الكتاب: مواقف الشيعة
المؤلف: الأحمدي الميانجي
الجزء: ١
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: رجب المرجب ١٤١٦
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

مواقف الشيعة
تأليف
علي الأحمدي الميانجي
الجزء الأول
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين - قم المشرفة
1

مواقف الشيعة
(ج 1)
تأليف: آية الله الشيخ علي الأحمدي الميانجي
الموضوع: تاريخ
طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي
عدد الأجزاء: 3 أجزاء
الطبعة: الأولى
المطبوع: 1000 نسخة
التاريخ: رجب المرجب 1416
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد والثناء لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى عترته آل الله، واللعنة
الدائمة على أعدائهم أعداء الله إلى يوم لقاء الله.
وبعد، فإن الناظر في كتب السير والموسوعات التاريخية عند المسلمين يجدها
حافلة بأخبار الملوك والأمراء وذكر مجالسهم ومحافلهم على اختلاف مستوياتها حتى
لو كانت مجالسا فاقدة للضوابط الخلقية والآداب والرسوم الشرعية، وكأن وظيفة
المؤرخ والكاتب لم تكن إلا الكتابة عن حياة الخلفاء وسلاطين الجور وما جرى عليهم
من حوادث، أما سائر الناس فلا تجد الإشارة إلى عظمائهم وما حفلت به حياتهم
من مواقف كريمة أو ما جرى عليهم من جور وظلم وتضييع للحقوق وسفك للدماء
المحترمة فضاع الكثير الكثير من الأرقام التاريخية التي يمكن لولا ذلك التضييع أن
تؤثر في نتائج الكثير من الدراسات والبحوث في مقاطع التاريخ الإسلامي والذي
يؤدي بدوره إلى إظهار كثير من الحقائق المخفية وتزييف الكثير من الدعاوى الباطلة
التي صارت سببا في تشتت الأمة وتفرق الكلمة.
وأكثر جماعة بخس حقها في هذا المجال على رغم أصالتها وموقعها المهم في
المسيرة الإسلامية هم الشيعة الإمامية لا لذنب إلا التمسك بالثقلين الشريفين
كتاب الله وعترة نبيه صلوات الله عليهم أجمعين، فلم يكتب في حقهم إلا النزر
اليسير وعلى شكل مبعثر في الكتب لا يناسب شأن هذه الجماعة وموقعها في الأمة
3

الإسلامية. هذا مضافا إلى تزوير الكثير مما يتعلق بهم وتشويه سمعتهم وإلصاق
التهم بهم، كل ذلك خدمة لأعدائهم، الأمر الذي يضاعف المسؤولية على ذوي
الأقلام النزيهة والكتاب المنصفين في حقل التاريخ أن يهبوا لنصرة الحق وتفنيد
الأباطيل وإزالة الغبار عن ناصية هذه الطائفة الغراء ولا يخافوا في الحق لومة لائم.
والكتاب - الماثل بين يديك عزيزنا القارئ - يعد واحدا من الجهود المشكورة
والمساعي المبرورة في هذا المضمار، فقد أشار فيها المؤلف سماحة آية الله الشيخ
علي الأحمدي الميانجي زيد عزه إلى الكثير من مواقف الشيعة ورجالاتها وما جرى
بينهم وبين أهل زمانهم من أحداث ووقائع ولطائف وحكايات جديرة بالاعتبار
وجمعها في كتاب واحد وسماه ب‍ " مواقف الشيعة " بعد أن كانت موزعة في
العشرات من المصادر والكتب، فجزاه الله خير الجزاء.
وقد تصدت مؤسستنا لطبع هذا الكتاب ونشره بعد تصحيحه وتنظيمه خدمة
للمكتبة الإسلامية، سائلين المولى عز شأنه للمؤلف ولمن ساهم في تهيئة هذا
الكتاب المزيد من التوفيق إنه بالاحسان والتفضل لخليق.
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
4

مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف بريته وخاتم رسله وأنبيائه
محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة
وفي كل ساعة وليا وحافظا وقائدا وناصرا ودليلا وعينا حتى تسكنه أرضك طوعا
وتمتعه فيها طويلا.
أحمدك اللهم استتماما لنعمتك واستسلاما لعزتك واستزادة لكرمك
واستعصاما من معصيتك، وأستعينك اللهم فاقة إلى كفايتك والتجاء إلى هدايتك
إنه لا يضل من هديته ولا يفتقر من كفيته ورحمته.
اللهم نور قلوبنا بمعرفتك ومعرفة نبيك وآل نبيك الطاهرين المعصومين ولاة
أمرك المأمونين على سرك، وأدخلنا في حصن ولايتهم واسلك بنا منهجهم، وألزمنا
طاعتهم وجنبنا معصيتهم.
وبعد، فقد من الله علي بإتمام طبع كتاب " مواقف الشيعة " المشتمل على
المناظرات والاحتجاجات الواقعة بين الشيعة وبين خصومهم، فرأيت أن أذكر أمورا
ترتبط بهذا الموضوع ولا يخلو ذكرها عن فائدة.
فنقول:
5

1 - الجدل والجدال كما قال الراغب: هو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة،
وأصله من جدلت الحبل أي: أحكمت فتله.
قال الطبري رحمه الله: المخاصمة والمجادلة والمناظرة والمحاجة نظائر وإن كان
بينهما فرق، فإن المجادلة هي المنازعة فيما وقع فيه خلاف بين اثنين، والمخاصمة:
المنازعة بالمخالفة بين اثنين على وجه الغلظة، والمناظرة: فيما يقع بين النظيرين،
المحاجة: في محاولة إظهار الحجة، وأصل المجادلة من الجدل وهو شدة الفتل (1).
ظاهر عبارتي الراغب والطبرسي: أن الجدال أعم من أن يكون فيه الشدة أم
لا؟ ولكن ظاهر كلام بعض اللغويين أنه ما كان بالشدة ولعله بالنظر إلى أصل
اللغة وهو اشتقاقه من جدلت الحبل أي فتلته (2).
2 - وعلى كل حال الجدال على قسمين: محمود ومذموم.
فالمحمود: ما كان لغرض ظهور الحق وإزهاق الباطل ولم يستلزم ارتكاب حرام.
قال الطبرسي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: " وجادلهم بالتي هي أحسن " (3):
ناظرهم بالقرآن وبأحسن ما عندك من الحجج وتقديره: بالكلمة التي هي أحسن.
والمعنى: افتل المشركين واصرفهم عما هم عليه من الشرك بالرفق والسكينة ولين
الجانب في النصيحة ليكونوا أقرب إلى الإجابة فإن الجدل هو فتل الخصم عن
مذهبه بطريق الحجاج، وقيل: هو أن يجادلهم على قدر ما يحتملونه (4).

(1) مجمع البيان: ج 3 \ 106 الطبعة الخامسة في تفسير قوله تعالى " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم "
الآية \ 108 من سورة النساء.
(2) قال في تاج العروس: " جدله أي الحبل أحكم فتله. قال ابن الكمال: الجدال: مراء يتعلق بإظهار
المذاهب وتقريرها. وقال الفيومي هو التخاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ثم
استعمل على لسان حملة الشرع في مقابلة الأدلة لظهور أرجحها وهو محمود إن كان للوقوف على
الحق، وإلا فمذموم ". (راجع تاج العروس: ج 7 \ 254).
(3) النحل \ 125.
(4) راجع مجمع البيان: ج 6 \ 392 الطبعة الخامسة وراجع أيضا الكشاف وتفسير ابن كثير والقرطبي.
6

وقال في تفسير قوله تعالى: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي
أحسن " (1): أي بالطريقة التي هي أحسن وإنما يكون أحسن إذا كانت المناظرة
برفق ولين الإرادة الخير والنفع بها، ومثله قوله تعالى: " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو
يخشى " (2) والأحسن الأعلى في الحسن من جهة قبول العقل له، وقد يكون أيضا
أعلى من جهة قبول الطبع وقد يكون في الآخرين جميعا. وفي هذا دلالة على وجوب
الدعاء إلى الله تعالى على أحسن الوجوه وألطفها واستعمال القول الجميل في التنبيه
على آيات الله وحججه " إلا الذين ظلموا منهم " أي إلا من أبي أن يقر بالجزية
منهم ونصب الحرب فجادلوا هؤلاء بالسيف " (3).
أقول: إذا كان الجدال والحجاج لإظهار الحق وإقامة الدليل والبرهان ولم يكن
مستلزما لإنكار الحق ولا وهنه ولا طرد الناس عن قبول الحق وكان في لين
وسكينة ورفق وبعبارة أخرى: كان بطريقة أحسن من كل الجهات فهو محمود.
ومن أجلى مصاديق الجدال بالتي هي أحسن ما حكاه الله سبحانه عن أنبيائه
العظام صلوات الله على نبينا وآله وعليهم كاحتجاجات إبراهيم ونوح وشعيب
وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام واحتجاج مؤمن آل فرعون، ومن ألطفها
ما ذكره في ذيل آية المجادلة " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا
الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد
ونحن له مسلمون " (4) حيث رخص في المجادلة بالتي هي أحسن ثم أتى بالمثال
للمجادلة بالتي هي أحسن من حيث البيان في عدم التصريح بكفرهم وإظهار
الإيمان بما جاء به نبيهم ثم التعقيب بقوله: " ونحن له مسلمون ".
والمذموم: ما كان على خلاف ما ذكر:

(1) العنكبوت \ 46.
(2) طه \ 44.
(3) المجمع: ج 8 \ 287.
(4) العنكبوت \ 46.
7

بأن كان لأجل المغالبة وإظهار القدرة والمفاخرة، أو لأجل جلب قلوب
الضعفاء من الناس ونيل الشهوات أو إطفاء نائرة الغضب وتشفى النفس.
أو كان الغرض حقا ولكن كان المجادل ضعيفا عن إقامة الدليل فيأتي بالباطل
ليثبت الحق، أو ينكر الحق للعجز عن الجواب لو اعترف به (1).
وفي الحديث: ذكر عند الصادق عليه السلام الجدال في الدين وأن رسول الله
صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام قد نهوا عنه، فقال الصادق
عليه السلام: لم ينه عنه مطلقا لكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أما
تسمعون الله يقول: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " (2) و " قوله
تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي
أحسن " (3) فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين (4) والجدال بغير التي
هي أحسن محرم وحرمه الله على شيعتنا. وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول:
" وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " (5) قال الله تعالى: " تلك
أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " (6). فجعل علم الصدق والإيمان
بالبرهان، وهل يؤتى بالبرهان إلا في الجدال بالتي هي أحسن! قيل: يا ابن رسول

(1) ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم المجادلة المذمومة وذكر أيضا الجهة الموجبة للذم، قال الله
سبحانه في سورة الحج \ 3: " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم " ذمهم بمجادلتهم من غير علم
وقال في سورة الحج \ 8: " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير " ذمهم
بمجادلتهم من غير علم ولا هداية من الله ولا كتاب. وقال في سورة غافر \ 5: " وجادلوا بالباطل ليدحضوا
به الحق " ذمهم بمجادلتهم في الباطل وبدليل باطل لإدحاض ألحق.
(2) العنكبوب \ 46.
(3) النحل \ 125.
(4) كذا في البحار: ج 2 \ 125 والاحتجاج: ج 1 \ 14 ونور الثقلين: ج 3 \ 95 والبرهان: ج 2 \ 388، وفي
كنز الدقائق ج 5 \ 419 " قد أمر به العلماء بالدين " والمعنى على هذا واضح، وعلى الأول " أن الجدال
بالتي هي أحسن جعله العلماء قرينا للدين " يعني واجب ولازم لمن كان له الدين.
(5) البقرة \ 111.
(6) البقرة \ 111.
8

الله فما الجدال بالتي هي أحسن والتي ليست بأحسن؟ قال: أما الجدال بغير التي
هي أحسن: أن تجادل مبطلا فيورد عليك فلا ترده بحجة قد نصبها الله تعالى ولكن
تجحد قوله أو تجحد حقا يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله فتجحد ذلك الحق مخافة
أن يكون له عليك فيه حجة لأنك لا تدري كيف المخلص منه فذلك حرام على
شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين. أما المبطلون فيجعلون
ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف في يده حجة له باطله، وأما
الضعفاء فتغم قلوبهم لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل. وأما الجدال التي هي
أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه
له فقال الله حاكيا عنهم " وضرب لنا مثلا " (1) الحديث (2).
أقول: قال العلامة المجلسي رحمه الله تعالى ونعم ما قال: ويظهر من الأخبار أن
المذموم منه ما كان الغرض فيه الغلبة وإظهار الكمال والفخر أو التعصب وترويج
الباطل. وأما ما كان لإظهار الحق ورفع الباطل ودفع الشبه عن الدين وإرشاد
المضلين فهو من أعظم أركان الدين لكن التمييز بينهما في غاية الصعوبة والإشكال،
وكثيرا ما يشتبه أحدهما بالآخر في بادي النظر وللنفس تسويلات خفية لا يمكن
التخلص منها إلا بفضله تعالى (3).
قال الأحمدي: ولأجل ذلك نهى الإمام عليه السلام ثلة من أصحابه عن
الجدال لما يرى فيه من الضعف في إقامة البرهان والحجة ورخص لجمع منهم أو
أمرهم على الاحتجاج والمجادلة بالتي هي أحسن. قال عليه السلام للطيار: أما
كلام مثلك فلا بأس (أي من إذا طار يحسن أن يقع وإذا وقع يحسن أن يطير). وقال
لعبد الرحمن بن الحجاج: يا عبد الرحمن كلم أهل المدينة، كان أبو الحسن

(1) يس / 79.
(2) راجع المصادر المتقدمة.
(3) البحار: ج 2 / 127.
9

عليه السلام يأمر محمد بن حكيم أن يجالس أهل المدينة، وأن يكلمهم
ويخاصمهم (1).
3 - قام بهذا الركن الديني العظيم الأنبياء العظام عليهم السلام كما حكى الله
سبحانه عنهم في القرآن الكريم وأتباعهم كمؤمن آل فرعون، وقام به رسول الله
صلى الله عليه وآله في مكة في احتجاجه صلى الله عليه وآله مع المشركين وفي
المدينة مع اليهود والنصارى والمشركين، وبعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وآله
المعصومين عليهم السلام في الدعوة إلى الله تعالى بالموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن.
وهذه الاحتجاجات مضبوطة في كتب الفريقين، وقد جمعها العلامة المحقق
أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي رحمه الله تعالى من علماء القرن
السادس في كتابه القيم " الاحتجاج ". ونقل العلامة المجلسي رحمه الله تعالى ما في
الاحتجاج وغيره في البحار.
وألف جماعة من علمائنا كتبا في الاحتجاج. وذكر العلامة المحقق المتتبع الآغا
بزرگ رحمه الله أسماء هذه الكتب وأسماء مؤلفيها في كتابه: " الذريعة إلى تصانيف
الشيعة " تحت عناوين: " الاحتجاج " و " الاحتجاجات " (2) و " رد " و " ردود " (3)
و " الجواب " و " الجوابات " (4) و " المناظرة " و " المناظرات " (5) عدا ما ذكره بأسماء
أخرى كالرسالة والرسائل والرجعة والرجوع و...
وقد أوردنا في هذا الكتاب المتواضع طرفا من احتجاجات الشيعة مع خصومهم
كي يكون تذكرة لي ولغيري. نعم قد ذكرنا استطراد الجدال بين الشيعيين أيضا.

(1) إلى غير ذلك ممن رخص لهم أو أمرهم بذلك وممن نهاهم، ذكرها العلامة المجلسي رحمه الله تعالى
في البحار ج 2 \ 127 ب 17.
(2) راجع الذريعة: ج 1 \ 281 - 284.
(3) المصدر السابق: ج 10 \ 173 - 238.
(4) المصدر السابق: ج 5 \ 170 - 241.
(5) المصدر السابق: ج 22 \ 280 - 350.
10

4 - سميناه ب‍ " مواقف الشيعة مع خصومهم " والمراد من الشيعة هنا ما اصطلح
عليه علماء العامة، فإنهم يطلقون هذا الاسم على كل من يفضل عليا على عثمان.
قال الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة
852 ه‍ في ترجمة أبان بن تغلب: فالتشيع في عرف المتقدمين هو اعتقاد تفضيل علي
على عثمان، وأن عليا كان مصيبا في حروبه، وأن مخالفه مخطئ مع تقديم الشيخين
وتفضيلهما، وربما اعتقد بعضهم أن عليا أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه
وآله، وإذا كان ذلك ورعا دينا صادقا مجتهدا فلا ترد روايته بهذا لا سيما إن كان
غير داعية. وأما الشيع في عرف المتأخرين فهو الرفض المحض، فلا تقبل رواية
الرافضي الغالي ولا كرامة (1).
وقال الحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 وفي ترجمة أبان بن تغلب: فالشيعي
الغالي في زمان السلف وعرفهم من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة
ممن حارب عليا رضي الله عنه وتعرض لسبهم، والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي
يكفر هؤلاء السادة ويتبرأ من الشيخين أيضا فهو ضال معثر... ولم يكن أبان
يعرض للشيخين أصلا بل قد يعتقد عليا أفضل منهما (2).
وقال ابن حجر المتوفى سنة 852 ه‍: والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة،
فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه ويطلق عليه رافضي وإلا فشيعي،
فإن انضاف إلى ذلك السب أو التصريح بالبغض فغال في الرفض وإن اعتقد
الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو (3).
5 - من تدبر في هذه الاحتجاجات يستفيد منها الأمور التالية.
ألف: يعرف ميزان القوة العاقلة والتفكر والدقة عند الشيعة، وأنهم علماء
وحكماء وعقلاء بل في القمة من العقليات، وأن لهم النشاط السامي في التفكر

(1) تهذيب التهذيب: ج 1 \ 54.
(2) ميزان الاعتدال: ج 2 \ 6.
(3) مقدمة فتح الباري: ص 459 و 460.
11

والتحقيق والغور في المسائل النظرية وتمييز الحق من الباطل لا يسأمون ولا يملون
فيقف طبعا عندئذ على ضعف مخالفيهم من هذه الجهات.
ب: هذه الاحتجاجات تفيد القارئ شدة اهتمام الشيعة بالأمور الدينية أصولا
وفروعا.
وقد اشتهرت الشيعة بذلك في القرون السالفة، اشتهروا بالدقة والتحري في أمور
دينهم واهتمامهم بذلك بحيث إذا رأى الناس أحدا يدقق في المسائل الدينية حكموا
بأنه رافضي. كان أسد بن عمرو على قضاء واسط فقال: رأيت قبلة واسط رديئة
جدا وتبين لي ذلك فتحرفت فيها، فقال قوم من أهل واسط: إنه رافضي، فقيل
لهم: ويلكم هذا من أصحاب أبي حنيفة (1).
ج - يظهر للقارئ المدقق المنصف فطانة الشيعة ويقظتهم وأنهم لا يخدعون،
ويتضح إحاطة الشيعة بكتب مخالفيهم وعقائدهم بعد إحاطتهم بكتبهم وعقائدهم
حتى أن الشيعي يطير ولا يقع ويفحم خصمه ولا يفحم ويغلب ولا يغلب.
د - يظهر أيضا إنصافهم في البحث وتحريهم الحق في الجدل، لا يريدون غير إبانة
الحق وانكشاف الواقع.
6 - إذا لاحظ المتدبر المنصف هذه الاحتجاجات واستنتج منها ما ذكرنا من
عقل الشيعي ودقته وتدبره وغوره في المسائل وتحريه الحقائق وتجنبه عن الباطل
والاعتساف وتحليه بالحلم والإنصاف واهتمامه بالمسائل الدينية وإحاطته بعقائد
مخالفه وتبحره في عقيدته سأل نفسه: من أين اكتسب هؤلاء هذه الفضائل؟ وفي أي
مدرسة؟ وعند أي أستاذ؟ وأجاب أكتسب من بيت الوحي وفي مدرستهم وعند أئمة
أهل البيت عليهم السلام، فيتضح له معنى قوله سبحانه: " قل لا أسألكم عليه أجرا
إلا المودة في القربى " (2) وقوله تعالى: " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري

(1) الصحيح من السيرة: ج 1 \ 20 و ج 3 \ 275.
(2) الشورى \ 23.
12

إلا على الله " (1) وقوله تعالى: " قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ
إلى ربه سبيلا " (2) حيث جعل أجر الرسالة المودة إلى القربى وأثمرت المودة الهداية
والتكامل والتقوى وكل فضيلة، ويفهم معنى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه
وآله في فضائل أهل البيت عليهم السلام كحديث الثقلين وحديث السفينة والمنزلة
وحديث أنا مدينة العلم إلى مئات وألوف من الأحاديث المضبوطة في كتب
الفريقين متواترا أو متظافرا.
وصح عندئذ ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في أهل بيته صلوات الله عليهم:
" هم عيش العلم وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن
منطقهم وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه " (3) و " وبينكم
عترة نبيكم وهم أزمة الحق وأعلام الدين ألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل
القرآن وردوهم ورود الهيم العطاش " (4) و " فيهم كرائم القرآن وهم كنوز الرحمن إن
نطقوا صدقوا وإن صمتوا لم يسبقوا " (5).
فمن صدقهم وقبل ولايتهم ونزل بمعناهم وسكن في مدارسهم - مدارس الآيات -
صار من حملة علومهم وتحلى بالفضائل وتخلى عن الرذائل وارتوى من منهل عذب
صاف نمير تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه، اللهم اجعلنا ممن يواليهم ويحبهم ويتبرأ
من أعدائهم، آمين.
7 - فمن راجع كتب المخالفين (أي أهل السنة) وشاهد كلماتهم في الشيعة
وعلمائهم رأى عجبا من الاعتساف وترك الإنصاف، وقد جمع العلامة المتتبع المحقق
الأميني في الجزء الثالث من كتابه القيم " الغدير " (6) كلماتهم في الشيعة، ولا بأس

(1) سباء \ 47.
(2) الفرقان \ 57.
(3) نهج البلاغة: الخطبة \ 145.
(4) نهج البلاغة: الخطبة \ 85.
(5) نهج البلاغة: الخطبة \ 154.
(6) راجع ص 78 - 329.
13

بالإشارة إلى بعضها:
فعن ابن عبد ربه في العقد الفريد " الرافضة يهود هذه الأمة يبغضون الإسلام
كما يبغض اليهود النصرانية ".
وعن الفرق بين الفرق للبغدادي: " لم يكن في الروافض قط إمام في الفقه ولا
إمام في رواية الحديث ولا إمام في اللغة والنحو ولا موثوق به في المغازي والسير
والتواريخ ولا إمام في التأويل والتفسير وإنما كان أئمة هذه العلوم أهل السنة
والجماعة ".
وعن كتاب الفصل " إن الروافض ليسوا من المسلمين... ".
ثم نسبوا إلى الشيعة عقائد سخيفة عجيبة مما لا يرتضيه أي شيعي، اقرأ واقض
بما أراك الله تعالى، ثم قس بين المدرستين وبين خريجيها، والحمد لله رب العالمين
وصلى الله عليه محمد وآله الطاهرين.
قم المحمية
يوم الثلاثاء 18 من المحرم الحرام عام 1415
الموافق ل‍ 7 \ 4 \ 1373 ه‍ ش
علي الأحمدي الميانجي
14

(1) المفيد رحمه الله مع الخياط
قال: وأخبرني الشيخ أيده الله قال: قال أبو القاسم الكعبي: سمعت أبا
الحسين الخياط يحتج في إبطال قول المرجئة في الشفاعة بقوله تعالى: " أفمن حق
عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار " قال: والشفاعة لا تكون إلا لمن
استحق العقاب.
فيقال له: ما كان أغفل أبا الحسين وأعظم رقدته! أترى أن المرجئة إذا
قالت: إن النبي صلى الله عليه وآله يشفع فيشفع فيمن يستحق العقاب قالوا:
إنه هو الذي ينقذ من في النار؟ أم يقولون: إن الله سبحانه هو الذي أنقذه
بفضله ورحمته وجعل ذلك إكراما لنبيه صلى الله عليه وآله؟ فأين وجه الحجة
فيما تلاه؟ أو ما علم أن من مذهب خصومه القول بالوقف في الأخبار وأنهم
لا يقطعون بالظاهر على العموم والاستيعاب؟ فلو كان القول يتضمن نفي خروج
أحد من النار لما كان ذلك ظاهرا ولا مقطوعا به عند القوم، فكيف ونفس
الكلام يدل على الخصوص دون العموم بقوله تعالى: " أفمن حق عليه
كلمة العذاب "، وإنما يعلم من المراد بذلك بدليل دون نفسه، وقد حصل
الإجماع على أنه توجه إلى الكفار، وليس أحد من أهل القبلة يدين بجواز
الشفاعة الكفار، فيكون ما تعلق به الخياط حجة عليه.
ثم قال أبو القاسم: وكان أبو الحسين - يعني الخياط - يتلو في ذلك أيضا قوله
عز وجل: " تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين *
15

وما أضلنا إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم " (1).
قال الشيخ أدام الله عزة: فيقال له: ما رأيت أعجب منكم يا معشر المعتزلة!
تتكلمون فيما قد شارككم الناس فيه من العدل والتوحيد أحسن كلام حتى إذا
صرتم إلى الكلام في الإمامة والإرجاء صرتم فيهما عامة حشوية! تخبطون خبط
عشواء، لا تدرون ما تأتون وما تذرون!
ولكن لا أعجب من ذلك، وأنتم إنما جودتم فيما عاونكم عليه غيركم
واستفدتموه من سواكم، وقصرتم فيما تفردتم به، لا سيما في نصرة الباطل الذي
لا يقدر على نصرته في الحقيقة قادر.
ولكن العجب منكم في ادعائكم الفضيلة والبينونة بها من سائر الناس،
ولو والله حكى عنكم هذا الاستدلال مخالف لكم لا رتبنا بحكايته، ولكن
لا ريب وشيوخكم يحكونه عن مشائخهم، ثم لا يقنعون حتى يوردوه على سبيل
التبجح به والاستحسان له. وأنت أيها الرجل من غلوك فيه جعلته أحد الغرر.
وأنت وإن كنت أعجمي الأصل والمنشأ فأنت عربي اللسان صحيح
الحس، وظاهر الآية في الكفار خاصة، لا يخفى ذلك على الأنباط فضلا عن
غيرهم، حيث يقول الله عز وجل حاكيا عن الفرقة بعينها وهي تعني معبوداتها
من دون الله تعالى وتخاطبها، فيقول: " إذ نسويكم برب العالمين " فيعترفون
بالشرك بالله عز وجل، ثم يقولون: " وما أضلنا إلا المجرمون " وقبل ذلك يقسمون
فيقولون: " تالله إن كنا لفي ضلال مبين ".
فهل يا أبا القاسم - أصلحك الله - تعرف أحدا من خصومك في الإرجاء
والشفاعة يذهب إلى جواز الشفاعة لعباد الأصنام المشركين بالله عز وجل
والكفار برسله عليهم السلام حتى استحسنت استدلال شيخك بهذه الآية على

(1) الشعراء: 97 - 101.
16

المشبهة زعمت والمجبرة ومن ذهب مذهبهم من العامة؟ فإن ادعيت علم ذلك
تجاهلت، وإن زعمت أنه إذا بطلت الشفاعة للكفار فقد بطلت في الفساق
أتيت بقياس طريف من القياس الذي حكي عن أبي حنيفة أنه قال: " البول
في المسجد أحيانا أحسن من بعض القياس ".
وكيف تزعم ذلك؟ وأنت إنما حكيت مجرد القول في الآية ولم تذكر وجه
الاستدلال منها.
وإن ما توهمت أن الحجة في ظاهرها غفلة عظيمة حصلت منك!
على أنه إنما يصح القياس على العلل والمعاني دون الصور والألفاظ.
والكفار إنما بطل قول من ادعى الشفاعة لهم أن لو ادعاها مدع بصريح
القرآن لا غير، فيجب أن لا تبطل الشفاعة لفساق الملة إلا بنص القرآن أيضا أو
قول من الرسول صلى الله عليه وآله يجري مجرى القرآن في الحجة، وإذا عدم
ذلك بطل القياس فيه.
مع أنا قد بينا أنك لم تقصد القياس وإنما تعلقت بظاهر القرآن، وكشفنا
عن غفلتك في التعلق به، فليتأمل ذلك أصحابك وليستحيوا لك منه.
على أنه قد روي عن الباقر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب عليهم السلام أنه قال: في هذه الآية دليل على وجود الشفاعة، قال:
وذلك أن أهل النار لو لم يروا يوم القيامة الشافعين يشفعون لبعض من استحق
العقاب فيشفعون ويخرجون بشفاعتهم من النار أو يعفون عنها بعد الاستحقاق لما
تعاظمت حسراتهم ولا صدر عنهم هذا المقال، لكنهم لما رأوا شافعا يشفع
فيشفع وصديقا حميما يشفع لصديقة فيشفع عظمت حسرتهم عند ذلك وقالوا:
" فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين ".
ولعمري إن مثل هذا الكلام لا يرد إلا عن إمام هدى أو من أخذ عن أئمة
الهدى عليهم السلام!
17

فأما ما حكاه أبو القاسم الكعبي فيليق بمقال الخياطين، ونتيجة عقول
السخفاء والضعفاء في الدين (1).
(2)
المفيد مع المخالفين
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه: سئل في مجلس الشريف أبي الحسن أحمد
بن القاسم العلوي المحمدي أدام الله عزه فقيل له: ما الدليل على أن أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام كان أفضل الصحابة؟ فقال: الدليل على ذلك
قول النبي صلى الله عليه وآله: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من
هذا الطائر " فجاء أمير المؤمنين عليه السلام وقد ثبت أن أحب الخلق إلى الله
عز وجل أعظمهم ثوابا عند الله تعالى وأن أعظم الناس ثوابا لا يكون إلا لأنه
أشرفهم أعمالا وأكثرهم عبادة لله تعالى، وفي ذلك برهان على فضل أمير المؤمنين
عليه السلام على الخلق كلهم سوى الرسول عليه وآله السلام.
فقال له السائل: ما الدليل على صحة هذا الخبر؟ وما أنكرت أن يكون غير
معتمد، لأنه إنما رواه أنس بن مالك وحده، وأخبار الآحاد ليست بحجة فيما
يقطع على الله عز وجل بصوابه.
فقال الشيخ أدام الله عزه: هذا الخبر وإن كان من أخبار الآحاد على
ما ذكرت من أن أنس بن مالك رواه وحده، فإن الأمة بأجمعها قد تلقته
بالقبول، ولم يروا أن أحدا رده على أنس ولا أنكر صحته عند روايته، فصار
الإجماع عليه هو الحجة في صوابه، ولم يخل ببرهانه كونه من أخبار الآحاد بما
شرحناه.
مع أن التواتر قد ورد بأن أمير المؤمنين عليه السلام احتج به في مناقبه يوم

(1) البحار: ج 10 ص 428 - 431.
18

الدار، فقال: أنشدكم الله، هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه
وآله: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر " فجاء أحد
غيري؟ قالوا: اللهم لا، قال: اللهم اشهد، فاعترف الجميع بصحته. ولم يك
أمير المؤمنين عليه السلام ليحتج بباطل لا سيما وهو في مقام المنازعة والتوصل
بفضائله إلى أعلى الرتب التي هي الإمامة والخلافة للرسول صلى الله عليه وآله
وإحاطة علمه بأن الحاضرين معه في الشورى يريدون الأمر دونه، مع قول النبي
صلى الله عليه وآله: " علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار " وإذا كان
الأمر على ما وصفناه دل على صحة الخبر حسبما بيناه.
فاعترض بعض المجبرة فقال: إن احتجاج الشيعة برواية أنس من أطرف
الأشياء، وذلك أنهم يعتقدون تفسيق أنس بل تكفيره فيقولون: إنه كتم
الشهادة في النص حتى دعا عليه أمير المؤمنين عليه السلام ببلاء لا يواريه
الثياب، فبرص على كبر السن ومات وهو أبرص، فكيف يستشهد برواية
الكافرين؟.
فقالت المعتزلة: قد أسقط هذا الكلام الرجل ولم يجعل الحجة في الرواية أنسا،
وإنما جعلها الإجماع، فهذا الذي أوردته هذيان، وقد تقدم إبطاله.
فقال السائل: هب إنا سلمنا صحة الخبر، ما أنكرت أن لا يفيد ما ادعيت
من فضل أمير المؤمنين عليه السلام على الجماعة، وذلك: أن المعنى فيه " اللهم
ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي " يريد أحب الخلق إلى الله عز وجل في
الأكل معه، دون أن يكون أراد أحب الخلق إليه في نفسه لكثرة أعماله، إذ قد
يجوز أن يكون الله سبحانه يحب أن يأكل مع نبيه من غيره أفضل منه، ويكون
ذلك أحب إليه للمصلحة.
فقال الشيخ أدام الله عزه: هذا الذي اعترضت به ساقط، وذلك أن محبة
الله تعالى ليست ميل الطباع وإنما هي الثواب، كما أن بغضه وغضبه ليسا
19

باهتياج وإنما هما العقاب، ولفظ " أفعل " في أحب وأبغض لا يتوجه إلا إلى
معناهما من الثواب والعقاب، ولا معنى على هذا الأصل لقول من زعم: أن
أحب الخلق إلى الله عز وجل يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وآله توجه إلى
محبة الأكل، والمبالغة في ذلك بلفظ " أفعل " لأنه يخرج اللفظ عما ذكرناه من
الثواب إلى ميل الطباع، وذلك محال في صفة الله سبحانه.
وشئ آخر: وهو أن ظاهر الخطاب يدل على ما ذكرناه، دون ما عارضت به أن
لو كانت المحبة على غير معنى الثواب، لأنه صلى الله عليه وآله قال: " اللهم
ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر " وقوله: " بأحب خلقك
إليك " كلام تام، وبعده: " يأكل معي من هذا الطائر " كلام مستأنف
ولا يفتقر الأول إليه، ولو كان أراد ما ذكرت لقال: " اللهم ائتني بأحب خلقك
إليك في الأكل معي " فلما كان اللفظ على خلاف هذا وكان على ما ذكرناه لم
يجز العدول عن الظاهر إلى محتمل على المجاز.
وشئ آخر: وهو أنه لو تساوى المعنيان في ظاهر الكلام لكان الواجب عليك
تحميلهما اللفظ معا، دون الاقتصار على أحدهما، إلا بدليل، لأنه لا يتنافى الجمع
بينهما، فيكون أراد بقوله: " أحب خلقك إليك " في نفسه وللأكل معي، وإذا
كان الأمر على ما بيناه سقط اعتراضك.
فقال رجل من الزيدية - كان حاضرا - للسائل: هذا الاعتراض ساقط على
أصلك وأصلنا، لأنا نقول جميعا: إن الله تعالى لا يريد المباح، والأكل مع النبي
صلى الله عليه وآله مباح وليس بفرض ولا نفل فيكون الله يحبه، فضلا عن أن
يكون بعضه أحب إليه من بعض. وهذا السائل من أصحاب أبي هاشم،
فلذلك أسقط الزيدي كلامه على أصله، إذ كان يوافقه في الأصول على مذهب
أبي هاشم.
فخلط السائل هنيئة، ثم قال للشيخ أدام الله عزه: فأنا أعترض باعتراض
20

آخر، وهو أن أقول: ما أنكرت أن يكون هذا القول إنما أفاد أن عليا عليه السلام
كان أفضل الخلق في يوم الطائر، ولكن بم تدفع أن يكون قد فضله قوم من
الصحابة عند الله تعالى بكثرة الأعمال والمعارف بعد ذلك؟ وهذا الأمر لا يعلم
بالعقل، وليس معك سمع في نفس الخبر يمنع من ذلك، فدل على أنه
عليه السلام أفضل من الصحابة كلهم إلى وقتنا هذا، فإنا لم نسألك عن فضله
عليهم وقتا بعينه.
فقال الشيخ أدام الله عزه: هذا السؤال أوهن مما تقدم، والجواب عنه أيسر،
وذلك: أن الأمة مجمعة على إبطال قول من زعم أن أحدا اكتسب أعمالا
زادت على الفضل الذي حصل لأمير المؤمنين عليه السلام على الجماعة، من قبل
أنهم بين قائلين:
فقائل يقول: إن أمير المؤمنين عليه السلام كان أفضل من الكل في وقت
الرسول صلى الله عليه وآله ولم يساوه أحد بعد ذلك، وهم الشيعة الإمامية
والزيدية وجماعة من شيوخ المعتزلة وجماعة من أصحاب الحديث.
وقائل يقول: إنه لم يبن لأمير المؤمنين عليه السلام في وقت من الأوقات
فضل على سائر الصحابة يقطع به على الله تعالى ويجزم الشهادة بصحته، ولا بان
لأحد منهم فضل عليه، وهم الواقفة في الأربعة من المعتزلة، منهم: أبو علي وأبو
هاشم وأتباعهما.
وقائل يقول: إن أبا بكر كان أفضل من أمير المؤمنين عليه السلام في وقت
الرسول صلى الله عليه وآله وبعده، وهم جماعة من المعتزلة وبعض المرجئة
وطوائف من أصحاب الحديث.
وقائل يقول: إن أمير المؤمنين عليه السلام خرج عن فضله بحوادث كانت
منه فساواه غيره، وفضل عليه من أجل ذلك من لم يكن له فضل عليه، وهم
الخوارج جماعة من المعتزلة، منهم: الأصم والجاحظ وجماعة من أصحاب
21

الحديث أنكروا قتال أهل القبلة.
ولم يقل أحد من الأمة: إن أمير المؤمنين عليه السلام كان أفضل عند الله
سبحانه من الصحابة كلهم ولم يخرج عن ولاية الله عز وجل ولا أحدث معصية
الله تعالى ثم فضل عليه غيره بعمل زاد به ثوابه على ثوابه، ولا جوز ذلك فيكون
معتبرا، فإذا بطل الاعتبار به للاتفاق على خلافه سقط، وكان الإجماع حجة
يقوم مقام قول الله تعالى في صحة ما ذهبنا إليه، فلم يأت بشئ.
ذاكراني الشيخ أدام الله عزه هذه المسألة بعد ذلك فزادني فيها زيادة
ألحقتها:
وهي أن قال: إن الذي يسقط ما اعترض به السائل من تأويل قول النبي
صلى الله عليه وآله: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك " على المحبة للأكل معه
دون محبته في نفسه بإعظام ثوابه بعد الذي ذكرناه في إسقاطه: أن الرواية
جاءت عن أنس بن مالك أنه قال: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله أن
يأتيه الله تعالى بأحب الخلق إليه قلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار ليكون
لي الفضل بذلك، فجاء علي عليه السلام فرددته وقلت له: رسول الله على
شغل، فمضى، ثم عاد ثانية، فقال لي: استأذن على رسول الله صلى الله عليه
وآله فقلت له: إنه على شغل، فجاء ثالثة فاستأذنت له ودخل، فقال له النبي
صلى الله عليه وآله: قد كنت سألت الله أن يأتيني بك دفعتين، ولو أبطأت علي
الثالثة لأقسمت على الله عز وجل أن يأتيني بك.
فلولا أن النبي صلى الله عليه وآله سأل الله عز وجل أن يأتيه بأحب خلقه
إليه في نفسه وأعظمهم ثوابا عنده وكانت هذه من أجل الفضائل لما آثر أنس
أن يختص بها قومه، ولولا أن أنسا فهم ذلك من معنى كلام الرسول صلى الله
عليه وآله لما دافع أمير المؤمنين عليه السلام عن الدخول ليكون ذلك الفضل
لرجل من الأنصار فيحصل له جزء منه.
22

وشئ آخر: وهو أنه لو احتمل معنى لا يقتضي الفضيلة لأمير المؤمنين
عليه السلام لما احتج به أمير المؤمنين عليه السلام يوم الدار، ولا جعله شاهدا على
أنه أفضل من الجماعة، وذلك: أنه لو لم يكن الأمر على ما وصفناه وكان محتملا
لما ظنه المخالفون - من أنه سأل ربه تعالى أن يأتيه بأحب الخلق إليه في الأكل
معه - لما أمن أمير المؤمنين عليه السلام من أن يتعلق بذلك بعض خصومه في
الحال أو يشتبه ذلك على إنسان، فلما احتج به على القوم واعتمده في البرهان
دل على أنه لم يك مفهوما منه إلا فضله. وكان إعراض الجماعة أيضا عن دفاعه
عن ذلك بتسليم ما ادعي دليلا على صحة ما ذكرناه.
وهذا بعينه يسقط قول من زعم: أنه يجوز مع إطلاق النبي صلى الله عليه
وآله في أمير المؤمنين عليه السلام ما يقتضي فضله عند الله تعالى على الكافة وجود
من هو أفضل منه في المستقبل، لأنه لو جاز ذلك لما عدل القوم عن الاعتماد
عليه، ولجعلوه شبهة في منعه مما ادعاه من القطع على نقصانهم عن في الفضل،
وفي عدول القوم عن ذلك دليل على أن القول مقيد بإطلاق فضله عليه السلام
ومؤمن من بلوغ أحد منزلته في الثواب بشئ من الأعمال، وهذا بين لمن
تدبره (1).
(3)
المفيد مع أبي بكر بن صراما
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه وكلامه: حضر الشيخ مجلس أبي منصور
ابن المرزبان، وكان بالحضرة جماعة من متكلمي المعتزلة، فجرى كلام وخوض
في شجاعة الإمام.
فقال أبو بكر بن صراما: عندي أن أبا بكر الصديق كان من شجعان

(1) البحار: ج 10 ص 431 - 436.
23

العرب ومتقدميهم في الشجاعة!.
فقال الشيخ أدام الله عزه: من أين حصل ذلك عندك؟ وبأي وجه
عرفته؟.
فقال: الدليل على ذلك: أنه رأى قتال أهل الردة وحده في نفر معه،
وخالفه على رأيه ذلك جمهور الصحابة، وتقاعدوا عن نصرته، فقال: أما والله،
لو منعوني عقالا لقاتلتهم، ولم يستوحش من اعتزال القوم له، ولا ضعف ذلك
نفسه ولا منعه من التصميم على حربهم، فلولا أنه كان من الشجاعة على حد
يقصر الشجعان عنه: لما أظهر هذا القول عند خذلان القوم له.
فقال الشيخ أدام الله عزه: ما أنكرت على من قال لك: إنك لم تلجأ إلى
معتمد عليه في هذا الباب، وذلك أن الشجاعة لا تعرف بالحس لصاحبها فقط
ولا بادعائها، وإنما هي شئ في الطبع يمده الاكتساب، والطريق إليها أحد
الأمرين: إما الخبر عنها من جهة علام الغيوب المطلع على الضمائر جلت عظمته
فيعلم خلقه حال الشجاع وإن لم يبد منه فعل يستدل به عليها. والوجه الآخر:
أن يظهر منه أفعال يعلم بها حاله، كمبارزة الأقران ومقاومة الشجعان ومنازلة
الأبطال والصبر عند اللقاء وترك الفرار عند تحقق القتال، ولا يعلم ذلك أيضا
بأول وهلة ولا بواحدة من الفعل حتى يتكرر ذلك على حد يتميز به صاحبه
ممن حصل له ذلك اتفاقا أو على سبيل الهوج والجهل بالتدبير.
وإذا كان الخبر عن الله سبحانه بشجاعة أبي بكر معدوما وكان هذا الفعل
الدال على الشجاعة غير موجود للرجل فكيف يجوز لعاقل أن يدعي له
الشجاعة بقول قاله ليس من دلالتها في شئ عند أحد من أهل النظر
والتحصيل؟ لا سيما ودلائل جبنه وهلعه وخوفه وضعفه أظهر من أن يحتاج فيها
إلى التأمل، وذلك أنه لم يبارز قط قرنا ولا قاوم بطلا ولا سفك بيده دما، وقد
شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله مشاهده، فكان لكل أحد من الصحابة
24

أثر في الجهاد إلا له، وفر في يوم أحد، وانهزم في يوم خيبر، وولى الدبر يوم التقى
الجمعان، وسلم رسول الله صلى الله عليه وآله في هذه المواطن مع ما كتب الله
عز وجل عليه من الجهاد، فكيف تجتمع دلائل الجبن ودلائل الشجاعة لرجل
واحد في وقت واحد لولا أن العصبية تميل بالعبد إلى الهوى؟.
وقال رجل من طياب الشيعة كان حاضرا: عافاك الله، أي دليل هذا؟
وكيف يعتمد عليه؟ وأنت تعلم أن الإنسان قد يغضب فيقول: لو سامني
السلطان هذا الأمر قبلته، وإن عندنا لشيخا ضعيف الجسم ظاهر الجبن يصلي
بنا في مسجدنا، فما يحدث أمر يضجره وينكره إلا قال: والله لأصبرن على هذا
أو لأجاهدن فيه ولو اجتمعت فيه ربيعة ومضر.
فقال: ليس الدليل على الشجاعة ما ذكرت دون غيره، والذي اعتمدنا عليه
يدل كما يدل الفعل والخبر، ووجه الدلالة فيه: أن أبا بكر باتفاق لم يكن
مؤوف العقل ولا غبيا ناقصا، بل كان بالإجماع من العقلاء، وكان بالاتفاق
جيد الآراء، فلو لا أنه كان واثقا من نفسه عالما بصبره وشجاعته لما قال هذا
القول بحضرة المهاجرين والأنصار، وهو لا يأمن أن يقيم القوم على خلافه
فيخذلونه ويتأخرون عنه ويعجز هو لجبنه أن لو كان الأمر على ما ادعيتموه
عليه، فظهر منه الخلف في قوله، وليس يقع هذا من عاقل حكيم، فلما ثبتت
حكمة أبي بكر دل مقاله الذي حكينا على شجاعته كما وصفناه.
فقال الشيخ أدام الله عزه: ليس تسليمنا لعقل أبي بكر وجودة رأيه تسليما لما
ادعيت من شجاعته بما رويت عنه من القول، ولا يوجب ذلك في عرف
ولا عقل ولا سنة ولا كتاب، وذلك أنه وإن كان ما ذكرت من الحكمة فليس
يمنع أن يأتي بهذا القول من جبنه وخوفه وهلعه ليشجع أصحابه، ويحض
المتأخرين عنه على نصرته، ويحثهم على جهاد عدوه، ويقوي عزمهم في معونته،
ويصرفهم عن رأيهم في خذلانه، وهكذا يصنع الحكماء في تدبيراتهم، فيظهرون
25

من الصبر ما ليس عندهم، ومن الشجاعة ما ليس في طبايعهم حتى يمتحنوا الأمر
وينظروا في عواقبه، فإن استجاب المتأخرون عنهم ونصرهم الخاذلون لهم، وكلوا
الحرب إليهم وعقلوا الكلفة بهم، وإن أقاموا على الخذلان واتفقوا على ترك
النصرة لهم والعدول عن معونتهم أظهروا من الرأي خلاف ما سلف، وقالوا: قد
كانت الحال موجبة للقتال وكان عزمنا على ذلك تاما، فلما رأينا أشياعنا
وعامة أتباعنا يكرهون ذلك أوجبت الضرورة إعفاءهم عما يكرهون والتدبير
لهم بما يؤثرون، وهذا أمر قد جرت به عادات الرؤساء في كل زمان ولم يكن
تنقلهم من رأي إلى رأي مسقطا لأقدارهم عند الأنام.
فلا ينكر أن يكون أبو بكر إنما أظهر التصميم على الحرب لحث القوم على
موافقته في ذلك، ولم يبد لهم جزعه لئلا يزيد ذلك في فشلهم ويقوى به رأيهم،
واعتمد على أنهم إن صاروا إلى أمره ونجع هذا التدبير في تمام غرضه فقد بلغ
المراد، وإن لم ينجع ذلك عدل عن الرأي الأول كما وصفناه في حال الرؤساء
في تدبيراتهم.
على أن أبا بكر لم يقسم بالله تعالى في قتال أهل الردة بنفسه وإنما أقسم
بأنصاره الذين اتبعوه على رأيه، وليس في يمينه بالله سبحانه لينفذن خالدا
وأصحابه ليصلوا بالحرب دليل على شجاعته في نفسه.
وشئ آخر: وهو أن أبا بكر قال هذا القول عند غضبه لمباينة القوم له،
ولا خلاف بين ذوي العقول أن الغضبان يعتريه عند غضبه من هيجان الطباع
ما يفسد عليه رأيه، حتى يقدم من القول على ما لا يفي به عند سكون نفسه،
ويعمل من الأعمال ما يندم عليه عند زوال الغضب عنه، ولا يكون وقوع ذلك
منه دليلا على فساد عقله ووجوب إخراجه عن جملة أهل التدبير، وقد صرح
بذلك الرجل في خطبته المشهورة عنه التي لا يختلف اثنان فيها، وأصحابه خاصة
يصولون بها ويجعلونها من مفاخره، حيث يقول: " إن رسول الله صلى الله عليه
26

وآله خرج من الدنيا وليس أحد يطالبه بضربة سوط فما فوقها، وكان صلى
الله عليه وآله معصوما من الخطأ يأتيه الملائكة بالوحي، فلا تكلفوني ما كنتم
تكلفونه، فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني،
" أوثر في أشعاركم وأبشاركم " فقد أعذر هذا الرجل إلى القوم فيما يأتيه عند
غضبه من قول وفعل، ودلهم على الحال فيه، فلذلك أمن من نكير المهاجرين
والأنصار عليه مقاله عند غضبه مع إحاطة العلم منهم بما لحقه في الحال من
خلاف المخالفين عليه حتى بعثه على ذلك المقال، فلم يأت بشئ (1).
(4)
المفيد مع الزيدية
قال الشيخ أدام الله حراسته: كان يختلف إلي حدث من أولاد الأنصار
يتعلم الكلام، فقال لي يوما: اجتمعت البارحة مع الطبراني شيخ من الزيدية،
فقال لي: أنتم يا معشر الإمامية حنبلية وأنتم تستهزؤون بالحنبلية! فقلت: وكيف
ذلك؟ فقال: لأن الحنبلية تعتمد على المنامات وأنتم كذلك، والحنبلية تدعي
المعجز لأكابرها وأنتم كذلك، والحنبلية ترى زيارة القبور والاعتكاف عندها
وأنتم كذلك، فلم يكن عندي جواب أرتضيه، فما الجواب؟.
قال الشيخ أدام الله عزه: فقلت له: ارجع إليه وقل له: قد عرضت ما ألقيته
علي على فلان، فقال: قل له: إن كانت الإمامية حنبلية بما وصفت أيها الشيخ
فالمسلمون بأجمعهم حنبلية، والقرآن ناطق بصحة الحنبلية وصواب مذاهب
أهلها.
وذلك أن الله عز وجل يقول: " إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد
عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين * قال يا بني لا تقصص

(1) البحار: ج 10 ص 436 - 439.
27

رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للانسان عدو مبين "
فأثبت الله جل اسمه المنام، وجعل له تأويلا عرفه أولياءه عليهم السلام وأثبته
الأنبياء ودانت به خلفاؤهم وأتباعهم من المؤمنين، واعتمدوه في علم ما يكون،
وأجروه مجرى الخبر مع اليقظة وكالعيان له. وقال سبحانه: " ودخل معه السجن
فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي
خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نريك من المحسنين " فنبأهما بتأويله،
وذلك على تحقيق منه لحكم المنام، وكان سؤالهما مع جهلهما بنبوته دليلا على أن
المنامات حق عندهم والتأويل لأكثرها صحيح إذا وافق معناها. وقال عز
اسمه: " وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف
وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم
للرؤيا تعبرون * قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين " ثم
فسرها يوسف عليه السلام فكان الأمر كما قال. وقال سبحانه في قصة إبراهيم
وإسماعيل عليهما السلام: " فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام
أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من
الصابرين " فأثبتا عليهما السلام الرؤيا وأوجبا الحكم بها، ولم يقل إسماعيل
لأبيه عليه السلام: يا أبت لا تسفك دمي برؤيا رأيتها، فإن الرؤيا قد تكون من
حديث النفس وأخلاط البدن وغلبة الطباع بعضها على بعض، كما ذهبت إليه
المعتزلة.
فقول الإمامية في هذا الباب ما نطق به القرآن، وقول هذا الشيخ هو قول
الملأ من أصحاب الملك حين قالوا: " أضغاث أحلام ". ومع ذلك فإنا لسنا
نثبت الأحكام الدينية من جهة المنامات، وإنما نثبت من تأويلها ما جاء به
الأثر عن ورثة الأنبياء عليهم السلام.
فأما قولنا في المعجزات: فهو كقول الله تبارك وتعالى: " وأوحينا إلى أم
28

موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه
إليك وجاعلوه من المرسلين " فضمن هذا القول تصحيح المنام، إذ كان الوحي
إليها في المنام يعلمها بما كان قبل كونه. وقال سبحانه في قصة مريم عليها السلام:
" فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله
آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة
والزكاة ما دمت حيا " فكان نطق المسيح معجزا لمريم عليها السلام إذ كان
شاهدا ببراءة ساحتها، وأم موسى ومريم لم تكونا نبيتين ولا مرسلتين، ولكنهما
كانتا من عباد الله الصالحين، فعلى مذهب هذا الشيخ كتاب الله تعالى
يصحح الحنبلية.
وأما زيارة القبور: فقد أجمع المسلمون على زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله
حتى أنه من حج ولم يزره فقد جفاه وثلم حجه بذلك الفعل، وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: " من سلم علي من عند قبري سمعته ومن سلم علي من
بعيد بلغته عليه سلام الله ورحمته وبركاته. وقال صلى الله عليه وآله للحسن عليه
السلام:
" من زارك بعد موتك أو زار أباك أو زار أخاك فله الجنة ". وقال له
عليه السلام أيضا في حديث له أول مشروح في غير هذا الكتاب: " تزورك
طائفة من أمتي يريدون به بري وصلتي، فإذا كان يوم القيامة زرتها في الموقف،
فأخذت بأعضادها فأنجيتها من أهواله وشدائده ".
ولا خلاف بين الأمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما فرغ من حجة
الوداع لاذ بقبر قد درس، فقعد عنده طويلا، ثم استعبر، فقيل له: يا رسول الله،
ما هذا القبر؟ فقال: " هذا قبر أمي آمنة بنت وهب، سألت الله في زيارتها فأذن
لي ". وقال صلى الله عليه وآله: " قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا
29

فزوروها، وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروها ". وقد كان
أمر صلى الله عليه وآله في حياته بزيارة قبر حمزة عليه السلام وكان يلم به
وبالشهداء. ولم تزل فاطمة عليها السلام بعد وفاته صلى الله عليه وآله تغدوا إلى
قبره وتروح. والمسلمون يناوبون على زيارته وملازمة قبره.
فإن كان ما تذهب إليه الإمامية من زيارة مشاهد الأئمة عليهم السلام
حنبلية وسخفا من العقل فالاسلام مبني على الحنبلية، ورأس الحنبلية
رسول الله صلى الله عليه وآله! وهذا قول متهافت جدا يدل على قلة دين قائله
وضعف رأيه وبصيرته.
ثم قلت له: يجب أن تعلمه أن الذي حكيت عنه قد حرف القول وقبحه
ولم يأت على وجه.
والذي نذهب إليه في الرؤيا: أنها على أضرب، فضرب منها يبشر الله به
عباده ويحذرهم، وضرب تحزين من الشيطان وكذب يخطره ببال النائم،
وضرب من غلبة الطباع بعضها على بعض.
ولسنا نعتمد على المنامات كما حكى، لكنا نأنس بما يبشر به ونتخوف مما
يحذر فيها، من وصل إليه شئ من علمها عن ورثة الأنبياء عليهم السلام ميز بين
حق تأويلها وباطله، ومن لم يصل إليه شئ من ذلك كان على الرجاء
والخوف.
وهذا يسقط ما لعله سيتعلق به في منامات الأنبياء عليهم السلام من أنها
وحي، لأن تلك مقطوع بصحتها، وهذه مشكوك فيها. مع أن منها أشياء قد
اتفق ذو والعادات على معرفة تأويلها حتى لم يختلفوا فيه ووجدوه حسنا.
وهذا الشيخ لم يقصد بكلامه الإمامية، لكنه قصد الأمة ونصر البراهمة
والملحدة. مع أني أعجب من هذه الحكاية عنه، وأنا أعرفه يميل إلى مذهب أبي
هاشم ويعظمه ويختاره، وأبو هاشم يقول في كتابه " المسألة في الإمامة ": إن أبا
30

بكر رأى في المنام كأن عليه ثوبا جديدا عليه رقمان، ففسره على النبي صلى
الله عليه وآله فقال له: إن صدقت رؤياك فستخبر بولد وتلي الخلافة سنتين "
فلم يرض شيخه أبو هاشم أن أثبت المنامات حتى أوجب له الخلافة وجعلها
دلالة على الإمامة! فيجب على قول هذا الشيخ الزيدي عند نفسه أن يكون أبو
هاشم رئيس المعتزلة عنده حنبليا، بل يكون أبو بكر حنبليا، بل رسول الله
صلى الله عليه وآله! لأنه صحح المنام وأوجب به الأحكام، وهذا من بهرج
المقال (1).
(5)
المفيد مع شيخ المعتزلة
ثم قال رضي الله عنه: ومن حكايات الشيخ أيده الله قال: حضرت مجمعا
لقوم من الرؤساء، وكان فيهم شيخ من أهل الري معتزلي، يعظمونه لمحل سلفه
وتعلقه بالدولة، فسئلت عن شئ من الفقه، فأفتيت فيه على المأثور عن الأئمة
عليهم السلام.
فقال ذلك الشيخ: هذه الفتيا تخالف الإجماع: فقلت له: عافاك الله، من
تعني بالإجماع؟ فقال: الفقهاء المعروفين بالفتيا في الحلال والحرام من فقهاء
الأمصار. فقلت: هذا أيضا مجمل من القول، فهل تدخل آل محمد عليهم السلام
في جملة هؤلاء الفقهاء، أم تخرجهم من الإجماع؟ فقال: بل أجعلهم في صدر
الفقهاء، ولو صح عنهم ما تروونه لما خالفناه.
فقلت له: هذا مذهب لا أعرفه لك ولا لمن أومأت إليه ممن جعلتهم
الفقهاء، لأن القوم بأجمعهم يرون الخلاف على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليه السلام وهو سيد أهل البيت في كثير مما قد صح عنه من الأحكام،

(1) البحار: ج 10 ص 439 - 443.
31

فكيف تستوحشون من خلاف ذريته وتوجبون على أنفسكم قبول قولهم على
كل حال؟.
فقال: معاذ الله! ما نذهب إلى هذا ولا يذهب إليه أحد من الفقهاء، وهذه
شناعة منك على القوم بحضرة هؤلاء الرؤساء.
فقلت له: لم أحك إلا ما أقيم عليه البرهان، ولا ذكرت إلا معروفا لا يمكن
أحدا من أهل العلم دفعي عنه لما هو عليه من الاشتهار، لكنك أنت تريد
أن تتجمل بضد مذهبك على هؤلاء الرؤساء. ثم أقبلت على القوم، فقلت:
لا خلاف عند شيوخ هذا الرجل وأئمته وفقهائه وسادته أن أمير المؤمنين
عليه السلام قد يجوز عليه الخطأ في شئ يصيب فيه عمرو بن العاص زيادة على
ما حكيت عنه من المقال! فاستعظم القوم ذلك وأظهروا البراءة من معتقده،
وأنكره هو وزاد في الإنكار. فقلت له: أليس من مذهبك ومذهب هؤلاء
الفقهاء أن عليا عليه السلام لم يكن معصوما كعصمة النبي صلى الله عليه
وآله؟ قال: بلى. قلت: فلم لا يجوز عليه الخطأ في شئ من الأحكام؟ فسكت.
ثم قلت له: أليس عندكم أن أمير المؤمنين عليه السلام قد كان يجتهد رأيه
في كثير من الأحكام، وأن عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن
شعبة كانوا من أهل الاجتهاد؟ قال: بلى. قلت له: فما الذي يمنع من إصابة
هؤلاء القوم ما يذهب على أمير المؤمنين عليه السلام من جهة الاجتهاد مع ارتفاع
العصمة عنه وكون هؤلاء القوم من أهل الاجتهاد؟ فقال: ليس يمنع من ذلك
مانع. قلت له: فقد أقررت بما أنكرت الآن، ومع هذا فليس من أصلك أن
كل أحد بعد النبي صلى الله عليه وآله يؤخذ من قوله ويترك إلا ما انعقد عليه
الإجماع. قال: بلى. قلت له: أفليس هذا يسوغكم الخلاف على أمير المؤمنين
عليه السلام في كثير من أحكامه التي لم يقع عليه الإجماع؟.
وبعد، فليست لي حاجة إلى هذا التعسف، ولا أنا مفتفر فيما حكيت إلى هذا
32

الاستدلال، لأنه لا أحد من الفقهاء إلا وقد خالف أمير المؤمنين عليه السلام في
بعض أحكامه ورغب عنها إلى غيرها، وليس فيهم أحد وافقه في جميع ما حكم
به من الحلال والحرام.
وإني لأعجب من إنكارك ما ذكرت، وصاحبك الشافعي يخالف
أمير المؤمنين عليه السلام في الميراث والمكاتب ويذهب إلى قول زيد فيهما!
ويروي عنه أنه كان لا يرى الوضوء من مس الذكر، ويقول هو: إن الوضوء منه
واجب وإن عليا عليه السلام خالف الحكم فيه بضرب من الرأي! وحكى
الربيع عنه في كتابه المشهور: أنه لا بأس بصلاة الجمعة والعيدين خلف كل
أمين وغير مأمون ومتغلب، صلى علي بالناس وعثمان محصور، فجعل الدلالة
على جواز الصلاة خلف المتغلب على أمر الأمة صلاة الناس خلف علي في زمن
حصر عثمان، فصرح بأن عليا كان متغلبا، ولا خلاف أن المتغلب على أمر
الأمة فاسق ضال. وقال: لا بأس بالصلاة خلف الخوارج، لأنهم متأولون وإن
كانوا فاسقين.
فمن يكون هذا مذهبه ومقالة إمامه وفقيهه يزعم معه أنه لو صح له عن
أمير المؤمنين شئ أو عن ذريته لدان به! لولا أن الذاهب إلى هذا يريد التلبيس.
وليس في فقهاء الأمصار - سوى الشافعي - إلا وقد شارك الشافعي في الطعن
على أمير المؤمنين - عليه السلام - وتزييف كثير من قوله والرد عليه في أحكامه، حتى
أنهم يصرحون بأن الذي يذكره أمير المؤمنين - عليه السلام - في الأحكام معتبر، فإن
أسنده إلى النبي - صلى الله عليه وآله - قبلوه منه على الظاهر العدالة، كما يقبلون
من أبي موسى الأشعري وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة ما يسندونه إلى النبي صلى
الله عليه وآله بل كما يقبلون من حمال في السوق على ظاهر العدالة ما يرويه
مسندا إلى النبي - صلى الله عليه وآله - فأما ما قال أمير المؤمنين - عليه السلام - من غير
إسناد إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - كان موقوفا على سيرهم ونظرهم
33

واجتهادهم، فإن وضح صوابه فيه قالوا به من حيث النظر، لا من حيث حكمه
به وقوله، وإن عثروا على خطيئة فيه اجتنبوه وردوه عليه وعلى من اتبعه فيه،
فزعموا أن آراءهم هي المعيار على قوله - عليه السلام -.
وهذا ما لا يذهب إليه من وجد في صدره جزء من مودته - عليه السلام - وحقه
الواجب له وتعظيمه الذي فرضه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله: بل
لا يذهب إلى هذا القول إلا من رد على رسول الله - صلى الله عليه وآله - قوله:
" علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار " وقوله صلى الله عليه وآله ": أنا
مدينة العلم وعلي بابها " وقوله صلى الله عليه وآله: " علي أقضاكم " وقول
أمير المؤمنين عليه السلام: ضرب رسول الله - صلى الله عليه وآله - يده على صدري
وقال: " اللهم اهد قلبه وثبت لسانه " فما شككت في قضاء بين اثنين.
فلما ورد عليه هذا الكلام تحير، وقال: هذه شناعات على الفقهاء والقوم،
لهم حجج على ما حكيت عنهم.
فقال له بعض الحاضرين: نحن نبرأ إلى الله من هذا المقال وكل دائن به.
وقال له آخر: إن كان مع القوم حجج على ما حكاه الشيخ فهي حجج على
إبطال ما ادعيت أولا من ضد هذه الحكاية، ونحن نعيذك بالله أن تذهب إلى
هذا القول! فإن كل شئ تظنه حجة عليه فهو كالحجة في إبطال نبوة النبي
- صلى الله عليه وآله -. فسكت مستحييا مما جرى، وتفرق الجمع (1).
(6)
المفيد مع بعض المعتزلة
قال الشيخ أدام الله عزه: قال لي يوما بعض المعتزلة: لو كان ما تدعونه من
هذا الفقه الذي تصيفونه إلى جعفر بن محمد وأبيه وابنه - عليهم السلام - حقا وأنتم

(1) البحار: ج 10 ص 443 - 445.
34

صادقون في الحكاية عنهم لوجب أن يقع لنا - معشر مخالفيكم - العلم الضروري
بصحة ذلك حتى لا نشك فيه، كما وقع لكم صحة الحكاية عن أبي حنيفة
ومالك والشافعي وداود وغيرهم من فقهاء الأمصار برواية أصحابهم عنهم،
فلما لم نعلم صحة ما تدعونه مع سماعنا لأخباركم وطول مجالستنا لكم دل على
أنكم متخرصون في ذلك! وبعد فما بال كل من عددنا من فقهاء الأمصار قد
استفاض عنهم القول في الفتيا استفاضة منعت من الريب في مذاهبهم، وأنتم
أئمتكم أعظم قدرا من هؤلاء وأجل خطرا، لا سيما مع ما تعتقدون فيهم: من
العصمة وعلوا المنزلة والفضل على جميع البرية، والبينونة من الخلق بالمعجزة وما
اختصوا به من خلافة الرسول - عليه وآله السلام - وفرض الطاعة على الجن والأنس؟
وإن هذا لشئ عجيب!
قال الشيخ أدام الله عزه: فقلت له: إن الجواب عن هذا السؤال قريب
جدا، غير أني أقلبه عليك، فلا يمكنك الانفصال منه إلا بإخراج من ذكرت
من جملة أهل العلم ونفي المعرفة عنهم وإسقاط مقال من زعمت أنهم كانوا من
أصحاب الفتيا، والعلم الضروري حاصل لكل من سمع الأخبار بضد ذلك
وخلافه، وأنهم - عليهم السلام - كانوا من أجلة أهل الفتيا.
وذلك: أننا وإن كنا كاذبين على قولك فلا بد لهؤلاء القوم - عليهم السلام -
من مقال في الفتيا يتضمن بعض ما حكيناه عنهم، فما بالنا معشر الشيعة، بل
ما بالكم - معشر الناصبة - لا تعلمون مذاهبهم على الحقيقة بالضرورة، كما تعلمون
مذاهب أهل الحجاز والعراق ومن ذكرت من فقهاء الأمصار؟ فإن زعمت
أنك تعلم لهم في الفتيا مذهبا بخلاف ما نحكيه عنهم علم اضطرار - مع تديننا
بكذبك في ذلك - لم نجد فرقا بيننا وبينك إذا ادعينا أننا نعلم صحة ما نحكيه
عنهم بالاضطرار، وإنك وأصحابك تعلمون ذلك، ولكنكم تكابرون العيان،
وهذا ما لا فصل فيه.
35

فقال: إنما لم نعلم مذهبهم باضطرار، لأنه مبثوث في مذاهب الفقهاء إذا
كانوا - عليهم السلام - يختارون ما اختاروا من قول الصحابة والتابعين، فتفرق
مجموع أخبارهم في مذاهب الفقهاء.
فقلت له: فإن هذا بعينه موجود في مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي
ومن عددت، لأن هؤلاء تخيروا من أقوال الصحابة والتابعين، فكان يجب أن
لا نعلم مذاهبهم باضطرار، على أنك إن قنعت بهذا الاعتلال، فأنا نعتمد عليه
في جوابك، فنقول: إننا إنما تعرفنا على علم الاضطرار بمذاهبهم عليهم السلام،
لأن الفقهاء تقسموا مذاهبهم المنصوصة عندنا، فدانوا بها على سبيل الاختيار،
لأن قولهم متفرق في مقال الفقهاء، فلذلك لم يقع العلم به باضطرار.
فقال: فهب أن الأمر كما وصفت، ما بالنا لا نعلم ما رويتم عنهم من
خلاف جميع الفقهاء علم اضطرار؟.
فقلت له: ليس شئ مما تومئ إليه إلا وقد قاله صحابي أو تابعي وإن
اتفق من ذكرت من فقهاء الأمصار على خلافه الآن، فلما قدمنا مما رضيته
من الاعتلال لم يحصل علم الاضطرار. مع أنك تقول لا محالة: بأن قولهم
عليهم السلام في هذه الأبواب بخلاف ما عليه غيرهم فيها، وهو ما أجمع عليه
عندك فقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين بإحسان، فما بالنا لا نعلم ذلك
من مقالهم علم اضطرار؟ وليس هو مما تحدثته مذاهب الفقهاء ولا اختلف فيه
عندك من أهل الإسلام أحد، فبأي شئ تعلقت في ذلك تعلقنا به في إسقاط
سؤالك، والله الموفق للصواب.
فلم يأت بشئ تجب حكايته، والحمد لله.
قال السيد رضي الله عنه مؤلف الفصول المختارة، وقلت للشيخ عقيب هذه
الحكاية لي: إن حمل هؤلاء القوم أنفسهم على أن يقولوا: إن جعفر بن محمد وأباه
محمد بن علي وابنه موسى بن جعفر عليهم السلام لم يكونوا من أهل الفتيا
36

لكنهم كانوا من أهل الزهد والصلاح؟.
قال: يقال لهم: هب أنا سامحناكم في هذه المكابرة وجوزناها لكم، أليس
من قولكم وقول كل مسلم وذمي وعدو لعلي بن أبي طالب عليه السلام وولي
له: إن أمير المؤمنين عليه السلام كان من أهل الفتيا؟ فلا بد من أن يقولوا: بلى
فيقال لهم: فما بالنا لا نعلم جميع مذاهبه في الفتيا كما نعلم جميع مذاهب من
عددتموه من فقهاء الأمصار بل من الصحابة كزيد وابن مسعود وعمر بن
الخطاب؟.
إن قالوا إنكم تعلمون ذلك باضطرار، قلنا لهم: وذلك هو ما تحكونه أنتم عنه
أو ما نحكيه نحن مما يوافق حكايتنا عن ذريته عليهم السلام. فإن قالوا: هو
ما نحكيه دونكم، قلنا لهم: ونحن على أصلكم في إنكار ذلك مكابرون. وإن
قالوا: نعم، قلنا لهم: بل العلم حاصل لكم بما نحكيه عنه خاصة وأنتم في إنكار
ذلك مكابرون، وهذا ما لا فصل فيه.
وهو أيضا يسقط اعتلالهم في عدم العلم الضروري بمذاهب الذرية لما
ذكروه من تقسيم الفقهاء لها، لأن أمير المؤمنين عليه السلام قد سبق الفقهاء
الذين أشاروا إليهم، وكان مذهب علي عليه السلام متفردا. فإن اعتلوا بأنه
كان منقسما في قول الصحابة فهم أنفسهم ينكرون ذلك، لروايتهم عنه
الخلاف، مع أنه يجب أن لا يعرف مذهب عمرو ابن مسعود، لأنهما كانا
منقسمين في مذاهب الصحابة. وهذا فاسد من القول بين الاضمحلال.
قال الشيخ أدام الله عزه: وهذا كلام صحيح، ويؤيده علمنا بمذاهب
المختارين من المعتزلة والزيدية والخوارج، مع انبثاثها في أقوال الصحابة
والتابعين وفقهاء الأمصار.
وقال الشيخ أدام الله حراسته: وقد ذكرت الجواب عما تقدم من السؤال
في هذا الباب في كتابي المعروف ب‍ " تقرير الأحكام " ووجوده هناك يغني عن
37

تكراره ها هنا، إذ هو في موضعه مستقصى عن البيان (1).
(7)
المفيد مع علي بن نصر
ثم قال السيد رحمه الله: قال الشيخ أدام الله تأييده: سألني أبو الحسن علي
ابن نصر الشاهد - بعكبرا في مسجده وأنا متوجه إلى سر من رأى - فقال: أليس قد
ثبت عندنا أن أمير المؤمنين عليه السلام كان أعلم الصحابة كلها وأعرفها بمعالم
الدين، وكانوا يستفتونه ويتعلمون منه لفقرهم إليه، وكان غنيا عنهم لا يرجع إلى
أحد منهم في علم ولا يستفيد عليه السلام منهم؟ فقلت: نعم هذا قولنا، وهو
الواضح الذي لا خفاء به ولا يمكن عاقلا دفعه ولا يقدم أحد على إنكاره، إلا أن
يرتكب البهت والمكابرة.
فقال أبو الحسن: فإن بعض أهل الخلاف قد احتج علي في دفع هذا بأن
قال: وردت الرواية عن علي عليه السلام أنه قال: " ما حدثني أحد بحديث إلا
استحلفته عليه، ولقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر " فلو كان يعلم
عليه السلام جميع الدين ولا يفتقر إلى غيره لما أحتاج إلى استحلاف من يحدثه،
ولا الاستظهار في يمينه ليصح عنده علم ما أخبر به. وقد روى أيضا أنه صلوات
الله عليه حكم في شئ، فقال له شاب من القوم: أخطأت يا أمير المؤمنين! فقال
عليه السلام: صدقت أنت وأخطأت. فماذا يكون الجواب عن هذا الكلام؟
وكيف الطريق إلى حله؟.
فقلت: أول ما في هذا الكلام: أن الأخبار لا تتقابل ويحكم ببعضها على
بعض حتى تتساوى في الصفة، فيكون الظاهر المستفيض مقابلا لمثله في
الاستفاضة، والمتواتر مقابلا لمثله في التواتر، والشاذ مقابلا لمثله في الشذوذ،

(1) البحار: ج 10 ص 443 - 448.
38

وما ذكرناه عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام مستفيض قد تواتر به الخبر على
التحقيق، وما ذكره هذا الرجل عنه عليه السلام من الحديثين: فأحدهما شاذ
وارد من طريق الآحاد غير مرضي الإسناد، والآخر ظاهر البطلان، لانقطاع
إسناده وعدم وجوده في نقل معروف من الثقات، وليس يجوز المقابلة في مثل
هذه الأخبار، بل الواجب إسقاط الظاهر منها الشاذ، وإبطال المتواتر ما ضاده
من الآحاد.
والثاني: أنه لما ذكره الخصم من الحديث الأول عن أمير المؤمنين عليه السلام
غير وجه، يلائم ما ذكرناه من فضل مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه في العلم
على سائر الأنام.
منها: أنه صلوات الله عليه إنما كان يستحلف على الأخبار لئلا يجترئ
مجترئ على الإضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بسماع ما لم يسمعه منه،
وإنما ألقي إليه عنه فحصل عنده بالبلاغ.
ومنها: أنه عليه السلام كان يستحلف مع العلم بصدق المخبر ليتأكد خبره
عند غيره من السامعين، فلا يشك فيه ولا يرتاب
ومنها: أنه عليه السلام كان استحلف فيما عرفه يقينا ليكون ذلك حجة له إذا
حكم على أهل العناد، ولا يقول منهم قائل عند حكمه بذلك: قد حكم بالشاذ.
ومنها: أن يكون استحلافه صلوات الله عليه للمخبر بما لا يتضمن حكما في
الدين ويتضمن أدبا وموعظة ولفظة حكمة أو مدحة لإنسان أو مذمته، فلا يجب
إذا علم ذلك من غيره أن يكون فقيرا في علم الدين إليه وناقصا في العلم عن
رتبته.
على أن لفظ الحديث " ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته " فهذا يوجب
بالضرورة أنه كان يستحلف على ما يعلم، لأنه محال أن يكون كل من حدثه بما
لا يعلم، فإذا ثبت أنه قد استحلف على علم لأحد ما ذكرناه أو لغيره من العلل
39

بطل ما اعتمده هذا الخصم.
وأما الحديث الثاني: فظهور بطلانه أوضح من أن يخفى، وذلك: أنه قال فيه:
إن شابا قال له: ليس الحكم فيه ذلك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام على
ما زعم الخصم: أصبت أنت وأخطأت، وهذا واضح السقوط على ما بيناه، لأنه
لا يخلو، مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، أن يكون حكم بالخطأ مع علمه بأنه
خطأ، أو يكون حكم بالخطأ وهو يظن أنه صواب، فإن كان حكم بالخطأ
على أنه خطأ عاند في دين الله وضل بإقدامه على تغيير حكم الله، وهو صلوات
الله عليه يجل عن هذه الرتبة، ولا يعتقد مثل هذا فيه الخوارج فضلا عمن دونهم
في عداوته من الناصبة، وإن كان حكم بالخطأ وهو يظن أنه صواب، فكيف
زال ظنه عن ذلك فانتقل عنه بقول رجل واحد لا يعضده برهان؟ فهذا
ما لا يتوهم على أحد من أهل الأديان.
على أنه لو كان لهذا الحديث أصل أو كان معروفا عند أحد من أهل الآثار
لكان الرجل مشهورا معروفا بالعين والنسب مشهور القبيلة والمكان، ولكان
أيضا الحكم الذي جرى فيه هذا الأمر مشهورا عند الفقهاء ومدونا عند أصحاب
الأخبار. وفي عدم معرفة الرجل وتعين الحكم وعدمه من الأصول دليل على
بطلانه، كما بيناه.
على أن الأمة قد اتفقت عنه صلوات الله عليه أنه قال " ضرب رسول الله
صلى الله عليه وآله بيده على صدري وقال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه، فما
شككت في قضاء بين اثنين " وهذا مضاد لوقوع الخطأ منه في الأحكام، ومانع
لدخول الشك عليه في شئ منها والارتياب.
وأجمعوا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " علي مع الحق والحق مع
علي، يدور حيثما دار " وليس يجوز أن يكون من هذا وصفه يخطئ في الدين أو
يشك في الأحكام.
40

وأجمعوا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " علي أقضاكم " وأقضى
الناس ليس يجوز أن يخطئ في الأحكام، ولا يكون غيره أعلم منه بشئ من
الحكم.
فدل ذلك على بطلان ما اعترض به الخصم، وكشف عن وهيه على البيان.
وبالله التوفيق وإياه لنستهدي إلى سبيل الرشاد (1).
(8)
المفيد مع رجل من الزيدية
قال السيد المرتضى رضي الله عنه: وحضر الشيخ أبو عبد الله أدام الله عزه
بمسجد الكوفة فاجتمع إليه من أهلها وغيرهم أكثر من خمسمائة إنسان فابتدر له
رجل من الزيدية أراد الفتنة والشناعة، فقال: بأي شئ استجزت إنكار إمامة
زيد بن علي؟ فقال له الشيخ: إنك قد ظننت علي ظنا باطلا، وقولي في زيد
لا يخالفني عليه أحد من الزيدية، فلا يجب أن يتصور مذهبي في ذلك بالخلاف.
فقال له الرجل: وما مذهبك في إمامة زيد بن علي؟ فقال له الشيخ: أنا
أثبت من إمامة زيد رحمه الله ما تثبته الزيدية، وأنفي عنه من ذلك ما تنفيه!
فأقول: إن زيدا رحمة الله عليه كان إماما في العلم والزهد والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وأنفي عنه الإمامة الموجبة لصاحبها العصمة والنص والمعجز.
وهذا ما لا يخالفني عليه أحد من الزيدية حيثما قدمت.
فلم يتمالك جميع من حضر من الزيدية أن شكروه ودعوا له، وبطلت حيلة
الرجل فيما أراد من التشنيع والفتنة (2).

(1) البحار: ج 10 ص 448 - 451.
(2) البحار: ج 10 ص 451.
41

(9) المفيد مع أبي علي ابن شاذان
قال السيوطي في " تنوير الحوالك " في شرح موطأ مالك في البحث عن أن
الأنبياء عليهم السلام يورثون أم لا؟ ناقلا عن الباجي: وقالت الإمامية: إن
جميع الأنبياء يورثون، وتعلقوا في ذلك بأنواع من التخليط لا شبهة فيها، مع ورود
هذا النص، يعني حديث " لا نورث ما تركناه صدقة "، قال - أي الباجي -: وقد
أخبرني القاضي أبو جعفر السماني أن أبا علي ابن شاذان - وكان من أهل العلم
بهذا الشأن إلا أنه لم يكن قرأ عربية - فناظر يوما في هذه المسألة أبا عبد الله بن
المعلم - وكان إمام الإمامية وكان مع ذلك من أهل العلم بالعربية - فاستدل ابن
شاذان على أن الأنبياء لا يورثون بحديث " إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه
صدقة " فقال له ابن المعلم: أما ما ذكرت من هذا الحديث فإنما هو " صدقة "
نصب على الحال، فيقتضي ذلك: أن ما تركه النبي صلى الله عليه وآله على
وجه الصدقة لا يورث عنه، ونحن لا نمنع هذا، وإنما نمنع ذلك فيما تركه على غير
هذا الوجه.
واعتمد هذه النكتة العربية، لما علم أن ابن شاذان لا يعرف هذا الشأن
ولا يفرق بين الحال وغيره، فلما عاد الكلم إلى ابن شاذان قال له: ما ادعيت
من قوله صلى الله عليه وسلم: " لا نورث ما تركناه صدقة " إنما هو صدقة
منصور على الحال، وأنت لا تمنع هذا الحكم فيما تركه الأنبياء على هذا
الوجه (1).

(1) تنوير الحوالك: ج 2 ص 256.
42

(10)
المفيد مع علي بن عيسى الرماني
كان الشيخ المفيد رحمه الله من أهل عكبر ثم انحدر وهو صبي مع أبيه إلى
بغداد، واشتغل بالقراءة على الشيخ أبي عبد الله المعروف بجعل، وكان منزله في
درب رياح من بغداد.
وبعد ذلك اشتغل بالدرس عند أبي ياسر في باب خراسان من البلدة
المذكورة، ولما كان أبو ياسر المذكور ربما عجز عن البحث معه والخروج عن
عهدته أشار إليه بالمضي إلى علي بن عيسى الرماني الذي هو من أعاظم علماء
الكلام، فقال الشيخ: إني لا أعرفه ولا أجد أحدا يدلني عليه، فأرسل أبو ياسر
معه بعض تلامذته وأصحابه.
فلما مضى - وكان مجلس الرماني مشحونا بالفضلاء - جلس الشيخ في صف
النعال، وبقي يتدرج للقرب كلما خلي المجلس شيئا فشيئا لاستفادة بعض
المسائل من صاحب المجلس.
فاتفق أن رجلا من أهل البصرة دخل وسأل الرماني و قال له: ما تقول في
حديث الغدير وقصة الغار؟ فقال الرماني: خبر الغار دراية وخبر الغدير رواية،
والرواية لا تعارض الدراية، ولما كان ذلك الرجل البصري ليس له قوة
معارضة سكت وخرج.
وقال الشيخ: إني لم أجد صبرا عن السكوت عن ذلك، فقلت: أيها
الشيخ، عندي سؤال، فقال: قل، فقلت: ما تقول فيمن خرج الإمام العادل
فحاربه؟ فقال: كافر، ثم استدرك فقال: فاسق، فقلت: ما تقول في
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؟ فقال: إمام، فقلت، ما تقول في
حرب طلحة والزبير له في حرب الجمل؟ فقال: إنهما تابا، فقلت: خبر الحرب
43

دراية والتوبة رواية! فقال: وكنت حاضرا عند سؤال الرجل البصري؟ فقلت:
نعم، فقال: رواية برواية وسؤالك متجه وارد.
ثم إنه سأله من أنت؟ وعند من تقرأ من علماء هذه البلاد؟ قلت: عند
الشيخ أبي علي جعل، ثم قال له مكانك! ودخل منزله، وبعد لحظة خرج وبيده
رقعة ممهورة، فدفعها إلي وقال: ادفعها إلى شيخك إلى شيخك أبي عبد الله.
فأخذت الرقعة من يده ومضيت إلى مجلس الشيخ المذكور، ودفعت إليه
الرقعة، ففتحها وبقي مشغولا بقراءتها وهو يضحك! فلما فرغ من قراءتها، قال:
إن جميع ما جرى بينك وبينه قد كتب إلي به! أوصاني بك، ولقبك بالمفيد (1).
(11)
المفيد مع القاضي عبد الجبار
عن القاضي (في المجالس) عن مصابيح القلوب، قال: بينما القاضي
عبد الجبار ذات يوم في مجلسه في بغداد ومجلسه مملو من علماء الفريقين، إذ حضر
الشيخ وجلس في صف النعال. ثم قال للقاضي: إن لي سؤالا، فإن أجزت
بحضور هؤلاء الأئمة؟ فقال له القاضي: سل، فقال: ما تقول في هذا الخبر الذي
ترويه طائفة من الشيعة " من كنت مولاه فعلي مولاه " أهو مسلم صحيح عن
النبي صلى الله عليه وآله يوم الغدير؟ فقال: نعم خبر صحيح، فقال الشيخ:
ما لمراد من لفظ " المولى " في الخبر؟ فقال: هو بمعنى " أولى " فقال الشيخ: فما
هذا الخلاف والخصومة بين الشيعة والسنة؟ فقال الشيخ: أيها الأخ، هذه
رواية وخلافة أبي بكر دراية، والعادل لا يعادل الرواية بالدراية.

(1) روضات الجنات: ج 6 ص 159 - 160 عن السرائر للحلي وورام ابن أبي فراس. ومستدرك
البحار: ج 2 ص 390 عن ورام في كتابه تنبيه الخواطر. وقاموس الرجال: ج 8 عن السرائر. ومستدرك
الوسائل: ج 3 ص 518 عن ورام والسرائر.
44

فقال الشيخ: ما تقول في قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام:
" حربك حربي وسلمك سلمي "؟ قال القاضي: الحديث صحيح، فقال:
ما تقول في أصحاب الجمل؟ فقال القاضي: أيها الأخ، إنهم تابوا، فقال
الشيخ: أيها القاضي، الحرب دراية والتوبة رواية! وأنت قررت في حديث
الغدير أن الرواية لا تعارض الدراية. فبهت الشيخ القاضي ولم يحر جوابا،
ووضع رأسه ساعة، ثم رفع رأسه وقال: من أنت؟ فقال: خادمك محمد بن
محمد بن النعمان الحارثي، فقام القاضي من مقامه وأخذ بيد الشيخ وأجلسه في
مسنده، وقال: أنت المفيد حقا! فتغيرت وجوه علماء المجلس.
فلما أبصر القاضي ذلك منهم قال: أيها الفضلاء، إن هذا الرجل ألزمني
وأنا عجزت عن جوابه، فإن كان أحد منكم عنده جواب عما ذكر فليذكر،
ليقوم الرجل ويرجع مكانه (1).
(12)
المفيد مع بعض الخصوم
ذكر مجلس جرى لشيخنا المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان مع
بعض الخصوم في قولهم: إن كل مجتهد مصيب.
قال شيخنا رضي الله عنه: كنت أقبلت في مجلس على جماعة من متفقهة
العامة، فقلت لهم: إن أصلكم الذي تعتمدون عليه في تسويغ الاختلاف يحظر
عليكم المناظرة ويمنعكم من الفحص والمباحثة، واجتماعكم على المناظرة
يناقض أصولكم في الاجتهاد وتسويغ الاختلاف.
قال: بلى، فما الذي يلزمنا على هذا القول؟

(1) سفينة البحار: ج 2 ص 390 ومستدرك الوسائل: ج 3 ص 320.
45

قال شيخنا: قلت: فخبرني الآن عن موضع المناظرة، أليس إنما هو التماس
الموافقة ودعاء الخصم بالحجة الواضحة إلى الانتقال إلى موضع الحجة وتنفير له
عن الإقامة ضد ما عليه البرهان؟
قال: لا، ليس هذا موضع المناظرة، وإنما موضوعها الإقامة للحجة والإبانة
عن الرجحان. وما الذي يجرانه إلى ذلك والمعنى الملتمس به؟ أهو تبعيد الخصم
عن موضع الرجحان والتنفير له عن المقالة بإيضاح حجتها، أم الدعوة إليها
بذلك واللطف في الاجتذاب إليها به؟ فإن قلت: إن الغرض للمحتج التبعيد
عن قوله بإيضاح الحجة عليه والتنفير عنه بإقامة الدلالة على صوابه، قلت قولا
يرغب عنه كل عاقل، ولا يحتاج مع تهافته إلى كسره. وإن قلت: إن الموضع عن
مذهبه بالبرهان داع إليه بذلك والدال عليه بالحجج والبينات يجتذب بها إلى
اعتقاده صرت بهذا القول - وهو الحق الذي لا شبهة فيه - إلى ما أردناه: من أن
موضوع المناظرة إنما هو الموافقة ورفع الاختلاف والمنازعة، وإذا كان ذلك
كذلك، فلو حصل الغرض في المناظرة وما أجرى به إليه لارتفعت الرحمة
وسقطت التوسعة وعدم الرفق من الله بعباده، ووجب في صفته العنت
والتضييق، وذلك ضلال من قائله، فلا بد على أصلكم في الاختلاف من تحريم
النظر والاحتجاج، وإلا فمتى صح ذلك وكان أولى من تركه فقد بطل قولكم في
الاجتهاد، وهذا ما لا شبهة فيه على عاقل.
فاعترض رجل آخر من ناحية المجلس، فقال: ليس لي الغرض في المناظرة
الدعوة إلى الاتفاق، وإنما الغرض فيها إقامة الفرض من الاجتهاد.
فقال له الشيخ رضي الله عنه: هذا الكلام كلام صاحبك هذا بعينه في
معناه، وأنتما جميعا حائدان عن التحقيق والصواب.
وذلك: أنه لا بد في فرض الاجتهاد من غرض، ولا بد لفعل النظر من
46

معقول، فإن كان الغرض في أداء الفرض بالاجتهاد البيان عن موضع
الرجحان فهو الدعاء في المعقول إلى الوفاق والإيناس بالحجة إلى المقال: وإن
كان الغرض فيه التعمية والألغاز فذلك محال، لوجود المناظر مجتهدا في البيان
والتحسين لمقاله بالترجيح على قول خصمه في الصواب: وإن كان معقول فعل
النظر ومفهومه غرض صاحبه الذي هو البيان عن نحلته والتنفير عن خلافها
والتحسين لها والتقبيح لضدها والترجيح لها على غيرها - وكنا نعلم ضرورة أن
فاعل ذلك لا يفعله للتبعيد من قوله وإنما يفعله للتقريب منه والدعاء إليه - فقد
ثبت ما قلناه، ولو كان الدال على قوله الموضح بالحجج عن صوابه المجتهد في
تحسينه وتشييده غير قاصد بذلك إلى الدعاء إليه ولا مزيد للاتفاق عليه لكان
المقبح للمذهب الكاشف عن عواره الموضح عن ضعفه ووهنه داعيا بذلك إلى
اعتقاده ومرغبا به إلى المصير إليه، ولو كان ذلك كذلك لكان الذم للشئ
مدحا والمدح له ذما له، والترغيب في الشئ ترهيبا عنه والترهيب عن الشئ
ترغيبا فيه، والأمر به نهيا عنه والنهي عنه أمرا به، والتحرز منه إيناسا به، وهذا
ما لا يذهب إليه سليم العقل، فبطل بذلك ما توهمتموه ووضع ما ذكرناه في
تناقض نحلتهم على ما بيناه. والله نسأل التوفيق.
قال شيخنا رضي الله عنه: ثم عدلت إلى صاحب المجلس، فقلت له: لو
سلم هؤلاء القوم من المناقضة التي ذكرناها - ولن يسلموا أبدا منها بما بيناه - لما
سلموا من الخلاف على الله فيما أمر به والرد للنص في كتابه والخروج عن مفهوم
أحكامه بما ذهبوا إليه من حسن الاختلاف وجوازه في الأحكام، قال الله عز وجل:
" ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءتهم البينات وأولئك لهم
عذاب عظيم " فنهى تعالى عن الاختلاف نهيا عاما ظاهرا وحذر منه وزجر منه
وتوعد على فعله بالعقاب، وهذا مناف لجواز الاختلاف. وقال سبحانه:
" واعتصموا بالله جميعا ولا تفرقوا " فنهى عن التفرق وأمر الكافة بالاجتماع،
47

وهذا في إبطال قول سوغ الاختلاف. وقال سبحانه: " ولا يزالون مختلفين إلا
ما رحم ربك " فاستثنى المرحومين من المختلفين، ودل على أن المختلفين قد
خرجوا بالاختلاف عن الرحمة، لاختصاص من خرج عن صفتهم بالرحمة، ولولا
ذلك لما كان لاستثناء المرحومين من المختلفين معنى يعقل. وهذا بين لمن تأمله.
قال صاحب المجلس: أرى هذا الكلام كله يتوجه على من قال: " إن كل
مجتهد مصيب " فما تقول فيمن قال: " إن الحق في واحد " ولم يسوغ الاختلاف؟
قال الشيخ رضي الله عنه: فقلت له: القائل بأن الحق في واحد وإن كان
مصيبا فيما قال على هذا المعنى خاصة، فإنه يلزم المناقضة بقوله: " إن المخطئ في
الحق معفو عنه غير مؤاخذ بخطئه فيه " واعتماده في ذلك على أنه لو أخذ به
للحقه العنت والتضييق، فقد صار بهذا القول إلى معنى قول الأولين فيما عليهم
المناقضة، وألزمهم من أجله ترك المباحثة والمكالمة، وإن كان القائلون بإصابة
المجتهد من الحق يزيدون عليه في الإصابة معترف له ومقر بأنه مصيب في خلافه
مأجور على مباينته، وهذه المقالة تدعو إلى ترك اعتقادها بنفسها ويكشف عن
قبح باطنها وظاهرها. وبالله التوفيق (1).
(13)
المفيد مع الخليفة عمر بن الخطاب
قال الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله: رأيت في المنام سنة
من السنين كأني قد اجتزت في بعض الطرق فرأيت دائرة فيها ناس كثير،
فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذه حلقة فيها رجل يقص.
فقلت: من هو؟ قالوا: عمر بن الخطاب! ففرقت الناس ودخلت الحلقة،
وإذا أنا برجل يتكلم على الناس بشئ لم أحصله، فقطعت عليه الكلام.

(1) روضات الجنات: ج 6 ص 165 - 167.
48

وقلت: أيها الشيخ: أخبرني ما وجه الدلالة على فضل صاحبك أبي بكر
- عتيق ابن أبي قحافة - من قول الله تعالى: " ثاني اثنين إذ هما في الغار "؟ [فإني
أرى من ينتحل مودتكما يذكر أن له فضلا كثيرا].
فقال: وجه الدلالة على فضل أبي بكر من هذه الآية في ستة مواضع:
أولها: أن الله تعالى ذكر النبي صلى الله عليه وذكر أبا بكر معه، فجعله
ثانيه، فقال: " ثاني اثنين إذ هما في الغار ".
والثاني: أنه وصفهما بالاجتماع في مكان واحد تأليفا بينهما، فقال: " إذ
هما في الغار ".
والثالث: أنه أضافه إليه بذكر الصحبة ليجمعه بينهما بما يقتضي الرتبة،
فقال: " إذ يقول لصاحبه ".
والرابع: أنه أخبر عن شفقة النبي صلى الله عليه وآله عليه ورفقه به لموضعه
عنده فقال: " لا تحزن ".
والخامس: أنه أخبر أن الله معهما على حد سواء ناصرا لهما ودافعا عنهما
فقال: " إن الله معنا ".
والسادس: أنه أخبر عن نزول السكينة على أبي بكر، لأن رسول الله صلى
الله عليه وآله لم تفارقه السكينة قط، فقال: " فأنزل الله سكينته عليه ".
فهذه ستة مواضع تدل على فضل أبي بكر من آية الغار، لا يمكنك ولا
لغيرك الطعن فيها.
فقلت له: جرت بكلامك في الاحتجاج لصاحبك عنه، وإني بعون الله
سأجعل جميع ما أتيت به كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
أما قولك: إن الله تعالى ذكر النبي صلى الله عليه وآله وجعل أبا بكر
ثانيه فهو إخبار عن العدد، لعمري! لقد كانا اثنين، فما في ذلك من الفضل؟
ونحن نعلم ضرورة أن مؤمنا ومؤمنا أو مؤمنا وكافرا اثنان، فما أرى لك في ذكر
49

العدد طائلا تعتمده.
وأما قولك: إنه وصفهما بالاجتماع في المكان فإنه كالأول، لأن المكان
يجمع المؤمن والكافر، كما يجمع العدد المؤمنين والكفار. وأيضا فإن مسجد
النبي صلى الله عليه وآله أشرف من الغار، وقد جمع المؤمنين والمنافقين
والكفار، وفي ذلك قوله عز وجل: " فما للذين قبلك مهطعين * عن اليمين وعن
الشمال عزين ". وأيضا فإن سفينة نوح قد جمعت النبي والشيطان والبهيمة
والكلب! والمكان لا يدل على ما أوجبت من الفضيلة، فبطل فضلان.
وأما قولك: إنه أضاف إليه بذكر الصحبة فإنه أضعف من الفضلين
الأولين، لأن اسم الصحبة يجمع بين المؤمن والكافر، والدليل على ذلك قوله
تعالى: " قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من
نطفة ثم سواك رجلا ". وأيضا فإن اسم الصحبة تطلق بين العاقل وبين
البهيمة، والدليل على ذلك من كلام العرب - الذي نزل القرآن بلسانهم، فقال
الله عز وجل: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " - أنهم سموا الحمار صاحبا
فقالوا:
إن الحمار مع الحمار مطية * فإذا خلوت به فبئس الصاحب
وأيضا قد سموا الجماد مع الحي صاحبا، قالوا ذلك في السيف شعرا:
زرت هندا وذاك غير اختيان * ومعي صاحب كتوم اللسان
[زرت هندا وذاك بعد اجتناب * ومعي صاحب كلؤم اللسان]
يعني السيف، فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر وبين العاقل
والبهيمة وبين الحيوان والجماد فأي حجة لصاحبك فيه؟
وأما قولك: إنه قال: " لا تحزن " فإنه وبال عليه ومنقصة له ودليل على
خطئه، لأن قوله: " لا تحزن " نهي، وصورة النهي قول القائل: " لا تفعل "
لا يخلو أن يكون الحزن وقع من أبي بكر طاعة أو معصية، فإن كان طاعة فإن
50

النبي صلى الله عليه وآله لا ينهى عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو إليها، وإن
كان معصية فقد نهاه النبي صلى الله عليه وآله عنها، وقد شهدت الآية بعصيانه
بدليل أنه نهاه.
وأما قولك: إنه قال: " إن الله معنا " فإن النبي صلى الله عليه وآله قد
أخبر أن الله معه، وعبر عن نفسه بلفظ الجمع، كقوله: " إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له
لحافظون ". وقيل أيضا في هذا: إن أبا بكر قال: يا رسول الله، حزني على أخيك
علي بن أبي طالب ما كان منه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: " لا تحزن
إن الله معنا " أي معي ومع أخي علي بن أبي طالب عليه السلام.
وأما قولك: إن السكينة نزلت على أبي بكر فإنه ترك للظاهر، لأن الذي
نزلت عليه السكينة هو الذي أيده بالجنود، وكذا يشهد ظاهر القرآن في قوله:
" فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها " فإن كان أبو بكر هو صاحب
السكينة فهو صاحب الجنود، وفي هذا إخراج للنبي صلى الله عليه وآله من
النبوة.
على أن هذا الموضع لو كتمته عن صاحبك كان خيرا، لأن الله تعالى أنزل
السكينة على النبي صلى الله عليه وآله في موضعين كان معه قوم مؤمنون
فشركهم فيها، فقال في أحد الموضعين: " فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى
المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى " وقال في الموضع الآخر: " أنزل الله سكينته على
رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها " ولما كان في هذا الموضع خصه
وحده بالسكينة قال: " فأنزل الله سكينته عليه " فلو كان معه مؤمن لشركه معه
في السكينة كما شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين، فدل إخراجه من
السكينة على خروجه من الإيمان.
51

فلم يحر جوابا. وتفرق الناس، واستيقظت من نومي (1).
(14)
المفيد مع أبي العباس ابن المنجم
قال الشيخ أدام الله عزه: حضرت يوما مجلسا، فجرى فيه كلام في رذالة
بني تيم بن مرة وسقوط أقدارهم، فقال شيخ من الشيعة: قد ذكر أبو عيسى
الوزاق فيما يدل على ذلك قول الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم * ولا يستأذنون وهم شهود
وإنك لو رأيت عبيد تيم * وتيما قلت: أيهم العبيد؟
فذكر الشاعر: أن الرائي لهم لا يفرق بين عبيدهم وساداتهم من الضعة
وسقوط القدر.
فانتدب له أبو العباس هبة الله بن المنجم، فقال له: يا شيخ، ما أعرفك
بأشعار العرب؟ هذا في تيم بن مرة أو تيم الرباب؟ وجعل يتضاحك بالرجل
ويتماجن عليه ويقول له: سبيلك أن تؤلف دواوين العرب، فإن نظرك بها
حسن.
قال الشيخ أدام الله عزه: فقلت جعلت هذا الباب رأس مالك، و لو
أنصفت في الخطاب لأنصفت في الاحتجاج، وإن أخذنا معك في أبيات هذا
الشعر تعلق البرهان فيه بالرجال والكتب المصنفات واندفع المجلس ومضى
الوقت، ولكن بيننا وبينك كتب السير. وكل من اطلع على حديث الجمل
وحرب البصرة فهل يريب في شعر عمير بن الأهلب الضبي وهو يجود بنفسه
بالبصرة، وقد قتل بين يدي الجمل وهو يقول:

(1) الاحتجاج: ج 2 ص 325 - 329. و روضات الجنات: ج 6 ص 169 - 171 عن الكراجكي.
والنوادر للسيد الجزائري. والبحار: ج 27 ص 327 عن الاحتجاج.
52

لقد أوردتنا حومة الموت أمنا * فلم ننصرف إلا ونحن رواء
نصرنا قريشا ضلة من حلومنا * ونصرتنا أهل الحجاز عناء
لقد كان في نصر ابن ضبة أمه * وشيعتها مندوحة وغناء
نصرنا بني تيم بن مرة شقوة * وهل تيم إلا أعبد وإماء؟
فهذا رجل من أنصار عائشة ومن سفك دمه في ولايتها يقول هذا القول في
قبيلتها! بلا ارتياب بين السير، ولم يك بالذي يقوله في تلك الحال إلا وهو
معروف عند الرجال غير مشكوك فيه عند أحد من العارفين بقبائل العرب في
سائر الناس. فأخذ في الصحيح ولم يأت بشئ (1).
(15)
المفيد يجيب عن المسائل العكبرية
قال الشيخ المفيد رحمه الله في أجوبة المسائل العكبرية حين سئل عن قوله
تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا " وأجاب بوجوه فقال:
وقد قالت الإمامية: إن الله تعالى ينجز الوعد بالنصر للأولياء قبل الآخرة عند
قيام القائم عليه السلام والكرة التي وعد بها المؤمنين في العاقبة (2).
(16)
جميل بن كعب مع معاوية
ذكر المدائني: أن معاوية أسر جميل بن كعب الثعلبي - وكان من سادات
ربيعة وشيعة علي وأنصاره - فلما وقف بين يديه قال: الحمد لله الذي أمكنني
منك، ألست القائل يوم الجمل:
أصبحت الأمة في أمر عجب * والملك مجموع غدا لمن غلب

(1) مستدرك الوسائل: ج 3 ص 519 عن الفصول المختارة.
(2) البحار: 53 ص 130.
53

قد قلت قولا صادقا غير كذب * إن غدا تهلك أعلام العرب؟
قال: لا تقل ذلك، فإنها مصيبة. قال معاوية: وأي نعمة أكبر من أن
يكون الله قد أظفرني برجل قد قتل في ساعة واحدة عدة من حماة أصحابي،
اضربوا عنقه، فقال: اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك ولا لأنك ترضى
قتلي ولكن قتلني على حطام الدنيا، فإن فعل فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل
فافعل به ما أنت أهله. فقال معاوية: قاتلك الله! لقد سببت فأبلغت في
السب، ودعوت فبالغت في الدعاء (1).
(17)
شداد بن أوس مع معاوية
قال معاوية لشداد بن أوس: قم فاذكر عليا فانتقصه! فقام شداد، فقال:
الحمد لله الذي افترض طاعته على عباده، وجعل رضاه عند أهل التقوى
آثر من رضا غيره، على ذلك مضى أولهم وعليه مضى آخرهم. أيها الناس، إن
الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر، وإن الدنيا أكل حاضر يأكل منها
البر والفاجر، وإن السامع المطيع لله لا حجة عليه، وإن السامع العاصي لله
لا حجة له، وإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإذا أراد الله بالناس خيرا
استعمل عليهم صلحاءهم، وقضى بينهم فقهاؤهم، وجعل المال في سمحائهم،
وإذا أراد بالعباد شرا عمل عليهم سفاؤهم، وقضى بينهم جهلاؤهم، وجعل
المال عند بخلائهم، وإن من إصلاح الولاة أن تصلح قرناءها.
ثم التفت إلى معاوية، فقال:
نصحك يا معاوية من أسخطك بالحق، وغشك من أرضاك بالباطل.
فقطع معاوية عليه كلامه وأمر بإنزاله، ثم لاطفه وأمر له بمال.

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 48 دار الهجرة: قم.
54

فلما قبضه، قال: ألست من السمحاء الذين ذكرت؟ فقال: إن كان لك
مال غير مال المسلمين أصبته حلالا وأنفقته إفضالا فنعم، وإن كان مال
المسلمين احتجبته دونهم أصبته اقتراقا وأنفقته إسرافا، فإن الله يقول: " إن
المبذرين كانوا إخوان الشياطين " (1).
(18)
محمد بن الحنفية مع عبد الله بن الزبير
عن سعيد بن جبير، قال: خطب عبد الله بن الزبير، فنال من علي
عليه السلام فبلغ ذلك محمد بن الحنفية، فجاء إليه وهو يخطب. فوضع له
كرسي فقطع عليه خطبته، وقال: يا معشر العرب شاهت الوجوه! أينتقص علي
وأنتم حضور؟ إن عليا كان يد الله على أعداء الله وصاعقة من أمره، أرسله على
الكافرين والجاحدين لحقه، فقتلهم بكفرهم، فشنؤوه وأبغضوه وأضمروا له
السيف والحسد وابن عمه صلى الله عليه وآله حي بعد لم يمت. فلما نقله الله
إلى جواره وأحب له ما عنده أظهرت له رجال أحقادها وشفت أضغانها، فمنهم
من ابتزه حقه، ومنهم من ائتمر به ليقتله، ومنهم من شتمه وقذفه بالأباطيل.
فإن يكن لذريته وناصري دعوته دولة تنشر عظامهم وتحفر على أجسادهم
والأبدان منهم يومئذ. بالية بعد أن تقتل الأحياء منهم وتذل رقابهم، فيكون الله
عز اسمه قد عذبهم بأيدينا وأخزاهم ونصرنا عليهم وشفى صدورنا منهم. إنه
والله ما يشتم عليا إلا كافر يسر شتم رسول الله صلى الله عليه وآله ويخاف أن
يبوح به، فيكني بشتم علي عليه السلام عنه. أما إنه قد تخطت المنية منكم من
امتد عمره وسمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله فيه: " لا يحبك إلا مؤمن
ولا يبغضك إلا منافق " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

(1) ابن أبي الحديد في النهج: ج 18 ص 389. والبحار: ج 8 ط الكمپاني ص 530 عن مجالس المفيد ره.
55

فعاد ابن الزبير إلى خطبته، وقال: عذرت بني الفواطم يتكلمون، فما بال
ابن أم حنيفة؟.
فقال محمد: يا بن أم رومان، وما لي لا أتكلم؟ وهل فاتني من الفواطم إلا
واحدة ولم يفتني فخرها، لأنها أم أخوي؟ أنا ابن فاطمة بنت عمران بن عائذ
ابن مخزوم جدة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنا ابن فاطمة بنت أسد بن هاشم
كافلة رسول الله صلى الله عليه وآله والقائمة مقام أمه. أما والله! لولا خديجة
بنت خويلد ما تركت في بني أسد بن عبد العزى عظما إلا هشمته. ثم قام
وانصرف (1).
(19)
طارق بن عبد الله مع معاوية
روى صاحب كتاب الغارات: أن عليا عليه السلام لما حد النجاشي
غضبت اليمانية لذلك، وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي،
فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنا نرى أن أهل المعصية والطاعة وأهل
الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيان في الجزاء، حتى رأينا
ما كان من صنيعك بأخي الحارث، فأوغرت صدورنا وشتت أمورنا وحملتنا على
الجادة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار.
فقال علي عليه السلام: " وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " يا أخا نهد! وهل
هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله؟ فأقمنا عليه حدا كان
كفارته! إن الله تعالى يقول: " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو
أقرب للتقوى ".
قال: فخرج طارق من عنده فلقيه الأشتر، فقال: يا طارق، أنت القائل

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 4 ص 62 - 63. ومروج الذهب: ج 3 ص 89.
56

لأمير المؤمنين: " أوغرت صدورنا وشتت أمورنا "؟ قال طارق: نعم أنا قائلها،
قال: والله ما ذاك كما قلت! إن صدورنا له لسامعة وإن أمورنا له لجامعة،
فغضب طارق وقال: ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت! فلما جنه الليل همس هو
والنجاشي إلى معاوية.
فلما قدما عليه دخل آذنه فأخبره بقدومهما، وعنده وجوه أهل الشام،
منهم: عمرو بن مرة الجهني، وعمرو بن صيفي، وغيرهما.
فلما دخلا نظر معاوية إلى طارق، وقال: مرحبا بالمورق غصنه المعرق
أصله والمسود غير المسود، من رجل كانت منه هفوة ونبوة، باتباعه صاحب
الفتنة ورأس الضلالة والشبهة الذي اغترز في ركاب الفتنة حتى استوى على
رحالها، ثم أوجف في عشوة ظلمتها وتيه ضلالتها، وأتبعه رجرجة من الناس
وأشابة من الحثالة لا أفئدة لهم " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ".
فقام طارق، فقال: يا معاوية، إني متكلم فلا يسخطك، ثم قال وهو
متكئ على سيفه: إن المحمود على كل حال رب علا فوق عباده، فهم منه بمنظر
ومسمع، بعث فيهم رسولا منهم يتلو كتابا لم يكن من قبله ولا يخطه بيمينه إذا
لارتاب المبطلون، فعليه السلام من رسول كان بالمؤمنين برا رحيما.
أما بعد، فإن ما كنا نوضع فيما أوضعنا فيه بين يدي إمام تقي عادل مع
رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أتقياء مرشدين، ما زالوا منارا
للهدى ومعالم للدين، خلفا عن سلف مهتدين، أهل دين لا دنيا، كل الخير
فيهم، وأتبعهم من الناس ملوك وأقيال وأهل بيوتات وشرف ليسوا بناكثين
ولا قاسطين، فلم يكن رغبة من رغب من صحبتهم إلا لمرارة الحق حيث
جرعوها، ولو عورته حيث سلكوها، وغلبت عليهم دنيا مؤثرة وهوى متبع، وكان
أمر الله قدرا مقدورا، وقد فارق الإسلام قبلنا جبلة بن الأيهم فرارا من الضيم
وأنفا من الذلة، فلا تفخرن يا معاوية! إن شددنا نحوك الرحال وأوضعنا إليك
57

الركاب. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولجميع المسلمين.
فعظم على معاوية ما سمعه وغضب، لكنه أمسك وقال: يا عبد الله! إنا لم
نرد بما قلنا أن نوردك مشرع ظمأ ولا أن نصدرك عن مكرع ري، ولكن القول
قد يجري بصاحبه إلى غير ما ينطوي عليه من الفعل.
ثم أجلسه معه على سريره ودعا له بمقطعات وبرود يضعها عليه، وأقبل
نحوه بوجهه يحدثه حتى قام.
وقام معه عمرو بن مرة وعمرو بن صيفي الجهنيان، فأقبلا عليه بأشد
العتاب وأمضه يلومانه في خطبته وما واجه به معاوية.
فقال طارق: والله ما قمت بما سمعتماه حتى خيل لي أن بطن الأرض خير
لي من ظهرها عند سماعي ما أظهر من العيب والنقص لمن هو خير منه في
الدنيا والآخرة، و مازهت به نفسه وملكه عجبه وعاب أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وآله واستنقصهم، فقمت مقاما أوجب الله علي فيه ألا أقول إلا حقا،
وأي خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا؟.
فبلغ عليا عليه السلام قوله: فقال: لو قتل النهدي يومئذ لقتل شهيدا.
(20)
بنو هاشم مع بني أمية
بينا عمر بن عبد العزيز جالسا في مجلسه دخل حاجبه ومعه امرأة أدماء
طويلة حسنة الجسم والقامة، ورجلان متعلقان بها، ومعهم كتاب من ميمون
ابن مهران إلى عمر، فدفعوا إليه الكتاب، ففضه فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من ميمون بن

(1) ابن أبي الحديد في النهج: ج 4 ص 89 - 92 والبحار: ج 8 ط الكمپاني ص 538 عن الغارات
أيضا، وسيأتي ص 583.
58

مهران، سلام عليك ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإنه ورد علينا أمر ضاقت به الصدور وعجزت عنه الأوساع،
وهربنا بأنفسنا عنه، ووكلناه إلى عالمه، لقول الله عز وجل: " ولو ردوه إلى
الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ". وهذه المرأة
والرجلان أحدهما زوجها والآخر أبوها، وإن أباها - يا أمير المؤمنين - زعم أن زوجها
حلف بطلاقها أن علي بن أبي طالب عليه السلام خير هذه الأمة وأولاها
برسول الله صلى الله عليه وآله وأنه يزعم أن ابنته طلقت منه وأنه لا يجوز له في
دينه أن يتخذه صهرا، وهو يعلم أنها حرام عليه كأمه. وإن الزوج يقول له:
كذبت وأثمت لقد بر قسمي وصدقت مقالتي، وأنها امرأتي على رغم أنفك
وغيظ قلبك! فاجتمعوا إلي يختصمون في ذلك، فسألت الرجل عن يمينه،
فقال: نعم قد كان ذلك، وقد حلفت بطلاقها أن عليا خير هذه الأمة وأولاها
برسول الله صلى الله عليه وآله عرفه من عرفه وأنكره من أنكره فليغضب من
غضب وليرضى من رضي. وتسامع الناس بذلك، فاجتمعوا له، وإن كانت
الألسن مجتمعة فالقلوب شتى. وقد علمت يا أمير المؤمنين! اختلاف الناس في
أهوائهم وتسرعهم إلى ما فيه الفتنة، فأحجمنا عن الحكم لتحكم بما أراك الله.
وإنهما تعلقا بها، وأقسم أبوها أن لا يدعها معه، وأقسم زوجها أن لا يفارقها ولو
ضربت عنقه، إلا أن يحكم عليه بذلك حاكم لا يستطيع مخالفته والامتناع منه،
فرفعناهم إليك يا أمير المؤمنين، أحسن الله توفيقك وأرشدك. وكتب في أسفل
الكتاب:
إذا ما المشكلات وردن يوما * فحارت في تأملها العيون
وضاق القوم ذرعا عن بناها * فأنت لها - أبا حفص - أمين
لأنك قد حويت العلم طرا * وأحكمك التجارب والشؤون
وخلفك الإله على الرعايا * فحظك فيهم الحظ الثمين
59

قال: فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم وبني أمية وأفخاذ قريش، ثم
قال لأبي المرأة: ما تقول أيها الشيخ؟ قال: يا أمير المؤمنين! هذا الرجل زوجته
ابنتي وجهزتها إليه بأحسن ما يجهز به مثلها، حتى إذا أملت خير: ورجوت
صلاحه حلف بطلاقها كاذبا، ثم أراد الإقامة معها. فقال له عمر: يا شيخ،
لعله لم يطلق امرأته فكيف حلف؟ قال الشيخ: سبحان الله! الذي حلف عليه
لأبين حنثا وأوضح كذبا من أن يختلج في صدري منه شك مع سني وعلمي،
لأنه زعم أن عليا خير هذه الأمة، وإلا فامرأته طالق ثلاثا. فقال للزوج:
ما تقول؟ أهكذا حلفت؟ قال: نعم، فقيل: إنه لما قال نعم كاد المجلس يرتج
بأهله، وبنو أمية ينظرون إليه شزرا، إلا أنهم لم ينطقوا بشئ، كل ينظر إلى وجه
عمر.
فأكب عمر مليا ينكت الأرض بيده، والقوم صامتون ينظرون ما يقوله، ثم
رفع رأسه، وقال:
إذا ولي الحكومة بين قوم * أصاب الحق والتمس السدادا
وما خير الإمام إذا تعدى * خلاف الحق واجتنب الرشادا
ثم قال للقوم: ما تقولون في يمين هذا الرجل؟ فسكتوا، فقال: سبحان الله!
قولوا.
فقال رجل من بني أمية: هذا حكم في فرج ولسنا نجترئ على القول فيه
وأنت عالم بالقول مؤتمن لهم وعليهم، قل ما عندك، فإن القول ما لم يكن يحق
باطلا ويبطل حقا جائز علي في نفسي. قال: لا أقول شيئا.
فالتفت إلى رجل من بني هاشم من ولد عقيل بن أبي طالب، فقال له:
ما تقول فيما حلف به هذا الرجل يا عقيلي؟ فاغتنمها، فقال: يا أمير المؤمنين! إن
جعلت قولي حكما أو حكمي جائزا قلت، وإن لم يكن ذلك فالسكوت أوسع لي
وأبقى للمودة. قال: قل، وقولك حكم وحكمك ماض.
60

فلما سمع ذلك بنو أمية قالوا: ما أنصفتنا يا أمير المؤمنين! إذ جعلت الحكم
إلى غيرنا ونحن من لحمتك وأولي رحمك، فقال عمر: اسكتوا! أعجزا ولؤما؟
عرضت ذلك عليكم آنفا فما انتدبتم له. قالوا: لأنك لم تعطنا ما أعطيت العقيلي
ولا حكمتنا كما حكمته، فقال عمر: إن كان أصاب وأخطأتم وحزم وعجزتم
وأبصر وعميتم، فما ذنب عمر لا أبالكم! أتدرون ما مثلكم؟ قالوا: لا ندري،
قال: لكن العقيلي يدري. ثم قال: ما تقول يا رجل؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين!
كما قال الأول:
دعيتم إلى عمر فلما عجزتم * تناوله من لا يداخله عجز
فلما رأيتم رأيتم ذاك أبدت نفوسكم * نداما، وهل يغني من الحذر الحرز؟
فقال عمر: أحسنت وأصبت! فقل ما سألتك عنه، قال: يا أمير المؤمنين! بر
قسمه ولم تطلق امرأته، قال: وأنى علمت ذاك؟ قال: نشدتك الله
يا أمير المؤمنين! ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لفاطمة
عليها السلام وهو عندها في بيتها عائد لها: يا بنية! ما علتك؟ قالت: الوعك
يا أبتاه! وكان علي غائبا في بعض حوائج النبي صلى الله عليه وآله فقال لها:
أتشتهين شيئا؟ قالت: نعم أشتهي عنبا وأنا أعلم أنه عزيز وليس وقت عنب،
فقال صلى الله عليه وآله: إن الله قادر على أن يجيئنا به، ثم قال: اللهم ائتنا به
مع أفضل أمتي عندك منزلة. فطرق علي الباب ودخل، ومعه مكتل قد ألقى
عليه طرف رداءه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله ما هذا يا علي؟ قال: عنب
التمسته لفاطمة عليها السلام فقال: الله أكبر! الله أكبر! اللهم كما سررتني بأن
خصصت عليا بدعوتي فاجعل فيه شفاء بنيتي. ثم قال: كلي على اسم الله
يا بنية! فأكلت. وما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله حتى استقلت وبرأت.
فقال عمر: صدقت وبررت، أشهد لقد سمعته ووعيته يا رجل! خذ بيد
امرأتك، فإن عرض لك أبوها فاهشم أنفه.
61

ثم قال: يا بني عبد مناف! والله ما نجهل ما يعلم غيرنا ولا بنا عمى في ديننا،
ولكنا كما قال الأول:
تصيدت الدنيا رجالا بفخها * فلم يدركوا خيرا بل استقبحوا الشرا
وأعماهم حب الغنى وأصمهم * فلم يدركوا إلا الخسارة والوز را
قيل: فكأنما ألقم بنو أمية حجرا. ومضى الرجل بامرأته.
وكتب عمر إلى ميمون بن مهران:
عليك سلام، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإني قد
فهمت كتابك، وورد الرجلان والمرأة، وقد صدق الله يمين الزوج وأبر قسمه
وأثبته على نكاحه، فاستيقن ذلك واعمل عليه. والسلام عليك ورحمة الله
وبركاته.
(21)
المقداد مع عبد الرحمن بن عوف
قال الشعبي: فحدثني عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه جندب بن عبد الله
الأزدي، قال: كنت جالسا بالمدينة حيث بويع عثمان، فجئت فجلست إلى
المقداد بن عمرو، فسمعته يقول: والله ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت.
وكان عبد الرحمن بن عوف جالسا، فقال: وما أنت وذاك يا مقداد!؟ قال
المقداد: إني والله أحبهم لحب رسول الله صلى الله عليه وآله وإني لأعجب
من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله صلى الله عليه وآله ثم
انتزاعهم سلطانه من أهله. قال عبد الرحمن: أما والله لقد أجهدت نفسي لكم.
قال المقداد: أما والله لقد تركت رجلا من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون،
أما والله لو أن لي على قريش أعوانا لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر وأحد.

