الكتاب: مواقف الشيعة
المؤلف: الأحمدي الميانجي
الجزء: ٣
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: رجب المرجب ١٤١٦
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

مواقف الشيعة
تأليف علي الأحمدي الميانجي
الجزء الثالث
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين / قم المشرفة
1

مواقف الشيعة
(ج 3)
تأليف: آية الله الشيخ علي الأحمدي الميانجي
الموضوع: تاريخ
طبع ونشر: مؤسسة النشر الاسلامي
عدد الاجزاء: 3 أجزاء
الطبعة: الأولى
المطبوع: 1000 نسخة
التاريخ: رجب المرجب 1416
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
2

(685)
عبد الله بن عباس وعمر
عكرمة عن ابن عباس قال: قال: بينما أنا أمشي مع عمر بن الخطاب في
خلافته وهو عامد لحاجة له وفي يده الدرة، فأنا أمشي خلفه وهو يحدث نفسه،
ويضرب وحشي قدميه بدرته، إذ التفت إلي، فقال: يا ابن عباس أتدري ما
حملني على مقالتي التي قلت يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قلت: لا
قال: الذي حملني على ذلك أني كنت أقرأ هذه الآية: (وكذلك جعلناكم أمة
وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) فوالله، إني
كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وآله. سيبقى في أمته حتى يشهد علينا
بأخف أعمالنا، فهو الذي دعاني إلى ما قلت (1).
(686)
ابن عباس وعمر
قال عبد الله بن عباس: ما شيت عمر بن الخطاب يوما فقال لي: يا ابن
عباس، ما يمنع قومكم منكم، وأنتم أهل البيت خاصة؟ قلت: لا أدري: قال:

(1) العقد الفريد: ج 4 / 270 - 271.
3

لكني أدري إنكم فضلتموهم بالنبوة، فقالوا: إن فضلوا بالخلافة مع النبوة لم
يبقوا لنا شيئا، وإن أفضل النصيبين بأيديكم، بل ما أخالها إلا مجتمعة لكم،
وإن نزلت على رغم أنف قريش (1).
(687)
الأحنف وطلحة والزبير وعائشة
عن الأحنف بن قيس قال: قدمنا المدينة ونحن نريد الحج، فانطلقت
فأتيت طلحة والزبير فقلت: إني لا أرى هذا إلا مقتولا، فمن تأمراني به كما
ترضيانه لي؟ قالا: نأمرك بعلي. قلت: فتأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم.
قال: ثم انطلقت حتى أتيت مكة، فبينما نحن بها إذ أتانا قتل عثمان وبها عائشة
أم المؤمنين، فانطلقت إليها فقلت: من تأمريني أن أبايع؟ قالت: علي بن
أبي طالب، قلت: أتأمريني به وترضينه لي؟ قالت: نعم. قال: فمررت على علي
بالمدينة فبايعته، ثم رجعت إلى البصرة وأنا أرى أن الامر قد استقام، فما راعنا إلا
قدوم عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير قد نزلوا جناب الخريبة.
قال: فقلت: ما جاء بهم؟ قالوا: قد أرسلوا إليك يستنصرونك على دم
عثمان، انه قتل مظلوما. قال: فأتاني أفظع أمر لم يأتني قط. قلت: إن خذلان
هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وآله لشديد، وإن
قتال ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن أمروني ببيعته لشديد، قال:
فلما أتيتهم قالوا: جئناك نستصرخك على دم عثمان قتل مظلوما، قال: قلت:
يا أم المؤمنين أنشدك الله أقلت لك: من تأمريني به وترضينه لي، فقلت:
علي؟ قالت: بلى، ولكنه بدل. قلت: يا زبير، يا حواري رسول الله صلى الله
عليه وآله ويا طلحة، نشدتكما بالله قلت لكما: من تأمراني به وترضيانه لي

(1) العقد الفريد: ج 4 / 280.
4

فقلتما: علي؟ قالا: بلى، ولكنه بدل.
قال: والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين، ولا أقاتل عليا ابن عم رسول الله
صلى الله عليه وآله، ولكن اختاروا مني إحدى ثلاث خصال: إما أن تفتحوا
لي باب الجسر فألحق بأرض الأعاجم حتى يقضي الله من أمره ما يقضي، وإما
أن ألحق بمكة فأكون بها، أو أتحول فأكون قريبا؟ قالوا: نأتمر ثم نرسل إليك،
قال: فأتمروا وقالوا: نفتح له باب الجسر فيلحق به المفارق والخاذل، أو يلحق
بمكة فيفحشكم في قريش ويخبرهم بأخباركم، اجعلوه هاهنا قريبا حيث
تنظرون إليه، فاعتزل بالجلجاء من البصرة على فرسخين واعتزل معه زهاء ستة
آلاف من بني تميم (1).
(688)
عبد الله بن بديل وعائشة
عن ابن أبزى قال: انتهى عبد الله بن بديل إلى عائشة وهي في الهودج
فقال: يا أم المؤمنين، أنشدك بالله، أتعلمين أني أتيتك يوم قتل عثمان فقلت
لك: إن عثمان قد قتل فما تأمرينني [به] فقلت لي: ألزم عليا فوالله ما غير ولا
بدل؟ فسكتت ثم أعاد عليها، فسكتت ثلاث مرات فقال: اعقروا الجمل
فعقروه... (2)
(689)
أبو الأسود ومعاوية
أبو الحسن: قال: لما قدم أبو الأسود الدؤلي على معاوية عام الجماعة قال له
معاوية: بلغني يا أبا الأسود، أن علي بن أبي طالب أراد أن يجعلك أحد

(1) العقد الفريد: ج 4 / 319 - 320.
(2) العقد الفريد: ج 4 / 328.
5

الحكمين فما كنت تحكم به؟ قال: لو جعلني أحدهما لجمعت ألفا من المهاجرين
وأبناء المهاجرين وألفا من الأنصار وأبناء الأنصار، ثم ناشدتهم الله: المهاجرون
وأبناء المهاجرين أولى بهذا الامر أم الطلقاء؟ قال له معاوية: لله أبوك أي
حكم كنت تكون لو حكمت (1).
(690)
ابن عباس ومعاوية
قدم معاوية مكة أو المدينة فأتى المسجد، فقعد في حلقة فيها ابن عمرو ابن
عباس وعبد الرحمان بن أبي بكر، فأقبلوا عليه، وأعرض عنه ابن عباس، فقال:
وأنا أحق بهذا الامر من هذا المعرض وابن عمه، فقال ابن عباس: ولم؟ التقدم
في الاسلام، أم سابقة مع رسول الله صلى الله عليه وآله، أو قرابة منه؟ قال:
لا، ولكني ابن عم المقتول. قال: فهذا أحق به، يريد ابن أبي بكر. قال: إن
أباه مات موتا. قال: فهذا أحق به، يريد ابن عمر. قال: إن أباه قتله كافر
قال: فذلك أدحض لحجتك إن كان المسلمون عتبوا على ابن عمك فقتلوه (2). (691) رافضية مع عالم سني
كان بعض علماء العامة في البصرة وبلغ في الزهد وعلو الدرجة، حتى كتب
سلاطينهم اسمه على الاعلام التي تنشر في الحروب (لا إله إلا الله. محمد رسول
الله. شيخ الاسلام... ولي الله) قد صعد المنبر ذات يوم، فقال: من أراد أن
يشتري مكانا في الجنة فليقم، وأقبلت إليه البهائم، فباع مواضع في الجنة
ومساكنها كل على قدر حاله، حتى أخذ منهم أموالا كثيرة، فلما فرغ من بيعها

(1) العقد الفريد: 4 / 349.
(2) تاريخ الخلفاء: / 201.
6

أقبل إليه رجل لم يكن حاضرا البلد فقال له: يا شيخ، أريد أن أشتري مكانا في الجنة وعندي أموال جزيلة أبذلها كلها على مكان فيها، فأجابه الشيخ بأنه لم
يبق من الجنة إلا مكاني ومكان دابتي، فقال: بعني مكانك واكتف بمكان
دابتك، فباعه مكانه وبقي لامكان له في الجنة.
وقد كان هذا الشيخ يصلي ذات يوم في المسجد فقال في أثناء الصلاة:
كخ كخ، فلما فرغ سأله أصحابه عن ذلك القول في الصلاة، فقال: إني رأيت
وأنا في الصلاة كلبا قد دخل المسجد الحرام وانتهى إلى باب الكعبة، فزبرته
حتى خرج، فتعجب الحاضرون من هذا الكشف العظيم حين رأى وهو في
البصرة كلبا في الكعبة.
فأتى رجل من الحاضرين إلى زوجته وكانت شيعية وكان الرجل سنيا،
وحكى لها كرامة الشيخ وحثها على متابعة دينه، فقالت له: إن كنت تريد أن
تحولني إلى دينك فاطلب هذا الشيخ إلى الضيافة يوما حتى أتحول إلى مذهبك في
حضوره.
ففرح الرجل فوعد الشيخ يوما، فقال للمرأة: اصنعي هذا اليوم طعاما
للشيخ وأصحابه، فصنعت، فلما جلسوا وضعت الصحون بين أيديهم وعلى رأس
كل صحن دجاجة، ودجاجة صحن الشيخ وضعتها تحت الطعام، فلما نظر
الشيخ إلى صحنه غضب غضبا شديدا وامتنع عن الاكل، وقال: كيف ما
وضعتم لي دجاجة؟ وكانت المرأة واقفة تنظر إلى ما يصنع الشيخ، فلما رأت حالة
الغضب، أتت إلى صحنه وأخرجت الدجاجة من تحت الطعام، ثم قالت: يا
فكيف لا ترى الدجاجة التي أمامك وما بينك وبينها حائل سوى لقمة من
الطعام؟!
فقال الشيخ: هذه رافضية خبيثة، فقام وخرج، ورجع زوج المرأة إلى دين
7

زوجته (1).
(692)
مؤمن الطاق مع ناصبي
قال بعض النواصب لصاحب الطاق: كان علي يسلم على الشيخين
بامرأة المؤمنين أفصدق أم كذب؟
قال: أخبرني عن الملكين الذين دخلا على داود فقال أحدهما: إن هذا
أخي له تسع وتسعون نعجة، ولي نعجة واحدة كذب أم صدق؟ فانقطع
الناصبي (2).
(693)
هشام وأبو عبيدة
قال أبو عبيدة المعتزلي لهشام بن الحكم: الدليل على صحة معتقدنا وبطلان
معتقدكم كثرتنا وقلتكم، مع كثرة أولاد علي وادعائهم.
فقال هشام: لست إيانا أردت بهذا القول، إنما أردت الطعن على نوح
حيث لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى النجاة ليلا ونهارا
(وما آمن معه إلا قليل) (3).
(694)
هشام والمتكلمون
سأل هشام بن الحكم جماعة من المتكلمين فقال: أخبروني حين بعث الله
محمدا بعثه بنعمة تامة أو بنعمة ناقصة؟ قالوا: بنعمة تامة.
قال: فأيما أتم أن يكون في أهل بيت واحد نبوة وخلافة أو يكون نبوة

(1) روضة المؤمنين ص 11 - 13 عن جليس الحاضر وأنيس المسافر.
(2) روضة المؤمنين: ص 52 عن مناقب آل أبي طالب.
(3) روضة المؤمنين: ص 53 عن مناقب آل أبي طالب.
8

بلا خلافة؟ قالوا: بل يكون نبوة وخلافة.
قال: فلماذا جعلتموها في غيرها، وإذا صارت في بني هاشم ضربتم
وجوههم بالسيوف؟ فأفحموا (1).
(695) حمران ويحيى
سأل حمران بن أعين - رحمه الله - يحيى بن أكثم عن قول النبي صلى الله
عليه وآله حيث أخذ بيد علي عليه السلام وأقامه للناس، فقال: (من كنت
مولاه فعلي مولاه) أبأمر من الله تعالى ذلك، أم برأيه؟
فسكت عنه حتى انصرف، فقيل له في ذلك، فقال: إن قلت: برأيه نصبه
للناس خالفت قول الله تعالى: (وما ينطق عن الهوى)، وإن قلت: بأمر الله
ثبتت إقامته، قال: فلم خالفوه واتخذوا وليا غيره؟ قال العوني:
فما ترك النبي الناس شورى * بلا هاد ولا علم مقيم
ولكن سول الشيطان أمرا * فأودى بالسوام وبالمسيم (2)
(696)
المفيد - رحمه الله - وعباسي
سأل الشيخ المفيد - رحمه الله - عباسي بمحضر أجلتهم: من كان الامام بعد
النبي صلى الله عليه وآله؟
قال: من دعاه العباس أن يمد يده لبيعته على حرب من حارب وسلم من
سالم.

(1) روضة المؤمنين: ص 53 عن مناقب آل أبي طالب.
(2) روضة المؤمنين: ص عن مناقب آل أبي طالب.
9

قال: ومن هذا؟
قال: علي بن أبي طالب، حيث قال له العباس في اليوم الذي قبض فيه
النبي بما اتفق عليه النقل: ابسط يدك يا ابن أخي أبايعك، فيقول الناس: عم
رسول الله بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان.
قال: فما كان الجواب من علي؟ قال: كان الجواب: أن النبي صلى الله
عليه وآله عهد إلي أن لا أدعو أحدا حتى يأتوني، ولا أجرد سيفا حتى يبايعوني،
فإنما أنا كالكعبة اقصد ولا اقصد، ومع هذا فلي برسول الله شغل.
فقال العباسي: كان العباس إذا على خطأ في دعائه إلى البيعة. قال: لم
يخطئ العباس فيما قصد، لأنه عمل على الظاهر، وكان عمل أمير المؤمنين على
الباطن، وكلاهما أصابا الحق.
قال: فإن كان علي هو الامام بعد النبي فقد أخطأ الشيخان ومن تبعهما.
قال: فإن استعظمت تخطئة من ذكرت فلابد لك من تخطئة علي والعباس
مع قبول أنهما تأخرا عن بيعة أبي بكر ولم يرضيا بتقدمه عليهما، ولا رآهما أبو بكر
ولا عمر أهلا أن يشاركاهما في شئ من أمورهما، وخاصة ما صنعه عمر يوم
الشورى لما ذكر عليا عابه ووصفه بالدعابة تارة وبالحرص على الدنيا أخرى،
وأمر بقتله إن خالف عبد الرحمان، وجعل الحق في حيز عبد الرحمان دونه، وفضله
عليه، وذكر من يصلح للإمامة في الشورى، ومن يصلح للاختيار، فلم يذكر
العباس في إحدى الطائفتين، وقد أخذ من علي والعباس وجميع بني هاشم
الخمس، وجعله في السلاح والكراع، فإن كنت أيها الشريف تنشط للطعن
على علي والعباس بخلافهما للشيخين، وتأخرهما عن بيعتهما وترى من العقد ما
سنه الشيخان في التأخير لهما عن شريف المنازل والحط من أقدارهما فصر إلى
ذلك فإنه الضلال.
قال أبو طالب المحسن الحسيني النصبي:
10

وقد كان في الشورى من القوم ستة * ولم يك للعباس ثم دخول
نفاه أبو حفص ولم يرضه لها * أصاب أم أخطأ أي ذاك نقول (1)
(697)
ابن بابويه وركن الدولة
وصف للملك ركن الدولة ابن بويه الديلمي الشيخ الأجل محمد بن
بابويه ومجالسه وأحاديثه، فأرسل إليه على وجه الكرامة، فلما حضر قال له:
أيها الشيخ قد اختلف الحاضرون في القوم الذين يطعن عليهم الشيعة، فقال
بعضهم: يجب الطعن، وقال بعضهم: لا يجوز، فما عندك في هذا؟
فقال الشيخ: أيها الملك، إن الله لم يقبل من عباده الاقرار بتوحيده حتى
ينفوا كل إله وكل صنم عبد من دونه، ألا ترى أنه أمرهم أن يقولوا: لا إله إلا الله
ف‍ (لا إله) غيره وهو نفي كل إله عبد دون الله، و (إلا الله) إثبات الله
عز وجل، وهكذا لم يقبل الاقرار من عباده بنبوة محمد صلى الله عليه وآله حتى
نفوا كل من كان مثل مسيلمة وسجاج والأسود العبسي وأشباههم.
وهكذا ألا يقبل القول بإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه
السلام إلا بعد نفي كل ضد انتصب للأمة دونه.
فقال الملك: هذا هو الحق، ثم سأله الملك في الإمامة سؤالات كثيرة أجابه
عنها (إلى أن قال:) وكان رجل قائما على رأس الملك يقال له: أبو القاسم، فاستأذن
في الكلام فأذن له، فقال: أيها الشيخ، كيف يجوز أن تجتمع هذه الأمة على
ضلالة مع قول النبي صلى الله عليه وآله: (أمتي لا تجتمع على ضلالة)؟
قال الشيخ: إن صح هذا الحديث يجب أن يعرف فيه ما معنى الأمة، لان
الأمة في اللغة هي الجماعة، وقال قوم: أقل الجماعة ثلاثة، وقال قوم: بل أقل

(1) روضة المؤمنين: ص 87 - 88 عن مناقب آل أبي طالب.
11

الجماعة رجل وامرأة، وقال: الله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة) فسمى واحدا
أمة، فما ينكر أن يكون النبي صلى الله عليه وآله قال هذا الحديث وقصد به
عليا عليه السلام ومن تبعه.
فقال: بل عنى سواه من هو أكثر عددا.
فقال الشيخ: وجدنا الكثير مذموما في كتاب الله، والقلة محمودة وهو قوله
تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم) ثم ساق الآيات.
فقال الملك: لا يجوز الارتداد على العدد الكثير مع قرب العهد بموت صاحب
الشريعة.
فقال الشيخ: وكيف لا يجوز الارتداد عليهم مع قوله تعالى: (وما محمد إلا
رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) وليس
ارتدادهم في ذلك بأعجب من ارتداد بني إسرائيل حين أراد موسى عليه
السلام أن يذهب إلى ميقات ربه، فاستخلف أخاه هارون، ووعد قومه بأن
يعود بعد ثلاثين ليلة فأتمها الله بعشر فلم يصبر قومه إلى أن خرج فيهم السامري
وصنع لهم عجلا، وقال: (هذا إلهكم وإله موسى) واستضعفوا هارون خليفته
وأطاعوا السامري في عبادة العجل، فرجع موسى إليهم وقال: (بئسما
خلفتموني). وإذا جاز علي بني إسرائيل وهم أمة نبي من اولي العزم أن يرتدوا بغيبة
موسى عليه السلام بزيادة أيام حتى خالفوا وصيه، وفعل سامري هذه الأمة
مما هو دون عبادة العجل، وكيف لا يكون علي معذورا في تركه قتال سامري
هذه الأمة؟ وإنما علي عليه السلام من النبي صلى الله عليه وآله بمنزلة
هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعده، فاستحسن الملك كلامه.
فقال الشيخ: أيها الملك زعم القائلون بإمامة سامري هذه الأمة: أن النبي
صلى الله عليه وآله لا يستخلف، واستخلفوا رجلا وأقاموه، فإن كان ما فعله
12

النبي صلى الله عليه وآله على زعمهم من ترك الاستخلاف حقا، فالذي
أتته الأمة من الاستخلاف باطل، وإن كان الذي أتته الأمة صوابا، فالذي
فعله النبي صلى الله عليه وآله خطأ بمن يلصق الخطأ بهم أم به؟
فقال الملك: بل بهم [فقال الرجل ظ] وكيف يجوز أن يخرج النبي صلى
الله عليه وآله من الدنيا ولا يوصى بأمر الأمة؟ ونحن لا نرضى من أكار في
قرية إذا مات وخلف مسحاة وفأسا لا يوصي بها إلى من بعده؟ فاستحسنه الملك.
فقال الشيخ: وهنا كلمة أخرى: زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله لم
يستخلف فخالفوه باستخلافهم، لان الأول استخلف الثاني، ثم لم يقتد الثاني
به ولا بالنبي صلى الله عليه وآله حتى جعل الامر شورى في قوم معدودين،
وأي بيان أوضح من هذا؟... (1)
(698)
العلامة الحلي والموصلي
خطب العلامة الحلي - رحمه الله - بمحضر من بعض علماء العامة، وكان
قدس سره قد أفحمهم بالمناظرة، وقد اشتملت خطبته على حمد الله والصلاة على
رسوله والأئمة عليهم السلام، فلما سمع السيد الموصلي - أحد المسكوتين
بالمناظرة - قال:
ما الدليل على جواز توجيه الصلاة على غير الأنبياء؟
فقرأ العلامة في جوابه بلا انقطاع الكلام: (الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا
إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة).
فقال الموصلي على طريق المكابرة: ما المصيبة التي أصابتهم حتى أنهم
يستوجبون بها الصلاة؟

(1) روضة المؤمنين: ص 88 - 92 عن زهر البيع.
13

فقال العلامة رحمه الله: من أشنع المصائب وأشدها أن حصل من ذراريهم
مثلك الذي يرجح المنافقين الجهال المستوجبين اللعنة والنكال على آل رسول
الملك المتعال.
فاستضحك الحاضرون، وتعجبوا من بداهة آية الله في العالمين، وقد أنشد
بعض الشعراء:
إذا العلوي تابع ناصبيا * بمذهبه فما هو من أبيه
وكان الكلب خيرا منه حقا * لان الكلب طبع أبيه فيه (1)
(699)
العلامة وعلماء العامة
حدث جماعة من الأصحاب: أن السلطان محمد شاه خدا بنده الجايتوخان
المغولي غضب يوما على امرأته، فقال لها: أنت طالق ثلاثا ثم ندم، وجمع العلماء
فقالوا: لابد من المحلل. فقال: عندكم في كل مسألة أقاويل مختلفة أوليس
لكم هنا اختلاف؟ فقالوا: لا، فقال أحد وزرائه: إن عالما بالحلة، وهو يقول
ببطلان هذا الطلاق، فبعث كتابه إلى العلامة وأحضره، فلما بعث إليه قال
علماء العامة: أن مذهبا باطلا، ولا عقل للروافض، ولا يليق بالملك أن يبعث إلى
طلب رجل خفيف العقل.
قال الملك: حتى يحضر، فلما حضر العلامة بعث الملك إلى جميع علماء
المذاهب الأربعة وجمعهم، فلما دخل العلامة أخذ نعليه بيده ودخل المجلس،
وقال: السلام عليكم وجلس عند الملك.
فقالوا للملك: ألم نقل لك أنهم ضعفاء العقول؟ قال الملك: اسألوا منه
في كل ما فعل.

(1) روضة المؤمنين: ص 106، عن لؤلؤة البحرين.
14

فقالوا له: لم ما سجدت للملك وتركت الآداب؟ فقال: إن رسول الله
صلى الله عليه وآله كان ملكا وكان يسلم عليه، وقال الله: (فإذا دخلتم بيوتا
فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة) ولا خلاف بيننا وبينكم أنه
لا يجوز السجود لغير الله.
قالوا له: لم جلست عند الملك؟ قال: لم يكن مكان غيره. وكلما يقول
العلامة بالعربي كان المترجم يترجم للملك.
قالوا له: لأي شئ أخذت نعلك معك، وهذا مما لا يليق بعاقل بل
إنسان؟
قال: خفت أن يسرقه الحنفية كما سرق أبو حنيفة نعل رسول الله صلى الله
عليه وآله.
فصاحت الحنفية: حاشا وكلا، متى كان أبو حنيفة في زمان رسول الله؟ بل
كان تولده بعد المائة من وفاته صلى الله عليه وآله.
فقال: نيست فلعله كان السارق الشافعي.
فصاحت الشافعية كذلك، وقالوا: كان تولد الشافعي في يوم وفاة
أبي حنفية وكان نشوؤه في المائتين من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: ولعله كان مالكا، فصاحت المالكية كالأولين.
قال: فلعله أحمد بن حنبل، ففعلت الحنبلية كذلك.
فأقبل العلامة إلى الملك وقال: أيها الملك علمت أن رؤساء المذاهب
الأربعة لم يكن أحدهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله ولا الصحابة
فهذا أحد بدعهم، أنهم اختاروا من مجتهديهم هذه الأربعة، ولو كان فيهم من
كان أفضل منهم بمراتب لا يجوزون أن يجتهد بخلاف ما أفتى واحد منهم.
فقال الملك: ما كان واحد منهم في زمان رسول الله والصحابة؟ فقال
الجميع: لا.
15

فقال العلامة: ونحن معاشر الشيعة تابعون لأمير المؤمنين عليه السلام
نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وأخيه وابن عمه ووصيه، وعلى أي حال
فالطلاق الذي أوقعه الملك باطل، لأنه لم يتحقق شروطه ومنها العدلان، فهل
قال الملك بمحضرهما؟ قال: لا.
ثم شرع في البحث مع العلماء حتى ألزمهم جميعا، فتشيع الملك وبعث إلى
البلاد والأقاليم حتى يخطبوا بالأئمة الاثني عشر، ويضربوا السكك على أسمائهم
وينقشوها على أطراف المساجد والمشاهد منهم (1).
(700)
الشيخ البهائي مع أحد العلماء
جرت مباحثة بين الشيخ البهائي - رحمه الله - وبين عالم من علماء مصر، وهو
أعلمهم وأفضلهم، وكان قدس سره يظهر لذلك العالم أنه على دينه فقال له: ما
تقول الرافضة الذين كانوا قبلكم في الشيخين؟ فقال له البهائي - رحمه الله -: قد
ذكروا لي حديثين عجزت عن جوابهم، فقال: ما يقولون؟ قلت: يقولون: إن
مسلما روى في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (من آذى
فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى فقد كفر). وروى أيضا
مسلم في صحيحه بعد هذا الحديث بخمسة أوراق: (أن فاطمة خرجت من
الدنيا وهي غاضبة على أبي بكر وعمر) فما أدري ما التوفيق بين هذين
الحديثين؟
فقال له العالم: دعني الليلة أنظر، فلما صار الصبح جاء ذلك العالم، وقال
للبهائي - رحمه الله -: ألم أقل لك أن الرافضة تكذب في نقل الأحاديث، البارحة
طالعت الكتاب فوجدت بين الخبرين أكثر من خمسة أوراق!

(1) روضة المؤمنين: ص 107 - 110 عن روضات الجنات.
16

هذا اعتذاره عن معارضة الحديثين (1).
(701)
الشيخ البهائي وبعض العلماء
باحث الشيخ البهائي بعض علماء المخالفين، فقال له: لم جوزتم أيها
الشيعة، قتل عثمان مع أنه كان من أكابر الصحابة، وقال النبي صلى الله
عليه وآله في أصحابه: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)؟
فقال البهائي - رحمه الله: جوزنا قتله بهذا الحديث الذي قلته، لان الذي
قتله وسعى فيه هم الصحابة: محمد بن أبي بكر وأضرابه، وهؤلاء من الصحابة
فلما ارتكبوا القتل ارتكبنا نحن التجويز (2).
(702)
ابن طاووس وبعض الحنابلة
قال السيد الاجل علي بن طاووس - قدس سره -: وقلت لبعض الحنابلة:
أيما أفضل آباؤك وسلفك الذين كانوا قبل أحمد بن حنبل إلى عهد النبي
صلى الله عليه وآله، أو آباؤك وسلفك الذين كانوا بعد أحمد بن حنبل؟ فإنه
لابد أن يقول: إن سلفه المتقدمين على أحمد بن حنبل أفضل، لأجل قربهم إلى
الصدر الأول ومن عهد النبي صلى الله عليه وآله.
فقلت: إذا كان سلفك الذين كانوا قبل أحمد بن حنبل أفضل فلأي حال
عدلت عن عقائدهم وعوائدهم إلى سلفك المتأخرين عن أحمد بن حنبل
وما كان الأوائل حنابلة، لان أحمد بن حنبل ما كان قد ولد، ولا كان مذكورا
عندهم؟ فلزمته الحجة، وانكشفت له المحجة (3).

(1) روضة المؤمنين: ص 113 عن الأنوار النعمانية.
(2) روضة المؤمنين: ص 114.
(3) روضة المؤمنين: ص 119 عن كشف المحجة.
17

(703)
ابن طاووس وبعض أهل العلم
قال السيد الاجل علي بن طاووس قدس سره: ولقد جمعني وبعض أهل
الخلاف مجلس منفرد، فقلت لهم: ما الذي تأخذون على الامامية؟ عرفوني به
بغير تقية لاذكر ما عندي فيه، وغلقنا باب الموضع الذي كنا ساكنيه.
فقالوا: نأخذ عليهم تعرضهم بالصحابة، ونأخذ عليهم القول بالرجعة
والقول بالمتعة، ونأخذ عليهم حديث المهدي، وأنه حي مع تطاول زمان غيبته.
فقلت لهم: أما ما ذكرتم من تعرض من أشرتم إليه بذم بعض الصحابة:
فأنتم تعلمون أن كثيرا من الصحابة استحل بعضهم دماء بعض في حرب طلحة
والزبير وعائشة لمولانا علي عليه السلام، وفي حرب معاوية له عليه السلام
أيضا، واستباحوا أعراض بعضهم لبعض حتى لعن بعضهم بعضا على منابر
الاسلام، فأولئك هم الذين طرقوا سبيل الناس للطعن عليهم، وبهم اقتدى من
ذمهم ونسب القبيح إليهم، فإن كان لهم عذر في الذي عملوه من استحلال
الدماء وإباحة الاعراض فالذين اقتدوا بهم أعذر وأبعد من أن تنسبوهم إلى سوء
التعصب والاعراض، فوافقوا على ذلك.
وقلت لهم: وأما حديث ما أخذتم عليهم من القول بالرجعة، فأنتم تروون ان
النبي صلى الله عليه وآله قال: انه يجري في أمته ما جرى في الأمم السابقة
وهذا القرآن يتضمن (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر
الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) فشهد جل جلاله أنه قد أحيا الموتى في
الدنيا وهي رجعة فينبغي أن يكون في هذه الأمة مثل ذلك، فوافقوا على ذلك.
فقلت لهم: وأما أخذكم عليهم بالقول بالمتعة فأنتم أحرجتم الشيعة إلى
صحة الحكم بها، لأنكم رويتم في صحاحكم عن جابر بن عبد الله الأنصاري
وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وسلمة بن الأكوع وعمران بن الحصين
18

وأنس بن مالك، وهم من أعيان الصحابة: أن البني صلى الله عليه وآله
مات ولم يحرمها، فلما رأت الشيعة أن رجالكم وصحاح كتبكم قد صدقت
رجالهم ورواتهم، أخذوا بالمجموع عليه وتركوا ما انفردتم به، فوافقوا على ذلك.
وقلت لهم: وأما ما أخذتم عليهم من طول غيبة المهدي عليه السلام، فأنتم
تعلمون أنه لو حضر رجل وقال: أنا أمشي على الماء ببغداد، فإنه يجتمع
لمشاهدته لعل من يقدر على ذلك منهم، فإذا مشى على الماء وتجب الناس منه،
فجاء آخر قبل أن يتفرقوا وقال أيضا أنا أمشي على الماء فان التعجب منه
يكون أقل من ذلك، فمشى على الماء، فإن بعض الحاضرين ربما يتفرقون ويقل
تعجبهم، فإذا جاء ثالث، وقال: أنا أيضا أمشي على الماء فربما لا يقف للنظر
إليه إلا قليل، فإذا مشى على الماء سقط التعجب من ذلك، فإن جاء رابع وذكر
أنه أيضا يمشي، فربما لا يبقى أحد ينظر إليه ولا يتعجب منه.
وهذه حالة المهدي عليه السلام، لأنكم رويتم: ان إدريس حي موجود في
السماء منذ زمانه إلى الان، ورويتم: أن الخضر حي موجود منذ زمان موسى
عليه السلام أو قبله إلى الان، ورويتم: أن عيسى حي موجود في السماء وأنه
يرجع إلى الأرض مع المهدي عليه السلام، فهؤلاء ثلاثة نفر من البشر، قد
طالت أعمارهم، وسقط التعجب بهم من طول أعمارهم.
فهلا كان لمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وآله أسوة بواحد
منهم، أن يكون من عترته آية لله جل جلاله في أمته بطول عمر أحد من ذريته،
فقد ذكرتم ورويتم في صفته أنه يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت جورا
وظلما.
ولو فكرتم لعرفتم أن تصديقكم وشهادتكم أنه يملأ الأرض بالعدل شرقا
وغربا، وبعدا قربا، أعجب من طول بقائه، وأقرب إلى أن يكون ملحوظا
بكرامات الهل جل جلاله لأوليائه، وقد شهدتم أيضا له أن عيسى بن مريم النبي
19

المعظم عليهما السلام يصلي خلفه مقتديا به في صلاته وتبعا له، ومنصورا به في
حروبه وغزواته، وهذا أيضا أعظم مقاما مما استبعدتموه من طول حياته،
فوافقوا على ذلك (1).
(704)
شيعي وبكري
ذكر ابن أبي الحديد (ج 1 ص 426 ط مصر عام 1329): أنت بكريا وشيعيا
تجادلا واحتكما إلى بعض أهل الذمة ضمن لا هوى له مع أحد الرجلين - يعني
عليا وأبا بكر - في التفضيل فأنشد هما:
كم بين من شك في عقيدته * وبين من قيل: انه الله (2)
(705)
شيعي وسني
وقع تنازع شيعي وسني في بغداد في أن خليفة رسول الله صلى الله
عليه وآله هل هو أبو بكر أو علي عليه السلام؟ فتشاجرا، فاجتمعا على أن
الحق ما يحكم به أول من يرد علينا، فإذا ورد مجنون، فترافعا إليه، فقال
المجنون: إذا طلعت الشمس من المشرق فتحا كما إليها وقولا لها: لمن رجعت بعد
غروبك؟ فإن قالت: لعلي فهو الخليفة بلا فصل، وإن قالت: لأبي بكر فهو
الخليفة، فبهت الذي كفر (3).
(706)
شيعي وسني
استقرض رجل من السنة حنطة من رجل شيعي، فلما أراد أن يؤديها إليه،

(1) روضة المؤمنين: ص 120 - 125 عن الطرائف
(2) روضة المؤمنين: ص 127.
(3) روضة المؤمنين: ص 128 عن الخزائن.
20

بعث إليه حنطة عتيقة رديئة عوضا عنها، فردها الشيعي إليه ولم يقبلها، فبعث إليه
حنطة جديدة غير أنه خلطها بالتراب، فقبلها الشيعي وبعث إليه بهذين
البيتين:
بعثت لنا بذاك البر برا * رجاء للجزيل من الثواب
رفضناه عتيقا وارتضينا * به إذ جاء وهو أبو تراب (2)
(707)
بهلول وجماعة
حكي: أنه مر بهلول على جماعة يتذاكرون الحديث، ويروون عن عائشة أنها
قالت: لو أدركت ليلة القدر لما سألت ربي إلا العفو والعافية.
فقال بهلول: والظفر على علي بن أبي طالب. يعني أن الظفر على علي بن
أبي طالب كان من أعظم مسؤولات عائشة، فكان ينبغي أن يضم هاهنا إلى
العفو والعافية (2).
(708)
كوفية مع عائشة
في الأثر: أن امرأة أتت عائشة بعد وقعة الجمل فقالت: يا أم المؤمنين ما
تقولين في أم قتلت ولدها؟ فقالت: إنها من أهل النار لقوله تعالى: (ومن يقتل
مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها).
فقالت: وما تقولين في أم قتل بسببها عشرون ألفا من أولادها. ففهمت
عائشة ما أرادت المرأة، فقالت: نحوها عني فإنها كوفية خبيثة (3).

(1) روضة المؤمنين: ص 129.
(2) روضة المؤمنين: ص 136 عن زهر الربيع.
(3) روضة المؤمنين: ص 137 عن زهر الربيع، ومرج 2 ص 376 عن العقد بلفظ آخر.
21

(709)
عمار الدهني وابن أبي ليلى
شهد عمار الدهني عند أبي ليلى عند أبي ليلى فقال: لا نقبلك لأنك رافضي. فبكى.
وقال [: تبكى]؟ نبرء من الرفض وأنت من اخواننا.
فقال: إنما أبكي لأنك نسبتي إلى رتبة شريفة لست من أهلها، وبكيت
لعظم كذبك في تسميتي بغير اسمي.
وعيرتني بالشيب وهو وقار * وليتها عيرتني بما هو عار (2)
(710)
بعض المشايخ وسلطان البصرة
كان بعض مشايخنا رجلا مزاحا، وكان ذات يوم بمجلس سلطان البصرة،
فسأله السلطان بمحضر جماعة من علماء المخالفين، وكان ذلك السلطان منهم
أيضا، وقال: يا شيخ، أيهما أفضل فاطمة أم عائشة؟
فقال الشيخ: عائشة أفضل. قال: ولم؟
فقال: لقول الله تعالى: (فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة) وعائشة
خرجت من المدينة إلى البصرة، وجهزت العساكر، وجاهدت عليا وبني هاشم
وأكابر الصحابة، حتى قتل بسببها خلق كثير، وأما فاطمة - عليها السلام - فقد
لزمت بيتها، وما خرجت منه إلا المسجد لطلب فدك والعوالي من أبي بكر، ولما
منعها منه استقرت في مكانها إلى يوم موتها!
فضحك السلطان والحاضرون، وقال السلطان: يا شيخ هذا تشنيع
لطيف (2).

(2) الصراط المستقيم: ج 3 / 76.
(2) روضة المؤمنين: ص 140 عن الأنوار النعمانية.
22

(711)
بعض القضاة ورجل
في الروايات: أن رجلا سأل بعض القضاة: أن أمير المؤمنين عليه السلام
قال لولده الحسن عليه السلام في حكاية الحكمين: ليتني مت قبل هذا
بعشرين سنة، أترى أنه - عليه السلام - كان شاكا في خلافته؟
فقال القاضي: أجبني عن قول مريم عليها السلام: (يا ليتني مت قبل
هذا وكنت نسيا منسيا) أكانت شاكة في طهارة ذيلها وعفتها؟ فما أجبت به
فهو الجواب عن سؤالك (1).
(712)
بهلول وعالم سني
في الأثر: أن رجلا من علماء المخالفين قال يوما لبهلول: إنه ورد في الحديث
الصحيح أن يوم القيامة توضع أعمال أبي بكر وعمر في كفة من الميزان،
وأعمال سائر الخلائق في كفة أخرى، فترجح أعمال الشيخين على أعمال
الخلائق!
فقال البهلول: إن كان هذا الحديث صحيحا فالعيب في الميران (2).
(713)
رجل شيعي وجماعة من السنة
مرض شيعي مرضه الأخير، فعاده جماعة من أصدقائه، وكانوا من أصحاب
المذاهب الأربعة، فأخذ يكلمهم في شئ من الكلام، ثم سألهم: هل تجدون
في كلامي هذيانا وفي عقلي خللا؟ قالوا: كلا.

(1) روضة المؤمنين: ص 142 عن زهر الربيع.
(2) روضة المؤمنين: 143 عن زهر الربيع: ص 250.
23

فقال: إني مفارقكم الساعة، وهذا ملك الموت حاضر عندي أكرر عليكم
السؤال: هل تجدون في كلامي هذا هذيانا وفي عقلي خللا؟ قالوا: كلا،
كلامك موزون وعقلك حصيف.
وبعد أن أخذ منهم الاعتراف بكمال شعوره واستقامة عقله، قال لهم: فإذا
كان كلامي موزونا وعقلي سليما، وأنا في هذه الحالة والساعة مشرف على
الموت، وأنا أحد افراد هذه الأمة، فكيف يصح من الرسول صلى الله عليه
وآله الهجر والهذيان وهو سيد البشر في آخر ساعة حياته؟! (1)
(714)
رجل من أصحاب هشام مع رجل من المعتزلة
سأل رجل من أصحاب هشام بن الحكم رجلا من المعتزلة فقال له: أخبرني
عن العالم هل له نهاية وحد؟
فقال المعتزلي: النهاية عندي على ضربين: أحدهما نهاية الزمان من وقت
كذا إلى وقت كذا، والاخر نهاية الأطراف والجوانب وهو متناه بهاتين
الصفتين، ثم قال له: فأخبرني عن الصانع عز وجل هل هو متناه؟ فقال: محال.
قال: فتزعم أنه يجوز أن يخلق المتناهي من ليس بمتناه. فقال: نعم.
قال: فلم لا يجوز أن يخلق الشئ من ليس بشئ كما جاز أن يخلق
المتناهي من ليس بمتناه.
قال: لان ما ليس بشئ هو عدم وإبطال. قال له: وما ليس بمتناه عدم وإبطال.
قال: لا شئ هو نفي. قال له: وما ليس بمتناه هو نفي.
قال: قد أجمع الناس على أنه شئ إلا جهما وأصحابه.
قال: قد أجمع الناس أنه متناه.

(1) روضة المؤمنين: ص 143.
24

قال: وجدت كل شئ متناه محدثا مصنوعا عاجزا، قال: ووجدت كل
شئ محدثا مصنوعا عاجزا، قال: لما أن وجدت هذه الأشياء مصنوعة علمت أن
صانعها شئ.
قال: لما أن وجدت هذه الأشياء متناهية علمت أن صانعها متناه.
قال: لو كان متناهيا كان محدثا، إذ وجدت كل متناه محدثا.
قال: لو كان متناهيا كان محدثا، إذ وجدت كل متناه محدثا.
قال: ولو كان شيئا كان محدثا عاجزا، إذا وجدت كل شئ محدثا عاجزا
وإلا فما الفرق؟! فأمسك (1).
(715)
الشهيد أو السيد مع بعض النواصب
بيتان لبعض النواصب أحل الله ديارهم العذاب الواصب، وهما:
قول الروافض نحن أطيب مولدا * قول جرئ بخلاف دين محمد
نكحوا النساء تمتعا فولدن من * ذاك النكاح فأين طيب المولد؟
فأجابه الشهيد - رحمه الله - وقيل: السيد المرتضى - رحمه الله - فقال:
إن التمتع سنة مفروضة * ورد الكتاب بها وسنة أحمد
وروى الروافض أن ذلك قد جرى * من غير شك في زمان محمد
ثم استمر الحال في تحليلها * قد صح ذاك من الحديث المسند
عن جابر وعن ابن مسعود وعن * نقل ابن عباس الكريم المولد
حتى نهى عمر بغير دلالة * عنها فكدر صفو ذاك المورد
لكن مواليد النواصب جددت * دين المجوس فأين دين محمد؟
............. * في الأمهات دليل طيب المولد (2)

(1) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 63 - 64.
(2) روضة المؤمنين: ص 148 عن الأنوار النعمانية.
25

(716)
الفندرسكي مع بعض العلماء
حكى لي بعض من أثق به: أن العالم الجليل الأمير أبا القاسم الفندرسكي
لما كان في بلاد الهند عند سلطانها، فاتفق أنه كان في السفر مع علماء العامة،
فبال في البرية ولم يتفق له الماء، فجفف موضع البول بالتراب وقام، فقال له
أعلم علمائهم: هذا الذي صنعت إنما يوافق مذهبنا لا مذهبكم.
فقال الأمير أبو القاسم: نعم بلت اليوم على مذهبكم. وكان رحمه الله حاضر
الجواب (1).
(717)
الشافعي والبحراني
بيتان للشافعي (إمام المذهب الشافعي):
لو شق قلبي لرأوا وسطه * خطين قد خطا بلا كاتب
الشرع والتوحيد في جانب * وحب أهل البيت في جانب
جوابهما للشيخ يوسف البحراني قد سره:
كذبت في دعواك يا شافعي * فلعنة الله على الكاذب
بل حب أشياخك في جانب * وبغض أهل البيت في جانب
عبدتم الجبت وطاغوته * دون الاله الواحد الواجب
فالشرع والتوحيد في معزل * عن معشر النصاب يا ناصبي
قدمتم العجل مع السامري * على الأمير ابن أبي طالب
محضتهم بالود أعداءه * من جالب الحرب ومن غاصب

(1) روضة المؤمنين: ص 125، عن زهر الربيع: ص 323.
26

وتدعون الحب ما هكذا * فعل اللبيب الحازم الصائب
قد قرروا في الحب شرطا له * أن تبغض المبغض للصاحب
وشاهدي القرآن في (لا تجد) * أكرم به من نير ثاقب
وكلمة التوحيد إن لم يكن * عن الطريق الحق بالناكب
وأنتم قررتم ضابطا * لتدفعوا العيب عن الغائب
بأننا نسكت عما جرى * من الخلاف السابق الذاهب
ونحمل الكل عن محمل * الخير لنحضى برضا الواهب
تبا لعقل عن طريق الهدى * أصبح في تيه الهوى عازب (1)
(718)
رجل مع معاوية
وفي العقد: قال معاوية يوما: أيها الناس إن الله فضل قريشا بثلاث: فقال
لنبيه: (وأنذر عشيرتك الأقربين) فنحن عشيرته، وقال له: (وإنه لذكر لك
ولقومك) فنحن قومه، وقال: (لايلاف قريش - إلى - وآمنهم من خوف) ونحن
قريش.
فأجابه رجل من الأنصار فقال: على رسلك يا معاوية، فإن الله تعالى
يقول: (وكذب به قومك) وأنتم قومه، وقال: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا
قومك منه يصدون) وأنتم قومه، وقال: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا
هذا القرآن مهجورا) وأنتم قومه، ثلاثة بثلاثة ولو زدتنا زدناك، فأفحمه (2).
(719)
ابن عباس وعمار مع معاوية
(في زمن عثمان بن عفان) قدم معاوية بن أبي سفيان على أثر ذلك من

(1) روضة المؤمنين: ص 153 - 154.
(2) بهج الصباغة: ج 2 / 311.
27

الشام، فأتى مجلسا فيه علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام
وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمان بن عوف وعمار بن ياسر، فقال لهم: يا معشر
الصحابة، أوصيكم بشيخي هذا - يعني عثمان - خيرا، فوالله لئن قتل بين
أظهركم لأملأنها عليكم خيلا ورجالا، ثم أقبل على عمار بن ياسر فقال: يا
عمار، إن بالشام مائة ألف فارس كل يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم
وعبدانهم، لا يعرفون عليا ولا قرابته، ولا عمارا ولا سابقته، ولا الزبير ولا
صحابته، ولا طلحة ولا هجرته، ولا يعابون ابن عوف ولا ماله، ولا يتقون سعدا
ولا دعوته، فإياك يا عمار أن تقعد غدا في فتنة تنجلي، فيقال: هذا قاتل
عثمان، وهذا قاتل علي.
ثم أقبل على ابن عباس فقال: يا ابن عباس إنا كنا وإياكم في زمان
لا نرجو فيه ثوابا، ولا نخاف عقابا، وكنا أكثر منكم، فوالله ما ظلمنا كم ولا
قهرناكم، ولا أخرناكم عن مقام تقدمناه، حتى بعث الله رسوله منكم، فسبق
إليه صاحبكم، فوالله ما زال يكره شركنا ويتغافل به عنا، حتى ولي الأمر علينا
وعليكم، ثم صار الامر إلينا وإليكم، فأخذ صاحبنا على صاحبكم لسنه، ثم
عير فنطق على لسانه، فقد أوقدتم نارا لا تطفأ بالماء.
فقال ابن عباس: كنا كما ذكرت حتى بعث [الله] رسوله منا ومنكم، ثم
ولي الأمر علينا وعليكم، ثم صار الامر إلينا وإليكم، فأخذ صاحبكم على
صاحبنا لسنه، ولما هو أفضل من سنه، فوالله ما قلنا إلا ما قال غيرنا، ولا نطقنا
إلا بما نطق به سوانا، فتركتم الناس جانبا، وصيرتمونا بين أن أقمنا متهمين أو
نزعنا معتبين، وصاحبنا من قد علمتم، والله لا يهجهج مهجهج إلا ركبه، ولا يرد
حوضا إلى أفرطه، وقد أصبحت منك ما أحببت وأكره ما كرهت ولعلي لا
ألقاك إلا في خير (1).

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 33.
28

(720)
عمار والمغيرة
دخل المغيرة بن شعبة، فقال له علي: هل لك يا مغيرة في الله؟ قال: فأين
هو يا أمير المؤمنين؟ قال: تأخذ سيفك فتدخل معنا في هذا الامر فتدرك من
سبقك وتسبق من معك، فإني أرى أمورا لابد للسيوف أن تشحذ لها وتقطف
الرؤوس بها.
فقال المغيرة: أني والله يا أمير المؤمنين ما رأيت عثمان مصيبا ولا قتله
صوابا، وإنها لظلمة تتلوها ظلمات، فأريد يا أمير المؤمنين إن أذنت لي أن أضع
سيفي وأنام في بيتي حتى تنجلي الظلمة ويطلع قمرها، فنسري مبصرين تقفو آثار
المهتدين، ونتقي سبيل الجائرين.
قال علي: قد أذنت لك، فكن من أمرك على ما بدا لك.
فقام عمار فقال: معاذ الله يا مغيرة تقعد أعمى بعد أن كنت بصيرا يغلبك
من غلبته، ويسبقك من سبقته، انظر ما ترى وما تفعل، فأما أنا فلا أكون إلا
في الرعيل الأول.
فقال له المغيرة: يا أبا اليقظان، إياك أن تكون كقاطع السلسلة فر من
الضحل فوقع في الرمضاء.
فقال علي لعمار: دعه فإنه لن يأخذ من الآخرة إلا ما خالطته الدنيا، أما
والله يا مغيرة إنها المثوبة المؤدية، تؤدي من قام فيها إلى الجنة، ولما اختار بعدها،
فإذا غشيناك فنم في بيتك.
فقال المغيرة: أنت والله يا أمير المؤمنين أعلم مني، ولئن لم أقاتل معك لا
أعين عليك، فإن يكن ما فعلت صوابا فإياه أردت، وإن يكن خطأ فمنه نجوت
ولي ذنوب كثيرة لاقبل لي بها إلا الاستغفار منها (1).

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 49 - 50.
29

عمار مع محمد بن مسلمة وابن عمر
قال: وذكروا أن عمار بن ياسر قام إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين ائذن لي
آتي عبد الله بن عمر فأكلمه لعله يخف معنا في هذا الامر، فقال علي: نعم،
فأتاه فقال له: يا أبا عبد الرحمان إنه قد بايع عليا المهاجرون والأنصار، ومن إن
فضلناه عليك لم يسخطك، وإن فضلناك عليه لم يرضك، وقد أنكرت السيف
في أهل الصلاة، وقد علمت أن على القاتل القتل، وعلى المحصن الرجم، وهذا
يقتل بالسيف، وهذا يقتل بالحجارة، وأن عليا لم يقتل أحدا من أهل الصلاة
فيلزمه حكم القاتل.
فقال ابن عمر: يا أبا اليقظان، إن أبي جمع أهل الشورى الذين قبض رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنهم راض فكان أحقهم بها علي، غير أنه
جاء أمر فيه السيف ولا أعرفه، ولكن والله ما أحب أن لي الدنيا وما عليها،
وأني أظهرت أو أضمرت عداوة علي.
قال: فانصرف عنه فأخبر عليا بقوله، فقال علي: لو أتيت محمد بن مسلمة
الأنصاري، فأتاه عمار فقال له محمد: مرحبا بك يا أبا اليقظان على فرقة ما
بيني وبينك، والله لولا ما في يدي من رسول الله صلى الله عليه وآله لبايعت
عليا، ولو أن الناس كلهم عليه لكنت معه، ولكنه يا عمار، كان من النبي أمر
ذهب فيه الرأي. فقال عمار: كيف؟
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا رأيت المسلمين يقتتلون أو
إذا رأيت أهل الصلاة...
فقال عمار (مقاطعا): كان قال لك: إذا رأيت المسلمين فوالله لا ترى مسلمين
يقتتلان بسيفيهما أبدا، وإن كان قال لك: أهل الصلاة، فمن سمع هذا معك،
إنما أنت أحد الشاهدين، فتريد من رسول الله صلى الله عليه وآله قولا بعد قوله
30

يوم حجة الوداع: دماؤكم وأموالكم عليكم حرام إلا بحدث، فتقول: يا محمد
لا نقاتل المحدثين.
قال: حسبك يا أبا اليقظان (1).
(722)
رجل من أشراف البصرة وطلحة
أتاهم - يعني طلحة والزبير وعائشة - رجل من أشراف البصرة بكتاب كان
كتبه طلحة في التأليب على قتل عثمان، فقال لطلحة: هل تعرف هذا
الكتاب؟ قال: نعم، قال: فما ردك على ما كنت عليه وكنت أمس تكتب
إليا تؤلبنا على قتل عثمان، وأنت اليوم تدعونا إلى الطلب بدمه؟ وقد زعمتما
أن عليا دعا كما إلى أن تكون البيعة لكما قبله إذ كنتما أسن منه، فأبيتما إلا أن
تقدماه لقرابته وسابقته، فبايعتماه، فكيف تنكثان بيعتكما بعد الذي عرض
عليكما؟
قال طلحة: دعانا إلى البيعة بعد أن اغتصبها، وبايعه الناس فعلمنا حين
عرض علينا أنه غير فاعل، ولو فعل أبى ذلك المهاجرون والأنصار، وخفنا ان نرد
بيعته فنقتل فبايعناه كارهين.
قال: فما بدا لكما في عثمان؟ قالا: ذكرنا ما كان من طعننا عليه،
وخذلاننا إياه، فلم نجد من ذلك مخرجا إلا الطلب بدمه.
قال: فما تأمرانني به؟ قالا: بايعنا على قتال علي ونقض بيعته.
قال: أرأيتما إن أتانا بعد كما من يدعونا إلى ما تدعوان إليه ما نصنع؟ قالا:
لا تبايعه.
قال: ما أنصفتما، أتأمرانني أن أقاتل عليا وأنقض بيعته وهي في أعناقكما،

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 52.
31

وتنهياني عن بيعة من لا بيعة له عليكما، أما إننا قد بايعنا عليا، فإن شئتما
بايعنا كما بيسار أيدينا.
قال: ثم تفرق الناس (1).
(723)
عقيل ومعاوية
قال: وذكروا: أن عقيل بن أبي طالب قدم على أخيه على بالكوفة، فقال له
علي مرحبا بك وأهلا ما أقدمك يا أخي؟ قال: تأخر العطاء عنا،
وغلاء السعر ببلدنا وركبني دين عظيم، فجئت لتصلني، فقال علي: والله ما لي
مما ترى شيئا إلا عطائي، فإذا خرج فهو لك، فقال عقيل: وإنما شخوصي من
الحجاز إليك من أجل عطائك، وماذا يبلغ مني عطاؤك؟ وما يدفع من
حاجتي؟ فقال علي: فمه، هل تعلم لي مالا غيره، أم تريد أن يحرقني الله في نار
جهنم في صلتك بأموال المسلمين؟ فقال عقيل: والله لأخرجن إلى رجل هو
أوصل لي منك - يريد معاوية - فقال له علي: راشدا مهديا.
فخرج عقيل حتى أتى معاوية، فلما قدم عقيل قال له معاوية: مرحبا
وأهلا بك يا ابن أبي طالب، ما أقدمك علي؟ فقال: قدمت عليك لدين عظيم
ركبني، فخرجت إلى أخي ليصلني، فزعم أنه ليس له مما يلي إلا عطاؤه، فلم
يقع ذلك مني موقعا، ولم يسد مني مسدا، فأخبرته أني سأخرج إلى رجل هو
أوصل منه لي فجئتك، فازداد معاوية رغبة، وقال: يا أهل الشام هذا سيد
قريش وابن سيدها، عرف الذي فيه أخوه من الغواية والضلالة، فأثاب إلى
أهل الدعاء إلى الحق، ولكني أزعم أن جميع ما تحت يدي لي، فما أعطيت فقربة
إلى الله وما أمسكت فلا جناح علي فيه!

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 65.
32

فأغضب كلامه عقيلا لما سمعه ينتقص أخاه، فقال: صدقت خرجت
من عند أخي على هذا القول، وقد عرفت من في عسكره، لم أفقد والله رجلا من
المهاجرين والأنصار، ولا والله ما رأيت في عسكر معاوية رجلا من أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله، فقال معاوية عند ذلك: يا أهل الشام أعظم
الناس من قريش عليكم حقا ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسيد
قريش وها هو ذا برئ إلى الله مما عمل به أخوه... (1)
(724)
الحجاج بن عدي وأهل الشام
قال: فلما قدم على معاوية كتاب علي مع الحجاج بن عدي الأنصاري
ألفاه وهو يخطب الناس بدمشق، فلما قرأه اغتم بذلك وأسره عن أهل الشام، ثم
قام الحجاج بن عدي خطيبا:
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل الشام، إن أمر عثمان أشكل على
من حضره المخبر عنه كالأعمى، والسميع كالأصم، عابه قوم فقتلوه، وعذره قوم
فلم ينصروه، فكذبوا الغائب، واتهموا الشاهد، وقد بايع الناس عليا على منبر
رسول الله صلى الله عليه وآله بيعة عامة، من رغب عنها رد إليها صاغرا
داحرا، فانظروا في ثلاث وثلاث، ثم اقضوا على أنفسكم: أين الشام من
الحجاز؟ وأين معاوية من علي؟ وأين أنتم من المهاجرين والأنصار والتابعين
لهم بإحسان؟
قال: فغضب معاوية لقوله وقال: يا حجاج، أنت صاحب زيد بن ثابت
يوم الدار؟ قال: نعم، فإن كان بلغك والا أحدثك، قال: هات. قال: أشرف
علينا زيد بن ثابت، وكان مع عثمان في الدار، وقال: يا معشر الأنصار،

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 75، وقد مر بروايات مختلفة.
33

انصروا لله - مرتين - فقلت: يا زيد إنا نكره أن نلقي الله فنقول كما قال القوم:
(ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) فقال معاوية: انصرف إلى
علي، واعلمه أن رسولي على اثرك (1).
(725)
أهل العراق ومصقلة
ذكروا أنه قام إلى علي بعد انصرافه من البصرة إلى الكوفة، وجوه بكر بن
وائل، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن نعيما أخا مصقلة يستحيي منك، لما صنع
مصقلة، وقد أتانا اليقين أنه لا يمنع مصقلة من الرجوع إليك إلا الحياء، ولم
يبسط منذ فارقنا لسانه ولا يده، فلو كتبنا إليه كتابا وبعثنا من قبلنا، رسولا فإنا
نستحيي أن يكون فارقنا مثل مصقلة من أهل العراق إلى معاوية.
فقال علي: اكتبوا، فكتبوا:
أما بعد، فقد علمنا أنك لم تلحق بمعاوية رضى بدينه، ولا رغبة في دنياه، ولم
يعطفك عن علي طعن فيه، ولا رغبة عنه، ولكن توسطت أمرا فقويت فيه
الظن، وأضعفت فيه الرجاء، فكان أولادهما عندك أن قلت: أفوز بالمال، وألحق
بمعاوية. ولعمرنا ما استبدلت الشام بالعراق والا السكاسك بربيعة، ومعاوية
بعلي، ولا أصبت دنيا تهنأبها ولا حظا تحسد عليه، وإن أقرب ما تكون مع الله
أبعد ما تكون مع معاوية، فارجع إلى مصرك فقد اغتفر أمير المؤمنين الذنب،
واحتمل الثقل، واعلم أن رجعتك اليوم خير منها غدا وكانت أمس خيرا منها
اليوم، وإن كان عليك حياء من أبي الحسن فما أنت فهي أعظم، فقبح الله أمرا
ليس فيه دنيا ولا آخرة.
فلما انتهى كتابهم إلى مصقلة، وكان لرسولهم عقل ولسان، فقال الرسول:

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 76 - 77.
34

يا مصقلة انظر فيما خرجت منه، وفيما صرت إليه، وانظر من أخذت، ومن
تركت، وانظر من جاورت، ومن زايلت، ثم اقض بعقلك دون هواك.
قال: وإن مصقلة مضى إلى معاوية بالكتاب فأقرأه إياه، فقال معاوية: يا
مصقلة إنك عندي غير ظنين، فإذا أتاك شئ فاستره عني، فانصرف مصقلة
إلى منزله، فدعا الرسول فقال: يا أخا بكر، إنما هربت بنفسي من علي، ولا
والله ما يطول لساني بغيبته، ولا قلت فيه قط حرفا بسوء، اذهب بكتابي هذا
إلى قومي.
قال: وذكروا أن مصقلة كتب إلى قومه: أما بعد: فقد جاءني كتابكم،
وإني أخبركم أنه من لم ينفعه القليل لم ينفعه الكثير، وقد علمتم الامر الذي
قطعني من علي، وأضافني إلى معاوية، وقد علمت أني لو رجعت إلى علي
وإليكم لكان ذنبي مغفورا، ولكني أذنبت إلى علي وصحبت معاوية، فلو
رجعت إلى علي أحدثت عيبا، وأحييت عارا، وكنت بين لائمين، أولهما خيانة،
وآخرهما غدر، ولكني أقيم بالشام، فإن غلب معاوية فداري العراق، وإن غلب
علي فداري أرض الروم. فأما الهوى فإليكم طائر، وكانت فرقتي عليا على
بعض العذر أحب إلي من فرقتي معاوية ولا عذر لي
ثم قال: للرسول: يا ابن أخي، استعرض الناس عن قولي في علي. فقال:
قد سألت، فقالوا: خيرا. قال: فإني والله عليه حتى أموت.
فرجع الرسول بالكتاب، فأقرأه عليا، فقال: كفوا عن صاحبكم، فليس
براجع حتى يموت. فقال حصين: أما والله ما به إلا الحياء (1).
(726)
الأشعث ومعاوية
قال:... فقال علي للأشعث: إذهب إلى معاوية، فقل له: إن الذي

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 80 - 81.
35

جئنا له غير الماء، ولو سبقناك إليه لم نحل بينك وبينه، فإن شئت خليت عن
الماء، وإن شئت تناجزنا عليه وتركنا ما جئنا له.
فانطلق الأشعث إلى معاوية، فقال له: إنك تمنعنا الماء وأيم الله لنشربنه،
فمرهم يكفوا عنه قبل أن نغلب عليه، والله لا نموت عطشا وسيوفنا على رقابنا.
فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فقال رجل منهم: نرى أن نقتلهم
عطشا، كما قتلوا عثمان ظلما، فقال عمرو بن العاص: لا تظن يا معاوية، أن
عليا يظمأ وأعنة الخيل بيده، وهو ينظر إلى الفرات، حتى يشرب أو يموت دونه،
خل عن القوم يشربوا.
فقال معاوية: هذا والله أول الظفر، لاسقاني الله من حوض الرسول إن
شربوا منه، حيت يغلبوني عليه. فقال عمرو: وهذا أول الجور، أما تعلم أن فيهم
العبد والأجير والضعيف ومن لاذنب له؟ لقد شجعت الجبان، وحملت من
لا يريد قتالك على قتالك (1).
(727)
سعد بن قيس وعبد الله بن عمرو
قال: وذكروا أن معاوية دعا عبد الله بن عمرو بن العاص، فأمره أن يكلم
أهل العراق، فأقبل عبد الله بن عمرو حتى إذا كان بين الصفين نادى: يا أهل
العراق أنا عبد الله بن عمرو بن العاص، إنه عبد الله بن عمرو بن العاص، إنه قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين
والدنيا، فإن تك للدين فقد والله أسرفنا وأسرفتم، وإن تك للدنيا فقد والله
اعذرنا واعذرتم، وقد دعوناكم لامر لو دعوتمونا إليه أجبناكم، فإن يجمعنا
وإياكم الرضا فذلك من الله، وإلا فاغتنموا هذه الفرجة لعل الله أن ينعش بها
الحي، وينسي بها القتيل، فإن بقاء المقلد بعد الهالك قليل.

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 94.
36

فقال علي لسعد بن قيس: أجب الرجل - وقد كان عبد الله بن عمرو قاتل
يوم صفين بسيفين، وكان من حجته أن قال: أمرني رسول الله أن أطيع أبي -
فتقدم سعد بن قيس حتى إذا كان بين الصفين نادى:
يا أهل الشام، إنه كانت بيننا وبينكم أمور حامينا فيها على الدين والدنيا،
وقد دعوتمونا إلى ما قاتلناكم عليه أمس، ولم يكن ليرجع أهل العراق إلى
عراقهم، ولا أهل الشام إلى شامهم بأمر أجمل منه، فإن يحكم فيه بما أنزل الله
فالامر في أيدينا وإلا فنحن نحن وأنتم أنتم (1).
(728) موسى وسليمان بن عبد الملك
قال ابن قتيبة في الخلفاء: ج 2 / 75: لما استخلف سليمان بعد أخيه
الوليد، فكان أحنق الناس على الحجاج وموسى بن نصير، وكان يحلف لئن
ظفر بهما ليصلبنهما، وكان حنقه عليهما لامر يطول ذكره.
قال: فأرسل سليمان إلى عمر بن عبد العزيز فأتاه، فقال: إني صالب غدا
موسى بن نصير، فبعث عمر إلى موسى فأتاه فقال له: يا ابن نصير إني أحبك
لأربع، الواحدة: بعد أثرك في سبيل الله وجهادك لعدو الله، والثانية: حبك
لآل محمد صلى الله عليه وآله، والثالثة: حبك عياض بن عقبة، لما تعلم من
حسن رأيي فيه، وكان عياض من عباد الله الصالحين، والرابعة: أن لأبي
عندك يدا وصنيعة، وأنا أحب أن تتم يده وصنيعته حيث كانت، وقد سمعت
أمير المؤمنين يذكر أنه صالبك غدا، فأحدث عهدك، وانظر فيما أنت ناظر فيه
من أمرك - إلى أن ذكر إحضار سليمان لموسى وغضبه له، وتهديده بالقتل،
وأمره بإخراج الأموال منه، وقتل سليمان عبد العزيز بن موسى، وذلك سنة

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 102.
37

98 وإتيان رأسه إلى سليمان بن عبد الملك فقال:
وأقبل هؤلاء حتى قدموا على سليمان، وموسى بن نصير لا يشعر بقتل
عبد العزيز ابنه، فلما دخلوا على سليمان، ووضع الرأس بين يديه، فبعث إلى
موسى فأتاه، فلما جلس وراء القوم، قال له سليمان: أتعرف هذا الرأس يا
موسى؟ فقال: نعم هذا رأس عبد العزيز موسى، فقام الوفد فتكلموا بما
تكلموا به.
ثم إن موسى قام فحمد الله، ثم قال: وهذا رأس عبد العزيز بين يدك يا
أمير المؤمنين، فرحمة الله تعالى عليه، فلعمر الله ما علمته نهاره إلا صواما وليله إلا
قواما، شديد الحب لله ولرسوله، بعيد الأثر في سبيله، حسن الطاعة لأمير
المؤمنين، شديد الحب الرأفة بمن وليه من المسلمين، فإن يك عبد العزيز قضى نحبه
فغفر الله له ذنبه، فوالله ما كان بالحياة شحيحا، ولا من الموت هائبا، وليعز على
عبد الملك وعبد العزيز والوليد أن يصرعوه هذا المصرع، ويفعلوا به ما أراك
تفعل، ولهو كان أعظم رغبة فيه، وأعلم بنصيحة أبيه، أن يسمعوا فيه كاذبات
الأقاويل، ويفعلوا به هذه الأفاعيل.
فرد سليمان عليه قال: بل ابنك المارق من الدين، والشاق عصى المسلمين،
المنابذ لأمير المؤمنين، فمهلا أيها الشيخ الخرف.
فقال موسى: والله، ما بي من خرف، ولا أنا من الحق بذي جنف، ولن
ترد محاورة الكلام مواضع الحمام، وأنا أقول كما قال العبد الصالح: (فصبر
جميل والله المستعان على ما تصفون).
قال: ثم قال موسى: أفتأذن في رأسه يا أمير المؤمنين، واغرو رقت عيناه.
فقال له سليمان: نعم فخذه... (1).

(1) الإمامة والسياسة: ج 2 / 81 - 80.
38

(729)
موسى بن نصير وسليمان بن عبد الملك
قال: وذكروا أن سليمان قال لموسى: ما الذي كنت تفزع إليه في مكان
حربك من أمور عدوك؟ قال: التوكل والدعاء إلى الله يا أمير المؤمنين. قال له
سليمان: هل كنت تمتنع في الحصون والخنادق، أو كنت تخندق حولك؟
قال: كل هذا لم أفعله، قال: فما كنت تفعل؟ قال: كنت أنزل السهل،
واستشعر الخوف والصبر، وأتحصن بالسيف والمغفر، وأستعين بالله، وأرغب إليه
في النصر، قال له سليمان: فمن كان من العرب فرسانك؟ قال: حمير، قال:
فأي الخيل رأيت في تلك البلاد أصبر؟ قال: شقرها، قال: فأي الأمم كانوا
أشد قتالا؟ قال: إنهم يا أمير المؤمنين أكثر مما أصفهم، قال له: أخبرني عن
الروم. قال: اسود في حصونهم، عقبان على خيولهم، نساء في مواكبهم، إن رأوا
فرصة افترصوها، وإن خافوا غلبة فأوعال ترقل في أجبال، لا يرون عارا في هزيمة
تكون لهم منجاة. قال: فأخبرني عن البربر، قال: هم يا أمير المؤمنين أشبه
العجم بالعرب لقاء ونجدة، وصبرا وفروسية، وسماحة وبادية، غير أنهم يا
أمير المؤمنين غدر. قال: فأخبرني عن الاشبان، قال: ملوك مترفون، وفرسان
لايجبنون. قال: فأخبرني عن الإفرنج، قال: هناك يا أمير المؤمنين العدد
والعدة، والجلد والشدة، وبين ذلك أمم كثيرة، ومنهم العزيز، ومنهم الذليل،
وكلا قد لقيت بشكله، فمنهم الصالح، ومنهم المحارب المقهور، والعزيز البذوخ.
قال: بأخبرني كيف كانت الحرب بينك وبينهم أكانت عقبا؟ قال: لا
يا أمير المؤمنين، ما هزمت لي راية قط، ولا فض لي جمع، ولانكب المسلمون
معي نكبة، منذ اقتحمت الأربعين إلى أن شارفت الثمانين. قال: فضحك
سليمان، وقال: فأين الراية التي حملتها يوم مرج راهط مع الضحاك؟ قال:
تلك يا أمير المؤمنين زبيرية، وإنما عنيت المروانية، فقال: صدقت، وأعجبه
39

قوله (1).
(730)
أبو حازم وسليمان بن عبد الملك
قالوا: لما حج سليمان، ودخل المدينة زائرا لقبر رسول الله صلى الله عليه
وآله ومعه ابن شهاب الزهري، ورجاء بن حياة، فأقام بها ثلاثة أيام، فقال:
ماهاهنا رجل ممن أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقيل له:
بلى هاهنا رجل يقال له: أبو حازم الأعرج سلمة بن دينار، فبعث إليه، فجاءه،
وهو أقور أعرج، فدخل عليه، فوقف منتظرا للاذن، فلما طال عليه الاذن،
وضع عصيته ثم جلس. فلما نظر إليه سليمان، ازدرته عينه، فقال له: يا
أبا حازم، ما هذا الجفاء الذي ظهر منك وأنت توصف برؤية أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وآله مع فضل ودين تذكر به؟ فقال أبو حازم: وأي جفاء
رأيت مني يا أمير المؤمنين؟ فقال سليمان: إنه أتاني وجوه أهل المدينة وعلماؤها
وخيارها، وأنت معدود فيهم ولم تأتني، فقال أبو حازم: أعيذك بالله أن تقول ما لم
يكن، ما جرى بيني وبينك معرفة آتيك عليها. قال سليمان: صدق الشيخ.
فقال: يا أبا حازم مالنا نكره الموت؟ فقال أبو حازم: لأنكم أخربتم
آخرتكم، وعمرتم دنياكم، وأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب. قال
سليمان: صدقت يا أبا حازم، فكيف القدوم على الآخرة؟ قال: نعم أما المحسن
فإنه يقدم على الآخرة كالغائب يقدم على أهله من سفر بعيد. وأما قدوم المسئ
فكالعبد الآبق، يؤخذ فيشتد كتافه، فيؤتى به إلى سيد فظ غليظ فإن شاء
عفا، وإن شاء عذب.
فبكى سليمان بكاء شديدا، وبكى من حوله، ثم قال:

(1) الإمامة والسياسة: ج 2 / 83.
40

ليت شعري مالنا عند الله يا أبا حازم؟ فقال: اعرض نفسك على كتاب
الله، فإنك تعلم مالك عند الله. قال سليمان: يا أبا حازم، وأين أصيب تلك
المعرفة في كتاب الله؟ قال عند قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي
جحيم) قال سليمان: يا أبا حازم، فأين رحمة الله؟ قال: (رحمة الله قريب من
المحسنين). قال سليمان: يا أبا حازم من أعقل الناس؟ قال أبو حازم: أعقل
الناس من تعلم العلم والحكمة وعلمهما الناس. قال سليمان: فمن أحمق
الناس؟ فقال: من حط في هوى رجل وهو ظالم، فباع آخرته بدنيا غيره. قال
سليمان: فما أسمع الدعاء؟ قال أبو حازم: دعاء المخبتين الخائفين. فقال
سليمان: فما أزكى الصدقة عند الله؟ قال: جهد المقل. قال: فما تقول فيما ابتلينا
به؟ قال: أعفنا عن هذا وعن الكلام فيه أصلحك الله، قال سليمان: نصيحة
تلقيها. فقال: ما أقول في سلطان استولى عنوة بلا مشورة من المؤمنين، ولا
اجتماع من المسلمين، فسفكت فيه الدماء الحرام، وقطعت به الأرحام،
وعطلت به الحدود، ونكثت به العهود، وكل ذلك على تنفيذ الطينة، والجمع
لمتاع الدنيا المشينة، ثم لم يلبثوا أن ارتحلوا عنها، فياليت شعري ما تقولون؟ وماذا
يقال لكم؟
فقال بعض جلسائه: بئس ما قلت يا أقور، أمير المؤمنين يستقبل بهذا؟
فقال أبو حازم: اسكت يا كاذب، فإنما أهلك فرعون هامان، وهامان فرعون،
إن الله قد أخذ على العلماء للناس ولا يكتمونه أي ينبذونه وراء ظهورهم، قال:
سليمان: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح ما فسد منا؟ فقال: المأخذ في ذلك
قريب يسيريا أمير المؤمنين، فاستوى سليمان جالسا من اتكائه، فقال: كيف
ذلك؟ قال: تأخذ المال من حله، وتضعه في أهله، وتكف الأكف عما نهيت،
وتمضيها فيما أمرت به. قال سليمان: ومن يطيق ذلك؟ فقال أبو حازم: من
هرب من النار إلى الجنة، ونبذ سوء العادة إلى خير العبادة. فقال سليمان:
41

اصحبنا يا أبا حازم، وتوجه معنا تصب منا ونصب منك. قال أبو حازم: أعوذ
بالله من ذلك، قال سليمان: ولم يا أبا حازم؟ قال: أخاف أن أركن إلى
الذين ظلموا، فيذيقني الله ضعف الحياة، وضعف الممات. فقال سليمان:
فتزورنا. قال أبو حازم: إنا عهدنا الملوك يأتون العلماء، ولم يكن العلماء يأتون
الملوك، فصار في ذلك صلاح الفريقين، ثم صرنا الان في زمان صار العلماء
يأتون الملوك، فصار في ذلك صلاح الفريقين، ثمك صرنا الان في زمان صار العلماء
يأتون الملوك، والملوك تقعد عن العلماء، فصار في ذلك فساد الفريقين جميعا.
قال سليمان: فأوصنا يا أبا حازم وأوجز. قال اتق الله ألا يراك حيث
نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك. قال سليمان: ادع لنا بخير. فقال
أبو حازم: اللهم إن كان سليمان وليك فبشره بخير الدنيا والآخرة، وإن كان
عدوك فخذ إلى الخير بناصيته. قال سليمان: زدني. قال: قد أوجزت، فإن
كنت وليه فاغتبط، وإن كنت عدوه فاتعظ، فإن رحمته في الدنيا مباحة،
ولا يكتبها في الآخرة إلا لمن اتقى في الدنيا، فلا نفع في قوس ترمي بلا وتر.
فقال سليمان: هات يا غلام ألف دينار، فأتاه بها فقال: خذها يا
أبا حازم. فقال: لا حاجة لي بها لأني وغيري في هذا المال سواء، فان سويت
بيننا وعدلت أخذت وإلا فلا، لأني أخاف أن يكون ثمنا لما سمعت من
كلامي، وأن موسى بن عمران عليه السلام لما هرب من فرعون ورد ماء
مدين، فوجد عليه الجاريتين تذودان. فقال: مالكما معين؟ قالتا: لا، فسقى
لهما، ثم تولى إلى الظل، فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير، ولم يسأل
الله أجرا، فلما أعجل الجاريتان الانصراف، أنكر ذلك أبوهما، فقال لهما: ما
أعجلكما اليوم؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا قويا سقى لنا. قال: ما سمعتماه،
يقول؟ قالتا: تولى إلى الظل وهو يقول: رب إني لما أنزلت إلي ما خير فقير،
فقال: ينبغي لهذا أن يكون جائعا، تنطلق إحداكما له، فتقول له: إن أبي
يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا. فأتته إحداهما تمشي على استحياء - أي
42

على إجلال له - قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجرما سقيت لنا، فجزع
موسى من ذلك، وكان طريدا في الفيافي والصحاري، فقال لها: قولي لأبيك إن
الذي سقى يقول: لا أقبل أجرا على معروف اصطنعته، فانصرفت إلى أبيها
فأخبرته. فقال: اذهبي فقولي له: أنت بالخيار بين قبول ما يعرض عليك أبي
وبين تركه، فأقبل فإنه يحب أن يراك، ويسمع منك، فأقبل والجارية بين
يديه، فهبت الريح فوصفتها له، وكانت ذات خلق كامل. فقال لها: كوني
ورائي وأريني سمت الطريق، فلما بلغ الباب قال: استأذني لنا، فدخلت على
أبيها، فقالت: إنه مع قوته لامين. فقال شعيب وكيف علمت ذلك؟ فأخبرته
ما كان من قوله عند هبوب الريح عليها، فقال ادخليه، فدخل فإذا شعيب قد
وضع الطعام، فلما سلم رحب به وقال: أصب من طعامنا يا فتى. فقال
موسى: أعوذ بالله. قال شعيب: لم؟ قال لأني من بيت قوم لانبيع ديننا بملء
الأرض ذهبا. قال شعيب: لا والله ما طعامي لما تظن، ولكنه عادتي وعادة
آبائي نقري الضيف، ونطعم الطعام، فجلس موس فأكل، وهذه الدنانير إن
كانت ثمنا لما سمعت من كلامي، فإن أكل الميتة والدم في حال الضرورة
أحب إلي من أن آخذها.
فأعجب سليمان بأمره إعجابا شديدا، فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين،
إن الناس كلهم مثله؟ قال: لا. قال الزهري: إنه لجاري منذ ثلاثين سنة، ما
كلمته قط، فقال أبو حازم: صدقت لأنك نسيت الله ونسيتني، ولو ذكرت الله
لذكرتني، قال الزهري: أتشتمني؟ قال له سليمان: بل أنت شتمت نفسك، أو
ما علمت أن للجار على الجار حقا؟ قال أبو حازم: إن بني إسرائيل لما كانوا
على الصواب كانت الامراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفر بدينها من
الامراء، فلما رؤي قوم من أراذل النسا تعلموا العلم، وأتوا به الامراء،
استغنت الامراء عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية، فسقطوا وهلكوا،
43

ولو كان علماؤنا هؤلاء يصونون علمهم، لكانت الامراء تهابهم، وتعظمهم.
فقال الزهري: كأنك إياي تريد وبي تعرض؟ قال: هو ما تسمع. قال
سليمان: يا أبا حازم عظني وأوجز. قال: حلال الدنيا حساب، وحرامها
عذاب، وإلى الله المآب، فاتق عذابك أو دع. قال: لقد أوجزت، فأخبرني ما
مالك؟ قال: الثقة بعدله، والتوكل على كرمه، وحسن الظن به، والصبر إلى
أجله، واليأس مما في أيدي الناس. قال: يا أبا حازم إرفع إلينا جوائجك.
قال: رفعتها إلى من لا تخذل دونه، فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك عني
رضيت، مع أني قد نظرت فوجدت أمر الدنيا يؤول إلى شيئين: أحدهما لي،
والاخر لغيري. فأما ما كان لي، فلو احتلت عليه بكل حيلة ما وصلت إليه قبل
أوانه وحينه الذي قد قدر لي. وأما الذي لغيري فذلك لا أطمع فيه، فكما منعني
رزق غيري، كذلك منع غيري رزقي، فعلام أقتل نفسي في الاقبال والادبار؟
قال سليمان: لابد أن ترفع إلينا حاجة نأمر بقضائها، قال: فتقضيها؟ قال:
نعم، قال: فلا تعطني شيئا حتى أسألكه، ولا ترسل إلي حتى آتيك، وإن مرضت
فلا تعدني، وإن مت فلا تشهدني. قال سليمان: أبيت يا أبا حازم أبيت.
قال: أتأذن لي أصلحك الله في القيام فإني شيخ قد زمنت. قال سليمان:
يا أبا حازم مسألة ما تقول فيها؟ قال: إن كان عندي علم أخبرتك به وإلا فهذا
الذي عن يسارك يزعم أنه ليس شئ يسأل عنه إلا وعنده له علم، يريد محمد
الزهري، فقال له: الزهري: عائذ بالله من شرك أيها المرء. قال: أما من شري
فستعفي، وأما من لساني فلا. قال سليمان: ما تقول في سلام الأئمة من
صلاتهم أواحدة أم اثنتان، فإن العلماء لدينا قد اختلفوا علينا في ذلك أشد
الاختلاف؟ قال: على الخبير سقطت، أرميك في هذا بخبر شاف:
حدثني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه سعد، أنه شهد رسول الله
صلى الله عليه وآله يسلم في الصلاة عن يمينه حتى يرى بياض خده الأيمن،
44

ثم يسلم عن يساره حتى يرى بياض خده الأيسر، سلاما يجهر به. قال عامر:
وكان أبي يفعل ذلك. (1).
(731)
حسني ورجل من قريش
وفي الأغاني: سب رجل من قريش في أيام بني أمية بعض ولد الحسن - عليه
السلام - فأغلظ له وهو ساكت، والناس يعجبون من صبره عليه، فلما أطال
أقبل الحسني عليه متمثلا بقول ابن ميادة:
اظنت سفاها من سفاهة رأيها * أن أهجوها لما هجتني محارب
فلا نوأبيها، إنني بعشيرتي * ونفسي عن ذاك المقام لراغب
فقام القرشي خجلا، وما رد عليه (2).
(732) إسحاق ويزيد
قال سبط ابن الجوزي: قال الكلبي في مثالبه: جرى بن يزيد وبين إسحاق
ابن طابة بن عبيدة كلام بن يدي معاوية، فقال يزيد له: إن خيرا لك أن
يدخل بنو حرب كلهم الجنة - أشار إلى أن أم إسحاق كانت تتهم ببعض
بني حرب - فقال له إسحاق: إن خيرا لك أن يدخل بنو العباس كلهم الجنة.
قال: فلم يفهم يزيد قوله، وفهمه معاوية فلما قام إسحاق، قال معاوية
ليزيد: كيف تشاتم الرجال قبل أن تعلم ما يقال فيك؟ قال: قصدت شين
إسحاق. قال: وهو أيضا قصد شينك. قال: وكيف؟ قال: أما علمت أن

(1) الإمامة والسياسة: ج 2 / 88 - 91. قال الأحمدي: نقل ابن عبد ربه في العقد الفريد: ج 1 / 32
وج 3 / 163 جمل من هذه المحاورة، ونقل في ص 200 محاورة أبي حازم مع هشام بن عبد الملك،
فراجع.
(2) بهج الصباغة: ج 3 / 139.
45

بعض قريش في الجاهلية يزعمون أني للعباس، فسقط في يدي يزيد (1).
(733)
عمار مع قريش
عن الجوهري في سقيفته قال: ونادى عمار بن ياسر ذلك اليوم - يعني يوم
الشورى - وقال:
يا معشر المسلمين، إنا قد كنا، وما كنا نستطيع الكلام قلة وذلة، فأعزنا
الله بدينه، وأكرمنا برسوله، فالحمد لله رب العالمين، يا معشر قريش، إلى متى
تصرفون هذا الامر عن أهل بيت نبيكم، تحولونه هاهنا مرة، وهاهنا مرة، ما أنا
آمن أن ينزعه الله منكم، ويضعه في غيركم، كما نزعتموه من أهله، ووضعتموه
في غير أهله.
فقال له هاشم بن الوليد بن المغيرة: يا ابن سمية، لقد عدوت طورك، وما
عرفت قدرك ما أنت، وما رأت قريش لانفسها، أنك لست في شئ من
أمرها وإمارتها، فتنح عنها.
وتكلمت قريش بأجمعها، فصاحوا بعمار وانتهروه.
فقال: الحمد لله رب العالمين، ما زال أعوان الحق أذلاء، ثم قام
فانصرف (2).
(734)
جابر ومرواني
روى أمالي ابن الشيخ في جزئه الثامن عشر في خبره الثاني عن الحسين بن
زيد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن سن جدنا علي بن الحسين

(1) بهج الصباغة: ج 3 / 209 وج 7 / 51، وقاموس الرجال: ج 1 / 489.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 2 / 412، وج 3 / 172، وفي ط بتحقيق أبي الفضل إبراهيم: ج 9 / 58،
والبحار: ج 8 / 307، ويهج الصباعة: ج 3 / 372.
46

عليهما السلام، فقال: أخبرني أبي عن أبيه، قال: كنت أمشي خلف عمي
الحسن وأبي الحسين عليهما السلام في بعض طرقات المدينة في العام الذي قبض
فيه عمي، وأنا يومئذ غلام لم اراهق أوكدت، فلقاهما جابر بن عبد الله وأنس
ابن مالك في جماعة من قريش والأنصار، فماتمالك جابر، حتى أكب على
أيديهما وأرجلهما يقبلهما.
فقال رجل من قريش كان نسيبا لمروان لجابر: أتصنع هذا وأنت في سنك
هذا، وموضعك من صحبة النبي صلى الله عليه وآله؟ وكان جابر شهد بدرا.
فقال له: إليك عني، فلو علمت يا أخا قريش من فضلهما ما أعلم لقبلت
ما تحت أقدامهما من التراب. ثم أقبل جابر على أنس فقال له: أخبرني النبي
صلى الله عليه وآله فيهما بأمر، ما ظننت أنه يكون في بشر.
قال له أنس: وبماذا أخبرك.
قال علي بن الحسين عليهما السلام: فانطلق الحسن والحسين عليهما
السلام وبقيت أنا أسمع محاورة القوم، فأنشأ جابر يحدث، قال: بينما النبي
صلى الله عليه وآله ذات يوم في المسجد، وقد حف بمن حوله، إذ قال لي: ادع
لي حسنا وحسينا، وكان شديد الكلف بهما، فانطلقت فدعوتهما، وأقبلت أحمل
هذا مرة وهذا أخرى، حتى جئت بهما إليه، فقال لي وأنا أعرف السرور في
وجهه لما رأى من تكريمي لهما: أتحبهما؟ قلت: وما يمنعني من ذلك، وأنا أعرف
مكانهما منك؟ قال: أفلا أخبرك عن فضلهما؟ قلت: بلى، بأبي أنت وأمي.
قال: إن الله تعالى لما أحب أن يخلقني خلقني نطفة بيضاء طيبة، فأودعها
صلب أبي آدم عليه السلام فلم يزل ينقلها من صلب طاهر إلى رحم طاهر إلى
عبد المطلب، ثم افترقت تلك النطفة شطرين إلى عبد الله وأبي طالب، فولدني
أبي فختم الله بي النبوة، وولد علي فختم الله به الوصية، ثم اجتمعت النطفتان
مني ومن علي، فولدنا الجهر والجهير الحسنان، فختم بهما أسباط النبوة، وجعل
47

ذريتي منهما، ومن ذرية هذا - وأشار إلى الحسين عليه السلام - رجل يخرج في
آخر الزمان، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا، فهما طاهران مطهران،
وهما سيدا شباب أهل الجنة، طوبى لمن أحبهما وأباهما وأمهما، وويل لمن
حاربهم وأبغضهم (1).
(735)
ابن قبة مع شيخ معتزلي
ذكرت بحضرة الشيخ أبي عبد الله - أدام الله عزه - ما ذكره أبو جعفر محمد بن
عبد الرحمان بن قبة الرازي - رحمه الله - في كتاب الانصاف حيث ذكر: أن شيخا
من المعتزلة أنكر أن تكون العرب تعرف المولى سيدا، وأما ما قال فأنشدته
قول الأخطل:
فما وجدت فيها قريش لأمرها * أعف وأولى من أبيك وامجدا
وأورى بزنديه ولو كان غيره * غداة اختلاف الناس اكدى وأصلدا
فأصبحت مولاها من الناس كلهم * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
قال أبو جعفر: فاسكت الشيخ، كأنما ألقم حجرا، وجعلت استحسن
ذلك (2).
(736) زيد وقوم
حدثني الشيخ - أدام الله عزه - قال: وحدث عن الحسين بن زيد، قال:
حدثني مولاي، قال: كنت مع زيد بن علي عليه السلام بواسط، فذكر قوم
أبا بكر وعمر وعليا عليه السلام، فقدموا أبا بكر وعمر عليه، فلما قاموا قال لي
زيد - رحمه الله -: قد سمعت كلام هؤلاء، وقد قلت أبياتا، فادفعها إليهم وهي:

(1) بهج الصباغة: ج 3 / 238 - 239.
(2) الفصول المختارة: ص 4.
48

ومن شرف الأقوام يوما برأيه * فإن عليا شرفته المناقب
وقول رسول الله، والحق قوله * وإن رغمت منهم منهم أنوف كواذب
بأنك مني يا علي معالنا * كهارون من موسى أخ لي وصاحب
دعاه ببدر فاستجاب لامره * وما زال في ذات الاله يضارب
فما زال يعلوهم به وكأنه * شهاب تلقاه القوابل ثاقب (1)
(737)
المفيد وابن الدقاق
حضر الشيخ - أدام الله عزه - مجلسا للنقيب أبي الحسن العمري - أدام الله
عزه - وكان بالحضرة جمع كثير، وفيه القاضي أبو محمد العماني، وأبو بكر بن
الدقاق، فتخاوضوا في ضروب من الحكايات، فجرى ذكر الحسد:
فقال أبو بكر سئل الحسن البصري فقيل له: أيها الشيخ هل يكون في أهل
الايمان حسد؟ فقال: سبحان الله أما علمتم، ما جرى بين اخوة يوسف ويوسف
عليه السلام، أو ما قرأتم قصتهم في محكم القرآن، فكيف يجوز أن يخرج الحسد
عن الايمان؟
فاستحسن هذه الحكاية أبو محمد العماني، وهو معتزلي المذهب، والحاكي
أيضا من المعتزلة.
فقال الشيخ - أدام الله عزه - لهم: إن نفس هذا الاستدلال الذي
استحسنتموه، يوجب أن تكون كبائر الذنوب لا تخرج أيضا عن الايمان وذلك:
أنه لا خلاف أن ما صنعه اخوة يوسف عليه السلام بأخيهم من إلقائه في
غيابة الجب، وبيعه بالثمن البخس، وكذبهم على الذئب، وما أوصلوه إلى قلب
أبيهم نبي الله يعقوب عليه السلام من الحزن، كان كبيرا من الذنوب، وقد

(1) الفصول المختارة: ص 7.
49

قص الله تعالى قصتهم، وأخبر عن سؤالهم إياهم الاستغفار عن توبتهم وندمهم،
فإن كان الحسد لا يخرج عن الايمان، بما حكي عن الحسن من الاستدلال،
فالكبير من الذنوب أيضا لا يخرج من الايمان بذلك بعينه، وهذا نقض مذهب
أهل الاعتزال.
فلم يرد أحد منهم جوابا (1).
(738)
المفيد والمخالف
سئل الشيخ - أيده الله - في مجلس لبعض القضاة، وكان فيه جمع كثير من
الفقهاء والمتكلمين، فقيل له: ما الدليل على إبطال القياس في الأحكام الشرعية؟
فقال الشيخ - أدام الله عزه -: الدليل على ذلك أنني وجدت الحكم الذي
تزعم خصومي أنه أصل يقاس عليه ويستخرج منه الفرع، قد كان جائزا من
الله سبحانه التعبد في الحادثة التي هو حكمها بخلافه مع كون الحادثة على
حقيقتها وبجميع صفاتها، فلو كان القياس صحيحا لما جاز في العقول التعبد في
الحادثة بخلاف حكمها، إلا مع اختلاف حالها، وتغير الوصف عليها، وفي
جواز ذلك على ما وصفناه، دليل على إبطال القياس في الشرعيات.
فلم يفهم السائل معنى هذا الكلام، ولا عرفه، والتبس على الجماعة كلها
طريقه، ولم يلح لاحد منهم، ولا فطن به، وخلط السائل وعارض على غير ما
سلف، فوافقه الشيخ أدام - الله عزه - على عدم فهمه للكلام، وكرره عليه، فلم
يحصل له معناه.
قال الشيخ - أيده الله -: فاضطررت إلى كشفه على وجه لا يخفى على

(1) الفصول المختارة: ص 11.
50

الجماعة، فقلت: إن النبي صلى الله عليه وآله نص على تحريم التفاضل في
البر، فكان النص في ذلك أصلا، زعمتم أيها القايسون، أن الحكم بتحريم
التفاضل في الأرز مقيسا عليه وأنه الفرع له، وقد علمنا أن في العقل يجوز إن
كان يتعبد القديم سبحانه وتعالى بإباحة التفضل في البر، وهو على جميع صفاته
بدلا من تعبده بخظره فيه، فلو كان الحكم بالخظر لعلة في البر، أو صفة هو عليها
لاستحال ارتفاع الخظر إلا بعد ارتفاع العلة أو الوصف، وفي تقديرنا وجوده على
جميع الصفات والمعاني التي يكون عليها مع الخظر عند الإباحة، دليل على
بطلان القياس فيه، ألا ترى أنه لما كان وصف المتحرك إنما لزمه لوجود
الحركة، أو لقطعه المكانين استحال توهم حصول السكون له في الحقيقة مع
وجود الحركة، أو قطعه للمكانين، وهذا بين لمن تدبره، فلم يأت القوم بشئ
يجب حكايته.
قال الشيخ - أدام الله عزه -: ثم جرى هذا الاستدلال في مجلس آخر فاعترض
بعض المعتزلة فقال: ما أنكرت على من قال لك: إن هذا الدليل إنما هو على
من زعم أن الشرعيات علل موجبة كعلل العقليات، وليس في الفقهاء من
يذهب إلى ذلك، وإنما يذهبون إلى أنها سمات وعلامات غير موجبة، لكنها
دالة على الحكم، ومنبئة عنه، وإذا وكانت سمات وعلامات لم يمتنع من تقدير
خلاف الحكم على الحادثة، مع كونها على صفاتها، وذلك مسقط لما اعتمدت
عليه.
قال الشيخ أيده - الله تعالى -: فقلت له: ليس مناقضة الفقهاء الذين
أو مأت إليهم حجة علي فيما أعتمدته، وقد ثبت أن القياس هو حمل الشئ على
نظيره في الحكم بالعلة الموجبة له في صاحبه، فإذا وضع هؤلاء القوم هذه السمة
على غير الحقيقة فأخطأوا، لم يخل خطأهم بموضع الاعتماد، مع أن الذي قدمته
يفسد هذا الاعتراض
أيضا، وذلك أن السمة والعلامة إذا كانت تدل على حكم
51

من الاحكام فمحال وجودها، وهي لا تدل، لان الدليل لا يصح ان يخرج عن
حقيقته، فيكون تارة دليلا، وتارة ليس بدليل، وإذا كنتم تزعمون أن العلامة
هي صفة من صفات المحكوم عليه بالحكم الذي ورد به النص فقد جرت مجرى
العلة في استحالة وجودها مع عدم مدلولها، كما يستحيل وجود العلة مع عدم
معلولها، وليس بين الامرين فصل.
فخلط هذا الرجل تخليطا بينا، ثم ثاب إليه فكره، فقال: هذه السمات
عندنا سمعية طارئة على الحوادث، ولسنا نعلمها عقلا ولا اضطرارا، وإنما
نعلمها سمعا وبدليل السمع، وعندنا مع ذلك أن العلل السمعية والأدلة
السمعية قد تخرج أحيانا عن مدلولها ومعلولها، وهي كالاخبار العامة التي تدل
على استيعاب الجنس بإطلاقها، ثم تكون خاصة عند قراينها، وهذا فرق بين
الأمور العقلية والسمعية.
قال الشيخ - أيده الله -: فقلت له: إن كانت هذه السمات سمعية طارئة
على الحوادث، وليست من صفاتها اللازمة لها، وإنما هي معان متجددة فيجب
أن يكون الطريق إليها السمع خاصة دون العقل والاستنباط، لأنها حينئذ
تجري مجرى الأسماء التي هي الألقاب، فلا يصل عاقل إلى حقايقها إلا بالسمع
الوارد بها، ولو كان ورد بها سمع البطل القياس، لأنه كان حينئذ يكون نصا
على الحمل، كقول القائل: اقطعوا زيدا فقد سرق من حرز، وإنما استحق القطع،
لأنه سرق من حرز لا لغير ذلك من شئ يضاد هذا الفعل أو يقاربه، وهذا نص
على قطع كل سارق من حرز إذا كان التقييد فيه على ما بيناه فإن كنتم
تذهبون في القياس إلى ما ذكرناه، فالخلاف بيننا وبينكم في الاسم دون
المعنى، والمطالبة لكم بعده بالنصوص الواردة في سائر ما استعملتم فيه القياس،
فإن ثبت لكم زال المراء بيننا وبينكم، وإن لم يثبت علمتم أنكم إنما تدفعون
عن مذاهبكم بغير أصل معتمد، ولا برهان يلجأ إليه. فقال: لسنا نقول: إن
52

النص قد ورد في الأصول حسما ذكرت، وإنما ندرك السمات بضرب من
الاستخراج والتأمل.
قال الشيخ: - أيده الله -: هذا هو الذي يعجز عنه كل أحد إلا أن
يلجأ إلى استخراج عقلي، وقد أفسدنا ذلك فيما سلف، والآن فإن كنت صادقا
فتعاط ذلك، فإن قدرت عليه، أقررنا لك بالقياس الذي أنكرناه، وإن عجزت
عنه بأن ما حكمنا به عليك من دفاعك عن الأصل المعروف، فقال: لا يلزمني
ذكر طريق الاستخراج، وجعل يضجع في الكلام، وبان عجزه.
فقال أبو بكر ابن الباقلاني: لسنا نقول هذه العلامات مقطوع بها،
ولا معلومة فنذكر طريق استخراجها، ولكن الذي أذهب إليه وهو مذهب هذا
الشيخ وأومأ إلى الأول: القول بغلبة الظن في ذلك، فما غلب في ظني عملت
عليه، وجعلته سمة وعلامة، وإن غلب في ظن غير ي سواه، وعمل عليه أصاب
ولم يخطئ، وكل مجتهد مصيب، فهل معك شئ على هذا المذهب؟
فقلت: هذا أضعف من جميع ما سلف وأوهن، وذلك: أنه إذا لم يكن لله
تعالى دليل على المعنى ولا السمة، وإنما تعبدك على ما زعمت بالعمل على غلبة
الظن، فلا بد أن يجعل لغلبة الظن سببا ولا لم يحصل ذلك في الظن، ولم يكن
لغلبته طريق، وهب أنا سلمنا لك التعبد بغلبة الظن في الشريعة، ما الدليل
على أنه قد يغلب فيما زعمت؟ وما السبب الموجب له؟ أرناه، فإنا نطالبك به،
كما طالبنا هذا الرجل بجهة الاستخراج للسمة والعلة السمعية كما وصف فإن
أوجدتنا ذلك ساغ لك، وإن لم توجدناه بطل ما اعتمدت عليه.
فقال: أسباب غلبة الظن معروفة، وهي كالرجل الذي يغلب في ظنه إن
سلك هذا الطريق نجا، وإن سلك غيره هلك، وإن اتجر في ضرب من المتاجر
ربح، وإن اتجر في غيره خسر، وإن ركب إلى ضيعة والسماء متغيمة (معتمة خ
ل) مطر، وإن ركب وهي مصحية سلم، وإن شرب هذا الدواء انتفع، وإن
53

عدل إلى غيره استضر وما أشبه ذلك.
ومن خالفني في أسباب غلبة الظن قبح كلامه، فقلت له: إن هذا الذي
أوردته لا نسبة بينه وبين الشريعة وأحكامها، وذلك أنه ليس شئ منه إلا
وللخلق فيه عادة وبه معرفة، فإنما يغلب ظنونهم حسب عاداتهم، وأمارات ذلك
ظاهرة لهم، والعقلاء يشتركون في أكثرها، وما اختلفوا فيه فلاختلاف عاداتهم
خاصة، وأما الشريعة فلا عادة فيها ولا أمارة من درية ومشاهدة، لان النصوص
قد جاءت فيها باختلاف المتفق في صورته وظاهر معناه، واتفاق المختلف في
الحكم، وليس للعقول في رفع حكم منها وإيجابه مجال، وإذا لم يكن فيها عادة
بطل غلبة الظن فيها.
ألا ترى أنه من لإعادة له بالتجارة، ولا سمع بعادة الناس فيها، لا يصح أن
يغلب ظنه في نوع منها بربح ولا خسران، ومن لا معرفة له بالطرقات ولا بأغيارها
ولا عادة له في ذلك، ولا سمع بعادة أهلها فليس يغلب ظنه بالسلامة في طريق
دون طريق. ولو قدرنا وجود من لإعادة له بالمطر، ولا سمع بالعادة فيه لم يصح
أن يغلب في ظنه مجئ المطر عند الغيم دون الصحو، وإذا كان الامر كما بيناه،
وكان الاتفاق حاصلا على أنه لإعادة في الشريعة للخلق بطل ما ادعيت من
غلبة الظن، وقمت مقام الأول في الاقتصار على الدعوى، فقال: هذا الان رد
على الفقهاء كلهم، وتكذيب لهم فيما يدعونه من غلبة الظن، ومن صار إلى
تكذيب الفقهاء كلهم قبحت مناظرته، فقلت له: ليس كل الفقهاء يذهب
مذهبك في الاعتماد في المعاني والعلل على غلبة الظن، بل أكثرهم يزعم أنه
يصل إلى ذلك بالاستدلال والنظر، فليس كلامنا ردا على الجماعة، وإنما رد
عليك وعلى فرقتك خاصة فإن كنت تقشعر من ذلك فما ناظرناك إلاا له، ولا
خالفناك إلا من أجله، مع أن الدليل إذا أكذب اكذب الجماعة، فلا حرج
علينا في ذلك ولا لوم، بل اللوم لهم إذا صاروا إلى ما تدل الدلائل على بطلانه،
54

وتشهد بفساده، وليس قولي: إنكم معشر المتفقهة تدعون غلبة الظن، وليس
الامر كذلك بأعجب من قولك وفرقتك أن الشيعة، والمعتزلة، وأكثر المرجئة،
وجمهور الخوارج فيما يدعون العلم به من مذهبهم في التوحيد والعدل مبطلون
كاذبون مغرورون، وأنهم في دعواهم العلم بذلك جاهلون، فأي شناعة تلزم في
ما وصفت به أصحابك مع الدليل الكاشف عن ذلك، فلم يأت بشئ (1).
(739)
هشام والسائل
ومن حكايته - أي الشيخ المفيد رحمه الله - قال - أدام الله عزه -: سئل هشام
ابن الحكم - رحمه الله - عما ترويه العامة من قول أمير المؤمنين عليه السلام لما
قبض عمر، وقد دخل عليه وهو مسجى: (لوددت أن ألقى الله بصحيفة هذا
المسجى) وفي حديث آخر لهم: (إني لأرجو أن القى الله بصحيفة هذا
المسجى).
فقال هشام: هذا حديث غير ثابت، ولا معروف الاسناد، وإنما حصل من
جهة القصاص وأصحاب الطرقات، ولو ثبت لكان المعنى فيه معروفا، وذلك
أن عمر واطأ أبا بكر والمغيرة وسالم مولى أبي حذيفة وأبا عبيدة على كتب صحيفة
بينهم، يتعاقدون فيها على أنه إذا مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم
يورثوا أحدا من أهل بيته، ولم يولوهم مقامه من بعده، فكانت الصحيفة لعمر،
إذ كان عماد القوم، والصحيفة التي ود أمير المؤمنين عليه السلام ورجا أن
يلقى الله بها هي هذه الصحيفة فيخاصمه بها ويحتج عليه بمتضمنها.
والدليل على ذلك ما روته العامة عن أبي بن كعب أنه كان يقول في
مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن أفضى الامر إلى أبي بكر بصوت

(1) الفصول المختارة: ص 50 - 55.
55

يسمعه أهل المسجد: ألا هلك أهل العقدة، والله ما آسي عليهم، إنما آسي على
من يضلون من الناس، فقيل له: يا صاحب رسول الله من هؤلاء أهل العقدة؟
وما عقدتهم؟ فقال: قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله لم يورثوا أحدا من
أهل بيته ولا ولوهم مقامه، أما والله لئن عشت إلى يوم الجمعة لأقومن فيهم
مقاما أبين به للناس أمرهم.
قال: فما أتت عليه الجمعة (1).
(740) المفيد مع شيخ معتزلي
قال الشيخ - أيده الله -: قال لي شيخ من حذاق المعتزلة، وأهل التدين
بمذهبه منهم: أريد أن أسألك عن مسألة كانت خطرت ببالي، وسألت عنها
جماعة ممن لقيت من متكلمي الإمامية بخراسان وفارس والعراق، فلم يجيبوا
فيها بجواب مقنع. فقلت: سل على اسم الله، إن شئت.
فقال: خبرني عن الامام الغائب عندكم، أهو في تقية منك كما هو في تقية
من أعدائه؟ أم هو في تقية من أعدائه خاصة؟
فقلت له: الامام عندي في تقية من أعدائه لا محالة وهو أيضا في تقية من
كثير من الجاهلين به ممن لا يعرفه، ولا سمع به فيعاديه أو يواليه هذا على غالب
الظن والعرف، ولست أنكر أن يكون في تقية من جماعة ممن تعتقد إمامته الان،
فأما أنا فإنه لا تقية عليه مني، بعد معرفته بي على حقيقة المعرفة والحمد لله.
فقال: هذا والله جواب طريف لم أسمعه من أحد قبلك، فأحب أن تفصل
لي وجوهه، وكيف صار في تقية ممن لا يعرفه، وفي تقية من جماعة تعتقد إمامته
الان، وليس هو في تقية منك إذ عرفك؟

(1) الفصول المختارة: ص 58، وراجع بهج الصباغة: ج 4 / 610.
56

فقلت له: أما تقيته من أعدائه، فلا حاجة لي إلى الكلام فيها لظهور ذلك،
وأما تقيته ممن لا يعرفه، فإنما قلت ذلك على غالب الظن وظاهر الحال، وذلك
أنه ليس يبعد أن لو ظهر لهم لكانوا بين أمور: إما أن يسفكوا دمه بأنفسهم
لينالوا بذلك المنزلة عند المتغلب على الزمان، ويجوزوا به المال والرياسة، أو
يسعوا به إلى من يحل هذا الفعل به، أو يقبضوا عليه ويسلموه إليه، فيكون في
ذلك عطبه وفي عطبه وهلاكه عظيم الفساد، وإنما غلب في الظن ذلك، لان
الجاهل لحقه ليس يكون معه المعرفة التي تمنعه من السعي على دمه، ولا يعتقد
في الكف عنه ما يعتقده المتدين بولايته، وهو يرى الدنيا مقبلة إلى من أوقع
الضرر به، فلم يبعد منه ما وصفناه، بل قرب وبعد منه خلافه.
وأما وجه تقيته من بعض من يعتقد إمامته الان، فأن المعتقدين بذلك
ليسوا بمعصومين من الغلط، ولا مأمونا عليهم الخطأ، بل ليس مأمونا عليهم
العناد والارتداد، فلا ينكر أن يكون المعلوم منهم أنه لو ظهر لهم الإمام عليه السلام
أو عرفوا مكانه أن تدعوهم دواعي الشيطان إلى الاغراء به، والسعي
عليه، والاخبار بمكانه، طمعا في العاجلة، ورغبة فيها، وإيثارا لها على الأجلة،
كما دعت دواعي الشيطان أمم الأنبياء إلى الارتداد عن شرايعهم، حتى غيرها
جماعة منهم، وبدلها أكثرهم، وكما عاند قوم موسى نبيهم وإمامهم هارون،
وارتدوا عن شرعه الذي جاء به هو وأخوه موسى عليهما السلام واتبعوا
السامري، فلم يلتفتوا إلى أمر هارون ونهيه، ولا فكروا في وعظه وزجره، وإذا
كان ذلك على ما وصفت، لم ينكر أن تكون هذه حال جماعة من منتحلي الحق
في هذا الزمان لارتفاع العصمة عنهم.
وأما حكمي لنفسي، فإنه ليس يختصني، لأنه يعم كل من شاركني في
المعنى الذي من أجله حكمت، وإنما خصصت نفسي بالذكر، لأنني لا أعرف
غيري عينا على اليقين مشاركا لي في الباطن فادخله معي في الذكر، والمعنى
57

الذي من أجله نفيت أن يكون صاحب الامر عليه السلام متقيا مني عند
المعرفة بحالي لأنني أعلم أنني عارف بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وآله
وسلم وبالأئمة أجمعين عليهم السلام، وهذه المعرفة تمنعني من إيقاع كفر غير
مغفور، والسعي على دم الإمام عليه السلام، بل إخافته عندي كفر غير مغفور،
وإذا كنت على ثقة تعصمني من ذلك إلى ما أذهب إليه في الموافاة، فق أمنت
أن يكون الامام في تقية مني، أو ممن شاركني فيما وصفت من إخواني، وإذا
تحقق أمورنا على ما ذكرت فلا يكون في تقية مني بعد معرفته أني على حقيقة
المعرفة، إذ التقية إنما هي الخوف على النفس، والإخافة للامام لا تقع من عارف
با لله عز وجل على ما قدمت.
فقال: فكأنك إنما جوزت تقية الامام من أهل النفاق من الشيعة، فأما
المعتقدون للتشيع ظاهرا وباطنا فحالهم كحالك، وهذا يؤدي إلى المناقضة،
لان المنافق ليس بمعتقد للتشيع في الحقيقة، وأنت قد أجزت ذلك على بعض
الشيعة في الحقيقة، فكيف يكون هذا؟
فقلت له: ليس الامر كما ظننت، وذلك أن جماعة من معتقدي التشيع
عندي غير عارفين في الحقيقة، وإنما يعتقدون الديانة على ظاهر القول بالتقليد
والاسترسال دون النظر في الأدلة، والعمل على الحجة، ومن كان بهذه المنزلة لم
يحصل له الثواب الدائم، المستحق للمعرفة، المانع بدلالة الخبر به عن إيقاع كفر
من صاحبه، فيستحق به الخلود في الجحيم، فتأمل ذلك.
قال: فقد اعترض الان هاهنا سؤال في غير الغيبة احتاج إلى معرفة جوابك
عنه، ثم ارجع إلى المسألة في الغيبة: خبرني عن هؤلاء المقلدين من الشيعة الإمامية
أنهم كفار يستحقون الخلود بالنار؟ فإن قلت ذلك، فليس في الجنة من
الشيعة الإمامية إذا غيرك، لأنا لا نعرف أحدا منهم على تحقيق النظر سواك،
بل إن كان فيهم فلعلهم لا يكونون عشرين نفسا في الدنيا كلها، وهذا ما أظنك
58

