الكتاب: الغدير
المؤلف: الشيخ الأميني
الجزء: ٨
الوفاة: ١٣٩٢
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع: ١٣٨٧ - ١٩٧٦ م
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: عني بنشره الحاج حسن ايراني صاحب دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان

الغدير
في الكتاب والسنة والأدب
الطبعة الثالثة
1387 ه‍. 1967 م.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
الغدير
في الكتاب والسنة والأدب
كتاب ديني. علمي. فني. تاريخي. أدبى. أخلاقي
مبتكر في موضوعه فريد في بابه يبحث فيه عن حديث الغدير كتابا وسنة وأدبا
ويتضمن تراجم أمة كبيرة من رجالات العلم والدين والأدب من الذين نظموا هذه الأثارة
من العلم وغيرهم
تأليف
الحبر العلم الحجة المجاهد شيخنا الأكبر الشيخ
عبد الحسين أحمد الأميني النجفي
الجزء الثامن
عني بنشره الحاج حسن إيراني
صاحب
دار الكتاب العربي
بيروت - لبنان
تعريف الكتاب 1

كتاب مقدس
ألقي إلينا من شيخنا الأكبر آية الله سماحة الشيخ
محمد الرضا آل ياسين الكاظمي النجفي دامت أيامه وإفاضاته
وإنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد، والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله، صلاة
لا يحصيها عدد.
كنت أتجافى عن التقريظ لما قد يوافي المطري من المجازفة في الثناء فيتجاوز
المدح حده، ويوقع صاحبه في ورطة المحاباة، لما تحدوه إليه عين الرضا، وما يجري
مجراها من عوامل المغالاة، وربما قصر البيان عن القدر اللازم فيكون الانسان قد بخس
حقا من حقوق أخيه المؤمن.
لكني سبرت كتاب " الغدير " ذلك الكتاب المبين الذي لا ريب فيه هدى
للمتقين، فوجدت شأوا له بعيدا لا يلحقه البيان، وللقوم فيه متسعا تنبو عنه جمل
الإطراء، فمهما تشدق القائل فيه وأطنب فهو دون حقيقته، وإن في السكوت عن
تقريظ كتاب مثله - يرشد الجاهل، وينبه الغافل، ويهدي الضال، ويميط عن الحقائق
الدينية أسدال الشبه، ويوقف الباحث على جلية الحق الواضح - تثبطا عن نصرة الحق،
وقعودا عن الواجب، فتصفحته وقرأته فامتلأت نفسي إعجابا وإكبارا له حين ألفيت فيه
تلك الضالة المنشودة التي كان قد استأثر بها عالم الغيب طوال هذه الحقب المتمادية
فلم يخرجها إلى عالم الشهادة حتى تبرز بها هذا الحبر الأمين، المأمون على الدنيا و
الدين، الذي جمع الله له إلى قوة الإيمان قوة العلم وقوة البيان فكان له من تظافر
هذه القوى الثلاث قوة لا تثبت أمامها قوة، لشد ما شد بها على أباطيل فصرعها، وعلى
أضاليل فقمعها، وعلى مخاريق فمزقها وصدعها.
تلك لعمر الله موهبة عظمي لا ينالها إلا ذو حظ عظيم، ومن أجدر بهذه الموهبة من
المقدمة 2

هذا المجاهد الأكبر الذي وقف نفسه لمناصرة الحق ومناجزة الباطل؟ فما فتى دائبا ليله
ونهاره، مكدورا في سره وجهره حرصا على العمل بواجبه، فبارك الله له وفيه كما بارك
في جهوده ومساعيه، وحسبه من الكرامة على الله جل شأنه أن ادخر له هذه المكرمة
ليفيضها عليه ويجريها على يديه كما تجري المعاجز على أيدي الأنبياء. والسلام عليه
أولا وأخيرا ورحمة الله وبركاته.
الراجي
محمد رضا آل ياسين
إنا لله وإنا إليه راجعون
لقد فاجأنا بعد إثبات هذا التقريظ في الطبعة الأولى القضاء الحاتم بمصيبة الدنيا
والدين، والكارثة الملمة بجامعة المسلمين، فقد هذا القائد الروحي العظيم من آل
ياسين، شيخ العلم والفقاهة، ورجل التقوى والصلاح، والزعيم الديني الأوحد تغمده
الله برحمته، وأسبل عليه شآبيب فضله، لقد عاش رحمه الله محمود السيرة، كريم النقيبة،
محفوفا بالفضائل والفواضل، وخلف من بعده فخرا خالدا، وذكرا حميدا، وفضلا لا يخلقه
مر الجديدين. قدس الله سره.
المقدمة

صحيفة بيضاء
تفضل بها صاحب الفخامة، علامة الوزراء، ووزير
الأعلام، رئيس الوزراء الأسبق، سيدنا المفخم سماحة السيد
محمد الصدر دامت معاليه.
سماحة العلامة الأوحد، البحاثة الفذ المتتبع، الشيخ الأميني، أعز الله بك
المسلمين، وأدامك نصيرا للعلم والدين.
تحية مقدر لا ينفك ذاكرا لجهودك العلمية ما دام حيا.
وبعد فقد أدهشني سفرك، وراقني سبرك وغورك، فوجدتني مندفعا لتسجيل
إعجابي وإكباري لمجهودك القيم الخالد، الذي أينع وأزهر، وأنتج وأثمر، وآتى أكله
شهيا جنيا، ولعمري فهو نتاج عبقريتك الفذة، وعصارة مواهبك الجبارة، وخلاصة
جهادك ونضالك في ميادين العلم والفضيلة، ولئن حق للأمم أن تفخر بعظمائها، وتعتز
بتأريخها فما أجدرك - وأنت العالم النحرير والبحاثة المنقطع النظير - أن تشمخ
بشخصية الإمام المرتضى أمير المؤمنين وسيد الوصيين، تلك الشخصية المثالية الفذة
التي أطلت على العالم بعظمتها، فإذا العالم خاشع لجلالها، ناطق بفضلها وإفضالها، وهل
مؤلفك المبارك الكريم " الغدير " إلا أثر من آثار تلك الشخصية الإلهية التي خصها
الله دون سواها بالوصاية وحباها بالإمامة والولاية، فما زالت ولم تزل نبراسا للأصلاب
والأعقاب، وهدى ونورا للأجيال والأحقاب.
وإني إذا أتقدم لشخصك الكريم بتهاني القلبية الحارة على عظيم موفقيتك
بمشروعك الجليل الحافل، لا أشك أنها نفحة من نفحات أمير المؤمنين سلام الله عليه
شاء الله أن يمنحك إياها هبة عظيمة، إن دلت على شيئ فإنما تدل على وجاهتك لديه
المقدمة 4

وقربك منه، وحقا فقد برز كتابك الجليل إلى العالم ساطعا لامعا يحمل بين دفتيه
من العلم والأدب ما لا تقوى عليهما المجامع العلمية والأدبية، فكيف بك؟ وقد صمدت
له براسخ قدمك، وأنجزته بروائع فكرك وقلمك، فكان واضح النهج، قوي الحجة،
متين العبارة، لطيف الإشارة، أقمت فيه الأدلة القاطعة التي أصغت إليها المسامع
طائعة مختارة، وتقبلتها القلوب والأفئدة مؤمنة مذعنة، حتى لكأنك مزاج مائها،
وبلسم دوائها، فجزاك الله عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه خير جزاء المحسنين، ولا
زلت مصدرا للعمل الصالح، إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
محمد الصدر
11 رمضان سنة 1369
26 / 6 / 1950
المقدمة 5

خطاب مبين
تكرم به صاحب المعالي، الشريف الشهم البطل سيدنا
المبجل السيد عبد المهدي المنتفكي المشغل منصة وزارة المعارف،
والاقتصاد والأشغال والمواصلات، دورا بعد دور. دامت فواضله.
13 رمضان سنة 69 13
28 حزيران سنة 1950
بسم الله الرحمن الرحيم
ولله الحمد
تخرج المطابع في كل يوم مئات من الكتب فلا يجد المطالع إلا في القليل النادر
منها بغيته، وما يطمن رغبته من كافة النواحي وجميع الجهات، ولذلك فإن تقدير قيمة
الكتاب لا تكون إلا بمقدار ما يتركه في نفس المطالع من الأثر الصالح النافع، وإن
خير ما جادت به علينا القرائح، وما أتحفتنا به المطابع، فكان له في النفوس الأثر الصالح
البليغ، هو كتاب " الغدير " الذي جاء سفرا جليلا جمع فأوعى، فغدا نبرا سا منيرا ودليلا
هاديا، سمى أن يحدد بالقيم أو يقيد بالمقاييس، إذ هو بطبيعته يعلو فوق كل نسبة،
وبجليل أثره وفائدته يتعدى كل قياس، ولاغرو أن يكون " الغدير " كذلك فإنه
من فيض ذلك البحر الزاخر بالمعقول والمنقول، ومن نتاج تلك القريحة الوقادة التي
حبي بها العلامة الجليل شيخنا الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني أمد الله في أيامه،
ومتعنا في حياته.
فحسب " الغدير " من التقريظ والاطراء إنه من نتاج هذه الشخصية الفذة
الجليلة وبهذه النسبة:
تجاوز حد المنح حتى كأنه * بأحسن ما يثني عليه يعاب
عبد المهدي.
المقدمة 6

الغدير يوحد الصفوف
في الملأ الاسلامي
قد يرى خدن الدجل ممن خالف الحق وخابط الغي بادهان وايهان وجه الحيلة في
أن يرمي جهودنا الجبارة في إعلاء كلمة الحق وإصلاح المجتمع إلى تفريق الكلمة، وفصم
عرى التوحيد في الشعب الديني، لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور، لا جرم
أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، ولعمر الحق نحن لا نبالي قط بالتصويب والتصعيد
ولا نصيخ إلى تلكم الجلبة واللغط، ولا نكترث لكل دمدمة وهمهمة من أي ابن قوال
مذماذ تجاه نداء الحق الصراح، نداء كتاب الله العزيز، نداء الاسلام المقدس، نداء
المشرع الأعظم، بعد ما تلقاه بالقبول ملوك الاسلام أصحاب الجلالة، بعد ما لبى
ندائنا زعماء الدين، وأعلام الأمة، وقادتها، وساستها، وأمرائها، وأساتذتها، في
الحواضر الدينية، واقتفت هذا الأثر الكريم من أولئك الأفذاذ وغيرهم زرافات و
أمم، وأتتنا من مختلف الطبقات صفوف موحدة تحت لواء ولاء العترة الطاهرة صلوات الله
عليهم، وهدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد، وقالوا: ربنا آتنا
من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة
وأولئك هم المهتدون.
(الغدير في مصر)
هذه صحف الاسلام الغراء في أرجاء العالم من المجلات والجرائد وهي ألسنة الأمم
الناطقة، ومقياس شعورها الحي وحسها المشترك، تجد في طياتها حول الكتاب عقودا
منضدة، وجملا ضافية في الاطراء والثناء عليه، وتقدير ما فيه من الأبحاث القيمة و
الدروس العالية، وفي مقدم تلكم الصحف مجلة " الكتاب " البيضاء المصرية التي تمثل
معارف عاصمة الشرق الأوسط " القاهرة " فمديرها الأستاذ " العادل " يسقي قراءها كأسا
دهاقا من سلسل بيانه، ويعرب عن كتابنا وعن مبلغه من العلم، ومقداره من العظمة،
المقدمة 7

ومحله من التحقيق، في عدد بعد عدد (1)
وتتلوها رسالة تلك الأمة الإسلامية الراقية مجلة " الرسالة " الغراء (2) في سنتها
الثامنة عشرة بنشر ما جادته قريحة شاعر الأهرام المفلق الأستاذ البحاثة محمد عبد الغني
حسن (3) صاحب التآليف الممتعة، من الإعراب عما في نفسه من تجليات الحق وأنوار
الهداية المقتبسة من صفحات الغدير، ونحن نشكر الجميع ونعيد إلى قصيدة الأستاذ
العصماء جدتها، وهي آية محكمة في الوحدة والوئام، تعرب عن البخوع إلى الحقائق
الراهنة، وتدعو إلى توحيد الكلمة مهما اختلفت المذاهب، وإلى الايتلاف تحت راية
الاسلام وحب أهل البيت الطاهر " هي المسك ما كررته يتضوع " ألا وهي:
حي الأميني الجليل وقل له: أحسنت عن آل النبي دفاعا
أرهفت للدفع الكريم مناصلا * وشهرت للحق الهضيم يراعا
وجمعت من طول السنين وعرضها * حججا كآيات الصباح نصاعا
وأذبت من عينيك كل شعاعة * كالنور ومضا والشموس شعاعا
وطويت من ميمون عمرك حقبة * تسع الزمان رحابة وذراعا
ونزلت ميدان البيان مناضلا * وشأوت أبطال الكلام شجاعا
ما ضقت يوما بالدليل ولم تكن * بالحجة الغراء أقصر باعا
لله من قلم لديك موثق * كالسيل يجري صاخبا دفاعا
يجلو الحقيقة في ثياب بلاغة * ويزيح عن وجه الكلام قناعا
يشتد في سبب الخصومة لهجة * لكن يرق خليقة وطباعا
وكذلك العلماء في أخلاقهم * يتباعدون ويلتقون سراعا
في الحق يختلفون إلا أنهم * لا يبتغون إلى الحقوق ضياعا

(1) من العدد الرابع من سنتها الأولى سنة 1364 ه‍ وهلم جرا وقد نشرنا من تلكم الكلم
القيمة كلمة في الجزء الثالث ط 2.
(2) العدد ال‍ 882 الصادر يوم الاثنين 11 شعبان سنة 1369 ه‍.
(3) من شعراء الغدير يأتي شعره وترجمته في شعراء القرن الرابع عشر إن شاء الله تعالى.
المقدمة 8

يا أيها الثقة الأمين تحية * تجتاز نحوك بالعراق بقاعا
تطوي إليك من الكنانة أربعا * ومن العروبة أدؤرا ورباعا
إنا لتجمعنا العقيدة أمة * ويضمنا دين الهدى أتباعا
ويؤلف الاسلام بين قلوبنا * مهما ذهبنا في الهوى أشياعا
ونحب أهل البيت حبا خالصا * تطوي القلوب عليه والأضلاعا
يجزيك بالاحسان ربك مثلما * أحسنت عن يوم " الغدير " دفاعا
هذه القصيدة نشرتها مجلة البيان النجفية الغراء أيضا في عددها ال‍ 78 من سنتها
الرابعة ص 174، وشطرها النطاسي المحنك الأستاذ ميرزا محمد الخليلي النجفي صاحب
كتاب " معجم أدباء الأطباء " نشر مع الأصل في مجلة " البيان " الغراء في عددها ال‍ 80 من
سنتها الرابعة ص 223 ونحن نذكر التشطير في ترجمة الأستاذ الخليلي بإذن الله تعالى.
(الغدير في حلب)
ومن نماذج ما أسلفناه من الدعوى كتاب كريم أرسله عاقد سمطه من حلب إلى
العلامة الحجة الشيخ محمد الحسين المظفري النجفي، وقد أهدى إليه مجلدات الغدير
فمازجت روحيات الكتاب نفسه الكريمة، وانكفأ مرتويا بزلاله العذب، واثقا بحجته
القويمة، وهو إمام جمعة وجماعة في أريحا من نواحي حلب، يتدفق فضلا ويكاد يسيل
لطفا، ويتقد ذكاءا، وكانت أمانة شيخنا المظفري تصده عن أن يجيز لنا في نشر ذلك
الخطاب على صفحات الغدير، فراسله مستجيزا، ولم يزل متريثا حتى وافاه الإذن
الصريح، فإليك صورتي الإذن والكتاب المبين من مفرغ سبائكه في بوتقة البيان ألا و
هو الأستاذ الناقد البصير الشيخ محمد السعيد دحدوح، ونتقدم إليه بالشكر أولا وأخيرا
المقدمة 9

صورة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفقنا لحب أهل وده، وغرس في قلوبنا احترام وتفضيل العترة
الطاهرة والشجرة الباسقة التي أصلها وفرعها في السماء، والتي من أخذ بأفنانها ووصل
حبله بأسبابها ارتقى من الدنيا والآخرة على غيره، وصلاة الله وسلامه على سيد الوجود
محمد صلى الله عليه وآله وصحبه الطيبين، وكل مولود يتصل فرعه بأصله، ويدل فعله
على قوله، لم يخالف أمرا، ولم يجترح منكرا وكان مؤيدا لوحيه عليه السلام وآخذا بنصحه.
سيدي المفضال! أرسلت تخبرني بأنك رأيت أن ترسل لي الغدير الكبير بدلا
من الجدول لصغير، وأعلمتني أن قيمته وإن غلت وعلت فإنني عندك أغلى وأعلى،
والحقيقة هو أن ذاتك الصافية وشخصيتك المثلى تجلى نورها على مرآة نفسك الطاهرة،
فانعكس ضياؤها على لوح وجودك، وتراءى لك من شعاعها ونورها ما حدثتني به وأنت
الصادق، ولكن ينبوعه أنت وليس له نبراس سواك، أدامك الله لي وللناس سراجا
وهاجا، وجعلني عند حسن ظنك ووفقني وحببني إلى من يحبه ويرضاه ورضي عنه.
سيدي أخذت (الغدير) وقرأته وقبل أن أصل عبابه عمت فيه، وغرفت منه،
وذقت طعمه، فإذا هو الغدير الأول بماء غير آسن، يفيض عذوبة أصفى من قطرات
المزن، ومدامة أعبق وأطيب من شذا المسك، وألذ من كل شراب.
ولولا من وضع حوله السدود، وأقام أمامه الحواجز من العصور الأولى لكان
مضيا على وجه البسيطة وينتفع به خلق الله أجمعين.
وما أعظمه من غدير وقف فيه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله يوصي أصحابه وأمته
بابن عمه ويحضهم على التمسك بهديه والسير وراء زوج ابنته الزهراء ووالد السبطين
عليهم الصلاة والسلام.
المقدمة 10

ولكن: كان أمر الله قدرا مقدورا، وتلك أمة قد خلت، ونحن الناشئة إن
عتبنا على الأولين، فإن عتبنا على الخلف أشد وأعظم، وعلى المؤرخين الجدد من أبناء
عصرنا هذا أهل السنة أوسع وأكبر.
كنا نسمع من أساتذتنا أساتذة الأخذ والتأليف عفى الله عنهم إن كانوا لا يعلمون:
إن قصة الغدير أسطورة صنعها الشيعة، وأيدها ملوكهم لحوائج سياسية.
وهذا مبلغنا أو مبلغهم من العلم إذ ذاك، أما في زمننا هذا وبعد ما قرأت بعض
فصول وأبواب وأجزاء الغدير، أراني أمام بحر زاخر لا غدير سائل فيه اللؤلؤ والمرجان
والدر الوضاء. نعم: فيه الحجة البالغة، وفيه البرهان الصريح، وفيه العلم الوافر،
وفيه وفيه ما ليس في وسعي أن أحصيه وأعدده، كلها تنطق: إن الناس مهما أرادوا أن
يحجبوا ضوء البدر، ومهما أتوا بسحب وعوارض تمنع إضاءته فليس في مقدورهم طالما
خلف (المرتضى) عليه السلام أمثالكم شيعة باعت لذائذ الحياة ترف الزمان، وعكفت على
تأيد الحق، وإظهار الصواب، وهدي التائه، وإرشاد الضال، بكل ما أتيت من قوة.
فنعم السلف والخلف، أنتم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه
مرضيا عنه، ومنهم من يعمل خدمة للاسلام حتى يرى ربه بوجه طلق سجيح ويلقى
هناك النبي والصديقين والشهداء والمجاهدين وحسن أولئك رفيقا.
نعم وقفت أمام ثبج (الغدير) وخضت غماره، وسبجت فيه، فإذا أمامي
مشاهد التاريخ، وأفلام الزمان، وأقلام المؤلفين، وفصول الكتب، ونشيد الشعر،
وأريج الحديث، كلها تدلني على أن الغدير حق ليس بمختلق، وأن الناس يقولون
ما لا يعلمون، إما ابتغاء للفتنة، أو تقربا للملوك الظالمين، أوجبنا عن النطق بالصواب
والواقع، فجزى الله مؤلفه " عبد الحسين " وحفظه وأبقاه سيفا صارما مسلولا ومنارا
للحق، وجزاك أنت يا سيدي المظفري! على معروفك الذي لا يتناهى والذي ورثته عن
آبائك الطهر الميامين.
سيدي المظفري! أرجوك إرسال بقية الأجزاء، وأخبرني عن ثمنها، وإن من
يطلب الحسناء لم يغله المهر. وكان بوسعي ومن واجبي أن أرسل لكم الثمن قبل هذا
التحرير، ولكن رأيت إن ذلك ليس بصحيح، فإن من الأشياء أنواعا لا تقدر بثمن،
المقدمة 11

ولا تدخل تحت تقويم أهل العرف، فكيف بغدير؟ تغني بمدحه الشعراء، وألف
المؤلفون، وأنزل فيه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما
بلغت رسالته والله يعصمك من الناس.
أرجوك تبليغ الأخوين الجليلين والشبلين الكريمين سلامنا وسلام الوالد والأهل
والأحباب وكل من يود أن يرانا ونراه خصوصا صاحب " الغدير " ومؤلفه، وخبره
إننا نحترم جهوده، أبقاه الله وأبقاكم للحق أنصارا، وللعلم منارا، ولآل النبوة شيعة
تذبون عنهم إفك المفترين، وتظهرون فضلهم الواضح الوضاء الذي لعبت ببعضه إن
لم أقل أكثره أيدي العابثين، والسلام في البدء والختام من المعترف بمعروفكم ومن
هو بمحمد وآله عليه وعليهم الصلاة والسلام (سعيد) في الحياتين وخادمكم.
محمد سعيد دحدوح
5 ربيع الأنور سنة 1370 وفق
14 / 12 / 1950
المقدمة 12

صورة الإذن
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وعلي وعلى إخوانه
والأنبياء وآله الأصفياء وصحابته الأتقياء وكافة المؤمنين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: لقد وصلني كتابك الكريم المؤرخ 20 ربيع الأول سنة 1370 وجزئا
الغدير: الثالث والرابع. والغدير في الاسلام (1) فجزاكم الله عني وعمن سيستفيد منها
خير ما جزى العالمين العاملين.
سيدي المظفري! أرسلت تخبرني إن كتيبي الذي ذكرت به " الغدير " ببعض
مزاياه راق عندك وحسن لديك - وهذا من فضل ربي ومن حبك في - حتى جعلك
تذهب به إلى العلامة مؤلفه أبقاه وأبقاكم الله للحق أنصارا ولآله حصنا.
وهو حفظه الله كرما منه وتشجيعا ومكافأة فوق إحسانه " والبحر يمطره السماء
وماؤه من مائه " طلب منك أن تسمح له بنشره، ولكنك تخبرني تواضعا منك - وخير ما
أدبكم الآل عليهم السلام هذا الأدب: التواضع من غير زلفى - إن كنت أحب نشره
ولا يضرني أمره وكلمه ومتنه فإنك تقدمه له وهو سينشره في الجزء الثامن بنصه
وفصه.
وما أحلاها ذكرى؟ وما أجملها بشرى أخبرتني بها أيها السيد؟ وكيف لا أريد
أن يسجل اسمي السعيد بحبكم وحب آلي وآلكم آل العترة عليهم السلام؟ ويبقى
كلامي الداثر في غدير عذب زاجر، كلما شرب منه مؤمن وعاقل إرتوى إيمانا وامتلاء
يقينا وعلما وصدقا، تذكر مؤلفه ومقرظه ومادحه بالخير والدعاء.
وهل كان الزمان يجود لي مثل هذه المكرمة؟ لولا استادي صاحب الفضل أولا

(1) تأليف العلامة الفذ الشيخ محمد رضا فرج الله، مر الايعاز إليه ج 1: 157 ط 2.
المقدمة 13

وآخرا علي وعلى أولادي ومن سيخرج من أصلابنا وأهل بلدي العقلاء.
ولقد ورثكم الآل عليهم السلام أخلاقا ما رأينا مثلها على سواكم، اللهم إلا النذر
القليل من الخلص الأتقياء، ويا سيدي! قديما كنا نسمع: أن الرجل الصادق هو
الذي يدلك على الله حاله لا مقاله، ولم نكن نفهم معناها، أو لم نكن نرى صدق
مبناها إلا حينما أشرقت الشهباء بطلعتكم، وعندما أرسلتم تخبرني وتستشيرني بأمر
أنت المنعم به علي.
وفي الختام تقبل سلام من لا يزال على العهد مقيما.
تلميذك ومحبك
محمد سعيد دحدوح
ربيع الأول 1370 وفق
7 / 1 / 1951
الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله
وأولئك هم أولوا الألباب. يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم
كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان. ولا تتبعوا أهواء قوم
قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا. وإذا قيل لهم: اتبعوا
ما أنزل الله. قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه
آباؤنا، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس،
ولقد جاءهم من ربهم الهدى.
المقدمة 14

الجزء الثامن
فيه أبحاث قيمة ودروس دينية
راقية لا منتدح لأي ديني ارتاد مهيع الحق،
وابتغى لأحب الحقيقة عن عرفانها والخوض فيها،
والبحث عنها بضمير حر غير جانح إلى
العصبية العمياء والعاطفية الحمقاء.
والله ولي التوفيق
الغدير 2 -
1

بسم الله الرحمن الرحيم
سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق،
الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون
به، وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم،
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ما فرطنا
في الكتاب من شئ، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم
يعلمون، يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: غر هؤلاء
دينهم، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا
كذبا، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما إنكم
تنطقون، قل: أي وربي إنه لحق وإنا لما سمعنا الهدى
آمنا به، ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين
يديه، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق
بإذنه، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وقل الحق من ربكم
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وقل: الحمد لله وسلام
على عباده الذين اصطفى.
الأميني
2

يتبع الجزء السابع
أبو طالب في الذكر الحكيم
لقد أغرق القوم نزعا في الوقيعة والتحامل على بطل الاسلام والمسلم الأول
بعد ولده البار، وناصر دين الله الوحيد، فلم يقنعهم ما اختلقوها من الأقاصيص حتى
عمدوا إلى كتاب الله فحرفوا الكلم عن مواضعه، فافتعلوا في آيات ثلاث أقاويل نأت عن
الصدق، وبعدت عن الحقيقة بعد المشرقين، وهي عمدة ما استند إليه القوم في عدم
تسليم إيمان أبي طالب، فإليك البيان:
(الآية الأولى)
قوله تعالى: وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما
يشعرون. " سورة الأنعام آية 26 "
أخرج الطبري وغيره من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عمن
سمع ابن عباس أنه قال: إنها نزلت في أبي طالب، ينهى عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يؤذى، وينأى أن يدخل في الاسلام (1).
وقال القرطبي: هو عام في جميع الكفار أي ينهون عن اتباع محمد عليه السلام وينأون
عنه، عن ابن عباس والحسن. وقيل هو خاص بأبي طالب ينهى الكفار عن أذاية محمد
عليه السلام ويتباعد من الإيمان به، عن ابن عبا س أيضا. روى أهل السير قال: كان النبي
صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى الكعبة يوما وأراد أن يصلي، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل
- لعنه الله -: من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثا
ودما فلطخ به وجه النبي صلى الله عليه وسلم فانفتل النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، ثم أتى أبا طالب
عمه فقال: يا عم ألا ترى إلى ما فعل بي؟ فقال أبو طالب: من فعل هذا بك؟ فقال

(1) طبقات ابن سعد 1 ص 105، تاريخ الطبري 7: 110، تفسير ابن كثير 2: 127،
الكشاف 1: 448، تفسير ابن جزي 2: 6، تفسير الخازن 2: 11.
3

النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن الزبعري، فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه
حتى أتى القوم فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون، فقال أبو طالب: والله لئن
قام رجل لجللته بسيفي فقعدوا حتى دنا إليهم، فقال: يا بني من الفاعل بك هذا؟ فقال:
عبد الله بن الزبعرى. فأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم
وأساء لهم القول فنزلت هذه الآية: وهم ينهون عنه وينأون عنه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
يا عم! نزلت فيك آية. قال: وما هي؟ قال تمنع قريشا أن تؤذيني، وتأبى أن تؤمن بي.
فقال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا
إلى آخر الأبيات التي أسلفناها ج 7 ص 334، 352. فقالوا: يا رسول الله! هل
تنفع نصرة أبي طالب؟ قال: نعم دفع عنه بذاك الغل، ولم يقرن مع الشياطين، ولم
يدخل في جب الحيات والعقارب، إنما عذابه في نعلين من نار يغلي منهما دماغه في
رأسه، وذلك أهون أهل النار عذابا. (1)
قال الأميني: نزول هذه الآية في أبي طالب باطل لا يصح من شتى النواحي:
1 - إرسال حديثه بمن بين حبيب بن أبي ثابت وابن عباس، وكم وكم غير ثقة
في أناس رووا عن ابن عباس ولعل هذا المجهول أحدهم.
2 - إن حبيب بن أبي ثابت إنفرد به ولم يروه أحد غيره ولا يمكن المتابعة على
ما يرويه ولو فرضناه ثقة في نفسه بعد قول ابن حبان: إنه كان مدلسا. وقول العقيلي
غمزه ابن عون وله عن عطاء أحاديث لا يتابع عليها. وقول القطان: له غير حديث عن
عطاء لا يتابع عليه وليست بمحفوظة. وقول الآجري عن أبي داود: ليس لحبيب عن
عاصم بن ضمرة شئ يصح، وقول ابن خزيمة: كان مدلسا (2).
ونحن لا نناقش في السند بمكان سفيان الثوري، ولا نؤاخذه بقول من قال: إنه
يدلس ويكتب عن الكذابين (3)

(1) تفسير القرطبي 6: 406.
(2) تهذيب التهذيب 2: 179.
(3) ميزان الاعتدال 1: 396.
4

3 - إن الثابت عن ابن عباس بعدة طرق مسندة يضاد هذه المزعمة، ففيما رواه الطبري
وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة وطريق العوفي عنه إنها
في المشركين الذين كانوا ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به، وينأون عنه يتباعدون عنه (1)
وقد تأكد ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم
وعبد بن حميد من طريق وكيع عن سالم عن ابن الحنفية، ومن طريق الحسين بن
الفرج عن أبي معاذ، ومن طريق بشر عن قتادة.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن
قتادة والسدي والضحاك، ومن طريق أبي نجيح عن مجاهد، ومن طريق يونس عن ابن
زيد قالوا: ينهون عن القرآن وعن النبي، وينأون عنه يتباعدون عنه (2)
وليس في هذه الروايات أي ذكر لأبي طالب، وإنما المراد فيها الكفار الذين
كانوا ينهون عن اتباع رسول الله أو القرآن، وينأون عنه بالتباعد والمناكرة، وأنت
جد عليم بأن ذلك كله خلاف ما ثبت من سيرة شيخ الأبطح الذي آواه ونصره و
ذب عنه ودعى إليه إلى آخر نفس لفظه.
4 - إن المستفاد من سياق الآية الكريمة أنه تعالى يريد ذم أناس أحياء ينهون
عن اتباع نبيه ويتباعدون عنه، وإن ذلك سيرتهم السيئة التي كاشفوا بها رسول الله
صلى الله عليه وآله، وهم متلبسون بها عند نزول الآية كما هو صريح ما أسلفناه من رواية القرطبي
وإن النبي صلى الله عليه وآله أخبر أبا طالب بنزول الآية.
لكن نظرا إلى ما يأتي عن الصحيحين فيما زعموه من أن قوله تعالى في سورة
القصص: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. نزلت في أبي طالب
بعد وفاته. لا يتم نزول آية ينهون عنه وينأون النازلة في أناس أحياء في أبي طالب، فإن
سورة الأنعام التي فيها الآية المبحوثة عنها نزلت جملة واحدة (3) بعد سورة القصص

(1) تفسير الطبري 7: 109:، الدر المنثور 3: 8.
(2) تفسير الطبري 7: 109، الدر المنثور 3: 8، 9، تفسير الآلوسي 7:، 126.
(3) أخرجه أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والنحاس من طريق ابن عباس
والطبراني وابن مردويه من طريق عبد الله بن عمر، راجع تفسير القرطبي 6: 382، 383، تفسير
ابن كثير 2: 122، الدر المنثور 3: 2، تفسير الشوكاني 3: 91، 92.
5

بخمس سور كما في الاتقان 1 ص 17 فكيف يمكن تطبيقها على أبي طالب وهو رهن أطباق
الثرى، وقد توفي قبل نزول الآية ببرهة طويلة.
5 - إن سياق الآيات الكريمة هكذا: ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم
أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك
يجاد لونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين، وهم ينهون عنه وينأون عنه
وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون.
وهو كما ترى صريح بأن المراد بالآيات كفار جاءوا النبي فجادلوه وقذفوا كتابه
المبين بأنه من أساطير الأولين، وهؤلاء الذين نهوا عنه صلى الله عليه وآله وعن كتابه الكريم، وناءوا
وباعدوا عنه، فأين هذه كلها عن أبي طالب؟ الذي لم يفعل كل ذلك طيلة حياته، و
كان إذا جاءه فلكلائته والذب عنه بمثل قوله:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا
وإن لهج بذكره نوه برسالته عنه بمثل قوله:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * رسولا كموسى خط في أول الكتب؟
وإن قال عن كتابه هتف بقوله:
أو يؤمنوا بكتاب منزل عجب * على نبي كموسى أو كذي النون
وقد عرف ذلك المفسرون فلم يقيموا للقول بنزولها في أبي طالب وزنا، فمنهم من
عزاه إلى القيل، وجعل آخرون خلافه أظهر، ورأى غير واحد خلافه أشبه، وإليك جملة
من نصوصهم:
قال الطبري في تفسيره 7: 109: المراد المشركون المكذبون بآيات الله ينهون
الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والقبول منه وينأون عنه ويتباعدون عنه. ثم رواه من الطرق
التي أسلفناه عن ابن الحنفية وابن عباس والسدي وقتادة وأبي معاذ، ثم ذكر قولا
آخر بأن المراد ينهون عن القرآن أن يسمع له ويعمل بما فيه، وعد ممن قال به قتادة
ومجاهد وابن زيد ومرجع هذا إلى القول الأول، ثم ذكر القول بنزولها في أبي طالب
وروى حديث حبيب بن أبي ثابت عمن سمع ابن عباس وأردفه بقوله في ص 110: وأولى
هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال تأويل وهم ينهون عنه عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم
6

من سواهم من الناس وينأون عن اتباعه، وذلك إن الآيات قبلها جرت بذكر جماعة
المشركين العادين به والخبر عن تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإعراض عما جاءهم به من
تنزيل الله ووحيه، فالواجب أن يكون قوله " وهم ينهون عنه " خبرا عنهم، إذ لم يأتنا
ما يدل على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم، بل ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على
صحة ما قلنا من إن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يكون
خبرا عن خاص منهم، وإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية: وإن ير هؤلاء المشركون يا
محمد! كل آية لا يؤمنوا حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقولون إن هذا الذي جئتنا به إلا
أحاديث الأولين وأخبارهم، وهم ينهون عن استماع التنزيل وينأون عنك، فيبعدون
منك ومن اتباعك، وإن يهلكون إلا أنفسهم. ا ه‍
وذكر الرازي في تفسيره 4: 28 قولين: نزولها في المشركين الذين كانوا ينهون الناس
عن اتباع النبي والاقرار برسالته. ونزولها في أبي طالب خاصة فقال: والقول الأول
أشبه لوجهين: الأول: إن جميع الآيات المتقدمة على هذه الآية تقتضي ذم طريقتهم
فكذلك قوله: وهم ينهون عنه. ينبغي أن يكون محمولا على أمر مذموم فلو حملناه على
أن أبا طالب كان ينهى عن إيذائه لما حصل هذا النظم.
والثاني: إنه تعالى قال بعد ذلك: وإن يهلكون إلا أنفسهم. يعني به ما تقدم
ذكره ولا يليق ذلك بأن يكون المراد من قوله وهم ينهون عنه النهي عن أذيته، لأن
ذلك حسن لا يوجب الهلاك.
فإن قيل: إن قوله " وإن يهلكون إلا أنفسهم " يرجع إلى قوله " وينأون عنه "
لا إلى قوله " ينهون عنه " لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه بمفارقة دينه وترك الموافقة
له وذلك ذم فلا يصح ما رجحتم به هذا لقول؟ قلنا: إن ظاهر قوله: وإن يهلكون إلا
أنفسهم. يرجع إلا كل ما تقدم ذكره لأنه بمنزلة أن يقال: إن فلانا يبعد عن الشئ
الفلاني وينفر عنه ولا يضر بذلك إلا نفسه، فلا يكون هذا الضرر متعلقا بأحد الأمرين
دون الآخر. ا ه‍.
وذكر ابن كثير في تفسيره 2: 127 القول الأول نقلا عن ابن الحنيفة وقتادة
ومجاهد والضحاك وغير واحد فقال: وهذا القول أظهر والله أعلم وهو اختيار ابن جرير.
7

وذكر النسفي في تفسيره بهامش تفسير الخازن 2: 10: القول الأول ثم قال:
وقيل: عني به أبو طالب والأول أشبه.
وذكر الزمخشري في الكشاف: 1: 448، والشوكاني في تفسيره 2: 103
وغيرهما القول الأول وعزوا القول الثاني إلى القيل، وجاء الآلوسي وفصل في القول
الأول ثم ذكر الثاني وأردفه بقوله: ورده الإمام. ثم ذكر محصل قول الرازي.
وليت القرطبي لما جاء نا يخبط في عشواء وبين شفتيه رواية التقطها كحاطب
ليل دلنا على مصدر هذا الذي نسجه، ممن أخذه؟ وإلى من ينتهي إسناده؟ ومن
ذا الذي صافقه على روايتها من الحفاظ وأي مؤلف دونه قبله، ومن الذي يقول
إن ما ذكره من الشعر قاله أبو طالب يوم ابن الزبعرى؟ ومن الذي يروي نزول الآية
يوم ذلك؟ وأي ربط وتناسب بين الآية وإخطارها النبي صلى الله عليه وآله على أبي طالب وبين شعره
ذاك؟ وهل روى قوله في هذا النسيج: يا عم! نزلت فيك آية. غيره من أئمة الحديث
ممن هو قبله أو بعده؟ وهل وجد القرطبي للجزء الأخير من روايته مصدرا غير تفسيره؟
وهل أطل على جب الحيات والعقارب فوجده خاليا من أبي طالب؟ وهل شد الأغلال و
فكها هو ليعرف أن شيخ الأبطح لا يغل بها؟ أم أن مدركه في ذلك الحديث
النبوي؟ حبذا لو صدقت الأحلام، وعلى كل فهو محجوج بكل ما ذكرناه من الوجوه.
(الآية الثانية والثالثة)
1 - قوله تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا
أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. سورة البراءة: 113.
2 - قوله تعالى: إنك لن تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم
بالمهتدين. سورة القصص: 56
أخرج البخاري في الصحيح في كتاب التفسير في القصص ج 7: 184، قال: ثنا
أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما
حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية
بن المغيرة فقال: أي عم! قل لا إله إلا الله. كلمة أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل
وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها
8

عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما تكلم: على ملة عبد المطلب وأبى
أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك. فأنزل
الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين. وأنزل الله في أبي طالب
فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.
وفي مرسلة الطبري: فنزلت: ما كان للنبي: الآية. ونزلت: إنك لا تهدي من أحببت
وأخرجه مسلم في صحيحه من طريق سعيد بن المسيب، وتبع الشيخين جل
المفسرين لحسن ظنهم بهما وبالصحيحين.
(مواقع النظر في هذه الرواية)
1 - إن سعيد الذي إنفرد بنقل هذه الرواية كان ممن ينصب العداء لأمير المؤمنين
علي عليه السلام فلا يحتج بما يقوله أو يتقوله فيه وفي أبيه وفي آله وذويه، فإن الوقيعة فيهم
أشهى مأكلة له، قال ابن أبي الحديد في الشرح 1: 370: وكان سعيد بن المسيب منحرفا
عنه عليه السلام، وجبهه عمر بن علي عليه السلام في وجهه بكلام شديد، روى عبد الرحمن بن الأسود
عن أبي داود الهمداني قال: شهدت سعيد بن المسيب وأقبل عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام
فقال له سعيد: يا ابن أخي! ما أراك تكثر غشيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ كما يفعل
إخوتك وبنو أعمامك، فقال عمر: يا ابن المسيب! أكلما دخلت المسجد أجيئ فأشهدك؟ فقال
سعيد: ما أحب أن تغضب سمعت أباك يقول: إن لي من الله مقاما لهو خير لبني عبد المطلب
مما على الأرض من شئ. فقال عمر: وأنا سمعت أبي يقول: ما كلمة حكمة في قلب منافق
فيخرج من الدنيا إلا يتكلم بها. فقال سعيد: يا ابن أخي! جعلتني منافقا؟ قال: هو ما
أقول لك. ثم انصرف.
وأخرج الواقدي من أن سعيد بن المسيب مر بجنازة السجاد علي بن الحسين بن
علي بن أبي طالب عليهم السلام ولم يصل عليها فقيل له: ألا تصل على هذا الرجل الصالح
من أهل البيت الصالحين؟ فقال: صلاة ركعتين أحب إلي من الصلاة على الرجل الصالح.
ويعرفك سعيد بن المسيب ومبلغه من الحيطة في دين الله ما ذكره ابن حزم في المحلى
4: 214 عن قتادة قال: قلت لسعد: أنصلي خلف الحجاج؟ قال إنا لنصلي خلف من
هو شر منه.
9

2 - إن ظاهر رواية البخاري كغيرها. تعاقب نزول الآيتين عند وفاة أبي طالب
عليه السلام كما أن صريح ما ورد في كل واحدة من الآيتين نزولها عند ذاك ولا يصح ذلك
لأن الآية الثانية منهما مكية والأولى مدنية نزلت بعد الفتح بالاتفاق وهي في سورة
البراءة المدنية التي هي آخر ما نزل من القرآن (1) فبين نزول الآيتين ما يقرب من
عشر سنين أو يربو عليها.
3 - إن آية الاستغفار نزلت بالمدينة بعد موت أبي طالب بعدة سنين تربو على
ثمانية أعوام، فهل كان النبي صلى الله عليه وآله خلال هذه المدة يستغفر لأبي طالب عليه السلام أخذا
بقوله صلى الله عليه وآله: والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك؟ وكيف كان يستغفر له؟ وكان
هو صلى الله عليه وآله والمؤمنون ممنوعين عن موادة المشركين والمنافقين وموالاتهم والاستغفار
لهم - الذي هو من أظهر مصاديق الموادة والتحابب - منذ دهر طويل بقوله تعالى:
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخرة يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا
آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيديهم بروح
منه. الآية.
هذه آية 22 من سورة المجادلة المدنية النازلة قبل سورة البراءة التي فيها آية
الاستغفار بسبع سور كما في الاتقان 1: 17، وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم
وأبو نعيم والبيهقي وابن كثير كما في تفسيره 4: 329، وتفسير الشوكاني 5: 189،
وتفسير الآلوسي 28: 37: إن هذه الآية نزلت يوم بدر وكانت في السنة الثانية من
الهجرة الشريفة، أو نزلت على ما في بعض التفاسير في أحد وكانت في السنة الثالثة
باتفاق الجمهور كما قاله الحلبي في السيرة، فعلى هذه كلها نزلت هذه الآية قبل آية
الاستغفار بعدة سنين.
وبقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين
أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا.

(1) صحيح البخاري 7: 67 في آخر سورة النساء، الكشاف 2: 49، تفسير القرطبي 8: 273،
الاتقان 1: 17، تفسير الشوكاني 3: 316 نقلا عن ابن أبي شيبة والبخاري والنسائي وابن
الضريس وابن المنذر والنحاس وأبي الشيخ وابن مردويه عن طريق البراء بن عازب
10

هذه آية 144 من سورة النساء وهي مكية على قول النحاس وعلقمة وغيرهما
ممن قالوا: إن قوله تعالى: يا أيها الناس. حيث وقع إنما هو مكي (1) وإن أخذنا
بما صححه القرطبي في تفسيره 5: 1 وذهب إليه الآخرون من أنها مدنية أخذا بما
في صحيح البخاري (2) من حديث عائشة: ما نزلت سورة النساء إلا أنا عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم فإنها نزلت في أوليات الهجرة الشريفة بالمدينة، وعلى أي من التقديرين نزلت
قبل سورة آية الاستغفار " البراءة " بإحدى وعشرين سورة كما في الاتقان 1: 17.
وبقوله سبحانه: الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون
عندهم العزة.
هذه آية 139 من سورة النساء قد عرفت أنها نزلت قبل البراءة.
وبقوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل
ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير
هذه آية 28 من آل عمران، نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في أوائل الهجرة
الشريفة يوم وفد نجران كما في سيرة ابن هشام 2: 207، وأخذا بما رواه القرطبي و
غيره (3) نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت يوم الأحزاب وكانت في الخمس من الهجرة،
وعلى أي من التقديرين وغيرهما نزلت آل عمران قبل البراءة سورة آية الاستغفار بأربع
وعشرين سورة كما في الاتقان 1: 17.
وبقوله تعالى: سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم.
وهي الآية السادسة من المنافقين نزلت عام غزوة بني المصطلق سنة ست وهو المشهور
عند أصحاب المغازي والسير كما قاله ابن كثير (4) ونزلت قبل البراءة بثمان سور كما
في الاتقان 1: 17.
وبقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباء كم وإخوانكم أولياء إن

(1) تفسير القرطبي 5: 1.
(2) ج 7: 300 في كتاب التفسير باب تأليف القرآن، وذكره القرطبي في تفسيره 5: 1.
(3) تفسير القرطبي 4: 58، تفسير الخازن 1: 235.
(4) تفسير القرطبي 18: 127، تفسير ابن كثير 4: 369.
11

استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون.
وبقوله تعالى: استغفر لهم أو لا تستغفر إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر
الله لهم.
وهذه وما قبلها آيتا 23 و 80 من سورة التوبة نزلت قبل آية الاستغفار.
أترى النبي صلى الله عليه وآله مع هذه الآيات النازلة قبل آية الاستغفار كان يستغفر لعمه
طيلة مدة سنين وقد مات كافرا العياذ بالله وهو ينظر إليه من كثب؟ لا ها الله، حاشا
نبي العظمة.
ولعل لهذه كلها استبعد الحسين بن الفضل نزولها في أبي طالب وقال: هذا بعيد
لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن، ومات أبو طالب في عنفوان الاسلام والنبي
صلى الله عليه وسلم بمكة، وذكره القرطبي وأقره في تفسيره 8: 273.
4 - إن هناك روايات تضاد هذه الرواية في مورد نزول آية الاستغفار من سورة
البراءة، منها:
صحيحة أخرجها الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي والنسائي وأبو يعلى
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه
والبيهقي في شعب الإيمان والضياء في المختارة عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر
لأبويه وهما مشركان فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أولم يستغفر
إبراهيم. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا
للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين له أنهم أصحاب الجحيم، وما كان
استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له إنه عدو لله تبرأ منه إن
إبراهيم لأواه حليم (1)
يظهر من هذه الرواية أن عدم جواز الاستغفار للمشركين كان أمرا معهودا قبل
نزول الآية ولذلك ردع عنه مولانا أمير المؤمنين الرجل، وقوله عليه السلام هذا لا يلائم مع
استغفار النبي صلى الله عليه وآله لعمه على تقدير عدم إسلامه، وترى الرجل ما استند قط في
تبرير عمله إلى استغفار رسول الله صلى الله عليه وآله لعمه علما بأنه صلى الله عليه وآله قط لا يستغفر لمشرك.

(1) سورة التوبة 113، 114
12

قال السيد زيني دحلان في أسنى المطالب ص 18: هذه الرواية صحيحة وقد
وجدنا لها شاهدا برواية صحيحة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا
يستغفرون لآبائهم حتى نزلت هذه الآية فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم
ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ثم أنزل الله تعالى: وما كان استغفار إبراهيم. الآية
يعني استغفر له ما دام حيا فلما مات أمسك عن الاستغفار له قال: وهذا شاهد صحيح
فحيث كانت هذه الرواية أصح كان العمل بها أرجح، فالأرجح إنها نزلت في استغفار أناس
لآبائهم المشركين لا في أبي طالب. ا ه‍
(ومنها): ما أخرجه - في سبب نزول آية الاستغفار - مسلم في صحيحه، وأحمد
في مسنده، وأبو داود في سننه، والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأذنت
ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها
تذكرة الآخرة (1).
وأخرج الطبري والحاكم وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن مسعود وبريدة، والطبراني
وابن مردويه والطبري من طريق عكرمة عن ابن عباس: إنه صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة
تبوك اعتمر فجاء قبر أمه فاستأذن ربه أن يستغفر لها، ودعا الله تعالى أن يأذن له في شفاعتها
يوم القيامة فأبى أن يأذن فنزلت الآية (2).
وأخرج الطبري في تفسيره 11: 31 عن عطية لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقف
على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها حتى نزلت: ما كان
للنبي إلى قوله: تبرأ منه.
وروى الزمخشري في الكشاف 2: 49 حديث نزول الآية في أبي طالب ثم ذكر
هذا الحديث في سبب نزولها وأردفها بقوله: وهذا أصح لأن موت أبي طالب كان
قبل الهجرة وهذا آخر ما نزل بالمدينة.
وقال القسطلاني في إرشاد الساري 7: 270: قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه

(1) إرشاد الساري في شرح البخاري 7: 151.
(2) تفسير الطبري 11: 31، إرشاد الساري 7: 270، الدر المنثور 3: 283.
13

لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية، رواه الحاكم وابن أبي حاتم عن
ابن مسعود، والطبراني عن ابن عباس وفي ذلك دلالة على تأخر نزول الآية عن وفاة
أبي طالب والأصل عدم تكرار النزول.
قال الأميني: هلا كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعلم إلى يوم تبوك بعد تلكم الآيات النازلة
التي أسلفناها في ص 10 - 12، أنه غير مسوغ له وللمؤمنين الاستغفار للمشركين والشفاعة
لهم؟ فجاء يستأذن ربه أن يستغفر لأمه ويشفعها، أو كان يحسب أن لأمه حسابا
آخر دون ساير البشر؟ أو أن الرواية مختلقة تمس كرامة النبي الأقدس، وتدنس ذيل
قداسة أمه الطاهرة عن الشرك.
(منها): ما أخرجه الطبري في تفسيره 11: 31 عن قتادة قال: ذكر لنا
إن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله! إن من آبائنا من كان يحسن
الجوار، ويصل الرحم، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله: ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم
ثم عذر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه. إلى
قوله: تبرأ منه.
وأخرج الطبري من طريق عطية العوفي عن ابن عباس قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم
أراد أن يستغفر لأبيه فنهاه الله عن ذلك بقوله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا
للمشركين: الآية. قال: فإن إبراهيم قد استغفر لأبيه فنزلت: وما كان استغفار إبراهيم
لأبيه إلا عن موعدة. الآية. الدر المنثور 3: 283.
وفي هاتين الروايتين نص على أن نزول الآية الكريمة في أبيه وآباء رجال من
أصحابه صلى الله عليه وآله لا في عمه ولا في أمه.
(ومنها): ما جاء به الطبري في تفسيره 11: 33 قال: قال آخرون: الاستغفار
في هذا الموضع بمعنى الصلاة. ثم أخرج من طريق المثنى عن عطاء بن أبي رباح قال:
ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنا،
لأني لم أسمع الله يحجب الصلاة إلا عن المشركين يقول الله: ما كان للنبي والذين آمنوا
أن يستغفروا للمشركين. الآية.
14

وهذا التفسير إن صح فهو مخالف لجميع ما تقدم من الروايات الدالة على أن
المراد من الآية هو طلب المغفرة كما هو الظاهر المتفاهم من اللفظ.
ونفس هذه الاضطراب والمناقضة بين هذه المنقولات وبين ما جاء به البخاري مما
يفت في عضد الجميع، وينهك من اعتباره، فلا يحتج بمثله ولا سيما في مثل المقام من
تكفير مسلم بار، وتبعيد المتفاني دون الدين عنه.
5 - إن المستفاد من رواية البخاري نزول آية الاستغفار عند موت أبي طالب كما
هو ظاهر ما أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن الحسن قال: لما مات أبو طالب قال
النبي صلى الله عليه وسلم إن إبراهيم استغفر لأبيه وهو مشرك وأنا أستغفر لعمي حتى أبلغ،
فأنزل الله ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين. الآية. يعني به أبا طالب،
فاشتد على النبي صلى الله عليه وسلم فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا
عن موعدة وعدها إياه. الدر المنثور 3: 283. وإن ناقضها ما أخرجه ابن سعد
وابن عساكر عن علي قال: أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب فبكى فقال:
اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه. ففعلت وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر
له أياما ولا يخرج من بيته حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: ما كان للنبي والذين
آمنوا. الآية (1).
ولعله ظاهر ما أخرجه ابن سعد وأبو الشيخ وابن عساكر من طريق سفيان بن
عيينة عن عمر قال: لما مات أبو طالب قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحمك الله وغفر لك، لا أزال
أستغفر لك حتى ينهاني الله، فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون
فأنزل الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين. الدر المنثور 3: 283
لكن الأمة أصفقت على أن نزول سورة البراءة التي تضمنت الآية الكريمة
آخر ما نزل من القرآن كما مر في ص 10 وكان ذلك بعد الفتح، وهي هي التي بعث بها
رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر ليتلوها على أهل مكة ثم استرجعه بوحي من الله سبحانه
وقيض لها مولانا أمير المؤمنين فقال: لا يبلغها عني إلا أنا أو رجل مني (2) وقد جاء

(1) طبقات ابن سعد 1: 105، الدر المنثور 3: 282 نقلا عن ابني سعد وعساكر
(2) راجع الجزء السادس من كتابنا هذا ص 338 - 350 ط 2.
15

في صحيحة مرت من عدة طرق في ص 13 من أن آية الاستغفار نزلت بعد ما أقبل رسول
الله صلى الله عليه وآله من غزوة تبوك وكانت في سنة تسع فأين من هذه كلها نزولها عند وفاة أبي
طالب أو بعدها بأيام؟ وأنى يصح ما جاء به البخاري ومن يشاكله في رواية البواطيل
6 - إن سياق الآية الكريمة - آية الاستغفار - سياق نفي لا نهي فلا نص فيها
على أن رسول الله صلى الله عليه وآله استغفر فنهى عنه، وإنما يلتئم مع استغفاره لعلمه بإيمان
عمه، وبما أن في الحضور كان من لا يعرف ذلك من ظاهر حال أبي طالب الذي كان
يماشي به قريشا فقالوا في ذلك أو اتخذوه مدركا لجواز الاستغفار للمشركين كما
ربما احتجوا بفعل إبراهيم عليه السلام فأنزل الله سبحانه الآية وما بعدها من قوله تعالى: وما
كان استغفار إبراهيم. الآية. تنزيها للنبي صلى الله عليه وآله وتعذيرا لإبراهيم عليه السلام، وإيعازا
إلى أن من استغفر له النبي صلى الله عليه وآله لم يكن مشركا كما حسبوه، وأن مرتبة النبوة
تأبى عن الاستغفار للمشركين، فنفس صدوره منه صلى الله عليه وآله برهنة كافية على أن
أبا طالب لم يكن مشركا، وقد عرفت ذلك أفذاذ من الأمة فلم يحتجوا بعمل النبي
صلى الله عليه وآله لاستغفارهم لآبائهم المشركين، وإنما اقتصروا في الاحتجاج بعمل إبراهيم عليه السلام كما
مر في صحيحة عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما
مشركان فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ قال أو لم يستغفر إبراهيم. الحديث
راجع صفحة 12 من هذا الجزء.
ولو كان يعرف هذا الرجل أبا طالب مشركا لكان الاستدلال لتبرير عمله باستغفار
نبي الاسلام له - ولم يكن يخفى على أي أحد - أولى من استغفار إبراهيم لأبيه لكنه
اقتصر على ما استدل به.
7 إنا على تقدير التسليم لرواية البخاري وغض الطرف عما سبق عن
العباس من أن أبا طالب لهج بالشهادتين، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الحمد لله الذي هداك
يا عم! وما مر عن مولانا أمير المؤمنين من أنه ما مات حتى أعطى رسول الله من نفسه
الرضا، وما مر من قوله صلى الله عليه وآله: كل الخير أرجو من ربي " لأبي طالب " وما مر من وصية أبي طالب عند الوفاة لقريش وبني عبد المطلب بإطاعة محمد صلى الله عليه وآله واتباعه والتسليم
لأمره وإن فيه الرشد والفلاح، وإنه صلى الله عليه وآله الأمين في قريش والصديق في العرب.
16

إلى تلكم النصوص الجمة في نثره ونظمه، فبعد غض الطرف عن هذه كلها لا نسلم إن
أبا طالب عليه السلام أبى عن الإيمان في ساعته الأخيرة لقوله: على ملة عبد المطلب. ونحن
لا نرتاب في أن عبد المطلب سلام الله عليه كان على المبدأ الحق، وعلى دين الله الذي
ارتضاه للناس رب العالمين يومئذ، وكان معترفا بالمبدأ والمعاد، عارفا بأمر الرسالة،
اللايح على أساريره نورها، الساكن في صلبه صاحبها، وللشهرستاني حول سيدنا
عبد المطلب كلمة ذكرنا جملة منها في الجزء السابع ص 346 و 353 فراجع الملل والنحل
والكتب التي (1) ألفها السيوطي في آباء النبي صلى الله عليه وآله حتى تعرف جلية الحال،
فقول أبي طالب عليه السلام على ملة عبد المطلب. صريح في أنه معتنق تلكم المبادئ
كلها، أضف إلى ذلك نصوصه المتواصلة طيلة حياته على صحة الدعوة المحمدية.
8 - نظرة في الثانية من الآيتين، ولعلك عرفت بطلان دلالتها على ما ارتأوه
من كفر شيخ الأباطح سلام الله عليه من بعض ما ذكرناه من الوجوه، فهلم معي لننظر
فيها خاصة وفيما جاء فيها بمفردها فنقول أولا: إن هذه الآية متوسطة بين آي تصف
المؤمنين، وأخرى يذكر سبحانه فيها الذين لم يؤمنوا حذار أن يتخطفوا من مكة
المعظمة، فمقتضى سياق الآيات إنه سبحانه لم يرد بهذه الآية إلا بيان أن الذين
اهتدوا من المذكورين قبلها لم تستند هدايتهم إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وآله فحسب، و
إنما الاستناد الحقيقي إلى مشيئته وإرادته سبحانه على وجه لا ينتهي إلى الالجاء بنحو
من التوفيق كما أن استناد الاضلال إليه سبحانه بنحو من الخذلان، وإن كان النبي
صلى الله عليه وآله وسيطا في تبليغ الدعوة فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم،
وإن تطيعوه تهتدوا، وما على الرسول إلا البلاغ المبين (2) وفي الذكر الحكيم: إنما
أمرت أن أعبد رب هذه البلدة التي حرمها، وله كل شئ وأمرت أن أكون من
المسلمين، وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا
- الغدير 3 -

(1) منها: مسالك الحنفا في والدي المصطفى، الدرج المنيفة في الآباء الشريفة، المقامة
السندسية في النسبة المصطفوية، التعظيم والمنة في إن أبوي رسول الله في الجنة، نشر العلمين في
إحياء الأبوين، السبل الجلية في الآباء العلية.
(2) سورة النور: 54
17

من المنذرين (1)، كما أن إبليس اللعين يزين للعاصي عمله، أو لو كان الشيطان يدعوهم
إلى عذاب السعير (2) وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل (3) استحوذ
عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله (4) إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم
الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم (5) وقد جاء فيما أخرجه العقيلي وابن عدي وابن
مردويه والديلمي وابن عساكر وابن النجار عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعثت داعيا ومبلغا وليس إلي من الهدى شئ، وخلق إبليس مزينا
وليس إليه من الضلالة شئ (6).
فهذه الآية الكريمة كبقية ما جاء في الذكر الحكيم من إسناد كل من الهداية
والضلالة إليه سبحانه كقوله تعالى:
1 - ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء. البقرة 272.
2 - إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل. النمل 37.
3 - أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين. الزخرف 40.
4 - وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم. النمل 81.
5 - أتريدون أن تهدوا من أضل الله. النساء 88.
6 - أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون. يونس 34.
7 - من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. الكهف 17.
8 - إن الله يضل من يشاء ويهدي من أناب. الرعد 27.
9 - فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم. إبراهيم 4.
10 - ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء. النحل 93.
إلى آيات كثيرة مما يدل على استناد الهداية والضلال إلى الله تعالى على وجه

(1) سورة النمل 92.
(2) سورة لقمان: 21.
(3) سورة العنكبوت: 38، النمل: 24
(4) سورة المجادلة: 15.
(5) سؤرة محمد: 25
(6) مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي، الجامع الصغير للسيوطي.
18

لا ينافي اختيار العبد فيهما، ولذلك أسندا إليه وإلى مشيئته أيضا في آي أخرى
كقوله تعالى:
1 - فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. يونس 108،
الزمر 41.
2 - وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. الكهف 29.
3 - إن هو إلا ذكر للعالمين، لمن شاء منكم أن يستقيم. التكوير 28.
4 - من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. الاسراء 15.
5 - فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين.
النمل 92.
6 - أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم. البقرة 16.
7 - فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة. الأعراف 30.
8 - ربي أعلم بمن جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين. القصص 85.
9 - إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها. الاسراء 7.
10 - فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ. آل عمران 20.
إلى آيات أخرى، ولا مناقضة بين هذين الفريقين من الآي الكريمة بما قد مناه
وبما ثبت من صحة إسناد الفعل إلى الباعث تارة وإلى المباشر المختار أخرى.
فآيتنا هذه صاحبة البحث والعنوان من الفريق الأول، وقد سيق بيانها بعد
آيات المؤمنين لإفادة ما أريدت إفادته من لداتها، ولبيان أن هؤلاء المذكورين من
المهتدين هم على شاكلة غيرهم في إسناد هدايتهم إليه سبحانه، فلا صلة لها بأي إنسان
خاص أبي طالب أو غيره، وإن ماشينا القوم على وجود الصلة بينها وبين أبي طالب
عليه السلام فإنها بمعونة سابقتها على إيمانه أدل. هكذا ينبغي أن تفسر هذه الآية غير مكترث
لما جاء حولها من التافهات مما سبق ويأتي.
وثانيا: إن ما روي فيها بمفردها كلها مراسيل فإن منها: ما رواه عبد بن حميد
ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما حضرت وفاة أبي طالب
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمار! قل: لا إله إلا الله. أشهد لك بها عند الله يوم القيامة
19

فقال: لولا أن تعيرني قريش يقولون: ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها
عينك فأنزل الله عليه: إنك لا تهدي من أحببت. الآية (1)
كيف يرويه أبو هريرة وكان يوم وفاة أبي طالب شحاذا من متكففي دوس
" باليمن " الكفرة، يسأل الناس إلحافا، ويكتنفه البؤس من جوانبه، وما ألم بالاسلام
إلا عام خيبر سنة سبع من الهجرة الشريفة باتفاق من الجمهور؟ فأين كان هومن وفاة
أبي طالب، وما دار هنالك من الحديث؟ فإن صدق في روايته؟ فهو راو عمن لم ينوه
باسمه، وإن كان تدليس أبي هريرة قد اطرد في موارد كثيرة روى أشياء ادعى فيها
المشاهدة أو دل عليها السياق لكنه لم يشاهد شيئا منها، ومن أراد الوقوف على هذه
وغيرها من أمر أبي هريرة فليراجع كتاب " أبو هريرة " لسيدنا المصلح الشريف الحجة
السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي حياه الله وبياه فقد جمع ذلك فأوعى.
ومنها: ما أخرجه ابن مردويه وغيره من طريق أبي سهل السري بن سهل بإسناد
عن عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت إنك لا تهدي من أحببت.
الآية. في أبي طالب. ألح عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأبى فأنزل الله إنك لا تهدي.
الحديث (2).
أبو سهل السري أحد الكذابين وضاع كان يسرق الحديث كما مر في سلسلة
الكذابين ج 5: 231 ط 2. وعبد القدوس أبو سعيد الدمشقي أحد الكذابين كما أسلفناه
في الجزء الخامس ص 238 ط 2.
وظاهر هذه الرواية كسابقتها هو المشاهدة، والأثبت على ما قاله ابن حجر في
الإصابة 2: 331: إن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث. فهو عند وفاة عمه أبي طالب
كان يرضع يدي أمه فلا يسعه الحضور في ذلك المشهد.
وإن صدقت الرواية عنه؟ - أنى تصدق؟ - فإن ابن عباس أسند ما يقوله إلى
من لا نعرفه، ولعل رواة السوء حذفوه لضعفه كما حذف غير واحد من المؤلفين
أبا سهل السري وعبد القدوس ونظرائهما من أسانيد هذه الأفائك سترا على عللها.