(1) ابن أبي الحديد في النهج: ج 20 ص 222 - 226.
62

فقال عبد الرحمن: ثكلتك أمك! لا يسمعن هذا الكلام الناس، فإني
أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة.
قال المقداد: إن من دعى إلى الحق وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب
فتنة، ولكن من أقحم الناس في الباطل وآثر الهوى على الحق، فذلك صاحب
الفتنة والفرقة.
قال: فتربد وجه عبد الرحمن، ثم قال: لو أعلم أنك إياي تعني لكان لي
ولك شأن.
قال المقداد: إياي تهدد يا بن أم عبد الرحمن؟ ثم قام عن عبد الرحمن
وانصرف.
قال جندب بن عبد الله: فأتبعته وقلت له: يا عبد الله، أنا من أعوانك،
فقال: رحمك الله، إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان ولا الثلاثة (1).
(22)
أبو الأسود وعمران مع عائشة
بعد ورود عائشة وطلحة والزبير البصرة، أرسل عثمان بن حنيف إلى أبي
الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم
القوم وما الذي أقدمهم، فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى، وبه معسكر
القوم، فدخلا على عائشة فنالاها ووعظاها وذكراها وناشداها الله، فقالت
لهما: القيا طلحة والزبير.
فقاما من عندها ولقيا الزبير فكلماه فقال لهما: إنا جئنا للطلب بدم
عثمان، وندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم.
فقالا له: إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلة

(1) ابن أبي الحديد في النهج: ج 9 ص 56 - 57 وج 8 ط الكمپاني ص 330، وسيأتي ص 525.
63

عثمان من هم وأين هم؟ وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه
وأعظمهم إغراء بدمه، فأقيدوا من أنفسكم! وأما إعادة أمر الخلافة شورى
فكيف وقد بايعتم عليا طائعين غير مكرهين؟ وأنت يا أبا عبد الله! لم يبعد العهد
بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله صلى الله عليه وآله وأنت آخذ قائم
سيفك تقول: ما أحد أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه! وامتنعت من بيعة أبي
بكر، فأين ذلك الفعل من هذا القول؟ (1).
(23) أبو أيوب مع معاوية
كتب معاوية إلى أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري - صاحب منزل
رسول الله صلى الله عليه وآله وكان سيدا معظما من سادات الأنصار، وكان
من شيعة علي عليه السلام - كتابا. " لا تنسى الشيباء - شيباء خ ل - أبا عذرتها
وقاتل بكرها " فلم يدر أبو أيوب ما هو؟ فأتى به عليا، وقال: يا أمير المؤمنين! إن
معاوية - ابن آكلة الأكباد وكهف المنافقين - كتب إلي بكتاب لا أدري
ما هو؟
فقال له علي: وأين الكتاب؟ فدفعه إليه فقرأه وقال: نعم، هذا مثل
ضربه لك، يقول: " ما أنسى الذي لا تنسى الشيباء، لا تنسى أبا عذرتها "
والشيباء المرأة البكر ليلة افتضاضها، لا تنسى بعلها الذي افترعها أبدا،
ولا تنسى قاتل بكرها وهو أول ولدها، كذلك لا أنسى أنا قتل عثمان.
[وروى عمر بن شمر: أن معاوية] كتب في أسفل كتاب أبي أيوب.
أبلغ لديك أبا أيوب مألكة * إنا وقومك مثل الذئب والنقد
أما قتلتم أمير المؤمنين؟ فلا * ترجو الهوادة عندي آخر الأبد

(1) ابن أبي الحديد في النهج: ج 9 ص 313.
64

إن الذي نلتموه ظالمين له * أبقت حرارته صدعا على كبدي
إني حلفت يمينا غير كاذبة * لقد قتلتم إماما غير ذي أود
لا تحسبوا أنني أنسى مصيبته * وفي البلاد من الأنصار من أحد
أعزز علي بأمر لست نائله * واجهد علينا فلسنا بيضة البلد
قد أبدل الله منكم خير ذي كلع * واليحصبين أهل الحق في الجند
إن العراق لنا فقع بقرقرة * أو شحمة بزها شاو ولم يكد
والشام ينزلها الأبرار بلدتها * أمن وحومتها عريسة الأسد
فلما قرأ الكتاب على علي عليه السلام قال: لشد ما شحذكم معاوية
يا معشر الأنصار! أجيبوا الرجل. فقال أبو أيوب: يا أمير المؤمنين ما أشاء أن
أقول شيئا من الشعر يعبأ به الرجال إلا قلته، قال: فأنت إذا أنت.
فكتب أبو أيوب إلى معاوية: [أما بعد، فإنك كتبت إلي] لا تنسى
الشيباء - وقال في هذا الحديث: الشيباء: الشمطاء - ثكل ولدها ولا أبا عذرتها
(لا تنسى الشيباء أبا عذرها ولا قاتل بكرها خ ل) فضربتها مثلا بقتل عثمان،
وما نحن وقتل عثمان؟ إن الذي تربص بعثمان وثبط يزيد بن أسد وأهل الشام
في نصرته لأنت، وإن الذي قتلوه لغير الأنصار.
وكتب في آخر كتابه:
لا توعدنا ابن حرب إننا بشر * لا نبتغي ود ذي البغضاء من أحد
فاسعوا جميعا بني الأحزاب كلكم * لسنا نريد ولا كم آخر الأبد
نحن الذين ضربنا الناس كلهم * حتى استقاموا وكانوا عرضة الأود
والعام قصرك منا إن أقمت لنا * ضربا يزيل بين الروح والجسد
أما علي فإنا لن نفارقه * ما رقرق الآل في الداوية الجرد
أما تبدلت منا بعد نصرتنا * دين الرسول أناسا ساكني الجند
لا يعرفون - أضل الله سيعهم - * إلا اتباعكم يا راعي النقد
65

فقد بغى الحق هضما شر ذي كلع * واليحصبيون طرا بيضة البلد
ألا ندافع كفا دون صاحبها * حد الشقاق ولا أم ولا ولد (1).
(24)
جعدة بن هبيرة مع عتبة بن أبي سفيان
قال عتبة بن أبي سفيان في يوم من أيام صفين: إني لاق بالغداة جعدة بن
هبيرة، فقال معاوية: بخ بخ! قومه بنو مخزوم، وأمه أم هاني بنت أبي طالب،
كفؤ كريم...
بعث معاوية إلى عتبة، فقال: ما أنت صانع في جعدة؟ قال: ألقاه اليوم
وأقاتله غدا. وكان لجعدة في قريش شرف عظيم، وكان له لسان، وكان من
أحب الناس إلى علي عليه السلام فغدا عليه عتبة فنادى: أبا جعدة أبا جعدة!
فاستأذن عليا عليه السلام في الخروج إليه، فأذن له. واجتمع الناس، فقال
عتبة: يا جعدة إنه والله ما أخرجك علينا إلا حب خالك وعمك (ابن أبي سلمة)
عامل البحرين، وإنا والله! ما نزعم أن معاوية أحق بالخلافة من علي لولا أمره
في عثمان، ولكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به، فاعف لنا عنها، فوالله!
ما بالشام رجل به طرق إلا وهو أجد من معاوية في القتال، وليس بالعراق رجل
له مثل جد علي في الحرب، ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم، وما أقبح
بعلي أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس حتى إذا أصاب سلطانا أفنى
العرب.
فقال جعدة: أما حبي لخالي: فلو كان لك خال مثله لنسيت أباك! وأما
ابن أبي سلمة: فلم يصب أعظم من قدره، والجهاد أحب إلي من العمل. وأما
فضل علي على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه اثنان. وأما رضاكم اليوم بالشام

(1) وقعة صفين لنصر: ص 367 - 369 وابن أبي الحديد في النهج: ج 8 ص 360 ط الكمپاني.
66

فقد رضيتم بها أمس، فلم نقبل. وأما قولك: ليس بالشام أحد إلا وهو أجد من
معاوية، وليس بالعراق رجل مثل جد علي، فهكذا ينبغي أن يكون، مضى
بعلي يقينه وقصر بمعاوية شكه، وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل.
وأما قولك: نحن أطوع لمعاوية منكم لعلي، فوالله ما نسأله إن سكت ولا نرد
عليه إن قال. وأما قتل العرب: فإن الله كتب [القتل و] القتال، فمن قتله
الحق فإلى الله.
فغضب عتبة وفحش على جعدة، فلم يجبه وأعرض عنه. وانصرفا جميعا
مغضبين (1).
(25)
يحيى مع الحجاج
كنز الفوائد للكراجكي: قال الشعبي: كنت بواسط وكان يوم أضحى،
فحضرت صلاة العيد مع الحجاج، فخطب خطبة بليغة، فلما انصرف جاءني
رسوله، فأتيته، فوجدته جالسا مستوفزا. قال: يا شعبي، هذا يوم أضحى، وقد
أردت أن أضحي فيه برجل من أهل العراق! وأحببت أن تستمع قوله، فتعلم
أني قد أصبت الرأي فيما أفعل به.
فقلت: أيها الأمير، أو ترى أن تستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله
وتضحي بما أمر أن يضحى به وتفعل مثل فعله، وتدع ما أردت أن تفعله به في
هذا اليوم العظيم إلى غيره؟
فقال: يا شعبي، إنك إذا سمعت ما يقول صوبت رأيي فيه، لكذبه على الله
وعلى رسوله وإدخاله الشبهة في الإسلام.

(1) وقعة صفين لنصر: ص 463 - 464. وابن أبي الحديد في النهج: ج 8 ص 98 - 99. وفتوح ابن
أعثم: ج 3 ص 177 - 178.
67

قلت: أفيرى الأمير أن يعفيني من ذلك؟ قال: لا بد منه. ثم أمر بنطع
فبسط، وبالسياف فأحضر، وقال: أحضروا الشيخ، فأتوا به، فإذا هو يحيى بن
يعمر! فاغتممت غما شديدا، وقلت في نفسي: وأي شئ يقوله يحيى مما
يوجب قتله؟.
فقال له الحجاج: أنت تزعم أنك زعيم العراق؟! قال يحيى: أنا فقيه من
فقهاء العراق. قال: فمن أي فقهك زعمت أن الحسن والحسين من ذرية
رسول الله؟ قال: ما أنا زاعم ذلك، بل قائله بحق. قال: وبأي حق قلته؟ قال:
بكتاب الله عز وجل. فنظر إلي الحجاج وقال: اسمع ما يقول! فإن هذا مما لم
أكن سمعته عنه، أتعرف أنت في كتاب الله عز وجل أن الحسن والحسين من
ذرية محمد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فجعلت أفكر في ذلك، فلم أجد في
القرآن شيئا يدل على ذلك. وفكر الحجاج مليا، ثم قال ليحيى: لعلك تريد
قول الله تعالى: " فمن حاجك من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا
وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على
الكاذبين ". وأن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج للمباهلة ومعه علي
وفاطمة والحسن والحسين؟
قال الشعبي: فكأنما أهدى إلى قلبي سرورا، وقلت في نفسي: قد خلص
يحيى. وكان الحجاج حافظا للقرآن، فقال له يحيى: والله إنها لحجة في ذلك
بليغة، ولكن ليس منها أحتج لما قلت، فاصفر وجه الحجاج وأطرق مليا، ثم
رفع رأسه إلى يحيى وقال له: إن أنت جئت من كتاب الله بغيرها في ذلك
فلك عشرة آلاف درهم، وإن لم تأت بها فأنا في حل من دمك، قال: نعم.
قال الشعبي: فغمني قوله، وقلت: أما كان في الذي نزع به الحجاج ما يحتج
به يحيى ويرضيه بأنه قد عرفه وسبقه إليه وتخلص منه حتى رد عليه وأفحمه؟
فإن جاءه بعد هذا بشئ لم آمن أن يدخل عليه فيه من القول ما يبطل به حجته
68

لئلا يقال: إنه قد علم ما قد جهله هو.
فقال يحيى للحجاج: قول الله تعالى: " ومن ذريته داود وسليمان " من
عنى بذلك؟ قال الحجاج: إبراهيم - عليه السلام، قال: فداود وسليمان من
ذريته؟ قال: نعم. قال يحيى: ومن نص الله عليه بعد هذا أنه من ذريته؟ فقرأ
الحجاج " وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين " قال يحيى:
ومن؟ قال: " وزكريا ويحيى وعيسى " قال يحيى: ومن أين كان عيسى من
ذرية إبراهيم عليه السلام ولا أب له؟ قال: من أمه مريم عليها السلام قال يحيى:
فمن أقرب: مريم من إبراهيم أم فاطمة من محمد صلى الله عليه وآله، وعيسى
من إبراهيم والحسن والحسين عليهما السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله؟
قال الشعبي: فكأنما ألقمه حجرا! فقال: أطلقوه قبحه الله، وادفعوا إليه
عشرة آلاف درهم لا بارك الله له فيها!
ثم أقبل علي فقال: قد كان رأيك صوابا، ولكنا أبيناه. ودعا بجزور
فنحره، وقام فدعا بطعام فأكل وأكلنا معه. وما تكلم بكلمة حتى انصرفنا، ولم
يزل مما احتج به يحيى بن يعمر واجما (1).
(26)
يحيى مع الحجاج
وفي طبقات السيوطي: قال الحاكم: فقيه أديب نحوي أخذ النحو عن أبي
الأسود: ولما بنى الحجاج واسط سأل الناس ما عيبها؟ فقال له يحيى: بنيتها
من غير مالك وسيسكنها غير ولدك، فغضب الحجاج وقال: ما حملك على
ذلك؟ قال: ما أخذ الله تعالى على العلماء في علمهم أن لا يكتموا الناس

(1) البحار: ج 10 ص 147 الطبع الحديث. وقاموس الرجال: ج 9 والعقد الفريد: ج 2 ص 175
وج 5 ص 20. ويأتي عن المحاضرات للراغب.
69

حديثا.
فنفاه إلى خراسان، فولاه قتيبة بن مسلم قضاءها، فقضى في أكثر بلادها:
نيسابور، ومرو، وهراة، وآثاره ظاهرة. وفي الجهشياري: قال له الحجاج: هل
ألحن؟ قال: تلحن لحنا خفيا تزيد حرفا أو تنقص حرفا، وتجعل " إن " في
موضع " أن " قال: إن وجدتك بعد ثلاثة بالعراق قتلتك (1).
(27)
مؤمن الطاق مع أبي حنيفة
قال أبو حنيفة لأبي جعفر مؤمن الطاق: ما تقول في الطلاق الثلاث؟ قال:
أعلى خلاف الكتاب والسنة؟ قال: نعم، قال أبو جعفر: لا يجوز ذلك. قال أبو
حنيفة: ولم لا يجوز ذلك؟ قال: لأن التزويج عقد بالطاعة فلا يحل بالمعصية،
وإذا لم يجز التزويج بجهة المعصية لم يجز الطلاق بجهة المعصية، وفي إجازة ذلك
طعن على الله عز وجل فيما أمر به وعلى رسوله فيما سن، لأنه إذا كان العمل
بخلافهما فلا معنى لهما، وفي قولنا: من شذ عنهما رد إليهما وهو صاغر. قال أبو
حنيفة: قد جوز العلماء ذلك، قال أبو جعفر: ليس العلماء الذين جوزوا للعبد
العمل بالمعصية واستعمال سنة الشيطان في دين الله، ولا عالم أكبر من الكتاب
والسنة. فلم تجوزون للعبد الجمع بين ما فرق الله من الطلاق الثلاث في وقت
واحد، ولا تجوزون له الجمع بين ما فرق الله من الصلوات الخمس؟ وفي تجويز
ذلك تعطيل الكتاب وهدم السنة، وقد قال الله عز وجل: " ومن يتعد حدود
الله فقد ظلم نفسه ".
ما تقول يا أبا حنيفة في رجل قال: إنه طالق امرأته على سنة الشيطان،
أيجوز له ذلك الطلاق؟ قال أبو حنيفة: فقد خالف السنة وبانت منه امرأته

(1) قاموس الرجال: ج 9 ص 431.
70

وعصى ربه. قال أبو جعفر: فهو كما قلنا إذا خالف سنة الله عمل بسنة
الشيطان، ومن أمضى بسنته فهو على ملته، ليس له في دين الله نصيب.
قال أبو حنيفة: هذا عمر بن الخطاب، وهو من أفضل أئمة المسلمين، قال:
إن الله جل ثناؤه جعل لكم في الطلاق أناة فاستعجلتموه وأجزنا لكم
ما استعجلتموه. قال أبو جعفر: إن عمر كان لا يعرف أحكام الدين. قال أبو
حنيفة: وكذلك ذلك؟ قال أبو جعفر: ما أقول فيه ما تنكره.
أما أول ذلك: فإنه قال: " لا يصلي الجنب حتى يجد الماء ولو سنة " والأمة
على خلاف ذلك.
وأتاه أبو كيف العائذي، فقال: يا أمير المؤمنين، إني غبت فقدمت وقد
تزوجت امرأتي! فقال: " إن كان قد دخل بها فهو أحق بها، وإن لم يكن دخل
بها فأنت أولى بها " وهذا حكم لا يعرف والأمة على خلافه.
وقضى في رجل غاب عن أهله أربع سنين أنها تتزوج إن شاءت. والأمة
على خلاف ذلك، إنها لا تتزوج أبدا حتى تقوم البينة أنه مات أو طلقها.
وإنه قتل سبعة نفر من أهل اليمن برجل واحد، وقال: لولا ما عليه أهل
صنعاء لقتلتهم به. والأمة على خلافه.
وأتي بامرأة حبلى شهدوا عليها بالفاحشة فأمر برجمها، فقال له علي
عليه السلام: إن كان لك السبيل عليها فما سبيلك على ما في بطنها؟ فقال: " لولا
علي لهلك عمر ".
وأتي بمجنونة قد زنت فأمر برجمها، فقال له علي عليه السلام: أما علمت أن
القلم قد رفع عنها حتى تصح؟ فقال: " لولا علي لهلك عمر ".
وإنه لم يدرك الكلالة فسأل النبي صلى الله عليه وآله عنها فأخبره بها فلم
يفهم عنه، فسأل ابنته حفصة أن تسأل النبي عن الكلالة فسألته، فقال لها:
أبوك أمرك بهذا؟ قالت: نعم فقال لها: إن أباك لا يفهمها حتى يموت.
71

فمن لم يعرف الكلالة فكيف يعرف أحكام الدين؟ (1).
(28)
الفضال مع أبي حنيفة
كتاب الفصول للسيد رحمه الله: أخبرني الشيخ أدام الله عزه مرسلا، قال:
مر الفضال بن الحسن بن فضال الكوفي بأبي حنيفة، وهو في جمع كثير يملي عليهم
شيئا من فقهه وحديثه. فقال لصاحب كان معه: والله لا أبرح أو أخجل أبا
حنيفة! قال صاحبه: إن أبا حنيفة ممن قد علت حاله وظهرت حجته. قال:
مه! هل رأيت حجة كافر علت على مؤمن؟ ثم دنا منه، فسلم عليه فرد ورد
القوم السلام بأجمعهم.
فقال: يا أبا حنيفة رحمك الله إن لي أخا يقول: إن خير الناس بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب عليه السلام وأنا أقول: إن أبا
بكر خير الناس وبعده عمر، فما تقول أنت رحمك الله؟ فأطرق مليا ثم رفع
رأسه، فقال: كفى بمكانهما من رسول الله صلى الله عليه وآله كرما وفخرا،
أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره، فأي حجة أوضح لك من هذه؟.
فقال له فضال: إني قد قلت ذلك لأخي، فقال: والله لئن كان الموضع
لرسول الله صلى الله عليه وآله دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه
حق، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول الله صلى الله عليه وآله فقد أساءا
وما أحسنا إذا رجعا في هبتهما ونكثا عهدهما. فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال
له: لم يكن له ولا لهما خاصة، ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا
الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما.
فقال له فضال: قد قلت له ذلك، فقال: أنت تعلم أن النبي صلى الله

(1) البحار: ج 10 ص 230 - 231 الطبع الحديث.
72

عليه وآله مات عن تسع حشايا، ونظرنا فإذا لكل واحدة تسع الثمن، ثم نظرنا
في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك؟
وبعد، فما بال حفصة وعائشة ترثان رسول الله صلى الله عليه وآله وفاطمة بنته
تمنع الميراث؟ فقال أبو حنيفة: يا قوم نحوه عني فإنه والله رافضي خبيث! (1).
(29)
الفضل بن شاذان مع المخالفين
وقال رضي الله عنه: ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه قال: سئل أبو
محمد الفضل بن شاذان النيشابوري رحمه الله فقيل له: ما لدليل على إمامة
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؟ فقال: الدليل على ذلك من كتاب
الله عز وجل، ومن سنة نبيه صلى الله عليه وآله ومن إجماع المسلمين.
فأما كتاب الله تبارك وتعالى: فقوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " فدعانا سبحانه إلى طاعة أولي الأمر كما
دعانا إلى طاعة نفسه وطاعة رسوله، فاحتجنا إلى معرفة أولي الأمر كما وجبت
علينا معرفة الله تعالى ومعرفة الرسول عليه وآله السلام، فنظرنا في أقاويل الأمة
فوجدناهم قد اختلفوا في أولي الأمر وأجمعوا في الآية على ما يوجب كونها في علي
ابن أبي طالب عليه السلام فقال بعضهم: أولي الأمر هم أمراء السرايا، وقال
بعضهم: هم العلماء، وقال بعضهم: هم القوام على الناس والآمرون بالمعروف
والناهون عن المنكر، وقال بعضهم: هم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة
من ذريته عليهم السلام.
فسألنا الفرقة الأولى فقلنا لهم: أليس علي بن أبي طالب عليه السلام من
أمراء السرايا؟ فقالوا: بلى. فقلنا للثانية: ألم يكن عليه السلام من العلماء؟

(1) البحار: ج 10 ص 231 - 232 وج 44 ص 155 وج 47 ص 400.
73

قالوا: بلى. فقلنا للثالثة: أليس علي - عليه السلام - قد كان من القوام على الناس
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فقالوا: بلى. فصار أمير المؤمنين - عليه السلام -
معينا بالآية باتفاق الأمة واجتماعها، وتيقنا ذلك بإقرار المخالف لنا في الإمامة
والموافق عليها، فوجب أن يكون إماما بهذه الآية، لوجود الاتفاق على أنه معني
بها. ولم يوجب العدول إلى غيره والاعتراف بإمامته، لوجود الاختلاف في ذلك
وعدم الاتفاق وما يقوم مقامه من البرهان.
وأما السنة: فإنا وجدنا النبي - صلى الله عليه وآله - استقضى عليا - عليه السلام -
على اليمن، وأمره على الجيوش، وولاه الأموال وأمره بأداءها إلى بني جذيمة
الذين قتلهم خالد بن الوليد ظلما، واختاره لأداء رسالات الله سبحانه والابلاغ
عنه في سورة براءة، واستخلفه عند غيبته على من خلف. ولم نجد النبي - صلى الله عليه وآله - سن هذه السنن في أحد غيره، ولا اجتمعت هذه السنن في أحد بعد
النبي - صلى الله عليه وآله - كما اجتمعت في علي - عليه السلام - وسنة رسول الله
- صلى الله عليه وآله - بعد موته واجبة كوجوبها في حياته. وإنما تحتاج الأمة إلى
الإمام بهذه الخصال التي ذكرناه، فإذا وجدنا في رجل قد سنها الرسول
صلى الله عليه وآله فيه كان أولى بالإمامة ممن لم يسن النبي فيه شيئا من
ذلك.
وأما الإجماع: فإن إمامته ثبتت من جهته من وجوه:
منها: أنهم قد أجمعوا جميعا أن عليا - عليه السلام - قد كان إماما ولو يوما
واحدا، ولم يختلف في ذلك أصناف أهل الإمامة، ثم اختلفوا، فقالت طائفة:
كان إماما في وقت كذا وكذا، وقالت طائفة: بل كان إماما بعد النبي - صلى
الله عليه وآله - في جميع أوقاته، ولم تجمع الأمة على غيره أنه كان إماما في الحقيقة
طرفة عين، والإجماع أحق أن يتبع من الاختلاف.
ومنها: أنهم أجمعوا جميعا على أن عليا عليه السلام كان يصلح للإمامة وأن
74

الإمامة تصلح لبني هاشم، واختلفوا في غيره، وقالت طائفة: لم يكن تصلح لغير
علي بن أبي طالب عليه السلام ولا تصلح لغير بني هاشم، والإجماع حق لا شبهة
فيه، والاختلاف لا حجة فيه.
ومنها: أنهم أجمعوا على أن عليا عليه السلام - كان بعد النبي - صلى الله عليه
وآله ظاهر العدالة واجبة له الولاية، ثم اختلفوا، فقال قوم: كان مع ذلك
معصوما من الكبائر والضلال، وقال آخرون: لم يك معصوما. ولكن كان
عدلا برا تقيا على الظاهر لا يشوب ظاهره الشوائب، فحصل الإجماع على عدالته
عليه السلام واختلفوا في نفي العصمة عنه عليه السلام ثم أجمعوا على أن أبا بكر لم
يكن معصوما واختلفوا في عدالته، فقالت طائفة: كان عدلا، وقال آخرون: لم
يكن عدلا، لأنه أخذ ما ليس له، فمن أجمعوا على عدالته واختلفوا في عصمته
أولى بالإمامة وأحق ممن اختلفوا في عدالته وأجمعوا على نفي العصمة عنه (1).
(30)
الفضل بن شاذان مع المخالفين
سئل الفضل بن شاذان رحمه الله عما روته الناصبة عن أمير المؤمنين
عليه السلام أنه قال: " لا أوتي برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد
المفتري " فقال: إنما روى هذا الحديث سويد بن غفلة، وقد أجمع أهل الآثار
على أنه كان كثير الغلط. وبعد، فإن نفس الحديث متناقض، لأن الأمة مجمعة
على أن عليا عليه السلام كان عدلا في قضيته، وليس من العدل أن يجلد حد
المفتري من لم يفتر، لأن هذا جور على لسان الأمة كلها، وعلي بن أبي طالب
عليه السلام عندنا برئ من ذلك.
قال الشيخ أدام الله عزه: وأقول: إن هذا الحديث إن صح عن أمير المؤمنين

(1) البحار: ج 10 ص 374 - 377.
75

عليه السلام - ولن يصح بأدلة أذكرها بعد - فإن الوجه فيه أن الفاضل بينه وبين
الرجلين إنما وجب عليه حد المفتري من حيث أوجب لهما بالمفاضلة
ما لا يستحقانه من الفضل، لأن المفاضلة لا يكون إلا بين مقارنين في الفضل
وبعد أن يكون في المفضول فضل، وإذا كانت الدلائل على أن من لا طاعة معه
لا فضل له في الدين، وأن المرتد عن الإسلام ليس فيه شئ من الفضل الديني،
وكان الرجلان بجحدهما النص قبل قد خرجا عن الإيمان، بطل أن يكون لهما
فضل في الإسلام، فكيف يحصل لهما من الفضل ما يقارب فضل أمير المؤمنين
عليه السلام؟ ومتى فضل إنسان أمير المؤمنين عليه السلام عليهما فقد أوجب لهما
فضلا في الدين. فإنما استحق حد المفتري الذي هو كاذب دون المفتري الذي
هو راجم بالقبيح، لأنه أفترى بالتفضيل لأمير المؤمنين عليه السلام عليهما من
حيث كذب في إثبات فضل لهما في الدين، ويجري في هذا الباب مجرى من فضل
البر التقي على الكافر المرتد الخارج عن الدين، ومجرى من فضل جبرئيل
عليه السلام على إبليس، ورسول الله صلى الله عليه وآله على أبي جهل بن
هشام، في أن المفاضلة بين من ذكرناه يوجب لمن لا فضل له على وجه فضلا
مقاربا لفضل العظماء عند الله تعالى، وهذا بين لمن تأمله.
مع أنه لو كان هذا الحديث صحيحا وتأويله على ما ظنه القوم يوجب أن
يكون حد المفتري واجبا على الرسول صلى الله عليه وآله وحاشا له من ذلك!
لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد فضل أمير المؤمنين عليه السلام - على سائر
الخلق، وآخى بينه وبين نفسه، وجعله بحكم الله في المباهلة نفسه، وسد أبواب
القوم إلا بابه، ورد أكثر الصحابة عن إنكاحهم ابنته سيدة نساء العالمين
عليها السلام وأنكحه، وقدمه في الولايات كلها ولم يؤخره، وأخبر أنه يحب الله
ورسوله ويحبه الله ورسوله، وأنه أحب الخلق إلى الله تعالى، وأنه مولى من كان
مولاه من الأنام، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى بن عمران، وأنه أفضل من
76

سيدي شباب أهل الجنة، وأن حربه حربه وسلمه سلمه، وغير ذلك مما يطول
شرحه إن ذكرناه.
وكان أيضا يجب أن يكن عليه السلام قد أوجب الحد على نفسه، إذ أبان
فضله على سائر أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله حيث يقول: " أنا عبد الله
وأخو رسول الله، لم يقلها أحد قبلي ولا يقولها أحد بعدي إلا مفتر كذاب، صليت
قبلهم سبع سنين " وفي قوله لعثمان وقد قال له: " أبو بكر وعمر خير منك "
فقال: " بل أنا خير منك ومنهما عبدت الله عز وجل قبلهما وعبدته بعدهما ".
وكان أيضا قد أوجب الحد على ابنه الحسن وجميع ذريته وأشياعه وأنصاره
وأهل بيته، فإنه لا ريب في اعتقادهم فضله على سائر الصحابة، وقد قال
الحسن عليه السلام صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين عليه السلام: " لقد
قبض الليلة رجل، ما سبقه الأولون بعمل ولا أدركه الآخرون " وهذه المقالة
متهافتة جدا.
وقال الشيخ أيده الله: ولست أمنع العبارة بأن أمير المؤمنين عليه السلام كان
أفضل من أبي بكر وعمر على معنى تسليم فضلهما من طريق الجدل أو على معتقد
الخصوم في أن لهما فضلا في الدين، وأما على تحقيق القول في المفاضلة فإنه غلط
وباطل.
قال الشيخ: وشاهد ما أطلقت من القول ونظيره قول أمير المؤمنين
عليه السلام في أهل الكوفة: " اللهم إني قد مللتهم وملوني وسئمتهم وسئموني،
اللهم فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني " ولم يكن في أمير المؤمنين
عليه السلام وإنما أخرج الكلام على اعتقادهم فيه، ومثله قول حسان بن ثابت
وهو يعني رسول الله صلى الله عليه وآله:
أتهجوه ولست له بكفؤ * فخيركما لشركما الفداء
ولم يكن في رسول الله صلى الله عليه وآله شر، وإنما أخرج الكلام على
77

معتقد الهاجي فيه، وقوله تعالى: " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين "
ولم يكن الرسول على ضلال (1).
(31)
داود مع ابن طاهر
دخل أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري على محمد بن طاهر بعد قتل
يحيى بن عمر المقتول بشاهي، فقال له: أيها الأمير! إنا قد جئناك لنهنئك بأمر
لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله حيا لعزيناه به (2).
(32)
عبد الله بن عباس مع يزيد
قال اليعقوبي: (3) أخذ ابن الزبير عبد الله بن عباس بالبيعة له، فامتنع عليه،
فبلغ يزيد بن معاوية أن عبد الله بن عباس قد امتنع على ابن الزبير، فسره ذلك،
وكتب إلى ابن عباس:
أما بعد، فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته وعرض عليك
الدخول في طاعته لتكون على الباطل ظهيرا وفي المآثم شريكا، وأنك امتنعت
عليه واعتصمت ببيعتنا وفاء منك لنا وطاعة لله فيما عرفك من حقنا، فجزاك
الله من ذي رحم بأحسن ما يجزي به الواصلين لأرحامهم! فإني أنس من
الأشياء، فلست بناس برك وحسن جزائك وتعجيل صلتك بالذي أنت مني
أهله في الشرف والطاعة والقرابة بالرسول، وانظر - رحمك الله - فيمن قبلك من
قومك ومن يطرأ عليك من الآفاق ممن يسحره الملحد بلسانه وزخرف قوله،
فأعلمهم حسن رأيك في طاعتي والتمسك ببيعتي، فإنهم لك أطوع ومنك

(1) البحار: ج 10 ص 377 - 379.
(2) البحار: ج 10 ص 391.
(3) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 247.
78

أسمع منهم للمحل الملحد، والسلام.
فكتب إليه عبد الله بن عباس:
من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية.
أما بعد، فقد بلغني كتابك بذكر دعاء ابن الزبير إياي إلى نفسه وامتناعي
عليه في الذي دعاني إليه من بيعته، فإن يك ذلك كما بلغك فلست حمدك
أردت ولا ودك، ولكن الله بالذي أنوي عليهم. وزعمت أنك لست بناس
ودي، فلعمري ما تؤتينا مما في يديك من حقنا إلا القليل، وإنك لتحبس عنا
منه العريض الطويل! وسألتني أن أحث الناس عليك وأخذلهم عن ابن
الزبير، فلا، ولا سرورا ولا حبورا! وأنت قتلت " الحسين بن علي " بفيك
الكثكث ولك الأثلب، إنك إن تمنيك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنك
لأنت المفند المهور، لا تحسبني لا أبا لك!
نسيت قتلك حسينا وفتيان بني عبد المطلب مصابيح الدجى ونجوم
الأعلام؟ غادرهم جنودك مصرعين في الصعيد مرملين بالتراب مسلوبين
بالعراء لا مكفنين، تسفي عليهم الرياح وتعاورهم الذئاب وتنتابهم عرج
الضباع، حتى أتاح الله لهم أقواما لم يشتركوا في دمائهم، فأجنوهم في أكفانهم.
وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست يا يزيد!
وما أنس من الأشياء فلست بناس تسليطك الدعي العاهر ابن العاهر
البعيد رحما اللئيم أبا وأما الذي في ادعاء أبيك إياه ما اكتسب أبوك به إلا العار
والخزي والمذلة في الآخرة والأولى وفي الممات والمحيا. إن نبي الله قال: " الولد
للفراش وللعاهر الحجر " فألحقه بأبيه كما يلحق بالعفيف النقي ولده الرشيد.
وقد أمات أبوك السنة جهلا وأحيا البدع والأحداث المضلة عمدا.
وما أنس من الأشياء، فلست بناس إطرادك " الحسين بن علي " من
حرم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى حرم الله ودسك إليه الرجال تغتاله،
79

فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفا يترقب، وقد كان أعز
أهل البطحاء بالبطحاء قديما، وأعز أهلها بها حديثا، وأطوع أهل الحرمين
بالحرمين لو تبوأ بها مقاما واستحل بها قتالا، ولكن كره أن يكون هو الذي
يستحل حرمة البيت وحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله فأكبر من ذلك ما لم
تكبر، حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم، وما لم يكبر ابن الزبير،
حيث ألحد بالبيت الحرام وعرضه للعائر وأراقل العالم. وأنت لأنت المستحل
فيما أظن بل لا شك فيه أنك للمحرف العريف، فإنك حلف نسوة صاحب
ملاه، فلما رأى سوء رأيك شخص إلى العراق ولم يبتغك ضرابا وكان أمر الله
قدرا مقدورا.
ثم إنك الكاتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسينا بالرجال، وأمرته
بمعاجلته وترك مطاولته والإلحاح عليه حتى يقتله ومن معه من بني عبد المطلب،
أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فنحن أولئك لسنا
كآبائك الأجلاف الجفاة الأكباد الحمير.
ثم طلب الحسين بن علي إليه الموادعة وسألهم الرجعة، فاغتنمتم قلة
أنصاره واستئصال أهل بيته فعدوتم عليهم، فقتلوهم كأنما قتلوا أهل بيت من
الترك والكفر.
فلا شئ عندي أعجب من طلبك ودي ونصري وقد قتلت بني أبي وسيفك
يقطر من دمي! وأنت آخذ ثاري، فإن يشأ الله لا يطل لديك دمي ولا تسبقني
بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا فقبلنا ما قتل النبيون وآل النبيين، وكان الله
الموعد وكفى به للمظلومين ناصرا ومن الظالمين منتقما، فلا يعجبنك إن ظفرت
بنا اليوم، فوالله لنظفرن بك يوما.
فأما ما ذكرت من وفائي وما زعمت من حقي: فإن يك ذلك كذلك، فقد
والله بايعت أباك وإني لأعلم أن بني عمي وجميع بني أبي أحق بهذا الأمر من
80

أبيك، ولكنكم - معاشر قريش - كاثرتمونا فاستأثرتم علينا سلطاننا ودفعتمونا عن
حقنا، فبعدا على من اجترأ على ظلمنا واستغوى السفهاء علينا وتولى الأمر
دوننا! فبعدا لهم كما بعدت ثمود وقوم لوط وأصحاب مدين ومكذبوا
المرسلين!.
ألا ومن أعجب الأعاجيب وما عشت أراك الدهر العجيب حملك بنات
عبد المطلب وغلمة صغارا من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب، تري الناس
أنك قهرتنا وأنك تأمرت علينا!
ولعمري، لئن كانت تمشي وتصبح آمنا لجرح يدي إني لأرجو أن يعظم
جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستغربك الجذل، ولا يمهلك الله بعد
قتلك عترة رسول الله صلى الله عليه وآله إلا قليلا حتى يأخذك أخذا أليما،
فيخرجك الله من الدنيا ذميما أثيما. فعش لا أبا لك! فقد والله أرداك عند الله
ما اقترفت. والسلام على من أطاع الله (1).
(33)
بنو هاشم مع معاوية
حج معاوية سنة (44)... ولما صار إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم وكلموه
في أمورهم، فقال: أما ترضون يا بني هاشم أن نقر عليكم دماءكم؟ وقد قتلتم
عثمان حتى تقولوا ما تقولون، فوالله لأنتم أجل دما من كذا وكذا وأعظم في
القول.
فقال له ابن عباس: كلما قلت لنا يا معاوية من شر بين دفتيك، وأنت

(1) مقتل الحسين للخوارزمي: ج 2 ص 77. وتذكرة السبط: ص 275 عن الواقدي وابن هشام وابن
إسحاق وقال في آخره: فلما قرأ يزيد كتابه أخذته العزة بالإثم وهم بقتل ابن عباس، فشغله عنه أمر ابن
الزبير، ثم أخذه الله بعد ذلك بيسير أخذا عزيزا. والبحار: ج 45 ص 323 - 324.
81

والله أولى بذلك منا! أنت قتلت عثمان، ثم قمت تغمص على الناس أنك
تطلب بدمه، فانكسر معاوية.
فقال ابن عباس: والله ما رأيتك صدقت إلا فزعت وانكسرت.
قال فضحك معاوية، وقال: والله ما أحب أنكم لم تكونوا كلمتموني (1).
(34)
عبد الله بن عباس مع معاوية
وفد عبد الله بن عباس على معاوية، قال: فوالله إني لفي المسجد إذ كبر
معاوية في الخضراء، فكبر أهل الخضراء، ثم كبر أهل المسجد تكبير أهل
الخضراء، فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف من
خوخة لها، فقالت: سرك الله يا أمير المؤمنين ما هذا الذي بلغك فسررت به؟
قال: موت الحسن بن علي! فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم بكت
وقالت: مات سيد المسلمين وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال معاوية: نعما والله ما فعلت، إنه كان كذلك أهلا أن تبكي عليه.
ثم بلغ الخبر ابن عباس رضي الله عنهما فراح فدخل على معاوية قال:
علمت يا ابن عباس أن الحسن توفي؟ قال: ألذلك كبرت؟ قال: نعم. قال:
[أما] والله ما موته بالذي يؤخر أجلك، ولا حفرته بسادة حفرتك، ولئن أصبنا
به فقد أصبنا قبله بسيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين، ثم بعده
سيد الأوصياء، فجبر الله تلك المصيبة ورفع تلك العثرة.
فقال: ويحك يا ابن عباس! ما كلمتك [قط] إلا وجدت معدا (2).

(1) تأريخ اليعقوبي: ج 2 ص 222.
(2) مروج الذهب: ج 3 ص 8، في نسخة دار الهجرة ج 2، ص 430.
82

(35)
ابن عباس مع معاوية
في الأمالي للسيد: ولما أتى معاوية نعي الحسن بن علي عليهم السلام بعث
إلى ابن عباس رضي الله عنه وهو لا يعلم الخبر، فقال له: هل عندك خبر من
المدينة؟ قال: لا، قال أتانا نعي الحسن وأظهر سرورا!
فقال ابن عباس: إذا لا ينسأ في أجلك ولا تسد حفرتك. قال: أحسبه قد
ترك صبيته صغارا، قال: كلنا كان صغيرا وكبر. قال: وأحسبه قد كان بلغ
سنا، قال: مثل مولده لا يجهل. قال معاوية: وقال قائل: إنك أصبحت سيد
قومك، قال: وأما أبو عبد الله الحسين بن علي حي فلا (1).
(36)
عبد الله مع معاوية
إن معاوية مر بحلقة من قريش، فلما رأوه قاموا غير عبد الله بن عباس، فقال
له: يا ابن عباس، ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلا لموجدة أني قاتلتكم
بصفين! فلا تجد من ذلك يا ابن عباس فإن عثمان قتل مظلوما! قال ابن
عباس: فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما؟ قال: عمر قتله كافر. قال ابن
عباس: فمن قتل عثمان؟ قال قتله المسلمون. قال: فذاك أدحض لحجتك.
قال: فإنا قد كتبنا في الآفاق ننهي عن ذكر مناقب علي وأهل بيته
عليهم السلام فكف لسانك. فقال: يا معاوية! أتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال:
لا، قال: أفتنهانا عن تأويله؟ قال: نعم. قال: فنقرأه ولا نسأل عما عنى الله

(1) يوجد في البحار: ج 44 ص 159 عن ربيع الأبرار للزمخشري والعقد الفريد. وملحقات إحقاق
الحق ج 11 ص 181 عن مجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 178. وتاريخ الخميس ج 2 ص 293. وتاريخ
الإسلام والرجال قريبا مما مر. وسيأتي بلفظ آخر في ج 2 ص 61 عن الموفقيات.
83

به! ثم قال: فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟ قال: العمل به. قال:
كيف نعمل به ولا نعلم ما عنى الله؟ قال: سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله
أنت وأهل بيتك. قال: إنما أنزل القرآن على أهل بيتي أنسأل عنه آل أبي
سفيان؟. يا معاوية أتنهانا أن نعبد الله بالقرآن بما فيه من حلال وحرام؟ فإن لم
تسأل الأمة عن ذلك حتى تعلم تهلك وتختلف!
قال أقرؤا القرآن وتأولوه، ولا ترووا شيئا مما أنزل الله فيكم وارووا ما سوى
ذلك. قال: فإن الله يقول في القرآن: " يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى
الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ".
قال: يا ابن عباس! أربع على نفسك وكف لسانك، وإن كنت لا بد فاعلا
فليكن ذلك سرا لا يسمعه أحد علانية.
ثم رجع إلى بيته فبعث إليه بمائة ألف درهم (1).
(37)
عبد الله بن عباس مع معاوية
حضر عبد الله بن عباس مجلس معاوية ابن أبي سفيان، فأقبل عليه معاوية،
فقال: يا ابن عباس، إنكم تريدون أن تحرزوا الإمامة كما اختصصتم بالنبوة،
والله لا يجتمعان أبدا، إن حجتكم في الخلاقة مشتبهة على الناس، إنكم
تقولون: نحن أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله فما بال خلافة النبوة في غيرنا؟
وهذه شبهة، لأنها تشبه الحق وبها مسحة من العدل، وليس الأمر كما تظنون،
إن الخلافة تنقلب في أحياء قريش برضى العامة وشورى الخاصة، ولسنا نجد
الناس يقولون: ليت بني هاشم ولونا ولو ولونا كان خيرا لنا في دنيانا وأخرانا،

(1) الاحتجاج: ج 2 ص 15 ط نجف. والبحار: ج 44 ص 124 ونقل صدره في البحار ج 8 ص 534
ط الكمباني عن الكشف عن الموفقيات.
84

ولو كنتم زهدتم فيها أمس كما تقولون ما قاتلتم عليها اليوم، والله لو ملكتموها يا بني
هاشم لما كانت ريح عاد ولا صاعقة ثمود بأهلك للناس منكم!
فقال ابن عباس رحمه الله: أما قولك يا معاوية: إنا نحتج بالنبوة في
استحقاق الخلافة فهو والله كذلك، فإن لم يستحق الخلافة بالنبوة فبم
يستحق؟.
وأما قولك: إن الخلافة والنبوة لا يجتمعان لأحد، فأين قول الله عز وجل:
" أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب
والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما " فالكتاب هو النبوة، والحكمة هي السنة، والملك
هو الخلافة، فنحن آل إبراهيم والحكم بذلك جار فينا إلى يوم القيامة.
وأما دعواك على حجتنا أنها مشتبهة: فليس كذلك، وحجتنا أضوأ من
الشمس وأنور من القمر، كتاب الله معنا، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله فينا،
وإنك لتعلم ذلك، ولكن ثنى عطفك وصعرك قتلنا أخاك وجدك وخالك
وعمك، فلا تبك على أعظم حائلة وأرواح في النار هالكة، ولا تغضبوا لدماء
أراقها الشرك وأحلها الكفر ووضعها الدين.
وأما ترك تقديم الناس لنا فيما خلا وعدولهم عن الإجماع علينا: فما حرموا
منا أعظم مما حرمنا منهم. وكل أمر إذا حصل حاصله ثبت حقه وزال باطله.
وأما افتخارك بالملك الزائل الذي توصلت إليه بالمحال الباطل: فقد ملك
فرعون من قبلك فأهلكه الله. وما تملكون يوما يا بني أمية إلا ونملك بعد كم
يومين، ولا شهرا إلا ملكنا شهرين، ولا حولا إلا ملكنا حولين.
وأما قولك إنا لو ملكنا كان أهلك للناس من ريح عاد وصاعقة ثمود:
فقول الله يكذبك في ذلك، قال الله عز وجل " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "
فنحن أهل بيته الأدنون. وظاهر العذاب بتملكك رقاب المسلمين ظاهر
للعيان، وسيكون من بعدك تملك ولدك وولد أبيك أهلك للخلق من الريح
85

العقيم. ثم ينتقم الله بأوليائه ويكون العاقبة للمتقين (1).
(38)
أياس مع عبد الرحمن
عن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، قال: كان أياس بن معاوية
لي صديقا، فدخلنا على عبد الرحمن بن القاسم ابن أبي بكر الصديق رضي الله
عنهما وعنده جماعة من قريش يتذاكرون السلف، ففضل قوم أبا بكر وقوم عمر
وآخرون عليا رضي الله عنهم أجمعين فقال: أياس إن عليا رحمه الله كان يرى
أنه أحق بالأمر، فلما بايع الناس أبا بكر ورأى أنهم قد اجتمعوا عليه وأن ذلك
قد أصلح العامة، اشترى صلاح العامة بنقض رأي الخاصة، يعني بني هاشم.
ثم ولي عمر - رحمه الله - ففعل مثل ذلك به وبعثمان رضي الله عنه فلما قتل
عثمان رحمه الله فاختلف الناس وفسدت الخاصة والعامة وجد أعوانا فقام
بالحق ودعا إليه (2).
(39)
سعيد مع عمر بن علي
عن أبي داود الهمداني، قال: شهدت سعيد بن المسيب، وأقبل عمر بن
علي بن أبي طالب عليهما السلام فقال له سعيد: يا ابن أخي، ما أراك تكثر
غشيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله كما يفعل إخوتك وبنو عمك؟
فقال عمر: يا ابن المسيب، كلما دخلت فأجئ فأشهدك؟ فقال سعيد:
ما أحب أن تغضب، سمعت والدك عليا يقول: والله، إن لي من الله مقاما لهو

(1) البحار: ج 44 ص 117 - 118 عن مجالس المفيد ره وكشف الغمة: 126 وج 8 ص 533 - 534 مع
اختلاف أوجب إيراده فيما بعد.
(2) المحاسن للبيهقي: ج 1 ص 75.
86

خير لبني عبد المطلب مما على الأرض من شئ، فقال عمر: سمعت والدي
يقول: ما من كلمة حكمة في قلب منافق فيخرج من الدنيا حتى يتكلم بها
[فقال سعيد: يا ابن أخي جعلتني منافقا!] قال: ذاك ما أقول لك، ثم
انصرف (1).
(40)
مالك بن العجلان مع معاوية
قال معاوية يوما وعنده أشراف الناس من قريش وغيرهم: أخبروني بخير
الناس أبا وأما، وعما وعمة، وخالا وخالة، وجدا وجدة؟.
فقام مالك بن العجلان، فأومأ إلى الحسن، فقال: ها هو ذا، أبوه علي بن
أبي طالب رضوان الله عليه وأمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعمه جعفر الطيار في الجنان، وعمته أم هاني بنت أبي طالب، وخاله القاسم
ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
زينب، وجده رسول الله صلى الله عليه وآله وجدته خديجة بنت خويلد رضي
الله عنها فسكت القوم، ونهض الحسن.
فأقبل عمرو بن العاص على مالك، فقال أحب بني هاشم حملك على أن
تكلمت بالباطل؟ فقال ابن العجلان: ما قلت إلا حقا، وما أحد من الناس
يطلب مرضاة مخلوق بمعصية لخالق إلا لم يعط أمنيته في دنياه وختم له بالشقاء
في آخرته. بنو هاشم أنضرهم عودا و أوراهم زندا، كذلك يا معاوية؟ قال:
اللهم نعم (2).

(1) الغارات: ج 2 ص 579.
(2) محاسن البيهقي: ج 1 ص 131.
87

(41)
حرة بنت حليمة مع الحجاج
روي عن جماعة ثقات أنه لما وردت حرة بنت حليمة السعدية رضي الله
عنها على الحجاج بن يوسف الثقفي ومثلت بين يديه، فقال لها: أنت حرة بنت
حليمة السعدية؟ فقالت له: فراسة من غير مؤمن! فقال لها: الله جاء بك، فقد
قيل عليك: إنك تفضلين عليا على أبي بكر وعمر وعثمان.
قالت: لقد كذب الذي قال: إني أفضله على هؤلاء خاصة. قال: وعلى
من غير هؤلاء؟ قالت: أفضله على آدم ونوح ولوط وإبراهيم وموسى وداود
وسليمان وعيسى بن مريم!
فقال لها: أقول لك إنك تفضليه على الصحابة فتزيدين عليهم سبعة من
الأنبياء من أولي العزم! فإن لم تأتيني ببيان ما قلت وإلا ضربت عنقك.
فقالت: ما أنا فضلته على هؤلاء الأنبياء، بل الله عز وجل فضله في القرآن
عليهم في قوله تعالى في حق آدم: " فعصى آدم ربه فغوى " وقال في حق علي:
" وكان سعيه مشكورا ".
فقال: أحسنت يا حرة، فبم تفضليه على نوح ولوط؟ قالت: الله تعالى فضله
عليهما بقوله: " ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت
عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما " وعلي بن أبي طالب كان ملائكة
(ملاكه ظ) تحت سدرة المنتهى زوجته بنت محمد صلى الله عليه وآله فاطمة
الزهراء التي يرضى الله لرضاها ويسخط لسخطها.
فقال الحجاج: أحسنت يا حرة، فبم تفضلينه على أب الأنبياء إبراهيم خليل
الله؟ فقالت: الله ورسوله فضله بقوله: " وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي
الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " وأمير المؤمنين قال قولا لم
88

يختلف فيه أحد من المسلمين: " لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا " وهذه
كلمة لم يقلها قبله ولا بعده أحد.
قال: أحسنت يا حرة، فبم تفضلينه على موسى نجي الله؟ قالت: يقول الله
عز وجل: " فخرج منها خائفا يترقب " وعلي بن أبي طالب بات على فراش
رسول الله صلى الله عليه وآله لم يخف حتى أنزل الله في حقه " ومن الناس من
يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ".
قال أحسنت يا حرة، قال: فبم تفضلينه على داود؟ قالت:
الله فضله عليه بقوله: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين
الناس بالحق ولا تتبع الهوى " قال لها: في أي شئ كانت حكومته؟ قالت: في
رجلين: أحدهما كان له كرم وللآخر غنم، فنفشت الغنم في الكرم فرعته،
فاحتكما إلى داود، فقال: تباع الغنم وينفق ثمنها على الكرم حتى يعود إلى
ما كان عليه، فقال له ولده: لا يا أبة، بل نأخذ من لبنها وصوفها، فقال الله
عز وجل: " ففهمناها سليمان " وإن مولانا أمير المؤمنين رضي الله عنه قال:
" اسألوني عما فوق، اسألوني عما تحت، اسألوني قبل أن تفقدوني " وأنه - رضي الله
عنه - دخل على النبي صلى الله عليه وآله يوم فتح خيبر، فقال النبي صلى الله
عليه وآله للحاضرين: " أفضلكم وأعلمكم علي ".
فقال لها: أحسنت يا حرة، فبم تفضلينه على سليمان؟ قالت: الله فضله
عليه بقوله: " رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي " ومولانا علي - رضي
الله عنه - قال: " يا دنيا قد طلقتك ثلاثا، لا رجعة لي فيك " فعند ذلك أنزل الله
عليه " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ".
قال: أحسنت يا حرة، فبم تفضيلنه على عيسى؟ قالت: الله فضله عليه
بقوله: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين
من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته
89

فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسي إنك أنت علام الغيوب " إلى
آخر الآية، فأخر الحكومة، ومولانا علي بن أبي طالب لما ادعى النصيرية فيه
ما ادعوا وهم أهل النهروان قاتلهم، ولم يؤخر حكومتهم.
فهذه كانت فضائله، لا تعدل بفضائل غيره.
قال: أحسنت يا حرة، خرجت من جوابك، ولولا ذلك لكان ذلك، ثم
أجازها وأعطاها وسرحها تسريحا (رحمة الله عليها) (1).
(42)
غانمة مع معاوية
قيل: ولما بلغ غانمة بنت غانم سب معاوية وعمرو بن العاص بني هاشم،
قالت لأهل مكة: أيها الناس، إن قريشا لم تلد من رقم ولا رقم، سادت
وجادت، وملكت فملكت، وفضلت ففضلت، واصطفيت فاصطفت، ليس فيها
كدر عيب ولا أفن ريب، ولا حشروا طاعنين، ولا حادوا نادمين، ولا المغضوب
عليهم ولا الضالين.
إن بني هاشم أطول الناس باعا، وأمجد الناس أصلا، وأحلم الناس حلما،
وأكثر الناس عطاء، منا عبد مناف الذي يقول فيه الشاعر:
كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمخ خالصها لعبد مناف
وولده هاشم الذي هشم الثريد لقومه، وفيه يقول الشاعر:
هشم الثريد لقومه وأجارهم * ورجال مكة مسنتون عجاف
ثم منا عبد المطلب الذي سقينا به الغيث، وفيه يقول الشاعر:
ونحن سني المحل قام شفيعنا * بمكة يدعو والمياه تغور

(1) ملحقات إحقاق الحق: ج 5 ص 47 عن در بحر المناقب. والبحار: ج 46 ص 134 عن فضائل بن
شاذان والروضة. وقاموس الرجال: ج 10 ص 415.
90

وابنه أبو طالب عظيم قريش، وفيه يقول الشاعر:
آتيته ملكا فقام بحاجتي * وترى العليج خائبا مذموما
ومنا العباس بن عبد المطلب، أردفه رسول الله صلى الله عليه وآله
فأعطاه ماله، وفيه يقول الشاعر:
رديف رسول الله لم أر مثله * ولا مثله يوم القيامة يوجد
ومنا حمزة سيد الشهداء، وفيه يقول الشاعر:
أبا يعلى لك الأركان هدت وأنت الماجد البر الوصول
ومنا جعفر ذو الجناحين أحسن الناس حسنا وأكملهم كمالا ليس بغدار
ولاختار، بدله الله عز وجل بكل يد له جناحا يطير به في الجنة، وفيه يقول
الشاعر:
هاتوا كجعفرنا ومثل علينا * كانا أعز الناس عند الخالق
ومنا أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أفرس بني هاشم، وأكرم
من احتفى وتنعل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ومن فضائله ما قصر
عنكم أنباؤها، وفيه يقول الشاعر:
وهذا علي سيد الناس فاتقوا * عليا بإسلام تقدم من قبل
ومنا الحسن بن علي رضي الله عنه سبط رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وسيد شباب أهل الجنة، وفيه يقول الشاعر:
ومن يك جده حقا نبيا * فإن له الفضيلة في الأنام
ومنا الحسين بن علي رضوان الله عليه حمله جبرئيل عليه السلام على
عاتقه، وكفى بذلك فخرا، وفيه يقول الشاعر:
نفى عنه عيب الآدميين ربه * ومن مجده مجد الحسين المطهر
ثم قالت: يا معشر قريش، والله ما معاوية بأمير المؤمنين ولا هو كما يزعم، هو
والله شانئ رسول الله صلى الله عليه وآله إني آتية معاوية، وقائلة له
91

ما يعرق جبينه ويكثر منه عويله.
فكتب عامل معاوية إليه بذلك، فلما بلغه أن غانمة قد قربت منه أمر بدار
ضيافته فنظفت وألقى فيها فرش، فلما قربت من المدينة استقبلها يزيد في
حشمه ومماليكه، فلما دخلت المدينة أتت دار أخيها عمرو بن غانم، فقال لها
يزيد: إن عبد الرحمن يأمرك أن تصيري إلى دار ضيافته - وكانت لا تعرفه -
فقالت: من أنت كلاك الله؟ قال: يزيد بن معاوية، قالت: فلا رعاك الله
يا ناقص لست بزائد! فتغير لون يزيد وأتى أباه فأخبره، فقال: هي أسن قريش
وأعظمهم، فقال يزيد كم تعد لها يا أمير المؤمنين؟ قال: كانت تعد على عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله أربعمائة عام، وهي من بقية الكرام.
فلما كان من الغد أتاها معاوية، فسلم عليها، فقالت: على المؤمنين
السلام وعلى الكافرين الهوان.
ثم قالت: من منكم ابن العاص؟ قال عمرو: ها أنذا، فقالت: وأنت
تسب قريشا وبني هاشم؟ وأنت والله أهل السب وفيك السب وإليك يعود
السب يا عمرو! إني والله لعارفة بعيوبك وعيوب أمك وإني أذكر لك ذلك
عيبا عيبا:
ولدت من أمة سوداء، مجنونة حمقاء، تبول من قيام، ويعلوها اللئام، إذا
لامسها الفحل كانت نطفتها أنفذ من نطفته، ركبها في يوم واحد أربعون
رجلا!!! وأما أنت: فقد رأيتك غاويا غير راشد، ومفسدا غير صالح، ولقد رأيت
فحل زوجتك على فراشك، فما غرت ولا أنكرت!
وأما أنت يا معاوية، فما كنت في خير، ولا ربيت في خير، فما لك ولبني
هاشم؟ أنساء بني أمية كنسائهم؟ أم أعطى أمية ما أعطى هاشم في الجاهلية
والإسلام؟ وكفى فخرا برسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال معاوية: أيها الكبيرة، أنا كاف عن بني هاشم، قالت فإني: أكتب
92

إليك عهدا، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا ربه أن يستجيب لي
خمس دعوات، أفأجعل تلك الدعوات كلها فيك؟ فخاف معاوية وحلف لها
أن لا يسب بني هاشم أبدا (1).
(43)
أم سلمة مع عائشة
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها دخلت على أم سلمة بعد رجوعها من
وقعة الجمل، وقد كانت أم سلمة حلفت أن لا تكلمها أبدا من أجل مسيرها
إلى محاربة علي بن أبي طالب. فقالت عائشة: السلام عليك يا أم المؤمنين،
فقالت: يا حائط، ألم أنهك ألم أقر لك؟. قالت عائشة: فإني أستغفر الله وأتوب
إليه، كلميني يا أم المؤمنين! قالت: يا حائط! ألم أقل لك ألم أنهك؟ فلم تكلمها
حتى ماتت. وقامت عائشة وهي تبكي وتقول: وا أسفاه! على ما فرط مني (2).
(44)
أبو علي
عن أبي علي المحمودي، عن أبيه، قال: قلت لأبي الهذيل العلاف: إني
أتيتك سائلا. قال أبو الهذيل: سل وأسأل الله العصمة والتوفيق.
فقال أبي: أليس من دينك أن العصمة والتوفيق لا يكونان من الله لك إلا
بعمل تستحقه به؟ قال: أبو الهذيل: نعم. قال: فما معنى دعاؤك اعمل وخذ؟
قال له أبو الهذيل: هات سؤالك.
فقال له: شيخي، خبرني عن قول الله عز وجل: " اليوم أكملت لكم
دينكم "، قال أبو الهذيل: قد أكمل لنا الدين. فقال شيخي، فخبرني أن

(1) المحاسن للبيهقي: ج 1 ص 145 - 149.
(2) المحاسن للبيهقي 1 ص 481.
93

أسألك عن مسألة لا تجدها في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله
ولا في قول الصحابة ولا في حيلة فقهائهم ما أنت صانع؟ فقال: هات، فقال:
شيخي، خبرني عن عشرة كلهم عنين وقعوا في طهر واحد بامرأة وهم مختلف
الأمر، فمنهم من وصل إلى نصف حاجته، ومنهم من قارب حسب الإمكان
منه، هل في خلق الله اليوم من يعرف حد الله في كل رجل منهم مقدار
ما ارتكب من الخطيئة فيقيم عليه الحد في الدنيا ويطهره منه في الآخرة؟ ولنعلم
ما تقول في أن الدين قد أكمل لك، فقال: هيهات! (1).
(45)
إسماعيل ابن الصادق عليه السلام مع القاسم بن محمد
كان القاسم بن محمد بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي - يلقب أبا
بعرة ولي شرطة الكوفة لعيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن
العباس - كلم إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بكلام خرجا
فيه إلى المنافرة، فقال القاسم بن محمد:
لم يزل فضلنا وإحساننا سابغا عليكم - يا بني هاشم - وعلى بني عبد مناف
كافة. فقال إسماعيل: أي فضل وإحسان أسد يتموه إلى بني عبد مناف؟ أغضب
أبوك جدي بقوله: " ليموتن محمد ولنجولن بين خلاخيل نسائه كما جال بين
خلاخيل نسائنا " فأنزل الله تعالى مراغما لأبيك " وما كان لكم أن تؤذوا
رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا "! ومنع ابن عمك أمي حقها
من فدك وغيرها من ميراث أبيها! وأجلب أبوك على عثمان وحصره حتى
قتل! ونكث بيعة علي وشام السيف في وجهه وأفسد قلوب المسلمين عليه!
فإن كان لبني عبد مناف قوم غير هؤلاء أسديتم إليهم إحسانا فعرفني من هم

(1) البحار: ج 49 ص 282.
94

جعلت فداك! (1).
(46)
كلام لقيس بن سعد مع معاوية
قال اليعقوبي في ذكر صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية بن أبي سفيان
لعنه الله: وأتاه قيس بن سعد بن عبادة، فقال: بايع قيس! قال: إن كنت
لأكره مثل هذا اليوم يا معاوية! فقال له: مه رحمك الله! فقال: لقد حرصت أن
أفرق بين روحك وجسدك قبل ذلك، فأبى الله يا ابن أبي سفيان إلا
ما أحب. قال: فلا يرد أمر الله.
قال: فأقبل قيس على الناس بوجهه، فقال:
يا معاشر الناس، لقد اعتضتم الشر من الخير واستبدلتم الذل من العز والكفر
من الإيمان، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عم رسول رب
العالمين، وقد وليكم الطليق يسومكم الخسف ويسير فيكم بالعسف، فكيف
تجهل ذلك أنفسكم؟ أم طبع الله على قلوبكم وأنتم لا تعقلون؟.
فجثا معاوية على ركبتيه ثم أخذ بيده وقال: أقسمت عليك، ثم صفق على
كفه، ونادى الناس: بايع قيس! فقال: كذبتم والله! ما بايعت (2).
(47)
قيس بن سعد مع معاوية
قال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا حسن، فلقد كان هشا بشا ذا
فكاهة.
قال قيس: نعم كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويتبسم إلى

(1) ابن أبي الحديد: ج 9 ص 323 - 324.
(2) وتجد القصة في الغدير: ج 2 ص 104.
95

أصحابه، وأراك تسر حسوا في ارتغاء وتعيبه بذلك. أما والله، لقد كان مع
تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى
وليس كما يهابك طغام أهل الشام (1).
(48)
قيس مع معاوية
قال المسعودي في مروج الذهب في أحوال معاوية:
دخل قيس بن سعد بعد وفاة علي ووقوع الصلح في جماعة من الأنصار على
معاوية، فقال لهم معاوية: يا معشر الأنصار، بم تطلبون ما قبلي؟ فوالله لقد كنتم
قليلا معي كثيرا علي، ولفللتم حدي يوم صفين حتى رأيت المنايا تلظى في
أسنتكم، وهجوتموني في [أسلافي] بأشد من وقع الأسنة، حتى إذا أقام الله
ما حاولتم ميله قلتم: إرع [فينا] وصية رسول الله صلى الله عليه وآله هيهات!
يأبى الحقين العذرة يأبى الحقير القدرة ذر
فقال قيس: نطلب ما قبلك بالإسلام الكافي به الله، لا بما تمت به إليك
الأحزاب. وأما عداوتنا لك فلو شئت كففتها عنك. وأما هجاؤنا إياك، فقول
يزول باطله ويثبت حقه. وأما استقامة الأمر فعلى كره كان منا.
وأما فلنا حدك يوم صفين، فإنا كنا مع رجل نرى طاعته لله طاعة. وأما
وصية رسول الله بنا، فمن آمن به رعاها بعده. وأما قولك: يأبى الحقين العذرة،
فليس دون الله يد تحجزك منا يا معاوية! فقال معاوية يموه: ارفعوا حوائجكم.
نقله في العقد الفريد (2) باختلاف قليل، وزاد بعد قوله " يد تحجزك عنا يا
معاوية " فدونك أمرك يا معاوية! فإنما مثلك كما قال الشاعر:

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 1 ص 25 الطبعة الحديثة المصرية.
(2) العقد الفريد: ج 4 ص 34.
96

يا لك من قبرة بمعمر * خلا لك الجو فبيضي واصفري (1).
(49)
قيس مع النعمان
قال نصر: ثم إن معاوية سأل النعمان أن يخرج إلى قيس فيعاتبه ويسأله
السلم، فخرج النعمان حتى وقف بين الصفين، فقال: يا قيس، أنا النعمان بن
بشير. فقال قيس: هيه يا ابن بشير! فما حاجتك؟ فقال النعمان: يا قيس، إنه
قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه، ألستم معشر الأنصار تعلمون أنكم
أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار؟ وقتلتم أنصاره يوم الجمل؟ وأقحمتم خيولكم
على أهل الشام بصفين؟ فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليا لكانت واحدة
بواحدة، ولكنكم خذلتم حقا ونصرتم باطلا، ثم لم ترضوا أن تكونوا كالناس
حتى أعلمتم في الحرب ودعوتم إلى البراز، ثم لم ينزل بعلي أمر قط إلا هونتم عليه
المصيبة ووعدتموه الظفر، وقد أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم، فاتقوا الله
في البقية!.
فضحك قيس، ثم قال: ما كنت أراك يا نعمان تجترئ على هذه المقالة!
إنه لا ينصح أخاه من غش نفسه، وأنت والله الغاش الضال المضل.
أما ذكرك عثمان: فإن كانت الأخبار تكفيك فخذها مني، قتل عثمان
من لست خيرا منه وخذله من هو خير منك. وأما أصحاب الجمل: فقاتلناهم
على النكث. وأما معاوية: فوالله لئن اجتمعت عليه العرب [قاطبة] لقاتلته
الأنصار.
وأما قولك: إنا لسنا كالناس، فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله
نتقي السيوف بوجوهنا والرماح بنحورنا حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم

(1) راجع الغدير: ج 2 ص 105 عن الامتاع والمؤانسة ج 3 ص 170، والعقد، والمروج.
97

كارهون.
ولكن انظر يا نعمان، هل ترى مع معاوية إلا طليقا أو أعرابيا أو يمانيا
مستدرجا بغرور! انظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان الذين
رضي الله عنهم ورضوا عنه؟ ثم انظر هل ترى مع معاوية أنصارا غيرك وغير
صويحبك؟ ولستما والله، ببدريين [ولا عقبيين] ولا أحديين، ولا لكما سابقة في
الإسلام ولا آية في القرآن، ولعمري، لئن شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك!
وقال قيس في ذلك:
والراقصات بكل أشعث أغبر * خوص العيون تحثها الركبان
ما ابن المخلد ناسيا أسيافنا * فيمن نحاربه ولا النعمان
[تركا العيان وفي العيان كفاية * لو كان يدفع صاحبيك عيان
وجدا معاوية بن صخر شبهه * فيها التلبس والبيان يهان
ذكرا ابن عفان فقلت إلا أربعا * ما أنتما سبغها ولا عثمان
ما تعدل الأنصار عنه ساعة * والحق في الأنصار والبرهان
وجدت قريش في الحوادث منطقا * هذا الشقي وصهره مروان
لم تبسطوا كفا لنصرة هالك * لا لا ولا عصبت عليه بنان]
كذا في الفتوح (1).
(50)
قيس مع النعمان
إن معاوية دعا النعمان ومسلمة، فقال: يا هذان، لقد غمني ما لقيت من
الأوس والخزرج، صاروا واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال حتى

(1) وقعة صفين: ص 448 - 449، والإمامة والسياسة ج 1 ص 102. والغدير: ج 2 ص 82، وابن أبي
الحديد في النهج: ج 8 ص 87 - 88، والبحار: ج 8 ص 463 ط الكمپاني. وفتوح ابن أعثم: ج 3 ص 281.
98

والله جبنوا أصحابي الشجاع والجبان، وحتى والله! ما أسأل عن فارس من أهل
الشام إلا قالوا: قتلته الأنصار. أما والله، لألقينهم بحدي وحديدي، ولأعبين
لكل فارس منهم فارسا ينشب في حلقه، ثم لأرمينهم بأعدادهم من قريش،
رجال لم يغذهم التمر والطفيشل، يقولون: نحن الأنصار، قد والله! آووا ونصروا
ولكن أفسدوا حقهم بباطلهم...
وانتهى الكلام إلى الأنصار، فجمع قيس بن سعد الأنصاري الأنصار، ثم
قام خطيبا فيهم، فقال: إن معاوية قد قال ما بلغكم وأجاب عنكم صاحباكم،
فلعمري! لئن غظتم معاوية اليوم لقد غظتموه بالأمس، وإن وترتموه في الإسلام
فقد وترتموه في الشرك، وما لكم إليه من ذنب [أعظم] من نصر هذا الدين
الذي أنتم عليه، فجدوا اليوم جدا تنسونه [به] ما كان أمس، وجدوا غدا [جدا]
تنسونه [به] ما كان اليوم، وأنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه
جبرائيل وعن يساره ميكائيل، والقوم مع لواء أبي جهل والأحزاب. وأما التمر:
فإنا لم نغرسه ولكن غلبنا عليه من غرسه.
وأما الطفيشل فلو كان طعامنا لسمينا به، كما سميت قريش السخينة ثم
قال قيس بن سعد في ذلك:
يا ابن هند دع التوثب في الحر * ب إذا نحن في البلاد نأينا
نحن من قد رأيت فادن إذا شئ‍ * ت بمن شئت في العجاج إلينا
إن برزنا بالجمع نلقك في الجمع * وإن شئت محضة أسرينا
فالقنا في اللفيف نلقك في الخزرج * ندعو في حربنا أبوينا
أي هذين ما أردت فخذه * ليس منا ولا منك الهوينا
ثم لا تنزع العجاجة حتى * تنجلي حربنا لنا أو علينا
ليت ما تطلب الغداة أتانا * أنعم الله بالشهادة عينا
إننا الذين إذا الفتح * شهدنا وخيبرا وحنينا
99

بعد بدر وتلك قاصمة الظهر * وأحد وبالنضير ثنينا
يوم الأحزاب قد علم الناس * شفينا من قبلكم واشتفينا (1).
(51)
قيس مع معاوية
لما قدم معاوية ابن أبي سفيان حاجا في خلافته، فاستقبله أهل المدينة،
فنظر فإذا الذين استقبلوه ما فيهم أحد من قريش، فلما نزل قال:
ما فعلت الأنصار؟ وما بالها لم تستقبلني؟
فقيل له: إنهم محتاجون لا دواب لهم
فقال معاوية: فأين نواضحهم؟
فقال قيس بن سعد بن عبادة - وكان سيد الأنصار وابن سيدها -: أفنوها يوم
بدر وأحد وما بعدهما من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وآله حين ضربوك
وأباك على الإسلام حتى ظهر أمر الله وأنتم كارهون. فسكت معاوية. فقال
قيس: أما إن رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إلينا أنا سنلقي بعده أثرة.
قال معاوية: فما أمركم به؟
فقال: أمرنا أن نصبر حتى نلقاه.
قال: فاصبروا حتى تلقوه (2).
وزاد ما يأتي:
ثم قال: يا معاوية، تعيرنا بنواضحنا، والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم

(1) وقعة صفين: ص 445 - 447. وابن أبي الحديد: ج 8 ص 86 الطبعة الجديدة: ج 2 ص 292 الطبعة
القديمة المصرية. والغدير: ج 2 ص 80. وفتوح ابن أعثم: ج 3 ص 181.
(2) البحار: ح 44 ص 124، والاحتجاج: ج 2 ص 15 ط نجف. والغدير: ج 2 ص 106 عن سليم بن
قيس الكوفي التابعي.
100

جاهدون على إطفاء نور الله وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا. ثم دخلت
أنت وأبوك كرها في الإسلام الذي ضربناكم عليه.
فقال معاوية: كأنك تمن علينا بنصرتكم إيانا، فلله ولقريش بذلك
المن والطول! ألستم تمنون علينا - يا معشر الأنصار - بنصرتكم رسول الله؟ وهو من
قريش، وهو ابن عمنا ومنا، فلنا المن والطول أن جعلكم الله أنصارنا وأتباعنا،
فهداكم بنا.
فقال قيس: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله رحمة للعالمين، فبعثه إلى
الناس كافة وإلى الجن والإنس والأحمر والأسود والأبيض، اختاره لنبوته،
واختصه برسالته، فكان أول من صدقه وآمن به ابن عمه علي بن أبي طالب
عليه السلام وأبو طالب يذب عنه ويمنعه ويحول بين كفار قريش وبين أن يردعوه
أو يؤذوه، وأمره أن يبلغ رسالة ربه، فلم يزل ممنوعا من الضيم والأذى حتى
مات عمه أبو طالب. وأمر ابنه بموازرته، فوازره ونصره، وجعل نفسه دونه في
كل شديدة وكل ضيق وكل خوف، واختص الله بذلك عليا عليه السلام من بين
قريش، وأكرمه من بين جميع العرب والعجم.
فجمع رسول الله صلى الله عليه وآله فيهم أبو طالب وأبو لهب وهم يومئذ
أربعون رجلا، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وخادمه علي عليه السلام
ورسول الله صلى الله عليه وآله في حجر عمه أبي طالب، فقال: أيكم ينتدب
أن يكون أخي ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي؟
فسكت القوم حتى أعادها ثلاثا، فقال علي عليه السلام: أنا يا رسول الله!
صلى الله عليك، فوضع رأسه في حجره وتفل في فيه وقال: " اللهم املأ جوفه
علما وفهما وحكما " ثم قال لأبي طالب: يا أبا طالب، اسمع الآن لابنك
وأطع، فقد جعله الله من نبيه بمنزلة هارون من موسى. وآخى صلى الله عليه
وآله بين علي وبين نفسه.
101

فلم يدع قيس شيئا من مناقبه إلا ذكره واحتج به.
وقال: منهم جعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة بجناحين، اختصه الله
بذلك من بين الناس، ومنهم حمزة سيد الشهداء، ومنهم فاطمة سيدة نساء أهل
الجنة، فإذا وضعت من قريش رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته وعترته
الطيبين فنحن والله خير منكم يا معشر قريش، وأحب إلى الله ورسوله وإلى أهل بيته
منكم. لقد قبض رسول الله فاجتمعت الأنصار إلى أبي، ثم قالوا: نبايع سعدا،
فجاءت قريش فخاصمونا بحجة علي وأهل بيته وخاصمونا بحقه وقرابته. فما
يعدوا قريش أن يكونوا ظلموا الأنصار وظلموا آل محمد. ولعمري ما لأحد من
الأنصار ولا لقريش ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حق مع علي بن
أبي طالب وولده من بعده!
فغضب معاوية وقال: يا بن سعد، عمن أخذت هذا وعمن رويته وعمن
سمعته؟ أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته؟ فقال قيس: سمعته وأخذته ممن
هو خير من أبي وأعظم علي حقا من أبي! قال: من؟ قال: علي بن أبي طالب،
عالم هذه الأمة، وصديقها الذي أنزل الله فيه: " قل كفى بالله شهيدا بيني
وبينكم ومن عنده علم الكتاب " فلم يدع آية نزلت في علي إلا ذكرها.
قال معاوية: فإن صديقها أبو بكر، وفاروقها عمر، والذي عنده علم
الكتاب عبد الله بن سلام. قال قيس: أحق هذه الأسماء وأولى بها الذي أنزل
الله فيه: " أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه " والذي نصبه رسول الله
صلى الله عليه وآله بغدير خم، فقال: " من كنت مولاه أولى به من نفسه فعلي
أولى به من نفسه " وقال في غزوة تبوك: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى
إلا أنه لا نبي بعدي " (1).

(1) وأشار إليه اليعقوبي: ج 2 ص 212 ونقله في البحار: ج 8 ط الكمباني ص 518 - 519 عن سليم.
102

(52)
قيس مع الخوارج
خرج قيس في النهروان إلى الخوارج، فقال لهم: عباد الله، أخرجوا إلينا
طلبتنا منكم وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه وعودوا بنا إلى قتال عدونا
وعدوكم، فإنكم ركبتم عظيما من الأمر! تشهدون علينا بالشرك والشرك
ظلم عظيم، تسفكون دماء المسلمين وتعدونهم مشركين!
فقال له عبد الله بن شجرة السلمي: إن الحق قد أضاء لنا فلسنا متابعيكم
أو تأتونا بمثل عمر.
فقال قيس: ما نعلمه فينا غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت
عليكم (1).
(53)
بنو هاشم وبنو أمية
عن عبد الملك بن مروان، قال: كنا عند معاوية ذات يوم وقد اجتمع
عنده جماعة من قريش، وفيهم عدة من بني هاشم.
فقال معاوية: يا بني هاشم، بم تفتخرون علينا؟ أليس الأب والأم
واحدا والدار والمولد واحدا؟ فقال ابن عباس: نفخر عليكم بما أصبحت
تفخر به على سائر قريش، وتفخر به قريش على [سائر] الأنصار، وتفخر به
الأنصار على سائر العرب، وتفخر به العرب على سائر العجم برسول الله صلى

(1) الغدير: ج 2 ص 83 عن الطبري: ج 6 ص 47 وفي طبقة ليدن ج 6 ص 3377. والكامل لابن
الأثير: ج 3 ص 137.
103

الله عليه وآله وبما لا تسطيع له إنكارا ولا منه فرارا.
فقال معاوية: يا ابن عباس، لقد أعطيت لسانا ذلقا تكاد تغلب بباطلك
حق سواك. فقال ابن عباس: مه! فإن الباطل لا يغلب الحق، ودع عنك
الحسد، فلبئس الشعار الحسد.
فقال معاوية: صدقت، أما والله إني لأحبك لخصال أربع، مع مغفرتي
لك خصالا أربع. فأما ما أحبك: فلقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله
وأما الثانية فإنك رجل من أسرتي وأهل بيتي ومن مصاص عبد مناف، وأما
الثالثة فإن أبي كان خلا لأبيك، وأما الرابعة فإنك لسان قريش وزعيمها
وفقيهها. وأما الأربع التي غفرت لك: فعدوك علي بصفين فيمن عدا،
وإساءتك في خذلان عثمان فيمن أساء، وسعيك على عائشة أم المؤمنين فيمن
سعى، ونفيك عني زيادا فيمن نفى. فضربت أنف هذا الأمر وعينه حتى
استخرجت عذرك من كتاب الله عز وجل وقول الشعراء. أما ما وافق كتاب
الله عز وجل، فقوله: " خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا " وأما ما قالت الشعراء
فقول أخي بني دينار:
ولست بمستبق أخا لا تلمه * على شعث أي الرجال المهذب
فاعلم أني قد قبلت فيك الأربع الأولى، وغفرت لك الأربع الأخرى،
وكنت في ذلك كما قال الأول:
سأقبل ممن قد أحب جميله * وأغفر ما قد كان من غير ذلكا
ثم أنصت. فتكلم ابن عباس، فقال بعد حمد الله والثناء عليه:
وأما ما ذكرت أنك تحبني لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله فذلك
الواجب عليك وعلى كل مسلم آمن بالله وبرسوله، لأنه الأجر الذي سألكم
رسول الله صلى الله عليه وآله على ما آتاكم به من الضياء والبرهان المبين،
فقال عز وجل: " قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " فمن لم يجب
104

رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ما سأله خاب وخزي وكبا في جهنم.
وأما ما ذكرت أني رجل من أسرتك وأهل بيتك فذلك كذلك، وإنما
أردت به صلة الرحم، ولعمري إنك اليوم وصول مما قد كان منك مما
لا تثريب عليك فيه اليوم!
وأما قولك: إن أبي كان خلا لأبيك فقد كان ذلك وقد سبق فيه قول
الأول:
سأحفظ من آخى أبي في حياته * وأحفظه من بعده في الأقارب
ولست لمن لا يحفظ العهد وامقا * ولا هو عند النائبات بصاحب
وأما ما ذكرت أني لسان قريش وزعيمها وفقيهها، فإني لم أعط من ذلك
شيئا إلا وقد أوتيته، غير أنك قد أبيت بشرفك وكرمك إلا أن تفضلني وقد سبق
في ذلك قول الأول:
وكل كريم للكرام مفضل * يراه له أهلا وإن كان فاضلا
وأما ما ذكرت من عدوي عليك بصفين، فوالله لو لم أفعل ذلك لكنت
من ألأم العالمين! أكانت نفسك تحدثك يا معاوية أني أخذل ابن عمي
أمير المؤمنين وسيد المسلمين، قد حشد له المهاجرون والأنصار والمصطفون
الأخيار؟ لم يا معاوية؟ أشك في ديني؟ أم حيرة في سجيتي؟ أم ضن بنفسي؟.
وأما ما ذكرت من خذلان عثمان، فقد خذله من كان أمس رحما به مني،
ولي في الأقربين والأبعدين أسوة، وإني لم أعد عليه فيمن عدا، بل كففت عنه
كما كف أهل المروات والحجى.
وأما ما ذكرت من سعي على عائشة، فإن الله تعالى أمرها أن تقر في بيتها
وتحتجب بسترها، فلما كشفت جلباب الحياء وخالفت نبيها صلى الله عليه
وآله وسعنا ما كان منا إليها.
وأما ما ذكرت من نفي زياد فإني لم أنفه، بل نفاه رسول الله صلى الله
105

عليه وآله إذ قال: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " وإني من بعد هذا لأحب
ما سرك في جميع أمورك.
فتكلم عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين، و الله ما أحبك ساعة قط،
غير أنه قد أعطي لسانا ذربا فقلبه كيف شاء، وإن مثلك ومثله كما قال الأول
، وذكر بيت شعر، فقال ابن عباس: إن عمروا داخل بين العظم واللحم
والعصاء واللحاء، وقد تكلم، فليستمع فقد وافق قرنا، أما والله يا عمرو، إني
لأبغضك في الله وما اعتذر منه، إنك قمت خطيبا فقلت: أنا شانئ محمد،
فأنزل الله عز وجل: " إن شانئك هو الأبتر " فأنت أبتر الدين و الدنيا، وأنت
شانئ محمد في الجاهلية والإسلام، وقد قال الله تبارك وتعالى: " لا تجد قوما
يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " وقد حاددت الله ورسوله
قديما وحديثا، ولقد جهدت على رسول الله جهدك وأجلبت عليه بخيلك
ورجلك حتى إذا غلبك الله على أمرك ورد كيدك في نحرك وأوهن قوتك
وأكذب أحدوثتك نزعت وأنت حسير. ثم كدت بجهدك لعداوة أهل بيت
نبيه من بعده، ليس بك في [ذلك] حب معاوية ولا آل معاوية إلا العداوة لله
عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله مع بغضك وحسدك القديم لأبناء
عبد مناف، و مثلك في ذلك كما قال الأول:
تعرض لي عمرو وعمرو خزاية * تعرض ضبع القفر للأسد الورد
فما هو لي ند فأشتم عرضه * ولا هو لي عبد فأبطش بالعبد
فتكلم عمرو بن العاص. فقطع عليه معاوية وقال: أما والله يا عمرو،
ما أنت من رجاله، فإن شئت فقل وإن شئت فدع. فاغتنمها عمرو وسكت.
فقال ابن عباس: دعه يا معاوية، فوالله لأسمنه بميسم يبقى عليه عاره
وشناره إلى يوم القيامة، تتحدث به الإماء والعبيد، ويتغنى به في المجالس،
ويتحدث به في المحافل.
106

ثم قال ابن عباس: يا عمرو، وابتدأ في الكلام، فمد معاوية يده فوضعها
على في ابن عباس، وقال له: أقسمت عليك يا ابن عباس إلا أمسكت. وكره
أن يسمع أهل الشام ما يقول ابن عباس. وكان آخر كلامه أخسأ أيها العبد
وأنت مذموم! وافترقوا (1).
(54)
ابن عباس ومعاوية
سأل معاوية ابن عباس، قال: فما تقول في علي بن أبي طالب
عليه السلام؟ قال: علي أبو الحسن عليه السلام علي كان والله علم الهدى،
وكهف التقى، ومحل الحجى، ومحتد الندا، وطود النهى، وعلم الورى، ونورا في
ظلمة الدجى، وداعيا إلى الحجة العظمى، ومستمسكا بالعروة الوثقى، وساميا
إلى المجد والعلى، وقائد الدين والتقى، وسيد من تقمص وارتدى، بعل بنت
المصطفى، وأفضل من صام وصلى، وأفخر من ضحك وبكى، صاحب
القبلتين، فهل يساويه مخلوق كان أو يكون؟ (2).
(55)
ابن عباس مع رجل
عن سعيد بن مسيب، قال سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن علي بن أبي
طالب عليه السلام فقال له ابن عباس: إن علي بن أبي طالب عليه السلام
صلى القبلتين، وبايع البيعتين، ولم يعبد صنما ولا وثنا، ولم يضرب على رأسه
بزكم ولا بقدح، ولد على الفطرة ولم يشرك بالله طرفة عين.
فقال الرجل: إني لم أسألك عن هذا، إنما أسألك عن حمله سيفه على

(1) الخصال: ج 1 ص 211 - 215. والبحار: ج 44 ص 113 - 116.
(2) البحار: ج 44 ص 112 عن كتابي الفضائل والروضة.
107

عاتقه يختال به حتى أتى البصرة فقتل بها أربعين ألفا، ثم صار إلى الشام فلقى
حواجب العرب فضرب بعضهم ببعض حتى قتلهم، ثم أتى النهروان وهم
مسلمون فقتلهم عن آخرهم.
فقال له ابن عباس: أعلي أعلم عندك أم أنا؟ فقال: لو كان علي عندي
أعلم منك لما سألتك. قال: فغضب ابن عباس حتى اشتد غضبه، ثم قال:
ثكلتك أمك! علي علمني، وكان علمه من رسول الله صلى الله عليه وآله
ورسول الله علمه الله من فوق عرشه، فعلم النبي صلى الله عليه وآله من الله،
وعلم علي من النبي، وعلمي من علم علي، وعلم أصحاب محمد كلهم في
علم علي كالقطرة الواحدة في سبعة أبحر (1).
(56)
ابن عباس وعمرو بن العاص
قال نصر: إن معاوية لما يئس من جهة الأشعث قال لعمرو بن العاص:
إن رأس الناس بعد علي هو عبد الله بن عباس، فلو ألقيت إليك كتابا لعلك
ترققه به، فإنه إن قال شيئا لم يخرج علي منه، وقد أكلتنا الحرب، ولا أرانا
نصل [إلى] العراق إلا بهلاك أهل الشام. قال له عمرو: إن ابن عباس
لا يخدع، ولو طمعت فيه [ل‍] طمعت في علي. فقال معاوية: علي ذلك.
فكتب إليه عمرو: أما بعد، فإن الذي نحن وأنتم فيه، ليس بأول أمر قاده
البلاء [وساقته العافية خ ل] وأنت رأس هذا الجمع بعد علي، فانظر فيما بقي
ودع ما مضى، فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولكم حياة ولا صبرا، واعلموا أن
الشام لا تملك إلا بهلاك العراق، وأن العراق لا يملك إلا بهلاك الشام،
وما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم؟ وما خيركم بعد هلاك أعدادكم منا؟

(1) أمالي الشيخ - رحمه الله - ج 1 ص 11 ط نجف.
108

ولسنا نقول: ليت الحرب غارت، ولكنا نقول: ليتها لم تكن! وإن فينا من يكره
القتال كما أن فيكم من يكرهه، وإنما هو أمير مطاع، أو مأمور مطيع، أو مؤتمن
مشاور، وهو أنت وأما الأشتر الغليظ الطبع القاسي [القلب] فليس بأهل أن
يدعى في الشورى ولا في خواص أهل النجوى.
وكتب في أسفل الكتاب:
طال البلاء وما يرجى له آس * بعد الإله سوى رفق ابن عباس
قولا له قول من يرضى بحظوته * ولا تنس حظك إن الخاسر الناسي
يا ابن الذي زمزم سقيا الحجيج له * أعظم بذلك من فخر على الناس
كل لصاحبه قرن يساوره * أسد العرين أسود بين أخياس
لو قيس بينهم في العرب لاعتدلوا * العجز بالعجز ثم الرأس بالرأس
أنظر فدى لك نفسي قبل قاصمة * للظهر ليس لها راق ولا آسي
إن العراق وأهل الشام لن يجدوا * طعم الحياة مع المستغلق القاسي
بسر وأصحاب بسر والذين هم * داء العراق رجال أهل وسواس
قوم عراة من الخيرات كلهم * فما يساوي به أصحابه كاسي
إني أرى الخير في سلم الشآم لكم * والله يعلم ما بالسلم من بأس
فيها التقى وأمور ليس يجهلها * إلا الجهول وما النوكى كأكياس
قال: فلما فرغ من شعره عرضه على معاوية، فقال معاوية: لا أرى كتابك
على رقة شعرك.
فلما قرأ ابن عباس الكتاب أتى به عليا فأقرأه شعره، فضحك وقال: قاتل
الله ابن العاص، ما أغراه بك يا ابن عباس! أجبه، وليرد عليه شعره الفضل بن
العباس فإنه شاعر، فكتب ابن عباس إلى عمرو:
أما بعد، فإني لا أعلم رجلا من العرب أقل حياء منك! إنه مال بك
معاوية إلى الهوى، وبعته دينك بالثمن اليسير، ثم خبطت بالناس في عشوة
109

طمعا في الملك، فلما لم تر شيئا أعظمت الدنيا إعظام أهل الذنوب، وأظهرت
فيها نزاهة أهل الورع، فإن كنت ترضي الله بذلك فدع مصر وارجع إلى بيتك.
وهذه الحرب ليس فيها معاوية كعلي، ابتدأها علي بالحق وانتهى فيها إلى
العذر، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السرف. وليس أهل العراق فيها
كأهل الشام، بايع أهل العراق عليا وهو خير منهم، وبايع معاوية أهل الشام
وهم خير منه. ولست أنا وأنت فيها بسواء، أردت الله، وأردت أنت مصر. وقد
عرفت الشئ الذي باعدك مني، ولا أرى الشئ الذي قربك من معاوية، فإن
ترد شرا لا نسبقك به، وإن ترد خيرا لا تسبقنا إليه [والسلام].
ثم دعا [أخاه] الفضل بن العباس، فقال: يا ابن أم، أجب عمرا. فقال
الفضل:
يا عمرو حسبك من خدع ووسواس * فاذهب فليس لداء الجهل من آسى
إلا تواتر طعن في نحوركم * يشجي النفوس ويشفي نخوة الرأس
هذا الدواء الذي يشفي جماعتكم * حتى تطيعوا عليا وابن عباس
أما علي فإن الله فضله * بفضل ذي شرف عال على الناس
إن تعقلوا الحرب نعقلها مخيسة * أو تبعثوها فإنا غير أنكاس
قد كان منا ومنكم في عجاجتها * ما لا يرد وكل عرضة الباس
قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة * هذا بهذا وما بالحق من بأس
لا بارك الله في مصر لقد جلبت * شرا وحظك منها حسوة الكأس
يا عمرو إنك عار من مغارمها * والراقصات ومن يوم الجزا كاسي
ثم عرض الشعر والكتاب على علي، فقال: لا أراه يجيبك بشئ بعدها إن
كان يعقل، ولعله يعود فتعود له.
فلما انتهى الكتاب إلى عمرو أتى به معاوية، فقال: أنت دعوتني إلى هذا،
ما كان أغناني وإياك عن بني عبد المطلب فقال: إن قلب ابن عباس وقلب علي
110

قلب واحد، كلاهما ولد عبد المطلب، وإن كان قد خشن فقد لان، وإن كان
قد تعظم أو عظم صاحبه فلقد قارب وجنح إلى السلم.
وإن معاوية كان يكاتب ابن عباس، وكان يجيبه بقول لين، وذلك قبل
أن يعظم الحرب. فلما قتل أهل الشام قال معاوية: إن ابن عباس رجل من
قريش، وأنا كاتب إليه في عداوة بني هاشم لنا، وأخوفه عواقب هذه الحرب،
لعله يكف عنا، فكتب إليه:
أما بعد، فإنكم - يا معشر بني هاشم - لستم إلى أحد أسرع بالمساءة منكم إلى
أنصار عثمان بن عفان، حتى أنكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما دمه واستعظامهما
ما ينل منه، فإن يكن ذلك لسلطان بني أمية فقد وليهما عدي وتيم [فلم
تنافسوهم] وأظهرتم لهم الطاعة، وقد وقع من الأمر ما قد ترى، وأكلت هذه
الحرب بعضها من بعض حتى استوينا فيها، فما أطمعكم فينا أطمعنا فيكم،
وما آيسكم منا آيسنا منكم وقد رجونا غير الذي كان، وخشينا دون ما وقع،
ولستم بملاقينا اليوم بأحد من حد أمس ولا غدا بأحد من حد اليوم. وقد قنعنا بما
كان في أيدينا من ملك الشام، فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق، وأبقوا
على قريش، فإنما بقي من رجالها ستة: رجلان بالشام، ورجلان بالعراق،
ورجلان بالحجاز، فأما اللذان بالشام فأنا وعمرو، وأما اللذان بالعراق فأنت
وعلي، وأما اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر، واثنان من ستة ناصبان لك
واثنان واقفان [فيك]. وأنت رأس هذا الجمع اليوم، ولو بايع لك الناس بعد
عثمان كنا إليك أسرع منا إلى علي. في كلام كثير كتب إليه.
فلما انتهى الكتاب إلى ابن عباس أسخطه، ثم قال: حتى متى يخطب
[ابن هند] إلي عقلي؟ وحتى متى أجمجم على ما في نفسي؟ فكتب إليه:
أما بعد [فقد أتاني كتابك وقرأته] فأما ما ذكرت من سرعتنا [إليك]
111

بالمساءة في أنصار ابن عفان وكراهيتنا لسلطان بني أمية: فلعمري لقد أدركت
في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره، حتى صرت إلى ما صرت إليه،
وبيني وبينك في ذلك ابن عمك وأخو عثمان الوليد بن عقبة!
وأما طلحة والزبير [فإنهما أجلبا عليه وضيقا خناقه ثم خرجا] ينقضان
البيعة ويطلبان الملك، فقاتلناهما على النكث، وقاتلناك على البغي.
وأما قولك: إنه لم يبق من قريش غير ستة، فما أكثر رجالها! وأحسن بقيتها!
[و] قد قاتلك من خيارها من قاتلك لم يخذلنا إلا من خذلك.
وأما إغراؤك إيانا بعدي وتيم: فأبو بكر وعمر خير من عثمان، كما أن
عثمان خير منك، وقد بقي لك منا يوم ينسيك ما قبله ويخاف ما بعده.
وأما قولك: إنه لو بايع الناس لي لاستقامت لي، فقد بايع الناس عليا وهو
خير مني فلم يستقيموا له، وإنما الخلافة لمن كانت له في المشورة.
وما أنت يا معاوية والخلافة؟ وأنت طليق وابن طليق [والخلافة للمهاجرين
الأولين وليس الطلقاء منها في شئ. والسلام].
فلما انتهى الكتاب إلى معاوية، قال: هذا عملي بنفسي، لا والله! لا أكتب
إليه كتابا سنة [كاملة] وقال معاوية في ذلك:
دعوت ابن عباس إلى حد خطة * وكان امرءا أهدي إليه رسائلي
فأخلف ظني والحوادث جمة * ولم يك فيما قال مني بواصل
وما كان فيما جاء ما يستحقه * وما زاد أن أغلى عليه مراجلي
فقل لابن عباس تراك مفرقا * بقولك من حولي وإنك آكلي
وقل لابن عباس تراك مخوفا * بجهلك حلمي إنني غير غافل
فأبرق وأرعد ما استطعت فإنني * إليك بما يشجيك سبط الأنامل
فلما قرأ ابن عباس الشعر قال: " لن أشتمك بعدها ".
وقال الفضل بن عباس:
112

ألا يا ابن هند، إنني غير غافل * وإنك ما تسعى له غير نائل
لأن الذي اجتبت إلى الحرب نابها * عليك وألقت بركها بالكلاكل
فأصبح أهل الشام ضربين: خيرة * وفقعة قاع أو شحيمة آكل
وأيقنت أنا أهل حق وإنما * دعوت لأمر كان أبطل باطل
دعوت ابن عباس إلى السلم خدعة * وليس لها حتى تدين بقابل
فلا سلم حتى تشجر الخيل بالقنا * وتضرب هامات الرجال الأماثل
وآليت: لا أهدي إليه رسالة * إلى أن يحول الحول من رأس قابل
أردت به قطع الجواب و إنما * رماك فلم يخطئ بنات المقاتل
وقلت له لو بايعوك تبعتهم * فهذا علي خير حاف وناعل
وصي رسول الله من دون أهله * وفارسه إن قيل: هل من منازل
فدونكه إن كنت تبغي مهاجرا * أشم كنصل السيف غير حلاحل
فعرض شعره على علي، فقال: أنت أشعر قريش، فضرب بها الناس إلى
معاوية (1).
(57)
ابن عباس وابن الزبير
تزوج عبد الله بن الزبير أم عمرو ابنة منظور بن زبان الفزارية، فلما دخل
بها قال لها تلك الليلة: أتدرين من معك في حجلتك؟ قالت: نعم عبد الله بن
الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى.

(1) وقعة صفين: ص 410 - 417. والإمامة والسياسة: ج 1 ص 104. والغدير: ج 10 ص 325 عنه
وعن ابن أبي الحديد: ج 2 ص 289 القديمة المصرية و ج 8 ص 63 - 67 الجديدة وفي العقد الفريد: ج 4
ص 13 نقل نبذا من كتاب عمرو إليه، ولكنه لم يشر إلى كونه كتابا وصرح بأنه كان بعد قتل علي
- عليه السلام - وفي أنساب الأشراف ج 1 ص 307 - 309 نقل كتاب عمرو إليه وجوابه. وكذا في فتوح ابن
أعثم: ج 3 ص 249 - 259.
113

قال: ليس غير هذا؟ قالت: فما الذي تريد؟ قال: معك من أصبح في
قريش بمنزلة الرأس من الجسد، لا بل بمنزلة العينين من الرأس. قالت: أما
والله، لو أن بعض بني عبد مناف حضرك لقال لك خلاف قولك. فغضب
وقال: الطعام والشراب علي حرام حتى أحضرك الهاشميين وغيرهم من بني
عبد مناف فلا يستطيعون لذلك إنكارا. قالت: إن أطعتني لم تفعل، وأنت أعلم
وشأنك.
فخرج إلى المسجد فرأى حلقة فيها قوم من قريش، منهم: عبد الله بن
العباس، و عبد الله بن الحصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، فقال
لهم ابن الزبير: أحب أن تنطلقوا معي إلى منزلي، فقام القوم بأجمعهم حتى وقفوا
على باب بيته. فقال ابن الزبير: يا هذه! اطرحي عليك سترك. فلما أخذوا
مجالسهم دعا بالمائدة، فتغدى القوم، فلما فرغوا قال لهم: إنما جمعتكم لحديث
ردته علي صاحبة الستر، وزعمت أنه لو كان بعض بني عبد مناف حضرني لما
أقر لي بما قلت، وقد حضرتم جميعا. و أنت يا ابن عباس، ما تقول؟ إني أخبرتها
أن معها في خدرها من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد بل بمنزلة
العينين من الرأس، فردت علي مقالتي.
فقال ابن عباس: أراك قصدت قصدي، فإن شئت أن أقول قلت، وإن
شئت أن أكف كففت. قال: بل قل، وما عسى أن تقول؟.
ألست تعلم إني ابن الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وآله وأن
أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين، وإن عمتي خديجة سيدة نساء
العالمين، وإن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وآله جدتي، وإن عائشة
أم المؤمنين خالتي، فهل تستطيع لهذا إنكارا؟.
قال ابن عباس: لقد ذكرت شرفا شريفا وفخرا فاخرا غير أنك تفاخر من
لفخره فخرت وبفضله سموت. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك لم تذكر فخرا
114

إلا برسول الله صلى الله عليه وآله وأنا أولى بالفخر به منك.
قال ابن الزبير: لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوة.
قال ابن عباس:
قد أنصف القارة من راماها
نشدتكم الله أيها الحاضرون! أ عبد المطلب أشرف أم خويلد في قريش؟
قالوا: عبد المطلب قال: أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد؟ قالوا: بل هاشم.
قال: أفعبد مناف أشرف أم عبد العزى؟ قالوا: عبد مناف.
فقال ابن عباس:
تنافرني يا ابن الزبير، وقد قضى * عليك رسول الله لا قول هازل
ولو غيرنا يا ابن الزبير فخرته * ولكنما ساميت شمس الأصائل!
قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله بالفضل في قوله: " ما افترقت فرقتان
إلا كنت في خيرهما " فقد فارقناك من بعد قصي بن كلاب، أفنحن في فرقة
الخير أم لا؟ إن قلت: نعم خصمت، وإن قلت: لا كفرت!
فضحك بعض القوم.
فقال ابن الزبير: أما والله، لولا تحرمك بطعامنا يا بن عباس لأعرقت
جبينك قبل أن تقوم من مجلسك!
قال ابن عباس: ولم؟ أبباطل؟ فالباطل لا يغلب الحق أم بحق؟ فالحق
لا يخشى من الباطل!
فقالت المرأة من وراء الستر: إني والله لقد نهيته عن هذا المجلس فأبى إلا
ما ترون!
فقال ابن عباس: مه أيتها المرأة! اقنعي ببعلك، فما أعظم الخطر! وما أكرم
الخبر! فأخذ القوم بيد ابن عباس - وكان قد عمي - فقالوا: انهض يا أيها الرجل!
فقد أفحمته غير مرة، فنهض وقال:
115

ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا * فلو ترك القطا لغفا وناما
فقال ابن الزبير: يا صاحب القطا، أقبل علي، فما كنت لتدعني حتى
أقول: وأيم الله، لقد عرف الأقوام: أني سابق غير مسبوق، وابن حواري
وصديق متبجج في الشرف الأنيق خير من طليق!
فقال ابن عباس: دسعت بجرتك فلم تبق شيئا! هذا الكلام مردود من
امرئ حسود، فإن كنت سابقا فإلى من سبقت؟ وإن كنت فاخرا فبمن فخرت؟
فإن كنت أدركت هذا الفخر بأسرتك، دون أسرتنا فالفخر لك علينا، وإن
كنت إنما أدركت بأسرتنا فالفخر لنا عليك، والكثكث في فمك ويديك. وأما
ما ذكرت من الطليق، فوالله لقد ابتلي فصبر وأنعم عليه فشكر، وإن كان والله
لوفيا كريما غير ناقض بيعة بد توكيدها ولا مسلم كتيبة بعد التأمر عليها.
فقال ابن الزبير: أتعير الزبير بالجبن؟ والله إنك لتعلم منه خلاف ذلك.
قال ابن عباس: والله إني لا أعلم إلا أنه فر وما كر، وحارب فما صبر،
وبايع فما تمم، وقطع الرحم، وأنكر الفضل، ورام ما ليس له بأهل.
وأدرك منها بعض ما كان يرتجى * وقصر عن جري الكرام وبلدا
وما كان إلا كالهجين أمامه * عناق فجاراه العناق فأجهدا
فقال ابن الزبير: لم يبق يا بني هاشم غير المشاتمة والمضاربة!.
فقال عبد الله بن الحصين بن الحارث: أقمناه عنك يا ابن الزبير وتأبى إلا
منازعته، والله لو نازعته من ساعتك إلى انقضاء عمرك ما كنت إلا كالسغب
الظمآن يفتح فاه يستزيد من الريح، فلا يشبع من سغب ولا يروي من عطش،
فقل إن شئت أو فدع. وانصرف القوم (1).

(1) ابن أبي الحديد: ج 9 ص 324 - 327.
116

(58)
الشريف المرتضى مع أبي العلاء
دخل أبو العلاء المعري على السيد المرتضى - قدس الله روحه - فقال: أيها
السيد، ما قولك في الكل؟ فقال السيد: ما قولك في الجزء؟ فقال: ما قولك في
الشعرى؟ فقال: ما قولك في التدوير؟ قال: ما قولك في عدم الانتهاء؟ فقال:
ما قولك في التحيز والناعورة؟ فقال: ما قولك في السبع؟ فقال: ما قولك في
الزائد البري من السبع؟ فقال: ما قولك في الأربع؟ فقال: ما قولك في الواحد
والاثنين؟. فقال: ما قولك في المؤثر؟ فقال: ما قولك في المؤثرات؟ فقال:
ما قولك في النحسين؟ فقال: ما قولك في السعدين؟ فبهت أبو العلاء.
فقال السيد المرتضى رضي الله عنه عند ذلك: ألا كل ملحد ملهد. وقال
أبو العلاء: من أين أخذته؟ قال: من كتاب الله " يا بني لا تشرك بالله إن
الشرك لظلم عظيم " وقام وخرج. فقال السيد - رضي الله عنه: وقد غاب عنا
الرجل وبعد هذا لا يرانا.
فسئل السيد - رضي الله عنه - عن شرح هذه الرموز والإشارات، فقال:
سألني عن الكل وعنده الكل قديم، ويشير بذلك إلى عالم سماه " العالم الكبير "
فقال لي: ما قولك فيه؟ أراد أنه قديم، وأجبته عن ذلك وقلت له: ما قولك في
الجزء؟ لأن عندهم الجزء محدث وهو متولد عن العالم الكبير، وهذا الجزء
عندهم هو العالم الصغير، وكان مرادي بذلك: أنه إذا صح أن هذا العالم محدث
فذلك الذي أشار إليه إن صح فهو محدث أيضا، لأن هذا من جنسه على زعمه
والشي الواحد والجنس الواحد لا يكون بعضه قديما وبعضه محدثا، فسكت لما
سمع ما قلته.
وأما الشعرى: أراد أنها ليست من الكواكب السيارة، فقلت له: ما قولك
117

في التدوير والدوران فالشعرى لا يقدح في ذلك.
وأما عدم الانتهاء: أراد بذلك أن العالم لا ينتهي لأنه قديم، فقلت له: قد
صح عندي التحيز والتدوير، وكلاهما يدلان على الانتهاء.
وأما السبع: أراد بذلك النجوم السيارة التي هي عندهم ذوات الأحكام،
فقلت له: هذا باطل بالزائد البري الذي يحكم فيه بحكم لا يكون ذلك الحكم
منوطا بهذه النجوم السيارة التي هي: الزهرة والمشتري، والمريخ، وعطارد،
والشمس، والقمر، وزحل.
وأما الأربع: أراد بها الطبايع، فقلت له: ما قولك في الطبيعة الواحدة
النارية يتولد منها دابة بجلدها تمس الأيدي ثم يطرح ذلك الجلد على النار فيحترق
الزهومات ويبقى الجلد صحيحا؟ لأن الدابة خلقها الله على طبيعة النار
والنار لا تحرق النار، والثلج أيضا يتولد فيه الديدان، وهو على طبيعة واحدة،
والماء في البحر على طبيعتين تتولد منه السموك والضفادع والحيات والسلاحف
وغيرها. وعنده لا يحصل الحيوان إلا بالأربع، فهذا مناقض لهذا.
وأما المؤثر: أراد به الزحل، فقلت له: ما قولك في المؤثرات؟ أردت بذلك
أن المؤثرات كلهن عنده مؤثرات، فالمؤثر القديم كيف يكون مؤثرا؟
وأما النحسين: أراد بهما أنهما من النجوم السيارة إذا اجتمعا يخرج من بينهما
سعد، فقلت له: ما قولك في السعدين إذا اجتمعا خرج من بينهما النحس؟
هذا حكم أبطله الله تعالى ليعلم الناظر أن الأحكام لا تتعلق بالمسخرات، لأن
الشاهد يشهد على أن العسل والسكر إذا اجتمعا لا يحصل منهما الحنظل
والعلقم، والحنظل والعلقم إذا اجتمعا لا يحصل منهما الدبس والسكر، هذا
دليل على بطلان قولهم.
وأما قولي: ألا كل ملحد ملهد: أردت أن كل مشرك ظالم، لأن في اللغة:
ألحد الرجل: إذا عدل عن الدين وألهد إذا ظلم، فعلم أبو العلاء ذلك، وأخبرني
118

عن علمه بذلك فقرأت " يا بني لا تشرك بالله " الآية (1).
(59)
أحمد بن السيار مع المفيد
قال السيد المرتضى - رضي الله عنه - في كتاب الفصول: اتفق للشيخ أبي
عبد الله المفيد - رحمة الله عليه - اتفاق مع القاضي أبي بكر أحمد بن سيار في (دار
السلام ب خ) دار الشريف أبي عبد الله محمد بن محمد بن طاهر الموسوي
- رضي الله عنه، وكان بالحضرة جمع كثير يزيد عددهم على مائة إنسان، وفيهم
أشراف من بني علي وبني العباس ومن وجوه الناس والتجار، حضروا في
قضاء حق الشريف - رحمه الله، فجرى من جماعة من القوم خوض في ذكر النص
على أمير المؤمنين عليه السلام، وتكلم الشيخ أبو عبد الله - في ذلك بكلام
يسير على ما اقتضته الحال.
فقال له القاضي أبو بكر ابن سيار: خبرني ما النص في الحقيقة؟ وما معنى
هذه اللفظة؟.
فقال الشيخ - أيده الله -: النص هو الإظهار والإبانة، من ذلك قولهم: " فلان
قد نص قلوصه " إذا أبانها بالسير وأبرزها من جملة الإبل، ولذلك سمي المفرش
العالي منصة، لأن الجالس عليه يبين بالظهور من الجماعة، فلما أظهره المفرش
سمي منصة - على ما ذكرناه - ومن ذلك أيضا قولهم: " قد نص فلان مذهبه "
إذا أظهره وأبانه، ومنه قول الشاعر:
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش * إذا هي نصته ولا بمعطل
يريد: إذا أظهرته، وقد قيل: نصبته، والمعنى في هذا يرجع إلى الإظهار.
فأما هذه اللفظة: فإنها قد جعلت مستعملة في الشريعة على المعنى الذي قدمت.