تذهب إليه، وإن قلت: إنهم ليسوا بكفار، وهم يعتقدون التشيع ظاهرا وباطنا
فهم مثلك، وهذا مبطل لما قدمت.
فقلت له: لست أقول: إن جميع المقلدة كفار، لان فيهم جماعة لم يكلفوا
المعرفة ولا النظر في الأدلة، لنقصان عقولهم عن الحد الذي به يجب تكليف
ذلك، وإن كانوا مكلفين عندي للقول والعمل، وهذا مذهبي في جماعة من أهل
السواد والنواحي الغامضة والبوادي والاعراب والعجم والعامة، فهؤلاء إذا قالوا
وعملوا كان ثوابهم على ذلك كعوض الأطفال والبهائم والمجانين، وكان ما يقع
منهم من عصيان يستحقون عليه العقاب في الدنيا، وفي يوم المآب طول زمان
الحساب، أو في النار أحقابا، ثم يخرجون إلى محل الثواب. وجماعة من المقلدة
عندي كفار، لان فيهم من القوة على الاستدلال ما يصلون به إلى المعارف، فإذا
انصرفوا عن النظر في طرقها، فقد استحقوا الخلود في النار.
فأما قولك: إنه ليس في الدنيا أحد من الشيعة ينظر حق النظر إلا عشرون
نفسا أو نحوهم، فإنه لو كنت صادقا في هذا المقال ما منع أن يكون جمهور
الشيعة عارفين، لان طرق المعرفة قريبة يصل إليها كل من استعمل عقله، وإن
لم يكن يتمكن من العبارة عن ذلك، ويسهل عليه الجدل، ويكون من أهل
التحقيق في النظر، وليس عدم الحذق في الجدل، وإحاطة العلم بحدوده،
والمعرفة بغوامض الكلام ودقيقه، ولطيف القول في المسألة دليلا على الجهل
بالله عز وجل.
فقال: ليس أرى أن أصل معك الكلام في هذا الباب الان، لان الغرض
هو القول في الغيبة، ولكن لما تعلق بمذهب غريب أحببت أن أقف عليه، وأنا
أعود إلى مسألتي الأولى، وأكلمك في هذا المذهب بعد هذا يوما آخر. أخبرني
الاذان إذا لم يكن الامام في تقية منك، فما باله لا يظهر لك فيعرفك نفسه
بالمشاهدة، ويريك معجزة، ويبين لك كثيرا من المشكلات، ويؤنسك بقربه،
59

ويعظم قدرك بقصده، ويشرفك بمكانه، إذا كان قد أمن منك الاغراء به،
وتيقن ولايتك له ظاهرة وباطنة؟
فقلت له: أول ما في هذا الباب أنني لا أقول لك: إن الإمام عليه السلام
يعلم السرائر، وأنه مما لا يخفى عليه الضمائر، فتكون قد أخذت رهني
أنه يعلم مني ما أعرفه من نفسي، وإذا لم يكن ذلك مذهبي وكنت أقول أنه
يعلم الظواهر كما يعلم البشر، وإن علم باطنا فبإعلام الله عز وجل له خاصة على
لسان نبيه عليه السلام بما أودعه آباؤه عليهم االسلام من النصوص على ذلك
أو بالمنام الذي يصدق ولا يخلف أبدا، أو لسبب أذكره غير هذا فقد سقط
سؤالك من أصله، لان الامام إذا فقد علم ذلك من جهة الله عز وجل أجاز على
ما يجيزه على غيري ممن ذكرت، فأوجبت الحكمة تقية مني، وإنما تقيته مني على
الشرط الذي ذكرت آنفا ولم أقطع على حصوله لا محالة، ولم أقل: إن الله
عز وجل قد أطلع الامام على باطني، وعرفه حقيقة حالي قطعا، فتفرع الكلام
عليه على أنني لو قطعت على ذلك لكان لترك ظهوره لي، وتعرفه إلي وجه
واضح غير التقية.
وهو أنه عليه السلام قد علم أنني وجميع من شاركني في المعرفته لا يزول
عن معرفته، ولا يرجع عن اعتقاد إمامته، ولا يرتاب في أمره ما دام غائبا، وعلم
أن اعتقادنا ذلك من جهة الاستدلال، ومع عدم ظهوره لحواسنا أصلح لنا في
تعاظم الثواب وعلو المنزلة كتاب الاعمال، إذ كان ما يقع من العمل بالمشاق
الشديدة أعظم ثوابا مما يقع بالسهولة مع الراحة، فلما علم عليه السلام ذلك
من حالنا وجب عليه الاستتار عنا، لنصل إلى معرفته وطاعته على حد يكسبنا
من المثوبة أكثر مما يكسبنا العلم به والطاعة له مع المشاهدة وارتفاع الشبهة
التي تكون في حال الغيبة والخواطر، وهذا ضد ما ظننت، مع أن أصلك في
اللطف يؤيد ما ذكرناه، ويوجب ذلك، وإن علم أن الكفر يكون مع الغيبة
60

والايمان مع الظهور، لأنك تقول: إنه لا يجب على الله تعالى فعل اللطف الذي
يعلم أن العبد إن فعل الطاعة مع عدمه كانت أشرف منها إذا فعلها معه،
فكذلك يمنع الامام من الظهور إذا علم أن الطاعة للامام تكون عند غيبته
أشرف منها عند ظهوره، وليس يكفر القوم به في كلا الحالين، وهذا بين
لا إشكال فيه، فلما ورد عليه الجواب سكت هنيئة، ثم قال:
هذا لعمري جواب يستمر على الأصول التي ذكرتها، والحق أولى ما
استعمل.
فقلت له: انا أجيبك بعد هذا الجواب بجواب آخر أظنه مما قد سمعته،
لانظر كلامك عليه. فقال: هات ذلك، فإني أحب أن أستوفي ما في هذه
المسألة.
فقلت له: إن قلت: إن الامام في تقية مني، وفي تقية ممن خالفني،
ما يكون كلامك عليه؟
قال: أفتطلق أنه في تقية منك، كما هو في تقية ممن خالفك؟ قلت: لا.
قال: فما الفرق بين القولين؟
قلت: الفرق بينهما، أنني إذا قلت: إنه في تقية مني، كما هو في تقية ممن
خالفني أوهمت أن خوفه مني على حد خوفه من عدوه، وأن الذي يحذره مني هو
الذي يحذره منه، أو مثله في القبح، فإذا قلت: إنه يتقي مني وممن خالفني،
ارتفع هذا الابهام.
قال: فمن أي وجه اتقى منك؟ ومن أي وجه اتقى من عدوه؟ فصل لي
الامرين، حتى أعرفهما.
فقلت له: تقيته من عدوه هي: لأجل خوفه من ظلمه له، وقصده الاضرار
به، وحذره من سعيه على دمه، وتقيته مني: لأجل خوفه من إذا عتي على سبيل
السهو، أو للتجمل والتشرف بمعرفته بالمشاهدة، أو على التقية مني بمن أوعزه إليه
61

من إخواني في الظاهر، فيعقبه ذلك ضررا عليه، فبان الفرق بين الامرين.
فقال: ما أنكرت أن يكون هذا يوجب المساواة بينك وبين عدوه، لأنه
ليس يثق بك، كما لا يثق بعدوه.
فقلت له: قد بينت الفرق وأوضحته، وهذا سؤال بين قد سلف جوابه
وتكراره لا فائدة فيه على أنني أقلبه عليك فأقول لك: أليس قد هرب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم من أعدائه، واستتر عنهم في الغار خوفا على نفسه
منهم؟ قال: بلى.
قلت له: فهل عرف عمر بن الخطاب حال هربه ومستقره ومكانه، كما
عرف ذلك أبو بكر لكونه معه؟ قال: لا أدري.
قلت: فهب عرف عمر ذلك، أعرف جميع أصحابه والمؤمنين به؟ قال: لا.
قلت: فأي فرق كان بين أصحابه الذين لم يعلموا بهربه ولا عرفوا بمكانه،
وبين أعدائه الذين هرب منهم، وهلا أبانهم من المشركين بإيقافهم على أمره، ولم
ستر ذلك عنهم كما ستره عن أعدائه؟ وما أنكرت أن يكون لا فرق بين أوليائه
وأعدائه، وأن يكون قد سوى بينهم في الخوف منهم والتقية، وإلا فما الفصل بين
الامرين؟ فلم يأت بشئ أكثر من أنه جعل يومي إلى معتمدي في الفرق بينهما
ألزم، ولم يأت به على وجهه وعلم من نفسه العجز عن ذلك.
قال الشريف أبو القاسم بن الحسين الموسوي: واستزدت الشيخ - أدام الله
عزه - على هذا الفصل من هذا المجلس حيث اعتل بأن غيبة الإمام عليه السلام
عن أوليائه، انما هي لطف لهم في وقوع الطاعة منهم على وجه يكون به
أشرف منها عند مشاهدته.
فقلت: فكيف يكون حال هؤلاء الأولياء عند ظهوره عليه السلام؟ أليس
يجب أن يكون القديم تعالى قد منعهم اللطف في شرف طاعاتهم وزيادة
ثوابهم؟
62

فقال الشيخ - أدام الله عزه -: في ذلك منع لهم من اللطف، على ما
ذكرت من قبل أنه لا ينكر أن يعلم الله سبحانه وتعالى منهم أنه لو دام ستره
عنهم وإباحة الغيبة في ذلك الزمان بدلا من الظهور، لفسق هؤلاء الأولياء فسقا
يستحقون به من العقاب مالا يفي أضعاف ما يفوتهم من الثواب، فأظهره
سبحانه لهذه العلة، وكان ما يقطعهم به عنه من العذاب أرد عليهم وأنفع لهم
مما كانوا يكتسبونه من فضل الثواب على ما تقدم به الكلام.
قال الشيخ - أيده الله -: ووجه آخر وهو أنه لا يستحيل أن يكون الله تعالى
قد علم من حال كثير من أعداء الإمام عليه السلام أنهم يؤمنون عند ظهوره،
ويعترفون بالحق عند مشاهدته، ويسلمون له الامر، وأنه إن لم يظهر في ذلك
الزمان أقاموا على كفرهم، وازدادوا طغيانا بزيادة الشبهة عليهم، فوجب في
حكمته تعالى إظهاره، لعموم الصلاح، ولو أباحه الغيبة لكان قد خص بالصلاح
ومنع من اللطف في ترك الكفر، وليس يجوز على مذهبنا في الأصلح أن يخص
الله تعالى بالصلاح، ولا يجوز أيضا أن يفعل لطفا في اكتساب بعض خلقه منافع
تزيد على منافعه، إذ كان في فعل ذلك اللطف رفع لطفه لجماعة في ترك
القبح، والانصراف عن الكفر به سبحانه، والاستخفاف بحقوق أوليائه عليهم
السلام، لان الأصل والمدار على إنقاذ العباد من المهالك، وزجرهم من
القبائح، وليس الغرض زيادتهم في المنافع خاصة، إذ كان الاقتطاع بالألطاف
عما يوجب دوام العقاب أولى من فعل اللطف فيما يستزاد به من الثواب، لأنه
ليس يجب على الله تعالى أن يفعل بعبده ما يصل معه إلى نفع يمنعه من أضعافه
من النفع، وكذلك لا يجب عليه أن يفعل اللطف له في النفع بما يمنع غيره من
أضعاف ذلك النفع، وهو إذا سلبه هذا اللطف لم يستدرجه به إلى فعل القبيح،
ومتى فعل حال بين غيره وبين منافعه، ومنعه من لطف ما ينصرف به عن
القبيح، وإذا كان الامر على ما بيناه كان هذان الفصلان يسقطان هذه
63

الزيادة (1).
(741)
المفيد وابن لؤلؤ
قال الشيخ - أدام الله عزه -: حضرت دار بعض قواد الدولة، وكان بالحضرة
شيخ من الإسماعيلية يعرف بابن لؤلؤ فسألني: ما الدليل على إباحة المتعة؟
فقلت له: الدليل على ذلك قول الله جل جلاله: (وأحل لكم ما وراء
ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن
أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان
عليما حكيما) فأحل جل اسمه نكاح المتعة بصريح لفظها، وبذكر أوصافه
من الاجر عليها والتراضي بعد الفرض له من الازدياد في الاجل وزيادة الاجر
فيها.
فقال: ما أنكرت أن تكون هذه الآية منسوخة بقوله: (والذين هم
لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن
ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون).
فحظر الله تعالى النكاح، إلا لزوجة أو ملك يمين، وإذا لم تكن المتعة زوجة
ولا ملك يمين فقد سقط من أحلها.
فقلت له: قد أخطأت في هذه المعارضة من وجهين: أحدهما: أنك ادعيت
أن المستمتع بها ليست بزوجة، ومخالفك يدفعك عن ذلك ويثبتها زوجة في
الحقيقة، والثاني: أن سورة المؤمنين مكية، وسورة النساء مدنية، والمكي متقدم
للمدني، فكيف يكون ناسخا له، وهو متأخر عنه؟ وهذه غفلة شديدة.
فقال: لو كانت المتعة زوجة لكانت ترث ويقع بها الطلاق وفي إجماع

(1) الفصول المختارة: ص 76 - 83.
64

الشيعة على أنها غير وارثة ولا مطلقة دليل على فساد هذا القول.
فقلت له: وهذا أيضا غلط منك في الديانة، وذلك أن الزوجة لم يجب لها
الميراث، ويقع بها الطلاق من حيث كانت زوجة فقط، وانما حصل لها ذلك
بصفة تزيد على الزوجية، والدليل على ذلك أن الأمة إذا كانت زوجة لم ترث
ولم تورث، والقاتلة لا ترث، والذمية لا ترث، والأمة المبيعة تبين بغير طلاق،
والملاعنة تبين أيضا بغير طلاق، وكذلك الختلعة والمرتدة، والمرتد عنها زوجها،
والمرضعة قبل الفطام بما يوجب التحريم من لبن الام، والزوجة تبين بغير طلاق،
وكل ما عددناه زوجات في الحقيقة، فبطل ما توهمت، فلم يأت بشئ.
فقال صاحب الدار وهو رجل أعجمي لا معرفة له بالفقه، وإنما يعرف
الظواهر: أنا أسألك في هذا الباب عن مسألة خبرني هل تزوج رسول الله
- صلى الله عليه وآله - متعة أو تزوج أمير المؤمنين عليه السلام؟ فقلت له: لم
يأت بذلك خبر ولا علمته.
فقال لي: لو كان في المتعة خير ما تركها رسول الله صلى الله عليه وآله
وأمير المؤمنين عليه السلام.
فقلت له: أيها القائل ليس كل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله
كان محرما، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام
كافة لم يتزوجوا بالإماء، ولانكحوا الكتابيات، ولا خالعوا، ولا تزوجوا بالزنج،
ولا نكحوا السند، ولا اتجروا إلى الأمصار، ولا جلسوا باعة للتجار، وليس ذلك
كله محرما ولا منه شئ محظور، إلا ما اختصت الشيعة به دون مخالفيها من
القول في نكاح الكتابيات.
فقال: فدع هذا، خبرني عن رجل ورد من قم يريد الحج، فدخل إلى مدينة
السلام فاستمتع فيها بامرأة، ثم انقضى أجلها، فتركها وخرج إلى الحج،
وكانت حاملا منه، ولم يعلم بحالها، فحج ومضى إلى بلده، وعاد بعد عشرين
65

سنة، وقد ولدت بنتا وشبت ثم عاد إلى مدينة السلام، فوجد فيها تلك الابنة
فاستمتع بها وهو لا يعلم، أليس يكون قد نكح ابنته؟ وهذا فظيع جدا.
قلت له: إن أوجب هذا الذي ذكره القائل تحريم المتعة وتقبيحها أوجب
تحريم نكاح الميراث، وكل نكاح وتقبيحه، وذلك أنه قد يتفق فيه مثل ما
وصف وجعله طريقا إلى حظر المتعة، وذلك أنه لا يمنع أن يخرج رجل من أهل
السنة وأصحاب أحمد بن حنبل من خوارزم قاصدا للحج، فينزل بمدينة السلام،
ويحتاج إلى النكاح فيستدعي امرأة من جيرانه حنبلية سنية، فيسألها أن تلتمس
له امرأة ينكحها، فتدله على امرأة شابة ستيرة ثيب لا ولي لها، فيرغب فيها
وتجعل المرأة أمرها إلى إمام المحلة وصاحب مسجدها فيحضر رجلين ممن يصلي
معه ويعقد عليها النكاح للخوارزمي السني الذي لا يرى المتعة، ويدخل بالمرأة،
ويقيم معها إلى وقت رحيل الحاج إلى مكة فيستدعي الشيخ الذي عقد عليه
النكاح، فيطلقها بحضرته، ويعطيها عدتها وما يجب عليه من نفقتها، ثم يخرج
فيحج، وينصرف عن مكة على طريق البصرة، ويرجع إلى بلده، وقد كانت
المرأة حاملا وهو لا يعلم، فيقيم عشرين سنة، ثم يعود إلى مدينة السلام للحج،
فينزل في تلك المحلة بعينها، ويسأل عن العجوز فيفقدها لموتها، فيسأل عن غيرها
فتأتيه قرابة لها، أو نظيرة لها في الدلالة فتذكر له جارية هي ابنة المتوفاة بعينها،
فيرغب فيها، ويعقد عليها كما عقد على أمها بولي وشاهدين، ثم يدخل بها
فيكون قد وطئ ابنته، فيجب على القائل أن يحرم لهذا الذي ذكرناه كل
نكاح.
فاعترض الشيخ السائل أولا فقال: عندنا أنه يجب على هذا الرجل أن
يوصى إلى جيرانه باعتبار حالها، وهذا يسقط هذه الشناعة.
فقلت له: إن كان هذا عندكم واجبا فعندنا أوجب منه وأشد لزوما أن
يوصي المستمتع ثقة من إخوانه في البلد باعتبار حال المستمتع بها، فإن لم يجد
66

أخا أوصى قوما من أهل البلد، وذكر أنها كانت زوجته ولم يذكر المتعة، وهذا
شرط عندنا، فقد سقط أيضا ما توهمته.
ثم أقبلت على صاحب المجلس فقلت له: إن أمرنا مع هؤلاء المتفقهة عجيب
وذلك أنهم مطبقون على تبديعنا في نكاح المتعة، مع أجماعهم على أن رسول الله
صلى الله عليه وآله قد كان أذن فيها، وأنها عملت على عهده، ومع ظاهر
كتاب الله عز وجل في تحليلها، وإجماع آل محمد عليهم السلام على اباحتها
والاتفاق على أن عمر حرمها في أيامه مع اقراره بأنها كانت حلالا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله، فلو كنا على ضلالة فيها لكنا في ذلك على شبهة
تمنع ما يعتقده المخالف فينا من الضلال والبراءة منا، وليس فيمن خالفنا إلا
من يقول في النكاح وغيره بضد القرآن وخلاف الاجماع ونقض شرع الاسلام
والمنكر في الطباع وعند ذوي المروءات، ولا يرجع ذلك إلى شبهة تسوغ له في
قوله، وهم معه يتولى بعضهم بعضا ويعظم بعضهم بعضا، وليس ذلك إلا
لاختصاص قولنا بآل محمد عليهم السلام، فلعداوتهم لهم رمونا عن قوس
واحد.
هذا أبو حنيفة النعمان بن ثابت يقول: لو أن رجلا عقد على أمه عقدة
النكاح، وهو يعلم أنها أمه، ثم وطئها لسقط عنه الحد، ولحق به الولد! وكذلك
قوله في الأخت والبنت وكذلك سائر المحرمات، ويزعم أن هذا نكاح شبهة
أوجبت سقوط الحد!
ويقول: لو أن رجلا استأجر غسالة أو خياطة أو خبازة أو غير ذلك من
أصحاب الصناعات، ثم وثب عليها فوطئها وحملت منه، سقط عنه الحد ولحق
به الولد!
ويقول: إذا لف الرجل على إحليله حريرة، ثم أولجه في قبل امرأة ليست له
بمحرم، حتى ينزل لم يكن زانيا، ولا وجب عليه الحد!
67

ويقول: إن الرجل إذا يلوط بغلام فأوقب لم يجب عليه الحد، ولكن يردع
بالكلام الغليظ، والأدب بالخفقة بالنعل والخفقتين، وما أشبه ذلك!
ويقول: إن شرب النبيذ الصلب المسكر حلال طلق، وهو سنة وتحريمه
بدعة!
وقال الشافعي: إذا فجر الرجل بامرأة فحملت منه فأولدت بنتا، فإنه يحل
للفاجر أن يتزوج بهذة الابنة ويطئها ويولدها، لاحرج عليه في ذلك، فأحل
نكاح البنات!
وقال: لو أن رجلا اشترى أخته من الرضاعة ووطئها، لما وجب عليه الحد!
وكان يجيز سماع الغناء وأشباهه!
وقال مالك بن أنس: إن وطء النساء في أحشاشهن حلال طلق! وكان
يرى سماع الغناء بالدف وأشباهه من الملاهي، ويزعم أن ذلك سنة في
العرسات والولائم!
وقال داود بن علي الاصفهاني: إن الجمع بين الأختين في ملك اليمين
حلال طلق، والجمع بين الام والابنة غير محظور!
فاقتسم هؤلاء الفجور وكل منكر فيما بينهم واستحلوه، ولم ينكر بعضهم على
بعض، مع أن الكتاب والسنة والاجماع تشهد بضلالهم في ذلك، ثم عظموا أمر
المتعة والقرآن شاهد بتحليلها، والسنة والاجماع يشهدان بذلك، فيعلم أنهم ليسوا
من أهل الدين، ولكنهم من أهل العصبية والعداوة لآل الرسول عليهم
السلام، فاستعظم صاحب المجلس ذلك وأنكره، وأظهر البراءة من معتقديه،
وسهل عليه أمر المتعة والقول بها.
قال الشيخ - أدام الله عزه -: وقد كنت استدللت بالآية التي قدمت تلاوتها
على تحليل المتعة في مجلس كان صاحبه رئيس زمانه، فاعترضني فيها أبو القاسم
الداركي فقال: ما أنكرت أن يكون المراد بقوله تعالى: فما استمتعتم به منهن
68

فآتوهن أجورهن فريضة) إنما أراد به نكاح الدوام، وأشار بالاستمتاع إلى
الالتذاذ دون نكاح المتعة الذي تذهب إليه.
فقلت له: ان الاستمتاع وإن كان في الأصل هو الالتذاذ، فإنه إذا علق
بذكر النكاح، وأطلق بغير تقييد لم يرد به إلا نكاح المتعة خاصة لكونه علما
عليها في الشريعة وتعارف أهلها، ألا ترى أنه لو قال قائل: نكحت أمس امرأة
متعة، أو هذه المرأة نكاحي لها أو عقدي عليها للمتعة، أو أن فلانا يستحل
نكاح المتعة، لما فهم من قوله إلا النكاح الذي يذهب إليه الشيعة خاصة، وإن
كانت المتعة قد تكون بوطء الإماء والحرائر على الدوام، كما أن بوطء في اللغة
هو وطئ القدم ومماسة باطنه للشئ على سبيل الاعتماد، ولو قال قائل: وطئت
جاريتي ومن وطئ امرأة غيره فهو زان، وفلان يطئ امرأته وهي حائض، لم يعقل
من ذلك مطلقا على أصل الشريعة إلا النكاح دون وطء القدم، وكذلك
الغائط هو الشئ المحوط، وقيل: هو الشئ المنهبط. ولو قال قائل: هل يجوز أن
آتى الغائط ثم لا أتوضأ واصلي؟ أو قال: فلان أتى الغائط ولم يستبرئ، لم يفهم
من قوله إلا الحدث الذي يجب منه الوضوء وأشباه ذلك مما قد قرر في
الشريعة.
وإذا كان الامر على ما وصفناه فقد ثبت أن إطلاق لفظ نكاح المتعة لا يقع
إلا على النكاح الذي ذكرناه، وإن كان الاستمتاع في أصل اللغة هو الالتذاذ
كما قدمناه.
فاعترض القاضي أبو محمد بن معروف فقال: هذا الاستدلال يوجب
عليك أن لا يكون الله تعالى أحل بهذه الآية غير نكاح المتعة، لأنها لا تتضمن
سواه، وفي الاجماع على انتظامها تحليل نكاح الدوام دليل على بطلان ما
اعتمدته.
فقلت له: ليس يدخل هذا الكلام على أصل الاستدلال، ولا يتضمن
69

معتمدي ما ألزمنيه القاضي فيه، وذلك أن قوله سبحانه: (وأحل لكم ما وراء
ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) يتضمن تحليل المناكح المخالفة
للسفاح في الجملة، ويدخل فيه نكاح الدوام من الحرائر والإماء، ثم يختص
نكاح المتعة بقوله: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة)، ويجري
ذلك مجرى قول القائل: قد حرم الله عليك نساء بأعيانهن وأحل لك ما عداهن،
فما استمتعتم به منهن فالحكم فيه كذا وكذا، وإن نكحت الدوام فالحكم فيه
كيت وكيت، فيذكر فيه المحللات في الجملة، وتبين له حكم نكاح بعضهن،
كما ذكرهن له، ثم تبين له أحكام نكاح كلهن، فما أعلمه زاد عليه شيئا (1).
(742)
المفيد والداركي
قال الشيخ - أدام الله عزه: قد كنت حضرت مجلس الشريف أبي الحسن
أحمد بن القاسم المحمدي وحضره أبو القاسم الداركي، فسأله بعض الشيعة عن
الدلالة على تحريم نكاح المتعة عنده. فاستدل بقوله تعالى: (والذين هم
لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن
ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) قال: والمتعة باتفاق الشيعة ليست
بزوجة ولا بملك يمين فبطل أن تكون حلالا.
فقال له السائل: ما أنكرت أن تكون زوجة، وما حكيته عن الشيعة من
إنكار ذلك لا أصل له.
فقال له: لو كانت زوجة لكانت وارثة، لان الاتفاق حاصل على أن كل
زوجة فهي وارثة وموروثة إلا ما أخرجه الدليل من الأمة والذمية والقاتلة،
فنازعه السائل في هذه الدعوى وقال:

(1) الفصول المختارة: ص 119 - 125.
70

ما أنكرت أن تكون المتعة أيضا زوجة تجري الذمية والرق والقاتلة في
خروجها عن استحقاق الميراث، وضايقه في هذه المطالبة، فلما طال الكلام
بينهما في هذه النكتة تردد.
قال: الدليل على أنها ليست بزوجة أن القاصد إلى الاستمتاع بها إذا قال
لها: تمتعيني نفسك فأنعمت له حصلت متعة ليس بينها وبينه ميراث،
ولا يلحقها الطلاق، وإذا قال لها: زوجيني نفسك، فأنعمت حصلت زوجية يقع
بها الطلاق، ويثبت بينها وبينه الميراث، فلو كانت المتعة زوجة ما اختلف
حكمها باختلاف الألفاظ، ولا وقع الفرق بين أحكامها بتغاير الكلام، ولوجب
أن يقع الاستمتاع في العقد بلفظ التزويج، ويقع التزويج بلفظ الاستمتاع،
قال: وهذا باطل بإجماع الشيعة وما هم عليه من الاتفاق، فلم يدر السائل ما
يقول له، لعدم فقهه وضعف بصيرته بأصل المذهب.
فقال الشيخ - أدام الله عزه -: فقلت للداركي: لم زعمت أن الاحكام قد
تتغير باختلاف ما ذكرت من الكلام، وما أنكرت أن يكون العقد عليها بلفظ
الاستمتاع يقوم مقام العقد عليها بلفظ الزوجية، وأن يكون لفظ الزوجية يقوم
مقام لفظ الاستمتاع، فهل تجد لما ادعيت في هذين الامرين برهانا أو عليه دليلا
أو فيه بيان؟
وبعد كيف استجزت أن تدعي إجماع الشيعة على ما ذكرت ولم يسمع
ذلك من أحد منهم، ولا قرأت لهم في كتاب؟ ونحن معك في المجلس نفتي بأنه
لافرق بين اللفظين في باب العقد للنكاح سواء كان نكاح دوام أو نكاح
الاستمتاع، وإنما الفصل بين النكاحين في اللفظ ومن جهة الكلام: ذكر
الاجل في نكاح الاستمتاع، وترك ذكره في نكاح الميراث، فلو قال: تمتعيني
نفسك، ولم يذكر الاجل لوقع نكاح الميراث لا ينحل إلا بالطلاق، ولو قال:
تزوجيني إلى أجل كذا، فأنعمت به لوقع نكاح استمتاع، وهذا ما ليس فيه بين
71

الشيعة خلاف، فلم يرد شيئا تجب حكايته وظهر عليه بحمد الله الكلام (1).
(743)
حنبلي وحنبلي
حدثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي المعروف بابن عالية (2) من ساكني
قطفتا بالجانب الغربي من بغداد وأحد الشهود المعدلين بها، قال: كنت حاضرا
عند الفخر إسماعيل بن علي الحنبلي الفقيه المعروف بغلام ابن المتى، وكان
الفخر إسماعيل بن علي هذا مقدم الحنابلة ببغداد في الفقه والخلاف، ويشتغل
بشئ في علم المنطق، وكان حلو العبارة، وقد رأيته أنا وحضرت عنده وسمعت
كلامه، وتوفي سنة عشر وستمائة.
قال ابن عالية: ونحن عنده نتحدث إذ دخل شخص من الحنابلة قد كان
له دين على بعض أهل الكوفة فانحدر إليه يطالبه به، واتفق أن حضرت زيارة
يوم الغدير والحنبلي المذكور بالكوفة، وهذه الزيارة هي اليوم الثامن عشر من
ذي الحجة، ويجتمع بمشهد أمير المؤمنين عليه السلام من الخلائق جموع عظيمة
تتجاوز حد الاحصاء.
قال ابن عالية: فجعل الشيخ الفخر يسائل ذلك الشخص: ما فعلت؟ ما
رأيت؟ هل وصل إليك مالك؟ هل بقي لك منه بقية عند غريمك؟ وذلك
يجاوبه، حتى قال له: يا سيدي لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير وما يجري عند
قبر علي بن أبي طالب من الفضائح والأقوال الشنيعة وسب الصحابة جهارا
بأصوات مرتفعة من غير مراقبة ولا خيفة.
فقال إسماعيل: أي ذنب لهم، والله ما جرأهم على ذلك، ولا فتح لهم
هذا الباب إلا صاحب ذلك القبر. فقال ذلك الشخص: ومن صاحب القبر؟

(1) الفصول المختارة: ص 125 - 126.
(2) في زهر الربيع: (غالية).
72

قال: علي بن أبي طالب.
قال: يا سيدي هو الذي سن لهم ذلك، وعلمهم إياه وطرقهم إليه؟ قال:
نعم والله.
قال: يا سيدي فإن كان محقا فما لنا أن نتولى فلانا وفلانا، وإن كان مبطلا
فما لنا نتولاه، ينبغي إما نبرأ منه وإما نبرأ منهما.
قال ابن عالية: فقام إسماعيل مسرعا فلبس نعليه، وقال: لعن الله
إسماعيل الفاعل إن كان يعرف جواه هذه المسألة، ودخل دار حرمه وقمنا
نحن وانصرفنا (1).
(744)
أم سلمة ومولاها
روى ابن مردويه عن أم سلمة: أنه كان لها مولى لا يصلي صلاة إلا سب
عليا عليه السلام، فقالت له: ما حملك على ذلك؟ قال: لأنه قتل عثمان
وشرك في دمه. فقالت له: لولا أنك مولاي وأنك عندي بمنزلة ولدي ما
حدثتك بسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد أقبل يوما النبي صلى الله
عليه وآله وكان يومي منه، وإنما كان نصيبي من تسعة أيام يوما واحدا، فدخل
وهو يتخلخل أصابعه في أصابع علي عليه السلام، واضعا يده عليه فقال: يا أم
سلمة أخرجي من البيت وأخليه لنا، فخرجت وأقبلا يتناجيان، وأسمع
الكلام، ولا أدري ما يقولان حتى اثاقلت، وقد انتصف النهار، فأقبلت
وقلت: السلام عليك أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: لا، فرجعت
وجلست حتى قلت: قد زالت الشمس الان يخرج إلى الصلاة، فيذهب يومي
ولم أريوما قط أطول منه.

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 9 / 308، وراجع بهج الصباغة: ج 4 / 387، وزهر الربيع: ص 247.
73

فأقبلت أمشي حتى وقفت وقلت: السلام عليك أألج؟ فقال النبي صلى
الله عليه وآله: نعم فدخلت وعلي واضع يده على ركبة النبي صلى الله عليه
وآله، فدخلت وفم النبي صلى الله عليه وآله على اذن علي يتساران، وعلي
عليه السلام معرض وجهه حتى دخلت وخرج، الحديث (1).
عالم شيعي وجمع من طلاب الجامعة
حكى لي صديقي المفضال العلامة السيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي
قال: كنت المدينة الطيبة، فذهبت إلى زيارة جامعة المدينة، فحينما كنت قافلا
صادفت في الطريق جمعا من الطلاب قاصدين البلدة - والجامعة واقعة في
خارجها - فقلت لهم: أي العلوم يدرس فيها؟ قالوا: كل العلوم إلا المنطق
والفلسفة. قلت: لماذا لا يدرس العلمان؟ قالوا: لأنهما يخرجان الطالب عن
الدين؟ قلت: أي فرقة من المسلمين يشتغلون في الجامعة؟ قالوا: كلهم إلا
الشيعة. قلت: لماذا؟ قالوا: إنهم إن دخلوا التحقوا بالسنة وتركوا الرفض،
ولكنهم لم يدخلوا فعلا. قلت: أسألكم سؤالا؟ قالوا: نعم. قلت: الذي
تعتقدون أنتم من عصمته الصحابة وعدالتهم، وأنهم كلهم أبرياء وأتقياء، فهل
هذه العقيدة حادثة فيكم أم كانت الصحابة أيضا معتقدين بهذه العقيدة فيهم؟
قالوا: بل كان هذا الاعتقاد عندهم أيضا. قلت: فأمير المؤمنين علي بن
أبي طالب كان يحارب معاوية، ومعاوية يحاربه، هذا كان يريد قتل ذاك،
وهذا يريد قتله، فهل هذا كان مع اعتقادهما بعدالتهما وتقواهما، أو كل يرى
الاخر مستحقا للقتل ومفسدا للدين والدنيا؟ قالوا: كل يرى الاخر مستحقا
للقتل، ولكن كان ذلك اجتهادا منهما، ومعاوية كان مخطئا وعلي كان

(1) بهج الصباغة: ج 4 / 126 - 127.
74

مصيبا، فقلت على اعترافكم كان معاوية مستحقا للقتل لأنكم قلتم: بأن عليا
أصاب في اجتهاده. قالوا: هذا مما تدرسون أنتم من المنطق والفلسفة.
قلت: سؤال آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وآله حين وفاته أي
العملين كان أحسن له: الوصية وتعيين الخليفة، أو تركها وإهمال الأمة، وإرجاع
الناس إلى شعورهم الاجتماعي الثقافي من تعيين رئيس لهم؟
قالوا: الثاني أولى عندنا، لما فيه من الحرية، وإرجاع أمور المسلمين إليهم.
قلت: هذا صحيح ولكن يأتي سؤال آخر وهو أن أبا بكر لم ترك الطريقة
الحسناء، وعدل عنها فعين عمر بن الخطاب؟
فسكتوا عن الجواب، فقلت لهم: أجيبوا بأن أبا بكر علم أن ترك التعيين
سوف يورث الفرقة بين المسلمين، ويولد البغضاء والشحناء، فعمل ذلك حفظا
لهم وحياطة للدين.
قالوا: يأتي حينئذ سؤال آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وآله لم لم
يتوجه إلى هذه المصلحة الاجتماعية وخطأ في ذلك، وأوقع المسلمين في خلاف
شديد؟ قالوا: فنحن إذا نسألك، قلت: نعم.
قالوا: هل كان من الحسن أن يترك النبي صلى الله عليه وآله الوصية
وتعيين الخليفة، أو كان من الحسن التعيين والايصاء؟
قلت: هذا السؤال ساقط عندنا، لان تعيين الخليفة والوصي ليس للنبي
صلى الله عليه وآله بل هو لله عز وجل، كبعث النبي صلى الله عليه وآله
وإرساله، هو يأمر النبي صلى الله عليه وآله بتعيين الامام والوصية به
فحسب.
فقالوا: هل عندكم علم من هذه الأمور والمطالب الاسلامية؟ قلت: اي
نعم، كثير.
قالوا: ولكن نحن محرومون وممنوعون.
75

(746)
المفيد والسائل
سئل الشيخ - أدام الله عزه - في مجلس الشريف أبي الحسن علي بن أحمد بن
إسحاق - أدام الله عزه - فقيل له: خبرنا عن رجل توفي وخلف ابنة وعما، كيف
تقسم الفريضة في تركته؟ فقال الشيخ - أدام الله عزه -: إذا لم يترك غير
المذكورين، فالمال بأسره للابنة خاصة وليس للعم شئ.
فقال السائل: لم زعمت أن المال للابنة خاصة وما الدليل على ذلك؟
فقال الشيخ - أيده الله -: الدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل، ومن
سنة نبيه، ومن إجماع آل محمد عليهم السلام. فأما كتاب الله سبحانه فقوله
جل جلاله: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء
فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف) فأوجب الله
سبحانه للابنة النصف كملا مع الأبوين، وأوجب لها النصف الآخر مع العم
بدلالة قوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من
المؤمنين والمهاجرين) وذلك أنه إذا كان الأقرب أولى من الابعد كانت الابنة
مستحقة للنصف مع العم، كما تستحقه مع الأبوين بنص التلاوة، نظرنا في
النصف الآخر ومن أولى به أهي أم العم؟ فإذا هي وجدناها أقرب من العم،
لأنها تتقرب بنفسها والعم يتقرب إلى الميت بجده، والجد يتقرب إلى الميت
بأبيه، وجب رد النصف الباقي إلى الابنة بمفهوم آية ذوي الأرحام.
وأما السنة: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما قتل حمزة بن عبد
المطلب عليه السلام وخلف ابنته وأخاه العباس وابن أخيه رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وبني أخيه عليا وجعفرا وعقيلا - رضي الله عنهم - فورث
رسول الله صلى الله عليه وآله ابنته جميع تركته، ولم يرث منها شيئا ولا ورث
أخاه العباس ولا بني أخيه أبي طالب - رحمه الله - فدل على أن الابنة أحق
76

بالميراث كله من العم والأخ وابن الأخ. وقد قال الله جل اسمه: (لقد كان
لكم في رسول الله أسوة حسنة) وقال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما
نهاكم عنه فانتهوا).
وأما إجماع آل محمد عليهم السلام: فإن الاخبار متواترة عنهم بما حكيناه
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني مخلف فيكم الثقلين،
كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
فقال السائل: وما أنكرت أن يكون قوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم
أولى ببعض في كتاب الله) ليس في الميراث، لكنه في غيره، وأما فعل النبي
صلى الله عليه وآله مع ابنة حمزة، فما أنكرت أن يكون إنما جاز ذلك لأنه
استطاب نفوس الوارث معها، وأما الاجماع الذي ذكر عن آل محمد عليهم
السلام فإنه ليس بحجة، لان الحجة في إجماع الأمة بأسرها.
فقال الشيخ - أدام الله عزه -: أما إنكارك كون آية ذوي الأرحام في
الميراث، فإنه غير مرتفع به ولا يعتمد عليه من كان معدودا في جملة أهل العلم،
وذلك أن الله سبحانه نسخ بهذه الآية ما كان عليه القوم من الموارثة بين الاخوان
في الدين، وحط عن الأنصار ميراث المهاجرين لهم دون أقر بائهم، فقال
سبحانه وتعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا
الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن
تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا) فبين سبحانه أن
ذوي الأرحام أولى بذوي الأرحام من المهاجرين الذين لارحم بينهم ومن
المؤمنين البعداء منهم في النسب، ثم قال: إلا أن تتبرعوا عليهم فتفعلوا بهم
معروفا، وهذا مما لا يختلف فيه من عرف الاخبار، ونظر في السير والآثار، مع
دلالة تتضمن الكلام.
على أنا لا نجد من ذوي الأرحام أولى بأقاربهم في شئ من الأشياء إلا في
77

الميراث خاصة، والفعل الذي يوجبه الميراث وما عدا ذلك فالامام أولى به من
ذوي الأرحام، والمسلمون أولى به إذا لم ينظر فيه الامام. وأما ما ادعيت من
استطابة رسول الله صلى الله عليه وآله أنفس المذكورين، فلو كان على ما
ذكرت ووصفت لوجب أن يرد به النقل، ويثبت في الآثار، ويكون معروفا
عند حملة الاخبار، فلما لم يذكر ذلك على وجه من الوجوه، دل على أنه لا أصل
له، وأن تخريجه باطل محال.
وأما دفعك الحجة من إجماع آل محمد عليهم السلام، واعتمادك على إجماع
الأمة كافة، فإذا وجبت الحجة بإجماع الأمة وجبت باجماع أهل البيت عليهم
السلام، لحصول الاجماع الذي ذكرت على موجب العصمة لآل محمد عليهم
السلام من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن بطل الاعتماد على
إجماع آل محمد عليهم السلام مع الشهادة من النبي صلى الله عليه وآله بأن
المستمسك بهم لا يضل أبدا بطلت الحجة من إجماع الأمة، إذ قد وجد الفساد
فيما أجمعوا عليه من نقل الخبر الذي رويناه، وهذا محال لاخفاء باستحالته، فلم
يرد شيئا (1).
(747)
المفيد والجوهري
قال الشيخ: حضرت يوما عند صديقنا أبي الهذيل سبيع بن المنبه المختاري
- رحمه الله وألحقه بأوليائه الطاهرين عليهم السلام - وحضر عنده الشيخان
أبو طاهر وأبو الحسن الجوهريان، والشريف أبو محمد بن المأمون.
فقال لي أحد الشيخين: ما تقول في طلاق الحامل، إذا وقع (2) الرجل منه

(1) الفصول المختارة: ص 131 - 134.
(2) هكذا في الأصل والظاهر أنها (أوقع).
78

ثلاثا في مجلس واحد؟ فقال الشيخ - أيده الله -: فقلت: إذا أوقعه بحضور
مسلمين عدلين وقعت منه واحدة لا أكثر من ذلك.
فسكت الجوهري هنيئة، ثم قال: كنت أظن أنكم لا توقعون شيئا منه بتة.
فقال أبو محمد بن المأمون للشيخ - أدام الله عزه -: أتقولون أنه يقع منه
واحدة؟ فقال الشيخ: نعم إذا كان بشرط الشهود، فأظهر تعجبا من ذلك، وقال:
ما الدليل على أن الذي يقع بها واحدة وقد تلفظ بالثلاث؟
قال الشيخ - أيده الله -: فقلت له: الدلالة على ذلك من كتاب الله عز وجل،
ومن سنة نبيه صلى الله عليه وآله ومن إجماع المسلمين، ومن قول أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن قول ابن عباس - رحمه الله - ومن قول عمر
ابن الخطاب، فازداد الرجل تعجبا لما سمع هذا الكلام، وقال: أحب أن
تفصل لنا ذلك، وتشرحه على البيان.
قال الشيخ: أما كتاب الله تعالى، فقد تقرر أنه نزل بلسان العرب وعلى
مذاهبها في الكلام قال الله سبحانه: (قرآنا عربيا غير ذي عوج) وقال: (وما
أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) ثم قال سبحانه في آية الطلاق:
(الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فكانت الثالثة في قوله
(أو تسريح بإحسان) ووجدنا المطلق إذا قال لامرأته: أنت طالق أتى بلفظ
واحد يتضمن تطليقة واحدة، فإذا قال عقيب هذا اللفظ: ثلاثا، لم يخل من أن
تكون إشارته إلى طلاق وقع فيما سلف ثلاث مرات، أو إلى طلاق يكون في
المستقبل ثلاثا أو إلى الحال، فإن كان أخبر عن الماضي، فلم يقع الطلاق إذا
باللفظ الذي أورده في الحال، وإنما أخبر عن أمر كان، وإن كان أخبر عن
المستقبل فيجب أن لا يقع بها طلاق حتى يأتي الوقت، ثم يطلقها ثلاثا على
مفهوم اللفظ والكلام، وليس هذان القسمان مما جرى الحكم عليهما، ولا
79

تضمنهما المقال، فلم يبق إلا أنه أخبر عن الحال، وذلك كذب ولغو بلا
ارتياب، لان الواحدة لا تكون أبدا ثلاثا، فلأجل ذلك حكمنا عليه بتطليقة
واحدة من حيث تضمنه اللفظ الذي أورده، وأسقطنا مالغا فيه وأطرحناه، إذ
كان على مفهوم اللغة التي نطق بها القرآن فاسدا، وكان مضادا لاحكام
الكتاب.
وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وآله قال: (كل ما لم يكن على
أمرنا هذا فهورد). وقال عليه السلام: (ما وافق الكتاب فخذوه وما لم يوافقه
فاطرحوه) وقد بينا أن المرة لا تكون مرتين أبدا، وأن الواحدة لا تكون ثلاثا،
فأوجب السنة إبطال طلاق الثلاث.
وأما إجماع الأمة: فإنهم مطبقون على أن كل ما خالف الكتاب والسنة فهو
باطل، وقد تقدم وصف خلاف الطلاق الثلاث للكتاب والسنة، فحصل
الاجماع على بطلانه.
وأما قول أمير المؤمنين عليه السلام: فإنه قد تظاهر عنه بالخبر المستفيض
أنه قال: (إياكم والمطلقات ثلاثا في مجلس واحد، فإنهن ذوات أزواج).
وأما قول ابن عباس: فإنه يقول: ألا تعجبون من قوم يحلون المرأة لرجل
وهي تحرم عليه، ويحرمونها على آخر وهي تحل له، فقالوا: يا ابن عباس ومن
هؤلاء القوم؟ قال: هم الذين يقولون للمطلق ثلاثا في مجلس قد حرمت عليك
امرأتك!
وأما قول عمر بن الخطاب: فلا خلاف أنه رفع إليه رجل قد طلق امرأته
ثلاثا، فأوجع رأسه، ثم ردها إليه، وبعد ذلك رفع إليه رجل وقد طلق كالأول
فأبانها منه، فقيل له في اختلاف حكمه في الرجلين، فقال: قد أردت أن أحمله
على كتاب الله عز اسمه، ولكنني خشيت أن يتتابع فيه السكران والغيران.
فاعترف بأن المطلقة ثلاثا ترد إلى زوجها على حكم الكتاب، لأنه إنما أبانها
80

منه بالرأي والاستحسان، فعلمنا من قوله على ما وافق القرآن، ورغبنا عما
ذهب إليه من جهة الرأي فلم ينطق أحد من الجماعة بحرف، وأنشأ واحد حديثا
آخر تشاغلوا به (1).
(748)
الفضل بن شاذان وفقهاء العامة
ألزم الفضل بن شاذان - رحمه الله - فقهاء العامة على قولهم في الطلاق أن
يحل للمرأة الحرة المسلمة أن تمكن من وطئها في اليوم الواحد عشرة أنفس على
سبيل النكاح، وهذا شنيع في الدين منكر في الاسلام.
قال الشيخ - أيده الله -: وجه إلزامه لهم ذلك بأن قال لهم: خبروني عن
رجل تزوج امرأة على الكتاب والسنة، وساق إليها مهرها، أليس قد حل له
وطئها؟ فقالوا وقال المسلمون كلهم: بلى.
قال لهم: فإن وطئها ثم كرهها عقيب الوطء، أليس يحل له خلعها على
مذهبكم في تلك الحال؟ فقالت العامة: خاصة نعم.
قال لهم: فإنه خلعها ثم بدا له بعد ساعة في العود إليها، أليس يحل له أن
يخطبها لنفسه، ويحل لها لها أن ترغب فيه؟ قالوا: بلى.
فقال لهم: فإنه قد عقد عليها عقد النكاح، أليس قد عادت إلى ما كانت
عليه من النكاح وسقط عنها عدة الخلع؟ قالوا: بلى.
قال لهم: فإنه قد رجع نيته في فراقها، ففارقها عقيب العقد الثاني
بالطلاق، من غير أن يدخل بها ثانية، أليس قد بانت منه، ولا عدة عليها بنص
القرآن من قوله: (فإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة
تعتدونها)؟ قالوا: نعم، ولابد لهم من ذلك مع التمسك بالدين.

(1) الفصول المختارة: ص 134 - 136.
81

قال لهم: أليس قد حلت من وقتها للأزواج إذ ليس عليها عدة بنص
القرآن؟ قالوا: بلى.
قال لهم: فما تقولون إن صنع بها الثاني كصنع الأول، أليس يكون قد
نكحها اثنان في بعض يوم من غير حظر من ذلك على أصولكم في الاحكام؟
قالوا - ولابد أن يقولوا -: بلى.
قال لهم: وكذلك لو نكحها ثالث ورابع إلى أن يتم ناكحوها عشرة أنفس
وأكثر من ذلك إلى آخر النهار، أليس يكون ذلك جائزا طلقا حلالا، وهذه هي
الشناعة التي لا تليق بأهل الاسلام.
قال الشيخ - أيده الله -: والموضع الذي لزمت منه هذه الشناعة فقهاء العامة
دون الشيعة الإمامية، أنهم يجيزون الخلع والطلاق والظهار في الحيض وفي
الطهر الذي قد حصل فيه جماع من غير استبانة حمل، والامامية تمنع من ذلك
وتقول: إن هذا أجمع لا تقع بالحاضرة التي تحيض وتطهر إلا بعد أن تكون
طاهرة من الحيض طهرا لم يحصل فيه جماع، فلذلك سلمت مما وقع فيه
المخالفون... (1)
(749)
المفيد والرماني
قال الشيخ - أيده الله -: حضرت مجلسا لبعض الرؤساء، وكان فيه جمع كثير
من المتكلمين والفقهاء، فالتفت أبو الحسن علي بن عيسى الرماني يكلم رجلا
من الشيعة يعرف بأبي الصقر الموصلي في شئ يتعلق بالحكم في فدك،
ووجدته قد انتهى في كلامه إلى أن قال له: قد علمنا باظطرار أن أبا بكر قال
لفاطمة عليها السلام عند مطالبتها له بالميراث: سمعت رسول الله صلى

(1) الفصول المختارة: ص 137 - 138.
82

الله عليه وآله يقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) فسلمت عليها السلام
لقوله ولم ترده عليه، وليس يجوز على فاطمة عليها السلام أن تصبر على المنكر،
وتترك المعروف وتسلم الباطل، لا سيما وأنتم تقولون: إن عليا عليه السلام
كان حاضرا في المجلس، ولا شك أن جماعة من المسلمين حضروه واتصل خبره
بالباقين، فلم ينكره أحد من الأمة، ولا علمنا أن واحدا رد على أبي بكر وأكذبه
في الخبر، فلولا أنه كان محقا فيما رواه من ذلك لما سلمت الجماعة له ذلك.
فاعترض الرجل الامامي بما روي عن فاطمة عليها السلام من ردها
عليه، وإنكارها لروايته، وخطبتها في ذلك، واستشهادها على بطلان خبره
بظاهر القرآن، وأورد كلاما في هذا المعنى على حسب ما يقتضيه واتسعت له
الحال.
فقال علي بن عيسى: هذا الذي ذكرته شئ تختص أنت وأصحابك به
والذي ذكرته من الحكم عليه الاجماع، وبه حاصل علم الاضطرار، فلو كان ما
تدعونه من خلافه حقا، لارتفع معه الخلاف، وحصل عليه الاجماع، كما حصل
على ما ذكرت لك من رواية أبي بكر وحكمه، فلما لم يكن الامر كذلك دل على
بطلانه.
فكلمه الامامي بكلام لم ارتضه، وتكرر منهما جميعا، فأشار صاحب المجلس
إلي لاخذ الكلام، فأحس بذلك علي بن عيسى، فقال لي: إنني قد جعلت
نفسي أن لا أتكلم في مسألة واحدة مع نفسين في مجلس واحد، فأمسك عنه
وتركته حتى انقطع الكلام بينه وبين الرجل.
ثم قلت له: خبرني عن المختلف فيه هل يدل الاختلاف على بطلانه؟ فظن
أنني أريد شيئا غير المسألة الماضية، وأنني لا أكسر شرطه.
فقال: لست أدري أي شئ تريد بهذا الكلام، فأبن لي عن غرضك
لاتكلم عليه.
83

فقلت: لم آتك بكلام مشكل، ولا خاطبتك بغير العربية، وغرضي في نفس
هذا السؤال مفهوم لكل ذي سمع من العرب إذا أصغى إليه، ولم يله عنه اللهم
إلا أن تريد أن أبين لك من غرضي فيما أجري بهذه المسألة إليه فلست أفعل
ذلك بأول وهلة إلا أن يلزمني في حكم النظر، والذي استخبرتك عنه معروف
صحته وأنا أكرره: أتقول إن الشئ إذا اختلف العقلاء في وجوده أو صحته
وفساده كان اختلافهم دليلا على بطلانه، أو قد يكون حقا وإن اختلف
العقلاء فيه؟
فقال: ليس يكون الشئ باطلا من حيث اختلف الناس فيه ولا يذهب
إلى ذلك عاقل.
فقلت له: فما أنكرت إلا أن تكون فاطمة عليها السلام قد أنكرت على
أبي بكر حكمه، وردت عليه في خبره، واحتجت عليه في بطلان قضائه،
واستشهدت بالقرآن على ما جاء الأثر به، ولا يجب أن يقع الاتفاق على ذلك
وإن كان حقا، ولا يكون الخلاف فيه علامة على كذب مدعاه، بل قد يكون
صدقا، وإن اختلف فيه على ما أعطيت في الفتيا التي قررناك عليها.
فقال: أنا لا أعتمد على ما سمعت مني من الكلام مع الرجل على
الاختلاف فيما ادعاه إلا بعد أن قدمت معه مقدمات لم تحصرها، والذي أعتمد
عليه الان معك أن الذي يدل على صدق أبي بكر فيما رواه النبي صلى الله
عليه وآله من أنه لا يورث، وصوبه فيما حكم به ما جاء به الخبر عن علي عليه
السلام أنه قال: ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته، ولقد حدثني أبو بكر
وصدق أبو بكر. ولو لم يكن عنده صادقا أمينا عادلا لما عدل عن استحلافه، ولا
صدقه في روايته، ولا ميز بينه وبين الكافة في خبره، وهذا يدل على أن ما
يدعونه على أبي بكر من تخرص الخبر فاسد محال.
فقلت له: أول ما في هذا الباب أنك قد تركت الاعتدال الذي اعتمدته
84

بدء، ورغبت عنه بعد أن كنت راغبا فيه، وأحلتنا على شئ لا نعرفه
ولا سمعناه، وإنما بينا الكلام على الاعتدال الذي حضرناه، ولسنا نشاحك في
هذا الباب لكنا نكلمك على استينافه من الكلام، وأنت تعلم وكل عاقل عرف
المذاهب وسمع الاخبار أن الشيعة لا تروي هذا الحديث عن أمير المؤمنين عليه
السلام ولا تصححه، بل تشهد بفساده وكذب رواته وإنما يرويه آحاد من
العامة، ويسلمه من دان بأبي بكر خاصة، فإن لزم الشيعة أمر بحديث تفرد به
خصومهم لزم المخالفين ما تفردت الشيعة بروايته، هذا على شرط الانصاف
وحقيقة النظر والعدل فيه، فيجب أن يصير إلى اعتقاد ضلالة كل ما روت
الشيعة عن النبي صلى الله عليه وآله وعن علي والأئمة من ذريته عليهم
السلام ما يوجب ضلالتهم، فإن لم تقبل ذلك، ولم تلتزمه لتفرد القوم بنقله
دونك فكيف استجزت إلزامهم الاقرار برواية ما تفردت به دونهم لولا التحكم
دون الانصاف.
على أن أقرب الأمور في هذا الكلام أن تتكافأ الروايات ولا يلزم أحد
الفريقين منهما إلا ما حصل عليه الاجماع، أو يضم إليه دليل يقوم مقام الاجماع
في الحجة والبيان، وفي هذا إسقاط الاحتجاج بالخبر من أصله مع أني أسلمه
لك تسليم جدل، وأبين لك أنك لم توفي الدليل حقه ولا اعتمدت على برهان،
وذلك أنه ليس من شرط الكاذب في خبره أن يكون كاذبا في جميع الأخبار،
ولا من شرط من صدق في شئ أن يصدق في كل الاخبار، وقد وجدنا اليهود
والنصارى والملحدين يكذبون في أشياء ويصدقون في غيرها، فلا يجب لصدقهم
فيما صدقوا فيه أن نصدقهم فيما كذبوا فيه، ولا نكذبهم فيما صدقوا فيه لأجل
كذبهم في الامر الاخر، ولا نعلم أن أحدا من العقلاء جعل التصديق لزيد في
مقالة واحدة دليلا على صدقه في كل أخباره.
وإذا كان ذلك كذلك، فما أنكرت أن يكون الرجل مخطئا فيما رواه عن
85

النبي صلى الله عليه وآله في الميراث، وأن أمير المؤمنين عليه السلام قد
صدقه فيما رواه من الحديث الذي لم يستحلفه فيه، فيكون وجه تصديقه له وعلة
ذلك أنه عليه السلام شاركه في سماعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فكان حفظه له عينه يغنيه عن استحلافه، ويدله على صدقه فيما أخبر به،
ولا يكون ذلك من حيث التعديل له والحكم على ظاهره، على أن الذي رواه
أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شئ يدل على صحته العقل،
ويشهد بصوابه القرآن، فكان تصديق أمير المؤمنين عليه السلام له من حيث
العقل والقرآن، لا من جهة روايته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا
لحسن ظاهر له على ما قدمناه، وذلك أن الخبر الذي رواه أبو بكر هو أن قال:
سمعت رسول الله يقول: (ما من عبد يذنب ذنبا فيندم عليه، ويخرج إلى
صحراء فلاة فيصلي ركعتين، ثم يعترف به ويستغفر الله عز وجل منه إلا غفر الله
له) وهذا شئ نطق به القرآن، قال الله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن
عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون) وقال: (إن الله يحب التوابين
ويحب المتطهرين) والعقل يدل على قبول التوبة.
وإذا كان الامر على ما وصفناه بطل ما تعلقت به، وكان ذكره لأبي بكر
خاصة، لأنه لم يحدثه بحديث غير هذا فصدقه لما ذكرناه، وأخبر عن تصديقه بما
وصفناه، ولم يكن ذلك لتعديله على ما ظننت، ولا لتصويبه في الاحكام كلها
على ما قدمت بما شرحناه.
فقال عند سماع هذا الكلام: أنا لم أعتمد في عدالة أبي بكر وصحة حكمه
على الخبر، وإنما جعلته توطئة للاعتماد، وطولت الكلام فيه، وأطنبت في معناه
والذي أعتمده في هذا الباب أني وجدت أمير المؤمنين - عليه السلام - قد بايع
أبا بكر وأخذ عطاه، وصلى خلفه، ولم ينكر عليه بيد ولا لسان، فلو كان أبو بكر
ظالما لفاطمة عليها السلام لما جاز أن يرضى به أمير المؤمنين - عليه السلام -
86

إماما ينتهي في طاعته إلى ما وصفت.
فقلت له: هذا انتقال ثان بعد انتقال أول، وتدارك فائت فارط،
وتذكر ما كان منسيا، وإن عملنا على هذه انقطع المجلس بنشر المسائل والتنقل
فيها والتحير، وخرج الامر عن حده، وصار مجلس مذاكرة دون تحقيق جدل
ومناظرة، وأنت لا تزال تعتذر في كل دفعة عندما يظهر من وهن متعمداتك
بأنك لم تردها، ولكنك وطأت بها.
فخبرني الان هل هذا الذي ذكرته أخيرا هو توطئة أو عماد؟ فإن كان
توطئة عدلنا عن الكلام فيه وسألناك عن المعتمد، وإن كان أصلا كلمناك
عليه، مع أني لست أفهم منك معنى التوطئة، لان كل كلام اعتل به معتل
ففسد فقد انهدم ما بناه عليه، ووضح فساد مبناه إن بناه عليه، فاعتذارك في
فساد ما تقدم بأنه توطئة لا معنى له، ولكنا نتجاوز هذا الباب ونقول لك ما
أنكرت على من قال: إن ما ادعيته من أن أمير المؤمنين عليه السلام بايع
الرجل دعوى عرية عن برهان، لافرق بينها وبين قولك: إنه كان مصيبا فيما حكم
به على فاطمة عليها السلام. فدل على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع
على ما ادعيت ثم أبن عليه، فأما أن تعتمد على الدعوى المحضة فإنها تضر
ولا تنفع وقولك: إنه عليه السلام صلى خلف الرجل، فإن كنت تريد أنه
صلى متأخرا عن مقامه فلسنا ننكر ذلك، وليس فيه دلالة على رضاه به، وإن
أردت أنه صلى مقتديا به ومؤتما فما الدليل على ذلك؟ فإنا نخالفك فيه وعنه
ندفعك، وهذه دعوى كالأولى تضر من اعتمد عليها أيضا ولا تنفع.
وأما قولك: إنه أخذ العطاء فالامر كما وصفت، ولكن لم زعمت أن في
ذلك دلالة على رضاه بإمامته والتسليم له في حكمه، أوليس تعلم أن خصومك
يقولون في ذلك: إنه أخذ بعض حقه، ولم يحل له الامتناع من أخذه، لان في
ذلك تضييعا لماله، وقد نهى الله تعالى عن التضييع وأكل الأموال بالباطل؟
87

وبعد فما الفصل بينك وبين من جعل هذا الذي اعتمدت بعينه حجة في إمامة
معاوية.
فقال: وجدت الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر
وغيرهم من المهاجرين والأنصار قد بايعوا معاوية بن أبي سفيان بعد صلح
الحسن، وأخذوا منه العطاء، وصلوا خلفه الفرائض، ولم ينكروا عليه بيد ولا
لسان؟ فكلما جعلته إسقاطا لهذا الاعتماد فهو بعينه دليل على فساد ما اعتمدته
حذو النعل بالنعل.
فلم يأت بشئ تجب حكايته (1).
(750)
المفيد والعباسيون
حضر الشيخ أبو عبد الله - أيده الله - بسر من رأى، واحتج عليه من العباسيين
وغيرهم جمع كثير.
فقال له بعض مشايخ العباسيين: أخبرني من كان الامام بعد رسول الله
صلى الله عليه وآله؟
فقال له: كان الامام من دعاه العباس إلى أن يمد يده لبيعته على حرب من
حارب وسلم من سالم. فقال له العباسي: ومن هذا الذي دعاه العباس إلى
ذلك؟
فقال له الشيخ: هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حيث
قال له العباس في اليوم الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بما اتفق عليه أهل النقل: (ابسط يدك يا ابن أخي أبايعك فيقول الناس: عم
رسول الله بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان).

(1) الفصول المختارة: ص 269 - 274.
88

فقال له شيخ من فقهاء أهل البلد: فما كان الجواب من علي؟
فقال: كان الجواب أن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إلي
أن لا أدعو أحدا حتى يأتوني، ولا اجرد سيفا حتى يبايعوني، ومع هذا فلي
برسول الله شغل. فقال العباسي: فقد كان العباس - رحمه الله - إذن على خطأ
في دعائه له إلى البيعة.
فقال له الشيخ: لم يخطئ العباس فيما قصد، لأنه عمل على الظاهر وكان
عمل أمير المؤمنين عليه السلام على الباطن، وكلاهما أصاب الحق ولم يخطئه
والحمد لله رب العالمين.
فقال له العباسي: فإن كان علي بن أبي طالب هو الامام بعد النبي
صلى الله عليه وآله فقد أخطأ أبو بكر وعمر ومن اتبعهما وهذا أعظم في
الدين.
فقال له الشيخ: لست أنشط الساعة للفتيا بتخطئة أحد، وإنما أجبتك عن
شئ سألت عنه فإن كان صوابا وضمن تخطئة إنسان فلا تستوحش من اتباع
الصواب، وإن كان باطلا فتكلم على إبطاله، فهو أولى من التشنيع بما لا يجدي
نفعا، مع أنه إن استعظمت تخطئة من ذكرت فلا بد لك من تخطئة علي
والعباس من قبل أنهما قد تأخرا عن بيعة أبي بكر ولم يرضيا بتقدمه عليهما، ولا
عملا له ولصاحبه عملا، ولا تقلدا لهما ولاية ولا رآهما أبو بكر ولا عمر أهلا أن
يشركاهما في شئ من أمورهما، وخاصة ما صنعه عمر بن الخطاب، فإنه ذكر
من يصلح للإمامة في الشورى ومن يصلح للنظر في الاختبار، فلم يذكر العباس
من إحدى الطائفتين، ولما ذكر عليا عليه السلام عابه، ووصفه بالدعابة
تارة، وبالحرص على الدنيا أخرى، وأمر بقتله إن خالف عبد الرحمان بن عوف
وجعل الحق في حين عبد الرحمان دونه وفضله عليه.
هذا وقد أخذ منه ومن العباس ومن جميع بني هاشم الخمس الذي جعله الله
89

تعالى لهم، وأرغمهم فيه وحال بينهم وبينه، وجعله في السلاح والكراع، فإن
كنت أيها الشريف تنشط للطعن على علي والعباس بخلافهما الشيخين
بكراهتهما لامامتهما وتأخرهما عن بيعتهما، وترى من العقد فيهما ما سنه الشيخان
من أمرهما في التأخير لهما عن شريف المنازل، والغض منهما، والحط من
أقدارهما، فصر إلى ذلك، فإنه الضلال بغير شبهة، وإن كنت ترى ولايتهما،
والتعظيم لهما، والاقتداء بهما، فاسلك سبيلهما، ولا تستوحش من تخطئة من
خالفهما، وليس هاهنا منزلة ثالثة.
فقال العباسي عند سماع هذا الكلام: اللهم أنت تحكم بين عبادك فيما
كانوا فيه يختلفون (1). (751)
الحارث بن معاوية وزياد بن لبيد
(بعد أن بويع أبو بكر وسار عماله في البلاد ومنهم زياد بن لبيد وواجهوا
مع مانعي الصدقات) رأى (زياد بن لبيد) من الرأي لا يعجل بالمسير إلى
أبي بكر فوجه بما عنده من إبل الصدقة إلى المدينة مع ثقة، وأمره أن لا يخبر أبا بكر
بشئ من أمره وأمر القوم.
قال: ثم إنه سار إلى حي من أحياء كندة يقال لهم: بنو ذهل بن معاوية
فخبرهم بما كان من... إليه ودعاهم إلى السمع والطاعة (لأبي بكر وإعطاء
الصدقة) فأقبل إليه رجل من سادات بني تميم يقال له: الحارث بن معاوية فقال
لزياد: إنك لتدعو إلى طاعة رجل لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد.
فقال له زياد بن لبيد: يا هذا صدقت، فإنه لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه
عهد، ولكنا اخترناه لهذا الامر.

(1) الفصول المختارة: ص 277 - 279.
90

فقال له الحارث: أخبرني نحيتم عنها أهل بيته وهم أحق الناس بها،
لان الله عز وجل يقول: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)؟
فقال له زياد بن لبيد: إن المهاجرين والأنصار أنظر لأنفسهم منك.
فقال الحارث بن معاوية: لا والله، ما أزلتموها عن أهلها إلا حسدا منكم
لهم، وما يستقر في قلبي أن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج من الدنيا ولم
ينصب للناس علما يتبعونه، فارحل عنا أيها الرجل، فإنك تدعو إلى غير رضا،
ثم أنشأ الحارث بن معاوية يقول:
كان الرسول هو المطاع فقد مضى * صلى عليه الله لم يستخلف
قال: فوثب عرفجة بن عبد الله الذهلي فقال: صدق والله الحارث بن
معاوية، أخرجوا هذا الرجل عنكم فما صاحبه بأهل للخلافة، ولا يستحقها
بوجه من الوجوه، وما المهاجرون والأنصار بأنظر لهذه الأمة من نبيها محمد
صلى الله عليه وآله.
قال: ثم وثب رجل من كندة يقال له: عدي بن عوف فقال: يا قوم
لا تسمعوا قول عرفجة بن عبد الله، ولا تطيعوا أمره، فإنه يدعوكم إلى الكفر
ويصدكم عن الحق، إقبلوا من زياد بن لبيد ما يدعوكم إليه، وارضوا بما رضي
به المهاجرون والأنصار، فإنهم أنظر لأنفسهم منكم، قال: ثم أنشأ يقول في
ذلك أبياتا من جملتها:
يا قوم إني ناصح لا ترجعوا * في الكفر واتبعوا مقال الناصح
قال: فوثب إليه نفر من بني عمه، فضربوه حتى أدموه وشتموه أقبح
الشتم، ثم وثبوا إلى زياد بن لبيد، فأخرجوه من ديارهم وهموا بقتله (1).
قال الأحمدي: نقلنا هذه المناظرة لكي يتأمل فيه القارئ فيقف على

(1) الفتوح لابن أعثم: ج 1 / 61.
91

علة (الارتداد) بعد النبي صلى الله عليه وآله في بني كنده، وأنهم لم يرتدوا عن
الدين بإنكار التوحيد أو النبي صلى الله عليه وآله أو المعاد، بل هو لعدم
إذعانهم بخلافة أبي بكر فحسب، كما هو السبب الوحيد في قتل مالك بن نويرة
أيضا، ونقل فضل بن شاذان في الايضاح: ص 152 عن ارتداد الأشعث وأنه
قال: إنما كان ذلك غضبا لعمر لصرف أبي بكر الخلافة عنه إلى نفسه، وفي
الهامش نقله عن البحار والشافي والتلخيص.
(752)
مؤتمر علماء بغداد
عثرت على رسالة مطبوعة لمقاتل بن عطية الحنفي من علماء القرن الخامس
الحاضر في المؤتمر ختن الخواجة نظام الملك في نقل ما جرى في مجلس المؤتمر،
فأحببت نقلها هنا بأسرها وهي:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين محمد النبي
العربي وآله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه المطيعين.
وبعد: فهذا كتاب (مؤتمر علماء بغداد) الذي انعقد بين السنة والشيعة
الذين جمعهم الملك الكبير (ملك شاه سلجوقي) تحت إشراف العالم العظيم
الوزير (نظام الملك) وكان من قصة ذلك: أن الملك شاه لم يكن رجلا متعصبا
أعمى، يقلد الاباء والأجداد عن عصبية وعمى، بل كان شابا متفتحا محبا
للعلم والعلماء، وكان في نفس الوقت ولعا باللهو والصيد والقنص.
أما وزيره (نظام الملك) فقد كان رجلا حكيما فاضلا زاهدا عازفا عن
الدنيا، قوي إلارادة، يحب الخير وأهله، يتحرى الحقيقة دائما، وكان يحب أهل
بيت النبي حبا جما كثيرا، وقد أسس المدرسة النظامية في بغداد، وجعل
لأهل العلم رواتب شهرية، وكان يحنو على الفقراء والمساكين.
وذات مرة دخل على الملك شاه أحد العلماء الكبار، واسمه (الحسين بن
92

علي العلوي) وكان من كبار علماء الشيعة... ولما خرج العالم من عند الملك
استهزأ به بعض الحاضرين وغمزه، فقال الملك: لماذا استهزأت به؟ قال الرجل:
ألا تعرف أيها الأمير انه من الكفار الذين غضب الله عليهم ولعنهم؟ فقال
الملك - متعجبا - ولماذا؟ أليس مسلما؟ فقال الرجل: كلا إنه شيعي، فقال
الملك: وما معنى الشيعي؟ أليس الشيعة هم فرقة من فرق المسلمين؟ قال
الرجل: كلا إنهم لا يعترفون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان. قال الملك: وهل
هناك مسلم لا يعترف بإمامة هؤلاء الثلاثة؟ قال الرجل: نعم هؤلاء هم
الشيعة، قال الملك: وإذا لا يعترفون بإمامة هؤلاء الصحابة فلماذا يسميهم
الناس مسلمين؟ قال الرجل: ولذا قلت لك إنهم كفار... فتفكر الملك مليا،
ثم قال: لابد من إحضار الوزير نظام الملك لنرى جلية الحال.
أحضر الملك نظام الملك وسأله عن الشيعة، هل هم مسلمون؟ قال نظام
الملك: اختلف أهل السنة فطائفة منهم يقولون: إنهم مسلمون لأنهم - أي
الشيعة - يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون ويصومون
وطائفة منهم يوقولون: إنهم كفار.
قال الملك: وكم عددهم؟
فقال نظام الملك: لا احصي عددهم كاملا، ولكنهم يشكلون نصف
المسلمين تقريبا.
قال الملك: فهل نصف المسلمين كفار؟
قال الوزير: إن بعض أهل العلم يعتبرونهم كفارا وإني لا أكفرهم.
قال الملك: فهل لك أيها الوزير، أن تحضر علماء الشيعة وعلماء السنة لنرى
جليلة الحال؟
قال الوزير: هذا أمر صعب، وأخاف على الملك والمملكة.
قال الملك: لماذا؟
93

قال الوزير: لان قضية الشيعة والسنة ليست قضية بسيطة، بل هي قضية
حق وباطل قد أريقت فيها الدماء وأحرقت فيها المكتبات وأسرت فيها نساء
والفت فيها كتب وموسوعات، وقامت لأجلها حروب.
تعجب الملك الشاب من هذه القضية العجيبة، وفكر مليا، ثم قال: أيها
الوزير، إنك تعلم أن الله أنعم علينا بالملك العريض، والجيش الكثيف، فلا بد
أن نشكر الله على هذه النعمة، ويكون شكرنا أن نتحرى الحقيقة، ونرشد
الضال إلى الصراط المستقيم، ولا بد أن تكون إحدى الطائفتين على حق
والأخرى على باطل، فلابد أن نعرف الحق فنتبعه ونعرف الباطل فنتركه، فإذا
هيأت أيها الوزير مثل هذا المؤتمر بحضور العلماء من الشيعة والسنة بحضور القواد
والكتاب وسائر أركان الدولة، فإذا رأينا أن الحق مع السنة أدخلنا الشيعة في السنة بالقوة.
قال الوزير: وإذا لم يقبل الشيعة أن يدخلوا مذهب السنة، فماذا تفعل؟
قال الملك الشاب: نقتلهم.
قال الوزير: وهل يمكن قتل نصف المسلمين؟
قال الملك: فما هو العلاج والحل؟
قال الوزير: أن تترك هذا الامر.
انتهى الحواربين الملك ووزيره الحكيم العالم، ولكن بات الملك تلك الليلة
متفكرا قلقا، ولم ينم إلى الصباح، فكيف يستعصي عليه هذا الامر المهم، وفي
الصباح؟ الباكر دعا نظام الملك، وقال له: حسنا نستدعي علماء الطرفين، ونرى
نحن من خلال المحادثات والمناقشات التي تدور بينهما أن الحق مع أيهما، فإذا
كان الحق مع مذهب السنة، دعونا الشيعة بالحكمة والموعظة الحسنة، ورغبناهم
بالمال والجاه كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع المؤلفة
قلوبهم، وبذلك نتمكن من خدمة الاسلام والمسلمين.
94

فقال الوزير: رأيك حسن، ولكني أتخوف من هذا المؤتمر.
قال الملك: ولماذا الخوف؟
فقال الوزير: لأني أخاف أن يتغلب الشيعة على السنة، وترجح
احتجاجاتهم علينا، وبذلك يقع الناس في الشك والشبهة.
فقال الملك: وهل يمكن ذلك؟
قال الوزير: نعم، لان الشيعة لهم أدلة قاطعة، وبراهين ساطعة من القرآن
والأحاديث الشريفة على صحة مذهبهم وحقيقة عقيدتهم.
فلم يقتنع الملك بهذا الجواب من وزيره (نظام الملك) وقال له: لابد من
احضار علماء الطرفين لينكشف لنا الحق ونميزه عن الباطل، فاستمهل الوزير
الملك إلى شهر لتنفيذ الامر، ولكن الملك الشاب لم يقبل ذلك... وأخيرا تقرر
أن تكون المدة خمسة عشر يوما.
وفي هذه الأيام جمع الوزير (نظام الملك) عشرة رجال من كبار علماء السنة
الذين يعتمد عليهم في التاريخ والفقه والحديث والأصول والجدل، كما أحضر
عشرة من كبار علماء الشيعة، وكان ذلك في شهر شعبان في المدرسة النظامية
ببغداد، وتقرر أن ينعقد المؤتمر على الشروط الآتية:
أولا: أن يستمر البحث من الصباح إلى المساء باستثناء وقت الصلاة
والطعام والراحة.
ثانيا: أن تكون المحادثات مستندة إلى المصادر الموثوقة، والكتب المعتبرة،
لا عن المسموعات والشايعات.
ثالثا: أن تكتب المحادثات التي تدور في هذا المؤتمر.
وفي اليوم المعين جلس الملك ووزيره وقواد جيشه، وجلس علماء السنة عن
يمينه، كما جلس علماء الشيعة عن يساره، وافتتح الوزير نظام الملك المؤتمر:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة على محمد وآله وصحبه، ثم قال: لابد أن
95

يكون الجدال نزيها، وأن يكون طلب الحق رائد الجميع، وأن لا يذكر أحد
صحابة الرسول صلى الله عليه وآله بسب أو سوء.
قال كبير علماء السنة (وهو الملقب بالشيخ العباسي): إني لا أتمكن أن
أجادل مذهبا يكفر كل الصحابة.
قال كبير علماء الشيعة (وهو الملقب بالعلوي واسمه الحسين بن علي): ومن
هم الذين يكفرون الصحابة؟
قال العباسي: أنتم الشيعة هم أولئك الذين تكفرون كل الصحابة.
قال العلوي: هذا الكلام منك خلاف الواقع، أليس من الصحابة علي
عليه السلام والعباس وسلمان وابن عباس والمقداد وأبو ذر وغيرهم، فهل نحن
الشيعة نكفرهم؟
قال العباسي: إني قصدت بكل الصحابة أبا بكر وعمر وعثمان، وأتباعهم.
قال العلوي: نقضت نفسك بنفسك، ألم يقرر أهل المنطق أن الموجبة
الجزئية نقيض السالبة الكلية، فإنك تقول مرة: إن الشيعة يكفرون كل
الصحابة، وتقول مرة: إن الشيعة يكفرون بعض الصحابة.
وهنا أراد نظام الملك أن يتكلم، لكن العالم الشيعي لم يمهله، وقال: أيها
الوزير العظيم لا يحق لااحد أن يتكلم إلا إذا عجزنا عن الجواب، وإلا كان
خلطا للبحث، وإخراجا للكلام عن مجراه من دون نتيجة.
ثم قال العالم الشيعي: تبين أيها العباسي، أن قولك: إن الشيعة يكفرون
كل الصحابة كذب صريح.
ولم يتمكن العباسي من الجواب واحمر وجهه خجلا، ثم قال: دعنا عن
هذا، ولكن أنتم الشيعة تسبون أبا بكر وعمر وعثمان؟
قال العلوي: إن في الشيعة من يسبهم وفيهم من لا يسبهم.
قال العباسي: وأنت أيها العلوي من أي طائفة منهم؟
96

قال العلوي: من الذين لا يسبون، ولكن رأيي إن الذين يسبون لهم
منطقهم، وأن سبهم لهؤلاء الثلاثة لا يوجب شيئا لا كفرا ولا فسقا، ولا هو من
الذنوب الصغيرة.
قال العباسي: أسمعت أيها الملك ماذا يقول هذا الرجل؟
قال العلوي: أيها العباسي، إن توجيهك الخطاب إلى الملك مغالطة، فإن
الملك أحضرنا لأجل التكلم حول الحجج والأدلة، لا لأجل التحاكم إلى
السلاح والقوة.
قال الملك: صحيح ما يقوله العلوي، ما هو ردك أيها العباسي؟
قال العباسي: واضح أن من يسب الصحابة كافر.
قال العلوي: واضح عندك لا عندي، ما هو الدليل على كفر من يسب
الصحابة عن اجتهاد ودليل، ألا تعترف أن من يسبه الرسول يستحق السب؟
قال العباسي: أعترف.
قال العلوي: فالرسول سب أبا بكر وعمر.
قال العباسي: وأين سبهم؟ هذا كذب على رسول الله.
قال العلوي: ذكر أهل التواريخ من السنة: أن الرسول صلى الله عليه
وآله هيأ جيشا بقيادة (اسامة) وجعل في الجيش أبا بكر وعمر، وقال: لعن
الله من تخلف عن جيش اسامة، ثم إن أبا بكر وعمر تخلفا عن جيش اسامة
فشملهم لعن الرسول، ومن يلعنه الرسول يحق للمسلم أن يلعنه.
وهنا أطرق العباسي برأسه ولم يقل شيئا.
فقال الملك - متوجها إلى الوزير: وهل صح ما ذكره العلوي؟
قال الوزير: ذكر أهل التواريخ ذلك (1).

(1) انظر: طبقات ابن سعد القسم الثاني: ج 2 / 41، وتاريخ ابن عساكر: ج 2 / 391، وكنز العمال:
ج 5 / 312 والكامل لابن الأثير ج 2 / 129.
97

قال العلوي: وإذا كان سب الصحابة حراما وكفرا فلماذا لا تكفرون
معاوية بن أبي سفيان ولا تحكمون بفسقه وفجوره، لأنه كان يسب الإمام علي
ابن أبي طالب عليه السلام إلى أربعين سنة، وقد امتد سب الامام إلى سبعين
سنة؟!
قال الملك: اقطعوا هذا الكلام، وتكلموا حول موضوع آخر.
قال العباسي: من بدعكم أنتم الشيعة أنكم لا تعترفون بالقرآن.
قال العلوي: بل من بدعكم أنتم السنة أنكم لا تعترفون بالقرآن والدليل،
على ذلك أنكم تقولون: إن القرآن جمعه عثمان، فهل كان الرسول جاهلا بما
عمله عثمان حيث إنه لم يجمع القرآن حتى جاء عثمان وجمعه، وثم: كيف أن
القرآن لم يكن مجموعا في زمن النبي، وكان النبي يأمر قومه وأصحابه بختم
القرآن فيقول من ختم القرآن كان له كذا من الأجر والثواب، هل يمكن أن
يأمر بختم القرآن ما لم يكن مجموعا؟ وهل كان المسلمون في ضلال حتى
أنقذهم عثمان؟
قال الملك (موجها كلامه إلى الوزير): وهل يصدق العلوي أن أهل السنة
يقولون بأن القرآن من جمع عثمان؟
قال الوزير: هكذا يذكر المفسرون وأهل التواريخ.
قال العلوي: إعلم أيها الملك إن الشيعة يعتقدون أن القرآن جمع في زمن
الرسول كما تراه الان، لم ينقص منه حرف ولم يزد فيه حرف، أما السنة
فيقولون: إن القرآن زيد فيه ونقص منه، وأنه قدم واخر، وأن الرسول لم يجمعه
وإنما جمعه عثمان لما تسلم الحكم وصار أميرا.
قال العباسي (وقد انتهز الفرصة): هل سمعت أيها الملك أن هذا الرجل
لا يسمي عثمان خليفة، وانما يسميه أميرا؟!
قال العلوي: نعم، عثمان ليس خليفة.
98

قال الملك: ولماذا؟
قال العلوي: لان الشيعة يعتقدون بطلان خلافة أبي بكر وعمر وعثمان.
قال الملك (بتعجب واستفهام): ولماذا؟!
قال العلوي: لان عثمان جاء إلى الحكم بشورى ستة رجال عينهم عمر
وكل أهل الشورى الستة لم ينتخبوا عثمان، وإنما انتخبه ثلاثة أو اثنين منهم،
فشرعية خلافة عثمان مستندة إلى عمر، وعمر جاء إلى الحكم بوصية أبي بكر،
فشرعية عمر مستندة إلى أبي بكر، وجاء أبو بكر إلى الحكم بانتخاب جماعة
صغيرة تحت شراسة السيف والقوة، فشرعية خلافة أبي بكر مستندة إلى السلاح
والقوة، ولذا قال عمر في حقه: (كانت بيعة الناس لأبي بكر فلتة من فلتات
الجاهلية وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إليه فاقتلوه) (1) وأبو بكر نفسه كان
يقول: (أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم) (2) ولذا فالشيعة يعتقدون بأن
خلافة هؤلاء باطلة من أساسها.
قال الملك (موجها الكلام إلى الوزير): وهل صحيح ما يقوله العلوي من
كلام أبي بكر وعمر؟
قال الوزير: نعم هكذا ذكره المؤرخون.
قال الملك: فلماذا نحن نحترم هؤلاء الثلاثة؟
قال الوزير: اتباعا للسلف الصالح.
قال العلوي للملك: أيها الملك قل للوزير: هل الحق أحق أن يتبع أم
السلف؟ أليس تقليد السلف ضد الحق مشمولا لقوله تعالى: (قالوا إنا وجدنا
آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)؟

(1) انظر المحرقة لابن حجر: ص 8، والملل والنحل للشهرستاني، وغيره.
(2) ذكر الحديث القوشجي في كتابه شرح التجريد.
99

قال الملك موجها الخطاب إلى العلوي: إذا لم يكن هؤلاء الثلاثة خلفاء
لرسول الله فمن هو خليفة رسول الله؟
قال العلوي: خليفة رسول الله هو الإمام علي بن أبي طالب.
قال الملك: ولماذا هو خليفة؟
قال العلوي: لان الرسول عينه خليفة من بعده (1) حيث إنه صلى الله عليه
وآله وسلم أشار إلى خلافته في مواطن كثيرة جدا، ومن جملتها: لما جمع الناس
في منطقة بين مكة والمدينة يقال لها: غدير خم، ورفع يد علي وقال للمسلمين:
(من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر
من نصره، واخذل من خذله) ثم نزل عن المنبر وقال للمسلمين - وعددهم يزيد
على مائة وعشرين ألف إنسان -: (سلموا على علي بإمرة المؤمنين) فجاء المسلمون
واحد بعد واحد، وهم يقولون لعلي: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فجاء
أبو بكر وعمر وسلما على علي بإمرة المؤمنين، وقال عمر: السلام عليك يا
أمير المؤمنين بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن
ومؤمنة (2).
فإذن الخليفة الشرعي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو علي بن
أبي طالب.

(1) المصادر التي تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله عين الإمام علي بن أبي طالب خليفة له كثيرة
جدا جدا، وفيها تاريخ ابن جرير وكنز العمال وصحيح الترمذي وابن ماجة ومسند أحمد ومستدرك
الحاكم وتفسير الرازي والصواعق وغيرها من مئات الكتب المعتبرة.
أقول لقد أتعب أعلام الشيعة أنفسهم الشريفة في جمع المصادر وتحقيقها، فراجع عبقات الأنوار والغدير والمراجعات
والبحار ونحوها.
(2) ذكره جمع كثير من المؤرخين منهم أحمد في المسند: ج 4 / 281 والرازي في تفسير قوله تعالى: (يا أيها
الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك) وتأريخ بغداد للخطيب: ج 8 / 290 والصواعق: ص 107.
100

قال الملك - موجها الكلام إلى الوزير -: هل صحيح ما يذكره العلوي؟
قال الوزير: نعم هكذا ذكر المؤرخون والمفسرون.
قال الملك: دعوا هذا الكلام وتكلموا حول موضوع آخر.
قال العباسي: إن الشيعة يقولون بتحريف القرآن.
قال العلوي: بل المشهور عندكم - أيها السنة - أنكم تقولون بتحريف
القرآن.
قال العباسي: هذا كذب صريح.
قال العلوي: ألم ترووا في كتبكم أنه نزلت على رسول الله آيات حول
- الغرانيق - ثم نسخت تلك الآيات وحذفت من القرآن؟
قال الملك للوزير: وهل صحيح ما يدعيه العلوي؟
قال الوزير: نعم هكذا ذكره المفسرون
قال الملك: فكيف يعتمد على قرآن محرف؟
قال العلوي: اعلم أيها الملك إنا لا نقول بهذا الشئ، وإنما هذه مقالة أهل
السنة، وعلى هذا فالقرآن عندنا معتمد عليه، لكن القرآن عند السنة لا يمكن
الاعتماد عليه.
قال العباسي: وقد وردت بعض الأحاديث في كتبكم وعن علمائكم.
قال العلوي: تلك الأحاديث: أولا: قليلة. وثانيا: هي موضوعه ومزورة
وضعها أعداء الشيعة لتشويه سمعة الشيعة. وثالثا: رواتها وأسنادها غير
صحيحة، وما نقل عن بعض العلماء لا يعتمد على كلامهم، وإنما علماؤنا العظام
الذين نعتمد عليهم لا يقولون بالتحريف، ولا يذكرون كما تذكرون أنتم حيث
تقولون: إن الله أنزل آيات في مدح الأصنام فقال - وحاشاه ذلك -: تلك
الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى.
قال الملك: دعوا هذا الكلام وتكلموا بغيره.
101

قال العلوي: والسنة ينسبون إلى الله تعالى مالا يليق بجلال شأنه.
قال العباسي: مثل ماذا؟
قال العوي: مثل أنهم يقولون: إن الله جسم وأنه مثل الانسان يضحك
ويبكي، وله يد ورجل وعين وعورة، ويدخل رجله في النار يوم القيامة، وأنه
ينزل من السماوات إلى سماء الدنيا على حمار له.
قال العباسي: وما المانع من ذلك والقرآن يصرح به (وجاء ربك)
ويقول: (ويوم يكشف عن ساق) ويقول: (يد الله فوق أيديهم) والسنة
وردت بأن الله يدخل رجله في النار؟
قال العلوي: أما ما ورد في السنة والحديث فهو باطل عندنا وكذب وافتراء،
لان أبا هريرة وأمثاله كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أن عمر
منع أبا هريرة عن نقل الحديث وزجره.
قال الملك - موجها الخطاب إلى الوزير -: هل صحيح أن عمر منع أبا هريرة
عن نقل الحديث؟
قال الوزير: نعم منعه كما في التواريخ.
قال الملك: فكيف نعتمد على أحاديث أبي هريرة؟
قال الوزير: لان العلماء اعتمدوا على أحاديثه.
قال الملك: إذن يجب أن يكون العلماء أعلم من عمر، لان عمر منع
أبا هريرة عن نقل الحديث لكذبه على رسول الله، ولكن العلماء يأخذون
بأحاديثه الكاذبة!
قال العباسي: هب - أيها العلوي - أن الأحاديث الواردة في السنة حول الله
غير صحيحة، ولكن ماذا تصنع بالآيات القرآنية؟
قال العلوي: القرآن فيه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات،
وفيه ظاهر وباطن، فالمحكم الظاهر يعمل بظاهره، وأما المتشابه فاللازم أن
102

تنزله على مقتضى البلاغة من إرادة المجاز والكناية والتقدير وإلا لا يصح المعنى لا عقلا ولا شرعا، فمثلا: إذا حملت قوله تعالى: (وجاء ربك) على ظاهره فقد
عارضت العقل والشرع، لان العقل والشرع يحكمان بوجود الله في كل مكان،
وأنه لا يخلو منه مكان أبدا، فظاهر الآية تقول بجسمية الله والجسم له حيز
ومكان، ومعنى هذا أن الله لو كان في السماء خلت منه الأرض، ولو كان في
الأرض خلا منه السماء، وهذا غير صحيح لا عقلا ولا شرعا.
ارتبك العباسي أمام هذا المنطق الصائب وتحير في الجواب، ثم قال: إني
لا أقبل هذا الكلام وعلينا أن نأخذ بظواهر آيات القرآن.
قال العلوي: فما تصنع بالآيات المتشابهات؟ ثم إنك لا يمكنك أن تأخذ
بظاهر كل القرآن وإلا لزم ان يكون صديقك الجالس إلى جنبك الشيخ أحمد
عثمان (وهو من علماء السنة وكان أعمى البصر) من أهل النار.
قال العباسي: ولماذا؟
قال العلوي: لان الله تعالى يقول: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة
أعمى وأضل سبيلا) فحيث أن الشيخ أحمد أعمى الان في الدنيا فهو في
الآخرة أعمى وأضل سبيلا، فهل ترضى بهذا يا شيخ أحمد؟
قال الشيخ: كلا كلا، فإن المراد بالأعمى في الآية المنحرف عن طريق
الحق.
قال العلوي: إذن ثبت أنه لا يتمكن الانسان أن يعمل بكل ظواهر القرآن.
وهنا اشتد الجدال حول ظواهر القرآن هذا والعلوي يفحم العباسي بالأدلة
والبراهين حتى:
قال الملك: دعوا هذا الكلام وانتقلوا إلى غيره.
قال العلوي: ومن انحرافاتكم وأباطيلكم - أنتم السنة - حول الله سبحانه
أنكم تقولون: إن الله يجبر العباد على المعاصي والمحرمات ثم يعاقبهم عليها.
103

قال العباسي: هذا صحيح، لان الله يقول: ومن (يضلل الله) ويقول:
(طبع الله على قلوبهم).
قال العلوي: أما كلامك أنه في القرآن فجوابه: إن القرآن فيه مجازات
وكنايات يجب المصير إليها فالمراد بالضلال: إن الله يترك الانسان الشقي ويهمله
حتى يضل، وذلك مثل قولنا: الحكومة أفسدت الناس، فالمعنى أنها تركتهم
لشأنهم ولم تهتم بهم هذا أولا، وثانيا: ألم تسمع قول الله تعالى: (إن الله لا يأمر
بالفحشاء) وقوله سبحانه: (إن هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) (إنا
هديناه النجدين)، وثالثا: لا يجوز عقلا أن يأمر بالمعصية ثم يعاقب عليها، إن
هذا بعيد من عوام الناس فكيف من الله العادل المتعال سبحانه وتعالى عما
يقول المشركون والظالمون علوا كبيرا.
قال الملك: لا لا، لا يمكن أن يجبر الله الانسان على المعصية ثم يعاقبه، إن
هذا هو الظلم بعينه والله منزه عن الظلم والفساد، وأن الله ليس بظلام للعبيد،
ولكن لا أظن أن أهل السنة يلتزمون بمقالة العباسي.
ثم وجه خطابه إلى الوزير وقال: هل أهل السنة يلتزمون بذلك؟
قال الوزير: نعم المشهور بين أهل السنة ذلك.
قال الملك: كيف يقولون بما يخالف العقل؟
قال الوزير: لهم في ذلك تأويلات واستدلالات.
قال الملك: ومهما يكن من تأويل واستدلال فلن يعقل، ولا أرى إلا رأي
السيد العلوي بأن الله لا يجبر أحدا على الكفر والعصيان ثم يعاقبه على ذلك.
قال العلوي: ثم إن السنة يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان
شاكا في نبوته.
قال العباسي: هذا كذب صريح.
قال العلوي: ألستم تروون في كتبكم أن رسول الله قال: (ما أبطأ علي
104

جبرئيل مرة إلا وظننت أنه نزل على ابن الخطاب) مع العلم أن هناك آيات
كثيرة تدل على أن الله أخذ الميثاق من النبي محمد صلى الله عليه وآله على
نبوته.
قال الملك - موجها الخطاب إلى الوزير -: هل صحيح ما يقوله العلوي من
أن هذا الحديث موجود في كتب السنة؟
قال الوزير: نعم يوجد في بعض الكتب (1)
قال الملك: هو الكفر بعينه.
قال العلوي: ثم إن السنة ينقلون في كتبهم: أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم كان يحمل عائشة على كتفيه لتتفرج على المطبلين والمزمرين، فهل
هذا يليق بمقام رسول الله ومكانته؟
قال العباسي: إنه لا يضر.
قال العلوي: وهل أنت تفعل هذا، وأنت رجل عادي، هل تحمل زوجتك
على كتفك لتتفرج إلى الطبالين؟
قال الملك: إن من له أدنى حياء وغيرة لا يرضى بهذا، فكيف برسول الله
وهو مثال الحياء والغيرة والايمان، فهل صحيح أن هذا موجود في كتب أهل
السنة؟
قال الوزير: نعم موجود في بعض الكتب.
قال الملك: فكيف نؤمن بنبي يشك في نبوته؟
قال العباسي: لابد من تأويل هذه الرواية.
قال العلوي: وهل تصلح هذه الرواية للتأويل؟ أعرفت أيها الملك أن أهل
السنة يعتقدون بهذه الخرافات والأباطيل والخزعبلات؟

(1) ذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج.
105

قال العباسي: وأي أباطيل وخرافات تقصد؟
قال العلوي: لقد بينت لك أنكم تقولون:
1 - إن الله كالانسان له يد ورجل وحركة وسكون.
2 - إن القران محرف فيه زيادة ونقصان.
3 - إن الرسول يفعل ما لا يفعله حتى الناس العاديين من حمل عائشة على
كتفه.
4 - إن الرسول كان يشك في نبوته.
5 - إن الذين جاؤوا إلى الحكم قبل علي بن أبي طالب استندوا إلى السيف
والقوة في إثبات أنفسهم، ولا شرعية لهم.
6 - إن كتبهم تروي عن أبي هريرة وأمثاله من الوضاعين والدجاجين، وإلى
غير ذلك من الأباطيل.
فقال الملك: دعوا هذا الموضوع وانتقلوا إلى موضوع آخر.
قال العلوي: ثم إن السنة ينسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ما لا يجوز حتى على الانسان العادي.
قال العباسي: مثل ماذا؟
قال العلوي: مثل أنهم يقولون: إن سورة عبس وتولى نزلت في شأن
الرسول.
قال العباسي: وما المانع من ذلك؟
قال العلوي: المانع قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) وقوله: (وما
أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فهل يعقل أن الرسول الذي يصفه الله تعالى بالخلق
العظيم ورحمة للعالمين أن يفعل بذلك الأعمى المؤمن هذه العمل اللا إنساني.
قال الملك: غير معقول أن يصدر هذا العمل من رسول الانسانية ونبي
الرحمة، فإذن أيها العلوي، فيمن نزلت هذه السورة؟
106

قال العلوي: الأحاديث الصحيحة الواردة عن أهل بيت النبي الذين نزل
القرآن في بيوتهم تقول: إنها نزلت في عثمان بن عفان، وذلك لما دخل عليه ابن
أم مكتوم فأعرض عنه عثمان وأدار ظهره إليه.
وهنا انبرى السيد جمال الدين (وهو من علماء الشيعة وكان حاضرا في
المجلس) وقال: قد وقعت لي قصة مع هذه السورة وذلك: أن أحد علماء
النصارى قال لي: إن نبينا عيسى أفضل من نبيكم محمد صلى الله عليه وآله،
قلت: لماذا؟ قال: لان نبيكم كان سيئ الاخلاق، يعبس للعميان ويدير إليهم
ظهره، بينما نبينا عيسى كان حسن الاخلاق يبرئ الأكمه والأبرص، قلت:
أيها المسيحي، إعلم أننا نحن الشيعة نقول: إن السورة نزلت في عثمان بن
عفان لا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن نبينا محمد صلى الله
عليه وآله وسلم كان حسن الاخلاق جميل الصفات حميد الخصال، وقد قال
فيه تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) وقال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
قال المسيحي: لقد سمعت هذا الكلام الذي قلته لك من أحد خطباء
المسجد في بغداد.
قال العلوي: المشهور عندنا أن بعض رواة السوة وبايعي الضمائر نسبوا
هذه القصة إلى رسول الله ليبرئوا ساحة عثمان بن عفان، فإنهم نسبوا الكذب
إلى الله والرسول حتى ينزهوا خلفاءهم وحكامهم!
قال الملك: دعوا هذا الكلام وتكلموا في غيره.
قال العباسي: إن الشيعة تنكر ايمان الخلفاء الثلاثة، وهذا غير صحيح إذ
لو كانوا غير مؤمنين فلماذا صاهرهم رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم؟
قال العلوي: الشيعة تعتقد أنهم (أي الثلاثة) كانوا غير مؤمنين قلبا
وباطنا، وإن أظهروا الاسلام لسانا وظاهرا، والرسول الأعظم صلى الله عليه
وآله وسلم كان يقبل إسلام كل من تشهد بالشهادتين ولو كان منافقا واقعا،
107

وكان يعاملهم معاملة المسلمين، فمصاهرة النبي لهم ومصاهرتهم للنبي من هذا
الباب.
قال العباسي: وما هو الدليل على عدم إيمان أبي بكر؟
قال العلوي: الأدلة القطعية على ذلك كثيرة جدا، ومن جملتها أنه خان
الرسول في مواطن كثيرة: منها تخلفه عن جيش اسامة ومعصية أمر الرسول في
ذلك، والقرآن الكريم نفى الايمان من كل من يخالف الرسول، يقول تعالى:
(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم
حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) فأبو بكر عصى أمر الرسول وخالفه فهو
داخل في الآية التي تنفي إيمان مخالف الرسول. وأضف إلى ذلك أن رسول الله
صلى الله عليه وآله لعن المتخلف عن جيش اسامة، وقد ذكرنا سابقا أن
أبا بكر تخلف عن جيش اسامة فهل يلعن رسول الله المؤمن طبعا لا.
قال الملك: إذن يصح كلام العلوي أنه لم يكن مؤمنا.
قال الوزير: لأهل السنة ففي تخلفه تأويلات.
قال الملك: وهل التأويل يدفع المحذور؟ ولو فتحنا هذا الباب لكان لكل
مجرم أن يأتي لاجرامه بتأويلات؟ فالسارق يقول: سرقت لأني فقير، وشارب
الخمر يقول: شربت لأنني كثير الهموم، والزاني يقول كذا وهكذا... يختل
النظام ويتجرأ الناس على العصيان، لا... لا... التأويلات لا تنفعنا.
فاحمر وجه العباسي وتحيرما ذا يقول، وأخيرا تلعثم وقال: وما هو الدليل
على عدم إيمان عمر؟
قال العلوي: الأدلة كثيرة جدا منها: أنه صرح بنفسه بعدم إيمانه.
قال العباسي: في أي موضع؟
قال العلوي: حيث قال: (ما شككت في نبوة محمد - صلى الله عليه وآله -
مثل شكي يوم الحديبية) وكلامه هذا يدل على أنه كان شاكا دائما في نبوة
108

نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وكان شكه يوم الحديبية أكثر وأعمق وأعظم
من تلك الشكوك، فهل أيها العباسي قل لي بربك -: الشاك في نبوة محمد
صلى الله عليه وآله يعتبر مؤمنا؟
سكت العباسي وأطرق برأسه خجلا.
فقال الملك - موجها الخطاب إلى الوزير -: هل صحيح قول العلوي أن عمر
قال هكذا؟
قال الوزير: هكذا ذكر الرواة.
قال الملك: عجيب عجيب جدا، إني كنت أعتبر عمر من السابقين إلى
الاسلام، وأعتبر إيمانه إيمانا مثاليا، والآن ظهر لي أن في أصل إيمانه شك وشبهة.
قال العباسي: مهلا أيها الملك، ابق على عقيدتك ولا يخدعك هذا العلوي
الكذاب.
فأعرض الملك بوجهه عن العباسي وقال مغضبا: إن الوزير نظام الملك
يقول: إن العلوي صادق في كلامه، وأن قول عمر وارد في الكتب، وهذا الأبله
- يعني العباسي - يقول: إنه كاذب، أليس هذا العناد بعينه؟
ساد المجلس سكون رهيب، فقد غضب الملك وانزعج من كلام
العباسي... وأطرق العباسي وسائر علماء السنة.. وصمت الوزير... وبقي
العلوي رافعا رأسه ينظر في وجه الملك ليرى النتيجة.
مرت لحظات صعبة على العباسي تمنى فيها أن تنشق الأرض تحته فيغيب
فيها أو يأتيه ملك الموت فيقبض روحه فورا من شدة الخجل وحرج الموقف،
فلقد ظهر بطلان مذهبه، ولقد ظهرت خرافة عقيدته أمام الملك ووزيره وسائر
العلماء والأركان... ولكن ماذا يصنع؟ لقد أحضره الملك للسؤال والجواب
ولتمييز الحق من الباطلل، ولهذا استجمع قواه ورفع رأسه وقال:
وكيف تقول أيها العلوي: أن عثمان لم يكن مؤمنا في قلبه وقد زوجه
109

الرسول ببنتيه رقية وأم كلثوم؟
قال العلوي: الأدلة في عدم إيمانه كثيرة ويكفي في ذلك: أن المسلمين
- وفيهم الصحابة - اجتمعوا عليه فقتلوه، وأنتم تروون أن النبي قال: لا تجتمع
أمتي على خطأ، فهل يجتمع المسلمون وفيهم الصحابة على قتل مؤمن؟ ولقد
كانت عائشة تشبهه باليهود، وتأمر بقتله وتقول: اقتلوا نعثلا - اسم رجل يهودي -
فقد كفر اقتلوا نعثلا قتله الله (1) بعدا لنعثل وسحقا، وقد ضرب عثمان عبد الله
ابن مسعود الصحابي الجليل حتى أصيب بالفتق وصار طريح الفراش ومات.
وقد سفر أبا ذر ذلك الصحابي الجليل الذي قال فيه الرسول: (ما أظلت
الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر) ونفاه وأبعده من
المدينة المنورة إلى الشام مرة أو مرتين ثم إلى الربذة - وهي أرض جرداء بين مكة
والمدينة - حتى مات أبو ذر في الربذة جوعا وعطشا، في الوقت الذي كان عثمان
يتقلب في بيت مال المسلمين، ويوزع الأموال على أقاربه من الأمويين
والمروانيين.
قال الملك للوزير: وهل يصدق العلوي في كلامه هذا؟
قال الوزير: ذكر ذلك المؤرخون (2).

