث
علي بن أبي طالب وأمره ان يقفل خالدا الا رجلا كان مع خالد فأحب ان يعقب مع
علي فليعقب معه قال البراء فكنت في من عقب مع علي فلما دنونا من القوم خرجوا
إلينا ثم تقدم فصلى بنا علي ثم صفنا صفا واحدا ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب
رسول الله (ص) فأسلمت همدان جميعا، فكتب علي إلى رسول الله باسلامهم فلما قرأ
رسول الله (ص) الكتاب خر ساجدا ثم رفع رأسه فقال: " السلام على همدان السلام
على همدان " 2.
وفي عيون الأثر وإمتاع الأسماع بعده واللفظ للامتاع: فقال: السلام على
همدان وكرر ذلك ثلاثا، ثم تتابع أهل اليمن على الاسلام 3.
هذا خبر إحدى الغزوتين، أورده البخاري مقتضبا وأورد غيره تمام الخبر لما في
بقية الخبر من انتقاص لمقام الصحابي الشهير خالد بن الوليد مقابل منقبة للإمام علي.
واما المحدثين البخاري (رض) يتجنب ذكر ما فيه منقصة لذوي الجاه من الصحابة
من فرط غيرته عليهم وتعصبه لهم.
وخبر الغزوة الثانية في العدد لا في من أورده الواقدي والمقريزي وابن سيده
وهذا موجز خبره: بعث النبي عليا مع ثلاثمائة إلى ارض مذحج وكانت خيله أول
خيل دخلت تلك البلاد ففرق أصحابه فأتوا بنهب وسبي، ثم لقي جمعا فدعاهم إلى
الاسلام فأبوا ورموا في أصحابه فحمل عليهم وقتل منهم عشرين فارسا، فانهزموا فلم

(1) البخاري 3 / 50 كتاب المغازي باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن.
2) عيون الأثر 2 / 272 باب سرية علي بن أبي طالب، والامتاع ص 510.
3) نقل الخبر ابن كثير في 5 / 105 من تاريخه باب بعث رسول الله (ص) علي بن أبي طالب وخالد بن
الوليد إلى اليمن.
172

يتبعهم ودعاهم إلى الاسلام فأجابوا وبايعه نفر من رؤسائهم على الاسلام فخمس
الغنائم، ووزع أربعة أخماسها على جنده وسار بهم راجعا وأسرع ليلقى رسول الله وخلف
عليهم أبا رافع فسألوا أبا رافع أن يكسوهم فكساهم ثوبين ثوبين فلما رجع إليهم علي
وتلقاهم جردهم منها فشكوه إلى النبي 1.
كان هذا موجز أخبار الغزوتين. اما خبر بعثه لجباية المال فقد قال البخاري
وابن القيم أنه كان لقبض الخمس 2 وقال ابن هشام ومن تبعه أنه كان لقبض
الصدقة وجزية أهل نجران.
وهناك أخبار أخرى عن خرجات الامام إلى اليمن منتشرة في كتب الصحاح
والمسانيد والسير غير أنها لم تعين في أي خرجاته كانت مثل ما رواه البخاري ومسلم
والنسائي وأحمد واللفظ للأول، قال: بعث علي وهو باليمن إلى النبي بذهيبة في
تربتها 3.
وفي رواية: في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها 4.
في تربتها: أي أنها غير مسبوكة ولم تصف من تراب معدنها، وأديم مقروظ:
جلد مدبوغ بالقرظ.
وهناك روايات عن ارسال النبي إياه قاضيا إلى اليمن وشرح بعض أحكامه
عند ذاك مثل ما في مسند أحمد وسنن أبي داود باب كيف القضاء عن علي، قال:
بعثني رسول الله (ص) إلى اليمن قاضيا، فقلت: يا رسول الله: تبعثني إلى قوم
يكون بينهم أحداث ولا علم لي بالقضاء، فقال " ان الله سيهدي قلبك ويثبت
لسانك ".

(1) مغازي الواقدي 3 / 1079 - 1081، وامتاع الاسمام ص 503 - 504، وعيون الأثر 2 / 271
- 272.
2) البخاري 3 / 50 باب بعث على وخالد إلى اليمن، وابن القيم بهامش شرح المواهب 1 / 121 قال في
فصل أمرائه! وولى علي بن أبي طالب الأخماس باليمن والقضاء بها.
3) البخاري 4 / 188 كتاب التوحيد باب قوله تعالى تعرج الملائكة...، والنسائي 2 / 359 كتاب
الزكاة باب المؤلفة قلوبهم، ومسند أحمد ج 3 / 68 و 72 و 73، وقريب منه في البخاري 2 / 155، ومسلم كتاب
الزكاة ح 143، وسنن أبي داود 4 / 174 باب تحريم الدم، وص 243 منه ح 4764 كتاب السنة باب في قتال
الخوارج.
4) البخاري 3 / 50 كتاب المغازي باب بعث علي، ومسلم ج 2 / 741 ح 143، وص 743 منه ح
144، ومسند أحمد 3 / 4، وص 3 منه بإيجاز مخل.
173

وفي مسند أحمد: فوضع يده على صدري، فقال: " ثبتك الله وسددك ".
" فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما
سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء، قال: ما شككت في قضاء بعد 1.
وذكروا من قضاياه في هذه الخرجة بعض ما استطرفوها، مثل ما رووا أن
ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليا يختصمون إليه في ولد وقد وقعوا على المرأة في طهر
واحد، فقال لاثنين منهما: طيبا بالولد لهذا، فأبيا، ثم قال لاثنين طيبا لهذا بالولد فأبيا
فقال: أنتم شركاء متشاكسون! اني مقرع بينكم فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا
الدية، فأقرع بينهم، فجعله لمن قرع، فاتى من اليمن أحدهم وأخبر النبي بذلك فضحك
رسول الله (ص) حتى بدت نواجذه 2.
وقضية أخرى نوردها من لفظ الامام بإيجاز، قال: بعثني رسول الله إلى اليمن،
ثم حدث عن قوم بنوا زبية للأسد فوقع فيها الأسد فكاب الناس عليه فوقع فيها رجل
فتعلق بآخر وتعلق الآخر بآخر حتى صاروا فيها أربعة فجرحهم الأسد، فانتدب له
رجل بحربة فقتله، وماتوا عن جراحتهم كلهم، فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر
فاخرجوا السلاح ليقتتلوا، فأتاهم علي على تفيئة ذلك، فقال: أتريدون أن تقاتلوا
ورسول الله (ص) حي؟!
وفي رواية: أتقتلون مائتين في أربعة؟! إني أقضي بينكم قضاء ان رضيتم فهو
القضاء، وإلا حجز بعضكم عن بعض حتى تأتوا النبي (ص) فيكون هو الذي يقضي
بينكم فمن عدا بعد ذلك فلا حق له. أجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر ربع الدية
وثلث الدية ونصف الدية والدية كاملة، فللأول الربع لأنه أهلك من فوقه، وللثاني
ثلث الدية وللثالث نصف الدية وللرابع الدية كاملة، فأبوا أن يرضوا فأتوا النبي وهو
عند مقام إبراهيم فقصوا عليه القصة، فقال " أنا أقضي بينكم " وأحتبي، فقال رجل

(1) سنن أبي داود 3 / 301 ح 3582، وابن ماجة كتاب الأحكام ح 2310، ومسند أحمد 1 / 149 و
ص 111 منه ح 882، وراجع ص 84 منه ح 636، وص 88 منه ح 666.
2) سنن ابن ماجة كتاب الأحكام ح 2348، وسنن أبي داود 2 / 281 باب من قال بالقرعة وتاريخ
ابن كثير 5 / 107.
أوجزت لفظ الحديث، ويبدو ان محادثة وقوعهم على امرأة واحدة في طهر واحد وقعت من الرجال
الثلاثة زمن جاهليتهم وولدت المرأة بعد اسلامهم فتحاكموا عند الامام حال اسلامهم.
174

من القوم، ان عليا قضى فينا، فقص عليه القصة فاجازه رسول الله (ص) 1.
هذه أخبار خرجات الامام إلى اليمن نسب العلماء وقوع حوادث بعث خرجاته
إلى غيرها توهما، وبعضهم أورد أخبار خرجاته الثلاث مجتمعة في مكان واحد 2،
وآخرون أوردوها في مكانين 3 لهذا ولغير هذا 4 وردت أخبار خرجات الامام إلى اليمن
غامضة وموهمة، ولعلنا نستطيع أن نستكشف الحقيقة من طبيعة الحوادث المروية عن
خرجات الامام إلى اليمن، فلنا أن نقول مثلا: إن غزاة مذحج كانت الأولى في خرجاته
إلى اليمن وغزاة همدان الثانية وفي الثالثة ذهب واليا وقاضيا ومخمسا، ودليلنا على ما
نقول:
أولا - أنهم في غزاة مذحج قالوا: كانت خيله أول خيل دخلت تلك البلاد،
أي بلاد اليمن.
ثانيا - وقوع القتال في غزاة مذحج دون غزاة همدان وينبغي أن يكون القتال
قبل السلم، وأنهم قالوا في غزاة همدان: " أسلمت همدان جميعا " وقالوا: " ثم تتابع
أهل اليمن على الاسلام " إذا لا قتال في اليمن بعد هذا وإنما أرسل النبي ولاته وجباته
إليها ومن ضمنهم الامام، وكانت هذه ثالثة خرجاته إليها أرسله النبي واليا وقاضيا
ومخمسا، وصدرت منه في هذه المرة أحكاما سارت بذكرها الركبان، وفي هذه المرة
أرسل ذهيبة في ترابها إلى النبي ولم تكن الذهيبة من غنائم الحرب لان أهل اليمن كانوا
قد أسلموا وبعث النبي إليهم الولاة والقضاة والمصدقين، ولان غنائم الحرب يحملها
الجيش الغازي معه إلى المدينة بعد انتهاء الغزوة سواء سهام الخمس منها أو بقية الغنائم
الموزعة على أفراد الجيش ولا معنى لارسال المال في هذه الحالة قبل عودة الجيش إلى

(1) مسند أحمد 1 / 77 ح 573، و ح 574، وص 128 منه ح 1064، وص 152 ح 1309 ومجمع
الزوائد 6 / 287، والمنتقى ح 3994.
2) مثل ابن كثير في تاريخه فإنه أورد جميع اخبار خرجاته تحت عنوان " باب بعث رسول الله علي بن
أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن. "
3) مثل ابن هشام ومن تبعه فإنهم أوردوها في باب خروج الامراء والعمال على الصدقات في السنة
العاشرة وفي باب تعداد السرايا والبعوث.
4) ما كانت الظروف في عصور يلعن الامام على جميع منابر المسلمين وخاصة في خطبة الجمعة تسمح
لنشر اخبار فيها فضيلة ومنقبة للامام، فان الولاة كانوا يطاردون من يذكر الامام بخير منذ عصر معاوية حتى
القرن الأول من عصر بني العباس عدا عصر ابن عبد العزيز والسفاح.
175

المدينة بل ينبغي أن يكون بعث المال من قبل الوالي والعامل.
ولم تكن الذهيبة من الصدقات لما ثبت أن النبي لا يبعث الامام عاملا على
الصدقة. ويؤيد ذلك ما في فقه أئمة أهل البيت من اشتراط كون الذهب والفضة
مسكوكين لتجب فيهما الصدقة 1.
ولم تكن الذهيبة من جزى أهل نجران لان جزيتهم كانت محددة في الفي حلة
ثمن كل حلة أربعون درهما 2 إذا فقد كانت الذهيبة من خمس السيوب أو خمس أرباح
المكاسب.
وعلى ما ذكرنا كان النبي قد بعث الامام إلى اليمن في هذه المرة مخمسا كما
أرسل رسوليه أبيا وعنبسة إلى سعد هذيم من قضاعة والى جذام مصدقين ومخمسين 3
ولعل غيرهم من عمال رسول الله ممن ذكروا في عداد المصدقين أيضا كانوا مأمورين
بأخذ الخمس بالإضافة إلى اخذ الصدقة وانهم كانوا قد أخذوا الخمس من موارده
ودفعوه إلى رسول الله غير أن الخلفاء لما رفعوا الخمس بعد رسول الله 4 أهمل الرواة
والعلماء ذكره، لأنه كان يخالف سياسة الخلفاء في ادوار الخلافة الاسلامية.
وإذا أضفنا إلى ما ذكرنا ملاحظة ثروة سكان شبه الجزيرة العربية يومذاك،
وان عامة ثروة القبائل كانت من الانعام وقليلا من الغرس والزرع وان كل تلك
كانت من موارد الصدقات ولم تكن من موارد الخمس وكانت المدينة عاصمة الاسلام
أيضا بلد زراعيا وكانت عامة ثروة أهلها الزرع والضرع، وان التجارة كانت منحصرة
باهل مكة وبعض قبائل أهل الكتاب، وان انصراف المسلمين بالمدينة إلى الحرب مع
قريش واليهود وسائر القبائل العربية والتي ناف عددها على الثمانين بين غزوة وسرية في
زهاء عشر سنوات اي بمعدل ثماني معارك حربية في كل سنة أدى ذلك إلى جعل
الطرق التجارية في الحجاز مجالا للإغارة والغزو والسلب بين الأطراف المتحاربة
وانقطاع التجارة في تلك السنوات ومن أجل ذلك ندر وجود مورد ربح غير موارد
الصدقات.

(1) راجع فصل زكاة النقدين في فقه الامامية مثل مصباح الفقيه للهمداني ص 53 من كتاب الزكاة.
2) راجع إمتاع الأسماع ص 502.
3) راجع قبله ص 102 - 103.
4) كما جابهت به ابنة النبي أبا بكر.
176

كل هذا العوامل أدت إلى عدم انتشار أخبار أخذ الرسول الخمس من أرباح
المكاسب في كتب السيرة والحديث، أما اخبار أخذه الخمس من الكنوز والمعادن
وبعثه المخمسين مع المصدقين فقد أوردنا ما وجدنا من أخبارها على قلة ما لدينا من
مصادر هذه الدراسات.
الصدقة بعد الرسول (ص)
تابع أئمة أهل البيت الرسول (ص) في تحريمهم الصدقة على ذوي قربا
الرسول (ص) فقد قال الإمام جعفر الصادق في جواب من قال له: إذا منعتم الخمس
هل تحل لكم الصدقة؟: " لا والله ما يحل لنا ما حرم علينا بغصب الظالمين حقنا، وليس
منعهم إيانا ما أحل الله لنا بمحل لنا ما حرم الله علينا ".
اما الخلفاء فقد استولوا على تركة الرسول وهي:
أ - الحوائط السبعة وصية مخيريق.
ب - أرضه من أموال بني النضير.
ج، د، ه‍ - الحصون الثلاثة: في خيبر.
و - الثلث من أرض وادي القرى.
ز - مهزور (موضع سوق بالمدينة).
ح - أخذوا فدك من فاطمة.
وكان الرسول قد وقف ستة من الحوائط السبعة فهي صدقة الرسول ووهب
شيئا من أراضي بني النضير لأبي بكر و عبد الرحمن بن عوف وأبي دجانة وأعطى أزواجه
من حصون خيبر وأعطى فدك لفاطمة وأعطى حمزة بن النعمان العذري رمية سوط من
وادي القرى.
لما توفي الرسول جاء أبو بكر وعمر إلى علي فقال له عمر: ما تقول في ما ترك
رسول الله؟
قال علي: نحن أحق الناس برسول الله.
قال عمر: والذي بخيبر؟
قال علي: والذي بخيبر.
قال عمر: والذي بفدك؟
قال علي: والذي بفدك.
177

قال عمر: اما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير فلا.
ودفع أبو بكر إلى علي آلة رسول الله ودابته وحذاءه وقال: ما سوى ذلك
صدقة. واستولى على كل ما تركه الرسول مرة واحدة حتى فدك ولم يتعرض لشئ مما
وهبه النبي لسائر المسلمين فخاصمتهم فاطمة في ثلاثة أمور:
أ - في فدك منحة الرسول إياها، فطلب منها البينة فشهد لها رجل وامرأة
فرفض شهادتهما لأنهما لم يكونا رجلين أو رجل وامرأتين.
ب - في ارثها من الرسول. بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله جاءت فاطمة
لأبي بكر معها علي والعباس فقالت ميراثي من رسول الله أبي، فقال أبو بكر: امن الرثة
أو من العقد؟ قالت: فدك وخيبر وصدقته بالمدينة أرثها كما ترثك بناتك، فقال
أبو بكر: أبوك والله خير مني، وأنت والله خير من بناتي.
وفي رواية قالت: من يرثك إذا مت؟
ولدي وأهلي.
قالت: ما بالك ورثت رسول الله دوننا؟
قال: يا بنت رسول الله ما فعلت، ما ورثت أباك أرضا ولا ذهبا ولا فضة ولا
غلاما ولا ولدا.
فقالت: سهمنا بخيبر وصافيتنا بفدك.
قال: سمعت رسول الله يقول " نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو
صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال - يعني مال الله - ليس لهم أن يزيدوا على
المأكل " ما كان النبي يعول فعلي. فقال علي " وورث سليمان داود " وقال: " يرثني
ويرث من آل يعقوب " قال أبو بكر: هو هكذا، وأنت والله تعلم مثل ما أعلم، فقال
علي هذا كتاب الله ينطق، فسكتوا وانصرفوا.
ج - في سهم ذي القربى. لما منع أبو بكر فاطمة وبني هاشم سهم ذوي القربى
وجعله في السلاح والكراع أتته فاطمة وقالت:
لقد علمت الذي ظلمتنا أهل البيت من الصدقات (اي أخذت أوقاف رسول
الله) وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى ثم قرأت عليه:
" واعلموا إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى... " الآية.
وفي رواية قالت: عمدت إلى ما أنزل الله فينا من السماء فرفعته عنا.
178

فقال أبو بكر: بابي أنت وأمي ووالد ولدك، السمع والطاعة لكتاب الله
ولحق رسول الله وحق ابنته وأنا اقرأ من كتاب الله الذي تقرئين منه ولم يبلغ علمي
منه ان هذا السهم من الخمس مسلم إليكم كاملا! قالت: أفلك هو ولأقربائك؟ قال:
لا! وأنفق الباقي في مسالح المسلمين، قالت: ليس هذا حكم الله.
وفي رواية قال لها: حدثني رسول الله " ان الله تعالى يطعم النبي الطعمة ما
كان حيا فإذا قبضه إليه رفعت ".
وفي رواية: سمعت رسول الله يقول " سهم ذوي القربى لهم في حياتي وليس
لهم بعد موتي " فغضبت فاطمة وقالت: أنت وما سمعت من رسول الله اعلم، ما أنا
بسائلتك بعد مجلسي. والله لا أكلمكما أبدا، فماتت وما تكلمهما.
لما أدلت فاطمة بكل ما لديها من دليل وشهود وأبى أبو بكر ان يرد إليها شيئا
مما اخذ، رأت ان تبسط الخصومة على ملا من المسلمين وتستنصر أصحاب أبيها
وتشركهم في المسؤولية فذهبت إلى مسجد أبيها في لمة من حفدتها ما تخرم مشيتها مشية
الرسول حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار فنيطت دونها
ملاءة فخطبت فيهم وقالت في خطبتها:
أيها الناس انا فاطمة وأبي محمد (ص) أقولها عودا على بدء لقد جاءكم رسول
من أنفسكم... الآية ثم قالت في كلامها:
افعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول الله " وورث
سليمان داود " وقال تعالى في ما قص من خبر يحيى بن زكريا " رب هب لي من لدنك
وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " وقال عز ذكره " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض
في كتاب الله " وقال " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " وقال
" ان ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين " وزعمتم ان
لا حق ولا ارث لي من أبي ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية اخرج نبيه (ص) منها أم
تقولون أهل ملتين لا يتوارثون؟ أو لست انا وأبي من أهل ملة واحدة؟ لعلكم اعلم
بخصوص القرآن وعمومه من النبي (ص) أفحكم الجاهلية تبغون؟...
ثم عادت فاطمة إلى بيتها وهجرت أبا بكر ولم تزل مهاجرته حتى توفيت
وعاشت بعد النبي ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بها أبو بكر.
179

تأول الخليفة أبو بكر حديثا رواه هو، فمنع ابنة الرسول من ارث أبيها، واجتهد
فرفع الخمس عن ذوي قربى الرسول وعلى ذلك انتهى عهده!
على عهد عمر
قال الإمام علي في جواب سؤال من قال له: بابي وأمي ما فعل أبو بكر وعمر
في حقكم أهل البيت من الخمس...
ان عمر قال: لكم حق ولا يبلغ علمي إذا كثر أن يكون لكم كله فان شئتم
أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم. فأبينا عليه الا كله فأبى أن يعطينا.
أراد عمر أن يدفع إلى الامام والى عمه العباس بعض تركة النبي في المدينة
وكان كل ذلك بعد ما انهالت الثروة عليهم على أثر اتساع الفتوح.
اجتهد عمر فاستمر على منع ذوي القربى من سهامهم في الخمس واجتهد
فاستمر على مصادرة تركة الرسول، وأخيرا لما انهالت الثروة عليهم اجتهد وأراد أن
يدفع إليهم بعضها وعلى هذا إنتهى عهده.
على عهد عثمان
اعطى عثمان خمس غزوة إفريقيا الأولى عبد الله بن أبي سرح ابن خالته وأخاه
من الرضاعة وأعطى خمس الغزوة الثانية ابن عمه وصهره مروان بن الحكم واقطعه
فدك، واقطع الحارث ابن عمه وصهره المهزور موضع سوق بالمدينة، وكان رسول الله
قد تصدق به على المسلمين، وأعطى عمه الحكم صدقات قضاعة، وإذا أمسى عامل
صدقات المسلمين على سوق المسلمين اتاها عثمان فقال له: ادفعها إلى الحكم، قال
البيهقي في ما أقطع عثمان من تركة الرسول ذوي قرباه: تأول في ذلك ما روي عن
رسول الله إذا أطعم الله نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده وكان مستغنيا عنها بماله
فجعله لأقربائه ووصل بها رحمهم.
إذا اجتهد عثمان فأقطع أقرباءه تركة الرسول وصدقاته، واجتهد فأعطاهم
الخمس، واجتهد فأعطاهم الصدقات. اجتهد ثم اجتهد ثم اجتهد. فما أوسع باب هذا
الاجتهاد!
180

على عهد الإمام علي
لم يكن باستطاعة الامام أن يغير شيئا من سنة أبي بكر وعمر خاصة في ما يعود
على أهل البيت بالمال.
على عهد معاوية
كان اجتهاد معاوية في منع ذوي قربى الرسول من الخمس ومصادرة تركة
الرسول مشابها لاجتهاد الخلفاء من قبله وإنما زاد اجتهادا على اجتهاد لما كتب يأمر بان
يصطفى له كل صفراء وبيضاء والروائع من غنائم الفتوح وألا يقسم منها شئ بين
المسلمين.
على عهد عمر بن عبد العزيز
حاول عمر بن عبد العزيز ان يتابع النص الشرعي فدفع إلى ذرية الرسول شيئا
من سهامهم في الخمس وأعاد إليهم فدك فمات ميتة مجهولة السبب عندنا.
بعد ابن عبد العزيز
اجتهد يزيد بن عبد الملك فقبض فدك من بني فاطمة فلما ولي السفاح ردها إلى
بني فاطمة ثم اجتهد المنصور وقبضها عنهم، وردها المهدى إلى ولد فاطمة واجتهد موسى
بن المهدي وقبضها عنهم وردها المأمون إليهم وبقيت في أيديهم حتى ولي المتوكل
فأجتهد وقبضها منهم واقطعها عبد الله البازيار 1 فقطع إحدى عشرة نخلة كان الرسول قد
غرسها وكان هذا آخر ما بلغنا من أخبار اجتهاد الخلفاء في الخمس وفي تركة الرسول
ويأتي بعد ذلك آراء العلماء في موارد اجتهاد الخلفاء.
آراء العلماء في مصرف الخمس
تضاربت آراء العلماء في مصرف الخمس بعد الرسول (ص) تبعا لتضارب
أفعال الخلفاء فقال القوم: إن سهم رسول الله (ص) للامام أي الخليفة وان سهم ذي

(1) كلمة فارسية: اي صاحب البازي ومربيه، ويبدو انه كان يلي طيور صيد المتوكل.
181

القربى لقرابة الامام، وقال قوم: بل يجعلان في السلاح والعدة، وقال آخرون: ان تعيين
مصرف الخمس منوط باجتهاد الخلفاء.
وقال بعضهم في منع عمر أهل البيت خمسهم: " انه من باب الاجتهاد "
" وان عمر لم يخرج بما حكم عن طريقة الاجتهاد ومن قدح في ذلك فإنما يقدح في
الاجتهاد الذي هو طريق الصحابة " و " إنها مسألة اجتهادية " وقالوا في جواب من
انتقده وقال " انه اعطى أزواج النبي وافرض، ومنع فاطمة وأهل البيت من
خمسهم... ولم يكن ذلك في زمن النبي " قالوا في جوابه: " إنه من مخالفة المجتهد لغيره
في المسائل الاجتهادية " 1.
ولا يعزب عن بالنا ان كل هذا الكلام يجري في مورد خمس غنائم الفتوح وان
كل هؤلاء القائلين بهذه الأقوال يقولون: ان الآية الكريمة " واعلموا أن ما غنمتم من
شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى... " إنما تخص خمس غنائم الفتوح. إذا فان
هؤلاء يقولون - مع تعيين الله سبحانه مصرف خمس غنائم الفتوح في هذه الآية - " فان
تعيين مصرف الخمس منوط باجتهاد الخلفاء ".
وقد عين الخلفاء مصرف الخمس كما يلي:
ان أبا بكر وعمر اجتهدا فمنعا فاطمة ابنة رسول الله وسائر ذوي قربى الرسول
وأقربائه من بني هاشم وبني المطلب من سهامهم في الخمس وزاد عثمان في هذه المسألة
اجتهادا فدفع الخمس وتركة الرسول إلى أقاربه ووصل بذلك رحمهم وزاد معاوية في
هذه المسألة اجتهادا فضم إلى ذلك كل صفراء وبيضاء وروائع غنائم الفتوح وادخل
كلهن خزائنه الخاصة، واجتهد الخلفاء الأمويون والعباسيون من بعد أولئك فأدخلوا
الخمس خزائنهم الخاصة وانفقوا من كل ذلك على الشعراء الخلعاء والجواري
المغنيات.
واجتهد العلماء وعدوا كل ما فعله الخلفاء حكما من أحكام الشرع الاسلامي
وان على المسلمين ان يدينوا به وان من خالف ذلك فقد خالف السنة والجماعة.
إذا فان قولهم " اجتهد الخليفة في المسألة " يعنى: ان الخليفة ارتأى ذلك، وان
" المسألة اجتهادية " يعنى: ان رأي الخليفة فيها هو الحكم الاسلامي! وعلى هذا فإنهم
يقولون: قال الله وقال رسوله واجتهدت الخلفاء، وان اجتهاد الخلفاء مصدر للتشريع

(1) اي ان مخالفة عمر لرسول الله هو من باب مخالفة مجتهد لمجتهد آخر.
182

الاسلامي في عداد كتاب الله وسنة رسوله: وإنا الله وإنا إليه راجعون!!
أوردنا بشئ من التفصيل آراء مدرسة الخلفاء في الخمس وأعمالهم فيه
واستدلالهم على ما ارتأوا، وأشرنا إلى قول أئمة أهل البيت في الخمس وأنه يقسم لديهم
على ستة أسهم ثلاثة منها لله ولرسوله ولذوي قرباه للعنوان، يقبض الرسول هذه
الأسهم في حياته ويعود أمرها من بعده إلى الأئمة الاثني عشر من أهل بيته، والاسهم
الثلاثة الأخرى منه لفقراء بني هاشم وأيتامهم وأبناء سبيلهم مع وصف الفقر 1.
وقالوا أيضا: إن الخمس يجب إخراجه من كل مال فاز به المسلم من جهة
العدى وغيرهم 2 واستدلوا في كلتا المسألتين بعموم آية الخمس مع ما لديهم من سنة
الرسول، قال فقهاء مدرستهم في مقام الاستدلال بالآية على المسألة الثانية:
ان الآية وإن كانت قد نزلت في غنائم غزوة بدر، ولكن ليس للمورد ان
يخصص 3 والتخصيص من غير دليل باطل 4 وبيان الايراد على الاستدلال وجوابه
كما يلي 5:
ان المورد على الاستدلال بالآية قال: إن الآية نزلت في غنائم غزوة بدر فلا
تشمل ما عدا غنائم الحرب.
وأجيب عنه: بان نزول الآية في غزوة بدر لا يخصص الحكم العام الوارد في
الآية - وهو وجوب أداء الخمس من المغنم - ويجعل الحكم خاصا بغنائم الحرب.
ومثاله من غير هذا المورد، حكم جلد الشهود على الزنا إن لم يبلغ عددهم الأربعة
والوارد في قصة الإفك، فان المورد وهو قصة الإفك لا يخصص الحكم العام الذي ورد في
الآيات وهو جلد الشهود إن لم يبلغوا أربعة بتلك الواقعة، وكذلك شأن حكم الظهار
الوارد في سورة المجادلة فإنه ما خص المرأة التي جادلت وزوجها يومذاك وان نزلت
الآية في شأنهما وهكذا الامر في ما عداهما.

(1) مضى بيانه في باب مواضع الخمس لدى مدرسة أهل البيت.
2) ورد ذلك بباب الخمس في الموسوعات الحديثية والكتب الفقهية لدى مدرسة أهل البيت.
3) راجع كتاب الخمس بمستند النراقي وغيره.
4) المنتهى للعلامة الحلي (ت 729 ه‍) ج 1 / 729.
5) توخينا الشرح والتبسيط في هذا الكتاب وتجنبنا المصطلحات العلمية مهما أمكن ليعم نفعه إن شاء الله
تعالى.
183

وقالوا في الجواب أيضا: ان تخصيص الآية وتقييدها - بغنائم دار الحرب -
أولى بطلب الدليل عليه 1 وان على من يخصص الآية بها إقامة الدليل 2.
ومما يؤيد هذه الأجوبة ما ذكره القرطبي من مدرسة الخلفاء بتفسير الآية قال:
والاتفاق - اي اتفاق علماء مدرسة الخلفاء - حاصل على أن المراد بقوله تعالى " ما
غنمتم من شئ " مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر، ولا يقتضى
اللغة هذا التخصيص على ما بيناه 3.
إذا فتخصيص الغنائم بغنائم دار الحرب خلاف المتبادر من اللفظ عند أهل اللغة
وقول علماء مدرسة الخلفاء بالتخصيص يخالف المعنى المتبادر من اللفظ عند
اطلاقه.
وأجيب على الايراد أيضا: بان الآية وإن كانت نازلة في مورد خاص وهو
غزوة بدر ولكن من المعلوم عدم اختصاصها بذلك المورد الخاص حتى أن من ذهب من
العامة إلى عدم وجوب الخمس في مطلق الغنائم لم يخصه بخصوص مورد الآية بل عممه
إلى مطلق الغنائم المأخوذة في الحروب مع انا لو بنينا على الجمود في استفادة الحكم من
الآية بحيث لم نتعد موردها بوجه لوجوب القول بعدم وجوب الخمس الا على من شهد
غزوة بدر في ما اغتنم من المشركين في تلك الغزوة، ولم يقل بهذا أحد، فلابد من التعدي
من مورد الآية لا محالة، فنحن نتعدى منه إلى مطلق ما يصدق عليه الغنيمة سواء كان
مكتسبا من الحرب أو التجارة أو الصناعة أو غير ذلك 4.
وبالإضافة إلى استدلالهم بآية الخمس يستدلون بما ورد عن أئمة أهل البيت في
هذا الحكم كما يفعلون في سائر الأحكام فان الرسول قد أمر بالتمسك بهم في حديث
الثقلين وغيره، سواء أسند الأئمة حديثهم إلى جدهم الرسول مثل الحديث الذي رواه
الصدوق في الخصال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عن
النبي (ص) قال في وصيته له: يا علي ان عبد المطلب سن في الجاهلية خمس سنن
اجراها الله له في الاسلام، حرم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله عز وجل " ولا تنكحوا

(1) مسالك الأفهام ج 2 / 80.
2) الخلاف للشيخ الطوسي ج 2 / 110، و ج 1 / 358، وقريب منه لفظ مصباح الفقيه ص 19 من
كتاب الخمس.
3) تفسير القرطبي 8 / 1.
4) تقريرات الحاج السيد حسين البروجردي زبدة المقال ص 5.
184

ما نكح آباؤكم من النساء " 1 ووجد كنزا فاخرج منه الخمس وتصدق به فأنزل الله
عز وجل " واعلموا ان ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه... " لما حفر زمزم...
الحديث 2.
ويعني هذا الحديث ان الآية تشمل غير غنائم الحرب، وقد سبق ذكر سنة
الرسول في ذلك أيضا.
هذه خلاصة أدلة اتباع مدرسة أئمة أهل البيت في هذا المقام.

(1) سورة النساء الآية 22.
2) الخصال ط. وتحقيق الغفاري ص 312.
185

اجتهاد الخليفة عمر في المتعتين
حرم عمر متعتي الحج والنساء فعد ذلك منه من مسائل الاجتهاد كما قاله ابن
أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 1 ورواه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري
- قال:
تمتعنا على عهد النبي الحج والنساء فلما كان عمر نهانا عنهما فانتهينا 2.
وفي تفسير السيوطي وكنز العمال عن سعيد بن المسيب قال: نهى عمر عن
المتعتين متعة النساء ومتعة الحج 3.
وفي بداية المجتهد وزاد المعاد وشرح نهج البلاغة والمغنى لابن قدامة والمحلى
لابن حزم واللفظ للأول: روى عن عمر - وفي زاد المعاد: ثبت عن عمر - أنه قال:
" متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) انا انهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة
النساء " 4.

(1) في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 363 في جواب الطعن الثامن.
2) مسند أحمد 3 / 363، ونظيره في ص 356 منه، وفي ص 325 منه بإيجاز.
3) تفسير السيوطي 2 / 141، وكنز العمال ط. الأولى 8 / 293، وراجع مشكل الآثار للطحاوي
ص 375، وسعيد بن المسيب قرشي مخزومي من كبار التابعين. اخرج حديثه أصحاب الصحاح مات بعد
التسعين وقد ناهز الثمانين. تقريب التهذيب 1 / 306.
4) بداية المجتهد 1 / 346 باب القول في التمتع، وزاد المعاد لابن القيم 2 / 205 فصل " إباحة متعة
النساء " ولفظة " أنا عاقب عليهما " تحريف. وشرح النهج 3 / 167، والمغني لابن قدامة 7 / 527، والمحلى لابن
حزم 7 / 107، وتفسير القرطبي والرازي 2 / 167، و 3 / 201 و 202، وكنز العمال 8 / 293 و 294، والبيان
والتبيين للجاحظ 2 / 223. وراجع الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار، مناسك الحج ص 374 عن ابن عمر،
وكنز العمال ط. الأولى 8 / 293 و 294.
186

وفي رواية الجصاص وابن حزم واللفظ للأول: متعتان كانتا على عهد رسول
الله (ص) أنا أنهى عنهما واضرب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج 1.
تشير الروايات الانفة إلى اجتهادين للخليفة عمر في حكمين من احكام
الاسلام: في متعة الحج ومتعة النساء وفي ما يلي تفصيل القول فيهما.

1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 279، والمحلى لابن حزم 7 / 107، ولعل منشأ الاختلاف في اللفظ ان
الخليفة قالها مرتين مرة قال: اضرب عليهما وأخرى أعاقب.
187

" أ "
متعة الحج
تقع متعة الحج ضمن حج التمتع وبيان ذلك ان الحج ينقسم إلى ثلاثة أنواع
1 - حج التمتع 2 - حج الافراد 3 - حج القران.
1 - حج التمتع فهو فرض من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وصورته: ان
يحرم بالعمرة إلى الحج ويلبي بها من الميقات في أشهر الحج: شوال وذي القعدة
وذي الحجة ثم يأتي مكة ويطوف بالبيت سبعا ويصلي ركعتي الطواف ويسعى بين
الصفا والمروة سبعا ثم يقصر فيحل له جميع ما حرم عليه بالاحرام، ويقم بمكة محلا
حتى ينشئ يوم التروية من تلك السنة احراما آخر للحج ثم يخرج إلى عرفات ثم
يفيض منها بعد غروب التاسع إلى المشعر ومنها إلى منى وهكذا حتى يتم مناسك الحج
ويحل بالحلق أو التقصير من احرامه. ويسمى هذا الحج بحج التمتع وعمرته بعمرة التمتع
لقوله تعالى: " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " ولان الحاج يتمتع بالحل بين احرامي
العمرة والحج ومدة الحل بين الاحرامين هي متعة الحج التي حرمها الخليفة عمر ومن
تبعه على ذلك ويأتي بها جل المسلمين في هذا اليوم.
2 و 3 - حج الافراد وحج القران:
أولا في فقه أهل البيت:
صورة الافراد: ان يحرم للحج من الميقات أو من منزله إن كان دون الميقات ثم
يمضي إلى عرفات ويقف بها يوم التاسع، ثم يأتي بباقي مناسك الحج حتى يتمها جميعا،
ثم يحل من احرامه وعليه عمرة مفردة يأتي بها من أدنى الحل أو من أحد المواقيت وتصح
188

تمام السنة ويسميان بالافراد والمفردة لان الحاج يأتي بكل منهما مفردا.
وصورة حج القران: كالافراد في جميع مناسكه ويتميز عنه بان القارن يسوق
الهدي عند احرامه اي يقرن بين التلبية والهدي فيلزمه بسياقه وليس على المفرد هدي
أصلا.
وأحدهما فرض حاضري المسجد الحرام على سبيل التخيير 1.
ثانيا في فقه مدرسة الخلفاء:
أ - القران: ان يقرن بين العمرة والحج اي يجمع بينهما بنية واحدة وتلبية
واحدة فيقول: لبيك بحجة وعمرة أو يهل بالعمرة في أشهر الحج ثم يردف ذلك بالحج
قبل ان يحل من العمرة ويلزم القارن من غير حاضري المسجد الحرام هدي المتمتع 2.
والافراد: ان لا يكون متمتعا ولا قارنا بل يهل بالحج فقط 3 ويقال: افراد الحج وفي
بعض الروايات جرد 4.
كانت تلكم أنواع الحج لدى المسلمين اما المشركون في الجاهلية فكان عندهم ما رواه
كل من البخاري ومسلم في صحيحيهما واحمد في مسنده والبيهقي في سننه الكبرى
وغيرهم في غيرها واللفظ للأول عن ابن عباس انه أخبر عن المشركين في الجاهلية
وقال:
" كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من افجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم
صفر 5 ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر " 6.

(1) دليل الناسك للسيد محسن الحكيم ط. الآداب - النجف سنة 1377 ه‍ ص 37 - 45.
2) خلافا لبعض أصحاب مالك حسب نقل بداية المجتهد.
3) رجعنا لما أوردناه هنا إلى بداية المجتهد 1 / 348 فصل " القول بالقارن " والى مادة " القران " من
نهاية اللغة لابن الأثير.
4) سنن البيهقي 5 / 5 باب من اختار الافراد.
5) هكذا ورد مراعاة للسجع.
6) البخاري كتاب الحج باب التمتع والقران والافراد، فتح الباري ج 4 / 168 - 169، وكتاب مناقب
الأنصار منه، وصحيح مسلم باب جواز العمرة في أشهر الحج الحديث 198، ومسند أحمد 1 / 249 و 252 و 332
و 339، وسنن أبي داود كتاب المناسك باب العمرة والنسائي كتاب الحج 77، وسنن البيهقي 4 / 345، والمنتقى
الحديث 2422، وراجع الطحاوي في مشكل الآثار 3 / 155، وشرح معاني الآثار ص 1 / 381 في مناسك الحج.
189

شرح الرواية: روى النووي في شرح مسلم ان العلماء قالوا في شرح الرواية
الآنفة:
" ويجعلون المحرم صفر " المراد الاخبار عن النسئ الذي كانوا يفعلونه، وكانوا
يسمون المحرم صفرا ويحلونه وينسئون المحرم اي يؤخرون تحريمه إلى ما بعد صفر، لئلا
يتوالى بينهم ثلاثة أشهر محرمة تضيق عليهم أمورهم من الغارة وغيرها.
و " إذا برأ الدبر " اي برأ ما كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها ومشقة
السفر فإن كان يبرأ بعد انصرافهم من الحج.
و " عفا الأثر " اي اندرس اثر الإبل وغيره في سيرها.
وقال ابن حجر في تعليل هذا الامر: وجه تعلق جواز الاعتماد بانسلاخ صفر
مع كونه ليس من أشهر الحج وكذلك المحرم انهم لما جعلوا المحرم صفرا ولا يبرأ دبر إبلهم
الا عند انسلاخه، الحقوه بأشهر الحج على طريق التبعية وجعلوا أول أشهر الاعتماد شهر
المحرم الذي هو في الأصل صفر، والعمرة عندهم في غير أشهر الحج 1.
كان هذا دأب قريش وسنتهم في العمرة وقد خالفهم الرسول في ذلك كما يلي
بيانه:
سنة الرسول في العمرة
قال ابن القيم: اعتمر رسول الله (ص) بعد الهجرة أربع عمر كلهن في
ذي القعدة وأيد ذلك بما رواه عن انس وابن عباس وعائشة وفي لفظ الأخيرين: " لم
يعتمر رسول الله (ص) الا في ذي القعدة " 2.
قال ابن القيم: " والمقصود ان عمره كلها كانت في أشهر الحج مخالفة لهدي
المشركين، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج، ويقولون هي من افجر الفجور.
وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضل منه في رجب بلا شك. "
وقال: " لم يكن الله ليختار لنبيه (ص) في عمره الا أولى الأوقات وأحقها بها

(1) راجع شرح الحديث بشرح النووي على مسلم وشرح ابن حجر بفتح الباري.
2) زاد المعاد 1 / 209 فصل في هديه (ع) في حجه وعمره. وتفصيل الروايات بصحيح البخاري
1 / 212 باب كم اعتمر النبي، وبصحيح مسلم باب بيان عمر النبي (ص) وزمانهن من كتاب الحج الحديث
217 - 220 ص 916 - 917، والبيهقي بسننه الكبرى 4 / 357 باب من استحب الاحرام بالعمرة من الجعرانة،
وفي 5 / 10 - 12 منه وابن كثير 5 / 109.
190

فكانت العمرة في أشهر الحج نظير وقوع الحج في أشهره، وهذه الأشهر قد خصها الله
تعالى بهذه العبادة، وجعلها وقتا لها، والعمرة حج أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحج،
وذو القعدة أوسطها، وهذا مما " نتخار الله 1 " فيه، فمن كان عنده فضل علم فليرشد
إليه 2.
بعد ايراد سنة المشركين في العمرة وسنة الرسول فيها نعود إلى البحث عن متعة
الحج في الكتاب والسنة ثم نذكر كيفية اجتهاد الخلفاء فيها في ما يلي:
متعة الحج في الكتاب
شرع الله الجمع بين العمرة والحج في أشهر الحج والتمتع بالحل بينهما خلافا
لسنن المشركين وقال في كتابه الكريم:
" فإذا امنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام
ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري
المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا ان الله شديد العقاب " البقرة 196.
في هذه الآية شرع الله سبحانه التمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يكن أهله حاضري
المسجد الحرام وامن وبين في الآية التي تليها بقوله تعالى " الحج أشهر معلومات " ان
الجمع بين العمرة والحج يجب ان يقع في أشهر الحج. نصت الآيتان بكل جلاء ووضوح
على هذا الحكم، والى هذا أشار الصحابي عمران بن الحصين حسب رواية البخاري في
صحيحه منه: حيث قال:
أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله (ص) ولم ينزل قرآن
يحرمه ولم ينه عنها حتى مات... الحديث 3.
ولفظ مسلم قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله (يعني متعة الحج) وأمرنا بها
رسول الله (ص) ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله حتى مات...
الحديث 4.

(1) هكذا في النسخة ولعل الصواب تختار.
2) زاد المعاد 1 / 211، وراجع ص 223 منه، وسنن البيهقي 4 / 345 باب العمرة في أشهر الحج.
3) تفسير الآية بصحيح البخاري 3 / 71، وسنن البيهقي 5 / 19.
4) الحديث 172 باب جواز التمتع من صحيح مسلم ص 900، وتفسير القرطبي 2 / 338، وزاد المعاد
لابن القيم 1 / 252، وطبقات ابن سعد ط، أوربا 4 / ق 2 / 28.
191

واجمع المفسرون وغيرهم من العلماء على ذلك ولا خلاف فيه ومن العجيب
ان يختم الله هذه الآية باعلام ان الله شديد العقاب.
شرع الله متعة الحج في هذه الآية بكل صراحة وسنه رسوله في حجة الوداع كما
تواتر الخبر عن ذلك في ما روي عن رسول الله في صحاح الأحاديث مثل ما ورد في
الروايات الآتية:
متعة الحج في السنة
بما ان العمرة في أشهر الحج كانت لدى قريش في الجاهلية من افجر الفجور
تدرج الرسول في تبليغ حكم عمرة التمتع كما يظهر من الروايات التالية.
في صحيح البخاري وسنن أبي داود وابن ماجة والبيهقي واللفظ للأول في
كتاب الحج باب قول النبي " العقيق واد مبارك " عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت
رسول الله بوادي العقيق يقول " اتاني آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك
وقل عمرة في حجة ".
وفي رواية أخرى: " وقل عمرة وحجة ".
وفي لفظ سنن البيهقي: " اتاني جبرئيل (ع) " وفي آخر الرواية: " فقد دخلت
العمرة في الحج إلى يوم القيامة ".
العقيق، في معجم البلدان: العقيق الذي جاء فيه انك بواد مبارك هو الذي
ببطن وادي ذي الحليفة. وهو الذي جاء فيه انه مهل أهل العراق من ذات عرق.
وقال ابن حجر في شرح الحديث بفتح الباري: بينه وبين المدينة أربعة
أميال 1.
أخبر رسول الله عمر بنزول الوحي عليه بان يجمع بين العمرة والحج وفي تبليغه
خاصة حكمة نعرفها مما جرى على عهده في شأن العمرة.

1) صحيح البخاري ج 1 / 186 والرواية الثانية في باب ما ذكر النبي وحض على اتفاق أهل العلم من
كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة 4 / 177، وسنن أبي داود المناسك 2 / 159، وابن ماجة الحديث 2976
ص 991 باب التمتع بالعمرة إلى الحج وسنن البيهقي 5 / 13 - 14، وفتح الباري 4 / 135، وتاريخ ابن كثير
5 / 117 و 128 و 136.
192

في وادي عقيق أخبر عمر بنزول الوحي عليه وفي منزل عسفان أخبر سراقة بذلك
في جواب سؤاله كما رواه أبو داود قال:
حتى إذا كان - رسول الله - بعسفان قال له سراقة بن مالك المدلجي: يا
رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم، فقال " ان الله تعالى قد ادخل عليكم
في حجكم هذا عمرة، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل الا
من كان معه هدي 1.
عسفان بين الجحفة ومكة والجحفة تبعد عن مكة أربع مراحل.
وفي سرف التي تبعد ستة أميال أو أكثر من مكة بلغ عامة أصحابه ان من
أحب ان يجعلها عمرة فليفعل كما روته عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله في أشهر الحج
وليالي الحج وحرم الحج فنزلنا بسرف، قالت: فخرج إلى أصحابه فقال: " من لم يكن
معه هدي فأحب ان يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه الهدي فلا " قالت: فالآخذ بها
والتارك لها من أصحابه 2.
يظهر مما سبق ان التاركين لها كانوا من مهاجرة قريش الذين كانوا يرون في
الجاهلية ان العمرة في أشهر الحج من افجر الفجور.
وكرر التبليغ بذلك بعد نزولهم بطحاء مكة حسب ما رواه ابن عباس قال:
قدم لأربع مضين من ذي الحجة فصلى بنا الصبح بالبطحاء ثم قال: " من
شاء ان يجعلها عمرة فليجعلها " 3.
هكذا تدرج الرسول في تبليغ هذا الحكم حتى إذا أتموا الطواف والسعي، نزل

(1) سنن أبي داود ج 1 / 159 باب في الاقران الحديث 1801 من المناسك، والمنتقى لابن تيمية باب
ما جاء في فسخ الحج إلى العمرة الحديث 2427.
وسراقة بن مالك بن جعشم أبو سفيان الكناني المدلجي. كان يسكن قديدا بالقرب من مكة، وهو الذي
تبع الرسول حين هاجر إلى المدينة ليرده إلى قريش فيأخذ الجعالة مائة ناقة فساخت قوائم فرسه، أسلم عام الفتح
مات سنة أربع وعشرين روى عنه غير مسلم من أصحاب الصحاح تسعة عشر حديثا، تقريب التهذيب 1 / 284،
وجوامع السيرة ص 283، وسيرة ابن هشام 2 / 103 و 250 و 309.
2) صحيح البخاري 2 / 189 باب قوله تعالى الحج أشهر معلومات، وصحيح مسلم ص 875 الحديث
123 و 121 بإيجاز، وكذلك بسنن البيهقي 4 / 356 باب المفرد أو القارن يريد العمرة...، ومصنف ابن أبي شيبة
4 / 102.
3) سنن البيهقي 5 / 4.
193

عليه القضاء في ذلك فأمرهم جميعا بذلك كما رواه البيهقي قال:
... نزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة فامر أصحابه من كان منهم أهل
بالحج ولم يكن معه هدي ان يجعلها عمرة وقال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت
لما سقت الهدي ولكني لبدت رأسي وسقت هديي فليس محل الا محل هديي " فقام
إليه سراقة بن مالك (رض) فقال: يا رسول الله! اقض لنا قضاء قوم ولدوا اليوم أعمرتنا
هذه لعامنا أم للأبد فقال رسول الله (ص) بل للأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم
القيامة... 1
في الأحاديث السابقة قال رسول الله (ص) لعمر: امرني ربي ان أقول " عمرة
في حجة " أو " عمرة وحجة " اي ان انوي في سفري هذا الجمع بين الحج والعمرة.
وقال في جواب سراقة بعسفان: ان الله قد ادخل في حجكم هذا عمرة، خص
التبليغ في حجهم ذاك.
ثم بلغ عامة الحاج معه بسرف بلفظ من أحب ان يجعلها عمرة وفي بطحاء مكة
بلفظ من شاء ان يجعلها حتى إذا حان وقت الأداء والاحلال من العمرة بلغهم كافة ان
العمرة دخلت في الحج للأبد.
وقول سراقة في الحرتين (قضاء قوم ولدوا اليوم) يقصد بغض النظر عما كانت
عليه قريش في الجاهلية وهاهنا تواترت الروايات بما فعله الرسول وكيف بلغ حكم
التمتع بالعمرة إلى الحج كما يأتي:
قال انس كما في مسند أحمد والمنتقى: خرجنا نصرخ بالحج فلما قدمنا مكة
أمرنا رسول الله ان نجعلها عمرة وقال " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة
ولكني سقت الهدي وقرنت بين الحج والعمرة " 2.
وقال أبو سعيد الخدري كما في صحيح مسلم ومسند أحمد: خرجنا مع رسول
الله نصرخ بالحج صراخا فلما قدمنا مكة أمرنا ان نجعلها عمرة الا من ساق الهدي فلما

(1) سنن البيهقي 5 / 6 وتلبيد الشعر ان يجعل فيه شيئا من صمغ عند الاحرام لئلا يشعث ويقمل ابقاء
على الشعر وإنما يلبد من يطول مكثه في الاحرام، نهاية اللغة.
2) المنتقى الحديث 2393 نقله عن مسند أحمد.
194

كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج 1.
وفي زاد المعاد لابن القيم قال: وفي الصحيحين عن عائشة: (خرجنا مع رسول
الله لا نذكر الا الحج). فذكرت الحديث وفيه (فلما قدمنا مكة قال النبي (ص)
لأصحابه اجعلوها عمرة فأحل الناس إلا من كان معه الهدي... (أ).
قال: وفي لفظ البخاري: خرجنا مع رسول الله (ص) ولا نرى إلا الحج فلما
قدمنا تطوفنا بالبيت فأمر النبي (ص) من لم يكن ساق الهدي ان يحل فحل من لم يكن
ساق الهدي ونساؤه لم يسقن فاحللن (ب).
قال وفي صحيح مسلم عن ابن عمر عن حفصة زوج النبي قال: حدثتني ان
النبي أمر أزواجه ان يحللن عام حجة الوداع فقلت ما منعك ان تحل؟ فقال " اني لبدت
رأسي وقلدت بدني فلا أحل حتى انحر الهدى (ج).
قال وفي صحيح البخاري عن ابن عباس (رض): أهل المهاجرون والأنصار
وأزواج النبي في حجة الوداع وأهل لنا فلما قدمنا مكة أمرنا ان نجعلها عمرة قال رسول
الله (ص) " اجعلوا أهلا لكم بالحج عمرة الا من قلد الهدى... " الحديث (د).
وأتم ما ورد في هذا الباب ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري في كيفية حجة
النبي والتي أخرجها أصحاب الصحاح ونحن نورد ملخصها هاهنا عن صحيح مسلم.
روى مسلم في صحيحه في باب حجة النبي عن جابر أنه قال ما ملخصه: ان
رسول الله (ص) مكث تسع سنين لم يحج ثم اذن في العاشرة ان رسول الله حاج فقدم
المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله ويعمل مثل عمله فخرجنا معه حتى
أتينا ذا الحليفة فصلى رسول الله في المسجد ثم ركب القصواء - ناقته - حتى إذا

(1) صحيح مسلم الحديث 211، وفي 212 عنه، وعن جابر ص 914، ومسند أحمد ج 3 / 3 و 5 و 71
و 75 و 148 و 266، والمنتقى الحديث 2418 واللفظ للأول.
أ) هذا الحديث وثلاثة بعده أخرجها ابن القيم في زاد المعاد بفصل في احلال من لم يكن ساق
الهدى 1 / 246 - 247، ونحن نبين مواضعها.
الحديث (أ) بصحيح مسلم الحديث 120 ص 873 و 874، وابن ماجة الحديث 2981.
ب) صحيح البخاري كتاب الحج باب التمتع والاقران والافراد بالحج، الحديث الأول 1 / 189،
وصحيح مسلم الحديث 128 ص 877 وسنن أبي داود 2 / 154 باب في افراد الحج الحديث 1783 وليس في
لفظه: ونساؤه...
ج) صحيح مسلم الحديث 177 - 179 ص 902 - وسنن أبي داود 2 / 161 الحديث 1806.
د) صحيح البخاري ج 1 / 191 كتاب الحج باب 36.
195

استوت به ناقته على البيداء نظرت مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه
مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله بين أظهرنا وعليه
ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شئ عملنا به، فأهل بالتوحيد...
إلى قوله: لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه
استلم الركن...
وهكذا وصف جابر ما عمل به رسول الله إلى قوله: حتى إذا كان آخر طوافه
على المروة فقال " لو اني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة
فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة ".
قال جابر: فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم
للأبد؟ فشبك رسول الله (ص) أصابعه واحدة في الأخرى وقال " دخلت العمرة في
الحج " مرتين. " لا، بل لابد أبد " 1.
وفي البخاري: قال سراقة: ألنا هذ خاصة قال " لا بل للأبد " 2.
كيف تلقى الصحابة حكم التمتع بالعمرة
ذكرنا في ما سبق كيف تدرج النبي (ص) في تبليغهم تشريع التمتع بالعمرة إلى
الحج، وفي ما يلي نذكر كيف تلقته الصحابة يومذاك:
في صحيح مسلم عن ابن عباس: قال: قدم النبي (ص) وأصحابه لأربع
خلون من العشر - أي من العشرة الأولى من ذي الحجة - وهم يلبون بالحج فأمرهم أن
يجعلوها عمرة.
وفي أخرى بعده: أن يحولوا إحرامهم بعمرة إلا من كان معه الهدى 3.

(1) صحيح مسلم باب حجة النبي الحديث 147 ص 886 - 888، وسنن أبي داود المناسك ج
2 / 182، وسنن ابن ماجة المناسك ص 1022، وسنن الدارمي المناسك باب في سنة الحاج 2 / 44، ومسند أحمد
3 / 32، وسنن البيهقي 5 / 7 باب ما يدل على أن النبي (ص) أحرم احراما واحدا، ومنحة المعبود الحديث 991
وفي المحلى 7 / 100 لابد أبد قيل: بإضافة الأول للثاني اي لاخر الدهر.
2) صحيح البخاري كتاب التمني باب قول النبي لو استقبلت من أمري ما استدبرت 4 / 166.
3) صحيح مسلم الحديث 201 - 203 من باب جواز العمرة في أشهر الحج ص 911، وفي سنن
أبي داود 2 / 156 الحديث 1791 عن ابن عباس: ان النبي قال " إذا أهل الرجل بالحج ثم قدم مكة فطاف
بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل، وهي عمرة "...
196

وفي ثالثة: قدم النبي وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها
عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله! أي الحل؟! قال: " الحل كله " 1.
وفي رابعة: قال رسول الله (ص): " هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده
الهدي فليحل الحل كله فان العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة " 2.
وفي رواية أخرى بصحيحي البخاري ومسلم عن جابر: انه حج مع رسول الله
عام ساق معه الهدي وقد أهلوا بالحج مفردا، فقال رسول الله (ص): " أحلوا من
إحرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا وأقيموا حلالا حتى إذا كان يوم
التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم متعة " - أي عمرة التمتع - قالوا: كيف
نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟! قال " افعلوا ما آمركم به فاني لولا أني سقت الهدي
لفعلت مثل الذي أمرتكم به ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله " 3.
وفي رواية ثانية لجابر بصحيح البخاري وسنن أبي داود ومسند أحمد وغيرها
واللفظ للأول، قال: فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر... الحديث 4.
وفي ثالثة بصحيحي البخاري ومسلم وسنن ابن ماجة وأبي داود ومسند أحمد
واللفظ للأول: عن عطاء، قال: سمعت جابر بن عبد الله في أناس معه، قال: أهللنا
أصحاب رسول الله (ص) في الحج خالصا ليس معه عمرة، قال: فقدم النبي (ص)
صبح رابعة مضت من ذي الحجة فلما قدمنا أمرنا النبي أن نحل وقال: أحلوا وأصيبوا
من النساء، قال: ولم يعزم عليهم ولكن أحلهن لهم فبلغه انا نقول: لما لم يكن بيننا
وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نحل إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا قال: فقام رسول
الله (ص) فقال " قد علمتم اني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما

(1) صحيح مسلم الحديث 198 ص 909 باب جواز العمرة، وصحيح البخاري 1 / 191 وهذا
الروايات الثلاث في زاد المعاد لابن القيم 1 / 246.
2) صحيح مسلم ص 911 باب جواز العمرة في أشهر الحج الحديث 201 - 203، وسنن أبي داود
2 / 156، والبيهقي 5 / 18، والحديث 2423 من المنتقى والمصنف لابن أبي شبية 4 / 202.
3) صحيح البخاري 1 / 190 باب التمتع والاقران والافراد بالحج...، وصحيح مسلم ص 884 -
885 باب بيان وجوه الاحرام... الحديث 143، وزاد المعاد 1 / 248 فصل في اهلاله بالحج.
4) صحيح البخاري 1 / 213، و 4 / 166 كتاب التمني باب لو استقبلت من أمري ما استدبرت، وسنن
أبي داود 2 / 156 باب افراد الحج الحديث 1789 باختلاف يسير، ومسند أحمد 3 / 305، وسنن البيهقي 5 / 3 باب
من اختار الافراد...، و ج 4 / 338 منه، وزاد المعاد 1 / 246 فصل في احلال من لم يكن ساق الهدي.
197

تحلون فحلوا فلو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما أهديت... الحديث 1.
وفي رابعة بصحيح البخاري: قال: قدم رسول الله (ص) صبيحة رابعة من
ذي الحجة مهلين بالحج لا يخلطهم شئ فلما قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة وأن نحل إلى
نسائنا ففشت في ذلك القالة.
إلى قوله: فبلغ ذلك النبي (ص) فقام خطيبا، فقال " بلغني أن أقواما يقولون:
كذا وكذا والله لأنا أبر واتقى لله منهم... " الحديث 2.
وفي رواية الصحابي البراء بن عازب بسنن ابن ماجة ومسند أحمد ومجمع الزوائد
- واللفظ للأول - قال: خرج رسول الله (ص) وأصحابه فأحرمنا بالحج فلما قدمنا
مكة، قال: " اجعلوا حجكم عمرة " فقال الناس: يا رسول الله! قد أحرمنا بالحج
فكيف نجعلها عمرة؟! قال: " انطروا ما آمركم به فافعلوا " فردوا عليه القول، فغضب
فانطلق ثم دخل على عائشة غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت: من أغضبك
أغضبه الله! قال: " مالي لا أغضب وأنا آمر أمرا فلا اتبع " 3.
وقد حدثت عائشة عن هذا وقالت كما في صحيح مسلم وغيره واللفظ لمسلم
عن عائشة قالت: قدم رسول الله لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل علي وهو
غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار قال: " أو ما شعرت اني
أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون " 4.
وفي رواية ابن عمر ذكر ما قالوه، قال: قالوا: يا رسول الله أيروح إلى منى
وذكره يقطر منيا؟! قال: " نعم " وسطعت المجامر 5.