(1) البحار: ج 10 ص 406 - 408 والاحتجاج: ج 2 ص 329 - 336.
119

ومتى أردت حد المعنى منها قلت: حقيقة النص هو القول المنبئ عن المقول فيه
على سبيل الإظهار.
فقال القاضي: ما أحسن ما قلت! ولقد أصبت فيما أوضحت وكشفت
فخبرني الآن إذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد نص على إمامة
أمير المؤمنين عليه السلام فقد أظهر فرض طاعته، وإذا أظهره استحال أن يكون
مخفيا.
فما بالنا لا نعلمه إن كان الأمر على ما ذكرت في حد النص وحقيقته؟.
فقال الشيخ أيده الله: أما الإظهار من النبي صلى الله عليه وآله فقد وقع
ولم يكن خافيا في حال ظهوره، وكل من حضره فقد علمه ولم يرتب فيه
ولا اشتبه عليه.
وأما سؤالك عن علة فقدك العلم به الآن وفي هذا الزمان: فإن كنت
لا تعلمه على ما أخبرت به عن نفسك فذلك لدخول الشبهة عليك في طريقه
لعدولك عن وجه النظر في الدليل المفضي بك إلى حقيقته، ولو تأملت الحجة
فيه بعين الإنصاف لعلمته، ولو كنت حاضرا في وقت إظهار النبي له صلى
الله عليه وآله لما أخللت بعلمه، ولكن العلة في ذهابك عن اليقين فيه
ما وصفناه.
فقال: وهل يجوز أن يظهر النبي صلى الله عليه وآله شيئا في زمانه فيخفي
عمن ينشأ بعد وفاته حتى لا يعلمه إلا بنظر ثاقب واستدلال عليه؟ فقال الشيخ
أيده الله تعالى: نعم يجوز ذلك، بل لا بد منه لمن غاب عن المقام في علم ما كان
منه إلى النظر والاستدلال، وليس يجوز أن يقع له به علم الاضطرار، لأنه من
جملة الغائبات، غير أن الاستدلال في هذا الباب يختلف في الغموض والظهور
والصعوبة والسهولة على حسب الأسباب المعترضات في طرقه، وربما عرى
طريق ذلك من سبب، فيعلم بيسير من الاستدلال على وجه يشبه الاضطرار،
120

إلا أن طريق النص حصل فيه من الشبهات للأسباب التي اعترضته، ما يتعذر
معها العلم به إلا بعد نظر ثاقب وطول زمان في الاستدلال.
فقال: فإذا كان الأمر على ما وصفت، فما أنكرت أن يكون النبي صلى
الله عليه وآله قد نص على نبي آخر معه في زمانه أو نبي يقوم من بعده وأظهر
ذلك وشهره على حد ما أظهر به إمامة أمير المؤمنين عليه السلام فذهب عنا علم
ذلك كما ذهب عنا علم النص وأسبابه؟.
فقال له الشيخ أيده الله تعالى: أنكرت ذلك من قبل أن العلم حاصل لي
ولكل مقر بالشرع ومنكر له بكذب من ادعى ذلك على رسول الله صلى الله
عليه وآله ولو كان ذلك حقا لما عم الجميع على بطلانه وكذب مدعيه ومضيفه
إلى النبي صلى الله عليه وآله، ولو تعرى بعض العقلاء من سامعي الأخبار عن
علم ذلك لاحتجت في إفساده إلى تكلف دليل غير ما وصفت. لكن الذي
ذكرت يغنيني عن اعتماد غيره، فإن كان النص على الإمامة نظيره فيجب أن
يعم العلم ببطلانه جميع سامعي الأخبار حتى لا يختلف في اعتقاد ذلك اثنان
وفي تنازع الأمة فيه واعتقاد جماعة صحته والعلم به واعتقاد جماعة بطلانه دليل
على فرق ما بينه وبين ما عارضت به.
ثم قال له الشيخ أدام الله حراسته: ألا أنصف القاضي من نفسه والتزم
ما ألزمه خصومه فيما شاركهم فيه من نفي ما تفردوا به، ففصل بينه وبين خصومه في
قوله: إن النبي صلى الله عليه وآله قد نص على رجم الزاني وفعله، وموضع قطع
السارق وفعله، وعلى صفة الطهارة والصلاة وحدود الصوم والحج والزكاة وفعل
ذلك، وبينه وكرره وشهره، ثم التنازع موجود في ذلك، وإنما يعلم الحق فيه
وما عليه العمل من غيره بضرب من الاستدلال، بل في قوله: إن انشقاق القمر
لرسول الله صلى الله عليه وآله كان ظاهرا في حياته ومشهورا في عصره وزمانه،
وقد أنكر ذلك جماعة من المعتزلة وغيرهم من أهل الملل والملحدة، وزعموا أن
121

ذلك من توليد أصحاب السير ومؤلفي المغازي وناقلي الآثار، وليس يمكننا أن
ندعي على من خالفنا فيما ذكرنا علم الاضطرار، وإنما نعتمد على غلطهم في
الاستدلال، فيما يؤمنه أن يكون النبي صلى الله عليه وآله قد نص على نبي من
بعده وإن عرى من العلم بذلك على سبيل الاضطرار، وبم يدفع أن يكون قد
حصلت شبهات مالت بينه وبين العلم بذلك كما حصل لخصومه في ما عددناه
ووصفناه، وهذا ما لا فضل فيه.
فقال له: ليس يشبه النص على أمير المؤمنين عليه السلام جميع ما ذكرت،
لأن فرض النص عندك فرض عام، وما وقع فيه الاختلاف فيما قدمت فروض
خاصة، ولو كانت في العموم كهو لما وقع فيها الاختلاف.
فقال الشيخ أيده الله: فقد انتقض الآن جميع ما اعتمدته وبان فساده،
واحتجت في الاعتماد إلى غيره، وذلك أنك جعلت موجب العلم وسبب
ارتفاع الخلاف ظهور الشئ في زمان ما واشتهاره بين الملأ، ولم تضم إلى ذلك
غيره ولا شرطت فيه موصوفا سواه، فلما نقضناه عليك ووضح عندك دماره
عدلت إلى التعلق بعموم الفرض وخصوصه، ولم يك هذا جاريا فيما سلف،
والزيادة في الاعتلال انقطاع، والانتقال من اعتماد إلى اعتماد أيضا انقطاع،
على أنه ما الذي يؤمنك أن ينص على نبي يحفظ شرعه؟ فيكون فرض العمل به
خاصا في العبادة، كما كان الفرض فيما عددناه خاصا، فهل فيها من فصل
يعقل؟ فلم يأت بشئ تجب حكايته (1).
(60)
زيد بن علي مع هشام
دخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك، فلم يجد موضعا يقعد فيه،

(1) البحار: ج 10 ص 408 - 411.
122

فعلم أن ذلك فعل به على عمد، فقال يا أمير المؤمنين [اتق الله! قال: أو مثلك
يا زيد يأمر مثلي بتقوى الله؟ قال زيد]: إنه لا يكبر أحد فوق أن يوصى بتقوى
الله، ولا يصغر دون أن يوصى بتقوى الله.
قال له هشام: بلغني أنك تحدث نفسك بالخلافة، ولا تصلح لها، لأنك
ابن أمة.
قال زيد: أما قولك: إني أحدث بالخلافة، فلا يعلم الغيب إلا الله. وأما
قولك: إني ابن أمة، فهذا إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن ابن أمة، من
صلبه خير البشر محمد صلى الله عليه وآله، وإسحاق ابن حرة أخرج من صلبه
القردة والخنازير وعبدة الطاغوت [قال له: قم! قال: إذن لا تراني إلا حيث
تكره] فلما خرج من عنده، قال: ما أحب أحد قط الحياة إلا ذل. قال له
حاجبه: لا يسمع هذا الكلام منك أحد. وقال زيد بن علي:
شرده الخوف وأزرى به * كذاك من يكره حر الجلاد
محتفي الرجلين يشكو الوجى * تقرعه أطراف مرو حداد
قد كان في الموت له راحة * والموت حتم في رقاب العباد
ثم خرج وقتل (1).
(61)
شريك مع المهدي
دخل شريك يوما على المهدي، فقال له المهدي: بلغني أنك ولدت في
قوصرة؟ فقال: ولدت يا أمير المؤمنين بخراسان، والقواصرة هناك عزيزة.
قال: وإني لأراك فاطميا خبيثا! قال: والله إني لأحب فاطمة وأبا

(1) العقد الفريد: ج 1 ص 32. ونقل ابن أبي الحديد: ج 3 ص 285 - 286 قصة زيد بنحو آخر أطول
مما نقلناه.
123

فاطمة صلى الله عليه وآله.
قال: والله أحبهما، ولكني رأيتك في منامي مصروفا وجهك عني،
وما ذاك إلا لبغضك لنا، وما أراني إلا قاتلك لأنك زنديق. قال: يا أمير المؤمنين،
إن الدماء لا تسفك بالأحلام، وليس رؤياك رؤيا يوسف النبي صلى الله
عليه وآله وسلم. وأما قولك: بأني زنديق، فإن للزنادقة علامة يعرفون.
قال: وما هي؟ قال: بشرب الخمر والضرب بالطنبور.
قال: صدقت أبا عبد الله، وأنت خير من الذي حملني عليك (وهو الربيع
صاحب شرطة المهدي) (1).
(62)
الحضين بن المنذر مع عبد الله بن مسلم
تزعم الرواة أن قتيبة بن مسلم لما افتتح سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله
وإلى آلات لم يسمع بمثلها، فأراد أن يرى الناس عظيم ما افتتح الله عليه
ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم، فأمر بدار ففرشت، وفي صحنها قدور
يرتقى إليها بالسلالم.
فإذا الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل، والناس
جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير، فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه
قتيبة: إئذن لي في معاتبته. قال: لا ترده، فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلا
أن يأذن له وكان عبد الله يضعف وكان قد تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك
فأقبل على الحضين، فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل أسن
عم من تسور الحيطان. قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من أن
لا ترى. قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها! قال: أجل ولا عيلان، ولو

(1) العقد الفريد: ج 1 ص 37.
124

كان رآها سمي شبعان ولم يسم عيلان. قال له عبد الله: أتعرف يا أبا ساسان
الذي يقول:
عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل * تجر حضاها تبتغي من تحالف؟
قال: أعرفه وأعرف الذي يقول:
[وغيبة من يخيب على غني * وباهلة بن يعصر والرباب
يريد يا خيبة من يخيب.
قال له أتعرف الذي يقول:
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع * إذا عرقت أفواه بكر بن وائل؟
قال نعم: وأعرف الذي يقول:
قوم قتيبة أمهم وأبوهم * لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
قال: أما الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: نعم أقرأ
منه الأكثر الأطيب " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا
مذكورا " فأغضبه، فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي
حبلى من غيره!
قال: فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى، بل قال على رسله: وما يكون تلد
غلاما على فراشي فيقال: فلان بن الحضين، كما يقال: عبد الله بن مسلم.
فأقبل قتيبة على عبد الله فقال: لا يبعد الله غيرك.
والحضين هذا هو الحضين بن المنذر الرقاشي، ورقاش أمه، وهو من بني
شيبان بن بكر بن وائل، وهو صاحب لواء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
بصفين على ربيعة كلها، وله يقول علي بن أبي طالب:
لمن راية سوداء يخفق ظلها * إذا قيل: قدمها حضين تقدما
يقدمها في الصف حتى يزيرها * حياض المنايا تقطر السم والدما
125

جزى الله عني والجزاء بفضله * ربيعة خيرا ما أعف وأكرما (1)
(63)
عبد الله بن هاشم مع معاوية
لما قتل علي صلوات الله عليه كان في نفس معاوية من يوم صفين على
هاشم بن عتبة ابن أبي وقاص المرقال وولده عبد الله بن هاشم إحن، فلما
استعمل معاوية زيادا على العراق كتب إليه:
أما بعد، فانظر عبد الله بن هاشم بن عتبة فشد يده إلى عنقه ثم ابعث به
إلي.
فحمله زياد من البصرة مقيدا مغلولا إلى دمشق، وقد كان زياد طرقه بالليل
في منزله بالبصرة. فأدخل على معاوية وعنده عمرو بن العاص، فقال معاوية
لعمرو بن العاص: هل تعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا الذي يقول أبوه يوم
صفين:
إني شريت النفس لما اعتلا * وأكثر اللوم وما أقلا
أعور يبغي أهله محلا * قد عالج الحياة حتى ملا
لا بد أن يفل أو يفلا * أشلهم بذي الكعوب شلا
لا خير عندي في كريم ولى
فقال عمرو متمثلا:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى * وتبقى حزازات النفوس كما هيا
دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب! فاشخب أوداجه على أسباجه (2) ولا ترده
إلى [أهل] العراق، فإنه لا يصبر عن النفاق، وهم أهل غدر وشقاق، وحرب

(1) الكامل للمبرد: ج 2 ص 25. والعقد الفريد: ج ص 38 - 39. وابن أبي الحديد: ج 18 ص 152
وج 5 ص 33 عن الكامل للمبرد.
(2) " أثباجه ": (خ ل)، والسبجة: رداء.
126

إبليس ليوم هيجاء، وإن له هوى سيرديه، ورأيا سيطغيه، وبطانة ستقويه،
وجزاء سيئة سيئة مثلها.
فقال عبد الله: يا عمرو، إن أقتل فرجل أسلمه قومه وأدركه يومه، أفلا كان
هذا منك، إذ تحيد عن القتال ونحن ندعوك إلى النزال، وأنت تلوذ بسمال
النطاف وعقائق الرصاف، كالأمة السوداء والنعجة القوداء، لا تدفع يد
لامس؟!
فقال عمرو: أما والله، لقد وقعت في لهاذم شذقم للأقران ذي لبد، ولا
أحسبك منفلتا من مخاليب أمير المؤمنين. فقال عبد الله: أما والله يا بن العاص!
إنك لبطر في الرخاء، جبان عند اللقاء، غشوم إذا وليت، هيابة إذا لقيت،
تهدر كما يهدر العود المنكوس المقيد بين مجرى الشوك، لا يستعجل في المدة،
ولا يرتجى في الشدة، أفلا كان هذا منك؟ إذا غمرك أقوام لم يعنفوا صغارا ولم
يمزقوا كبارا، لهم أيد شداد وألسنة حداد، يدعمون العوج ويذهبون الحرج،
يكثرون القليل يشفون الغليل ويعزون الذليل.
فقال عمرو: أما والله، لقد رأيت أباك يومئذ تخفق أحشاؤه وتبق أمعاؤه
وتضطرب أطلاؤه، كأنما انطبق عليه صمد.
فقال عبد الله: يا عمرو، إنا قد بلوناك ومقالتك، فوجدنا لسانك كذوبا
غادرا، خلوت بأقوام لا يعرفونك وجند لا يسأمونك، ولو رمت المنطق في غير أهل
الشام لجحظ إليك عقلك وتلجلج لسانك ولاضطرب فخذاك اضطراب القعود
الذي أثقله حمله. فقال معاوية: إيها عنكما! وأمر بإطلاق عبد الله، فقال عمرو
لمعاوية:
أمرتك أمرا حازما فعصيتني * وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
أليس أبوه يا معاوية الذي * أعان عليا يوم حز الغلاصم
فلم ينثني حتى جرت من دمائنا * بصفين أمثال البحور الخضارم
127

وهذا ابنه والمرء يشبه شيخه * ويوشك أن تقرع به سن نادم
فقال عبد الله يجيبه:
معاوي إن المرء عمرا أبت له * ضغينة صدر غشها غير نائم
يرى لك قتلي يا ابن هند وإنما * يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم
على أنهم لا يقتلون أسيرهم * إذا منعت عنه عهود المسالم
وقد كان منا يوم صفين نفرة * عليك جناها هاشم وابن هاشم
قضى ما انقضى منها وليس الذي مضى * ولاما جرى إلا كأضغاث حالم
فإن تعف عني تعف عن ذي قرابة * وإن تر قتلي تستحل محارمي
فقال معاوية:
أرى العفو عن عليا قريش وسيلة * إلى الله في يوم العصيب القماطر
ولست أرى قتل الغداة ابن هاشم * بإدراك ثاري في لؤي وعامر
بل العفو عنه بعدما بان جرمه * وزلت به إحدى الحدود العوائر
فكان أبوه يوم صفين جمرة * علينا فأردته رماح نهابر (1)
(64)
عبد الله بن هشام مع معاوية
حضر عبد الله بن هاشم ذات يوم مجلس معاوية، فقال معاوية: من يخبرني
عن الجود والنجدة والمروءة؟ فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، أما الجود: فابتذال
المال والعطية قبل السؤال، وأما النجدة: فالجرأة على الأقوام (الإقدام خ ل)
والصبر عند ازورار الإقدام، وأما المروءة فالصلاح في الدين والاصلاح للمال

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 17 - 19. والعقد الفريد: ج 3 ص 18 - 19. وابن أبي الحديد: ج 8
ص 8 - 10 نقله المؤرخ الشهير " سپهر " في الناسخ بنحو يخالف ما نقلناه فراجعه. ج 5 ص 135 - 143 ونقله
نصر في وقعة صفين ص 348 - 349 ط مصر. وفتوح ابن أعثم ج 3 ص 204 - 207.
128

والمحاماة عن الجار (1).
(65)
بعض الشيعة مع خصمه
روى الشيخ المفيد: أنه قال بعض الشيعة لبعض الناصبة في محاورته له في
فضل آل محمد صلى الله عليه وآله: أرأيت لو بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله
أين ترى كان يحط رحله وثقله؟ قال: فقال له الناصب: كان يحط في أهله
وولده. قال: فقال له الشيعي: فإني قد حططت هواي حيث يحط رسول الله
صلى الله عليه وآله رحله وثقله (2).
(66)
المفيد مع الكتبي
ومن كلام الشيخ (المفيد) أدام الله كفايته في إبطال إمامة أبي بكر من
جهة الإجماع سأل المعروف بالكتبي فقال له: ما الدليل على فساد إمامة أبي
بكر؟ فقال له: الدلالة على ذلك كثيرة، فأنا أذكر لك منها دليلا يقرب من
فهمك، وهو أن الأمة مجتمعة على أن الإمام لا يحتاج إلى إمام، وقد أجمعت الأمة
على أن أبا بكر قال على المنبر: " وليتكم ولست بخيركم، فإن استقمت
فاتبعوني، وإن اعوججت فقوموني " فاعترف بحاجته إلى رعيته وفقره إليهم في
تدبيره، ولا خلاف بين ذوي العقول أن من أحتاج إلى رعيته فهو إلى الإمام
أحوج، وإذا ثبت حاجة أبي بكر إلى الإمام بطلت إمامته بالإجماع المنعقد على
أن الإمام لا يحتاج إلى الإمام. فلم يدر الكتبي بم يعترض.
وكان بالحضرة من المعتزلة رجل يعرف بعرزالة، فقال: ما أنكرت على من
قال لك أن الأمة أيضا مجتمعة يعلى أن القاضي لا يحتاج إلى قاض والأمير لا يحتاج

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 19 - 20 في نسخة دار الهجرة ص 10 - 11.
(1) البحار: ج 10 ص 411.
129

إلى أمير، فيجب على هذا الأصل أن يوجب عصمة الأمراء، أو يخرج من الإجماع؟.
فقال له الشيخ: إن سكوت الأول أحسن من كلامك هذا، وما كنت أظن
أنه يذهب عليك الخطأ في هذا الفصل، أو تحمل نفسك عليه مع العلم
بوهنه، وذلك أنه لا إجماع في ما ذكرت، بل الإجماع في ضده، لأن الأمة متفقة
على أن القاضي الذي هو دون الإمام يحتاج إلى قاض هو الإمام، وذلك يسقط
ما تعلقت به، اللهم إلا أن تكون أشرت بالأمير والقاضي إلى نفس الإمام، فهو
كما وصفت غير محتاج إلى قاض يتقدمه أو أمير عليه، وإنما استغنى عن ذلك
لعصمته وكماله، فأين موضوع إلزامك عافاك الله! فلم يأت لشئ (1).
(67)
المفيد مع الشوطي من المعتزلة
ومن كلام الشيخ (المفيد) أدام الله نعماه أيضا: سأله رجل من المعتزلة
يعرف بأبي عمرو الشوطي، فقال له: أليس قد اجتمعت الأمة على أن أبا بكر
وعمر كان ظاهرهما الإسلام؟ فقال له الشيخ: نعم قد أجمعوا على أنهما كانا
على ظاهر الإسلام زمانا، فأما أن يكونوا مجمعين على أنهما كانا في سائر أحوالهما
على ظاهر الإسلام فليس في هذا إجماع، لاتفاق أنهما كانا على الشرك،
ولوجود طائفة كثيرة العدد تقول: إنهما كانا بعد إظهارهما الإسلام على ظاهر
كفر بجحد النص وأنه قد كان يظهر منهما النفاق في حياة النبي صلى الله عليه وآله
فقال الشوطي: قد بطل ما أردت أن أورده على هذا السؤال بما أوردت،
وكنت أظن أنك تطلق القول على ما سألتك.
فقال له الشيخ: قد سمعت ما عندي، وقد علمت ما الذي أردت فلم
أمكنك منه، ولكني أنا أضطرك إلى الوقوع فيما ظننت أنك توقع خصمك فيه:

(1) البحار: ج 10 ص 411 - 412.
130

أليس الأمة مجتمعة على أنه من اعترف بالشك في دين الله عز وجل والريب في
نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله فقد اعترف بالكفر وأقربه؟ فقال: بلى.
فقال له الشيخ: فإن الأمة مجتمعة لا خلاف بينها على أن عمر بن الخطاب
قال: ما شككت منذ أسلمت إلا يوم قاضي رسول الله صلى الله عليه وآله أهل
مكة، فإني جئت إليه، فقلت له: يا رسول الله، ألست بنبي؟ فقال: بلى،
فقلت: ألسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، فقلت له: فعلام تعطي هذه الدنية من
نفسك؟ فقال: إنها ليست بدنية ولكنها خير لك! فقلت له: أفليس وعدتنا
أنك تدخل مكة؟ قال: بلى، قلت: فمنا بالنا لا ندخلها؟ قال: وعدتك أن
تدخلها العام؟ قلت: لا، قال: فستدخلها إن شاء الله تعالى، فاعترف بشكه في
دين الله عز وجل ونبوة رسوله، وذكر مواضع شكوكه وبين عن جهاتها، وإذا
كان الأمر على ما وصفناه فقد حصل الإجماع على كفره بعد إظهار الإيمان
واعترافه بموجب ذلك على نفسه. ثم ادعى خصوم (خصومنا خ ل) من الناصبة
أنه تيقن بعد الشك ورجع إلى الإيمان بعد الكفر، فأطرحنا قولهم لعدم البرهان
منهم، واعتمدنا على الإجماع فيما ذكرناه.
فلم يأت بشئ أكثر من أن قال: ما كنت أظن أحدا يدعي الإجماع على
كفر عمر بن الخطاب حتى الآن! فقال الشيخ: فالآن قد علمت ذلك وتحققته،
ولعمري، إن هذا مما لم يسبقني إلى استخراجه أحد! فإن كان عندك شئ
فأورده. فلم يأت بشئ (1).
(68)
المفيد مع الورثاني
ومن كلام الشيخ أدام الله علوه أيضا: حضر في دار الشريف أبي عبد الله

(1) البحار: ج 10 ص 412 - 414.
131

محمد بن محمد بن طاهر رحمه الله وحضر رجل من المتفقهة يعرف بالورثاني، وهو
من فهمائهم، فقال له الورثاني: أليس من مذهبك أن رسول الله صلى الله عليه
وآله كان معصوما من الخطأ،. مبرأ من الزلل، مأمونا عليه السهو والغلط،
كاملا بنفسه، غنيا عن رعيته؟.
فقال له الشيخ: بلى كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: فما
تصنع في قول الله عز وجل: " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله "؟
أليس قد أمره الله تعالى بالاستعانة بهم في الرأي وأفقره إليهم، فكيف يصح لك
ما ادعيت مع ظاهر القرآن وما فعله النبي - صلى الله عليه وآله؟!
فقال الشيخ: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يشاور أصحابه لفقر منه
إلى رأيهم ولا حاجة دعته إلى مشورتهم من حيث ظننت وتوهمت، بل لأمر آخر
إنا نذكره لك بعد الايضاح عما خبرتك به، وذلك: أنا قد علمنا أن رسول الله
صلى الله عليه وآله كان معصوما من الكبائر، وإن خالفت أنت في عصمته من
الصغائر، وكان أكمل الخلق باتفاق أهل الملة وأحسنهم رأيا وأوفرهم عقلا
وأحكمهم تدبيرا، وكانت المواد (1) بينه وبين الله تعالى متصلة، والملائكة تتواتر
عليه بالتوقيف (2) عن الله سبحانه والتهذيب والأنباء له عن المصالح، وإذا كان
بهذه الصفات لم يصح أن يدعوه داع إلى اقتباس الرأي من رعيته، لأنه ليس
أحد منهم إلا وهو دونه في سائر ما عددناه، وإنما يستشير الحكيم غيره على طريق
الاستفادة والاستعانة برأيه إذا تيقن أنه أحسن رأيا منه وأجود تدبيرا وأكمل
عقلا، أو ظن ذلك، فأما إذا أحاط علما بأنه دونه فيما وصفناه لم يكن
لاستعانته في تدبيره برأيه معنى، لأن الكامل لا يفتقر إلى الناقص فيما يحتاج فيه
إلى الكمال، كما لا يفتقر العالم إلى الجاهل فيما يحتاج فيه إلى العلم، والآية ينبه

(1) كذا في النسخ، والظاهر أنها " الموادة ".
(2) " باتوفيق ": (خ ل).
132

متضمنها على ذلك، ألا ترى إلى قوله عز وجل: " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت
فتوكل على الله "؟ فعلق وقوع الفعل بعزمه دون رأيهم ومشورتهم، ولو كان إنما
أمره بمشورتهم للاستضاءة برأيهم لقال له: " فإذا أشاروا عليك فاعمل وإذا
اجتمع رأيهم على أمر فامضه " فكان تعلق فعله بالمشورة دون العزم الذي يختص
به، فلما جاء الذكر بما تلوناه سقط ما توهمته.
وأما وجه دعائه لهم إلى المشورة عليه صلوات الله عليه فإن الله عز وجل أمره
بتألفهم بمشورتهم وتعلمهم ما يصنعونه عند عزماتهم ليتأدبوا بأدب الله عز وجل،
فاستشارهم لذلك، لا لحاجة إلى رأيهم.
على أن هاهنا وجها آخر بينا: وهو أن الله سبحانه أعلمه أن في أمته من
يبتغي له الغوائل ويتربص له الدوائر ويسر خلافه ويبطن مقته ويسعى في هدم
أمره وينافقه (1) في دينه ولم يعرفه أعيانهم ولا دله عليهم بأسمائهم، فقال جل جلاله:
" ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم
يردون إلى عذاب عظيم " وقال جل اسمه: " وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى
بعض هل يريكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون "،
وقال تبارك اسمه: " يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله
لا يرضى عن القوم الفاسقين " وقال تعالى: " ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم
منكم ولكنهم قوم يفرقون " وقال عز وجل: " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن
يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو
فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون " وقال جل جلاله: " ولا يأتون الصلاة إلا
كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون " وقال تبارك وتعالى: " وإذا قاموا إلى
الصلاة قاموا كسالى يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " وقال سبحانه بعد

(1) " ويناقضه ": (خ ل).
133

أن نبأه عنهم في الجملة: " ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في
لحن القول ".
فدل عليهم بمقالهم وجعل الطريق له إلى معرفتهم ما يظهر من نفاقهم في لحن
قولهم، ثم أمره بمشورتهم ليصل ما يظهر منهم إلى علم باطنهم، فإن الناصح تبدو
نصيحته في مشورته، والغاش المنافق يظهر ذلك في مقاله، فاستشارهم صلى
الله عليه وآله لذلك، ولأن الله جل جلاله جعل مشورتهم الطريق إلى معرفتهم،
ألا ترى أنهم لما أشاروا ببدر عليه صلى الله عليه وآله في الأسرى، فصدرت مشورتهم
عن نيات مشوبة في نصيحته، كشف الله ذلك له وذمهم عليه وأبان عن إدغالهم فيه،
فقال جل اسمه: " ما كان للنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون
عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق
لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم " فوجه التوبيخ إليهم والتعنيف على رأيهم وأبان
لرسوله صلى الله عليه وآله عن حالهم، فيعلم أن المشورة لهم لم يكن للفقر إلى
رأيهم، ولكن كانت لما ذكرناه.
فقال شيخ من القوم يعرف بالجراحي وكان حاضرا يا سبحان الله! أترى
أن أبا بكر وعمر كانا من أهل النفاق؟ كلاما نظنك أيدك الله تطلق هذا!
وما رأينا صلى الله عليه وآله استشار ببدر غيرهما، فإن كانا هما من المنافقين
فهذا ما لا نصبر عليه ولا نقوى على استماعه، وإن لم يكونا من جملة أهل النفاق،
فاعتمد على الوجه الأول، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله أراد أن يتألفهم
بالمشورة ويعلمهم كيف يصنعون في أمورهم.
فقال له الشيخ أدام الله نعماءه: ليس هذا من الحجاج أيها الشيخ في
شئ، وإنما هو استكبار واستعظام معدول به عن الحجة والبرهان، ولم نذكر
إنسانا بعينه وإنما أتينا بمجمل من القول ففصله الشيخ وكان غنيا عن تفصيله.
وصاح الورثاني وأعلى صوته بالصياح يقول: الصحابة أجل قدرا من أن
134

يكونوا من أهل النفاق، ولا سيما الصديق والفاروق! وأخذ في كلام نحو هذا من
كلام السوقة والعامة وأهل الشغب والفتن.
فقال له الشيخ أيده الله: دع عنك الضجيج وتخلص مما أوردته عليك
من البرهان واحتل لنفسك وللقوم، فقد بان الحق وزهق الباطل بأهون سعي،
والحمد لله رب العالمين (1).
(69)
المفيد في جواب المعتزلة والحشوية
ومن كلام الشيخ - أدام الله تأييده - أيضا: سأله بعض أصحابه فقال له:
إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبي بكر وعمر مع رسول الله صلى الله
عليه وآله في العريش كان أفضل من جهاد أمير المؤمنين عليه السلام بالسيف،
لأنهما كانا مع النبي صلى الله عليه وآله في مستقرة يدبران الأمر معه صلى الله
عليه وآله، ولولا أنهما أفضل الخلق عنده ما اختصهما بالجلوس معه، فبأي شئ
تدفع هذا؟.
فقال له الشيخ: سبيل هذا القول أن يعكس، وهذه القضية أن تقلب،
وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لو علم أنهما لو كانا من جملة المجاهدين
بأنفسهما يبارزان الأقران ويقتلان الأبطال ويحصل لهما جهاد يستحقان به
الثواب لما حال بينهما وبين هذه المنزلة التي هي أجل وأشرف وأعلى وأسنى من القعود
على كل حال بنص الكتاب، حيث يقول الله سبحانه: " لا يستوي القاعدون
من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله
المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل
الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " فلما رأينا الرسول صلى الله عليه

(1) البحار: ج 10 ص 414 - 417.
135

وآله قد منعهما هذه الفضيلة وأجلسهما معه علمنا أن ذلك لعلمه بأنهما لو تعرضا
للقتال أو عرضا له لأفسدا إما بأن ينهزما أو يوليا الدبر كما صنعا يوم أحد وخيبر
وحنين وكان يكون في ذلك عظيم الضرر على المسلمين ولا يؤمن وقوع الوهن فيهم
بهزيمة شيخين من جملتهم، أو كانا من فرط ما يلحقهما من الخوف والجزع يصيران
إلى أهل الشرك مستأمنين، أو غير ذلك من الفساد الذي يعلمه الله تعالى، ولعله
لطف للأمة بأن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بحبسهما عن القتال.
فأما ما توهموه: من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما، فقد ثبت أنه كان كاملا
وكانا ناقصين عن كماله، وكان صلى الله عليه وآله معصوما وكانا غير
معصومين، وكان مؤيدا بالملائكة وكانا غير مؤيدين، وكان يوحى إليه وينزل
القرآن عليه ولم يكونا كذلك، فأي فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما لولا
عمي القلوب وضعف الرأي وقلة الدين؟!
والذي يكشف لك عن صحة ما ذكرته آنفا في وجه إجلاسهما معه في
العريش قول الله سبحانه: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم
الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل
والفرقان " فلو يخلو الرجلان من أن يكونا مؤمنين أو غير مؤمنين، فقد اشترى الله
عز وجل أنفسهما منهما بالجنة على شرط القتال المؤدي إلى القتل منهما لغيرهما أو
قتل غيرهما لهما، ولو كان ذلك كذلك لما حال النبي بينهما وبين الوفاء بشرط
الله عليهما من القتال، وفي منعهما من ذلك دليل على أنهما بغير الصفة التي
يعتقدها فيهما الجاهلون، فقد وضح بما بيناه أن العريش وبال عليها ودليل على
نقصهما وأنه بالضد مما توهموه، والمنة لله تعالى (1).

(1) البحار: ج 10 ص 417 - 418.
136

(70)
المفيد مع الخياط
وقال الشيخ أدام الله عزه: قال أبو الحسين الخياط جاءني رجل من
أصحاب الإمامة عن رئيس لهم زعم أنه أمره أن يسألني عن قول النبي صلى
الله عليه وآله لأبي بكر: " لا تحزن " إطاعة خوف أبي بكر أم معصية؟ قال: فإن
كان طاعة فقد نهاه عن الطاعة وإن كان معصية فقد عصى أبو بكر.
قال: فقلت له: دع الجواب اليوم ولكن ارجع إليه واسأله عن قول الله
تعالى لموسى عليه السلام " لا تخف " أيخلو خوف موسى عليه السلام من أن
يكون طاعة أم معصية؟ فإن يك طاعة فقد نهاه عن الطاعة، وإن يك معصية
فقد عصى موسى عليه السلام.
قال: فمضى ثم عاد إلي، فقلت: رجعت إليه؟ قال: نعم، فقلت له:
ما قال؟ قال: قال لي: لا تجلس إليه.
قال الشيخ أدام الله عزه: ولست أدري صحة هذه الحكاية، ولا أبعد أن
يكون من تخرص الخياط. ولو كان صادقا في قوله: إن رئيسا من الشيعة أنفذ
مسألة عن هذا السؤال لما قصر الرئيس عن إسقاط ما أورده من الاعتراض
ويقوى في النفس أن الخياط أراد تقبيح أهل الإمامة في تخرص هذه الحكاية،
غير أني أقول له ولأصحابه:
الفصل بين الأمرين واضح، وذلك أني لو خليت وظاهر قوله تعالى لموسى
عليه السلام: " لا تخف " وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله: " لا يحزنك
قولهم " وما أشبه هذا مما توجه إلى الأنبياء - عليهم السلام - لقطعت على أنه نهي عن
قبيح يستحقون عليه الذم، لأن في ظاهره حقيقة النهي من قوله: " لا تفعل "
كما أن في ظاهر خلافه ومقابله في الكلام حقيقة الأمر إذا قال له: " افعل "
137

لكنني عدلت عن الظاهر لدلالة عقلية أوجبت علي العدول، كما يوجب
الدلالة على المرور مع الظاهر عند عدم الدليل الصارف عنه، وهي ما ثبت من
عصمة الأنبياء عليهم السلام التي تنبئ عن اجتنابهم الآثام، وإذا كان الاتفاق
حاصلا على أن أبا بكر لم يكن معصوما كعصمة الأنبياء عليهم السلام وجب
أن يجري كلام الله تعالى فيما ضمنه من قصته على ظاهر النهي وحقيقته وقبح
الحال التي كان عليها فتوجه النهي إليه عن استدامتها، إذ لا صارف يصرف عن
ذلك من عصمته ولا خبر عن الله سبحانه فيه ولا عن رسوله صلى الله عليه وآله
فقد بطل ما أورده الخياط - وهو في الحقيقة رئيس المعتزلة - وبان وهي اعتماده.
ويكشف عن صحة ما ذكرناه ما تقدم به مشايخنا رحمهم الله وهو: أن الله
سبحانه لم ينزل السكينة قط على نبيه صلى الله عليه وآله في موطن كان معه فيه
أحد من أهل الإيمان إلا عمهم بنزول السكينة وشملهم بها، بذلك جاء
القرآن، قال الله سبحانه: " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلن تغن عنكم
شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله
سكينته على رسوله وعلى المؤمنين " ولما لم يكن مع النبي صلى الله عليه وآله في
الغار إلا أبو بكر أفرد الله سبحانه نبيه بالسكينة دونه وخصه بها ولم يشركه معه،
فقال عز اسمه: " فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها " فلو كان الرجل
مؤمنا لجرى مجرى المؤمنين في عموم السكينة لهم.
ولولا أنه أحدث بحزنه في الغار منكرا لأجله توجه النهي إليه عن استدامته
لما حرمه الله تعالى من السكينة ما تفضل به على غيره من المؤمنين الذين كانوا
مع رسول الله صلى الله عليه وآله في المواطن الأخر على ما جاء في القرآن ونطق به
محكم الذكر بالبيان، وهذا بين لمن تأمله.
قال الشيخ أيده الله: وقد حير هذا الكلام جماعة من الناصبة وضيق
صدورهم فتشعبوا واختلفوا في الحيلة في التخلص منه، فما أعتمد منهم أحد إلا
138

على ما يدل على ضعف عقله وسخف رأيه وضلاله عن الطريق، فقال قوم منهم:
إن السكينة إنما نزلت على أبي بكر، واعتلوا في ذلك بأنه كان خائفا رعبا،
ورسول الله صلى الله عليه وآله كان آمنا مطمئنا، قالوا: والآمن غني عن
السكينة، وإنما يحتاج الخائف الوجل.
قال الشيخ أيده الله: فيقال لهم: قد جنيتم بجهلكم على أنفسكم بطعنكم
في كتاب الله بهذا الضعيف الواهي من استدلالكم، وذلك أنه لو كان
ما اعتللتم به صحيحا لوجب أن لا تكون السكينة نزلت على رسول الله صلى الله
عليه وآله في يوم بدر ولا في يوم حنين، لأنه لم يك صلى الله عليه وآله في هذين
الموضعين خائفا ولا جزعا، بل كان آمنا مطمئنا متيقنا بكون الفتح له، وأن الله
تعالى يظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وفيما نطق به القرآن من تنزيل
السكينة عليه ما يدمر على هذا الاعتلال.
فإن قلتم: إن النبي صلى الله عليه وآله كان في هذين المقامين خائفا وإن
لم يبد خوفه فلذلك نزلت السكينة عليه فيهما وحملتم أنفسكم على هذه الدعوى،
قلنا لكم: وهذه كانت قصته صلى الله عليه وآله في الغار، فلم تدفعون ذلك؟.
فإن قلتم: إنه - صلى الله عليه وآله - قد كان محتاجا إلى السكينة في كل حال
لينتفي عنه الخوف والجزع ولا يتعلقان به في شئ من الأحوال، نقضتم ما سلف
لكم من الاعتلال وشهدتم ببطلان مقالكم الذي قدمناه. على أن نص التلاوة
يدل على خلاف ما ذكرتموه، وذلك أن الله سبحانه قال: " فأنزل الله سكينته
عليه وأيده. بجنود لم تروها " فأنبأ الله عز وجل خلقه أن الذي نزلت عليه
السكينة هو المؤيد بالملائكة، وإذا كانت " الهاء " التي في التأييد تدل على
ما دلت عليه " الهاء " التي في نزول السكينة، وكانت " هاء " الكناية من مبتدأ
قوله: " إلا تنصروه فقد نصره الله " إلى قوله: " وأيده بجنود لم تروها " عن مكنى
واحد ولم يجز أن تكون عن اثنين غيرين، كما لا يجوز أن يقول القائل: لقيت
139

زيدا فأكرمته وكلمته، فيكون الكلام لزيد بهاء الكناية ويكون الكرامة لعمرو
أو خالد أو بكر، وإذا كان المؤيد بالملائكة رسول الله صلى الله عليه وآله باتفاق
الأمة، فقد ثبت أن الذي نزلت عليه السكينة هو خاصة دون صاحبه. وهذا
ما لا شبهة فيه.
وقال قوم منهم: إن السكينة وإن اختص بها النبي صلى الله عليه وآله
فليس يدل ذلك على نقص الرجل، لأن السكينة إنما يحتاج إليها الرئيس
المتبوع دون التابع.
فيقال لهم: هذا رد على الله سبحانه، لأنه قد أنزلها على الأتباع المرؤوسين
ببدر وحنين وغيرهما من المقامات، فيجب على ما أصلتموه أن يكون الله سبحانه
فعل بهم ما لم يكن بهم الحاجة إليه، ولو فعل ذلك لكان عابثا، تعالى الله عما
يقول المبطلون علوا كبيرا!.
قال الشيخ أدام الله عزه: وها هنا شبهة يمكن إيرادها هي أقوى مما تقدم،
غير أن القوم لم يهتدوا إليها، وأظن أنها خطرت ببال أحد منهم، وهو أن يقول
قائل: قد وجدنا الله سبحانه ذكر شيئين، ثم عبر عن أحدهما بالكناية، فكانت
الكناية عنهما معا دون أن يختص بأحدهما، وهو مثل قوله سبحانه: " والذين
يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله " فأورد لفظ الكناية عن
الفضة خاصة وإنما أرادهما جميعا معا، وقد قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والأمر مختلف
وإنما أراد نحن بما عندنا راضون وأنت راض بما عندك، فذكر أحد الأمرين
فاستغنى عن الآخر، كذلك يقول سبحانه: " فأنزل الله سكينته عليه "
ويريدهما جميعا دون أحدهما.
والجواب عن هذا وبالله التوفيق أن الاختصار بالكناية على أحد
المذكورين دون عموم الجميع مجاز واستعارة، واستعمله أهل اللسان في مواضع
140

مخصوصة، وجاء به القرآن في أماكن محصورة، وقد ثبت أن الاستعارة ليست
بأصل يجري في الكلام، ولا يصح عليها القياس، وليس يجوز لنا أن نعدل عن
ظواهر القرآن وحقيقة الكلام إلا بدليل يلجئ إلى ذلك، ولا دليل في قوله
تعالى: " فأنزل الله سكينته عليه " فنتعدى من أجله المكنى عنه إلى غيره.
وشئ آخر: وهو أن العرب إنما تستعمل ذلك إذا كان المعنى فيه معروفا
والالتباس عنه مرتفعا، فتكتفي بلفظ الواحد عن الاثنين للاختصار ولأمانها من
وقوع الشبهة والارتياب، فأما إذا لم يكن الشئ معروفا وكان الالتباس عند
أفراده متوهما لم يستعمل ذلك، ومن استعمله كان عندهم ملغزا معميا، ألا ترى
أن الله سبحانه لما قال: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها " علم
كل سامع للخطاب أنه أرادهما معا مع ما قدمه من كراهة كنزهما المانع من
إنفاقهما؟ فلما عم الشيئين بذكر ينتظمهما في ظاهر المقال بما يدل على معنى
ما أخره من ذكر الإنفاق اكتفى بذكر أحدهما للاختصار.
وكذلك قوله تعالى: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " وإنما اكتفى
بالكناية عن أحدهما في ذكرهما معا لما قدمه في ذكرهما من دليل ما تضمنه
الدلالة، فقال تعالى: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ". فأوقع الرؤية على
الشيئين جميعا، وجعلهما سببا للاشتغال بما وقعت عليه منهما عن ذكر الله
سبحانه والصلاة، وليس يجوز أن يقع الالتباس في أنه أراد أحدهما مع ما قدم
من الذكر، إذ لو أراد ذلك لخلا الكلام عن الفائدة المعقولة، وكان العلم
بذلك يجزي في الإشارة إليه.
وكذلك قوله سبحانه: " والله ورسوله أحق أن يرضوه " لما تقدم ذكر الله
تعالى على التفصيل وذكر رسوله صلى الله عليه وآله على البيان، دل على أن
الحق في الرضا لهما جميعا، وإلا لم يكن ذكرهما جميعا معا يفيد شيئا على الحد
الذي قدمناه.
141

وكذلك قول الشاعر: " وأنت بما عندك راض والأمر مختلف " لو لم يتقدمه
قبله " نحن بما عندنا " لم يجز الاقتصار على الثاني، لأنه لو حمل الأول على إسقاط
المضمر من قوله: " راضون " لخلا من الفائدة، فلما كان سائر ما ذكرناه معلوما
عند من عقل الخطاب جاز الاقتصار فيه على أحد المذكورين للايجاز
والاختصار.
وليس كذلك قوله تعالى: " فأنزل الله سكينته عليه " لأن الكلام يتم فيها
وينتظم في وقوع الكناية عن النبي صلى الله عليه وآله خاصة دون الكائن معه
في الغار، ولا يفتقر إلى رد " الهاء " عليهما معا مع كونهما في الحقيقة كناية عن
واحد في الذكر وظاهر اللسان، ولو أرادها للجميع لحصل الالتباس والتعمية
والألغاز، لأنه كما يكون اللبس واقعا عند دليل الكلام على انتظامهما للجميع
متى أريد بها الواحد مع عدم الفائدة لو لم يرجع على الجميع كذلك يكون
التلبيس حاصلا إذا أريد بها الجميع عند عدم الدليل الموجب لذلك، وكمال
الفائدة مع الاقتصار على الواحد في المراد، ألا ترى أن قائلا لو قال: " لقيت
زيدا ومعه عمرو فخاطبت زيدا وناظرته " وأراد بذلك مناظرة الجميع لكان
ملغزا معميا؟ لأنه لم يكن في كلامه ما يفتقر إلى عموم الكناية عنهما.
ولو جعل هذا نظير الآيات التي تقدمت لكان جاهلا بفرق ما بينها وبينه
مما شرحناه، فتعلم أنه لا نسبة بين الأمرين.
وشئ آخر: وهو أنه سبحانه كنى بالهاء التالية للهاء التي في السكينة عن
النبي صلى الله عليه وآله خاصة، فلم يجز أن يكون أراد بالأولة غير النبي
صلى الله عليه وآله لأنه لا يعقل في لسان القوم كناية عن مذكورين بلفظ
واحد، وكناية ترد فيها على النسق عن واحد من الاثنين، وليس لذلك نظير في
القرآن ولا في الأشعار ولا في شئ من الكلام فلما كانت " الهاء " في قوله تعالى:
" وأيده بجنود لم تروها " كناية عن النبي صلى الله عليه وآله بالاتفاق، ثبت
142

أن التي قبلها من قوله: " فأنزل الله سكينته عليه " كناية عنه صلى الله عليه
وآله خاصة، وبان مفارقة ذلك لجميع ما تقدم ذكره من الآي والشعر الذي
استشهد. والله الموفق للصواب (1).
(71)
المفيد مع من يذهب مذهب الكرابيسي
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه قال: قال له رجل من أصحاب الحديث
ممن يذهب إلى مذهب الكرابيسي: ما رأيت أجسر من الشيعة فيما يدعونه من
المحال، وذلك أنهم زعموا أن قول الله عز وجل: " إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين
عليهم السلام مع ما في ظاهر الآية أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وآله
وذلك أنك إذا تأملت الآية من أولها إلى آخرها وجدتها منتظمة لذكر الأزواج
خاصة، ولن تجد لمن ادعوها له ذكرا.
قال الشيخ أدام الله عزه: أجسر الناس على ارتكاب الباطل وأبهتهم
وأشدهم إنكارا للحق وأجهلهم من قام مقامك في هذا الاحتجاج ودفع ما عليه
الإجماع والاتفاق، وذلك: أنه لا خلاف بين الأمة أن الآية من القرآن قد تأتي
وأولها في شئ وآخرها في غيره ووسطها في معنى وأولها في سواه، وليس طريق
الاتفاق في المعنى إحاطة وصف الكلام في الآتي، فقد نقل الموافق والمخالف أن
هذه الآية نزلت في بيت أم سلمة - رضي الله عنها - ورسول الله صلى الله عليه
وآله في البيت ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وقد جللهم
بعباء خيبرية، وقال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي " فأنزل الله عز وجل عليه " إنما
يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " فتلاها

(1) البحار: ج 10 ص 418 - 424.
143

رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله
ألست من أهل بيتك؟ فقال لها: " إنك إلى خير " ولم يقل لها: " إنك من أهل
بيتي " حتى روى أصحاب الحديث أن عمر سئل عن هذه الآية، قال: سلوا
عنها عائشة، فقالت عائشة: إنها نزلت في بيت أختي أم سلمة، فسلوها عنها،
فإنها أعلم بها مني، فلم يختلف أصحاب الحديث من الناصبة وأصحاب
الحديث من الشيعة في خصوصها فيمن عددناه.
وحمل القرآن في التأويل على ما جاء به الأثر أولى من حمله على الظن
والترجيم، مع أن الله سبحانه قد دل على صحة ذلك بمتضمن هذه الآية حيث
يقول: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا "
وإذهاب الرجس لا يكون إلا بالعصمة من الذنوب، لأن الذنوب من أرجس
الرجس، والخبر عن الإرادة ها هنا إنما هو خبر عن وقوع الفعل خاصة دون
الإرادة التي يكون بها لفظ الأمر أمرا، لا سيما على ما أذهب إليه في وصف القديم
بالإرادة وافترق بين الخبر عن الإرادة هاهنا والخبر عن الإرادة في قوله سبحانه:
" يريد الله ليبين لكم " وقوله: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " إذ
لو جرت مجرى واحدا لم يكن لتخصيص أهل البيت بها معنى، إذ الإرادة التي
يقتضي الخبر والبيان يعم الخلق كلهم على وجهها في التفسير ومعناها، فلما
خص الله تبارك وتعالى أهل البيت عليهم السلام بإرادة ذهاب الرجس عنهم
دل على ما وصفناه من وقوع إذهابه عنهم، وذلك موجب للعصمة على
ما ذكرناه.
وفي الاتفاق على ارتفاع العصمة عن الأزواج دليل على بطلان مقال من
زعم أنها فيهن.
مع أن من عرف شيئا من اللسان وأصله لم يرتكب هذا القول ولا توهم
صحته، وذلك: أنه لا خلاف بين أهل العربية أن جمع المذكر بالميم وجمع
144

المؤنث بالنون، وأن الفصل بينهما بهاتين العلامتين، ولا يجوز في لغة القوم وضع
علامة المؤنث على المذكر ولا وضع علامة المذكر على المؤنث، ولا استعملوا ذلك
في الحقيقة والمجاز، ولما وجدنا الله سبحانه قد بدأ في هذه الآية بخطاب النساء
وأورد علامة جمعهن من النون في خطابهن، فقال: " يا نساء النبي لستن كأحد
من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض " إلى قوله:
" وأطعن الله ورسوله " ثم عدل الكلام عنهن بعد هذا الفصل إلى جمع المذكر،
فقال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا "
فلما جاء بالميم وأسقط النون علمنا أنه لم يتوجه هذه القول إلى المذكور الأول بما
بيناه من أصل العربية وحقيقتها، ثم رجع بعد ذلك إلى الأزواج، فقال:
" واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا ".
فدل بذلك على إفراد من ذكرناه من آل محمد عليهم السلام بما علقه عليهم
من حكم الطهارة الموجبة للعصمة وجليل الفضيلة.
وليس يمكنكم معشر المخالفين أن تدعوا أنه كان في الأزواج مذكورا رجل
غير النساء أو ذكر ليس برجل، فيصح التعلق منكم بتغليب المذكر على المؤنث إذ
كان في الجمع ذكر، وإذا لم يمكن ادعاء ذلك وبطل أن يتوجه إلى الأزواج،
فلا غير لهن توجهت إليه إلا من ذكرناه ممن جاء فيه الأثر على ما بيناه (1).
(72)
المفيد يستدل على الإمامة
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه أيضا في الدلالة على أن أمير المؤمنين صلوات
الله عليه وتسليمه لم يبايع أبا بكر قال الشيخ: قد اجتمعت الأمة على أن
أمير المؤمنين عليه السلام تأخر عن بيعة أبي بكر، فالمقلل يقول: كان تأخره

(1) البحار: ج 10 ص 424 - 427.
145

ثلاثة أيام، ومنهم من يقول: تأخر حتى ماتت فاطمة عليها السلام ثم بايع بعد
موتها، ومنهم من يقول: تأخر أربعين يوما، ومنهم من يقول: تأخر ستة أشهر،
والمحققون من أهل الإمامة يقولون: لم يبايع ساعة قط، فقد حصل الإجماع على
تأخره عن البيعة، ثم اختلفوا في بيعته بعد ذلك على ما قدمنا به الشرح.
فما يدل على أنه لم يبايع البتة: أنه ليس يخلو تأخره من أن يكون هدى
وتركه ضلالا، أو يكون ضلالا وتركه هدى وصوابا، أو يكون صوابا وتركه
صوابا، أو يكون خطأ وتركه خطأ.
فلو كان التأخر ضلالا وباطلا لكان أمير المؤمنين عليه السلام قد ضل بعد
النبي صلى الله عليه وآله بترك الهدى الذي كان يجب عليه المصير إليه، وقد
أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يقع منه ضلال بد النبي صلى
الله عليه وآله في طول زمان أبي بكر وأيام عمرو عثمان وصدرا من أيامه حتى
خالفت الخوارج عند التحكيم وفارقت الأمة، فبطل أن يكون تأخره عن بيعة
أبي بكر ضلالا.
وإن كان تأخره هدى وصوابا وتركه خطأ وضلالا، فليس يجوز أن يعدل
عن الصواب إلى الخطأ ولا عن الهدى إلى الضلال، ولا سيما والإجماع واقع على
أنه لم يظهر منه ضلال في أيام الثلاثة الذين تقدموا
عليه.
ومحال أو يكون التأخر خطأ وتركه خطأ، للإجماع على بطلان ذلك
أيضا، ولما يوجبه القياس من فساد هذا المقال.
وليس يصح أن يكون صوابا وتركه صوابا، لأن الحق لا يكون في جهتين
ولا على وصفين متضادين، ولأن القوم المخالفين لنا في هذه المسألة مجمعون على أنه
لم يكن إشكال في جوار الاختيار وصحة إمامة أبي بكر، وإنما الناس بين
قائلين: قائل من الشيعة يقول: إن إمامة أبي بكر كانت فاسدة فلا يصح القول
146

بها أبدا، وقائل من الناصبة يقول: إنها كانت صحيحة ولم يكن على أحد ريب
في صوابها، إذ جهة استحقاق الإمامة هو ظاهر العدالة والنسب والعلم والقدرة
على القيام بالأمور، ولم تكن هذه الأمور ملتبسة على أحد في أبي بكر عندهم،
وعلى ما يذهبون إليه فلا يصح مع ذلك أن يكون المتأخر عن بيعته مصيبا أبدا،
لا أنه لا يكون متأخرا لفقد الدليل، بل لا يكون متأخرا لشبهة، وإنما يتأخر إذا
ثبت أنه تأخر للعناد.
فثبت بما بيناه أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يبايع أبا بكر على شئ من
الوجوه، كما ذكرناه وقدمناه.
وقد كانت الناصبة غافلة عن هذا الاستخراج مع موافقتها على أن
أمير المؤمنين عليه السلام تأخر عن البيعة وقتا ما، ولو فطنت له لسبقت بالخلاف
فيه عن الإجماع، وما أبعد أنهم سيرتكبون ذلك إذا وقفوا على هذا الكلام، غير
أن الإجماع السابق لمرتكب ذلك يحجه ويسقط قوله، فيهون قصته، ولا يحتاج
معه إلى الإكثار. (1)
(73)
ابن عباس مع عمر بن الخطاب
قال (عمر) لعبد الله بن عباس يوما: يا عبد الله، ما تقول في منع قومكم
منكم؟ قال: لا أعلم يا أمير المؤمنين، قال: اللهم غفرا! إن قومكم كرهوا أن
تجتمع لكم النبوة والخلافة، فتذهبون في السماء بذخا وشمخا. لعلكم تقولون:
إن أبا بكر أراد الإمرة عليكم وهضمكم، كلا! لكنه حضره أمر لم يكن عنده
أحزم مما فعل، و لولا رأي أبي بكر في بعد موته لأعاد أمركم إليكم، ولو فعل

(1) البحار: ج 10، ص 427، والفصول المختارة: ص 39 ط المؤتمر.
147

ما هنأكم مع قومكم! إنهم لينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره. (1)
(74)
ابن عباس مع عمر
عن ابن عباس، قال: مر عمر بعلي وعنده ابن عباس بفناء داره، فسلم،
فسألاه أين تريد؟ فقال: مالي بينبع، قال علي: أفلا نصل جناحك ونقوم
معك؟ فقال: بلى، فقال لابن عباس: قم معه، قال: فشبك أصابعه في
أصابعي ومضى حتى إذا خلفنا البقيع، قال: يا ابن عباس، أما والله، أن
صاحبك هذا أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله، إلا أنا خفناه على اثنتين،
قال ابن عباس: فجاء بمنطق لم أجد بدأ معه من مسألته عنه، فقلت:
يا أمير المؤمنين، ماهما؟ قال: خشيناه على حداثة سنه وحبه بني عبد المطلب (2).
(75)
ابن عباس وعمر
عن ابن عباس رحمه الله تعالى قال: تفرق الناس ليلة الجابية عن عمر،
فسار كل واحد مع إلفه، ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته،
فشكا إلي تخلف علي عنه، فقلت: ألم يعتذر إليك؟ قال: بلى، فقلت: هو
ما اعتذر به؟ قال: يا ابن عباس، إن أول من ريثكم عن هذا الأمر أبو بكر، إن
قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة، قلت: لم ذاك يا أمير المؤمنين؟ ألم
ننلهم خيرا؟ قال: بلى، ولكنهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفا جحفا (3).

(1) ابن أبي الحديد: ج 2 ص 189. والبحار: ج 8 ص 292 ط الكمباني.
(2) ابن أبي الحديد: ج 2 ص 57.
(3) ابن أبي الحديد: ج 2 ص 58.
148

(76)
ابن عباس وعمر
كان عبد الله بن عباس عند عمر، فتنفس عمر نفسا عاليا، قال ابن عباس:
حتى ظننت أن أضلاعه قد انفرجت! فقلت له: ما أخرج هذا النفس منك
يا أمير المؤمنين إلا هم شديد، قال: إي والله يا ابن عباس! إني فكرت فلم أدر
فيمن أجعل هذا الأمر بعدي. ثم قال: لعلك ترى صاحبك لها أهلا! قلت:
وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه؟ قال: صدقت، ولكنه
امرؤ فيه دعابة، قلت: فأين أنت من طلحة؟ قال: هو ذو البأو بإصبعه
المقطوعة، قلت: فعبد الرحمن؟ قال: رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع
خاتمه بيد امرأته، قلت: فالزبير؟ قال شكس لقس يلاطم في البقيع في صاع
من بر، قلت: فسعد ابن أبي وقاص؟ قال: صاحب مقنب وسلاح، قلت:
فعثمان؟ قال: أوه! أوه! مرارا، ثم قال: والله لئن وليها ليحملن بني أبي
معيط على رقاب الناس ثم لتنهضن إليه العرب فتقتله.
ثم قال: يا ابن عباس، إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا حصيف العقدة قليل
الغرة لا تأخذه في الله لومة لائم، يكون شديدا من غير عنف، لينا من غير
ضعف، جوادا من غير سرف، ممسكا من غير وكف. قال ابن عباس: وكانت
هذه صفات عمر، ثم أقبل علي فقال: إن أحراهم أن يحملهم على كتاب
ربهم وسنة نبيهم لصاحبك! والله لئن وليها ليحملنهم على المحجة البيضاء
والصراط المستقيم (1).

(1) ابن أبي الحديد: ج 6 ص 326، وج 12 ص 51 - 52 / 142.
149

(77)
ابن عباس وعمر
روى ابن عباس - رض - قال: دخلت على عمر في أول خلافته... قال من
أين جئت يا عبد الله؟ قلت: من المسجد، قال: كيف خلفت ابن عمك؟
فظننته يعني عبد الله بن جعفر، قلت: خلفته يلعب مع أترابه، قال: لم أعن
ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت، قلت: خلفته يمتح بالغرب على
نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن.
قال: يا عبد الله! عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفسه شئ من
أمر الخلافة؟... قلت: نعم، وأزيدك، سألت أبي عما يدعيه، فقال: صدق.
فقال عمر: لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله في أمره ذرو من
قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا، ولقد كان يربع في أمره وقتا ما، ولقد أراد في
مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا وحيطة على الإسلام! لا ورب
هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا، ولو وليها لانتفضت عليه العرب من
أقطارها، فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله أني علمت ما في نفسه فأمسك،
وأبى الله إلا إمضاء ما حتم (1).
(78)
ابن عباس وعمر
روى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات عن عبد الله بن عباس، قال: إني
لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة، إذ قال لي: يا ابن عباس،

(1) ابن أبي الحديد: ج 12 ص 21 - 22 عن تاريخ بغداد والبحار: ج 8 ص 266 ط الكمباني عنه
وص 292 عنه وعن تاريخ بغداد.
150

ما أرى صاحبك إلا مظلوما! فقلت في نفسي: والله لا يسبقني بها، فقلت:
يا أمير المؤمنين، فاردد إليه ظلامته، فانتزع يده من يدي ومضى يهمهم ساعة، ثم
وقف، فلحقته، فقال: يا ابن عباس، ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره
قومه، فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى، فقلت: والله ما استصغره الله
ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك، فأعرض عني وأسرع، فرجعت
عنه (1).
(79)
ابن عباس وعمر
عن عبد الله بن عباس قال: خرجت أريد عمر بن الخطاب فلقيته راكبا
حمارا وقد ارتسنه بحبل أسود في رجليه نعلان مخصوفتان.... قال: يا ابن عباس،
إن صاحبكم إن ولي هذا الأمر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به، فليتني أراكم
بعدي!
قلت: يا أمير المؤمنين، إن صاحبنا ما قد علمت أنه ما غير ولا بدل ولا أسخط
رسول الله صلى الله عليه وآله أيام صحبته له.
قال: فقطع علي الكلام، فقال: ولا في ابنة أبي جهل لما أراد أن يخطبها
على فاطمة عليها السلام؟ قلت: قال الله تعالى: " ولم نجد له عزما " وصاحبنا لم
يعزم على سخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الخواطر التي لا يقدر
أحد على دفعها عن نفسه، وربما كان من الفقيه في دين الله العالم العامل
بأمر الله.
فقال: يا ابن عباس، من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ

(1) ابن أبي الحديد: ج 12 ص 46، وفي الهامش: عن الرياض النضرة: ج 2 ص 173. وفي ج 6
ص 45. والبحار: ج 40 ص 125
151

قعرها فقد ظن عجزا! أستغفر الله لي ولك، خذ في غيرها (1).
(80)
عبد الله بن عباس وعمر
روى عبد الله بن عمر قال: كنت عند أبي يوما وعنده نفر من الناس،
فجرى ذكر الشعر، فقال: من أشعر العرب؟ فقالوا: فلان وفلان، فطلع
عبد الله بن عباس فسلم وجلس. فقال عمر: قد جاءكم الخبير، من أشعر
الناس يا عبد الله؟ قال: زهير بن أبي سلمى. قال: فأنشدني مما تستجيده له،
فقال: يا أمير المؤمنين، إنه مدح قوما من غطفان يقال لهم بنو سنان، فقال:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم * قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم * طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا * مرزؤون بهاليل إذا جهدوا
محسدون على ما كان من نعم * لا ينزع الله منهم ما له حسدوا
فقال عمر: والله لقد أحسن، وما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من
هاشم، لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله فقال ابن عباس:
وفقك الله يا أمير المؤمنين، فلم تزل موفقا.
فقال: يا ابن عباس! أتدري ما منع الناس منكم؟ قال: لا يا أمير المؤمنين،
قال: لكني أدري، قال: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: كرهت قريش أن تجتمع
لكم النبوة والخلافة فيجخفوا جخفا، فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت
فأصابت.
فقال ابن عباس: أيميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع؟ قال: قل ما تشاء.
قال: أما قول أمير المؤمنين: " إن قريشا كرهت " فإن الله تعالى قال لقوم:

(1) ابن أبي الحديد: ج 12 ص 50 - 51. وج 6 ص 50.
152

" ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ".
وأما قولك: " إنا كنا نجخف " فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة، ولكنا
قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال الله تعالى:
" وإنك لعلى خلق عظيم " وقال له: " واخفض جناحك لمن اتبعك من
المؤمنين ".
وأما قولك: " فإن قريشا اختارت " فإن الله تعالى يقول: " وربك يخلق
ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " وقد علمت يا أمير المؤمنين! إن الله اختار من
خلقه لذلك من اختار فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها وفقت وأصابت
قريش.
فقال عمر: على رسلك يا ابن عباس، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في
أمر قريش لا يزول وحقدا عليها لا يحول.
فقال ابن عباس: مهلا يا أمير المؤمنين! لا تنسب هاشما إلى الغش، فإن
قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله وزكاه، وهم أهل البيت الذين قال
الله تعالى لهم: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا ".
وأما قولك: " حقدا " فكيف لا يحقد من غصب شيئه ويراه في يد غيره؟.
فقال عمر: أما أنت يا بن عباس! فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك
به فتزول منزلتك عندي. قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ أخبرني به، فإن يك
باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه، وإن يك حقا فإن منزلتي عندك لا تزول
به.
قال: بلغني أنك لا تزال تقول: أخذ هذا الأمر منك حسدا وظلما.
قال: أما قولك يا أمير المؤمنين: " حسدا " فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من
الجنة، فنحن بنو آدم المحسود. وأما قولك: " ظلما " فأمير المؤمنين يعلم صاحب
153

الحق من هو.
ثم قال: يا أمير المؤمنين، ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله؟
واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله صلى الله عليه وآله؟
فنحن أحق برسول الله من سائر قريش.
فقال له عمر: قم الآن فارجع إلى منزلك. فقام، فلما ولى هتف به عمر
أيها المنصرف، إني على ما كان منك لراع حقك، فالتفت ابن عباس، فقال:
إن لي عليك - يا أمير المؤمنين - وعلى كل المسلمين حقا برسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فمن حفظه فحق نفسه حفظ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع، ثم
مضى.
فقال عمر لجلسائه واها لابن عباس! ما رأيته لاحى أحدا قط إلا
خصمه (1).
(81)
ابن عباس وعمر
روي عن ابن عباس أيضا قال: " دخلت على عمر يوما، فقال: يا ابن العباس،
لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء! قلت: ومن هو؟ فقال:
هذا ابن عمك، يعني عليا، قلت: وما يقصد بالرياء يا أمير المؤمنين؟ قال: يرشح
نفسه بين الناس للخلافة. قلت: وما يصنع بالترشيح؟ فقد رشحه لها رسول الله
صلى الله عليه وآله فصرفت عنه. قال: إنه كان شابا حدثا فاستصغرت
العرب سنه وقد كمل الآن، ألم تعلم أن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا بعد
الأربعين؟. قلت: يا أمير المؤمنين، أما أهل الحجى والنهى فإنهم ما زالوا يعدونه

(1) ابن أبي الحديد: ج 12 ص 52 - 54. والإيضاح: ص 169 - 170. والبحار ج 8 ط الكمباني
ص 292 عن ابن الأثير وابن أبي الحديد.
154

كاملا منذ رفع الله منار الإسلام، ولكنهم يعدونه محروما مجدودا. فقال: أما إنه
سيليها بعد هياط ومياط، ثم تزل فيها قدمه ولا يقضي منها إربه، ولتكونن شاهدا
ذلك يا عبد الله، ثم يتبين الصبح لذي عينين، وتعلم العرب صحة رأي
المهاجرين الأولين الذين صرفوها عنه بادئ بدء، فليتني أراكم بعدي
يا عبد الله، إن الحرص محرمة وإن دنياك كظلك كلما هممت به ازداد عنك
بعدا (1).
(82)
ابن عباس وعمر
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة
وعمر على بغل وأنا على فرس، فقرأ آية فيها ذكر علي بن أبي طالب
عليه السلام فقال: أم والله يا بني عبد المطلب، لقد كان صاحبكم أولى بهذا الأمر
مني ومن أبي بكر. فقلت في نفسي: لا أقالني الله إن أقلتك، فقلت: أنت تقول
ذلك يا أمير المؤمنين، وأنت وصاحبك اللذان وثبتما وانتزعتما (وانتزعتم خ ل) منا
الأمر دون الناس! فقال: إليكم يا بني عبد المطلب! أما إنكم أصحاب عمر بن
الخطاب، فتأخرت وتقدم هنيئة، فقال: سر لا سرت، فقال: أعد علي كلامك
فقلت: إنما شيئا فرددت جوابه، ولو سكت سكتنا.
فقال: والله إنا ما فعلنا ما فعلنا عداوة، ولكن استصغرناه وخشينا أن
لا تجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها، فأردت أن أقول: كان رسول الله
صلى الله عليه وآله بيعته في الكتيبة فينطح كبشها فلم يستصغره، فتستصغره
أنت وصاحبك! فقام لا جرم، فكيف ترى؟ والله ما نقطع أمرا دونه ولا نعمل
شيئا حتى نستأذنه (2).

(1) ابن أبي الحديد: ج 12 ص 80 - 81.
(2) البحار: ج 8 ص 209 ط الكمباني عن شف.
155

(83)
ابن عباس وعثمان
نزل عثمان من المنبر - بعد أن خطب في جواب المعترضين عليه في بناء داره
بالمدينة وكلامه مع أمير المؤمنين - فأتى منزله، وأتاه الناس وفيهم ابن عباس، فلما
أخذوا مجالسهم أقبل على ابن عباس، فقال: ما لي ولكم يا ابن عباس؟
ما غراكم بي وأولعكم بتعقب أمري! أتنقمون علي أمر العامة؟ أتيت من وراء
حقوقهم أم أمركم؟ فقد جعلتهم يتمنون منزلتكم. لا والله، لكن الحسد والبغي
وتثوير الشر وإحياء الفتن، والله لقد ألقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلي
ذلك، وأخبرني به عن أهله واحدا واحدا، والله ما كذبت ولا أنا بمكذوب.
فقال ابن عباس: على رسلك يا أمير المؤمنين، فوالله ما عهدتك جهرا بسرك
ولا مظهرا ما في نفسك، فما الذي هيجك وثورك؟ إنا لم يولعنا بك أمر ولم
نتعقب أمرك بشئ أتيت بالكذب وتسوق عليك بالباطل، والله ما نقمنا
عليك لنا ولا للعامة قد أوتيت من وراء حقوقنا وحقوقهم وقضيت ما يلزمك لنا
ولهم. فأما الحسد والبغي وتثوير الفتن وإحياء الشر فمتى رضيت به عترة النبي
وأهل بيته؟ وكيف وهم منه وإليه؟ على دين الله يتثورون الشر، أم على الله
يحبون الفتن؟ كلا، ليس البغي ولا الحسد من طباعهم، فاتئد يا أمير المؤمنين
وأبصر أمرك وأمسك عليك، فإن حالتك الأولى خير من حالتك الأخرى،
لعمري إن كنت لأثيرا عند رسول الله وإن كان ليفضي إليك بسره ما يطويه
عن غيرك، ولا كذبت ولا أنت بمكذوب، اخس الشيطان عنك لا يركبك،
وأغلب غضبك ولا يغلبك، فما دعاك إلى هذا الأمر الذي كان منك؟
قال: دعاني إليه ابن عمك علي بن أبي طالب! فقال ابن عباس: وعسى
أن يكذب مبلغك، قال عثمان: إنه ثقة، قال ابن عباس: إنه ليس بثقة من
156

بلغ وأغرى، قال عثمان: يا ابن عباس، آلله إنك ما تعلم من علي ما شكوت
منه؟ قال: اللهم لا، إلا أن يقول كما يقول الناس وينقم كما ينقمون، فمن
أغراك به وأولعك بذكره دونهم؟ فقال عثمان: إنما آفتي من أعظم الداء الذي
ينصب نفسه لرأس الأمر، وهو علي ابن عمك وهذا والله كله من نكده
وشؤمه! قال ابن عباس: مهلا، استثن يا أمير المؤمنين، قل: إن شاء الله، فقال:
إن شاء الله.
ثم قال: إني أنشدك يا ابن عباس الإسلام والرحم، فقد غلبت وابتليت
بكم، والله لوددت أن هذا الأمر كان صار إليكم دوني فحملتموه عني وكنت
أحد أعوانكم عليه، إذا والله لوجدتموني لكم خيرا مما وجدتكم لي، ولقد
علمت أن الأمر لكم ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم، فوالله
ما أدري أدفعوه عنكم أم دفعوكم عنه؟.
قال ابن عباس: مهلا يا أمير المؤمنين، فإنا ننشدك الله والإسلام والرحم
مثل ما نشدتنا أن تطمع فينا وفيك عدوا وتشمت بنا وبك حسودا، إن أمرك
إليك ما كان قولا، فإذا صار فعلا فليس إليك ولا في يديك، وإنا والله
لنخالفن إن خولفنا ولننازعن إن نوزعنا وما تمنيك أن يكون الأمر صار إلينا
دونك إلا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس ويعيب كما عابوا. فأما صرف قومنا
عنا الأمر فعن حسد قد والله عرفته، وبغي قد والله علمته، فالله بيننا وبين
قومنا. وأما قولك: إنك لا تدري أدفعوه عنا أم دفعونا عنه فلعمري إنك
لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الأمر ما زدنا به فضلا إلى فضلنا ولا قدرا إلى قدرنا،
وإنا لأهل الفضل وأهل القدر، وما فضل فاضل إلا بفضلنا، ولا سبق سابق إلا
بسبقنا، ولولا هدينا ما اهتدى أحد ولا أبصروا من عمى ولا قصدوا من جور.
فقال عثمان: حتى متى يا ابن عباس يأتيني عنكم ما يأتيني؟ هبوني كنت
بعيدا، أما كان لي من الحق عليكم أن أراقب وأن أناظر؟ بلى ورب الكعبة!
157

ولكن الفرقة سهلت لكم القول في وتقدمت بكم إلى الإسراع إلي. والله
المستعان.
قال ابن عباس: مهلا حتى ألقى عليا ثم أحمل إليك على قدر ما رأى.
قال عثمان: أفعل فقد فعلت، وطالما طلبت فلا أطلب، ولا أجاب
ولا أعتب... (1).
(84)
ابن عباس وعثمان
روى الزبير بن بكار أيضا في الموفقيات عن ابن عباس - رحمه الله - قال:
خرجت من منزلي سحرا أسابق إلى المسجد وأطلب الفضيلة، فسمعت خلفي
حسا وكلاما فتسمعته، فإذا حس عثمان وهو يدعو ولا يرى أن أحدا يسمعه،
ويقول: اللهم قد تعلم نيتي فأعني عليهم وتعلم الذين ابتليت بهم من ذوي رحمي
وقرابتي، فأصلحني لهم وأصلحهم لي.
قال: فقصرت من خطوتي وأسرع في مشيته، فالتقينا، فسلم فرددت عليه
، فقال: إني خرجت ليلتنا هذه أطلب الفضل والمسابقة إلى المسجد، فقلت:
إنه أخرجني ما أخرجك. فقال: والله لئن سابقت إلى الخير إنك لمن سابقين
مباركين، وإني لأحبكم وأتقرب إلى الله بحبكم. فقلت: يرحمك الله
يا أمير المؤمنين، إنا لنحبك ونعرف سابقتك وسنك وقرابتك وصهرك. قال:
يا ابن عباس، فما لي ولابن عمك وابن خالي؟ قلت: أي بني عمومتي وبني
أخوالك؟ قال: اللهم اغفر، أتسأل مسألة الجاهل؟ قلت: إن بني عمومتي من
بني خؤلتك كثير، فأيهم تعني؟ قال: أعني عليا لا غيره. فقلت: لا والله
يا أمير المؤمنين، ما أعلم منه إلا خيرا، ولا أعرف له إلا حسنا. قال: والله

(1) ابن أبي الحديد: ج 9 ص 8 - 10 عن الموفقيات للزبير بن بكار.
158

بالحري أن يستر دونك ما يظهره لغيرك ويقبض عنك ما ينبسط به إلى سواك.
قال: ورمينا بعمار بن ياسر، فسلم، فرددت عليه سلامه. ثم قال: من
معك؟ قلت: أمير المؤمنين عثمان. قال: نعم، وسلم بكنيته ولم يسلم عليه
بالخلافة، فرد عليه. ثم قال عمار: ما الذي كنتم فيه؟ فقد سمعت ذروا منه،
قلت: هو ما سمعت، فقال عمار: رب مظلوم غافل وظالم متجاهل! قال
عثمان: أما إنك من شنائنا وأتباعهم، وأيم الله إن اليد عليك لمنبسطة وإن
السبيل إليك لسهلة، ولولا إيثار العافية ولم الشعث لزجرتك زجرة تكفي
ما مضى وتمنع ما بقي.
فقال عمار: والله! ما أعتذر من حبي عليا، وما اليد بمنبسطة ولا السبيل
بسهلة، إني لازم حجة ومقيم على سنة، وأما إيثارك العافية ولم الشعث فلازم
ذلك، وأما زجري فأمسك عنه، فقد كفاك معلمي تعليمي.
فقال عثمان: أما والله إنك ما علمت من أعوان الشر الحاضين عليه،
الخذلة عند الخير والمثبطين عنه.
فقال عمار: مهلا يا عثمان! فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يصفني بغير ذلك.
قال عثمان: ومتى؟ قال: دخلت يوم دخلت عليه منصرفه عن الجمعة
وليس عنده غيرك، وقد ألقى ثيابه وقعد في فضله، فقبلت صدره ونحره وجبهته
فقال: " يا عمار، إنك لتحبنا وإنا لنحبك، وإنك لمن الأعوان على الخير المثبطين
عن الشر " فقال عثمان: أجل، ولكنك غيرت وبدلت. قال: فرفع عمار يده
يدعو، وقال أمن يا بن عباس! اللهم من غير فغير به، ثلاث مرات... (1).

(1) ابن أبي الحديد: ج 9 ص 10 - 11.
159

(85)
ابن عباس وعثمان
روى الزبير أيضا في الموفقيات عن ابن عباس - رحمه الله - قال صليت
العصر يوما ثم خرجت فإذا أنا بعثمان بن عفان في أيام خلافته في بعض أزقة
المدينة وحده! فأتيته إجلالا وتوقيرا لمكانه. فقال لي: هل رأيت عليا؟ قلت:
خلقته في المسجد، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله. قال: أما منزله فليس فيه
فابغه لنا في المسجد.
فتوجهنا إلى المسجد وإذا علي عليه السلام يخرج منه. قال ابن عباس: وقد
كنت أمس ذلك اليوم عند علي، فذكر عثمان وتجرمه عليه، وقال: أما والله
يا ابن عباس، إن من دوائه لقطع كلامه وترك لقائه، فقلت له: يرحمك الله،
كيف لك بهذا؟ فإن تركته ثم أرسل إليك فما أنت صانع؟ قال: أعتل وأعتل
فمن يقسرني؟ قال: لا أحد.
قال ابن عباس: فلما تراءينا له وهو خارج من المسجد ظهر منه من
التفلت والطلب للانصراف ما استبان لعثمان، فنظر إلي عثمان وقال: يا بن
عباس، أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا؟ فقلت: ولم؟ وحقك ألزم وهو بالفضل
أعلم. فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام فرد عليه. فقال عثمان: إن تدخل
فإياك أردنا وإن تمض فإياك طلبنا. فقال علي: أي ذلك أحببت. قال:
تدخل، فدخلا، وأخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة فقصر عنها وجلس
قبالتها، فجلس عثمان إلى جانبه، فنكصت عنهما، فدعواني جميعا فأتيتهما، فحمد
عثمان الله وأثنى عليه وصلى على رسوله، ثم قال:
أما بعد، يا بني خالي وابني عمي، فإذ جمعتكما في النداء فسأجمعكما في
الشكاية عن رضاي على أحدكما ووجدي على الآخر، إني أستعذركما من
160

أنفسكما وأسألكما فيئتكما وأستوهبكما رجعتكما، فوالله لو غالبني الناس
ما انتصرت إلا بكما، ولو تهضموني ما تعززت إلا بكما، ولقد طال هذا الأمر بيننا
حتى تخوفت أن يجوز قدره ويعظم الخطر فيه، ولقد هاجني العدو عليكما
وأغراني بكما، فمنعني الله والرحم مما أراد، وقد خلونا في مسجد رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وإلى جانب قبره، وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما في
وما تنطويان لي عليه وتصدقا، فإن الصدق أنجى وأسلم وأستغفر الله لي ولكما.
قال ابن عباس: فأطرق علي عليه السلام وأطرقت معه طويلا. أما أنا
فأجللته أن أتكلم قبله، وأما هو فأراد أن أجيب عني وعنه. ثم قلت له أتتكلم
أم أتكلم أنا عنه؟ قال: بل تكلم عني وعنك.
فحمدت الله وأثنيت عليه وصليت على رسوله، ثم قلت:
أما بعد، يا بن عمنا وعمتنا، فقد سمعنا كلامك لنا وخلطك في الشكاية بيننا
على رضاك - زعمت - عن أحدنا ووجدك على الآخر، وسنفعل في ذلك فنذمك
ونحمدك اقتداء منك بفعلك فينا، فإنا نذم مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه
بلا ثقة إلا ظنا، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك، ثم نستعذرك من
نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا، ونستوهبك فيئتك استيهابك إيانا فيئتنا،
ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا، فإنا معا أيما حمدت وذممت منا كمثلك
في أمر نفسك، ليس بيننا فرق ولا اختلاف، بل كلانا شريك صاحبه في رأيه
وقوله، فوالله ما تعلمنا غير معذرين فيما بيننا وبينك، ولا تعرفنا غير قانتين
عليك، ولا تجدنا غير راجعين إليك، فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من
أنفسنا.
وأما قولك: لو غالبتني الناس ما انتصرت إلا بكما أو تهضموني ما تعززت إلا
بعزكما، فأين بنا وبك عن ذلك؟ ونحن وأنت كما قال أخو كنانة:
بدا بحتر ما رام نال وإن يرم * نخض دونه غمرا من الغر رائمه
161

لنا ولهم منا ومنهم على العدى * مراتب عز مصعدات سلالمه
وأما قولك في هيج العدو وإياك علينا وإغرائه لك بنا، فوالله ما أتاك
العدو من ذلك شيئا إلا وقد أتانا بأعظم منه فمنعنا مما أراد ما منعك من مراقبة
الله والرحم. وما أبقيت أنت ونحن إلا على أدياننا وأعراضنا ومروءاتنا. ولقد
لعمري طال بنا وبك هذا الأمر حتى تخوفنا منه على أنفسنا وراقبنا منه
ما راقبت.
وأما مساءلتك إيانا عن رأينا فيك وما ننظوي عليه لك، فإنا نخبرك أن
ذلك إلى ما تحب لا يعلم واحد منا من صاحبه إلا ذلك ولا يقبل منه غيره،
وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به وقد برأت أحدنا وزكيته وأنطقت
الآخر وأسكته، وليس السقيم منا مما كرهت بأنطق من البرئ فيما ذكرت،
ولا البرئ منا مما سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت، فإما جمعتنا في الرضا،
وإما جمعتنا في السخط، لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع
بالصاع. فقد أعلمناك رأينا وأظهرنا لك ذات أنفسنا وصدقناك، والصدق كما
ذكرت أنجى وأسلم فأجب إلى ما دعوت إليه، وأجلل عن النقض والغدر
مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وموضع قبره، وأصدق تنج وتسلم.
ونستغفر الله لنا ولك... (1).
(86)
ابن عباس ومعاوية
روى المدائني أيضا قال: وفد عبد الله بن عباس على معاوية مرة، فقال
معاوية لابنه يزيد ولزياد بن سمية وعتبة ابن أبي سفيان ومروان بن الحكم
وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسعيد بن العاص و عبد الرحمن ابن أم

(1) ابن أبي الحديد: ج 9 ص 18 - 20.
162

الحكم: إنه قد طال العهد بعبد الله بن عباس وما كان شجر بيننا وبينه وبين
ابن عمه، ولقد كان نصبه للتحكيم فدفع عنه، فحركوه على الكلام لنبلغ حقيقة
صفته، ونقف على كنه معرفته، ونعرف ما صرف عنا من شبا حده وزوي عنا
من دهاء رأيه، فربما وصف المرء بغير ما هو فيه وأعطي من النعت والاسم
ما لا يستحقه.
ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس، فلما دخل واستقر به المجلس ابتدأه ابن أبي
سفيان، فقال: يا ابن عباس، ما منع عليا أن يوجه بك حكما؟ فقال: أما والله
لو فعل لقرن عمرا بصعبة من الإبل يوجع كفه مراسها، ولأذهلت عقله،
وأجرضته بريقه، وقدحت في سويداء قلبه، فلم يبرم أمرا ولم ينفض ترابا إلا
كنت منه بمرأى ومسمع، فإن أنكأه أدميت قواه، وإن أدمه فصمت عراه بغرب
مقول لا يفل حده، وأصالة رأي كمتاح الأجل لا وزر منه، أصدع به أديمه،
وأفل به شباحده، وأشحذ به عزائم المتقين، وأزيح به شبه الشاكين.
فقال عمرو بن العاص: هذا والله - يا أمير المؤمنين - نجوم أول الشر وأفول آخر
الخير، وفي حسمه قطع مادته، فبادره بالحملة، وانتهز منه الفرصة، واردع
بالتنكيل به غيره، وشرد به من خلفه.
فقال ابن عباس: يا ابن النابغة، ضل والله عقلك، وسفه حلمك، ونطق
الشيطان على لسانك، هلا توليت ذلك بنفسك يوم صفين، حين دعيت نزال
وتكافح الأبطال وكثرت الجراح وتقصفت الرماح، وبرزت إلى أمير المؤمنين
مصاولا فانكفأ نحوك بالسيف حاملا، فلما رأيت الكواشر من الموت أعددت
حيلة السلامة قبل لقائه والانكفاء عنه بعد إجابة لقائه فمنحته - رجاء النجاة -
عورتك! وكشفت له خوف بأسه سوأتك! حذرا أن يصطلمك بسطوته ويلتهمك
بحملته، ثم أشرت على معاوية كالناصح له بمبارزته وحسنت له التعرض
لمكافحته، رجاء أن تكتفي مؤنته وتعدم صورته، فعلم غل صدرك وما انحنت
163

عليه من النفاق أضلعك، وعرف مقر سهمك في غرضك.
فاكفف غرب لسانك، واقمع عوراء لفظك، فإنك لمن أسد خادر وبحر
زاخر، إن تبرزت للأسد افترسك، وإن عمت في البحر قمسك.
فقال مروان بن الحكم: يا ابن عباس، إنك لتصرف أنيابك وتوري نارك
كأنك ترجو الغلبة وتؤمل العافية، ولولا حلم أمير المؤمنين عنكم لتناولكم
بأقصر أنامله، فأوردكم منهلا بعيدا صدره، ولعمري لئن سطا بكم ليأخذن
بعض حقه منكم، ولئن عفا عن جرائركم فقديما ما نسب إلى ذلك.
فقال ابن عباس: وإنك لتقول ذلك يا عدو الله، وطريد رسول الله،
والمباح دمه، والداخل بين عثمان ورعيته بما حملهم على قطع أوداجه وركوب
أثباجه! أما والله لو طلب معاوية ثأره لأخذك به، ولو نظر في أمر عثمان
لوجدك أولة وآخره.
وأما قولك لي: إنك لتصرف أنيابك وتوري نارك، فسل معاوية وعمرا
يخبراك ليلة الهرير كيف ثباتنا للمثلاث، واستخفافنا بالمعضلات، وصدق
جلادنا عند المصاولة، وصبرنا على اللاواء والمطاولة، ومصافحتنا بجباهنا
السيوف المرهفة، ومباشرتنا بنحورنا حد الأسنة! هل خمنا عن كرائم تلك
المواقف؟ أم لم نبذل مهجنا للمتالف؟ وليس لك إذ ذاك فيها مقام محمود،
ولا يوم مشهود، ولا أثر معدود، وإنهما شهدا ما لو شهدت لأقلقك، فأربع على
ضلعك، ولا تتعرض لما ليس لك، فإنك كالمغروز في صفد لا يهبط برجل
ولا يرقى بيد.
فقال زياد: يا ابن عباس، إني لأعلم ما منع حسنا وحسينا من الوفود معك
على أمير المؤمنين، إلا ما سولت لهما أنفسهما، وغرهما به من هو عند البأس
سلمهما، وأيم الله لو وليتهما لأدأبا في الرحلة إلى أمير المؤمنين أنفسهما ولقل
بمكانهما لبثهما.
164

فقال ابن عباس: إذا والله يقصر دونهما باعك ويضيق بهما ذراعك، ولو
رمت ذلك لوجدت من دونهما فئة صدقا صبرا على البلاء يخيمون عن اللقاء،
فلعركوك بكلاكلهم، ووطؤوك بمناسمهم، وأوجروك مشق رماحهم وشفار
سيوفهم ووخز أسنتهم، حتى تشهد بسوء ما أتيت، وتتبين ضياع الحزم فيما
جنيت، فحذار حذار من سوء النية، فتكافأ برد الأمنية، وتكون سببا لفساد
هذين الحيين بعد صلاحهما، وسعيا في اختلافهما بعد ائتلافهما، حيث
لا يضرهما إبساسك ولا يغني عنهما إيناسك.
فقال عبد الرحمن ابن أم الحكم: لله در ابن ملجم! فقد بلغ الأمل، وأمن
الوجل، وأحد الشفرة وألان المهرة، وأدرك الثأر، ونفى العار، وفاز بالمنزلة
العليا، ورقى الدرجة القصوى.
فقال ابن عباس: أما والله لقد كرع كأس حتفه بيده، وعجل الله إلى
النار بروحه، ولو أبدى لأمير المؤمنين صفحته لخالطه الفحل القطم والسيف
الخذم ولألعقه صابا، وسقاه سما، وألحقه بالوليد وعتبة وحنظلة، فكلهم كان
أشد منه شكيمة، وأمضى عزيمة، ففرى السيف هامهم ورملهم بدمائهم،
وقرى الذئاب أشلاءهم، وفرق بينهم وبين أحبائهم " أولئك حصب جهنم
هم لها واردون " فهل " تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا " ولا غرو إن
ختل، ولا وصمة إن قتل، فأنا لكما قال دريد بن الصمة:
فإنا للحم السيف غير مكره * ونلحمه طورا وليس بذي نكر
يغار علينا واترين فيشتفى * بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
فقال المغيرة بن شعبة: أما والله لقد أشرت على علي بالنصيحة فآثر رأيه
ومضى على غلوائه، فكانت العاقبة عليه، لا له، وإني لأحسب أن خلفه
يقتدون بمنهجه.
فقال ابن عباس: كان والله أمير المؤمنين عليه السلام أعلم بوجوه الرأي
165

ومعاقد الحزم وتصريف الأمور من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله تعالى وعنف
عليه، قال سبحانه: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله
ورسوله " إلى آخر الآية، ولقد وقفك على ذكر مبين وآية متلوة قوله تعالى: " وما
كنت متخذ المضلين عضدا " وهل كان يسوغ له أن يحكم في دماء المسلمين
وفئ المؤمنين من ليس بمأمون عنده ولا موثوق به في نفسه، هيهات! هيهات! هو
أعلم بفرض الله وسنة رسوله أن يبطن خلاف ما يظهر إلا للتقية، ولات حين
تقية مع وضوح الحق وثبوت الجنان وكثرة الأنصار، يمضي كالسيف المصلت في
أمر الله، مؤثرا لطاعة ربه والتقوى على آراء أهل الدنيا.
فقال يزيد بن معاوية: يا ابن عباس، إنك لتنطلق بلسان طلق تنبئ عن
مكنون قلب حرق، فاطو ما أنت عليه كشحا، فقد محي ضوء حقنا ظلمة
باطلكم.
فقال ابن عباس: مهلا يزيد! فوالله ما صفت القلوب لكم منذ تكدرت
بالعداوة عليكم، ولا دنت بالمحبة إليكم مذ نأت بالبغضاء عنك، ولا رضيت
اليوم منكم ما سخطت الأمس من أفعالكم، وإن تدل الأيام نستقض ما سد عنا
ونسترجع ما ابتز منا كيلا بكيل ووزنا بوزن، وإن تكن الأخرى فكفى بالله وليا
لنا ووكيلا على المعتدين علينا.
فقال معاوية: إن في نفسي منكم لحزازات يا بني هاشم! وإني لخليق أن
أدرك فيكم الثار وأنفي العار، فإن دماءنا قبلكم وظلا متنا فيكم.
فقال ابن عباس: والله إن رمت ذلك يا معاوية لتثيرن عليك أسدا مخدرة
وأفاعي مطرقة، لا يفثؤها كثرة السلاح، ولا يعضها نكاية الجراح، يضعون
أسيافهم على عواتقهم، يضربون قدما قدما من ناوأهم، يهون عليهم نباح
الكلاب وعواء الذئاب، لا يفاتون بوتر، ولا يسبقون إلى كريم ذكر، قد وطنوا
على الموت أنفسهم وسمت بهم إلى العلياء هممهم كما قالت الأزدية:
166

قوم إذا شهدوا الهياج فلا * ضرب ينهنههم ولا زجر
وكأنهم آساد غينة قد * غرثت وبل متونها القطر
فلتكونن منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك وكان أكبر همك
سلامة حشاشة نفسك، ولولا طغام من أهل الشام وقوك بأنفسهم وبذلوا
دونك مهجهم حتى إذا ذاقوا وخز الشفار وأيقنوا بحلول الدمار رفعوا المصاحف
مستجيرين بها وعائذين بعصمتها، لكنت شلوا مطروحا بالعراء تسفي عليك
رياحها ويعتورك ذبابها.
وما أقول هذا أريد صرفك عن عزيمتك، ولا إزالتك عن معقود نيتك، لكن
الرحم التي تعطف عليك والأوامر التي توجب صرف النصيحة إليك.
فقال: معاوية لله درك يا ابن عباس! ما تكشف الأيام منك إلا عن سيف
صقيل ورأي أصيل، وبالله لو لم يلد هاشم غيرك لما نقص عددهم، ولو لم يكن
لأهلك سواك لكان الله قد كثرهم.
ثم نهض، فقام ابن عباس وانصرف (1).
(87)
ابن عباس وعتبة بن أبي سفيان
قال عمرو بن العاص لعتبة ابن أبي سفيان يوم الحكمين: أما ترى ابن
عباس قد فتح عينيه ونشر أذنيه؟ ولو قدر أن يتكلم بهما فعل! وإن غفلة
أصحابه لمجبورة بفطنته، وهي ساعتنا الطولى فاكفنيه. قال عتبة: بجهدي.
قال: فقمت فقعدت إلى جانبه، فلما أخذ القوم في الكلام أقبلت عليه
بالحديث فقرع يدي وقال: ليست ساعة حديث، قال: فأظهرت غضبا وقلت:
يا ابن عباس، إن ثقتك بأحلامنا أسرعت بك إلى أعراضنا، وقد والله تقدم.

(1) ابن أبي الحديد: ج 6 ص 298 - 303. والبحار: ج 42 ص 166 عنه.
167

من قبل العذر وكثر منا الصبر، ثم أقذعته فجاش لي مرجله وارتفعت أصواتنا،
فجاء القوم فأخذوا بأيدينا فنحوه عني ونحوني عنه، فجئت فقربت من عمرو بن
العاص، فرماني بمؤخر عينيه، أي ما صنعت؟ فقلت: كفيتك التقوالة، فحمحم
كما يحمحم الفرس للشعير. قال: وفات ابن عباس أول الكلام، فكره أن
يتكلم في آخره (1).
قال عكرمة: كنا جلوسا عند ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما فمر طائر
يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال ابن عباس: لا خير ولا شر [قال
كعب لابن عباس: ما تقول في الطيرة؟ قال: وما عسيت أن أقول فيها: لا طير إلا
طير الله، ولا خير إلا خير الله، ولا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال
كعب: إن هذه الكلمات في كتاب الله المنزل، يعني التوراة] (2).
(88)
ابن عباس وعائشة
بعث علي عبد الله بن عباس إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة.
قال: فأتيتها فدخلت عليها، فلم يوضع لي شئ أجلس عليه، فتناولت وسادة
كانت في رحلها فقعدت عليها، فقالت: با ابن عباس، أخطأت السنة قعدت
على وسادتنا في بيتنا بغير إذننا! فقلت: ليس هذا بيتك الذي أمرك الله أن
تقري فيه، ولو كان بيتك ما قعدت على وسادتك إلا بإذنك.
ثم قلت: إن أمير المؤمنين أرسلني إليك يأمرك بالرحيل إلى المدينة، فقالت:

(1) ابن أبي الحديد: ج 6 ص 303 - 304. ونقل ج 2 ص 261 هذه القصة بينه وبين عبد الرحمان بن
خالد، وسيأتي.
(2) عيون الأخبار لابن قتيبة: ج 1 ص 146.
168

وأين أمير المؤمنين؟ ذاك عمر! فقلت: عمر وعلي، قالت: أبيت، قلت: أما
والله ما كان أبوك إلا قصير المدة عظيم المشقة قليل المنفعة ظاهر الشؤم بين
النكد، وما عسى أن يكون أبوك.! والله ما كان أمرك إلا كحلب شاة حتى
صرت لا تأمرين ولا تنهين ولا تأخذين ولا تعطين، وما كنت إلا كما قال أخو
بني أسد:
ما زال إهداء الصغائر بيننا * نث الحديث وكثرة الألقاب
حتى نزلت كأن صوتك بينهم * في كل نائبة طنين ذباب
قال: فبكت حتى سمع نحيبها من وراء الحجاب. ثم قالت: إني معجلة
الرحيل إلى بلادي إن شاء الله تعالى والله ما من بلد أبغض إلي من بلد أنتم
فيه! قلت: ولم ذلك؟ فوالله لقد جعلناك للمؤمنين أما وجعلنا أباك صديقا.
قالت: يا ابن عباس، أتمن علي برسول لله؟ قلت: ما لي لا أمن عليك بمن لو
كان منك لمننت به علي!.
ثم أتيت عليا عليه السلام فأخبرته بقولها وقولي فسر بذلك وقال لي: " ذرية
بعضها من بعض والله سميع عليم " وفي رواية: أنا كنت أعلم بك حيث
بعثتك (1).
(89)
ابن عباس ومعاوية
قال المدائني: قال معاوية لابن عباس: أنتم يا بني هاشم تصابون في
أبصاركم! فقال عبد الله: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم! وقال له
معاوية: ما أبين الشبق في رجالكم! فقال: هو في نسائكم أبين! (2).

(1) ابن أبي الحديد: ج 6 ص 229. وسيأتي عن الكشي رحمه الله
(2) عيون الأخبار لابن قتيبة: ج 2 ص 210.
169

(90)
ابن عباس ورجل
خطب رجل إلى ابن عباس يتيمة له، فقال ابن عباس: لا أرضاها لك،
قال: ولم وفي حجرك نشأت؟ قال لأنها تتشرف وتنظر، قال: وما هذا، فقال
ابن عباس: الآن لا أرضاك لها (1).
(91) بنو هاشم ومعاوية
روى الهيثم عن ابن عياش عن الشعبي: قال: أقبل معاوية ذات يوم على
بني هاشم، فقال: يا بني هاشم، ألا تحدثوني عن ادعائكم الخلافة دون
قريش. بم تكون لكم؟ أبالرضا بكم، أم بالاجتماع عليكم دون القرابة، أم
بالقرابة دون الجماعة، أم بهما جميعا؟ فإن كان هذا الأمر بالرضا والجماعة دون
القرابة فلا أرى القرابة أثبتت حقا ولا أسست ملكا. وإن كان بالقرابة دون
الجماعة والرضا فما منع العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وارثه
وساقي الحجيج وضامن الأيتام أن يطلبها وقد ضمن له أبو سفيان بني
عبد مناف؟ وإن كانت الخلافة بالرضا والجماعة والقرابة جميعا فإن القرابة
خصلة من خصال الإمامة لا تكون الإمامة بها وحدها وأنتم تدعونها بها وحدها.
ولكنا نقول: أحق قريش بها من بسط الناس أيديهم إليه بالبيعة عليها ونقلوا
أقدامهم إليه للرغبة وطارت إليه أهواؤهم للثقة وقاتل عنها بحقها فأدركها من
وجهها. إن أمركم لأمر تضيق به الصدور إذا سألتم عمن اجتمع عليه من
غيركم قلتم حق، فإن كانوا اجتمعوا على حق فقد أخرجكم الحق من دعواكم.

(1) عيون الأخبار لابن قتيبة: ج 4 ص 16.
170

انظروا، فإن كان القوم أخذوا حقكم فاطلبوهم، وإن كانوا أخذوا حقهم
فسلموا إليهم، فإنه لا ينفعكم أن تروا لأنفسكم ما لا يراه الناس لكم.
فقال ابن عباس: ندعي هذا الأمر بحق من لولا حقه لم تقعد مقعدك هذا.
ونقول: كان ترك الناس أن يرضوا بنا ويجتمعوا علينا حقا ضيعوه وحظا
حرموه، وقد اجتمعوا على ذي فضل لم يخطئ الورد والصدر، ولا ينقص فضل
ذي فضل فضل غيره عليه، قال الله عز وجل " ويؤت كل ذي فضل فضله ".
فأما الذي منعنا من طلب هذا الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فعهد منه إلينا قبلنا فيه قوله ودنا بتأويله، ولو أمرنا أن نأخذه على الوجه
الذي نهانا عنه لأخذناه أو أعذرنا فيه، ولا يعاب أحد على ترك حقه، إنما المعيب
من يطلب ما ليس له، وكل صواب نافع وليس كل خطأ ضارا. انتهت القضية
إلى داود وسليمان فلم يفهمها داود وفهمها سليمان، ولم يضر داود.
فأما القرابة: فقد نفعت المشرك وهي للمؤمن أنفع، قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: " أنت عمي وصنو أبي، ومن أبغض العباس فقد أبغضني،
وهجرتك آخر الهجرة، كما أن نبوتي آخر النبوة " وقال لأبي طالب عند موته:
" يا عم، قل لا إله إلا الله أشفع لك بها غدا " وليس ذلك لأحد من الناس،
قال الله تعالى: " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم
الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا
أليما " (1).
(92)
ابن عباس ومعاوية
حدثني أحد الهاشميين أن ملك الروم وجه إلى معاوية بقارورة، فقال:

(1) عيون الأخبار لابن قتيبة: ج 1 ص 5.
171

ابعث إلى فيها من كل شئ، فبعث إلى ابن عباس، فقال: لتملأ له ماءا. فلما
ورد بها على ملك الروم قال: لله أبوه ما أدهاه! فقيل لابن عباس: كيف
اخترت ذلك؟ قال: لقول الله عز وجل: " وجعلنا من الماء كل شئ حي " (1).
(93)
ابن عباس والخوارج
ذكر أهل العلم من غير وجه: أن عليا رضي الله تعالى عنه لما وجه إليهم
عبد الله بن عباس رحمة الله عليه ليناظرهم، قال لهم: ما الذي نقمتم على
أمير المؤمنين " قالوا: قد كان للمؤمنين أميرا، فلما حكم في دين الله خرج من
الإيمان فليتب بعد إقراره بالكفر نعدله، فقال ابن عباس: لا ينبغي لمؤمن لم
يشب إيمانه شك أن يقر على نفسه بالكفر. قالوا: إنه قد حكم، قال: إن الله
عز وجل: قد أمرنا بالتحكيم في قتل صيد، فقال عز وجل: " يحكم به ذوا عدل
منكم " فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين؟ فقالوا: إنه قد حكم عليه
فلم يرض، فقال: إن الحكومة كالإمامة ومتى فسق الإمام وجبت معصيته،
وكذلك الحكمان لما خالفا نبذت أقاويلهما فقال بعضهم لبعض: لا تجعلوا
احتجاج قريش حجة عليكم، فإن هذا من القوم الذين قال الله عز وجل فيهم:
" بل هم قوم خصمون " وقال عز وجل: " وتنذر به قوما لدا " (2).
(94)
ابن عباس والخوارج
وجه (أمير المؤمنين عليه السلام) إليهم عبد الله بن العباس، فلما صار إليهم
رحبوا به وأكرموه، فرأى منهم جباها قرحة لطول السجود وأيديا كثفنات الإبل

(1) الكامل للمبرد: ج 1 ص 308.
(2) الكامل للمبرد: ج 2 ص 106 وابن أبي الحديد: ج 2 ص 273.
172

عليهم قمص مرخصة وهم مشمرون.
فقالوا: ما جاء بك يا أبا العباس؟ فقال: جئتكم من عند صهر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وابن عمه، وأعلمنا بربه وسنة نبيه ومن عند المهاجرين
والأنصار. قالوا: إنا أتينا عظيما حين حكمنا الرجال في دين الله، فإن تاب
كما تبنا ونهض لمجاهدة عدونا رجعنا.
فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتكم أنفسكم، أما علمتم أن الله أمر
بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل
وامرأته؟ فقالوا: اللهم نعم.
فقال: أنشدكم الله هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك
عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية؟ قالوا: نعم، ولكن عليا محا نفسه
من إمارة المسلمين. قال ابن عباس: ليس ذلك بمزيلها عنه، وقد محا رسول الله
صلى الله عليه وآله اسمه من النبوة، وقد أخذ علي على الحكمين أن لا يجورا
وأن يحورا، فعلي أولى من معاوية وغيره.
قالوا: إن معاوية يدعي مثل دعوى علي. قال: فأيهم رأيتموه أولى فولوه.
قالوا: صدقت. قال ابن عباس: متى جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول
لقولهما. قال: فأتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف (1).
(95)
ابن عباس والخوارج
أقول: قصة مجادلة ابن عباس مع الخوارج بأمر من أمير المؤمنين عليه السلام
توجد في الطبري: ج 6 ص 3351. وأنساب الأشراف: ج 1
ص 348 - 354 - 360. وابن أبي الحديد: ج 2 ص 273 - - 278 - 310. واليعقوبي:

(1) الكامل للمبرد: ج 2 ص 134.
173

ج 2 ص 180 والطبقات لابن سعد: ج 3 ص 21 القسم الأول. والمناقب
للخوارزمي ص 184. ولا بأس بنقل المهم من صورها:
قال البلاذري: حدثني عبد الله بن صالح، عن يحيى بن آدم، عن رجل،
عن مجالد عن الشعبي، قال: بعث علي عبد الله بن عباس إلى الحرورية، فقال:
يا قوم، ماذا نقمتم على أمير المؤمنين؟ قالوا: ثلاثا: حكم الرجال في دين الله،
وقاتل فلم يسب ولم يغنم، ومحا من اسمه حين كتبوا القضية أمير المؤمنين واقتصر
على اسمه. فقال عبد الله بن عباس:
أما قولكم: حكم الرجال فإن الله قد صير حكمه إلى الرجال في أرنب
ثمنه ربع درهم وما أشبه ذلك يصيبه المحرم، وفي المرأة وزوجها، فنشدتكم الله
أحكم الرجال في بضع المرأة وأرنب بربع درهم أفضل أم حكمه في صلاح
المسلمين وحقن دمائهم؟ قالوا: بل هذا.
قال: وأما قولكم: [قاتل] ولم يسب ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة بنت
أبي بكر الصديق؟ قالوا: لا.
قال: وأما قولكم: محا من اسمه إمرة المؤمنين، فإن المشركين يوم الحديبية
قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: لو علمنا أنك رسول الله لم نقاتلك، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: امح يا علي واكتب محمد بن عبد الله،
ورسول الله خير من علي.
فرجع منهم ألفان (1).
(96)
ابن عباس والخوارج
وقال: وبعث عبد الله بن عباس إلى الخوارج وهم معتزلون بحروراء وبها

(1) أنساب الأشراف: ج 2 ص 360.
174

سموا الحرورية، فقال: أخبروني ماذا نقمتم من الحكمين وقال الله في
الشقاق: " فابعثوا حكما من أهله " (1) وقال في كفارة الصيد يصيبه المحرم: " يحكم
به ذوا عدل منكم " (2)؟
قالوا: ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم، وأما
ما حكم به وأمضاه في الشرائع والسنن والعزائم فليس للعباد أن ينظروا فيه، ألا
ترى أن الحكم (3) في الزاني والسارق والمرتد وأهل البغي مما
لا ينظر العباد فيه ولا يتعقبونه. وقالوا: إن الله يقول: " يحكم به ذوا عدل
منك " فعمرو بن العاص عدل؟ وحكم الله في معاوية وأتباعه أن يقاتلوا
ببغيهم حتى يفيئوا إلى أمر الله. فلم يجبه أحد منهم. ويقال: أجابه ألفا رجل،
ويقال: أربعة آلاف.
أقول: في هذا النقل سقط كما لا يخفى. وقد نقل الطبري (3) هذه المجادلة كما
يأتي:
قال أبو مخنف في حديثه عن أبي جناب، عن عمارة بن ربيعة، قال: ولما
قدم علي الكوفة وفارقته الخوارج وثبت إليه الشيعة، فقالوا: في أعناقنا بيعة
ثانية نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت، فقالت الخوارج: استبقتم أنتم
وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبوا
وكرهوا، وبايعتم أنتم عليا على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى. فقال
لهم زياد بن النضر: والله ما بسط علي يده فبايعناه قط إليا على كتاب الله
عز وجل وسنة نبيه ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعته فقالوا: نحن أولياء من
واليت وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى، ومن خالفه
ضال مضل.

(1) النساء: 35.
(2) المائدة: 95.
(3) " أن حكمه ": (خ ل).
(4) ج 4: ص 64.
175

وبعث علي ابن عباس إليهم حتى آتاهم، فقال: لا تعجل إلى جوابهم
وخصومتهم حتى آتيك، فخرج إليهم حتى أتاهم، فأقبلوا يكلمونه، فلم يصبر
حتى راجعهم، فقال: ما نقمتم من الحكمين وقد قال الله عز وجل: " إن يريدا
إصلاحا يوفق الله بينهما "؟ فكيف بأمة محمد صلى الله عليه [وآله] وسلم؟ فقالت
الخوارج: قلنا: أما ما جعل حكمه إلى الناس وأمر بالنظر فيه والاصلاح له فهو
إليهم كما أمر به، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني
مائة جلدة، وفي السارق بقطع يده، فليس للعباد أن ينظروا في هذا.
قال ابن عباس: فإن الله عز وجل يقول: " يحكم به ذوا عدل منكم "
فقالوا له: أو تجعل الحكم في الصيد والحدث يكون بين المرأة وزوجها كالحكم
في دماء المسلمين؟ وقالت الخوارج: قلنا له: فهذه الآية بيننا وبينك، أعدل
عندك ابن العاص وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا؟ فإن كان عدلا
فلسنا بعدول ونحن أهل حربه، وقد حكمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله
عز وجل حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا أو يرجعوا، وقبل ذلك ما دعوناهم إلى
كتاب الله عز وجل، فأبوه. ثم كتبتم بينكم وبينهم كتابا وجعلتم بينكم وبينهم
الموادعة والاستفاضة، وقد قطع الله عز وجل الاستفاضة والموادعة بين المسلمين
وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية (1).
ونقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم والعمل (2) هذه المناظرة بوجه آخر
قال: لما اجتمعت الحرورية يخرجون على علي، قال: جعل يأتيه الرجل
فيقول: يا أمير المؤمنين القوم خارجون عليك. قال: دعوهم حتى يخرجوا.
فلما كان ذات يوم قلت: يا أمير المؤمنين، أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي
القوم. قال: فدخل عليهم وهم قائلون، فإذا هم مسهمة ووجوههم من السهر وقد

(1) راجع أنساب الأشراف: ج 2 ص 348.
(2) ص 126.
176

أثر السجود في جباههم، كأن أيديهم ثفن الإبل، عليهم قمص مرخصة. فقالوا:
ما جاء بك يا ابن عباس؟ وما هذه الحلة عليك؟ قال: قلت: ما تعيبون مني؟
فلقد رأيت رسول الله أحسن ما يكون من ثياب اليمنية. قال: ثم قرأت هذه الآية
" قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " فقالوا: ما جاء
بك؟ فقال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وليس
فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وعليهم نزل
القرآن وهم أعلم بتأويله، جئت لا بلغكم عنهم وأبلغهم عنكم. قال بعضهم:
لا تخاصموا قريشا، فإن الله يقول: " بل هم قوم خصمون " فقال بعضهم: بلى
فلنكلمنه. قال: كلمني منهم رجلان أو ثلاثة.
قال: قلت: ماذا نقمتم عليه؟ قالوا: ثلاثا قلت: ما هن؟ قالوا: حكم
الرجال في أمر الله وقال الله: " إن الحكم إلا لله " قال: فقلت: هذه واحدة،
وماذا أيضا؟ قال: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فلئن كانوا مؤمنين ما حل
قتالهم، ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسبيهم. قال: قلت: وماذا أيضا؟
قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قال: قلت: أرايتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض
قولكم هذا أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع؟.
قال: قلت: أما حكم الرجال في أمر الله: فإن الله قال في كتابه: " يا أيها
الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل
من النعم يحكم به ذوا عدل منكم " وقال في المرأة وزوجها: " وإن خفتم شقاق
بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " فصير الله ذلك إلى حكم
الرجال. فنشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات
بينهم أفضل، أو في حكم أرنب ثمن ربع درهم، وفي بضع امرأة؟ قالوا: بلى
هذا أفضل. قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
177

قال: فأما قولكم: قاتل فلم يسب ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة؟! فإن
قلتم: نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست
بأمنا فقد كفرتم، فأنتم ترددون بين ضلالتين، أخرجت من هذه؟ قالوا: بلى.
قال: وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن
نبي الله يوم الحديبية حيت صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو، قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى
الله عليه وآله فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: ما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم
أنك رسول الله ما قاتلناك. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم [إنك]
تعلم أني رسولك، امح يا علي واكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله
وأبو سفيان وسهيل بن عمرو.
قال: فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم، فخرجوا فقتلوا أجمعين.
(97)
ابن عباس وعروة بن الزبير
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: تمتع النبي صلى الله عليه وآله
فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس: أراهم
سيهلكون! أقول: قال النبي صلى الله عليه وآله ويقولون: نهى أبو بكر
وعمر! (1).
(98)
ابن عباس والخوارج
عن ابن عباس: قال: اجتمعت الخوارج في دارها وهم ستة آلاف أو

(1) جامع بيان العلم وفضله: ج 2 ص 240. وراجع البحار: ج 79 ص 306 عن مكارم الأخلاق
وج 65 ص 125. وفتوح ابن أعثم: ج 4 ص 91
178

نحوها، قلت لعلي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، أبرد الصلاة لعلي ألقى هؤلاء
القوم. فقال: إني أخافهم عليك، قال: فقلت: كلا، قال: ثم لبس حلتين من
أحسن الحلل. قال: وكان ابن عباس جميلا جهيرا.
قال: فأتيت القوم، قال: فلما نظروا إلي قالوا: مرحبا بابن عباس، فما
هذه الحالة؟ قال: قلت: وما تنكرون من ذلك؟ لقد رأيت على رسول الله صلى
الله عليه وسلم حلة من أحسن الحلل، قال: ثم تلوت عليهم " قل من حرم زينة
الله التي أخرج لعباده " قالوا: فما جاء بك؟ قلت: جئتكم من عند أمير المؤمنين
ومن عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن عند المهاجرين
والأنصار لا بلغكم ما قالوا ولا بلغهم ما تقولون. فما تنقمون من علي ابن عم
رسول الله صلى الله عليه وآله وصهره؟ قال: فأقبل بعضهم على بعض،
فقال بعضهم: لا تكلموه فإن الله تعالى يقول: " بل هم قوم خصمون " وقال
بعضهم: ما يمنعهم من كلام ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يدعونا
إلى كتاب الله؟.
قالوا: ننقم عليه خلالا ثلاثا. قال: وما هن؟ قالوا: حكم الرجال في أمر
الله عز وجل، وما للرجال ولحكم الله؟ وقاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كان الذي
قاتل قد حل قتالهم فقد حل سبيهم، وإن لم يكن حل سبيهم فما حل قتالهم.
ومحا اسمه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير المشركين. قال:
فقلت لهم: غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.
قال: قلت: أرأيتم إن خرجت من هذا بكتاب الله وسنة رسوله أراجعون
أنتم؟ قالوا: وما يمنعنا؟.
قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله، فإني سمعت الله عز وجل
يقول في كتابه: " يحكم به ذوا عدل منكم " في ثمن صيد أرنب أو نحوه يكون
قيمته ربع درهم، فرد الله الحكم فيه إلى الرجال، ولو شاء أن يحكم لحكم.
179

وقال تعالى: " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن
يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإنه قاتل أمكم، وقال الله تعالى:
" النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " وإن زعمتم أنها أمكم فما
حل سباها، فأنتم بين ضلالين. أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: وأما قولكم: محا اسمه من أمير المؤمنين، فإني أنبئكم بذلك عمن
ترضون، أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الحديبية وقد
جرى الكتاب بينه وبين سهيل بن عمر وقال: يا علي اكتب: هذا ما اصطلح
محمد رسول الله وسهيل بن عمرو، فقالوا: لم نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك
ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال: اللهم إنك تعلم أني رسولك، ثم
أخذ الصحيفة فمحاها بيده، ثم قال: يا علي كتب: هذا ما صالح عليه محمد بن
عبد الله وسهيل بن عمرو، فوالله ما أخرجه الله بذلك من النبوة، أخرجت من
هذا؟ قالوا: نعم.
قال: فرجع ثلثهم، وانصرف ثلثهم، وقتل سائرهم على الضلالة كما في الطبري
وكان ذلك سنة 37 ه‍
(99)
ابن عباس ومعاوية
اجتمعت قريش الشام والحجاز عند معاوية، وفيهم عبد الله بن عباس،
وكان جريئا على معاوية حقارا له، فبلغه عنه بعض ما غمه.
فقال معاوية: رحم الله أبا سفيان والعباس كانا صفيين دون الناس،

(1) ملحقات إحقاق الحق: ج 8 ص 521 عن الخصائص للنسائي، والرياض النضرة. وقريب منه
ما في المناقب.
180

فحفظت الميت في الحي والحي في الميت، استعملك علي يا ابن عباس على
البصرة، واستعمل أخاك عبيد الله على اليمن، واستعمل أخاك [تماما] على
المدينة، فلما كان من الأمر ما كان هنأتكم بما في أيديكم ولم أكشفكم عما
وعت غرائركم، وقلت: آخذ اليوم وأعطي غدا مثله، وعلمت أن بدء اللؤم يضر
بعاقبة الكرم، ولو شئت لأخذت بحلاقيمكم وقيأتكم ما أكلتم [و] لا يزال
يبلغني عنكم ما ترك له الإبل. وذنوبكم إلينا أكثر من ذنوبنا إليكم، خذلتم
عثمان بالمدينة، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، حاربتموني بصفين، ولعمري
لبنو تيم وعدي أعظم ذنوبا من إليكم، إذ صرفوا عنكم هذا الأمر وسنوا فيكم
هذه السنة، فحتى متى أغضي الجفون على القذى وأسحب الذيول على الأذى
وأقول: لعل الله وعسى؟ ما تقول يا بن عباس؟!
قال: فتكلم ابن عباس، فقال:
رحم الله أبانا وأباك كانا صفيين متفاوضين، لم يكن لأبي من مال إلا
ما فضل لأبيك، وكان أبوك كذلك لأبي. ولكن من هنأ أباك بأخاء أبي أكثر
ممن هنأ أبي بأخاء أبيك، نصر أبي أباك في الجاهلية وحقن دمه في الإسلام.
وأما استعمال علي إيانا: فلنفسه دون هواه، وقد استعملت أنت رجالا
لهواك لا لنفسك، منهم ابن الحضرمي على البصرة فقتل، وابن بشر بن أرطاة
على اليمن فخان، وحبيب بن مرة على الحجاز فرد، والضحاك بن قيس الفهري
على الكوفة فحصب، ولو طلبت ما عندنا وقينا أعراضنا. وليس الذي يبلغك عنا.
بأعظم من الذي يبلغنا عنك، ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على مائة حسنة
لمحقها، ولو وضع أدنى عذرنا إليكم على مائة سيئة لحسنها.
وأما خذلنا عثمان: فلو لزمنا نصره لنصرناه. وأما قتلنا أنصاره يوم الجمل:
فعلى خروجهم مما دخلوا فيه. وأما حربنا إياك بصفين: فعلى تركك الحق
وادعائك الباطل. وأما إغراؤك إيانا بتيم وعدي: فلو أردناها ما غلبونا عليها.
181

وسكت.
فقال في ذلك ابن أبي لهب:
كان ابن حرب عظيم القدر في الناس * حتى رماه بما فيه ابن عباس
ما زال يهبطه طورا ويصعده * حتى استفاد وما بالحق من باس
لم يتركن خطة مما يد لله * إلا كواه بها في فروة الرأس (1)
(100)
ابن عباس ومعاوية
ابن الكلبي، قال: أقبل معاوية يوما على ابن عباس، فقال: لو وليتمونا
ما آتيتم إلينا ما آتينا إليكم من الترحيب والتقريب، وإعطائكم الجزيل
وإكرامكم على القليل، وصبري على ما صبرت عليه منكم، إني لا أريد أمرا إلا
أظمأتم صدره، ولا آتي معروفا إلا صغرتم خطره، وأعطيكم العطية فيها قضاء
حقوقكم فتأخذوها متكارهين عليها، تقولون: قد نقص الحق دون الأمل، فأي
أمل بعد ألف ألف أعطيها الرجل منكم، ثم أكون أسر بإعطائها منه
بأخذها؟ والله لئن انخدعت لكم في مالي وذللت لكم في عرضي أرى
انخداعي كرما وذلي حلما. ولو وليتمونا رضينا منكم بالانتصاف ولا نسألكم
أموالكم، لعلمنا بحالنا وحالكم ويكون أبغضها إلينا وأحبها إليكم أن
نعفيكم.
فقال ابن عباس: لو ولينا أحسنا المواساة وما ابتلينا بالأثرة ثم لم نغشم
الحي ولم نشتم الميت، ولستم بأجود منا أكفا ولا أكرم أنفسا ولا أصون لأعراض
المروءة. ونحن والله أعطى للآخرة منكم للدنيا، وأعطى في الحق منكم في
الباطل، وأعطى على التقوى منكم على الهوى، والقسم بالسوية والعدل في

(1) العقد الفريد: ج 4 ص 9 العقد الفريد: ج 2 ص 110 ط منشورات مكتبة الهلال.
182

الرعية يأتيان على المنى والأمل، ما رضاكم منا بالكفاف، فلو رضيتم [به] منا لم
ترض أنفسنا به لكم، والكفاف رضا من لا حق له. وفلا تبخلونا حتى
تسألونا، ولا تلفظونا حتى تذوقونا (1).
(101)
ابن عباس ومعاوية
أبو عثمان الحزامي، قال: اجتمعت بنو هاشم عند معاوية، فأقبل عليهم،
فقال: يا بني هاشم، والله إن خيري لكم لممنوح وإن بابي لكم لمفتوح، فلا
يقطع خيري عنكم علة ولا يوصد بابي دونكم مسألة، ولما نظرت في أمري
وأمركم رأيت أمرا مختلفا، إنكم لترون أنكم أحق بما في يدي مني، وإذا
أعطيتكم عطية فيها قضاء حقكم قلتم أعطانا دون حقنا وقصر بنا عن قدرنا،
فصرت كالمسلوب والمسلوب لأحمد له، وهذا مع إنصاف قائلكم وإسعاف
سائلكم.
قال: فأقبل على ابن عباس، فقال: والله ما منحتنا شيئا حتى سألناه
ولا فتحت لنا بابا حتى قرعناه، ولئن قطعت عنا خيرك لله أوسع منك، ولئن
أغلقت دوننا بابك لنكفن أنفسنا عنك. وأما هذا المال فليس لك منه إلا
ما لرجل من المسلمين، ولنا في كتاب الله حقان: حق في الغنيمة، وحق في
الفيئ، فالغنيمة ما غلبنا عليها والفئ ما اجتبيناه. ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك
منا زائر يحمله خف ولا حافر، أكفاك أم أزيدك؟ قال: كفاني فإنك لا تهر
ولا تنبح (2).