(1) قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة ج 2 / 77: كل من صنف في السير والاخبار ذكر أن
عائشة كانت من أشد الناس على عثمان، حتى أنها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله صلى الله
عليه وآله فنصبته في منزلها، وكانت تقول للداخلين عليها: هذا ثوب رسول الله لم يبل وعثمان قد
أبلى ثوبه.
(2) ذكر المؤرخون أن عثمان أعطى عبد الله بن خالد بن أسيد أربعمائة ألف درهما، والحكم بن العاص
طريد رسول الله مائة ألف درهم، وأعطى أرض فدك لمروان بن الحكم الوزغ ابن الوزغ، وقد
كانت أرض فدك لفاطمة الزهراء فغصبها أبو بكر وعمر منها، ثم سلمها عثمان لمروان، وأعطى
عبد الله بن أبي خمس أفريقيا بكامله في اليوم الذي أعطى لمروان مائة ألف درهم، كل ذلك من
بيت مال المسلمين المساكين. راجع التفصيل في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 حتى تجد
التفصيل.
110

قال الملك: فكيف اتخذه المسلمون خليفة؟
قال الوزير: بالشورى.
قال العلوي: مهلا أيها الوزير، لا تقل ما ليس بصحيح.
قال الملك: ماذا تقول أيها العلوي؟
قال العلوي: إن الوزير أخطأ في كلامه، إن عثمان لم يأت إلى الحكم إلا
بوصية من عمر وانتخاب ثلاثة من المنافقين فقط وفقط، وهم طلحة وسعد بن
أبي وقاص وعبد الرحمان بن عوف فهل هؤلاء المنافقون الثلاثة يمثلون المسلمين
جميعا؟ ثم إن التواريخ تذكر أن هؤلاء المنتخبين عدلوا عن عثمان عندما رأوا
طغيانه وهتكه لأصحاب رسول الله، ومشورته في أمور المسلمين مع كعب
الأحبار اليهودي، وتوزيعه أموال المسلمين بين بني مروان، فبدأ هؤلاء الثلاثة
بتحريض الناس على قتل عثمان.
قال الملك - موجها الخطاب إلى الوزير -: هل صحيح كلام العلوي؟
قال الوزير: نعم كذا يذكر المؤرخون.
قال الملك: فكيف قلت: إنه جاء إلى الخلافة بالشورى؟
قال الوزير: كنت أقصد شورى هؤلاء الثلاثة.
قال الملك: وهل اختيار ثلاثة أشخاص يصحح الشورى؟
قال الوزير: إن هؤلاء الثلاثة شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وآله
بالجنة.
قال العلوي: مهلا أيها الوزير، لا تقل ما ليس بصحيح، إن حديث العشرة
المبشرة بالجنة كذب وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال العباسي: وكيف تقولون: إنه كذب وقد رواه الرواة الموثقون؟
قال العلوي: هناك أدلة كثيرة على كذب هذا الحديث وبطلانه، أذكر
لك منها ثلاثة:
111

الأول: كيف يشهد رسول الله بالجنة لمن آذاه وهو طلحة؟ فقد ذكر بعض
المفسرين والمؤرخين أن طلحة قال: (لئن مات محمد لننكحن أزواجه من بعده
أو لاتزوجن عائشة) فتأذى رسول الله من كلام طلحة وأنزل الله قوله: (وما
كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلك
كان عند الله عظيما).
الثاني: أن طلحة والزبير قاتلا الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حق علي عليه السلام: (يا علي
حربك حربي وسلمك سلمي) (1) وقال: (من أطاع عليا فقد أطاعني ومن
عصى عليا فقد عصاني) (2) وقال: (علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا
حتى يردا علي الحوض) (3) وقال: (علي مع الحق والحق مع علي يدور الحق
حيثما دار) (4)
الثالث: أن طلحة والزبير سعيا في قتل عثمان، فهل من الممكن أن يكون
عثمان وطلحة والزبير كلهم في الجنة وقد قاتل بعضهم بعضا، ويقول رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في حديث له: القاتل والمقتول كلاهما في النار؟
قال الملك متعجبا: هل كل ما يقوله العلوي صحيح؟!
هنا سكت الوزير ولم يقل شيئا.
وسكت العباسي وجماعته فلم ينطقوا شيئا.
ماذا يقولون؟ أيقولون الحق؟ وهل يسمح الشيطان بالاعتراف بالحق؟

(1) ذكره الخطيب في المناقب: ص 76 وابن حسنويه القندوزي في الينابيع: ص 130 وغيرهم.
(2) كنز العمال: حديث 1213 وغيره.
(3) كنز العمال: حديث 1152، والصواعق: ص 75، ومستدرك الحاكم: ص 124.
(4) تاريخ بغداد: ج 14 / 321، والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: ج 7 / 236، وابن قتيبة في الإمامة
والسياسة: ج 1 / 68، ومستدرك الحاكم: ج 3 / 135، وجامع الترمذي: ج 2 / 213 وغيره.
112

وهل ترضى النفس الامارة بالسوء أن تخضع للحق والواقع؟ أتظن أن
الاعتراف بالحق أمر سهل وبسيط؟ كلا... إنه صعب جدا، لأنه يستدعي
سحق العصبية الجاهلية ومخالفة الهوى، والناس أتباع الهوى والباطل إلا
المؤمنين وقليل ما هم.
... مزق السيد العلوي ستار الصمت والسكوت، فقال: أيها الملك إن
الوزير والعباسي وكل هؤلاء العلماء يعلمون صدق كلامي وصحة مقالتي
وحقيقة حديثي، ولو أنكروا ذلك فإن في بغداد من العلماء من يشهد على صدق
كلامي وصحته وحقيقته، وأن في خزانة هذه المدرسة كتب تشهد بصدق
كلامي، ومصادر معتبرة تصرح بصحة مقالتي وحقيقتها... فإن اعترفوا بصدق
كلامي فهو المطلوب، وإلا فأنا مستعد الان أن آتي إليك بالكتب والمصادر
والشهود.
قال الملك - متوجها إلى الوزير -: هل كلام العلوي صحيح من أن الكتب
والمصادر تصرح بصحة مقالته وصدق حديثه؟
قال الوزير: نعم.
قال الملك: فلماذا سكت في أول الأمر؟
قال الوزير: إني أكره أن أطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله.
قال العلوي: عجيب أنت تكره ذلك والله ورسوله لم يكرها ذلك، حيث
إنه تعالى عرف بعض الصحابة بالمنافقين، وأمر رسوله بجهادهم كما يجاهد
الكفار، والرسول بنفسه لعن بعض أصحابه.
قال الوزير: ألم تسمع أيها العلوي قول العلماء: إن كل أصحاب الرسول
عدول؟
قال العلوي: سمعت ذلك، ولكني أعرف أنه كذب وافتراء، إذ كيف
113

يمكن أن يكون كل أصحاب الرسول عدولا وقد لعن الله بعضهم، ولعن الرسول
بعضهم، ولعن بعضهم بعضا، وقاتل بعضهم بعضا، وشتم بعضهم بعضا، وقتل
بعضهم بعضا؟
وهنا وجد العباسي الباب مسدودا أمامه فجاء من باب آخر وقال: أيها
الملك، قل لهذا العلوي: إذا لم يكن الخلفاء مؤمنين فكيف اتخذهم المسلمون
خلفاء واقتدوا بهم؟
قال العلوي: أولا: لم يتخذهم كل المسلمين خلفاء وإنما أهل السنة فقط
ثانيا: أن هؤلاء الذين يعتقدون بخلافتهم ينقسمون إلى قسمين: جاهل ومعاند،
أما الجاهل فلا يعرف فضائحهم وحقائقهم، ووإنما يتصورهم أناسا طيبين
مؤمنين، وأما المعاند فلا ينفعه الدليل والبرهان ما دام قد أصر على العناد
واللجاج، يقول تعالى: (ولو جئتهم بكل آية لا يؤمنون)، ويقول سبحانه: (سواء
عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، ثالثا: أن هؤلاء الذين اتخذوهم
خلفاء أخطأوا في الاختيار كما أخطأ المسيحيون حيث قالوا: (المسيح ابن الله)
وكما أخطأ اليهود حيث قالوا: (عزير ابن الله) فالانسان يجب عليه أن يطيع
الله والرسول، وأن يتبع الحق، لا أن يتبع الناس على الخطأ والباطل، يقول
تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول).
قال الملك: دعوا هذا الكلام وتكلموا حول موضوع آخر.
قال العلوي: ومن اشتباهات أهل السنة وأخطائهم أنهم تركوا علي بن
أبي طالب عليه السلام وتبعوا كلام الأولين.
قال العباسي: ولماذا؟
قال العلوي: لان علي بن أبي طالب عينه الرسول صلى الله عليه وآله
وأولئك الثلاثة لم يعينهم الرسول، ثم أردف قائلا: أيها الملك إنك لو عينت في
مكانك ولخلافتك إنسانا، فهل يجب أن يتبعك الوزراء وأعضاء الحكومة، أم
114

يحق لهم أن يعزلوا خليفتك ويعينوا إنسانا آخر مكانك؟
قال الملك: بل الواجب أن يتبعوا خليفتي الذي عينته أنا وأن يقتدوا به
ويطيعوا أمري فيه.
قال العلوي: وهكذا فعل الشيعة، فقد اتبعوا خليفة رسول الله الذي عينه
صلى الله عليه وآله بأمر من الله تعالى وهو علي بن أبي طالب وتركوا غيره.
قال العباسي: لكن علي بن أبي طالب لم يكن أهلا للخلافة حيث إنه
كان صغير العمر بينما كان أبو بكر كبير العمر، وكان علي بن أبي طالب قد قتل
صناديد العرب وأبد شجعانهم فلم تكن العرب ترضى به، ولم يكن أبو بكر
كذلك.
قال العلوي: أسمعت أيها الملك إن العباسي يقول: إن الناس أعلم من
الله ورسوله في تعيين الأصلح، لأنه لا يأخذ بكلام الله ورسوله في تعيين علي بن
أبي طالب، ويأخذ بكلام بعض الناس في أصلحية أبي بكر! كأن الله العليم
الحكيم لا يعرف الأصلح والأفضل حتى يأتي بعض الناس الجهال فيختاروا
الأصلح؟ ألم يقل الله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله
أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا
مبينا)؟ ألم يقل سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم
لما يحييكم)؟
قال العباسي: كلا، إني لم أقل: ان الناس أعلم من الله ورسوله.
قال العلوي: إذن لا معنى لكلامك، فإن كان الله والرسول قد عينا إنسانا
واحدا للخلافة والإمامة فاللازم أن تقتدي به، سواء رضى به الناس أم لا.
قال العباسي: لكن المؤهلات في حق علي بن أبي طالب كانت قليلة.
قال العلوي: أولا: معنى كلامك أن الله لم يكن يعرف علي بن أبي طالب
حق المعرفة، فلم يكن يعلم أن مؤهلاته قليلة، ولهذا عينه خليفة، وهذا هو
115

الكفر الصريح، وثانيا: ان الواققع أن مؤهلات الخلافة والإمامة كانت متوفرة
كاملا في علي بن أبي طالب بينما لم تكن متوفرة في غيره.
قال العباسي: وما هي تلك المؤهلات مثلا؟
قال العلوي: إن مؤهلاته عليه السلام كثيرة جدا، فأول المؤهلات، تعيين
الله ورسوله له عليه السلام. وثانيها: أنه كان أعلم الصحابة على الاطلاق
فهذا رسول الله يقول: (أقضاكم علي) ويقول عمر بن الخطاب: (أقضانا
علي) (1) ويقول رسول الله: (أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة
والحكمة فليأت الباب) (2) وقال هو عليه السلام: (علمني رسول الله ألف
باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب) (3) ومن الواضح أن العالم
مقدم على الجاهل يقول تعالى: (هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
وثالثها: أنه عليه السلام كان مستغنيا عن غيره، وغيره كان محتاجا إليه، ألم
يقل أبو بكر: (أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم) ألم يقل عمر في أكثر من
سبعين موضع: (لولا علي لهلك عمر) (4) (ولا أبقاني الله لمعضلة لست فيها يا
أبا الحسن) (5) و (لا يفتين أحدكم في المسجد وعلي حاضر). ورابعها: أن علي
ابن أبي طالب عليه السلام لم يكن قد عصى الله ولم يكن قد عبد غير الله ولم
يكن قد سجد للأصنام طيلة حياته أبدا، وهؤلاء الثلاثة كانوا قد عصوا الله

(1) انظر: صحيح البخاري في تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية)، وطبقات ابن سعد: ج 6 / 102،
والاستيعاب: ج 1 / 8 وج 2 / 461، وحلية الأولياء: ج 1 / 65، وغيره.
(2) مستدرك الحاكم: ج 3 / 126، وتاريخ بغداد: ج 4 / 348، وأسد الغابة: ج 4 / 22، وكنز العمال:
ج 6 / 152، وتهذيب التهذيب لابن حجر: ج 6 / 320.
(3) نهج البلاغة.
(4) الحاكم في المستدرك كتاب الصلاة: ج 1 / 358، والاستيعاب: ج 3 / 39، ومناقب الخوارزمي:
ص 48، وتذكرة السبط: ص 82، وتفسير النيسابوري في سورة الأحقاف.
(5) تذكرة السبط: ص 87، ومناقب الخوارزمي: ص 60، وفيض القدير: ج 4 / 357.
116

وعبدوا غيره وسجدوا للأصنام، وقد قال تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) ومن
الواضح أن المعاصي ظالم فلا يكون مؤهلا لنيل عهد الله، أي النبوة والخلافة.
وخامسها: أن علي بن أبي طالب كان ذا فكر سليم وعقل كبير ورأي صائب
منبعث من الاسلام، بينما كان غيره ذا رأي سقيم منبعث من الشيطان، فقد
قال أبو بكر: إن لي شيطانا يعتريني! وقد خالف عمر رسول الله في مواضع
عديدة، وكان عثمان ضعيف الرأي تؤثر فيه حاشيته السيئة أمثال الوزغ ابن
الوزغ الذي لعنه رسول الله ولعن من في صلبه - إلا المؤمن وقليل ما هم - مروان
ابن الحكم وكعب الأحبار اليهودي وغيرهما.
قال الملك - موجها الخطاب إلى الوزير -: هل صحيح أن أبا بكر قال: إن لي
شيطانا يعتريني؟
قال الوزير: هذا موجود في كتب الروايات (1).
قال الملك: وهل صحيح أن عمر خالف رسول الله؟
قال الوزير: نستفسر من العلوي ماذا يقصد من هذا الكلام؟
قال العلوي: نعم ذكر علماء السنة في الكتب المعتبرة: أن عمر رد على رسول
الله صلى الله عليه وآله في موارد عديدة وخالفه في مواطن كثيرة منها:
1 - حين أراد النبي أن يصلي على عبد الله بن أبي فقد رد عمر على
رسول الله ردا نابيا وقاسيا حتى تأذى منه رسول الله والله يقول: (والذين يؤذون
رسول الله لهم عذاب أليم).
2 - حين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفصل بين عمرة التمتع
وحج التمتع وجوز مقاربة الرجل وزوجته بين العمرة والحج، فاعترض عليه عمر

(1) انظر: طبقات ابن سعد: ج 3 ق 1 / 129، وتاريخ ابن جرير: ج 2 / 440، والإمامة والسياسية لابن
قتيبة: ص 6 وغيره.
117

وقال هذه العبارة البشعة: أنحرم ومذاكيرنا تقطر منيا) فرد عليه النبي
صلى الله عليه وآله قائلا: (إنك لم تؤمن بهذا أبدا) وبهذه العبارة عرفه النبي
بأنه - أي عمر - ممن يؤمن ببعض ويكفر ببعض.
3 - في متعة النساء حيث لم يؤمن بها، ولما جاء إلى الحكم وغصب كرسي
الخلافة قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما!
بينما يقول الله تعالى في القرآن الكريم: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن)
حيث ذكر المفسرون أنها نزلت في جواز المتعة، وقد كان عمل المسلمين على هذه
حتى أيام عمر، فلما حرمها عمر كثر الزنا والفجور بين المسلمين (1) وبهذا العمل
عطل عمر حكم الله وسنة رسول الله وروج الزنا والفجور وصار مشمولا للآية:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون... الفاسقون... الكافرون.)
4 - في صلح الحديبية كما مر.
إلى غيرها من الموارد التي كان عمر يخالف رسول الله ويؤذيه بقساوة
كلامه.
قال الملك: وفي الحقيقة أني أيضا لا أرضى بمتعة النساء.
قال العلوي: هل أنت تعترف بأنه تشريع إسلامي أم لا؟
قال الملك: لا أعترف.
قال العلوي: فما معنى الآية: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن)؟
وما معنى قول عمر: (متعتان كانتا...) إلخ.
ألا يدل قول عمر على أن متعة النساء كانت جائزة وجارية في عهد رسول
الله وفي أيام حكم أبي بكر وفي جزء من حكم عمر ثم نهى عنها ومنعها؟
بالإضافة إلى سائر الأدلة وهي كثيرة، أيها الملك إن عمر نفسه كان يتمتع

(1) عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: لولا أن عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلا شقي.
118

بالنساء: وأن عبد الله بن الزبير ولد من المتعة.
قال الملك: ماذا تقول يا نظام الملك؟
قال الوزير: حجة العلوي سليمة وصحيحة، ولكن حيث إن عمر نهى يلزم
علينا اتباعه.
قال العلوي: هل الله والرسول أحق بالاتباع أم عمر؟ ألم تقرأ أيها الوزير
قوله تعالى: (ما آتاكم الرسول فخذوه) وقوله: (وأطيعوا الرسول) وقوله: (لقد
كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) والحديث المشهور: (حلال محمد حلال إلى
يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة).
قال الملك: إني أؤمن بكل تشريعات الاسلام لكن لا أفهم وجه العلة في
تشريع المتعة، فهل يرغب أحدكم أن يعطي ابنته أو أخته لرجل كي يتمتع بها
ساعة، أليس هذا قبيحا؟
قال العلوي: وما تقول في هذا أيها الملك: هل يرغب الانسان أن يزوج
ابنته أو أخته عقدا دائما لرجل، وهو يعلم أنه يطلقها بعد ساعة من الاستمتاع
بها؟
قال الملك: لا أرغب ذلك.
قال العلوي: مع أن أهل السنة يعترفون بأن هذا العقد الدائم صحيح،
والطلاق بعده صحيح أيضا، فليس الفارق بين عقد المتعة والعقد الدائم إلا أن
المتعة تنتهي بانتهاء مدتها، والعقد الدائم ينقطع بالطلاق، وبعبارة أخرى: عقد
المتعة بمنزلة الإجارة وعقد الدوام بمنزلة الملك حيث أن الإجارة تنتهي بانتهاء
المدة والملك ينتهي بالبيع مثلا.
إذن فتشريع المتعة سليم وصحيح، لأنه قضاء حاجة من حاجات الجسد،
كما أن تشريع الدوام الذي ينقطع بالطلاق سليم وصحيح، لأنه قضاء حاجة
من حاجات الجسد.
119

أسألك أيها الملك: ما تقول في النساء الأرامل اللاتي فقدن أزواجهن ولم
يتقدم أحد لخطبتهن، أليس عقد المتعة هو العلاج الوحيد لصيانتهن من الفساد
والفجور؟ أليس بالمتعة يحصلن على مقدار من المال لمصارف أنفسهن وأطفالهن
اليتامى؟ وما تقول في الشباب والرجال الذين لا تسمح لهم ظروفهم بالزواج
الدائم؟ أليست المتعة هي الحل الوحيد لهم للخلاص من القوة الجنسية
الطائشة؟ وللوقاية من الفسق والميوعة؟ أليست المتعة أفضل من الزنا الفاحش
واللواط والعادة السرية؟
إنني أعتقد - أيها الملك - أن كل جريمة زنا أو لواط أو استمناء تقع بين
الناس يعود سببها إلى عمر ويشترك في إثمها عمر، لأنه الذي منعها ونهى
الناس عنها، وقد ورد في أخبار متعددة أن الزنا كثر بين الناس منذ ان منع عمر
المتعة.
أما قولك أيها الملك: إني لا أرغب... الخ فالاسلام لم يجبر أحدا على هذا
كما لم يجبرك على أن تزوج بنتك لمن تعلم أنه يطلقها بعد ساعة من عقد
النكاح، بالإضافة إلى أن عدم رغبتك ورغبة الناس في شئ لا يقوم دليلا على
حرمته، فحكم الله ثابت لا يتغير بالأهواء والآراء.
قال الملك - موجها الخطاب للوزير -: حجة العلوي في جواز المتعة قوية.
قال الوزير: لكن العلماء اتبعوا رأي عمر.
قال العلوي: أولا: إن الذين اتبعوا رأي عمر هم علماء السنة فقط لا كل
العلماء. ثانيا: حكم الله ورسوله أحق بالاتباع أم قول عمر؟ وثالثا: إن
علماءكم ناقضوا بأنفسهم قول عمر وتشريعه.
قال الوزير: كيف؟
قال العلوي: لان عمر قال: متعتان كانتا في عهد رسول الله أنا أحرمها:
متعة الحج ومتعة النساء. فإن كان قول عمر صحيحا فلماذا لم يتبع علماؤكم
120

رأيه في متعة الحج؟ حيث إن علماءكم خالفوا عمر وقالوا: بأن متعة الحج
صحيحة على الرغم من تحريم عمر، فإن كان قول عمر باطلا فلماذا اتبع
علماؤكم رأيه في حرمة متعة النساء ووافقوه؟
الوزير سكت ولم يقل شيئا.
قال الملك موجها الكلام إلى الحاضرين: لماذا لا تجيبون العلوي؟
فقال أحد علماء الشيعة - واسمه الشيخ حسن القاسمي -: الايراد
والاشكال وارد على عمر وعلى من تبعه، ولذا ليس لهؤلاء - أيها الملك - جواب
على إيراد سيدنا العلوي حفظه الله تعالى.
قال الملك: إذن دعوا هذا الموضوع وتكلموا حول موضوع آخر.
قال العباسي: إن هؤلاء الشيعة يزعمون أنه لافضل لعمر، وكفاه فضلا أنه
فتح تلك الفتوحات الاسلامية.
قال العلوي: عندنا لذلك أجوبة: أولا: أن الحكام والملوك يفتحون البلاد
لأجل توسعة أراضيهم وسلطانهم فهل هذه فضيلة؟ ثانيا: لو سلمنا أن فتوحاته
فضيلة، لكن هل الفتوحات تبرر غصبه لخلافة الرسول؟ والحال أن الرسول لم
يجعل الخلافة له، وإنما جعلها لعلي بن أبي طالب عليه السلام... فإذا أنت
أيها الملك - عينت خليفة لمقامك ثم جاء إنسان وغصب الخلافة من خليفتك
وجلس مجلسه، ثم فتح الفتوحات وعمل الصالحات، فهل ترضى أنت بفتوحاته
أم تغضب عليه، لأنه خلع من عينته وعزل خليفتك وجلس مجلسك بغير
إذنك؟
قال الملك: بل أغضب عليه، وفتوحاته لا تغسل جريمته.
قال العلوي: وكذلك عمر غصب مقام الخلافة، وجلس مجلس الرسول بغير
إذن من الرسول. ثالثا: أن فتوحات عمر كانت خاطئة وكان لها نتائج سلبية
معكوسة، لان رسول الاسلام صلى الله عليه وآله لم يهاجم أحدا، بل كانت
121

حروبه دفاعية، ولذلك رغب الناس في الاسلام ودخلوا في دين الله أفواجا،
لأنهم عرفوا أن الاسلام دين سلم وسلام، أما عمر فإنه هاجم البلاد وأدخلهم
في الاسلام بالسيف والقهر، ولذلك كره الناس الاسلام واتهموه بأنه دين
السيف والقوة لادين المنطق واللين، وصار ذلك سببا لكثرة أعداء الاسلام،
فإذن فتوحات عمر شوهت سمعة الاسلام وأعطت نتائج سلبية معكوسة.
ولو لم يغصب أبو بكر وعمر وعثمان الخلافة من صاحبها الشرعي: الإمام علي
عليه السلام، وكان الامام يتسلم مهام الخلافة بعد الرسول مباشرة لكان
يسير بسيرة الرسول ويقتفي أثره ويطبق منهاجه الصحيح، وكان ذلك موجبا
لدخول الناس في دين الاسلام أفواجا ولكانت رقعة الاسلام تتسع حتى
تشمل وجه الكرة الأرضية.
ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهنا تنفس السيد العلوي
تنفسا عميقا، وتأوه من صميم قلبه، وضرب بيده على أخرى أسفا وحزنا على ما
حل بالاسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله بسبب غصب الخلافة
من صاحبها الشرعي: الإمام علي عليه السلام.
قال الملك - موجها الكلام إلى العباسي -: ما هو جوابك على كلام
العلوي؟
قال العباسي: إني لم أسمع بمثل هذا الكلام من ذي قبل.
قال العلوي: الان وحيث سمعت هذا الكلام وتجلى لك الحق، فاترك
خلفاءك واتبع خليفة رسول الله الشرعي (علي بن أبي طالب عليه السلام).
ثم أردف العلوي قائلا: عجيب أمركم معاشر السنة تنسون وتتركون الأصل
وتأخذون بالفرع.
قال العباسي: وكيف ذلك؟
قال العلوي: لأنكم تذكرون فتوحات عمر وتنسون فتوحات علي بن
122

أبي طالب.
قال العباسي: وما هي فتوحات علي بن أبي طالب؟
قال العلوي: أغلب فتوحات الرسول حصلت وتحققت على يد الإمام علي
ابن أبي طالب مثل بدر وفتح خيبر وحنين واحد والخندق وغيرها... ولولا هذه
الفتوحات التي هي أساس الاسلام لم يكن عمر ولم يكن هنالك إسلام ولا
إيمان، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله قال لما برز علي
لقتل عمرو بن عبد ود في يوم الأحزاب (الخندق): (برز الايمان كله إلى الشرك
كله إلهي إن شئت أن لا تعبد فلا تعبد) أي إن قتل علي تجرئ المشركون على
قتلي وقتل المسلمين جميعا فلا يبقي بعده إسلام ولا إيمان، وقال صلى الله عليه
وآله: (ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين) (1) فصح أن نقول:
إن الاسلام محمدي الوجود علوي البقاء، وأن الفضل لله ولعلي في بقاء
الاسلام.
قال العباسي: لو فرضنا أن قولكم في أن عمر كان مخطئا وغاصبا وأنه غير
وبدل صحيح، ولكن لماذا تكرهون أبا بكر؟
قال العلوي: نكرهه لعدة أمور، أذكر لك منها أمرين:
الأول: ما فعله بفاطمة الزهراء بنت رسول الله وسيدة نساء العالمين عليها
الصلاة والسلام.
الثاني: رفعه الحد عن المجرم الزاني خالد بن الوليد.
قال الملك - متعجبا -: وهل خالد بن الوليد مجرم؟
قال العلوي: نعم.

(1) ذكره الفخر الرازي في نهاية العقول: ص 104، ومستدرك الحاكم: ج 3 / 32، وتاريخ بغداد:
ج 3 / 19، والذهبي تلخيص المستدرك: ج 3 / 32، وأرجح المطالب: ص 481.
123

قال الملك: وما هي جريمته؟
قال العلوي: جريمته أنه أرسله أبو بكر إلى الصحابي الجليل (مالك بن
نويرة) الذي بشره رسول الله أنه من أهل الجنة، وأمره - أي أمر أبو بكر خالدا -
أن يقتل مالك وقومه، وكان مالك خارج المدينة المنورة، فلما رأى خالدا مقبلا
إليه في سرية من الجيش، أمر مالك قومه بحمل السلاح فحملوا السلاح، فلما
وصل خالد إليهم احتال وكذب عليهم وحلف لهم بالله أنه لا يقصد بهم سوءا،
وقال: إننا لم نأت لمحاربتكم، بل نحن ضيوف عليكم الليلة، فاطمأن مالك
- لما حلف خالد بالله - بكلام خالد ووضع هو وقومه السلاح، وصار وقت
الصلاة فوقف مالك وقومه للصلاة، فهجم عليهم خالد وجماعته وكتفوا مالكا
وقومه، ثم قتلهم المجرم خالد عن آخرهم.
ثم طمع خالد في زوجة مالك - لما رآها جميلة - وزنى بها في نفس الليلة التي
قتل زوجها، ووضع رأس مالك وقومه أثافي (1) للقدر وطبخ طعام الزنا وأكل هو
وجماعته، ولما رجع خالد إلى المدينة أراد عمر أن يقتص منه لقتله المسلمين
ويجري عليه الحد لزناه بزوجة مالك، ولكن أبا بكر - المؤمن - منع عن ذلك منعا
شديدا، وبعمله هذا أهدر دماء المسلمين وأسقط حدا من حدود الله.
قال الملك - متوجها إلى الوزير -: هل صحيح ما ذكره العلوي في حق خالد
وأبي بكر؟
قال الوزير: نعم هكذا ذكره المؤرخون (2).
قال الملك: فلماذا يسمي بعض الناس خالدا ب‍ (سيف الله المسلول)؟

(1) الأثافي: هو الحجر الذي يوضع عليه القدر.
(2) منهم أبو الفداء في تاريخه: ج 1 / 158، والطبري في تاريخه: ج 3 / 241، وابن الأثير في تاريخه:
ج 3 / 149، وابن عساكر في تاريخه ج 5 / 105، وابن كثير في تاريخه: ج 6 / 321 وغيرهم.
124

قال العلوي: إنه سيف الشيطان المشلول ولكن حيث أنه كان عدوا لعلي
ابن أبي طالب وكان مع عمر في حرق باب دار فاطمة الزهراء سماه بعض
السنة بسيف الله.
قال الملك: وهل أهل السنة أعداء علي بن أبي طالب؟
قال العلوي: إذا لم يكونوا أعداءه فلماذا مدحوا من غصب حقه، والتفوا
حلو أعدائه، وأنكروا فضائله ومناقبه، حتى بلغ بهم الحقد والعداء إلى أن
يقولوا: (إن أبا طالب مات كافرا) والحال ان أبا طالب كان مؤمنا، وهو الذي
نصر الاسلام في أشد ظروفه، ودافع عن النبي في رسالته.
قال الملك: وهل أن أبا طالب أسلم؟
قال العلوي: لم يكن أبا طالب كافرا حتى يسلم، بل كان مؤمنا يخفي إيمانه،
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله أظهر أبو طالب الاسلام على يده، فهو
ثالث المسلمين أولهم علي بن أبي طالب، والثاني: السيدة خديجة الكبرى زوجة
النبي صلى الله عليه وآله، والثالث: هو أبو طالب عليه السلام.
قال الملك للوزير: هل صحيح كلام العلوي في حق أبي طالب؟
قال الوزير: نعم ذكر ذلك بعض المؤرخين (1).
قال الملك: فلماذا اشتهر بين أهل السنة أن أبا طالب مات كافرا؟
قال العلوي: لان أبا طالب أبو الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام، فحقد
أهل السنة على علي بن أبي طالب أوجب أن يقولوا: إن أباه مات كافرا، كما
أن حقد السنة على علي أوجب أن يقتلوا والديه الحسن والحسين سيدي شباب
أهل الجنة، حتى قال أهل السنة الذين حضروا كربلاء لقتل الحسين: نقاتلك

(1) منهم الحاكم في المستدرك: ج 2 / 623، وشرح ابن أبي الحديد: ج 3 / 313، وتاريخ ابن كثير: ج 3 / 87،
وشرح البخاري للقسطلاني: ج 2 / 227، والسيرة الحلبية: ج 1 / 125، وغيرها من عشرات الكتب.
125

بغضا منا لأبيك وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين!
قال الملك - موجها الكلام إلى الوزير -: هل قال هذا الكلام قتلة الحسين؟
قال الوزير: ذكر المؤرخون أنهم قالوا هذا الكلام للحسين.
قال الملك للعباسي: فما جوابك عن قصة خالد بن الوليد.
قال العباسي: إن أبا بكر رأى المصلحة في ذلك.
قال العلوي متعجبا: سبحان الله! وأي مصلحة تقتضي أن يقتل خالد
الأبرياء ويزني بنسائهم ثم يبقى بلا حد ولا عقاب، بل يفوض إليه قيادة الجيش
ويقول فيه أبو بكر: إنه سيف سله الله، فهل سيف الله يقتل الكفار أو المؤمنين؟
وهل سيف الله يحفظ أعراض المسلمين أو يزني بنساء المسلمين؟
قال العباسي: هب - أيها العلوي - أن أبا بكر أخطأ، لكن عمر تدارك
الامر.
قال العلوي: تدارك الامر هو أن يجلد خالد للزنا ويقتله لقتله الأبرياء، ولم
يفعل ذلك عمر، فعمر أخطأ كما أخطأ أبو بكر من قبله.
قال الملك: إنك أيها العلوي قلت في أول الكلام أن أبا بكر أساء إلى
فاطمة الزهراء بنت رسول الله - صلى الله عليه وآله - فما هي إساءته إلى فاطمة؟
قال العلوي: إن أبا بكر بعد ما أخذ البيعة لنفسه من الناس بالارهاب
والسيف والتهديد والقوة أرسل عمر وقنفذا وخالد بن الوليد وأبا عبيدة الجراح
وجماعة أخرى - من المنافقين - إلى دار علي وفاطمة عليهما السلام، وجمع عمر
الحطب على باب بيت فاطمة - ذلك الباب الذي طالما وقف عليه رسول الله
وقال: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة، وما كان يدخله إلا بعد الاستئذان -
وأحرق الباب بالنار، ولما جاءت فاطمة خلف الباب لترد عمر وحزبه عصر
عمر فاطمة بين الحائط والباب عصرة شديدة قاسية حتى أسقطت جنينها، ونبت
مسمار الباب في صدرها وصاحب فاطمة: أبتاه يا رسول الله انظر ماذا لقينا
126

بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة! فالتفت عمر إلى من حوله وقال:
اضربوا فاطمة فانهالت السياط على حبيبة رسول الله وبضعته حتى أدموا
جسمها.
وبقيت آثار هذه العصرة القادسية والصدمة المريرة تنخر في جسم فاطمة،
فأصبحت مريضة عليلة حزينة حتى فارقت الحياة بعد أبيها بأيام، ففاطمة
شهيدة بيت النبوة، فاطمة قتلت بسبب عمر بن الخطاب.
قال الملك للوزير: هل ما يذكره العلوي صحيح؟
قال الوزير: نعم، إني رأيت في التواريخ ما يذكره العلوي (1).
قال العلوي: وهذا هو السبب لكراهة الشيعة أبا بكر وعمر.
وأضاف العلوي قائلا: ويدلك على وقوع هذه الجريمة من أبي بكر وعمر أن
المؤرخين ذكروا: أن فاطمة ماتت وهي غاضبة على أبي بكر وعمر، وقد ذكر
الرسول صلى الله عليه وآله في عدة أحاديث: (إن الله يرضى لرضا فاطمة
ويغضب لغضبها) وأنت أيها الملك تعرف ما هو مصير من غضب الله عليه.
قال الملك - موجها الخطاب إلى الوزير -: هل صحيح هذا الحديث؟ وهل
صحيح أن فاطمة ماتت وهي واجدة - أي غاضبة - على أبي بكر وعمر؟
قال الوزير: نعم ذكر ذلك أهل الحديث والتاريخ (2).
قال العلوي: ويدلك أيها الملك على صدق مقالتي أن فاطمة أوصت إلى
علي بن أبي طالب عليه السلام أن لا يشهد أبا بكر وسائر الذين ظلموها

(1) راجع كتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري، والإمامة والسياسة لابن قتيبة، وابن أبي الحديد في شرح نهج
البلاغة: ج 2 / 19.
(2) راجع البخاري كتاب الخمس الحديث رقم 2 وفيه في باب غزوة خيبر وكتاب الفرائض، والترمذي:
ج 1 باب ما جاء من تركة رسول الله، والإمامة والسياسة، ومستدرك الصحيحين: ج 3 / 153،
وميزان الاعتدال: ج 2 / 72، وكنز العمال: ج 6 / 219 وغيرهم.
127

جنازتها، فلا يصلوا عليها، ولا يحضروا تشييعها، وأن يخفي علي قبرها حتى
لا يحضروا على قبرها، ونفذ علي عليه السلام وصاياها.
قال الملك: هذا أمر غريب، فهل صدر هذا الشئ من فاطمة وعلي؟
قال الوزير: هكذا ذكر المؤرخون.
قال العلوي: وقد آذى أبو بكر وعمر فاطمة أذية أخرى.
قال العباسي: وما هي تلك الأذية؟
قال العلوي: هي أنهما غصبا ملكها (فدكا).
قال العباسي: وما هو الدليل على أنهما غصبا فدكا؟
قال العلوي: التواريخ ذكرت: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أعطى فدكا لفاطمة (1) عليها السلام، فكانت فدك في يدها - في أيام رسول
الله، فلما قبض النبي صلى الله عليه وآله أرسل أبو بكر وعمر من أخرج
عمال فاطمة من فدك بالجبر والسيف والقوة، واحتجت فاطمة على أبي بكر
وعمر لكنهما لم يسمعا كلامها، بل نهراها ومنعاها، ولذلك لم تكلمهما حتى
ماتت غاضبة عليهما.
قال العباسي: لكن عمر بن عبد العزيز رد فدكا على أولاد فاطمة في أيام
خلافته.
قال العلوي: وما الفائدة؟ فهل لو أن إنسانا غصب منك دارك وشردك
ثم جاء إنسان آخر بعد أن مت أنت ورد دارك على أولادك كان ذلك يمسح
ذنب الغاصب الأول؟
قال الملك: يظهر من كلامكما - أيها العباسي والعلوي - أن الكل متفقون
على غصب أبي بكر وعمر فدكا؟

(1) فدك: اسم أرض بين المدينة وخيبر وكانت ملكا للرسول، فوهبها لابنته فاطمة الزهراء عليها السلام.
128

قال العباسي: نعم ذكر ذلك التاريخ (1).
قال الملك: ولماذا فعلا ذلك؟
قال العلوي: لأنهما أرادا غصب الخلافة، وعلما بأن فدكا لو بقيت بيد
فاطمة لبذلت ووزعت واردها الكثير - مائة وعشرون ألف دينار ذهب على
قول بعض التواريخ - في الناس وبذلك يلتف الناس حول علي عليه السلام
وهذا ما كان يكرهه أبو بكر وعمر.
قال الملك: إذا صحت هذه الأقوال فعجيب أمر هؤلاء، وإذا بطلت خلافة
هؤلاء الثلاثة، فمن يا ترى يكون خليفة الرسول صلى الله عليه وآله.
قال العلوي: لقد عين الرسول بنفسه - وبأمر من الله تعالى - خلفاءه من
بعده، في الحديث الوارد في كتب الحديث حيث قال: (الخلفاء بعدي اثنا عشر
بعدد نقباء بني إسرائيل وكلهم من قريش).
قال الملك للوزير: هل صحيح أن الرسول قال ذلك؟
قال الوزير: نعم.
قال الملك: فمن هم أولئك الاثنا عشر؟
قال العباسي: أربعة منهم معروفون وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
قال الملك: فمن البقية؟
قال العباسي: خلاف في البقية بين العلماء.
قال الملك: عدهم.
فسكت العباسي.
قال العلوي: أيها الملك الان أذكرهم لك بأسمائهم حسب ما جاء في

(1) راجع الهيثمي في مجمع الزوائد: ج 9 / 39 والإمامة والسياسة، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
وغيرهم.
129

كتب علماء السنة وهم علي، الحسن، الحسين، علي، محمد، جعفر، موسى،
علي، محمد، علي، الحسن، المهدي عليهم الصلاة والسلام (1).
قال العباسي: اسمع أيها الملك، إن الشيعة يقولون بأن المهدي حي في دار
الدنيا منذ سنة 255 وهل هذا معقول؟ ويقولون: إنه سيظهر في آخر الزمان
ليملأ الأرض عدلا بعد أن تملأ جورا.
قال الملك - موجها الخطاب إلى العلوي -: هل صحيح أنكم تعتقدون
بذلك؟
قال العلوي: نعم صحيح ذلك، لان الرسول قال بذلك، ورواه الرواة من
الشيعة والسنة.
قال الملك: وكيف يمكن أن يبقى إنسان هذه المدة الطويلة.
قال العلوي: الان لم يذهب من عمر الإمام المهدي مقدار ألف سنة، والله
يقول في القرآن حول نوح النبي: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) فهل
يعجز الله أن يبقي إنسانا هذه المدة؟ أليس الله بيده الموت والحياة وهو على كل
شئ قدير؟ ثم إن الرسول قال ذلك وهو صادق مصدق.
قال الملك - موجها الخطاب إلى الوزير -: هل صحيح أن الرسول أخبر
بالمهدي، على ما يقوله العلوي؟
قال الوزير: نعم.
قال الملك للعباسي: فلماذا أنت تنكر الحقائق الواردة عندنا نحن السنة؟
قال العباسي: خوفا على عقيدة العوام أن تتزلزل، وتميل قلوبهم نحو

(1) لقد ورد عشرون نصا عن النبي صلى الله عليه وآله في التنصيص على أسماء الأئمة الاثني عشر عن
طرق السنة وكتبهم فمنها: فرائد السمطين: ج 4، تذكرة ابن الجوزي: ص 378، ينابيع المودة:
ص 442، الأربعين للحافظ أبو محمد بن أبي الفوارس، مقتل الحسين لأبي المؤيد، منهاج الفاضلين:
ص 239، درر السمطين وغيره.
130

الشيعة.
قال العلوي: إذن أنت أيها العباسي مصداق لقوله تعالى: (إن الذين
يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب
أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) فشملتك اللعنة من الله تعالى...
ثم قال العلوي: أيها الملك اسأل من هذا العباسي: هل يجب على العالم
المحافظة على كتاب الله وأقوال رسول الله أم يجب عليه المحافظة على عقيدة
العوام المنحرفة عن الكتاب والسنة؟
قال العباسي: إني أحافظ على عقيدة العوام حتى لا تميل قلوبهم إلى
الشيعة، لان الشيعة أهل البدعة!
قال العلوي: إن الكتب المعتبرة تحدثنا أن إمامكم عمر هو أول من أدخل
البدعة في الاسلام وصرح هو بنفسه حين قال: (نعمت البدعة هذه) وذلك في
قصة صلاة التراويح لما أمر الناس أن يصلوا النافلة جماعة مع العلم أن الله
والرسول حرما النافلة جماعة، فكانت بدعة عمر مخالفة صريحة لله والرسول (1).
ثم ألم يبدع عمر في الاذان باسقاط حي على خير العمل؟ وزيادة الصلاة
خير من النوم؟ (2).

(1) انظر صحيح البخاري: في باب صلاة التراويح، والصواعق. وقال القسطلاني في إرشاد الساري في شرح
صحيح البخاري: ج 5 / 4 عند بلوغه إلى قوله عمر: (نعمت البدعة هذه): سماها بدعة لان رسول
الله لم يسن لهم ولا كانت في زمن أبي بكر ولا أول الليل ولا هذا العدد. أقول: نعم إن خليفة
المسلمين يبدع في الدين.
(2) ذكر القوشجي وهو من أكابر علماء السنة: أن عمر قال: ثلاث كن على عهد رسول الله وأنا أنهى
عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن: متعة النساء ومتعة الحج وحي على خير العمل. وقال الامام مالك في
الموطأ: انه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذن بصلاة الصبح فوجده نائما فقال: الصلاة خير من
النوم، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح، أقول: ليت شعري هل يجوز لعمر بن الخطاب أن يزيد
وينقص في الاذان الذي هو أمر من أمور الدين بهوى نفسه ورغبة فكره؟
131

ألم يبدع بالغاء سهم المؤلفة قلوبهم خلافا لله والرسول؟
ألم يبدع في إلغاء متعة الحج، خلافا لله والرسول؟
ألم يبدع في إلغاء متعة النساء، خلافا لله والرسول؟
ألم يبدع في إلغاء اجراء الحد على المجرم الزاني خالد بن الوليد خلافا لامر
الله والرسول في وجوب إجراء الحد على الزاني والقاتل؟
إلى غيرها من بدعكم أنتم أيها السنة التابعين لعمر.
فهل أنتم أهل بدعة أم نحن الشيعة؟
قال الملك للوزير: هل صحيح ما ذكره العلوي من بدع عمر في الدين؟
قال الوزير: نعم ذكر ذلك جماعة من العلماء في كتبهم.
قال الملك: إذن كيف نتبع نحن إنسانا أبدع في الدين؟
قال العلوي: ولهذا يحرم اتباع هكذا انسان، لان رسول الله صلى الله عليه
وآله قال: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) فالذين يتبعون عمر في
بدعه - وهم عالمون بالامر - فهم من أهل النار قطعا.
قال العباسي: لكن أئمة المذاهب أقروا فعل عمر.
قال العلوي: وهذه بدعة أخرى أيها الملك.
قال الملك: وكيف ذلك؟
قال العلوي: لان أصحاب هذه المذاهب وهم: أبو حنيفة، ومالك بن
أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، لم يكونوا في عصر النبي صلى الله عليه
وآله، بل جاؤوا بعده بمائتي سنة - تقريبا - فهل المسلمون الذين كانوا بين عصر
الرسول وبنى عصر هؤلاء كانوا على باطل وضلال؟ وما هو المبرر في حصر
المذاهب في هؤلاء الأربعة وعدم اتباع سائر الفقهاء، وهل أوصى الرسول
بذلك؟
قال الملك: ما تقول يا عباسي؟
132

قال العباسي: كان هؤلاء أعلم من غيرهم.
قال الملك: فهل أن علم العلماء جف دون هؤلاء؟
قال العباسي: ولكن الشيعة أيضا يتبعون مذهب جعفر الصادق؟
قال العلوي: إنما نحن نتبع مذهب جعفر لان مذهبه مذهب رسول الله،
لأنه من أهل البيت الذين قال الله عنهم: (إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وإلا فنحن نتبع كل الأئمة الاثني
عشر، لكن حيث إن الإمام الصادق عليه السلام تمكن أن ينشر العلم
والتفسير والأحاديث الشريفة أكثر من غيره من الأئمة، بسبب وجود بعض
الحرية في عصره، حتى كان يحضر مجلسه أربعة آلاف تلميذ (1) وحتى استطاع
الإمام الصادق عليه السلام أن يجدد معالم الاسلام بعد ما حاول الأمويون
والعباسيون القضاء عليها، ولهذا سمي الشيعة ب‍ (الجعفرية) نسبة إلى مجدد
المذهب وهو الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
قال الملك: ما جوابك يا عباسي؟
قال العباسي: تقليد أئمة المذاهب الأربعة عادة اتخذناها نحن السنة.
قال العلوي: بل أجبركم على ذلك بعض الامراء وأنتم اتبعتم أولئك متابعة
عمياء لا حجة لكم فيها ولا برهان.
سكت العباسي.
قال العلوي: أيها الملك: إني أشهد أن العباسي من أهل النار إذا مات
على هذه الحالة.
قال الملك: ومن أين علمت أنه من أهل النار؟
قال العلوي: لأنه ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: (من

(1) انظر كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، وتاريخ بغداد، وغيرهما.
133

مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) فاسأل أيها الملك من هو إمام
زمان العباسي؟
قال العباسي: لم يرد هذا الحديث عن رسول الله.
قال الملك للوزير: هل ورد هذا الحديث عن رسول الله؟
قال الوزير: نعم ورد (1).
قال الملك مغضبا: كنت أظن أنك أيها العباسي ثقة، والآن تبين لي
كذبك.
قال العباسي: إني أعرف إمام زماني.
قال العلوي: فمن هو؟
قال العباسي: الملك.
قال العلوي: إعلم أيها الملك إنه يكذب، ولا يقول ذلك إلا تملقا لك.
قال الملك: نعم إني أعلم انه يكذب، وإني أعرف نفسي بأني لا أصلح
أن أكون إمام زمان الناس لأني لا أعلم شيئا وأقضي غالب أوقاتي بالصيد
والشؤون الإدارية.
ثم قال الملك: أيها العلوي فمن هو إمام الزمان في رأيك؟
قال العلوي: إمام الزمان في نظري وعقيدتي هو (الإمام المهدي) عليه
السلام كما تقدم الحديث حوله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن
عرفه مات ميتة المسلمين وهو من أهل الجنة، ومن لم يعرفه مات ميتة جاهلية
وهو في النار مع أهل الجاهلية.
وهنا تهلل وجه الملك شاه، وظهرت آثار الفرح والسرور في وجهه والتفت

(1) ذكره الحافظ النيسابوري في صحيحة: ج 8 / 107، وراجع ينابيع المودة: ص 117، نفحات
اللاهوت: ص 3، صحيح مسلم وغيرها.
134

إلى الحاضرين قائلا:
اعلموا أيتها الجماعة، إني اطمأننت ووثقت من هذه المحاورة - وقد
كانت دامت ثلاثة أيام - وعرفت وتيقنت أن الحق مع الشيعة في كل ما يقولون
ويعتقدون، وأن أهل السنة باطل مذهبهم، ومنحرفة عقيدتهم، وأني أكون ممن
إذا رأى الحق أذعن له واعترف به، ولا أكون من أهل الباطل في الدنيا وأهل
النار في الآخرة، ولذلك فإنني أعلن تشيعي أمامكم، ومن أحب أن يكون معي
فليتشيع على بركة الله ورضوانه ويخرج نفسه منم ظلمات الباطل إلى نور الحق.
فقال الوزير نظام الملك: وأنا كنت أعلم ذلك، وأن التشيع حق، وأن
المذهب الصحيح فقط هو مذهب الشيعة منذ أيام دراستي، ولذا أعلن أنا أيضا
تشيعي.
وهكذا دخل أغلب العلماء والوزراء والقواد الحاضرين في المجلس - وكان
عددهم يقارب السبعين - في مذهب الشيعة...
قال الأحمدي: وجدت هذه الرسالة كما نقلت ولم أغير منها إلا بعض
التلخيص في التعليقات، ولكن الأسلوب يحكي عن كونه من أساليب العصر
الحاضر دون ذلك العصر، فيمكن أن تكون قصة روائية صنعت لبيان المباحث
الاعتقادية.
(753)
زيد وهشام
وممن تقبل مذاهب الاسلاف في إباء الضيم وكراهية الذل واختار القتل
على ذلك وأن يموت كريما: أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن
أبي طالب عليهم السلام، أمه أم ولد، وكان السبب في خروجه وخلعه طاعة
بني مروان أنه كان يخاصم عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب
عليه السلام في صدقات علي عليه السلام، وهذا يخاصم عن بني حسين
135

وهذا عن بني حسن، فتنازعا يوما عند خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم
أمير المدينة، فأغلظ كل واحد منهما لصاحبه، فسر خالد بن عبد الملك بذلك
وأعجبه سبابهما، وقال لهما حين سكتا: اغدوا علي فلست بابن عبد الملك إن لم
أفصل بينكما غدا.
فباتت المدينة تغلي كالمرجل فمن قائل يقول: قال زيد كذا وقائل يقول:
قال عبد الله كذا، فلما كان الغد جلس خالد في المسجد وجمع الناس فمن بين
شامت ومفحوم، ودعا بهما وهو يحب أن يتشاتما، فذهب عبد الله يتكلم فقال
زيد: لا تعجل يا أبا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا، ثم
أقبل على خالد فقال له: أجمعت ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله لامر ما
كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر؟ فقال خالد: أما لهذا السفيه أحد يكلمه.
فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال: يا ابن أبي تراب و
يا بن حسين السفيه، أما ترى عليك لوال حقا ولا طاعة، فقال زيد: اسكت
أيها القحطاني فإنا لا نجيب مثلك. فقال الأنصاري: ولم ترغب عني فوالله إني
لخير منك، وأبي خير من أبيك وأمي خير من أمك.
فتضاحك زيد وقال: يا معشر قريش هذا الدين قد ذهب أفذهبت
الأحساب؟! فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال:
كذبت أيها القحطاني، والله لهو خير منك نفسا وأبا واما ومحتدا وتناوله بكلام
كثير، وأخذ كفا من الحصى فضرب به الأرض وقال: إنه والله مالنا على هذا
من صبر، وقام.
فقام زيد أيضا وشخص من فوره إلى هشام بن عبد الملك، فجعل هشام
لا يأذن له، وزيد يرفع إليه القصص وكلما رفع إليه قصة كتب هشام في أسفلها:
إرجع إلى أرضك، فيقول زيد: والله لا أرجع إلى ابن الحارث ابدا، ثم أذن له بعد
حبس طويل وهشام في علية له، فرقى زيد إليها، وقد أمر هشام خادما له أن
136

يتبعه حيث لا يراه زيد، ويسمع ما يقول، فصعد زيد - وكان بادنا - فوقف في
بعض الدرجة، فسمعه الخادم وهو يقول: ما أحب الحياة إلا من ذل، فأخبر
الخادم هشاما بذلك، فلما قعد زيد بين يدي هشام وحدثه حلف له على شئ
فقال هشام: لا أصدقك. فقال زيد: إن الله لا يرفع أحدا عن أن يرضى بالله،
ولم يضع أحدا عن أن يرضى بذلك منه.
قال له هشام: إنه بلغني أنك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هناك، لأنك
ابن أمة، فقال زيد: إن لك جوابا، قال: تكلم قال: إنه ليس أحد أولى بالله ولا
أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه، وهو إسماعيل بن إبراهيم، وهو ابن أمة قد
اختاره الله لنبوته، وأخرج منه خير البشر، فقال هشام: فما يصنع أخوك البقرة،
فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه، ثم قال: سماه رسول الله صلى الله
عليه وآله: الباقر وتسميه أنت البقرة، لشد ما اختلفتما، لتخالفنه في الآخرة كما
خالفته في الدنيا، فيرد الجنة وترد النار.
فقال هشام: خذوا بيد هذا الأحمق المائق فأخرجوه، فأخذ الغلمان بيده
فأقاموه، فقال هشام: احملوا هذا الخائن الأهوج إلى عامله، فقال زيد: والله لئن
حملتني إليه لا أجتمع أنا وأنت حيين، وليموتن الأعجل منا.
فاخرج زيد واشخص إلى المدينة... (1)
(754)
عبد الرحمان ومعاوية
كان عبد الرحمان بن العباس بن عبد المطلب قد قدم على معاوية إلى الشام
فجفاه معاوية ولم يقض له حاجة، ودخل إليه يوما فقال له: يا ابن عباس كيف

(1) ابن أبي الحديد: ج 3 / 285 - 287، ونقله اليعقوبي بنحو آخر فراجع ص 67 من ج 3، والبيان والتبيين:
ج 1 / 310 و 325، وقد مر ج 1 ص 122 وج 2 ص 307 فراجع.
137

رأيت الله فعل بنا وبأبي الحسن؟ فقال: فعلا والله غير مختل، عجله إلى جنة لن
تنالها، وأخرك إلى دنيا قد كان أمير المؤمنين عليه السلام نالها.
قال: وإنك لتحكم على الله، قال: بما حكم الله به على نفسه: (ومن لم يحكم
بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون).
قال معاوية: والله لو عاش أبو عمرو حتى يراني لرأى نعم ابن العم.
فقال ابن عباس: أما والله لو رآك أيقن أنك خذلته حين كانت النصرة
له، ونصرته حين كانت النصرة لك.
قال: وما دخولك في العصا ولحائها؟
قال: ما دخلت إلا عليهما لا لهما، فدعني مما أكره أدعك من مثله، فلئن
تحسن فأجازي أحب إلي من أن تسئ فأكافي.
ثم نهض.
(755) عبد الله بن عباس وعمر
روى زياد البكائي عن صالح بن كيسان عن ابن عباس قال: إني
لأطوف بالمدينة مع عمر ويده على جنحي، إذ زفر زفرة كادت تطير بأضلاعه،
فقلت: سبحان الله والله ما أخرج هذا منك إلا هم شديد، قال: اي والله هم
شديد قلت: ما هو؟ قال: هذا الامر لا أدري فيمن أضعه؟ ثم نظر إلي فقال:
لعلك تقول: إن عليا صاحبها قال: قلت: إي والله إني لأقول ذلك وأنى
به؟! وأخبر به الناس (2) فقال: وكيف ذلك؟ قال: قلت: لقرابته من رسول
الله صلى الله عليه وآله وصهره وسابقته وعلمه وبلائه في الاسلام، فقال: إنه

(1) اليعقوبي: ج 2 / 213.
(2) في ذر: وأنى به أخبر الناس.
138

لكما تقول: ولكنه رجل فيه دعابة قال: قلت: فأين أنت عن عثمان؟ فقال:
اجتمع حب الدنيا والآخرة في قلبه، والله لو وليته أمر الناس لحمل آل أبي معيط
على رقابهم، ثم لمشت إليه العرب حتى تقتله، وأيم الله لو فعلت لفعل ولو فعل
لفعلوا، فلم أزل أتوقعها من قوله حتى فعل ما فعل وفعلوا به ما فعلوا.
قلت: أين أنت عن الزبير؟ فقال: اللعقة (1) والله إذا لظل يضارب على
الصاع والمد ببقيع الغرقد.
قال: قلت: فأين أنت عن طلحة؟ فقال: المزهو ما زلت أعرف فيه الزهو
منذ أصيبت كفه مع رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: قلت: فأين أنت عن سعيد؟ قال: ليس هناك، هو صاحب فرس
وقنص وكان يقال: إن سعدا رجل من عذرة وليس من قريش.
قال: قلت: فعبد الرحمان بن عوف؟ فقال: نعم الرجل ذكرت غير أنه
ضعيف إن هذا الامر والله يا ابن عباس ما يصلحه إلا القوي في غير ضعف
- يعني عليا - والجواد في غير سرف - يعني طلحة - والبخيل في غير إمساك - يعني
الزبير - واللين في غير ضعف - يعني عبد الرحمان -.
قال الأحمدي: نقلت هذه القصة بعبارات مختلفة وقد أمضيناها ج 1 ص 149
وج 2 ص 119 وأعدناه هنا للخلاف البين بين الروايات، ونقلنا هذه العبارة عن
الايضاح للفضل بن شاذان: ص 162 - 166 وفي هامشه للمحدث الأرموي - رحمه
الله تعالى -: (هذا الحديث قد نقل بطرق كثيرة وعبارات متفاوتة، بل صدر في
أوقات مختلفة، ونكتفي هنا بما نقله الزمخشري في الفائق في مادة (كلف)، ثم
بعد نقله عنه قال: ونقله المجلسي بتمامه في ثامن البحار ص 357 ط أمين
الضرب... عن كتب أخرى منها العدد القوية لدفع المخاوف اليومية تأليف

(1) في ظ: الوعقة.
139

الشيخ الفقيه رضي الدين علي بن يوسف بن المطهر الحلي ص 352 والاستيعاب
في ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (انتهى ملخصا).
ولا أدرى ماذا أراد الخليفة من هذه المحاضرة المتكررة مع شخص واحد في
موضوع واحد؟ ونقل في الايضاح أيضا: ص 497 هذه الكلمات عنه إذا طعن
وأيس من الحياة، وسألوه عن الوصية والاستخلاف، والإشارة إلى من يستحق
الخلافة، فأجاب السائلين بذكر المترشحين للخلافة، فهل كان هو نفسه أو
زميله الخليفة الأول منزهين عن هذه العيوب أو أمثالها، وإذا كانت العيوب
المذكورة مانعة عن استخلافهم فكيف استخلف أبو بكر عمر مع إباء الكثير عن
استخلافه إياه وذكرهم معايبه؟ نعم يجب كون خليفة المسلمين مطهرا من
الأرجاس والقذارات الأخلاقية والصفات الرذيلة ولكن...
(756)
عقيل ومعاوية
بلغني أن معاوية قال لعمرو بن العاص: إن الناس قد رفعوا أعينهم ومدوا
أعناقهم إلى بني عبد المطلب، فلو نظرنا إلى رجل منه فيه لوثة فاستملناه، فقال
عمرو: عندك عقيل بن أبي طالب. فلما أصبح واجتمع الناس، دخل عليه
عقيل فقال له:
يا أبا يزيد أنا خير لك أم علي؟
قال: أنت خير لنا من علي، وعلي خير لنفسه منك.
فضحك معاوية. فضحك عقيل.
فقال له: ما يضحكك يا أبا يزيد؟
قال: أضحك أني كنت أنظر إلى أصحاب علي يوم أتيته فلم أر معه إلا
المهاجرين والأنصار وأبناءهم، والتفت الساعة فلم أر إلا أبناء الطلقاء وبقايا
الأحزاب.
140

فقال معاوية: يا أهل الشام هل تدرون من هذا؟ قالوا: لا. قال: أسمعتم
قول الله عز وجل: (تبت يدا أبي لهب) قالوا: نعم.
قال: فإنه والله عم هذا.
قال عقيل: صدق والله أمير المؤمنين، فهل قرأتم في كتاب الله تعالى:
(وامرأته حمالة الحطب) فهي والله عمة معاوية.
فقال معاوية: الحق بأهلك، حسبنا ما لقينا من أخيك.
قال له عقيل: أما والله لقد تركت مع علي الدين والسابقة وأقبلت إلى
دنياك، فما أصبت دينه ولا نلت من دنياك طائلا، فأعطاه وأكثر له.
قال فدعا معاوية عمرو بن العاص فقال: ويحك يا عمرو، هذا الذي
زعمت أنه أهوج بني عبد المطلب.
قال: ما ذنبي يا أمير المؤمنين، ما علمت منه إلا ما تعلم، فقال معاوية في
ذلك:
ألا يا عمرو قبيل سهم * لقد أخطأت رأيك في عقيل
بليت بحية صماء بانت * تلفت أين ملتمس القبيل
بعين تنفذ البيداء لحظا * وناب غير موصول كليل
وقد كانت ترجمه قريش * على عمياء من قال وقيل
ألا لله در أبي يزيد * لهرج الامر والخطب الجليل
فما خاصمت مثلك من خصيم * ولا حاولت مثلك من حويل
أتاني زائرا ورأى عليا * قليل المال منقطع الخليل
فقيل له: معاوية بن حرب * فمال أبو يزيد إلى مميل
فأجزلت العطاء له ودبت * عقاربه لسالفة الدخول
فلم يرض الكثير وقد أراه * سخوطا للكثير وللقليل
فرجع عقيل إلى علي فأخبره الخبر، فقال: كان في نفس معاوية شئ فما
141

أحب أنك لم تأته، فقد انقطع ظهر بني عبد المطلب (1)
(757)
عبد الله بن معاوية مع الوليد
مفاخرة بين عبد الله والوليد ونحن نذكرها هنا وإن كان عبد الله يرمى
بالزندقة وسوء السيرة في الدين، وإذا أردت الوقوف على ترجمته فعليك بمقاتل
الطالبين وتاريخ إصبهان لأبي نعيم وهامش الموفقيات وابن أبي الحديد:
ج 7 / 135 وج 8 / 122 وج 15 / 272 وغيرها) لما فيه من الفوائد وإن كان لعله
خارج عن شرط الكتاب:
جلس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان مجلسا في زمان هشام بن
عبد الملك (187 ظ)، والوليد يومئذ ولي عهد، وحضر معه في المجلس عبد الله بن
معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فتمازحا ساعة، وتذاكرا الشعر وأيام
العرب، حتى أفضى بهما الحديث إلى أن قال الوليد بن يزيد لعبد الله بن
معاوية:
هل لك يا أبا معاوية إلى المنافرة والمفاخرة في مجلسنا هذا بكلام يحسن إن
روي ويعذب إن حكي؟
فقال عبد الله بن معاوية: فخري فخرك وذكري ذكرك، وما لاحد منا
على صاحبه فضل، ولست آمن أن يخرجنا ذلك إلى مالا نحبه ولا نريده.
فقال الوليد: نشدتك بالله أن يعرض هذا في نفسك، فإنه غير كائن.
قال: فافتخر الوليد مبتدئا فقال: أنا ابن يزيد السيد العميد من أناف،
ففاق شرفه، وكرم أصله وطرقه، وسهل بابه وكفه، واشتد من الضيم أنفه، هو

(1) الموفقيات: ص 334 - 336 وقد مرت هذه في ج 1 ص 234 - 242 بروايات مختلفة يحتمل أن يكون الاختلاف
من الرواة أو لتعدد القضية في أزمنة متعددة.
142

الذي قسمت منافعه، وعمت صنايعه وتتابعت وقايعه، كانت إليه تعمد
الوفود، وبسياسته تراض الجنود، وبأمره تعهد العهود، وتتضائل عند رؤيته
الأسود، ثم لعبد الملك الذي كان إذا سابق الأكفاء سبق، وإذا نطق صدق،
ويفري كلما خلق، وتحيى مخائله إذا ودق، ويرتق إذا فتق، ولا يفتق ما رتق،
كان تهزم الجيوش باسمه، وتضل الحلوم في حلمه، ويعيش أهل الرأي بعلمه
ويعدل في حكمه وقسمه، ويعرف فضل أبيه وأمه، هو الذي قارع عن الملك
ففلح، وأدمج حبل الجماعة فاندمج، وأرتج (1) باب الباطل فارتتج (2) ولاق به
الملك وابتهج.
ثم لمروان بقية قريش، وتالي القرآن، سما للملك فذلل صعبه، ورد من كل
رئيس شغبه، ونفس عن كل مكروب كربه، وأيد الله بالنصر حزبه، وورث
الإمامة والخلافة عقبه، كان يستظل بظله، ويفي بعهده، ويحيي المال من حله
ويضعه في أهله، ويعرف في سبله.
ثم للحكم الماجد العلم، كان لا تخمد نيرانه، ولا تذم جفانه، ولا تؤمن
أضغانه، ولا يقدر شأنه.
ثم لأبي العاص الكريم المحل والعراص، كان يصدر عن رأيه، ويوثق برأيه،
ويعاش بحبائه، ويؤمن بغنائه، ويقتاس على نبائه.
ثم لامية الذي ولي كل علية، ولد القروم فأنجب، وغالى بالحمد فارغب،
وزوق عليه المجد وطنب، وأورى زنده وأثقب، وبدل ماله فأنهب.
ثم لعبد شمس فارج كل لبس، لياذ قريش إذا حصلوا، وحليمها إذا
جهلوا، وجبلها إذا زلزلوا، وزعيمها إذا احتفلوا، ورشيعها إذا أمحلوا وافتخروا

(1) أرتج الباب: أغلقه إغلاقا وثيقا.
(2) ارتتج على الخطيب: استغلق عليه الكلام.
143

بفتى الفتيان يزيد بن معاوية، كان سمح السمحاء ولبيب الألباء، الذي
كمل الجود والأصالة والبراعة، ولدته القروم من قضاعة.
ثم لقريع الأنام معاوية بن أبي سفيان، من أثمن في المكارم جوهره، ثم
غطى الفاخر مفخره، وبذ أخيار الناس خيره، وزهابه سريره ومنبره، طبعت
على الحلم سجيته، وكملت أخلاقه ومروته، واستوت علانيته وسريرته،
ورضيت بسياسته رعيته، وحبر الاشراف عطيته، من طلب فأدرك بثأره وشمر
للحرب بأنصاره [وأخذ الامر من أقطاره].
ثم لصخر معدن النبل والفخر، مفزع قومه إذا رهبوا، وغياثهم إذا أجدبوا،
ومدرهم إذا خطبوا، وفارسهم إذا ركبوا، ميسر كل عسير، ورئيس كل كبير،
وبدر كل منير.
ثم لحرب منفس كل كرب، قائد قومه في الحقائق، وعصمتهم في الوثائق،
وحاميهم في المضايق، يعلو على المنازع في خصامه، وتثبت قدمه في مقامه، وتؤثر
أمثال كلامه، ويزدحم الناس على طعامه وتتحدث المواسم بأيامه (1).
فلما فرغ الوليد قال لعبد الله: تكلم، فقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله
بن جعفر بن أبي طالب:
أنا عبد الله بن معاوية بن عبد الله، أنا ابن البدور الزواهر، والبحور
الزواخر، والغيوث المواطر، والليوث الهواصر، الذين برز في الجاهلية شأوهم،
وأناف على كل بناء بناؤهم، وكان خير الاباء آباؤهم، أنا ابن الفروع الزكية،
والمصابيح المضيئة، والأشياخ الرضية، الهداة المهدية، ضربوا بأسيافهم عل

(1) انظر إلى هذا الزنديق السكير الشريب الفاجر، كيف يفتخر بالمنافقين والكفرة، واللئام الفجرة
بالأكاذيب، ويأتي بالمكارم والفضائل وصفا لابائه الدناة السفلة ذوي الرذائل مرحبا بقلة الحياء
والصلف الموروثين فيه.
144

التقى، وأقاموا للناس معالم الهدى، واستنقذوهم من الضلالة والردى، ودوخوا
صناديد العدى.
أخرجنا الله من أكرم طينة، واصطفانا من الجواهر المكنونة، واختصنا
بالوحي والدينونة، وجعل لنا السنن المسنونة، ينزل وحي الله في أبياتنا، ويمليه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على آبائنا وأمهاتنا، تحل الملائكة
بعقواتنا، فلنا كل فضل معدود وسناء محمود، ونحن زين كل مشهود، وغرة كل
طارف ومتلود، منا خيرة الله المصطفى ورسوله المجتبى وأمينه المرتضى والمؤثر
بسدرة المنتهى صلى الله عليه وآله.
ومنا حمزة أسد الله وأسد رسوله، وحامية المسلمين، وآفة المشركين، وسيد
شهداء العالمين، كان في الجاهلية مهيبا، ولماله وهوبا، وفي الاسلام سباقا
خطيبا، وعلى الاعداء اباء صليبا.
ومنا على ذو السوابق الباسقة، والمناقب الفائقة، الذي ليست كسابقته
سابقة، أقدم قريش سبقا، وأعلمهم علما، وأجودهم فهما، وأرحمهم حلما،
وأكرمهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله نفسا، وأفضلهم ولدا وعرسا،
وخيرهم محتدا وجنسا، أصدق العرب بأسا وأشدهم مراسا.
ومنا العباس المفضل بسريرته، المستمر لمريرته، المتحبب إلى عشيرته،
كهف قريش إذا استكهفوا، ورؤوفهم إذا استرافوا، وعدلهم إذا استنصفوا.
ومنا ابنه عبد الله، حبر الأحبار، وبر الأبرار، العالم بكل مشكلة، والقائم
بكل معضلة.
ثم أنا ابن معاوية، وارث كل فضيلة، ومصطنع كل جميلة، ومفرج كل
جليلة، ومسيل كل جزيلة.
ثم لعبد الله مشتري الحمد بنواله، والمؤثر على نفسه بماله، والمروي الظماء
بسجاله، من أنجد ذكره وغار، وغمر جوده البحار، وعم عطاؤه الأمصار، سلك
145

سبيل المروة، وأخذ بأخلاق النبوة، وتقبل سنة الأبوة.
ثم لجعفر الطيار مع الحسان، والمصارع للاقران والمظهر للبرهان، والقائم
بطاعة الرحمان، أشبه الناس بنبيه خلقا وخلقا، وأقدمهم في الاسلام سبقا،
وأحقهم بكل سناء حقا.
ثم لأبي طالب مدرة قريش إذا حشدوا، ورئيسهم إذا عقدوا، وعميدهم
إذا اعتمدوا، وفارج كربهم إذا جهدوا، ولد الكرام وولده، وأشبه أباه،
وأشبهه بنوه.
ثم لعبد المطلب الواري الزناد، الرفيع العماد، المرغم للأعادي، القائل
بالسداد، محتفر زمزم خير الحفائر، وساقي الحجيج فيه بالمفاخر، جمع قريشا بعد
ما تفرقوا، وقادهم حتى استوسقوا، وبذهم حين نطق ونطقوا.
ثم لهاشم مطعم الناس في الشتاء والأصياف، ومحل الوفود والأضياف،
وملجأ كل هارب ومضاف، والسابق إلى غايات الاشراف، أطعم قريشا حتى
أسنتت، وجاد بماله حين أمسكت، وساهم المهمة لما أضلعت، وقهر بناؤه
بناءها لما ابتنت.
فأنا خير العالمين أشياخا، وأكرمهم أرومة وأسناخا، واعزهم سيدا بذاخا،
وأخصبهم محلة ومناخا، عليهم تنزل الانباء، وبهم ولفت قريش الاحياء (1)،
وأقر بفضلها الاملاء، وأذعنت الرؤساء، أنا ابن الاعلام للاعلام، وابن سادة
الاسلام، ومعدن النبوة والاحكام، وأكرم الاسلام أسلافنا، وأطهر الأطراف
أطرافنا، وأعز الاحلاف أحلافنا، يضمحل الفخر عند فخرنا، وينسى كل
ذكر مع ذكرنا، ويصغر كل قدر عند قدرنا.
قال: فلما فرغا من كلامهما تفرقا (2).

(1) وفي ب (وبهم دانت لقريش الاحياء).
(2) الموفقيات لابن بكار: ص 563 - 569.
146

(758)
الأحنف ومعاوية
وفي العقد: أن معاوية أمر الأحنف يشتم عليا فأبى، فقال: اصعد
وانصف، فقال:
إن عليا ومعاوية كل منهما ادعى بغي الاخر عليه، اللهم العن الفئة
الباغية (2).
(759)
أبو الطفيل وعمر بن عبد العزيز
أتاه - أي عمر بن عبد العزيز - أبو الطفيل عامر بن واثلة، وكان من أصحاب
علي عليه السلام فقال له: يا أمير المؤمنين، لم منعتني عطائي؟ فقال له: بلغني
أنك صقلت سيفك وشحذت سنانك ونصلت سهمك وغلفت قوسك، تنتظر
الإمام القائم حتى يخرج، فإذا خرج وفاك عطاءك. فقال: إن الله سائلك عن
هذا، فاستحيى عمر من هذا وأعطاه (2).
(760)
العباس وعثمان
عن عبد الله بن عباس قال: ما سمعت من أبي شيئا قط في أمر عثمان
يلومه فيه ولا يعذره، ولا سألته عن شئ من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما
لا يوافقه، فأنا عنده ليلة ونحن نتعشى إذ قيل: هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب،
فقال: ائذنوا له، فدخل فأوسع له على فراشه، وأصاب من العشاء معه، فلما
رفع قام من كان هناك، وثبت أنا، فحمد عثمان الله وأثنى عليه، ثم قال: أما

(2) الصراط المستقيم: ج 3 / 72.
(2) تاريخ اليعقوبي: ج 3 / 52.
147

بعد يا خال فإني قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك علي، سبني وشهر أمري
وقطع رحمي وطعن في ديني، وإني أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب، إن كان
لكم حق تزعمون أنكم غلبتم عليه، فقد تركتموه في يدي من فعل ذلك بكم، وأنا
أقرب إليكم رحما منه، وما لمت منكم أحدا إلا عليا، ولقد دعيت أن أبسط
عليه، فتركته لله والرحم، وأنا أخاف أن يتركني فلا أتركه.
قال ابن عباس: فحمد أبي الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد يا ابن أختي، فإن كنت لا تحمد عليا لنفسك فإني لا أحمدك
لعلي، وما علي وحده قال فيك، بل غيره، فلو أنك اتهمت نفسك للناس اتهم
الناس أنفسهم لك، ولو أنك نزلت مما رقيت وارتقوا مما نزلوا، فأخذت منهم
وأخذوا منك ما كان بذلك بأس.
قال عثمان: فذلك إليك يا خال، وأنت بيني وبينهم، قال: أفأذكر لهم
ذلك عنك؟ قال: نعم وانصرف.
فما لبثنا أن قيل: هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب، قال أبي: ائذنوا له،
فدخل فقام قائما ولم يجلس، وقال: لا تعجل يا خال حتى أوذنك، فنظرنا فإذا
مروان بن الحكم كان جالسا بالباب ينتظره حتى خرج، فهو الذي ثناه عن
رأيه الأول فأقبل علي أبي وقال: يا بني ما إلى هذا من أمره شئ (1)...
(761)
فاطمة الصغرى وأهل الكوفة
عن زيد بن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال:
خطبت فاطمة الصغرى عليها السلام بعد أن ردت من كربلاء فقالت:
الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده وأؤمن به،

(1) الموفقيات: ص 611.
148

وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده
ورسوله، وأن أولاده ذبحوا بشط الفرات من غير ذحل (1) ولا تراث.
اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، وأن أقول خلاف ما أنزلت
عليه من أخذ العهود لوصية علي بن أبي طالب عليه السلام المسلوب حقه
المقتول من غير ذنب، كما قتل ولده بالأمس في بيت من بيوت الله، وبها معشر
مسلمة بألسنتهم، تعسا لرؤوسهم! ما دفعت عنه ضيما في حياته ولا عند مماته،
حتى قبضته إليك محمود النقيبة، طيب الضريبة، معروف المناقب، مشهور
المذاهب، لم تأخذه فيك لومة لائم، ولا عذل عاذل، هديته يا رب للاسلام
صغيرا، وحمدت مناقبه كبيرا، ولم يزل ناصحا لك ولرسولك صلواتك عليه وآله
حتى قبضته إليك، زاهدا في الدنيا غير حريص عليها، راغبا في الآخرة مجاهدا
لك في سبيلك، رضيته فاخترته، وهديته إلى طريق مستقيم.
أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء، إنا أهل بيت
ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسنا، وجعل علمه عندنا وفهمه
لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجته في الأرض في بلاده
لعباده، أكرمنا الله بكرامته، وفضلنا بنبيه صلى الله عليه وآله على كثير من
خلقه تفضيلا، فكذبتمونا، وكفرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالا، وأموالنا نهبا، كأنا
أولاد ترك أو كابل، كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل
البيت لحقد متقدم، قرت بذلك عيونكم وفرحت به قلوبكم اجترأ منكم على
الله ومكرا مكرتم، والله خير الماكرين، فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل (2) بما
أصبتم من دمائنا، ونالت أيدكم من أموالنا، فإن ما أصابنا من المصائب

(1) الذحل: الثأر.
(2) الجذل: الفرح.
149

الجليلة، والرزايا العظيمة في كتاب من قبل أن نبرأها، أن ذلك على الله يسير،
لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال
فخور.
تبا لكم، فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حل بكم، وتواترت من
السماء نقمات فيسحتكم (1) بما كسبتم، ويذيق بعضكم بأس بعض، ثم تخلدون
في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين، ويلكم
أتدرون أية يد طاعنتنا منكم، أو أية نفس نزعت إلى قتالنا، أم بأية رجل مشيتم
إلينا، تبغون محاربتنا؟! قست قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطبع على
أفئدكتم، وختم على سمعكم وبصركم، وسول لكم الشيطان واملى لكم، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.
تبا لكم يا أهل الكوفة، كم تراث لرسول الله صلى الله عليه وآله
قبلكم، وذحوله لديكم، ثم غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام
جدي، وبنيه عترة النبي الطيبين الأخيار وافتخر بذلك مفتخر فقال:
نحن قتلنا عليا وبني علي * بسيوف هندية ورماح
وسبينا نساءهم سبي ترك * ونطحناهم فأي نطاح
فقالت: بفيك أيها القائل الكثكث (2) ولك الأثلب (3) افتخرت بقتل قوم
زكاهم الله وطهرهم، وأذهب عنهم الرجس، فاكظم واقع كما أقعى أبوك،
وإنما لكل امرئ ما قدمت يداه، حسدتمونا ويلا لكم على ما فضلنا الله (4).
(762)
رجل من الشيعة مع بعض المخالفين
قال بعض المخالفين بحضرة الصادق عليه السلام لرجل من الشيعة:

(1) يستحتكم: يستأصلكم.
(2) الكثكث: دقاق التراب.
(3) الأثلب: دقاق الحجر.
(4) الاحتجاج: ج 2 / 27 - 28.
150

ما تقول في العشرة من الصحابة؟
قال: أقول فيهم القول الجميل الذي يحط الله به سيئاتي ويرفع به درجاتي.
قال السائل، الحمد لله على ما أنقذني من بغضك، كنت أظنك رافضيا
تبغض الصحابة.
فقال الرجل: ألا من أبغض واحدا من الصحابة فعليه لعنة الله.
قال: لعلك تتأول ما تقول، فمن أبغض العشرة من الصحابة؟
فقال: من أبغض العشرة من الصحابة فعليه لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين.
فوثب فقبل رأسه فقال: اجعلني في حل مما قذفتك به من الرفض قبل
اليوم.
قال: أنت في حل وأنت أخي.
ثم انصرف السائل.
فقال له الصادق عليه السلام: جودت لله درك لقد عجبت الملائكة من
حسن توريتك...
(763)
مؤمن الطاق وزيد
عن علي بن الحكم عن أبان قال: أخبرني الأحول أبو جعفر محمد بن
النعمان الملقب بمؤمن الطاق: أن زيد بن علي بن الحسين بعث إليه وهو مختف،
قال: فأتيته، فقال لي:
يا أبا جعفر ما تقول: إن طرقك طارق منا أتخرج معه؟
قال: قلت له: إن كان أبوك أو أخوك خرجت معه.

(1) الاحتجاج: ج 2 / 131.
151

قال: فقال لي: فأنا أريد أن أخرج وأجاهد هؤلاء القوم، فاخرج معي.
قال: قلت: لا أفعل، جعلت فداك.
قال: فقال لي: أترغب جعلت فداك.
قال: فقال لي: أترغب بنفسك عني؟
قال: فقلت له: إنما هي نفس واحدة، فإن كان لله تعالى في الأرض حجة
فالمخلف عنك ناج والخارج معك هالك، وإن لم يكن لله في الأرض حجة
فالمتخلف عنك والخارج معك سواء.
قال: فقال لي: يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني
اللقمة السمينة، ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقة علي، ولم يشفق علي
من حر النار، قال: إذا أخبرك بالدين ولم يخبرني به.
قال: قلت له: من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك خاف عليك أن
لا تقبله فتدخل النار، وأخبرني فإن قبلته نجوت وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل
النار.
ثم قلت له: جعلت فداك، أنتم أفضل أم الأنبياء؟ قال: بل الأنبياء.
قلت: يقول يعقوب ليوسف: (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك
فيكيدوا لك كيدا) لم يخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه ولكن كتمه، وكذا
أبوك كتمك، لأنه خاف عليك.
قال: فقال: أما والله لئن قلت ذلك فقد حدثني صاحبك بالمدينة أني
اقتل واصلب بالكناسة، وإن عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي (1).
(764)
حنظلة مع أهل الكوفة
قال: وجاء حنظلة بن سعد الشبامي فوقف بين يدي الحسين يقيه السهام

(1) الاحتجاج: ج 2 / 140 - 141، وقد مر في ج 1 ص 336 بنحو آخر.
152

والرماح والسيوف بوجهه ونحره، وأخذ ينادي: يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب، مثل دأب قوم نوح وعاد و
ثمود، والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد، ويا قوم إني أخاف عليكم
يوم التناد، يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم، يا قوم لا تقتلوا
حسينا، فيسحتكم الله بعذاب، وقد خاب من افترى.
وفي المناقب: فقال له الحسين: يا ابن سعد، إنهم قدت استوجبوا العذاب
حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق، ونهضوا إليك ليشتمونك وأصحابك
حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق، ونهضوا إليك ليشتمونك وأصحاب،
فكيف بهم الان وقد قتلوا إخوانك الصالحين؟
قال: صدقت جعلت فداك، أفلا نروح إلى ربنا فنلحق بإخواننا؟
فقال له: رح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها، وإلى ملك لا يبلى.
فقال: السلام عليك يا بن رسول الله، صلى الله عليك وعلى أهل بيتك،
وجمع بيننا وبينك في جنته.
فقال: آمين آمين (1).
(765)
عمار وعثمان
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي وعمار يعملون مسجدا فمر
عثمان في بزة له يخطر، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ارجز به فقال عمار:
لا يستوى من يعمر المساجدا * يظل فيها راكعا وساجدا
ومن تراه عاندا معاندا عن الغبار لا يزال حائدا
قال: فأتى النبي صلى الله عليه وآله فقال: ما أسلمنا لتشتم أعراضنا وأنفسنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أفتحب أن تقال؟ فنزلت

(1) البحار: ج 45 / 23.
153

آيتان: (يمنون عليك أن أسلموا) الآية (1)...
(766)
ميثم وابن زياد
عن أبي الحسن الرضا عليه السلام عن أبيه عن آبائه صلوات الله عليهم
قال: أتى ميثم التمار دار أمير المؤمنين عليه السلام، فقيل له: أنه نائم، فنادى
بأعلى صوته: انتبه أيها النائم، فوالله لتخضبن لحيتك من رأسك، فانتبه
أمير المؤمنين عليه السلام: فقال: أدخلوا ميثما، فقال: صدقت وأنت والله لتقطعن يداك
ورجلاك ولسانك ولتقطعن النخلة التي بالكناسة، فتشق أربع قطع فتصلب
أنت عى ربعها، وحجر بن عدي على ربعها، ومحمد بن أكثم على ربعها،
وخالد بن مسعود على ربعها (2).
قال ميثم: فشككت في نفسي، وقلت: إن عليا ليخبرنا بالغيب، فقلت له:
أو كائن ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أي ورب الكعبة كذا عهده إلي النبي
صلى الله عليه وآله، قال، فقلت: لم يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ فقال:
ليأخذنك العتل الزنيم ابن الأمة الفاجرة عبيد الله بن زياد. قال: وكان عليه
السلام يخرج إلى الجبانة، وأنا معه فيمر بالنخلة فيقول لي: يا ميثم إن لك ولها
شأنا من الشأن.
قال: فلما ولي عبيد الله بن زياد الكوفة، ودخلها تعلق علمه بالنخلة التي
بالكناسة فتمزق، فتطير من ذلك، فأمر بقطعها فاشتراها رجل من النجارين،
فشقها أربع قطع.

(1) الكشي: ج 1 ص 31 ونقله ص 32 برواية أخرى فراجع.
(2) الكشي: ج 1 ص 297.
154

قال ميثم: فقلت لصالح ابني، فخذ مسمارا من حديد، فانقش عليه اسمي
واسم أبي، ودقه في بعض تلك الأجذاع، قال: فلما مضى بعد ذلك أيام أتاني
قوم من أهل السوق، فقالوا: يا ميثم انهض معنا إلى الأمير نشكو إليه عامل
السوق، ونسأله أن يعزله عنا ويولي علينا غيره، قال: وكنت خطيب القوم
فنصت لي وأعجبه منطقي، فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير، تعرف
هذا المتكلم؟ قال: من هو؟ قال: ميثم التمار الكذاب مولى الكذاب علي بن
أبي طالب. قال: فاستوى جالسا فقال لي: ما تقول؟ فقلت: كذب أصلح الله
الأمير، بل أنا الصادق مولى الصادق علي بن أبي طالب أمير المؤمنين حقا، فقال
لي: لتبرأن من علي ولتذكرن مساويه، وتتولى عثمان وتذكر محاسنه، أو
لأقطعن يديك ورجليك ولأصلبنك. فبكيت فقال لي: بكيت من القول دون
الفعل! فقلت: والله ما بكيت من القول ولا من الفعل، ولكن بكيت من شك
كان دخلني يوم خبرني سيدي ومولاي، فقال لي: وما قال لك؟ قال: فقلت:
أتيت الباب فقيل لي: إنه نائم، فناديت أنتبه أيها النائم فوالله لتخضبن لحيتك
من رأسك. فقال: صدقت وأنت والله لتقطعن يداك ورجلاك ولسانك
ولتصلبن فقلت: ومن يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ قال: يأخذ العتل الزنيم
ابن الأمة الفاجرة عبيد الله بن زياد قال: فامتلأ غيظا، ثم قال لي: والله لأقطعن
يديك ورجليك والأدعن لسانك حتى أكذبك وأكذب مولاك. فأمر به
فقطعت يداه ورجلاه، ثم اخرج فأمر به أن يصلب، فنادى بأعلى صوته أيها
الناس من أراد أن يسمع الحديث المكنون عن علي بن أبي طالب عليه
السلام؟ قال: فاجتمع الناس وأقبل يحدثهم بالعجائب قال: وخرج عمرو بن
حريث وهو يريد منزله، فقال: ما هذه الجماعة؟ قالوا ميثم التمار يحدث الناس
عن علي بن أبي طالب، قال: فانصرف مسرعا، فقال: أصلح الله الأمير، بادر
فابعث إلى هذا من يقطع لسانه فإني لست آمن أن تتغير قلوب أهل الكوفة
155

فيخرجوا عليك قال: فالتفت إلى حرسي فوق رأسه فقال: اذهب فاقطع لسانه.
قال: فأتاه الحرسي فقال له: يا ميثم، قال: ما تشاء؟ قال: اخرج لسانك فقد
أمرني الأمير بقطعه، قال ميثم، ألا زعم ابن الأمة الفاجرة أنه يكذبني ويكذب
مولاي، هاك لساني، قال: فقطع لسانه، فتشحط ساعة في دمه، ثم مات، وامر
به فصلب.
قال صالح: فمضيت بعد
ذلك بأيام فإذا هو قد صلب على الربع الذي
دققت فيه المسمار.
(767)
أبو كهمس وابن أبي ليلى
عن أبي كهمس قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال لي: شهد
محمد بن مسلم الثقفي القصير عند ابن أبي ليلى بشهادة فرد شهادته؟ فقلت: نعم، فقال: إذا صرت إلى الكوفة فأتيت ابن أبي ليلى، فقل له: أسألك عن
ثلاث مسائل لا تفتيني فيها بالقياس، ولا تقول: قال أصحابنا، ثم سله عن
الرجل يشك في الركعتين الأوليين من الفريضة، وعن الرجل يصيب جسده أو
ثيابه البول كيف يغسله؟ وعن الرجل يرمي الجمار بسبع حصيات فتسقط منه
واحدة كيف يصنع؟ فإذا لم يكن عنده منها شئ فقل له: يقول لك جعفر بن
محمد: ما حملك على أن رددت شهادة رجل أعرف بأحكام الله منك، وأعلم
بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله منك؟
قال أبو كهمس: فلما قدمت أتيت ابن أبي ليلى قبل أن أصير إلى منزلي،
فقلت له: أسألك عن ثلاث مسائل لا تفتيني فيها بالقياس، ولا تقول قال
أصحابنا. قال هات: قال: قلت: ما تقول في رجل شك في الركعتين الأوليين

(1) الكشي: ج 1 ص 298.
156

من الفريضة؟ فأطرق ثم رفع رأسه إلي فقال: قال أصحابنا، فقلت: هذا شرطي عليك ألا
تقول قال أصحابنا. فقال: ما عندي فيها شئ.
فقلت له: ما تقول في الرجل يصيب جسده أو ثيابه البول كيف يغسله؟
فأطرق ثم رفع رأسه فقال: قال أصحابنا، فقلت: له هذا شرطي عليك.
فقال: ما عندي فيها شئ.
فقلت: رجل رمى الجمار بسبع حصيات، فسقطت منه حصاة كيف
يصنع؟ فطأطأ رأسه ثم رفعه، فقال: قال أصحابنا، فقلت: أصلحك الله هذا شرطي
عليك، فقال: ليس عندي فيها شئ.
فقلت: يقول لك جعفر بن محمد: ما حملك أن رددت شهادة رجل أعرف
منك بأحكام الله وأعرف بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله منك؟
فقال لي: ومن هو؟ فقلت، محمد بن مسلم الطائفي القصير.
قال: فقال: والله إن جعفر بن محمد قال لك هذا؟ قال: فقلت: والله إنه
قال لي جعفر هذا.
فأرسل إلى محمد بن مسلم، فدعاه فشهد عنده بتلك الشهادة، فأجاز
شهادته (1).
(768)
الحسن بن موسى مع الاعرابي
عن الحسن بن موسى بن جعفر قال: كنت عند أبي جعفر - يعني محمد بن
علي بن موسى بن جعفر عليهم السلام - بالمدينة وعنده علي بن جعفر وأعرابي

(1) الكشي: ص 163 - 164.
157

من أهل المدينة جالس، فقال لي الاعرابي: من هذا الفتى؟ وشار بيده إلى
أبي جعفر عليه السلام، قلت: هذا وصي رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال: يا سبحان الله، رسول الله قد مات منذ مائتي سنة وكذا سنة، وهذا
حدث كيف يكون؟
قلت: هذا وصي علي بن موسى، وعلي وصي موسى بن جعفر، وموسى
وصي جعفر بن محمد، وجعفر وصي محمد بن علي، ومحمد وصي علي بن
الحسين، وعلي وصي الحسين، والحسين وصي الحسن، والحسن وصي علي بن
أبي طالب، وعلي وصي رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.
قال: ودنا الطبيب ليقطع له العرق، فقام علي بن جعفر فقال: يا سيدي
يبدأني ليكون حدة الحديد بي قبلك. قال: قلت: يهنئك، هذا عم أبيه، قال:
فقطع له العرق.
ثم أراد أبو جعفر عليه السلام النهوض، فقام علي بن جعفر عليه
السلام فسوى له نعليه حتى لبسهما (1).
(769)
عمار وعائشة
في كامل الجزري: قال عمار لعائشة بعد الجمل: ما ابعد هذا المسير من
العهد الذي عهد إليك؟ فقالت عائشة: والله إنك ما علمت لقوال بالحق،
قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانك (2).
(770)
زينب وعائشة
عن ذكوان مولى أم سلمة عن زينب بنت أبي سلمة قالت: كنت يوما عند

(1) الكشي: ص 429 - 430.
(2) بهج الصباغة: ج 7 / 79.
158

عائشة ابنة أبي بكر الصديق زوج النبي صلى الله عليه وآله، فإني لعندها إذ
دخل رجل معتم عليه أثر السفر، فقال: قتل علي بن أبي طالب عليه السلام -
فقالت عائشة:
إن تك ناعيا فلقد نعاه * نعي ليس في فيه التراب
ثم قالت: من قتله؟ قالوا: رجل من مراد. قالت: رب قتيل الله بيد رجل
من مراد.
قالت زينب: فقلت: سبحان الله يا أم المؤمنين، أتقولين مثل هذا لعلي في
سابقته وفضله؟ فضحكت، وقالت: بسم الله إذا نسيت فذكريني (1).
(771)
الفصل مع قريش
إن أبا بكر لما بويع افتخر تيم بن مرة، قال: وكان عامة المهاجرين وجل
الأنصار لا يشكون أن عليا هو صاحب الامر بعد رسول الله صلى الله عليه
وآله، فقال الفضل بن العباس: يا معشر قريش وخصوصا يا بني تيم، إنكم إنما
أخذتم الخلافة بالنبوة، ونحن أهلها ذونكم، ولو طلبنا هذا الامر الذي نحن أهله
لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا، حسدا منهم لنا وحقدا
علينا، وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهدا هو ينتهى إليه.
وقال بعض ولد أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم شعرا:
ما كنت أحسب أن الامر منصرف * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن * جبريل عون له في الغسل والكفن
ما فيه ما فيهم لا يمترون به * وليس في القوم ما فيه من الحسن
ماذا الذي ردهم عنه فتعلمه * ها أن ذا غبننا من أعظم الغبن

(1) الموفقيات لابن بكار: ص 131، وقد مضى في ج 2 ص 377 عن مقاتل الطالبيين برواية أخرى.
159

قال الزبير: فبعث إليه علي فنهاه وأمره ألا يعود، وقال: سلامة الدين
أحب إلينا من غيره (1).
(772)
الفضل وعمارة
روى أبو جعفر الطبري قال: كان عمارة بن عقبة بن أبي معيط مقيما
بالكوفة بعد قتل عثمان، لم يهجه علي عليه السلام ولم يذعره، وكان يكتب
إلى معاوية بالاخبار سرا.
ومن شعر الوليد لأخيه عمارة يحرضه:
إن يك ظني في عمارة صادقا * ينم ولا يطلب بذحل ولاوتر
يبيت وأوتار ابن عفان عنده * مخيمة بين الخورنق فالقصر
تمشى رخي البال مستشزر القوى * كأنك لم تسمع بقتل أبي عمرو
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
قال: فأجابه الفضل بن العباس:
أتطلب ثأرا منه ولا له * وما لابن ذكوان الصغور والوتر (2)
كما افتخرت بنت الحمار بأمها * وتنسى أباها إذ تسامى أولو الفخر (3)
ألا إن خير الناس بعد نبيهم * وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر (4)
وأول من صلى وصنو نبيه * وأول من أردى الغواة لدى بدر (5) (6)

(1) الموفقيات: ص 580، وابن أبي الحديد: ج 6 / 21.
(2) في ذ: وأين ابن ذكوان الصفوري من عمرو.
(3) رواية الطبري: كما اتصلت بنت الحمار بأمها... وتنسى أباها إذ تسامى اولي الفخر.
(4) الطبري: (بعد محمد) بدل (بعد نبيهم).
(5) بعده في الطبري:
فلو رأت الأنصار ظلم ابن عمكم * لكانوا له من ظلمه حاضري النصر
كفى ذاك عيبا أن يشيروا بقتله * وأن يسلمه للأحابيش من مصر
(6) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 2 / 115 - 116.
160

يذكر التاريخ لنا ما جرى بين الأنصار والمهاجرين من المفاوضات والحوار
بعد أن تم الامر لأبي بكر، وهنا للشيعة مواقف، وها نحن نذكرها كلها من
الموفقيات للزبير بكار:
قال الزبير: وحدثنا محمد بن موسى الأنصاري المعروف بابن مخرمة،
قال: حدثني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن عوف الزهري،
قال: لما بويع أبو بكر واستقر أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام
بعضهم بعضا، وذكروا علي بن أبي طالب وهتفوا باسمه، وإنه في داره لم يخرج
إليهم، وجزع لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام.
وكان أشد قريش على الأنصار نفر فيهم وهم سهيل بن عمرو أحد بني عامر
ابن لؤي، والحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل المخزوميان، وهؤلاء أشراف
قريش الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله ثم دخلوا في الاسلام، وكلهم
موتور قد وتره الأنصار:
أما سهيل بن عمرو، فأسره مالك بن الدخشم يوم بدر، وأما الحارث بن
هشام، فضربه عروة بن عمرو فجرحه يوم بدر، وهو فار عن أخيه. وأما عكرمة
ابن أبي جهل، فقتل أباه ابنا عفراء وسلبه درعه يوم بدر زياد بن لبيد وفي
أنفسهم ذلك.
فلما اعتزلت الأنصار تجمع هؤلاء، فقام سهيل بن عمرو فقال: يا معشر
قريش، إن هؤلاء القوم قد سماهم الله الأنصار، وأثنى عليهم في القرآن، فلهم
بذلك حظ عظيم وشأن غالب، وقد دعوا إلى أنفسهم وإلى علي بن أبي طالب،
وعلي في بيته لو شاء ردهم، فادعوهم إلى صاحبكم وإلى تجديد بيعته، فإن
أجابوكم وإلا قاتلوهم، فوالله إني لأرجو ا لله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم.
161

ثم قام الحارث بن هشام فقال: إن يكن الأنصار تبوأت الدار والايمان من
قبل، ونقلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى دورهم من دورنا فآووا
ونصروا، ثم ما رضوا حتى قاسمونا الأموال وكفونا العمل، فإنهم قد لهجوا بأمر
إن ثبتوا عليه فإنهم قد خرجوا مما وسموا به، وليس بيننا وبينهم معاتبة إلا
السيف، وإن نزعوا عنه فقد فعلوا الأولى بهم والمظنون معهم.
ثم قام عكرمة بن أبي جهل، فقال: والله لولا قول رسول الله صلى الله عليه
وآله: (الأئمة من قريش) ما أنكرنا إمرة الأنصار، ولكانوا لها أهلا، ولكنه
قول لا شك فيه ولا خيار، وقد عجلت الأنصار علينا، والله ما قبضنا عليهم الامر
ولا أخرجناهم من الشورى وأن الذي هم فيه من فلتات الامورى، ونزغات
الشيطان، وما لا يبلغه المنى، ولا يحمله الامل، أعذروا إلى القوم فإن أبوا
فقاتلوهم، فوالله لو لم يبق من قريش كلها إلا رجل واحد ليصر الله هذا الامر
فيه.
قال: وحضر أبو سفيان بن حرب فقال:
يا معشر قريش، إنه ليس للأنصار أن يتفضلوا على الناس حتى يقروا
بفضلنا عليهم، فإن تفضلوا فحسبنا حيث انتهى بها، وإلا فحسبهم حيث انتهى
بهم، وأيم الله لئن بطروا المعيشة وكفروا النعمة لنضربنهم على الاسلام كما
ضربوا عليه، فأما علي بن أبي طالب فأهل والله أن يسود على قريش وتطيعه
الأنصار.
فلما بلغ الأنصار قول هؤلاء الرهط، قام خطيبهم ثابت بن قيس بن
شماس فقال:
يا معشر الأنصار، إنما يكبر عليهم هذا القول لو قاله أهل الدين من
قريش، فأما إذا كان من أهل الدنيا لا سيما من قوم كلهم موتور، فلا يكبرن
عليكم إنما الرأي والقول مع الأخيار المهاجرين، فإن تكلمت رجال قريش
162

الذين هم أهل الآخرة مثل كلام هؤلاء فعند ذلك قولوا ما أحببتم وإلا
فأمسكوا.
وقال حسان بن ثابت يذكر ذلك:
تنادى سهيل وابن حرب حارث * وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل
قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه * فأصبح بالبطحا أذل من النعل
فأما سهيل فاحتواه ابن دخشم * أسيرا ذليلا لا يمر ولا يحلي
وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله * غداة لوا بدر فمرجله يغلي
وراكضنا تحت العجاجة حارث * على ظهر جرداء كباسقة النخل
يقبلها طورا وطورا يشمها * ويعدلها بالنفس والمال والاهل
أولئك رهط من قريش تبايعوا على خطة ليست من الخطط الفضل
وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم * كأنا اشتملنا من قريش على ذجل
وكلهم ثان عن الحق عطفه * يقول: اقتلوا الأنصار يا بئس من فعل
نصرنا وآوينا النبي ولم نخف * صروف الليالي والبلاء على رجل
بذلنا لهم أنصاف مال أكفنا * كقسمة أيسا الجزور من الفضل
ومن بعد ذاك المال أنصاف دورنا * وكنا أناسا لا نعير بالبخل
ونحمي ذمار الحي فهر بن مالك * ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل
فكان جزاء الفضل منا عليهم * جهالتهم حمقا وما ذاك بالعدل
فبلغ شعر حسان قريشا، فغضبوا وأمروا ابن أبي عزة شاعرهم أن يجيبه،
فقال: معشر الأنصار خافوا ربكم * واستجيروا الله من شر الفتن
إنني أرهب حربا لا قحا * يشرق المرضع فيها باللبن
جرها سعد وسعد فتنة * ليت سعد بن عباد لم يكن
خلف برهوت خفيا شخصه * بين بصرى ذي رعين وجدن
163

ليس ما قدر سعد كائنا * ما جرى البحر وما دام حضن
ليس بالقاطع منا شعرة * كيف يرجى خير أمر لم يحن
ليس بالمدرك منها أبدا * غير أضغاث أماني الوسن
قال الزبير: لما اجتمع جمهور الناس لأبي بكر أكرمت قريس معن بن
عدي وعويم بن ساعدة، وكان لهما فضل قديم في الاسلام، فاجتمعت الأنصار
لهما في مجلس ودعوهما، فلما احضرا أقبلت الأنصار عليهما فعيروهما بانطلاقهما
إلى المهاجرين، وأكبروا فعلهما في ذلك، فتكلم معن فقال:
يا معشر الأنصار، إن الذي أراد الله بكم خير مما أردتم بأنفسكم، وقد
كان منكم أمر عظيم البلاء، وصغرته العاقبة، فلو كان لكم على قريش ما
لقريش عليكم، ثم أردتموهم لما أرادوكم به لم آمن عليهم منكم مثل ما آمن
عليكم منهم، فإن تعرفوا الخطأ فقد خرجتم منه وإلا فأنتم فيه.
قال الزبير: ثم تكلم عويم بن ساعدة فقال:
يا معشر الأنصار، إن من نعم الله عليكم أنه تعالى لم يرد بكم ما أردتم
بأنفسكم، فاحمدوا الله على حسن البلاء، وطول العافية، وصرف هذه البلية
عنكم، وقد نظرت في أول فتنتكم وآخرها، فوجدتها جاءت من الأماني
والحسد، واحذروا النقم، فوددت أن الله صير إليكم هذا الامر بحقه فكنا
نعيش فيه.
فوثبت عليهما الأنصار، فأغلضوا لهما، وفحشوا عليهما، وانبرى لهما فروة بن
عمرو فقال:، أنسيتم قولكما لقريش: (إنا قد خلفنا وراءنا قوما قد حلت
دماؤكم بفتنتهم) هذا والله ما لا يغفر ولا ينسى، قد تصرف الحية عن وجهها
وسمها في نابها.
فقال معن في ذلك:
وقالت لي الأنصار: إنك لم تصب *) فقلت: أما لي في الكلام نصيب
164

فقالوا: بلى قل ما بدالك راشدا * فقلت: ومثلي بالجواب طبيب
تركتكم والله لما رأيتكم * تيوسا لها بالحرتين نبيب
تنادون بالامر الذي النجم دونه * ألا كل شئ ما سواه قريب
فقلت لكم قول الشفيق عليكم * وللقلب من خوف البلاء وجيب
دعوا الركض واثنوا من أعنة بغيكم * ودبوا فسير القاصدين دبيب
وخلوا قريشا والأمور وبايعوا * لمن بايعوه ترشدوا وتصيبوا
أراكم أخذتم حقكم بأكفكم * وما الناس إلا مخطئ ومصيب
فلما أبيتم زلت عنكم إليهم * وكنت كأني يوم ذاك غريب
فإن كان هذا الامر ذنبي إليكم * فلي فيكم بعد الذنوب ذنوب
فلا تبعثوا مني الكلام فإنني * إذا شئت يوما شاعر وخطيب
وإني لحلو تعتريني مرارة * وملح أجاج تارة وشروب
لكل امرئ عندي الذي هو أهله * أفانين شتى والرجال ضروب
وقال عويم بن ساعدة في ذلك:
وقالت لي الأنصار أضعاف قولهم * لمعن، وذاك القول جهل من الجهل
فقلت: دعوني لا أبا لأبيكم * فإني أخوك صاحب الحظر الفصل
أنا صاحب القول الذي تعرفونه * اقطع أنفاس الرجال على مهل
فإن تسكتوا أسكت وفي الصمت راحة * وإن تنطقوا أصمت مقالتكم تبلي
وما لمت نفسي في الخلاف عليكم * وإن كنتم مستجمعين على عذلي
أريد بذاك الله لا شئ غيره * وما عند رب الناس من درج الفضل
وما لي رحم في قريش قريبة * ولا دارها داري ولا أصلها أصلي
ولكنهم قوم علينا أئمة * أدين لهم ما أنفذت قدمي نعلي
وكان أحق الناس أن تقنعوا به * ويحتملوا من جاء في قوله مثلي
165

لأني أخف الناس فيما يسركم * وفيما يسؤكم لا امر ولا أحلي (1)
قال فروة بن عمرو - وكان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر وكان ممن جاهد
مع رسول الله، وقاد فرسين في سبيل الله، وكان يتصدق من نخله بألف وسق في
كل عام، وكان سيدا، وهو من أصحاب علي وممن شهد معه يوم الجمل -
قال: فذكر معنا وعويما وعاتبهما على قولهما: (خلفنا وراءنا قوما قد حلت
دماؤهم بفتنتهم):
ألا قل لمعن إذا جئته * وذاك الذي شيخه ساعده
بأن المقال الذي قلتما، خفيف علينا سوى واحده
مقالكم: إن من خلفنا * مراض قلوبهم فاسده
حلال الدماء على فتنة * فيا بئسما ربت الوالدة
فلم تأخذا قدر أثمانها * ولم تستفيدا بها فائده
لقد كذب الله ما قلتما * وقد يكذب الرائد الواعده
قال الزبير: ثم إن الأنصار أصلحوا بين هذين الرجلين وبين أصحابهما، ثم
اجتمعت جماعة من قريش يوما وفيهم ناس من الأنصار وأخلاط (2) من
المهاجرين - وذلك بعد انصراف الأنصار عن رأيها وسكون الفتنة - فاتفق ذلك
عند قدوم عمرو بن العاص من سفر كان فيه فجاء إليهم فأفاضوا في ذكر يوم
السقيفة وسعد دعواه الامر، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنا من
الأنصار علظيمة، ولما دفع الله عنهم أعظم، كادوا والله أن يحلوا حبل الاسلام
كما قاتلوا عليه، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه، والله لئن كانوا سمعوا قول رسول
الله صلى الله عليه وآله: (الأئمة من قريش) ثم ادعوها لقد هلكوا وأهلكوا،

(1) في المصدر: يسوء بدل يسؤكم.
(2) الاخلاط: القوم المختلطون.
166

وإن كانوا لم يسمعوها فماا هم كالمهاجرين، ولا سعد كأبي بكر، ولا المدينة
كمكة، ولقد قاتلونا أمس فغلبونا على البدء، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على
العاقبة، فلم يجبه أحد، وانصرف إلى منزله وقد ظفر، فقال:
ألا قل لأوس إذا جئتها * وقل إذا ما جئت للخزرج (1)
تمنيتم الملك في يثرب * فأنزلت القدر لم تضج
وأخدجتم الامر قبل التما * م وأعجب بذا المعجل المخدج (2)
تريدون نتج الحيال العشا... * ر ولم تلقحوه فلم ينتج
عجبت لسعد وأصحابه * ولو لم يهيجوه لم يهتج
رجا الخزرجي رجاء السراب * وقد يخلف المرء ما يرتجي
فكان كمنح على كفه * بكف يقطعها أهوج
فلما بلغ الأنصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن
العجلان، وكان رجلا أحمرا قصيرا، تزدريه العيون، وكان سيدا فخما فأتى عمر
وهو في جماعة من قريش، فقال:
والله يا عمر ما كرهتم من حربنا إلا ما كرهنا من حربكم وما كان الله
ليخرجكم من الاسلام بمن أدخلكم فيه، إن كان النبي صلى الله عليه وآله
قال: (الأئمة من قريش)، فقد قال: (لو سلك الناس شعبا، وسلك الأنصار
شعبا، لسلكت شعب الأنصار)، والله ما أخرجناكم من الامر إذ قلنا: منا أمير
ومنكم أمير، وأما من ذكرت، فأبو بكر لعمري خير من سعد، لكن سعدا في
الأنصار أطوع من أبي بكر في قريش، فأما المهاجرون والأنصار، فلا فرق بينهم
أبدا، ولكنك يا ابن العاص، وترث بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة لقتل

(1) في المصدر: كلما بدل ما. ويحتمل أن يكون الصحيح (وقل ما إذا جئت للخزرج.
(2) يقال: اخدج الامر، إذا لم يحكمه، والمخدج: الناقص.
167

جعفر وأصحابه، ووترث بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد، ثم انصرف
فقال:
فقل لقريش نحن أصحاب مكة * ويوم حنين والفوارس في بدر
وأصحاب أحد والنضير وخيبر * ونحن رجعنا من قريظة بالذكر
ويوم بأرض الشام أرض جعفر * وزيد وعبد الله في علق يجري
وفي كل يوم ينكر الكلب أهله * نطاعن فيه بالمثقفة السمر
ونضرب في نقع العجاجة أرؤسا * ببيض كأمثال البروق إذا تسري
نصرنا وآوينا النبي ولم نخف * صروف الليالي والعظيم من الامر
وقلنا لقوم هاجروا قبل: مرحبا * وأهلا وسهلا قد أمنتم من الفقر
نقاسمكم أموالنا وبيوتنا * كقسمة أيسار الجزور على الشطر
ونكفيكم الامر الذي تكرهونه * وكنا انا سانذهب العسر باليسر
وقلتم حرام نصب سعد ونصبكم * عتيق بن عثمان حلال أبا بكر
وأهل أبا بكر لها خير قائم * وإن عليا كان أخلق بالامر
وكان هوانا في علي وإنه * لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري
فذاك بعون الهل يدعو إلى الهدى * وينهى عن الفحشاء والبغي والنكر
وصي النبي المصطفى وابن عمه * وقاتل فرسان الضلالة والكفر
وهذا بحمد الله يهدي من العمى * ويفتح آذانا ثقلن من الوقر
نجي رسول الله في الغار وحده * وصاحبه الصديق في سالف الدهر
فلولا اتقاء الله لم تذهبوا بها * ولكن هذا الخير أجمع للصبر
ولم نرض إلا بالرضا ولربما * ضربنا بأيدينا إلى أسفل القدر
فلما انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منها، وألفى ذلك
قدوم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن، وكان رسول الله استعمله، عليها،
وكان له ولأخيه أثر قديم عظيم في الاسلام، وهما أول من أسلم من قريش،
168

ولهما عبادة وفضل، فغضب للأنصار وشتم عمرو بن العاص، وقال:
يا معشر قريش، إن عمروا دخل في الاسلام حين لم يجد بدا من الدخول
فيه، فلما لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه، وإن من كيده الاسلام تفريقه
وقطعه بين المهاجرين والأنصار، والله ما حاربناهم للدين ولا للدنيا، لقد بذلوا
دماءهم لله تعالى فينا، وما بذلنا دماءنا لله فيهم، وقاسمونا ديارهم وأموالهم، و
ما فعلنا مثل ذلك بهم، وآثرونا على الفقر وحرمناهم على الغنى، وقد وصى
رسول الله بهم وعزاهم عن جفوة السلطان، فأعوذ بالله أن أكون وإياكم الخلف
المضيع والسلطان الجاني.
(قلت: هذا خالد بن سعيد بن العاص هو الذي امتنع من بيعة أبي بكر
وقال: لا أبايع إلا عليا، وقد ذكرنا خبره فيما تقدم) (1).
قال الزبير: وقال: خالد بن سعيد بن العاص في ذلك:
تفوه عمرو بالذي لا نريده * وصرح للأنصار عن شنأة البغض
فإن تكن الأنصار زلت فإننا * نقيل ولا نجزيهم القرض بالقرض
فلا تقطعن يا عمرو ما كان بيننا * ولا تحملن يا عمرو بعضا على بعض
أتنسى لهم يا عمرو ما كان منهم * ليالي جئناهم من النفل والفرض
وقسمتنا الأموال كاللحم بالمدى * وقسمتنا الأوطان كل به يقضي
ليالي كل الناس بالكفر جهرة * ثقال علينا مجمعون على البغض
فساووا وآووا وانتهينا إلى المنى * وقر قرارانا من الامن والخفض
قال الزبير: ثم إن رجالا من سفهاء قريش ومثيري الفتن منهم اجتمعوا إلى
عمرو بن العاص فقالوا له: إنك لسان قريش ورجلها في الجاهلية والاسلام،
فلا تدع الأنصار وما قالت، وأكثروا عليه من ذلك، فراح إلى المسجد وفيه ناس

(1) راجع شرح ابن أبي الحديد: ج 2 / 21 / 58 فله كلام في هذا اليوم، وج 6 / 41.
169

من قريش وغيرهم، فتكلم وقال:
إن الأنصار ترى لنفسها ما ليس لها، وأيم الله لوددت أن الله خلى عنا
وعنهم، وقضى فيهم وفينا بما أحب، ولنحن الذين أفسدنا على أنفسنا أحرزنا هم
عن كل مكروه، وقدمناهم إلى كل محبوب حتى أمنوا المخوف، فلما جاز لهم
ذلك صغروا حقنا، ولم يراعوا ما أعظمنا من حقوقهم.
ثم التفت فرأى الفضل بن العباس بن عبد المطلب، وندم على قوله للخؤلة
التي بين ولد عبد المطلب وبين الأنصار، ولان الأنصار كانت تعظم عليا وتهتف
باسمه حينئذ، فقال الفضل: يا عمرو، إنه ليس لنا أن نكتم ما سمعنا منك
وليس لنا أن نجيبك وأبو الحسن شاهد بالمدينة إلا أن يأمرنا فنفعل.
ثم رجع الفضل إلى علي فحدثه، فغضب وشتم عمروا وقال: (آذى الله
ورسوله) ثم قام فأتى المسجد، فاجتمع إليه كثير من قريش وتكلم مغضبا
فقال: يا معشر قريش، إن حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق، وقد قضوا ما عليهم
وبقي ما عليكم، واذكروا أن الله رغب لنبيكم عن مكة فنقله إلى المدينة، وكره
له قريشا فنقله إلى الأنصار، ثم قدمنا عليهم دارهم، فقاسمونا الأموال، وكفونا
العمل، فصرنا منهم بين بذل الغني وإيثار الفقير، ثم حاربنا الناس فوقونا
بأنفسهم، وقد أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن جمع لهم فيها بين خمس نعم
فقال: (والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون
في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن
يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).
ألا وإن عمرو بن العاص قد قام مقاما آذى فيه الميت والحي، ساء به
الواتر وسربه الموتور، فاستحق من المستمع الجواب، ومن الغائب المقت، وإنه
من أحب الله ورسوله أحب الأنصار فليكفف عمرو عنا نفسه.
170

قال الزبير: فمشت قريش عند ذلك إلى عمرو بن العاص، فقالوا: أيها
الرجل أما إذا غضب علي فاكفف.
وقال خزيمة بن ثابت الأنصاري يخاطب قريشا:
أيال قريش أصلحوا ذات بيننا * وبينكم قد طال جل التماحك (1)
فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا * ولا خير فينا بعد فهر بن مالك
كلانا على الاعداء كف طويلة * إذا كان يوم فيه جب الحوارك
فلا تذكروا ما كان منا ومنكم * ففي ذكر ما قد كان مشي التساوك (3)
قال الزبير وقال علي للفضل: يا فضل انصر الأنصار بلسانك ويدك،
فإنهم منك، وإنك منهم، فقال الفضل:
قلت يا عمرو مقالا فاحشا * إن تعد يا عمرو والله فلك
إنما الأنصار سيف قاطع * من تصبه ضبة السيف هلك
وسيوف قاطع مضربها * وسهام الله في يوم الحلك
نصروا الدين وآووا أهله * منزل رحب ورزق مشترك
وإذا الحرب تلظت نارها * بركوا فيها إذا الموت برك
ودخل الفضل على علي فأسمعه شعره ففرح به، وقال: وريت بك
زنادي يا فضل، أنت شاعر قريش وفتاها، فأظهر شعرك وابعث به إلى
الأنصار، فلما بلغ ذلك الأنصار، قالت: لا أحد يجيب إلا حسان الحسام،
فبعثوا إلى حسان بن ثابت، فعرضوا عليه شعر الفضل فقال: كيف اصنع
بجوابه، إن لم أتحرقوا فيه فضحني، فرويدا حتى أقفو أثره في القوافي، فقال له
خزيمة بن ثابت: اذكر عليا وآله يكفك عن كل شئ فقال:

(1) التماحك: اللجاج.
(2) كناية عن الشدة، والحارك: عظم على الظهر.
(3) التساوك: المشي الضعيف.
171

جزى الله عنا والجزاء بكفه * أبا حسن عنا ومن كأبي حسن
سبقت قريشا بالذي أنت أهله * فصدرك مشروح وقلبك ممتحن
تمنت رجال من قريش أعزة * مكانك هيهات الهزال من السمن
وأنت من الاسلام في كل موطن * بمنزلة الدلو البطين من الرسن
غضبت لنا إذ قام عمرو بخطبة * أمات بها التقوى وأحيابها الإحن
فكنت المرجى من لؤي بن غالب * لما كان منهم والذي كان لم يكن
حفظت رسول الله فينا وعهده * إليك ومن أولى به منك من ومن
ألست أخاه في الهدى ووصيه * وأعلم منهم بالكتاب وبالسنن
فحقك ما دامت بنجد وشيجة * عظيم علينا ثم بعد على اليمن
قال الزبير: وبعثت الأنصار بهذا الشعر إلى علي بن أبي طالب فخرج إلى
المسجد، وقال لمن به من قريش وغيرهم: يا معشر قريش، إن الله جعل
الأنصار أنصارا فأثنى عليهم في الكتاب فلا خير فيكم بعدهم، إنه لا يزال سفيه
من سفهاء قريش وتره الاسلام، ودفعه عن الحق، وأطفأ شرفه، وفضل غيره
عليه، يقوم مقاما فاحشا فيذكر الأنصار، فاتقوا الله وارعوا حقهم، فوالله لو زالوا
لزلت معهم، لان رسول الله قال لهم: (أزول معكم حيثما زلتم).
فقال المسلمون جميعا: رحمك الله يا أبا الحسن، قلت قولا صادقا.
قال الزبير: وترك عمرو بن العاص المدينة وخرج عنها حيت رضي عنه
علي والمهاجرون (1).
(774)
يحيى مع الرشيد
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا أحمد بن سليمان بن
أبي شيخ عن أبيه، وعن غيره.