(1) الدر المنثور 5: 133.
(2) الدر المنثور 5: 133.
20

والقول الفصل: إن حبر الأمة لم يلهج بتلكم الخزاية، وإن لهج بشئ من أمر
ذلك المشهد عن أحد فأولى له أن يقول ما قاله أبوه من إنه سمع أبا طالب يشهد بالشهادتين
عند وفاته (1). أو يفوه بما أسلفناه عن ابن عمه الأقدس رسول الله صلى الله عليه وآله (2) أو يروي
ما جاء عن ابن عمه الطاهر أمير المؤمنين (3) أليس ابن عباس راوي ما ثبت عنه من قول
أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وآله كما مر في ج 7: ص 355 ط 2: قم يا سيدي فتكلم بما تحب
وبلغ رسالة ربك فإنك الصادق المصدق.
ومنها: ما أخرجه أبو سهل السري الكذاب المذكور من طريق عبد القدوس
الكذاب أيضا عن نافع عن ابن عمر قال: إنك لا تهدي من أحببت. الآية. نزلت في
أبي طالب عند موته، والنبي صلى الله عليه وسلم عند رأسه وهو يقول: يا عم! قل لا إله إلا الله
أشفع لك بها يوم القيامة. قال أبو طالب: لا تعيرني نساء قريش بعدي إني جزعت عند
موتي فأنزل الله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت. الحديث (4)
لعل ابن عمر لا يدعي في روايته الحضور في ذلك المحضر. وليس له أن يدعي
ذلك لأنه كان وقتئذ ابن سبع سنين تقريبا فإن مولده كان بعد البعثة بثلاث (5) ومن
طبع الحال إن من بهذا السن لا يطلق صراحه إلى ذلك المنتدى الرهيب، والمسجى
فيه سيد الأباطح ويلي أمره نبي العظمة، ويحضره مشيخة قريش، فلا بد من أنه
سمع من يقول ذلك ممن حضر واطلع، ولا يخلو أن يكون ذلك إما ولد المتوفى وهو
مولانا أمير المؤمنين والثابت عنه ما مر في الجزء السابع، أو عن بقية أولاده من طالب
وجعفر وعقيل ولم ينبسوا في هذا الأمر ببنت شفة، أو عن أخيه العباس وقد صح
عنه ما أسلفناه في الجزء السابع، أو عن ابن أخيه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله فقد عرفت
قوله فيه فيما مر، فممن أخذ ابن عمر؟ ولماذا حذف اسمه؟ ولما شرك أبا جهل مع
أبي طالب في إحدى روايتيه، ولم يقل به أحد غيره؟ وهل في الرواة من تقول عليه

(1) راجع ما أسلفناه في صفحة 370 من الجزء السابع.
(2) راجع ما مر في صحيفة 373 من ج 7 ط 2.
(3) راجع ما سبق في صفحة 379 ج 7.
(4) الدر المنثور 5: 133:
(5) الإصابة 2: 347.
21

كل ذلك؟ فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.
واعطف على هذه ما عزوه إلى مجاهد وقتادة في شأن نزول الآية (1) فإن
مستند أقوالهما أما هذه الروايات؟ أو إنهما سمعاها من أناس مجهولين؟ فمراسيل كهذه
لا يحتج بها على أمر خطير مثل تكفير أبي طالب بعد ثبوت إيمانه بما صدح به الصادع
الكريم وتفانيه دونه والذب عنه بالبرهنة القاطعة.
ومن التفسير بالرأي والدعوى المجردة ما عن قتادة ومن يشاكله مرسلا من
تبعيض الآية بين أبي طالب والعباس فجعل صدرها لأبي طالب وذيلها للعباس (2)
الذي أسلم بعد نزول الآية بعدة سنين كما هو المتسالم عليه عنه الجمهور.
وأنت تعرف بعد هذه كلها قيمة قول الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت
في أبي طالب. وما عقبه به القرطبي من قوله: والصواب أن يقال: أجمع جل المفسرين
على إنها نزلت في شأن أبي طالب (3)
أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا
(النساء: 50)

(1) تاريخ ابن كثير 3: 124.
(2) تفسير القرطبي 13: 299، الدر المنثور 5: 133.
(3) تفسير القرطبي 13: 299.
22

حديث الضحضاح
إلى هنا انتهى كل ما للقوم من نبل تقله كنانة الأحقاد، أو ذخيرة في علبة
الضغائن رموا بها أبا طالب، وقد أتينا عليها فجعلناه ها هباء منثورا، ولم يبق لهم إلا رواية
الضحضاح، وما لأعداء أبي طالب حولها من مكاء وتصدية، وهي على ما يلي:
أخرج البخاري ومسلم من طريق سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن
الحارث قال: حدثنا العباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت
عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: " هو " في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان
في الدرك الأسفل.
وفي لفظ آخر: قلت: يا رسول الله! إن أبا طالب كان يحفظك وينصرك فهل نفعه ذلك؟
قال نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح.
ومن حديث الليث حدثني ابن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد إنه سمع
النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أبو طالب عنده فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح
من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه.
وفي صحيح البخاري من طريق عبد العزيز بن محمد الدارا وردي عن يزيد بن الهاد
نحوه غيران فيه تغلي منه أم دماغه.
راجع صحيح البخاري في أبواب المناقب (باب قصة أبي طالب) ج 6: 33، 34،
وفي كتاب الأدب باب كنية المشرك ج 9: 92، صحيح مسلم كتاب الإيمان، طبقات ابن
سعد 1: 106 ط مصر، مسند أحمد 1: 206، 207، عيون الأثر 1: 132، تاريخ
ابن كثير 3: 125.
قال الأميني: نحن لا تروقنا المناقشة في الأسانيد لمكان سفيان الثوري وبما مر
فيه ص 4 من إنه كان يدلس عن الضعفاء ويكتب عن الكذابين.
ولا لمكان عبد الملك
بن عمير اللخمي الكوفي الذي طال عمره وساء حفظه، قال أبو حاتم: ليس بحافظ تغير
23

حفظه، وقال أحمد: ضعيف يغلط، وقال ابن معين مخلط، وقال ابن خراش: كان شعبة
لا يرضاه، وذكر الكوسج عن أحمد: إنه ضعفه جدا (1).
ولا لمكان عبد العزيز الدراوردي، قال أحمد بن حنبل: إذا حدث من حفظه يهم
ليس هو بشئ، وإذا حدث من كتابه فنعم، وإذا حدث جاء ببواطيل، وقال أبو حاتم:
لا يحتج به، وقال أبو زرعة: سئ الحفظ (2).
كما أنا لا نناقش بتضارب متون الرواية بأن قوله: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة
يعطي أن الضحضاح مأجل له إلى يوم القيامة بنحو من الرجاء المدلول عليه لقوله:
لعله. وإن قوله: وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح. هو واضح في تعجيل
الضحضاح له وثبوت الشفاعة قبل صدور الكلام.
لكن لنا هنا هنا كلمة واحدة وهي أن رسول الله صلى الله عليه وآله أناط شفاعته لأبي طالب
عند وفاته بالشهادة بكلمة الاخلاص بقوله صلى الله عليه وآله: يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة استحل
لك بها الشفاعة يوم القيامة (3) كما إنه صلى الله عليه وآله أناطها بها في مطلق الشفاعة، وجاء ذلك
في أخبار كثيرة جمع جملة منها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب ج 4 ص 150 -
158 منها في حديث عن عبد الله بن عمر مرفوعا: قيل لي: سل فإن كل نبي قد سأل
فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم لمن شهد أن لا إله إلا الله. فقال: رواه أحمد
بإسناد صحيح.
ومنها: عن أبي ذر الغفاري مرفوعا في حديث: أعطيت الشفاعة وهي نائلة من
أمتي من لا يشرك بالله شيئا. فقال: رواه البزار وإسناده جيد إلا أن فيه انقطاعا.
ومنها: عن عوف بن مالك الأشجعي في حديث: إن شفاعتي لكل مسلم. فقال:
رواه الطبري بأسانيد أحدها جيد، وابن حبان في صحيحه وفي لفظه:

(1) ميزان الاعتدال 2: 151.
(2) ميزان الاعتدال 2: 128.
(3) مستدرك الحاكم 2: 336 صححه هو والذهبي في التلخيص، تاريخ أبي الفدا ج 1: 120،
المواهب اللدنية 1: 71، كشف الغمة للشعراني 2: 144، كنز العمال 7: 128، شرح
المواهب للزرقاني 1: 291.
24

الشفاعة لمن مات لا يشرك بالله شيئا
ومنها: عن أنس في حديث: أوحى الله إلى جبريل عليه السلام أن اذهب إلى محمد فقل
له: ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع " إلى قوله ": أدخل من أمتك من خلق الله من
شهد أن لا إله إلا الله يوما واحدا مخلصا ومات على ذلك.
فقال المنذري: رواه أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح.
ومنها: عن أبي هريرة مرفوعا في حديث: شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله
مخلصا، وأن محمدا رسول الله، يصدق لسانه قلبه وقلبه لسانه. رواه أحمد وابن حبان
في صحيحه.
ومنها: ما مر في ص 13 من طريق أبي هريرة وابن عباس من أنه صلى الله عليه وآله دعا ربه
واستأذنه أن يستغفر لأمه ويأذن له في شفاعتها يوم القيامة فأبى أن يأذن.
وقال السهيلي في الروض الأنف 1: 113: وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وآله قال: استأذنت
ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي. وفي مسند البزار
من حديث بريدة إنه صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يستغفر لأمه ضرب جبريل عليه السلام في صدره و
قال له: لا تستغفر لمن كان مشركا فرجع وهو حزين (1)
فالمنفي في صورة انتفاء الشهادة جنس الشفاعة بمعنى عدمها كلية لعدم أهلية
الكافر لها حتى في بعض مراتب العذاب، فالشفاعة للتخفيف في العذاب من مراتبها المنفية
كما إنها نفيت كذلك في كتاب الله العزيز بقوله تعالى: والذين كفروا لهم نار جهنم لا
يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور.
فاطر 36.
وبقوله تعالى: وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولاهم ينظرون.
النحل 85.
وبقوله تعالى: خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينظرون. البقرة 162،
آل عمران 88.

(1) نحن لا نقيم لمثل هذه الرواية وزنا ولا كرامة، غير أن خضوع القوم لها يلجأنا إلى
الحجاج بها.
25

وبقوله تعالى: وقال الذين في النار لخزنة جهنم: ادعوا ربكم يخفف عنا يوما
من العذاب، قالوا: أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات. قالوا: بلى. قالوا: فادعوا، و
وما دعاء الكافرين إلا في ضلال. غافر 49، 50.
وبقوله تعالى: أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم
العذاب ولا هم ينصرون. البقرة 86.
وبقوله تعالى: وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا و
ذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل
عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم
بما كانوا يكفرون. الأنعام: 70.
وبقوله تعالى: كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن
المجرمين سا سلككم في سقر " إلى قوله تعالى " فما تنفعهم شفاعة الشافعين. المدثر 38 - 48
وبقوله تعالى: وأنذرهم يوم الأزقة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين
من حميم ولا شفيع يطاع. غافر 18.
وبقوله تعالى: ونسوق المجر مين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ
عند الرحمن عهدا. مريم 87.
الاستثناء في الآية الشريفة منقطع، والعهد: شهادة أن لا إله إلا الله والقيام
بحقها. أي لا يشفع إلا للمؤمن.
راجع تفسير القرطبي 11: 154، تفسير البيضاوي 2: 48، تفسير ابن كثير 3:
138، تفسير الخازن 3: 243.
فرواية الضحضاح على تقدير أن أبا طالب عليه السلام مات مشركا - العياذ بالله - و
ما فيها من الشفاعة لتخفيف العذاب عنه بجعله في الضحضاح منافية لكل ما ذكرناه
من الآيات والأحاديث، فحديث يخالف الكتاب والسنة الثابتة يضرب به عرض الحائط
وقد جاء في الصحيح مرفوعا: تكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم حديث
فأعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله فاقبلوه وما خالفه فردوه (1)

(1) أخرجه البخاري في صحيحه.
26

ولا يغرنك إخراج البخاري لها فإن كتابه المعبر عنه بالصحيح هو علبة السفاسف
وعيبة السقطات، وسنوقفك على جلية الحال في البحث عنه إنشاء الله تعالى.
نختم البحث هاهنا عن إيمان سيدنا أبي طالب سلام الله عليه بقصيدة شيخ الفقه
والفلسفة والأخلاق شيخنا الأكبر آية الله الشيخ محمد الحسين الأصبهاني النجفي (1) قال:
نور الهدى في قلب عم المصطفى * في غاية الظهور في عين الخفا
في سره حقيقة الإيمان * سر تعالى شاءنه عن شان
إيمانه يمثل الواجب في * مقام غيب الذات والكنز الخفي
إيمانه المكنون سام اسمه * إلا المطهرون لا يمسه
إيمانه بالغيب غيب ذاته * له التجلي التام في آيته 5
آياته عند أولي الأبصار * أجلى من الشمس ضحى النهار
وهو كفيل خاتم النبوة * وعنه قد حامى بكل قوة
ناصره الوحيد في زمانه * وركنه الشديد في أوانه
عميد أهله زعيم أسرته * وكهفه الحصين يوم عسرته
حجابه العزيز عن أعدائه * وحرزه الحريز في ضرائه 10
فما أجل شرفا وجاها * من حرز ياسين وكهف طاها
قام بنصرة النبي السامي * حتى استوت قواعد الاسلام
جاهد عنه أعظم الجهاد * حتى علا أمر النبي الهادي
حماه عن أذى قريش الكفرة * بصولة ذلت لها الجبابرة
صابر كل محنة وكربة * والشعب من تلك الكروب شعبه 15
أكرم به من ناصر وحامى * وكافل لسيد الأنام
كفاه فخرا شرف الكفالة * لصاحب الدعوة والرسالة
لسانه البليغ في ثنائه * أمضى من السيف على أعدائه
له من المنظوم والمنثور * ما جعل العالم ملاء النور
20 ينبئ عن إيمانه بقلبه * وإنه على هدى من ربه

(1) أحد شعراء الغدير في القرن الرابع عشر تأتي ترجمته إن شاء الله تعالى.
27

وأشرقت أم القرى بنوره * وكل نور هو نور طوره
وكيف لا؟ وهو أبو الأنوار * ومطلع الشموس والأقمار
مبدأ كل نير وشارق * وكيف وهو مشرق المشارق؟
بل هو بيضاء سماء المجد * مليك عرشه أبا عن جد
25 له السمو كابرا عن كابر * فهو تراثه من الأكابر
أزكى فروع دوحة الخليل * فياله من شرف أصيل
بل شرف الأشراف من عدنان * ملاذها في نوب الزمان
له من السمو ما يسمو على * ذرى الصراح والسماوات العلى
وكيف لا؟ وهو كفيل المصطفى * أبو الميامين الهداة الخلفا
30 ووالد الوصي والطيار * وهو لعمري منتهى الفخار
بضوئه أضاءت البطحاء * لا بل به أضاءت السماء
والنير الأعظم في سمائه * مثل السهى في النور من سيمائه
كيف؟ ومن غرته تجلى * لأهله نور العلي الأعلى
ساد الورى بمكة المكرمه * فحاز بالسؤدد كل مكرمه
35 بل هو فخر البلد الحرام * بل شرف المشاعر العظام
وقبلة الآمال والأماني * بل مستجار كعبة الإيمان
وفي حمى سؤدده وهيبته * تم لداع الحق أمر دعوته
ما تمت الدعوة للمختار * لولاه فهو أصل دين الباري
كيف؟ وظل الله في الأنام * في ظله دعى إلى الاسلام
40 وانتشر الاسلام في حماه * مكرمة ما نالها سواه
رايته علت بعالي همته * كفاه هذا في علو رتبته
مفاخر يعلو بها الفخار * مآثر تحلو بها الآثار
ذاك أبو طالب المنعوت * من قصرت عن شأنه النعوت
يجل عن أي مديح قدره * لكنه يحيي القلوب ذكره
" القصيدة "
28

ومن قصيدة للعلامة الحجة شيخنا الشيخ عبد الحسين صادق العاملي قدس
سره قوله:
لو لاه ما شد أزر المسلمين ولا * عين الحنيفة سالت في مجاريها
آوى وحامى وساوى قيد طاقته * عن خير حاضرها طرا وباديها
ما كان ذاك الحفاظ المرأطة أرحام * وضرب عروق فار غاليها
بل للاله كما فاهت روائعه العصماء * في كل شطر من قوافيها
ضاقت بما رحبت أم القرى برسول * الله من بعده واسود ضاحيها
فانصاع يدعو له بالخير مبتهلا * بدعوة ليس بالمجبوه داعيها
لو لم تكن نفس عم المصطفى طهرت * ما فاه فوه بما فيه ينجيها
عاما قضى عمه فيه وزوجته * قضاه بالحزن يبكيه ويبكيها
أعظم بإيمان مبكي المصطفى سنة * أيامها البيض أدجى من لياليها
من صلبه ايبثت الأنوار قاطبة * فالمرتضى بدؤها والذخر تاليها
هذا أبو طالب شيخ الأباطح وهذه نبذة من آيات إيمانه الخالص، ما كتبناها
عليهم إلا ابتغاء رضوان الله (1) ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا
إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون (2) والذين جاءوا من بعدهم يقولون
ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا
ربنا إنك رؤوف رحيم (3).

(1) سورة الحديد: 27.
(2) سورة المدثر: 31.
(3) سورة الحشر: 10.
29

عود إلى بدء
أحاديث الغلو في فضائل أبي بكر
- 29 -
ملك يرد على شاتم الخليفة
أخرج يوسف بن أبي يوسف في الآثار ص 208 عن أبيه يعقوب بن إبراهيم القاضي
عن أبي حنيفة قال: بلغني أن رجلا شتم أبا بكر فحلم أبو بكر رضي الله عنه والنبي
صلى الله عليه وسلم قاعد ثم إن أبا بكر رد عليه فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: شتمني فلم تقم
وقمت حين رددت عليه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ملكا كان يرد عنك فلما رددت
أنت ذهب فقمت.
وأخرجه أحمد في مسنده 2: 436 من طريق أبي هريرة: إن رجلا شتم أبا بكر
والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض
قوله فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت
جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت؟ قال: إنه كان معك ملك يرد
عنك فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان.
قال الأميني: لم نعرف طريق بلاغ الحديث أبا حنيفة حتى نقف على مبلغه من
الصحة ولعل أبا يوسف القاضي بمفرده يكفيه وهنا نظرا إلى بعض ما قيل فيه كقول
الفلاس: صدوق كثير الخطاء.
وقول أبي حفص: صدوق كثير الغلط.
وقول البخاري: تركوه.
وقول يحيى بن آدم: شهد أبو يوسف عند شريك فرده وقال: لا أقبل من يزعم
أن الصلاة ليست من الإيمان.
وقول ابن عدي: يروي عن الضعفاء.
30

وقول ابن المبارك بسند صحيح: إنه وهاه، وقوله لرجل: إن كنت صليت
خلف أبي يوسف صلوات تحفظها فأعدها وقوله: لإن أخر من السماء إلى الأرض
فتخطفني الطير أو تهوى بي الريح في مكان سحيق أحب إلي من أن أروي عن ذلك.
وقال رجل لابن المبارك: أيهما أصدق؟ أبو يوسف أو محمد؟ قال: لا تقل أيهما أصدق.
قل: أيهما أكذب.
وقول عبد الله بن إدريس: كان أبو يوسف فاسقا من الفاسقين.
وقول وكيع لرجل قال: أبو يوسف يقول كذا وكذا: أما تتقي الله بأبي يوسف
تحتج عند الله عز وجل؟.
وقول أبي نعيم الفضل بن دكين: سمعت أبا حنيفة يقول لأبي يوسف: ويحكم
كم تكذبون علي في هذه الكتب ما لم أقل؟.
وقول يحيى ين معين: لا يكتب حديثه. وقوله: كان ثقة إلا إنه كان ربما غلط
.
وقول يزيد بن هارون: لا تحل الرواية عنه كان يعطي أموال اليتامى مضاربة و
يجعل الربح لنفسه.
وقول ابن أبي كثير مولى بني الحارث أو النظام لما دفن أبو يوسف:
سقى جدثا به يعقوب أمسى * من الوسمي منبجس ركام
تلطف في القياس لنا فأضحت * حلالا بعد حرمتها المدام
ولولا أن مدته تقضت * وعاجله بميتته الحمام
لاعمل في القياس الفكر حتى * تحل لنا الخريدة والغلام (1)
وأما طريق أحمد ففيه سعيد بن أبي سعيد المدني وقد اختلطه قبل موته بأربع
سنين كما في تهذيب التهذيب 4: 39، 40، ومتن الرواية يشهد على صدورها منه في
أيام اختلاطه.
ومما لا ريب فيه إساءة الأدب من كلا المتسابين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله
ورفع أصواتهما بطبع من حال المتشاتم فإنه لا يؤتي به همسا والله يقول: يا أيها الذين
آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول. الآية وقد نزلت في

(1) تاريخ الخطيب البغدادي 14: 257، ميزان الاعتدال، لسان الميزان 6: 300.
31

أبي بكر وعمر تماريا عند رسول الله صلى الله عليه وآله كما مر حديثه في الجزء السابع ص 223.
وماذا على أبي بكر لو بقي متحلما مراعيا لأدب حضرة النبي إلى آخر مجلسه؟
كما فعله أولا لذلك أوان ما فعله أولا كان منه رمية من غير رام؟ فلا ينقلب إلى
الإساءة وإزعاج رسول الله صلى الله عليه وآله حتى قام عنه.
وماذا عليه لو قام معه فيقطع مادة البغضاء؟ وماذا عليه لو سكت عن النبي صلى الله عليه وآله
ولم يسئ الأدب بالاعتراض والنقد على قيامه؟.
وماذا عليه لو أبقى الملك وهو يحسبه مظلوما فيسب الرجل ردا عليه؟ لكنه
رآه مكافئ الظالم فتركه.
وعجبي مما في لفظ أحمد من قول النبي لأبي بكر: فلما رددت عليه بعض قوله
وقع الشيطان. الخ. كيف كان ذلك المحفل خلوا من الشيطان إلى أن رد عليه أبو بكر
والرجل كان يشتم أبا بكر ويكثر، ولما رد عليه وقع الشيطان؟ فكأن رد أبي بكر
كان من همزات الشيطان دون سب الرجل إياه، وكأن النبي الأعظم لم تكن له
مندوحة عن سماع شتم الرجل أبا بكر، أو لم تكن فيه مغضبة دون رد أبي بكر إياه؟
إن هذا لشئ عجاب.
ثم هل في عالم الملكوت من يقابل البذاءة بمثلها؟ أو إن هناك عالم القداسة
لا يطرقه الفحش والسباب المقذع لقبحهما الذاتي؟ وهل لله سبحانه ملائكة قيضهم
لذلك العمل القبيح؟ وهل هذا التقييض مخصوص بأبي بكر فحسب؟ أو إنه يكون لكل
متسابين من المؤمنين إذا سكت أحدهما؟ وهل قيضت الملائكة للرد على من هجا
رسول الله من المشركين؟ أنا لم أقف على أثر في هذه كلها، وليست المسألة عقلية
فتعضدها البرهنة، مع قطع النظر عن استهجان العقل السليم لذلك، والمتيقن: إن
جزاء الشاتم إن كان ظالما مرجئ إلى يوم الجزاء، وأما رده بقول لا يسمعه الظالم
فيتأدب ويرتدع، ولا المظلوم فيشفي غليله، ولا أي أحد فيكون فضيحة لمرتكب
القبيح فعساه يترك شنعته، فمن التافهات، نعم: أخرج الخطيب في تاريخه 5: 280 من طريق سهل بن صقين عن أبي هريرة مرفوعا: أن لله تعالى في السماء سبعين ألف ملك يلعنون من شتم أبا بكر وعمر.
32

غير أن الخطيب نفسه أردفه بقوله: سهل يضع. راجع ما أسلفناه في الجزء الخامس
صفحة 280 ط 2.
- 30 -
خطبة النبي صلى الله عليه وآله في فضل الخليفة
أخرج البخاري في المناقب باب قول النبي: سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر ج
5: 242 وباب الهجرة ج 6: 44 من طريق أبي سعيد الخدري قال: خطب رسول الله
صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله
قال: فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير فكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمن الناس علي
في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن
إخوة الاسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر
وزاد في لفظ ابن عساكر: فعلمنا أنه مستخلفه. وفي لفظ الرازي في تفسيره 2:
347: ما من الناس أحد أمن علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة.
قال الأميني: راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا صفحة 176 - 187 ط 2 تزدد وثوقا
بما تضمنته هذه الرواية من أكذوبة حديث الأبواب وسدها، وما لابن تيمية هنالك
من مكاء وتصدية.
وأما بقية الحديث فمما فيه قول أبي سعيد: وكان أبو بكر أعلمنا. لم يخص
هذا العلم بأبي بكر وإنما تحمله كل من سمعه صلى الله عليه وآله ووعى أقواله في حجة الوداع
الذي كان يقول فيها: يوشك أن أدعى فأجيب. إلى ما يقارب ذلك مما هو مذكور
في الجزء الأول. وهب أن العلم بذلك كان مقصورا على الخليفة لكنه أي علم هذا
يباهى به؟ أهو حل عويصة من الفقه؟ أو بيان مشكلة من الفلسفة؟ أو شرح غوامض من
علوم الدين؟ أو كشف مخبأ من أسرار الكون؟ لم يكن في هذا العلم شئ من ذلك كله
وإنما هو على فرض الصحة تنبه منه إلى أنه صلى الله عليه وآله يريد نفسه، ولعله سمعه قبل ذلك
فتذكره عندئذ، وقد أسلفناه في الجزء السابع عند البحث عن أعلمية الرجل بما لا مزيد
عليه. فراجع.
الغدير 4
33

وأما قوله: إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر. فأي من لأي أحد
في صحبته. صلى الله عليه وآله وسلم وإنفاق ماله في دعوته؟ ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها (1)،
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها (2)، وكانت لرسول الله المنة على البشر
عامة بالدعوة والهداية والتهذيب، وإن صاحبه أحد وناصره فلنفسه نظر ولها نصح،
يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم
للإيمان إن كنتم صادقين (3)، لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم
يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال
مبين (4).
على أن منة المال لأبي بكر سالبة بانتفاء الموضوع وسنوقفك على جلية الحال،
وقصة الخلة في ذيل الرواية أوقفناك عليها في الجزء الثالث وإنها موضوعة، ويعارضها
موضوع آخر أخرجه الحافظ السكري من طريق أبي بن كعب أنه قال: إن أحدث
الناس عهدي بنبيكم صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمس ليال دخلت عليه وهو يقلب يديه وهو يقول:
إنه لم يكن نبي إلا وقد اتخذ من أمته خليلا وأن خليلي من أمتي أبو بكر ابن
أبي قحافة، ألا وإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا (5).
وموضوع آخر أخرجه الطبراني من طريق أبي أمامة إن الله اتخذني خليلا
كما اتخذ إبراهيم خليلا وإن خليلي أبو بكر. كنز العمال 6: 138.
وموضع آخر أخرجه أبو نعيم من طريق أبي هريرة: لكل نبي خليل في
أمته وإن خليلي أبو بكر. كنز العمال: 140.
هكذا تعارض سلسلة الموضوعات بعضها بعضا لجهل كل من واضعيها بما أتى
به الآخر. ولكل منته وسعة باعه في نسج الأكاذيب، وما الله بغافل عما يعملون.
وقبل هذه كلها ما في رجال سند الرواة من الآفة لمكان إسماعيل بن عبد الله

(1) سورة فصلت: 46.
(2) سورة الإسراء: 7.
(3) سورة الحجرات: 17.
(4) سورة آل عمران: 164.
(5) الرياض النضرة للمحب الطبري 1: 83، إرشاد الساري للقسطلاني 6: 83.
34

أبي عبد الله بن أبي أويس ابن أخت مالك ونسيبه والراوي عنه.
قال ابن أبي خيثمة: صدوق، ضعيف العقل ليس بذاك يعني إنه لا يحسن الحديث
ولا يعرف أن يؤديه أو يقرأ من غير كتابه.
وقال معاوية بن صالح: هو وأبوه ضعيفان.
وقال ابن معين: هو وأبوه يسرقان الحديث. وقال إبراهيم بن الجنيد عن يحيى
ابن معين: مخلط يكذب ليس بشئ.
وقال النسائي: ضعيف. وقال في موضع آخر: غير ثقة. وقال اللالكائي: بالغ
النسائي في الكلام عليه إلى أن يؤدي إلى تركه، ولعله بان له ما لم يبن لغيره لأن
كلام هؤلاء كلهم يؤل إلى أنه ضعيف.
وقال ابن عدي: روى عن خاله أحاديث غرائب لا يتابعه عليها أحد. قال الأميني
هذه الرواية التي رواها عن خاله من تلك الغرائب.
وذكره الدولابي في الضعفاء وقال: سمعت النصر بن سلمة المروزي يقول: ابن
أبي أويس كذاب كان يحدث عن مالك بمسائل ابن وهب.
وقال العقيلي في الضعفاء عن يحيى بن معين أنه قال: ابن أبي أويس لا يسوى فلسين
وقال الدارقطني: لا أختاره في الصحيح.
وذكره الإسماعيلي في المدخل فقال: كان ينسب في الخفة والطيش إلى ما
أكره ذكره.
وقال بعضهم: جانبناه للسنة.
وقال ابن حزم في المحلى: قال أبو الفتح الأزدي حدثني سيف بن محمد: إن
ابن أبي أويس كان يضع الحديث.
وأخرج النسائي من طريق سلمة بن شبيب أنه قال: سمعت إسماعيل بن أبي أويس
يقول: ربما كنت أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شئ فيما بينهم (1).
أليس من الجزاف والقول الزور، قول النووي في مقدمة شرح صحيح مسلم: اتفق
العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان: البخاري ومسلم؟.

(1) تهذيب التهذيب 1: 312.
35

أكتاب هذا حديثه وهذه ترجمة رجال إسناده وهو أخف ما فيه من الطامات
يصلح أن يكون أصح الكتب بعد القرآن؟ كبرت كلمة تخرج من أفواههم، ولو كان
هذا شأن الأصح المتفق عليه فما قيمة غيره في سوق الاعتبار؟.
- 31 -
ثناء أمير المؤمنين عليه السلام على الخليفة
أخرج ابن الجوزي في صفة الصفوة 1: 97 من طريق الحسن قال قال علي عليه السلام:
لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في
الصلاة، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فقد منا أبا بكر.
وأخرجه مرسلا أيضا المحب الطبري في الرياض النضرة 1: 150 فقال: وعنه
قال: قال علي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يصلي بالناس وقد رأى مكاني وما كنت
غائبا ولا مريضا، ولو أراد أن يقدمني لقدمني فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم لديننا.
وعن قيس بن عبادة قال قال لي علي بن أبي طالب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض
ليالي وأياما ينادي بالصلاة فيقول: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فلما قبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم نظرت فإذا الصلاة علم الاسلام، وقوام الدين، فرضينا لدنيانا من رضيه رسول
الله صلى الله عليه وسلم لديننا فبايعنا.
قال الأميني: ما أجرأ الحفاظ على رواية هذه الأكاذيب الفاحشة، وإغراء بسطاء
الأمة المسكينة بالجهل، والتمويه على الحقائق بأمثال هذه الأفائك؟ وهم مهرة الفن
ولا يغرب عن أي أحد منهم عرفان ما في تلكم المختلقات من الغمز والاعتلال.
نعم وكم وكم يجد الباحث في طيات أجزاء كتابنا هذا مما يكذب هذه
الأفيكة من التاريخ المتسالم عليه، والحديث الصحيح، والنصوص الصريحة من كلمات
مولانا أمير المؤمنين، وشتان بينه وبين كلمات الحفاظ والمؤرخين حول تخلف
علي عليه السلام عن بيعة أبي بكر؟ مثل قول القرطبي في المفهم شرح صحيح مسلم في شرح
حديث منه. قوله: كان لعلي من الناس جهة حياة فاطمة قال: جهة أي جاه واحترام
كان الناس يحترمون عليا في حياتها كرامة لها كأنها بضعة من رسول الله وهو مباشر
36

لها فلما ماتت وهو لم يبايع أبا بكر. انصرف الناس عن ذلك الاحترام ليدخل فيما دخل
فيه الناس ولا يفرق جماعتهم.
نعم: أكثر الوضاعون في الكذب على سيد العترة أمير المؤمنين وبان ذلك في الملاء
حتى قال عامر بن شراحيل: أكثر من كذب عليه من الأمة الإسلامية هو أمير المؤمنين
عليه السلام (1) وإليك نماذج مما يعزى إليه وهو سلام الله عليه برئ منه، أضفها إلى
أحاديث الغلو في فضائل أبي بكر.
34 - عن علي: أول من يدخل من الأمة الجنة أبو بكر وعمر وإني لموقوف
مع معاوية للحساب.
33 - عن علي مرفوعا: يا علي! لا تكتب جوازا لمن سب أبا بكر وعمر فإنهما سيدا
كهول أهل الجنة بعد النبيين. ويأتي بلفظ آخر.
34 - عن علي مرفوعا: الخليفة بعدي أبو بكر وعمر ثم يقع الاختلاف.
35 - عن علي مرفوعا: يا علي! سألت الله ثلاثا أن يقدمك فأبى علي إلا أن
يقدم أبا بكر.
36 - عن علي: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسر إلي: أن أبا بكر سيتولى
بعده ثم عمر ثم عثمان ثم أنا.
37 - عن علي: إن الله فتح هذه الخلافة على يدي أبي بكر وثناه عمر وثلثه
عثمان وختمها بي بخاتمة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
38 - عن علي: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من الدنيا حتى عهد إلي: إن أبا بكر
يلي الأمر بعده ثم عمر ثم عثمان ثم إلي فلا يجتمع علي.
39 - عن علي مرفوعا: أتاني جبرئيل فقلت: من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر،
ويلي أمر أمتك من بعدك وهو أفضل أمتك من بعدك.
40 - عن علي مرفوعا: أعز أصحابي إلي، وخيرهم عندي، وأكرمهم على الله،
وأفضلهم في الدنيا والآخرة أبو بكر الصديق. الحديث بطوله.
41 - عن علي إنا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله، إنه لصاحب

(1) تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 77.
37

الغار، وثاني اثنين، وإنا لنعلم بشرفه وكبره. الحديث.
41 - عن علي مرفوعا: يا علي إن الله أمرني أن اتخذ أبا بكر وزيرا، وعمر
مشيرا وعثمان سندا، وإياك ظهيرا، أنتم أربعة فقد أخذ الله ميثاقكم في أم الكتاب،
لا يحبكم إلا مؤمن ولا يبغضكم إلا فاجر، أنتم خلائف نبوتي، وعقدة ذمتي، وحجتي
على أمتي، لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تعافوا.
43 - قيل لعلي: يا أمير المؤمنين! من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال
أبو بكر. قيل: ثم من؟ قال عمر. قيل: ثم من؟ قال: عثمان. قيل: ثم من؟
قال: أنا.
44 - خطب علي خطبة وقال في آخرها: واعلموا إن خير الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم
أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم أنا. وقد رميت بها في
رقابكم وراء ظهوركم فلا حجة لكم علي.
45 - سئل علي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله قالوا: أخبرنا عن أبي بكر ابن أبي
قحافة قال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل عليه السلام وعلى لسان محمد صلى الله عليه وآله
كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله رضيه لديننا فرضينا لدنيانا.
46 - عن علي: إنه كان يحلف بالله إن الله تعالى أنزل اسم أبي بكر من
السماء: الصديق.
47 - عن علي: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، وأول من صلى إلى القبلة
علي بن أبي طالب.
48 - عن عبد الرحمن (1) بن أبي الزناد عن أبيه قال: أقبل رجل فتخلص الناس
حتى وقف على علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين! ما بال المهاجرين والأنصار
قدموا أبا بكر وأنت أورى منقبة، وأقدم إسلاما، وأسبق سابقة؟ قال: إن كنت قرشيا
فأحسبك من عائذة، قال نعم. قال: لولا إن المؤمن عائذ الله لقتلتك. ويحك إن أبا بكر
سبقني لأربع لم أوتهن ولم اعتض منهن: سبقني إلى الإمامة. أو تقدم الإمامة. و

(1) قال ابن معين. ليس ممن يحتج به أصحاب الحديث، ليس بشئ. وعن ابن المدني: كان
عند أصحابنا ضعيفا. وكان عبد الرحمن يخط على حديثه، وضعفه الساجي وابن شيبة، وقال النسائي
لا يحتج بحديثه. تهذيب التهذيب 6: 171.
38

تقدم الهجرة، وإلى الغار، وإفشاء الاسلام. الحديث بطوله وفي آخره: ثم قال: لا
أجد أحدا يفضلني على أبي بكر إلا جلدته جلد المفتري.
49 - عن علي: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يهاجر معي؟
فقال: أبو بكر، وهو الصديق. مر بلفظ آخر.
50 - جاء أبو بكر وعلي يزوران النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بستة أيام فقال علي
لأبي بكر: تقدم يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: ما كنت لأتقدم رجلا سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: علي مني كمنزلتي من ربي. فقال علي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: ما منكم من أحد إلا وقد كذبني غير أبي بكر، وما منكم من أحد يصبح إلا على
بابه " على باب قلبه " ظلمة إلا باب أبي بكر. فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقوله؟ قال: نعم. فأخذ أبو بكر بيد علي ودخلا جميعا.
51 - عن علي مرفوعا: ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين
أفضل من أبي بكر.
52 - عن علي: دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! ألا تستخلف؟
فقال: إن يعلم الله فيكم خيرا استعمل عليكم خيركم. فعلم الله فينا خيرا فأستعمل علينا
أبا بكر.
53 - عن علي قال: أفضلنا أبو بكر.
54 - عن علي مرفوعا: ينادي مناد يوم القيامة: أين السابقون الأولون؟ فيقال
من؟ فيقول: أين أبو بكر الصديق؟ فيتجلى الله لأبي بكر خاصة وللناس عامة.
55 - عن علي مرفوعا: الخير ثلاثمائة وسبعون خصلة إذا أراد الله بعبد خيرا جعل
فيه واحدة منهن فدخل بها الجنة قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله! هل في شئ منها؟
قال: نعم جمع من كل.
56 - عن علي مرفوعا: يا أبا بكر! إن الله أعطاني ثواب من آمن به منذ خلق
آدم إلى أن بعثني، وإن الله أعطاك ثواب من آمن بي منذ بعثني إلى أن تقوم الساعة.
57 - التقى أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب فتبسم أبو بكر في وجه علي
فقال له علي: مالك تبسمت؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يجوز أحد الصراط
39

إلا من كتب له علي بن أبي طالب الجواز. فضحك علي وقال: ألا أبشرك يا أبا بكر!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكتب الجواز إلا لمن أحب أبا بكر.
58 - عن علي مرفوعا: نازلت ربي فيك ثلاثا فأبى إلا أبا بكر
59 - عن علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا عهدا نأخذ به في الإمارة، و
لكنه شئ رأيناه من قبل أنفسنا، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن
قبل أنفسنا. ثم استخلف أبو بكر فأقام واستقام، ثم استخلف عمر فأقام واستقام، حتى
ضرب الدين بجرانه.
60 - قال أبو بكر لعلي بن أبي طالب: قد علمت أني كنت في هذا الأمر قبلك؟
قال: صدقت يا خليفة رسول الله! فمد يده فبايعه.
61 - قام أبو بكر بعد ما بويع له وبايع له علي وأصحابه فأقام ثلاثا يقول: أيها
الناس قد أقتلكم بيعتكم، هل من كاره؟ قال: فيقوم علي في أوائل الناس يقول: لا والله
لا نقيلك ولا نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذا الذي يؤخرك؟.
وفي لفظ: ولولا إنا رأيناك أهلا ما بايعناك.
وفي لفظ سويد بن غفلة: لما بايع الناس أبا بكر قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه
ثم قال: أيها الناس أذكر بالله أيما رجل ندم على بيعتي لما قام على رجليه، قال: فقام
إليه علي بن أبي طالب ومعه السيف فدنا منه حتى وضع رجلا على عتبة المنبر والأخرى
على الحصى وقال: والله لا نقيلك. الحديث
62 - عن علي مرفوعا: خير أمتي بعدي أبو بكر وعمر.
63 - عن علي إنه دخل على أبي بكر وهو مسجى فقال: ما أحد لقي الله بصحيفة
أحب إلي من هذا المسجى.
64 - عن علي: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفنا أن أفضلنا بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفنا إن أفضلنا بعد أبي بكر عمر
رضي الله تعالى عنهما.
65 - عن علي: مرفوعا: يا علي! هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين و
الآخرين إلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما يا علي. قال: فما أخبرتهما حتى ماتا.
40

66 - عن علي مرفوعا: أول من يحاسب يوم القيمة أبو بكر. يأتي بطوله.
هذه غياهب الإفك والإحن، وأغشية التمويه والدجل، ظلمات بعضها فوق بعض
، أو قل: هي أساطير الأولين التي اكتتبوها، أحاديث الغلو وقصص الخرافة لفقتها
يد الأمانة الخائنة على السنة النبوية تقولا على مولانا أمير المؤمنين، لقد فصلنا القول
فيها في طيات أجزاء (1) كتابنا هذا، وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا.
- 67 -
ليلة الغار والخليفة فيها
أخرجها أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء 1: 22 عن عبد الله بن محمد بن جعفر
عن محمد بن العباس بن أيوب عن أحمد بن محمد بن حبيب المؤدب عن أبي معاوية عن
هلال بن عبد الرحمن عن عطاء بن أبي ميمونة أبي معاذ عن أنس بن مالك قال: لما كان
ليلة الغار قال: أبو بكر يا رسول الله! دعني فلأدخل قبلك فإن كانت حية أو شئ
كانت لي قبلك. قال: ادخل، فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه، فكلما رأى جحرا
جاء بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع، قال: فبقي جحر فوضع
عقبه عليه، ثم أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: فأين ثوبك
يا أبا بكر؟ فأخبره بالذي صنع، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال: اللهم اجعل أبا بكر معي
في درجتي يوم القيامة. فأوحى الله تعالى إليه: إن الله قد استجاب لك.
وقال ابن هشام في السيرة 2: 98: حدثني بعض أهل العلم إن الحسن البصري
قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا فدخل أبو بكر رضي الله عنه قبل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حية يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.
وذكره ابن كثير في تاريخه 3: 179 فقال: فيه انقطاع من طرفيه.
وفي مرسل المحب الطبري في الرياض 1: 65: دخل أبو بكر الغار فلم ير فيه
جحر إلا أدخل إصبعه فيه حتى أتى على جحر كبير فأدخل رجله فيه إلى فخذه ثم قال:
ادخل يا رسول الله! فقد مهدت لك الموضع تمهيدا.
وبات أبو بكر بليلة منكرة من الأفعى فلما أصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما

(1) تجد بسط المقال حول جلها في الجزء الخامس ص 297 375 ط 2.
41

هذا يا أبا بكر؟ وقد تورم جسده فقال: يا رسول الله! الأفعى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهلا أعلمتني؟ فقال أبو بكر: كرهت أن أفسد عليك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على
أبي بكر فاضمحل ما كان بجسده من الألم وكأنه أنشط من عقال.
وقال في مرسل آخر عن عمر في ص 68: كان في الغار خروق فيها حيات و
أفاعي فخشي أبو بكر أن يخرج منها شئ يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقمه قدمه فجعلن
يضربنه ويلسعنه الحيات والأفاعي، وجعلت دموعه تتحادر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
له: يا أبا بكر! لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته وهي الطمأنينة لأبي بكر.
والذي صححه الحاكم في المستدرك من طريق عمر من الحديث قوله: فلما انتهيا
إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله! حتى استبرئ الحجرة فدخل واستبرأ ثم
قال: أنزل يا رسول الله! فنزل فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.
فقال الحاكم: صحيح لولا إرسال فيه.
وفي حديث زيفه ابن كثير بالإرسال أيضا: قال أبو بكر: كما أنت حتى أدخل
يدي فأحسه وأقصه فإن كانت فيه دابة أصابتني قبلك. قال نافع: فبلغني إنه كان في
الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفا أن يخرج منه دابة أو شئ يؤذي
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظ: لما دخل الغار سدد تلك الأجحر كلها وبقي منها جحر واحد،
فألقمه كعبه فجعلت الأفاعي تنهشه ودموعه تسيل " تاريخ ابن كثير 3: 180 " فقال: في
هذا السياق غرابة ونكارة.
وزاد عليه الحلبي في السيرة: قد كان صلى الله عليه وسلم وضع رأسه في حجر أبي بكر رضي الله
تعالى عنه ونام فسقطت دموع أبي بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
مالك يا أبا بكر؟ قال لدغت فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله على محل اللدغة
فذهب ما يجده.
وقال: زاد في رواية: وإنه رأى على أبي بكر أثر الورم فسأل عنه فقال: من
لدغة الحية فقال: هلا أخبرتني؟ قال: كرهت أن أوقظك فمسحه النبي صلى الله عليه وسلم فذهب
ما به من الورم والألم.
42

وقال: قال بعضهم: والسر في اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصص على رؤوسهم
تعظيما للحية التي لدغت أبا بكر في الغار، لأنهم يزعمون أن ذلك على صورة تلك
الحية.
السيرة الحلبية 2: 39، 40، السيرة النبوية لزيني دحلان هامش الحلبية
1: 342.
قال الأميني: للباحث حق النظر في هذه الرواية من عدة نواحي، أولا من
حيث رجال السند ولا إسناد لها منذ يوم وضعت، ولا تروى في كتب السلف والخلف إلا
مرسلة إما من الطرفين كرواية ابن هشام، وإما من طرف واحد كإسناد الحاكم وأبي
نعيم، ومن الغريب جدا أن القضية مشتركة بين اثنين ليس إلا، وهما: رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر، وروايتها بطبع الحال تنحصر بهما غير أنها لم تنقل عنهما ولم يوجد لهما ذكر
في أي سند، والدواعي في مثلها متوفرة لأن يذكر مع الأبد، وتتداولها الألسن،
إذ فيها من أعلام النبوة، وكرامة مع ذلك لأبي بكر.
وإسناد أبي نعيم المذكور لا يعول عليه لمكان عبد الله بن محمد بن جعفر، قال
ابن يونس: خلط في الآخر، ووضع أحاديث على متون معروفة، وزاد في نسخ مشهورة
فافتضح وحرقت الكتب في وجهه.
وقال الحاكم عن الدارقطني: كذاب ألف كتاب سنن الشافعي وفيها نحو مائتي
حديث لم يحدث بها الشافعي.
وقال الدارقطني: وضع في نسخة عمرو بن الحارث أكثر من مائة حديث.
وقال علي بن رزيق: كان إذا حدث يقول: لأبي جعفر ابن البرقي في حديث بعد
حديث: كتبت هذا عن أحد. فكان يقول نعم عن فلان وفلان. فاتهمه الناس بأنه
يفتعل الأحاديث، ويدعيها ابن البرقي كعادته في الكذب. قال: وكان يصحف أسماء
الشيوخ (1).
على أن عبد الله بن محمد توفي سنة 315 كما في لسان الميزان فلا تتم رواية
أبي نعيم عنه وهو من مواليد 336.

(1) لسان الميزان 3: 345.
43

وفيه: محمد بن العباس بن أيوب الحافظ الشهير بابن الاخزم، قال أبو نعيم نفسه:
اختلط قبل موته بسنة كما في لسان الميزان 5: 216 ولما لم يعلم تاريخ صدور
الرواية منه أهو قبل الاختلاط أم بعده؟ - إن لم تعد الرواية من بينات الاختلاط -
سقطت عن الاعتبار كما هو الشأن في رواية كل من اختلط. عن:
أحمد بن محمد بن حبيب المؤدب، أحسبه السرخسي، أخرج الخطيب في
تاريخه 5: 140 حديثا من طريقه فقال: رجاله كلهم ثقات معروفون بالثقة إلا
المؤدب. عن:
أبي معاوية محمد بن خازم، مرجئ مدلس رئيس المرجئة بالكوفة كما في
تهذيب التهذيب 9: 139. عن:
هلال بن عبد الرحمن قال العقيلي: منكر الحديث، وقال بعد ما ذكر له أحاديث:
كل هذه مناكير لا أصول لها ولا يتابع عليها. وقال الذهبي: الضعف على أحاديثه لائح
فليترك. " لسان الميزان 6: 202 " عن:
عطاء بن أبي ميمون. ثقة صالح قدري لا يحتج بحديثه، راجع تهذيب
التهذيب 7: 215.
ولما لم يصح شئ من أسانيد الرواية ومتونها لم يوعز إليها السيوطي في
الخصايص الكبرى في باب ما وقع في الهجرة النبوية من الآيات والمعجزات، وقد ذكر
فيه أحاديث ضعيفة مع النص على ضعفها، فكأنه عرف بأن ذكر هذه الرواية تمس
كرامة المؤلف وتحط مكانة تأليفه عن الأنظار، وهكذا لم يذكرها أحد ممن ألف
في أعلام النبوة ومعاجز النبي الأعظم.
ثانيا: إن الأصول القديمة في القرون الأولى لا يوجد فيها إلا أن أبا بكر دخل
الغار قبل النبي صلى الله عليه وآله لينظر أفيه سبع أو حية كما في سيرة ابن هشام، ولم يصح عند
الحاكم من القصة إلا هذا المقدار كما سمعت ولو صح شئ زايد على هذا لما فاتته
روايته ولو مرسلة.
وزيدت في القرن الرابع قصة الثوب وبقاء جحر واتكاء أبي بكر عليه بعقبه
ودعاء النبي صلى الله عليه وآله له لاتقائه عنه صلى الله عليه وآله بثوبه عن لدغ الحشرات المزعومة.
44

وجددت النغمات في قرن المحب الطبري المتخصص الفنان في رواية الموضوعات
وجمع شتاتها، فجاء في روايته ما سمعت غير أن ألفاظه مع وجازته مضطربة جدالا
يلتئم شئ منها مع الآخر.
ثم جاء الحلبي فنوم رسول الله صلى الله عليه وآله ورأسه في حجر أبي بكر، وسقى وجه
رسوله الكريم بدموع أبي بكر المتساقطة من الألم، كل هذه لم يبرد كبد الحلبي
وما شافي غليله، فوجه قوارصه على الرافضة وألبس رؤوسهم لبادا مقصصا على صورة
تلك الحية الموهومة التي لم يزعن رافضي قط بوجوده.
ثم لما أدخل أبو بكر رجله في الجحر ونزل النبي صلى الله عليه وآله ووجده
قاعدا لا يتحرك، ورام أن ينام، ووضع رأسه الشريف في حجره، هلا سأل صلى الله عليه وآله صاحبه
عن حالته العجيبة وجلوسه المستغرب الذي لا يقوم عنه؟ وهل يمكن له أن يستر على
صاحبه كلما فعل وهو معه ينظر إليه من كثب؟.
وأي لديغ هذا؟ وأي تصبر وتجلد؟ وأي منظر مهول؟ رجل الرجل في
الجحر إلى فخذه ولا ثوب عليه، ورأس النبي العظيم في حجره، والأفاعي والحيات تلدغه و
تلسعه من هنا وهنا، لا اللديغ يتململ السليم، حتى يحرك رجله أو عقبه فتجد
تلكم الحشرات مسرحا فتبعد عنه، ولا يأن ولا يحن ولا تسمع له زفرة وإن الدموع
تتحادر حتى يستيقظ النبي الذي تنام عينه ولا ينام قلبه (1) فينجي صاحبه الذي اختاره
لصحبته من لسعة الحيات والأفاعي.
وهل من العدل والعقل والمنطق أن يحفظ الله نبيه عن كل هاتيك النوازل؟ و
يري له في الدرأ عنه آية بعد آية في سويعات؟ من ستره عن أعين مشركي قريش لما
مر بهم من بين أيديهم، وإنباته شجرة في وجهه تستره بها، وإيقاعه حمامتين وحشيتين
بفم الغار، ونسج العناكيب باب الغار بأمر منه تعالى شأنه (1)، ويدع صاحبه الذي
اتخذه بأمره، وتفانى في حب النبي صلى الله عليه وآله، وعرض نفسه للمهالك دونه بدخوله
الغار قبله، فلم يدفع عنه لدغ الحيات والأفاعي، ولا يرحمه في تلك الحالة التي تكسر

(1) أخرج الشيخان في الصحيحين مرفوعا: إن عيني تنامان ولا ينام قلبي، وأخرجا أيضا
مرفوعا: إن الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
(2) طبقات ابن سعد 1: 213، الخصايص الكبرى 1: 185: 186.
45

القلوب، وتشجي الافؤدة، وينظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله، ويقول له: لا تحزن إن الله
معنا. والمسكين يبكي وتسيل دموعه.
م - وهلا كان يعلم أبو بكر أن الله الذي أمر نبيه بالهجرة وأدخله الغار يكلاءه
عن لدغ الحيات والأفاعي بقدرته كما أعمى عنه عيون البشر الضاري، وقصر عن النيل
منه مخالب تلك الفئة الجاهلة؟.
وهلا كان يؤمن بأن صاحبه المفدى لو اطلع على حاله لينجيه بمسحة مسيحية
أو بدعوة مستجابة؟ فكل ما حكي عنه لماذا؟] نعم: أعمى الحب مختلق الرواية وأصمه فجاء بالتافهات غلوا في الفضائل.
- 68 -
الشيطان لا يتمثل بأبي بكر
أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه 8: 334 عن محمد بن الحسين قطيط أبي الفتح
شيباني الذي ترجمه في تاريخه ولم يذكره بثقة. عن:
2 - خلف بن عامر الضرير، قال الذهبي في ميزانه 1: فيه جهالة، قال ابن الجوزي:
روى حديثا منكرا " يعني هذا الحديث " (1). عن 3 - محمد بن إسحاق بن مهران أبي بكر الشافعي قال الخطيب في تاريخه 1: 258:
حديثه كثير المناكير. وحسبك في عرفان حاله حديثه الذي أخرجه الخطيب في ترجمته
مرفوعا: إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه فإنه أمين مأمون. فراو يكون هذا
حديثه لا يرتاب من كذبه ووضعه. عن
4 - أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي ذكره ياقوت في المعجم 3: 228 وقال: قالوا:
كان ضعيفا فيما يرويه. قال ابن عدي الحافظ: يحدث عن الأصمعي والقرقساني بمناكير
وقال أبو أحمد الحافظ: لا يتابع على جل حديثه.
وحكى ابن حجر في تهذيب التهذيب 1: 60 كلمة ابن عدي وأبي أحمد وزاد
عليها: قال الحاكم أبو عبد الله: سكت مشايخنا عن الرواية عنه، وقال ابن حبان: ربما
خالف، قال الذهبي: ليس بعمدة.

(1) لسان الميزان 2: 403.
46

وقال السيوطي في بغية الوعاة 5: 144: قال ابن عيسى: يحدث بمناكير. عن
رجال ثقات عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رآني في المنام فقد
رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي، ومن رأى أبا بكر الصديق في المنام فقد رآه فإن
الشيطان لا يتمثل به.
قال الأميني: لم يدع القوم خاصة للأنبياء أماثل البشر إلا وقد أشركوا بهم فيها
أناسا ليسوا أمثالهم في العصمة والقداسة والنفسيات الكريمة والملكات الفاضلة، أخرج
الشيخان حديث من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي. ورواه الحفاظ
من طرق صحيحة لا مغمز لها، ونص السيوطي كما في شرح المناوي على تواتره، ورآه
أئمة الفن من خاصة رسول الله صلى الله عليه وآله ومن فضائله التي تخص به، وفصلوا القول في
بيان أسراره، وعده السيوطي من خصائصه صلى الله عليه وآله في الخصايص الكبرى 2: 258 تحت
عنوان " باب ومن خصائصه إن رويته في المنام حق " ولم أجد أحدا من شراح الحديث
سلفا وخلفا يوعز إلى هذه الموضوعة التي جاء بها الخطيب في القرن الخامس، فكأن
الكل ضربوا عنها صفحا وعرفوا إنها مكذبة مختلقة، غيران الخطيب راقه أن يرويها
ويسكت عما في إسنادها من العلل شأنه في فضائل غير العترة الطاهرة، وأعجب منه إن
ابن حجر ذكرها في لسان الميزان 2: 403 في ترجمة خلف بن عامر فقال: روى عن محمد
بن إسحاق بن مهران بسند صحيح. وهو الذي ترجم ثلاثة من رجال السند بما سمعت،
هكذا تخط يد الغلو في الفضائل الجانبية على ودايع العلم والدين، فويل لهم مما كتبت
أيديهم وويل لهم مما يكسبون (1).
- 69 -
أبو بكر لم يسؤ النبي قط
أخرج الخلعي وابن مندة وغيرهما من طريق سهل بن مالك قال: لما قدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع صعد المنبر فقال: أيها الناس إن أبا بكر لم يسؤني قط
فاعرفوا له ذلك (2).