(1) العقد الفريد: ج 4 ص 10. العقد الفريد: ج 2 ص 111 ط مكتبة الهلال.
(2) العقد الفريد: ج 4 ص 11 ج 2 ص 111 ط مكتبة الهلال.
183

(102)
ابن عباس ومعاوية
قال يوما معاوية وعنده ابن عباس: إذا جاءت هاشم بقديمها وحديثها،
وجاءت بنو أمية بأحلامها وسياستها، وبنو أسد بن عبد العزى برفادتها ودياتها،
وبنو عبد الدار بحجابها ولوائها، وبنو مخزوم بأموالها وأفعالها، وبنو تيم بصديقها
وجوادها، وبنو عدي بفاروقها ومتفكرها، وبنو سهم بآرائها، ودهائها،
وبنو جمح بشرفها وأنوفها، وبنو عامر بن لؤي بفارسها وقريعها، فمن ذا يجلي في
مضمارها ويجري إلى غايتها؟ ما تقول يا بن عباس؟ قال:
أقول: ليس حي يفخرون بأمر إلا وإلى جنبهم من يشركهم إلا قريشا،
فإنهم يفخرون بالنبوة التي لا يشاركون فيها ولا يساوون بها ولا يدفعون عنها،
وأشهد أن الله لم يجعل محمدا من قريش إلا وقريش خير البرية ولم يجعله في بني
عبد المطلب إلا وهم خير بني هاشم، ما نريد أن نفخر عليكم إلا بما تفخرون به،
إن بنا فتح الأمر وبنا يختم، ولك ملك معجل ولنا ملك مؤجل، فإن يكن
ملككم قبل ملكنا فليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة، والعاقبة
للمتقين (1).
(103)
ابن عباس وعمرو بن العاص
أبو مخنف، قال:، حج عمرو بن العاص، فمر بعبد الله بن عباس فحسده
مكانه وما رأى من هيبة الناس له وموقعه من قلوبهم. فقال له: يا بن عباس،
ما لك إذا رأيتني وليتني القصرة وكأن بين عينيك دبرة، وإذا كنت في ملأ من

(1) العقد الفريد: ج 4 ص 12. العقد: ج 2 ص 112.
184

الناس كنت الهوهاة الهمزة؟
فقال ابن عباس: لأنك من اللئام الفجرة وقريش الكرام البررة،
لا ينطقون بباطل جهلوه ولا يكتمون حقا علموه، وهم أعظم الناس أحلاما وأرفع
الناس أعلاما، دخلت في قريش ولست منها، فأنت الساقط بين فراشين، لا في
بني هاشم رحلك ولا في بني عبد شمس راحلتك! فأنت الأثيم الزنيم الضال
المضل، حملك معاوية على رقاب الناس، فأنت تسطو بحمله (1) وتسمو بكرمه.
فقال عمرو: أما والله إني لمسرور بك، فهل ينفعني عندك؟ قال ابن
عباس: حيث مال الحق ملنا وحيث سلك قصدنا (1)
(104)
ابن عباس ومعاوية
المدائني قال: [قام] عمرو بن العاص في موسم من مواسم العرب، فأطرى
معاوية ابن أبي سفيان وبني أمية [وتناول بني هاشم] وذكر مشاهده بصفين،
واجتمعت قريش، فأقبل عبد الله بن عباس على عمرو.
فقال: يا عمرو، إنك بعت دينك من معاوية وأعطيته ما بيدك ومناك
ما بيد غيرك، وكان الذي أخذ منك أكثر من الذي أعطاك، والذي أخذت
منه دون الذي أعطيته، حتى لو كانت نفسك في يدك ألقيتها، وكل راض بما
أخذ وأعطى. فلما صارت مصر في يدك كدرها عليك بالعذل والتنقص.
[وذكرت يومك مع أبي موسى فلا أراك فخرت إلا بالغدر ولا منيت
إلا بالفجور والغش. ش] وذكرت مشاهدك بصفين، فوالله ما ثقلت علينا
يومئذ وطأتك [ولا نكأت فينا جرأتك. ش] ولقد كشفت فيها عورتك وإن
كنت فيها لطويل اللسان قصير السنان، آخر الخيل إذا أقبلت وأولها إذا

(1) " بحلمه خ ".
(2) العقد: ج 4 ص 12. العقد: ج 2 ص 112.
185

أدبرت، لك يدان: يد لا تبسطها إلى خير ويد لا تقبضها عن شر، ولسان غادر ذو
وجهين: ووجهان: وجه موحش ووجه مؤنس، ولعمري! إن من باع دينه
بدنيا غيره لحري أن يطول عليها ندمه، لك بيان وفيك خطل، ولك رأي وفيك
نكد، ولك قدر وفيك حسد، وأصغر عيب فيك أعظم عيب في غيرك.
فأجابه عمرو بن العاص: والله! ما في قريش أثقل علي مسألة ولا أمر جوابا
منك، ولو استطعت ألا أجيبك لفعلت، غير أني لم أبع ديني من معاوية ولكن
بعت الله نفسي ولم أنس نصيبي من الدنيا. وأما ما أخذت من معاوية
وأعطيته: فإنه لا تعلم العوان الخمرة. وأما ما أتى إلي معاوية في مصر: فإن
ذلك لم يغيرني له. وأما خفة وطأتي عليكم بصفين: فلم استثقلتم حياتي
واستبطأتم وفاتي؟ وأما الجبن: فقد علمت قريش أني أول من يبارز وأمر من
ينازل. وأما طول لساني: فإني كما قال هشام بن الوليد لعثمان بن عفان رضي
الله عنه:
لساني طويل فاحترس من شذاته * عليك وسيفي من لساني أطول
وأما وجهاي ولساناي: فإني ألقى كل ذي قدر بقدره وأرمي كل نابح بحجره،
فمن عرف قدره كفاني نفسه، ومن جهل قدره كفيته نفسه، ولعمري ما لأحد
من قريش مثل قدرك ما خلا معاوية، فما ينفعني ذلك عندك. وأنشأ عمرو يقول:
بني هاشم ما لي أراكم كأنكم * بي اليوم جهال وليس بكم جهل؟
ألم تعلموا أني جسور على الوغى * سريع إلى الداعي إذا كثر القتل؟
وأول من يدعو نزال طبيعة * جبلت عليها والطباع هو الجبل
وإني فصلت الأمر بعد اشتباهه * بدومة إذ أعيا على الحكم الفصل
وإني لا أعيا بأمر أريده * وإني إذا عجت بكاركم فحل (1)

(1) العقد ج 4 ص 13. وابن أبي الحديد: ج 2 ص 247 أوله مع اختلاف، وذكرنا بعضه بين
المعقفتين.
186

(105)
ابن عباس وابن الزبير
الشعبي قال: قال ابن الزبير لعبد الله بن عباس: قاتلت أم المؤمنين
وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفتيت بجواز المتعة؟!.
فقال: أما أم المؤمنين: فأنت أخرجتها وأبوك وخالك، وبنا سميت أم
المؤمنين وكنا لها خير بنين فتجاوز الله عنها. وقاتلت أنت وأبوك عليا، فإن كان
علي مؤمنا فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين، وإن كان علي كافرا فقد بؤتم بسخط
من الله بفراركم من الزحف. وأما المتعة: فإن عليا رضي الله عنه قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيها، فأفتيت بها، ثم سمعته ينهى فنهيت
عنها. وأول مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير (1).
(106)
عبد الله بن عباس ومعاوية
دخل عبد الله بن عباس على معاوية وعنده وجوه قريش، فلما سلم وجلس،
قال له معاوية: إني أريد أن أسألك عن مسائل. قال: سل عما بدا لك.
قال: ما تقول في أبي بكر؟.
قال: رحم الله أبا بكر، كان والله للقرآن تاليا، وعن المنكر [ات] ناهيا،
وبذنبه عارفا، ومن الله خائفا، وعن الشبهات زاجرا، وبالمعروف آمرا وبالليل
قائما وبالنهار صائما، فاق أصحابه ورعا وكفافا، وسادهم زهدا وعفافا، فغضب
الله على من أبغضه وطعن عليه.
قال: إيها يا ابن عباس، فما تقول في عمر بن الخطاب؟.

(1) العقد: ج 4 ص 13 - 14. ومروج الذهب: ج 3 ص 89 - 90 بلفظ آخر يأتي.
187

قال: رحم الله أبا حفص [عمر] كان والله حليف الإسلام، ومأوى
الأيتام، ومنتهى الإحسان، ومحل الإيمان، وكهف الضعفاء، ومعقل الحنفاء،
قام بحق الله عز وجل صابرا محتسبا حتى أوضح الدين وفتح البلاد وأمن العباد،
فأعقب الله على من تنقصه اللعنة إلى يوم الدين.
قال: فما تقول في عثمان؟.
قال: رحم الله أبا عمرو، كان والله أكرم الحفدة، وأفضل البررة جهادا
بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهاضا عند كل مكرمة، سباقا إلى كل
منحة، حييا أبيا وفيا، صاحب جيش العسرة، ختن رسول الله صلى الله عليه
وآله فأعقب الله على من يلعنه لعنة اللاعنين إلى يوم الدين.
قال: فما تقول في علي.
قال: رضي الله عن أبي الحسن، كان والله علم الهدى، وكهف التقى،
ومحل الحجى، وبحر الندى، وطود النهى، وكهف العلى للورى، داعيا إلى المحجة
العظمى، متمسكا بالعروة الوثقى، خير من آمن واتقى، وأفضل من تقمص
وارتدى، وأبر من انتعل وسعى، وأفصح من تنفس وقرى، وأكثر من شهد
النجوى سوى الأنبياء والنبي المصطفى، صاحب القبلتين فهل يوازيه أحد؟
وهو أبو السبطين فهل يقارنه بشر؟ وزوج خير النساء فهل يفوقه قاطن بلد؟
للأسود قتال، وفي الحروب ختال، لم ترعيني مثله ولن ترى، فعلى من انتقصه
لعنة الله والعباد إلى يوم التناد.
قال: إيها يا ابن عباس! لقد أكثرت في ابن عمك، فما تقول في أبيك
العباس؟.
قال: رحم الله [العباس] أبا الفضل، كان صنو نبي الله صلى الله عليه
وسلم وقرة عين صفي الله، سيد الأعمام، له أخلاق آبائه الأجواد وأحلام
أجداده الأمجاد، تباعدت الأسباب في فضيلته، صاحب البيت والسقاية والمشاعر
188

والتلاوة، ولم لا يكون كذلك وقد ساسه أكرم من دب.
فقال معاوية: يا ابن عباس! أنا أعلم أنك كلماني في أهل بيتك.
قال: ولم لا أكون كذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل "؟
ثم قال ابن عباس بعد هذا الكلام:
يا معاوية، إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خص نبيه محمدا صلى الله
عليه وآله وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال وبذلوا النفوس دونه في كل
حال، ووصفهم الله في كتابه فقال: " رحماء بينهم " الآية، قاموا بمعالم الدين
وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه وظهرت آلاء
الله واستقر دينه ووضحت أعلامه، وأذل الله بهم الشرك وأزال رؤوسه ومحا
دعائمه وصارت كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، فصلوات الله
وبركاته على تلك النفوس الزاكية والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في
الحياة لله أولياء وكانوا بعد الموت أحياء وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى
الآخرة قبل أن يصلوا إليها وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها.
فقطع عليه معاوية الكلام، وقال إيها يا ابن عباس! حديثا في غير هذا [خذ
بنا إلى غير هذا خ ل] (1).
(107)
ابن عباس ومعاوية
دس معاوية - بعد صلحه مع الحسن عليه السلام - رجلا من حمير إلى الكوفة
ورجلا من بني القين إلى البصرة يكتبان إليه بالأخبار، فدل على الحميري وعلى
القيني، فأخذا وقتلا. فكتب الحسن عليه السلام إلى معاوية....

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 5.
189

وكتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى معاوية:
أما بعد، فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش
بمثل ما ظفرت به من يمانيتك، لكما قال أمية بن أبي الأسكر:
لعمرك إني والخزاعي طارقا * كنعجة عاد حتفها تتحفر
أثارت عليها شفرة بكراعها * فظلت بها من آخر الليل تنحر
شمت بقوم من صديقك أهلكوا * أصابهم يوم من الدهر أصفر
فأجابه معاوية:
أما بعد، فإن الحسن بن علي قد كتب إلي بنحو ما كتبت به وأنبأني بما لم
يحقق سوء ظن ورأي في وإنك لم تصب مثلي ومثلكم، وإنما مثلنا كما قال
طارق الخزاعي يجيب أمية عن هذا الشعر:
فوالله ما أدري وإني لصادق * إلى أي من يظنني أتعذر
أعنف إن كانت زبينة أهلكت * ونال بني لحيان شر فأنفر (1)
(108)
ابن عباس ومعاوية
كتب معاوية إلى ابن عباس عند صلح الحسن عليه السلام له كتابا يدعوه
فيه إلى بيعته ويقول له فيه:
ولعمري! لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا وأن يكون رأيا
صوابا، فإنك من الساعين عليه والخاذلين له والسافكين دمه، وما جرى بيني
وبينك صلح فيمنعك مني، ولا بيدك أمان.
فكتب إليه ابن عباس جوابا طويلا يقول فيه: وأما قولك: إني من
الساعين على عثمان والخاذلين له والسافكين دمه وما جرى بيني وبينك صلح

(1) ابن أبي الحديد: ج 16 ص 31 - 32.
190

فيمنعك مني، فأقسم بالله لأنت المتربص بقتله والمحب لهلاكه والحابس
الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك
ويستصرخ، فما حفلت حتى بعثت إليه معذرا بأجرة، أنت تعلم أنهم لن يتركوه
حتى يقتل، فقتل كما كنت أردت. ثم علمت عند ذلك أن الناس لن يعدلوا
بيننا وبينك فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه وتقول: قتل مظلوما! فإن يك
قتل مظلوما فأنت أظلم الظالمين. ثم لم تزل مصوبا ومصعدا وجاثما ورابضا
تستغوي الجهال وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت " وإن أدري
لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " (1).
(109)
ابن عباس وابن الزبير
روى سعيد بن جبير: أن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن عباس:
ما حديث أسمعه عنك؟ قال: وما هو؟ قال: تأنيبي وذمي!
فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " بئس المرء
المسلم يشبع ويجوع جاره " فقال ابن الزبير: إني لأكتم بغضكم أهل البيت
منذ أربعين سنة.
كان عبد الله بن الزبير يبغض عليا عليه السلام وينتقصه وينال من عرضه.
وروى عمر بن شبة وابن الكلبي والواقدي وغيرهم من رواة السير أنه مكث
أيام ادعائه الخلافة أربعين جمعة لا يصلي فيها على النبي صلى الله عليه وآله
وقال: " لا يمنعني من ذكره إلا أن تشمخ رجال بآنافها! " وفي رواية محمد بن
حبيب وأبي عبيدة معمر بن المثنى: " أن له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم عند
ذكره " (2).

(1) ابن أبي الحديد: ج 16 ص 154 - 155.
(2) ابن أبي الحديد: ج 4 ص 61 و 62.
191

(110)
ابن عباس وابن الزبير
خطب ابن الزبير، فقال: ما بال أقوام يفتون في المتعة وينتقصون حواري
رسول الله وأم المؤمنين عائشة! ما بالهم أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم.
يعرض بابن عباس.
فقال [ابن عباس]: يا غلام، أصمدني صمدة، فقال: يا بن الزبير!
قد أنصف القارة من راماها * إنا إذا ما فئة نلقاها
نرد أولاها على أخراها
أما قولك في المتعة: فسل أمك تخبرك! فإن أول متعة سطع مجمرها لمجمر
سطع بين أمك وأبيك. يريد متعة الحج. [وأما قولك: أم المؤمنين، فبنا سميت
أم المؤمنين، وبنا ضرب عليها الحجاب] وأما قولك: حواري رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فقد لقيت أباك في الزحف وأنا مع إمام هدى، فإن يكن
على ما أقول فقد كفر بقتالنا، وإن يكن على ما تقول فقد كفر بهر به عنا.
فانقطع ابن الزبير ودخل على أمه أسماء، فأخبرها، فقالت: صدق (1)
(111)
ابن عباس وابن الزبير
لما أخرج ابن الزبير عبد الله بن عباس من مكة إلى الطائف، كان يجلس
إليه أهل الطائف بعد الفجر وبعد العصر، فيتكلم بينهم. كان يحمد الله ويذكر
النبي صلى الله عليه وآله والخلفاء بعده ويقول: ذهبوا فلم يدعوا أمثالهم
ولا أشباههم ولا من يدانيهم! ولكن بقي أقوام يطلبون الدنيا بعمل الآخرة

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 81، ومر عن العقد الفريد.
192

ويلبسون جلود الضأن تحتها قلوب الذئاب والنمور، ليظن الناس أنهم من
الزاهدين في الدنيا، يراؤون الناس بأعمالهم ويسخطون الله بسرائرهم. فادعوا
الله أن يقضي لهذه الأمة بالخير والإحسان، فيولي أمرها خيارها وأبرارها ويهلك
فجارها وأشرارها، ارفعوا أيديكم إلى ربكم وسلوه ذلك. فيفعلون.
فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إليه:
أما بعد، فقد بلغني أنك تجلس بالطائف العصرين فتفتيهم بالجهل! تعيب
أهل العقل والعلم. وإن حلمي عليك واستدامتي فيئك جرأك علي، فاكفف
- لا أبا لغيرك - من غربك، وأربع على ظلعك، واعقل إن كان لك معقول،
وأكرم نفسك، فإنك إن تهنها تجدها على الناس أعظم هوانا، ألم نسمع قول
الشاعر:
فنفسك أكرمها فإنك إن تهن * عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما
وإني أقسم بالله لئن لم تنته عما بلغني عنك لتجدن جانبي خشنا،
ولتجدنني إلى ما يردعك عني عجلا، فر رأيك، فإن أشفى بك شقاؤك على
الردى، فلا تلم إلا نفسك.
فكتب إليه ابن عباس:
أما بعد، فقد بلغني كتابك، قلت: إني أفتي الناس بالجهل. وإنما يفتي
بالجهل من لم يعرف من العلم شيئا، وقد آتاني الله من العلم ما لم يؤتك.
وذكرت أن حلمك عني واستدامتك فيئي جرأني عليك، ثم قلت:
اكفف من غربك وأربع على ظلعك، وضربت لي الأمثال أحاديث الضبع.
متى رأيتني لعرامك هائبا ومن حدك ناكلا؟
وقلت: لئن لم تكفف لتجدن جانبي خشنا. فلا أبقى الله عليك إن أبقيت،
ولا أرعى عليك إن أرعيت. فوالله لا أنتهي عن قول الحق وصفة أهل العدل
والفضل وذم الأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم
193

يحسبون أنهم يحسنون صنعا والسلام (1).
(112)
ابن عباس وابن الزبير
لما كشف عبد الله بن الزبير بني هاشم وأظهر بغضهم وعابهم وهم بما هم
به في أمرهم ولم يذكر رسول الله صلى الله عليه وآله في خطبته لا يوم الجمعة
ولا غيرها، عاتبه على ذلك قوم من خاصته وتشأموا بذلك منه وخافوا عاقبته.
فقال: والله ما تركت ذلك علانية إلا وأنا أقوله سرا وأكثر منه! لكني رأيت
بني هاشم إذا سمعوا ذكره اشرأبوا واحمرت ألوانهم وطالت رقابهم، والله
ما كنت لآتي لهم سرورا وأنا أقدر عليه، والله لقد هممت أن أحظر لهم حظيرة
ثم أضرم عليهم نارا، فإني لا أقتل منهم إلا آثما كفارا سحارا، لا أنماهم الله
ولا بارك عليهم! بيت سوء لا أول لهم ولا آخر، والله ما ترك نبي الله فيهم خيرا،
استفرع نبي الله صدقهم فهم أكذب الناس.
فقام إليه محمد بن سعد ابن أبي وقاص، فقال: وفقك الله يا أمير المؤمنين، أنا
أول من أعانك في أمرهم.
فقام عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي، فقال: والله ما قلت صوابا
ولا هممت برشد، أرهط رسول الله صلى الله عليه وآله تعيب؟ وإياهم تقتل
والعرب حولك؟ والله لو قتلت عدتهم أهل بيت من الترك مسلمين ما سوغه
الله لك، والله لو لم ينصرهم الناس منك لنصرهم الله بنصره. فقال: إجلس
أبا صفوان، فلست بناموس.
فبلغ الخبر عبد الله بن العباس، فخرج مغضبا ومعه ابنه حتى أتى المسجد
فقصد المنبر، فحمد الله وأنثى عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وآله ثم

(1) ابن أبي الحديد: ج 20 ص 125.
194

قال:
أيها الناس، إن ابن الزبير يزعم أن لا أول لرسول الله ولا آخر، فيا عجبا كل
العجب لافترائه ولكذبه!! والله إن أول من أخذ الايلاف وحمى عيرات
قريش لهاشم، وإن أول من سقى بمكة عذبا وجعل باب الكعبة ذهبا لعبد
المطلب، والله لقد نشأت ناشئتنا مع ناشئة قريش وإن كنا لقالتهم إذا قالوا
وخطباءهم إذا خطبوا، وما عد مجد كمجد أولنا، ولا كان في قريش مجد لغيرنا،
لأنها في كفر ما حق ودين فاسق وضلة وضلالة في عشواء عمياء، حتى اختار
الله تعالى لها نورا وبعث لها سراجا، فانتجبه طيبا من طيبين لا يسبه بمسبة،
ولا يبغي عليه غائلة، فكان أحدنا وولدنا وعمنا وابن عمنا. ثم إن أسبق
السابقين إليه منا وابن عمنا، ثم تلاه في السبق أهلنا ولحمتنا واحدا بعد
واحد.
ثم إنا لخير الناس بعده وأكرمهم أدبا وأشرفهم حسبا وأقربهم منه رحما،
واعجبا كل العجب لابن الزبير يعيب بني هاشم!! وإنما شرف هو وأبوه وجده
بمصاهرتهم. أما والله إنه لمسلوب قريش، ومتى كان العوام بن خويلد يطمع في
صفية بنت عبد المطلب! قيل للبغل: من أبوك يا بغل؟ فقال: خالي الفرس. ثم
نزل (1).
(113)
ابن عباس وابن الزبير
خطب ابن الزبير بمكة على المنبر وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر،
فقال: إن هاهنا رجلا قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره، يزعم أن متعة النساء
حلال من الله ورسوله ويفتي في القملة والنملة، وقد أحتمل بيت مال البصرة

(1) ابن أبي الحديد: ج 20 ص 128 - 129.
195

بالأمس وترك المسلمين بها يرتضخون النوى، وكيف ألومه في ذلك وقد قاتل
أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وآله ومن وقاه بيده؟!
فقال ابن عباس لقائده سعد بن جبير بن هشام مولى بني أسد بن خزيمة:
استقبل بي وجه ابن الزبير وارفع من صدري - وكان ابن عباس قد كشف
بصره - فاستقبل به قائده وجه ابن الزبير وأقام قامته فحسر عن ذراعيه ثم قال:
يا ابن الزبير، أما العمى: فإن الله تعالى يقول: " فإنها لا تعمى الأبصار
ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " وأما فتياي في القملة والنملة: فإن فيها
حكمين لا تعلمها أنت ولا أصحابك. وأما حملي المال: فإنه كان مالا جبيناه
فأعطينا كل ذي حق حقه وبقيت بقية هي دون حقنا في كتاب الله،
فأخذناها بحقنا. وأما المتعة: فسل أمك أسماء إذا نزلت عن بردى عوسجة.
وأما قتالنا أم المؤمنين: فبنا سميت أم المؤمنين لا بك ولا بأبيك، فانطلق أبوك
وخالك إلى حجاب مده الله عليها فهتكاه عنها، ثم اتخذاها فتنة يقاتلان دونها
وصانا حلائلهما في بيوتهما! فما أنصفا الله ولا محمدا من أنفسهما أن أبرزا زوجة
نبيه وصانا حلائلهما. وأما قتالنا إياكم فإنا لقيناكم زحفا فإن كنا كفارا فقد
كفرتم بفراركم منا، وإن كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيانا، وأيم الله لولا
مكان صفية فيكم ومكان خديجة فينا لما تركت لبني أسد بن عبد العزى عظما
إلا كسرته.
فلما عاد ابن الزبير إلى أمه سألها عن " بردى عوسجة " فقالت: ألم أنهك
عن ابن عباس وعن بني هاشم؟ فإنهم كعم الجواب إذا بدهوا. فقال: بلى
وعصيتك. فقالت: يا بني، أحذر هذا الأعمى الذي ما طاقته الإنس والجن،
واعلم أن عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها، فإياك وإياه آخر الدهر! (1).

(1) ابن أبي الحديد: ج 20 ص 129 - 131 ومستدرك الوسائل: ج 3 ص 587 شطرا منه.
196

(114)
عبد الله بن عباس وابن الزبير
روى عثمان بن طلحة العبدري، قال: شهدت من ابن عباس - رحمه الله -
مشهدا ما سمعته من رجل من قريش، كان يوضع إلى جانب سرير مروان بن
الحكم - وهو يومئذ أمير المدينة - سرير آخر أصغر من سريره، فيجلس عليه
عبد الله بن عباس إذا دخل، وتوضع الوسائد فيما سوى ذلك، فأذن مروان يوما
للناس، وإذا سرير آخر قد أحدث تجاه سرير مروان، فأقبل ابن عباس فجلس
على سريره وجاء عبد الله بن الزبير وجلس على السرير المحدث، وسكت مروان
والقوم. فإذا يد ابن الزبير تتحرك فعلم أنه يريد أن ينطق، ثم نطق فقال:
إن أناسا يزعمون أن بيعة أبي بكر كانت غلطا وفلتة ومغالبة، ألا إن شأن
أبي بكر أعظم من أن يقال فيه هذا. ويزعمون أنه لولا ما وقع لكان الأمر لهم
وفيهم، والله ما كان من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أحد أثبت إيمانا
ولا أعظم سابقة من أبي بكر، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله! فأين هم حين
عقد أبو بكر لعمر؟ فلم يكن إلا ما قال. ثم ألقى عمر حظهم في حظوظ وجدهم
في جدود، فقسمت تلك الحظوظ فأخر الله سهمهم وأدحض جدهم وولى
الأمر عليهم من كان أحق به منهم، فخرجوا عليه خروج اللصوص على التاجر
خارجا من القرية فأصابوا منه غرة فقتلوه. ثم قتلهم الله به كل قتلة، وصاروا
مطرودين تحت بطون الكواكب.
فقال ابن عباس:
على رسلك أيها القائل في أبي بكر وعمر والخلافة، أما والله ما نالا ولا نال
أحد منهما شيئا إلا وصاحبنا خير ممن نالا، وما أنكرنا تقدم من تقدم لعيب
عبناه عليه، ولو تقدم صاحبنا لكان أهلا وفوق الأهل، ولولا أنك إنما تذكر
197

حظ غيرك وشرف امرئ سواك لكلمتك، ولكن ما أنت وما لاحظ لك فيه؟
اقتصر على حظك. ودع تيما لتيم وعديا لعدي وأمية لأمية، ولو كلمني تيمي أو
عدوي أو أموي لكلمته وأخبرته خبر حاضر عن حاضر لا خبر غائب عن غائب،
ولكن ما أنت وما ليس عليك؟ فإن يكن في أسد بن عبد العزى شئ فهو لك.
أما والله لنحن أقرب بك عهدا وأبيض عندك يدا وأوفر عندك نعمة ممن
أمسيت تظن أنك تصول به علينا، وما أخلق ثوب صفية بعد! والله المستعان على
ما تصفون (1).
(115)
ابن عباس وابن الزبير
لما خرج الحسين عليه السلام من مكة إلى العراق ضرب عبد الله بن
عباس بيده على منكب ابن الزبير وقال:
يا لك من قبرة بمعمر! * خلا لك الجو فبيضي واصفري!
ونقري ما شئت أن تنقري * هذا الحسين سائر فأبشري
خلا الجو والله لك يا ابن الزبير! وسار الحسين إلى العراق.
فقال ابن الزبير: يا ابن عباس، والله ما ترون هذا الأمر إلا لكم، ولا ترون
إلا أنكم أحق به من جميع الناس.
فقال ابن عباس: إنما يرى من كان في شك، ونحن من ذلك على يقين،
ولكن أخبرني عن نفسك بماذا تروم هذا الأمر؟ قال: بشرفي. قال: وبماذا
شرفت إن كان لك شرف؟ فإنما هو بنا، فنحن أشرف منك، لأن شرفك منا.
وعلت أصواتهما.

(1) ابن أبي الحديد: ج 20 ص 131 - 132.
198

فقال غلام من آل الزبير: دعنا منك يا ابن عباس! فوالله لا تحبوننا يا بني
هاشم ولا نحبكم أبدا. فلطمه عبد الله بن الزبير بيده وقال: أتتكلم وأنا حاضر؟
فقال ابن عباس: لم ضربت الغلام؟ والله أحق بالضرب منه من مزق ومرق!
قال: ومن هو؟ قال: أنت.
قال: واعترض بينهما رجال من قريش، فأسكتوهما (1).
(116)
ابن عباس وابن الزبير
عن سعيد بن جبير: أن ابن عباس دخل على ابن الزبير، فقال له ابن
الزبير: إلام [علام خ ل] تؤنبني وتعنفني؟ قال ابن عباس: إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " بئس المرء المسلم يشبع ويجوع جاره "
وأنت ذلك الرجل: فقال ابن الزبير: " والله إني لأكتم بغضكم أهل هذا
البيت منذ أربعين سنة (2).
(117)
ابن عباس ورجل
قيل لعبد الله بن عباس: ما منع عليا أن يبعثك مع عمرو يوم التحكيم؟
فقال: منعه حاجز القدر ومحنة الابتلاء وقصر المدة، أما والله لو كنت لقعدت
على مدارج أنفاسه ناقضا ما أبرم ومبرما ما نقض أطير إذا أسف وأسف إذا
طار، ولكن قد سبق قدر وبقي أسف! ومع اليوم غد، والآخرة خير
لأمير المؤمنين (3).

(1) ابن أبي الحديد: ج 20 ص 134 ويأتي عن المحاسن.
(2) ابن أبي الحديد: ج 20 ص 148.
(3) ابن أبي الحديد: ج 2 ص 247.
199

(118)
ابن عباس و عبد الرحمن بن خالد
ذكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في أماليه، قال: قال عبد الرحمن
ابن خالد بن الوليد: حضرت الحكومة، فلما كان يوم الفصل جاء عبد الله بن
عباس فقعد إلى جانب أبي موسى وقد نشر أذنيه حتى كاد أن ينطق بهما!
فعلمت أن الأمر لا يتم لنا ما دام هناك وأنه سيفسد على عمرو حيلته، فأعملت
المكيدة في أمره فجئت حتى قعدت عنده وقد شرع عمرو وأبو موسى في الكلام،
فكلمت ابن عباس كلمة استطعمته جوابها، فلم يجب، فكلمته أخرى، فلم
يجب، فكلمته ثالثة، فقال: إني لفي شغل عن حوارك الآن، فجبهته وقلت:
يا بني هاشم، لا تتركون بأوكم وكبركم أبدا، أما والله لولا مكان النبوة لكان لي
ولك شأن. قال: فحمى وغضب واضطرب فكره ورأيه، وأسمعني كلاما يسوء
سماعه، فأعرضته وقمت فقعدت إلى جانب عمرو بن العاص، فقلت: قد
كفيتك التقوالة، إني قد شغلت باله بما دار بيني وبينه فاحكم أنت أمرك.
قال: فذهل والله ابن عباس عن الكلام الدائر بين الرجلين حتى قام أبو
موسى فخلع عليا (1)!
(119)
ابن عباس ويزيد
لما خرج الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكة كتب يزيد إلى ابن
عباس:
أما بعد، فإن ابن عمك حسينا وعدو الله ابن الزبير التويا ببيعتي ولحقا

(1) ابن أبي الحديد: ج 2 ص 261.
200

بمكة مرصدين للفتنة معرضين أنفسهما للهلكة. فأما ابن الزبير، فإنه صريع
الفناء وقتيل السيف غدا. وأما الحسين، فقد أحببت الإعذار إليكم أهل
البيت مما كان منه.
وقد بلغني أن رجالا من شيعته من أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم ويمنونه
الخلافة ويمنيهم الإمارة، وقد تعلمون ما بيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحرمة
ونتايج الأرحام، وقد قطع ذلك الحسين وبته، وأنت زعيم أهل بيتك وسيد
أهل بلادك، فألقه واردده عن السعي في الفرقة ورد هذه الأمة عن الفتنة، فإن
قبل منك وأناب إليك فله عندي الأمان والكرامة الواسعة وأجري عليه ما كان
أبي يجزيه على أخيه، وإن طلب الزيادة فاضمن له ما أراك الله، انفذ ضمانك
وأقوم له بذلك، وله علي الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة بما تطمئن به نفسه
ويعتمد في كل الأمور عليه. عجل بجواب كتابي وبكل حاجة لك إلي وقبلي،
والسلام.
قال هشام بن محمد: وكتب يزيد في أسفل الكتاب:
يا أيها الراكب الغادي لمطيته * على عذافرة في سيرها قحم
أبلغ قريشا على نأي المزار بها * بيني وبين الحسين الله والرحم
وموقف بفناء البيت أنشده * عهد الإله غدا يوفى به الذمم
هنيتم قومكم فخرا بأمكم * أم لعمري حسان عفة كرم
هي التي لا يداني فضلها أحد * بنت الرسول وخير الناس قد علموا
إني لأعلم أو ظنا لعالمه * والظن يصدق أحيانا فينتظم
أن سوف يترككم ما تدعون به * قتلي تهاداكم العقبان والرخم
يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ سكنت * وأمسكوا بحبال السلم واعتصموا
قد غرت الحرب من قد كان قبلكم * من القرون وقد بادت بها الأمم
فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخا * فرب ذي بذخ زلت به القدم
201

فكتب إليه ابن عباس:
أما بعد، فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكة.
فأما ابن الزبير: فرجل منقطع عنا برأيه وهواه، يكاتمنا مع ذلك أضغانا
يسرها في صدره يوري علينا وري الزناد، لا فك الله أسيرها فارا في أمره ما أنت
راء.
وأما الحسين: فإنه لما نزل مكة وترك حرم جده ومنازل آبائه سألته عن
مقدمه، فأخبرني أن عمالك بالمدينة أساؤا إليه وعجلوا إليه بالكلام الفاحش،
فأقبل إلى حرم الله مستجيرا به، وسألقاه فيما أشرت إليه، ولن أدع النصيحة فيما
يجمع الله به الكلمة ويطفئ به النائرة ويخمد به الفتنة ويحقن به دماء الأمة،
فاتق الله في السر والعلانية، ولا تبيتن ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة، ولا ترصده
بمظلمة، ولا تحفر له مهواة، فكم من حافر لغيره حفرا وقع فيه! وكم من مؤمل
أملا لم يؤت أمله! وخذ بحظك من تلاوة القرآن ونشر السنة، وعليك بالصيام
والقيام لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها، فإن كل ما اشتغلت به عن الله
يضر ويفنى، وكل ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى (1).
(120)
قيس بن سعد ومعاوية
لما قرب قوم صفين خاف معاوية على نفسه أن يأتي علي بأهل العراق
وقيس بأهل مصر فيقع بينهما، ففكر في استدراج قيس واختداعه، فكتب إلى
قيس:
من معاوية ابن أبي سفيان إلى قيس بن سعد، سلام عليك، أما بعد،

(1) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ص 237 وأنساب الأشراف: ج 4 القسم الثاني
ص 18 - 19.
202

فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان بن عفان رض في إثرة رأيتموها أو ضربة سوط
ضربها أو في شتيمة رجل أو في تسييره آخر أو في استعماله الفتى، فإنكم قد علمتم
إن كنتم تعلمون أن دمه لم يكن يحل لكم، فقد ركبتم عظيما من الأمر وجئتم
شيئا إدا، فتب إلى الله يا قيس بن سعد! فإنك كنت من المجلبين على عثمان بن
عفان رض إن كانت التوبة من قتل المؤمن تغني شيئا. فأما صاحبك: فإنا
استيقنا أنه الذي أغرى به الناس وحملهم على قتله فقتلوه، وأنه لم يسلم من دمه
عظم قومك. فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل
تابعنا على أمرنا، ولك سلطان العراقين إن أنا ظفرت ما بقيت، ولمن أجبت من
أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان، وسلني من غير هذا مما تحب،
فإنك لا تسألني شيئا إلا أوتيته. واكتب إلي برأيك فيما كتبت به إليك،
والسلام.
فلما جاءه كتاب معاوية أحب أن يدافعه ولا يبدي له أمره ولا يتعجل له
حربه، فكتب إليه:
أما بعد، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من قتل عثمان رض،
وذلك أمر لم أقارفه ولم أطف به. وذكرت أن صاحبي هو أغرى الناس بعثمان
ودسهم إليه حتى قتلوه، وهذا أمر لم أطلع عليه. وذكرت لي أن عظم عشيرتي لم
تسلم من دم عثمان، فأول الناس كان فيه قياما عشيرتي [فلعمري إن أولى
الناس كان في أمره عشيرتي، خ ل] وأما ما سألتني من متابعتك وعرضت علي
من الجزاء به، فقد فهمته، وهذا أمر لي فيه نظر وفكرة، وليس هذا مما يسرع
إليه، وأنا كاف عنك، ولن يأتيك من قبلي شئ تكرهه حتى ترى ونرى إن
شاء الله، والمستجار الله عز وجل، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قال: فلما قرأ معاوية كتابه لم يره إلا مقاربا مباعدا ولم يأمن أن يكون له
في ذلك مباعدا مكائدا، فكتب إليه معاوية أيضا:
203

أما بعد، فقد قرأت كتابك، فلم أرك تدنو فأعدك سلما، ولم أرك تباعد
فأعدك حربا، أنت فيما هاهنا كحنك [كحبل خ ل] الجزور، وليس مثلي
يصانع المخادع ولا ينتزع المكائد ومعه عدد الرجال وبيده أعنة الخيل، والسلام
عليك.
فلما قرأ قيس بن سعد كتاب معاوية ورأى أنه لا يقبل معه المدافعة
والمماطلة أظهر له ذات نفسه، فكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم: من قيس بن سعد إلى معاوية ابن أبي سفيان:
أما بعد، فإن العجب من اغترارك بي وطمعك في واستسقاطك رأيي،
أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة، وأقولهم للحق، وأهداهم
سبيلا، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسيلة، وتأمرني بالدخول في
طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم للزور، وأضلهم سبيلا،
وأبعدهم من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسيلة؟! ولد ضالين
مضلين [ولديك قوم ضالين مضلون خ ل] طاغوت من طواغيت إبليس!.
وأما قولك: إني مالئ عليك مصر [إنك تملأ علي مصر خ ل] خيلا
ورجلا، فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهم إليك إنك لذو
جد، والسلام.
فلما بلغ معاوية كتاب قيس أيس منه وثقل عليه مكانه (1).
(121)
قيس بن سعد ومعاوية
فلما أيس معاوية منه كتب إليه:

(1) تاريخ الطبري: ج 4 ص 550 - 551 والغدير: ج 2 ص 98 - 99 عنه وعن الكامل لابن الأثير:
ج 3 ص 107. وابن أبي الحديد: ج 2 ص 23 الطبعة القديمة المصرية وفي الجديدة ج 6 ص 60 - 61.
والغدير: ج 10 ص 158. وأنساب الأشراف: ج 1 ص 390. والبحار: ج 8 ط الكمباني ص 593.
204

أما بعد، فإنك يهودي ابن يهودي! إن ظفر أحب الفريقين إليك عزلك
واستبدل بك، وإن ظفر أبغضهما إليك قتلك ونكل بك. وكان أبوك وتر قوسه
ورمى غير غرضه، فأكثر الحز وأخطأ المفصل، فخذله قومه وأدركه يومه، ثم مات
طريدا بحوران، والسلام.
فكتب إليه قيس رحمه الله:
أما بعد، فإنما أنت وثن ابن وثن! دخلت في الإسلام كرها وخرجت منه
طوعا، لم يقدم إيمانك ولم يحدث نفاقك. وقد كان أبي وترقوسه ورمى غرضه،
وشغب عليه من لم يبلغ كعبه ولم يشق غباره، ونحن أنصار الدين الذي خرجت
منه وأعداء الدين الذي دخلت فيه، والسلام (1).
صورة أخرى منه على نقل ابن أبي الحديد ومقاتل الطالبيين:
أما بعد، فإنما أنت وثن ابن وثن! دخلت في الإسلام كرها وأقمت فيه فرقا
وخرجت منه طوعا، ولم يجعل الله لك فيه نصيبا، لم يقدم إسلامك ولم يحدث
نفاقك، ولم تزل حربا لله ولرسوله وحزبا من أحزاب المشركين وعدوا لله ولنبيه
وللمؤمنين من عباده. وذكرت أبي، فلعمري ما أوتر إلا قوسه ولا رمى إلا

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 25. والجاحظ في البيان والتبيين: ج 2 ص 69. وعيون الأخبار لابن
قتيبة: ج 2 ص 212. ومقاتل الطالبيين: ص 66. والبحار: 44 ص 52. والكامل للمبرد: ج 1 ص 308.
وأنساب الأشراف: ج 1 ص 391. والبحار: ج 8 ط الكمباني ص 594، والعقد الفريد: ج 4 ص 338.
واليعقوبي: ج 2 ص 163، وفي نسخة ص 176. والغدير: ج 10 ص 157 وج 2 ص 100 عن الكامل لابن
الأثير: ج 1 ص 309. وعيون الأخبار لابن قتيبة ج 2 ص 213. ومناقب الخوارزمي: ص 173، وفي نسخة
عندي ص 181. وابن أبي الحديد ج 4 ص 15 وفي الجديدة ج 16 ص 43. وظاهره أنه كتب معاوية إلى
قيس وأجابه قيس في حرب الحسن عليه السلام مع معاوية لعنه الله وكان قيس على مقدمة عسكر الإمام
عليه السلام وظاهر كلام العقد الفريد أنه كان في حرب صفين. وظاهر الطبري أنه كان مدة حكومة
قيس في مصر، كما مر.
205

غرضه، فشغب عليه من لا يشق غباره ولا يبلغ كعبه. وزعمت أني يهودي ابن
يهودي، وقد علمت وعلم الناس أني وأبي أعداء الدين الذي خرجت منه
وأنصار الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه، والسلام.
صورة أخرى عن الجاحظ في التاج، كما في الغدير ج 2:
كتب قيس إلى معاوية: يا وثن ابن وثن! تكتب إلي تدعوني إلى مفارقة
علي بن أبي طالب والدخول في طاعتك! وتخوفني بتفرق أصحابه عنه وإقبال
الناس عليك وإجفالهم إليك، فوالله الذي لا إله غيره! لو لم يبق له غيري ولم
يبق لي غيره ما سالمتك أبدا وأنت حربه، ولا دخلت في طاعتك وأنت عدوه،
ولا اخترت عدو الله على وليه ولا حزب الشيطان على حزب الله، والسلام.
(122)
قيس ومعاوية
أخرج الحافظ عبد الرزاق عن ابن عيينة، قال: قدم قيس بن سعد على
معاوية، فقال له معاوية: وأنت يا قيس تلجم علي مع من الجم؟ أما والله لقد
كنت أحب أن لا تأتيني هذا اليوم إلا وقد ظفر بك ظفر من أظافري موجع.
فقال له قيس: وأنا والله قد كنت كارها أن أقوم في هذا المقام فأحييك
بهذه التحية.
فقال له معاوية: ولم وهل أنت حبر من أحبار اليهود؟.
فقال له قيس: وأنت يا معاوية كنت صنما من أصنام الجاهلية، دخلت
في الإسلام كارها، وخرجت منه طائعا!
فقال معاوية: اللهم غفرا، مد يدك.
فقال له قيس: إن شئت زدت وزدت (1).

(1) الغدير: ج 2 ص 105.
206

(123)
قيس ومعاوية
في مقاتل الطالبيين: وكتب معاوية يدعوه ويمنيه فكتب إليه قيس:
" لا والله لا تلقاني أبدا إلا بيني وبينك الرمح " (1).
(124)
عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص
روى المدائني، قال: بينا معاوية يوما جالسا عنده عمرو بن العاص، إذ
قال الآذن: قد جاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. فقال عمرو: والله
لأسوأنه اليوم! فقال معاوية: لا تفعل يا أبا عبد الله، فإنك لا تنصف منه،
ولعلك أن تظهر لنا من منقبته ما هو خفي عنا وما لا نحب أن نعلمه منه.
وغشيهم عبد الله بن جعفر، فأدناه معاوية وقربه.
فمال عمرو إلى بعض جلساء معاوية فنال من علي عليه السلام جهارا غير ساتر
له وثلبه ثلبا قبيحا.
فالتمع لون عبد الله بن جعفر واعتراه أفكل حتى أرعدت خصائله، ثم نزل
عن السرير كالفنيق. فقال عمرو: مه يا أبا جعفر! فقال له عبد الله: مه لا أم
لك! ثم قال:
أظن الحلم دل علي قومي * وقد يتجهل الرجل الحليم
ثم حسر عن ذراعيه وقال: يا معاوية، حتام نتجرع غيضك؟ وإلى كم
الصبر على مكروه قولك وسيئ أدبك وذميم أخلاقك؟ هبلتك الهبول! أما
يزجرك ذمام المجالسة عن القذع لجليسك؟ إذا لم تكن لك حرمة من دينك

(1) مقاتل الطالبيين: ص 65 راجع ابن أبي الحديد: ج 16 ص البحار: ج 44 ص 52.
207

تنهاك عما لا يجوز لك، أما والله، لو عطفتك أواصر الأرحام أو حاميت على
سهمك من الإسلام ما أرعيت بني الإماء المتك والعبيد الصك أعراض
قومك.
وما يجهل موضع الصفوة إلا أهل الجفوة. وإنك لتعرف وشائظ قريش
وصبوة غرائزها، فلا يدعونك تصويب ما فرط من خطئك في سفك دماء
المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه،
فاقصد لمنهج الحق، فقد طال عمهك عن سبيل الرشد وخبطك في بحور ظلمة
الغي.
فإن أبيت إلا تتابعنا في قبح اختيارك لنفسك فاعفنا في سوء القالة فينا
إذا ضمنا وإياك الندى، وشأنك وما تريد إذا خلوت. والله حسيبك، فوالله
لولا ما جعل الله لنا في يديك لما أتيناك.
ثم قال: إنك إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما سرك مني من خلق.
فقال معاوية: يا أبا جعفر، أقسمت عليك لتجلسن، لعن الله من أخرج
ضب صدرك من وجاره. محمول لك ما قلت، ولك عندنا ما أملت، فلو لم يكن
محمدك ومنصبك لكان خلقك وخلقك شافعين لك إلينا، وأنت ابن ذي
الجناحين وسيد بني هاشم.
فقال عبد الله: كلا، بل سيد بني هاشم حسن وحسين، لا ينازعهما في ذلك
أحد.
فقال: أبا جعفر، أقسمت عليك لما ذكرت حاجة لك إلا قضيتها كائنة
ما كانت ولو ذهبت بجميع ما أملك. فقال: أما في هذا المجلس فلا ثم
انصرف.
فأتبعه معاوية بصره وقال: والله! لكأنه رسول الله صلى الله عليه وآله مشيه
وخلقه وخلقه، وإنه لمن مشكاته، ولوددت أنه أخي بنفيس ما أملك.
208

ثم التفت إلى عمرو، فقال: أبا عبد الله، ما تراه منعه من الكلام معك؟.
قال: ما لا خفاء به عنك. قال: أظنك تقول: إنه هاب جوابك، لا والله!
ولكنه استحقرك وازدراك ولم يرك للكلام أهلا، أما رأيت إقباله علي دونك
ذاهبا بنفسه عنك؟.
فقال عمرو: فهل لك أن تسمع ما أعددته لجوابه؟ قال معاوية أذهب إليك
أبا عبد الله، فلات حين جواب سائر اليوم.
ونهض معاوية وتفرق الناس (1).
(125)
عبد الله بن جعفر ويحيى بن الحكم
قدم عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان، فقال له يحيى بن الحكم:
ما فعلت خبيثة؟ فقال: سبحان الله! يسميها رسول الله صلى الله عليه وآله طيبة
وأنت تسميها خبيثة! لقد اختلفتما في الدنيا وستختلفان في الآخرة.
قال يحيى: لأن أموت بالشام أحب إلي من أن أموت بها. قال: اخترت
جوار النصارى على جوار رسول الله صلى الله عليه وآله، قال يحيى: ما تقول في
علي وعثمان؟ قال: أقول ما قاله من هو خير مني فيمن هو شر منهما " إن تعذبهم
فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " (2).
(126)
عبد الله بن جعفر مع يزيد
روى صاحب كتاب الواقدي: أن عبد الله بن جعفر فاخر يزيد بن معاوية

(1) ابن أبي الحديد: ج 6 ص 295 - 297. والبحار: ج 42 ص 164 - 165.
(2) العقد الفريد: ج 4 ص 21. وأنساب الأشراف: ج 1 ص 46 ط بيروت.
209

بين يدي معاوية، فقال له: بأي آبائك تفاخرني؟ أبحرب الذي أجرناه؟ أم
بأمية الذي ملكناه؟ أم بعبد شمس الذي كفلناه؟.
فقال معاوية: لحرب بن أمية يقال هذا! ما كنت أحسب أن أحدا في عصر
حرب يزعم أنه أشرف من حرب!
فقال عبد الله: بلى أشرف منه من كفأ إناءه وجلله برداءه.
فقال معاوية ليزيد: رويدا يا بني! إن عبد الله يفخر عليك بك لأنك منه
وهو منك. فاستحيا عبد الله وقال: يا أمير المؤمنين، يدان انتشطتا وأخوان
اصطرعا.
فلما قام عبد الله، قال معاوية ليزيد: يا بني، إياك ومنازعة بني هاشم،
فإنهم لا يجهلون ما علموا ولا يجد مبغضهم لهم سبا (1).
(127)
عبد الله بن جعفر و عبد الملك
قال عبد الملك بن مروان لعبد الله بن جعفر: يا [أ] با جعفر، بلغني أنك
تسمع الغناء على المعازف والعيدان وأنت شيخ! قال: أجل يا أمير المؤمنين،
وإنك لتفعل أقبح من ذلك! قال: وما هو؟ قال: يأتيك أعرابي أهلب العجان
منتن الريح فيقذف عندك المحصنة ويقول البهتان ويطيع الشيطان، فتعطيه على
ذلك المائة من الإبل وأكثر! وأنا أشتري الجارية بمالي حلالا ثم أتخير لها جيد
الشعر فترجعه بأحسن النغم، فما بأس بذلك؟ (2).
(128)
عبد الله بن جعفر ومعاوية
وفد عبد الله بن جعفر على معاوية، فأعطاه صلته لوفادته، خمسمائة ألف

(1) ابن أبي الحديد: ج 15 ص 229.
(2) أنساب الأشراف: ج 1 ص 55.
210

درهم، وقضى حوائجه.
ثم إن عبد الله وقف بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، اقض ديني. قال: أولم
تقبض وفادتك وتقض حوائجك [ظ] الخاص والعام يا بن جعفر؟! قال: بلى.
قال: فليس كل قريش أسعه بمثل ما أعطيك، وقد أجحفت النوائب ببيت
المال. قال: إن العطية يا معاوية محبة والمنع بغضة، ولأن تعطيني وأحبك أحب
إلي من أن تحرمني فأبغضك، ثم قال:
عودت قومك عادة فاصبر لها [و] اغفر لجاهلها ورد سجا لها فقال معاوية:
اعلم يا بن جعفر، إن ما من قريش أحد [أحب] أن يكون ولدته هند غيرك،
ولكني إذا ذكرت ما بينك وبين علي و [ما] بين علي وبيني اشمأز قلبي، فكم
دينك؟ قال: ثلاثون ألف دينار.
فقال: كيف أبخل بما لا يغيب عن بيت مالي إلا أشهرا يسيرة حتى يعود
إليه، اقضها يا سعد (1).
(129)
ابن عباس وعائشة
روى الطبري أيضا: قال: قال ابن عباس رحمه الله: لما حججت بالناس
نيابة عن عثمان وهو محصور مررت بعائشة بصلصل، فقالت: يا ابن عباس.
أنشدك الله، فإنك قد أعطيت لسانا وعقلا أن تخذل الناس عن طلحة، فقد
بانت لهم بصائرهم في عثمان وأنهجت ورفعت لهم المنار وتحلبوا من البلدان
لأمر قد حم، وإن طلحة - فيما بلغني - قد اتخذ رجالا على بيوت الأموال وأخذ
مفاتيح الخزائن، وأظنه يسير - إن شاء الله - بسيرة ابن عمه أبي بكر.
فقال: يا أمه، لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا.

(1) أنساب الأشراف: ج 1 ص 54.
211

فقالت: إيها عنك يا ابن عباس! إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك (1).
(130)
ابن عباس ورجل من حمص
روى البيهقي في المحاسن عن سعيد بن جبير، قال: كان عبد الله بن عباس
بمكة يحدث على شفير زمزم ونحن عنده. فلما قضى حديثه قام إليه رجل،
فقال: يا ابن عباس، إني امرؤ من أهل الشام من أهل حمص، إنهم يتبرأون
من علي بن أبي طالب رضوان الله ويلعنونه! فقال: بل لعنهم الله في الدنيا
والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا، البعد قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله،
وأنه لم يكن أول ذكران العالمين إيمانا بالله ورسوله، وأول من صلى وركع
وعمل بأعمال البر؟!
قال الشامي: إنهم والله ما ينكرون قرابته وسابقته، غير أنهم يزعمون أنه
قتل الناس.
فقال ابن عباس: ثكلتهم أمهاتهم! إن عليا أعرف بالله عز وجل وبرسوله
وبحكمهما منهم، فلم يقتل إلا من استحق القتل.
قال: يا بن عباس، إن قومي جمعوا لي نفقة وأنا رسولهم إليك وأمينهم،
ولا يسعك أن تردني بغير حاجتي، فإن القوم هالكون في أمره، ففرج عنهم فرج
الله عنك.
فقال ابن عباس: يا أخا أهل الشام، إنما مثل علي في هذه الأمة في فضله
وعلمه كمثل العبد الصالح الذي لقيه موسى عليه السلام لما انتهى إلى ساحل
البحر، فقال له: " هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا " قال العالم:
" إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا " قال موسى:

(1) ابن أبي الحديد: ج 10 ص 6.
212

" ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا " قال له العالم: " فإن اتبعتني
فلا تسئلني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا في
السفينة خرقها " وكان خرقها لله عز وجل رضا ولأهلها صلاحا، وكان عند
موسى عليه السلام سخطا وفسادا، فلم يصبر موسى عليه السلام وترك ما ضمن
له فقال له: " أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا " قال له العالم: " ألم
أقل إنك لن تستطيع معي صبرا " قال موسى: " لا تؤاخذني بما نسيت
ولا ترهقني من أمري عسرا " فكف عنه العالم " فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما
فقتله " وكان قتله لله عز وجل رضا ولأبويه صلاحا، وكان عند موسى
عليه السلام ذنبا عظيما، قال موسى ولم يصبر: " أقتلت نفسا زكية بغير نفس
لقد جئت شيئا نكرا " قال العالم: " ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا *
قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا
حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا جدارا يريد أن
ينقض فأقامه " وكانت إقامته لله عز وجل رضا وللعالمين صلاحا " فقال لو
شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك ".
وكان العالم أعلم بما يأتي موسى عليه السلام وكبر على موسى الحق وعظم،
إذ لم يكن يعرف هذا وهو نبي مرسل من أولي العزم ممن قد أخذ الله عز وجل
ميثاقه على النبوة، فكيف أنت يا أخا أهل الشام وأصحابك؟ إن عليا رضي
الله عنه لم يقتل إلا من كان يستحل قتله.
وإني أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أم سلمة بنت
أبي أمية، إذ أقبل علي عليه السلام يريد الدخول على النبي صلى الله عليه
وسلم فنقر نقرا خفيا، فعرف رسول الله صلى الله عليه وآله نقره، فقال: " يا أم
سلمة، قومي فافتحي الباب " فقالت: يا رسول الله من هذا الذي يبلغ خطره أن
أستقبله بمحاسني ومعاصمي؟ فقال: يا أم سلمة، إن طاعتي طاعة الله عز وجل،
213

قال: " من يطع الرسول فقد أطاع الله " قومي يا أم سلمة، إن بالباب رجلا
ليس بالحزق ولا النزق ولا بالعجل في أمره، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله،
يا أم سلمة، إنه إن تفتحي الباب له فلن يدخل حتى يخفى عليه الوطأ، فلم
يدخل حتى غابت عنه وخفي عليه الوطأ، فلما لم يحس لها حركة دفع الباب
ودخل فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام وقال: يا أم سلمة،
هل تعرفين هذا؟ قالت: نعم هذا علي بن أبي طالب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم هذا علي سيط لحمه بلحمي
ودمه بدمي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. يا أم
سلمة، هذا علي سيد مبجل، مؤمل المسلمين وأمير المؤمنين، وموضع سري
وعلمي، وبابي الذي آوي إليه، وهو الوصي على أهل بيتي وعلى الأخيار من
أمتي وهو أخي في الدنيا والآخرة وهو معي في السناء الأعلى. اشهدي يا أم
سلمة، إن عليا يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.
قال ابن عباس: وقتلهم لله رضا وللأمة صلاح ولأهل الضلالة سخط.
قال الشامي: يا بن عباس، من الناكثون؟ قال: الذين بايعوا عليا بالمدينة
ثم نكثوا فقاتلهم بالبصرة، أصحاب الجمل. والقاسطون معاوية وأصحابه.
والمارقون أهل النهروان ومن معهم.
فقال الشامي يا بن عباس، ملأت صدري نورا وحكمة، وفرجت عني
فرج الله عنك. أشهد أن عليا رضي الله عنه مولاي ومولى كل مؤمن (1).
(131)
عبد الله بن عباس وابن الزبير
أبو المنذر، عن أبيه، عن الشعبي، عن ابن عباس، أنه دخل المسجد وقد

(1) المحاسن: ج 1 ص 65 - 68. ويأتي بلفظ آخر، فانتظر.
214

سار الحسين بن علي رضي الله عنه إلى العراق، فإذا هو بابن الزبير في جماعة
من قريش قد استعلاهم بالكلام فجاء ابن عباس حتى ضرب بيده بين عضدي
ابن الزبير، وقال: أصبحت والله كما قال الأول:
يا لك من حمرة بمعمر! خلا لك الجو فبيضي واصفري!
ونقري ما شئت إن تنقري قد رفع الفخ فماذا تحذري؟
خلت الحجاز من الحسين بن علي وأقبلت تهدر في جوانبها.
فغضب ابن الزبير وقال: والله إنك لترى أنك أحق بهذا الأمر من غيرك.
فقال ابن عباس: إنما يرى ذلك من كان في حال شك وأنا من ذلك على
يقين.
فقال: وبأي شئ عندك أنك أحق بهذا الأمر مني؟ قال ابن
عباس: لأنا أحق ممن يدل بحقه، وبأي شئ تحقق عندك أنك أحق بها من
سائر العرب إلا بنا؟ فقال ابن الزبير: تحقق عندي أني أحق بها منك لشرفي
عليكم قديما وحديثا.
فقال: أنت أشرف أم من قد شرفت به؟ فقال: إن من شرفت به زادني
شرف إلى شرف قد كان لي قديما وحديثا.
قال: أفمني الزيادة أم منك؟ قال: بل منك. فتبسم ابن عباس فقال:
يا ابن عباس، دعني من لسانك هذا الذي تقلبه كيف شئت، والله لا تحبوننا
يا بني هاشم أبدا. قال ابن عباس: صدقت، نحن أهل بيت مع الله عز وجل
لا نحب من أبغضه الله تعالى.
قال: يا ابن عباس، ما ينبغي لك أن تصفح عن كلمة واحدة؟ قال: إنما
أصفح عمن أقر، وأما عمن هر فلا، والفضل لأهل الفضل. قال ابن الزبير:
فأين الفضل؟ قال: عندنا أهل البيت لا تصرفه عن أهله فتظلم ولا تضعه عند
غير أهله فتندم.
215

قال ابن الزبير: أفلست من أهله؟ قال: بلى إن نبذت الحسد ولزمت
جدد.
وانقضى حديثهما، وقال القوم فتفرقوا (1).
(132)
ابن عباس ومعاوية
روي عن ابن عباس أنه قال: قدمت على معاوية، وقد قعد على سريره
وجمع أصحابه ووفود العرب عنده. فدخلت فسلمت وقعدت.
فقال: من الناس يا ابن عباس؟ فقلت: نحن. قال: إذا غبتم؟ فقلت: فلا
أحد.
قال: [فكأنك] ترى أني قعدت هذا المقعد بكم! قلت: نعم، فبمن
قعدت؟ قال: من كان مثل حرب بن أمية؟ قلت: من أكفأ عليه إناءه وأجاره
بردائه أ قال: فغضب وقال: وار شخصك مني شهرا فقد أمرت لك بصلتك
وأضعفها لك.
فلما خرج ابن عباس قال لخاصته: ألا تسألوني ما الذي أغضب معاوية؟
[قالوا: بلى فقل: بفضلك، قال]: إن أباه حربا لم يلتق أحد من رؤساء
قريش في عقبة ولا مضيق مع قوم إلا لم يتقدمه أحد حتى يجوزه، فالتقى حرب
ابن أمية مع رجل من بني تميم في عقبة فتقدمه التميمي، فقال: حرب: أنا حرب
ابن أمية، فلم يلتفت إليه وجازه، فقال: موعدك مكة، فبقي التميمي دهرا ثم
أراد دخول مكة، فقال: من يجيرني من حرب ابن أمية؟ فقالوا: عبد المطلب،
قال: عبد المطلب أجل قدرا من أن يجير على حرب. فأتى ليلا دار الزبير بن
عبد المطلب، فدق عليه، فقال الزبير للغيداق: قد جاءنا رجل إما طالب حاجة

(1) المحاسن للبيهقي: ج 1 ص 139 - 140. ومر عن أبي الحديد.
216

وإما طالب قرى وإما مستجير، وقد أعطيناه ما أراد. قال: فخرج إليه الزبير،
فقال:
لا قيت حربا في الثنية مقبلا * والصبح أبلج ضوءه للساري
فدعا بصوت واكتنى ليروعني * ودعا بدعوته يريد فخاري
فتركته كالكلب ينبح وحده * وأتيت أهل معالم وفخار
ليثا هزبرا يستجار بقربه * رحب المباءة مكرما للجار
ولقد حلفت بزمزم وبمكة * والبيت ذي الأحجار والأستار
إن الزبير لما نعي من خوفه * ما كبر الحجاج في الأمصار
فقال: تقدم فإنا لا نتقدم من نجيره. فتقدم التميمي فدخل المسجد، فرآه
حرب فقام إليه فلطمه. فحمل عليه الزبير بالسيف، فعدا حتى دخل دار
عبد المطلب، فقال: أجرني من الزبير. فأكفأ عليه جفنة كان هاشم يطعم فيها
الناس، فبقي هناك ساعة. ثم قال له: أخرج، فقال: كيف أخرج وتسعة من
ولدك قد احتبوا بسيوفهم على الباب؟ فألقى عليه رداء كان كساه إياه سيف
ابن ذي يزن له طرتان خضراوان، فخرج عليهم، فعلموا أنه قد أجاره، فتفرقوا
عنه (1).
(133)
عبد الله بن جعفر وعمرو
حضر مجلس معاوية عبد الله بن عباس وابن العاص، فأقبل عبد الله بن
جعفر، فلما نظر إليه ابن العاص قال: قد جاءكم رجل كثير الخلوات بالتمني
والطربات بالتغني، محب للقيان، كثير مزاحه شديد طماحه، صدوف عن
السنان، ظاهر الطيش لين العيش، أخاذ بالسلف منفاق بالسرف.

(1) المحاسن والمساوي للبيهقي: ج 1 ص 142.
217

فقال ابن عباس: كذبت والله أنت! وليس كما ذكرت، ولكنه لله ذكور
ولنعمائه شكور وعن الخنا زجور، جواد كريم سيد حليم ماجد لهميم، إن ابتدأ
أصاب وإن سئل أجاب، غير حصر ولا هياب ولا فحاش عياب حل من قريش
في كريم النصاب، كالهزبر الضرغام الجرئ المقدام في الحسب القمقام، ليس
يدعى لدعي ولا يدني لدني. [لا] كمن اختصم فيه من قريش شرارها فغلب
عليها جزارها، فأصبح ألأمها حسبا وأدناها منصبا، ينوء منها بالذليل ويأوي
منها إلى القليل، يتذبذب بين الحيين كالساقط بين الفراشين، لا المضطر إليهم
عرفوه ولا الظاعن عنهم فقدوه. وليت شعري! بأي قد تتعرض للرجال وبأي
حسب تبارز عند النضال؟ أبنفسك فأنت الوغد الزنيم، أم بمن تنتمي إليه؟
فأهل السفه والطيش والدناءة في قريش، لا بشرف في الجاهلية شهروا ولا بقديم
في الإسلام ذكروا، غير أنك تتكلم بغير لسانك وتنطق بالزور في غير أقرانك.
والله لكان أبين للفضل وأظهر للعدل أن ينزلك معاوية منزلة العبيد السحيق،
فإنه طالما ما سلس داؤك وطمح به رجاؤك إلى الغاية القصوى التي لم يخضر بها
رعيك ولم يورق بها غصنك.
فقال عبد الله بن جعفر: أقسمت عليك لما أمسكت! فإنك عني ناضلت
ولي فاوضت.
قال ابن عباس: دعني والعبد! فإنه قد كان يهدر خاليا إذ لا يجد مراميا،
وقد أتيح له ضيغم شرس للاقران منقرس وللأرواح مختلس!
فقال عمرو بن العاص: دعني يا أمير المؤمنين أنتصف منه، فوالله ما ترك
شيئا!
قال ابن عباس: دعه فلا يبقي المبقي إلا على نفسه، فوالله إن قلبي لشديد
وإن جوابي لعتيد، وبالله الثقة، فإني كما قال نابغة بني ذبيان:
وقبلك ما قذعت وقاذعوني * فما نزر الكلام ولا شجاني
218

يصد الشاعر العراف عني * صدود البكر عن قرم هجان (1)
(134)
عبد الله بن عباس وابن الزبير
عن الخليل: أنه قال كلم ابن عباس عبد الله بن الزبير في محمد بن
الحنفية، وقال: ما تريد من رجل كف لسانه ويده عنك؟ اتق الله! فإنك قادم
على ربك.
فقال له ابن الزبير: تكلمني في رجل سخيف الرأي ضعيف العقل ليس له
بذم ولا دين! فقال ابن عباس: رماه الله بداء لا شفاء له إن كان شرا منك في
الدين والدنيا، فغضب ابن الزبير، وقال: أنت أيضا تتكلم عندي! فقام ابن
عباس، وذم ابن الزبير على ما قال، وخرج من عند ابن الزبير من وجهه إلى
الطائف، وقال: العجب من حنيكل! يتعجب من كلامي عنده وقد تكلمت
غلاما عند رسول الله صلى الله عليه وآله وعند أبي بكر وعمر وعثمان وعلي
رضي الله عنهم يرونني أحق من نطق يستمع قولي وتقبل مشورتي، ليحك
حنكل جربه! ولا ينقاص علي انقياص الكثيب. أظن ابن الزبير أني كساعده
على بني عبد المطلب؟ والله لأنملة من أنامل ابن الحنفية أحب إلي من ابن
الزبير، والله! لأنه لأوفر منه عقلا، وأوفى منه عهدا، وأكمل منه رأيا، وأفضل
دينا، وأصدق ورعا (2).
(135)
ابن عباس وعمر
قال عمر بن الخطاب ليلة مسيره إلى الجابية أين ابن عباس؟ قال: فأتيته

(1) المحاسن للبيهقي: ج 1 ص 143 - 144.
(2) نور القبس المختصر من المقتبس لأبي عبد الله المرزباني: ص 68.
219

فشكا تخلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقلت له: أولم يعتذر إليك؟
قال: بلى. قلت: فهو ما اعتذر به.
ثم قال: أول من ريثكم عن هذا الأمر أبو بكر، إن قومكم كرهوا أن
يجمعوا لكم الخلافة والنبوة (1).
(136)
ابن عباس وعمر
عن ابن عطية، قال: لما خرج عمر بن الخطاب إلى الشام كان العباس
ابن عبد المطلب معه يسايره، وكان من يستقبله ينزل فيبدأ بالعباس فيسلم
عليه، يقدر الناس أنه الخليفة لجماله وبهائه وهيبته.
فقال عمر: لعلك تقدر أنك أحق بهذا الأمر مني؟ فقال له العباس بن
عبد المطلب: أحق به مني ومنك من خلفناه بالمدينة! فقال عمر: من ذلك؟
قال: من ضربنا بسيفه حتى قادنا إلى الإسلام! يعني أمير المؤمنين
عليه السلام (2).
(137)
ابن عباس وعمر
قال عمر: يا بن عباس، ما منع عليا من الخروج معنا؟ قلت: لا أدري.
قال: يا ابن عباس، أبوك عم رسول الله عليه وآله وأنت ابن عمه فما
منع قومكم منكم؟ قلت: لا أدري. قال: لكني أدري، يكرهون ولايتكم لهم.

(1) هامش فضائل الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق: ج 1 ص 14 تحقيق المحمودي عن
الأغاني.
(2) هامش فضائل أمير المؤمنين عليه السلام: تحقيق المحمودي انظر ج 1 ص 14 خصائص
أمير المؤمنين عليه السلام للرضي رحمه الله والبحار: ج 8 ط الكمباني ص 209 عن شف تاريخ الطبري وج 1
ص 2768 و خ ط المعارف ج 4 ص 222.
220

قلت: ولم ونحن لهم كالخير؟ قال: اللهم غفرا! يكرهون أن تجتمع فيكم الخلافة
والنبوة فيكون لكم بجصا وبجحا (أي تفاخرا وتعاظما). لعلكم تقولون: إن
أبا بكر فعل ذلك، لا والله! ولكن أبا بكر أتى أحزم ما حضر، ولو جعلها لكم
ما نفعكم مع قربكم (1)
(138)
ابن عباس وعمر
عن إبراهيم التيمي، قال: قال لي ابن عباس يوما ونحن بالجابية: ما رأيت
كمقال قاله لي أمير المؤمنين عمر اليوم، قلت: فما ذاك؟ قال: شكا إلي عليا
عليه السلام فقال لي: ألم تر إلى ابن عمك لم يخرج معنا في هذا الوجه؟ قال:
قلت: لا إله إلا الله! أليس قد اعتذر إليك فقبلت عذره؟ وما خالفك إلى يومنا
هذا. فقال: وما كفى ما قال لي أبوك؟.
قال: فقلت لابن عباس: وما قال له أبوك؟ قال: لقاه رجل من أهل الشام
فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فقال العباس: لست للمؤمنين بأمير هو
ذاك وأنا والله أحق بها منه، فسمعه عمر فقال: أحق والله بها مني ومنك رجل
خلفناه بالمدينة أمس يعني عليا عليه السلام (2)
(139)
ابن عباس ونجدة الحروري
عن علي بن أسباط عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: إن
نجدة اسم الحروري كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقضي يتمه؟
فكتب إليه: أما اليتيم فانقطاع يتمه أشده، وهو الاحتلام، إلا أن لا يؤنس منه

(1) هامش فضائل أمير المؤمنين لابن عساكر تحقيق المحمودي انظر ج 1 ص 6، تاريخ الطبري.
(2) الايضاح: ص 172 - 173.
221

رشد بعد ذلك فيكون سفيها أو ضعيفا، فليسند عليه (1).
(140)
الأحنف بن قيس ومعاوية
روي أن معاوية ابن أبي سفيان لما نصب يزيد لولاية العهد أقعده في جبة
حمراء، فجعل الناس يسلمون على معاوية ثم يميلون إلى يزيد حتى جاء رجل
ففعل ذلك،، ثم رجع إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم أنك لو لم تول هذا
أمور المسلمين لأضعتها. والأحنف جالس فقال له معاوية: ما بالك لا تقول
يا أبا بحر؟ فقال: أخاف الله إن كذبت وأخافكم إن صدقت. فقال: جزاك
الله عن الطاعة خيرا وأمر له بألوف.
فلما خرج الأحنف لقاه الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر، إني لأعلم أن
شر من خلق الله هذا وابنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب
والأقفال فلسنا نطعمه في استخراجها إلا بما سمعت فقال له الأحنف: يا هذا
أمسك، فإن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها (2)!
(141)
الأحنف ومعاوية
عدد معاوية بن أبي سفيان على الأحنف ذنوبا. فقال: يا أمير المؤمنين،
لا ترد الأمور على أعقابها. أما والله! إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا
والسيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا! ولئن مددت فترا من عذر لنمدن باعا
من ختر، ولئن شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك. قال: فإني أفعل (3).

(1) البحار: ج 75 ص 6 عن تفسير العياشي.
(2) الكامل للمبرد: ج 1 ص 30. والعقد الفريد: ج 4 ص 37 وج 1 ص 59 نبذا منه، وسيأتي عن
الفتوح ما يقرب منه في ج ص 187.
(3) العقد الفريد: ج 4 ص 28.
222

(142)
الأحنف ومعاوية
روي أن معاوية ابن أبي سفيان بينما هو جالس وعنده وجوه الناس، إذ
دخل رجل من أهل الشام، فقام خطيبا، فكان آخر كلامه أن لعن عليا.
فأطرق الناس وتكلم الأحنف، فقال:
يا أمير المؤمنين، إن هذا القائل ما قال آنفا لو يعلم أن رضاك في لعن
المرسلين للعنهم، فاتق الله، ودع عنك عليا، فقد لقى ربه وأفرد في قبره وخلا
بعمله، وكان والله! [ما علمنا] المبرز بسبقه (بسبعة خ ل) الطاهر خلقه، الميمون
نقيبته، والعظيم مصيبته.
فقال له معاوية: يا أحنف، لقد أغضيت العين على القذى وقلت بغير
ما ترى، وأيم الله لتصعدن المنبر فلتلعننه طوعا أو كرها. فقال له الأحنف:
يا أمير المؤمنين، إن تعفني فهو خير لك وإن تجبرني على ذلك فوالله لا تجري به
شفتاي أبدا!
قال: فاصعد المنبر. قال الأحنف: أما والله، مع ذلك لأنصفنك في القول
والفعل.
قال: وما أنت قائل يا أحنف إن أنصفتني؟ قال: أصعد المنبر فأحمد الله بما
هو أهله وأصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أقول: أيها الناس، إن
أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليا! وإن عليا ومعاوية اختلفا واقتتلا
وادعى كل واحد منهما أنه بغى على فئته، فإذا دعوت فأمنوا رحمكم الله! ثم
أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبيائك وجميع خلقك الباغي منهما على
صاحبه، والعن فئة الباغية، اللهم العنهم لعنا كثيرا، أمنوا رحمكم الله!
يا معاوية، لا أزيد على هذا ولا أنقص منه حرفا ولو كان فيه ذهاب نفسي.
223

فقال معاوية: إذن نعفيك يا أبا بحر. (1)
(143)
الأحنف ومعاوية
وفي سنة تسع وخمسين وفد على معاوية وفد الأمصار من العراق وغيرها،
فكان ممن وفد من أهل العراق الأحنف بن قيس في آخرين من وجوه الناس.
فقال معاوية للضحاك بن قيس: إني جالس من غد للناس فأتكلم بما
شاء الله، فإذا فرغت من كلامي فقل في يزيد الذي يحق عليك وادع إلى بيعته،
فإني قد أمرت عبد الرحمن بن عثمان الثقفي و عبد الله بن عضاة - عمارة خ -
الأشعري وثور بن معن السلمي أن يصدقوك في كلامك وأن يجيبوك إلى الذي
دعوتهم إليه.
فلما كان من الغد قعد معاوية، فأعلم الناس بما رأى من حسن رعية يزيد
ابنه هديه، وأن ذلك دعاه إلى أن يوليه عهده.
ثم قام الضحاك بن قيس فأجابه إلى ذلك وحض الناس على البيعة
ليزيد. وقال لمعاوية: اعزم على ما أردت. ثم قام عبد الرحمن بن عضاة الأشعري
وثور بن معن فصدقوا قوله
ثم قال معاوية: أين الأحنف بن قيس؟ فقال الأحنف، فقال:
إن الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف ومعروف زمان يؤتلف، ويزيد
حبيب قريب، فإن توله عهدك فعن غير كبر مفن أو مرض مضن وقد حلبت
الدهور وجربت الأمور. فاعرف من تسند إليه عهدك ومن توليه الأمر من
بعدك واعص رأي من يأمرك ولا يقدر لك ويشير عليك ولا ينظر لك.
فقام الضحاك بن قيس مغضبا! فذكر أهل العراق بالشقاق والنفاق،

(1) العقد الفريد: ج 4 ص 28 - 29.
224

وقال: أردد رأيهم في نحورهم... (1).
يقال: إن معاوية استشار الأحنف بن قيس في عقد البيعة لابنه يزيد،
فقال له: أنت أعلم بليله ونهاره (2).
(144)
الأحنف وعائشة
عن الحسن البصري - رحمه الله - أن الأحنف بن قيس قال لعائشة رحمها الله
يوم الجمل: يا أم المؤمنين، هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا
المسير؟ قالت: اللهم لا. قال: فهل وجدته في شئ من كتاب الله جل ذكره؟
قالت: ما نقرأ إلا ما تقرؤون. قال: فهل رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله
استعان بأحد من نسائه إذا كان في قلة والمشركون في كثرة؟ قالت: اللهم لا.
قال الأحنف: فإذا ما هو ذنبنا؟ (3).
(145)
الأحنف ومعاوية
روي أن الأحنف بن قيس وفد إلى معاوية وحارثة بن قدامة والجباب بن
يزيد. قال معاوية للأحنف: أنت الساعي على أمير المؤمنين عثمان وخاذل أم
المؤمنين عائشة والوارد الماء على علي بصفين؟ فقال: يا أمير المؤمنين من ذلك
ما أعرف ومنه ما أنكر.
أما أمير المؤمنين عثمان: فأنتم معشر قريش حضرتموه بالمدينة والدار منا عنه
نازحة، وقد حضره المهاجرون والأنصار بمعزل وكنتم بين خاذل وقاتل. وأما

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 37.
(2) أمالي السيد - رحمه الله -: ج 1 ص 275.
(3) المحاسن للبيهقي: ج 1 ص 77.
225

عائشة: فإني خذلتها في طول باع ورحب سرب، وذلك أني لم أجد في كتاب
الله إلا تقر في بيتها.
وأما ورودي الماء بصفين فإني وردت حين أردت أن تقطع رقابنا عطشا.
فقام معاوية وتفرق الناس، الحديث (1).
(146) عقيل ومعاوية
لما قدم عقيل بن أبي طالب على معاوية أكرمه وقربه وقضى حوائجه
وقضى عنه دينه. ثم قال له في بعض الأيام: والله إن عليا [غير] حافظ لك قطع
قرابتك، وما وصلك، ولا اصطنعك.
قال له عقيل: والله لقد أجزل العطية وأعظمها، ووصل القرابة وحفظها،
وحسن ظنه بالله إذا ساء به ظنك، وحفظ أمانته، وأصلح رعيته، إذا خنتم
وأفسدتم وجرتم، فاكفف لا أبا لك! فإنه عما تقول بمعزل.
وقال له معاوية: أبا يزيد، أنا لك خير من أخيك علي. قال: صدقت إن
أخي آثر دينه على دنياه وأنت آثرت دنياك على دينك، فأنت خير لي من أخي
وأخي خير لنفسه منك.
وقال له ليلة الهرير: أبا يزيد، أنت الليلة معناه. قال: نعم ويوم بدر كنت
معكم (2).
(147)
عقيل ورجل
قال رجل لعقيل: إنك لخائن حيث تركت أخاك وترغب إلى معاوية.

(1) البحار: ج 8 ط الكمباني ص 531 عن الكشي.
(2) العقد الفريد: ج‍ 4 ص 5 وأنساب الأشراف: ج 1 ص 72 - 73 آخره. وذيله في الإستيعاب: ج 3
ص 158 على هامش الإصابة. والبحار: ج 42 ص 114 قسما منه.
226

قال: أخون مني والله من سفك دمه بين أخي وابن عمي أن يكون أحدهما
أميرا!
ودخل عقيل على معاوية وقد كف بصره، فأجلسه معاوية على سريره ثم
قال له: أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم! قال: وأنتم معشر بني أمية
تصابون في بصائركم!
ودخل عتبة بن أبي سفيان، فوسع له معاوية بينه وبين عقيل، فجلس
بينهما.
فقال عقيل: من هذا الذي أجلس أمير المؤمنين بيني وبينه؟ قال: أخوك
وابن عمك عتبة. قال: أما إنه إن كان أقرب إليك مني، إني لأقرب
لرسول الله صلى الله عليه وسلم منك ومنه، وأنتما مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم أرض ونحن سماء!
قال عتبة: أبا يزيد، أنت كما وصفت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
فوق ما ذكرت، وأمير المؤمنين عارف بحقك. ولك عندنا مما تحب أثر مما لنا
عندك مما نكره (1).
(148)
عقيل ومعاوية
ودخل عقيل على معاوية يوما، فقال لأصحابه: هذا عقيل عمه أبو لهب.
قال له عقيل: وهذا معاوية عمته حمالة الحطب! ثم قال: يا معاوية، إذا
دخلت النار فاعدل ذات اليسار فإنك ستجد عمي أبا لهب مفترشا عمتك حمالة
الحطب، فانظر أيهما خير الفاعل أو المفعول به؟
وقال له معاوية يوما: ما أبين الشبق في رجالكم يا بني هاشم! قال: لكنه

(1) العقد الفريد: ج 4 ص 5. أنساب الأشراف: ج 1 ص 73 أوله.
227

في نسائكم أبين (1) يا بني أمية!
وقال له معاوية يوما: والله إن فيكم لخصلة ما تعجبني يا بني هاشم، قال:
وما هي؟ قال: لين فيكم. قال: لين ماذا؟ قال: هو ذاك. قال: إيانا تعير
يا معاوية، أجل والله، إن فينا للينا من غير ضعف وعزا من غير جبروت، وأما
أنتم يا بني أمية، فإن لينكم غدر، وعزكم - سلمكم خ ل - كفر.
قال معاوية: ما كل هذا أردنا يا أبا يزيد! قال عقيل:
لذي اللب قبل اليوم ما يقرع العصا * وما علم الإنسان إلا ليعلما (2)
قال معاوية:
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده * وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: لم جفوتمونا يا أبا يزيد؟ فأنشأ يقول:
إني امرؤ مني التكرم شيمة * إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا
ثم قال: وأيم الله يا معاوية، لئن كانت الدنيا مهدتك مهادها وأظلتك
بحذافيرها ومدت عليك أطناب سلطانها، ما ذاك بالذي يزيدك مني رغبة
ولا تخشعا لرهبة.
قال معاوية: لقد نعتها أبا يزيد نعتا هش له قلبي، وإني لأرجو أن يكون
الله تبارك وتعالى ما رداني برداء ملكها وحباني بفضيلة عيشها إلا لكرامة
ادخرها لي،، وقد كان داود خليفة وسلمان ملكا، وإنما هو لمثال يحتذى عليه،
والأمور أشباه، وأيم الله يا أبا يزيد، لقد أصبحت علينا كريما وإلينا حبيبا،

(1) من قوله: " إن فيكم يا بني هاشم " إلى هنا نقله في الغارات: ج 2 ص 551 وزاد:
إن السفاهة طيش من خلائقكم * لا قدس الله أخلا الملاعين (1)
فأراد معاوية أن يقطع كلامه فقال: ما معنى هذه الكلمة " طه "؟ فقال عقيل: نحن أهله وعلينا نزل،
لا على أبيك ولا على أهل بيتك، طه بالعبرانية يا رجل.
(2) أنساب الأشراف: ج 1 ص 72.
228

وما أصبحت لك إساءة (1).
(149)
عقيل وامرأته
ويقال: إن امرأة عقيل - وهي بنت عتبة بن ربيعة خالة معاوية - قالت
لعقيل: يا بني هاشم، لا يحبكم قلبي أبدا، أين أبي؟ أين أخي؟ أين عمي؟
كأن أعناقهم أباريق فضة. قال عقيل: إذا دخلت جهنم فخذي على
شمالك (1).
(150)
عقيل ومعاوية
قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: إن عليا قد قطعك ووصلتك،
ولا يرضيني منك إلا أن تلعنه على المنبر. قال: أفعل، فأصعد، فصعد، ثم قال
بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أيها الناس، إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب،
فالعنوه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ثم نزل.
فقال له معاوية: إنك لم تبين أبا يزيد من لعنت بيني وبينه؟ قال: والله
لا زدت حرفا ولا نقصت آخر، والكلام إلى نية المتكلم (2).
(151)
رجل من ولد ابن الحنفية مع المتوكل
محمد ابن أبي العلاء السراج قال: أخبرني البختري قال: كنت بمنبج

(1) العقد الفريد: ج 4 ص 6 - 7. ونبذا منه ابن أبي الحديد: ج 4 ص 93 وج 11 ص 252. وأنساب
الأشراف: ج 1 ص 76 آخره. والبحار: ج 42 ص 117.
(2) العقد الفريد: ج 4 ص 29.
229

بحضرة المتوكل، إذ دخل عليه رجل من أولاد محمد بن الحنفية حلو العينين
حسن الثياب قد قرف عنده بشئ، فوقف بين يديه، والمتوكل مقبل على الفتح
يحدثه.
فلما طال وقوف الفتى بين يديه وهو لا ينظر إليه، قال له: يا أمير المؤمنين،
إن كنت أحضرتني لتأديبي فقد أسأت الأدب، وإن كنت قد أحضرتني ليعرف
من بحضرتك من أوباش الناس استهانتك بأهلي فقد عرفوا.
فقال له المتوكل: والله يا حنفي، لولا ما يثنيني عليك من أوصال الرحم
ويعطفني عليك من مواقع الحلم لانتزعت لسانك بيدي ولفرقت بين رأسك
وجسدك، ولو كان بمكانك محمد أبوك! قال: ثم التفت إلى الفتح، فقال:
أما ترى ما نلقاه من آل أبي طالب؟ إما حسني يجذب إلى نفسه تاج عز نقله الله
إلينا قبله، أو حسيني يسعى في نقض ما أنزل الله إلينا قبله، أو حنفي يدل
بجهله أسيافنا على سفك دمه.
فقال له الفتى: وأي حلم تركته لك الخمور وإدمانها؟ أم العيدان وفتيانها؟
ومتى عطفك الرحم على أهلي وقد ابتززتهم فدكا إرثهم من رسول الله صلى
الله عليه وآله فورثها أبو حرملة؟ وأما ذكرك محمدا أبي فقد طفقك تضع عن عز
رفعه الله وروسوله، وتطاول شرفا تقصر عنه ولا تطوله، فأنت كما قال الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير * فلا كعبا بلغت ولا كلابا
ثم ها أنت تشكو لي علجك هذا ما تلقاه من الحسني والحسيني والحنفي،
فلبئس المولى ولبئس العشير!
ثم مد رجليه ثم قال: هاتان رجلاي لقيدك! وهذه عنقي لسيفك! فبؤ
بإثمي وتحمل ظلمي، فليس هذا أول مكروه أوقعته أنت وسلفك بهم، يقول
الله تعالى: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " فوالله ما أجبت
رسول الله صلى الله عليه وآله عن مسألته، ولقد عطفت بالمودة على غير قرابته،
230

فعما قليل ترد الحوض فيذودك أبي ويمنعك جدي صلوات الله عليهما.
قال: فبكى المتوكل! ثم قام فدخل إلى قصر جواريه. فلما كان من الغد
أحضره وأحسن جائزته وخلى سبيله (1).
(152)
ضرار بن الخطاب ومعاوية
دخل على معاوية ضرار بن الخطاب، فقال له: كيف حزنك على أبي
الحسن؟ قال: حزن من ذبح ولدها على صدرها، فما ترقأ عبرتها ولا يسكن
حزنها (2)!
(153)
عقيل ومعاوية
وفد عليه - أي معاوية - عقيل بن أبي طالب منتجعا زائرا. فرحب به معاوية
وسر بوروده، لاختياره إياه على أخيه، وأوسعه حلما واحتمالا.
فقال له: يا أبا يزيد، كيف تركت عليا؟ فقال: تركته على ما يحب الله
ورسوله وألفيتك على ما يكره الله ورسوله.
فقال له معاوية: لولا أنك زائر منتجع [جنابنا] لرددت عليك أبا يزيد
جوابا تألم منه.
ثم أحب معاوية أن يقطع كلامه مخافة أن يأتي بشئ يخفضه، فوثب عن
مجلسه وأمر له بنزل وحمل إليه مالا عظيما. فلما كان من غد جلس وأرسل إليه
فأتاه، فقال له: يا أبا يزيد، كيف تركت عليا أخاك؟ قال تركته خيرا لنفسه
منك، وأنت خير لي منه.

(1) البحار: ج 50 ص 213 - 214.
(2) مروج الذهب: ج 3 ص 25.
231

فقال له معاوية: أنت والله كما قال الشاعر:
وإذا عدوت فخار آل محرق * فالمجد منهم في بني عتاب
فمحل المجد من بني هاشم منوط فيك يا أبا يزيد ما تغيرك الأيام والليالي.
فقال عقيل:
اصبر لحرب أنت جانيها * لابد أن تصلى بحاميها
وأنت والله يا ابن أبي سفيان كما قال الآخر:
وإذا هوازن أقبلت بفخارها * يوما فخرتهم بآل مجاشع
بالحاملين على الموالي عزمهم * والضاربين الهام يوم الفازع
ولكن أنت يا معاوية، إذا افتخرت بنو أمية فبمن تفتخر؟ فقال معاوية:
عزمت عليك أبا يزيد لما أمسكت، فإني لم أجلس لهذا، وإنما أردت أن
أسألك عن أصحاب علي فإنك ذو معرفة بهم. فقال عقيل سل عما بدا لك.
فقال: ميز لي أصحاب علي، وابدأ بآل صوحان، فإنهم مخاريق الكلام.
قال: أما صعصعة: فعظيم الشأن، عضب اللسان، قائد فرسان، قاتل
أقران، يرتق ما فتق ويفتق ما رتق، قليل النظير.
وأما زيد و عبد الله: فإنهما نهران جاريان يصب فيهما الخلجان ويغاث بهما
البلدان، رجلا جد لا لعب معه، وبنو صوحان كما قال الشاعر:
إذا نزل العدو فإن عندي * أسودا تخلس الأسد النفوسا
فاتصل كلام عقيل بصعصعة، فكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، ذكر الله أكبر وبه يستفتح المستفتحون، وأنتم
مفاتيح الدنيا والآخرة.
أما بعد، فقد بلغ مولاك كلامك لعدو الله وعدو رسوله فحمدت الله على
232

ذلك وسألته أن يضئ بك إلى الدرجة العليا والقضيب الأحمر (1) والعمود
الأسود، فإنه عمود من فارقه فارق الدين الأزهر. ولئن نزعت بك نفسك إلى
معاوية طلبا لماله إنك لذو علم بجميع خصاله، فاحذر أن تعلق بك ناره
فيضلك عن الحجة! فإن الله قد رفع عنكم أهل البيت ما وضعه في غيركم، فما
كان من فضل أو إحسان فبكم وصل إلينا، فأجل الله أقداركم وحمى أخطاركم
وكتب آثاركم، فإن أقداركم مرضية وأخطاركم محمية وآثاركم بدرية، وأنتم
سلم الله إلى خلقه ووسيلته إلى طرقه، أيد علية ووجوه جلية، وأنتم كما قال
الشاعر:
فما كان من خير أتوه وإنما * توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه * وتغرس إلا في منابتها النخل (2)
(154)
عقيل والوليد بن عقبة
قال الوليد بن عقبة لعقيل في مجلس معاوية: غلبك أخوك يا أبا يزيد على
الثروة؟ قال: نعم وسبقني وإياك إلى الجنة.
قال: أما والله إن شدقيه لمضمومان من دم عثمان. فقال: وما أنت
وقريش؟ والله ما أنت فينا إلا كنطيح التيس!
فغضب الوليد (من قوله خ ل) وقال: والله لو أن أهل الأرض اشتركوا في
قتله لأرهقوا صعودا، وإن أخاك لأشد هذه الأمة عذابا. فقال (عقيل خ):

(1) القضيب الأحمر يظهر معناه مما نقله ينابيع المودة (ص 103 - 104) إنه شجرة غرسها الله في جنة
عدن بيمينه، فمن أراد أن يستمسك به فليتمسك بحب علي بن أبي طالب. أوردناه ملخصا لعله مراده
تحرير عقيل على ولاته أمير المؤمنين عليه السلام حيث إنه جاء إلى معاوية للدنيا. وأخرجه سبط بن
الجوزي في التذكرة.
(2) مروج الذهب: ج 3 ص 46 - 47.
233

صه! والله إنا لنرغب بعبد من عبيده من صحبة أبيك عقبة ابن أبي معيط! (2).
(155)
عقيل ومعاوية
قال معاوية يوما وعقيل عنده: هذا أبو يزيد لولا علمه أني خير له من أخيه
لما أقام عندنا وتركه. فقال عقيل: أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي
وقد آثرت دنياي، اسأل الله خاتمة خير (1).
(156)
عقيل ومعاوية
روى المدائني، قال: قال معاوية يوما لعقيل بن أبي طالب: هل من حاجة
فأقضيها لك؟ قال: نعم جارية عرضت علي وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا
بأربعين ألفا.
فأحب معاوية أن يمازحه، فقال: وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا وأنت
أعمى تجتزئ بجارية قيمتها خمسون درهما؟ قال: أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما
إذا أغضبته يضرب عنقك! فضحك معاوية وقال: مازحناك يا أبا يزيد، وأمر
فابتيعت له الجارية التي أولد منها مسلما... (1).
(157)
عقيل ومعاوية
سأل معاوية عقيلا عن قصة الحديدة المحماة المذكورة، فبكى وقال: أنا

(1) ابن أبي الحديد: ج 4 ص 93. والغارات: ج 1 ص 552. والبحار: ج 42 ص 114 عن ابن أبي
الحديد.
(2) ابن أبي الحديد: ج 11 ص 251. والحلبي في السيرة: ج 1 ص 304. والبحار: ج 42 ص 116.
(3) ابن أبي الحديد: ج 1 ص 251. والبحار: ج 42 ص 116. أقول: في هذه القصة ما لا يخفى، لعلها
من صنع المدائني الجعال.
234

أحدثك يا معاوية عنه ثم أحدثك عما سألت، نزل بالحسين ابنه ضيف،
فاستسلف درهما اشترى به خبزا، واحتاج إلى الإدام، فطلب من قنبر خادمهم
أن يفتح له زقا من زقاق عسل جاءتهم من اليمن، فأخذ منه رطلا. فلما طلبها
عليه السلام ليقسمها قال: يا قنبر، أظن أنه حدث بهذا الزق حدث؟ فأخبره،
فغضب عليه السلام وقال: علي بحسين! فرفع عليه الدرة، فقال: بحق عمي
جعفر! وكان إذا سئل بحق جعفر سكن، فقال له: ما حملك أن أخذت منه قبل
القسمة؟ قال: إن لنا فيه حقا فإذا أعطيناه رددناه. قال: فداك أبوك! وإن
كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم.
أما لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يقبل ثنيتك لأوجعتك ضربا!
ثم دفع إلى قنبر درهما كان مصرورا في ردائه وقال: اشتر به خير عسل تقدر
عليه.
قال عقيل: والله لكأني أنظر إلى يدي علي وهي على فم الزق وقنبر
يقلب العسل فيه ثم شده وجعل يبكي ويقول: اللهم اغفر لحسين، فإنه لم
يعلم.
فقال معاوية: ذكرت من لا ينكر فضله، رحم الله أبا حسن، فلقد سبق
من كان قبله وأعجز من يأتي بعده، هلم حديث الحديدة.
قال: نعم، أقويت وأصابتني مخمصة شديدة، فسألته فلم تند صفاته،
فجمعت صبياني وجئته بهم، والبؤس والضر ظاهران عليهم. فقال: ائتني عشية
لأدفع إليك شيئا.
فجئته يقودني أحد ولدي فأمره بالتنحي، ثم قال: ألا فدونك! فأهويت
حريضا قد غلبني الجشع أظنها صرة، فوضعت يدي على حديدة تلتهب نارا!
فلما قبضتها نبذتها وخرت كما يخور الثور تحت يد جازره، فقال لي: ثكلتك
أمك! هذا من حديدة أوقدت له نار الدنيا، فكيف بي وبك غدا إن سلكنا في
235

سلاسل جهنم؟ ثم قرأ: " إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون " ثم
قال: ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك إلا ما ترى، فانصرف إلى
أهلك.
فجعل معاوية يتعجب ويقول هيهات! هيهات! عقمت النساء أن يلدن.
(158)
عقيل ومعاوية
أتى عقيل معاوية.... بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام وصلح الحسن
عليه السلام وجلساءه حوله، فقال: يا أبا يزيد، أخبرني عن عسكري وعسكر
أخيك، فقد وردت عليهما، قال: أخبرك، مررت والله بعسكر أخي فإذا ليل
كليل رسول الله صلى الله عليه وآله ونهار كنهار رسول الله صلى الله عليه وآله
إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله ليس في القوم، ما رأيت إلا مصليا
ولا سمعت إلا قارئا. ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر
برسول الله ليلة العقبة.
ثم قال: من هذا عن يمينك يا معاوية؟ قال: هذا عمرو بن العاص. قال:
هذا الذي اختصم فيه ستة نفر، فغلب عليه جزار قريش. فمن الآخر؟ قال:
الضحاك بن قيس الفهري. قال: أما والله! لقد كان أبوه جيد الأخذ لعسب
التيوس. فمن هذا الآخر؟ قال: أبو موسى الأشعري. قال: هذا ابن السراقة (2).
فلما رأى معاوية أنه قد أغضب جلساءه، علم أنه إن استخبره عن نفسه
قال فيه سوءا، فأحب أن يسأله ليقول فيه ما يعلمه من السوء، فيذهب بذلك

(1) ابن أبي الحديد: ج 11 ص 253. والبحار: ج 42 ص 117.
(2) في الغارات: المراقة.
236

غضب جلسائه، قال: يا أبا يزيد! فما تقول في؟ قال: دعني من هذا. قال:
لتقولن. قال: أتعرف حمامة؟ قال: ومن حمامة يا أبا يزيد؟ قال: قد أخبرتك،
ثم قام فمضى.
فأرسل معاوية إلى النسابة، فدعاه فقال: من حمامة؟ قال ولي الأمان؟
قال: نعم. قال: حمامة جدتك - أم أبي سفيان - كانت بغيا في الجاهلية صاحبة
راية! فقال معاوية لجلسائه: قد ساويتكم وزدت عليكم، فلا تغضبوا (1).
(159)
عقيل ومعاوية
دخل عقيل بن أبي طالب على معاوية والناس عنده وهم سكوت، فقال:
تكلمن [أيها] الناس! فإنما معاوية رجل منكم فقال معاوية: يا أبا يزيد!
أخبرني عن الحسن بن علي؟ فقال: أصبح قريش وجها وأكرمهم حسبا. قال:
فأبن الزبير؟ قال: لسان قريش وسنانها إن لم يفسد نفسه. قال: فابن عمر؟
قال: ترك الدنيا مقبلة وخلاكم وإياها وأقبل على الآخرة، وهو بعد ابن
الفاروق. قال فمروان؟ قال: أوه؟ ذلك رجل لو أدرك أوائل قريش فأخذوا
برأيه صلحت دنياهم. قال: ابن عباس؟ قال أخذ من العلم ما شاء.
وسكت معاوية. فقال عقيل: يا معاوية أخبر عنك فإني بك عالم؟ قال:
أقسمت عليك يا [أ] با يزيد لما سكت (2)
(160)
عقيل ومعاوية
دخل عقيل على معاوية، فقال له: يا أبا يزيد! أي جداتكم في الجاهلية شر؟

(1) ابن أبي الحديد: ج 2 ص 124 - 125. وفي الغارات: ج 1 ص 64 و 65. والبحار: ج 42 ص 113
عن ابن أبي الحديد وص 112 قريبا عن أمالي الشيخ - رحمه الله - وج 8 ط الكمباني ص 522 عن الغارات.
(2) أنساب الأشراف: ج 1 ص 71 - 72.
237

قال: حمامة! فوجم معاوية.
قال هشام: وحمامة جدة أبي سفيان وهي من ذوات الرايات في
الجاهلية (1).
(161)
عقيل ومعاوية
دخل عقيل على معاوية وقد كف بصره فلم يسمع كلاما. فقال: يا معاوية
أما في مجلسك أحد؟ قال: بلى. قال فما لهم لا يتكلمون؟ فتكلم الضحاك بن
قيس. فقال [عقيل]: من هذا؟ فقال له: [معاوية: هذا] الضحاك بن قيس
قال [عقيل: كان] أبوه [من] خاصي القردة، ما كان بمكة أخصى لكلب وقرد
من أبيه (2).
(162)
عقيل ومعاوية
قال معاوية لعقيل بن أبي طالب - وكان جيد الجواب حاضره - أنا خير لك
من أخيك. فقال عقيل: إن أخي آثر دينه على دنياه وأنت آثرت دنياك على
دينك، فأخي خير لنفسه منك، وأنت خير لي.
وقال له يوما: إن فيكم لشبقا يا بني هاشم! فقال: هو منا في الرجال
ومنكم في النساء.
وقال له يوما وقد دخل عليه: هذا عقيل عمه أبو لهب: فقال عقيل: هذا
معاوية عمته حمالة الحطب، وعمه معاوية أم جميل بنت حرب بن أمية،
وكانت امرأة أبي لهب.

(1) أنساب الأشراف: ج 1 ص 72.
(2) أنساب الأشراف: ج 1 ص 75.
238

وقال له يوما: يا أبا يزيد أين ترى عمك أبا لهب؟ فقال له عقيل: إذا
دخلت النار فانظر عن يسارك تجده مفترشا عمتك، فانظر أيهما أسوء حالا!
الناكح أم المنكوح؟.
وقال له ليلة الهرير بصفين: يا أبا يزيد أنت معنا الليلة. قال: ويوم بدر كنت
معكم (1).
(163)
عقيل ومعاوية
ذكر أبو عمرو بن العلاء المازني النحوي - المتوفى سنة 154 - قال: قال:
معاوية يوما وعنده عمرو بن العاص وقد أقبل عقيل: لأضحكنك من عقيل.
فلما سلم قال له معاوية: مرحبا بمن عمه أبو لهب! فقال له عقيل: مرحبا بمن
عمته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد! وهي عمة معاوية وهي أم جميل
بنت حرب امرأة أبي لهب. قال معاوية: يا أبا يزيد ما ظنك بأبي لهب؟ قال
يا معاوية! إذا دخلت النار فخذ على يسارك تجده مفترشا عمتك حمالة
الحطب، أفناكح في النار خير أم منكوح؟ قال: كلاهما سواء شر والله! (2).
(164)
عقيل ومعاوية
الشيخ - رحمه الله - بإسناده عن الصمد عن جعفر بن محمد عليهما السلام
قال: قلت: يا أبا عبد الله حدثنا حديث عقيل. قال: نعم، جاء عقيل إليكم
بالكوفة وكان علي عليه السلام جالسا في صحن المسجد وعليه قميص سنبلاني،

(1) أمالي السيد - قدس سره -: ج 1 ص 276. ونقله في الغارات ج 2 ص 553. ونقل المجلسي قسما
منه في السيرة ج 1 ص 304 ونقل شطرا منه في المحاضرات: ج 2 ص 240.
(2) الغارات: ج 2 ص 553. والبحار: ج 42 ص 115 قريبا منه.
239

قال: فسأله. فقال: أكتب لك إلى ينبع. قال: ليس غير هذا؟ قال: لا. فبينما
هو كذلك إذ أقبل الحسن عليه السلام فقال: اشتر لعمك ثوبين، فاشترى له.
قال: يا ابن أخي! ما هذا؟ قال: هذه كسوة أمير المؤمنين.
ثم أقبل حتى انتهى إلى علي عليه السلام فجلس فجعل يضرب يده على
الثوبين وجعل يقول: ما ألين هذا الثوب يا أبا يزيد! قال: يا حسن اخد عمك.
قال: والله ما أملك درهما ولا دينارا. قال: فاكسه بعض ثيابك.
قال عقيل: يا أمير المؤمنين! أئذن لي إلى معاوية: قال: في حل محلل،
فانطلق نحوه.
وبلغ ذلك معاوية، فقال: اركبوا أفره دوابكم وألبسوا من أحسن ثيابكم،
فإن عقيلا قد أقبل نحوكم.
وأبرز معاوية سريره، فلما انتهى إليه عقيل قال معاوية: مرحبا بك
يا أبا يزيد! ما نزع بك؟ قال: طلب الدنيا من مظانها. قال: وفقت وأصبت، قد
أمرنا لك بمائة ألف، فأعطاه المائة الألف. ثم قال: أخبرني عن العسكرين
اللذين مررت بهما قبل، عسكري وعسكر علي؟ قال: في الجماعة أخبرك أو في
الوحدة؟ قال: لا بل في الجماعة. قال: مررت على عسكر علي فإذا ليل كليل
النبي ونهار كنهار النبي، إلا أن رسول الله ليس فيهم، ومررت على عسكرك
فإذا أول من استقبلني أبو الأعور وطائفة من المنافقين والمنفرين برسول الله صلى
الله عليه وآله إلا أن أبا سفيان ليس فيهم، ومررت على عسكرك فكف حتى
إذا ذهب الناس، قال له: يا أبا يزيد! أيش صنعت بي؟ قال: ألم أقل لك في
الجماعة أو في الوحدة فأبيت علي؟ قال: أما الآن فاشفني من عدوي. قال:
ذلك عند الرحيل.
فلما كان من الغد شد غرائره ورواحله وأقبل نحو معاوية وقد جمع معاوية
حوله. فلما انتهى إليه قال: يا معاوية من ذا عن يمينك؟ قال: عمرو بن
240

العاص. فتضاحك، ثم قال [هذا الذي اختصم فيه ستة نفر، فغلب عليه
جزارها. فمن الآخر؟ قال: الضحاك بن قيس الفهري، فتضاحك ثم قال] (1).
لقد علمت قريش أنه لم يكن أخصى لتيوسها من أبيه. ثم قال: من هذا؟
قال: هذا أبو موسى. فتضاحك، ثم قال: لقد علمت قريش بالمدينة أنه لم
يكن بها امرأة أطيب ريحا من قب أمه.
ثم قال: أخبرني عن نفسي يا أبا يزيد! قال: تعرف حمامة؟ ثم سار.
فألقى في خلد معاوية قال: أم من أمهاتي لست أعرفها! فدعى بنسابين من
أهل الشام، فقال أخبراني من أم من أمهاتي يقال لها: " حمامة " لست أعرفها.
فقالا نسألك بالله لا تسألنا عنها اليوم. قال: أخبراني أو لأضربن أعناقكما!
لكما الأمان. قالا: فإن حمامة جدة أبي سفيان السابعة وكانت بغيا وكان لها
بيت تؤتى فيه.
قال جعفر بن محمد عليهما السلام وكان عقيل من أنسب الناس (2).
(165)
عقيل ومعاوية
لما وفد على معاوية وقد غضب من أخيه علي لما طلب منه عطاءه وقال
له: اصبر حتى يخرج عطاءك مع المسلمين فأعطيك، فقال له: لأذهبن إلى رجل
هو أوصل إلي منك! فذهب إلى معاوية، فأعطاه معاوية مائة ألف درهم. ثم
قال له معاوية: اصعد المنبر فاذكر ما أولاك علي وما أوليتك. فصعد فحمد الله
وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس! إني أخبركم أني أردت عليا على دينه فاختار دينه، وإني

(1) زاد ما بين المعقفتين في تعليقات الغارات ص 936 وقال أضيف ما بين المعقفتين لوجوده في
الغارات.
(2) أمالي الشيخ: ج 2 ص 334 - 335. وتعليقات الغارات ص 936 عنه.
241

أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه (1).
(166)
عقيل ومعاوية
... فقال معاوية لعقيل: يا أبا يزيد أين يكون عمك أبو لهب اليوم؟ قال:
إذا دخلت جهنم فاطلبه مضاجعا عمتك أم جميل بنت حرب بن أمية! (2).
(167)
عقيل ومعاوية
ذكر أبو عمرو: أن معاوية قال لعقيل: إن فيكم يا بني هاشم لخصلة
لا تعجبني، قال: وما تلك الخصلة؟ قال: اللين. قال: وما ذلك اللين؟ قال: هو
ما أقول لك. قال: أجل يا معاوية! إن فينا للينا في غير ضعف وعزا في غير
عنف، فإن لينكم يا ابن صخر غدر وسلمكم كفر. فقال معاوية: ما أردنا كل
هذا يا أبا يزيد.
فقال عقيل:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا * وما علم الإنسان إلا ليعلما
إن السفاهة طيش من خلائقكم * لا قدس الله أخلاق الملاعين
فأراد معاوية أن يقطع كلامه، فقال: ما معنى هذه الكلمة " طه "؟ فقال
عقيل: نحن أهله وعلينا نزل لا على أبيك ولا على أهل بيتك " طه " بالعبرانية:
يا رجل (3).

(1) السيرة للحلبي: ج 1 ص 304.
(2) البحار: ج 42 ص 117.
(3) الغارات: ج 2 ص 551.
242

(168)
رجل من الشيعة مع مخالف
عن أبي محمد العسكري أنه قال: قال بعض المخالفين بحضرة الصادق
عليه السلام لرجل من الشيعة: ما تقول في العشرة من الصحابة؟ قال: أقول فيهم
الخير الجميل الذي يحط الله به سيئاتي ويرفع لي درجاتي. قال السائل: الحمد
لله الذي أنقذني من بغضك، كنت أظنك رافضيا تبغض الصحابة.
فقال الرجل: ألا من أبغض واحدا من الصحابة فعليه لعنة الله! قال:
لعلك تتأول، ما تقول فيمن أبغض العشرة؟ فقال: من أبغض العشرة فعليه لعنة
الله والملائكة والناس أجمعين! فوثب فقبل رأسه، وقال: اجعلني في حل مما
قذفتك به من الرفض قبل اليوم. قال: أنت في حل وأنت أخي، ثم انصرف
السائل. الحديث (1).
(169)
رجل من الشيعة مع مخالف
دخل على أبي الحسن الرضا عليه السلام رجل فقال له: يا ابن رسول الله!
لقد رأيت اليوم شيئا عجبت منه! قال: وما هو؟ قال: رجل كان معنا يظهر لنا
أنه من الموالين لآل محمد المتبرين من أعدائهم، فرأيته اليوم وعليه ثياب قد
خلعت عليه وهو ذا يطاف به ببغداد وينادي المنادي بين يديه: معاشر الناس!
اسمعوا توبة هذا الرافضي، ثم يقولون له قل، فيقول: خير الناس بعد رسول الله
صلى الله عليه وآله أبا بكر، فإذا قال ذلك ضجوا وقالوا: قد تاب وفضل
أبا بكر على علي بن أبي طالب عليه السلام فقال الرضا عليه السلام: إذا خلوت

(1) البحار: ج 71 ص 12.
243

فأعد علي هذا الحديث.
فلما خلا أعاد عليه. فقال له: إنما لم أفسر لك معنى كلام الرجل بحضرة
هذا الخلق المنكرين، كراهة أن ينقل إليهم فيعرفوه ويؤذوه، لم يقل الرجل: الناس
بعد رسول الله صلى الله عليه وآله [أبو بكر فيكون قد فضل أبا بكر على علي بن
أبي طالب عليه السلام ولكن قال: خير الناس بعد رسول الله] أبا بكر فجعله
نداء لأبي بكر لرضى من يمشي بين يديه من بعض هؤلاء الجهلة ليتوارى من
شرورهم، الحديث (1).
(170)
رجل من الشيعة عند بعض المخالفين
عن أبي محمد العسكري عليه السلام قال: قال رجل من خواص الشيعة
لموسى بن جعفر عليهما السلام وهو يرتعد بعد ما خلا به: يا ابن رسول الله صلى الله
عليه وآله ما أخوفني أن يكون فلان بن فلان ينافقك في إظهاره واعتقاد وصيتك
وإمامتك! فقال موسى على السلام: وكيف ذلك؟ قال: لأني حضرت معه
اليوم في مجلس فلان رجل من كبار أهل بغداد، فقال له صاحب المجلس: أنت
تزعم أن موسى بن جعفر إمام دون هذا الخليفة القاعد على سريره؟ فقال له
صاحبك هذا: ما أقول هذا، بل أزعم أن موسى بن جعفر غير إمام، وإن لم أكن
أعتقد أنه غير إمام فعلي وعلى من لم يعتقد ذلك لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين! قال له صاحب المجلس: جزاك الله خيرا ولعن من وشى بك،
الحديث (2).