(1) فتح الباري 17 / 108 - 109 باب نهي النبي على التحريم من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة،
وصحيح مسلم ص 883 باب وجوه الاحرام الحديث 141، وسنن أبي داود باب افراد الحج، وابن ماجة باب
التمتع بالعمرة، والبيهقي 4 / 338، و ج 5 / 19، وزاد المعاد 3 / 246، ومسند أحمد 3 / 356.
2) البخاري 2 / 52 كتاب الشركة باب الاشتراك في الهدي، وسنن ابن ماجة 1 / 992 الحديث
298.
3) سنن ابن ماجة ص 993 باب فسخ الحج، ومسند أحمد 4 / 286، ومجمع الزوائد 3 / 233 باب فسخ
الحج إلى العمرة، وزاد المعاد 1 / 247، والمنتقى باب ما جاء في فسخ الحج إلى العمرة الحديث 2428.
4) صحيح مسلم ص 879 باب بيان وجوه الاحرام وانه يجوز افراد الحج... الحديث 130، وزاد
المعاد 1 / 247، وسنن البيهقي 5 / 19 باب من اختار التمتع بالعمرة إلى الحج ومنحة المعبود ح 1051.
5) صحيح مسلم ص 884 باب بيان وجوه الاحرام الحديث 142، وقريب منه لفظ زاد المعاد 1 / 248
فصل في اهلاله (ص) بالحج، وسنن البيهقي 4 / 356، و 5 / 4، والمنتقى الحديث 2426، ومجمع الزوائد 3 / 233.
198

سطعت المجامر أي سطعت رائحة المسك من المجامر وفي الجملة كناية عن مباشرة
الرجال للنساء بعد تهيؤهن لذلك.
وفي رواية جابر بصحيح مسلم قال: أهللنا مع رسول الله بالحج فلما قدمنا
مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا فبلغ ذلك النبي فما
ندري أشئ بلغه من السماء أم شئ من قبل الناس، فقال: " أيها الناس أحلوا فلولا
الهدي الذي معي فعلت كما فعلتم " قال: فاحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا ما يفعل
الحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج 1.
وفي رواية أخرى قال: قلنا: اي الحل؟ قال: " الحل كله " قال: فاتينا النساء
ومسسنا الطيب فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج 2.
هكذا قبلوا ان يجمعوا بين الحج والعمرة في أشهر الحج ويتمتعوا بالحل بينهما
بكل صعوبة لأنه كان يخالف ما دأبوا عليه في العصر الجاهلي، وبما ان أم المؤمنين
عائشة حرمت من العمرة قبل الحج لما حاضت، أمر النبي ان تعتمر بعد الحج كما
صرحت به الروايات الآتية:
عائشة فاتتها العمرة قبل الحج فأمرها النبي ان تعتمر بعده
في صحيح مسلم عن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي ولا نرى الا الحج حتى
إذا كنا بسرف أو قريبا منه حضت فدخل علي النبي وانا أبكي فقال: " أنفست؟ "
(يعني الحيضة، قالت) قلت: نعم. قال " ان هذا شئ كتبه الله على بنات ادم فاقضي
ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي " 3.
وفي رواية قبلها: فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله مع عبد الرحمن بن أبي بكر

(1) صحيح مسلم ص 882 الحديث 138، والمنتقى الحديث 2400 و 2415 باب ادخال الحج على
العمرة.
2) زاد المعاد 1 / 246.
3) " سرف " بين مكة والمدينة وعلى أميال من مكة. والحديث 119 بباب " بيان وجوه الاحرام "
من صحيح مسلم ص 873، وفى سنن أبي داود 2 / 154 مع اختلاف يسير، وكذلك في ابن ماجة الحديث
2963.
199

إلى التنعيم فاعتمرت فقال " هذه مكان عمرتك " 1.
وفي رواية أخرى بصحيح مسلم وسنن أبي داود أتم مما مضى: قالت: خرجنا
مع رسول الله في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله (ص) " من كان معه
هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا " فقدمت مكة وانا
حائض، ولم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله (ص)
فقال " انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة " قالت: ففعلت، فلما
قضينا الحج أرسلني رسول الله (ص) مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت،
فقال: " هذه مكان عمرتك " قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا
والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد ان رجعوا من منى لحجهم... الحديث 2.
وفي رواية أخرى قالت: فأردفني خلفه على جمل له فجعلت ارفع خماري احسره
عن عنقي فيضرب رجلي بعلة الراحلة. قلت: وهل ترى من أحد. قالت: فأهللت
بعمرة. ثم اقبلنا حتى انتهينا إلى رسول الله وهو بالحصبة 3.
وفي صحيح البخاري عن عائشة: انها قالت: يا رسول الله اعتمرتم ولم اعتمر
فقال: يا عبد الرحمن اذهب بأختك فاعمرها من التنعيم فأحقبها على ناقة فاعتمرت 4.
وفي سنن أبي داود والبيهقي واللفظ للأول عن ابن عباس، قال: ما أعمر رسول
الله (ص) عائشة ليلة الحصبة الا قطعا لأمر أهل الشرك فإنهم كانوا يقولون: إذا برأ
الدبر وعفا الأثر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر.
ولفظ البيهقي: قال: ما أعمر رسول الله (ص) عائشة في ذي الحجة الا ليقطع

(1) " التنعيم " موضع على ثلاثة أميال أو أربعة من مكة. أقرب أطراف الحل إلى البيت. سمي
بالتنعيم لان على يمينه جبل نعيم، وعلى يساره جبل ناعم.
والحديث في باب " بيان وجوه الاحرام " من صحيح مسلم ص 870 الحديث 111، وأورد أحاديث
الباب ابن كثير في تاريخه 5 / 138 - 139.
2) سنن أبي داود ج 2 / 153 باب في افراد الحج الحديث 1781، ومنحة المعبود الحديث 990 صحيح
مسلم باب بيان وجوه الاحرام الحديث 111 ص 870.
3) الحديث 134 من باب " بيان وجوه الاحرام " بصحيح مسلم ص 880، الخمار: ثوب تغطي به
المرأة رأسها و " احسره " اي اكشفه وأزيله و " يضرب رجلي بعلة الراحلة " اي يضرب رجلها بعود بيده حين
تكشف خمارها غيرة عليها و " الحصبة " المحصب وهو موضع رمي الجمار بمنى.
4) صحيح البخاري 2 / 184.
200

بذلك أمر أهل الشرك فان هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون: إذا عفا
الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر حلت العمرة لمن اعتمر وكانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ
ذو الحجة ومحرم.
وفي لفظ الطحاوي: والله ما أعمر رسول الله (ص) عائشة في ذي الحجة الا
ليقطع بذلك أمر الجاهلية 1.
وقع كل ما ذكرنا من أمر التمتع بالعمرة إلى الحج في حجة الوداع وفي آخر سنة
من حياة النبي: ويبدو ان الممتنعين من التمتع بالعمرة إلى الحج الذين تعاظم عليهم ذلك
كانوا من مهاجرة قريش من أصحاب النبي ويدل على ذلك:
أولا: ما رواه ابن عباس في حديثه " ان هذا الحي من قريش ومن دان دينهم
كانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة ومحرم 2.
ثانيا: ان الذين منعوه بعد رسول الله - أيضا - هم ولاة المسلمين من قريش
كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وكانوا يقصدون من وراء ذلك احترام الحج على حد زعمهم وان يأتي الناس
إلى مكة مرتين: مرة للحج ومرة للعمرة لما فيه ربيع قريش من سكان مكة كما يفهم
هذا من الحديث للخليفة عمر حين نهى عن التمتع بالعمرة 3.
على عهد أبي بكر
حرمت قريش في العصر الجاهلي الجمع بين الحج والعمرة في أشهر الحج ورأته
من افجر الفجور، وشرعه الاسلام وسنه الرسول فلم ير من ولى من قريش بعد الرسول
العمل بذلك فافردوا الحج عن العمرة وأول من ذكروا انه أفرد الحج الخليفة القرشي
أبو بكر حسب ما روى البيهقي في سننه عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال:

(1) سنن أبي داود باب العمرة 2 / 204، ومسند أحمد 1 / 161 الحديث 2361، والسنن الكبرى للبيهقي
4 / 345 باب العمرة في أشهر الحج، وراجع مشكل الآثار للطحاوي ج 3 / 155 و 156.
2) راجع قبله حديث البيهقي في فصل عائشة فاتتها العمرة.
3) راجع بعده رواية كنز العمال وحلية الأولياء في باب على عهد عمر.
201

حججت مع أبي بكر (رض) فجرد ومع عمر (رض) فجرد ومع عثمان (رض)
فجرد 1.
جرد: أي أفرد الحج.
على عهد الخليفة عمر
كان أول من أفرد الحج بعد الرسول الخليفة القرشي أبو بكر وكذلك كان أول
من نهى المسلمين عن عمرة التمتع بعد الرسول الخليفة القرشي عمر كما دلت عليه
الروايات الآتية:
في صحيح مسلم ومسند الطيالسي وسنن البيهقي وغيرها واللفظ للأول، عن
جابر، قال: تمتعنا مع رسول الله (ص) فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما
شاء بما شاء، وان القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله وأبتوا
نكاح هذه النساء فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل الا رجمته بالحجارة.
وبعده في صحيح مسلم: فافصلوا حجكم عن عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم
لعمرتكم 2.
وأورد البيهقي الرواية في سننه بتفصيل أوفى، قال جابر: تمتعنا مع رسول
الله (ص) ومع أبي بكر (رض) فلما ولي عمر خطب الناس فقال: " ان رسول الله (ص)
هذا الرسول وان القرآن هذا القرآن وانهما كانتا متعتان على عهد رسول الله وانا انهى
عنهما وأعاقب عليها إحداهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل الا
غيبته بالحجارة والأخرى متعة الحج افصلوا حجكم عن عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم
لعمرتكم 3.
يشير الخليفة في الحديث الأول ان الله أحل لرسوله التمتع بالعمرة إلى الحج لأنه
كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء وليس من تمام العمرة والحج ان يجمع بينهما فافصلوا
حجكم عن عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم.

(1) سنن البيهقي 5 / 5 باب من اختار الافراد ورآه أفضل، وتاريخ ابن كثير 5 / 123.
2) صحيح مسلم ص 885 باب في المتعة بالحج والعمرة الحديث 145، ومسند الطيالسي ص 247
الحديث 1729، وسنن البيهقي 5 / 21.
3) سنن البيهقي 7 / 206 باب نكاح المتعة وفي لفظه " هذا القرآن هذا القرآن " تحريف.
202

ويعين الحديث الآتي الحادثة التي نهى عمر بعدها عن الجمع بين الحج
والعمرة:
عن الأسود بن يزيد قال: بينما انا واقف مع عمر بن الخطاب بعرفة عشية عرفة
فإذا هو برجل مرجل شعره يفوح منه ريح الطيب. فقال له عمر: أمحرم أنت؟ قال:
نعم. فقال عمر: ما هيئتك بهيئة محرم، إنما المحرم الأشعث الأغبر الأذفر، قال: إني
قدمت متمتعا وكان معي أهلي وإنما أحرمت اليوم فقال عمر عند ذلك: لا تتمتعوا في
هذه الأيام. فاني لو رخصت في المتعة لهم لعرسوا بهن في الأراك، ثم راحوا بهن
حجاجا 1.
ترجيل الشعر تسريحه وتنظيفه وتحسينه والأذفر هنا: الرائحة الكريهة.
قال ابن القيم بعد ايراد الراوية: وهذا يبين ان هذا من عمر رأي رآه، قال ابن
حزم. وكان ماذا وحبذا ذلك، وقد طاف النبي (ص) على نسائه ثم أصبح محرما، ولا
خلاف ان الوطئ مباح قبل الاحرام بطرفة عين.
وتحدث أبو موسى الأشعري عما جرى له مع الخليفة في شأن متعة الحج وقال
كما رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما وغيرهما واللفظ لمسلم.
كان رسول الله (ص) بعثني إلى اليمن فوافقته في العام الذي حج فيه فقال لي
رسول الله (ص) " يا أبا موسى! كيف قلت حين أحرمت؟ " قال: قلت: لبيك اهلالا
كاهلال النبي (ص) فقال " هل سقت هديا؟ " فقلت: لا، قال " فانطلق فطف
بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أحل...
وتمام الحديث في رواية قبلها: فطفت بالبيت وبالصفا وبالمروة ثم أتيت
امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي.
وفي رواية: ثم أهللت بالحج.
وزاد عليه أحمد بمسنده، يوم التروية، قال: فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة
أبي بكر وإمارة عمر فاني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث
أمير المؤمنين في شأن النسك.

(1) زاد المعاد 1 / 258 - 259 فصل: في ما جاء في المتعة من الخلاف.
والأسود بن يزيد بن قيس النخعي أبو عمرو أو أبو عبد الرحمن مخضرم ثقة مكثر فقيه من الطبقة الثانية
اخرج حديثه جميع أصحاب الصحاح مات سنة أربع أو خمس وسبعين تقريب التهذيب 1 / 77.
203

ولفظ البيهقي: " فبينا أنا عند الحجر الأسود والمقام أفتى الناس بالذي امرني
به رسول الله (ص) إذ جاءني رجل فسارني فقال: لا تعجل بفتياك فان أمير المؤمنين
أحدث في المناسك " 1.
فقلت: أيها الناس من كنا أفتيناه بشئ فليتئد، فهذا أمير المؤمنين قادم
عليكم فبه فائتموا، قال: فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدثت بشأن
النسك؟
ولفظ البيهقي: " أحدث في النسك شئ فغضب عمر أمير المؤمنين من ذلك ثم
قال... " إن نأخذ بكتاب الله فان كتاب الله يأمر بالتمام 2.
وفي رواية: فان الله عز وجل قال: " فأتموا الحج والعمرة لله " 3 وإن نأخذ
بسنة نبينا عليه الصلاة والسلام فان النبي لم يحل حتى نحر الهدي 4.
وقد بين الخليفة في حديث آخر ما يراه أتم للحج والعمرة كما رواه مالك في
موطئه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر قال: إن عمر بن الخطاب، قال: افصلوا بين
حجكم وعمرتكم فان ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر
الحج 5.
وفي رواية أخرى: قال عمر: افصلوا بين حجكم وعمرتكم اجعلوا الحج في
أشهر الحج واجعلوا العمرة في غير أشهر الحج أتم لحجكم وعمرتكم 6.

(1) سنن البيهقي 5 / 20.
2) سنن البيهقي 4 / 338 باب الرجل يحرم بالحج تطوعا، و ج 5 / 20 منحة المعبود ح 1502.
3) البقرة / 196.
4) صحيح مسلم الحديث 156 و 155 من باب في فسخ التحلل ص 895 - 896، والبخاري
1 / 188 - 189، وسنن النسائي باب التمتع 2 / 15، وباب الحج بغير نية يقصد الحرم ص 18، ومسند أحمد
4 / 393 و 395 و 410، وسنن البيهقي 4 / 88، وكنز العمال باب التمتع من كتاب الحج ج 5 / 86، والبخاري
1 / 214 أورد الحديث بإيجاز.
5) موطأ مالك كتاب الحج باب ما جاءه في العمرة 1 / 319، وسنن البيهقي ج 5 / 5 باب من اختار
الافراد ورآه أفضل.
6) تفسير السيوطي ج 1 / 218 بتفسير " الحج أشهر معلومات " عن ابن أبي شيبة، وحلية الأولياء
لأبي نعيم 5 / 205، وشرح معاني الآثار مناسك الحج ص 375.
204

خلاصة ما في هذه الأحاديث:
إن الخليفة عمر كان يرى الفصل بين الحج والعمرة أتم لهما وذلك بان يجعل
الحج في أشهر الحج ويجعل العمرة في غيرها ويستدل من الكتاب لما يرى بقوله تعالى
" وأتموا الحج والعمرة لله " ومن السنة بعمل النبي في حجة الوداع حيث لم يحل حتى
نحر الهدى.
وفى حين ان المراد باتمام الحج والعمرة في الآية أداء مناسكهما وإتمام سننهما
بحدودهما في مقابل المصدود والخائف الذي لا يستطيع أداءها. وقد نصت الآية بعد
هذه الجملة على تشريع عمرة التمتع بقوله تعالى " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " ونص
النبي على أنه لم يحل لأنه ساق الهدي وقال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم
أسق الهدي وجعلتها عمرة " وقال: " دخلت العمرة في الحج إلى الأبد " وحاشا
أبا حفص ألا يدرك كل ذلك وخاصة بعد ما روى عنه ابن عباس كما في سنن النسائي
وقال: سمعت عمر يقول: والله إني لانهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله ولقد
فعلتها مع رسول الله (ص) يعني العمرة في الحج 1.
إذا فاستشهاده بالكتاب والسنة غير وجيه وإن دافعه إلى ما فعل هو ما أفصح
عنه. في حديث آخر له رواه أبو نعيم في حلية الأولياء والمتقي في كنز العمال واللفظ
للأول قال: إن عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج وقال: فعلتها مع رسول
الله (ص) وأنا انهى عنها وذلك أن أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا
أشهر الحج وإنما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثم يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس
ويتطيب ويقع على أهله إن كانوا معه حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحج وخرج إلى
منى يلبي بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلا يوما والحج أفضل من العمرة،
لو خلينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الأراك، وان أهل البيت ليس لهم ضرع ولا
زرع وإنما ربيعهم في من يطرأ عليهم 2.
وفي رواية أخرى، قال عمر: قد علمت أن النبي فعله وأصحابه ولكن كرهت

(1) النسائي ج 2 / 16، وط. بيروت، دار احياء التراث العربي ج 5 / 135، وتاريخ ابن كثير 5 / 122
ولفظه " وقد فعله النبي "، قال ابن كثير: اسناد جيد.
2) كنز العمال 5 / 86، وحلية الأولياء 5 / 205.
205

أن يظلوا معرسين لهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم 1.
في هذين الحديثين يصرح الخليفة بان دافعه إلى ما فعل أمران:
أولا: احترام الحج، ويحتج هنا لما يرى بعين الاحتجاج الذي احتجت به
الصحابة عندما أبت على رسول الله التمتع بالعمرة إلى الحج في حجة الوداع، ومن هنا
نرى ان قائل القول في المقامين أيضا واحد وهم مهاجرة قريش الذين رأوا في عمرة التمتع
مخالفة لما دأبوا عليه من سنن الحج والعمرة في الجاهلية.
والدافع الثاني له إلى منع الجمع بين الحج والعمرة في سفرة واحدة ما صرح به
في أحد الحديثين من " ان أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم في من يطرأ
عليهم ".
إذا فالخليفة يأمر بالفصل بين الحج والعمرة وان تجعل العمرة في غير أشهر
الحج ليأتي المسلمون إلى مكة مرتين مرة للحج وأخرى للعمرة ففيه ربيع ذوي أرومته
من قريش سكان الحرم.
ويقصد هذا - أيضا - في جوابه لعلي بن أبي طالب كما في سنن البيهقي قال:
قال علي بن أبي طالب لعمر (رض) أنهيت عن المتعة قال: لا، ولكني أردت
كثرة زيارة البيت، قال: فقال علي (رض) من أفرد الحج فحسن ومن تمتع فقد أخذ
بكتاب الله وسنة نبيه (ص) 2.
كان ما تقدم كل ما انتهى إلينا من أخبار نهى عمر (رض) عن عمرة التمتع
على قلة ما لدينا من مصادر البحث، وما ذكرناه على قلته ألقى بعض الضوء على اجتهاد
عمر في هذا الحكم ودافعه إلى ما تأول، وقد أدركنا من مجموع ما تقدم ان نهى عمر
كان شديدا عن متعة الحج وكان يضرب الناس عليها 3 قال ابن كثير: وقد كان
الصحابة رضي الله عنهم يهابونه كثيرا فلا يتجاسرون على مخالفته 4 ولم نجد من يعارضه

(1) صحيح مسلم الحديث 157 ص 896، ومسند الطيالسي الحديث 516 ج 2 / 70، ومسند أحمد
1 / 49 و 50، وسنن النسائي كتاب الحج باب التمتع 2 / 16، وسنن البيهقي 5 / 20، وابن ماجة الحديث 2979
ص 692، وكنز العمال 5 / 86.
2) سنن البيهقي 5 / 21.
3) نقل ذلك النووي في شرح صحيح مسلم 1 / 170 عن القاضي عياض.
4) تاريخ ابن كثير 5 / 141.
206

على عهد أو يتكلم ببنت شفة في خلافه عدا ما كان من قول علي له (ومن تمتع فقد
اخذ بكتاب الله وسنة نبيه) 1.
وأصبح إفراد الحج بعد ذلك سنة عمرية استن الخلفاء القرشيون به كما نرى
ذلك في سيرة عثمان وغيره في ما يلي.
على عهد عثمان
تابع عثمان عمر في ما استن من الفصل بين الحج والعمرة ولا غرو من ذلك
فان كليهما من مهاجرة قريش ولا فارق بينهما وبين عهديهما في ما يعود إلى هذا الحكم
عدا ما كان من مجاهرة الإمام علي على مخالفة عثمان فيه وأمره من معه ان يجاهروا
بمخالفته في حين ان أحدا لم يستطع ان يجاهر الخليفة عمر في ذلك: بعد قوله: " متعتان
كانتا على عهد رسول الله (ص) انا انهى عنهما وأعاقب عليهما متعة الحج... " 2 وبعد
ضربه الناس على ذلك، وفي ما يلي الروايات التي ذكرت كيفية معارضة الامام
للخليفة:
في مسند أحمد عن عبد الله بن الزبير، قال: والله انا لمع عثمان بن عفان
بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام فيهم حبيب ابن مسلمة الفهري إذ قال عثمان،
وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج: ان أتم للحج والعمرة ان لا يكونا في أشهر الحج
فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل، فان الله تعالى قد
وسع الخير وعلي بن أبي طالب في بطن الوادي يعلف بعيرا له قال: فبلغه الذي قال
عثمان فاقبل حتى وقف على عثمان فقال: أعمدت إلى سنة سنها رسول الله (ص)
ورخصة رخص الله تعالى بها للعباد في كتابه تضيق عليهم فيها وتنهى عنها وقد كانت
لذي الحاجة ولنائي الدار ثم أهل بحجة وعمرة معا فاقبل عثمان على الناس فقال:
وهل نهيت عنها اني لم انه عنها، إنما كان رأيا أشرت به فمن شاء اخذ به ومن شاء
تركه 3.

(1) مضى آنفا مصدره.
2) مضى في أول هذا البحث مصدره.
3) مسند أحمد 1 / 92 الحديث 707، وراجع ذخائر المواريث 416، والجحفة على ثلاث مراحل من
مكة في طريق المدينة.
207

وفي موطأ مالك، عن جعفر بن محمد عن أبيه ان المقداد بن الأسود دخل على
علي بن أبي طالب بالسقيا وهو ينجع بكرات له دقيقا وخبطا فقال: هذا عثمان بن
عفان ينهى عن أن يقرن بين الحج والعمرة. فخرج علي بن أبي طالب وعلى يديه اثر
الدقيق والخبط فما انسى اثر الدقيق والخبط على ذراعيه حتى دخل على عثمان بن
عفان فقال: أنت تنهى عن أن يقرن بين الحج والعمرة؟ فقال عثمان ذلك رأيي فخرج
علي مغضبا وهو يقول: لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا 1.
وفي سنن النسائي ومستدرك الصحيحين ومسند أحمد واللفظ للأول عن سعيد
ابن المسيب، قال: حج علي وعثمان فلما كنا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع
فقال علي إذا رأيتموه ارتحل فارتحلوا، فلبى علي وأصحابه بالعمرة فلم ينههم عثمان،
فقال علي: ألم أخبر انك تنهى عن التمتع، قال: بلى قال له علي: ألم تسمع رسول
الله (ص) تمتع؟ قال: بلى! 2
قال الامام السندي بهامشه: قوله: " إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا " اي ارتحلوا
معه ملبين بالعمرة ليعلم انكم قدمتم السنة على قوله وانه لا طاعة له في مقابلة السنة 3.
وأخرجه أحمد بلفظ آخر هذا نصه: حج عثمان حتى إذا كان في بعض الطريق
أخبر علي ان عثمان نهى أصحابه عن التمتع بالعمرة والحج فقال علي لأصحابه إذا راح
فروحوا، فأهل علي وأصحابه بعمرة، فلم يكلمهم عثمان، فقال علي ألم أخبر انك نهيت
عن التمتع؟ ألم يتمتع رسول الله (ص)؟ قال: فما أدري ما اجابه عثمان 4.
في الروايات الآنفة نرى من الخليفة في شأن عمرة التمتع لينا وتسامحا وفي
غيرها أبدى غلظة وشدة في شأنها مثل الروايات التالية:
في صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن البيهقي وغيرها واللفظ للأول، عن شعبة
عن قتادة عن عبد الله بن شقيق، قال: كان عثمان ينهى عن المتعة وكان علي يأمر

(1) موطأ مالك الحديث 40 من باب القران في الحج ص 336، وابن كثير 5 / 129، و " السقيا " قرية
جامعة بطريق مكة، و " ينجع " يسقى، و " بكرات " جمع بكرة ولد الناقة أو الفتى منها، والخبط ورق ينفض
بالمخابط ويخلط بدقيق وغيره ويوخف بالماء ويسقى للإبل.
2) سنن النسائي 2 / 15 كتاب الحج باب التمتع، ومسند أحمد 1 / 57 الحديث 402 بمسند عثمان،
ومستدرك الصحيحين 1 / 472، وتاريخ ابن كثير 5 / 126 و 129.
3) الامام السندي هو أبو الحسن محمد بن عبد الهادي الحنفي نزيل المدينة المنورة (ت 1138 ه‍).
4) مسند أحمد 1 / 60 الحديث 424.
208

بها، فقال عثمان لعلي كلمة، ثم قال علي: لقد علمت انا قد تمتعنا مع رسول الله (ص)
فقال: أجل، ولكنا كنا خائفين!
وفي رواية بمسند احمد: فقال عثمان لعلي انك كذا وكذا.
وفي رواية أخرى: فقال عثمان لعلي قولا.
وفي اخر الرواية: قال شعبة فقلت لقتادة: ما كان خوفهم؟ قال: لا أدري 1.
في هذا الحديث كتموا قول عثمان لعلي وابدلوه مرة بلفظ. " انك كذا وكذا "
ومرة بلفظ " قولا " اما قول عثمان: " أجل ولكنا كنا خائفين " فلم يدر قتادة ما
خوفهم ولست أدري - أيضا - ولا المنجم يدري ما كان خوفهم وقد أمرهم رسول الله
بأداء عمرة التمتع في حجة الوداع وأدوها حينذاك اي في آخر سنة من حياة الرسول
وكان ذلك بعد انتشار الاسلام في الجزيرة العربية وبعد انحسار الشرك منها إلى الأبد.
قال ابن كثير: ولست أدري على م يحمل هذا الخوف، من اي جهة كان؟
وقال قبله: قد اطد له الاسلام، وفتح البلد الحرام، وقد نودي برحاب منى أيام
الموسم في العام الماضي: ان لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان 2.
في الحديث السابق احتج عثمان على صحة فتواه بأنهم أدوا عمرة التمتع لأنهم
كانوا خائفين وفي الأحاديث الآتية: لم يحتج بشئ وأبدى عنفا أكثر.
في صحيح مسلم والبخاري وسنن النسائي ومسند الطيالسي واحمد وغيرها
واللفظ للأول عن سعيد بن المسيب، قال: اجتمع علي وعثمان بعسفان وكان عثمان
ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله تنهى عنه؟ فقال
عثمان: دعنا منك! قال: لا أستطيع ان أدعك مني فلما رآى علي ذلك أهل بهما
جميعا 3.

(1) صحيح مسلم الحديث 158 ص 896 باب جواز التمتع، ومسند أحمد 1 / 97 الحديث 756 والرواية
الثانية في ص 60 الحديث 431، ونظيره الحديث 432 بعده، وسنن البيهقي 5 / 22، والمنتقى الحديث 2382،
وراجع كنز العمال ط. الأولى ج 3 / 33، وشرح معاني الأخبار كتاب مناسك الحج ص 380 و 381، وفي
تاريخ ابن كثير 5 / 127 بإيجاز، وقال في ص 129 منه بعد ايراد الحديث. فهذا اعتراف من عثمان (رض) بما
رواه علي ومعلوم ان عليا (رض) أحرم في حجة الوداع باهلال النبي.
2) تاريخ ابن كثير 5 / 137.
3) صحيح مسلم ص 897 الحديث 159 باب جواز التمتع، وصحيح البخاري ج 1 / 190 باب التمتع
والاقران، ومسند الطيالسي 1 / 16، ومسند أحمد 1 / 136 الحديث 1146، وسنن البيهقي 5 / 22، ومنحة المعبود
1 / 210 باب ما جاء في القران الحديث 1005، وراجع شرح معاني الآثار ص 371 وزاد المعاد 1 / 218 فصل
في جمعه بين الحج والعمرة، وص 220 منه بحث في أنه (ص) كان قارنا لا مفردا، وتاريخ ابن كثير 5 / 129.
وعسفان منزل بين الجحفة ومكة. معجم البلدان.
209

وفي صحيح البخاري وسنن النسائي والدارمي والبيهقي ومسند أحمد
والطيالسي وغيرها واللفظ للأول عن مروان بن الحكم، قال: شهدت عثمان وعليا
وعثمان ينهى عن المتعة وان يجمع بينهما فلما رآى علي أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة
معا، قال: ما كنت لأدع سنة النبي لقول أحد.
ولفظ النسائي: ان عثمان نهى عن المتعة وان يجمع بين الحج والعمرة معا
فقال عثمان: أتفعلها وانا أنهى عنها؟ فقال علي: لم أكن لأدع سنة رسول الله لاحد
من الناس.
وفي أخرى: لقولك 1.
قال ابن القيم بعد ايراد الأحاديث الآنفة:
" فهذا يبين ان من جمع بينهما كان متمتعا عندهم، وان هذا هو الذي فعله
رسول الله (ص) وقد وافقه عثمان على أن رسول الله (ص) فعل ذلك فإنه لما قال له:
" ما تريد إلى أمر فعله رسول الله (ص) تنهى عنه " لم يقل له. لم يفعله رسول الله (ص)
ولولا أنه وافقه على ذلك لا نكره ثم قصد علي موافقة النبي (ص) والاقتداء به في ذلك
وبيان ان فعله لم ينسخ وأهل لهما جميعا تقريرا للاقتداء به ومتابعته في القران لسنة نهى
عنها عثمان متأولا " 2 انتهى.
من مجموع الروايات الآنفة علمنا أن الامام عليا كان يتعمد الاجهار بمخالفة
الخليفة في اجهاره بنية حج التمتع وان الخليفة كان متسامحا فيه أحيانا ومتشددا أخرى.
ونرى أن تسامحه كان في أوائل عهده وان تشدده كان بعد ذلك، وبلغ من

1) صحيح البخاري 1 / 190، وسنن النسائي 2 / 15 باب القران، وسنن الدارمي باب القران 2 / 69،
وسنن البيهقي 4 / 352 و 5 / 22، ومسند الطيالسي 1 / 16 الحديث 95، ومسند أحمد 1 / 95 الحديث 733، و
1 / 136 الحديث 1139، وزاد المعاد 1 / 217، وراجع الطحاوي شرح معاني الآثار ص 376 كتاب مناسك
الحج، وكنز العمال 3 / 31، ومنحة المعبود ح 1004، وتاريخ ابن كثير 5 / 126 و 129.
2) زاد المعاد 1 / 218.
210

تشدده انه ضرب وحلق من فعل ذلك، روى ابن حزم: ان عثمان سمع رجلا يهل
بعمرة وحج، فقال: علي بالمهل، فضربه وحلقه 1 ضربه الخليفة تعذيبا له وحلقه
تشهيرا به ومثلة. ومع كل ذلك التشديد فان معارضة المسلمين بدئ على هذا العهد،
وكان البادئ بها الإمام علي، فهو الذي جاهر بخلافهم وامر رفاقه بذلك، ثم
انتشرت المعارضة بعد هذا على عهد الخلفاء الآخرين، اما ما جرى على عهد الامام فهذا
بيانه:
على عهد الإمام علي (ع)
رأينا الامام على عهد عثمان يعارضه أشد المعارضة في إقامة سنة الرسول هذه 2
فأحر به ان يقيمها على عهده حين لا معارض له في اقامتها ومع موافقة رغبة جماهير
المسلمين إياه في ذلك ولهذا السبب لم يكن هناك مبرر لحدوث القالة حول عمرة التمتع
يومذاك لتروى لنا وتدون في الكتب وإنما حدثت القالة مرة ثانية على عهد معاوية
حين جاهد في احياء سنة عمر كما يلي بيانه.
على عهد معاوية
كان معاوية على عهده جادا كل الجد في احياء سنن الخلفاء الثلاثة أبى بكر
وعمر وعثمان وخاصة في ما كان فيها ارغام لأهل البيت ومخالفة لمدرستهم لا سيما
الإمام علي، كانت هذه سياسته على العموم وفي ما يخص هذا الحكم ذكرت الروايات
التالية ما قام به هو وبعض جلاوزته من جهد 3.
في سنن النسائي عن ابن عباس، قال: هذا معاوية ينهى الناس عن المتعة وقد

(1) المحلى لابن حزم 7 / 107.
2) ومما رووا عن الامام في ذلك ما رواه ابن كثير في تاريخه 5 / 132 عن الحسن بن علي قال: خرجنا
مع علي فأتينا ذا الحليفة، فقال علي: انى أريد ان أجمع بين الحج والعمرة، فمن أراد ذلك، فليقل كما أقول، ثم لبى،
قال: لبيك بحجة وعمرة.
3) من أمثلة ذلك سياستهم في منع نشر حديث الرسول فقد منعه أبو بكر وعمر وتابعهم على ذلك فقال
على منبر الرسول " لا يحل لاحد يروى حديثا لم يسمع في عهد أبي بكر ولا عمر " منتخب كنز العمال بهامش
مسند أحمد 4 / 64، وقال معاوية " عليكم من الحديث بما كان في عهد عمر " رواه الذهبي بترجمة عمر من تذكرة
الحفاظ، ومنتخب الكنز ج 4 / 61 وراجع فصل مع معاوية من كتابنا، أحاديث عائشة.
211

تمتع النبي (ص) 1.
وفي سنن الدارمي عن محمد بن عبد الله بن نوفل، قال: سمعت عام حج
معاوية يسأل سعد بن مالك: كيف تقول بالتمتع بالعمرة إلى الحج؟ قال: حسنة جميلة.
قال: قد كان عمر ينهى عنها، فأنت خير من عمر، قال: عمر خير مني وقد فعل ذلك
النبي وهو خير من عمر 2.
ويبدو من بعض الروايات ان هذه المحاولة على عهد معاوية لم تقتصر عليه
فحسب بل اعانه عليه بعض جلاوزته أيضا كما تدل عليه الرواية التالية:
في موطأ مالك وسنن النسائي والترمذي والبيهقي وغيرها واللفظ للأول عن
محمد بن عبد الله بن الحارث: انه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج
معاوية بن أبي سفيان، وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك بن قيس:
لا يفعل ذلك الا من جهل أمر الله عز وجل، فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي!
فقال الضحاك: فان عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك، فقال سعد: قد صنعها رسول
الله (ص) وصنعناها معه 3.
والضحاك بن قيس قرشي فهري، ولذا قال له سعد " يا ابن أخي ". ولد
الضحاك قبل وفاة النبي بسبع سنين ولي على شرطة معاوية، وله في الحروب معه بلاء
عظيم وسيره على جيش على عهد الإمام علي فاغار على سواد العراق وقتل من لقي من
الاعراب، وأغار على الحاج واخذ أمتعتهم وقتل منهم. ولي دفن معاوية وأخبر يزيد بموته
وبايع ابن الزبير بعد يزيد وقاتل مروان بمرج راهط فقتل بها سنة أربع وستين 4.
هذا هو الضحاك بن قيس قائد جلاوزة معاوية ولا غرابة بعد ذلك ان يحتطب
هذا في حبال معاوية ويعينه في ما يبتغيه.
ويبدو ان معاوية بالإضافة إلى ما ذكرنا استعان بوضع الحديث للمنع من حج

(1) سنن النسائي باب التمتع.
2) سنن الدارمي 2 / 35. ومحمد بن عبد الله بن نوفل هو محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن
عبد المطلب في تقريب التهذيب 2 / 175 مقبول من الثالثة.
3) موطأ مالك 1 / 344 باب ما جاء في التمتع الحديث 60، وسنن النسائي 2 / 15 باب التمتع، والترمذي
4 / 38 باب ما جاء في التمتع، والبيهقي 5 / 17، وتفسير القرطبي 2 / 388، وقال: هذا حديث صحيح وزاد المعاد
2 / 218، وبدائع المنن ح 903، وابن كثير 5 / 127 و 135.
4) ترجمة الضحاك بأسد الغابة وفصل مع معاوية من كتاب أحاديث عائشة 1 / 243.
212

التمتع حسب ما رواه كل من البيهقي وأبي داود في سننهما وغيرهما واللفظ للأول: ان
معاوية قال لنفر من أصحاب رسول الله (ص). ولفظ أبي داود: قال لأصحاب رسول
الله أتعلمون... ان رسول الله نهى عن صفف النمور؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: وانا اشهد. قال: أتعلمون ان النبي (ص) نهى عن لبس الذهب الا
مقطعا؟ قالوا: اللهم نعم!
قال: أتعلمون ان النبي (ص) نهى ان يقرن بين الحج والعمرة؟ قالوا: اللهم
لا!
قال: والله انها لمعهن.
قال ابن القيم بعد ايراد الحديث: " ونحن نشهد بالله ان هذا وهم من معاوية
أو كذب عليه، فلم ينه رسول الله عن ذلك قط " 1 هكذا قال ابن القيم لحسن ظنه
بمعاوية ومن الطريف في الامر ان معاوية يروي رواية أخرى عن رسول الله يناقض فيها
نفسه وروايته هذه حسب ما رواها كل من البخاري ومسلم في صحيحهما واحمد في
مسنده واللفظ للأول عن ابن عباس قال: قال لي معاوية: أعلمت اني قصرت من
رأس رسول الله عند المروة بمشقص؟ فقلت له: لا اعلم هذا الا حجة عليك.
وفي لفظ المنتقى " في أيام العشر بمشقص ".
قال ابن القيم: وهذا مما أنكره الناس على معاوية وغلطوه فيه 2.
في الرواية الأولى يحلف أصحاب النبي ان النبي لم ينه عن قران العمرة بالحج
ضمن ما نهى عنه، ويحلف معاوية انه معهن، وتدلنا رواية معاوية هذه ان الروايات
الأخرى التي رويت موافقة لرأي معاوية أيضا وضعت في عصر معاوية كما سندرسها في
آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى اما الرواية الثانية التي ناقض فيها روايته الأولى فان
معاوية أراد ان يتبجح فيها بأنه كان مقربا من رسول الله وفي خدمته وفاته انها تناقض
فتواه وروايته الأولى وقد لاقى معاوية في سبيل احياء سنة عمر مخالفة شديدة من سعد

(1) سنن البيهقي 5 / 20 باب كراهية من كره القران والتمتع، وسنن أبي داود باب في افراد الحج
ص 157، وزاد المعاد 1 / 229، ومجمع الزوائد 3 / 236 باختصار. وأورد ابن كثير في تاريخه 5 / 140 - 141
جملة من أحاديث الباب.
2) صحيح البخاري 1 / 207 باب الحلق والتقصير، وصحيح مسلم باب التقصير في العمرة ح 209،
وسنن أبي داود 2 / 159 - 160 ح 1802 - 1803 من كتاب المناسك، ومسند أحمد 4 / 96 - 98، والمنتقى
2 / 270 ح 2579، 2580، ومنحة المعبود ح 1503، والمشقص: نصل عريض يرمى به الوحش.
213

ابن أبي وقاص فقد روى مسلم في صحيحه عن غنيم بن قيس، قال " سألت سعد بن
أبي وقاص عن المتعة فقال: فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش " 1.
قال الراوي: يعنى بيوت مكة.
وفي رواية أخرى: يعني معاوية.
قال المؤلف: جعلوا لفظ العرش بضمتين ليكون جمع العرش بضم العين
ويكون بمعنى بيوت مكة ولعل سعدا تلفظه بفتح العين وسكون الراء وقصد انه كان
يومذاك كافرا برب العرش.
هكذا عارض سعد معاوية في أكثر من مكان ولم يكن سائر الصحابة بمكانة
سعد بن أبي وقاص فاتح العراق والفرد الباقي من الستة أهل الشورى الذين رشحهم
عمر بن الخطاب (رض) للخلافة ليستطيعوا من مجاهرة عصبة الخلافة بالمخالفة يومذاك
بل كان فيهم مثل الصحابي عمران بن حصين الذي كتم أنفاسه طيلة حياته حتى إذا
وجد نفسه على فراش الموت جاهر برأيه كما رواه مسلم وغيره واللفظ لمسلم عن مطرف
قال: بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه، فقال: انى كنت محدثك
بأحاديث لعل الله ان ينفعك بها بعدى، فان عشت فاكتم عني وان مت فحدث بها ان
شئت انه قد سلم علي واعلم أن نبي الله (ص) قد جمع بين حج وعمرة ثم لم ينزل فيها
كتاب ولم ينهنا عنهما رسول الله، قال فيها رجل برأيه ما شاء 2.
وفي رواية أخرى: اني لأحدثك بالحديث اليوم ينفعك الله به بعد اليوم:
واعلم أن رسول الله قد أعمر طائفة من أهله في العشر - اي عشر ذي الحجة - فلم
تنزل آية تنسخ ذلك ولم ينه عنه حتى مضى لوجهه ارتآى كل امرئ بعد ما شاء ان
يرتئي.
وفي رواية: ارتآى رجل برأيه - يعنى عمر 3.

(1) صحيح مسلم باب جواز التمتع ح 164 ص 898، وشرح الحديث عند النووي 7 / 304، والمنتقى
ح 2386، وتاريخ ابن كثير 5 / 127 و 135.
2) صحيح مسلم باب جواز التمتع الحديث 168 و 166 ص 899، وشرح النووي 305 - 306،
وعمران بن حصين في أسد الغابة بعثه عمر قاضيا على البصرة وكان مجاب الدعوة وكان في مرضه تسلم عليه
الملائكة. توفي بالبصرة سنة اثنتين وخمسين اي في خلافة معاوية. بترجمته بأسد الغابة 4 / 137.
3) صحيح مسلم كتاب الحج باب جواز التمتع الحديث 165 و 166 وقد اخترنا لفظ مسلم، ومسند أحمد 4 / 434، وسنن الدارمي 2 / 35، والبخاري كتاب الحج باب التمتع 1 / 190، ويختلف لفظه مع ما سبق
وسنن ابن ماجة الحديث 2978 باب التمتع بالعمرة إلى الحج، ومسند أحمد 4 / 429 و 436 و 438 و 439،
وسنن البيهقي 4 / 344، و ج 5 / 14، والمنتقى الحديث 2380 و 2381، وزاد المعاد 1 / 217 و 220، وتاريخ
ابن كثير 5 / 126، وفي ص 137 منه أحاديث الباب.
214

هكذا كان الامر على عهد معاوية حتى إذا مات وبويع ابنه يزيد بالخلافة
انصرف في عامه الأول إلى قتال الحسين واستئصال أهل بيته وبعد ذلك انصرف إلى
قتال الصحابة والتابعين بمدينة الرسول حتى فتحها وفعل فيها الأفاعيل ثم انصرف إلى
حرب ابن الزبير بمكة ثم هلك وبويع عبد الله بن الزبير فجاهد عبد الله بن الزبير في احياء
سنة الخلفاء في شأن عمرة التمتع كما يلي بيانه:
على عهد عبد الله بن الزبير
أبو بكر وأبو خبيب عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي وأمه أسماء ابنة أبي بكر
وخالته عائشة ولد في المدينة بعد الهجرة. شهد الجمل مع خالته. قال فيه الإمام علي:
ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله.
جاور عبد الله مكة بعد موت معاوية وامتنع عن بيعة يزيد ودعا لنفسه بعد قتل
الإمام الحسين فأرسل يزيد جيشا أوقعوا باهل المدينة يوم الحرة ثم نازلوا ابن الزبير بمكة
لأربع بقين من المحرم سنة أربع وستين وحاصروه في الحرم فاحترقت في حربهم الكعبة
وقرنا الكبش الذي فدي به إسماعيل وكان في سقفها وبويع بالخلافة بعد موت يزيد
في الحجاز واليمن والعراق وخراسان ولما ولى الخلافة عبد الملك بن مروان بعث الحجاج
لحربه فقتله في النصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين ه‍ - أسد الغابة
(3 / 161 - 163).
ولي ابن الزبير مكة أكثر من عشر سنوات فجد هو وبنو أبيه في منع المسلمين من
عمرة التمتع فوقع بينهم وبين اتباع مدرسة الإمام علي مناظرات ومساجلات كما شرحتها
الروايات التالية:
في صحيح مسلم: كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها...
الحديث 1.

1) صحيح مسلم ص 885 الحديث 145.
215

وفيه وفي البخاري عن أبي حمزة الضبعي قال: تمتعت فنهاني ناس عن ذلك
فاتيت ابن عباس فسألته عن ذلك فأمرني بها، قال: ثم انطلقت إلى البيت فنمت،
فأتاني آت في منامي فقال: عمرة متقبلة وحج مبرور، قال: فأتيت ابن عباس فأخبرته
بالذي رأيت. فقال: الله أكبر سنة أبي القاسم (ص) 1.
وفي مسند أحمد وغيره واللفظ لأحمد عن كريب مولى ابن عباس قال: قالت له:
يا أبا العباس أرأيت قولك ما حج رجل لم يسق الهدي معه الا حل بعمرة وما طاف بها
حاج قد ساق معه الهدي الا اجتمعت له عمرة وحجة. والناس لا يقولون هذا.
فقال: ويحك! ان رسول الله خرج ومن معه من أصحابه لا يذكرون الا الحج
فأمر رسول الله (ص) من لم يكن معه الهدي ان يطوف بالبيت ويحل بعمرة فجعل
الرجل منهم يقول: يا رسول الله! إنما هو الحج فيقول رسول الله (ص) " انه ليس بالحج
ولكنها عمرة " 2.
محاججة ابن عباس وابن الزبير حول عمرة التمتع
روى مسلم عن مسلم القري قال: سألت ابن عباس عن متعة الحج: فرخص
فيها وكان ابن الزبير - عبد الله - ينهى عنها فقال - ابن عباس - هذه أم ابن الزبير
تحدث ان رسول الله (ص) رخص فيها. فأدخلوا عليها فاسألوها قال: فدخلنا عليها فإذا
امرأة ضخمة عمياء. فقالت: قد رخص رسول الله (ص) فيها 3.
وفي زاد المعاد قال عبد الله بن الزبير: أفردوا الحج ودعوا قول أعماكم هذا.
فقال عبد الله بن عباس: ان الذي أعمى قلبه لانت الا تسأل أمك عن هذا؟ فأرسل
إليها فقالت: صدق ابن عباس. جئنا مع رسول الله (ص) حججا فجعلناها عمرة،

(1) صحيح مسلم باب جواز العمر في أشهر الحج الحديث 204 ص 911، ومسند أحمد 1 / 241،
وسنن أبي داود المناسك باب 80، والدارمي باب 41، والبيهقي 5 / 19، والبخاري 1 / 190. وأبو جمرة نصر بن
عمران الضبعي البصري نزيل خراسان من الثالثة مات سنة 128. اخرج حديثه جميع أصحاب الصحاح تقريب
التهذيب 2 / 300.
2) مسند أحمد 1 / 261، ومجمع الزوائد 3 / 233. وكريب بن أبي مسلم أبو رشدين من الثالثة اخرج
حديثه أصحاب الصحاح تقريب التهذيب 2 / 134.
3) صحيح مسلم باب في متعة الحج الحديث 194، وسنن البيهقي 5 / 21 - 22. ومسلم بن مخراق
العبدي القرى البصري من الرابعة، تقريب التهذيب 2 / 246.
216

فحللنا الاحلال كله حتى سطعت المجامر بين الرجال والنساء 1.
أفردوا الحج اي لا تجمعوا بين الحج والعمرة.
احتجاج عروة بن الزبير مع ابن عباس
في مسند أحمد: قال عروة لابن عباس حتى متى تضل الناس يا بن عباس؟!
قال: وما ذاك يا عرية؟ قال: تأمرنا بالعمرة في أشهر الحج وقد نهى أبو بكر وعمر؟!
فقال ابن عباس: قد فعلها رسول الله (ص)... الحديث 2.
وفي رواية أخرى. فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون أقول: قال النبي (ص)
ويقول نهى أبو بكر وعمر 3.
وفي رواية أخرى: قال عروة: الا تتقي الله ترخص في المتعة فقال ابن عباس:
سل أمك يا عرية! فقال عروة: اما أبو بكر وعمر فلم يفعلا فقال ابن عباس أحدثكم
عن رسول الله وتحدثوني عن أبي بكر وعمر 4.
وفي رواية أخرى محاججة بين عروة ورجل لم يسم:
في زاد المعاد: ان عروة بن الزبير قال لرجل من أصحاب رسول الله تأمر الناس
بالعمرة في هؤلاء العشر وليس فيها عمرة، قال أولا تسأل أمك عن ذلك قال عروة: فان
أبا بكر وعمر لم يفعلا ذلك قال الرجل: من ههنا هلكتم ما أرى الله عز وجل الا
سيعذبكم، اني أحدثكم عن رسول الله (ص) وتخبروني عن أبي بكر وعمر، قال عروة:
انهما والله كانا اعلم منكم بسنة رسول الله (ص) منك، فسكت الرجل 5.
أرى ان الرجل هو ابن عباس نفسه.
وفي مجمع الزوائد روى أن عروة أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس: طالما

(1) زاد المعاد 1 / 248 فصل في احلال في لم يكن ساق الهدي، وفي زوائد المسانيد الثمانية 1 / 330
الحديث 1108: إلى أمك، وفي المصنف لابن أبي شيبة 4 / 103: أعمى الله قلبه وعينه. وابن عباس كان قد
كف بصره، ولذلك وصفه ابن الزبير بالأعمى.
2) مسند أحمد 1 / 252 الحديث 2277، وزاد المعاد 1 / 257 وعرية تصغير عروة وهو ابن الزبير
أبو عبد الله مدني من الثانية مات سنة أربع وتسعين اخرج حديثه أصحاب الصحاح. تقريب التهذيب 2 / 19.
3) مسند أحمد 1 / 337 الحديث 3121، وزاد المعاد 1 / 257 باب ما جاء في المتعة من الخلاف.
4) زاد المعاد 1 / 257، وفى المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية 1 / 360 ح 1214 مع اختلاف في
اللفظ.
5) زاد المعاد 1 / 257.
217

أضللت الناس، قال: وما ذاك يا عرية؟ قال: الرجل يخرج محرما بحج أو عمرة، فإذا
طاف زعمت أنه قد حل فقد كان أبو بكر وعمر ينهيان عن ذلك، فقال: أهما ويحك آثر
عندك أم ما في كتاب الله وما سن رسول الله (ص) في أصحابه وفي أمته؟ فقال عروة:
هما كانا أعلم بكتاب الله وما سن رسول الله مني ومنك.
قال الراوي: فخصمه عروة 1.
عروة ينهى عن عمرة التمتع
في صحيح مسلم، عن محمد بن عبد الرحمن ان رجلا من أهل العراق قال له:
سل عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا؟ فان قال لك:
لا يحل، فقل له: ان رجلا يقول ذلك. قال فسألته فقال: لا يحل من أهل بالحج الا
بالحج. قلت: فان رجلا كان يقول ذلك. قال: بئس ما قال. فتصداني الرجل فسألني
فحدثته فقال: فقل له: فان رجلا كان يخبر ان رسول الله (ص) قد فعل ذلك وما شأن
أسماء والزبير فعلا ذلك. قال: فجئته فذكرت له ذلك. فقال: من هذا؟ فقلت: لا
أدري. قال: فما باله لا يأتيني بنفسه يسألني؟ أظنه عراقيا. قلت: لا أدري. قال: فإنه
قد كذب. قد حج رسول الله فأخبرتني عائشة (رض)، ان أول شئ بدأ به حين قدم
مكة انه توضأ ثم طاف بالبيت. ثم حج أبو بكر فكان أول شئ بدأ به الطواف بالبيت
ثم لم يكن غيره - أي عمرة وغيرها - ثم عمر مثل ذلك. ثم حج عثمان فرأيته أول
شئ بدأ به الطواف بالبيت. ثم لم يكن غيره. ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون
ذلك. ثم لم يكن غيره ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها بعمرة وهذا
ابن عمر عندهم أفلا يسألونه؟ ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدأ وبشئ حين يضعون
اقدامهم أول من الطواف بالبيت. ثم لا يحلون. وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان
لا تبدأن بشئ أول من البيت تطوفان به ثم لا تحلان! وقد أخبرتني أمي انها أقبلت
هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة قط فلما مسوا الركن حلوا وقد كذب في ما
ذكر ذلك 2.

(1) مجمع الزوائد 3 / 234. ويبدو ان هذا غير ما رواه ابن القيم في زاد المعاد وان الخلاف هناك حول
الاعتمار في العشرة الأولى من ذي الحجة والخلاف هنا حول الاحلال بعد الطواف والسعي اي ان الناسك
يخرج من احرامه.
2) صحيح مسلم ص 906 - 907 الحديث 190 من باب ما يلزم من طاف بالبيت وسعى من البقاء
على الاحرام وترك التحلل من كتاب الحج وشرح النووي ج 8 / 219 - 221.
218

بحث لغوي حول الحديث
" تصداني " هكذا في جميع النسخ والصواب " تصدى لي ". " وقد أخبرتني
أمي انها أقبلت... بعمرة قط فلما مسحوا الركن حلوا " أي: ما كان ذلك، وفي مادة
" قط " من القاموس وشرحه: تختص بالنفي ماضيا. وفي مواضع من البخاري جاء بعد
المثبت.
تعليق على الحديث
في هذا الحديث لم يذكر عروة ماذا فعل رسول الله بعد الطواف وما نسبه إلى
أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية فهو كما قال.
اما قوله: ولا أحد ممن مضى.. ثم لا يحلون وقد رأيت أمي وخالتي...
تطوفان به ثم لا تحلان... وقد كذب في ما ذكر من ذلك. الحديث. فقد سبق تكذيبه
في الروايات الكثيرة السابقة ويخالف ما ذكر عن أمه وخالته ما رواه مسلم - أيضا -
بعد هذا الحديث عن خالته أسماء بنت أبي بكر (رض) قالت:
خرجنا محرمين فقال رسول الله (ص) " من كان معه هدي فليقم على احرامه.
ومن لم يكن معه هدي فليحلل " فلم يكن معي هدي فحللت. وكان مع الزبير هدي
فلم يحلل.
قالت: فلبست ثيابي ثم خرجت فجلست إلى الزبير فقال: قومي عني. فقلت:
أتخشى ان أثب عليك؟
وفي أخرى بعدها: فقال: استرخي عني استرخي عني. فقلت أتخشى ان
أثب عليك.
وفي أخرى بعدها عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر (رض) انه كان يحدث
عن أسماء.
انه كلما مرت بالحجون تقول: صلى الله على رسوله وسلم. لقد نزلنا معه ههنا
ونحن يومئذ خفاف الحقائب قليل ظهرنا، قليلة أزوادنا فاعتمرت انا وأختي عائشة
والزبير وفلان وفلان فلما مسحنا بالبيت أحللنا. ثم أهللنا من العشي بالحج 1.

1) صحيح مسلم الأحاديث 191 - 193 ص 907 - 908، والحديث الأخير بصحيح البخاري
1 / 214. والحجون هو الجبل المشرف على مسجد الحرس بأعلى مكة على يمينك وأنت مصعد عند المحصب.
219

وما نسب عروة في حديثه إلى ابن عمر بقوله " ثم لم ينقضها بعمرة وهذا ابن
عمر عندهم أفلا يسألونه " فقد وجدنا موقف ابن عمر مختلفا في ما روي عنه.
موقف ابن عمر
في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي والبيهقي وغيرها واللفظ
للأول عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله (ص) في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج فكان
من الناس من اهدى فساق الهدي. ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله (ص) مكة
قال للناس " من كان منكم اهدى فإنه لا يحل من شئ حرم منه حتى يقضي حجه
ومن لم يكن منكم اهدى، فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل
بالحج وليهد... " الحديث 1.
واعترض عليه بقول أبيه ونهيه كما رواه الترمذي في سننه عن ابنه سالم: انه
سمع رجلا من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال
عبد الله بن عمر: هي حلال. فقال الشامي: ان أباك قد نهى عنها، فقال عبد الله بن
عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله (ص) أأمر أبي أتبع أم أمر رسول
الله (ص)؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله (ص)! فقال: لقد صنعها رسول الله 2.
وفي رواية قال: اعتمر النبي قبل ان يحج 3.
وقال ابن كثير: وكان ابنه عبد الله يخالفه فيقال له: ان أباك كان ينهى عنها!
فيقول: خشيت ان يقع عليكم حجارة من السماء! قد فعلها رسول الله، أفسنة رسول الله
نتبع أم سنة عمر بن الخطاب 4.

1) صحيح مسلم باب وجوب الدم على المتمتع الحديث 174 ص 901، وشرح النووي ج 8 / 208،
وسنن أبي داود 2 / 160 باب في الاقران الحديث 1805، وسنن النسائي ج 2 / 15 باب التمتع، وسنن الترمذي
4 / 39 باب ما جاء في التمتع وقال: هذا حديث صحيح، وسنن البيهقي 5 / 17 باب من اختار التمتع بالعمرة إلى
الحج...، و 5 / 20 و 23 منه، وزاد المعاد 1 / 216 فصل في جمعه بين الحج والعمرة، وص 236 منه، والمنتقى
الحديث 2387 و 2416.
2) صحيح الترمذي 4 / 38 باب ما جاء في التمتع من كتاب الحج.
3) سنن البيهقي 4 / 354 باب العمرة قبل الحج عن البخاري.
4) تاريخ ابن كثير 5 / 141.
220

وروى عنه أيضا خلاف هذا الموقف 1 ولعل سبب اختلاف فتاويه في العمرة
اختلاف أزمنة الفتاوى والروايات عنه كما لو كان السؤال منه على عهد أبيه، أو على
عهد عثمان مثلا. فينبغي أن يكون الجواب موافقا لموقف الخلافة الراشدة اما في عصر
ابن الزبير ومناهضة الخلافة الأموية له، فكان يسهل مخالفته وبهذا تيسر وقوع الخلاف
الشديد حول عمرة التمتع في هذا العصر ووقع فكان منهم من ينهى عنها وهم عصبة
الخلافة، ومنهم من يحبذ بها ويخبر عن أمر الرسول بها وهم بعض من بقي من أصحاب
الرسول مثل جابر بن عبد الله الأنصاري الذي كان يخبر عن سنة الرسول في ذلك كما
رواه مسلم في صحيحه عن أبي نضرة، قال: كنت عند جابر فأتاه آت فقال: ان ابن
عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله ثم نهانا عنهما
عمر فلم نعدلها 2.
وبقي هذا الخلاف بين اتباع الطرفين مدة من الزمن ومن مظاهر ذلك الخلاف
ما روى عن موسى بن نافع الأسدي أنه قال: قدمت مكة وانا متمتع بعمرة فدخلت
قبل التروية بثلاثة أيام فقال لي ناس من أهل مكة: تصير حجتك مكية فدخلت على
عطاء بن أبي رباح استفتيه، فقال: حدثني جابر بن عبد الله انه حج مع رسول الله (ص)
يوم ساق البدن وقد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم رسول الله (ص): " أحلوا من احرامكم
بالطواف بالبيت وبين الصفا والمروة واقصروا وأنتم حلال فإذا كان يوم التروية فأهلوا
بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة " قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج، فقال
" افعلوا ما أمرتكم فلولا اني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به ولكني لا يحل
مني حرام حتى يبلغ الهدي محله " ففعلوا 3.
وفي عصر ابن الزبير - أيضا - ظهرت أمارات انتصار من أحيا سنة الرسول
وتعلقت قلوب الناس بعمرة التمتع حسب ما يظهر من روايات مسلم في صحيحه مثل
الرواية الآتية:

(1) سنن البيهقي 4 / 5.
2) صحيح مسلم الحديث 1249 ص 914.
3) سنن البيهقي 4 / 356 باب المتمتع بالعمرة إلى الحج إذا أقام بمكة حتى ينشئ الحج ان شاء من مكة
لا من الميقات. وصحيح مسلم ص 884 الحديث 143: وتصير الان حجتك مكية لانشائك احرامها من مكة
فتفوتك فضيلة الاحرام من الميقات فيقل ثوابك بقلة مشقتك.
221

قال رجل من بني الهجيم لابن عباس ما هذه الفتيا التي تشغفت أو تشغفت
بالناس ان من طاف بالبيت فقد حل؟! فقال: سنة نبيكم وان رغمتم.
وفي رواية بعدها: ان هذا الامر مرقد تفشغ بالناس من طاف بالبيت فقد
حل. الطواف عمرة 1.
" تشغفت " اي علقت بقلوب الناس و " تشغبت " اي خلطت عليهم أمرهم و
" تفشغ " اي انتشر وفشا بين الناس.
وقد علق ابن القيم على رواية ابن عباس السابقة وقال: " وصدق ابن عباس:
كل من طاف بالبيت ممن لا هدي معه من مفرد أو قارن أو متمتع فقد حل اما وجوبا
واما حكما، هذه هي السنة التي لا راد لها ولا مدفع وهذا كقوله (ص): " إذا أدبر
النهار من هيهنا واقبل الليل من ههنا، فقد أفطر الصائم " اما أن يكون المعنى أفطر حكما
أو دخل وقت افطاره، وصار الوقت في حقه وقت افطار، فهكذا هذا الذي قد طاف
بالبيت اما أن يكون قد حل حكما، واما أن يكون ذلك الوقت في حقه ليس وقت
احرام، بل هو وقت حل ليس الا، ما لم يكن معه هدي وهذا صريح السنة ".
وروى عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: " من جاء مهلا بالحج فان
الطواف بالبيت يصيره إلى عمرة شاء أو أبى " قلت إن الناس ينكرون ذلك عليك قال:
هي سنة نبيهم وان رغموا 2.
هكذا جاهد ابن عباس في عصره واعانه غيره من اتباع مدرسة الأئمة أمثال
جابر بن عبد الله الأنصاري ومن هؤلاء وبعد هؤلاء تسرى القول بعمرة التمتع إلى اتباع
مدرسة الخلفاء، كما يظهر ذلك من رواية ابن حزم عن منصور ابن المعتمر، قال:
حج الحسن البصري وحججت معه في ذلك العام، فلما قدمنا مكة، جاء رجل
إلى الحسن، فقال: يا أبا سعيد! اني رجل بعيد الشقة من أهل خراسان واني قدمت
مهلا بالحج، فقال له الحسن: اجعلها عمرة وأحل، فأنكر ذلك الناس على الحسن 3
وشاع قوله بمكة فاتى عطاء بن أبي رباح فذكر ذلك له، فقال: صدق الشيخ ولكنا نفرق
ان نتكلم بذلك 4.