(1) سورة البقرة: 79.
(2) الرياض النضرة 1: 127، الإصابة 2: 90.
47

قال ابن منده: غريب لا نعرفه إلا من وجه خالد بن عمرو الأموي. وقال ابن حجر
بعد نقله: قلت: خالد بن عمرو متروك واهي الحديث إلى أن قال نقلا عن أبي عمر: و
مدار حديثه (1) على خالد بن عمرو وهو متروك وإسناد حديثه مجهولون ضعفاء يدور على
سهل بن يوسف أو مالك بن يوسف (2).
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب 3: 109 في ترجمة خالد بن عمرو: قال أحمد
منكر الحديث، ليس بثقة يروي أحاديث بواطيل، وعن يحيى بن معين قال: ليس حديثه
بشئ، كان كذابا يكذب، حدث عن شعبة أحاديث موضوعة، وقال البخاري
والساجي وأبو زرعة: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: متروك الحديث ضعيف. و
قال أبو داود: ليس بشئ وقال النسائي: ليس بثقة. وقال صالح بن محمد البغدادي:
كان يضع الحديث. وقال ابن حبان: كان يتفرد عن الثقات بالموضوعات لا يحل
الاحتجاج بخبره. وقال ابن عدي: روى عن الليث وغيره أحاديث مناكير وأورد له أحاديث
من روايته عن الليث عن يزيد ثم قال: وهذه الأحاديث كلها باطلة، وعندي إنه وضعها
على الليث ونسخة الليث عن يزيد عندنا ليس فيها من هذا شئ وله غير ما ذكرت و
عامتها أو كلها موضوعة، وهو بين الأمر من الضعفاء، وعن أحمد بن حنبل أنه قال:
أحاديثه موضوعة. الخ.
قال الأميني: إقرأ ثم انظر إلى أمانة الحافظ المحب الطبري يروي هذه الأكذوبة
محذوف الاسناد مرسلا إياها إرسال المسلم ويعد ها من فضائل أبي بكر، وتبعه في
جنايته هذه غير واحد من المؤلفين، وهم يحسبون إنهم يحسنون صنعا، ويحسبون
إنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون.
- 70 -
الآيات النازلة في أبي بكر
قال العبيدي المالكي في عمدة التحقيق ص 134: عن الشيخ زين العابدين البكري
إنه لما قرأت عليه قصيدة جده محمد البكري ومنها:

(1) يعني حديث سهل.
(2) الإصابة 2: 90.
48

لأن كان مدح الأولين صحائفا * فإنا لآيات الكتاب فواتح
قال المراد: بأول الكتاب: ألم ذلك الكتاب. فالألف أبو بكر، واللام لله،
والميم محمد.
وذكر البغوي: إن المراد من قوله تعالى: واتبع سبيل من أناب إلي (1) هو
أبو بكر
ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة: إنه
الصديق. قال الشيخ محمد زين العابدين: كان للصديق ثلاثمائة كرسي وستون كرسيا
على كل كرسي حلة بألف دينار.
قال الأميني: هاهنا ننهي البحث عن فضائل أبي بكر، ولا يسعنا الولوج في
الكلام حول الآيات التي تقول القوم نزولها فيه، وقد حرفوا آيا كثيرة، وقالوا في
كتاب الله ما سولت لهم الميول والشهوات، وراقهم الغلو في الفضائل لدة ما سمعت
من المخازي، كما لا نفيض القول في الغلو الفاحش فيه بالقريض مثل قول الشاعر العلامة
الملا حسن أفندي البزاز الموصلي في ديوانه ص 42:
إن قدر الصديق جل فأضحى * كل مدح مقصرا عن علاه
ليت شعري ما قيمة الشعر فيمن * جاء في محكم الكتاب ثناه؟
كل من في الوجود يبغي رضا * الله تعالى والله يبغي رضاه
وقوله في مدحه أيضا:
إن ذكر الصديق ما دار إلا * ملاء الكون هيبة ووقارا
صاحب الغار كان للسيد * المختار والله صاحبا مختارا
تاه في ذكره الوجود فلولا * هيبة منه أو قرته لطارا
نعم لنا حق النظر في ثروة أبي بكر التي منحوه بها، فكانت من جرائها له المنن على
رسول الله وعلى الدين والمسلمين، تلك الثروة الطائلة التي هيئت له ألف ألف أوقية - كما
جاء فيما أخرجه النسائي (2) عن عائشة قالت: فخرت بمال أبي في الجاهلية وكان ألف ألف
- الغدير 5 -

(1) سورة لقمان: 15.
(2) ميزان الاعتدال 2: 341، تهذيب التهذيب 8: 325.
49

أوقية (1) - ونضدت له ثلاثمأة وستين كرسيا في داره، وأسدلت على كل كرسي
حلة بألف دينار، كما سمعته عن الشيخ محمد زين العابدين البكري، وأنت تعلم ما يستتبع
هذا التجمل من لوازم وآثار، وأثاث ورياش، ومناضد وأواني وفرش، لا تقصر عنها
في القيمة، وما يلزم من خدم وحشم، وقصور شاهقة، وغرف مشيدة، وما يلازم هذه
البسطة في المال من خيل وركاب وأغنام ومواشي وضيعة وعقار، إلى غيرها من توابع
الجاه والمال.
أنا لا أدري أي باحة كانت تقل ذلك كله؟ ولم يفز بمثلها يومئذ أحد من ملوك
الدنيا، وهل كانت الكراسي المذكورة منضدة في غرفة واحدة؟ فما أكبرها من غرفة؟
تضاهي ميادين القتال، ومفازات البراري، وما أكبر الدار التي هي إحدى غرفها؟ و
أي يوم كان يوم قبول أبي بكر؟ تزدلف إليه فيه الرجال فتجلس على تلكم الكراسي
، ولم لا نسمع من السير والتواريخ عن ذلك اليوم ركزا؟ أكان في أفواه الجالسين
عليها أوكية عن نقل شئ من حديثه؟ وطبع الحال يقضي أن يكون في ذلك المحتشد
العظيم المتكرر في كل أسبوع، وعلى الأقل في كل شهر. وأقل منه في كل سنة،
ولا أقل من انعقاده في العمر مرة، من الأنباء ما لا يلهو التاريخ عن ذكره، ولا يستسهل
المؤرخ تركه، لكنك بالرغم من ذلك كله لا تجد عنه إلا همسا يتخافت به العبيدي
بعد لأي من عمر الدهر.
ومن أي حرفة أو مهنة أو صنعة أو ضياع حصل على الرجل مليون أوقية من النقود؟
وكان يومئذ يوم فاقة لقريش، وكانوا كما وصفتهم الصديقة الطاهرة في خطبتها مخاطبة
أبا بكر والقوم معه: كنتم تشربون الطرق (2) وتقتالون الورق، أذلة خاشعين تخافون
أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله برسوله (3).
ولعل في ذلك اليوم كان ما رواه الماوردي في أعلام النبوة ص 146 من طريق
مالك بن أنس إنه بلغه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوجد أبا بكر وعمر رضي الله

(1) الأوقية: أربعون درهما.
(2) الطرق بفتح المهملة: الماء المجتمع الذي خيض فيه وبيل وبعر فكدر. لسان العرب.
(3) بلاغات النساء ص 13، أعلام النساء 3: 1208.
50

عنهما فسألهما فقال: ما أخرجكما؟ فقالا: أخرجنا الجوع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: و
أنا أخرجني الجوع فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيها فأمر له بحنطة أو شعير عنده يعمل.
الحديث.
ثم متى أدركت عائشة العهد الجاهلي؟ وقد ولدت بعد المبعث بأربع أو خمس
سنين (1) وهل كانت تفخر في دور الاسلام بثروة بائدة في الجاهلية وصاحبها جائع في
الحال الحاضر؟. ولست أدري ما الذي قضى على تلكم الآلاف المؤلفة؟ وما الذي أفناها وأبادها
وأفقر صاحبها؟ حتى أصبح ولا يملك شيئا، أو كان لا يملك يوم هجرته إلا أربعة أو
خمسة أو ستة آلاف من الدراهم - إن كان ملكها - ولو كان أنفق أي أحد عشر معشار
ذلك المال لدوخ العالم صيته، وكان يومئذ يعد في الرعيل الأول من أجواد الدنيا
ولم يوجد في صحيفة التاريخ ذكر من تلكم الآلاف والكراسي والحلل، هب أن الذهبي
قال في حديث عائشة: ألف الثانية باطلة قطعا فإن ذلك لا يهيأ لسلطان العصر.
وأقر ابن حجر تعقيبه في تهذيب التهذيب (2) فأين قصة ألف أوقية الصحيحة في
صحائف التاريخ؟.
وإن صحت الأحلام، وصدقت هذه القصص الوهمية، وكان لأبي بكر ذلك المال
الطائل الخيالي لما افتقر أبو قحافة والده لأن يكون أجير عبد الله بن جذعان للنداء على
طعامه، ولم يكن يقتني بتلك الخسة لماظة من العيش كما قاله الكلبي في المثالب وأشار
إليه أمية بن الصلت في قصيدة يمدح بها ابن جذعان بقوله:
له داع بمكة مشمعل * وآخر فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشيزى عليها * لباب البر يلبك بالشهاد (3)
قال الكلبي: المشمعل هو: سفيان بن عبد الأسد. وآخر: أبو قحافة، وفي تعليق
مسامرة الأوائل ص 88: يقال: إن الداعي هو أبو قحافة والد الصديق.

(1) الإصابة 4: 359، ويستفاد ذلك من صحيح البخاري في باب زواج عائشة، وتاريخ
ابن عساكر 1: 304، والاستيعاب.
(2) ميزان الاعتدال للذهبي 2: 341، تهذيب التهذيب 8: 325.
(3) مثالب الكلبي، الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني 8: 4، مسامرة الأوائل ص 88.
51

بل يحق على صاحب ألف ألف أوقية، وثلاثمائة وستين كرسيا محلى بالديباج
أن ينادي على الطعام في دور ضيافته عشرة مثل أبي قحافة فضلا عن أن يكون أجير أناس
آخرين بدراهم زهيدة، أو بشبع من الطوى.
وإن كان لأبي بكر عندئذ ما حسبوه من الثروة أو شطر منها لما احتاج إلى أن
يبتاع للهجرة مع صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم راحلتين بثمانمائة درهم (1) ثم قدم إحديهما
لرسول الله صلى الله عليه وآله فلم يقبلها إلا بالثمن، وقال صلى الله عليه وآله: إني لا أركب بعيرا ليس لي، قال
أبو بكر: فهو لك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي قال: لا، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟
قال: كذا وكذا قال: قد أخذتها بذلك (2).
ولم يكن رد رسول الله صلى الله عليه وآله إياها إلا لضعف حال أبي بكر من ناحية المال، أو
إنه لم يرقه أن يكون لأحد عليه منة حتى لا يفتعل عليه بعد ملاوة من الدهر بقول
من افتعل عليه: إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر. كما مر في ص 33 من
هذا الجزء.
على إن للنظر في رواية الراحلتين مجالا واسعا بما رواه ابن الصباغ في الفصول
المهمة والحلبي في السيرة 2: 44 من أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر أسماء بنت أبي بكر
أن تأتي عليا وتخبر بموضعهما وتقول له: يستأجر لهما دليلا ويأتي معه بثلاث من الإبل
بعد مضي ساعة من الليلة الآتية وهي الليلة الرابعة، فجاءت أسماء إلى علي كرم الله
وجهه فأخبرته بذلك، فاستأجر لهما رجلا يقال له: الأريقط بن عبد الله الليثي، وأرسل
معه بثلاث من الإبل، فجاء بهن إلى أسفل الجبل ليلا فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رغاء
الإبل نزل من الغار هو وأبو بكر فعرفاه.
وفيه صراحة بأنه لم تكن هناك راحلتين لأبي بكر معبأتين بركوبهما، وإنما
جئ بالرواحل مستأجرة، وقد جمع الحلبي بين هذا وبين حديث الراحلتين بأن المراد
باستيجار علي رضي الله عنه إعطاؤه الأجرة. وهذا الجمع يأباه لفظ الحديثين كما ترى.

(1) طبقات ابن سعد 1: 212 تاريخ ابن كثير 3: 177، 178.
(2) صحيح البخاري 6: 47 تاريخ الطبري 2: 245، سيرة ابن هشام 3: 98، 100،
طبقات ابن سعد 1: 213، تاريخ ابن كثير 3: 184 188.
52

ولقد روي كما يأتي إن الذي استصحبه أبو بكر من المال يوم هاجر من المدينة
وهو كل ما يملكه أربعة أو خمسة أو ستة آلاف درهم، فأين هذا من الألف ألف
أوقية؟ والكراسي المذكورة وحللها المقومة بثلاثمائة وستين ألف دينار وما يتبعها؟ و
أي نسبة بين صاحب تلك الثروة وبين ما لا يملك إلا هذه الدراهم المعدودة؟
وأي نسبة بينها وبين أيامه وأيام أبيه بمكة وبين ما كان يحترف به في المدينة
من بيع الابراد والأقمشة على عنقه وعلى صاعده وحرفة ضئيلة يدور بها في الأزقة و
الأسواق من دون أن يستقر في متجر أو حانوت.
أخرج ابن سعد من طريق عطاء قال: لما استخلف أبو بكر أصبح غاديا إلى السوق
وعلى رقبته أثواب يتجر بها فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة الجراح فقالا له: أين
تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمر المسلمين.
قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئا. فانطلق معهما ففرضوا
له كل يوم شطر شاة وما كسوه في الرأس والبطن.
وروى من طريق عمير بن إسحاق: إن رجلا رأى على عنق أبي بكر الصديق
عباءة فقال: ما هذا؟ هاتها أكفيكها. فقال: إليك عني لا تغرني أنت وابن الخطاب
من عيالي.
وفي لفظ آخر لابن سعد أيضا: إن أبا بكر لما استخلف راح إلى السوق يحمل
أبرادا له وقال: لا تغروني من عيالي.
وفي لفظ الحلبي. لما بويع أبو بكر بالخلافة أصبح رضي الله عنه على ساعده
قماش وهو ذاهب إلى السوق فقال له عمر: أين تريد؟. الخ (1).
ثم متى كان إنفاقه لثروته الطائلة على النبي صلى الله عليه وآله وفي مناجحه ومصالحه،
حتى كان به أمن الناس عليه بماله؟ وكيف أنفق ولم يره أحد ولا رواه أي ابن أنثى؟
ولم لم يذكر التاريخ موردا من موارد نفقاته؟ وقد حفظ له تقديم راحلة واحدة للنبي
صلى الله عليه وآله مع رده إياها وأخذه ثمنها، كما حفظ لكل من أنفق شيئا في مهمات الرسول

(1) راجع طبقات ابن سعد ط ليدن 3: 130: 131، صفة الصفوة لابن الجوزي 1: 97،
السيرة الحلبية 2: 388.
53

صلى الله عليه وآله وسلم وغزواته ومصالح الاسلام والمسلمين.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحتاجه في شخصياته وما يتعلق بها بمكة قبل الهجرة
فإن عمه أبا طالب سلام الله عليه كان متكفلا لذلك كله قبل زواجه بخديجة، وبعده
كان مال خديجة تحت يده وهي في طوعه، وإنما وقعت الحاجة بعد الهجرة لتوسع
نطاق الاسلام، وتمطط أمره فكان يحتاج إلى تجهيز الجيوش وقيادة العساكر، وهؤلاء
رجال بني سالم بن عوف، ورجال بني بياضة، ورجال بني ساعدة وفي مقدمهم سعيد بن
عبادة، ورجال بني الحرث بن الخزرج، ورجال بني عدي أخوال رسول الله الأكرمين
كل منهم رفع عقيرته يوم دخوله صلى الله عليه وآله المدينة بقوله هلم إلينا إلى العدد والعدة
والمنعة (1).
ولم يكن عند أبي بكر يومئذ من المال غير ما جاء به من مكة أربعة أو خمسة
أو ستة آلاف درهما - إن كان جاء به وأنى لك بإثباته؟ - وما عساها أن تجدي نفعا
وما هي وما قيمتها تجاه ذلك السلطان العظيم؟ لكنا مع غض النظر عن ذلك نسائل
أيضا مدعي الانفاق إنه متى أنفقها؟ وفي أي مصرف أدرها؟ وفي أي أمر بذلها؟ ولأي
حاجة سمح بها؟ ولم خفي ذلك على خلق الله من أولئك الصحابة؟ ولماذا عزب عن
المؤرخين؟ فلم يسطروها في صحائف التاريخ ولا ذكروها في فضائل الخليفة، وهل قام
عمود الاسلام وتم أمره بهذه الدريهمات المجهول مصرفها؟ وعاد أبو بكر أمن الناس على
رسول الله بماله؟.
والعجب كل العجب إن أمير المؤمنين عليا عليه السلام كانت له أربعة دراهم فتصدق
بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم جهرا، فأنزل الله فيه القرآن فقال:
الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم
ولاهم يحزنون (2) سورة البقرة 274.

(1) أسلفنا حديثه في الجزء السابع ص 269.
(2) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن عساكر
وابن جرير. راجع تفسير القرطبي 3: 347، تفسير البيضاوي 1: 185، تفسير الزمخشري 1:
286، تفسير الرازي 2: 369، تفسير ابن كثير 1: 326، تفسير الدر المنثور 1: 363، تفسير
الخازن 1: 208، تفسير الشوكاني 1: 265، تفسير الآلوسي 3: 48.
54

وهو سلام الله عليه تصدق بخاتمه للسائل فذكره تعالى في كتابه العزيز بقوله:
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون (1) سورة المائدة: 55.
وأطعم هو وأهله مسكينا ويتيما وأسيرا فأنزل الله فيهم قوله: ويطعمون الطعام
على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " سورة هل أتى " وقد أسلفنا تفصيل أمرهم هذا في
الجزء الثالث ص 106 - 111 ط 2.
وأما أبو بكر فينفق جميع ماله في سبيل الله ويراه النبي الأعظم أمن الناس عليه
في صحبته وماله، ولم يوجد له مع ذلك كله ذكر في الكتاب العزيز، هذا لماذا؟
أنت تدري.
والأعجب: أن أبا بكر غدا أمن الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله بإنفاق أربعة أو
خمسة أو ستة آلاف درهما - إن كانت له - ولم يكن عثمان كذلك وقد أنفق أضعاف
ما أنفقه أبو بكر، وبعث إلى رسول الله في غزوة بعشرة آلاف دينار كما جاء في مكذوبة
أبي يعلى (2) فوضعها بين يديه فجعل صلى الله عليه وآله وسلم يقلبها ويدعو له بقوله: غفر الله لك يا عثمان!
ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى يوم القيامة (3)، ما يبالي عثمان ما
فعل بعدها.
وإني أرى الأنجح للمدعي أن يسحب كلامه ويقول: لا أعلم بشئ من ذلك،
ولا أثبت شيئا منه، وإنما اختلقه الغلو في الفضائل.
ولعل الباحث يقف على ما أخرجه الحافظان: الحاكم وأبو نعيم أو على ما جاء به
البيضاوي والزمخشري، فيقع ذلك منه موقعا حسنا ويطالبني المخرج منه، فإليك
البيان:
أما الأخيران فقد ذكر البيضاوي في تفسيره 1: 185، والزمخشري في الكشاف
1: 286: إن قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم

(1) راجع ما مر في الجزء الثاني ص 47 و ج 3: 155 - 163 ط 2.
(2) أخرجه بإسناد واه وذكره ابن كثير في تاريخه 7: 612.
(3) هذه الجملة توهن متن الرواية، وتعرب عن إنها مكذوبة على رسول الله:
55

عند ربهم. الآية. نزلت في أبي بكر حين تصدق بأربعين ألف دينار، عشرة بالليل، و
عشرة بالنهار، وعشرة بالسر، وعشرة بالعلانية.
هذه المرسلة التي لم أعرف قائلها ومن الصحابة والتابعين ولم أقف على عزوها إلى
أحد من السلف في كتب القوم إلا سعيد بن مسيب المعروف بانحرافه عن أمير المؤمنين
علي عليه السلام، اختلقتها يد الوضع تجاه ما أخرجه الحافظ من نزولها في علي أمير المؤمنين
ومنحت فيها لأبي بكر أربعين ألف دينار لتقريب نزول الآية فيمن أنفق كمية كبيرة
كهذه إلى فهم بسطاء الأمة دون منفق أربعة دراهم، ذاهلا عما هو المتسالم عليه عند
القوم من أخذ أبي بكر يوم هجرته إلى المدينة أربعة أو خمسة أو ستة آلاف درهم، و
هي جميع ما كان بمكة. والآية المذكورة في سورة البقرة، وقد أصفقت أئمة الحديث
والتفسير على نزولها بالمدينة في أوليات الهجرة (1). قال ابن كثير في تفسيره: هكذا
قال غير واحد من الأئمة والعلماء والمفسرين، ولا خلاف فيه. فأنى لأبي بكر عند
نزول الآية الأربعون ألف دينارا؟ تصدق بها أم لم يتصدق، ولم يكن يملك إلا دريهمات
إن صح حديثها أيضا، وستعرف إنه لا يصح
تعقب السيوطي هذ، المرسلة بقوله: خبر إن الآية نزلت فيه لم أقف عليه، و
كأن من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق قال: لما قبض
أبو بكر رضي الله تعالى عنه واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله
ثم قال: أيها الناس إن بعض الطمع فقر، وإن بعض اليأس غنى، وإنكم تجمعون
ما لا تأكلون، وتؤملون ما لا تدركون، واعلموا أن بعضا من الشح شعبة من النفاق،
فأنفقوا خيرا لأنفسكم، فأين أصحاب هذه الآية؟ وقرأ الآية الكريمة، وأنت تعلم
إنها لا دلالة فيها على المدعى. ا ه‍ (2)
وجاء مختلق آخر (3) فروى عن سعيد بن المسيب مرسلا من الطرفين: إن الآية

(1) تفسير القرطبي 1، 132، تفسير ابن كثير 1: 35، تفسير الخازن 1: 91، تفسير
الشوكاني 1: 61.
(2) راجع تفسير الآلوسي 3: 48.
(3) راجع تفسير الشوكاني 1: 265، تفسير الآلوسي 3: 48.
56

المذكورة نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف في نفقتهم في جيش العسرة
يوم غزوة تبوك.
وذكر الرازي في تفسيره 2: 347 فقال: إن اللتي نزلت في عثمان لإنفاقه
جيش العسرة هي قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما
أنفقوا منا ولا أذى. الآية.
وقد أعمى الحب بصائر القوم، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وقالوا في كتاب الله ما
زين لهم الشيطان، خفي على المغفلين إن الآيتين من سورة البقرة آية 262 و 274 وهي
أول سورة نزلت بالمدينة المشرفة كما قاله المفسرون (1) وقد نزلت قبل غزوة تبوك و
جيشها - جيش العسرة الواقعة في شهر رجب سنة تسع - بعدة سنين، فلا يصح نزول
أي من الآيتين في عثمان.
وأما ما أخرجه الحافظان
1 - فأخرج أبو نعيم في الحلية 1: 33 عن محمد بن أحمد بن محمد الوراق عن
إبراهيم بن عبد الله بن أيوب المخرمي عن سلمة بن حفص السعدي عن يونس بن بكير
عن محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن
أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كانت يد النبي صلى الله عليه وسلم في مال أبي بكر ويد أبي بكر
واحدة حين حجا.
رجال السند
: 1 - محمد بن أحمد الوراق. كذبه أبو بكر بن إسحاق قاله الحاكم. لسان
الميزان 5: 51.
2 - إبراهيم بن عبد الله المخرمي قال الدارقطني: ليس بثقة حدث عن الثقات
بأحاديث باطلة. لسان الميزان 1: 72.
3 - سلمة بن حفص السعدي، شيخ كوفي قال ابن حبا ن: كان يضع الحديث
فذكر له حديثا منكرا. وقال: لا يحل الاحتجاج به ولا الرواية عنه. وروى عنه حديثا
فقال: لا أصل له. لسان الميزان 3: 67.

(1) راجع تفسير القرطبي 1: 132، تفسير الخازن 1: 19، تفسير الشوكاني 1: 16.
57

2 - أخرج الحاكم في المستدرك 3: من طريق أحمد بن عبد الجبار عن يونس
بن بكير عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما
قالت: لما توجه رسول الله صلى الله عليه وآله من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر حمل أبو بكر معه
جميع ماله خمسة ألف أو ستة ألف (1) درهم فأتاني جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال:
إن هذا والله قد فجعكم بماله مع نفسه، فقلت: كلا يا أبت! قد ترك لنا خيرا كثيرا،
فعمدت إلى أحجار فجعلتهن في كوة البيت، وكان أبو بكر يجعل أمواله فيها وغطيت على
الأحجار بثوب ثم جئت فأخذت بيده فوضعتها على الثوب فقال: أما إذا ترك هذا فنعم
قالت: ووالله ما ترك قليلا ولا كثيرا.
رجال السند
: 1 - أحمد بن عبد الجبار أبو عمر الكوفي. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه و
أمسكت عن الرواية عنه لكثرة كلام الناس فيه، وقال مطين: كان يكذب. وقال أبو
أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم تركه ابن عقدة. وقال ابن عدي: رأيت أهل العراق
مجمعين على ضعفه، وكان ابن عقدة لا يحدث عنه. وكان أحمد يلعب بالحمام الهدى (2)
2 - محمد بن إسحاق. أسلفنا في الجزء السابع صفحة 319 ط 2 كلمات الحفاظ فيه
وإنه كذاب دجال مدلس لا يحتج به.
3 - أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء 1: 32: من طريق هشام بن سعد عن زيد بن
أرقم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
نتصدق ووافق ذلك مال عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما قال:
فجئت بنصف مالي قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: ما أبقيت
لأهلك؟ قال: فقلت: مثله و
أتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال أبقيت
لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شئ أبدا.
ورواه من طريق عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر.
كفى الاسناد ضعفا هشام بن سعد أبو عباد المدني. كان يحيى بن سعد لا يروي عنه

(1) كذا في الموضعين والصحيح: آلاف. كما في جميع المصادر.
(2) تاريخ الخطيب 4: 263، تهذيب التهذيب 1: 51.
58

وعن أحمد قال: ليس هو محكم الحديث. وقال حرب: لم يرضه أحمد، وقال ابن معين:
ضعيف، ليس بذلك القوي. ليس بشئ حديثه مختلط، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه
ولا يحتج به. وقال النسائي: ضعيف. وقال مرة: ليس بالقوي. وقال ابن سعد: كثير
الحديث يستضعف وكان متشيعا. وقال ابن المديني: صالح وليس بالقوي. وقال
الخليلي: أنكر الحفاظ حديثه في المواقع. وذكره ابن سفيان في الضعفاء (1)
وأما عبد الله بن عمر العمري فقال أبو زرعة الدمشقي عن أحمد: كان يزيد في
الأسانيد ويخالف وكان رجلا صالحا. وقال ابن المديني: ضعيف. وعن يحيى بن سعيد:
لا يحدث عنه. وقال صالح جزرة: لين مختلط الحديث. وقال النسائي: ضعيف الحديث.
وقال ابن سعد. كثير الحديث يستضعف. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.
وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه الصلاح حتى غفل عن الضبط فاستحق الترك. وقال
البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال
ابن شيبة: يزيد في الأسانيد كثيرا (2)
وأما زيد بن أرقم فالصحيح: زيد بن أسلم مولى عمر ففي النسخة تصحيف.
لقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم
سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين
" القصص: 51، 155 "

(1) تهذيب التهذيب 11: 40.
(2) تهذيب التهذيب 5: 327.
59

الغلو في فضايل عمر
قدمنا في الجزء السادس من نفسيات الخليفة الثاني وملكاته من فقهه وعلمه
وعمله وخطواته الواسعة في شتى النواحي ما يوقفك على أن كل ما نسرد هاهنا
من ولائد الغلو في الفضائل، وقد التمط بحياته الروحية من أول يومه إلى أن تسنم
عرش الخلافة بإدلاء من الخليفة الأول إليه حصوله على لماظة من العيش يقتاب بها.
كان ردحا من الزمن يرعى الإبل في وادي ضجنان (1) يرعب ويتعب إذا عمل.
ويضرب إذا قصر (2).
وآونة كان يحتطب ويحمل فوق رأسه حزمة من الحطب مع أبيه الخطاب وما
منهما إلا في نمرة (3) لا يبلغ (4) رسغيه (5).
وكان مدة يقف في سوق عكاظ وبيده عصا ترع الصبيان به، وكان يوم ذاك
يسمى عميرا (6).
وكان برهة من أيام إسلامه يمتهن بالبرطشة، وكان مبرطشا يلهيه عن أخذ
الكتاب والسنة الصفق بالأسواق (7).

(1) جبل بناحية مكة.
(2) الاستيعاب 2: 428، الرياض النضرة 2: 50، تاريخ أبي الفدا ج 1: 165،
الخلفاء للنجار ص 113، وأوعز إلى حديثه ابن منظور في لسان العرب 17: 112، والزبيدي
في تاج العروس 9: 262.
(3) النمرة في القاموس: بردة من صوف تلبسها الأعراب. وفي الفائق للزمخشري: بردة تلبسها
الإماء فيها تخطيط.
(4) الرسغ: مفصل ما بين الساعد والكتف، والساق والقدم.
(5) العقد الفريد 1: 91، شرح ابن أبي الحديد 1: 58، فائق الزمخشري 2: 28.
(6) الاستيعاب هامش الإصابة 4: 291، الإصابة 4: 29، الفتوحات الإسلامية 2: 423،
وفيه تحريف نلفت إليه الأنظار.
(7) مر تفصيله في الجزء السادس ص 146، 287، 302 ط 1.
60

وكان دهرا يبيع الخيط والقرظة بالبقيع (1)
أنا لا أدري في أي من أيامه هذه حصل على جدارة لما يخبرنا به ابن الجوزي
في سيرة عمر ص 6: من إنه كانت السفارة - في الجاهلية - إلى عمر بن الخطاب إن وقعت
حرب بين قريش وغيرهم بعثوه سفيرا. وزاد عليه أبو عمر في الاستيعاب قوله: وإن نافرهم
منافر أو فاخرهم مفاخر رضوا به وبعثوه منافرا ومفاخرا. (2)
أو كانت قريش كلهم من هذه الطبقة الواطئة؟ فكانوا يبعثون للسفارة والمفاخرة
غلاما هذا شأنه؟ وفيهم الصناديد والعظماء والرؤساء وذوو عارضة ورجال الكلام.
أم كانوا لا يبالون بمن يرسلونه؟ " والرسول دليل عقل المرسل " لم يكن هذا ولا
ذاك ولكن الحب يعمي ويصم، وإنك تجد من نظاير هذه شيئا كثيرا، وإليك جملة
منه مضافا على ما مر في الجزء الخامس مما وضعته يد الغلو في فضائله.
1 كلمات في علم عمر
ورد في علمه عن ابن مسعود: لو وضع علم أحياء العرب في كفة الميزان ووضع
علم عمر في كفة لرجح علم عمر، ولقد كانوا يرون إنه ذهب بتسعة أعشار العلم.
وفي لفظ المحب الطبري: لو وضع علم عمر في كفة وعلم أهل الأرض في كفة
لرجح علم عمر.
مستدرك الحاكم 3: 86 الاستيعاب 2: 430، الرياض النضرة 2: 8، أعلام
الموقعين لابن القيم ص 6، تاريخ الخميس 2: 268، عمدة القاري 5: 410.
2 - وقال حذيفة: كان علم الناس كلهم قد درس في حجر عمر مع علم عمر.
الاستيعاب 2: 430، أعلام الموقعين ص 6.
3 - وقال مسروق: شاممت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة
إلى علي. وعبد الله. وعمر. وزيد بن ثابت. وأبي الدرداء. وأبي. ثم شاممت الستة
فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله. أعلام الموقعين ص 6 و

(1) راجع ما أسلفناه في الجزء السادس ص 303 ط 2.
(2) وذكر ابن عساكر ما رواه أبو عمر وابن الجوزي في تاريخه 6: 432.
61

4 - وقال الشعبي: إذا اختلف الناس في شئ فخذوا بما قال عمر. أعلام الموقعين ص 6.
5 - وقال ابن المسيب: ما أعلم أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من عمر بن الخطاب.
أعلام الموقعين ص 7.
6 - وقال بعض التابعين: دفعت إلى عمر فإذا الفقهاء عنده مثل الصبيان قد استعلى
عليهم في فقهه وعلمه. أعلام الموقعين ص 7.
7 - وقال خلد الأسدي: صحبت عمر فما رأيت أحدا أفقه في دين الله ولا أعلم بكتاب
الله ولا أحسن مدارسة منه. الرياض النظرة 2: 8.
هاهنا لا نطيل القول وإنما نحيلك إلى الجزء السادس من هذا الكتاب من صفحة
83 - 325 ط 2 فإن هنالك ما يغني الباحث عن الاسهاب في المقام، وأنت أيها المخبت إلى هذه
الأقاويل هل علمت شيئا مما قدمناه؟ ودريت فذلكة ذلك البحث الضافي أو لا؟.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة * وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
وأنت جد عليم بأن هذه التقولات لا تلائم مع ما حفظه التاريخ من نوادر الأثر
في علم عمر، والحري هو الأخذ بما مر من أقواله نفسه في علمه ج 6 ص 328 ط 2 وبها تتضح
جلية الحال، والانسان على نفسه بصيرة.
- 2 -
عمر أقرأ الصحابة وأفقههم
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أمرت أن أقرأ القرآن على عمر. ذكره الحكيم
الترمذي في نوادر الأصول 58.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان عمر أتقانا للرب، وأقرأنا لكتاب الله.
أخرجه الحاكم في المستدرك ج 3 ص 86.
وذكر المحب الطبري نقلا عن علي بن حرب الطائي من طريق ابن مسعود إنه
قال لزيد بن وهب: إقرأ بما أقرأكه عمر، إن عمر أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله (1).
هذه مراسيل مقطوعة عن الاسناد، وانصف الحاكم إذ سكت عن إسناد ما أخرجه
أو إنه لم يقف عليه فيصححه، وسكت عنه الذهبي للعلة نفسها، وأحسب إن بطلان هذه

(1) الرياض النضرة 2: 8.
62

الروايات في غنى عن إبطال إسنادها، فإن العناية الإلهية لو شملت الخليفة بحيث
أمر نبيه صلى الله عليه وآله بقراءة القرآن عليه، لا بد وأن تشمله بالتمكن من تلقيه وضبطه و
حفظه وفقهه والوقوف على مغازيه والعمل به، وأن يكون أقرأ كما في رواية الحاكم،
أو أعلم وأفقه كما في رواية الطائي، إذن فما تلكم الجهود المتعبة في تعلم سورة البقرة
فحسب طيلة اثنتي عشر سنة؟ كما مر في الجزء السادس ص 196 ط 2.
وهاتيك الأحكام الشاذة عن موارد من القرآن الكريم؟ كحكمه للجنب الفاقد
للماء بترك الصلاة ذهلا عن قوله تعالى في سورة النساء: 43، وفي سورة المائدة: 6.
2 - وحكمه على امرأة ولدت لستة أشهر بالرجم، ونصب عينه الآية الكريمة:
حمله وفصاله ثلاثون شهرا. وقوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين.
3 - ونهيه عن المغالاة في مهور النساء، وبين يديه قوله تعالى: وآتيتم إحداهن
قنطارا.
4 - وجهله بمعنى الأب وهو يتلو: متاعا لكم ولأنعامكم.
5 وحسبانه إن الحجر الأسعد لا يضر ولا ينفع جهلا بمغزى قوله تعالى: و
إذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم. الآية.
6 - ونهيه عن الطيبات في الحياة الدنيا تمسكا بقوله تعالى: أذهبتم طيباتكم
في حياتكم الدنيا ذاهلا عما قبله، غير ملتفت إلى الآية الأخرى: قل من حرم زينة الله
التي أخرجت للناس. الآية.
7 - وجهله بمعاريض الكلم المتخذة من الكتاب.
8 - وأمره برجم الزانية المضطرة، وفي الذكر الحكيم: فمن اضطر غير باغ
ولا عاد فلا إثم عليه.
9 - وتجسسه عن صوت ارتاب به فتسلق الحائط ودخل البيت ولم يسلم غير مكترث
لآيات ثلاث: لا تجسسوا. وأتوا البيوت من أبوابها. فإذا دخلتم بيوتا فسلموا.
10 - وجهله بالكلالة وبمسمع منه آية الصيف.
11 - وقوله بتعذيب الميت ببكاء الحي كأنه لم يقرأ قوله تعالى: ولا تزر وازرة
وزر أخرى.
63

12 - وقوله الشاذ في الطلاق قصورا منه عن فهم قوله تعالى: الطلاق مرتان.
13 - ونهيه عن متعة الحج وهو يتلو قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله.
الآية.
14 - وتحريمه متعة النساء ذهولا منه عن قوله تعالى: فما استمتعتم به منهن
فآتوهن أجورهن. الآية.
تجد تفاصيل هذه الجمل في نوادر الأثر من الجزء السادس من كتابنا هذا، وهناك
موارد كثيرة من القرآن، لم يهتد إليها، وتجد جملة منها في طيات أجزاء كتابنا هذا.
فهل من السائغ في شريعة الحجى أن يكون الأقرأ والأعلم والأفقه بهذه المثابة
من الابتعاد عن الآي الشريفة، ومراميها الكريمة، ولو كان كما زعموه فما قوله في خطبته
الصحيحة الثابتة له بإسناد صحيح رجاله كلهم ثقات: " من أراد أن يسأل عن القرآن
فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل، و
من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ". راجع ج 6: 191 ط 2.
- 3 -
الشيطان يخاف ويفر من عمر
1 - عن بريدة: جرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، لما انصرف جاءت
جارية سوداء فقالت: يا رسول الله! إني كنت نذرت إن ردك الله صالحا أن أضرب بين
يديك بالدف وأتغنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا. فجعلت
تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي
تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الشيطان ليخاف منك يا عمر! إني كنت جالسا وهي تضرب، ثم دخل علي وهي
تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر! ألقت الدف.
وفي لفظ أحمد: إن الشيطان ليفرق منك يا عمر!.
وعن جابر قال: دخل أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يضرب
بالدف عنده، فقعد ولم يزجر لما رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء عمر رضي الله عنه فلما
سمع رسول الله صوته كف عن ذلك، فلما خرجا قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله!
64

كان حلالا فلما دخل عمر صار حراما؟ فقال عليه السلام: يا عائشة! ليس كل الناس مرخا عليه.
أخرج أحمد في مسنده 5: 353، والترمذي في جامعه 2: 203 فقال هذا
حديث حسن صحيح غريب، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ص 58 من طريق
بريدة وص 138 من حديث جابر، فقال في الموضع الأول: فلا يظن ذو عقل إن عمر
في هذا أفضل من أبي بكر، وأبو بكر شبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولكن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد جمع الأمرين والدرجتين، فله درجة النبوة لا يلحقه أحد، وأبو بكر له
درجة الرحمة، وعمر له درجة الحق.
ورواه البيهقي في سننه 10: 77، والخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح ص
550، وابن الأثير في أسد الغابة 4: 64، والشوكاني في نيل الأوطار 8: 271.
2 عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فسمعنا لغطا وصوت صبيان،
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حبشية تزفن - أي ترقص - والصبيان حولها فقال: يا عائشة!
تعالي فانظري. فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أنظر إليها ما
بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: أما شبعت؟ أما شبعت فجعلت أقول: لا. لأنظر منزلتي
عنده، إذ طلع العمر فأرفض الناس عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأنظر شياطين الجن
والإنس قد فروا من عمر، قالت: فرجعت.
أخرجه الترمذي في صحيحه 2 ص 294 فقال: هذا حديث حسن صحيح غريب،
والبغوي في مصباح السند 2: 271، والخطيب العمري التبريزي في مشكاة المصابيح
ص 550، والمحب الطبري في الرياض 2: 208.
3 - أخرج أحمد في مسنده 2: 208. من حديث أبي هريرة قال: بينا الحبشة
يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرابهم، دخل عمر فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم دعهم يا عمر!.
وأخرج أبو داود الطيالسي في مسنده 204 من حديث عائشة قالت: كانت الحبشة
يدخلون المسجد، فجعلوا يلعبون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إليهم
جارية حديثة السن، فجاء عمر فنهاهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهن يا عمر!. ثم قال:
هن بنات أرفدة. - الغدير 6 -
65

4 - روى أبو نصر الطوسي في اللمع ص 274: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت
عائشة رضي الله عنها، فوجد فيه جاريتين تغنيان وتضربان بالدف فلم ينههما عن ذلك
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين غضب: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟
فقال صلى الله عليه وسلم: دعهما يا عمر! فإن لكل قوم عيد.
قال الأميني: لا حاجة لنا إلى البحث عن إسناد هذه الروايات فإن في متونها من
الخزاية ما فيه غنى عن ذلك. فدع الترمذي يستحسن إسناد ما رواه ويصححه، ودع
الحفاظ يملأون عياب علمهم بعيوب مثلها، ودع شاعر النيل يتبع من لا خلاق له من
الحفاظ ويعد ها من فضائل عمر، ويقول تحت عنوان " مثال من هيبته ":
في الجاهلية والاسلام هيبته * تثني الخطوب فلا تعدو عواديها
في طي شدته أسرار مرحمة * للعالمين ولكن ليس يفشيها
وبين جنبيه في أوفى صرامته * فؤاد والدة ترعي ذراريها
أغنت عن الصارم المصقول درته * فكم أخافت غوي النفس عاتيها؟
5 كانت له كعصا موسى لصاحبها * لا ينزل البطل مجتازا بواديها
أخاف حتى الذراري في ملاعبها * وراع حتى الغواني في ملاهيها
أريت تلك التي لله قد نذرت * أنشودة لرسول الله تهديها
قالت: نذرت لئن عاد النبي لنا * من غزوة لعلى دفي أغنيها
ويممت حضرة الهادي وقد ملأت * أنوار طلعته أرجاء واديها
10 واستأذنت ومشت بالدف واندفعت * تشجي بألحانها ما شاء مشجيها (1)
والمصطفى وأبو بكر بجانبه * لا ينكران عليها ما أغانيها
حتى إذا لاح عن بعد لها عمر * خارت قواها وكاد الخوف يرديها
وخبأت دفها في ثوبها فرقا * منه وودت لو أن الأرض تطويها
قد كان علم رسول الله يؤنسها * فجاء بطش أبي حفص يخشيها
51 فقال مهبط وحي الله مبتسما * وفي ابتسامته معنى يواسيها

(1) تشجى: تثير الشعور وتشوق
66

: قد فر شيطانها لما رأى عمرا * إن الشياطين تخشى بأس مخزيها (1).
لقد عزب عن المساكين إن ما تحروه من إثبات فضيلة للخليفة الثاني يجلب
الفضائح إلى ساحة النبوة " تقدست عنها " فأي نبي هذا؟ يروقه النظر إلى الراقصات
والاستماع لأهازيجهن وشهود المعازف، ولا يقنعه ذلك كله حتى يطلع عليها حليلته
عائشة، والناس ينظرون إليها من كثب، وهو يقول لها: شبعت؟ شبعت؟ وهي تقول:
لا لعرفان منزلتها عنده ولا تزعه أبهة النبوة عن أن يقف مع الصبيان للتتلع على
مشاهد اللهو شأن الذنابا والأوباش وأهل الخلاعة والمجون، وقد جاءت شريعته المقدسة
بتحريم كل ذلك بالكتاب والسنة الشريفة، هذا قوله تعالى: " ومن الناس من يشتري
لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين. "
سورة لقمان آية 6.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وآله، من حديث أبي أمامة: لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن ولا
تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام، في مثل هذا أنزلت هذه الآية: " ومن
الناس من يشتري " الآية.
وفي لفظ الطبري والبغوي: لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن، وأثمانهن حرام
وفي مثل ذلك نزلت هذه الآية.
أخرجه سعيد بن منصور. أحمد. الترمذي. ابن ماجة. ابن جرير. ابن المنذر.
ابن حاتم. ابن أبي شيبة. ابن مردويه. الطبراني. البيهقي، ابن أبي الدنيا. وغيرهم.
راجع تفسير الطبري 21: 39، تفسير القرطبي 14: 51، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي
ص 347، تفسير ابن كثير 3: 442، تفسير الخازن 3: 36، إرشاد الساري 9: 163،
الدر المنثور 5: 159، تفسير الشوكاني 4: 228، نيل الأوطار 8: 263، تفسير الآلوسي 21: 68
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه من طريق عائشة مرفوعا: إن الله تعالى حرم
القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها، ثم قرأ: ومن الناس من يشتري لهو الحديث.
الدر المنثور 5: 159، تفسير الشوكاني 4: 228، تفسير الآلوسي 21: 68.

(1) هذه الأبيات من العمرية الشهيرة لشاعر النيل محمد حافظ إبراهيم، وقد مر الايعاز إليها
في الجزء السابع ص 86، 87 ط 2.
67

وعن ابن مسعود: إنه سأل عن قوله: ومن الناس من يشتري لهو الحديث.
قال: هو والله الغناء. وفي لفظ: هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث
مرات. وعن جابر في الآية قال: هو الغناء والاستماع له. ومعنى يشتري يستبدل كما في
قوله تعالى: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، أي استبدلوه منه واختاروه عليه،
وقال مطرف: شراء لهو الحديث استحبابه. وقال قتادة: سماعه شراؤه.
وبالغناء فسر لهو الحديث في الآية الشريفة وإنها نزلت فيه: ابن عباس، وعبد الله
ابن عمر، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومكحول، وعمرو بن شعيب، وميمون
ابن مهران، وقتادة، والنخعي، وعطاء، وعلي بن بذيمة، والحسن، كما أخرجه: ابن
أبي شيبة، ابن أبي الدنيا، ابن جرير، ابن المنذر، الحاكم، البيهقي في شعب الإيمان،
ابن أبي حاتم، ابن مردويه، الفريابي، ابن عساكر.
راجع تفسير الطبري 21: 39، 40، سنن البيهقي 10: 221، 223، 225،
مستدرك الحاكم 2: 411، تفسير القرطبي 14: 51، 52، 53، نقد العلم والعلماء
لابن الجوزي ص 246، تفسير ابن كثير 3: 441، 442، إرشاد الساري للقسطلاني
9: 163، تفسير الخازن 3: 46، تفسير النسفي هامش الخازن 3: 460، تفسير الدر
المنثور 5: 159، 160، تفسير الشوكاني 4: 228، تفسير الآلوسي 21: 67، نيل
الأوطار 8: 263.
2 - ينذر الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وآله في الكتاب العزيز بقوله: وأنتم سامدون.
(سورة النجم: 61) قال عكرمة عن ابن عباس أنه قال: هو الغناء بلغة حمير. يقال:
سمد لنا. أي غن لنا. ويقال للقينة: أسمدينا. أي: ألهينا بالغناء.
أخرجه سعيد بن منصور، عبد بن حميد، ابن جرير، عبد الرزاق، الفريا بي،
أبو عبيد، ابن أبي الدنيا، البزار، ابن المنذر، ابن أبي حاتم، البيهقي.
راجع تفسير الطبري 28: 48، تفسير القرطبي 17: 122، نقد العلم والعلماء لابن
الجوزي ص 246، نهاية ابن الأثير 2: 195، الفائق للزمخشري 1: 305، تفسير ابن
كثير 4: 260، تفسير الخازن 4: 212، الدر المنثور 6: 132، تاج العروس 2: 381،
تفسير الشوكاني 5: 115، تفسير الآلوسي 27: 72، نيل الأوطار 8: 263.
68

3 - وفي خطاب الله العزيز قوله تعالى لإبليس: واستفزز من استطعت منهم
بصوتك. (سورة الإسراء: 64)
قال ابن عباس ومجاهد: إنه الغناء والمزامير واللهو. كما في تفسير الطبري 15:
81، تفسير القرطبي 10: 288، نقد العلم والعالم لابن الجوزي ص 247، تفسير ابن
كثير 3: 49، تفسير الخازن 3: 178، تفسير النسفي 3 ص 178، تفسير ابن جزي الكلبي
2: 175، تفسير الشوكاني 3: 233، تفسير الآلوسي 15: 111.
السنة في الغناء والمعازف
قد جاء في السنة الشريفة عنه صلى الله عليه وآله: ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله
عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربانه
بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت.
وفي لفظ ابن أبي الدنيا وابن مردويه: ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله تعالى
إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك.
راجع تفسير القرطبي 14: 43، تفسير الزمخشري 2: 411، نقد العلم والعلماء
لابن الجوزي ص 248، تفسير الخازن 3: 460، تفسير النسفي هامش الخازن 3: 460،
إرشاد الساري 9: 164، الدر المنثور 5: 159، تفسير الشوكاني 4: 228، تفسير
الآلوسي 21: 68.
- 2 عن عبد الرحمن بن عوف: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إنما نهيت عن صوتين
أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ومزامير الشيطان. وصوت عند مصيبة خمش
وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان.
وفي لفظ الترمذي وغيره من حديث أنس مرفوعا: صوتان ملعونان فاجران أنهى
عنهما: صوت مزمار ورنة شيطان عند نغمة ومرح، ورنة عند مصيبة، لطم خدود،
وشق جيوب.
تفسير القرطبي 14: 53، نقد العلم والعلماء ص 248، الدر المنثور 5: 160،
كنز العمال 7: 333، تفسير الشوكاني 4: 229 نيل الأوطار 8: 268.
3 - عن عمر بن الخطاب مرفوعا: ثمن القينة سحت، وغناء ها حرام، والنظر
69

إليها حرام، وثمنها من ثمن الكلب وثمن الكلب سحت.
أخرجه الطبراني كما في إرشاد الساري للقسطلاني 9: 163، ونيل الأوطار
للشوكاني 8: 264.
4 - عن أبي موسى الأشعري مرفوعا: من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن
يسمع الروحانيين. فقيل: ومن الروحانيون يا رسول الله؟ قال: قراء أهل الجنة.
أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والقرطبي في تفسيره 14: 54.
5 - مرفوعا: ليكونن في أمتي قوم يستحلون الخز والخمر والمعازف (1)
أخرجه أحمد. وبن ماجة. وأبو نعيم. وأبو داود بأسانيدهم صحيحة
لا مطعن فيها، وصححه جماعة آخرون من الأئمة، كما قاله بعض الحفاظ. قاله الآلوسي
في تفسيره 21: 76، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 221 فقال: أخرجه
البخاري في الصحيح.
6 - عن ابن عباس وأنس وأبي أمامة مرفوعا: ليكونن في هذه الأمة خسف و
قذف ومسخ، وذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا بالمعازف.
أخرجه ابن أبي الدنيا. وأحمد. والطبراني، كما في الدر المنثور 2: 324، و
تفسير الآلوسي 21: 76.
7 - عن عبد الله بن عمر - عمرو - قال: إن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان. هي في التوراة: إن الله
أنزل الحق ليذهب به الباطل، ويبطل به اللعب والزفن والمزامير والكبارات يعني
البرابط والزمارات يعني الدف والطنابير.
أخرجه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في سننه 10: 222، وراجع تفسير
ابن كثير 2: 96، والدر المنثور 2: 317.
8 - عن أنس وأبي أمامة مرفوعا: بعثني الله رحمة وهدى للعالمين، وبعثني
بمحق المعازف والمزامير وأمر الجاهلية. كتاب العلم لابن عبد البر 1: 153، الدر

(1) في حواشي الدمياطي: المعازف: الدفوف وغيرها مما يضرب به. ويطلق على الغناء
عزف وعلى كل لعب. نيل الأوطار 8: 261.
70

المنثور 2: 323، نيل الأوطار 8: 262.
9 - عن علي مرفوعا: تمسخ طائفة من أمتي قردة، وطائفة خنازير، ويخسف
بطائفة، ويرسل على طائفة الريح العقيم بأنهم شربوا الخمر، ولبسوا الحرير، واتخذوا
القيان، وضربوا بالدفوف. الدر المنثور 2: 324
10 - عن أبي هريرة مرفوعا: يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة
وخنازير قالوا يا رسول الله! أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟
قال: بلى ويصومون ويصلون ويحجون، قالوا: فما بالهم؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف
والقينات، وباتوا على شربهم ولهوهم، فأصبحوا قد مسخوا قردة وخنازير.
وقريب من هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سابط. والغازي بن ربيعة.
وصالح بن خالد. وأنس بن مالك. وأبو أمامة. وعمران بن حصين. أخرجها ابن
أبي الدنيا. ابن أبي شيبة. ابن عدي. الحاكم. البيهقي. أبو داود. ابن ماجة. راجع
الدر المنثور: 324.
11 - عن أنس بن مالك مرفوعا: من جلس إلى قينة يسمع منها صب في أذنه
الآنك (1) يوم القيامة. تفسير القرطبي 14: 53، نيل الأوطار 8: 264.
12 - عن عائشة مرفوعا: من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه. تفسير
القرطبي 14: 53.
13 - أخرج الترمذي من حديث علي مرفوعا: إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة
حل بها البلاء - فذكرها منها -: إذا اتخذت القينات والمعازف. وفي لفظ أبي هريرة:
ظهرت القيان والمعازف. نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص 249، تفسير القرطبي 14:
53، نيل الأوطار 8: 263
14 - عن ابن المنكدر: بلغنا إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين عبادي الذين
كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أحلوهم رياض المسك و
أخبروهم أني قد أحللت عليهم رضواني. تفسير القرطبي 14: 53.
15 - عن ابن مسعود: إن النبي صلى الله عليه وآله سمع رجلا يتغنى من الليل فقال: لا

(1) الآنك: الرصاص.
71

صلاة له، لا صلاة له، لا صلاة له. نيل الأوطار 8: 264.
16 - قال رسول الله عليه السلام يوم فتح مكة: إنما بعثت بكسر الدف والمزمار، فخرج
الصحابة رضوان الله عليهم يأخذونها من أيدي الولدان ويكسرونها. بهجة النفوس شرح
مختصر صحيح البخاري لأبي محمد ابن أبي جمرة الأزدي 2: 74.
م 17 - في حديث من طريق معاوية: يا أيها الناس إن النبي صلى الله عليه وآله نهى عن تسع
وأنا أنهى عنهن. وعد منها: الغناء. تاريخ البخاري 4 قسم 1: 234].
(الغناء في المذاهب الأربعة)
1 - حرمه إمام الحنفية وعده وسماعه من الذنوب، وهذا مذهب مشايخ أهل
الكوفة: سفيان. وحماد. وإبراهيم. والشعبي. وعكرمة.
2 - عن مالك إمام المالكية إنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال: إذا اشترى
أحد جارية فوجدها مغنية فله أن يردها بالعيب. وهو مذهب ساير أهل المدينة إلا
إبراهيم بن سعد وحده.
وسئل مالك: ما ترخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.
وسئل مالك عن الغناء؟ فقال: قال الله تعالى: فماذا بعد الحق إلا الضلال. أفحق هو؟
3 - ونقل التحريم عن جمع من الحنابلة على ما حكاه شارح المقنع، وعن عبد الله
بن الإمام أحمد إنه قال: سألت أبي عن الغناء. فقال: ينبت النفاق في القلب لا يعجبني
ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق.
4 وصرح أصحاب الشافعي العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب
إليه حله كالقاضي أبي الطيب وله في ذم الغناء والمنع عنه كتاب مصنف، والطبري والشيخ
أبي إسحاق في التنبيه.
وقال أبو الطيب الطبري: أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب
الشافعي لا يجوزوه سواء كانت حرة أو مملوكة. قال: وقال الشافعي: وصاحب الجارية
إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته، ثم غلظ القول فيه فقال: فهي دياثة. و
إنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس كان
سفيها.
72

وقال ابن الصلاح: هذا السماع حرام بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين.
وقال الطبري: أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه، وإنما فارق
الجماعة إبراهيم ابن السعد، وعبيد الله العنبري.
وسئل القاسم ابن محمد عن الغناء فقال: أنهاك عنه وأكرهه لك. فقال السائل. أحرام
هو؟ قال: انظر يا بن أخي إذا ميز الله تعالى الحق من الباطل في أيهما يجعل سبحانه
الغناء؟ وقال: لعن الله المغني والمغنى له.
وقال المحاسبي في رسالة الانشاء: الغناء حرام كالميتة.
وفي كتاب التقريب: إن الغناء حرام فعله وسماعه.
وقال النحاس: ممنوع بالكتاب والسنة.
وقال القفال لا تقبل شهادة المغني والرقاص.
راجع سنن البيهقي 10: 224، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص 242 246،
تفسير القرطبي 14: 51، 52، 55، 56، الدر المنثور 5. 59، عمدة القاري للعيني
5: 160، تفسير الآلوسي 21: 68، 69.
وفي مفتاح السعادة 1: 334: وقد قيل: التلذذ بالغناء وضرب المناهي كفر.
قال الأميني: لعل القائل أخذ بما أخرجه أبو يعقوب النيسابوري من حديث
أبي هريرة مرفوعا: استماع الملاهي معصية، والجلوس عليها فسق، والتلذذ بها كفر.
نيل الأوطار 8: 264.
وعن إبراهيم بن مسعود: الغناء باطل والباطل في النار. وعنه: الغناء ينبت النفاق
في القلب كما ينبت الماء البقل. وعنه: إذا ركب الرجل الدابة ولم يسم ردفه شيطان
فقال: تغنه. فإن كان لا يحسن قال: تمنه.
ومر ابن عمر رضي الله عنه بقوم محرمين وفيهم رجل يغني قال: ألا! لا سمع الله
لكم. ومر بجارية صغيرة تغني فقال: لو ترك الشيطان أحدا لترك هذه.
وقال الضحاك: الغناء منفدة للمال، مسخطة للرب، مفسدة للقلب.
وقال يزيد بن الوليد الناقص: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء، و
يزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وأنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم
73

لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا.
وفيما كتب عمر بن عبد العزيز إلى سهل مولاه: بلغني عن الثقات من حملة العلم
إن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بهما، ينبت النفاق في القلب، كما ينبت
الماء العشب.
وقيل: الغناء جاسوس القلب، وسارق المروءة والعقل، يتغلغل في سويداء القلوب،
ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب إلى بيت التخييل، فينشر ما غرز فيها من الهوى والشهوة
والسخافة والرعونة، فبينما ترى الرجل وعليه سمت الوقار، وبهاء العقل، وبهجة الإيمان،
ووقار العلم، وكلامه حكمة، وسكوته عبرة، فإذا سمع الغناء نقص عقله وحياؤه، وذهب
مروءته وبهاؤه، فيستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، ويبدي من أسراره ما كان يكتمه،
وينتقل من بهاء السكوت والسكون إلى كثرة الكلام والهذيان والاهتزار كأنه جان
وربما صفق بيديه، ودق الأرض برجليه، وهكذا تفعل الخمر إلى غير ذلك.
راجع سنن البيهقي 1: 223، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص 250، تفسير
الزمخشري 2: 411، تفسير القرطبي 14: 52، إرشاد الساري 9. 164، الدر المنثور
5: 159، 160، كنز العمال 7: 333، تفسير الخازن 3: 46، تفسير الشوكاني 4:
228، نيل الأوطار 8: 264، تفسير الآلوسي 21: 67، 68.
(نظرة في الأحاديث المعنونة)
هذا شأن الغناء والملاهي، وتلك ما يؤثر عن نبي الاسلام صلى الله عليه وآله أفمن المعقول
إذن أن تعزى إليه تلك المسامحة المزرية بعصمته، المسقطة لمحله، المسفة به إلى هوة
الجهل؟ ثم يحسب أن الذي تذمر عنهما وتجهم أمام الباطل ودحضه هو عمر فحسب دون
رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وما هذا الشيطان الذي كان يفرق من عمر وما كان يخاف رسل الله صلى الله عليه وآله؟
أي نبي هذا؟ وهو يسمع الملاهي، وترقص بين يديه الرقاصة الأجنبية،
وتضرب بالدف وتغني، أو يوقف هو حليلة على تلك المواقف المخزية، ثم يقول:
لست من دد ولا الدد مني. أو يقول: لست من دد ولا دد مني أو يقول: لست
من الباطل ولا الباطل مني (1).

(1) أخرجه البخاري في الأدب، والبيهقي والخطيب، وابن عساكر. راجع كنز العمال
7: 333، الفيض القدير 5 265
74

أي عظيم هذا؟ يرى في بيته غناء الجواري وضربهن بالدف ولا ينبس ببنت شفة
غير أن عمر يغضبه ذلك ويقول: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟ أليس هذا النبي
هو الذي كان سمع مزمارا يضع إصبعيه على أذنيه ونأى على الطريق؟ قال نافع:
سمع عبد الله بن عمر مزمارا فوضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي: يا
نافع هل تسمع شيئا؟ فقلت: لا. فرفع إصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا (1) أليس ابن عباس قال أخذا بالسنة الشريفة:
الدف حرام، والمعازف حرام، والكوبة حرام، والمزمار حرام؟.
ألا تعجب من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ والحبشة تلعب في مسجده الشريف أشرف بقاع
الدنيا وتزفن وتغني وهو صلى الله عليه وآله وحليلته ينظر إليها، وعمر ينهاهن، ويقول النبي
صلى الله عليه وآله: دعهن يا عمر!.
أصحيح ما جاء عن النبي الأقدس صلى الله عليه وآله من قوله بعدة طرق: جنبوا مساجدكم
صبيانكم ومجانينكم وشراء كم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم؟
وقوله صلى الله عليه وآله: من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك
فإن المساجد لم تبن لهذا؟. أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجة والترمذي
وما أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة عن بريدة: إن رجلا نشد في المسجد
الجمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت؟.
وقوله صلى الله عليه وآله: سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم ليس
لله فيهم حاجة؟. أخرجه ابن حبان في صحيحه.
وقوله صلى الله عليه وآله: لا تتخذوا المساجد طرقا إلا لذكر أو صلاة؟ (1).
وما ظنك بنبي العصمة يحول المولى سبحانه بينه وبين ما يهمه من سماع المعازف
والمزامير قبل بعثته تشريفا له وتعظيما لمكانته من القداسة، ويخليه واسع السرب رخي
البال بعد مبعثه الشريف يسمع غناء الأجنبيات وهي تزفن؟ أخرج الحفاظ بالإسناد عن
أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما هممت بشئ مما كان في

(1) سنن أبي داود 2: 304، سنن البيهقي 10: 222، تاريخ ابن عساكر 7: 206،
284.
(2) جمع هذه الأحاديث وأمثالها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب 1: 89 - 92.
75

الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد فإني قلت
ليلة غلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت إلى غنمي حتى أدخل مكة
فأسمر بها ما يسمر الشباب؟ فقال: ادخل. فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئت أول دار من
دور مكة سمعت عزفا بالدفوف والمزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان بن فلان تزوج
فلانة ابنة فلان، فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس
الشمس، قال: فجئت صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما صنعت شيئا، وأخبرته الخبر
قال ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك فقال: أفعل فخرجت فسمعت حين جئت مكة
مثل ما سمعت ودخلت مكة تلك الليلة فجلست أنظر فضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني
إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم ما همت بعدهما بسوء حتى
أكرمني الله برسالته (1)
قال الماوردي في أعلام النبوة 140: هذه أحوال عصمته قبل الرسالة، وصده
عن دنس الجهالة، فاقتضى أن يكون بعد الرسالة أعظم، ومن الأدناس أسلم، وكفى
بهذه الحال أن يكون من الأصفياء الخيرة إن أمهل، ومن الأتقياء البررة إن أغفل، ومن
أكبر الأنبياء عند الله تعالى من أرسل مستخلص الفطرة، علي النظرة، وقد أرسله الله
تعالى بعد الاستخلاص، وطهره من الأدناس، فانتفت عنه تهم الظنون، وسلم من ازدراء
العيون ليكون الناس إلى إجابته أسرع، وإلى الانقياد له أطوع. ا ه‍.
وإلي نسائل ذلك الحكيم المتأول الذي مر كلامه ص 65 عن أنه كيف
خص محمد صلى الله عليه وآله بالنبوة، وأبا بكر بالرحمة، وعمر بالحق، وحسب إنه فتح بابا مرتجا
من المعضلات، أو أتي بقرني حمار، أي نبوة تفارق الحق؟ وأي نبي هو أوضع من
صاحب الحق؟ وأي حق اقتناه عمر لنفسه وعزب عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عرفانه؟.
وهلم معي إلى طامة أخرى من الزركشي في الإجابة ص 67، الذي عد فيها
من خصائص عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتبع رضاها كلعبها باللعب، ووقوفه في

(1) دلائل النبوة لأبي نعيم 1: 58. أعلام النبوة للماوردي ص 140. تاريخ الطبري 2:
196. الكامل لابن الأثير 2: 14. عيون الأثر لابن سيد الناس 1: 44. تاريخ ابن كثير 2:
287. الخصائص الكبرى 1: 88، السيرة الحلبية 1: 132.
76

وجهها لتنظر إلى الحبشة يلعبون. فقال: واستنبط العلماء من ذلك أحكاما كثيرة فما
أعظم بركتها. ا ه‍.
أو هل يريد هذا الرجل إثبات مأثرة لعائشة؟ أو ذكر مزلة لبعلها؟ وهل كان
صلى الله عليه وآله يتبع رضاها في المشروع؟ أو كان اتباعه أعم من ذلك؟ " معاذ الله " وهل من
المكن أن يتبع رضاها حتى في نقض ما جاء به هو من الشريعة الإلهية؟ وأي حكم
يستنبط من مثل هذا المدرك الساقط؟ فمرحبا بالكاتب، وزه بالعلماء المستنبطين، و
وكثر الله أمثال هذه البركات " لأكثرها ". ثم هل النذر يبيح المحظور؟ وفي الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وآله: لا نذر في معصية
ولا نذر فيما لا يملك ابن آدم (1).
وقوله صلى الله عليه وآله: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه. (2)
وقال عقبة بن عامر: إن أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة وإنه ذكر
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرها فلتركب ولتختمر (3).
وعن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل بمكة وهو قائم في الشمس
فقال: ما هذا؟ قالوا: نذر أن يصوم ولا يستظل إلى الليل ولا يتكلم ولا يزال قائما.
قال: ليتكلم وليستظل وليجلس وليتم صومه (4).
وقال صلى الله عليه وآله: لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله تعالى (5).