(1) البحار: ج 71 ص 15.
(2) المصدر نفسه.
244

(171)
أبو سعيد ابن عقيل مع ابن الزبير
دخل الحسن بن علي عليهما السلام على معاوية وعنده عبد الله بن الزبير - وكان
معاوية يحب أن يغري بين قريش - فقال: يا أبا محمد! أيهما كان أكبر سنا علي
أم الزبير؟ فقال الحسن: ما أقرب ما بينهما وعلي أسن من الزبير، رحم الله عليا،
فقال ابن الزبير: رحم الله الزبير.
وهناك أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب، فقال: يا عبد الله! وما يهيجك من
أن يترحم الرجل على أبيه؟ قال: وأنا أيضا ترحمت على أبي. قال: أتظنه ندا له
وكفؤا؟ قال: وما يعدل به عن ذلك؟ كلاهما من قريش كلاهما دعا إلى نفسه
ولم يتم له. قال: دع ذاك عنك يا عبد الله! إن عليا من قريش ومن الرسول
صلى الله عليه وآله حيث تعلم، ولما دعا إلى نفسه اتبع فيه وكان رأسا،
ودعا الزبير إلى أمر كان الرأس فيه امرأة! ولما تراءت الفئتان نكص على
عقبيه وولى مدبرا قبل أن يظهر الحق فيأخذه أو يدحض الباطل فيتركه،
فأدركه رجل لو قيس ببعض أعضائه لكان أصغر، فضرب عنقه وأخذ سلبه
وجاء برأسه! ومضى علي قد مال كعادته مع ابن عمه، رحم الله عليا ولا رحم
الزبير! فقال ابن الزبير: أما والله! لو أن غيرك تكلم بهذا يا أبا سعيد لعلم!
فقال: إن الذي تعرض به يرغب عنك. وكفه معاوية فسكتوا.
وأخبرت عائشة بمقالتهم. ومر أبو سعيد بفنائها، فنادته يا أبا سعيد أنت
القائل لابن أختي كذا؟ فالتفت أبو سعيد فلم ير شيئا، فقال: إن الشيطان
يراك ولا تراه! فضحكت عائشة وقالت: لله أبوك! ما أذلق لسانك! (1).

(1) ابن أبي الحديد: ج 11 ص 19. والعقد الفريد: ج 4 ص 14.
245

(172)
ذكوان وابن الزبير
دخل الحسين بن علي يوما على معاوية ومعه مولى له يقال له: ذكوان،
وعند معاوية جماعة من قريش فيهم ابن الزبير. فرحب معاوية بالحسين وأجلسه
على سريره، وقال: ترى هذا القاعد - يعني ابن الزبير - فإنه ليدركه الحسد لبني
عبد مناف. فقال ابن الزبير لمعاوية: قد عرفنا فضل الحسين وقرابته من
رسول الله صلى الله عليه وآله لكن إن شئت أعلمك فضل الزبير على أبيك
أبي سفيان فعلت.
فتكلم ذكوان مولى الحسين بن علي عليهما السلام فقال: يا ابن الزبير! إن
مولاي ما يمنعه من الكلام أن لا يكون طلق اللسان رابط الجنان، فإن نطق نطق
بعلم، وإن صمت صمت بحلم، غير أنه كف الكلام وسبق إلى اللسان، فأقرت
بفضله الكرام، وأنا الذي أقول:
فيم الكلام لسابق في غاية * والناس بين مقصر ومبلد
إن الذي يجري ليدرك شأوه * ينمى بغير مسود ومسدد
بل كيف بدر نور ساطع * خير الأنام وفرع آل محمد
فقال معاوية: صدق قولك يا ذكوان! أكثر الله في موالي الكرام مثلك.
فقال ابن الزبير: إن أبا عبد الله سكت وتكلم مولاه، ولو تكلم لأجبناه أو
لكففنا عن جوابه إجلالا، ولا جواب لهذا العبد.
قال ذكوان: هذا العبد خير منك، قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
" مولى القوم منهم " فأنا مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وأنت ابن [الزبير
بن] العوام بن خويلد، فنحن أكرم ولاء وأحسن فعلا.
قال ابن الزبير: إني لست أجيب هذا، فهات ما عندك
246

يا معاوية!.... (1).
(173)
جارية بن قدامة مع معاوية
قال معاوية لجارية بن قدامة: ما كان أهونك على أهلك إذ سموك
جارية! قال: ما كان أهونك على أهلك إذ سموك معاوية! وهي الأنثى من
الكلاب.
قال: لا أم لك! قال: أمي ولدتني للسيوف التي لقيناك بها في أيدينا.
قال: إنك لتهددني؟ قال: إنك لم تفتحنا قسرا ولم تملكنا عنوة، ولكنك
أعطيتنا عهدا وميثاقا وأعطيناك سمعا وطاعة، فإن وفيت لنا وفينا لك، وإن
فزعت إلى غير ذلك فإنا تركنا وراءنا رجالا شدادا وألسنة حدادا.
قال له معاوية: لا كثر الله في الناس أمثالك! قال جارية: قل معروفا
وراعنا، فإن شر الدعاء المحتطب (2).
رواه في الغدير (3) عن ابن عساكر في تاريخه قال:
وفد جارية بن قدامة على معاوية، فقال له معاوية: أنت الساعي مع علي
بن أبي طالب والموقد النار في شعلك تجوس قرى عربية تسفك دماءهم؟ قال
جارية: يا معاوية! دع عنك عليا فما أبغضنا عليا منذ أحببناه ولا غششناه منذ
صحبناه. قال: ويحك يا جارية! ما أهونك على أهلك إذ سموك جارية! قال:
أنت معاوية كنت أهون على أهلك إذ سموك معاوية!.

(1) العقد الفريد: ج 4 ص 15.
(2) العقد الفريد: ص 28. والغدير: ج 10 ص 171 عنه وعن المستطرف: ج 1 ص 73. وتاريخ
الخلفاء للسيوطي ص 133.
(3) الغدير: ج 1 ص 171.
247

وذكره الشيخ في أماليه (1) بنحو آخر: قال: قدم جارية بن قدامة السعدي
على معاوية، ومع معاوية على السرير الأحنف بن قيس والحباب المجاشعي،
فقال له معاوية: من أنت؟ قال: أنا جارية بن قدامة، قال: وكان نبيلا. فقال
له معاوية: وما عسيت أن تكون، هل أنت إلا نحلة؟ فقال: لا تفعل يا معاوية!
قد شبهتني بالنحلة وهي والله حامية اللسعة حلوة البصاق، والله ما معاوية إلا
كلبة تعاوي الكلاب! ولا أمية إلا تصغير أمة! فقال معاوية: لا تفعل. قال:
إنك فعلت ففعلت.
قال له: فادن اجلس معي على السرير. فقال: لا أفعل. قال: ولم؟ قال:
لأني رأيت هذين قد أماطاك عن مجلسك فلم أكن لأشاركهما.
قال له معاوية: ادن أسارك. فدنا منه، فقال: يا جارية! اشتريت من
هذين الرجلين دينهما. قال: ومني فاشتر يا معاوية! قال له: لا تجهر (2).
(174)
أبو الطفيل مع معاوية
قال معاوية لأبي الطفيل: كيف وجدك على علي؟ قال: وجد ثمانين
مثكل قال: فكيف حبك له؟ قال حب أم موسى، وإلى الله أشكو التقصير.
وقال له مرة أخرى: أبا الطفيل! قال: نعم. قال: أنت من قتلة عثمان؟
قال: لا ولكني ممن حضره ولم ينصره. قال: وما منعك من نصره؟ قال: لم
ينصره المهاجرون والأنصار فلم أنصره.
قال: لقد كان حقه واجبا وكان عليهم أن ينصروه. قال: فما منعك من
نصرته يا أمير المؤمنين وأنت ابن عمه؟ قال: أو ما طلبي نصرة له؟ فضحك أبو

(1) أمالي الشيخ: ج 1 ص 195 ط نجف.
(2) وراجع البحار: ح 44 ص 133 عن المجالس والأمالي.
248

الطفيل وقال: مثلك ومثل عثمان كما قال الشاعر:
لأعرفنك بعد الموت تندمني * وفي حياتي ما زودتني زادي (1)
(175)
عدي ومعاوية
قال معاوية لعدي بن حاتم: ما فعلت الطرفات يا أبا طريف؟
قال: قتلوا! قال: ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قتل بنوك معه وبقي له بنوه.
قال: لئن كان ذلك لقد قتل هو وبقيت أنا بعه.
قال له معاوية: ألم تزعم أنه لا يخنق في قتل عثمان عنز؟ قد والله خنق فيه
التيس الأكبر. ثم قال معاوية: أما إنه قد بقيت من دمه قطرة ولا بد أن
أتبعها.
قال عدي: لا أبا لك شم السيف، فإن سل السيف يسل السيف. فالتفت
معاوية إلى حبيب بن مسلمة، فقال: اجعلها في كتابك فإنها حكمة (2).
وفي مروج الذهب: وذكر أن عدي بن حاتم الطائي دخل على معاوية،
فقال له معاوية: ما فعلت الطرفات، يعني أولاده؟ قال: قتلوا مع علي! قال:
ما أنصفك علي قتل أولادك وبقي أولاده. فقال عدي: ما أنصفت عليا إذ قتل
وبقيت بعده.
فقال معاوية: أما إنه قد بقيت قطرة من دم عثمان ما يمحوها إلا دم شريف
من أشراف اليمن. فقال عدي: والله! إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي
صدورنا، وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن أدنيت إلينا من
الغدر فترا لندينن إليك من الشر شبرا، وإن حز الحلقوم وحشرجة الحيزوم

(1) العقد الفريد: ج 4 ص 30. ومروج الذهب: ج 3 ص 25.
(2) العقد الفريد: ج 1 ص 28.
249

لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي، فسلم السيف يا معاوية لباعث
السيف. فقال معاوية: هذه كلمات حكم فاكتبوها (1).
(176)
عدي مع رجل
قال رجل لعدي بن حاتم الطائي وكان من جملة أصحاب علي
عليه السلام: يا أبا طريف! ألم أسمعك تقول يوم الدار: " والله لا تحبق فيه
عناق حولية " وقد رأيت ما كان فيها، وقد كان فقئت عين عدي وقتل بنوه؟
فقال: أما والله! لقد حبقت في قتله العناق والتيس الأعظم (2).
(177)
عدي وابن الزبير
حضر جماعة عند معاوية وعنده عدي بن حاتم، وكان منهم عبد الله بن
الزبير. فقالوا: يا أمير المؤمنين! ذرنا نكلم عديا، فقد زعموا أن عنده جوابا.
فقال: إني احذركموه! فقالوا: لا عليك دعنا وإياه.
فقال له ابن الزبير: يا أبا طريف! متى فقئت عينك؟ قال: يوم فر أبوك وقتل
شر قتلة! وضربك الأشتر على استك فوقعت هاربا من الزحف!
وأنشد:
أما وأبي يا ابن الزبير لو أنني * لقيتك يوم الزحف ما رمت لي سخطا
وكان أبي في طي وأبو أبي * صحيحين لم تنزع عروقهما القبطا
ولو رمت شتمي عند عدل قضائه * لرمت به يا ابن الزبير مدى شحطا
فقال معاوية: قد كنت حذرتكموه فأبيتم! (3)

(1) مروج الذهب ج 3 ص 13.
(2) ابن أبي الحديد: ج 8 ص 39.
(3) البحار: ج 8 ص 533 ط الكمباني.
250

(178)
صعصعة ومعاوية
حدث الهيثم، عن أبي سفيان عمرو بن يزيد، عن البراء بن يزيد، عن
محمد بن عبد الله بن الحارث الطائي، ثم أحد بني عفان قال: لما انصرف علي
عليه السلام من الجمل قال لآذنه: من بالباب من وجوه العرب؟ قال: محمد بن
عمير بن عطارد التيمي والأحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان العبدي في
رجال سماهم، فقال: إئذن لهم. فدخلوا فسلموا [عليه] بالخلافة، فقال لهم:
أنتم وجوه العرب عندي ورؤساء أصحابي فأشيروا علي في أمر هذا الغلام
المترف - يعني معاوية - فافتنت بهم المشورة عليه. فقال صعصعة.
إن معاوية أترفه الهوى وحببت إليه الدنيا، فهانت عليه مصارع الرجال
وابتاع آخرته بدنياهم، فإن تعمل فيه برأي ترشد وتصب إن شاء الله، والتوفيق
بالله وبرسوله وبك يا أمير المؤمنين! والرأي أن ترسل إليه عينا من عيونك وثقة
من ثقاتك بكتاب تدعوه إلى بيعتك فإن أجاب وأناب كان له ما لك وعليه
ما عليك، وإلا جاهدته وصبرت لقضاء الله حتى يأتيك اليقين.
فقال علي عليه السلام: عزمت عليك يا صعصة إلا كتبت الكتاب بيديك
وتوجهت به إلى معاوية واجعل صدر الكتاب تحذيرا وتخويفا وعجزه استتابة
واستنابة، وليكن فاتحة الكتاب " بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي
أمير المؤمنين إلى معاوية، سلام عليك، أما بعد " ثم اكتب ما أشرت به علي
واجعل عنوان الكتاب " ألا إلى الله تصير الأمور "، قال: اعفني من ذلك. قال:
عزمت عليك لتفعلن! قال: أفعل.
فخرج بالكتاب وتجهز وسار حتى ورد دمشق، فأتى باب معاوية، فقال
لآذنه: استأذن لرسول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وبالباب أزفلة من بني
251

أمية، فأخذته الأيدي والنعال لقوله، وهو يقول: " أتقتلون رجلا أن يقول ربي
الله " وكثرت الجلبة واللغط.
فاتصل ذلك بمعاوية، فوجه من يكشف الناس عنه فكشفوا، ثم أذن لهم
فدخلوا.
فقال لهم: من هذا الرجل؟ فقالوا: رجل من العرب يقال له: " صعصة بن
صوحان " معه كتاب من علي. فقال: والله! لقد بلغني أمره، هذا أحد سهام
علي وخطباء العرب، وقد كنت إلى لقائه شيقا، إئذن له يا غلام.
فدخل عليه، فقال: السلام عليك يا ابن أبي سفيان! هذا كتاب
أمير المؤمنين. فقال معاوية: أما إنه لو كانت الرسل تقتل في جاهلية أو إسلام
لقتلتك! ثم اعترضه معاوية في الكلام وأراد أن يستخرجه ليعرف قريحته أطبعا
أم تكلفا؟ فقال: ممن الرجل؟ قال: من نزال. قال: وما كان نزار؟ قال: كان
إذا غزا نكس، وإذا لقي افترس، وإذا انصرف احترس. قال: فمن أي أولاده
أنت؟ قال من ربيعة. قال:، وما كان ربيعة؟ قال: كان يطيل النجاد، ويعول
العباد، ويضرب ببقاع الأرض العماد. قال فمن أي أولاده أنت؟ قال: من
جديلة. قال: وما كان جديلة؟ قال: كان في الحرب سيفا قاطعا، وفي المكرمات
غيثا نافعا، وفي اللقاء لهبا ساطعا. قال: فمن أي أولاده أنت؟ قال: من
عبد القيس. قال: وما كان عبد القيس؟ قال كان خصيبا خضرما أبيض،
وهابا لضيفه ما يجد، ولا يسأل عما فقد، كثير المرق، طيب العرق، يقوم للناس
مقام الغيث من السماء.
قال: ويحك يا ابن صوحان! فما تركت لهذا الحي من قريش مجدا ولا فخرا.
قال: بلى والله يا بن أبي سفيان! تركت لهم ما لا يصلح إلا بهم، ولهم تركت
الأبيض والأحمر والأصفر والأشقر والسرير والمنبر والملك إلى المحشر، وأنى
لا يكون ذلك كذلك وهم منار الله في الأرض ونجومه في السماء؟
252

ففرح معاوية وظن أن كلامه يشتمل على قريش كلها، فقال: صدقت
يا ابن صوحان! إن ذلك لكذلك.
فعرف صعصعة ما أراد، فقال: ليس لك ولا لقومك في ذلك إصدار
ولا إيراد، بعدتم عن أنف المرعى، وعلوتم عن عذب الماء.
قال: فلم ذلك ويلك يا ابن صوحان؟ قال: الويل لأهل النار، ذلك لبني
هاشم، قال: قم، فأخرجوه.
فقال صعصعة: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد، من أراد المشاجرة قبل
المحاورة.
فقال معاوية: لشئ ما سوده قومه، وددت والله! إني من صلبه. ثم التفت
إلى بني أمية، فقال: هكذا فلتكن الرجال (1).
(179)
صعصعة ومعاوية
حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدي و عبد الله بن الكواء اليشكري
ورجالا من أصحاب علي مع رجال من قريش. فدخل عليهم معاوية يوما،
فقال: نشدتكم بالله! إلا ما قلتم حقا وصدقا، أي الخلفاء رأيتموني؟ فقال: ابن
الكواء: لولا أنك عزمت علينا ما قلنا، لأنك جبار عنيد، لا تراقب الله في قتل
الأخيار، ولكنا نقول: إنك ما علمنا واسع الدنيا ضيق الآخرة، قريب الثرى
بعيد المرعى، تجعل الظلمات نورا والنور ظلمات.
فقال معاوية: إن الله أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابين عن بيضته
التاركين لمحارمه، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم الله والمحلين
ما حرم الله والمحرمين ما أحل الله.... ثم تكلم صعصعة فقال:

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 47 - 49.
253

تكلمت يا ابن أبي سفيان فأبلغت، ولم تقصر عما أردت، وليس الأمر على
ما ذكرت، أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهرا، ودانهم كبرا، واستولى
بأسباب الباطل كذبا ومكرا؟ أما والله! ما لك في يوم بدر مضرب ولا مرمى،
وما كنت فيه إلا كما قال القائل: " لا حلي ولا سيري " ولقد كنت أنت وأبوك
في العير والنفير ممن أجلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أنت طليق
ابن طليق، أطلقكما رسول الله صلى الله عليه وآله، فأنى تصلح الخلافة
لطليق؟!
فقال معاوية: لولا أني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول:
قابلت جهلهم حلما ومغفرة * والعفو عن قدرة ضرب من الكرم
لقتلتكم (1).
(180)
صعصعة ومعاوية
الكلبي، قال: دخل صعصعة بن صوحان [العبدي] على معاوية، فقال له:
يا ابن صوحان! أنت ذو معرفة بالعرب وبحالها، فأخبرني عن أهل البصرة؟
وإياك والحمل على قوم لقوم! قال: البصرة واسطة العرب، ومنتهى الشرف
والسؤدد، وهم أهل الخطط في أول الدهر وآخره، وقد دارت بهم سروات
العرب كدوران الرحى على قطبها.
قال: فأخبرني عن أهل الكوفة؟ قال: قبة الإسلام، وذروة الكلام، ومظان
ذوي الأعلام، إلا أن بها أجلافا تمنع ذوي الأمر الطاعة، وتخرجهم عن
الجماعة، وتلك أخلاق ذوي الهيئة والقناعة.
قال: فأخبرني عن أهل الحجاز؟ قال: أسرع الناس إلى فتنة، وأضعفهم عنها

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 50.
254

وأقلهم غناء فيها، غير أن لهم ثباتا في الدين وتمسكا بعروة اليقين، يتبعون
الأئمة الأبرار، ويخلعون الفسقة الفجار.
فقال معاوية: من البررة والفسقة؟ فقال: يا ابن أبي سفيان! ترك الخداع
من كشف القناع، علي وأصحابه من الأئمة الأبرار، وأنت وأصحابك من
أولئك.
ثم أحب معاوية أن يمضي صعصعة في كلامه بعد أن بان فيه الغضب،
فقال: أخبرني عن القبة الحمراء في ديار مضر؟ قال: أسد مضر بسلان بين
غيلين، إذا أرسلتها افترست، وإذا تركتها احترست.
فقال معاوية: هنالك يا ابن صوحان العز الراسي، فهل في قومك مثل
هذا؟ قال: هذا لأهله دونك يا ابن أبي سفيان! ومن أحب قوما حشر معهم.
قال: فأخبرني عن ديار ربيعة؟ ولا يستخفنك الجهل وسابق الحمية
بالتعصب لقومك. قال: والله ما أنا عنهم براض، ولكني أقول فيهم وعليهم، هم
والله! أعلام الليل، وأذناب في الدين والميل (هم والله أعلام الخيل وأرباب في
الدين والميل خ ل) لن تغلب رايتها إذا رسخت، خوارج الدين، برازخ اليقين
(جوارح الدين موارح اليقين خ) من نصروه فلج، ومن خذلوه زلج.
قال: فأخبرني عن مضر؟ قال: كنانة العرب، ومعدن العز والحسب،
يقذف البحر بها آذيه والبر رديه.
ثم أمسك معاوية. فقال له صعصعة: سل يا معاوية! وإلا أخبرتك بما تحيد
عنه. قال: وما ذاك يا ابن صوحان! قال: أهل الشام. قال: فأخبرني عنهم؟
قال: أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم للخلق، عصاة الجبار وخلفة الأشرار، فعليهم
الدمار ولهم سوء الدار.
فقال معاوية: والله يا ابن صوحان! إنك لحامل مديتك منذ أزمان، إلا أن
حلم ابن أبي سفيان يرد عنك. فقال صعصعة: بل أمر الله وقدرته، إن أمر الله
255

كان قدرا مقدورا (1).
(181)
صعصة ومعاوية
قال معاوية يوما - وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب علي وعنده وجوه
الناس -: الأرض لله وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي، وما تركت منه
كان جائزا لي.
فقال صعصعة:
تمنيك نفسك ما لا يكون * جهلا معاوي لا تأثم
فقال معاوية: يا صعصعة تعلمت الكلام! قال: العلم بالتعلم، ومن لا يعلم
يجهل.
قال معاوية: ما أحوجك إلى أن أذيقك وبال أمرك! قال: ليس ذلك
بيدك، ذلك بيد الذي لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها.
قال: ومن يحول بيني وبينك؟ قال: الذي يحول بين المرء وقلبه.
قال معاوية: اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير للشعير. قال: اتسع
بطن من لا يشبع، ودعا عليه من لا يجمع (2).
قال المسعودي: ولصعصعة بن صوحان أخبار حسان، وكلام في نهاية
البلاغة والفصاحة والإيضاح عن المعاني على إيجاز واختصار، ومن ذلك خبره
مع عبد الله بن العباس، إلى آخر القصة (3).

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 51 - 52.
(2) مروج الذهب: ج 3 ص 52.
(3) مروج الذهب: ج 3 ص 52 - 55.
256

(182)
صعصعة ورجل
وقف رجل من بني فزارة على صعصعة، فأسمعه كلاما منه: بسطت
لسانك يا ابن صوحان على الناس فتهيبوك، أما لئن شئت لأكونن لك لصاقا،
فلا تنطق إلا حددت لسانك بأذرب من ظبة السيف بعضب قوي ولسان
علي، ثم لا يكون لك في ذلك حل ولا ترحال.
فقال صعصعة: لو أجد غرضا منك لرميت، بل أرى شبحا، ولا أرى مثالا
إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، أما لو كنت
كفوا لرميت حصائلك بأذرب من ذلك السنان، ولرشقتك بنبال تردعك عن
النضال، ولخطمتك بخطام يخرم منك موضع الزمام.
فاتصل الكلام بابن عباس فاستضحك من الفزاري! وقال: أما لو كلف
أخو فزارة نفسه نقل الصخور من جبال شمام إلى الهضام، لكان أهون عليه من
منازعة أخي عبد القيس، خاب أبوه ما أجهله! يستجهل أخا عبد القيس وقواه
المريرة، ثم تمثل:
صبت عليك ولم تنصب من أمم * إن الشقاء على الأشقين مصبوب (1).
أخبرني رجل من الأزد، قال: نظرت إلى أبي أيوب الأنصاري في يوم
النهروان، وقد علا عبد الله بن وهب الراسبي فضربه ضربة على كتفه فأبان
يده، وقال: بؤبها إلى النار يا مارق! فقال عبد الله: ستعلم أينا أولى بها صليا،
قال: وأبيك إني لأعلم.
إذ أقبل صعصعة بن صوحان فوقف وقال: أولى بها والله صليا من ضل في

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 55 - 56.
257

الدنيا عميا وصار إلى الآخرة شقيا، أبعدك الله وأنزحك! أما والله! لقد
أنذرتك هذه الصرعة بالأمس فأبيت إلا نكوصا على عقبيك، فذق يا مارق وبال
أمرك.
وشرك أبا أيوب في قتله، ضربه ضربة بالسيف أبان بها رجله، وأدركه
بأخرى في بطنه، وقال: لقد صرت إلى نار لا تطفأ ولا يبوخ سعيرها. ثم احتزا
رأسه وأتيا به عليا، فقالا: هذا رأس الفاسق الناكث المارق عبد الله بن
وهب.... (1).
(183)
صعصعة والمغيرة
قال المغيرة - وهو عامل معاوية يومئذ - لصعصعة بن صوحان: قم فالعن
عليا. فقام فقال: إن أميركم هذا أمرني أن ألعن عليا، فالعنوه لعنه الله! وهو
يضمر مغيرة (2).
(184)
أصحاب علي عليه السلام ومعاوية
روى أبو الحسن المدائني: أنه كان لهم - أي الأشتر، ومالك بن كعب
الأرجي، والأسود بن يزيد النخعي، وعلقمة بن قيس النخعي، وصعصعة بن
صوحان، وغيرهم الذين سيرهم عثمان من الكوفة إلى الشام - مع معاوية
بالشام مجالس طالت فيها المحاورات والمخاطبات، وأن معاوية قال لهم في جملة
ما قاله: إن قريشا قد عرفت أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها، إلا
ما جعل الله لنبيه صلى الله عليه وآله فإنه انتجبه وأكرمه، ولو أن أبا سفيان ولد

(1) مروج الذهب: ج 3 ص 56.
(2) شرح نهج لابن أبي الحديد: ج 15 ص 257.
258

الناس كلهم لكانوا حلماء.
فقال له صعصعة بن صوحان: كذبت! قد ولدهم خير من أبي سفيان، من
خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البر
والفاجر والكيس والأحمق.
(185)
أصحاب علي عليه السلام ومعاوية
قال: ومن المجالس التي دارت بينهم: أن معاوية قال لهم: أيها القوم! ردوا
خيرا أو اسكتوا، وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم والمسلمين فاطلبوه، وأطيعوني.
فقال له صعصعة: لست بأهل ذلك، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية
الله.
فقال: إن أول كلام ابتدأت به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة رسوله، وأن
تعتصموا جميعا ولا تفرقوا.
فقالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله.
فقال: إن كنت فعلت، فإني الآن أتوب وآمركم بتقوى الله وطاعته ولزوم
الجماعة، وأن توقروا أئمتكم وتطيعوهم.
فقال صعصعة: إن كنت تبت فإنا نأمرك أن تعتزل عملك، فإن في
المسلمين من هو أحق به منك، ممن كان أبوه أحسن أثرا في الإسلام من
أبيك، وهو أحسن قدما في الإسلام منك.
فقال معاوية: إن لي في الإسلام لقدما وإن كان غيري أحسن قدما مني،
لكنه ليس في زماني أحد أقوى مني على ما أنا فيه مني، ولقد رأى عمر بن
الخطاب ذلك، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري،
ولم أحدث ما ينبغي له أن اغتزل عملي، فلو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي
[بخط يده] فاعتزلت عمله، فمهلا! فإن في دون ما أنتم فيه ما يأمر الشيطان
259

وينتهي، ولعمري! لو كانت الأمور تقضي على رأيكم وأهواء كم ما استقام
الأمر لأهل الإسلام يوما ولا ليلة، فعاودوا الخير وقولوه، فإن الله ذو سطوات،
وإني خائف عليكم أن تتابعوا إلى مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن فيحلكم
ذلك دار الهوان في العاجل والآجل.
فوثبوا على معاوية فأخذوا برأسه ولحيته. فقال: مه! إن هذه ليست بأرض
الكوفة، والله! لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي [وأنات إمامهم] ما ملكت أن
أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري! إن صنيعتكم يشبه بعضه بعضا (1).
(186)
ابن عباس وصعصعة مع الخوارج
قال البلاذري: ثم قامت خطباء الحرورية - أي الخوارج -.... فقالوا:
دعوتنا إلى كتاب الله والعمل به فأجبناك وبايعناك [و] قد قتلت في طاعتك
قتلانا يوم الجمل ويوم صفين، ثم شككت في أمر الله وحكمت عدوك، ونحن
على أمرك الذي تركت وأنت اليوم على غيره، فلسنا منك إلا أن تتوب منه
وتشهد على نفسك بالضلالة.
فلما فرغوا من قولهم قال علي:
أما أن أشهد على نفسي بالضلالة: فمعاذ الله! أن أكون ارتبت منذ أسلمت
أو ضللت منذ اهتديت، بل بنا هداكم الله من الضلالة واستنقذكم من الكفر
وعصمكم من الجهالة، وإنما حكمت الحكمين بكتاب الله والسنة الجامعة غير
المفرقة، فإن حكما بكتاب الله كنت أولى بالأمر من حكمهما، وإن حكما بغير
ذلك لم يكن لهما علي وعليكم حكم.
ثم تفرقوا فأعاد إليهم عبد الله بن عباس وصعصعة [بن صوحان] فقال لهم

(1) شرح نهج لابن أبي الحديد: ج 2 ص 131 - 133.
260

صعصعة: أذكركم الله! أن تجعلوا فتنة العام مخافة فتنة عام قابل.
فقال ابن الكواء: أكنتم تعلمون أني دعوتكم إلى هذا الأمر؟ فقالوا: بلى.
قال: فإني أول من أطاع هذا الرجل، فإنه واعظ شفيق. فخرج معه منهم نحو
من خمسمائة فدخلوا في جملة علي وجماعته (1).
(187)
محمد بن أبي بكر ومعاوية
1 - كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية:
من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر، سلام على أهل طاعة
الله ممن هو سلم لأهل ولاية الله.
أما بعد: فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقا بلا عبث
ولا ضعف في قوته لا حاجة به إلى خلقهم، ولكنه خلقهم عبيدا وجعل منهم
شقيا وسعيدا وغويا ورشيدا، ثم اختار على علمه، فاصطفى وانتخب منهم محمدا
صلى الله عليه وآله فاختصه برسالته، واختاره لوحيه، وائتمنه على أمره، وبعثه
رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب، ودليلا على الشرايع، فدعا إلى سبيل أمره
بالحكمة والموعظة الحسنة، فكان أول من أجاب وأناب وصدق فأسلم وسلم
أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام، فصدقه بالغيب المكتوم، وآثره
على كل حميم، ووقاه كل هول، وواساه بنفسه في كل خوف، فحارب حربه،
وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل ومقامات الروع، حتى
بارز سابقا لا نظير له في جهاده ولا مقارب له في فعله. وقد رأيتك تساميه وأنت
أنت، وهو هو السابق المبرز في كل خير، أول الناس إسلاما، وأصدق الناس
نية، وأطيب الناس ذرية، وأفضل الناس زوجة، وخير الناس ابن عم.

(1) أنساب الأشراف: ج 1 ص 354.
261

وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل،
وتجتهدان على إطفاء نور الله، وتجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال،
وتحالفان في ذلك القبائل، على هذا مات أبوك وعلى ذلك خلفته، والشاهد
عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤوس النفاق والشقاق
لرسول الله صلى الله عليه وآله، والشاهد لعلي مع فضله وسابقته القديمة أنصاره
الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن ففضلهم وأثنى عليهم من المهاجرين
والأنصار، فهم معه كتائب وعصائب يجالدون حوله أسيافه، ويهريقون دماءهم
دونه، يرون الفضل في أتباعه، والشقاق والعصيان في خلافه، فكيف يا لك
الويل! تعدل نفسك بعلي؟ وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه،
وأبوه ولده، وأول الناس له اتباعا، وآخرهم عهدا، يخبره بسره، ويشركه في
أمره، وأنت عدوه وابن عدوه ما استطعت بباطلك، وليمددك ابن العاص في
غوايتك، فكان أجلك قد انقضى وكيدك قد وهى، وسوف تستبين لمن تكون
العاقبة العليا. واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده وآيست من
روحه، وهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرور، بالله وبأهل يبت نبيك
الغناء (1).

(1) ابن أبي الحديد: ج 3 ص 188 الطبعة الجديدة وفي الطبعة الأولى المصرية: ج 1 ص 283. ومروج
الذهب: ج 3 ص 20 - 21. والغدير: ج 10 عنه: ووقعة صفين. ص 132 وفي نسخة مصرية ص 118.
وجمهرة الرسائل: ج 1 ص 542. والاختصاص للمفيد رحمه الله: ص 119. والاحتجاج للطبرسي: ج 1
ص 269 ط نجف، و عبد الله بن سبأ للعسكري: ص 123. وقاموس الرجال: ج 7 ص 195. ولعله مراد
الطبري ج 6 ص 3248 حيث قال: ذكر هشام عن أبي مخنف أن محمد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن
أبي سفيان لما ولي، فذكرت مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها، لما فيه مما لا يحتمل سماعها العامة
والبحار: ج 8 ص 603 و 604 ط الكمباني عن ج وختص ونصر. وأنساب الأشراف: ج 1 ص 393.
262

جواب معاوية:
بسم الله الرحمن الرحيم. من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه
محمد بن أبي بكر، سلام على أهل طاعة الله.
أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه وما أصفى
به نبيه، مع كلام ألفته ووضعته لرأيك فيه تضعيف ولأبيك فيه تعنيف،
ذكرت حق ابن أبي طالب وقديم سوابقه وقرابته من نبي الله صلى الله عليه
ونصرته له ومواساته إياه في كل خوف وهول، واحتجاجك علي بفضل غيرك
لا بفضلك، فأحمد آلها صرف الفضل عنك وجعله لغيرك! وقد كنا وأبوك معنا
في حياة من نبينا صلى الله عليه نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا وفضله مبرزا
علينا، فلما اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده وأتم له ما وعده وأظهر
دعوته وأفلج حجته، قبضه الله إليه، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتز وخالفه
على ذلك اتفقا واتسقا، ثم دعواه إلى أنفسهم، فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما، فهما به
الهموم وأرادا به العظيم، فبايع وسلم لهما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على
سرهما، حتى قبضا وانقضى أمرهما. ثم قام بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان
يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي
من أهل المعاصي، وبطنتما له وأظهرتما [وكشفتما] عداوتكما وغلكما حتى بلغتما
منه مناكما، فخذ حذرك يا ابن أبي بكر! فسترى وبال أمرك، وقس شبرك
بفترك تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه [و] لا تلين على
قسر قناته، ولا يدرك ذو مدى أناته، أبوك مهد مهاده، وبنى ملكه وشاده، فإن
يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله، وإن يك جورا فأبوك أسسه ونحن شركاؤه،
ويهديه أخذنا وبفعله اقتدينا، ولولا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا ابن أبي طالب
وأسلمنا له، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك، فاحتذينا بمثاله واقتدينا بفعاله، فعب
263

أباك ما بدا لك أو دع. والسلام على من أناب ورجع عن غوايته وتاب (1).
وفي الاختصاص: أن محمدا كتب في أسفله هذه الأبيات:
معاوي ما أمسى هوى يستقيدني * إليك ولا أخفي الذي لا أعالن
ولا أنا في الأحرى إذا ما شهدتها * بنكس ولا هيابة في المواطن
حللت عقال الحرب جبنا وإنما * يطيب المنايا خائنا وابن خائن
فحسبك من إحدى ثلاث رأيتها * بعينك أو تلك التي لم تعاين
ركوبك بعد الأمن حربا مشارفا * وقد دميت أظلافها والسناسن
وقد حك بالكفين توري ضريمة * من الجهل أدتها إليك الكهائن
ومسحك أقراب الشموس كأنها * تبس بإحدى الداحيات الحواضن
تنازع أسباب المروة أهلها * وفي الصدر داء من جوى الغل كامن (2)
(188)
محمد ومعاوية وعمرو
2 - كتابه إلى عمرو بن العاص ومعاوية:
أخرج الطبري (2) ناقلا عن أبي مخنف، فقال: فخرج عمرو (أي ابن
العاص) يسير حتى نزل أداني مصر، فاجتمعت العثمانية إليه، فأقام بهم،
وكتب إلى محمد بن أبي بكر:
أما بعد، فتنح عني بدمك يا ابن أبي بكر! فإني لا أحب أن يصيبك مني
ظفر. إن الناس بهذا البلاد قد اجتمعوا على خلافك ورفض أمرك، وندموا على
أتباعك، فهم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان، فأخرج منها فإني لك من
الناصحين، والسلام. وبعث إليه عمرو أيضا بكتاب معاوية إليه:

(1) المصادر المتقدمة.
(2) الطبري: ج 5 ص 101 - 102.
264

أما بعد، فإن غب البغي والظلم عظيم الوبال، وإن سفك الدم الحرام
لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا ومن التبعة الموبقة في الآخرة، وأنا لا أعلم
أحدا كان أعظم على عثمان بغيا ولا أسوء له عيبا ولا أشد عليه خلافا منك!
سعيت عليه في الساعين، وسفكت معه في السافكين. ثم إنك أنت تظن أني
عنك نائم أو ناس لك حتى تأتي وتأمر على بلاد أنت فيها جاري! وجل أهلها
أنصاري، يرون رأيي ويرقبون قولي، ويستصرخون عليك، وقد بعثت إليك قوما
حناقا عليك يستسقون دمك، ويتقربون إلى الله بجهادك، وقد أعطوا عهدا
ليمثلن بك ولو لم يكن منهم إليك ما عدا، فتلك ما حذرتك ولا أنذرتك،
ولأحببت أن يقتلوك بظلمك وقطيعتك وعدوك على عثمان يوم يطعن
بمشاقصك بين خششائه وأوداجه، ولكن أكره أن أمثل بقرشي، ولن يسلمك
الله من القصاص أبدا أينما كنت، والسلام.
فطوى محمد الكتاب وبعثهما إلى أمير المؤمنين عليه السلام وكتب في جواب
معاوية:
أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكرني من أمر عثمان أمرا لا أعتذر إليك منه،
وتأمرني بالتنحي عنك كأنك لي ناصح، وتخوفني المثلة كأنك شفيق، وأنا
أرجو أن تكون لي الدائرة عليكم فأجتاحكم في الوقعة، وإن تؤتوا النصر ويكن
لكم الأمر في الدنيا، فكم لعمري من ظالم قد نصرتم! وكم من مؤمن قد قتلتم
ومثلتم به! وإلى الله مصيركم ومصيرهم، وإلى الله مرد الأمور، وهو أرحم
الراحمين، والله المستعان على ما تصفون، والسلام.
وكتب في جواب عمرو بن العاص:
أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت في كتابك يا ابن العاص! زعمت أنك تكره
أن يصيبني منك ظفر، وأشهد أنك من المبطلين، وتزعم أنك لي نصيح، وأقسم
أنك عندي ظنين، وتزعم أن أهل البلد قد رفضوا رأيي وأمري وندموا على
265

اتباعي، فأولئك لك وللشيطان الرجيم أولياء، فحسبنا الله رب العالمين،
وتوكلنا على الله رب العرش العظيم، والسلام (1).
(189)
عمار والأشتر مع عائشة
دخل عمار بن ياسر ومالك بن الحارث الأشتر على عائشة بعد انقضاء أمر
الجمل. فقالت عائشة: يا عمار من معك؟ قال: الأشتر. فقالت: يا مالك! أنت
الذي صنعت بابن أختي ما صنعت؟ قال: نعم، ولولا أنني كنت طاويا ثلاثة
لأرحت أمة محمد منه. فقالت: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: " لا يحل دم مسلم إلا بإحدى أمور ثلاث: كفر بعد الإيمان، أو زنا بعد
إحصان، أو قتل نفس بغير حق " فقال الأشتر: على بعض هذه الثلاثة قاتلناه
يا أم المؤمنين! وأيم الله! ما خانني سيفي قبلها، ولقد أقسمت إلا يصحبني بعدها.
قال أبو مخنف: ففي ذلك يقول الأشتر من جملة هذا الشعر الذي ذكرناه:
وقالت: على أي الخصال صرعته * بقتل أتى أم ردة لا أبا لكا!
أم المحصن الزاني الذي حل قتله * فقلت لها: لا بد من بعض ذلكا
أوله: أعائش لولا أنني كنت طاويا * ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا
غداة ينادى والرجال تحوزه * بأضعف صوت: اقتلوني ومالكا
فلم يعرفوه إذ دعاهم وغمه * خدب عليه في العجاجة باركا
فنجاه مني أكله وشبابه * وأني شيخ لم أكن متماسكا (2)

(1) راجع الغدير: ج 11 ص 64 - 69. وشرح ابن أبي الحديد: ج 6 ص 83 - 85
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 11 ص 263.
266

(190)
قنبر مولى علي عليه السلام والحجاج
عن أبي الحسن صاحب العسكر عليه السلام: إن قنبرا مولى أمير المؤمنين
عليه السلام أدخل على الحجاج. فقال: ما الذي كنت تلي من علي بن أبي
طالب؟ قال: كنت أوضئه. فقال له: ما كان يقول إذا فرغ من وضوئه؟ فقال:
كان يتلو هذه الآية " فلما نسوا ما ذكروا به " إلى قوله: " فأذاهم مبلسون فقطع
دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " فقال الحجاج: أظنه كان
يتأوله علينا؟ قال: نعم [فقال: ما أنت صانع إذا ضربت علاوتك؟ قال: إذن
أسعد وتشقى، فأمر به] (1).
عن شهر بن حوشب، قال: قال لي الحجاج: يا شهر! آية في كتاب الله قد
أعيتني. فقلت: أيها الأمير! أية آية هي؟ فقال: قوله: " وإن من أهل الكتاب
إلا ليؤمنن به قبل موته " والله! إني لآمر باليهودي والنصراني فتضرب عنقه ثم
أرمقه بعيني فما أراه يحرك شفتيه حتى يحمل. فقلت: أصلح الله الأمير! ليس
على ما تأولت. قال: كيف هو؟ قلت: إن عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى
الدنيا فلا يبقى أهل ملة يهودي ولا غيره إلا آمن به قبل موته ويصلي خلف
المهدي. قال: ويحك! أنى لك هذا؟ ومن أين جئت به؟ فقلت: حدثني به
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فقال: جئت
والله بها من عين صافية! (2).

(1) البحار: ح 67 ص 199 وج 42 ص 135 عن العياشي والكشي.
(2) البحار: ج 53 ص 50 - 51.
267

(191)
السيد الحميري وسوار القاضي
ومما حكى الشيخ رحمه الله قال: قال الحارث بن عبد الله الربعي: كنت
جالسا في مجلس المنصور وهو بالجسر الأكبر وسوار القاضي عنده والسيد
الحميري ينشده:
إن الإله الذي لا شئ يشبهه * أتاكم الملك للدينا وللدين
أتاكم الله ملكا لا زوال له * حتى يقاد إليكم صاحب الصين
وصاحب الهند مأخوذ برمته * وصاحب الترك محبوس على هون
حتى أتى على القصيدة والمنصور مسرور.
فقال سوار: إن هذا والله يا أمير المؤمنين يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه! والله
إن القوم الذين يدين بحبهم لغيركم، وإنه لينطوي على عداوتكم.
فقال السيد: والله! إنه لكاذب، وإنني في مدحتك لصادق، وإنه حمله
الحسد إذ رآك على هذه الحال، وإن انقطاعي إليكم ومودتي لكم أهل البيت
لمعرق فيها من أبوي، وإن هذا وقومه لأعداءكم في الجاهلية والإسلام، وقد
أنزل الله عز وجل على نبيه عليه الصلاة والسلام في أهل بيت هذا " إن الذين
ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " فقال المنصور: صدقت.
فقال سوار: يا أمير المؤمنين! إنه يقول بالرجعة، ويتناول الشيخين بالسب
والوقيعة فيهما.
فقال السيد: أما قوله: إني بالرجعة، فإني أقول بذلك على ما قال الله
تعالى: " ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون " وقد
قال في موضع آخر " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " فعلمنا أن هاهنا حشرين:
أحدهما عام، والآخر خاص، وقال سبحانه: " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين
268

فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل " وقال تعالى: " فأماته الله مائة عام
ثم بعثه " وقال تعالى: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر
الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " فهذا كتاب الله تعالى، وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: " يحشر المتكبرون في صور الذر يوم القيامة " وقال صلى
الله عليه وآله: " لم يجر في بني إسرائيل شئ إلا ويكون في أمتي مثله حتى
الخسف والمسخ والقذف " وقال حذيفة: " والله! ما أبعد أن يمسخ الله عز وجل
كثيرا من هذه الأمة قردة وخنازير ". فالرجعة التي أذهب إليها ما نطق به
القرآن وجاءت به السنة، وإني لأعتقد أن الله عز وجل يرد هذا - يعني سوارا -
إلى الدنيا كلبا أو قردا أو خنزيرا أو ذرة، فإنه والله متجبر متكبر كافر! قال:
فضحك المنصور. وأنشأ السيد يقول:
جاثيت سوارا أبا شملة * عند الإمام الحاكم العادل
فقال قولا خطلا كله * عند الورى الحافل والناعل
ما ذب عما قلت من وصمة * في أهله بل لج في الباطل
وبان للمنصور صدقي كما * قد بان كذب الأنوك الجاهل
يبغض ذا العرش ومن يصطفي * من رسله بالنير الفاضل
ويشنأ الحبر الجواد الذي * فضل بالفضل على الفاضل
ويعتدي بالحكم في معشر * أدوا حقوق الرسل للراسل
فبين الله تزاويقه * فصار مثل الهائم الهامل
فقال المنصور: كف عنه. فقال السيد: يا أمير المؤمنين البادي أظلم، يكف
عني حتى أكف عنه. فقال المنصور للسوار: قد تكلم بكلام فيه نصفه، كف
عنه حتى لا يهجوك (1).

(1) البحار: ج 10 ص 232 - 234، وج 53 ص 130.
269

(192)
شيخ من الشيعة وبعض المعتزلة
قال المفيد - رحمه الله - في الكتاب المذكور - يعني الفصول -: سأل بعض المعتزلة
شيخا من أصحابنا الإمامية وأنا حاضر في مجلس فيهم جماعة كثيرة من أهل
النظر والمتفقهة. فقال له: إذا كان من قولك: إن الله عز وجل يرد الأموات إلى
دار الدنيا قبل الآخرة عند القائم يشفي المؤمنين كما زعمتم من الكافرين وينتقم
لهم منهم كما فعل ببني إسرائيل فيما ذكرتموه حيث تتعلق بقوله تعالى: " ثم
رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا " فخبرني
ما الذي يؤمنك أن يتوب يزيد وشمر و عبد الرحمن بن ملجم ويرجعوا عن
كفرهم وضلالهم ويصيروا في تلك الحال إلى طاعة الإمام فيجب عليك
ولايتهم والقطع بالثواب لهم! وهذا نقض مذاهب الشيعة.
فقال الشيخ المسؤول: القول بالرجعة إنما قلته من طريق التوقيف وليس
للنظر فيه مجال، وأنا لا أجيب عن هذا السؤال، لأنه لا نص عندي فيه وليس
يجوز لي أن أتكلف من غير جهة النص الجواب. فشنع السائل وجماعة المعتزلة
عليه بالعجز والانقطاع.
فقال الشيخ - أيده الله -: فأقول أنا: إن عن هذا السؤال جوابين:
أحدهما: أن العقل لا يمنع من وقوع الإيمان ممن ذكره السائل، لأنه يكون إذ
ذاك قادرا عليه ومتمكنا منه، ولكن السمع الوارد عن أئمة الهدى
عليهم السلام بالقطع عليهم بالخلود في النار، والتدين بلعنهم والبراءة منهم إلى آخر
الزمان منع من الشك في حالهم، وأوجب القطع على سوء اختيارهم، فجروا في
هذا الباب مجرى فرعون وهامان وقارون، ومجرى من قطع الله عز وجل على خلوده
في النار، ودل القطع على أنهم لا يختارون أبدا الإيمان ممن قال الله تعالى: " ولو
270

أنا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا
ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " يريد إلا أن يلجئهم الله، والذين قال الله فيهم: " إن
شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا
لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ".
ثم قال جل قائلا في تفضيلهم وهو يوجه القول إلى إبليس: " لأملأن جهنم
منك وممن تبعك منهم أجمعين " وقوله تعالى: " وإن عليك لعنتي إلى يوم
الدين " وقوله تعالى: " تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب
سيصلى نارا ذات لهب " فقطع بالنار عليه وأمن من انتقاله إلى ما يوجب له
الثواب. وإذا كان الأمر على ما وصنفناه بطل ما توهمتموه على هذا الجواب.
والجواب الآخر: أن الله سبحانه إذا رد الكافرين في الرجعة لينتقم منهم لم
يقبل لهم توبة، وجروا في ذلك مجرى فرعون لما أدركه الغرق " قال آمنت أنه
لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين " قال الله سبحانه له:
" الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " فرد الله عليه إيمانه ولم ينفعه في
تلك الحال ندمه وإقلاعه، وكأهل الآخرة الذين لا يقبل الله لهم توبة ولا ينفعهم
ندم، لأنهم كالملجئين إذ ذاك إلى الفعل، ولأن الحكمة تمنع من قبول التوبة
أبدا ويوجب اختصاص بعض الأوقات بقبولها دون بعض.
وهذا هو الجواب الصحيح على مذهب أهل الإمامة، وقد جاءت به آثار
متظاهرة عن آل محمد صلى الله وآله، فروي عنهم في قوله تعالى: " يوم يأتي
بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها
خيرا قل انتظروا إنا منتظرون " فقالوا: إن هذه الآية هو القائم عليه السلام، فإذا
ظهر لم يقبل توبة المخالف. وهذا يسقط ما اعتمده السائل.
سؤال: فإن قالوا: في هذا الجواب ما أنكرتم أن يكون الله تعالى على
ما أصلتموه قد أغرى عباده بالعصيان وأباحهم الهرج والمرج والطغيان، لأنهم
271

إذا كانوا يقدرون على الكفر وأنواع الضلال وقد يئسوا من قبول التوبة لم يدعهم
داع إلى الكف عما في طباعهم، ولا انزجروا من فعل قبيح يصلون به إلى النفع
العاجل، ومن وصف الله تبارك وتعالى بإغراء خلقه بالمعاصي وإباحتهم الذنوب فقد أعظم الفرية عليه!.
جواب: قيل لهم: ليس الأمر على ما ظننتموه، وذلك أن الدواعي لهم إلى
المعاصي ترتفع إذ ذاك، ولا يحصل لهم داع إلى قبيح على وجه من الوجوه
ولا سبب من الأسباب، لأنهم يكونون قد علموا بما سلف لهم من العذاب وقت
الرجعة على خلاف أئمتهم عليهم السلام، ويعلمون في الحال أنهم معذبون على
ما سبق لهم من العصيان، وأنهم إن راموا فعل قبيح تزايد عليهم العقاب،
ولا يكون لهم عند ذلك طبع يدعوهم إلى ما يتزايد عليهم به العذاب، بل يتوفر لهم
دواعي الطباع والخواطر كلها إلى إظهار الطاعة والانتقال عن العصيان.
وإن لزمنا هذا السؤال لزم أهل جميع أهل الإسلام مثله في أهل الآخرة
وحالهم في إبطال توبتهم وكون ندمهم غير مقبول، فمهما أجاب الموحدون لمن
ألزمهم ذلك فهو جوابنا بعينه.
سؤال آخر: وإن سألوا على المذهب الأول والجواب المتقدم فقالوا: كيف
يتوهم من القوم الإقامة على العناد والاصرار على الخلاف وقد عاينوا - فيما
تزعمون - عقاب القبور وحل بهم عند الرجعة العذاب على ما تزعمون أنهم
مقيمون عليه؟ وكيف يصح أن يدعوهم الدواعي إلى ذلك ويحظر لهم في فعله
الخواطر؟ ما أنكرتم أن تكونوا في هذه الدواعي مكابرين.
جواب: قيل لهم: يصح ذلك على مذهب من أجاب بما حكيناه من
أصحابنا بأن يقول: إن جميع ما عددتموه لا يمنع من دخول الشبهة عليهم في
استحسان الخلاف، لأن القوم يظنون أنهم إنما بعثوا بعد الموت تكرمة لهم وليلوا
الدنيا كما كانوا، ويظنون أن ما اعتقدوه في العذاب السالف لهم كان غلطا منهم،
272

وإذا جل بهم العقاب ثانية توهموا قبل مفارقة أرواحهم أجسادهم أن ذلك
ليس من طريق الاستحقاق وأنه من الله تعالى، لكنه كما يكون الدول وكما حل
بالأنبياء عليهم السلام.
ولأصحاب هذا الجواب أن يقولوا: ليس ما ذكرناه في هذا الباب بأعجب
من كفر قوم موسى عليه السلام وعبادتهم العجل، وقد شاهدوا منه الآيات
وعاينوا ما حل بفرعون وملئه على الخلاف! ولا هو بأعجب من إقامة أهل
الشرك على خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وهم يعلمون عجزهم عن مثل
ما أتى به من القرآن، ويشهدون معجزاته وآياته عليه السلام ويجدون مخبرات
أخباره على حقائقها من قوله تعالى: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " وقوله
عز وجل: " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " وقوله عز وجل: " ألم
غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون " وما حل بهم من
العقاب بسيفه عليه السلام وهلاك كل من توعده بالهلاك. هذا، وفيمن أظهر
الإيمان به المنافقون ينضافون في خلافه إلى أهل الشرك والضلال.
على أن هذا السؤال لا يسوغ لأصحاب المعارف من المعتزلة لأنهم يزعمون
أن أكثر المخالفين على الأنبياء كانوا من أهل العناد، وأن جمهور المظهرين
الجهل بالله تعالى يعرفونه على الحقيقة ويعرفون أنبياءه وصدقهم، ولكنهم في
الخلاف على اللجاجة والعناد، فلا يمتنع يكون الحكم في الرجعة وأهلها على
هذا الوصف الذي حكيناه، وقد قال الله تعالى: " ولو ترى إذ وقفوا على النار
فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا
يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ".
فأخبر سبحانه: أن أهل العقاب لو ردهم إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر
والعناد مع ما شاهدوا في القبور وفي المحشر من الأهوال وما ذاقوا من أليم
273

العذاب (1).
(193)
المفيد يجيب في مسألة الرجعة
وفي المسائل السروية: أنه سئل الشيخ - قدس الله روحه - عما يروى عن
مولانا جعفر بن محمد الصادق عليها السلام في الرجعة وما معنى قوله: " ليس
منا من لم يقل بمتعتنا ويؤمن برجعتنا " أهي حشر في الدنيا مخصوص للمؤمن أو
لغيره من الظلمة الجبارين قبل يوم القيامة؟
فكتب الشيخ - رحمه الله - بعد الجواب عن المتعة: وأما قوله عليه السلام:
" من لم يقل برجعتنا فليس منا " فإنما أراد بذلك ما يختصه من القول به في أن
الله تعالى يحشر قوما من أمة محمد صلى الله عليه وآله بعد موتهم قبل يوم
القيامة. وهذا مذهب يختص به آل محمد صلى الله وآله والقرآن شاهد به،
قال الله عز وجل في ذكر الحشر الأكبر يوم القيامة: " وحشرناهم فلم نغادر منهم
أحدا " وقال سبحانه في حشر الرجعة قبل يوم القيامة: " ويوم نحشر من كل أمة
فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون " فأخبر أن الحشر حشران: عام،
وخاص.
وقال سبحانه مخبرا عمن يحشر من الظالمين: إنه يقول يوم الحشر الأكبر:
" ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من
سبيل ".
وللعامة في هذه الآية تأويل مردود، وهو أن قالوا: إن المعني بقوله: " ربنا
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " أنه خلقهم أمواتا ثم أماتهم بعد الحياة. وهذا
باطل لا يستمر على لسان العرب، لأن الفعل لا يدخل إلا على من كان بغير

(1) البحار: ج 53 / 132 - 136 عن الفصول المختارة: ج 1 / 115 - 119.
274

الصفة التي انطوى اللفظ على معناها، ومن خلقه الله أمواتا لا يقال: أماته، وإنما
يقال ذلك فيمن طرأ عليه الموت بعد الحياة، كذلك لا يقال: أحيا الله ميتا، إلا
أن يكون قد كان قبل إحيائه ميتا. وهذا بين لمن تأمله.
وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله: " ربنا أمتنا اثنتين " الموتة التي تكون بعد
حياتهم في القبور للمسألة، فتكون الأولى قبل الإقبار والثانية بعده. وهذا أيضا
باطل من وجه آخر، وهو أن الحياة للمسألة ليست للتكليف، فيندم الإنسان
على ما فاته في حاله. وندم القوم على ما فاتهم في حياتهم المرتين يدل على أنه لم
يرد حياة المسألة، لكنه أراد حياة الرجعة التي تكون لتكيفهم الندم على
تفريطهم، فلا يفعلون ذلك، فيندمون يوم العرض على ما فاتهم من ذلك (1).
(194)
هشام بن الحكم مع ضرار بن عمرو
قال السيد المرتضى - رضي الله عنه - في كتاب الفصول: أخبرني الشيخ
- أيده الله - قال: دخل ضرار بن عمرو الضبي على يحيى بن خالد البرمكي،
فقال له: يا أبا عمرو! هل لك في مناظرة رجل هو ركن الشيعة؟ فقال ضرار:
هلم من شئت.
فبعث إلى هشام بن الحكم فأحضره، فقال: يا أبا محمد! هذا ضرار، وهو
من قد علمت في الكلام والخلاف لك، فكلمه في الإمامة. فقال: نعم. ثم
أقبل على ضرار، فقال: يا أبا عمرو! خبرني على ما تجب الولاية والبراءة، على
الظاهر أم على الباطن؟ فقال ضرار: بل على الظاهر، فإن الباطن لا يدرك إلا
بالوحي. فقال هشام: صدقت، فخبرني الآن أي الرجلين كان أذب عن وجه
رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف، وأقتل لأعداء الله عز وجل بين يديه،

(1) البحار: ج 53 ص 136 - 137.
275

وأكثر آثارا في الجهاد، علي بن أبي بن أبي طالب أو أبو بكر؟ فقال: علي بن
أبي طالب، ولكن أبا بكر كان أشد يقينا. فقال هشام: هذا هو الباطن الذي
قد تركنا الكلام فيه، وقد اعترفت لعلي عليه السلام بظاهر عمله من الولاية ما لم
يجب لأبي بكر. فقال ضرار: هذا الظاهر نعم.
ثم قال هشام: أفليس إذا كان الباطن مع الظاهر فهو الفضل الذي
لا يدفع؟ فقال ضرار: بلى. فقال هشام: ألست تعلم أن النبي صلى الله عليه
وآله قال لعلي عليه السلام " إنه مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي
بعدي " فقال ضرار: نعم. فقال له هشام: أيجوز أن يقول هذا القول إلا وهو
عنده في الباطن مؤمن؟ قال: لا. فقال هشام: فقد صح لعلي عليه السلام
ظاهره وباطنه، ولم يصح لصاحبك ظاهر ولا باطن! والحمد لله (1).
(195)
هشام مع يحيى بن خالد
قال: وأخبرني الشيخ - أدام الله تأييده - قال: سأل يحيى بن خالد البرمكي
هشام بن الحكم - رحمة الله عليه - بحضرة الرشيد، فقال له: أخبرني يا هشام عن
الحق هل يكون في جهتين مختلفتين؟ فقال هشام: لا. قال: فخبرني عن نفسين
اختصما في حكم في الدين وتنازعا واختلفا، هل يخلو من أن يكونا محقين أو
مبطلين أو يكون أحدهما مبطلا والآخر محقا؟ فقال هشام: لا يخلوان من ذلك،
وليس يجوز أن يكونا محقين على ما قدمت من الجواب.
فقال له يحيى بن خالد: فخبرني عن علي والعباس لما اختصما إلى أبي
بكر في الميراث أيهما كان المحق من المبطل إذ كنت لا تقول إنهما كانا محقين
ولا مبطلين؟ فقال هشام: فنظرت إذا إنني إن قلت: إن عليا عليه السلام كان

(1) البحار: ج 10 ص 292 عن الفصول المختارة: ج 1 / 9 - 10.
276

مبطلا كفرت وخرجت عن مذهبي، وإن قلت: إن العباس كان مبطلا ضرب
عنقي! ووردت علي مسألة لم أكن سئلت عنها قبل ذلك الوقت ولا أعددت لها
جوابا، فذكرت قول أبي عبد الله عليه السلام وهو يقول لي: " يا هشام! لا تزال
مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك " فعلمت أني لا أخذل، وعن لي الجواب
في الحال فقلت له:
لم يكن من أحدهما خطأ وكانا جميعا محقين، ولهذا نظير قد نطق به القرآن
في قصة داود عليه السلام حيث يقول الله جل اسمه: " وهل أتاك نبأ الخصم
إذ تسوروا المحراب " إلى قوله تعالى: " خصمان بغي بعضهما على بعض " فأي
الملكين كان مخطئا؟ وأيهما كان مصيبا؟ أم تقول: إنهما كانا مخطئين؟ فجوابك
في ذلك جوابي بعينه.
فقال يحيى: لست أقول: إن الملكين أخطأ، بل أقول: إنهما أصابا، وذلك
أنهما لم يختصما في الحقيقة ولا اختلفا في الحكم، وإنما أظهرا ذلك لينبها داود
عليه السلام على الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه.
قال: فقلت له: كذلك علي والعباس لم يختلفا في الحكم ولم يختصما في
الحقيقة وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على غلطه ويوقفاه على
خطيئته ويدلاه على ظلمه لهما في الميراث، ولم يكونا في ريب من أمرهما، وإنما
كان ذلك منهما على حد ما كان من الملكين. فلم يحر جوابا، واستحسن ذلك
الرشيد (1).
(196)
هشام و عبد الله بن يزيد
وأخبرني الشيخ أيضا قال: أحب الرشيد أن يسمع كلام هشام بن الحكم

(1) البحار: ج 10 ص 293 وج 8 ص 85 ط الكمباني
277

مع الخوارج، فأمر بإحضار هشام بن الحكم وإحضار عبد الله بن يزيد
الإباضي. وجلس حيث يسمع كلامهما ولا يرى القوم شخصه، وكان بالحضرة
يحيى بن خالد.
فقال يحيى لعبد الله بن يزيد: سل أبا محمد - يعني هشاما - عن شئ. فقال
هشام: لا مسألة للخوارج علينا. فقال عبد الله بن يزيد: وكيف ذلك؟ فقال
هشام: لأنكم قوم قد اجتمعتم معنا على ولاية رجل وتعديله والإقرار بأمته
وفضله، ثم فارقتمونا في عداوته والبراءة منه، فنحن على إجماعنا وشهادتكم لنا،
وخلافكم علينا غير قادح في مذهبنا ودعواكم غير مقبولة علينا، إذ الاختلاف
لا يقابل الاتفاق، وشهادة الخصم لخصمه مقبولة، وشهادته عليه مردودة.
قال يحيى بن خالد: لقد قربت قطعه يا أبا محمد! ولكن جاره شيئا، فإن
أمير المؤمنين - أطال الله بقاه - يحب ذلك. قال: فقال هشام: أنا أفعل ذلك، غير
أن الكلام ربما انتهى إلى حد يغمض ويدق على الأفهام فيعاند أحد الخصمين
أو يشتبه عليه، فإن أحب الأنصاف فليجعل بيني وبينه واسطة عدلا، إن
خرجت عن الطريق ردني إليه، وإن جار في حكمه شهد عليه. فقال عبد الله بن
يزيد: لقد دعا أبو محمد إلى الإنصاف.
فقال هشام: فمن يكون هذه الواسطة؟ وما يكون مذهبه؟ أيكون من
أصحابي أو من أصحابك أو مخالفا للملة لنا جميعا؟ قال عبد الله بن يزيد: اختر
من شئت فقد رضيت به. قال هشام: أما أنا فأرى أنه إن كان من أصحابي لم
يؤمن عليه العصبية لي، وإن كان من أصحابك لم آمنه في الحكم علي، وإن
كان مخالفا لنا جميعا لم يكن مأمونا علي ولا عليك، ولكن يكون رجلا من
أصحابي ورجلا من أصحابك فينظران فيما بيننا ويحكمان علينا بموجب الحق
ومحض الحكم بالعدل. فقال عبد الله بن يزيد: فقد أنصفت يا أبا محمد! وكنت
أنتظر هذا منك.
278

فأقبل هشام على يحيى بن خالد: فقال له قد قطعته أيها الوزير ودمرت على
مذاهبه كلها بأهون سعي، ولم يبق معه شئ واستغنيت عن مناظرته!
قال: فحرك الستر الرشيد، وأصغى يحيى بن خالد، فقال: هذا متكلم
الشيعة واقف الرجل مواقفة لم يتضمن مناظرة ثم ادعى عليه أنه قد قطعه وأفسد
مذهبه! فمره أن يبين عن صحة ما ادعاه على الرجل. فقال يحيى بن خالد
لهشام: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تكشف عن صحة ما ادعيت على هذا الرجل.
قال: فقال هشام رحمه الله: إن هؤلاء القوم لم يزالوا معناه على ولاية
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حتى كان من أمر الحكمين ما كان
فأكفروه بالتحكيم وضللوه بذلك، وهم الذين اضطروه إليه، والآن فقد حكم
هذا الشيخ وهو عماد أصحابه مختارا غير مضطر رجلين مختلفين في مذهبهما:
أحدهما يكفره والآخر يعدله، فإن كان مصيبا في ذلك فأمير المؤمنين أولى
بالصواب، وإن كان مخطئا كافرا فقد أراحنا من نفسه بشهادته بالكفر عليها،
والنظر في كفره وإيمانه أولى من النظر في إكفاره عليا عليه السلام.
قال: فاستحسن ذلك الرشيد، وأمر بصلته وجائزته (1).
(197)
هشام ورجل
وقال الشيخ - أدام الله عزه -: سئل هشام بن الحكم - رحمة الله عليه - عما
يرويه العامة من قول أمير المؤمنين عليه السلام لما قبض عمرو قد دخل عليه وهو
مسجى: " لوددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى "، وفي حديث آخر:
" إني لأرجو أن ألقى الله تعالى بصحيفة هذا المسجى " فقال هشام: هذا
حديث غير ثابت ولا معروف الإسناد، وإنما حصل من جهة القصاص

(1) البحار: ج 10 ص 294. وج 8 ص 570 ط الكمباني.
279

وأصحاب الطرقات، ولو ثبت لكان المعنى فيه معروفا، وذلك: أن عمر واطأ
أبا بكر والمغيرة وسالما مولى أبي حذيفة وأبا عبيدة على كتب صحيفة بينهم
يتعاقدون فيها على أنه إذا مات رسول الله صلى الله عليه وآله لم يورثوا أحدا من
أهل بيته ولم يولوهم مقامه بعده، وكانت الصحيفة لعمر، إذ كان عماد القوم
فالصحيفة التي ود أمير المؤمنين عليه السلام ورجا أن يلقى الله عز وجل بها هي
هذه الصحيفة ليخاصمه بها ويحتج عليه بمضمونها.
والدليل على ذلك ما روته العامة عن أبي بن كعب: أنه كان يقول في
مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن أفضي الأمر إلى أبي بكر لصوت
يسمعه أهل المسجد: ألا هلك أهل العقدة! والله ما آسى عليهم! إنها آسى على
من يضلون من الناس! فقيل له: يا صاحب رسول الله! من هؤلاء أهل العقدة؟
وما عقدتهم؟ فقال: قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وآله لم
يورثوا أحدا من أهل بيته ولم يولوهم مقامه، أما والله! لئن عشت إلى يوم الجمعة
لأقومن فيهم مقاما أبين للناس أمرهم. قال: فما أتت عليه الجمعة (1).
(198)
هشام والمتكلمون
الإختصاص للمفيد - رحمه الله -: أحمد بن الحسن، عن عبد العظيم بن
عبد الله، قال: قال هارون الرشيد لجعفر بن يحيى البرمكي: إني أحب أن
أسمع كلام المتكلمين من حيث لا يعلمون بمكاني، فيحتجون عن بعض
ما يريدون.
فأمر جعفر المتكلمين فاحضروا داره، وصار هارون في مجلس يسمع
كلامهم، وأرخى بينه وبين المتكلمين سترا. فاجتمع المتكلمون وغص المجلس

(1) البحار: ج 10 ص 297 عن الفصول المختارة: ج 1 ص 57.
280

بأهله ينتظرون هشام بن الحكم، فدخل عليهم وعليه قميص إلى الركبة وسراويل
إلى نصف الساق، فسلم على الجميع ولم يخص جعفرا بشئ!
فقال له رجل من القوم: لم فضلت عليا على أبي بكر، والله يقول: " ثاني
اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا "؟
قال هشام: فأخبرني عن حزنه في ذلك الوقت، أكان لله رضى أم غير
رضى؟ فسكت. فقال هشام: إن زعمت أنه كان لله رضى، فلم نهاه رسول الله
صلى الله عليه وآله فقال: " لا تحزن "؟ أنهاه عن طاعة الله ورضاه؟ وإن
زعمت أنه كان لله غير رضى، فلم تفتخر بشئ كان لله غير رضى؟ وقد علمت
ما قال الله تبارك وتعالى حين قال: " فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى
المؤمنين ".
ولأنكم قلتم وقلنا وقالت العامة: " الجنة تشتاق إلى أربعة نفر: علي بن
أبي طالب عليه السلام، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وأبي ذر الغفاري "
فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم،
ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة: " إن الذابين عن الإسلام أربعة نفر: علي بن
أبي طالب عليه السلام والزبير بن العوام، وأبو دجانة الأنصاري، وسلمان
الفارسي " فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها
صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة: " إن القراء أربعة نفر: علي بن أبي طالب
عليه السلام و عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت " فأرى
صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا
صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة: " إن المطهرين من السماء أربعة نفر: علي بن أبي
281

طالب، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام " فأرى صاحبنا قد دخل مع
هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم
بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة: " إن الأبرار أربعة: علي بن أبي طالب،
وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام " فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء
في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه
الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة: " إن الشهداء أربعة نفر: علي بن أبي طالب،
وجعفر، وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب " فأرى صاحبنا قد دخل مع
هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم
بهذه الفضيلة.
قال: فحرك هارون الستر، وأمر جعفر الناس بالخروج، فخرجوا مرعوبين
وخرج هارون إلى المجلس فقال: من هذا ابن الفاعلة؟ فوالله لقد هممت بقتله
وإحراقه بالنار! (1).
(199)
هشام وعمرو بن عبيد
عن يونس بن يعقوب، قال: كان عند أبي عبد الله الصادق عليه السلام
جماعة من أصحابه، فيهم حمران بن أعين، ومؤمن الطاق، وهشام بن سالم،
والطيار، وجماعة من أصحابه، فيهم هشام بن الحكم وهو شاب. فقال أبو
عبد الله عليه السلام: يا هشام! قال: لبيك يا ابن رسول الله! قال: ألا تحدثني
كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟ قال هشام: جعلت فداك يا ابن

(1) البحار: ج 10 ص 297 - 298. عن الاختصاص: ص 96 - 98.
282

رسول الله! إني أجلك وأستحيك ولا يعمل لساني بين يديك. فقال أبو عبد الله
عليه السلام: إذا أمرتكم بشئ فافعلوا.
قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة،
وعظم ذلك علي، فخرجت إليه ودخلت البصرة في يوم الجمعة، فأتيت مسجد
البصرة، فإذا أنا بحلقة كبيرة، وإذا أنا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء متزر
بها من صوف وشملة مرتد بها، فاستفرجت الناس فأفرجوا، ثم قعدت في آخر
القوم على ركبتي.
ثم قلت: أيها العالم! أنا رجل غريب تأذن لي فأسألك عن مسألة؟ قال:
فقال: نعم.
قال: قلت له: ألك عين؟ قال: يا بني! أي شئ هذا من السؤال؟!
فقلت: هكذا مسألتي. فقال: يا بني! سل وإن كانت مسألتك حمقاء! قلت:
أجبني فيها. قال: فقال لي: سل. قلت: ألك عين؟ قال: نعم، قلت: فما ترى
به؟ قال: الألوان والأشخاص. قال: قلت: فلك أنف؟ قال: نعم، قلت: فما
تصنع به؟ قال: أتشمم بها الرائحة. قال: قلت: ألك فم؟ قال: نعم، قال:
قلت: وما تصنع به؟ قال: أتكلم به. قال: قلت: ألك أذن؟ قال: نعم، قلت:
وما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الأصوات. قال: قلت ألك يد؟ قال: نعم،
قلت: وما تصنع بها؟ قال: أبطش بها. قال: قلت: ألك قلب؟ قال: نعم،
قلت: وما تصنع به؟ قال: أميز كل ما ورد على هذه الجوارح.
قال: قلت: أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال: لا، قلت:
وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني! إن الجوارح إذا شكت في
شئ شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته أو لمسته ردته إلى القلب فييقن اليقين
ويبطل الشك. قال: فقلت: إنما أقام الله القلب لشك الجوارح! قال: نعم.
قال: قلت: فلا بد من القلب وإلا لم تستقم الجوارح، يقال: نعم. قال: قلت:
283

يا أبا مروان! إن الله - تعالى ذكره - لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما
يصحح لها الصحيح وييقن ما شك فيه، وترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم
وشكهم واختلافهم لا يقيم لهم يردون إليه شكهم وحيرتهم ويقيم لك إماما
لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك؟ قال: فسكت ولم يقل شيئا. قال: ثم
التفت إلي، فقال: أنت هشام؟ فقلت: لا، فقال لي: أجالسته؟ فقلت: لا.
قال: فمن أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: فأنت إذا هو. قال: ثم
ضمني إليه وأقعدني في مجلسه وما نطق حتى قمت.
فضحك أبو عبد الله عليه السلام ثم قال: يا هشام! من علمك هذا؟ قال:
قلت: يا ابن رسول الله! جرى على لساني. قال: يا هشام! هذا والله مكتوب في
صحف إبراهيم وموسى (1).
(200)
هشام بن الحكم والديصاني
عن عدة من أصحابنا: أن عبد الله الديصاني أتى هشام بن الحكم. فقال
له: ألك رب؟ فقال: بلى. قال: قادر؟ قال: بلى قادر قاهر. قال: يقدر أن
يدخل الدنيا كلها في بيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ فقال: هشام:
النظرة. فقال له: قد أنظرتك حولا، ثم خرج عنه.
فركب هشام إلى أبي عبد الله عليه إسلام فاستأذن عليه، فأذن له.
فقال: يا ابن رسول الله! أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعول فيها إلا
على الله وعليك. فقال: أبو عبد الله عليه السلام: عما ذا سألك؟ فقال: قال
لي: كيت وكيت.

(1) البحار: ج 61 ص 248 - 249 عن الكافي: ج 1 ص 169 - 170، والبحار: ج 23 ص 6 عن
الإكمال والعلل والأمالي.
284

فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا هشام! كم حواسك؟ قال: خمس.
فقال: أيها أصغر؟ فقال: الناظر، قال: وكم قدر الناظر؟ قال: مثل العدسة
أو أقل منها. فقال: يا هشام! فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى. فقال:
أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وترابا وجبالا وأنهارا.
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه في
العدسة أو أقل منها قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة ولا تصغر الدنيا ولا
تكبر البيضة. فانكب هشام عليه وقبل يديه ورأسه ورجليه، وقال: حسبي
يا ابن رسول الله!
فانصرف إلى منزلة وغدا عليه الديصاني، فقال له: يا هشام! إني جئتك
مسلما ولم أجئك متقاضيا للجواب. فقال له هشام: إن كنت جئت
متقاضيا فهاك الجواب (1).
(201)
علي بن ميثم مع العلاف
قال السيد المرتضى - رحمه الله - في كتاب الفصول: سأل علي بن ميثم
- رحمه الله - أبا الهذيل العلاف، فقال: ألست تعلم أن إبليس ينهى عن الخير
كله ويأمر بالشر كله؟ فقال: بلى. قال فيجوز أن يأمر بالشر كله وهو
لا يعرفه وينهى عن الخير كله وهو لا يعرفه؟ قال: لا. قال له أبو الحسن: فقد
ثبت أن إبليس يعلم الشر والخير كله. قال: أبو الهذيل: أجل.
قال: فأخبرني عن إمامك الذي تأتم به بعد الرسول صلى الله عليه وآله
هل يعلم الخير كله والشر كله؟ قال: لا. قال: فإبليس أعلم من إمامك
إذا! فانقطع أبو الهذيل (2).

(1) البحار: ج 61 ص 252 - 253 عن التوحيد.
(2) البحار: ج 10 ص 70 عن الفصول المختارة: ج 1 ص 6.
285

(202)
علي بن ميثم مع العلاف
قال أبو الحسن علي بن ميثم يوما آخر لأبي الهذيل: أخبرني عمن أقر
على نفسه بالكذب وشهادة الزور هل يجوز شهادته في ذلك المقام على آخر؟
فقال أبو الهذيل: لا يجوز ذلك، قال أبو الحسن: أفلست تعلم أن الأنصار
ادعت الإمرة لنفسها ثم أكذبت نفسها في ذلك المقام؟ وشهدت بالزور ثم
أقرت بها لأبي بكر وشهدت بها له؟ فكيف تجوز شهادة أكذبوا أنفسهم
وشهدوا عليها بالزور مع ما أخذنا رهنك من القول في ذلك؟ (1).
(203)
علي بن ميثم مع ضرار
أخبرني الشيخ أيضا، قال: جاء ضرار إلى أبي الحسن علي بن ميثم
- رحمه الله - فقال له: يا با الحسن! قد جئتك مناظرا. فقال له أبو الحسن:
وفيم تناظرني؟ قال: في الإمامة. قال: ما جئتني والله مناظرا! ولكنك جئت
متحكما. قال ضرار: ومن أين لك ذلك؟ قال أبو الحسن: علي البيان عنه،
أنت تعلم أن المناظرة ربما انتهت إلى حد يغمض فيه الكلام، فيتوجه الحجة
على الخصم فيجهل ذلك أو يعاند، وإن لم يشعر بذلك منه أكثر مستمعيه بل
كلهم، ولكنني أدعوك إلى منصفة في القول: اختر أحد الأمرين: إما أن
تقبل قولي في صاحبي وأقبل قولك في صاحبك، فهذه واحدة. فقال ضرار:
لا أفعل ذلك. فقال له أبو الحسن: ولم لا تفعل؟ قال: لأني إذا قبلت قولك
في صاحبك قلت لي: إنه كان وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وأفضل

(1) البحار: ج 10 ص 371 عن الفصول المختارة: ج 1 ص 6.
286

من خلفه وخليفته على قومه وسيد المسلمين، فلا ينفعني بعد ذلك مثل أن
أقول: إن صاحبي كان صديقا واختاره المسلمون إماما، لأن الذي قبلته
منك يفسد علي هذا.
قال أبو الحسن: فاقبل قولي في صاحبك وأقبل قولك في صاحبي. قال
ضرار: وهذا لا يمكن أيضا، لأني إذا قبلت قولك في صاحبي قلت لي: كان
ضالا مضلا ظالما لآل محمد صلى الله عليه وآله قعد غير مجلسه ودفع الإمام
عن حقه وكان في عصر النبي صلى الله عليه وآله منافقا، فلا ينفعني قبولك
قولي فيه: إنه كان خيرا فاضلا وصاحبا أمينا، لأنه قد انتقض بقبولي قولك
قولي فيه: إنه كان خيرا فاضلا وصاحبا أمينا، لأنه قد انتقض بقبولي قولك
فيه: إنه كان ضالا مضلا.
فقال له أبو الحسن - رحمه الله -: فإذا كنت لا تقبل قولك في صاحبك
ولا قولي فيه فما جئتني إلا متحكما ولم تأتني مناظرا (1).
(204)
علي بن ميثم مع نصراني
قال: وأخبرني الشيخ - أيده الله - قال: قال أبو الحسن علي بن ميثم
- رحمه الله - لرجل نصراني: لم علقت الصليب في عنقك؟ قال: لأنه شبه
الشئ الذي صلب عليه عيسى عليه السلام، قال أبو الحسن: أفكان
عليه السلام يحب أن يمثل به؟ قال: لا. قال: فأخبرني عن عيسى أكان
يركب الحمار ويمضي في حوائجه؟ قال: نعم، قال: أفكان يحب بقاء الحمار
حتى يبلغ عليه حاجته؟ قال: نعم، قال: فتركت ما كان يحب عيسى بقاءه
وما كان يركبه بمحبة منه، وعمدت إلى ما حمل عليه عيسى عليه السلام بالكره
وأركبه بالبغض له، فعلقته في عنقك! فقد كان ينبغي على هذا القياس أن

(1) البحار: ج 10 ص 371 - 372 عن الفصول المختارة ج 1 ص 10 - 11.
287

تعلق الحمار في عنقك وتطرح الصليب، وإلا فقد تجاهلت (1).
(205)
علي بن ميثم مع سائل
قال: وأخبرني الشيخ - أدام الله عزه - قال: سئل أبو الحسن علي بن ميثم
- رحمه الله - فقيل له: لم صلى أمير المؤمنين عليه السلام خلف القوم؟ فقال:
جعلهم بمثل سواري المسجد. قال السائل: فلم ضرب الوليد بن عقبة الحد
بين يدي عثمان؟ فقال: لأن الحد له وإليه، فإذا أمكنه إقامته أقامه بكل
حيلة. قال: فلم أشار على أبي بكر وعمر؟ قال: طلبا منه أن يحيي أحكام
الله ويكون دينه القيم، كما أشار يوسف على ملك مصر نظرا منه للخلق،
ولأن الأرض والحكم فيها إليه، فإذا أمكنه أن يظهر مصالح الخلق فعل،
وإذا لم يمكنه ذلك بنفسه توصل إليه على يدي من يمكنه طلبا منه لا حياء أمر
الله تعالى.
قال: فلم قعد عن قتالهم؟ قال: كما قعد هارون بن عمران عليه السلام
عن السامري وأصحابه وقد عبدوا العجل. قال: أفكان ضعيفا؟ قال: كان
كهارون حيث يقول: " يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني "
وكان كنوح عليه السلام إذا قال: " إني مغلوب فانتصر " وكان كلوط
عليه إسلام إذ قال: " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " وكان
كهارون وموسى عليهما السلام إذ قال: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي "
قال: فلم قعد في الشورى؟ قال اقتدارا منه على الحجة، وعلما منه بأن
القوم إن ناظروه وأنصفوه كان هو الغالب، ولو لم يفعل وجبت الحجة عليه،
لأن من كان له حق فدعي إلى أن يناظر فيه فإن ثبت له الحجة أعطيه، فلم

(1) البحار: ج 10 ص 372 عن الفصول المختارة: ج 1 ص 32.
288

يفعل بطل حقه، وأدخل بذلك الشبهة على الخلق، وقد قال يومئذ: اليوم
أدخلت في باب إن أنصفت فيه وصلت إلى حقي، يعني أن أبا بكر استبد
بها يوم السقيفة ولم يشاور.
قال: فلم زوج عمر بن الخطاب ابنته؟ قال: لإظهاره الشهادتين وإقراره
بفضل رسول الله صلى الله عليه وآله، وأراد بذل استصلاحه وكفه عنه، وقد
عرض لوط بناته على قومه وهم كفار لردهم عن ضلالهم، فقال: " هؤلاء
بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل
رشيد " (1).
(206)
علي بن ميثم مع ملحد
قال: وأخبرني الشيخ - أدام الله عزه - أيضا، قال: دخل أبو الحسن علي
ابن ميثم - رحمه الله - على الحسن بن سهل وإلى جانبه ملحد قد عظمه والناس
حوله. فقال: لقد رأيت ببابك عجبا! قال: وما هو؟ قال: رأيت سفينة تعبر
بالناس من جانب إلى جانب بلا ملاح ولا حاصر. فقال له صاحبه الملحد
وكان بحضرته: إن هذا أصلحك الله لمجنون! قال: قلت: وكيف ذلك؟ قال
خشب جماد لا حيلة له ولا قوة ولا حياة فيه ولا عقل كيف تعبر بالناس؟ قال:
فقال أبو الحسن: وأيما أعجب، هذا أو هذا الماء الذي يجري على وجه
الأرض يمنة ويسرة بلا روح ولا حيلة ولا قوى، وهذا النبات الذي يخرج من
الأرض، والمطر الذي ينزل من السماء؟ تزعم أنه لا مدبر لهذا كله، وتنكر أن
تكون سفينة تتحرك بلا مدبر وتعبر بالناس! قال: فبهت الملحد (2).

(1) البحار: ج 10 ص 373، ونبذا منه ج 8 ط الكمباني ص 144 - 145.
(2) البحار: ج 10 ص 374. وروضات الجنات: ج 6 ص 167.
289

(207)
علي بن ميثم مع العلاف قال: وأخبرني الشيخ - أدام الله عزه - قال: سأل أبو الهذيل العلاف علي
ابن ميثم - رحمه الله - عند علي بن رياح، فقال له: ما الدليل على أن عليا
عليه السلام كان أولى بالإمامة من أبي بكر؟ فقال له: الدليل عل ذلك
إجماع أهل القبلة على أن عليا عليه السلام كان عند وفاة رسول الله صلى الله
عليه وآله مؤمنا عالما كافيا، ولم يجمعوا بذلك على أبي بكر.
فقال له أبو الهذيل: ومن لم يجمع عليه عافاك الله؟! قال له أبو
الحسن: أنا وأسلافي من قبل وأصحابي الآن،. قال له أبو الهذيل: فأنت
وأصحابك ضلال تائهون. فقال له أبو الحسن: ليس جواب هذا الكلام إلا
السباب واللطام (1).
(208)
مجنون مع العلاف
حكي عن أبي الهذيل العلاف أنه قال: دخلت الرقة، فذكر لي أن بدير
زكي [رجلا] مجنونا حسن الكلام، فأتيته فإذا أنا بشيخ حسن الهيئة جالسا
على وسادة يسرح رأسه ولحيته، فسلمت عليه، فرد السلام.
وقال: ممن يكون الرجل؟ قال: قلت: من أهل العراق قال: نعم!
أهل الظرف والآداب. قال: من أيها لأنت؟ قلت: من أهل البصرة، قال:
أهل التجارب والعلم! قال [فمن] أيهم أنت؟ قلت: أبو الهذيل العلاف،
قال: المتكلم؟ قلت: بلى، فوثب عن وسادته وأجلسني عليها.

(1) البحار: ج 10 ص 374 عن الفصول المختارة: ج 1 ص 55.
290

ثم قال بعد كلام جرى بيننا: ما تقول في الإمامة؟ قلت: أي الإمامة
تريد؟ قال: من تقدمون بعد النبي صلى الله عليه وآله؟ قلت: من قدم
رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: ومن هو؟ قلت: أبو بكر. قال لي:
يا أبا الهذيل! ولم قدمتموه؟ قلت: لأن النبي صلى الله عليه وآله قال:
" قدموا خيركم وولوا أفضلكم " وتراضى الناس به جميعا.
قال: يا أبا الهذيل! هاهنا وقعت. أما قولك: إن النبي صلى الله عليه
وآله قال: " قدموا خيركم وولوا أفضلكم " فإني أوجدك أن أبا بكر صعد
المنبر وقال وليتكم ولست بخيركم! فإن كانوا كذبوا عليه فقد خالفوا أمر
النبي صلى الله عليه وآله، وإن كان هو الكاذب على نفسه فمنبر النبي صلى
الله عليه وآله لا يصعده الكاذبون. وأما قولك: " إن الناس تراضوا به " فإن
أكثر الأنصار قالوا: منا أمير ومنكم أمير. وأما المهاجرون: فإن زبير بن العوام
قال: لا أبايع إلا عليا فأمر به فكسر سيفه، وجاء أبو سفيان بن حرب،
فقال: يا أبا الحسن! إن شئت لأملأنها خيلا ورجلا - يعني المدينة - وخرج
سلمان فقال: " كردند ونكردند وندانند كه چه كردند " والمقداد وأبو ذر
فهؤلاء المهاجرون
أخبرني يا أبا الهذيل! عن قيام أبي بكر على المنبر وقوله: " إن لي شيطانا
يعتريني فإذا رأيتموني مغضبا فاحذروني لا أقع في أشعارك وأبشاركم " فهو
يخبركم على المنبر أني مجنون! وكيف يحل لكم أن تولوا مجنونا؟.
وأخبرني يا أبا الهذيل! عن قيام عمر على المنبر وقوله: " وددت أني شعرة
في صدر أبي بكر " ثم قال بعدها بجمعة، فقال: " إن بيعة أبي بكر كانت
فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه " فبينا هو يود أن يكون شعرة
في صدر أبي بكر يأمر بقتل من بايع مثله!
فأخبرني يا أبا الهذيل " بالذي زعم أن النبي صلى الله عليه وآله لم
291

يستخلف وأن أبا بكر استخلف عمر، وأن عمر لم يستخلف، فأرى أمركم
بينكم متناقضا.
وأخبرني يا أبا الهذيل! عن عمر حين صيرها شورى في ستة وزعم أنهم
من أهل الجنة، فقال: إن خالف اثنان لأربعة فاقتلوا الاثنين، وإن خالف
ثلاثة لثلاثة فاقتلوا الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فهذه ديانة أن
يأمر بقتل أهل الجنة؟!
وأخبرني يا أبا الهذيل " عن عمر لما طعن دخل عليه عبد الله بن العباس
قال: فرأيته جزعا، فقلت: يا أمير المؤمنين! ما هذا الجزع؟ فقال: يا ابن عباس!
ما جزعي لأجلي ولكن جزعي لهذا الأمر من يليه بعدي؟!
قال: قلت: ولها طلحة بن عبيد الله، قال: رجل له حدة، كان النبي
صلى الله عليه آله يعرفه، فلا أولي أمور المسلمين حديدا.
قال: قلت: ولها الزبير ن العوام، قال: رجل بخيل، رأيته يماكس امرأته
في كبة من غزل، فلا أولي أمور المسلمين بخيلا.
قال: قلت: ولها سعد بن أبي وقاص، قال: رجل صاحب فرس وقوس
وليس من أحلاس الخلافة.
قلت: ولها عبد الرحمن بن عوف، قال: رجل ليس يحسن أن يكفي
عياله.
قال: قلت: ولها عبد الله بن عمر، فاستوى جالسا وقال: يا ابن عباس!
ما والله أردت بهذا أولي رجلا لم يحسن أن يطلق امرأته.
قلت: ولها عثمان بن عفان، فقال: والله لئن وليته ليحملن آل أبي
معيط على رقاب المسلمين وأوشك إن فعلنا أن يقتلوه، قالها ثلاثا.
قال: ثم سكت لما عرفت معاندته لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب،
فقال لي، يا ابن عباس اذكر صاحبك، قال: قلت: ولها عليا، قال: والله
292

ما جزعي إلا لما أخذت الحق من أربابه! والله لئن وليته ليحملنهم على المحجة
العظمى وإن يطيعوه يدخلهم الجنة.
فهو يقول هذا، ثم صيراها شورى بين ستة، فويل له من ربه!
قال أبو الهذيل: بينا هو يكلمني إذ اختلط وذهب عقله! فأخبرت
المأمون بقصته. وكان من قصته أن ذهب بماله وضياعه حيلة وغدرا فبعث
إليه المأمون فجاء به وعالجه، وكان قد ذهب عقله بما صنع به، فرد عليه ماله
وضياعه وصيره نديما. فكان المأمون يتشيع من أجله (1).
أقول: لا بأس هنا بنقل احتجاج المأمون مع العلماء، وإن كان خارجا
عن شرط الكتاب.
(209)
المأموم العباسي مع أهل الحديث والكلام
روي عن إسحاق بن حماد بن زيد، قال: سمعنا يحيى بن أكثم
القاضي قال: أمرني المأمون بإحضار جماعة من أهل الحديث وجماعة من أهل
الكلام والنظر، فجمعت له من الصنفين زهاء أربعين رجلا، ثم مضيت بهم
فأمرتهم بالكينونة في مجلس الحاجب لا علمه بمكانهم، ففعلوا، فأعلمته،
فأمرني بإدخالهم، ففعلت، فدخلوا وسلموا، فحدثهم ساعة وآنسهم.
ثم قال: إني أريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي
هذا حجة، فمن كان حاقنا أو به حاجة فليقم إلى قضاء حاجته، وانبسطوا
وسلموا أخفافكم وضعوا أرديتكم، ففعلوا ما أمروا به.
فقال: يا أيها القوم! إنما استحضرتكم لأحتج بكم عند الله عز وجل،
فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم وإمامكم! ولا تمنعكم جلالتي ومكاني من قول

(1) الاحتجاج: ج 2 ص 382 والبحار: ج 49 ص 279 - 281 عنه وج 8 ص 329 ط الكمباني وفي
الهامش: نقلها أيضا تذكرة الخواص ت عقلاء المجانين.
293

الحق حيث كان ورد الباطل على من أتى به، وأشفقوا على أنفسكم من
النار، وتقربوا إلى الله برضوانه وإيثار طاعته، فما أحد تقرب إلى مخلوق
بمعصية الخالق إلا سلطه الله عليه، فناظروني بجميع عقولكم.
إني رجل أزعم أن عليا خير البشر بعد النبي صلى الله عليه وآله، فإن
كنت مصيبا فصوبوا قولي، وإن كنت مخطئا فردوا علي، وهلموا، فإن شئتم
سألتكم وإن شئتم سألتموني.
فقال له الذين يقولون بالحديث: بل نسألك. فقال: هاتوا، وقلدوا
كلامكم رجلا منكم، فإذا تكلم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزد، وإن
أتى بخلل فسددوه.
فقال قائل منهم: أما نحن فنزعم أن خير الناس بعد النبي صلى الله عليه
وآله أبو بكر، ومن قبل أن الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول صلى الله
عليه وآله قال: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " فلما أمر نبي
الرحمة بالاقتداء بهما، علمنا أنه لم يأمر بالاقتداء إلا بخير الناس.
فقال المأمون: الروايات كثيرة، ولا بد من أن يكون كلها حقا، أو كلها
باطلا، أو بعضها حقا وبعضها باطلا. فلو كانت كلها حقا كانت كلها
باطلا من قبل أن بعضها ينقض بعضا ولو كانت كلها باطلا كان في
بطلانها بطلان الدين ودروس الشريعة. فلما بطل الوجهان ثبت الثالث
بالاضطرار، وهو أن بعضها حق وبعضها باطل، فإذا كان كذلك، فلا بد
من دليل على ما يحق منها ليعتقد وينفي خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه
حقا كان أولى ما أعتقده وآخذ به.
وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها، وذلك أن
رسول الله صلى الله عليه وآله أحكم الحكماء وأولى الخلق بالصدق وأبعد
الناس من الأمر بالمحال وحمل الناس على التدين بالخلاف، وذلك أن هذين
294

الرجلين لا يخلوا من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مختلفين، فإن كانا
متفقين من كل جهة كانا واحدا في العدد والصفة والصورة والجسم، وهذا
معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة. وإن كانا مختلفين، فكيف
يجوز الاقتداء بهما؟ وهذا تكليف ما لا يطاق، لأنك إن اقتديت بواحد خالفت
الآخر.
والدليل على اختلافهما: أن أبا بكر سبى أهل الردة، وردهم عمر
أحرارا. وأشار عمر على أبي بكر بعزل خالد وبقتله بمالك بن نويرة، فأبى أبو
بكر عليه. وحرم عمر المتعة، ولم يفعل ذلك أبو بكر. ووضع عمر ديوان
العطية، ولم يفعله أبو بكر. واستخلف أبو بكر، ولم يفعل ذلك عمر. ولهذا
نظائر كثيرة (1).
فقال آخر من أصحاب الحديث: فإن النبي صلى الله عليه وآله قال: لو
كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا أ
فقال المأمون: هذا مستحيل، من قبل أن رواياتكم أنه صلى الله عليه
وآله آخى بين أصحابه وأخر عليا، فقال عليه السلام له في ذلك؟ فقال:
" ما أخرتك زلا لنفسي " فأي الروايتين ثبتت بطلت الأخرى.
قال آخر: إن عليا قال على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر.
قال المأمون: هذا مستحيل، من قبل أن النبي صلى الله عليه وآله لو
علم أنهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ومرة أسامة بن زيد،

(1) هنا كلام للصدق رحمه الله قال في هذا الفصل لم يذكره المأمون
لخصمه، وهو أنهم لم يرووا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي برك
وعمر " وإنما رووا " أبو بكر وعمر " ومنهم من روى " أبا بكر وعمر " فلو كانت الرواية صحيحة لكان
معنى قوله بالنصب " اقتدوا بالذين من بعدي كتاب الله والعترة يا با بكر وعمر " ومعنى قوله بالرفع
" اقتدوا أيها الناس وأبو بكر، وعمر بالذين من بعدي: كتاب الله والعترة ".
295

ومما يكذب هذه الرواية قول علي عليه السلام: قبض النبي وأنا أولى
بمجلسه مني بقميصي ولكني أشفقت أن يرجع الناس كفارا. وقوله
عليه السلام: أنى يكونان خيرا مني؟ وقد عبدت الله عز وجل قبلهما وعبدته
بعدهما.
قال آخر: فإن أبا بكر أغلق بابه وقال: هل من مستقيل فأقيله؟ فقال
علي عليه السلام: قدمك رسول الله فمن ذا يؤخرك؟
فقال المأمون: هذا باطل، من قبل أن عليا عليه السلام قعد عن بيعة بي
بكر، ورويتم أنه قعد عنها حتى قبضت فاطمة عليها السلام، وأنها أوصت أن
تدفن ليلا لئلا يشهدا جنازتها.
ووجه آخر: وهو أنه إن كان النبي صلى الله عليه وآله استخلفه
فكيف كان له أن يستقيل؟ وهو يقول للأنصاري: قد رضيت لكم أحد
هذين الرجلين: أبا عبيدة وعمر!
قال آخر: إن عمرو بن العاص قال: يا نبي الله " من أحب الناس إليك
من النساء؟ فقال: عائشة. فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها.
فقال المأمون: هذا باطل، من قبل أنكم رويتم أن النبي صلى الله عليه
وآله وضع بين يديه طائر مشوي، فقال: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك "
فكان علي عليه السلام، فأي روايتكم تقبل؟
فقال آخر: فإن عليا عليه السلام قال: من فضلني على أبي بكر وعمر
جلدته حد المفتري.
قال المأمون: كيف يجوز أن يقول علي عليه إسلام اجلد الحد من لا يجب
الحد عليه؟ فيكون متعديا لحدود الله عز وجل عاملا بخلاف أمره! وليس
تفضيل من فضله عليهما فرية، وقد رويتم عن إمامكم أنه قال: " وليتكم
ولست بخيركم " فأي الرجلين أصدق عندكم، أبو بكر على نفسه أو علي
296

على أبي بكر؟ مع تناقض الحديث في نفسه، ولا بد له في قوله من أن يكون
صادقا أو كاذبا، فإن كان صادقا فأنى عرف ذلك؟ أبوحي؟ فالوحي
منقطع، أو بالنظر؟ فالنظر متحير، وإن كان غير صادق فمن المحال أن يلي أمر
المسلمين ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم [وهو] كذاب.
قال آخر: فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وآله قال: أبو بكر وعمر
سيدا كهول أهل الجنة.
قال المأمون: هذا الحديث محال، لأنه لا يكون في الجنة كهل، ويروى أن
أشجعية كانت عند النبي صلى الله عليه وآله فقال: " لا يدخل الجنة
عجوز " فبكت! فقال النبي صلى الله عليه وآله: إن الله عز وجل يقول:
" إنما أنشأناهن إنشاء فجعلنا هن أبكارا عربا أترابا " فإن زعمتم أن أبا بكر
ينشأ شابا إذا دخل الجنة، فقد رويتم أن النبي صلى الله عليه وآله قال للحسن
والحسين: " إنهما سيدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين، وأبوهما خير
منهما ".
قال آخر: فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لو لم أبعث
فيكم، لبعث عمر.
قال المأمون: هذا محال، لأن الله عز وجل يقول: " إنا أوحينا إليك كما
أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " وقال عز وجل: " وإذ أخذنا من النبيين
ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم " فهل يجوز أن
يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوة مبعوثا؟ ومن أخذ ميثاقه على النبوة
مؤخرا؟!
قال آخر: إن النبي صلى الله عليه وآله نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم
وقال: إن الله تعالى باهى بعباده عامة وبعمر خاصة.
قال المأمون: فهذا مستحيل، من قبل أن الله تعالى لم يكن ليباهي بعمر
297

ويدع نبيه، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة! وليست هذه الرواية
بأعجب من روايتكم: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " دخلت الجنة
فسمعت خفق نعلين، فإذا بلال مولى أبي بكر قد سبقني إلى الجنة " وإنما
قالت الشيعة: " علي خير من أبي بكر " فقلتم: " عبد أبي بكر خير من
رسول الله صلى الله عليه وآله " لأن السابق أفضل من المسبوق. وكما رويتم:
أن الشيطان يفر من حس عمر، وألقى على لسان النبي صلى الله عليه وآله:
أنهن الغرانيق العلى، ففر من عمر وألقى على لسان النبي صلى الله عليه وآله
بزعمكم الكفر!
قال آخر: قد قال النبي صلى الله عليه وآله: لو نزل العذاب ما نجا إلا
عمر بن الخطاب.
قال المأمون: هذا خلاف الكتاب نصا، لأن الله عز وجل يقول: " وما
كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " فجعلتم عمر مثل الرسول.
قال آخر: فقد شهد النبي صلى الله عليه وآله لعمر بالجنة في
عشرة من الصحابة.
فقال: لو كان هذا كما زعمت كان عمر لا يقول لحذيفة: نشدتك بالله
أمن المنافقين أنا؟ فإن كان قد قال له النبي صلى الله عليه وآله: أنت من
أهل الجنة ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة وصدق حذيفة ولم يصدق النبي
صلى الله عليه وآله فهذا على غير الإسلام، وإن كان قد صدق النبي صلى
الله عليه وآله فلم سأل حذيفة؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما.
فقال آخر: فقد قال النبي صلى الله عليه وآله: وضعت أمتي في كفة
الميزان ووضعت في أخرى فرجحت بهم، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح
بهم، ثم عمر فرجح، ثم رفع الميزان.
فقال المأمون: هذا محال، من قبل أنه لا يخلو من أن يكون من أجسامهما
298

أو أعمالهما. فإن كانت الأجسام، فلا يخفى على ذي روح أنه محال، لأنه
لا يرجح أجسامهما بأجسام الأمة. وإن كانت أفعالهما، فلم يكن بعد،
فكيف يرجح بما ليس؟ وخبروني: بما يتفاضل بالناس؟ فقال بعضهم:
بالأعمال الصالحة. قال: فأخبروني فمن فضل صاحبه على عهد النبي صلى
الله عليه وآله؟ ثم إن المفضول عمل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله
بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي صلى الله عليه وآله أيلحق به؟ فإن
قلتم: نعم، أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهادا وحجا وصوما وصلاة
وصدقة من أحدهما. قالوا: صدقت لا يلحق فاضل دهرنا فاضل عصر النبي
صلى الله عليه وآله.
قال المأمون: فانظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في
فضائل علي عليه السلام وقايسوا إليها ما رووا في فضائل تمام العشرة الذين
شهدوا لهم بالجنة، فإن كانت جزءا من أجزاء كثيرة فالقول قولكم، وإن
كانوا قد رووا في فضائل علي عليه السلام أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا
ولا تعدوه. قال: فأطرق القوم جميعا.
فقال المأمون: ما لكم سكتم؟ قالوا: قد استقصينا.
قال المأمون: فإني أسألكم خبروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث
الله نبيه صلى الله عليه وآله؟ قالوا: السبق إلى الإسلام، لأن الله تبارك
وتعالى يقول: " السابقون السابقون أولئك المقربون " قال: فهل علمتم أحدا
أسبق من علي عليه السلام إلى الإسلام؟ قالوا: أنه سبق حدثا لم يجر عليه
حكم، وأبو بكر أسلم كهلا قد جرى عليه الحكم وبين هاتين الحالتين
فرق.
قال المأمون: فخبروني عن إسلام علي عليه السلام أبإلهام من قبل الله
عز وجل، أم بدعاء النبي صلى الله عليه وآله؟ فإن قلتم: بإلهام، فقد
299

فضلتموه على النبي صلى الله عليه وآله، لأن النبي لم يلهم بل أتاه جبرئيل
عليه السلام عن الله عز وجل داعيا ومعرفا، وإن قلتم: بدعاء النبي صلى الله
عليه وآله فهل دعاه من قبل نفسه أم بأمر الله عز وجل؟ فإن قلتم: من قبل
نفسه، فهذا خلاف ما وصف الله عز وجل نبيه عليه السلام في قوله تعالى:
" وما أنا من المتكلفين " وفي قوله عز وجل: " وما ينطق عن الهوى " وإن كان
من قبل الله عز وجل، فقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وآله
بدعاء علي عليه السلام من بين صبيان الناس وإيثاره عليهم، فدعاه ثقة
به وعلما بتأييد الله تعالى إياه.
وخلة أخرى: خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلف خلقه ما لا يطيقون؟
فإن قلتم: نعم، كفرتم، وإن قلتم: لا، فكيف يجوز أن يأمر نبيه صلى الله
عليه وآله بدعاء من لم يمكنه قبول ما يؤمر به، لصغره وحداثة سنه وضعفه عن
القبول.
وخلة أخرى: هل رأيتم النبي صلى الله عليه وآله دعا أحدا من صبيان
أهله وغيرهم فيكون أسوة علي عليه السلام؟ فإن زعمتم أنه لم يدع غيره، فهذه
فضيلة لعلي عليه السلام على جميع صبيان الناس.
ثم قال: أي الأعمال أفضل بعد السبق إلى الإيمان؟ قالوا: الجهاد في
سبيل الله. قال: فهل تحدثون لأحد من العشرة في الجهاد ما لعلي
عليه السلام في جميع مواقف النبي صلى الله عليه وآله من الأثر؟ هذه بدر
قتل من المشركين فيها نيف وستون رجلا، قتل علي عليه السلام منهم نيفا
وعشرين، وأربعون لسائر الناس.
فقال قائل: كان أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وآله في عريشه
يدبرها.
فقال المأمون: لقد جئت بها عجيبة! أكان يدبر دون النبي صلى الله
300

عليه وآله؟ أو معه فيشركه؟ أو لحاجة النبي صلى الله عليه وآله إلى رأي أبي
بكر؟ أي الثلاث أحب إليك؟ فقال: أعوذ بالله! من أن أزعم أنه يدبر
دون النبي صلى الله عليه وآله أو يشركه، أو بافتقار من النبي إليه.
قال: فما الفضيلة في العريش؟ فإن كانت فضيلة أبي بكر بتخلفه عن
الحرب، فيجب أن يكون كل متخلف فاضلا أفضل من المجاهدين! والله
عز وجل يقول: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون
في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على
القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين
أجرا عظيما ".
قال إسحاق بن حماد بن زيد: ثم قال لي: إقرأ " هل أتى على الإنسان
حين من الدهر " فقرأت حتى بلغت " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا
ويتيما وأسيرا " إلى قوله: " وكان سعيكم مشكورا " فقال: فيمن نزلت هذه
الآيات؟ قلت: في علي عليه السلام قال: فهل بلغك أن عليا عليه السلام
قال حين أطعم المسكين واليتيم والأسير: " إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد
منكم جزاء ولا شكورا " على ما وصف الله عز وجل في كتابه؟ فقلت: لا.
قال: فإن الله عز وجل عرف سريرة علي عليه السلام ونيته، فأظهر ذلك في
كتابه تعريفا لخلقه أمره.
فهل علمت أن الله عز وجل وصف في شئ مما وصف في الجنة ما في
هذه السورة " قوارير من فضة "؟ قلت: لا. قال: فهذه فضيلة أخرى، فكيف
يكون القوارير من فضة؟ قلت: لا أدري. قال: يريد كأنها من صفائها من
فضة يرى داخلها ما يرى خارجها، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وآله:
" يا أبخشة رويدا سوقك بالقوارير! " وعنى به النساء كأنهن القوارير رقة.
وقوله عليه السلام: " ركبت فرس أبي طلحة فوجدته بحرا " أي كأنه بحر من
301

كثرة جريه وعدوه. وكقول الله عز وجل: " ويأتيه الموت من كل مكان
وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ " أي كأنه ما يأتيه الموت ولو أتاه من
مكان واحد لمات.
ثم قال: يا إسحاق! ألست ممن يشهد أن العشرة في الجنة؟ فقلت: بلى.
قال: أرأيت لو أن رجلا قال: ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا، أكان
عندك كافرا؟ قلت: لا. قال: أفرأيت لو قال: ما أدري أهذه السورة قرآن
أم لا، أكان عندك كافرا؟ قلت: بلى. قال: أرى فضل الرجل يتأكد.
خبرني يا إسحاق! عن حديث الطائر المشوي أصحيح عندك؟ قال: بلى.
قال: بان والله عنادك! لا يخلو هذا إما أن يكون كما دعا النبي صلى الله
عليه وآله أو يكون مردودا، أو عرف الله الفاضل من خلقه وكان المفضول
أحب إليه، أو تزعم أن الله لم يعرف الفاضل من المفضول! فأي الثلاث
أحب إليك أن تقول به؟.
قال إسحاق: فأطرقت ساعة، ثم قلت، يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل
يقول في أبي بكر: " ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله
معنا " فنسبه الله عز وجل إلى صحبة نبيه صلى الله عليه وآله.
فقال: سبحان الله! ما أقل علمكم باللغة والكتاب! أما يكون الكافر
صاحبا للمؤمن؟ فأي فضيلة في هذه؟ أما سمعت الله عز وجل يقول: " قال
له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم
سواك رجلا " فقد جعله له صاحبا.
وقال الهذلي:
ولقد غدوت وصاحبي وحشية تحت الرداء بصيرة بالمشرق
وقال الأزدي:
ولقد دعوت الوحش فيه وصاحبي محض القوائم من هجان هيكل
302

فصير فرسه صاحبه.
وأما قوله: " إن الله معنا " فإنه تبارك وتعالى مع البر والفاجر، أما
سمعت قوله عز وجل: " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا
هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ".
وأما قوله: " لا تحزن " فخبرني عن حزن أبي بكر أكان طاعة أو معصية؟
فإن زعمت أنه كان طاعة، فقد جعلت النبي صلى الله عليه وآله ينهى عن
الطاعة، وهذا خلاف صفة الحكيم. وإن زعمت أنه معصية، فأي فضيلة
للعاصي؟
وخبرني عن قوله عز وجل: " فأنزل الله سكينته عليه " على من؟ قال
إسحاق: فقلت: على أبي بكر، لأن النبي كان مستغنيا عن السكينة. قال:
فخبرني عن قوله عز وجل: " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم
شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله
سكينته على رسوله وعلى المؤمنين " أتدري من المؤمنون الذين أراد الله
عز وجل في هذا الموضع؟ قال: قلت: لا. قال: إن الناس انهزموا يوم حنين
فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله إلا سبعة من بني هاشم: علي
عليه السلام يضرب بسيفه، والعباس أخذ بلجام بغلة النبي صلى الله عليه
وآله والخمسة محدقون بالنبي صلى الله عليه وآله خوفا من أن يناله
سلاح الكفار حتى أعطى الله تبارك وتعالى رسوله عليه السلام الظفر، عنى
بالمؤمنين في هذا الموضع: عليا عليه السلام ومن حضر من بني هاشم، فمن كان
أفضل؟ أمن كان مع النبي صلى الله عليه وآله ونزلت السكينة على النبي
صلى الله عليه وآله وعليه؟ أم من كان في الغار مع النبي صلى الله عليه
وآله ولم يكن أهلا لنزولها عليه؟
يا إسحاق! من أفضل؟ من كان مع النبي صلى الله عليه وآله في الغار،
303

أم من نام على مهاده ووقاه بنفسه حتى تم للنبي صلى الله عليه وآله ما عزم
عليه من الهجرة؟ إن الله تبارك وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وآله أن يأمر
عليا عليه السلام بالنوم على فراشه ووقايته بنفسه، فأمره بذلك، فقال علي
عليه السلام: أتسلم يا نبي الله؟ قال: نعم، قال: سمعا وطاعة، ثم أتى
مضجعه وتسجى بثوبه وأحدق المشركون به، لا يشكون في أنه النبي صلى
الله عليه وآله وقد أجمعوا أن يضربه من كان بطن من قريش رجل ضربة لئلا
يطالب الهاشميون بدمه، وعلي عليه السلام يسمع ما القوم فيه من التدبير في
تلف نفسه، فلم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع أبو بكر في الغار، وهو مع
النبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام وحده، فلم يزل صابرا محتسبا،
فبعث الله تعالى ملائكة تمنعه من مشركي قريش.
فلما أصبح قام فنظر القوم إليه، فقالوا: أين محمد؟ قال: وما علمي به؟
قالوا: فأنت غررتنا! ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وآله، فلم يزل علي أفضل
منه لما بدا منه [إلا ما] يزيد خيرا، حتى قبضه الله تعالى إليه وهو محمود
مغفور له.
يا إسحاق! أما تروي حديث الولاية؟ فقلت: نعم، قال: إروه، فرويته. فقال:
أما ترى أنه أوجب لعلي على أبي بكر وعمر من الحق ما لم يوجب لهما
عليه؟
قلت: إن الناس يقولون: إن هذا قاله بسبب زيد بن حارثة.
قال: وأين قال النبي صلى الله عليه وآله هذا؟ قلت: بغدير خم بعد
منصرفه من حجة الوداع. قال: فمتى قتل زيد بن حارثة؟ قلت: بمؤتة. قال:
أفليس قد كان قتل زيد بن حارثة قبل غدير خم؟ قلت: بلى. قال: فخبرني
لو رأيت ابنا لك أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولى ابن عمي
أيها الناس فاقبلوا، أكنت تكره ذلك؟ فقلت: بلى. قال: أفتنزه ابنك عما
304

لا تنزه النبي صلى الله عليه وآله؟ ويحكم! أجعلتم فقهاء كم أربابكم؟ إن
الله عز وجل يقول: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباب من دون الله " والله
ما صاموا لهم ولا صلوا لهم ولكنهم أمروا لهم فأطيعوا.
ثم قال: أتروى قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي: " أنت مني بمنزلة
هارون من موسى "؟ قلت: نعم. قال: أما تعلم أن هارون أخو موسى لأبيه
وأمه؟ قلت: بلى. قال: فعلي كذلك؟ قلت: لا. قال: فهارون نبي وليس
علي كذلك، فما المنزلة الثالثة إلا الخلافة. وهذا كما قال المنافقون: إنه
استخلفه استثقالا له، فأراد أن يطيب نفسه، وهذا كما حكى الله عز وجل
عن موسى حيث يقول لهارون: " أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل
المفسدين ".
فقلت: إن موسى خلف هارون في قومه وهو حي، ثم مضى إلى ميقات
ربه عز وجل، وإن النبي خلف عليا عليه السلام حين خرج إلى غزاته.
فقال: أخبرني عن موسى حين خلف هارون، أكان معه - حيث مضى
إلى ميقات ربه عز وجل - أحد من أصحابه؟ فقلت: نعم. قال: أوليس قد
أستخلفه على جميعهم؟ قلت: بلى. قال: فكذلك علي عليه السلام خلفه
النبي صلى الله عليه وآله حين خرج في غزاته في الضعفاء والنساء
والصبيان، إذ كان أكثر قومه معه وإن كان قد جعله خليفته على جميعهم،
والدليل على أنه جعله خليفة عليهم في حياته إذا غاب وبعد موته قوله
عليه السلام: " علي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " وهو وزير
النبي صلى الله عليه وآله أيضا بهذا القول، لأن موسى عليه السلام قد دعا
الله عز وجل، فقال فيما دعى: " واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي
أشدد به أزري وأشركه في أمري " وإذا كان علي عليه السلام منه صلى الله
عليه وآله بمنزلة هارون من موسى، فهو وزيره، كما كان هارون وزير موسى
305

عليه السلام وهو خليفته، كما كان هارون خليفة موسى عليه السلام.
ثم أقبل على أصحاب النظر والكلام، فقال: أسألكم أو تسألوني؟ قالوا:
بل نسألك. فقال: قولوا.
فقال قائل منهم: أليست إمامة علي عليه السلام من قبل الله عز وجل
نقل ذلك عن رسول الله من نقل الفرض، مثل الظهر أربع ركعات، وفي
مائتين درهم خمسة دراهم، والحج إلى مكة؟ فقال: بلى. قال: فما بالهم لم
يختلفوا في جميع الفرض واختلفوا في خلافة علي عليه السلام وحدها؟
قال المأمون: لأن جميع الفرض لا يقع فيه من التنافس والرغبة ما يقع في
الخلافة.
فقال آخر: ما أنكرت أن يكون النبي صلى الله عليه وآله أمرهم باختيار
رجل يقوم مقامه رأفة بهم ورقة عليهم أن يستخلف هو بنفسه، فيعصى
خليفته، فينزل العذاب؟
فقال: أنكرت ذلك من قبل أن الله عز وجل أرأف بخلقه من النبي
صلى الله عليه وآله وقد بعث نبيه صلى الله عليه وآله وهو يعلم أن فيهم
العاصي والمطيع، فلم يمنعه ذلك من إرساله.
وعلة أخرى: لو أمرهم باختيار رجل منهم كان لا يخلو من أن يأمرهم
كلهم أو بعضهم، فلو كان أمر الكل من كان المختار؟ ولو أمر بعضا دون
بعض كان لا يخلو من أن يكون على هذا البعض علامة، فإن قلت: الفقهاء،
فلا بد من تحديد الفقيه وسمته.
قال آخر: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ما رآه المسلمون
حسنا فهو عند الله عز وجل حسن، وما رأوه قبيحا فهو عند الله تبارك وتعالى
قبيح.
فقال: هذا القول لا بد من أن يريد كل المؤمنين أو البعض؟ فإن أراد
306