(1) صحيح مسلم الحديث 206 و 207 ص 912 - 913.
2) زاد المعاد 1 / 249. 3) هكذا نجد سنة رسول الله في هذا العصر منكرا لدى المسلمين.
4) المحلى لابن حزم 7 / 103. والمنصور بن المعتمر أبو عتاب السلمي الكوفي اخرج حديثه جميع أصحاب
الصحاح مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة التقريب 2 / 277. والحسن بن أبي الحسن يسار البصري مولى الأنصار
كان يرسل كثيرا ويدلس، رأس الطبقة الثالثة (ت 110 ه‍) وقد قارب التسعين اخرج حديثه أصحاب الصحاح
تقريب التهذيب 1 / 165. وعطاء بن أبي رباح أسلم، مولى قريش، (ت 114 ه‍) روى حديثه جميع أصحاب
الصحاح تقريب التهذيب 2 / 22.
222

ويزول هذا التخوف في عصر بني العباس وينتشر القول بعمرة التمتع على
عهدهم ولعل لموقف جدهم عبد الله بن العباس دخلا في ذلك، وعلى عهدهم يتبنى
أحمد بن حنبل القول بعمرة التمتع ومن الطبيعي ان يستمر ذلك في اتباع مدرسته.
ويشهد لذلك قول ابن القيم: وقد روى هذا - اي حج التمتع - عن النبي من
سمينا وغيرهم، وروى ذلك عنهم طوائف من كبار التابعين، حتى صار منقولا نقلا
يرفع الشك ويوجب اليقين، ولا يمكن أحدا ان ينكره أو يقول: لم يقع وهو مذهب أهل بيت
رسول الله (ص)، ومذهب حبر الأمة وبحرها ابن عباس وأصحابه ومذهب
أبي موسى الأشعري ومذهب امام أهل السنة والحديث أحمد بن حنبل واتباعه ومذهب
أهل الحديث معه 1.
وهكذا يزول الحرج عن المسلمين في اتباع سنة الرسول بعد ذلك إلى يومنا
الحاضر.
الأحاديث التي وضعت في سبيل تبرير موقف الخلفاء:
إلى هنا استعرضنا الجهود التي بذلها الرسول في سبيل إماتة سنة الجاهلية في
شأن عمرة التمتع ثم الجهود التي بذلتها مدرسة الخلفاء في سبيل احياء تلك السنة وكذلك
الجهود التي بذلتها مدرسة أئمة أهل البيت في سبيل إماتة سنة الجاهلية واحياء سنة
الرسول، وكيف شغف الناس بعدئذ بعمرة التمتع ونختم هذا البحث باستعراض الجهود
التي بذلت في سبيل تبرير موقف الخلفاء من عمرة التمتع والدفاع عنهم مثل الأحاديث
الآتية التي وضعت في هذا السبيل:
1 - روى مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم عن القاسم
بن محمد بن أبي بكر عن أم المؤمنين عائشة انها، قالت: إن رسول الله أفرد الحج 2.

1) زاد المعاد 1 / 249 كان مذهب أبي موسى التمتع بالعمرة إلى الحج ويفتى به من قبل ان يسمع من
الخليفة ما أحدثه في شأن النسك ومن بعد ذلك تابعه على رأيه.
2) صحيح مسلم ح 122 ص 875، وسنن أبي داود 2 / 152 ح 1777، وسنن النسائي 2 / 13 باب
افراد الحج ص 988 ح 2964، والترمذي 4 / 36 باب ما جاء في افراد الحج، والبيهقي 5 / 3 باب من اختار
الافراد، والمنتقى ح 2389 ج 2 / 228، ومسند أحمد ج 6 / 36، وموطأ مالك باب افراد الحج ح 37 ج 2 / 335.
223

2 - عن عروة بن الزبير عن عائشة: ان رسول الله (ص) أفرد الحج 1.
3 - وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر: ان رسول الله أفرد الحج 2.
4 - وعن عبد الله بن عمر:
أ - ان النبي (ص) افراد الحج وأبو بكر وعمر وعثمان.
ب - أهللنا مع رسول الله بالحج مفردا.
وفي رواية: ان رسول الله أهل بالحج مفردا 3.
5 - عن سعيد بن المسيب: ان رجلا من أصحاب رسول الله (ص): اتى عمر
ابن الخطاب (رض) فشهد عنده انه سمع رسول الله (ص) في مرضه الذي قبض فيه
ينهى عن العمرة قبل الحج 4.
6 - عن جابر: ان رسول الله وأبا بكر وعمر وعثمان أفردوا الحج 5.
7 - عن الحارث بن بلال، قال: قلت: يا رسول الله! فسخ الحج لنا خاصة،
أم للناس عامة، قال: " بل لنا خاصة " 6.
8 - عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيها ان علي بن
أبي طالب (رض) قال: يا بني أفرد الحج 7.
9 - عن أبي ذر، قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة.

1) سنن ابن ماجة ص 988 ح 2965، وموطأ مالك ج 2 / 335 ح 38، وراجع تاريخ ابن كثير
5 / 120 - 123 ففيه بحث مفصل عن عمرة التمتع.
2) سنن ابن ماجة ص 989 ح 2966.
3) أ - سنن الترمذي 4 / 36 باب ما جاء في افراد الحج.
ب - صحيح مسلم ص 904 - 905 ح 184، والمنتقى 2 / 228 ح 1391.
4) سنن أبي داود 2 / 157 ح 1793، وسنن البيهقي 5 / 19 باب كراهية من كره القران.
5) سنن ابن ماجة ح 2967 ص 989.
6) أبو داود 2 / 161، وابن ماجة ص 994 ح 2984، وقد علق ابن ماجة على الحديث والمنتقى
ح 2 / 238 ح 2429 وقال رواه الخمسة الا الترمذي. والحارث بن بلال به الحارث المزني من الثالثة اخرج
حديثه بعض أصحاب الصحاح تقريب التهذيب 1 / 139.
7) سنن البيهقي 5 / 5 باب من اختار الافراد. و عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب من الطبقة الرابعة
مات سنة تسعين بالشام. واخوه الحسن من الطبقة الثالثة توفى سنة مائة. اخرج أحاديثهما أصحاب الصحاح
التقريب 1 / 448 و 1 / 171.
224

10 - وفي رواية قال: كانت لنا رخصة يعني المتعة في الحج.
11 - وفي رواية أخرى قال: لا تصلح المتعتان الا لنا خاصة.
12 - عن عبد الرحمن بن أبي الشعثاء قال: أتيت إبراهيم النخعي وإبراهيم
التيمي فقلت: اني أهم ان أجمع العمرة والحج، العام، فقال إبراهيم النخعي لكن أبوك
لم يكن ليهم بذلك.
ثم روى عن التيمي عن أبيه انه مر بابي ذر (رض) بالربذة فذكر له ذلك،
فقال: إنما كانت لنا خاصة دونكم.
وفي سنن البيهقي: ان أبا ذر كان يقول في من حج ثم فسخها بعمرة: لم يكن ذلك
الا للركب الذين كانوا مع رسول الله (ص) 1.
13 - عن سعيد بن المسيب: ان رجلا من أصحاب رسول الله (ص) اتي عمر
بن الخطاب (رض) فشهد عنده انه سمع رسول الله (ص) في مرضه الذي قبض فيه ينهى
عن العمرة قبل الحج 2.
علل الأحاديث
علق امام الحنابلة أحمد بن حنبل على الحديث السابع وقال: (حديث بلا بن
الحارث عندي غير ثابت. ولا أقول به، ولا نعرف هذا الرجل، يعنى الحارث بن بلال.
وقال: رأيت لو عرف الحارث بن الحارث بن بلال، الا أن أحد عشر رجلا
من أصحاب النبي (ص) يروون ما يروون من الفسخ، أين يقوم الحارث بن بلال

(1) وردت الروايات 11 - 12 متوالية في صحيح مسلم ح 160 - 163 ص 897، وبشرح النووي
عليه 8 / 203، وفي سنن ابن ماجة ص 994 ح 2985، وفي سنن أبي داود 2 / 161 ح 1807 مع اختلاف في
اللفظ، وفى سنن البيهقي 5 / 22 ح 9 و 10 و 12، وفي ج 4 / 345 باب العمرة في أشهر الحج ورد القسم الأخير
من الحديث 12، وفي المنتقى ح 2430. و عبد الرحمن بن أبي الشعثا، سليم بن الأسود المحاربي. قال ابن حجر مقبول
من السادسة له حديث واحد متابعة، التهذيب 6 / 194 وتقريبه 1 / 484.
وإبراهيم بن يزيد بن عمرو الكوفي النخعي (ت 96 أو 95 ه‍) التهذيب 1 / 177 والتقريب 1 / 46،
والجمع بين رجال الصحيحين 1 / 18 - 19.
وإبراهيم التيمي لعله أبو أسماء الكوفي ابن يزيد بن شريك من تيم الرباب (ت 92 أو 94 ه‍) في حبس
الحجاج التهذيب 1 / 176، وتقريبه 1 / 46، والجمع بين رجال الصحيحين 1 / 19.
2) سنن أبي داود 2 / 157 ح 1793، وسنن البيهقي 5 / 19 باب كراهية من كره القران والتمتع.
225

منهم) 1.
قال المؤلف: قصد امام الحنابلة من رواية أحد عشر صحابيا الفسخ: روايتهم
فسخ الاحرام، والتمتع بالحل بين العمرة والحج. ولعله قصد من عدم معرفته للحارث
عدم معرفته بالوثاقة.
وعلق أيضا ابن حنبل على حديث أبي ذر وقال: رحم الله أبا ذر هي في كتاب
الرحمن " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " 2 قصد امام الحنابلة ان الآية تفيد ان الحكم عام
ولا يخص ناسا دون آخرين فكيف خالف أبو ذر بقوله الآية الكريمة وفاته ان الرواية
وضعت على أبي ذر كما وضعت الروايات الأخرى على غيره.
وكما نسب إلى رسول الله انه أفرد الحج والى الإمام علي أنه قال لابنه محمد:
يا بني أفرد الحج مع ما رأينا في ما سبق من مخالفته للخليفة عثمان وكذلك ما روي
عن سعيد بن المسيب ان رجلا من أصحاب رسول الله اتى عمر وشهد عنده انه سمع
رسول الله في مرضه ينهى عن العمرة قبل الحج ولست أدرى من هو هذا الصحابي
وكيف لم يستشهد عمر بقول هذا الصحابي في عصره ولا استشهد به عثمان ولا معاوية
ولا ابنا الزبير ولا غيرهم.
كل هذه الأحاديث وغيرها وضعت متأخرا وفي سبيل تبرير موقف الخلفاء من
تحريمهم متعة الحج وما أجود ما قاله في هذا المقام كل من ابن القيم في كتابه زاد المعاد و
ابن حزم في المحلى، قال ابن القيم: ونحن نشهد الله علينا انا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضا
علينا فسخه إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله (ص) واتباعا لامره، فوالله ما نسخ
هذا في حياته ولا بعده ولا صح حرف واحد يعارضه، ولا خص به أصحابه دون من
بعدهم، بل اجرى الله سبحانه على لسان سراقة ان يسأله هل ذلك مختص بهم؟ فأجاب
" بان ذلك كائن لابد الأبد " فما ندري ما نقدم على هذه الأحاديث، وهذا الامر المؤكد
الذي غضب رسول الله (ص) على من خالفه.
ولله در الإمام أحمد (ره) إذ يقول لسلمة بن شبيب وقد قال له: يا أبا عبد الله
كل امرك عندي حسن الا خلة واحدة، قال: وما هي؟ قال: تقول بفسخ الحج إلى

(1) سنن ابن ماجة ص 994 باب من قال كان فسخ الحج لهم خاصة وراجع التعليق على الحديث
2429 في المنتقى 2 / 238. وأورد ابن كثير موجزه في ج 5 / 166 من تاريخه.
2) المنتقى 1 / 239 بهامش ح 2431.
226

العمرة، فقال: يا سلمة كنت أرى لك عقلا عندي، في ذلك أحد عشر حديثا صحاحا
عن رسول الله (ص) أأتركها لقولك؟! 1.
وقال أيضا: وقد روى عنه الامر بفسخ الحج إلى العمرة أربعة عشر من
أصحابه وأحاديثهم كلها صحاح وهم عائشة، وحفصة أم المؤمنين، وعلي بن
أبي طالب، وفاطمة بنت رسول الله (ص) وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وجابر بن
عبد الله، وأبو سعيد الخدري والبراء بن عازب، و عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك،
وأبو موسى الأشعري و عبد الله ابن عباس وسبرة بن معبد الجهني وسراقة بن مالك
المدلجي (رض) 2.
وقال ابن حزم: روى أمر رسول الله (ص) من لا هدي له ان يفسخ حجه
بعمرة ويحل بأوكد أمر جابر بن عبد الله و... خمسة عشر من الصحابة. رضي الله عنهم.
ورواه عن هؤلاء نيف وعشرون من التابعين ورواه عن هؤلاء من لا يحصيه الا الله
عز وجل فلم يسع أحدا الخروج عن هذا 3.
وقال: وامر النبي كل من لا هدى معه عموما بان يحل بعمرة، وان هذا هو
آخر أمره على الصفا بمكة، وانه (ع) أخبر بان التمتع أفضل من سوق الهدي معه وتأسف
إذ لم يفعل ذلك هو، وان هذا الحكم باق إلى يوم القيامة وما كان هكذا فقد أمنا ان
ينسخ ابدا، ومن أجاز نسخ ما هذه صفته فقد أجاز الكذب على خبر رسول الله (ص)
وهذا من تعمده كفر مجرد، وفيه ان العمرة قد دخلت في الحج وهذا هو قولنا لان الحج
لا يجوز الا بعمرة متقدمة له يكون بها متمتعا أو بعمرة مقرونة معه ولا مزيد 4.
وقال: قد أفتى بها أبو موسى مدة امارة أبي بكر وصدرا من امارة عمر (رض)
وليس توقفه - عندما بلغه نهى عمر - حجة على ما روى عن النبي وحسبنا قوله
لعمر: ما الذي أحدثت في شأن النسك فلم ينكر ذلك عمر واما قول عمر في قول الله
تعالى " وأتموا الحج والعمرة لله " فلا اتمام لهما الا علمه رسول الله الناس وهو الذي
أنزلت عليه الآية وامر ببيان ما انزل عليه من ذلك.
واما كونه لم يحل حتى نحر الهدي فان حفصة ابنة عمر روت عن النبي بيان

(1) زاد المعاد 2 / 247 فصل في احلال من لم يكن ساق الهدى معه.
2) زاد المعاد 1 / 246. 3) المحلى ج 7 / 101.
4) المحلى ج 7 / 103 أوردنا في ما يلي موجز كلام ابن حزم في هذا الباب.
227

فعله قالت سألته: ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك؟ فقال: اني قلدت هديي
فلا أحل حتى انحر، ورواه أيضا علي...
ثم قال: فهذا أولى ان يتبع من رأى رآه عمر 1.
وفي مكان آخر أورد الروايات التي جاء فيها ان فسخ الحج خاص بأصحاب
رسول الله، ثم استشهد على بطلانها بان سراقة قال لرسول الله حين أمرهم بفسخ الحج
في عمرة: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لابد؟ فقال: بل لابد الأبد.
ثم قال: فبطل التخصيص والنسخ وامن من ذلك ابدا. والله ان من سمع هذا
الخبر ثم عارض أمر رسول الله (ص) بكلام أحد ولو أنه كلام أمي المؤمنين حفصة
وعائشة وأبويها (رض) لهالك فكيف بإكذوبات كنسيج العنكبوب الذي هو أوهن
البيوت عن الحارث بن بلال و... الذين لا يدرى من هم في الخلق. وليس لاحد ان
يقتصر بقوله (ع): " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " على أنه أرد جوازها في أشهر
الحج دون ما بينه جابر وابن عباس من انكاره (ع) أن يكون الفسخ لهم خاصة أو
لعامهم دون ذلك، ومن فعل ذلك فقد كذب على رسول الله جهارا.
قال: وأتى بعضهم بطامة وهي انه ذكر الخبر الثابت عن ابن عباس انهم
كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من افجر الفجور في الأرض فقال قائلهم: إنما
أمرهم (ع) بذلك ليوقفهم على جواز العمرة في أشهر الحج قولا وعملا. وهذه عظيمة
أول ذلك أنه كذب على النبي في دعواهم إنما أمرهم بفسخ الحج في عمرة ليعلمهم جواز
العمرة في أشهر الحج ثم يقال لهم هبك لو كان ذلك ومعاذ الله من أن يكون أبحق أمر أم
بباطل؟ فان قالوا بباطل كفروا وان قالوا: بحق قلنا: فليكن امره (ع) بذلك لأي وجه
كان فإنه قد صار بعد ما أمر حقا واجبا، ثم لو كان هذا الهوس الذي قالوه فلأي معنى
كان يخص بذلك من لم يسق الهدي دون من ساق؟
واطم من هذا كله ان هذا الجاهل القائل بذلك قد علم أن النبي اعتمر بهم في
ذي القعدة عاما بعد عام قبل الفتح. ثم اعتمر في ذي القعدة عام الفتح ثم قال لهم في
حجة الوداع في ذي الحليفة: من شاء منكم ان يهل بعمرة فليفعل ومن شاء ان يهل بحج
وعمرة فليفعل ومن شاء أن يهل بحج فليفعل 2، ففعلوا كل ذلك فيا لله ويا للمسلمين

(1) المحلى 7 / 102 وقوله " فهذا أولى ان يتبع " أي قول رسول الله وأمره أولى ان يتبع من رأي رآه عمر.
2) قصد ان الامر بعمرة التمتع كان في بدء الامر في حجة الوداع تخييريا ونزل القضاء به حتما عندما
كان الرسول في آخر شوط من سعيه.
228

أبلغ الصحابة رضي الله عنهم من البلادة. والبله. والجهل ان لا يعرفوا مع هذا كله ان
العمرة جائزة في أشهر الحج؟ وقد عملوها معه (ع) عاما بعد عام في أشهر الحج حتى
يحتاج إلى أن يفسخ حجهم في عمرة ليعلموا جواز ذلك، تالله ان الحمير لتميز الطريق من
أقل من هذا فكم هذا الاقدام والجرأة على مدافعة السنن الثابتة في نصر التقليد؟ مرة
بالكذب المفضوح، ومرة بالحماقة المشهورة، ومرة بالغثاثة والبرد حسبنا الله ونعم
الوكيل.
قال المؤلف: فات ابن القيم وابن حزم وسائر اتباع مدرسة الإمام أحمد ان
الباعث لانكار من أنكر عمرة التمتع ليس جهلهم بالروايات الصحيحة المتواترة عن
رسول الله (ص) في ذلك ليحتاجوا إلى تعريفهم بها وليس سببه عدم فهمهم لمدلول تلك
الروايات كي يعرفوا بمدلولاتها وإنما الدافع لهم إلى ذلك ما يقصدون من تبرير موقف
الخلفاء من هذا الحكم الشرعي وفي سبيل ذلك جاهدوا على مر القرون، فمنهم من وضع
الأحاديث احتسابا للخير، ومنهم من التمس للخلفاء اعذارا مثل البيهقي الذي قال:
" أراد عمر (رض) بالذي أمر به من ترك التمتع بالعمرة إلى الحج تمام العمرة التي أمر
الله عز وجل بها، وأراد عمر (رض) ان يزار البيت في كل عام مرتين وكره ان يتمتع
الناس بالعمرة إلى الحج فليلزم ذلك الناس فلا يأتوا البيت الا مرة واحدة في السنة ".
ودافع عن غيره من الخلفاء بقوله: " اتبعوا ما أمر به عمر بن الخطاب (رض)
في ذلك احتسابا للخير " 1.
وبعض العلماء خلطوا في هذا السبيل بين الحق والباطل ولم يميزوا الزائف من
الصحيح وبعضهم ناقض نفسه وآخرون اجتهدوا فاستنبطوا من سيرة الخلفاء احكاما لم
يقم عليها دليل من كتاب ولا سنة ويصيب الباحث الدوار إذا أراد ان يتابعهم في ما
ذكروا في هذا الباب ولا يحصل منهم على رأي ثابت أو مصيب وللتدليل على ما قلنا
نضيف إلى ما أوردناه إلى هنا بعض ما أورده النووي في شرح مسلم باختصار، قال:
اختلف العلماء في هذه الأنواع الثلاثة أيها أفضل فقال الشافعي ومالك
وكثيرون: أفضلها الافراد ثم التمتع ثم القران وقال احمد وآخرون أفضلها التمتع وقال

1) السنن الكبرى للبيهقي 5 / 21.
229

أبو حنيفة وآخرون: أفضلها القران وهذان المذهبان قولان اخران للشافعي 1 والصحيح
تفضيل الافراد ثم التمتع ثم القران، واما حجة النبي (ص) فاختلفوا فيها هل كان مفردا
أم متمتعا أم قارنا وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة وكل طائفة رجحت
نوعا وادعت ان حجة النبي (ص) كانت كذلك.
إلى قوله: ومن دلائل ترجيح الافراد ان الخلفاء الراشدين (رض) بعد
النبي (ص) أفردوا الحج 2 وواظبوا على افراده، كذلك فعل أبو بكر وعمر
وعثمان (رض) واختلف فعل علي (رض) 3 ولو لم يكن الافراد أفضل وعلموا ان
النبي (ص) حج مفردا لم يواظبوا عليه مع أنهم الأئمة الاعلام وقادة الاسلام ويقتدى
بهم في عصرهم وبعدهم وكيف يليق بهم المواظبة على خلاف فعل رسول الله (ص)
واما الخلاف عن علي (رض) وغيره فإنما فعلوه لبيان الجواز 4 وقد ثبت في الصحيح ما
يوضح ذلك ومنها - أي من دلائل ترجيح الافراد - ان الافراد لا يجب فيه دم بالاجماع
وذلك لكماله ويجب الدم في المتمتع والقران وهو دم جبران لفوات الميقات وغيره
فكان ما لا يحتاج إلى جبر أفضل.
ومنها ان الأمة أجمعت على جواز الافراد من غير كراهة 5 وكره عمر وعثمان
وغيرهما التمتع والقران فكان الافراد أفضل والله أعلم فان قيل: كيف وقع الاختلاف
بين الصحابة (رض) في صفة حجته (ص) وهي حجة واحدة، وكل واحد منهم يخبر
عن مشاهدة في قضية واحدة 6.

(1) ان اختلاف أقوال الشافعي يدل على تحيره في الحكم الشرعي!
2) الواقع الحق ان العلماء استندوا إلى فعل الخلفاء المذكور وأولوا ما خالفه من نص الكتاب وفعل
الرسول وقوله - السنة - تبريرا منهم لفعل الخلفاء كما أشرنا إليه.
3) إن كان قصده من اختلاف فعل الامام على، اختلاف فعله مع أفعال الخلفاء في هذا المقام كما
يظهر ذلك من قوله في ما يأتي فهو صحيح وإن كان قصده ان الامام اختلفت أفعاله بعضه مع بعض فهو كذب
وافتراء على الامام.
4) قد صرح الامام انه خالفهم لاحياء سنة الرسول التي منعوا اقامتها راجع قبله على عهد عثمان.
5) وقد خالف أبناء الأمة هؤلاء، رسول الله حيث غضب في حجة الوداع على من تردد في فسخ
الافراد إلى التمتع وخالفهم أئمة أهل البيت تبعا لرسول الله وخالفهم اتباع مدرسة أهل البيت وغير هؤلاء ممن
رضي بسنة الرسول إذا فالأمة لم تجمع على ذلك.
6) إنما نشأ هذا الاختلاف بعد مخالفة الخلفاء لسنة الرسول حيث روى بعضهم أحاديث خلافا للواقع
تبريرا لعمل الخلفاء.
230

قال القاضي عياض: قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث فمن مجيد
منصف، ومن مقصر متكلف، ومن مطيل مكثر ومن مقتصر مختصر قال: وأوسعهم في
ذلك نفسا أبو جعفر الطحاوي الحنفي فإنه تكلم في ذلك في زيادة على الف ورقة وتكلم
معه في ذلك أبو جعفر الطبري ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة ثم المهلب والقاضي أبو
عبد الله المرابط والقاضي أبو الحسن بن القصار البغدادي والحافظ أبو عمر بن عبد البر
وغيرهم 1.
قال القاضي عياض: وأولى ما يقال في هذا على ما فحصناه من كلامهم
واخترناه من اختياراتهم مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث ان النبي (ص)
أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة ليدل على جواز جميعها ولو أمر بواحد لكان غيره
يظن أنه لا يجزى فأضيف الجميع إليه وأخبر كل واحد بما امره به واباحه له ونسبه إلى
النبي (ص) اما لامره به واما لتأويله عليه... 2
وقال النووي في مكان آخر من شرحه: " قال المازري: اختلف في المتعة التي
نهى عنها عمر في الحج، فقيل: هي فسخ الحج إلى العمرة وقيل: هي العمرة في أشهر
الحج ثم الحج من عامه وعلى هذا إنما نهى عنها ترغيبا 3 في الافراد الذي هو أفضل لا انه
يعتقد بطلانها أو تحريمها وقال القاضي عياض: ظاهر حديث جابر وعمران وأبي موسى
ان المتعة التي اختلفوا فيها إنما هي فسخ الحج إلى العمرة، قال: ولهذا كان عمر (رض)
يضرب الناس عليها ولا يضربهم على مجرد التمتع في أشهر الحج وإنما ضربهم على ما
اعتقده هو وسائر الصحابة ان فسخ الحج إلى العمرة كان مخصوصا في تلك السنة للحكمة
التي قدمنا ذكرها قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء ان التمتع المراد بقول الله تعالى

(1) وتبعهم في الكتابة ابن قيم الجوزية في زاد المعاد ووفى الموضوع حقه وكتب فيه أيضا ابن حزم
وكتبنا فيه هذا البحث. كتب في هذا الموضوع طوال القرون آلاف الأوراق ولو اكتفى المسلمون بصريح الكتاب
والسنة لكفاهم وريقة صغيرة.
2) لا، والذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ان الرسول لم يأمر في حجة الوداع الا بحج التمتع ومنع
من غيرها، ولم يظن أحد في عصره ولا من بعده ان الرسول أمر بغير حج التمتع وان كل هذه الأقوال قيلت في
سبيل تبرير فعل الخليفة مع علم القائلين ببطلان أقوالهم.
إلى هنا أوردنا في المتن ملخصا من باب " بيان وجوه الاحرام وانه يجوز افراد الحج والتمتع... " من
شرح النووي ج 8 / 134 - 137.
3) ان الخليفة عمر (رض) نهى عن حج التمتع وعاقب على فعله وأمر بالافراد في الحج والعمرة كما
صرحت بذلك الروايات التي أوردناها في ما سبق، وإنما قال العلماء هذه الأقوال التماسا لما يعذرون به الخليفة.
231

" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " هو الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج،
قال: ومن التمتع أيضا القران لأنه تمتع بسقوط سفره للنسك الآخر من بلده، قال: ومن
التمتع أيضا فسخ الحج إلى العمرة هذا كلام القاضي، قلت: والمختار ان عمر وعثمان
وغيرهما إنما نهوا عن المتعة التي هي الاعتمار في أشهر الحج ثم الحج من عامه، ومرادهم
نهي أولوية للترغيب في الافراد لكونه أفضل... "
انتهى ما نقلناه من شرح النووي بتلخيص 1.
قال المؤلف: كل هؤلاء العلماء وكثيرون غيرهم ممن كتبوا آلاف الأوراق في
هذا الباب، قد قرأوا في كتاب الله " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج "، واطلعوا على تلك
الروايات الكثيرة المتواترة الصحيحة عن رسول الله بتشديده الامر بمتعة الحج. وقرأوا
كذلك نهي عمر عنها ومعاقبته عليها وتعليله بان الافراد أتم للعمرة وللحج وان فيه
ربيع أهل مكة ومع كل ذلك نقرأ كل تلك الأقوال المتناقضة من أن الرسول أباح
لجماعة بحج التمتع ولآخرين بالافراد ولغيرهم بالقران ومن أجل اختلاف أقوال الرسول
في حجة الوداع اختلفت أقوال العلماء في هذا الصدد. وان عمر نهى عن فسخ الحج ولم
ينه عن حج التمتع وان نهي عمر وعثمان وغيرهما عن حج التمتع نهى أولوية للترغيب في
الافراد لكونه أفضل.
أرأيت كيف يصبح الحكم المخالف للكتاب والسنة أفضل؟! ورأيت كيف
يكون الترغيب إلى شئ بالعقوبة والضرب والحلق!!!
ومع كل هذا ليس لنا أن نشتط في القول على العلماء كما فعله ابن حزم، بل
ينبغي ان نعذرهم فإنهم في ما فعلوا طلبوا الخير وأرادوا تبرير فعل الخلفاء وفي هذا
السبيل وضعوا الأحاديث عن لسان رسول الله ولسان الأئمة من أهل بيته والكبراء من
صحابته وفي سبيل تبرير فعل الخلفاء أيضا سموا فعل الخلفاء اجتهادا وقالوا: ان الخلفاء
تأولوا الخير، والحق ان العلماء أيضا تأولوا الخير في ما فعلوا وقالوا.
في ما سبق من البحوث يتضح لنا كيف نشأ الاختلاف بين الأحاديث المنسوبة
إلى رسول الله (ص) وكيف انتشر الاختلاف بين المسلمين عبر العصور وفي ما يأتي بيان
ذلك.

(1) شرح النووي 8 / 170 في الباب المذكور آنفا.
232

منشأ الخلاف والاختلاف وكيف يمكن رفعهما
لما كان المسلمون الأوائل سمعوا من فم رسول الله (ص) أحاديث أمرهم فيها
بعمرة التمتع - الجمع بين الحج والعمرة - تداولوا تلك الأحاديث ورووها كما سمعوها
ولما كان رسول الله (ص) علم أولئك المسلمين كيفية أداء سنته في عمرة التمتع نقلوا
سنتها كذلك ومن ثم تداول المسلمون الأوائل ومن جاء بعدهم أحاديث الرسول وسنته
في عمرة التمتع وكان ذلك متداولا بين المسلمين إلى عصر الصحابي الخليفة عمر بن
الخطاب ومنعه المسلمين عن أداء سنته في عمرة التمتع وتبعه على ذلك الخليفة الصحابي
عثمان بن عفان وحاكم مكة الصحابي عبد الله بن الزبير والصحابي الخليفة معاوية بن
أبي سفيان. بعد ذلك قام بعض أتباع مدرسة الخلفاء بوضع أحاديث رووها عن رسول
الله (ص) بأنه نهى عن عمرة التمتع أي الجمع بين الحج والعمرة ووضعوا تلك الأحاديث
تأييدا لسياسة بعض الخلفاء الراشدين واحتسابا للخير وتداول المسلمون كذلك هذه
الأحاديث وانتشرت بينهم، إلى جنب روايتهم المجموعة الأولى من الأحاديث ولما أمر
الخليفة عمر بن عبد العزيز بتدوين حديث الرسول (ص) دونت تلك المجموعتان من الحديث
المروي عن رسول الله (ص) والمنسوب إليه في كتب صحاح الحديث بمدرسة الخلفاء
وسننهم ومسانيدهم ومن هنا نشأ الاختلاف بين الأحاديث، وانتشر الخلاف بين
المسلمين ولا يمكن رفع الاختلاف بين الأحاديث المروية عن رسول الله (ص) والمنسوبة
إليه دون طرح كل حديث يخالف سنة الرسول (ص) وان دخلت في كتب صحاح
الحديث، ولا يمكن كذلك رفع الخلاف من بين المسلمين وتوحيد كلمتهم دون رجوع
المسلمين إلى سنة الرسول وترك ما يخالفها وإن كانت من سنن الخلفاء الراشدين.
حديث اتباع سنة الخلفاء الراشدين
ومما ذكرنا يحصل لنا العلم واليقين بأن الحديث المشهور أن رسول الله (ص)
قال:
" فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ " 1

(1) مسند أحمد 4 / 126 و 127.
سنن الدارمي، المقدمة، باب اتباع السنة (1 / 44 - 45).
سنن ابن ماجة، المقدمة، باب سنة اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهدين (1 / 15 - 16).
سنن أبي داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة (ح، 4607).
سنن الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الاخذ بالسنة واجتناب البدع (10 / 144 - 145).
ان كتب الحديث الأربعة المذكورة بعد مسند أحمد من كتب صحاح الحديث الست بمدرسة الخلفاء.
233

لا يمكن أن يكون صحيحا وان دخل في كتب الصحاح والمسانيد بمدرسة
الخلفاء لأننا وجدنا في سنن الخلفاء الراشدين ما يخالف سنة الرسول (ص)
والرسول (ص) لا يأمر بالعمل بما يخالف سنته ولما في الحديث علل أخرى نذكرها فيما
يأتي.
علل الحديث
بالإضافة إلى ما ذكرنا نجد في هذا الحديث المروي عن رسول الله (ص) العلل
الآتية:
أ - وجدنا في باب مصطلحات بحث الإمامة والخلافة من الجزء الأول من
هذا الكتاب أن لفظ الخليفة لم يستعمل في القرآن والحديث النبوي الشريف ومحاورات
المسلمين وأحاديثهم في العصر الاسلامي الأول حتى عصر الخليفة الثاني بمعنى حاكم
المسلمين العام كما يفهم منه في القرون الاسلامية الأخيرة، وإنما استعمل لفظ الخليفة
في القرآن والحديث النبوي ومحاورات المسلمين حتى عصر الخليفة عمر بمعناه اللغوي
وأريد به الخليفة للشخص الذي يذكر في الكلام بعد لفظ الخليفة ويضاف إليه لفظ
الخليفة.
وبناء على هذا إذا وجدنا لفظ الخليفة بمعنى الحاكم الاسلامي العام في حديث
منسوب إلى رسول الله (ص) أو أي واحد من أهل ذلك العصر أيقنا بعدم صحة
ذلك الحديث.
وكذلك أيضا بما أن وصف الخلفاء الأربعة الأوائل بالراشدين كان بعد
استيلاء بعض الخلفاء الجبابرة من أمويين وعباسيين على الحكم وعند ذاك وصف أتباع
مدرسة الخلفاء الخلفاء الأربعة الأوائل بالراشدين ومن ثم نعلم أن كل حديث ورد فيه
وصف الأربعة بالراشدين وضع بعد عصر الخلفاء الأوائل.
ب - ان هذا الحديث يصرح بأن رسول الله (ص) جعل سنة الخلفاء الراشدين
234

مصدرا للتشريع الاسلامي في عداد كتاب الله وسنة رسوله وحاشا رسول الله من ذلك.
ج - لو كان رسول الله (ص) قد أمر باتباع سنة الخلفاء الأربعة الراشدين إذا
كان قد أمر بالمتناقضين، لان فيهم الامام عليا، وقد خالف سنة الخليفتين عمر وعثمان
في عمرة التمتع وأتى بها وحث عليها وعلى هذا كان رسول الله (ص) قد أمر بالعمل بشئ
ونهى عن العمل به وحاشا رسول الله (ص) من ذلك.
وبسبب كل ما ذكرنا نرى أن هذا الحديث يأتي في مقدمة الأحاديث التي
وضعت تأييدا لسياسة الخلفاء الراشدين.
وبما أن الخلفاء الأوائل إلى زمان معاوية و عبد الله بن الزبير كانوا من أصحاب
رسول الله (ص) وهم الذي اختلفوا في اجتهاداتهم وسننهم أشد الاختلاف فإنه لا يصح
ما قاله أتباع مدرسة الخلفاء في حق الصحابة أنه لا يتطرق الشك إلى أحدهم ويصح
أخذ أحكام الاسلام من جميعهم كما مر بحثه في بحث عدالة الصحابة من الجزء الأول
من هذا الكتاب.
ومن دراسة قصة عمرة التمتع بين عثمان والامام على اتضح لنا أن أئمة أهل
البيت كانوا يأمرون باتباع سنة الرسول (ص) ويجاهدون في سبيل ذلك ويأمرون أتباع
مدرستهم بذلك ومما جرى بين ابن عباس وابن الزبير في هذا الشأن وجدنا مثلا من
النزاع والمخاصمة بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الخلفاء وأن نزاعهم كان بسبب التزام
مدرسة أهل البيت باتباع سنة الرسول (ص) في مقابل عمل مدرسة الخلفاء باجتهادهم
في مقابل سنة الرسول (ص).
مما سبق من البحوث أدركنا كيف تواجدت مدرستان في الاسلام مدرسة محافظة
تعض على سنة الرسول بالنواجذ وترى أنه ليس لأحد أن يجتهد في مقابل سنة
الرسول (ص) وتجاهد في سبيل ذلك وهي مدرسة أهل البيت. ومدرسة أخرى مجتهدة
ترى أن للخلفاء وذوي السلطة من الصحابة أن يجتهدوا في مقابل سنة الرسول (ص)
وتعض على سننهم بالنواجذ وهي مدرسة الخلفاء.
وبما أن كل تلك المعارك قد جرت بين المدرستين حول سنة الرسول (ص) كان
لابد لنا في سبيل تمحيص سنة الرسول (ص) ومعرفة سبل الوصول إلى الصحيح من سنة
235

الرسول (ص) سيرة وحديثا وغير المشوبة باجتهادات المجتهدين أن نعقد فصول هذا
الكتاب وغيره مما أصدرنا من كتب وبحوث زهاء أربعين سنة والله على ما أقول شاهد
وكفيل.
إذا فليعذرنا العاتبون اللائمون.
خلاصة البحث:
في مبحثنا عن موارد اجتهاد الخليفة عمر بحثنا عن قصة عمرة التمتع فوجدنا
العمرة في العصر الجاهلي محرمة عند قريش في أشهر الحج ويرونها من افجر الفجور
ويقولون: إذا انسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر. ووجدنا الرسول قد خالفهم فيها
واعتمر أربع عمر كلهن في أشهر الحج، اما عمرة التمتع فقد وجدنا الكتاب قد نص
عليها في قوله تعالى " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج... " وسنها الرسول في حجة الوداع
فإنه (ص) مكث تسع سنين بعد الهجرة لم يحج واجمع الخروج إلى الحج في ذي القعدة
سنة عشر من مهاجره وقد أسلمت جزيرة العرب ومن شاء الله من أهل اليمن فاذن
بالحج فقدم المدينة بشر كثير يريدون ان يأتموا برسول الله ويعملوا بعمله، وسار من المدينة
ومعه أزواجه وأهل بيته وعامة المهاجرين والأنصار ومن شاء الله من قبائل العرب
وافناء الناس 1 وكان معه جموع لا يحصيهم الا خالقهم ورازقهم 2 ووافاهم في الطريق
خلائق لا يحصون، فكانوا من بين يديه، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله مد البصر 3.
قال جابر. 4 ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما
عمل به من شئ عملنا به.
ولما انتهى إلى وادي العقيق قال لعمر بن الخطاب أتاني آت من ربي - وفي
رواية اتاني جبرئيل (ع) - وقال: قل " عمرة في حجة، فقد دخلت العمرة في الحج إلى
يوم القيامة " وفي عسفان، قال له سراقة: اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم، فقال

(1) ما أوردنا هنا من أمر حج الرسول نقلناه من امتاع المقريزي ص 510 - 511.
2) سيرة ابن سيد الناس 2 / 273.
3) زاد المعاد 2 / 213 فصل في حجه بعد هجرته قال ابن كثير في تاريخه 5 / 109 - 110 سميت حجة
البلاغ لأنه " ع " بلغ الناس شرع الله في الحج قولا وفعلا، وسميت حجة الاسلام لأنه لم يحج من المدينة غيرها.
4) رجعنا إلى تلخيص البحث.
236

" ان الله تعالى قد ادخل عليكم في حجكم هذا عمرة، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت
وبين الصفا والمروة فقد حل الا من كان معه هدى. وفى سرف بلغ ذلك عامة أصحابه
فقال: من لم يكن معه هدي فأحب ان يجعلها عمرة فليفعل. قالت عائشة: فالآخذ بها
والتارك لها من أصحابه، وكرر التبليغ بها في بطحاء مكة وقال " من شاء ان يجعلها
عمرة فليجعلها ".
قال المؤلف: يظهر مما سبق ان النبي تدرج في تبليغهم حكم عمرة التمتع فإنه
أخبر في العقيق عمر خاصة بنزول الوحي عليه يأمره ان يجمع هو بنفسه (ص) بين الحج
والعمرة، وفي عسفان بلغ سراقة ان الله ادخل عليهم في حجهم الذي هم فيه عمرة وان
من تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل الا من كان معه الهدي، وفي سرف بلغ
عامة أصحاب بالحكم فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه، ويظهر ان التارك لها من
أصحابه كانوا من مهاجرة قريش الذين كانوا يرونها في الجاهلية من افجر الفجور وان
من أجل ذلك تدرج الرسول في تبليغهم حكم التمتع بالعمرة.
حتى إذا كان بين الصفا والمروة 1 وحان وقت الأداء نزل عليه القضاء فأمر
أصحابه وهو في آخر طوافه على المروة من كان منهم أهل بالحج ولم يكن معه هدي ان
يجعلها عمرة وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولكني لبدت
رأسي وسقت هديي ولا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله. فقام إليه سراقة وقال:
اقض لنا قضاء قوم ولدوا اليوم أعمرتنا لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال " لا: بل للأبد "
مرتين وشبك أصابعه واحدة في الأخرى وقال " دخلت العمرة في الحج إلى يوم
القيامة " مرتين.
هاهنا قامت قيامة من كان يرى العمرة محرمة في أشهر الحج من أصحابه
وتعاظم ذلك عندهم وضاقت به صدورهم فقالوا: يا رسول الله! اي الحل؟ قال:
" الحل كله " " هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده الهدي فليحل الحل كله فان
العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة " وقال " أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم
التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم متعة " قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا
الحج؟! قال " افعلوا ما آمركم به فاني لولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي
أمرتكم به " وقال " أحلوا وأصيبوا النساء " ففشت في ذلك القالة وبلغه انهم يقولون

(1) رجعنا إلى تلخيص البحث.
237

لما لم يكن بيننا وبين عرفة الا خمس أمرنا ان نحل إلى نسائنا فنأتي إلى عرفة تقطر
مذاكيرنا، هكذا ردوا عليه القول فغضب فانطلق حتى دخل على عائشة غضبان فرأت
الغضب في وجهه فقالت: من أغضبك أغضبه الله - وفي رواية قالت - ادخله الله
النار قال: " مالي لا اغضب وانا آمر أمرا فلا اتبع ".
ثم قام خطيبا فقال " بلغني ان أقواما يقولون كذا وكذا والله لأنا أبر واتقى لله
منهم - وفي رواية قال - قد علمتم اني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هديي
لحللت " قالوا: يا رسول الله أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا؟ قال " نعم "
فأحلوا ومسوا الطيب ووطئوا النساء وفعلوا ما يفعل الحلال فلما كان يوم التروية أهلوا
بالحج.
هكذا أطاعوا الله ورسوله بكل صعوبة واعتمروا في أشهر الحج عدا أم المؤمنين
عائشة التي حرمت منها لأنها حاضت فأمرها النبي ان تحج فلما طهرت وأتمت الحج
أمر أخاها عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم كي لا ترجع بحج مفرد، وتوفي الرسول
واستخلف أبو بكر فأفرد الحج واستخلف عمر فأفرد ورآى بعرفة رجلا مرجلا شعره
فاستفهمه فقال قدمت متمتعا وإنما أحرمت اليوم فقال عند ذاك لا تتمتعوا في هذه
الأيام فاني لو رخصت في المتعة لهم لعرسوا بهن تحت الأراك ثم راحوا بهن حجاجا.
وقال: افصلوا بين حجكم وعمرتكم اجعلوا الحج في أشهر الحج واجعلوا
العمرة في غير أشهر الحج، أتم لحجكم وعمرتكم. واستشهد على صحة فتواه لما سأله
أبو موسى ما هذا الذي أحدثت بشأن النسك وقال: ان نأخذ بكتاب الله فان الله قال
" فأتموا الحج والعمرة لله " وان نأخذ بسنة نبينا (ع) فإنه لم يحل حتى نحر الهدي، ذكر
عمر في هذه الأحاديث وغيرها ان تمامهما في الفصل بينهما وجعل العمرة في غير أشهر
الحج، وقال: ان النبي لم يحل حتى نحر الهدي ولم يجرء أبو موسى ولا غيره أن يقول له:
ان الرسول صرح غير مرة بأنه لم يحل لأنه ساق الهدى ولا يحل حتى ينحر وان التمتع
بالعمرة في كتاب الله عدا ما كان من أمر الإمام علي فإنه قال له: " من تمتع فقد اخذ
بكتاب الله وسنة نبيه " ولعل عمر اضطر بعد هذا الاعتراض ان يجابههم بالواقع
ويقول في خطبته: متعتان كانتا على عهد رسول الله وانا انهى عنهما وأعاقب عليهما...
ويقول: والله اني لانهاكم عن المتعة وانها لفي كتاب الله ولقد فعلتها مع
رسول الله.
238

لعل الخليفة صرح بهذه الأقوال ليمنع سائر الصحابة من متابعة الامام والرواية
عن رسول الله بما يضعف موقفه ونرى أنه كشف عن سبب نهيه في قوله: كرهت ان
يظلوا معرسين بهن تحت الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم وفي قوله:
ان أهل البيت - يعني أهل مكة - ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم في
من يطرأ عليهم 1.
إذا فالخليفة القرشي يعيد على عهده نفس الأقوال التي جابهوا الرسول بها لما
امتنعوا عن عمرة التمتع في حجة الوداع.
وحق القول في هذه الواقعة ان الخليفة تأول وطلب الخير لذوي أرومته من
قريش سكان مكة حين نهى عن عمرة التمتع وأراد تمام الحج والعمرة حين أمر بفصل
الحج عن العمرة واتيان العمرة في غير أشهر الحج وان خالف في ذلك كتاب الله وسنة
نبيه واستن بسنته المسلمون على عهده وافردوا الحج وتبعه في ذلك الخليفة القرشي
عثمان فإنه قال على عهده أتم للحج والعمرة ان لا يكونا معا في أشهر الحج فلو أخرتم
هذه العمرة حتى تزوروا البيت زورتين كان أفضل فعارضه الامام وقال: أعمدت إلى
سنة سنها رسول الله تنهى عنها وقد كانت لذي الحاجة ولنائي الدار ثم أهل بحجة وعمرة
فأنكر عثمان في هذه المرة أن يكون قد نهى عنها وقال: إنما كان رأيا أشرت به.
وفى أخرى قال له الامام: انك تنهى عن التمتع، قال: بلى! قال: ألم تسمع
رسول الله تمتع قال: بلى، فلبى علي وأصحابه بالعمرة.
وفي أخرى قال: لقد علمت انا تمتعنا مع رسول الله فقال أجل ولكنا كنا
خائفين.
وفي أخرى قال له: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله تنهى عنه فقال عثمان دعنا
عنك، قال: لا أستطيع ان أدعك مني فلما رآى علي ذلك أهل بهما.
وفي أخرى لما رآى الامام عثمان ينهى عن المتعة وان يجمع بينهما أهل بهما لبيك
بعمرة وحجة معا فقال عثمان أتفعلها وانا انهى عنها فقال علي: لم أكن لأدع سنة
رسول الله لقول أحد من الناس.
وتشدد الخليفة على من لم يكن في منزلة الامام وأمر بمن لبى منهم بالعمرة في
أشهر الحج ان يضرب ويلحق!

(1) وبالتعليل الذي ذكرناه يرتفع ما يظهر من تناقض في ما روي عنه من التعليل.
239

وعلى عهد معاوية، قال سعد لمعاوية: ان عمرة التمتع حسنة جميلة. فقال
معاوية: ان عمر كان ينهى عنها.
وقال قائد جلاوزة معاوية: لا يفعل ذلك الا من جهل أمر الله واستشهد بنهي
عمر عنها.
ووضع معاوية رواية عن لسان النبي (ص) انه نهى ان يقرن بين الحج والعمرة
واستنشد الصحابة فأنكروا عليه فاصر عليها.
ويبدوا ان الارهاب كان شديدا على عهد معاوية فان الصحابي عمران بن
حصين كتم أنفاسه حتى إذا كان في مرض موته أسر إلى من ائتمنه بعد ان اخذ عليه
العهد ان يكتم عليه ان عاش، وأخبره بان الرسول جمع بين الحج والعمرة ثم لم ينه عنها
ولم ينزل كتاب ينسخها حتى إذا توفى (ص) قال فيها رجل برأيه ما شاء أن يقول.
يوضح مجموع ما أوردناه عن هذا العهد انه امتاز على ما سبقه من العهود
بأمرين:
أولهما بأنهم اتخذوا سنة عمر دينا يدينون به وانهم أعلنوا ذلك فان جلواز معاوية
الضحاك يقول " لا يفعل ذلك الا من جهل أمر الله " واستشهد هو ومعاوية بنهي عمر
عنها في مقابل استشهاد سعد بفعل رسول الله إياها.
ثانيهما بوضع الحديث عن لسان رسول الله في ما يؤيد سنة عمر. وبعد عهد
معاوية استمر اتباع مدرسة الخلفاء على الامرين مثل ما فعله ابنا الزبير بمكة فإنهما نهيا
عن عمرة التمتع واستشهدا بنهي أبي بكر وعمر عنها في مقابل ابن عباس من اتباع
مدرسة الأئمة الذي كان يأمر بها ولما قالوا له: حتى متى تضلل الناس وتأمر بالعمرة في
أشهر الحج وقد نهى عنها أبو بكر وعمر؟ قال ابن عباس أراهم سيهلكون، أقول: قال
النبي، ويقولون: نهى أبو بكر وعمر، ويجري بين الطرفين خصومة شديدة وسباب،
ويضع عروة حديثا يكذب فيه على رسول الله ومن صحبه ويقول: انهم أفردوا الحج ابدا
في حجة الوداع وغيرها ويستشهد بأمه وخالته غير أنهما تقولان: اعتمرنا في حجة الوداع
ويضع اتباع مدرسة الخلفاء بعد هذا العهد - أيضا - أحاديث على رسول الله وعلى
علي بن أبي طالب انهما افراد الحج وامرا بافراده وعلى أبي ذر أنه قال: إن عمرة التمتع
كانت لنا أصحاب رسول الله خاصة، إلى غير ذلك من الحديث الموضوع باتقان عجيب
240

في صنعة الوضع والافتراء فإنهم مثلا يروون عن أبي ذر وهو في الربذة، وعن الإمام علي
وهو ينصح ابنه محمدا، وعن واحد من أصحاب النبي بأنه أخبر عمر بنهي النبي
عنها وهو في مرض موته ولكن مع كل هذا الجهد تعلقت قلوب الناس بعمرة التمتع كما
؟؟؟؟؟ ذلك لابن عباس ولم يكن سببه عدم اتباعهم لسنة عمر، بل كان سببه عدم
؟ مكنهم من اطاعته فيها فإنه لم يكن بمقدور المسلمين ان يشدوا الرحال من أقاصي
البلاد الاسلامية مرتين، مرة للعمرة في غير أشهر الحج، وأخرى للحج في أشهر الحج
مثل الخراساني الذي استفتى الحسن البصري في مكة وقال: اني رجل بعيد الشقة...
والآخر الذي سأل مجاهدا وقال: هذا أول ما حججت فلا تشايعني نفسي، فأي ذلك
ترى أتم، أن امكث كما أنا أو اجعلها عمرة؟ 1
لم يكن مسكن أمثال هؤلاء في الحجاز ليستطيعوا المجئ من بيتهم إلى مكة
مرتين كما كان يأمر به عمر وعثمان واتباعهم. وماذا يصنع الذي قد يتاح له المجئ إلى
الحج مرة واحدة في حياته وكيف يعمل مثل هذا بسنة عمر؟ وقديما قيل: إذا أردت
الا تطاع فاطلب مالا يستطاع. من أجل هذا اضطر المسلمون ان يتركوا من سنة عمر
ما لم يتمكنوا من فعله وهو افراد الحج من العمرة واخذ بعضهم منها ما أمكنه فعله وهو
عدم الاحلال بين العمرة والحج وبعضهم ترك سنة عمر بالمرة مثل اتباع مدرسة احمد
امام الحنابلة.
على أن المسلمين في كل تلك القرون لم يألوا جهدا في تبرير فعل الخلفاء، من
روايتهم الحديث عن النبي وآله وأصحابه في تأييد رأى الخلفاء، إلى تأييد فعلهم بما
يستطاع قوله، مثل قولهم: ان الخلفاء ضربوا وحلقوا للترغيب لأنهم رأوا الافراد أفضل!
إلى تسمية فعل الخلفاء بالاجتهاد وان المسألة اجتهادية وان الخليفة اجتهد في هذه
المسألة! إذا فقد قال الله، وقال رسوله، واجتهد الخليفة عمر!!!

(1) المحلى 7 / 103.
241

" ب "
متعة النساء
تواتر عن الخليفة عمر قوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله وانا انهى عنهما
وأعاقب عليهما، متعة الحج ومتعة النساء 1 وسبق البحث عن متعة الحج وكيفية
اجتهاده في النهي عنها، وفي ما يلي نبحث عن متعة النساء وسبب تحريمه إياها واجتهاده
فيها، بدء بايراد تعريفها عن مصادر مدرسة الخلفاء ثم عن فقه مدرسة أهل البيت ثم
نبحث عنها في الكتاب والسنة بحوله تعالى.
نكاح المتعة في مصادر مدرسة الخلفاء:
في تفسير القرطبي: لم يختلف العلماء من السلف والخلف ان المتعة نكاح إلى
أجل لا ميراث فيه، والفرقة تقع عند انقضاء الأجل من غير طلاق. وقال ابن عطية:
وكانت المتعة ان يتزوج الرجل المرأة بشاهدين واذن الولي إلى أجل مسمى، وعلى ان
لا ميراث بينهما، ويعطيها ما اتفقا عليه، فإذا انقضت المدة فليس عليها سبيل وتستبرئ
رحمها، لان الولد لا حق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره 2.
وفي صحيح البخاري عن رسول الله (ص). " أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما
بينهما ثلاث ليال فان احبا ان يتزايدا أو يتتاركا " 3.

(1) أوردنا في أول بحث متعة الحج بعض مصادر هذا الخبر ونضيف إليها هنا ما يلي:
تفسير القرطبي 2 / 370، وتفسير الفخر الرازي 2 / 167 و 3 / 201 و 202، وكنز العمال 8 / 293 و
294، والبيان والتبيين للجاحظ 2 / 223. 2) تفسير القرطبي 5 / 132
3) صحيح البخاري 3 / 164 باب نهي رسول الله عن نكاح المتعة أخيرا.
242

وفي مصنف ابن أبي شيبة عن جابر قال: إذا انقضى الاجل فبدا لهما ان
يتعاودا فليمهرها مهرا آخر، فسئل كم تعتد؟ قال: حيضة واحدة، كن يعتددنها
للمستمتع منهن 1.
وفي تفسير القرطبي عن ابن عباس قال: عدتها حيضة، وقال: لا يتوارثان 2.
وفي تفسير الطبري، عن السدي " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن
أجورهن فريضة ولا جناح عليكم في ما تراضيتم به من بعد الفريضة " فهذه المتعة،
الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمى ويشهد شاهدين وينكح بإذن وليها وإذا
انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهي منه برية وعليها ان تستبرئ ما في رحمها
وليس بينهما ميراث، ليس يرث واحد منهما صاحبه 3.
وفي تفسير الكشاف للزمخشري: وقيل: نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام
حتى فتح الله مكة على رسوله (ص و أأنت) ثم نسخت، كان الرجل ينكح المرأة وقتا
معلوما ليلة أو ليلتين أو أسبوعا بثوب أو غير ذلك ويقضي منها وطره ثم يسرحها،
سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها... 4
هكذا ورد تعريف متعة النساء أو نكاح المتعة في مصادر مدرسة الخلفاء وورد
تعريفها في الفقه الإمامي كما يلي:
نكاح المتعة في الفقه الإمامي:
نكاح المتعة أو متعة النساء: ان تزوج المرأة نفسها أو يزوجها وكيلها أو وليها إن كانت
صغيرة لرجل تحل له ولا يكون هناك مانع شرعا من نسب أو سبب أو رضاع أو
عدة أو احصان، بمهر معلوم إلى أجل مسمى. وتبين عنه بانقضاء الاجل أو ان يهب
الرجل ما بقي من المدة وتعتد المرأة بعد المباينة مع الدخول وعدم بلوغها سن اليأس
بقرءين إذا كانت ممن تحيض والا فبخمسة وأربعين يوما. وان لم يمسسها فهي
كالمطلقة قبل الدخول لا عدة عليها.

(1) المصنف لعبد الرزاق 7 / 499 باب المتعة.
2) تفسير القرطبي 5 / 132، والنيسابوري 5 / 17.
3) تفسير الطبري 5 / 9.
4) تفسير الكشاف 1 / 519.
243

وشأن المولود من الزواج الموقت شأن المولود من الزواج الدائم في جميع
أحكامه 1.
نكاح المتعة في كتاب الله:
قال الله سبحانه: فما استمتعتم به منهن فاتوهن أجورهن فريضة ولا جناح
عليكم في ما تراضيتم به من بعد الفريضة ان الله كان عليما حكيما - النساء 24.
1 - روى عبد الرزاق في مصنفه عن عطاء: ان ابن عباس كان يقرا: " فما
استمتعتم به منهن - إلى أجل - فاتوهن أجورهن " 2.
2 - في تفسير الطبري عن حيبب بن أبي ثابت قال أعطاني ابن عباس مصحفا
فقال: هذا على قراءة أبي قال: وفيه فما استمتعتم به منهن - إلى أجل مسمى 3.
3 - في تفسير الطبري عن أبي نضرة بطريقين، قال: سألت ابن عباس عن متعة
النساء، قال: أما تقرأ سورة النساء قال: قلت: بلى. قال: فما تقرأ فيها " فما استمتعتم به
منهن إلى أجل مسمى " قلت لو قرأتها كذلك ما سألتك قال فإنها كذلك.
4 - عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية على ابن عباس " فما استمتعتم به
منهن " قال ابن عباس " إلى أجل مسمى " قال: قلت: ما أقرؤها كذلك. قال: والله
لأنزلها الله كذلك. ثلاث مرات.
5 - عن عمير وأبي إسحاق ان ابن عباس قرأ " فما استمتعتم به منهن إلى أجل
مسمى ".
6 - عن مجاهد " فما استمتعتم به منهن " قال: يعنى نكاح المتعة.
7 - عن عمرو بن مرة انه سمع سعيد بن جبير يقرأ " فما استمتعتم به منهن إلى
أجل مسمى ".
8 - عن قتادة قال: في قراءة أبي بن كعب " فما استمتعتم به منهن إلى أجل
مسمى ".