(1) صحيح مسلم 2: 17، سنن أبي داود 2: 81، سنن ابن ماجة 1: 652، سنن النسائي
7: 19، 29،
(2) صحيح البخاري 9: 245 246، صحيح الترمذي 1: 288، سنن ابن ماجة 1: 653
سنن أبي داود 2: 78، سنن النسائي 7: 17، سنن البيهقي 10: 75.
(3) سنن ابن ماجة 1: 654، سنن النسائي 7: 20، صحيح الترمذي كما في تيسير الوصول
4: 279، سنن البيهقي 10: 80.
(4) سنن ابن ماجة 1: 655، صحيح البخاري 9: 247، سنن ابن داود 2: 79، سنن البيهقي 10: 75.
(5) أخرجه ابن داود كما في تيسير الوصول 4: 281، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى
10: 75.
77

وقال صلى الله عليه وآله: النذر نذران، فمن كان نذره في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء، و
من كان نذره في معصية الله فذلك للشيطان ولا وفاء فيه (1).
أوليس من شرط انعقاد النذر على هذا الرجحان في متعلقه وكونه مما يبتغى
به وجه الله ليكون مقربا إليه سبحانه زلفى، فيصح للناذر أن يقول: لله علي كذا؟ فأي
رجحان في ضرب المرأة الأجنبية الدف بين يدي الرجل الأجنبي وفي غنائها ورقصها
أمامه؟ إلا أن يقول القائل: إن تلك الجارية أو مسجد النبي الأعظم أباحا تلكم
المحضورات أو الغلو في الفضائل فضائل الخليفة أباح أن تستساغ.
(رأي عمر في الغناء)
إن تعجب فعجب أن هذه المهازئ تشعر بكراهة عمر للغناء وقد عده العيني في
عمدة القاري شرح صحيح البخاري 5: 160 نقلا عن كتاب التمهيد لأبي عمر صاحب
الاستيعاب ممن ذهب إلى إباحته في عداد عثمان. وعبد الرحمن بن عوف. وسعد بن
أبي وقاص. وعبد الله بن عمر. ومعاوية. وعمرو بن العاصي. والنعمان بن بشير. و
حسان بن ثابت.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار 8: 266: قد روي الغناء وسماعه عن جماعة
من الصحابة والتابعين، فمن الصحابة: عمر. كما رواه ابن عبد البر وغيره، ثم عد جمعا
منهم: عثمان. عبد الرحمن بن عوف. أبو عبيدة الجراح. سعد بن أبي وقاص. عبد الله
ابن عمر.
وروى المبرد والبيهقي في المعرفة كما في نيل الأوطار 8: 272 عن عمر: إنه إذا
كان داخلا في بيته ترنم بالبيت والبيتين. واستدلال الشوكاني بهذا على إباحة الغناء
في بعض المواقف يومي إلى أن المراد من الترنم: التغني.
وقال ابن منظور في لسان العرب 19: 374: قد رخص عمر رضي الله عنه في
غناء الأعراب.
ويعرب عن جلية الحال حديث خوات بن جبير الصحابي قال: خرجنا حجاجا
مع عمر فسرنا في ركب فيهم أبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف فقال القوم:

(1) أخرجه النسائي كما في التيسير 4: 281.
78

غننا من شعر ضرار، فقال عمر: دعوا أبا عبد الله فليغن من بنيات فؤاده. فما زلت
أغنيهم حتى كان السحر، فقال عمر: إرفع لسانك يا خوات فقد أسحرنا (1).
م - وزاد ابن عساكر في تاريخه 7: 163: فقال أبو عبيدة: هلم إلى رجل أرجو أن
لا يكون شرا من عمر. قال: فتنحيت أنا وأبو عبيدة فما زلنا كذلك حتى صلينا الفجر].
وفي كنز العمال 7: 336: كلم أصحاب النبي خوات بن جبير أن يغنيهم فقال:
حتى أستأذن عمر. فاستأذنه فأذن له فغنى خوات فقال عمر: أحسن خوات، أحسن
خوات.
وفي حديث رباح بن المعترف قال: إنه كان مع عبد الرحمن بن عوف يوما في
سفر فرفع صوته رباح يغني غناء الركبان فقال له عبد الرحمن: ما هذا؟ قال: غير ما بأس
نلهو ونقصر عنا السفر. فقال عبد الرحمن: إن كنتم لا بد فاعلين فعليكم بشعر ضرار
بن الخطاب، ويقال: إنه كان معهم في ذلك السفر عمر بن الخطاب وكان يغنيهم غناء
النصب (2). في تاج العروس: النصب ضرب من أغاني الأعراب.
وعن عثمان بن نائل عن أبيه قال: قلنا لرباح بن المعترف: غننا بغناء أهل بلدنا
فقال: مع عمر؟ قلنا: نعم، فإن نهاك فانته.
وذكر الزبير بن بكار: إن عمر مر به ورباح يغنيهم غناء الركبان (3) فقال: ما
هذا؟ قال عبد الرحمن: غير ما بأس يقصر عنا السفر، فقال: إذا كنتم فاعلين فعليكم
بشعر ضرار بن الخطاب " الإصابة 1: 502 ".
وعن السائب بن يزيد قال: بينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف في طريق مكة إذ
قال عبد الرحمن لرباح: غننا. فقال له عمر: إن كنت آخذا فعليك بشعر ضرار بن الخطاب
" الإصابة 2: 209 "

(1) سنن البيهقي 10: 224، الاستيعاب 1: 170، الإصابة 1: 457، كنز العمال
7: 335.
(2) سنن البيهقي 10: 224، الاستيعاب 1: 186.
(3) قال ابن الأعرابي: كانت العرب تتغنى بالركباني إذا ركبت وإذا جلست في الأفنية وعلى
أكثر أحوالها فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هجيراهم بالقرآن مكان التغني بالركبان.
لسان العرب 19: 337، تاج العروس 10: 273.
79

م - وفي لفظ ابن عساكر في تاريخه 7: 35: فقال عمر: ما هذا؟ فقال عبد الرحمن:
ما بأس بهذا اللهو ونقصر عنا سفرنا. فقال عمر: إن كنت. إلخ].
وعن العلاء بن زياد: إن عمر كان في مسير فتغنى فقال: هلا زجرتموني إذا لغوت
" كنز العمال 7: 335 ".
وعن الحارث بن عبد الله بن عباس: إنه بينا هو يسير مع عمر في طريق مكة في خلافته
ومعه المهاجرون والأنصار فترنم عمر ببيت، فقال له رجل من أهل العراق ليس معه
عراقي غيره: غيرك فليقلها يا أمير المؤمنين! فاستحى عمر وضرب راحلته حتى انقطعت
من الركب أخرجه الشافعي والبيهقي كما في الكنز 7: 336.
هذا عمر وهذا رأيه وهذه سيرته في الغناء، فهل من المعقول أن يهابه المغنون
فيجفلون عما كانوا يقترفونه، ويسمعه النبي صلى الله عليه وآله ولا يتحرج؟ ويرى أن الشيطان
يفرق من عمر، ولا يفرق منه؟ المستعاذ بك يا الله.
م - قد تروى هذه المنقبة الموهومة لعثمان فيما أخرجه أحمد في مسنده 4: 353
من طريق ابن أبي أوفى قال: استأذن أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وجارية
تضرب بالدف فدخل، ثم استأذن عمر رضي الله عنه فدخل، ثم استأذن عثمان رضي الله
عنه فأمسكت قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عثمان رجل حيي.
وأخرجه في ص 354 بإسناد آخر بلفظ: كانت جارية تضرب بالدف عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر ثم جاء عمر ثم جاء عثمان رضي الله عنهم فأمسكت فقال. الخ. و
سنوقفك على حياء عثمان حتى تعرف صحة هذا الحديث أيضا].
ثم لنتوجه إلى شاعر النيل المشبه درة عمر بعصا موسى التي كانت معجزة قاهرة
لنبي معصوم أبطل بها الباطل، وأقام الحق فقال كما مر في ص 66:
أغنت عن الصارم المصقول درته * فكم أخافت غوي النفس عاتيها
كانت له كعصا موسى لصاحبها * لا ينزل البطل مجتازا بواديها
فنسأل الرجل عن وجه الشبه بين تلك العصا وبين هذه الدرة التي قيل فيها:
لعل درته لم يسلم من خفقتها إلا القلائل من كبار الصحابة، وكانت الدرة في يده على الدوام
أنى سار، وكان الناس يهابونها أكثر مما تخيفهم السيوف، وكان يقول: أصبحت
80

أضرب الناس ليس فوقي أحد إلا رب العالمين (1) فقيل بعده: لدرة عمر أهيب من
سيف الحجاج كما في محاضرة السكتواري ص 169.
فما وجه الشبه بين عصا نبي معصوم وبين درة إنسان لم يسلم منها إلا القلائل
من كبار الصحابة؟ أهي تشبهها حين ضرب صاحبها النساء الباكيات على بنت رسول الله
صلى الله عليه وآله وأخذ صلى الله عليه وآله بيده وقال: مه يا عمر؟ غ 6: 159 (2) ط 2.
أم حين ضرب أم فروة بنت أبي قحافة حين بكت على أبيها؟ غ 6: 161.
أم حين ضرب تميم الداري لإتيانه الصلاة بعد العصر وهي سنة؟. غ 6: 183.
أم حين ضرب المنكدر وزيد الجهني وآخرين للصلاة بعد العصر؟ " " ".
أم حين ضرب في المجزرة كل من اشترى اللحم لأهله يومين متتابعين 2 غ 6: 7 26.
أم حين ضرب رجلا أتى بيت المقدس وإتيانه سنة؟ غ 6: 278.
أم حين ضرب الصائمين في رجب وصومه سنة مؤكدة؟ غ 6: 282.
أم حين ضرب سائلا عن آية من القرآن لا يعرف مغزاها؟ غ 6: 290.
أم حين ضرب مسلما أصاب كتابا فيه العلم؟ غ 6: 298.
أم حين ضرب مسلما اقتنى كتابا لدانيال؟ غ 6: 298.
أم حين ضرب من كني بأبي عيسى؟ غ 6: 308.
أم حين ضرب سيد ربيعة من غير ذنب أتى به؟. غ 6: 157.
أم حين ضرب معاوية من دون أن يقترف إثما؟ كما في تاريخ ابن كثير 8: 125.
أم حين ضرب أبا هريرة لابتياعه أفراسا من ماله؟ غ 6: 271.
أم حين ضرب من صام دهرا؟ غ 6: 322.
إلى مواقف لا تحصى. فانظر إلى من تتوجه قارصة الرجل في قوله: فكم أخافت
غوي النفس عاتيها.
ومن الناس من يعجب قوله في الحياة الدنيا، ويشهد الله على ما في قلبه و
هو ألد الخصام. البقرة: 204.
- الغدير 7 -

(1) محاضرات الخضري 2: 15، الخلفاء للنجار ص 113، 239.
(2) غ: رمز كتابنا هذا (الغدير) في جميع الأجزاء.
81

- 4 -
كرامات عمر الأربع
1 - لما فتح عمر مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤنة من أشهر
العجم فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها. فقال لهم: وما ذاك؟
فقالوا له: إنا إذا كانت ثلاث عشرة ليلة نحوا من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين
أبويها فأرضينا أباها وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في النيل
فقال لهم عمرو: إن هذا شئ لا يكون في الاسلام وإن الاسلام يهدم ما كان قبله،
فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى، لا يجري قليلا ولا كثير فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله
عنه فكتب إليه عمر إنك قد أصبت بالذي فعلت إن الاسلام يهدم ما قبله، وكتب إلى عمرو
إني قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي هذا إليك فألقها في النيل إذا وصل كتابي إليك
فلما قدم كتاب عمر رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص فإذا فيها مكتوب:
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر: أما بعد: فإن كنت إنما تجري
من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو مجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك
وفي لفظ الواقدي: فإن كنت مخلوقا لا تملك ضرا ولا نفعا وأنت تجري من قبل
نفسك وبأمرك فانقطع ولا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بحول الله وقوته فاجر
كما كنت، والسلام.
فألقى البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بشهر فقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج
فإنه لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل فلما ألقى البطاقة أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه
الله تعالى ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة فقطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم.
2 - قال الرازي في تفسيره: وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرة على
الأرض وقال: اسكني بإذن الله. فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك.
3 - في تفسير الرازي: وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خرقة:
يا نار اسكني بإذن الله. فألقوها في النار فانطفأت في الحال.
4 - محاضرة الأوائل للسكتواري: أول زلزلة كانت في الاسلام سنة عشرين
82

من الهجرة في خلافة عمر رضي الله عنه فضرب أمير المؤمنين رضي الله عنه برمحه قائلا
يا أرض اسكني، ألم أعدل عليك؟ فسكنت. فكان من جملة كرامته، فظهرت له كرامات
أربعة في العناصر الأربعة: تصرف في عنصر التراب والماء في قصة رسالته إلى نيل مصر.
وفي الهواء في قصة سارية الجبل. وفي النار في قصة احتراق قرية رجل حين كلفه أن
يغير اسمه فأبى وكان اسمه يتعلق بالنار كالشهاب والقبس والثاقب كما ذكر في تبصرة
الأدلة ودلائل النبوة.
راجع فتوح الشام للواقدي 2: 44، تفسير الرازي 5: 478، سيرة عمر لابن
الجوزي ص 150، الرياض النضرة 2: 12، تاريخ ابن كثير 7: 100: تاريخ الخلفاء
للسيوطي ص 86، محاضرة الأوائل للسكتواري ص 168، خزانة الأسرار ص 132
تاريخ القرماني هامش الكامل 1: 203، الروض الفائق ص 246، الفتوحات الإسلامية
2: 437، نور الأبصار ص 62، جوهرة الكلام للقراغولي الحنفي ص 44.
قال الأميني: أما رواية النيل فراويها الوحيد هو عبد الله بن صالح المصري أحد
الكذابين الوضاعين كما مر في الجزء الخامس ص 239 ط 2 قال أحمد بن حنبل: كان
أول أمره متماسكا ثم فسد بآخره، وقال أحمد بن صالح: متهم ليس بشئ، وقال
صالح جزرة: كان ابن معين يوثقه وهو عندي يكذب في الحديث، وقال النسائي: ليس
بثقة، وقال ابن المديني: لا أروي عنه شيئا، وقال ابن حبان: كان في نفسه صدوقا إنما
وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له فسمعت ابن خزيمة يقول: كان له جار بينه
وبينه عداوة كان يضع الحديث على شيخ أبي صالح ويكتبه بخط يشبه خط عبد الله و
ويرميه في داره بين كتبه فيتوهم عبد الله أنه خطه فيحدث به، وقال ابن عدي: يقع
في أسانيده ومتونه غلط ولا يتعمد.
قامت القيامة على عبد الله بهذا الخبر الذي قال عن جابر مرفوعا: إن الله اختار
أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة: أبا بكر وعمر و
عثمان وعليا فجعلهم خير أصحابي وأصحابي كلهم خير. ثم ذكر أقوال الحفاظ في بطلان
هذا الحديث وإنه موضوع. راجع ميزان الاعتدال 2: 46.
فالرواية مكذوبة اختلقتها يد الغلو في الفضائل، وإن كنا لا نناقش في إمكان
83

خضوع النيل لتلكم الكتابة، فيكون معجزة للاسلام لمسيس حاجة القوم إلى مثلها لحداثة
عهدهم بالاسلام.
وأما ما جاء به الرازي من حديث الزلزلة فلم يوجد في حوادث عهد عمر لا مسندا
ولا مرسلا، ولم يذكره قط مؤرخ ضليع، ولم يخرجه الحفاظ حتى ينظر في إسناده.
وقوله: وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك، فكر أمة مكذوبة يكذبها التاريخ،
وقد وقعت الزلزلة بعد ذلك غير مرة فقد وقعت زلزلة عظيمة بالحجاز سنة 515 فتضعضع
بسببها الركن اليماني وتهدم بعضه وتهدم بها شئ من مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله كما ذكره
ابن كثير في تاريخه 12: 188.
وحدثت بالمدينة زلزلة عظيمة ليلا واستمرت أياما وكانت تزلزل كل يوم و
ليلة قدر عشر نوبات وذلك سنة 654 وقصتها طويلة توجد في تاريخ ابن كثير 13:
188، 190، 191، 192.
واعطف على ما قاله الرازي قول السكتواري من إنها أول زلزلة كانت في الاسلام
سنة عشرين من الهجرة. فقد وقعت سنة ست من الهجرة الشريفة كما في تاريخ الخميس
1: 565 فقال النبي صلى الله عليه وآله: إن الله عز وجل يستعتبكم فاعتبوه.
وأما حديث قول عمر: يا سارية الجبل الجبل. فقال السيد محمد بن درويش
الحوت في أسنى المطالب ص 265: هو من كلام عمر قاله على المنبر حين كشف له عن
سارية وهو بنهاوند من أرض فارس، روى قصته الواحدي والبيهقي بسند ضعيف وهم
في المناقب يتوسعون. ا ه‍.
كنا نرى السيد ابن الحوت غير منصف في حكمه على الحديث بالضعف وإنه كان
حقا عليه الحكم بالوضع إلى أن أوقفنا السير على تصحيح ابن بدران (المتوفى 1346)
إياه فيما علق عليه في تاريخ ابن عساكر 6 ص 46 بعد ذكر الحديث من طريق سيف بن
عمر، فوجدنا ابن الحوت عندئذ إنه جاء بإحدى بنات طبق في حكمه ذلك، ما أجرأ ابن
بدران على هذا التمويه والدجل؟ أليست بين يديه أقوال أعلام قومه حول سيف بن
عمر؟ أم ليسوا أولئك الحفاظ رجال الجرح والتعديل في كل إسناد؟ قال ابن حبان: كان
سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الاثبات. وقال: قالوا: إنه كان يضع الحديث واتهم
84

بالزندقة. وقال الحاكم: اتهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط، وقال ابن عدي: بعض
أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة لم يتابع عليها. وقال ابن عدي: عامتها منكر.
قال البرقاني عن الدارقطني: متروك. وقال ابن معين: ضعيف الحديث فليس خير منه.
وقال أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال أبو داود: ليس بشئ
وقال النسائي: ضعيف. وقال السيوطي: وضاع: وذكر حديثا من طريق السري بن
يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال: موضوع، فيه ضعفاء أشدهم سيف.
راجع ميزان الاعتدال 1: 438، تهذيب التهذيب 4: 295، اللئالي المصنوعة
1: 157، 199، 429.
وأما احتراق القرية بإباء الرجل عن تغيير اسمه فخرافة يأباها الشرع والعقل
والمنطق، إن ما تقدم في الجزء السادس ص 308 - 315 ط 2 من آراء الخليفة الخاصة به
- في الأسماء والكنى - ومن جرائها غير كنى رجال كناهم رسول الله صلى الله عليه وآله وأسماء آخرين سماهم بها هو صلى الله عليه وآله بحجة داحضة من أن رسول الله صلى الله عليه وآله مات
وغفر له ونحن لا ندري ما يفعل بنا - يستدعي ألا يمتثل في أمثال ذلك لا أن يعذب الله
قرية آمنة مطمأنة لعدم امتثال صاحبها بما يقوله الخليفة دون أمر مباح، وهو من
الظلم الفاحش لما احترق فيها من أبرياء وتلفت من أموال، ولو وقفت بمطلع الأكمة
من تلك القرية المضطرمة لبكيت على الرضع والبهائم بكاء الثكلى، نحاشي ربنا
الحكيم العدل عن مثل ذلك، ونحاشي أعلام الأمة عن قبول هذه المخاريق المخزية.
قاتل الله الحب، ماذا يفعل ويفتعل ويختلق؟.
- 5 -
تسمية عمر بأمير المؤمنين
قال الواقدي: حدثنا أبو حمزة (1) يعقوب بن مجاهد عن محمد بن إبراهيم عن أبي
عمر وقال: قلت لعائشة: من سمى عمر الفاروق أمير المؤمنين؟ قالت: النبي صلى الله عليه وسلم قال:
أمير المؤمنين هو. ذكره ابن كثير في تاريخه 7: 137.
قال الأميني: كان أبو حزرة قاصا يقص فراقه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) كذا في تاريخ ابن كثير والصحيح: حزرة. بفتح المهملتين بينهما معجمة ساكنة.
85

وعلى حليلته أم المؤمنين لإرضاء مستمعيه بافتعال منقبة لعمر ذاهلا عن أن التاريخ
يكذبه ويكشف عن سوءته ولو بعد حين.
أخرج الحاكم من طريق ابن شهاب قال: إن عمر بن عبد العزيز سأل أبا بكر ابن
سليمان بن أبي خيثمة لأي شئ كان يكتب من خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله في عهد أبي
بكر رضي الله عنه؟ ثم كان عمر يكتب أولا من خليفة أبي بكر، فمن أول من كتب
من أمير المؤمنين؟ فقال: حدثني الشفاء وكانت من المهاجرات الأول: إن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه كتب إلى عامل العراق بأن يبعث إليه رجلين جلدين يسألهما عن العراق و
أهله فبعث عامل العراق بلبيد بن ربيعة وعدي ابن حاتم فلما قدما المدينة أناخا راحلتيهما
بفناء المسجد ثم دخلا المسجد فإذا هما بعمر وبن العاص فقالا: استأذن لنا يا عمرو! على
أمير المؤمنين، فقال عمرو: أنتما والله أصبتما اسمه، هو الأمير ونحن المؤمنون، فوثب عمرو
فدخل على أمير المؤمنين. فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين!. فقال عمر: ما بدا لك في
هذا الاسم يا بن العاص، ربي يعلم لتخرجن مما قلت. قال: إن لبيد بن ربيعة وعدي
بن حاتم قدما فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد ثم دخلا علي فقالا لي: استأذن لنا يا
عمرو! على أمير المؤمنين فهما والله أصابا اسمك، نحن المؤمنون وأنت أميرنا، قال:
فمضى به الكتاب من يومئذ.
أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه. وقال الذهبي في تلخيص المستدرك:
صحيح. وقال السيوطي في شرح شواهد المغني ص 57: روينا بسند صحيح إن لبيد بن
ربيعة وعدي بن حاتم هما اللذان سميا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين حين قدما عليه
من العراق. وذكر القصة في تاريخ الخلفاء ص 94.
وأخرج الطبري في تاريخه 5: 22 بالإسناد عن حسان الكوفي قال: لما ولى عمر
قيل: يا خليفة خليفة رسول الله، فقال عمر رضي الله عنه: هذا أمر يطول كل ما جاء
خليفة قالوا: يا خليفة خليفة خليفة رسول الله، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم فسمي
أمير المؤمنين.
وقال ابن خلدون في مقدمة تاريخه ص 227: اتفق أن دعا بعض الصحابة عمر
رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به، يقال: إن أول
86

من دعا بذلك عبد الله بن جحش، وقيل: عمرو بن العاصي، والمغيرة بن شعبة وقيل: بريد
جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول: أين أمير المؤمنين؟
وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا: أصبت والله اسمه إنه والله أمير المؤمنين حقا،
فدعوه بذلك وذهب لقبا له في الناس، وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها
أحد سواهم إلا سائر دولة بني أمية. ا ه‍.
فصريح هذه النقول أن عمر نفسه ما كانت له سابقة علم بهذا اللقب لا عن رسول الله
صلى الله عليه وآله ولا عن غيره، ولذلك استغربه وقال: ربي يعلم لتخرجن مما قلت. ولا كان
عمر بن العاصي يعلم ذلك ولذلك نسب الإصابة بالتسمية إلى الرجلين ونحت لها من عنده
ما يبررها. ولا كانت عند الرجلين - اللذين صح كما مر أنهما هما اللذان سمياه -
أثارة من علم بما جاء به ابن كثير وإنما هو شئ جرى على لسانهما، ثم اعطف نظرة
ثانية على كلمة ابن خلدون المقررة للخلاف في أول من سماه بأمير المؤمنين ولم
يذكر فيه قولا بأن الرسول صلى الله عليه وآله هو الذي سماه، وصريح رواية الطبري إن عمر هو
الذي رأى هذه التسمية.
نعم: إن الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين هو مولانا علي عليه السلام، أخرج
أبو نعيم في حلية الأولياء 1: 63 بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس! اسكب لي وضوءا. ثم قام فصلى ركعتين. ثم قال: يا أنس! أول من يدخل عليك من
هذا الباب أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين، وخاتم الوصيين،
قال أنس: قلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمته إذ جاء علي فقال: من هذا يا
أنس؟ فقلت: علي، فقام مستبشرا فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه، ويمسح
عرق علي بوجهه. قال علي: يا رسول الله! لقد رأيتك صنعت شيئا ما صنعت بي من قبل؟
قال: وما يمنعني وأنت تؤدي عني، وتسمعهم صوتي، وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي
وأخرج ابن مردويه من طريق ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فغدا عليه
علي بن أبي طا لب كرم الله وجهه بالغداة أن لا يسبقه إليه أحد فدخل فإذا النبي صلى الله عليه وسلم
في صحن البيت فإذا رأسه في حجر دحية بن خليفة الكلبي فقال: السلام عليك، كيف
أصبح رسول الله؟ قال: بخير يا أخا رسول الله! فقال علي: جزاك الله عنا خيرا أهل البيت
87

فقال له دحية: إني لأحبك وإن لك عندي مدحة أزفها لك، أنت أمير المؤمنين، و
قائد الغر المحجلين. الخ. وفيه: فأخذ رأس النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: ما هذه الهمهمة؟ فقال علي بما جرى، فقال: يا علي لم يكن دحية ولكن كان
جبرائيل سماك باسم سماك الله به.
وأخرج الحافظ أبو العلا الحسن بن أحمد العطار من طريق ابن عباس في حديث:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أم سلمة! اشهدي واسمعي هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. الحديث
مر بتمامه في الجزء السادس ص 80 ط 2.
وأخرج الطبراني في معجمه من طريق عبد الله بن عليم الجهني مرفوعا: إن الله
عزو جل أوحى إلي في علي ثلاثة أشياء ليلة أسرى بي إنه سيد المؤمنين، وإمام
المتقين، وقائد الغر المحجلين.
وتعضد هذه الأحاديث وتؤكدها عدة أحاديث منها ما أخرجه أبو نعيم في حلية
الأولياء من طريق ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنزل الله آية فيها يا أيها
الذين آمنوا إلا وعلي رأسها وأميرها.
وفي لفظ الطبراني وابن أبي حاتم: إلا وعلي أميرها وشريفها، ولقد عاتب الله
أصحاب محمد في غير مكان وما ذكر عليا إلا بخير (1).
ومنها ما أخرجه الخطيب والحاكم وصححه من طريق جابر بن عبد الله قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وهو آخذ بيد علي يقول: هذا أمير البررة، وقاتل الفجرة،
منصور من نصره، مخذول من خذله (2).
وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص
115، ونور الأبصار ص 80، وأخرجه شيخ الاسلام الحموي من طريق عبد الرحمن
بن سهمان في فرائد السمطين، وذكره ابن حجر في الصواعق نقلا عن الحاكم وحرفه

(1) راجع حلية الأولياء 1: 64، الرياض النضرة 2: 206، كفاية الكنجي ص 54،
تذكرة السبط ص 8، درر السمطين لجمال الدين الزرندي، الصواعق لابن حجر ص 76، كنز العمال
6: 291، تاريخ الخلفاء ص 115.
(2) تاريخ الخطيب البغدادي 2: 377، ج: 219، مستدرك الحاكم 3: 129.
88

وجعل مكان أمير البررة: إمام البررة. حيا الله الأمانة.
ومنها ما أخرجه ابن عدي في كامله من طريق علي: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: علي
يعسوب (1) المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين، وفي رواية: يعسوب الظلمة، وفي رواية
يعسوب الكفار. ذكره الدميري في حياة الحيوان 2: 412، وابن حجر في الصواعق ص
75، وقال الدميري: ومن هنا قيل لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: أمير النحل.
ومنها قول علي: أنا يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكفار، وفي لفظ: المنافقين،
وفي لفظ: الفجار. نهج البلاغة 2، 211، تاج العروس 1: 381.
هذه هي الحقيقة الراهنة لكن القوم نحتوا تجاهها بقضاء من الغلو في الفضائل ما
عرفته من رواية القصاص أبي حزرة.
- 6 -
عمر لا يحب الباطل
أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء 2: 46 من طريق الأسود بن سريع قال: أتيت
النبي صلى الله عليه وسلم فقلت:
قد حمدت ربي بمحامد ومدح وإياك. فقال: إن ربك عز وجل
يحب الحمد. فجعلت أنشده، فاستأذن رجل طويل أصلع فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اسكت فدخل فتكلم ساعة ثم خرج فأنشدته ثم جاء فسكتني النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم ثم
خرج، ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا فقلت: يا رسول الله! من هذا الذي أسكتني له؟ فقال:
هذا عمر، رجل لا يحب الباطل.
ومن طريق آخر عن الأسود التميمي قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت أنشده
فدخل رجل أقنى (2) فقال لي: أمسك. فلما خرج قال: هات. فجعلت أنشده فلم ألبث
أن عاد فقال لي: أمسك. فلما خرج قال: هات. فقلت: من هذا يا نبي الله الذي إذا دخل
قلت: أمسك، وإذا خرج قلت: هات؟ قال: هذا عمر بن الخطاب وليس من الباطل
في شئ.
ومن طريق آخر عن الأسود قال: كنت أنشده صلى الله عليه وسلم ولا أعرف أصحابه حتى

(1) يعسوب: الأمير. الرئيس.
(2) قنى الانف وأقنى: ارتفع وسط قصبته وضاق منخراه.
89

جاء رجل بعيد ما بين المناكب أصلع؟ فقيل: اسكت اسكت. قلت: وا ثكلاه من
هذا الذي أسكت له عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقيل: عمر بن الخطاب، فعرفت والله بعد إنه
كان يهون عليه لو سمعني أن لا يكلمني حتى يأخذ برجلي فيسحبني إلى البقيع.
قال الأميني: هل علمت رواة السوء بالذي تلوكه بين أشداقها؟ أم درت فتعمدت؟
أم أن حب عمر والمغالاة في فضائله أعمياهم عن تبعات هذا القول الشائن؟ إنها لا تعمى
الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
يقول القائل: إن ما أراد إنشاده محامد ومدح لله ولرسوله فيجيزه رسول الله
صلى الله عليه وآله ويقول: إن ربك عز وجل يحب الحمد. فأي باطل في هذا حتى يبغضه عمر؟
ولو كان باطلا؟ لمنعه رسول الله صلى الله عليه وآله قبل عمر، وأي نبي هذا يتقي رجلا من أمته
ولا يتقي الله؟ وكيف خشي الرجل أن يسحبه عمر برجله إلى البقيع ولم يخش رسول
الله صلى الله عليه وآله أن يفعل به ذلك أو يأمر فيفعل به؟ أو أن عمر ما كان يميز بين الحق و
الباطل فيحسب أن كل ما ينشد من الباطل، فيجاريه النبي صلى الله عليه وآله على مزعمة؟ فهل
علم الراوي أو المؤلف بهذه المفاسد، أولا؟.
فإن كان لا يدري فتلك مصيبة * وإن كان يدري فالمصيبة أعظم
- 7 -
الملائكة تكلم عمر بن الخطاب
أخرج البخاري في كتاب المناقب باب مناقب عمر عن أبي هريرة قال: قال النبي
صلى الله عليه وسلم: لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء
فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر.
وأخرج في الصحيح بعد حديث غار عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه
قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب
أسلفنا ألفاظ هذه الرواية في الجزء الخامس 42 - 46 ط 2، ومر هناك عن القسطلاني
قوله: ليس قوله " فإن يكن " للترديد للتأكيد بل كقولك: إن يكن لي صديق ففلان
إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء. الخ.
قال الأميني: أنا لست أدري ما الغاية في حديث الملائكة مع عمر؟ أهي محض
90

إيناسه باختلاف الملك إليه وتكليمه إياه؟ أم هي إقالة عثراته، وتسديد خطاه، ورد
أخطاءه، وتعليمه ما لم يعلم؟ حتى لا يكون خليفة المسلمين خلوا عن جواب مسألة،
صفرا عن حل معضلة، ولا يفتي بخلاف الشريعة المطهرة، ولا يرمي القول على عواهنه،
إن كانت للمحادثة المزعومة غاية معقولة فهي هذه لا غيرها، إذن فراجع الجزء السادس
وتتبع الخطى، وترو في الأخطاء، واسمع ما لا يعني، وانظر إلى التافهات، و
عندنا أضعاف ما هنالك لعل بعض الأجزاء الآتية يتكفل بعضها إن شاء الله تعالى، فهل
هذا الملك طيلة صدور ما في نوادر الأثر في الجزء السادس منه كان في سنة عن أداء
وظيفته؟ أو كان ما يصدر خافيا عليه؟ أو أن الاستبداد في الرأي كان يحول بينهما؟ أو أن
الملك في حله وترحاله قد يتأخر عن الأوبة إليه؟ فيقع ما يقع في غيبته، أو أن القصة
مفتعلة لا مقيل لها في مستوى الصحة؟ وهذه أقوى الوجوه ولعله غير خاف على البخاري
نفسه لكنه..
- 8 -
قرطاس في كفن عمر
إن الحسن والحسين دخلا على عمر بن الخطاب وهو مشغول ثم انتبه لهما فقام
فقبلهما و وهب لكل واحد منهما ألفا فرجعا فأخبرا أباهما فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: عمر نور الاسلام في الدنيا وسراج أهل الجنة في الجنة. فرجعا إلى عمر فحدثاه
فاستدعي دواة وقرطاسا وكتب: حدثني سيدا شباب أهل الجنة عن أبيهما عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال كذا وكذا، فأوصى أن يجعل في كفنه ففعل ذلك فأصبحوا
وإذا القرطاس على القبر وفيه: صدق الحسن والحسين وصدق رسول الله.
قال الأميني: بلغ هذه القصة الخيالية من الخرافة حدا ذكرها ابن الجوزي في
الموضوعات كما في تحذير الخواص للسيوطي صفحة 53 فقال: والعجب من هذا الذي
بلغت به الوقاحة إلى أن يصنف مثل هذا وما كفاه حتى عرضه على أكابر الفقهاء فكتبوا
عليه تصويب هذا التصنيف. ا ه‍.
قاتل الله الغلو في الفضائل فإنه شوه سمعة أكابر الفقهاء، كما سود صحيفة التاريخ،
وقبح وجه التأليف.
91

9 لسان عمر وقلبه
أخرج إمام الحنابلة أحمد في المسند 2: 401 عن نوح بن ميمون عن عبد الله بن
عمر العمري عن جهم بن أبي الجهم عن مسور بن المخرمة عن أبي هريرة قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه.
قال الأميني: أما قلب الرجل فلا صلة لنا به لأن ما فيه من السرائر لا يعلمه
إلا الله، نعم ربما ينم عنه ما جرى على لسانه، وإن شئت فسائل الإمام أحمد أكان
الحق على لسان عمر لما جابه رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله الفظ حين أراد الكتف والدواة
ليكتب للمسلمين كتابا لا يضلون بعده؟ فحال بينه وبين ما أراده من هداية الأمة، و
مهما كانت الكلمة القارصة فإن رسول الله صلى الله عليه وآله منزه عنها في كل حين فلا يغلبه
الوجع، ولا يهجر من شدة ما به، ولا سيما وهو في صدد تبليغ ما به من الهداية
والصون عن الضلال، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وانتظر لهذه الجملة
بحثا ضافيا إنشاء الله تعالى.
أم كان الحق على لسانه في المائة موردا التي أخطأ فيها جمعاء؟ وقد فصلناها
تفصيلا في نوادر الأثر من الجزء السادس، وقد اتخذناها مقياسا لمعرفة حال هذه
الرواية وأمثالها مما نسجته يد الغلو في الفضائل.
أضف إلى هذا ما في سنده من الضعف فإن فيه:
نوح بن ميمون. قال ابن حبان: ربما أخطأ (1) وفيه:
عبد الله بن عمر العمري. قال أبو زرعة عن أحمد إمام الحنابلة: إنه كان يزيد في
الأسانيد ويخالف. وقال علي بن المديني: ضعيف. وقال يحيى بن سعيد: لا يحدث عنه.
وقال يعقوب بن شيبة: في حديثه اضطراب. وقال صالح جزرة: لين مختلط الحديث
وقال النسائي: ضعيف الحديث. وقال ابن سعد: كثير الحديث يستضعف. وقال أبو
حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه الصلاح
حتى غفل عن الضبط فاستحق الترك. وقال البخاري في التاريخ: كان يحيى بن سعيد

(1) تهذيب التهذيب 10: 489.
92

يضعفه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال المروزي: ذكره أحمد
فلم يرضه (1) وفيه جهم بن أبي الجهم. قال الذهبي في ميزان الاعتدال: لا يعرف.
- 10 -
رؤيا رسول الله صلى الله عليه وآله في علم عمر
أخرج البخاري في صحيحه 5: 255 في مناقب عمر عن عبد الله بن عمر عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينا أنا نائم شربت يعني اللبن حتى أنظر إلى الري يجري في ظفري
أو في أظفاري ثم ناولت عمر. فقالوا: فما أولته؟ قال العلم.
وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ص 119، والبغوي في المصابيح 2:
270، وابن عبد البر في الاستيعاب 2: 429، والمحب الطبري في الرياض 2: 8. وفي لفظهم:
بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى رأيت الري يخرج من أظفاري ثم
أعطيت فضلي عمر.
قال الحافظ ابن أبي الجمرة الأزدي الأندلسي في بهجة النفوس 4: 244 عند شرحه
الحديث: فانظر بنظرك إلى الذي شرب فضله عليه السلام كيف كان قوة علمه؟ الذي لم يقدر
أحد من الخلفاء يماثله، فكيف؟ بغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وكيف؟ ممن
بعد الصحابة. إلى آخر ما جاء به من التافهات.
قال الأميني: إن طبع الحال يستدعي أن تكون هذه الرؤيا بعد إسلام عمر وبعد
مضي سنين من البعثة، وهل كان صلى الله عليه وآله طيلة هذه المدة خلوا من العلم؟ وهو في دور
الرسالة، أو كان في علمه إعواز أكمله هذا اللبن الساري ريه في ظفره أو أظفاره؟ أو كان
فيها إعلام بمبلغ علم عمر فحسب، وكناية عن إنه من مستقي الوحي؟ فهل تخفى على من
هو هذا شأنه جلية المسائل فضلا عن معضلاتها؟ وهل يسعه أن يعتذر في الجهل بكتاب
الله بقوله: ألهاني عنه الصفق بالأسواق؟.
وهلا تأثرت نفس الرجل بالعلم لما شرب من منهل علم النبي العظيم؟ فما معنى
قوله: كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال؟ وأمثاله (2) وما الوجه في أخطاءه

(1) تهذيب التهذيب 5: 7 32.
(2) راجع ما مر في الجزء السادس ص 338 ط 2.
93

التي لا تحصى في الفتيا وغيرها؟ مما سبق ويأتي إن شاء الله تعالى.
ولقد تلطف المولى سبحانه على الأمة المرحومة إنه ولي أمرها بعد شرب
تلك الكاس. وأنا لا أدري لو كان وليه قبل ذلك ماذا كان يصدر من ولائد الجهل؟ وأي
حد كانت تبلغ نوادر الأثر في علمه؟
وليت مصطنع هذه المهزأة اصطنعها على وجه ينطبق حكمها على رسول الله صلى الله عليه وآله
وعلى الخليفة، لكنه لا ينطبق على أي منهما كما بيناه، غير أن وظيفة الماين أن يأتي
بأساطيره على كل حال، وإنما العتب على البخاري الذي يعتبرها ويدرجها في الصحيح
غلوا منه في الفضائل، وأشد منه وأعظم على أمثال ابن أبي جمرة الأزدي من الذين يموهون
الحقايق بزخرف القول على أغرار الأمة، ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم.
- 11 -
عمر وفرق الشيطان منه
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده ج 5:
89، وفي كتاب المناقب باب مناقب عمر 5: 256 عن سعد بن أبي وقاص قال: استأذن
عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن
فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم
يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله! قال: عجبت من هؤلاء اللاتي كن
عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. قال عمر: فأنت يا رسول الله! كنت أحق
أن يهبن، ثم قال " عمر " أي عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قلن: نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي
بيده ما لقيك الشطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك.
قال الأميني: ما أوقح هذا الراوي الذي ساق هذا الحديث في عداد الفضائل وهو
بعده عند سياق السفاسف أولى، حسب أولا أن النساء كن لم يهبن رسول الله صلى الله عليه وآله
وهبن عمر، فعلى هذا نسائله: أكن هذه النسوة نساؤه صلى الله عليه وآله؟ كما ذكره شراح
الحديث (1) ستر العوار الرواية، أم كن أجنبيات عنه صلى الله عليه وآله؟ وعلى الأول فلا وجه

(1) راجع إرشاد الساري 5: 290.
94

لهيبتهن إياه على الأسفار أو الاكثار أمامه، فإن للحلائل مع زوجاتهن شؤونا خاصة
فتسترهن عن عمر فلكونه أجنبيا عنهن لا هيبة له.
وعلى الثاني وهو الذي يعطيه سياق الحديث كقوله: وعنده نساء من قريش. و
قوله صلى الله عليه وآله: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي. الخ. وقول عمر: فأنت يا رسول الله
كنت. الخ. وقوله: يا عدوات أنفسهن. الخ. فكل هذه لا يلتئم مع كونهن نساؤه لتنكير
النساء في الأول، وظهور قوله: كن عندي في أن حضورهن لديه من ولائد الاتفاق
لا أنهن نساؤه الكائنات معه أطراف الليل وآناء النهار، وقلنا أيضا: إنه لا وجه للهيبة
مع كونهن أزواجه، ولا هن على ذلك عدوات أنفسهن، فإن إبداء الزينة والجمال
للزوجة عبادة لا معصية، فجلوسهن وهن أجنبيات عند رسول الله صلى الله عليه وآله سافرات على
هذا الوجه إما لأنه صلى الله عليه وآله لم يحرم السفور، وإما لأنه حرمه ونسيه، أو أنه صلى الله عليه وآله
تسامح في النهي عنه، أو أنه هابهن وإن لم يهبن، وكان مع ذلك يروقه أن ينتهين عما
هن عليه، ولذلك استبشر لما بادرن الحجاب وأثنى على عمر، ولازم هذا أن يكون عمر
أفقه من رسول الله صلى الله عليه وآله، أو أثبت منه على المبدأ، أو أخشن منه في ذات الله، أو أقوى
منه نفسا. أعوذ بالله من التقول بلا تعقل.
وأما ما عزي إليه صلى الله عليه وآله ثانيا من قوله: والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان
قط سالكا فجا غير فجك، فما بالشيطان يهاب الخليفة فيسلك فجا غير فجه ولا تروعه
عظمة النبي صلى الله عليه وآله ولا قوة إيمانه؟ فيسلك في فجه فلا يدعه أن ينهى عن المنكر، و
يحدو بصواحب المنكر إلى أن يتظاهرون به أمامه. بل الشيطان لعنه الله يعرض له
صلى الله عليه وآله ليقطع عليه صلاته وإن رجع عنه خائبا كما أخرجه البخاري في صحيحه ج 1
ص 143 في كتاب الصلاة باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة. ومسلم في صحيحه
ج 1 ص 204 باب جواز لعن الشيطان في الصلاة، أخرجا بالإسناد عن أبي هريرة قال:
صلى رسول الله صلاة فقال: إن الشيطان عرض لي فشد علي بقطع الصلاة علي فأمكنني
الله منه فذعته (1) الحديث.
هب إن اللعين في هذه المرة لم يصب من رسول الله صلى الله عليه وآله لكنه تجرأ على مقامه

(1) فذعته: فخنقته والذعت والدعت بالمهملة والمعجمة: الدفع العنيف.
95

الأسمى وقد جاء في الصحيحين (1) عن أبي هريرة إن الشيطان إذا سمع الأذان للصلاة
من أي مسلم كان أدبر هاربا وولى فرقا، وله ضراط هلع جزع.
كيف يجرأ اللعين على رسول الله حتى في حال صلاته؟ ولم يتجرأ قط على عمر
لأن يسلك فجا غير فجه. وجاء فيما أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان عن بريدة
إن الشيطان ليفرق منك يا عمر! (2) وفيما أخرجه الطبراني وابن مندة وأبو نعيم عن سديسة
مولاة حفصة عن حفصة بنت عمر مرفوعا: إن الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلا خر لوجهه (3).
إني وإن لا يروقني خدش العواطف بذكر مواقف الرجل التي لم يكن العامل
الوحيد فيها إلا الشيطان، غير إني لست أدري هل الشيطان كان يفرق ويفر منه، و
يخر على وجهه، ويسلك فجا غير فجه أيضا منذ أسلم إلى سنة الفتح الثامن من الهجرة
النبوية؟ إلى نزول آية " فهل أنتم منتهون " إلى يوم قول الرجل: انتهينا انتهينا؟ إلى
يوم النادي في دار أبي طلحة الأنصاري؟ فعلى الباحث الوقوف على ما أسلفناه في الجزء
السادس ص 251 - 261، وفي الجزء السابع ص 95 - 102 ط 2.
ثم أين كانت تلك البسالة من رسول الله - الحاجزة بين الشيطان الرجيم وبين صلاته
صلى الله عليه وآله لما عرض له وشد عليه - يوم كانت عنده نساء قريش فتخنقه وتردع النسوة؟
فبهذه كلها تعلم مقدار هده الرواية ومقيلها من الصدق، ومبلغ صحيح البخاري
من الاعتبار، وتعرف ما يفعله الغلو في الفضائل والحب المعمي والمصم.
أضف إلى هذه المخاريق ما أسلفناه في الجزء الخامس في سلسلة الموضوعات مما
وضعته يد الغلو في فضائل عمر.
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق، وقد آتيناك من لدنا ذكرا،
من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا
" طه 99، 100 "

(1) صحيح البخاري 1: 78 كتاب الأذان. صحيح مسلم ج 1: 153 باب فضل الأذان.
(2) فيض القدير 2: 359.
(3) الإصابة 4: 226، فيض القدير 2: 352
96

الغلو في فضايل عثمان
ابن عفان بن أبي العاص بن أمية الخليفة الأموي
قبل الشروع في سرد الفضائل نوقفك على مواد تعرفك مبلغ الخليفة من العلم، و
مقداره من النفسيات الفاضلة، وموقفه من التقوى، ومبوأه من الإيمان، حتى يكون
نظرك في فضائله عارف به وبها.
1 قضاءه في امرأة ولدت لستة أشهر
أخرج الحفاظ عن بعجة بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من
جهينة فولدت له تماما لستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان فأمر بها أن ترجم فبلغ عليا
رضي الله عنه فأتاه فقال: ما تصنع؟ ليس ذلك عليها قال الله تبارك وتعالى: وحمله و
وفصاله ثلاثون شهرا (1). وقال: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين (2) فالرضاعة
أربعة وعشرون شهرا. والحمل ستة أشهر. فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا. فأمر بها
عثمان أن ترد فوجدت قد رجمت، وكان من قولها لأختها: يا أخية لا تحزني فوالله
ما كشف فرجي أحد قط غيره، قال: فشب الغلام بعد فاعترف الرجل به وكان أشبه
الناس به، وقال: فرأيت الرجل بعد يتساقط عضوا عضوا على فراشه.
أخرجه مالك، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، وأبو عمر، وابن كثير،
وابن الديبع، والعيني، والسيوطي كما مر في الجزء السادس صفحة 94 ط 2.
قال الأميني: إن تعجب فعجب إن إمام المسلمين لا يفطن لما في كتاب الله العزيز
مما تكثر حاجته إليه في شتى الأحوال، ثم يكون من جراء هذا الجهل أن تودي بريئة
مؤمنة، وتتهم بالفاحشة، ويهتك ناموسها بين الملأ الديني وعلى رؤس الاشهاد.

(1) سورة الأحقاف آية 15.
(2) سورة البقرة آية 233.
97

وهلا كان حين عزب عنه فقه المسألة قد استشار أحدا من الصحابة يعلم ما جهله
فلا يبوء بإثم القتل والفضيحة؟ وهلا تذكر لدة هذه القضية وقد وقعت غير مرة على
عهد عمر؟ حين أراد أن يرجم نساء ولدن ستة أشهر فحال دونها أمير المؤمنين وابن عباس
كما مرت في الجزء السادس ص 93 - 95 ط 2.
ثم هب إنه ذهل عن الآيتين الكريمتين، ونسي ما سبق في العهد العمري، فماذا
كان مدرك حكمه برجم تلك المسكينة؟ أهو الكتاب؟ فأنى هو؟ أو السنة؟ فمن
ذا الذي رواها؟ أو الرأي والقياس؟ فأين مدرك الرأي؟ وما ترتيب القياس؟ وإن كانت
فتوى مجردة؟ فحيا الله المفتي، وزه بالفتيا، ومرحبا بالخلافة والخليفة، نعم: لا يربي
بيت أمية أربى من هذا البشر، ولا يجتني من تلك الشجرة أشهى من هذا الثمر
- 2 -
إتمام عثمان الصلاة في السفر
أخرج الشيخان وغيرهما بالإسناد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: صلى
بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وأبو بكر بعده وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدرا من
خلافته رضي الله عنهم، ثم إن عثمان صلى بعد أربعا، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام
صلى أربعا، وإذا صلى وحده صلى ركعتين (1)
وفي لفظ ابن حزم في المحلى 4: 270: إن ابن عمر كان إذا صلى مع الإمام بمنى
أربع ركعات انصرف إلى منزله فصلى فيه ركعتين أعادها.
وأخرج مالك في الموطأ 1: 282 عن عروة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الرباعية
بمنى ركعتين، وإن أبا بكر صلاها بمنى ركعتين، وإن عمر بن الخطاب صلاها بمنى
ركعتين، وإن عثمان صلاها بمنى ركعتين شطر إمارته ثم أتمها بعد
وأخرج النسائي في سننه 3: 120 عن أنس بن مالك أنه قال: صليت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم بمنى ومع أبي بكر وعمر ومع عثمان ركعتين صدرا من إمارته.
وبإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلى عثمان بمنى أربعا حتى بلغ ذلك

(1) صحيح البخاري 2: 154، صحيح مسلم 2: 260، مسند أحمد 2: 148، سنن
البيهقي 3: 126.
98

عبد الله فقال: لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. الحديث.
ورواه إمام الحنابلة أحمد في المسند 1: 378. وأخرج حديث أنس المذكور في
مسنده 1 ص 145 ولفظه: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة بمنى ركعتين وصلاها أبو بكر
بمنى ركعتين، وصلاها عمر بمنى ركعتين، وصلاها عثمان بن عفان بمنى ركعتين أربع
سنين ثم أتمها بعد.
وأخرج الشيخان وغيرهما بالإسناد عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلى عثمان
ابن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ثم
قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر رضي الله عنه بمنى
ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع
ركعات ركعتان متقبلتان (1).
وأخرج أبو داود وغيره عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلى عثمان رضي الله عنه
بمنى أربعا فقال عبد الله: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين،
ومع عمر ركعتين، ومع عثمان صدرا من إمارته ثم أتمها، ثم تفرقت بكم الطرق
فلوددت إن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين. قال الأعمش: فحدثني معاوية بن
قرة عن أشياخه: إن عبد الله صلى أربعا فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعا؟ قال
الخلاف شر (2)
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى 3: 144 عن عبد الرحمن ابن يزيد قال: كنا
مع عبد الله بن مسعود بجمع، فلما دخل مسجد منى فقال: كم صلى أمير المؤمنين؟
قالوا: أربعا. فصلى أربعا. قال: فقلنا: ألم تحدثنا إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين،
وأبا بكر صلى ركعتين؟ فقال: بلى وأنا أحدثكموه الآن، ولكن عثمان كان إماما
فما أخالفه والخلاف شر.
وأخرج البيهقي في السنن 3: 144 عن حميد عن عثمان بن عفان إنه أتم الصلاة

(1) صحيح البخاري 2: 154، صحيح المسلم 1: 261، مسند أحمد 1
(2) سنن أبي داود 1: 308، الآثار للقاضي أبي يوسف ص 30، كتاب الأم للشافعي 1:
159، ج 7: 175.
99

بمنى، ثم خطب الناس فقال: يا أيها الناس إن السنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة
صاحبيه ولكنه حدث العام من الناس فخفت أن يستنوا. وأخرجه ابن عساكر كما في
كنز العمال 4: 239.
وأخرج أبو داود وغيره عن الزهري: إن عثمان بن عفان رضي الله عنه أتم
الصلاة بمنى من أجل الأعراب لأنهم كثروا عامئذ فصلى بالناس أربعا ليعلمهم إن
الصلاة أربعا. (1)
وروى ابن حزم في المحلى 4: 270 من طريق سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد
عن أبيه قال: اعتل عثمان وهو بمنى فأتى علي فقيل له: صلى بالناس فقال: إن شئتم
صليت لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني ركعتين قالوا: لا، إلا صلاة أمير المؤمنين -
يعنون عثمان - أربعا فأبى.
وذكره ابن التركماني في ذيل سنن البيهقي 3: 144.
وأخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده 2: 44 عن عبد الله بن عمر قال: خرجنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يصلي صلاة السفر - يعني ركعتين - ومع أبي بكر وعمر وعثمان
ست سنين من إمرته ثم صلى أربعا.
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى 3: 153 بالإسناد عن أبي نضرة: إن رجلا
سأل عمران بن حصين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فقال: أيت مجلسنا. فقال:
إن هذا قد سألني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فاحفظوها عني: ما سافر رسول
الله صلى الله عليه وسلم سفرا إلا صلى ركعتين حتى يرجع ويقول: يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين
فإنا سفر، وغزا الطائف وحنين فصلى ركعتين، وأتى الجعرانة فاعتمر منها، وحججت
مع أبي بكر رضي الله عنه واعتمرت فكان يصلي ركعتين، ومع عمر بن الخطاب رضي الله
عنه فكان يصلي ركعتين ومع عثمان فصلى ركعتين صدرا من إمارته، ثم صلى عثمان
بمنى أربعا. وفي لفظ الترمذي في الصحيح 1: 71: ومع عثمان ست سنين من خلافته
أو ثمان سنين فصلى ركعتين. فقال: حسن صحيح.

(1) سنن أبي داود 1: 308، سنن البيهقي 3: 144، تيسير الوصول 2: 286، نيل
الأوطار 2: 260.
100

وفي الكنز 4: 240 من طريق الدارقطني عن ابن جريج قال: سأل حميد الضمري
ابن عباس فقال: إني أسافر فاقصر الصلاة في السفر أم أتمها؟ فقال ابن عباس: لست
تقصرها ولكن تمامها وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا لا يخاف
إلا الله فصلى اثنتين حتى رجع، ثم خرج أبو بكر لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين حتى
رجع، ثم خرج عمر آمنا لا يخاف إلا الله فصلى اثنتين حتى رجع، ثم فعل ذلك عثمان
ثلثي إمارته أو شطرها ثم صلاها أربعا، ثم أخذ بها بنوا أمية. قال ابن جريج: فبلغني
إنه أوفى أربعا بمنى فقط من أجل إن أعرابيا ناداه في مسجد الخيف بمنى: يا أمير المؤمنين!
ما زلت أصليها ركعتين منذ رأيتك عام الأول صليتها ركعتين. فخشي عثمان أن يظن
جهال الناس الصلاة ركعتين وإنما كان أوفاها بمنى.
وأخرج أحمد في المسند 4: 94 من طريق عباد بن عبد الله قال: لما قدم علينا معاوية
حاجا صلى بنا الظهر ركعتين بمكة، ثم انصرف إلى دار الندوة فدخل عليه مروان و
عمرو بن عثمان فقالا له: لقد عبت أمر ابن عمك لأنه كان قد أتم الصلاة قال: وكان عثمان
حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعا ثم إذا خرج
إلى منى وعرفة قصر الصلاة فإذا فرغ الحج وأقام بمنى أتم الصلاة. وذكره ابن حجر
في فتح الباري 2: 457، والشوكاني في نيل الأوطار 2: 260.
وروى الطبري في تاريخه وغيره: حج بالناس في سنة 29 عثمان فضرب بمنى
فسطاطا فكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنى، وأتم الصلاة بها وبعرفة، فذكر الواقدي
" بالإسناد " عن ابن عباس قال: إن أول ما تكلم الناس في عثمان ظاهرا إنه صلى بالناس
بمنى في ولايته ركعتين حتى إذا كانت السنة السادسة أتمها، فعاب ذلك غير واحد من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتكلم في ذلك من يريد أن يكثر عليه حتى جاء علي فيمن
جاءه فقال: والله ما حدث أمر ولا قدم عهد ولا عهدت نبيك صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين،
ثم أبا بكر، ثم عمر، وأنت صدرا من ولايتك، فما أدري ما يرجع إليه؟ فقال: رأي رأيته.
وعن عبد الملك بن عمر وبن أبي سفيان الثقفي عن عمه قال: صلى عثمان بالناس
بمنى أربعا فأتى آت عبد الرحمن بن عوف فقال: هل لك في أخيك؟ قد صلى بالناس أربعا،
فصلى عبد الرحمن بأصحابه ركعتين، ثم خرج حتى دخل على عثمان فقال له: ألم تصل
101

في هذا المكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين؟ قال: بلى. قال: ألم تصل مع أبي بكر
ركعتين؟ قال: بلى. قال: ألم تصل مع عمر ركعتين؟ قال: بلى قال: ألم تصل
صدرا من خلافتك ركعتين؟ قال: بلى. قال: فاسمع مني يا أبا محمد إني أخبرت إن
بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي: إن الصلاة للمقيم
ركعتان هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين. وقد اتخذت بمكة أهلا فرأيت أن أصلي
أربعا لخوف ما أخاف على الناس، وأخرى قد اتخذت بها زوجة، ولي بالطائف مال،
فربما أطلعته فأقمت فيه بعد الصدر. فقال عبد الرحمن بن عوف: ما من هذا شئ لك فيه
عذر، أما قولك: اتخذت أهلا. فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت، وتقدم بها إذا
شئت، إنما تسكن بسكناك.
وأما قولك: ولي مال بالطائف. فإن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال وأنت
لست من أهل الطائف.
وأما قولك: يرجع من حج من أهل اليمن وغيرهم فيقولون: هذا إمامكم عثمان
يصلي ركعتين وهو مقيم. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي والناس يومئذ الاسلام
فيهم قليل، ثم أبو بكر مثل ذلك، ثم عمر، فضرب الاسلام بجرانه فصلى بهم عمر حتى
مات ركعتين. فقال عثمان: هذا رأي رأيته.
قال: فخرج عبد الرحمن فلقي ابن مسعود فقال: أبا محمد غير ما يعلم؟ قال: لا
قال: فما أصنع؟ قال: إعمل أنت بما تعلم. فقال ابن مسعود: الخلاف شر، قد بلغني إنه
صلى أربعا فصليت بأصحابي أربعا. فقال عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني إنه صلى أربعا
فصليت بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول، يعني نصلي معه أربعا.
أنساب البلاذري 5: 39، تأريخ الطبري 5: 56، كامل ابن الأثير 3: 42، تاريخ
ابن كثير 7: 154، تاريخ ابن خلدون 2: 386.
(نظرة في رأي الخليفة)
قال الأميني: أنت ترى أن ما ارتكبه الرجل مجرد رأي غير مدعوم ببرهنة
ولا معتضد بكتاب أو سنة، ولم يكن عنده غير ما تترس به من حججه الثلاث التي
دحضها عبد الرحمن بن عوف بأوفى وجه حين أدلى بها، بعد أن أربكه النقد، وكان
102

ذلك منه تشبثا كتشبث الغريق، ومن أمعن النظر فيها لا يشك أنها مما لا يفوه به
ذو مرة في الفقاهة فضلا عن إمام المسلمين، ولو كان مجرد إن زوجته مكية من قواطع
السفر؟ فأي مهاجر من الصحابة ليس كمثله؟ فكان إذن من واجبهم الإتمام، لكن
الشريعة فرضت التقصير على المسافر مطلقا، والزوجة في قبضة الرجل تتبعه في ظعنه و
إقامته، فلا تخرج زوجها عن حكم المسافر لمحض إنه بمقربة من بيئتها الأصلية التي
هاجر عنها وهاجرت.
قال ابن حجر في فتح الباري 2: 456: أخرج أحمد والبيهقي من حديث عثمان
وإنه لما صلى بمنى أربع ركعات، أنكر الناس عليه فقال: إني تأهلت بمكة لما قدمت
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تأهل ببلدة فإنه يصلي صلاة مقيم. قال
هذا الحديث لا يصح منقطع، وفي رواته من لا يحتج به، ويرده إن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يسافر بزوجاته وقصر.
وقال ابن القيم في عد أعذار الخليفة: إنه كان قد تأهل بمنى، والمسافر إذا
أقام في موضع وتزوج فيه، أو كان له به زوجة أتم. ويروى في ذلك حديث مرفوع
عن النبي صلى الله عليه وسلم فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي عن أبي ذئاب عن أبيه قال: صلى
عثمان بأهل منى أربعا وقال: يا أيها الناس لما قدمت تأهلت بها، وإني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم. رواه الإمام أحمد
رحمه الله في مسنده (1: 62)، وعبد الله بن زبير الحميدي في مسنده أيضا، وقد أعله
البيهقي بانقطاعه، وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم، قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن
المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه، وعادته ذكر
الجرح والمجروحين، وقد نص أحمد وابن عباس قبله: إن المسافر إذا تزوج لزمه
الإتمام، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، ومالك وأصحابهما، وهذا أحسن ما اعتذر
به عن عثمان. ا ه‍.
قال الأميني: لو كان عثمان لهج بهذه المزعمة في وقته على رؤس الاشهاد، وكان من
المسلم في الاسلام إن التزويج من قواطع السفر - وليس كذلك - لما بقيت كلمة مطوية تحت
أستار الخفاء حتى يكتشفها هذا الأثري المتمحل، أو يختلقها له رماة القول على عواهنه.
103

ثم لأي شئ كانت والحالة هذه نقود الصحابة الموجهة إلى الرجل؟ أولم يسمعوه
لما رفع عقيرته بعذره الموجه؟ أو سمعوه ولم يقيموا له وزنا؟ أو أن الخطاب من ولائد
أم الفرية بعد منصرم أيامه؟
على أن النكاح لا يتم عند القوم إلا بشاهدين عدلين، وورد عن ابن عباس: لا
نكاح إلا بأربعة: ولي، وشاهدين، وخاطب (1)، فأين كان أركان نكاح الخليفة يوم
توجيه النقود إليه؟ حتى يدافعون عنه تلك الجلبة واللغط.
ومتى تأهل الرجل بهذه المرأة الموهومة قاطعة السفر له؟ وما المسوغ له
ذلك وقد دخل مكة محرما؟ وكيف يشيع المنكر ويقول: تأهلت بمكة مذ قدمت؟
ولم يكن متمتعا بالعمرة - لأنه لم يكن يبيح ذلك أخذا برأي من حرمها كما يأتي
تفصيله - حتى يقال: إنه تأهل بين الاحرامين بعد قضاء نسك العمرة، فهو لم يزل كان
محرما من مسجد الشجرة حتى أحل بعد تمام النسك بمنى، فيجب أن يكون إتمامه
الصلاة إن صح الإتمام بالتأهل؟ وأنى؟ من حيث أحل وتأهل، وقد صلاها تامة
بمنى أيام منى وبعرفات أيضا محرما مع الحاج، فهذه مشكلة أخرى قط لا تنحل لما
صح من طريق عثمان نفسه عن رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله: لا ينكح المحرم ولا ينكح
ولا يخطب. (2)
وعن مولانا أمير المؤمنين قال: لا يجوز نكاح المحرم، إن نكح نزعنا منه امرأته. (3)
قال ابن حزم في المحلي 7: 197: مسألة: لا يحل لرجل ولا لامرأة أن يتزوج
أو تتزوج، ولا أن يزوج الرجل غيره من وليته، ولا أن يخطب خطبة نكاح مذ يحرمان
إلى أن تطلع الشمس من يوم النحر، ويدخل وقت رمي جمرة العقبة، ويفسخ النكاح
قبل الوقت المذكور، كان فيه دخول وطول مدة وولادة أولم يكن، فإذا دخل الوقت

(1) سنن البيهقي 7: 124 127، 142.
(2) الموطأ لمالك 1: 321، وفي ط: 254 الأم للشافعي 5: 160، مسند أحمد 1: 57،
64، 65، 68، 73، صحيح مسلم 1: 935، سنن الدارمي 2: 38، سنن أبي داود 1: 290،
سنن أبي ماجة 1: 606، سنن النسائي 5: 192، سنن البيهقي 5: 65، 66.
(3) المحلى لابن حزم 7: 199.
104

المذكور حل لهما النكاح والانكاح. ثم ذكر دليل الحكم فقال:
فإن نكح المحرم أو المحرمة فسخ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عمل عملا ليس
عليه أمرنا فهو رد. وكذلك إن أنكح من لا نكاح لها إلا بإنكاحه فهو نكاح مفسوخ
لما ذكرنا، ولفساد الانكاح الذي لا يصح النكاح إلا به، ولا صحة لما لا يصح، إلا
بما يصح، وأما الخطبة فإن خطب فهو عاص ولا يفسد النكاح لأن الخطبة لا متعلق
لها بالنكاح، وقد يخطب ولا يتم النكاح إذا رد الخطاب، وقد يتم النكاح بلا خطبة
أصلا، لكن بأن يقول لها: أنكحيني نفسك فتقول: نعم قد فعلت. ويقول هو: قد
رضيت، ويأذن الولي في ذلك. ثم بسط القول في رد من زعم جواز نكاح المحرم بأحسن
بيان. فراجع. وللإمام الشافعي في كتابه الأم كلمة حول نكاح المحرم ضافية لدة هذه
راجع ج 5: 160.
وليتني أدري بأي كتاب أم بأية سنة قال أبو حنيفة ومالك ونص أحمد - كما
زعمه ابن القيم -: على أن المسافر إذا تزوج ببلدة لزمه الإتمام بها؟ وسنة رسول الله
الثابتة عنه صلى الله عليه وآله خلافه، وكان المهاجرون كلهم يقتصرون بمكة، وهي قاعدة أزواجهم
كما سمعت، وليس مستند القوم إلا رواية عكرمة بن إبراهيم التي أعلها البيهقي،
وقد مر عن ابن حجر أنها لا تصح. وقال يحيى وأبو داود: عكرمة ليس بشئ. و
قال النسائي: ضعيف ليس بثقة. وقال العقيلي: في حديثه اضطراب. وقال ابن حبان
كان ممن يقلب الأخبار، ويرفع المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به، وقال يعقوب:
منكر الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي، وذكره ابن الجارود وابن شاهين
في الضعفاء. (1)
نعم راق أولئك الأئمة التحفظ على كرامة الخليفة ولو بالافتاء بغير ما أنزل الله،
وكم له من نظير؟ ونوقفك في الأجزاء الآتية على شطر مهم من الفتاوى الشاذة عن
الكتاب والسنة عند البحث عنها، والعجب كل العجب عد ابن القيم هذا العذر المفتعل
أحسن ما اعتذر به عن عثمان، وهو مكتنف بكل ما ذكرناه من النقود والعلل، هذا
شأن أحسن ما اعتذر به فما ظنك بغيره؟.