(1) ابن أبي الحديد: ج 6 / 23 - 36، عن الموفقيات: ص 583 - 599.
172

إن الرشيد دعا بيحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي بن
أبي طالب - عليهم السلام - يوما، فجعل يذكر ما رفع إليه في أمره - وهو حينئذ في
حبسه - وهو يخرج كتبا كانت في يده حججا له، فيقرؤها الرشيد وأطراف
الكتب في يد يحيى، فتمثل بعض من حضر:
أني أتيح له حرباء تنضبه * لا يرسل الساق إلا مرسلا ساق
فغضب الرشيد من ذلك: وقال للمتمثل: أتؤيده وتنصره؟ قال: لا،
ولكني شبهته في مناظرته واحتجاجه بقول هذا الشاعر.
ثم أقبل عليه فقال: دعني من هذا يا يحيى أينا أحسن وجها أنا أو أنت؟
قال: بل أنت يا أمير المؤمنين، إنك لأنصع لونا وأحسن وجها.
قال: فأينا أكرم وأسخى أنا أو أنت؟ فقال: وما هذا يا أمير المؤمنين، وما
تسألني عنه أنت تجبى إليك خزائن الأرض وكنوزها، وأنا أتمحل معاشي من
سنة إلى سنة.
قال: فأينا أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - أنا أو أنت؟ قال: قد
أجبتك عن خطتين، فأعفني من هذه. قال: لا والله. قال: بل فاعفني. فحلف
بالطلاق والعتاق ألا يعفيه.
فقال يا أمير المؤمنين، لو عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وخطب
إليك ابنتك أكنت تزوجه؟ قال: أي والله.
قال: فلو عاش فخطب إلي أكان يحل لي أن أزوجه؟ قال: لا.
قال: فهذا جواب ما سألت.
فغضب الرشيد، وقام من مجلسه، وخرج الفضل بن الربيع، وهو يقول:
لوددت أني فديت هذا المجلس بشطر ما أملكه.
قالوا: ثم رده إلى محبسه في يومه ذلك (1).

(1) مقاتل الطالبين: ص 472 - 474.
173

(775)
عبد الله مع المأمون
كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن
علي بن أبي طالب عليه السلام وهو متوار عنه، يعطيه الأمان ويضمن له أن
يوليه العهد بعده كما فعل بعلي بن موسى، ويقول: ما ظننت أن أحدا من آل
أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا، وبعث الكتاب إليه.
فكتب إليه عبد الله بن موسى:
وصل كتابك، وفهمته تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، وتحتال علي
حيلة المغتال القاصد لسفك دمي.
وعجبت من بذلك العهد وولايته لي بعدك، كأنك، تظن أنه لم يبغلني ما
فعلته بالرضا، ففي أي شئ ظننت أني أرغب من ذلك؟
أفي الملك الذي قد غرتك نضرته وحلاوته؟ فوالله لئن أقذف وأنا حي في
نار تپتأجج أحب إلي من أن ألي أمرا بين المسلمين، أو أشرب شربة من غير
حلها مع عطش شديد قاتل.
أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟
أم ظننت أن الاستتار قد أملني وضاق به صدري فوالله إني لذلك، ولقد
مللت الحياة، وأبغضت الدنيا، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك حتى
تبلغ من قبلي مرادك لفعلت ذلك، ولكن الله قد حظر على المخاطرة بدمي
وليتك قدرت علي من غير أن أبذل نفسي لك فقتلتني، ولقيت الله عز وجل
بدمي، ولقيته قتيلا مظلوما فاسترحت من هذه الدنيا.
واعلم أني رجل طالب النجاة لنفسي، واجتهدت فيما يرضي الله عز وجل
عني، وفي عمل أتقرب به إليه، فلم أجد رأيا يهدي إلى شئ من ذلك،
فرجعت إلى القرآن الذي فيه الهدى والشفاء، فتصفحته سورة سورة وآية آية فلم
174

أجد شيئا أزلف للمرء عند ربه جل وعز من الشهادة في طلب مرضاته.
ثم تتبعته ثانية أتأمل الجهاد أيه أفضل، ولأي صنف، فوجدته جل وعلا
يقول:: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) فطلبت أي
الكفار أضر على الاسلام وأقرب من موضعي، فلم أجد أضر على الاسلام منك،
لان الكفار أظهروا كفرهم فاستبصر الناس في أمرهم، وعرفوهم فخافوهم.
وأنت ختلت المسلمين بالاسلام وأسررت الكفر فقتلت بالظنة وعاقبت
بالتهمة وأخذت المال من غير حله فأنفقته في غير حله، وشربت الخمر المحرمة
صراحا، وأنفقت مال الله على الملهين، وأعطيته المغنيين، ومنعته من حقوق
المسلمين، فغششت بالاسلام، وأحطت بأقطاره إحاطة أهله، وحكمت فيه
للمشرك، وخالفت الله ورسوله في ذلك خلافة المضاد المعاند، فإن يسعدني
الدهر، ويعني الله عليك بأنصار الحق أبذل نفسي في جهادك بذلا يرضيه
مني، وإن يمهلك ويؤخرك ليجزيك بما تستحقه في منقلبك أو تخترصني الأيام
قبل ذلك فحسبي من سعيي ما يعلمه الله عز وجل من نيتي، والسلام.
ولم يزل عبد الله متواريا إلى أن مات في أيام المتوكل (1).
(776)
عبد الله والمأمون
نقل أبو الفرج في نفس الكتاب كتابا لعبد الله إلى المأمون والظاهر التعدد،
ويحتمل أن تكون رواية أخرى من الكتاب المتقدم لتقارب المعاني فيهما، ونحن
نورده بألفاظه.
قال: وكان عبد الله توارى في أيام المأمون، فكتب إليه بعد وفاة الرضا
يدعوه إلى الظهور; ليجعله مكانه ويبايع له، واعتد عليه بعفوه عمن عفا من

(1) مقاتل الطالبيين: ص 630 - 632، وحياة الإمام الرضا عليه السلام: ص 461 - 463.
175

أهله، وما أشبه هذا من القول.
فأجابه عبد الله برسالة طويلة يقول فيها:
فبأي شئ تغرني؟ ما فعلته بأبي الحسن صلوات الله عليه بالعنب الذي
أطعمته إياه فقتلته؟
والله ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت ولا كراهة له، ولكن لا أجد لي
فسحة في تسليطك على نفسي، ولولا ذلك لأتيتك حتى تريحني من هذه الدنيا الكدرة.
ويقول فيها:
هبني لا ثأر لي عندك وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين
جاهروا في أمرنا فحذرناهم، وكنت الطف حيلة منهم بما استعملته من الرضى
بنا والتستر لمحننا، تختل واحدا فواحدا منا، ولكني كنت امرئ حبب إلي
الجهاد كما حبب إلى كل امرئ بغيته، فشحذت سيفي وركبت سناني على
رمحي، واستفرهت فرسي، لم أدر أي العدو أشد ضررا على الإسلام، فعلمت أن
كتاب الله يجمع كل شئ، فقرأته فإذا فيه: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين
يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة).
فما أدري من يلينا منهم، فأعدت النظر فوجدته يقول: (لا تجد قوما يؤمنون
بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو
عشيرتهم) فعلمت أن علي أن أبدأ ما قرب مني وتدبرت فإذا أنت أضر على
الإسلام والمسلمين من كل عدو لهم; لأن الكفار خرجوا منه وخالفوه فحذرهم
الناس وقاتلوهم، وأنت دخلت فيه ظاهرا، فأمسك الناس وطفقت تنقض
عراه عروة عروة، فأنت أشد أعداء الإسلام ضررا عليه (1).

(1) مقاتل الطالبيين: ص 628 - 630، وحياة الإمام الرضا عليه السلام: ص 463.
176

(777)
صعصعة وعثمان
علي بن مجاهد عن الجعد قال: قال صعصعة بن صوحان: ما
أعياني جواب أحد ما أعياني جواب عثمان، دخلت عليه فقلت: أخرجنا من
ديارنا وأموالنا أن قلنا: ربنا الله، فقال: نحن الذين أخرجنا من ديارنا وأموالنا أن
قلنا: ربنا الله، فمنا من مات بأرض الحبشة، ومنا من مات بالمدينة (1).
(778)
أبو الأسود وعائشة
عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه قال: بعثني وعمران بن حصين
عثمان بن حنيف إلى عائشة:
فقال: يا أم المؤمنين أخبرينا عن مسيرك، أهذا عهد عهده إليك رسول الله
صلى الله عليه وآله أم رأي رأيتيه؟
قالت: بل رأي رأيته حين قتل عثمان، إنا نقمنا عليه ضربة السوط،
وموقع السحابة المحماة، وإمرة سعيد والوليد، فعدوتم عليه، فاستحللتم منه الحرم
الثلاث: حرمة البلد وحرمة الخلافة وحرمة الشهر الحرام، بعد ان مصناه
كإيماص الإناء، فاستنقى فركبتم هذه منه ظالمين، فغضبنا لكم من سوط
عثمان، ولا نغضب لعثمان من سيفكم؟!
قلت: وما أنت وسيفنا وسوط عثمان، وأنت حبيس رسول الله صلى الله
عليه وآله، أمرك أن تقري في بيتك، فجئت تضربين الناس بعضهم ببعض.
قالت: وهل أحد يقاتلني أو يقول غير هذا؟ قلنا: نعم.
قالت: ومن يفعل ذلك، أزنيم بني عامر؟ ثم قالت: هل أنت مبلغ عني يا

(1) البيان التبيين: ج 1 / 393، والموفقيات: ص 155.
177

عمران؟ قال: لا، لست مبلغا عنك خيرا ولا شرا.
فقلت: لكني مبلغ عنك، فهاتي ما شئت.
فقالت: اللهم اقتل مذمما قصاصا بعثمان - تعني محمد بن أبي بكر - وارم
الأشتر بسهم من سهامك لا يشوى، وأدرك عمار بخفرته في عثمان (1).
(779)
عدي ومعاوية
خالد بن يزيد الطائي قال: كتب معاوية إلى عدي بن حاتم: (حاجتيك
ما لا ينسى) يعني قتل عثمان. فذهب عدي بالكتاب إلى علي، فقال: (إن
المرأة لا تنسى قاتل بكرها ولا أباعذرها)، فكتب إليه عدي: (إن ذلك مني
كليلة شيباء (2)).
(780)
شاب والربيع
حدثني إبراهيم بن السندي - يعنى حاجب المنصور - عن أبيه قال: دخل
شاب من بني هاشم على المنصور فسأله عن وفاة أبيه، فقال: مرض أبي رضي
الله عنه يوم كذا، وما رضي الله عنه يوم كذا، وترك رضي الله عنه من المال
كذا ومن الولد كذا.
فانتهره الربيع، وقال: بين يدي أمير المؤمنين توالي بالدعاء لأبيك؟
فقال الشاب: لا ألومك، لأنك لا تعرف حلاوة الاباء.
قال: فما علمنا أن المنصور ضحك في مجلسه ضحكا قط فافتر عن نواجذه

(1) البيان والتبيين: ج 2 / 296، وقد مر برواية أخرى في ج 2 ص 32.
(2) كانت العرب تقول للبكر إذا زفت إلى زوجها، فدخل بها ولم يفترعها ليلة زفافها: (باتت بليلة
حرة) وإن افترعها تلك الليلة قالوا: باتت بليلة شيباء).
(3) البيان والتبيين: ج 2 / 311.
178

إلا يومئذ (1).
(781)
ابن عباس والزبير
عبد الله بن مصعب قال: أرسل علي بن أبي طالب - رحمه الله - عبد الله بن
عباس لما قدم البصرة، فقال:
(ائت الزبير ولا تأت طلحة، فإن الزبير ألين، وأنك تجد طلحة عاقصا قرنه
يركب الصعوبة ويقول هي أسهل، فاقرأه السلام، وقل له: (يقول لك ابن
خالك عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق، فما عدا مما بدا لك)، (وفي نهج
البلاغة: مما بدا بإسقاط لك).
قال: فأتيت الزبير فقال: مرحبا يا ابن لبابة، أزائرا جئت أم سفيرا؟ قلت:
كل ذلك، وأبلغته ما قال علي، فقال الزبير: أبلغه السلام وقل له: بيننا
وبينك عهد خليفة، ودم خليفة، واجتماع ثلاثة، وانفراد واحد، وأم مبرورة،
ومشاورة العشيرة ونشر المصاحف، فنحل ما أحلت ونحرم ما حرمت.
فلما كان من الغد حرش بين الناس غوغاؤهم، فقال الزبير: ما كنت
أرى أن مثل ما جئنا له يكون فيه قتال (2).
(782)
عبد الله بن كثير وبنو أمية
قال عبد الله بن كثير السهمي، وكان يتشيع لولادة كانت نالته وسمع
عمال خالد بن عبد الله القسري يلعنون عليا والحسين على المنابر:
لعن الله من يسب عليا * وحسينا في سوقة وإمام

(1) البيان والتبيين: ج 2 / 328.
(2) راجع البيان والتبيين: ج 3 / 222، ونهج البلاغة: الخطبة 31، وقد مر في ج 2 ص 229 عن ابن أبي
الحديد: ج 2 / 169 في شرح الخطبة، وراجع أيضا وفيات الأعيان: ج 4 ص 100.
179

أيسب المطيبون جدودا * والكرام الأخوال والأعمام
يأمن الظبي والحمام ولايأ * من آل الرسول عند المقام
طبت بيتا وطاب أهلك أهلا
أهل بيت النبي والاسلام
رحمة الله والسلام عليهم * كلما قام قائم بسلام
وقال حين عابوه بذلك الرأي:
إن امرءا أمست معايبه * حب النبي لغير ذي ذنب
وبني أبي حسن ووالدهم * من طاب في الأرحام والصلب
أيعد ذنبا أن أحبهم * بل حبهم كفارة الذنب (1)
(783) المأمون والمرتد
ولما دخل عليه (أي المأمون) المرتد الخراساني، وقد كان حمله معه من
خراسان حتى وافى به العراق، قال له المأمون:
لان أستحييك بحق أحب إلي من أن أقتلك بحق، ولئن أقبلك بالبراءة
أحب إلي من أن أدفعك بالتهمة، قد كنت مسلما بعد أن كنت نصرانيا
وكنت فيها أتنخ وأيامك أطول، فاستوحشت مما كنت به آنسا، ثم لم ثلبث أن
رجعت عنا نافرا، فخبرنا عن الشئ الذي أوحشك من الشئ الذي صار
آنس لك من الفك القديم وانسك الأول، فإن وجدت عندنا دواء دائك
تعالجت به، والمريض من الأطباء يحتاج إلى المشاورة وإن أخطأك الشفاء، ونبا
عن دائك الدواء، كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك بلائمة، فان قتلناك
قتلناك بحكم الشريعة أو ترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار والثقة وتعلم

(1) البيان والتبيين: ج 3 / 359، وفي الهامش عن معجم المرزباني: ص 348، أن الشعر لكثير بن كثير
السهمي حين كتب هشام بن عبد الملك إلى عامله بالمدينة أن يأخذ الناس بسب علي.
180

أنك لم تقصر في اجتهاد ولم تفرط في الدخول في باب الحزم.
قال المرتد: أوحشني كثرة ما رأيت من الاختلاف فيكم.
قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كالاختلاف في الاذان وتكبير الجنائز،
والاختلاف في التشهد وصلاة الأعياد وتكبير التشريق ووجوه القراءات،
واختلاف وجوه الفتيا وما أشبه ذلك، وليس هذا باختلاف، إنما هو تخيير
وتوسعة وتخفيف من المحنة، فمن اذن مثنى وأقام مثنى لم يؤثم، ومن أذن مثنى
وأقام فرادى لم يحوب (1)، لا يتعايرون ولا يتعايبون، أنت ترى ذلك عيانا،
وتشهد عليه بتاتا.
والاختلاف الاخر كنحو اختلاف في تأويل الآية من كتابنا وتأويل
الحديث عن نبينا، مع إجماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عين الخبر، فإن
كان الذي أوحشك هذا حتى أنكرت من أجله هذا الكتاب، فقد ينبغي أن
يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متفقا على تأويله كما يكون متفقا على
تنزيله، ولا يكون بين جميع النصارى واليهود اختلاف في شئ من
التأويلات، وينبغي لك أن لا ترجع إلا إلى لغة لا اختلاف في تأويل
ألفاظها.
ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج إلى
تفسير لفعل، ولكنا لم نر شيئا من الدين والدنيا دفع إلينا على الكفاية، ولو كان
الامر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة، ولم يكن
تفاضل وليس على هذا بنى الله الدنيا.
قال المرتد: أشهد أن الله واحد لا ندله ولا ولد، وأن المسيح عبده، وأن
(محمدا) صادق، وأنك أمير المؤمنين حقا.

(1) الحوبة: الخطيئة.
181

فأقبل المأمون على أصحابه فقال: فروا عليه عزه (1)، ولا تبروه في يومه ريثما
يعتق إسلامه، كي لا يقول عدوه أنه أسلم رغبة، ولا تنسوا بعد نصيبكم من
بره وتأنيسه ونصرته والعائدة عليه (2).
(784)
ابن عباس ومعاوية
ولما بلغ معاوية موت الحسن بن علي - رضي الله تعالى عنهما - دخل عليه
ابن عباس، فقال له معاوية: آجرك الله أبا العباس في أبي محمد الحسن بن علي
ولم يظهر حزنا فقال ابن عباس:
إنا لله وانا إليه راجعون، وغلبه البكاء فرده، ثم قال: لا يسد والله مكانه
جفرتك، ولا يزيد موته في أجلك، والله لقد أصبنا بمن هو أعظم منه فقدا فما
ضيعنا الله بعده.
فقال له معاوية: كم كانت سنه؟
قال: مولده أشهر من أن تتعرف سنه.
قال: أحسبه ترك أولادا صغارا؟
قال: كلنا كان صغيرا فكبر، ولئن اختار الله لأبي محمد ما عنده وقبضه إلى
رحمته لقد أبقى الله أبا عبد الله وفي مثله الخلف الصالح (3).
(785)
الصفواني مع القاضي
محمد بن أحمد بن عبد الله بن قضاعة بن صفوان بن مهران الجمال مولى
بني أسد، أبو عبد الله شيخ الطائفة، ثقة فقيه فاضل، وكانت له منزلة من السلطان

(1) أي لا تشتموه.
(2) البيان والتبيين: ج 3 / 376، وقد مر في ج 2 ص 472 عن العقد، وأعدنا ذكره لما بين الروايتين من الخلاف.
(3) البيان للجاحظ: ج 4 / 71، وقد مر في ج 1 ص 83 وج 2 ص 61 وإنما أعدنا ذكره للخلاف بين الروايات.
182

كان أصله أنه ناظر قاضي الموصل في الإمامة بين يدي ابن حمدان فانتهى القول
بينهما أن قال للقاضي: تباهلني؟
فوعده - القاضي - إلى غد، ثم حضروا فباهله وجعل كفه في كفه ثم قاما من
المجلس، وكان القاضي يحضر دار الأمير ابن حمدان في كل يوم فتأخر ذلك اليوم
ومن غده، فقال الأمير: اعرفوا خبر القاضي.
فعاد الرسول فقال: إنه منذ قام من موضع المباهلة حم وانتفخ الكف
الذي مده للمباهلة وقد اسودت، ثم مات من الغد (1).
(786)
الربيع مع زياد
كتب زياد (ابن أبيه دعي أبي سفيان) إلى الربيع (بن زياد بن أنس
الحارثي وله صحبة): أن أمير المؤمنين (يعني معاوية) كتب إلي أن آمرك أن تحرز
البيضاء والصفراء وتقسم ما سوى ذلك.
فكتب إليه: إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين (معاوية)
وبادر فقسم الغنائم بين أهلها وعزل الخمس، ثم دعا الله أن يميته، فما جمع حتى
مات (2).
(787)
المأمون والنوشنجاني
ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني المتكلم، فجعل يصدقه ويطريه
ويستحسن قوله.

(1) رجال النجاشي: ص 279 - 280، وروضات الجنات: ج 6 / 122.
(2) الإصابة ج 1 / 504، وبهج الصباغة: ج 12 / 96، وأسد الغابة: ج 2 / 164، وقاموس الرجال:
ج 4 / 113.
183

فقال المأمون: يا محمد، أراك تنقاد إلى ما تظن أنه يسرني قبل وجوب
الحجة لي عليك، وتطريني بما لست أحب أن اطرى به، وتستخذي لي في المقام
الذي ينبغي أن تكون فيه مقاوما لي، ومحتجا علي، ولو شئت أن اقسر الأمور
بفضل بيان، وطول لسان، وأغتصب الحجة بقوة الخلافة، وأبهة الرياسة لصدقت
وإن كنت كاذبا، وعدلت وإن كنت جائرا وصوبت وإن كنت مخطئا، لكني
لا أرضى إلا بغلبة الحجة، ودفع الشبهة، وإن انقص الملوك عقلا، وأسخفهم
رأيا، من رضي بقولهم: صدق الأمير (1).
(788)
الأحنف ومعاوية
وفي تذكرة سبط ابن الجوزي عن الأحنف بن قيس قال: دخلت على
معاوية فقدم إلي من الحلو والحامض ما كثر تعجبي منه، ثم قال: قدموا ذلك
اللون، فقدموا لونا ما أدري ما هو؟ فقال: مصارين البط محشوة بالمخ ودهن
الفستق قد ذر عليه السكر.
قال فبكيت. فقال: ما يبكيك؟
فقلت: لله در ابن أبي طالب، لقد جاء من نفسه بما لم تسمح به أنت ولا
غيرك. فقال: وكيف؟
قلت: دخلت عليه ليلة عند إفطاره فقال لي: قم فتعشى مع الحسن
والحسين. ثم قام إلى الصلاة، فلما فرغ دعا بجراب مختوم بخاتمه فأخرج منه
شعيرا مطحونا ثم ختمه، فقلت، لم أعهدك بخيلا يا أمير المؤمنين، فقال: لم
أختمه بخلا، ولكن خفت أن يبسه الحسن أو الحسين بسمن أو إهالة، فقلت:
أحرام هو؟ قال: لا ولكن على أئمة الحق أن يتأسوا بأضعف رعيتهم حالا في

(1) بهج الصباغة: ج 12 / 159، عن ابن أبي الحديد: ج 17 / 114.
184

الاكل واللباس، ولا يتميزون عليهم بشئ، ليراهم الفقير فيرضى عن الله
تعالى بما هو فيه، ويراهم الغني فيزداد شكرا وتواضعا (1).
(789)
هشام والديصاني
عن هشام بن الحكم قال: أبو شاكر الديصاني: إن في القرآن آية هي
قوة لنا. قلت، وما هي؟ فقال: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله).
فلم أدر ما أجيبه، فحججت، فخبرت أبا عبد الله عليه السلام، فقال: هذا
كلام زنديق خبيث، إذا رجعت إليه، فقل له: ما اسمك بالكوفة؟ فإنه يقول:
فلان، فقل: ما اسمك بالبصرة؟ فإنه يقول، فلان، فقل: كذلك الله ربنا في
السماء إله وفي الأرض إله وفي البحار إله وفي كل مكان إله.
قال: فقدمت، فأتيت أبا شاكر فأخبرته، فقال: هذه نقلت من الحجاز (2).
(790)
حاضر مع المهدي
كان أبو العتاهية ترك قول الشعر، فحكى قال: لما امتنعت من قوله (أي
الشعر) أمر المهدي بحبسي في سجن الجرائم، فلما دخلته دهشت، ورأيت منظرا
هالني، فطلبت موضعا آوي فيه، فإذا أنا بكهل، حسن البزة والوجه، عليه سيما
الخير، فقصدته، وجلست إليه من غير سلام عليه، لما أنا فيه من الجزع والحيرة
والفكر، فمكثت كذلك مليا، وإذا الرجل ينشد [من الطويل]:
تعودت مس الضر حتى ألفته * وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
وصيرني يأسي من الناس واثقا * بحسن صنيع الله من حيث لا أدري

(1) بهج الصباغة: ج 12 / 179.
(2) التوحيد لابن بابويه: ص 133.
185

قال: فاستحسنت البيتين، وتبركت بهما، وثاب إلي عقلي، فقلت له:
تفضل - أعزك الله - علي بإعادتهما، فقال: يا إسماعيل، ويحك ما أسوأ أدبك،
وأقل عقلك ومروءتك، دخلت فلم تسلم علي تسليم المسلم على المسلم،
ولا سألتني مسألة الوارد على المقيم، حتى سمعت مني بيتين من الشعر الذي لم
يجعل الله تعالى فيك خيرا ولا أدبا ولا معاشا غيره، طفقت تستنشدني مبتدئا
كأن بيننا انسا وسالف مودة توجب بسط القبض، ولم تذكر ما كان منك ولا
اعتذرت عما بدا من إساءة أدبك.
فقلت: اعذرني متفضلا، فدون ما أنا فيه يدهش، قال: وفيم أنت؟ تركت
الشعر الذي هو جاهك عندهم وسببك إليهم، ولابد أن تقوله فتطلق، وأنا
يدعى الساعة بي، فاطلب بعيسى بن زيد ابن رسول الله صلى الله عليه وآله،
فإن دللت عليه لقيت الله تعالى بدمه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله
خصمي فيه، وإلا قتلت، فأنا أولى بالحيرة منك، وها أنت ترى صبري
واحتسابي، فقلت: يكفيك الله عز وجل، وخجلت منه.
فقال: لا أجمع عليك التوبيخ والمنع، اسمع البيتين، ثم أعادهما علي مرارا
حتى حفظتهما، ثم دعي به وبي. فقلت له: من أنت أعزك الله عز وجل؟ قال:
أنا حاضر صاحب عيسى بن زيد، فأدخلنا على المهدي، فلما وقفنا بين يديه
قال للرجل: أين عيسى بن زيد؟ قال: وما يدريني أين عيسى بن زيد؟ تطلبته
فهرب منك في البلاد وحبستني، فمن أين أقف على خبره؟ قال له: متى كان
متواريا؟ وأين آخر عهدك به؟ وعند من لقيته؟ قال: ما لقيته منذ توارى،
ولا عرفت له خبرا، قال: والله لتدلن عليه، أو لأضربن عنقك الساعة، فقال:
اصنع ما بدا لك فوالله ما أدلك على ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وألقى
الله تعالى ورسوله عليه السلام بدمه، ولو كان بين ثوبي وجلدي ما كشفت لك
عنه، قال: اضربوا عنقه، فأمر به فضربت عنقه، ثم دعابي، فقال: أتقول الشعر
186

أو ألحقك به؟ فقلت: بل أقول؟ قال: أطلقوه. فأطلقت (1).
(791)
دعبل وإبراهيم
لما استخفى إبراهيم (بن المهدي بن المنصور العباسي صاحب الغناء
والملاهي) عمل فيه دعبل الخزاعي [من الكامل]:
نعر ابن شكلة بالعراق وأهله * فهفا إليه كل أطلس مائق
إن كان إبراهيم مضطلعا بها * فلتصلحن من بعده لمخارق
ولتصلحن من بعد ذاك لزلزل * ولتصلحن من بعده للمارق
أنى يكون وليس ذاك بكائن * يرث الخلافة فاسق عن فاسق
ودخل إبراهيم على المأمون، فشكا إليه حاله، وقال: يا أمير المؤمنين، إن الله
سبحانه وتعالى فضلك في نفسك علي، وألهمك الرأفة والعفو عني، والنسب
واحد، وقد هجاني دعبل، فانتقم لي منه، فقال المأمون: وما قال؟ لعل قوله: نعر
ابن مشكلة بالعراق... وأنشد الأبيات، فقال: هذا من بعض هجائه، وقد
هجاني بما هو أقبح من هذا، فقال المأمون: لك أسوة بي فقد هجاني واحتملته
وقال في [من الكامل]:
أيسومني المأمون خطة جاهل
أو ما رأى بالأمس رأس محمد
إني من القوم الذين سيوفهم قتلت أخاك وشرفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله * واستنقذوك من الخضيض الاوهد
* * *

(1) وفيات الأعيان: ج 1 / 202 - 203، والكنى والألقاب: ج 1 / 120.
(2) وفيات الأعيان: ج 1 / 21 وج 2 / 35، والكنى والألقاب: ج 1 / 329.
187

(792)
الأعمش وهشام
قال أبو معاوية الضرير: بعث هشام بن عبد الملك إلى الأعمش: أن اكتب
لي مناقب عثمان ومساوئ علي، فأخذ الأعمش القرطاس وأدخلها في فم شاة
فلاكتها، وقال لرسوله: قل له: هذا جوابك، فقال له الرسول: إنه قد آلى أن
يقتلني إن لم آته بجوابك، وتحمل عليه بإخوانه، فقالوا له: يا أبا محمد نجه من
القتل، فلما ألحوا عليه، كتب له:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد يا أمير المؤمنين، فلو كانت لعثمان - رضي
الله عنه - مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كانت لعلي - رضي الله عنه -
مساوئ أهل الأرض ما ضرتك، فعليك بخويصة نفسك والسلام (1).
(793)
الكراجكي ورجل
قال: وقد سأل أهل العدل المجبرة عن مسألة ألزموهم بها ما لم يجدوا فيه
حيلة، وذلك أنهم قالوا لهم:
أخبرونا عن رجل نكح احدى المحرمات عليه بإحدى المساجد المعظمة في
نهار شهر رمضان، وهو عالم غير جاهل،، أتقولون: أن الله تعالى أراد منه هذا الفعل
على هذه الصفة؟
قالت المجبرة: بلى الله أراده.
قال لهم أهل العدل: أخبرونا عن إبليس اللعين هل أراد ذلك أم كرهه؟
قالت المجبرة: بلى هذا إنما يريده إبليس ويؤثره.
قال لهم أهل العدل: فأخبرونا لو حضر النبي صلى الله عليه وآله وعلم

(1) وفيات الأعيان: ج 2 / 137، وقد مرج 2 ص 105 عن حياة الحيوان.
188

بذلك، أكان يريده أم يكرهه؟
قالت المجبرة: بل يكرهه ولا يريده.
قال لهم أهل العدل: فقد لزمكم على هذا أن تثنوا على إبليس اللعين،
وتقولوا: إنه محمود لموافقة إرادته لإرادة الله عز وجل، وهذا ما ليس فيه حيلة لكم
مع تمسككم بمذهبكم.
وقد كنت أوردت هذه المسألة في مجلس بعض الرؤساء مستطرفا له بها
وعند جمع من الناس، فقال رجل ممن كان في المجلس يميل إلى الجبر: إن كان
هذه المسألة لا حيلة للمجبرة فيها فعليكم أنتم أيضا مسألة لهم أخرى لا خلاص
لكم مما يلزمكم منها.
فقلت: وما هي؟ قال: يقال لكم: إذا كان الله تعالى لا يشاء المعصية وإبليس
يشاءها، ثم وقعت معصية من المعاصي، فقد لزم من هذا أن تكون مشية
إبليس غلبت مشية رب العالمين.
فقلت له: إنما تصح الغلبة عند الضعف وعدم القدرة، ولو كنا نقول: إن
الله تعالى لا يقدر أن يجبر العبد على الطاعة ويضطره إليها، ويحيل بينه وبين
المعصية بالقسر والالجاء إلى غيرها لزمنا ما ذكرت وإلا بخلاف ذلك، وعندنا:
أن الله تعالى يقدر أن يجبر عباده ويضطرهم، ويحيل بينهم وبين ما اختاروه،
فليس يلزمنا ما ذكرتم من الغلبة وقد أبان الله تعالى ذلك فقال: (ولو شاء الله
لجعل الناس أمة واحدة) وقال: (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها، وإنما لم يفعل
ذلك لما فيه من الخروج عن سنن التكليف، وبطلان استحقاق العباد للمدح
والذم، فتأمل ما ذكرت تجده صحيحا، فلم يأت بحرف بعد هذا (1).
* * *

(1) كنز الفوائد للكراجكي: ص 45.
189

(794)
الكراجكي والمعتزلي
قال: كنت سألت معتزليا حضرت معه مجلسا فيه قوم من أهل العلم، فقلت له: لم أنكرت القول بالبداء وزعمت أنه لا يجوز على الله تعالى؟
فقال: لأنه يقتضي ظهور أمر الله سبحانه كان عنه مستورا، وفي هذا أنه قد
تجدد له العلم بما لم يكن به عالما.
فقلت له: أبن لنا من أين علمت أنه يوجب ذلك ويقتضيه ليسع الكلام
معك فيه؟
فقال: هذا هو معنى البداء، والتعارف يقضي بيننا، ولسنا نشك أن البداء
هو الظهور، ولا يبدو للامر إلا لظهور شئ تجدد من علم أو ظن لم يكن معه من
قبل، وبيان ذلك: أن طبيبا لو وصف لعليل أن يشرب في وقته شراب الورد
حيت إذا أخذ العليل القدح بيده ليشرب ما أمره به، قال له الطبيب في الحال:
صبه، ولا تشربه وعليك بشرب النيلوفر بدله، فلسنا نشك في أن الطبيب قد
استدرك الامر وظهر له من حال العليل ما لم يكن عالما به من قبل، فغير عليه
الامر لما تجدد له من العلم، ولولا ذلك لم يكن معنى لهذا الخلف.
فقلت له: هذا مما في الشاهد وهو من البداء فيجوز عندك، يكون في البداء
قسم غير هذا.
فقال: لا أعلم في الشاهد غير هذا القسم، ولا أرى أنه يجوز في البداء قسم
غيره ولا يعلم.
فقلت له: ما تقول في رجل له عبد أراد أن يختبر حاله وطاعته من معصيته
ونشاطه من كسله، فقال له في يوم شاتئ شديد البرد: سر لوقتك هذا إلى مدينة
كذا لتقبض مالا لي بها، فأحسن العبد لسيده الطاعة، وقدم المبادرة، ولم يحتج
بحجة، فلما رأى سيده مسارعته، وعرف شهامته ونهضته، شكره على ذلك
190

وقال له: أقم على حالك، فقد عرفت أنك موضع للصنيعة، وأهل للتعويل
عليك في الأمور العظيمة، أيجوز عندك هذا؟ وإن جاز فهل هو داخل في البداء
أم لا؟
فقال: هذا مستعمل ورأينا مثله في الشاهد، وقد بدا للسيد، وليس هو
قسما ثانيا، بل هو بعينه الأول، هو الذي لا يجوز على الله عز وجل.
فقلت له: لم زعمت أنه القسم الأول؟ فقال: لان في الأول قد استفاد
الطبيب علما بحال المريض لم يكن بها عالما، كما أن في الثاني قد استفاد السيد
علما بحال العبد لم يكن بها عالما، فهما عندي سواء.
فقلت له: لم جعلت الجمع بينهما من حيث ذكرت أولى من التفرقة بينهما
من حيث كان أحدهما مريد لاتمام الفعل قبل أن يبدو له فيه، فينتهي عنه
وهو الطبيب، والاخر غير مريد لاتمامه على كل وجه، وهو سيد العبد، بل
كيف لم تفرق بينهما من حيث أن الطبيب لم يجز قط أن يقع منه اختلاف الامر
إلا لتجدد علم له يكن، وسيد العبد يجوز أن يقع منه النهي بعد الامر من غير
أن يتجدد له علم، ويكون عالما بنهضته في الحالين، ومسارعته إلى ما أحب،
وإنما أمره بذلك ليعلم الحاضرون حسن طاعته ومبادرته إلى ما أمره، وأنه ممن
يجب اصطفاؤه والاحسان إليه والتعويل في الأمور عليه.
قال: فإذا سلمت لك الفرق بينهما، فما تنكر أن يكون دالا على أن مثالك
الذي أتيت به غير داخل في البداء.
قلت: أنكرت ذلك من قبل أن البداء هو عندنا جميعا: نهي الامر عما أمر به
قبل وقوعه في وقته، وإذا كان هذا هو الحد المراعى فهو موجود في مثالنا، وقد
أجمع العقلاء أيضا على أن السيد فيه قد بدا له فيما أمر به عبده.
قال: فإذا دخل القسمان في البداء فما الذي تجيز على الله منهما؟
فقلت: أقربهما إلى قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، وأشبههما لما أمر الله
191

تعالى في المنام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام، فلما سارع إلى المأمور راضيا
بالمقدور، وأسلما جميعا صابرين وتله للجبين، نهاه الله عن الذبح بعد متقدم
الامر، وأحسن الثناء عليهما، وضاعف لها الاجر، وهذا نظير ما مثلت من أمر
السيد وعبده، وهو النهي عن المأمور به قبل وقوع فعله.
قال: فمن سلم لك أن إبراهيم عليه السلام مأمور بذلك من قبل الله
سبحانه؟
قلت: سلمه لي من يقر بأن منامات الأنبياء عليهم السلام صادقة
ويعترف بأنها وحي في الحقيقة، وسلمه لي من يؤمن بالقرآن ويصدق ما فيه
من الاخبار، وقد تضمن الخبر عن إسماعيل أنه قال لأبيه عليهما السلام: (يا
أبة افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) وقول الله تعالى لإبراهيم:
(قد صدقت الرؤيا) وثناؤه عليه، حيث قال: (كذلك نجزي المحسنين)،
وليس يحسن من امتثل غير أمر الله في ذبح ولده واضح لمن أنصف من
نفسه.
قال: فإني لا اسمي هذا بداء.
فقلت له: ما المانع لك من ذلك، أتوجه الحجة عليك به أم مخالفته للمثال
المتقدم ذكره؟
فقال: يمنعني من أن اسميه البداء: أن البداء لا يكشف إلا عن متجدد علم
لمن بداله، وظهوره له بعد ستره، وليس في قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما
السلام ما يكشف عن تجدد علم الله سبحانه ولا يجوز ذلك عليه، فلهذا قلت:
إنه ليس ببداء.
فقلت له: هذا خلاف لما سلمته لنا من قبل، وأقررت به من أن سيدا لعبد
يجوز أن يأمره بما ذكرناه، ثم يمنعه مما أمره به، وينهاه مع علمه بأنه يطيعه في
الحالين لغرضه في كشف أمره للحاضرين. ثم يقال لك: ما تنكر من إطلاق
192

اللفظ بالبداء في قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، لأنها كشفت لهما عن
علم متجدد ظهر لهما كان ظنهما سواه، وهو إزالة هذا التكليف بعد تعلقه
والنهي عن الذبح بعد الامر به.
قال: أفتقول: إن الله تعالى أراد الذبح لما أمر بن أم لم يرده؟ واعلم أنك إن
قلت: انه لم يرده، دخلت في مذاهب المجبرة لقولك: إن الله تعالى أمر بما لا يريده،
كذلك إن قلت: انه أراده، دخلت في مذاهبهم أيضا من حيث أنه نهى عما أراده
فما خلاصك من هذا؟
فقلت له: هذه شبهة يقرب أمرها، والجواب عنها لازم لنا جميعا لتصديقنا
بالقصة وإقرارنا بها، وجوابي فيها: أن الذبح في الحقيقة هو تفرقة الاجزاء، ثم قد
تسمى الافعال التي في مقدمات الذبح مثل القصد والاضجاع وأخذ الشفرة
ووضعها على الحلق ونحو ذلك ذبحا مجازا واتساعا، ونظير هذا أن الحاج في
الحقيقة هو زائر بيت الله تعالى على منها ما قررته الشريعة من الاحرام
والطواف والسعي، وقد يقال لمن شرع في حوائجه لسفره في حوائجه من قبل أن
يتوجه إليه أنه حاج اتساعا ومجازا.
فأقول: إن مراد الله تعالى فيما أمر به لخليله إبراهيم عليه السلام من ذبح
ولده، إنما كان مقدمات الذبح من الاعتقاد أولا والقصد ثم الاضجاع للذبح،
وترك الشفرة على الحلق، وهذه الأفعال الشاقة التي ليس بعدها غير الاتمام
بتفرقة أجزاء الحلق، وعبر عن ذلك بلفظ الذبح، ليصح من إبراهيم عليه
السلام الاعتقاد له والصبر على المضض فيه الذي يستحق جزيل الثواب عليه،
ولو فسر له في الامر المراد على التعيين لما صح منه الاعتقاد للذبح، ولا كان ما
أمر به شاقا يستحق عليه المدح والثناء، والمدح لعظيم الاجر، والذي نهى الله
تعالى عنه هو الذبح في الحقيقة، وهو الذي لم تبق غيره، ولم تتعلق الإرادة قط
به، فقد صح بهذا أن الله تعالى لم يأمر بما لا يريد ولا نهى عما أراد، والحمد لله.
193

قال الخصم: فقد انتهى قولك إلى أن الذي أمر به غير الذي نهى عنه،
وليس هذا هو البداء.
فقلت له: أما في ابتداء الامر فما ظن إبراهيم عليه السلام إلا أن المراد هو
الحقيقة، وكذلك كان ظن ولده إسماعيل عليه السلام، فلما انكشفت بالنهي
لهما ما علماه مما كان ظنهما سواه، كان ظاهره بداء لمشابهته لحال من يأمر
بالشئ وينهي عنه بعينه في وقته، وليستسلمه على ظاهر الامر دون باطنه فلم
يرد ما ذكرت شيئا (1).
(795) الكراجكي وجماعة
قال: حضرت في سنة ثماني عشرة وأربعمائة مجلسا فيه جماعة ممن يحب
استماع الكلام، ومطلع نفسه فيه إلى السؤال، فسألني أحدهم، فقال: كيف
يصح لكم القول: بالقول والاعتقاد بأن الله لا يجوز عليه الظلم مع قولكم: انه
سبحانه يعذب الكفار في يوم القيامة بنار الأبد عذابا متصلا غير منقطع؟ وما وجه
الحكمة والعدل في ذلك، وقد علمنا أنه هذا الكافر وقع منه كفره في مدة
متناهية وأوقات محصورة، وهي مبلغ عمره الذي هو مائة سنة في المثل وأقل أو
أكثر؟ فكيف جاز في العدل عذابه أكثر من زمان كفره؟ وإلا زعمتم أن عذابه
متناه كعمره ليستمر لكم القول بالعدل وتزول مناقضتكم لما تنفون عن الله
تعالى من الظلم.
الجواب: فقلت له: سألت، فافهم الجواب، اعلم أن الحكمة لما اقتضت
الخلق والتكليف وجب أن يرغب العبد فيما أمره به من الايمان بغاية الترغيب،
وبزجر عما نهي عنه من الكفر بغاية التخويف والترهيب، ليكون ذلك أدعى

(1) كنز الفوائد: ص 103 - 105.
194

له إلى فعل المأمور به وأزجر له عن ارتكاب المنهي عنه، وليس غاية الترغيب إلا
الوعد بالنعيم الدائم المقيم، ولا يكون غاية التخويف والترهيب إلا التوعيد
بالعذاب الخالد الأليم، وخلف الخبر كذب والكذب لا يجوز على الحكيم، فبان
بهذا الوجه أن تخليد الكافر في العذاب الدائم ليس بخارج عن الحكمة، ولا
القول به مناقض الأدلة.
فقال صاحب المجلس: قد أتيت في جوابك بالصحيح الواضح، غير أنا
نظن بقية في السؤال تطلع نفوسنا إلى أن نسمع عنها الجواب، وهي أن الحال قد
اقتضت إلى ما ينفرد منه العقل، وهو أن عذاب أوقات غير محصورة يكون
مستحقا على ذنوب حدها متناهية محصورة.
فقلت له: أجل، إن الحال قد أفضت إلى أن الهالك على كفره يعذب
بعذاب تقدير زمانه أضعاف زمان عمره، وهذا هو السؤال بعينه، وفي مراعاة ما
أجبت به عنه بيان أن العقل لا يشهد به ولا ينفرد منه على أنني آتي بزيادة في
الجواب مقنعة في هذا الباب:
فأقول: إن المعاصي تتعاظم في نفوسنا على قدر نعم المعصي بها، ولذلك
عظم عقوق الولد لوالده لعظم إحسان الوالد عليه، وجلت جناية العبد على
سيده لجليل إنعام السيد عليه، فلما كانت نعم الله تعالى أعظم قدرا وأجل أثرا
من أن توفى بشكر أو تحصى بحصر، وهي الغاية في الانعام الموافق لمصالح
الأنفس والأجسام، كان المستحق على الكفر به وجحده إحسانه ونعمه هو غاية
الآلام، وغايتها الخلود في النار.
فقال رجل ينتمي إلى الفقه كان حاضرا: قد أجاب صاحبنا الشافعي عن
هذه المسألة بجوابين هما أجلى وأبين مما ذكرت. قال له السائل: وما هما؟
قال: أما أحدهما: فهو أن الله سبحانه كما ينعم في القيامة من وقعت منه
الطاعة في مدة متناهية بنعيم لا آخر له ولا غاية، وجب قياسا على ذلك أن
195

يعذب من وقعت منه المعصية في زمان محصور متناه بعذاب دائم غير منقص ولا
متناه.
قال: والجواب الاخر: أنه خلد الكفار في النار لعلمه أنهم لو بقوا أبدا
لكانوا كفارا. فاستحسن السائل هذين الجوابين منه استحسانا مفرطا، إما
لمغايظتي بذلك أو لمطابقتهما ركاكة فهمه.
فقال لي صاحب المجلس: ما تقول في هذين الجوابين
؟
فقلت: اعفني عن الكلام، فقد مضى في هذه المسألة ما فيه كفاية. فأقسم
علي وناشدني.
فقلت: إن المعهود من الشافعي والمحفوظ منه كلامه في الفقه، وقياسه في
الشرع، فأما أصول العبادات والكلام في العقليات فلم تكن من صناعته، ولو
كانت له في ذلك بضاعة لا شتهرت، إذ لم يكن خامل الذكر، فمن نسب إليه
الكلام فيما لا يعلمه على طريق القياس والجواب فقد سبه، من أن فساد هذين
الجوابين لا يكاد يخفى عمن له أدنى تحصيل:
أما الأول منهما: وهو مماثلته بين إدامة الثواب والعقاب فإنه خطأ في العقل
والقياس، وذلك أن مبتدئ النعم المتصلة في تقدير زمان أكثر من زمان الطاعة
إن لم يكن ما يفعله مستحقا كان تفضلا، ولا يقال للمتفضل المحسن: لم
تفضلت وأحسنت؟ ولا للجواد المنعم: لم جدت وأنعمت، وليس كذلك
المعذب على المعصية في تقدير زمان زايد على زمانها، لان ذلك إن لم يكن
مستحقا كان ظلما، تعالى الله عن الظلم فالمطالبة بعلة المماثلة بين الموضعين
لازمة، والمسألة مع هذا الجواب عما يوجب التخليد قائمة، والعقلاء مجمعون على
أن من أعطى زايدا على فعله أكثر من مقدار أجره فليس له قياسا على ذلك أن
يعاقب عمرا على ذنبه بأضعاف ما يجب في جرمه.
وأما جوابه الثاني: فهو وإن كان قد ذكره بعض الناس لاحق بالأول في
196

السقوط، لأنه لو كان تعذيب الله عز وجل للكافر بعذاب الأبد إنما هو لأنه علم
منه أنه لو بقي أبدا كان كافرا لكان إنما عذبه على تقدير كفر لم يفعله، وهذا هو
الظلم في الحقيقة الذي يجب تنزيه الله تعالى عنه، لان العبد لا يفعل الكفر إلا
مدة محصورة.
وقد اقتضى هذا الجواب: أن تعذيبه الزائد على مدة كفره هو عذاب على
ما لم يفعله، ولو جاز ذلك لجاز أن يبتدئ خلقا ثم يعذبه من غير أن يبقيه ويقدره
ويكلفه إذا علم منه أنه لو أبقاه وأقدره وكلفه كان كافرا جاحدا لأنعمه، وقد
أجمع أهل العدل على أن ذلك لا يجوز منه سبحانه، وهو كالأول بعينه في
العذاب للعلم بالكفر قبل وجوده لا على ما فعله وإحداثه، وقبحها يشهد العقل
به ويدل عليه تعالى الله عن إضافة القبيح إليه. فاعلم (فعلم) أنه لا يعتبر في
الجواب عن هذا السؤال بما أورده هذا الحاكي عن الشافعي وأن المصير إلى ما
قدمناه من الجواب عنه أولى والحمد لله.
فلما سمع المتفقه طعني فيما أورده، وقولي أن الشافعي ليس من أهل العلم
بهذه الصناعة، ولا له فيها بضاعة، ظهرت أمارات الغضب في وجهه، وتعذر
عليه نصرة ما جاء به، كما تعذر عليه وعلى غيره ممن حضر القدح فيما كنت
أجبت به، فتعمد لقطع ما كنا فيه بحديث ابتداء لا يليق بالمجلس ولا يقتضيه
فبينا نحن كذلك إذ حضر رجل كانوا يصفونه بالمعرفة وينسبونه إلى الاصطلاح
بالفلسفة، فلما استقر به المجلس، حكوا له السؤال وبعض ما جرى فيه من
الكلام.
فقال الرجل: هذا سؤال يلزم الكلام فيه، ويجب على من أقر بالشريعة
طلب جواب عنه صحيح يعتمد عليه، ثم سألوني الرجوع إلى الكلام والإعادة لما
سلف لي من الجواب ليسمع ذلك الرجل الحاضر، فقلت له: ألا سألتم الفقيه
إعادة ما كان أورده لعله أن يرضى هذا الشيخ إذا سمعه، وعنيت بالفقيه
197

الحاكي عن الشافعي؟
قالوا: قد تبين لنا فساد ما كان أجاب به، ولا حاجة بنا إلى اشغال
الزمان بإعادته
قلت: فأنا مجيبكم إلى الكلام، وسالك غير الطريقة الأولى في الجواب لعل
ذلك أن يكون أسرع لزوال اللبس، وأقرب إلى سكون النفس إن وجدت منكم
مع الاستماع حسن إنصاف.
قالوا: نحن مستمعون لك غير جاحدين لحق يظهر في كلامك.
فقلت: كان السؤال عن وجه العدل والحكمة في تعذيب الله عز وجل لمن
مات وهو كافر بالعذاب الدائم الذي تقدير زمانه لا ينحصر، وقد كان وقع من
العبد كفره في مبلغ عمره المتناهي المنحصر؟
والجواب عن ذلك: إن العذاب المجازى به على المعصية كائنة ما كانت
لا كلام بيننا في استحقاقه، وإنما الكلام في اتصاله وانقطاعه، فلا يخلو المعتبر في
ذلك أن يكون هو الزمان الذي وقعت المعصية فيه ومقداره وتناهيه، والمعصية
في نفسها وعظمها من صغرها، فلو كان مدة هي المعتبرة وكان يجب تناهي
العذاب لأجل تناهيها في نفسها لوجب أن يكون تقدير زمان العقاب عليها
بحسبها وقدرها حتى لا يتجاوزها ولا يزيد عليها.
وهذا حكم يقضى الشاهد بخلافه، ويجمع العقلاء على فساده، فكم قد
رأينا فيما بيننا معصية وقعت في مدة قصيرة كان المستحق من العقاب عليها
يحتاج إلى أضعاف تلك المدة، ورأينا معصيتين تماثل في القدر زمانهما واختلف
زمان العقاب المستحق عليهما، كعبد شتم سيده فاستحق من الأدب على ذلك
أضعاف ما يستحقه إذا شتم عبدا مثله وإن كان زمان الشتمين متماثلا،
فالمستحق عليهما من الأدب والعقاب يقع في زمان غير مماثل، ولو لم يكن في هذا
حجة إلا ما نشاهده من هجران الوالد أياما كثيرة لولده على فعل وقع في ساعة
198

واحدة منه مع تصويب كافة العقلاء للوالد في فعله، بل لو لم يكن فيه إلا جواز
حبس السيد فيما بيننا لعبده زمانا طويلا على خطيئته، وكذلك الإمام العادل
لمن (1 (يرى من رعيته لكان فيه كفاية في وضوح الدلالة، وليس يدفع الشاهد
إلا مكابر معاند، فعلم بما ذكرناه أنه لا يعتبر فيما يستحق على المعصية بقدر
زمانها، ولا يجب أن يماثل وقت الجزاء عليها لوقتها، ووجب أن يكون المرجع إليها
نفسها فبعظمها يعظم المستحق عليها سواء طال الزمان أو قصر، اتصل أم
انقطع، وجد فكان محققا، أو عدم فكان مقدرا والحمد لله.
فلما سمع القوم مني هذا الكلام، وتأملوا ما تضمنه من الافصاح والبيان،
وتمثيلي بالمتعارف من الشاهد والعيان لم يسعهم غير الاقرار للحق والاذعان
والتسليم في جواب السؤال لما أوجبه الدليل والبرهان، والحمد لله الموفق للصواب
وصلاته على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين (2).
الكراجكي وبعض العامة
قال: اجتمعت بدار العلم في القاهرة مع رجل من فقهاء العامة سألني هذا
الرجل بمحضر جماعة من أهل العلم، فقال: ما تقول في القياس؟ وهل تستجيزه
في مذهبك أم ترى أنه غير جائز؟
فقلت له: القياس قياسان: قياس في العقليات وقياس في السمعيات،
فأما القياس في العقليات فجائز صحيح، وأما القياس في السمعيات فباطل
مستحيل.
قال: فهل يتفق حدهما أم يختلف؟ قلت: الواجب أن يكون حدهما واحدا غير

(1) هكذا في الأصل والظاهر أنه (لما).
(2) كنز الفوائد: ص 141 - 144.
199

مختلف. قال: فما هو؟ قلت: القياس هو إثبات حكم المقيس عليه في المقيس
هذا هو الحد الشامل لكل قياس، وله بعد هذا شرايط لابد منها، ولا يقاس
شئ على شئ إلا بعلة تجتمع بينهما.
قال: فإذا كان الحد شاملا للقياسين فلا فرق إذا بين القياس الذي أجزته
والقياس الذي أحلته. قلت: بل بينهما فروق وإن شملهما الحد.
قال: وما هي؟ قلت: منها: أن علة القياس في العقليات موجبة ومؤثرة
تأثير الايجاب، وليست علة القياس في السمعيات عند من يستعمله كذلك، بل
يقولون: هي تابعة للدواعي والمصالح المتعلقة بالاختيار.
ومنها: أن العلة في القياس في العقليات لا تكون إلا معلومة، وهي عندهم
في السمعيات مظنونة غير معلومة.
ومنها: أنها في العقليات لا تكون الا شيئا واحدا، وهي في السمعيات قد
تكون مجموع أشياء، فهذه بعض الفروق بين القياسين وإن شملهما حد واحد.
قال: فما الذي يدل على أن القياس في السمعيات لا يجوز؟
قلت: الدليل على ذلك أن الشريعة موضوعة على حسب مصالح العباد
التي لا يعلمها إلا الله تعالى عز وجل، ولذلك اختلف حكمها في المتفق الصور
واتفق في المختلف، وورد الحظر لشئ والإباحة مثله، بل ورد الحكم في الامر
العظيم صغيرا وفي الصغير بالإضافة إليه عظيما، واختلف ذلك كل الاختلاف
الخارج عن مقتضى القياس، وإذا كان هذا سبيل المشروعات علم أنه لا
طريق إلى معرفة شئ من أحكامها إلا من قبل المطلع على السرائر العالم
بمصالح العباد، وأنه ليس للقائسين فيه مجال.
فقال أحد الحاضرين: فمثل لنا بعض ما أشرت إليه من هذا الاختلاف
المبائن للقياس.
قلت: هو عند الفقهاء أظهر من أن يحتاج إلى مثال، ولكني أورد منه طرفا
200

لموضع السؤال:
فمنه: أن الله عز وجل أوجب الغسل من المني ولم يوجبه من البول والغائط
وليس هو بأنجس منهما، وأكثر العامة يروون أن طاهر. وألزم الحائض قضاء ما
تركته من الصيام وأسقط عنها قضاء ما تركته من الصلاة، وهي أوكد من
الصيام. وفرض في الزكاة أن يخرج من الأربعين شاة شاة ولم يفرض في الثمانين
شاتين، بل فرضهما بعد كمال المائة والعشرين، وهذا خارج عن القياس.
ونهانا عن التحريش بين بهيمتين، وأباحنا اطلاق البهيمة على ما أضعف منها
في الصيد. وجعل للرجل أن يطأمن الإماء ما ملكته يمينه ولم يجعل للمرأة أن
تمكن من نفسها من ملكته يمينها. وأوجب الحد على من رمى غيره بفجور وأسقطه
عن من رماء بالكفر وهو أعظم من الفجور، وأوجب قتل القاتل بشهادة رجلين
وحظر جلد الزاني الذي يشهد بالزنا عليه إلا أن يشهد بذلك أربعة شهود.
وهذا كله خارج عن سنن القياس، وقد ذكروا عن ربيعة بن عبد الرحمان
أنه قال: سألت سعيد بن المسيب، فقلت: كم في أصبح المرأة؟ قال: عشر من
الإبل. قلت: كم في إصبعين؟ قال: عشرون قلت: كم في ثلاث؟ قال:
ثلاثون. قلت: كم في أربع؟ قال: عشرون. قلت: حين عظم جرحها
واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟ فقال سعيد: أعرابي أنت؟ قلت: بل عالم
مثبت أو جاهل متعلم. قال: هي السنة يا ابن أخ، ونحو ذلك مما لو ذهبت
إلى استقصائه لطال الخطاب، وفيما أوردته كفاية لذوي الألباب.
قال السائل: فإذا كان القياس عندك في الفروع العقلية صحيحا، ولم
يكن في الضرورات التي هي أصولها مستمرا ولا صحيحا، فما تنكر أن يكون
كذلك الحكم في السمعيات، فيكون القياس في فروعها المسكوت عنها
صحيحا، وإن لم يكن في أصولها المنطوق بها مستمرا ولا صحيحا.
فقلت: أنكرت ذلك من قبل أن المتعبدات السمعية وضعت على خلاف
201

القياس مما ذكرناه، فوجب أن يكون ما تفرع عنها جاريا مجراها، ولسنا نجد
أصول المعقولات التي هي الضرورات موضوعة على خلاف القياس، وإنما
امتنع القياس فيها لأنها أصول لا أصول لها، فوضح الفرق بينهما، ومما يبين لك
ذلك أيضا أنه قد كان من الجائز أن نتعبد بخلاف ما أتت به أصول
الشرعيات، وليس بجائز أن يتعبد بخلاف أصول العقليات التي هي
الضرورات، فلا طريق إلى الجمع بينهما.
قال: فما تنكر على من زعم أن الله تعالى فرق لنا بين الأصول في
السمعيات وفروعها فنص لنا على الأصول وعرفنا بها، وأمرنا بقياس الفروع
عليها ضربا من التعبد والتكليف ليستحق عليه الأجر والثواب.
قلت: هذا مما لا يصح أن يكلفه الله تعالى للعباد، لان القياس لابد فيه من
استخراج علة يحمل بها الفروع على الأصل ليماثل بينهما في الحكم، والأحكام الشرعية
لو كانت مما توجيه العلل لم يجز في المشروعات النسخ، وفي جواز ذلك
في العقل دلالة على أنها لا تثبت بالعلل، وقد قدمنا القول بأن علل القائسين
مظنونة، والظنون غير موصلة إلى اثبات ما تعلق بمصالح الخلق، ولا مؤدية إلى
العلم بمراد الله تعالى من الحكم، ولو فرضنا جواز تكليف العباد القياس (1) في
السمعيات لم يكن بد من ورود السمع بذلك إما في القرآن أو في صحيح
الاخبار، وفي خلو السمع من تعلق التكليف به دلالة على أن الله تعالى لم يكلفه
خلقه.
قال: فإنا نجد ذلك في آيات القرآن وصحيح الاخبار، قال الله عز وجل:
(فاعتبروا يا اولي الابصار) فأوجب الاعتبار وهو الاستدلال والقياس، وقال:
(فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) فأوجب بالمماثلة

(1) هكذا في الأصل والظاهر أنها (بالقياس).
202

المقايسة. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله لما أرسل معاذا إلى اليمن قال
له: بماذا تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال:
بسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى
الله عليه وآله -؟ قال اجتهد رأيي، فقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله - صلى
الله عليه وآله - لما يرضاه الله ورسوله. وروي عن الحسن بن علي عليهما السلام:
أنه سئل فقيل له: بماذا كان يحكم أمير المؤمنين عليه السلام؟ قال: بكتاب
الله، فإن لم يجد فسنة رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن لم يجد رجم فأصاب،
وهذا كله دليل على صحة القياس والاخذ بالاجتهاد وأظن والرأي.
فقلت له: أما قول الله عز وجل: (فاعتبروا يا اولي الابصار) فليس فيه
حجة لك على موضع الخلاف، لان الله تعالى ذكر أمر اليهود وجنايتهم على
أنفسهم في تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ما يستدل به على حق رسول
الله صلى الله عليه وآله، وأن الله تعالى أمده بالتوفيق ونصره وخذل عدوه،
وأمر الناس باعتبار ذلك ازدادوا (1) بصيرة في الايمان، وليس هذا بقياس في
المشروعات، ولا فيه أمر بالتعويل على الظنون في استنباط الاحكام.
وأما قوله سبحانه: (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل
منكم) فليس فيه أن العدلين يحكمان في جزاء الصيد بالقياس، وإنما تعبد الله
سبحانه عباده بإنفاذ الحكم في الجزاء عند حكم العدلين بما علمناه من نص
الله تعالى، ولو كان حكمها قياسا لكان إذا حكمها في جزاء النعامة بالبدنة لقد
قاسا، مع وجود النص بذلك، فيجب أن يتأمل هذا.
وأما الخبران اللذان أوردتهما فهما من أخبار الآحاد التي لا يثبت بها
الأصول المعلومة في العبادات على أن رواة خبر معاذ مجهولون وهم في لفظه أيضا

(1) هكذا في الأصل والظاهر (ليزدادوا).
203

مختلفون، ومنهم من روى أنه لما قال: اجتهد رأيي قال له: لا أحب أن أكتب
إليك كذا، ولو سلمنا صيغة الخبر على ما ذكرت لاحتمل أن يكون معنى قوله:
(أجتهد رأيي): أني أجتهد حتى أجد حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب
والسنة.
وأما ما رويته عن الحسن عليه السلام من حكم أمير المؤمنين صلوات
الله عليه ففيه تصحيف ممن رواه، والخبر المعروف أنه قال: (فإن لم يجد في
السنة شيئا رجز فأصاب) يعني بذلك القرعة بالسهام، وهو مأخوذ من الرجز
والفأل، والقرعة عندنا من الاحكام المنصوص عليها وليست بداخلة في
القياس. فقد تبين أنه لا حجة لك فيما أوردته من الآيات والاخبار.
فقال أحد الحاضرين: إذا لم يثبت للقايسين نص في إيجاب القياس،
فكذلك ليس لمن نفاه نص في نفيه من قرآن ولا أخبار، فقد تساويا في هذه
الحال.
فقلت له: قد قدمت من الدليل العقلي على فساد القياس في الشرعيات
وما يستغني به متأمليه عن إيراد ما سواه. ثم إن الامر بخلاف ما ظننت، وقد
تناصرت الأدلة بحظر القياس من القرآن وثابت الاخبار، قال الله عز وجل:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ولسنا نشك في أن الحكم
بالقياس حكم بغير التنزيل، وقال سبحانه: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم
الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) ومستخرج الحكم في
الحادثة بالقياس لا يصح له أن يضيفه إلى الله ولا إلى رسوله صلى الله عليه
وآله، وإذا لم يصح إضافته إليهما فإنما هو مضاف إلى القائس دون غيره، وهو
المحلل والمحرم في الشرع بقول من عنده وكذب وصفه بلسانه، فقال سبحانه:
(ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه
مسؤولا) ونحن نعلم أن القياس معول على الظن دون العلم، والظن مناف
204

للعلم، ألا ترى أنهما لا يجتمعان في الشئ الواحد؟! وهذا من القرآن كاف في
إفساد القياس.
وأما المروي في ذلك من الاخبار فمنه قول رسول الله صلى الله عليه وآله:
(ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور
برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام). وقول أمير المؤمنين عليه السلام: إياكم
والقياس في الاحكام، فإنه أول من قاس إبليس. وقال الصادق جعفر بن
محمد: إياكم وتقحم المهالك باتباع الهوى والمقاييس قد جعل الله تعالى للقرآن
أهلا أغناكم عن جميع الخلائق، لا علم إلا ما أمروا به، قال الله تعالى:
(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) إيانا عنى. وجميع أهل البيت عليهم
السلام أفتوا بتحريم القياس. وروي عن سلمان الفارسي - رحمه الله - أنه قال:
ما هلكت أمة حتى قاست في دينها. وكان ابن مسعود يقول: هلك القائسون.
وفي هذا القدر من الاخبار غنى عن الإطالة وإلاكثار.
وقد روى هشام بن عروة عن أبيه قال: إن أمر بني إسرائيل لم يزل معتدلا
حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم، فقالوا فيهم بالرأي فأضلوهم. وقال ابن عيينة:
فما زال أمر الناس مستقيما حتى نشأ فيهم ربيعة الرأي بالمدينة، وأبو حنيفة
بالكوفة، وعثمان البني بالبصرة، وأفتوا الناس وفتنوهم، فنظرنا فإذا هم أولاد
سبايا الأمم.
فحار الخصم والحاضرون مما أوردت ولم يأت أحد منهم بحرف زائد على ما
ذكرت والحمد لله (1).
(797) الشيعة وبعض المعتزلة
قال بعض المعتزلة لأحد الشيعة: إن أمركم معشر الشيعة لعجيب، ورأيكم

(1) كنز الفوائد: ص 293 - 297.
205

طريف، لأنكم أقدمتم على وجوه الصحابة الأخيار وعيون الأتقياء الأبرار
الذين سبقوا إلى الإسلام، واختصوا بصحبة الرسول، وقطعت أعذارهم الآيات
وصدقوا بالوحي، وانقادوا إلى الأمر والنهي، وجاهدوا المشركين، ونصروا رسول
رب العالمين، وجب أن يحسن بهم الظنون، ويعتقد فيهم الاعتقاد الجميل،
فزعمتم أنهم خالفوا الرسول - صلى الله عليه وآله - وعاندوا أهله من بعده،
واجتمعوا على غصب حق الإمام، وإقامة الفتنة في الأنام، واستأثروا في الخلافة
إلى الترأس على الكافة، وهذا مما تنكره العقول وتشهد أنه مستحيل،
فالتعجب فيكم طويل.
قال الشيعة: أما المؤمنون من أصحابه الأخيار والعيون من الأتقياء
الأطهار، فمن هذه الأمور بريئون، ونحن عن ذمهم متنزهون، وأما من سواهم
ممن ظهر زللهم وخطأهم، فإن الذم متوجه إليهم، وقبيح فعلهم طرق القول
عليهم، ولو تأملت حال هؤلاء الأصحاب لعلمت أنك نفيت عنهم خطأ قد
فعلوا أمثاله، ونزهتهم عن خلاف قد ارتكبوا أضعافه، وتحققت أنك وضعت
تعجبك في غير موضعه، وأوقعت استطرافك في ضد موقعه، فاحتشمت من
خصمك، ورددت التعجب إلى نفسك، وهؤلاء القوم الذين فضلتهم وعصمتهم
وأحسنت ظنك بهم ونزهتهم هم الذين دحرجوا الدباب ليلة العقبة بين رجلي
ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله طلبا لقتله، وهم الذين كانوا يضحكون
خلفه إذا صلى بهم، ويتركون الصلاة معه، وينصرفون إلى تجاراتهم ولهوهم، حتى نزل القرآن يهتف بهم، وهم الذين جادلوا في خروجه إلى بدر وكرهوا رأيه
في الجهاد، واعتقدوا أنه فيما دبره على غير الصواب، ونزل فيهم (كما أخرجك
ربك من بيتك، بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد
ما تبين لهم كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون).
وهم الذين كانوا يلتمسون من النبي صلى الله عليه وآله بمكة القتال
206

وينازلونه في الجهاد منازلة، ويرون أن الصواب خلاف ما تعبدوا به في تلك
الحال من الكف والامساك، فلما حصلوا في المدينة وتكاثر معهم الناس ونزل
عليهم فرض الجهاد وأمروا بالقتال كرهوا ذلك، وطلبوا التأخير من زمان إلى
زمان، ونزل فيهم: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة فلما كتب عليهم القتال - يعني ببدر - إذا فريق منهم يخشون الناس
كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى
أجل قريب) فيما اتصل بهذه الآية من الخبر عن أحوالهم والإبانة عن زللهم.
وهم الذين أظهروا الأمانة والطاعة، وأضمروا الخيانة والمعصية حتى نزل
فيهم: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم
تعلمون).
وهم الذين كفوا عن الإثخان في القتل يوم بدر، وطمعوا في الغنائم حتى
نزل فيهم: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون
عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق
لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
وهم الذين شكوا يوم الخندق في وعيد الله ورسوله وخبثت نياتهم فظنوا أن
الامر بخلاف ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وآله، إذ نزل فيهم: (إذ
جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الابصار وبلغت القلوب
الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ
يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله الا غرورا).
وهم الذين نكثوا عهد رسول الله، ونقضوا ما عقده عليهم في بيعته تحت
الشجرة، وأنفذهم إلى قتال خيبر فولوا الدبر، ونزل فيهم: (ولقد كانوا عاهدوا
الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا).
وهم الذين انهزموا يوم حنين وأسلموا النبي صلى الله عليه وآله للأعداء،
207

ولم يبق معه إلا أمير المؤمنين عليه السلام وتسعة من بني هاشم، ونزل فيهم:
(ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم
الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين).
وأمثال ذلك مما يطول شروحه به الذكر (1).
وهم الذين قال الله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل
أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم).
وهم الذين قال لهم النبي صلى الله عليه وآله، لتتبعن سنن من كان
قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لأتبعتموه (2)، قالوا: يا
رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذا.
وهم الذين قال صلى الله عليه وآله لهم: ألا لأعرفنكم ترتدون بعدي
كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.
وهم الذين قال لهم: إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة، وأنه سيجاء
برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي فيقال:
إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.
وهم الذين قال لهم: بينا أنا على الحوض إذ مر بكم زمرا فتفرق بكم
الطرق فأناديكم: ألا هلموا إلى الطريق فينادي مناد من ورائي: انهم بدلوا بعدك
فأقول: ألا سحقا ألا سحقا.
وهم الذين قال لهم عند وفاته: جهزوا جيش اسامة ولعن من تخلف عنه
فلم يفعلوا.
وهم الذين قال: ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي
فلم يفعلوا وقال أحدهم: دعوه فإنه يهجر ولم ينكر الباقون عليه هذا مع اظهارهم

(1) هكذا في الأصل والظاهر: (مما يطول بشرحه الذكر).
(2) هكذا في الأصل والصحيح (لا تبعتموهم)
208

الاسلام واختصاصهم بصحبة النبي صلى الله عليه وآله، ورؤيتهم الآيات
وقطع أعذارهم بالمعجزات.
فانظر الآن أينا أحق بأن يتعجب، وأولانا بأن يتعجب منه، من أضاف إلى
هؤلاء الأصحاب ما يليق بأفعالهم، ومن جعلهم فوق منازل الأنبياء وهذه
أحوالهم؟! فسكت المعتزلي متفكرا كأنه ألقمه الشيعي حجرا (1).
(798)
كثير و عبد الملك
كان (كثير بن عبد الرحمان الشاعر المشهور) يدخل على عبد الملك بن مروان
وينشده، وكان رافضيا شديد التعصب لآل أبي طالب، حكى ابن قتيبة في
طبقات الشعراء: أن كثيرا دخل يوما على عبد الملك، فقال له عبد الملك: بحق
علي بن أبي طالب هل رأيت أحدا أعشق منك؟ قال: يا أمير المؤمنين لو نشدتني
بحقك أخبرتك، قال: نشدتك بحقي إلا ما أخبرتني، قال: نعم (2)...
(799)
ابن الحنفية ورجل
قيل لمحمد بن الحنفية: كيف كان أبوك يقحمك المهالك ويولجك المضايق دون
أخويك الحسن والحسين؟ فقال: لأنهما كانا عينيه وكنت يديه، فكان يقي عينيه بيديه (3).
(800)
أبو العيناء وابن ثوابة
دخل (أبو العيناء) على ابن ثوابة عقيب كلام جرى بينه وبين أبي الصقر

(1) كنز الفوائد: ص 331 - 333.
(2) وفيات الأعيان: ج 3 / 266.
(3) وفيات الأعيان: ج 3 / 312.
209

أربى ابن ثوابة عليه فيه.
فقال (أبو العيناء) له، بلغني ما جرى بينك وبين أبي الصقر، وما منعه من
استقصاء الجواب، إلا أنه لم يجد عزا فيضعه ولا مجدا فينقصه، وبعد فإنه عاف
لحمك أن يأكله، وسهل دمك أن يسفكه.
فقال ابن ثوابة: وما أنت والدخول بيني وبين هؤلاء يا مكدي؟
فقال: لا تنكر على ابن ثمانين قد ذهب بصره وجفاه سلطانه أن يعود على
إخوانه فيأخذ من أموالهم، ولكن أشد من هذا من يستنزل الماء من أصلاب
الرجال فيستفرغه في جوفه، فيقطع أنسابهم ويعظم أوزارهم.
فقال ابن ثوابة: وما تساب اثنان إلا غلب الامهما. فقال أبو العيناء: وبها
غلبت أبا الصقر بالأمس، فاسكته (1).
(801)
أبو العيناء والمتوكل
دخل (أبو العيناء) على المتوكل في قصره المعروف بالجعفري سنة ست
وأربعين ومائتين، فقال له: ما تقول دارنا هذه؟
فقال: إن الناس بنوا الدور في الدنيا وأنت بنيت الدنيا في دارك،
فاستحسن كلامه.
ثم قال له: كيف شربك للخمر؟ قال: أعجز عن قليله، وأفتضح عند
كثيره.
فقال له: دع هذا عنك ونادمنا. فقال: أنا رجل مكفوف، وكل من في
مجلسك يخدمك وأنا محتاج أن أخدم، ولست آمن من أن تنظر إلي بعين راض
وقلبك علي غضبان أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم أميز بين هذين

(1) وفيات الأعيان: ج 3 / 468.
210

هلكت، فأختار العافية على التعرض للبلاء.
فقال: بلغني عنك بذاء في لسانك. فقال: يا أمير المؤمنين قد مدح الله تعالى
وذم، فقال: (نعم العبد إنه أواب) وقال عز وجل: (هماز مشاء بنميم مناع
للخير معتد أثيم) وقال الشاعر [من الطويل].
إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقا * ولم أشتم النكس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير والشر باسمه * وشق لي الله المسامع والفما
قال: فمن أين أنت؟ قال: من البصرة.
قال: فما تقول فيها؟ قال: ماؤها أجاج وحرها عذاب، وتطيب في الوقت
الذي تطيب فيه جهنم (1).
(802)
الشريف والسيرافي
ذكر أبو الفتح ابن جني (النحوي) في بعض مجاميعه: أن الشريف الرضي
المذكور احضر إلى ابن السيرافي النحوي وهو طفل جدا لم يبلغ عمره عشر سنين،
فلقنه النحو، وقعد معه يوما في حلقته، فذاكره بشئ من الإعراب على عادة
التعليم.
فقال له: إذا قلنا: (رأيت عمرو) (عمر ظ) فما علامة النصب في عمرو
(عمر ظ)؟ فقال له الرضي: بغض علي.
فعجب السيرافي والحاضرون من حدة خاطره (2).
(803)
مقاتل والمنصور
روي: أن أبا جعفر المنصور كان جالسا، فسقط عليه الذباب فطيره، فعاد

(1) وفيات الأعيان: ج 3 / 468، ونقل بعضا منها في الأذكياء لابن الجوزي: ص 85.
(2) وفيات الأعيان: ج 4 / 45، والكنى والألقاب: ج 2 / 312.
211

إليه، وألح عليه، وجعل يقع على وجهه، وأكثر من السقوط عليه مرارا حتى
أضجره.
فقال المنصور: انظروا من بالباب؟ فقيل له: مقاتل بن سليمان.
قال: علي به، فاذن له، فلما دخل عليه قال: هل تعلم لماذا خلق الله تعالى
الذباب؟ قال: نعم ليذل به الجبابرة. فسكت المنصور (1).
(804)
نصير ومعاوية
كان والد موسى (صاحب فتح الأندلس) نصير على حرس معاوية بن
أبي سفيان، ومنزلته عنده مكينة، ولما خرج معاوية لقتال علي بن أبي طالب
- رضي الله عنه - لم يخرج معه، فقال له معاوية: ما منعك من الخروج معي ولي
عندك يد لم تكافني عليها؟
قال: لم يمكني أن أشكرك بكفر من هو أولى بشكري، فقال: ومن هو؟
قال: الله عز وجل.
[فقال: وكيف لا أم لك؟ قال: وكيف لا أعلمك هذا، فاغضض وامض؟
قال]: فأطرق معاوية مليا، ثم قال: استغفر الله، ورضي عنه (2).
(805)
أبو العيناء وعبد الله بن سليمان
شكا (أبو العيناء) تأخر رزقه إلى عبد الله بن سليمان، فقال: ألم يكن
كتبنا لك إلى فلان؟ فما فعل في أمرك؟
قال: جرني على شوك المطل. قال: أنت اخترته.

(1) وفيات الأعيان: ج 4 / 341.
(2) وفيات الأعيان: ج 4 / 402.
212

قال: وما علي، وقد اختار موسى قومه سبعين رجلا فما كان فيهم رشيد
فأخذتهم الرجفة، واختار رسول الله صلى الله عليه وآله ابن أبي سرح كاتبا
فلحق بالكفار مرتدا، واختار علي أبا موسى فحكم عليه (1).
(806)
أبو دلف والمأمون
عن أبي الفضل الربعي عن أبيه قال: قال المأمون يوما وهو مغضب لأبي
دلف: أنت الذي يقول فيك الشاعر:
إنما الدنيا أبو دلف * عند مبداه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف * ولت الدنيا على أثره
فقال: يا أمير المؤمنين، شهادة زور وقول غرور، وملق معتاف وطلب عرف،
وأصدق منه ابن أخت لي حيث يقول:
دعيني أجوب الأرض في طلب الغنى * فلا أكرخ الدنيا ولا الناس قاسم
فضحك المأمون وسكن غضبه (2).
(807)
وليد بن زيد وهشام
دخل الوليد بن زيد على هشام بن عبد الملك وعلى الوليد عمامة وشئ،
فقال له الوليد: بكم أخذت عمامتك؟ قال: بألف درهم.
فقال هشام: عمامة بألف! يستكثر ذلك.
فقال الوليد: إنها لاكرم أطرافي يا أمير المؤمنين، وقد اشتريت جارية بعشرة

(1) الأذكياء لابن الجوزي: ص 85.
(2) الأذكياء لابن الجوزي: ص 126، وقد مر في ج 2 ص 253 بنحو آخر.
(3) الظاهر أنه هشام.
213

آلاف لأخس أطرافك (1).
(808)
ابن عباس ومعن بن زائدة
كان معن بن زائدة يذكر عنه قلة دين، فبعث إلى ابن عباس بألف دينار
وكتب إليه:
(بعثت إليك بألف دينار اشتريت بها دينك، فاقبض المال واكتب
بالتسليم).
فكتب إليه: (قد قبضت، وبعتك بذلك ديني ما خلا التوحيد لعلمي
بزهدك فيه) (2).
(809)
بهلول وهارون
علي بن ربيعة الكندي قال: خرج الرشيد إلى الحج، فلما كان بظاهر
الكوفة إذ بصر بهلولا المجنون على قصبة وخلفه الصبيان، وهو يعدو، فقال: من
هذا؟ قالوا: بهلول المجنون. قال: كنت أشتهي أن أراه فأدعوه من غير ترويع،
فقالوا له: أجب أمير المؤمنين. فعدا على قصبته، فقال الرشيد: السلام عليك يا
بهلول، فقال: وعليك السلام يا أمير المؤمنين، قال: كنت إليك بالأشواق قال:
لكني لم أشتق إليك. قال: عظني يا بهلول، قال: وبم أعظك هذه قصورهم
وهذه قبورهم. قال: زدني فقد أحسنت. قال: يا أمير المؤمنين من رزقه الله مالا
وجمالا، فعف في جماله وواسى في ماله كتب في ديوان الأبرار، فظن الرشيد أنه
يريد شيئا، فقال: قد أمرنا لك أن يقضى دينك، فقال يا أمير المؤمنين،
لا يقضي الدين بدين، أردد الحق على أهله، وأقض دين نفسك من نفسك.
قال: فإنا قد أمرنا أن يجرى عليك فقال: يا أمير المؤمنين، أترى الله يعطيك

(1) الأذكياء لابن الجوزي: ص 139.
(2) الأذكياء لابن الجوزي: ص 139.
214

وينساني؟ ثم ولى هاربا.
وري بإسناد آخر أنه قال للرشيد:
يا أمير المؤمنين، فكيف لو أقامك الله بين يديه، فسألك عن النقير والفتيل
والقطمير، قال: فخنقته العبرة، فقال الحاجب: حسبك يا بهلول، فقد أوجعت
أمير المؤمنين، فقال الرشيد: دعه، فقال بهلول: إنما أفسده أنت وأضرابك.
فقال الرشيد: أريد أن أصلك بصلة، فقال بهلول: ردها على من أخذت
منه، فقال الرشيد: فحاجة، قال: أن لا تراني ولا أراك. ثم قال: يا
أمير المؤمنين، حدثنا أيمن بن وائل عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال: رأيت
رسول الله صلى الله عليه وآله يرمي جمرة العقبة على ناقة له صهباء لاضرب
ولا طرد.
ثم ولى بقصبته وأنشأ يقول:
فعدك قد ملأت الأرض طرا * ودان لك العباد فكان ماذا
ألست تموت في قبر ويحوي * تراثك بعد هذا ثم ماذا (1)
(810)
بهلول والواثق
قال نعيم الخشاب: كتب بهلول إلى الواثق (الخليفة العباسي): أما بعد،
فإن المراء قد لعب بدينك، والأهواء قد أحاطت بك، ومقالات أهل البدع قد
سلخت عنك عقلك، وابن أبي دؤاد المشؤوم قد بدل عليك كلام ربك اقرأ:
(فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى - إلى قوله - فاعبدني)، أيكون هذا كلاما
مخلوقا؟ فرماك الله بحجارة من سجيل مسمومة عند ربك (2) وما هو من الظالمين

(1) عقلاء المجانين: ص 77 - 78 تأليف حسن بن محمد بن حبيب النيسابوري المتوفى سنة 406.
(2) في المصدر (مسمومة) والصحيح: (مسومة).
215

ببعيد. ثم كتب عنوانه: من الخائف الذليل إلى المخالف لكلام ربه تعالى (1).
(811)
بهلول وابن أبي دؤاد
قال سالم بن عطية: كتب بهلول إلى ابن أبي دؤاد (2).
أما بعد فإنك قد ميزت كلام الله من الله، وزعمت أنه مخلوق، فإن يك
ما ذكرت باطلا فرماك الله بقارعة من عنده، ويلك أكنت معه حين كلم
موسى؟! فإن كنت رادا عليه فاقرأ: (عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة
الفجرة).
ثم كتب عنوانه: من الصادق المتواضع إلى الكاذب المتجبر (3).
(812)
بهلول والخلعي
قال عبد الرحمان الهاشمي: لما ولي الخلعي على شرطة بغداد: وكان يرى
برأي ابن أبي دؤاد (4) كتب إليه بهلول:
(أما بعد، فإن السماء بأكنافها ونور كواكبها وضياء شمسها وقمرها
وصفوف ملائكتها والعرش والملائكة المقربين، وافحجب (5) المزدلفة بقدرة
خالقها، والنار وزبانيتها، والجنة وسندسها، والأرضين وجبالها، والجبال
وكهوفها، والحيتان في بحارها، والوحش في قفارها، والجن في أقطارها، والطير

(1) عقلاء المجانين: ص 83.
(2) في المصدر (ابن أبي داود) والصحيح ما ذكرنا.
(3) عقلاء المجانين: ص 84.
(4) في المصدر (ابن أبي داود).
(5) كذا في المصدر.
216

في أوكارها، والسباع في وجارها والأشجار وثمارها يسبحون له في الغدو
والآصال (1).
(813)
عليان وعبد الملك
قال عبد الملك بن أبجر: لقيت عليان المجنون، وكان اسمه عندي عليان،
فقلت له: يا عليان.
فقال: لا إله الا الله قل خيرا يا ابن أبجر، ولد لأبي مولود قبلي فسماه
محمدا ببركات رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم ولدت فسماني عليا ببركات
وصي رسول الله صلى الله عليه وآله، فمن صغرني فقد صغر وصي رسول الله
صلى الله عليه وآله، ومن طيبت به للتصغير بي فما طيبت بك يا ابن أبجر،
فجعلت لا اسميه إلا عليا أو كنيته (2).
(814)
عليان وحفص
قال حفص بن غياث القاضي: مررت في طاق السراجين، فإذا عليان
جالس، فلما جزته سمعته يقول: من أراد سرور الدنيا وحزن الآخرة فليتمن
ما هذا فيه فوالله لقد تمنيت لو كنت مت قبل أن ألي القضاء (3).
(815)
عليان وأبو يوسف
قال الإمام أبو يوسف القاضي - رحمه الله -: كنت مارا في طرقات الكوفة
وإذا أنا بعليان المجنون، بصرني سلم علي وقال لي: أيها القاضي مسألة،

(1) عقلاء المجانين: ص 84.
(2) عقلاء المجانين: ص 86.
(3) المصدر نفسه.
217

قلت: هات.
قال: أليس قال الله تعالى في كتابه العزيز: (وما من دابة في الأرض ولا
طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم)؟ قلت: بلى.
قال: أليس قال الله عز وجل: (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)؟ قلت:
بلى.
قال: فما نذير الكلاب؟ قلت: لا أدري، فأخبرني قال: لا والله لا أقول إلا
بمن رقاق من شواء، ونصف من فالوذج، فأمرت من جاء بها، ودخلت معه
مسجدا فأكلها حتى أتى على آخرها.
فقلت: هات الجواب. فأخرج من كمه حجرا وقال: هذا نذير
الكلاب (1).
(816)
عليان ورجل
قال الحسن الكوفي: قال رجل لعليان: أجننت؟ قال: أما عن الغفلة
فنعم، وأما عن المعرفة فلا. قال: كيف حالك مع المولى؟ قال: ما جفوته
مذ عرفته قال: ومذكم عرفته؟ قال: مذ جعل اسمي في المجانين (2).
(817)
عليان وموسى
قال زهير بن حرب: أمر الخليفة موسى الهادي بإحضار بهلول وعليان،
فاحضرا، فلما دخلا عليه، قال لعليان:
أيش معنى عليان؟ قال عليان: وأيش معنى موسى أطبق؟

(1) عقلاء المجانين: ص 88.
(2) عقلاء المجانين: ص 86.
218

فغضب الهادي وقال: خذوا برجل ابن الفاعلة، فالتفت عليان إلى بهول
وقال: خذها إليك كنا اثنين فصرنا ثلاثة (1).
(818)
مجنون وأبو الهذيل
قال أبو الهذيل العلاف: رحلت من البصرة أريد العسكر فمررت بدير
هرقل، فقلت: لأدخلن هذا الدير لأرى ما فيه، فإذا شيخ حسن اللحية في
السلسلة، فأدمت النظر إليه، فلما رآني لا أرد بصري عنه قال لي: معتزلي أنت؟
قلت: نعم.
قال: أإمامي؟ قلت: نعم.
قال: تقول: القرآن مخلوق؟ قلت: نعم قال: كن أبا الهذيل العلاف.
قلت: أنا أبو الهذيل.
قال: أسألك؟ قلت: سل. قال: أخبرني عن الرسول صلى الله عليه وآله
أليس هو أمين في السماء وفي الأرض؟ قلت: بلى.
قال: أخبرني عنه هل به خلة ميل أو حيف أو هوى؟ قلت: لا.
قال: أخبرني عنه هل به خلة ميل أو حيف أو هوى؟ قلت: لا.
قال: فأخبرني عن رأيه أليس هو الذي لا يدخله زلل وشبهة، وهو المعصوم من
الشبهة والريبة؟ قلت: بلى.
قال: فأخبرني عمن هو دونه من الخلق أليس يدخلهم في رأيهم الفساد
والغفلة والهوى، وأنهم أضداد في كل شئ وإن كانوا أخيارا؟ قلت: بلى.
قال: فلأي علة لم يقم لهم علما ينصبه بقوله: هذا خليفتكم بعدي فلا
تقتتلوا، لمن يفعل هذا الا لا يكون الاختلاف والفساد في أمته؟ (2) قلت: معاد

(1) عقلاء المجانين: ص 91.
(2) كذا في الأصل في جميع النسخ التي رأيتها ولعل الصحيح: (فمن لم يفعل هذا أحبت أن يكون
الاختلاف...).
219

الله أن يكون ذلك.
قال: فلم تركهم وألجأهم إلى رأي من دونه في الصفة، إذا لم يحب
الاختلاف والتشتت؟ فسكت فلم أدرما أقول له.
فقال: مالك لا تجيب ألا تحسن؟ ثم تركته وخرجت، فلما رآني موليا ناداني
الشيخ: ارجع إلينا، فرجعت إليه.
فقال: أحسبك تريد الخليفة؟ قلت: نعم.
قال: ألا إن تصير إلى الخليفة أقض لي حاجتي. فقلت: وما هي؟
قال: تكلم هذه الفاعلة امرأة صاحب الدير تطلقني. فكلمتها، فقالت:
عليه في هذا ضرر، فلما رآها غير مجيبة، قال: فسلها أن تستوطني، فسألتها،
فأجابت، فانصرفت عنه متعجبا... (1)
(819)
أم سلمة وعثمان
أتت أم سلمة - رحمة الله عليها - عثمان بن عفان - رض - لما طعن الناس
عليه فقالت:
يا بني مالي أرى رعيتك عنك مزورين، وعن ناحيتك نافرين، لا تعف
سبيلا كان رسول الله صلى الله عليه وآله نهجها، ولا تقدح زندا كان
أكباها، توخ حيث توخى صاحباك، فإنهما ثكما لك الامر ثكما ولم يظلماه،
لست بغفل فتعتذر، ولا بحلو فتعتزل، ولا تقول ولا يقال إلا لمظن، ولا يختلف إلا
في ظنين، فهذه وصيتي إياك، وحق بنوتك قضيتها إليك، ولله عليك حق الطاعة
وللرعية حق الميثاق.
فقال لها عثمان - رض -:

(1) عقلاء المجانين: ص 169 - 171، وقد مر في ج 1 ص 290 قصة لأبي الهذيل مع مجنون غير هذا فراجع.
220

يا امنا، قد قلت فوعيت، وأوصيت فاستوصيت، ان هؤلاء النفر رعاع غثرة
تطأطأت لهم تطأتطأ الماتح الولاة، وتلددتهم تلدد المضطر، فأرانيهم الحق إخوانا،
وأراهموني الباطل شيطانا، أجررت المرسون منهم رسنه، وأبلغت الراتع مسقاته،
فانفرقوا علي فرقا ثلاثة،، فصامت صمتة أنفذ من صول غيره، وساع أطاعني
شاهده ومنعني غائبه، ومرخص له في مدة رينت له على قلبه، فأنا منهم بين
ألسنة حداد وقلوب شداد وسيوف حداد، عذيري منهم الله ألا منهم حليم سفيها
ولا عالم جاهلا، والله حسبي وحسبهم يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون (1).
(820)
رجل والقاسم
قال: حدثنا رجل حضر مجلس القاسم بن المجمع وهو والي الأهواز قال:
حضر مجلسه رجل من بني هاشم فقال:
أصلح الله الأمير ألا أحدثك بفضيلة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي
الله عنه؟ قال: نعم إن شئت.
قال: حدثني أبي قال: حضرت مجلس محمد بن عائشة بالبصرة إذ قام إليه
رجل من وسط الحلقة فقال: يا أبا عبد الرحمان من أفضل أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وآله؟ فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد
وعبد الرحمان بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح، فقال له: فأين علي بن أبي طالب
رضي الله عنه؟ قال: يا هذا تستفتي عن أصحابه أم عن نفسه؟ قال: بل عن
أصحابه. قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: (قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم
ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) فكيف أصحابه مثل نفسه (2).

(1) محادثات النساء: ص 57.
(2) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 42.
221

(821)
عدي ومعاوية
روي: أن عدي بن حاتم دخل على معاوية بن أبي سفيان فقال:
يا عدي أين الطرفات؟ يعني بنيه طرفا وطارفا وطرفة. قال: قتلوا يوم
صفين بين يدي علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فقال: ما أنصفك ابن أبي طالب، إذ قدم بنيك وأخر بنيه. قال: بل ما
أنصفت أنا عليا، إذ قتل وبقيت.
قال: صف لي عليا. فقال: إن رأيت أن تعفيني. قال: لا أعفيك.
قال: كان والله بعيد المدى وشديد القوى، يقول عدلا ويحكم فضلا،
تتفجر الحكمة من جوانبه والعلم من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها،
ويستأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير الدمعة طويل الفكرة، يحاسب
نفسه إذا خلا، يقلب كفيه على ما مضى، يعجبه من اللباس القصير ومن
المعاش الخشن، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه ويدنينا إذا أتيناه، ونحن
مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته، فإن تبسم
فعن اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين يتحبب إلى المساكين، لا يخاف القوي
ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله، فاقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه
وأرخى الليل سرباله وغارت نجومه، ودموعه تتحادر على لحيته، وهو يتململ
تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول:
(يا دنيا أإلي تعرضت أم إلي أقبلت؟ غري غيري لاحان حينك، قد
طلقتك ثلاث لا رجعة لي فيك، فعيشك حقير وخطرك يسير، آه من قلة الزاد
وبعد السفر وقلة الأنيس).
قال: فوكفت عينا معاوية ينشفهما بكمه، ثم قال: يرحم الله أبا لحسن كان
كذا، فكيف صبرك عنه؟
222

قال: كصبر من ذبح ولدها في حجرها، فهي لا ترقأ دمعتها ولا تسكن
عبرتها. قال: فكيف ذكرك له؟
قال: وهل يتركني الدهر أن أنساه (1).
(822)
ابن عباس ومعاوية
قيل: ودخل ابن عباس على معاوية، فقال: يا ابن عباس صف لي عليا
قال: كأنك لم تره؟
قال: بلى ولكني أحب أن أسمع منك فيه مقالا.
قال: كان أمير المؤمنين - رضوان الله عليه - غزير الدمعة طويل الفكرة،
يعجبه من اللباس ما خشن والطعام ما جشب، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا
إذا دعوناه وكان مع تقربته إيانا وقربه منا لا نبدأه بالكلام حتى يتبسم، فإذا هو
تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، أما والله يا معاوية، لقد رأيته في بعض مواقفه وقد
أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، وهو قابض على لحيته يبكي ويتململ
تململ السليم وهو يقول: يا دنيا إياي تغرين؟ أمثلي تشوقين؟ لا حان حينك
بل زال زوالك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعيشك حقير وعمرك قصير
وخطرك يسير، آه آه من بعد السفر ووحشة الطريق وقلة الزاد..
قال: فأجهش معاوية ومن معه بالبكاء (2).

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 46 - 47، وقد مر قريب من هذه الألفاظ عن ضرار بن ضمرة، راجع
في ج 1 ص 320 ولعل هذا تركيب من كلام عدي المذكور في صدر الكلام وقد مر في ج 2 ص 170
وما بعدها ومن كلام ضرار المتقدم ويحتمل أن يكون كلاما مستقلا صدر عن عدي وقد روي مثله
عن ابن عباس.
(2) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 46.
223

(823)
الأحنف وعائشة
عن الحسن البصري - رحمه الله -: أن الأحنف بن قيس قال لعائشة - رحمها
الله - يوم الجمل: يا أم المؤمنين هل عهد عليك رسول الله صلى الله عليه وآله
هذا المسير؟ قالت: اللهم لا.
قال: فهل وجدتيه في شئ من كتاب الله جل ذكره؟
قالت: ما نقرأ إلا ما تقرأون.
قال: فهل رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله استعان بشئ من نسائه
إذا كان في قلة والمشركون في كثرة؟ قالت: اللهم لا.
قال الأحنف: فإذا ما هو ذنبنا؟ (1)
(824)
عبد الله وعمرو
قيل: واستأذن الحسن بن علي (بن أبي طالب عليه السلام) رضي الله عنه
على معاوية وعنده عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص، فأذن له، فلما أقبل
قال عمرو: قد جاءكم الافه العيي الذي كان بين لحييه عبلة.
فقال عبد الله بن جعفر: مه فوالله لقد رمت صخرة ململمة تنحط عنها السيول،
وتقصر دونها الوعول، ولا تبلغها السهام، فإياك والحسن إياك، فإنك لا تزال
راتعا في لحم رجل من قريش، ولقد رميت فما برح سهمك، وقدحت فما أورى
زندك.
فسمع الحسن عليه السلام الكلام، فلما أخذ الناس مجالسهم قال: يا
معاوية لا يزال عندك عبد راتعا في لحوم الناس، أما والله لو شئت ليكونن بيننا

(1) المحاسن والمساوي للبيهقي: ص 50.
224

ما تتفاقم فيه الأمور وتحرج منه الصدور، ثم أنشأ يقول:
أتأمر يا معادي عبد سهم * بشتمي والملا منا شهود
إذا أخذت مجالسها قريش * فقد علمت قريش ما تريد
قصدت إلي تشتمني سفاها * لضغن ما يزول وما يبيد
فمالك من أب كأبي تسامي * به من قد تسامي أوتكيد
ولا جد كجدي يا ابن هند * رسول الله إن ذكر الجدود
ولا أم كأمي من قريش * إذا ما يحصل الحسب التليد
فما مثلي تهكم يا ابن هند * ولا مثلي تجاريه العبيد
فمهلا لا تهج منا أمورا * يشيب لها معاوية الوليد (1)
(825)
الفرزدق وخالد
لقي خالد بن صفوان الفرزدق، وكان كثيرا ما يداعبه، وكان الفرزدق
ذميما فقال له: يا أبا فراس، ما أنت بالذي لما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن.
قال له: ولا أنت أبا صفوان بالذي قالت فيه الفتاة لأبيها: (يا أبت
استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) (2).
(826)
علي بن عبد الله وعبد الملك
قيل: كان علي بن عبد الله بن العباس - رضي الله عنه - عند عبد الملك بن
مروان إذا فاخره عبد الملك، فجعل يذكر أيام بني أمية، فبينا هو كذلك إذ نادى
المنادي للاذان فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 83 - 84.
(2) العقد الفريد: ج 4 / 42.
225

فقال علي لعبد الملك:
تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
فقال عبد الملك: الحق في هذا أبين من أن يكابر (1).
(827)
أبو العيناء ورجل
قال: وقيل لأبي العيناء: ما بال العمى قد صار في صغاركم وكباركم حتى
إنه يلحق الطفل منكم؟
فقال: نعم الطينة الملعونة، والدعوة المشؤومة، وذلك أنه سلم بعض الخلفاء
رجلا من آل أبي طالب إلى جدنا الأكبر فقتله، ودعا عليه، فلحقتنا دعوته، فما
تراه بنا فهو من تلك الدعوة (2).
(828)
أبو العيناء وأبو الحمار
اجتاز أبو العيناء ذات يوم فسمع غناء لم يعجبه، فسأل أبو العيناء عن
صاحب الغناء فلما قيل له: إنه أبو الحمار قال: صدق الله: (إن أنكر الأصوات
لصوت الحمير). وكان عما لمحمد بن أحمد بن يحيى بن أبي البغل (3).
(829)
خالد بن صفوان (4) وإبراهيم بن مخرمة
قيل: كان أبو العباس يطيل السهر ويعجبه الصفاحة ومنازعة الرجال،

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 98.
(2) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 417.
(3) المصدر نفسه.
(4) قال الجاحظ في البيان: ج 1 ص 339: ومن الخطباء المشهورين في العوام والمقدمين في الخواص:
خالد بن صفوان الاهتمي، زعموا جميعا أنه زعموا جميعا أنه كان عند أبي العباس وكان من سماره وأهل المنزلة
عنده.. وكان يقارض شبيب بن شيبة، راجع المعارف لابن قتيبة: ص 177.
226

فسهر ذات ليلة وعنده أناس من مضر وفهر وفيهم: خالد بن صفوان بن الاهتم
التميمي وناس من اليمن فيهم: إبراهيم بن مخرمة الكندي. فقال أبو العباس:
هاتوا واقطعوا ليلتنا بمحادثتكم، فبدأ إبراهيم بن مخرمة وقال:
يا أمير المؤمنين، إن أخوالكم هم الناس وهم العرب الأول الذين دانت
لهم الدنيا وكانت لهم اليد العليا، ما زالوا ملوكا وأربابا، توارثوا الرئاسة كابرا
عن كابر وآخرا عن أول، عن أول، يلبس آخرهم سرابيل أولهم، يعرفون بيت المجد ومآثر
الحمد، منهم النعمانات والمنذرات والقابوسات، ومنهم غسيل الملائكة، ومنهم
من اهتز لموته العرش، ومنهم مكلم الذئب، ومنهم من كان يأخذ كل سفينة
غصبا ويحوي في كل نائبة نهبا، ومنهم أصحاب التيجان وكماة الفرسان، ليس
من شئ وإن عظم خطره وعرف أثره من فرس رائع وسيف قاطع أو مجن واق
أو درع حصين أو درة مكنونة إلا وهم أربابها وأصحابها، إن حل ضيف
أقروه، وإن سألهم سائل أعطوه، لا يبلغهم مكاثر ولا يطاولهم مطاول ولا مفاخر،
فمن مثلهم يا أمير المؤمنين؟ البيت يمان والحجر يمان والركن يمان والسيف يمان.
فقال أبو العباس: ما أرى مضر تقول بقولك هذا، وما أظن خالدا يرضى
بذلك. فقال خالد: إن أذن أمير المؤمنين وأمنت المؤاخذة تكلمت. فقال
أبو العباس: تكلم ولا ترهب أحدا.
فقال خالد: يا أمير المؤمنين خاب المتكلم وأخطأ المتقحم إذ قال بغير علم
ونطق بغير صواب، أو يفخر على مضر ومنها النبي صلى الله عليه وآله والخلفاء
من أهله بيته؟ وهل أهل اليمن يا أمير المؤمنين، إلا دابغ جلدا وقائد قردا
وحائك بردا؟ دل عليهم الهدهد وغرقهم الجرذ وملكتهم أم ولد من قوم، والله يا
أمير المؤمنين، ما لهم ألسنة فصيحة ولا لغة صحيحة ولا حجة تدل على كتاب ولا
يعرف بها صواب، وإنهم منا لاحدى الخلتين إن حازوا ما قصدوا اكلوا وإن
حادوا عن حكمنا قتلوا.
227

ثم التفت إلى الكندي فقال: أتفخر بأكرم الأنام وخيرها محمد صلى الله
عليه وآله وبه افتخر من ذكرت، فالمن من الله عز وجل عليكم إن كنتم أتباعه
وأشياعه فمنا نبي الله المصطفى وخليفة الله المرتضى، ولنا السؤدد والعلى، وفينا
الحلم والحجى، ولنا الشرف المقدم والركن المكرم والبيت المعظم، والجناب
الأخضر والعدد الأكثر والعز الأكبر، ولنا البيت المعمور والمشعر المشهور والسقف
المرفوع وزمزم وبطحاؤها وجبالها وصحراؤها وحياضها وغياضها وأحجارها
وأعلامها ومنابرها وسقايتها وحجابتها وسدانة بيتها.
فهل يعدلنا عادل ويبلغ فخرنا قائل، ومنا أعلم الناس ابن عباس أعلم
البشر الطيبة أخباره الحسنة آثاره، ومنا الوصي وذو النور، ومنا الصديق
والفاروق، ومنا أسد الله وسيف الله، ومنا سيد الشهداء وذو الجناحين، ومنا
الكماة والفرسان، ومنا الفقهاء والعلماء، بنا عرف الدين، ومن عندنا أتاكم
اليقين، فمن زاحما زاحمناه، ومن عادانا اصطلمناه، ومن فاخرناه، ومن
بدل سنتنا قتلناه.
ثم التفت إلى الكندي وقال: كيف علمك بلغات قومك؟ قال: أنا بها
عالم. قال: ما الجحمة في لغتكم؟ قال: العين. قال: فما الميزم؟ قال: السن.
قال: فالشناتر؟ قال: الإصبع. قال: فالصنانير؟ قال: الاذان. قال: فما
القلوب؟ قال: الذئب. قال: فما الزب؟ قال: اللحية. قال: أفتقرأ كتاب الله
عز وجل؟ قال: نعم.
قال: فإن الله عز وجل يقول: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) وقال: (بلسان
عربي مبين) وقال جل ذكره: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)،
وقال عز وجل: (العين بالعين) ولم يقل: الجحمة بالجحمة، وقال: (جعلوا
أصابعهم في آذانهم) ولم يقل: شناترهم في صنانيرهم، وقال: (السن بالسن)
ولم يقل: الميزم بالميزم، وقال: (فأكله الذئب) ولم يقل: القلوب، وقال:
228

(لا تأخذ بلحيتي) ولم يقل بزبي.
وأنا سائلك يا ابن مخرمة عن ثلاث خصال فإن أنت أقررت بها قهرت وإن
جحدتها كفرت وإن أنكرت قتلت؟ قال: وما هي؟ قال: أتعلم أن فينا نبي
الله المصطفى صلى الله عليه وآله؟ قال: اللهم نعم. قال: أتعلم أن فينا
كتاب الله تعالى؟ قال: اللهم نعم. قال: أفتعلم أن فينا خليفة الله
المرتضى؟ قال: اللهم نعم. قال: فأي شئ يعدل هذه الخصال؟
قال أبو العباسي اكفف عنه، فوالله ما رأيت غلبة أنكر منها، والله ما فرغت
من كلامك يا أخا مضر حتى أنه سيعرج بسريري إلى السماء. ثم أمر لخالد بمائة
ألف درهم (1).
(830)
خالد ورجل
قال رجل من قريش لخالد بن صفوان: ما اسمك؟ قال: خالد بن صفوان
ابن الأهتم.
قال: إن اسمك لكذب ما أنت بخالد، وإن أباك لصفوان وهو حجر، وإن
جدك لأهتم والصحيح خير من الأهتم.
فقال له خالد: من أي قريش أنت؟
قال: من بني عبد الدار من هاشم.
قال: لقد هشمتك هاشم، وأمتك أمية، وجمحت بك جمح، وخزمتك مخزوم،
وأقصتك قصي، فجعلتك عبدها وعبد ولدها، تفتح إذا دخلوا وتغلق إذا خرجوا (2).
(831)
الفرزدق وخلف
مر الفرزدق بالمربد فرأى خلف بن خليفة الشاعر، فقال للفرزدق: يا

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 94 - 96 وأوعز إليه في العقد الفريد: ج 3 / 46 وج 4 / 330.
(2) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 462 ويأتي ص 230 بنحو آخر.
229

أبا فراس من القائل:
هو القين وابن القين لاقين مثله * لقطع المساحي أو لقد الاداهم
فقال الفرزدق: الذي يقول:
هو اللص وابن اللص لالص مثله * لقطع جدار أو لطرد دراهم (1)
(832)
خالد ورجل
روي: أن خالد بن صفوان فاخر رجلا من بني عبد الدار الذين يسكنون
اليمامة فقال له العبدي: من أنت؟ فقال: أنا خالد بن صفوان بن الاهتم.
فقال له العبدري: أنت خالد: (كمن هو خالد في النار) [محمد / 15]
وأنت ابن صفوان وقال الله عز وجل: (كمثل صفوان عليه تراب)
[البقرة / 264] وأنت ابن الاهتم والصحيح خير من الاهتم.
فقال له خالد بن صفوان: يا أخا بني عبد الدار، أتتكلم وقد هشمتك
هاشم، وأمتك بنو أمية، وخزمتك بنو مخزوم، وجمحتك بنو جمح، فأنت عبد
دارهم تفتح إذا دخلوا وتغلق إذا خرجوا.
فقام العبدري محموما (2).
(833)
رجل مع أبي بكر
روي عن ابن عباس أنه دخل على أبي بكر رجل فسلم وقال: عزمت بالحج
فأتتني جارية وقالت لي: أبلغك رسالة وهي: إني امرأة ضعيفة وإني عائلة، وكان
لأبي اريضة جعلها لي تعينني على دهري، فكنت أعيش منها وأنا (3) وزوجي

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 462.
(2) الأمالي للسيد المرتضى: ج 1 / 295، وقد تقدم بنحو آخر ص 229.
(3) هكذا في الأصل والظاهر أن الواو زائدة.
230

وولدي، فلما توفي أبي انتزعها ولي البلد مني فصيرها في يد وكيله، واستغلها
لنفسه وأطعم من شاء وحرمني، فقال أبو بكر: ليس له ذلك ولا كرامة،
لأكتبن إليه ولأعذبن هذا الظلوم الغشوم، ولأعزلنه عن ولايتي، وقال عمر:
لا تمهله وأنفذ إليه من ينكل به ويأتي به مكتوفا، وأحسن أدبه على خيانته
وفسقه، فقال أبو بكر: من هذا الوالي؟ وفي أي بلد؟ وما اسم المرمية بهذا
المنكر؟
فقال الرجل: نعوذ بالله من غضب الله، نعوذ بالله من مقت الله، وأي
حاكم أجور وأظلم ممن ظلم بنت رسول الله صلى الله عليه وآله؟! ثم خرج.
فقال أبو بكر لخدمه: ردوه فقالوا: ما خرج علينا أحد وإن الباب لمغلق، فقال
عمر: لا يهولنك هذا، فربما يخيل إبليس علينا وعلى أمة محمد ليفتنهم، فقال
أبو بكر لابن عباس: أعيذك بالله أن تسمع ما سمعت أحدا، فسمعنا هاتفا
يقول: يا من يسمى باسم لا يليق به * اعدل على آل ياسين الميامينا
أتجعل الخضر إبليسا فقد ذهبت * بك المذاهب من رأي المضلينا
فتب إلى الله مما قد ركبت به * آل النبي ودع ظلم الوليينا
فالله يشهد أن الحق حقهم * لاحق يتم ولا حق المخلينا (3)
(834)
خالد والابرش
قال الأبرش الكلبي لخالد بن صفوان: هلم أفاخرك، وهما عند هشام بن
عبد الملك.
قال له خالد: قل. فقال لا الأبرش: لنا ربع البيت - يريد الركن اليماني -

(1) االصراط المستقيم: ج 2 / 289 و 290.
231

ومنا حاتم طي، ومنا المهلب بن أبي صفرة.
فقال خالد بن صفوان: منا النبي المرسل، وفينا الكتاب المنزل، ولنا
الخليفة المؤمل.
قال الأبرش لافاخرت مضريا بعدك (1).
(835)
أبو العتاهية وثمامة
دخل أبو العتاهية على المأمون حين قدم العراق، فأنشده شعرا يمدحه به، فأمر
له بمال جزيل وأقبل عليه يحدثه، إذ ذكر أبو العتاهية القدرية فقال: يا
أمير المؤمنين، ما في الأرض فئة أجهل ولا أضعف حجة من هذه العصابة.
فقال المأمون: أنت رجل شاعر، وأنت بصناعتك أعلم فلا تتخطها إلى
غيرها، فلست تعرف الكلام.
فقال: إن جمع أمير المؤمنين بيني وبين رجل منهم وقف على ما عندي من
الكلام.
قال ثمامة: فوجه إلي رسولا، فلما دخلت قال: يا ثمامة، زعم هذا أنه
لا حجة لك ولا لأصحابك، قلت: فليسأل عما بدا له فقال المأمون: سله يا
إسماعيل.
قال: أقطعه يا أمير المؤمنين بحرف واحد. قال: شأنك، فأخرج أبو العتاهية
يده من كمه وحركها وقال: يا ثمامة من حرك يدي هذه؟ قلت: حركها من
أمه زانية.
قال: فضحك المأمون حتى فحص برجله وتمرغ على فراشه وقال: زعمت
أنك تقطعه بكلمة واحدة.