(1) راجع احكام نكاح المتعة في الفقه الإمامي مثل: شرح اللمعة الدمشقية وشرايع الاسلام وغيرهما.
2) المصنف 7 / 497 و 498 باب المتعة تأليف عبد الرزاق بن همام الصنعاني مولى حمير، (126 -
211 ه‍) ط. 1390 - 1392 ه‍ من منشورات المجمع العلمي ببيروت - اخرج حديثه أصحاب الصحاح
الست راجع ترجمته في الجمع بين رجال الصحيحين وتقريب التهذيب. وراجع بداية المجتهد لابن رشد 2 / 63.
3) في تفسير الآية بتفسير الطبري 5 / 9.
244

9 - عن شعبة عن الحكم قال سألته عن هذه الآية أمنسوخة هي قال: لا.
أخرجنا الأحاديث (2 - 9) من تفسير الطبري وأوجزنا بعضها.
10 - وفي احكام القرآن للجصاص أيضا وردت رواية أبي نضرة وأبى ثابت
عن ابن عباس وحديث قراءة أبي بن كعب 1.
11 - روى البيهقي في سننه الكبرى عن محمد بن كعب. ان ابن عباس قال:
كانت المتعة في أول الاسلام وكانوا يقرؤن هذه الآية " فما استمتعتم به منهن إلى أجل
مسمى " 2.
12 - وفي شرح النووي علي صحيح مسلم: وفي قراءة ابن مسعود فما استمتعتم
به منهن إلى أجل... 3
13 - وفي تفسير الزمخشري: وقيل نزلت فيه المتعة التي كانت ثلاثة أيام...
وقال: سميت متعة لاستمتاعه بها. وقال: وعن ابن عباس هي محكمة يعنى لم تنسخ،
وكان يقرأ " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى " 4.
14 - قال القرطبي: وقال الجمهور: المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر
الاسلام وقرأ ابن عباس وأبي وابن جبير " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى
فآتوهن أجورهن " 5.
15 - وفي تفسير ابن كثير: وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير
والسدي يقرؤن " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة "
وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة 6.
16 - وفي تفسير السيوطي حديث أبي ثابت وأبى نضرة ورواية قتادة وسعيد
بن جبير عن قراءة أبي وحديث مجاهد والسدي، وعطاء عن ابن عباس وحديث
الحكم ان الآية غير منسوخة وعن عطاء عن ابن عباس أنه قال: وهي التي في سورة
النساء فما استمتعتم به منهن إلى كذا وكذا من الاجل على كذا وكذا قال: وليس بينهما

(1) احكام القرآن 2 / 147.
2) سنن البيهقي 7 / 205.
3) شرح النووي على صحيح مسلم 9 / 179.
4) الكشاف للزمخشري 1 / 519.
5) تفسير القرطبي 5 / 130.
6) تفسير ابن كثير 1 / 474.
245

وراثة فان بدا لهما ان يتراضيا بعد الاجل فنعم وان تفرقا فنعم... 1
قال المؤلف: كل هؤلاء المفسرين وغيرهم 2 أوردوا ما ذكرناه في تفسير الآية
ونرى أن ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وغيرهم ممن نقل
عنهم انهم كانوا يقرؤن " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى " كانوا يقرؤن إلى أجل
مسمى على سبيل التفسير ويشهد على ذلك ما ورد في الرواية الأخيرة عن ابن عباس أنه قال
: " فما استمتعتم به منهن إلى كذا وكذا من الاجل على كذا وكذا. "
وان أبيا مثلا قصد انه سمع هذا التفسير من رسول الله اي ان رسول الله لما
قال " إلى أجل مسمى " فسر الآية بهذه الجملة.
نكاح المتعة في السنة:
في باب نكاح المتعة من صحيحي مسلم والبخاري ومصنفي عبد الرزاق وابن
أبي شيبة ومسند أحمد وسنن البيهقي وغيرها عن عبد الله بن مسعود، قال: كنا نغزو مع
رسول الله (ص) ليس لنا نساء. فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا
أن ننكح المرأة بالتوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات
ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين " المائدة - 87 3.
في صحيحي البخاري ومسلم ومصنف عبد الرزاق واللفظ لمسلم عن جابر بن
عبد الله وسلمة بن الأكوع قالا: خرج علينا منادي رسول الله (ص) فقال: ان رسول
الله قد اذن لكم ان تستمتعوا يعني متعة النساء 4.

(1) الدر المنثور للسيوطي 2 / 140 - 141، وما ورد عن عطاء في المصنف لعبد الرزاق 7 / 497،
وراجع بداية المجتهد لابن رشد 2 / 63.
2) مثل القاضي أبي بكر الأندلسي (ت 542 ه‍) في احكام القرآن 1 / 162 والبغوي الشافعي
(ت 510 أو 516 ه‍) في تفسيره بهامش الخازن 1 / 423 والآلوسي (ت 1270 ه‍) في 5 / 5 من تفسيره.
3) صحيح مسلم كتاب النكاح ح 1404 ص 1022 بأسانيد متعددة، وفي صحيح البخاري 3 / 85
بتفسير سورة المائدة باب 9، وفي كتاب النكاح منه 3 / 159 باب ما يكره من التبتل، باختلاف يسير في اللفظ،
وفي مصنف عبد الرزاق 7 / 506 مع إضافة إلى اخر الحديث، وفى مصنف ابن أبي شيبة 4 / 294، وفي مسند أحمد
1 / 420، وقال بهامشه " وكان ابن مسعود يأخذ بهذا ويرى ان نكاح المتعة حلال، وفي 432 منه باختصار،
وفي سنن البيهقي 7 / 200 و 201 وعلق على الحديث، وفي تفسير ابن كثير 2 / 87.
4) صحيح مسلم ص 1022 ح 1405، وفي البخاري 3 / 164 باب نهي رسول الله عن نكاح المتعة
آخرا ولفظه: كنا في جيش فاتانا رسول رسول الله... وكذلك لفظ احمد في مسنده ج 4 / 51 وفي 47 منه
باختصار، وفي المصنف لعبد الرزاق 7 / 498 باختلاف يسير.
246

في صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن البيهقي. عن سبرة الجهني قال: أذن لنا
رسول الله (ص) بالمتعة. فانطلقت انا ورجل إلى امرأة من بني عامر. كأنها بكرة عيطاء
فعرضنا عليها أنفسنا. فقالت: ما تعطي؟ فقلت: ردائي. وقال صاحبي ردائي. وكان
رداء صاحبي أجود من ردائي. وكنت أشب منه. فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها.
وإذا نظرت إلي أعجبتها. ثم قالت: أنت ورداؤك يكفيني. فمكثت معها ثلاثا. ثم إن
رسول الله (ص) قال " من كان عنده شئ من هذه النساء التي يتمتع، فليخل
سبيلها " 1.
في مسند الطيالسي عن مسلم القرشي قال: دخلنا على أسماء بنت أبي بكر
فسألناها عن متعة النساء فقالت: فعلناها على عهد النبي (ص) 2.
في مسند أحمد وغيره عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا نتمتع على عهد رسول
الله (ص وآله) بالثوب 3.
وفي مصنف عبد الرزاق: لقد كان أحدنا يستمتع بملء القدح سويقا 4.
وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وغيرهما واللفظ للأول قال عطاء قدم جابر بن
عبد الله معتمرا. فجئناه في منزله. فسأله القوم عن أشياء. ثم ذكروا المتعة. فقال: نعم
استمتعنا على عهد رسول الله (ص) وأبي بكر وعمر 5.
وفي لفظ احمد بعده: " حتى إذا كان في آخر خلافة عمر. "
وفي بداية المجتهد: ونصفا من خلافة عمر ثم نهى عنها عمر الناس 6.

1) صحيح مسلم كتاب النكاح ح 1406 ص 1024، وسنن البيهقي 7 / 202 و 203، ومسند أحمد
3 / 405 وبعده قال: ففارقتها. والبكرة الفتية من الإبل أي الشابة القوية والعيطاء الطويلة العنق في اعتدال
وحسن قوام.
2) الطيالسي ح 1637.
3) مسند أحمد ج 3 / 22، وفي مجمع الزوائد 4 / 264 رواه أحمد والبزار.
4) المصنف لعبد الرزاق 7 / 458.
5) صحيح مسلم كتاب النكاح ح 1405 ص 1023، وبشرح النووي 9 / 183، ومسند أحمد 3 / 380
ورجال أحمد رجال الصحيح وأبو داود في باب الصداق تمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر ونصفا من خلافة
عمر ثم نهى عنها عمر، وراجع عمدة القاري للعيني 8 / 310.
6) بداية المجتهد لابن رشد 2 / 63.
247

سبب نهي عمر عن المتعة
في صحيح مسلم والمصنف لعبد الرزاق ومسند أحمد وسنن البيهقي وغيرها
واللفظ لمسلم عن جابر بن عبد الله قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق، الأيام،
على عهد رسول الله (ص) وأبى بكر حتى نهى عنه عمر، في شأن عمرو بن حريث 1.
وفي لفظ مصنف ابن أبي شيبة عن عطاء عن جابر: استمتعنا على عهد رسول
الله (ص) وأبي بكر وعمر حتى إذا كان في اخر خلافة عمر استمتع عمرو بن حريث
بامرأة - سماها جابر فنسيتها - فحملت المرأة فبلغ ذلك عمر فدعاها فسألها، فقالت:
نعم. قال: من اشهد؟ قال عطاء: لا أدري قالت: أمي، أم وليها، قال: فهلا غيرهما،
قال: خشي أن يكون دغلا... 2
وفي رواية أخرى قال جابر: قدم عمرو بن حريث من الكوفة فاستمتع بمولاة
فاتي بها عمر وهي حبلى فسألها، فقالت: استمتع بي عمرو بن حريث، فسأله فأخبره
بذلك أمرا ظاهرا، قال: فهلا غيرها، فذلك حين نهى عنها 3.
وفي أخرى عن محمد بن الأسود بن خلف: ان عمرو بن حوشب استمتع
بجارية بكر من بني عامر بن لؤي: فحملت، فذكر ذلك لعمر فسألها، فقالت: استمتع
منها عمرو بن حوشب، فسأله فاعترف، فقال: من أشهدت؟ - قال - لا أدرى أقال:
أمها أو أختها أو أخاها وأمها، فقام عمر على المنبر، فقال: ما بال رجال يعملون بالمتعة
ولا يشهدون عدولا ولا يبينها الا حددته، قال اخبرني هذا القول عن عمر من كان تحت
منبره، سمعه حين يقول، قال: فتلقاه الناس معه 4.
وفي كنز العمال: عن أم عبد الله ابنة أبي خيثمة ان رجلا قدم من الشام فنزل
عليها فقال: ان العزبة قد اشتدت علي فابغيني امرأة أتمتع معها قالت: فدللته على

(1) صحيح مسلم باب نكاح المتعة ح 1405 ص 1023، وبشرح النووي 9 / 183، والمصنف لعبد
الرزاق 7 / 500، وفي لفظه " أيام عهد النبي "، وسنن البيهقي 7 / 237 باب ما يجوز أن يكون مهرا، ومسند أحمد
3 / 304، وفي لفظه حتى نهانا عمر أخيرا... وأورده موجزا صاحب تهذيب التهذيب بترجمة موسى بن مسلم
10 / 371، وفتح الباري 11 / 76، وزاد المعاد لابن القيم 1 / 205، وراجع كنز العمال 8 / 293.
2) المصنف لعبد الرزاق 7 / 496 - 497 باب المتعة.
3) المصنف لعبد الرزاق 7 / 500، وفتح الباري 11 / 76 وفي لفظه: فسأله فاعترف قال: فذلك حين.
4) المصنف لعبد الرزاق 7 / 500 - 501 وارى عمرو بن حوشب تحريفا والصواب عمرو بن حريث.
وكذلك سقط من الكلام بعد لا يشهدون: عدولا.
248

امرأة فشارطها واشهدوا على ذلك عدولا فمكث معها ما شاء الله ان يمكث ثم إنه
خرج، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فأرسل إلي فسألني أحق ما حدثت؟ قلت: نعم،
قال: فإذا قدم فآذنيني به، فلما قدم أخبرته فأرسل إليه، فقال: ما حملك على الذي
فعلته؟ قال: فعلته مع رسول الله (ص واله) ثم لم ينهانا عنه حتى قبضه الله، ثم مع
أبي بكر فلم ينهانا حتى قبضه الله، ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا، فقال عمر: اما
والذي نفسي بيده لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك بينوا 1 حتى يعرف النكاح من
السفاح 2.
وفي مصنف عبد الرزاق: عن عروة ان ربيعة بن أمية بن خلف تزوج مولدة
من مولدات المدينة بشهادة امرأتين إحداهما خولة بنت حكيم، وكانت امرأة صالحة،
فلم يفجأهم الا الوليدة قد حملت، فذكرت ذلك خولة لعمر بن الخطاب، فقام يجر صنفة
ردائه 3 من الغضب حتى صعد المنبر، فقال: انه بلغني ان ربيعة بن أمية تزوج مولدة من
مولدات المدينة بشهادة امرأتين، واني لو كنت تقدمت في هذا لرجمت 4.
وفي موطأ مالك وسنن البيهقي واللفظ للأول: ان خولة بنت حكيم دخلت على
عمر بن الخطاب. فقالت: ان ربيعة بن أمية استمتع بامرأة فحملت منه فخرج عمر يجر
رداءه، فقال: هذه المتعة. ولو كنت تقدمت فيها لرجمت 5.
وفي الإصابة: ان سلمة بن أمية استمتع من سلمى مولاة حكيم بن أمية بن
الأوقص الأسلمي فولدت له فجحد ولدها فبلغ ذلك عمر فنهى عن المتعة 6.
وفي المصنف لعبد الرزاق، عن ابن عباس قال: لم يرع أمير المؤمنين الا أم
أراكة قد خرجت حبلى، فسألها عمر عن حملها، فقالت: استمتع بي سلمة بن أمية بن
خلف... 7

(1) لعل الصواب " بتوا ".
2) كنز العمال 8 / 294 ط. دائرة المعارف حيدر آباد دكن سنه 1312.
3) صنفة ردائه، صنفة الإزار بكسر النون: طرفه - نهاية اللغة.
4) المصنف لعبد الرزاق 7 / 503، وراجع مسند الشافعي ص 132، وترجمة ربيعة بن أمية من الإصابة
1 / 514.
5) موطأ مالك ص 542 ح 42 باب نكاح المتعة، وسنن البيهقي 7 / 206 وفي لفظه: لرجمته وراجع
كتاب الام للشافعي 7 / 219، وتفسير السيوطي 2 / 141.
6) ترجمة سلمى غير منسوبة من الإصابة ج 4 / 324 وترجمة سلمة من الإصابة ج 2 / 61.
7) المصنف لعبد الرزاق 7 / 499.
249

وفي المصنف لابن أبي شيبة عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال: قال عمر: لو
أتيت برجل تمتع بامرأة لرجمته إن كان أحصن فإن لم يكن أحصن ضربته 1.
في الروايات السابقة وجدنا الصحابة يقولون: ان آية " فما استمتعتم به منهن "
وردت في نكاح المتعة وان رسول الله أمر به وانهم كانوا يستمتعون بالمرأة بالقبضة من
التمر والدقيق على عهد رسول الله وأبي بكر ونصف من خلافة عمر حتى نهى عنها في
شأن عمرو بن حريث ووجدنا نكاح المتعة متفشيا على عهد عمر قبل ان ينهى عنه،
ولعله تدرج في تحريمه بدءا من التشديد في أمر شهود نكاح المتعة وطلب ان يشهده
عدول المؤمنين كما يظهر ذلك من بعض الروايات السابقة، ثم نهيه عنه بتاتا حتى قال لو
تقدمت في نهي لرجمت، وبعد هذا أصبح نكاح المتعة محرما في المجتمع الاسلامي، وبقى
الخليفة مصرا على رأيه إلى اخر عهده لم يؤثر فيه نصح الناصحين فقد روى الطبري في
سيرة عمر عن عمران بن سوادة انه استأذن ودخل دار الخليفة ثم قال: نصيحة:
فقال: مرحبا بالناصح غدوا وعشيا.
قال: عابت أمتك منك أربعا.
قال: فوضع رأس درته في ذقنه ووضع أسفلها على فخذه، ثم قال: هات:
قال: ذكروا انك حرمت العمرة في أشهر الحج ولم يفعل ذلك رسول الله ولا
أبو بكر (رض) وهي حلال.
قال: هي حلال، لو أنهم اعتمروا في أشهر الحج رأوها مجزية من حجهم
فكانت قائبة قوب عامها فقرع حجهم وهو بهاء من بهاء الله وقد أصبت.
قال: ذكروا انك حرمت متعة النساء وقد كانت رخصة من الله نستمتع
بقبضة ونفارق عن ثلاث.
قال: إن رسول الله (ص) أحلها في زمان ضرورة ثم رجع الناس إلى سعة ثم لم
اعلم أحدا من المسلمين عمل بها ولا عاد إليها، فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن
ثلاث بطلاق وقد أصبت... 2

(1) المصنف لابن أبي شيبه 4 / 293.
2) الطبري ج 5 / 32 في باب شئ من سيره مما لم يمض ذكرها من حوادث سنة 23 والقائبة: البيضة
التي تنفلق عن فرخها والفرخ قوب، ضرب هذا مثلا لخلو مكة من المعتمرين في باقي السنة وقرع حجهم اي
خلت أيام الحج من الناس. نهاية اللغة، مادة قوب.
250

ان ما اعتذر به الخليفة في تحريمه متعة الحج (بأنهم لو اعتمروا في أشهر الحج
لرأوها مجزية عن حجهم) لا يصدق على نهيه عن الجمع بين الحج والعمرة وإنما الصحيح
ما اعتذر به في حديث آخر له من أن أهل مكة لا ضرع لهم ولا زرع وإنما ربيعهم في من
يفد إلى هذا البيت، اذن فليأتوا إلى هذا البيت مرتين، مرة للحج المفرد، وأخرى للعمرة
المفردة ليربح منهم قريش أرومة المهاجرين.
واما اعتذاره في تحريم نكاح المتعة من أن عهد رسول الله كان زمان ضرورة
خلافا لما كان عليه عهده، فان جل الروايات التي صرحت بوقوعها في عصر رسول الله
وباذن منه ذكرت انها كانت في الغزوات وحال السفر ولا فرق في ذلك بين عهد
رسول الله وعهد عمر إلى زماننا الحاضر والى أبد الدهر.
فان الانسان لم يزل منذ ان وجد على ظهر هذا الكوكب - الأرض - ولا
يزال بحاجة إلى السفر والاغتراب عن أهله أسابيع وشهورا، بل وسنين طويلة أحيانا،
فإذا سافر الرجل ماذا يصنع بغريزة الجنس في نفسه هل يستطيع ان يتركها عند أهله
حتى إذا عاد إليهم عادت غريزته إليه فتصرف فيها مع زوجه، أم انها معه لا تفارقه في
السفر والحضر. وإذا كانت غريزته غير مفارقة إياه فهل يستطيع ان يتنكر لها في السفر
ويستعصم، وإذا كان الشاذ النادر في البشر يستطيع ان يستعصم فهل الجميع
يستطيعون ذلك أم ان الغالب منهم تقهره غريزته، وهذا الصنف الكثير من البشر إذا
طغت عليه غريزته في المجتمع الذي يمنعه من التصرف في غريزته ويطلب منه ان يخالف
فطرته وما تقتضيه طبيعته ماذا يفعل عند ذاك وهل له سبيل غير أن يخون ذلك
المجتمع؟!
والاسلام الذي وضع حلا مناسبا لكل مشكلة من مشاكل الانسان هل ترك
هذه المشكلة بلا حل؟! لا. بل شرع لحل هذه المشكلة: الزواج الموقت ولولا نهي عمر
عنها لما زنى الا شقي كما قاله الإمام علي، أم المجتمعات البشرية فقد وضعت لها حلا
بتحليل الزنا في كل مكان.
ولا يقتصر الامر في ما ذكرنا على من يسافر من وطنه فان للبشر كثيرا من
الحالات في وطنه تمنعه الزواج الدائم أحيانا سواء في ذلك الرجل والمرأة، فماذا يصنع
251

انسان لم يستطع من الزواج الدائم سنين كثيرة من عمره في وطنه ان لم يلتجئ إلى
الزواج الموقت، ماذا يصنع هذا الانسان والقرآن يقول له " ولا تواعدوهن سرا "
ويقول لها: " غير متخذات اخدان "؟!
اما ما ذكره الخليفة في مقام العلاج من تبديل نكاح المتعة بالنكاح الدائم على أن
يفارق عن ثلاث بالطلاق، فالامر ينحصر فيه بين أمرين لا ثلاث لهما، اما ان يقع
ذلك بعلم من الزوجين وتراض بينهما فهو الزواج الموقت أو نكاح المتعة بعينه، واما ان
يقع بتبييت نية من الزوج مع اخفائه عن الزوجة فهو غدر بالمرأة واستهانة بها بعد ان
اتفقا على النكاح الدائم واخفى المرأ في نفسه نية الفراق بعد ثلاث، وكيف يبقى اعتماد
للمرأة وذويها على عقد الزواج الدائم مع هذا؟!
وأخيرا فإنه يرى بكل وضوح من هذه المحاورة ومن كل ما روي عن الخليفة
من محاورات في هذا الباب ان كل تلك الروايات التي رويت عن رسول الله في تحريمه
المتعتين ونهيه عنهما والتي حفلت بتدوينها أمهات كتب الحديث والتفسير وضعت بعد
عصر عمر فان واحدا من الصحابة على عهد عمر لو كان عنده رواية عن رسول الله تؤيد
سياسة الخليفة في المتعتين والتي كان يجهر بها ويتهدد على مخالفتها بقوله (وأعاقب
عليهما) لو كان واحدا من الصحابة على عهده عنده من رسول الله شئ يؤيد هذه
السياسة لما احتاج إلى كتمانها عن الخليفة ولنشرها، ولو كان الخليفة في كل تلك المدة
قد اطلع على شئ يؤيد سياسة لاستشهد به ولما احتاج إلى كل هذا العنف بالمسلمين.
هكذا انتهى عهد الخليفة عمر. بعد ان كبت المعارضين لسياسة حكمه وكتم
أنفاسهم ومنعهم حتى من نقل حديث الرسول كما أشرنا إلى ذلك في فصل (في حديث
الرسول) واستمر الامر على ذلك إلى ست سنوات من خلافة عثمان وانتشر الامر
متدرجا بعد ذلك فنشأ جيل جديد لا يعرف من الاسلام الا ما سمحت سياسة الخلافة،
بنشره وبيانه كما سنعرفه في ما يأتي:
نكاح المتعة من بعد عمر
في النصف الثاني من خلافة عثمان انقسمت قوى الخلافة على نفسها،
وكانت أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير وابن العاص ومن تبعهم في جانب،
ومروان وأبناء بني العاص وسائر بني أمية ومن تبعهم في الجانب الآخر فأنتج
252

الاصطدام بينهما فسحة للمسلمين استعادوا فيها بعض الحرية وانتشر بعض الحديث
الممنوع نشره وعارض المسلمون الخلفاء في ما نهوا عنه فسمع الجيل الناشئ من الجيل
المخضرم ما لم يكن يسمع ورآى بعض ما لم يكن يراه ومر علينا مخالفة الإمام علي الخليفة
عثمان في متعة الحج ونقرأ في ما يلي بعض المخالفات في متعة النساء:
في المصنف لعبد الرزاق: ابن جريج عن عطاء قال: لأول من سمعت منه
المتعة صفوان بن يعلى، قال: اخبرني ان معاوية استمتع بامرأة بالطائف فأنكرت ذلك
عليه، فدخلنا على ابن عباس، فذكر له بعضنا، فقال له: نعم فلم يقر في نفسي، حتى
قدم جابر بن عبد الله، فجئناه في منزله، فسأله القوم عن أشياء، ثم ذكروا له المتعة،
فقال: نعم، استمتعنا على عهد رسول الله (ص)، وأبي بكر، وعمر حتى إذا كان في آخر
خلافة عمر، استمتع عمرو بن حريث... 1 وفيه ان معاوية بن أبي سفيان استمتع
مقدمه الطائف على ثقيف بمولاة ابن الحضرمي يقال لها: معانة قال جابر: ثم أدركت
معانة خلافة معاوية حية، فكان معاوية يرسل إليها بجائزة كل عام حتى ماتت 2.
وفيه عن عبد الله بن خيثم قال: كانت بمكة امرأة عراقية تنسك جميلة، لها ابن
يقال له: أبو أمية، وكان سعيد بن جبير يكثر الدخول عليها، قال: قلت: يا أبا عبد الله!
ما أكثر ما تدخل على هذه المرأة! قال: انا قد نكحناها ذلك النكاح - للمتعة - قال:
وأخبرني ان سعيدا قال له: هي أحل من شرب الماء - للمتعة - 3.
ومنذ هذا العصر انتشر القول بحلية متعة النساء والافتاء بها ففي المصنف لعبد
الرزاق: ان عليا قال بالكوفة لولا ما سبق من رأي عمر بن الخطاب - أو قال: رأي
ابن الخطاب - لأمرت بالمتعة ثم ما زنى الا شقي 4.
وفي تفسير الطبري والنيشابوري والفخر الرازي وأبي حيان والسيوطي
واللفظ للأول: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى الا شقي 5.

(1) المصنف لعبد الرزاق 7 / 496 - 497 باب المتعة.
2) المصنف لعبد الرزاق 7 / 499 باب المتعة.
3) المصنف لعبد الرزاق 7 / 496 باب المتعة.
4) المصنف لعبد الزراق 7 / 500.
5) تفسير الطبري 5 / 17 والنيشابوري 5 / 17، والفخر الرازي في تفسير الآية بتفسيره الكبير 3 / 200،
وتفسير أبي حيان 3 / 218، والدر المنثور للسيوطي 2 / 40.
253

وفي تفسير القرطبي. قال ابن عباس: ما كانت المتعة الا رحمة من الله تعالى،
رحم بها عباده ولولا نهي عمر عنها ما زنى الا شقي 1.
وفي المصنف لعبد الرزاق، واحكام القرآن للجصاص، وبداية المجتهد لابن
رشد، والدر المنثور للسيوطي ومادة " شفى " من نهاية اللغة لابن الأثير ولسان العرب
وتاج العروس وغيرها واللفظ للجصاص:
عن عطاء سمعت ابن عباس يقول: رحم الله عمر ما كانت المتعة الا رحمة من
الله تعالى رحم الله بها أمة محمد (ص) ولولا نهيه لما احتاج إلى الزنا الا شقا 2.
في لفظ المصنف: " الا رخصة من الله " بدل " رحمة " وفي اخر الحديث.
" الا شقي، قال عطاء: كأني والله اسمع قوله: الا شقي ".
وفي لفظ بداية المجتهد " ولولا نهي عمر عنها ما اضطر إلى الزنا الا شقي ".
من بقي على القول بتحليل المتعة بعد تحريم عمر إياها:
قال ابن حزم في المحلى: وقد ثبت على تحليلها بعد رسول الله جماعة من
السلف (رض) منهم من الصحابة أسماء بنت أبي بكر وجابر بن عبد الله وابن مسعود
وابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن حريث وأبو سعيد الخدري وسلمة
ومعبد ابنا أمية بن خلف ورواه جابر عن جميع الصحابة مدة رسول الله ومدة أبى بكر
وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر.
قال: وعن عمر بن الخطاب انه إنما أنكرها إذا لم يشهد عليها عدلان فقط
وأباحها بشهادة عدلين.
قال: ومن التابعين طاووس وعطاء وسعيد بن جبير وسائر فقهاء مكة أعزها
الله... 3
وروى القرطبي في تفسيره انه: لم يرخص في نكاح المتعة الا عمران بن الحصين

(1) تفسير القرطبي 5 / 130.
2) احكام القرآن للجصاص 2 / 147، وتفسير السيوطي للآية ج 2 / 141، وبداية المجتهد 2 / 63، ونهاية
اللغة لابن الأثير 2 / 229، ولسان العرب 14 / 66، وتاج العروس 10 / 200، وراجع الفايق للزمخشري
1 / 331، وراجع تفسير الطبري والثعلبي والرازي وأبي حيان والنيسابوري وكنز العمال.
3) المحلى لابن حزم 9 / 519 - 520 المسألة 1854، ويذكر رأي ابن مسعود النووي في شرح مسلم
11 / 186.
254

وبعض الصحابة وطائفة من أهل البيت.
وقال: قال أبو عمر: أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلهم يرون
المتعة حلالا على مذهب ابن عباس 1،
وفي المغني لابن قدامة: وحكي عن ابن عباس انها جائزة وعليه أكثر أصحابه
عطاء وطاوس وبه قال ابن جريج وحكي ذلك عن أبي سعيد الخدري وجابر واليه
ذهب الشيعة لأنه قد ثبت ان النبي اذن فيها 2.
من تابع عمر في تحريم المتعة:
منهم عبد الله بن الزبير فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن أبي ذئب
قال:
سمعت ابن الزبير يخطب وهو يقول: إن الذئب يكني أبا جعدة، الا وان المتعة
هي الزنا 3.
ومنهم ابن صفوان كما يأتي حديثه.
ومنهم عبد الله بن عمر في أحد قوليه كما يأتي شرحه.
وقد جرى بين من تابع الخليفة عمر في ذلك وبين من خالفه مناقشات نورد
بعضها في ما يلي:
الخلاف بين المحللين والمحرمين
وقعت مشادة بين ابن عباس وجماعة في تحليل المتعة منهم عبد الله بن الزبير كما
روى مسلم في صحيحه والبيهقي في سننه واللفظ للأول: عن عروة بن الزبير قال: إن
عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال: ان ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون
بالمتعة. يعرض بالرجل فناداه فقال: انك لجلف جاف. فلعمري لقد كانت المتعة تفعل
على عهد امام المتقين (يريد رسول الله) فقال له ابن الزبير: فجرب بنفسك فوالله لئن
فعلتها لأرجمنك بأحجارك.
قال ابن شهاب: فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله، انه بينا هو جالس

(1) القرطبي 5 / 133.
2) المغني لابن قدامة 7 / 571.
3) مصنف ابن أبي شيبة 4 / 293 في نكاح المتعة وحرمتها.
255

عند رجل جاءه رجل فاستفتاه في المتعة فأمره بها، فقال له أبو عمرة الأنصاري، مهلا،
قال: ما هي؟ والله لقد فعلت في عهد امام المتقين 1.
يبدو ان هذه المحاورة وقعت على عهد ابن الزبير وأزمان حكمه بمكة، وكان
الاجتماع يومذاك يقع في البيت الحرام وأغلب الظن ان هذه المحاورة وقعت أثناء خطبة
الجمعة وفي ملا حاشد من المسلمين لأنا نرى ان ابن عباس كان يربأ بنفسه ان يحضر
خطبة ابن الزبير في غير صلاة الجمعة التي كانوا يلزمون حضورها وأيضا يبدو بكل
وضوح أن ابن الزبير لم يكن لديه يومذاك ولا كان لدى عصبته عصبة الحكم والخلافة
اي مستند من قول الرسول أو فعله أو تقريره في نهيهم عن المتعة والا لقابل حجة ابن
عباس من " انها فعلت على عهد امام المتقين " بها.
وعلى عكس الحاكمين الذين كانوا يستندون إلى هذا العصر في تحريمهم
المتعتين إلى منطق القوة فحسب نجد المحللين لها ابدا يقابلونهم بسنة الرسول حين تتاح لهم
الفرصة ان يتحدثوا ويدلوا بحجتهم.
ففي صحيح مسلم ومسند أحمد والطيالسي وسنن البيهقي وغيرها واللفظ
للأول عن أبي نضرة، قال: كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال: ابن عباس
وابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله (ص) ثم نهانا عنها
عمر فلم نعدلها 2.
وفي رواية: قلت لجابر ان ابن الزبير ينهى عن المتعة وابن عباس يأمر بها، قال
جابر على يدي دار الحديث تمتعنا على عهد رسول الله (ص) فلما كان عمر بن الخطاب
وقال: ان الله عز وجل كان يحل لنبيه ما شاء وان القرآن قد نزل منازله فافصلوا

(1) صحيح مسلم باب نكاح المتعة ص 1026 ح 27، وسنن البيهقي 7 / 205، ومحاججة أبي عمرة
الأنصاري وردت في مصنف عبد الرزاق 7 / 502.
وعن سعيد بن جبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير يخطب وهو يعترض بابن عباس يعتب عليه قوله في
المتعة فقال ابن عباس يسأل أمه إن كان صادقا فسألها فقالت: صدق ابن عباس قد كان ذلك فقال ابن عباس
لو شئت سميت رجالا من قريش ولدوا فيها، يعني المتعة. الطحاوي في باب نكاح المتعة من شرح معاني الآثار.
2) صحيح مسلم باب نكاح المتعة ح 1405 ص 1023، ومسند أحمد 1 / 52 باختلاف في اللفظ، و
ج 3 / 325 و 356، وفى 363 منه باختصار وسنن البيهقي 7 / 206، وراجع كتاب مناسك الحج من شرح معاني
الآثار ص 401، وكنز العمال 8 / 293 و 294.
256

حجكم عن عمرتكم وأبتوا نكاح هذه النساء فلن أوتي برجل تزوج إلى أجل الا
رجمته 1.
وفي لفظ البيهقي: تمتعنا مع رسول الله (ص) وأبي بكر (رض) فلما ولي عمر
؟؟ ب الناس فقال: ان رسول الله (ص) هذا الرسول وان هذا القرآن هذا القرآن
وانهما كانتا متعتان على عهد رسول الله (ص) وانا انهى عنهما وأعاقب عليهما إحداهما
متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل الا غيبته بالحجارة والأخرى متعة
الحج افصلوا حجكم عن عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم 2.
بين ابن عباس وآخرين
في مصنف عبد الرزاق وقال [ابن] صفوان هذا ابن عباس يفتي بالزنا فقال
ابن عباس اني لا أفتي بالزنا أفنسي [ابن] صفوان أم أراكة فوالله ان ابنها لمن ذلك
أفزنا هو واستمتع بها رجل من بني جمح 3.
وفي رواية أخرى: عن طاووس قال: قال ابن صفوان: يفتي ابن عباس بالزنا،
قال: فعدد ابن عباس رجالا كانوا من أهل المتعة، قال: فلا أذكر ممن عدد غير معبد
بن أمية 4.
معبد هو معبد بن سلمة بن أمية.
وفي رواية أخرى: عن ابن عباس لم يرع عمر أمير المؤمنين الا أم أراكة خرجت
حبلى فسألها عمر عن حملها، فقالت: استمتع بي سلمة بن أمية بن خلف، فلما أنكر
[ابن] صفوان على ابن عباس ما يقول في ذلك، قال: فسل عمك 5.

(1) صحيح مسلم باب في المتعة بالحج ص 885 ح 145، ومسند الطيالسي ح 1792 ص 247
واللفظ له، واحكام القرآن للجصاص 2 / 178، وتفسير السيوطي 1 / 216، وراجع الكنز 8 / 294، وتفسير
الرازي 3 / 26.
2) سنن البيهقي 7 / 206.
3) المصنف لعبد الرزاق 7 / 498 باب المتعة ورجل من جمح هو سلمة بن أمية، وفي لفظه صفوان
تحريف والصواب ابن صفوان كما ورد في الرواية الثانية فان صفوان كان قد توفى بمكة وسوى عليه التراب
فوردها نعى عثمان وابن صفوان أراه عبد الله الأكبر الذي قتل مع ابن الزبير راجع جمهرة انساب ابن حزم
ص 159 - 160 وإنما قلنا: هو ابن صفوان وليس بصفوان لان مناقشات ابن عباس في شأن المتعتين كان على
عهد ابن الزبير وكان يومذاك قد توفى صفوان.
4) المصنف لعبد الرزاق 7 / 499. 5) المصنف لعبد الرزاق 7 / 499.
257

في جمهرة انساب ابن حزم: ولد أمية بن خلف الجمحي علي وصفوان وربيعة
ومسعود وسلمة. فولد سلمة بن أمية معبد بن سلمة، أمه أم أراكة نكحها سلمة نكاح
متعة في عهد عمر أو في عهد أبي بكر فولد له منها معبد فولد صفوان بن أمية عبد الله
الأكبر... 1
ونرى أن المحاورة جرت بين ابن عباس وابن صفوان عبد الله هذا فقال له سل
عمك سلمة. وقال له: أفنسي أم أراكة فوالله ان ابنها - يعنى معبدا - من ذلك، أفزنا
هو ولما عدد رجالا ولدوا من المتعة عد منهم معبدا هذا.
بين عبد الله بن عمر وابن عباس
اختلف ما روى عن عبد الله بن عمر في هذا الباب فمنه ما رواه أحمد في مسنده
قال: عن عبد الرحمن بن نعيم الأعرجي قال: سأل رجل ابن عمر، وأنا عنده، عن المتعة
متعة النساء، فغضب وقال: والله ما كنا على عهد رسول الله زنائين ولا مسافحين... 2
وفي مصنف عبد الرزاق، قيل لابن عمر: ان ابن عباس يرخص في متعة
النساء، فقال: ما أظن ابن عباس يقول هذا، قالوا بلى! والله انه ليقوله، قال: اما والله
ما كان ليقول هذا في زمن عمر، وإن كان عمر لينكلكم عن مثل هذا، وما اعلمه الا
السفاح 3.
وفي مصنف ابن أبي شيبة والدر المنثور واللفظ للأول: عن عبد الله بن
عمر (رض) انه سئل عن متعة النساء فقال: حرام. فقيل له: ابن عباس يفتى بها فقال
هلا تزمزم بها في زمان عمر. الزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم 4.
وفي سنن البيهقي بعد حرام: اما ان عمر بن الخطاب (رض) لو اخذ فيها أحدا
لرجمه بالحجارة 5.

(1) جمهرة انساب ابن حزم ص 159 - 160.
2) مسند أحمد 2 / 95 الحديث 5694، و 2 / 104 الحديث 5808 واخترت لفظ الأخير وأورده في مجمع
الزوائد 7 / 332 - 333، وأيضا في مجمع الزوائد 4 / 265 وعن ابن عمر انه سئل عن المتعة فقال: حرام فقيل إن
ابن عباس لا يرى بها بأسا فقال والله لقد علم ابن عباس ان رسول الله نهى عنها يوم خيبر وما كنا مسافحين.
قال رواه الطبراني وفيه منصور بن دينار وهو ضعيف. قال المؤلف: يبدو انه حرف حديث ابن عمر.
3) المصنف لعبد الرزاق 7 / 502.
4) مصنف ابن أبي شيبة 4 / 293، وتفسير السيوطي 2 / 140.
5) سنن البيهقي 7 / 206.
258

نشاط أتباع مدرسة الخلفاء في شأن المتعة أخيرا
وجدنا اعتماد المحرمين للمتعة من الخلفاء على القوة إلى عهد ابن الزبير وبعد
ذلك تغير نشاط اتباع مدرسة الخلفاء واعتمدوا على الوضع والتحريف وفي ما يلي بعض
الأمثلة على ذلك:
أ - في سنن البيهقي: ان ابن عباس كان يفتي بالمتعة ويغمص ذلك عليه أهل العلم
فأبى ابن عباس ان ينتكل عن ذلك حتى طفق بعض الشعراء يقول:
يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس * هل لك في ناعم خود مبتلة
تكون مثواك حتى مصدر الناس
قال: فازداد أهل العلم بها قذرا، ولها بغضا حين قيل فيها الاشعار 1.
وفي مصنف عبد الرزاق عن الزهري قال: ازدادت العلماء لها استقباحا حين
قال الشاعر: يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس 2.
في هذه الرواية: ان ابن عباس أبى ان ينتكل عنها مهما غمص عليه الناس
وانشدوا فيه الشعر.
ب - حرفوا الرواية الآنفة ورووا عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن
عباس أتدري ما صنعت وبما أفتيت؟ سارت بفتياك الركبان، وقالت فيه الشعراء،
قال: وما قالوا: قلت: قالوا:
قد قلت للشيخ لما طال مجلسه * يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسة * تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال: انا لله وانا إليه راجعون! والله ما بهذا أفتيت ولا هذا أردت ولا أحللت
منها الا ما أحل الله من الميتة والدم ولحم الخنزير 3.
وفي المغني لابن قدامة فقام خطيبا وقال: ان المتعة كالميتة والدم ولحم الخنزير
فاما اذن رسول الله فقد ثبت نسخه 4.

(1) سنن البيهقي 7 / 205.
2) المصنف لعبد الرزاق 7 / 503.
3) سنن البيهقي 7 / 205.
4) المغني لابن قدامة 7 / 573.
259

علة الحديث:
هكذا تسابقوا في نقل هذه الرواية عن سعيد بن جبير 1، ونسوا ان سعيدا بن
جبير هو هو الذي تمتع بمكة 2، ونسوا ان أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلهم
كانوا يرون المتعة حلالا على مذهب ابن عباس 3 ولو كان ابن عباس قد رجع عن فتواه
لما استمر أصحابه عطاء وطاووس وغيرهما على ذلك 4، وقد ابان الهيثمي في مجمع
الزوائد عن علة هذا الحديث حيث قال: وفيه - اي في سند الحديث - الحجاج بن
أرطأة مدلس 5، وفي ترجمه الحجاج راوي هذا الحديث بتهذيب التهذيب: كان يرسل عن
يحيى بن أبي كثير ومكحول ولم يسمع منهما وإنما يعيب الناس منه التدليس، ليس يكاد
له حديث الا فيه زيادة، وقال ابن المبارك: كان الحجاج يدلس فكان يحدثنا بالحديث
عن عمرو بن شعيب مما يحدثه العرزمي. متروك.
وقال يعقوب بن أبي شيبة: واهي الحديث في حديثه اضطراب كثير 6.
ج - روى الترمذي والبيهقي عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب عن ابن
عباس أنه قال: إنما كانت المتعة في أول الاسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس بها
معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شيئه حتى إذا نزلت
الآية الا على أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم قال ابن عباس فكل فرج سوى هذين فهو
حرام 7.
علة الحديث:
في سند الحديث موسى بن عبيدة وفي ترجمته من تهذيب التهذيب قال احمد:
منكر الحديث. لا تحل الرواية عندي عنه، حدث بأحاديث منكرة 8.

(1) مثل البيهقي في سننه 7 / 205.
2) المصنف لعبد الرزاق 7 / 496.
3) القرطبي 5 / 133.
4) المغني لابن قدامة 7 / 571.
5) مجمع الزوائد 4 / 265.
6) تهذيب التهذيب 2 / 196 - 198.
7) الترمذي 5 / 50 باب نكاح المتعة وسنن البيهقي 7 / 206.
8) تهذيب التهذيب 10 / 356 - 360.
260

وفي متن الحديث: كانت المتعة في أول الاسلام... حتى نزلت الا على
أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم. فكل فرج سوى هذين حرام.
لست أدري إذا كان هذا قوله فما باله يخاصم ابن الزبير بعد نزول هذه الآية
بنصف قرن، ثم أليس نكاح المتعة زواجا موقتا ومن مصاديق الزواج وأيضا ان صحت
هذه الرواية وكان ابن عباس قد ترك فتواه بعد نزول هذه الآية وفي عصر النبي، إذا
متى قال له الإمام علي انك امرؤ تائه حين رآه يلين في المتعة كما تفيده الرواية التي
سنوردها في باب الأحاديث الصحاح.
د - رووا عن جابر أنه قال: خرجنا ومعنا النساء التي استمتعنا بهن فقال
رسول الله (ص) هن حرام إلى يوم القيامة فودعننا عند ذلك فسميت عند ذلك ثنية
الوداع وما كانت قبل ذلك الا ثنية الركاب 1.
علة الحديث:
قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه صدقة بن عبد الله. في سند
الحديث: صدقة، وقد قال أحمد بن حنبل فيه " ليس يسوى شيئا، أحاديثه مناكير. "
وقال مسلم: " منكر الحديث " 2.
وفي متن الحديث: يروى عن جابر ان رسول الله قال " هن حرام إلى يوم
القيامة " وقد تواترت الروايات الصحاح عن جابر أنه قال: (تمتعنا على عهد النبي
وأبي بكر وعمر حتى نهانا عمر في شأن عمرو بن حريث،) وقال نظير هذا القول.
ه‍ - روى البيهقي في سننه والهيثمي في مجمع الزوائد واللفظ للأول عن
أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله (ص) في غزوة تبوك فنزلنا بثنية الوداع فرأى نساء
يبكين، فقال: " ما هذا؟ " قيل: نساء تمتع بهن أزواجهن، ثم فارقوهن، فقال رسول
الله، حرم أو هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث.
وفي مجمع الزوائد: فرأى رسول الله مصابيح ورآى نساء يبكين 3.

(1) مجمع الزوائد 4 / 264 وفتح الباري 11 / 34.
2) نقلنا قول احمد ومسلم عن ترجمة صدقة تهذيب التهذيب 4 / 416.
3) سنن البيهقي 7 / 207، ومجمع الزوائد 4 / 264، وفتح الباري 11 / 73.
261

علة الحديث:
في سند الحديث: مؤمل بن إسماعيل، وهو أبو عبد الرحمن العدوي، مولاهم
نزيل مكة مات سنة خمس أو ست ومائتين، في ترجمته بتهذيب التهذيب، قال البخاري:
" منكر الحديث ".
وقال غيره: دفن كتبه فكان يحدث فكثر خطاؤه.
وقد يجب على أهل العلم ان يقفو عن حديثه فإنه يروى المناكير عن ثقات
شيوخه وهذا أشد فلو كانت هذه المناكير عن الضعفاء لكنا نجعل له غذرا 1.
وفي متن الحديث: انهم نزلوا ثنية الوداع، وثنية الوداع كما في معجم البلدان
ثنية مشرفة على المدينة يطأها من يريد مكة وقال: والصحيح انه اسم جاهلي، قديم،
سمي لتوديع المسافرين 2.
ويؤيد ذلك ان رسول الله لما ورد المدينة في الهجرة لقيته نساء الأنصار يقلن:
طلع البدر علينا في ثنيات الوداع... 3
وعلى هذا فثنية الوداع محل توديع المسافرين منذ العصر الجاهلي وسمي بهذا
الاسم قبل الاسلام وليس بعده.
أضف إليه: انه ما سبب خروج نساء المتعة لتوديع أزواجهن دون نساء
النكاح الدائم وما سبب بكائهن وليس الأزواج ذاهبين إلى غير رجعة.
و - روى البيهقي عن علي بن أبي طالب (رض) قال: نهى رسول الله (ص)
عن المتعة، قال: وإنما كانت لمن لم يجد فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين
الزوج والمرأة نسخت 4.
علة الحديث:
في سند الحديث موسى بن أيوب، ذكره العقيلي في الضعفاء، وقال عنه يحيى
ابن معين والساجي: منكر الحديث 5.

(1) تهذيب التهذيب 10 / 380 - 381.
2) بمادة ثنية الوداع من معجم البلدان.
3) بمادة " ثنية الوداع من الروض المعطار للحميري ".
4) سنن البيهقي 7 / 207.
5) بترجمة موسى بن أيوب من تهذيب التهذيب 1 / 336.
262

وفي متن الحديث. ينسب إلى علي أنه قال: نهى رسول الله عن المتعة في حين
انه القائل لولا ما سبق من رأى عمر بن الخطاب لأمرت بالمتعة ثم ما زنى الا شقى.
ز - روى البيهقي عن عبد الله بن مسعود قال: المتعة منسوخة نسخها الطلاق
والصداق والعدة والميراث.
علة الحديث:
في سند رواية منه الحجاج بن أرطأة عن الحكم عن أصحاب عبد الله،
والحجاج بن أرطأة سبق تعريفه انه مدلس متروك. يزيد في الحديث، ولا ندري من اي
واحد من أصحاب عبد الله روى الحكم؟!
وسند الأخرى " قال بعض أصحابنا عن الحكم بن عتيبة عن عبد الله بن
مسعود " ولم ندر من هو بعض الأصحاب هذا، وكيف روى الحكم بن عتيبة المتوفى
سنة ثلاثة عشر بعد المائة أو بعدها وله نيف وستون عن عبد الله بن مسعود المتوفى سنة
اثنتين وثلاثين 1.
ويناقض متن الحديث ما ثبت عن عبد الله بن مسعود انه ثبت على تحليل المتعة
بعد رسول الله وكان يقرأ الآية " فما استمتعتم به منهن إلى أجل " 2.
وفي متن الأحاديث ه‍. و. ز: ان النكاح والطلاق والعدة والميراث حرمت أو
هدمت أو نسخت المتعة، ومعنى هذا ان نكاح المتعة كان قد شرع قبل تشريع النكاح
الدائم وما يتعلق به، وانه كان الزواج بالمتعة إلى أن شرع النكاح الدائم، ونسخت
المتعة به، ويلزم من هذا القول أن تكون جميع زيجات الرسول والصحابة في البدء بالمتعة
إلى وقت نزول حكم النكاح الدائم.
ح - في مجمع الزوائد عن زيد بن خالد الجهني، قال: كنت انا وصاحب لي
نماكس امرأة في الاجل وتماكسنا، فأتانا آت فأخبرنا أن رسول الله (ص) حرم نكاح
المتعة وحرم اكل كل ذي ناب من السباع والحمر الانسية 3.

(1) راجع ترجمة الحكم وابن مسعود في تقريب التهذيب ج 1 / 192 و 459.
2) راجع فصل من بقي على القول بتحليل المتعة بعد تحريم عمر.
3) بمجمع الزوائد 4 / 266.
263

علة الحديث:
في سند الحديث: قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفي موسى بن عبيدة الربذي
وهو ضعيف انتهى 1 وسبق قولنا في ضعفه.
في متن الحديث: يبدو ان مخترع هذه الرواية قد جمع بين رواية سبرة الجهني في
فتح مكة وما روى عن يوم خيبر، واضاب إليهما حكم تحريم أكل لحم كل ذي ناب،
وركب عليه سندا واحدا ورواهن في سياق واحد.
ط - في مجمع الزوائد عن الحارث بن غزية، قال: سمعت النبي (ص) يوم فتح
مكة يقول: " متعة النساء حرام " ثلاث مرات.
علة الحديث:
قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة 2 هذا ما
قاله الهيثمي، وقال غيره من العلماء في ترجمته: يروي أحاديث منكرة. لا يحتجون
بحديثه. تركوه. لا تحل الرواية عنه. لا يكتب حديثه... 3
ي - في مجمع الزوائد عن كعب بن مالك، قال: نهى رسول الله (ص) عن
متعة النساء.
قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه يحيى بن أنيسة 4.
وقال العلماء في ترجمته: كان ضعيفا. أصحاب الحديث لا يكتبون حديثه. انه
كذاب. متروك الحديث... 5
ك - روى البيهقي في سننه الكبرى عن عبد الله بن عمر قال: صعد عمر على
المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول
الله (ص) عنها ألا لا أوتي بأحد نكحها الا رجمته 6.

(1) بمجمع الزوائد 4 / 266.
2) الحديث وتعريف الراوي بمجمع الزوائد 4 / 266.
3) بترجمة إسحاق من تهذيب التهذيب 1 / 240.
4) الحديث واسم الراوي بمجمع الزوائد 4 / 266.
5) بترجمة يحيى من تهذيب التهذيب 11 / 183 - 184.
6) سنن البيهقي 7 / 206.
264

علة الحديث:
في سند الحديث: منصور بن دينار قال فيه يحيى بن معين: ضعيف الحديث
وقال النسائي: ليس بالقوى. وقال البخاري: في حديثه نظر وذكره العقيلي في
الضعفاء 1.
إلى هنا تعرضنا لذكر الأحاديث التي في سندها ضعف حسب تعريف علماء
الرجال وفي ما يلي نتعرض لذكر الأحاديث التي تسالموا على صحتها لوجودها في الكتب
الموسومة بالصحة، أو ما لم يطعنوا في صحة اسنادها:
الحديث الأول: في صحيح مسلم وسنن النسائي والبيهقي ومصنف عبد الرزاق
واللفظ للمصنف عن ابن شهاب الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن
أبيهما انه سمع أباه علي بن أبي طالب يقول لابن عباس: انك امرؤ تائه ان رسول الله نهى
عنها يوم خيبر وعن اكل اللحوم الحمر الانسية 2.
وردت هذه الرواية بهذا السند مع اختلاف يسير في صحيح البخاري، وسنن
أبي داود، وابن ماجة، والترمذي، والدارمي، والموطأ، ومصنف ابن أبي شيبة، ومسند أحمد
والطيالسي وغيرها 3.
الحديث الثاني: رووا عن أبي ذر أنه قال: إنما أحلت لنا أصحاب رسول
الله (ص) متعة النساء ثلاثة أيام، ثم نهى عنها رسول الله (ص) 4.
وانه قال: كانت المتعة لخوفنا ولحربنا 5.