(1) لسان الميزان 4: 182.
105

وأما وجود مال له بالطائف فالرجل مكي قد هاجر عنها لا طائفي، وبينه وبين
الطائف عدة مراحل، هب أن له مالا بمكة أو بنفس منى وعرفة اللتين أتم فيهما
الصلاة، فإن مجرد المال في مكان ليس يقطع السفر ما لم يجمع الرجل مكثا، وقد
قصر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله معه عام الفتح، وفي حجة أبي بكر ولعدد منهم بمكة دار أو
أكثر وقرابات. كما رواه الشافعي، قال في كتاب الأم 1: 165: قد قصر أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم معه عام الفتح، وفي حجته، وفي حجة أبي بكر، ولعدد منهم بمكة دار أو
أكثر وقرابات: منهم أبو بكر له بمكة دار وقرابة، وعمر له بمكة دور كثيرة، و
عثمان له بمكة دار وقرابة، فلم أعلم منهم أحدا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاتمام، ولا
أتم ولا أتموا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدومهم مكة، بل حفظ عمن حفظ عنه منهم
القصر بها. وذكره البيهقي في السنن 3: 153.
وأما الخيفة ممن حج من أهل اليمن وجفاة الناس الذين لم يتمرنوا بالأحكام
أن يقولوا: إن الصلاة لمقيم ركعتان هذا إمام المسلمين يصليها كذلك. فقد كانت أولى
بالرعاية على العهد النبوي والناس حديثوا عهد بالاسلام، ولم تطرق جملة من الأحكام
أسماعهم، وكذلك على العهدين قبله، لكن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يرعها بعد بيان حكمي
الحاضر والمسافر، وكذلك من اقتص أثره من بعده، ولقد صلى صلى الله عليه وآله بمكة ركعتين
أيام إقامته بها ثم قال: أتموا الصلاة يا أهل مكة! فإنا سفر. أو قال: يا أهل البلد صلوا
أربعا فإنا سفر (1). فأزال صلى الله عليه وآله ما حاذره الخليفة في تعليله المنحوت بعد الوقوع، فهلا
كان منه اقتصاص لأثر النبي صلى الله عليه وآله؟ فيما لم يزل دائبا عليه في أسفاره، فهلا اقتص أثره
مع ذلك البيان الأوفى؟ ولم يكن على الأفواه أوكية، ولا على الآذان صمم، وهل
الواجب تعليم الجاهل؟ أو تغيير الحكم الثابت من جراء جهله؟:
على أن الخليفة إن أراد أن ينقذ الهمج من الجهل بتشريع الصلاة أربعا فقد ألقاهم
في الجهل بحكم صلاة المسافر، فكان تعليمه العملي إغراء بالجهل، وواجب التعليم هو
الاستمرار على ما ثبت في الشريعة مع البيان، كما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله في مكة كما مر

(1) سنن البيهقي 3: 136، 157، سنن أبي داود 1: 191، أحكام القرآن للجصاص 2:
310.
106

وكان عمر إذا قدم مكة صلى لهم ركعتين ثم يقول: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا
قوم سفر، وروى البيهقي عن أبي بكر مثل ذلك. " سنن البيهقي 3: 126، 157، المحلى
لابن حزم 5: 18، موطأ مالك 1: 126 ".
هذه حجج الخليفة التي أدلى بها يوم ضايقه عبد الرحمن بن عوف لكنها عادت
عنده مدحورة، وقد أربكه عبد الرحمن بنقد ما جاء به فلم يبق عنده إلا أن يقول: هذا
رأي رأيته، كما أن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لما دخل عليه وخصمه بحجاجه فقال: والله
ما حدث أمر ولا قدم عهد. الخ. وعجز الرجل عن جوابه فقال: رأي رأيته.
هذا منقطع معاذير عثمان في تبرير أحدوثته فلم يبق له ارتحاضه إلا قوله:
رأي رأيته، لكن للرجل من بعده أنصارا اصطنعوا له أعذارا أخرى هي أو هن من بيت
العنكبوت، ولم يهتد إليها نفس الخليفة حتى يغبر بها في وجه منتقديه، ولكن كم ترك
الأول للآخر، منها:
1 - إن منى كانت قد بنيت وصارت قرية، كثر فيها المساكن في عهده ولم يكن
ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله بل كانت فضاء ولهذا قيل له: يا رسول الله! ألا تبني لك بمنى
بيتا يظلك من الحر؟ فقال: لا، منى مناخ من سبق، فتأول عثمان إن القصر إنما في
حال السفر (1).
أنا لا أدري ما صلة كثرة المساكن وصيرورة المحل قرية بحكم القصر والاتمام؟
وهل السفر يتحقق بالمفاوز والفلوات دون القرى والمدن حتى إذا لم ينو فيها الإقامة؟
إن هذا الحكم عجاب، وهذه فتوى من لا يعرف مغزى الشريعة، ولا ملاك تحقق السفر
والحضر المستتبعين للقصر والاتمام، على أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى أيام إقامته بمكة
قصرا وكذلك في خيبر، وكانت مكة أم القرى، وفي خيبر قلاع وحصون مشيدة و
قرى ورساتيق، وكذلك كان يفعل في أسفاره، وكان يمر بها على قرية ويهبط أخرى
على أن صيرورة المحل قرية لم تكن مفاجأة منها وإنما عادت كذلك بالتدريج،
ففي أي حد منها كان يلزم الخليفة تغيير الحكم؟ وعلى أي حد غير؟ أنا لا أدري.
2 - إنه أقام بها ثلاثا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة

(1) ذكره ابن القيم في زاد المعاد هامش شرح المواهب للزرقاني 2: 24 وفنده بقول موجز.
107

ثلاثا فسماه مقيما والمقيم غير المسافر (1) وفي لفظ مسلم: يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء
نسكه ثلاثا. وفي لفظ البخاري: للمهاجر إقامة ثلاث بعد الصدر بمكة. ا ه‍ (2)
إن ملاك قطع السفر ليس صدق لفظ الإقامة، فليست المسألة لغوية وإنما هي
شرعية، وقد أناطت السنة الشريفة الإتمام في السفر بإقامة محدودة ليس في ما دونها إلا التقصير في الصلاة، وليس لمكة حكم خاص يعدل به عما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله،
والمراد من الإقامة فيما تشبث به ناحت المعذرة هو المكث للمهاجر بمكة لما لهم بها
من سوابق وعلائق وقرابات، لا الإقامة الشرعية التي هي موضوع حكم الإتمام،
وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة عشرا كما في الصحيحين (3) أو أكثر منها كما في
غيرهما (4) ولم يزد على التقصير في الصلاة فقصر المكث بمكة ثلاثا على المهاجر دون
غيرهما من الوافدين إلى مكة، وعلى مكة دون غيرها كما هو صريح تلكم الألفاظ
المذكورة يعرب عن إرادة المعنى المذكور، ولا يسع لفقيه أن يرى الإقامة ثلاثا بمكة
خاصة من قواطع السفر للمهاجر فحسب، وقد أعرض عن استيطانها بالهجرة، ولم يتم
رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع بمكة وقد أقام بها أكثر من ثلاثة أيام بلغ عشرا أو
لم يبلغ أو زاد عليها.
على أن الشافعي ومالكا وأصحابهما وآخرين احتجوا بالألفاظ المذكورة
على استثناء مكث المهاجر بمكة ثلاثا من الإقامة المكروهة لهم بها، قالوا: كره رسول
الله للمهاجرين الإقامة بمكة التي كانت أوطانهم فأخرجوا عنها، ثم أباح لهم المقام بها ثلاثا
بعد تمام النسك. وقال ابن حزم: إن المسافر مباح له أن يقيم ثلاثا وأكثر من ثلاث
لا كراهة في شئ من ذلك، وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر
من ثلاث (5) فأين هذا الحكم الخاص بمكة للمهاجر فحسب من الإقامة القاطعة للسفر؟.

(1) هذا الوجه ذكره ابن القيم في زاد المعاد هامش شرح المواهب 2: 24 ونقده بكلام
وجيز.
(2) ألفاظ هذا الحديث مذكورة في تاريخ الخطيب 6، 267 - 270.
(3) صحيح البخاري 2: 153، صحيح مسلم 1: 260.
(4) المحلى لابن حزم 5: 27.
(5) المحلى لابن حزم 5: 24.
108

ثم كان هذا عذر الرجل لكان عليه أن يتم بمكة لا بمنى وعرفة وقد أتم بهما.
3 - إنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى واتخاذها دار الخلافة فلهذا
أتم ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة. ا ه‍.
كأن هذا المتأول استشف عالم الغيب من وراء ستر رقيق ولا يعلم الغيب إلا الله،
إن مثل هذه العزيمة وفسخها مما لا يعلم إلا من قبل صاحبها، أو من يخبره بها هو،
وقد علمت إن الخليفة لما ضويق بالنقد لم يعد ذلك من معاذيره، وإلا لكانت له فيه
منتدح، وكان خيرا له من تحشيد التافهات، لكن كشف ذلك لصاحب المزعمة بعد لأي
من عمر الدهر فحيا الله الكشف والشهود.
وكان من المستصعب جدا والبعيد غايته تغيير العاصمة الإسلامية والتعريجة
على التعرب بعد الهجرة من دون استشارة أخذ من أكابر الصحابة، وإلغاء مقدمات
تستوعب برهة طويلة من الزمن كأبسط أمر ينعقد بمحض النية ويفسخ بمثلها.
وقال ابن حجر في الفتح 2: 457، والشوكاني في نيل الأوطار 3: 260: روى
عبد الرزاق عن عمر عن الزهري عن عثمان: إنما أتم الصلاة لأنه نوى الإقامة بعد الحج
وأجيب بأنه مرسل، وفيه أيضا نظر لأن الإقامة بمكة على المهاجرين حرام وقد
صح عن عثمان إنه كان لا يودع البيت إلا على ظهر راحلته، ويسرع الخروج خشية
أن يرجع في هجرته، وثبت أنه قال له المغيرة لما حاصروه: اركب رواحلك إلى مكة
فقال: لن أفارق دار هجرتي. ا ه‍.
ولابن القيم في زاد المعاد 2: 25 وجه آخر في دحض هذه الشبهة. فراجع.
4 - إنه كان إماما للناس والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته، فكأنه وطنه
قال الأميني: إن ملاك حكم الشريعة هو المقرر من قبل الدين لا الاعتبارات
المنحوتة، والإمام والسوقة شرع سواء في شمول الأحكام، بل هو أولى بالاتباع
لنواميس الدين حتى يكون قدوة للناس وتكون به أسوتهم، وهو وإن سرت ولايته
وعمله مع مسير نفوذه في البلاد أو في العالم كله إلا أن التكليف الشرعي غير منوط
بهذا السير، بل هو مرتبط بتحقق الموازين الشرعية، فإن أقام في محل جاءه حكم
الإقامة، وإن لم ينو الإقامة فهو على حكم السفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إمام الخلائق
109

على الإطلاق، ومع ذلك كان يقصر صلاته في أسفاره، ولا يعزى إليه إنه ربع بمكة
أو في منى أو بعرفة أو بغيرها، وإنما اتبع ما استنه للأمة جمعاء وبهذا رده ابن القيم
في زاد المعاد، وابن حجر في فتح الباري 2: 456.
أضف إليه هتاف النبي الأعظم وأبي بكر وعمر بن الخطاب بما مر ص 107 من
قولهم: أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا قوم سفر. فإنه يعرب عن إن حكم القصر
والاتمام يعم الصادع الكريم ومن أشغل منصة الخلافة بعده.
على إنه لو كان تربيع الرجل من هذه الناحية لوجب عليه أن يهتف بين الناس
بأن ذلك لمقام الإمامة فحسب، وأما من ليس له ذلك المقام فحكمه التقصير، وإلا
لكان إغراء بالجهل بعمله، وإبطالا لصلاتهم بترك البيان، فإذ لم يهتف بذلك ولم يعلل
عمله به جوابا لمنقديه علمنا إنه لم يرد ذلك، وإن من تابعه من الصحابة لم يعللوا عمله
بهذا التعليل، وإنما تابعوه دفعا لشر الخلاف كما مر في صفحة 99، 102 وهذا ينبئ عن
عدم صحة عمله عندهم.
ويشبه هذا التشبث في السقوط ما نحتوه لأم المؤمنين عائشة في تربيعها الصلاة
في السفر بأنها كانت أم المؤمنين فحيث نزلت فكان وطنها كما ذكره ابن القيم في زاد
معاده 2: 26، فإن كان لأم المؤمنين هذا الحكم الخاص؟ وجب أن تكون أمومتها منتزعة
من أبوة رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن ثبوت الحكم في الأصل أولى من الفرع، لكن رسول
الله كان يصلي في أسفاره عامة ركعتين، وليس من الهين تغيير حكم الله بأمثال هذه
السفاسف، ولا من السهل نحت العذر لكل من يخالف حكما من أحكام الدين لرأي
ارتآه، أو غلط وقع فيه، أو لسياسة وقتية حدته إليه، ولا ينقضي عجبي من العلماء الذين
راقتهم أمثال هذه التافهات فدونوها في الكتب، وتركوها أساطير من بعدهم يهزأ بها.
5 - إن التقصير للمسافر رخصة لا عزيمة، ذكره جمع، وقال المحب الطبري
في الرياض 2: 151: عذره في ذلك ظاهر، فإنه ممن لم يوجب القصر في السفر. وتبعه
في ذلك شراح صحيح البخاري، وهذا مخالف لنصوص الشريعة، والمأثورات النبوية،
والسنة الشريفة الثابتة عن النبي الأقدس، وكلمات الصحابة، وإليك نماذج منها:
1 - عن عمر: صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان تمام غير
110

قصر على لسان محمد. وفي لفظ: على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
مسند أحمد 1: 37، سنن ابن ماجة 1: 329، سنن النسائي 3: 118، سنن
البيهقي 3: 199، أحكام القرآن للجصاص 2: 308، 309، المحلى لابن حزم 4:
265، زاد المعاد هامش شرح المواهب 2: ص 21 فقال: ثابت عن عمر.
2 - عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب قلت: ليس عليكم جناح أن
تقصروا من الصلاة الآية. وقد أمن الناس؟ فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.
صحيح مسلم 1: 191، 192، سنن أبي داود 1: 187، سنن ابن ماجة 1:
329، سنن النسائي 3: 116، سنن البيهقي 3: 134، 141، أحكام القرآن للجصاص
2: 308، المحلى لابن حزم 4: 267.
3 - عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من هذه المدينة لم يزد
على ركعتين حتى يرجع إليها. وفي لفظ: صحبت رسول الله فكان لا يزيد في السفر على
الركعتين. الحديث.
مسند أحمد 2: 45، سنن ابن ماجة 1: 330، سنن النسائي 3: 123، أحكام
القرآن للجصاص 2: 310، زاد المعاد هامش شرح المواهب للزرقاني 2: 29 وصححه.
4 - عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا و
في السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.
وفي لفظ مسلم: إن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على
المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعا.
صحيح مسلم 1: 258، مسند أحمد 1: 355، سنن ابن ماجة 1: 330، سنن
النسائي 3: 119، سنن البيهقي 3، 135، أحكام القرآن للجصاص 2: 307، 310،
المحلى لابن حزم 4: 271 فقال: ورويناه أيضا من طريق حذيفة، وجابر، وزيد بن
ثابت، وأبي هريرة، وابن عمر كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد في غاية الصحة. تفسير
القرطبي 5: 352، تفسير ابن جزي 1: 155، زاد المعاد لابن القيم هامش شرح الزرقاني
2: 221، مجمع الزوائد 2: 154 من طريق أبي هريرة.
111

5 - عن عائشة قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت
صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.
وفي لفظ ابن حزم من طريق البخاري: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول
الله صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الأولى.
وفي لفظ أحمد: كان أول ما افترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتان ركعتان
إلا المغرب فإنها كانت ثلاثة ثم أتم الله الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا في الحضر
وأقر الصلاة على فرضها الأول في السفر.
راجع صحيح البخاري 1: 159، ج 2: 105، ج 5: 172، صحيح مسلم 1:
257، موطأ مالك 1: 124، سنن أبي داود 1: 187، كتاب الأم للشافعي 1: 159،
أحكام القرآن للجصاص 2: 310، سنن البيهقي 3: 135، المحلى 4: 265، زاد المعاد
2: 21، تفسير القرطبي 5: 352، 358.
6 - عن موسى بن مسلمة قال قلت لابن عباس: كيف أصلي بمكة إذا لم أصل في
جماعة؟ قال: ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. مسند أحمد 1: 290، 337، صحيح
مسلم 1: 258، سنن النسائي 3: 119.
7 - عن أبي حنظلة قال: سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال: ركعتان
سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ البيهقي: قصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مسند أحمد 2: 57، سنن البيهقي 3: 136.
8 عن عبد الله ابن عمر قال: الصلاة في السفر ركعتان من خالف السنة فقد كفر.
سنن البيهقي 3: 140، المحلي لابن حزم 4: 270، أحكام القرآن للجصاص
2: 310، المعجم الكبير للطبراني كما في مجمع الزوائد 2: 155 وقال: رجاله رجال
الصحيح.
9 عن ابن عباس قال: من صلى في السفر أربعا كمن صلى في الحضر ركعتين.
مسند أحمد 1: 349، المحلي 4: 270.
10 عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرا صلى ركعتين
حتى يرجع. وفي لفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لم يزد على ركعتين حتى يرجع.
112

مسند أحمد 1: 285، 356، أحكام القرآن للجصاص 2: 309.
11 عن عمران بن حصين قال: ما سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا قط إلا
صلى ركعتين حتى يرجع، وحججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يصلي ركعتين حتى
يرجع إلى المدينة، وأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين وقال لأهل مكة:
صلوا أربعا فإنا قوم سفر.
راجع سنن البيهقي 3: 135، أحكام القرآن للجصاص 2: 310.
وعن عمران في لفظ آخر: ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صلى ركعتين إلا
المغرب. أخرجه أبو داود وأحمد كما في مجمع الزوائد 2: 155.
12 عن عمر بن خطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة المسافر ركعتان حتى
يؤب إلى أهله أو يموت. " أحكام القرآن للجصاص 2: 310 ".
13 عن إبراهيم: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى الظهر بمكة ركعتين
فلما انصرف قال: يا أهل مكة! إنا قوم سفر، فمن كان منكم من أهل البلد فليكمل.
فأكمل أهل البلد.
الآثار للقاضي أبي يوسف ص 30، 75، وراجع ما مر صفحة 107 من هذا الجزء.
14 عن أنس بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة
فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة.
صحيح البخاري 2: 153، صحيح مسلم 1: 260، مسند أحمد 3: 190، سنن
البيهقي 3: 136، 145.
15 عن عبد الله بن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا ونحن في ضلال فعلمنا،
فكان فيما علمنا: أن الله عز وجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر.
أخرجه النسائي كما مر في تفسير الخازن 1: 412، ونيل الأوطار 3: 250.
16 عن أبي الكنود عبد الله الأزدي قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال:
ركعتان نزلتا من السماء، فإن شئتم فردوهما.
أخرجه الطبراني في الصغير كما في مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي 2: 145
فقال: رجاله موثقون.
الغدير 9
113

17 - عن السائب بن يزيد الكندي قال: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم زيد
في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 155: رواه الطبري في الكبير ورجاله رجال
الصحيح.
18 - عن ابن مسعود قال: من صلى في السفر أربعا أعاد الصلاة.
أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد 2: 155.
19 - عن حفص بن عمر قال: انطلق بنا أنس بن مالك إلى الشام إلى عبد الملك و
نحن أربعون رجلا من الأنصار ليفرض لنا فلما رجع وكنا بفج الناقة صلى بنا الظهر
ركعتين ثم دخل فسطاطه، وقام القوم يضيفون إلى ركعتيهم ركعتين أخريين فقال: قبح
الله الوجوه، فوالله ما أصابت السنة ولا قبلت الرخصة فاشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: إن قوما يتعمقون في الدين يمرقون كما يمرق السهم من الرمية.
أخرجه أحمد في المسند 3: 159، وذكره الهيثمي في المجمع 2: 155.
20 - عن سلمان قال: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمكة حتى قدم المدينة وصلاها بالمدينة ما شاء الله، وزيد في صلاة الحضر ركعتين و
تركت الصلاة في السفر على حالها.
رواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد 2: 156.
21 - عن ثمامة بن شراحيل قال: خرجت إلى ابن عمر فقلت: ما صلاة المسافر؟
قال: ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثا. قلت: أرأيت إن كنا بذي المجاز؟ قال: ما
ذو المجاز؟ قلت: مكان نجتمع فيه ونبيع فيه ونمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة.
فقال: يا أيها الرجل كنت بآذربيجان لا أدري قال: أربعة أشهر أو شهرين، فرأيتهم
يصلونها ركعتين ركعتين، ورأيت نبي الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني يصليها ركعتين، ثم نزع إلي
بهذه الآية: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
أخرجه أحمد في المسند 2: 154.
22 - أخرج أحمد في المسند 2: 400 من طريق أبي هريرة قال: أيها الناس إن الله
عز وجل فرض لكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين.
114

23 - عن عمر بن عبد العزيز قال: الصلاة في السفر ركعتان حتمان لا يصح
غيرهما. ذكره ابن حزم في المحلى 4: 271.
وذهب عمر وابنه، وابن عباس، وجابر، وجبير بن مطعم، والحسن، والقاضي
إسماعيل، وحماد بن أبي سليمان، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة والكوفيون إلى أن
القصر واجب في السفر كما في تفسير القرطبي 5: 351، وتفسير الخازن 1: 413.
أترى مع هذه الأحاديث مجالا للقول بأن القصر في السفر رخصة لا عزيمة؟ و
لو كان يسوغ الإتمام في السفر لكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرب عنه بقول أو بفعل ولو بإتيانه في
العمر مرة لبيان جوازه كما كان يفعل في غير هذا المورد. أخرج مسلم في صحيحه (1)
من حديث بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح
صلى صلوات بوضوء واحد فقال له عمر: إنك صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال: عمدا
صنعته يا عمر!. قال الشوكاني في نيل الأوطار 1: 258 بعد ذكر الحديث: أي لبيان الجواز
وأخرج أحمد وأبو يعلى عن عائشة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال فقام عمر
خلفه بكوز فقال: ما هذا يا عمر؟ فقال: ماء تتوضأ به يا رسول الله!. قال: ما أمرت كلما
بلت أن أتوضأ ولو فعلت كانت سنة " مجمع الزوائد 1: 241 " وكم للحديثين من نظير
في أبواب الفقه؟.
ولو كان هناك ترخيص لما خفي على أكابر الصحابة حتى نقدوا عثمان نقدا مرا
وفندوا معاذيره وفيهم مولانا أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو باب مدينة علم النبي، ومستقى
أحكام الدين من بعده، يعرف رخصها من عزائمها قبل كل الصحابة، فهل يعزب
عنه حكم الصلاة وهو أول من صلى من ذكر مع رسول الله صلى الله عليه وآله.
حتى إن الخليفة نفسه لم يفه بهذا العذر البارد، ولو كان يعرف شيئا مما قالوه
لما أرجأ بيانه إلى هؤلاء المدافعين عنه، ولما كان في منصرم معاذيره بعد أن أعوزته:
إنه رأي رآه، ولما كان تابعه على ذلك من تابعه محتجا بدفع شر الخلاف فحسب من
دون أي تنويه بمسألة الرخصة.
وأنت تعرف بعد هذه الأحاديث قيمة قول المحب الطبري في رياضه النضرة 2:

(1) الجزء الأول صفحة 122.
115

151: إنها مسألة اجتهادية ولذلك اختلف فيها العلماء فقوله - يعني عثمان - فيها لا
يوجب تفكيرا ولا تفسيقا. ا ه‍.
خفي على المغفل إن الاجتهاد في تجاه النص لا مساغ له، وإن المسألة لم
يكن فيها خلاف إلى يوم أحدوثة عثمان بل كانت السنة الثابتة عند جميع الصحابة بقول
واحد وجوب القصر للمسافر، وما كان عمل الخليفة إلا مجرد رأي رآه خلاف سنة
أبي القاسم صلى الله عليه وآله ويعرب عن جلية الحال صحيح أحمد الآتي في ترجمة مروان وفيه:
إن معاوية لما قدم مكة صلى الظهر قصرا فنهض إليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا له: ما
عاب أحد ابن عمك ما عبته به فقال لهما: وما ذاك؟ فقالا له: ألم تعلم إنه أتم الصلاة
بمكة؟ قال لهما: ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومع أبي بكر وعمر. قالا: فإن ابن عمك قد أتمها وإن خلافك إياه له عيب، فخرج
معاوية إلى العصر فصلاها أربعا. واختلاف العلماء بعد قط لا قيمة له ويضرب به على
عرض الجدار بعد ثبوت السنة، وليس إلا لتبرير ساحة الرجل، وأنى؟ بل عمله يدنس
ذيل كل مبرر، وأما عدم إيجاب القول بالاتمام للمسافر الكفر أو الفسق وإيجابه ذلك
فالمرجع فيه حديث الثامن المذكور ص 112 من صحيحة عبد الله بن عمر قال: الصلاة
في السفر ركعتان من خالف فقد كفر.
(الدين عند السلف سياسة وقتية)
تعطينا هذه الروايات الواردة في صلاة الخليفة درسا ضافيا صافقه الاستقراء لكثير
من الموارد إن كثيرين من الصحابة ما كان يحجزهم الدين عن مخالفة التعاليم المقررة
وكانوا يقدمون عليها سياسة الوقت، وإلا فلا وجه لتربيعهم الصلاة وهم يرون أن المشروع
خلافه لمحض إن الخلاف شر، وهم أو من ناضل عنهم وحكم بعدالتهم أجمع لا يرون
جواز التقية، فعبد الله بن عمر يتبع الخليفة في أحدوثته، وكان يتم إذا صلى مع
الإمام، وإذا صلى وحده صلى ركعتين، وفي لسانه قوله: الصلاة في السفر ركعتان من
خالف السنة فقد كفر (1) وبمسمع منه قوله صلى الله عليه وآله: إن الله لا يقبل عمل امرء حتى يتقنه.

(1) راجع صفحة 112 من هذا الجزء.
116

قيل: وما اتقانه؟ قال: يخلصه من الرياء والبدعة (1). وقوله صلى الله عليه وآله: من عمل عملا ليس
عليه أمرنا فهو رد. (2)
وهذا عبد الله بن مسعود يرى السنة في السفر ركعتين، ويحدث بها ثم يتم
معتذرا بأن عثمان كان إماما فما أخالفه والخلاف شر كما مر في ص 99.
وهذا عبد الرحمن بن عوف كان لم ير للخليفة عذرا فيما أتى به من إتمام الصلاة
في السفر، ويقول له مجيبا عن أعذاره: ما هذا شئ لك فيه عذر. ويسمع منه قوله:
إنه رأي رأيته. خلافا للسنة الثابتة، ومع ذلك كله يصلي أربعا بعد ما سمع من ابن
مسعود بأن الخلاف شر (3) لماذا كانت مخالفة عثمان شرا، ولم تكن مخالفته ومخالفتهم
على ناموس الشريعة ونبيها شرا؟ دعني واسأل الصحابة الأولين.
وهذا علي أمير المؤمنين المقتص الوحيد أثر النبي الأعظم يؤتى به للصلاة -
كما مر في ص 100 - فيقول: إن شئتم صليت لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " ركعتين "
فيقال له: لا إلا صلاة أمير المؤمنين عثمان أربعا. فيأبى ولا يبالون.
نعم: لم تكن الأحكام عند أولئك الخلفاء الذين أدخلوا آراءهم الشاذة في دين
الله والذين اتبعوهم إلا سياسة وقتية يدور بها الأمر والنهي، ويتغير بتغيرها الآراء
حينا بعد حين، فترى الأول منهم يقول على رؤوس الاشهاد: لئن أخذتموني بسنة
نبيكم لا أطيقها. وقد جاء النبي الأعظم بسنة سهلة سمحة. ويقول: إني أقول
برأيي إن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان " راجع الجزء
السابع 104، 118، 119، ط 2 ".
ويأتي بعده من يفتي بترك الصلاة للجنب الفاقد للماء ولا يبالي، وقد علمه
النبي الأعظم التيمم فضلا عما في الكتاب والسنة. راجع ج 6: 83 ط 2.
وكان لم يقرأ بفاتحة الكتاب في الركعة الأولى، ويكررها في الثانية تارة، و
أخرى لم يقرأها في ركعاتها، ويقتصر على حسن الركوع والسجود، وطورا يتركها و
لم يقرأ شيئا ثم يعيد. راجع ج 6: 108 ط 2.

(1) بهجة النفوس للحافظ ابن أبي جمرة الأزدي الأندلسي 4: 160.
(2) المحلى 7: 197.
(3) راجع من هذا الجزء ص 99.
117

وكان ينهى عن التطوع بالصلاة بعد العصر، ويضرب بالدرة من تنفل بها،
والناس يخبره بأنه سنة محمد صلى الله عليه وآله، وهو لا يصيخ إلى ذلك، كما مر في الجزء
ال‍ 6: 184 ط 2.
وتراه يحكم في الجد بمائة قضية كلها ينقض بعضها بعضا، كما مر حديثه في
الجزء ال‍ 6 ص 116 ط 2.
وثبت عنه قوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنهما، وأعاقب
عليهما. كما فصلناه في ج 6: 210 ط 2.
وجاء عنه قوله: أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهن و
أحرمهن وأعاقب عليهن: متعة النساء. ومتعة الحج. وحي على خير العمل. راجع
الجزء ال‍ 6: 213 ط 2.
إلى قضايا أخرى لدة هذه أسلفناها في الجزء السادس في " نوادر الأثر في علم عمر "
وهذا عثمان يخالف السنة الثابتة في مثل الصلاة عماد الدين ويعتذر بقوله: إنه
رأي رأيته.
ويحدث أذانا بعد الأذان والإقامة، ويتخذه الملأ الاسلامي سنة في
الحواضر الإسلامية.
وينهى عليا أمير المؤمنين عن متعة الحج، وهو يسمع منه قوله: لم أكن لأدع
سنة رسول الله لقول أحد من الناس.
ويأخذ الزكاة من الخيل، وقد عفى الله عنها بلسان نبيه الأقدس.
ويقدم الخطبة على الصلاة في العيدين خلاف السنة المسلمة.
ويترك القراءة في الأوليين، ويقضيها في الأخريين.
ويرى في عدة المختلعة ما يخالف السنة المتسالم عليها، واتخذ في الأموال
والصدقات سيرة دون ما قرره الكتاب والسنة، إلى كثير من الآراء الشاذة عن مقررات
الاسلام المقدس، وسيوافيك تفصيلها.
وهذا معاوية، وما أدراك ما معاوية،؟! يتبع أثر النبي الأعظم في صلاة ظهره
فيأتيه مروان وابن عثمان فيزحزحانه عن هديه فيخالف السنة الثابتة - باعتراف منه
118

في صلاة عصره، اتباعا لسياسة الوقت، وإحياء لبدعة ابن عمه، وإماتة لشرعة المصطفى،
تزلفها إلى مثل مروان وابن عثمان.
وتراه يحكم بجواز الجمع بين الأختين المملوكتين، ويعترض عليه الناس فلا
يبالي (1).
ويحلل الربا، وفي كتاب الله العزيز: " أحل الله البيع وحرم الربا " فأخبره
أبو الدرداء إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع باعه، فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسا، فقال
أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية، أخبره عن رسول الله، ويخبرني عن رأيه. لا أساكنك
بأرض، فخرج من ولاية معاوية. اختلاف الحديث للشافعي هامش كتابه الأم 7: 23
وأخذ ألف دينار دية الذمي، وجعل خمسمائة في بيت المال، وخمسمائة لأهل
القتيل. بدعة مسلمة خلاف سنة الله. (2)
وأمر بالأذان في العيدين، ولا أذان فيهما ولا أذان إلا في المكتوبة. ذكره
الشافعي في كتاب الأم 1: 208.
وأخذ من الأعطية زكاة، وهو أول من أحدثها كما في كتاب الأم 2: 14.
وهو أول من نقص التكبير كما أخرجه ابن أبي شيبة.
وأتي إليه بلصوص، فقطع بعضهم، وعفى عن أحدهم لسماعه منه ومن رامه
كلاما يروقه، كما ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية ص 219، وابن كثير في
تاريخه 8: 136.
وقدم الخطبة على الصلاة في العيدين كما يأتي تفصيله والمسنون خلافه
وسن لعن أمير المؤمنين علي عليه السلام، وأمر به الخطباء وأئمة الجمعة والجماعة في
جميع الحواضر الإسلامية. فكن على بصيرة من أمرك ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، واحذرهم أن
يفتنوك، سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون.

(1) الدر المنثور 2: 137.
(2) كتاب الديات لأبي عاصم الضحاك ص 50.
119

- 3 -
إبطال الخليفة الحدود
أخرج البلاذري في الأنساب 5: 33 من طريق محمد بن سعد، بالإسناد عن أبي
إسحاق الهمداني: إن الوليد بن عقبة شرب فسكر فصلى بالناس الغداة ركعتين (1)
ثم التفت فقال: أزيدكم؟ فقالوا: لا قد قضينا صلاتنا، ثم دخل عليه بعد ذلك أبو زينب
وجندب بن زهير الأزدي وهو سكران فانتزعا خاتمه من يده وهو لا يشعر سكرا.
قال أبو إسحاق: وأخبرني مسروق إنه حين صلى لم يرم حتى قاء، فخرج في
أمره إلى عثمان أربعة نفر: أبو زينب. وجندب بن زهير. وأبو حبيبة الغفاري. والصعب
بن جثامة. فأخبروا عثمان خبره فقال عبد الرحمن بن عوف، ما له؟ أجن؟ قالوا: لا،
ولكنه سكر. قال: فأوعدهم عثمان وتهددهم، وقال لجندب: أنت رأيت أخي يشرب
الخمر؟ قال: معاذ الله، ولكني أشهد إني رأيته سكران يقسلها من جوفه، وإني أخذت
خاتمه من يده وهو سكران لا يعقل.
قال أبو إسحاق: فأتى الشهود عائشة فأخبروها بما جرى بينهم وبين عثمان، وإن
عثمان زبرهم، فنادت عائشة: إن عثمان أبطل الحدود وتوعد الشهود.
وقال الواقدي: وقد يقال: إن عثمان ضرب بعض الشهود أسواطا، فأتوا عليا
فشكوا ذلك إليه. فأتى عثمان فقال: عطلت الحدود وضربت قوما شهدوا على أخيك
فقلبت الحكم، وقد قال عمر: لا تحمل بني أمية وآل أبي معيط خاصة على رقاب الناس
قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تعزله ولا توليه شيئا من أمور المسلمين، وأن تسأل عن
الشهود فإن لم يكونوا أهل ظنة ولا عداوة أقمت على صاحبك الحد.
قال: ويقال: إن عائشة أغلظت لعثمان وأغلظ لها وقال: وما أنت وهذا؟ إنما
أمرت أن تقري في بيتك. فقال قوم مثل قوله: وقال آخرون: ومن أولى بذلك

(1) هكذا في الأنساب وصحيح مسلم وأما بقية المصادر فكلها مطبقة على أربع ركعات و
ستوافيك إن شاء الله تعالى.
(2) كان الوليد أخاه لأمه أمهما أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس.
120

منها، فاضطربوا بالنعال، وكان ذلك أول قتال بين المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج من عدة طرق: إن طلحة والزبير أتيا عثمان فقالا له: قد نهيناك عن
تولية الوليد شيئا من أمور المسلمين فأبيت وقد شهد عليه بشرب الخمر والسكر فاعزله
وقال له علي: اعزله وحده إذا شهد الشهود عليه في وجهه. فولى عثمان سعيد بن
العاص الكوفة وأمره بإشخاص الوليد، فلما قدم سعيد الكوفة غسل المنبر ودار الإمامة
وأشخص الوليد، فلما شهد عليه في وجهه وأراد عثمان أن يحده ألبسه جبة حبر و
أدخله بيتا فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه قال له الوليد: أنشدك الله أن
تقطع رحمي وتغضب أمير المؤمنين عليك. فيكف. فلما رأى ذلك علي بن أبي طالب
أخذ السوط ودخل عليه ومعه ابنه الحسن فقال له الوليد مثل تلك المقالة فقال
له الحسن: صدق يا أبت، فقال علي: ما أنا إذا بمؤمن. وجلده بسوط له شعبتان،
وفي لفظ: فقال علي للحسن ابنه: قم يا بني فاجلده، فقال عثمان: يكفيك ذلك بعض
من ترى فأخذ علي السوط ومشى إليه فجعل يضربه والوليد يسبه، وفي لفظ الأغاني:
فقال له الوليد: نشدتك بالله وبالقرابة، فقال له علي: اسكت أبا وهب! فإنما هلكت
بنو إسرائيل بتعطيلهم الحدود فضربه وقال: لتدعوني قريش بعد هذا جلادها.
قالوا: وسئل عثمان أن يحلق، وقيل له: إن عمر حلق مثله، فقال: قد كان فعل
ذلك ثم تركه.
وقال أبو مخنف وغيره: خرج الوليد بن عقبة لصلاة الصبح وهو يميل فصلى
ركعتين ثم التفت إلى الناس فقال: أزيدكم؟ فقال له عتاب بن علاق أحد بني عوافة ابن
سعد وكان شريفا: لا زادك الله مزيد الخير، ثم تناول حفنة من حصى فضرب بها وجه
الوليد وحصبه الناس وقالوا: والله ما العجب إلا ممن ولاك، وكان عمر بن الخطاب
فرض لعتاب هذا مع الأشراف في ألفين وخمسمائة. وذكر بعضهم: إن القي غلب
على الوليد في مكانه، وقال يزيد بن قيس الأرحبي ومعقل بن قيس الرياحي: لقد أراد
عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وفي الوليد يقول الحطيئة جرول بن
أوس بن مالك العبسي:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه * إن الوليد أحق بالعذر.
121

نادى وقد نفدت (1) صلاتهم * أأزيدكم؟ ثملا وما يدري
ليزيدهم خيرا ولو قبلوا * منه لزادهم على عشر
فأبوا أبا وهب! ولو فعلوا * لقرنت بين الشفع والوتر
حبسوا عنانك إذ جريت ولو * خلوا عنانك لم تزل تجري (2)
وذكر أبو الفرج في " الأغاني " 4: 178، وأبو عمر في " الاستيعاب " بعد هذه
الأبيات لحطيئة أيضا قوله:
تكلم في الصلاة وزاد فيها * علانية وجاهر بالنفاق
ومج الخمر في سنن المصلي * ونادى والجميع إلى افتراق
أزيدكم؟ على أن تحمدوني * فمالكم وما لي من خلاق
ثم قال أبو عمر: وخبر صلاته بهم وهو سكران وقوله: أزيدكم؟ بعد أن صلى
الصبح أربعا مشهور من رواية الثقات من نقل أهل الحديث وأهل الأخبار.
وهكذا جاء في مسند أحمد 1: 144، سنن البيهقي 8: 318، تاريخ اليعقوبي
2: 142 وقال: تهوع في المحراب، كامل ابن الأثير 3: 42، أسد الغابة 5: 91، 92 و
قال: قوله لهم: أزيدكم؟ بعد أن صلى الصبح أربعا مشهور من رواية الثقات من أهل
الحديث، ثم ذكر حديث الطبري (3) في تعصب القوم على الوليد وقول عثمان له: يا
أخي أصبر فإن الله يأجرك ويبوء القوم بإثمك. فقال: قال أبو عمر: والصحيح عند أهل
الحديث أنه شرب الخمر وتقيأها وصلى الصبح أربعا.
تاريخ أبي الفدا ج 176، الإصابة 3: 638 وقال: قصة صلاته بالناس الصبح
أربعا وهو سكران مشهورة مخرجة: تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 104، السيرة الحلبية
2: 314 وقال: صلى بأهل الكوفة أربع ركعات وصار يقول في ركوعه وسجوده:
إشرب واسقني. ثم قاء في المحراب ثم سلم وقال: هل أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود

(1) في الأغاني 4: 178، 179: تمت. بدل نفدت.
(2) وفي الأغاني 4: 179 حول هذه الأبيات رواية لا تخلو عن فائدة.
(3) أخرجه في تاريخه 5: 60، 61 من طريق مجمع على بطلانه عن كذاب عن مجهول عن
وضاع متهم بالزندقة وهم: السري عن شعيب عن سيف بن عمر وسيوافيك تفصيل القول في هذا الطريق
الوعر وإنه شوه تاريخ الطبري.
122

رضي الله عنه: لا زادك الله خيرا ولا من بعثك إلينا وأخذ فردة خفه وضرب به وجه
الوليد وحصبه الناس فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو مترنح. الخ.
وحكى أبو الفرج في الأغاني 4: 178 عن عبيد والكلبي والأصمعي: إن
وليد بن عقبة كان زانيا شريب الخمر فشرب الخمر بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح في
المسجد الجامع فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم وقال لهم: أزيدكم؟ وتقيأ
في المحراب وقرأ بهم في الصلاة وهو رافع صوته:
علق القلب الربابا * بعد ما شابت وشابا
وذكره في ص 179 نقلا عن عمر بن شبة، وروى من طريق المدائني في صفحة 180
عن الزهري أنه قال: خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد فقال: أكلما
غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل؟ لئن أصبحت لكم لأنكلن بكم، فاستجاروا
بعائشة وأصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة فقال: أما
يجد مراق أهل العراق وفساقهم ملجأ إلا بيت عائشة. فسمعت فرفعت نعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقالت: تركت سنة رسول الله صاحب هذا النعل. فتسامع الناس فجاءوا حتى
ملأوا المسجد فمن قائل: أحسنت، ومن قائل: ما للنساء ولهذا؟ حتى تحاصبوا و
تضاربوا بالنعال، ودخل رهط من أصحاب رسول الله على عثمان فقالوا له: إتق الله لا
تعطل الحد واعزل أخاك عنهم فعزله عنهم.
وأخرج من طريق مطر الوراق قال: قدم رجل المدينة فقال لعثمان رضي الله
عنه: إني صليت الغداة خلف الوليد بن عقبة فالتفت إلينا فقال: أزيدكم؟ إني أجد
اليوم نشاطا، وأنا أشم منه رائحة الخمر. فضرب عثمان الرجل، فقال الناس: عطلت
الحدود، وضربت الشهود.
وروى ابن عبد ربه قصة الصلاة في العقد الفريد 2: 273 وفيه: صلى بهم الصبح
ثلاث ركعات وهو سكران. الخ.
وجاء في صحيح البخاري في مناقب عثمان في حديث. قد أكثر الناس فيه.
قال ابن حجر في فتح الباري 7: 44 في شرح الجملة المذكورة: ووقع في رواية
معمر: وكان أكثر الناس فيما فعل به، أي من تركه إقامة الحد عليه " على مروان "
123

وإنكارهم عليه عزل سعد بن أبي وقاص.
قال الأميني: الوليد هو هذا الذي تسمع حديثه وسنوقفك في هذا الجزء و
الأجزاء الآتية إن شاء الله على حقيقته حتى كأنك مطل عليه من أمم، تراه يشرب الخمر،
ويقئ في محرابه، ويزيد في الصلاة من سورة السكر، وينتزع خاتمه من يده فلا يشعر
به من شدة الثمل، وقد عرفه الله تعالى قبل يومه هذا بقوله عز من قائل: أفمن كان
مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون " سورة السجدة 18 " (1). وبقوله: إن جاءكم فاسق
بنبأ فتبينوا (2). وقال ابن عبد البر في الاستيعاب 2: 620: لا خلاف بين أهل العلم
بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز وجل: إن جاءكم فاسق بنبأ. نزلت في الوليد.
وحكاها عنه ابن الأثير في أسد الغابة 5: 90.
فهل من الممكن أن يجوز مثله حنكة الولاية عن إمام المسلمين؟ فيحتنك النفوس
ويستحوذ على الأموال، ويستولي على النواميس والأعراض، وتؤخذ منه الأحكام
وتلقى إليه أزمة البسط والقبض في حاضرة المسلمين، ويأمهم على الجمعة والجماعة؟
هل هذا شئ يكون في الشريعة؟ أعزب عني واسأل الخليفة الذي ولاه وزبر الشهود
عليه وتوعدهم أو ضربهم بسوطه.
وهب إن الولاية سبقت منه لكن الحد الذي ثبت موجبه وليم على تعطيله
ما وجه إرجاءه إلى حين إدخال الرجل في البيت مجللا بجبة حبر وقاية له عن ألم
السياط؟ ثم من دخل عليه ليحده دافعه المحدود بغضب الخليفة وقطع رحمه، فهل
كان الخليفة يعلم بنسبة الغضب إليه على إقامة حد الله وإيثار رحمه على حكم الشريعة؟
فيغض الطرف عنه رضا منه بما يقول، أو لا يبلغه؟ وهو خلاف سياق الحديث الذي ينم
عن اطلاعه بكل ما هنالك، وكان يتعلل عن إقامة الحد بكل تلكم الأحوال، حتى
إنه منع السبط المجتبى الحسن عليه السلام لما علم إنه لا يجنح إلى الباطل بالرقة عليه
وأحب أن يجلده زبانيته الذين يتحرون مرضاته، لكن غلب أمر الله ونفذ حكمه
بمولانا أمير المؤمنين الذي باشر الحد بنفسه والظالم يسبه وهو سلام الله عليه لا تأخذه

(1) راجع الجزء الثاني صفحة 42 ط 1 و 46 ط 2.
(2) سورة الحجرات آية 6.
124

في الله لومة لائم، أو أمر سلام الله عليه عبد الله بن جعفر فجلده وهو عليه السلام يعد كما في
الصحيح لمسلم (1) والأغاني وغيرهما.
وهل الحد يعطل بعد ثبوت ما يوجبه، حتى يقع عليه الحجاج، ويحتدم الحوار
فيعود الجدال جلادا، وتتحول المكالمة ملاكمة، وتعلو النعال والأحذية، ويشكل
أول قتال بين المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وعقيرة أم المؤمنين مرتفعة: أن عثمان
عطل الحدود وتوعد الشهود. ويوبخه على ذلك سيد العترة صلوات الله عليه بقوله
: عطلت الحدود وضربت قوما شهدوا على أخيك؟ وهل بعد هذه كلها يستأهل مثل
هذا الفاسق المهتوك بلسان الكتاب العزيز أن يبعث على الأموال؟ كما فعله عثمان و
بعث الرجل بعد إقامة الحد عليه على صدقات كلب وبلقين (2)، وهل آصرة الإخاء
تستبيح ذلك كله؟.
ليست ذمتي رهينة بالجواب عن هذه الأسؤلة وإنما علي سرد القصة مشفوعة
بالتعليل والتحليل، وأما الجواب فعلى عهدة أنصار الخليفة، أو أن المحكم فيه هو
القارئ الكريم.
- 4 -
النداء الثالث بأمر الخليفة
أخرج البخاري وغيره بالإسناد عن السائب بن يزيد: إن النداء يوم الجمعة كان
أوله في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمان أبي بكر وفي زمان عمر إذا خرج الإمام،
وإذا قامت الصلاة حتى كان زمان عثمان فكثر الناس فزاد النداء الثالث على الزوراء
فثبتت حتى الساعة. (3)
وفي لفظ البخاري وأبي داود: الأذان كان أوله حين يجلس الإمام على المنبر
يوم الجمعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان خلافة عثمان

(1) راجع الجزء الثاني من صحيح مسلم صفحة 52.
(2) تاريخ اليعقوبي 2: 142.
(3) صحيح البخاري 2: 95، 96، صحيح الترمذي 1: 68، سنن أبي داود 1: 171،
سنن ابن ماجة 1: 348، سنن النسائي 3: 100، كتاب الأم للشافعي 1: 173، سنن البيهقي
1: 429، ج 3: 192، 205، تاريخ الطبري 5: 68، كامل ابن الأثير 3: 48، فيض الإله
المالك للبقاعي 1: 193.
125

وكثر الناس، أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث، فأذن به على الزوراء فثبت الأمر
على ذلك.
وفي لفظ النسائي: أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذن به على الزوراء.
وفي لفظ له أيضا: كان بلال يؤذن إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة
فإذا نزل أقام، ثم كان كذلك في زمن أبي بكر وعمر.
وفي لفظ الترمذي: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إذا
خرج الإمام أقيمت الصلاة، فلما كان عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء.
وفي لفظ البلاذري في الأنساب 5: 39 عن السائب بن يزيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا خرج للصلاة أذن المؤذن ثم يقيم، وكذلك كان الأمر على عهد أبي بكر وعمر،
وفي صدر من أيام عثمان، ثم إن عثمان نادى النداء الثالث في السنة السابعة (1) فعاب
الناس ذلك وقالوا: بدعة.
وقال ابن حجر في فتح الباري 2: 315: والذي يظهر إن الناس أخذوا بفعل
عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، ولكن ذكر الفاكهاني: إن
أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد، وبلغني أن أهل الغرب
الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة، وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال:
الأذان الأول يوم الجمعة بدعة. فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الانكار، و
يحتمل أن يريد إنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما لم يكن في زمنه يسمى
بدعة.
وحكى ما في الفتح الشوكاني في نيل الأوطار 3: 332، وذكر العيني في عمدة
القاري حديث ابن عمر من إن: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، وروى عن الزهري قوله:
إن أول من أحدث الأذان الأول عثمان يؤذن لأهل الأسواق. وقال: وفي لفظ:
فأحدث عثمان التأذينة الثالثة على الزوراء ليجتمع الناس إلى أن قال: وقيل: إن
أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد.
قال الأميني: إن أول ما يستفهم من رواة هذه الأحاديث إن المراد من

(1) يعني السنة السابعة من خلافة عثمان توافق الثلاثين من الهجرة كما في تاريخ الطبري وغيره.
126

كثرة الناس الموجبة لتكرر الأذان هل هو كثرتهم في مركز الخلافة المدينة المنورة
أو كثرتهم في العالم؟ أما الثاني فلم يكن يجديهم فيه ألف أذان، فإن صوت مؤذن
المدينة لا يبلغ المدن والأمصار، ولا أن أولئك مكلفون بالإصغاء إلى أذان المدينة
ولا الصلاة معه.
وأما كثرة الناس في المدينة نفسها لو تم كونها مصححا للزيادة في النداء فإنما
يصحح تكثير المؤذنين في أنحاء البلد في وقت واحد لا الأذان بعد الإقامة الفاصل بينهما
وبين الصلاة، وقد ثبت في السنة خلافه في الترتيب، وأحدوثة الخليفة إنما هي الزيادة
في النداء بعد الإقامة لا إكثار المؤذنين كما نبه إليه التركماني في شرح السنن الكبرى
للبيهقي 1: 429، ولذلك عابه عليه الصحابة، وحسبوه بدعة، ولا يخص تعدد المؤذنين
بأيام عثمان فحسب، وقد كان في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله يؤذن بلال وابن أم مكتوم،
واتخذ عثمان أربعة للحاجة إليها حين كثر الناس كما في شرح الآبي على صحيح مسلم
2: 136، ولا أجد خلافا في جواز تعدد المؤذنين، بل رتبوا عليه أحكاما مثل قولهم
هل الحكاية المستحبة أو الواجبة كما قيل تتعدد بتعدد المؤذنين أم لا؟ وقولهم: إذا
أذن المؤذن الأول، هل للإمام أن يبطئ بالصلاة ليفرغ من بعده؟ أو له أن يخرج ويقطع
من بعده أذانه؟ وقولهم: إذا تعدد المؤذنون لهم أن يؤذن واحد بعد واحد، أو يؤذن
كلهم في أول الوقت؟ وقال الشافعي في كتاب الأم 1: 72: إن كان مسجدا كبيرا له
مؤذنون عدد فلا بأس أن يؤذن في كل منارة له مؤذن فيسمع من يليه في وقت واحد.
وظاهر ما مر في الصحيح من إنه زاد النداء الثالث هو إحداث الأذان بعد الأذان
والإقامة لا الأذان قبلهما كما يأتي عن الطبراني، ويومي إليه قول بعض شراح الحديث
من أن النداء الثالث ثالث باعتبار الشرعية لكونه مزيدا على الأذان بين يدي الإمام
وعلى الإقامة للصلاة (1)، نعم: قال ابن حجر في فتح الباري 2: 315: تواردت الشراح
على إن معنى قوله " الأذان الثالث " إن الأولين الأذان والإقامة، فتسمية ما أمر به
عثمان ثالثا يستدعي سبق اثنين قبله. وقال العيني في عمدته 2: 290: إنما أطلق الأذان
على الإقامة لأنها إعلام كالآذان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: بين كل أذانين صلاة لمن

(1) شرح الترمذي في هامشه 2: 68.
127

شاء (1)، ويعني به بين الأذان والإقامة.
وعلى تقدير إيجاب كثرة الناس الزيادة في النداء يلزم كما قلنا أن يكون الأذان
الزايد في أطراف البلد وأقاصيه عن المسجد ليبلغ من لا يبلغه أذان المسجد الذي كان
يؤذن به على باب المسجد على العهد النبوي ودور الشيخين، كما ورد في سنن أبي داود
1: 171، لا في الزوراء التي هي دار بقرب المسجد كما في القاموس، وتاج العروس،
سواء كانت هي دار عثمان بن عفان التي ذكرها الحموي في المعجم 4: 412، وقال
الطبراني: فأمر عثمان بالنداء الأول على دار له يقال لها: الزوراء فكان يؤذن له عليها (2)
أو موضع عند سوق المدينة بقرب المسجد كما ذكره الحموي أيضا، أو حجر كبير عند
باب المسجد على ما جزم به ابن بطال كما في فتح الباري 2: 315، وعمدة القاري 3:
291. فالنداء في الزوراء على كل حال كالنداء في باب المسجد في مدى الصوت ومبلغ
الخبر، فأي جدوى في هذه الزيادة المخالفة للسنة؟
ثم إن كثرة الناس على فرضها في المدينة هل حصلت فجائية في السابعة من خلافة
عثمان؟ أو أن الجمعية كانت إلى التكثر منذ عادت عاصمة الخلافة الإسلامية؟ فما
ذلك الحد الذي أوجب مخالفة السنة؟ أو ابتداع نداء ثالث؟ وهل هذه السنة المبتدعة
يجري ملاكها في العواصم والأوساط الكبيرة التي تحتوي أضعاف ما كان بالمدينة من
الناس فيكرر فيها الأذان عشرات أو مئات؟ سل الخليفة وأنصاره المبررين لعمله.
على أن كثرة الناس في المدينة إن كانت هي الموجبة للنداء الثالث فلماذا أخذ
فعل الخليفة أهل البلاد جمعاء وعمل به؟ ولم يكن فيها التكثر، وكان على الخليفة أن
ينهاهم عنه وينوه بأن الزيادة على الأذان المشروع تخص بالمدينة فحسب، أو يؤخذ
بحكمها في كل بلدة كثر الناس بها.
نعم: فتح الخليفة باب الجرأة على الله فجاء بعده معاوية ومروان وزياد والحجاج
ولعبوا بدين الله على حسب ميولهم وشهواتهم والبادي أظلم.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه 2: 8.
(2) فتح الباري لابن حجر 2: 315، عمدة القاري 3: 291.
128

- 5 -
توسيع الخليفة المسجد الحرام
قال الطبري في تاريخه ج 5: 47 في حوادث سنة 26 الهجرية: وفيها زاد عثمان
في المسجد الحرام ووسعه وابتاع من قوم وأبى آخرون فهدم عليهم ووضع الأثمان في
بيت المال فصاحوا بعثمان فأمر بهم الحبس وقال: أتدرون ما جرأكم علي؟ ما جرأكم
علي إلا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به. ثم كلمه فيهم عبد الله بن خالد
ابن أسيد فأخرجوا. وذكره هكذا اليعقوبي في تاريخه 2: 142، وابن الأثير في الكامل
3 ص 36.
وأخرج البلاذري في الأنساب 5: 38 من طريق مالك عن الزهري قال: وسع
عثمان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فأنفق عليه من ماله عشرة آلاف درهم فقال الناس: يوسع
مسجد رسول الله ويغير سنته.
قال الأميني: كأن الخليفة لم يكن يرى لليد ناموسا مطردا في الاسلام ولا
للملك والمالكية قيمة ولا كرامة في الشريعة المقدسة، وكأنه لم يقرع سمعه قول
نبي العظمة صلى الله عليه وآله: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه (1) م وفي لفظ
الجصاص في أحكام القرآن 1: 175: إلا بطيب نفسه. وفي الشفاء للقاضي عياض، و
نيل الأوطار 4: 182: إلا بطيبة من نفسه. وفي صحيح ابن حبان: لا يحل لمسلم
أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه]. (2)
وإن من العجب العجاب إن الخليفة نفسه أدرك عهد عمر وزيادته في المسجد،
وشاهد محاكمة العباس بن عبد المطلب وإباءه عن إعطاء داره، ورواية أبي بن كعب
وأبي ذر الغفاري وغيرهما حديث بناء بيت المقدس عن داود عليه السلام، وقد خصمه العباس
بذلك، وثبتت عند عمر السنة الشريفة فخضع لها، كما مر تفصيله في الجزء السادس
ص 262 - 266 ط 2 غير إن الرجل لم يكترث لذلك كله ويخالف تلك السنة الثابتة،

(1) ذكره بهذا اللفظ الحافظ ابن أبي جمرة الأزدي في بهجة النفوس 2: 134، و ج 4:
111.
(2) البحر الزاخر 1: 218.
129

ثم يحتج بفعل عمر وهيبة الناس لكنه حلم فلم يهابوه، فهدم دور الناس من دون رضاهم
وسجن من حاوره أو فاوضه في ذلك، ووضع الأثمان في بيت المال حتى قال الناس:
يوسع مسجد رسول الله ويغير سنته.
- 6 -
رأي الخليفة في متعة الحج
أخرج البخاري في الصحيح بالإسناد عن مروان بن الحكم قال: سمعت عثمان
وعلي رضي الله عنهما بين مكة والمدينة وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما
فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا قال: لبيك عمرة وحجة معا قال: فقال عثمان:
تراني أنهى الناس عن شئ وتفعله أنت؟ قال: لم أكن لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول
أحد من الناس.
وفي لفظ أحمد: كنا نسير مع عثمان رضي الله عنه فإذا رجل يلبي بهما جمعا
قال عثمان رضي الله عنه: من هذا؟ فقالوا: علي. فقال: ألم تعلم أني قد نهيت عن
هذا؟ قال بلى. ولكن لم أكن لأدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك.
وأخرج الشيخان بالإسناد عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان رضي
الله عنهما بعسفان وكان عثمان ينهى عن المتعة فقال له علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول
الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ قال: دعنا منك، قال: إني لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى ذلك
علي أهل بهما جمعا.
وأخرج مسلم من طريق عبد الله بن شقيق قال: كان عثمان رضي الله عنه ينهى عن
المتعة وكان علي رضي الله عنه يأمر بها، فقال عثمان لعلي كلمة، ثم قال علي: لقد
علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجل ولكنا كنا خائفين.
راجع صحيح البخاري 3: 69، 71، صحيح مسلم 1: 349، مسند أحمد 1:
61، 95 سنن النسائي 5: 148، 152، سنن البيهقي 4: 352، ج 5: 22، مستدرك
الحاكم 1: 472، تيسير الوصول 1: 282.
قال الأميني: لقد فصلنا القول في هذه المسألة في نوادر الأثر من الجزء السادس
ص 198 130 و 213 220 ط 2 تفصيلا وذكرنا هنالك أحاديث جمة إن متعة الحج
130

ثابتة بالكتاب والسنة ولم تنزل آية تنسخ متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم
حتى مات، وإنما النهي عنها رأي رآه الخليفة الثاني كما أخرجه الشيخان وجمع
من أئمة الحديث من طرقهم المتكثرة، ولقد شاهد عثمان تلكم المواقف وما وقع فيها
من الحوار وما أنكره الصحابة على من نهى عنها وكان كل حجته: إني لو رخصت
في المتعة لهم لعرسوا بهن في الأراك ثم راحوا بهن حجاجا. وأنت ترى أن هذه
الحجة الداحضة لم تكن إلا رأيا تافها غير مدعوم ببرهنة، بل منقوض بالكتاب
والسنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله أعرف من صاحب هذا الرأي بهذه الدقيقة التي
اكتشفها بنظارته المقربة، والله سبحانه قبله يعلم كل ذلك، فلم ينهيا عن متعة الحج
بل أثبتاها.
ما العلم إلا كتاب الله والأثر * وما سوى ذلك لا عين ولا أثر
إلا هوى وخصومات ملفقة * فلا يغرنك من أربابها هدر (1)
نعم: شهد عثمان كل ذلك لكنه لم يكترث لشئ منها، وطفق يقتص أثر من
قبله، وكان حقا عليه أن يتبع كتاب الله وسنة نبيه والحق أحق أن يتبع، ولم
يقنعه كل ذلك حتى أخذ يعاتب أمير المؤمنين عليا عليه السلام الذي هو نفس الرسول،
وباب مدينة علمه، وأقضى أمته وأعلمها على عدم موافقته له في رأيه المجرد الشاذ
عن حكم الله، حتى وقع الحوار بينهما في عسفان وفي الجحفة وأمير المؤمنين عليه السلام متمتع
بالحج، وكاد من جراء ذلك يقتل علي سلام الله عليه كما مر حديثه في الجزء السادس
ص 205 ط 1 و 219 ط 2.
ونحن لا ندري مغزى جواب الرجل لمولانا علي عليه السلام لما قاله: لقد علمت أنا
تمتعنا مع رسول الله. من قوله: أجل ولكنا كنا خائفين. أي خوف كان في سنة
حجة التمتع مع رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وهي الحجة الوداع والنبي الأقدس كان معه مائة
ألف أو يزيدون، وأنت تجد أعلام الأمة غير عارفين بهذا العذر التافه المختلق أيضا
وقال إمام الحنابلة أحمد في المسند بعد ذكر الحديث: قال شعبة لقتادة: ما كان خوفهم
قال: لا أدري.