(1) العقد الفريد: ج 3 / 330 وج 4 / 46.
232

فقال أبو العتاهية: شتمني يا أمير المؤمنين. قلت: ناقضت يا عاض بظر أمه.
قال: فعاد المأمون في الضحك حتى خفت عليه من ضحكة وشدة ما ذهب
به.
ثم قلت: يا جاهل تحرك يدك وتقول: من حركها، فإن كنت أنت المحرك
لها فهو قولي، وإن تكن الأخرى فما شتمتك.
فقال المأمون: يا إسماعيل عندك زيادة في الكلام، فإن الجواب قد مضى
فيما سألت، فما نطق بحرف حتى انصرف (1).
(836)
مطير والمنصور
قيل: لما حمل رأس محمد بن عبد الله بن الحسن إلى المنصور من مدينة
الرسول عليه وعلى آله السلام قال لمطير بن عبد الله: أما تشهد أن محمدا بايعني؟
قال: أشهد بالله لقد أخبرتني أن محمدا خير بني هاشم، وأنك بايعت له.
قال: يا ابن الزانية أنا قلت؟ قال: الزانية ولدتك. قال: يا ابن الزانية الفاعلة
أتدري ما تقول؟ قال: التي تعني خير من أمك.
فأمر به فوتد في عينيه، فما نطق (2).
(837)
علي بن الحسين والهادي
عمر بن شبة النميري أبو زيد قال: كان علي بن الحسين بن علي بن الحسين
بن علي بن أبي طالب - رضوان الله عليهم أجمعين - من آل الأفطس وكان يلقب
بالجزري، فتزوج رقية بنت عمرو العثمانية وكانت تحت المهدي، فبلغ ذلك

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 462 - 463 وقد تقدم في ج 2 ص 358.
(2) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 482.
233

الهادي فأرسل إليه فحمله وقال: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين؟
فقال: ما حرم الله عز وجل على خلقه إلا نساء جدي صلى الله عليه وآله،
فأما غيرهن فلا ولا كرامة. فشجه بمحضرة كانت في يده، وأمر بضربه خمسمائة
سوط، وأراده على أن يطلقها فلم يفعل.
فحمل من بين يديه في نطع فالقي ناحية، وكان في يده خاتم سري، فرآه
بعض الخدم وقد غشي عليه فأهوى إلى الخاتم، فقبض على يد الخادم فدقها،
فصاح: الموت دق يدي! فسمعه الهادي فدعاه فرأى ما به فاستشاط فقال:
تفعل هذا بخادمي مع استخفافك بي وقولك لي؟! قال: قل له وسله ومره
أن يضع يده مرة على رأسك ليصدقن.
ففعل ذلك موسى فصدقه الخادم، فقال: أحسن والله، أنا أشهد أنه ابن
عمي لو لم يفعل ذلك لانتفيت منه، وأمر باطلاقه ووصله بمائة ألف درهم (1).
(838)
جعفر الأحمري (2) والمهدي
قال: ولما خرج جعفر الأحمري من الحبس وادخل على المهدي في الحديد
قال له: يا فاسق أزلك الشيطان وأغواك، وفي غمرة الجهل أرداك، وعن
الهدى بعد البصيرة أعماك، حتى تركت الطريقة ودخلت فيما لا أصل له ولا

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 483.
(2) لعله هو جعفر بن زياد الأحمر الشيعي الصدوق، ترجمه في قاموسي الرجال: ج 2، وميزان الاعتدال: ج 1
وذكره الفرج في مقاتل الطالبيين، اخذه أبو جعفر المنصور وسجنه في المطبق دهرا لما بلغه من قوله في
الإمامة ثم أخرجه. والظاهر من القصة انه بقي إلى زمان المهدي إلا أن يقال: ان إخراجه كان في
زمان أبي جعفر وولاية المهدي وعبر عنه في مقاتل الطالبيين ب‍ (جعفر الأحمر) وعده من أعوان عيسى
ابن زيد.
رماه المهدي بالزندقة ليقتله كما كان ذلك دأبهم في قتل الشيعة.
234

حقيقة، كيف رأيت الله كشف أمرك وأعلن فسقك وأظهر ما كنت تخفي من
سقم سريرتك وخبث نيتك، فأوردك حوض منيتك وذلك بما قدمت يداك،
وما الله بظلام للعبيد.
قال: جعفر: لا والذي لم يزل بعباده خبيرا، وبعث محمدا - عليه وعلى آله
السلام - بالحق بشيرا، طهر أهله من دنس لريب تطهيرا، ووقفني بين يديك
أسيرا، وجعلك علينا سلطانا أميرا، ما خنت الاسلام نقيرا، ولا أضللت الهدى
منذ كنت بصيرا، فلا تقدم علي بالشبهة تقديرا، بسعي ساع سوف يجزى بسعيه
سعيرا.
فقال المهدي: ما يغني عنك وسواسك، فما تهذي من أم رأسك، قد تناهت
إلي أخبارك، وأداها من كان يقفو آثارك ويعرف أسرارك ومن بايعك من
أعوانك الذين وازروك على ضلالك، فأقلل، لا أم لك تشجعك، فقد حل
قضاؤك، وحان حصادك.
فقال جعفر: إن تقتلني تقتل مني علما فلا تجعل لي على ظهرك وزرا فأصير
لك يوم القيامة خصما، وأنت تعلم أنك لا تجئ بقتلي عدلا ولا تنال به فضلا،
فاتق الذي خلقك وأمر عباده ملكك وبالعدل فيهم أمرك، ولا تحكم علي
بحكم عن الهدى مائل، فإنك للدنيا مفارق وعنها راحل، وكل ما أنت فيه
فمضمحل زائل.
قال له المهدي: تطالبني وأنت المطلوب، وبباطلك تغلب حقي وأنت
المغلوب، الان ظهر فسادك، وبلغ غرسك ودبت عقاربك، اللهم إلا أن تقر
بذنبك وتعترف بجرمك وتتوب إلى ربك وتحقن بالإنابة دمك، فإن فعلت ذلك
أمهلنا أمرك وأطلنا حبسك وإلا فاحتسب نفسك ولا تلم إلا جهلك.
قال جعفر: مالي ذنب فأستغفر ولا جرم فأعترف ولا لي بك قوة فأنتصر،
وأنت على ظلمي مقتدر، فإن كنت تعلم أن ما بعد الموت مصدر ولا للعباد بعد
235

البلى محشر ولا للظالم موعد يخاف منه ويحذر، فاعمل من هذا ما شئت واستكثر.
قال المهدي: لا والذي بمكة بيته الحرام، وحوله الشعث العاكفون قيام، ما
أخشى في إقامة الاحكام عليك وعلى أشباهك إثما ولا وزرا، فاستسلم للقتل
ودع الكلام، فإنه إذا عقر الأساس تداعى النظام، وإذا انكسرت القوس
تعطلت السهام، وأنت فطال ما أعنت على إطفاء النور بريح الظلام.
قال جعفر: اعف فإنك كريم جواد سامح، ولا تقبل في قول العدو
الكاشح، فإني من الاسلام على الطريق الواضح، رفيق على أهله ولهم ناصح،
أبر العالمين بفهم راجح، فلا تقدم علي بقول كلب نابح، فقتلك إياي عمل غير
صالح.
قال المهدي: مذهبك واعتقادك تزعم أن الآخرة بعد فراق الساهرة، وأن
الناس كانوا أعلاما زاهرة، وأشجارا ناضرة، وزروعا غاضرة، تلبث يسيرا ثم
تعود هشيما، وإن من مات لا يعود كما أن ضوء المصباح إذا طفئ لا يرجع.
قال جعفر: لا والذي يخلق ويبيد، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، ما
قلت ذلك وهو له شهيد، واني اخلص له التوحيد والتفريد والمشية والتحديد،
وأشهد أنه الغفور الودود، يعلم منقلب العبيد.
قال المهدي: إن كنت تحب خلاص نفسك ورقبتك فأحضرني كتاب
زندقتك الذي بالجهل ألفته وبالباطل زينته وبالضلال زخرفته، سميته اس
الحكمة وبستان الفلسفة، زعمته مستخرجا من ديوان الالهام منظما بحسن
الكلام، عنفت فيه الاسلام وأضللت فيه الأنام.
فقال جعفر: لا والذي خلق الظلمات والنور، ودبر الأمور وهو قادر على أن
يبعث من في القبور، ما هذا إلا إفك مجترح وزور، وإن ديني لظاهر منير تقديمي
ذرية من هو مع الله جل وعز في كل فرض لازم أمام النبيين في البيت المعمور،
فاتق الذي خلقك وأمر عبادك قلدك يعلم خفيات الأمور.
236

قال المهدي: وأصفح لك عن هذا فما حجتك في كتابك الذي أضل أهل
الشقاق والنفاق ومن منهم في الأندية والأسواق يقرأونه ويتدارسونه في الآفاق:
(أما بعد أعلمكم أن الله جل وعز عدل لا يوالي الظالمين ولا يرضى فعال
الجاهلين، وأنه ليس لله بولي من رضي بأحكام الجائرين، فسيحوا في الأرض
حيث لا تنال لكم أيدي المعتدين، فإن بني العباس طغاة كفرة، أولياؤهم فسقة
وأعوانهم ظلمة، دولتهم شر الدول، عجل الله بوارهم، وهدم منارهم، والعاقبة
للمتقين).
قال جعفر: هذا والله بهتان عظيم جدا، قذفني به قاذف عمدا، وأنت تعلم
أني ما خالفت لكم أمرا ولا غبت منكم أحدا، فاقبل المعذرة وأقل العثرة
وتغمد الهفوة واغتفر الزلة فإنك راع مسؤول.
قال المهدي: أولم أبلغ أنك في الغوغاء تحثهم على شق العصا ومخالفة الامر
وتحيدهم عن طاعة الخلفاء، فأي داهية أدهى منك.
قال جعفر: ما بلغت حقا، ولقد طوى النصيحة من أودع قلبك بهتانا
وإفكا، فلا تقبل في قول من ظلم واعتدى وبفسادى إليك سعى، فإن الله
جل وعز سائله يوم يود الظالم يا ليته لم يكن أميرا، ولا كان المضل له وزيرا.
قال المهدي: إنك لجاهل أن تقيم اعوجاجك بكثرة احتجاجك، هيهات
لا يكدر صفوتي مزاجك، وقد قيل: من ظفر بحية لا يأمن لسعها ثم لم يشدخ
رأسها كانت سبب حتفه، ولعمري إن من يكون له عدو مثلك يرقب غرته
وينتظر فورته ولا يطلق يده بقلته لعاجز.
قال جعفر: وما بلغ لله بقدر النملة ونكاية النحلة وإنما يكتفي مثلي من مثلك
بلحظة، فالكرماء رحماء بررة، والقسوة في اللئام الشررة.
قال المهدي: من تنته أيامه لاحت في الظلام أعلامه، وأسرع به أن يذوق
حمامه، يا غلام سيفا قاطعا وضاربا حاذقا.
237

قال جعفر: إن كنت تؤمن بالمعاد وتتقي من الحشر يوم التناد، يوم يجمع
الله فيه العباد، تعلم أن طالب ثاري لك بالمرصاد، ومن لم يكن له في الموت
خير فلا خير له الحياة، إن قدمتني أمامك فأنا قاعد لك على الجادة التي ليس
عنها مرحل الحاكم يومئذ غيرك.
قال: فسكت المهدي طويلا ثم التفت إلى أصحابه به فقال: كيف أقدم على
قتل رجل لا يخاف مكيدتي، ولا يرعبه سلطاني، ولا يتقي سطوتي وأعواني،
يناصبني كلامي ويفسخ احتجاجي، كيف ولو كنا بين يدي من لا يخاف
جوره ولا يتقى ميله وحيفه كان لسانه أمضى وقلبه أجرى وخصمه أذل، خلوا
سبيله، فمضى (1).
(839)
شيخ ومعاوية
عوانة قال: بلغنا أن شيخا من أصحاب معاوية كان يكاتب علي بن
أبي طالب - رضوان الله عليه - وقد كان طعن في السن، فبلغ معاوية خبره،
فدعاه فقال:
أيها الشيخ، إنك لتكاتب عليا - رضي الله عنه - ولولا سنك لقتلتك
فلا تفعل ولا تعد. فوقع كتاب له بعد ذلك إلى علي - رحمه الله - في يدي
معاوية، فدعاه وقال: أتعرف هذا الكتاب؟
قال: نعم كتب فأجبته.
فأمر معاوية بقتله. فانتهى الخبر إلى ابنة له صغيرة، فجاءت حتى قامت بين
يدي معاوية وأنشأت تقول:
معاوي لا تقتل أبا كان مشفقا * علينا فنبقى إن فقدناه شردا

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 521 - 524.
238

وتوتم أولاد صغار بقتله * وإن تعف عنه كنت بالعفو أسعدا
معاوية هبه اليوم الله وحده * وللباكيات الصارخات تلددا
معاوية منك العلم والحلم والتقى * وكنت قديما يا بن حرب مسددا
فعجب معاوية وأصحابه منها، فدمعت عيناه ووهبه لها (1).
(840)
الأعمش وأبو حنيفة
قيل: ودخل أبو حنيفة على الأعمش يوما فأطال جلوسه، فقال: لعلي قد
ثقلت عليك؟
قال: وإني لأستثقلك وأنت في منزلك فكيف وأنت عندي! (2)
(841)
الفرزدق وملك الروم
قال محمد بن حبيب: صعد الوليد بن عبد الملك المنبر، فسمع صوت
ناقوس، فقال: ما هذا؟ فقيل: البيعة، فأمر بهدمها، وتولى بعض ذلك بيده،
فتتابع الناس يهدمون، فكتب إليه الأحزم ملك الروم: إن هذه البيعة قد أقرها
من كان قبلك، فإن يكونوا أصابوا فقد أخطأت، وإن تكن أصبت فقد
أخطأوا؟ فقال: من يجيبه؟ فقالوا: الفرزدق.
فكتب إليه: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم
القوم، وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكما...) (3).
* * *

(المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 561.
(2) المحاسن والمساوئ للبيهقي: ص 589.
(3) وفيات الأعيان: ج 5 / 147.
239

(842)
يحيى والحجاج
روى ابن سلام عن يونس بن حبيب قال: قال الحجاج ليحيى بن يعمر:
أتسمعني ألحن؟ قال: في حرف واحد. قال: في أي؟ قال: في القرآن. قال:
ذلك أشنع، ثم قال له: ما هو؟ قال: تقول: (قل إن كان آباؤكم
وأبناؤكم...) إلى قوله: (أحب إليكم) فتقرؤها بالرفع. قال ابن سلام:
كأنه لما طال الكلام نسي ما ابتدأ به، فقال الحجاج: لا جرم لا تسمع لي
لحنا. قال يونس: فألحقه بخراسان، وعليها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة (1).
(843)
ابن عباس ورجل
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه أمسك للحسن والحسين - رضي
الله عنهما - ركابيهما، حين خرجا من عنده.
فقال له بعض من حضر: أتمسك لهذين الحدثين ركابيهما، وأنت أسن
منهما؟
فقال له: اسكت يا جاهل، لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا
ذووالفضل (2).
(844)
ابن السكيت واللحياني
قال أبو الحسن الطوسي: كنا في مجلس أبي الحسن علي اللحياني، وكان
عازما على أن يملي نوادره ضعف ما أملي، فقال يوما: تقول العرب: (مثقل

(1) وفيات الأعيان: ج 5 / 223 وسيأتي في ص 248 بنحو آخر.
(2) وفيات الأعيان: ج 5 / 227.
240

استعان بذقنه).
فقام إليه ابن السكيت وهو حدث فقال: يا أبا الحسن إنما هو: (مثقل
استعان بدفيه) يريدون الجمل إذا نهض بحمله استعان بجنبيه، فقطع الاملاء،
فلما كان المجلس الثاني أملى فقال تقول العرب: (هو جاري مكاشري) فقام
إليه ابن السكيت فقال: أعزك الله وما معنى مكاشري؟ إنما هو (مكاسري)
كسر بيتي إلى كسر بيته.
قال: فقطع اللحياني الاملاء فما أملى بعد ذلك (1).
(845)
يعقوب (2) والمهدي
كثرت الأقوال في يعقوب ووجد أعداؤه فيه مقالا، وذكروا خرجوا على
المنصور مع إبراهيم بن عبد الله العلوي، وعرفه بعض خدمه أنه سمعه يقول: بنى
هذا الرجل يعني - المهدي - منتزها (3) أنفق عليه خمسين ألف ألف درهم من
أموال المسلمين، وكان المهدي قد بنى عيسى باد، وأراد المهدي أمرا فقال له
يعقوب: هذا يا أمير المؤمنين السرف، فقال: يا ويلك وهل يحسن السرف إلا
بأهل الشرف؟!
وكان يعقوب قد ضجر مما كان فيه، وسأل المهدي الإقالة وهو يمتنع. ثم
إن المهدي أراد أن يمتحنه في ميله إلى العلوية، فدعا به يوما وهو في مجلس فرشه
موردة وعليه ثياب موردة وعلى رأسه جارية على رأسها ثياب موردة، وهو مشرف

(1) وفيات الأعيان: ج 5 / 439 وقد تقدم في ج 2 ص 337 فراجع.
(2) هو ابن داود بن عمر السلمي كاتب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه راجع وفيات الأعيان: ج 6 / 19 قام مع إبراهيم على المنصور ثم تقرب إلى المهدي
حتى ملك أموره وغلب عليه. وراجع عقد الفريد ج 2 / 147.
(3) هكذا في الأصل الظاهر أنه (متنزها).
241

على بستان فيه صنوف الأوراد، فقال له: يا يعقوب، كيف ترى مجلسنا هذا؟
قال: على غاية الحسن فمتع الله أمير المؤمنين به، فقال له: جميع ما فيه لك، وهذه
الجارية لك ليتم سرورك، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم، فدعا له.
فقال له المهدي: ولي إليك حاجة، فقام يعقوب قائما، وقال: يا
أمير المؤمنين، ما هذا القول إلا لموجدة وأنا أستعيذ بالله من سخطك، فقال:
أحب أن تضمن لي قضاءها، فقال: السمع والطاعة، فقال له: والله؟ فقال له:
والله، فقال له: والله؟ فقال: والله، ثلاثا، فقال له: ضع يدك على رأسي
واحلف به، ففعل ذلك، فلما استوثق منه قال له: هذا فلان بن فلان، رجل من
العلوية، أحب أن تكفيني مؤونته، وتريحني منه، فخذه إليك، فحوله إليه، وحول
إليه الجارية وما كان في المجلس والمال، فلشدة سروره بالجارية جعلها في مجلس
بقرب منه ليصل إليها، ووجه فأحضر العلوي فوجده لبيبا فهما.
فقال له: ويحك يا يعقوب تلقى الله بدمي، وأنا رجل من ولد فاطمة - رضي
الله عنها - بنت محمد صلى الله عليه وآله؟ فقال له يعقوب: يا هذا أفيك
خير؟ فقال: إن خلت معي خيرا شكرت ودعوت لك، فقال له: خذ هذا
المال، وخذ أي طريق شئت، فقال: طريق كذا وكذا آمن لي، فقال له: امض
مصاحبا.
وسمعت الجارية الكلام كله، فوجهت مع بعض خدمها به، وقالت: قل
له: هذا فعل الذي آثرته على نفسك بي، وهذا جزاؤك منه.
فوجه المهدي فشحن الطريق حتى ظفر بالعلوي وبالمال، ثم وجه إلى
يعقوب، فأحضره، فلما رآه قال: ما حال الرجل؟ قال: قد أراحك الله منه،
قال: مات؟ قال: نعم، قال: والله؟ قال: والله. قال: فضع يدك على رأسي،
فوضع يده على رأسه وحلف به، فقال: يا غلام أخرج إلينا من في هذا البيت،
ففتح بابه عن العلوي والمال بعينه.
242

فبقي يعقوب متحيرا، وامتنع الكلام عليه، فما درى ما يقول، فقال له
المهدي: لقد حل دمك، ولو آثرت إراقته لارقته، ولكن احبسوه في المطبق،
فحبسوه، وأمر بأن يطوى عنه خبره وعن كل أحد سنتين وشهورا في أيام المهدي
وجميع أيام الهادي موسى بن المهدي وخمس سنين وشهورا من أيام هارون
الرشيد، ثم ذكر يحيى بن خالد البرمكي أمره وشفع فيه، فأمر بإخراجه،
فاخرج وقد ذهب بصره، فأحسن إليه الرشيد، ورد إليه ماله وخيره المقام
حيث يريد، فاختار مكة، فأذن له في ذلك، فأقام بها حتى مات سنة (187
ه‍). وقال عبد الله بن يعقوب بن داود: أخبرني أبي: أن المهدي حبسه في بئر وبنى
عليه قبة، فمكث فيها خمس عشرة سنة، وكان يدلى له فيها كل يوم رغيف خبز
وكوز ماء، ويؤذن بأوقات الصلاة. قال: فلما كان في رأس ثلاث عشرة سنة
أتاني آت في منامي فقال [من البسيط]:
حنا على يوسف رب وأخرجه * من قعر جب وبيت حوله غمم
قال: فحمدت الله تعالى، وقلت: أتاني الفرج، ثم مكثت حولا لا أرى
شيئا، فلما كان رأس الحول الثاني أتاني ذلك الآتي فأنشدني [من الطويل].
عسى فرج يأتي به الله إنه * لم كل يوم في خليقته أمر
قال: ثم أقمت حولا آخر لا أرى شيئا، ثم أتاني ذلك الآتي بعد الحول فقال
[من الوافر]:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان * ويأتي أهل النائي الغريب
فلما أصبحت نوديت، فظننت أني اأذن بالصلاة، فدلي حبل أسود، فقيل
لي اشدد به وسطك ففعلت، وأخرجت، فلما قابلت الضوء عشا بصري
وانطلقوا بي، وأدخلت على الرشيد، فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فقلت:
السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، المهدي، فقال الرشيد: لست
243

به فقلت: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الهادي، فقال: لست به
فقلت: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الرشيد، فقال الرشيد: يا
يعقوب بن داود والله ما شفع فيك إلي أحد، غير أني حملت الليلة صبية لي على
عنقي فذكرت حملك إياي على عنقك: فرثيت لك من المحل الذي كنت به
فأخرجتك... (1)
(846)
ابن عباس وعمرو
إن عمرو بن العاص لما حضرته الوفاة دخل عليه ابن عباس - رضي الله
عنهما - فقال له: يا أبا عبد الله كنت أسمعك كثيرا تقول: وددت لو رأيت رجلا
عاقلا حضرته الوفاة حتى أسأله عما يجد، فكيف تجد؟
فقال: أجد كأن السماء مطبقة على الأرض وكأني بينهما، وكأنما أتنفس من
خرم إبرة، ثم قال: اللهم خذ مني حتى ترضى (2).
(847)
الياس وقوم من العامة
حكي أنه سلم الياس المعدل على قوم من العامة، فلم يردوا فقال: لعلكم
تظنون بي ما قيل من الرفض، والله من أبغض واحدا من أبي بكر وعثمان وعمر
وعلي فهو كافر، فسروا بذلك واعتذروا إليه (3).
(848)
الموسوي وشيخ الاسلام
حكى لي زميلي العلامة المحقق السيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي: ان في

(1) وفيات الأعيان: ج 6 / 22 - 24.
(2) وفيات الأعيان: ج 6 / 214 وقد تقدم بنحو آخر في ج 2 ص 386 وراجع الكامل للمبرد: ج 1 / 156.
(3) الخزائن للنراقي: ص 47.
244

سفره إلى المدينة المنورة للزيارة حضر المسجد النبوي صلوات الله عليه وآله
لصلاة الجمعة، فجاء الخطيب وأخذ في إلقاء الخطبة، وإذا بحوار ونزاع في الجانب
الغربي من المسجد الشريف قال: فسألت عن علة النزاع والجدال، قالوا: إن
الخطيب هجم على الشيعة في أثناء الخطبة وكان في المسجد جمع من شيعة
سورية، فسمعوا بذلك وقاموا واعترضوا على ذلك، فوقع نزاع وجدال.
قال: فعزمت على زيارة شيخ الاسلام لاتكلم معه في الموضوع، فدخلت
عليه وهو في غرفة جالسا في زاوية والناس جالسون حول الغرفة والخطيب
المذكور فيهم، فجلست على يساره، فبعد السلام وأداء الاحترام من الطرفين قلت
له: لي سؤال برخصة من جنابكم، قال: سل.
قلت له: شيخنا ما هذه العادة عندكم في تعامل شرطة الحرم الشريف مع
الزوار من الشراسة والخشونة وعدم مراعاة الأدب والاحترام؟
قال: قررنا تعيين باب لدخول النساء وباب لدخول الرجال.
قلت: هذا لا يكفي في رفع الغائلة، والذي يحسم الاشكال بالسرعة هو
بطاقات من قبل الحكومة يسجل فيها وظائف الزائرين وبيان الحلال من الحرام
وأوقات كون الحرم الشريف مفتوحا وأي وقت تغلق الأبواب، فيقسم ويوزع
بين الزائرين الواردين حتى يعرفوا ويعملوا بالوظائف المكتوبة في البطاقات.
قال: هذا أمر مقبول أعرضه على الموظفين المأمورين كي يعملوا بذلك.
قلت: شيخنا لأي علة يهجم خطباؤكم على الشيعة وأي فائدة فيه؟ ولعلكم
تتصورون أي سب لهم يوجب تركهم لعقائدهم الباطلة عندكم، ولكن تعرفون
أن هذا غير صحيح، لان السباب والوقيعة لا تفيد الا الشحناء والبغضاء
وتخديش العواطف ولا يرجع أي إنسان عن عقائده بسب مخالفيه وأعدائه، وهل
ترجعون أنتم عن الوهابية بسب الشيعة إياكم؟
أو لعلكم تتخيلون أن السب يورث في أنفسهم حقارة وذلة، ولكن ذلك
245

باطل قطعا، لان الشيعة في إيران أكثر منكم عددا وقوة فلا يحسوا بالحقارة
بسبكم إياهم ولا بذمكم وتحقيركم، ويشهد على ذلك أني أعطيكم عنوانا
وأدعوكم إلى إيران، فتنزلون في منزلي وأذهب بكم إلى الحوزات العلمية
والمكتبات والمساجد والمحافل والى زيارة العلماء، وفتشاهدون ما قلت من الكثرة
والعظمة، فليس هذا السباب إلى تخديش العواطف من أمة كبيرة مسلمة.
قال سيدنا، إن الإيرانيين (الشيعة) لا يحضرون لصلاة الجماعة.
قلت: سيدنا: إن هذا كذب وبهتان على الشيعة الإمامية، لأنهم يحضرون
الصلاة في المساجد، والشاهد على ذلك حضوري في صلاة الجمعة اليوم
وسماعي من الخطيب سب الشيعة، هذا أولا، وثانيا: نحن نرد الاشكال
عليكم إذا السنة لا يقتدون بعلماء الشيعة في الصلاة، فإن كان الحضور بأن
يقتدي الشيعة بالسنة ويأتموا بهم لزوما فلا دليل عليه بهذا الانحصار، وإن كانت
الصلاة جماعة بإئتمام مسلم بمسلم فلم لا تأتمون بنا؟ ولم لا تأتموا بعلماء الشيعة
وزعمائهم حينما يزورون النبي صلى الله عليه وآله؟
قال: كيف نقتدي الان بكم؟
قلت: الان تعلنون في البلد الشريف أن إمام الجماعة اليوم السيد الموسوي
العالم الشيعي وتأتي أنت وتأتم بي حتى يحصل لنا الاطمئنان على المؤاخاة
الاسلامية والاتحاد الاسلامي.
قال: سيدنا، الشيعة يأخذون التراب من القبور.
قلت: شيخنا، أولا: كان الكلام في مستوى العلماء والمنورين، وأنتم تجعلون
الكلام في العوام، فهل رأيت عالما من علماء الشيعة يأخذ التراب من القبور؟
وثانيا: إني شاهدت في المسجد الحرام رجلا كان يتغوظ في المسجد، فقلت
للشرطي، قال: لا بأس لأنه جاهل، وكذا رأيت في مسجد الخيف رجلا يبول
في المسجد، وقيل: إنه جاهل لا بأس بفعله، ولكن الشيعي الجاهل صار مشركا
246

بأخذه التراب.
قال: سيدنا، هذا الخطيب أيضا جاهل.
قلت: أولا: هذا المقام ليس مقام الجهال، وثانيا أليس عندكم عالم يخطب
ويعظ ويرشد الجاهل؟!
فلم يحر جوابا، فقمت وخرجت.
(849)
الفندرسكي وسلطان الهند
حكي: أن الأمير فندرسكي في أثناء سياحته وصل إلى الهند، فطلب
السلطان منه لقاءه فامتنع السيد لكون السلطان سنيا، وبعد الإصرار قبله
بشرط عدم مذاكرات مذهبية، ولكن بعد اللقاء قال السلطان: وإن كان شرط
اللقاء عدم البحث في المذهب ولكني أسألكم سؤالا واحدا في سب معاوية
لأي جهة هو؟
قال السيد: لو فرضنا أنك كنت في الحرب بين علي عليه السلام
ومعاوية موجودا بأمر أيهما كنت متمثلا؟
قال السلطان: كنت أطيع أمر علي عليه السلام، لكونه خليفة بالإجماع،
وكون مخالفته كفرا.
قال السيد: لو أمرك علي عليه السلام بمبارزة معاوية تطيعه أو تعصيه؟
قال السلطان: لقد كنت أطيعه; لكون خلافه كفرا.
قال السيد: فحينئذ لو سل معاوية سيفه وأراد قتلك، هل كنت تقتله أو
تهرب من الجهاد؟ أو كنت تقتل نفسك؟
قال السلطان: كنت أقتله قطعا.
قال السيد: تعد قتله طاعة أو معصية؟
قال السلطان: أعده طاعة، لكونه طاعة لعلي عليه السلام.
247

قال السيد: فمن كنت تقتله وتستبيح دمه تسألني عن سبه أنه يجوز أو
لا يجوز؟!
(850)
ابن عباس ومعاوية
ملك الروم وجه إلى معاوية بقارورة فقال: ابعث إلي فيها من كل شئ.
فبعث إلى ابن عباس فقال: لتملأ له ماء. فلما ورد به على ملك الروم قال: لله
أبوه ما أدهاه.
فقيل لابن عباس كيف اخترت ذلك؟ فقال: لقول الله عز وجل:
(وجعلنا من الماء كل شئ حي) (2).
(851)
يحيى بن يعمر والحجاج
زعم التوزي قال: قال الحجاج ليحيى بن يعمر يوما: أتسمعني ألحن؟
قال: الأمير أفصح من ذلك. قال: فأعاد عليه القول، وأقسم عليه.
فقال يحيى: نعم تجعل (أن) مكان (إن).
فقال له: ارحل عني ولا تجاورني (3).
(852)
الفرزدق وابن هبيرة
قال الفرزدق حين ولي العراق عمر بن هبيرة الفزاري يعقب مسلمة بن
عبد الملك:

(1) الخزائن للنراقي: ص 134 بالفارسية.
(2) الكامل للمبرد: ج 1 / 308.
(3) الكامل للمبرد: ج 1 / 164 وقد مر في ص 240 بنحو آخر، والكنى والألقاب: ج 1 / 10 بنحو آخر.
248

راحت بمسلمة البغال عشية * فارعي فزارة لاهناك المرتع
ولقد علمت إذا فزارة أمرت * أن سوف يطمع في الامارة أشجع
فأرى الأمور تنكرت أعلامها * حتى أمية عن فزارة تنزع
عزل ابن بشر وابن عمر وقبله * وأخو هراة لمثلها يتوقع
فلما ولي خالد بن عبد الله القسري على عمر بن هبيرة، قال رجل من
بني أسد يجيب الفرزدق:
عجب الفرزدق من فزارة أن رأى * عنها أمية بالمشارق تنزع
فلقد رأى عجبا واحدث بعده * امر تضج له القلوب وتفزع
بكت المنابر من فزارة شجوها * فاليوم من قسر تذوب وتجزع
وملوك خندف أسلمونا للعدي * لله در ملوكنا ما تصنع
كانوا كتاركة بنيها جانبا * سفها وغيرهم تصون وترضع (1)
(853) الفرزدق وابن هبيرة
قال العباس: وكان الفرزدق هجاء لعمر بن هبيرة عند ولايته العراق، وفي
ذلك يقول ليزيد بن عبد الملك بن مروان:
أمير المؤمنين وأنت بر * أمين لست بالطبع الحريص
أأطعمت العراق ورافديه * فزاريا أحذ يد القميص
تفهق بالعراق أبو المثنى * وعلم قومه أكل الخبيص
ولم يك قبلها راعي مخاض * ليأمنه على وركي قلوص (2)
* * *

(1) الكامل للمبرد: ج 2 / 63 - 64.
(2) الكامل للمبرد: ج 2 / 64.
249

(854)
ابن عباس ونافع بن الأزرق
يروى من غير وجه: أن ابن الأزرق أتى ابن عباس فجعل يسائله حتى أمله،
فجعل ابن عباس يظهر الضجر، وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن
عباس وهو يومئذ غلام، فسلم وجلس.
فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئا من شعرك! فأنشده:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر * غداة غد أم رائح فمهجر
الأبيات حتى أتمها وهي ثمانون بيتا، فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا
ابن عباس أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض، ويأتيك
غلام من قريش فينشدك سفها فتسمعه. فقال: تالله ما سمعت سفها.
فقال ابن الأزرق: أما أنشدك:
رأت رجلا اما إذا الشمس عارضت * فيخزى واما بالعشي فيخسر
فقال ما هكذا قال: إنما قال: فيضحى واما بالعشي فيخصر. قال: أو
تحفظ الذي قال؟
قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها، قال:
فارددها، فأنشده إياها (1).
قال الأحمدي: ولابن عباس مناظرات ومكالمات مع نافع بن الأزرق نقلها
الاعلام في كتب الحديث والتأريخ والأدب، ولعلنا ننقله مجتمعا فيما بعد إن
شاء الله تعالى. وقال المبرد في الكامل 2 / 140: وكان نافع بن الأزرق ينتجع
عبد الله بن العباس فيسأله، فله عنه مسائل من القرآن وغيره، قد رجع إليه في
تفسيرها فقبله وانتحله، ثم غلبت عليه الشقوة.

(1) الكامل للمبرد: ج 2 / 144 - 145.
250

(855)
عدلي مع مجبر
إن عدليا قال لمجبر: ممن الحق؟ قال: من الله.
فقال له: فمن هو المحق؟ قال: هو الله.
قال له: فممن الباطل؟ قال: من الله.
قال: فمن هو المبطل؟ فانقطع الجبري ولم يقدر على أن يقول: إن الله تعالى
هو المبطل، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فكان يلزمه ذلك على رأي المجبرة (2)
(856)
شيخ ويحيى بن أكثم
ومن المحاضرات: قال يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة: بمن اقتديت في جواز
المتعة؟ قال: بعمر بن الخطاب.
فقال: كيف هذا وعمر كان أشد الناس منعا فيها؟ قال: لأن الخبر
الصحيح قد أتى أنه صعد المنبر، فقال: إن الله ورسوله أحلا لكم متعتين وأنا
أحرمهما عليكم وأعاقب عليهما! فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه (2).
(857)
الشريف والخليفة
قيل: إنه كان - أي الشريف الرضي رضوان الله عليه - يوما عند الخليفة
يعبث بلحيته ويرفعها إلى أنفه فقال له الطائع: أظنك تشم بها رائحة الخلافة.
قال: لا بل رائحة النبوة (3).

(1) الطرائف: ص 331.
(2) زهر الربيع: ص 16.
(3) زهر الربيع: ص 19.
251

(858)
أبو الأسود ومعاوية
وفي الأثر: أن معاوية قال يوما لأبي الأسود: بلغني أن عليا أراد أن يدخلك
في الحكومة، فعزمت عليك أي شئ كنت تصنع؟
فقال: كنت آتي المدينة فأجمع ألفا من المهاجرين وألفا من الأنصار، فإن لم
أجدهم أتممهم من أبنائهم، ثم أستخلفهم بالله العظيم: المهاجرون أحق أم
الطلقاء؟
فضحك معاوية ثم قال: إذن والله، ما اختلف عليك اثنان (1).
(859)
رجل وقاضي بغداد
حكى لي بعض اخواني قال: كنت جالسا في بعض الأيام عند قاضي
بغداد الحنفي، فسمعنا سائلا يقرأ قصيدة التصدق بالخاتم.
فقال لي: اسمع هؤلاء الروافض كيف نظموا القصائد في مدح علي بن
أبي طالب على تصدقه بخاتم ما تبلغ قيمته أربعة دراهم، وأبو بكر الصديق
تصدق بجميع ماله، ولم يذكره أحد في نظم ولا نثر؟
فقلت له: أصلح الله القاضي ليس للروافض ذنب في هذا المعنى، إن كان
شئ فهو من عالم الملكوت، لأنه أنزل في ذلك الخاتم قرآنا يتلى إلى يوم
القيامة، ولم ينزل في شأن أبي بكر آية ولا سورة مع تصدقه بالمال الجزيل.
فحرك يده وقال: يا أخي خطر هذا في بالي أيضا، ولكن كيف
الحيلة؟! (2).

(1) زهر الربيع: ص 25.
(2) زهر الربيع: ص 29.
252

(860)
ابن الجوزي وبعض النواصب
اعترض بعض علماء النواصب: إنكم تقولون: إذا دخل أمير المؤمنين في
صلاته استغرق فكره في عالم الملكوت فما يحس وما يشعر بهذا العالم، ومن ثم
كانوا يخرجون النصول من بدنه إذا أخذ في الصلاة، فكيف شعر بالسائل حتى
أعطاه خاتمه وهو في الركوع؟
فأنشد ابن الجوزي:
يسقي ويشرب لاتلهيه سكرته * عن النديم ولا يلهو عن الكأس
أطاعه سكره حتى تمكن من * فعل الصحاة فهذا أعظم الناس
قال السيد الجزائري مولف زهر الربيع: وتحقيق الجواب: أنه عليه السلام قد
انتقل عن طاعة العبادة إلى طاعة الصدقة فهو في الخدمة دائما، فلا يقدح في
استغراق فكره في عالم القدس، ومن ثم أنزل فيه قرآنا يتلى على صفحات
الدهور (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة وهم راكعون) وفي الحديث: أن ذلك الخاتم الذي أعطاه السائل كان
خاتم سليمان الذي ملك به مشارق الأرض ومغاربها، وقد بعث النبي صلى
الله عليه وآله من اشتراه من ذلك السائل بمائتي درهم، ثم دفعه إلى أمير المؤمنين
لأنه من مواريث الأنبياء، وهو الان كغيره من المواريث في خزانة مولانا
صاحب الامر عليه السلام، والأئمة كلهم تصدقوا وقت الصلاة فدخلوا تحت
عموم الآية.
قال أبو بكر: لقد تصدقت بسبعين خاتما، وأنا في الصلاة لينزل في ما نزل
بعلي بن أبي طالب فما نزل... الخ (1).

(1) زهر الربيع: ص 28.
253

قال الأحمدي: الجواب من حيث الآثار الواردة: أنه روي أن النبي صلى
الله عليه وآله رأى نخامة في جدار المسجد وهو في الصلاة فأخذ جريدة النخل
ومشى إليه حتى محاها. راجع في تحقيق ذلك الوسائل: ج 4 / 1283 الباب 36
وج 2 ص 476 والبخاري: ج 8 / 33 وسنن ابن ماجة: ج 1 / 251 ومسند أحمد:
ج 2 / 72 ومنحة المعبود: ج 1 / 108.
وروي: أنه صلى الله عليه وآله كان يحمل أمامة بنت أبي العاص، فكان
إذا سجد وضعها وإذا قام رفعها كما في أسد الغابة: ج 5، وكذا الإصابة
والاستيعاب في ترجمتها، والموطأ لمالك ج 1 / 183، وصحيح مسلم كما في ظاهر تنوير
الحوالك وسنن البيهقي: ج 2 / 262 - 263، والإصابة: في ترجمة أبي العاص،
والطبقات لابن سعد: ج 8 / 26 و 168 بأسانيد متعددة، وشرح النووي:
ج 3 / 300 هامش إرشاد الساري، ومسند أحمد: ج 5 / 295، والبخاري:
ج 8 / 8، ومسلم: ج 1 / 385 و 386، وسنن أبي داود: ج 1 / 241، بأسانيد متعددة،
وسنن الدارمي: ج 1 / 316، والنسائي: ج 2 / 46 وج 3 / 10.
وأنه صلى الله عليه وآله قد كان يخفف صلاته فيسأل عن ذلك، فيقول:
سمعت بكاء الصبي فلعل أمه في المسجد تنزعج منه، فراجع الوسائل:
ج 5 / 469، وتأريخ أصبهان لأبي نعيم: ج 2 / 359، ومسلم: ج 1 / 385 ومسند
أحمد: ج 3 / 109 و 154 و 156 و 5 / 305، والسنن للبيهقي: ج 3 / 118، والوفاء
لابن الجوزي: ج 2 / 429، وإرشاد الساري: ج 2 / 60 والبخاري: ج 1 / 181
و 219، والنسائي: ج 2 / 95، والترمذي: ج 2 / 214، وابن ماجة: ج 1 / 316
و 1317، ومسند أحمد ج 2 / 432.
هذا مع العلم بأن عليا عليه السلام لم يكن بأعلى ولا أرقي حالا عن
النبي صلى الله عليه وآله في عباداته.
* * *
254

(861)
الجزائري وبعض العامة
قال السيد نعمة الله الجزائري - رحمه الله -: وقد ذكرت أنا في كتاب
مقامات النجاة مباحثة جرت بيني وبين بعض علماء العامة، فكان من جملتها:
أنه سألني عن مذهب الشيطان في الأصول والفروع، لأنه من أهل العلم.
فقلت له: مذهبه في الأصول مذهب الأشعري وفي الفروع مذهب الحنفية،
فأخذه الغضب.
فقلت له: لا تعجل لان كتاب الله الصادق أخبر به، أما في الأصول: فقوله
تعالى: (فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم) فقد نسب الاغواء إلى الله
تعالى. وأما في الفروع: فإباؤه عن السجود لقوله: (خلقتني من نار وخلقته من
طين) حيث إنه عمل بالقياس، نعم الفرق بين القياسين أن قياس الشيطان
كان من باب قياس الأولوية وقياس أبي حنيفة من باب قياس المساواة، وكم
بينهما من التفاوت، وإن اشتركا في عدم الحجية (1).
(862)
أبو العيناء والمتوكل
عن أبي العيناء: أنه ادخل على المتوكل رجل قد تنبأ، فقال له: ما علامة
نبوتك؟
قال: أن يدفع إلي أحدكم امرأة فإني احبلها في الحال.
فقال: يا أبا العيناء هل لك أن تعطيه بعض الأهل؟ قال: إنما يعطيه من لم
يصدق بنبوته، وأنا أول من صدق به (2).

(1) راجع زهر الربيع: ص 30.
(2) زهر الربيع: ص 32.
255

(863)
شيعي وسني
تنازع رجل من الشيعة وآخر من أهل السنة في الأفضل بعد رسول الله
صلى الله عليه وآله، فحكما أول طالع عليهما، فرأيا رجلا فقربا إليه، فقال له
الشيعي: حاكم بيننا، أنا أقول: أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه
وآله علي بن أبي طالب عليه السلام.
فقال: وما يقول هذا ولد الزنا؟
فافحم الرجل (1).
(864)
شيعي ومحمد بن سليمان
كان بعض أهل البصرة يتشيع، وكان له صديق يوافقه في المذهب، فأودعه
مالا فجحده، فاضطر الرجل إلى أن قال لمحمد بن سليمان أن يحضره ويحلفه بحق
علي بن أبي طالب، فطلبه، فقال الرجل: أعز الله الأمير هذا الرجل صديقي،
وهو أعز علي وأجل من أن أحلف له بالبراءة من مختلف في ولايته وإيمانه،
ولكن أحلف له بالبراءة من متفق على إيمانهما وولايتهما: أبي بكر وعمر.
فضحك محمد بن سليمان والتزم المال وخلى عن الرجل (2).
(865) بعض أهل العدل مع بعض المجبرة
ومن الحكايات المأثورة، ما يقال: إن بعض أهل العدل اجتاز على بعض
المجبرة والعدلي راكب.
فقال له الجبري: انزل حتى أسألك مسألة.
فقال له العدلي: أفتقدر أن تسألني؟ قال: لا.

(1) زهر الربيع: ص 53.
(2) زهر الربيع: ص 56.
256

قال: أفأقدر أن أسألك أو أجيبك؟ قال: لا.
قال: فكيف يطلب نزولي من لا يقدر على سؤالي ولا أقدر على نزولي عنده
ولا جوابه. فانقطع الجبري (1).
(866)
صعصعة ومعاوية
في كامل البهائي: أن معاوية كان يخطب على المنبر يوم الجمعة فضرط
ضرطة عظيمة، فعجب الناس منه ومن وقاحته، فقطع الخطبة وقال:
الحمد لله الذي خلق أبداننا، وجعل فيها رياحا، وجعل خروجها للنفس
راحة، فربما انفلتت في غير وقتها فلا جناح على من جاء منه ذلك والسلام.
فقام إليه صعصعة: وقال: إن الله خلق أبداننا، وجعل فيها رياحا، وجعل
خروجها للنفس راحة، ولكن جعل إرسالها في الكنيف راحة، وعلى المنبر بدعة
وقباحة، ثم قال: قوموا يا أهل الشام فقد خرئ أميركم فلاصلاة له ولا لكم، ثم
توجه إلى المدينة (1).
(867)
زين الدين مع أهل ما وراء النهر
ذكر صاحب كتاب إحقاق الحق: أن علماء ما وراء النهر أجمعوا في زمن
دولة الأمير الأعظم تيمور گورگان على كتابة محضر مشتمل على أنه يجب على
جميع الناس أن يبغضوا علي بن أبي طالب ولو بمقدار شعيرة، لأنه رضي بقتل
عثمان! وكلفوا الأمير أن يروج ذلك في ممالكه، فأوقف الأمير ذلك على موافقة
الشيخ العالم زين الدين التايبادي، فلما أرسلوا إليه ذلك المحضر كتب على
ظهره: ويل لعثمان إن أفتى علي المرتضى بدمه (2).

(1) الطرائف: ص 331.
(2) زهر الربيع: ص 79.
(1) زهر الربيع: ص 76.
257

(868)
الأحنف ومعاوية
روي: أن معاوية قال للأحنف بن قيس: لتصعدن على المنبر فتسب علي بن
أبي طالب.
فقال: والله لأنصفنك وأقول: أيها الناس، إن معاوية أمرني أن أسب عليا
ألا وان معاوية وعليا اقتتلا واختلفا، فادعى كل واحد منهما أنه مبغي عليه
وعلى فئته، فإذا دعوت فأمنوا يرحمكم الله.
ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغي منهما
على صاحبه، والعن الفئة الباغية، اللهم العنهم لعنا كثيرا، أمنوا رحمكم الله.
فقال معاوية: إذن نعفيك يا أبا أبجر (1).
(869)
ابن الجوزي ومماليك الخليفة
حكي عن ابن الجوزي: أنه سئل وهو على المنبر وتحته جماعة من مماليك
الخليفة وخاصته وهم فريقان سنة وشيعة، فقيل له: من أفضل الخلق بعد رسول
الله أبو بكر أو علي بن أبي طالب؟.
فقال: أفضلهما بعده من كانت ابنته تحته، فأوهم على الحاضرين ولم يعرفوا
مذهبه، فقالوا: نسأله غير هذا، فقالوا: كم الخلفاء بعد رسول الله؟ فصاح: أربعة
أربعة أربعة، إيماء إلى الأئمة الاثني عشر سلام الله عليهم (2).
(870)
رجل وأهل السنة
في الحديث: أن رجلا من الشيعة دخل على الرضا عليه السلام فقال: يا

(1) زهر الربيع: ص 81.
(2) زهر الربيع: ص 82.
258

ابن رسول الله، أن فلانا من شيعتك صار سنيا، رأيته في سوق بغداد والناس
معه يطوفون به في الأسواق وعليه الخلع الفاخرة ينادي عليه المنادي: ألا أيها
الناس، إن هذا الرجل كان رافضيا فتاب، ثم يقال له: تكلم فيقول: أيها
الناس أن خير الخلق بعد رسول الله أبا بكر، يفعل هذا مرارا.
فقال عليه السلام: إذا خلوت فأعد علي هذا الكلام، فلما خلا المجلس
أعدت عليه الكلام، فقال: لم يقل ذلك الرجل إلا خيرا، لأنه لو قال: أبو بكر
لكان قد فضله على أمير المؤمنين، وإنما قال أبا بكر على النداء، فكأنه قال: خير
الخلق بعد رسول الله علي بن أبي طالب يا أبا بكر، فقال هذا دفعا لوقوع الضرر
به.
(871)
بهلول وهارون
لما انصرف الرشيد من الحج لقاه بهلول في الطريق، فناداه ثلاثا بأعلى
صوته: يا هارون، فقال: من هذا؟ قيل: بهلول المجنون.
فقال: من أنا؟ قال له: أنت الذي لو ظلم أحدد في المشرق وأنت في المغرب
سألك الله عن ذلك يوم القيامة.
فبكى الرشيد وقال: مالك من حاجة؟ فقال: ان تغفر لي ذنوبي وتدخلني
الجنة.
فقال الرشيد: ليس هذا بيدي ولكن أقضي دينك، قال: الدين لا يقضى
بالدين أد أموال الناس إليهم.
قال: نأمر لك برزق يأتي إليك إلى أن تموت.
قال: نحن عبدان الله، أيذكرك وينساني؟! (2)

(1) زهر الربيع: ص 83 وقد مر في ج 1 ص 243 فراجع.
(2) زهر الربيع: ص 393.
259

(872)
بهلول والرشيد
قيل: إن البهلول أتى يوما إلى قصر الرشيد، فرأى المسند والمتكأ الذي هو
مكان هارون، فجلس في مكانه لحظة، فرآه الخدمة الخاصة فضربوه وسحبوه
عن مكان الخليفة.
فلما خرج هارون من داخل قصره رأى البهلول جالسا يبكي فسأل
الخدم، فقالوا: جلس في مكانك فضربناه وسحبناه، فزجرهم ونهرهم، وقال له:
لا تبك.
فقال: يا هارون، ما أبكي على حالي، ولكن أبكي على حالك، أنا
جلست في مكانك هذا لحظة واحدة فحصل لي هذا الضرب الشديد وأنت
جالس في هذا المكان طول عمرك، فكيف يكون حالك؟!
(873)
أحد علماء الشيعة وبعض المخالفين
حدثني من أثق به من العلماء قال: لما كنت في بغداد اجتمعت بإمام من
أهل الصلاة من المخالفين، فتجارينا الكلام حتى بلغنا إلى الشيخ عبد القادر
الجيلاني، فقلت له: سمعت أنه لم يحج الكعبة.
فبكى ذلك الرجل وقال: نعم إن رجلا سأل الشيخ عبد القادر لم لا تحج
الكعبة؟
فقال له: ادن مني، فدنا منه، وقال: انظر، فنظر الرجل وإذا الكعبة
تطوف حول عبد القادر، فقال: إذا كان المطاف يطوف حولي فكيف أسير إلى
المطاف؟
فقال ذلك الرجل العالم: كيف يكون هذا والنبي صلى الله عليه وآله
مضى إلى الحج وطاف حول الكعبة، فعلى هذا يكون الشيخ عبد القادر
260

أفضل؟!
فقال: لا، النبي حج لتعليم الأمة.
فقلت: فيحج الشيخ عبد القادر أيضا لتعليم الأمة، لأنه ممن يقتدى به.
فقال له: سر خفي، وسكت (1).
(874)
الجزائري والقاضي
قال السيد نعمة الله الجزائري: لما صارت الواقعة العظمى بين أهل بلادنا
وهي الجزيرة وبين جنود السلطان محمد، خرجنا منها وتوطنا البلدة المحروسة
(شوشتر)، لكن في كل سنة يطلبنا سلطان الحويزة إليها، لأنه كان من أهل
العلم والأدب، وكان في تلك الولايات من الاعراب سكان الصحاري وغيرهم
من أهل السنة والخلاف مالا يحصى عددهم، فمن الله تعالى علينا بالمواعظ لهم
والارشاد لجهالهم حتى دخلوا في دين أمير المؤمنين عليه السلام، وصاروا من
الشيعة الإمامية، فلما من الله سبحانه علينا لحج بيته الحرام، أتينا البصرة،
فأرسل إلينا القاضي يعاتبنا على أن أدخلت الاعراب في مذهب الشيعة
وترفضوا، فأرسلت إليه: أن البصرة نصفها روافض، فتدارك أنت ما فعلت أنا
وأدخل جماعة من الروافض في دين أهل السنة تلافيا لما فعلت أنا، فقال: قاتل
الله الروافض سمعت أن رافضيا صار سنيا؟! (2).
(875)
الشيعة مع الوالي
وكان بعضهم يلعن السلف، فسعي به إلى الوالي فقال: قد خسرت في السلف
كثيرا. يريد السلم (1).

(1) زهر الربيع: ص 350.
(2) زهر الربيع: ص 50.
(3) الصراط المستقيم: ج 3 / 73.
261

علوي ورجل
قيل لعلوي: يا رافضي.
فقال: الناس ترفضت بنا، فنحن بمن نترفض؟! (3).
(876)
شيعي وقاضي
مضى رجل إلى بغداد فاتهموه أنه سب الشيخين، فأخذوه إلى القاضي،
فسأله القاضي:
فقال: كذبوا علي، أنا رجل عاقل أعرف أن هذه البلاد بلاد أهل
الخلاف لا ينبغي اللعن والسب والطعن فيها، هذا شئ يجوز في بلادنا، أما
هذه البلاد فلا.
وكان القاضي منصفا، فضحك وخلاه (2).
(877)
بهلول وأبو حنيفة
وفي الكتب: أن بهلول اتى إلى المسجد يوما، وأبو حنيفة يقرر للناس علومه
وقال في جملة كلامه: إن جعفر بن محمد تكلم في مسائل ما يعجبني كلامه فيها:
الأولى: أنه يقول: إن الله سبحانه موجود لكنه لا يرى لا في الدنيا ولا في
الآخرة، وهل يكون موجود لا يرى؟ ما هذا إلا تناقض.
الثانية: أنه قال: إن الشيطان يعذب في النار مع أن الشيطان خلق من
النار فكيف الشئ يعذب بما خلق منه؟!

(3) الصراط المستقيم: ج 3 / 76.
(2) زهر الربيع: 276.
262

الثالثة: أنه يقول: إن أفعال العباد مستند إليهم مع أن الآيات دالة على أنه
تعالى فاعل كل شئ.
فلما سمعه البهلول أخذ مدرة وضرب بها رأسه وشجه، فصار الدم يسيل
على وجهه ولحيته، فبادر إلى الخليفة يشكو البهلول، فلما احضر البهلول وسئل
عن السبب، قال للخليفة:
إن هذا الرجل غلط جعفر بن محمد في ثلاث مسائل:
الأولى: إن أبا حنيفة يزعم أن الافعال كلها لافاعل لها إلا الله، فهذه
الشجة من الله سبحانه وما تقصيري أنا؟
الثانية: إنه يقول: كل شئ موجود لابد وأن يرى، فهذا الوجع في رأسه
موجود مع أنه لا يراه أحد.
الثالثة: إنه مخلوق من التراب وهذه المدرة من التراب وهو يزعم أن الجنس
لا يتعذب بجنسه، فكيف تألم من هذه المدرة؟!
فأعجب الخليفة كلامه وتخلصه من شجة أبي حنيفة (1).
(878)
شيعة والشيخ الكهمري
حكي أن جماعة من شيعة البحرين أتوا إلى البصرة، فقال رجل منهم: قل ما
عندنا فهلموا معي إلى الشيخ الكهمري نسخر بلحيته ونأخذ منه دراهم، فأتوا
إليه وهو في جماعة من أصحابه، فقال له البحراني: يا شيخ أنا من أهل البحرين
ودينهم الرفض، ولكني سلمت إليك أمانة أريدها منك. قال: متى؟
قال: لما ركبت في السفينة واضطرب علينا البحر رموا التجار أموالهم في
البحر، وكان عندي كيس فيه مالي فرميته في البحر وقلت: هذا أمانة الشيخ

(1) زهر الربيع: ص 251 وقد مر في ج 2 ص 292 برواية أخرى.
263

أريدها في البصرة منه، وأظن أن الماء لا يخون أمانتك وقد أتى بها إليك.
فتأمل الشيخ وقال: أن الماء أتاني ذلك اليوم بودايع كثيرة، فصف أمانتك
حتى اخرجها إليك، فوصفها له، ثم دخل منزلة وأخرج له كيسا من الدراهم
على ما وصف.
فلما رأى البحراني قال: نعم يا شيخ هذه أمانتي! (1)
(879)
ابن الحنفية وعبد الملك
كتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان يتهدده ويتوعده ويتحلف له
ليحمل له مائة ألف في البحر ومائة ألف في البر.
فأراد عبد الملك أن يكتب إليه جوابا شافيا، فكتب إلى الحجاج أن يكتب
إلى محمد بن الحنفية - رضي الله عنه - بكتاب يتهدده فيه ويتوعده بالقتل ويرسل
إليه ما يجيبه به.
فكتب الحجاج إليه فأجابه محمد بن الحنفية: (إن لله تعالى في كل يوم
ثلاثمائة وستين نظرة إلى خلقه، وأنا أرجو أن ينظر إلي نظرة يمنعني بها منك).
فبعث الحجاج كتابه إلى عبد الملك وكتب عبد الملك ذلك إلى ملك
الروم، فقال ملك الروم: ما هذا منه وما خرج إلا من بيت النبوة (2).
(880)
الخليل والخلفاء
كان من الزهاد الخليل بن أحمد النحوي القاري العروضي وهو من الشيعة الإمامية
، قالوا: أرسل إليه بعض الخلفاء، فأتاه الرسول فوجده يبل كسرة بماء

(1) زهر الربيع: ص 207 - 208.
(2) زهر الربيع: ص 194.
264

ويأكلها، فقال له: أجب أمير المؤمنين! فقال: مالي إليه حاجة، فقال: إنه
يعنيك.
فقال: ما دمت أجد هذين فإني لا أحتاج إليه (1).
(881)
رجل ومعاوية
قال معاوية يوما: أيها الناس، إن الله حبا قريش بثلاث، فقال لنبيه:
(وأنذر عشيرته الأقربين) ونحن عشيرته الأقربون، وقال تعالى: (وإنه لذكر
لك ولقومك) ونحن قومه، وقال تعالى: (لايلاف قريش إيلافهم) ونحن
قريش.
فأجابه رجل من الأنصار فقال: إن الله تعالى قال: وكذب به قومك)
وأنتم قومه، وقال: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون) وأنتم
قومه، وقال تعالى: (قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)
وأنتم قومه، ثلاث بثلاث، ولو زدت لزدناك (2).
(882)
رجل والحجاج
قال الحجاج يوما لرجل: اقرأ شيئا من القرآن فقرأ: إذا جاء نصر الله والفتح
ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجا!
فقال: ليس كذلك، بل هي (يدخلون في دين الله). قال: ذلك قبل
ولايتك، ولكنهم الان يخرجون بسببك، فضحك وأعطاه (3).

(1) زهر الربيع: ص 178.
(2) زهر الربيع: ص 89 - 90.
(3) زهر الربيع: ص 90
265

(883)
بين شيعي وشيعي
كتب مهذب الدين أحمد بن منير العاملي الطرابلسي - الشاعر الماهر
الشيعي - إلى الشريف الموسوي بهذه الأبيات:
بالمشعرين وبالصفا * والبيت اقسم والحجر
وبحرمة البيت الحرام * ومن بناه واعتمر
لئن الشريف الموسوي * أبو الرضا ابن مضر
أبدى الجحود ولم يرد * علي مملوكي تتر
واليت آل أمية * الطهر الميامين الغرر
وجحدت بيعة حيدر * وعدلت منه إلى عمر
وبكيت عثمان الشهيد * بكاء نسوان الحضر
وإذا رووا خبر الغدير * أقول: ما صح الخبر
وإذا جرى ذكر الصحا * بة بين قوم واشتهر
قلت: المقدم شيخ تيم * ثم صاحبه عمر
وأقول: أم المؤمنين * عقوقها إحدى الكبر
وأقول: إن أخطأ معا * وية فما أخطأ القدر
وأقول: ذنب الخارجين * على علي مغتفر
ورثيت طلحة والزبير * بكل شعر مبتكر
وأقول: إن يزيد ما * شرب الخمور وما فجر
ولجيشه بالكف عن * أولاد فاطمة أمر
وقلوب سكان المدينة * ما أخاف ولا ذعر
وغسلت رجلي ضلة * ومسحت خفي في سفر
وحلقت في عشر المحرم * ما استطال من الشعر
266

وسهرت في طبخ الحبوب * من العشاء إلى السحر
ونويت صوم نهاره * مع صوم أيام أخر
ولبست فيه أجل ثوب * للملابس يدخر
وغدوت مكتملا أصافح * من لقيت من البشر
ووقفت في وسط الطريق * أقص شارب من عبر
وأقول في يوم تحار * له البصائر والبصر:
مالي مضل في الورى * إلا الشريف أبو مضر (1)
(884)
الخراساني وأبو حنيفة
يروى: أن رجلا من أهل خراسان حج فلقي أبا حنيفة، فكتب عنه مسائل،
ثم عاد من العام المقبل فلقاه، فعرضها ثانية عليه فرجع عنها كلها.
فحثى الخراساني التراب على رأسه، وصاح واجتمع الناس عليه، فقال: يا
معشر المسلمين، هذا رجل أفتاني في العام الماضي بما في هذا الكتاب،
فانصرفت إلى بلدي فحللت به الفروج وأرقت به الدماء، وأخذت وأعطيت به
الأموال: ثم جئته العام فرجع عنه كله.
قال أبو حنيفة: إنما كان ذلك رأيا رأيته، ورأيت الان خلافه.
قال الخراساني له: ويحك، ولعلي لو أخذت عنك العام ما رجعت إليه
لرجعت له عنه من قابل. قال أبو حنيفة: لا أدري.
قال الخراساني: لكني أدري أن عليك لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين (2).

(1) الكنى والألقاب: ج 1 / 442.
(2) دعائم الاسلام: ج 1 / 89.
267

(885)
سلطان مع المفتي
حدثني من أثق به: أن سلطان الروم سلطان سليمان الذي أجرى الماء من
الفرات إلى مشهد الامام أبي عبد الله عليه السلام، وهو النهر الموسوم بالحسينية
لما أتى إلى زيارة أمير المؤمنين، فصار بالقرب من المشهد الشريف نزل عن فرسه
وقصد زيارته ماشيا، فغضب المفتي وهو قاضي العسكر، لأنه كان ناصبيا،
وقال:
أنت سلطان في الحياة وعلي بن أبي طالب خليفة مات فكيف تمشي
لزيارته؟ وكيف لم تبق راكبا؟ فتجاذبا الكلام، فقال له المفتي: إن كنت شاكا
في كلامي فتفأل بالقرآن يتضح لك حقيقة الحال، فلما فتح القرآن كانت
الآية هكذا: (فاخلع نعليك أنك بالواد المقدس طوى).
فالتفت إلى المفتي وقال: ما زادنا كلامك إلا زيارة نزع النعل والمشي
حافيا إلى الروضة، وقد أصابت الأرض قدميه بجراح، فلما فرغ من زيارة
الروضة المقدسة، قال له المفتي:
إن في هذا المشهد قبر رجل من علماء الرافضة، وهو الذي روج مذهب
الشيعة، فأخرج عظامه وأحرقها بالنار. فقال: من هو؟ قال: هو الشيخ أبو جعفر
محمد بن الحسن الطوسي.
فقال له السلطان: هذا الرجل ليس داخلا تحت سلطاني وإنما سلطاني على
من فوق الأرض، وهذا تحت سلطان الله سبحانه، فكلما استحقه من الثواب
والعقاب أوصله إليه... الخ (1).
* * *

(1) زهر الربيع: ج 2 / 104.
268

(886)
هشام وضرار
قال هشام بن الحكم لضرار بن عمرو: على ما تجب الولاية والبراءة؟ على
الظاهر أم الباطن؟
قال: على الظاهر.
قال: أفكان علي أذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وأقتل لأعداء
الله أم فلان؟
فقال: علي ولكن فلان أشد يقينا.
قال: هذا هو الباطن الذي نفيته. قال: فإذا كان الباطن مع الظاهر؟
قال: فضل لا يدفع.
قال: أفقال النبي صلى الله عليه وآله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)
إلا وهو عنده مؤمن في الباطن (2).
قال: لا
قال فقد صح لعلي الظاهر والباطن ولم يصح لأبي بكر شئ منهما (3).
(887)
إسكندر ومحمد بن الحارث
رسالة إسكندر باشا إلى أهل الجزائر:
بسم الله الرحمن الرحيم بعد حمد الله واهب الملك لم يشاء وهو على كل

(1) الظاهر أن الضمير في (وهو) يرجع إلى أبي بكر، أي قال النبي صلى الله عليه وآله ذلك لك لعلي
عليه السلام وأبو بكر عنده أشد يقينا، فقال: لا، فنفى كون أبي بكر أفضل في الباطن فهو ليس
بأفضل في الظاهر والباطن.
(3) الصراط المستقيم: ج 3 ص 78.
269

شئ قدير، والصلاة والسلام على صفوة الأنبياء البشير النذير محمد وآله
الطيبين وأصحابه المتقين، فليعلم الأمير علي بن عليان، وقاضي المسلمين
الشيخ محمد بن الحارث المنصوري، وجعفر الديلمي، وسائر المشايخ من أهل
الجزائر: أننا جند الله خلقنا من سخطه وسلطانه، وسلطانا على من حل عليه
غضبه، فلكم فيما مضى معتبر، وفيمن قبلنا مزدجر، فاعتبروا في غيركم، وسلموا
إلينا أمركم قبل أن يكشف الغطاء، ويحل عليكم منا الخطاء، لا نرحم من بكى
ولا نرق لمن شكا، فقد نزع الله الرحمة من قلوبنا، فالويل ثم الويل لمن لم يكن
من حزبنا، وما يؤول من عزم على حربنا، فلقد خربنا البلاد، وأيتمنا الأولاد،
وفعلنا في الأرض الفساد، فعليكم في الهرب، وعلينا في الطلب، وأي أرض
تحويكم، وأي بلاد تنجيكم، فلا لكم من سيوفنا خلاص، ولا من سهامنا
مناص، خيولنا سوابق، وسيوفنا بوارق، وسهامنا خوارق، وقلوبنا كالجبال،
وعددنا كالرمال، فمن رام سلمنا سلم، ومن طلب حربنا ندم، ملكنا لا يرام،
وجارنا لا يضام، فإن أنتم قبلتم شرطنا. أطعتم أمرنا فلكم مالنا وعليكم ما
علينا، وإن خالفتم ووليتم وعلى بغيكم تماديتم فلا تلومونا ولوموا أنفسكم، فقد
اعذر من أنذر، وأنصف من حذر، فالحصون من أيدينا لا تمنع، والعساكر
لقتالنا لا ترد ولا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يستجاب ولا يسمع، لأنكم أكلتم
الحرام، وخنتم الايمان، واستحللتم البهتان والفسوق والطغيان، وأظهرتم البدع،
وضيعتم الجمع، فأبشروا بالذل والهوان، فاليوم عذاب الهون بما كنتم تفسقون
(وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
وقد ثبت عندنا أنكم العجزة، سلطنا عليكم من بيده الأمور مدبرة
والاحكام مقدرة: فعزيزكم لدينا، ذليل، وكثيركم في أعيننا قليل، فالويل ثم
الويل لمن هو في أيدينا طويل ولا من القضاء من أهوالنا مقيل، فنحن لنا
الأرض شرقا وغربا وذو الأمور سلبا ونهبا، ونأخذ كل سفينة غصبا فميزوا في
270

عقولكم طرق الصواب، وأسرعوا إلينا برد الجواب قبل أن تضرم الحرب نارها
ويلتهب شرارها وتحيط أوزارها، وتدهون بأعظم داهية، وتصلون نارا حامية
لا تبقي لكم جاها ولاعزا، ولا تجدون دوننا حرزا ولا كنزا، فينادي عليكم
منادي الفناء: (هل تحسن منهم من أحد أو تسمع لهم ركز ا).
فلقد أنصفنا لكم فيما أرسلنا إليكم فردوا لنا جواب الكتاب قبل حلول
العذاب، وكونوا على أمركم في المرصاد وعلى رأيكم بالاقتصاد، فإن قرأتم
الكتاب فاقرأوا النحل وآخر صاد، والسلام على أهل الاسلام.
جواب الرسالة من أهل الجزائر وهو من إنشاء الشيخ الجليل العالم المحقق
الشيخ محمد بن الحارث من تلاميذ شيخنا المحقق الثاني الشيخ علي بن
عبد العالي طيب الله ثراه:
بسم الله الرحمن الرحيم قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع
الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل
شئ قدير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
محمد وآله الطيبين الطاهرين، أما بعد: فقد ورد إلينا كتاب مخبر عن الحضرة
الخاقانية والدولة الرفيعة السلطانية الإسكندر باشا - نصره الله وأرشده - فهو
عندنا ذو صدر صحيح وذو عقل رجيح ولسان فصيح.
اعلم هداك الله إلى طريق الرشاد: أما قولك: فإننا مخلوقون من سخطه
ومسلطون على من حل عليه غضبه، لا نرق لمن بكى ولا نرحم لمن شكا، فقد
نزع الله الرحمة من قلوبكم فذلك من أكبر عيوبكم، لان هذا من صفات
الشياطين لا من صفات السلاطين وكفى هذا شاهدا وموعظة (قل يا أيها
الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما
عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين).
وقلتم: إننا أظهرنا البدع، وضيعنا الجمع، ونكسنا الأديان، وأظهرنا
271

الفسوق والعصيان. فإن كان الشرك بفرعون معكزا فأنتم صرفتم للشر مركزا،
ألا إنكم أشر من قوم لوط وصالح وما علمكم بنافع ولا صالح، فنحن الموفون
حقا المعترفون بالولاية صدقا، لا يدخلنا عيب، ولا يخالطنا ريب، القرآن علينا
نزل، والرب بنا رحيم، لم يزل تحققنا تنزيله وعرفنا تأويله، فنحن العارفون
بالأصول والفروع، والعاملون بما أمرنا من المشروع، إنما النار لكم خلقت
ولجلودكم أضرمت، لأنكم منكرون أهل الولاية ومقدمون عليهم الذين هم
ليسوا من أهل الهداية، فالعجب العجب تهددون الليوث بالتيوس والسباع
بالضباع والكماة بالقراع، خيولنا سوابق برقية، وترسنا مصرية، وأسيافنا يمانية
وأكتافنا شديدة المضارب، وسلطاننا شاع ذكره بالمشارق والمغارب، فرساننا
ليوث إذا ركبت، وخيولنا سوابق إذا طلبت، وسيوفنا قواطع إذا ضربت،
ودر وعنا جلودنا، وحواشيننا صدورنا، قلوبنا قوية لا تفزع، وجمعنا لا يروع،
وقولكم عندنا تهديد، فنحن أهل الوعد وأنتم أهل الوعيد بقوة الله العزيز
الحميد، لا يهولنا منكم تخويف ولا يرجفنا منكم ترجيف، فإن أطعناكم فذلك
طاعة وإن قتلناكم فنعم البضاعة، وإن قتلتمونا فبيننا وبين الجنة ساعة.
وأما قولكم: قلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال. فاعلموا أن القصاب لا يهوله
كثرة الغنم، وكثير من الحطب يكفيه قلل من الضرم، أيكون من الموت فرار
وعلى الذل قرار؟ ألا ساء ما تحكمون، الفرار من الرزايا لامن المنايا، فنحن إن
عشنا سعداء، وإن متنا شهداء، فنحن المقربون بولاية علي بن أبي طالب
أمير المؤمنين خليفة رسول الله رب العالمين، فنحن والله الشيعة المؤمنون، ألا، إن
حزب الله هم الغالبون، تريدون منا طاعة؟ لا سمعا ولا طاعة، قلتم: إن سلمتم
لنا أمركم قبل أن يكشف الغطاء ويحل عليكم منا الخطاب. فهذا الكلام في
نظمه تركيك وفي سلكه تشكيك، فقولوا لكاتبكم الذي وصف مقالته ان
يحسن رسالته، والله ما كان جوابكم عندنا إلا كصرير باب أو كطنين ذباب،
272

أنكم استخففتم النعمة واستوجبتم النقمة، ولكم منا الخطاب، وسيأتينا منكم
رد الجواب، أتى أمر الله فلا تستعجلوه، والسلام على من اتبع الحق المبين (1).
(888)
رجل وعلماء السنة
كان عند سلطان البصرة رجل من الشيعة يقوم بحوائج المؤمنين، وأنا رأيته
وكنت في منزله، فسأله يوما وعلماء السنة في مجلسه وقال:
أيما أفضل فاطمة أم عائشة؟ فقال الشيخ: عائشة.
فتعجب السلطان لأنه خلاف مذهب الشيخ، فقال: كيف؟!
قال: لان الله سبحانه فضل المجاهدين على القاعدين، وعائشة جاهدت في
حرب البصرة، وفاطمة ما خرجت من بيتها.
فقال السلطان: هذا تشنيع لطيف (2).
(889)
أبو الأسود وبنو قشير
روي: أن أبا الأسود كان يتشيع وكان ينزل في بني قشير وهم عثمانية، وكانوا
يرمونه بالليل، فشكاهم مرة، فقالوا له: ما نحن نرميك ولكن الله يرميك،
فقال: كذبتم والله لو كان الله يرميني لما أخطأني (3).
(890)
أبو العيناء وبعض العلويين
قال بعض العلويين لأبي العيناء: أتبغضني، ولا تصح صلاتك إلا بالصلاة
علي إذا قلت: اللهم صل على محد وآله؟

(1) زهر الربيع: ج 2 / 126 - 129.
(2) زهر الربيع: ج 2 / 184.
(3) زهر الربيع: ج 2 / 183 والكنى والألقاب: ج 1 / 7.
273

قال أبو العيناء: إذا قلت: الطيبين الطاهرين، خرجت منهم (1).
(891)
ابنة أبي الأسود ومعاوية
روي: أن معاوية أرسل إإليه - أي إلى أبي الأسود - هدية مها حلواء، يريد
بذلك استمالته وصرفه عن حب أمير المؤمنين علي عليه السلام، فدخلت ابنة
صغيرة له خماسي أو سداسي عليه، فأخذت لقمة من تلك الحلواء، وجعلتها في
فمها، فقال لها أبو الأسود: يا بنتي ألقيه فإنه سم، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية
ليخدعنا عن أمير المؤمنين، ويردنا عن محبة أهل البيت عليهم السلام، فقالت
الصبية: قبحه الله يخدعنا عن السيد المطهر بالشهد المزعفر، تبا لمرسله وآكله،
فعالجت نفسها حتى قاءت ما أكلتها (2) ثم قالت:
أبا لشهد المزعفر يا با ابن هند * نبيع عليك أحسابا ودينا
معاذ الله كيف يكون هذا * ومولانا أمير المؤمنينا (3)
(892)
ابن شهاب والامام البخاري
لم يرو الامام البخاري في صحيحه حديثا عن الإمام الصادق عليه
السلام، وعلل بان في نفسي منه شئ - كما نقل عنه - فقال فيه ابن شهاب
أبو بكر الحضرمي الامامي هذه الأبيات:
قضية تشبه بالمرزئة * هذا البخاري إمام الفئة
بالصادق الصديق ما احتج في * صحيحه واحتج المرجئة
ومثل عمران بن حطان ومر * وان وابن المرأة المخطئة

(1) زهر الربيع: ج 2 / 178.
(2) هكذا في المصدر والصحيح (ما أكلته).
(3) الكنى والألقاب: ج 1 / 8.
274

مشكلة ذات عوار إلى * خيرة أرباب النهى ملجئة
وحق بيت يممته الورى * مغذة (1) في السير أو مبطئة
إن الإمام الصادق المجتبى * بفضله الآي أتت منبئة
أجل من في عصره رتبة * لم يقترف في عمره سيئة
قلامة من ظفر إبهامه * تعدل من مثل البخاري مائة (2)
(893)
الفضل وبنو أمية
كتب هشام إلى عامل المدينة: أن يمنع أهل مكة والمدينة عطاءهم سنة،
لأنه عرف منهم الميل إلى زيد، وأظهروا الحزن أيام مجئ خبره، وكتب أيضا إلى
عامل المدينة: أن يحبس قوما من بني هاشم ويعرضهم كل أسبوع مرة، ويقيم لهم
الكفلاء ألا يخرجوا.
فقال الفضل بن عبد الرحمان بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن
عبد المطلب من قصيدة طويلة:
كلما أحدثوا بأرض نقيقا * ضمنونا السجون أو سيرونا
قتلونا بغير ذنب إليهم * قاتل الله أمة قتلونا
مارعوا حقنا ولا حفظوا في‍ * نا وصاة الاله بالاقر بينا
جعلونا أدنى عدو إليهم * فهم في دمائهم يسبحونا
أنكروا حقنا وجاروا علينا * وعلى غير إحنة ابغضونا
غير أن النبي منا وإنا * لم نزل في صلاتهم راغبينا
إن دعونا إلى الهدى لم يجيبوا * نا وكانوا على الهدى ناكبينا

(1) مغذة، مسرعة.
(2) الكنى والألقاب: ج 1 / 24.
275

فعسى الله أن يديل أناسا * من أناس فيصبحوا ظاهرينا
فتقر العيون من قوم سوء * قد أخافوا وقتلوا المؤمنينا
من بني هاشم ومن كل حي * ينصرون الاسلام مستنصرينا
في أناس آباؤهم نصروا الدين * وكانوا لربهم ناصرينا
تحكم المرهفات في الهام منهم * بأكف المعاشر الثائرينا
أين قتلى منهم نعيتم عليهم
ثم قتلتموهم ظالمينا
ارجعوا هاشما وردوا أبا ال‍ * يقظان وابن البديل في آخرينا
وارجعوا ذا الشهادتين وقتلى * أنتم في قتالهم فاجرونا
ثم ردوا أبا عمير وردوا * لي رشيدا وميثما والذينا
قتلوا بالطفوف يوم حسين * من بني هاشم وردوا حسينا
أين عمرو وأين بشر وقتلى * معهم في العراء ما يدفنونا
أرجعوا عامرا وردوا زهيرا * ثم عثمان فارجعوا غارمينا
وارجعوا هانيا وردوا إلينا * كل من قد قتلتم أجمعينا
إن تردوهم إلينا ولسنا * منكم غير ذلكم قابلينا (1)
(894)
ابن الجوزي وجماعة
يحكى أنه وقع النزاع بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر
وأمير المؤمنين علي، فرضي الكل بما يجيب به أبو الفرج عن ذلك فأقاموا شخصا
سأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه فقال: أفضلهما بعد النبي
- صلى الله عليه وآله من كانت ابنته تحته. ونزل في الحال حتى لا يراجع في
ذلك (2).

(1) الكنى والألقاب: ج 1 / 227 - 228.
(2) الكنى والألقاب: ج 1 / 242.
276

(895)
محمد بن عبد الله ومعاوية
روى صاحب بشارة المصطفى عن هشام بن محمد عن أبيه قال: اجتمع
الطرماح وهشام المرادي ومحمد بن عبد الله الحميري عند معاوية بن أبي سفيان،
فأخرج بدرة فوضعها بين يديه، ثم قال: يا معشر شعراء العرب، قولوا قولكم في
علي بن أبي طالب - عليه السلام - ولا تقولوا إلا الحق، وأنا نفي من صخر بن
حرب إن أعطيت هذه البدرة إلا من قال الحق في علي.
فقام الطرماح فتكلم وقال في علي ووقع فيه.
فقال معاوية: اجلس فقد عرف الله نيتك ورأى مكانك.
ثم قام هشام المرادي، فقال أيضا ووقع فيه.
فقال معاوية: اجلس مع صاحبك، فقد عرف الله مكانكما.
فقال عمرو بن العاص لمحمد بن عبد الله الحميري، وكان خاصا به: تكلم
ولا تقل إلا الحق.
قال: يا معاوية، قد آليت ان لا تعطي هذه البدرة إلا قائل الحق في علي؟
قال: نعم أنا نفي من صخر بن حرب إن أعطيتها منهم إلا من قال الحق.
فقام محمد بن عبد الله فتكلم، ثم قال:
بحق محمد قولوا بحق * فان الافك من شيم اللئام
أبعد محمد بأبي وأمي * رسول الله ذي الشرف التمام
أليس علي أفضل خلق ربي * وأشرف عند تحصيل الأنام
ولايته هي الايمان حقا * فذرني من أباطيل الكلام
علي إمامنا بأبي وأمي * أبو الحسن المطهر من حرام
إمام هدى أتاه الله علما * به عرف الحلال من الحرام
ولو أني قتلت النفس حبا * له ما كان فيها من أثام
277

يحل النار قوم أبغضوه * وإن صاموا وصلوا ألف عام
ولا والله ما تزكو صلاة * بغير ولاية العدل الامام
أمير المؤمنين بك اعتمادي * وبالغر الميامين اعتصامي
برئت من الذي عادى عليا * وحاربه من أولاد الحرام
تناسوا نصبه في يوم (خم) * من الباري ومن خير الأنام
برغم الانف من يشنأ كلامي * علي فضله كالبحر طامي
وأبرا من أناس أخروه * وكان هو المقدم بالمقام
على آل النبي صلاة ربي * صلاة بالكمال وبالتمام
فقال معاوية: أنت أصدقهم قولا، فخذ هذه البدرة (1).
(896)
ابن هرمة وأهل السنة
كان أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة القرشي المدني
أحد الشعراء المخضرمين، وكان حيا سنة 146 ه‍، وكان ممن اشتهر بالانقطاع
إلى الطالبيين، وقد أكثر من مدائحهم ورثائهم، وكان ذلك دليلا واضحا على
تشيعه. حكي أنه قيل له في دولة بني العباس: ألست القائل:
فمهما الام على حبهم * فإني أحب بني فاطمة
بني بنت من جاء بالمحكمات * والدين والسنن القائمة
ولست أبالي بحبي لهم * سواهم من النعم السائمة؟
فقال: اعض الله قائلها بهن أمه، فقال له من يثق به: ألست قائلها؟
فقال: بلى، ولكن اعض بهن أمي خير من أن اقتل (2).

(1) الكنى والألقاب: ج 1 / 406، والغدير: ج 2 / 178 عن الحموي في فرائد السمطين: الباب 68،
وبشارة المصطفى، ورياض العلماء: في ترجمة السيد الشريف المرتضى رحمه الله.
(2) الكنى والألقاب: ج 1 / 447.
278

(897)
الصوري مع النابلسي
قال عبد الغني النابلسي الصوفي في قصيدته الشطحية:
وجودي جل عن جسمي * وعن روحي وعن عقلي
وعن شرعي وتكليفي * وعن حكمي وعن نقلي
وعلمي ليس يدركه * سوى من لم يزل مثلي
ولو زال الغطا عن عل‍ * م أهل العقد والحل
لاضحى علمهم في بحر علمي * قطرة الطل
وعلم الجفر من علمي * وموسى رشحة البل
وإني هد هد الاخبار لل‍ * قوم الأولى قبلي
ووجهي قد غسلت الكون * عنه أيما غسل
وإني لست مخلوقا * ولا شربا ولا أكل
ولا إني أنا الخلاق * ذو صنع وذو فعل
أنا الشامي أنا الهندي * أنا الرومي أنا الصقلي
أنا الأكوان بي قامت * أنا الأفلاك من أجلي
أنا المعروف في الدنيا * وفي الأخرى بذي الفضل
وإني لست إنسانا * ولا من ذلك النسل
ولا إني جنين * أو بمولود ولا طفل
وما عبد الغني اسمي * وهذا مقتضى شكلي
ولكن عالم الاوها * م يمشي بي على مهل
فيامن رام في الدنيا * يراني طالبا وصلي
تجرد وانتزح واخر * ج عن الأكوان بالعقل
وكن خمرا بلا كأس * وكن شمسا بلا ظل
279

وحقق واقطع الاحبال * وأمسك دونها حبلي
الأبيات، ورد عليها الشيخ إبراهيم الحر الصوري الشيعي بقوله:
رويدا يا أخا الفضل * مزجت الشهد بالخل
أذعت السريا هذا * شربت الجور بالعدل
ايا عبد الغني مهلا * فليس القول كالفعل
لقد أكثرت من هذر * يضاهي صفوة الطفل
دعا ولا يدانيها * سوى عار من العقل
فما هذا الذي تهذي * رويدا يا أبا الجهل
حلول واتحاد * ثم تشبيه مع البطل
فيا عبد الغني الشامي * تفطن واستمع نقلي
فما المشكاة يا رومي * وما المصباح يا صقلي
وما الزيتون يا هندي * فقل يا فاتح العقل
ألا يا هدهد الاخبار * خبر بالورى واجل
أيا عبد الغني أكثر * ت من هذر وعن هذل
لقد أبرزت مكنونا * خلاف العقل والنقل (1)
(898)
أبو هاشم الجعفري ومحمد بن عبد الله بن طاهر
لما قتل يحيى بن عمر - رحمه الله تعالى - وحمل رأسه إلى محمد بن عبد الله بن
طاهر ببغداد، فجلس محمد للهناء بذلك، فدخل الناس عليه أفواجا يهنئونه وفي
جملتهم رجل من ولد جعفر بن أبي طالب فقال:
أيها الأمير، إنك تهنأ بقتل رجل لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) راجع الكنى والألقاب: ج 2 / 138 - 139.
280

حيا لعزي به.
فأطرق محمد ساعة، ثم نهض وصرف الناس.
فقال أبو هاشم الجعفري (وهو الرجل المذكور في النقل):
يا بني طاهر كلوه وبيئا * إن لحم النبي غير مرئ
إن وترا يكون طالبه الله * لوتر بالقوت غير جرئ (1)
(899)
جابر وعائشة
روى نور الابصار للشبلنجي: أن محمد الباقر ابن علي بن الحسين بن علي بن
أبي طالب عليهم السلام سأل جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله تعالى
عنه - لما دخل عليه عن عائشة وما جرى بينها وبين علي عليه السلام.
فقال له جابر: دخلت عليها يوما وقلت لها: ما تقولين في علي بن أبي طالب؟
فأطرقت رأسها ثم رفعته وقالت:
إذا ما التبر حك على محك * تبين غشه من غير شك
وفينا الغش والذهب المصفى * علي بيننا شبه المحك (2)
(900) سني وسني
قال جعفر بن محمد الطالبي: صلى أحمد بن حنبل ويحى بن معين في
مسجد الرصافة، فقام بين أيديهما قاص، فقال:
حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، قالا: حدثنا عبد الرزاق قال:

(1) راجع الكنى والألقاب: ج 2 / 230.
(2) راجع الكنى والألقاب: ج 2 / 324.
281

حدثنا معمر بن قتادة عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله -:
من قال: لا إله إلا الله يخلق بكل كلمة منها طائر منقاره من ذهب وريشه
مرجان، وأخذ في قصة من نحو عشرين ورقة.
فجعل أحمد ينظر إلى يحيى، ويحيى ينظر إلى أحمد، فقال: أنت حدثته
بهذا؟ فقلت: ما سمعت بهذا إلا هذه الساعة.
قال: فسكتا جميعا حتى فرغ، فقال يحيى بيده أن تعال فجاء متوهما لنوال
يجيزه، فقال له يحيى: من حدثك بهذا؟ فقال له: أحمد بن حنبل ويحيى بن
معين.
فقال: أنا ابن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قط في حديث
رسول الله - صلى الله عليه وآله - فإن كان ولا بد لك من الكذب فعلى غيرنا.
فقال له: أنت يحيى بن معين؟ قال: نعم.
قال: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق وما علمته إلى هذه الساعة.
قال له يحيى: وكيف علمت أني أحمق؟ قال: كأنه ليس في الدنيا يحيى
ابن معين وأحمد بن حنبل غيركما، كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل غير هذا.
قالا: فوضع أحمد كمه وجهه، وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزئ بهما (1).
(901)
القاضي التنوخي وابن المعتز
قال عبد الله بن المعتز بن المتوكل العباسي قصيدة يفتخر فيها على بني
أبي طالب وهي:
أبي الله إلا ما ترون فما لكم * عتاب على الاقدار يا آل طالب
تركناكم فهلا أخذتم * تراث النبي بالقنا والقواضب

(1) الكنى والألقاب: ج 2 / 417.
282

زمان بني حرب ومروان * تمسكوا أعنة ملك جائر الحكم عاصب
ألا رب يوم قد كسوكم عمائما * من الضرب في الهامات جمر الذوائب
فلما أراقوا بالسيوف دماءكم * أبينا ولم نملك حنين الأقارب
فحين أخذنا ثأركم من عدوكم * فعدتم لنا تورون نار الحباحب
وحزن التي أعيتكم قد علمتم * فم ذنبنا هل قاتل مثل سالب
عطية ملك قد حبانا بفضله * وقدرة رب الجزيل المواهب
وليس يريد الناس أن تملكوا * فلا تثبوا فيهم وثوب الجنادب
وإياكم إياكم وحذار من * ضراغمة في الغاب حمر المخالب
ألا إنها الحرب التي قد علمتم * وجربتم والعلم عند التجارب (1)
وقد تصدى غير واحد من الشعراء لنقض حججه الداحضة منهم:
القاضي التنوخي أبو القاسم علي بن محمد الأنطاكي البغدادي فقال:
من ابن رسول الله وابن وصيه * إلى مدغل في عقبة الدين ناصب
نشأ بين طنبور وزق ومزهر * وفي حجر شاد أو على صدر (2) ضارب
ومن ظهر سكران إلى بطن قينة * على شبه (3) في ملكها وشوائب
يعيب عليا خير من وطأ الحصى * وأكرم سار في الأنام وسارب
ويزري على السبطين سبطي محمد * فقل في حضيض رام نيل الكواكب
وينسب أفعال القراميط كاذبا * إلى عترة الهادي الكرام الأطائب
إلى معشر لا يبرح الذم بينهم * ولا تزدري أعراضهم بالمعائب
إذا ما انتدوا كانوا شموس بيوتهم * وإن ركبوا كانوا شموس المواكب
وإن عبسوا يوم الوغى ضحك الردى وإن ضحكوا أبكوا عيون النوادب

(1) ديوان ابن المعتز: ص 46.
(2) في ذ: (ظهر).
(3) في ذ: (شبهة).
283

نشوا بين جبريل وبين محمد * وبين علي خير ماش وراكب
وزير النبي المصطفى ووصيه * ومشبهه في شيمة وضرائب
ومن قال في يوم الغدير محمد * وقد خاف من غدر العداة النواصب
أما إنني أولى بكم من نفوسكم * فقالوا: بلى قول المريب الموارب
فقال لهم: من كنت مولاه منكم * فهذا أخي مولاه بعدي وصاحبي
أطيعوه طرا فهو مني بمنزل * كهارون من موسى الكليم المخاطب (1)
وفي الغدير نقلا عن معجم الأدباء: ج 14 ص 181 بعد قوله: (على شبه في
ملكها وشوائب) نقلها هكذا:
وقلت بنو حرب كسوكم عمائما * من الضرب في الهامات حمر الذوائب
صدقت منايانا السيوف وإنما * تموتون فوق الفرش موت الكواعب
ونحن الأولى لا يسرح الذم بيننا * ولا تدري أعراضنا بالمعائب
إذا ما انتدوا كانوا شموس نديهم * وإن ركبوا كانوا بدور الركائب
وإن عبسوا يوم الوغى ضحك الردى * وإن ضحكوا أبكوا عيون النوائب
وما للغواني والوغى فتعودوا * بقرع المثاني من قراع الكتائب
ويوم حنين قلت حزنا فخاره * ولو كان يدري عدها في المثالب
أبوه مناد والوصي مضارب * فقل في مناد صيت ومضارب
وجئتم مع الأولاد تبغون إرثه * فأبعد بمحجوب بأحجب حاجب
وقلتم: نهضنا ثائرين شعارنا * بثارات زيد الخير عند التجارب
فهلا بإبراهيم كان شعاركم * فترجع دعواكم تعلة خائب (2)
قال الأحمدي: لما ساقنا التقدير إلى ذكر القصائد الاحتجاجية بين الشيعة

(1) الكنى والألقاب: ج 2 / 113، والغدير: ج 3 / 377 - 379.
(2) المصدران المتقدمان.
284

وغيرهم، تذكرت ما قاله شعراء الشيعة من قصائد احتجوا فيها كقصائد
الكميت والشيخ الآزري وغيرهم من كبار الأسرة الطيبة، ولكن رأيت أن نقلها
خارج عن شرط الكتاب، إذ هو مختص بالمواقف والجدال بين الشيعة وخصومهم
دون ما قيل من شعر أو كتب من كتاب استدلالي، والذي وقفت عليه الان من
قصيدة احتجاجية أوردها هنا وإن كان خارجا عن شرطنا لما فيه من الفوائد
الغرر:
روي عن الحجة المدقق العلامة المتتبع السيد محسن الأمين - طاب ثراه - في
مجالسه السنية ما لفظه:
وجدت هذه القصيدة بخط الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي الجزيني
- قدس الله روحه - وهي فريدة في بابها، ويظهر من آخرها أنها لبعض أشراف
مكة المكرمة، وتوهم بعضهم أنها للجذوعي ناشئ من البيت الذي فيه اسمه
مع أنه ظاهر في أن الجذوعي منشدها وأن منشئها غيره، وهي:
ما لعيني قد غاب عنه كراها * وعراها من عبرة ما عراها
الدار نعمت فيها زمانا * ثم فارقتها فلا أغشاها
أم لحي باتوا بأقمار تم * يتجلى الدجى بضوء سناها
أم لخود غريرة الطرف تهواني * بصدق الوداد أو أهواها
أم لصافي المدام عن مزة * الطعم عقار مشمولة أسقاها
حاش لله لست اطمع نفسي * آخر العمر في اتباع هواها
بل بكائي لذكر من خصها * الله تعالى بلطفه واجتباها
ختم الله رسله بأبيها * واصطفاه لوحيه واصطفاها
وحباها بالسيدين الزكيين * الامامين منه حين حباها
ولفكري في الصاحبين اللذين * استحسنا ظلمها وما راعياها
منعا بعلها من العهد والعقد * وكان المنيب والاواها
285

واستبدا بإمرة دبراها * قبل دفن النبي وانتهراها
وأتت فاطم تطالب بالإرث * من المصطفى فما ورثاها
ليت شعري لم خولفت سنن * القرآن فيها والله قد أبداها؟
رضي الناس إذ تلوها بما لم * يرضى فيها النبي حين تلاها؟
نسخت آية المواريث منها، أم هما بعد فرضها بدلاها؟
أم ترى آية المودة لم تأت * بود الزهراء في قرباها؟
ثم قالا: أبوك جاء بهذا * حجة من عنادهم نصباها
قال: للأنبياء حكم بأن لا * يورثوا في القديم وانتهراها
أفبنت النبي لم تدر أن كان * نبي الهدى بذلك فاها
بضعة من محمد خالفت ما * قال؟ حاشا مولاتنا حاشاها
سمعته يقول ذاك وجاءت * تطلب الإرث ضلة وسفاها؟
هي كانت الله أتقى وكانت * أفضل الخلق عفة ونزاها
أو تقول: النبي قد خالف القرآن * ويح الاخبار ممن رواها
سل بإبطال قولهم سورة النمل * وسل مريم التي قبل طاها
فهما ينبئان عن إرث يحيى * وسليمان من أراد انتباها
فدعت واشتكت إلى الله من ذاك * وفاضت بدمعها مقلتاها
ثم قالت: فنحلة لي من والدي * المصطفى فلم ينحلاها
فأقامت بها شهودا فقالوا: بعلها شاهد لها وابناها
لم يجيزوا شهادة ابني رسول * الله هادي الأنام إذ ناصباها
لم يكن صادق علي ولا فاطمة * عندهم ولا ولداها
كان أتقى لله منهم عتيق * قبح القائل المحال وشاها
جرعاها من بعد والدها االغيظ * مرارا فبئس ما جرعاها
أهل بيت لم يعرفوا سنن الجواد * التباسا عليهم واشتباها
286

ليت شعري ما كان ضرهما الحفظ * لعهد النبي لو حفظاها
كان إكرام خاتم الرسل الهادي * البشير النذير لو أكرماها
إن فعل الجميل لم يأتياه * وحسان الاخلاق ما اعتمداها
ولو ابتيع ذاك بالثمن الغالي * لما ضاع في اتباع هواها
ولكان الجميل أن يقطعاها * فدكا لا الجميل أن يقطعاها
أترى المسلمون كانوا يلمونهما * في العطاء لو أعطياها؟
كان تحت الخضراء بنت نبي * صادق ناطق أمين سواها؟
بنت من؟ أم من؟ حلية من؟ * ويل لمن سن ظلمها وأذاها
ذاك ينبيك عن حقود صدور * فاعتبرها بالفكر حين تراها
قل لنا أيها المجادل في القول * عن الغاصبين إذ غصباها
أهما ما تعمداها كما قلت؟ * بظلم كلا ولا اهتضماها؟
فلماذا إذ جهزت للقاء الله * عند الممات لم يحضراها؟
شيعت نعشها ملائكة الرحمان * رفقا بها وما شيعاها
كان زهدا في أجرها أم عنادا * لأبيها النبي لم يتبعاها؟
أم لان البتول أوصت بأن لا * يشهدا دفنها فما شهداها؟
أم أبوها أسر ذاك إليها * فأطاعت بنت النبي أباها؟
كيف ما شئت قل كفاك فهذي * فرية قد بلغت أقصى مداها
أغضباها واغضبا عند ذاك الله * رب السماء إذا أغضباها
وكذا أخبر النبي بأن الله * يرضى سبحانه لرضاها
لا نبي الهدى أطيع ولا * فاطمة أكرمت ولا حسناها
وحقوق الوصي ضيع منها * ما تسامى في فضله وتناها
تلك كانت حزازة ليس تبرأ * حين ردا وقد خطباها
وغدا يلتقون والله يجزي * كل نفس بغيها وهداها
287

فعلى ذلك الأساس بنت * صاحبة الهودج المشوم بناها
وبذاك اقتدت أمية لما * أظهرت حقدها على مولاها
لعنته بالشام سبعين عاما * لعن الله كهلها وفتاها
ذكروا مصرع المشايخ في بدر * وقد سمع الوصي لحاها
وبأحد من بعد بدر وقد * أتعس فيها معاطسا وجباها
فاستجادت له السيوف بصفين * وجرت يوم الطفوف قناها
لو تمكنت بالطفوف مدى الدهر * لقبلت تربها وثراها
أدركت ثارها أمية بالنار * غدا في معادها تصلاها
أشكر الله أنني أتوالى * عترة المصطفى واشني عداها
ناطقا بالصواب لا ارهب الاعداء * في حبهم ولا أخشاها
نح بها أيها الجذوعي واعلم * أن إنشادك الذي أنشأها
لك معنى في النوح ليس يضاهى * وهي تاج للشعر في معناها
قلتها للثواب والله يعطي الاجر * فيها من قالها ورواها
مظهرا فضلهم بعزمة نفس * بلغت في ودادهم منتهاها
فاستمعها من شاعر علوي * حسني في فضله لايضاها
سادة الخلق قومه غير شك * ثم بطحاء مكة مأواها (1)
(902)
ابن الحجاج وابن سكرة
قال محمد بن عبد الله بن محمد الهاشمي البغدادي، ابن سكرة شعرا تحامل
فيه على آل الله وشاعرهم الحسين بن أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن
الحجاج النيلي البغدادي الشاعر الشيعي وهو:

(1) دراسات في التاريخ الاسلامي للناصري: ص 223 - 230.
288

بني علي دعوا مقالتكم * لا ينقص الدر وضع من وضعه
فحمى به شاعر أهل البيت ابن الحجاج، وحمى به أيضا أبو فراس الأمير كما
يأتي بعد نقل أشعار ابن الحجاج.
قال العلامة الأميني: وله - أي لابن الحجاج - من قصيدة أجاب بها عن
قصيدة ابن سكرة المتحامل بها على آل الله وشاعرهم ابن الحجاج المترجم
أخذناها من ديوانه المخطوط سنة 620 بقلم عمر بن إسماعيل بن أحمد الموصلي
أولها:
لا اكذب الله إن الصدق ينجيني * يد الأمير بحمد الله تحييني
إلى أن قال:
فما وجدت شفاء تستفيد به * إلا ابتغاؤك تهجو آل ياسين
كافاك ربك إذ أجرتك قدرته * بسب أهل العلا الغر الميامين
فقر وكفر هميع أنت بينهما * حتى الممات بلادنيا ولادين
فكان قولك في الزهراء فاطمة * قول امرئ لهج بالنصب مفتون
عيرتها بالرحا والزاد تطحنه * لا زال زادك حبا غير مطحون
وقلت: إن رسول الله زوجها * مسكينة بنت مسكين لمسكين
كذبت يا ابن التي باب استها سل‍ * س الاغلاق بالليل مفكوك الزرافين
ست النساء غدا في الحشر يخدمها * أهل الجنان بحور الخرد العين
فقلت: إن أمير المؤمنين بغى على معاوية في يوم صفين
وإن قتل الحسين السبط قام به * في الله عزم إمام غير موهون
فلا ابن مرجانة فيه بمحتقب (1) * إثم المسئ ولا شمر بملعون
وإن أجر ابن سعد في استباحته * آل النبوة أجر غير ممنون

(1) احتقب الاثم: جمعه.
289

هذا وعدت إلى عثمان تندبه * بكل شعر ضعيف اللفظ ملحون
فصرت بالطعن من هذا الطريق إلى * ما ليس يخفى على البله المجانين
وقلت أفضل من يوم (الغدير) إذا * صحت روايته يوم الشعانين
ويوم عيدك عاشوراء تعد له * ما يستعد النصارى للقرابين
تأتي بيوتكم فيه العجوز وهل * ذكر العجوز سوى وحي الشياطين؟!
عاندت ربك مغرا بنقمته * وبأس ربك بأس غير مأمون
فقال: كن أنت قردا في استه ذنب * وأمر ربك بين الكاف والنون
فقال: كن لي فتى تعلو مراتبه * عند الملوك وفي دور السلاطين
والله قد مسخ الادوار قبلك في * زمان موسى وفي أيام هارون
بدون ذنبك فالحق عندهم بهم * ودع لحاقك بي إن كنت تنويني (1)
(903)
أبو فراس وابن سكرة
لما أنشأ ابن سكرة قصيدته التي تحامل فيها على أهل البيت عليهم
السلام كما تقدم، حمى أبو فراس الحارث بن أبي العلاء الحمداني التغلبي وقال
قصيدته التي سار بها الركبان ودخل بغداد وأمر أن يشهر في المعسكر خمسمائة
سيف وقيل أكثر من ذلك، ثم أنشد هذه القصيدة وهي:
الدين مخترم والحق مهتضم (2) وفئ آل رسول الله مقتسم
والناس عندك لا ناس فيحفظهم * سوم الرعاع (3) ولا شاء ولا نعم
إني أبيت قليل النوم أرقني * قلب تصارع فيه الهم والهمم
وعزمة لا ينام الدهر (4) صاحبها * إلا على ظفر في طيه كرم

(1) الغدير: ج 4 / 89 - 90.
(2) في الغدير: الحق مهتضم والدين مخترم.
(3) في الغدير: الرعاة.
(4) في الغدير: الليل.
290

يصان مهري لامر لا أبوح به * والدرع والرمح والصمصامة الخذم (1)
وكل مائرة الضبعين مسرحها * رمث الجزيرة والخذراف والعنم
وفتية قلبهم قلب إذا ركبوا * يوما ورأيهم رأي إذا عزموا
* * *
يا للرجال اما لله منتصر * من الطغاة؟ أما لله منتقم؟ (2)
بنو علي رعايا في ديارهم * والامر تملكه النسوان والخدم
محلؤون فأصفى وردهم (3) وشل * عند الورود وأوفى شربهم (4) لمم
فالأرض إلا على ملاكها سعة * والمال إلا على أربابه ديم
فما السعيد بها إلا الذي ظلموا * وما الشقي بها إلا الذي ظلموا
للمتقين من الدنيا عواقبها * وإن تعجل فيها الظالم الاثم
* * *
لا يطغين بني العباس ملكهم * بنو علي مواليهم وإن رغموا
أتفخرون عليهم لا أبا لكم * حتى كأن رسول الله جدكم
وما توازن يوما بينكم شرف * ولا تساوت لكم في موطن قدم
ولا لكم مثلهم في المجد متصل * ولا لجدكم مسعاة (5) جدهم
ولا لعرقكم من عرقهم شبه * ولا نثيلتكم من أمهم أمم
* * *
قال النبي بها يوم الغدير لهم * والله يشهد والاملاك والأمم

(1) في الغدير: الحذم، والحذم من السيوف بالحاء المهملة: القاطع.
(2) في نسخة: أم للدين منتقم.
(3) في الغدير شربهم.
(4) في الغدير: ودهم.
(5) في الغدير: معشار.
291

حتى إذا أصبحت في غير صاحبها * باتت تنازعها الذؤبان والرخم
وصيروا أمرهم شورى كأنهم * لا يعلمون ولاة الحق أيهم
تالله ما جهل الأقوام موضعها * لكنهم ستروا وجه الذي علموا
* * *
ثم ادعاها بنو العباس ملكهم * ومالهم قدم فيها ولاقدم
لا يذكرون إذا ما معشر ذكروا * ولا يحكم في أمر لهم حكم
ولا رآهم أبو بكر وصاحبه أهلا لما طلبوا منها وما زعموا
فهل هم يدعوها غير واجبة؟ * أم هل أئمتهم في أخذها ظلموا؟
* * *
أما علي فقد أدنى قرابتكم * عند الولاية إن لم تكفر النعم
أينكر الحبر عبد الله نعمته * أبوكم أم عبيد الله أم قثم؟!
بئس الجزاء جزيتم في بني حسن * أباهم العلم الهادي وأمهم
لا بيعة ردعتكم عن دمائهم * ولا يمين ولا قربى ولا ذمم
هلا صفحتم عن الاسرى بلا سبب * للصافحين ببدر عن أسيركم
هلا كففتم عن الديباج سوطكم (1) * وعن بنات رسول الله شتمكم (2)
ما نزهت لرسول الله مهجته * عن السياط فهلا نزه الحرم
ما نال منهم بنو حرب وان عظمت * تلك الجرائر الادن نيلكم
* * *
كم غدرة لكم في الدين واضحة * وكم دم لرسول الله عندكم

(1) الديباج: هو محمد بن عبد الله العثماني أخو بني حسن لامهم بنت الحسين السبط، ضربه المنصور
مائتين وخمسين سوطا.
(2) لعله أشار إلى قول المنصور لمحمد الديباج: با ابن اللخناء. فقال محمد: بأي أمهاتي تعيرتي؟ أبفاطمة
بنت الحسين! أم بفاطمة الزهراء! أم برقية؟
292

أأنتم له شيعة فيما ترون وفي * أظفاركم من بنيه الطاهرين دم
هيهات لاقربت قربى ولا رحم * يوما إذا أقصت الاخلاق والشيم
كانت مودة سلمان لهم (1) رحما * ولم تكن بين نوح وابنه رحم
* * *
يا جاهدا في مساويهم يكتمها * غدر الرشيد بيحيى كيف ينكتم
ذاق الزبيري غب الحنث وانكشفت عن ابن فاطمة الأقوال والتهم
ليس الرشيد كموسى في القياس ولا * مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم
باء وابقتل الرضا من بعد بيعته * وأبصروا بعض يوم رشدهم وعموا
يا عصبة شقيت ما بعد ما سعدت * ومعشرا هلكوا من بعد ما سلموا
لبئسما لقيت منهم وإن بليت * بجانب الطف تلك الأعظم الرمم
لا عن أبي مسلم في نصحه صفحوا * ولا الهبيري نجا الحلف والقسم
ولا الأمان لأهل الموصل اعتمدوا * فيه الوفاء ولا عن غيهم حلموا
* * *
أبلغ لديك بني العباس مالكة * لا تدعوا (2) ملكها ملاكها العجم
أي المفاخر أمست في منازلكم * وغيركم آمر فيها ومحتكم
أنى يفيدكم (3) في مفخر علم؟ * وفي الخلاف عليكم يخفق العلم
يا باعة الخمر كفوا من مفاخركم * لمعشر بيعهم يوم الهياج دم
خلوا الفخار لعلامين إن سئلوا * يوم السؤال وعمالين إن علموا
لا يغضبون لغير الله إن غضبوا * ولا يضيعون حكم الله إن حكموا
تنشى التلاوة في أبياتهم سحرا * وفي بيوتكم الأوتار والنغم

(1) في الغدير: له.
(2) في الغدير: لايدعوا.
(3) في الغدير: يزيدكم.
293

إذا تلوا آية (1) غنى إمامكم * قف بالديار التي لم يعفها قدم
منكم علية أم منهم؟ وكان لكم * شيخ المغنين إبراهيم أم لهم؟
* * *
ما في بيوتهم للخمر معتصر * ولا بيوتهم للشر معتصم
ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم * ولا يرى لهم قرد له حشم
* * *
الركن والبيت والاستار منزلهم * وزمزم والصفا والحجر والحرم
وليس من قسم في الذكر نعرفه * إلا وهم دون شك ذلك القسم (2)
(904)
السيد الحميري وعبد الله بن أباض
قال الحافظ المرزباني في (أخبار السيد): إن السيد الحميري كتب
إلى عبد الله بن أباض رأس الأباضية بهذه القصيدة الآتية لما بلغه أنه يعيب
على علي - عليه السلام - ويتهدد السيد بذكره عند المنصور بما يوجب قتله،
فلما وصلت إلى ابن أباض امتعض منها جدا، وأجلب في أصحابه، وسعى به
إلى الفقهاء والقراء فاجتمعوا وساروا إلى المنصور وهو بدجلة البصرة، فرفعوا
قصته، فأحضرهم وأحضر السيد فسألهم عن دعواهم.
فقالوا: أنه يشتم السلف ويقول بالرجعة، ولا يرى لك ولا لأهلك إمامة.