(1) ترجمة منصور بن دينار في الجرح والتعديل للرازي (ج 4 / ق 1 / 171) وميزان الاعتدال 4 / 184،
ولسان الميزان 6 / 95.
2) صحيح مسلم باب نكاح المتعة ص 1027، وسنن النسائي باب تحريم المتعة، وسنن البيهقي
7 / 201، ومصنف عبد الرزاق 7 / 501، ومجمع الزوائد 4 / 265.
3) صحيح البخاري باب غزوة خيبر 3 / 36، و 3 / 164 باب نهي رسول الله عن نكاح المتعة أخيرا
وباب لحوم الحمر الانسية ج 3 / 208، و ج 4 / 135 باب الحيلة في النكاح. وسنن أبي داود 2 / 90 باب تحريم
المتعة وفيه قال ابن المثنى: " يوم حنين "، وسنن ابن ماجة ص 63 ح 1961، وسنن الترمذي ج 5 / 48 - 49
والموطأ ص 542 ح 41 من باب نكاح المتعة. ومصنف ابن أبي شيبة 4 / 292، وسنن الدارمي 2 / 140 باب
النهي عن متعة النساء. ومسند الطيالسي ح 111، ومسند أحمد 1 / 79 و 130 و 142 والأبواب المذكورة في فتح
الباري. 4 و 5) سنن البيهقي 7 / 207.
265

الحديث الثالث: في صحيح مسلم وسنن الدارمي وابن ماجة وأبي داود
وغيرها واللفظ لمسلم عن سبرة الجهني: انه غزا مع رسول الله (ص) فتح مكة قال:
فأقمنا بها خمس عشرة (ثلاثين بين ليلة ويوم) فاذن لنا رسول الله في متعة النساء
فخرجت انا ورجل من قومي. ولي عليه فضل في الجمال. وهو قريب من الدمامة. مع
كل واحد منا برد. فبردي خلق. واما برد ابن عمي فبرد جديد. غض. حتى إذا كنا
بأسفل مكة، أو بأعلاها. فتلقتنا فتاة مثل البكرة العنطنطنة. فقلنا: هل لك ان يستمتع
منك أحدنا، قالت: وما تبذلان؟ فنشر كل واحد منا برده. فجعلت تنظر إلى الرجلين.
ويراها صاحبي تنظر إلى عطفها، فقال: ان برد هذا خلق وبردي جديد غض فتقول:
برد هذا لا بأس به. ثلاث مرار. أو مرتين. ثم استمتعت منها فلم اخرج حتى حرمها
رسول الله (ص) 1.
وفي رواية: قال رسول الله (ص): " يا أيها الناس. إني كنت قد أذنت لكم
في الاستمتاع من النساء وان الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة... 2
وفي رواية: قال: رأيت رسول الله قائما بين الركن والباب وهو يقول... 3
وفي رواية: أمرنا رسول الله بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ثم لم نخرج حتى
نهانا عنها 4.
وفي رواية: قد كنت استمتعت في عهد رسول الله امرأة من بنى عامر ببردين
أحمرين. ثم نهانا رسول الله عن المتعة 5.
وفي رواية: ان رسول الله نهى يوم الفتح عن متعة النساء 6.
وفي رواية: ان رسول الله نهى عن المتعة وقال: انها حرام من يومكم هذا إلى

(1) صحيح مسلم باب نكاح المتعة ص 1024، ومجمع الزوائد 4 / 264، وسنن البيهقي 7 / 202،
والعنطنطنه كالعيطاء: الطويلة العنق في اعتدال وحسن قوام.
2) صحيح مسلم ص 1025، وسنن الدارمي 2 / 140، وسنن ابن ماجة ص 631 ح 1962 مع
اختلاف في لفظ الحديث في طبقات ابن سعد 4 / 348 نزل اخر عمره ذا المروة وتوفي في خلافة معاوية.
3) صحيح مسلم ص 1025، ومصنف ابن أبي شيبة 4 / 292.
4) صحيح مسلم ص 1025، وسنن البيهقي 7 / 202 و 204.
5) صحيح مسلم ص 1027، وسنن البيهقي 7 / 205، وقريب منه في صحيح مسلم ص 1026.
6) صحيح مسلم ص 1028، ومصنف ابن أبي شيبة 4 / 292.
266

يوم القيامة... 1
وفي سنن أبي داود والبيهقي وغيرهما واللفظ للأول عن ربيع بن سبرة. قال:
اشهد على أبي انه حدث ان رسول الله نهى عنها في حجة الوداع 2.
الحديث الرابع: في صحيح مسلم ومصنف ابن أبي شيبة ومسند أحمد وغيرها
واللفظ للأول عن سلمة بن الأكوع، قال: رخص رسول الله عام أوطاس في المتعة ثلاثا
ثم نهى عنها 3. أوطاس أود بالطائف.
علل هذه الأحاديث:
1 - في حديث الإمام علي والذي حفلت به أمهات كتب الحديث من صحاح
ومسانيد وسنن ومصنفات وقد أخرجناه من أربعة عشر مصدرا منها، فيه نص على إن
رسول الله حرم في غزوة خيبر شيئين: أ - نكاح المتعة. ب - اكل لحوم الحمر الأهلية أو
الانسية، وقد انحصر سند تحريم نكاح المتعة في خيبر بهذا الحديث، بينما ورد تحريم رسول
الله لحوم الحمر الأهلية بخيبر في روايات أخرى متعددة وليس في أحدها اي ذكر أو
إشارة إلى تحريم المتعة فيها، ونبحث في ما يلي عن كلا التحريمين:
أ - تحريم المتعة في خيبر:
ان تحريم رسول الله متعة النساء في غزوة خيبر غير موافق للواقع التاريخي يومذاك
كما صرح به جماعة من العلماء مثل ابن القيم في فصل بحث زمن تحريم المتعة من كتابه
زاد المعاد، قال: وقصة خيبر لم يكن فيها الصحابة يتمتعون باليهوديات ولا استأذنوا في
ذلك رسول الله ولا نقله أحد قط في هذه الغزوة ولا كان للمتعة فيها ذكر البتة لا فعلا
ولا تحريما 4.
وقال: فان خيبر لم يكن فيها مسلمات وإنما كن يهوديات وإباحة نساء أهل

(1) صحيح مسلم ص 1027 وأكثر تفصيلا منه في المصنف لعبد الرزاق 7 / 506 وسنن البيهقي
7 / 203.
2) سنن أبي داود 2 / 227 باب في نكاح المتعة وسنن البيهقي 7 / 204 و 205، وطبقات ابن سعد
4 / 348.
3) صحيح مسلم ص 1023 ح 1405، ومصنف ابن أبي شيبة 4 / 292، ومسند أحمد 4 / 55، وسنن
البيهقي 7 / 204، وفتح الباري 11 / 73.
4) زاد المعاد ج 2 / 158 فصل في بحث زمن تحريم المتعة.
267

الكتاب لم يكن ثبت بعد، إنما أبحن بعد ذلك في سورة المائدة بقوله: " اليوم أحل
لكم... والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم... الآية / 5. وهذا كان في
آخر الامر بعد حجة الوداع أو فيها فلم تكن إباحة نساء أهل الكتاب ثابته زمن
خيبر... 1.
وقال ابن حجر في شرح الحديث في باب غزوة خيبر: وليس يوم خيبر ظرفا لمتعة
النساء لأنه لم يقع في غزوة خيبر تمتع بالنساء 2.
ونقل في شرح الحديث من " باب نهي رسول الله عن نكاح المتعة أخيرا " عن
السهيلي أنه قال: ويتصل بهذا الحديث تنبيه على اشكال لان فيه النهي عن نكاح المتعة
يوم خيبر، وهذا شئ لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر 3.
ونقل ابن حجر - أيضا - قول ابن القيم الآنف الذكر 4.
هذا ما ذكروا عن تحريم متعة النساء يوم خيبر.
ب - تحريم لحوم الحمر الأهلية بخيبر:
روى ابن حجر عن ابن عباس انه استدل لإباحة الحمر الأهلية بقول تعالى:
" قل لا أجد في ما أوحي إلى محرما... 5
قال المؤلف: لعل نهي رسول الله عن اكل لحوم الحمر الأهلية كان خاصا
بالحمر الأهلية التي كانت في خيبر ولاحد الأسباب المذكورة في الروايات التالية:
في صحيح البخاري عن أبي أوفى، قال: أصابتنا مجاعة يوم خيبر فان القدور
لتغلى، قال: وبعضها نضجت فجاء منادى النبي (ص): لا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا
واهريقوها قال ابن أبي أوفى، فتحدثنا انه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس. وقال بعضهم
نهى عنها البتة لأنها كانت تأكل العذرة 6.
ولعل السبب ما رواه أبو داود في كتاب الخراج من سننه باب تعشير أهل الذمة

(1) زاد المعاد 2 / 204 في فصل في إباحة متعة النساء ثم تحريمها.
2) فتح الباري 9 / 22.
3) فتح الباري 11 / 72 باب نهى رسول الله عن نكاح المتعة آخرا.
4) فتح الباري 11 / 74.
5) فتح الباري 12 / 70 باب لحوم الخيل.
6) البخاري باب لحوم الخيل شرح فتح الباري 9 / 22.
268

عن العرباض بن سارية السلمي 1 قال: نزلنا خيبر ومعه من معه من أصحابه، وكان
صاحب خيبر رجلا ماردا منكرا فاقبل إلى النبي (ص) فقال: يا محمد! الكم ان تذبحوا
حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتضربوا نساءنا. فغضب - يعني النبي - وقال " يا ابن عوف!
اركب فرسك، ثم ناد: الا ان الجنة لا تحل لمؤمن، وان اجتمعوا للصلاة " قال:
فاجتمعوا، ثم صلى بهم النبي (ص) ثم قام، فقال: " أيحسب أحدكم متكئا على
أريكته قد يظن الله لم يحرم شيئا الا ما في هذا القرآن، الا واني وعظت وأمرت ونهيت
عن أشياء انها لمثل القرآن أو أكثر وان الله لم يحل لكم ان تدخلوا بيوت أهل الكتاب
الا باذنهم ولا ضرب نسائهم، ولا اكل أثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم 2.
على ما روى ابن أبي أوفى تحدث أصحاب رسول الله عن سبب نهي رسول الله
عن اكل لحوم الحمر الأهلية يومذاك فقال بعضهم ممن حضر الواقعة ان النهي كان
بسبب انهم لم يدفعوا خمسها ويؤيد ذلك ما ورد في الغلول من أحاديث أو انها كانت نهبي
كما ذكر ذلك في الحديث الآتي:
في سنن أبي داود عن رجل من الأنصار، قال خرجنا مع رسول الله (ص) في
سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد، وأصابوا غنما فانتهبوها فان قدورنا لتغلي إذ
جاء رسول الله (ص) يمشي على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم
بالتراب، ثم قل " ان النهبة ليست بأحل من الميتة " 3.
وقال آخرون: ان النهى عن اكل لحوم الحمر الأهلية كان بسبب انها كانت
تأكل العذرة وعلى اي فان النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية كان خاصا بالحمر
الأهلية التي كانت معهم في تلك الغزوة.
وكذلك الامر بالنسبة إلى تحريم نكاح المتعة في خيبر فان عرباض بن سارية
حدث ان اليهودي المارد المنكر شكا إلى رسول الله وقال: الكم ان تذبحوا حمرنا وتأكلوا
ثمرنا وتضربوا نساءنا؟ فجمعهم رسول الله وقال لهم: " انه لم يحل لكم ان تدخلوا

(1) أبو نجيح عرباض بن سارية السلمي روى عن طريقة عن رسول الله (ص) 31 حديثا أخرجها
أصحاب الصحاح غير البخاري ومسلم (ت: 75 ه‍) أو في فتنة ابن الزبير، أسد الغابة 3 / 399، وجوامع السيرة
ص 281، وتقريب التهذيب 2 / 17.
2) سنن أبي داود 2 / 64.
3) سنن أبي داود 3 / 66 باب في النهي عن النهبى.
269

بيوت أهل الكتاب الا باذنهم ولا ضرب نسائهم ولا اكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي
عليهم.. "
وعلى هذا فان نهي رسول الله كان عن ضرب نساء أهل الكتاب الذين دفعوا
الجزية خاصة ولم يكن نهيا عن مطلق نكاح المتعة.
يبدو ان الامر كان هكذا في غزوة خيبر غير أن أحدهم ابتكر رواية رواها عن
حفيدي الامام على ابني محمد عن أبيهم محمد عن أبيه الإمام علي أنه قال لابن عباس
حين رخص في المتعة " انك امرؤ تائه " وأخبره بان الرسول نهى يوم خيبر عن متعة
النساء وعن لحوم الحمر الأهلية، ونسي هذا المبتكر ان الامام عليا هو الذي كان
يقول: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى الا شقي 1.
والبديع في الامر انهم رووا هنا عن ابني محمد عن محمد عن الامام على رواية
تحريم متعة النساء وانهم ركبوا نفس السند على روايتهم أمر الامام بافراد الحج عن
العمرة ولعل مبتكر الروايتين واحد.
2 - وكذلك الامر بالنسبة إلى ما رووا عن أبي ذر فإنهم رووا عنه أنه قال: كانت
المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة، وقال: كانت لنا رخصة. ورووا عنه في متعة
النساء أنه قال: إنما حلت لنا أصحاب رسول الله (ص) متعة النساء ثلاثة أيام ثم نهى
عنها رسول الله (ص).
وانه قال: إن كانت المتعة لخوفنا ولحربنا.
ومن الغريب في روايتي أبي ذر هنا وهناك ان في طريق كلتيهما إبراهيم التيمي
و عبد الرحمن بن الأسود، شأن روايتي أبي ذر في السند شأن روايتي الامام.
3 و 4 - اما رواية سبرة الجهني فالصحيح فيها ما أوردناه في أول الباب عن مسلم واحمد
والبيهقي ان رسول الله اذن لهم بالمتعة وانه تمتع من امرأة من بني عامر بردائه وكان
معها ثلاثا ثم إن رسول الله قال " من كان عنده شئ من هذه النساء التي يتمتع بها
فليخل سبيلها " اي ان الرسول أمرهم بفراق النسوة اللاتي تمتعوا بهن استعدادا للرحيل
من مكة ثم جاء " المعذرون " للخليفة عمر وحرفوا لفظ هذه الرواية من " ليخل
سبيلها " إلى " انها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة " وما شابهها من ألفاظ تدل
على تأبيد الحرمة، منذ يوم فتح مكة، ولما كانت هذه الرواية تناقض روايات أخرى

(1) سبق ذكر مصادره.
270

نصت على أن التحريم كان قبل فتح مكة وفي يوم فتح خيبر مثلا، وروايات نصت على أن
التجويز والتحريم كانا بعد فتح مكة وبما انهم التزموا بصحة جميع تلك الروايات
المتناقضات، اضطروا ان يخترعوا جوابا لهذا التناقض فنسبوا إلى التشريع الاسلامي ما
هو براء منه، ونسبوا تكرار النسخ في هذه الواقعة كما يأتي بيانه.
نسخ حكم المتعة مرتين أو أكثر
عنون مسلم في صحيحه هذا الباب بقول " باب نكاح المتعة وبيان انه أبيح ثم
نسخ، ثم أبيح ثم نسخ واستقر حكمه إلى يوم القيامة ".
وقال ابن كثير في تفسيره: وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح
ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ مرتين 1.
وقال ابن العربي كما يأتي تفصيل قوله: تداوله النسخ مرتين ثم حرم.
وأشار إلى ذلك الزمخشري في الكشاف 2. وقال آخرون: ان النسخ وقع أكثر
من مرتين 3، والحق معهم فإنه ان جاز لنا ان نقول بتكرر النسخ في حكم واحد دفعا
لتناقض الأحاديث فلابد لنا ان نقول بتكرر النسخ على عدد الأحاديث المتناقضة وعلى
هذا فقد صح ما نقله القرطبي بعد ايراده قول ابن العربي حيث قال: وقال غيره ممن
جمع طرق الأحاديث فيها: انها تقتضي التحليل والتحريم سبع مرات، فروى ابن عمرة:
انها كانت صدر الاسلام، وروى سلمة بن الأكوع انها كانت عام أوطاس، ومن
روايات علي تحريمها يوم خيبر، ومن رواية الربيع بن سبرة اباحتها يوم الفتح، وهذه
الطرق كلها في صحيح مسلم وفي غيره عن علي نهيه عنها في غزوة تبوك، وفي سنن
أبي داود عن الربيع بن سبرة النهي في حجة الوداع، وذهب أبو داود إلى أن هذا أصح ما
روي في ذلك، وقال عمرو عن الحسن: ما حلت قبلها ولا بعدها، وروى هذا عن
سبرة أيضا فهذه سبعة مواطن أحلت فيها المتعة ثم حرمت... 4.
هكذا دفعهم التزامهم بصحة كل ما ورد في الكتب الموسومة بالصحة إلى القول

(1) تفسير ابن كثير 1 / 474 بتفسير " فما استمتعتم... ".
2) الكشاف 1 / 519.
3) حسب احصاء ابن رشد في بداية المجتهد 2 / 63 بلغت خمس مرات.
4) تفسير القرطبي 5 / 130 - 131.
271

بنسخ حكم المتعة في الشرع مرات متعددة ولنعم ما قاله ابن القيم في هذا الصدد حيث
قال: وهذا النسخ، لا عهد بمثله في الشريعة البتة، ولا يقع مثله فيها 1.
ومن السخف قول ابن العربي في هذا المقام حيث قال: اما هذا الباب فقد
ثبت على غاية البيان ونهاية الاتقان في الناسخ والمنسوخ من الاحكام وهي من غريب
الشريعة فإنه تداوله النسخ مرتين... 2.
وبالإضافة إلى ما ذكرنا لست أدري كيف تصح واحدة من تلك الروايات مع
ما تواتر نقله عن الخليفة عمر 3 أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) انا انهى
عنهما متعة النساء ومتعة الحج وفي لفظ: وأحرمهما.
كيف تصح واحدة من تلك الروايات. وصح عن جابر أنه قال: استمتعنا على
عهد رسول الله وأبي بكر وعمر. وفي رواية: حتى إذا كان في آخر خلافة عمر، وفي
رواية كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله وأبي بكر حتى
نهى عنه في شأن عمرو بن حريث 4.
كيف تصح واحدة من تلك الأحاديث ولم يسمع بها الخليفة عمر ولا أحد من
الصحابة ولا التابعين حتى عصر ابن الزبير ولا كان عند أحد من المسلمين علم بإحدى
تلك الروايات في كل تلك العصور والا لأسعفوا بها الخليفة عمر فاستشهدوا بها واسعفوا
بها عصبة الخلافة حتى عهد ابن الزبير فاستشهدوا بها في حين ان المعارضين أمثال ابن
عباس وجابر وابن مسعود وغيرهم كانوا يجبهونهم بسنة الرسول ويستشهد بعضهم الآخر
على ذلك فيسألون أسماء أم ابن الزبير ويقول علي وابن عباس لولا نهي عمر لما زنى الا
شقي. ولم يقل أحد بان الرسول نهى عنها.
أجل ان هذه الأحاديث وضعت احتسابا للخير، تأييدا لموقف ثاني خلفاء
المسلمين، ودفعا للقالة عنه كما وضعت أحاديث الامر بافراد الحج والنهي عن العمرة
احتسابا للخير ودفعا للقالة عنه وهذا مثل ما وضعوا في فضائل سور القرآن احتسابا

(1) زاد المعاد 2 / 204.
2) شرح الترمذي 5 / 48 - 51.
3) سبق ذكر مصادره في أول بحث متعة الحج ومتعة النساء وراجع زاد المعاد 2 / 205.
4) مر ذكر مصادره في سبب تحريم عمر متعة النساء من هذا البحث.
272

للخير ففي تقريب النواوي 1.
والواضعون أقسام أعظمهم ضررا قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه حسبة في
زعمهم فقبلت موضوعاتهم ثقة بهم.
وفي شرحه: ومن أمثلة ما وضع حسبة ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار
؟؟ مروزي انه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في
فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: اني رأيت الناس
قد اعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا
الحديث حسبة!
قال الزركشي بعد ايراد هذا الخبر: ثم قد جرت عادة المفسرين ممن ذكر
الفضائل ان يذكرها في أول كل سورة لما فيها من الترغيب والحث على حفظها الا
الزمخشري فإنه يذكرها في أواخرها 2.
ونوح بن أبي مريم هو أبو عصمة القرشي - مولاهم - المروزي كان قاضي
مرو يعرف بنوح الجامع لأنه اخذ الفقه عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى والحديث عن
حجاج بن أرطأة وطبقة والمغازي عن ابن إسحاق والتفسير عن الكلبي ومقاتل، وكان
عالما بأمور الدنيا، فسمى الجامع، وكان شديدا على الجهمية والرد عليهم. قال الحاكم:
أبو عصمة مقدم في علومه. لقد كان جامعا رزق كل شئ الا الصدق... واخرج
حديثه الترمذي في سننه وابن ماجة في التفسير 3.
وفي تدريب الراوي وميزان الاعتدال ولسانه واللفظ للأول عن ابن مهدي
قال: قلت لميسرة بن عبد ربه من أين جئت بهذه الأحاديث: من قرأ كذا فله كذا؟
قال: وضعتها ارغب الناس.
وفي تدريب الراوي: وكان غلاما جليلا يتزهد ويهجر شهوات الدنيا وغلقت
أسواق بغداد لموته ومع ذلك كان يضع الحديث.
وفيه أيضا: تنبيهات:

(1) تقريب النواوي للحافظ محي الدين النووي 631 - 616 ه‍ وشرحه السيوطي (ت 911 ه‍) وسماه
تدريب الراوي في شرح النواوي ط. الثانية سنة 1392 منشورات المكتبة العلمية بالمدينة ج 1 / 281 - 283.
2) تدريب الراوي 1 / 282 والبرهان في علوم القرآن للزركشي ص 432.
3) تهذيب التهذيب 10 / 480 - 486.
273

الأول: من الباطل أيضا في فضائل القرآن سورة سورة حديث ابن عباس
وضعه ميسرة كما تقدم، وحديث أبي أمامة الباهلي أورده الديلمي من طريق سلام بن
سليم المدني.
وفي لسان الميزان: وضع في فضل قزوين أربعين حديثا وكان يقول: اني
احتسب في ذلك 1.
وفي تقريب النووي: ومن الموضوع الحديث المروي عن أبي بن كعب في فضل
القرآن سورة، سورة...
وفي شرحه ذكر تفصيلا ان الراوي بحث عن أصل الرواية فاحاله شيخ إلى
شيخ من المدائن إلى واسط فالبصرة فعبادان وهناك سأل الشيخ الأخير عمن حدثه
الحديث، فقال: لم يحدثني أحد ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم
هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن!
ثم قال السيوطي: لم أقف على تسمية هذا الشيخ الا ان ابن الجوزي أورده في
الموضوعات عن طريق بزيع بن حسان بسنده إلى أبي، وقال الآفة فيه من بزيع، ثم
أورده من طريق مخلد بن عبد الواحد وقال: الآفة فيه من مخلد، فكان أحدهما وضعه
والآخر سرقه أو كلاهما سرقه من ذلك الشيخ الواضع وقد أخطأ من ذكره من
المفسرين في تفسيره كالثعلبي والواحدي والزمخشري والبيضاوي 2.
وفي تدريب الراوي: وكان أبو داود النخعي أطول الناس قياما بليل وأكثرهم
صياما بنهار وكان يضع.
قال ابن حبان: وكان أبو بشر أحمد بن محمد الفقيه المروزي من أصلب أهل زمانه
في السنة واذبهم عنها واقمعهم لمن خالفها وكان يضع الحديث.
وقال ابن عدي: كان وهب بن حفص من الصالحين مكث عشرين سنة
لا يكلم أحدا وكان يكذب كذبا فاحشا 3.
هؤلاء المعروفون بالصلاح والعبادة وترك الدنيا وضعوا الأحاديث في فضائل

(1) كلما أوردناه عن ميسرة فمن تدريب الراوي 1 / 283 و 289، ومن ترجمته بميزان الاعتدال ولسان
الميزان 6 / 138 - 140.
2) تدريب الراوي 1 / 288 - 289. 3) تدريب الراوي 1 / 283.
274

سور القرآن أو فضائل بلاد الثغور واعترفوا ببعض ما وضعوا ومع ذلك انتشرت في كتب
التفسير وغيرها ونرى أيضا ان الأحاديث التي وضعت تأييدا للخليفة عمر في نهيه عن
المتعتين من هذا القبيل وخاصة ما روى في نهي الرسول عن متعة النساء نراها وضعت
بعد عهد ابن الزبير وقبل عصر التدوين اي في أخريات القرن الأول وأوائل القرن
الثاني وتسابق في تبرير فعل الخليفة الثاني الصلحاء:
فوضع أحدهم حديثا في أن الرسول نهى عن متعة النساء في غزوة خيبر وآخر
روى أنه أباحها وحرمها في عمرة القضية وثالث ان ذلك كان في فتح مكة ورابع
رواها في أوطاس وخامس في تبوك وسادس في حجة الوداع 1 وهكذا كل واحد أراد
أن يقول إن الإباحة والتحريم وقعا معا في مكان وزمان خاص وعلى عهد رسول الله
ولهذا حرمها الخليفة وهكذا تناقضت الأحاديث فبحث العلماء عن مخرج لهذا التناقض
فلم يروا عذرا الا في ما فيه انتقاص للشرع الاسلامي فتقولوه وتمسكوا به وإن كان فيه
افتراء على الشرع، فقالوا: إن هذا الحكم أبيح مرتين، ونسخ مرتين وقالوا أبيح ونسخ
أكثر من ذلك إلى سبع مرات، لم يكترثوا بتوهين الاسلام ما دام في ذلك المحافظة على
القول بصحة الأحاديث التي التزموا بصحتها، وقد انتفع علماء مدرسة الخلفاء بتلكم
الأحاديث في تأييد تحريم نكاح المتعة، مثل ما وقع ليحيى بن أكثم 2 والمأمون في أوائل
القرن الثالث الهجري كما رواه ابن خلكان عن محمد بن منصور.
قال: كنا مع المأمون في طريق الشام. فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى
بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكرا غدا إليه، فان رأيتما للقول وجها فقولا، وإلا فاسكتا
إلى أن أدخل، قال: فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على
عهد رسول الله (ص) وعلى عهد أبى بكر (رض) وأنا أنهى عنهما! ومن أنت يا جعل

(1) هكذا سلسلها ابن حجر في فتح الباري 11 / 73.
2) أبو محمد يحيى بن أكثم المروزي من ولد أكثم بن صيفي التميمي الأسيدي ولاه المتوكل على قضاء
القضاة وتدبير أهل مملكته كان يرمى بعمل قوم لوط.
وقال فيه الشاعر:
متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها * وقاضي قضاة المسلمين يلوط
وقال غيره:
قاض يرى الحد في الزناء ولا * يرى على من يلوط من بأس
مات بالربذة في رجوعه من الحج إلى العراق سنة 142 ه‍. وفيات الأعيان 5 / 197 - 213.
275

حتى تنهى عما فعله رسول الله (ص) وأبو بكر (رض)؟ فأومأ أبو العيناء إلى محمد بن
منصور وقال: رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن، فأمسكنا، فجاء
يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: مالي أراك متغيرا؟ فقال: هو غم
يا أمير المؤمنين لما حدث في الاسلام، قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا،
قال: الزنا؟ قال: نعم المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله
عز وجل، وحديث رسول الله (ص)، قال الله تعالى: " قد أفلح المؤمنون، إلى قوله:
والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين،
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال:
لا، قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا،
قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين.
وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن أبي محمد بن الحنفية
عن أبيهما عن علي بن أبي طالب (رض) قال: أمرني رسول الله (ص) أن أنادي بالنهي
عن المتعة وتحريمها بعد أن كان قد أمر بها، فالتفت إلينا المأمون فقال: أمحفوظ هذا من
حديث الزهري؟ فقلنا: نعم يا أمير المؤمنين، رواه جماعة منهم مالك (رض)، فقال:
أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة، فنادوا بها.
قال أبو إسحاق إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم الأزدي القاضي الفقيه
المالكي البصري، وقد ذكر يحيى بن أكثم، فعظم أمره وقال: كان له يوم في الاسلام لم
يكن لاحد مثله، وذكر هذا اليوم 1.
كان علماء مدرسة الخلفاء يحتجون بالأحاديث التي مرت علينا إذا ما نوظروا،
وإذا ما ثبت قول عمر " متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) وانا انهى عنهما
وأعاقب عليهما " قالوا اجتهد الخليفة، إذا فقد قال الله وقال رسوله واجتهد الخليفة 2!!!
خلاصة البحث:
تواتر عن الخليفة عمر قوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله وانا انهى عنهما
وأعاقب عليهما. وسبق البحث عن متعة الحج اما متعة النساء فتعريفه في مدرسة الخلفاء

(1) وفيات الأعيان، نشر مكتبة النهضة المصرية، ط مطبعة السعادة سنة 1949 م، 5 / 199 - 200.
2) راجع شرح نهج البلاغة للمعتزلي 3 / 363 في جواب الطعن الثامن.
276

أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين واذن الولي إلى أجل مسمى ويعطيها ما اتفقا عليه
فإذا انقضت المدة فليس عليها سبيل وتستبرئ رحمها لان الولد لا حق فيه بلا شك فإن لم
تحمل حلت لغيره وعدتها حيضة واحدة ولا يتوارثان، وإذا انقضى الاجل فبدا لهما ان
يتعاودا فليمهرها مهرا آخر.
وتعريفه في مدرسة أهل البيت: ان تزوج المرأة نفسها أو يزوجها وكيلها أو
وليها إن كانت صغيرة لرجل تحل له ولا يكون هناك مانع شرعا من نسب أو سبب أو
رضاع أو عدة أو احصان، بمهر معلوم إلى أجل مسمى وتبين عنه بانقضاء الاجل أو ان
يهب الرجل ما بقي من المدة وتعتد المرأة بعد المباينة مع الدخول وعدم بلوغها سن اليأس
بقرءين إذا كانت ممن تحيض والا فبخمسة وأربعين يوما وان لم يمسسها فهي
كالمطلقة قبل الدخول لا عدة عليها، وشأن المولود في الزواج الموقت شأن المولود من
الزواج الدائم.
نكاح المتعة في كتاب الله:
قال الله سبحانه: " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح
عليكم في ما تراضيتم به من بعد الفريضة... " النساء / 24.
كانت في مصحف ابن عباس " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى "
وقرءها كذلك أبي بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير والسدي ورواها قتادة
ومجاهد.
نكاح المتعة في السنة:
عن عبد الله بن مسعود، قال: رخص رسول الله (ص) ان ننكح المرأة بالثوب
إلى أجل ثم قرأ عبد الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا
تعتدوا... " المائدة / 87.
وعن جابر وسلمة بن الأكوع قالا: خرج علينا منادى رسول الله، فقال: ان
رسول الله قد اذن لكم ان تستمتعوا يعني متعة النساء.
وعن سبرة الجهني قال: اذن لنا رسول الله بالمتعة فانطلقت انا ورجل إلى امرأة
من بني عامر فعرضنا عليها أنفسنا فقالت ما تعطي فقلت ردائي... قالت أنت ورداؤك
277

يكفيني فمكثت معها ثلاثا ثم إن رسول الله قال: من كان عنده شئ من هذه النساء
التي يتمتع بها فليخل سبيلها.
وعن أبي سعيد الخدري، قال: كنا نتمتع على عهد رسول الله (ص) بالثوب.
وعن أسماء بنت أبي بكر، قالت: فعلناها على عهد النبي (ص).
وعن جابر، قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام، على عهد
رسول الله وأبى بكر وعمر حتى إذا كان في آخر خلافة عمر استمتع عمرو بن حريث
بمرأة فحملت المرأة فبلغ ذلك عمر فنهى عنها.
وفي رواية: استمتع عمرو بن حوشب بجارية بكر من بني عامر بن لؤي فحملت
فقال عمر: ما بال رجال يعملون بالمتعة ولا يشهدون عدولا ما تمتع رجل ولم يبينها الا
حددته فتلقاه الناس منه.
وفي رواية: تزوج ربيعة بن أمية بن خلف مولدة بشهادة امرأتين فحملت
فصعد عمر المنبر وقال لو كنت تقدمت في هذا لرجمت.
وفي رواية: ان سلمة بن أمية استمتع من مولاة حكيم بن أمية فولدت فجحد
الولد فنهى عمر عن المتعة وقال: لو أتيت برجل تمتع بامرأة لرجمته إن كان أحصن فإن لم
يكن أحصن ضربته.
وبعد نهي عمر أصبح نكاح المتعة محرما في المجتمع الاسلامي وبقي الخليفة عمر
مصرا على تحريمه، روى عمران بن سوادة أنه قال للخليفة نصيحة فقال: مرحبا
بالناصح هات:
فقال عابت أمتك منك انك حرمت العمرة في أشهر الحج ولم يفعل ذلك رسول
الله ولا أبو بكر وهي حلال.
فقال: انهم لو اعتمروا في أشهر الحج لرأوها مجزية وبقيت مكة خالية منهم،
وقد أصبت.
قال: ذكروا انك حرمت متعة النساء وقد كانت رخصة من الله نستمتع
بقبضة ونفارق عن ثلاث.
قال: إن رسول الله أحلها في زمان ضرورة ثم رجع الناس إلى سعة. والآن من
شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق.
قال المؤلف: هل يسوغ تحريم ما أحل الله من متعة الحج بسبب ان ذلك يؤدي
278

إلى فراغ مكة من المعتمرين بقية السنة؟.
وفي متعة النساء، هل كان السفر خاصا بعصر الرسول حيث تمتعوا في السفر
بإذن الرسول، وماذا يفعل المسافر الذي يطول سفره شهورا وسنين في سائر العصور
وكذلك الانسان الذي لا يستطيع الزواج الدائم في وطنه، هل يتنكر لغريزته، أم يخون
المجتمع سرا أو يسمح المجتمع له بالزنا علنا كما هو الحال في المجتمعات المعاصرة، اما ما
ذكره الخليفة: ان ينكح بقبضة ويفارق عن ثلاث بطلاق، فإذا كان ذلك باتفاق ونية
مسبقة من الزوجين فهو نكاح المتعة بعينه، أو يخفى الزوج نية الفراق في نفسه فهو عذر
وخيانة للمرأة ولا يقرها الاسلام.
وهذه المحاورة من الخليفة وسائر أحاديثه في شأن المتعة وكذلك أحاديث
الصحابة عن رسول الله واخبارهم عن تمتعهم أزمان النبي وأبي بكر وخلافة عمر كل
ذلك يثبت ان الروايات التي رويت عن رسول الله في تحريم المتعة وضعت بعد عصر عمر
والا لاستشهد بها هو ولما قال الصحابة ان التحريم صدر في آخر خلافته ومن ثم قال
علي وابن عباس لولا نهي عمر ما زنى الا شقي.
وقد بقي على تحليلها بعد رسول الله من الصحابة علي وابن مسعود وابن عباس
وأسماء وأبو سعيد الخدري وجابر وسلمة ومعبد ابنا أمية ومعاوية بن أبي سفيان
وعمران بن الحصين.
ومن التابعين طاووس وعطاء، وسعيد بن جبير وسائر فقهاء مكة وأهل اليمن
كلهم.
اما من تابع عمر في تحريمها فقد اعتمد قسم منهم على الروايات الموضوعة على
رسول الله وقال آخرون: ان الخليفة اجتهد في ذلك، واتخذوا اجتهاد الخليفة دينا.
أوردنا في ما سبق أمثلة من استناد الخلفاء على آرائهم في ما افتوه في الاحكام
الاسلامية ودانوا بها ووجدنا اتباعهم يسمون ذلك منهم بالاجتهاد ومن تتبع سيرتهم
وفقههم وجد ذلك طابعهم المميز لمدرستهم عن مدرسة أئمة أهل البيت فان أئمة أهل البيت
خالفوهم في ذلك كما سنراه في البحوث الآتية، إن شاء الله تعالى.
وندرس في ما يأتي ما استنبطوه من عمل الصحابة وكيف أصبح الاجتهاد بعد
ذلك من مصادر الشريعة الاسلامية.
279

كيف وجد التناقض في ما روي عن رسول الله (ص)
وأخيرا نقول: انا وجدنا تناقضا في ما روي عن رسول الله (ص) في عمرة
التمتع فبينا نجد في روايات ان رسول الله أفرد الحج ونهى عن الجمع بين العمرة والحج
معا، نجد في روايات أخرى رويت عنه (ص)، انه أمر بالتمتع بالعمرة إلى الحج في حجة
الوداع، وفعل ذلك جميع من حضر حجة الوداع، فكيف وقع هذا التناقض في حديث
الرسول؟
والجواب ان الأحاديث التي رويت عن رسول الله انه أمر بافراد الحج ونهى
عن عمرة التمتع إنما وضعت تأييدا لموقف الخلفاء وأمرهم بافراد الحج ونهيهم عن عمرة
التمتع.
وبناء على هذا مهما رأينا حديثين متناقضين نترك منهما ما وجدناه موافقا لرأي
السلطة الحاكمة 1.

(1) راجع بحث " اتجاه السلطة زهاء ثلاثة عشر قرنا " في آخر الجزء الأول.
280

" 3 "
الاجتهاد في القرن الثاني فما بعد
واستنباط الاحكام من عمل الصحابة
الاجتهاد: حقيقته، تطوره، أدلة صحة العمل به
حقيقة الاجتهاد - كما أشرنا إليه في ما سبق - هي العمل بالرأي، ومنشؤه
عمل الصحابة والخلفاء بآرائهم واقتداء أتباعهم بهم في ذلك وفي ما يلي بيانه:
قال الدواليبي 1: كانت ترد على الصحابة أقضية لا يرون فيها نصا من كتاب أو
سنة، وإذ ذاك كانوا يلجؤون إلى الاجتهاد، وكانوا يعبرون عنه بالرأي أيضا، كما كان
يفعل أبو بكر (رض)... وكذلك كان عمر يفعل...
ثم استشهد بما روي أن عمر كتب به إلى شريح والى أبي موسى، وقال: ولم
يكن الصحابة في اجتهادهم يعتمدون على قواعد مقررة، أو موازين معروفة، وإنما كان
معتمدهم ما لمسوا من روح التشريع... ثم قال:
وهذا المعرفة لم تتوفر لمن جاء بعدهم بنفس السهولة... ولذلك لم يلبث
الاجتهاد بعدهم ان تطور تطورا محسوسا... ومتأثرا إلى حد كبير بمحيط المجتهد، وكان
ذلك مدعاة إلى اشتداد النزاع العلمي في مادة الاحكام كلما اشتد البعد بين المجتهدين
وبين عصر التنزيل، وهذا ما حمل رجال الاجتهاد على وضع قواعدهم في الاجتهاد،
وسموه بعلم أصول الفقه، وأصبح الاجتهاد في دوره الثاني هذا متميزا عن دوره الأول
بما وضع له من قواعد وقوانين جعلت أصوله معلومة بعد إن كان الذوق السليم لأسرار

(1) في كتاب المدخل إلى علم أصول الفقه تأليف محمد معروف الدواليبي أستاذ علم أصول الفقه
والقانون الروماني في كلية الحقوق، دكتور في الحقوق من جامعة پاريس، حامل شهادة الدراسات العليا في
الحقوق الرومانية، مجاز في العلوم الاسلامية من الكلية الشرعية بحلب. ط. دار العلم سنة 1385 ه‍.
281

الشريعة وحده هو الميزان والمعيار 1.
وقال في باب مصادر الحكم المتعرف بها في القرآن: ان أول مصدر للحكم
والحقوق يعترف به القرآن هو آياته.
وثانيا هو السنة، فقد قال " وما آتاكم الرسول فخذوه.. "
وثالثا يعتبر القرآن من مصادر الحكم والحقوق ما اعترفت به السنة مثل
الاجماع والاجتهاد 2.
هكذا جعل للتشريع أربعة مصادر أو أربعة أصول:
أ - الكتاب.
ج - السنة.
د - الاجماع.
ه‍ - الاجتهاد.
وقال الدواليبي: يتبين مما ذكرنا ان الأصل الرابع يسمى بالاجتهاد.
وبالرأي، وبالعقل 3.
نكتفي بهذا المقدار من البيان هنا لنعود إليه بعد عرض أدلتهم على صحة العمل
بالاجتهاد.
أهم أدلتهم على صحة الاجتهاد:
أ - حديث معاذ:
في سنن الدارمي وغيره: ان النبي لما بعث معاذ إلى اليمن قال له " كيف
تقضي " قال: اقضي بكتاب الله! قال: " فإن لم يكن في كتاب الله " قال: فبسنة
رسول الله (ص) قال: " فإن لم يكن في سنة رسول الله (ص) " قال: اجتهد رأيي ولا
آلو، قال: فضرب صدري وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله (ص) " 4.
ب - حديث عمرو بن العاص:
في صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد وغيرها واللفظ للأول:

(1) المدخل ص 14 - 17 أوردنا قوله باختصار.
2) المدخل 30 - 31.
3) المدخل 53.
4) مقدمة الدارمي 1 / 60، ومسند أحمد 5 / 230 و 276.
282

ان رسول الله قال: " إذا حكم الحاكم فأجتهد ثم أصاب فله اجران وإذا
حكم فأجتهد ثم أخطأ فله أجر " 1.
ج - كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري:
ورد فيه: الفهم، الفهم في ما يتلجلج في صدرك مما ليس في الكتاب والسنة
ثم قس الأمور بعضها ببعض.. 2
هذا أهم أدلتهم في اثبات صحة الاجتهاد، وما عداها لا حاجة إلى ايرادها
ومناقشتها لضعف أسنادها ووضوح عدم دلالتها على مرادهم، أما الحديثان وكتاب
عمر، فقد ناقش ابن حزم حديث معاذ وقال:
واما خبر معاذ فإنه لا يحل الاحتجاج به لسقوطه، وذلك أنه لم يرو قط الا من
طريق الحارث بن عمرو وهو مجهول، لا يدري أحد من هو، وقال البخاري في تاريخه
الأوسط: " ولا يعرف الحارث الا بهذا - الحديث - ولا يصح ". ثم إن الحارث روى
عن رجال من أهل حمص لا يدرى من هم! ثم لم يعرف قط في عصر الصحابة ولا ذكره
أحد منهم. ثم لم يعرفه أحد قط في عصر التابعين، حتى اخذه أبو عون وحده عمن
لا يدرى من هو، فلما وجده أصحاب الرأي عند شعبة طاروا به كل مطار، وأشاعوه في
الدنيا وهو باطل لا أصل له 3.
وقال: وبرهان وضع هذا الخبر وبطلانه هو ان من الباطل الممتنع أن يقول
رسول الله (ص) فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله وهو يسمع قول ربه
تعالى " واتبعوا ما انزل إليكم من ربكم " وقوله تعالى " اليوم أكملت لكم دينكم "
وقوله تعالى " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " مع الثابت عنه (ع) من تحريم القول
بالرأي في الدين...
ثم لو صح لكان معنى قوله " اجتهد رأيي " استنفد جهدي حتى أرى الحق في
القرآن والسنة ولا أزال اطلب ذلك ابدا.

(1) صحيح البخاري 4 / 178 باب اجر الحاكم، ومسلم بكتاب الأقضية ح 150، وابن ماجة باب
الحاكم يجتهد فيصيب ح 2314 من كتاب الأحكام، ومسند أحمد 2 / 187 و 4 / 198 و 204 وفي 205 منه:
" إذا أصبت فلك عشر حسنات ".
2) الكتاب المنسوب إلى عمر وشرحه في اعلام الموقعين 1 / 85 - 383.
3) الاحكام لابن حزم 5 / 773 - 775 ط. مطبعة العاصمة بالقاهرة.
283

وأيضا، لو صح لكان لا يخلو من أحد وجهين: اما أن يكون لمعاذ وحده فيلزمهم
ان لا يتبعوا رأي أحد الا رأي معاذ، وهم لا يقولون بهذا.
أو يكون لمعاذ وغيره، فإن كان ذلك فكل من اجتهد رأيه فقد فعل ما أمر به،
فهم كلهم محقون ليس أحد منهم أولى بالصواب من آخر، فصار الحق على هذا في
المتضادات، وهذا خلاف قولهم، وخلاف المعقول، بل هذا المحال الظاهر، وليس
لاحد ان ينصر قوله بحجة لان مخالفه أيضا قد اجتهد رأيه، وليس في الحديث الذي
احتجوا به أكثر من اجتهاد الرأي ولا مزيد، فلا يجوز لهم ان يزيدوا فيه ترجيحا لم يذكر
في الحديث وأيضا فليس أحد أولى من غيره، ومن المحال البين أن يكون ما ظنه الجهال
في حديث معاذ لو صح من أن يكون (ع) يبيح لمعاذ ان يحلل برأيه ويحرم برأيه ويوجب
الفرائض برأيه ويسقطها برأيه وهذا مالا يظنه مسلم، وليس في الشريعة شئ غير ما
ذكرنا البتة 1. انتهى.
وقال ابن حزم عن حديث عمرو بن العاص: واما حديث عمرو بن العاص
فأعظم حجة عليهم، لان فيه ان الحاكم المجتهد يخطئ ويصيب، فان ذلك كذلك
فحرام الحكم في الدين بالخطأ وما أحل الله تعالى قط امضاء الخطأ فبطل تعلقهم 2.
وقال عن كتاب عمر بعد ايراده بسندين: وهذا لا يصح، لان السند الأول فيه
عبد الملك بن الوليد بن معدان، وهو كوفي متروك الحديث ساقط بلا خلاف، وأبوه
مجهول.
واما السند الثاني: فمن بين الكرجي إلى سفيان مجهول وهو أيضا منقطع فبطل
القول به جملة 3.
مناقشتنا في صحة ما قالوا حول الاجتهاد:
كانت هذه مناقشات ابن حزم، اما مناقشاتنا فإنها تدور حول أمرين:
أولا - حول مدلول الاجتهاد.
وثانيا - حول مفاهيم الأدلة الثلاثة. اما الاجتهاد فقد سبق ايراد دليلنا على أن
مدلول الاجتهاد في القرن الأول كان معناه اللغوي هو بذل الجهد في اي أمر

(1) الاحكام 5 / 775. 2) الاحكام لابن حزم 5 / 771.
3) الاحكام 5 / 1003، وراجع اعلام الموقعين 1 / 85 - 86، وقال عن السند ان جعفرا أحد رواة
السند لم يسنده.
284

كان والحديثان المرويان عن معاذ وابن العاص ان صح سندهما أيضا استعمل فيها
" اجتهد " في معناه اللغوي المذكور.
ثم إن مورد الحديثين خارج عن محل النزاع فان موردهما باب القضاء ومحل
النزاع جواز تشريع الاحكام من قبل المجتهدين، وكذلك الحال في الكتاب المنسوب إلى
عمر وكذلك الامر في غيرها مما استدلوا به فإنها رغم ضعف اسنادها إلى حد الاطمينان
بأنها موضوعة فان موارد جميعها شؤون القضاء وليس التشريع.
وفي مورد القضاء أيضا لا تدل الأحاديث المذكورة على جواز تشريع القضاة
لمورد حاجتهم ففي حديث معاذ مثلا الذي ظنوا ان فيه دلالة على دعواهم قد وهموا فيه
فان مغزى الحديث ان الاحكام الاسلامية وردت في الكتاب والسنة على ضربين منها
ما ورد في أحدهما أو كليهما منصوصا على القضية الجزئية ومنها ما ورد بيانه ضمن قاعدة
كلية وعلى الحاكم ان يبذل جهده ليتعرف على الحكم الكلي الذي ينطبق على مورد
حاجته وهذا هو الاجتهاد اللغوي الذي هو بمعنى بذل الجهد في البحث عن الحكم
المطلوب.
غير أن كيفية استشهاد علماء مدرسة الخلافة بهذا الحديث تدل على أنهم يقولون إن
التشريع الاسلامي الذي بلغه الرسول كان ناقصا في بعض جوانبه مما احتاج معه
الحكام والقضاء والمفتون ان يشرعوا بآرائهم احكاما لقضايا أهمل حكمها في الاسلام،
ويأتي مزيد بيان له بعد عرض كيفية استخراج القواعد من عمل الصحابة في ما يلي:
استخراج القواعد من عمل الصحابة
قال الدواليبي في تعريف الاجتهاد: انه رأي غير مجمع عليه وقال: فإذا أجمع
عليه فهو الاجماع ولذلك فالاجتهاد بعد الاجماع في المنزلة 1.
وقسم أنواع الاجتهاد إلى ثلاثة:
أولا: البيان والتفسير لنصوص الكتاب والسنة 2.
ثانيا: القياس على الأشباه مما في الكتاب والسنة.
ثالثا: الرأي الذي لا يعتمد على نص خاص، وإنما على روح الشريعة المبثوثة في
جميع نصوصها معلنة: " ان غاية الشرع إنما هي المصلحة، وحيثما وجدت المصلحة فثم

1 و 2) المدخل ص 55.
285

شرع الله " وان " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ".
وقال: ولعل من أبرز المسائل الاجتهادية، والوقائع التي حدثت في عهد
الصحابة بعد وفاة النبي، هي قضية قسمة الأراضي التي فتحها المقاتلون عنوة في العراق
وفي الشام وفي مصر.
فلقد جاء النص القرآني يقول بصراحة لا غموض فيها ان خمس الغنائم يرجع
لبيت المال ويصرف في الجهات التي عينتها الآية الكريمة، " واعلموا إنما غنمتم من
شئ فان لله خمسة وللرسول ولذي القربى... "
اما الأخماس الأربعة الباقية فتقسم بين الغانمين عملا بمفهوم الآية المذكورة
وبفعله عليه الصلاة والسلام حين قسم خيبر بين الغزاة.
وعملا بالقرآن والسنة جاء الغانمون إلى عمر بن الخطاب وطلبوا ان يخرج
الخمس لله ولمن ذكر في الآية، وان يقسم الباقي بين الغانمين.
فقال عمر: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد
اقتسمت، وورثت عن الاباء وحيزت؟ ما هذا برأي.
فقال له عبد الرحمن بن عوف: فما الرأي؟ ما الأرض والعلوج الا مما أفاء الله
عليهم:
فقال عمر: ما هو الا ما تقول، ولست أرى ذلك...
فأكثروا على عمر، وقالوا تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا
ولم يشهدوا،...
فكان عمر لا يزيد على أن يقول هذا رأيي.
فقالوا جميعا الرأي رأيك 1.
وقال ابن حزم: الرأي ما تخيلته النفس صوابا دون برهان.
وقال: القياس: ان يحكم بشئ بحكم لم يأت به نص لشبهه بشئ آخر ورد
فيه ذلك الحكم 2.
وعرف الاستحسان في المدخل بقوله: الاستحسان: الاخذ في مسألة بحكم

(1) المدخل إلى علم أصول الفقه ص 91 - 95 باب أنواع الاجتهاد.
2) الاحكام بأصول الاحكام لابن حزم ط. مطبعة العاصمة بالقاهرة ونشر زكريا على يوسف راجع
1 / 40 منه.
286

يخالف الحكم المعروف في القياس اما لرجحان علة في دليل الاستحسان أو لضرورة
توجب مصلحة وتدفع حرجا 1.
وروى عن الحنفية قولها عن الاستحسان انه: العدول بالمسألة عن حكم
نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى يقتضى هذا العدول.
وعن المالكية انهم قالوا عن الاستحسان انه: ان لا يتقيد الفقيه المجتهد عند
بحث الجزئيات بتطبيق ما يؤدي إليه اضطرار القياس من جلب مضرة أو مشقة، أو منع
مصلحة 2.
وقال في تعريف الاستصلاح: الاستصلاح في حقيقته نوع من الحكم بالرأي
المبني على المصلحة 3.
وقال في الفرق بين الأصول الثلاثة: ان مسائل القياس والاستحسان تتطلب
دوما المقارنة بمسائل أخرى.
ففي القياس توجب الحاق مسائل القياس بحكم المسائل الأخرى المقيس عليها
وتوحيد الحكم فيها بسبب الاتحاد في العلة.
وفي الاستحسان توجب العدول بمسائل الاستحسان عن حكم المسائل الأخرى
في النظائر والأشباه والمغايرة في الحكم فيها بسبب عدم الاتحاد في بعض الوجوه مما هو
أقوى من بعض مظاهر الاتحاد.
اما مسائل الاستصلاح فهي لا تستلزم المقارنة بمسائل أخرى على نحو ما مر في
القياس والاستحسان للحكم فيها بل يعتمد في الحكم في مسائل الاستصلاح على
المصلحة فقط 4.
وقال في باب النصوص وتغيير الاحكام بتغير الزمان في الشرع الاسلامي: اما
التغيير لحكم لم ينسخ نصه من قبل الشارع فقد اجازته للمجتهدين من قضاة ومفتين،
تبعا لتغير المصالح في الأزمان أيضا، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت
فيه درسا بليغا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد ومن مرونة لتحكيم

(1) المدخل ص 293.
2) المدخل ص 296.
3) المدخل ص 301 في الباب الثامن.
4) المدخل ص 304 - 305 الباب الثامن.
287

المصالح في الاحكام. وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع
الاسلامي، تعلن بأنه " لا ينكر تغير الاحكام بتغير الزمان " 1.
واستشهد بقول ابن القيم في اعلام الموقعين: هذا فصل عظيم النفع جدا...
وقد أورد ابن القيم في هذا الباب عدة أمثلة منها قوله: المثال السابع: ان المطلق
في زمن النبي (ص) وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر كان إذا جمع المطلقات الثلاث
بفم واحد جعلت واحدة كما ثبت في الصحيح...
ثم أورد الأحاديث الصحاح في ذلك ومنها خبر تطليق عبد يزيد أبو ركانة
زوجته حيث طلقها ثلاثا في مجلس واحد فحزم عليها، فسأله رسول الله (ص): كيف
طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا. قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنما تملك واحدة
فارجعها ان شئت، فراجعها.
وقال: والمقصود ان عمر بن الخطاب (رض) لم يخف عليه ان هذا هو السنة
وانه توسعة من الله لعباده، إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة وما كان مرة بعد مرة لم يملك
المكلف ايقاع مراته كلها جملة واحدة كاللعان فإنه لو قال: " اشهد الله بالله أربع
شهادات انه لمن الصادقين " كان مرة واحدة ولو حلف في القسامة وقال: أقسم بالله
خمسين يمينا ان هذا قاتله " كان ذلك يمينا واحدا.
وهكذا أورد الأمثلة عليه ثم قال: فهذا كتاب الله، وهذه سنة رسول
الله (ص) وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب وهذا خليفة رسول الله (ص)
والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب...
وهم يزيدون على الألف قطعا...
والمقصود ان هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والاجماع القديم
ولم يأت بعده اجماع يبطله ولكن رأى أمير المؤمنين عمر (رض)... ان هذا مصلحة لهم
في زمانه 3.
وفي تعريف الاجماع يقسمه الدواليبي إلى قسمين:
أ - اتفاق العالمين من الأمة في الموضوع المبحوث فيه، وليس اتفاق الأمة

(1) المدخل ص 317.
2) المدخل ص 319.
3) اعلام الموقعين لابن قيم الجوزية 3 / 30 - 36 فصل حكم جمع المطلقات الثلاث بلفظ واحد.
288

بكاملها.
ب - الاتفاق الكائن في مكان ما من الأمكنة التي تحدث فيها الحادثة، أو
تعرض فيها، كالمدينة المنورة، وليس هو الاتفاق الكائن في جميع الأمكنة والأمصار.
وقال: فلما مضى الصحابة، وجاء من بعدهم من العلماء أخذ هؤلاء بالاجماع
أيضا كأصل من أصول الشريعة.
غير أن هؤلاء لم يجدوا أنفسهم امام أصل واضح في حدوده... 1.
جميع ما استعرضناه آنفا لا يعدو كونه عملا بالرأي سواء في القضايا التي سموا
رأيهم فيها " تأويلا " أو " اجتهادا " أو موارد التسميات الأخرى.
فالقياس حقيقته: ان يحكم المجتهد في مسألة بحكم ورد في مسألة أخرى لما يرى
بين المسألتين من مشابهة.
والاستحسان: ترك الحكم المشابه للمسألة، لما يرى المجتهد المصلحة في خلافه.
والاستصلاح: العمل في قضية ما بما يراه المجتهد صالحا دون عمل مقارنة.
والاجماع: اتفاق آراء العلماء أو أهل بلد في حكم قضية ما. هكذا تنتهى كل
قواعد الاجتهاد بمدرسة الخلفاء إلى الرأي، أضف إليه انهم كانوا يقدمون رأيهم على
النص الشرعي، مثل خبر حبس عمر الأراضي المفتوحة عنوة دون تقسيم أربعة أخماسها
على الغزاة خلافا لنص الكتاب وعمل الرسول، ومثل جعل القول بالتطليق ثلاثا مرة
واحدة ثلاث مرات خلافا للكتاب والسنة، ثم التباهي بالعمل بالرأي خلافا للكتاب
والسنة، ومن ثم كان امام مدرسة الرأي في المجتهدين يصرح أحيانا بتقديم رأيه على
الحديث النبوي الشريف وان رأيه أولى بالعمل من قول الرسول كما يأتي في الأمثلة
التالية:
امام الحنفية والعمل بالرأي
روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن يوسف بن أسباط، قال قال
أبو حنيفة: لو أدركني رسول الله وأدركته لاخذ بكثير من قولي، وهل الدين الا الرأي

(1) المدخل ص 334 - 5 الباب التاسع.
289

الحسن 1.
وروى عن علي بن عاصم، قال: حدثنا أبا حنيفة عن النبي، فقال: لا آخذ
به، فقال: فقلت: عن النبي؟ فقال: لا آخذ به.
وعن أبي إسحاق الفزاري 2. كنت اتى أبا حنيفة أسأله عن الشئ من أمر
الغزو فسألته عن مسألة فأجاب فيها، فقلت له: انه يروى فيه عن النبي كذا وكذا
قال: دعنا عن هذا.
وقال: كان أبو حنيفة يجيئه الشئ عن النبي (ص) فيخالفه إلى غيره.
وقال: حدثت أبا حنيفة حديثا في رد السيف، فقال: حديث خرافة.
وروى عن حماد بن سلمة، قال: أبو حنيفة استقبل الآثار واستدبرها برأيه.
أو استقبل الآثار والسنن فردها برأيه 3.
وعن وكيع قال: وجدنا أبا حنيفة خالف مائتي حديث 4.
وعن صالح الفراء قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة على
رسول الله (ص) أربعمائة حديث أو أكثر قلت له: يا أبا محمد أتعرفها؟ قال: نعم،
قلت اخبرني بشئ منها، فقال: قال رسول الله (ص) " للفرس سهمان وللرجل سهم "
قال أبو حنيفة: انا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن.
واشعر رسول الله (ص) وأصحابه البدن وقال أبو حنيفة: الاشعار مثلة.
وقال (ص): " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " وقال أبو حنيفة إذا وجب البيع فلا
خيار.
وكان النبي يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر وأقرع أصحابه، وقال
أبو حنيفة: القرعة قمار 5.

(1) ما نورده في ما يلي عن الخطيب البغدادي فمن ترجمة أبي حنيفة في ج 13 من تاريخ بغداد وهذا
الحديث بتمامه في ص 390، وفى ص 387 منه دون وهل الدين الا الرأي الحسن، وترجمة أبي حنيفة من كتاب
المجروحين ج 3 / 65 تأليف ابن حبان البستي (ت 354 ه‍)
2) أحاديث أبي إسحاق في ص 387 منه وتركنا ذكر حديث واحد منه لان أبا حنيفة كان قد اقذع
فيه.
3) خبر حماد في ص 390 - 391 منه. قوله: خرافة في كتاب المجروحين 3 / 70.
4) حديث وكيع في ص 390 منه. حديث " البيعان بالخيار " في كتاب المجروحين 3 / 70.
5) حديث يوسف بن أسباط في ص 390 منه.
290

وعن حماد قال 1: كنت جالسا في المسجد الحرام عند أبي حنيفة، فجاءه
رجل، فقال: يا أبا حنيفة محرم لم يجد نعليه فلبس خفا، قال: عليه دم، قال: قلت:
سبحان الله! حدثنا أيوب ان النبي قال في المحرم: إذا لم يجد نعليه فليلبس الخفين
ليقطعهما أسفل الكعبين.
وعن بشر بن مفضل، قال: قلت لأبي حنيفة: نافع، عن ابن عمر، ان
النبي (ص) قال: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " قال: هذا رجز، وقلت: قتادة عن
انس: ان يهوديا رضخ رأس جارية بين حجرين فرضخ النبي رأسه بين حجرين، فقال:
هذيان 2.
وعن عبد الصمد، عن أبيه، قال: ذكر لأبي حنيفة قول النبي: أفطر الحاجم
والمحجوم، قال: هذا سجع 3.
وعن عبد الوارث، قال: كنت بمكة وبها أبو حنيفة فأتيته وعنده نفر فسأله
رجل عن مسألة فأجاب فيها، فقال الرجل: فما رواية عن عمر بن الخطاب، قال: ذلك
قول شيطان، قال: فسبحت، فقال لي رجل: أتعجب؟ فقد جاء رجل قبل هذا فسأله
عن مسألة فأجاب فقال ما رواية رويت عن رسول الله (ص) أفطر الحاجم والمحجوم،
فقال: هذا سجع، فقلت في نفسي: هذا مجلس لا أعود فيه ابدا 4.
وعن يحيى بن آدم، قال: ذكر لأبي حنيفة حديث النبي (ص) " الوضوء نصف
الايمان " قال: لنتوضأ مرتين لنستكمل الايمان.
قال يحيى: الايمان هنا: الصلاة، قال الله " وما كان ليضيع ايمانكم " يعني
صلاتكم، وقال النبي " لا صلاة الا بطهور " فالطهور نصف الايمان اي نصف الصلاة
إذ كانت الصلاة لا تتم به.
وقال سفيان بن عيينة: ما رأيت اجرأ على الله من أبي حنيفة، كان يضرب
الأمثال لحديث رسول الله فيرده: بلغه اني اروى " ان البيعان بالخيار ما لم يفترقا "
فجعل يقول: أرأيت إن كان في سفينة؟ أرأيت إن كان في سجن؟! أرأيت إن كان في

(1) حديث حماد في ص 392 منه.
2) حديث بشر في ص 388 منه، ورواية حماد وأيوب بتفصيل أوفى في المجروحين للبستي 3 / 67.
وحديث بشر في ص: 70 منه.
3) حديث عبد الصمد في ص 388 منه.
4) في ص 388 منه.
291

سفر كيف يفترقان؟! 1.
في ما نقلوا عن امام أهل الرأي المجتهد أبي حنيفة وأوردناه آنفا راجعنا أولا
بشأن أحاديثها كتب الحديث الموثقة فوجدنا تلك الأحاديث فيها مروية عن رسول الله،
ثم راجعنا فتاوى أبي حنيفة فوجدناه قد أفتى بخلاف تلك الأحاديث.
أ - ففي صحيح البخاري ومسلم سنن أبي داود والترمذي وموطأ مالك
ومسند أحمد:
ان رسول الله جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما 2.
ومخالفة أبي حنيفة لهذا الحكم في بداية المجتهد لابن رشد 3.
ب - في صحيح البخاري ومسلم وسنن ابن ماجة والدارمي والترمذي
ومسند أحمد: ان رسول الله اشعر الهدي في السنام الأيمن 4.
وفي المحلي: قال أبو حنيفة: " أكره الاشعار وهو مثلة ".
قال ابن حزم: هذه طامة من طوام العالم أن يكون مثلة شئ فعله النبي أف
لكل عقل يتعقب حكم رسول الله 5.
ج - البيعان بالخيار ما لم يفترقا 6.
وفي بداية المجتهد: قال الشافعي وأبو حنيفة: أجل الخيار ثلاثة أيام 7.

(1) في 388 - 389 منه.
2) في كتاب الجهاد من صحيح البخاري باب 51، والمغازي باب 38، ومسلم الجهاد ح 57،
وأبو داود الجهاد باب 143 و 147، والترمذي السير باب 6 و 8 والموطأ الجهاد 21 ومسند أحمد 2 / 2 و 62 و
80 و 4 / 138. 3) بداية المجتهد 2 / 411.
4) كتاب الحج من؟ البخاري باب 51 ومسلم ح 205 والترمذي 64 وكتاب المناسك من سنن ابن
ماجة باب اشعار البدن 96 والدارمي باب 68 ومسند أحمد 1 / 216 و 254 و 280 و 339 و 334 و 347 و
372.
5) المحلى لابن حزم 7 / 111.
6) كتاب البيوع من البخاري باب 19 و 22 و 42 و 43 و 44 و 46 و 47 ومسلم ح 43 و 46 و 47
وسنن أبي داود باب 51 والترمذي 36 والنسائي 4 و 7 و 9 والدارمي باب 15 والموطأ 79 وابن ماجة
التجارات 17 ومسند أحمد 2 / 4 و 9 و 52 و 54 و 73 و 135 و 311 و 3 / 402 و 425 و 434 و 5 / 12 و 17 و
21 و 22 و 23.
7) بداية المجتهد 2 / 226 كتاب بيع الخيار.
292

وفى المحلى أورد الروايات المروية عن رسول الله في هذا الحكم ثم قال: شذ
عن هذا كله أبو حنيفة ومالك ومن قلدهما وقالا: " البيع يتم بالكلام وان لم يتفرقا
بأبدانهما، ولا خير أحدهما الآخر " وخالفوا السنن الثابتة... 1.
د - في صحيح البخاري ومسلم والدارمي وابن ماجة وغيرها: المحرم إن لم
يجد النعلين فليلبس الخفين 2. وذكر ابن حزم تفصيل الحكم ومخالفة أبي حنيفة إياه في
المحلى 3.
ه‍ - في صحيح البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجة وغيرها: ان رسول الله
رضخ رأس يهودي كان رضخ رأس جارية بين حجرين 4.
وفي بداية المجتهد لابن رشد: قال أبو حنيفة وأصحابه في القود: بأي وجه قتله لم
يقتل الا بالسيف 5.
وتفصيل الأحاديث في المحلى لابن حزم 6.
و - في صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي والدارمي وغيرها: أفطر
الحاجم والمحجوم 7.
وفي بداية المجتهد: قال أبو حنيفة وأصحابه: انها غير مكروهة ولا مفطرة 8.