الكل فهو مفقود، لأن الكل لا يمكن اجتماعهم، وإن كان البعض فقد روي
كل في صاحبه حسنا، مثل رواية الشيعة في علي عليه السلام، ورواية
الحشوية في غيره، فمتى يثبت ما يريدون من الإمامة؟
قال آخر: فيجوز أن يزعم أن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله
أخطأوا؟
قال: كيف نزعم أنهم أخطأوا واجتمعوا على ضلالة وهم لا يعلمون
فرضا ولا سنة؟ لأنك تزعم أن الإمامة لا فرض من الله عز وجل ولا سنة من
الرسول، فكيف يكون فيما ليس عندك بفرض ولا سنة خطأ؟
قال آخر: إن كنت تدعي لعلي عليه السلام من الإمامة [دون غيره]
فهات بينتك على ما تدعي.
فقال: ما أنا بمدع ولكني مقر، ولا بينة على مقر، والمدعي من يزعم أن
إليه التولية والعزل وأن إليه الاختيار، والبينة لا تعرى من أن يكون من
شركائه فهم خصماء، أو يكون من غيرهم والغير معدوم، فيكف بالبينة على
هذا؟
قال آخر: فما كان الواجب على علي عليه السلام بعد مضي رسول الله
صلى الله عليه وآله؟ قال: ما فعله. قال: أفما وجب عليه أن يعلم الناس أنه
إمام؟
فقال: إن الإمامة لا تكون بفعل منه في نفسه ولا بفعل من الناس فيه من
اختيار أو تفضيل أو غير ذلك، إنما يكون بفعل من الله عز وجل فيه، كما
قال لإبراهيم عليه السلام: " إني جاعلك للناس إماما " وكما قال عز وجل
لداود عليه السلام: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض " وكما قال
عز وجل للملائكة في آدم عليه السلام: " إني جاعل في الأرض خليفة "
فالإمام إنما يكون إماما من قبل الله باختياره إياه في بدء الصنيعة،
307

والتشريف في النسب، والطهارة في المنشأ، والعصمة في المستقبل، ولو كانت
بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقا للإمامة وإذا عمل
خلافها اعتزل، فيكون خليفة قبل أفعاله.
وقال آخر: فلم أوجبت الإمامة لعلي عليه السلام بعد الرسول صلى الله
عليه وآله؟
فقال: لخروجه من الطفولية إلى الإيمان كخروج النبي صلى الله عليه
وآله من الطفولية إلى الإيمان، والبراءة من ضلالة قومه عن الحجة واجتنابه
الشرك، كبراءة النبي صلى الله عليه وآله من الضلالة واجتنابه الشرك،
لأن الشرك ظلم عظيم.
ولا يكون الظالم إماما ولا من عبد وثنا بإجماع، ومن أشرك فقد حل من
الله عز وجل محل أعدائه، فالحكم فيه الشهادة عليه بما اجتمعت عليه الأمة
حتى يجيء إجماع آخر مثله، ولأن من حكم عليه مرة فلا يجوز أن يكون
حاكما فيكون الحاكم محكوما عليه، فلا يكون حينئذ فرق بين الحاكم
والمحكوم عليه.
قال آخر: فلم لم يقاتل علي عليه السلام أبا بكر وعمر وعثمان كما قاتل
معاوية؟
فقال: المسألة محال، لأن " لم " اقتضاء و " لا يفعل " نفي، والنفي لا يكون له
علة، إنما العلة للإثبات، وإنما يجب أن ينظر في أمر علي عليه السلام أمن
قبل الله أم من قبل غيره؟ فإن صح أنه من قبل الله عز وجل فالشك في
تدبيره كفر، لقوله عز وجل: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر
بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " فأفعال
الفاعل تبع لأصله، فإن كان قيامه عن الله عز وجل، فأفعاله عنه، وعلى
الناس الرضا والتسليم، وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وآله القتال يوم
308

الحديبية يوم صد المشركون هديه عن البيت، فلما وجد الأعوان وقوي
حارب، كما قال عز وجل في الأول: " فاصفح الصفح الجميل " ثم قال
عز وجل: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا
لهم كل مرصد ".
قال آخر: إذا زعمت أن إمامة علي عليه السلام من قبل الله عز وجل
وأنه مفترض الطاعة فلم لم يجز إلا التبليغ والدعاء كما للأنبياء عليهم السلام
وجاز لعلي أن يترك ما أمر به من دعوة الناس إلى طاعته.
فقال: من قبل أنا لم ندع أن عليا أمر بالتبليغ فيكون رسولا، ولكنه
عليه السلام وضع علما بين الله تعالى وبين خلقه، فمن تبعه كان مطيعا ومن
خالفه كان عصايا، فإن وجد أعوانا يتقوى بهم جاهد، وإن لم يجد أعوانا
فاللوم عليهم لا عليه، لأنهم أمروا بطاعته على كل حال، ولم يؤمر هو
بمجاهدتهم إلا بقوة، وهو بمنزلة البيت على الناس الحج إليه، فإذا حجوا أدوا
ما عليهم، وإذا لم يفعلوا كانت اللائمة عليهم لا على البيت.
وقال آخر: إذا وجب أنه لا بد من إمام مفترض الطاعة بالاضطرار،
فكيف يجب بالاضطرار أنه علي عليه السلام دون غيره؟
فقال: من قبل أن الله عز وجل لا يفرض مجهولا، ولا يكون المفروض
ممتنعا، إذ المجهول ممتنع، ولا بد من دلالة الرسول على الفرض، ليقطع العذر
بين الله عز وجل وبين عباده. أرأيت لو فرض الله عز وجل على الناس صوم
شهر ولم يعلم الناس أي شهر هو ولم يسم كان على الناس استخراج ذلك
بعقولهم حتى يصيبوا ما أراد الله تبارك وتعالى؟ فيكون الناس حينئذ
مستغنين عن الرسول والمبين لهم وعن الإمام الناقل خبر الرسول إليهم.
وقال آخر: من أين أوجبت أن عليا عليه السلام كان بالغا حين دعاه
309

النبي صلى الله عليه وآله؟ فإن الناس يزعمون أنه كان صبيا حين دعا ولم
يكن جاز عليه الحكم ولا بلغ مبلغ الرجال.
فقال: من قبل أنه لا يعرى في ذلك الوقت من أن يكون ممن أرسل إليه
النبي صلى الله عليه وآله ليدعوه، فإن كان كذلك فهو محتمل للتكليف
قوي على أداء الفرائض، وإن كان ممن لم يرسل إليه فقد لزم النبي صلى
الله عليه وآله قول الله عز وجل: " ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه
باليمين ثم لقطعنا منه الوتين " وكان مع ذلك قد كلف النبي صلى الله عليه
وآله عباد الله ما لا يطيقون عن الله تبارك وتعالى، وهذا من المحال الذي
يمتنع كونه، ولا يأمر به حكيم ولا يدل عليه الرسول، تعالى الله عن أن يأمر
بالمحال، وجل الرسول عن أن يأمر بخلاف ما يمكن كونه في حكمة الحكيم.
فسكت القوم عند ذلك جميعا.
فقال المأمون: قد سألتموني ونقضتم علي أفأسألكم؟ قالوا: نعم.
قال: أليس روت الأمة بإجماع منها أن النبي صلى الله عليه وآله قال:
" من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "؟ قالوا: بلى. [قال]:
ورووا عنه عليه السلام أنه قال: " من عصى بمعصية صغرت أو كبرت ثم
أتخذها دينا ومضى مصرا عليها فهو مخلد بين أطباق الجحيم "؟ قالوا: بلى.
قال: فخبروني عن رجل يختاره العامة فتنصبه خليفة هل يجوز أن يقال له
خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله ومن قبل الله عز وجل ولم يستخلفه
الرسول؟ فإن قلتم: نعم، كابرتم، وإن قلتم: لا، وجب أن أبا بكر لم يكن
خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله ولا من قبل الله عز وجل، وأنكم
تكذبون على نبي الله صلى الله عليه وآله وأنكم متعرضون لأن تكونوا ممن
وسمه النبي صلى الله عليه وآله بدخول النار.
وخبروني في أي قوليكم صدقتم؟ أفي قولكم: مضى صلى الله عليه وآله
310

ولم يستخلف، أو في قولكم لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، فإن كنتم صدقتم
في القولين فهذا ما لا يمكن كونه إذ كان متناقضا، وإن كنتم صدقتم في
أحدهما بطل الآخر.
فاتقوا الله! وانظروا لأنفسكم، ودعوا التقليد، وتجنبوا الشبهات، فوالله!
ما يقبل الله عز وجل إلا من عبد لا يأتي إلا بما يعقل ولا يدخل إلا فيما يعلم
أنه حق، والريب شك، وإدمان الشك كفر بالله عز وجل، وصاحبه في النار.
وخبروني هل يجوز ابتياع أحدكم عبدا، فإذا ابتاعه صار مولاه وصار
المشتري عبده؟ قالوا: لا. قال: كيف جاز أن يكون من اجتمعتم عليه
لهواكم واستخلفتموه صار خليفة عليكم وأنتم وليتموه؟ ألا كنتم أنتم الخلفاء
عليه؟ بل تولون خليفة وتقولون: إنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله ثم
إذ سخطتم عليه قتلتموه! كما فعل بعثمان بن عفان.
قال قائل منهم: لأن الإمام وكيل المسلمين إذا رضوا عنه ولوه، وإذا
سخطوا عليه عزلوه.
قال: فلمن المسلمون والعباد والبلاد! قالوا: الله (1) عز وجل. قال: فالله
أولى أن يوكل على عباده وبلاده من غيره، لأن من إجماع الأمة أنه من
أحدث في ملك غيره حدثا فهو ضامن، وليس له أن يحدث، فإن فعل فآثم غارم.
ثم قال: خبروني عن النبي صلى الله عليه وآله هل استخلف حين
مضى أم لا؟ فقالوا: لم يستخلف قال: فتركه ذلك هدى أم ضلال؟ قالوا:
هدى. قال: فعلى الناس أن يتبعوا الهدى ويتنكبوا الضلالة، قالوا: قد فعلوا
ذلك. قال: فلم استخلف الناس بعده وقد تركه هو؟ فترك فعله ضلال،
ومحال أن يكون خلاف الهدى هدى، وإذا كان ترك الاستخلاف هدى

(1) كذا في الأصل، وفي العقد: " لله ".
311

فلم استخلف أبو بكر، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وآله، وجعل عمر
الأمر بعده شورى بين المسلمين خلافا على صاحبه!.
زعمتم أن النبي صلى الله عليه وآله لم يستخلف، وأن أبا بكر
استخلف، وعمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النبي صلى الله عليه وآله
بزعمكم ولم يستخلف كما فعل أبو بكر وجاء بمعنى ثالث، فخبروني أي
ذلك ترونه صوابا؟ فإن رأيتم فعل النبي صلى الله عليه وآله صوابا فقد
خطأتم أبا بكر، وكذلك القول في بقية الأقاويل.
وخبروني أيهما أفضل؟ ما فعله النبي صلى الله عليه وآله بزعمكم من
ترك الاستخلاف؟ أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف؟
وخبروني هل يجوز أن يكون تركه من الرسول صلى الله عليه وآله هدى
وفعله من غيره هدى، فيكون هدى ضد هدى! فأين الضلال حينئذ؟
وخبروني هل ولي أحد بعد النبي صلى الله عليه وآله باختيار الصحابة
منذ قبض النبي صلى الله عليه وآله إلى اليوم؟ فإن قلتم: لا، فقد أوجبتم أن
الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي صلى الله عليه وآله، وإن قلتم: نعم،
كذبتم الأمة وبطل قولكم الوجود الذي لا يدفع.
وخبروني عن قول الله عز وجل: " قل لمن ما في السماوات والأرض قل
لله " أصدق هذا أم كذب؟ قالوا: صدق. قال: أفليس ما سوى الله لله، إذ
كان محدثه ومالكه؟ قالوا: نعم. قال: ففي هذا بطلان ما أوجبتم من
اختياركم خليفة تفترضون طاعته [إذ اخترتموه] وتسمونه خليفة رسول الله
صلى الله عليه وآله وأنتم استخلفتموه، وهو معزول عنكم إذا غضبتم عليه
وعمل بخلاف محبتكم، وهو مقتول إذا أبى الاعتزال، ويلكم! لا تفتروا
على الله كذبا فتلقوا وبال ذلك غدا إذ قمتم بين يدي الله عز وجل، وإذا
وردتم على رسول الله صلى الله عليه وآله وقد كذبتم عليه متعمدين، وقد
312

قال: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ".
ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهم إني قد نصحت لهم، اللهم إني
قد أرشدتهم، اللهم إني قد أخرجت ما وجب علي إخراجه من عنقي، اللهم
إني لم أدعهم في ريب ولا في شك، اللهم إني أدين بالتقرب إليك بتقديم
علي عليه السلام على الخلق بعد نبيك صلى الله عليه وآله كما أمرنا به
رسولك صلواتك وسلامك عليه وآله.
قال: ثم افترقنا، فلم نجتمع بعد ذلك حتى قبض المأمون.
قال محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري: وفي حديث آخر: قال: فسكت
القوم، فقال لهم: لم سكتم؟ قالوا: لا ندري ما نقول. قال: يكفيني هذه الحجة
عليكم. ثم أمر بإخراجهم. قال: فخرجنا متحيرين خجلين. ثم نظر المأمون
إلى الفضل بن سهل، فقال: هذا أقصى ما عند القوم، فلا يظن ظان أن
جلالتي منعتهم من النقض علي (1).
(210)
المأمون وبنو العباس
أقول: لما انتهى الكلام إلى هنا، فلا نرى بأسا بنقل كتاب المأمون إلى
بني العباس في الاحتجاج عليهم:
عن الطرائف للسيد - رحمه الله تعالى - قال: من الطرائف المشهورة ما بلغ
إليه المأمون في مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ومدح أهل
بيته عليهم السلام ذكره ابن مسكويه صاحب التاريخ (المسمى ظ) بحوادث
الإسلام في كتاب سماه " نديم الفريد " يقول فيه حيث ذكر كتابا كتبه بنو

(1) البحار: ج 49 ص 189 - 208 عن عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 185، والعقد الفريد: ج 5
ص 92 - 110.
313

هاشم يسألون جوابهم ما هذا لفظه:
فقال المأمون:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد
وآل محمد على رغم أنف الراغمين.
أما بعد، عرف المأمون كتابكم وتدبير أمركم، ومخض زبدتكم، وأشرف
على صغيركم وكبيركم، وعرفكم مقبلين ومدبرين، وما آل إليه كتابكم قبل
كتابكم في مراوضة الباطل وصرف وجوه الحق عن مواضعها، ونبذكم كتاب
الله تعالى والآثار وكلما جاءكم به الصادق محمد صلى الله عليه وآله حتى
كأنكم من الأمم السالفة التي هلكت بالخسفة والغرق والريح والصيحة
والصواعق والرجم.
" أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها "؟ والذي هو أقرب إلى المأمون
من حبل الوريد! لولا أن يقول قائل: إن المأمون ترك الجواب عجزا لما
أجبتكم من سوء أخلاقكم وقلة أخطاركم وركاكة عقولكم ومن سخافة
ما تأوون إليه من آرائكم، فليستمع مستمع، فليبلغ شاهد غائبا.
أما بعد، فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وآله على فترة من
الرسل وقريش في أنفسها وأموالها لا يرون أحدا يساميهم ولا يباريهم، فكان
نبينا صلى الله عليه وآله أمينا من أوسطهم بيتا وأقلهم مالا، وكان أول من
آمنت به خديجة بنت خويلد، فواسته بمالها، ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب سبع سنين، لم يشرك بالله شيئا طرفة عين، ولم يعبد وثنا، ولم
يأكل ربا، ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم، وكانت عمومة رسول الله صلى
الله عليه وآله إما مسلم مهين أو كافر معاند، إلا حمزة، فإنه لم يمتنع من
الإسلام ولا يمتنع الإسلام منه، فمضى لسبيله على بينة من ربه.
وأما أبو طالب: فإنه كفله ورباه، ولم يزل مدافعا عنه ومانعا منه، فلما
314

قبض الله أبا طالب فهم القوم وأجمعوا ليقتلوه، فهاجر إلى القوم الذين تبوؤا
الدار والإيمان من قبلهم، يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في أنفسهم حاجة
مما أوتوا " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه
فأولئك هم المفلحون ".
فلم يقم مع رسول الله صلى الله عليه وآله أحد من المهاجرين كقيام
علي بن أبي طالب عليه السلام فإنه آزره ووقاه بنفسه ونام في مضجعه، ثم
لم يزل بعد متمسكا بأطراف الثغور، وينازل الأبطال، ولا ينكل عن قرن،
ولا يولي عن جيش، منيع القلب، يؤمر على الجميع ولا يؤمر عليه أحد، أشد
الناس وطأة على المشركين، وأعظمهم جهادا في الله، وأفقههم في دين الله
وأقرأهم لكتاب الله، وأعرفهم بالحلال والحرام، وهو صاحب الولاية في
حديث غدير خم، وصاحب قوله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا
أنه لا نبي بعدي " وصاحب يوم الطائف، وكان أحب الخلق إلى الله تعالى
وإلى رسوله صلى الله عليه وآله، وصاحب الباب فتح له وسد أبواب المسجد،
وهو صاحب الراية يوم خيبر، وصاحب عمرو بن عبد ود في المبارزة، وأخو
رسول الله صلى الله عليه وآله حين آخى بين المسلمين.
وهو منيع جزيل، وهو صاحب آية " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا
ويتيما وأسيرا " وهو زوج فاطمة سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل
الجنة، وهو ختن خديجة عليها السلام، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه
وآله رباه وكفله، وهو ابن أبي طالب عليه السلام في نصرته وجهاده، وهو
نفس رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم المباهلة، وهو الذي لم يكن أبو
بكر وعمر ينفذان حكما حتى يسألانه عنه، فما رأى إنفاذه أنفذاه وما لم يره
رداه، وهو داخل من بني هاشم في الشورى.
ولعمري! لو قدر أصحابه على دفعه عنه عليه السلام كما دفع العباس
315

- رضوان الله عليه - ووجدوا إلى ذلك سبيلا لدفعوه.
فأما تقديمكم العباس عليه: فإن الله تعالى يقول: " أجعلتم سقاية الحاج
وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله
لا يستوون عند الله " والله! لو كان ما في أمير المؤمنين من المناقب والفضائل
والآي المفسرة في القرآن خلة واحدة في رجل واحد من رجالكم أو غيره
لكان مستأهلا متأهلا للخلافة مقدما على أصحاب رسول الله بتلك الخلة.
ثم لم يزل الأمور تتراقى به إلى أن ولي أمور المسلمين، فلم يعن بأحد من
بني هاشم إلا بعد الله بن عباس تعظيما لحقه وصلة لرحمه وثقة به، فكان
من أمره الذي يغفر الله له. ثم نحن وهم يد واحدة كما زعمتم، حتى قضى
الله تعالى بالأمر إلينا، فأخفناهم وضيقنا عليهم وقتلناهم أكثر من قتل بني
أمية إياهم!
ويحكم! إن بني أمية إنما قتلوا منهم من سل سيفا، وإنا معاشر بني
العباس قتلناهم جملا! فتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت؟ ولتسألن
نفوس ألقيت في دجلة والفرات ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء،
هيهات! إنه من يعمل مثال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
وأما ما وصفتم من أمر المخلوع وما كان فيه من لبس فلعمري! ما لبس
عليه أحد غيركم، إذ هويتم عليه النكث وزينتم له الغدر، وقلتم له: ما عسى
أن يكون من أمر أخيك هو رجل مغرب ومعك الأموال والرجال، نبعث
إليه فيؤتى به، فكذبتم ودبرتم ونسيتم قول الله تعالى: " ومن بغي عليه لينصرنه الله "
وأما ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا
عليه السلام فما بايع له المأمون إلا مستبصرا في أمره، عالما بأنه لم يبق أحد على
ظهرها أبين فضلا ولا أظهر عفة ولا أورع ورعا ولا أزهد زهدا في الدنيا
ولا أطلق نفسا ولا أرضى في الخاصة والعامة ولا أشد في ذات الله منه، وأن
316

البيعة له لموافقة لرضى الرب عز وجل، ولقد جهدت وما أجد في الله لومة
لإثم. ولعمري! إن لو كانت بيعتي بيعة محاباة لكان العباس ابني وسائر
ولدي أحب إلى قلبي وأجلى في عيني، ولكن أردت أمرا وأراد الله أمرا، فلم
يسبق أمري أمر الله.
وأما ما ذكرتم ما مسكم من الجفاء في ولايتي: فلعمري! ما كان ذلك
إلا منكم بمظافرتكم عليه وممايلتكم إياه، فلما قتلته وتفرقتم عباديد، فطورا
أتباعا لابن أبي خالد، وطورا أتباعا لا عرابي، وطورا أتباعا لابن شكله، ثم
لكل من سل سيفا علي. ولولا أن شيمتي العفو وطبيعتي التجاوز ما تركت
على وجهها منكم أحدا، فكلكم حلال الدم محل بنفسه.
وأما ما سألتم من البيعة للعباس ابني: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي
هو خير؟ ويلكم! إن العباس غلام حدث السن ولم يونس رشده ولم يمهل
وحده ولم تحكمه التجارب، تدبره النساء تكفله الإماء، ثم لم يتفقه في
الدين، ولم يعرف حلالا من حرام إلا معرفة لا تأتي به رعية ولا تقوم به
حجة، ولو كان مستأهلا قد أحكمته التجارب وتفقه في الدين وبلغ مبلغ أمير
العدل في الزهد في الدنيا وصرف النفس عنها ما كان له عندي في الخلافة
إلا ما كان لرجل من عك وحمير، فلا تكثروا في هذا المقال، فإن لساني لم
يزل مخزونا عن أمور وأنباء كراهية أن تخنث النفوس عندما تنكشف، علما
بأن الله بالغ أمره ومظهر قضاه يوما.
فإذا أبيتم إلا كشف الغطاء وقشر العظاء، فالرشيد أخبرني عن آبائه
وعما وجد في كتاب الدولة غيرها: أن السابع من ولد العباس لا تقوم لبني
العباس بعده قائمة ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته، فإذا أودعت فودعاها،
وإذا فقدتم شخصي فاطلبوا لأنفسكم معقلا، وهيهات! ما لكم إلا السيف!
يأتيكم الحسني الثائر البائر فيحصدكم حصدا، أو السفياني المرغم، والقائم
317

المهدي يحقن دمائكم إلا بحقها.
وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى بعد استحقاق منه لها في
نفسه واختيار مني له: فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم
والذائد عنكم باستدامته المودة بيننا وبينهم وهي الطريق أسلكها في إكرام
آل أبي طالب ومواساتهم في الفيئ بيسير ما يصيبهم منه.
وإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم
والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم، وأنتم ساهون لاهون تائهون في
غمرة تعمهون، لا تعلمون ما يراد بكم وما أظللتم عليه من النقمة وابتزاز
النعمة، همة أحدكم أن يمسي مركوبا ويصبح مخمورا، تباهون بالمعاصي
وتبتهجون بها وآلهتكم البرابط، مخنثون مؤنثون، لا يتفكر متفكر منكم في
إصلاح معيشة ولا استدامة نعمة ولا اصطناع مكرمة ولا كسب حسنة يمد بها
عنقه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أضعتم الصلاة، واتبعتم الشهوات، وأكببتم على اللذات [عن النغمات] (1)،
فسوف تلقون غيا.
وأيم الله! لربما أفكر في أمركم فلا أجد أمة من الأمم استحقوا العذاب
حتى نزل بهم لخلة من الخلال إلا أصيب تلك الخلة بعينها فيكم مع خلال
كثيرة، لم أكن أظن أن إبليس اهتدى إليها ولا أمر بالعمل عليها! وقد أخبر
الله تعالى في كتابه العزيز عن قوم صالح أنه كان فيهم تسعة رهط يفسدون
في الأرض ولا يصلحون، فأيكم ليس معه تسعة وتسعون من المفسدين في
الأرض؟ قد اتخذتموهم شعارا ودثارا، استخفافا بالمعاد وقلة يقين
بالحساب، وأيكم له رأي يتبع وروية تنفع؟ فشاهت الوجوه وعفرت الخدود!

(1) ما بين المعقوفتين عن البحار.
318

وأما ما ذكرتم من العشرة كانت في أبي الحسن عليه السلام نور الله
وجهه: فلعمري! أنها عندي للنهضة والاستقلال الذي أرجو به قطع الصراط
والأمن والنجاة من الخوف يوم الفزع الأكبر، ولا أظن عملت عملا هو عندي
أفضل من ذلك إلا أن أعود بمثلها إلى مثله، وأين لي بذلك! وأني لكم
بتلك السعادة!
وأما قولكم: إني سفهت آراء آبائكم وأحلام أسلافكم: فكذلك قال
مشركو قريش: " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون "
ويلكم! إن الدين لا يؤخذ إلا من الأنبياء، فافقهوا وما أراكم تعقلون!
وأما تعبيركم إياي بسياسة المجوس إياكم: فما أذهبكم الآنفة عن ذلك!
ولو ساستكم القردة والخنازير ما أردتم إلا أمير المؤمنين، ولعمري! لقد كانوا
مجوسا فأسلموا كآبائنا وأمهاتنا في القديم، فهم المجوس الذين أسلموا، وأنتم
المسلمون الذين ارتدوا، فمجوسي أسلم خير من مسلم ارتد، فهم يتناهون عن
المنكر، ويأمرون بالمعروف، ويتقربون من الخير، ويتباعدون من الشر،
ويذبون عن حرم المسلمين، يتباهجون بما نال الشرك وأهله من النكر،
ويتباشرون بما نال الإسلام وأهله من الخير " منهم من قضى نحبه ومنهم من
ينتظر وما بدلوا تبديلا ".
وليس منكم إلا لاعب بنفسه مأفون في عقله وتدبيره، إما مغن أو
ضارب دف أو زامر، والله! لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا،
فقيل لهم: لا تأنفوا في معائب تنالونهم بها، لما زادوا على ما صيرتموه لكم
شعارا ودثارا وصناعة وأخلاقا.
ليس فيكم إلا من إذا مسه الشر جزع وإذا مسه الخير منع، ولا تأنفون
ولا ترجعون إلا خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوبا ويصبح باثمه
معجبا؟ كأنه قد اكتسب حمدا! غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته
319

بقتل ألف نبي مرسل أو ملك مقرب، أحب الناس إليه من زين له معصيته
أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة وتربده المطمورة، فشتت الأحوال. فإن
ارتدعتم مما أنتم فيه من السيئات والفضائح وما تهذرون به عن عذاب
ألسنتكم، وإلا فدونك تعلوا بالحديد. ولا قوة إلا بالله، وعليه توكلي، وهو
حسبي (1).
(211)
ضرار بن ضمرة ومعاوية
لم أجد هذا الرجل في كتب الرجال والتراجم، إلا في قصة له وقعت في
مجلس معاوية، رواها العلماء من الفريقين في كتبهم، وفي مروج الذهب: أنه
" كان من خواص علي عليه السلام ".
قالوا: دخل ضرار بن ضمرة على معاوية، فقال له معاوية: صف لي
عليا. فقال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قل: لا أعفيك.
قال: أما إذ لا بد، فإنه كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلا
ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش
من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، وكان والله غزير العبرة، طويل
الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام
ما جشب.
كان والله كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع
تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم،

(1) البحار: ج 49 ص 208. وراجع قاموس الرجال: ج 10 / 356. وحياه الإمام الرضا
عليه السلام: ص 453 عن الطرائف (الترجمة الفارسية) ص 131 نقلا عن كتاب نديم الفريد لابن
مسكويه والبحار والقاموس. والينابيع: ص 484 مختصرا. والغدير عن العبقات: ج 1 ص 147.
320

يعظم أهل الدين ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس
الضعيف من عدله.
فأشهد بالله! لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغرات
نجومه، يميل في محرابه، قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء
الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه، ثم يقول
للدنيا: إلي تغررت إلي تشوقت؟ هيهات! هيهات! غري غيري، قد تبتك
ثلاثا: فعمرك قصير ومجلسك حقير وخطرك يسير، آه آه! من قلة الزاد وبعد
السفر ووحشة الطريق.
فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد
اختنق القوم بالبكاء فقال: كذا كان أبو الحسن - رحمه الله - كيف وجدك
عليه يا ضرار؟ قال: وجد من ذبح واحدها في حجرها، لا ترقأ دمعتها
ولا يسكن حزنها. ثم قال وخرج (1).

(1) رواه حلية الأولياء: ج 1 ص 84. وأمالي الصدوق - رحمه الله -: ص 371 المجلس 91
بأسانيده. والاستيعاب هاشم الإصابة: ج 3 ص 440 في ترجمة أمير المؤمنين - عليه السلام - وكشف الغمة
ص 23 الحجرية. والمناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 309. وزهر الآداب للقيرواني: ص 40 هامش
العقد الفريد. وتذكرة الخواص: ص 127. وينابيع المودة: ص 144 - 219. وتهذيب ابن عساكر: ج 7
ص 35. ومطالب السؤول: ص 23. وصفوة الصفوة: ج 1 ص 122. والبحار: ج 87 ص 156. ونور
الأبصار: ص 109. والفصول المهمة لابن صباغ: ص 128. وابن أبي الحديد ج 18 ص 225. ونهج
البلاغة: 77 من القصار. والإرشاد للديلمي: ص 11. والبحار: ج 8 ص 532 - 538 الحجرية وج 41
الجديدة ص 14 - 23 - 120 والغدير: ج 2 ص 319 وج 7 ص 114. وكنز الفوائد للكراجكي: ص 271.
ومروج الذهب في آخر تاريخ أمير المؤمنين عليه السلام وزاد: فقال معاوية: زدني شيئا من كلامه.
فقال ضرار: كان يقول: أعجب ما في الإنسان قلبه، وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها،
فإن سنح له الرجاء أماله الطمع، وإن مال به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه القنوط قتله الأسف،
وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ، وإن ناله الخوف فضحه
الجزع، وإن أفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة فضحه الفقر، وإن أجهده الجوع أقعده الضعف،
وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد.
فقال له معاوية: زدني كلما وعيته من كلامه.
فقال: هيهات أن آتي على جميع ما سمعته منه. ثم قال: سمعته يوصي كميل بن زياد [ذات يوم
فقال له] يا كميل! ذب عن المؤمن، فإن ظهره حمى الله، ونفسه كريمة على الله، وظالمه خصم الله،
وأحذركم من ليس له ناصر إلا الله. قال: وسمعته يقول ذات يوم: إن هذه الدنيا إذا أقبلت على
قوم أعرتهم محاسن غيرهم، وإذا أدبرت عنهم سلبتهم محاسن أنفسهم. قال وسمعته يقول: بطر الغنى
يمنع من عز الصبر. قال: وسمعته يقول: ينبغي للمؤمن أن يكون نظره عبرة، وسكوته فكرة، وكلامه
حكمة.
ورواه (يعني ما تقدم من كلام ضرار في وصف أمير المؤمنين عليه السلام) في ملحقات الاحقاق:
ج 8 ص 598 عن أمالي القالي، وربيع الأبرار: ص 15، والتطريز: ص 122، ودر بحر المناقب: ص 9،
ونهاية الأدب: ج 3 ص 173، ونظم درر السمطين: ص 134، والرياض النضرة: ج 2 ص 212،
وذخائر العقبى: ص 100، والمستطرف: ج 2 ص 127، والأرجوزة: ص 300، والكواكب الدرية:
ص 44، وأخبار الدول: ص 37، والإتحاف: ص 7، والروضة الندية: ص 13، والشرف المؤبد:
ص 59. والطبقات المالكية: ص 72، وبعض المصادر المتقدمة.
نسخ هذه القصة مختلفة، فمن أراد فليراجع المصادر التي ذكرناها.
ونسبه البيهقي في المحاسن والسماوي إلى ابن عباس راجع ص 45 وفي نسخة ج 1 ص 72، وإلى
عدي بن حاتم كما في ص 46.
وراجع ربيع الأبرار للزمخشري: ج 1 ص 97 - 835. وشرح النهج لابن أبي الحديد: ج 18 ص 225 -
226 وقاموس الرجال: ج 5 ص 149. ونهج الصباغة: ج 3 ص 182 وج 12 ص 124، والمروج،
وخصائص السيد الرضي - رحمه الله - وأمالي ابن بابويه، والاستيعاب. وزهر الربيع: ج 1 ص 197 وج 2
ص 23. الكنى والألقاب: ج 2 ص 105.
321

(212)
تلامذة الصادق عليه السلام مع الشامي
عن يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فورد
عليه رجل من أهل الشام فقال: إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض،
322

وقد جئت لمناظرة أصحابك.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: كلامك من كلام رسول الله صلى الله
عليه وآله أو من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله
ومن عندي، فقال أبو عبد الله عليه السلام: فأنت إذا شريك رسول الله صلى
الله عليه وآله؟! قال: لا. قال: فسمعت الوحي عن الله عز وجل يخبرك؟
قال: لا. قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله صلى الله عليه
وآله؟ قال: لا.
فالتفت أبو عبد الله عليه السلام إلي، فقال: يا يونس بن يعقوب! هذا قد
خصم نفسه قبل أن يتكلم. ثم قال: يا يونس! لو كنت تحسن الكلام
كلمته. قال: يونس: فيا لها من حسرة! فقلت: جعلت فداك! إني سمعتك
تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام! يقولون: هذا ينقاد وهذا
لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله. فقال أبو
عبد الله عليه السلام: إنما قلت: فويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى
ما يريدون.
ثم قال لي: أخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فأدخله.
قال: فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام، وأدخلت الأحول
وكان يحسن الكلام، وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام، وأدخلت
قيس الماصر وكان عندي أحسنهم كلاما وكان قد تعلم الكلام من علي بن
الحسين عليهما السلام.
فلما استقر بنا المجلس - وكان أبو عبد الله عليه السلام قبل الحج يستقر
أياما في جبل في طرف الحرم في فازة له مضروبة - قال: فأخرج أبو عبد الله
عليه السلام رأسه من فازته فإذا هو ببعير يخب، فقال: هشام ورب الكعبة!
قال: فظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة له.
323

قال: فورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته وليس فينا إلا من
هو أكبر سنا منه. قال: فوسع له أبو عبد الله عليه السلام وقال: ناصرنا بقلبه
ولسانه ويده!
ثم قال: يا حمران كلم الرجل، فكلمه فظهر عليه حمران. ثم قال: يا طاقي
كلمه، فكلمه، فظهر عليه الأحول. ثم قال: يا هشام بن سالم كلمه،
فتعارفا. ثم قال أبو عبد الله عليه السلام لقيس الماصر كلمه، فكلمه. فأقبل
أبو عبد الله عليه السلام يضحك من كلامهما مما قد أصاب الشامي.
فقال للشامي: كلم هذا الغلام - يعني هشام بن الحكم - فقال: نعم.
فقال لهشام: يا غلام! سلني في إمامة هذا. فغضب هشام حتى ارتعد، ثم
قال للشامي: يا هذا! أربك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم؟ فقال الشامي:
بل ربي أنظر لخلقه. قال: ففعل بنظره لهم ماذا؟ قال: أقام لهم حجة
ودليلا كي لا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربهم.
قال: فمن هو؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وآله - قال هشام: فبعد
رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: الكتاب والسنة. قال هشام: فهل
نفعنا اليوم الكتاب والسنة في رفع الاختلاف عنا؟ قال الشامي: نعم.
قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك؟ قال:
فسكت الشامي!
فقال أبو عبد الله عليه السلام للشامي: ما لك لا تتكلم؟ قال الشامي:
إن قلت: لم نختلف كذبت، وإن قلت: إن الكتاب والسنة يرفعان عنا
الاختلاف أبطلت لأنهما يحتملان الوجوه، وإن قلت: قد اختلفنا وكل واحد
منا يدعي الحق فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنة، إلا أن لي عليه هذه الحجة.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: سله تجده مليا.
فقال الشامي: يا هذا! من أنظر للخلق أربهم أو أنفسهم؟ فقال هشام:
324

ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم. فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع لهم
كلمتهم ويقيمهم أودهم ويخبرهم بحقهم من باطلهم؟ قال هشام: في وقت
رسول الله صلى الله عليه وآله أو الساعة؟ قال الشامي: في وقت رسول الله
صلى الله عليه وآله والساعة من؟ فقال هشام: هذا القاعد الذي تشد إليه
الرحال ويخبرنا بأخبار السماء [والأرض] وراثة عن أب عن جد، قال
الشامي: فكيف لي أن أعلم ذلك؟ قال هشام: سله عما بدا لك، قال
الشامي: قطعت عذري، فعلي السؤال.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا شامي أخبرك كيف كان سفرك
وكيف كان طريقك؟ كان كذا وكذا! فأقبل الشامي يقول: صدقت
أسلمت لله الساعة. فقال أبو عبد الله عليه السلام: بل آمنت بالله الساعة،
إن الإسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون ويتناكحون، والإيمان عليه يثابون.
فقال الشامي: صدقت! فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله صلى الله عليه وآله وأنك وصي الأوصياء.
ثم التفت أبو عبد الله عليه إسلام إلى حمران فقال: تجري الكلام على
الأثر فتصيب. والتفت إلى هشام بن سالم، فقال: تريد الأثر ولا تعرفه. ثم
التفت إلى الأحول، فقال: قياس رواغ تكسر باطلا بباطل، إلا أن باطلك
أظهر. ثم التفت إلى قيس الماصر، فقال: تتكلم وأقرب ما تكون من الخبر
عن رسول الله صلى الله عليه وآله أبعد ما تكون منه، تمزج الحق مع الباطل،
وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل، أنت والأحول لقفازان حاذقان.
قال يونس: فظننت والله! إنه يقول لهشام قريبا مما قال لهما. ثم قال:
يا هشام! لا تكاد تقع تلوي رجليك إذا هممت بالأرض طرت! مثلك فليكلم
325

الناس، فاتق الزلة، والشفاعة من ورائها، إن شاء الله (1).
(213)
أسعد بن أبي روح مع بعض المالكية
قال ابن حجر في لسان الميزان (2) في ترجمة أسعد بن أبي روح أبي الفضل
الرافضي قاضي طرابلس ما لفظه باختصار منا:
كان جليل القدر، يرجع إليه أهل عقيدته، وكان عظيم الصلاة والتهجد،
لا ينام إلا بعض الليل، وكان صمته أكثر من كلامه.
وحكى الراشدي تلميذه، قال: جمع ابن عمار بين أبي الفضل وبين
بعض الفقهاء المالكية فناظره في تحريم الفقاع، وكان فصيحا، فنطق بالحجة
فانزعج المالكي، فقال له: كلني! فقال في الحال: ما أنا على مذهبك! يريد
أن مذهبه جواز أكل الكلب.
وقال له ابن عمار: ما الدليل على حدوث القرآن؟ قال: النسخ، والقديم
لا يتبدل ولا يدخله زيادة ولا نقص.
(214)
هشام بن الحكم مع بعض الخوارج
قال بعض الخوارج لهشام بن الحكم: العجم تتزوج في العرب؟ قال:
نعم. قال: فالعرب تتزوج في قريش؟ قال: نعم. قال فقريش تتزوج في بني
هاشم؟ قال: نعم. فجاء الخارجي إلى الصادق عليه السلام فقص عليه، ثم
قال: أسمعه منك؟ فقال عليه السلام: نعم قد قلت ذاك. قال الخارجي:

(1) أصول الكافي: ج 1 ص 171 - 173، والبحار: ج 47 ص 157 مختصرا منه عنه وعن المناقب
وج 48 ص 203 عن الإرشاد وأعلام الورى. وج 23 ص 9 عن الاحتجاج. وراجع قاموس الرجال: ج 9
ص 335. وبهج الصباغة ج 3 ص 9. والاحتجاج: ج 2 ص 123.
(2) لسان الميزان: ج 1 ص 386 / 387.
326

فها أنا ذا قد جئتك خاطبا! فقال له أبو عبد الله عليه السلام: إنك لكفو في
دينك وحسبك في قومك، ولكن الله عز وجل صاننا عن الصدقات وهي
أوساخ أيدي الناس، فنكره أن نشرك فيما فضلنا الله به من لم يجعل الله له
مثل ما جعل لنا. فقال الخارجي وهو يقول: بالله ما رأيت رجلا مثله ردني
والله أقبح رد، وما خرج من قوله صاحبه (1).
(215)
هشام مع ابن أبي العوجاء
سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم، فقال له: أليس الله حكيما؟
قال: بلى هو أحكم الحاكمين. قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل:
" فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا
فواحدة " أليس هذا فرض؟ قال: بلى قال: فأخبرني عن قوله عز وجل:
" ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل " أي
حكيم يتكلم بهذا؟
فلم يكن عنده جواب، فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد الله عليه السلام
فقال: يا هشام! في غير وقت حج ولا عمرة! قال: نعم جعلت فداك لأمر
أهمني، إن ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شئ، قال:
وما هي؟ قال: فأخبره بالقصة.
فقال له أبو عبد الله عليه السلام، أما قوله عز وجل: " فأنكحوا ما طاب
لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة " يعني في
النفقة.
وأما قوله: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا

(1) البحار: ج 47 ص 219 عن المناقب.
327

كل الميل فتذروها كالمعلقة " يعني في المودة.
قال: فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب وأخبره قال: والله ما هذا من
عندك (1)!
(216)
مؤمن الطاق مع الخوارج
اجتمعت الشيعة والمحكمة عند أبي نعيم النخعي بالكوفة، وأبو جعفر
محمد بن النعمان مؤمن الطاق حاضر، فقال ابن أبي خدرة: أنا أقرر معكم
أيتها الشيعة أن أبا بكر أفضل من علي وجميع أصحاب النبي صلى الله عليه
وآله بأربع خصال لا يقدر على دفعها أحد من الناس:
هو ثان مع رسول الله صلى الله عليه وآله في بيته مدفون، وهو ثاني اثني
معه في الغار، وهو ثاني اثنين صلى بالناس آخر صلاة قبض بعدها رسول
الله صلى الله عليه وآله وهو ثاني اثنين الصديق من الأمة.
قال أبو جعفر مؤمن الطاق رحمة الله عليه: يا ابن أبي خدرة! وأنا أقرر
معك أن عليا عليه السلام أفضل من أبي بكر وجميع أصحاب النبي صلى
الله عليه وآله بهذه الخصال التي وصفتها وأنا مثلبة لصاحبك، وألزمك طاعة
علي عليه السلام من ثلاث جهات: من القرآن وصفا، ومن خبر رسول الله
صلى الله عليه وآله نصا، ومن حجة العقل اعتبارا، ووقع الاتفاق على
إبراهيم النخعي، وعلى أبي إسحاق السبيعي، وعلى سليمان بن مهران
الأعمش.
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق: أخبرني يا ابن أبي خدرة عن النبي صلى
الله عليه وآله أترك بيوته التي أضافها الله إليه ونهى الناس عن دخولها إلا

(1) البحار: ج 47 ص 225 عن الكافي: ج 5 ص 362.
328

بإذنه ميراثا لأهله وولده، أو تركها صدقة على جميع المسلمين؟ قال ما شئت.
فانقطع ابن أبي خدرة لما أورد عليه ذلك وعرف خطأ ما فيه.
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق: إن تركها ميراثا لولده وأزواجه فإنه قبض
عن تسع نسوة، وإنما لعائشة بنت أبي بكر تسع ثمن هذا البيت الذي دفن
فيه صاحبك، ولم يصبها من البيت ذراع في ذراع، وإن كان صدقة فالبلية
أطم وأعظم! فإنه لم يصب له من البيت إلا مالأدنى رجل من المسلمين،
فدخول بيت النبي صلى الله عليه وآله بغير إذنه في حياته وبعد وفاته معصية
إلا لعلي بن أبي طالب عليه السلام وولده، فإن الله أحل لهم ما أحل للنبي
صلى الله عليه وآله.
ثم قال: إنكم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله أمر بسد أبواب
جميع الناس التي كانت مشرعة إلى المسجد ما خلا باب علي عليه السلام،
فسأله أبو بكر أن يترك له كوة لينظر منها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
فأبى عليه، وغضب عمه العباس من ذلك، فخطب النبي صلى الله عليه
وآله خطبة وقال: إن الله تبارك وتعالى أمر لموسى وهارون أن تبوءا لقومكما
بمصر بيوتا، وأمر هما أن لا يبيت في مسجد هما جنب ولا يقرب فيه النساء إلا
موسى وهارون وذريتهما، وإن عليا مني هو بمنزلة هارون من موسى وذريته
كذرية هارون، ولا يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجد رسول الله صلى
الله عليه وآله ولا يبيت فيه جنبا، إلا علي وذريته عليهم السلام، فقالوا
بأجمعهم: كذلك كان.
قال أبو جعفر: ذهب ربع دينك يا ابن أبي خدرة! وهذه منقبة لصاحبي
ليس لأحد مثلها، ومثلبة لصاحبك.
وأما قولك: ثاني اثنين إذ هما في الغار، أخبرني هل أنزل الله سكينته
على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى المؤمنين في غير الغار؟ قال ابن أبي
329

خدرة: نعم. قال أبو جعفر: فقد أخرج صاحبك في الغار ما السكينة
وخصه بالحزن، ومكان علي عليه السلام في هذه الليلة على فراش النبي
صلى الله عليه وآله وبذل مهجته دونه أفضل من مكان صاحبك في الغار،
فقال الناس: صدقت. فقال أبو جعفر: يا ابن أبي خدرة! ذهب نصف
دينك.
وأما قولك: ثاني اثنين الصديق من الأمة، أوجب الله على صاحبك
الاستغفار لعلي بن أبي طالب عليه السلام في قوله عز وجل: " والذين جاءوا
من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان " إلى آخر
الآية. والذي ادعيت إنما هو شئ سماه الناس، ومن سماه القرآن وشهد له
بالصدق والتصديق أولى به ممن سماه الناس، وقد قال علي عليه السلام
على منبر البصرة: " أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن آمن أبو بكر وصدقت
قبله " قال الناس: صدقت.
قال أبو جعفر مؤمن الطاق: يا ابن أبي خدرة! ذهب ثلاث أرباع دينك.
وأما قولك في الصلاة بالناس: كنت ادعيت لصاحبك فضيلة لم تقم
له، وإنها إلى التهمة أقرب منها إلى الفضيلة، فلو كان ذلك بأمر رسول الله
صلى الله عليه وآله لما عزله عن تلك الصلاة بعينها، أما علمت أنه لما تقدم
أبو بكر ليصلي بالناس خرج رسول الله صلى الله عليه وآله فتقدم وصلى
بالناس وعزله عنها؟ ولا تخلو هذه الصلاة من أحد وجهين: إما أن تكون
حيلة وقعت منه فلما حس النبي صلى الله عليه وآله بذلك خرج مبادرا مع
علته فنحاه عنها لكي لا يحتج بعد على أمته فيكونوا في ذلك معذورين، وإما
أن يكون هو الذي أمره بذلك وكان ذلك مفوضا إليه كما في قصة تبليغ
براءة فنزل جبرئيل عليه السلام وقال: لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك،
فبعث عليا عليه السلام في طلبه وأخذها منه وعزله عنها وعن تبليغها؟
330

فكذلك كانت قصة الصلاة، وفي الحالتين هو مذموم، لأنه كشف عنه
ما كان مستورا عليه، وذلك دليل واضح، لأنه لا يصلح للاستخلاف بعده،
ولا هو مأمون على شئ من أمر الدين، فقال الناس: صدقت.
قال أبو جعفر مؤمن الطاق: يا ابن أبي خدرة! ذهب دينك كله،
وفضحت حيث مدحت، فقال الناس لأبي جعفر: هات حجتك فيما ادعيت
من طاعة علي عليه السلام، فقال أبو جعفر مؤمن الطاق:
أما من القرآن وصفا، فقوله: عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله
وكونوا مع الصادقين " فوجدنا عليا عليه السلام بهذه الصفة في القرآن في قوله
عز وجل: " والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس " يعني في الحرب
والتعب " أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون " فوقع الإجماع من الأمة
بأن عليا عليه السلام أولى بهذا الأمر من غيره، لأنه لم يفر عن زحف قط
كما فر غيره في غير موضع، فقال الناس: صدقت.
وأما الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله نصا، فقال: " إني تارك
فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله وعترتي أهل
بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " وقوله صلى الله عليه وآله:
" مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنا
غرق، ومن تقدمها مرق، ومن لزمها لحق " فالمتمسك بأهل بيت رسول الله
صلى الله عليه وآله هاد مهتد بشهادة من الرسول صلى الله عليه وآله
والمتمسك بغيرهم ضال مضل، قال الناس: صدقت يا أبا جعفر.
وأما من حجة العقل: فإن الناس كلهم يستعبدون بطاعة العالم ووجدنا
الإجماع قد وقع على علي عليه السلام أنه كان أعلم أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وآله وكان جميع الناس يسألونه ويحتاجون إليه، وكان علي
عليه السلام مستغنيا عنهم، هذا من الشاهد، والدليل عليه من القرآن قوله عز
331

وجل: " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم
كيف تحكمون ".
فما اتفق يوم أحسن منه، ودخل في هذا الأمر عالم كثير.
وقد كانت لأبي جعفر مؤمن الطاق مقامات مع أبي حنيفة، فمن ذلك:
ما روي أنه قال يوما من الأيام لمؤمن الطاق: إنكم تقولون بالرجعة؟ قال:
نعم، قال أبو حنيفة: فأعطني الآن ألف درهم حتى أعطيك ألف دينار إذا
رجعنا! قال الطاقي لأبي حنيفة: فاعطني كفيلا بأنك ترجع إنسانا ولا ترجع
خنزيرا.
وقال له يوما آخر: لم لم يطالب علي بن أبي طالب بحقه بعد وفاة
رسول الله صلى الله عليه وآله إن كان له حق؟ فأجابه مؤمن الطاق، فقال:
خاف أن تقتله الجن كما قتلوا سعد بن عبادة بسهم المغيرة بن شعبة.
وكان أبو حنيفة يوما آخر يتماشى مع مؤمن الطاق في سكة من سكك
الكوفة، إذا بمناد ينادي، من يدلني على صبي ضال؟ فقال مؤمن الطاق: أما
الصبي الضال فلم نره، وإن أردت شيخا ضالا فخذ هذا! عنى به أبا
حنيفة.
ولما مات الصادق عليه السلام رأى أبو حنيفة مؤمن الطاق، فقال له:
مات إمامك؟ قال: نعم، أما إمامك فمن المنظرين إلى يوم الوقت
المعلوم! (1).

(1) البحار: ج 47 ص 396 - 400 - 405 وج 8 ص 144 ط الكمباني عن المناقب. وراجع قاموس
الرجال: ج 8 ص 310 وج 9 ص 215. وروضة المؤمنين: ص 69 - 81 عن الاحتجاج وكذا ص 153
ونهج الصباغة: ج 4 ص 339. والاحتجاج: ج 2 ص 143 - 148. وزهر الربيع: ص 24 - 31 - 142.
والكنى والألقاب: ج 2 ص 403.
332

(217)
هشام وأبو عبيدة
قال أبو عبيدة المعتزلي لهشام بن الحكم: الدليل على صحة معتقدنا
وبطلان معتقدكم كثرتنا وقلتكم مع كثرة أولاد علي وادعائهم. فقال
هشام: لست إيانا أردت بهذا القول إنما أردت الطعن على نوح عليه السلام
حيث لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى النجاة ليلا
ونهارا، وما آمن معه إلا قليل.
وسأل هشام بن الحكم جماعة من المتكلمين، فقال: أخبروني حين بعث
الله محمدا صلى الله عليه وآله بعثه بنعمة تامة أو بنعمة ناقصة؟ قالوا: بنعمة
تامة، قال: فأيما أتم؟ أن يكون في أهل بيت واحد نبوة وخلافة؟ أو يكون
نبوة بلا خلافة؟ قالوا: بل يكون نبوة وخلافة، قال: فلما ذا جعلتموها في
غيرها، فإذا صارت في بني هاشم ضربتم وجوههم بالسيوف؟ فأفحموا (1).
(218)
الهيثم وأبو حنيفة
عن محمد بن نوفل قال: [كنت عند الهيثم بن حبيب الصيرفي] دخل
علينا أبو حنيفة النعمان بن ثابت، فذكرنا أمير المؤمنين عليه السلام ودار بيننا
كلام فيه، فقال أبو حنيفة: قد قلت لأصحابنا لا تقروا لهم بحديث غدير حم
فيخصموكم! فتغير وجه الهيثم بن حبيب الصيرفي وقال له: لم لا يقرون به؟
أما هو عندك يا نعمان؟ قال: هو عندي وقد رويته! قال: فلم لا يقرون به
وقد حدثنا به حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم: أن

(1) البحار: ج 47 ص 401 عن المناقب.
333

عليا عليه السلام نشد الله في الرحبة من سمعه؟ فقال أبو حنيفة: أفلا ترون
أنه قد جرى في ذلك خوض حتى نشد علي الناس لذلك؟ فقال الهيثم:
فنحن نكذب عليا أو نرد قوله؟ فقال أبو حنيفة: ما نكذب عليا ولا نرد قولا
قاله: ولكنك تعلم أن الناس قد غلا فيهم قوم.
فقال الهيثم: يقوله رسول الله صلى الله عليه وآله ويخطب به ونشفق نحن
منه ونتقيه لغلو غال أو قول قائل؟ ثم جاء من قطع الكلام بمسألة سأل
عنها، ودار الحديث بالكوفة وكان معنا في السوق حبيب بن زار بن حسان،
فجاء إلى الهيثم، فقال له: قد بلغني ما دار عنك في علي وقوله - وكان حبيب
مولى لبني هاشم - فقال له الهيثم النظر يمر فيه أكثر من هذا، فخفض الأمر.
فحججنا بعد ذلك ومعنا حبيب، فدخلنا على أبي عبد الله جعفر بن محمد
عليهما السلام فسلمنا عليه، فقال له حبيب: يا أبا عبد الله! كان من الأمر كذا
وكذا، فتبين الكراهية في وجه أبي عبد الله عليه السلام، فقال له حبيب: هذا
محمد بن نوفل حضر ذلك، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: أي حبيب
كف! خالقوا الناس بأخلاقهم وخالفوهم بأعمالكم، فإن لكل امرئ
ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب، لا تحملوا الناس عليكم وعلينا،
وادخلوا في ذهماء الناس، فإن لنا أياما ودولة يأتي بها الله إذا شاء، فسكت
حبيب، فقال: أفهمت يا حبيب؟ لا تخالفوا أمري فتندموا، قال: لن أخالف
أمرك، الحديث (1).
(219)
محمد بن حكيم مع شريك
عن محمد بن حكيم وصاحب له - قال أبو محمد: قد كان درس اسمه في

(1) البحار: ج 47 ص 401 - 402 عن أمالي المفيد رحمه الله: ص 14.
334

كتاب أبي - قالا: رأينا شريكا واقفا في حائط من حيطان فلان - قد كان
درس اسمه أيضا في الكتاب - قال أحدنا لصاحبه: هل لك في خلوة من
شريك؟ فأتيناه فسلمنا عليه، فرد علينا السلام، فقلنا: يا أبا عبد الله مسألة،
فقال: في أي شئ؟ فقلنا: في الصلاة، فقال: سلوا عما بدا لكم.
فقلنا: لا نريد أن تقول: قال فلان وقال فلان، إنما نريد أن تسنده إلى
النبي صلى الله عليه وآله فقال: أليس في الصلاة؟ فقلنا: بلى، فقال: سلوا
عما بدا لكم. فقلنا: في كم يجب التقصير؟ قال: كان ابن مسعود يقول:
لا يغرنكم سوادنا هذا، وكان يقول فلان. قال: قلت: إنا استثنينا عليك ألا
تحدثنا إلا عن نبي الله صلى الله عليه وآله قال: والله! إنه لقبيح لشيخ
يسأل عن مسألة في الصلاة عن النبي لا يكون عنده فيها شئ، وأقبح من
ذلك أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله.
قلت: فمسألة أخرى، فقال: أليس في الصلاة؟ قلنا: بلى، قال: سلوا
عما بدا لكم.
قلنا: على من تجب صلاة الجمعة؟ قال: عادت المسألة جذعة! ما عندي
في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله شئ.
قال: فأردنا الانصراف، قال: إنكم لم تسألوا عن هذا إلا وعندكم منه
علم، قال: قلت: نعم أخبرنا محمد بن مسلم الثقفي، عن محمد بن علي، عن
أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله، فقال: الثقفي الطويل
اللحية؟ فقلنا: نعم، قال: أما إنه لقد كان مأمونا على الحديث، ولكن
كانوا يقولون: إنه خشبي، ثم قال: ماذا روى؟ قلنا: روى عن النبي
صلى الله عليه وآله: أن التقصير يجب في بريدين، وإذا اجتمع خمسة أحدهم
335

الإمام فلهم أن يجمعوا (1).
(220)
مؤمن الطاق مع زيد
عن مؤمن الطاق - واسمه محمد بن علي بن النعمان، أبو جعفر الأحول -
قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدخل زيد بن علي، فقال لي:
يا محمد بن علي أنت الذي تزعم أن في آل محمد إماما مفترض الطاعة معروفا
بعينه؟ قال: قلت: نعم، فكان أبوك علي بن الحسين أحدهم، قال: ويحك!
فما كان يمنعه من أن يقول لي؟ فوالله! لقد كان يؤتى بالطعام الحار فيقعدني
على فخذه ويتناول البضعة فيبردها ثم يلقمنيها، أفتراه كان يشفق علي من
حر الطعام ولا يشفق علي من حر النار؟ قال: قلت: كره أن يقول فتكفر،
فيجب من الله عليك الوعيد ولا يكون له فيك شفاعة، فتركك مرجئا لله
فيك المشية وله فيك الشفاعة (2).
(221)
مؤمن الطاق مع الضحاك
عن أبي مالك الأحمسي قال: خرج الضحاك الشاري بالكوفة فحكم
وتسمى بإمرة المؤمنين ودعا الناس إلى نفسه، فأتاه مؤمن الطاق، فلما رأته
الشراة وثبوا في وجهه فقال لهم: جانح. قال: فأوتي به صاحبهم، فقال له
مؤمن الطاق: أنا رجل على بصيرة من ديني، وسمعتك تصف العدل،
فأحببت الدخول معك، فقال الضحاك لأصحابه: إن دخل هذا معكم
نفعكم.

(1) البحار: ج 47 ص 403 - 404 عن الكشي: والاختصاص: ص 45. والكشي: ص 166.
(2) البحار: ج 47 ص 405 وقد مر بلفظ آخر والكشي: ص 186 - 187 بسندين.
336

قال: ثم أقبل مؤمن الطاق على الضحاك، فقال: لم تبرأتم من علي بن
أبي طالب واستحللتم قتله وقتاله؟ قال: لأنه حكم في دين الله، قال: وكل
من حكم في دين الله استحللتم قتله وقتاله والبراءة منه؟ قال: نعم، قال:
فأخبرني عن الدين الذي جئت أناظرك عليه لأدخل معك فيه إن غلبت
حجتي حجتك أو حجتك حجتي، من يوقف المخطئ على خطئه ويحكم
للمصيب بصوابه؟ فلا بد لنا من إنسان يحكم بيننا قال: فأشار الضحاك
إلى رجل من أصحابه فقال: هذا الحكم بيننا فهو عالم بالدين، قال: وقد
حكمت هذا في الدين الذي جئت أناظرك فيه؟ قال: نعم، فأقبل مؤمن
الطاق على أصحابه، فقال: إن هذا صاحبكم قد حكم في دين الله فشأنكم
به! فضربوا الضحاك بأسيافهم حتى سكت (1).
(222)
مؤمن الطاق مع ابن أبي العوجاء
عن يونس، عن أبي جعفر الأحول، قال: قال ابن أبي العوجاء مرة:
أليس من صنع شيئا وأحدثه حتى يعلم أنه من صنعته فهو خالقه؟ قلت:
بلى، قال: فأخلني شهرا أو شهرين ثم تعال حتى أريك. قال: فحججت
فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال: أما أنه قد هيأ لك شاتين وهو
جاء معه بعدة من أصحابه، ثم يخرج لك الشاتين قد امتلئا دودا، ويقول
لك: هذا الدود يحدث من فعلي، فقل له: إن كان من صنعك وأنت أحدثته
فميز ذكوره من إناثه. وخرج إلي الدود فقلت له: ميز الذكور من الإناث،
فقال: هذه والله ليست من إبرازك! هذه التي حملتها الإبل من الحجاز.

(1) البحار: ج 47 ص 405 عن الكشي وج 8 ص 570 ط الكمباني عن المناقب. وراجع قاموس
الرجال: ج 8 ص 307 والكشي: ص 188.
337

ثم قال: ويقول لك: أليس تزعم أنه غني، فقل: بلى، فيقول أيكون
الغني عندك من المعقول في وقت من الأوقات ليس عنده ذهب ولا فضة؟
فقل له: نعم، فإنه سيقول لك: كيف يكون هذا غنيا؟ فقل: إن كان الغني
عندك أن يكون الغني غنيا من قبل فضته وذهبه تجارته، فهذا كله مما
يتعامل الناس به، فأي القياس أكثر وأولى بأن يقال: غني: من أحدث الغنى
فأغنى به الناس قبل أن يكون شئ وهو وحده، أو من أفاد مالا من هبة أو
صدقة أو تجارة؟ قال: فقلت له ذلك، قال: فقال: وهذه والله ليست من
إبرازك! هذه والله مما تحملها الإبل (1).
(223)
مؤمن الطاق وأبو حنيفة
وقيل: إنه - يعني مؤمن الطاق - دخل على أبي حنيفة يوما، فقال له أبو
حنيفة: بلغني عنكم معشر الشيعة شئ؟ فقال: فما هو؟ قال: بلغني أن الميت
منكم إذا مات كسرتم يده اليسرى لكي يعطى كتابه بيمينه! فقال:
مكذوب علينا يا نعمان! ولكني بلغني عنكم معشر المرجئة: أن الميت منكم إذا
مات قمعتم في دبره قمعا فصببتم فيه جرة من ماء لكي لا يعطش يوم القيامة!
فقال أبو حنيفة: مكذوب علينا وعليكم (2).
(224)
حمران ورجل
عن هشام بن سالم، قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة من
أصحابه، فورد رجل من أهل الشام فاستأذن، فأذن له، فلما دخل سلم،

(1) البحار: ج 47 ص 406 وراجع قاموس الرجال: ج 8 ص 308 والكشي: ص 189.
(2) البحار: ج 47 ص 407. قاموس الرجال: ج 8 ص 308. والكشي: ص 190.
338

فأمره أبو عبد الله عليه السلام بالجلوس.
ثم قال له: ما حاجتك أيها الرجل؟ قال: بلغني أنك عالم بكل ما تسأل
عنه، فصرت إليك لا ناظرك. فقال أبو عبد الله عليه السلام: فيما ذا؟ قال: في
القرآن وقطعه وإسكانه وخفضه ونصبه ورفعه، فقال أبو عبد الله عليه السلام:
يا حمران دونك الرجل!
فقال الرجل: أريدك أنت لا حمران. فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن
غلبت حمران فقد غلبتني، فأقبل الشامي يسأل حمران حتى ضجر ومل وعرض
وحمران يجيبه. فقال أبو عبد الله عليه السلام: كيف رأيت يا شامي؟ قال:
رأيته حاذقا ما سألته عن شئ إلا أجابني فيه. فقال أبو عبد الله عليه السلام:
يا حمران سل الشامي، فما تركه يكثر.
فقال الشامي: أرأيت يا أبا عبد الله أناظرك في العربية؟ فالتفت أبو
عبد الله عليه السلام فقال: يا أبان بن تغلب ناظره، فناظره، فما ترك الشامي
يكثر.
قال: أريد أن أناظرك في الفقه، فقال أبو عبد الله: يا زرارة ناظره، فما
ترك الشامي يكثر.
قال: أريد أن أناظرك في الكلام، فقال: يا مؤمن الطاق ناظره، فناظره
فسجل الكلام بينهما، ثم تكلم مؤمن الطاق بكلامه فغلبه به.
فقال: أريد أن أناظرك في الاستطاعة، فقال للطيار: كلمه فيها، قال:
فكلمه، فما ترك يكثر.
فقال: أريد أن أناظرك في التوحيد، فقال لهشام بن سالم: كلمه، فسجل
الكلام بينهما، ثم خصمه هشام.
فقال: أريد أن أتكلم في الإمامة، فقال لهشام بن الحكم: كلمه يا أبا
الحكم، فكلمه فما تركه يرتم ولا يحلي ولا يمر. قال: فبقي يضحك أبو عبد الله
339

عليه السلام حتى بدت نواجده.
فقال الشامي: كأنك أردت أن تخبرني أن في شيعتك مثل هؤلاء
الرجال؟ قال: هو ذلك، ثم قال: يا أخا أهل الشام! أما حمران: فحرفك
فحرت له فغلبك بلسانه، وسألك عن حرف من الحق فلم تعرفه. وأما أبان
ابن تغلب: فمغث حقا بباطل فغلبك. وأما زرارة: فقاسك فغلب قياسه
قياسك. وأما الطيار: فكان كالطير يقع ويقوم وأنت كالطير المقصوص
[لا نهوض لك]. وأما هشام بن سالم: قال حبارى يقع ويطير. وأما هشام بن
الحكم: فتكلم بالحق فما سوغك بريقك.
يا أخا أهل الشام! إن الله أخذ ضغثا من الحق وضغثا من الباطل،
فمغثهما، ثم أخرجهما إلى الناس، ثم بعث أنبياء يفرقون بينهما، فعرفهما الأنبياء
والأوصياء فبعث الله الأنبياء ليفرقوا ذلك وجعل الأنبياء قبل الأوصياء ليعلم
الناس من فضل الله ومن يختص، ولو كان الحق على حدة والباطل على حدة
كل واحد منهما قائم بشأنه ما أحتاج الناس إلى نبي ولا وصي، ولكن الله
خلطهما، وجعل يفرقهما الأنبياء والأئمة عليهم السلام من عباده.
فقال الشامي: قد أفلح من جالسك! فقال أبو عبد الله عليه السلام: كان
رسول الله صلى الله عليه وآله يجالسه جبرائيل وميكائيل وإسرافيل يصعد إلى
السماء فيأتيه الخبر من عند الجبار، فإن كان ذلك كذلك فهو كذلك.
فقال الشامي اجعلني من شيعتك وعلمني، فقال أبو عبد الله عليه السلام
لهشام: علمه فإني أحب أن يكون تلماذا لك.
قال علي بن منصور وأبو مالك الخضرمي، رأينا الشامي عند هشام بعد
موت أبي عبد الله عليه السلام ويأتي الشامي بهدايا أهل الشام وهشام يرده
340

هدايا أهل العراق. قال علي بن منصور: وكان الشامي ذكي القلب (1).
(225)
حريز وأبو حنيفة
عن حريز قال: دخلت على أبي حنيفة وعنده كتب كادت تحول فيما بيننا
وبينه، فقال لي: هذ الكتب كلها في الطلاق! وأنتم؟ وأقبل يقلب بيده
قال: قلت: نحن نجمع هذا كله في حرف، قال وما هو؟ قلت: قوله تعالى
" يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ".
فقال لي: وأنت لا تعلم شيئا إلا برواية؟ قلت: أجل، فقال لي: ما تقول
في مكاتب كانت مكاتبته ألف درهم فأدى تسعمائة وتسعة وتسعين درهما ثم
أحدث - يعني الزنا - كيف تحده؟ فقلت: عندي بعينها حديث، حدثني محمد
بن مسلم، عن أبي جعفر عليهما السلام أن عليا عليه السلام كان يضرب
بالسوط وبثلثه وبنصفه وببعضه بقدر أدائه.
فقال لي: أما إني أسألك عن مسألة لا يكون فيها شئ، فما تقول في جمل
أخرج من البحر؟ فقلت: إن شاء فليكن جملا وإن شاء فليكن بقرة، إن كان
عليه فلوس أكلناه، وإلا فلا (2).
(226)
مؤمن الطاق وأبو حنيفة
سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمد بن النعمان صاحب الطاق، فقال له:
يا أبا جعفر ما تقول في المتعة؟ أتزعم أنها حلال؟ قال: نعم، قال: فما منعك

(1) البحار: ح 47 ص 407 عن الكشي، وقاموس الرجال: ج 9 ص 339 والكشي:
ص 275 - 278.
(2) البحار: ج 47 ص 409 - 410 عن الكشي والاختصاص للمفيد. والكشي: ص 384.
341

أن تأمر نساءك أن يستمتعن ويكتسبن عليك؟ فقال له أبو جعفر: ليس كل
الصناعات يرغب فيها وإن كانت حلالا، وللناس أقدار ومراتب يرفعون
أقدارهم، ولكن ما تقول يا أبا حنيفة في النبيذ أتزعم أنه حلال؟ قال: نعم،
قال: فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نباذات فيكسبن عليك؟ فقال
أبو حنيفة: واحدة بواحدة، وسهمك أنفذ!
ثم قال له: يا أبا جعفر إن الآية التي في " سأل سائل " تنطق بتحريم
المتعة، والرواية عن النبي صلى الله عليه وآله قد جاءت بنسخها، فقال له أبو
جعفر، يا أبا حنيفة إن سورة " سأل سائل " مكية وآية المتعة مدنية وروايتك
شاذة ردية. فقال له أبو حنيفة: وآية الميراث أيضا تنطق بنسخ المتعة، فقال له
أبو جعفر: قد ثبت النكاح بغير ميراث، قال أبو حنيفة: من أين قلت ذاك؟
فقال أبو جعفر: لو أن رجلا من المسلمين تزوج امرأة من أهل الكتاب ثم
توفي عنها ما تقول فيها؟ قال: لا ترث منه. قال: فقد ثبت النكاح بغير
ميراث. ثم افترقا (1).
(227)
الأعمش وأبو حنيفة
عن شريك بن عبد الله القاضي، قال: حضرت الأعمش في علته التي
قبض فيها، فبينا أنا عنده إذ دخل عليه ابن شبرمة وابن أبي ليلى وأبو
حنيفة، فسألوه عن حاله، فذكر ضعفا شديدا، وذكر ما يتخوف من
خطيئاته، وأدركته رنة فبكى! فأقبل عليه أبو حنيفة، فقال: يا أبا محمد اتق
الله! وانظر لنفسك فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام
الآخرة، وقد كنت تحدث في علي بن أبي طالب عليه السلام بأحاديث لو

(1) البحار: ج 47 ص 411. وراجع قاموس الرجال: ج 8 ص 310.
342

رجعت عنها كان خيرا لك.
قال الأعمش: مثل ماذا يا نعمان؟ قال: مثل حديث عباية: " أنا قسيم
النار " قال: أو لمثلي تقول يا يهودي؟ أقعدوني سندوني أقعدوني!
حدثني والذي إليه مصيري! موسى بن طريف - ولم أر أسديا كان خيرا
منه - قال: سمعت عباية بن ربعي إمام الحي، قال: سمعت عليا أمير المؤمنين
عليه السلام يقول: أنا قسيم النار، أقول: هذا وليي دعيه، وهذا عدوي خذيه.
وحدثني أبو المتوكل الناجي في إمرة الحجاج، وكان يشتم عليا
عليه السلام شتما مقذعا - يعني الحجاج لعنه الله - عن أبي سعيد الخدري
- رحمه الله - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا كان يوم القيامة
يأمر الله عز وجل فأقعد أنا وعلي على الصراط، ويقال لنا: " أدخلا الجنة
من آمن بي وأحبكما وأدخلا النار من كفر بي وأبغضكما " قال أبو سعيد:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما آمن بالله من لم يؤمن بي ولم يؤمن بي من
لم يتول - أو قال: لم يحب - عليا، وتلا " ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ".
قال: فجعل أبو حنيفة إزاره على رأسه وقال: قوموا بنا " لا يجيئنا أبو
محمد بأطم من هذا. قال الحسن بن سعيد: قال لي شريك بن عبد الله: فما
أمسى - يعني الأعمش - حتى فارق الدنيا (1).
(228)
أعرابي وهارون
الفضل بن ربيع ورجل آخر قالا: حج هارون الرشيد وابتدأ بالطواف

(1) البحار: ج 47 ص 412 عن أمالي الشيخ، وص 358 عن بشارة المصطفى، وج 39 ص 197
عن أمالي الشيخ - رحمه الله -، وص 205 عن المناقب. وقاموس الرجال: ج 4 ص 494، وج 6
ص 401.
343

ومنعت العامة من ذلك لينفرد وحده، فبينما هو في ذلك إذ ابتدر أعرابي
البيت! وجعل يطوف معه.
فقال الحاجب: تنح يا هذا عن وجه الخليفة! فانتهرهم الأعرابي وقال:
إن الله ساوى بين الناس في هذا الموضع، فقال: " سواء العاكف فيه
والباد " فأمر الحاجب بالكف عنه، فكلما طاف الرشيد طاف الأعرابي
أمامه، فنهض إلى الحجر الأسود ليقبله فسبقه الأعرابي إليه والتثمه، ثم صار
الرشيد إلى المقام ليصلي فيه فصلى الأعرابي أمامه.
فلما فرغ هارون من صلاته استدعى الأعرابي، فقال الحجاب: أجب
أمير المؤمنين! فقال: ما لي إليه حاجة فأقوم إليه، بل إن كانت الحاجة له فهو
بالقيام إلي أولى! قال: صدق! فمشى إليه وسلم عليه، فرد عليه السلام،
فقال هارون: أجلس يا أعرابي؟ فقال: ما لموضع لي فتستأذنني فيه بالجلوس!
إنما هو بيت الله نصبه لعباده، فإن أحببت أن تجلس فاجلس، وإن أحببت
أن تنصرف فانصرف.
فجلس هارون وقال: ويحك يا أعرابي! مثلك من يزاحم الملوك؟ قال:
نعم وفي مستمع، قال: فإني سائلك فإن عجزت آذيتك، قال: سؤالك هذا
سؤال متعلم أو متعنت؟ قال: بل سؤال متعلم، قال: اجلس مكان السائل
من المسؤول! وسل وأنت مسؤول.
فقال هارون: أخبرني ما فرضك؟ قال: إن الفرض - رحمك الله - واحد،
وخمسة، وسبعة عشر، وأربع وثلاثون وأربع وتسعون ومائة وثلاثة وخمسون على
سبعة عشر، ومن اثنى عشر واحد، ومن أربعين واحد، ومن مائتين خمس،
ومن الدهر كله واحد، وواحد بواحد.
قال: فضحك الرشيد! وقال: ويحك! أسألك عن فرضك وأنت تعد
علي الحساب! قال: أما علمت أن الدين كله حساب؟ ولو لم يكن الدين
344

حسابا لما اتخذ الله للخلائق حسابا، ثم قرأ " وإن كان مثقال حبة من
خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " قال: فبين لي ما قلت، وإلا أمرت بقتلك
بين الصفا والمروة.
فقال الحاجب: تهبه لله ولهذا المقام، قال: فضحك الأعرابي من قوله،
فقال الرشيد: مما ضحكت يا أعرابي؟ قال: تعجبا منكما، إذ لا أدري من
الأجهل منكما؟ الذي يستوهب أجلا قد حضر؟ أو الذي استعجل أجلا لم
يحضر؟ فقال الرشيد: فسر ما قلت، قال: أما قولي: " الفرض واحد " فدين
الإسلام كله واحد، وعليه خمس صلوات، وهي سبع عشر ركعة، وأربع
وثلاثون سجدة، وأربع وتسعون تكبيرة، ومائة وثلاث وخمسون تسبيحة. وأما
قولي: " من اثني عشر واحد " فصيام شهر رمضان من اثني عشر شهرا. وأما
قولي: " من الأربعين واحد " فمن ملك أربعين دينارا أوجب الله عليه دينارا
وأما قولي: " من مائتين خمسة " فمن ملك مائتي درهم أوجب الله عليه خمسة
دراهم، وأما قولي: " فمن الدهر كله واحد " فحجة الإسلام. وأما قولي:
" واحد من واحد " فمن أهرق دما من غير حق وجب إهراق دمه، قال الله
تعالى: " النفس بالنفس ".
فقال الرشيد لله درك! وأعطاه بدرة. فقال: فبم استوجبت منك هذه
البدرة يا هارون؟ بالكلام أو بالمسألة؟ قال: بالكلام، قال: فإني سائلك
عن مسألة، فإن أتيت بها كانت البدرة لك تصدق بها في هذا الموضع
الشريف، وإن لم تجبني عنها أضفت إلى البدرة بدرة أخرى لا تصدق بها على
فقراء الحي من قومي، فأمر بإيراد أخرى وقال: سل عما بدا لك.
فقال: أخبرني عن الخنفساء تزق، أم ترضع ولدها؟ فجرد هارون
وقال: ويحك يا أعرابي! مثلي من يسأل عن هذه المسألة؟! فقال: سمعت
ممن سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من ولي أقواما وهب له
345

من العقل كعقولهم، وأنت إمام هذه الأمة يجب أن تسأل عن شئ من أمر
دينك ومن الفرائض إلا أجبت عنها، فهل عندك له الجواب؟
قال هارون: رحمك الله! لا، فبين لي ما قلته، وخذ البدرتين، فقال: إن
الله تعالى لما خلق الأرض خلق دبابات الأرض الذي من غير روث ولا دم
خلقها من التراب، وجعل رزقها وعيشها منه، فإذا فارق الجنين أمه لم تزقه
ولم ترضعه وكان عيشها من التراب.
فقال هارون: والله! ما ابتلي أحد بمثل هذه المسألة. وأخذ الأعرابي
البدرتين، وخرج.
فتبعه بعض الناس وسأله عن اسمه، فإذا هو موسى بن جعفر بن محمد
عليهم السلام، فأخبر هارون بذلك، فقال: والله! لقد كان ينبغي أن تكون
هذه الورقة من تلك الشجرة (1).
أقول: نقلته كما وجدته، وإن كان خارجا من موضوع الكتاب، لأن
الغرض جمع مواقف الشيعة لا الأئمة عليهم السلام والرجاء من الله سبحانه
أن يوفقني لجمعه في كتاب مستقل، إن شاء الله تعالى.
(229)
هشام والمتكلمون
عن يونس بن عبد الرحمن، قال: كان يحيى بن خالد البرمكي قد وجد
على هشام بن الحكم شيئا من طعنه على الفلاسفة، وأحب أن يغري به
هارون ونصرته على القتل، قال: وكان هارون لما بلغه عن هشام مال إليه.
وذلك: أن هشاما تكلم يوما بكلام عند يحيى بن خالد في إرث النبي
صلى الله عليه آله فنقل إلى هارون فأعجبه، وقد كان قبل ذلك يحيى

(1) البحار: ج 48 ص 141 - 143 عن المناقب.
346

يسترق أمره عند هارون ويرده عن أشياء كان يعزم عليها من أذاه، فكان
ميل هارون إلى هشام أحد ما غير قلب يحيى على هشام، فشيعه عنده وقال
له: يا أمير المؤمنين! إني قد استبطنت أمر هشام، فإذا هو يزعم أن لله في
أرضه إماما غيرك مفروض الطاعة! قال: سبحان الله!! قال: نعم، ويزعم
أنه لو أمره بالخروج لخرج، وإنما كنا نرى أنه ممن يرى الإلباد بالأرض.
فقال هارون ليحيى: فاجمع عندك المتكلمين وأكون أنا من وراء الستر
بيني وبينهم لئلا يفطنوا بي ولا يمتنع كل واحد منهم أن يأتي بأصله لهيبتي.
قال: فوجه يحيى وأشحن المجلس من المتكلمين، وكان فيهم ضرار بن
عمرو وسليمان بن جرير و عبد الله بن يزيد الإباضي ومؤبد بن مؤبد ورأس
الجالوت، قال: فتساءلوا فتكافؤوا وتناظروا وتقاطعوا وتناهوا إلى شاذ من
شاذ الكلام، كل يقول لصاحبه: لم تجب، ويقول: قد أجبت، وكان ذلك
عن يحيى حيلة عل هشام، إذ لم يعلم بذلك المجلس، واغتنم ذلك لعلة كان
أصابها هشام بن الحكم.
فلما تناهوا إلى هذا الموضع قال لهم يحيى بن خالد: أترضون فيما بينكم
هشاما حكما؟ قالوا: قد رضينا أيها الوزير! فأنى لنا به وهو عليل؟ فقال
يحيى: فأنا أوجه إليه، فأرسله أن يتجشم المشي، فوجه إليه فأخبره بحضورهم
وأنه إنما منعه أن يحضروه أول المجلس إبقاءا عليه من العلة وأن القوم قد
اختلفوا في المسائل والأجوبة وتراضوا بك حكما بينهم، فإن رأيت أن تتفضل
وتحمل على نفسك فافعل.
فلما صار الرسول إلى هشام، قال لي: يا يونس! قلبي ينكر هذا القول
ولست آمن أن يكن هاهنا أمرا لا أقف عليه، لأن هذا الملعون - يحيى بن
خالد - قد تغير علي لأمور شتى، وقد كنت عزمت إن من الله علي بالخروج
من هذه العلة أن أشخص إلى الكوفة وأحرم الكلام بتة وألزم المسجد ليقطع
347

عني مشاهدة هذا الملعون - يعني يحيى بن خالد - قال: قلت: جعلت فداك!
لا يكون إلا خيرا، فتحرز ما أمكنك، فقال لي: يا يونس! أترى التحرز عن أمر
يريد الله إظهاره على لساني؟ أنى يكون ذلك! ولكن قم بنا على حول الله
وقوته.
فركب هشام بغلا كان مع رسوله، وركبت أنا حمارا كان لهشام، قال:
فدخلنا المجلس، فإذا هو مشحون بالمتكلمين! قال: فمضى هشام نحو يحيى
فسلم عليه وسلم على القوم وجلس قريبا منه، وجلست أنا حيث انتهى بي
المجلس.
قال: فأقبل يحيى على هاشم بعد ساعة، فقال: إن القوم حضروا وكنا
مع حضورهم نحب أن تحضر، لا لأن تناظر، بل لأن نأنس بحضورك إن
كانت العلة تقطعك عن المناظرة، وأنت بحمد الله صالح وليست علتك
بقاطعة من المناظرة، وهؤلاء القوم قد تراضوا بك حكما بينهم.
قال: فقال هشام: ما لموضع الذي تناهت به المناظرة؟ فأخبره كل فريق
منهم بموضع مقطعه، فكان من ذلك أن حكم لبعض على بعض، فكان من
المحكومين عليه " سليمان بن جرير " فحقدها على هشام.
قال: ثم إن يحيى بن خالد قال لهشام: إنا قد أعرضنا عن المناظرة
والمجادلة منذ اليوم، ولكن إن رأيت أن تبين عن فساد اختيار الناس الإمام
وأن الإمامة في آل بيت الرسول دون غيرهم! قال هشام: أيها الوزير! العلة
تقطعني عن ذلك، ولعل معترضا يعترض فيكتسب المناظرة والخصومة. قال:
إن اعترض معترض قبل أن تبلغ مرادك وغرضك فليس ذلك له، بل عليه
أن يحفظ المواضع التي له فيها مطعن فيقفها إلى فراغك ولا يقطع عليك
كلامك.
فبدأ هشام وساق الذكر لذلك وأطال واختصرنا منه موضع الحاجة.
348

فلما فرغ مما قد ابتدأ فيه من الكلام في فساد اختيار الناس الإمام قال
يحيى لسليمان بن جرير: سل أبا محمد عن شئ من هذا الباب؟ قال
سليمان لهشام: أخبرني عن علي بن أبي طالب مفروض الطاعة؟ فقال
هشام: نعم، قال: فإن أمرك الذي بعده بالخروج بالسيف معه تفعل
وتطيعه؟ فقال هشام: لا يأمرني، قال: ولم إذا كانت طاعته مفروضة عليك
وعليك أن تطيعه؟ فقال هشام: عد عن هذا فقد تبين فيه الجواب، قال
سليمان: فلم يأمرك في حال تطيعه وفي حال لا تطيعه؟ فقال هشام:
ويحك! لم أقل لك: إني لا أطيعه فتقول: إن طاعته مفروضة، إنما قلت لك:
لا يأمرني.
قال سليمان: ليس أسألك إلا على سبيل سلطان الجدل، ليس على
الواجب أنه لا يأمرك، فقال هشام: كم تحول حول الحمى؟ هل هو إلا أن
أقول لك: إن أمرني فعلت؟ فتنقطع أقبح الانقطاع ولا يكون عندك زيادة!
وأنا أعلم بما يجب قولي وما إليه يؤول جوابي.
قال: فتغير وجه هارون، وقال هارون: قد أفصح، وقام الناس،
واغتنمها هشام، فخرج على وجهه إلى المدائن.
قال: فبلغنا أن هارون قال ليحيى: شد يدك بهذا وأصحابه.
وبعث إلى أبي الحسن موسى عليه السلام فحبسه، فكان هذا سبب حبسه
مع غيره من الأسباب، وإنما أراد يحيى أن يهرب هشام فيموت مخفيا ما دام
لهارون سلطان.
قال: ثم صار هشام إلى الكوفة، وهو يعقب عليه، ومات في دار ابن
شرف بالكوفة، رحمه الله تعالى.
قال: فبلغ هذا المجلس محمد بن سليمان النوفلي وابن ميثم، وهما في
حبس هارون، فقال النوفلي: أرى هشاما ما استطاع أن يعتل، فقال ابن
349

ميثم: بأي شئ يستطيع أن يعتل وقد أوجب أن طاعته مفروضة من الله
قال: يعتل بأن يقول: الشرط علي في إمامته أن لا يدعو أحدا إلى الخروج
حتى ينادي مناد من السماء، فمن دعاني ممن يدعي الإمامة قبل ذلك
الوقت علمت أنه ليس بإمام، وطلبت من أهل هذا البيت من لا يقول أنه
يخرج ولا يأمر بذلك حتى ينادي مناد من السماء، فأعلم أنه صادق.
فقال ابن ميثم: هذا من أخبث الخرافة! ومتى كان هذا في عقد
الإمامة؟ إنما يروى هذا في صفة القائم عليه السلام وهشام أجدل من أن
يحتج بهذا! على أنه لم يفصح بهذا الافصاح الذي قد شرطته أنت، إنما قال:
إن أمرني المفروض الطاعة بعد علي عليه السلام فعلت، ولم يسم فلان دون
فلان، كما تقول: إن قال لي طلبت غيره، فلو قال هارون له وكان المناظر له:
من المفروض الطاعة؟ فقال: أنت، لم يكن أن يقول له: فإن أمرتك
بالخروج بالسيف تقاتل أعدائي تطلب غيري وتنتظر المنادي من السماء، هذا
لا يتكلم به مثل هذا، لعلك لو كنت أنت تكلمت به.
قال: ثم قال علي بن إسماعيل الميثمي: إنا لله وإنا إليه راجعون! على
ما يمضي من العلم إن قتل، ولقد كان عضدنا وشيخنا والمنظور إليه فينا (1).
(230) هشام مع يحيى
عن يونس، قال: كنت مع هشام بن الحكم في مسجده بالعشاء، حيث
أتاه مسلم صاحب بيت الحكم، فقال له: إن يحيى بن خالد يقول: قد
أفسدت على الرفضة دينهم! لأنهم يزعمون أن الدين لا يقوم إلا بإمام حي،

(1) البحار: ج 48 ص 189 - 193 وقاموس الرجال: ج 9 ص 320
والكشي: ص 258.
350

وهم لا يدرون إمامهم اليوم حي أو ميت.
فقال هشام عند ذلك: إنما علينا أن ندين بحياة الإمام أنه حيي حاضرا
عندنا أو متواريا عنا حتى يأتينا موته، فما لم يأتنا موته فنحن مقيمون على
حياته، ومثل مثالا فقال: الرجل إذا جامع أهله وسافر إلى مكة أو توارى
عنه ببعض الحيطان، فعلينا أن نقيم على حياته حتى يأتينا خلاف ذلك.
فانصرف سالم ابن عم يونس بهذا الكلام فقصه على يحيى بن خالد،
فقال يحيى: ما ترى؟ ما صنعنا شيئا! فدخل يحيى على هارون فأخبره،
فأرسل من الغد فطلبه، فطلب في منزله فلم يوجد، وبلغه الخبر، فلم يلبث
إلا شهرين أو أكثر حتى مات في منزل محمد وحسين الحناطين، فهذا تفسير
أمر هشام.
وزعم يونس أن دخول هشام على يحيى بن خالد وكلامه مع سليمان بن
جرير بعد أن أخذ أبو الحسن عليه السلام بدهر، إذا كان في زمن المهدي
ودخوله إلى يحيى بن خالد في زمن الرشيد (1).
(231)
هشام والمتكلمون
على علي الأسواري، قال: كان ليحيى بن خالد مجلس في داره يحضره
المتكلمون من كل فرقة وملة يوم الأحد، فيتناظرون في أديانهم ويحتج بعضهم
على بعض، فبلغ ذلك الرشيد، فقال ليحيى بن خالد: يا عباسي ما هذا
المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟ فقال: يا أمير المؤمنين! ما شئ
مما رفعني به أمير المؤمنين وبلغ من الكرامة والرفعة أحسن موقعا عندي من
هذا المجلس، فإنه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم، فيحتج بعضهم على

(1) البحار: ج 48 ص 196، والكشي: ص 266.
351

بعض، ويعرف المحق منهم، ويتبين لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم.
قال له الرشيد: فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس وأسمع كلامهم من
غير أن يعلموا بحضوري فيحتشمون ولا يظهرون مذاهبهم، قال: ذلك إلى
أمير المؤمنين متى شاء. قال: فضع يدك على رأسي ولا تعلمهم بحضوري،
ففعل.
وبلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم وعزموا أن لا يكلموا هشاما إلا في
الإمامة لعلمهم بمذهب الرشيد وإنكاره على من قال بالإمامة.
قال: فحضروا وحضر هشام وحضر عبد الله بن يزيد الإباضي - وكان
من أصدق الناس لهشام بن الحكم وكان يشاركه في التجارة - فلما دخل
هشام سلم على عبد الله بن يزيد من بينهم، فقال: يحيى بن خالد لعبد الله
ابن يزيد: يا عبد الله! كلم هشاما فيما اختلفتم فيه من الإمامة، فقال هشام:
أيها الوزير! ليس لهم علينا جواب ولا مسألة، هؤلاء قوم كانوا مجتمعين معنا
على إمامة رجل، ثم فارقونا بلا علم ولا معرفة، فلا حين كانوا معنا عرفوا
الحق ولا حين فارقونا علموا على ما فارقونا! فليس لهم علينا مسألة ولا جواب.
فقال بيان - وكان من الحرورية -: أنا أسألك يا هشام! أخبرني عن
أصحاب علي يوم حكموا الحكمين: أكانوا مؤمنين، أم كافرين؟
قال هشام: كانوا على ثلاثة أصناف: صنف مؤمنون، وصنف
مشركون، وصنف ضلال. فأما المؤمنون: فمن قال مثل قولي، الذين قالوا: إن
عليا إمام من عند الله ومعاوية لا يصلح لها، فآمنوا بما قال الله عز وجل في
علي وأقروا به. وأما المشركون: فقوم قالوا: علي إمام ومعاوية يصلح لها
فأشركوا إذ أدخلوا معاوية مع علي. وأما الضلال: فقوم خرجوا على الحمية
والعصبية للقبائل والعشائر لم يعرفوا شيئا من هذا وهم جهال.
قال: وأصحاب معاوية من كانوا؟ قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف
352

كافرون، وصنف مشركون، وصنف ضلال. فأما الكافرون: فالذين قالوا:
إن معاوية إمام وعلي لا يصلح لها، فكفروا من جهتين: أن جحدوا إماما من
الله، ونصبوا إماما ليس من الله. وأما المشركون: فقوم قالوا: معاوية إمام
وعلي يصلح لها، فأشركوا معاوية مع علي عليه السلام. وأما الضلال فعلى
سبيل أولئك خرجوا للحمية والعصبية للقبائل والعشائر.
فانقطع بيان عند ذلك.
فقال ضرار: فأنا أسألك يا هشام! في هذا، فقال هشام: أخطأت، قال:
ولم؟ قال: لأنكم مجتمعون على دفع إمامة صاحبي وقد سألني هذا عن مسألة
وليس لكم أن تثنوا بالمسألة علي حتى أسألك يا ضرار عن مذهب في هذا
الباب، قال ضرار: فسل.
قال: أتقول: إن الله عدل لا يجور؟ قال: نعم هو عدل لا يجور تبارك
وتعالى، قال: فلو كلف الله المقعد المشي إلى المساجد والجهاد في سبيل الله
وكلف الأعمى قراءة المصاحف والكتب أتراه كان عادلا أم جائرا؟ قال
ضرار: ما كان الله ليفعل ذلك، قال هشام: قد علمنا أن الله لا يفعل ذلك،
ولكن على سبيل الجدل والخصومة إن لو فعل ذلك أليس كان في فعله
جائرا؟ وكلفه تكليفا لا يكون له السبيل إلى إقامته وأدائه؟ قال: لو فعل
ذلك لكان جائرا.
قال: فأخبرني عن الله عز وجل كلف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه
لا يقبل منهم إلا أن يأتوا به كما كلفهم؟ قال: بلى، قال: فجعل لهم دليلا
على وجود ذلك الدين، أو كلفهم ما لا دليل على وجوده فيكون بمنزلة من
كلف الأعمى قراءة الكتب والمقعد المشي إلى المساجد والجهاد؟
قال: فسكت ضرار ساعة، ثم قال: لا بد من دليل وليس بصاحبك،
قال: فضحك هشام! وقال: تشيع شطرك وصرت إلى الحق ضرورة!
353

ولا خلاف بيني وبينك إلا في التسمية.
قال ضرار: فإني أرجع إليك في هذا القول: قال: هات! قال ضرار:
كيف تعقد الإمامة؟ قال هشام: كما عقد الله النبوة، قال: فإذا هو نبي؟!
قال هشام: لا لأن النبوة يعقدها أهل السماء والإمامة يعقدها أهل الأرض
فعقد النبوة بالملائكة وعقد الإمامة بالنبي والعقدان جميعا بإذن الله عز وجل.
قال: فما الدليل على ذلك؟ قال هشام: الاضطرار في هذا، قال ضرار:
وكيف ذلك؟ قال هشام: لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه: إما
أن يكون الله عز وجل رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول صلى الله عليه
وآله فلم يكلفهم ولم يأمرهم ولم ينههم وصاروا بمنزلة السباع والبهائم التي
لا تكليف عليها، أفتقول هذا يا ضرار: إن التكليف عن الناس مرفوع بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: لا أقول هذا، قال هشام: فالوجه الثاني
ينبغي أن يكون الناس المكلفون قد استحالوا بعد الرسول علماء في مثل حد
الرسول في العلم حتى لا يحتاج أحد إلى أحد فيكونوا كلهم قد استغنوا
بأنفسهم وأصابوا الحق الذي لا اختلاف فيه، أفتقول هذا: إن الناس قد
استحالوا علماء حتى صاروا في مثل حد الرسول في العلم حتى لا يحتاج أحد
إلى أحد مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحق؟ قال: لا أقول هذا
ولكنهم يحتاجون إلى غيرهم.
قال: فبقي الوجه الثالث، لأنه لا بد لهم من علم يقيمه الرسول لهم،
لا يسهو ولا يغلط ولا يحيف، معصوم من الذنوب، مبرأ من الخطايا، يحتاج إليه
ولا يحتاج إلى أحد، قال: فما الدليل عليه؟ قال هشام: ثمان دلالات: أربع
في نعت نسبه، وأربع في نعت نفسه.
فأما الأربع التي في نعت نسبه: بأن يكون معروف الجنس، معروف
القبيلة، معروف البيت، وأن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة،
354

فلم ير جنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب الذين منهم صاحب
الملة والدعوة الذي ينادى باسمه في كل يوم خمس مرات على الصوامع:
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فتصل دعوته إلى كل بر وفاجر
وعالم وجاهل ومقر ومنكر في شرق الأرض وغربها، ولو جاز أن يكون الحجة
من الله على هذا الخلق في غير هذا الجنس لأتى على الطالب المرتاد دهر من
عصره لا يجده، ولو جاز أن يطلبه في أجناس هذا الخلق من العجم وغيرهم
لكان من حيث أراد الله أن يكون صلاحا يكون فسادا، ولا يجوز هذا في
حكم الله تبارك وتعالى وعدله أن يفرض على الناس فريضة لا توجد.
فلما لم يجز ذلك لم يجز إلا أن يكون إلا في هذا الجنس لا تضاله
بصاحب الملة والدعوة، ولم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة
لقرب نسبها من صاحب الملة، وهي قريش، ولما لم يجز أن يكون من هذا
الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلا في هذا البيت
لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة، ولما كثر أهل هذا البيت وتشاجروا
في الإمامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد منهم، فلم يجز إلا أن يكون من
صاحب الملة والدعوة إليه إشارة بعينه واسمه ونسبه لئلا يطمع فيها غيره.
وأما الأربع التي في نعت نفسه: أن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض
الله وسننه وأحكامه حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل، وأن يكون
معصوما من الذنوب كلها، وأن يكون أشجع الناس، وأن يكون أسخى
الناس، قال: من أين قلت: إنه أعلم الناس؟ قال: لأنه إن لم يكن عالما
بجميع حدود الله وأحكامه وشرائعه وسننه لم يؤمن عليه أن يقلب الحدود،
فمن وجب عليه القطع حده ومن وجب عليه الحد قطعه، فلا يقيم لله حدا
على ما أمر به، فيكون من حيث أراد الله صلاحا يقع فسادا.
قال: فمن أين قلت: إنه معصوم من الذنوب؟ قال: لأنه إن لم يكن
355

معصوما من الذنوب دخل في الخطأ فلا يؤمن أن يكتم على نفسه ويكتم على
حميمه وقريبه، ولا يحتج الله عز وجل بمثل هذا على خلقه.
قال: فمن أين قلت: إنه أشجع الناس؟ قال: لأنه فئة للمسلمين الذين
يرجعون إليه في الحروب وقال الله عز وجل: " ومن يولهم يومئذ دبره إلا
متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله " فإن لم يكن
شجاعا فر، فيبوء بغضب من الله، فلا يجوز أن يكون من يبوء بغضب من الله
حجة لله على خلقه.
قال: فمن أين قلت: إنه أسخى الناس؟ قال: لأنه خازن المسلمين، فإن
لم يكن سخيا تاقت نفسه إلى أموالهم فأخذها، فكان خائنا، ولا يجوز أن
يحتج الله على خلقه بخائن.
فقال عند ذلك ضرار: فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت؟ فقال:
صاحب العصر أمير المؤمنين! وكان هارون الرشيد قد سمع الكلام كله
فقال عند ذلك: أعطانا والله من جراب النورة! ويحك يا جعفر - وكان جعفر
ابن يحيى جالسا معه في الستر - من يعني بهذا؟ قال: يا أمير المؤمنين يعني موسى
ابن جعفر، قال: ما عنى بها غير أهلها، ثم عض على شفته وقال: مثل هذا
حي ويبقى لي ملكي ساعة واحدة؟ فوالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس
ما مائة ألف سيف!
وعلم يحيى أن هشاما قد أتى فدخل الستر، فقال: ويحك يا عباسي! من
هذا الرجل؟ فقال: يا أمير المؤمنين تكفى تكفى!
ثم خرج إلى هشام، فغمزه فعلم هشام أنه قد أتي، فقام يريهم أنه يبول
أو يقضي حاجة، فلبس نعليه وانسل ومر ببنيه وأمرهم بالتواري، وهرب،
ومر من فوره نحو الكوفة ونزل على بشير النبال - وكان من حملة الحديث من
أصحاب أبي عبد الله عليه السلام فأخبره الخبر، ثم اعتل علة شديدة، فقال له
356

بشير: آتيك بطبيب؟ قال: لا أنا ميت.
فلما حضره الموت قال لبشير: إذا فرغت من جهازي فاحملني في جوف
الليل وضعني بالكناسة واكتب رقعة وقل: هذا هشام بن الحكم الذي طلبه
أمير المؤمنين مات حتف أنفه! وكان هارون قد بعث إلى إخوانه وأصحابه،
فأخذ الخلق به، فلما أصبح أهل الكوفة رأوه! وحضر القاضي وصاحب
المعونة والعامل والمعدلون بالكوفة، وكتب إلى الرشيد بذلك، فقال: الحمد لله
الذي كفانا أمره فخلى عمن كان أخذ به (1).
(232)
سعيد بن جبير والحجاج
قال أبو عبد الله عليه السلام: إن سعيد بن جبير كان يأتم بعلي بن
الحسين عليهما السلام فكان علي يثني عليه، وما كان سبب قتل الحجاج له إلا
على هذا الأمر، وكان مستقيما.
وذكر أنه لما دخل على الحجاج بن يوسف قال: أنت شقي بن كسير؟
قال: أمي أعرف بي سمتني " سعيد بن جبير " قال: ما تقول في أبي بكر
وعمر، هما في الجنة أو في النار؟ قال: لو دخلت الجنة فنظرت إلى أهلها
لعلمت من فيها، ولو دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت من فيها، قال: فما
قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل، قال: أيهم أحب إليك؟ قال:
أرضاهم لخالقي، قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي
يعلم سرهم ونجواهم، قال: أبيت أن تصدقني؟ قال: بل لم أحب أن
أكذبك (2).

(1) البحار: ج 48 ص 197 - 203 عن إكمال الدين.
(2) البحار: ج 46 ص 136 - 137 عن روضة الواعظين. وقاموس الرجال: ج 4 ص 354 عن
الكشي ص 119 ويأتي برواية ابن قتيبة ج 2 ص 301.
357

(233)
داود وبعض الخوارج
عن داود الرقي، قال: سألني بعض الخوارج عن قول الله تبارك وتعالى
" ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين - إلى قوله - ومن الإبل اثنين ومن البقر
اثنين " الآية، ما الذي أحل الله من ذلك؟ وما الذي حرم الله؟ قال: فلم
يكن عندي في ذلك شئ، فحججت فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام
فقلت: جعلت فداك! إن رجلا من الخوارج سألني عن كذا وكذا.
فقال عليه السلام: إن الله عز وجل أحل في الأضحية بمنى الضأن والمعز
الأهلية وحرم فيها الجبلية، وذلك قول الله عز وجل: " ومن الضأن اثنين ومن
المعز اثنين " وإن الله عز وجل أحل في الأضحية بمنى الإبل العراب وحرم فيها
البخاتي، وأحل فيها البقر الأهلية وحرم فيها الجبلية، فذلك قوله: " ومن الإبل
اثنين ومن البقر اثنين ".
قال: فانصرفت إلى صاحبي، فأخبرته بهذا الجواب، فقال: هذا شئ
حملته الإبل من الحجاز (1).
(234)
أعرابي والوليد
على الخليل بن أحمد العروضي، قال: حضرت مجلس الوليد بن يزيد بن
عبد الملك بن مروان، وقد اسحنفر في سب علي واثعنجر في ثلبه، إذ خرج
عليه أعرابي على ناقة له وذفراها يسيلان لإغذاذ السير دما! فلما رآه الوليد
- لعنه الله - في منظرته قال: ائذنوا لهذا الأعرابي، فإني أراه قد قصدنا.