(1) في الغدير: سورة.
(2) راجع حياة الإمام الرضا (ع): 470 - 473، والغدير: ج 3 / 399 - 402 عن شرح الشافية لمحمد بن
أمير حاج حسيني / 6، وقاموس الرجال: ج 10 / 157، ورجال المامقاني: ج 3 / 30 من باب الكنى،
ورجال أبي علي: 3490، والكنى والألقاب: ج 1 / 137، وديوانه المخطوط المشفوع بشرحه لابن خالويه
النحوي المعاصر المتوفى سنة 370 و...
294

فقال لهم: دعوني أنا واقصدوا لما في أنفسكم.
ثم أقبل على السيد فقال: ما تقول فيما يقولون؟ فقال: ما أشتم أحدا وإني
لا ترحم على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله - وهذا ابن أباض قل له:
يترحم على علي وعثمان وطلحة والزبير.
فقال له: ترحم على هؤلاء، فتلوى (تثاقل) ساعة، فحذفه المنصور بعود كان
بين يديه وامر بحبسه فمات في الحبس، وامر بمن كان معه فضربوا بالمقارع، وأمر
للسيد بخمسة آلاف درهم.
والقصيدة هي: لمن طلل كالوشم لم يتكلم * ونؤي وآثار كترقيش معجم؟
ألا أيها العاني الذي ليس في الاذي * ولا اللوم عندي في علي بمحجم
ستأتيك مني في علي مقالة * تسوؤك فاستأخر لها أو تقدم
علي له عندي على من يعيبه * من الناس نصر باليدين وبالفم
متى ما يرد عندي معاوية عيبه * يجد ناصرا من دونه غير مفحم
علي أحب الناس إلا محمدا * إلي فدعني من ملامك أولم
علي وصي المصطفى وابن عمه * وأول من صلى ووحد فاعلم
علي هو الهادي الامام الذي به * أنار لنا من ديننا كل مظلم
علي ولي الحوض والذائد الذي * يذبب عن أرجائه كل مجرم
علي قسيم النار من قوله لها: * ذري ذا وهذا فاشربي منه واطعمي
خذي بالشوى ممن يصيبك منهم * ولا تقربي من كان حزبي فتظلمي
علي غدا يدعى فيكسوه ربه * ويدنيه حقا من رفيق مكرم
فإن كنت منه يوم يدنيه راغما * وتبدى الرضا عنه من الان فارغم
فإنك تلقاه لدى الحوض قائما * مع المصطفى الهادي النبي المعظم
يجيزان من والاهما في حياته * إلى الروح والظل الظليل المكمم
295

علي أمير المؤمنين وحقه * من الله مفروض على كل مسلم
لان رسول الله أوصى بحقه * وأشركه في كل فئ ومغنم
وزوجته صديقة لم يكن لها * مقارنة غير البتولة مريم
وكان كهارون بن عمران عنده * من المصطفى موسى النجيب المكلم
وأوجب يوما بالغدير ولاءه * على كل بر من فصيح وأعجم
لدى دوح (خم) آخذا بيمينه * ينادي مبينا باسمه لم يجمجم
أما والذي يهوي إلى ركن بيته * بشعث النواصي كل وجناء عيهم
يوافين بالركبان من كل بلدة * لقد ضل يوم الدوح من لم يسلم
وأوصى إليه يوم ولى بأمره * وميراث علم من عرى الدين محكم (1)
(905)
مؤمن الطاق والسيد الحميري
في أخبار السيد: أنه ناظر مع السيد الحميري مؤمن الطاق - أبو جعفر محمد
ابن نعمان الأحول - في ابن الحنفية فغلبه عليه، فقال:
تركت ابن خولة لاعن قلى * وإني كالكلف الوامق
وإني له حافظ في المغيب * أدين بما دان في الصادق
هو الحبر حبر بني هاشم * ونور من الملك الرازق
به ينعش الله جمع العباد * ويجري البلاغة في الناطق
أتاني برهانه معلنا * فدنت ولم أك كالمائق
كمن صد بعد بيان الهدى * إلى حبتر وأبي جامق
فقال الطائي: أحسنت، الان أتيت رشدك، وبلغت أشدك، وتبوأت من
الخير موضعا ومن الجنة مقعدا، وأنشأ السيد يقول:

(1) راجع الغدير: ج 2 / 227 - 229.
296

تجعفرت باسم الله والله أكبر... (1)
(906)
السيد الحمير وامرأة زبيرية
إن السيد كان بالأهواز فمرت به امرأة من آل الزبير تزف إلى إسماعيل بن
عبد الله بن العباس، وسمع الجلبة، فسأل عنها فاخبربها، فقال:
أتتنا تزف على بغلة * وفوق رحالتها قبة
زبيرية من بنات الذي * أحل الحرام من الكعبة
تزف إلى ملك ماجد * فلا اجتمعا وبها الوجبة
فدخلت في طريقها إلى خربة للخلاء فنهشتها أفعى فماتت، فكان السيد
يقول: لحقتها دعوتي (2).
(907)
السيد الحميري ورجل
روى أبو الفرج في الأغاني: ج 7 / 250 باسناده عن رجل قال: كنت
اختلف إلى ابني قيس، وكانا يرويان عن الحسن، فلقيني السيد يوما وأنا
منصرف من عندهما، فقال: أرني ألواحك أكتب فيها شيئا وإلا أخذتها فمحوت
ما فيها، فأعطيته ألواحي فكتب فيها:
لشربة من سويق عند مسغبة * وأكلة من ثريد لحمه واري
أشد مما روى حبا إلي بنو * قيس ومما روى صلت بن دينار
مما رواه فلان عن فلانهم * ذاك الذي كان يدعوهم إلى النار (3)

(1) الغدير: ج 2 / 250 - 251.
(2) الغدير: ج 2 / 254.
(3) الغدير: ج 2 / 260.
297

(908)
السيد الحميري والرشيد
قال المرزباني في أخبار السيد: لما ولى الرشيد رفع إليه في السيد أنه
رافضي فأحضره، فقال: إن كان الرافضي هو الذي يحب بني هاشم ويقدمهم
على سائر الخلق فما أعتذر منه ولا أزول عنه، وإن كان غير ذلك فما أقول به، ثم
أنشد:
شبحاك الحي إذا بانوا * فدمع العين هتان
كأني يوم ردوا العيس * للرحلة نشوان
وفوق العيس إذ ولواا * بها حور وغزلان
إذا ما قمن فالاعجا * زفي التشبيه كثيبان
وما جاوز للأعلى * فأقمار وأغصان
ومنها:
علي وأبو ذر * ومقداد وسلمان
وعباس وعمار * وعبد الله اخوان
دعوا فاستودعوا علما * فأدوه وما خانوا
أدين الله ذا العزة * بالدين الذي دانوا
وعندي فيه إيضاح * عن الحق وبرهان
وما يجحد ما قد قلت * في السبطين إنسان
وإن أنكر ذو النصب * فعندي فيه عرفان
وإن عدوه لي ذنبا * وحال الوصل هجران
فلا كان لهذا الذنب * عند القوم غفران
وكم عدت إساءات * لقوم وهي إحسان
وسري فيه يا داعي * دين الله إعلان
298

فحبي لك إيمان * وميلي عنك كفران
فعد القوم ذا رفضا * فلا عدوا ولا كانوا
قال: فألطف له الرشيد ووصله جماعة من بني هاشم (1)
(909) سيد مصطفى العاملي وبعض أهل السنة
قال: ضمني مجلس عند بعض الاخوان من أهل السنة (في جنوب لبنان)
فقال قائل: ما رأيكم في أم المؤمنين عائشة؟
فأجبته: أني لست براض عن عائشة فإنها قد اقترفت - في محاربتها
لأمير المؤمنين عليه السلام - ستة ذنوب:
الأول والثاني - عصت الله مرتين في آية واحدة، فقد قال الله تعالى مخاطبا
نساء النبي صلى الله عليه وآله: (وقرن في بيوتكن) ولا يعقل أن نعتبر
خروجها في ذلك الوجه قرارا فقد عصت الله إذن، ثم قال: ولا تبرجن) والتي
تجعل نفسها على جمل تحته عشرون ألفا من الذكور لا تكون غير متبرجة، سيما
ولابد لها من الكلام وارتفاع الصوت وصوت المرأة عورة.
وإن قلت: إن الله جعلها اما للمؤمنين وهذا الذي ذكرته يحصل بين الام
والولد.
ونجيب: إن هذه الأموية إنما كانت امومة شرف لا امومة ولادة، وقد
خاطب الله المؤمنين بالنسبة إلى أزواج النبي (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن
من وراء حجاب) فلو كان الولد بالشرف حكمه حكم الولد بالنسب لم يكن
الامر بالحجاب سائغا.
الثالث: إن الله يقول: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءوه جهنم خالدا فيها

(1) الغدير: ج 2 / 270 - 271.
299

وغضب الله عليه...) وهذه قتلت في وقتها هذه الألوف من المسلمين، وقد قال
الله: (من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا...).
الرابع: أنه تعالى يقول: (والفتنة أشد من القتل) وأي فتنة أعظم من شق
عصا المسلمين حتى جعل بعضهم يضرب رقاب البعض.
الخامس: إجماع المسلمين على أن الخارج على إمام المسلمين يجب قتله
وهذه قد خرجت على الامام.
والسادس: أنها أصرت على تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وعناده
وأخذت بقول جماعة من الاعراب يبولون على أعقابهم وذلك في الحوأب وقد
سمعت نباح الكلاب، فسألت لمن هذا الماء؟ فقيل: للحوأب، فقالت: ردوني
ردوني، لقد ذكر رسول الله هذا ونهاني عنه، ذكرت أنه رسول الله صلى الله
عليه وآله قال لنسائه: ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب التي تنبحها
كلام الحوأب... ثم ضرب بيده على ظهرها وقال: إياك أن تكونيها يا
حميراء.
ولكن... حيث إن أمير المؤمنين لم يعاملها إلا بالأمن وأرسلها إلى المدينة
معززة مكرمة مع نسوة عممهن بالعمائم حتى لا يطمع فيهن أعراب البوادي، فلما
كان في بعض الطريق نالت منه وقالت: لقد هتك ستري ابن أبي طالب
وبعث معي رجالا لا أعرفهم، فلما وصلت المدينة ألقين العمائم وعرفها
أنفسهن، فقالت حينئذ: ما ازددت مع ابن أبي طالب إلا كرامة.
ليت شعري ابن أبي طالب يهتك سترها حيث أرسلها مع النساء أو هي لم
تهتك ستر نفسها عندما قادت عشرين ألفا أو ثلاثين ألفا للحرب؟! أترى
كانت... أم أنها ولدتهم وولدوا منها؟
نقول: لا ندخل بينها وبين أمير المؤمنين عليه السلام وقد ترك حقه، ولكن
ما العذر عنها يوم وفاة الإمام الحسن عليه السلام وقد أقبلوا به ليجددوا به
300

عهدا عند جده، فركبت بغلا لمروان وجعلت تنادي: يا بني هاشم، نحوا ولدكم
عن بيتي ولا تدخلوا بيتي من لا أحب. من هو هذا الذي لا تحبه؟!... إنه
الحسن بن فاطمة بنت رسول الله الذي كان يحمله على عنقه ويقبله في فيه، إن
التي لا تحب من يحبه النبي - طبعا - لا تحب النبي.
ثم من أين لها البيت: هل ورثته من النبي وأباها يمنع فاطمة إرثها
ويقول لها: سمعت أباك يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث؟! أم أنها ورثته من
أبيها. وقد رويتم أن أبا بكر هيأ راحلتين يوم الهجرة، فلم يرض النبي أن يركب
إحداهما حتى أعطاه ثمنها، النبي لا يركب راحلة أبي بكر حتى يوفيه الثمن،
ويسكن عشر سنين في المدينة في ملك أبي بكر دون أن يعوضه عن ذلك
شيئا؟! (1).
(910)
الشيرازي (2) وبعض علماء مكة
ننقله مما كتبه ملخصا:
قال سألني - يعني رجلا من أهل الفضل بمكة - أولا:
قال: ما تقولون في هذا الحديث (مضمونه): قال النبي - صلى الله عليه
وآله: لو كان نبي غيري لكان عمر؟

(1) هذا ما كتبه السيد الجليل الفاضل السيد مصطفى مرتضى اللبناني العاملي - رحمه الله - في قم المكرمة
عام 1400 في شهر شعبان المعظم حينما زار إيران للامام الثامن وأخته المكرمة ومتفقدا لولديه
الفاضلين العالمين العاملين السيد جعفر مرتضى والسيد مرتضى مرتضى دامت بركاتهما في بلدة قم،
كتبه بيانا للمجادلة الحسنة التي جرت بينه وبين بعض الاخوان من أهل السنة في الزمان المتقدم.
(2) هو حجة الاسلام والمسلمين السيد عبد الله الشيرازي نزيل مشهد الرضا عليه السلام، سافر إلى الحج
وجادل فيه مع بعض أهل السنة وكتبها بقلمه وطبعها في إيران وانما نقلنا عنه ما نقلنا ولم نغير ألفاظه
إلا بنحو التلخيص.
301

قلت: هذا كذب محض وما قاله النبي صلى الله عليه وآله.
قال: كيف؟
قلت: ما تقولون في حديث المنزلة؟ وهل هو مسلم بيننا وبينكم أنه قال
النبي صلى الله عليه وآله: (يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه
لا نبي بعدي)؟
قال: نعم هو حديث مسلم.
قلت: هذا الحديث بالدلالة اللفظية ولو بالالتزام يدل على أنه لو كان نبيا
غير محمد صلى الله عليه وآله لكان عليا عليه السلام. وأما ما ذكرتم في حق
عمر والمفروض أن حديث المنزلة مسلم بيننا وبينكم فثبت أن ما ذكرتم كذب
وحديث مجهول.
فبهت وسكت.
ثم قال: هل أنتم الشيعة تتمتعون بالنساء وتجوزون المتعة؟
قلت: نعم نتمتع بهن ونجوزها. قال: بأي دليل؟
قلت: بالخبر المروي عن عمر وهو قوله: متعتان كانتا في زمن رسول الله
- صلى الله عليه وآله - حلالا وأنا احرمهما. فنص هذا الخبر - علاوة إلى التسلم من
الخارج - بدل على أن المتعة كانت في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله
حلالا وهو حرمها. فأنا أسأل منك بأي جهة حرمها عمر: هل صار نبيا بعد وفاة
رسول الله صلى الله عليه وآله فأمره الله تعالى أن يحرمها؟
أو هل كان ينزل
عليه الوحي؟ فبأي جهة حرمها مع أن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة
وحرامه حرام إلى يوم القيامة؟ وهل ليس هذا إلا سنخ البدعة، وقال صلى الله
عليه وآله: كل بدعة ضلالة والضلالة في النار؟
قال: المعروف إن الشيعة يسبون الخلفاء، هل صحيح وبأي وجه يسبون؟
قلت: نعم، أما العوام فأغلبهم يسبونهم وأما العلماء فبعضهم يجوزون سبهم.
302

قال: كيف وبأي دليل؟
قلت: هل يجوز سب علي بن أبي طالب عليه السلام مع أنه صهر النبي
صلى الله عليه وآله وابن عمه وأبو سبطيه والذي قال في حقه النبي صلى
الله عليه وآله: كذا وكذا؟ قال: لا يجوز.
قلت: فلم سب معاوية عليا عليه السلام، وأمر بسبه في جميع بلاد
المسلمين؟ وهل أنتم إذا كنتم في ذلك الزمان تقتلون معاوية أو غيره ممن كان
يسب عليا؟ وهل تلعنون معاوية بفعله هذا؟ قال: لا.
قلت: كيف مع أن سب علي كما اعترفت لا يجوز، غير أنكم تقولون: ان
معاوية كان مجتهدا فاجتهد، فأدى اجتهاده إلى جواز سب علي وإن كان مخطئا في
اجتهاده. فقال: نعم.
قلت: إن علماء الشيعة مجتهدون فأدى اجتهادهم إلى جواز سب الخلفاء
والشيخين وعوام الشيعة يقلدون هؤلاء العلماء المجوزين للسب، فبأي وجه يكون
الشيعي الساب للشيخين عالما كان أو عاميا واجب القتل عندكم؟!
فبهت وسكت.
(911)
الشيرازي وبعض أهل السنة
قال: إني ذات يوم بعد أداء فريضة الصبح كنت جالسا في الروضة
المقدسة - بالمدينة المنورة - قريب المنبر، مشغولا بقراءة القرآن والمصحف كان بيدي
إذ جاء رجل شيعي، فوقف على يساري وكبر للصلاة وكان على يميني رجلين
مصريين على الظاهر جالسين متكئين على الأسطوانة، وأدخل المصلي يده في
جيبه بعد تكبيرة الاحرام لاخراج التربة أو الحجر للسجود عليه، فقال أحد
الرجلين للاخر: انظر هذا العجمي يريد أن يسجد على الحجر، فلما هوى
المصلي للسجود بعد ركوعه حمل عليه أحدهما بقصد أن يأخذ ما في يده، لكن أنا
303

أخذت يده قبل وصول يده إلى المصلي.
وقلت: لأي شئ تبطل صلاة الرجل المسلم يصلي مقابل قبر النبي صلى
الله عليه وآله؟ قال: يريد أن يسجد على الحجر.
قلت: اتركه يسجد على الحجر، أنا أيضا أسجد على الحجر. قال: كيف؟
قلت: هو جعفري وأنا جعفري. تعرف جعفر بن محمد عليه السلام؟ قال: نعم.
قلت: هو من أهل البيت؟
قال: نعم، قلت: هو رئيس مذهبنا، ويقول: لا يجوز السجود على هذا
الفراش ويقول: لابد أن يكون السجود على أجزاء الأرض.
فسكت قليلا، ثم قال: الدين واحد، والصلاة واحدة.
قلت: إذا كان الدين واحدا والصلاة واحدة فكيف تصلون أنتم أهل السنة
في حال القيام على أربعة أشكال من جهة التكتف، فبعضهم - أي المالكي -
يصلون مرسلين الايادي، والحنفي نحوا آخر، والشافعي نحوا ثالثا، والحنبلي نحوا
رابعا مع أن الدين واحد والصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله
كانت نحوا واحدا؟ ولقنته الجواب وقلت: غير أنكم تقولون: إن أبا حنيفة هكذا
قال والشافعي هكذا والمالكي هكذا والحنبلي هكذا، وصورت بيد له صور
الحالات الأربعة.
قال: نعم.
قلت: جعفر بن محمد الصادق عليه السلام رئيس مذهبنا الذي اعترفت
بأنه من أهل البيت، وأن أهل البيت أدرى بما في البيت، ما كان بأقل من
أبي حنيفة ومن هؤلاء هو قال: لابد أن يكون السجود على أجزاء الأرض ولا
يجوز السجود على الصوف والقطن، وهذا الاختلاف بيننا وبينكم لا يكون إلا
مثل الاختلاف بين أنفسكم في كيفية الصلاة من جهة التكتف وغيرها من
سائر الاختلافات بينكم في الفروع ولا يرتبط بالأصول، ولا يكون مربوطا
304

بالشرك أصلا.
فصدقني الجالسون من أهل السنة حتى صاحب هذا الشخص الذي كان
جالسا في جنبه.
وبعد تصديقهم إياي حملت عليهم بالتكلم الخشن، وقلت: أما تستحي
من رسول الله صلى الله عليه وآله تبطل صلاة رجل مسلم يصلي عند قبره
صلوات الله عليه بمقتضى مذهبه، وهو مذهب أهل بيت صاحب هذا القبر
الذين ذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ولا يكون قولهم ومذهبهم الا
قول رسول الله صلى الله عليه وآله ومذهبه.
فحمل الجالسون عليه أيضا بالكلام الخشن، واعتذروا مني من اعتقادهم
بأن السجود على التربة أو الحجر شرك من الشيعة.
(912) الشيرازي وشرطي الروضة
وقال: كنت ففي الروضة المقدسة قرب الشباك الشريف فجاء أحد العلماء
من أهل الفضل الذي كان ساكنا في قم - وأغفل الشرطي الواقف على الشباك
المقدس الذي يمنع الناس من تقبيل الضريح المقدس - وقبل الضريح وتعدى.
ثم التفت الشرطي أو الذي يكون من الهيئة الامرين بالمعروف والناهين
عن المنكر، فاقبل إلي وقال باحترام: يا سيد أو سيدنا، لم لا تمنع أصحابك
من التقبيل؟ امنعوا هذا حديد من استانبول.
قلت: أتقبلون الحجر الأسود؟ قال: نعم.
قلت: ذاك أيضا حجر إذا كان هذا شرك فذلك أيضا شرك. قال: لا،
إن النبي صلى الله عليه وآله قبله.
قلت: افرض أن النبي صلى الله عليه وآله إذا كان تقبيل الجسم بقصد
التيمن والتبرك شركا لافرق بين صدوره من النبي صلى الله عليه وآله أو
305

غيره. قال: قبله النبي لأنه نزل من الجنة.
قلت: نعم معلوم نزل من الجنة لكن، والعياذ بالله، الله حل فيه حتى يجوز
تقبيله ويصير معبودا، غير أنه لما نزل من الجنة صار شرفا، وأن النبي صلى الله
عليه وآله قبله وأمر بتقبيله لأجل شرافته لكونه من أجزاء الجنة؟ قال: نعم.
قلت: شرافة الجنة وأجزائها لا يكون إلا من جهة وجود النبي صلى الله
عليه وآله؟ قال: نعم.
قلت فإذا صارت الجنة وأجزاؤها ذات شرافة لأجل وجود النبي صلى
الله عليه وآله ويجوز تقبيلها تيمنا وتبركا، وهذا الحديد وإن كان من استانبول
لكن لأجل مجاورته لقبر النبي صلى الله عليه وآله صار شريفا يجوز تقبيله
تبركا وتيمنا.
(913)
شيعي ومسيحي
قال المسيحي للشيعي: روح الله المسيح كان أفضل من نبيكم.
الشيعي: لأي فضيلة؟ المسيحي: لأنه تكلم في المهد دون نبيكم.
الشيعي: تكلم المسيح في المهد بإذن الله تعالى للشهادة بطهارة أمه الطاهرة
مريم البتول من افتراءات اليهود عليها، ولكن نبينا لم يكن محتاجا إلى ذلك (1).
(914)
الشريف المرتضى وابن منير الطرابلسي
نذكر هذه القصة وإن كانت خارجة عن شرط الكتاب لما فيها من اللطف
والفائدة:
أرسل ابن منير إلى الشريف المرتضى الموسوي بهدية مع عبد أسود له، فكتب

(1)
306

إليه الشريف: أما بعد، فلو علمت عددا أقل من الواحد أو لونا شرا من السواد
بعثت به إلينا والسلام.
فحلف ابن منير أن لا يرسل إلى الشريف هدية إلا مع أعز الناس عليه
فجهز هدايا نفيسة مع مملوك له يسمى (تتر) وكان يهواه جدا ويحبه كثيرا
ولا يرضى بفراقه، حتى أنه متى اشتد غمه أو عرضت عليه محنة نظر إليه فيزول ما
به، فلما وصل المملوك إلى الشريف توهم أنه من جملة هداياه تعويضا من العبد
الأسود، فأمسكه وعزت الحالة على ابن منير، فلم يرحيلة في خلاص مملوكه من
يد الشريف إلا إظهار النزوع من التشيع إن لم يرجعه إليه، وإنكار ما هو المتسالم
عليه من قصة الغدير وغيرها، فكتب إليه بهذه القصيدة:
عذبت طرفي بالسهر * وأذبت قلبي بالفكر
ومزجت صفو مودتي * من بعد بعدك بالكدر
ومنحت جثماني الضنى * وكحلت جفني بالسهر
وجفوت صبا ما له * عن حسن وجهك مصطبر
يا قلب ويحك كم تخاد * ع بالغرور وكم تغر
والى م تكلف بالاغن * من الظباء وبالأغر
لئن الشريف الموسوي * ابن الشريف أبي مضر
أبدى الجحود ولم يرد * إلي مملوكي تتر
واليت آل أمية الطهر * الميامين الغرر
وجحدت بيعة حيدر وعدلت عنه إلى عمر
واكذب الراوي واطعن * في ظهور المنتظر
وإذا رووا خبر الغدير * أقول: ما صح الخبر
ولبست فيه من الملابس * ما اضمحل وما دثر
وإذا جرى ذكر الصحابة * بين قوم واشتهر
307

قلت: المقدم شيخ تيم * ثم صاحبه عمر
ما سل قط ظبا على * آل النبي ولا شهر
كلا ولا صد البتول * عن التراث ولازجر
وأقول: إن يزيد ما * شرب الخمور ولا فجر
ولجيشه بالكف عن * أبناء فاطمة أمر
والشمر ما قتل الحسين * ولا ابن سعد ما غدر
وحلقت في عشر المحرم * ما استطال من الشعر
ونويت صوم نهاره * وصيام أيام أخر
ولبست فيه أجل ثوب * للمواسم يدخر
وسهرت في طبخ الحبوب * من العشاء إلى السحر
وغدوت مكتملا اصا * يق أقص شارب من عبر
وأكلت جرجير المآكل * والفواكه والخضر
وغسلت رجلي حاضرا * ومسحت خفي في السفر
آمين أجهر في الصلاة * بها كمن قبلي جهر
وأسن تسنيم القبور * لكل قبر يحتفر
وأقول في يوم تحار * له البصيرة والبصر
والصحف ينشر طيها * والنار ترمي بالشرر
هذا الشريف أضلني * بعد الهداية والنظر
فيقال خذ بيد الشريف * فمستقركما سقر
لواحة تسطو فما * تبقي عليه وما تذر
والله يغفر للمسئ * إذا تنصل واعتذر
308

إلا لمن جحد الوصي * ولاءه ولمن كفر
فاخش الاله بسوء فعلك * واحتذر كل الحذر
فلما وصل إلى الشريف تبسم ضاحكا وقال: قد أبطأنا عليه فهو معذور،
ثم جهز المملوك مع هدايا نفيسة، فمدحه ابن منير بقوله:
إلى المرتضى حث المطر فإنه * إمام على كل البرية قد سما
ترى الناس أرضا في الفضائل عنده * ونجل الزكي الهاشمي هو السما (1)
(915)
شيعي ومسيحي
مناظرة بين شيعي لبناني من جبل عامل وبين مسيحي من جبل عامل
أيضا أنقلها من خط السيد التقي الجليل الفاضل السيد مصطفى مرتضى العاملي
قال فيما كتبه (2):
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: كان في بعض الأيام مجلس فرح لأولاد القاضي في طير شيحا (3)
وكان حاضرا فيها من الملل الشيعة والسنة والنصارى والدروز، وكان حاضرا
رجل من أهل الملة النصرانية يسمى داود، وكان شاهرا نفسه في القول الزجل (4)
والمعنى (5) وغير ذلك، وهو في أشد الطرب وإذا برجل يقول له: أسأل الله أن

(1) الغدير: ج 4 / 326 - 328 ومر سابقا.
(2) كتبه لي ابنه العلامة المحقق المفضال السيد جعفر المرتضى وصححه بعد العالم المفضال الشيخ مصطفى
القصير حفظه الله بل كتبه بخطه ثانيا جزاه الله خيرا، وراجع كتاب (خطط جبل عامل) للعلامة
الامام السيد محسن الأمين رضوان الله عليه.
(3) طيرشيحا: قرية في فلسطين قريبة من الحدود اللبنانية، وقد نقل جزء من المحاورة السيد الأمين في
خطط جبل عامل. والجدير بالذكر ان المحاورات تكون ارتجالية عادة.
(4) الزجل: اصطلاح محلي يعبر به عن الشعر الشعبي الذي يعتمد اللهجة اللبنانية.
(5) المعنى: نوع من الزجل أشبه بالرباعيات.
309

يأتيك بمحمود حداثا، فسمعه جميع الحاضرين فقالوا له: وما يكون محمود حداثا
الذي تذكره؟
فقال لهم: إنه من أشد القائلين، وهو موجود في هذه القرية، وإذا حضر يترنم
به جميع الحاضرين لفصاحته وطلاقة لسانه.
فقام القاضي وأرسل رجلا في طلبه، فلما دخل الرجل عنده قال له: إن
القاضي أرسلني إليك ومراده أن تحضر إليه.
فقال له: أنا رجل متعامل في صنعتي فمالك ومالي (1)؟
فرجع الرجل وأعلم القاضي.
فأرسل القاضي في طلبه جندرمة (2) فقال له: إن القاضي أرسلني ولا بد
من حضورك معي.
فقام معه، ولما وصل سلم على جميع الحاضرين، فقالوا له: قد سمعنا بخبرك
وتشوقنا إليك والى الاستماع منك.
فقال: أنا رجل فقير وليس لي قدرة على الخصومة، ولعل الرجل يتحمس في
القول ويتكلم علي بكلام غير لائق وأنا لا أتحمله ولا هو يتحملني ويصير سببا
لوقوع الفتن.
فنهض أولاد القاضي وسلوا سيوفهم فوق رأسه وقالوا له: لو كان ذلك فإننا
نقتل كل من يأتي بحركة واحدة، فلا تخفف من شئ.
فعند ذلك قال محمود لداود: ماذا قلت؟
فقال داود: دونك ما تريد فقل، فقال محمود: بل قل أنت.
قال داود:

(1) أي اتركني وحالي. وكانت صنعته تبييض أواني النحاس.
(2) جندرمة: جندي.
310

هوى الأبيض جنني * والأسمر شعلني بنار (1)
قلتلك يا متوالي * روح انصرف من قبالي (2)
رايح بعلملك قالي * سكر وامش من المحضر (3)
قال محمود:
في الشرع الا ثبت ما يكون * بعطيكم بالصدق اخبار (4)
عند ملاقاة الدشمان * بنده مولاي حيدر (5)
يا مستهتر في ديني * ديني ودينك دين الله
مش تايه تا تهديني * مسلم وموحد بالله (6)
إسمع مني يا اشبيني * نحنا وإنتوا عباد الله (7)
واللي بيعملو فيني * بيلقاها يوم المحشر (8)
قال داود:
سيدي الخوري إحكالي * وفهمني بالسريالي (9)
وقلي انو المتوالي * أنجس من كلب أزعر (10)
قال: محمود:

(1) خنني: جنني، شعلني: اشعلني.
(2) معنى البيت: قلت لك يا متوالي (شيعي موالي لأهل البيت): إذهب انصرف
(3) معنى البيت: انا سوف أعمل لك مقالة فاغلق بابك وانصرف من المجلس.
(4) بعطيكم: أعطيكم. اخبار: أخبار.
(5) معنى البيت: عند ملاقاة العدو أنادي مولاي حيدر.
(6) مش تايه... لست تائها حتى تهديني أنت.
(7) يا اشبيني: يا رفيقي. نحنا: نحن. وانتو: وأنتم.
(8) معنى البيت: والذي يعمل منقصة يجدها يوم الحشر.
(9) إحكالي: حكى لي. بالسريالي: بالسرياني أي اللغة السريانية.
(10) وقلي إنو المتوالي: وقال لي أن المتوالي. أزعر: كلب الهراش.
311

في قولك (يا متوالي) * خسب اني بذلك (1)
مش نافعتك هالقالي * مطلوبك ما بيحصلك (2)
جبلي الخوري لقبالي * هلي عما بيدلك (3)
عالشئ المالو تالي * ولانو عالحق محرر (4)
داود:
بالميدان بوسعلك حتى تورجيني فعلك (5)
خلي محمد يشفع لك * هلي سميتو المختار (6)
محمود:
شئ عالباري معروض * كلو في صحف منزل (7)
خطو منصوب ومخفوض * لا تقولوا في حقوا هزال (9)
إسمو في اللوح المحفوظ * قبلنو عيسى بيظهر (10)
داود:
سبع الغاب رابط لك هلي مناوي عاقتلك (11)

(1) خسبت: حسبت. اني بذلك: أني أذل لك.
(2) معنى البيت: هذه المقالة ليست نافعتك، فمطلوبك لن يحصل لك.
(3) معنى البيت: إيت لي بالخوري قبالي هذا الذي يدلك.
(4) معنى البيت: على الشئ الذي ليس له تال ولا هو محرر على الحق.
(5) معنى البيت: أوسع لك في الميدان لكي تريني فعلك.
(6) معنى البيت: دع محمدا الذي تسميه بالمختار يشفع لك...
(7) معنى البيت: على الباري. كلو: كله.
(8) خطو: خطه. لا يوم الله مؤجل: إلى يوم الله مؤجل.
(9) حقو: حقه. مش مرفوض: غير مرفوض. لا تقول في حقه هزلا.
(10) إسموا. قبلنو...: قبل أن يظهر عيسى (ع).
(11) رابط: هلي...: الذي هوناو على قتلك.
312

بعض العالم شهدت لك * والشاهد عندي مزور
محمود:
فيه قدامك بو مخرز * دير بالك من لسعاتوا (1)
يوم السقعا ما بيكرز * سم الموت بنا باتو (2)
لا تقول الحاوي أفرز * لولا الله وآياتوا (3)
اؤعا منو واتحرز * لاتخمن حالك أشطر (4)
داود:
ماسك في يدي نبوت بدقك عاراسك تاموت (5)
لا تخمن حالك مثبوت * ولأنك قوال مشهر (6)
محمود:
اؤصي واكتبني مناظر * تاسوكرلك شياتك (7)
بنفق ثلثك عالحاضر * بتموت يحرق دياتك (8)
عندي قصدير وشناظر * ببيض خطي وحياتك (9)
بقوس عاغير الناظر * لو كان المثلك طيار (10)

(1) معناه: يوجد أمامك ثعبان ذو أنياب كناية عن نفسه) انتبه وأدر بالك من لسعاته.
(2) معناه: يوم الصقيع لا يبتلى بالسبات كما هي الحيات، بل هو مستعد وسم الموت في أنيابه.
(3) الحاوي: الذي يقرأ العزائم على الحيات. أفرز: أدقك على رأسك حتى تموت.
(4) معناه: انتبه منه وتحرز، لا تحسب نفسك أذكى منه.
(5) معنى البيت: أنا أمسك في يدي حربة أدقك على رأسك حتى تموت.
(6) معنى البيت: لا تحسب نفسك صامدا، ولا أنك شاعر قوال مشهور.
(7) معنى البيت: اكتب وصيتك واجعلني وصيا ناظرا لأنظم لك أمورك أو أضمنها لك.
(8) معنى البيت: أنفق ثلث مالك على الحاضر تموت احرق الله يديك.
(9) معنى البيت: يوجد عندي قصدير وشناظر (مادتان تستخدمان في تبييض الأواني النحاسية) أبيض
خطي قسما بحياتك.
(10) أرمي دون حاجة إلى نظر ولو كان مثلك طائرا.
313

داود:
يلي بوبكر انكرتو * يلي فيه تصيرتوا (1)
يا متوالي تحيرتو * اسمعوا قولي يا حضار (2)
محمود:
الصديق اشخصك منو * يلي بذكرو تترنم (3)
اللهم ارض عنو * بكرا يقودك لجهنم (4)
كل من يحكي في فنو * من غيرو لا يتكلم (5)
واللي عاقولك صنو * بيقولو داود حمار (6)
داود:
إسكت يا خامس مذهب * لازم أعمالك تذهب (7)
إنتم ما إلكم كتاب * لازم بالتالي تخسر (8)
محمود: نحنا من أهل التوحيد * مذهبنا دين الاسلام (9)

(1) الشاعر النصراني هنا يحاول إثارة فتنة مذهبية بين محمود والقاضي السني فيقول:
يا أيها الذين أنكرتم خلافة أبي بكر وتصيرتم فيه.
(2) يا أيها المتوالي تحيرتم في أبي بكر، اسمعوا قولي يا حضار المجلس.
(3) هذا المقطع نقله السيد الأمين في خطط جبل عامل مع اختلاف يسير: معنى البيت:
ماذا يخصك (يعنيك) من الصديق الذي تترنم بذكره.
(4) عنو: عنه، بكرا: غدا يقودك إلى جهنم.
(5) المعنى: والذين صنوا آذانهم لقولك (أي انصتوا) يقولون: ان داود حمار.
(7) لازم: يجب.
(8) ما إلكم: ليس لكم كتاب.
(9) نحنا: نحن.
314

عن قول الله ما منحيد * والإنجيل شاهد محكم (1)
خامس مذهب بالتأكيد * مش موجود بين الأنام (2)
إلا دينك هذا جديد * خارج عن كل الأطوار
* * *
متوالي وسني سوية * مجتمعين عالقرآن (3)
يقروا بالوحدانية * إن الله واحد ديان (4)
هذا اخلاص النية * ومحمد سيد عدنان
مرشد كل البرية * وفضلوا واضح لا ينكر (5)
* * *
إنتي ماشي عاكتابك * وغيرك ماشي عاكتابوا (6)
إنتي واقع بحسابك * وغيرك واقع بحسابوا (7)
في هالدعوى شو نابك * وغيرك قبلك شونابو (8)
لا تحكي في أسبابك * مولانا القاضي أخبر
* * *
متوالي وسني سيان مجتمعين عالتوحيد (9)
والنية قلبا ولسان * عن قول الله ما منحيد (10)

(1) مامنحيد: لا نحيد.
(2) مش موجود: غير موجود.
(3) المعنى: الشيعي والسني مجتمعون سوية على القرآن.
(4) يقروا: يقرون.
(5) فضلو: فضله.
(6) إنتي: أنت. عاكتابك: على كتابك، عاكتابو: على كتابه.
(7) إنتي: أنت. بحسابو: بحسابه، والباء هنا بمعنى في.
(8) معنى البيت: أي شئ حصلت عليه في هذه الدعوى، وغيرك قبلك ماذا حصل.
(9) معنى البيت: الشيعي والسني سواء مجتمعون على التوحيد.
(10) ما منحيد: لانحيد.
315

ومحمد سيد عدنان * منذر في الناس ومرشد
عيسى من قبلو إنسان * لكن من أمثالو صار (1)
* * *
خامس مذهب يا داود * شو هالدين ومعبودو (2)
في الدنيا مالوش وجود * عندك شاهد عاوجودوا (3)
إسلام ونصارى ويهود * كل من واقف عاحدودو (4)
قرب عالشئ شهود * تا إخطب لك عالمنبر (5)
* * *
يا جاهل لابد تفيق * من جهلك أي يا مغرور (6)
طلع في كتاب التحقيق * ما بتلاقي فيه كسور (7)
يوم اليشف فيه الريق * والماء بكأس البلور (8)
ما ابتعرف إنو الصديق * رفيق محمد يوم الغار (9)
* * *
قلويا صديقي شوف * لا تحزن الله معنا (10)

(1) قبلو: قبله. أمثالو: أمثاله.
(2) شوها لدين ومعبودو: ما هذا الدين ومعبوده؟!
(3) مالوش وجود: ليس له وجود. عاوجودو: على وجوده.
(4) كل من: قدم على الشئ (المدعى) شهود حتى أخطب لك على المنبر.
(6) لابدت تفيق: لابد لك أن تستيقظ من جهلك يا أيها المغرور.
(7) طلع: انظر: ما بتلاقي: لا تجد.
(8) يوم الينشف فيه الريق: اليوم الذي يجف فيه اللعاب (ريق الفم) من شدة العطش.
(9) ما بتعرف انو: ألا تعرف أن الصديق رفيق محمد يوم الغار.
(10) قلو: قال له. شوف: انظر.
316

لو كان الدشمال ألوف * حاشا إنو يضيعنا (1)
أرسل حايك مد سجوف، يسد علينا موضعنا (2)
حتى لم يبق مكشوف * تنظرنا عيون الكفار
* * *
حين محمد هيكي قال، كان الصديق رفيقو (3)
عنهم جلى هموم ثقال * في أمر الله وتوفيقوا (4)
سبحان الرب اللي قال * لخيرة خلقو وصديقو (5)
صاد الحال بأحسن حال * بأمر المحتوم مقدر (6)
داود:
كل العالم شهدولي * وحطوا الطاعة لقولي (7)
والقوالي وقفولي * لمن بقعد بالمحضر (8)
محمود:
بدك تحكي إحكي مليح * لا تحكي حكي مغيب (9)
عندك نبع الفن الفن شحيح * قلبي منك ما بيرتاب (10)

(1) الدشمان: العدو. إنو: أنه (أي الله عز وجل) معناه حاشاه أن يضيعنا.
(2) حايك: حائك (كناية عن العنكبوت)، مد سجوف: مد شبكة من خيوط طولية وعرضية.
(3) هيكي: هكذا. رفيقوا: رفيقه. معناه: حينما قال محمد هكذا كان الصديق رفيقه.
(4) توفيقو: توفيقه.
(5) اللي: الذي. لخيرة خلقو: أي لخيرة خلقه وصديقه.
(6) مقدر بالامر المحتوم.
(7) شهدولي: شهدوا لي. حطوا الطاعة: سلموا.
(8) القوالي وقفو لي: الذين يقولون الشعر وقفوا لي. لمن بقعد بالمحضر: عندما أقعد بالمحضر.
(9) معنى البيت: إذا تريد أن تحكي فاحكي حكيا مليحا، لا تحك حكيا مغيبا.
(10) ما بيرتات: لا يرتاب.
317

ما بتغني بيت صحيح * إسليك درب وتخيب (1)
في ساحتكم غني وصيح * مثل الديك بيتقنبر (2)
داود:
علي مثلك ما بعتب * قولك ما هوشي مرتب (3)
ما تفتح عا حالك باب * خلية عليك مسكر (4)
محمود:
هالباب اللي مفتاحو * باسم الله فتحو ساهل (5)
والمؤمن في إصلاحو * مهما رام بيتساهل (6)
أهل التوحيد ارتاحو * لو كان قدامو عنتر (7)
داود:
إبعد عني واتنحى * وخلي الدعوى مرتاحه
مذهبكم ما لو صحه * نحنا من هوني أفخر (8)
محمود:
قلبي بولاد مصمد * في قولي ماني غلطان (9)

(1) معنى البيت: لا تغني بيتا صحيحا فاسلك دربك وتخيب.
(2) بيتقنبر: يتبختر.
(3) معنى البيت: على الذي مثلك لا أعتب، فقولك ليس هو بشئ مرتب.
(4) معنى البيت: لا تفتح على نفسك بابا دعه عليك مسدودا.
(5) الباب الذي مفتاحه باسم الله يسهل فتحه.
(6) المؤمن في اصلاحه مهما أراد يتساهل.
(7) سلاحو: سلاحه.
(8) ما لو صحه: ماله صحة. نحنا من هوني: نحن من هنا.
(9) بولاد مصمد: فولاذ صلب. ماني غلطان: ما أنا غلطان.
318

عندي لله استعداد * إنك من حزب الشيطان
ديني عادين محمد * بضرب بسيف السلطان (1)
عندي قرآن مصمد * حاشا إنو يتأخر (2)
* * *
صورتو عيسى إنسان * في تصويره مالها روح (3)
هيئة شخص بغير لسان * انغسلها بميه بتروح (4)
ربك عادلو ما كان لاقدوس ولا سبوح (5)
الله نور وبكل مكان * معبود لا يتغير (6)
* * *
عيسى مصلوب مشبك * وبيخشى شئ يؤذيه (7)
شئ اللي يؤذي ربك * مش واجب، لا تبارك فيه (8)
غير عما في قلبك * يوم المحشر بتلاقيه (9)
نار جهنم بتضبك * كالقصر بترمي بشرار (10)
يا من في الدنيا مغرور * والأيام بتز هالك (11)

(1) عادين: على دين. بضرب: أضرب.
(2) مصمد: ماخر. إنو: انه.
(3) صورتو: صورتم.
(4) انغسلها: ان غسلها. بميه: بماء. بتروح: تروح تذهب وتزول.
(5) عادلو: كأنه، أي عاد كأنه ما كان.
(8) نورو: نوره.
(7) بيخشى: يخشى، فهو يخشى خشبة الصلب التي تؤذيه.
(8) اللي: الذي. مش واجب: غير واجب أن تتبرك فيه.
(9) عما: عن ما. بتلاقيه: تلاقيه أي تجده.
(10) بتضبك: تملك، تأخذك. بترمي: ترمي.
(11) بتزهالك: تزهولك.
319

لا تخمن حالك منصور * يومك عم يناديلك (1)
أن عدت عليي بالزور * لا تقول إني ترثيلك (2)
خلي ها لطابق مستور * لا تفتح باب مسكر (3)
* * *
لو جاؤوك ملوك اثنين * وقالوا لك من هو ربك
يا نصراني كيف لك عين * تنسب ربى لربك (4)
عيسى وموسى مش ربين * الله في كتابو نباك (5)
شخصت بقلبك جفنين * لازم بالتالي تخسر
* * *
مالك قلويا رضوان * عالجنة جاييك ضيوف (6)
قائدهم سيد عدنان * دونك حقو والمعروف (7)
قوم كانوا عالاوطان * صاروا أولى بالمعروف (8)
فاتوا في أمر الرحمان * عالجنه يا نعم الدار (9)
* * *
جاوب رضوان وقلو * أهلا وسهلا بضيوفي (10)

(1) لا تخمن حالك: لا تحسب نفسك. عما ينا ديلك: ينادي لك.
(2) المعنى: إن عدت علي لتكذب وتقول الزور فلا تحسب أني ارثي لك.
(3) المعنى: اترك هذا الطابق مستورا لا تفتح عليك بابا مغلقا.
(4) كيف لك عين: معناه ألا تستحي، كيف لا تخجل عينك من أن تنسب...
(5) مش ربين: ليسا بربين. الله في كتابه نبأك.
(6) المعنى: قال مالك لرضوان: آتيك ضيوف على الجنة.
(7) حق: حقه أي دونك حقه ومعروفه.
(8) عالاوطان: على الأوطان.
(9) فاتوا: دخلوا بأمر الرحمان على الجنة فيا نعم الدار. (10) وقلو: وقال له أهلا وسهلا بضيوفي.
320

كانوا يصوموا ويصلوا * وشهادتهم معروفي (1)
أهل الله بيحتلوا * والجنة لهم موقوفي (2)
واللي عن أمرو ضلوا * يفعل فيهم ما يختار (3)
* * *
متوالي مش متخبي * الله أخبر فيي وفيك (4)
مش مثلك جاحد ربي * وعاملوا حرمي وشريك (5)
عيسى عنك متأبي * لازم بجهنم يرميك (6)
مالك في قلبو محبي * ولابيطقك يا معثر (7)
* * *
دين الاسلام مشرف * بالدولة العثمانية
ما إلها قول محرف * عن الأحكام الشرعية (8)
ادخل فيها وتعرف وامشي عالحقانيه (9)
حيث القرآن معرف * عن قول الله خبر
دولتنا مشت قانون * في اطلاق الحرية (10)

(1) معروفي: معروفة.
(2)
(3) معناه: والذين ضلوا عن أمره.
(4) معناه: أنا شيعي موالي لأهل البيت غير مختبئ، الله أخبر بي وبك.
(5) معناه: لست مثلك جاحدا ربي وجاعلا زوجة وشريك.
(6) معناه: عيسى رافض لك فاللازم أن يرميك في جهنم.
(7) معناه: ليس لك في قلبه محبة، ولا هو يطيقك بأسئ الحظ.
(8) معناه: ليس لها قول محرف عن الاحكام.
(9) امشي عالحقانية: امش على الحق.
(10) مشت: أجرت وسنت.
321

وعملت فينا عالي ودون * لكن في العدل سوية (1)
هيك ملوك العدل تكون * كالدولة العثمانية (2)
حكم السلطان المأمون * فينا يرتاد مخير (3)
* * *
بين الباطن والظاهر * دين النصراني معكوس
تارك انجيلو الطاهر * وماشي عاوصية بطرس (4)
توحيد الرب القاهر * أفضل من ضرب الناقوس
والمسلم قلبو طاهر * من قوله: الله أكبر (5)
* * *
خذلك مني هالمكتوب * مضمون وشرحو مخمس (6)
وان ما أديت المطللوب * في عيسى لا تتونس (7)
عيسى عند الله محبوب * حيث انو بروحو مقدس (8)
لكنو عندك مصلوب، بفعل اليهود مكسر (9)
رب يصلب بكفوفو * لا يحكي ولا يتكلم (10)

(1) سوية: سواء، متساوون.
(2) هيك: هكذا.
(3) يرتاد: يجري مخيرا كما يريد ويشاء.
(4) انجيلو: إنجيله، عاوصية: على وصية بطرس.
(5) قلبو: قلبه، قوله: كلمة.
(6) هالمكتوب: هذا المكتوب وهو مضمون وشرحه مخمس.
(7) معناه: وإذا ما أديت حق عيسى المطلوب فلا تفرح وتأنس أي بمدحي له.
(8) حيث انو بروحو مقدس: حيث أنه بروحه مقدس.
(9) لكنو: لكنه.
(10) بكفوفو: بكفوفه.
322

كيف الكلم عين تشوفو * واقع بن أيدي الظلام (1)
تسليمو من معرفو * واللامن خوفو سلم (2)
إن كان سلم من خوفو * بيكون الظالم أقدر (3)
* * *
رب تاه من عبادو * وتخبا بين الزيتون (4)
طلع طريد من بلادو * كيف ربوبيتو بتكون (5)
حط الرعبه بفوادو * من يهودي كافر ملعون (6)
يعني شوكان مرادو * في هالداعي يتأخر (7)
* * *
أين الخوري اللي نبك * وقال لك مذهبك مثبوت (8)
شوهالدين اللي ملبك * لاهو حي ولا بيموت (9)
أي من سمعك بيسبك * طاوعني إهدأ واسكت (10)
ربي رب لاربك * هلي عالحيط مصور (11)

(1) كيف الكم: كيف لكم عين تراه، تشوفو: تراه، بن = بين، والمعنى: أنكم كيف لكم عين ترى
ربكم وهو بين أيدي الظلمة مصلوب بكفيه لا ينطق ولا يتكلم.
(2) معنى البيت: هل تسليمه للأعداء كان من معروفه أو أنه كان من الخوف.
(3) معنى البيت: فإن كان سلم للظالمين بسبب خوفه فيكون الظالم أقدر منه، فأي رب هذا؟!
(4) تاه من عبادو: هرب من عباده، وتخبأ بين شجر الزيتون.
(5) المعنى: خرج (ذلك الرب) طريدا من بلاده فكيف تكون ربوبيته إذن؟!
(6) المعنى: جعل الرعب في فؤاده من يهودي كافر ملعون...
(7) المعنى: ماذا كان مراده ليتأخر في هذا الداعي.
(8) اللي نباك: الذي نبأك، وقال لك أن مذهبك ثابت وصحيح.
(9) المعنى: ما هذا الدين المتحير المضطرب، فلا عيسى حي ولا هو يموت.
(10) المعنى: كل من سمعك يسبك، فأطعني واهدأ وأسكت.
(11) المعنى: ربي رب حقيقي لاربك المصور على الحائط.
323

الله واحد وحداني * ما لو حرمه ولا مولود (1)
كيف عملتو ثاني * وضفتو العابد للمعبود (2)
بدلتوا الباقي بالفاني * وعبد شهودو ضمن حدود (3)
حكمت يدك يا زاني * يا بن الزاني يا سحار (4)
* * *
عيسى معروف بإسمى في الآيات المثبوتي (5)
كيف عملتلوا جسمي * من لاهوتي وناسوتي؟! (7)
حطيت بظهرك خصمين * الله وعيسى يا معثر (8)
* * *
حيث إنو عندك مثبوت * إنو عيسى ابن الله (9)
ها للي بيحيي ما بيموت * حيث الكون بيد الله (10)
بتعملو جسمو الناسوت * حث انو يأتي بأمر الله (11)

(1) ما لو حرمه ولا مولود: أي ليس له زوجة ولا ولد.
(2) أي كيف جعلتم له ثانيا (شريك)، وأضفتم العابد للمعبود.
(3) أي أبدلتم الرب الباقي بالفاني وبعبد شهوده ضمن حدود.
(4) حكمت يدك: صادفت يدك.
(5) المثبوتي: الثابتة.
(6) أي كيف جعلت له جسمين؟!
(7) أي: صارت جثة على قسمين فكيف يمكن أن يكون سكوتي؟!
(8) أي: جعلت لنفسك خصمين أو وضعت بظهرك خصمي وهما الله وعيسى أيها السئ الحظ.
(9) أي: إذا كان عندك ثابت أنه عيسى ابن الله.
(10) أي: الللذي يحيي غيره لا يموت هو نفسه، حيث إن الكون بيد الله.
(11) أي: تجعل له جسمه هو الناسوت، حيث إنه يأتي بأمر الله.
324

والباقي جسمو اللاهوت * في أي كتاب مسطر؟! (1)
جيب لي آية مثبوتي * تا اعرف مين محبك (2)
ربك جسموا اللاهوتي * واللا الناسوتي ربك (3)
فيه بجنبك زاغوتي * حاجي في القاله ملبك (4)
دينك قفه مفخوتي * وما بتضبط لكش بذرا (5)
* * *
الله واحد يا مجنون * أنشا الدنيا وكونها
كلف فيها كاف ونون * وعيسى شوخصو منها (6)
وابن آدم فيها مرهون * لابدلوا من إنها (7)
عيسى عند الله بيكون * هو وآدم فرد عيار (8)
* * *
ربك أنزل آياتو * أوصانا نصلي ونصوم (9)
عيسى يصلي لذاتو * واللا للحي القيوم (10)

(1) أي: وتجعل له الباقي هو جسمه اللاهوت، هذا في أي كتاب مسطور؟!
(2) المعنى: إيتني بآية ثابتة حتى أعرف الذي تحبه من هو؟
(3) المعنى: من هو ربك؟ هل هو الجسم اللاهوتي أو أن الناسوتي هو ربك.
(4) المعنى: يوجد بجنبك منخس (يطعنك) فيكفي هذا الاضطراب والتحير في هذه المقالة.
(5) المعنى: دينك سلة مثقوبة (مشقوقة من أسفل) فلا تحفظ لك بذرا.
(6) المعنى: لم يتكلف على خلقها سوى كلمة كن (فيكون)، واما عيسى فما شأنه بها وماذا يعنيه فيها؟
(7) المعنى: ابن آدم في الدنيا مرتهن لبد له من انتهاء أي نهاية.
(8) المعنى: فعيسى عند الله هو وآدم في مرتبة واحدة.
(9) آياتو: آياته، أو صان نصلي: أي أن نصلى.
(10) المعنى: فهل عيسى يصلي لنفسه أو أنه يصلي للحي القيوم؟
325

كلمن يظهر شياتو * ولا يخلي دينو مكتوم (1)
واللي من قبلك ماتوا * كانوا عادين الكفار (2)
* * *
عيسى من عبادوا والخاص * صايم ومصلي لله (3)
يبري الأكمه والأبرص * يحيي الموتى بإذن الله
لما قسمتوه حصاص * من ها القسمة نعوذ بالله (4)
ناجى ربو بالاخلاص * من كيد القوم الفجار (5)
* * *
عندي في كتابي مذكور * عيسى والعذرا إمو (6)
من روح الله مش منكور * ملغون اللي بيذمو (7)
بالدنيا زادتلو نور * واللي عاقتلو عمو (8)
شهدوا عليه شهادة زور * هو منها طاهر ومطهر
* * *
حبك عالكفر مسدد * وعامل للمولى ثاني (9)
مخالف عيسى ومحمد * هذا الرب الوحداني

(1) المعنى: ليظهر كل فريق ما عنده ولا يترك دينه مكتوما.
(2) المعنى: والذين ماتوا قبلك كانوا على دين الكفار.
(المعنى: ان عيسى من عباد الله المخصوصين.
(4) المعنى: عندما قسمتم عيسى إلى حصيص، نعوذ بالله من هذه القسمة.
(5) ربو: ربه.
(6) العذرا إمه: أمه العذراء.
(7) المعنى: أن عيسى من روح الله غير منكور ذلك والذي يذمه ملعون.
(8) المعنى: زادت بالدنيا له نورا، والذين اجتمعوا على قتله شهدوا عليه شهادة زور هو منها طاهر ومطهر.
(9) المعنى: حبك منصب على الكفر ومسدد عليه، وجاعل للمولى عز وجل ثانيا (شريك).
326

لا مولود ولا والد * ولا بيحب النصراني (1)
حطيتوا بقلبو استعداد * إنو عيسى إبنو صار (2)
* * *
خوريكم عينو ذليلي مين يعرف شوبدو ويصير (3)
كيف أعطاكم تحليلي * بالميت ولحم الخنزير؟! (4)
حامل بيدو دالولي ولدها في كتاب التفسير (5)
كيف بيعمل تسهيلي * ويحلل شئ المنكر؟! (6)
* * *
إلكم أرباب كثيري * من بابا وخوري ومطرات (7)
وعلقتو علقه كبيري * بسرابيل من قطران (8)
راعيكم ما لو جيري * هلي برعودتكم بطران (9)
وجهنم إلكم صيري * أي من عدا ما بيظهر (10) * * *
جاوبني تا اسمع منك * أنت متولي الإنجيل (11)

(1) ولابيحب: ولا يحب.
(2) المعنى: جعلتم بقلبه استعدادا أن يصير عيسى ابنا له.
(3) المعنى: أن خوريكم (وهو الراهب) عينه ذليلة، من يدري ماذا يريد أن يصبح؟!
(4) المعنى: كيف أعطاكم تحليلا بالميتة ولحم الخنزير.
(5) المعنى: أن (هذا الخوري حامل بيده شيئا يشير به.
(6) المعنى: كيف يعمل تسهيلا ويحلل المنكر؟!
(7) إلكم أرباب كثيري: أي لكم أرباب كثيرون.
(8) المعنى: وقعتم بمشكلة كبيرة بسرابيل من قطران.
(9) المعنى: راعيكم (راهبكم) ليس له شفاعة وهو الذي برعوتكم بطر.
(10) صيري: صيرة وهي حضيرة الغنم والبقر، مراده: جهنم لكم حضيرة من دخل إليها منكم لا يخرج.
(11) جاوبني تا اسمع منك: أجبني لاسمع منك.
327

هذا فني من فنك * لا تغيير ولا تبديل
غير هلي في ظنك * لا تخلي ها النقش يميل (1)
عما بيقولوا عنك * إنك من ناس الأنصار (2)
عالحق بجيب شهودي * وبكشف عيب المتعدي (3)
إفتح كتب الموجودي * بتلاقي الحق بيدي (4)
حكمت بعيسى يهودي * ورضيتولوها لشدي (5)
هني نجروا العودي * وإنتو بشمتوا المسمار (6)
* * *
عيسى وصاك وصيه * وقلك يظهر من بعدي (7)
أحمد خير البرية * اتبع دينو لا تعدي (8)
لو تبقا عاها لنيه * كنت كثير بتتهدي (9)
ما عادلك رد عليه * حيث انوشئ مقرر (10)
* * *
بالباطل لا تعاندني * بيني وبينك فيه حساب

(1) المعنى: غير أو بدل الذي في ظنك ولا تدع هذا النقش يميل.
(2) المعنى: الناس يقولون عنك أنك من الأنصار.
(3) عالحق بجيب: على الحق أجئ بشهودي وأكشف عيب المعتدي.
(4) المعنى: افتح الكتب الموجودة تجد أن الحق بيدي ومعي.
(5) المعنى: حكمت بعيسى يهوديا ورضيتم له هذه الشدة والمحنة.
(6) المعنى: هم (أي اليهود) نجروا له الخشبة (الصليب) وأنتم دققتم المسمار وأحكمتموه.
(7) المعنى: ان عيسى قد أوصاك بوصية وقال لك: إنه يظهر من بعدي أحمد خير البرية.
(8) اتبع دينو: اتبع دينه لا تتجاوزه.
(9) المعنى: لو أنك بقيت على هذه النية كنت تهتدي كثيرا.
(10) المعنى: لم يعد لك علي رد (جواب) حيث أن هذا شئ ثابت مقرر.
328

عيسى قال لك: اعبدني * من دون الله يا كذاب؟!
قال لك: ربي أرشدني * وآتاني بالحق كتاب
طلع فيه بتوحيدني * سر من جملة أسرار (1)
* * *
رب صورتو بيدك * بتصملو وبتصليلو (2)
من قال إنو بيفيدك * بترقصلو وبتغنيلو (3)
عارف قلبك من جيدك حيث مخالف إنجيلو (4)
استعدادك ما يفيدك * يا وليك من حر النار
* * *
الرب اليلي بتاكل خيرو * وبتطلب منو بيعطيك (5)
مش واجب تعبد غيرو * عبد مثلك ما بيكفيك (6)
تأمل كونو وتدبيرو * بيميتك ثم بيحييك (7)
في القرآن وتفسيرو * إن الله واحد قهار (8)
* * *
ما تجاوبني وتقلي * شوها لحق اللي بيدك (9)

(1) طلع فيه بتوجدني: انظر فيه تجدني سرا...
(2) صورتو بيدك: صورته بيدك. بتصملو وبتصليلو: تصوم له وتصلي له.
(3) المعنى: من قال أنه يفيدك، حتى ترقص له وتغني له.
(4) المعنى: ربك عالم بباطنك وظاهرك لأنك مخالف إنجيله.
(5) المعنى: الرب الذي تأكل من خيره ويعطيك حين تطلب منه.
(6) المعنى: لا يجب أن تعبد غيره (يجب أن لا) عبدا هو مثلك لا يكفيك.
(7) المعنى: تأمل في كونه وتدبيره، هو يميتك ثم يحييك.
(8) تفسيرو: تفسيره.
(9) المعنى: ألا تجيبني وتقول لي ما هو الحق الذي بيده؟
329

ملتنا أشرف ملي، بدين محمد منكيدك (1)
بدك تسترها لزلي، استعدادك ما بيفيدك (2)
عيسى صايم ومصلي * وعابد ربو ليل ونهار (3)
دين محمد نعم الدين * عالي عاكل الأديان (4)
مثل الزهر بلاتكوى * عالي عاجبال ووديان (5)
والجوهر ما لو تثمين * اتثمنتو ما بيتثمن (6)
ما يحظى في نور اليقين * إلا من فيه تأزر (7)
* * *
حكي مبين ما لو شهود * وحكي شهودو منو وفيه (8)
لما عيسى راح طرود * بيوليش كاين ناسيه (9)
كان غايب مش موجود * واللامش قادر يحميه (10)
حاسب نفسك يا داود * وارجع عن دين الكفار
* * *
رب اللي بيحيي ويميت * العالم من تحت زنودو (11)

(1) المعنى: ملتنا وديننا أشرف دين وملة ونحن نكيدك بدين محمد (ص).
(2) المعنى: تريد أن تستر هذه الزلة عن نفسك واستعدادك لا ينفعك.
(3) المعنى: عيسى صائم ومصلي وعابد ربه ليلا ونهارا.
(4) عاكل: على كل.
(5) عاجبال: على جبال.
(6) المعنى: والجوهر ليس له تثمين حتى أن ثمنته لا يتثمن.
(7) المعنى: لا يحصل على نور اليقين إلا الذي تأزر فيه.
(8) المعنى: كلام واضح لا يحتاج إلى شهود ودلائل وكلام شهوده ودلائله ذاتية من قبل نفسه.
(9) المعنى: عندما هرب عيسى وكان مطاردا لماذا كان أبوه ناسيا له ولم ينصره ويحمه؟
(10) المعنى: هل كان غائبا غير موجود أو انه لم يكن قادرا على حمايته؟!
(11) المعنى: الرب الذي يحيي ويميت وخرج العالم من تحت زنوده (كناية عن خلقه له).
330

بيهرب من واحد كريت * خوفا منو تايكيدو (1)
إنتي غيرو ليش ارضيت * الرب اليصلب ما بريدو (2)
لازم قطران وكبريت * لعبادوا هالاخيار (3)
* * *
لكن الذنب الأعظم * صادر منك بالتأكيد
يوم ربك فيه تنظم * شرفتو وعملتوعيد (4)
هذا شئ بغير نظام العبد بيحمل هم السيد (5)
واجب إنك في كل عام تبدي الحزن وتتكدر (6)
* * *
كل من واقف عاحدو * إخجل أوقف عاهدك (7)
من مثلك عابد خدو * وعيسى بالتالي خدك (8)
إنتي بتعرف شوبدو * وهو بيعرف شوبدك (9)
حيث انو الامر بيدو * مش واجب يركب الحمار (10)
* * *

(1) المعنى: المعنى: هل يفر من شخص فاسق خوفا منه أن يكيده؟!
(2) المعنى: أنت لماذا رضيت غيره، فالرب الذي يصلب لا أريده ولا أبغيه ربا.
(3) المعنى: بل اللازم هو القطران والكبريت لاحراق عباده هؤلاء الأخيار!!
(4) المعنى: اليوم الذي طلب فيه ربك وتشرد جعلته عيدا.
(5) المعنى هذا شئ على خلاف النظام والقاعدة أن يكون العبد هو الذي يحمل هم السيد.
(6) المعنى: أن الواجب هو أن تبدي الحزن والكدر في كل عام (بدلا من اتخاذه عيدا).
(7) المعنى: كل شخص واقف عند حده فاخجل وقف عند حدك.
(8) المعنى: من مثلك يعبد خده وعيسى بالتالي هو خده.
(9) المعنى: أنت تعرف ماذا يريد وهو يعرف ماذا تريد أنت.
(10) المعنى: حيث أن الامر بيده فلا ينبغي أن يركب حمارا.
331

الله أنزل إنو الدين * عند الله دين الاسلام (1)
طهر قلبك يا مسكين * من حر النار بتسلم (2)
قدامك ف الدرب كمين * عن قوة واحد علام
إسألني تادلك مين * اسمين: نكير ومنكر (3) * * *
الله أنزل الآيات * عيسى من روحو مثبوت (4)
عن قول أصحاب الغايات * حطيتوها في تابوت (5)
امنسألكم بتقولوا مات * روح الباري ما بتموت (6)
مديتو فيها الرايات وبتملوها بالدفتر (7)
* * *
لكن العذرا مريم * في كنيستكم صورتها
مثل الداخل عالحمام * ما سترتو عورتها (8)
ما خفتوش من جهنم * أظهرتم مستورتها (9)
يوم الله بتتكلم * ولسان الحق بيظهر (10)
* * *

(1) انو: انه.
(2) بتسلم: تسلم.
(3) المعنى: اسألني حتى أدلك من ذلك الكامن في الكمين فإنهما إسمان: منكر ونكير.
(4) من روحو مثبوت: أي ثبت انه من روحه.
(5) المعنى: وضعتم تلك الروح في تابوت بناء على قول أصحاب الغايات والاغراض.
(6) المعنى: نسألكم فتقولون: مات عيسى، مع أن روح الباري لا تموت.
(7) المعنى: مددتم فيها الرايات وتملؤونها بالدفتر.
(8) عالحمام: على الحمام. سترتو: سترتم.
(9) ماخفتوش: ما خفتم.
(10) بتتلكم: تتكلم يوم القيامة. بيظهر: يظهر.
332

مريم كانت منذورة * للباري وتقبلها
شرفها بأحسن صورة * وبالقدسسه فضلها
حرة تقيه محبورة * قلتو يوسف حبلها (1)
بعد ان كانت مستورة * لبستوها ثوب العار (2)
* * *
ما صبرتو تاشفتو * قلتوا هذا مش بدوق (3)
كان بمهدو وكلمتوه * فاجأكم إني مخلوق (4)
حيث قال لكم وسمعتوه إنو بالحق بينطق (5)
يعني كيف صار عملتوه * أب وابن بفرد عيار (6)
* * *
مولد عيسى بمغاره * في بيت لحم الموجودي (7)
حولو جملة نصارى * من الرهبان المعدودي (8)
قلتو هاتوا المنشاره * تاننشرها عالدودي (9)
وبطرس جايب بشاره * هيأ حالوا وتحضر (10)
* * *

(1) قلتو: قلتم أن يوسف (النجار) أحبلها.
(2) لبستوها: ألبستموها.
(3) المعنى: لم تصبروا حتى تروه وتقولوا هذا (عيسى) ليس ليس ابن زنا.
(4) المعنى: كان بمهده وكلمتموه ففاجأكم بأني مخلوق.
(5) المعنى: حيث قال لكم وسمعتموه أنه ينطق بالحق.
(6) المعنى: فاذن كيف صار حتى جعلتموه أبا واببنا بميران واحد ومرتبة واحدة.
(7) الموجودي: الموجودة.
(8) المعنى: حوله جملة من النصارى من الرهبان المعدودين.
(9) المعنى: حوله جملة من النصارى من الرهبان المعدودين.
(9) المعنى: قلتم هاتوا المنشارة حتى ننشر (نقطع) هذه الشجرة من الموقع الذي فيه الدودة تنخرها.
(10) المعنى: وبطرس آت ببشارة فهيأ نفسه وحضرها.
333

جاء بطرس وجندو * تايقتل عيسى وامو (1)
جمع جزبوا وبنودو * وراموا يسفكوا دمو (2)
شكل يوسف عازنودو * وخبا ربو في كمو (3)
بطرس وصغار شهودو * حتى القدوس عمرو دار (4)
* * *
عندي عالحق شهاده في قبري ما بنكرها (5)
لمن منكر بينادي بالسؤال بتذكرها (6)
استعمالي واستعدادي * خير الامر بيسترها (7)
منذر للناس وهادي * لله الحمد مقرر
* * *
هذا دين الحقاني * هلي بتعيرني فيه (8)
عابد رب الوحداني * ماسك حبلو ما برخيه (9)
حاشا إنو ينساني * والفرض عليه بأديه (10)
ذكر الباري بلساني * بالعشي والابكار (12)

(1) المعنى: جاء بطرس وجنوده ليقتل عيسى وأمه.
(2) المعنى: جمع حزبه وبنوده (أعلامه) وراموا سفك دمه.
(3) المعنى: كشف يوسف عن ساعديه وخبأ ربه في كمه.
(4) شهودو: شهوده. عمرو: عمره.
(5) عالحق: على الحق. ما بنكرها: لا أنكرها.
(6) المعنى: عندما ينادي (منكر) بالسؤال أتذكرها، أي في القبر.
(7) بيسترها: يسترها. خير الامر: لعل الصواب: خير الأمة، أي النبي (ص).
(8) المعنى: هذا هو الدين الحق الذي تعيرني فيه.
ماسك حبلو ما برخيه: أتمسك بحبله ولا أتركه.
(10) المعنى: حاشاه أن ينساني في حين أني أؤدي ما فرض علي.
(11) المعنى: ذكر الباري على لساني...
(12) تمت بخط السيد جعفر مرتضى العاملي اللبناني في شهر رمضان / 1403 ه‍. ق.
334

(916) ابن عباس وابن الأزرق
في مجلة الفكر الاسلامي سنة 1394 ه‍. ق العدد 16 / 17 شعبان
ورمضان ص 100 - 118 مقال بقلم محمد علي آذرشب:
روي: أن نافع بن الأزرق قال لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ
على تفسير القرآن بما لا علم له به - ويعني ابن عباس - فقاما إليه، فقال: انا نريد
أن نسألك أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا وتأتينا بمصادقة من كلام العرب،
فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين.
فقال ابن عباس: سلاني، ما (1) بدالكما (2).
فقال نافع: أخبرني عن قول الله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال عزين)
قال: العزون الحلق الرقاق (3). قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:
فجاءوا يهرعون إليه حتى * يكونوا حول منبره عزينا
قال: أخبرني عن قوله: (وابتغوا إليه الوسيلة).
قال: الوسيلة الحاجة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت عنترة وهو يقول:
إن الرجال لهم إليك وسيلة * إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
قال: أخبرني عن قوله: (شرعة ومنهاجا).
قال: الشرعة: الدين، والمنهاج: الطريق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يقول:

(1) في نسخة: عما.
(2) من هنا نقلناه عن الاتقان ج 1 / 120 - 133 وفي ط ج 2 / 68.
(3) في نسخة: الحلق الرفاق.
335

لقد نطق المأمون بالصدق والهدى * وبين للاسلام دينا ومنهجا (1)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (إذا أثمر وينعه).
قال: نضجه وبلاغه. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
إذا ما مشت وسط النساء تأودت * كما اهتز غصن ناعم النبت يانع
قال: اخبرني عن قوله تعالى: (للقد خلقنا الانسان في كبد). قال: في
اعتدال واستقامة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت لبيد
ابن ربيعة وهو يقول:
يا عين هلا بكيت أربد إذ * قمنا وقام الخصوم في كبد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وريشا).
قال: الريش: المال. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
فرشتي بخير طال ما قد بريتني * وخير الموالي من يريش ولا يبري (2)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (يكاد سنا برقه).
قال: السنا: الضوء. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث يقول:
يدعو إلى الحق لا يبغي به بدلا * يجلو بضوء سناه داجي الظلم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وحفدة).
قال: ولد الولد وهم الأعوان. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:

(1) في نسخة: منهاجا.
(2) في الاتقان هذا السؤال والسؤال عن (كبد) بتقديم وتأخير.
336

حفد الولائد حولهن وأسلمت * بأكفهن أزمة الأحمال (1)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وحنانا من لدنا).
قال: رحمة من عندنا. قال: وهل تعرف العرب ذلك.
قال: نعم، أما سمعت طرفة بن العبد يقول:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا * حنانيك بعض الشر أهون من بعض
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (أفلم ييأس الذين آمنوا): قال: أفلم يعلم
بلغة بني مالك. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول مالك بن عوف يقول:
لقد يأس الأقوام أني أنا ابنه * وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (مبثورا).
قال: ملعونا محبوسا من الخير. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت عبد الله بن الزبعري يقول:
إذ اتاني الشيطان في سنة النو * م ومن مال ميله مثبورا
قال: أخبرني عن وقوله تعالى: (فاجاء المخاض).
قال ألجأها. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت حسان بن ثابت يقول:
إذ شددنا شدة صادقة * فأجأناكم إلى سفح الجبل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (نديا).
قال: النادي المجلس. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
يومان يوم مقامات وأندية * ويوم سير إلى الاعداء تأويب

(1) في نسخة: الاجمال.
337

قال: اخبرني عن قوله تعالى: (أثاثا ورئيا).
قال: الأثاث: المتاع، والرئي من الشراب، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
كأن على الحمول غداة ولوا * من الرئي الكريم من الأثاث
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فيذرها قاعا صفصفا).
قال: القاع: الأملس، والصفصف: المستوي. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول: بملمومة شهباء لو قذفوا بها * شماريخ من رضوى إذن عاد صفصفا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى).
قال: لا تعرق فيها من شدة حر الشمس. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أما سمعت الشاعر يقول:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت * فيضحى وأما بالعشي فيحضر (1)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (له خوار).
قال: له صياح.
قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أما سمعت قول الشاعر:
كأن بني معاوية بن بكر * إلى الاسلام صائحة تخور
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ولا تنيا في ذكري).
قال: لا تضعفا عن أمري. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أما سمعت قول الشاعر:

(1) في نسخة: فيخصر.
338

إني وجدك ما ونيت ولم أزل * أبغي الفكاك له بكل سبيل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (القانع والمعتر).
قال: القانع الذي يقنع بما أعطي، والمعتر الذي يعترض الأبواب. قال:
وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أما سمعت قول الشاعر:
على مكثريهم حق معتر بابهم (1) * وعند المقلين السماحة والبذل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وقصر مشيد).
قال: مشيد بالجص والاجر. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال، نعم أما سمعت قول الشاعر:
على مكثريهم حق معتر بابهم (1) * وعند المقلين السماحة والبذل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وقصر مشيد).
قال: مشيد بالجص والاجر. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أما سمعت عدي بن زيد يقول:
شاده مرمرا وجلله كل‍ * سا فللطير في داره وكور (2)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (شواظ).
قال: الشواظ: اللهب الذي لادخان له. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أما سمعت قول أمية بن الصلت:
يظل يشب كيرا بعد كير * وينفخ دائبا لهب الشواظ
قال: فازوا وسعدوا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
فاعقلي إن كنت لما تعقلي * ولقد أفلح من كان عقل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (يؤيد بنصره من يشاء).
قال: يقوي. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟

(1) في نسخة: حق من يعتريهم.
(2) في نسخة: في ذراه وكور.
339

قال: نعم أما سمعت قول حسان بن ثابت:
برجال لستموا أمثالهم * أيدوا جبريل نصرا فنزل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ونحاس).
قال: هو الدخان الذي لالهب له. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
يضئ كضوء السراج السليط * لم يجعل الله فيه نحاسا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (أمشاج).
قال اختلاط ماء الرجل ماء المرأة إذا وقع في الرحم. قال: وهل تعرف
العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول أبي ذؤيب:
كأن الريش والفوقي منه * خلال النصل خالطله مشيج
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وفومها).
قال: الحنطة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول أبي محجن الثقفي:
قد كنت أحسبني كأغنى واحد * قدم المدينة عن زراعة فوم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وأنتم سامدون).
قال: السمود: اللهو والباطل. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول هذيلة بنت بكر وهي تبكي قوم عاد:
ليت عادا قبلوا الحق * ولم يبدوا جحودا
قيل فقم فانظر إليهم * ثم دع عنك السمودا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (لافيها غول).
قال: ليس فيها نتن ولا كراهية كخمر الدنيا. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
340

قال: نعم، أما سمعت قول امرئ القيس:
رب كأس شربت لاغول فيها * وسقيت النديم منها مزاجا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (والقمر إذا اتسق).
قال: استاقه اجتماعه. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول طرفة بن العبد:
إن لنا قلائصا نقانقا * مستوسقات لم يجدن (1) سائقا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وهم فيها خالدون).
قال: باقون لا يخرجون منها أبدا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول عدي بن زيد:
فهل من خالد إما هلكنا * وهل بالموت يا للناس عار
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وجفان كالجواب).
قال: كالحياض [الواسعة]. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم
أما سمعت قوله طرفة بن العبد:
كالجوابي لاتني مترعة بقري (2) الأضياف أو للمحتضر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فيطمع الذي في قلبه مرض).
قال: الفجور والزنا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الأعشى:
حافظ للفرج راض بالتقى * ليس ممن قلبه فيه مرض
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (من طين لازب).
قال: الملتزق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول

(1) في نسخة 6 لو تجدن.
(2) في نسخة: لقري.
341

النابغة:
فلا تحسبون (1) الخير لا شر بعده * ولا تحسبون (2) الشر ضربة لازب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (أندادا)
قال: الأشباه والأمثال. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
أحمد الله فلا ند له * بيديه الخير ما شاء فعل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (لشوبا من حميم)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (لشوبا من حميم)
قال: الخلط بماء الحميم والغساق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
تلك المكارم لاقعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (عجل لنا قطنا).
قال: القط: الجزاء. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته * بنعمته يعطي القطوط ويطلق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (من حمأ مسنون).
قال: الحمأ: السواد، والمسنون المصور. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول حمزة بن عبد المطلب:
أغر كأن البدر شقة وجهه (3) جلا الغيم عنه ضوؤه فتبددا
قال: فأخبرني عن قوله تعالى: (البائس الفقير)

(1) في نسخة: يحسبون.
(2) في نسخة: يحسبون.
(3) في تعليقة الطبعة سنة 1387 بتحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم: في الأصل (سنة) والمثبت عن طبعة
الشيخ عثمان عبد الرزاق ص 129.
342

قال: البائس الذي لا يجد شيئا من شدة الحال. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول طرفة:
يغشاهم البائس المدقع * والضيف وجار مجاور جنب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ماء غدقا).
قال: كثيرا جاريا. قال، وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
تدنى كراديس ملتفا حدائقها * كالنبت جادت بها أنهارها غدقا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (بشهاب قبس).
قال: شعلة من نار سقتبسون منه. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول طرفة بن العبد:
هم عراني فبت أدفعه * دون سهادي كشعلة القبس
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (عذاب أليم).
قال: الأليم: الوجيع. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
نام من كان خليا من ألم * وبقيت الليل طولا لم أنم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وقفينا على آثارهم).
قال اتبعنا على آثار الأنبياء أي بعثنا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول عدي بن زيد:
يوم قفت عيرهم من عيرنا * واحتمال الحي في الصبح فلق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (إذا تردى).
قال: إذا مات وتردى في النار. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أما سمعت قول عدي بن زيد:
343

خطفته منية فتردى * وهو في الملك يأمل التعميرا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (في جنات ونهر).
قال: النهر: السعة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة.
ملكت بها كفي فانهرت فتقها * يرى قائم من دونها ما وراءها
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وضعها للأنام).
قال: الخلق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
فإن تسألينا مم نحن فإننا * عصافير من هذا الأنام المسخر (1)
قال: فأخبرني عن قوله تعالى (أن لن يحور).
قال: أن لن يرجع بلغة الحبشة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
ولا (2) المرء كالشهاب وضوؤه (3) * يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ذلك أدنى أن لا تعولوا).
قال أجدر (4) أن لا تميلو. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم،
أما سمعت قول الشاعر:
إنا تبعنا رسول الله واطرحوا * قول النبي وعالوا (5) في الموازين
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وهو مليم).

(1) في نسخة: هذي الأنام المسحر.
(2) في نسخة: وما.
(3) في نسخة: وضوئه.
(4) في نسخة: أجدى.
(5) في نسخة: وغالوا.
344

قال: المسئ المذنب. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول أمية بن الصلت:
برئ (1) من الآفات ليس لها بأهل * ولكن المسئ هو المليم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (إذ تحسونهم بإذنه).
قال: تقتلونهم. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
ومنا الذي لاقى بسيف محمد فحس به الاعداء عرض العساكر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ما ألفينا).
قال: يعني وجدنا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول نابغة بني ذبيان:
فحسبوه فألفوه كما زعمت * تسعا وتسعين لم تنص ولم تزد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (جنفا).
قال: الجور والميل في الوصية. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول عدي بن زيد:
وأمك يا نعمان في أخواتها * تأتين ما يأتينه جنفا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (بالبأساء والضراء).
قال: البأساء: الخصب (2) والضراء: الجدب. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول زي بن عمرو:
إن الاله عزير واسع حكم * بكفه الضر والبأساء والنعم

(1) كلمة (برئ) ساقطة من النسخة سنة 1387.
(2) البأساء: الشدة وتفسيرها بالخصب لم أفهم وجهه.
345

قال: أخبرني عن قوله تعالى: (إلا رمزا).
قال: الإشارة باليد والومئ (1) بالرأس. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
ما في السماء من الرحمان مرتمز * إلا إليه وما في الأرض من وزر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فقد فاز).
قال: سعد ونجا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول عبد الله بن رواحة:
وعسى أن أفوز ثمت ألقى * حجة أتقي بها الفتانا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (سواء بيننا وبينكم).
قال: عدل. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
تلاقينا فقاضينا سواء * ولكن جر عن حال بحال
قال: أخبرني عن قوله تعالى: الفلك المشحون).
قال: السفينة الموقرة (2) قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن الأبرص:
شحنا أرضهم بالخيل حتى * تركناهم أذل من الصراط
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (زنيم).
قال: ولد الزنا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
زنيم تداعته الرجال زيادة كما زيادة * كما زيد في عرض الأديم الأكارع

(1) في نسخة الومي.
(2) في نسخة: الممتلئة.
346

قال: أخبرني عن قوله تعالى: (طرائق قددا).
قال: المنقطعة في كل وجه. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
ولقد قلت وزيد حاسر * يوم ولت خيل زيد قددا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (برب الفلق).
قال: الصبح إذا انفلق من ظلمة الليل. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول زهير بن أبي سلمى:
الفارج الهم مسدولا عساكره * كما يفرج غم الظلمة الفلق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (خلاق (1)).
قال: نصيب. قال: هل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول أمية ابن أبي الصلت.
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم * إلا سرابيل من قطر وأغلال
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (كل له قانتون).
قال: مقرون. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال نعم، أما سمعت قول عدي بن زيد:
قانتا لله يرجو عفوه * يوم لا يكفر عبد ما ادخر
قال أخبرني عن قوله تعالى: (جد ربنا).
قال: عظمة ربنا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت:
لك الحمد والنعماء والملك ربنا * فلا شئ أعلى منك جدا وأمجدا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (حميم آن).

(1) في نسخة: (من خلاق).
347

قال: الآني الذي انتهى طبخه وحره. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول نابغة بني ذبيان:
ويخضب لحية غدرت وخانت * بأحمى من نجيع الخوف (1) آن
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (سلقوكم بألسنة حداد).
قال: الطعن باللسان. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الأعشى:
فيهم الخصب والسماحة والنجدة * فيهم والخاطب المسلاق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وأكدى).
قال: كدره بمنه. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
اعطى (2) قليلا ثم أكدى بمنه * ومن ينشر المعروف في الناس يحمد.
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (لاوزر).
قال: الوزر الملجأ. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول عمرو بن كلثوم.
لعمرك ما إن له صخرة * لعمرك ما إن له من وزر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (قضى نحبه).
قال: أجله الذي قدر له. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول * أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ذو مرة).

(1) في نسخة: الجوف.
(2) في نسخة: وأعطى.
348

قال: ذو شدة في أمر الله. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول نابغة بني ذبيان: وهنا قوى (1) ذي مرة حازم.
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (المعصرات).
قال: السحاب يعصر بعضها فيخرج الماء من بين السحابتين. قال: وهل
تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول نابغة:
تجربها الأرواح من بين شمأل * وبين صباها المعصرات الدوامس
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (سنشد عضدك).
قال: العضد المعين الناصر. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول نابغة:
في ذمة من أبي قابوس منقذة * للخائفين ومن ليست له عضد
قال: في الباقين. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
ذهبوا وخلفني المخلف فيهم * فكأنني في الغابرين غريب
قال: أخبرني عن قوله تعالى (فلا تأس).
قال: لا تحزن. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أما سمعت قول امرئ القيس:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم * يقولون لا تهلك أسى وتحمل (2)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (يصدفون).

(1) في نسخة: قرى.
(2) في نسخة: تجمل.
349

قال: يعرضون عن الحق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أما سمعت قول أبي سفيان:
عجبت لحلم الله عنا وقد بدا * له صفدنا عن كل حق منزل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (أن تبسل).
قال: تحبس. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول زهير:
وفارقتك برهن لافكاك له * يوم الوداع فقلبي مبسل غلقا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فلما آفلت).
قال: زالت الشمس عن كبد السماء، أما سمعت قول كعب بن مالك:
فتغير القمر المنير لفقده * والشمس قد كسفت وكادت تأفل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (كالصريم).
قال: الذاهب، أما سمعت قول الشاعر:
غدوت عليه غدوة فوجدته * قعودا لديه بالصريم عواذله
قال: أخبرني عن قوله تعالى (تفتؤ).
قال: لا تزال، أما سمعت قول الشاعر:
لعمرك ما تفتأ تذكر خالدا * وقد غاله ما غال من قبل تبع (1)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (خشية إملاق).
قال: مخافة الفقر، أما سمعت قول الشاعر:
وأني على الاملاق يا قوم ما جد * أعد لأضيافي الشواء المضهبا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (حدائق).

(1) في نسخة: تبع من قبل.
350

قال: البساتين، أما قول الشاعر:
بلاد سقاها الله أما سهو لها * فقضب ودر مغدق وحدائق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (مقيا).
قال: قادرا (1)، أما سمعت قول أصيحة (2) الأنصاري:
وذي ضغن كففت النفس عنه * وكنت على مساءته مقيتا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ولا يؤده).
قال: لا يثقله، أما ولا يؤده حملها * محض الضرائب ما جد الاخلاق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (سريا).
قال: النهر الصغير، أما سمعت قول الشاعر:
سهل الخليفة ما جد ذو نائل * مثل السري تمده الأنهار
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (كأسادهاقا).
قال: ملاى، أما سمعت قول الشاعر:
أتانا عامر يرجو قرانا * فأترعنا له كأسا دهاقا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (لكنود).
قال: كفور للنعم وهو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويجيع عبده، أما
سمت قول الشاعر:
شكرت له يوم العكاظ نواله * ولم أك للمعروف ثم كنودا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فيسنغضون ايك رؤوسهم).
قال: يحركون رؤوسهم استهزاء بالناس، أما سمعت قول الشاعر:

(1) في نسخة: مقتدرا.
(2) الصحيح: (أحيحة) كما في أسد الغابة.
351

أتنغض لي يوم الفخار وقد ترى * خيولا عليها كالأسود ضواريا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (يهرعون).
قال: يقبلون إليه بالغضب، أما سمعت قول الشاعر:
أتونا يهرعون وهم أسارى * نسوقهم على رغم الأنوف
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (بئس الرفد المرفود).
قال: بئس اللعنة بعد اللعنة، أما سمعت قول الشاعر:
لا تقذفني (1) بركن لاكفاء له * وإن تأثفك الاعداء بالرفد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (غير تتبيب).
قال: تخسير، أما سمعت قول بشر بن أبي حازم:
هم جدعوا الأنوف فأوعبوها * وهم تركوا بني سعد تبابا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فاسر بأهلك بقطع من الليل) ما القطع؟
قال: آخر الليل سحرا، قال مالك بن كنانة:
ونائحة تقوم بقطع ليل * على رجل أصابته شعوب (2)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (هيت لك).
قال: تهيأت لك، أما سمعت قول اصيحة (3) الأنصاري:
به أحمي المضاف إذا دعاني * إذا ما قيل للابطال هيتا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (يوم عصيب).
قال: شديد، أما سمعت قول الشاعر:
هم صرابوا قوانس خيل حجر * بجنب الردة في يوم عصيب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (مؤصدة).

(1) في نسخة: لا تقذفن.
(2) شعوب: أي داهية.
(3) في نسخة: اصيحة الجلاح.
352

قال: مطبقة، أما سمعت قول الشاعر:
تحن إلى أجبال مكة ناقتي * ومن دوننا أبواب صنعاء مؤصدة
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (لا يسأمون).
قال: لا يفترون ولا يملون، أما سمعت قول الشاعر:
من الخوف لا ذو سأمة من عبادة * ولا هو من طول التعبد يجهد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (طيرا أبابيل). قال: ذاهبة وجائية تنقل
الحجارة بمناقيرها وأرجلها فتبلبل عليهم فوق رؤوسهم، أما سمعت قول
الشاعر: وبالفوارس من ورقاء قد علموا * أحلاس خيل على جرد أبابيل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ثقفتموهم).
قال: وجدتموهم، أما سمعت قول حسان:
فأما تثقفن بني لؤي * جذيمة إن قتلهم دواء
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فأثرن به نقعا).
قال: النقع ما يسطع من حوافر الخيل، أما سمعت قول حسان:
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (في سواء الجحيم).
قال: في وسط الجحيم، أما سمعت قول الشاعر:
رماها بسهم فاستوى في سوئها * وكان قبولا للهواذي الطوارق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (في سدر مخضود).
قال: الذي ليس له شوك، أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت:
إن الحدائق في الجنان ظليلة * فيها الكواعب سدرها مخضود
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (طلعها هضيم).
قال: منضم بعضه إلى بعض، أما سمعت قول امرئ القيس:
353

دار لبيضاء العوارض طفلة * مهضومة الكشحين ريا المعصم
قال أخبرني عن قوله تعالى: تعالى: (قولا سديدا).
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وقولا سديدا).
قال: قولا عدلا حقا، أما سمعت قول حمزة:
امين على ما استودع الله قلبه * فإن قال قولا كان فيه مسددا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (الا ولا ذمة).
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (الا ولا ذمة).
قال: الال: القرابة، والذمة: العهد، اما سمعت قول الشاعر:
جزى الله إلا كان بيني وبينهم * جزاء ظلوم لا يؤخر عاجلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (خامدين).
قال: ميتين، أما سمعت قول لبيد:
حلوا ثيابهم على عوراتهم * فهم بأفنية البيوت خمود
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (زبر الحديد).
قال: قطع الحديد، أما سمعت قول كعب بن مالك:
تلظى عليهم حين أن شد حميها * بزبر الحديد والحجارة ساجر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فسحقا).
قال: بعدا، أما سمعت قول حسان:
ألا من مبلغ عني أبيا * فقد ألقيت في سحق السعير
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (إلا في غرور).
قال: في باطل، أما سمعت قول حسان:
تمنتك الأماني من بعيد * وقول الكفر يرجع في غرور
قال: أخبرني عن قوله تعاليى: (وحصورا).
قال: الذي لا يأتي النساء، أما سمعت قول الشاعر:
وحصور عن الخنا يأمر النا * س بفعل الخيرات والتشمير
قال: أخبرن عن قوله تعالى: (عبوسا قمطريرا).
354

قال: الذي ينقبض وجهه من شدة الوجع، أما سمعت قول الشاعر:
ولا يوم الحساب وكان يوما * عبوسا في الشدائد قمطريرا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق).
قال: عن شدة الآخرة، أما سمعت قول الشاعر:
قد قامت الحرب بنا (1) على ساق.
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (إيابهم).
قال: الاياب المرجع، أما سمعت قو لعبيد بن الأبرص:
وكل ذي غيبة يؤوب * وغائب الموت لا يؤوب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (حوبا).
قال: إثما بلغة الحبشة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الأعشى:
فإني وما كلفتموني من أمركم * ليعلم من أمسى أعق وأحوبا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (العنت).
قال: الاثم، أما سمعت قول الشاعر:
رأيتك تبتغي عنتي وتسعى * مع الساعي علي بغير ذحل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فتيلا).
قال: التي تكون في شق النواة، أما سمعت قول نابغة:
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو * ثم لا يرزأ الأعادي فتيلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (من قطمير).
قال: الجلدة البيضاء التي على النواة، أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت:
لم أنل منهم فسيطا (2) ولا زبدا * ولا فوفة ولا قطميرا

(1) في نسخة: بنا الحرب.
(2) في نسخة: قسيطا.
355

قال: أخبرني عن قوله تعالى: (أركسهم).
قال: حبسهم، أما سمعت قول أمية:
اركسوا في جهنم انهم كا * نوا عتاتا يقولون (1) كذبا وزورا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (أمرنا مترفيها).
قال: سلطنا، أما سمعت قول لبيد:
إن يغبطوا يسيروا وإن أمروا * يوما يصيروا للهلك والفقد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (أن يفتنكم الذين كفروا).
قال: يضلكم بالعذاب والجهد بلغة هوازن، أما سمعت قول الشاعر:
كل امرئ من عباد الله مضطهد * ببطن مكة مقهور ومفتون
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (كأن لم يغنوا).
قال: كأن لم يسكنوا أما سمعت قول لبيد:
وغنيت سبتا قبل مجرى داحس * لو كان للنفس اللجوج خلود
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (عذاب الهون).
قال: الهوان، أما سمعت قول الشاعر:
إنا وجدنا بلاد الله واسعة * تنجي من الذل والمخزاة والهون
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ولا يظلمون نقيرا).
قال: النقير ما في شق النواة ومنه تنبت النخل (2)، أما سمعت قول الشاعر:
وليس الناس بعدك في نقير * وليسوا غير أصداء وهام
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (لا فارض).
قال: الهرمة، أما سمعت قول الشاعر:

(1) في نسخة: نقول.
(2) في نسخة: النخلة.
356

لعمري لقد أعطيت ضيفك فارضا * يساق إليه ما يقوم على رجل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (الخيط الأبيض من الحيظ الأسود).
قال: بياض النهار من سواد الليل وهو الصبح إذا انفلق، أما سمعت قول
أمية:
الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق * والخيط الأسود لون الليل مكموم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (بئسما اشتروا (1) به أنفسهم).
قال: باعوا نصيبهم من الآخرة بطمع يسير من الدنيا، أما سمعت قول
الشاعر:
يعطى بها ثمنا فيمنعها * ويقول صاحبها ألا تشري
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (حسبانا) من السماء).
قال: نار من السماء، أما سمعت قول حسان:
بقية معشر صبت عليهم شآبيب من الحسبان شهب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وعنت الوجوه).
قال: استسلمت وخضعت، أما سمعت قول الشاعر:
ليبك كل عان بكربة * وآل قصي من مقل وذي وفر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (معيشة ضنكا).
قال: الضنك: الضيق الشديد، أما سمعت قول الشاعر:
والخيل قد لحقت بها في مأزق * ضنك نواحيه شديد المقدم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (من كل فج).
قال: طريق، أما سمعت قول الشاعر:
وحازوا العيال وسدوا الفجاج * بأجساد عاد لها آيدان

(1) في نسخة: شروا.
(2) في نسخة: آيدات.
357

قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ذات الحبك).
قال: ذات طرائق والخلق الحسن، أما سمعت قول زهير بن أبي سلمى:
هم يضربون حبيبك (1) البيض إذ لحقوا * لا ينكصون إذا ما استلحموا رحموا (2)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (حرضا).
قال: الدنف (3) الهالك من شدة الوجع، أما سمعت قول الشاعر:
أمن ذكر ليلى إن نأت غربة بها، كأنك جم (4) للأطباء محرض
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (يدع اليتيم).
قال: يدفعه عن حقه، أما سمعت قول أبي طالب:
يقسم حقا لليتيم ولم يكن * يدع لدى أيسارهن الأصاغر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (السماء منفطربه).
قال: منصدع من خوف يوم القيامة، أما سمعت قول الشاعر:
ظباهن حتى أعوض الليل دونها (5) * أفاطير وسمي رواء جذورها
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فهم يوزعون).
قال: يحبس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير، أما سمعت قول الشاعر:
وزعت رعبلها (6) بأقب نهد إذا ما القوم شدوا بعد حمس (7)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (كلما خبث).

(1) في نسخة: حبيك.
(2) في نسخة: استحلموا وحموا.
(3) في نسخة: المدنف.
(4) في نسخة: حم.
(5) في نسخة: طباهن حتى أعرض الليل دونها.
(6) في نسخة: رعيلها.
(7) في نسخة: خمس.
358

قال: الخبء: الذي يطفأ مرة ويسعر أخرى، أما سمعت قول الشاعر:
والنار تخبو عن آذانهم (1) * وأضرمها إذا ابتردوا سعيرا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (كالمهل).
قال: كدردي الزيت، أما سمعت قول الشاعر:
تباري بها العيس السموم كأنها * تبطنت الاقراب من عرق مهلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (أخذا وبيلا).
قال: شديدا ليس له ملجأ، أما سمعت قول الشاعر:
خزي (2) الحياة وخزي الممات * وكلا أراه طعاما وبيلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فنقبوا في البلاد).
قال: هربوا بلغة اليمن، أما سمعت قول عدي بن زيد:
فنقبوا (3) في البلاد من حذر الموت * وجالوا في الأرض أي مجال
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (إلا همسا).
قال: الوطء الخفي والكلام الخفي، أما سمعت قول الشاعر:
فباتوا يدلجون وبات يسري * بصير بالدجا هاد هموس
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (مقمحون).
قال: المقمح. الشامخ بأنفه المنكس رأسه، أما سمعت قول الشاعر:
ونحن على جوانبها قعود * نغض الطرف كالإبل القماح
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (في أمر مريج).
قال: المريج: الباطل، أما سمعت قول الشاعر:
فراعت فانقذت به حشاها (4) فخر كأنه خوط مريج

(1) في نسخة: وتخبوا النار عن آذان قومي.
(2) في نسخة: وخزي.
(3) في نسخة: نقبوا.
(4) في نسخة: فراعت فابتدرت بها حشاها.
359

قال: أخبرني عن قوله تعالى: (حتما مقضيا).
قال: الحتم: الواجب، أما سمعت قول أمية:
عبادك يخطئون وأنت رب * بكفيك المنايا والحتوم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وأكواب).
قال: القلال التي لاعرى لها، أما سمعت قول الهذلي:
فلم ينطق الديك حتى ملأت * كؤب الدنان له فاستدارا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ولاهم عنها ينزفون).
قال: لا يسكرون، أما سمعت قول عبد الله بن رواحة:
ثم لا ينزفون عنها ولكن * يذهب الهم عنهم والغليل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (كان غراما).
قال: ملازما شديدا كلزوم الغريم الغريم، أما سمعت قول بشر بن
أبي حازم:
ويوم النسار ويوم الجفار * وكان عذابا وكان غراما
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (والترائب).
قال: هو موضع القلادة من المرأة، أما سمعت قول الشاعر:
والزعفران على ترائبها * شرقا به اللبات والنحر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وكنتم قوما بورا).
قال: بلغة عمان وهم من اليمن، أما سمعت قول الشاعر:
فلا تكفروا ما قد صنعنا اليكمو * وكافوا به فالكفر بور لصانعه
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (نفشت).
قال: النقش: الرعي بالليل، أما سمعت قول لبيد:
بدلن بعد النفش الوجيفا * وبعد طول الجرة الصريفا
360

قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ألد الخصام).
قال: الجدل المخاصم في الباطل، أما سمعت قول مهلهل:
إن تحت الأحجار حزما وجودا * وخصيما ألد ذا مغلاق (1)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (بعجل حنيذ).
قال: النضيج مما يشوى بالحجارة، أما سمعت قول الشاعر:
لهم راح ونار (2) المسك فيهم * وشاويهم إذا شاءوا حنيذا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (من الأجداث.
قال: القبور، أما سمعت قول ابن رواحة:
حينا يقولون إذا مروا على جدثي * ارشده يا رب من عان وقد رشدا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (هلوعا).
قال: ضجرا جزوعا، أما سمعت قول بشر بن أبي حازم:
لا مانعا لليتيم نحلته * ولا مكبا لخلقه هلعا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ولات حين مناص).
قال: ليس بحين فرار (3)، أما سمعت قول الأعشى:
تذكرت ليلى حين لات تذكر * وقد بنت منها والمناص بعيد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ودسر).
قال: الدسر الذي تغرز به السفينة، أما سمعت قول الشاعر:
سفينة نوتى قد أحكم صنعها * منحتة (4) الألواح منسوجة الدسر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ركزا).
قال: حسا * أما سمعت قول الشاعر:

(1) في نسخة: معلاق.
(2) في نسخة: وفار.
(3) في نسخة: قرار.
(4) في نسخة: مثخنة.
361

وقد ترجس ركزا مفقر ندس (1) * بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (باسرة).
قال: كالحة، أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
صبحنا غداة النسا * رشهباء ملمومة باسرة
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ضيزى).
قال: جائرة، أما سمعت قول امرئ القيس:
ضازت بنو أسد بحكمهم * إذ يعدلون الرأس بالذنب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (لم يتسنه).
قال: لم يغره السنون، أما سمعت قول الشاعر:
طاب منه الطعم والريح معا * لن تراه (2) متغيرا من أسن
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ختار):
قال: الغدار الظلوم الغشوم، أما سمعت قول الشاعر:
لقد علمت واستيقنت ذات نفسها * بأن لا تخاف الدهر صرمى ولا خترى
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (عين القطر).
قال: الصفر، أما سمعت قول الشاعر:
فألقى في مراجل من حديد * قدور القطر ليس من البراة
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (أكل خمط).
قال: الأراك، أما سمعت قول الشاعر:
ما مغزل (3) فرد تراعي بعينها، أغن غضيض الطرف من خلل الخمط
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (اشمأزت).