(1) أورد ابن حزم الروايات في المحلى 8 / 351 - 352 المسألة 1417.
2) راجع كتاب الحج من صحيح البخاري باب 21، وصحيح مسلم ح 1 - 5، والترمذي 19،
والنسائي 52 و 53 و 55 و 57 - 59 و 61 - 63، والموطأ 8 و 9، وكتاب المناسك من ابن ماجة 19 و 20،
والدارمي 9، ومسند أحمد 1 / 215 و 225 و 228 و 279 و 285 و 337 و 2 / 3 و 4 و 8 و 29 و 32 و 34 و
41 و 47 و 50 و 54 و 66 و 73 و 74 و 81 و 111 و 119 و 3 / 323 و 395.
3) راجع تفصيله في المحلى 7 / 81.
4) وجدته بلفظ رض في البخاري كتاب الخصومات 1 والوصايا 5 والديات 4 و 12، وصحيح
مسلم كتاب القسامة 17، وكتاب الديات من سنن أبي داود 1، وابن ماجة 24، والدارمي باب 4، ومسند أحمد
3 / 193 و 262 و 269.
5) بداية المجتهد 2 / 437.
6) المحلى لابن حزم 10 / 360 فما بعد.
7) في كتاب الصوم الصوم من البخاري باب 32، وسنن أبي داود باب 28، والترمذي باب 59،
والدارمي باب 26، وكتاب الصيام في سنن ابن ماجة 18، ومسند أحمد 2 / 364 و 3 / 465 و 474 و 480 و
4 / 123 و 124 و 125 و 5 / 210 و 276 و 277 و 280 و 282 و 283 و 6 / 12 و 157 و 258.
8) بداية المجتهد 1 / 300، وراجع المحلى لابن حزم 6 / 204 - 205 المسألة 753.
293

ز - في سنن الترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وغيرها: الوضوء نصف
الايمان 1.
ح - في صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والدارمي وغيرها: ان النبي
إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه 2.
رويت هذه الأحاديث عن رسول الله إلى مئات من أحاديث أخرى صحيحة
مدونة في أمهات كتب الحديث وخالفها الإمام أبو حنيفة وغيره من المجتهدين بآرائهم،
ولعل عددها يتعدى المائتين والأربعمائة كما أحصيت في تاريخ بغداد للخطيب، ومن
يراجع كتب الخلاف أمثال المحلى لابن حزم يجد نصوصها ومخالفتهم إياها بتفصيل
واف.
والأنكى من ذلك أنهم بوضعهم قواعد الأصول لديهم كالقياس والاستحسان
والمصالح المرسلة، فتحوا بابا للتشريع في مقابل الكتاب والسنة ومعها، رجعوا إلى تلك
القواعد أحيانا لاستنباط الحكم الاسلامي، وأخرى إلى الكتاب والسنة، وأحيانا
قدموا قواعد الأصول عليهما كما مر أمثلتها آنفا، وهكذا تطورت الاحكام الاسلامية
بمدرسة الخلفاء بعد رسول الله، وهكذا نسبت جميعها إلى الشرع الاسلامي ومن ثم اعتقد
خصوم الاسلام - مضافا إلى بعض أهله - 3 ان الاسلام كان ناقصا على عهد الرسول
وإنما تكامل وتطور بعده مثل المستشرق اليهودي كولد زيهر في كتابه تطور العقيدة
والشريعة في الاسلام.
وادى التمادي في الاعتماد على الرأي ان يشرع بعض المجتهدين بمدرسة الخلفاء
باسم الحيل الشرعية احكاما لا يوجد نظيرها في أي قانون على وجه الأرض ويندى لها

(1) سنن الترمذي كتاب الدعاء باب 85، والنسائي الزكاة باب 1، وابن ماجة الطهارة 5، والدارمي
الوضوء - باب 2، ومسند أحمد 5 / 365.
اعتمدنا في مصادر الأحاديث الواردة في هذا المقام على المعجم المفهرس لألفاظ الحديث.
2) صحيح البخاري كتاب الجهاد باب 64 والهبة 15 والشهادات 15 و 30، والمغازي 34 وتفسير
سورة 34 / 6، وصحيح مسلم كتاب التوبة ح 56، وسنن أبي داود كتاب النكاح باب في القسم بين النساء،
والدارمي كتاب النكاح 26، ومسند أحمد 6 / 117 و 195 و 157 و 269، هذا ما روي عن أم المؤمنين عائشة
بينا بحثنا عن ذلك فلم نجد رسول الله يخرج نسائه لغير الحج والعمرة.
3) راجع فصول المدخل إلى أصول الفقه للدواليبي مثلا.
294

جبين المرء خجلا 1.
والأنكى من ذلك ان يوضع في مدح هؤلاء المجتهدين الحديث ويسند إلى رسول
الله مثل ما رواه الخطيب عن أبي هريرة عن رسول الله (ص) أنه قال: يكون في أمتي
رجل اسمه النعمان وكنيته أبو حنيفة، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي 2.
ولست أدري هل أقول: إن الملك الظاهر بيبرس البند قداري أحد ملوك المماليك
بمصر أحسن إلى الاسلام حين أغلق باب هذا الاجتهاد في سنة 665 ه‍ أم أساء 3
ومهما يكن الامر فان الاجتهاد أي العمل بالرأي فتحت بابه السلطة الحاكمة بمدرسة
الخلفاء على عهد الخلفاء الراشدين وكذلك أغلق بابه على يد السلطة الحاكمة فيها
وبقيت كذلك حتى اليوم!
كان ذلك شأن مدرسة الخلفاء في أمر الاجتهاد، اما مدرسة أهل البيت فإنهم
تبعوا أئمتهم في التسمية وسموا هذا العلم بالفقه والفقيه للمتخصص به.
قال الكشي في معرفة الرجال: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر وأبي
عبد الله (ع). أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر وأبي
عبد الله (ع) وانقادوا لهم بالفقه، وقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة، ومعروف بن
خربوذ وبريد العجلي، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم
الطائفي.
قالوا: وافقه الستة زرارة،... 4.
وقال: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله (ع). أجمعت العصابة على
تصحيح ما يصح من هؤلاء وتصديقهم لما يقولون وأقروا لهم بالفقه من دون هؤلاء
الستة الذين عددناهم وكتبناهم ستة نفر: جميل بن دراج و عبد الله بن مسكان،
و عبد الله بن بكير، وحماد بن عيسى، وحماد بن عثمان، وأبان بن عثمان، قال:
وزعم أبو إسحاق الفقيه يعني ثعلبة بن ميمون ان أفقه هؤلاء، جميل بن دراج وهم

(1) راجع المحلى لابن حزم ج 11 / 251 - 257 المسألة 2213 المستأجرة للزنا.
2) تاريخ بغداد للخطيب ج 13 / 335.
3) خطط المقريزي 4 / 161.
4) رجال الكشي ص 238 في تسمية الفقهاء رقم 431.
295

احداث أصحاب أبي عبد الله 1.
وقال: تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم، وأبي الحسن الرضا: أجمع
الأصحاب على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم فأقروا لهم بالفقه والعلم وهم
ستة اخر... 2.
وألف الشيخ الصدوق المتوفى (381 ه‍) أول موسوعة فقهية بمدرسة أهل البيت
تعتمد الحديث وسماه " فقيه من لا يحضره الفقيه " والف تلميذه الشيخ المفيد
(ت: 413 ه‍) أصول الفقه وكان معروفا لدى الجميع ان فقهاء مدرسة أهل البيت
لا يسمون الفقه بالاجتهاد فقد قال الشيخ الطوسي في أول كتاب المبسوط: " اما بعد
فانى لا أزال اسمع معاشر مخالفينا... يقولون... ان من ينفى القياس والاجتهاد لا طريق
له إلى كثرة المسائل... "، ثم تسرب مصطلح الاجتهاد والمجتهد إلى كتب أصول الفقه
بمدرسة أهل البيت والى الإجازات التي يمنحها الشيوخ إلى تلامذتهم في رواية الحديث.
وذلك أن الإجازات كانت تمنح في بادئ الامر من الأستاذ المانح لتلميذه
برواية الحديث عن المعصومين 3.
ثم تطورت وكانت تمنح برواية كتب الحديث التي قرأها التلميذ على الشيخ
أو سمعها منه 4.
ثم شملت الإجازات الإجازة برواية الكتب التي قرأها التلميذ على شيخه
حديثا كان أو غير حديث 5 وبذلك أصبحت تلك الإجازات شهادات علمية تمنح
للخريجين 6.
ووجدنا في القرن الثامن بعض تلك الإجازات تصف العلماء بالمجتهدين، مثل
ما وصف ابن العلامة الحلي أباه في اجازته للشيخ محسن بن مظاهر المؤرخة (741 ه‍)
فقد جاء فيه " والدي شيخ الاسلام امام المجتهدين " 7.

(1) رجال الكشي ص 375 رقم 705.
2) رجال الكشي ص 556 رقم 1050، وخاتمة الوسائل ط. أمير بهادر 3 / 528، والأصول الأصيلة
للفيض 56 - 57.
3 - 6) راجع باب اتصال سلاسل اسناد المشايخ في مدرسة أهل البيت (ع) بهم، في الجزء الثالث من
هذا الكتاب.
7) البحار ج 107 / 215 - 216.
296

وما ورد في وصف ابن العلامة بإجازة الشيخ على النيلي لابن فهد والمؤرخ
(791 ه‍): " شيخنا المولى الامام العلامة خاتم المجتهدين " 1.
وأخيرا كان يصرح في بعض تلك الإجازات أحيانا شهادة ببلوغ الخريج درجة
الاجتهاد، كما كتب المجلسي محمد باقر بتاريخ (1085 ه‍) إجازة رواية مؤلفاته لسبطه
الخواتون آبادي، وصرح فيه ببلوغه درجة الاجتهاد 2.
وفي العصور الأخيرة اخذ فقهاء مدرسة أهل البيت يصدرون أحيانا شهادة
خاصة لتلاميذهم ببلوغ درجة الاجتهاد.
هكذا تسرب مصطلح الاجتهاد والمجتهدين إلى عرف اتباع مدرسة أهل البيت
ولم يكن في حقيقته أكثر من اشتراك بين المدرستين في الاسم ومع ذلك فان الاشتراك
في الاسم هذا أوهم بعض الأخباريين من اتباع مدرسة أهل البيت فشذوا في آراء
لا مجال لذكرها. وإذا كان بين المدرستين اشتراك في الاسم فإنهم يختلفون في المحتوى.
لان فقهاء مدرسة أهل البيت لا يعتمدون أي؟ من الأصول الفقهية التي ابتدعها
أتباع مدرسة الخلفاء والمبنية على أساس رأى المجتهدين بمدرستهم وإنما يعتمدون الكتاب
والسنة في استنباط الاحكام كما يتضح ذلك مما يأتي في الباب التالي إن شاء الله تعالى.

(1) البحار ج 107 / 222 - 225.
2) البحار ج 105 / 20.
297

معالم المدرستين - القسم الأول
البحث الثالث
الفصل الرابع
القرآن والسنة هما مصدرا التشريع لدى مدرسة أهل البيت
299

إذا أردنا ان نبحث عن مصدر الاحكام في مدرسة أئمة أهل البيت بعد القرآن
لابد لنا من الرجوع إلى مصادر الدراسة في مدرستهم خاصة كما فعلنا ذلك في استكشاف
اتجاه مدرسة الخلفاء في هذا الصدد ورجعنا إلى مصادر الدراسة في مدرستهم خاصة،
وهذا ما تقتضيه الأمانة العلمية في البحث، وإذا رجعنا إلى مصادر الدراسة بمدرسة أهل البيت
، وجدنا ان أئمة أهل البيت لم يعتمدوا في بيان الاحكام الاسلامية الرأي المسمى
بالاجتهاد في عرف مدرسة الخلفاء وإنما استندوا إلى ما توارثوه عن رسول الله (ص) من
حديث في كتب خاصة بهم كما يتضح ذلك في البحوث الآتية:
أئمة أهل البيت (ع) لا يعتمدون الرأي في بيان الاحكام
في الكافي: سأل رجل أبا عبد الله - الإمام جعفر الصادق - عن مسألة
فأجابه فيها فقال الرجل: أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟ فقال له: مه،
ما أجبتك فيه من شئ فهو عن رسول الله لسنا من (أرأيت) في شئ 1.
أحاديث أئمة أهل البيت مسندة إلى الله ورسوله
في بصائر الدرجات: مهما أجبتك فيه بشئ فهو عن رسول الله لسنا نقول برأينا

(1) الكافي 1 / 58 من أصول الكافي تأليف أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي (ت: 328 أو
29 ه‍) ط. طهران سنة 1375 ه‍، والوافي 1 / 59 تأليف محمد بن مرتضى المشهور بملا محسن الفيض الكاشاني
(ت: 1091 ه‍) ط. سنة 1324 ه‍.
301

من شئ 1.
قال المجلسي: لما كان مراده - أي السائل - اخبرني عن رأيك الذي تختاره
بالظن والاجتهاد نهاه (ع) عن هذا الظن وبين له أنهم لا يقولون شيئا إلا بالجزم
واليقين وبما وصل إليهم من سيد المرسلين (ص) 2.
وفي بصائر الدرجات، عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر الإمام محمد
الباقر (ع) أنه قال: لو انا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من كان قبلنا ولكنا حدثنا ببينة
من ربنا بينها لنبيه فبينها لنا 3.
وفيه أيضا عن الفضيل عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: بينة من ربنا بينها
لنبيه (ص) فبينها نبيه لنا فلولا ذلك كنا كهؤلاء الناس 4.
وفيه عن سماعة عن أبي الحسن (ع) قال قلت له: كل شئ تقول به في
كتاب الله وسنة " نبيه " أو تقولون فيه برأيكم قال: بل كل شئ نقوله في كتاب الله
وسنة نبيه 5.
توارث أئمة أهل البيت (ع) علومهم
في بصائر الدرجات عن داود بن أبي يزيد الأحول عن أبي عبد الله - الإمام الصادق
- قال: سمعته يقول: انا لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين
ولكنها آثار من رسول الله أصل علم نتوارثها كابر عن كابر نكنزها كما يكنز الناس
ذهبهم وفضتهم 6.

(1) بصائر الدرجات ص 301 تأليف محمد بن الحسن الصفار (ت: 290 ه‍) ط 1285 ه‍.
2) بشرح الحديث من مرآة العقول للمجلسي محمد باقر (ت: 1111 ه‍).
3) بصائر الدرجات ص 299 ح 2.
4) بصائر الدرجات ص 301 ح 9.
وأبو القاسم الفضيل بن يسار مولى بنى نهد من أصحاب الإمامين الباقر والصادق كوفي انتقل إلى البصرة
- قاموس الرجال 7 / 343.
5) بصائر الدرجات ص 301 ح 1، وفى نسختنا " نقول به في كتاب الله وسنته " ولكنه بين الخطأ
ويعرف الصواب من جواب الامام " وسنة نبيه " وأبو محمد سماعة بن مهران بياع القز حضرمي كوفي روى عن
الإمام الصادق وله كتاب، قاموس الرجال 5 / 3.
6) بصائر الدرجات ص 299.
وداود بن فرقد أبو يزيد الأسدي مولى أبي سمان الكوفي روى عن الامامين الصادق والكاظم قاموس
الرجال 4 / 56.
302

وفيه عن جابر بثلاثة أسانيد قال: قال أبو جعفر - الإمام الباقر -: يا جابر
والله لو كنا نحدث الناس أو حدثناهم برأينا لكنا من الهالكين ولكنا نحدثهم بآثار
عندنا من رسول الله (ص) يتوارثها كابر عن كابر نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم
وفضتهم 1.
وفيه عن محمد بن شريح بثلاثة أسانيد: قال: قال أبو عبد الله (ع): لولا أن
الله فرض طاعتنا وولايتنا وامر مودتنا ما أوقفناكم على أبوابنا ولا أدخلناكم بيوتنا، انا
والله ما نقول بأهوائنا ولا نقول برأينا ولا نقول الا ما قال ربنا، أصول عندنا نكنزها
كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم 2.
اسناد أحاديثهم إلى جدهم الرسول (ص)
في الأحاديث السابقة صرح الأئمة من أهل البيت بأنهم لا يرجعون إلى رأيهم
في ما يقولون بل يحدثون عن رسول الله وفي ما يلي اسناد أحاديثهم إلى جدهم الرسول:
عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله - الإمام الصادق - قال: إن الله علم
رسوله الحلال والحرام والتأويل وعلم رسول الله علمه كله عليا 3.
وروى مثله عن حمران بن أعين بأربعة أسانيد، وعن كل من أبي بصير وأبي
الأعز وحماد بن عثمان أيضا مثله 4.

(1) بصائر الدرجات ص 299 ح 1، وص 300 ح 4 و 6، وجابر الجعفي ابن يزيد بن الحرث روى
عن الامامين الباقر والصادق (ت: 128 ه‍).
2) بصائر الدرجات 300 - 301 ح 5 و 7 و 10.
ومحمد بن شريح أبو عبد الله الحضرمي روى عن الإمام الصادق قاموس الرجال 8 / 213.
3) بصائر الدرجات ص 290 " باب في أمير المؤمنين (ع) ان النبي علمه العلم "، والوسائل ط سنة
1323 - 1324 ه‍ ج 3 / 391 ح 19، ومستدرك الوسائل ط. سنة 1321 ه‍ ج 3 / 192 ح 28 عن تفسير
العياشي.
4) بصائر الدرجات ص 290 - 292 حديث مهران رقم 6 و 7 و 11، وحديث أبي بصير رقم 8
وحديث أبي الأعز رقم 10 وحديث حماد رقم 12.
وفي حديث حمران رقم 6 ان الرسول ناجاه في الطائف وأبو حمزة أو أبو الحسن حمران بن أعين الشيباني
مولاهم تابعي ثقة روى عن الامامين الباقر والصادق. قاموس الرجال 4 / 413.
وأبو بصير اثنان، أ - يحيى بن أبي القاسم مولى بني أسد المكفوف المكنى بابي محمد بن أصحاب الإمامين
الباقر والصادق ويقال له: أبو بصير (مطلقا بلا قيد). ب - أبو يحيى ليث بن البختري المرادي ويقال له أبو بصير
الأصغر روى عن الامامين الصادقين - راجع المكنيين بابي بصير لصاحب قاموس الرجال. وحماد بن عثمان
الفزاري روى عن الأئمة الصادق والكاظم والرضا. قاموس الرجال 3 / 397.
303

وعن يعقوب بن شعيب بسندين عن أبي عبد الله (ع) قال: إن الله تعالى علم
رسول الله القرآن وعلمه شيئا سوى ذلك فما علم الله رسوله فقد علم رسوله عليا 1.
وعن محمد الحلبي عن أبي عبد الله قال: كان علي يعلم كل ما يعلم رسول الله
ولم يعلم الله رسوله شيئا الا وقد علمه رسول الله أمير المؤمنين 2.
وعن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (ع) قال كنت إذا سألت رسول الله (ص)
أجابني وان فنيت مسائلي ابتدأني فما نزلت عليه آية في ليل ولا نهار ولا سماء ولا ارض
ولا دنيا ولا آخرة ولا جنة ولا نار ولا سهل ولا جبل ولا ضياء ولا ظلمة الا أقرأنيها
واملاها على وكتبتها بيدي وعلمني تأويلها وتفسيرها ومحكمها ومتشابهها وخاصها
وعامها وكيف نزلت وأين نزلت وفيمن أنزلت إلى يوم القيمة دعا الله لي ان يعطيني
فهما وحفظا فما نسيت آية من كتاب الله ولا على من أنزلت الا أملاه علي 3.
يؤيد الحديث الماضي الأحاديث الثلاثة: بطبقات ابن سعد من مصادر مدرسة
الخلفاء:
أ - عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، قال: قيل لعلي: مالك أكثر
أصحاب رسول الله (ص) حديثا؟ فقال: اني كنت إذا سألته أنبأني، وإذ سكت
ابتدأني.
ب - عن سليمان الأحمسي عن أبيه، قال: قال علي: والله ما نزلت آية الا
وقد علمت في ما نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت، ان ربى وهب لي قلبا عقولا
ولسانا طلقا.
ج - عن أبي الطفيل، قال: قال على: سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية

1) بصائر الدرجات ص 290 - 291 ح 3 و 9. وأبو محمد يعقوب بن شعيب بن ميثم مولى بني أسد
روى عن الامامين الباقر والصادق قاموس. الرجال 9 / 363.
2) بصائر الدرجات ص 292 ح 13، ومحمد الحلبي أبو جعفر بن علي بن أبي شعبة روى عن الإمام الصادق
وتوفي في عصره. قاموس الرجال 8 / 276.
3) بصائر الدرجات ص 198 ح 3. وسليم بن قيس أبو صادق الهلالي العامري من أصحاب
أمير المؤمنين وأدرك الأئمة حتى السجاد، له كتاب. قاموس الرجال 4 / 445.
304

إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار في سهل نزلت أم في جبل 1.
وفي بصائر الدرجات: عن زيد بن علي قال قال أمير المؤمنين (ع) ما دخل
رأسي نوم ولا عهد إلي رسول الله (ص) حتى علمت من رسول الله (ص) ما نزل به
؟ ليل في ذلك اليوم من حلال أو حرام أو سنة أو أمر أو نهي فيما نزل فيه وفيمن نزل
خرجنا فلقيتنا المعتزلة فذكرنا ذلك لهم فقال إن هذا الامر عظيم كيف يكون هذا وقد
كان أحدهما يغيب عن صاحبه فكيف يعلم هذا قال فرجعنا إلى زيد فأخبرناه بردهم
علينا فقال يتحفظ على رسول الله (ص) عدد الأيام التي غاب بها فإذا التقيا قال له
رسول الله (ص) يا علي نزل علي في يوم كذا، كذا وكذا وفي يوم كذا، كذا حتى
يعدهما عليه إلى آخر اليوم الذي وافى فيه، فأخبرناهم بذلك 2.
تؤيد رواية زيد الماضية ثلاث روايات في سنن النسائي وابن ماجة ومسند أحمد
من مصادر الدراسات بمدرسة الخلفاء واللفظ للنسائي:
أ - عن عبد الله بن نجي قال، قال على: كانت لي منزلة من رسول الله (ص)
لم تكن لاحد من الخلائق، فكنت آتيه كل سحر، فأقول: السلام عليك يا نبي الله،
فان تنحنح انصرفت إلى أهلي وإلا دخلت عليه.
ب - قال علي: كان لي من رسول الله (ص) ساعة آتيه فإذا أتيته فيها
استأذنت، ان وجدته يصلى تنحنح وان وجدته فارغا اذن لي.
ج - قال علي: كان لي من رسول الله مدخلان مدخل بالليل ومدخل بالنهار،
فكنت إذا دخلت بالليل تنحنح لي 3.
استعرضنا آنفا بعض ما ورد عن اخذ الإمام علي من رسول الله وفي ما يلي

(1) طبقات ابن سعد بترجمة الامام على 2 / 2 / 101 ط. اروبا والحديث الأول أورده أحمد بن حنبل في
كتابه فضائل علي بن أبي طالب المخطوط.
2) بصائر الدرجات ص 197 ح 4. وزيد بن علي بن الحسين خرج على عهد هشام يدعو للرضا من
آل محمد وقتل في الكوفة لليلتين خلتا من صفر سنة 120 ه‍. قاموس الرجال 4 / 259.
3) الروايات الثلاث في سنن النسائي 1 / 178 باب التنحنح في الصلاة وفي لفظه في الحديث الثاني
" تنحنح دخلت " و " دخلت " زائدة.
الرواية الثالثة في سنن ابن ماجة ح 3708 من باب الاستئذان بكتاب الأدب.
والرواية الأولى بمسند احمد 1 / 85 ح 647 والثانية في ج 1 / 107 منه رقم الحديث 845 ولفظه كنت
آتي رسول الله (ص) كل غداة فإذا تنحنح دخلت فإذا سكت لم ادخل.
والثالثة في ج 1 / 80 منه رقم الحديث 608، وحذف البخاري صدر الحديث وأورد آخره بترجمة نجي
من تاريخه 4 / 2 / 121.
305

أحاديث تبين كيفية اخذ أئمة أهل البيت من أبيهم الإمام علي (ع) وان ذلك كان بأمر
من رسول الله (ص).
أمر النبي (ص) عليا (ع) بان يكتب لشركائه الأئمة (ع)
في أمالي الشيخ الطوسي وبصائر الدرجات وينابيع المودة واللفظ للأول عن
أحمد بن محمد بن علي الباقر عن آبائه (ع) قال: قال رسول الله (ص) لعلي " اكتب ما
املي عليك " قال: يا نبي الله! أتخاف علي النسيان؟ قال " لست أخاف عليك النسيان
وقد دعوت الله لك أن يحفظك ولا ينسيك، ولكن اكتب لشركائك " قال: قلت: ومن
شركائي يا نبي الله؟ قال: " الأئمة من ولدك بهم تسقى أمتي الغيث، وبهم يستجاب
دعاؤهم، وبهم يصرف الله عنهم البلاء، وبهم تنزل الرحمة من السماء، " وأومى إلى
الحسن وقال: " هذا أولهم " وأومى إلى الحسين (ع) وقال: " الأئمة من ولده " 1.
والى هذا أشار الإمام علي في حديثه بمسكن كما رواه أبو أراكة قال: كنا مع علي
(ع) بمسكن فحدثنا ان عليا ورث من رسول الله السيف وبعض يقول: البغلة،
وبعض يقول: ورث صحيفة في حمائل السيف إذ خرج علي (ع) ونحن في حديثه،
فقال: أيم الله لو أنشط ويؤذن لي لحدثتكم حتى يحول الحول لا أعيد حرفا وأيم الله
عندي لصحف كثيرة قطايع رسول الله وأهل بيته وان فيها لصحيفة يقال لها العبيطة،
وما ورد على العرب أشد منها وان فيها لستين قبيلة مبهرجة ما لها في دين الله من
نصيب 2.

1) الأمالي للشيخ أبى جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت: 460 ه‍) ط. مطبعة النعمان، النجف سنة
1384 ه‍ ج 2 / 56.
وبصائر الدرجات ص 167 عن أبي الطفيل عن أبي جعفر وينابيع المودة للشيخ سليمان الحنفي
(ت: 1294 ه‍) ص 20.
ورجعنا إلى النسخة المطبوعة بدار الخلافة العثمانية سنة 1302 ه‍.
2) بصائر الدرجات ص 149 وقريب منه في ص 159 ح 15 وأبو أراكة كان من سكان الكوفة على
عهد الامام حتى عصر زياد ابن أبيه كما يعلم ذلك من ترجمته بقاموس الرجال ج 10 / 7.
306

مسكن موضع على نهر دجيل في العراق، وقصد الامام من (قطايع رسول الله
وأهل بيته) مختصاتهم، ومبهرجة: باطلة ورديئة.
ثم توارث الأئمة من ولد الامام على تلك الصحف كابرا عن كابر كما صرحت
؟ لك الروايات التالية:
في بصائر الدرجات عن جابر بن يزيد، قال: قال أبو جعفر الباقر: ان عندي
لصحيفة فيها تسعة عشر صحيفة قد حباها رسول الله 1.
وعن الفضيل بن يسار، قال: قال أبو جعفر (ع): يا فضيل عندنا كتاب علي
سبعون ذراعا ما على الأرض شئ يحتاج إليه الا وهو فيه حتى أرش الخدش 2 ثم خطه
بيده على ابهامه 3.
وعن حمران بن أعين عن أبي جعفر (ع) قال: أشر إلى بيت كبير وقال: يا
حمران ان في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعا بخط على واملاء رسول الله ولو
ولينا الناس لحكمنا بما انزل الله لم نعد ما في هذه الصحيفة 4.
وعن محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر: ان عندنا صحيفة من كتب علي طولها
سبعون ذراعا فنحن نتبع ما فيها لا نعدوها وسألته عن ميراث العلم ما بلغ! أجوامع هو
من العلم أم فيه تفسير كل شئ من هذه الأمور التي تتكلم فيه الناس مثل الطلاق
والفرائض؟ فقال: ان عليا كتب العلم كله القضاء والفرايض فلو ظهر أمرنا لم يكن
شئ الا فيه، نمضيها 5.
وفي رواية أخرى: فلو ظهر أمرنا فلم يكن شئ الا وفيه سنة نمضيها 6.
وفيه عن محمد بن مسلم عن أحدهما اي الإمام الباقر أو الإمام الصادق، قال:

(1) بصائر الدرجات ص 144.
2) دية الجراحات.
3) بصائر الدرجات ص 147 أرى في الحديث تقديما وتأخيرا والصواب " ثم خط بابهامه على يده ".
4) بصائر الدرجات ص 143.
5) بصائر الدرجات ص 143. أبو جعفر الأوقص محمد بن مسلم بن رباح الطحان الثقفي مولاهم روى
عن الباقر (ع)، له كتاب: " الأربعمائة مسألة في أبواب الحلال والحرام " (ت: 150 ه‍)، قاموس الرجال
8 / 378.
6) بصائر الدرجات ص 164.
307

ان عندنا صحيفة من كتاب علي أو مصحف علي (ع) طولها سبعون ذراعا فنحن نتبع ما
فيها فلا نعدوها 1.
وعن عبد الله بن ميمون عن جعفر عن أبيه قال: في كتاب علي (ع) كل
شئ يحتاج إليه حتى الخدش والأرش والهرش 2.
الهرش بسكون الراء الاشتداد وبكسرها سوء الخلق.
وفيه عن مروان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول عندنا كتاب علي (ع)
سبعون ذراعا 3.
وفي رواية قال: ما ترك علي شيئا الا كتبه حتى أرش الخدش 4.
وعن أبي عبد الله قال: والله ان عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعا فيها جميع ما
يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش املاه رسول الله (ص) وكتبه على بيده 5.
وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله، قال: سمعته يقول: إن عندنا جلدا
سبعون ذراعا املى رسول الله وخطه على بيده وان فيه جميع ما يحتاجون إليه حتى أرش
الخدش 6.
وعن منصور بن حازم قال سمعت أبا عبد الله يقول: عندنا صحيفة فيها ما
يحتاج إليه حتى أن فيها أرش الخدش 7.
وعن عثمان بن زياد قال: دخلت على أبى عبد الله (ع) فقال لي: اجلس
فجلست فضرب يده بإصبعه على ظهر كفي فمسحها عليه ثم قال: عندنا أرش هذا فما

(1) بصائر الدرجات ص 146.
2) بصائر الدرجات ص 164 و 148.
و عبد الله بن سنان بن طريف مولى بني هاشم كان خازنا للمنصور والمهدي والهادي والرشيد كوفي ثقة
روى عن الإمام الصادق وقيل عن الإمام الكاظم. له عدة كتب. قاموس الرجال 5 / 475.
3) بصائر الدرجات ص 147.
4) بصائر الدرجات ص 148.
5) بصائر الدرجات ص 145.
6) بصائر الدرجات ص 147 وفى ص 143 اخصر لفظا و عبد الله بن ميمون القداح مولى مخزوم مكي
روى عن الإمام الصادق، عده ابن النديم من فقهاء الشيعة قاموس الرجال 6 / 158.
7) بصائر الدرجات ص 154 وفي 146 زيادة في اخر الحديث ومنصور بن حازم الكوفي أسدي أو مولى
بجيلة روى عن الإمام الصادق. قاموس الرجال 9 / 127.
308

دونه 1.
وعن منصور بن حازم و عبد الله بن أبي يعفور قال أبو عبد الله: ان عندي
صحيفة طولها سبعون ذراعا فيها ما يحتاج إليه حتى أن فيها أرش الخدش 2.
وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (ع) قال: سمعته يقول: إن في
البيت صحيفة طولها سبعون ذراعا ما خلق الله من حلال ولا حرام الا وفيها حتى أرش
الخدش 3.
وعن محمد بن عبد الملك قال: كنا عند أبي عبد الله (ع) نحوا من ستين رجلا،
قال فسمعته يقول: عندنا والله صحيفة طولها سبعون ذراعا ما خلق الله من حلال أو
حرام الا وهو فيها حتى أن فيها أرش الخدش 4.
وعن سليمان بن خالد: قال: سمعت أبا عبد الله يقول. ان عندنا لصحيفة
سبعين ذراعا املاء رسول الله (ص) وخط علي (ع) بيده ما من حلال ولا حرام الا وهو
فيها حتى أرش الخدش 5.
وعن حماد قال: سمعت أبا عبد الله يقول: ما خلق الله حلالا ولا حراما الا
وله حد كحد الدار وان حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة
وان عندنا صحيفة طولها سبعون ذراعا وما خلق الله حلالا ولا حراما الا فيها، فما كان
من الطريق فمن الطريق وما كان من الدور فمن الدور حتى أرش الخدش والجلدة
ونصف الجلدة 6.
وعن عبد الله بن أيوب عن أبيه قال سمعت أبا عبد الله يقول: ما ترك علي

(1) بصائر الدرجات ص 159 وفى ص 148 مع اختلاف يسير في اللفظ.
2) بصائر الدرجات ص 144.
3) بصائر الدرجات ص 145.
عبد الرحمن بن أبي عبد الله ميمون بصري من أهل الكوفة ممن روى عن الصادق. قاموس الرجال
5 / 275.
4) بصائر الدرجات ص 144. ومحمد بن عبد الملك لعله أحد اثنين: أنصاري كوفي نزل بغداد - أو
أبو جعفر الواسطي الدقيقي قاموس الرجال 8 / 257.
5) بصائر الدرجات ص 144. وأبو الربيع سليمان بن خالد الكوفي الهلالي مولاهم ممن روى عن
الإمام الباقر والصادق وتوفي في حياة الصادق. قاموس الرجال؟ 4 / 463.
6) بصائر الدرجات ص 148 وفي أصول الكافي 1 / 59، والوافي 1 / 61 وليس فيهما من " وان
حلال " إلى ولا حراما الا فيها.
309

شيعته وهم يحتاجون إلى أحد في الحلال والحرام حتى انا وجدنا في كتابه أرش الخدش
قال: ثم قال: اما انك ان رأيت كتابه لعلمت انه من كتب الأولين 1.
وعن محمد بن حكيم عن أبي الحسن (ع) قال: إنما هلك من كان قبلكم
بالقياس وان الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه حتى اكمله جميع دينه في حلاله وحرامه
فجاءكم بما تحتاجون إليه في حياته وتستغيثون بن وباهل بيته بعد موته وانها صحيفة
عند أهل بيته حتى أن فيه أرش الخدش ثم قال: إن أبا حنيفة ممن يقول: قال علي (ع)
وقلت أنا 2.
وفي بصائر الدرجات والكافي واللفظ للأول: عن بكر بن كرب الصيرفي
قال: سمعت أبا عبد الله يقول: ما لهم ولكم وما يريدون وما يعيبونكم يقولون:
الرافضة، نعم والله رفضتم الكذب واتبعتم الحق اما والله ان عندنا مالا نحتاج إلى أحد
والناس يحتاجون إلينا ان عندنا الكتاب باملاء رسول الله (ص) وخطه علي بيده
صحيفة طولها سبعون ذراعا فيها كل حلال وحرام 3.
اسم كتاب علي (ع) في الاحكام
وقد سمى الأئمة من أهل البيت اسم كتاب علي الذي املا عليه رسول الله فيه
الاحكام: الجامعة كما ورد في الروايات التالية:
في الكافي وبصائر الدرجات واللفظ للأول، عن أبي بصير، قال: دخلت على
أبي عبد الله فقلت له: جعلت فداك اني أسألك عن مسألة هاهنا أحد يسمع كلامي؟
قال: فرفع أبو عبد الله (ع) سترا بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه ثم قال: يا أبا محمد سل
عما بدا لك. قال: قلت جعلت فداك ان شيعتك يتحدثون ان رسول الله علم عليا (ع)
بابا يفتح منه الف باب - إلى قوله -: قال: يا أبا محمد! ان عندنا الجامعة، وما
يدريهم ما الجامعة، قال: قلت جعلت فداك وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون

(1) بصائر الدرجات 166. و عبد الله بن أيوب روى عن الإمام الصادق قاموس الرجال 5 / 391.
2) بصائر الدرجات ص 150، وفى ص 146 مع زيادة يسيرة ومحمد بن حكيم ممن روى عن الإمام الكاظم
(ع) قاموس الرجال 8 / 151.
3) بصائر الدرجات ص 149 ح 14، وص 154 ح 7، وفى ص 142 ح 1 باختلاف في اللفظ،
وأصول الكافي ج 1 / 241 ح 60، والوافي 2 / 135. وبكر بن كرب الصيرفي كوفي روى عن الامامين
الصادقين. قاموس الرجال 2 / 225.
310

ذراعا بذراع رسول الله واملاه من فلق فيه وخط علي بيمينه فيها كل حلال وحرام
وكل شئ يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش وضرب بيده إلي، فقال: تأذن
لي يا أبا محمد! قال: قلت: جعلت فداك إنما انالك فاصنع ما شئت، قال: فغمزني بيده
وقال: حتى أرش هذه كأنه مغضب - قال: قلت: هذا والله العلم... الحديث 1.
وعن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إن عندنا لصحيفة يقال
لها الجامعة ما من حلال وما حرام الا وهو فيها حتى أرش الخدش 2.
وفي رواية: ان عندنا لصحيفة سبعين ذراعا املاء رسول الله وخط علي بيده ما
من حلال ولا حرام الا وهو فيها حتى أرش الخدش 3.
وعن علي بن رئاب عن أبي عبد الله انه سئل عن الجامعة، فقال تلك صحيفة
سبعون ذراعا في عريض الأديم مثل فخذ الفالج، فيها كل ما يحتاج الناس إليه وليس
قضية الا وهي فيها حتى أرش الخدش 4.
وفي بصائر الدرجات. أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله - الإمام الصادق -
قال: سمعته يقول وذكر ابن شبرمة في فتياه فقال: أين هو من الجامعة، املى رسول
الله (ص) وخطه علي بيده فيها جميع الحلال والحرام حتى أرش الخدش فيه 5.
وفي الكافي وبصائر الدرجات، عن أبي شيبة قال: سمعت أبا عبد الله (ع)
يقول: ضل علم ابن شبرمة عند الجامعة املاء رسول الله وخط علي (ع) بيده ان
الجامعة لم تدع لاحد كلاما، فيها علم الحلال والحرام ان أصحاب القياس طلبوا العلم
بالقياس فلم يزدادوا الا بعدا ان دين الله لا يصاب بالقياس! 6.
هكذا كان أئمة أهل البيت يتبرؤن عن القول بالرأي ويستندون في أقوالهم إلى

(1) أصول الكافي ج 1 / 239 ح 1، وبصائر الدرجات ص 151 - 152، والوافي 2 / 135 والحديث
طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
2) بصائر الدرجات ص 142 - 143.
3) بصائر الدرجات ص 143.
4) بصائر الدرجات ص 142 وفى 149 إلى: في عرض الأديم.
علي بن رياب الطحان الكوفي روى عن الإمام الصادق. قاموس الرجال 6 / 489.
5) بصائر الدرجات ص 146 و 145 و 148.
6) أصول الكافي 1 / 57، ح 14 وبصائر الدرجات ص 146 و 149 - 150 والوافي 1 / 58. أبو شيبة
الأسدي روى عن الإمام الصادق. قاموس الرجال 10 / 99.
311

ما رووه عن رسول الله عن جبريل عن الباري عز اسمه.
اما ابن شبرمة هذا فهو عبد الله بن شبرمة الضبي الشاعر الكوفي كان قاضيا
لأبي جعفر المنصور على سواد الكوفة (ت: 144 ه‍) 1.
كتاب الجفر ومصحف فاطمة
يظهر من بعض الأحاديث انه كان لدى الأئمة كتابان من أبيهم الامام على
اسم أحدهما الجامعة فيه احكام الحلال والحرام، وآخر يسمونه بالجفر فيه أنباء الحوادث
الكائنة.
وكتاب ثالث من أمهم فاطمة بنت رسول الله (ص) يسمونه مصحف فاطمة،
فيه أنباء من الحوادث الكائنة والكتب الثلاثة كانت بخط الإمام علي وفي ما يلي بيان
عنها من أحاديث وردت عن أئمة أهل البيت.
في بصائر الدرجات: عن أبي مريم قال قال لي أبو جعفر (ع) عندنا الجامعة وهي
سبعون ذراعا فيها كل شئ حتى ارشد الخدش املاء رسول الله (ص) وخط علي (ع)
وعندنا الجفر وهو أديم عكاظي قد كتب فيه حتى ملئت اكارعه، فيه ما كان وما هو
كائن إلى يوم القيمة 2 الكراع من كل شئ: طرفه.
وفي بصائر الدرجات: بأكثر من سند عن الإمام الصادق قال: قال أبو
عبد الله (ع) لأقوام كانوا يأتونه ويسألونه عما خلف رسول الله (ص) إلى علي (ع)
وعما خلف علي إلى الحسن: لقد خلف رسول الله (ص) عندنا ما فيها كل ما يحتاج
إليه حتى أرش الخدش والظفر وخلفت فاطمة مصحفا ما هو قرآن... الحديث 3.
وفيه عن أبان بن عثمان عن علي بن الحسين - الإمام زين العابدين - عن
أبي عبد الله - الحسين بن علي - قال: إن عبد الله بن الحسين يزعم أنه ليس عنده من
العلم الا ما عند الناس، فقال: صدق والله عبد الله بن الحسن ما عنده من العلم الا ما
عند الناس ولكن عندنا والله الجامعة فيها الحلال والحرام وعندنا الجفر، أيدري

(1) الكنى والألقاب 1 / 313.
2) بصائر الدرجات ص 160.
أبو مريم مولى الإمام الصادق ويروى عنه. قاموس الرجال 10 / 185.
3) بصائر الدرجات ص 156 وأوردت موضع الحاجة من الحديث.
312

عبد الله بن الحسن ما الجفر مسك معزام مسك شاة وعندنا مصحف فاطمة أما والله ما
فيه حرف من القرآن ولكنه املاء رسول الله وخط علي كيف يصنع عبد الله إذا جاء
الناس من كل أفق يسألونه 1.
وفيه أيضا عن أبان بن عثمان عن علي بن أبي حمزة نظيره وفي آخره: أما
ترضون ان تكونوا يوم القيامة آخذين بحجزتنا ونحن آخذون بحجزة نبينا ونبينا آخذ
بحجزة ربه 2.
سلاح رسول الله وكتبه
في بصائر الدرجات، عن علي بن سعيد ان أبا عبد الله الصادق قال في حديثه:
" ان عندنا سلاح رسول الله وسيفه ودرعه وعندنا والله مصحف فاطمة ما فيه آية من
كتاب الله وانه لاملاء رسول الله وخطه علي بيده وعندنا والله الجفر وما يدرون ما هو
أمسك شاة أو مسك بعير ثم اقبل إلينا وقال: أبشروا أما ترضون أنكم تجيئون يوم القيامة
آخذين بحجزة علي (ع) وعلي آخذ بحجزة رسول الله (ص) 3.
وفيه عن محمد بن عبد الملك قال كنا عند أبي عبد الله (ع) نحوا من ستين رجلا
وهو وسطنا فجاء عبد الخالق بن عبد ربه فقال له: كنت مع إبراهيم بن محمد جالسا
فذكروا انك تقول ان عندنا كتاب علي (ع) فقال: لا والله ما ترك علي كتابا وإن كان
ترك على كتابا ما هو الا اهاب ولوددت انه عند غلامي هذا فما أبالي عليه قال:
فجلس أبو عبد الله (ع) ثم اقبل علينا فقال: ما هو والله كما يقولون انهما جفران مكتوب
فيهما، لا والله انهما لاهابان عليهما أصوافهما واشعارهما مدحوسين كتبا في أحدهما وفى

(1) بصائر الدرجات ص 157 - 158. و عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أمه
فاطمة بنت الحسين سجنه وبنى أبيه المنصور بالمدينة عام 142 ه‍ وحملهم عام 144 ه‍ إلى مدينة الهاشمية وقتلهم
في الحبس بضروب من القتل، منهم من دفنه حيا وطرح على عبد الله بيتا.
ولد محمدا الملقب بصاحب النفس الزكية وخرج هذا على أبي جعفر وقتل بالمدينة سنة 145 ه‍.
وولد إبراهيم الذي خرج في البصرة بعد أخيه محمد وقتل في نفس السنة - حوادث سنة 142 - 145
من تاريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير.
2) بصائر الدرجات ص 161 و 51 وأخذ بحجزته اعتصم به والتجأ إليه مستجيرا وعلي بن سعيد
البصري روى عن الإمام الصادق. قاموس الرجال 7 / 2.
3) بصائر الدرجات ص 153.
313

الاخر سلاح رسول الله (ص) وعندنا والله صحيفة طولها سبعون ذراعا ما خلق الله من
حلال وحرام الا وهو فيها حتى أن فيها أرش الخدش وقام بظفره على ذراعه فخط به -
وعندنا مصحف اما والله ما هو بالقرآن 1.
وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله قال: ذكر له وقيعة ولد الحسن وذكرنا
الجفر فقال: والله ان عندنا لجلدي ماعز وضأن املاها رسول الله وخطه علي وان
عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعا املاها رسول الله وخطها علي بيده وان فيها لجميع ما
يحتاج إليه حتى أرش الخدش 2.
وفي رواية أبي القاسم الكوفي، قال: ذكر ولد - الامام - الحسن الجفر فقالوا
ما هذا بشئ فذكر بشر ذلك لأبي عبد الله (ع) فقال: نعم هما اهابان اهاب ماعز
واهاب ضأن مملوءان علما... الحديث 3.
وفي حديث عبد الله بن سنان: خط علي واملاء رسول الله (ص) من فلق
فيه 4.
وعن سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله (ع): ان في الجفر الذي يذكرونه
لما يسؤوهم لأنهم لا يقولون الحق والحق فيه فليخرجوا قضايا علي وفرايضه ان كانوا
صادقين وسلوهم عن الخالات والعمات وليخرجوا مصحف فاطمة فان فيه وصية
فاطمة ومعه سلاح رسول الله... الحديث 5.
وعن معلى بن خنيس عن أبي عبد الله أنه قال في بني عمه: لو أنكم سألوكم
واجبتموهم كان أحب إلي أن تقولوا لهم: انا لسنا كما يبلغكم ولكنا قوم نطلب هذا
العلم عند من هو ومن صاحبه فان يكن عندكم فانا نتبعكم إلى من يدعونا إليه وان
يكن عند غيركم فانا نطلبه حتى نعلم من صاحبه وقال: ان الكتب كانت عند علي
بن أبي طالب (ع) فلما سار إلى العراق استودع الكتب أم سلمة فلما قتل كانت عند
الحسن فلما هلك الحسن كانت عند الحسين ثم كانت عند أبي... الحديث 6.

(1) بصائر الدرجات ص 151.
2) بصائر الدرجات ص 145 و 159.
3) بصائر الدرجات ص 155.
4) بصائر الدرجات ص 155. 5) بصائر الدرجات ص 157 وفي 158 منه بإيجاز.
6) بصائر الدرجات ص 167 وفي 158 بإيجاز. معلى بن خنيس المدني مولى الإمام الصادق ويروي
عنه. قاموس الرجال 9 / 56.
314

وفيه عن علي بن سعد أو سعيد قال كنت قاعدا عند أبي عبد الله (ع) وعنده
أناس من أصحابنا فقال له معلى بن خنيس: جعلت فداك، ماذا لقيت من الحسن بن
الحسن ثم قال له الطيار: جعلت فداك بينا أمشي في بعض السكك إذ لقيت محمد بن
عبد الله بن الحسن على حمار له حوله بعض الزيدية.
ثم ذكر ما دار بينهما فقال الامام في جوابه في الجفر: فإنما هو جلد ثور مدبوغ
كالجراب فيه كتب وعلم ما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة من حلال وحرام املاء
رسول الله وخطه علي (ع) بيده وفيه مصحف فاطمة ما فيه آية من القرآن وان عندي
خاتم رسول الله (ص) ودرعه وسيفه ولواؤه وعندي الجفر على رغم أنف من رغم 1.
وعن عنبسة بن مصعب قال كنا عند أبي عبد الله... وفي اخر الحديث قول الإمام
عن الجفرين، ينطق أحدهما بصاحبه فيه سلاح رسول الله والكتب ومصحف
فاطمة اما والله ما ازعم انه قرآن 2.
ويظهر من بعض الأحاديث ان في مصحف فاطمة بالإضافة إلى ما ورد في
ما سبق أحاديث من ملك كان يحدثها بعد وفاة الرسول ليسليها كما في رواية حماد بن
زيد في الكافي عن الإمام الصادق: ان الله تعالى لما قبض نبيه (ص) دخل على
فاطمة (ع) من وفاته من الحزن مالا يعلمه الا الله عز وجل فأرسل الله إليها ملكا يسلي
غمها ويحدثها - إلى قوله - فأعلمته بذلك اي أعلمت الامام عليا فجعل يكتب كلما
سمع حتى أثبت من ذلك مصحفا قال: ثم قال: اما انه ليس فيه شئ من الحلال
والحرام ولكن فيه علم ما يكون 3.
وعن أبي عبيدة قال سأل أبا عبد الله بعض أصحابنا عن الجفر فقال: هو جلد
ثور مملوء علما قال له: فالجامعة؟ قال تلك صحيفة طولها سبعون ذراعا في عرض الأديم
مثل فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج الناس إليه وليس من قضية الا وهي فيها حتى
أرش الخدش.

(1) بصائر الدرجات ص 156 و 160.
2) بصائر الدرجات 154 وكان في بقية الحديث خروج عن موضوع البحث وبحاجة إلى شرح وبيان
لا يسع المقام ايرادهما ونوصي الباحثين بمطالعته لأهميته وفي ص 161 منه عنه مختصرا. عنبسة بن مصعب العجلي
الكوفي روى عن الإمام الباقر والصادق. قاموس الرجال 7 / 242.
3) أصول الكافي 1 / 240 ح 2 وحماد بن زيد بن عقيل الحارثي الكوفي روى عن الإمام الصادق (ع).
قاموس الرجال 3 / 394.
315

قال فمصحف فاطمة (ع)؟ قال: فسكت طويلا ثم قال: انكم لتبحثون عما
تريدون وعما لا تريدون ان فاطمة مكثت بعد رسول الله (ص) خمسة وسبعين يوما
- إلى قوله -.
فيحسن عزاءها على أبيها ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه ويخبرها
ما يكون بعدها في ذريتها وكان علي يكتب ذلك... الحديث 1.
تواترت الاخبار بأن أئمة أهل البيت ورثوا كتاب الإمام علي (الجامعة) في الاحكام،
والجفر، ومصحف فاطمة، وفيها أنباء الحوادث الكائنة، ويظهر من بعض الأحاديث
السابقة والآتية ان هذه الكتب كانت في وعاء من جلد ثور يسمونه بالجفر الأبيض،
وما ورثوه من سلاح رسول الله (ص) كان في وعاء من جلد ثور يسمونه بالجفر الأحمر:
وعاءان فيهما مواريث الإمامة
في الكافي وبصائر الدرجات: عن الحسين بن أبي العلاء، قال: سمعت
أبا عبد الله (ع) يقول: عندي الجفر الأبيض، قال: قلت فأي شئ فيه؟ قال: زبور
داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم (ع) والحلال والحرام،
ومصحف فاطمة ما ازعم ان فيه قرآنا، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد
حتى فيه الجلدة، ونصف الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش، وعندي الجفر الأحمر،
قال: قلت: وأي شئ في الجفر الأحمر؟ قال: السلاح... الحديث 2.
ويقصد الامام من " وفيه ما يحتاج الناس إلينا... " ان في الجفر كتاب علي،
وفي كتاب علي ما يحتاج الناس إليه.
وعن أبي حمزة عن أبي عبد الله قال مصحف فاطمة ما فيه شئ من كتاب الله
وإنما هو شئ القي عليها بعد موت أبيها (ص) 3.

(1) أصول الكافي 1 / 241 ح 5، وبصائر ص 153، والوافي 2 / 135، والفالج: الجمل العظيم
ذو السنامين.
2) أصول الكافي 1 / 240 ح 3، وبصائر الدرجات 150 - 151، والاشارد للمفيد ص 257 مع اختلاف في
اللفظ. الحسين بن أبي العلاء أبو علي الخفاف الأعور يروي عن الإمام الصادق له كتاب. قاموس الرجال 3 / 262.
3) بصائر الدرجات 159.
316

وفي رواية: عندي مصحف فاطمة ليس فيه شئ من القرآن 1.
وإنما يؤكد الامام في حديث بعد حديث انه ليس في مصحف فاطمة قرآن لئلا
يلتبس على الناس لفظ المصحف كما التبس على بعضهم في عصرنا.
وفي بصائر الدرجات: عن علي بن سعيد قال: كنت قاعدا عند أبي عبد الله
- الإمام الصادق - (ع) وعنده أناس من أصحابنا فقال له معلى بن خنيس جعلت
فداك ما لقيت من الحسن بن الحسن ثم قال له الطيار جعلت فداك بينا أمشي في بعض
السكك إذ لقيت محمد بن عبد الله بن الحسن على حمار حوله: أناس من الزيدية - إلى أن
قال أبو عبد الله -.
واما قوله في الجفر فإنما هو جلد ثور مدبوغ كالجراب فيه كتب وعلم ما يحتاج
إليه الناس إلى يوم القيامة من حلال وحرام املاء رسول الله وخطه علي (ع) بيده
وفيه مصحف فاطمة ما فيه آية من القرآن وان عندي خاتم رسول الله ودرعه وسيفه
ولواءه وعندي الجفر على رغم أنف من رغم 2.
روى هذا الحديث بسندين أوردنا أتمهما 3.
ما أوردناه في هذا الباب من شرح مصادر العلوم بمدرسة أهل البيت لم يكن من
باب حصر مصادر علوم أئمة أهل البيت بها بل مصداقا لقاعدة اثبات الشئ لا ينفي ما
عداه وقد ورد عن الإمام موسى بن جعفر أنه قال: مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماض
وغابر وحادث، فاما الماضي فمفسر، واما الغابر فمزبور، واما الحادث فقذف في
القلوب، ونقر في الاسماع، وهو أفضل علمنا ولا نبي بعد نبينا 4.
شرح الحديث:
ملخص ما ذكره المجلسي (ره) بمرآة العقول: " مبلغ علمنا " اي غايته وكماله
أو محل بلوغه ومنشؤه. " ماض " ما تعلق بالأمور الماضية. " غابر " ما تعلق بالأمور

(1) بصائر 154. وأبو حمزة الثمالي ثابت بن أبي صفية دينار له كتاب روى عن الأئمة علي بن الحسين
والباقر والصادق له كتاب. قاموس الرجال 2 / 270 و 10 / 53.
2) بصائر الدرجات 156.
3) بصائر الدرجات ص 160 و 161 وفيها الرواية الموجزة.
4) أصول الكافي 1 / 264 باب جهات علوم الأئمة وشرحه بمرآة العقول 3 / 136.
317

الآتية والغابر: الباقي والماضي، من الأضداد. " فاما الماضي فمفسر " أي فسره لنا
رسول الله (ص). " وأما الغابر " أي العلوم المتعلقة بالأمور الآتية المحتومة. " فمزبور "
أي مكتوب لنا في الجامعة ومصحف فاطمة وغيرها والشرايع والاحكام داخل فيها أو
في أحدهما. " واما الحادث " وهو ما يتجدد من الله حتمه من الأمور أو العلوم
والمعارف الربانية أو تفصيل المجملات. " فقذف في القلوب ": بالالهام من الله تعالى
بلا توسط ملك.
" أو نقر في الاسماع " بتحديث الملك إياهم، وكونه من أفضل علومهم
لاختصاصه بهم ولحصوله بلا واسطة بشر أو لعدم اختصاص العلمين الأولين بهم إذ قد
اطلع على بعضهما بعض خواص الصحابة مثل سلمان وأبي ذر باخبار النبي (ص) وقد
رآى بعض أصحابهم (ص) مواضع من تلك الكتب، ولما كان هذا القول منه (ع)
يوهم ادعاء النبوة فان الاخبار عن الملك عند الناس مخصوص بالأنبياء نفى (ع) ذلك
الوهم بقوله " ولا نبي بعد نبينا " وذلك لان الفرق بين النبي والمحدث إنما هو
برؤية الملك عند القاء الحكم للنبي وعدمها بالاسماع من الملك للمحدث. انتهى.
وفي الكافي عن الإمام محمد الباقر (ع) قال: إن أوصياء محمد عليه وعليهم
السلام محدثون.
وعن أبي الحسن موسى، قال: الأئمة علماء صادقون مفهمون محدثون.
وعن محمد بن مسلم، قال: ذكر المحدث عند أبي عبد الله (ع) فقال: انه يسمع
الصوت ولا يرى الشخص فقلت: له: جعلت فداك، كيف يعلم أنه كلام الملك؟
قال: إنه يعطى السكينة والوقار حتى يعلم أنه كلام ملك 1.
نجد في كتب الحديث بمدرسة الخلفاء أحاديث تثبت نظير هذه الصفات لبعض
الخلفاء مثل ما روت أم المؤمنين عائشة في حق الخليفة عمر، قالت: قال رسول
الله (ص) " قد كان في الأمم قبلكم محدثون فان يكن في أمتي منهم أحد فان عمر بن
الخطاب منهم ".
وروى أبو هريرة أيضا نظير هذا الحديث في حق الخليفة عمر 2 ومهما ورد في

(1) الأحاديث الثلاثة: في أصول الكافي 1 / 270 - 271 باب ان الأئمة (ع) محدثون مفهمون.
2) رواية عائشة في صحيح مسلم باب فضائل الصحابة ح 2، ومسند أحمد 6 / 55، ورواية أبي هريرة
في صحيح البخاري 2 / 173 و 196، ومسند الطيالسي ح 2348.
318

مصادر مدرسة الخلفاء فإنه لم يرد فيها ان أحدهم ورث عن رسول الله كتابا مثل ما ورد
ذلك في حق أئمة أهل البيت بكل وضوح وتفصيل وفي ما يلي كيفية تداول أئمة أهل
البيت كتب العلم التي ورثوها عن رسول الله (ص).
كيف تداول الأئمة كتب العلم؟
الأئمة علي والحسنان والسجاد والباقر
في بصائر الدرجات: عن معلى بن خنيس عن أبي عبد الله - الإمام الصادق
- قال: إن الكتب كانت عند علي (ع) فلما سار إلى العراق استودع الكتب
أم سلمة فلما مضى علي كانت عند الحسن فلما مضى الحسن كانت عند الحسين فلما
مضى الحسين كانت عند علي بن الحسين، ثم كانت عند أبي - الإمام الباقر - 1.
وفي بصائر الدرجات ثلاث روايات أخرى اثنتان منها عن أم سلمة قالت إن
رسول الله استودعها كتابا فسلمته الامام عليا بعد رسول الله وثالثة عن ابن عباس أيضا
بنفس المعنى 2.
الكافي عن سليم بن قيس، قال: شهدت وصية أمير المؤمنين حين أوصى إلى
ابنه الحسن (ع) واشهد على وصيته الحسين ومحمد وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته
ثم دفع إليه الكتاب والسلاح وقال لابنه الحسن: يا بني امرني رسول الله (ص)
ان أوصي إليك وان ادفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إلي رسول الله ودفع إلي
كتبه وسلاحه وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت ان تدفعها إلى أخيك الحسين ثم
اقبل على ابنه الحسين فقال له: وأمرك رسول الله (ص) ان تدفعها إلى ابنك هذا ثم
اخذ بيد علي بن الحسين ثم قال لعلي بن الحسين وأمرك رسول الله (ص) ان تدفعها
إلى ابنك محمد بن علي واقرأه من رسول الله (ص) ومني السلام 3.
قال المؤلف: ما سلمه الامام هنا إلى ابنه الحسن كتاب واحد وهو غير الكتب
التي أودعها عند أم المؤمنين أم سلمة بالمدينة عند هجرته من المدينة، والتي تسلمها
الإمام الحسن منها عند عودته إلى المدينة.

(1) بصائر الدرجات ص 162.
2) بصائر الدرجات ص 163 ح 4، وص 166 ح 16، وص 168 ح 23.
3) الكافي والوافي 2 / 79.
319

الإمام علي بن الحسين خاصة
وفي غيبة الشيخ الطوسي ومناقب ابن شهرآشوب والبحار: عن الفضيل قال:
قال لي أبو جعفر - الإمام الباقر -: لما توجه الحسين (ع) إلى العراق، دفع إلى أم سلمة
زوج النبي (ص) الوصية والكتب وغير ذلك، وقال لها: إذا اتاك أكبر ولدى فادفعي
إليه ما دفعت إليك فلما قتل الحسين (ع) اتى علي بن الحسين أم سلمة فدفعت إليه كل
شئ أعطاها الحسين (ع) 1.
وفي الكافي وإعلام الورى ومناقب ابن شهرآشوب والبحار واللفظ للأول
عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله - الإمام الصادق - قال: إن الحسين (ع) لما
سار إلى العراق استودع أم سلمة (رض) الكتب والوصية فلما رجع علي بن الحسين (ع)
دفعتها إليه 2.
وكان ذلك غير الوصية التي كتبها في كربلا ودفعها مع بقية مواريث الإمامة
إلى ابنته فاطمة فدفعتها إلى علي بن الحسين وكان يومذاك مريضا لا يرون انه يبقى
بعده 3.
الإمام محمد الباقر خاصة
في الكافي وإعلام الورى وبصائر الدرجات والبحار واللفظ للأول: عن
عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده قال: التفت علي بن الحسين إلى ولده وهو في الموت
وهم مجتمعون عنده، ثم التفت إلى محمد بن علي ابنه، فقال: يا محمد! هذا الصندوق،
فاذهب به إلى بيتك، ثم قال - أي علي بن الحسين - اما انه ليس فيه دينار ولا درهم
ولكنه كان مملوء علما 4.

(1) غيبة الشيخ الطوسي ط تبريز سنة 1323 ه‍ ومناقب ابن شهرآشوب 4 / 172، والبحار 46 / 18،
ح 3 وقد أخذنا اللفظ من الأخير.
2) أصول الكافي 1 / 304، وإعلام الورى ص 152، والبحار 46 / 16، مناقب ابن شهرآشوب
4 / 172. أبو بكر الحضرمي عبد الله بن محمد روى عن الإمام الصادق (ع) قاموس الرجال 16 / 15.
3) أصول الكافي 1 / 303 حديث 3، وإعلام الورى ص 152، والبحار 46 / 18 ح 5، وفي بصائر
الدرجات ص 148 و 149 و 163 و 164 و 168.
4) أصول الكافي 1 / 305 ح 2، وإعلام الورى ص 260، وبصائر الدرجات باب 1 ص 44،
والبحار 46 / 229 ح 1، والوافي 2 / 83. عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب وقد يقال له:
الهاشمي روى عن الصادق. قاموس الرجال 7 / 275 - 276.
320

وفي بصائر الدرجات والبحار: عن عيسى بن عبد الله بن عمر، عن جعفر بن
محمد - الإمام الصادق (ع) قال: لما حضر علي بن الحسين الموت قبل ذلك اخرج
السفط أو الصندوق عنده فقال: يا محمد احمل هذا الصندوق، قال: فحمل بين أربعة
رجال] فلما توفي جاء اخوته يدعون في الصندوق، فقالوا: أعطنا نصيبنا من الصندوق
قال: والله مالكم فيه شئ، ولو كان لكم فيه شئ ما دفعه إلي، وكان في
الصندوق سلاح رسول الله وكتبه 1.
الإمام جعفر الصادق
وفيه عن زرارة عن أبي عبد الله قال: ما مضى أبو جعفر حتى صارت الكتب
إلي 2.
وفيه عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله يقول: ما مات أبو جعفر حتى قبض
- أي أبو عبد الله - مصحف فاطمة 3.
وفيه عن عنبسة العابد قال: كنا عند الحسين ابن عم جعفر بن محمد وجاءه
محمد بن عمران فسأله كتاب ارض فقال حتى آخذ ذلك من أبي عبد الله (ع) قال:
قلت له وما شأن ذلك عند أبي عبد الله (ع) قال: إنها وقعت عند الحسن ثم عند الحسين
ثم عند علي بن الحسين ثم عند أبي جعفر (ع) ثم عند جعفر فكتبناه من عنده 4.
في الكافي وبصائر الدرجات: عن حمران عن أبي جعفر (ع) قال: سألته عما
يتحدث الناس انه دفعت إلى أم سلمة صحيفة مختومة فقال: ان رسول الله (ص) لما
قبض ورث علي (ع) علمه وسلاحه وما هناك ثم صار إلى الحسن (ع) ثم صار إلى
الحسين (ع) فلما خشينا ان نغشى استودعها أم سلمة ثم قبضها بعد ذلك علي بن
الحسين (ع) قال: فقلت: نعم ثم صار إلى أبيك ثم انتهى إليك وصار بعد ذلك إليك؟

(1) أصول الكافي 1 / 305، ح 1، والوافي 2 / 82، وبصائر الدرجات ج 4 باب 4 ص 165، وإعلام الورى
ص 260، والبحار 46 / 229.
2) بصائر الدرجات ص 158، وراجع ص 186 و 180 و 181. زرارة أبو الحسن واسمه عبد ربه ابن
أعين مولى بني شيبان، كوفي روى عن الإمام الصادق (ت: 150 ه‍). قاموس الرجال 4 / 154.
3) بصائر الدرجات ص 158.
4) بصائر الدرجات ص 165 و 166 منه مع حذف واسقاط. وعنبسة بن بجاد العابد مولى بني أسد
كان قاضيا روى عن الإمام الصادق. قاموس الرجال 7 / 242.
321

قال: نعم 1.
عن عمر بن ابان: قال: سألت أبا عبد الله (ع) عما يتحدث الناس أنه
دفع إلى أم سلمة صحيفة مختومة فقال: ان رسول الله (ص) لما قبض ورث علي (ع)
علمه وسلاحه وما هناك ثم صار إلى الحسن ثم صار إلى الحسين (ع) قال: قلت: ثم
صار إلى علي بن الحسين، ثم صار إلى ابنه، ثم انتهى إليك، فقال: نعم 2.
الإمام موسى بن جعفر
في غيبة النعماني والبحار عن حماد الصائغ قال: سمعت المفضل بن عمر
يسأل أبا عبد الله - الإمام الصادق - إلى قول حماد: ثم طلع أبو الحسن موسى
- الإمام الكاظم - فقال له أبو عبد الله (ع): يسرك أن تنظر إلى صاحب كتاب علي،
فقال المفضل: وأي شئ أعظم من ذلك؟ فقال: هو هذا صاحب كتاب علي...
الحديث 3.
وعن علي بن يقطين قال قال لي أبو الحسن: يا علي هذا أفقه ولد وقد نحلته
كتبي وأشار بيده إلى ابنه علي.
وفي رواية: سمعته يقول: إن ابني عليا سيد ولدي وقد نحلته كتبي 4.
الإمام علي بن موسى الرضا
في الكافي وارشاد الشيخ المفيد وغيبة الشيخ الطوسي والبحار: عن نعيم
القابوسي، عن أبي الحسن موسى - الإمام الكاظم - قال: ابني علي أكبر ولدي وإبراهيم
عندي وأحبهم إلي هو ينظر معي في الجفر ولم ينظر فيه الا نبي أو وصي 5.