(1) البيتان للفقيه أبي زيد على الزبيدي المتوفى 813 ذكرهما صاحب شذرات الذهب 7: 203.
131

أنا لا أدري، هذا مبلغ علم الخليفة؟ أو مدى عقليته؟ أو كمية إصراره على تنفيذ
ما أراد؟ أو حد اتباعه كتاب الله وسنة نبيه؟ أو مقدار أمانته على ودائع الدين؟
وهو خليفة المسلمين. فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
أليس من الغلو الممقوت الفاحش عندئذ ما جاء به البلاذري في الأنساب 5: 4
من قول ابن سيرين: كان عثمان أعلمهم بالمناسك وبعده ابن عمر.
إن كان أعلم الأمة هذه سيرته وهذا حديثه؟ فعلى الاسلام السلام.
7 تعطيل الخليفة القصاص
أخرج الكرابيسي في أدب القضاء بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب إن عبد
الرحمن بن أبي بكر قال: لما قتل عمر إني مررت بالهرمزان وجفينة وأبي لؤلؤة وهم
نجى فلما رأوني ثاروا فسقط من بيتهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه فانظروا إلى
الخنجر الذي قتل به عمر فإذا هو الذي وصفه فانطلق عبيد الله بن عمر فأخذ سيفه حتى
سمع ذلك من عبد الرحمن فأتى الهرمزان فقتله وقتل جفينة بنت أبي لؤلؤة صغيرة وأراد
قتل كل سبي بالمدينة فمنعوه، فلما استخلف عثمان قال له عمرو بن العاص: إن هذا
الأمر كان وليس لك على الناس سلطان فذهب دم الهرمزان هدرا.
وأخرجه الطبري في تاريخه 5: 42 بتغيير يسير والمحب الطبري في الرياض 2.
150، وذكره ابن حجر في الإصابة 3: 619 وصححه باللفظ المذكور.
وذكر البلاذري في الأنساب 5: 24 عن المدائني عن غياث بن إبراهيم: إن
عثمان صعد المنبر فقال: أيها الناس إنا لم نكن خطباء وإن نعش تأتكم الخطبة على وجهها
إن شاء الله، وقد كان من قضاء الله إن عبيد الله بن عمر أصاب الهرمزان وكان الهرمزان
من المسلمين (1) ولا وارث له إلا المسلمون عامة وأنا إمامكم وقد عفوت أفتعفون؟ قالوا:
نعم. فقال علي: أقد الفاسق فإنه أتى عظيما قتل مسلما بلا ذنب. وقال لعبيد الله: يا
فاسق! لئن ظفرت بك يوما لأقتلنك بالهرمزان.
وقال اليعقوبي في تاريخه 2: 141 أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان

(1) أسلم على يد عمر وفرض له في الفين كما في الإصابة وغيرها.
132

عبيد الله بن عمر فصعد عثمان المنبر فخطب الناس ثم قال: ألا إني ولي دم الهرمزان
وقد وهبته لله ولعمر وتركته لدم عمر. فقام المقداد بن عمرو فقال: إن الهرمزان مولى لله
ولرسوله وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله. قال: فننظر وتنظرون، ثم أخرج
عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة وأنزل دارا له فنسب الموضع إليه " كويفة
ابن عمر " فقال بعضهم.
أبا عمرو! عبيد الله رهن * فلا تشكك بقتل الهرمزان
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى 8: 61 بإسناد عن عبيد الله بن عبيد بن عمير
قال: لما طعن عمر رضي الله عنه وثب عبيد الله بن عمر على الهرمزان فقتله فقيل لعمر: إن
عبيد الله بن عمر قتل الهرمزان. قال ولم قتله؟ قال: إنه قتل أبي. قيل: وكيف ذلك؟
قال: رأيته قبل ذلك مستخليا بأبي لؤلؤة وهو أمره بقتل أبي. وقال عمر: ما أدري ما هذا
انظروا إذا أنا مت فاسألوا عبيد الله البينة على الهرمزان، هو قتلني؟ فإن أقام البينة فدمه
بدمي، وإن لم يقم البينة فأقيدوا عبيد الله من الهرمزان.
فلما ولي عثمان رضي الله عنه
قيل له: ألا تمضي وصية عمر رضي الله عنه في عبيد الله؟ قال: ومن ولي الهرمزان؟
قالوا: أنت يا أمير المؤمنين! فقال: قد عفوت عن عبيد الله بن عمر.
وفي طبقات ابن سعد 5: 8 10 ط ليدن: انطلق عبيد الله فقتل ابنة أبي لؤلؤة
وكانت تدعي الاسلام، وأراد عبيد الله ألا يترك سبيا بالمدينة يومئذ إلا قتله فاجتمع
المهاجرون الأولون فأعظموا ما صنع عبيد الله من قبل هؤلاء واشتدوا عليه وزجروه
عن السبي فقال: والله لأقتلنهم وغيرهم. يعرض ببعض المهاجرين، فلم يزل عمرو
ابن العاص يرفق به حتى دفع إليه سيفه فأتاه سعد فأخذ كل واحد منهما برأس صاحبه
يتناصيان، حتى حجز بينهما الناس، فأقبل عثمان وذلك في الثلاثة الأيام الشورى
قبل أن يبايع له، حتى أخذ برأس عبيد الله بن عمر وأخذ عبيد الله برأسه ثم حجز بينهما
وأظلمت الأرض يومئذ على الناس، فعظم ذلك في صدور الناس وأشفقوا أن تكون عقوبة
حين قتل عبيد الله جفينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة.
وعن أبي وجزة عن أبيه قال: رأيت عبيد الله يومئذ وإنه ليناصي عثمان وإن عثمان
ليقول: قاتلك الله قتلت رجلا يصلي وصبية صغيرة، وآخر من ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم
133

ما في الحق تركك. قال: فعجبت لعثمان حين ولي كيف تركه؟ ولكن عرفت إن
عمرو بن العاص كان دخل في ذلك فلفته عن رأيه.
وعن عمران بن مناح قال جعل سعد بن أبي وقاص يناصي عبيد الله بن عمر حيث
قتل الهرمزان وابنة أبي لؤلؤة، وجعل سعد يقول وهو يناصيه:
لا أسد إلا أنت تنهت واحدا * وغالت أسود الأرض عنك الغوائل (1)
فقال عبيد الله:
تعلم أني لحم ما لا تسيغه * فكل من خشاش الأرض ما كنت آكلا
فجاء عمرو بن العاص فلم يزل يكلم عبيد الله، ويرفق به حتى أخذ سيفه منه،
وحبس في السجن حتى أطلقه عثمان حين ولي.
عن محمود بن لبيد: كنت أحسب إن عثمان إن ولي سيقتل عبيد الله لما كنت
أراه صنع به، كان هو وسعد أشد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.
وعن المطلب بن عبد الله قال: قال علي لعبيد الله بن عمر: ما ذنب بنت أبي لؤلؤة
حين قتلتها؟ قال: فكان رأي علي حين استشاره عثمان ورأي الأكابر من أصحاب رسول
الله على قتله، لكن عمرو بن العاص كلم عثمان حتى تركه، فكان علي يقول: لو قدرت
على عبيد الله بن عمر ولي سلطان لاقتصصت منه.
وعن الزهري: لما استخلف عثمان دعا المهاجرين والأنصار فقال: أشيروا علي
في قتل هذا الذي فتق في الدين ما فتق. فاجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة
واحدة يشجعون عثمان على قتله وقال: جل الناس: أبعد الله الهرمزان وجفينة
يريدون يتبعون عبيد الله أباه. فكثر ذلك القول، فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين!
إن هذا الأمر قد كان قبل أن يكون لك سلطان على الناس فاعرض عنه، فتفرق الناس
عن كلام عمرو بن العاص.
وعن ابن جريج: إن عثمان استشار المسلمين فاجمعوا على ديتها، ولا يقتل بهما
عبيد الله بن عمر، وكانا قد أسلما، وفرض لهما عمر، وكان علي بن أبي طالب لما بويع له أراد
قتل عبيد الله بن عمر، فهرب منه إلى معاوية بن أبي سفيان، فلم يزل معه فقتل بصفين (2).

(1) الشعر لكلاب بن علاط أخي الحجاج بن علاط.
(2) حذفنا أسانيد هذه الأحاديث روما للاختصار وهي كلها مستندة.
134

وذكر الطبري في تاريخه 5: 41 قال: جلس عثمان في جانب المسجد لما
بويع ودعا عبيد الله بن عمر، وكان محبوسا في دار سعد بن أبي وقاص، وهو الذي نزع
السيف من يده بعد قتله جفينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة، وكان يقول: والله لأقتلن
رجالا ممن شرك في دم أبي. يعرض بالمهاجرين والأنصار فقام إليه سعد فنزع السيف
من يده، وجذب شعره حتى أضجعه إلى الأرض وحبسه في داره حتى أخرجه عثمان
إليه فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الاسلام
ما فتق، فقال علي: أرى أن تقتله. فقال بعض المهاجرين: قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم؟
فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين! إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك
على المسلمين سلطان، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك، قال عثمان: أنا وليهم
وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي، قال: وكان رجل من الأنصار يقال له: زياد بن لبيد
البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر قال:
ألا يا عبيد الله! مالك مهرب * ولا ملجأ من ابن أروى (1) ولا حفر 0
أصبت دما والله في غير حله * حراما وقتل الهرمزان له خطر 0
على غير شئ غير أن قال قائل * أتتهمون الهرمزان على عمر 0؟
فقال سفيه والحوادث جمة: نعم اتهمه قد أشار وقد أمر 0
وكان سلاح العبد في جوف بيته * يقلبها والأمر بالأمر يعتبر 0
قال: فشكا عبيد الله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد وشعره فدعا عثمان زياد بن لبيد
فنهاه قال: فأنشأ زياد يقول في عثمان:
أبا عمرو عبيد الله رهن * فلا تشكك بقتل الهرمزان
فإنك إن غفرت الجرم عنه * وأسباب الخطا فرسا رهان
أتعفو؟ إذ عفوت بغير حق * فما لك بالذي تحكي بدان
فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه وشذ به. وذكره ابن الأثير في الكامل 5: 31.
قال الأميني: الذي يعطيه الأخذ بمجامع هذه النقول أن الخليفة لم يقد عبيد
الله قاتل الهرمزان وجفينة وابنة أبي لؤلؤة الصغيرة، مع إصرار غير واحد من الصحابة

(1) أروى بنت كريز أم عثمان كما مر في 120.
135

على القصاص، ووافقه على ذلك مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام، لكنه قدم على رأيه الموافق
للكتاب والسنة، وهو أقضى الأمة بنص النبي الأمين وعلى آراء الصحابة إشارة عمرو ابن
العاصي ابن النابغة المترجم في الجزء الثاني صفحة 120 176 ط 2 بترجمة ضافية تعلمك
حسبه ونسبه وعلمه ودينه حيث قال له: إن هذا الأمر كان وليس لك على الناس
سلطان.. الخ. على حين إن من كانت له السلطة عندئذ وهو الخليفة المقتول في آخر
رمق من حياته حكم بأن يقتص من ابنه إن لم يقم البينة العادلة بأن هرمزان قتل
أباه، ومن الواضح إنه لم يقمها، فلم يزل عبيد الله رهن هذا الحكم حتى أطلق سراحه،
وكان عليه مع ذلك دم جفينة وابنة أبي لؤلؤة.
وهل يشترط ناموس الاسلام للخليفة في إجرائه حدود الله وقوع الحوادث عند
سلطانه؟ حتى يصاخ إلى ما جاء به ابن النابغة، وإن صحت الأحلام؟ فاستيهاب الخليفة
لماذا؟ وهب إن خليفة الوقت له أن يهب أو يستوهب المسلمين حيث لا يوجد ولي
للمقتول، ولكن هل له إلغاء الحكم النافذ من الخليفة قبله؟ وهل للمسلمين الذين
استوهبهم فوهبوا ما لا يملكون رد ذلك الحكم البات؟ وعلى تقدير أن يكون لهم
ذلك فهل هبة أفراد منهم وافية لسقوط القصاص، أو يجب أن يوافقهم عليها عامة المسلمين؟
وأنت ترى إن في المسلمين من ينقم ذلك الاسقاط وينقد من فعله، حتى إن عثمان
لما رأى المسلمين إنهم قد أبوا إلا قتل عبيد الله أمره فارتحل إلى الكوفة وأقطعه
بها دارا وأرضا، وهي التي يقال لها: كويفة ابن عمر، فعظم ذلك عند المسلمين وأكبروه
وكثر كلامهم فيه. (1)
وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو سيد الأمة وأعلمها بالحدود والأحكام
يكاشف عبيد الله ويهدده بالقتل على جريمته متى ظفر به، ولما ولي الأمر تطلبه ليقتله
فهرب منه إلى معاوية بالشام، وقتل بصفين، كما في " الكامل " لابن الأثير 3: 32،
وفي " الاستيعاب " لابن عبد البر: إنه قتل الهرمزان بعد أن أسلم وعفا عنه عثمان،
فلما ولي علي خشي على نفسه فهرب إلى معاوية فقتل بصفين، وفي مروج الذهب 2:
24: إن عليا ضربه فقطع ما عليه من الحديد حتى خالط سيفه حشوة جوفه، وإن

(1) راجع ما مر في ص 133، ومعجم البلدان 7: 307.
136

عليا قال حين هرب فيطلبه ليقيد منه بالهرمزان: لئن فاتني في هذا اليوم، لا يفوتني
في غيره.
هذه كلها تنم عن إن أمير المؤمنين عليه السلام كان مستمرا على عدم العفو عنه، و
إنه لم يكن هناك حكم نافذ بالعفو يتبع، وإلا لما طلبه ولا تحرى قتله، وقد
ذكره بذلك يوم صفين لما برز عبيد الله أمام الناس فناداه علي: ويحك يا ابن عمر!
علام تقاتلني؟ والله لو كان أبوك حيا ما قاتلني. قال: أطلب بدم عثمان. قال أنت
تطلب بدم عثمان، والله يطلبك بدم الهرمزان، وأمر على الأشتر النخعي بالخروج
إليه. (1)
إلى هنا انقطع المعاذير في إبقاء عبيد الله والعفو عنه، لكن قاضي القضاة اطلع
رأسه من ممكن التمويه، فعزى إلى شيخه أبي علي أنه قال (2): إنما أراد عثمان بالعفو
عنه ما يعود إلى عز الدين، لأنه خاف أن يبلغ العدو قتله فيقال: قتلوا إمامهم، و
قتلوا ولده، ولا يعرفون الحال في ذلك فيكون فيه شماتة. ا ه‍.
أولا تسائل هذا الرجل؟ عن أي شماتة تتوجه إلى المسلمين في تنفيذهم حكم
شرعهم وإجرائهم قضاء الخليفة الماضي في ابنه الفاسق قاتل الأبرياء، وإنهم لم تأخذهم
عليه رأفة في دين الله لتعديه حدوده سبحانه ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون،
ولم يكترثوا لأنه في الأمس أصيب بقتل أبيه واليوم يقتل هو فتشتبك المصيبتان على
أهله، هذا هو الفخر المرموق إليه في باب الأديان لأنه منبعث عن صلابة في إيمان، و
نفوذ في البصيرة، وتنمر في ذات الله، وتحفظ على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله؟ و
أخذ بمجاميع الدين الحنيف، فأي أمة هي هكذا لا تنعقد عليها جمل الثناء ولا تفد
إليها ألفاظ المدح والاطراء؟ وإنما الشماتة في التهاون بالأحكام، وإضاعة الحدود
بالتافهات، واتباع الهوى والشهوات، لكن الشيخ أبا علي راقه أن يكون له حظا من
الدفاع فدافع.
ثم إن ما ارتكبه الخليفة خلق لمن يحتذي مثاله مشكلة ارتبكوا في التأول في

(1) مروج الذهب 2: 12.
(2) راجع شرح ابن أبي الحديد 1: 242.
137

تبرير عمله الشاذ عن الكتاب والسنة. فمن زاعم إنه عفى عنه ولولي الأمر ذلك. و
هم يقولون: إن الإمام له أن يصالح على الدية إلا إنه لا يملك العفو، لأن القصاص حق
المسلمين بدليل إن ميراثه لهم وإنما الإمام نائب عنهم في الإقامة وفي العفو إسقاط
حقهم أصلا ورأسا وهذا لا يجوز، ولهذا لا يملكه الأب والجد وإن كانا يملكان استيفاء
القصاص وله أن يصلح على الدية (1).
وثان يحسب إنه استعفى المسلمين مع ذلك وأجابوه إلى طلبته وهم أولياء المقتول
إذ لا ولي له. ونحن لا ندري أنهم هل فحصوا عن وليه في بلاد فارس؟ والرجل فارسي
هو وأهله، أو إنهم اكتفوا بالحكم بالعدم؟ لأنهم لم يشاهدوه بالمدينة، وهو غريب
فيها ليس له أهل ولا ذووا قرابة، أو أنهم حكموا بذلك من تلقاء أنفسهم؟ وما كان
يضرهم لو أرجعوا الأمر إلى أولياءه في بلاده فيؤمنوهم حتى يأتوا إلى صاحب ترتهم
فيقتصوا منه أو يعفوا عنه؟.
ثم متى أجاب المسلمون إلى طلبة عثمان؟ وسيدهم يقول: أقد الفاسق فإنه
أتى عظيما. وقد حكم خليفة الوقت قبله بالقصاص منه، ولم يكن في مجتمع الاسلام
من يدافع عنه ويعفو إلا ابن النابغة، وقد مر عن ابن سعد قول الزهري من إنه أجمع
رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجعون عثمان على قتله.
وثالث يتفلسف بما سمعته عن الشيخ أبي علي، وهل يتفلسف بتلك الشماتة
والوصمة والمسبة على بني أمية في قتلهم من العترة الطاهرة والدا وما ولد وذبحهم
في يوم واحد منهم رضيعا ويافعا وكهلا وشيخا سيد شباب أهل الجنة؟.
وهناك من يصوغ لهرمزان وليا يسميه " القماذبان " ويحسب إنه عفى بإلحاح
من المسلمين أخرج الطبري في تاريخه 5: 43 عن السري وقد كتب إليه شعيب عن
سيف بن عمر عن أبي منصور قال سمعت القماذبان يحدث عن قتل أبيه قال: كانت العجم
بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض فمر فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان فتناوله منه و
قال: ما تصنع في هذه البلاد؟ فقال: أبس به. فرآه رجل فلما أصيب عمر قال: رأيت
هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله فلما ولي عثمان دعاني فأمكنني

(1) بدايع الصنايع لملك العلماء الحنفي 7: 245.
138

منه ثم قال: يا بني هذا قاتل أبيك وأنت أولى به منا فاذهب فاقتله. فخرجت به وما في
الأرض أحد إلا معي إلا أنهم يطلبون إلي فيه فقلت لهم: ألي أقتله؟ قالوا: نعم. وسبوا
عبيد الله، فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا، وسبوه. فتركته لله ولهم فاحتملوني،
فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الرجال وأكفهم.
ولو كان هذا الولي المزعوم موجودا عند ذاك فما معنى قول عثمان في الصحيح
المذكور على صهوة المنبر: لا وارث له إلا المسلمون عامة وأنا إمامكم؟ وما قوله
الآخر في حديث الطبري نفسه: أنا وليهم وقد جعلته دية واحتملتها في مالي؟ ولو كان
يعلم بمكان هذا الوارث فلم حول القصاصا إلى الدية قبل مراجعته؟ ثم لما حوله
فلم لم يدفع الدية إليه واحتملها في ماله؟ ثم أين صارت الدية وما فعل بها؟ أنا لا أدري.
ولو كان المسلمون يعترفون بوجود القماذبان وما في الأرض أحد إلا معه وهو الذي
عفى عن قاتل أبيه فما معنى قول الخليفة: وقد عفوت، أفتعفون؟ وقوله في حديث البيهقي:
قد عفوت عن عبيد الله بن عمر؟ وما معنى استيهاب خليفة المسلمين وولي المقتول
حي يرزق؟ وما معنى مبادرة المسلمين إلى موافقته في العفو والهبة؟ وما معنى تشديد
مولانا أمير المؤمنين في النكير على من تماهل في القصاص؟ وما معنى قوله عليه السلام لعبيد الله
يا فاسق! لئن ظفرت بك يوما لأقتلنك بالهرمزان؟ وما معنى تطلبه لعبيد الله ليقتله أبان
خلافته؟ وما معنى هربه من المدينة إلى الشام خوفا من أمير المؤمنين؟ وما معنى قول
عمرو بن العاصي لعثمان: إن هذا الأمر كان وليس لك على الناس سلطان؟ وما معنى قول
سعيد بن المسيب: فذهب دم الهرمزان هدرا؟ وما معنى قول لبيد بن زياد وهو يخاطب
عثمان. أتعفو إذ عفوت بغير حق. الخ؟. وما معنى ما رواه ملك العلماء الحنفي في
بدائع الصنائع 7: 245 وجعله مدرك الفتوى في الشريعة؟ قال: روي إنه لما قتل
سيدنا عمر رضي الله عنه خرج الهرمزان والخنجر في يده فظن عبيد الله إن هذا هو الذي
قتل سيدنا عمر رضي الله عنه فقتله فرفع ذلك إلى سيدنا عثمان رضي الله عنه فقال سيدنا
علي رضي الله عنه لسيدنا عثمان: اقتل عبيد الله. فامتنع سيدنا عثمان رضي الله عنه و
قال: كيف أقتل رجلا قتل أبوه أمس؟ لا أفعل، ولكن هذا رجل من أهل الأرض و
أنا وليه أعفو عنه وأودي ديته.
139

وما معنى قول الشيخ أبي علي؟: إنه لم يكن للهرمزان ولي يطلب بدمه والإمام
ولي من لا ولي له، وللولي أن يعفو.
ولبعض ما ذكر زيفه ابن الأثير في الكامل 3: 32 فقال: الأول أصح في إطلاق
عبيد الله لأن عليا لما ولي الخلافة أراد قتله فهرب منه إلى معاوية بالشام، ولو كان
إطلاقه بأمر ولي الدم لم يتعرض له علي. ا ه‍.
وقبل هذه كلها ما في إسناد الرواية من الغمز والعلة، كتبها إلى الطبري السري
ابن يحيى الذي لا يوجد بهذه النسبة له ذكر قط، غير إن النسائي أورد عنه حديثا
لسيف بن عمر فقال: لعل البلاء من السري (1) وابن حجر يراه السري بن إسماعيل الهمداني
الكوفي الذي كذبه يحيى بن سعيد وضعفه غير واحد من الحفاظ، ونحن نراه السري
بن عاصم الهمداني نزيل بغداد المتوفى 258، وقد أدرك ابن جرير الطبري شطرا من
حياته يربو على ثلاثين سنة، كذبه ابن خراش، ووهاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث
وزاد ابن حبان: ويرفع الموقوفات لا يحل الاحتجاج به، وقال النقاش في حديث: وضعه
السري (2) فهو مشترك بين كذابين لا يهمنا تعيين أحدهما.
والتسمية بابن يحيى محمولة على النسبة إلى أحد أجداده كما ذكره ابن حجر في
تسميته بابن سهل (3) هذا إن لم تكن تدليسا، ولا يحسب القارئ إنه السري بن يحيى
الثقة لقدم زمانه وقد توفي سنة 167 (4) قبل ولادة الطبري الراوي عنه المولود سنة
224 بسبع وخمسين سنة.
وفي الاسناد شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول، قال ابن عدي: ليس بالمعروف
وقال الذهبي: راوية كتب سيف عنه فيه جهالة (5).
وفيه سيف بن عمر التميمي راوي الموضوعات، المتروك، الساقط، المتسالم على

(1) تهذيب التهذيب 3: 460.
(2) تاريخ الخطيب 9: 193، ميزان الاعتدال 1: 380، لسان الميزان 3: 13، وما
مر في ج 5: 231 ط 2.
(3) لسان الميزان 3: 13.
(4) تهذيب التهذيب 3: 461.
(5) ميزان الاعتدال 1: 448، لسان الميزان 3: 145.
140

ضعفه: المتهم بالزندقة، كما مرت ترجمته في صفحة 84. وقد مر عن السيوطي إنه
ذكر حديثا بهذا الطريق وقال: موضوع فيه ضعفاء أشدهم سيف بن عمر.
وفيه أبو منصور، مشترك بين عدة ضعفاء لا يعول عليهم ولا على روايتهم.
(عذر مفتعل)
إن المحب الطبري أعماه الحب وأصمه فجاء بعذر مفتعل غير ما ذكر قال في
رياض النضرة 2: 150: عنه جوابان: الأول إن الهرمزان شارك أبا لؤلؤة في ذلك
وملأه، وإن كان المباشر أبو لؤلؤة وحده لكن المعين على قتل الإمام العادل يباح قتله
عند جماعة من الأئمة، وقد أوجب كثير عن الفقهاء القود على الآمر والمأمور وبهذا
اعتذر عبيد الله بن عمر وقال: إن عبد الرحمن بن أبي بكر أخبره إنه رأى أبا لؤلؤة و
الهرمزان وجفينة يدخلون في مكان ويتشاورون وبينهم خنجر له رأسان مقبضه في وسطه
فقتل عمر في صبيحة تلك فاستدعى عثمان عبد الرحمن فسأله عن ذلك فقال: انظروا إلى
السكين فإن كانت ذات طرفين فلا أرى القوم إلا وقد اجتمعوا على قتله. فنظروا إليها
فوجدوها كما وصف عبد الرحمن، فلذلك ترك عثمان قتل عبيد الله بن عمر لرؤيته عدم
وجود القود لذلك، أو لتردده فيه فلم ير الوجوب للشك.
والجواب الثاني: إن عثمان خاف من قتله ثوران فتنة عظيمة لأنه كان بنو تيم
وبنو عدي مانعون من قتله، ودافعون عنه، وكان بنو أمية أيضا جانحون إليه، حتى
قال له عمرو بن العاص: قتل أمير المؤمنين عمر بالأمس، ويقتل ابنه اليوم؟ لا والله لا
يكون هذا أبدا، ومال في بني جمح، فلما رأى عثمان ذلك اغتنم تسكين الفتنة وقال:
أمره إلي وسأرضي أهل الهرمزان منه.
قال الأميني: إن إثبات مشاركة هرمزان أبا لؤلؤة في قتل الخليفة على سبيل البت
لمحض ما قاله عبد الرحمن بن أبو بكر من إنه رآهما متناجيين وعند أبي لؤلؤة خنجر
له رأسان دونه خرط القتاد، فإن من المحتمل إنهما كانا يتشاوران في أمر آخر بينهما،
أو أن أبا لؤلؤة استشاره فيما يريد أن يرتكب فنهاه عنه الهرمزان، لكنه لم يصغ
إلى قيله فوقع القتل غدا، إلى أمثال هذين من المحتملات، فكيف يلزم الهرمزان
141

والحدود تدرأ بالشبهات؟ (1)
هب إن عبد الرحمن شهد بتلك المشاركة، وادعى إنه شاهد الوقفة بعينه،
فهل يقتل مسلم بشهادة رجل واحد في دين الله؟ ولم تعقد البينة الشرعية مصافقة
لتلك الدعوى، ولهذا لما أنهيت القضية من اختلاء الهرمزان بأبي لؤلؤة إلى آخرها
إلى عمر نفسه قال: ما أدري هذا انظروا إذا أنامت فاسألوا عبيد الله البينة على
الهرمزان، هو قتلني؟ فإن أقام البينة فدمه بدمي، وإذا لم يقم البينة فأقيدوا عبيد الله
من الهرمزان.
وهب أن البينة قامت عند عبيد الله على المشاركة، فهل له أن يستقل بالقصاص؟
أو إنه يجب عليه أن يرفع أمره إلى أولياء الدم؟ لاحتمال العفو في بقية الورثة مضافا
إلى القول بأنه من وظائف السلطان أو نائبه، وعلى هذا الأخير الفتوى المطردة
بين العلماء. (2)
على إنه لو كانت لعبيد الله أو لمن عطل القصاص منه معذرة كهذه لأبدياها
أمام الملأ المنتقد، ولما قال مولانا أمير المؤمنين اقتل هذا الفاسق، ولما تهدده بالقتل
متى ظفر به، ولما طلبه ليقتله أبان خلافته، ولما هرب عنه عبيد الله إلى معاوية، ولما
اقتصر عثمان بالعذر بأنه ولي الدم، وإن المسلمين كلهم أولياء المقتول، ولما وهبه
واستوهب المسلمين، ولما كان يقع الحوار بين الصحابة الحضور في نفس المسألة،
ولما قام إليه سعد بن أبي وقاص وانتزع السيف من يده وجزه من شعره حتى أضجعه
وحبسه في داره.
وهب إنه تمت لعبيد الله هذه المعذرة فبماذا كان اعتذاره في قتل بنت أبي
لؤلؤة المسكينة الصغيرة، وتهديده الموالي كلهم بالقتل؟
2 أنا لا أدري من أين جاء المحب بهذا التاريخ الغريب من نهضة تيم وعدي
ومنعهم من قتل عبيد الله، وجنوح الأمويين إليهم بصورة عامة؟ حتى يخافهم الخليفة

(1) سنن ابن ماجة 2: 112، سنن البيهقي 8: 238، سنن الترمذي 2: 171، أحكام
القرآن للجصاص 3: 330، تيسير الوصول 2: 20.
(2) كتاب الأم للشافعي 6: 11، المدونة الكبرى 4: 502، فيض الإله المالك للبقاعي
2: 286.
142

الجديد. وأي خليفة هذا يستولي عليه الفرق من أول يومه؟ فإذا تبينت عليه هذه
الضؤلة في مفتتح خلافته، فبأي هيبة يسوس المجتمع بعده؟ ويقتص القاتل، ويقيم
الحدود، ولكل مقتص منه أو محدود قبيلة تغضب له، ولها أحلاف يكونون عند مرضاتها.
ليس في كتب التاريخ والحديث أي أثر مما ادعاه المحب المعتذر، وإلا لكان
سعد بن أبي وقاص أولى بالخشية يوم قام إلى عبيد الله وجز شعره، وحبسه في داره،
ولم ير أي تيمي طرق باب سعيد، ولا عدوي أنكر عليه، ولا أموي أظهر مقته على
ذلك، لكن المحب يريد أن يستفزهم وهم رمم بالية.
ثم لو كان عند من ذكرهم جنوح إلى تعطيل هذا الحكم الإلهي حتى أوجب ذلك
حذار الخليفة من بوادرهم؟ فإنه معصية تنافي عدالة الصحابة، وقد أطبق القوم على
عدالتهم. ولو كان الخليفة يروعه إنكار المنكرين على ما يريد أن يرتكب؟ فلما ذا لم
يرعه إنكار الصحابة على الأحداث في أخرياته؟ حتى أودت به، أكان هيابا ثم تشجع؟
سل عنه المحب الطبري.
- 8 -
رأي الخليفة في الجنابة
أخرج مسلم في الصحيح بالإسناد عن عطاء بن يسار: إن زيد بن خالد الجهني
أخبره أنه سأل عثمان بن عفان قال: قلت أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يمن؟ قال
عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره. قال عثمان: سمعته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم. (1)
وأخرجه البخاري في صحيحه، وزاد عليه ولفظه: سئل عثمان بن عفان عن
الرجل يجامع فلا ينزل فقال: ليس عليه غسل، ثم قال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: فسألت بعد ذلك علي بن أبي طالب والزبير بن عوام وطلحة بن عبيد الله وأبي
ابن كعب فقالوا: مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه بطريق آخر وفيه: فأمروه
بذلك بدل قوله: " فقالوا مثل ذلك عن النبي ". (2)

(1) صحيح مسلم 1: 142.
(2) صحيح البخاري 1: 109.
143

وأخرجه أحمد في مسنده 1: 63، 64 وفيه: فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب رضي
الله عنه، والزبير العوام وطلحة بن عبيد الله، وأبي بن كعب فأمروه بذلك، فليس في لفظه
" عن رسول الله " وبالألفاظ الثلاثة ذكره البيهقي في السنن الكبرى 1: 164، 165.
قال الأميني: هذا مبلغ فقه الخليفة أبان خلافته وبين يديه قوله تعالى: " لا تقربوا
الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنبا إلا عابري السبيل حتى تغتسلوا "
" النساء 43 "
قال الشافعي في كتاب الأم 1: 31: فأوجب الله عز وجل الغسل من الجنابة فكان
معروفا في لسان العرب إن الجنابة الجماع وإن لم يكن مع الجماع ماء دافق، وكذلك
ذلك في حد الزنا وإيجاب المهر وغيره، وكل من خوطب بأن فلانا أجنب من فلانة
عقل إنه أصابها وإن لم يكن مقترفا، قال الربيع يريد إنه لم ينزل
ودلت السنة على أن الجنابة أن يفضي الرجل من المرأة حتى يغيب فرجه في
فرجها إلى أن يواري حشفته، أو أن يرى الماء الدافق، وإن لم يكن جماع. ا ه‍.
وقال في اختلاف الحديث في هامش كتاب الأم 1: 34: فكان الذي يعرفه من
خوطب بالجنابة من العرب إنها الجماع دون الانزال، ولم تختلف العامة إن الزنا الذي
يجب به الحد: الجماع دون الانزال، وأن من غابت حشفته في فرج امرأة وجب عليه
الحد، وكان الذي يشبه إن الحد لا يجب إلا على من أجنب من حرام. ا ه‍.
وفي تفسير القرطبي 5: 204: الجنابة: مخالطة الرجل المرأة. والجمهور من
الأمة على إن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان. ا ه‍.
ثم كيف عزب عن الخليفة حكم المسألة، وقد مرنته الأسؤلة، وعلمته الجوابات
النبوية، وبمسمع منه مذاكرات الصحابة لما وعوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وإليك
جملة منها:
1 - عن أبي هريرة مرفوعا: إذا قعد بين شعبها الأربع والزق الختان بالختان
قفد وجب الغسل.
وفي لفظ: إذا قعد بين شعبها الأربع، ثم أجهد نفسه، فقد وجب الغسل أنزل
أو لم ينزل.
144

وفي لفظ ثالث: إذا التقى الختان بالختان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل.
وفي لفظ أحمد: إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهد، فقد وجب الغسل.
صحيح البخاري 1: 108، صحيح مسلم 1: 142، سنن الدارمي 1: 194، سنن
البيهقي 1: 163، مسند أحمد 2: 234، 347، 393، المحلى لابن حزم 2: 3، مصابيح
السنة 1: 30، الاعتبار لابن حازم ص 30، تفسير القرطبي 5: 200، تفسير الخازن
1: 375.
2 - عن أبي موسى إنهم كانوا جلوسا فذكروا ما يوجب الغسل، فقال من
حضره من المهاجرين: إذا مس الختان الختان وجب الغسل. وقال من حضره من
الأنصار: لا حتى يدفق. فقال أبو موسى: أنا آتي بالخبر، فقام إلى عائشة فسلم ثم
قال: إني أريد أن أسألك عن شئ وأنا أستحييك، فقالت: لا تستحي أن تسألني عن
شئ كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك إنما أنا أمك قال قلت: ما يوجب الغسل؟
قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جلس بين شعبها الأربع ومس
الختان بالختان وجب الغسل.
صحيح مسلم 1: 143، مسند أحمد 6: 116، الموطأ لمالك 1: 51، كتاب
الأم للشافعي 1: 31، 33، سنن البيهقي 1: 164، المحلى لابن حزم 2: 2، المصابيح
للبغوي 1: 32، سنن النسائي، وصححه ابن حبان، وابن القطان، الاعتبار لابن
حازم ص 30.
3 - عن أم كلثوم عن عائشة: إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: عن الرجل يجامع
أهله يكسل هل عليه من غسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأفعل
ذلك أنا وهذه نغتسل.
صحيح مسلم 1: 143، سنن البيهقي 1: 164، المدونة الكبرى 1: 34.
4 - عن الزهري: إن رجالا من الأنصار فيهم أبو أيوب وأبو سعيد الخدري كانوا
يفتون: الماء من الماء، وإنه ليس على من أتى امرأته فلم ينزل غسل، فلما ذكر
ذلك لعمر، وابن عمر، وعائشة أنكروا ذلك، وقالوا: إذا جاوز الختان الختان
وجب الغسل.
- الغدير 11
145

صحيح الترمذي 1: 16، وصححه فقال: وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن البيهقي 1: 165.
5 - عن عائشة قالت: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول
الله فاغتسلنا.
وفي لفظ: إذا قعد بين الشعب الأربع، ثم ألزق الختان بالختان فقد وجب
الغسل. سنن ابن ماجة 1: 211، مسند أحمد 6: 47، 112، 161.
6 - عن عمرو بن شعيب بن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن أبيه مرفوعا عن جده إذا
التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل. وزاد في المدونة: أنزل أولم ينزل.
سنن ابن ماجة 1: 212، المدونة الكبرى 1: 34، مسند أحمد 2: 178،
وأخرجه ابن أبي شيبة كما في نيل الأوطار 1: 278.
وكأن الخليفة كان بمنتأى عن هذه الأحاديث فلم يسمعها ولم يعها، أو أنه
سمعها لكنه ارتأى فيها رأيا تجاه السنة المحققة، أو إنه أدرك من أوليات الاسلام
ظرفا لم يشرع فيه حكم الغسل وهو المراد مما زعم إنه سمعه من رسول الله فحسب إنه
مستصحب إلى آخر الأبد حيث لم يتحر التعلم، ولم يصخ إلى المحاورات الفقهية حتى
يقف على تشريع الحكم إلى أن تقلد الخلافة على من يعلم الحكم وعلى من لا يعلمه،
فألهته عن الأخذ والتعلم، ثم إذا لم يجد منتدحا عن الفتيا في مقام السؤال فأجاب بما
ارتآه أو بما علق على خاطره منذ دهر طويل قبل تشريع الحكم.
أو إنه كان سمع حكما منسوخا وعزب عنه ناسخه بزعم من يرى إن قوله صلى الله عليه وآله
الماء من الماء (1) وما يشابهه في المعنى من قوله: إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك
وعليك الوضوء (2) قد نسخ بتشريع الغسل إن كان الاجتزاء بالوضوء فحسب حكما
لموضوع المسألة، وكان قوله صلى الله عليه وآله: الماء من الماء واردا في الجماع. وأما على ما
ذهب إليه ابن عباس من إنه ليس منسوخا بل المراد به نفي وجوب الغسل بالرؤية

(1) صحيح مسلم 1: 141، 142، سنن ابن ماجة 1: 211، سنن البيهقي 1: 167.
(2) صحيح مسلم 1: 142، سنن ابن ماجة 1: 211.
146

في النوم إذا لم يوجد احتلام (1) كما هو صريح قوله صلى الله عليه وآله: إن رأى احتلاما ولم ير
بللا فلا غسل عليه (2) فمورد سقوط الغسل أجنبي عن المسألة هذه فلا ناسخ ولا
منسوخ.
قال القسطلاني في إرشاد الساري 1: 331، والنووي في شرح مسلم هامش
الارشاد 2: 426: الجمهور من الصحابة ومن بعدهم قالوا: إنه منسوخ ويعنون
بالنسخ إن الغسل من الجماع بغير إنزال كان ساقطا ثم صار واجبا، وذهب ابن عباس
وغيره إلى إنه ليس منسوخا بل المراد نفي وجوب الغسل بالرؤية في النوم إذا لم ينزل،
وهذا الحكم باق بلا شك. ا ه‍.
وأما ما مر في روايات أول العنوان من موافقة مولانا أمير المؤمنين علي
عليه السلام وأبي بن كعب وآخرين لعثمان في الفتيا، فمكذوب عليهم سترا على عوار جهل
الخليفة بالحكم في مسألة سمحة سهلة كهذه، أما الإمام عليه السلام فقد مر في الجزء السادس
244 (3) رده على الخليفة الثاني في نفس المسألة وقوله: إذا جاوز الختان الختان فقد
وجب الغسل. فأرسل عمر إلى عائشة فقالت: مثل قول علي عليه السلام فأخبت إليه الخليفة فقال:
لا يبلغني أن أحدا فعله ولا يغسل إلا أنهتكه عقوبة.
وقد علم يوم ذاك حكم المسألة كل جاهل به ورفع الخلاف فيها قال القرطبي في
تفسيره 5: 205: على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار وإن
الغسل يجب بنفس التقاء الختانين وقد كان فيه خلاف بين الصحابة ثم رجعوا فيه إلى
رواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم. أترى عليا عليه السلام وافق عثمان وحكم خلاف ما أنزل الله
تعالى بعد إفتائه به، وسوق الناس إليه، وإقامة الحجة عليه بشهادة من سمعه عن النبي
الأعظم؟ إن يتبعون إلا الظن وما تهوي الأنفس.
وأما أبي بن كعب فقد جاء عنه من طرق صحيحة قوله: إن الفتيا التي كانت
الماء من الماء رخصة أرخصها رسول الله في أول الاسلام ثم أمر بالغسل.

(1) مصابيح البغوي 1: 31، تفسير القرطبي 5: 205، الاعتبار لابن حازم ص 31، فتح
الباري 1: 316.
(2) سنن الدارمي 1: 196، سنن البيهقي 1: 167، 168، مصابيح البغوي 1: 31.
(3) ط 1 و 261 ط 2.
147

وفي لفظ: إنما كانت الفتيا في الماء من الماء في أول الاسلام ثم نهي عنها.
وفي لفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة للناس في أول الاسلام لقلة
الثياب، ثم أمر بالغسل. وفي لفظ: ثم أمر بالاغتسال بعد. (1)
فليس من الممكن إن أبيا يروي هذه كلها، ثم يوافق عثمان على سقوط الغسل
بعد ما تبين حكم المسألة وشاع وذاع في أيام الخليفة الثاني.
وأما غيرهما ففي فتح الباري 1: 315 عن أحمد أنه قال: ثبت عن هؤلاء الخمسة
الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث.
فنسبة القول بعدم وجوب الغسل في التقاء الختانين إلى الجمع المذكور بهت و
قول زور، وقد ثبت منهم خلافه، تقول القوم عليهم لتخفيف الوطأة على الخليفة، و
افتعلوا للغاية نفسها أحاديث منها ما في المدونة الكبرى 1: 34 من طريق ابن المسيب
قال: إن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعائشة كانوا يقولون: إذا مس الختان
الختان فقد وجب الغسل.
حسب المغفل إن باختلاق هذه الرواية يمحو ما خطته يد التاريخ والحديث في
صحائفهما من جهل الرجلين بالحكم، ورأيهما الشاذ عن الكتاب والسنة.
وأعجب من هذا: عد ابن حزم في المحلى 2: 4 عليا وابن عباس وأبيا وعثمان
وعدة أخرى وجمهور الأنصار ممن رأى أن لا غسل من الايلاج إن لم يكن أنزل ثم قال:
وروي الغسل في ذلك عن عائشة وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس
الخ. كل هذه آراء متضاربة ونسب مفتعلة لفقها أمثال ابن حزم لتزحزح فتوى
الخليفتين عن الشذوذ.
وأخرج أحمد في مسنده 4: 143 من طريق رشدين بن سعد عن موسى بن
أيوب الغافقي عن بعض ولد رافع بن خديج عن رافع بن خديج قال: ناداني رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أنزل، فاغتسلت وخرجت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأخبرته إنك دعوتني وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أنزل، فاغتسلت فقال

(1) سنن الدارمي 1: 194، سنن ابن ماجة 1: 212، سنن البيهقي 1: 165، الاعتبار
لابن حازم ص 33.
148

رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عليك، الماء من الماء. قال رافع: ثم أمرنا رسول الله بعد ذلك بالغسل.
هذه الرواية افتعلها واضعها لإبطال تأويل ابن عباس وإثبات النسخ ذاهلا عن
أن هذا لا يبرر ساحة عثمان من لوث الجهل أيام خلافته بالحكم الناسخ.
وهل في وسع ذي مرة تعقل حكاية ابن خديج قصته لرسول الله صلى الله عليه وآله؟ و
إنه كان على بطن امرأته لما دعاه، وإنه قام ولم ينزل؟ هل العادة قاضية لنقل مثل هذه
لمثل رسول الله صلى الله عليه وآله؟
ثم إن كان الرجل قام من فوره لدعوة نبيه، ولم يقض من حليلته وطره فلماذا
أرجأ إجابة تلك الدعوة بالاغتسال؟ ولم يكن واجبا، فممن أخذ؟ ولماذا اغتسل؟
ولما أمروا به بعد.
والنظرة في إسناد الرواية تغنيك عن البحث عما في متنها لمكان رشدين بن
سعد أبي الحجاج المصري، ضعفه أحمد، وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، ليس بشئ،
وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: منكر الحديث فيه غفلة ويحدث
بالمناكر عن الثقات، ضعيف الحديث. وقال الجوزقاني: عنده معاضيل ومناكير
كثيرة وقال النسائي: متروك الحديث ضعيف لا يكتب حديثه. وقال ابن عدي: أحاديثه
ما أقل من يتابعه عليها. وقال ابن سعد: كان ضعيفا. وقال ابن قانع، والدارقطني،
وأبو داود: ضعيف الحديث. وقال يعقوب بن سفيان: رشدين أضعف وأضعف. عن:
موسى بن أيوب الغافقي وهو وإن حكيت ثقته عن ابن معين، غير إنه نقل عنه
أيضا قوله فيه: منكر الحديث، وكذا قال الساجي، وذكره العقيلي في الضعفاء (1). عن:
بعض ولد رافع، مجهول لا يعرف، فالرواية مرسلة بإسناد لا يعول عليه، قال
الشوكاني في نيل الأوطار 1: 280: حسنه الحازمي، وفي تحسينه نظر، لأن في
إسناده رشدين، وليس من رجال الحسن، وفيه أيضا مجهول لأنه قال عن بعض ولد
رافع بن خديج، فالظاهر ضعف الحديث لا حسنه. ا ه‍.
وأما تبرير عثمان بتوهم كون السؤال عنه والجواب قبل تشريع الحكم، أو
قبل نسخه السابق في أول الاسلام على العهد النبوي، كما يعرب عنه كلام القسطلاني

(1) تهذيب التهذيب 3: 277. ج 10: 336.
149

في إرشاد الساري 1: 332، فمن المستبعد جدا، فإن المسؤول يومئذ عن الأحكام وعن
كل مشكلة هو رسول الله لا غيره، فما كان عثمان يسأل عن حكم إذا جهله رجع السائل
إلى أفراد آخرين، فتصل النوبة إلى طلحة والزبير دون رسول الله، وأين كان الشيخان
يوم ذاك؟ وقد رووا عن ابن عمر إنه لم يك يفتي على عهد رسول الله أحد إلا أبو بكر وعمر
كما مر في ج 7: 182 ط 2، فلا يسع لأي أحد الدفاع عن الخليفة بهذا التوهم.
وإن تعجب فعجب قول البخاري: الغسل أحوط، وذاك الأخير إنما بيناه
لاختلافهم. قاله بعد إخراج رواية أبي هريرة الموجبة للغسل المذكورة ص 144 ط 2، وفتوى
عثمان المذكورة وحديث أبي الموافق معه، فجنح إلى رأي عثمان، وضرب عما جاء
به نبي الاسلام، وأجمعت عليه الصحابة والتابعون والعلماء، كما سمعت عن القرطبي،
وقال النووي في شرح مسلم هامش إرشاد الساري 2: 425: إن الأمة مجتمعة الآن
على وجوب الغسل بالجماع، وإن لم يكن معه إنزال، وعلى وجوبه بالإنزال. ا ه‍.
وهذا الإجماع من عهد الصحابة وهلم جرا، وقال القاضي عياض: لا نعلم أحدا قال
به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الأعمش، ثم بعده داود الأصبهاني.
وقال القسطلاني في الارشاد 1: 333: قال البدر الدماميني كالسفاقسي فيه جنوح
لمذهب داود، وتعقب هذا القول البرماوي بأنه إنما يكون ميلا لمذهب داود والجمهور
على إيجاب الغسل بالتقاء الختانين وهو الصواب.
وقال ابن حجر في فتح الباري 1: 316: قال ابن العربي: إيجاب الغسل أطبق
عليه الصحابة ومن بعدهم، وما خالف فيه إلا داود، ولا عبرة بخلافه، وإنما الأمر
الصعب مخالفة البخاري وحكمه بأن الغسل مستحب، وهو أحد أئمة الدين وأجلة
علماء المسلمين. ا ه‍.
فلا تعجب عن بخاري يقدم في الفتوى رأي مثل عثمان على ما جاء به رسول الله
صلى الله عليه وآله بعد إجماع الأمة عليه تقديمه نظراء عمران بن حطان الخارجي على الإمام
الصادق جعفر بن محمد في الرواية. " ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك
من العلم إنك إذا لمن الظالمين ".
150

9 كتمان الخليفة حديث النبي صلى الله عليه وآله
أخرج أحمد في مسنده 1: 65 عن أبي صالح قال: سمعت عثمان رضي الله عنه
يقول على المنبر: أيها الناس إني كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية
تفرقكم عني، ثم بدا لي أن أحدثكموه ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم: يقول: رباط يوم في سبيل الله تعالى خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل.
وأخرج في المسند 1: 601؟، 65 عن مصعب قال: قال عثمان بن عفان رضي الله
عنه وهو يخطب على منبره: إني محدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان
يمنعني أن أحدثكم إلا الضن بكم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حرس ليلة
في سبيل الله تعالى أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها.
وأخرج في المسند 1: 57 عن حمران قال: توضأ عثمان رضي الله عنه على البلاط
ثم قال: لأحدثنكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ فأحسن الوضوء ثم دخل فصلى غفر له ما بينه و
بين الصلاة الأخرى حتى يصليها.
وذكرها غير واحد من الحفاظ أخذا من مسند أحمد.
قال الأميني: ليت مخبرا يخبرني عن مبرر هذا الشح عن تعليم أمة محمد صلى الله عليه وآله
بتلكم الأحاديث، والناس في حاجة أكيدة إلى الحديثين في فضل الجهاد والمرابطة
الذين بهما قام عمود الدين، ومطط أديمه، ودخلت هيبته القلوب، وكانوا يومئذ يتسابقون
على الجهاد لكثرة ما انتهى إليهم من فضله، ولتعاقب الفتوح التي مرنتهم على الغزو
وشوقتهم إلى توسيع دائرة المملكة، وحيازة الغنائم، فلو كان الخليفة يروي لهم شيئا
مما لم يزل له نقر في آذانهم، ونكت في قلوبهم لازدادوا إليه شوقا، وازدلفوا إليه
رغبة، وكان يعلم العالم منهم من لم يعلم، لا أنهم كانوا يتفرقون عنه كما حسبه الخليفة،
ولو كان يريد تفرقهم عنه إلى الجهاد فهو حاجة الخليفة إلى مجتمعه وحاجة المجتمع إلى
الخليفة الذي يكتنفون به، فهي مقصورة من الجانبين على التسرب إلى الجهاد والدفاع
والدعوة إلى الله تعالى، وإلى دينه الحق وصراطه المستقيم، لا أن يجتمعوا حوله فيأنسونه
151

بالمعاشرة والمكاشرة، إذن فلا وجه للضنة بهم عن نقل تلكم الروايات.
وأما ثالث الأحاديث فهو من حاجة الناس إلى أميرهم في ساعة السلم، وأي نجعة
في الأمير هي خير من بعث الأمة على إحسان الوضوء، والصلاة بعده التي هي خير موضوع
وهي عماد الدين، ووسيلة إلى المغفرة، ونجح الطلباب، وأحد أصول الاسلام، فلماذا
يشح به الخليفة؟ فيحرم أمته عن تلكم المثوبات والأجور.
وأما الآية التي بعثته على التنويه بالحديث، فليته كان يدلنا عليها ويعرب
عنها، وقد كانت موجودة منذ نزولها، وفي أبان شح الخليفة على رواية الحديث، فما
الذي جعجع به إلى هذا التاريخ؟ وأرجأ روايته إلى الغاية المذكورة؟ ولعله أراد ما
نص عليه أبو هريرة فيما أخرجه الجصاص في آيات الأحكام 1: 116 عن أبي هريرة
أنه قال: لولا آية في كتاب الله عز وجل ما حدثتكم، ثم تلا: " إن الذين يكتمون
ما أنزلنا من البينات والهدى " قال الجصاص: فأخبر أن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
من البينات والهدى الذي أنزله الله تعالى.
وهب أن الآية لم تنزل، فهل الحكم الذي هتف به رسول الله صلى الله عليه وآله يسدل عليه
ستار الاخفاء إلى أن يرتئي الخليفة أن يبوح به؟. أنا لا أدري السر في هذه كلها، و
لعل عند الخليفة ما لا أعلمه.
م وهل كان مبلغ جهل الصحابة الأولين بالسنة هذا الحد بحيث كان يخفي عليهم
مثل الحديثين؟ وكان علمهما يخص بالخليفة فحسب والخليفة مع هذا كان يعلم جهل
جميعهم بذلك وإنه لو كتمه لما بان.
على إن كاتم العلم وتعاليم النبوة بين اثنين رحمة يزوى عنه، وذموم تتوجه
إليه، وإليك في المقامين أحاديث جمة فمن الفريق الثاني ما ورد:
1 عن ابن عمر مرفوعا: علم لا يقال به، ككنز لا ينفق منه. أخرجه
ابن عساكر.
2 - عن ابن مسعود مرفوعا: علم لا ينفع، ككنز لا ينفق منه. أخرجه القضاعي.
3 عن أبي هريرة مرفوعا: مثل الذي يتعلم العلم، ثم لا يحدث به كمثل
الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه. أخرجه الطياسي والطبراني والمنذري.
152

4 عن أبي سعيد مرفوعا: كاتم العلم يلعنه كل شئ حتى الحوت في البحر و
الطير في السماء. أخرجه ابن الجوزي في العلل.
5 - عن ابن مسعود مرفوعا: أيما رجل آتاه الله علما فكتمه ألجمه الله يوم القيامة
بلجام من نار. أخرجه الطبراني.
6 - عن أبي هريرة مرفوعا: ما آتي الله تعالى عالما علما إلا أخذ عليه الميثاق
أن لا يكتمه. أخرجه ابن النظيف وابن الجوزي.
7 - عن ابن مسعود مرفوعا: من كتم علما عن أهله ألجم يوم القيامة لجاما من
نار. أخرجه ابن عدي.
8 - عن أبي هريرة مرفوعا: ما من رجل يحفظ علما فيكتمه إلا أتى يوم القيامة
ملجما بلجام من نار. أخرجه ابن ماجة.
9 - عن أبي سعيد مرفوعا: من كتم علما مما ينفع الله به الناس في أمر الدين
ألجمه يوم القيامة بلجام من نار. أخرجه ابن ماجة والمنذري.
10 - عن أبي هريرة مرفوعا: مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل رجل
رزقه الله مالا فكنزه فلم ينفق منه. أخرجه أبو خيثمة في العلم وأبو نصر في الإبانة
11 - عن ابن عمر مرفوعا: من بخل بعلم أوتيه أتي به يوم القيامة مغلولا ملجوما
بلجام من نار. أخرجه ابن الجوزي في العلل.
12 - وفي لفظ ابن النجار عن ابن عمرو: من علم علما ثم كتمه ألجمه الله يوم
القيامة بلجام من نار.
وفي لفظ الخطيب: من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار. أخرجه
ابن حبان والحاكم والمنذري.
13 - عن ابن مسعود مرفوعا: من كتم علما ينتفع به ألجمه الله يوم القيامة بلجام
من نار. أخرجه الطبراني في الكبير وابن عدي في الكامل والسجزي والخطيب.
14 - عن ابن عباس مرفوعا: من كتم علما يعلمه الجم يوم القيامة بلجام من
نار. أخرجه الطبراني في الكبير.
15 - عن قتادة: ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم علما فليعلمه الناس، و
153

إياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة. أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير،
وابن المنذر، وابن أبي حاتم كما في تفسير الشوكاني 1: 375.
16 - عن الحسن قال: لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم
بكثير مما تسألون عنه. أخرجه ابن سعد.
وحسبك من الفريق الأول قوله صلى الله عليه وآله:
1 - رحم الله امرءا سمع مني حديثا فحفظ حتى يبلغه غيره. أخرجه ابن حبان.
2 - رحم الله امرءا سمع منا حديثا فوعاه ثم بلغه من هو أوعى منه. أخرجه
ابن عساكر.
3 - اللهم ارحم خلفائي الذين يأتون من بعدي، يروون أحاديثي وسنتي و
يعلمونها الناس. أخرجه الطياسي والرامهرمزي والخطيب بن النجار.
4 - رحمة الله على خلفائي، قيل: من خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون
سنتي ويعلمونها الناس. أخرجه أبو نصر في الإبانة وابن عساكر والمنذري في الترغيب.
5 - نظر الله امرءا سمع منا حديثا فبلغه غيره. أخرجه المنذري.
راجع مسند أحمد مسانيد الصحابة المذكورين، مسند الطيالسي، الترغيب
والترهيب للمنذري، كتاب العلم لأبي عمر، إحياء العلوم للغزالي، مجمع الزوائد للحافظ
الهيثمي ج 1، كنز العمال كتاب العلم.
نعم: لعل الخليفة اتبع في كتمانه سنة رسول الله صلى الله عليه وآله رأي الشيخين قبله في
نهيهما عن إكثار الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله كما فصلنا القول فيه في ج 6 ص 294 ط 2، و
لست أدري إن قلة رواية الخليفة وقد بلغت عدتها كما ذكرها السيوطي في تاريخ
الخلفاء ص 100، وابن العماد الحنبلي في الشذرات 1: 136 مائة وستة وأربعين حديثا
أهي لقلة منته في السنة، وصفر يده من العلم بها؟ أو لشحه على بثها وضنه بالأمة؟
والله يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون.
- 10 -
رأي الخليفة في زكاة الخيل
أخرج البلاذري في الأنساب 5: 26 بالإسناد من طريق الزهري: إن عثمان كان
154

يأخذ من الخيل الزكاة فأنكر ذلك من فعله وقالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: عفوت لكم
عن صدقة الخيل والرقيق.
وقال ابن حزم في المحلى 5: 227: قال ابن شهاب: كان عثمان بن عفان
يصدق الخيل.
وأخرجه عبد الرزاق عن الزهري كما في تعاليق الآثار للقاضي أبي يوسف ص 87.
قال الأميني: ليت هذه الفتوى المجردة من الخليفة كانت مدعومة بشئ من
كتاب أو سنة، لكن من المأسوف عليه إن الكتاب الكريم خال عن ذكر زكاة الخيل،
والسنة الشريفة على طرف النقيض مما أفتى به، وقد ورد فيما كتبه رسول الله صلى الله عليه وآله
في الفرائض قوله: ليس في عبد مسلم ولا في فرسه شئ.
وجاء عنه صلى الله عليه وآله قوله: عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق.
وفي لفظ ابن ماجة: قد تجوزت لكم عن صدقة الخيل والرقيق.
وقوله: ليس على المسلم صدقة في عبده ولا في فرسه.
وفي لفظ البخاري: ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة.
وفي لفظ له: ليس على المسلم صدقة في عبده وفرسه.
وفي لفظ مسلم: ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة.
وفي لفظ له: ليس على المرء المسلم في فرسه ولا مملوكه صدقة.
وفي لفظ أبي داود: ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق.
وفي لفظ الترمذي: ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده صدقة.
وفي لفظ النسائي: كلفظ مسلم الأول.
وفي لفظ له: لا زكاة على الرجل المسلم في عبده ولا في فرسه.
وفي لفظ له: ليس على المرء في فرسه ولا في مملوكه صدقة.
وفي لفظ: ليس على المسلم صدقة في غلامه ولا في فرسه.
ولفظ ابن ماجة كلفظ مسلم الأول.
وفي لفظ أحمد: ليس في عبد الرجل ولا في فرسه صدقة.
وفي لفظ البيهقي: لا صدقة على المسلم في عبده ولا في فرسه.
155

وفي لفظ عبد الله بن وهب في مسنده: لا صدقة على الرجل في خيله ولا في رقيقه.
وفي لفظ ابن أبي شيبة: ولا في وليدته.
وفي رواية للطبراني في الكبير والبيهقي في السنن 4: 118 من طريق عبد الرحمن
ابن سمرة: لا صدقة في الكسعة والجبهة والنخة (1).
ومن طريق أبي هريرة: عفوت لكم عن صدقة الجبهة والكسعة والنخة.
راجع صحيح البخاري 3: 30، 31، صحيح مسلم 1: 361، صحيح الترمذي
1: 80، سنن أبي داود 1: 253، سنن ابن ماجة 1: 555، 556، سنن النسائي 5:
35، 36، 37، سنن البيهقي 4، 117، مسند أحمد 1: 62، 121، 132، 145،
146، 148، ج 2: 243، 249، 279، 407، 432، كتاب الأم للشافعي 2: 22، موطأ
مالك 1: 206، أحكام القرآن للجصاص 3: 189، المحلى لابن حزم 5: 229، عمدة
القاري للعيني 4: 383.
ولو كان في الخيل شئ من الزكاة لوجب أن يذكر في كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله
الذي فصل فيه الفرايض تفصيلا (2) وقد أعطاه كبرنامج يعمل به في الفرايض وعليه كان
عمل الصحابة، ومنه أخذ أبو بكر ما كتبه دستورا يعول عليه في الصدقات (3)، وكان
مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يهتف بتلك السنة الثابتة، وعليها كان عمله عليه السلام، وعليها أضفقت
الصحابة وجرت الفتيا من التابعين، وبها قال عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، و
عطاء، ومكحول، والشعبي، والحسن، والحكم بن عتيبة، وابن سيرين، والثوري،
والزهري، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأهل الظاهر، وأبو يوسف، ومحمد
ابن الحنفية. (4)
وقال ابن حزم: وذهب جمهور الناس إلى أن لا زكاة في الخيل أصلا. وقال مالك
والشافعي، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد، وجمهور العلماء: لا زكاة في الخيل بحال. ا ه‍.