(1) في نسخة: وقد توجس ركزا مقفرندس.
(2) في نسخة: لن ترى.
(3) في نسخة: ما مغزل.
362

قال: نفرت، أما سمعت قول عمرو بن كلثوم:
إذا عض الثقات (1) بها اشمأزت * وولته عشوزنة زبونا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (جدد).
قال: طرائق، أما سمعت قول الشاعر:
قد غادر النسع في صفحاتها جددا * كأنها طرق لاحت على أكم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (أغنى وأقنى).
قال: اغنى من الفقر وأقنى من الغنى فقنع به، أما سمعت قول عنترة
العبسي:
فاقنى حياءك (2) لا أبا لك واعلمي * أني امرئ سأموت إن اقتل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (لا يلتكم).
قال: لا ينقصكم بلغة بني عبس، أما سمعت قول الخطيئة (3) العبسي:
أبلغ سراة بني سعد مفلفلة (4) * جهد الرسالة لا ألتا ولاكذبا
قال أخبرني عن قوله تعالى: (وأبا).
قال: الأب ما يعتلف (5) منه الدواب، أما سمعت قول الشاعر:
ترى به الأب واليقطين مختلطا * على الشريعة يجري تحتها الغوب (6)
قال أخبرني عن قوله تعالى: (لا تواعدوهن سرا).
قال: السر: الجماع، أما سمعت قول امرئ القيس:

(1) في نسخة: الثقاف.
(2) في نسخة: فاقنى حياك.
(3) في نسخة: الحطيئة.
(4) في نسخة: مغلغلة.
(5) في نسخة: تعتلف.
(6) في نسخة: الغرب.
363

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني * كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فيه تسيمون).
قال تزرعون، أما سمعت قول الأعشى:
ومشى القوم بالعماد إلى الدر * حاء أعيي المسيم أين المساق (1)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (لا ترجون لله وقارا).
قال لا تخشون لله عظمة، أما سمعت قول أبي ذويب:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها * وحالفها في بيت نوب عوامل (2)
قال: أخبرني عن وقله تعالى: (ذا متربة).
قال: ذا حاجة وجهد، أما سمعت قول الشاعر:
تربت يدلك (3) ثم قل نوالها * وترفعت عنك السماء سجالها
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (مهطعين).
قال: مذعنين خاضعين، أما سمعت قول تبع:
تعبدني نمر بن سعد وقد درى * ونمر بن سعد لي مدين (4) ومهطع
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (هل تعلم له سميا).
قال: ولدا، أما سمعت قول الشاعر:
أما السمي فأنت منه مكثر * والال فيه تغتدي وتروح
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (يصهر).
قال: يذاب، أما سمعت قول الشاعر:

(1) في نسخة: ومشى القوم بالعماد إلى الرزحاء * وأعيي المسيم أين المساق.
(2) في نسخة: عواسل.
(3) في نسخة: يداك.
(4) في نسخة: مذيف.
364

سخنت صهارته فظل عثاله (1) * في سيطل كفيت به يتردد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (لتنوء بالعصبة).
قال: لتثقل، أما سمعت قول امرئ القيس:
تمشي فتثقها عجيزتها * مشي الضعيف ينوء بالوسق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (كل بنان).
قال: أطراف الأصابع، أما سمعت قول عنترة:
فنعم فوارس الهيجاء قومي * إذا علق الأعنة بالبنان (2)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (إعصار).
قال: الريح الشديدة، أما سمعت قول الشاعر:
فله في آثارهن خوان (3) وحفيف كأنه إعصار
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (مراغما).
قال: منفسحا بلغة هذيل، أما سمعت قول الشاعر:
واترك أرض جهرة إن عندي * رجاء في المراغم والتعادي
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (صلدا).
قال: أملس، أما سمعت قول أبي طالب:
وإني لقرم وابن قرم لهاشم * لاباء صدق مجدهم معقل صلد
قال: أخبرني عن قوله: (لاجرا غير ممنون).
قال: غير منقوص، أما سمعت قول زهير:
فضل الجواد على الخيل البطاء فلا * يعطي بذلك ممنونا ولا ترقا (4)

(1) في نسخة: عثانه.
(2) في نسخة: إذا علقوا الأسنة بالبنان.
(3) في نسخة: خوار.
(4) في نسخة: نزقا.
365

قال: أخبرني عن قوله تعالى: (جابوا الصخر).
قل: نقبوا الحجارة في الجبال فاتخذوها بيوتا، أما سمعت قول أمية:
وشق أبصارنا كيما نعيش بها * وجاب للسمع أصماخا وآذانا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (حبا جما).
قال: كثيرا، أما سمعت قول أمية:
إن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (غاسق).
قال: الظلمة: أما سمعت قول زهير:
ظلت تجوب يداها وهي لاهية * حتى إذا جنح الاظلام والغسق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (في قلوبهم مرض).
قال: النفاق، أما سمعت قول الشاعر:
أجامل أقواما حياء وقد أرى * صدورهم تغلي علي مراضها.
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (يعمهون).
قال: يلعبون ويترددون، أما سمعت قول الأعشى:
أراني قد عمهت وشاب رأسي * وهذا اللعب شين بالكبير
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (إلى بارئكم).
قال: خالقكم، أما سمعت قول تبع:
شهدت على أحمد أنه * رسول من الله بارئ النسم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (لا ريب فيه).
قال: لاشك فيه، أما سمعت قول ابن الزبعرى:
ليس في الحق يا امامة ريب * أنما الريب ما يقول الكذوب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم).
قال: طبع عليها، أما سمعت قول الأعشى:
366

وصهباء طاف يهود بها (1) * فأبرزها وعليها ختم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (صفوان).
قال الحجر الأملس، أما سمعت قول أوس بن حجر:
على ظهر صفوان كأن متونه * عللن بدهن يزلق المتنزلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (فيها صر).
قال: برد، أما سمعت قول نابغة:
لايبرمون إذا ما الأرض جللها * صر الشتاء من الامحال كالادم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (تبوء المؤمنين) (2).
قال: توطن المؤمنين، أما سمعت قول الأعشى:
وما بوأ الرحمان بيتك منزلا * بأجياد غزى الغنى والمحرم (3)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (ربيون).
قال: جموع كثيرة، أما سمعت قول حسان:
وإذا معشر تجافوا عن القصد حملنا عليهم ربينا (4)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (مخمصة).
قال: مجاعة، أما سمعت قول الأعشى:
تبيتون في المشتاء ملاى بطونكم * وجاراتكم سغب (5) يبتن خمائصا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وليقترفوا ما هم مقترفون).
قال: ليكتسبوا ما هم مكتسبون، أما سمعت قول لبيد:

(1) في نسخة: يهوديها.
(2) في نسخة: تبوء المؤمنين مقاعد للقتال.
(3) بأجياد غربي الصفا والمحرم.
(4) في نسخة: ربيا.
(5) غرن.
367

وإني لات ما أتيت وأنني * لما اقترفت نفسي علي لراهب
قال الأحمدي: قال السيوطي (الاتقان: ج 1 ص 133): هذا آخر مسائل
نافع بن الأزرق وقد حذفت منها يسيرا نحو بضعة عشر سؤالا، وهي أسئلة
مشهورة أخرج الأئمة افرادا منها بأسانيد مختلفة إلى ابن عباس.
وأخرج أبو بكر بن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء منها قطعة وهي
المعلم عليها بالحمرة صورة (ك) قال: حدثنا بشر بن أنس، أنبأنا محمد بن علي
ابن الحسن بن شقيق، أنبأنا أبو صالح هدبة بن مجاهد، أنبأنا مجاهد بن شجاع
أنبأنا محمد بن زياد اليشكري، عن ميمون بن مهران قال: دخل نافع بن
الأزرق المسجد... فذكره.
وأخرج الطبراني في معجمه الكبير منها قطعة وهي المعلم عليها صورة (ط)
من طريق جويبر عن الضحاك بن مزاحم قال: خرج نافع بن الأزرق
... فذكره.
قال محمد علي آذر شب في مقالة: وفي الأصل المخطوط لهذه السؤالات طائفة
لم ترد في الاتقان - كما صرح به السيوطي على ما قدمنا - ولما كان هذا
الكتاب الأخير قد أصبح مصدرا لكل من يبحث في هذه السؤالات أو يعيد
نشرها، والأهمية هذه الأسئلة تاريخيا ولغويا وتفسيريا، فقد آثرنا نشر الطائفة
التي يفتقدها (الاتقان) عسى أن ينتفع بها المعنيون بكلام الله تعالى....
روى هذه الأسئلة وأجوبتها السيوطي في الاتقان، ثم أعاد نشرها محمد فؤاد
عبد الباقي وذيل بها كتابه (معجم غريب القرآن)، ولكنه نشر المسائل الموجودة في
الاتقان على نمط معجمه المذكور.
والمسائل الموجودة في الاتقان غير كاملة.
وهناك أصل المخطوط هذه المسائل محفوظ في دائرة الكتب المصرية تحت
رقم / 116، وقام الدكتور إبراهيم السامرائي بتحقيق هذا الأصل معتمدا على
368

نسخة مصورة محفوظة في المجمع العلمي العراقي ضمن مجموعة كتب ورسائل
أخرى تحت رقم (96)، ثم نشر تحققه هذا في مجلة رسالة الاسلام التي تصدرها
كلية أصول الدين ببغداد سنة 1967 م.
وقمت بمقارنة الأصل المخطوط مع الاتقان فوجدت في الأصل المسائل
المذكورة في الاتقان مع شواهد أكثر وشرح أوفى، لكن الأهم من هذا احتواء
الأصل على طائفة من الأسئلة لم ترد في الاتقان أصلا. ونظرا لما تتمتع به هذه
المسائل من أهمية لغوية وتفسيرية فإني آثرت نشر هذه الطائفة من المسائل
كي تكون مكملة لما في كتاب (الاتقان) الذي تحتويه معظم المكتبات العامة
والخاصة معتمدا في المقارنة على نسخة الاتقان التي طبعتها المكتبة التجارية
الكبرى في القاهرة.
قال (نافع): يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (الطلاق مرتان)
هل كانت العرب تعرف الطلاق ثلاثا في الجاهلية؟
قال (ابن عباس): نعم كانت العرب تعرفه ثلاثا باتا، ويحك يا ابن أم
الأزرق، أما سمعت قول الأعشى وقد أخذه اختانه فقالوا: والله لا نرفع عنك
العصا أو تطلق أهلك، فإنك قد أضررت بها، فقال:
يا جارتي بيني فإنك طالقة * كذاك أمور الناس غاد وطارقة
فقالوا: والله لا نرفع عنك العصا أو تثني لها الطلاق، فقال:
بيني فإن البين خير من العصا * وان لا تزل فوق رأسي بارقة
فقالوا: والله لا نرفع عنك أو تثلث لها الطلاق، فقال:
وبيني حصان الفرج غير ذميمة * وموموقة فينا كذاك ووامقة
وذوقي فتى حي فإني ذائق * فتاه أناس مثل ما أنت ذائقة
قال: يا ابن عباس، أخبرني عن قوله عز وجل: (إلا أن يعفون أو يعفو
الذي بيده عقدة النكاح).
369

قال: إلا أن تدع المرأة نصف المهر أو يعطيها زوجها النصف الباقي،
فيقول: كانت في ملكي وحبسته عن الزواج. قال: هل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت زهير بن أبي سلمى وهو يقول:
حزما وبرا للاله وشيمة * تعفو على خلق المسئ المفسد
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (لا تأخذه سنة ولا نوم).
قال: السنة الوسنان الذي هو نائم وليس بنائم. قال: وهل تعرف العرب
ذلك.
قال: نعم، أما سمعت قول زهير أبي سلمى وهو يقول:
ولا سنة طول الدهر تأخذه * ولا ينام وما في أمره فند
قال: يا ابن عباس: أخبرني عن قول الله عز وجل: (من كل زوج بهيج).
قال: الزوج الواحد، والبهيج: الحسن. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الأعشى وهو يقول:
وكل زوج من الديباج يلبسه * أبو قدامة محبوا بذاك معا
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (الأنصاب والأزلام).
قال: الأنصاب: الحجارة التي كانت العرب تعبدها من دون الله وتذبح
لها، والأزلام: القداح. قال: وهل تعرف العرف ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول نابغة بني ذبيان وهو يقول:
فلا لعمر الذي مسحت كعبته * وم هرين على الأنصاب من جسد
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (ولا يؤوده حفظهما).
قال: لا يثقله حملهما عز وجل. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول:
يعطى المئى فلا يؤوده حملها * محض الضرائب ما جد الاخلاق
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (أسفل سافلين).
370

قال: هكذا الكافر من الشباب إلى الكبر ومن الكبر إلى النار. قال: وهل
تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو يقول:
فأضحوا لدى دار الجحيم بمعزل * عن الشعب والعدوان في أسفل سفل
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (من كل حدب
ينسلون).
قال: ينشرون من جوف الأرض من كل ناحية. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت طرفة بن العبد، وهو يقول:
وأما ويومهن فيوم سوء * تخطفهن بالحدب الصقور
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (للدين حنيفا).
قال: دينا مخلصا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت حمزة بن عبد المطلب وهو يقول:
حمدت الله حين هدى فؤادي * إلى الاسلام والدين الحنيف
وقال أيضا رجل يذكر بني عبد المطلب وفضلهم:
أقيوا لنا دينا حنيفا فأنتم * لنا غاية قد يهتدى بالذوائب
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قوله عز وجل: (مسومين).
قال: الملائكة عليهم عمائم بيض مسومة فتلك سيما الملائكة يا ابن أم
الأزرق. قال: فهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول:
ولقد حميت الخيل تحمل شكتي * جرداء صافية الأديم مسومة
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (صواع الملك).
قال: الصواع: الكأس الذي كان يشرب به. قال: وهل تعرف العرب
371

ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الأعشى وهو يقول:
له درمك في رأسه ومشارب * وقد وطباخ وصاع وديسق (1)
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل ((فانفروا ثبات).
قال: الثبة: عشرة فما فوق ذلك. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أما سمعت عمرو بن كلثوم وهو يقول:
فاما يوم خشيتنا عليهم * فتصبح خيلنا عصبا ثبيتا
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (والمنخنقة).
قال: كانت العرب تخنق الشاة فإذا ماتت أكلوا لحمها. قال: وهل تعرف
العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت امرئ القيس وهو يقول:
يغط غطيط البكر شد خناقه * ليقتلني والمر ليس بقتال
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (ولا تيموموا الخبيث
منه).
قال: لا تعمدوا إلى شر ثماركم وخرقتكم فتعطوه في الصدقة لو أعطيتم
ذلك لم تقبلوا. قال: فهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الأعشى وهو يقول:
يممت راحتلي أمام محمد * أرجو فواضله وحسن نداه
وقال أيضا:
تيممت قيسا وكم دونه * من الأرض من مهمه (2) ذي شزن (3)

(1) الديسق: الحوض الملان ماء.
(2) المهمة: المفازة البعيدة لاماء بها ولا أنيس.
(3) ذي شزن: الشزن: شدة الاعياء من الحفا والغلظ.
372

قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (عربا أترابا).
قال: هن العاشقات لأزواجهن اللاتي خلقن من الزعفران، والأتراب:
المستويات. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت نابغة بني ذبيان يقول:
عهد بها سعدى وسعدى عزيزة * عروب تهادى في جواز فرائد
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (سامرا تهجرون).
قال: كانوا يهجرون على اللهو والباطل. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول:
وباتوا بشعب لهم سامر * إذا خب نيرانهم أوقدوا
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (في يوم نحس مستمر).
قال: النحس: البلاء والشدة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت زهير بن أبي سلمى وهو يقول:
سواء عليه أي يوم أتيته * أساعة نحس تتقى أم بأسعد
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (بالعشي والاشراق).
قال: إذا أشرقت الشمس وحلت الصلاة. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الأعشى وهو يقول:
لم ينم ليلة التمام لكي يص‍ * بح متى أضاءه الاشراق
قال: ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (سبحان الذي أسرى
بعبده ليلا).
قال: سبحان تنزيه له وحده لا شريك له الذي أسرى محمدا صلى الله عليه
وآله من المسجد الحرام. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الأعشى وهو يقول:
373

قلت له لما علا فخره * سبحان من علقمة الفاخر *
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (قد شغفها حبا).
يوسف.
قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت نابغة بني ذبيان وهو يقول:
وفي الصدر حب دون ذلك داخل * دخول الشغاف غيبته الاصالع
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (ماء ثجاجا).
قال: الثجيج: الكثير الذي ينبت منه الزرع. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت أبا ذويب وهو يقول:
سقى أم عمرو كل آخر ليلة * حناتم سود ماؤهن ثجيج
قال: يا ابن عباس: أخبرني عن قول الله عز وجل: (ملوما محسورا).
قال: مستحيا مستحلا قد حسرت من المال فتقول: هلا أيقنت. قال:
وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الهذلي وهو يقول:
ما قاد من عرب إلي جوادهم * إلا تركت جوادهم * إلا تركت جوادهم محسورا
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (حسوما).
قال: دائمة شديدة محسوسة بالبلاء. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت أمية بن الصلت يقول:
قال: نعم، أما سمعت أمية بن الصلت يقول:
وكم كنا بها من فرط عام * وهذا الدهر مقتبل حسوم
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل (وحور عين).
قال: الحوراء: البيضاء المنعمة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: أما سمعت الأعشى وهو يقول:
374

وحور كأمثال الدمى ومناسف * وماء وريحان وراح يصنع
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (كل جبار عنيد).
قال: الجبار: القتال، والعنيد الذي يعند عن حق الله. قال: وهل تعرف
العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر وهو يقول:
مصر على الحنث لا تخفى شواكله * يا ربح كل مصر المقلب جبار
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (وما هو بالهزل).
قال: القرآن ليس بالباطل واللعب. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قيس بن رفاعة وهو يقول:
وما أدري وسوف أخال أدري * أهزل ذاكم أم قول جد
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (على سرر موضونة).
قال: الموضونة ما يوزن بقضبان الفضة عليها سبعون فراشا. قال: وهل
تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت حسان بن ثابت وهو يقول:
أعددت للهيجاء موضوعة * فضفاضة كالنهي بالقاع
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (إلى ربهم ينسلون).
قال: النسل: المشي الخبب وهذا يوم القيامة. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت نابغة بني جعدة وهو يقول:
عسلان الذئب أمسى قاربا * برد الليل عليه فنسل (1)

(1) نسل: أسرع في المشي. العسلان مصدر من عسل الذئب أو الفرس عسلانا: اضطرب في عدوه وهز
رأسه.
375

قال: يا ابن عباس: أخبرني عن قول الله عز وجل: (فضلت أعناقهم لها
خاضعين).
قال: العنق: الجماعة من الناس.
قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الحارث بن هشام وهو يقول ويذكر أبا جهل:
يخبرنا المخبران عمروا * إمام القوم في عنق مخيل
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (انا).
قال: الانا النضج يعني إذا أدرك الطعام، وذلك أن امراء المؤمنين كانوا
يدخلون بيت النبي صلى الله عليه وآله فيحدثون قبل أن يدرك الطعام
ويكلمون نساءه وذلك قبل الحجاب، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه
وآله فأنزل الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن
يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين اناه).
فلم يدخلوا بعد ذلك لا بإذن، وكانوا إذا دخلوا أكلوا الطعام وانتشروا.
قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول:
يطعم ذاك الانا العبيط كما * يفعم عزب المجالة الجمل
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (فشاربون شرب
الهيم).
قال: الإبل يأخذها داء يقال لها: الهيام فلا تروى من الماء.
قال: فشبه شرب أهل النار من الحميم بشرب الإبل الهيم. قال: وهل
تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت لبيد بن ربيعة يقول:
376

أجزت إلى معارفها بشعث * واطلاع من العيدي هيم
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (فدكتا دكة واحدة)
قال: زلزلة شديدة عند النفخة الآخرة. قال: فهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت عدي بن زيد وهو يقول:
ملك ينفق الخزائن والذمة * قد دكها وكادت تبور
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (لم يطمثهن). قال:
كذلك نساء أهل الجنة لم يدن منهن غير أزواجهن. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول:
مشين إلي لم يطمثن قبلي * وهن أصح من بيض النعام
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (فأنا أول العابدين)
قال: أنا أول الابقين من أن يكون لله ولد. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت تبعا وهو يقول:
قد علمت فهر بأني ربهم * طوعا تدين له ولما تعبد
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل (حمولة وفرشا).
قال: الحمولة: ما تحمل عليه، والفرش: الصغار من الانعام. قال: وهل
تعرف العرب ذلك؟
قال: أما سمعت أمية بن أبي الصلت وهو يقول:
ليتني كنت قبل ما قد أراني * في قلال الجبال أرعى الحمولا
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل (فقطع دابر القوم الذين
ظلموا).
قال: قطع أصلهم واستؤصلوا من ورائهم. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت زهيرا وهو يقول:
377

القائد الخيل منكوبا دوابرها * محكومة حكمات القد والابقاء
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (خذ العفو).
قال: أمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله أن يأخذ ذلك. قال: وهل
تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:
يعفو عن الجهل والسوءات كما * يدرك غيث الربيع ذو الضرر
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (إلا مكاء وتصدية).
قال: المكاء: القنبرة. والتصدية: صوت العصافير وهو التصفيق، وذلك أن
رسول الله صلى الله عليه وآله كان إذا قام إلى الصلاة بمكة كان يصلي قائما
بين الحجر وبين الركن اليماني فيجئ رجلان من بني سهم يقوم أحدهما عن يمينه
والاخر عن يساره فيصيح أحدهما كما تصيح المكاء والاخر يصفق بيديه
كتصدية العصافير ليفسد عليه صلاته. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت حسان بن ثابت وهو يقول:
نقوم إلى الصلاة إذا دعينا * وهمكم التصدي والمكاء
وقال اخر من الشعراء في التصدية:
حين تنبهنا سحيرا * قبل تصدية العصافر
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (الحرث والنسل).
قال: النسل: الطائر والدواب. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: أما سمعت الشاعر وهو يقول:
كهولهم خير الكهول ونسلهم * كنسل الملوك لايبور ولا يجري
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (كمثل الذي ينعق بما
لا يسمع). شبه الله أصوات المنافقين والكفار بأصوات البهم، أي انهم
لا يعقلون. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
378

قال: نعم، أما سمعت بشر بن أبي حازم وهو يقول: هضيم الكشح لم تغمر ببؤسي * ولم تنعق بناحية الرباق
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (فيما شجر بينهم).
قال: فيما أشكل عليهم. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت زهيرا وهو يقول:
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم * هم بيننا فهم رضا وهم عدل
قال: يا ابن عباس: أخبرني عن قول الله عز وجل: (لا تحمل علينا إصرا كما
حملته على الذين من قبلنا).
قال: عهدا كما حملته على اليهود فعصوك فمسختهم قردة وخنازير. قال:
وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت أبا طالب وهو يقول:
أفي كل عام وافد وصحيفة * يشد بها أمر وثيق وأيصر
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (أن تبوء بإثمي
وإثمك).
قال: أن ترجع بإثمي وإثمك الذي عملت فتستوجب النار. قال: وهل
تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول:
من كان كاره عيشه فليأتنا * يلقى المنية أو يبوء له غنى
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (أنا أعطيناك الكوثر).
قال: نهر في بطنان الجنة حافته قباب الدر والياقوت. قال: وبأي شئ
ذكر ذلك؟
قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله دخل باب المروة وخرج من
باب الصفا فاستقبله العاص بن وائل السهمي فرجع العاص إلى قريش، فقالت
379

له قريش: من استقبلك يا أبا عمرو آنفا؟ قال: ذلك الأبتر - يريد النبي صلى
الله عليه وآله - فما برح رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أنزلت هذه السورة:
(إنا أعطيناك الكوثر) نهر في بطنان الجنة حافتاه قباب الدر والياقوت فيها
أزواجه وخدمه، ثم قال: (فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر) يعني عدوك
هو العاص بن وائل السهمي الأبتر من الخير، لا اذكر مكانا إلا ذكرت معي يا
محمد، فمن ذكرني ولم يذكر ليس له في الجنة نصيب. قال: وهل تعرف
العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت حسان بن ثابت وهو يقول:
وحباه إلاله بالكوثر الأكبر * فيه النعيم والخيرات
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (الذين يؤمنون
بالغيب).
قال: ما غاب عنهم من أمر الجنة والنار. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث وهو يقول:
وبالغيب آمنا وقد كان قومنا * يصلون للأوثان قبل محمد
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (صفراء فاقع لونها).
قال: الفاقع: الصافي اللونخ من الصفرة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول عبد الله بن الزبعرى يقول:
سدم قديم عهد بانيه * من بني أصفر فاقع وذعال
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (مواقيت للناس).
قال: في عدة نسائهم ومحل دينهم وشروط الناس. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
والشمس تجري على وقت مسخرة * إذا قضت سفرا واستقبلت سفرا
380

قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (بقنطار).
قال: أما قولنا أهل البيت فإنا نقول: القنطار عشرة آلاف مثقال، وأما
بنوجد فإنهم يقولون ملء مسك ثور ذهبا أو فضة. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت عدي بن زيد وهو يقول:
وكانوا ملوك الروم تجبى إليهم * قناطيرها من بين حق وفائد
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله الله عز وجل: وكنتم على شفا حفرة من
النار فأنقذكم منها).
قال: أنقذكم الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه وآله. قال: وهل تعرف
العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت عباس بن مرداس يقول:
يكتب على شفا الأذقان كبا * كما زلق التختم عن خفاف
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل:: (أو لامستم النساء).
قال: جامعتم النساء، وهذيل تقول: اللمس باليد. قال: وهل تعرف
العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت لبيد بن ربيعة وهو يقول:
يلمس الأحلس في منزله * بيديه كاليهودي المقل
وقال الأعشى:
ورادعة صفراء بالطيب عندنا * للمس الندامى في يد الدرع منعتق
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (قبل أن نطمس وجوها
فنردها على أدبارها).
قال: من قبل أن نمسخها فنردها على غير خلقها. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
381

قال: نعم، أما سمعت أمية بن الصلت يقول:
من يطمس الله عينيه فليس له * نوريبين به شمسا ولا قمرا
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (والموقوذة).
قال: التي تضرب الخشب حتى تموت فتأكلها العرب، وذلك أنهم جادلوا
المسلمين فقالوا لهم: تزعمون أنكم على دين الله وما ذبح الله لكم لا تأكلونه
وتزعمون أنه ميتة، وما ذبحتم أنتم بأيديكم تزعمون أنه حلال لكم. قال: فهل
تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر يقول:
يبر ينني دين النهار وأقتضي * ديني إذا وقذ النعاس الرقدا
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (وأن تستقسمون
بالأزلام).
قال: الأزلام: القداح كانوا يستسمون الأمور بها، مكتوب على إحداهما أمرني
ربي وعلى الاخر نهاني ربي، وإذا أرادوا الحرب أتوا بيت أصنامهم ثم غلطوا على
القداح فأيهما خرج عملوا به. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الحطيئة وهو يقول:
لا يزجر الطير إن مرت بنا سخا * ولا يفاض له قدح بأزلام
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (اثني عشر نقيبا).
قال: اثني عشر وزيرا، وصاروا إلينا بعد ذلك. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
وإني بحق قائل لسراتها * مقالة نصح لا يضيع نقيبها
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (تبتغي نفقا في
الأرض).
382

قال: سريا في الأرض فتذهب هربا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول (وهو عدي بن زيد):
فدس لها على الانفاف عمروا * بشكته وما حشيت كمينا
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (زخرف القول غرورا).
قال: باطل القول غرورا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت أوس بن حجر يقول:
لم يغروكم غرورا ولكن * يرفع الال جمعكم والزهاء
وقال زهير به سلمى:
فلا تغرنك دنيا إن سمعت بها * عند امرئ سوءة في الناس مغمور
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل (رجس وغضب).
قال: الرجس: اللعنة، والغضب: العذاب. قال: وهل تعرف العرب
ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول:
إذا سنة كانت بنجد محيطة فكان عليهم رجسها وعذابها
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (القمل والضفادع).
قال: القمل: الدبا وهي فرخ الجراد. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يقول:
يبادرون النخل من أنها * كأنهم في السرق القمل
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: (فانبجست منه اثنا
عشرة عينا).
قال: أجرى الله من الصخرة اثنتي عشرة عينا لكل سبط سبط عين يشربون منها.
قال وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت بشر بن أبي حازم وهو يقول:
383

فاسبلت العينان مني بواكف * كما أنها من واهي المتبجس
قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل (إن الساعة آتية أكاد
أخفيها).
قال: من كل أحد، وفيها كلمة عربية يا بن الأزرق لعلك لا تحتملها قال:
بلى يا ابن عباس فأخبرني بها، قال: نعم، أخفيها من علمي. قال: وهل تعرف
العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول:
فإن تدفنو الداء لانخفه * وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
قال الأحمدي: وفي الكامل للمبرد ج 3 / 222 ط مكتبة نهضة مصر (1): قال:
وكان نافع بن الأزرق ينتجع عبد الله بن العباس فيسأله، فله عنه مسائل من
القرآن وغيره قد رجع إليه في تفسير فقبله وانتحله، ثم غلبت عليه االشقوة
ونحن ذاكرون منها صدرا إن شاء الله:
حدث أبو عبيدة معمر بن المثنى اليتمي النسابة عن أسامة بن زيد: عن
عكرمة قال: رأيت عبد الله بن العباس وعنده نافع بن الأزرق وهو يسأله
ويطلب منه الاحتجاج باللغة، فسأله عن قول الله جل ثناؤه: (والليل
وما وسق).
فقال ابن عباس: وما جمع. فقال: أتعرف ذلك العرب؟
قال: ابن عباس: أما سمعت قول اراجز:
إن لنا قلائصا حقائقا مستوسقات لو يجدن سائقا
وفي ص 140:
روى أبو عبيدة في هذا الاسناد، وروى ذلك غيره وسمعناه من غير وجه

(1) وفي طبعة أخرى ص 140 - 141.
384

أنه سأله عن قوله عز وجل: (قد جعل ربك تحتك سريا).
فقال ابن عباس: هو الجدول. فسأله عن الشاهد فأنشده:
سلما ترى الدالج منها أزورا * إذا يعج في السري هرهرا
وفي ص 141:
روى أبو عبيدة وغيره: أن نافعا سأل ابن عباس عن قوله: (عتل بعد ذلك
زنيم) ما الزنيم؟
قال هو الدعي الملزق، أما سمعت قول حسان بن ثابت:
زنيم تداعاه الرجال زيادة * كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وفي ص 141:
ويروى عن غير أبي عبيدة أنه سأله عن قوله جل اسمه: (والتفت الساق
بالساق).
قال: الشدة بالشدة. فسأله عن الشاهد، فأنشده:
أخو الحرب ان عضت به الحرب عضها * وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا (1)
وفي ص (142:
ويروى عن أبي عبيدة من غير وجه أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس
فقال: أرأيت نبي الله سليمان - عليه السلام - مع ما خوله الله وأعطاه كيف
عنى بالهدهد على قلته وضيؤولته؟
فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء والهدهد قناء (2) الأرض له
كالزجاجة يرى باطنها من ظاهر، فسأل عنه لذلك.
قال ابن الأزرق: قف يا وقاف كيف يبصر ما تحت الأرض والفخ يغطي

(1) راجع الكامل للمبرد: ج 3 ص 223 و 224.
(2) أي عالم بمواضع الماء من الأرض.
385

له بمقدار إصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه؟
فقال ابن عباس: ويحك يا ابن الأزرق، أما علمت أنه إذا جاء القدر
عشي البصر.
وفي ص 142:
ومما سأله عنه (ألم ذلك الكتاب).
فقال ابن عباس: تأويله هذا القرآن.
هكذا جاء ولا أحفظ عليه شاهدا من ابن عباس وأنا أحسبه أنه لا يقبله
إلا بشاهد، وتقديره عند النحويين إذا قال ذلك الكتاب: أنهم قد كانوا
وعدوا كتابا... (1)
وفي ص 143:
ومما سأله عنه قوله عز وجل: (لهم أجر غير ممنون).
فقال ابن عباس: غير مقطوع. فقال: هل تعرف ذلك العرب؟
فقال: قد عرفه أخو بني يشكر حيث يقول:
وترى خلفهن من سرعة الرجع * منينا كأنه إهباء (2)
وفي ص 144:
ويروى من غير وجه أن ابن الأزرق أتى ابن عباس يوما فجعل يسأله حتى
أمله فجعل ابن عباس يظهر الضجر، وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن
عباس وهو يومئذ غلام فسلم وجلس، فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئا من
شعرك؟ فأنشده:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر * غداة غد أم رائح فمهجر

(1) راجع الكامل للمبرد: ج 3 ص 225 و 226 هذه الجملات الأخيرة للمبرد.
(2) راجع المصدر: ص 227 وفيه: (إهياء).
386

(الأبيات) حتى أتمها وهي ثمانون بيتا، فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا
ابن عباس: أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض ويأتيك
غلام من قريش فينشدك سفها فتسمعه؟!
فقال: تا لله ما سمعت سفها. فقال ابن الأزرق: أما أنشدك:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت * فيخزى وأما بالعشي فيخسر (1)
فقال: ما هكذا قال: إنما قال: (فيضحى وأما بالعشي فيحضر) قال: أو
تحفظ الذي قال؟
قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه ولو شئت أن أردها لرددتها، قال:
فارددها فأنشده إياها كلها.
وروى الزبيريون: أن نافعا قال له: ما أروي منك قط
فقال له ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر ولا أعلم من علي (2).
(917)
ابن عباس ونجدة الحروي
قال ابن الأثير في تاريخه ج 4 / 304: (وكتب نجدة إلى ابن عمر يسأله عن
أشياء فقال: سلوا ابن عباس فسألوه، ومسألة ابن عباس مشهورة.
ونقل فلهوزن) في كتابه: (الخوارج والشيعة) وقال:
ويقال: إن نجدة كتب إلى ابن عمر يسأله عن أشياء من الفقه ولكنها
عويصة، فترك الإجابة عنها إلى ابن عباس، فسألوا ابن عابس فدهش:
كيف أن رجلا لا يتورع عن سفك دماء المسلمين أنها رايتهم ويدقق في هذه
الأمور الفرعية الفقهية؟!

(1) إشارة إلى بيت لعمر بن عبد الله في قصيدته: (رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت... فيضحى وأما
بالعشي فيحضر).
(2) أقول: نقلته عن الكامل وإن كان فيه بعض التكرار لعدم خلوه عن الفائدة.
387

قال الأحمدي: وعلى كل حال نقل في طيات الكتب الفقهية والحديثية
جواب كتاب نجدة ونقلوا كتاب نجدة أيضا، وأنت تشاهده في:
الخراج لأبي يوسف: ص 22 و 189 و 215، ومسند أحمد: ج 1 / 224
/ 248 / 294 / 352 / 344 و 308، والدر المنثور: ج 2 / 247، والأموال:
464 / 465 / 466 وتشييد المطاعن: ج 1 / 822 عن الدارمي والدر المنثور عن
الفتح عن أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي وص 853 عن أبي داود وص 884
عن الخراج وقرة العينين والدر المنثور وص 885 عن أبي داود والنسائي، وفي
الصحيح من السيرة عن مصادر جمة منها: لسان الميران: ج 6 / 148
ومشكل الآثار: ج 2 / 136 / 179 وحلية أبي نعيم: ج 3 / 205 وسنن أبي داود:
ج 3 / 146 وكنز العمال: ج 2 / 305 والمصنف لعبد الرزاق: ج 5 / 228 / 238
والسهيلي: 238 والمحاسن والمساوئ: ج 1 / 264 ووفاء الوفاء: 995 والسنن
الكبرى للبيهقي: ج 1 / 22 / 53.
وراجع المحلى لابن حزم: ج 7 / 319 والفتح: ج 6 / 174 ونيل الأوطار:
ج 8 / 230 والدارمي: ج 2 / 225 والترمذي: ج 4 / 126، وراجع الوسائل
ج 13 / 434 والسنن للبيهقي: ج 6 / 345 بأسانيد وابن أبي الحديد: ج 12 / 212
وصحيح مسلم: ج 3 / 1445 / 1446 بأسانيد كثيرة والسنائي:
ج 7 / 129 والبحار: ج 96 / 198.
نحن نورد نسخا من هذا الكتاب ونحيل الباقي إلى المصادر المذكورة.
نقل في ترتيب المسند:... عن يزيد بن هرمز: أن نجدة كتب إلى ابن
عباس يسأله عن خلال، فقال ابن عباس: إن ناسا يقولون: إن ابن عباس
يكاتب الحرورية، ولولا أني أخاف أن أكتم علما لم أكتب إليه (1).

(1) في بعض الروايات: (والله لولا أرده عن شريقع فيه ما كتب إليه ولا نعمت عين).
388

فكتب إليه نجدة: أما بعد فأخبرني هل كان رسول الله - صلى الله عليه
وآله - يغزو بالنساء؟ وهل كان رسول الله - صلى الله عليه وآله - يضرب لهن
بسهم؟ وهل كان ثقيل الصبيان؟ ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن
هو؟
فكتب إليه ابن عباس - رضي الله عنهما -: إنك كتبت إلي تسألني هل
كان رسول الله صلى الله عليه وآله يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن فيداوين
المرضى ويحذين من الغنيمة، وأما السهم فلم يضرب لهن بسهم، وأن رسول الله
صلى الله عليه وآله لم يقتل الولدان فلا تقتلهم إلا أن تكون تعلم منهم ما علم
الخضر من الصبي الذي قتل فتميز بين المؤمن والكافر فتقتل الكافر وتدع المؤمن،
وكتبت متى ينقضي يتم اليتيم؟ ولعمري أن الرجل تشيب لحيته وأنه لضعيف
الاخذ ضعيف الاعطاء فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب
عنه اليتم، وكتبت تسألني عن الخمس، وإنا كنا نقول هو لنا، فأبى ذلك علينا
قومنا فصبرنا عليه.
ونقل البحار عن الخصال: ج 1 / 235 بسند صحيح عن عبيد الله الحلبي
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن نجدة الحروري كتب إلى ابن عباس
يسأله عن أربعة أشياء: هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله يغزو
بالنساء؟ وهل كان يقسم لهن شيئا؟ وعن موضع الخمس، وعن اليتيم متى
ينقطع يتمه؟ وعن قتل الذراري.
فكتب إليه ابن عباس: أما قولك في النساء فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يحذيهن ولا يقسم لهن، وأما الخمس فإنا نزعم أنه لنا وزعم قوم أنه
ليس لنا فصبرنا، فأما اليتيم فانقطاع يتمه أشده وهو الاحتلام إلا أن لا تؤنس
منه رشدا فيكون عندك سفيها أو ضعيفا فيمسك عليه وليه، وأما الذراري فلم
يكن النبي صلى الله عليه وآله يقتلها، وكان الخضر عليه السلام يقتل
389

كافرهم ويترك مؤمنهم فإن كنت تعلم منهم ما يعلم الخضر فأنت أعلم (1).
نعم نقل في الخراج لأبي يوسف ص 189 كتابا لابن عباس إلى نجدة، ولكن
لم يصرح بأنه كان جزء من الكتاب المتقدم أو كتابا مستقلا:
قال أبو يوسف: عن عمرو بن دينار: (إن نجدة كتب إلى عبد الله بن
عباس يسأله عن السارق، فكتب إليه بمثل قول علي رضي الله عنه).
مراده من كلام علي عليه السلام ما نقله قبيل ذلك: (تقطع يده، فإن
عاد قطعت رجله، فإن عاد استودع السجن).
الايضاح للفضل بن شاذان، عن شريك، عن أبي الزبير المكي: أن نجدة
الحروري كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقضي يتمه؟ وعن النساء
هل كان النبي - صلى الله عليه وآله - يغزو بهن (ويقسم لهن)؟ وعن الأطفال
هل كان النبي - صلى الله عليه وآله - يقتلهم؟ وعن الخمس لمن هو؟
فكتب إليه ابن عباس:
أما اليتيم فانقضاء يتمه أول حلمه، وأما النساء فإن رسول الله صلى الله
عليه وآله (كان يرضح لهن ولا يقسم لهن، وأما الأطفال فإن الخضر عليه
السلام كان يقتل كافرهم ويدع مؤمنهم، وأما الخمس فزعمنا أنه لنا وزعم
قوم أنه ليس لنا فصبرنا، وإني أخبرك أن جميع الناس في حرج من خمسنا إلا
شيعتنا الطيبين فإنا أحللنا لهم. وفي الهامش ص 186 عن الدر المنثور في تفسير:
(واعلموا أنما غنمتم) عن الشافعي وعبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة ومسلم

(1) راجع أيضا الأموال لأبي عبيد: ج 2 / 464 / و 465 عن سعيد بن أبي سعيد بن أبي سعيد ويزيد بن هرمز، وفي الهامش
عن أبي داود والنسائي... وقال المنذري: وأخرجه مسلم وأخرجه الإمام أحمد، وروي ذلك أيضا عن
عطاء والزهري ويحيى بن سعيد.
ومن الطريف أن في ترتيب المسند نقل الكتاب بسندين كلاهما عن جعفر بن محمد عن أبيه
عن يزيد بن هرمز.
390

وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه (1).
(918)
ابن ميثم وضرار
جاء ضرار إلى ابن ميثم مناظرا، فقال (يعني ابن ميثم لضرار): أدعوك إلى
منصفة، وهي أن تقبل قولي في صاحبي وأقبل قولك في صاحبك؟
قال: لا يمكن. قال: ولم؟
قال: لأني إذا قبلت قولك في صاحبك قلت: إنه كان الامام والأفضل
بعد النبي - صلى الله عليه وآله - فلا ينفعني أن أقول في صاحبي: صهر النبي
واختاره المسلمون.
قال: فاقبل قولي في صاحبك وأقبل قولك في صاحبي.
قال: لا يمكن. قال: ولم؟
قال: لأني إن قبلت قولك فيه نسبته إلى الضلال والنفاق، فلا ينفعني
قبولك قولي أنه صاحب وأمين.
قال: فإذا كنت لا تقبل قولي في صاحبي ولا في صاحبك فما جئتني مناظرا
بل متحكما (2).
* * *

(1) ثم نقل عن الأموال 332 - 335 ص 187.
ثم نقل عن الصدوق - رحمه الله - والبحار والعياشي: ص 188.
ثم عن علم الهدى في الشافي وابن أبي الحديد في شرحه.
وراجع البحار ج 13 / 310 وج 74 / 6 عن العياشي وج 96 / 198 عن الخصال: ج 1 / 112
وص 200 عن العياشي وج 100 / 31 وج 103 / 161 و 165.
(2) الصراط المستقيم: ج 3 / 78 وقد مر في ج 1 ص 286 مفصلا.
391

(919)
الياس المعدل والقوم
سلم الياس المعدل على قوم فلم يردوا عليه، فقال: لعلكم تظنون في ما
قيل من الرفض، ان أبا بكر وعمر وعثمان وعلي من أبغض واحدا منهم فهو
كافر، فسروا بذلك ودعوا له (1).
(920)
طاقي مع خارجي
ولقي الطاقي خارجي، فقال: لا أفارقك أو تتبرأ من علي.
فقال أنا من علي ومن عثمان برئ. فسلم منه (2).
(921)
شيعي مع رجل
وفي تفسير العسكري عليه السلام: قال رجل لشيعي بحضرة الصادق عليه
السلام: ما تقول في العشرة؟
فقال: أقول فيهم الخير الجميل الذي تحط به سيئاتي وترفع به درجاتي.
فقال: كنت أظنك رافضيا تبغضهم.
فقال: من أبغض واحدا منهم أو بعضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
فقبل الرجل رأسه وقال: اجعلني في حل.
فقال: أنت في حل أي غير حرم (3).
(922)
الصاحب ورجل
لقى الصاحب رجلا حجازيا معه رقعة فيها: أنا من أولاد فلان الصديق

(1) الصراط المستقيم: ج 3 / 73 ومرص 244 فراجع.
(2) الصراط المستقيم: ج 3 / 73.
(3) الصراط المستقيم: ج 3 / 73 ومر في ج 1 ص 243 فراجع.
392

فكتب في ظهرها:
أنا رجل مذ كنت اعرف بالرفض * فلا كان بكري لدي على الأرض
ذروني وآل المصطفى عترة الهدى * فإن لهم حبي كما لكم بغضي
وقال: أيضا:
قالوا: ترفضت قلت: كلا * ما الرفض ديني ولا اعتقادي
لكن توليت غير شك * خير إمام وخير هادي
إن كان حب الوصي رفضا * فإنني أرفض العباد (1)
(923)
ابن عباس وجماعة
قال: عمرو بن ميمون: إني لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط
فقالوا: يا أبا العباس إما أن تقوم معنا وإما أن تخلوبنا من بين هؤلاء. قال:
فقال ابن عباس: بل أنا أقوم معكم. قال: وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى:
فابتد أو افتحدثوا فلا يدري ما قالوا: قال: فجاء [ابن عباس وهو] ينفض ثوبه
ويقول: أف وتف [وقعوا في رجل له بضعة عشر فضائل ليست لاحد غيره].
وقعوا في رجل قال له النبي صلى الله عليه وآله [يوم خيبر]: لأبعثن
رجلا لا يخزيه الله أبدا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فاستشرف لها من
استشرف، فقال: أين علي؟ فقالوا: إنه في الرحايطحن، قال: كان أحد غيره
ليطحن؟ قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد أن يبصر، قال: فنفث في عينيه، ثم هز
الراية ثلاثا فأعطاها إياه، فجاء علي بصفية بنت حيي.
فقال ابن عباس: ثم بعث النبي صلى الله عليه وآله [فلانا] بسورة
التوبة فبعث عليا خلفه وأخذها منه، وقال: لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه.
قال ابن عباس: وقال النبي صلى الله عليه وآله [لبني عمه]: أيكم

(1) الصراط المستقيم: ج 3 / 76.
393

يواليني في الدنيا والآخرة؟. قال: وعلي جالس معهم - فأبوا، فقال علي: أنا
أواليك في الدنيا والآخرة. قال: فتركه ثم أقبل على رجل [رجل] منهم فقال:
أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ فأبوا، فقال علي: أنا أواليك في الدنيا
والآخرة [ف‍] قال [له]: أنت وليي في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس: وكان علي أول من آمن من الناس بعد خديجة.
قال: وأخذ النبي صلى الله عليه وآله ثوبه فوضعه على علي وفاطمة
وحسن وحسين وقال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيرا " (1).
قال ابن عباس: وشرى علي نفسه فلبس ثوب النبي صلى الله عليه وآله
ثم نام مكانه.
قال ابن عباس: وكان المشركون يرمون النبي صلى الله عليه وآله فجاء
أبو بكر (رض) وعلي نائم وأبو بكر يحسب أنه رسول الله، قال: فقال: يا
نبي الله، فقال له علي: إن نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمون، فأدركه. قال:
فانطلق أبو بكر ودخل معه الغار قال: وجعل علي يرمى بالحجارة كما كان
يرمي رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يتضور، وقد لف رأسه في الثوب
لا يخرجه حتى أصبح، ثم كشف عن رأسه، فقالوا: إنك لئيم وكان صاحبك
لا يتضور ونحن نرميه وأنت تتضور وقد استنكرنا ذلك.
قال ابن عباس: وخرج النبي صلى الله عليه وآله في غروة تبوك وخرج
بالناس معه، فقال له علي: أخرج معك؟ فقال النبي (ص): لا، فبكى علي،
فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي.
قال ابن عباس: وقال له النبي صلى الله عليه وآله: أنت ولي كل

(1) الأحزاب: 33.
394

مؤمن ومؤمنة بعدي.
قال ابن عباس: وسد النبي صلى الله عليه وآله أبواب المسجد غير باب
علي، وكان يدخل المسجد جنبا، وهو طريقه ليس له طريق غيره.
قال ابن عباس: وقال النبي صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فإن
مولاه علي.
قال ابن عباس: وقد أخبرنا الله عز وجل في القرآن أنه رضي عن
أصحاب الشجرة فعلم ما في قلوبهم، فهل أخبرنا أنه سخط عليهم بعد ذلك؟
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وآله (لعمر) حين قال: إئذن
لي فأضرب عنقه - يعني عنق حاطب - قال: وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل
بدر فقال، اعملوا ما شئتم (1).
(924)
ابن عباس وعمر
عن نبيط بن شريط قال: خرجت مع علي بن أبي طالب عليه السلام
ومعنا عبد الله بن عباس، فلما صرنا إلى بعض حيطان الأنصار وجدنا عمر (رض) جالسا ينكت الأرض فقال له علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين ما
الذي أجلسك وحدك هاهنا؟
فقال: لأمر همني.
قال علي: أفتريد أحدنا؟
قال عمر: إن كان عبد الله.

(1) فرائد السمطين: ج 1 / 328 - 329 وفي الهامش عن الحاكم في المستدرك: ج 3 / 132 والخوارزمي في
المناقب: الفصل الثاني عشر وأحمد في الفضائل ومسنده: ج 1 / 330 وخصائص النسائي: ص 61
والإصابة: ج 2 / 509 وابن عساكر: ج 1 / 187 وبعد ذلك أحال إلى هامشش ابن عساكر فراجع، وراجع
ذخائر العقبى: ص 87 وكفاية الطالب: 241.
395

فتخلف معه عبد الله بن عباس ومضيت مع علي وأبطأ علينا ابن عباس ثم
لحق بنا، فقال له علي عليه السلام: ما وراءك؟ قال: يا أبا الحسن أعجوبة
من عجائب أمير المؤمنين أخبرك بها واكتم علي، فقال: هلم، قال: فلما أن
وليت قال عمر - وهو ينظر إلى أثرك -: آه آه آه، فقلت: مم تأوه يا أمير المؤمنين؟
قال: من أجل صاحبك - يا ابن عباس - وقد أعطي ما لم يعطه أحد من آل
النبي، ولولا ثلاث هن فيه ما كان لهذا الأمر من أحد سواه.
قلت: ما هن يا أمير المؤمنين؟
قال كثرة دعابته، وبغض قريش له، وصغر سنه.
قال: فما رددت عليه؟
قال: داخلني ما يدخل ابن العم لابن عمه.
فقلت: يا أمير المؤمنين: أما كثرة دعابته فقد كان النبي صلى الله عليه
وآله يداعب فلا يقول إلا حقا، وأين أنت حيث كان رسول الله صلى الله
عليه وآله يقول ونحن حوله صبيان وكهول وشيوخ وشبان ويقول للصبي:
(سناقا. سناقا) ولكل ما يعلمه الله يشتمل على قلبه (1).
وأما بغض قريش له فوالله ما يبالي ببغضهم له بعد أن جاهدهم في الله
حين أظهر الله دينه، فقصهم أقرانهم، وكسر آلهتها، وأثكل نساءها، لامه من لامه.
وأما صغر سنه فقد علمت [أن] الله تعالى حيث أنزل عليه: (براءة من الله
ورسوله) (2) فوجه النبي صلى الله عليه وآله صاحبه ليبلغ عنه فأمره الله أن
لا يبلغ عنه ألا رجل من أهله، فوجهه به فهل استصغر الله سنه؟
فقال عمر لابن عباس (رضي الله عنه): أمسك علي، واكتم، فإن سمعتها

(1) وفي الهامش: (دل كل ما يعمله أنه يشتمل على قلبه).
(2) التوبة: 1.
396

من غيرك لم أنم بين لابتيها (1).
(925)
رجل من أهل العدل مع أحد المجبرة
روي عن بعض أهل العدل: أن رجلا من المجبرة سأله عن آية في كتابهم
ظاهرها إن الله أضلهم.
فقال له العدلي: إن تفصيل الجواب يطول عليك وربما لا تفهمه ولا تحفظه
ولكن عرفني ما تعتقد أنت وسائر المسلمين أن القرآن الذي نزل عليكم حجة
لمحمد صلى الله عليه وآله نبيكم على الكافرين والعاصين؟
فقال: بلى.
فقال العدلي: فلو كان باطن الآيات التي يتعلق بها المجبرة مثل ظاهره وان
الله تعالى منع الكفار من الايمان والاسلام ومنع العصاة من الطاعة فكان يكون
القرآن حجة للكفار والعصاة على محمد نبيكم صلى الله عليه وآله، وكانوا
يستغنون بهذه الآيات عن محاربته وقتل أنفسهم ويقولون: إن ربك الذي جئت
برسالته، وكتابك الذي جئت به يشهد أن الله قد منعنا من الاسلام والطاعة
فلا تظلمنا، وقل لربك يتركنا أن نقبل منك ونسلم لك، فكان القرآن حجة
الكفار على المسلمين وعليه فتقطع حجته، وهذا خلاف، مذهب الاسلام، فأذعن
العقل أن لهذه الآيات معنى يليق بالعدل ويناسب الرحمة والانعام.
فانقطع المجبر (2).

(1) فرائد السمطين: ج 1 / 334 - 336.
أقول: مرت المناظرة بين ابن عباس وعمر بروايات مختلفة ولعلها كانت في مواقف متعددة، وانما
نكررها لذلك، ولما اشتملت الروايات على زيادات لابد من ادراجها.
(2) الطرائف للسيد ابن طاوس: ص 329.
397

(926)
جمع من علماء السنة مع الحجاج لعنه الله تعالى
ومن الحكايات المشار إليها ما رواه جماعة من العلماء: أن الحجاج بن يوسف
كتب إلى الحسن البصري والى عمرو بن عبيد والى واصل بن عطاء والى عامر
الشعبي أن يذكروا ما هندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر.
فكتب إليه الحسن البصري: أن أحسن ما سمعت من أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب - عليه السلام - أنه قال: يا ابن آدم أتظن أن الذي نهاك دهاك وإنما
دهاك أسفلك وأعلاك، والله برئ من ذلك.
وكتب إليه عمرو بن عبيد: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول علي
ابن أبي طالب - عليه السلام -: لو كان الوزر في الأصل محتوما كان الموزور في
القصاص مظلوما.
وكتب إليه واصل بن عطاء: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - أنه قال: أيدك على الطريق
ويأخذ عليك المضيق.
وكتب إليه الشعبي: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب - عليه السلام - أنه قال: كلما استغفرت الله منه فهو منك،
وكلما حمدت الله تعالى فهو منه.
فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج ووقف عليها قال: لقد أخذوها من عين
صافية مع ما كان عند الحجاج لعنه الله من العداوة والأمور الواهية (1).

(1) الطرائف للسيد ابن طاوس: ص 329 - 330.
398

(927)
رجل مع المجبرة
قيل للمجبرة: نرى الله تعالى قد استعظم في القرآن قول المشركين
والكافرين فقال: (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال
هدا) ونحو ذلك مما استعظمه في الكتاب العزيز الذي لا يستطيع الجبرية له
دفعا ولا ردا، فإذا كان فعل وقول وقع منه صدر عنه فكيف تقبل العقول
السليمة والأذهان المستقيمة أنه جل جلاله يستعظم فعل نفسه على صورة
الانكار والاستكبار، ويبلغ إلى هذه الغاية من الاستعظام والاستكبار؟! فلم
يكن لأحدهم جوابا (1)
(928)
رجل من أهل العدل مع المجبرة
روي: أن بعض أهل العدل وقف على جماعة من المجبرة فقال لهم ما معناه
هذا:
أنا ما أعرف المجادلة والإطالة لكني أسمع في القرآن قوله تعالى: (كلما
أوقدوا نارا للحرب أطفأ الله) ومفهوم هذا الكلام عند كل عاقل: أن الموقد
للنار غير الله تعالى، وأن المطفئ لها هو الله، فكيف تقبل العقول أن الكل منه،
وأن الموقد هو المطفئ لها؟ فانقطعوا، ولم يردوا جوابا (2).
(929)
عدللي ومجبر
ومن الحكايات المأثورة: أن مجبرا وعدليا اجتمعا للمناظرة، وجعلا بينهما

(1) الطرائف: ص 330.
(2) الطرائف: ص 331.
399

حكما.
فقال العدلي للجبري: هل من شئ غير الله وما خلق؟ قال الجبري: لا.
قال العدلي: فهل يعذب الكفار والعصاة على أنه خلقهم؟ قال الجبري:
لا.
قال: يعذبهم على أنه ما خلقهم؟ قال: لا.
قال: فعلام يعذبهم؟ قال: لمعصيتهم إياه.
قال العدلي: فقد جعلت هاهنا شئيا ثالثا، وأنت قلت: أنه ليس في الوجود
شئ غير الله وما خلق، فهذا قولك: يعصي، من هو العاصي؟
فانقطع الجبري، وحكم الحاكم بينهما بانقطاع الجبري (1).
(930)
كاشف الغطاء مع أحمد أمين
سافر إلى الأهواز للقاء العلماء العظام فيها، ونزلنا على السيد الجليل العالم
الفاضل السيد محمد علي الجزائري الشوشتري إمام الجمعة في الأهواز دامت
إفاضاته.
كنت يوم الخميس 15 / 10 / 1362 ه‍ ش الموافق ل‍ 1 / 4 / 1404 ه‍. ق
حبيس البيت جالس أطالع في مكتبة السيد الجزائري - دامت إفاضاته
العالية - فإذا بكتاب جنة المأوى للعلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء
رحمه الله تعالى المطبوع في تبريز بتحقيق العلامة الشهيد السيد محمد علي
القاضي الطباطبائي - رحمه الله تعالى - وفي مقدمته بقلم المحقق الشهيد - رضوان
الله تعالى عليه - هذه الحكاية نقلا عن مجلة العرفان في المجلد 21 ج 3 / 308:
عند مجئ البعثة المصرية المؤلفة من الأستاذ أحمد أمين صاحب فجر الاسلام

(1) الطرائف: ص 331.
400

وإخوانه إلى النجف الأشرف ليلة 21 شهر رمضان من عام 1349 ه‍ ق
وزيارته للامام المترجم له - يعني المرحوم كاشف الغطاء - في داره ومشاهدة مكتبة
الامام في مدرسته العلمية، فكان لملاقاتهم له أثر بالغ في نفوسهم. وإليك ما دار
بينهم من المناظرات والمسألة لتقف على المواهب العالية كيف يخص الله تعاللى
بعض عباده بها؟
قال سماحته لاحمد أمين: من العسير أن يلم ما حول النجف وأوضاعها
وهي تلك المدينة العلمية المهمة شخص لا يلبث فيها أكثر من سواد ليلة واحدة،
فإني قد دخلت مصركم قبل عشرين سنة، ومكثت فيها مدة ثلاثة أشهر
متجولا في بلدانها باحثا ومنقبا، ثم فارقتها وأنا لا أعرف من أوضاعها شيئا إلا
قليلا ضمنته أبياتا أتذكر منها:
تبزغ شمس العلى ولكن * من أفقها ذلك البزوغ
ومثلما تنبغ البرايا * كذا لبلدانها نبوغ
أكث شئ يروج فيها * اللهو والزهو والنزوغ
فضحكوا من كلمة النزوغ.
قال الأستاذ أحمد أمين مخاطبا الشيخ: قلتم هذا قبل عشرين سنة؟
قال: نعم وقبل أن ينبغ طه حسين ويبزغ سلامة موسى ويبزغ فجر
الاسلام وقد ضمنته - مخطابا أحمد أمين - من التلفيقات عن مذهب الشيعة مالا
يحسن بالباحث المؤرخ اتباعه.
أحمد أمين: ولكن ذنب الشيعة أنفسهم إذ لم يتصدوا إلى نشر حقيقة
مذهبهم في الكتب والصحف يطلع العالم عليه.
الشيخ: هذا كسابقة... فإن كتب الشيعة مطبوعة ومبذولة أكثر من أي
كتب وأي مذهب آخر وبينها ما هو مطبوع في مصر وما هو مطبوع في سوريا عدا
ما هو مطبوع في الهند وفارس والعراق وغيرها، هذا فضلا عما يلزم للمؤرخ من
401

طلب الأشياء من مصادرها.
أحمد أمين: حسنا سنجهد في أن نتدارك ما فات في الجزء الثاني.
أحمد أمين: هل يسمح لنا العلامة في بيان العلوم التي تقرأوها.
الشيخ: هي علوم النحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق والحكمة
والكلام وأصول الفقه وغيرها.
أحمد أمين: ما هي كيفية التدريس عندكم؟ (1).
الشيخ: التدريس عندنا على قسمين:
1 - سطحي وهي أن يفتح التلميذ كتابا من كتب العلوم المتقدمة بين يدي
أستاذه فيقرأ له هذا عبارة الكتاب ويفهمها التلميذ، وقد يعلق عليها ويورد
ويعترض ويشكل ويحل وغير ذلك مما يتعلق بها.
2 - خارج وذلك أن يحضر عدة تلاميذ بين يدي الأستاذ فيلقي عليهم
الأستاذ محاضرة تخص العلم الذي اجتمعوا ليدرسوه، ويكون هذا غالبا في علوم
الفقه والأصول والحكمة والكلام مع ملاحظة أن التلميذ بكلا القسمين يكون

(1) الميزة في كيفية التدريس عندنا والتدريس في السنة الأوروبية:
1 - أن التلميذ مختار في انتخاب الأستاذ عندنا دون الأوروبية.
2 - أن الأستاذ مختار في قبول التلميذ عندنا دون الأوروبية.
3 - أن التلميذ يعتقد في الأستاذ طهارة دينية وخلقية عندنا دون....
4 - أن التلاميذ أحرار في إظهار ما عنده من المطالب والاشكال على الأستاذ دون... وبه يستيقظ
فيهم روح التفكير وعدم التقليد والاعتناق بالبراهين.
5 - في الأسلوب عندنا يتباحث التلامذة ما ألقاه الأستاذ إليهم.
6 - في الأسلوب عندنا قد يتمايز الطلاب في مطالعة الدروس قبل الحضور عند الأستاذ
وهذا جيد جدا.
7 - كل تلميذ يدرس في الكتب التي تدرس فيها كما أنه يأخذ الدرس عمن هو فوقه.
402

ذا حرية في إبداء آرائه واعتراضاته وغيرها.
أحمد أمين...
(931)
كثير و عبد الملك
أخرج ابن عساكر عن العتبي قال: كان عبد الملك بن مروان يحب النظر
إلى كثير عزة، فلما ورد عليه إذا هو حقير قصير تزدريه العين فقال عبد الملك:
تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال: مهلا يا أمير المؤمنين فإنما المرء بأصغريه
وقلبه ولسانه، إن نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بجنان وأنا الذي أقول:
وجربت الأمور وجربتني * وقد أبدت عريكتي الأمور
وما تخفى الرجال علي أني * بهم لأخو مثاقبة خبير
ترى الرجل النحيف فتزدريه * وفي أثوابه أسد زئير
ويعجبك الطرير فتبتليه * فيخلف ظنك الرجل الطرير
وما عظم الرجال لها بزين * ولكن زينهم كرم وخير
بغاث الطير أطولها جسوما ولم تطل يتغن بالعظم البعير
فيركب ثم يضرب بالهراوي * فلا عرف لديه ولا نكير
يجرده الصبي بكل سهب * ويحسبه على الخف الجرير
وعود النزع ينبت مستمرا * وليس يطول والقصباء خور
فاعتذر إليه عبد الملك ورفع مجلسه (1).
* * *

(1) روضات الجنات: ج 8 / 53.
403

(932)
العدلي مع الجبري
حدثني شيخي رحمه الله - يعني المفيد رضوان الله عليه -: أن متكلمين أحدهما
عدلي والاخر جبري كانا كثيرا ما يتكلمان في هذه المسألة، فإن الجبري أتى
إلى منزل العدلي فدق عليه الباب، فقال العدلي: من ذا؟
قال: أنا فلان. قال له العدلي: ادخل.
قال الجبري: افتح لي حتى أدخل.
قال العدلي: ادخل حتى أفتح لك.
فأنكر هذا عليه وقال: لا يصح دخولي حتى يتقدمه الفتح، فوافقه على قوله في
القدرة والفعل وأعلمه بذك وجوب تقدمها عليه.
فانتقل المجبر عن مذهبه وصار إلى الحق (1).
(933)
فروة بن عمرو مع قريش
لما بويع أبو بكر... وقام فروة بن عمرو الأنصاري وكان يقود مع رسول
الله صلى الله عليه وآله فرسين و... فنادي: يا معشر قريش أخبروني هل
فيكم رجل تحل له الخلافة وفيه ما في علي؟
فقال قيس بن مخرمة الزهري: ليس فينا من فيه ما في علي.
فقال له: صدقت، فهل في علي عليه السلام ما ليس في أحد منكم؟
قال: نعم.

(1) روضات الجنات: ج 6 / 168 عن كنز الفوائد.
404

قال: فا يصدكم عنه؟ قال: اجتماع الناس على أبي بكر.
قال: أما والله لئن أصبتم سنتكم لقد أخطأتم سنة نبيكم، ولو جعلتموها في
أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم (1).
(934)
السيد ابن طاووس مع بعض الشيعة
سألني بعض من يذكر أنه معتقد لامامته - أي الإمام المنتظر عجل الله
تعالى فرجه الشريف - فقال:
قد عرضت لي شبهة في غيبته. فقلت: ما هي؟
قال: أما كان يمكن أن يلقى أحدا من شيعته ويزيل الخلاف عنهم في
عقايد ويتعلق (2) بدين جده محمد صلى الله عليه وآله وشريعته؟ واشترط على
أن لا أجيبه بالأجوبة المسطورة في الكتب، وذكر أنه ما زال الشبهة منه ما
وقف عليه ولا ما سمعه من الاعذار المذكورة.
فقلت: أيهما أقدر على إزالة الخلاف بين العباد، وأيهما أعظم وأبلغ في الرحمة
والعدل والارفاد، أليس الله جل جلاله؟ فقال: بلى.
فقلت له: ما منع الله جل جلاله أن يزيل الخلاف بين الأمم أجمعين وهو
أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، ووهو أقدر على تدبير ذلك بطرق لا يحيط بها
علم الآدمين؟ أفليس أن ذلك لعذر يقتضيه عدله وفضله على اليقين؟ فقال:
بلى.
فقلت له: فعذر نائبه عليه السلام هو عذره على التفصيل، لأنه ما يفعل
فعلا إلا ما يوافق رضاه على التمام.

(1) كشف المحجة: ص 177.
(2) هكذا في المصدر والظاهر: (في عقائدهم وما يتعلق).
405

فوافق وزالت الشبهة وعرف صدق، أورده الله - جل جلاله - على لساني من
الكلام (1).
(935)
ابن طاووس مع رجل حنبلي
وحضرني يا ولدي محمد حفظك الله جل جلاله لصلاح آبائك وأطال في
بقائك نقيبا (كذا)، وأتى رجلا حنبليا وقال: هذا صديقنا ويحب أن يكون على مذهبنا فحدثه، فقلت له:
ما تقول إذا حضرت القيامة وقال لك محمد صلى الله عليه وآله: لأي
حال تركت كافة علماء الاسلام واخترت أحمد بن حنبل إماما من دونهم؟ هل
معك آية من كتاب الله بذلك أو خبر عني بذلك؟ فإن كان المسلمون ما كانوا
يعرفون الصحيح حتى جاء أحمد بن حنبل وصار إماما فعمن روى أحمد بن
حنبل عقيدته وعلمه؟ وإن كانوا يعرفون الصحيح وهل أصل عقيدة أحمد بن
حنبل، فهلا كان السلف قبله أئمة لك وله؟
فقال: هذا لا جواب لي عنه لمحمد صلى الله عليه وآله.
فقلت له: إذا كان لابد لك من عالم من الأمة تقلده فالزم أهل بيت نبيك
عليهم السلام، فإن أهل كل أحد عرف بعقيدته وأسراره من الأجانب، فتاب
ورجع (2).
(936)
ابن طاووس مع حنبلي
وقلت لبعض الحنابلة:

(1) كشف المحجة: ص 150 - 151.
(2) كشف المحجة: ص 81.
406

أيما أفضل: آباؤك وسلفك الذين كانوا قبل أحمد بن حنبل إلى عهد النبي
صلى الله عليه وآله أو آباؤك وسلفك الذين كانوا بعد أحمد بن حنبل فإنه
لابد أن يقول: إن سلفه المتقدمين على أحمد بن حنبل أفضل لأجل قربهم إلى
الصدر الأول ومن عهد النبي صلى الله عليه وآله.
فقلت: إذا كان سلفك الذين كانوا قبل أحمد بن حنبل أفضل فلأي حال
عدلت عن عقائدهم وعوائدهم إلى سلفك المتأخرين عن أحمد بن حنبل؟ وما
كان الأوائل حنابلة، لأن أحمد بن حنبل ما كان قد ولد ولا كان مذكورا
عندهم. فلزمته الحجة وانكشفت له المحجة والحمد لله رب العالمين (1).
(937)
ابن طاووس مع بعض الزيدية
وحضر عندي يا ولدي محمد - رعاك الله جل جلاله بعنايته الإلهية - بعض
الزيدية وقد قال لي: إن جماعة من الامامية يريدون مني الرجوع عن مذهبي بغير
حجة، وأريد أن تكشف لي عن حقيقة الامر بما يثبت في عقلي.
قلت له: أول ما أقول: إنني علوي حسني وحالي معلوم، ولو وجدت طريقا
إلى ثبوت عقيدة الزيدية كان ذلك نفعا ورياسة لي دينية ودنيوية، وأنا
اكشف لك بوجه لطيف عن ضعف مذهبك بعض التكشف: هل يقبل عقل
عاقل فاضل أن سلطان العالمين ينفذ رسولا أفضل من الأولين والآخرين إلى
الخلائق في المشارق والمغارب ويصدقه بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة، ثم
يعكس هذا الاهتمام الهائل والتدبير الكامل ويجعل عيار اعتماد الاسلام
والمسلمين على ظن ضعيف يمكن ظهور فساده وبطلانه للعارفين؟
فقال: كيف هذا؟

(1) كشف المحجة: ص 81.
407

فقلت: لأنكم إذا بنيتم أمر الإمامة أنتم ومن وافقكم أو وافقتموه على
الاختيار من الأمة للامام على ظاهر عدالته وشجاعته وأمانته وسيرته، وليس
معكم في الاختيار له إلا غلبة الظن الذي يمكن أن يظهر خلافه لكل من عمل
عليه كما جرى للملائكة وهم أفضل اختيارا من بني آدم لما عارضوا الله جل
جلاله في أنه جعل آدم خليفة وقالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) فلما كشف لهم حال آدم عليه السلام
رجعوا عن اختيارهم لعزل آدم وقالوا: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)، وكما
جرى لادم الاكل من الشجرة، وكما جرى لموسى عليه السلام في اختياره
سبعين رجلا من خيار قومه للميقات ثم قال عنهم بعد ذلك: (أتهلكنا بما
فعل السفهاء منا) حيث قالوا: (أرنا الله جهرة) وكما جرى ليعقوب عليه
السلام في اختياره أولاده لحفظ ولده يوسف عليه السلام، وغيره من اختيار
الأنبياء والأوصياء والأولياء وظهر لهم بعد ذلك الاختيار ضعف تلك
الآراء.
فإذا كان هؤلاء المعصومون قد دخل عليهم في اختيارهم ما قد شهد به
القرآن والاجماع من المسلمين، فكيف يكون اختيار غيرهم ممن يعرف من نفسه
أنه ما مارس أبدا خلافة ولا إمارة ولا رياسة حتى يعرف شروطها وتفصيل
مباشرتها فيستصلح لها من يقوم لها وما معه إلا ظن ضعيف بصلاح ظاهر من
يختاره؟ وهل يقبل عقل عاقل لها وما معه إلا ظن ضعيف بصلاح ظاهر من
يختاره؟ وهل يقبل عقل عاقل وفاضل أن قوما ما يعرفون مباشرة ولا
مكاشفة تفصيل ما يحتاج إليه من يختارونه فيكون اختيارهم لامر لا يعرفونه
حجة على من حضر وعلى من لم يحضر؟
أما هذا من الغلط المستنكر؟ ومن أين للذين يختارون إمامهم معرفة بتدبير
الجيوش والعساكر وتدبير البلاد وعمارة الأرضين والاصلاح لاختلاف
إرادات العالمين حتى يختاروا واحدا يقوم بما يجهلونه؟ إنا لله وإنا إليه راجعون
408

ممن قلدهم في ذلك أو يقلدونه.
ومما يقال لهم: إن هؤلاء الذين يختارون الامام للمسلمين من الذي
يختارهم لهم (1) لتعيين الامام؟ ومن أي المذاهب يكونون؟ فإن مذاهب الذين
يذهبون إلى اختيار الإمام مختلفة. وكم يكون مقدار ما بلغوا إليه من العلوم حتى
يختاروا عندها الامام؟ وكم يكون عددهم؟ وهل يكونون من بلد واحد أو من
بلاد متفرقة؟ وهل يحتاجون قبل اختيارهم للامام أن يسافروا إلى البلاد
يستعلمون من فيها من يصلح للإمامة؟ أو هل يحتاجون أن يراسلوا من بعد عنهم
من البلاد ويعرفونهم أنهم يريدون اختيار الإمام للمسلمين فإن كان في بلد غير
بلدهم من يصلح أو يرجح ممن هو في بلادهم يعرفونهم أم يختارون من غير
كشف لما في البلاد ومن غير مراسلة لعلماء بلاد الاسلام؟
فإن كان سؤال من هذه السؤالات يتعذر قيام الحجة على صحته وعلى
لزومه لله جل جلاله ولزومه لرسوله صلى الله عليه وآله ولزومه لمن لا يكون
مختارا لمن يختارونه من علماء الاسلام، أفلا ترى تعذر ما ادعوه من اختيار الإمام؟
ولقد سمع مني بعض هذا الكلام - أي المناظرة المتقدمة - شخص من أهل
العلم من علم الكلام، فقال: إن الناس ما زالوا يعملون في مصالحهم على
الظنون.
فقلت له: هب أنهم يعملون في مصالحهم في نفوسهم بظنونهم فكيف
تجاوزوا ذلك إلى التحكم على تدبير الله جل جلاله في عباده وبلاده، والاقدام
بظنونهم الضعيفة على هدم الاهتمام بثبوت أقدام النبوة الشريفة ونقل تدبيرها
عن اليقين الشريف إلى الظن الضعيف؟ ومن جعل لهم ولاية على كل من في

(1) هكذا في المصدر والظاهر أن (لهم) زائد.
409

الدنيا والدين وما حضروا معهم في اختيار الإمام ولا شاركوهم ولا أذنوا لهم من
سائر بلاد الاسلام؟ ومن وليهم علي وأنا غافل بيد عنهم حتى يختاروا لي
بظنهم الضعيف إماما ما وكلتهم فيه ولا أرضى أبدا بالاختيار منهم؟ فهل هذا
إلا ظلم هائل وجور شامل من غير رضى من يدعي وكالته ونيابة من استنابه
فيها من غير رضا من يدعي نيابته.
ثم قلت لهم: أنتم ما كنتم تتفكرون فساده في أول مرة لما اظهر العدل
واجتمعتم عليه فلما تمكن منكم قتلكم واخذ أموالكم، وقد رأيتم ورأينا وسمعتم
وسمعنا من اختيار الملوك والخلفاء والاطلاع على الغلط في الاختيار لهم وقتلهم
وعزلهم وفساد تلك الآراء.
وقلت لهم: أنتم تعلمون أنه يمكن ان يكون عند وقت اختياركم لواحد من
ولد فاطمة عليها السلام غير معصوم ولا منصوص عليه أن يكون في ذلك البلد
وغيره من هو مثله أو أرجح منه ولا تعرفونه فكيف تبايعون رجلا وتقتلون
أنفسكم بين يديه، ولعل غيره أرجح منه وأقوم بما تريدون؟
وقلت لهم: أنتم يا بني الحسن لعل ما منعكم من القول بإمامة أئمة
بني الحسين إلا أنكم ولد الامام الأكبر، ولعلكم أبيتم أن تكونوا تبعا لولد الامام
الأصغر، وما أراكم خلصتم من هذا العار لأنكم قلدتم زيدا وهو حسني فنسبتم
مذهبكم إليه وفي بني الحسن والحسين عليهما السلام من هو أفضل منه، قبله كان
عبد الله بن الحسن وولداه والباقر والصادق عليهما السلام ما يقصرون عنه.
ثم إنكم ما وجدتم لهم فقها أو مذهبا يقوم بالشريعة فتممتم مذهبكم
بمذهب أبي حنيفة، وأبو حنيفة من العوام والغلمان لجدكم ولكم، فإذا رضيتم
إماما زيديا وهو حسني مرقع مذهبه بمذهب أبي حنيفة فانا أدلكم على الباقر
والصادق وغيرهما عليهم السلام من بني الحسين عليهم السلام من غير مرقعين
وعلومهم كافية في أمور الدنيا والدين.
410

ثم قلت له: الناس يعرفون إنا كنا معشر بني هاشم رؤساء في الجاهلية
والاسلام وما كنا أبدا تبعا ولا أذنابا للعوام، فلما بعث محمد صلى الله عليه
وآله وشرفنا بنبوته وشريعته نصير تبعا لغلمانه وللعوام من أمته، وتعجز عناية الله
جل جلاله به أن يكون لنا رئيس منا؟! أي مصيبة حملتكم على ذلك، وفينا من
لا يحسن أبو حنيفة يجلس بين يديه، ويحتاج أبو حنيفة وغيره من العلماء أن يقرأوا
عليه.
وعرف الزيدي الحق ورجع عن مذهبه اختصرت في المقال (1).
(938)
ابن طاووس وفقيه من المستنصرية
واعلم يا ولدي أني كنت في حضرت مولانا الكاظم عليه السلام
والجواد عليه السلام، فحضر فقيه من المستنصرية كان يتردد علي قبل ذلك
اليوم، فلما رأيت وقت حضوره يحتمل المعارضة له في مذهبه قلت له:
يا فلان ما تقول لو أن فرسا لك ضاعت منك وتوصلت في ردها إلي أو
فرسا لي ضاعت مني وتوصلت في ردها إليك أما كان ذلك حسنا أو واجبا؟
فقال: بلى.
فقلت له: قد ضاع الهدى إما مني وإما منك، والمصلحة أن ننصف من
أنفسنا وننظر ممن ضاع الهدى فنرده عليه؟ فقال: نعم.
فقلت له: لا أحتج بما ينقله أصحابي، لأنهم متهمون عندك، ولا نحتج بما
ينقله أصحابك، لأنهم متهمون عندي أو على عقيدتي، ولكن نحتج بالقرآن أو
بالمجمع عليه من أصحابي وأصحابك أو بما رواه أصحابي لك وبما رواه أصحابك
لي. فقال: هذا انصاف.

(1) كشف المحجة: 82 - 86.
411

فقلت له: ما تقول فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما؟ فقال: حق
بغير شك.
فقلت: فهل تعرف أن مسلما روى في صحيحه عن زيد بن أرقم أنه قال ما
معناه: أن النبي - صلى الله عليه وآله - خطبنا في (خم) فقال: (أيها الناس
إني بشر يوشك أن ادعى فأجيب، وإني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله
وعترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي). فقال: هذا صحيح.
فقلت: وتعرف أن مسلما روى في صحيحه في مسند عائشة: أنها روت
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه لما نزت آية (إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) جمع عليا وفاطمة والحسن والحسين
عليهم السلام فقال: هؤلاء أهل بيتي؟ فقال: نعم هذا صحيح.
فقلت له: تعرف أن البخاري ومسلما رويا في صحيحهما: أن الأنصار
اجتمعت في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة وأنهم ما نفذوا إلى
أبي بكر لا وعمر (1) ولا إلى أحد من المهاجرين حتى جاء أبو بكر: قد رضيت لكم أحد
هذين الرجلين يعني عمرو أبا عبيدة، فقال عمر: ما أتقدم عليك، فبايعه عمر
وبايعه من بايعه من الأنصار، وأن عليا عليه السلام وبني هاشم امتنعوا من
المبايعة ستة أشهر، وأن البخاري ومسلما قالا فيما جمعه الحميدي من صحيحيهما:
وكان لعلي - عليه السلام - وجه بين الناس في حياة فاطمة - عليها السلام - فلما
ماتت فاطمة - عليها السلام - بعد ستة أشهر من وفاة النبي - صلى الله عليه
وآله - انصرفت وجوه الناس عن علي - عليه السلام - فلم رأى علي انصراف
وجوه الناس عنه خرج إلى مصالحة أبي بكر؟ فقال: هذا صحيح.

(1) هكذا في المصدر والصحيح: (ولا عمر).
412

فقلت له: ما تقول في بيعة تخلف عنها أهل بيت رسول الله صلى الله عليه
وآله الذين قال عنهم أنهم الخلف من بعده وكتاب الله جل جلاله، وقال
صلى الله عليه وآله فيهم: أذكركم الله في أهل بيتي، وقال عنهم: انهم الذين
نزلت فيهم آية الطهارة، وأنهم ما تأخروا مدة يسيرة حتى يقال: انهم تأخروا
لبعض الاشتغال، وإنما كان التأخر للطعن في خلافة أبي بكر بغير اشكال في
مدة ستة أشهر، ولو كان الانسان تأخر عن غضب يرد غضبه أو عن شبهة زالت
شبهته بدون هذه المدة، وأنه ما صالح أبا بكر على مقتضى حديث البخاري
ومسلم إلا لما ماتت فاطمة عليها السلام ورأى انصراف وجوه الناس عنه،
خرج عند ذلك إلى المصالحة، وهذه صورة حال تدل على أنه ما بايع مختارا،
وأن البخاري ومسلما رويا في هذا الحديث أنه ما بايع أحد من بني هاشم
حتى بايع علي عليه السلام. فقال: ما اقدم على الطعن في شئ قد عمله
السلف والصحابة.
فقلت له: فهذا القرآن يشهد بأنهم عملوا في حياة النبي صلى الله عليه
وآله وهو يرجى ويخاف والوجى ينزل عليهم باسرارهم في حال الخوف وفي
حال الامن وحال الصحة والايثار عليه ما لا يقدروا أن يجحدوا الطعن عليهم
به، وإذا جاز منهم مخالفته في حياته وهو يرجى ويخاف فقد صاروا أقرب إلى
مخالفته بعد وفاته وقد انقطع الرجاء والخوف منه وزال الوحي عنه. فقال: في
أي موضع من القرآن؟
فقلت: قال الله جل جلاله في مخالفتهم في الخوف: (ويوم حنين إذ
أعجبتكم كثرتكم فلن تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم
وليتم مدبرين) فروى أصحاب التواريخ أنه لم يبق معه إلا ثمانية أنفس: علي
عليه السلام والعباس والفضل بن العباس وربيعة وأبو سفيان ابنا الحارث بن
عبد المطلب وأسامة بن زيد وعبيدة بن أم أيمن وروي: أيمن بن أم أيمن.
413

وقال الله جل جلاله في مخالفتهم له في الامن: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا
انفضلوا إليها تركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير
الرازقين)، فذكر جماعة من المؤرخين أنه كان يخطب يوم الجمعة فبلغهم أن
جمالا جاءت لبعض الصحابة مزينة فسارعوا إلى مشاهدتها وتركوه قائما، وما
كان عند الجمال شئ يرجون الانتفاع به فما ظنك بهم إذا حصلت خلافة
يرجون نفعها ورياستها؟! وقال الله تعالى في سوء صحبتهم ما قال الله جل
جلاله: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر
لهم وشاورهم في الامر).
ولو كانوا معذورين في سوء صحبتهم ما قال الله جل جلاله: (فاعف
عنهم واستغفر لهم) وقد عرفت في صحيحي مسلم والبخار معارضتهم للنبي
صلى الله عليه وآله في غنيمة هوازن لما أعطى المؤلفة قلوبهم أكثر منهم،
ومعارضتهم له لما عفا عن أهل مكة وتركه تغيير الكعبة وإعادتها إلى ما كانت
زمن إبراهيم عليه السلام خوفا من معارضتهم له، ومعارضتهم له لما خطب في
تنزيه صفوان بن المعطل لما قذف عائشة وأنه ما قدر أن يتم الخطبة، أتعرف هذا
جميعه في صحيحي مسلم والبخاري؟
فقال: هذا صحيح.
فقلت: وقال الله جل جلاله في إيثارهم عليه القليل من الدنيا: (يا أيها
الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) وقد عرفت أنهم
امتنعوا من مناجاته ومحادثته لأجل التصدق برغيف وما دونه حتى تصدق علي
ابن أبي طالب عليه السلام بعشرة دراهم عن عشر دفعات ناجاه فيها، ثم
نسخت الآية بعد أن صارت عارا عليهم وفضيحة إلى يوم القيامة بقوله - جل
جلاله -: (أاشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلو وتاب
الله عليكم).
414

فإذا حضرت يوم القيامة بين يدي الله جل جلاله وبين يدي رسوله
صلى الله عليه وآله وقالا للك: كيف جاز لك أن تقلد قوما في عملهم وفعلهم
وقد عرفت منهم مثل هذه الأمور الهائلة؟ فأي عذر وأي حجة تبقى لك عند الله
وعند رسوله في تقليدهم؟
فبهت وحار حيرة عظيمة.
فقلت له: أما تعرف في صحيحي البخاري ومسلم في مسند جابر بن
سمرة وغيره: أن النبي صلى الله عليه وآله قال في عدة أحاديث: (لا يزال
هذا الدين عزيزا ما ولاهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) وفي بعض
أحاديثه عليه وآله السلام من الصحيحين: (لا يزال أمر الناس ماضيا ما
ولاهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) وأمثال هذه الألفاظ كلها تتضمن
هذا العدد الاثني عشر فهل تعرف في الاسلام فرقة تعتقد هذا العدد غير
الامامية الاثني عشرية، فإن كانت هذه الأحاديث صحيحة كما شرطت على
نفسك في تصحيح ما نقله البخاري ومسل فهذه مصححة لعقيدة الامامية
وشاهدة بصدق ما رواه سلفهم، وإن كنت كذبا بلاي حال رويتموها في
صحاحكم؟
فقال: ما أصنع بما رواه البخاري ومسلم من تذكية أبي بكر وعمر وعثمان
وتزكية من تابعهم؟
فقلت له: أنت تعرف أني شرطت عليك أن لا تحتج علي بما ينفرده به
أصحابك، وأنت أعرف أن الانسان ولو كان من أعظم أهل العدالة وشهد
لنفسه بدرهم وما دونه ما قبلت شهادته، ولو شهد في الحال على أعظم أهل
العدالة بمهما شهد من الأمور مما يقبل فيه شهادة أمثاله قبلت شهادته.
والخباري ومسلم يعتقدان إمامة هؤلاء القوم، فشهادتهم لهم شهادة
بعقيدة نفوسهم ونصرة لرياستهم ومنزلتهم.
415

فقال: والله ما بيني وبين الحق عداوة، ما هذا إلا واضح لا شبهة فيه، وأنا
أتوب إلى الله تعالى بما (1) كنت عليه من الاعتقاد.
فلما فرغ من شروط التوبة إذا رجل من ورائي قد أكب على يدي يقبلها
ويبكي. فقلت: من أنت؟
فقال: ما عليك اسمي، فاجتهدت به حتى قلت له: فأنت الان صديق أو
صاحب حق، فكيف يحسن لي أن لا أعرف صديقي وصاحب حق علي
لاكافيه، فامتنع من تعريفي اسمه، فسألت الفقيه الذي من المستنصرية،
فقال: هذا فلان بن فلان من فقهاء النظامية، سهوت عن اسمه الان (2).
(939)
ابن طاووس والفاضل المتعلم
وقد كان لنا صديق فاضل من المتعلمين بعلم الكلام - رحمه الله ورضي
عنه - يحضر عندنا ونحدثه ونعرفه أن طرق المعرفة بالله جل جلاله بحسب
معلوماته ومقدوراته على الأنام، ولا ينحصر عددها بالافهام.
فتعجب لأجل ما قد ألفه من أن معرفة الله جل جلاله لا طريق إليها إلا
بنظر العبد.
فقلت له يوما: ما تقول في عيسى بن مريم عليه السلام لما قال في المهد:
(إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا) كانت معرفته بالله جل جلاله في
مهده بنظره؟ فتحير وعجز عن الجواب.
وقلت له يوما: ما تقول في الناظر في معرفة الله جل جلاله، أما أن يكون في
أول نظره شاكا في الله عز وجل؟ قال: بلى.

(1) هكذا في المصدر والظاهر أنه (مما).
(2) كشف المحجة: ص 75 - 80.
416

قلت: أفتقول: ان النبي محمدا صلى الله عليه وآله ووصيه عليا عليه
السلام مضى عليهما زمان شك في الله جل جلاله؟ فقال: غلبتني، ما أقدر
أقول هذا وهو خلاف المعلوم من حالهما.
فقلت له: وأقول زيادة: هب أنك توقفت عن موافقتي لأجل اتباع عادتك
أما تعلم أن العقل الذي هو النور الكاشف عن المعارف ما هو من كسبك ولا
من قدرتك، وأن الآثار التي تنظر إليها ما هي من نظرتك، وأن العين التي تنظر
بها ما هي من خلقتك، وأن البقاء الذي تسعى فيه لنظرك، وكل ما أعانك على
نظرك ما هو من تدبيرك، ولا من مقدورك وأنه من الله جل شأنه؟
قال: بلى، ثم قال: ولكن متى؟ قلت: إن المعرفة بالله جل جلاله لا تكون
بنظر العبد ما يبقى له عليها ثواب.
فقلت: وإذا كانت المعرفة بالله جل جلاله بنظر العبد فيلزم أيضا أنه لا
ثواب عليها. فاستعظم ذلك، وقال: كيف؟
فقلت له ما معناه: لأنك قبل أن تعرفه، وشرعت تنظر في المعرفة بنظرك في
الجواهر والأجسام والاعراض، ما تدري نظرك هل يفضي إلى الاقبال على
تصديق المعرفة أو الادبار عنها والاعراض؟ فلا تكون قاصدا بنظرك التقرب إلى
الله جل جلاله لأنك ما تعرفه، وإنما تعرفه على قولك في آخر جزء من أجزاء
نظرك، وقد فات نظرك كله بغير معرفة وغير ثواب.
فانقطع عن الجواب (1).
(940)
ابن طاووس وبعض أهل الخلاف
ولقد جمعني وبعض أهل الخلاف مجلس منفرد فقلت لهم: ما الذي
تأخذون على الامامية عرفوني به بيغر تقية لاذكر ما عندي، وفيه غلقنا باب

(1) كشف المحجة: ص 13 - 14.
417

الموضع الذي كنا ساكنيه.
فقالوا: نأخذ تعرضهم بالصحابة، ونأخذ عليهم القول بالرجعة والقول
بالمتعة، ونأخذ عليهم حديث المهدي وأنه حي مع تطاول زمان غيبته.
فقلت لهم: أما ما ذكرتم من تعرض من أشترتم إليه بذم بعض الصحابة
فأنتم تعلمون أن كثيرا من الصحابة استحل بعضهم دماء بعض في حرب طلحة
والزبير وعائشة لمولانا علي عليه السلام وفي حرب معاوية له أيضا، واستباحوا
أعراض بعضهم لبعض حتى لعن بعضهم بعضا على منابر الاسلام، فأولئك هم
الذين طرقوا سبيل الناس للطعن عليهم، وبهم اقتدى من ذمهم ونسب القبيح
إليهم، فإن كان لهم عذر في الذي عملوه من استحلال الدماء وإباحة
الاعراض، فالذين اقتدوا بهم أعذر وأبعد من أن تنسبوهم إلى سوء التعصب
والاعراض. فوافقوا على ذلك.
وقلت لهم: وأما حديث ما أخذتم عليه من القول بالرجعة فأنتم ترون أن
النبي صلى الله عليه وآله قال: إنه يجري في أمته ما جرى في الأمم السابقة
وهذا القرآن يتضمن: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر
الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) فشهد جل جلاله أنه قد أحيا الموتى في
الدنيا وهي رجعة، فينبغي أن يكون في هذه الأمة مثل ذلك. فوافقوا على ذلك.
فقلت لهم: وأما أخذكم عليهم القول بالمتعة فأنتم أحوجتم الشيعة إلى صحة
الحكم بها، لأنكم رويتم في صحاحكم عن جابر بن عبد الله الأنصاري
وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وسلمة بن الأكوع وعمران بن الحصين
وأنس بن مالك، وهم من أعيان الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وآله
مات ولم يحرمها، فلما رأت الشيعة أن رجالكم وصحاح كتبكم قد صدقت
رجالهم ورواتهم أخذوا بالمجمع عليه وتركوا ما انفردتم به. فوافقوا على ذلك.
وقلت لهم: وأما ما أخذتم عليهم من طول غيبة المهدي عليه السلام فأنتم
418

تعلمون أنه لو حضر رجل وقال: أنا أمشي على الماء ببغداد فإنه يجتمع لمشاهدته
لعل من يقدر على ذلك منهم، فإذا مشى على الماء وتعجب الناس منه، فجاء
آخر قبل أن يتفرقوا وقال أيضا: انا أمشي على الماء، فإن التعجب منه يكون أقل
من ذلك، فمشى على الماء فإن بعض الحاضرين ربما يتفرقون ويقل تعجبهم،
فإذا جاء ثالث وقال: أنا أيضا أمشى على الماء، فربما لا يقف للنظر إليه إلا
قليل، فإذا مشى على الماء سقط التعجب من ذلك، فإن جاء رابع وذكر أنه
يمشي أيضا على الماء فربما لا يبقى أحد ينظر إليه ولا يتعجب منه.
وهذه حالة المهدي عليه السلام، لأنكم رويتم أن إدريس حي موجود في
السماء منذ زمانه إلى الان، ورويتم أن الخضر حي موجود مذ زمان موسى عليه
السلام أو قبله إلى الان، ورويتم أن عيسى حي موجود في السماء وأنه يرجع
إلى الأرض مع المهدي عليه السلام، فهذه (1) ثلاثة نفر من البشر قد طالت
أعمارهم وسقط التعجب بهم من طول أعمارهم.
فهلا كان لمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وآله أسوة بواحد
منهم أن يكون من عترته آية الله جل جلاله في أمته بطول عمر واحد من ذريته
فقد ذكرتم ورويتم في صفته: أنه يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت جورا
وظلما، ولو فكرتم لعرفتم أن تصديقكم وشهادتكم أنه يملأ الأرض بالعدل
شرقا وغربا وبعدا وقربا أعجب من طول بقائه وأقرب إلى أن يكون ملحوظا
بكرامات الله جل جلاله لأوليائه، وقد شهدتم أيضا له: أن عيسى بن مريم
النبي المعظم عليهما السلام يصلي خلفه مقتديا به في صلاته وتبعا له ومنصورا
به في حروبه وغزواته، وهذا أيضا مقاما مما استبعد تموه من طول حياته.
فوافقوا على ذلك. وفي حكاية الكلام زيادة فاطلب من الطرائف

(1) كذا في المصدر.
419

وغيرها (1).
(941)
ابن طاووس ومن ينسب إلى العلم
وأحدثك يا ولدي بجواب جرى لي مع من ينسب إلى العلم، فإنه حضر
عندي يوما وأنا جالس على تراب أرض بستان فقال: كيف أنت؟
فقلت له: كيف يكون من على رأسه جنازة ميت وعلى أكتافه جنازة ميت
وعلى سائر جسمه أموات محيطون به، وفي رجليه جسد ميت وحوله أموات من
سائر جهاته وبعض جسده قد مات قبل ممات جسده. فقال: كيف هذا فما
أرى عندك ميتا؟
فقلت له: ألست تعلم أن عمامتي من كتان وقد كان حيا لما كان أخضر
نباتا في الأرض فيبس ومات، وهذه صدرتي من قطن حي أخضر فيبس أيضا
ومات، وهذه لا لجتي قد كانت من حيوان فمات، وهذا حولي نبات قد كان
أخضر فيبس ومات، وهذا البياض في شعر رأسي وشعر وجهي قد كان حيا
بسواده فلما صار أبيض فقد مات، وكل جارحة لا استعملها فيما خلقت له من
الطاعات فقد صارت في حكم الأموات.
فتعجب من هذه العظة وصحيح المقالات، فليكن على خطرك يا ولدي
أمثال هذه العظات (2).
(942)
ابن عباس ورجل
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال سعيد: جاء رجل فقال:

(1) كشف المحجة: ص 54 - 56.
(2) كشف المحجة: ص 97 - 98.
420

يا ابن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي فقد وقع ذلك في
صدري.
فقال ابن عباس: أتكذيب؟ فقال: ما تكذيب ولكن اختلاف.
قال: فهلم ما وقع في نفسك.
قال له الرجل: اسمع الله عز وجل يقول: (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا
يتساءلون) (1) وقال في آية أخرى: (واقبل بعضهم على بعض يتساءلون) (2)
وقال في آية أخرى: (ولا يكتمون الله حديثا) (3) وقال في آية أخرى: (والله
ربنا ما كنا مشركين) (4) فقد كتموا في هذه الآية وفي قوله: (أم السماء بناها
رفع سمكها فسواها و أغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك
دحاها) (5) فذكر في هذه الآية خلق السماء قبل الأرض ثم قال في هذه الآية
الأخرى: (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون لله أندادا
ذلك رب العالمين) (6) وقال: (وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين)
- إلى آخر الآية قوله - طائعين) (7) فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء.
وقوله: وكان الله غفورا رحيما) (8) و (كان الله عزيزا حكيما) (9) و (كان
الله سميعا بصيرا) (10) فكأنه كان ثم مضى. قال ابن عباس: هات ما وقع في نفسك من هذا.
قال السائل: إذا أنت أنبأتني بهذا فحسبي.
قال ابن عباس: قوله (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) فهذا في

(1) المؤمنون: 101.
(2) الصافات: 27.
(3) النساء 42.
(4) الانعام: 23.
(5) النازعات: 27 و 28 و 29 و 30.
(6) فصلت: 9.
(7) فصلت: 10 / 11.
(8) النساء: 96 و 99 و 152.
(9) النساء: 158 و 165.
(10) النساء 134.
421

النفخة الأولى (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من
شاء الله (1) فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون. ثم إذا كان في النفخة
الأخرى قاموا فاقبل بعضهم على بعضهم يتساءلون.
وأما قوله عز وجل: (ربنا ما كنا مشركين) وقوله عز وجل: (ولا
يكتمون الله حديثا) فإن الله عز وجل يغفر يوم القيامة لأهل الاخلاص
ذنوبهم ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره ولا يغفر الشرك، فلما رأى المشركون
ذلك قالوا: إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك فتعالوا نقول: إنما كنا أهل
ذنوب ولم نكن من المشركين، فقال الله عز وجل: إذا كتمتم الشرك فاختموا على أفواهم، فيختم على أفواههم وتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا
يكسبون، فعند ذلك عرف المشركون أن الله عز وجل لا يكتم حديثا فعند ذلك
قوله عز وجل: يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا
يكتمون الله حديثا).
واما قوله: (السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها
والأرض بعد ذلك دحاها) فإنه خلق الأرض في يومين قبل السماء ثم استوى
إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم نزل إلى الأرض فدحاها، ودحيها أن
أخرج منها الماء والمرعى وشق فيها الأنهار وجعل السبل وخلق الجبال والرمال
والأكوام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله: (والأرض بعد ذلك
دحاها).
وقوله: (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا
ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في
أربعة أيام سواء للسائلين) فجعل الأرض وما فيها من شئ في أربعة أيام

(1) الزمر: 68.
422

وجعلت السماوات في يومين.
وأما قوله: (وكان الله غفورا رحيما) و (كان الله عزيزا حكيما) و (كان
الله سميعا بصيرا) فإن الله عز وجل جعل نفسه ذلك سمى نفسه ذلك ولم
يجعله غيره فذلك قوله: (وكان الله) أي لم يزل كذلك. قال ابن عباس للرجل:
احفظ عني ما حدثتك واعلم أن ما اختلف عليك في القرآن أشباه ما حدثتك
وأن الله عز وجل لم يترك شيئا إلا أصاب الذي أراد به، ولكن الناس
لا يعلمون فلا يختلفن عليك القرآن، فإن كلا من عند الله عز وجل (1).
(943)
ابن عباس ويزيد
حدثنا عبد الوهاب بن الضحاك قا: حدثنا عيسى بن يونس عن
الأعمش عن شقيق بن سلمة قال:
لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب ثار عبد الله بن الزبير، فدعا ابن
عباس إلى بيعته، فامتنع ابن عباس وظن يزيد بن معاوية أن امتناع ابن عباس
تمسكا منه ببيعته فكتب إليه:
أما بعد فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته والدخول في طاعته
لتكون له على الباطل ظهيرا وفي المأثم شريكا وإنك اعتضمت ببيعتنا وفاء
منك لنا وطاعة لله عز وجل لما عرفك من حقنا فجزاك الله عن (2) ذي رحم
خير ما يجزي الواصلين أرحامهم (3) الموفين بعهودهم فما أنس من الأشياء فلست
بناس برك وتعجيل صلتك بالذي أنت له أهل من القرابة من الرسول، فانظر
من طلع عليك من الآفاق ممن سحرهم ابن الزبير بلسانه وزخرف قوله فأعلمهم

(1) المعرفة والتاريخ (تأليف أبي يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي المتوفى سنة 277): ج 1 / 527.
(2) في المقتل.
(3) في المقتل: بأرحامهم.
423

رأيك (1) فإنهم منك أسمع ولك أطوع منهم للمخل المجرم المارق (2).
فكتب إليه ابن عباس: أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر دعاء ابن الزبير
إياي إلى بيعته والدخول في طاعته فإن يك ذلك كذلك فإني والله ما أرجو
بذلك برك ولا حمدك، ولكن الله عز وجل بالذي أنوي به عليم، وزعمت
أنك غير ناس بري وتعجيل صلتي.
فاحبس أيها الانسان برك وتعجيل صلتك فإني حابس عنك ودي
فعلعمري ما تؤتينا مما لنا قبلك من حقنا إلا اليسير، وإنك لتحبس منه
العريض الطويل.
وسألت أن أحث الناس عليك وأن اخذ لهم عن ابن الزبير فلا ولا سرورا
ولا حبا، إنك تسألني نصرتك وتحثني على ودك وقد قتلت حسينا - رضي الله
عنه - وفتيان عبد المطلب مصابيح الهدى (3) ونجوم الاعلام (4) غادرتهم خيولك
بأمرك في صعيد واحد مزلين بالدماء مسلوبين بالعراء لا مكفنين ولا موسدين،
تسفوا عليهم الرياح، وتناتبهم عرج الضباع حتى أتاح الله عز وجل لهم
بقوم (5) لم يشركوا في دمائهم كفنوهم واجنوهم وبي وبهم والله غررت (6)
وجلست مجلسك الذين جلست.
فما أنسى من الأشياء فلست بناس اطرادك حسينا - رضي الله عنه - من
حرم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى حرم الله عز وجل، وتسييرك إليه
الرجال لقتله في الحرم (7) فما زلت بذلك وعلى ذلك حتى أشخصته من مكة
إلى العراق، فخرج خائفا يترقب فتزلزت (8) به خيلك عداوة منك لله عز وجل

(1) في المقتل: برأيك.
(2) في المقتل: ولك أطوع من المحل للجرم المارق.
(3) في المقتل: الدجى.
(4) في المقتل: الهدى.
(5) في المقتل: بقوم.
(6) في المقتل: عززت.
(7) في المقتل: في حرم الله.
(8) في المقتل: فزلزت.
424

ولرسوله ولأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا أولئك
لا كآبائك الجلاف الجفاة (1) أكباد الحمير، فطلب إليكم (2) الموادعة
وسألكم الرجعة فاغتنمتم قلة أنصاره واستئصال أهل بيته فتعاونتم عليه كأنكم
قتلتم أهل بيت من الترك، فلا شئ أعجب عندي من طلبتك ودي وقد قتلت
ولداي (3) وسيفك يقطر من دمي وأنت آخذ ثأري (4) فإن شاء الله لا يطل
لديك دمي ولا تسبقني بثأري وإن سبقتني في الدنيا فقبل ذلك ما قتل النبيون
وإن النبيين (5) فيطلب (6) الله عز وجل بدمائهم، فكفى بالله عز وجل
للمظلومين ناصرا ومن الظالمين منتقما، فلا يعجبنك (7 إن ظفرت بنا اليوم
فنظرن بك يوما.
وذكرت وفائي وما عرفتني من حقك فان يك ذلك كذلك فقد والله
بايعتك ومن قبلك (8) وأنك لتعلم أبي (9) وولد أبي أحق بهذا الامر منكم،
ولكنكم معشر قريش كاثر تمونا (10) حتى دفعتمونا عن حقنا، ووليتم الامر دوننا
فبعدا لمن تجرأ ظلما (11) واستغوى السفهاء علينا كما بعدت ثمود وقوم لوط

(1) في المقتل: الجفاة الاجلاف.
(2) في المقتل: فطلب إليكم.
(3) في المقتل: وقد قتلت ولد أبي.
(4) في المقتل: وأنت أحد ثأري.
(5) في المقتل: وآل النبيين. هو الصحيح.
(6) في المقتل: فطلب الله عز وجل.
(7) في المقتل: فلا يعجبك.
(8) في المقتل: وأياك من قبلك.
(9) في المقتل: وأنك لتعلم أني وولد أبي أحق بهذا الامر منك ومن أبيك.
(10) في المقتل: كابرتمونا.
(11) في المقتل: لمن تحرى ظلمنا.
425

وأصحاب مدين.
ألا وإن من أعجب الأعاجيب - وما عسى أن أعجب - حملك بنات
عبد المطلب وأطفالا صغارا من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوبين ترى
الناس أنك قد قهرتنا، وأنك تمن علينا، وبنا من الله عز وجل عليك
ولعمر الله لئن كنت تصبح آمنا من جراحة يدي إني لأرجو ا أن يعظم الله
عز وجل جرحك من لساني ونقضي وإبرامي.
والله ما أنا بآيس من بعد قتلك ولد رسول الله صلى الله عليه وآله أن
يأخذك أليما، ويخرجك من الدنيا مذموما مدحورا، فعش لا أبا لك ما
استطعت، فقد والله ازددت عند الله أضعافا واقترفت مأثما، والسلام على من
اتبع الهدى (1).
صورة أخرى من الكتاب على نقل اليعقوبي
كتاب يزيد إلى ابن عباس:
أما بعد فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته وعرض عليك
الدخلو في طاعته لتكون على الباطل ظهيرا وفي المأثم شريكا وأنك امتنعت
عليه واعتصمت ببيعتنا وفاء منك لنا وطاعة لله فيما عرفك من حقنا فجزاك
الله من ذي رحم بأحسن ما يجزي به الواصلين لأرحامهم فإني ما أنس من
الأشياء فلست بناس برك وحسن جزائك وتعجيل صلبك بالذي أنت مني
أهله في الشرف والطاعة والقرابة برسول الله، فانظر رحمك الله فيمن قبلك من

(1) المعرفة والتاريخ: ج 1 / 531، وراجع اليعقوبي: ج 2 / 234 وتذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي:
(عن الواقدي وهشام وابن إسحاق) ومقتل الحسين للخوارزمي: ج 2 / 77 بين نقل الرواة اختلاف
ونحن أخرجناه من المعرفة والتاريخ وقابلناه مع مقتل الحسين عليه السلام. وراجع المعجم الكبير
للطبراني: ج 10 / 297.
426

قومك ومن يطرأ عليك من الآفاق ممن يسحره الملحد بلسانه وزخرف قوله،
فأعلمهم حسن رأيك في طاعتي والتمسك ببيعتي فإنهم لك أطوع ومنك أسمع
منهم للمحل الملحد، والسلام.
كتاب ابن عباس إلى يزيد:
فكتب إليه فكتب إليه عبد الله بن عباس: من عبد الله بن عباس إلى يزيد بنب معاوية
أما بعد فقد بلغني كتابك بذكر دعاء ابن الزبير إياي إلى نفسه وامتناعي عليه
في الذي دعاني إليه من بيعته فإن يك ذلك كما بلغك فلست حمدك أردت
ولاودك، ولكن الله بالذي أنوي عليم، وزعمت أنك لست بناس ودي فلعمري
ما تؤتينا مما في يديك منم حقنا إلا القليل وإنك لتحبس عنا منه العريض
الطويل، وسألتني أن أحث الناس عليك وآخذ لهم عن ابن الزبير فلا
ولا سرورا ولا حبورا وأنت قتلت الحسين بن علي بفيك الكثكث ولك الأثلب
إنك إن تمنيك نفسك لعازب الرأي وإنك لانت المفند المهور، لا تحسبني لا أبا
لك نسيت قتلك حسينا وفتيان بني عبد المطلب مصابيح الدجى ونجوم الاعلام
غادرهم جنودكم مصرعين في الصعيد مرملين بالتراب مسلوبين بالعراء
لا مكفنين، تسفى عليم الرياح وتعاورهم الذئاب وتناتبهم عرج الضباع حتى
أتاح الله لهم أقواما لم يشتركوا في دمائهم فأجنوهم في أكفانهم، وبي ه والله وبهم
عززت وجلست مجلسك الذي جلست يا يزيد.
وما أنس من الأشياء فلست بناس تسليطك عليهم الدعي العاهر ابن
العاهر البعيد رحما اللئيم أبا واما، الذي في ادعاء أيك إياه ما اكتسب أبوك به
إلا العار والخزي والمذلة في الآخرة والأولى وفي الممات والمحيا، إن نبي الله
صلى الله عليه وآله قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فألحقه بأبيه كما
يلحق بالعفيف النقي ولده الرشيد، وقد أمات أبوك السنة جهلا وأحيا البدع
427

والاحداث المضلة عمدا.
وما أنس من الأشياء فلست بناس اطرادك الحسين بن علي من حرم
رسول الله صلى الله عليه وآله إلى حرم الله ودسك إليه
الرجال تغتاله،
فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفا يترقب وقد كان أعز أهل
البطحاء بالبطحاء قديما وأعز أهلها به حديثا وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو
تبوأ بها مقاما واستحل بها قتالا، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحل حرمة
البيت وحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله فأكبر من ذلك ما لم تكبر حيث
دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم وما لم يكبر ابن الزبير حيث ألحد
بالبيت الحرام (وعرضه للعاثر واد العالم (1) وأنت لانت المستحل فيما أظن بل لا
أشك فيه أنك للمحرق العريف، فإنك حلف نسوة صاحب ملاهي، فلما رأى
سوء رأيك شخص إلى العراق ولم يبتغك ضرابا وكان أمر الله قدرا مقدورا.
ثم إنك الكاتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسينا بالرجال وأمر بمعاجلته
وترك مطاولته والالحاح عليه حتى يقتله ومن معه من بني عبد المطلب أهل
البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فنحن أولئك لسنا
كآبائك الاجلاف الجفاة الأكباد الحمير.
ثم طلب الحسين بن علي إليه الموادعة، وسألهم الرجعة فاغتنمتم قلة أنصاره
واستئصال أهل بيته فعدوتم عليهم فقتلتموهم كأنما قتلتم أهل بيت من الترك
والكفر، فلا شئ عندي أعجب من طلبك ودي ونصري، وقد قتلت بني أبي
وسيفك يقطر من دمي وأنت أحد ثأري، فإن ى 2 شأ الله لا يطل لديك دمي
ولا تسبقني بثأري وأن سبقتني به في الدنيا فقبلنا ما قبل النبيون وآل النبيين،
وكان الله الموعد وكفى به للمظلومين ناصرا ومن الظالمين منتقما، فلا يعجبنك إن

(1) كذا في المصدر.
428

ظفرت بنا اليوم، فوالله لنظفرن بك يوما، فاما ذكرت من وفائي وما زعمت من
حقي فإن يكن ذلك كذلك فقد والله بايعت أباك وإني لاعلم أن بني عمي
وجميع بني أبي أحق بهذا الامر من أبيك، ولكنكم معاشر قريش كاثرتمونا
فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقنا، فبعدا على من اجترأ على ظلمنا
واستغوى السفهاء علينا وتولى الامر دوننا، فبعدا، لهم كما بعدت ثمود وقوم لوط
وأصحاب مدين ومكذبوا المرسلين.
ألا ومن أعجب الأعاجيب وما عشت أراك الدهر العجيب حملك بنات
عبد المطلب وغلمة صغارا من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب، ترى الناس
إنك قهرتنا وإنك تأمرت علينا، ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي آمنا لجرح
يدي إني لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي فلا يستغفر بك
الجذل ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله صلى الله عليه وآله إلا قليلا
حتى يأخذك الله أخذا أليما فيخرجك الله من الدنيا ذميما أثيما، فعش لا أبا
لك فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت، والسلام على من أطاع الله.
(944)
مناظرة بين الغروي والهروي
حضرت اليوم (يوم الأربعاء الخامس من ذي الحجة من السنة الخامسة
وأربعمائة وألف) عند السيد العالم المتتبع الفاضل السيد جعفر مرتضى العاملي
- دامت إفاضاته - وتكلم هو فيما كتبت من المواقف، ثم سألني وقال: نقلت في
كتابك هذا مناظرة الغروي والهروي؟ قلت: لا، فأعطاني هذا الكتاب المشتمل
على المناظرة، فأنا أنقل هنا ما في هذا الكتاب بتمامه:
قال: سألتني أطال الله بقاءك عما كان بيني وبين الهروي في بلاد
خراسان نم المجادلات في المذهب وما ألزمته به من الحجج.
فاعلم أني كنت في سنة ثمان وسبعين وثمانمائة مجاورا بمشهد الرضا عليه
429

السلام وكان منزلي بمنزل السيد الاجل والكهف الاظل السيد محسن بن محمد
الرضوي القمي، وكان من أعيان المشهد وسراتهم بارزا على أقرانه بالعلم
والعمل، وكان هو وجماعة يشتغلون معي في علم الكلام والفقه.
فأقمنا على ذلك مدة، فورد علينا من الهراة خال السيد محسن: وكان مهاجرا
فيها لتحصيل العلم فقال: إن السبب في ورودي عليكم ما ظهر عندنا في الهراة
من شهرة هذا الشيخ الغروي المجاور في المشهد وظهور فضله في العلم والأدب
فقدمت لاستفيد من علومه وخلفي رجل من أهل كيش ومكران كان من مدة
عشرين سنة متوطنا في الهراة مصاحبا لعلمائها يطلب فنون العلم، وقد صار
الان مبرزا في كثير من الفنون كالصرف والنحو المنطق والمعاني والبيان وعلم
الكلام والأصول والفقه وغير ذلك وهو عامي المذهب، وله مجادلات مع أهل
المذاهب وقوة الزام للخصوم في الجدل، وقد سمع بذك هذا الشيخ الغروي
فجاء بقصد زيارة الإمام الرضا عليه السلام وقصد ملاقاة هذا الشيخ للجدال
معه، وها هو على الأثر يقدم غدا أو بعد غد فما أنتم قائلون؟
فذاكرني السيد بما قاله خاله مستطلعا رأيي في ذلك وقال: إذا قدم هذا
الرجل فلا بد أن يكون ضيفا لنا، لأنه جاء مع خالي وخالي ضيف، ولا يحسن
منا أن نضيف أحد المتصاحبين ونترك الاخر وإذا وجد في الضيافة التقى معك
وتحصل المجادلة بينكما، لأنه ما أتى ألا لهذا الغرض، فما أنت قائل؟ أتحب
ملاقاته أم لا فنحتال عليه ونرده عنا؟
430

إليها كافة طلبة العلم وجماعة من الاشراف والسادات، فحصلت بيني وبينه
الملاقاة في منزل السيد وجرت بيننا المجادلة في ثلاث مجالس، وها أنا أذكرها
على الترتيب كما وقعت:
المجلس الأول: في منزل السيد يوم الضيافة بحضور الطلبة والاشراف فكان
أول ما تكلم به معي بعد التحية أن قال:
ما اسمك أيها الشيخ؟ فقلت: محمد.
فقال: من أي بلاد؟ فقلت: من بلاد هجر المشهورة بالأحساء بلاد العلم
والدين.
فقال: وما مذهبك؟
فقلت: تسألني عن مذهبي في الأصول أم الفروع؟
فقال: عن كليهما. فقلت: أما مذهبي في الأصول فما قام لي عليه الدليل
وصح عندي بالبرهان، وأما الفروع: فلي فقه منسوب لأهل البيت عليهم
السلام.
فقال: إذن أنت إمامي المذهب. فقلت: نعم.
فقال: إن الامامية يقولون: إن علي بن أبي طالب امام بعد رسول الله بلا
فصل فقلت: نعم وأنا كذلك أقول.
فقال: أقم البينة على هذه الدعوى. فقلت: أنا لا أحتاج إلى بينة ولا دليل
على هذه الدعوى.
فقال: ولم؟ فقلت: لأنك لأنك لا تنكر إمامة علي أصلا فأنا وأنا متفقان على
إمامته ولا نزاع بيننا حتى أحتاج البينة، ولكن أنت تدعي الواسطة بين
الرسول عليه السلام وبين وصيه علي عليه السلام وأنا أنفي الواسطة، فأنا
ناف وأنت مثبت، والدليل أنما يطلب من المثبت لا من النافي، فإقامة الدليل
عليك أيها الشيخ الفاضل لا علي، اللهم إلا أن تنكر إمامة علي أصلا ورأسا
431

فتخرق الاجماع، ويلزمني حينئذ إقامة الدليل.
فقال: أعوذ بالله أنا لا انكر إمامته ولكن أقول: إنه الرابع بعد ثلاثة قبله.
فقلت: إذن أنت المحتاج إلى إقامة الدليل على صحة دعواك، لأني لا
أوافقك على إثبات هذه الوسائط التي تدعيها، فضحك الاشراف والحاضرون
من الطلبة وقالوا: إن الغروي لمصيب والحق أحق بالاتباع لأنك أنت المدعي
وهو المنكر، فأقم الدليل على مدعاك، لان البينة على المدعى.
فلما لزمته الحجة قال: الأدلة على مدعاي كثيرة.
فقلت: لا أريد منك إلا دليلا واحدا.
فقال: دليلي الاجماع من الأمة على إمامة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله
عليه وآله بلا فصل، وأنت لا تنكر حجية الاجماع.
فقلت: نعم أنا لا أنكر حجية الاجماع ولكن ما تريد بالاجماع؟ الاجماع
الحاصل من كثرة القائلين بإمامة أبي بكر في هذا الوقت أم الاجماع الحاصل من
أهل الحل والعقد يوم وفاة الرسول عليه السلام؟
فإن أردت الأول وهو كثرة القائلين اليوم بإمامة أبي بكر فلا حجة فيه، لأنه
ليس بإجماع، لان المخالف موجود والكثرة لا حجة فيها ولا مزية لها لأنا رأينا
الكثرة في كتاب الله مذمومة، قال تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من
أمر بصدقة أو معروف) (1) وقال تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (2)
(ولكن أكثر الناس لا يشكرون) (3) (بل أكثرهم لا يؤمنون) (4) (ولكن
أكثرهم يجهلون) (5) (وأكثرهم فاسقون) (6) ورأينا القلة ممدوحة في كتاب