(1) الاختصاص: ص 48.
358

وجاء الأعرابي فعقل ناقته بطرف زمامها، ثم أذن له فدخل فأورده
قصيدة لم يسمع السامعون مثلها جودة قط إلى أن انتهى إلى قوله:
ولما أن رأيت الدهر إلى * علي ولح في إضعاف حالي
وفدت إليك أبغي حسن عقبى * أسد بها خصاصات العيال
وقائلة إلى من قد رآه * يؤم ومن يرجى للمعالي
فقلت إلى الوليد أزم قصدا * وقاه الله من غير الليالي
هو الليث الهصور شديد بأس * هو السيف المجرد للقتال
خليفة ربنا الداعي علينا * وذو المجد التليد أخو الكمال
قال: فقبل مدحته وأجزل عطيته، وقال له: يا أخا العرب! قد قبلنا
مدحتك وأجزلنا صلتك، فاهج لنا عليا أبا تراب، فوثب الأعرابي يتهافت
قطعا ويزأر حنقا ويشمذر شفقا! وقال:
والله! إن الذي عنيته بالهجاء لهو أحق منك بالمديح وأنت أولى منه
بالهجاء! فقال له جلساؤه: اسكت نزحك الله! قال: علام ترجوني؟ وبم
تبشروني؟ ولما أبديت سقطا ولا قلت شططا ولا ذهبت غلطا، على أنني
فضلت عليه من هو أولى بالفضل منه علي بن أبي طالب صلوات الله عليه
الذي تجلبب بالوقار، ونبذ الشنار، وعاف العار، وعمد الإنصاف، وأبد
الأوصاف، وحصن الأطراف، وتألف الأشراف، وأزال الشكوك في الله
بشرح ما استودعه الرسول من مكنون العلم الذي نزل به الناموس وحيا من
ربه، ولم يفتر طرفا، ولم يصمت ألفا، ولم ينطق خلفا، الذي شرفه فوق شرفه،
وسلفه في الجاهلية أكرم من سلفه، لا تعرف المأديات في الجاهلية إلا بهم
ولا الفضل إلا فيهم، صفة من اصطفاها الله واختارها.
فلا يغتر الجاهل بأنه قعد عن الخلافة بمثابرة من ثابر عليها وجالد بها،
والسلال المارقة والأعوان الظالمة، ولئن قلتم ذلك كذلك إنما استحقها
359

بالسبق، تالله! ما لكم الحجة في ذلك، هلا سبق صاحبكم إلى المواضع
الصعبة والمنازل الشعبة والمعارك المرة، كما سبق إليها علي بن أبي طالب
صلوات الله عليه الذي لم يكن بالقبعة ولا الهبعة، ولا مضطغنا آل الله
ولا منافقا رسول الله، كان يدرأ عن الإسلام كل أصبوحة، ويذب عنه كل
أمسية، ويلج نفسه في الليل الديجور المظلم الحلكوك مرصدا للعدو، هو ذل
تارة وتضكضك أخرى ويا رب لزبة آتية قسية! وأوان آن أرونان قذف
بنفسه في لهوات وشيجة، وعليه زغفة ابن عمه الفضفاضة وبيده خطيته عليها
سنان لهذم، فبرز عمرو بن ود القرم الأود والخصم الألد، والفارس الأشد
على فرس عنجوج، كأنما نجر نجره باليلنجوج، فضرب قونسه ضربة قنع منها
عنقه، أو نسيتم عمرو بن معدي كرب الزبيدي؟ إذ أقبل يسحب ذلاذل
درعه مدلا بنفسه، قد زحزح الناس عن أماكنهم، ونهضهم عن مواضعهم،
ينادي أين المبارزون يمينا وشمالا فانقض عليه كسوذنيق أو كصيخودة
منجنيق، فوقصه وقص القطام بحجره الحمام، وأتى به إلى رسول الله صلى
الله عليه وآله كالبعير الشارد، يقاد كرها، وعينه تدمع، وأنفه ترمع، وقلبه
يجزع، هذا وكم له من يوم عصيب برز فيه إلى المشركين بنية صادقة، وبرز
غيرة وهو أكشف أميل أجم أعزل. ألا وإني مخبركم بخبر على أنه مني
بأوباش كالمراطة بين لغموط وحجابه وفقامه، ومغذمر ومهزمر، حملت به
شوهاء شهواء في أقصى مهيلها، فأتت به محضا بحتا، وكلهم أهون على علي
من سعدانة بغل، أفمثل هذا يستحق الهجاء؟ وعزمه الحاذق، وقوله الصادق،
وسيفه الفالق، وإنما يستحق الهجاء من سامه إليه وأخذ الخلافة، وأزالها عن
الوراثة، وصاحبها ينظر إلى فيئه، وكأن الشبادع تلسبه، حتى إذا لعب بها
فريق بعد فريق وخريق بعد خريق، اقتصروا على ضراعة الوهز وكثرة الأبز،
ولو ردوه إلى سمت الطريق والمرت البسيط والتامور العزيز، ألفوه قائما
360

واضعا الأشياء في مواضعها، لكنهم انتهزوا الفرصة واقتحموا الغصة وباءوا
بالحسرة.
قال: فأربد وجه الوليد وتغير لونه وغص بريقه وشرق بعبرته، كأنما فقئ
في عينه حب المض الحاذق، فأشار عليه بعض جلسائه بالانصراف، وهو
لا يشك أنه مقتول به! فخرج فوجد بعض الأعراب الداخلين. فقال له: هل
لك أن تأخذ خلعتي الصفراء وآخذ خلعتك السوداء وأجعل لك بعض
الجائزة حظا، ففعل الرجل.
وخرج الأعرابي، فاستوى على راحلته، وغاص في صحرائه، وتوغل في
بيدائه. واعتقل الرجل الآخر فضرب عنقه! وجئ به إلى الوليد، فقال:
ليس هو هذا، بل صاحبنا! وأنفذ الخيل السراع في طلبه، فلحقوه بعد لأي،
فلما أحس بهم أدخل يده إلى كنانته يخرج سهما سهما يقتل به فارسا، إلى
أن قتل من القوم أربعين، وانهزم الباقون.
فجاءوا إلى الوليد فأخبروه بذلك، فأغمي عليه يوما وليلة أجمع! قالوا:
ما تجد؟ قال: أجد على قلبي غمة كالجبل من فوت هذا الأعرابي، فلله
دره (1).
(235)
رجل مع عبد الملك
قال رجل لعبد الملك بن مروان: أناظرك وأنا آمن؟ قال: نعم.
فقال له: أخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك أبنص من الله
ورسوله؟ قال: لا، قال: اجتمعت الأمة فتراضوا بك؟ فقال: لا، قال:
فكانت لك بيعة في أعناقهم فوفوا بها؟ قال: لا، قال: فاختارك أهل

(1) البحار: ج 46 ص 321 - 323 عن الإرشاد للديلمي.
361

الشورى؟ قال: لا، قال: أفليس قد قهرتهم على أمرهم واستأثرت بفيئهم
دونهم؟ قال: بلى، قال: فبأي شئ سميت أمير المؤمنين ولم يؤمرك الله
ولا رسوله ولا المسلمون؟ قال له: اخرج عن بلادي، وإلا قتلتك! قال: ليس
هذا جواب أهل العدل والإنصاف، ثم خرج عنه (1).
(236)
رجل مع عمر بن عبد العزيز
روي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بخراسان: أن أوفد إلي من
علماء بلادك مائة رجل أسألهم عن سيرتك
فجمعهم، وقال لهم ذلك، فاعتذروا وقالوا: إن لنا عيالا وأشغالا
لا يمكننا مفارقته، وعدله لا يقتضي إجبارنا، ولكن قد أجمعنا على رجل منا
يكون عوضنا عنده ولساننا لديه، فقوله قولنا ورأيه رأينا، فأوفد به العامل
إليه.
فلما دخل عليه سلم وجلس، فقال له: أخل لي المجلس! فقال له: ولم
ذلك وأنت لا تخلو أن تقول حقا فيصدقوك أو تقول باطلا فيكذبوك؟ فقال
له: ليس من أجلي أريد خلو المجلس، ولكن من أجلك، فإني أخاف أن
يدور بيننا كلام تكره سماعه.
فأمر بإخراج أهل المجلس، ثم قال له: قل، فقال: أخبرني عن هذا الأمر
من أين صار إليك؟ فسكت طويلا، فقال له: ألا تقول؟ فقال: لا! فقال:
ولم؟ فقال له: إن قلت: بنص من الله ورسوله كان كذبا، وإن قلت:
بإجماع المسلمين قلت: فنحن أهل بلاد المشرق ولم نعلم بذلك ولم نجمع عليه،
وإن قلت: بالميراث من آبائي قلت: بنو أبيك كثير فلم تفردت أنت به دونهم؟

(1) البحار: ج 46 ص 335 عن أعلام الدين للديلمي.
362

فقال له: الحمد لله على اعترافك على نفسك بالحق لغيرك! أفأرجع إلى
بلادي؟ فقال: لا، فوالله إنك لواعظ قط! فقال له: فقل ما عندك بعد ذلك،
فقال له: رأيت أن من تقدمني ظلم وغشم وجار واستأثر بفئ المسلمين وعلمت
من نفسي أني لا أستحل ذلك وأن المؤمنين لا شئ يكون أنقص وأخف عليهم،
فوليت.
فقال له: أخبرني لو لم تل هذا الأمر ووليه غيرك وفعل ما فعل من كان
قبله أكان يلزمك من إثمه شئ! فقال: لا، فقال له: فأراك قد شريت راحة
غيرك بتعبك وسلامته بخطرك؟ فقال له: إنك لواعظ قط! فقام ليخرج. ثم
قال له: والله لقد هلك أولنا بأولكم، وأوسطنا بأوسطكم، وسيهلك آخرنا
بآخركم! والله المستعان عليكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل (1).
(237)
رجل مع عبد الملك
عن الثمالي، قال: حدثني من حضر عبد الملك بن مروان وهو يخطب الناس
بمكة، فلما صار إلى موضع العظة من خطبته قام إليه رجل، فقال له:
مهلا! مهلا! إنكم تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنتهون، وتعظون
ولا تتعظون، أفاقتداء بسيرتكم أم طاعة لأمركم؟ فإن قلتم: اقتداء بسيرتنا،
فيكف يقتدى بسيرة الظالمين؟ وما الحجة في اتباع المجرمين؟ الذين اتخذوا مال
الله دولا وجعلوا عباد الله خولا. وإن قلتم: أطيعوا أمرنا واقبلوا نصحنا، فكيف
ينصح غيره من لم ينصح نفسه؟ أم كيف تجب طاعة من لم تثبت له عدالة؟
وإن قلتم: خذوا الحكمة من حيث وجدتموها واقبلوا العظة ممن سمعتموها،
فلعل فينا من هو أفصح بصنوف العظات وأعرف بوجوه اللغات منكم،

(1) البحار: ج 46 ص 336.
363

فتزحزحوا عنها، وأطلقوا أقفالها، وخلوا سبيلها، ينتدب لها الذين شردتم في
البلاد، ونقلتموهم عن مستقرهم إلى كل واد، فوالله ما قلدناكم أزمة أمورنا!
وحكمناكم في أموالنا وأبداننا وأدياننا لتسيروا فينا بسيرة الجبارين! غير أنا
بصراء بأنفسنا لاستيفاء المدة وبلوغ الغاية وتمام المحنة، ولكل قائم منكم يوم
لا يعدوه وكتاب لا بد أن يتلوه، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسيعلم
الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. قال: فقام إليه بعض أصحاب المسالح،
فقبض عليه، وكان آخر عهدنا به، ولا ندري ما كانت حاله (1).
(238)
كلام برير بن خضير في كربلاء
ركب أصحاب عمر بن سعد فقرب إلى الحسين فرسه، فاستوى عليه،
وتقدم نحو القوم في نفر من أصحابه، وبين يديه برير بن خضير، فقال له الحسين
عليه السلام: كلم القوم، فتقدم برير، فقال:
يا قوم اتقوا الله! فإن ثقل محمد قد أصبح بين أظهركم، هؤلاء ذريته وعترته
وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم، وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم؟ فقالوا:
نريد أن نمكن منهم الأمير ابن زياد، فيرى رأيه فيهم، فقال لهم برير: أفلا
تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاءوا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة،
أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها؟ يا ويلكم! أدعوتم
أهل بيت نبيكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم، حتى إذا أتوكم
أسلمتموهم إلى ابن زياد وحلأتموهم عن ماء الفرات؟ بئس ما خلفتم نبيكم
في ذريته! ما لكم؟ لا سقاكم الله يوم القيامة! فبئس القوم أنتم!
فقال له نفر منهم: يا هذا ما ندري ما تقول! فقال برير: الحمد لله الذي

(1) البحار: ج 46 ص 337 عن أمالي المفيد رحمه الله وأمالي الشيخ ج 1 ص 106 - 107.
364

زادني فيكم بصيرة، اللهم إني أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم، اللهم ألق
بأسهم بينهم حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان.
فجعل القوم يرمونه بالسهام، فرجع برير إلى ورائه (1).
(239)
كلام للحر - رحمه الله - في كربلاء
فاستقدم الإمام الحسين عليه السلام فقال:
يا أهل الكوفة! لأمكم الهبل والعبر! أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا
أتاكم أسلمتموه؟ وزعمتم أنكم قاتلوا نفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه،
أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكلكله، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه إلى
بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم! لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها
ضرا، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله من ماء الفرات الجاري تشربه اليهود
والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم، وهاهم قد صرعهم
العطش، بئسما خلفتم محمدا في ذريته! لا سقاكم الله يوم الظمأ (2)!
(240)
بنو هاشم ومعاوية
روى سليم بن قيس، قال: سمعت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال:
قال لي معاوية: ما أشد تعظيمك للحسن والحسين! ما هما بخير منك ولا أبوهما
بخير من أبيك، لو أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله لقلت:
ما أمك أسماء بنت عميس بدونها! قال: فغضبت من مقالته وأخذني ما لا أملك،
فقلت: إنك لقليل المعرفة بهما وبأبيهما وأمهما، بلى والله! هما خير مني، وأبوهما

(1) البحار: ج 45 ص 5 عن محمد بن أبي طالب.
(2) البحار: ج 45 ص 11 عن المفيد رحمه الله.
365

خير من أبي، وأمهما خير من أمي، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول فيهما وفي أبيهما وأنا غلام، فحفظته منه وعيته.
فقال معاوية - وليس في المجلس غير الحسن والحسين عليهما السلام وابن
جعفر رحمه الله وابن عباس وأخيه الفضل -: هات ما سمعت، فوالله ما أنت
بكذاب! فقال: إنه أعظم مما في نفسك، قال: وإن كان أعظم من أحد
وحرى! فإنه ما لم يكن أحد من أهل الشام لا أبالي، أما إذا قتل الله طاغيتكم
وفرق جمعكم وصار الأمر في أهله ومعدنه فلا نبالي ما قلتم ولا يضرنا ما ادعيتم.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أنا أولى بالمؤمنين من
أنفسهم، من كنت أولى به من نفسه فأنت يا أخي أولى به من نفسه وعلي بين
يديه عليهما السلام [في البيت والحسن والحسين وعمر بن أم سلمة وأسامة بن
زيد] (1) وفي البيت فاطمة عليها السلام وأم أيمن وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام
وضرب رسول الله صلى الله عليه وآله على عضده وأعاد ما قال فيه ثلاثا ثم نص
بالإمامة على الأئمة تمام الاثني عشر عليهم السلام.
ثم قال صلوات الله عليه: ولا متي اثنا عشر إمام ضلالة كلهم ضال مضل،
عشرة من بني أمية ورجلان من قريش وزر جميع الاثني عشر وما أظلوا في
أعناقهما، ثم سماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسمى العشرة معهما.
قال: فسمهم لنا، قال: فلان، وفلان، وفلان، وصاحب السلسلة وابنه من
آل أبي سفيان، وسبعة من ولد الحكم بن أبي العاص، أولهم مروان.
قال معاوية: لئن كان ما قلت حقا لقد هلكت وهلكت الثلاثة قبلي وجميع
من تولاهم من هذه الأمة، ولقد هلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
من المهاجرين والأنصار والتابعين غيركم أهل البيت وشيعتكم. قال ابن

(1) قال في هامش البحار: ما بين العلامتين ساقط عن نسخة الكمپاني موجود في نسخة المصنف
والمصدر ص 146.
366

جعفر: فإن الذي قلت والله حق سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال معاوية للحسن والحسين وابن عباس: ما يقول ابن جعفر؟ قال ابن
عباس - ومعاوية بالمدينة أول سنة اجتمع عليه الناس بعد قتل علي
عليه السلام -: أرسل إلى الذين سمى.
فأرسل إلى عمر بن أم سلمة وأسامة فشهدوا جميعا أن الذي قال ابن جعفر
حق قد سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله كما سمعه (1).
ثم أقبل معاوية إلى الحسن والحسين وابن عباس والفضل وابن أم سلمة
وأسامة، فقال: كلكم على ما قال ابن جعفر؟ قالوا: نعم. قال معاوية: فإنكم
يا بني عبد المطلب لتدعون أمرا عظيما! وتحتجون بحجة قوية، فإن كانت حقا
فإنكم لتصبرون على أمر وتسترونه والناس في غفلة وعمى، ولئن كان ما
تقولون حقا لقد هلكت الأمة ورجعت عن دينها وكفرت بربها وجحدت نبيها
إلا أنتم أهل البيت ومن قال بقولكم، فأولئك قليل في الناس.
فأقبل ابن عباس على معاوية، فقال: قال الله: " وقليل من عبادي
الشكور " وقال: " وقليل ما هم " وما تعجب مني يا معاوية أعجب من بني
إسرائيل، إن السحرة قالوا لفرعون: " فاقض ما أنت قاض " فآمنوا بموسى
وصدقوه، ثم سار بهم ومن أتبعهم من بني إسرائيل، فأقطعهم البحر وأراهم
العجائب، وهم مصدقون بموسى وبالتوراة يقرون له بدينه، ثم مروا بأصنام
تعبد، فقالوا: " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون "، وعكفوا على
العجل جميعا غير هارون! فقالوا: " هذا إلهكم وإله موسى "! وقال لهم موسى
بعد ذلك: " ادخلوا الأرض المقدسة " فكان من جوابهم ما قص الله عز وجل
عليهم، فقال موسى عليه السلام: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق

(1) إلى هنا تجد الحديث في الكافي: ج 1 ص 529 مع تغيير ما عن سليم بن قيس فراجع.
367

بيننا وبين القوم الفاسقين ".
فما اتباع هذه الأمة رجالا سودوهم وأطاعوهم لهم سوابق مع رسول الله
ومنازل قريبة منه وإصهار مقرين بدين محمد وبالقرآن حملهم الكبر والحسد أن
خالفوا إمامهم ووليهم بأعجب من قوم صاغوا من حليهم عجلا ثم عكفوا عليه
يعبدونه ويسجدون له ويزعمون أنه رب العالمين! واجتمعوا على ذلك كلهم غير
هارون وحده.
وقد بقي مع صاحبنا الذي هو من نبينا بمنزلة هارون من موسى من أهل
بيته ناس: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير، ثم رجع الزبير وثبت هؤلاء الثلاثة
مع إمامهم حتى لقوا الله.
وتتعجب يا معاوية أن سمى الله من الأئمة واحدا بعد واحد؟ قد نص
عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم وفي غير موطن، واحتج بهم عليهم
وأمرهم بطاعتهم، وأخبر أن أولهم علي بن أبي طالب عليه السلام ولي كل
مؤمن ومؤمنة من بعده وأنه خليفته فيهم ووصيه، وقد بعث رسول الله صلى الله
عليه وآله جيشا يوم مؤتة، فقال: عليكم جعفر، فإن هلك فزيد، فإن هلك
فعبد الله بن رواحة، فقتلوا جميعا أفتراه يترك الأمة ولم يبين لهم من الخليفة
بعده؟ ليختاروا هم لأنفسهم الخليفة! كأن رأيهم لأنفسهم أهدى لهم وأرشد
من رأيه واختياره! وما ركب القوم ما ركبوا إلا بعدما بينه، وما تركهم رسول الله
صلى الله عليه وآله في عمى ولا شبهة.
فأما ما قال الرهط الأربعة الذين تظاهروا على علي عليه السلام وكذبوا على
رسول الله صلى الله عليه وآله وزعموا أنه قال: " إن الله لم يكن ليجمع لنا أهل
البيت النبوة والخلافة " فقد شبهوا على الناس بشهادتهم وكذبهم ومكرهم.
قال معاوية: ما تقول يا حسن؟ قال: يا معاوية قد سمعت ما قلت وما قال
ابن عباس، العجب منك يا معاوية ومن قلة حيائك، ومن جرأتك على الله
368

حين قلت: " قد قتل الله طاغيتكم ورد الأمر إلى معدنه " فأنت يا معاوية معدن
الخلافة دوننا ويل لك يا معاوية " وللثلاثة قبلك الذين أجلسوك هذا المجلس،
وسنوا لك هذه السنة! لأقولن كلاما ما أنت أهله، ولكني أقول لتسمعه بنو أبي
هؤلاء حولي:
إن الناس قد اجتمعوا على أمور كثيرة ليس بينهم اختلاف فيها ولا تنازع
ولا فرقة، على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وعبده، والصلوات
الخمس، والزكاة المفروضة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت، ثم أشياء كثيرة
من طاعة الله التي لا تحصى ولا يعدها إلا الله. واجتمعوا على تحريم الزنا،
والسرقة، والكذب، والقطيعة، والخيانة، وأشياء كثيرة من معاصي الله
لا تحصى ولا يعدها إلا الله.
واختلفوا في سنن اقتتلوا فيها، وصاروا فرقا يلعن بعضهم بعضا، وهي
الولاية، ويبرأ بعضهم من بعض، ويقتل بعضهم بعضا، أيهم أحق وأولى بها إلا
فرقة تتبع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، فمن أخذ بما عليه أهل القبلة
الذي ليس فيه اختلاف ورد علم ما اختلفوا فيه إلى الله سلم ونجا به من النار
ودخل الجنة، ومن وفقه الله ومن عليه واحتج عليه بأن نور قلبه بمعرفة ولاة الأمر
من أئمتهم ومعدن العلم أين هو، فهو عند الله سعيد ولله ولي، وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: رحم الله امرءا علم حقا فقال فغنم، أو سكت
فسلم.
نحن نقول أهل البيت: إن الأئمة منا، وإن الخلافة لا تصلح إلا فينا، وإن
الله جعلنا أهلها في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، وإن العلم فينا ونحن
أهله، وهو عندنا مجموع كله بحذافيره، وإنه لا يحدث شئ إلى يوم القيامة حتى
أرش الخدش إلا وهو عندنا مكتوب بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وخط
علي عليه السلام بيده.
369

وزعم قوم أنهم أولى بذلك منا حتى أنت يا ابن هند! تدعي ذلك وتزعم،
إن عمر أرسل إلى أبي: إني أريد أن أكتب القرآن في مصحف، فابعث إلي بما
كتبت من القرآن، فأتاه، فقال: تضرب والله عنقي قبل أن يصل إليك، قال:
ولم؟ قال: لأن الله تعالى قال: " والراسخون في العلم " قال: إياي عنى، ولم
يعنك ولا أصحابك، فغضب عمر.
ثم قال: إن ابن أبي طالب يحسب أن أحدا ليس عنده علم غيره، من كان
يقرأ من القرآن شيئا فليأتني، فإذا جاء رجل فقرأ شيئا معه فيه آخر كتبه وإلا
لم يكتبه، ثم قالوا: قد ضاع منه قرآن كثير، بل كذبوا والله! بل هو مجموع
محفوظ عند أهله.
ثم أمر عمر قضاته وولاته: أجهدوا آراءكم واقضوا بما ترون أنه الحق، فلا
يزال هو وبعض ولاته قد وقعوا في عظيمة، فيخرجهم منها أبي ليحتج عليهم بها،
فتجتمع القضاة عند خليفتهم وقد حكموا في شئ واحد بقضايا مختلفة، فأجازها
لهم لأن الله لم يؤته الحكمة وفصل الخطاب.
وزعم كل صنف من مخالفينا من أهل هذه القبلة: أن معدن الخلافة
والعلم دوننا، فنستعين بالله على من ظلمنا وجحدنا حقنا وركب رقابنا وسن
للناس علينا ما يحتج به مثلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
إنما الناس ثلاثة: مؤمن يعرف حقنا ويسلم لنا ويأتم بنا، فذلك ناج
محب لله ولي، وناصب لنا العداوة يتبرأ منا ويلعننا ويستحل دماءنا ويجحد
حقنا ويدين الله بالبراءة منا، فهذا كافر مشرك فاسق، وإنما كفر وأشرك من
حيث لا يعلم، كما سبوا الله [عدوا] بغير علم، كذلك يشرك ما بالله بغير علم.
ورجل آخذ بما لا يختلف فيه ورد علم ما أشكل عليه إلى الله مع ولايتنا ولا يأتم
بنا ولا يعادينا ولا يعرف حقنا فنحن نرجو أن يغفر الله له ويدخله الجنة، فهذا
مسلم ضعيف.
370

فلما سمع ذلك معاوية أمر لكل واحد منهم بمائة ألف غير الحسن والحسين
وابن جعفر، فإنه أمر لكل واحد منهم بألف ألف درهم (1).
(241)
بنو هاشم وبنو أمية
خاصم عمرو بن عثمان بن عفان أسامة بن زيد إلى معاوية بن أبي سفيان
مقدمه المدينة في حائط من حيطان المدينة، فارتفع الكلام بينهما حتى تلاحيا،
فقال عمرو: تلاحيني وأنت مولاي! فقال أسامة: والله ما أنا بمولاك، ولا يسرني
أني في نسبك، مولاي رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: ألا تسمعون
ما يستقبلني به هذا العبد؟!
ثم التفت إليه عمرو، فقال: يا ابن السوداء ما أطغاك! فقال: أنت أطغى
مني، ولم تعيرني بأمي؟ وأمي والله خير من أمك! وهي " أم أيمن " مولاة
رسول الله صلى الله عليه وآله بشرها رسول الله في غير موطن بالجنة، وأبي خير من
أبيك " زيد بن حارثة " صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وحبه ومولاه قتل
شهيدا بمؤتة على طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنا أمير على
أبيك وعلى من هو خير من أبيك على أبي بكر وعمر وعلى أبي عبيدة وسروات
المهاجرين والأنصار، فأنى تفاخرني يا ابن عثمان؟
فقال عمرو: يا قوم أما تسمعون ما يجيبني به هذا العبد؟ فقام مروان بن
الحكم، فجلس إلى جنب عمرو بن عثمان، فقام الحسن بن علي عليهما السلام
فجلس إلى جنب أسامة، فقام سعيد بن العاص، فجلس إلى جنب عمرو، فقام
عبد الله بن جعفر، فجلس إلى جنب أسامة، فلما رآهم معاوية قد صاروا

(1) البحار: ج 44 ص 97 - 102 عن الاحتجاج. وج 36 ص 231 عن كمال الدين والخصال وعيون
الأخبار، وغيبة النعماني نبذا منه وراجع قاموس الرجال: ج 6 ص 39 عن سليم، وسيأتي ج 2 ص 67 عن
البحار ج 8.
371

فريقين من بني هاشم وبني أمية، خشي أن يعظم البلاء، فقال: إن عندي من
هذا الحائط لعلما. قالوا: فقل بعلمك، فقد رضينا، فقال معاوية: أشهد أن
رسول الله صلى الله عليه وآله جعله لا سامة بن زيد، قم يا أسامة، فاقبض
حائطك هنيئا مريئا. فقام أسامة والهاشميون فجزوا معاوية خيرا.
فأقبل عمرو بن عثمان على معاوية، فقال: لا جزاك الله عن الرحم خيرا!
ما زدت على أن كذبت قولنا، وفسخت حجتنا، وأشمت بنا عدونا. فقال
معاوية: ويحك يا عمرو! إني لما رأيت هؤلاء الفتية من بني هاشم قد اعتزلوا
ذكرت أعينهم تدور إلي من تحت المغافر بصفين وكاد يختلط علي عقلي،
وما يؤمنني يا ابن عثمان منهم؟ وقد أحلوا بأبيك ما أحلوا ونازعوني مهجة نفسي
حتى نجوت منهم بعد نبأ عظيم وخطب جسيم، فانصرف، فنحن مخلفون لك
خيرا من حائطك إن شاء الله (1).
(242)
عبيد الله بن عباس وبسر
اجتمع عبيد الله بن العباس من بعد - أي بعد قتل بسر ابنيه في اليمن - وبسر
ابن أرطاة عند معاوية، فقال معاوية لعبيد الله: أتعرف هذا الشيخ قاتل
الصبيين؟ قال بسر: نعم أنا قاتلهما، فمه؟ فقال عبيد الله: لو أن لي سيفا! قال
بسر: فهاك سيفي - وأومأ إلى سيفه - فزبره معاوية وانتهره وقال: أف لك من
شيخ ما أحمقك! تعمد إلى رجل قد قتلت ابنيه فتعطيه سيفك! كأنك لا تعرف
أكباد بني هاشم، والله لو دفعته إليه لبدأ بك، وثنى بي! فقال عبيد الله: بل
والله كنت أبدء بك واثني به! (2).

(1) البحار: ج 44 ص 107 عن أمالي المفيد - رحمه الله - وأمالي الشيخ - رحمه الله -: ج 1 ص 216.
(2) البحار: ج 44 ص 129 عن أمالي المفيد - رحمه الله - ومجالس الشيخ - رحمه الله -: ج 1 ص 75
وسيأتي عن ابن أبي الحديد برواية أخرى.
372

(243)
بنو هاشم وبنو أمية
في دفن الإمام السبط الأكبر الحسن عليه السلام في حديث منع بني أمية
وأن الحسين أمر أن يفتح البيت فحال دون ذلك مروان بن الحكم وآل أبي
سفيان ومن حضر هناك من ولد عثمان بن عفان، وقالوا: يدفن أمير المؤمنين
الشهيد القتيل ظلما بالبقيع بشر مكان ويدفن الحسن مع رسول الله؟! لا يكون
ذلك أبدا حتى تكسر السيوف بيننا وتنقصف الرماح وينفده النبل.
فقال الحسين عليه السلام: أما والله الذي حرم مكة، للحسن بن علي وابن
فاطمة أحق برسول الله صلى الله عليه وآله وببيته ممن أدخل بيته بغير إذنه، وهو
والله أحق به من حمال الخطايا، مسير أبي ذر رحمه الله، الفاعل بعمار ما فعل،
وبعبد الله ما صنع، الحامي الحمى، المأوي لطريد رسول الله صلى الله عليه وآله
لكنكم صرتم بعده الأمراء وتابعكم على ذلك الأعداء وأبناء الأعداء.
قال: فحملناه فأتينا به قبر أمه فاطمة عليها السلام فدفناه إلى جنبها رضي
الله عنه وأرضاه.
قال ابن عباس: وكنت أول من انصرف فسمعت اللغط وخفت أن يعجل
الحسين على من قد أقبل، ورأيت شخصا علمت الشر فيه، فأقبلت مبادرا، فإذا
أنا بعائشة في أربعين راكبا على بغل مرحل! تقدمهم وتأمرهم بالقتال.
فلما رأتني قالت: إلي إلي با ابن عباس! لقد اجترأتم علي في الدنيا
تؤذونني مرة بعد أخرى، تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحب. فقلت:
وا سوأتاه! يوم على بغل، ويوم على جمل، تريدين أن تطفئي نور الله، وتقاتلي
أولياء الله، وتحولي بين رسول الله وبين حبيبه أن يدفن معه! ارجعي فقد كفى
الله عز وجل المؤونة ودفن الحسن عليه السلام إلى جنب أمه، فلم يزدد من الله
373

تعالى إلا قربا وما ازددتم منه والله إلا بعدا، يا سوأتاه! انصرفي فقد رأيت
ما سرك.
قال: فقطبت في وجهي ونادت بأعلى صوتها: أو ما نسيتم الجمل يا ابن
عباس؟ إنكم لذوو أحقاد، فقلت: أم والله ما نسيته أهل السماء، فكيف تنساه
أهل الأرض؟ فانصرفت وهي تقول:
فألقت عصاها واستقرت بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر (1)
(244)
بنو هاشم وبنو أمية
فلما قبض الحسن عليه السلام وضع على سريره، وانطلق به إلى مصلى
رسول الله الذي كان يصلي فيه على الجنائز، فصلي على الحسن عليه السلام
فلما أن صلي عليه حمل فأدخل المسجد.
فلما أوقف على قبر رسول الله بلغ عائشة الخبر وقيل لها: إنهم قد أقبلوا
بالحسن بن علي عليهما السلام ليدفن مع رسول الله صلى الله عليه وآله، فخرجت
مبادرة على بغل بسرج، فكانت أول امرأة ركبت في الإسلام سرجا، فوقفت
فقالت: نحوا ابنكم عن بيتي! فإنه لا يدفن فيه شئ، ولا يهتك على رسول الله
صلى الله عليه وآله حجابه.
فقال لها الحسين بن علي صلوات الله عليهما: قديما هتكت أنت وأبوك
حجاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وأدخلت بيته من لا يحب رسول الله قربه،
وإن الله سائلك عن ذلك يا عائشة! إن أخي أمرني أن أقر به من أبيه رسول الله
صلى الله عليه وآله ليحدث به عهدا.
واعلمي أن أخي أعلم الناس بالله ورسوله، وأعلم بتأويل كتابه من أن

(1) البحار: ج 44 ص 152 عن أمالي المفيد - رحمه الله - وعن الكافي.
374

يهتك على رسول الله صلى الله عليه وآله ستره، لأن الله تبارك وتعالى يقول:
" يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم " وقد أدخلت أنت
بيت رسول الله صلى الله عليه وآله الرجال بغير إذنه، وقد قال الله عز وجل:
" يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " ولعمري! لقد
ضربت أنت لأبيك وفاروقه عند إذن رسول الله صلى الله عليه وآله المعاول،
وقال الله عز وجل: " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين
امتحن الله قلوبهم للتقوى " ولعمري! لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول الله
صلى الله عليه وآله بقربهما منه الأذى، وما رعيا من حقه ما أمرهما الله به على
لسان رسول الله صلى الله عليه وآله، إن الله حرم على المؤمنين أمواتا ما حرم منهم
أحياء.
وتالله يا عائشة! لو كان هذا الذي كرهتيه من دفن الحسن عن أبيه
صلوات الله عليهما جائزا فيما بيننا وبين الله لعلمت أنه سيدفن وإن رغم
معطسك!
قال: ثم تكلم محمد بن الحنفية وقال: يا عائشة يوما على بغل، ويوما على
جمل! فما تملكين نفسك ولا تملكين الأرض عداوة لبني هاشم. قال، فأقبلت
عليه فقالت: يا الحنفية! هؤلاء الفواطم يتكلمون فما كلامك؟ فقال لها
الحسين: وأنى تبعدين محمدا من الفواطم؟! فوالله لقد ولدته ثلاث فواطم:
فاطمة بنت عمران بن عائذ بن عمرو بن مخزوم، وفاطمة بنت أسد بن هاشم،
وفاطمة بنت الأصم بن رواحة بن حجر بن [عبد] معيص بن عامر. قال:
فقالت عائشة للحسين عليه السلام: نحوا ابنكم واذهبوا به فإنكم قوم خصمون!
قال: فمضى الحسين عليه السلام إلى قبر أمه ثم أخرجه فدفنه بالبقيع (1).

(1) البحار: ج 44 ص 142 عن روضة الكافي: ص 167.
375

(245)
ابن عباس وعائشة
فلما فرغ الحسين عليه السلام من شأنه وحمله ليدفنه - الحسن عليه السلام -
مع رسول الله صلى الله عليه وآله ركب مروان بن الحكم طريد رسول الله بغلة
وأتى عائشة، فقال لها: يا أم المؤمنين! إن الحسين يريد أن يدفن أخاه الحسن مع
رسول الله صلى الله عليه وآله، والله إن دفن مع ليذهبن فخر أبيك وصاحبه عمر
إلى يوم القيامة! قالت: فما أصنع يا مروان؟ قال: الحقي به وامنعيه من أن يدفن
مع! قالت: وكيف ألحقه؟ قال: اركبي بغلتي هذه.
فنزل عن بغلته، وركبتها. وكانت تؤز الناس وبني أمية على الحسين
عليه السلام وتحرضهم على منعه مما هم به، فلما قربت من قبر رسول الله صلى
الله عليه وآله وكان قد وصلت جنازة الحسن فرمت بنفسها عن البغلة! وقالت:
والله لا يدفن الحسن هاهنا أبدا أو تجز هذه - وأومت بيدها إلى شعرها - فأراد بنو
هاشم المجادلة، فقال الحسين عليه السلام: الله الله! لا تضيعوا وصية أخي،
فاعدلوا به إلى البقيع، فإنه أقسم علي إن أنا منعت من دفنه مع جده صلى الله
عليه وآله أن لا أخاصم فيه أحدا، وأن أدفنه بالبقيع مع أمه عليها السلام، فعدلوا
به ودفنوه بالبقيع معها عليها السلام.
فقام ابن عباس رضي الله عنه وقال: يا حميراء ليس يومنا منك بواحد، يوم
على الجمل ويوم على البغلة! أما كفاك أن يقال: " يوم الجمل " حتى يقال:
" يوم البغل "؟ يوم على هذا ويوم على هذا! بارزة عن حجاب رسول الله صلى
الله عليه وآله تريدين إطفاء نور الله، والله متم نوره ولو كره المشركون، إنا لله
376

وإنا إليه راجعون. فقالت له: إليك عني، واف لك ولقومك! (1).
فلما غسله وكفنه الحسين عليه السلام وحمله على سريره وتوجه إلى قبر جده
رسول الله صلى الله عليه وآله ليجدد به عهدا، أتى مروان بن الحكم ومن معه من
بني أمية، فقال: أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبي؟
لا يكون ذلك أبدا! ولحقت عائشة على بغل، وهي تقول: ما لي ولكم؟ تريدون
أن تدخلوا بيتي من لا أحب.
فقال ابن عباس لمروان بن الحكم: لا نريد دفن صاحبنا، فإنه كان أعلم
بحرمة قبر رسول الله من أن يطرق عليه هجما، كما طرق ذلك غيره ودخل بيته
بغير إذنه، انصرف فنحن ندفنه بالبقيع كما وصى.
ثم قال لعائشة: وا سوأتاه! يوما على بغل ويوما على جمل! وفي رواية: يوما
تجملت ويوما تبغلت وإن عشت تفيلت فأخذه ابن الحجاج الشاعر البغدادي،
فقال:
يا بنت أبي بكر لا كان ولا كنت * لك التسع من الثمن وبالكل تملكت
تجملت تبغلت * وإن عشت تفيلت (2)
وفي ص 157 نقله عن الإرشاد للمفيد رحمه الله والمناقب لابن شهرآشوب
بنحو يقرب مما ذكرنا.
(246)
ابن عباس ومعاوية
عن خراش، قال: سأل معاوية ابن عباس، قال: فما تقول في علي بن أبي
طالب عليه السلام؟ قال: علي أبو الحسن عليه السلام علي، كان والله علم

(1) الخرائج: ص 154، البحار: ج 44 ص 141.
(2) البحار: ج 44 ص 154.
377

الهدى، وكهف التقى، ومحل الحجى، ومحتد الندا، وطود النهى، وعلم الورى،
ونورا في ظلمة الدجى، وداعيا إلى المحجة العظمى، ومستمسكا بالعروة الوثقى،
وساميا إلى المجد والعلى، وقائد الدين والتقى، وسيد من تقمص وارتدى، بعل
بنت المصطفى، وأفضل من صام وصلى، وأفخر من ضحك وبكى، صاحب
القبلتين، فهل يساويه مخلوق كان أبو يكون؟ كان والله كالأسد مقاتلا ولهم في
الحروب حاملا، على مبغضيه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين إلى يوم
التناد (1).
(247)
صعصعة ومعاوية
قدم وفد العراقيين على معاوية، فقد في وفد أهل الكوفة عدي بن حاتم
الطائي، وفي وفد أهل البصرة الأحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان، فقال
عمرو بن العاص لمعاوية: هؤلاء رجال الدنيا وهم شيعة علي عليه السلام
الذين قاتلوا معه يوم الجمل ويوم صفين، فكن منهم على حذر. فأمر لكل رجل
منهم بمجلس سري واستقبل القوم بالكرامة.
فلما دخلوا عليه قال لهم: أهلا وسهلا، قدمتم أرض المقدسة والأنبياء
والرسل والحشر والنشر.
فتكلم صعصعة - وكان من أحضر الناس جوابا - فقال: يا معاوية! أما قولك:
" أرض المقدسة " فإن الأرض لا تقدس أهلها، وإنما تقدسهم الأعمال
الصالحة. وأما قولك: " أرض الأنبياء والرسل " فمن بها من أهل النفاق
والشرك والفراعنة والجبابرة أكثر من الأنبياء والرسل. وأما قولك: " أرض
الحشر والنشر " فإن المؤمن لا يضره بعد المحشر والمنافق لا ينفعه قربه.

(1) البحار: ج 44 ص 112 عن الروضة والفضائل.
378

فقال معاوية: لو كان الناس كلهم أولدهم أبو سفيان لما كان فيهم إلا
كيسا رشيدا. فقال صعصعة: قد أولد الناس من كان خيرا من أبي سفيان،
فأولد الأحمق والمنافق والفاجر والفاسق والمعتوه والمجنون، آدم أبو البشر. فخجل
معاوية (1).
(248)
صعصعة ومعاوية
عن هشام بن السائب، عن أبيه، قال: خطب الناس يوما معاوية بمسجد
دمشق، وفي الجامع يومئذ من الوفود علماء قريش وخطباء ربيعة ومدارهها
وصناديد اليمن وملوكها.
فقال معاوية: إن الله تعالى أكرم خلفاءه فأوجب لهما الجنة وأنقذهم من
النار، ثم جعلني منهم، وجعل أنصاري أهل الشام الذابين عن حرم الله،
المؤيدين بظفر الله، المنصورين على أعداء الله.
قال: كان في الجامع من أهل العراق الأحنف بن قيس وصعصعة بن
صوحان، فقال الأحنف لصعصعة: أتكفيني أم أقوم إليه أنا؟ فقال صعصعة
للأحنف: بل أكفيكه أنا، ثم قام صعصعة فقال: يا ابن أبي سفيان! تكلمت
فأبلغت ولم تقصر دون ما أردت، وكيف يكون ما تقول، وقد غلبتنا قسرا،
وملكتنا تجبرا، ودنتنا بغير الحق، واستوليت بأسباب الفضل علينا. فأما
إطراؤك لأهل الشام: فما رأيت أطوع لمخلوق وأعصى لخالق منهم! قوم ابتعت
منهم دينهم وأبدانهم بالمال، فإن أعطيتهم حاموا عليك ونصروك، وإن منعتهم
قعدوا عنك ورفضوك.
قال معاوية: اسكت يا ابن صوحان! فوالله لولا أني لم أتجرع غصة غيظ

(1) البحار: ج 44 ص 123 عن الاختصاص: ص 64 - 65.
379

قط أفضل من حلم وأحمد من كرم - سيما في الكف عن مثلك والاحتمال
لذويك - لما عدت إلى مثل مقالتك! فقعد صعصعة، فأنشأ معاوية يقول:
قبلت جاهلهم حلما ومكرمة والحلم عن قدرة فضل من الكرم (1)
(249)
أبو الأسود ومعاوية
روي أن معاوية نظر إلى الحسن بن علي عليهما السلام وهو بالمدينة، وقد
احتف به خلق من قريش يعظمونه، فتداخله حسد، فدعا أبا الأسود الدؤلي
والضحاك بن قيس الفهري، فشاورهم في أمر الحسن والذي يهم به من
الكلام.
فقال له أبو الأسود: رأي أمير المؤمنين أفضل وأرى أن لا تفعل، فإن
أمير المؤمنين لن يقول فيه قولا إلا أنزله سامعوه منه به حسدا ورفعوه به صعدا،
والحسن يا أمير المؤمنين معتدل شبابه، أحضر ما هو كائن جوابه، فأخاف أن يرد
عليك كلامك بنوافذ تردع سهامك، فيقرع بذلك ظنبوبك، ويبدي به
عيوبك، فإذا كلامك فيه صار له فضلا وعليك كلا، إلا أن تكون تعرف له
عيبا في أدب، أو وقيعة في حسب، وإنه لهو المهذب، قد أصبح من صريح
العرب في غر لبابها وكريم محتدها وطيب عنصرها، فلا تفعل يا أمير المؤمنين،
الحديث (2).
(250)
حارثة بن قدامة مع معاوية
قدم حارثة بن قدامة السعدي على معاوية، ومع معاوية على السرير

(1) البحار: ج 44 ص 132 عن أمالي الشيخ رحمه الله: ج 1 ص 4 - 5.
(2) البحار: ج 44 ص 120.
380

الأحنف بن قيس والحباب المجاشعي، فقال له معاوية: من أنت؟ قال: أنا
حارثة بن قدامة، قال: وكان نبيلا، فقال له معاوية: ما عسيت أن تكون! هل
أنت إلا نحلة؟
فقال: لا تفعل يا معاوية! قد شبهتني بالنحلة، وهي والله حامية اللسعة
حلوة البصاق، ما معاوية إلا كلبة تعاوي الكلاب، وما أمية إلا تصغير أمة،
فقال معاوية: لا تفعل، قال: إنك فعلت ففعلت.
قال له: فادن اجلس معي على السرير، فقال: لا أفعل، قال: ولم؟ قال:
لأني رأيت هذين قد أماطاك عن مجلسك فلم أكن لأشاركهما.
قال له معاوية: ادن أسارك، فدنا منه، فقال: يا حارثة! إني اشتريت من
هذين الرجلين دينهما، قال: ومني فاشتر يا معاوية! قال له: لا تجهر (1).
(251)
أعرابي ومعاوية
يقال: دخل الحسين عليه السلام على معاوية وعنده أعرابي يسأله حاجة،
فأمسك وتشاغل بالحسين عليه السلام فقال الأعرابي لبعض من حضر: من
هذا الذي دخل؟ قالوا: الحسين بن علي، فقال الأعرابي للحسين عليه السلام:
أسألك يا ابن بنت رسول الله لما كلمته في حاجتي، فكلمه الحسين عليه السلام
في ذلك، فقضى حاجته، فقال الأعرابي:
أتيت العبشمي فلم يجد لي * إلى أن هزه ابن الرسول
هو ابن المصطفى كرما وجودا * ومن بطن المطهرة البتول
وإن لهاشم فضلا عليكم * كما فضل الربيع على المحول
فقال معاوية: يا أعرابي أعطيك وتمدحه؟! فقال الأعرابي: يا معاوية!

(1) البحار: ج 44 ص 133 عن أمالي المفيد.
381

أعطيتني من حقه وقضيت حاجتي بقوله (1).
(252)
هاني بن عروة وابن زياد
قال المفيد رحمه الله: وخاف هاني بن عروة عبيد الله على نفسه فانقطع عن
حضور مجلسه وتمارض، فقال ابن زياد لجلسائه: ما لي لا أرى هانئا؟ فقالوا: هو
شاك، فقال: لو علمت بمرضه لعدته. ودعا محمد بن الأشعث وأسماء بن
خارجة وعمرو بن الحجاج الزبيدي - وكانت رويحة بنت عمرو تحت هاني بن
عروة، وهي أم يحيى بن هاني - فقال لهم: ما يمنع هاني بن عروة من إتياننا؟
فقالوا: ما ندري، وقد قيل: إنه يشتكي قال: قد بلغني أنه قد برئ وهو يجلس
على باب داره، فالقوه ومروه أن لا يدع ما عليه من حقنا، فإني لا أحب أن يفسد
عندي مثله من أشراف العرب.
فأتوه حتى وقفوا عليه عشية وهو جالس على بابه، وقالوا له: ما يمنعك من
لقاء الأمير؟ فإنه قد ذكرك وقال: لو أعلم أنه شاك لعدته، فقال لهم:
الشكوى تمنعني، فقالوا: قد بلغه أنك تجلس كل عشية على باب دارك، وقد
استبطأك، والإبطاء والجفاء لا يحتمل السلطان، أقسمنا عليك لما ركبت
معنا! فدعا بثيابه فلبسها ثم دعا ببغلته فركبها حتى إذا دنا من القصر كأن
نفسه أحست ببعض الذي كان.
فقال لحسان بن أسماء بن خارجة: يا ابن الأخ إني والله لهذا الرجل
لخائف فما ترى؟ فقال: يا عم والله ما أتخوف عليك شيئا، ولم تجعل على نفسك
سبيلا؟ ولم يكن حسان يعلم في أي شئ بعث إليه عبيد الله.
فجاء هاني حتى دخل على عبيد الله بن زياد وعنده القوم، فلما طلع قال

(1) البحار: ج 44 ص 210 عن المناقب.
382

عبيد الله: أتتك بحائن رجلاه!
فلما دنا من ابن زياد - وعنده شريح القاضي - التفت نحوه، فقال:
أريد حباءه ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
وقد كان أول ما قدم مكرما له ملطفا، فقال له هاني: وما ذاك أيها الأمير؟
قال: إيه! يا هاني بن عروة، ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين
وعامة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له الجموع
والسلاح والرجال في الدور حولك! وظننت أن ذلك يخفى علي؟ قال: ما فعلت
ذلك وما مسلم عندي، قال: بلى قد فعلت! فلما كثر بينهما وأبى هاني إلا
مجاحدته ومناكرته، دعا ابن زياد معقلا - ذلك العين - فجاء حتى وقف بين
يديه، وقال: أتعرف هذا؟ قال: نعم، وعلم هاني عند ذلك أنه كان عينا عليهم
وأنه قد أتاه بأخبارهم، فأسقط في يده ساعة.
ثم راجعته نفسه، فقال: اسمع مني وصدق مقالتي، فوالله ما كذبت، والله
ما دعوته إلى منزلي ولا علمت بشئ من أمره حتى جاءني يسألني النزول،
فاستحييت من رده، وداخلني من ذلك ذمام فضيفته وآويته، وقد كان من أمره
ما بلغك، فإن شئت أن أعطيك الآن موثقا مغلظا أن لا أبغيك سوءا ولا غائلة،
ولآتينك حتى أضع يدي في يدك، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك
حتى آتيك وأنطلق إليه، فأمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض،
فأخرج من ذمامه وجواره.
فقال له ابن زياد: والله لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به! قال: لا والله
لا أجيئك به أبدا! أجيئك بضيفي تقتله؟ قال: والله لتأتيني به! قال: والله
لا آتيك به! فلما كثر الكلام بينهما، قام مسلم بن عمرو الباهلي - وليس بالكوفة
شامي ولا بصري غيره - فقال: أصلح الله الأمير! خلني وإياه حتى أكلمه، فقام
فخلا به ناحية من ابن زياد، وهما منه بحيث يراهما، فإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان.
383

فقال له مسلم: يا هاني أنشدك الله أن تقتل نفسك وأن تدخل البلاء في
عشيرتك! فوالله إني لأنفس بك عن القتل، إن هذا ابن عم القوم وليسوا قاتليه
ولا ضائريه، فادفعه إليهم، فإنه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة إنما تدفعه إلى
السلطان.
فقال هاني: والله إن علي في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي
وأنا حي صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان، والله لو لم يكن لي
إلا واحد ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه. فأخذ يناشده وهو يقول:
والله لا أدفعه إليه أبدا.
فسمع ابن زياد - لعنه الله - ذلك، فقال: أدنوه مني، فأدنوه منه، فقال:
والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك! فقال هاني: إذا والله تكثر البارقة حول
دارك! فقال ابن زياد: والهفاه عليك! أبالبارقة تخوفني؟ وهو يظن أن عشيرته
سيمنعونه. ثم قال: أدنوه مني، فأدني منه، فاستعرض وجهه بالقضيب فلم
يزل يضرب به أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسال الدماء على وجهه
ولحيته ونثر لحم جبينه وخده على لحيته، حتى كسر القضيب، وضرب هاني
يده على قائم سيف شرطي، وجاذبه [الرجل] ومنعه.
فقال عبيد الله: أحروري سائر اليوم؟ قد حل دمك، جروه، فجروه وألقوه في
بيت من بيوت الدار، وأغلقوا عليه بابه، فقال: اجعلوا عليه حرسا، ففعل ذلك
به.
فقام إليه حسان بن أسماء، فقال: أرسل غدر سائر اليوم، أمرتنا أن نجيئك
بالرجل حتى إذا جئناك به هشمت أنفه ووجهه وسيلت دماءه على لحيته
وزعمت أنك تقتله! فقال له عبيد الله: وإنك لهاهنا، فأمر به فلهز وتعتع
واجلس ناحيته، فقال محمد بن الأشعث: قد رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أم
علينا، إنما الأمير مؤدب.
384

وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئا قد قتل! فأقبل في مذحج حتى أحاط
بالقصر ومعه جمع عظيم، وقال: أنا عمرو بن الحجاج، وهذه فرسان مذحج
ووجوهها، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة، وقد بلغهم أن صاحبهم قد قتل،
فأعظموا ذلك.
فقيل لعبيد الله بن زياد: وهذه فرسان مذحج بالباب؟! فقال لشريح
القاضي: أدخل على صاحبهم فانظر إليه، ثم اخرج فأعلمهم أنه حي لم يقتل،
فدخل شريح فنظر إليه فقال هاني لما رأى شريحا: يا لله! يا للمسلمين!
أهلكت عشيرتي، أين أهل الدين؟ أين أهل المصر؟ والدماء تسيل على لحيته،
إذ سمع الضجة على باب القصر، فقال: إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي
من المسلمين، إنه إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني.
فلما سمع كلامه شريح خرج إليهم، فقال لهم: إن الأمير لما بلغه
كلامكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه، فأتيته فنطرت إليه،
فأمرني أن ألقاكم وأعرفكم أنه حي، وأن الذي بلغكم من قتله باطل.
فقال له عمرو بن الحجاج وأصحابه: أما إذ لم يقتل فالحمد لله، ثم
انصرفوا! الحديث (1).
(253)
دخول مسلم على ابن زياد
فلما دخل لم يسلم عليه بالإمرة فقال له الحرسي: ألا تسلم على الأمير؟
فقال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريد قتلي فليكثرن
سلامي عليه، فقال له ابن زياد: لعمري لتقتلن! قال: كذلك؟ قال: نعم،
قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: افعل.

(1) البحار: ج 44 ص 344 - 348 عن إرشاد المفيد.
385

فنظر مسلم إلى جلساء عبيد الله بن زياد، وفيهم عمر بن سعد بن أبي
وقاص، فقال: يا عمر! إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب لي
عليك نجح حاجتي وهي سر. فامتنع عمر أن يسمع منه، فقال له عبيد الله بن
زياد: لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمك؟ فقام معه فجلس حيث ينظر إليهما
ابن زياد.
فقال له: إن علي بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة، سبعمائة
درهم، فبع سيفي ودرعي فاقضها عني، وإذا قتلت فاستوهب جثتي من ابن
زياد فوارها، وابعث إلى الحسين عليه السلام من يرده، فإني قد كتبت إليه
أعلمه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلا.
فقال عمر لابن زياد: أتدري أيها الأمير ما قال لي؟ إنه ذكر كذا وكذا!
فقال ابن زياد: إنه لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن! أما ما له فهو له
ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحب، وأما جثته فإنا لا نبالي إذا قتلناه ما صنع بها،
وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده.
ثم قال ابن زياد: إيه ابن عقيل! أتيت الناس وهم جمع فشتت بينهم
وفرقت كلمتهم وحملت بعضهم على بعض، قال: كلا! لست لذلك أتيت،
ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم وعمل فيهم
أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى الكتاب، فقال له ابن
زياد: " وما أنت وذاك يا فاسق! لم لم تعمل فيهم بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب
الخمر؟ قال مسلم: أنا أشرب الخمر؟ أما والله! إن الله ليعلم أنك غير صادق
وأنك قد قلت بغير علم، وإني لست كما ذكرت، وإنك أحق بشرب الخمر
مني، وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغا، فيقتل النفس التي حرم الله
قتلها، ويسفك الدم الذي حرم الله على الغصب والعداوة وسوء الظن وهو يلهو
ويلعب كأن لم يصنع شيئا.
386

فقال له ابن زياد: يا فاسق! إن نفسك منتك ما حال الله دونه، ولم يرك
الله له أهلا، فقال مسلم: فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله؟ فقال ابن زياد:
أمير المؤمنين يزيد! فقال مسلم: الحمد لله على كل حال، رضينا بالله حكما بيننا
وبينك، فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام
من الناس.
فقال له مسلم: أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن، وأنك
لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة، لا أحد أولى بها منك.
فأقبل ابن زياد يشتمه، ويشتم الحسين وعليا وعقيلا، وأخذ مسلم
لا يكلمه، الحديث (1).
(254)
سودة ومعاوية
روي أن سودة بنت عمارة الهمدانية دخلت على معاوية بعد موت علي،
فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين، وآل أمره إلى أن قال: ما حاجتك؟
قالت: إن الله مسائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يتقدم
علينا من قبلك من يسمو بمكانك ويبطش بقوة سلطانك، فيحصدنا حصيد
السنبل ويدوسنا دوس الحرمل، يسومنا الخسف ويذيقنا الحتف، هذا بسر بن
أرطاة قدم علينا فقتل رجالنا وأخذ أموالنا، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة،
فإن عزلته عنا شكرناك، وإلا كفرناك.
فقال معاوية: إياي تهددين بقومك يا سودة! لقد هممت أن أحملك على
قتب أشوس فأردك إليه، فينفذ فيك حكمه، فأطرقت سودة ساعة، ثم قالت:
صلى الإله على روح تضمنها * قبر فأصبح العدل فيه مدفونا

(1) البحار: ج 44 ص 355، راجع قاموس الرجال: ج 9 ص 292 في ترجمته.
387

قد حالف الحق لا يبغي به بدلا * فصار بالحق والإيمان مقرونا
فقال معاوية: من هذا يا سودة؟ قالت: هو والله أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام، والله لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا فجار علينا،
فصادفته قائما يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته، ثم أقبل علي برحمة ورفق
ورأفة وتعطف، وقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم فأخبرته الخبر، فبكى ثم
قال: " اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، وإني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك
حقك " ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم... الحديث (1).
نورده عن العقد الفريد أيضا لاشتماله على الزيادة:
وفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر [الأسك] الهمدانية على معاوية بن أبي
سفيان فاستأذنت عليه، فأذن لها، فلما دخلت عليه سلمت، فقال لها: كيف
أنت يا ابنة الأشتر؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين. قال لها: أنت القائلة لأخيك:
شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة * يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر عليا والحسين ورهطه * واقصد لهند وابنها بهوان
إن الإمام أخو النبي محمد * علم الهدى ومنارة الإيمان
فقه الحتوف وسر أمام لوائه * قدما بأبيض صارم وسنان
قالت: يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد
نسي. قال: هيهات! ليس مثل مقام أخيك ينسى، قالت: صدقت والله

(1) راجع كشف الغمة: ص 50. والعقد الفريد: ج 2 ص 102. والبحار: ج 41 ص 119. والإمامة
والسياسة: ج 1 ص 53. ونور الأبصار: ص 109. والفصول المهمة لابن الصباغ: ص 129. ومطالب
السؤول: ص 33، وبلاغات النساء: ص 30. ومحادثات النساء: ص 73.
388

يا أمير المؤمنين ما كان أخي خفي المقام ذليل المكان، ولكن كما قالت الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار
(وفي بلاغات النساء: قالت: إي الله! ما مثلي من رغب عن الحق أو
اعتذر بالكذب. قال لها: فما حملك على ذلك؟ قالت: حب علي عليه السلام
واتباع الحق، قال: فوالله ما أرى عليك من أثر علي شيئا، قالت: أنشدك الله
يا أمير المؤمنين! وإعادة ما مضى وتذكار ما قد نسي، قال: هيهات! ما مثل مقام
أخيك ينسى، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك، قالت: صدق
فوك، لم يكن أخي ذميم المقام ولا خفي المكان، كان والله كقول الخنساء:)
وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته، قال: قد فعلت، فقولي حاجتك.
قالت: يا أمير المؤمنين إنك للناس سيد ولأمورهم مقلد، والله سائلك عما
افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض [ينوء خ] بعزك
ويبسط سلطانك [يبطش بسلطانك خ] فيحصدنا حصاد السنبل ويدوسنا
دياس البقر ويسومنا الخسيسة ويسألنا [يسلبنا خ] الجليلة، هذا (بسر) بن
أرطاة قدم بلادي [قدم علينا من قبلك خ] وقتل رجالي وأخذ مالي (يقول لي
فوهي بما استعصم الله منه وألجأ إليه فيه) ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة،
فإما عزلته عنا فشكرناك، وإما لا فعرفناك.
فقال معاوية: إياي تهددين بقومك، والله لقد هممت أن أردك إليه على
قتب أشرس، فينفذ حكمه فيك، فسكتت ثم قالت:
صلى الإله على روح تضمنه * قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به ثمنا [بدلاخ] * فصار بالحق والإيمان مقرونا
قال: ومن ذلك؟ قالت: علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى، قال: ما أرى
عليك منه أثرا، قال: بلى أتيته يوما في رجل ولاه صدقاتنا، فكان بيننا وبينه
ما بين الغث والسمين، فوجدته قائما يصلي فانفتل من الصلاة، ثم قال برأفة
389

وتعطف: ألك حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل، فبكى، ثم رفع يديه إلى السماء،
فقال: " اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا ترك حقك " ثم أخرج من جيبه
قطعة من جراب، فكتب فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم: قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان
بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقية الله
خير لكم إن كنتم مؤمنين * وما أنا عليكم بحفيظ. إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ
بما في يديك حتى يأتي من يقبضه منك والسلام ".
فأخذته منه يا أمير المؤمنين، ما خزمه بخزام، ولا ختمه بختام.
فقال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها والعدل عليها، فقالت: ألي خاصة
أم لقومي عامة؟ قال: وما أنت وغيرك؟ قالت: هي والله إذا الفحشاء واللؤم
إن لم يكن عدلا شاملا، وألا يسعني ما يسع قومي، قال: هيهات! لمظكم ابن
أبي طالب الجرأة [على السلطان، فبطيئا ما تفطمون، وغركم قوله:
فلو كنت بوابا على باب جنة * لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
وقوله:
ناديت همدان والأبواب مغلقة * ومثل همدان سنى فتحة الباب
كالهندواني لم تفلل مضاربه * وجه جميل وقلب غير وجاب
اكتبوا لها بحاجتها (1).
أقول: أشرنا إلى بعض الخلاف بين نسختي العقد الفريد وبلاغات
النساء. ونقله في قاموس الرجال عن البلاغات (2).

(1) العقد الفريد: ج 1 ص 325.
(2) قاموس الرجال: ج 1 ص 461 عن بلاغات النساء.
390

(255)
بكارة الهلالية ومعاوية
محمد بن عبد الله الخزاعي، عن الشعبي، قال:
استأذنت بكارة الهلالية على معاوية بن أبي سفيان، فأذن لها، وهو يومئذ
بالمدينة، فدخلت عليه - وكانت امرأة قد أسنت وعشى بصرها وضعفت قوتها
ترعش بين خادمين لها - فسلمت وجلست، فرد عليها معاوية السلام، وقال:
كيف أنت يا خالة؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: غيرك الدهر! قالت:
كذلك هو ذو غير، ومن عاش كبر، ومن مات قبر.
قال عمرو بن العاص: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
يا زيد دونك فاستثر من دارنا * سيفا حساما في التراب دفينا
قد كنت أذخره ليوم كريهة (1) * فاليوم أبرزه الزمان مصونا
قال مروان: وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين:
أترى ابن هند للخلافة مالكا * هيهات! ذاك وإن أراد بعيد
منتك نفسك في الخلاء ضلالة * أغراك عمرو للشقاء وسعيد
قال سعيد بن العاص: هي والله القائلة:
قد كنت أطمع أن أموت ولا أرى * فوق المنابر من أمية خاطبا
فالله أخر مدتي فتطاولت * حتى رأيت من الزمان عجائبا
في كل يوم للزمان خطيبهم * بين الجميع لآن أحمد عائبا
ثم سكتوا.
فقالت: يا معاوية (2) كلامك أعشى بصري وقصر حجتي، أنا والله قائلة

(1) قد كان مذخورا لكل عظيمة " عن البلاغات ".
(2) في البلاغات: فقالت بكارة: نبحتني كلابك يا أمير المؤمنين واعتورتني، فقصر محجني وكثر عجبي
وعشى بصري وإنا والله.
391

ما قالوا، وما خفي عليك مني أكثر! فضحك وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك،
أذكري حاجتك، قالت: الآن فلا (1).
(256)
الزرقاء مع معاوية
عبيد الله بن عمرو الغساني عن الشعبي، قال: حدثني جماعة من بني أمية
ممن كان يسمر مع معاوية قالوا:
بينما معاوية ذات ليلة مع عمرو وسعيد وعتبة والوليد، إذ ذكروا الزرقاء
بنت عدي [بن غالب] بين قيس الهمدانية [امرأة كانت من أهل الكوفة]
وكانت شهدت مع قومها صفين، فقال: أيكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن
نحفظه يا أمير المؤمنين، قال: فأشيروا علي في أمرها، فقال بعضهم: نشير عليك
بقتلها، قال: بئس الرأي أشرتم به علي! أيحسن بمثلي أن يتحدث عنه أنه قتل
امرأة بعد ما ظفر بها؟ فكتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي
محارمها وعدة من فرسان قومها، وأن يمهد لها وطاء لينا ويسترها بستر خصيف
يوسع لها في النفقة، فأرسل إليها فأقرأها الكتاب.
فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار إلى فإني لا آتيه، وإن كان حتم
فالطاعة أولى.
فحملها وأحسن جهازها على ما أمر به، فلما دخلت على معاوية قال:
مرحبا وأهلا! قدمت خير مقدم قدمه وافد، كيف حالك؟ قالت: بخير
يا أمير المؤمنين أدام الله لك النعمة، قال: كيف كنت في مسيرك؟ قالت:
ربيبة بيت أو طفلا ممهدا، قال: بذلك أمرناهم، أتدرين فيم بعثت إليك؟

(1) العقد الفريد: ج 2 ص 105، وراجع بلاغات النساء: ص 35، ومحادثات النساء: ص 91.
392

قالت: أنى لي بعلم ما لم أعلم؟ قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر والواقفة بين
الصفين [يوم صفين] تحضين على القتال وتوقدين الحرب؟ فما حملك على ذلك؟
قالت: يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب، ولم يعد ما ذهب، والدهر ذو غير،
ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعد الأمر، قال لها معاوية: [صدقت] أتحفظين
كلامك؟ [يوم صفين] قالت: لا والله! لا أحفظه، ولقد أنسيته، قال: لكني
أحفظه، لله أبوك! حين تقولين:
أيها الناس! ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب
الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها من فتنة عمياء صماء بكماء.
لا تسمع لنا عقها ولا تنساق لقائدها، إن المصباح لا يضئ في الشمس، ولا تنير
الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، ألا من استرشدنا أرشدناه،
ومن سألنا أخبرناه. أيها الناس! إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرا
يا معشر المهاجرين [والأنصار] على الغصص، فكان قد اندمل شعب الشتات،
والتأمت كلمة العدل، ودمغ الحق باطله، فلا يجهلن أحد، فيقول: كيف
[العدل] وأنى؟ ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ألا وإن خضاب النساء الحناء
وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم ما بعده، والصبر خير في الأمور عواقبا، إيها
في الحرب قدما غير ناكصين ولا متشاكسين.
ثم قال لها: والله يا زرقاء! لقد شركت عليا في كل دم سفكه.
قالت: أحسن الله بشارتك وأدام سلامتك! فمثلك بشر بخير وسر جليسه،
قال لها: أو يسرك ذلك؟ قالت: نعم والله لقد سررت بالخير، فأنى لي بتصديق
الفعل؟ فضحك معاوية وقال: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له
في حياته! اذكري حاجتك.
قالت: يا أمير المؤمنين آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا،
ومثلك أعطى عن غير مسألة وجاد من غير طلبة، قال: صدقت! وأمر لها وللذين
393

جاءوا معها بجوائز وكسا (1).
(257)
أم سنان ومعاوية
حبس مروان [بن الحكم] وهو والي المدينة غلاما من بني ليث في جناية
جناها، فأتته جدة الغلام [أم أبيه] وهي أم سنان بنت خيثمة بن خرشة
المذحجية، فكلمته في الغلام، فأغلظ [لها] مروان.
فخرجت إلى معاوية: فدخلت عليه فانتسبت، فعرفها، فقال لها: مرحبا
بابنة خيثمة! ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تشتميننا وتحضين علينا عدونا؟
قالت: إن لبني عبد مناف أخلاقا طاهرة، وأحلاما وافرة، لا يجهلون بعد علم،
ولا يسفهون بعد حلم، ولا ينقمون بعد عفو، وإن أولى الناس باتباع ما سن آباؤه
لأنت. قال: صدقت نحن كذلك، فكيف قولك:
عزب الرقاد فمقلتي لا ترقد * والليل يصعد بالهموم ويورد
يا آل مذحج لا مقام فشمروا * إن العدو لآل أحمد يقصد
هذا علي كالهلال تحفه * وسط السماء من الكواكب أسعد
خير الخلائق وابن عم محمد * إن يهدكم بالنور منه تهتدوا
ما زال مذ شهد الحروب مظفرا * والنصر فوق لوائه ما يفقد
قالت: كان ذلك يا أمير المؤمنين، وأرجو أن تكون لنا خلفا [بعده] فقال:
رجل من جلسائه: كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة:
أما هلكت أبا الحسين فلم تزل * بالحق تعرف هاديا مهديا
فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت * فوق الغصون حمامة قمريا

(1) العقد الفريد: ج 2 ص 106. وبلاغات النساء: ص 32 وأكملناه من البلاغات. وراجع
قاموس الرجال: ج 10 ص 440. ومحادثات النساء: ص 76.
394

قد كنت بعد محمد خلفا كما * أوصى إليك بنا فكنت وفيا
فاليوم لا خلف يؤمل بعده * هيهات! نأمل بعده أنسيا
قالت: يا أمير المؤمنين لسان نطق وقول صدق! ولئن تحقق [فيك] ما ظننا
فحظك الأوفر، والله ما ورثك الشناءة في قلوب المسلمين إلا هؤلاء، فأدحض
مقالتهم وأبعد منزلتهم، فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربا ومن المؤمنين
حبا.
قال: وإنك لتقولين ذلك؟ قالت: سبحان الله! والله ما مثلك مدح بباطل
ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا، كان والله
علي أحب إلينا منك، وأنت أحب إلينا من غيرك، قال: ممن؟ قالت: من
مروان بن الحكم وسعيد بن العاص، قال: وبم استحققت ذلك عندك؟
قالت: بسعة حلمك وكريم عفوك، قال: فإنهما يطمعان في ذلك، قالت: هما
والله من الرأي على ما كنت عليه لعثمان بن عفان - رحمه الله - قال: والله لقد
قاربت! فما حاجتك؟
قالت: يا أمير المؤمنين، إن مروان تبنك بالمدينة تبنك من لا يريد منها
البراح، لا يحكم بعدل ولا يقضي بسنة، يتتبع عثرات المسلمين، ويكشف
عورات المؤمنين، حبس ابن ابني فأتيته، فقال: كيت وكيت، فألقمته أخشن
من الحجر، وألعقته أمر من الصاب، ثم رجعت إلى نفسي باللائمة وقلت: لم
لا أصرف ذلك إلى نم هو أولى بالعفو منه، فأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في
أمري ناظرا وعليه معديا.
قال: صدقت، لا أسألك عن ذنبه ولا عن القيام بحجته، اكتبوا لها بإطلاقه.
قالت: يا أمير المؤمنين وأنى لي بالرجعة وقد نفذ زادي وكلت راحلتي، فأمر
395

لها براحلة [موطأة] وخمسة آلاف [درهم] (1).
(258)
عكرشة عند معاوية
دخلت عكرشة بنت الأطرش بن رواحة على معاوية متوكئة على عكاز لها،
فسلمت عليه بالخلافة ثم جلست، فقال لها معاوية: الآن يا عكرشة صرت
عندك أمير المؤمنين؟! قالت: نعم إذ لا علي حي.
قال: ألست المتقلدة حمائل السيف بصفين وأنت واقفة بين الصفين
تقولين: أيها الناس! عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إن الجنة
لا يرحل عنها من قطنها، ولا يهرم من سكنها، ولا يموت من دخلها، فابتاعوها بدار
لا يدوم نعيمها ولا تنصرم همومها، وكونوا قوما مستبصرين في دينهم مستظهرين
بالصبر على طلب حقهم، إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب غلف القلوب،
لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة، دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى
الباطل فلبوه، فالله الله عباد الله في دين الله! وإياكم والتواكل، فإن ذلك
ينقض عرى الإسلام ويطفئ نور الحق، هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى،
يا معشر المهاجرين والأنصار! امضوا على بصيرتكم واصبروا على عزيمتكم،
فكأني بكم غدا وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تصقع صقع البقر
[وتروث روث العتاق] فكأني أراك على عصاك هذه وقد انكفأ عليك
العسكران، يقولون: هذه عكرشة بنت الأطرش بن رواحة، فإن كدت لتقتلين
أهل الشام لولا قدر الله، وكان أمر الله قدرا مقدورا، فما حملك على ذلك؟
قالت: يا أمير المؤمنين [قال الله تعالى]: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن

(1) العقد الفريد: ج 2 ص 108، وراجع بلاغات النساء: ص 63، وقاموس الرجال: ج 10
ص 401، محادثات النساء: ص 78.
396

أشياء إن تبد لكم تسؤكم " وإن اللبيب إذا كره أمرا لا يحب إعادته.
قال: صدقت فاذكري حاجتك [قالت]: إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من
أغنيائنا فترد على فقرائنا، وإنا قد فقدنا ذلك، فما يجبر لنا كسير ولا ينعش لنا
فقير، فإن كان ذلك عن رأيك. فمثلك من انتبه عن الغفلة وراجع التوبة وإن
كان عن غير رأيك، فما مثلك من استعان بالخونة ولا استعمل الظلمة.
قال معاوية: يا هذه إنه ينوبنا من أمور رعيتنا أمور تنبثق وبحور تنفهق،
قالت: يا سبحان الله! والله ما فرض الله لنا حقا فجعل فيه ضررا على غيرنا،
وهو علام العيوب.
قال معاوية: [هيهات] بأهل العراق! نبهكم علي بن أبي طالب فلن
تطاقوا. ثم أمر برد صدقاتهم فيهم وإنصافها (1).
(259)
الدارمية الحجونية ومعاوية
سهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه قال:
حج معاوية فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون يقال لها:
دارمية الحجونية - وكانت سوداء كثيرة اللحم - فأخبر بسلامتها، فبعث إليها،
فجيئ بها. فقال: ما حالك يا ابنة حام؟ فقالت: لست لحام إن عبتني، أنا امرأة
من بني كنانة.
قال: صدقت، أتدرين لم بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله،
قال: بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتني وواليته وعاديتني؟
قالت: أو تعفيني [يا أمير المؤمنين] قال: لا أعفيك، قالت: أما إذا أبيت فإني

(1) العقد الفريد: ج 2 ص 108 - 111 وبلاغات النساء: ص 71 وقاموس الرجال: ج 11 ص 2
عنه. ومحادثات النساء: ص 81 وفتوح ابن أعثم الكوفي: ج 3 ص 101 - 105.
397

أحببت عليا على عدله في الرعية وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتالك من هو
أولى منك بالأمر وطلبتك ما ليس لك بحق، وواليت عليا على ما عقد له
رسول الله صلى الله عليه وآله من الولاء، وحبه المساكين، وإعظامه لأهل
الدين، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهواء.
قال: صدقت فلذلك انتفخ بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك،
قالت: يا هذا بهند والله كان يضرب المثل في ذلك لأبي.
قال معاوية: يا هذه اربعي، فإنا لم نقل إلا خيرا، إنه إذا انتفخ بطن المرأة
تم خلق ولدها، وإذا عظم ثدياها تروى رضيعها، وإذا عظمت عجيزتها رزن
مجلسها، فرجعت وسكتت.
قال لها: يا هذه هل رأيت عليا؟ قالت: إي والله! قال: فكيف رأيته؟
قالت: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك.
قال: فهل سمعت كلامه؟ قالت: نعم والله! فكان يجلو القلب من العمى
كما يجلو الزيت صداء الطست، قال: صدقت، فهل لك من حاجة؟ قالت: أو
تفعل إذا سألتك؟ قال: نعم، قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها،
قال: تصنعين بها ماذا؟ قال: أغذوا بألبانها الصغار وأستحيي بها الكبار،
وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر.
قال: فإن أعطيتك فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟ قالت:
[ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك يا] سبحان الله!
أو دونه، فأنشأ معاوية يقول:
إذ لم أعد بالحلم مني عليكم * فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم
خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد * جزاك على حرب العداوة بالسلم
ثم قال: أما والله لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئا، قالت: لا والله!
398

ولا وبرة واحدة من مال المسلمين (1).
(260)
أم الخير عند معاوية
عبيد الله بن عمر الغساني، عن الشعبي، قال:
كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم الخير بنت الحريش بن
سراقة البارقي برحلها، وأعلمه أنه مجازيه بقولها فيه بالخير خيرا وبالشر شرا، فلما
ورد عليه كتابه ركب إليها فأقرأها كتابه.
فقالت: أما أنا فغير زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب، ولقد كنت أحب
لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري. فلما شيعها وأراد مفارقتها، قال لها:
يا أم الخير إن أمير المؤمنين كتب إلي أنه مجازيني بالخير خيرا وبالشر شرا فما لي
عندك؟ قالت: يا هذا لا يطمعنك برك بي أن أسرك بباطل، ولا تؤيسك
معرفتي بك أن أقول فيك غير الحق.
فسارت خير مسير حتى قدمت على معاوية، فأنزلها مع الحرم، ثم أدخلها
عليه في اليوم الرابع وعنده جلساؤه، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة
الله وبركاته، فقال لها: وعليك السلام يا أم الخير بحق ما دعوتني بهذا الاسم!
قالت: يا أمير المؤمنين [مه! فإن بديهة السلطان مدحضة لما يحب علمه و] لكل
أجل كتاب.
قال: صدقت، فكيف حالك يا خالة؟ وكيف كنت في مسيرك؟ قالت:
لم أزل يا أمير المؤمنين في خير وعافية حتى صرت إليك، فأنا في مجلس أنيق عند

(1) العقد الفريد: ج 3 ص 113. وبلاغات النساء: ص 72، والغدير: ج 10 ص 166 ط 1 عنهما
وعن صبح الأعشى: ج 1 ص 259. وربيع الأبرار للزمخشري: الباب 41. والبحار: ج 8 ص 534 ط
الكمباني: عن العقد. وقاموس الرجال: ج 10 ص 436. ومحادثات النساء: ص 88.
399

ملك رفيق.
قال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم، قالت: يا أمير المؤمنين يعيذك الله من
دحض المقال وما تردى عاقبته.
قال: ليس هذا أردنا، أخبرينا كيف كان كلامك إذ قتل عمار بن ياسر؟
قالت: لم أكن زورته قبل ولا رويته بعد، وإنما كانت كلمات نفثها لساني
عند الصدمة، فإن أحببت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت [قال: لا أشاء
ذلك]
فالتفت معاوية إلى جلسائه، فقال: أيكم يحفظ كلامها؟ فقال رجل منهم
أنا أحفظ بعض كلامها يا أمير المؤمنين قال: هات، قال: كأني بها وعليها برد
زبيدي كثيف النسيج وهي على جمل أرمك [وقد أحيط حولها] وبيدها سوط
منتشر الضفيرة، وهي كالفحل يهدر في شقشقته، تقول:
يا أيها الناس اتقوا ربكم، إن زلزلة الساعة شئ عظيم، إن الله قد أوضح
لكم الحق وأبان الدليل وبين السبيل ورفع العلم، ولم يدعكم في عمياء [مبهمة
ولا سوداء] مدلهمة فأين تريدون رحمكم الله؟ أفرارا عن أمير المؤمنين؟ أم فرارا
من الزحف؟ أم رغبة عن الإسلام؟ أم ارتدادا عن الحق؟ أما سمعتم الله جل
ثناؤه يقول: " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو
أخباركم " ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصبر وضعف
اليقين وانتشرت الرغبة، وبيدك يا رب أزمة القلوب، فاجمع اللهم بها الكلمة
على التقوى، وألف القلوب على الهدى، واردد الحق إلى أهله، هلموا رحمكم الله
إلى الإمام العادل والرضي التقي والصديق الأكبر، إنها أحن بدرية وأحقاد
جاهلية [وضغائن أحدية] وثب بها واثب (1) حين الغفلة ليدرك ثارات بني

(1) في بلاغات النساء: معاوية.
400

عبد شمس.
ثم قالت:
قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون، صبرا يا معشر المهاجرين
والأنصار! قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من دينكم، فكأني بكم غدا وقد
لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة فرت من قسورة، لا تدري أين يسلك بها من
فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى [وباعوا البصيرة
بالعمى] وعما قليل ليصبحن نادمين، حين تحل بهم الندامة، فيطلبون الإقالة
ولات حين مناص، إنه من ضل والله عن الحق وقع في الباطل، ألا إن أولياء
الله استصغروا عمر الدنيا فرفضوها، واستطابوا الآخرة فسعوا لها، فالله الله أيها
الناس! قبل أن تبطل الحقوق وتعطل الحدود [ويظهر الظالمون] وتقوى كلمة
الشيطان، فإلى أين تريدون رحمكم الله؟ عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه
وآله، وصهره وأبي سبطيه؟ خلق من طينته، وتفرع من نبعته [وخصه بسره]
وجعله باب مدينته، وأبان ببغضه المنافقين، وها هو ذا مفلق الهام ومكسر
الأصنام، صلى والناس مشركون، وأطاع والناس كارهون، فلم يزل في ذلك
حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وهزم الأحزاب، وقتل الله به أهل
خيبر، وفرق به جمع هوازن، فيا لها من وقايع! زرعت في قلوب نفاقا وردة
وشقاقا، وزادت المؤمنين إيمانا، قد اجتهدت في القول وبالغت في النصيحة،
وبالله التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله.
فقال معاوية: يا أم الخير ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي، ولو قتلتك
ما حرجت في ذلك.
قالت: والله ما يسوءني أن يجري قتلي على يدي من يسعدني الله بشقائه.
قال: هيهات يا كثيرة الفضول! ما تقولين في عثمان بن عفان رحمه الله؟
قالت: وما عسيت أن أقول في عثمان؟ استخلفه الناس وهم به راضون، وقتلوه
401

وهم له كارهون.
قال معاوية: يا أم الخير هذا أصلك الذي تبنين عليه؟ قالت: لكن الله يشهد
وكفى بالله شهيدا، ما أردت بعثمان نقصا ولكن كان سابقا إلى الخير وإنه لرفيع
الدرجة غدا [قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول
في طلحة اغتيل من مأمنه وأتى من حيث لم يحذر وقد وعده رسول الله صلى الله
عليه وآله الجنة] قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت: وما أقول في ابن عمة
رسول الله صلى الله عليه وآله وحواريه و قد شهد له رسول الله صلى الله عليه
وآله بالجنة [ولقد كان سباقا إلى كل مكرمة في الإسلام] وأنا أسألك بحق الله
يا معاوية - فإن قريشا تحدثت أنك أحلمها - [أن تسعني بفضل حلمك و] أن
تعفيني من هذه المسائل، وتسألني عما شئت من غيرها.
قال: نعم ونقمة عين وقد أعفيتك منها. ثم أمر لها بجائزة رفيعة وردها
مكرمة (1).
(261)
أروى بنت الحارث ومعاوية
العباس بن بكار، قال: حدثني عبد الله بن سليمان المدني وأبو بكر الهذلي:
أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة،
فلما رآها معاوية قال: مرحبا بك وأهلا يا عمة! فكيف كنت بعدنا؟ فقالت:
يا ابن أخي! لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسميت
بغير اسمك، وأخذت غير حقك، من غير بلاء كان منك ولا من آبائك،
ولا سابقة في الإسلام بعد أن كفرتم برسول الله، فأتعس الله منكم الجدود،

(1) العقد الفريد: ج 2 ص 115 وبلاغات النساء: ص 36 وقاموس الرجال: ج 10 ص 394. وبهج
الصباغة ج 10 ص 178، ومحادثات النساء ص 83.
402

وأضرع الخدود، ورد الحق إلى أهله ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي
العليا، ونبينا هو المنصور، فوليتم علينا من بعده تحتجون بقرابتكم من رسول الله
صلى الله عليه وآله ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر، فكنا فيكم بمنزلة
بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب رحمه الله بعد نبينا صلى
الله عليه وآله بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنة وغايتكم النار.
فقال لها عمرو بن العاص:
كفي أيتها العجوزة الضالة! وأقصري من قولك مع ذهاب عقلك. إذ
لا تجوز شهادتك وحدك.
فقالت له: وأنت يا ابن النابغة تتكلم؟ وأمك كانت أشهر امرأة تغني
(بغي خ) بمكة وآخذهن لأجرة، ادعاك خمسة نفر من قريش فسئلت أمك
عنهم فقالت: كلهم أتاني! فانظروا أشبههم به فألحقوه به، فغلب عليك شبه
العاصي بن وائل، فلحقت به.
فقال مروان:
كفي أيتها العجوزة! واقصدي لما جئت له، فقالت: وأنت أيضا يا ابن
الزرقاء تتكلم؟ [والله وأنت ببشير مولى ابن كلدة أشبه منك بالحكم بن
العاص، وقد رأيت الحكم سبط الشعر مديد القامة وما بينكما قرابة إلا كقرابة
الفرس الضامر من الأتان المقرف، فاسأل عما أخبرتك به أمك، فإنها
ستخبرك بذلك] عن البحار.
ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما جرأ علي هؤلاء غيرك، فإن أمك
القائلة في قتل حمزة:
نحن جزينا بكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان لي عن عتبة من صبر * وشكر وحشي علي دهري
حتى ترم أعظمي في قبري
403

فأجابتها بنت عمي، وهي تقول:
خزيت في بدر وبعد بدر * يا ابنة جبار عظيم الكفر
فقال معاوية: عفا الله عما سلف، يا عمة هات حاجتك، قالت: ما لي
إليك حاجة، وخرجت عنه (1).
(262)
أم البراء عند معاوية
حدثنا العباس، قال: حدثنا سهيل بن أبي سفيان التميمي، عن جعدة بن
هبيرة المخزومي، قال: استأذنت أم البراء بنت صفوان بن هلال على معاوية،
فأذن لها، فدخلت في ثلاثة دروع تسحبها قد كارت على رأسها كورا كهيئة
المنسف، فسلمت ثم جلست، فقال: كيف أنت يا بنت صفوان؟ قالت: بخير
يا أمير المؤمنين، قال: فكيف حالك؟ قالت: ضعفت بعد جلد وكسلت بعد
نشاط، قال: سيان بينك اليوم وحين تقولين:
يا عمرو دونك صارما ذا رونق * عضب المهزة ليس بالخوار
أسرج جوادك مسرعا ومشمرا * للحرب غير معرد لفرار
أجب الإمام ودب تحت لوائه * وافر العدو بصارم بتار
يا ليتني أصبحت ليس بعورة * فأذب عنه عساكر الفجار
قالت: قد كان ذاك يا أمير المؤمنين ومثلك عفا، والله تعالى يقول: " عفا
الله عما سلف " قال: هيهات! أما إنه لو عاد لعدت، لكنه اخترم دونك،

(1) العقد الفريد: ج 2 ص 119. وبلاغات النساء: ص 27، والغدير: ج 10 ص 167 عنهما،
وثمرات الأوراق هامش المستطرف: ج 1 ص 113 وسيأتي من البحار أيضا. ومحادثات النساء: ص 92
وقاموس الرجال: ج 10 ص 377، والغدير: ج 2 ص 121 عن العقد والبلاغات وروض المناظر: ج 8
ص 4. وثمرات الأوراق: ج 1 ص 132. ودائرة المعارف للوجدي: ج 1 ص 215. وجمهرة الخطب: ج 2
ص 363.
404

فكيف قولك حين قتل؟ قالت: نسيته يا أمير المؤمنين.
فقال بعض جلسائه: هو والله حين تقول يا أمير المؤمنين:
يا للرجال لعظم هول مصيبة * فدحت فليس مصابها بالهازل
الشمس كاسفة لفقد إمامنا * خير الخلائق والإمام العادل
يا خير من ركب المطي ومن مشى * فوق التراب لمحتف أو ناعل
حاشا النبي لقد هددت قواءنا * فالحق أصبح خاضعا للباطل
فقال معاوية: قاتلك الله يا بنت صفوان! ما تركت لقائل فقال مقالا،
اذكري حاجتك.
قالت: هيهات بعد هذا! والله لا سألتك شيئا. ثم قامت فعثرت، فقالت:
تعس شانئ علي، فقال: يا بنت صفوان زعمت إلا، قالت: هو ما علمت. فلما
كان من الغد بعث إليها بكسوة فاخرة ودراهم كثيرة وقال: إذا أنا ضيعت
الحلم فمن يحفظه؟ (1).
(263)
آمنة بنت الشريد ومعاوية
حدثنا العباس بن بكار، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن الزهري وسهل
ابن أبي سهل التميمي، عن أبيه، قالا: لما قتل علي بن أبي طالب عليه السلام
بعث معاوية في طلب شيعته، فكان في من طلب عمرو بن الحمق الخزاعي،
فراغ منه، فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشريد فحبسها في سجن دمشق سنتين.
ثم إن عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض الجزيرة،
فقتله، وبعث برأسه إلى معاوية، وهو أول رأس حمل في الإسلام. فلما أتى
معاوية الرسول بالرأس، بعث به إلى آمنة في السجن، وقال للحرسي: احفظ

(1) بلاغات النساء: ص 75. وعنه في قاموس الرجال: ج 10 ص 388.
405

ما تكلمت به حتى توديه إلي واطرح الرأس في حجرها، ففعل هذا، فارتاعت له
ساعة. ثم وضعت يدها على رأسها وقالت:
واحزنا! لصغره في دار هوان وضيق من ضيمة سلطان، فنفيتموه عني
طويلا وأهديتموه إلي قتيلا، فأهلا وسهلا بمن كنت له غير قالية وأنا له اليوم
غير ناسية، ارجع به أيها الرسول إلى معاوية، فقل له ولا تطوه دونه: أيتم الله
ولدك وأوحش منك أهلك ولا غفر لك ذنبك.
فرجع الرسول إلى معاوية، فأخبره بما قالت، فأرسل إليها فأتته، وعنده نفر
فيهم أياس بن حسل أخو مالك بن حسل، وكان في شدقيه نتوء عن فيه لعظم
كان في لسانه وثقل إذا تكلم، فقال لها معاوية: أأنت يا عدوة الله صاحبة
الكلام الذي بلغني؟
قالت: نعم! غير نازعة عنه ولا معتذرة منه ولا منكرة له، فلعمري لقد
اجتهدت في الدعاء إن نفع الاجتهاد، وأن الحق لمن وراء العباد، وما بلغت شيئا
من جزائك وإن الله بالنقمة من ورائك.
فأعرض عنها معاوية. فقال أياس: أقتل هذه يا أمير المؤمنين، فوالله ما كان
زوجها أحق بالقتل منها! فالتفت إليه، فلما رأته ناتئ الشدقين ثقيل اللسان،
قالت: تبا لك! ويلك! بين لحيتيك كجثمان الضفدع، ثم أنت تدعوه إلى
قتلي كما قتل زوجي بالأمس، إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض، وما تريد
أن تكون من المصلحين، فضحك معاوية، ثم قال: لله درك! أخرجي ثم
لا أسمع بك في شئ من الشام.
قالت: وأبي لأخرجن! ثم لا تسمع لي في شئ من الشام، فما الشام لي
بحبيب ولا أعرج فيها على حميم، وما هي لي بوطن ولا أحن فيها إلى سكن، ولقد
عظم فيها ديني وما قرت فيها عيني، وما أنا فيها إليك بعائدة ولا حيث كنت بحامدة
فأشار إليها ببنانه: أخرجي، فخرجت وهي تقول:
406

وا عجبي لمعاوية يكف عني لسانه ويشير إلى الخروج ببنانه، أما والله
ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد سديد أو جمع من نوافذ الحديد أو ما أنا بابنة
الشريد! فخرجت، وتلقاها الأسود الهلالي - وكان رجلا أسود أصلع أسلع
أصعل - فسمعها وهي تقول ما تقول، فقال: لمن تعني هذه؟ الأمير المؤمنين
تعني؟ عليها لعنة الله! فالتفتت إليه، فلما رأته قالت: خزيا لك وجدعا!
أتلعنني؟ واللعنة بين جنبيك وما بين قرنيك إلى قدميك، إخسأ يا هامة الصعل
ووجه الجعل، فاذلل بك نصيرا واقلل بك ظهيرا، فبهت الأسلع ينظر إليها، ثم
سأل عنها فأخبر، فأقبل إليها معتذرا خوفا من لسانها.
فقالت: قد قبلت عذرك، وإن تعد أعد، ثم لا أستقيل ولا أراقب فيك.
فبلغ ذلك معاوية، فقال: زعمت يا أسلع أنك لا تواقف من يغلبك،
أما علمت أن حرارة المبتول ليست بمخالسة نوافذ الكلام عند مواقف الخصام؟
أفلا تركت كلامها قبل البصبصة منها والاعتذار إليها؟ قال: إي والله
يا أمير المؤمنين؟ لم أكن أرى شيئا من النساء يبلغ من معاضيل الكلام ما بلغت
هذه المرأة، حالستها، فإذا هي تحمل قلبا شديدا ولسانا حديدا وجوابا عتيدا،
وهالتني رعبا وأوسعتني سبا.
ثم التفت معاوية إلى عبيد بن أوس، فقال: ابعث لها ما تقطع به عنا
لسانها وتقضي به ما ذكرت من دينها، وتخف به إلى بلادها، وقال: اللهم
اكفني شر لسانها، فلما أتاها الرسول بما أمر به معاوية، قالت: يا عجبي لمعاوية!
يقتل زوجي ويبعث إلي بالجوائز، فليت أبي كرب سد عني حره صله، خذ من
الرضعة ما عليها، فأخذت ذلك وخرجت تريد الجزيرة فمرت بحمص، فقتلها الطاعون

(1) كذا والصحيح ما في مجمع الأمثال: ج 2 ص 194: " ليت حظي من أبي كرب أن يسد عني
خيره خبله ".
(2) كذا والصحيح ما في مجمع الأمثال: ج 1 ص 231: " خذ من الرضفة ما عليها ".
407

فبلغ ذلك الأسلع، فأقبل إلى معاوية كالمبشر له، فقال له: أفرخ روعك
يا أمير المؤمنين، قد استجيبت دعوتك في ابنة الشريد، وقد كفيت شر لسانها.
قال: وكيف ذلك؟ قال مرت بحمص فقتلها الطاعون، فقال له معاوية:
فنفسك فبشر بما أحببت، فإن موتها لم يكن على أحد أروح منه عليك،
ولعمري! ما أنصفت منها حين أفرغت عليك شؤبا وبيلا، فقال الأسلع:
ما أصابني من حرارة لسانها شئ إلا وقد أصابك مثله أو أشد منه (1).
(264)
امرأة من بني ذكوان عند معاوية
عن خالد بن سعيد، عن رجل من بني أمية، قال: حضرت معاوية يوما وقد
أذن للناس إذنا عاما، فدخلوا عليه لمظالمهم وحوائجهم، فدخلت امرأة كأنها
قلعة ومعها جاريتان لها، فحدرت اللثام عن لون كأنما أشرب ماء الدر في حمرة
التفاح، ثم قالت:
الحمد لله يا معاوية! الذي خلق اللسان فجعل فيه البيان، ودل به على
النعم، وأجرى به القلم فيما أبرم وحتم، ودرأ وبرأ، وحكم وقضى، صرف
الكلام باللغات المختلفة على المعاني المتفرقة، ألفها بالتقديم والتأخير، والأشباه
والمناكر والموافقة والتزايد، فأدته الآذان إلى القلوب، وأدته القلوب إلى الألسن
بالبيان، استدل به على العلم، وعبد به الرب، وأبرم به الأمر، وعرفت به
الأقدار، وتمت به النعم، فكان من قضاء الله وقدره أن قربت زيادا وجعلت
له بين آل سفيان نسبا، ثم وليته أحكام العباد، يسفك الدماء بغير حلها
ولا حقها، ويهتك الحرم بلا مراقبة الله فيها، خؤون غشوم، كافر ظلوم، يتخير من
المعاصي أعظمها، لا يرى لله وقارا ولا يظن أن له معادا، وغدا يعرض عمله في

(1) بلاغات النساء: ص 59 - 61، وسيأتي ج 2 ص 90 عن المفيد. وراجع قاموس الرجال: ج 10
ص 377. ومحادثات النساء: ص 67 - 71. وأعلام النساء: ج 1 ص 11. والبحار: ج 8 ص 673، ط حجري
408

صحيفتك وتوقف على ما اجترم بين يدي ربك، ولك برسول الله صلى الله عليه
وآله أسوة وبينك وبينه صهر، فلا الماضين من أئمة الهدى اتبعت ولا طريقتهم
سلكت، جعلت عبد ثقيف على رقاب أمة محمد صلى الله عليه وآله يدبر
أمورهم ويسفك دماءهم، فماذا تقول لربك يا معاوية؟ وقد مضى من أجلك
أكثره، وذهب خيره وبقي وزره.
إني امرأة من بني ذكوان وثب زياد المدعى إلى أبي سفيان على ضيعتي
ورثتها عن أبي وأمي، فغصبنيها وحال بيني وبينها، وقتل من نازعه فيها من
رجالي، فأتيتك مستصرخة، فإن أنصفت وعدلت، وإلا وكلتك وزايد إلى الله
عز وجل، فلن تبطل ظلامتي عندك ولا عنده والمنصف لي منكما حكم عدل.
فبهت معاوية ينظر إليها متعجبا من كلامها، ثم قال: ما لزياد؟ لعن الله
زيادا، فإنه لا يزال يبعث على مثالبه من ينشرها، وعلى مساويها من يثيرها. ثم
أمر كاتبه بالكتاب إلى زياد، يأمره بالخروج إليها من حقها، وإلا صرفه مذموما
مدحورا، ثم أمر لها بعشرين ألف درهم.
وعجب معاوية وجميع من حضره من مقالتها وبلوغها حاجتها (1).
(265)
جروة التميمية عند معاوية
أبو عبد الله محمد بن زكريا، قال: حدثنا العباس بن بكار، قال: حدثني
عبد الله بن سليمان المديني عن أبيه، وسهيل التميمي عن أبيه، عن عمته،
قالت: احتجم معاوية بمكة، فلما أمسى أرق أرقا شديدا، فأرسل إلى جزوة ابنة
غالب التميمية، وكانت مجاورة بمكة، وهي من بني أسد بن عمرو بن تميم، فلما
دخلت قال لها: مرحبا يا جروة، أرعناك؟ قالت: إي والله! يا أمير المؤمنين، لقد

(1) بلاغات النساء: ص 61 - 63. ومحادثات النساء: ص 71 - 72.
409

طرقت في ساعة لا يطرق فيها الطير في وكره، فأرعت قلبي وريع صبياني وأفزعت
عشيرتي، وتركت بعضهم يموج في بعض، يراجعون القول ويديرون الكلام خشية
منك وشفقة علي.
فقال لها: ليسكن روعك ولتطب نفسك فإن الأمر على خلاف ما ظننت،
إني احتجمت فأعقبني ذلك أرقا، فأرسلت إليك تخبريني عن قومك.
قالت: عن أي قومي تسألني؟ قال: عن بني تميم.
قالت: يا أمير المؤمنين، هم أكثر الناس عددا وأوسعه بلدا وأبعده أمدا، هم
الذهب الأحمر والحسب الأفخر، قال: صدقت فنزليهم لي.
قالت: يا أمير المؤمنين، أما بنو عمرو بن تميم: فأصحاب بأس ونجدة وتحاشد
وشدة، لا يتخاذلون عند اللقاء ولا يطمع فيهم الأعداء، سلمهم فيهم وسيفهم
على عدوهم، قال: صدقت، ونعم القوم لأنفسهم.
قالت: وأما بنو سعد بن زيد مناه: ففي العدد الأكثرون وفي النسب
الأطيبون، يضرون إن غضبوا ويدركون إن طلبوا، أصحاب سيوف وجحف
ونزال وزلف، على أن بأسهم فيهم وسيفهم عليهم.
وأما حنظلة: فالبيت الرفيع والحسب البديع والعز المنيع، المكرمون للجار
والطالبون بالثار والناقضون للأوتار. قال: إن حنظلة شجرة تفرع، قالت:
صدقت يا أمير المؤمنين.
وأما البراجم: فأصابع مجتمعة وكف ممتنعة. وأما طهية: فقوم هوج وقرن
لجوج. وأما بنو ربيعة: فصخرة صماء وحية رقشاء، يغزون غيرهم ويفخرون
بقومهم. وأما بنو يربوع: ففرسان الرماح وأسود الصباح، يعتنقون الأقران
ويقتلون الفرسان. وأما بنو مالك: فجمع غير مفلول وعز غير مجهول، ليوث
هرارة وخيول كرارة. وأما بنو دارم: فكرم لا يداني وشرف لا يسامى وعز
لا يوازى.
410

قال: أنت أعلم الناس بتميم، فكيف علمك بقيس؟ قالت: كعلمي
بنفسي، قال فخبريني عنهم.
قالت: أما غطفان: فأكثر سادة وأمنع قادة. وأما فزارة: فبيتها المشهور
وحسبها المذكور. وإما ذبيان: فخطباء شعراء أعزة أقوياء، وأما عبس: فجمرة
لا تطفأ وعقبة لا تعلى وحية لا ترقى، وأما هوازن: فحلم ظاهر وعز قاهر. وأما
سليم: ففرسان الملاحم وأسود ضراغم، وأما نمير: فشوكة مسمومة وهامة مذمومة
وراية ملمومة. وأما هلال: فاسم فخم وعز قوم. وأما بنو كلاب فعدد كثير
وفخر أثير.
قال: لله أنت! فما قولك في قريش؟ قالت: يا أمير المؤمنين هم ذروة السنام
وسادة الأنام والحسب القمقام، قال: فما قولك في علي عليه السلام؟ قالت: جاز
والله في الشرف حدا لا يوصف وغاية لا تعرف، وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي
مما أتخوف.
قال: قد فعلت، وأمر لها بضيعة نفيسة غلتها عشرة آلاف درهم (1).
(266)
أروى بنت الحارث مع معاوية
كلام أروى بنت الحارث بن عبد المطلب مع معاوية، بنقل البحار:
روي في بعض مؤلفات أصحابنا عن قتادة: أن أروى بنت الحارث بن
عبد المطلب دخلت على معاوية بن أبي سفيان، وقد قدم المدينة، وهي عجوز
كبيرة. فلما رآها معاوية قال: مرحبا بك يا خالة! كيف كنت بعدي؟ قالت:
كيف أنت يا ابن أختي؟ لقد كفرت النعمة وأسأت لابن عمك الصحبة
وتسميت بغير اسمك وأخذت غير حقك، بلا بلاء كان منك ولا من آبائك في

(1) بلاغات النساء: ص 73، وعنه بهج الصباغة: ج 10 ص 280.
411

ديننا ولا سابقة كانت لكم، بل كفرتم بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله
فأتعس الله منكم الجدود وأصعر منكم الخدود، ورد الحق إلى أهله، فكانت
كلمتنا هي العليا، ونبينا هو المنصور على من ناواه، فوثبت قريش علينا من
بعده حسدا لنا وبغيا، فكنا بحمد الله ونعمته أهل بيت فيكم بمنزلة بني إسرائيل
في آل فرعون، وكان سيدنا فيكم بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى، وغايتنا الجنة
وغايتكم النار.
فقال لها عمرو بن العاص: كفي أيتها العجوز الضالة، واقصري من قولك
مع ذهاب عقلك، إذ لا تجوز شهادتك وحدك.
فقالت: وأنت يا ابن الباغية تتكلم؟ وأمك أشهر بغي بمكة وأقلهم أجرة!
وادعاك خمسة من قريش، فسئلت أمك عن ذلك، فقالت: كل أتاها!
فانظروا أشبههم به فألحقوه به، فغلب شبه العاص بن وائل جزار قريش،
ألأمهم مكرا وأمهنهم خيرا، فما ألومك ببغضنا.
قال مروان بن الحكم: كفي أيتها العجوز، واقصدي لما جئت له.
فقالت: وأنت يا ابن الزرقاء تتكلم؟ والله وأنت ببشير مولى ابن كلدة أشبه
منك بالحكم بن العاص، وقد رأيت الحكم سبط الشعر مديد القامة، وما بينكما
قرابة إلا كقرابة الفرس الضامر من الأتان المقرف، فاسأل عما أخبرتك به
أمك، فإنها ستخبرك بذلك.
ثم التفتت إلى معاوية، فقالت: والله ما جرأ هؤلاء غيرك، وإن أمك
القائلة في قتل حمزة:
نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات السعر
إلى آخر الأبيات. فأجابتها ابنة عمي:
خزيت في بدر وغير بدر * يا بنت وقاع عظيم الكفر
إلى آخر الأبيات.
412

فالتفت معاوية إلى مروان وعمرو، وقال: والله ما جرأها علي غيركما،
ولا أسمعني هذا الكلام سواكما. ثم قال: يا خالة اقصدي لحاجتك ودعي
أساطير النساء عنك.
قالت: تعطيني ألفي دينار وألفي دينار وألفي دينار. قال: ما تصنعين بألفي
دينار؟ قالت: أزوج بها فقراء بني الحارث بن عبد المطلب. قال: هي كذلك،
فما تصنعين بألفي دينار؟ قالت: استعين بها على شدة الزمان وزيارة بيت الله
الحرام. قال: قد أمرت بها لك، فما تصنعين بألفي دينار؟ قالت: أشتري بها عينا
خرارة في أرض حوارة تكون لفقراء بني الحارث بن عبد المطلب. قال: هي لك
يا خالة، أما والله لو كان ابن عمك علي ما أمر بها لك! قالت: تذكر عليا فض
الله فاك وأجهد بلاك! ثم علا نحيبها وبكاؤها، وجعلت تقول:
ألا يا عين ويحك فاسعدينا * ألا فابكي أمير المؤمنينا
رزئنا خير من ركب المطايا * وجال بها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها * ومن قرأ المثاني والمئينا
إذا استقبلت وجه أبي حسين * رأيت البدر راق الناظرينا
ألا فابلغ معاوية بن حرب * فلا قرت عيون الشامتينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا * بخير الخلق طرا أجمعينا
مضى بعد النبي فدته نفسي * أبو حسن وخير الصالحينا
كأن الناس إذ فقدوا عليا * نعام جال في بلد سنينا
فلا والله لا أنسى عليا * وحسن صلاته في الراكعينا
لقد علمت قريش حيث كانت * بأنك خيرها حسبا ودينا
فلا يفرح معاوية بن حرب * فإن بقية الخلفاء فينا
413

قال: فبكى معاوية! ثم قال: يا خالة لقد كان كما قلت وأفضل (1).
(267)
أبو أمامة مع معاوية
رأيت في بعض مؤلفات أصحابنا: روي أنه دخل أبو أمامة الباهلي على
معاوية، فقربه وأدناه، ثم دعا بالطعام فجعل يطعم أبا أمامة بيده، ثم أوسع
رأسه ولحيته طيبا بيده، وأمر له ببدرة من دنانير فدفعها إليه، ثم قال: يا أبا أمامة
بالله أنا خير أم علي بن أبي طالب؟ فقال أبو أمامة: نعم ولا كذب، ولو بغير الله
سألتني لصدقت، علي والله خير منك، وأكرم وأقدم إسلاما، وأقرب إلى
رسول الله قرابة، وأشد في المشركين نكاية، وأعظم عند الأمة غناء، أتدري من
علي يا معاوية؟ ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، وزوج ابنته سيدة نساء
العالمين، وأبو الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وابن أخ حمزة سيد
الشهداء، وأخو جعفر ذي الجناحين، فأين تقع أنت من هذا يا معاوية؟ أظننت
أني سأخيرك على علي بألطافك وطعامك وعطائك؟ فأدخل إليك مؤمنا
وأخرج منك كافرا؟ بئس ما سولت لك نفسك يا معاوية! ثم نهض وخرج من
عنده.
فأتبعه بالمال، فقال لا والله! لا أقبل منك دينارا واحدا (2).
(268)
كميل والحجاج
روى جرير عن المغيرة، قال: لما ولي الحجاج طلب كميل بن زياد،

(1) البحار: ج 42 ص 118 - 120. وج 8 ص 533 ط الكمباني عن كشف الحق وص 534 عن
الطرائف. وراجع قاموس الرجال: ج 10 ص 377 وقد مر في ص 402 فراجع.
(2) البحار: ج 42 ص 179.
414

فهرب منه، فحرم قومه عطاهم.
فلما رأى كميل ذلك، قال: أنا شيخ كبير وقد نفذ عمري، لا ينبغي أن
أحرم قومي عطاهم، فخرج فدفع بيده إلى الحجاج.
فلما رآه قال له: لقد كنت أحب أن أجد عليك سبيلا، فقال له كميل:
لا تصرف علي أنيابك ولا تهدم علي، فوالله ما بقي من عمري إلا مثل كواهل
الغبار، فاقض ما أنت قاض، فإن الموعد الله وبعد القتل الحساب، ولقد خبرني
أمير المؤمنين عليه السلام أنك قاتلي.
فقال له الحجاج: الحجة عليك إذا! فقال له كميل: ذاك إذا كان
القضاء إليك. قال: بلى قد كنت فيمن قتل عثمان بن عفان، اضربوا عنقه،
فضربت عنقه (1).
(269)
قنبر مولى علي عليه السلام والحجاج
إن الحجاج بن يوسف الثقفي قال ذات يوم: أحب أن أصيب رجلا من
أصحاب أبي تراب فأتقرب إلى الله بدمه، فقيل له: ما نعلم أحدا كان أطول
صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه.
فبعث في طلبه، فأوتي به، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم، قال: أبو همدان؟
قال: نعم، قال: مولى علي بن أبي طالب؟ قال: الله مولاي وأمير المؤمنين علي
ولي نعمتي، قال: أبرأ من دينه، قال: فإذا برئت من دينه تدلني على دين
غيره أفضل منه؟ قال: إني قاتلك فاختر أي قتلة أحب إليك، قال: قد صيرت
ذلك إليك، قال: ولم؟ قال: لأنك لا تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها، وقد أخبرني
أمير المؤمنين عليه السلام: أن ميتتي يكون ذبحا ظلما بغير حق. قال: فأمر به،

(1) البحار: ج 42 ص 148. وراجع بهج الصباغة: ج 5 ص 127.
415

فذبح (1).
(270)
ميثم وابن زياد
.... فقدم (ميثم) الكوفة، فأخذ وأدخل على عبيد الله بن زياد، وقيل له:
هذا كان من آثر الناس عند أبي تراب، قال: ويحكم! هذا الأعجمي؟ قالوا:
نعم.
فقال له عبيد الله: أين ربك؟ قال: بالمرصاد، قال: قد بلغني اختصاص
أبي تراب لك؟ قال: قد كان بعض ذلك، فما تريد؟ قال: وإنه ليقال: إنه قد
أخبرك بما سيلقاك، قال: نعم إنه أخبرني: أنك تصلبني عاشر عشرة وأنا
أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، قال: لأخالفنه، قال: ويحك! كيف
تخالفه؟ إنما أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وأخبر رسول الله صلى الله
عليه وآله عن جبرئيل وأخبر جبرئيل عن الله، فكيف تخالف هؤلاء؟ أما
والله! لقد عرفت الموضع الذي أصلب فيه أين هو من الكوفة، وإني لأول خلق
الله ألجم في الإسلام بلجام كما يلجم الخيل.
فحبسه، وحبس معه المختار بن أبي عبيدة الثقفي، فقال ميثم للمختار وهما
في حبس ابن زياد: إنك تفلت وتخرج ثائرا بدم الحسين عليه السلام فتقتل هذا
الجبار الذي نحن في سجنه، وتطأ بقدمك هذا على جبهته وخديه.
فلما دعا عبيد الله بن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد بكتاب يزيد بن
معاوية إلى عبيد الله يأمره بتخلية سبيله، وذلك: أن أخته كانت تحت عبد الله
ابن عمر بن الخطاب، فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد، فشفع، فأمضى

(1) البحار: ج 42 ص 126 عن الإرشاد للمفيد رحمه الله، وبهج الصباغة: ج 10 ص 214 وج 5
ص 127. والكنى والألقاب: ج 2 ص 268.
416

شفاعته، فكتب بتخلية سبيل المختار على البريد، فوافى البريد وقد أخرج
ليضرب عنقه، فأطلق.
وأما ميثم: فأخرج بعده ليصلب، وقال عبيد الله: لأمضين حكم أبي تراب
فيه! فلقيه رجل فقال له: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم؟ فتبسم وقال: لها
خلقت ولي غذيت.
فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث، فقال
عمرو: لقد كان يقول: إني مجاورك، وكان يأمر جاريته كل عشية أن تكنس
تحت خشبته وترشه وتجمر بمجمرة تحته.
فجعل ميثم يحدث بفضائل بني هاشم ومخازي بني أمية وهو مصلوب على
الخشبة. فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألجموه، فألجم، فكان
أول خلق الله الجم في الإسلام.
فلما كان في اليوم الثاني فاضت منخراه وفمه دما، فلما كان في اليوم
الثالث طعن بحربة، فمات.
وكان قتل ميثم قبل قدوم الحسين عليه السلام العراق بعشرة أيام (1).
(271)
رشيد الهجري وزياد
عن زياد النضر الحارثي، قال: كنت عند زياد وقد أوتي برشيد الهجري،
وكان من خواص أصحاب علي عليه السلام، فقال له زياد: ما قال لك خليلك
إنا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني، فقال زياد: أما والله

(1) البحار: ج 41 ص 344 - 345 عن ابن أبي الحديد. وراجع ج 42 ص 125 عن الإرشاد للمفيد
- رحمه الله - و 131 عن الكشي و 133 عن الكشي أيضا و 138 عن الروضة. وراجع بهج الصباغة: ج 5
ص 125 - 127. والكسي: ص 83 و 86 وسيأتي ج 3 ص 154.
417

لأكذبن حديثه! خلوا سبيله. فلما أراد أن يخرج قال: ردوه، لا نجد لك شيئا
أصلح مما قال صاحبك، إنك لا تزال تبغي لنا سوء إن بقيت، اقطعوا يديه
ورجليه، فقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلم، فقال: اصلبوه خنقا في عنقه. فقال
رشيد: وقد بقي لي عندكم شئ ما أراكم فعلتموه، فقال زياد: اقطعوا لسانه، فلما
أخرجوا لسانه، قال: نفسوا عني أتكلم كلمة واحدة، فنفسوا عنه، فقال: والله
هذا تصديق خبر أمير المؤمنين، أخبرني بقطع لساني، فقطعوا لسانه وصلبوه (1).
(272)
ابن عباس ومعاوية
حج معاوية فأتى المدينة وأصحاب النبي صلى الله عليه وآله متوافرون،
فجلس في حلقة بين عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر، فضرب بيده على فخذ
ابن عباس، ثم قال: أما كنت أحق وأولى بالأمر من ابن عمك؟ قال ابن
عباس: وبم؟ قال: لأني ابن عم الخليفة المقتول ظلما! قال: هذا إذا - يعني ابن
عمر - أولى بالأمر منك، لأن أبا هذا قتل قبل ابن عمك. قال: فانصاع عن ابن
عباس، وأقبل على سعد وقال: وأنت يا سعد الذي لم يعرف حقنا من باطل
غيرنا فتكون معنا أو علينا؟ قال سعد: إني لما رأيت الظلمة قد غشيت
الأرض قلت لبعيري: " هيخ " فأنخته حتى إذا أسفرت مضيت، قال: والله
لقد قرأت المصحف يوما بين الدفتين، ما وجدت فيه " هيخ " فقال: أما إذ
أبيت فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي: " أنت مع الحق
والحق معك " قال: لتجيئني بمن سمعه معك أو لأفعلن، قال: أم سلمة، قال:

(1) البحار: ج 41 ص 346 عن ابن أبي الحديد. وراجع ج 42 ص 122 عن أمالي الشيخ رحمه الله
و 125 عن الإرشاد للمفيد رحمه الله و 136 عن الكشي و 138 عنه أيضا. وراجع بهج الصباغة: ج 5
ص 138. والكشي: ص 76.
418

فقام وقاموا معه حتى دخلوا على أم سلمة، قال: فبدأ معاوية فتكلم فقال: يا أم
المؤمنين! إن الكذابة قد كثرت على رسول الله صلى الله عليه وآله بعده، فلا
يزال قائل يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله ما لم يقل، وإن سعدا روى
حديثا يزعم أنك سمعته معه، قالت: فما هو؟ قال: زعم أن رسول الله صلى الله
عليه وآله قال لعلي: " أنت مع الحق والحق معك " قالت: صدق في بيتي قاله.
فأقبل على سعد، فقال: الآن ألوم ما كنت عندي، والله لو سمعت هذا من
رسول الله ما زلت خادما لعلي حتى أموت! (1).
(273)
أبو أيوب وعلقمة والأسود
إن علقمة والأسود أتيا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين، فقالا
له: يا أبا أيوب إن الله أكرمك بنزول محمد صلى الله عليه وآله في بيتك وبمجئ
ناقته تفضلا من الله تعالى وإكراما لك حتى أناخت ببابك دون الناس جميعا،
ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب أهل لا إله إلا الله! فقال: يا هذا إن الرائد
لا يكذب أهله، إن رسول الله أمرنا بقتال ثلاثة مع علي: بقتال الناكثين
والقاسطين والمارقين، فأما الناكثون: فقد قاتلناهم وهم أهل الجمل وطلحة
والزبير، وأما القاسطون: فهذا منصرفنا عنهم - يعني معاوية وعمرو بن العاص -
وأما المارقون: فهم أهل الطرفاوات وأهل السقيفات وأهل النخيلات وأهل
النهروانات، والله ما أدري أين هم، ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله.
ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعمار: تقتلك الفئة
الباغية، وأنت إذ ذاك مع الحق والحق معك، يا عمار إن رأيت عليا قد سلك
واديا وسلك الناس كلهم واديا فاسلك مع علي، فإنه لن يدليك في ردى ولن

(1) البحار: ج 38 ص 33 عن كشف الغمة.
419

يخرجك من هدى، يا عمار من تقلد سيفا وأعان به عليا على عدوه قلده الله يوم
القيامة وشاحين من در، ومن تقلد سيفا أعان به عدو علي قلده الله تعالى يوم
القيامة وشاحين من نار.
قلنا: يا هذا حسبك يرحمك الله! حسبك يرحمك الله! (1).
(274)
ابن عباس وقريش
عن سعيد، عن ابن عباس، أنه مر بمجلس من مجالس قريش وهم يسبون
علي بن أبي طالب عليه السلام فقال لقائده: ما يقول هؤلاء؟ قال: يسبون
عليا! قال: قربني إليهم، فلما أن وقف عليهم قال: أيكم الساب الله؟ قالوا:
سبحان الله! ومن يسب الله فقد أشرك بالله، قال: فأيكم الساب رسول الله
صلى الله عليه وآله؟ قالوا: ومن يسب رسول الله فقد كفر، قال: فأيكم الساب
علي بن أبي طالب؟ قالوا: قد كان ذلك، قال: فأشهد بالله وأشهد لله! لقد
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " من سب عليا فقد سبني ومن
سبني فقد سب الله عز وجل " ثم مضى، فقال لقائده: فهل قالوا شيئا حين
قلت لهم ما قلت؟ قال: ما قالوا شيئا، قال: كيف رأيت وجوههم؟ قال:
نظروا إليك بأعين محمرة * نظر التيوس إلى شفار الجازر
قال: زدني فداك أبوك! قال:
خرز الحواجب ناكسوا أذقانهم * نظر الذليل إلى العزيز القاهر
قال: زدني فداك أبوك! قال: ما عندي غير هذا، قال: لكن عندي:
أحياؤهم خزي على أمواتهم * والميتون فضيحة للغابر (2)

(1) البحار: ج 38 ص 38 - 39 عن الطرائف عن الخطيب.
(2) البحار: ح 39 ص 311 عن أمالي الصدوق رحمه الله. وقاموس الرجال: ج 6 ص 28 عن
المسعودي. والغدير: ج 2 ص 300 عن الملأ في سيرته، والرياض: ج 1 ص 166، وكفاية الطالب:
ص 27، والفرائد للحموي، والفصول لابن صباغ.
420

(275)
خليل بن أحمد ويونس
عن يونس بن حبيب النحوي - وكان عثمانيا - قال: قلت: للخليل بن أحمد:
أريد أن أسألك عن شئ، فتكتمها علي؟ قال: إن قولك يدل على أن الجواب
أغلظ من السؤال، فتكتمه أنت أيضا؟ قال: قلت: نعم أيام حياتك.
قال: سل، قال: قلت: ما بال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
ورحمهم كأنهم كلهم بنو أم واحدة، وعلي بن أبي طالب عليه السلام من بينهم
كأنه ابن علة؟ قال: من أين لك هذا السؤال؟ قال: قلت: قد وعدتني
الجواب، قال: وقد ضمنت لي الكتمان، قال: قلت: أيام حياتك، فقال: إن
عليا تقدمهم إسلاما، وفاقهم علما، وبزهم شرفا، ورجحهم زهدا، وطالهم
جهادا، فحسدوه، والناس إلى أشكالهم وأشباههم أميل منهم إلى من بان منهم،
فافهم (1).
(276)
خليل بن أحمد وأبو زيد النحوي
عن أبي زيد النحوي، قال سألت الخليل بن أحمد العروضي: لم هجر الناس
عليا عليه السلام وقرباه من رسول الله صلى الله عليه وآله قرباه وموضعه من
المسلمين موضعه وعناؤه في الإسلام عناؤه؟ فقال: بهر والله نوره أنوارهم،

(1) البحار: ج 40 ص 74 - ص 75 عن أمالي الشيخ رحمه الله. وج 8 ص 151 ط الكمباني عن
المناقب قريبا منه، وص 153 عن الشيخ رحمه الله. وراجع قاموس الرجال: ج 9 ص 484. ونور
القبس: ص 57. وبهج الصباغة: ج 4 ص 157 و 517. والكنى والألقاب: ج 1 ص 417.
421

وغلبهم على صفو كل منهل، والناس إلى أشكالهم أميل، أما سمعت الأول
حيث يقول:
وكل شكل لشكله آلف * أما ترى الفيل يألف الفيلا؟
قال: وأنشدنا الرياشي في معناه عن العباس بن الأحنف:
وقائل كيف تهاجرتما * فقلت قولا فيه إنصاف
لم يكن من شكلي فهاجرته * والناس أشكال وألاف (1)
(277)
جمع من الصحابة أنكروا على أبي بكر
عن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق
عليهما السلام: جعلت فداك! هل كان أحد في أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وآله أنكر على أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله؟
فقال: نعم كان الذي أنكر على أبي بكر اثنا عشر رجلا من المهاجرين: خالد
ابن سعيد بن العاص وكان من بني أمية، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري،
والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وبريدة الأسلمي. ومن الأنصار: أبو
الهيثم بن التيهان، وسهل وعثمان ابنا حنيف، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين،
وأبي بن كعب، وأبو أيوب الأنصاري.
قال: فلما صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بينهم، فقال بعضهم لبعض: والله
لنأتينه ولننزلنه عن منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال الآخرون منهم:
والله لئن فعلتم ذلك إذا لأعنتم على أنفسكم وقد قال الله عز وجل: " ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة " فانطلقوا بنا إلى أمير المؤمنين عليه السلام لنستشيره

(1) البحار: ج 8 ص 151 ط الكمباني عن علل الشرايع والأمالي للصدوق - رحمه الله - وبهج
الصباغة: ج 4 ص 157.
422

ونستطلع رأيه.
فانطلق القوم إلى أمير المؤمنين بأجمعهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين تركت حقا
أنت أحق به وأولى منه، لأنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " علي
مع الحق والحق مع علي، يميل مع الحق كيف مال " ولقد هممنا أن نصير إليه
فننزله عن منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، فجئناك نستشيرك ونستطلع رأيك
فيما تأمرنا، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: وأيم الله! لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم
إلا حربا، ولكنكم كالملح في الزاد وكالكحل في العين، وأيم الله! لو فعلتم ذلك
لأتيتموني شاهرين أسيافكم مستعدين للحرب والقتال، إذا لأتوني فقالوا لي:
بايع وإلا قتلناك، فلا بد من أن أدفع القوم عن نفسي، وذلك: أن رسول الله
صلى الله عليه وآله أوعز إلي قبل وفاته فقال لي: يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر
بك بعدي وتنقض فيك عهدي، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى، وأن الأمة
من بعدي بمنزلة هارون ومن اتبعه والسامري ومن اتبعه، فقلت: يا رسول الله فما
تعهد إلي إذا كان ذلك، فقال: إن وجدت أعوانا فبادر إليهم وجاهدهم، وإن
لم تجد أعوانا كف يدك وأحقن دمك حتى تلحق بي مظلوما، ولما توفي
رسول الله صلى الله عليه وآله اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه، ثم
آليت يمينا أن لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمع القرآن، ففعلت. ثم أخذت بيد
فاطمة عليها السلام وابني الحسن والحسين عليهما السلام فدرت على أهل بدر
وأهل السابقة، فناشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي، فما أجابني منهم إلا أربعة
رهط منهم: سلمان، وعمار، والمقداد، وأبو ذر. ولقد راودت في ذلك تقييد
بينتي، فاتقوا الله على السكوت لما علمتم من وغر صدور القوم وبغضهم لله
ولرسوله ولأهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله، فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل،
فعرفوه ما سمعتم من قول رسولكم صلى الله عليه وآله ليكون ذلك أوكد للحجة
وأبلغ للعذر، وأبعد لهم من رسول الله صلى الله عليه وآله إذا وردوا عليه.
423

فسار القوم حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وآله وكان يوم
الجمعة، فلما صعد أبو بكر المنبر قال المهاجرون للأنصار: تقدموا فتكلموا، وقال
الأنصار للمهاجرين: بل تكلموا أنتم، فإن الله عز وجل أدناكم في كتابه إذ قال
الله: " لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار ". قال أبان: فقلت له:
يا ابن رسول الله إن العامة لا تقرأ كما عندك، فقال: وكيف تقرأ يا أبان؟ قال:
قلت: إنها تقرأ: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار " فقال:
ويلهم! وأي ذنب كان لرسول الله صلى الله عليه وآله حتى تاب الله عليه منه؟
إنما تاب الله به على أمته. فأول من تكلم به خالد بن سعيد بن العاص، ثم
باقي المهاجرين، ثم من بعدهم الأنصار. وروي أنهم كانوا غيبا عن وفاة
رسول الله صلى الله عليه وآله فقدموا وقد تولى أبو بكر! وهم يومئذ أعلام مسجد
رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقام خالد بن سعيد بن العاص وقال:
اتق الله يا أبا بكر، فقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله
- قال - ونحن محتوشوه يوم قريظة حين فتح الله له وقد قتل علي يومئذ عدة من
صناديد رجالهم وأولي البأس والنجدة منهم: يا معاشر المهاجرين والأنصار! إني
موصيكم بوصية فاحفظوها ومودعكم أمرا فاحفظوه، ألا إن علي بن أبي طالب
عليه السلام أميركم بعدي وخليفتي فيكم، بذلك أوصاني ربي، ألا وإنكم إن
لم تحفظوا فيه وصيتي وتوازروه وتنصروه اختلفتم في أحكامكم، واضطرب عليكم
أمر دينكم، ووليكم شراركم، ألا إن أهل بيتي هم الوارثون لأمري والعاملون
بأمر أمتي من بعدي، اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فيهم وصيتي فاحشرهم
في زمرتي واجعل لهم نصيبا من مرافقتي يدركون به نور الآخرة، اللهم ومن أساء
خلافتي في أهل بيتي فأحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض.
424

فقال عمر بن الخطاب: أسكت يا خالد، فلست من أهل المشورة ولا ممن
يقتدى برأيه.
فقال خالد: اسكت يا ابن الخطاب، فإنك تنطق عن لسان غيرك، وأيم
الله! لقد علمت قريش أنك من ألأمها حسبا وأدناها منصبا وأخسها قدرا
وأخملها ذكرا وأقلهم غناء عن الله ورسوله، وأنك لجبان في الحروب بخيل
بالمال لئيم العنصر، ما لك في قريش من فخر ولا في الحروب من ذكر، وإنك في هذا
الأمر بمنزلة الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني
أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء
الظالمين. فأبلس عمر، وجلس خالد بن سعيد.
ثم قام سلمان الفارسي وقال:
كرديد ونكرديد [وندانيد چه كرديد] أي فعلتم ولم تفعلوا [وما علمتم
ما فعلتم]
وامتنع من البيعة قبل ذلك حتى وجئ عنقه، فقال: يا أبا بكر! إلى
من تسند أمرك إذا نزل بك ما لا تعرفه؟ وإلى من تفزع إذا سئلت عما
لا تعلمه؟ وما عذرك في تقدم من هو أولى منك وأقرب إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وأعلم بتأويل كتاب الله عز وجل لو سنة نبيه ومن قدمه النبي صلى
الله عليه وآله في حياته وأوصاكم به عند وفاته؟ فنبذتم قوله وتناسيتم وصيته،
وأخلفتم الوعد ونقضتم العهد، وحللتم العقد الذي كان عقده عليكم من النفوذ
تحت راية أسامة بن زيد، حذرا من مثل ما أتيتموه وتنبيها للأمة على عظيم
ما اجترحتموه من مخالفة أمره، فعن قليل يصفو لك الأمر وقد أثقلك الوزر
ونقلت إلى قبرك، وحملت معك ما اكتسبت يداك، فلو راجعت الحق من قرب
وتلافيت نفسك وتبت إلى الله من عظيم ما اجترمت كان ذلك أقرب إلى
نجاتك يوم تفرد في حفرتك ويسلمك ذو ونصرتك، فقد سمعت كما سمعنا
425

ورأيت كما رأينا، فلم يردعك ذلك عما أنت متشبث به من هذا الأمر الذي
لا عذر لك في تقلده، ولاحظ للدين والمسلمين في قيامك به، فالله الله في نفسك!
فقد أعذر من أنذر، ولا تكن كمن أدبر واستكبر.
ثم قام أبو ذر:
فقال: يا معاشر قريش! أصبتم قباحة وتركتم قرابة، والله! لترتدن جماعة من
العرب ولتشكن في هذا الدين، ولو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيكم ما اختلف
عليكم سيفان، والله! لقد صارت لمن غلب، ولتطمحن إليها عين من ليس من
أهلها وليسفكن في طلبها دماء كثيرة - فكان كما قال أبو ذر - ثم قال: لقد علمتم
وعلم خياركم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: الأمر بعدي لعلي، ثم
لابني الحسن والحسين، ثم للطاهرين من ذريتي، فأطرحتم قول نبيكم،
وتناسيتم ما عهد به إليكم، فأطعتم الدنيا الفانية، وبعتم الآخرة الباقية، التي
لا يهرم شبابها ولا يزول نعيمها ولا يحزن أهلها ولا تموت سكانها، بالحقير التافه
الفاني الزائل، وكذلك الأمم من قبلكم كفرت بعد أنبيائها ونكصت على
أعقابها وغيرت وبدلت واختلفت، فساويتموهم حذو النعل بالنعل والقذة
بالقذة، وعما قليل تذوقون وبال أمركم، وتجزون بما قدمت أيديكم، وما الله
بظلام للعبيد.
ثم قام المقداد بن الأسود وقال:
ارجع يا أبا بكر عن ظلمك، وتب إلى ربك، والزم بيتك، وابك على
خطيئتك، وسلم الأمر لصاحبه الذي هو أولى به منك، فقد علمت ما عقده
رسول الله صلى الله عليه وآله في عنقك من بيعته، وألزمك من النفوذ تحت راية
أسامة بن زيد وهو مولاه، ونبه على بطلان وجوب هذا الأمر لك ولمن عضدك
426