(1) الكافي كتاب الحجة ج 3 / 48، والوافي 2 / 133، وبصائر الدرجات 177 و 186 و 188.
2) الكافي 3 / 48، وبصائر الدرجات 184 و 177، والوافي 2 / 133.
3) غيبة النعماني ص 177، والبحار ج 48 / 22 ح 34. والمفضل بن عمر الجعفي الكوفي روى عن
الإمام الصادق والكاظم قاموس الرجال 9 / 93.
4) لرواية علي بن يقطين ثلاثة أسانيد في بصائر الدرجات ص 164 ح 7 و 8 و 9، وفي الارشاد
ص 285 نحلته كنيتي بدل كتبي، وفي الوافي 2 / 86. وعلي بن يقطين، مولى بني أسد وله كتب (ت: 182 ه‍)
روى عن الصادق. قاموس الرجال 7 / 83.
5) أصول الكافي 1 / 311 - 312 ح 2، وارشاد الشيخ المفيد ص 285 - 286، وغيبة الشيخ الطوسي
ص 28، والوافي 2 / 83. ونعيم القابوسي، لعله نعيم بن القابوس أخو نصر بن قابوس الآتي ذكره وهو من ثقات
الرواة عن الإمام الكاظم. قاموس الرجال 90 / 225.
322

وفي رجال الكشي والبحار عن نصر بن قابوس قال: إنه كان في دار الإمام الكاظم
فأراه ابنه الإمام الرضا وهو ينظر في الجفر، فقال: هذا ابني علي والذي ينظر فيه
لجفر 1.
هكذا توارثا الكتب كابرا عن كابر، وكانوا يرجعون إليها جيلا بعد جيل
؟؟ خرجون منها العلوم والاحكام كما يتضح ذلك من الأحاديث الآتية:
رجوع أئمة أهل البيت إلى الكتب التي توارثوها
اما الجفر ومصحف فاطمة فقد وجدنا الإمام الصادق يرجع إليهما للاستعلام
عن تملك أبناء الحسن السبط الأكبر كما في الكافي وبصائر الدرجات عن فضيل بن
سكرة قال: دخلت على أبي عبد الله - الإمام الصادق - (ع) فقال: يا فضيل! أتدري
في اي شئ كنت انظر قبيل؟ قلت: لا، قال: كنت انظر في كتاب فاطمة (ع) ليس
من ملك يملك الأرض الا وهو مكتوب فيه باسمه واسم أبيه وما وجدت لولد الحسن فيه
شيئا 2.
وعن الوليد بن صبيح قال: قال لي أبو عبد الله: يا وليد اني نظرت في مصحف
فاطمة فلم أجد لبني فلان الا كغبار النعل 3.
وعن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إن عندي لصحيفة فيها
اسم الملوك ما لولد الحسن فيها شئ 4.
وعن عمر بن أذينة 5 عن جماعة سمعوا أبا عبد الله (ع) يقول: وقد سئل عن

1) رجال الكشي ص 382، والبحار 49 / 27 ح 46. نصر بن قابوس اللخمي الكوفي، روى عن
الأئمة الصادق والكاظم والرضا. قاموس الرجال 9 / 195.
2) أصول الكافي 1 / 242 ح 8، وبصائر الدرجات ص 169 ح 3، والوافي 2 / 136. وفضيل بن
سكرة أبو محمد الأسدي روى عن الإمام الصادق. قاموس الرجال 7 / 337.
3) بصائر الدرجات ص 170 وص 161 ح 32 نظيره. والوليد بن صبيح الكوفي الأسدي مولاهم
روى عن الإمام الصادق. قاموس الرجال 9 / 254.
4) بصائر الدرجات ص 169 ح 5.
5) بصائر الدرجات ص 169 ح 2. وقريب منه في الكافي والوافي كما يأتي وعمر بن أذينة اسمه محمد
بن عمر غلب عليه اسم أبيه فهو محمد بن عمر بن عبد الرحمن بن أذينة من عبد القيس روى عن الامامين الصادق
والكاظم. قاموس الرجال ج 7 / 179.
323

محمد فقال: ان عندي لكتابين فيهما اسم كل نبي وكل ملك يملك والله ما محمد بن
عبد الله في أحدهما.
يقصد الامام من " الكتابين ": الجفر ومصحف فاطمة ومن " اسم كل
نبي ": اسم كل نبي قبل جده خاتم الأنبياء، كما يظهر ذلك من الحديث الآتي:
في بصائر الدرجات عن معلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله: ما من نبي ولا
وصي ولا ملك الا في كتاب عندي لا والله ما لمحمد بن عبد الله بن الحسن فيه اسم 1.
ونظيره عن العيص بن القاسم 2.
وعن المعلى بن خنيس قال: كنت عند أبي عبد الله (ع) إذ اقبل محمد بن
عبد الله بن الحسن فسلم ثم ذهب ورق له أبو عبد الله ودمعت عينه، فقلت له: لقد رأيتك
صنعت به ما لم تكن تصنع قال: رققت له لأنه ينسب في أمر ليس له، لم أجده في
كتاب علي من خلفاء هذه الأمة ولا ملوكها 3.
وعن عنبسة بن بجاد العابد، قال: كان جعفر بن محمد إذا رآى محمد بن
عبد الله بن الحسن تغرغرت عيناه ثم يقول: بنفسي هو، ان الناس ليقولون فيه انه
المهدي، وانه لمقتول، ليس هذا في كتاب أبيه علي من خلفاء هذه الأمة 4.
يقصد الامام من كتاب على: الجعفر الذي ورثوه من علي.
وفي الكافي عن فضيل بن يسار وبريد بن معاوية وزرارة ان عبد الملك بن أعين
قال لأبي عبد الله. ان الزيدية قد أطافوا بمحمد بن عبد الله فهل له سلطان؟ فقال والله
ان عندي لكتابين فيهما تسمية كل نبي وكل ملك يملك الأرض. لا والله ما محمد بن
عبد الله في واحد منهما 5.

1) بصائر الدرجات ص 169 ح 4.
2) بصائر الدرجات ص 169 ح 6. أبو القاسم عيص بن القاسم البجلي ابن أخت سليمان بن خالد روى عن
الامامين الصادق والكاظم. قاموس الرجال 7 / 274، الكافي والوافي 1 / 57، وبصائر الدرجات.
3) الكافي ص 168 - 169 ح 1.
4) مقاتل الطالبيين ص 208، وارشاد المفيد ص 260.
5) أصول الكافي 1 / 242 ح 8، والوافي 2 / 136. بريد بن معاوية أبو القاسم العجلي روى عن الامامين
الباقر والصادق (ت: 150 ه‍). قاموس الرجال 2 / 164.
324

اتخذ الإمام الصادق موقفه من حركة بني عمومته أبناء الحسن استنادا إلى ما
دون في الجفر الأبيض ومصحف فاطمة وكان ينبئ أحيانا بني عمومته نتيجة أمرهم
كما وجدها في ما ورث من كتب غير أن أبناء عمومته لم يكونوا ليقبلوا نصحه وقوله، مثل
ما رواه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين، قال: إن جماعة بني هاشم اجتمعوا بالابواء وفيهم
إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وأبو جعفر المنصور، وصالح بن علي،
و عبد الله بن الحسن بن الحسن - السبط - وابناه محمد وإبراهيم، ومحمد بن عبد الله
بن عمرو بن عثمان 1.
فقال صالح بن علي: قد علمتم انكم الذين تمد الناس أعينهم إليهم، وقد
جمعكم الله في هذا الموضع فاعقدوا بيعة لرجل منكم تعطونه إياها من أنفسكم وتواثقوا
على ذلك حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين.
فحمد الله عبد الله بن الحسن، وأثنى عليه، ثم قال: قد علمتم ان ابني هذا هو
المهدي فهلموا فلنبايعه.
وقال أبو جعفر - المنصور -: لأي شئ تخدعون أنفسكم، ووالله لقد علمتم
ما الناس إلى أحد أطول أعناقا ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى - يريد محمد بن
عبد الله -.
قالوا: قد - والله - صدقت ان هذا لهو الذي نعلم فبايعوا جميعا محمدا،
ومسحوا على يده. وأرسل إلى جعفر بن محمد - الصادق - 2.
وجاء جعفر بن محمد فأوسع له عبد الله بن الحسن إلى جنبه، فتكلم بمثل
كلامه فقال جعفر لا تفعلوا فان هذا الامر لم يأت بعد ان كنت ترى ان ابنك هذا هو
المهدى فليس به، ولا هذا أوانه، وان كنت إنما تريد أن تخرجه غضبا لله وليأمر

(1) إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الملقب بالامام كان صاحب دعوة بنى العباس
وسجنه مروان الحمار اخر الخلفاء الأمويين بحران وقتله سنة 132 ه‍ تاريخ ابن الأثير 5 / 158، ومروج الذهب
للمسعودي 3 / 244. واخوه أبو جعفر المنصور بويع بعد موت أخيه السفاح سنة 136 ه‍ وتوفي سنة 158 ه‍ في
طريقه إلى مكة ودفن بمكة مروج الذهب للمسعودي.
ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان المعروف بالديباج قتله أبو جعفر المنصور. عام 142 ه‍ بحران
وبعث برأسه إلى خراسان.
2) وفي رواية قال لهم عبد الله بن الحسن: لا نريد جعفرا لئلا يفسد عليكم أمركم.
325

بالمعروف وينهى عن المنكر فانا والله لا ندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك.
فغضب عبد الله، وقال: لقد علمت خلاف ما تقول ووالله ما أطلعك الله على
غيبه ولكن يحملك على هذا الحسد لابني.
فقال: والله ما ذاك يحملني، ولكن هذا واخوته وأبناؤهم دونكم، وضرب
بيده على ظهر أبي العباس، ثم ضرب بيده على كتف عبد الله بن الحسن، وقال: انها
والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك، ولكنها لهم، وان ابنيك لمقتولان.
ثم نهض، وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري، فقال: أرأيت صاحب
الرداء الأصفر - يعني أبا جعفر - قال: فانا والله نجده يقتله. قال له عبد العزيز: أيقتل
محمدا؟!
قال: نعم. قال: فقلت في نفسي: حسده ورب الكعبة! قال: ثم والله ما
خرجت من الدنيا حتى رأيته قتلهما.
قال: فلما قال جعفر ذلك انفض القوم فافترقوا ولم يجتمعوا بعدها. وتبعه
عبد الصمد، وأبو جعفر، فقالا: يا أبا عبد الله! أتقول هذا؟ قال: أقوله والله، واعلمه 1.
وفي لفظ رواية أخرى: قال الصادق لعبد الله بن الحسن: ان هذا الامر ليس
إليك ولا إلى ولديك وإنما هو لهذا - يعنى السفاح - ثم لهذا - يعني المنصور، ثم لولده
من بعده، لا يزال فيهم حتى يؤمروا الصبيان ويشاوروا النساء.
فقال عبد الله: والله يا جعفر ما أطلعك الله على غيبه،...
فقال - الصادق -: لا والله ما حسدت ابنك، وان هذا - يعني أبا جعفر -
يقتله على أحجار الزيت، ثم يقتل أخاه بعده بالطفوف، وقوائم فرسه بالماء...
الحديث 2.
وروى الطبري وأبو الفرج عن أم حسين بنت عبد الله بن محمد بن علي بن
الحسين - السبط - قالت: قلت العمي جعفر بن محمد: اني فديتك ما أمر محمد بن
عبد الله؟ قال: فتنة يقتل فيها محمد عند بيت رومي ويقتل اخوه لأبيه وأمه بالعراق
وحوافر فرسه بالماء 3.

(1) مقاتل الطالبيين ص 206 - 208، وارشاد المفيد ص 259 - 260.
2) مقاتل الطالبيين 253 - 256.
3) الطبري 9 / 230 وط. أوروبا 3 / 254، مقاتل الطالبيين ص 248.
326

وروى أن عيسى قائد المنصور لما دخل المدينة قال جعفر بن محمد: أهو هو؟
قيل: من تعنى يا أبا عبد الله؟ قال المتلعب بدمائنا اما والله لا يخلا منها شئ يعني محمدا
وإبراهيم 1.
وقال: خرج مع محمد حمزة بن عبد الله ابن محمد بن علي وكان عمه جعفر
ينهاه، يقول له: هو والله مقتول 2.
اشتهار أنباء الإمام الصادق عن نهاية أمر بني الحسن
اشتهر عن الإمام الصادق إنباؤه عن نهاية أمر بني الحسن وعرف ذلك القريبون
منه والبعيدون عنه ولذلك قال الفضيل بن يسار أحد أصحاب الإمام الصادق لمن
اخبره بخروج محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن: " ليس أمرهما بشئ! " قال
الراوي: فصنعت ذلك مرارا كل ذلك يرد علي مثل هذا الرد، قال: قلت: رحمك الله قد
اتيتك غير مرة أخبرك فتقول: ليس أمرهما بشئ، أفبرأيك تقول هذا؟ قال فقال: لا
والله ولكن سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: إن خرجا قتلا 3.
ولهذا لما أخبر المنصور بهزيمة قائدة في حرب محمد قال: كلا، فأين لعب
صبياننا بها على المنابر ومشاورة النساء 4.
ولما خرج إبراهيم بالبصرة وهزم جيش المنصور حتى دخل أوائلهم الكوفة
أمر أبو جعفر المنصور باعداد الإبل والدواب على جميع أبواب الكوفة ليهرب عليها 5.
وجعل يقول: يا ربيع! ويلك فكيف ولم ينلها أبناؤنا فأين امارة الصبيان 6
يشير أبو جعفر المنصور في المقامين إلى قول الإمام الصادق " يؤمروا الصبيان ويشاوروا
النساء ".
نهاية أمر الأخوين
روى الطبري وأبو الفرج وقال: قتل محمد عند أحجار الزيت بالمدينة 7.

(1) مقاتل الطالبيين 272. 2) الطبري 9 / 230 وقد أوردته بإيجاز.
3) ترجمة الفضيل بن يسار من اختيار معرفة الرجال للكشي ط. جامعة مشهد ص 214.
4) الطبري 9 / 228، ومقاتل الطالبيين ص 274.
5) الطبري 9 / 259، ومقاتل الطالبيين ص 346.
6) مقاتل الطالبيين ص 347، وتاريخ ابن الأثير 5 / 230.
7) الطبري 9 / 227، ومقاتل الطالبيين ص 272.
327

وفي الأغاني: وجاء إبراهيم سهم وهو راكب على فرسه في مسناة يتعقب
المنهزمين من جيش المنصور فقتل 1.
وهكذا كانت نهاية أمر الأخوين كما أنبأ بها الإمام الصادق قبل ذاك بمدة.
إلى هنا استعرضنا بعض الأحاديث التي ذكرت رجوع الإمام الصادق إلى
الجفر ومصحف فاطمة في استعلام تملك أبناء الحسن وفي ما يلي حديث عن علي بن
الحسين السجاد في شأن حكم ابن عبد العزيز رواه عبد الله بن عطاء التميمي قال: كنت
مع علي بن الحسين في المسجد - اي مسجد الرسول - فمر عمر بن عبد العزيز عليه
شراكا فضة وكان من أحسن الناس وهو شاب فنظر إليه علي بن الحسين، فقال: يا
عبد الله بن عطاء أترى هذا المترف، انه لن يموت حتى يلي الناس، قلت: هذا الفاسق،
قال: نعم، لا يلبث فيهم الا يسيرا... الحديث 2.
استشهاد الإمام الرضا بالجفر
في أحوال الإمام الرضا (ع) من كتاب كشف الغمة للأربلي
(ت: 693 ه‍) 3: قال الفقير إلى الله تعالى عبد الله علي بن عيسى أثابه الله: وفي سنة
سبعين وستمائة وصل من مشهده الشريف (ع) أحد قوامه، ومعه العهد الذي كتبه
المأمون بخط يده وبين سطوره، وفي ظهره بخط الإمام (ع) ما هو مسطور، فقبلت مواقع
أقلامه وسرحت طرفي في رياض كلامه، وعددت الوقوف عليه من منن الله وإنعامه،
ونقلته حرفا فحرفا.
وما هو بخط المأمون:
بسم اله الرحمن الرحيم
هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين بيده لعلي بن موسى
ابن جعفر ولي عهده، اما بعد فان الله عز وجل اصطفى الاسلام دينا، واصطفى له من

(1) مقاتل الطالبيين ص 347.
2) بصائر الدرجات ص 170 باب نادر، أوردنا من الحديث موضع الحاجة وفي بقية الحديث عبرة.
3) كشف الغمة في معرفة الأئمة ط. مطبعة النجف سنة 1385 ه‍ تأليف أبي الحسن علي بن عيسى بن
أبي الفتح الأربلي.
328

عباده رسلا دالين عليه، وهادين إليه، يبشر أولهم بآخرهم، ويصدق تاليهم ماضيهم
حتى انتهت نبوة الله إلى محمد (ص) على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وانقطاع
من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله بن النبيين، وجعله شاهدا لهم ومهيمنا
عليهم وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل
من حكيم حميد. بما أحل وحرم، ووعد وأوعد، وحذر وأنذر وأمر به ونهى عنه،
لتكون له الحجة البالغة على خلقه، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة،
وان الله لسميع عليم، فبلغ عن الله رسالته، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة
والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ثم بالجهاد والغلظة، حتى قبضه الله إليه
واختار له ما عنده.
فلما انقضت النبوة وختم الله بمحمد (ص) الوحي والرسالة جعل قوام الدين
ونظام أمر المسلمين بالخلافة، وإتمامها وعزها والقيام بحق الله فيها بالطاعة التي بها
يقام فرائض الله وحدوده وشرائع الاسلام وسننه، ويجاهد بها عدوه، فعلى خلفاء الله
طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم
ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله، وأمن السبيل وحقن الدماء وصلاح ذات البين
وجمع الألفة، وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين واختلالهم واختلاف ملتهم
وقهر دينهم واستعلاء عدوهم وتفرق الكلمة وخسران الدنيا والآخرة فحق على من
استخلفه الله في أرضه وائتمنه على خلقه أن يجهد لله نفسه ويؤثر ما فيه رضا الله
وطاعته، ويعتمد لما الله مواقفه عليه ومسائله عنه، ويحكم بالحق ويعمل بالعدل فيما
حمله الله وقلده، فان الله عز وجل يقول لنبيه داود (ع):
" يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع
الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا
يوم الحساب " وقال الله عز وجل: " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون "
وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال: لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات لتخوفت أن يسألني
الله عنها، وأيم الله إن المسؤول عن خاصة نفسه، الموقوف على عمله فيما بينه وبين الله
ليتعرض على أمر كبير وعلى خطر عظيم، فكيف بالمسؤول عن رعاية الأمة، وبالله الثقة
واليه المفزع والرغبة في التوفيق والعصمة، والتسديد والهداية، إلى ما فيه ثبوت الحجة
والفوز من الله بالرضوان والرحمة:
329

وأنظر الأمة لنفسه وانصحهم لله في دينه وعباده من خلايقه في أرضه من
عمل بطاعة الله وكتابه وسنة نبيه (ص) في مدة أيامه وبعدها، وأجهد رأيه ونظره
فيمن يوليه عهده ويختاره لامامة المسلمين ورعايتهم بعده، وينصبه علما لهم ومفزعا في
جمع ألفتهم ولم شعثهم، وحقن دمائهم والامن بإذن الله من فرقتهم، وفساد ذات بينهم
واختلافهم، ورفع نزغ الشيطان وكيده عنهم، فان الله عز وجل جعل العهد بعد الخلافة
من تمام أمر الاسلام وكماله، وعزه وصلاح أهله، وألهم خلفاءه من توكيده لمن
يختارونه له من بعدهم ما عظمت به النعمة، وشملت فيه العافية، ونقضه الله بذلك
مكر أهل الشقاق والعداوة، والسعي في الفرقة والتربص للفتنة.
ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة فاختبر بشاعة مذاقها وثقل محملها
وشدة مؤنتها، وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله ومراقبته فيما حمله منها،
فانصب بدنه وأسهر عينه وأطال فكره فيما فيه عز الدين وقمع المشركين وصلاح الأمة،
ونشر العدل وإقامة الكتاب والسنة، ومنعه ذلك من الخفض والدعة ومنهأ العيش علما
بما الله سائله عنه، ومحبة أن يلقى الله مناصحا له في دينه وعباده، ومختارا لولاية عهده
ورعاية الأمة من بعد أفضل من يقدر عليه في ورعه ودينه وعلمه، وأرجاهم للقيام في
أمر الله وحقه، مناجيا لله تعالى بالاستخارة في ذلك ومسألته الهامه ما فيه رضاه وطاعته
في آناء ليله ونهاره، معملا في طلبه والتماسه في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس
وعلي بن أبي طالب فكره ونظره مقتصرا لمن علم حاله ومذهبه منهم على علمه، وبالغا
في المسألة عمن خفي عليه أمره جهده وطاقته.
حتى استقصى أمورهم معرفة، وابتلى أخبارهم مشاهدة، واستبرأ أحوالهم
معاينة، وكشف ما عندهم مسائلة فكانت خيرته بعد استخارته لله وإجهاده نفسه في
قضاء حقه في عباده وبلاده في البيتين جميعا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي
بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما رأى من فضله البارع، وعلمه الناصع، وورعه
الظاهر، وزهده الخالص وتخليه من الدنيا، وتسلمه من الناس، وقد استبان له ما لم تزل
الاخبار عليه متواطية، والألسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولما لم يزل يعرفه من
الفضل نافعا، وناشئا وحدثا ومكتهلا، فعقد له بالعهد والخلافة من بعده، واثقا بخيرة
الله في ذلك إذ علم الله أنه فعله إيثارا له وللدين ونظرا للاسلام والمسلمين، وطلبا
للسلامة وثبات الحق والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين.
330

ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقواده وخدمه فبايعوا مسرعين
مسرورين، عالمين بايثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم، وممن هو
أشبك منه رحما، وأقرب قرابة وسماه الرضا إذ كان رضا عند أمير المؤمنين، فبايعوا
معشر أهل بيت أمير المؤمنين ومن بالمدينة المحروسة من قواده وجنده، وعامة المسلمين
لأمير المؤمنين، والرضا من بعده كتب بقلمه الشريف بعد قوله: " والرضا من بعده " بل
آل من بعده علي بن موسى على اسم الله وبركته وحسن قضائه لدينه وعباده بيعة
مبسوطة إليها أيديكم، منشرحة لها صدوركم، عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر
طاعة الله والنظر لنفسه ولكم فيها، شاكرين لله على ما ألهم أمير المؤمنين من قضاء حقه
في رعايتكم وحرصه على رشدكم وصلاحكم راجين عايدة ذلك في جمع ألفتكم،
وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم وقوة دينكم، ورغم عدوكم واستقامة
أموركم وسارعوا إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين فإنه الامن ان سارعتم إليه وحمدتم
الله عليه، عرفتم الحظ فيه إن شاء الله وكتب بيده يوم الاثنين لسبع خلون من شهر
رمضان سنة إحدى ومائتين.
صورة ما كان على ظهر العهد
بخط الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الفعال لما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه يعلم خائنة الأعين
وما تخفي الصدور، وصلاته على نبيه محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين أقول
وأنا علي بن موسى الرضا بن جعفر: ان أمير المؤمنين عضده الله بالسداد ووفقه للرشاد،
عرف من حقنا ما جهله غيره، فوصل أرحاما قطعت وأمن نفوسا فزعت بل أحياها وقد
تلفت، وأغناها إذ افتقرت، مبتغيا رضا رب العالمين، لا يريد جزاء من غيره، وسيجزى
الله الشاكرين، ولا يضيع أجر المحسنين، وأنه جعل إلي عهده والامرة الكبرى ان
بقيت بعده، فمن حل عقدة أمر الله بشدها، وفصم عروة أحب الله ايثاقها فقد أباح
حريمه، وأحل محرمه، إذ كان بذلك زاريا على الامام منتهكا حرمة الاسلام بذلك جرى
السالف، فصبر عنه على الفلتات، ولم يعترض بعدها على الغرمات، خوفا من شتات
الدين واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية، ورصد فرصة تنتهز، وبايقة
331

تبتدر، وقد جعلت الله على نفسي ان استرعاني أمر المسلمين وقلدني خلافته العمل فيهم
عامة وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته وطاعة رسول الله (ص)، وأن لا أسفك
دما حراما، ولا أبيح فرجا ولا مالا إلا ما سفكته حدود الله، وأباحته فرائضه، وأن
أتخير الكفاة جهدي وطاقتي، وجعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكدا يسألني الله عنه،
فإنه عز وجل يقول: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا " وإن أحدثت أو غيرت أو
بدلت كنت للغير مستحقا، وللنكال متعرضا وأعوذ بالله من سخطه واليه أرغب في
التوفيق لطاعته، والحول بيني وبين معصيته في عافية لي وللمسلمين.
والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ان
الحكم إلا لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين، لكني امتثلت أمر أمير المؤمنين وآثرت
رضاه، والله يعصمني وإياه، وأشهدت الله على نفسي بذلك وكفي بالله شهيدا.
وكتبت بخطي بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، والفضل بن سهل،
وسهل بن الفضل، ويحيى بن أكتم، و عبد الله بن طاهر، وثمامة بن أشرس، وبشر بن
المعتمر، وحماد بن النعمان، في شهر رمضان سنة إحدى ومأتين.
الشهود على الجانب الأيمن:
شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذا المكتوب ظهره وبطنه، وهو يسأل الله أن
يعرف أمير المؤمنين وكافة المسلمين ببركة هذا العهد والميثاق، وكتب بخطه في التاريخ
المبين فيه. عبد الله بن طاهر بن الحسين أثبت شهادته فيه بتاريخه. شهد حماد بن
النعمان بمضمونه ظهره وبطنه، وكتب بيده في تاريخه. بشر بن المعتمر يشهد بمثل ذلك.
الشهود على الجانب الأيسر:
رسم أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قراءة هذه الصحيفة التي هي صحيفة الميثاق
نرجو أن يجوز بها الصراط ظهرها وبطنها بحرم سيدنا رسول الله (ص) بين الروضة والمنبر
على رؤس الاشهاد، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم وساير الأولياء والاجناد، بعد
استيفاء شروط البيعة عليهم بما أوجب أمير المؤمنين الحجة به على جميع المسلمين،
ولتبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين، وما كان الله ليذر المؤمنين على ما
أنتم عليه، وكتب الفضل بن سهل بأمر أمير المؤمنين بالتاريخ فيه.
332

انتهى ما أورده الأربلي في كشف الغمة 1 وقد أوردته بلفظه مفصلا خلافا لما
تعودته من تلخيص نظائره لما في نص الكتابين وشهادات الشهود عليهما من دلالة على
صدق محتواهما مما يفقده الملخص منهما.
وأورد ابن الطقطقي (ت: 709 ه‍) ملخص الكتابين في كتابه الفخري في
الآداب السلطانية وقال: كان المأمون قد فكر في حالة الخلافة بعده، وأراد ان يجعلها
في رجل يصلح لها لتبرأ ذمته - كذا زعم - فذكر انه اعتبر أحوال أعيان البيتين:
البيت العباسي والبيت العلوي، فلم ير فيهما أصلح ولا أفضل، ولا أورع ولا أدين، من
علي بن موسى الرضا (ع) فعهد إليه، وكتب بذلك خطه، والزم الرضا (ع) بذلك
فامتنع ثم أجاب، ووضع خطه في ظاهر كتاب المأمون بما معناه:
اني قد أجبت امتثالا للامر، وإن كان الجفر والجامعة يدلان على ضد ذلك
وشهد عليهما بذلك الشهود 2.
وأورد الكتابين بتمامه المجلسي (ت: 1111 ه‍) في البحار نقلا عن كشف
الغمة 3.
ومن مدرسة الخلفاء:
قال المير سيد علي بن محمد بن علي الحنفي الأسترآبادي (ت: 816 ه‍) في
شرحه على مواقف القاضي عضد الإيجي (ت: 756 ه‍) عن الجفر والجامعة: هما
كتابان للإمام علي رضي الله عنه قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث التي
تحدث إلى انقراض العالم وكانت الأئمة من أولاده يعرفونهما ويحكمون بهما، وفي كتاب
قبول العهد الذي كتبه علي بن موسى (رض) إلى المأمون: انك قد عرفت من حقوقنا

(1) كشف الغمة 3 / 124 - 123.
2) الفخري ص 178 ط. محمد علي صبيح وأولاده بالقاهرة تأليف ابن الطقطقي بكسر الطاء الأول
وفتح الثاني أبي جعفر محمد بن تاج الدين أبي الحسن علي الطباطبائي نقيب العلويين في العراق. وكان قد الف
الكتاب سنة 701 ه‍ بالموصل وأهداه إلى والي الموصل فخر الدين عيسى - راجع ما كتبه هيوار عنه بدائرة
المعارف الاسلامية 1 / 217 - 218، والقمي في الكنى والألقاب 1 / 331، وراجع مآثر الإناقة في معالم
الخلافة، للقلقشندي (ت: 821 ه‍) تحقيق عبد الستار فرج احمد سنة 1964 م 2 / 325 - 330، وصبح
الأعشى، له ط. دار الكتب.
3) البحار طبعة الكمپاني (12 / 42) وطبعة الاسلامية (ج 49 / 148 - 153).
333

ما لم يعرفه آباؤك فقبلت منك عهدك الا ان الجفر والجامعة يدلان على أنه لا يتم... 1
وقال طاش كبر زاده المولى أحمد بن مصطفى (ت: 962 ه‍) في كتابه مفتاح
السعادة ومصباح السيادة.
... ان الخليفة لما عهد بالخلافة من بعده إلى علي بن موسى الرضا وكتب
إليه كتاب عهد كتب هو في آخر ذلك الكتاب: نعم الا ان الجفر والجامعة يدلان على أن
هذا الامر لا يتم وكان كما قال لان المأمون استشعر من أجل ذلك فتنة من طرف
بني هاشم فسم علي بن موسى الرضا في عنب على ما هو المسطور في كتب التواريخ 2.
وممن ذكر الجفر والجامعة من مدرسة الخلفاء:
الشيخ كمال الدين أبو سالم ابن طلحة محمد بن طلحة النصيبيني الشافعي
(ت: 652 ه‍) قال في كتابه الجفر الجامع والنور اللامع والكتاب حسب نقل كشف
الظنون: مجلد صغير أوله: الحمد لله الذي اطلع من اجتباه الخ ذكر فيه ان الأئمة من
أولاد جعفر يعرفون الجفر... 3
وأيضا نقل عنه في باب علم الجفر والجامع قوله في هذا الكتاب (الجفر
والجامعة كتابان جليلان أحدهما ذكره الإمام علي بن أبي طالب (رض) وهو يخطب
بالكوفة على المنبر والآخر اسره رسول الله (ص) وأمره بتدوينه فكتبه على (رض) حروفا
متفرقة على طريقة سفر آدم في جفر يعني في رق قد صبغ من جلد البعير، فاشتهر بين
الناس به لأنه وجد فيه ما جرى للأولين والآخرين 4.
وقال ابن خلدون في مقدمته: ووقع لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من
ذلك، مستندهم فيه، والله أعلم الكشف بما كانوا عليه من الولاية، وإذا كان مثله
لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم وأعقابهم، وقد قال (ص): ان فيكم محدثين،
فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة والكرامات الموهوبة 5.

(1) المقصد الثاني من النوع الثاني من الفصل الثاني من المرصد الثالث من الموقف الثالث - راجع
ص 276 من ط. بولاق سنة 1266 ه‍.
2) ج 2 / 420 - 421 من مفتاح السعادة ط. الأولى سنة 1328 - 1329 ه‍ بحيدر آباد الدكن ونقل
عنه في كشف الظنون ج 2 / 591.
3) كشف الظنون 2 / 592. 4) كشف الظنون 2 / 591.
5) المقدمة لابن خلدون 1 / 595 - 596 الفصل 53 في ابتداء الدول والأمم وفيه الكلام على الملاحم
والكشف عن مسمى الجفر.
334

وقال بعده ما ملخصه: ان هارون بن سعيد العجلي رأس الزيدية كان له
كتاب يرويه عن جعفر الصادق وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم ولبعض
الاشخاص منهم على الخصوص، وقع ذلك لجعفر ونظائره من رجالاتهم على طريق
الكرامة والكشف الذي يقع لمثلهم من الأولياء، وكان مكتوبا عند جعفر في جلد ثور
صغير إلى قوله: وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر
الصادق إلى قوله:
ولو صح السند إلى جعفر الصادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال
قومه، فهم أهل الكرامات، وقد صح عنه انه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون لهم،
فتصح كما يقول.
وقد حذر يحيى ابن عمه زيد من مصرعه وعصاه، فخرج وقتل بالجوزجان كما
هو معروف.
وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنك بهم علما ودينا وآثارا من النبوة،
وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة، وقد ينقل بين أهل البيت كثير من
هذا الكلام غير منسوب إلى أحد 1.
وأشار إليه أبو العلاء المعرى (ت: 449 ه‍) في قوله:
لقد عجبوا لأهل البيت لما * اتاهم علمهم في مسك جفر
ومرآة المنجم وهي صغرى * ارته كل عامرة وقفر 2
رأينا في الأحاديث السابقة رجوع الأئمة إلى كتاب على الجفر ومصحف فاطمة
في استعلام الانباء الكائنة، ووجدنا الجفر مشهورا في كتب مدرسة الخلفاء، ومنهم من
نقل رجوع الأئمة إليها، وفي ما يلي أمثلة من رجوع أئمة أهل البيت إلى كتاب علي المسمى
بالجامعة لبيان احكام الشرع الاسلامي:
رجوع الأئمة (ع) إلى كتاب علي الجامعة
ان أول من وجدنا يروى عن كتاب على مباشرة الإمام علي بن الحسين، كما

(1) المقدمة 1 / 600 - 601 ط. دار الكتاب اللبناني سنة 1956.
2) أبو العلاء المعرى أحمد بن عبد الله بن سليمان توفي بمعرة النعمان. ترجمته في الكنى والألقاب 3 / 161
- 162، والبيان بترجمة عبد المؤمن بن علي، القيسي رقم 381 من وفيات الأعيان لابن خلكان 2 / 405.
335

في الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب ومعاني الأخبار والوسائل واللفظ للأول:
عن ابان ان علي بن الحسين سئل عن رجل أوصى بشئ من ماله، فقال:
الشئ في كتاب علي (ع) واحد من ستة 1.
وروى من بعده الإمام الباقر عنها: في الخصال وعقاب الأعمال والوسائل
عن أبي جعفر - الإمام الباقر - قال: في كتاب علي ثلاث خصال لا يموت صاحبهن
ابدا حتى يرى وبالهن: البغي وقطيعة الرحم واليمين الكاذبة يبارز الله بها 2.
وهكذا يروى الإمام الباقر عن كتاب على: في حكم اخذ مال. الولد والأب
ووصي جارية الولد 3، وتدليس عيب المرأة عند زواجها 4، واليمين الكاذبة 5، وفي بيان
حكم المحرم إذا صاد، يقول: في كتاب أمير المؤمنين 6.
ويقول وجدنا في كتاب على في بيان وجوب حسن الظن بالله وحسن الخلق 7
وحكم قطع لسان الأخرس 8، وحكم من أحيا أرضا ثم تركها 9، واثر منع الزكاة 10،

(1) فروع الكافي 7 / 40 ح 1 باب من أوصى بشئ من ماله ومن لا يحضره الفقيه 4 / 151 ومعاني الأخبار
217 وكلاهما للشيخ الصدوق. والتهذيب للشيخ الطوسي 9 / 211 ح 835، والوسائل 13 / 450 ح 1
من باب حكم من أوصى بشئ.
أبان بن تغلب بن رباح أبو سعيد البكري مولى بني جرير روى عن الأئمة السجاد والباقر والصادق
وقال لقوم كانوا يعيبونه في روايته عن الإمام الصادق: كيف تلوموني في روايتي عن رجل ما سألته عن شئ،
الا قال: قال رسول الله (ت: 141 ه‍). قاموس الرجال 1 / 73.
2) الخصال ص 124 وعقاب الأعمال ص 261 وكلاهما للشيخ الصدوق والوسائل ج 16
ص 119.
3) اخذ مال الأب والابن في فروع الكافي 4 / 135 - 136، والاستبصار 3 / 48، والوسائل
12 / 194 - 195، و 14 / 544.
4) حكم تدليس عيب المرأة التهذيب 7 / 432، والوسائل 14 / 597.
5) اثر اليمين الكاذبة في فروع الكافي 7 / 436، وعقاب الأعمال للشيخ الصدوق ص 270 - 271،
والخصال له ص 124، والوسائل 16 / 122. 6) حكم صيد المحرم في فروع الكافي 4 / 390، ح 9.
7) حسن الظن بالله في أصول الكافي 2 / 71 - 72، والوسائل 11 / 181، ح 20353.
8) حكم قطع لسان الأخرس في فروع الكافي 7 / 318، ومن لا يحضره الفقيه 4 / 111، والتهذيب
10 / 270.
9) حكم احياء ارض الموات في فروع الكافي 5 / 279، والتهذيب 7 / 153، والوسائل 17 / 329،
ح 3223. 10) اثر منع الزكاة في فروع الكافي 3 / 505 ح 17، والوسائل 6 / 13 - 14.
336

ودية الأسنان 1.
ودخل عليه يعقوب بن ميثم التمار مولى علي بن الحسين، فقال له انى وجدت في
كتاب أبى ان عليا قال لأبي: يا ميثم احبب حبيب آل محمد... إلى قوله فانى سمعت
؟ لله وهو يقول... الحديث.
فقال أبو جعفر هكذا هو عندنا في كتاب علي 2.
وروى الإمام الصادق عن أبيه أنه قال: قرأت في كتاب علي ان رسول الله
كتب بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب... الحديث 3.
وروى الإمام أبو عبد الله الصادق عن كتاب على في بيان ثبوت الشهر برؤية
الهلال 4، وبيان وقت الفضيلة للظهر 5، وفي بيان حكم أداء صلاة الجمعة مع
مخالفيهم 6، وحكم سؤر الهر 7، وحكم المحرم إذا مات 8، وعن لبسه الطيلسان المزرر
حديثان 9، وفي كفارة إصابة القطاة حديثان 10، وفي كفارة بيض القطاة ثلاثة
أحاديث 11، وفي زيادة شوط الطواف حديثا 12، والعمرة المفردة 13، وعن عدد الكبائر

(1) دية الأسنان. الكافي 7 / 329، ومن لا يحضره الفقيه 4 / 104، والتهذيب 10 / 254، والاستبصار
4 / 288، والوسائل 19 / 262، ح 35715.
2) رواية ابن ميثم في مجالس الشيخ الطوسي ط. النجف ص 258، والوسائل 11 / 444، ح 21299.
3) رواية كتابة العهد بين المهاجرين والأنصار في أصول الكافي 2 / 666، وفي فروعه 1 / 336، و
4 / 30 / 31 في كتاب الجهاد، والوسائل 8 / 487، ح 15842 و 11 / 50.
4) في الاستبصار 3 / 64، والوسائل 7 / 184، ح 13352.
5) وقت فضيلة الظهر في الاستبصار 1 / 251، والتهذيب 2 / 23، والوسائل 3 / 105، ح 4752 و 107
ح 14764. 6) أداء صلاة الجمعة مع المخالفين، التهذيب 3 / 28، والوسائل 5 / 44، ح 19550.
7) سؤر الهر في فروع الكافي 1 / 9، ح 4، والتهذيب 1 / 227، والوسائل 1 / 164، الحديث 580.
8) حكم المحرم إذا مات في ثلاثة أحاديث كما في فروع الكافي 4 / 368 الحديث 3، والوسائل 2 / 696
و 697 الحديث 2759 و 2761 و 2766.
9) في حكم لبس المحرم الطيلسان فروع الكافي 4 / 304 ح 7 و 8، ومن لا يحضره الفقيه 2 / 117،
وعلل الشرايع 2 / 94، والوسائل 9 / 116 الحديث 16822 و 16823.
10) كفارة إصابة المحرم القطاة، فروع الكافي 4 / 390، والتهذيب 5 / 44، ح 1190 و 1191.
11) فروع الكافي 4 / 390، والاستبصار 2 / 202 و 203 و 204، والتهذيب 5 / 355 و 357، والوسائل
9 / 216 و 217 و 218 الحديث 17223 و 17225 و 17229.
12) في حكم زيادة شوط من الطواف. الاستبصار 2 / 248، والسرائر ص 446، والوسائل 9 / 438 و
439 ح 17967 و 17974، وفي بعض الروايات ليس فيها في كتاب على.
13) حكم العمرة في فروع الكافي 4 / 534، ح 2، والوسائل 10 / 244 ح 19275.
337

حديثان 1، وعن اكل مال اليتيم حديث واحد 2، وفي حكم ارث الاخوة من الام مع
الجد حديثان 3، وفي الحكم بالبينة واليمين حديثان 4، في مثل الدنيا حديث واحد 5، في
كيفية الجلد في الحدود حسب السن 6، في حد اللواط مع الايقاب 7، في ثبوت الحد على
شارب الخمر والنبيذ 8، في حد شارب الخمر والمسكر 9، في دية كلب الصيد 10، في حد
قطع فرج المرأة 11، في حد ادراك الذكاة في الذبيحة حديثان 12، في نصيب ميراث غير
ذوي الفرائض 13، في كراهية لحوم الحمر الأهلية 14، في ما حرم اكله من أنواع السمك
ستة أحاديث 15، في حكم ميراث الأعمام والأخوال إذا اجتمعوا 16، في حكم الطلاق في

(1) عدد الكبائر في أصول الكافي 2 / 278 - 279، والوسائل 11 / 254، ح 20631 والخصال
1 / 273 وعلل الشرائع 2 / 160.
2) اكل مال اليتيم، في عقاب الأعمال ص 278 ح 2، والوسائل 12 / 182، ح 22441.
3) ارث الاخوة مع الجد في من لا يحضره الفقيه 4 / 206، والتهذيب 9 / 308، والاستبصار 4 / 160،
والوسائل ج 17 ص 495 و 497 الحديث 32746 و 32748.
4) في الحكم بالبينة في فروع الكافي 7 / 414، والتهذيب 6 / 228، والوسائل ج 18 ص 168 رقم
الحديث 33634 و 33635.
5) مثل الدنيا في أصول الكافي 2 / 136 ح 22، والوسائل 11 / 316 ح 20845.
6) الجلد حسب السن فروع الكافي 7 / 186، والتهذيب 10 / 146، ومن لا يحضره الفقيه ج 4 / 53،
والوسائل ج 18 / 307 ح 34067، وراجع المحاسن ص 273.
7) حد اللواط في فروع الكافي 7 / 200، والتهذيب 10 / 55، والاستبصار ج 4 / 221 والوسائل
18 / 421 ح 34436.
8) حد شرب الخمر والنبيذ في فروع الكافي 7 / 214، والتهذيب 10 / 90، والوسائل 18 / 468 ح 34586.
9) حد شرب المسكر في فروع الكافي 7 / 214، والتهذيب 10 / 90، والوسائل 18 / 472 ح 34605.
10) دية كلب الصيد الخصال 2 / 111، والوسائل 19 / 168 ح 35489.
11) حد قطع فرج المرأة الكافي 7 / 312، من لا يحضره الفقيه 4 / 112، التهذيب 10 / 251، الوسائل
19 / 259 ح 35709.
12) حد ادراك ذكاة الذبيحة الكافي 6 / 232 التهذيب 9 / 57 والوسائل ج 16 / 320 ح 29893 و 29894.
13) نصيب ميراث غير ذوي الفرائض الكافي 7 / 77 والتهذيب 9 / 269 والوسائل 17 / 418 ح 32484.
14) كراهة لحوم الدواب الأهلية الكافي 6 / 246 والتهذيب 9 / 40 والاستبصار 4 / 74 والوسائل
16 / 321 ح 30124.
15) محرمات بعض أنواع السمك في الكافي 6 / 220 التهذيب ج 9 / 2 و 4 و 5 و 6 والاستبصار 4 / 59
والوسائل؟؟ 16 / 334 و 335 والبحار 10 / 254.
؟؟) حكم اجتماع الأعمام والأخوال في الإرث: في التهذيب 9 / 324 و 325 والوسائل 17 / 505
ح 32776.
338

العدة بغير رجوع 1، في ميراث الغرقى والمهدوم عليهم، ولفظه " كذلك وجدناه في كتاب
علي " 2، في حكم من قتل شخصا مقطوع اليد ولفظ " هكذا وجدناه في كتاب علي " 3.
وآخر ما نورده في هذا الباب عن الإمام الصادق، قوله: ان في كتاب علي
الذي املاه رسول الله (ص) ان الله لا يعذب على كثرة الصلاة والصيام ولكن يزيده
خيرا 4.
إلى هنا استعرضنا شيئا من الأحاديث التي رواها الأئمة من كتاب الإمام علي
واسندوها إليه غير متوخين الاستقصاء في ذلك وإنما أوردناها كأمثلة لما نحن بصدده
وفي ما يلي نورد أحاديث أصحاب الأئمة الذين شاهدوا كتاب الإمام علي وفيها أحاديث
من قرأ الكتاب ووصفه.
من رأى كتاب علي (ع) من أصحاب الأئمة (ع):
1 - عن أبي بصير قال: أخرج إلي أبو جعفر صحيفة فيها الحلال والحرام
والفرايض، قلت: ما هذه؟ قال: هذه إملاء رسول الله (ص) وخطه علي بيده، قال:
فقلت: فما تبلى؟ قال: فما يبليها؟ قلت: وما تدرس؟ قال: وما يدرسها، قال: هي
الجامعة أو من الجامعة 5.
2 - روي عن محمد بن مسلم بسندين قال: أقرأني أبو جعفر - الإمام الباقر
شيئا من كتاب علي (ع) فإذا فيه " أنهاكم عن الجري والزمير والمار ما هي والطافي
والطحال ".
قال: قلت: يا ابن رسول الله يرحمك الله انا نؤتى بالسمك ليس له قشر، فقال:
كل ماله قشر من السمك وما ليس له قشر فلا تأكله.

1) الطلاق في العدة الاستبصار 3 / 283 والتهذيب 8 / 81 - 82 والوسائل 15 / 375 ح 28220.
2) ميراث الغرقى الكافي 7 / 136 ومن لا يحضره الفقيه 4 / 225 والوسائل 17 / 589 ح 33038.
3) قتل مقطوع اليد الكافي 7 / 316 التهذيب 10 / 277 والوسائل 9 / 82 ح 35254.
4) بصائر الدرجات ص 165.
5) بصائر ص 144.
339

وقد سبقت الإشارة إلى ستة أحاديث بأسانيد متعددة عن الإمام الصادق
روى في كلها عن كتاب علي نفس الحكم أوردنا مصادرها تحت عنوان في ما حرم اكله
من أنواع السمك 1.
3 - وفيه عن أبي بصير عن أبي جعفر، قال - أبو بصير -: كنت عنده فدعا
بالجامعة فنظر فيها أبو جعفر (ع) فإذا فيها المرأة تموت وتترك زوجها ليس لها وارث
غيره فله المال كله 2.
4 - وعن عبد الملك بن أعين قال: أراني أبو جعفر (ع) بعض كتب علي...
الحديث 3.
5 - ومنهم عبد الملك في بصائر الدرجات عن عبد الملك، قال: دعا
أبو جعفر (ع) بكتاب علي (ع) فجاء به جعفر مثل فخذ الرجل مطويا فإذا فيه...
الحديث 4.
6 - في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم قال: نظرت إلى صحيفة ينظر فيها
أبو جعفر (ع) فقرأت فيها مكتوبا: ابن أخ وجد، المال بينهما سواء، فقلت
لأبي جعفر (ع): ان من عندنا لا يقضون بهذا القضاء، ولا يجعلون لابن الأخ مع الجد
شيئا! فقال أبو جعفر (ع): اما انه املاء رسول الله (ص) وخط علي من فيه بيده.
7 - وفي رواية قال محمد بن مسلم: نشر أبو عبد الله صحيفة الفرائض فأول ما
تلقاني فيها ابن أخ وجد... الحديث 5.
يبدو ان محمد بن مسلم اخذ بعد هذا السؤال والجواب من الصحيفة شيئا غير
يسير من الفرائض مثل ما رواه عنه في الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب قال محمد
بن مسلم:
8 - أقرأني أبو جعفر (ع) صحيفة كتاب الفرائض التي هي املاء رسول

(1) ما حرم اكله من السمك في فروع الكافي 6 / 219 و 220، والتهذيب 9 / 2، والوسائل ج 16 / 332
و 400 ح 30157. 2) بصائر الدرجات ص 145.
3) بصائر الدرجات ص 162. عبد الملك بن أعين أبو الضريس الشيباني روى عن الامامين الباقر
والصادق وتوفي في عصره، قاموس الرجال 6 / 181.
4) بصائر الدرجات ص 165 ح 14، والوسائل 17 / 522 ح 32836.
5) الكافي 7 / 113، والتهذيب 9 / 308، والوسائل 17 / 87 ص 486 ح 32702، والرواية الثانية في
الكافي 7 / 112، والوسائل 17 / 475 ح 32698.
340

الله (ص) وخط علي بيده فوجدت فيها رجل ترك ابنته وأمه للابنة النصف...
الحديث بطوله 1.
9 - وفي التهذيب عن محمد بن مسلم قال: أقرأني أبو جعفر (ع) صحيفة
كتاب الفرائض التي هي الملاء رسول الله (ص) وخط علي (ع) بيده فإذا فيها ان
السهام لا تعول 2.
واستغرب - أيضا - زرارة مما رآى من اختلاف الفرائض في كتاب علي
وما لدى فقهاء مدرسة الخلفاء كما روى عمر بن أذينة عنه:
10 - عمر بن أذينة، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (ع) عن الجد فقال: ما
أجد أحدا قال فيه إلا برأيه إلا أمير المؤمنين (ع) قلت: أصلحك الله فما قال فيه
أمير المؤمنين (ع)؟ قال: إذا كان غدا فلقني حتى اقرئكه في كتاب، قلت: أصلحك
الله حدثني فإن حديثك أحب إلي من أن تقرئينه في كتاب، فقال لي الثانية: اسمع ما أقول
لك إذا كان غدا فالقني حتى أقرئكه في كتاب، فأتيته من الغد بعد الظهر وكانت
ساعتي التي كنت أخلو به فيها بين الظهر والعصر وكنت أكره أن أسأله إلا خاليا
خشية أن يفتيني من أجل من يحضره بالتقية فلما دخلت عليه أقبل على ابنه جعفر (ع)
فقال له: أقرء زرارة صحيفة الفرائض ثم قام لينام فبقيت أنا وجعفر (ع) في البيت
فقام فأخرج إلي صحيفة مثل فخذ البعير فقال: لست أقرئكها حتى تجعل لي عليك الله
أن لا تحدث بما تقرء فيها أحدا أبدا حتى آذن لك ولم يقل: حتى يأذن لك أبي، فقلت:
أصلحك الله ولم تضيق علي ولم يأمرك أبوك بذلك! فقال لي: ما أنت بناظر فيها إلا
على ما قلت لك، فقلت: فذاك لك، وكنت رجلا عالما بالفرائض والوصايا، بصيرا
بها، حاسبا لها، ألبث الزمان أطلب شيئا يلقي علي من الفرائض والوصايا لا أعلمه فلا
أقدر عليه فلما ألقى إلي طرف الصحيفة إذا كتاب غليظ يعرف أنه من كتب الأولين
فنظرت فيها فإذا فيها خلاف ما بأيدي الناس من الصلة والامر بالمعروف الذي ليس
فيه اختلاف وإذا عامته كذلك فقرأته حتى أتيت على آخره بخبث نفس وقلة تحفظ
وسقام رأى وقلت وأنا أقرؤه: باطل حتى أتيت على آخره ثم أدرجتها ودفعتها إليه،

(1) في الكافي باب ميراث الولد مع الأبوين 7 / 93، ومن لا يحضره الفقيه 4 / 192، والتهذيب 9 / 270،
والوسائل 17 / 463 ح 32702.
2) في التهذيب 9 / 247 ح 2، والوسائل 17 / 423 ح 32503.
341

فلما أصبحت لقيت أبا جعفر (ع) فقال لي: أقرأت صحيفة الفرائض؟ فقلت: نعم،
فقال: كيف رأيت ما قرأت؟ قال: قلت: باطل ليس بشئ هو خلاف ما الناس
عليه قال: فإن الذي رأيت والله يا زرارة هو الحق الذي رأيت إملاء رسول الله (ص)
وخط علي (ع) بيده فأتاني الشيطان فوسوس في صدري فقال: وما يدريه أنه إملاء
رسول الله (ص) وخط علي (ع) بيده؟ فقال لي قبل أن أنطق: يا زرارة لا تشكن، ود
الشيطان والله انك شككت وكيف لا أدري أنه إملاء رسول الله (ص) وخط
علي (ع) بيده وقد حدثني أبي عن جدي أن أمير المؤمنين (ع) حدثه ذلك، قال: قلت:
لا، كيف جعلني الله فداك وندمت على ما فاتني من الكتاب ولو كنت قرأته وأنا
أعرفه لرجوت أن لا يفوتني منه حرف 1... الحديث.
يظهر من هذه الأخبار ان المجتمع الاسلامي بعامته كان قد تعارف على تقسيم
الإرث حسب ما يقضى فقهاء مدرسة الخلفاء، واجتهد الأئمة في نشر الفرائض كما
شرحها كتاب علي عن رسول الله وكان ممن استغرب ما ورد فيه زرارة ومحمد بن
مسلم ثم تابا ورجعا إلى رواية ما قرأه في صحيفة الفرائض فان زرارة هذا يروي ويقول:
11 - أمر أبو جعفر أبا عبد الله فاقرأني صحيفة الفرائض فرأيت... الحديث 2،
ويقول عن سهمين في حديثين.
12 - أراني أبو عبد الله صحيفة الفرائض 3.
ويقول:
13 - وجدت في صحيفة الفرائض 4.
14 - وممن أراه الإمام أبو عبد الله صحيفة الفرائض أبا بصير، كما في الكافي
والتهذيب عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله عن شئ من الفرائض، فقال لي: الا
اخرج لك كتاب علي (ع)، فقلت: كتاب على لم يدرس، فقال: يا أبا محمد! ان كتاب
علي لم يدرس - وفي نسخة لا يندرس - فأخرجه فإذا كتاب جليل وإذا فيه رجل مات

(1) الكافي 7 / 94 - 95، والتهذيب 9 / 271.
2) فروع الكافي 7 / 81 ح 4، والوسائل 17 / 422 ح 32496.
3) التهذيب 9 / 273 ح 9، والوسائل 17 / 428 ح 32519، والتهذيب 9 / 306 ح 16، والاستبصار
4 / 158، والوسائل 17 / 493.
4) التهذيب 9 / 272، الكافي 7 / 94، والوسائل 18 / 463 ح 32635.
342

وترك عمه وخاله، قال: للعم الثلثان وللخال الثلث 1.
في هذا الحديث استغرب أبو بصير بقاء الكتاب قرابة قرن أو أكثر مع ما نجد
اليوم من بقاء الكتب قرونا طويلة. وفي غيره نجده غير مستغرب لذلك مثل ما ورد في
الكافي:
15 - عن أبي بصير قال: قرأ علي أبو عبد الله كتاب فرائض علي (ع) فكان
أكثرهن من خمسة أو من أربعة وأكثره من ستة أسهم.
قال المجلسي في مرآة العقول: إذا اجتمعت البنت مع أحد الأبوين تقسم
الفريضة عند الشيعة من أربعة أسهم 2.
16 - وفي الكافي والتهذيب عن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبد الله (ع)
فدعا بالجامعة فنظر فيها فإذا امرأة ماتت وتركت زوجها. لا وارث لها غيره: المال له
كله 3.
17 - وعن معتب قال: اخرج إلينا أبو عبد الله صحيفة عتيقة من صحف
علي (ع) فإذا فيها ما نقول إذا جلسنا نتشهد 4.
18 - عن ابن بكير قال: سأل زرارة أبا عبد الله عن الصلاة في الثعالب والفنك
والسنجاب وغيره من الوبر فاخرج كتابا زعم أنه املاء رسول الله (ص) فإذا فيها ان
الصلاة في وبر كل شئ حرام اكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل
شئ منه فاسد، لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله، ثم قال:
يا زرارة هذا عن رسول الله فاحفظ ذلك... الحديث 5.

(1) في الكافي 7 / 119 باب ميراث ذوي الأرحام والتهذيب 9 / 324 وفيه " لا يندرس " بدل لا يدرس،
والوسائل ج 17 / 504 ح 32771.
2) الكافي 7 / 81، والوسائل 17 / 422 ح 32498، وما نقلناه عن المجلسي في شرح حديث زرارة بمرآة
العقول.
3) الكافي 7 / 125، والتهذيب 9 / 94 ح 13، والاستبصار 4 / 149، والوسائل 17 / 512 ح 32795
تشابه حديثا أبي بصير ذو الرقم 1 و 3 عن أبي جعفر وحديثاه ذو الرقم 14 و 16 عن أبي عبد الله ويرجح عندنا أن يكون
الأولان أيضا كالأخيرين مرويين عن الإمام الصادق وتوهم الرواة أو الكتاب لدى النسخ. ومن الجائز
انهما قد وردا عن الامامين معا تشابه حديثا الامام الأب والامام الابن.
4) بصائر الدرجات 145 ح 22. معتب - مولى الإمام الصادق - ضربه المنصور الف سوط حتى مات. قاموس
الرجال 9 / 48.
5) الصلاة في مالا يحل لحمه في الكافي (3 / 397) والتهذيب (2 / 209) والاستبصار 1 / 383
والوسائل (3 / 250، ح - 5342). ابن بكير أبو علي عبد الله بن بكير بن أعين الشيباني مولاهم فطحي ثقة،
روى عن الإمام الصادق (ع) قاموس الرجال (5 / 399).
343

كان الأئمة من أهل البيت يرجعون إلى الجفر ومصحف فاطمة لاستعلام
الانباء الكائنة أحيانا، وأخرى إلى كتاب الجامعة في بيان الاحكام الاسلامية وآدابها،
يروون عن الجامعة خاصة تارة مع ذكره السند وأخرى دون ذكره السند، كما نرى ذلك
في المثالين الآتيين:
أ - حكم ميراث ابن الأخ مع الجد
قال محمد بن مسلم في روايته السابقة: نشر أبو عبد الله صحيفة الفرائض، فأول
ما تلقاني فيها ابن أخ وجد، المال بينهما نصفان، قلت: جعلت فداك، ان القضاة عندنا
لا يقضون لابن الأخ مع الجد بشئ، فقال: ان هذا الكتاب خط علي واملاء رسول
الله (ص).
ونجد في نفس الباب من الكافي روايتين أخريين بهذا المعنى دونما إشارة إلى
كتاب علي.
أولاهما: رواية أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن ابن أخ
وجد، فقال: المال بينهما نصفان.
والثانية: رواية أبي بصير، قال: سمعت رجلا يسأل أبا جعفر أو أبا عبد الله وانا
عنده: عن ابن أخ وجد، قال: يجعل المال بينهما نصفان.
ورواية ثالثة بنفس المغزى عن القاسم بن سليمان عن أبي عبد الله، قال: إن
عليا كان يورث ابن الأخ مع الجد ميراث أبيه 1.
ب - المثال الثاني قولهم في بطلان العول
العول في الاصطلاح الفقهي: زيادة سهام الورثة على الحصص المفروضة
ويحصل ذلك بوجود أحد الزوجين مع الورثة، كمن مات وخلف ابنتين وأبوين وزوجة
فللابنتين الثلثان وللأبوين السدسان والزوجة الثمن 2 ولما كانت السهام من ستة زاد

1) الروايات الأربع في الكافي 7 / 112 - 113، وأرقامها 1 و 4 و 6 و 2، وفي التهذيب 9 / 309،
والوسائل 17 / 486 - 486. والقاسم بن سليمان بغدادي روى عن الإمام الصادق - قاموس الرجال
7 / 360. 2) راجع مادة " العول " في نهاية اللغة.
344

على السهام الثمن بحسب الفرض، فمن أعال الفرائض ادخل النقص على سهام جميعهم
حسب ما هو مقرر في فقه مدرسة الخلفاء. واما في مدرسة أهل البيت فان النقص يدخل
على كل فريضة لم يهبطها الله إلى فريضة أخرى وعلى هذا فان الزوج الذي له النصف
وإذا زال عنه هبط سهمه إلى فريضة دونها وهي الربع لا يزيله عنه شئ، والزوجة التي
لها الربع فإذا زالت عنه صارت إلى الثمن لا يزيلها عنه شئ، واحد الوالدين اللذين لهما
الثلث فإذا زالا عنه صارا إلى السدس لا يزيلهما عنه شئ، ولا يدخل النقص على هؤلاء
بعد ذلك وإنما يدخل النقص على البنت والأخت فان للواحدة منهما النصف وللأكثر
الثلثان فإذا ازالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لهن الا ما بقي وعلى هذا، فان للأبوين في
المثال المذكور السدسان وللزوجة الثمن وللابنتين ما بقي من التركة 1.
وفي ما يلي روايات أئمة أهل البيت في العول:
1 - روى محمد بن مسلم والفضيل بن يسار وبريد العجلي وزرارة بن أعين،
عن أبي جعفر - الإمام الباقر - أنه قال: السهام لا تعول ولا يكون أكثر من ستة 2.
2 - عن أبي مريم الأنصاري عن أبي جعفر، قال: إن الذي يعلم رمل عالج
ليعلم ان الفرائض لا تعول على أكثر من ستة 3.
3 - عن بكير عن أبي عبد الله (ع) قال: أصل الفرائض من ستة أسهم لا تزيد
على ذلك ولا تعول عليها ثم المال بعد ذلك لأهل السهام الذين ذكروا في الكتاب 4.
4 - عن ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله، قال: سهام المواريث من
ستة أسهم لا تزيد عليها... الحديث 5.
5 - عن علي بن سعيد، قال: قلت لزرارة: ان بكير بن أعين حدثني عن
أبي جعفر، ان السهام لا تعول ولا تكون أكثر من ستة، فقال: هذا ما ليس فيه اختلاف
بين أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبد الله 6.