(1) النساء: 114.
(2) الأعراف: 187.
(3) البقرة: 243، غافر: 61.
(4) البقرة: 100.
(5) الانعام: 111.
(6) التوبة: 8.
432

الله: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) (1) (وقليل من عبادي
الشكور) (2) (وما آمن معه إلا قليل) (3).
بل رأينا القلة ممدوحة في الحرب قال تعالى: (وكم من فئة قليلة غلبت فئة
كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) (4).
وإن أردت الثاني: وهو إجماع أهل الحل والعقد في يوم وفاة الرسول صلى
الله عليه وآله فلي في إبطاله طريقتان: طريقة على مذهبي ولا تلزمك، وطريقة
على مذهبك تبطل لك الاجماع المدعى إلزاما.
أما الطريقة الأولى في إبطال هذا الاجماع: فهي أن الاجماع عندنا إنما يكون
حجة إذا دخل المعصوم في جملة المجمعين، فكل أجماع لا يكون فيه معصوم
لا حجة فيه لجواز الخطأ على كل واحد فكذا على الكل، لأنه مركب من الآحاد
وأنت لا تقول بدخول المعصوم في هذا الاجماع الذي تدعيه فلا يكون عندنا
صحيحا.
وأما الطريقة الثانية التي تبطل الاجماع على مذهبك فهي: ان الاجماع هو
اتفاق أهل الحل والعقد على أمر من الأمور وهذا المعنى لم يحصل لأبي بكر يوم
السقيفة، لان فضلاء الصحابة وزهادهم وعلماءهم وذوي القدر منهم وأهل
الحل والعقد كانوا غائبين عن السقيفة بالاتفاق كعلي والعباس وابنه عبد الله
والزبير والمقداد وعمار وأبي ذر وسلمان وجماعة من بني هاشم وغيرهم من
الصحابة، لأنهم كانوا مشغولين بمصيبة النبي صلى الله عليه وآله، وكان علي
والعباس مشتغلين بتجهيزه صلوات الله عليه وآله، فرأى الأنصار فرصة

(1) ص: 24.
(2) سبأ: 13.
(3) هود: 40.
(4) البقرة: 249.
433

باشتغال بني هاشم فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لاجالة الرأي، فعلم أبو بكر
وعمر وأبو عبيدة وجماعة من الطلقاء باجتماع الأنصار في السقيفة واختلافهم في
أمر الإمامة فحضروا معهم في السقيفة، وجرت بينهم المجادلات والمخاصمات في
الخلافة حتى قال الأنصار: منا أمير، فغلبهم أبو بكر بحديث رواه لهم
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: الخلافة في قريش، فخصم الأنصار
بذلك، فقام عمر وأبو عبيدة فسبقا الأنصار بالبيعة وصفقا على يد أبي بكر وقالا:
السلام عليك يا خليفة المسلمين، فحصلت البيعة لأبي بكر في السقيفة بالخديعة
والحيلة والعجلة والغلبة والقهر للمسلمين، ويشهد لذلك ما اشتهر عن عمر أنه
قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد لمثلها فاقتلوه،
فأين الاجماع المدعى حصوله وقد عرفت أن فضلاء الصحابة وزهادهم وذوي
القدر منهم من المهاجرين والأنصار لم يحضروا معهم ولم يبايعوا ولا استطلعوا
رأيهم؟ فهل يصح من هؤلاء الادنين الذين أكثرهم طلقاء ومنافقين ومؤلفة أن
يعقدوا الخلافة التي هي قائمة مقام النبوة بغير حضور أولئك المشهورين بالعلم
والفضل والشرف والزهد مع أن الاجماع لا ينعقد عند الكل إلا باتفاق أهل
الحل والعقد، فدعوى الاجماع على خلافة أبي بكر بعيدة.
فقال: ما ذكرت، مسلم، ولكن من ذكرت من الصحابة وغيرهم بعد ذلك
بايعوا ورضوا وحصل الاجماع بعد ذلك من الكل بحيث لم يبق أحد مخالف
فحصل الاتفاق من أهل الحل والعقد وإن لم يكن اتفاقهم دفعة في آن واحد
فإن ذلك غير شرط في الاجماع.
فقلت: إن اتفاقهم وحصول رضاهم بعد ذلك كما زعمت لا يقوم حجة
لتطرق الاحتمال فيه بالاجبار والاكراه والتقية، فإنهم لما رأوا العامة والرعاع
الذين يميلون مع كل ناعق، ولا يستيئون بنور العلم قد استمالهم هذا الرجل
وخدعهم، وصاروا اتباعا له وقلدوه أمورهم بل قلدوا كبراءهم في اتباعه لم
434

يكن لهؤلاء الباقين المخالفة لهؤلاء العوام، وخافوا على أنفسهم القتل إن خالفوا
فانقادوا كرها، فلا يكون انقيادهم الحاصل بالاكراه مصححا للاجماع بل هو
دليل على عدم صحة الاجماع.
فقال: من أين عرفت ذلك منهم حتى يكون قولك هذا حقا.
قلت: قد تقرر في علم الميزان: أن الدليل إذا قام عليه الاحتمال بطل منه
الاستدلال، واحتمال الاكراه في هذا الاجماع قد حصل فيكون باطلا مع أنه قد
ظهرت أمارات الاكراه في روايات كثيرة، وها أنا أورد لك بعضها: فمنها ما رواه
ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة مع أنه عامي المذهب، قال في باب فضائل
عمر: هو الذي وطأ الامر لأبي بكر وقام فيه حتى دفع في صدر المقداد وكسر
سيف الزبير، وقد كان شهره عليهم، وهذا غاية الاكراه. ومنها ما رواه أيضا عن
البراء بن عازب قال: لم أزل محبا لأهل البيت - عليهم السلام - ولما مات النبي
- صلى الله عليه وآله - أخذني ما يأخذ الوالهة من الحزن، فخرجت لانظر ما يكون
من الناس فإذا أنا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة سائرين ومعهم جماعة من الطلقاء
وعمر شاهر سيفه وكل ما مر برجل من المسلمين قال له: بايع أبا بكر كما بايعه
الناسي فيبايع له شاء ذلك أم لم يشأ، فأنكر ذلك عقلي وجئت اشتد ملء فروجي
حتى أتيت عليا - عليه السلام - فأخرته بخبر القوم وكان يسوي قبر رسول الله
- صلى الله عليه وآله - بمسحاة كانت بيده فوضع المسحاة من يده ثم قرأ: (ألم
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) (1) وقال العباس: تربت
أيديكم بني هاشم إلى آخر الدهر. وهذا دليل على حصول الاكراه وتوقع علي
والعباس له، وما ظنك بأمر تدفع فيه صدور المهاجرين وتكسر سيوفهم وتشهر
فيه السيوف على رؤوس المسلمين، كيف لا يكون إكراها لولا عمي الأفئدة

(1) العنكبوت: 2.
435

(فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (1).
ومنها قول عمر لسعد بن عبادة الخزرجي سيدالنصار و أميرهم لما امتنع
من البيعة، لأنه كان حاضرا في السقيفة ولم يبايع: اقتلوا سعدا قتل الله سعدا،
وهذا عين الاكراه.
ومنها ما رواه أهل الحديث ورواه عدة من أصحابنا ممن يوثق بنقلهم
وتعرف عدالتهم: أن أبا بكر لما صعد المنبر في أول جمعة من خلافته قام إليه
اثنا عشر رجلا ستة من المهاجرين وستة من الأنصار فأنكروا عليه قيامه ذلك
المقام حتى افحموه على المنبر ولم يزد جوابا، فقام إليه عمر وقال: يا لكع، إذا
كنت لا تقوم بحجة فلم أقمت نفسك هذا المقام؟ وأخذ بيده وأنزله عن المنبر، فلما
كانت الجمعة الثانية جاؤوا في جمع وجاء خالد بن الوليد في مائد رجل وجاء معاذ
بن جبل في مائة وكلهم شاهرون سيوفهم حتى دخلوا المسجد وكان فيه علي
وجماعة من الصابة وفيهم سلمان الفارسي، فقال عمر: والله يا أصحاب علي
لئن ذهب رجل منكم يتكلم بما تكلم به بالأمس لنأخذن الذي فيه عيناه،
فقال سلمان الفارسي صدق رسول الله صلى الله عليه وآله فإنه قال: بينا
أخي وابن عمي جالس في مسجدي إذ وثبت عليه جماعة من كلاب أهل النار
يريدون قتله فلا شك أنكم هم، فاهوى إليه عمر بالسيف ليضربه فاخذ علي
بمجامع ثوبه وجلد به الأرض، وقال: يا ابن صهاك الحبشية، أبأسيافكم
تهددوننا؟ وبجمعكم تكاثرننا؟ والله لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول
الله تقدم لأريتكم اليوم أينا اليوم أضعف ناصرا وأقل عددا.
ثم فرق أصحابه سلام الله عليه، وإذا كانت الأمور الجارية بينهم على مثل
هذه الروايات دلت على وقوع الاكراه وعدم تمكن هؤلاء المتخلفين عن

(1) الحج: 46.
436

السقيفة من ترك المبايعة ابقاء على أنفسهم وعلى الاسلام، تكون الموافقة
الحاصلة منهم إنما هي بالاكراه فلا حجة بالاجماع.
فقال: هذه الروايات من طريقكم فلا تقوم حجة علينا.
قلت: لا نسلم أنه من طريقنا خاصة بل منها ما هو من طريقكم كرواية
ابن أبي الحديد مع أن احتمال الاكراه غير مندفع بحجة من عندكم ولا دليل
قاطع فيبقى احتمال الاكراه بحاله، فحينئذ لا يحصل الاجماع المدعى، فلا تقوم لك
الدلالة على الواسطة، فأت بغيرها إن كان لك حجة على مدعاك وإلا فاعترف
ببطلانها.
فقال: هنا حجة غيرها.
فقلت: وما هي؟
فقال: أمر النبي - صلى الله عليه وآله - بالصلاة خلف أبي بكر في مرض
موته، وذلك دليل على تقديمه على سائر الصحابة، لان المقدم في الصلاة مقدم
في غيرها إذ قائل بالفرق.
فقلت: هذه الحجة ضعيفة من وجوه:
الأول: لو كان هذا التقديم صحيحا كما زعمت وكان معه صحته دالا على
إمامته لكان ذلك نصا من النبي عليه، وإذا كان عليه نص فكيف يعدلون عنه
إلى الأصعب؟ وكيف يتركون الأسهل إلى أخذ الامر من أعسر جهاته؟ والعاقل
لا يختار الأصعب مع انجاع الأسهل إلا لعجزه عنه، فعلم أن ذلك ليس فيه حجة
أصلا، فكيف ما لا يكون حجة عندهم ولا عند أحد من الصحابة تجعله أنت
حجة؟! وما ذلك إلا لأنك تقصد المغالطة، أو أنك تدعي أنك تفهم أكثر من أبي بكر فإنه لم يقل عند المننازعة: ان النبي قدمني في الصلاة وهذا نص على
إمامتي، فلو فهم شئيا من ذلك لما سكت وعدل إلى قوله: لاائمة من قريش.
الثاني: أن التديم في الصلاة لا يدل على الإمامة العامة، لان الخاص
437

لا يدل على العام خصوصا على مذهبكم، فإنكم تجوزون إمامة الفاسق في
الصلاة، وتزعمون أن النبي صلى الله عليه وآله قال: صلوا خلف البر والفاجر
والإمامة العامة يشترط فيها العدالة بالاجماع، وعندكم: لو أن الامام فسق وجب
على الأمة عزله، فكيف تجعلون ما لا يحتاج إلى العدالة حجة على اثبات ما
يحتاج إليها؟ ما هذا إلا احتجاج ساقط، ودليل غير مسموع ولا مقبول عند
العقلاء ومن له أدنى روية.
الثالث: أن هذا التقديم غير صحيح عند الكل، أما عندنا فإن المنقول: أن
بلالا جاء يعلم بوقت الصلاة كان (1) النبي صلى الله عليه وآله مغموزا
بالمرض، وكان علي مشغولا به صلوات الله وسلامه عليهما، فقال النبي: علي
يصلي بالناس، فقالت عائشة لبلال: مر أبا بكر فليصل بالناس: فظن بلال أن
ذلك الامر صادر عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فجاء واعلم أبا بكر بذلك
فتقدم الناس وكبر، فلما أفاق النبي صلى الله عليه وآله وسمع التكبير ورأى
عليا عنده قال: من يصلي بالناس؟ فقيل له: أبو بكر فقال: أخرجوني إلى
المسجد، فقد حدث في الاسلام فتنة ليست هينة، فخرج صلى الله عليه وآله
يتهادى بين علي والفضل بن العباس حتى وصل المحراب فنحى أبا بكر وصلى
هو بالناس.
وأما عندكم فإنكم تدعون أن ذلك كان بأمر رسول الله، وهي دعوى باطلة
من وجوه:
الأول: أن الاتفاق واقع على أن الامر الذي اخرج إلى بلال: قل لأبي بكر
يصلي بالناس أو قل للناس: صلوا خلف أبي بكر، بل كان ذلك بواسطة
بينهما، لان بلالا لم ييحصل له الاذن في ذلك الوقت بالدخول على النبي وهو على

(1) الظاهر: وكان.
438

الحالة التي كان عليها من شدة المرض، وإذا كان بواسطة احتمل كذب
الواسطة، لان الواسطة غير معصوم عن الكذب، والخبر المحتمل الكذب لا يكون
حجة لجواز أن يكون بغير أمر النبي ولا علمه كما تذهب إليه، ويدل عليه خروج
النبي في الحال لما علم وعزله أبا بكر وتوليه الصلاة بنفسه.
الثاني: انه لو كان بأمر النبي صلى الله عليه وآله كما تزعمون لكان
خروج النبي مع ضعفه بالمرض وتنحيته أبا بكر عن المحراب وتوليه الصلاة
بنفسه بعد صدور أمره بتقديمه مناقضة صريحة لا تليق بشأن من لا ينطق عن
الهوى، لان الاتفاق واقع على أن أبا بكر لم يتم الصلاة بالناس وقد رواه أهل
السنة في كثير من مصنفاتهم.
الثالث: لو سلمنا جميع ذلك، يعني أن الامر من الرسول مشافهة، وأنه يدل
على الإمامة لكان خروج النبي في مرضه وعزله له مبطل (1) لتلك الإمامة، لأنه
نسخها بنفسه فكيف يكون ما نسخة النبي بنفسه حجة على ثبوته؟! إن هذا منكم
لعجيب غيرى، بل أقول: إن عزل النبي له بعد تقديمه كما زعمت إنما كان
لاظهار نقصه عند الأمة وعدم صلاحيته للتقيدم في شئ أصلا، فإن من لا يصلح
أن يكون إماما للصلاة مع أنها عندكم أقل المراتب لصحة تقديم الفاسق فيها
عندكم، كيف يصلح أن يكون إماما عاما ورئيسا مطلقا مطاعا لجميع الخلق؟
وإنما كان قصده عليه السلام إن كان الامر صدر منه أن يظهر نقصه، وإنه غير
صالح للتقديم للناس ليكون ذلك حجة عليهم، ولئلا يكون لهم عذر غدا عند الله
بجهلهم حال هذا الرجل، وما أشبه هذه القصة بإعطاء سورة براءة وعزله عنها
وإنفاذه بالراية يوم خيبر فإن ذلك كله كان لاظهار نقصه، وبيان أنه لا يصلح
لشئ من الأشياء، ولا لامر من الأمور البتة، وأراد الله ورسوله إظهار نقصه

(1) في نسخة: مبطلا.
439

للناس ليعرفوه فلا يغتروا به كما هو مغرور بنفسه، يعرف ذلك من له أدنى روية
وإلا فكيف يأمره بتليغ آيات من القرآن ثم يعزله عنها؟ أتظن أن ذلك كان
تشهيا من رسول الله؟ كلا فما كان أمره وعزله إلا بوحي من ربه لا ينطق عن
الهوى.
والعجب منكم كيف تستدلون على إمامته بالصلاة التي عزل عنها، ولم
يتمها بالاجماع، ولا تستدلون على إمامة علي عليه السلام باستخلاف النبي
له على المدينة يوم غزاة تبوك المتفق على نقله عنه وحصوله منه عليه السلام
لعلي وعدم عزله عنها بالاتفاق؟ فإن الاستخلاف على المدينة التي هي دار
الهجرة وعدم والوثوق والأمانة عليها لاحد إلا لعلي عليه السلام دليل على
إمامته وأنه القائم بالامر بعده في جميع أموره ومهماته، وإذا ثبت استخلافه على
المدينة وعدم عزله عنها ثبت استخلافه على غيرها، إذ لا قائل بالفرق.
ولما وصلنا في المجادلة إلى هذا الحد حضرت المائدة فانقطعت بحضورها
المجادلة، وبعد أن شرعنا في الاكل عرضت لي فكرة الحديث المروي عن النبي
صلى الله عليه وآله: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).
فقلت للشيخ الهروي: يا ملا إجازة، نعم، فقلت: ما تقول في الحديث
المروي عن النبي صلى الله عليه وآله أهو صحيح أم لا؟ وذكرت له
الحديث، فقال: بل صحيح متفق على صحته.
فقلت: فمن إمامك اذن؟
فقال: ليس الحديث على ظاهره، بل المراد بالامام القرآن وتقديره من
مات ولم يعرف امام زمانه الذي هو القرآن مات ميتة جاهلية.
فقلت: إذن يلزم أن يكون تعلم القرآن واجبا عينيا على كل مكلف وذلك
لم يقل به أحد، ولو كان الامر كذلك لكان أغلب المسلمين يموتون على الجاهلية.
فقال: ليس القرآن كله، بل الفاتحة وسورة، لأنهما شرط في صحة الصلاة
440

فهما واجبتان علينا بالاجماع فمن جهلهما يكون جاهليا.
فقلت: إن النبي صلى الله عليه وآله أضاف الامام إلى الزمان فقال:
(من مات ولم يعرف امام زمانه) فتخصيص الامام بالزمان دليل على اختصاص
أهل كل زمان بإمام يجب عليهم معرفته، ومع القول بأن (1) الفاتحة وسورة لا
فائدة في هذا التخصص حينئذ، فلا يكون هذا التأويل مطابقا لمعنى الحديث.
فقال بعض الاشراف وجماعة الحاضرين من الطلبة: صدق الشيخ، ان
هذه الإضافة في هذا الحديث تقتضي تخصيص أهل زمان بإمام تجب عليهم
معرفته، ومن مات قبل معرفته مات جاهليا والتأويل بالفاتحة وسورة ينافي
ذلك، لأنهما واجبتان على أهل كل زمان.
فانقطع الهروي، ثم رجع فقال: أنا وأنت في الإمامة سواء في هذا الزمان،
وكل منا لا أمام له.
فقلت: حاشا لله ليس الامر كما زعمت، بل أنا لي إمام في زماني هذا
أعتقد إمامته وأعرفه حق معرفته وقامت لي الأدلة على ذلك، وأنت لست
كذلك فيما (2) أنا وأنت سواء.
فقال: إن إمامك الذي تعتقده لا تشاهده ولا تعرف مكانه، ولا تنتفع به
في دينك، ولا تأخذ عنه فتأويك، فكان الامر في وفيك سواء.
قلت: كل، إن الحديث لم يتضمن وجوب معرفة مكان الامام ولا وجوب
أخذ الفتاوى عنه شخصيا، إنما تضمن وجوب معرفته وأنا بحمد الله قد عرفته،
وقامت لي الأدلة القاطعة على وجوده ووجوب إمامته واتباعه، وأنا أرجو في
وقت ظهوره ملاقاته لي ولسائر الأمة، هذا الذي وجب علي بمقتضى الحديث،

(1) في نسخة: المراد.
(2) في نسخة: فما.
441

لأنه لم يقل من لم يأخذ الفتاوى عن إمام زمانه ولا قال: من لم يعرف مكان
إمام زمانه، وأنا والحمد الله قد عرفته وأنت تعتق أنه لا إمام لك، وأن الزمان
الذي أنت فيه خال عن الامام فأنت لا تعرف إمامك أصلا، وأنا أعرف أن لي
إماما، فكيف تقول أنا وأنت سواء ولسنا بمتساويين؟
فقال: أنا في طلبه وتحصيلي معرفته، وقد ذكر لي أن في اليمين رجلا يدعي
الإمامة وأنا أريد الوصول إليه لأعرفه وأتبعه إن كانت دعواه صحيحة.
فقلت له: اذن أنت لا إمام لك فأنت جاهلي ولا يصح لك أن تتبع هذا
المدعي إلا أن تترك مذهبك وترجع إلى غيره، لان هذا المدعي ليس من أهل
السنة، بل هو من الزيدية فإن كنت من الزيدية صح لك ذلك، وإن كنت من
أهل السنة فأهل السنة لا يعتقدون وجود الامام في كل وقت ولا يوجبون وجوده
على كل حال، فسكت ولم يرد جوابا، وفرغ الحاضرون من الاكل ورفعت
المائدة وودعنا الحاضرون وتفرقوا وخرج الهروي في جملتهم.
المجلس الثاني:
كان يوم العيد العاشر من ذي الحجة فاتفق أن السيد محسن - أدام الله
أيامه - خرج من المنزل وكنت معه بقصد زيارة الإمام الرضا عليه السلام
وزيارة الاخوان في ذلك اليوم الشريف، فجئنا وزرنا الإمام الرضا عليه
السلام، وبعد الفراغ من زيارته دخلنا مدرسة السلطان شاهرخ التي هي مجاورة
للحضرة الشريفة وكان فيها جماعة من الطلبة ساكنون، فقصدناهم إليها للسلام
عليهم ومعايدتهم، فدخلنا وكان رجل مدرس اسمه الملا غانم فوجدناه جالسا
في المدرسة ومعه جماعة من أهل العلم وغيرهم من عوام أهل مشهد وغيرهم
ووجدنا الملا الهروي معهم، فسلمنا على الحاضرين وعلى الهروي وجلسنا معهم،
فخاضوا في الأحاديث والحكايات والمذكرات في العلم فجرى بينهم أشياء
كثيرة.
442

ثم إن الهروي أشار إلي بمسألة فقال: ما تقولون في ولد الزنا، هل تحكمون
بنسبته إلى أبيه وأم لا؟
فقلت: الذي عليه علماء أهل البيت عليهم السلام أنه لا يصح نسبته إلى
أبيه ولا إلى أمه، لأنه عندهم ليس ولدا شرعيا، والنسب عندهم إنما يثبت
بالنكاح الصحيح والشبهة دون الزنا.
فقال: يلزمكم أن لا يكون محرما، فيحل له نكاح أم وأخته ويحل للأب
نكاح ابنته من الزنا! وهذا لا يقوله أحد من الاسلام.
فقلت له: إنه ولد لغة لا شرعا، ونحن نقول بالتحريم المذكور من حيث اللغة
فالتحريم عندنا يتبع الشرع.
فقال: هذا خبط في البحث، لأنكم مرة تقولون: أنه ولد تحكمون له
مناقضة وخبط في الفتوى.
فقلت: ليس ذلك مناقضة، بل أثبتنا له أحكام الأولاد من حيثية
ونفيناها عنه من حيثية أخرى، ولا محالية في اختلاف الاحكام باختلاف
الحيثيات.
فقال: وأي حاجة لكم إلى هذه التمحلات؟ ولم لم يتبع اللغة دائما؟ لأنه
عند أهل اللغة ولد حقيقة والشرع إنما جاء باللغة.
فقلت: ليس الشرع تابعا للغة دائما، فإن الألفاظ اللغوية وإن كانت على
لفظها في اصطلاح الشرع إلا أنها في المعانيي مغايرة لها فإن الصلاة لغة:
الدعاء، والزكاة لغة: النمو، وفي الشرع وإن كانت تسميتها كذلك، لان المعنى
منهما غير المعنى اللغوي، فإن الصلاة والزكاة شرعا غير الدعاء والنمو.
ومع ذلك فإن مذهبنا مبني على الاحتياط، فإن تحريم الوطء والنظر وما
يتبع النسب من نظر أحكام إلى اللغة اخذ بالأحوط وموضع الوفاق، ونفي
443

النسب يتبع الشرع، لأنه غير موافق لمراد الشارع فلو جعلناه ملحقا في كل
الاحكام احتمل أن يكون مراد الشارع غير ذلك فيحصل به العقاب، ولو
جعلناه منفيا في كل الاحكام احتمل العقاب أيضا باعتذار التوليد اللغوي
فالاحتياط التام مذهبنا، والشارع قد نفاه بقوله عليه السلام: (الولد للفراش
وللعاهر الحجر) فلولا أنه اسقط حكم الزنا في النسب لم يصح نفيه لاحتمال
حصوله من الزنا دون الفراش، ولي عليك اعتراض يا حضرة الملا، وهو أنك في
صدر كلامك قلت: يلزمكم أن لا يكون ابن الزنا محرما ويحل له أن ينكح أمه
وأخته ويحل للزاني أن ينكح ابنته من الزنا، وهذا لا يقوله أحد من المسلمين
فكأنك أيها الشيخ لم تطلع على مذهب الإمام الشافعي، فإنه قد أحل للزاني أن
يتزوج ابنته من الزنا.
فعندها أعرض عن المجادلة في هذه المسألة، ثم أقبل إلى كتاب كان معي
وقال: ما هذا الكتاب معك؟
فقلت: هذا مصنف الشيخ جمال الدين بن المطهر الحلي من مشايخ الامامية
وعلمائهم، يسمى كتاب نهج الحق وكشف الصدق، يبحث فيه عن أحوال
الخلاف بين الامامية وأهل السنة، وقد ذكر فيه حديثا نقله عن صحيح مسلم
أحب أن أذكره لك قال: ما هذا الحديث؟
فقلت: ما تقول فيما اشتمل عليه صحيح مسلم من الأحاديث، أتنكره؟
فقال: لا، بل جميع ما اشتمل عليه من الأحاديث فإني أعترف بصحته.
فقلت: روى مسلم في صحيحه والحميدي في الجمع بين الصحيحين في
مسند عبد الله بن العباس قال: لما احتضر النبي - صلى الله عليه وآله - وفي
البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، فقال النبي - صلى الله عليه وآله -: هلموا
أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فقال عمر: إن النبي قد اشتد عليه
الوجع وأن الرجل ليهجر، فاختلف الحاضرون عند النبي - صلى الله عليه وآله -
444

فبعضهم يقول: القول ما قاله عمر وبعضهم يقول: القول ما قاله النبي - صلى
الله عليه وآله - فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال النبي - صلى الله عليه
وآله -: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع (1).
فقال: هذا حديث صحيح، ولكن أي طعن فيه على عمر؟
فقلت: الطعن عليه من وجهين:
الأول: أنه سوء أدب منه ومن الجماعة الموافقين له في حق النبي صلى
الله عليه وآله في ردهم عليه مراده وعدم قبولهم أوامره ورفع أصواتهم فوق صوته
حتى تأذى بذلك وقال لهم: قوموا عني تبرما منهم، وقد قال تعالى: (ما آتاكم
الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (2) وقال تعالى: (لا تقدموا بين يدي الله
ورسوله) (3) وقال: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له
بالقول) (4) ومع ذلك لم يقتصر عمر على هذه الوجوه، بل قابله بالشتم في وجهه
وقال: إن نبيكم ليهجر أي يهذي، وقد قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو
إلا وحي يوحي) (5).
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وآله لما أراد إرشادهم وحصول الألفة
بينهم وعدم وقوع الاختلاف والعداوة والبغضاء بكتب الكتاب الذي يكون
نافيا لضلالهم أبدا بنص الرسول منعه عمر وحال بينه وبين مراده، وهو مأمور
بتوقيره واتباع أوامره، وقد قال تعالى: (وما كا لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله

(1) الحديث متواتر من الفريقين وقد ذكرنا مصادره في مكاتيب الرسول تحت عنوان (الكتاب
الذي لم يكتب).
(2) الحشر: 7.
(3) الحجرات: 1.
(4) الحجرات: 2.
(5) النجم: 3.
445

ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة) (1)، فكيف ساغ لعمر أن يختار منع النبي
صلى الله عليه وآله من مراده مقابلا له بالشتم في وجهه بحضرة أصحابه؟
ولهذا كان عبد الله بن العباس إذا ذكر هذا الحديث يبكي حتى تبل دموعه
خديه، ويقول: يوم الخمسين وما يوم الخميس وكان يقول
دائما: الرزية كل
الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين كتابة الكتاب.
فقال: أما قوله: إن الرجل ليهجر مسلم، وأما قولكم: إن هذه اللفظة شتم
فغير مسلم، أما أولا: فلان عمر لم يقصد بهذه اللفظة ظاهرها فإن في جلالة عمر
وعظم شأنه ما يمنعه عن ذلك، ولكن إنما أخرجها على مقتضى خشونة طبعه و
قوة غريزته، وقد وكان موصوفا بخشونة الطبع. وأما ثانيا: فلان قوله: إن نبيكم
ليهجر مشتق من هجر يهجر مهاجرة فيكون معناه إن نبيكم ليهاجر، وأما
قولكم: إنه منع النبي عن كتابة الكتاب، وقدم بين يديه، ورده عن مراده،
فإنه اجتهاد منه ويسوغ لمثله الاجتهاد، فإنه لما رأى ترك هذا الكتاب أصلح
للدين ساغ له المنع منه على مقتضى اجتهاده وإن كان مخطئا في ذلك الاجتهاد
فإن الخطأ في الاجتهاد غير معاقب عليه ولا يصح ذم فاعله، لأنه أقصى تكليفه.
فقلت: إن هذا الاعتذار غير مجد وهذا الجواب غير مسموع، لأنه لا يسمن
ولا يغني من جوع.
أما أولا: فلان قولك: إن هذه اللفظة غير شتم دليل على قلة معرفتك بلغة
العرب وعدم اطلاعك على الاصطلاحات في مخاطباتهم، فإن ما هو دون هذه
اللفظة شتم ولو قابل أحدهم أحدا بما دون هذه اللفظة لجرت إلى القتال وإراقة
الدماء، فكيف يقابل بهذه اللفظة سيد المرسلين وخاتم النبيين؟! ولا ألومك
أيها الشيخ على عدم فهمك الشتم من هذه اللفظة فإنك لست بعربي، وأما

(1) الأحزاب: 36.
446

قولك: إنه لم يقصد ظاهرها... إلى آخر الكلام، فهو اعتراف منك أن ظاهرها
منكر قبيح، وأنك تحاول الاعتذار عن سيدك عمر بالمراوغة والتمحلات وإلا
فمن أين لك الاطلاع على قصده حتى عرفت أنه لم يقصد ظاهرها مع أنه تلفظ
بها متعمدا، واللفظ إذا صدر عن إرادة دل بظاهره على إرادة المتكلم، وظاهر
الكلام دل على أنه منكر؟ فادعاؤك عدم قصده يحتاج إلى دليل. وأما قولك: إنه
أخرج هذه اللفظة على مقتضى خشونة طبعه وقوة عزيزته، فإن ذلك اعتذار غير
مقبول عند العقلاء، ولا مرضي عند ذي دين، ولا يسقط معه التكليف، لان كل
مكلف يقتضي طبعه الميل إلى الشهوات والنفور عن الحق مع أنه مكلف بكسر
شهوته ومخالفتها والاذعان إلى الحق، فكان الواجب على عمر حينئذ كسر هذه
الغريزة وتليين طبعه الخشن وقطع هذه العادة والاصغاء والاستماع لأقوال
النبي والاتباع له وترك مخالفته في جميع الأحوال، لأنه مكلف بذلك، فبأي
دليل ساغ له ترك ما كان واجبا عليه والتسرع إلى الرد على النبي والتهجم عليه
بالكلام المنكر على مقتضى طبعه؟ إن ذلك لم يقع منه إلا لعدم علمه
بالتكاليف أو شدة تسرعه إلى تركها.
وأما قولك: إن قوله: أن نبيكم ليهجر مشتق من هجر يهجر مهاجرة فيكون
معناه أن نبيكم ليهاجر، فقول مردود من جهة اللفظ والمعنى.
أما من جهة اللفظ فإن الاشتقاق الذي ذكرته لم يقل به أحد، ولما وصلت
في اعتراضي عليه إلى هذا الموضع أنكر عليه ذلك الملا المدرس هذه اللفظة
فقال له: ليس هكذا الاشتقاق، بل هو من هجر يهجر هجرا لا مهاجرة فإن
ذلك على غير القياس، ووإذا كان معناها ذلك فلا تحتمل إلا الهجر الذي هو
الهذيان، ويرد عليك ما قاله الشيخ، فاعترف بالخطأ في ذلك.
ثم عدت فقلت: وأما غلطك من جهة المعنى فإن قولك: ان النبي ليهاجر
كلام لا فائدة فيه، لان المهاجرة قد انقطعت والنبي في تلك الحالة غير متصور
447

مهاجرته في حالة الاحتضار، ولان الهجرة قد انقطعت، ومع ذلك فهذا الكلام
غير مطابق لمقتضى الحال.
وأما الثاني: فإن قولك: إنه إنما منع من الكتاب على مقتضى اجتهاده
فقول ضعيف جدا:
أما أولا: فلان الاجتهاد غير سائغ في هذه المسألة.
وأما ثانيا: فلان الاجتهاد لا يسوغ مع وجود صاحب الشريعة لان فرض
الجميع مع الحضور عنده التقليد لقوله والامتثال لامره بدليل قوله تعالى: (ما
آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (1).
وأما ثالثا: فلان الاجتهاد لا يعارض النص كما قرر في الأصول، فهذا
الكلام من النبي صلى الله عليه وآله نص يقضي وجوب اتباع أمره في
الاتيان بالكتاب، فكيف يصح أن يخالف نصه وأمره ويعارض الاجتهاد؟!
فإن النص يفيد القطع والاجتهاد لا يفيد إلا الظن والظن لا يعارض اليقين،
فكيف يسوغ لعمر أن يترك اليقين القطعي المتلقى ممن لا ينطق عن الهوى
ويده ويهمله ويمنع منه ويعمل باجتهاده؟ إن ذلك لضلال مبين، وقلة احترام
للشرع، وهتك لحرمة الدين، ومع ذلك لم يقتصر على مجرة المنع والرد حتى تكلم
بالشتم وتوصل إلى المنع من أقبح الجهات بلفظ منكر صريح المنكر بظاهره
وباطنه، ومع ذلك تقول: إن ذلك اجتهاد! فأي اجتهاد يسوغ في هذا الموضع؟
وأي قول يسمع في رد كتاب يأمر النبي صلى الله عليه وآله به ليحصل به
صلاح الأمة وعدم وقوع الاختلاف بينها؟
وأما قولك: أنه رأى ترك هذا الكتاب أصلح للدين فقول مخالف للمعقول
والمنقول، لان أمر النبي صلى الله عليه وآله: إما أن يكون فسادا أو صلاحا،

(1) الحشر: 7.
448

ولا سبيل إلى الأول لاحد لاستلزامه الكفر، وإن كان صلاحا علمه النبي
صلى الله عليه وآله عن الله عز وجل وعلم عمر أن الترك أصلح، فهل كان
النبي والله جل جلاله يعلمان ما علمه عمر أم لا، فإن قلت: إنهما يعلمان
ما علمه عمر وكان الواجب عليهما العمل بالأصلح، لان فعل الأصلح واجب في
الحكمة * فكيف تركا العمل بالأصلح، وعمل به عمر؟ فهل هو ألطف بالخلق
منهما؟! وإن قلت: أنهما لا يعلمان فقد أبطلت وأحلت، فاختر أي الامرين شئت،
فإنه مخالف للمعقول والمنقول.
فقال: الذي ينبغي لذوي العقول أن لا يحملوا هذه الأشياء الواقعة بين
هؤلاء الذين هم في محل التعظيم والشرف على مثل ما ذكرت، بل الذي ينبغي
حملها على الوجه الجميل كما قيل: إن بعض الناس سمع أعرابيا يقول مخاطبا
الله تعالى في سنة جدب:
قد كنت تسقينا الغيث ما بدالك * أنزل علينا الغيث لا أبا لك
فقال السامع: أنه لا أب له ولا ولد، فأخرجها على أحسن مخرج
فينبغي لمن سمع مثل هذا القائل وأمثاله أن يحملها مثل ما حمل عليه لفظ
الاعرابي.
وأما قولك: إن الاجتهاد لا يعارض النص، وأن عمر لا يسوغ له الاجتهاد في
هذا المحل فإن ذلك على غير هذه الحالة التي كان عليها النبي، فإنه هذه الحالة
حالة الاحتضار والنبي مغلوب بالمرض حتى أنه كان يغمى عليه مرة ويفيق
أخرى فاحتمل عمر أن يكون أمره بالكتاب في حالة غاير حالة الصحة، فساغ له
الاجتهاد والنظر حينئذ فأداه اجتهاده إلى الحكم بأن ذلك منه حال كونه مغلوبا
بالمرض.
فقلت: الذي ينبغي لأهل الدين والصلاح أن لا يحرفوا الكلم عن مواضعه،
وهذه الكلمة الخارجة من هذا القائل ليس لها محل غير ظاهرها، فلا يمكن حملها
449

على غيره، وأما حمل كلام الاعرابي على ما حمل عليه فإنه محل ظاهر يعرفه من
له أدنى روية، وأما لفظة عمر لم تلق أنت ولا غيرك لها محملا غير ظاهرها
الذي هو شتم الرسول عليه السلام، فإن كان عندك لها محمل فاذكره،
ولكنك تقول ينبغي أن تحمل على غير ظاهرها مع عدم وجود محمل كيف
يتصور ذلك؟
والعجب منكم كيف تحملون ظواهر الآيات التي فيها عتاب الأنبياء
عليهم السلام على ترك الأولى على ظواهرها وتحكمون عليهم بالمعاصي والخطأ
مع دلالة العقل على وجوب تنزيهم عن ذلك مع وجود المحامل لو اظهر تلك
الآيات، وتتركون ذلك وتحملون كلام عمر الذي ظاهره منكر ومرتبته أقل من
مراتب الأنبياء بأضعاف، بل بينه وبينهم كما بين الأرض والسماء على غير
ظاهره وتمنعون جواز حمله على ظواهره مع أن كلامه لا محل له وتتركون العمل
بظاهره بغير دليل واضح ولا تأويل بين؟! وهلا ساويتم بينه وبين الأنبياء الذين
هم محل التعظيم، وما ذاك إلا من قلة إنصافكم وكثرة ستركم للحق وشدة
تسرعكم إلى التعمية بإيراد الشبه.
ومن أغرب ما تذهبون إليه حملكم للآيات القرآنية التي ظاهرها يدل على
أن ما يقع في الكون من خير أو شر كله من الله تعالى ولا تؤولونها مع أن لها
محملا، والعقل ينزه الباري جل وعلا عما نسبتم إليه من إلجائه العبد إلى
المعاصي وتعذيبه عليها، فإذا قرأتم قوله تعالى: (يضل من يشاء ويهدي من
يشاء) (1) أو (قل كل من عند الله) (2) حكمتم بأن جميع أفعال العباد منه، تعالى
الله عن ذلك علوا كبيرا.

(1) النحل: 93.
(2) النساء: 78.
450

وأما قولكم: أن عمر إذ عارض النبي لأنه كان في حالة المرض، ولو كان
في حالة الصحة لما عارضه، فإنه كلام ساقط ردئ جدا، لان النبي صلى الله
عليه وآله حال أمره بالكتاب لا يخلو، أن يكون متصفا بالعقل وأن أمره صدر
من إرادة جازمة أو غير ذلك، ولا سبيل إلى الثااني لقوله تعالى (وما ينطق عن
الهوى (1) ولأنه ورد أيضا عنه عليه السلام أن ابن آدم قرب موته يكون على
أحسن ما يكون من الانتباه وصحة العقل، وهذه الحالة مشاهدة لكل من راقب
الأموات والتفت إلى ما يصدر منهم قرب موتهم، وأما كلمة صاحبك فإنها
تدل أنه تكلم بها عن هوى نفسه، لأنها كلمة منكرة والاعتراض عليها موجه لا
يمكنك أنت ولا أحد من أصحابك دفعه، ومن الأول أي صدور الامر من النبي
حال كونه صحيح العقل يلزم اتباع أوامره والانقياد إلى إرادته في قبول
الأقوال، لأنه واجب الطاعة في جميع الأحوال فلا يسوغ الاجتهاد حينئذ، لان
الامر الواقع منه إيجاب وإلزام بما أمر به، فيكون نصا يقتضي وجوب العمل به
فالرد عليه رد لجيمع الأوامر الشرعية، وذلك على حد الشرك بالله نعوذ بالله
تعالى. وما أعجب حالكم وأكثر تلونكم في أموركم كأنكم تتكلمون كما أطفال
في المكتب، تارة تقولون: إن النبي ليهجر حال طلبه كتابة الكتاب، وتارة
تسدلون على أمامة أبي بكر بأنه أمره بأن يصلي بالناس في حال مرضه بل في
شدة مرضه ولا تحتملون أنه كان يهجر حين ذلك الامر! وإلا فكيف تجعلون
ذلك حجة على خلافته ووجوب اتباعه وتجعلون الامر منه بالكتاب الذي فيه
صلاح الأمة وعدمه حصول الاختلاف بينهم محتملا للهذيان وتسوغون لعمر أن
يمنع منه بالاجتهاد لجواز أن يكون هذرا وهذيانا في اجتهاده؟ وكيف لا يحتمل في
ذلك مثله مع أنهما وقعا معا في حالة المرض؟ إن هذا إلا قلة إنصاف وخبط.

(1) النجم: 3.
451

وأعجب من هذا أنكم تستدلون على خلافة عمر بأن أبا بكر نص عليه بها
مع أن ذلك إن وقع منه حالة المرض بإجماع الكل فكيف لم يحتمل كلام
أبي بكر للهذيان والهذر واحتمل كلام النبي صلى الله عليه وآله ذلك؟ فهل
كان أبو بكر أكمل من النبي وأتم؟ وما أحسن ما قال بعضهم في هذا المعنى:
أوصى النبي فقال قائلهم * قد ظل يهجر سيد البشر
لكن أبو بكر أصاب فلم * يهجر وقد أوصى إلى عمر
فعندما سمع هذا الكلام قال مظهرا للغيظ والغضب: إن وقوع هذه اللفظة منه قلة
حياء وسوء أدب لأنكم أيها العرب موصوفون بقلة الحياء وسوء الأدب ولا
خطيئة عليه، لأنه ترك الأدب في ذلك وهو أمر مندوب.
فقلت: الحمد الله، فإنك قد اعترفت بأن هذه اللفظة صدرت منه لقلة أدبه
وادعيت أن العرب موصوفون بقلة الأدب، فأقول:
أما قلة الأدب فهو وصف قد اتصف به هو دون غيره، وذلك وصمة عليه
لا تمحى وعيب يعاب به، لان من صحب النبي مدة عشرين سنة مع ما كان
عليه النبي من الاخلاق الكريمة والشيم المرضية والآداب الشرعية والعقلية، وقد
وصفه الله تعالى بذلك في قوله (وإنك لعلى خلق عظيم) وقال عليه السلام:
(إنما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق) وقد جمعها الله في قوله تعالى: (خذ العفو
وأمر بالعرف) فكيف هذا المصاحب للنبي هذه المدة لم يتأدب بأدب هذا
النبي الكريم الذي صحبه وعاشره هذه المدة؟ وكيف يسوغ لك مع قولك: إنه
عظم الشأن وأنه من أتباع النبي وخواصه أن تصفه بقلة الأدب؟ وما ذاك إلا
لقلة مبالاته بالدين، وأن اتباعه للدين إنما كان لنيل الخظوظ الدنيوية، فلو كان
اتباعه للدين لكان كالمتدينى الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وآله
وتأدبوا بآدابه وعملوا بسنته واتبعوا طريقته وسلكوا آثاره، فلما اعترفت
لصاحبك بقلة الأدب ووصفته بهذه الصفة علم أنه لم يكن من جملة هذه
452

الاتباع، وأن الاسلام لم يكن له عن أصل ولا قوة في الدين ولا في الاعتقاد.
وكان في المجلس حيدري (1) فلما سمع مقالتي وتروى جوابي أنبهر به عقله فقال:
(والله رأس ميفوت شيخ عرب أكر مرد بصحبة پيغمبر كردم بيست سال
وأدنى أدب خرميسون) يعني صدق الشيخ العربي إذا كان رجل يصحب رسول
الله عليه السلام عشرين سنة وهو بلا أدب يكون حمارا.
فضحك الحاضرون جميعا، وخجل الشيخ الهروي.
ثم قلت: وأما قولك أيها الملا: إن العرب موصوفون بقلة الأدب فأنا
استعلم منك ما تريد بالأدب، أتريد به الآداب الشرعية أم الأدب التي هي
اصطلاح العجم واختراعهم، فإن أردت الثاني فنعم نحن لانتأدب بما لا يأمر
الشرع به ولا نعمل بما يخالف الشرع، وإن أردت الأول فغير مسلم، لان العرب
أعرف بالشرايع من العجم، لان الشريعة نزلت بلغة العرب وهم أقرب إلى
صاحبها وأكثر صحبة له والعجم إنما أخذوا الشريعة منهم، فكيف يسوغ لك أن
تصف العرب بقلة الأدب مع أنهم أصل الأدب وفرعه، ومنهم تعلمت العجم
الأدب، ومع ذلك فإنك لم تصحب العرب ولم تجالسهم ولم تطلع على
أخلاقهم لأنك ما أتيت قط إلى بلاد العرب، فكيف يسوغ الان أنت تصفهم بهذا
الوصف مع علمك بذلك أن كلامك في حقهم غيبة لا تسوغ من مثلك.
فخجل وافحم وكان جميع الحاضرين في المجلس عليه، ثم قلت:
إن قلة الأدب تحصل في كثير من العرب وكثير من العجم لا في كل هؤلاء
ولا في كل هؤلاء، فإن الاشخاص تتفاوت في الاخلاق والطبايع، ولكن من
جملة من هو موصوف بقلة الأدب صاحبك الذي اعترفت له بقلة الأدب
والحمد لله الذي أثبت له قلة الأدب لكثرة ترديد هذه اللفظة بشهادتك.

(1) لعل المقصود بالحيدري هو من ينتسب إلى احدى شعب الصوفية.
453

فقال: إنه اجتهد وكان ذلك أقصى اجتهاده ومنتهى رأيه.
فقلت مغتاظا لكثرة ترديد هذه الجملة مع اعترافه أنها خير حجة: إنه ما
اجتهد ولكنه كفر.
فقال بحنق: أقم الدليل على كفره.
فقلت: ذلك لأنه شتم النبي صلى الله عليه وآله متعمدا، ومن شتم النبي
فهو كافر لقوله: (من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله ومن سب الله
فقد أكبه الله على منخريه في النار) وأي كفر أبلغ من هذا؟
فقال: وأين شتم النبي؟
فقلت: في هذه اللفظة وهي قوله: إن نبيكم ليهجر، فإن يهجر بمعنى يهذي
ومن قال لصاحبه ذلك في وجهه فقد شتمه في عادات العرب وفي محاوراتهم.
فقال: لا نسلم إن هذه اللفظة شتم.
فقلت: أنت لا تعرف كلام العرب، ولكن انظر في الكتب العربية،
واسأل العرب حتى تعرف منهم ومن كتبهم أن هذه اللفظة شتم.
فقال: لا ينبغي من مثلك مع جلالته وعظيم مرتبته في العلم أن يتسرع إلى
الحكم بكفر هذا الشخص لما اطلع منه على هذه اللفظة بل الذي ينبغي
التوقف والتفكر والتروي الشهر والشهرين، بل السنة والسنتين فإن وجد لها
محملا توقف وإن قام الدليل على أنها لا تحتمل غير الشتم حكم بذلك بعد تلك
المدة.
فقلت: كأنك تعتقد أني لم أعرف هذه اللفظة ولم أنظر فيها إلا هذه
الساعة، فإن كنت تظن ذلك مني فإنه ظن كاذب، فإن عمري اليوم يقارب
الأربعين سنة وقد سمعت هذه اللفظة ونقلت لي أنها وقعت من هذا الرجل في
حق النبي وأنا ابن عشر سنين، ونظرت فيها وناظرت فلم أجد لها محملا غير
الشتم، وثبت عندي بالنظر الصحيح الناشئ عن البرهان الواضح الذي
454

لا تعارضه شبهة أنها لا تحتمل غير الشتم، فلما لم أجد لاجتهادي محملا غير ذلك
حكمت بما تقتضيه، فإن كنت تعتقد أني أتسرع إلى مثل ذلك بغير نظر صحيح
ولا إحالة فكر واجتهاد فهو اعتقاد باطل، وقد بحمدالله اطلعت على مناظرتي
معك في هذه اللفظة، وأنك اجتهدت في أن تحملها على وجه غير ذلك فلم تقدر
وكلما ذكرت محملا طعنت عليك فيه بأبين برهان وأظهر دليل ولكنك لاتنقاد
إلى الحق.
فانقطع الهروي وقام السيد محسن من المجلس وأخذ بيدي وقال: قم،
فقمت وكان قصد السيد فك المجلس خوفا علي لأنه كان مشحونا بكثير من
أهل السنة، فخاف السيد من وقوع الفتنة فنهضنا من بين الجماعة، وتفرق
المجلس بعد أن ظهر لجميع الحاضرين الغلب عليه، والحمد لله وحده.
المجلس الثالث:
كان يوم الجمعة: اتفق أنه جاء يوما آخر إلى المنزل لغرض كان له مع
السيد وكان يوم جمعة، وكنت مع السيد محسن في المنزل ولم يكن معنا أحد،
فخلوت معه فجلست.
وقال: إن هذا اليوم المجلس خال من الناس وأريد أن أبحث معك في هذه
الخلوة. فقلت: تكلم بما تريد.
فقال: ابحث لي عن أحوال الخلفاء وما كانت صفتهم وما كانوا عليه من
الطريقة وما تعتقده عنهم لأناظرك في ذلك.
فقلت: أما الخليفة الأول فقد ظهر لك من طريقته وصفته أنه توصل إلى
التقدم على المسلمين وأخذ الخلافة من آل الرسول بالتسرع إلى ذلك والتوصل
إليه بما عرفت من الخديعة والمكر والحيل والتغلب، وتحلى بحلية لم يحله الله فيها
ولا رسوله ويكفيك في ذلك تركه النبي على حال مصيبة الموت ولم يحضره ولا
اشتغل بتجهيزه، ولا عظمت عنده تلك المصيبة ولا جلت لديه تلك الرزية،
455

ولا التفت إلى ما أصاب الاسلام من الفادح العظيم والخطب الجسيم بموت
النبي الكريم، بل استغنم الفرصة باشتغال علي وبني هاشم بمصيبة النبي
صلى الله عليه وآله وولى هو تلك المصيبة العظيمة ظهره ومضى إلى السقيفة
لتحصيل الامارة والمنازعة عليها وترك الحضور في عزاء نبيه وغسله ودفنه
والصلاة عليه وتعزيه أهله، ولم يحضر هو ولا صاحبه شيئا من ذلك. ووقوع
ذلك منهما دليل على قلة احترامهما له وعدم مبالاتهما بالاسلام، وإنما كان اتباعه
منهما لنيل الرياسات والولايات لا للدين لأنهما ومن كان معهما في السقيفة من
الأنصار وغيرهم لم يكن لهم قوة في الدين ولا عقيدة في الاسلام، فإن كل
مسلم لم تدخل عليه مصيبة النبي في قلبه ولم تخشع لها جوارحه ولا اشتغل بها
عن جميع مهماته فإنه ناقص الدين ضعيف الاعتقاد بل غير مسلم، فكيف يليق
بحال من هو متأهل لخلافة الاسلام والقيام مقام نبيهم فيهم أن يترك نبيه ميتا
لا يحضره ولا يقوم بشئ من مهماته وحرمته ميتا لحرمته حيا بنص الشرع
فالواجب حينئذ عليه وعلى جميع أهل الاسلام الحضور في تلك المصيبة
والاشتغال بها وتعزية بعضهم بعضا عليها حتى ينقضي عزاؤه ثم بعد ذلك
يقومون في مهماتهم، فلما لم يعملوا ذلك وأهملوه غاية الاهمال وسارعوا إلى
المنازعة في سلطانه والقيام في مقامه قبل دفنه بل قبل غسله دل وقوع ذلك منهم
على ما ذكرناه، بل وأنهم كانوا شامتين بموته، ومن له أدنى أنصاف يعرف
ذلك. ثم لم يكفه ذلك حتى تسرع إلى الظلم والجور فأول سنة سنها ظلم البتول
فاطمة الزهراء عليها السلام التي هي من اولي القربى الذين أمر الله بمودتهم في
محكم كتابه وجعلها أجر الرسالة، فقال تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة
في القربى) (1) وأي قرابة أبلغ من النبوة وقد قال في حقها رسول الله صلى الله

(1) الشورى: 23.
456

عليه وآله: (فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله)
حديث اتفق عليهخ الفريقان، فقد منعها من إرث أبيها بخبر رواه وحده لم ينقله
معه أحد وهو قوله: إن النبي قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) فهذا
الحديث كذب لان الله تعالى قال: (وورث سليمان داود) (1) وقال تعالى
حاكيا عن زكريا: (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب) (2)
والمراد إرث المال، لأنه قال بعده: (واجعله رب رضيا) لأنه لو أراد إرث النبوة لم
يحتج إلى كونه رضيا، لان الوارث للنبوة لا يكون إلا كذلك وقال تعالى:
(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الاثنيين) (3) وهو عام في حق
النبي وغيره، ثم لم يقنعه ذلك حتى منعها من فدك والعوالي وقد كان النبي
صلى الله عليه وآله أعطاهما لفاطمة في حياته لما نزل قوله تعالى: (وآت ذا
القربى حقه) (4) واستغلتهما فاطمة في حياة أبيها فرفع يدها عنهما فكلمته في
الإرث وفيهما وقالت: كيف ترث أباك ولا أرث أبي؟ ثم قالت: وهذه نحلتي
من أبي كيف تأخذها وتمنعني منها؟ فطالبها بالبينة وهو غير مشروع، لان
القابض منكر والبينة على المدعي.
ثم إنها أتت بعلي أمير المؤمنين والحسن والحسين وهو يعلم أنهما سيدا شباب
أهل الجنة وأم أيمن شهودا على النحلة فرد شهادتهم عنادا للشرع وتبطيلا
للاحكام وبغضا لآل الرسول، كل ذلك ثبت بالروايات الصحيحة لا يسع أحدا
إنكارها لان ذلك قد اتفق على نقله الفريقان، ولهذا ماتت وهي ساخطة عليه

(1) النمل: 16.
(2) مريم: 6.
(3) النساء: 11.
(4) الاسراء: 26.
457

وعلى، وحلفت أن لا يكلماها، وأوصت أن لا يصليا عليها مع قول النبي
في حقها: (يا فاطمة إن الله يسخط لسخطك ويرضى لرضاك).
ومن هذا حاله في أهل البيت كيف يؤمن على غيرهم، أو كيف يصلح
أتباعه وتقليده وجعله واسطة بينه وبين خالقه وله أحوال غير ذلك لو نروم
تعدادها لا تسع الخطاب وقل منك الجواب؟
وأما الخليفة الثاني: فقد عرفت ما كان عليه في حياة النبي ثم ولي الخلافة
وأظهر البدع وعمل بضد الصواب، فمنع المتعة الثابت حلها في الشرع المحمدي
كتابا وسنة وإجماعا وقد أمر الله بها ورسوله، واتفق الكل في نقلها في زمن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وزمان أبي بكر وبرهة من خلافته ثم منع منها مخالفا
للقرآن والسنة والاجماع، وقام وقعد في توطيد الامر لأبي بكر حتى توعد أناسا ممن
تخلف عنه بالضرب والقتل وأراد إحراق بيت فاطمة لما امتنع علي وبعض
بني هاشم من البيعة وضغطها بالباب حتى أجهضت جنينا، وضربها قنفذ
بالسيف عن أمره حتى أنها ماتت وألم السياط وأثرها بجنبها وغير ذلك من
الأشياء المنكرة.
فقال: إن ذلك من رواياتكم وطرقكم فلا يقوم بها حجة على غيركم.
فقلت: أما الإرث وفدك والعوالي فقد رواه منكم الواقدي وموفق بن أحمد
المالكي وكثير من أهل السير، وأما حديث المتعة ومنع عمر لها فمشهور عندكم،
وأما حديث الاحراق والضرب وإجهاض الجنين فبعضه مروي عنكم وهو الزم
على الاحراق رواه الطبري والواقدي وابن قتيبة، ثم عدت:
فقلت: وأما الخليفة الثالث، فما كان عليه من المنكرات وعمى المقبحات
فمشهور لا يحتاج إلى بيان، فإنه ضرب ابن مسعود وأحرق مصحفه، ونفى أبا ذر
إلى الربذة، ورد الحكم بن العاص بعد نفي النبي له، وقوله له: (لا تجاورني حيا
458

ولا ميتا) فنفى من قربه النبي صلى الله عليه وآله وأدناه وقرب من أبعده
النبي ونفاه، ولم يكفه ذلك حتى طعن على النبي صلى الله عليه وآله في نفيه
الحكم فقال عند وصوله إلى المدينة: ما نفيت إلا بغيا وعدوانا!! واستعمل في
ولايته أقاربه بني أمية الفسقة المتظاهرين بالفسق وشرب الخمور، ويكفيك في
ذلك أن المسلمين أجمعوا على قتله لما أبدع في الدين وخالف بما فعله الخلفاء
المتقدمين، فقتلوه في بيته ولم ينكر ذلك عليهم أحد من الصحابة وكان علي
حاضرا في المدينة يشهد الواقعة، فلو كان قتله غير جائز لوجب على علي المدافعة
عنه ومن جاز قتله ولم يصح الدفاع عنه فهو غير مسلم، فاختر أيهما شئت: اما أن
يكون علي عليه السلام ترك المدافعة عنه مع وجوبها، أو تركها لعدم جوازها.
فقال: يمكن أن يكون ترك الدفاع عنه تقية.
فقلت: هذا الكلام غير مسموع، أما أولا: فلان عليا عليه السلام كان في
تلك الحالة كثير الحالة كثير الاتباع قليل الاعداء، وجميع المسلمين يستطلعون رأيه، ولم
يكن هناك أحد يعدلون به وكان قوله مسموعا عندكم.
وأما ثانيا: فلانه ترك بعد قتله ثلاثة أيام لم يدفن، فهلا كان أمر بدفنه في
هذه المدة، وما ذاك إلا لأنه غير مستحق الدفن.
وأما ثالثا: فلانه كان الخليفة بعد قتله، فلم ترك أمر قاتليه لوارثيه ولم يقتل به
من قتله مع تمكنه من ذلك؟
فقال: إني أحب أن تترك البحث إلى غيرهم من بقية الخلفاء.
فقلت: إنهم الأساس، فلا يصح العدول عنهم حيت يتحقق عندكم ما كانوا
عليه وقد وضحت لك طريقهم.
ثم إني أسهل عليك الطريق: ألم تعتقد أن عليا في غاية ما يكون من
الصفات المحمودة والعدالة المطلقة وأنه ليس لطاعن إليه سبيل؟ فقال: بلى.
459

قلت: إن ذلك ثبت عن علي عليه السلام نقلا متواترا لا يختلف فيه
ويكفيك فيه الوقوف على كتاب نهج البلاغة الذي شاع ذكره عند جميع العلماء
والمدرسين وما ذكره في الخطبة الموسومة بالشقشقية برواية ابن عباس وغيره.
فقال: إني لم أسمعها.
فقلت: أتحب أن اسمعكها؟ فقال: نعم.
فقلت: ذكر السيد الرضي - رحمه الله تعالى - في نهج البلاغة مرفوعا إلى ابن
عباس أنه قال: كنت مع علي عليه السلام برحبة الجامع في الكوفة فتذاكرنا
في الخلافة ومن تقدم عليه فيها، فتنفس الصعداء وقال:
أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وأنه ليعلم أن محلي منها محل القطب
من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا،
وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على
طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى
ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق
شجى أرى تراثي نهبا حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده ثم تمثل
بقول الأعشى:
شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر
فيا عجبا بينا هو يستقلها في حياته إذ عقدها لاخر بعد وفاته لشدما تشطر
اضرعيها فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسها ويكثر العثار فيها
والاعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها
تقحم... وحكيتها إلى آخرها.
فقال: ومن يعرف من أصحابنا أن هذه من لفظ علي عليه السلام؟
فقلت: هنا عبد الحميد بن أبي الحديد قد شرح نهج البلاغة وصحح هذه
460

الخطبة، وروى أنها من كلام علي وشرحها وتكلم على من قال: أنها من لفظ
السيد الرضي بكلام يعلم منه أنها من كلام علي عليه السلام وقال: إن
كلام الرضي لا يقع هذا الموقع ولا يبلغ هذا الحد، فقال: إن مشايخنا من المعتزلة
وغيرهم قد رووا هذه الخطبة عن علي علي عليه السلام وأثبتوها في مصنفاتهم
قبل أن يكون الرضي موجودا.
ثم إنه لما لم يسععه إنكارها واعترف بصحتها وانها من كلام علي عليه
السلام حمل الشكايات الواردة فيه منه عليه السلام من الصحابة على أنه إنما
شكى على ترك كان الأولى والاحق بالخلافة منهم لفضله عليهم، فلما عدلوا عن
الأفضل الأحق إلى من لا يجاريه في فضل ولا يوازنه في شرف ولا يقاربه في سؤدد
وعلم صح له أن ينفث (1) بالشكوى والتظلم على هذا الوجه لا على الغصب (2)
والجور.
واعترض عليه بأن ذلك غير مسموع لأنه نسبهم إلى أخذ حقه وسمى فعلهم
لذلك نهبا حتى قال: (تراثي نهبا) وعين تراثه الخلافة، لأنها إرثه من الرسول
عليه السلام، وهكذا شرح ابن أبي الحديد هذه اللفظة فقال: وعنى بالإرث هنا
الخلافة لأنها إرثه من النبي صلى الله عليه وآله.
ثم إن العدول عن الأولى إن كان لمصلحة لم يصح لعلي الشكايته منهم فيما
عملوه مصلحة للمسلمين، وإن كان عدولا عن الأولى لمجرد التشهي فيكون
مردودا هذا مع أن العذر إنما يتصور على رأي من يقول بتفضيل علي على
الثلاثة وهم الأقل، وأما القائلون بتفضيل المشايخ الثلاثة فما عذرهم مع أنهم
الأكثر والسواد الأعظم فأول الامرين لازم: اما الطعن عليهم بأنهم أخذوا حقه

(1) المصدر: (أن ينفت).
(2) في المصدر: (الغضب).
461

ظلما، واما الطعن على علي عليه السلام لتظلمه ممن ليس لهم ذنب.
فقال: ابن أبي الحديد هذا ليس منا بل من الشيعة.
فقلت له: هذا يدل على عدم اطلاعك وعلمك بأحوال الرجال، فان ابن
أبي الحديد مشهور بالاعتزال وهو من مشايخ المعتزلة ومشاهيرهم، وله مصنفات
حكى فيها مذهبا واشعار كذلك فاعترف بعد ذلك بأنه معتزلي.
ثم قال: دعني حتى أتروى في هذه الخطبة فأخذت له نهج البلاغة
وأخرجت الخطبة منه فجعلتها نصب عينيه فطالع فيها ساعة.
ثم قال: إني لا أترك مذهبي واعتقادي في هؤلاء الثلاثة بمجرد هذا
اللفظ.
فقلت: أنت مكابر معاند للحق.
ثم إنه قال: فما ظنك في مثل هذا الشيخ فخر الدين الرازي وأثير الدين
الأبهري وجار الله العلامة الزمخشري وسعد الدين التفتازاني والسمرقندي
والاصفهاني وغيرهم من العلماء والمدرسين الذين ملأت مصنفاتهم الآفاق وشاع
ذكرهم في جميع الابصار أكلهم على ضلال؟ فلولا أن لهم دلائل ثابتة وبراهين
واضحة لما ثبتوا على هذا المذهب ولا اعتقدوا خلافة هؤلاء الثلاثة، ولكن لما
ثبت عندهم صحة خلافتهم بالأدلة القطعية والبراهين الساطعة اعتقدوا ذلك،
وأثبتوه في مصنفاتهم وقرروه لاتباعهم وتلاميذهم، وإنما أخذ العلم عنهم وعن
مصنفاتتهم فكيف أترك طريقتهم مع اعتقادي بصدقهم وعدالتهم واستفادتي
من علومهم، واسلك طريق من لا أعرف صحة قوله ولا أعتقد عدالته ولا ثبت
عندي علمه؟
فقلت له: إذن أنت مقلدهم قد خرجت من حيز الاستدلال وأنزلت
نفسك منزلة الجهال فلا كلام لنا مع مثلك إن كنت مقلدا، وإلا لو كنت من
أهل الاستدلال فكيف تتركه؟ وقد حث الله عليه وأمر به في قوله تعالى:
462

(فأتوني بكتاب من قبل هذا أو إثارة من علم أن كنتم صادقين) (1) وكيف
رضيت بحيز التقليد وقد ذمه الله تعالى وذم فاعليه، ووبخ متبعيه لقولهم: (انا
وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون) (2) وقال تعالى: (إذ تبرأ الذين
اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب) (3) فكيف تترك
الاستدلال المأمور به وترجع إلى تقليد المنهي عنه المذموم فاعله بنص الكتاب؟
أم كيف يسوغ لك التقليد في مثل ما نحن فيه؟
فقال: التقليد في مثل هذه المسألة جائز، لان مسألة الإمامة من الفروع لا
من الأصول ويصح التقليد بالفروع، فأنا أقلد فيها وأترك الاستدلال فإن كان
ما أذهب إليه حقا فقد أصبت، وإن كان باطلا فاللوم على من سبقني من العلماء
والمبرزين.
فقلت: لا يصح لك ذلك.
أما أولا: مسألة الإمامة ليست من الفروع بل هي من أعظم أصول
الدين وأجل أركان الايمان، لأنها قائمة مقام النبوة في حفظ الشريعة وانتظام
أمور العالم وبقاء النوع الانساني في معاشه ومعاده، والنبوة من الأصول اتفاقا
فكذا ما يقوم مقاما من غير فرق، والعجب ممن يقول: انها من الفروع ويعتذر عن
الذي ترك النبي جنازة في بيته بأنه خاف على الناس الضلالة ورأى الأرجح
أن ينصب نفسه للخلافة عن حضور مصيبة النبي، فإن كانت من الفروع
فالفرع لا يكون أرجح وأهم من صاحب الشريعة.
وأما ثانيا: فلو أنا سلمنا أنها من الفروع لم يصح لمثلك التقليد فيها، لان

(1) الأحقاف: 4.
(2) الزخرف: 23.
(3) البقرة: 166.
463

التقليد في الفروع إنما يصح لمن لا يتمكن من الاستدلال ولا يقدر على الاجتهاد
ولا يتمكن من إقاماة الدليل، فمن كان بهذه الصفة يسوغ له التقليد بعجزه عن
الاستدلال، لان التكليف بغير المقدور قبيح عقلا، وأما مع قدرة المكلف على
الاستدلال وتمكنه من الاجتهاد فلا يسوغ له التقليد في الأصول ولا في الفروع
بل يجب عليه الاجتهاد وإجالة النظر والاستدلال بالبراهين والامارات، وأنت
قادر على الاجتهاد متمكن من البراهين والحجج، فلا يسوغ لك التقليد، ومع
ذلك فقد قام لك البرهان الجلي والدليل الواضح على بطلان خلافة هؤلاء
الثلاثة فيجب عليك المصير إليه، لأنه لم يعرض له ما ينقصه ولا يعارضه.
فكيف يسوغ لك التقليد بعد قيام الدليل ومعرفتك به وعدم حصول ما
ينقصه أو يعارضه؟ فكيف تتركه وترجع إلى التقليد؟ إن هذا لم يقل به أحد ولا
يرتضيه عاقل ولا يعارضه عالم لغيره، فكيف يسوغه لنفسه التي هي أعز شئ
عليه؟
إني أقول: لو فرضنا أنك من المقلدين فكيف رجحت تقليد هؤلاء المشايخ
الذين عددتهم دون من عداهم من أمثالهم، فترجيحك هؤلاء على غيرهم هو عين
العمل بالعناد والترجيح بلا مرجح وهو ظاهر الفساد، فإن في أهل مذهبنا من
العلماء والمصنفين والمدرسين مثل من ذكرت إن لم يكونوا أعظم منهم بدرجات
كالامام نصير الدين الطوسي المسمى بالمحقق، وسمي فخر الدين بالمشكك
وكذلك السيد المرتضى علم الهدى الذي أفحكم كل من ناظره في جميع العلوم
والشيخ أبي الفضل الطبرسي الذي أحيا علوم القرآن في جميع البلدان، والشيخ
أبي جعفر الطوسي الذي اشتهر عند العامة والخاصة بالفضل وعلوا الكعب
والشيخ ابن المطهر الحلي الذي سارت مصنفاته في جميع الأمصار، والسيد
شريف الحسيني الذي درس في جميع بلاد العجم، وركن الدين الجرجاني
ونصير الدين الكاشي وغيرهم من علماء العرب والعجم، فإن مصنفاتهم قد
464

ملأت البلدان وذكرهم قد شاع في سائر الأمصار، وقد أبطلوا في مصنفاتهم
جميع الأدلة التي ذكرها علماؤكم وقابلوها بالجوابات المسكتة، وصنفوا في
الإمامة مصنفات ضخمة ذكروا فيها أدلة كثيرة على صحة إمامة علي عليه
السلام بعد النبي بلا فصل وأبطلوا إمامة اغيره، حتى أن الشيخ جمال الدين بن
المطهر وضع كتابا سماه كتاب الألفين، ذكر فيه ألفي دليل منها ألف دليل على
إمامة علي وألف دليل على بطلان إمامة غيره، فما الذي أوجب الترجيح
لتقليدك أولئك دون هؤلاء؟
فسكت ولم يجبني عن ذلك بشئ ثم قال: ابحث لي عن سيرة الخلفاء بعد
علي واترك البحث في هؤلاء المتقدمين عليه.
فقلت: أول ما أبحث لك في معاوية وأسألك عما تعتقده فيه؟
فقال: أعتقد أنه موحد مسلم سادس الاسلام وخال المؤمنين وأنه خليفة
من خلفاء المسلمين لا يجوز وصمه ولا الطعن عليه بحال من الأحوال.
فقلت: كيف تعتقد هذا الاعتقاد فيه مع أنه حارب عليا عليه السلام
وقاتله، وخالف بين المسلمين حتى قتل بينهم خلق كثير، وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وآله، حربك يا علي حربي وسلمك سلمي، حديث اتفق على
نقله الكل أو تنكره أنت؟
فقال: لا أنكره
فقلت: إذن حرب علي حرب رسول الله وحرب رسول الله كفر بالاجماع،
فحرب علي كذلك بمقتضى الحديث.
فقال: إن حربه له كان باجتهاده والعمل بالاجتهاد جائز بل واجب، وقد
أداه اجتهاده إلى المحاربة وإن كان مخطئا في اجتهاده والخطأ في الاجتهاد لا لوم
على صاحبه ولا إثم.
فقلت: لقد أبطلت وأحلت لأنك تترك أنت الاجتهاد في الاستدلال على
465

إثبات الخليفة بعد رسول الله عليه السلام وترجع إلى التقليد وتقول: إن مسألة
الإمامة من الفروع التي يكفي فيها التقليد، وتسوغا لمعاوية الاجتهاد في محاربة من
نص النبي صلى الله عليه وآله على أن حربه مثل حربه مع أنه في تلك الحالة
إمام واجب الاتباع بالاجماع. إن هذا إلا خبط وقلة حياء في ايراد الشبهة التي
تعلم أنها ليست حجة.
ثم قلت له: أليس علي خليفة ثابت الخلافة بعد عثمان عندكم بالاجماع
من أهل الحلل والعقد؟ فقال: بلى.
فقلت: أليس معاوية قد خالف الاجماع من الأمة وعمل على خلافها وقد
تقرر في الأصول: أن الاجتهاد لا يعارض الاجماع، فكيف ساغ لمعاوية الاجتهاد
في القتال المؤدي إلى الفساد والاختلاف بين أمة محمد صلى الله عليه وآله
وحصول القتل العظيم ونهب الأموال حتى قتل في تلك الحرب عمار بن ياسر
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حقه: (عمار جلدة ما بين عيني
تقتله الفئة الباغية) حديث نقله كل الأمة، ولما قتل قال أهل الشام: نحن
الفئة الباغية بنص الرسول لأنا القاتلون لعمار، فقال معاوية مجاوبا لهم بالتمويه
وتستير الحق: إنما قتله من جاء به إلينا!! فأوهمهم بهذه الشبهة أن الفرقة الباغية
أهل العراق، فلما سمع ابن عباس اعتذار معاوية قال: قاتل الله معاوية وأبعده
يلزم من قوله أن رسول الله صلى الله عليه وآله هو الذي قتل حمزة وعبيدة
وغيرهما من شهداء بدر واحد، لأنه هو الذي جاء بهم إلى الكفار، وكيف اعتذر
بهذا العذر؟!
ومع ذلك فيكف يسوغ له سب علي وشتمه على المنبر وعلى رؤوس
الاشهاد حتى استمر على ذلك بنو أمية برهة من الزمن إلى وقت خلافة عمر بن
عبد العزيز فرفعه؟
فكيف يسوغ له ذلك والنبي صلى الله عليه وآله يقول: (من سب عليا
466

فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله 9 الحديث. وهل يصح له أن يجتهد في ذلك؟
فما عذره أو عذر من يعذره غدا عند الله تعالى؟ أوليس أنه سب من مدحه الله
وأوجب حقه ونزهه عن الخطأ وفضله وكان أساس الاسلام بسيفه، ونظام
الأمة بتدبيره وأحكام الشريعة بعلومه، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه
وآله: (علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار) حديث اتفق على
نقله الكل؟
ثم قلت له: ما أظن أن عالما مثلك يقف على مثل هذه هذه الأحوال ثم يتوقف
أو يخالطه شك في معاوية، أليس الشيخ سعد الدين التفتازاني لما وقف على
هذه الأحوال وتحققها تبرأ منه وسبه حتى اشتهر ذلك عنه في جميع بلاد
خراسان، فكيف تمدحه أنت أو تتوقف في وصمه؟!
فقال: لا شك أن ملعون يجب على كل مسلم التبري منه لقتله الحسين
عليه السلام.
فقلت: بل وقتل الأنصار يوم الحرة وضرب الكعبة بالمناجيق حتى هدمها،
وحكميت له القضيتين.
فقال: إني لا أشك في لعنه.
فقلت: إن خلافته مسببة عن أبيه فكان العصيان والفسق والفساد
الحاصل منه كله مسببا عن أبيه، وكانا نظيرين فإن الأب سم الحسن والابن
قتل الحسين، فتعجب من قصة الحسن.
فقلت: إنها قصة ثابتة عند أهل السير والأحاديث، وحكيتها له وذكرت له
ما كان السبب فيها فوافق على البراءة منه ولعنه.
فقلت: إن خلافته مسببة عن عثمان، لأنه هو الذي استعمله على الشام
فبقي متغلبا عليها منعا لعلي عن التصرف فيها، والسبب في ذلك عثمان حيث
467

استعمل على الاسلام من يعلم فسقه، بل كفره حتى حصل وهتك
الاسلام والمسلمين وخراب الدنيا والدين ما قد حصل.
ثم بل أقول: إن قتل الحسين مسبب عن عمر بن الخطاب. فقال: فقال: أقم لي
الدليل على ذلك.
فقلت: الدليل واضح والحق لائح، فإنه لولا قضية الشورى التي ابتدعها
عمر وتعدى في ابتداعها وأدخل عثمان فيها وجعل الامر لعبد الرحمن بن عوف
وأمر بقتل من يخالف الذي فيه عبد الرحمن لم يتوصل عثمان إلى الخلافة أصلا
ولا كانت الأمة رضيت به مع وجود علي عليه السلام، لأنه لا يوازنه في فضل
ولا يماثله في سبق ولا يضاهيه في علم ولا يقاربه في سؤود وشرف، فكانت
خلافته مسببة عن الشورى التي هي بنص عمر، وخلافة معاوية مسببة عن
عثمان، لأنه جعله واليا على الشام، ولولا عثمان لم يصل معاوية إلى امارة
الشام، لأنه دخليل في الاسلام وكونه من الطلقاء المؤلفة قلوبهم يعرف ذلك أهل
السير، وخلافة يزيد التي حصل بها قتل الحسين والأنصار وهدم الكعبة بنص
معاوية ومبايعة أهل الشام وبذله عليها الأموال فكان قتل الحسين
عليه السلام مسببا عن عمر.
وأنا أروي لك حديثا تعرف منه صحة ذلك. فقال: وما هو؟
فقلت: إن عبد الله بن عمر لما قتل الحسين عليه السلام أنكر ذلك على
يزيد واستعظمه، فكتب عبد الله بن عمر إلى يزيد: أما بعد فقد عظمت الرزية
وحلت المصيبة وحدث في الاسلام حدث عظيم ولا يوم كيوم الحسين عليه
السلام. فكتب إليه يزيد: أما بعد، يا أحمق فإنا جئنا إلى بيوت متجددة وفرش
ممهدة ووسائد منضدة فقاتلنا عليها، فإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا، وإن
يكن لغيرنا فأبوك أول من سن هذا وأثر واستأثر بالحق على أهله، والسلام.
فسكت عبد الله بن عمر عن جداله، وأظهر للناس عذر يزيد فيما فعله!
468

فقال: هذا ظلم من يزيد لعنه الله لعمر (1) فإن عمر لم يأمر بذلك ولم يعلم
أن الامر يصل إلى يزيد، ولو فرض أنه علم أنه يصل إليه لم يعلم أنه يعمل مثل
عن يزيد.
فقلت: إن عمر وإن لم يكن نص على معاوية فإنه نص على الشورى التي
كانت سببا لخلافة عثمان، وعثمان كان سببا في تولية معاوية، ومعاوية كان
سببا في خلافة يزيد، لان سبب السبب سبب.
فقال: إنه لم يكن سببا تاما، بل كان جزء السبب.
فقلت: الحمد لله قد اعترفت بأنه جزء العلة، وجزء العلة علة لتوقف التأثير
عليه، فقد صار عمر جزء من العلة وجزء العلة التامة في قتل الحسين عليه
السلام باعترافك.
فاعترف وسكت ثم قال: ابحث لي عن باقي الخلفاء من بني العباس.
فقلت: إن البحث عن هؤلاء الفروع لا فائدة فيه بل الفائدة في البحث
عن هذه الأصول، لان خلافة أولئك مسببه عن هؤلاء ومع ذلك فإني أقول:
ما تقول في هذا الامام المدفون بخراسان الذي اسمه علي بن موسى الرضا
عليه السلام الذي أنت تزوره وتتبرك بساحته صباحا ومساء وتتقرب إلى الله
بزيارته؟
فقال: وما أقول فيه: انه من ذرية الرسول واجب المودة والمحبة من جميع
الاسلام، وانه من أهل الله وخاصته الذين صفاهم واصطفاهم بالعلم والعمل
والزهد والشرف.
فقلت: ما تقول في أبيه الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام؟

(1) الظاهر أنه: لا عمر.
469

فقال: كما قلت في ابنه.
فقلت: فما تقول في خليفة حبس الأول ودس إليه السم حتى قتله، وخليفة
قتل الابن أيضا بالسم بعد الاعتراف بفضله والمبايعة له بولاية العهد؟
فقال: ومن ذلك وهذا؟
فقلت: الخليفة الأول هارون لرشيد فإنه حبس الإمام موسى بن جعفر
عليه السلام في حبس السندي بن شاهك مدة من الزمان وأعطاه السم،
فدسه إليه في الحبس وقد ثبت ذلك في الأخبار الصحيحة، والخليفة الثاني ولده
المأمون فإنه قد اشتهر عند الكل أنه كان يعظم الرضا وعقد له ولاية العهد
بعده، ثم إنه بعد ذلك قتله بالسم ثبت ذلك عند أكثر أهل العلم ولم يخالف
منهم إلا قليل.
فقال لي: أريد أن تريني ذلك في مصنفات العلماء.
فقلت: من علمائنا أم علمائكم؟ فقال: أريد من الطرفين.
فقلت: اما من طريقنا فكثير، مثل كتاب ارشاد المفيد وكتاب عيون الأخبار
لابن بابويه القمي وكتاب كشف الغمة للأربلي وغيرها، وكان
بالاتفاق في بيت السيد كتاب عيون الأخبار فأوقفته على قصة الإمام الكاظم
مع الرشيد في بيت السيد كتاب عيون الأخبار فأوقفته على قصة الإمام الكاظم
مع الرشيد وما جرى عليه من الأمور المنكرة وما قتل من بني هاشم وما أخافوا
منهم حتى تفرقوا في البلاد، وما حبس منهم حتى ماتوا في السجون والاغلال.
فأنكر عليه غاية الانكار، وبكى لما جرى على بني هاشم واعترف بصحة
قولي.
وأما من طريقكم فلم يحضرني الان شئ من كتبكم.
فقال السيد محسن: بل عندي كتاب يسمى كتاب العاقبة من مصنفات
بعض الشافعية فلعل فيه شئيا من ذلك.
فقلت: هات الكتاب، فجاء به، ففتشناه فوجدناه يشتمل على ذكر عواقب
470

الأمور، فوجدنا فيه فصلا يذكر فيه عواقب الخلفاء، فوجدناه قد اشتمل على
عواقب ذميمة وأخلاق ردية كانت حتى أنه ذكر أنه منهم من مات مخمورا
ومنهم من مات بعشق جارية، ومنهم من مات بحب الغناء وضرب الأوتار
وأمثال ذلك.
فلما وقف على ذلك وتحقيق صحته قال: إني أشهد أني أتبرأ إليك من
جملة هؤلاء الخلفاء من بني أمية وبني العباس وأدينك بالبراءة منهم واللعن لهم
ولمن اتبعهم، فظهر عليه الغلب.
ثم إنا وجدنا في كتاب العاقبة حديثا يسنده إلى علي عليه السلام، وهو أنه
قال يوما وهو جالس في نفر من أصحابه: أنا أول من يجلس بين يدي ربي يوم
القيامة للخومة مع الثلاثة. فلما رأيت هذا الحديث فيه مسندا إلى علي عليه
السلام قلت له: إن هذا الحديث حجة عليك، فقال: إن صاحب الكتاب قد
حمله على غير الثلاثة الذين تدعونهم، لأنه قال: المراد بالثلاثة عتبة وشيبة
والوليد الذين برزوا إليه والى عبيدة وحمزة يوم بدر.
فقلت: هذا المحل (1) كذا بعيدة، لان الشكوى من هؤلاء الثلاثة ليست له
وحده بل له ولحمزة ولعبيدة، فالشكوى من علي لهم يوم القيامة لا فائدة فيها،
لأنه قتلهم، بل ظاهر الحديث أنه يشتكي من الثلاثة الذين اغتصبوه الخلافة،
وما نعرف له من ظلامة ثلاثة يشتكي منهم عند الله إلا من الثلاثة الذين
أخذوا حقه واستأثروا بالامر من دونه، وذلك ظاهر لائح.
ثم إني قلت: ما تقول في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وهو قوله لعلي عليه السلام: يا أبا الحسن، إن أمة موسى افترقت إحدى
وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار، وافترقت أمة عيسى اثنين وسبعين

(1) الظاهر أنه: المحمل.
471

فرقة فرقة ناجية والباقون في النار، وستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة فرقة
ناجية والباقون في النار؟ فقال: حديث صحيح.
فقلت: فمن هي الفرقة الناجية إذا لم تكن هي أهل البيت الذين شهد الله
لهم بالتطهير من الرجس بمحكم الكتاب العزيز في قوله (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فإن هذه الآية نزلت في
علي وفاطمة والحسن والحسين باتفاق الكل لما ألحفهم النبي بكسائه وقال:
اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأمر الله نبيه
بالاستغاثة بهم في الدعاء في قصة مباهلة نصارى نجران بنص القرآن فقال
تعالى: 0 قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم)
الآية، ولما خرج النبي للمباهلة لم يخرج بأحد غير علي وفاطمة والحسن
والحسين باتفاق الكل، فعلم أنهم المعنيون بالآية دون غيرهم، وقال صلى الله
عليه وآله في حقهم: (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن
تخلف عنها هلك) فأيما الأولى بالاقتداء والاتباع هؤلاء وأتباعهم السالكون
آثارهم والمقتدون بأقوالهم وأفعالهم، أم الحائدون عنهم الضالون عن طريقهم
المقتدون بمن لم ينص الله على طهارته ولا أمر بمودته ولا حض على اتباعه ولا أمر
نبيه بالاستغاثة بدعائه؟ بل أقول: الأحق بالاتباع والأولى بالاقتداء مذهب الإمامية
ويدل على ذلك وجوه:
الأول: أنهم أخذوا مذهبهم عن الأئمة الذين يعتقدون عصمتهم وفضلهم
وعلمهم وزهدهم وشرفهم على أهل زمانهم، ووافقهم الخصم على ذلك،
فاعترف بفضلهم وعدالتهم وعلمهم وزهدهم حتى أنهم صنفوا في فضائلهم
وتعداد مناقبهم كتبا مثل كتاب طلحة، وكتاب غاية السؤول في مناقب آل
الرسول لابن المغازلي، وكتاب محمد بن مؤمن الشيرازي المستخرج من التفاسير
الاثني عشر، وكتاب موفق بن أحمد المكي، وغيرها من الكتب، وإذا كان
472

الخصم مساعدا على مدح هؤلاء الأئمة الذين اعتقد الامامية فيهم الإمامة فليس
لطاعن إليهم سبيل، كانوا بالاتباع أولى ممن لا يساعده خصمه على مدح أئمتهم،
بل يطعن فيهم بالمثالب الشنيعة وظهرت عنهم الاعمال القبيحة التي رواها
عنهم مجموع الأمة من يعتقد إمامتهم وغيرهم.
فأي الفريقين حينئذ أولى بالاتباع وأحق بالاقتداء، أولاء الذين اتفق
الكل على مدح أئمتهم وتعظيمهم أو أولئك المطعون في أئمتهم المقدوح في عدالتهم
من أتباعهم وغيرهم؟
ومع ذلك فإن ما نشاهده اليوم من تعظيم الناس لقبور هؤلاء الأئمة، واجتماع
الخاص والعام عليها وزيارتها تبركا بها بقصدها من جمى الأمصار وكونها في
غاية التعظيم في قلوب جميع الخلق دليل واضح على عظم شأنهم عند الله، وأنهم
الأئمة الذين أوجب الله حقهم على خلقه وجعلهم حجة عليهم.
والثاني: إن النبي صلى الله عليه وآله نص على وجوب اتباع أهل بيته
وسلوك آثارهم والاقتداء بهم وحض الناس على ذلك في روايات كثيرة
من الطرفين، ولا حاجة إلى ايراد الروايات الواردة في ذلك من طرق الامامية
لشهرتها عندهم، وأما ما ورد من طرق الجمهور فكثير نورد بعضا من جملة:
ففي الجمع بين الصحاح الستة عنه عليه السلام قال: (رحم الله عليا
اللهم أدر الحق معه حيثما دار).
وروى أحمد بن حنبل عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
(يا علي خلقت أنا وأنت من شجرة وأنا أصلها وأنت فرعها والحسن والحسين
أغصانها فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخهله الله الجنة).
وروى فيه عن سعيد: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إني
قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي الثلين: كتاب الله حبل
ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا
473

علي الحوض).
وفي صحيح مسلم في موضعين عن زيد بن أرقم قال: (خطبنا رسول الله
صلى الله عليه وآله بين مكة والمدينة ثم قال بعد الوعظ: أيهغا الناس إنما أنا
بشر مثلكم يوشك أن يأتيتي رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين: أولهما
كتاب الله والثاني أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي).
وروى جار الله العلامة الزمخشري بإسناده قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله (فاطمة مهجة قلبي وأبناها ثمرة فؤادي وبعلها نور بصري والأئمة
من ولدها امناء ربي، وجعل حبلا ممدودا بينه وبين خلقه، من اعتصم بهم نجا
ومن تخلف عنهم هوى).
وروى الثعلبي في تفسيره بأسانيد متعددة: أن رسول الله صلى الله عليه
وآله قال: (أيها الناس قد تركت فيكم الثقلين خليفتين إن أخذتم بهما لن
تضلوا: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن
يفترقا حتى يردا علي الحوض).
وفي اجمع بين الصحيحين للحميدي: (إنما انا بشر يوشك أن يأتيني رسول
ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: كتاب الله فيه الهدى والنور وأهل بيتي
أذكركم في أهل بيتي).
في مسند أحمد بن حنبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
(النجوم أما لأهل السماء فإذا ذهبت ذهبوا، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض
فإذا ذهب أهلب بيتي ذهب أهل الأرض).
وكذلك في رواية موفق بن أحمد المكي.
وفي رواية صحيح البخاري في موضعين بظريقين عن جابر وابن عيينة
قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا يزال أمر الناس ماضيا ما
ولاهم اثنا عشر خليفة من قريش).
474

وفي صحيح مسلم: (لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ويكون عليهم
اثنا عشر خليفة كلهم من قريش).
وفي صحيح داود والجمع بين الصحيحين وتفسير السندي: قال: لما كرهت
سارة مكان هاجر أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام فقال: انطلق بإسماعيل
وأمه حتى تنزله البيت التهامي يعني مكة، فإني ناشر ذريته وجاعلهم ثقلا على
من كفر بي وجاعل منهم نبيا عظيما ومظهره على الأديان وجاعل من ذريته
اثني عشر عظيما.
وعن مسروق قال: سأل شاب عبد الله بن مسعود فقال: كم عهد إليكم
نبيكم أن يكون بعده خليفة؟ فقال: إنك لحديث السن وهذا شئ ما سألني
عنه أحد، نعم عهد إلينا نبينا بأنه يكون بعده اثنا عشر خليفة عدد نقباء
بني إسرائيل.
والروايات في هذا المعنى كثيرة من طرق الجمهور، ولو أردنا الاستقصاء
لطال علينا الامر واتسع، وقد دلت هذه الأحاديث على الحث والامر بالاقتداء
بأهل بيته ووجوب اتباعهم والتمسك بطريقتهم، وأنهم اثنا عشر خليفة من ذرية
الرسول عليه السلام، ولا قائل بالحصر في الاثني عشر سوى الامامية فإنهم
حصروهم في هؤلاء الأئمة المشهورين بالفضل والعلم والزهد عند الكل من أهل
الاسلام فوجب الاقتداء بهم والانحياز إلى فريقهم، وظهر أن مذهب القائلين
بإمامتهم واجب الاتباع.
الثالث: إن أحسن المقالات وخير الاعتقادات ما اشتمل عليه مذهب الإمامية
أصولا وفروعا، يعرف ذلك من اطلع على أصول المذاهب ونظر في فروع
الاعتقادات، فإنه بعد النظر الخالي عن مخالطة الشبهة والتقليد يتحقق أن
مذهب الإمامية من بينهم أولى بالاتباع وأحق بالاقتداء، وقد صدق فيهم قوله
تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) فإن من أصولهم تنزيه الله
475

وتعظيمه وتعظيم الأنبياء والأئمة عما يكون في أصول غيرهم، فإنهم نزهوا الله
عز وجل عن التشبيه والرؤية والاتحاد والحلول والمعاني القديمة والأحوال وخلق افعال العباد والرضا بالكفر والفسق ونسبة القبائح والشرور إليه وكون افعاله لا
لغرض، وأنه يكلف عباده بما لا يطاق.
واعتقدوا في الأنبياء: أنهم معصومون عن المعاصي الصغائر والكبائر
والخطأ والنسيان من أول أعمارهم إلى آخرها، وأئمتهم معصومون عن الخطأ
والمعاصي وأنهم أعلم الخلق وأفضلهم وأشرفهم نسبا، وفي مذاهب السنة ما
يخالف ذلك وينافيه فجوزوا التشبيه والجهة والحلول والاتحاد والتجسيم
والرؤية البصرية والمعاني الزائدة، وقالوا: لافاعل في الوجود الا الله، وأن جميع
المعاصي والقبائح والشرور كلها بخلق الله وإرادته، وأن العباد مجبورون، وأنه
رضى بالكفر والمعاصي، وأنه كلف عباده فوق ما يطيقون، وأن الأنبياء يجوز
عليهم الكفر والمعاصي والنسيان ورووا فيما بينهم روايات تقضي بالدناءة
والخسة، فررووا أنه صلى الله عليه وآله نسي فصلى الظهر ركعتين ولم يذكر حتى
أذكره بعض أصحابه، وأنه دخل المحراب للصلاة جنبا، وأنه استمع إلى اللعب
بالدفوف، وغير ذلك من الأشياء القبيحة التي لا تليق بأدنى الرجال، وقالوا:
إن الخلفاء الذين تجب طاعتهم جائز عليهم الخطأ والمعاصي والكبائر، وأنهم غير
عالمين بما تحتاج إليه الأمة بل لهم الرجوع إلى الأمة، والاحتياج في الفتوى
والاحكام إليهم، وأنهم لا يحتاجون أن يكونوا أفضل الخلق ولا أشرفهم نسبا ولا
أعلامهم محلا في الاسلام.
وأما في الفروع: فإن الامامية لم يأخذوا بالقياس ولا بالرأي ولا
بالاستحسان ولا اضطربوا في الفتاوي ولا اختلفوا في المسائل، ولا كفر بعضهم
بعضا ولا حرم بعضهم الاقتداء بالاخر، لأنهم أخذوا فتاويهم وأحكامهم عن
أئمتهم الذين هم ذرية الرسول عليه السلام الذين يعتقدون عصمتهم، وأنه
476

أخذوا علومهم واحدا عن واحد وكابرا عن كابر وآخرا عن أول إلى جدهم،
فكانت فروعهم أوثق الفروع وشريعتهم أحسن الشرايع ودينهم أتم الأديان، فإن
غيرهم أخذوا بالقياس والاستحسان والرأي وأسندوا رواياتهم عن الفسقة
والمعتدين (1) الكذب، فافترقوا أربع فرق.
كل فرقة تطعن الأخرى وتتبرأ منها ويكفر بعضهم بعضا ويحللون ويحرمون
عمن هو جائز الخطأ والمعاصي والكبائر، وانقطعت عنهم مواد الاخذ عن النبي
صلى الله عليه وآله لأنهم رفضوا اتباع أهل البيت ووضعوا على مقتضى
آرائهم وزادوا فيه ونقصوا وحرفوا وغيروا وبدلوا، فأحلوا ما حرم الله وحرموا ما
أحل الله لأنهم لم يأخذوا الحلال والحرام عمن لا يجوز كذبه وخطأه كالامامية،
وكانت حينئذ حلالهم وحرامهم وفرائضهم وأحكامهم معرضة للخطأ
والكذب، لأنها ليست عن الله ولا عن رسوله.
يعرف ذلك من اطلع على أحوالهم ورواياتهم، فإنا نجد في فتاويهم الأشياء
المنكرة التي تخالف العقول والمنقول، ومن له أدنى إنصاف واطلاع على أحوال
المذاهب يعرف ذلك ويتحققه ومصنفات الفريقين تدل على صحة ذلك.
وإذا نظر العاقل المنصف في المقالتين ولمح المذهبين عرف موقع مذهب الإمامية
في الاسلام وأنهم أولى بالاتباع وأحق بالاقتداء، لأنهم الفرقة الناجية
بنص الرسول عليه السلام، فقد روى أبو بكر محمد بن مؤمن الشيرازي في
كتابه المستخرج من التفاسير الاثني عشر في إتمام الحديث المتقدم بعده: قال
علي: يا رسول الله من الفرقة الناجية؟ فقال: المتمسكون بما أنت عليه
وأصحابك. وفي الأحاديث المذكورة آنفا ما يدل على أن المتبعين لأهل البيت
والمقدمين لهم والمقتدين بهم هم الفرقة الناجية، وحث الرسول على الاقتداء بهم

(1) الظاهر أنها: والمتعمدين.
477

والتمسك بماهم عليه وإيجاب ذلك على جميع الخلق بروايات الكل يعلمنا علما
ضروريا أن أهل البيت هم الفرقة الناجية.
فكل من اقتدى بهم وسلك آثارهم فقد نجا، ومن تخلف عنهم وزاغ عن
طريقهم فقد غوى، ويدل على الحديث المشهور المتفق على نقله: (مثل أهل
بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق) وهو حديث نقله
الفريقان وصححه القبيلان لا يمكن لطاعن أن يطعن عليه وأمثاله في
الأحاديث كثيرة.
فقال: إن جميع ما ذكرته من هذه الوجوه الدالة على أن مذهب الإمامية
واجب الاتباع وأنهم الفرقة الناجية تكثير على السامع وتلبيس عليه بروايات
الآحاد، وأيضا فإن أهل السنة يقولون في مذهبهم من المدائح مثل ما ذكرت
وأكثر، ويذمون مذاهب غيرهم بأقبح المذمات، وقد قال الله تعالى: (وكل
حزب بما لديهم فرحون).
وقال الشاعر:
كل بما عنده مستبشر فرح * يرى السعادة فيما قال واعتمدا
وقيل في المثل السائر: كل ريق في فمه حلو. ولكن الذي ينبغي لذوي
العقول وأهل العلم والانصاف (1) في المجادلة وقلة الاشتغال بالمدح والذم، فإنه
باب واسع يطول فيه المجال ويكثر فيه القيل والقال والتعداد من الطرفين.
فقلت: أنت محق في ذلك وقد قلت الانصاف، ولكن ما تقول في هذه
الأحاديث المروية في كتبكم التي تشتمل على حصر الخلفاء في اثني عشر
وأنهم من قريش؟ أليست دالة على صحة مذهب الإمامية لأنهم لاغيرهم
القائلون بتخصيصها بإمامة اثني عشر من قريش وهم من ذرية الرسول عليه

(1) الظاهر أن الصحيح: (الانصاف) بحذف الواو.
478

السلام دون غيرهم من الفرق؟
فقال: هذه الأحاديث معارضة بأمثالها والذنب فيها على الرواة.
فقلت: إن الروايات إذا وردت من الطرفين وتضافرت عن رجال الفريقين
وتساعد على إيرادها كل من الخصمين صارت متواترة عند الأمة فيجب المصير
إليها والترك لما ورد من الطرف الواحد، وهذه الأحاديث المعارضة لهذه الاخبار
المروية من الطريقين لم يروها الكل ولم يتفق على نقلها الفريقان بل
ردها الخصم وأنكرها، فكان حينئذ الأولى بالعمل في الترجيح والواجب على
السامع العمل بما اتفق على نقله وطرح ما اختلف فيه مع المعارضة، لأنه
الاحتياط التام والاخذ بالأحزم من الرأي.
ثم قلت له: ومع هذا كله فهاهنا برهان واضح ودليل لائح موجود الان
مشاهد للابصار وقد شاع في جميع الأمصار.
فقال: وما هو؟
فقلت: هذا مشهد الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام تزوره
الزوار من كل البلاد وله في كل سنة ميقات هو أول ليلة من شهر رجب يجتمع
عنده عالم من الامامية وأهل السنة وغيرهم، ويأتي أهل السنة بعمى وصم
ومقعدين ويصفونهم على ساحته تلك الليلة، فكل من خرج من أولئك العمى
والصم والمقعدين من مذهب أهل السنة وتبرأ منه ورفضه بقلبه وخالص
اعتقاده برئ من علته ورجع إلى أحسن حال، وهذا آخر المجالس، والحمد لله
وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله الأطهار ما اختلف الليل
والنهار وسلم تسليما كثيرا.
(945)
الشيخ الكاظمي مع الآلوسي
نقل السيد المحقق العلامة الحاج السيد مهدي الروحاني: أن في بغداد انعقدت
479

حفلة عرس حضرها كثير من الشيعة والسنة، وحضرها العالم الكبير والمحقق التقي
الشيخ محمد حسين الكاظمي، ومن أهل السنة الشيخ محمود شكري الآلوسي. فالتفت الآلوسي إلى الشيخ فقال:
كان الماضون من العلماء يباحثون في مسائل دينية في المجالس فيستفيد منه
الناس، فهل لك أن تناظرني في بعض المسائل الشرعية حتى يستفيد هؤلاء؟
قال الشيخ: باختياركم.
قال الآلوسي: فهل في الأصول أو الفروع؟
- باختياركم.
- فاذن نبحث في الأصول ولكن في أي أصل منها؟ فهل نجعلها مناظرة؟
- باختياركم.
- لم لا يقول الشيعة بإمامة الشيخين.
- للمدعي أن يأتي بدليل، فانا نسأل أهل السنة عن أن لم اختاروا إمامة
الشيخين؟
- لأن النبي - صلى الله عليه وآله - نصبه للصلاة في أيام مرضه.
- أن المرء ليهجر.
سكت الآلوسي وبهت وتحير، وبان وجهه الأنكسار والعي وفهمه
الحاضرون، وانكسر أهل السنة الموجودون في المجلس وسر وفرح الشيعة، فأراد
الآلوسي أن يجبر الانكسار بشئ ينسيه فقال:
هلموا بالطعام، فجاءوا بالطعام إلي وإليه، فأراد الآلوسي جبران ما فات
بالمزاح، وأخذ يأكل من الطعام الموضوع أما الشيخ قائلا: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: من أكل وحده فشريكه شيطان.
قال الشيخ: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله.
فانكسر الآلوسي أيضا وضحك الحاضرون.
480

كان على رأس الأرز المطبوخ الموضوع امام كل من الحاضرين دجاجة،
فأكل الآلوسي وأخذ من الأرز فانهارت الدجاجة إليه، فقال: عرف الحق أهله
فتقدم.
قال الشيخ: لا، بل فحفر الشيخ تحته فتهدم.
نقل السيد الروحاني هذا في منزلي في محلة خاكفرج ليلة الجمعة في شهر
ربيع الأول من 1406 ه‍ ق الموافق لاذر من 1364 ه‍ ش.
(946)
الصدوق مع ركن الدولة لما بلغ صيت فضائل شيخنا الصدوق المبرور إلى سمع السلطان ركن
الدولة المذكور أرسل إليه - رحمه الله - يستدعي حضوره الشريف إلى موكب
السلطان، فلما حضر قرب مجلسه إليه وأدناه من نفسه وبالغ في إعمال مراسم
التعظيم والتكريم بالنسبة إليه، فلما استقر المجلس المبارك التفت الملك إلى
شيخنا الصدوق - رحمه الله - وقال له:
يا شيخ إن فرقة أهل الفضل الحاضرين هنا والجالسين بحضرتنا لقد
اختلفوا في شأن جماعة من الصحابة الكبار تلعنهم الشيعة الإمامية ويظهرون
منهم البراءة مثل الطوائف غير الاسلامية، فبعض هؤلاء الفضلاء يوافقونهم في
ذلك، ويقولون بوجوب إظهار البراءة من أولئك، وبعضهم لا يجوزون ذلك فضلا
أن يوجبوه ويراقبوه، فبين لنا أي الفريقين أحق بالاتباع؟ وأي المذهبين أقرب
إلى رأيك المطاع؟
فلما سمع شيخنا الصدوق كلام الملك بالتمام أخذ بزمام خير الكلام
متوكلا على الملك العزيز العلام وقال متوجها إلى حضرته السلطانية:
اعلم أيها الملك لا زلت مؤيد بالعنايات السبحانية، أن الله سبحانه وتعالى
481

لما كان لا يقبل من أحد عن عباده الاقرار بر بوبيته حتى ينفي ما سواه من
المعبودين ويخلص العبودية إليه بأحسن التبيين كما ينطق بذلك كلمة توحيد
الذات الجامعة بين النفي والاثبات وكذلك كما لا يقبل الاقرار بالنبوة حتى
ينفيها عن جميع المدعين بالباطل والمتنبين بلا دليل فاصل مثل مسيلمة الكذاب
والأسود العنسي وسجاح الملعونة وأمثالهم المدعين للرسالة في زمان رسول الله
صلى الله عليه وآله، فكذلك لا يقبل القول بامامة علي أمير المؤمنين عليه
السلام وخلافته المسلمة عند جميع المسلمين إلا بعد نفي ذلك عن سائر من
ادعاه في زمانه وعجز عن إقامة دليله وبرهانه وبقي على عتوه وعداوته.
فلما التفت الملك إلى مضمون هذا الخطاب أخذ في تحسين ما لفقه (1) من
الجواب، زائد على حد الحساب، ثم توجه بجميل نظره إلى ذلك الجناب وقال:
أريد أن تزيد لنا في البيان وتبين لنا حقيقة أحوال المتصرفين في الخلافة
والإمامة على سبيل الظلم والعدوان.
فقال الصدوق - رحمه الله -: نعم أيها الأمير إن حق القول في ذلك: أن إجماع
الأمة منعقد على قبول قصة سورة البراءة، وهي كافية في إثبات خروج المتغلب
الأول عن دائرة الاسلام، وأنه ليس من الله ورسوله في شئ، وأن إمامة علي بن
أبي طالب عليه السلام منزلته (2) من جانب السماء
قال: فأنبئني عن تفصيل هذه القصة رحمك الله.
فقال: الشيخ: إن نقلة الآثار من المخالف والمؤالف متفقون على أنه لما
نزلت سورة براءة دعا رسول الله صلى الله عليه وآله باابكر وقال له: خذ هذه
السورة واخرج إلى جهة مكة وأقرأها عني على أهل الموسم، فلما خرج وقطع

(1) في المصدر (لقفه) والصحيح ما أثبتناه.
(2) كذا في المصدر والظاهر (منزلة).
482

شيئا من الطريق نزل جبرئيل وقال: يا محمد، إن ربك العلام يقرؤك السلام
ويقول: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل كان منك، فأمر رسول الله صلى الله
عليه وآله عليا عليه السلام بأن يخرج من المدينة ويأخذ منه السورة المذكورة
حيثما بلغه، فخرج على أثره حتى وصل إليه وأخذ منه السورة وذهب بها إلى
الميقات وقرأها على أهل الموسم بنيابة رسول الله صلى الله عليه وآله.
فبموجب هذا الحديث لا يكون أبو بكر من النبي صلى الله عليه وآله في
شئ، وإذا لم يكن منه فليس بتابع له، لان الله تعالى يقول: (فمن تبعني فإنه
مني) ومتى لم يكن تابعا له فليس بمحب له فهو كما قال سبحانه: (قل إن
كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ولما لم يكن محبا ثبت أنه كان مبغضا،
ومن المسلم عند الكل أن حب النبي صلى الله عليه وآله الايمان وبغضه
الكفر، وبهذا ثبت أيضا أن عليا عليه السلام كان منه وبمنزلة نفسه كما يشهد
به كثير من الروايات بل الآيات:
مثل ما نقله المخالفون في تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه
ويتلوه شاهد منه): أن المراد بصاحب البينة هو النبي صلى الله عليه وآله
وبالشاهد التالي هو أمير المؤمنين. وما نقلوه أيضا عن النبي صلى الله عليه
وآله أنه قال: طاعة علي - عليه السلام - كطاعت ومعصيته كمعصيتي. وما رووه
أيضا: أن جبرئيل الأمين عليه السلام لما نظر في واقعة أحد إلى مولانا أمير
المؤمنين عليه السلام، وانه كيف يجاهد في سبيل ربه سبحانه وتعالى بتمام
جهده وكده قال: يا محمد، إن هذا لهو غاية النصر وبذل المجهود، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله: نعم يا جبرئيل، إنه مني وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا
منكما.
فانظر أيها الملك إذا كان الرجل لا يأمن الله تعالى عليه في تبليغ سورة من
القرآن إلى جماعة إلى جماعة من المسلمين في خصوص الزمان والمكان، فكيف يصلح
483

لتبليغ جميع الآيات وإمامة جميع الأمة بعد رسول الله؟ وكيف يتصور كونه أمينا
على دين الله مع أن عزله عن حمل هذه السورة الواحدة يكون فوق السماوات
السبع؟
وأيضا كيف لا يكون مظلوما من نزلت ولايته من السماء فأخذها منه رجل
آخر على سبيل الظلم والعدوان؟
فاستحسنه الملك وقال: نعم، كل ما ذكرته ظاهر واضح وغير خفي على
أرباب القرائح.
ثم استأذنه في خلال تلك الأحوال واحد من رجال الدولة العلية يدعى أبا
القاسم في الكلام مع شيخنا الصدوق - رحمه الله - وهو بين يدي السلطان قائم،
فلما أذن له قال:
كيف يجوز أن تكون هذه الأمة على ضلالة مع الامر مع أن النبي - صلى الله
الله عليه وآله - قال: لا تجتمع أمتي على الضلال؟
فأخذ الشيخ في الجواب عن ادعائه الاجماع حلا ونقضا بجميع ما هو مذكور
في كتب أصول الشيعة، وهو من الظهور بمنزلة النور على شاهق الطور.
ثم إنه قد طال الكلام على أثر هذا المقام بين الملك والصدوق في مراتب
شتى، وعرض عليه في ذلك الضمن أيضا كثيرا من أحاديث لزوم الحجة في
كل زمان فانبسط وجه الملك جدا، وأظهر غاية اللطف والمرحمة بالنسبة إليه،
وأعلن كلمة الحق في ذلك النادي، ونادى: أن اعتقادي في الدين هو ما ذكره
هذا الشيخ الأمين، والحق ما تذهب إليه الفرقة الامامية دون غيرهم.
واستدعى أيضا حضوره - رحمه الله - في مجلس الملك كثيرا.
فلما ورد الصدوق عليه من الغد وأخذ الملك في مدحه وثنائه أظهر بعضهم
بحضرته المقدسة أن هذا الشيخ يرى أن رأس الحسين - عليه السلام كان يقرأ
على القناة سورة الكهف.
484

فقال الملك: ما عرفنا منه ذلك حتى أن نسأله، فكتب إليه رقعة يذكر فيه
هذه النسبة.
فكتب في جوابه: نعم بلغنا أن رأسه الشريف قرأ آية من تلك السورة
المباركة، ولكنه لم يوصل (1) إلينا من جانب الأئمة عليهم السلام، ولا ننكره
أيضا لأنه إذا كان من الامر الجائز المحقق تكلم أيدي المجرمين وشهادة أرجلهم
الخبيثة يوم القيامة بما كانوا يكسبون، كيف لا يجوز أن يتكلم رأس ابن رسول
الله صلى الله عليه وآله وخليفته في أرضه وإمام الأئمة وسيد شباب أهل الجنة
بتلاوة القرآن المجيد والذكر الحميد، وتظهر منه هذه الكرامة العليا بإرادة إلهه
القادر على ما يريد؟ فإنكاره في الحقيقة إنكار لقدرة الله أو جحود لفضيلة رسول
الله، والعجب ممن يفعل ذلك وهو يقبل أنه بكته ملائكة السماء، وأمطرت على
مصيبته من الأفلاك الدماء، وناحت عليه الجن بطريق الشيوع، وأقيمت
مراسم عزائه في جميع الأصقاع والربوع، بل من أبى عن قبول أمثال ذلك مع
تحقيقه وسلامة طريقه كيف لا يأبى عن صحة شرايع النبيين ومعجزاتهم المنقولة
بأمثال هذه الطرق عاليا إلى أهل الدين؟
فبهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الفاسقين (2).

(1) هكذا في المصدر والصحيح (لم يصل).
(2) روضات الجنات: (ج 6 / 140 - 144.
485