عليه بضمه لكما إلى علم النفاق ومعدن الشنآن والشقاق عمرو بن العاص
الذي أنزل الله تعالى فيه على نبيه صلى الله عليه وآله " إن شانئك هو الأبتر "
فلا اختلاف بين أهل العلم أنها نزلت في عمرو، وهو كان أميرا عليكما وعلى
سائر المنافقين في الوقت الذي أنفذه رسول الله صلى الله عليه وآله في غزاة ذات
السلاسل، وإن عمروا قلدكما حرس عسكره، فمن الحرس إلى الخلافة؟ اتق الله!
وبادر الاستقالة قبل فوتها، فإن ذلك أسلم لك في حياتك وبعد وفاتك،
ولا تركن إلى دنياك، ولا تغررك قريش وغيرها، فعن قليل تضمحل عنك
دنياك، ثم تصير إلى ربك فيجزيك بعملك، وقد علمت وتيقنت أن علي بن
أبي طالب عليه السلام صاحب هذا الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
فسلمه إليه بما جعله الله له، فإنه أتم لسترك وأخف لوزرك، فقد والله نصحت
لك إن قبلت نصحي، وإلى الله ترجع الأمور.
ثم قام بريدة الأسلمي فقال:
إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا لقي الحق من الباطل يا أبا بكر؟
أنسيت أم تناسيت؟ أم خدعتك نفسك وسولت لك الأباطيل؟ أو لم تذكر
ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وآله من تسمية علي بإمرة المؤمنين والنبي
بين أظهرنا؟ وقوله في عدة أوقات: هذا أمير المؤمنين وقاتل القاسطين؟ فاتق
الله! وتدارك نفسك قبل أن لا تدركها، وأنقذها مما يهلكها، واردد الأمر إلى
من هو أحق به منك، ولا تتماد في اغتصابه، وراجع وأنت تستطيع أن تراجع،
فقد محضتك النصح، ودللتك على طريق النجاة، فلا تكونن ظهيرا للمجرمين.
ثم قام عمار بن ياسر فقال:
يا معاشر قريش! يا معاشر المسلمين! إن كنتم علمتم، وإلا فاعلموا:
427

أن أهل بيت نبيكم أولى به وأحق بإرثه وأقوم بأمور الدين وآمن على المؤمنين
وأحفظ لملته وأنصح لأمته، فمروا صاحبكم فليرد الحق إلى أهله قبل أن
يضطرب حبلكم ويضعف أمركم ويظفر عدوكم ويظهر شتاتكم وتعظم الفتنة
بكم وتختلفون فيما بينكم ويطمع فيكم عدوكم، فقد علمتم أن بني هاشم أولى
بهذا الأمر منكم، وعلي من بينهم وليكم بعهد الله وبرسوله، وفرق ظاهر قد
عرفتموه في حال بعد حال: عند سد النبي صلى الله عليه وآله أبوابكم التي
كانت إلى المسجد فسدها كلها غير بابه، وإيثاره إياه بكريمته فاطمة دون سائر
من خطبها إليه منكم، وقوله صلى الله عليه وآله: " أنا مدينة العلم وعلي بابها
فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها " وأنتم جميعا مصطرخون فيما أشكل عليكم من
أمور دينكم إليه، وهو مستغن عن كل أحد منكم إلى ماله من السوابق التي
ليست لأفضلكم عند نفسه، فما بالكم تحيدون عنه وتغيرون على حقه وتؤثرون
الحياة الدنيا على الآخرة؟ بئس للظالمين بدلا! أعطوه ما جعله الله له، ولا تتولوا
عنه مدبرين، ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين.
ثم قام أبي بن كعب فقال:
يا أبا بكر! لا تجحد حقا جعله الله لغيرك، ولا تكن أول من عصى
رسول الله صلى الله عليه وآله في وصيه وصفيه وصدف عن أمره، أردد الحق إلى
أهله تسلم، ولا تتماد في غيك فتندم، وبادر الإنابة يخف وزرك، ولا تخصص
بهذا الأمر الذي لم يجعله الله لك نفسك فتلقى وبال عملك، فعن قليل تفارق
ما أنت فيه وتصير إلى ربك فيسألك عما جنيت، وما ربك بظلام للعبيد.
ثم قام خزيمة بن ثابت فقال:
أيها الناس! ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قبل
428

شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري؟ قالوا: بلى، قال: فأشهد أني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل، وهم
الأئمة الذين يقتدى بهم " وقد قلت ما علمت، وما على الرسول إلا البلاغ
المبين.
ثم قام أبو الهيثم بن التيهان فقال:
وأنا أشهد على نبينا صلى الله عليه وآله أنه أقام عليا عليه السلام
يعني يوم غدير خم، فقالت الأنصار: ما أقامه إلا للخلافة، وقام بعضهم:
ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه مولى من كان رسول الله صلى الله عليه وآله مولاه،
وأكثروا الخوض في ذلك، فبعثنا رجالا منا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
فسألوه عن ذلك، فقال: " قولوا لهم: علي عليه السلام ولي المؤمنين بعدي،
وأنصح الناس لأمتي " وقد شهدت بما حضرني، فمن شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر، إن يوم الفصل كان ميقاتا.
ثم قام سهل بن حنيف فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي محمد وآله، ثم
قال:
يا معاشر قريش اشهدوا علي أني أشهد على رسول الله صلى الله عليه وآله وقد رأيته
في هذا المكان - يعني الروضة - وهو آخذ بيد علي بن أبي طالب عليه السلام وهو
يقول: أيها الناس! هذا علي إمامكم من بعدي، ووصي في حياتي وبعد وفاتي
وقاضي ديني، ومنجز وعدي، وأول من يصافحني على حوضي، فطوبى لمن تبعه
ونصره! والويل لمن تخلف عنه وخذله!
429

وقام معه أخوه عثمان بن حنيف فقال:
سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " أهل بيتي نجوم الأرض
فلا تتقدموهم وقدموهم، فهم الولاة بعدي " فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله
وأي أهل بيتك؟ فقال صلى الله عليه وآله: " علي والطاهرون من ولده "، وقد
بين صلى الله عليه وآله فلا تكن يا أبا بكر أول كافر به، ولا تخونوا الله والرسول
وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون.
ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال:
اتقوا الله عباد الله في أهل بيت نبيكم، وردوا إليهم حقهم الذي
جعله الله لهم، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبينا صلى
الله عليه وآله ومجلس بعد مجلس يقول: " أهل بيتي أئمتكم بعدي " ويومئ إلى
علي عليه السلام ويقول: " هذا أمير البررة وقاتل الكفرة، مخذول من خذله
منصور من نصره " فتوبوا إلى الله من ظلمكم إن الله تواب رحيم، ولا تتولوا عنه
مدبرين، ولا تتولوا عنه معرضين.
قال الصادق عليه السلام فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يحر جوابا، ثم
قال: وليتكم ولست بخيركم! أقيلوني أقيلوني! فقال عمر بن الخطاب: انزل
عنها يا لكع! إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لم أقمت نفسك هذا المقام؟ والله
لقد هممت أن أخلعك واجعلها في سالم مولى أبي حذيفة!
قال: فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون
مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن
الوليد ومعه ألف رجل، وقال لهم: ما جلوسكم؟ فقد طمع فيها والله بنو هاشم،
وجاءهم سالم مولى أبي حذيفة ومعه ألف رجل، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه
430

ألف رجل، فما زال يجتمع رجل رجل حتى اجتمع أربعة آلاف رجل، فخرجوا
شاهرين أسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتى وقفوا بمسجد النبي صلى الله
عليه وآله، فقال عمر: والله يا صحابة علي، لئن ذهب الرجل منكم يتكلم
بالذي تكلم به بالأمس لنأخذن الذي فيه عيناه.
فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال:
يا ابن صهاك الحبشية! أبأسيافكم تهددونا؟ أم بجمعكم تفزعونا؟
والله إن أسيافنا أحد من أسيافكم، وإنا لأكثر منكم وإن كنا قليلين، لأن
حجة الله فينا، والله لولا أني أعلم أن طاعة إمامي أولى بي لشهرت سيفي
ولجاهدتكم في الله إلى أن أبلي عذري. فقال له أمير المؤمنين: اجلس يا خالد،
فقد عرف الله مقامك و شكر لك سعيك، فجلس.
وقام إليه سلمان الفارسي وقال:
الله أكبر! الله أكبر! سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وإلا
صمتا، يقول: بينا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه، إذ
يكبسه جماعة من كلاب أهل النار يريدون قتله وقتل من معه، ولست أشك
إلا وأنكم هم! فهم به عمر بن الخطاب.
فوثب إليه أمير المؤمنين عليه السلام وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض،
ثم قال: يا ابن صهاك الحبشية! لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله
صلى الله عليه وآله تقدم لأريتك أينا أضعف ناصرا وأقل عددا، ثم التفت إلى
أصحابه، فقال: انصرفوا رحمكم الله، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل
أخواي موسى وهارون، إذ قال له أصحابه: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا
قاعدون، والله لا أدخل إلا لزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله أو لقضية أقضيها،
431

فإنه لا يجوز لحجة أقامه رسول الله صلى الله عليه وآله أن يترك الناس في حيرة (1).
ولا بأس بنقل ما ذكره الصدوق - رحمه الله - في الخصال بإسناده عن زيد بن وهب.
قال: كان الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة وتقدمه على علي
ابن أبي طالب عليه السلام اثني عشر رجلا من المهاجرين والأنصار، كان من
المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص (2)، والمقداد بن الأسود، وأبي بن كعب،
وعمار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، و عبد الله بن مسعود،
وبريدة الأسلمي، وكان من الأنصار: خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وسهل بن
حنيف، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الهيثم بن التيهان، وغيرهم.
فلما صعد المنبر تشاوروا بينهم في أمره، فقال بعضهم: هلا نأتيه فننزله عن
منبر رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وقال آخرون: إن فعلتم ذلك أعنتم على
أنفسكم وقد قال الله عز وجل: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ولكن امضوا
بنا إلى علي بن أبي طالب عليه السلام نستشيره ونستطلع أمره.
فأتوا عليا عليه السلام فقالوا: يا أمير المؤمنين ضيعت نفسك وتركت حقا
أنت أولى به، وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول الله صلى الله عليه
وآله فإن الحق حقك وأنت أولى بالأمر منه، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك
فقال لهم علي عليه السلام: لو فعلتم ذلك ما كنتم إلا حربا لهم، ولا كنتم
إلا كالكحل في العين أو كالملح في الزاد، وقد اتفقت عليه الأمة التاركة لقول:
نبيها والكاذبة على ربها، ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلا السكوت،
لما يعلمون من وغر صدور القوم وبغضهم لله عز وجل ولأهل بيت نبيه، وإنهم

(1) البحار: ج 28 ص 189 - 203 عن الاحتجاج: ج 1 ص 97 وص 208 عن الخصال وص 214 عن
كشف اليقين وذكر محل الخلاف من الروايات من طرق العامة والخاصة.
(2) في الاحتجاج: " عمرو بن سعيد ".
432

يطالبون بثارات الجاهلية، والله لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدين للحرب
والقتال، كما فعلوا ذلك حتى قهروني وغلبوني على نفسي ولببوني وقالوا لي: بايع
وإلا قتلناك، فلم أجد حيلة إلا أن أدفع القوم عن نفسي، وذلك: أني ذكرت
قول رسول الله صلى الله عليه وآله: " يا علي! إن القوم نقضوا أمرك واستبدوا
بها دونك وعصوني فيك فعليك بالصبر حتى ينزل الله الأمر، ألا وإنهم
سيغدرون بك لا محالة فلا تجعل لهم سبيلا إلى إذ لا لك وسفك دمك، فإن الأمة
ستغدر بك بعدي، كذلك أخبرني جبرئيل عليه السلام عن ربي تبارك
وتعالى " ولكن أئتوا الرجل فأخبروه بما سمعتم من نبيكم، ولا تدعوه في الشبهة
من أمره، ليكون ذلك أعظم للحجة عليه: وأبلغ في عقوبته إذا أتى ربه وقد
عصى نبيه وخالف أمره.
قال: فانطلقوا حتى حفوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وآله يوم جمعة،
فقالوا للمهاجرين: إن الله عز وجل بدأ بكم في القرآن، فقال: " لقد تاب الله
على النبي والمهاجرين والأنصار " فبكم بدء.
فكان أول من بدأ وقام خالد بن سعيد بن العاص بإدلاله ببني أمية.
فقال: يا أبا بكر اتق الله! قد علمت ما تقدم لعلي من رسول الله صلى الله
عليه وآله، ألا تعلم أن رسول الله. صلى الله عليه وآله قال لنا ونحن محتوشوه في
يوم بني قريظة، وقد أقبل على رجال منا ذوي قدر، فقال: معاشر المهاجرين
والأنصار! أوصيكم بوصية فاحفظوها، وإني مود إليكم أمرا فاقبلوه، ألا إن
عليا عليه السلام أميركم من بعدي وخليفتي فيكم، أوصاني بذلك ربي وربكم،
وإنكم إن لم تحفظوا وصيتي فيه وتؤوه وتنصروه اختلفتم في أحكامكم واضطرب
عليكم أمر دينكم وولي عليكم الأمر شراركم، ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون
أمري القائمون بأمر أمتي، اللهم فمن حفظ فيهم وصيتي فاحشره في زمرتي،
واجعل له من مرافقتي نصيبا يدرك به فوز الآخرة، اللهم ومن أساء خلافتي في
433

أهل بيتي فأحرمه الجنة التي عرضها السماوات والأرض.
فقال له عمر بن الخطاب: اسكت يا خالد! فلست من أهل الشورى،
ولا ممن يرضى بقوله.
فقال خالد: بل اسكت أنت يا ابن الخطاب! فوالله إنك لتعلم أنك لتنطق
بغير لسانك وتعتصم بغير أركانك، والله إن قريشا لتعلم أنك ألأمها حسبا،
وأقلها أدبا، وأخملها ذكرا، وأقلها غناء (1) عن الله عز وجل وعن رسوله، وأنك
لجبان عند الحرب، بخيل في الجدب، لئيم العنصر، ما لك في قريش مفخر.
قال: فأسكته خالد، فجلس.
ثم قام أبو ذر - رحمة الله عليه - فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أما بعد، يا معاشر المهاجرين والأنصار! لقد علمتم وعلم خياركم أن
رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " الأمر لعلي عليه السلام بعدي، ثم للحسن
والحسين، ثم في أهل بيتي من ولد الحسين عليهم السلام " فاطر حتم قول نبيكم
وتناسيتم ما أوعز إليكم، واتبعتم الدنيا، وتركتم نعيم الآخرة الباقية التي لا يهدم
بنيانها ولا يزول نعيمها ولا يحزن أهلها ولا يموت سكانها، وكذلك الأمم التي
كفرت بعد أنبيائها بدلت وغيرت، فحاذيتموها حذو القذة بالقذة والنعل
بالنعل فعما قليل تذوقون وبال أمركم وما الله بظلام للعبيد.
ثم قام سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال:
يا أبا بكر! إلى من تستند أمرك إذا نزل بك القضاء؟ وإلى من تفزع
إذا سئلت عما لا تعلم؟ وفي القوم من هو أعلم منك وأكثر في الخير أعلاما

(1) ليس في الخصال " غناء " وأثبتناه لموافقته السياق.
434

ومناقب منك، وأقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله قرابة وقدمة في حياته،
وقد أوعز إليكم، فتركتم قوله وتناسيتم وصيته، فعما قليل يصفو لك الأمر، حين
تزور القبور وقد أثقلت ظهرك من الأوزار، لو حملت إلى قبرك لقدمت على
ما قدمت، فلو راجعت الحق وأنصفت أهله لكان ذلك نجاة لك يوم تحتاج إلى
عملك وتفرد في حفرتك بذنوبك، وقد سمعت كما سمعنا ورأيت كما رأينا،
فلم يردعك ذلك عما أنت له فاعل، فالله الله! في نفسك، فقد أعذر من
أنذر.
ثم قام المقداد بن الأسود - رحمه الله - فقال:
يا أبا بكر! إربع على نفسك، وقس شبرك بفترك، والزم بيتك،
وابك على خطيئتك، فإن ذلك أسلم لك في حياتك ومماتك، ورد هذا الأمر
إلى حيث جعله الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله، ولا تركن إلى الدنيا،
ولا يغرنك من قد ترى من أوغادها، فعما قليل تضمحل دنياك، ثم تصير إلى
ربك فيجزيك بعملك، وقد علمت أن هذا الأمر لعلي، وهو صاحبه بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد نصحتك إن قبلت نصحي.
ثم قام بريدة الأسلمي فقال:
يا أبا بكر! نسيت أم تناسيت؟ أم خادعتك نفسك؟ أما نذكر
إذ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله فسلمنا على علي بإمرة المؤمنين ونبينا بين
أظهرنا؟ فاتق الله ربك، وأدرك نفسك قبل أن لا تدركها، وأنقذها من
هلكتها، ودع هذا الأمر وكله إلى من هو أحق به منك، ولا تماد في غيك،
وارجع وأنت تستطيع الرجوع، وقد منحتك نصحي وبذلت لك ما عندي، وإن
قبلت وفقت ورشدت.
435

ثم قام عبد الله بن مسعود فقال:
يا معشر قريش! قد علمتم وعلم خياركم أن أهل بيت نبيكم أقرب
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله منكم، وإن كنتم إنما تدعون هذا الأمر بقرابة
رسول الله صلى الله عليه وآله وتقولون: إن السابقة لنا، فأهل بيت نبيكم أقرب
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله منكم وأقدم سابقة منكم، وعلي بن أبي
طالب صاحب هذا الأمر بعد نبيكم، فاعطوه ما جعله الله له، ولا ترتدوا على
أعقابكم فتنقلبوا خاسرين.
ثم قام عمار بن ياسر - رحمه الله - فقال:
يا أبا بكر! لا تجعل لنفسك حقا جعله الله عز وجل لغيرك، ولا تكن
أول من عصى رسول الله وخالفه في أهل بيته، واردد الحق إلى أهله يخف
ظهرك، ويقل وزرك، وتلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو عنك راض، ثم
تصير إلى الرحمن فيحاسبك بعملك ويسألك عما فعلت.
ثم قام خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فقال:
يا أبا بكر! ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قبل شهادتي
وحدي ولم يرد معي غيري؟ قال: نعم، قال: فأشهد بالله أني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل وهم
الأئمة الذين يقتدى بهم.
ثم قام أبو الهيثم بن التيهان فقال:
أنا أشهد على النبي أنه أقام عليا، فقالت الأنصار: ما أقامه إلا
436

للخلافة، وقال بعضهم: ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه ولي من كان رسول الله
صلى الله عليه وآله مولاه، فقال عليه السلام إن أهل بيتي نجوم أهل الأرض
فقدموهم ولا تقدموهم.
ثم قام سهل بن حنيف فقال:
أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله قال على المنبر:
إمامكم من بعدي علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو أنصح الناس لأمتي.
ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال:
اتقوا الله في أهل بيت نبيكم، وردوا هذا الأمر إليهم، فقد سمعتم
كما سمعنا في مقام بعد مقام من نبي الله صلى الله عليه وآله إنهم أولى به
منكم، ثم جلس.
ثم قام زيد بن وهب، فتكلم.
وقام جماعة بعده، فتكلموا بنحو هذا.
فأخبر الثقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أن أبا بكر جلس في
بيته ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الثالث أتاه عمر بن الخطاب وطلحة والزبير
وعثمان بن عفان و عبد الرحمان بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن
الجراح، مع كل واحد منهم عشرة رجال من عشائرهم شاهرين للسيوف،
فأخرجوه من منزله، وعلا المنبر، فقال قائل منهم: والله لئن عاد منكم أحد
فتكلم بمثل الذي تكلم به لنملأن أسيافنا منه! فجلسوا في منازلهم، ولم يتكلم
أحد بعد ذلك (1).

(1) راجع الخصال ص 461 - 465.
437

أقول، روى (1) ذلك عن كشف اليقين عن أحمد بن محمد الطبري
المعروف بالخليلي من رواة العامة ورجالهم. وهنا تعاليق على البحار
وتحقيق العلامة المجلسي - رحمه الله - في الكتاب، فليراجع، لما فيها من
الفوائد. وقد ذكر بعد ذلك بعض جمل رواية كشف اليقين عن الطبري،
لم بينه وبين ما تقدم من الروايتين من الاختلاف.
وهو:
ثم قام عمار بن ياسر فقال:
معاشر قريش! هل علمتم أن أهل بيت نبيكم أحق بهذا الأمر
منكم؟ فمروا صاحبكم فليرد الحق إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم
ويضعف مسلككم وتختلفوا فيما بينكم، فقد علمتم أن بني هاشم أول بهذا
الأمر منكم، وأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن قلتم: إن السابقة
لنا، فأهل بيت نبيكم أقدم منكم سابقة وأعظم غناء من صاحبهم، وعلي بن
أي طالب صاحب هذا الأمر من بعد نبيكم، فاعطوه ما جعله الله له،
ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين.
ثم قام سهل بن حنيف الأنصاري فقال:
يا أبا بكر! لا تجحد حقا ما جعله الله لك، ولا تكن أول من عصى
رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل بيته، وأد الحق إلى أهله يخف ظهرك
ويقل وزرك وتلقى رسول الله راضيا، ولا تختص به نفسك، فعما قليل
ينقضي عنك ما أنت فيه، ثم تصير إلى الملك الرحمن فيحاسبك بعملك
ويسألك عما جئت له، وما الله بظلام للعبيد.

(1) أي العلامة المجلسي قدس سره.
438

ثم قام خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فقال:
يا أبا بكر! ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قبل
شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري؟ قال: نعم، قال: فأشهد بالله إني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: علي إمامكم بعدي.
قال:
وقام أبي بن كعب الأنصاري فقال:
أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أهل بيتي
يفرقون بين الحق والباطل، وهم الأئمة الذين يقتدى بهم.
وقام أبو الهيثم بن التيهان فقال:
وأنا أشهد على نبينا محمد صلى الله عليه وآله أنه أقام عليا
لتسلم له، فقال بعضهم: ما إقامة إلا للخلافة، وقال بعضهم: ما أقامه إلا ليعلم
الناس أنه مولى من كان رسول الله صلى الله عليه وآله مولاه، فتشاجروا في
ذلك، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، رجلا يسأله عن ذلك، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: هو وليكم بعدي، وأنصح الناس لكم بعد وفاتي.
وقام عثمان بن حنيف الأنصاري فقال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " أهل بيتي نجوم
الأرض ونور الأرض، فلا تقدموهم وقدموهم فهم الولاة بعدي " فقام إليه رجل،
فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وأي أهل بيتك أولى بذلك؟ فقال:
علي وولده.
439

وقام أبو أيوب الأنصاري فقال:
اتقوا الله في أهل بيت نبيكم، وردوا إليهم حقهم الذي جعله الله
لهم، فقد سمعنا مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبينا صلى الله عليه
وآله ومجلس بعد مجلس يقول: أهل بيتي أئمتكم بعدي.
قال: فجلس أبو بكر في بيته ثلاثة أيام، الخ.
(278)
أبي وأبو بكر
عن علي عليه السلام قال: لما خطب أبو بكر قام أبي بن كعب يوم جمعة
- وكان أول يوم من شهر رمضان - فقال: يا معشر المهاجرين الذين هاجروا
واتبعوا مرضات الرحمن وأثنى الله عليهم في القرآن، ويا معشر الأنصار الذين
تبوؤا الدار والإيمان وأثنى الله عليهم في القرآن، تناسيتم أم نسيتم؟ أم بدلتم
أم غيرتم؟ أم خذلتم أم عجزتم؟!
ألستم تعلمون أن رسول الله قام فينا مقاما أقام صلى الله عليه وآله لنا عليا،
فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه ومن كنت نبيه فهذا أميره؟
ألستم تعلمون أن رسول الله قال: يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى
طاعتك واجبة على من بعدي؟
أو لستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أوصيكم بأهل بيتي
خيرا فقدموهم ولا تتقدموهم وأمروهم ولا تأمروا عليهم؟
أو لستم تعلمون أن رسول الله قال: أهل بيتي الأئمة من بعدي؟
أو لستم تعلمون أن رسول الله قال: أهل بيتي منار الهدى والمدلون على الله؟
أو لستم تعلمون أن رسول الله قال: يا علي أنت الهادي لمن ضل؟
أو لستم تعلمون أن رسول الله قال: علي المحيي لسنتي، ومعلم أمتي، والقائم
440

بحجتي، وخير من أخلف بعدي، وسيد أهل بيتي، وأحب الناس إلي، طاعته
من بعدي كطاعتي على أمتي؟
أو لستم تعلمون أن رسول الله لم يول على علي عليه السلام أحدا منكم
وولاه في كل غيبة عليكم؟
أو لستم تعلمون أنهما كانا منزلتهما واحدا وأمرهما واحدا؟
أو لستم تعلمون أنه قال: إذا غبت عنكم وخلفت فيكم عليا فقد خلفت
فيكم رجلا كنفسي؟
أو لستم تعلمون أن رسول الله جمعنا قبل موته في بيت ابنته فاطمة
عليها السلام فقال لنا: إن الله أوحى إلى موسى أن اتخذ أخا من أهلك أجعله
نبيا وأجعل أهله لك ولدا وأطهرهم من الآفات وأخلعهم من الذنوب، فاتخذ
موسى هارون وولده، وكانوا أئمة بني إسرائيل من بعده والذين يحل لهم في
مساجدهم ما يحل لموسى. ألا وإن الله تعالى أوحى إلي أن اتخذ عليا أخا
كموسى اتخذ هارون أخا، واتخذه ولدا، فقد طهرتم كما طهرت ولد هارون،
إلا وأني ختمت بك النبيين فلا نبي بعدك، فهم الأئمة؟ (1).
أفما تفقهون؟ أما تبصرون؟ أما تسمعون؟ ضربت عليكم الشبهات فكان
مثلكم كمثل رجل في سفر أصابه عطش شديد حتى خشي أن يهلك، فلقي
رجلا هاديا بالطريق فسأله عن الماء، فقال: أمامك عينان: إحداهما مالحة
والأخرى عذبة، فإن أصبت من المالحة ضللت وهلكت، وإن أصبت من
العذبة هديت ورويت، فهذا مثلكم أيتها الأمة المهملة، كما زعمتم!
وأيم الله! ما أهملتم، لقد نصب لكم علم يحل لكم الحلال ويحرم عليكم
الحرام، ولو أطعتموه ما اختلفتم ولا تدابرتم ولا تعللتم ولا برئ بعضكم من بعض،

(1) راجع ما يأتي بعيد هذا.
441

فوا الله! إنكم بعده لمختلفون في أحكامكم، وإنكم بعده لناقضون عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وإنكم على عترته لمختلفون ومتباغضون، إن سئل هذا
عن غير ما علم أفتى برأيه، وإن سئل هذا عما يعلم أفتى برأيه، فقد تحاريتم
وزعمتم أن الاختلاف رحمة، هيهات! أبى كتاب الله ذلك عليكم، يقول الله
تبارك وتعالى: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات
أولئك لهم عذاب عظيم " وأخبرنا باختلافهم، فقال: " ولا يزالون مختلفين إلا
من رحم ربك ولذلك خلقهم " أي للرحمة، وهم آل محمد وشيعتهم، وسمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: يا علي أنت وشيعتك على الفطرة والناس
منها براء.
فهلا قبلتم من نبيكم؟ كيف! وهو يخبركم بانتكاصكم، وينهاكم عن
خلاف وصيه وأمينه ووزيره وأخيه ووليه، أطهركم قلبا وأعلمكم علما
وأقدمكم إسلاما وأعظمكم غناء عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أعطاه تراثه
وأوصاه بعداته واستخلفه على أمته ووضع عنده سره فهو وليه دونكم أجمعين،
وأحق به منكم أكتعين، سيد الوصيين، وأفضل المتقين، وأطوع الأمة لرب
العالمين، وسلم عليه بخلافة المؤمنين في حياة سيد النبيين وخاتم المرسلين.
فقد أعذر من أنذر، وأدى النصيحة من وعظ، وبصر من عمى وتعاشى
وردى، فقد سمعتم كما سمعنا، ورأيتم كما رأينا، وشهدتم كما شهدنا.
فقام عبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، فقالوا:
اقعد يا أبي! أصابك خبل أم أصابتك جنة؟ فقال: بل الخبل فيكم، كنت
عند رسول الله صلى الله عليه وآله فألفيته يكلم رجلا وأسمع كلامه ولا أرى
وجهه.
[فقال فيما يخاطبه: ما أنصحه لك ولأمتك وأعلمه بسنتك! فقال رسول الله
أفترى أمتي تنقاد له من بعدي؟ قال: يا محمد يتبعه من أمتك أبرارها، ويخالف
442

عليه من أمتك فجارها، وكذلك أوصياء النبيين من قبلك. يا محمد إن موسى
ابن عمران أوصى إلى يوشع بن نون، وكان أعلم بني إسرائيل وأخوفهم لله
وأطوعهم له، وأمره الله عز وجل أن يتخذه وصيا كما اتخذت عليا وصيا وكما
أمرت بذلك فحسده بنو إسرائيل سبط موسى خاصة، فلعنوه وشتموه وعنفوه
ووضعوا منه، فإن أخذت أمتك سنن بني إسرائيل كذبوا وصيك وجحدوا أمره
وابتزوا خلافته وغالطوه في علمه.
فقلت: يا رسول الله من هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله هذا ملك
من ملائكة ربي عز وجل ينبئني أن أمتي تختلف على وصيي علي بن أبي
طالب، وإني أوصيك يا أبي بوصية إن حفظتها لم تزل بخير، يا أبي! عليك
بعلي، فإنه الهادي المهدي الناصح لأمتي المحيي لسنتي، وهو إمامكم بعدي، فمن
رضي بذلك لقيني على ما فارقته عليه، يا أبي! ومن غير أو بدل لقيني ناكثا
لبيعتي عاصيا أمري جاحدا لنبوتي، لا أشفع له عند ربي ولا أسقيه من حوضي.
فقامت إليه رجال من الأنصار، فقالوا: اقعد رحمك الله يا أبي! فقد أديت
ما سمعت ووفيت بعهدك] (1).
(279)
بريدة وأبو بكر
قال: ثم قام بريدة الأسلمي، فقال: يا أبا بكر! أتناسيت أم تعاشيت؟ أم
خادعتك نفسك؟ أما تذكر إذ أمرنا رسول الله فسلمنا على علي بإمرة المؤمنين
وهو بين أظهرنا؟ فاتق الله، وتدارك نفسك قبل أن لا تداركها، وأنقذها من
هلكتها، وادفع هذا الأمر إلى من هو أحق به منك من أهله، ولا تماد في
اغتصابه، وارجع وأنت تستطيع أن ترجع، فقد محضت نصيحتك وبذلت لك

(1) البحار: ج 28 ص 221. ما بين العلامتين ساقط من طبع الكمپاني، أضفناه من المصدر.
443

ما عندي، ما إن فعلته وفقت ورشدت (1).
(280)
أبو ذر وبريدة عند أبي بكر
ننقل هنا ما نقله سليم من الاحتجاج بعد حذف واختصار.
(سليم عن سلمان الفارسي): وقام أبو ذر، فقال: أيتها الأمة المتحيرة بعد
نبيها المخذولة بعصيانها، إن الله يقول: " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم
وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم " وآل محمد
صلى الله عليه وآله الأخلاف من نوح، وآل إبراهيم من إبراهيم والصفوة
والسلالة من إسماعيل. وعترة النبي صلى الله عليه وآله محمد أهل بيت
النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وهم كالسماء المرفوعة، والجبال
المنصوبة، والكعبة المستورة، والعين الصافية، والنجوم الهادية، والشجرة المباركة
أضاء نورها وبورك زيتها، محمد خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم، وعلي وصي
الأوصياء، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وهو الصديق الأكبر، والفاروق
الأعظم، ووصي محمد صلى الله عليه وآله ووارث علمه، وأولى الناس
بالمؤمنين من أنفسهم، كما قال الله تعالى: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم
وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " فقدموا من
قدم الله، وأخروا من أخر الله، واجعلوا الولاية والوزارة لمن جعل الله.
فقام عمر فقال لأبي بكر - وهو جالس فوق المنبر -: ما يجلسك فوق المنبر وهذا
جالس محارب لا يقوم فيبايع (يعني عليا عليه السلام)؟ أو تأمر به فنضرب
عنقه؟ والحسن والحسين عليهما السلام قائمان، فلما سمعا مقالة عمر بكيا،

(1) وفي الطبعة ص (221) جعل ذلك رواية أخرى مستقلة قبل نقله الرواية المتقدمة وراجع أيضا
ص (300) من البحار.
444

فضمهما إلى صدره فقال: لا تبكيا فوالله ما يقدران على قتل أبيكما.
وأقبلت أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت: يا أبا بكر
ما أسرع ما أبديتم حسدكم ونفاقكم!
فأمر بها عمر فأخرجت من المسجد، وقال: ما لنا وللنساء؟
وقام بريدة الأسلمي وقال:
يا عمر! أتثب على أخي رسول الله وأبي ولده، وأنت الذي نعرفك
في قريش بما نعرفك؟ ألستما اللذين قال لكما رسول الله صلى الله عليه وآله:
" انطلقا إلى علي عليه السلام وسلما عليه بإمرة المؤمنين " فقلتما: أعن أمر الله
وأمر رسوله؟ فقال: نعم؟
فقال أبو بكر: قد كان ذلك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله قال بعد
ذلك: لا يجتمع لأهل بيتي الخلافة والنبوة
فقال: والله ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه وآله، والله لا سكنت في
بلدة أنت فيها أمير! فأمر به عمر فضرب وطرد.
ثم قال: قم يا ابن أبي طالب فبايع، فقال عليه السلام: فإن لم أفعل؟ قال:
إذا والله تضرب عنقك! فاحتج عليهم ثلاث مرات، ثم مد يده من غير أن يفتح
كفه، فضرب عليها أبو بكر ورضي بذلك منه.
فنادى علي عليه السلام قبل أن يبايع والحبل في عنقه: " يا ابن أم إن القوم
استضعفوني وكادوا يقتلونني ".
وقيل للزبير: بايع، فأبى فوثب عمر وخالد والمغيرة بن شعبة في أناس،
فانتزعوا سيفه فضربوا به الأرض حتى كسروه لببوه. فقال الزبير وعمر على
صدره:، يا ابن صهاك! أما والله لو أن سيفي في يدي لحدت عني، فبايع.
قال سلمان: ثم أخذوني فوجأوا عنقي حتى تركوها كالسلعة. ثم أخذوا
445

يدي وفتلوها، فبايعت مكرها.
ثم بايع أبو ذر والمقداد مكرهين، وما بايع أحد من الأمة مكرها غير علي
وأربعتنا، ولم يكن منا أحد أشد قولا من الزبير، فإنه لما بايع قال: يا بن
هاك! أما والله لولا هؤلاء الطغاة الذين أعانوك لما كنت تقدم علي ومعي
سيفي، لما أعرف من جبنك ولؤمك، ولكن وجدت طغات تقوى بهم وتصون.
فغضب عمرو قال: أتذكر صهاكا؟ فقال: ومن صهاك؟ وما يمنعني من
ذكرها، وقد كانت صهاك زانية؟ أو تنكر ذلك؟ أوليس قد كانت أمة
حبشية لجدي عبد المطلب، فزنا بها جدك نفيل، فولدت أباك الخطاب، فوهبها
عبد المطلب له بعد مازنا بها، فولدته، وإنه لعبد جدي ولد زنا! فأصلح بينهما أبو
بكر كف كل واحد منهما عن صاحبه.
قال سليم: فقلت لسلمان: فبايعت أبا بكر يا سلمان ولم تقل شيئا؟ قال:
قد قلت بعد ما بايعت: تبا لكم سائر الدهر! أو تدرون ما صنعتم بأنفسكم؟
أصبتم وأخطأتم، أصبتم سنة من كان قبلكم من الفرقة والاختلاف، وأخطأتم
سنة نبيكم صلى الله عليه وآله حتى أخرجتموها من معدنها وأهلها (1).
فقال عمر: يا سلمان أما إذا بايع صاحبك وبايعت فقل ما شئت وافعل
ما بدا لك، وليقل صاحبك ما بدا له.
قال سلمان: فقلت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن
عليك وعلى صاحبك الذي بايعته مثل ذنوب أمته إلى يوم القيامة ومثل عذابهم
جميعا. فقال: قل ما شئت أليس قد بايعت؟ ولم يقر الله عينك بأن يليها
صاحبك! فقلت: أشهد أني قد قرأت في بعض كتب الله المنزلة أنه باسمك
ونسبك وصفتك باب من أبواب جهنم، فقال لي: قل ما شئت أليس قد أزالها

(1) راجع شرح النهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص 170.
446

الله عن أهل البيت الذين اتخذتموهم أربابا من دون الله؟ فقلت له: أشهد
أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول وسألته عن هذه الآية: " فيومئذ
لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد " فأخبرني أنك أنت هو، فقال لي عمر:
اسكت أسكت الله نأمتك! أيها العبد ابن اللخناء! فقال لي علي عليه السلام:
أقسمت عليك يا سلمان لما سكت.
فقال سلمان: والله لو لم يأمرني علي عليه السلام بالسكوت لخبرته بكل
شئ نزل فيه وكل شئ سمعته من رسول الله فيه وفي صاحبه. فلما رآني عمر قد
سكت قال: إنك له لمطيع مسلم.
فلما أن بايع أبو ذر والمقداد ولم يقولا شيئا، قال عمر: يا سلمان ألا تكف
كما كف صاحباك؟ والله! ما أنت بأشد حبا لأهل هذا البيت منهما ولا أشد
تعظيما لحقهم منهما، وقد كفا كما ترى وبايعا، قال أبو ذر: أفتعيرنا يا عمر بحب
آل محمد صلى الله عليه وآله وتعظيمهم؟ لعن الله - وقد فعل - من أبغضهم
وافترى عليهم، وظلمهم حقهم، وحمل الناس على رقابهم، ورد هذه الأمة القهقري
على أدبارها، فقال عمر: آمين! لعن الله من ظلمهم حقوقهم، لا والله! ما لهم
فيها حق وما هم فيها وعرض الناس إلا سواء.
قال أبو ذر: فلم خاصمتم الأنصار بحقهم وحجتهم؟ الحديث (1).
وقال البراء بن عازب: لم أزل لبني هاشم محبا (حبا شديدا في حياة
رسول الله صلى الله عليه وآله وبعد وفاته) فلما قبض رسول الله صلى الله عليه
وآله (أوصى عليا أن لا يلي غسله غيره وأنه لا ينبغي لأحد أن يرى عورته غيره
وأنه ليس أحد يرى عورة رسول الله صلى الله عليه وآله إلا ذهب بصره، فقال
علي عليه السلام: يا رسول الله فمن يعينني على غسلك؟ قال: جبرئيل

(1) البحار: ج 28 ص 275 وما بعدها.
447

عليه السلام في جنود من الملائكة، فكان علي عليه السلام يغسله والفضل بن
العباس مربوط العينين يصب الماء والملائكة يقلبونه له كيف شاء، ولقد أراد
علي عليه السلام أن ينزع قميص رسول الله صلى الله عليه وآله فصاح به صائح:
لا تنزع قميص نبيك يا علي، فأدخل يده تحت القميص فغسله، ثم حنطه
وكفنه، ثم نزع القميص عند تكفينه وتحنيطه).
فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله خفت أن تتمالأ قريش على
إخراج هذا الأمر من بني هاشم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول، مع ما في
نفسي من الحزن لوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، فكنت أتردد إلى بني هاشم
وهم عند النبي صلى الله عليه وآله في الحجرة وأتفقد وجوه قريش، فإني
كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر! وإذا قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة،
وإذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر!! فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل
ومعه عمر وأبي عبيدة قد أقبلوا في أهل السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية
لا يمر بهم أحد إلا خبطوه، فإذا عرفوه مدوا يده على يد أبي بكر شاء ذلك أم
أبى، فأنكرت عند ذلك عقلي جزعا منه مع المصيبة برسول الله صلى الله عليه
وآله فخرجت مسرعا حتى أتيت المسجد، ثم أتيت بني هاشم والباب مغلق
دونهم، فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا وقلت: يا أهل البيت! فخرج إلي
الفضل بن العباس، فقلت: قد بايع الناس أبا بكر!! فقال العباس: قد تربت
أيديكم منها آخر الدهر! أما إني قد أمرتكم فعصيتموني.
فمكثت أكابد ما في نفسي، فلما كان الليل خرجت إلى المسجد، فلما
صرت فيه تذكرت أني كنت أسمع همهمة رسول الله صلى الله عليه وآله
بالقرآن، فانبعثت من مكاني فخرجت نحو الفضاء، فوجدت نفرا يتناجون، فلما
دنوت منهم سكتوا، فانصرفت عنهم، فعرفوني وما عرفتهم، فدعوني فأتيتهم، وإذا
المقداد وأبو ذر وسلمان وعمار بن ياسر وعبادة بن الصامت وأبو الهيثم بن
448

التيهان وحذيفة بن اليمان والزبير بن العوام، وحذيفة يقول: " والله ليفعلن
ما أخبرتكم به! فوالله ما كذبت ولا كذبت! " وإذا القوم يريدون أن يعيدوا
الأمر شورى بين المهاجرين والأنصار، فقال: حذيفة: انطلقوا بنا إلى أبي بن
كعب، فقد علم مثل ما علمت.
قال: فانطلقنا إلى أبي بن كعب، وضربنا عليه بابه، فأتى حتى صار خلف
الباب، ثم قال: من أنتم؟ فكلمه المقداد، فقال: ما جاء بك؟ فقال له: افتح
فإن الأمر الذي جئنا فيه أعظم من أن يجري وراء الباب، فقال: ما أنا بفاتح
بابي وقد علمت ما جئتم له وما أنا بفاتح بابي، كأنكم أردتم النظر في هذا
العقد؟ فقلنا: نعم، فقال: أفيكم حذيفة؟ فقلنا: نعم، فقال: القول ما قال
حذيفة، فأما أنا فلا أفتح بابي حتى يجري علي ما هو جار عليه، وما يكون
بعدها شر منها! وإلى الله جل ثناؤه المشتكى. قال: فرجعوا ثم دخل أبي بن
كعب بيته.
قال: وبلغ أبا بكر وعمر الخبر، فأرسلا إلى أبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن
شعبة فسألاهما الرأي، فقال المغيرة بن شعبة: أرى أن تلقوا العباس بن
عبد المطلب، فتطمعوه في أن يكون له في هذا الأمر نصيب يكون له ولعقبه من
بعده، فتقطعوه بذلك عن ابن أخيه علي بن أبي طالب، فإن العباس لو صار
معكم كانت الحجة على الناس، وهان عليكم أمر علي بن أبي طالب وحده.
قال: فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة حتى
دخلوا على العباس في الليلة الثانية من وفاة رسول الله قال: فتكلم أبو بكر،
فحمد الله عز وجل وأثنى عليه، وقال:
إن الله ابتعث لكم محمدا صلى الله عليه وآله نبيا وللمؤمنين وليا، فمن الله
عليهم بكونه بين ظهرانيهم حتى اختار له ما عنده، وترك للناس أمرهم
ليختاروا لأنفسهم مصلحتهم متفقين لا مختلفين، فاختاروني عليهم واليا
449

ولأمورهم راعيا، فتولوني ذلك، وما أخاف بعون الله وهنا ولا حيرة ولا جبنا،
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
غير أني لا أنفك من طاعن يبلغني، فيقول بخلاف قول العامة، فيتخذكم
لجأ فتكونون حصنه المنيع وخطبه البديع، فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا
عليه أو صرفتموهم عما مالوا إليه، فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا
الأمر نصيبا يكون لك ولعقبك من بعدك، إذ كنت عم رسول الله صلى الله
عليه وآله وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان صاحبك، فعدلوا بهذا الأمر
عنكما (وعلى رسلكم بني هاشم، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله منا ومنكم).
فاعترض كلامه عمر وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد وإتيان الأمر
من أصعب جهاته، فقال:
إي والله! وأخرى يا بني هاشم على رسلكم، فإن رسول الله صلى الله عليه
وآله منا ومنكم، ولم نأتك حاجة منا إليكم، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما
اجتمع عليه المسلمون فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم وللعامة!.
فتكلم العباس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
إن الله ابتعث محمدا نبيا كما وصفت ووليا للمؤمنين، فمن الله به على أمته
حتى اختار له ما عنده، فخلى الناس على أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين
للحق مائلين عن زيغ الهوى، فإن كنت برسول الله طلبت الأمر هذا فحقنا
أخذت، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم، ما تقدمنا في أمركم فرطا
ولا حللنا منكم وسطا وبرحنا شحطا، فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما
وجب إذ كنا كارهين؟ وما أبعد قولك: إنهم طعنوا عليك من قولك: إنهم
مالوا إليك! وأما ما بذلت لنا فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك، وإن
يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه، وإن يكن حقنا لم نرض لك ببعضه
دون بعض، وما أقول هذا أروم صرفك عما دخلت فيه، ولكن للحجة نصيبها
450

من البيان. وأما قولك يا عمر: " إن رسول الله صلى الله عليه وآله منا ومنكم "
فإن رسول الله صلى الله عليه وآله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها. وأما
قولك يا عمر: " إنك تخاف الناس علينا " فهذا الذي قدمتموه أول ذلك،
وبالله المستعان.
فخرجوا من عنده، وأنشأ العباس يقول:
ما كنت أحسب هذا الأمر منحرفا * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن!
أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعلم الناس بالآثار والسنن؟
وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن * جبريل عون له بالغسل والكفن
من فيه ما في جميع الناس كلهم * وليس في الناس ما فيه من الحسن
من ذا الذي ردكم عنه فنعرفه؟ * ها إن بيعتكم من أول الفتن (1)
(281)
راع وأبو بكر
روى رافع بن أبي رافع الطائي عن أبي بكر وقد صحبه في سفر، قال: قلت
له: يا أبا بكر علمني شيئا ينفعني الله به.
قال، كنت فاعلا ولو لم تسألني، لا تشرك بالله شيئا، وأقم الصلاة، وآت
الزكاة، وصم شهر رمضان، وحج البيت واعتمر، ولا تتأمرن على اثنين من
المسلمين.
قال: قلت له: أما ما أمرتني به من الإيمان والصلاة والحج والعمرة والزكاة
فأنا أفعله، وأما الإمارة: فإني رأيت الناس لا يصيبون هذا الشرف وهذا الغنى

(1) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 1 ص 219 وج 2 ص 51. والبحار: ج 28 ص 285. وقد
دخل رواية بعضهم في بعض. وراجع قاموس الرجال: ج 5 ص 234 - 235. وبهج الصباغة: ج 5 ص 40
- 41. والغدير: ج 5 ص 374. والإمامة والسياسة: ج 1 ص 21.
451

والعز والمنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وآله إلا بها.
قال: إنك استنصحتني فأجهدت نفسي لك.
فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله واستخلف أبا بكر جئته
وقلت له: يا أبا بكر! ألم تنهني أن أتأمر على اثنين؟ قال: بلى، قلت: فما لك
تأمرت على أمة محمد صلى الله عليه وآله؟ قال: اختلف الناس وخفت
عليهم الضلالة ودعوني، فم أجد من ذلك بدا (1).
(282)
سلمان يخطب
خطب الناس سلمان الفارسي - رحمه الله - بعد أن دفن النبي عليه وآله السلام
بثلاثة أيام، فقال فيها:
ألا أيها الناس! اسمعوا عني حديثي ثم أعقلوه عني، ألا! إني أوتيت
علما كثيرا، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام لقال
طائفة منكم: هو مجنون، وقال طائفة أخرى: اللهم اغفر لقاتل سلمان، ألا! إن
لكم منايا تتبعها بلايا، ألا! وإن عند علي بن أبي طالب عليه السلام المنايا
والبلايا وميراث الوصايا وفصل الخطاب وأصل الأنساب على منهاج هارون بن
عمران بن موسى عليهما السلام إذ يقول له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أنت وصيي في أهلي وخليفتي في أمتي وبمنزلة هارون من موسى، ولكنكم
أخذتم سنة بني إسرائيل، فأخطأتم الحق، تعلمون فلا تعملون، أما والله! لتركبن
طبقا عن طبق على سنة بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة. أما
والذي نفس سلمان بيده! لو وليتموها عليا عليه السلام لأكلتم من فوقكم ومن
تحت أرجلكم، ولو دعوتم الطير في جو السماء لأجابتكم، ولو دعوتم الحيتان من

(1) البحار: ج 8 ص 86 ط الكمباني عن الاحتجاج.
452

البحار لأتتكم، ولما عال ولي الله، ولا طاش لكم سهم من فرائض الله، ولا
اختلف اثنان في حكم الله، ولكن أبيتم فوليتموها غيره، فأبشروا بالبلاء،
واقنطوا من الرخاء، وقد نابذتكم على سواء، فانقطعت العصمة فيما بيني
وبينكم من الولاء، عليكم بآل محمد عليهم السلام فإنهم القادة إلى الجنة
والدعاء إليها يوم القيامة.
عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية
وإمرة المؤمنين مرارا جمة مع نبينا، كل ذلك يأمرنا به ويؤكده علينا، فما بال
القوم عرفوا فضله فحسدوه؟ وقد حسد قابيل هابيل فقتله، وكفارا قد ارتدت
أمة موسى بن عمران عليه السلام فأمر هذه الأمة كما أمر بني إسرائيل، فأين
يذهب بكم أيها الناس؟ ويحكم! ما أنا وأبو فلان وفلان؟ أجهلتم أم تجاهلتم؟
أم حسدتم أم تحاسدتم؟ والله لترتدن كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض
بالسيف، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة، ويشهد الشاهد على الكافرين
بالنجاة.
ألا! وإني أظهرت أمري وسلمت لنبيي، واتبعت مولاي ومولى كل مؤمن
ومؤمنة عليا أمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين وإمام الصديقين
والشهداء والصالحين (1).
(283)
أبي وأبو بكر
احتجاج أبي بن كعب مع أبي بكر برواية الاحتجاج، وقد مر برواية
كشف اليقين، ولقد أوردنا الروايتين لما بينهما من الاختلاف.
عن علي بن أبي طلب صلوات الله عليه قال: لما خطب أبو بكر قام أبي

(1) البحار: ج 8 ص 87 ط الكمباني عن الاحتجاج: ج 1 ص 151.
453

ابن كعب، فكان يوم الجمعة أول يوم من شهر رمضان، فقال:
يا معاشر المهاجرين الذين اتبعوا مرضات الله وأثنى الله عليهم في القرآن!
ويا معاشر الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان وأثنى الله عليهم في القرآن!
تناسيتم أم نسيتم؟ أم بدلتم أم غيرتم؟ أم خذلتم أم عجزتم؟
ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قام فينا مقاما أقام فيه عليا
فقال: من كنت مولاه فهذا مولاه - يعني عليا - ومن كنت نبيه فهذا أميره؟
ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: يا علي أنت مني
بمنزلة هارون من موسى، طاعتك واجبة على من بعدي كطاعتي في حياتي، إلا
أنه لا نبي بعدي؟
ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أوصيكم بأهل بيتي
خيرا، فقدموهم ولا تتقدموهم، وأمروهم ولا تتأمروا عليهم؟
ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أهل بيتي منار الهدى
والدالون على الله؟
ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي: أنت الهادي لمن
ضل؟
ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: علي المحيي لسنتي،
ومعلم أمتي، والقائم بحجتي، وخير من أخلف من بعدي، وسيد أهل بيتي،
أحب الناس إلي، طاعته كطاعتي على أمتي؟
ألستم تعلمون أنه لم يول على علي عليه السلام أحدا منكم وولاه في كل
غيبته عليكم؟
ألستم تعلمون أنه كان منزلهما في أسفارهما واحدا، وارتحالهما وأمرهما
واحدا؟
ألستم تعلمون أنه قال: إذا غبت فخلفت فيكم عليا فقد خلفت فيكم
454

رجلا كنفسي؟
ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قبل موته قد جمعنا في بيت
ابنته فاطمة عليها السلام فقال لنا: إن الله أوحى إلى موسى بن عمران
عليه السلام أن اتخذ أخا من أهلك فأجعله نبيا، وأجعل أهله لك ولدا أطهرهم
من الآفات وأخلصهم من الريب، فاتخذ موسى هارون أخا وولده أئمة لبني
إسرائيل من بعده، يحل لهم في مساجدهم ما يحل لموسى، وإن الله أوحى إلي
أن أتخذ عليا عليه السلام أخا كموسى اتخذ هارون أخا واتخذ ولده ولدا، فقد
طهرتهم كما طهرت ولد هارون، إلا أني ختمت بك النبيين فلا نبي بعدك،
فهم الأئمة الهادية؟
أفما تبصرون؟ أفما تفقهون؟ أما تسمعون؟ ضربت عليكم الشبهات، فكان
مثلكم كمثل رجل في سفر فأصابه عطش شديد حتى خشي أن يهلك، فلقي
رجلا هاديا في الطريق فسأله عن الماء، فقال له: أمامك عينان: أحدهما مالحة
والأخرى عذبة، فإن أصبت المالحة ضللت، وإن أصبت العذبة هديت
ورويت، فهذا مثلكم أيتها الأمة المهملة كما زعمتم.
وأيم الله! ما أهملتم، لقد نصب لكم علم يحل لكم الحلال ويحرم عليكم
الحرام، لو أطعتموه ما اختلفتم ولا تدابرتم ولا تقاتلتم، ولا برئ بعضكم من بعض.
فوالله! إنكم بعده لمختلفون في أحكامكم، وإنكم بعده لناقضوا عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنكم على عترته لمختلفون، إن سئل هذا عن غير
من يعلم أفتى برأيه.
فقد أبعدتم وتجاريتم (1) وزعمتم الاختلاف رحمة، هيهات! أبى الكتاب ذلك
عليهم (2)، يقول الله تبارك وتعالى: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد

(1) في الاحتجاج: " تخارستم ".
(2) في الاحتجاج: " عليكم ".
455

ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " ثم أخبرنا باختلافكم، فقال:
" ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " أي الرحمة وهم آل
محمد.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " يا علي أنت وشيعتك على
الفطرة والناس منهم براء " فهلا قبلتم من نبيكم صلى الله عليه وآله، كيف!
وهو خبركم بانتكاصكم عن وصيه عليه السلام وأمينه ووزيره وأخيه ووليه
دونكم أجمعين، أطهركم قلبا، وأعلمكم علما، وأقدمكم سلما، وأعظمكم
غناء عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أعطاه تراثه، وأوصاه بعداته، واستخلفه
على أمته، ووضع عنده سره، فهو وليه دونكم أجمعين، وأحق به منكم على
التعيين (1)، سيد الوصيين، وأفضل المتقين، وأطوع الأمة لرب العالمين، سلمتم
عليه بخلافة المؤمنين في حياة سيد النبيين وخاتم المرسلين.
فقد أعذر من أنذر، وأدى النصيحة من وعظ، وبصر من عمى، فقد سمعتم
كما سمعنا، ورأيتم كما رأينا، وشهدتم كما شهدنا.
فقام عبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل - لعنهم الله -
فقالوا: يا أبي! أصابك خبل؟ أم بك جنة؟ فقال: بل الخبل فيكم! كنت عند
رسول الله صلى الله عليه وآله يوما فألفيته يكلم رجلا أسمع كلامه ولا أرى
وجهه، فقال فيما يخاطبه: ما أنصحه لك ولأمتك! وأعلمه بسنتك! فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: أفترى أمتي تنقاد له من بعدي؟ قال: يا محمد
تتبعه من أمتك أبرارها وتخالف عليه من أمتك فجارها، وكذلك أوصياء
النبيين من قبلك، يا محمد صلى الله عليه وآله إن موسى بن عمران عليه السلام
أوصى ليوشع بن نون، وكان أعلم بني إسرائيل وأخوفهم لله وأطوعهم له، وأمره

(1) في الاحتجاج " منكم أكتعين ".
456

الله أن يتخذه وصيا، كما اتخذت عليا وصيا وكما أمرت بذلك، فحسده بنو
إسرائيل سبط موسى خاصة، فلعنوه وشتموه وعنفوه ووضعوا منه، فإن أخذت
أمتك سنن بني إسرائيل كذبوا وصيك وجحدوا أمره وابتزوا خلافته وغالطوه في
علمه.
فقلت: يا رسول الله من هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا ملك
من ملائكة الله ربي عز وجل ينبئني أن أمتي تختلف (1) على وصيي علي بن أبي
طالب عليه السلام، وإني أوصيك يا أبي بوصية إن حفظتها لم تزل بخير: يا أبي
عليك بعلي، فإنه الهادي المهدي والناصح لأمتي، المحيي لسنتي، وهو إمامكم
بعدي، فمن رضي بذلك لقيني على ما فارقته عليه. يا أبي ومن غير وبدل لقيني
ناكثا لبيعتي، عاصيا أمري جاحدا لنبوتي، لا أشفع له عند ربي ولا أسقيه من
حوضي.
فقامت إليه رجال من الأنصار، فقالوا: قد رحمك الله يا أبي! فقد أديت
ما سمعت ووفيت بعهدك (2).
(284)
أسامة وأبو بكر
روي عن الباقر عليه السلام: أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: اكتب إلى
أسامة يقدم عليك، فإن في قدومه قطع الشنعة عنا، فكتب أبو بكر إليه:
من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أسامة بن زيد، أما
بعد: فانظر إذا أتاك كتابي فأقبل إلي أنت ومن معك، فإن المسلمين قد
اجتمعوا وولوني أمرهم، فلا تتخلفن فتعصي ويأتيك مني ما تكره، والسلام.

(1) في الاحتجاج: تتخلف.
(2) البحار: ج 8 ص 87 ط الكمباني عن الاحتجاج: ج 1 ص 153.
457

قال: فكتب إليه أسامة جواب كتابه:
من أسامة بن زيد عامل رسول الله صلى الله عليه وآله على غزوة الشام أما
بعد، فقد أتاني لك كتاب ينقض أوله آخره! ذكرت في أنك خليفة
رسول الله صلى الله عليه وآله وذكرت في آخره أن المسلمين اجتمعوا عليك
فولوك أمورهم ورضوا بك! واعلم أني أنا ومن معي من جماعة المسلمين
والمهاجرين، فلا والله ما رضينا بك ولا وليناك أمرنا!
وانظر أن تدفع الحق إلى أهله وتخليهم وإياه، فإنهم أحق به منك، فقد
علمت ما كان من قول رسول الله صلى الله عليه وآله في علي عليه السلام يوم
غدير خم، فما طال العهد فتنسى. انظر بمركزك ولا تخالف فتعصي الله ورسوله
وتعصي ما استخلفه رسول الله صلى الله عليه وآله عليك وعلى صاحبك، ولم
يعزلني حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنك وصاحبك رجعتما
وعصيتما فأقمتما في المدينة بغير إذني، الخ (1).
(285) خطبة الزهراء عليها السلام في المسجد
روى عبد الله بن الحسن بإسناده، عن آبائه عليهم السلام: أنه لما أجمع أبو
بكر وعمر على منع فاطمة عليها السلام فدكا وبلغها ذلك، لاثت خمارها على
رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها،
ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله حتى دخلت على أبي
بكر، وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم.
فنيطت دونها ملاءة، فجلست، ثم أنت أنه أجهش القوم لها بالبكاء!
فارتج المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم،

(1) البحار: ج 8 ص 88 ط الكباني عن الاحتجاج وكشف اليقين.
458

افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها، فقالت
عليها السلام:
الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم: من عموم
نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها، جم عن الاحصاء
عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم
لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى
أمثالها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها
وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته،
ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شئ كان
قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كونها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير
حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته وتنبيها على
طاعته، وإظهارا لقدرته تعبدا لبريته، وإعزازا لدعوته، ثم جعل الثواب على
طاعته، ووضع العقاب على معصيته، زيادة لعباده من نقمته وحياشة لهم إلى
جنته.
وأشهد أن أبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله، اختاره قبل
أن أرسله وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إد الخلائق بالغيب
مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علما من الله تعالى بما
يلي الأمور (بمآيل الأمور خ) وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور.
ابتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه
(رحمته خ) فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها،
منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي محمدا صلى الله عليه وآله ظلمها، وكشف
459

عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار غممها (عماها خ) وقام في الناس
بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم
ودعاهم إلى الطريق المستقيم.
ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار، فمحمد صلى الله عليه
وآله من تعب هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب
الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى الله على أبي نبيه وأمينه وخيرته من الخلق
وصفيه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
ثم التفتت إلى أهل المجلس، وقالت:.
أنتم عباد الله! نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم
وبلغاؤه إلى الأمم، زعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها
عليكم: كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء
اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه،
قائد إلى الرضوان اتباعه (1)، مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال حجج الله، المنورة،
وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله
المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة.
فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر،
والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق، والصيام تثبيتا للاخلاص، والحج تشييدا
للدين، والعدل تنسيقا للقلوب، وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا للفرقة،
والجهاد عزا للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف
مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منساة في العمر
ومنماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، وتوفية

(1) في الاحتجاج: " قائدا إلى الرضوان أتباعه ".
460

المكائيل والموازين تغييرا للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس،
واجتناب القذف حجابا عن اللعنة، ترك السرقة إيجابا للعفة، وحرم الله
الشرك إخلاصا له بالربوبية " فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون " وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه " إنما يخشى الله من عباده
العلماء ".
ثم قالت:
أيها الناس! اعلموا أني فاطمة وأبي محمدا صلى الله عليه وآله أقول عودا
وبدوا، ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل شططا " لقد جاءكم رسول من
أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " فإن تعزوه
وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولتعم المعزي
إليه صلى الله عليه وآله وسلم فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة، مائلا عن مدرجة
المشركين، ضاربا ثبجهم، آخذا بأكظامهم، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة
والموعظة الحسنة، يجف (يكسر خ) الأصنام، وينكث الهام، حتى انهزم الجمع
وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم
الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلت عقد
الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماصر وكنتم على
شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ
الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم
الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وآله.
بعد اللتيا والتي وبعد أن مني بهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل
الكتاب " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " أو نجم قرن الشيطان أو فغرت
فاغرة من المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها
(صماخها خ) بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر
461

الله، قريبا من رسول الله، سيدا في أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا كادحا،
لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون،
تتربصون بنا الدوائر، وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرون من
القتال.
فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة
النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين،
وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه
هاتفا بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم
فوجدكم خفافا، وأحمشكم فألفاكم غضابا، فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير
شربكم.
هذا، والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما
يقبر، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة، " ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة
بالكافرين ".
فهيهات منكم! وكيف بكم! وأنى تؤفكون؟ وكتاب الله بين أظهركم: أموره
ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة،
وقد خلفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ " بئس
للظالمين بدلا "! " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من
الخاسرين ".
ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها، ويسلس قيادها، ثم أخذتم تورون
وقدتها، وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار
الدين الجلي، وإهمال سنن النبي الصفي، تشربون حسوا في ارتغاء، وتمشون
لأهله وولده في الخمرة والضراء، ويصبر منكم على مثل حز المدى ووخز السنان
في الحشا.
462

وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا! " أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من
الله حكما لقوم يوقنون "؟ أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية.
إني ابنته أيها المسلمون! أأغلب على إرثي؟!
يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت
شيئا فريا! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول
" وورث سليمان داود " وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا عليهما السلام
إذ قال: " فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " وقال: " وأولو
الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " وقال: " يوصيكم الله في أولادكم
للذكر مثل حظ الأنثيين " وقال: " إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين
بالمعروف حقا على المتقين ".
وزعمتم أن لا حظوة لي ولا أرث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية
أخرج منها أبي؟ أم تقولون: أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من أهل
ملة واحدة؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟
فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد،
والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون " لكل
نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ".
ثم رمت بطرفها نحو الأنصار، فقالت:
يا معشر الفتية (1) وأعضاد الملة وحضنة الإسلام! ما هذه الغميزة في حقي
والسنة عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله صلى الله عليه وآله أبي يقول:
" المرء يحفظ في ولده "؟ سرعان ما أحدثتم! وعجلان ذا إهالة! ولكم طاقة بما
أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول، أتقولون: مات محمد؟ فخطب جليل:

(1) في الاحتجاج: " النقيبة ".
463

استوسع وهنه، واستنهر فتقه، وانفتق رتقه، وأظلمت الأرض لغيبته [واكتأبت
خيرة الله لمصيبته] (1) وكسفت الشمس والقمر، وانتثرت النجوم لمصيبته،
وأحدت الآمال، وخشعت الجبال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته،
فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى! لا مثلها نازلة، ولا بائقة (باقية
خ) عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم وفي ممساكم ومصبحكم
(يهتف في أفنيتكم خ) هتافا وصراخا وتلاوة وألحانا، ولقبله ما حلت بأنبياء
الله ورسله، حكم فصل وقضاء حتم " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله
الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فن يضر
الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ".
إيها بني قيلة! أأهضم تراث أبي؟ وأنتم بمرأى مني ومسمع ومنتدى ومجمع،
تلبسكم الدعوة وتشملكم الخبرة، وأنتم ذووا العدد والعدة والأداة والقوة،
وعندكم السلاح والجنة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا
تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي
انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت، قاتلتم العرب، وتحملتم الكد
والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البهم، لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون،
حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام، ودر حلب الأيام، وخضعت ثغرة الشرك،
وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق
نظام الدين، فأنى حزتم بعد البيان، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم بعد
الإقدام، وأشركتم بعد الإيمان؟ بؤسا لقوم! " نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج
الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ".
ألا! قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وأبعدتم من هو أحق بالبسط

(1) ما بين العلامتين لم يرد في الاحتجاج.
464

والقبض، وخلوتم بالدعة، ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم ما وعيتم، ودسعتم
الذي تسوغتم " فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد " ألا!
وقد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة التي خامرتكم، والغدرة التي
استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس، ونفثة الغيظ، وخور القناة، وبثة
الصدر، وتقدمة الحجة، فدونكموها! فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخف، باقية
العار، موسومة بغضب الله وشنار الأبد، موصولة ب‍ " نار الله الموقدة التي تطلع
على الأفئدة "! فبعين الله ما تفعلون " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون "، وأنا ابنة " نذير لكم بين يدي عذاب شديد "، " فاعملوا إنا عاملون
وانتظروا إنا منتظرون ".
فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان، وقال:
يا ابنة رسول الله! لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما رؤوفا رحيما، وعلى
الكافرين عذابا أليما وعقابا عظيما، إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، وأخا
إلفك دون الأخلاء، آثره على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم، لا يحبكم
إلا سعيد ولا يبغضكم إلا شقي بعيد، فأنتم عترة رسول الله صلى الله عليه وآله
الطيبون الخيرة المنتجبون، على الخير أدلتنا وإلى الجنة مسالكنا، وأنت يا خيرة
النساء وابنة خير الأنبياء صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة
عن حقك، ولا مصدودة عن صدقك، والله ما عدوت رأي رسول الله صلى الله
عليه وآله ولا عملت إلا بإذنه، وإن الرائد لا يكذب أهله، فإني أشهد الله وكفى
به شهيدا: أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " نحن معاشر
الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا دارا ولا عقارا، وإنما نورث الكتاب والحكمة
والعلم والنبوة، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه "
وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفار
ويجالدون المردة الفجار، وذلك بإجماع من المسلمين لم أنفرد به وحدي، ولم
465

أستبد بما كان الرأي فيه عندي، وهذه حالي، ومالي هي لك وبين يديك
لا تزوى عنك ولا ندخر دونك، وإنك وأنت سيدة أمة أبيك، والشجرة الطيبة
لبنيك، لا ندفع مالك بن فضلك، ولا يوضع في فرعك وأصلك، وحكمك نافذ
فيما ملكت يداي، فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك صلى الله عليه وآله؟!
فقال عليها السلام:
سبحان الله! ما كان أبي رسول الله صلى الله عليه وآله عن كتاب الله
صادفا ولا لأحكامه مخالفا، بل كان يتبع أثره ويقفو سوره، أفتجمعون إلى
الغدر اعتلالا عليه بالزور؟ وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في
حياته، هذا كتاب الله حكما عدلا وناطقا فصلا يقول: " يرثني ويرث من آل
يعقوب " ويقول: " وورث سليمان داود " فبين عز وجل فيما وزع من الأقساط
وشرع من الفرائض والميراث وأباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح به علة
المبطلين، وأزال التظني والشبهات في الغابرين، كلا! " بل سولت لكم
أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ".
فقال أبو بكر:
صدق الله ورسوله وصدقت ابنته! أنت معدن الحكمة وموطن الهدى
والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة، لا أبعد صوابك ولا أنكر خطابك، هؤلاء
المسلمون بيني وبينك قلدوني ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت غير
مكابر ولا مستبد ولا مستأثر، وهم بذلك شهود.
فالتفتت فاطمة عليها السلام إلى الناس، وقالت:
معاشر الناس! المسرعة إلى قيل الباطل، والمغضية على الفعل القبيح الخاسر
" أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها "؟ كلا! بل ران على قلوبكم ما أسأتم
من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم ولبئس ما تأولتم! وساء ما به أشرتم!
466

وشر ما منه اغتصبتم (1) لتجدن والله محمله ثقيلا وغبه وبيلا، إذا كشف لكم
الغطاء وبان ما وراءه (2) الضراء، وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون،
وخسر هنالك المبطلون.
ثم عطفت على قبر النبي صلى الله عليه وآله وقالت:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها * واختل قومك فاشهدهم ولا تغب
وكل أهل له قربى ومنزلة * عند الإله على الأدنين مقترب
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم * لما مضيت وحالت دونك الترب
تجهمتنا رجال واستخف بنا * لما فقدت وكل الأرض مغتصب
وكنت بدرا ونورا يستضاء به * عليك ينزل من ذي العزة الكتب
وكان جبرئيل بالآيات يؤنسنا * فقد فقدت وكل الخير محتجب
فليت قبلك كان الموت صادفنا * لما مضيت وحالت دونك الكثب
ثم انكفأت عليها السلام وأمير المؤمنين عليه السلام يتوقع رجوعها إليه
ويتطلع طلوعها عليه، فلما استقرت بها الدار قالت لأمير المؤمنين عليه السلام:
يا ابن أبي طالب! اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت
قادمة الأجدل، فخانك ريش الأعزل، هذا ابن أبي قحافة يبتزني نحلة أبي
وبلغة ابني، لقد أجهد في خصامي، وألفيته ألد في كلامي، حتى حبستني
قيلة نصرها، والمهاجرة وصلها، وغضت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع
ولا مانع، خرجت كاظمة وعدت راغمة، أضرعت خدك يوم أضعت حدك،
افترست الذئاب وافترشت التراب، ما كففت قائلا ولا أغنيت طائلا، ولا

(1) في البحار: " اعتضتم ".
(2) في الاحتجاج: " بإورائه ".
467

خيار لي، ليتني مت قبل هنيئتي ودون ذلتي، عذيري الله منه عاديا ومنك
حاميا، ويلاي في كل شارق! ويلاي في كل غارب! مات العمد ووهن
العضد، شكواي إلى أبي وعدواي إلى ربي، اللهم إنك أشد منهم قوة وحولا
وأشد بأسا وتنكيلا.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
لا ويل لك، بل الويل لشانئك، ثم نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة وبقية
النبوة فما ونيت عن ديني، ولا أخطأت مقدوري، فإن كنت تريدين البلغة
فرزقك مضمون وكفيلك مأمون، وما أعد لك أفضل مما قطع عنك، فاحتسبي
الله.
فقالت: حسبي الله، وأمسكت.
" مصادر الخطبة "
أقول: هذه الخطبة الشريفة التي فيها مسحة من النبوة ولمعة من الرسالة
منقولة عن سيدة النساء بطرق كثيرة أخرجها الأعلام في كتبهم من المؤرخين
والمحدثين واللغويين والأدباء.
ولأهمية المورد نورد كل ما عثرنا عليه من المصادر، وإن كان بعضها مشتملا
على نقل الخطبة تماما وبعضها على نقلها بعضا أو إيعازا، ونحن نقلناها عن
الاحتجاج: ج 1 ص 131 - 146:
1 - نقلها الطبرسي في الاحتجاج مع التزامه في أول الكتاب بأن لا ينقل
فيه إلا ما كان مؤيدا بالإجماع أو العقل أو الشهرة بين المخالف والمؤالف.
واللفظ له.
2 - وأخرجها المسعودي في كتابيه " أخبار الزمان " و " الكتاب الأوسط "
على ما ذكره في تاريخه المختصر " مروج الذهب " قال ما لفظه: وما كان من قصة
468

فدك.... وما كان من فاطمة وكلامها متمثلة حتى عدلت إلى قبر أبيها
عليه السلام من قول صفية بنت عبد المطلب - ثم ذكر البيت الأول - ثم قال:
إلى آخر الشعر، إلى غير ذلك مما تركنا ذكره من الأخبار في هذا الكتاب، إذ
كنا قد أتينا على جميع ذلك في كتاب أخبار الزمان والكتاب الأوسط (1).
3 - وأخرها السيد - رحمه الله تعالى - في الشافي في رد قاضي القضاة
بإسناده وفي تلخيصه للشيخ - رحمه الله - قال (2): أخبرنا جماعة عن أبي عبد الله
محمد بن عمران المرزباني، قال: حدثني محمد بن أحمد الكاتب، قال: حدثنا
أحمد بن عبيد ناصح النحوي، قال: حدثني الزنادي، قال: حدثني شرقي بن
قطامة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثنا صالح بن كيسان، عن عروة، عن
عائشة، قالت...
ثم قال: قال المرزباني: وحدثني أبو بكر أحمد بن محمد المكي، قال: حدثنا
محمد بن القاسم التمامي أبو العيناء، قال: حدثنا ابن عائشة، قال: لما قبض
رسول الله صلى الله عليه وآله...
4 - وأو عز إليها اليعقوبي في تاريخه المعروف، وذكر بعض جمل الخطبة (3).
5 - ونقل أبو المؤيد الموفق بن أحمد المكي أخطب خوارزم (المتوفى 568)
في مقتل الحسين عليه السلام (4) الخطبة كما تقدم باختلاف يسير زيادة ونقصانا
بهذا الإسناد: أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه، أخبرنا عبد الله
ابن إسحاق، أخبرنا محمد بن عبيد، أخبرنا محمد بن زياد، أخبرنا شرقي بن

(1) مروج الذهب: 2 / 304.
(2) ج 3 ص 139 الطبعة الثالثة.
(3) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 127.
(4) ج 1 ص 77 ط نجف سنة 1367.
469

قطامي، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة،
قالت:.....
6 - وقال الإربلي في كشف الغمة: وحيث انتهى القول إلى هنا، فلنذكر
خطبة فاطمة عليها السلام فإنها من محاسن الخطب وبدايعها، عليها مسحة من
نور النبوة، وفيها عبقة من أرج الرسالة، وقد أورده المؤالف والمخالف. ونقلتها
من كتاب السقيفة عن عمر بن شبه تأليف أبي بكر أحمد بن عبد العزيز
الجوهري من نسخة قديمة مقروءة على مؤلفها المذكور، وقرئت عليه في ربيع
الآخر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، روى عن رجاله بعدة طرق. ثم نقل
الخطبة كما مر عن الاحتجاج مع اختلاف في الألفاظ، ثم قال بعد نقلها: هذه
الخطبة نقلتها من كتاب السقيفة وكانت مع قدمها مغلوطة، فحققتها من مواضع
آخر.
7 - وفي دلائل الإمامة لأبي جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري (1) نقلها
بهذا الإسناد:
حدثني أبو الفضل محمد بن عبد الله، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن
سعيد الهمداني، حدثنا أحمد بن محمد بن عثمان بن سعيد الزيات، حدثنا محمد
ابن الحسين العضباني، حدثنا أحمد بن محمد بن نصر البزنطي السكوني، عن
أبان بن عثمان الأحمر، عن أبان بن تغلب الربعي، عن عكرمة، عن ابن
عباس.
وأخبرني أبو الحسين محمد بن هارون التلعكبري، حدثنا أبي، حدثنا أبو
العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، حدثني محمد بن المفضل بن إبراهيم
ابن قيس الأشعري، حدثنا علي بن حسان، عن عمه عبد الرحمن بن كثير، عن

(1) ط نجف ص 30.
470

أبي عبد الله جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن عمته
زينب بنت أمير المؤمنين.
قال أبو العباس: وحدثنا محمد بن المفضل بن إبراهيم، حدثني أبي، حدثنا
أحمد بن محمد بن عمرو بن عثمان الجعفي، حدثني أبي، عن جعفر بن محمد، عن
أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن عمته زينب بنت أمير المؤمنين وغير واحد.
وحدثني القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن مخلد بن جعفر بن سهل بن حمران
الدقاق، حدثتني أم الفضل خديجة بنت محمد بن أبي الثلج، حدثنا أبو عبد الله
محمد بن أحمد الصفواني، حدثنا أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري،
حدثنا محمد بن زكريا، حدثنا جعفر بن عمارة الكندي، حدثني أبي، عن
الحسن بن صالح بن حي، قال: وما رأت عيناي مثله، حدثني رجلان من بني
هاشم عن زينب بنت علي.
قال الصفواني: حدثني محمد بن محمد بن يزيد مولى بني هاشم، حدثني
عبد الله بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، عن عبد الله بن
الحسن بن الحسن، عن جماعة من أهله.
قال الصفواني: حدثني أبي، عن عثمان، حدثنا نابل بن نجيح، عن عمر
ابن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر، عن آبائه.
قال الصفواني: حدثنا عبد الله بن ضحاك، حدثنا هشام بن محمد، عن
أبيه وعوانة.
قال الصفواني: حدثنا ابن عائشة ببعضه.
وحدثنا العباس بن بكار، حدثنا حرب بن ميمون، عن زيد بن علي عن
آبائه عليهم السلام، ثم ساق الخطبة بتمامها كما في الاحتجاج، مع تفاوت في
النظم والألفاظ.
8 - أشار ابن الأثير في النهاية في مادة " لمم " إلى هذا الحديث، وتشييد
471

المطاعن، عن الفائق للزمخشري في " لمم " أيضا و " هنبثة ".
9 - وأخرجها ابن شهرآشوب في المناقب (1).
10 - أخرجها الصدوق - رحمه الله - في كتبه بهذه الأسانيد:
محمد بن موسى المتوكل، عن علي بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن
أبي عبد الله البرقي، عن إسماعيل بن مهران، عن أحمد بن محمد بن جابر (2) عن
زينب بنت علي.
علي بن حاتم، عن محمد بن أسلم، عن عبد الجليل الباقطاني، عن الحسن
ابن موسى الخشاب، عن عبد الله بن محمد العلوي، عن رجال من أهل بيته عن
زينب بنت علي عليه السلام.
ومحمد بن أبي عمير، عن محمد بن عمارة، عن محمد بن إبراهيم المصري،
عن هارون بن يحيى الناشب، عن عبيد الله بن موسى العبسي، عن عبيد الله
ابن موسى العمري، عن حفص الأحمر، عن زيد بن علي، عن عمته زينب بنت
علي عليه السلام (3).
11 - روى العلامة المحقق المجلسي - رحمه الله - هذه الخطبة عن الاحتجاج
بتمامها، ثم عن بلاغات النساء لكثرة الاختلاف بين الروايتين (ونحن
أيضا نقتفي أثره إن شاء الله تعالى) وذكر مصادرها من شرح ابن أبي الحديد،
وكشف الغمة والطرائف لابن طاوس، والمسعودي، والصدوق - رحمه الله -
والسيد المرتضى - رحمه الله تعالى - وشرحها شراح وافيا (راجع البحار) (4).

(1) المناقب: ج 1 ص 381 الطبعة القديمة.
(2) أخرجها في الفقيه: 3 / 567 في باب معرفة الكبائر بهذا السند وفيه " أحمد بن محمد عن جابر "
ولعله الصحيح.
(3) العلل: 1 / 248 باب 182 علل الشرائع وأصول الإسلام حديث 2 و 3 و 4.
(4) راجع البحار: ج 8 ص 105 وما بعدها.
472

12 - نقلها الجاحظ في كتاب إمامة ولد العباس، على ما نقله المسعودي
في مروج الذهب في بيان ابتداء دولة بني العباس.
13 - نقل ابن أبي الحديد في شرح كتابه عليه السلام إلى عثمان بن
حنيف هذه الخطبة بهذه الأسانيد:
قال أبو بكر (يعني أبا بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب
السقيفة وفدك، كما صرح به في أول الفصل الأول): فحدثني محمد بن
زكريا، قال: حدثني جعفر بن محمد بن عمارة الكندي، قال: حدثني أبي،
عن الحسين بن صالح بن حي، قال: حدثني رجلان من بني هاشم عن
زينب بنت علي بن أبي طالب عليه السلام.
قال: وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه.
قال أبو بكر: وحدثني عثمان بن عمران العجيفي، عن نائل بن نجيح بن
عمير بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام.
قال أبو بكر: وحدثني أحمد بن محمد بن يزيد، عن عبد الله بن محمد بن
سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن حسن بن الحسن، قالوا جميعا: لما بلغ
فاطمة عليها السلام إجماع أبي بكر على منعها فدك، لاثت خمارها وأقبلت في
لمة من حفدتها ونساء قومها، تطأ في ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله
صلى الله عليه وآله حتى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من
المهاجرين والأنصار، فضرب بينها وبينهم ريطة بيضاء - وقال بعضهم قبطية،
وقالوا: قبطية بالكسر والضم - ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء، ثم
أمهلت طويلا حتى سكنوا من فورتهم، ثم قالت:
أبتدئ محمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد، الحمد لله على ما أنعم،
وله الشكر بما ألهم.
وذكر خطبة طويلة جيدة، قالت في آخرها:
473

فاتقوا الله حق تقاته! وأطيعوه فيما أمركم به، فإنما يخشى الله من عباده
العلماء، واحمدوا الله الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السماوات والأرض
إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصته ومحل قدسه، ونحن حجته
في غيبه، ونحن ورثة أنبيائه (ثم قالت): أنا فاطمة ابنة محمد، أقول عودا
على بدء، وما أقول ذلك سرفا ولا شططا، فاسمعوا بأسماع واعية وقلوب
راعية (ثم قالت): " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم
حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم
وأخا ابن عمي دون رجالكم.
ثم ذكرت كلاما طويلا سنذكره فيما بعد في الفصل الثاني، تقول في
آخره:
ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي " أفحكم الجاهلية يبغون ومن
أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ".
إيها معاشر المسلمين! ابتز إرث أبي! أبى الله أن ترث يا ابن أبي قحافة
أباك ولا أرث أبي، لقد جئت شيئا فريا، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم
حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر
المبطلون، ولكل نبأ مستقر، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه
عذاب مقيم.
ثم التفتت إلى قبر أبيها فتمثلت بقول هند بنت أثاثة:
قد كان بعدك أنباء وهينمة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
أبدت رجال نجوى صدورهم * لما قضيت وحالت دونك الكتب
تجهمتنا رجال واستخف بنا * إذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب
قال: ولم ير الناس أكثر باك ولا باكية منهم يومئذ! ثم عدلت إلى مسجد
الأنصار، فقالت:
474

يا معشر البقية، وأعضاد الملة، وحضنة الإسلام! ما هذه الفترة عن نصرتي
والونية عن معونتي، والغمزة في حقي، والسنة عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله
صلى الله عليه وآله يقول: " المرء يحفظ في ولده "؟ سرعان ما أحدثتم
وعجلان ما أتيتم! ألان مات رسول الله صلى الله عليه وآله أمتم دينه؟ إن
موته لعمري خطب جليل، استوسع وهنه، واستبهم فتقه، وفقد راتقه،
وأظلمت الأرض له، وخشعت الجبال، وأكدت الآمال، أضيع بعده
الحريم، وهتكت الحرمة، واذبلت المصونة، وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله
قبل موته وأنبأكم بها قبل وفاته، فقال: " وما محمد إلا رسول الله قد خلت
من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على
عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ".
إيها بني قيله! اهتضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع، تبلغكم الدعوة
ويشملكم الصوت، وفيكم العدة والعدد، ولكم الدار والجنن، وأنتم نخبة الله
التي انتخب وخيرته التي اختار، باديتم العرب، وبادهتم الأمور، وكافحتم
البهم، حتى دارت بكم رحى الإسلام، ودر حلبه، وخبت نيران الحرب،
وسكنت فورة الشرك، وهدأت دعوة الهرج، واستوثق نظام الدين، أفتأخرتم
بعد الإقدام؟ ونكصتم بعد الشدة؟ وجبنتم بعد الشجاعة عن قوم " نكثوا
أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا أيمان لهم
لعلهم ينتهون " ألا! وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدعة،
فجحدتم الذي وعيتم، وسغتم الذي سوغتم، وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض
جميعا فإن الله لغني حميد، ألا! وقد قلت لكم ما قلت على معرفة مني بالخذلة
التي خامرتكم وخور القناة وضعف اليقين، فدونكموها، فاحتووها مدبرة
الظهر، ناقبة الخف، باقية العار، موسومة الشعار، موصولة ب‍ " نار الله الموقدة التي
تطلع على الأفئدة " فبعين الله ما تعملون " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
475

ينقلبون ".
ثم نقل كلام أبي بكر في جوابها، فقال:
قال أبو بكر: وحدثني محمد بن زكريا، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن
عمارة بالإسناد الأول، قال: فلما سمع أبو بكر خطبتها شق عليه مقالتها،
فصعد المنبر وقال: أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة؟ أين كانت هذه
الأماني في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ ألا! من سمع فليقل
ومن شهد فليتكلم، إنما هو ثعالة شهيده ذنبه، مرب لكل فتنة، هو الذي
يقول: كروها جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء،
كأم طحال أحب أهلها إليها البغي، ألا! إني لو أشاء أن أقول لقلت ولو
قلت لبحت، إني ساكت ما تركت. ثم التفت إلى الأنصار، فقال: قد بلغني
يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحق من لزم عهد رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أنتم، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم، ألا! إني لست باسطا يدا
ولسانا على من لم يستحق ذلك منا. ثم نزل.
فانصرفت فاطمة عليها السلام إلى منزلها.
قلت: قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي
زيد البصري وقلت له: بمن يعرض؟! فقال: بل يصرح، قلت: لو صرح لم
أسألك، فضحك وقال: بعلي بن أبي طالب عليه السلام، قلت: هذا الكلام
كله لعلي يقوله! قال: نعم إنه الملك يا بني! قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال:
هتفوا بذكر علي عليه السلام، الخ (1).
أقول: وذكر في الفصل الثاني إسنادا آخر، قال: أخبرنا أبو عبيد الله
محمد بن عمران المرزباني، قال: حدثني محمد بن أحمد الكاتب، قال: حدثنا

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 16 ص 211 - 215.
476

أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي، قال: حدثني الزيادي، قال: حدثنا الشرقي
ابن القطامي، عن محمد بن إسحاق قال: حدثنا صالح بن كيسان، عن
عروة، عن عائشة، قالت: لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر عن منعها فدك
لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من
حفدتها...
قال المرتضى: وأخبرنا المرزباني، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد
المكي، قال: حدثنا أبو العيناء بن القاسم اليماني، قال: حدثنا ابن عائشة،
قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله أقبلت فاطمة إلى أبي
بكر في لمة من حفدتها - ثم اجتمعت الروايتان من هاهنا - ونساء قومها تطأ
ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله حتى دخلت على
أبي بكر، وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها
ملاءة، ثم أنت أنه أجهش لها القوم بالبكاء، وارتج المجلس، ثم أمهلت
هنيئة، حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت كلامها بالحمد
لله عز وجل والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم
قالت:
" لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم
بالمؤمنين رؤوف رحيم " فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم وأخا ابن عمي دون
رجالكم، فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة، مائلا عن سنن المشركين، ضاربا
ثبجهم يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، آخذا بأكظام المشركين،
يهشم الأصنام، ويفلق الهام، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، وحتى تفرى
الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين وخرست شقاشق
الشياطين، وتمت كلمة الإخلاص، وكنتم على شفا حفرة من النار، نهزة
الطامع ومذقة الشارب، وقبسة العجلان وموطأ الأقدام، تشربون الطرق
477

وتقتاتون القد، أذلة خاسئين، يختطفكم الناس من حولكم حتى أنقذكم
الله برسوله صلى الله عليه وآله بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني بهم الرجال
وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب و " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله "
أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة، قذف أخاه في لهواتها، ولا ينكفي حتى
يطأ صماخها بأخمصه، ويطفئ عادية لهبها بسيفه - أو قالت: يخمد لهبها بحده -
مكدودا في ذات الله، وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون.
إلى هنا انتهى خبر أبي العيناء عن ابن عائشة. وأما عروة عن عائشة،
فزاد بعد هذا: حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه، طهرت حسيكة النفاق،
وشمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الآفكين، وهدر
فنيق المبطلين، فحظر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه صارخا بكم،
فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين، ولقربه متلاحظين، ثم استنهضكم
فوجدكم خفافا، وأحمشكم فألفاكم غضابا، فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير
شربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، إنما زعمتم
ذلك خوف الفتنة " ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين "
فهيهات! وأني بكم وأنى تؤفكون؟ وكتاب الله بين أظهركم، زواجره بينة
وشواهده لائحة، وأوامره واضحة، أرغبة عنه تريدون؟ أم لغيره تحكمون؟
بئس للظالمين بدلا! " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في
الآخرة من الخاسرين ".
ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها تسرون حسوا في ارتغاء، ونحن
نصبر منكم على مثل حز المدى، وأنتم الآن تزعمون ألا إرث لنا " أفحكم
الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ".
يا ابن أبي قحافة! أترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا
478

فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله والزعيم محمد
والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون.
ثم انكفأت إلى قبر أبيها عليه السلام فقالت:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا (1) فقدناك فقد الأرض وابلها * واختل قومك فاشهدهم ولا تغب
وروى حرمي بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتا ثالثا:
فليت بعدك كان الموت صادفنا * لما قضيت وحالت دونك الكتب
ثم بعد ذكره جواب أبي بكر قريبا مما مر، قال:
قال المرتضى: وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني، قال: حدثني علي بن
هارون، أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر، عن أبيه، قال: ذكرت لأبي
الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام كلام
فاطمة عليها السلام عند منع أبي بكر إياها فدك، وقلت له: إن هؤلاء
يزعمون أنه مصنوع وأنه من كلام أبي العيناء، لأن الكلام منسوق البلاغة.
فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلمونه أولادهم،
وقد حدثني به أبي عن جدي يبلغ به فاطمة عليها السلام على هذه الحكاية،
وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جد أبي العيناء، وقد حدث
الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن
يذكر عن أبيه هذا الكلام.
ثم قال أبو الحسين زيد: وكيف تنكرون هذا من كلام فاطمة
عليها السلام وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من
كلام فاطمة عليها السلام ويحققونه لولا عداوتهم لنا أهل البيت؟! ثم ذكر

(1) في المصدر " إذا ".
479

الحديث بطوله على نسقه، وزاد في الأبيات بعد البيتين الأولين:
ضاقت علي بلادي بعد ما رحبت * وسيم سبطاك خسفا فيه لي نصب
فليت قبلك كان الموت صادفنا * قوم تمنوا فأعطوا كل ما طلبوا
تجهمتنا رجال واستخف بنا * مذ غبت عنا وكل الإرث قد غصبوا
قال: فما رأينا يوما أكثر باكيا أو باكية من ذلك اليوم.
قال المرتضى: وقد روي هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة
ووجوه كثيرة، فمن أرادها أخذها من مواضعها، فكيف يدعى أنها
عليها السلام كفت راضية وأمسكت قانعة لولا البهت وقلة الحياء؟! (1).
14 - نقل في بلاغات النساء (2) الخطبة مختصرا قريبا مما مر عن ابن أبي
الحديد. ثم نقل في ص 15 وقال:
حدثني جعفر بن محمد - رجل من أهل ديار مصر لقيته بالرافقة - قال:
حدثني أبي، قال: أخبرنا موسى بن عيسى، قال: أخبرنا عبد الله بن يونس،
قال: أخبرنا جعفر الأحمر، عن زيد بن علي - رحمة الله عليه - عن عمته زينب
بنت (3) الحسين عليهما السلام قالت: لما بلغ فاطمة عليها السلام إجماع أبي بكر
على منعها فدك، لاثت خمارها، وخرجت في حشدة نسائها ولمة من قومها،
تجر أذراعها، ما تخرم من مشية رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا، حتى
وقفت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، فأنت أنه أجهش
لها القوم بالبكاء، فلما سكنت فورتهم قالت: أبدأ بحمد الله، ثم أسبلت
بينها وبينهم سجفا، ثم قالت:

(1) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 16 ص 211 - 253. وقاموس الرجال: ج 11 ص 10
وبهج الصباغة: ج 5 ص 44.
(2) بلاغات النساء: ص 12.
(3) كذا والصحيح أخت الحسين.
480

الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم
نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وإحسان منن والاها، جم عن الاحصاء
عددها، ونأى عن المجازات أمدها، وتفاوت عن الإدراك آمالها،
واستثنى (1) الشكر بفضائلها، واستحمد إلى الخلائق بأجزالها، وثنى بالندب
إلى أمثالها، وأشهد أن لا إله إلا الله، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن
القلوب موصولها، وأنى في الفكرة معقولها، الممتنع عن الأبصار رؤيته، ومن
الأوهام الإحاطة به، ابتدع الأشياء لا من شئ قبله، واحتذاها بلا مثال،
لغير فائدة زادته، إلا إظهارا لقدرته، وتعبدا لبريته وإعزازا لدعوته، ثم جعل
الثواب على طاعته والعقاب على معصيته زيادة لعباده عن نقمته، وجياشا لهم
إلى جنته، وأشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله، اختاره قبل أن يجتبله،
واصطفاه قبل أن ابتعثه، وسماه قبل أن استنجبه، إذ الخلائق بالغيوب
مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علما من الله
عز وجل بمآيل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواضع المقدور، ابتعثه
الله عز وجل إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، فرأى الأمم صلى الله
عليه فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع
عرفانها، فأنار الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه [وآله] ظلمها، وفرج عن
القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار غممها، ثم قبض الله نبيه صلى الله عليه
[وآله] قبض رأفة واختيار، رغبة بأبي صلى الله عليه [وآله] عن هذه الدار،
موضوع عنه العبء والأوزار، محتف بالملائكة الأبرار، ومجاورة الملك الجبار
ورضوان الرب الغفار، صلى الله على محمد نبي الرحمة، وأمينه على وحيه،
وصفيه من الخلائق ورضيه، صلى الله عليه [وآله] وسلم ورحمة الله وبركاته.

(1) في المصدر: " واستثن ".
481

ثم أنتم عباد الله (تريد أهل المجلس) نصب أمر الله ونهيه، وحملة دينه
ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم وبلغاؤه إلى الأمم، زعمتم حقا لكم الله
فيكم عهد قدمه إليكم، ونحن بقية استخلفنا عليكم، ومعنا كتاب الله بينة
بصائره، وآي فينا منكشفة سرائره، وبرهان منجلية ظواهره، مديم البرية
إسماعه، قائد إلى الرضوان أتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه، فيه بيان حجج
الله المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وتبيانه الجالية، وجمله الكافية،
وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة.
ففرض الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها عن الكبر،
والصيام تثبيتا للاخلاص، والزكاة تزييدا في الرزق، والحج تسلية للدين،
والعدل تنسكا للقلوب، وطاعتنا نظاما، وإمامتنا أمنا من الفرقة، وحبنا عزا
للإسلام، والصبر منجاة، والقصاص حقنا للدماء، والوفاء بالنذر تعرضا
للمغفرة، وتوفية المكائيل والموازين تغييرا للبخسة، والنهي عن شرب الخمر
تنزيها عن الرجس، وقذف المحصنات اجتنابا للعنة، وترك السرق إيجابا
للعفة، وحرم الله عز وجل الشرك إخلاصا له بالربوبية، فاتقوا الله حق تقاته
ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه إنما
يخشى الله من عباده العلماء.
ثم قالت:
أيها الناس! أنا فاطمة، وأبي محمد صلى الله عليه [وآله] أقولها عودا على
بدء، لقد جاءكم رسول من أنفسكم - ثم ساق الكلام على ما رواه زيد بن
علي عليه السلام في رواية أبيه - ثم قالت في متصل كلامها:
أفعلي عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهروكم؟ إذ يقول تبارك
وتعالى: " وورث سليمان داود " وقال الله عز وجل فيما قص من خبر يحيى
ابن زكريا: " رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " وقال
482

عز ذكره: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " وقال:
" يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " وقال: " إن ترك خيرا
الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ".
وزعمتم أن لا حق ولا إرث لي من أبي ولا رحم بيننا! أفخصكم الله بآية
أخرج نبيه صلى الله عليه [وآله] منها؟ أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟
أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟! لعلكم أعلم بخصوص القرآن
وعمومه من النبي صلى الله عليه [وآله]؟ أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن
من الله حكما لقوم يوقنون؟ أأغلب على إرثي جورا وظلما؟ " وسيعلم الذين
ظلموا أي منقلب ينقلبون ".
وذكر أنها لما فرغت من كلام أبي بكر والمهاجرين عدلت إلى مجلس
الأنصار، فقالت:
يا معشر البقية وأعضاد الملة وحصون الإسلام! ما هذه الغميزة في حقي
والسنة عن ظلامتي؟ أما قال رسول الله صلى الله عليه [وآله]: " المرء يحفظ في
ولده "؟ سرعان ما أجدبتم فأكديتم! وعجلان ذا إهالة! أتقولون: مات
رسول الله صلى الله عليه [وآله]؟ فخطب جليل استوسع وهيه، واستنهر فتقه
وبعد وقته، وأظلمت الأرض لغيبته، واكتأبت خيرة الله لمصيبته، وخشعت
الجبال، وأكدت الآمال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته صلى الله
عليه [وآله]، وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله (1) في أفنيتكم في ممساكم
ومصبحكم، يهتف بها في أسماعكم، وقبله حلت بأنبياء الله عز وجل ورسله
" وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على
أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ".

(1) في المصدر: " وتلك نازل علينا بها كتاب الله ".
483

إيها بني قيلة! أأهضم تراث أبي (1) وأنتم بمرأى منه ومسمع، تلبسكم
الدعوة، وتثملكم الحيرة، وفيكم العدد والعدة، ولكم الدار، وعندكم الجنن،
وأنتم الألى نخبة الله التي انتخب لدينه، وأنصار رسول الله وأهل الإسلام،
والخيرة التي اختار لنا أهل البيت، فباديتم العرب، وناهضتم الأمم، وكافحتم
البهم، لا نبرح نأمركم وتأتمرون، حتى دارت لكم بنا رحى الإسلام، ودر
حلب الأنام، وخضعت نعرة الشرك، وبأخت نيران الحرب، وهدأت دعوة
الهرج، واستوسق نظام الدين، فأنى حرتم بعد البيان؟ ونكصتم بعد
الإقدام؟ وأسررتم بعد الإعلان؟ لقوم نكثوا أيمانهم " أتخشونهم فالله أحق أن
تخشوه إن كنتم مؤمنين ".
ألا! قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدعة، فعجتم عن
الدين، وبحجتم الذي وعيتم، ودسعتم الذي سوغتم " فإن تكفروا أنتم ومن في
الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ".
ألا! وقد قلت الذي قلته على معرفة مني بالخذلان الذي خامر صدوركم
واستشعرته قلوبكم، ولكن قلته فيضة النفس ونفثة الغيظ وبثة الصدر
ومعذرة الحجة، فدونكموها فاحتقبوها مدبرة الظهر، ناكبة الحق، باقية العار،
موسومة بشنار الأبد، موصولة ب‍ " نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة " فبعين
الله ما تفعلون " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " وأنا ابنة نذير لكم
بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون.
قال أبو الفضل: وقد ذكر قوم: أن أبا العيناء ادعى هذا الكلام، وقد
رواه قوم وصححوه وكتبناه على ما فيه. وحدثني عبد الله بن أحمد العبدي، عن
حسين بن علوان، عن عطية العوفي، أنه سمع أبا بكر - رحمه الله - يومئذ يقول

(1) في المصدر: " أبيه ".
484

لفاطمة عليها السلام:
يا ابنة رسول الله، لقد كان صلى الله عليه [وآله] وسلم بالمؤمنين رؤوفا
رحيما وعلى الكافرين عذابا أليما، وإذا عزوناه كان أباك دون النساء وأخا
ابن عمك دون الرجال، آثره على كل حميم وساعده على الأمر العظيم،
لا يحبكم إلا العظيم السعادة ولا يبغضكم إلا الردي الولادة، وأنتم عترة الله
الطيبون وخيرة الله المنتخبون، على الآخرة أدلتنا، وباب الجنة لسالكنا، وأما
منعك ما سألت فلا ذلك لي، وأما فدك وما جعل لك أبوك فإن منعتك فأنا
ظالم، وأما الميراث فقد تعلمين أنه صلى الله عليه [وآله] قال: لا نورث
وما أبقيناه صدقة.
قالت: إن الله يقول عن نبي من أنبيائه: " يرثني ويرث من آل
يعقوب " وقال: " وورث سليمان داود " فهذان نبيان، وقد علمت أن النبوة
لا تورث وإنما يورث ما دونها، فما لي أمنع إرث أبي؟ أأنزل الله في الكتاب
" إلا فاطمة بنت محمد "؟ فتدلني عليه فأقنع به.
فقال: يا بنت رسول الله أنت عين الحجة ومنطق الرسالة، لا يدلي بجوابك
ولا أدفعك عن صوابك، ولكن هذا أبو الحسن بيني وبينك هو الذي أخبرني
بما تفقدت، وأنبأني بما أخذت وتركت.
قالت: فإن يكن ذلك كذلك فصبرا لمر الحق، والحمد لله آله الخلق.
قال أبو الفضل: وما وجدت هذا الحديث على التمام إلا عند أبي حفان.
قال الأحمدي: الخطبة الشريفة رويت بأسانيد كثيرة كما عرفت،
ولا يختص الراوي بأبي العيناء ولا بشرقي بن قطامة، بل ظاهر نقل الاحتجاج
والمناقب أنها مما لا ريب في صدورها، لأنهما تعهدا في أول الكتابين بنقل
ما هو مؤيد بالإجماع أو العقل، أو كان متواترا كما في الاحتجاج، أو ما كان
صحيحا كما في المناقب.
485

نعم نقلها مفصلا يختص بالاحتجاج، وكشف الغمة، وبلاغات النساء،
ودلائل الإمامة، على اختلاف في رواياتهم.
وأما احتجاجها على أبي بكر وجوابه: فقد نقل بأنحاء مختلفة، فإن شئت
الوقوف عليها، فراجع البحار (1)، وابن أبي الحديد (2).
وأما كلامها مع علي عليه السلام: فقد نقله الاحتجاج كما مر والمناقب
لابن شهرآشوب، والشيخ في الأمالي (3)، والبحار (4) عن الاحتجاج وكشف
الغمة (5) والشيخ رحمه الله (6)، وأما خطبة أبي بكر في جوابها: فقد نقلها ابن
أبي الحديد، وبهج الصباغة (7).
15 - قال سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص (8)، في بيان أحوالها
عليها السلام: وقال الشعبي: لما منعت ميراثها لاثت خمارها على رأسها،
وحمدت الله وأثنت عليه، ووصفت رسول الله بأوصاف، فكان مما قالت:
كان كلما فغرت فاغرة من المشركين فاها أو نجم قرن من الشياطين.. ثم
ساق قليلا من الخطبة الشريفة.
16 - قال في مقاتل الطالبيين (9)، في ذكر تاريخ الحسين عليه السلام في
مقتل عون بن عبد الله بن جعفر: أمه زينب بنت علي بن أبي طالب وأمها

(1) البحار: ج 8 ط الكمباني.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 16.
(3) أمالي الشيخ: ص 69 ط الحجرية.
(4) البحار: ج 8 ط الكمباني.
(5) عن الاحتجاج وكشف الغمة في هامشه: وجد بخط السيد المرتضى رحمه الله.
(6) راجع ص 121 - 123. وراجع ج 43 الطبعة الحديثة ص 148 عن المناقب.
(7) بهج الصباغة: ج 5 ص 35، وفي الطرائف: ص 263 عن الفائق للشيخ أسعد.
(8) تذكرة الخواص: ص 317.
(9) مقاتل الطالبيين: ص 91.
486

فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله.... والعقيلة هي التي روى ابن
عباس عنها كلام فاطمة في فدك، فقال: حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي.
17 - وفي هامش إحقاق الحق (1) عن بلاغات النساء (2) عن ابن أبي
الحديد (3)، وعن أعلام النساء وتظلم الزهراء.
18 - قاموس الرجال (4) عن بلاغات النساء والطرائف وغيرهما.
19 - تشييد المطاعن (5) عن كشف الغمة وكتاب السقيفة للجوهري (6)،
وعن التذكرة للسبط ابن الجوزي وفائق الزمخشري في مادتي " لمة " و " هنبثة "
ونهاية ابن الأثير في مادتي " لمة " و " هنبثة " وطرائف السيد ابن طاوس. ثم
نقل (7) كلام بعض المنكرين، فراجع.
20 - كلام فاطمة في فدك لأبي الفرج علي بن الحسين الأصفهاني
الزيدي صاحب الأغاني، كما ذكره العلامة المتضلع الشيخ آغا بزرك في
الذريعة (8) وخطبة فاطمة الزهراء لابن عبدون (9) وقد ذكر هذا
النحرير (10): أن جمعا كتبوا في فدك كتابا، كإبراهيم الثقفي المتوفى سنة 283
وجعفر بن بكير الخياط، وطاهر غلام أبي الجيش الذي قرأ عليه المفيد في

(1) إحقاق الحق: ج 10 ص 296.
(2) إحقاق الحق: ص 303.
(3) إحقاق الحق: ص 305.
(4) قاموس الرجال: ج 11 ص 10.
(5) تشيد المطاعن: ج 2 ص 204 ط سنة 1399، وص 297 - 302 ج 1 ط 1383.
(6) عن الجوهري: ص 211 - 301.
(7) التذكرة: 301 - 302.
(8) الذريعة: ج 18 109.
(9) راجع الذريعة: ج 4 ص 348.
(10) أنظر: ج 16 ص 129.
487

أوائل أمره، و عبد الرحمان بن كثير الهاشمي، والأنباري، والنصير آبادي،
وأبي الجيش المتوفى سنة 367 تلميذ النوبختي، ويحيى بن زكريا
الترماشيري، والسيد محمد باقر الصدر الشهيد، والاطروش.
وذكر (1) كتبا في شرح هذه الخطبة، كاللمعة، والروضة، والدرة، وكشف
المحجة، واللمة البيضاء. وذكر في طي الكتاب بعناوين وأسماء مختلفة كتبا
كثيرة أيضا.
(286)
الزهراء مع نساء المهاجرين والأنصار
عن عبد الله بن الحسن، عن فاطمة بنت الحسين عليهما السلام قال: لما
اشتدت علة فاطمة بنت رسول الله صلوات الله عليها اجتمع عندها نساء
المهاجرين والأنصار، فقلن لها: يا بنت رسول الله كيف أصبحت من علتك؟
فقالت:
أصبحت والله عائفة لدنياكم، قالية لرجالكم، لفظتهم قبل أن
عجمتهم، وشنئتهم بعد أن سبرتهم، فقبحا لفلول الحد وخور القناة وخطل
الرأي! وبئس ما قدمت لهم أنفسهم! أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم
خالدون، لا جرم لقد قلدتهم ربقتها وشننت عليهم عارها، فجدعا وعقرا
وسحقا للقوم الظالمين!
ويحهم! أنى زحزحوها؟ عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة، ومهبط
الوحي الأمين، والطبين بأمر الدنيا والدين؟ ألا ذلك هو الخسران المبين.
وما نقموا من أبي حسن؟ نقموا والله منه نكير سيفه، وشدة وطأته، ونكال
وقعته، وتنمره في ذات الله عز وجل، والله لو تكافوا عن زمام نبذه رسول الله

(1) أنظر الذريعة: ج 13 ص 215.
488

صلى الله عليه وآله لاعتقله، ولسار بهم سيرا سجحا لا يكلم خشاشة،
ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم منهلا نميرا فضفاضا تطفح ضفتاه، ولأصدرهم
بطانا قد تخير لهم الري غير متحل منه بطائل إلا بغمر الماء، وردعه سورة
الساغب، ولفتحت عليهم بركات السماء والأرض، وسيأخذهم الله بما كانوا
يكسبون.
ألا! هلم فاسمع وما عشت أراك الدهر العجب، وإن تعجب وقد
أعجبك الحادث، إلى أي سناد استندوا؟ وبأية عروة تمسكوا؟ استبدلوا
الذنابي والله بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم
يحسنون صنعا " إلا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون " " أفمن يهدي إلى
الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ".
أما لعمر إلهك لقد لقحت! فنظرة ريثما ننتجوا (1)، ثم احتلبوا اطلاع
القعب دما عبيطا وزعافا ممقرا، هناك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غب
ما أسس الأولون، ثم طيبوا عن أنفسكم [أ] نفسا، واطمأنوا للفتنة جأشا،
وأبشروا بسيف صارم، وهرج شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم
زهيدا وزرعكم حصيدا، فيا حسرتي لكم! وأنى بكم؟ وقد عميت عليكم
أنلزمكموها وأنتم لها كارهون.
أقول: رواها الصدوق - رحمه الله - في معاني الأخبار (2) قال: حدثنا أحمد بن
الحسن القطان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد الحسيني، قال: حدثنا أبو
الطيب محمد بن الحسين بن حميد اللخمي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن
زكريا، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن

(1) كذا في معاني الأخبار، والصحيح " تنتج " كما في سائر المصادر.
(2) معاني الأخبار: ص 354 ط تحقيق الغفاري.
489

محمد بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت
الحسين عليهما السلام.
وقال بعد نقلها: وحدثنا بهذا الحديث أبو الحسن علي بن محمد بن
الحسن - المعروف بابن مقبرة القزويني - قال: أخبرني أبو عبد الله جعفر بن
محمد بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب
عليهما السلام قال: حدثني محمد بن علي الهاشمي، قال: حدثنا عيسى بن
عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: حدثني
أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لما
حضرت فاطمة الوفاة، الحديث.
ورواها الشيخ - رحمه الله - في أماليه (1) بإسناده عن ابن مسعود، عن ابن
عباس، قال: دخلن نسوة من المهاجرين والأنصار، الحديث.
ورواها الطبرسي - رحمه الله - في الاحتجاج (2) ونقلها الإربلي في كشف
الغمة عن كتاب السقيفة للجوهري، ونقل شطرا منها الكراجكي في كتاب
التعجب (3).
وأوردها ابن أبي الحديد (4) عن محمد بن زكريا، عن محمد بن عبد الرحمن
المهلبي، عن عبد الله بن حماد بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن الحسن
ابن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين عليه السلام وقال بعد نقله الخطبة:
قلت: هذا الكلام وإن لم يكن فيه ذكر فدك والميراث، إلا أنه تتمة ذلك،
وفيه إيضاح لما كان عندها، وبيان لشدة غيضها وغضبها، فإنه سيأتي فيما بعد

(1) الشيخ في أماليه: ص 238 ط الحجرية و 384 ط النجف.
(2) الاحتجاج: ص 147 ج 1 دار النعمان النجف.
(3) الكراجكي في كتاب التعجب: ص 12.
(4) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 16 ص 233.
490

ذكر ما يناقض به قاضي القضاة والمرتضى في أنها هل كانت غضبى أم لا؟
ونحن لا ننصر مذهبا بعينه وإنما نذكر ما قيل، وإذا جرى بحث نظري قلنا
ما يقوى في أنفسنا منه. واعلم أنا إنما نذكر في هذا الفصل ما رواه رجال
الحديث وثقاتهم، وما أودعه أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه، وهو من
الثقات الأمناء عند أصحاب الحديث.....
وأخرجها الطبري في دلائل الإمامة بإسناده نحوا مما مر.
ونقلها في البحار عن معاني الأخبار (1) عن كشف الغمة.
ونقلها في هامش إحقاق الحق (2) عن بلاغات النساء وأعلام
النساء (3) وابن أبي الحديد، و (4) عن نفحات اللاهوت.
ونقلها في قاموس الرجال (5)، وكذا عن معاني الأخبار وابن أبي الحديد
والمرتضى وابن طاووس في الطرائف.
قال اليعقوبي: دخلت نساء النبي ونساء قريش على فاطمة عليها السلام
في مرضها، فقلن: كيف أنت؟ قالت: أجدني كارهة لدنياكن، مسرورة
لفراقكن، ألقى الله ورسوله بحسرات منكن، فما حفظ لي الحق، ولا رعيت
مني الذمة، ولا قبلت الوصية، ولا عرفت الحرمة (6).

(1) البحار: ج 43 ص 158 عن معاني الأخبار وص 161 عن الأمالي وص 162 عن الأمالي أيضا
وص 162 عن كشف الغمة.
(2) إحقاق الحق: ج 10 ص 306 عن بلاغات النساء.
(3) أعلام النساء: ج 3 ص 1219، وابن أبي الحديد: ج 4 ص 87 ط قاهرة.
(4) إحقاق الحق: ج 10 ص 308 عن نفحات اللاهوت.
(5) قاموس الرجال: ج 11 ص 15. وكذا عن معاني الأخبار وابن أبي الحديد والمرتضى وابن طاووس
في الطرائف.
(6) راجع بهج الصباغة: ج 5 ص 17.
491

(287)
هشام بن الحكم وضرار
قال ضرار لهشام بن الحكم: ألا دعا علي الناس عند وفاة النبي صلى
الله عليه وآله إلى الإئتمام به إن كان وصيا؟ قال: لم يكن واجبا عليه، لأنه
قد دعاهم إلى موالاته والائتمام به النبي صلى الله عليه وآله يوم الغدير
ويوم تبوك وغيرهما فلم يقبلوا منه، ولو كان ذلك جائزا لجاز على آدم
عليه السلام أن يدعو إبليس إلى السجود له بعد أن دعاه ربه إلى ذلك، ثم
إنه صبر كما صبر أولوا العزم من الرسل (1).
(288)
عمرو بن قيس مع صدقة
سأل صدقة بن مسلم عمرو بن قيس الماصر عن جلوس علي في
الدار.
فقال: إن عليا في هذه الأمة كان فريضة من فرائض الله أداها نبي الله
إلى قومه، مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج، وليس على الفرائض أن
تدعوهم إلى شئ، إنما عليهم أن يجيبوا الفرائض، وكان علي أعذر من
هارون لما ذهب موسى إلى الميقات، فقال لهارون: " اخلفني في قومي
وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " فجعله رقيبا عليهم. وإن نبي الله نصب
عليا لهذه الأمة علما ودعاهم إليه، فعلي في عذر لما جلس في بيته، وهم في
حرج حتى يخرجوه فيضعوه في الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله
عليه وآله. فاستحسن منه جعفر الصادق عليه السلام (2).

(1) البحار: ج 8 ص 144 ط الكمباني عن المناقب، وبهج الصباغة: ج 4 ص 340.
(2) البحار: ج 8 ص 145. الكمباني
492

(289)
متكلم ورجل
سئل متكلم: لم لم يقاتل الأولين حقه وقاتل الأخرى؟ فقال: لم لم يقاتل
رسول الله صلى الله عليه وآله على إبلاغ الرسالة في حال الغار ومدة الشعب
وقاتل بعدهما؟ (1).
(290)
مؤمن الطاق مع بعض النواصب
قال بعض النواصب لشيطان الطاق: كان علي عليه السلام يسلم على
الشيخين بإمرة المؤمنين، أفصدق أم كذب؟ قال: أخبرني أنت عن الملكين
اللذين دخلا على داود، فقال أحدهما: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة
ولي نعجة واحدة " كذب أم صدق؟ فانقطع الناصبي (2).
(291)
هشام وسليمان
سأل سليمان بن حريز هشام بن الحكم: أخبرني عن قول علي لأبي
بكر: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله، أكان صادقا أم كاذبا؟ فقال
هشام: وما الدليل على أنه قال؟ ثم قال: وإن كان قاله فهو كقول إبراهيم:
" إني سقيم "، وكقوله: " بل فعله كبيرهم "، وكقول يوسف: " أيتها العير إنكم
لسارقون " (3).

(1) البحار: ج 8 ص 145 ط الكمباني.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر نفسه.
493