(1) شرح اللمعة الدمشقية ج 8 / 86 - 91.
2) الكافي 7 / 80 ح 1، والوسائل 17 / 421 ح 32494.
3) الكافي 7 / 79 ح 1، والوسائل 17 / 422، ح 32499.
4) الكافي 7 / 81 ح 7، والوسائل 17 / 422 ح 32500. بكير بن أعين أبو الجهم الشيباني ولاء، روى
عن الامامين الباقر والصادق وتوفي في عصر الصادق. قاموس الرجال 2 / 233.
5) من لا يحضره الفقيه 4 / 89 ح 5 مرسلا، والوسائل 17 / 424 ح 32505.
6) الكافي 7 / 8 ح 2. والتهذيب 9 / 248 ح 4، والوسائل 17 / 421 ح 32495. وابن أبي عمير
أبو أحمد محمد بن زياد مولى الأزد، روى عن الامامين الرضا والجواد صنف أربعا وتسعين كتابا (ت: 217 ه‍).
قاموس الرجال 8 / 3.
345

هكذا ذكر الإمامان حكم الله في هذا الامر دون ان يسنداه بينا نجدهما يسنداه
في روايات أخرى مثل الروايات التالية:
6 - عن أبي بصير، قال: قلت لأبي جعفر (ع) ربما اعيل السهام حتى تكون على
المائة أو أقل أو أكثر، فقال: ليس تجوز ستة، ثم قال: إن أمير المؤمنين كان يقول: إن
الذي احصى رمل عالج ليعلم ان السهام لا تعول على ستة، لو يبصرون وجوهها، لم تجز
ستة 1.
رمل عالج: ما تراكم من الرمل ودخل بعضه في بعض.
7 - عن أبي بصير عن أبي عبد الله - الصادق - قال: قرأ علي فرائض
علي (ع) فكان أكثرهن من خمسة أسهم وأربعة أسهم، وأكثره من ستة أسهم 2.
8 - عن محمد بن مسلم، قال: أقرأني أبو جعفر (ع) صحيفة كتاب الفرائض
التي هي املاء رسول الله وخط علي بيده فإذا فيها: ان السهام لا تعول 3.
في المثال الثاني ذكر الإمامان في عدة روايات ان السهام لا تعول ولا تزيد على
ستة وفي رواية منها: ان الذي احصى رمل عالج ليعلم ان السهام لا تعول، في هذه
الروايات ذكروا الحكم دونما ذكر سند له وفي الحديث السادس أسنده الامام إلى
أمير المؤمنين وفي السابع قرأ الامام على الراوي فرائض علي وفي الثامن اقرأ الراوي
صحيفة كتاب الفرائض التي هي املاء رسول الله وخط علي، والحكم في جميعها
واحد.
وكذلك الشأن في كتاب الإمام الرضا إلى المأمون حيث قال فيه: والفرائض
على ما انزل الله في كتابه ولا عول فيها 4.
وكذلك الامر في غير هذين المثالين مما ذكر الأئمة في حديث لهم حكما شرعيا

1) الكافي 7 / 79 ح 2، ومن لا يحضره الفقيه 4 / 187 ح 1، والتهذيب 9 / 247 ح 3، والوسائل
17 / 423 ح 32509.
2) الكافي 7 / 81 ح 6، والوسائل 17 / 422 ح 32498.
3) التهذيب 9 / 247 ح 3، والوسائل 17 / 423 ح 32503.
4) عيون أخبار الرضا 2 / 125، وتحف العقول للحسن بن علي بن شعبة الحراني " من اعلام القرن
الرابع الهجري " ط. مكتبة بصيرتي بقم ص 314 وفي لفظه اختلاف يسير والوسائل 17 / 424 ح 32508.
346

فإنهم يرجعون في جميعها إلى ما قاله جدهم الرسول (ص). الذي " وما ينطق عن الهوى
ان هو الا وحي يوحى ".
ومن هنا كان لأحاديث أئمة أهل البيت سند واحد، وحديثهم حديث واحد
وقولهم قول واحد.
ولهذا قال الإمام الصادق كما رواه ابن سنان: ليس عليكم جناح في ما
سمعتم مني ان ترووه عن أبي وليس عليكم جناح في ما سمعتم عن أبي ان ترووه عني
ليس عليكم في هذا جناح 1.
وقال في جواب أبي بصير لما قال: الحديث أسمعه منك أرويه عن أبيك، أو
أسمعه من أبيك أرويه عنك؟ قال: سواء، الا انك ترويه عن أبي أحب إلي 2.
وقال لجميل: ما سمعت مني فاروه عن أبي 3.
ولهذا قال لحفص بن البختري لما قال: نسمع الحديث منك فلا أدري منك
سماعه أو من أبيك، فقال: ما سمعته منى فاروه عن أبي وما سمعته مني فاروه عن
رسول الله (ص) 4.
ولهذا قال كما رواه هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيرهما، حديثي حديث
أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين
حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث
رسول الله (ص)، وحديث رسول الله قول الله عز وجل 5.
ولهذا قال أبو جعفر - الإمام الباقر - لجابر، لما قال له: إذا حدثتني بحديث
فاسنده لي، فقال: حدثني أبي عن جدي رسول الله، عن جبرئيل، عن الله عز وجل،
وكلما أحدثك بهذا الاسناد... الحديث 6.

(1) الوسائل ط. القديمة ج 3 / 380 رقم الحديث 85.
2) الكافي 1 / 51.
3) الكافي 1 / 51، وجميل في أصحاب الصادق أكثر من واحد.
4) الوسائل ج 3 / 380 رقم الحديث 86. وحفص بن البختري، بغدادي كوفي الأصل روى عن
الإمام الصادق، له كتاب. قاموس الرجال 3 / 355.
5) الكافي 1 / 53، وارشاد المفيد ص 257. وهشام بن سالم أبو محمد الجواليقي الجعفي ولاء، كوفي روى
عن الإمام الصادق، له كتاب. قاموس الرجال 9 / 357.
6) أمالي الشيخ المفيد ص 26.
347

ولهذا جرى الحديث التالي بين سورة بن كليب وبين زيد بن علي بن الحسين
كما رواه الكشي عن سورة، قال: قال لي زيد بن علي: يا سورة! كيف علمتم ان
صاحبكم - اي الإمام الصادق - على ما تذكرونه، قال: فقلت له: على الخبير
سقطت، قال: فقال: هات! فقلت له: كنا نأتي أخاك محمد بن علي (ع) نسأله
فيقول: قال رسول الله (ص) وقال الله عز وجل في كتابه، حتى مضى أخوك فأتيناكم
آل محمد وأنت في من أتينا، فتخبرونا ببعض ولا تخبرونا بكل الذي نسألكم عنه حتى
آتينا ابن أخيك جعفر، فقال لنا كما قال أبوه: قال رسول الله (ص) وقال تعالى،
فتبسم، وقال: اما والله ان قلت هذا فان كتب علي عنده 1.
ولهذا أقال ابن شبرمة: ما ذكرت حديثا سمعته عن جعفر بن محمد الا كاد ان
يتصدع قلبه، قال:
حدثني أبي، عن جدي، عن رسول الله - وقال ابن شبرمة: وأقسم بالله ما
كذب أبوه على جده ولا جده على رسول الله قال: قال رسول الله " من عمل بالمقاييس
فقد هلك وأهلك ومن أفتى الناس بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من
المتشابه فقد هلك وأهلك 2.
ولما كان الأئمة يعتمدون قول الله ورسوله في بيان الاحكام وعلماء مدرسة
الخلفاء يعتمدون الرأي والقياس فيه، لهذا كان يقع الخلاف بين المدرستين في بيان
الاحكام كما نرى مثاله في الحديث الآتي:
روى عذافر الصيرفي، قال: كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر (ع)
فجعل يسأله، وكان أبو جعفر له مكرما فاختلفا في شئ فقال أبو جعفر (ع): يا بني!
قم فاخرج كتابا مدروجا عظيما ففتحه وجعل ينظر حتى اخرج المسألة فقال
أبو جعفر (ع) هذا خط علي واملاء رسول الله (ص) واقبل على الحكم وقال: يا أبا محمد
اذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يمينا وشمالا فوالله لا تجدون العلم أوثق منه
عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل 3.

(1) اختيار معرفة رجال الكشي ص 376 في سورة بن كليب.
2) الكافي 1 / 43.
3) رجال الكشي 279. عذافر بن عيسى الخزاعي الصيرفي روى عن الإمام الصادق. قاموس
6 / 295. الحكم بن عتيبة الكوفي الكندي ولاء روى عن الامامين الباقر والصادق وتوفي سنة 113 - أو 14
أو 15. قاموس 3 / 375. أبو محمد مات وله نيف وستون اخرج حديثه أصحاب الصحاح التهذيب 1 / 192
سلمة بن كهيل أبو يحيى الحضرمي الكوفي أدرك الامامين الباقر والصادق. قاموس 4 / 439. أبو المقدام ثابت بن
هرمز الحداد الفارسي العجلي ولاء أدرك الامامين الباقر والصادق وهو وسلسة من البترية الذين دعوا إلى ولاية
علي وخلطوها بولاية أبي بكر وعمر ويثبتون إمامتهما ويبغضون عثمان وطلحة والزبير وعائشة ويرون الخروج مع
بطون ولد علي بن أبي طالب يذهبون في ذلك إلى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ويثبتون لكل من خرج من
ولد علي بن أبي طالب عند خروجه الإمامة. قاموس 2 / 287 - 289.
348

ما كان الأئمة من أهل البيت يتمكنون دائما من اظهار ما عندهم من احكام
الاسلام عن رسول الله خلافا لما عند مدرسة الخلفاء.
فقد قال أبو عبد الله - الصادق -: كان أبي يفتي وكان يتقى ونحن نخاف في
صيد البزاة والصقور واما الآن فانا لا نخاف ولا نحل صيدها الا ان تدرك ذكاته، فإنه
في كتاب علي (ع) ان الله عز وجل، يقول: " وما علمتم من الجوارح مكلبين " في
الكلاب 1.
كان ما ذكره الإمام الصادق من عدم خوفهم الآن وبيانهم الحكم كما هو في
كتاب أمير المؤمنين في أخريات العصر الأموي وأوائل العهد العباسي اما قبل ذلك فلم
يتمكن الأئمة من أهل البيت من التظاهر بخلاف ما عليه مدرسة الخلفاء عدا أيام حكم
الإمام علي بن أبي طالب في بيان بعض الأحكام ولذلك ظهر في أيامه الخلاف بين
المدرستين في ذلك البعض الذي بين فيه الامام وشيعته من الصحابة الحكم الصحيح
والتفسير الحق للقرآن كما ورد في الكافي والاحتجاج والوسائل ومستدركه وموجزه في
نهج البلاغة واللفظ للأول: عن سليم بن قيس الهلالي قال: قلت: لأمير المؤمنين (ع):
إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي
الله (ص) غير ما في أيدي الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في
أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله (ص) أنتم
تخالفونهم فيها وتزعمون أن ذلك كله باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله (ص)
متعمدين، ويفسرون القرآن بآرائهم؟ قال: فأقبل علي فقال: قد سألت فافهم
الجواب:
إن في أيدي الناس حقا وباطلا، وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا، وعاما
وخاصا، ومحكما ومتشابها، وحفظا ووهما، وقد كذب على رسول الله (ص) على عهده

1) الكافي 6 / 207، والتهذيب 9 / 33، والوسائل 16 / 207، وفي 220 منه باختصار.
349

حتى قام خطيبا فقال: أيها الناس قد كثرت علي الكذابة 1 فمن كذب علي متعمدا
فليتبوء مقعده من النار، ثم كذب عليه من بعده، وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس
لهم خامس: رجل منافق يظهر الايمان، متصنع بالاسلام 2 لا يتأثم ولا يتحرج أن
يكذب على رسول الله (ص) متعمدا، فلو علم الناس أنه منافق كذاب، لم يقبلوا منه ولم
يصدقوه، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله (ص) ورآه وسمع منه، وأخذوا
عنه، وهم لا يعرفون حاله، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم
فقال عز وجل: " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسع لقولهم " ثم بقوا بعده
فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال،
وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من
عصم الله، فهذا أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه، ولم يتعمد كذبا
فهو في يده، يقول به ويعمل به ويرويه فيقول: أنا سمعته من رسول الله (ص) فلو علم
المسلمون أنه وهم لم يقبلوه ولو علم هو أنه وهم لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله (ص) شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم،
أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ، ولو
علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على رسول الله (ص)، مبغض للكذب خوفا من الله
وتعظيما لرسول الله (ص)، لم ينسه 3، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم
يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ فإن
أمر النبي (ص) مثل القرآن ناسخ ومنسوخ [وخاص وعام] ومحكم ومتشابه قد كان
يكون من رسول الله (ص) الكلام له وجهان: كلام عام وكلام خاص مثل القرآن

(1) بكسر الكاف وتخفيف الذال مصدر كذب يكذب اي كثرت علي كذبة الكذابين. ويصح أيضا
جعل الكذاب بمعنى المكذوب والتاء للتأنيث أي الأحاديث المفتراة أو بفتح الكاف وتشديد الذال بمعنى الواحد
الكثير الكذب والتاء لزيادة المبالغة والمعنى: كثرت علي أكاذيب الكذابة أو التاء للتأنيث والمعنى كثرت
الجماعة الكذابة ولعل الا خبر أظهر وهذا الخبر على تقديري صدقه وكذبه يدل على وقوع الكذب عليه " ص "
وقوله: فليتبوء على صيغه الامر ومعناه الخبر. (قاله المجلسي في مرآة العقول).
2) اي: متكلف له ومتدلس به غير متصف به في نفس الامر. " مرآة العقول ".
3) في بعض النسخ [لم يسه].
350

وقال الله عز وجل في كتابه: " وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا 1 "
فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله (ص) وليس كل أصحاب
رسول الله (ص) كان يسأله عن الشئ فيفهم وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه
حتى أن كانوا ليحبون أن يجئ الاعرابي والطاري 2 فيسأل رسول الله (ص) حتى
يسمعوا.
وقد كنت أدخل على رسول الله (ص) كل يوم دخلة وكل ليله دخلة فيخليني
فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله (ص) أنه لم يصنع ذلك بأحد من
الناس غيري فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله (ص) أكثر ذلك في بيتي وكنت إذا
دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نساءه. فلا يبقى عنده غيري وإذا أتاني
للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني، وكنت إذا سألته أجابني
وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول الله (ص) آية من القرآن
إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها
ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصها وعامها، ودعا الله أن يعطيني فهمها
وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه علي وكتبته، منذ دعا الله لي بما
دعا، وما ترك شيئا علمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا
كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته، فلم أنس حرفا
واحدا، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملا قلبي علما وفهما وحكما ونورا،
فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني
شئ لم أكتبه أفتتخوف علي النسيان فيما بعد؟ فقال: لا لست أتخوف عليك النسيان
والجهل 3.
يعرف من هذا الحديث ونظائره من الامام على مع أصحابه ومن أحاديث

(1) الحشر / 7.
2) " الطاري " الغريب الذي اتاه عن قريب من غير انس به وبكلامه. (على ما فسره المجلسي ره) ثم
قال: وإنما كانوا يحبون قدومهما اما لاستفهامهم وعدم استعظامهم أو لأنه صلى الله عليه وآله كان يتكلم على
وفق عقولهم فيوضحه حتى يفهم غيرهم. مرآة العقول.
3) الكافي 1 / 62 - 63، والوسائل ط القديمة 3 / 394 حديث: 1، ومستدركه 1 / 393، واحتجاج
الطبرسي ص 134، وتحف العقول 131 - 132 وبعضه في نهج البلاغة والوافي 1 / 63. مرآة العقول 1 / 215.
351

الأئمة من ولده مع معاصريهم وخاصة الامامين الباقر والصادق ان ما كان لدى الأئمة
من تفسير القرآن وأحاديث كانت تخالف ما كان منها لدى أصحاب مدرسة الخلفاء
ومرد ذلك وسببه انه الخلفاء (الراشدين) الثلاثة لما كانوا قد منعوا الصحابة من نشر
الحديث عن رسول الله وروجوا للقصاصين أمثال تميم الداري راهب النصارى وكعب
أحبار اليهود 1 فنشر هؤلاء الإسرائيليات وأخذ منهم بعض الصحابة 2 فانتشر لدى
المسلمين زيف كثير وفي مقابل هؤلاء جاهد الإمام علي وشيعته من الصحابة أمثال
سلمان وأبي ذر وعمار والمقداد في نشر أحاديث الرسول وسيرته فظهر الخلاف بين
المدرستين في هذا الامر وتحمل بسببه بعضهم ما تحمل من التشريد والتعذيب 3
وبالإضافة إلى هذا كان الخلفاء قبله قد غيروا وبدلوا من سنة الرسول ما يخالف
سياستهم مما سماها اتباعهم من بعد باجتهاد الخلفاء أمثال ما شرحناه من موارد اجتهاد
الخلفاء في ما سبق، فلما جاء الامام إلى الحكم بعدهم حاول ان يعيد الأمة الاسلامية
إلى سنة الرسول ويغير سنن الخلفاء الراشدين الثلاثة فلم ينجح كما شرح ذلك لخاصته
في حديثه الآتي:
وإنما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع وأحكام تبتدع، يخالف فيها حكم الله
يتولى فيها رجال رجالا، ألا أن الحق لو خلص لم يكن اختلاف ولو أن الباطل خلص
لم يخف على ذي حجى، لكنه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث 4 فيمزجان
فيجللان 5 معا فهنالك يستولى الشيطان على أوليائه ونجا الدين سبقت لهم من الله
الحسنى 6، إني سمعت رسول الله (ص) يقول: كيف أنتم إذا ألبستكم فتنة يربو فيها
الصغير 7 ويهرم فيها الكبير، يجري الناس عليها ويتخذونها سنة فإذا غير منها شئ قيل:
قد غيرت السنة وقد أتى الناس منكرا ثم تشتد البلية وتسبى الذرية وتدقهم الفتنة كما

(1) نقصد براهب النصارى وكعب أحبار اليهود ما كانا عليه قبل ان يظهرا الاسلام.
2) لقد شرحنا ذلك في كتابنا من تاريخ الحديث وأشرنا إليه في باب أحاديث الرسول.
3) أشرنا إلى ذلك في ما سبق.
4) الضغث - بالكسر - قبضة من حشيش مخالطة الرطب باليابس.
5) جللت الشئ، إذا غطيته. وفي النسخ [فيجتمعان] وفي بعضها [فيجلبان].
6) إلى هنا أوردها الرضي في نهج البلاغة ورقم الخطبة في طبعة 49 وأخرى 50.
7) اي يكبر وهو كناية عن امتدادها.
352

تدق النار الحطب وكما تدق الرحا بثفالها 1 ويتفقهون لغير الله ويتعلمون لغير العمل
ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة. ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيت وخاصته
وشيعته فقال: قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله (ص) متعمدين
لخلافه، ناقضين لعهده مغيرين لسنته. ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها
وإلى ما كانت في عهد رسول الله (ص) لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل
من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول
الله (ص)، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم (ع) 2 فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول
الله (ص)، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة (ع) 3 ورددت صاع رسول الله (ص) كما
كان 4، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله (ص) لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ، ورددت
دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد 5 ورددت قضايا من الجور قضي بها 6، ونزعت
نساءا تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن 7 واستقبلت بهن الحكم في الفروج
والاحكام، وسبيت ذراري بني تغلب 8، ورددت ما قسم من أرض خيبر، ومحوت

1) بالمثلثة والفاء في النهاية: في حديث علي عليه السلام: " وتدقهم الفتن دق الرحا بثفالها " الثفال
- بالكسر -: جلدة تبسط تحت رحا اليد ليقع عليها الدقيق، ويسمى الحجر الأسفل، ثفالا بها والمعنى انها
تدقهم دق الرحا للحب إذا كانت مثفلة ولا تثفل الا عند الطحن.
2) اخر عمر مقام إبراهيم إلى موضعه اليوم وكان ملصقا بالبيت، طبقات ابن سعد 3 / 284 ط.
بيروت، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 137، وباب موافقات عمر فتح الباري 9 / 236 وقيل إن عمر أرجعه إلى
مكانه في العصر الجاهلي.
3) قصة فدك سبق شرحها.
4) الصاع في النهاية هو مكيال يسع أربعة امداد، المد عند الشافعي وفقهاء الحجاز رطل وثلث بالعراقي
وعند أبو حنيفة المد رطلان وبه اخذ فقهاء العراق فيكون الصاع خمسة أرطال وثلثا أو ثمانية أرطال، وعند الشيعة
على ما في كتاب الخلاف في حديث زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان رسول (ص) يتوضأ بمد ويغتسل
بصاع والمد رطل ونصف والصاع سنة أرطال يعنى رطل المدينة 1 ه‍. وهو تسعة بالعراقي.
5) وسع الخليفة عمر مسجد الرسول كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 137 وادخل فيه بعض الدور.
6) ذلك كقضاء عمر بالعول والتعصيب في الإرث وكقضائه بقطع السارق من معصم الكف ومفصل
ساق الرجل خلافا لما أمر به النبي (ص) من ترك الكف والعقب وانفاذه في الطلاق الثلاث المرسلة إلى غير ذلك
من قضاياه وقضايا الآخرين. (الوافي) وسمى بعضها أوليات عمر.
7) كمن طلقت بغير شهود وعلى غير طهر كما أبدعوه ونفذوه وغير ذلك (الوافي).
8) لان عمر رفع عنهم الجزية فهم ليسوا باهل ذمة فيحل سبى ذراريهم كما روي عن الرضا (ع) أنه قال: إن
بني تغلب من نصارى العرب أنفوا واستنكفوا من قبول الجزية وسألوا عمر ان يعفيهم عن الجزية ويؤدوا
الزكاة مضاعفة فخشي ان يلحقوا بالروم فصالحهم على أن صرف ذلك عن رؤسهم وضاعف عليهم الصدقة
فرضوا بذلك وقال محي السنة " البغوي " روى أن عمر بن الخطاب رام نصارى العرب على الجزية فقالوا: نحن
عرب لا نودي ما يودى العجم ولكن خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض يعنون الصدقة فقال عمر: هذا فرض الله
على المسلمين قالوا: فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية فراضاهم على أن ضعف عليهم الصدقة. مرآة العقول.
353

دواوين العطايا 1 وأعطيت كما كان رسول الله (ص) 2 يعطي بالسوية ولم أجعلها دولة
بين الأغنياء وألقيت المساحة 3، وسويت بين المناكح 4 وأنفذت خمس الرسول كما
أنزل الله عز وجل وفرضه 5 ورددت مسجد رسول الله (ص) إلى ما كان عليه 6،
وسددت ما فتح فيه من الأبواب، وفتحت ما سد منه، وحرمت المسح على الخفين،
وحددت على النبيذ 7 وأمرت باحلال المتعتين 8، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس

1) أشار بذلك إلى ما ابتدعه عمر في عهده من وضعه الخراج على أرباب الزراعات والصناعات
والتجارات لأهل العلم وأصحاب الولايات والرئاسات والجند وجعل ذلك عليهم بمنزلة الزكاة المفروضة ودون
دواوين وأثبت فيها أسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء وأثبت لكل رجل من الأصناف الأربعة ما يعطى من الخراج
الذي وضعه على الأصناف الثلاثة وفضل في اعطاء بعضهم على بعض ووضع الدواوين على يد شخص سماه
صاحب الديوان وأثبت له اجرة من ذلك الخراج ولم يكن شئ من ذلك على عهد رسول الله (ص) ولا على عهد
أبى بكر. الوافي. 2) اي لا اجعله لقوم دون قوم حتى يتداولوه بينهم ويحرموا الفقراء.
3) إشارة إلى ما عده الخاصة والعامة من بدع عمر أنه قال: ينبغي مكان هذا العشر ونصف العشر
دراهم نأخذها من أرباب الاملاك فبعث إلى البلدان من مسح على أهلها فالزمهم الخراج فاخذ من العراق
وما يليها ما كان اخذه منهم ملوك الفرس على كل جريب درهما واحدا وقفيزا من أصناف الحبوب واخذ من
مصر ونواحيها دينارا واردبا عن مساحة جريب كما كان يأخذ منهم ملوك الإسكندرية وقد روى محيي السنة
وغيره من علمائهم عن النبي (ص) أنه قال: " منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشام مدها ودينارها
ومنعت مصر أرد بها ودينارها " والأردب لأهل مصر أربعة وستون منا وفسره أكثرهم بأنه قد محى ذلك شريعة
الاسلام وكان أول بلد مسحه عمر بلد الكوفة وتفصيل الكلام في ذكر هذه البدع موكول إلى الكتب المبسوطة
التي دونها أصحابنا لذلك كالشافي للسيد المرتضى. مرآة العقول.
4) بان يزوج الشريف والوضيع كما فعله رسول الله (ص): زوج بنت عمته مقدادا. أو إشارة إلى ما
ابتدعه عمر من منعه غير قريش ان يتزوج في قريش ومنعه العجم من التزويج في العرب. الوافي.
5) إشارة إلى منع عمر أهل البيت خمسهم كما مر بيانه.
6) يعنى أخرجت منه ما زادوه فيه. " وسددت ما فتح فيه من الأبواب " إشارة إلى ما نزل به
جبرئيل (ع) من الله سبحانه من امره النبي (ص) بسد الأبواب من مسجده الا باب على وكأنهم قد عكسوا الامر
بعد رسول الله (ص). الوافي.
7) إشارة إلى ما ابتدعه عمر من إجازة المسح على الخفين في الوضوء ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم
وقد روت عائشة عن النبي (ص) أنه قال عمر: " أشد الناس حسرة يوم القيامة من رأى وضوءه على جلد
غيره ". " وحددت على النبيذ " وذلك انهم استحلوه.
8) يعني متعة النساء ومتعة الحج، قال عمر: " متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) وانا احرمهما
وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج ". مر بيانه.
354

تكبيرات 1 وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم 2 وأخرجت من أدخل مع
رسول الله (ص) في مسجده ممن كان رسول الله (ص) أخرجه، وأدخلت من اخرج
بعد رسول الله (ص) ممن كان رسول الله (ص) أدخله 3 وحملت الناس على حكم
القرآن وعلى الطلاق على السنة 4، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها 5،
ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها 6، ورددت أهل
نجران إلى مواضعهم 7، ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنة
نبيه (ص) إذا لتفرقوا عني والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في
فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة فتنادى بعض أهل عسكري ممن
يقاتل معي: يا أهل الاسلام غيرت سنة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا

1) وذلك أن النبي (ص) كان يكبر على الجنائز خمسا لكن الخليفة الثاني راقه أن يكون التكبير في
الصلاة عليها أربعا فجمع الناس على الأربع، نص على ذلك جماعه من اعلام الأمة كالسيوطي (نقلا عن
العسكري) حيث ذكر أوليات عمر من كتابه (تاريخ الخلفاء) وابن الشحنة حيث ذكر وفاة عمر سنه 23 من
كتاب (روضة المناظر) المطبوع في هامش تاريخ ابن الأثير.
2) وذلك انهم يتخافتون بها أو يسقطونها في الصلاة: ولعلهم اخذوها من الخليفة معاوية راجع تفسير
سورة الحمد بتفسير الزمخشري. 3) لعل المراد به نفسه (ع) وباخراجه سد بابه وبادخاله فتحه. الوافي.
4) وذلك انهم خالفوا القرآن في كثير من الاحكام وأبطلوا عدة من احكام الطلاق بآرائهم.
5) اي اخذتها من أجناسها التسعة وهي الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل
والغنم والبقر فإنهم أوجبوها في غير ذلك مثل زكاة الخيل. تاريخ الخلفاء ص 137.
6) ذلك انهم خالفوا في كثير منها كابداعهم في الوضوء مسح الاذنين وغسل الرجلين والمسح على
العمامة والخفين وانتقاضه بملامسة النساء ومس الذكر واكل ما مسته النار وغير ذلك مما لا ينقضه، وكابداعهم
الوضوء مع غسل الجنابة واسقاط الغسل في التقاء الختانين من غير انزال واسقاطهم من الاذان " حي على خير
العمل " وزيادتهم فيه " الصلاة خير من النوم " وتقديمهم التسليم على التشهد الأول في الصلاة مع أن الغرض من
وضعه التحليل منها وابداعهم وضع اليمين على الشمال فيها وحملهم الناس على الجماعة في النافلة وعلى صلاة
الضحى وغير ذلك راجع في اثبات كل ذلك كتاب الشافي للسيد المرتضى - رحمه الله.
7) نجران - بالفتح ثم السكون وآخره نون - وهو في عدة مواضع: منها نجران من مخاليف اليمن من
ناحية مكة وبها كان خبر الأخدود واليها تنسب كعبة نجران وكانت بيعة بها أساقفة مقيمون منهم السيد
والعاقب اللذان جاءا إلى النبي عليه السلام في أصحابهما ودعاهم إلى المباهلة وبقوا بها حتى أجلاهم عمر ونجران
أيضا موضع على يومين من الكوفة - إلى آخر ما قاله الحموي في مراصد الاطلاع ج 3 ص 1359 - وفي كيفية
أجلاء عمر إياهم وسببه راجع فتوح البلدان للبلاذري ص 77 إلى ص 79.
355

ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري 1. ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة
وطاعة أئمة... 2
إلى آخر شكوى الامام في هذه الخطبة التي يصرح فيها انه لم ينجح في ارجاع
الأمة الاسلامية إلى سنة نبيها وتجرع في سبيل ذلك الغصص حتى تمنى الموت وقال:
ما يحبس أشقاكم ان يجئ فيقتلني اللهم إني قد سئمتهم وسئموني فأرحهم مني،
وأرحني منهم 3.
وقال: متى يبعث أشقاها.
قال ذلك، لان رسول الله كان قد قال له: يا علي " أتدري من أشقى الأولين
والآخرين " قال قلت: الله ورسوله اعلم قال: " من يخضب هذه من هذه - يعني لحيته
من هامته " 4.
ولما أراح ابن ملجم الامام عليا وتغلب على الحكم معاوية أعاد إلى الأمة
جميع سنن الخلفاء التي ناهضها الإمام علي وأضاف إلى ذلك اعادته الأعراف القبلية
الجاهلية وزاد في الطين بلة بما فعل من وضعه جماعة من الصحابة والتابعين ليرووا عن
رسول الله (ص) أحاديث في تأييد سياسته كما أشرنا إليه في ما سبق وكان يحدوه إلى
ذلك بالإضافة إلى ما كان يروم من تثبيت الحكم في عقبه عداؤه لبني هاشم كما يتضح
ذلك مما رواه الزبير بن بكار في " الموفقيات "، عن المطرف بن المغيرة بن شعبة قال:
دخلت مع أبي علي معاوية، فكان أبي يأتيه فيتحدث معه، ثم ينصرف إلي
فيذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء،
ورأيته مغتما فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا فقلت: مالي أراك مغتما منذ
الليلة؟ فقال: يا بني، جئت من أكفر الناس وأخبثهم. قلت: وما ذاك؟ قال: قلت
له وقد خلوت به: انك قد بلغت سنا يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا، وبسطت خيرا
فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى اخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوالله ما
عندهم اليوم شئ تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه؟ فقال: هيهات هيهات!

(1) راجع فصل في أوليات عمر من تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 136.
2) روضة الكافي 58 - 63.
3) البحار 42 / 196.
4) البحار 42 / 195.
356

أي ذكر أرجو بقاءه؟ ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك
ذكره إلا أن يقول قائل: أبو بكر. ثم ملك أخو عدي، فأجتهد وشمر عشر سنين، فما عدا
أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر.
وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات (أشهد أن محمدا رسول
الله) فأي عمل يبقى؟ وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك؟ لا والله إلا دفنا دفنا 1.
وبسبب كل ذلك انتشر " حديث كثير موضوع وبهتان منتشر " 2 والأنكى من
ذلك رؤية المسلمين لمقام الخلافة فقد كانوا يرونه مصداقا لاولى الامر في قوله تعالى
" وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم " واغرموا بحب الخلفاء إلى حد انهم
سموا كل مخالفة منهم لاحكام القرآن وسنة الرسول اجتهادا، وعلى امتداد الأيام تعاظم
عندهم مقام الخلافة حتى أصبح في نظرهم حكمهم خلافة الله في الأرض بعد إن كان
خلافة الرسول فقد كتب مروان بن محمد وكان واليا على أرمينية إلى الوليد بن يزيد بن
عبد الملك الفاسق لما استخلف " يبارك له خلافة الله له على عباده " 3 وهذا الوليد هو
الذي سعى اخوه سليمان في قتله وقال: " اشهد أنه كان شروبا للخمر ماجنا فاسقا
ولقد أرادني على نفسي " وارد الوليد ان يشرب الخمر فوق ظهر الكعبة ولما قيل في
مجلس المهدي انه كان زنديقا قال المهدي: " خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في
زنديق " 4.
وروى أبو داود في سننه عن سليمان الأعمش، قال: جمعت مع الحجاج
فخطب... قال فيها:... فاسمعوا وأطيعوا لخليفة الله وصفيه عبد الملك بن مروان 5.
وروى أبو داود والمسعودي وابن عبد ربه واللفظ للأول. عن الربيع بن خالد
الضبي قال سمعت الحجاج يخطب فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجته أكرم
عليه أم خليفته في أهله 6.

(1) الموفقيات للزبير بن بكار ص 575 و 576 وشرح نهج البلاغة 2 / 176.
2) راجع المجلد الأول فصل في نشر حديث الرسول ص 27 - 43.
3) تاريخ ابن كثير 10 / 4.
4) تاريخ ابن كثير 10 / 7 - 8.
5) سنن أبي داود ج 4 / 210 ح 4645 في باب في الخلفاء.
6) سنن أبي داود 4 / 209 ح 4642، والمسعودي ج 3 / 147 في ذكر طرف من اخبار الحجاج، والعقد
الفريد 5 / 52.
357

وكتب إلى عبد الملك يعظم فيه أمر الخلافة ويزعم أن السماوات والأرض ما
قامتا الا بها وان الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين، وذلك أن
الله خلق آدم بيده واسجد له ملائكته وأسكنه جنته، ثم أهبطه إلى الأرض وجعله
خليفته، وجعل الملائكة رسلا إليه، فاعجب عبد الملك بذلك، وقال: لوددت ان بعض
الخوارج عندي فأخاصمه بهذا الكتاب... الحديث 1.
وفي مرة واحدة انزل من قدر الخليفة وجعله مساويا للرسول فقد قال في خطبة
كما في سنن أبي داود والعقد الفريد: ان مثل عثمان عند الله كمثل عيسى بن مريم، ثم
قرأ هذه الآية " إذا قال الله يا عيس اني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين
كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " 2.
وفي العقد الفريد: بعد " من الذين كفروا " انه أشار بيده إلى أهل الشام 3 اي
انهم الذين اتبعوا الخليفة فجعلهم الله فوق الذين كفروا وهم أهل العراق وأمر الوليد
بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري، فحفر بئرا بمكة فجاءت عذبة الماء طيبة، وكان
يستسقى منها الناس، فقال خالد في خطبته على منبر مكة: أيها الناس أيها أعظم أخليفة
الرجل على أهل أم رسوله إليهم؟ والله لو لم تعلموا فضل الخليفة الا ان إبراهيم خليل
الرحمن استسقى فسقاه ملحا أجاجا واستسقاه الخليفة فسقاه عذبا فراتا بئرا حفرها الوليد
بن عبد الملك بالثنيتين ثنية طوى وثنية الحجون فكان ينقل ماؤها فيوضع في حوض من
أدم إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم، قال الراوي: ثم غارت البئر فذهبت فلا
يدرى أين هي اليوم 4.
بلغت عصبة الخلافة 5 إلى هذا الحد من الاسفاف في توجيهها الأمة على
تقديس مقام الخلافة وخاصة مقام الخليفتين الأولين: أبي بكر وعمر (رض) وبلغت في
ذلك باخريات عهد عمر (رض) مستوى من التربية الفكرية للأمة كان مقبولا معها

(1) العقد الفريد ج 5 / 51.
2) سورة آل عمران آية / 55.
3) سنن أبي داود 4 / 209، والعقد الفريد 5 / 51.
4) في ذكر حوادث سنة تسع وثمانين من الطبري 5 / 67، وابن الأثير 4 / 205، وابن كثير 9 / 76.
5) قصدنا من لفظ العصبة معناه اللغوي وهو العصابة: اي الجماعة من الرجال وذلك ما قصده
الرسول (ع) في غزوة بدر عندما دعا ربه وقال في حق أصحابه: اللهم ان تهلك هذه العصابة لا تعبد.
358

لدى عامة المسلمين ولدى أصحاب رسول الله (ص) خاصة ان يتخذ من سيرتهما في
عداد سنة الرسول دستورا للمجتمع الاسلامي وتعقد الخلافة لعثمان على أن يعمل بسنة
خاتم الأنبياء وسيرة الخليفتين 1 وقد مر بنا في ما سبق انهما كانا يعملان برأيهما في
الاحكام فقد أسقطا سهم آل البيت خاصة وبني هاشم عامة من عامة موارد الخمس مع
وجود النص عليه في الكتاب والسنة، وأسقط أبو بكر القود والحد عن خالد بن الوليد
خلافا للنص الشرعي ووفقا لرأيه، وحرم عمر متعتي الحج والنساء وفقا لاجتهاده
وأوجد النظام الطبقي في تقسيم بيت المال، إلى غير ذلك مما بدلا فيه احكام الاسلام
وفق ما رأيا من مصلحة خاصة أو عامة، وتابعهما على ذلك الخليفة الثالث عثمان بن
عفان (رض) ولما جاء دور الإمام علي شكا من تغييرهم احكام الاسلام ولم يستطع ان
يعيدها إلى ما كانت عليه على عهد النبي (ص)، ثم جاء بعدهم الخليفة معاوية، فزاد في
الطين بلة في ما فعل وغير وبدل.
وغم بعد ذلك أمر الاحكام الاسلامية والتبس على المسلمين بحيث لم يعد
ممكنا إعادة الاحكام التي بدلها الخلفاء إلى المجتمع الاسلامي مع رؤية المسلمين
التقديسية للخلفاء الذين بدلوا تلك الأحكام فماذا صنع أئمة أهل البيت في مقابل ذلك،
وكيف استطاعوا ان يعيدوا احكام الاسلام ثانية إلى المجتمع هذا ما يأتي بيانه في باب
أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يعيدون احكام الاسلام إلى المجتمع.

(1) عبد الله بن سبأ ج 1، باب الشورى وبيعة عثمان.
359

معالم المدرستين - القسم الأول
البحث الثالث
الفصل الخامس
خلاصة بحوث المدرستين في مصادر الشريعة الاسلامية
361

القرآن والسنة والفقه والاجتهاد من مصطلحات المسلمين.
فالقرآن هو كلام الله الذي أنزله على خاتم الأنبياء باللغة العربية ويقابله في
اللغة العربية الشعر والنثر فكل كلام عربي، اما أن يكون قرآنا أو نثرا أو شعرا.
ويقال لجميع القرآن: قرآن، وللسورة قرآن، وللآية قرآن، وأحيانا لبعض
الآية قرآن، كما يقال للديوان شعر وللقصيدة والبيت والشطر شعر.
وهو مصطلح اسلامي لوروده في كلام الله وحديث الرسول. وقد عد العلماء
من أسماء القرآن بعض ألفاظ وردت وصفا لكلام في القرآن وقد استعملها الله من قبيل
الوصف والتعريف للقرآن مثل: الكتاب والذكر.
وسمى الخليفة أبو بكر القرآن بالمصحف ولما لم يرد هذا اللفظ في القرآن
والحديث النبوي الشريف سميناه بمصطلح المسلمين.
وكان رسول الله (ص) يعلم كل ما نزل عليه من القرآن نجوما، من حضره
من المسلمين وأمرهم في المدينة بكتابة القرآن وحفظه فتسابقوا إلى حفظ القرآن
وكتابته على ما حضرهم من جلد وخشب وعظم وغيرها ولما توفي الرسول (ص) بادر
الإمام علي بجمعه في كتاب وكان عند بعض الصحابة مثل ابن مسعود أيضا نسخ
خاصة بهم وأمر الخليفة أبو بكر بعض الصحابة فدونوه في نسخة وأودعها عند
أم المؤمنين حفصة وأمر الخليفة عثمان بكتابة نسخ عليها ووزعها على المسلمين في أقطار
البلاد الاسلامية فاستنسخ منها المسلمون آلاف النسخ ثم مئات الألوف وملايينها
وبقيت بأيديهم حتى اليوم شأنه شأن ألفية ابن مالك التي لم تتغير منذ كتبها ناظمها إلى
363

اليوم، لان الحوزات لم تنقطع عن تدريسه في كل الأزمنة ولم يسمع بأن لدى أحد من
المسلمين في عصر من العصور نسخة من القرآن يختلف كلمة واحدة عما في أيدينا.
اما ما ورد في بعض الأحاديث بكتب مدرسة الخلفاء أو مدرسة أهل البيت
فان تلك الروايات لم يأخذ بها أحد من المسلمين في عصر من العصور وبقيت في محلها
من كتب الحديث.
وأما مصحف فاطمة (ع) فان الأئمة من أهل البيت قالوا عنه ان فيه أسماء من
يحكم هذه الأمة من حكام وليس فيه شئ من القرآن وشأن هذه التسمية شأن تسمية
كتاب سيبويه في النحو ب‍ " الكتاب "، فإنه لم يقصد منه أنه القرآن.
أما السنة فهي في اللغة الطريقة، وفى عرف المسلمين: سيرة الرسول وحديثه
وتقريره، وقد ورد في حديث الرسول الحث على الاخذ بسنته فهي إذا من المصطلحات
الاسلامية وإن كانت دلالتها على الحديث والتقرير ضمنيا.
وينحصر طريق وصول السنة حديثا وسيرة وتقريرا بما روى عن رسول
الله (ص).
والفقه في اللغة: الفهم وفي القرآن والحديث ورد بمعنى علم الدين الاسلامي
وفي اصطلاح علماء المسلمين خص بعلم الاحكام وبما أنه استعمل في القرآن والحديث
بمعنى عامة علم الدين فاستعماله في خصوص علم الاحكام لا يخرجه عن كونه مصطلحا
اسلاميا.
والاجتهاد في عرف علماء مدرسة الخلفاء استنباط الاحكام عن طريق الكتاب
والسنة والقياس.
وفي عرف علماء مدرسة أهل البيت مساوق للفقه.
وتتفق المدرستان في الاخذ بكل ما ورد في كتاب الله وكل ما ثبت لديهم من
سنة الرسول.
وتختلفان في من يأخذون عنه سنة الرسول فان أتباع مدرسة الخلفاء تأخذ
الاحكام من كل من سموه صحابيا ولا يأخذ أتباع مدرسة أهل البيت السنة ممن
عادى الامام عليا مثل عمران بن حطان الخارجي سواء أكان المعادي للإمام علي
صحابيا أم تابعيا أم ممن جاء بعدهم لان رسول الله (ص) قال للإمام علي: " يا علي
لا يحبك الا مؤمن ولا يبغضك الا منافق " وقال الله سبحانه " من أهل المدينة مردوا
364

على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ".
واختلفت المدرستان أيضا بعد وفاة رسول الله، في نشر حديث الرسول وكتابته
فبينما مع الخلفاء الأولون إذاعة حديث الرسول وحرموا كتابته وبقي تحريم الكتابة جاريا
إلى عصر عمر بن عبد العزيز جدت مدرسة أهل البيت في إذاعة حديث الرسول وكتابته
جيلا بعد جيل.
وبالإضافة إلى ما ذكرنا اختلفت المدرستان أيضا في العمل بالرأي والاجتهاد
في الاحكام الاسلامية فبينا منعت مدرسة أهل البيت العمل بالرأي والاجتهاد في
الاحكام عملت مدرسة الخلفاء في الاحكام الاسلامية بالرأي والاجتهاد كما سنذكر
بعض أمثلتها فيما يأتي.
365

أمثلة من اجتهاد الخلفاء
في مقابل نصوص الكتاب والسنة
أ - قال الله عز وجل: " ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا "
الحشر / 59، " ما ينطق عن الهوى إن هو الا وحي، يوحى " النجم / 3، 4، " وأنزلنا
إليك الذكر لتبين للناس ما نزل لهم " النحل / 16.
وحث رسول الله (ص) على نشر حديثه وأكد وأمر بكتابة حديثه، ثم اجتهد
الخلفاء ومنعوا من نشر حديث الرسول (ص) ونهوا عن كتابته وأصبح اجتهادهم حكما
اسلاميا، ثم رووا الحديث عن رسول الله (ص) أنه نهى عن كتابة حديثه تأييدا لموقف
الخلفاء وبقي الامر كذلك، وامتنع المسلمون عن كتابة الحديث النبوي زهاء تسعين سنة
حتى إذا أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بكتابة الحديث النبوي الشريف، كتب المسلمون
من أتباع مدرسة الخلفاء حديث الرسول (ص) وألفوا المسانيد والصحاح والمصنفات
الكثيرة. الوفيرة في ذلك.
ب - قال الله عز وجل: " فأن لله خمسه ولرسوله ولذي القربى ".
وسن رسول الله (ص) ذلك وعمل به في عصره واجتهد الخلفاء وأسقطوا سهم
رسول الله (ص) وذي القربى وجعلوه في الكراع والسلاح، وأصبح اجتهادهم حكما
اسلاميا.
ج - قال الله عز وجل: " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ".
وسن رسول الله (ص) عمرة التمتع وعمل بها المسلمون في حجة الوداع. ثم
اجتهد الخلفاء ونهوا عن عمرة التمتع وأمروا بافراد الحج، وأصبح اجتهادهم حكما
اسلاميا، ثم رووا الحديث عن رسول الله (ص) بأنه أمر بافراد الحج وأنه نهى عن عمرة
366

التمتع تأييدا لموقف الخلفاء، وحج المسلمون بلا عمرة وبقى ذلك معمولا به عند بعضهم
حتى اليوم.
د - قال الله عز وجل: " فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن ".
وسن رسول الله (ص) متعة النساء وعمل بها المسلمون على عهده، ثم اجتهد
الخلفاء وحرموا متعة النساء، وأصبح اجتهادهم حكما اسلاميا، ورووا الحديث عن
رسول الله (ص) أنه نهى عن متعة النساء وامتنع أتباع مدرسة الخلفاء عن متعة النساء
حتى اليوم.
ه‍ - قال الله عز وجل: " جعل الله الكعبة البيت الحرام " وجعل مكة
وحواليها حرما آمنا.
وسن رسوله ذلك وحدد حدود حرم الله، ثم اجتهد الخلفاء، فاستباحوا حرمة
الكعبة ورموها بالمنجنيق.
و - قال الله عز وجل: " قل لا أسألكم عليه اجرا الا المودة في القربى ".
وقال رسول الله (ص) الكثير في الوصية بأهل بيته، ثم اجتهد الخلفاء، فقتلوا
سبط الرسول (ص) وأهل بيته وسبوا نساءه.
إلى الكثير مما قال الله ورسوله (ص) واجتهد الخلفاء وسنوا خلافه، وأصبح
اجتهادهم في بعضها حكما اسلاميا اتبعه المسلمون من أتباع مدرسة الخلفاء، وما أوردنا
من ذلك كان على سبيل المثال وليس الحصر فان لهم اجتهادات أخرى أيضا مثلها مما
سماها المؤرخون بالأوليات، فقد قال السيوطي - مثلا - في ذكر أوليات
عمر من تاريخه: هو أول من سن قيام شهر رمضان، أي سن الجماعة في نافلة شهر
رمضان ويسمى صلاة التراويح 1 وأول من حرم المتعة وأول من جمع الناس في صلاة
الجنائز على أربع تكبيرات 2 وأول من أعال الفرائض 3.
وقال في أوليات عثمان: هو أول من أقطع القطائع - مثل فدك أقطعها
لمروان - وأول من حمى الحمى مثل الربذة حماها لنفسه.

(1) راجع صحيح البخاري باب فضل من قام رمضان من كتاب الصيام ومسلم باب الترغيب في قيام
رمضان وطبقات ابن سعد ط. ليدن 3 ق 1 / 202 وتاريخ اليعقوبي 2 / 140 وتاريخ الطبري 5 / 32 وابن الأثير
3 / 23.
2) راجع مسند أحمد 4 / 370، و 5 / 406، وتاريخ ابن الأثير 3 / 23.
3) راجع تفصيل قول ابن عباس في مستدرك الحاكم 4 / 339.
367

وقال في أوليات معاوية: هو أول من خطب الناس قاعدا، وأول من أحدث
الاذان في العيد، وأول من نقص التكبير وأول من اتخذ مقصورة في المسجد، وأول من
عهد بالخلافة لابنه وأول من عهدها في صحته.
واجتهد الخليفة عمر أيضا في حكم الطلاق، فجعل التلفظ بالثلاثة في مجلس
واحد ثلاثة تطليقات، خلافا لما كانت عليه سنة الرسول 1 وتبديله حي على خير العمل
بالصلاة خير من النوم، في الصبح 2.
ونهيه عن البكاء على الموتى وضربه الباكين مع منع الرسول إياه عن ذلك،
وبكاء الرسول على الميت 3 وطلبه من المسلمين أن يبكوا على حمزة 4.
ونهيه عن التطوع بركعتين بعد العصر مع أن رسول الله (ص) لم يتركهما قط 5.
ومثل اتمام عثمان صلاة الرباعية في السفر مع أن الفرض فيها القصر 6.
ومثل أمر معاوية بلعن الإمام علي على جميع منابر المسلمين في جميع مساجدهم
في خطبة الجمعة والعيدين وقد استمروا على هذه السيرة منذ سنة أربعين للهجرة إلى أن
رفعها عمر بن عبد العزيز.
ومثل أفعال الخليفة يزيد!!!

(1) راجع صحيح مسلم باب طلاق الثلاث من كتاب الطلاق ومسند أحمد 1 / 314، وسنن أبي داود
في كتاب الطلاق باب نسخ المراجعة بعد الثلاث تطليقات، وسنن البيهقي 7 / 336، ومستدرك الحاكم
2 / 196، وسنن النسائي كتاب الجنائز باب عدد التكبيرات على الجنازة.
2) مصنف ابن أبي شيبة وموطأ مالك باب الاذان والتثويب، وراجع أواخر مبحث الإمامة من شرح
التجريد.
3) راجع صحيح البخاري، أبواب الجنائز، باب البكاء عند المريض، وباب يعذب الميت ببكاء
أهله عليه، وباب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، وباب قول النبي (ص) انا بك المحزونون، وصحيح مسلم في باب
البكاء على الميت من كتاب الجنائز، وباب رحمته من الصبيان والعيال من كتاب الفضائل، وتاريخ الطبري
وابن الأثير في ذكر موت أبى بكر حوادث سنة 13 ه‍. والنسائي في كتاب الجنائز، ومسند أحمد، 1 / 335،
و 2 / 333، وشرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 111.
4) مسند أحمد 2 / 40 وترجمة حمزة من الاستيعاب.
5) صحيح مسلم باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما بعد العصر، وموطأ مالك في موارد النهى عن
الصلاة بعد الصبح والعصر وراجع شرحه للزرقاني.
6) راجع صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، وصحيح البخاري في باب ما جاء في التقصير
من أبواب التقصير، ومسند أحمد 4 / 94. وتاريخ الطبري وابن الأثير في ذكر ما نقم على عثمان
368

هكذا اطردت اجتهادات الخلفاء وكبراء مدرستهم في احكام الكتاب والسنة
وكثر تبديلهم الاحكام الاسلامية وسموها بالتأويل تارة، وبالأوليات أخرى، ولكن
المشهور تسميتها بالاجتهاد وزاد في الطين بلة ما روي من أحاديث تؤيد الخلفاء في
أعمالهم وأقوالهم كما يلي بيانه:
رواية الأحاديث تبريرا لفعل الخلفاء
ضربنا في ما سبق أمثلة من اجتهادات الخلفاء في مقابل نصوص الكتاب
والسنة وتشريعهم أحكاما جديدة في الاسلام.
والأعجب من ذلك تبرع بعض المحدثين والرواة في مدرسة الخلفاء برواية
أحاديث عن لسان رسول الله (ص) أنه كان قد أمر بتلك الاجتهادات هذا مضافا إلى
ما فعله معاوية في مجال وضع الحديث تأييدا لسياسة الخلفاء كما أوضحنا كل ذلك في
محله من هذا الكتاب وغيره 1.
ومن أمثلة ما رووا عن رسول الله في تأييد الخلفاء الروايات التالية: رووا عن
رسول الله (ص) أنه نهى عن الخروج على الخلفاء، وفرض على المسلمين طاعتهم على
كل حال، مثل ما رواه مسلم وابن كثير وغيرهما عن عبد الله بن عمر واللفظ لابن
كثير، قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله، ثم تشهد، ثم
قال: أما بعد فانا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وقد سمعت رسول الله يقول:
" من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة
مات ميتة جاهلية " فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الامر،
فيكون الفيصل بيني وبينه 2.
وروى مسلم عن حذيفة أنه قال: قال رسول الله (ص): " يكون بعدي أئمة
لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في
جثمان انس " قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: " تسمع

(1) ذكرنا قسما منها في باب " مع معاوية " من كتاب أحاديث عائشة وقسما منها في محاضراتنا.
2) رواه ابن كثير في تاريخه 7 / 232 ورواه مسلم وغيره كما نقلناه عنهم قبل هذا في باب بحث الإمامة
لدى المدرستين. ليست طاعة يزيد وبيعته مصداقين لقول الرسول، وإنما مصداقه البيعة الصحيحة وطاعة الامام
بالحق مثل طاعة الرسول وبيعته.
369

وتطيع للأمير وان ضرب ظهرك واخذ مالك " 1.
وروى الأحاديث الأربعة التالية مسلم في صحيحه:
1 - عن زيد بن وهب، عن عبد الله. قال: قال رسول الله (ص): " إنها
ستكون بعدى أثرة وأمور تنكرونها " قالوا، يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك
قال: " تؤدون الذي عليكم وتسألون الذي لكم ".
2 - عن وائل الحضرمي أن سلمة بن يزيد سأل رسول الله فقال: يا نبي الله
أرأيت إن قامت علينا أمراؤنا يسألون حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا - إلى -: اسمعوا
وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم.
3 - عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: من خرج من الطاعة وفارق الجماعة
فمات مات ميتة جاهلية... وعن ابن عباس مثله.
4 - وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت رسول الله يقول " خيار
أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم. وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشراركم أئمتكم
الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم " قال قلنا: يا رسول الله أفلا
ننابذهم عند ذلك؟ قال " لا. ما أقاموا فيكم الصلاة. لا ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا
من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله،
فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة " 2.

(1) ذكرنا مصدره في بحث الإمامة بأول الكتاب وأرى الحديث موضوعا اخترع واختلق بعد وفاة
حذيفة وأسند إليه بعد سنة 36 ه‍ حيث كان قد التحق بربه وليس مجال البحث حول ذلك هاهنا.
2) صحيح مسلم كتاب الامارة ح 45 و 49 و 53 - 54 و 66.
370

رأينا في ما سبق اجتهادات للصحابة والتابعين والخلفاء منهم خاصة في احكام
اسلامية عملوا فيها برأيهم واجتهادهم في مقابل نصوص من كتاب الله وسنة رسوله، لما
اعتقدوا فيها مصلحة لسياسة الحكم أو غير ذلك، ورأينا ان اتباع مدرسة الخلفاء اتخذوا
تلك الاجتهادات مصدرا للتشريع في مقابل نصوص من كتاب الله وسنة رسوله ومن ثم
اتخذ بعض الفقهاء بمدرسة الخلفاء العمل بالرأي كالقياس والاستحسان من موارد
الاجتهاد وأصبح الاجتهاد بمدرسة الخلفاء في عداد الكتاب والسنة من مصادر التشريع
الاسلامي إلى يومنا الحاضر، وهذا من موارد الخلاف بين اتباع مدرسة أهل البيت
الذين لم يعملوا بالرأي والاجتهاد واقتصروا في العمل بالأحكام بما جاء في كتاب الله و
سنة الرسول فقد كان الأئمة من أهل البيت يعملون بما أخذوا من كتاب الله وتوارثوه من
سنة الرسول المكتوبة لديهم وعلموا الفقهاء بمدرستهم ما توارثوه من سنة الرسول ونهوا
عن العمل بالرأي والقياس والاستحسان والمسمى بالاجتهاد كما سيأتي مزيد بيانه في
البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.
وهذا، أي: إما العمل بكتاب الله وسنة رسوله وترك اجتهادات الخلفاء في
بعض الأحكام، أو بالعكس العمل باجتهادات الخلفاء فيها وترك حكم الكتاب
والسنة، مما أدى إلى الاختلاف بين المسلمين، فان الخليفة عمر - مثلا - لما اجتهد
ونهى عن عمرة التمتع في مقابل كتاب الله وسنة رسوله اللذين أمرا بها اختلف المسلمون
من بعده فمنهم من عمل بكتاب الله وسنة رسوله وأتى بعمرة التمتع في الحج مثل الحنابلة
371

والسلفية في عصرنا الحاضر ومنهم من اتبع اجتهاد الخليفة عمر في ذلك وترك العمل
بالكتاب والسنة فما السبيل إلى رفع الاختلاف وتوحيد كلمة المسلمين؟
السبيل إلى توحيد كلمة المسلمين
بناء على ما سبق ذكره ان السبيل إلى توحيد كلمة المسلمين في أمرين:
أولا: في الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله والعمل بهما في الاحكام الاسلامية
وترك اجتهاد المجتهدين من صحابة وتابعين ومجتهدين جاؤوا من بعدهم، كما فعل
المسلمون في كتابة حديث رسول الله بعد ما نسخ التحريم الخليفة عمر بن عبد العزيز فان
المسلمين تسابقوا إلى تدوين حديث رسول الله إلى عصرنا الحاضر بعد إن كان محرما
عليهم.
ثانيا: بما ان الذين رووا الحديث وكذلك الذين دونوه في الموسوعات الحديثة
ليسوا بمعصومين، ورأينا الأحاديث المتناقضة مروية عن سول الله في كتب الحديث
لا ينبغي ان نجعل انسانا من علماء الحديث كرسول الله معصوما عن الخطأ والزلل
والنسيان ولا نجعل كتابا من كتب الحديث نظير كتاب الله معصوما عن السهو
والنسيان والزلل فان كتاب الله وحده الذي لا يأتيه الباطل وان القرآن الكريم وحده
هو الصحيح من أوله إلى آخره ومصون عن الزيادة والنقصان وبناء على ذلك يجب ان
نجري البحث العلمي النزيه لمعرفة سند الحديث ومتنه: اي حديث كان وفي اي كتاب
كان.
هذا هو السبيل إلى توحيد كلمة المسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
372