(1) الجبهة الخيل. الكسعة: البغال والحمير. النخة. المربيات في البيوت.
(2) راجع سنن البيهقي 4: 85 90، مستدرك الحاكم 1: 390 398.
(3) راجع مصابيح السنة للبغوي 1: 119.
(4) راجع المحلى لابن حزم 5: 229، عمدة القاري 4: 383.
156

نعم: للحنفية هاهنا تفصيل مجرد عن أي برهنة ضربت عنه الأمة صفحا قالوا:
لا زكاة في الخيل الذكور، ولو كثرت وبلغت ألف فرس، وإن كانت إناثا، أو إناثا و
ذكورا سائمة غير معلوفة فحينئذ تجب فيها الزكاة. وصاحب الخيل مخير إن شاء أعطى
عن كل فرس منها دينارا أو عشرة دراهم، وإن شاء قومها فأعطى من كل مائتي درهم
خمسة دراهم.
كذا حكاه ابن حزم في المحلى 5: 288، وأبو زرعة في طرح التثريب 4: 14،
وملك العلماء في بدايع الصنايع 1: 34، والنووي في شرح مسلم.
وهذا التفصيل ما كان قط يعرفه الصحابة والتابعون لأنهم لم يجدوا له أثرا في
كتاب أو سنة، وكان من الحقيق إن كان للحكم مدرك يعول عليه أن يعرفوه، وأن
يثبته رسول الله صلى الله عليه وآله في كتابه، وكذلك أبو بكر من بعده، وهذا كاف في سقوطه، و
لذلك خالف أبا حنيفة فيه أبو يوسف ومحمد وقالا بعدم الزكاة في الخيل كما ذكره الجصاص
في أحكام القرآن 3: 188، وملك العلماء في البدايع 2: 34، والعيني في العمدة 4:
383.
وغاية جهد أصحاب أبي حنيفة في تدعيم قوله بالحجة أحاديث لم يوجد في شئ
منها ما جاء به من الرأي المجرد، ألا وهي:
1 - أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من طريق أبي هريرة مرفوعا: ما من
صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها. فذكر الوعيد الذي في منع حقها وحق
الإبل والبقر والغنم، وذكر في الإبل: ومن حقها حلبها يوم وردها، ثم قال: قيل: يا
رسول الله! فالخيل؟ قال: الخيل لثلاثة: هي لرجل وزر. وهي لرجل أجر. وهي لرجل
ستر. فأما الذي هي له وزر: فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء على أهل الاسلام فهي
له وزر، وأما الذي هي له ستر: فرجل ربطها في سبيل الله. ثم لم ينس حق الله في
ظهورها، ولا رقابها فهي له ستر. وأما الذي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله
لأهل الاسلام. الحديث. وفي لفظ مسلم بدل قوله: ثم لم ينس حق الله.. الخ: و
لم ينس حق الله في ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها.
استدل به ابن التركماني المارديني في الجوهر النقي ط ذيل سنن البيهقي 4:
157

120 وقال: يدل عليه ظاهر قوله: ثم لم ينس حق الله. إلخ. مع قرينة قوله في أول
الحديث: ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها،
وما من صاحب عنم لا يؤدي زكاته. ونحن لا نعرف وجه الدلالة في ظاهر قوله: ثم لم
ينس. مع ضم القرينة إليه على ما أفتى به أبو حنيفة، وغيرنا أيضا لا يرى فيه دلالة على
الزكاة في الخيل كما قاله البيهقي في السنن 4: 119.
2 - أخرج البيهقي في سننه الكبرى 4: 119 عن أبي الحسن علي بن أحمد بن
عبدان عن أبيه، عن أبي عبد الله محمد بن موسى الإصطخري، عن إسماعيل بن يحيى بن
بحر الأزدي، عن الليث بن حماد الإصطخري، عن أبي يوسف القاضي، عن غورك بن
الحصرم أبي عبد الله، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الخيل السائمة في كل فرس دينار.
قال البيهقي: تفرد به غورك، وأخبرنا أبو بكر بن الحارث قال: قال عمر بن علي
الحافظ يعني الدارقطني: تفرد به غورك عن جعفر، وهو ضعيف جدا ومن دونه
ضعفاء.
قال الأميني: في رجال الاسناد: أحمد بن عبدان مجهول. قاله مسلمة بن قاسم وفيه:
2 - محمد بن موسى الإصطخري: شيخ مجهول، روى عن شعيب خبرا موضوعا
قاله ابن حجر.
3 - إسماعيل بن يحيى الأزدي: ضعفه الدارقطني، وحكاه عنه ابن حجر. و
4 - وليث بن حماد الإصطخري: ضعفه الدارقطني، ونقله عنه الذهبي وابن حجر. و
5 - أبو يوسف القاضي: قال البخاري: تركوه، وعن المبارك: إنه وهاه. وعن
يزيد بن هارون: لا تحل الرواية عنه. وقال الفلاس: صدوق كثير الخطأ، إلى آخر
ما مر من ترجمته في هذا الجزء ص 30، 31.
6 - غورك السعدي: قال الدارقطني: ضعيف جدا، وذكره الذهبي في
الميزان. (1)

(1) راجع ميزان الاعتدال 2: 323، 360، لسان الميزان 1: 192، 441، ج 4: 421،
493، ج 5: 401، ج 6: 300.
158

ومما يوهن هذه الرواية عدم إخراج ابن أبي يوسف القاضي فيما جمعه من
الأحاديث عن والده وأسماه بالآثار. وذكرها الذهبي في لميزان 2: 223 فقال: ضعف
الدارقطني الليث وغيره في إسناده.
على أن الرواية خالية عن تفصيل الذي جاء به أبو حنيفة من نفي الزكاة في ذكور
الخيل ولو كثرت ووجوبها إن كانت إناثا، أو إناثا وذكورا. إلى آخر ما تقول به.
3 - أخرج ابن أبي شيبة في مسنده من طريق عمر مرفوعا في حديث طويل قال:
فلا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول:
لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا له
حمحمة ينادي يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئا. الحديث.
استدل به على وجوب الزكاة في الخيل ابن التركماني المارديني في الجوهر النقي
يل سنن البيهقي 4: 120. وقال: فدل على وجوب الزكاة في هذه الأنواع. ا ه‍.
أمعن النظر في الحديث لعلك تعرف وجه الدلالة على ما ارتآه الرجل، وما
أحسبك أن تعرفه، غير أن حب المارديني إمامه أبا حنيفة أعماه وأصمه، فحسب إنه
أقام البرهنة على ما خرق به الرجل إجماعة، وتقول تجاه النص الأغر، و
السنة الثابتة، وكل هذه من جراء رأي من صدق الخيل بعد عفو الله ورسوله عنها.
4 - فعل عمر بن الخطاب وأخذه الزكاة من الخيل، وليس في فعله أي حجة
للحنفية ولا لغيرهم، لأنه لم يكن فيما عمله التفصيل الذي ذكره القوم، على إنه كان
يأخذ ما أخذه من الخيل تطوعا لا فريضة باستدعاء من أرباب الخيل كما مر في الجزء
السادس ص 155 ط 2، وما كان يخافه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، ويحذر به عمر في أخذه
الزكاة من الخيل من أن يعود جزية يوجبها أناس في المستقبل، فكان كما توسم سلام
الله عليه على عهد عثمان، فالتفصيل المذكور أحدوثة في الدين خارجة عن السنة
الثابتة، وهو كما قال ابن حزم في المحلى 5: 228: وأتوا بقول في صفة زكاتها لا نعلم
أحدا قاله قبلهم.
وقولهم هذا يخالف القياس الذي هو أساس مذهبهم. قال ابن رشد في ممهدات
المدونة الكبرى 1: 263: والقياس إنه لما اجتمع أهل العلم في البغال والحمير على
159

إنه لا زكاة فيها وإن كانت سائمة، واجتمعوا في الإبل، والبقر، والغنم على الزكاة فيها
إذا كانت سائمة: واختلفوا في الخيل سائمة وجب ردها إلى البغال والحمير لا إلى الإبل
والبقر والغنم، لأنها بها أشبه لأنها ذات حافر كما إنها ذوات حوافر، وذو الحافر بذي
الحافر أشبه منه بذي الخف أو الظلف، ولأن الله تبارك وتعالى قد جمع بينها فجعل
الخيل والبغال والحمير صنفا واحدا لقوله: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة
وجمع بين الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم فجعلها صنفا واحدا لقوله: والأنعام خلقها
لكم فيها دفء ومنافع تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون
ولقوله عز وجل: الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون.
- 10 -
تقديم عثمان الخطبة على الصلاة
قال ابن حجر في فتح الباري 2: 361: روى ابن المنذر عن عثمان بإسناد صحيح
إلى الحسن البصري قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان، صلى بالناس ثم خطبهم (1)
فرأى ناسا لم يدركوا الصلاة، ففعل ذلك، أي صار يخطب قبل الناس، وهذه العلة
غير التي إعتل بها مروان، لأن عثمان رأى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة، و
وأما مروان فراعى مصلحتهم في استماعهم الخطبة، لكن قيل: إنهم كانوا في زمن مروان
يتعمدون ترك سماع خطبته لما فيها من سب ما لا يستحق السب، والافراط في مدح
بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه، ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك
أحيانا بخلاف مروان فواظب عليه. وذكره الشوكاني في نيل الأوطار 3: 362.
وأخرج ابن شبه عن أبي غسان قال: أول من خطب الناس في المصلى على منبر
عثمان بن عفان. وقال ابن حجر: يحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى
أعاده مروان. فتح الباري 2: 359، نيل الأوطار 3: 374.
وذكره السيوطي في الأوائل، وتاريخ الخلفاء ص 111، والسكتواري في محاضرة
الأوائل ص 145: إن أول من خطب في العيدين قبل الصلاة عثمان رضي الله عنه.

(1) على الباحث مناقشة الحساب حول هذه الكلمة.
160

قال الأميني: إن الثابت في السنة الشريفة إن الخطبة في العيدين تكون بعد
الصلاة، قال الترمذي في الصحيح 1، 70: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم إن صلاة العيدين قبل الخطبة ويقال: إن أول من خطب قبل
الصلاة مروان بن الحكم. ا ه‍.
وإليك جملة مما ورد فيها:
1 - عن ابن عباس قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه صلى يوم فطر أو أضحى
قبل الخطبة ثم خطب.
صحيح البخاري 2: 116، صحيح مسلم 1: 325، سنن أبي داود 1: 178،
179، سنن ابن ماجة 1: 385، سنن النسائي 3: 184، سنن البيهقي 3: 296.
2 - عن عبد الله بن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر يصلون العيدين قبل
الخطبة. وفي لفظ الشافعي: إن النبي وأبا بكر وعمر كانوا يصلون في العيدين قبل
الخطبة، وفي لفظ للبخاري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الأضحى والفطر ثم
يخطب بعد الصلاة.
صحيح البخاري 2: 111، 112، صحيح مسلم 1: 326، موطأ مالك 1: 146، مسند أحمد 2: 38، كتاب الأم للشافعي 1: 208، سنن ابن ماجة 1: 387، سنن
البيهقي 3: 296، سنن الترمذي 1: 70، سنن النسائي 3: 183، المحلى لابن حزم
5: 85، بدايع الصنايع 1: 276.
3 - عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم العيدين فيصلي
بالناس ركعتين ثم يسلم فيقف على رجليه. الخ.
سنن ابن ماجة 1: 389، المدونة الكبرى لمالك 1: 155، سنن البيهقي
3: 297.
4 - عن عبد الله بن السائب قال: حضرت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا
العيد ثم قال: قد قضينا الصلاة فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن
يذهب فليذهب.
سنن ابن ماجة 1: 386، سنن أبي داود 1: 180، سنن النسائي 3: 185، - الغدير 12 -
161

سنن بيهقي 3: 301، المحلى 5: 86.
5 - عن جابر بن عبد الله قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة
قبل الخطبة ثم خطب الناس.
صحيح البخاري 2: 111، صحيح مسلم 1: 325، سنن أبي داود 1: 178،
سنن النسائي 3: 186، سنن البيهقي 2: 296، 698.
6 - عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الخطبة. المدونة الكبرى 1: 155.
7 - عن البراء بن عازب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة.
صحيح البخاري 2: 110، سنن النسائي 3: 185.
8 - عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع علي بن أبي طالب و
عثمان محصور فجاء فصلى ثم انصرف فخطب.
موطأ مالك 1: 147، كتاب الأم للشافعي 1: 171 ذكر من طريق مالك شطرا منه.
هذه الأحاديث تكشف عن استمرار رسول الله صلى الله عليه وآله على هذه السنة المرتبة و
لم يعز إليه غيرها قط، وعلى ذلك مضى الشيخان ومولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام
وعثمان نفسه ردحا من أيامه كما جاء في رواية ابن عمر من إن النبي وأبا بكر وعمر
وعثمان كانوا يصلون في العيدين قبل الخطبة (1) وظاهر هذا اللفظ وإن كان مطلقا إلا
الجمع بينه وبين ما جاء من مخالفة عثمان للقوم وإنه أول من قدم الخطبة إنه
كان أولا على وتيرتهم حتى بدا له أن يغير الترتيب ففعل، ويؤيده سكوت ابن عمر
نفسه عن عثمان فيما مر ص 161 من قوله: كان النبي ثم أبو بكر ثم عمر يصلون العيد
قبل الخطبة. فإن كان عثمان أيضا مستمرا على سيرتهم وسنتهم لذكره ولم يفصل بينهم
وبهذا يتأتى الجمع أيضا بين حديثي ابن عباس من قوله: شهدت العيد مع النبي و
أبي بكر وعمر فبدؤا بالصلاة قبل الخطبة. ومن قوله: صلى رسول الله ثم خطب و
أبو بكر وعمر وعثمان (2).

(1) كتاب الأم للشافعي 1: 08 2، صحيح البخاري 2: 112.
(2) مسند أحمد 1: 345، 346، صحيح مسلم 1: 324.
162

وليتني أدري كيف يتقرب إلى المولى سبحانه بصلاة بدلوا فيها سنة الله التي
لا تبديل لها، قال الشوكاني في نيل الأوطار 2: 363: قد اختلف في صحة العيدين مع
تقدم الخطبة ففي مختصر المزني عن الشافعي ما يدل على عدم الاعتداد بها وكذا قال
النووي في شرح المهذب: إن ظاهر نص الشافعي إنه لا يعتد بها. قال: وهو الصواب.
ثم تابع عثمان المسيطرون من الأمويين من بعده فخالفوا السنة المتبعة بتقديم
الخطبة لكن الوجه في فعل عثمان غيره في من تبعه، أما هو فكان يرتج عليه القول
فلا يروق المجتمعين ما يتكلفه من تلفيقه غير المنسجم فيتفرقون عنه فقدمها ليصيخوا
إليه وهم منتظرون بالصلاة ولا يسعهم التفرق قبلها.
قال الجاحظ: صعد عثمان بن عفان رضي الله عنه المنبر فارتج عليه فقال: إن
أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام
خطيب، وستأتيكم الخطب على وجهها وتعلمون إن شاء الله (1).
قال البلاذري في الأنساب 5: 24: إن عثمان لما بويع خرج إلى الناس فخطب
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما
وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، فما كنا خطباء وسيعلمنا الله. وهذا اللفظ أخرجه
ابن سعد في طبقاته 3: 43 ط ليدن، وفي لفظ أبي الفدا في تاريخه ج 1: 166: لما
بويع عثمان رقى المنبر وقام خطيبا فحمد الله وتشهد ثم ارتج عليه فقال: إن أول كل
أمر صعب وإن أعش فستأتيكم الخطب على وجهها ثم نزل.
وروى أبو مخنف كما في أنساب البلاذري: إن عثمان لما صعد المنبر قال: أيها
الناس! إن هذا مقام لم أزور له خطبة ولا أعددت له كلاما وسنعود ونقول إن شاء الله.
وعن غياث بن إبراهيم: إن عثمان صعد المنبر فقال: أيها الناس إنا لم نكن خطباء
وإن نعش تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله.
وروي إن عثمان خطب فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا
وسيأتي الله به. ا ه‍.
وذكره اليعقوبي في تاريخه 2: 140 فقال: صعد عثمان المنبر وجلس في الموضع

(1) البيان والتبيين 1: 272، و ج 2: 195.
163

الذي كان يجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه، جلس أبو بكر
دونه بمرقاة، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة (1) فتكلم الناس في ذلك فقال بعضهم:
اليوم ولد الشر، وكان عثمان رجلا حييا فارتج عليه فقام مليا لا يتكلم ثم قال: إن
أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام
يشقق الخطب، وإن تعيشوا فستأتيكم الخطبة. ثم نزل.
وفي لفظ ملك العلماء في بدايع الصنايع 1: 262: إن عثمان لما استخلف
خطب في أول جمعة فلما قال: الحمد لله. ارتج عليه فقال: أنتم إلى إمام فعال أحوج
منكم إلى إمام قوال، وإن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المكان مقالا وستأتيكم الخطب
من بعد، واستغفر الله لي ولكم. ونزل وصلى بهم الجمعة.
ولعله لحراجة الموقف عليه كان يماطل الخطبة باستخبار الناس وسؤالهم عن
أخبارهم وأسعارهم وهو على المنبر كما أخرجه أحمد في المسند 1: 73 من طريق
موسى بن طلحة. وذكره الهيثمي في المجمع 2: 187 فقال: رجاله رجال الصحيح.
ولا يبرر عمل الخليفة ما احتج به ابن حجر فيما مر عن فتح الباري ص 160
من إنه رأى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة.. الخ. لأن هذه المصلحة المزعومة
كانت مرموقة على العهد النبوي لكنه صلى الله عليه وآله لم يرعها لما رآه من مصلحة التشريع
الأقوى، فهذا الرأي تجاه ما ثبت من السنة نظير الاجتهاد في مقابلة النص، ولو سوغنا
تغيير الأحكام، وما قرره الشرع الأقدس بآراء الرجال، فلا تبقى قائمة للاسلام، فلا
فرق بينه وبين ما ارتآه مروان في كونهما بدعة مستحدثة، وإن ضم إليه شنعة أخرى
من سب من لا يحل سبه.
هذا مجمل القول في أحدوثة الخليفة، وأما من عداه من آل أمية، فكانوا يسبون
ويلعنون مولانا أمير المؤمنين عليا صلوات الله عليه في خطبهم على صهوات المنابر، فلا
تجلس لهم الناس وينثالون عنهم، فقدموا الخطبة ليضطر الناس إلى الاستماع له بالرغم
من عدم استباحتهم ذلك القول الشائن، لما وعوه من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الصحيح
المأثور من طريق ابن عباس وأم سلمة من قوله: من سب عليا فقد سبني، ومن

(1) وذكره غير واحد من مؤلفي القوم.
164

سبني فقد سب الله تعالى (1)
أخرج أئمة الصحاح من طريق أبي سعيد الخدري قال: أخرج مروان المنبر
يوم العيد، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل فقال: يا مروان! خالفت السنة،
أخرجت المنبر يوم عيد، ولم يكن يخرج به، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، ولم يكن
يبدأ بها. فقال مروان: ذاك شئ قد ترك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه
سمعت رسول الله يقول: من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده،
فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه، وذلك أضعف الأيمان.
وفي لفظ الشافعي في كتاب الأم من طريق عياض بن عبد الله قال: إن أبا سعيد
الخدري قال: أرسل إلي مروان وإلى رجل قد سماه، فمشي بنا حتى أتى المصلى،
فذهب ليصعد فجبذته (2) إلي فقال: يا أبا سعيد؟ ترك الذي تعلم. قال أبو سعيد:
فهتفت ثلاث مرات، فقلت: والله لا تأتون إلا شرا منه.
وفي لفظ البخاري في صحيحه: خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في
أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن
يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم
والله فقال: أبا سعيد! قد ذهب ما تعلم. فقلت ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن
الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة (3)
وفي لفظ قال أبو سعيد: قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ فقال: لا يا أبا سعيد!
قد ترك ما تعلم، قلت، كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم. ثلاث مرات.
قال ابن حزم في المحلي 5: 86: أحدث بنو أمية تقديم الخطبة قبل الصلاة
واعتلوا بأن الناس كانوا إذا صلوا تركوهم، ولم يشهدوا الخطبة، وذلك لأنهم كانوا
يلعنون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان المسلمون يفرون وحق لهم، فكيف

(1) المستدرك 3: 121، وستوافيك طرقه ومصادره.
(2) جبذ: جذب.
(3) راجع صحيح البخاري 2: 111، صحيح مسلم 1: 242، سنن أبي داود 1: 178، سنن
ابن ماجة 1: 386، سنن البيهقي 3: 297، مسند أحمد 3: 10، 20، 52، 54، 92،
بدايع الصنايع 1: 276.
165

وليس الجلوس واجبا؟.
وقال ملك العلماء في بدايع الصنايع 1: 276: وإنما أحدث بنو أمية الخطبة
قبل الصلاة لأنهم كانوا يتكلمون في خطبتهم بما لا يحل، وكان الناس لا يجلسون
بعد الصلاة لسماعها فأحدثوها قبل الصلاة ليسمعها الناس. وبمثل هذا قال السرخسي في
المبسوط 2: 37.
وقال السندي في شرح سنن ابن ماجة 1: 386: قيل: سبب ذلك إنهم كانوا
يسبون في الخطبة من لا يحل سبه، فتفرق الناس عند الخطبة إذا كانت متأخرة لئلا
يسمعوا ذلك فقدم الخطبة ليسمعها.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار 3: 363: قد ثبت في صحيح مسلم من رواية
طارق بن شهاب عن أبي سعيد قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان
وقيل: أول من فعل ذلك معاوية، حكاه القاضي عياض. وأخرجه الشافعي (1) عن ابن
عباس بلفظ: حتى قدم معاوية فقدم الخطبة. ورواه عبد الرزاق عن الزهري بلفظ:
أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية. وقيل: أول من فعل ذلك زياد
بالبصرة في خلافة معاوية، حكاه القاضي أيضا. وروى ابن المنذر عن ابن سيرين: إن
أول من فعل ذلك زياد بالبصرة. قال: ولا مخالفة بين هذين الأثرين، وأثر مروان،
لأن كلا من مروان وزياد كان عاملا لمعاوية فيحمل على إنه ابتدأ ذلك، وتبعه
عماله. ا ه‍.
لا شك إن كلا من هؤلاء الثلاثة جاء ببدعة وتردى بالفضيحة، لكن كل
التبعة على من جرأهم على تغيير السنة فعلوا على أساسه، ولعبوا بسنن المصطفى حتى
الصلاة. أخرج الشافعي في كتاب الأم 1: 208 من طريق وهب بن كبسان قال: رأيت
ابن الزبير يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم قال: كل سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غيرت
حتى الصلاة.
فإن كان ما ينقم على الخليفة من هذا الوجه أمرا واحدا فهو في بقية الأمويين

(1) أخرجه في كتاب الأم 1: 208 من طريق عبد الله بن يزيد الخطمي، ولعل حديث ابن
عباس مذكور في غير هذا الموضع.
166

أمران: مخالفة السنة. والابتداع بسب أمير المؤمنين. فهم مورد مثل السائر: أحشفا
وسوء كيلة. أنا لا أعجب من هؤلاء الثلاثة إن جاءوا بالبدع، فإن بقية أعمالهم تلائم
هاتيك الخطة، فإن الخلاعة والتهتك مزيج نفسياتهم، والمعاصي المقترفة ملأ أرديتهم
فلا عجب منهم إن غيروا السنة كلها، ولا أعجب من مروان إن قال لأبي سعيد بكل
ابتهاج: ترك الذي نعلم. أو قال: قد ذهب ما تعلم، ولا عجب إن بدلوا الخطبة المجعولة
للموعظة وتهذيب النفوس، الخطبة التي قالوا فيها: وجبت لتعليم ما يجب إقامته يوم العيد
والوعظ والتكبير كما في البدايع 1: 276 بدلوها بما هو محظور شرعا أشد الحظر
من الوقيعة في أمير المؤمنين، وأول المسلمين، وحامية الدين، الإمام المعصوم، المطهر
بنص الكتاب العزيز، نفس النبي الأقدس بصريح القرآن، وعدل الثقل الأكبر في
حديث الثقلين، صلوات الله عليه، ولعلك لا تعجب من الخليفة أيضا تغييره سنة الله و
سنة رسوله بعد أن درست تاريخ حياته، وسيرته المعربة عن نفسياته، وهو وهم من
شجرة واحدة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
لكن العجب كله ممن يرى هؤلاء وأمثالهم من سماسرة الشهوات والميول
عدولا بما أنهم من الصحابة، والصحابة كلهم عدول عندهم، وأعجب من هذا أن يحتج
في غير واحد من أبواب الفقه بقول هؤلاء وعملهم. نعم: وافق شن طبقه.
- 12 -
رأي الخليفة في القصاص والدية
أخرج البيهقي في السنن الكبرى 8: 33 من طريق الزهري: إن ابن شاس
الجذامي قتل رجلا من أنباط الشام، فرفع إلى عثمان رضي الله عنه فأمر بقتله،
فكلمه الزبير رضي الله عنه وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، فنهوه عن
قتله، قال: فجعل ديتة ألف دينار. وذكره الشافعي في كتاب الأم 7: 293.
وأخرج البيهقي من طريق الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنه: إن
رجلا مسلما قتل رجلا من أهل الذمة عمدا، ورفع إلى عثمان رضي الله عنه فلم يقتله
وغلظ عليه الدية مثل دية المسلم.
وقال أبو عاصم الضحاك في الديات ص 76: وممن يرى قتل المسلم بالكافر عمر
167

ابن عبد العزيز، وإبراهيم، وأبان بن عثمان بن عفان، وعبد الله، رواه الحكم عنهم، و
ممن أوجب دية الذمي مثل دية المسلم عثمان بن عفان.
قال الأميني: إن عجبي مقسم بين إرادة الخليفة قتل المسلم بالكافر، وبين جعل
عقل الكافر مثل دية المسلم، فلا هذا مدعوم بحجة، ولا ذلك مشفوع بسنة، وأي
خليفة هذا يزحزحه مثل الزبير المعروف سيرته والمكشوف سريرته عن رأيه في الدماء
وينهاه عن فتياه؟ غير إنه يفتي بما هو لدة رأيه الأول في البعد عن السنة، ويسكت عنه
الزبير وأناس نهوا الخليفة عما ارتآه أولا واكتفوا بحقن دم المسلم وما راقهم مخالفة
الخليفة مرة ثانية، وهذه النصوص النبوية صريحة في إن المسلم لا يقتل بالكافر، و
إن عقل الكتابي الذمي نصف عقل المسلم، وإليك لفظ تلكم النصوص في المسألتين
أما الأولى منهما فقد جاء:
1 - عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم شئ من العلم
ليس عند الناس؟ قال: لا والله ما عندنا إلا ما عند الناس إلا أن يرزق الله رجلا فهما من
القرآن أو ما في هذه الصحيفة، فيها الديات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لا يقتل مسلم بكافر.
وفي لفظ الشافعي: لا يقتل مؤمن بكافر. فقال: لا يقتل مؤمن عبد ولا حر
ولا امرأة بكافر في حال أبدا، وكل من وصف الإيمان من أعجمي وأبكم يعقل ويشير
بالإيمان ويصلي فقتل كافرا فلا قود عليه، وعليه ديته في ماله حالة، وسواء أكثر القتل
في الكفار أو لم يكثر، وسواء قتل كافرا على مال يأخذه منه أو على غير مال، لا يحل
والله أعلم قتل مؤمن بكافر بحال في قطع طريق ولا غيره.
راجع صحيح البخاري 10: 78، سنن الدارمي 2: 190، سنن ابن ماجة 2:
145، سنن النسائي 8: 23، سنن البيهقي 8: 28، صحيح الترمذي 1: 169، مسند
أحمد 1: 79، كتاب الأم للشافعي 6: 33، 92، أحكام القرآن للجصاص 1: 165،
الاعتبار لابن حزم ص 190، تفسير ابن كثير 1: 210 فقال ذهب الجمهور إلى أن
المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقتل
مسلم بكافر. ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى
أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
168

قال الأميني: يعني من آية المائدة قوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها إن النفس
بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص
الآية: 45. وقد خفي على المجتهد في تجاه النصوص الصحيحة الثابتة أن عموم الآية
لا يأباها عن التخصيص، وقد خصصها هو نفسه بمخصصات، أجاب عن هذا الاستدلال
الواهي كثير من الفقهاء وفي مقدمهم الإمام الشافعي قال في كتاب الأم 7: 295 في
مناظرة وقعت بينه وبين بعض أصحاب أبي حنيفة: قلنا: فلسنا نريد أن نحتج عليك بأكثر
من قولك إن هذه الآية عامة، فزعمت أن فيها خمسة أحكام مفردة وحكما سادسا
جامعا فخالفت جميع الأربعة الأحكام التي بعد الحكم الأول و الحكم الخامس والسادس
جماعتها في موضعين: في الحر يقتل العبد. والرجل يقتل المرأة. فزعمت أن عينه ليس
بعينها ولا عين العبد، ولا أنفه بأنفها ولا أنف العبد، ولا أذنه بأذنها ولا أذن العبد،
ولا سنه بسنها ولا سن العبد، ولا جروحه كلها بجروحها ولا جروح العبد، وقد بدأت
أولا بالذي زعمت أنك أخذت به فخالفته في بعض ووافقته في بعض، فزعمت أن الرجل
يقتل عبده فلا تقتله به، ويقتل ابنه فلا تقتله به، ويقتل المستأمن فلا تقتله به، وكل
هذه نفوس محرمة.
قال " يعني المدافع عن أبي حنيفة ": اتبعت في هذا أثرا. قلنا: فتخالف الأثر
الكتاب؟ قال: لا قلنا: فالكتاب إذا على غير ما تأولت؟ فلم فرقت بين أحكام الله
عز وجل على ما تأولت؟ قال بعض من حضره: دع هذا فهو يلزمه كله.
قال: والآية الأخرى: قال الله عز وجل: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه
سلطانا فلا يسرف في القتل (1) دلالة على أن من قتل مظلوما فلوليه أن يقتل قاتله.
قيل له: فيعاد عليك ذلك الكلام بعينه في الابن يقتله أبوه، والعبد يقتله سيده، و
المستأمن يقتله المسلم.
قال: فلي من كل هذه مخرج. قلت: فاذكر مخرجك. قال: إن الله تبارك و
تعالى لما جعل الدم إلى الولي كان الأب وليا فلم يكن له أن يقتل نفسه. قلنا: أفرأيت
إن كان له ابن بالغ أتخرج الأب من الولاية وتجعل للابن أن يقتله؟ قال: لا أفعل.

(1) سورة الإسراء، آية: 33
169

قلت: فلا تخرجه بالقتل من الولاية؟ قال: لا. قلت: فما تقول في ابن عم لرجل قتله
وهو وليه ووارثه لو لم يقتله وكان له ابن عم هو أبعد منه؟ أفتجعل للأبعد أن
يقتل الأقرب؟ قال: نعم قلنا: ومن أين وهذا وليه وهو قاتل؟ قال: القاتل يخرج
بالقتل من الولاية. قلنا: والقاتل يخرج بالقتل من الولاية؟ قال نعم. قلنا: فلم لم
تخرج الأب من الولاية وأنت تخرجه من الميراث؟ قال: اتبعت في الأب الأثر. قلنا:
فالأثر يدلك على خلاف ما قلت، قال: فاتبعت فيه الإجماع. قلنا: فالاجماع يدلك
على خلاف ما تأولت فيه القرآن، فالعبد يكون له ابن حر فيقتله مولاه أيخرج القاتل
من الولاية ويكون لابنه أن يقتل مولاه؟ قال: لا، بالاجماع. قلت: فالمستأمن يكون
معه ابنه أيكون له أن يقتل المسلم الذي قتله؟ قال، لا، بالاجماع. قلت: أفيكون
الإجماع على خلاف الكتاب؟ قال: لا. قلنا: فالاجماع إذا يدلك على إنك قد أخطأت
في تأويل كتاب الله عز وجل، وقلنا له: لم يجمع معك أحد على أن لا يقتل الرجل
بعبده إلا من مذهبه أن لا يقتل الحر بالعبد ولا يقتل المؤمن بالكافر، فكيف جعلت
إجماعهم حجة، وقد زعمت أنهم أخطؤا في أصل ما ذهبوا إليه. والله أعلم.
2 - عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي فقلنا: هل عهد إليك
رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا إلا ما في كتابي هذا. فأخرج
كتابا فإذا فيه: لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده.
أخرجه أبو عاصم في الديات ص 27، وأحمد في المسند 1: 119، 122، و
أبو داود في سننه 2: 249، والنسائي في سننه 8: 24، البيهقي في السنن الكبرى
8: 29، 194، والجصاص في أحكام القرآن 1: 65، وابن حازم في الاعتبار ص
189، وذكره الشوكاني في نيل الأوطار 7: 152 وقال:
هو دليل على أن المسلم لا يقاد بالكافر، أما الكافر الحربي فذلك إجماع كما
حكاه البحر وأما الذمي فذهب إليه الجمهور لصدق اسم الكافر عليه، وذهب الشعبي
والنخعي وأبو حنيفة وأصحابه إلى إنه يقتل المسلم بالذمي. ثم بسط القول في أدلتهم
وذيفها بأحسن بيان. فراجع.
3 - عن عائشة قالت: وجد في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابان وفي أحدهما:
170

لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده.
أخرجه أبو عاصم في الديات ص 27، والبيهقي في سننه الكبرى 8: 30.
4 - عن معقل بن يسار مرفوعا: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، و
المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم.
أخرجه البيهقي في سننه الكبرى 8: 30.
5 - عن ابن عباس مرفوعا: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده.
أخرجه ابن ماجة في سننه 2: 145.
6 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمر بن العاصي مرفوعا: لا
يقتل مسلم بكافر.
وفي لفظ أحمد: لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده.
أخرجه أبو عاصم الضحاك في الديات ص 51، وأبو داود في سننه 2: 249،
وأحمد في مسنده 2، 211، والترمذي في سننه 1: 169، وابن ماجة في سننه 2:
145، والجصاص في أحكام القرآن 1: 169 بلفظ أحمد، وذكره الشوكاني في نيل
الأوطار 7: 150 فقال: رجاله رجال الصحيح. وقال في 151:
هذا في غاية الصحة فلا يصح عن أحد من الصحابة شئ غير هذا إلا ما رويناه
عن عمر إنه كتب في مثل ذلك أن يقاد به ثم ألحقه كتابا فقال: لا تقتلوه ولكن
اعتقلوه (1).
7 - عن عمران بن الحصين مرفوعا: لا يقتل مؤمن بكافر.
قال الشافعي في كتاب الأم 6: 33: سمعت عددا من أهل المغازي، وبلغني عن
عدد منهم أنه كان في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: لا يقتل مؤمن بكافر. وبلغني
عن عمران بن الحصين رضي الله تعالى عنه إنه روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرنا
مسلم بن خالد عن ابن أبي حسين عن مجاهد وعطاء وأحسب طاووسا والحسن إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة عام الفتح: لا يقتل مؤمن بكافر.
وأخرجه البيهقي في السنن 8: 29 فقال: قال الشافعي رحمه الله صلى الله عليه وسلم: وهذا

(1) أسلفنا في ج 6: 121، 122 ما يعرب عن عدم وقوف الخليفة على حكم المسألة.
171

عام عند أهل المغازي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم به في خطبته يوم الفتح وهو يروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم مسندا من حديث عمر بن شعيب وحديث عمران بن الحصين.
وذكره الشوكاني في نيل الأوطار 7: 153 فقال: إن السبب في خطبته صلى الله عليه وسلم
يوم الفتح بقوله: لا يقتل مسلم بكافر. ما ذكره الشافعي في " الأم " حيث قال: وخطبته
يوم الفتح كانت بسبب القتيل الذي قتلته خزاعة وكان له عهد فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
لو قتلت مسلما بكافر لقتلته به. وقال: لا يقتل مؤمن بكافر. الخ.
8 - عن عبد الله بن عمر مرفوعا: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهده في عهده.
أخرجه الجصاص في أحكام القرآن 1: 165.
(أما الثانية) ففيها:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن عقل أهل
الكتابين نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى (1)
وفي لفظ أبي داود: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله ثمانمائة دينار، ثمانية
آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين، قال: فكان ذلك كذلك
حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت. ففرضها عمر على أهل الذهب
ألف دينار. الحديث سنن أبي داود 2: 251.
وفي لفظ آخر لأبي داود: دية المعاهد نصف دية الحر. 2: 257.
وفي لفظ أبي عاصم الضحاك في الديات ص 51: دية الكافر على النصف من دية
المسلم، ولا يقتل مسلم بكافر.
قال الخطابي في شرح سنن ابن ماجة في ذيل الحديث 2: 142: ليس في دية
أهل الكتاب شئ أثبت من هذا، وإليه ذهب مالك وأحمد، وقال أصحاب أبي حنيفة:
ديته كدية المسلم. وقال الشافعي: ثلث دية المسلم. والوجه الأخذ بالحديث ولا
بأس بإسناده.
وأخرج النسائي في سننه 8: 45 من طريق عبد الله بن عمر مرفوعا: عقل الكافر
نصف عقل المؤمن. وأخرجه الترمذي في سننه 1: 169.

(1) سنن ابن ماجة 2: 142، سنن النسائي 8: 45.
172

هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وآله، وإليها ذهب الجمهور، وعليها جرت الفقهاء من
المذاهب، غيران لأبي حنيفة شذوذا عنها في المسألتين أخذا بما يعرب عن قصوره
عن فهم السنة، وعرفان الحديث، وفقه الكتاب، وقد ذكر غير واحد من أعلام المذاهب
أدلته في المقامين وزيفها، وبسط القول في بطلانها، وحسبك في المقام كلمة الإمام
الشافعي في كتاب الأم 7: 291 فإنه فصل القول فيها تفصيلا وجاء بفوائد جمة. فراجع
وعمدة ما ركن إليه أبو حنيفة في المسألة الأولى تجاه تلكم الصحاح مرسلة عبد الرحمن
بن البيلماني، وقد ضعفها الدارقطني وابن حازم في الاعتبار ص 189 وغيرهما، وذكر
البيهقي في سننه 8: 30: باب بيان ضعف الخبر الذي روي في قتل المؤمن بالكافر. و
ذكر لها طرقا وزيفها بأسرها.
- 13 -
رأي الخليفة في القراءة
قال ملك العلماء في بدايع الصنايع 1: 111: إن عمر رضي الله عنه ترك القراءة
في المغرب في إحدى الأوليين فقضا هافي الركعة الأخيرة وجهر، وعثمان رضي الله عنه
ترك القراءة في الأوليين من صلاة العشاء فقضاها في الأخريين وجهر.
وقال في صفحة 172: روي عن عمر رضي الله عنه: إنه ترك القراءة في ركعة من
صلاة المغرب فقضاها في الركعة الثالثة وجهر. وروي عن عثمان رضي الله عنه: إنه ترك
السورة في الأوليين فقضاها في الأخريين وجهر.
قال الأميني: إن ما ارتكبه الخليفتان مخالف للسنة من ناحيتين، الأولى:
الاجتزاء بركعة لا قراءة فيها. والثانية: تكرير الحمد في الأخيرة أو الأخريين بقضاء الفائتة
مع صاحبة الركعة، وكلاهما خارجان عن السنة الثابتة لا يتجزأ بالصلاة التي يكونان
فيها، أما الناحية الأولى فإليك نبذة مما ورد فيها:
1 - عن عبادة بن الصامت مرفوعا: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعدا.
وفي لفظ: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إمام أو غير إمام.
وفي لفظ الدارمي: من لم يقرأ بأم الكتاب فلا صلاة له.
173

راجع صحيح البخاري 1: 302، صحيح مسلم 1: 155، صحيح أبي داود 1:
131، سنن الترمذي 1: 34، 41، سنن النسائي 2: 137، 138، سنن الدارمي 1:
283، سنن ابن ماجة 1: 276، سنن البيهقي 2: 38، 61، 164، مسند أحمد 5:
314، 321، كتاب الأم 1: 93، المحلى لابن حزم 3: 236، المصابيح للبغوي 1:
57 وصححه، المدونة الكبرى 1: 70.
1 - عن أبي هريرة مرفوعا: لا صلاة لمن لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج،
فهي خداج، فهي خداج، غير تمام.
وفي لفظ: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خداج " ثلاثا " غير تمام.
وفي لفظ الشافعي: كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج. الحديث.
وفي لفظ أحمد: أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، ثم هي خداج،
ثم هي خداج.
راجع مسند أحمد 2: 241، 285، كتاب الأم للشافعي 1: 93، موطأ مالك
1: 81، المدونة الكبرى 1: 70، صحيح مسلم 1: 155، 156، سنن أبي داود 1: 130،
سنن ابن ماجة 1: 277، سنن الترمذي 1: 42، سنن النسائي 2: 135، سنن البيهقي
2: 38، 39، 40، 159، 167، مصابيح السنة 1: 57.
3 - عن أبي هريرة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يخرج فينادي: لا صلاة إلا
بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد.
أخرجه أحمد في المسند 2: 428، الترمذي في صحيحه 1: 42، أبو داود في سننه
1: 130، البيهقي في سننه 2: 37، 59، والحاكم في المستدرك 1: 239 وقال: صحيح
لا غبار عليه.
4 - عن عائشة مرفوعا: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج.
أخرجه أحمد في مسنده 6: 146، 275، وابن ماجة في سننه 1: 277. ويوجد
في كنز العمال 4: 95، 96 من طريق عائشة، وابن عمر، وعلي، وأبي أمامة نقلا عن
أحمد، وابن ماجة، والبيهقي، والخطيب، وابن حبان، وابن عساكر، وابن عدي.
5 - عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة الحمد
174

وسورة في فريضة أو غيرها. صحيح الترمذي 1: 32، سنن ابن ماجة 1: 277، كنز
العمال 5: 95.
6 - عن أبي سعيد قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وبما تيسر.
سنن البيهقي 2: 60، سنن أبي داود 1: 130، تيسير الوصول 2: 223.
7 - عن أبي قتادة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر
والعصر بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب.
وفي لفظ مسلم وأبي داود: كان يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين
بفاتحة الكتاب وسورتين. الحديث.
راجع صحيح البخاري 2: 55، صحيح مسلم 1: 177، سنن الدارمي 1: 296،
سنن أبي داود 1: 128، سنن النسائي 2: 165، 166، سنن ابن ماجة 1: 275،
سنن البيهقي 2: 59، 63، 66، 193، مصابيح السنة 1: 57 وصححه.
8 - عن سمرة بن جندب قال: حفظت سكتتين في الصلاة. وفي لفظ: حفظت
سكتتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: سكتة إذا كبر الإمام حتى يقرأ، وسكتة إذا فرغ من
فاتحة الكتاب وسورة عند الركوع.
سنن أبي داود 1: 124، صحيح الترمذي 1: 34، سنن الدارمي 1: 283،
سنن ابن ماجة 1: 278، سنن البيهقي 2: 196، مستدرك الحاكم 1: 215، مصابيح
السنة 1: 56، تيسير الوصول 2: 229.
9 - عن رفاعة بن رافع قال: جاء رجل يصلي في المسجد قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعد صلاتك فإنك لم تصل. فعاد
فصلى كنحو مما صلى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعد صلاتك فإنك لم تصل. فقال: علمني يا
رسول الله كيف أصلي؟ قال: إذا توجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله
أن تقرأ، فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك ومكن ركوعك وإمداد ظهرك فإذا
رفعت فأقم صلبك، وارفع رأسك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها، فإذا سجدت فمكن
سجودك فإذا رفعت فاجلس على فخذك اليسرى، ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة
حتى تطمئن. وفي لفظ أحمد: فإذا أتممت صلاتك على هذا فقد أتممتها، وما انتقصت
175

من هذا من شئ فإنما تنقصه من صلاتك.
سنن أبي داود 1: 137، سنن البيهقي 2: 345، مسند أحمد 4: 340، كتاب
الأم للشافعي 1: 88، مستدرك الحاكم 1: 241، 242، المحلى لابن حزم 3: 256.
وأخرج البخاري مثله من طريق أبي هريرة في صحيحه 1: 314، وكذلك مسلم
في صحيحه 1: 117، وذكر ره البيهقي في سننه 2: 37، 62، 122 نقلا عن الشيخين.
10 - عن وائل بن حجر قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وأتي بإناء " إلى أن قال ":
فدخل في المحراب فصف الناس خلفه وعن يمينه وعن يساره ثم رفع يديه حتى حاذتا
شحمة أذنيه ثم وضع يمينه على يساره وعند صدره ثم افتتح القراءة فجهر بالحمد ثم
فرغ من سورة الحمد فقال: آمين. حتى سمع من خلفه ثم قرأ سورة أخرى ثم رفع يديه
بالتكبير حتى حاذتا بشحمة أذنيه، ثم ركع فجعل يديه على ركبته " إلى أن قال ": ثم
صلى أربع ركعات يفعل فيهن ما فعل في هذه. مجمع الزوائد 2: 134.
11 - عن عبد الرحمن بن أبزي قال: ألا أريكم صلاة رسول الله؟ فقلنا: بلى:.
فقام فكبر ثم قرأ ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه حتى أخذ كل عضو مأخذه ثم رفع
حتى أخذ كل عضو مأخذه، ثم سجد حتى أخذ كل عضو مأخذه، ثم رفع حتى أخذ كل
وعضو مأخذه، ثم سجد حتى أخذ كل عضو مأخذه، ثم رفع فصنع في الركعة الثانية كما
صنع في الركعة الأولى. ثم قال: هكذا صلاة رسول الله.
أخرجه أحمد في المسند 3: 407، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 130
فقال: رجاله ثقات.
12 - عن عبد الرحمن بن غنم قال: إن أبا ملك الأشعري قال لقومه: قوموا
حتى أصلي بكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فصففنا خلفه وكبر ثم قرأ بفاتحة الكتاب فسمع
من يليه ثم كبر فركع ثم رفع رأسه فكبر، فصنع ذلك في صلاته كلها.
(صورة مفصلة بلفظ أحمد)
إن أبا ملك الأشعري جمع قومه فقال: يا معشر الأشعريين اجتمعوا واجمعوا
نساءكم وأبناءكم أعلمكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم صلى لنا بالمدينة. فاجتمعوا وجمعوا
نساءهم وأبناءهم فتوضأ وأراهم كيف يتوضأ فأحصى الوضوء إلى أماكنه حتى لما
176

إن فاء الفئ وانكسر الظل قام فأذن وصف الرجال في أدنى الصف، وصف الولدان
خلفهم، وصف النساء خلف الولدان، ثم أقام الصلاة فتقدم فرفع يديه وكبر فقرأ
بفاتحة الكتاب وسورة يسر بهما ثم كبر فركع فقال: سبحان الله وبحمده. ثلاث مرات
ثم قال: سمع الله لمن حمده، واستوى قائما، ثم كبر وخر ساجدا، ثم كبر فرفع
رأسه، ثم كبر فسجد، ثم كبر فانتهض قائما، فكان تكبيره في أول ركعة ست تكبيرات
وكبر حين قام إلى الركعة الثانية، فلما قضى صلاته أقبل على قومه بوجهه فقال: احفظوا
تكبيري وتعلموا ركوعي وسجودي فإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان يصلي لنا
كذي الساعة من النهار.
أخرجه أحمد في المسند 5: 343، وعبد الرزاق والعقيلي كما في كنز العمال 4:
221، وذكره الهيثمي في المجمع 2: 130.
13 - أخرج أبو حنيفة وأبو معاوية وابن فضيل وأبو سفيان عن أبي نضرة عن
سعيد عن النبي عليه السلام قال: لا تجزي صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة
في الفريضة وغيرها. أحكام القرآن للجصاص 1: 23.
14 - عن أنس بن مالك: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يستفتحون القراءة
بالحمد لله رب العالمين. كتاب الأم للشافعي 1: 93.
15 - عن علي بن أبي طالب قال: من السنة أن يقرأ الإمام في الركعتين الأوليين
من صلاة الظهر بأم الكتاب وسورة سرا في نفسه، وينصت من خلفه ويقرأون في أنفسهم
ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب في كل ركعة ويستغفر الله ويذكره ويفعل
في العصر مثل ذلك.
بهذا اللفظ حكاه السيوطي عن البيهقي كما في كنز العمال 4: 251 وفي السنن
الكبرى للبيهقي 2: 168 لفظه: إنه كان يأمر أو يحث أن يقرأ خلف الإمام في الظهر
والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة
الكتاب. وقريبا من هذا اللفظ أخرجه الحاكم في المستدرك 1: 239.
16 - عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد
لله رب العالمين.
- الغدير 13 -
177

راجع صحيح مسلم 1: 142، سنن أبي داود 2: 125، سنن ابن ماجة 1:
271، سنن البيهقي 2: 113.
17 - عن أبي هريرة قال: في كل الصلاة يقرأ، فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسمعنا كم، وما أخفى علينا أخفينا عليكم. وفي لفظ: في كل صلاة قراءة.
مسند أحمد 2: 348، صحيح مسلم 1: 116، سنن أبي داود 1: 127، سنن
النسائي 2: 163، سنن البيهقي 2: 40 عن مسلم، وفي ص 61 عن البخاري، تيسير
الوصول 2: 228.
18 - عن أبي هريرة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب
العالمين. أخرجه ابن ماجة في سننه 1: 271.
وأخرجه الدارمي من طريق أنس بن مالك مع زيادة في سننه 1: 83، والنسائي
في سننه 2: 133، والشافعي في كتاب الأم 1: 93.
19 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعا:
كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج. وفي
لفظ أحمد: فهي خداج، ثم هي خداج، ثم هي خداج.
أخرجه أحمد في المسند 2: 204، 215، وابن ماجة في سننه 1: 278.
20 - أخرج أبو داود في سننه 1: 119 من طريق علي بن أبي طالب رضي الله
عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان إذا قام إلى الصلاة كبر ورفع يديه حذو منكبيه، و
يصنع ذلك إذا قضى قراءته وإذا أراد أن يركع.
21 - كان أبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو
قتادة فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله إذا قام إلى
الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يقرأ حتى يقر كل عظم في موضعه معتدلا
ثم يقرأ ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يركع " ثم ذكر كيفية الركوع
والسجدتين " فقال: ثم يصنع في الركعة الأخرى مثل ذلك.
سنن أبي داود 1: 116، سنن الدارمي 1: 313، سنن ابن ماجة 1: 283 و
ذكر شطرا منه، سنن البيهقي 2: 72، مصابيح السنة 1: 54.
178

22 - عن جابر بن عبد الله قال: يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي
الأخريين بفاتحة الكتاب. قال: وكنا نحدث إنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما فوق
ذاك. وفي لفظ الطبراني: سنة القراءة في الصلاة أن يقرأ في الأوليين بأم القرآن
وسورة، وفي الأخريين بأم القرآن.
سنن البيهقي 2: 63 فقال: وروينا ما دل على هذا عن علي بن أبي طالب وعبد الله
بن مسعود وعائشة. وأخرجه ابن أبي شيبة كما في كنز العمال 4: 209، 250، ورواه
الطبراني باللفظ المذكور كما في مجمع الزوائد 2: 115.
23 - عن جابر بن عبد الله: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل
إلا وراء إمام.
صحيح الترمذي 1: 42، وصححه، موطأ مالك 1: 80، المدونة الكبرى لمالك
1: 70، سنن البيهقي 2: 160، تيسير الوصول 2: 223.
24 - عن عبد الله بن عمر مرفوعا: من صلى مكتوبة أو سبحة فليقرأ بأم القرآن
وقرآن معها، ومن صلى صلاة لم يقرأ فيها فهي خداج. ثلاثا.
أخرجه عبد الرزاق كما في كنز العمال 4: 96 وحسنه.
25 - عن أبي هريرة مرفوعا: لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب.
وفي لفظ الدارقطني وصححه: لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها فاتحة الكتاب.
وفي لفظ أحمد: لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب.
كنز العمال 4: 96 نقلا عن جمع من الحفاظ.
26 - عن أبي الدرداء: إقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر والعشاء
الآخرة في كل ركعة بأم القرآن وسورة، وفي الركعة الآخرة من المغرب بأم القرآن
كنز العمال 4: 207.
27 - عن حسين بن عرفطة مرفوعا: إذا قمت في الصلاة فقل: بسم الله الرحمن
الرحيم، الحمد لله رب العالمين. حتى تختمها، قل هو الله أحد إلى آخرها. أخرجه الدارقطني
كما في كنز العمال 4: 96.
28 - عن ابن عباس: لا تصلين صلاة حتى تقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، ولا
179

تدع أن تقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة. أخرجه عبد الرزاق في الكنز 4: 208.
29 - عن ابن سيرين قال: إن ابن مسعود كان يقرأ في الظهر والعصر في
الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب.
ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 117 فقال: رجاله ثقات إلا أن ابن سيرين
لم يسمع من ابن مسعود.
30 - عن زيد بن ثابت قال: القراءة سنة لا تخالف الناس برأيك. أخرجه
الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد 2: 115.
هذه سنة نبي الاسلام في قراءة الفاتحة في كل ركعة من الفرائض والنوافل
وعلى هذه فتاوى أئمة المذاهب وإليك نصوصها:
(رأي الشافعي)
قال إمام الشافعية في كتاب " الأم " 1: 93: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ
القارئ في الصلاة بأم القرآن، ودل على إنها فرض على المصلي إذا كان يحسن أن
يقرؤها. فذكر عدة من الأحاديث فقال: فواجب على من صلى منفردا أو إماما أن
يقرأ بأم القرآن في كل ركعة لا يجزيه غيرها، وإن ترك من أم القرآن حرفا واحدا ناسيا
أو تساهيا لم يعتد بتلك الركعة، من ترك منها حرفا لا يقال له قرأ أم القرآن على الكمال
وقال في صفحة 89 فيمن لا يحسن القراءة: فإن لم يحسن سبع آيات وأحسن
أقل منهن لم يجزه إلا أن يقرأ بما أحسن كله إذا كان سبع آيات أو أقل، فإن قرأ
بأقل منه أعاد الركعة التي لم يكمل فيها سبع آيات إذا أحسنهن. قال: ومن
أحسن أقل من سبع آيات فأم أو صلى منفردا ردد بعض الآي حتى يقرأ به سبع
آيات أو ثمان آيات، وإن لم أر عليه إعادة، ولا يجزيه في كل ركعة إلا قراءة ما
أحسن مما بينه وبين أن يكمل سبع آيات أو ثمان آيات من أحسنهن.
وقال (1): وأقل ما يجزئ من عمل الصلاة أن يحرم ويقرأ بأم القرآن يبتدئها
ب‍ " بسم الله الرحمن الرحيم " إن أحسنها، ويركع حتى يطمأن راكعا، ويرفع حتى
يعتدل قائما، ويسجد حتى يطمئن ساجدا على الجبهة، ثم يرفع حتى يعتد جالسا،
ثم

(1) ذكره المزني في مختصره هامش كتاب الأم 1: 90، 91.
180

يسجد الأخرى كما وصفت، ثم يقوم حتى يفعل ذلك في كل ركعة، ويجلس في الرابعة
ويتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم تسليمه يقول: السلام عليكم، فإذا فعل ذلك
أجزأته صلاته وضيع حظ نفسه فيما ترك، وإن كان يحسن أم القرآن فيحمد الله و
يكبره مكان أم القرآن لا يجزئه غيره، وإن كان يحسن غير أم القرآن قرأ بقدرها
سبع آيات لا يجزئه دون ذلك، فإن ترك من أم القرآن حرفا وهو في الركعة رجع
إليه وأتمها، وإن لم يذكر حتى خرج من الصلاة وتطاول ذلك أعاد.
وقال في كتاب " الأم " 1: 217: إن من ترك أم القرآن في ركعة من صلاة
الكسوف في القيام الأول أو القيام الثاني لم يعتد بتلك الركعة، وصلى ركعة أخرى
وسجد سجدتي السهو، كما إذا ترك أم القرآن في ركعة واحدة من صلاة المكتوبة
لم يعتد بها.
(رأي مالك)
وقال أمام المالكية كما في المدونة الكبرى 1: 68: ليس العمل على قول عمر
حين ترك القراءة (1) فقالوا له: إنك لم تقرأ؟ فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا
حسن. قال: فلا بأس إذن. وأرى أن يعيد من فعل هذا وإن ذهب الوقت. وقال في
رجل ترك القراءة في ركعتين من الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة: لا تجزئه الصلاة و
عليه أن يعيد، ومن ترك القراءة في جل ذلك أعاد، وإن قرأ في بعضها وترك في بعضها
أعاد أيضا، وإذا قرأ في ركعتين وترك القراءة في ركعتين، فإنه يعيد الصلاة من أي
الصلات كانت.
وقال: من نسي قراءة أم القرآن حتى قرأ سورة فإنه يرجع فيقرأ أم القرآن
ثم يقرأ سورة أيضا بعد قراءته أم القرآن. وقال: لا يقضي قراءة نسيها من ركعة في
ركعة أخرى. وقال فيمن ترك أم القرآن في الركعتين وقد قرأ بغير أم القرآن: يعيد
صلاته، وقال في رجل ترك القراءة في ركعة في الفريضة. يلغي تلك الركعة بسجدتيها
ولا يعتد بها.

(1) مر حديثه في الجزء السادس صفحة 100 ط 1 و 108 ط 2.
181

(رأي الحنابلة)
قال ابن حزم في المحلى 3: 236: وقراءة أم القرآن فرض في كل ركعة من
كل صلاة إماما كان أو مأموما أو منفردا، والفرض والتطوع سواء، والرجال والنساء
سواء. ثم ذكر جملة من أدلة المسألة.
وذكر في ص 243 فعل عمر وما يعزى إلى علي وحاشا من ذلك فقال: لا
حجة في قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال في ص 250: من نسي التعوذ أو شيئا من أم القرآن حتى ركع أعاد متى
ذكر فيها وسجد للسهو إن كان إماما أو فذا، فإن كان مأموما ألغى ما قد نسي إلى أن
ذكر، وإذا أتم الإمام قام يقضي ما كان ألغى ثم سجد للسهو، ولقد ذكرنا برهان ذلك
في من نسي فرضا في صلاته فإنه يعيد ما لم يصل كما أمر، ويعيد ما صلى كما أمر. قال:
ومن كان لا يحفظ أم القرآن وقرأ ما أمكنه من القرآن إن كان يعلمه، لا حد
في ذلك وأجزأه، وليسع في تعلم أم القرآن فإن عرف بعضها ولم يعرف البعض قرأ
ما عرف منها فأجزأه، وليسع في تعلم الباقي، فإن لم يحفظ شيئا من القرآن صلى كما
هو يقوم ويذكر الله كما يحسن بلغته ويركع ويسجد حتى يتم صلاته ويجزيه، وليسع
في تعلم أم القرآن.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار 2: 233: اختلف القائلون بتعيين الفاتحة في
كل ركعة هل تصح صلاة من نسيها؟ فذهبت الشافعية وأحمد بن حنبل إلى عدم الصحة
وروى ابن القاسم عن مالك: إنه إن نسيها في ركعة من صلى ركعتين فسدت صلاته،
وإن نسيها في ركعة من صلى ثلاثية أو رباعية فروي عنه إنه يعيدها ولا تجزئه، وروي
عنه: إنه يسجد سجدتي السهو، وروي عنه: إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد
السلام، ومقتضى الشرطية التي نبهناك على صلاحية الأحاديث للدلالة عليها: إن
الناسي يعيد الصلاة كمن صلى بغير وضوء ناسيا. ا ه‍.
وأما أبو حنيفة إمام الحنفية فإن له في مسائل الصلاة آراء ساقطة تشبه أقوال
المستهزأ بها وحسبك برهنة صلاة القفال (1)، وسنفصل القول في تلكم الآراء الشاذة

(1) ذكرها ابن خلكان في تاريخه في ترجمة السلطان محمود السبكتكين.
182

عن الكتاب والسنة، وقد اجتهد في المسألة تجاه تلكم النصوص قال الجصاص في " أحكام
القرآن " 1: 18: قال أصحابنا الحنفية جميعا رحمهم الله: يقرأ بفاتحة الكتاب وسورة
في كل ركعة من الأوليين، فإن ترك قراءة فاتحة الكتاب وقرأ غيرها فقد أساء وتجزيه
صلاته. ا ه‍.
قال ابن حجر في فتح الباري: إن الحنفية يقولون بوجوب قراءة الفاتحة لكن
بنوا على قاعدتهم إنها مع الوجوب ليست شرطا في صحة الصلاة لأن وجوبها إنما
ثبت بالسنة والذي لا تتم الصلاة إلا به فرض والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على
القرآن وقد قال تعالى: فاقرأوا ما تيسر منه. فالفرض قراءة ما تيسر، وتعين الفاتحة
إنما يثبت بالحديث فيكون واجبا يأثم من يتركه وتجزئ الصلاة بدونه، وهذا تأويل
على رأي فاسد، حاصله رد كثير من السنة المطهرة بلا برهان ولا حجة نيرة، فكم
موطن من المواطن يقول فيها الشارع: لا يجزئ كذا، لا يقبل كذا، لا يصح كذا، و
يقول المتمسكون بهذا الرأي يجزئ، ويقبل، ويصح، ولمثل هذا حذر السلف من
أهل الرأي. ا ه‍.
وذكره الشوكاني في نيل الأوطار 2: 230.
ونظرا إلى الأهمية الواردة في قراءة أم الكتاب في الصلوات كلها، وأخذا
بظاهر: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ذهب من ذهب من القوم إلى وجوبها على المأموم
أيضا مطلقا أو في الصلوات الجهرية، قال الترمذي في الصحيح 1: 42: قد اختلف
أهل العلم في القراءة خلف الإمام، فرأى أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم و
التابعين من بعدهم القراءة خلف الإمام، وبه يقول مالك وابن المبارك والشافعي وأحمد
وإسحاق، وروي عن عبد الله بن المبارك إنه قال: أنا أقرأ خلف الإمام والناس يقرأون
إلا قوم من الكوفيين، وأرى أن من لم يقرأ صلاته جائزة، وشدد قوم من أهل العلم
في ترك قراءة فاتحة الكتاب وإن كان خلف الإمام فقالوا: لا تجزئ صلاة إلا بقراءة
فاتحة الكتاب وحده كان أو خلف الإمام. ا ه‍.
وقد جاء مع ذلك عن عبادة بن الصامت مرفوعا: إني أراكم تقرأون وراء إمامكم
فلا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأها.
وفي لفظ أبي داود: لا تقرؤا بشئ من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن.
183

وفي لفظ النسائي وابن ماجة: لا يقرأن أحد منكم إذا جهرت بالقراءة إلا بأم
القرآن.
وفي لفظ الحاكم: إذا قرأ الإمام فلا تقرأوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن
لم يقرأ بها.
وفي لفظ الطبراني: من صلى خلف الإمام فليقرأ بفاتحة الكتاب.
وعن أنس بن مالك مرفوعا: أتقرأون في صلاتكم خلف الإمام بقرآن والإمام
يقرأ؟ فلا تفعلوا وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه.
وعن أبي قلابة مرسلا: أتقرأون خلفي وأنا أقرأ فلا تفعلوا ذلك، ليقرأ أحدكم
بفاتحة الكتاب في نفسه سرا (1).
قال ابن حزم في المحلى 3: 239: اختلف أصحابنا فقالت طائفة: فرض على المأموم
أن يقرأ أم القرآن في كل ركعة أسر الإمام أو جهر، وقالت طائفة: هذا فرض عليه
فيما أسر فيه الإمام خاصة ولا يقرأ فيما جهر فيه الإمام، ولم يختلفوا في وجوب قراءة
أم القرآن فرضا في كل ركعة على الإمام والمنفرد.
وأخرج البيهقي أحاديث صحاح تدل على إن القراءة تسقط مع الإمام جهر أو
لم يجهر. وذكر قول من قال: يقرأ خلف الإمام مطلقا ثم قال: هو أصح الأقوال على
السنة وأحوطها. راجع السنن الكبرى 2: 159 166.
هذا تمام القول في الناحية الأولى من ناحيتي مخالفة عمل الخليفتين في الصلاة للسنة
الشريفة، ومن ذلك كله، يعلم حكم الناحية الثانية وإن الأمة مطبقة على إن تدارك
الفائتة من قراءة ركعة في ركعة أخرى لم يرد في السنة النبوية، وإن رأي الرجلين
غير مدعوم بحجة، لا يعمل به، ولا يعول عليه، ولا يستن به قط أحد من رجال
الفتوى، والحق أحق أن يتبع.

(1) مسند أحمد 2: 302، 308، ج 5: 313، 316، 322، سنن الترمذي 1: 42،
المحلى لابن حزم 3: 236، مستدرك الحاكم 1: 238، 239، سنن النسائي 2: 141، سنن
البيهقي 2: 164، 165، مصابيح السنة 1: 60.
184

14 رأي الخليفة في صلاة المسافر
أخرج أبو عبيد في الغريب وعبد الرزاق والطحاوي وابن حزم عن بي المهلب قال:
كتب عثمان: إنه بلغني إن قوما يخرجون إما لتجارة أو لجباية أو لحشرية (1) يقصرون
الصلاة وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو
ومن طريق قتادة عن عياش المخزومي: كتب عثمان إلى بعض عماله: إنه لا يصلي
الركعتين المقيم ولا البادي ولا التاجر، إنما يصلي الركعتين من معه الزاد والمزاد.
وفي لفظ ابن حزم: إن عثمان كتب إلى عماله: لا يصلي الركعتين جاب ولا تاجر
ولا تأن (2) إنما يصلي الركعتين. الخ.
وفي لسان العرب: في حديث عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا يغرنكم جشركم
من صلاتكم فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو يحضره عدو. قال أبو عبيد: الجشر
القوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى، ويبيتون مكانهم ولا يأوون إلى البيوت (3).
وفي هامش سنن البيهقي 3: 137: شاخصا: يعني رسولا في حاجة، وفي النهاية:
شاخصا: أي مسافرا ومنه حديث أبي أيوب: فلم يزل شاخصا في سبيل الله.
قال الأميني: من أين جاء عثمان بهذا القيد في السفر؟ والأحاديث المأثورة في
صلاته مطلقات كلها كما أوقفناك عليها في ص 111 - 115، وقبلها عموم قوله تعالى: وإذا
ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة (4) ولأبي حنيفة وأصحابه
والثوري وأبي ثور في عموم الآية نظر واسع لم يخصوه بالمباح من السفر بل قالوا بأنه
يعم سفر المعصية أيضا كقطع الطريق والبغي كما ذكره ابن حزم في المحلى 4: 264،
والجصاص في أحكام القرآن 2: 312، وابن رشد في بداية المجتهد 1: 163، وملك
العلماء في البدايع 1: 93، والخازن في تفسيره 1: 413.

(1) كذا في النسخ بالمهملة والصحيح كما يأتي، الجشر. بالمعجمة.
(2) التناية: هي الفلاحة والزراعة " نهاية ابن الأثير ".
(3) سنن البيهقي 3: 126، المحلى لابن حزم 5: 1، نهاية ابن الأثير 2: 325، لسان
العرب 5: 207، كنز العمال 4: 239، تاج العروس: 100 و ج 4: 401.
185

وليس لحضور العدو أي دخل في القصر والاتمام وإنما الخوف وحضور العدو
لهما شأن خاص في الصلوات، وأحكام تخص بهما، وناموس مقرر لا يعدوهما.
فمقتضى الأدلة كما ذهبت إليه الأمة جمعاء: إن التاجر والجابي والتاني والجشرية
وغيرهم إذا بلغوا مبلغ السفر فحكمهم القصر، فهم وبقية المسافرين شرع سواء، وإلا
فهم جميعا في حكم الحضور يتمون صلاتهم من دون أي فرق بين الأصناف، وليس تفصيل
الخليفة إلا فتوى مجردة ورأيا يخص به، وتقولا لا يؤبه له تجاه النصوص النبوية،
وإطباق الصحابة، واتفاق الأمة، وتساند الأئمة والعلماء، وإنما ذكرناه هنا
لإيقافك على مبلغ الرجل من الفقاهة، أو تسرعه في الفتيا من غير فحص عن الدليل،
أو أنه عرف الدليل لكنه لم يكترث له وقال قولا أمام قول رسول الله صلى الله عليه وآله.
كناطح صخرة يوما ليقلعها * فلم يضرها فأوهى قرنه الوعل
على أن التاجر جاء فيه ما أخرجه ابن جرير الطبري وغيره من طريق علي كرم
الله وجهه قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا نضرب
في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح
أن تقصروا من الصلاة (1).
وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال: جاء رجل
فقال: يا رسول الله! إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين فأمره أن يصلي بركعتين. (2)
- 15 -
رأي الخليفة في صيد الحرم (3)
أخرج إمام الحنابلة أحمد وغيره بإسناد صحيح عن عبد الله بن الحارث بن نوفل

(1) تفسير ابن جرير 5: 155، مقدمات المدونة الكبرى لابن رشد 1: 136، تفسير ابن
عطية كما في تفسير القرطبي 5: 362، الدر المنثور 2: 209، تفسير الشوكاني 1: 471
تفسير الآلوسي 5: 134.
(2) تفسير ابن كثير 1: 544، الدر المنثور 2: 210
(3) مسند أحمد 1: 100، 104، كتاب الأم للشافعي 7: 157، سنن أبي داود 1:
291، سنن البيهقي 5: 194، تفسير الطبري 7: 45، 46 المحلى لابن حزم 8: 254،
كنز العمال 3: 53، نقلا عن أحمد وأبي داود وابن جرير وقال: صححه، وعن الطحاوي و
أبي يعلى والبيهقي.
186

قال: أقبل عثمان إلى مكة فاستقبلت بقديد فاصطاد أهل الماء حجلا فطبخناه بماء وملح
فقدمناه إلى عثمان وأصحابه فأمسكوا فقال عثمان: صيد لم نصده ولم نأمر بصيده
اصطاده قوم حل فأطعموناه فما بأس به. فبعث إلى علي فجاء فذكر له فغضب علي و
قال: انشد رجلا شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي بقائمة حمار وحش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنا قوم حرم فأطعموه أهل الحل؟ فشهد اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ثم قال علي: أنشد الله رجلا شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي ببيض النعام فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إنا قوم حرم أطعموه أهل الحل؟ فشهد دونهم من العدة من الاثني عشر
قال: فثنى عثمان وركه من الطعام فدخل رحله وأكل الطعام أهل الماء.
وفي لفظ آخر لأحمد عن عبد الله بن الحرث: إن أباه ولي طعام عثمان قال: فكأني
أنظر إلى الحجل حوالي الجفان فجاء رجل فقال: إن عليا رضي الله عنه يكره هذا فبعث
إلى علي وهو ملطخ يديه بالخبط فقال: إنك لكثير الخلاف علينا فقال علي: أذكر
الله من شهد النبي صلى الله عليه وسلم أتي بعجز حمار وحش وهو محرم فقال: إنا محرمون فأطعموه
أهل الحل. فقام رجال فشهدوا ثم قال: أذكر الله رجلا شهد النبي صلى الله عليه وسلم أتي بخمس
بيضات بيض نعام فقال: إنا محرمون فأطعموه أهل الحل فقام رجال فشهدوا، فقام عثمان
فدخل فسطاطه وتركوا الطعام على أهل الماء.
وفي لفظ الإمام الشافعي: إن عثمان أهديت له حجل وهو محرم فأكل القوم
إلا عليا فإنه كره ذلك.
وفي لفظ لابن جرير: حج عثمان بن عفان فحج علي معه فأتي عثمان بلحم صيد
صاده حلال فأكل منه ولم يأكله علي فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا
فقال علي: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما. " سورة المائدة: 96 ".
وفي لفظ: إن عثمان بن عفان رضي الله عنه نزل قديدا فأتي بالحجل في الجفان
شائلة بأرجلها فأرسل إلى علي رضي الله عنه وهو يضفر (1) بعيرا له فجاء والخبط ينحات
من يديه، فأمسك علي وأمسك الناس فقال علي: من هاهنا من أشجع؟ هل تعلمون

(1) ضفر الدابة يضفر ها ضفرا: ألقى اللجام في فيها. والضفر: ما شددت به البعير من الشعر
المضفور. والمضفور والضفير: الحبل المفتول. الضفائر: الدوائب المضفورة.
187

أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء أعرابي ببيضات نعام وتتمير (1) وحش فقال: أطعمهن أهلك فإنا
حرم؟ قالوا: بلى. فتورك عثمان عن سريره ونزل فقال: خبثت علينا.
وفي لفظ البيهقي: كان الحارث خليفة عثمان رضي الله عنه على الطائف، فصنع
لعثمان رضي الله عنه طعاما وصنع فيه من الحجل واليعاقيب ولحوم الوحش قال: فبعث
إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فجاء الرسول وهو يخبط لأباعر له، فجاءه وهو
ينفض الخبط من يده فقالوا له: كل. فقال: أطعموه قوما حلالا فإنا قوم حرم، ثم
قال علي رضي الله عنه: أنشد الله من كان هاهنا من أشجع، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله؟ قالوا: نعم.
وأخرج الطبري من طريق صبيح بن عبد الله العبسي قال: بعث عثمان بن عفان
أبا سفيان بن الحرث على العروض فنزل قديدا فمر به رجل من أهل الشام معه باز و
سقر فاستعار منه فاصطاد به من اليعاقيب فجعلهن في حظيرة فلما مر به عثمان طبخهن ثم
قدمهن إليه فقال عثمان: كلوا فقال بعضهم: حتى يجئ علي بن أبي طالب. فلما جاء فرأى
ما بين أيديهم قال علي: إنا لا نأكل منه. فقال عثمان مالك لا تأكل؟ فقال: هو صيد لا يحل
أكله وأنا محرم. فقال عثمان: بين لنا. فقال علي: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا
الصيد وأنتم حرم ". فقال عثمان: أو نحن قتلناه؟ فقرأ عليه: أحل لكم صيد البحر
وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما.
وأخرج سعيد بن منصور كما ذكره ابن حزم من طريق بسر بن سعيد قال: إن
عثمان بن عفان كان يصاد له الوحش على المنازل ثم يذبح فيأكله وهو محرم سنتين
من خلافته، ثم إن الزبير كلمه فقال: ما أدري ما هذا يصاد لنا ومن أجلنا، لو
تركناه فتركه.
قال الأميني: هذه القصة تشف عن تقاعس فقه الخليفة عن بلوغ مدى هذه
المسألة، أو أنه راقه اتباع الخليفة الثاني في الرأي حيث كان يأمر المحرم بأكل
لحم الصيد، ويحذر أهل الفتوى عن خلافه مهددا بالدرة إن فعل وسيوافيك

(1) التتمير: التقديد. والتتمير: التيبيس. والتتمير: أن يقطع اللحم صغار أو يجفف. واللحم
المتمر: المقطع (لسان العرب).
188

تفصيله إن شاء الله تعالى، غير أن عثمان أفحمه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بالكتاب والسنة
فلم يجد ندحة من الدخول في فسطاطه والاكتفاء بقوله: إنك لكثير الخلاف علينا.
وهذا القول ينم عن توفر الخلاف بين مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وبين الخليفة، ومن
الواضح الجلي إن الحق كلما شجر خلاف بين مولانا علي عليه السلام وبين غيره كائنا من
كان لا يعدو كفة الإمام صلوات الله عليه للنص النبوي: علي مع الحق والحق مع علي
ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة (1) وقوله: علي مع القرآن والقرآن
معه لا يفترقان حتى يردا علي الحوض (2) وإنه باب مدينة علم النبي صلى الله عليه وآله، ووارث
علمه، وعيبة علمه وأقضى أمته (3) وكان سلام الله عليه منزها عن الخلاف لاتباع
هوى أو احتدام بغضاء بينه وبين غيره، فإن ذلك من الرجس الذي نفاه الله عنه عليه السلام
في آية التطهير. وقد طأطأ كل عيلم لعلمه، وكان من المتسالم عليه إنه أعلم الناس
بالسنة؟ ولذلك لما نهى عمر عبد الله بن جعفر عن لبس الثياب المعصفرة في الاحرام
جابهه الإمام عليه السلام بقوله: ما أخال أحدا يعلمنا السنة (4) فسكت عمر إذ كان لم يجد
منتدحا عن الاخبات إلى قوله، ولو كان غيره عليه السلام لعلاه بالدرة، ولذلك كان عمر
يرجع إليه في كل أمر عصيب فإذا حله قال: لولا علي لهلك عمر (5) أو نظير هذا القول
وسيوافيك عن عثمان نفسه قوله: لولا علي لهلك عثمان.
فرأي الإمام الطاهر هو المتبع وهو المعتضد بالكتاب بقوله تعالى: وحرم
عليكم صيد البر ما دمتم حرما، كما استدل به عليه السلام على عثمان، فبعمومه كما حكاه
ابن حزم في المحلى 7: 249 عن طائفة ظاهر في أن الشئ المتصيد هو المحرم
ملكه وذبحه وأكله كيف كان، فحرموا على المحرم أكل لحم الصيد وإن صاده لنفسه
حلال، وإن ذبحه حلال، وحرموا عليه ذبح شئ منه وإن كان قد ملكه قبل إحرامه.

(1) راجع ما مر في الجزء الثالث ص 155 158 ط 1، و 176 180 ط 2.
(2) راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث ص 158 ط 1، و 180 ط 2.
(3) راجع ما فصلناه في الجزء السادس ص 54 73 ط 1، و 61 81 ط 2.
(4) كتاب الأم للإمام الشافعي 2: 126، المحلى لابن حزم 7: 260.
(5) راجع نوادر الأثر في علم عمر في الجزء السادس من كتابنا هذا.
189

وقال القرطبي في تفسيره 6: 321: التحريم ليس صفة للأعيان، وإنما يتعلق بالافعال
فمعنى قوله: وحرم عليكم صيد البر. أي فعل الصيد، وهو المنع من الاصطياد، أو
يكون الصيد بمعنى المصيد على معنى تسمية المفعول بالفعل، وهو الأظهر لإجماع العلماء
على إنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا
استحداث ملكه بوجه من الوجوه، ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك لعموم قوله
تعالى: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما، ولحديث الصعب بن جثامة. وقال في ص
322: وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر: إنه لا يجوز للمحرم أكل صيد
على حال من الأحوال، سواء صيد من أجله أولم يصد لعموم قوله تعالى: وحرم عليكم
صيد البر ما دمتم حرما. قال ابن عباس: هي مبهمة. وبه قال طاووس، وجابر بن زيد
وأبو الشعثاء، وروي ذلك عن الثوري، وبه قال إسحاق، واحتجوا بحديث ابن جثامة ه‍
ويعتضد رأي الإمام عليه السلام ومن تبعه بالسنة الشريفة الثابتة بما ورد في الصحاح
والمسانيد وإليك جملة منه:
1 - عن ابن عباس قال: يا زيد بن أرقم! هل علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي
إليه عضد صيد فلم يقبله وقال: إنا حرم؟ قال: نعم.
وفي لفظ: قدم زيد بن أرقم فقال له ابن عباس يستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد
أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام؟ قال: نعم أهدى له رجل عضوا من لحم صيد فرده
وقال: إنا لا نأكل إنا حرم.
وفي لفظ مسلم: إن زيد بن أرقم قدم فأتاه ابن عباس رضي الله عنه فاستفتاه في
لحم الصيد فقال: أتي رسول الله بلحم صيد وهو محرم فرده.
راجع صحيح مسلم 1: 450، سنن أبي داود 1: 291، سنن النسائي 5: 184، سنن
البيهقي 5: 194، المحلى لابن حزم 7: 250 وقال: رويناه من طرق كلها صحاح.
2 - عن الصعب بن جثامة قال: مربي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بالأبواء أو بودان (1)
وأهديت له لحم حمار وحش فرده علي فلما رأى في وجهي الكراهية قال: إنه

(1) ودان بفتح الواو قرية جامعة بين مكة والمدينة، بينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال
من الجحفة، ومنها الصعب بن جثامة " معجم البلدان "
190

ليس بنا رد عليك ولكننا حرم. وفي لفظ: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلحم حمار وحش
فرده وقال: إنا حرم لا نأكل الصيد.
راجع صحيح مسلم 1: 449، مسند أحمد 4: 37، سنن الدارمي 2: 39،
سنن ابن ماجة 2: 262، سنن النسائي 5: 18؟، سنن البيهقي 5: 192 بعدة طرق،
أحكام القرآن للجصاص 2: 586، تفسير الطبري 7: 48، تيسير الوصول 1: 272.
3 - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم شق حمار وحش
وهو محرم فرده. وفي لفظ أحمد: إن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو
محرم عجز حمار فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقطر دما.
وفي لفظ طاووس في حديثه: عضدا من لحم صيد.
وفي لفظ مقسم: لحم حمار وحش.
وفي لفظ عطاء في حديثه: أهدي له صيد فلم يقبله وقال: إنا حرم.
وفي لفظ النسائي: أهدى الصعب بن جثامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل حمار وحش
تقطر دما وهو محرم وهو بقديد فردها عليه.
وفي لفظ ابن حزم: إنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل حمار وحش فرده عليه
وقال: إنا حرم لا نأكل الصيد. وفي لفظ: لولا إنا محرمون لقبلناه منك.
راجع صحيح مسلم 1: 449، مسند أحمد 1: 290، 338، 341، مسند الطيالسي
ص 171، سنن النسائي 5: 185، سنن البيهقي 5: 193، المحلى لابن حزم،: 249
وقال: رويناه من طرق كلها صحاح، أحكام القرآن للجصاص 2: 586، تفسير القرطبي
6: 322.
(لفت نظر) أخرج البيهقي في تجاه هذا الصحيح المتسالم عليه في السنن الكبرى
5: 193 من طريق عمرو بن أمية الضميري إن الصعب بن جثامة أهدى للنبي عجز حمار
وحش وهو بالجحفة فأكل منه وأكل القوم. ثم قال: وهذا إسناد صحيح، فإن كان
محفوظا فكأنه رد الحي وقبل اللحم والله أعلم. ا ه‍.
لا أحسب هذا مبلغ علم البيهقي وإنما أعماه حبه لتبرير الخليفة في رأيه الشاذ عن
الكتاب والسنة، فرأى الضعيف صحيحا، وأتى في الجمع بينه وبين الصحيح المذكور بما
191

يأباه صريح لفظه، ولهذه الغاية أخرج البخاري ذلك الصحيح المتسالم عليه في صحيحه
3: 165 وحذف منه كلمة: الشق. والعجز. والرجل. والعضد. واللحم. وتبعه في
ذلك الجصاص في أحكام القرآن 2: 586 حيا الله الأمانة
وعقب ابن التركماني رأي البيهقي فيما أخرجه فقال في سنن الكبرى:
قلت: هذا في سنده يحيى بن سليمان الجعفي عن ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب هو
الغافقي المصري، ويحيى بن سليمان ذكره الذهبي في الميزان والكاشف عن النسائي إنه
ليس بثقة وقال ابن حبان: ربما أغرب. والغافقي قال النسائي ليس بذلك القوي.
وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال أحمد: كان سيئ الحفظ يخطئ خطئا كثيرا، و
كذبه مالك في حديثين، فعلى هذا لا يشغل بتأويل هذا الحديث لأجل سنده ولمخالفته
للحديث الصحيح، وقول البيهقي: رد الحي وقبل اللحم يرده ما في الصحيح إنه عليه السلام
رده. ا ه‍.
4 - عن عبد الله بن الحرث عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب قال: أتي النبي
صلى الله عليه وسلم بلحم صيد وهو محرم فلم يأكله.
مسند أحمد 1: 105، سنن ابن ماجة 2: 263.
5 - عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين إنها قالت له: يا ابن أختي
إنما هي عشر ليال فإن يختلج في نفسك شئ فدعه. يعني أكل لحم الصيد.
موطأ مالك 1: 257، سنن البيهقي 5: 194، تيسير الوصول 1: 273.
6 - عن نافع قال: أهدي إلى ابن عمر ظبيا مذبوحة بمكة فلم يقبلها، وكان ابن
عمر يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال.
رواه ابن حزم في المحلى 7: 250 من طريق رجاله كلهم ثقات.
ولو كان عند الخليفة علم بسنة نبيه لعله لم يك يخالفها، ولو كان عنده ما يجديه
في الحجاج تجاه هذه السنة الثابتة لأفاضه وما ترك النوبة لأتباعه ليحتجوا له بعد لأي
من عمر الدهر بما لا يغني من الحق شيئا، قال البيهقي في سننه 5: 194: أما علي وابن
عباس رضي الله عنهما فإنهما ذهبا إلى تحريم أكله على المحرم مطلقا، وقد خالفهما
عمر وعثمان وطلحة والزبير وغيرهم ومعهم حديث أبي قتادة وجابر والله أعلم. ا ه‍.
192

أما حديث أبي قتادة قال: انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأحرم
أصحابي ولم أحرم فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم وكنت مع أصحابي فجعل بعضهم يضحك إلى
بعض فنظرت فإذا حمار وحش فحملت عليه فطعنته فأثبته فاستعنت بهم فأبوا أن يعينوني
فأكلنا منه، فلحقت برسول الله وقلت: يا رسول الله! إني أصبت حمار وحش ومعي منه
فاضلة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للقوم: كلوا. وهم محرمون (1).
فهو غير واف بالمقصود لأن قصته كانت عام الحديبية السادس من الهجرة كما
هو صريح لفظه وكثير من أحكام الحج شرعت في عام حجة الوداع السنة العاشرة
ومنها تعيين المواقيت ولذلك ما كان أبو قتادة محرما عند ذا، مع إحرام رسول الله وإحرام
أصحابه. قال ابن حجر في فتح الباري 4: 19: قيل كانت: هذه القصة قبل أن يوقت النبي
المواقيت. وقال السندي في شرح سنن النسائي 5: 185 عند ذكر حديث أبي قتادة: قوله
" عام الحديبية " بهذا تبين أن تركه الاحرام ومجاوزته الميقات بلا إحرام كان قبل أن
تقرر المواقيت، فإن تقرير المواقيت كان سنة حج الوداع كما روي عن أحمد.
ومنها أحكام الصيد النازلة في سورة المائدة التي هي آخر ما نزل من القرآن، و
روي عن النبي صلى الله عليه وآله: إنه قرأها في حجة الوداع وقال: يا أيها الناس إن سورة المائدة
آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها. وروي نحوه عن عائشة موقوفا وصححه
الحاكم وأقره ابن كثير، وأخرجه أبو عبيد من طريق ضمرة بن حبيب، وعطية بن قيس
مرفوعا (2).
فليس من البدع أن يكون غير واحد من مواضيع الحج لم يشرع لها حكم في
عام الحديبية ثم شرع بعده ومنها هذه المسألة، وكان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام حاضرا
في عام الحديبية وقد شاهد قصة أبي قتادة كما شاهد ها غيره " على فرض صحتها " ومع
ذلك أنكر على عثمان وكذلك الشهود الذين استنشدهم صلوات الله عليه فشهدوا له
- 14 -

(1) صحيح البخاري 3: 163، صحيح مسلم 1: 450، سنن النسائي 5: 185، سنن ابن
ماجة 2: 363، سنن البيهقي 5: 188.
(2) مستدرك الحاكم 2: 311، تفسير القرطبي 6: 31، تفسير الزمخشري 1: 403، تفسير
ابن كثير 2: 2، تفسير الخازن 2: 448، تفسير الشوكاني 2: 1.
193

لم يعزب عنهم ما وقع في ذلك العام، لكنهم شهدوا على التشريع الأخير الثابت.
ولو كان لقصة أبي قتادة مقيل من الصحة أو وزن يقام لما ترك عثمان الاحتجاج
به لكنه كان يعلم أن الشأن فيها كما ذكرناه، وإن العمل قبل التشريع لا حجية له،
وأفحمه الإمام عليه السلام بحجته الداحضة، فتوارى عن الحجاج في فسطاطه وترك الطعام
على أهل الماء.
وأما حديث جابر فقد أخرجه غير واحد من أئمة الفقه والحديث ناصين على
ضعفه من طريق عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيد البر لكم حلال وأنتم حرم إلا ما اصطدتم وصيد لكم (1)
قال النسائي في سننه: أبو عبد الرحمن عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث
وإن كان قد روى عنه مالك.
وقال ابن حزم في المحلى: أما خبر جابر فساقط لأنه عن عمرو بن أبي عمرو
وهو ضعيف.
وقال ابن التركماني في شرح سنن البيهقي عند قول الشافعي: إن ابن أبي يحيى
أحفظ من الدراوردي (2): قلت: الدراوردي احتج به الشيخان وبقية الجماعة، وقال
ابن معين:
ثقة حجة، ووثقه القطان وأبو حاتم وغيرهما، وأما ابن أبي يحيى فلم يخرج
له في شئ من الكتب الخمسة، ونسبه إلى الكذب جماعة من الحفاظ كابن حنبل وابن معين
وغيرهما، وقال بشر بن المفضل: سألت فقهاء المدينة عنه فكلهم يقولون: كذاب أو
نحو هذا، وسئل مالك: أكان ثقة؟ فقال: لا ولا في دينه، وقال ابن حنبل: كان قدريا
معتزليا جهميا كل بلاء فيه، وقال البيهقي في التيمم والنكاح: مختلف في عدالته.
ومع هذا كله كيف يرجح على الدراوردي؟.
قال: ثم لو رجع عليه هو ومن معه فالحديث في نفسه معلول عمرو بن أبي عمرو

(1) كتاب الأم 2: 176، سنن أبي داود 1: 291، سنن النسائي 5: 187، سنن البيهقي
5: 190، المحلى لابن حزم 7: 253.
(2) الرجلان وردا في طريقي الشافعي للحديث.
194

مع اضطرابه في هذا الحديث متكلم فيه. قال ابن معين وأبو داود: ليس بالقوي زاد
يحيى: وكان مالك يستضعفه. وقال السعدي: مضطرب الحديث.
قال: والمطلب قال فيه ابن سعد: ليس يحتج بحديثه لأنه يرسل عن النبي
صلى الله عليه وسلم كثيرا، وعامة أصحابه يدلسون، ثم الحديث مرسل، قال الترمذي: المطلب
لا يعرف له سماع من جابر. فظهر بهذا أن الحديث فيه أربع علل: إحداها: الكلام في
المطلب. ثانيها: إنه ولو كان ثقة فلا سماع له من جابر فالحديث مرسل. ثالثها: الكلام
في عمرو. رابعها: إنه ولو كان ثقة فقد اختلف عليه فيه كما مر. ا ه‍.
ثم ذكر ما استشكل به الطحاوي في الحديث من وجهة النظر من قوله: إن
الشئ لا يحرم على إنسان بنية غيره أن يصيد له.
هذا مجمل القول في حديث أبي قتادة وجابر، فلا يصلحان للاعتماد ورفع اليد عن
تلكم الصحاح المذكورة الثابتة، ولا يخصص بمثلهما عموم، ولا يتم بهما تقييد مطلقات
الكتاب، والمعول عليه في المسألة هو كتاب الله العزيز والسنة الشريفة الثابتة، وما شذ
عنهما من رأي أي بشر يضرب به عرض الجدار، فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون.
16 خصومة يرفعها الخليفة إلى علي
أخرج أحمد والدورقي من طريق الحسن بن سعد عن أبيه إن يحيس (1) وصفية
كانا من سبي الخمس فزنت صفية برجل من الخمس وولدت غلاما فادعى الزاني
ويحيس فاختصما إلى عثمان فرفعهما عثمان إلى علي بن أبي طالب، فقال علي: أقضي
فيهما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر وجلدهما خمسين خمسين (2).
قال الأميني هل علمت أنه لماذا رد الخليفة الحكم إلى أمير المؤمنين عليه السلام؟
لقد رفعه إليه إن كنت لا تدري لأنه لم يكن عنده ما يفصل به الخصومة، ولعله كان
ملأ سمعه قوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة (3) ويعلم
في الجملة أن هناك فرقا في كثير من الأحكام بين الأحرار والمملوكين، لكن عزب عنه

(1) في مسند أحمد: يحنس.
(2) مسند أحمد 1: 104، تفسير ابن كثير 1: 478، كنز العمال 3: 227.
(3) سورة النور آية: 2.
195

إن مسألة الحد أيضا من تلكم الفروع، فكأنه لم يلتفت إلى قوله تعالى: ومن لم
يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم
المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن
أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان، فإذا أحصن فإن
أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب. الآية (1).
أو أن الآية الكريمة كانت نصب عينيه لكن لم يسعه فهم حقيقتها لأن قيد ذاكرته
إن حد المحصنات هو الرجم، غير إنه لم يتسن له تعرف أن الرجم لا يتبعض، فالذي
يمكن تنصيفه من العذاب هو الجلد، فالآية الشريفة دالة بذلك على سقوط الرجم
عن المحصنات من الإماء وإنما عليهن نصف الجلد الثابت عليها في السنة الشريفة (2).
وأخرج أحمد في مسنده 1: 136 من طريق أبي جميلة عن علي عليه السلام قال:
أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمة له سوداء زنت لأجلدها الحد قال: فوجدتها في دمائها
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال لي: إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين.
وذكره ابن كثير في تفسيره 1: 476 وفيه: إذا تعافت من نفاسها فاجلدها خمسين. و
ذكره الشوكاني في نيل الأوطار 7: 292 باللفظ المذكور. وأخرجه مسلم وأبو داود
والترمذي وصححه وليس في لفظهم " خمسين ".
هب أن الخليفة نسيها لبعد العهد لكنه هل نسي ما وقع بمطلع الأكمة منه على
العهد العمري؟ من جلده المحصنات من الإماء خمسين جلدة كما أخرجه الحافظ (3) أو أن
الخليفة وقف على مغازي الآيات الكريمة، ولم تذهب عليه السنة النبوية، وكان على
ذكر مما صدر على عهد عمر لكن أربكه حكم العبد لأنه رأى الآية الكريمة نصا في
الإماء، وكذلك نصوص الأحاديث، ولم يهتد إلى اتحاد الملاك بين العبيد والإماء

(1) سورة النساء آية: 25.
(2) صحيح البخاري 10: 48، صحيح مسلم 2: 37، سنن أبي داود 2: 239، سنن ابن
ماجة 2: 119، سنن البيهقي 8: 342، موطأ مالك 2: 170، كتاب الأم للشافعي 6:
121، تفسير القرطبي 12: 159.
(3) موطأ مالك 2: 170، سنن البيهقي 8: 242، تفسير ابن كثير 1: 6 47، كنز
العمال 3: 86.
196

من المملوكية، وهو الذي أصفق عليه أئمة الحديث والتفسير كما في كتاب الأم للشافعي
6: 144، أحكام القرآن للجصاص 2: 206، سنن البيهقي 8: 243، تفسير القرطبي
5: 146، ج 12: 159، تفسير البيضاوي 1: 270، تيسير الوصول 2: 4، فيض الإله
المالك للبقاعي 2: 311، فتح الباري 12: 137، فتح القدير 1: 416، تفسير الخازن
1: 360، وقال الشوكاني في نيل الأوطار 7: 292: لا قائل بالفرق بين الأمة والعبد
كما حكى ذلك صاحب البحر.
أو أن الخليفة حسب أن ولد الزانية لا بد وأن يكون للزاني، ولم يشعر بمقاربة
زوجها إياها أو إمكان مقاربته منذ مدة يمكن أن ينعقد الحمل فيها، وبذلك يتحقق
الفراش الذي يلحق الولد بصاحبه، كما حكم به مولانا أمير المؤمنين عليه السلام والأصل فيه
قوله صلى الله عليه وآله: الولد للفراش وللعاهر الحجر.
لقد أنصف الخليفة في رفع حكم هذه المسألة إلى من عنده علم الكتاب والسنة
فإنه كان يعلم علم اليقين إن ذلك عند العترة الطاهرة لا البيت الأموي، وليته أنصف
هذا الانصاف في كل ما يرد عليه من المسائل، وليته علم إن حاجة الأمة إنما هي
إلى إمام لا يعدوه علم الكتاب والسنة فأنصفها، غير أن..
إذا لم تستطع شيئا فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع
- 17 -
رأي الخليفة في عدة المختلعة (1)
عن نافع أنه سمع ربيع بنت معوذ بن عفراء وهي تخبر عبد الله بن عمر إنها
اختلعت من زوجها على عهد عثمان فجاء معاذ بن عفراء إلى عثمان فقال: إن ابنة معوذ
اختلعت من زوجها اليوم أتنتقل؟ فقال له عثمان: تنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها
إلا أنها لا تنكح حتى حيضة، خشية أن يكون بها حبل. فقال عبد الله عند ذلك: عثمان
خيرنا وأعلمنا. وفي لفظ آخر: قال عبد الله: أكبرنا وأعلمنا.

(1) سنن البيهقي 7: 450، 451، سنن ابن ماجة 1: 634، تفسير ابن كثير 1: 276
نقلا عن ابن أبي شيبة، زاد المعاد لابن القيم 2: 403، كنز العمال 3: 223، نيل الأوطار
7: 35.
197

وفي لفظ عبد الرزاق عن نافع عن الربيع ابنة معوذ إنها قالت: كان لي زوج
يقل الخير علي إذا حضر ويحزنني إذا غاب فكانت مني زلة يوما فقلت له: اختلعت
منك بكل شئ أملكه. فقال: نعم. ففعلت فخاصم ابني معاذ بن عفراء إلى عثمان فأجاز
الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه، أو قالت: دون عقاص رأس.
وفي لفظ عن نافع: إنه زوج ابنة أخيه رجلا فخلعها فرفع ذلك إلى عثمان فأجاذه
فأمرها أن تعتد حيضة. وفي لفظ ابن ماجة من طريق عبادة الصامت: قالت: الربيع
: اختلعت من زوجي ثم جئت عثمان فسألت ماذا علي من العدة؟ فقال: لا عدة
عليك إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتى تحيضين حيضة. الخ.
قال الأميني: المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، نصا من الله العزيز الحكيم
(1) من غير فرق بين أقسام الطلاق المنتزعة من شقاق الزوج والزوجة، فإن كان الكره
من قبل الزوج فحسب فالطلاق رجعي. أو من قبل الزوجة فقط فهو خلعي. أو
منهما معا فمباراة. فليس لكل من هذه الأقسام حكم خاص في العدة غير ما ثبت
لجميعها بعموم الآية الكريمة المنتزع من الجمع المحلى باللام المطلقات وعلى هذا
تطابقت فتاوى الصحابة والتابعين والعلماء من بعدهم وفي مقدمهم أئمة المذاهب الأربعة
قال ابن كثير في تفسيره 1: 276: مسألة وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد
وإسحاق بن راهويه في رواية عنهما وهي المشورة إلى أن المختلعة عدتها عدة المطلقة
بثلاثة قروء إن كانت ممن تحيض، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر، وبه يقول سعيد
بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعروة، وسالم، وأبو سلمة، وعمر بن عبد العزيز،
وابن شهاب، والحسن، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وأبو عياض، وخلاس بن عمر، و
قتادة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبو عبيد، وقال الترمذي (2):
وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم، ومأخذهم في هذا أن الخلع طلاق
فتعتد كسائر المطلقات. ا ه‍.
هذه آراء أئمة المسلمين عند القوم وليس فيها شئ يوافق ما ارتآه عثمان وهي

(1) راجع سورة البقرة: 228.
(2) قاله في صحيحه 1: 142.
198

مصافقة مع القرآن الكريم كما ذكرناه.
وقد احتج لعثمان بما رواه الترمذي في صحيحه 1: 142 من طريق عكرمة عن
ابن عباس: إن امرأة ثابت بن قيس رضي الله عنه اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة
وهذه الرواية باطلة إذ المحفوظ عند البخاري والنسائي من طريق ابن عباس في
قصة امرأة ثابت ما لفظه: قال ابن عباس: جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في
الاسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ (وكانت صداقها) قالت: نعم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقبل الحديقة وطلقها تطليقة.
فامرأة ثابت نظرا إلى هذه اللفظة مطلقة تطليقة والمطلقات يتربصن بأنفسهن
ثلاثة قروء.
على أن الاضطراب الهائل في قصة امرأة ثابت يوهن الأخذ بما فيها، ففي لفظ:
إنها جميلة بنت سلول. كما في سنن ابن ماجة. وفي لفظ أبي الزبير: إنها زينب. وفي
لفظ: إنها بنت عبد الله. وفي لفظ لابن ماجة والنسائي: إنها مريم العالية. وفي موطأ
مالك: إنها حبيبة بنت سهل. وذكر البصريون: إنها جميلة بنت أبي (1) وجل هذه
الألفاظ كلفظ البخاري والنسائي يخلو عن ذكر العدة بحيضة، فلا يخصص حكم القرآن
الكريم بمثل هذا.
على إنه لو كان لها مقيل في مستوى الصدق والصحة لما أصفقت الأئمة على
خلافها كما سمعت من كلمة ابن كثير.
وقد يعاضد رأي الخليفة بما أخرجه الترمذي في صحيحه 1: 142 عن الربيع
بنت معوذ (صاحبة عثمان) أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم
أو أمرت أن تعتد بحيضة. قال الترمذي: حديث الربيع الصحيح إنها أمرت أن تعتد
بحيضة. وبهذا اللفظ جاء في حديث سليمان بن يسار عن الربيع قالت: إنها اختلعت من
زوجها فأمرت أن تعتد بحيضة.
وقال البيهقي بعد رواية هذا الحديث: هذا أصح وليس فيه من أمرها ولا على

(1) راجع نيل الأوطار 7: 34 37.
199

عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد روينا في كتاب الخلع أنها اختلعت من زوجها زمن عثمان بن عفان
رضي الله عنه. ثم أخرج حديث نافع المذكور في صدر العنوان فقال: هذه الرواية تصرح
بأن عثمان رضي الله عنه هو الذي أمرها بذلك، وظاهر الكتاب في عدة المطلقات يتناول
المختلعة وغيرها، فهو أولى وبالله التوفيق. ه‍ (1)
فليس للنبي صلى الله عليه وآله في قصة بنت معوذ حكم وما رفعت إليه صلى الله عليه وآله، وإنما وقعت
في عصر عثمان وهو الحاكم فيها، وقد حرفتها عن موضعها يد الأمانة على ودايع العلم
والدين لتبرير ساحة عثمان عن لوث الجهل، ولو كان لتعدد القصة وزن يقام عند
الفقهاء وروايتها بمشهد منهم ومرأى لما عدلوا عنها على بكرة أبيهم إلى عموم الكتاب ولما
تركوها متدهورة في هوة الإهمال.
وعلى الباحث أن ينظر نظرة عميقة إلى قول ابن عمر وقد كان في المسألة أولا
مصافقا في رأيه الكتاب ومن عمل به من الصحابة وعد في عدادهم، ثم لمحض أن بلغه
رأي الخليفة المجرد عن الحجة عدل عن فتواه فقال: عثمان خيرنا وأعلمنا. أو قال:
أكبرنا وأعلمنا. هكذا فليكن المجتهدون، وهكذا فلتصدر الفتاوى.
- 18 -
رأي الخليفة في امرأة المفقود
أخرج مالك من طريق سعيد بن المسيب إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو فإنها تنتظر أربع سنين، ثم تنتظر أربعة أشهر
وعشرا، ثم تحل. وقضى بذلك عثمان بن عفان بعد عمر.
وأخرج أبو عبيد بلفظ: إن عمر وعثمان رضي الله عنهما قالا: امرأة المفقود
تربص أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا، ثم تنكح.
وفي لفظ الشيباني: إن عمر رضي الله عنه أجل امرأة المفقود أربع سنين. وفي
لفظ شعبة من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: قضى عمر رضي الله عنه في المفقود
تربص امرأته أربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها، ثم تربص بعد ذلك أربعة أشهر وعشرا
ثم تزوج.

(1) سنن البيهقي 7: 451.
200

ومن طريق ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه في
امرأة المفقود قال: إن جاء زوجها وقد تزوجت خير بين امرأته وبين صداقها، فإن اختار
الصداق كان على زوجها الآخر، وإن اختار امرأته اعتدت حتى تحل، ثم ترجع إلى
زوجها الأول وكان لها من زوجها الآخر مهرها بما استحل من فرجها. قال ابن شهاب:
وقضى بذلك عثمان بعد عمر رضي الله عنهما.
وفي لفظ الشافعي: إذا تزوجت فقدم زوجها قبل أن يدخل بها زوجها الآخر كان
أحق بها فإن دخل بها زوجها الآخر فالأول المفقود بالخيار بين امرأته والمهر (1)
قال الأميني: من لي بمتفقه في المسألة؟ يخبرني عن علة تريث المفقود عنها
زوجها أربع سنين، أهو مأخوذ من كتاب الله؟ فأين هو؟ أم أخذ من سنة رسول
الله صلى الله عليه وآله فمن ذا الذي رواها ونقلها؟ والصحاح والمسانيد للقوم خالية عنها، نعم ربما
يتشبث للتقدير بأنها نهاية مدة الحمل قال البقاعي في فيض الإله المالك 2: 263:
وسبب التقدير بأربع سنين إنها نهاية مدة الحمل وقد أخبر بوقوعه لنفسه الإمام الشافعي
وكذا الإمام مالك وحكي عنه أيضا أنه قال: جارتنا امرأة صدق وزوجها رجل صدق
حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين، وورد هذا عن غير تلك
المرأة أيضا. ا ه‍.
وهذا التعليل حكاه ابن رشد في مقدمات المدونة الكبرى 2: 101 عن أبي بكر
الأبهري ثم عقبه بقوله: وهو تعليل ضعيف لأن العلة لو كانت في ذلك هذا لوجب
أن يستوي فيه الحر والعبد (2) لاستوائهما في مدة لحوق النسب. ولوجب أن
يسقط جملة في الصغيرة التي لا يوطأ مثلها إذا فقد عنها زوجها فقام عنها أبوها في ذلك فقد
قال: إنها لو أقامت عشرين سنة ثم رفعت أمرها لضرب لها أجل أربعة أعوام وهذا يبطل
تعليله إبطالا ظاهرا. ا ه‍.
وليت هذا المتشبث أدلى في حجته بذكر أناس تريثوا في الأرحام النزيهة

(1) موطأ مالك 2: 28، كتاب الأم للشافعي 7: 219، سنن البيهقي 7: 445، 446
(2) التفصيل بين الحر والعبد بأن امرأة الحر يضرب لها الأجل أربعة أعوام ولامرأة العبد
تربص عامين كما نص عليه ابن رشد رأي مجرد لا دليل عليه.
201

عن الخنا أربعا قبل فتيا الخليفتين وإلا فما غناء قصة وقعت بعدهما بردح طويل من الزمن
ولا يدرى أصحيحة هي أم مكذوبة؟ وعلى فرض الصحة فهل كان الخليفتان يعلمان
الغيب؟ وإنه سينتج المستقبل الكشاف رجلا يكون حجة لما قدراه من مدة التربص؟
أو كان ما قدراه فتوى مجردة؟ فنحتت لها الأيام علة بعد الوقوع.
على أن أقصى مدة الحمل محل خلاف بين الفقهاء، ذهب أبو حنيفة وأصحابه
والثوري إلى أنه عامان، ومذهب الشافعي أنه أربعة أعوام، وأختار ابن القاسم أن
أكثره خمسة أعوام (1) وروى أشهب عن مالك سبعة أعوام على ما روى: إن امرأة ابن
عجلان ولدت ولدا مرة لسبعة أعوام (2)
ولعل أبناء عجلان آخرين في أرجاء العالم لا يرفع أمر حلائلهم إلى مالك والشافعي
وقد ولدن أولادا لثمانية أو تسعة أو عشرة أعوام، دع العقل والطبيعة والبرهنة تستحيل
ذلك كله، ما هي وما قيمتها تجاه ما جاءت به امرأة عجلان وحكم به مالك؟ أو وجاه
ما أتت به أم الإمام الشافعي فأفتى به.
نقل ابن رشد في سبب التقدير بأربعة أعوام عللا غير هذا وإن رد ها وفندها، منها
إنها المدة التي تبلغها المكاتبة في بلد الاسلام مسيرا ورجوعا، ومنها: إنه جهل إلى
أي جهة سار من الأربع جهات، فلكل جهة تربص سنة فهي أربع سنين. هذا مبلغ
علمهم بفلسفة آراء جاء بها عمر وعثمان فأين يقع هو من حكم ما صدع به النبي الأقدس؟.
ثم يخبرني هذا المتفقه عن هذه العدة التي أثبتها الخليفتان لماذا هي؟ فإن كانت
عدة الوفاة؟ فإنها غير جازمة بها، ولا تثبت بمجرد مرور أربع سنين أو أكثر وفي
رواية عن عمر كما سمعت إنه قضى في المفقود تربص امرأته أربع سنين ثم يطلقها ولي
روجها ثم تربص بعد ذلك أربعة أشهر وعشرا ثم تزوج (3). فعلى هذا إنها عدة
الطلاق فيجب أن تكون ثلاثة قروء، فما هذا أربعة أشهر وعشرا؟ وعلى فرض ثبوت هذه
العدة ولو بعد الطلاق من باب الأخذ بالحائطة فما علاقة الزوج بها؟ حتى إنه إذا جاء

(1) في الفقه على المذاهب الأربعة 4: 535: إنه خمس سنين على الراجح.
(2) راجع مقدمات المدونة الكبرى للقاضي ابن رشد 2: 102.
(3) سنن البيهقي 7: 445.
202

بعد النكاح خير بين امرأته وبين صداقها، وقد قطع الشرع أي صلة بينهما ورخص
في تزويجها، فنكحت على الوجه المشروع، قال ابن رشد (1): ألا ترى إنها لو ماتت
بعد العدة لم يوقف له ميراث منها، وإن كان لو أتى في هذه الحالة كان أحق بها، ولو
بلغ هو من الأجل ما لا يجئ إلى مثله من السنين وهي حية لم تورث منه، وإنما يكون
لها الرضا بالمقام على العصمة ما لم ينقض الأجل المفروض، وأما إذا انقضى واعتدت
فليس ذلك لها وكذلك إن مضت بعد العدة.
ثم ما وجه أخذ الصداق من الزوج الثاني عند اختيار الأول الصداق ولم يأت
بمأثم وإنما تزوج بامرأة أباحها له الشريعة.
وأعجب من كل هذه أن هذه الروايات بمشهد من الفقهاء كلهم ولم يفت
بمقتضاها أئمة المذاهب في باب الخيار، قال مالك في الموطأ 2: 28: إن تزوجت
بعد انقضاء عدتها فدخل بها زوجها أو لم يدخل بها فلا سبيل لزوجها الأول إليها. و
قال: وذلك الأمر عندنا، وإن أدركها زوجها قبل أن تتزوج فهو أحق بها.
وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: لا تحل امرأة المفقود حتى يصح موته.
قاله القاضي ابن رشد في بداية المجتهد 2: 52 فقال: وقولهم مروي عن علي وابن
مسعود.
وقال الحنفية: يشترط لوجوب النفقة على الزوج شروط: أحدها أن يكون
العقد صحيحا فلو عقد عليها عقدا فاسدا أو باطلا وأنفق عليها ثم ظهر فساد العقد أو
بطلانه فإن له الحق في الرجوع عليها بما أنفقه.
ومن ذلك ما إذا غاب عنها زوجها فتزوجت بزوج آخر ودخل بها ثم حضر زوجها
الغائب فإن نكاحها الثاني يكون فاسدا، ويفرق القاضي بينهما، وتجب عليها العدة
بالوطئ الفاسد، ولا نفقة لها على الزوج الأول ولا على الزوج الثاني (2).
قال الشافعي في كتاب " الأم " 5: 221: لم أعلم مخالفا في أن الرجل أو المرأة لو
غابا أو أحدهما برا أو بحرا علم مغيبهما أو لم يعلم فماتا أو أحدهما فلم يسمع لهما بخبر

(1) مقدمات المدونة الكبرى 2: 104.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة 3: 565.
203

أو أسرهما العدو فصيروهما إلى حيث لا خبر عنهما لم نورث وحدا منهما من صاحبه
إلا بيقين وفاته قبل صاحبه، فكذلك عندي امرأة الغائب أي غيبة كانت مما وصفت
أو لم أصف بأسار عدو أو بخروج الزوج ثم خفي مسلكه أو بهيام من ذهاب عقل أو
خروج فلم يسمع له ذكر أو بمركب في بحر فلم يأتي له خبر أو جاء خبر أن غرق كان
يرون إنه قد كان فيه ولا يستيقنون إنه فيه، لا تعتد امرأته ولا تنكح أبدا حتى يأتيها
بيقين وفاته، ثم تعتد من يوم استيقنت وفاته وترثه، ولا تعتد امرأة من وفاة ومثلها
يرث إلا ورثت زوجها الذي اعتدت من وفاته، ولو طلقها وهو خفي الغيبة بعد أي
هذه الأحوال كانت، أو آلى منها، أو تظاهر، أو قذفها، لزم ما يلزم الزوج الحاضر في
ذلك كله، وإذا كان هذا هكذا لم يجز أن تكون امرأة رجل يقع عليها ما يقع على الزوجة
تعتد لا من طلاق ولا وفاة، كما لو ظننت أنه طلقها أو مات عنها لم تعتد من طلاق
إلا بيقين، وهكذا لو تربصت سنين كثيرة بأمر حاكم واعتدت وتزوجت فطلقها الزوج
الأول المفقود لزمها الطلاق، وكذا إن آلى منها، أو تظاهر، أو قذفها، لزمه ما يلزم
الزوج، وهكذا لو تربصت بأمر حاكم أربع سنين ثم اعتدت فأكملت أربعة أشهر و
عشرا ونكحت ودخل بها أو نكحت ولم يدخل بها أو لم تنكح وطلقها الزوج الأول
المفقود في هذه الحالات لزمها الطلاق لأنه زوج، وهكذا لو تظاهر منها أو قذفها أو
آلى منها لزمه ما يلزم المولى غير إنه ممنوع من فرجها بشبهة بنكاح غيره فلا يقال
له فئ حتى تعتد من الآخر إذا كانت دخلت عليه، فإذا أكملت عدتها أجل من يوم
تكمل عدتها أربعة أشهر، وذلك حين حل له فرجها وإن أصابها فقد خرج من طلاق
الايلاء وكفر وإن لم يصبها قيل له: أصبها أو طلق.
قال: وينفق عليها من مال زوجها المفقود من حين يفقد حتى يعلم يقين موته،
وإن أجلها حاكم أربع سنين أنفق عليها فيها وكذلك في الأربعة الأشهر والعشر من
مال زوجها، فإذا نكحت لم ينفق عليها من مال الزوج المفقود لأنها مانعة له نفسها،
وكذلك لا ينفق عليها وهي في عدة منه لو طلقها أو مات عنها ولو بعد ذلك، ولم أمنعها
النفقة من قبل إنها زوجة الآخر، ولا إن عليها منه عدة، ولا إن بينهما ميراثا، ولا
إنه يلزمها طلاقه، ولا شئ من الأحكام بين الزوجين إلا لحوق الولد به إن أصابها وإنما
204

منعتها النفقة من الأول لأنها مخرجة نفسها من يديه ومن الوقوف عليه، كما تقف المرأة
على زوجها الغائب بشبهة، فمنعتها نفقتها في الحال التي كانت فيها مانعة له نفسها بالنكاح
والعدة، وهي لو كانت في المصر مع زوج فمنعته نفسها منعتها نفقتها بعصيانها، ومنعتها
نفقتها بعد عدتها من زوجها الآخر بتركها حقها من الأول وإباحتها نفسها لغيره، على
معنى إنها خارجة من الأول، ولو أنفق عليها في غيبته ثم ثبتت البينة على موته في
وقت ردت كل ما أخذت من النفقة من حين مات فكان لها الميراث.
ولو حكم لها حاكم بأن تزوج فتزوجت فسخ نكاحها وإن لم يدخل بها فلا مهر
لها، وإن دخل بها فأصابها فلها مهر مثلها لا ما سمي لها وفسخ النكاح وإن لم يفسخ حتى
مات أو ماتت فلا ميراث لها منه ولا له منها.
قال: ومتى طلقها الأول وقع عليها طلاقه، ولو طلقها زوجها الأول أو مات
عنها وهي عند الزوج الآخر كانت عند غير زوج فكانت عليها عدة الوفاة والطلاق ولها
الميراث في الوفاة والسكنى في العدة في الطلاق وفيمن رآه لها بالوفاة، ولو مات الزوج
الآخر لم ترثه وكذلك لا يرثها لو ماتت. الخ.
فأنت بعد هذه كلها جد عليم بأنه لو كان على ما أفتى به الخليفتان مسحة من
أصول الحكم والفتيا لما عدل عنه هؤلاء الأئمة، ولما خالفهما قبلهم مولانا أمير المؤمنين
عليه السلام، ولما قال عليه السلام في امرأة المفقود إذا قدم وقد تزوجت امرأته: هي امرأته إن شاء
طلق وإن شاء أمسك ولا تخير.
ولما قال عليه السلام: إذا فقدت المرأة زوجها لم تتزوج حتى تعلم أمره.
ولما قال عليه السلام: إنها لا تتزوج.
ولما قال عليه السلام: ليس الذي قال عمر رضي الله عنه بشئ، هي امرأة الغائب حتى
يأتيها يقين موته أو طلاقها، ولها الصداق من هذا بما استحل من فرجها ونكاحه باطل
ولما قال عليه السلام: هي امرأة الأول دخل بها الآخر أو لم يدخل بها.
ولما قال عليه السلام: امرأة ابتليت فلتصبر لا تنكح حتى يأتيها يقين موته. (1) قال

(1) كتاب الأم للشافعي 5: 223، البيهقي 7: 4 44، 446، مقدمات المدونة
الكبرى 2: 103.
205

الشافعي بعد ذكر الحديث: وبهذا نقول.
وأمير المؤمنين كما تعلم أفقه الصحابة على الإطلاق، وأعلم الأمة بأسرها، وباب
مدينة العلم النبوي، ووارث علم النبي الأقدس على ما جاء عنه صلى الله عليه وآله، فليتهما رجعا
إليه صلوات الله عليه في حكم المسألة ولم يستبدا بالرأي المجرد كما استعلماه في كثير
مما أربكهما من المشكلات، وأنى لهما باقتحام المعضلات وهما هما؟ وأي رأي هذا
ضربت عنه الأمة صفحا؟ وكم له من نظير؟ وكيف أوصى النبي الأعظم باتباع أناس
هذه مقاييس آرائهم في دين الله، وهذا مبلغهم من العلم، بقوله فيهم: عليكم بسنتي و
سنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها؟ (1)
خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق (سورة ص: 22) - 19 -
الخليفة يأخذ حكم الله من أبي
أخرج البيهقي في السنن الكبرى،: 417 بالإسناد عن أبي عبيد قال: أرسل
عثمان رضي الله عنه إلى أبي يسأل عن رجل طلق امرأته ثم راجعها حين دخلت في
الحيضة الثالثة. قال أبي: إني أرى إنه أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، وتحل لها الصلاة. قال: لا أعلم عثمان رضي الله عنه إلا أخذ بذلك.
قال الأميني: صريح الرواية إن الخليفة كان جاهلا بهذا الحكم حتى تعلمه من
أبي؟ وأخذ بفتياه، ولا شك إن الذي علمه هو خير منه، فهلا ترك المقام له أو لمن
هو فوقه؟ وفوق كل ذي علم عليم، ولو ترك الأمر لمن لا يسأل غيره في أي من مسائل
الشريعة لدخل مدينة العلم من بابها.
وحسبك في مبلغ علم الخليفة قول العيني في عمدة القاري 2: 733: إن عمر
كان أعلم وأفقه من عثمان. وقد أوقفناك على علم عمر في الجزء السادس وذكرنا نوادر
الأثر في علمه، فانظر ماذا ترى؟.
- 20 -
الخليفة يأخذ السنة من امرأة
أخرج الإمامان: الشافعي ومالك وغيرهما بالإسناد عن فريعة بنت مالك بن سنان

(1) أسلفنا الحديث في الجزء السادس ص 330 ط 2 وبينا المعنى الصحيح المراد منه.
206

أخبرت: إنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة وإن زوجها
خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه فسألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم إني أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه قالت: فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر
بي فدعيت له قال: فكيف قلت: فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي
فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا
فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به.
قال الشافعي في (الرسالة): وعثمان في إمامته وفضله وعلمه يقضي بخبر امرأة
بين المهاجرين والأنصار.
قال في اختلاف الحديث: أخبرت الفريعة بنت مالك عثمان بن عفان إن النبي
صلى الله عليه وسلم أمرها أن تمكث بيتها وهي متوفى عنها حتى يبلغ الكتاب أجله فأتبعه وقضى به.
قال ابن القيم في زاد المعاد: حديث صحيح مشهور في الحجاز والعراق وأدخله
مالك في موطأه، واحتج به وبنى عليه مذهبه، ثم ذكر تضعيف ابن حزم إياه وفنده
وقال: ما قاله أبو محمد فغير صحيح. وذكر قول ابن عبد البر في شهرته، وإنه معروف
عند علماء الحجاز والعراق.
راجع الرسالة للشافعي ص 116، كتاب الأم له 5: 208، اختلاف الحديث له
: هامش كتابه الأم 7: 22، موطأ مالك 2: 36، سنن أبي داود 1: 362، سنن البيهقي
7: 434، أحكام القرآن للجصاص 1: 496، زاد المعاد 2: 404، الإصابة 4: 386،
نيل الأوطار 7: 100 فقال: رواه الخمسة وصححه الترمذي ولم يذكر النسائي و
ابن ماجة إرسال عثمان.
قال الأميني: هذه كسابقتها تكشف عن قصور علم الخليفة عما توصلت إليه
المرأة المذكورة، وهاهنا نعيد ما قلناه هنالك، فارجع البصر كرتين، وأعجب من
خليفة يأخذ معالم دينه من نساء أمته وهو المرجع الوحيد للأمة جمعا، يومئذ في كل
ما جاء به الاسلام المقدس كتابا وسنة، وبه سد فراغ النبي الأعظم، وعليه يعول
في مشكلات الأحكام وعويصات المسائل فضلا عن مثل هذه المسألة البسيطة.
207

ثم أعجب من ابن عمر أنه يرى من هذا مبلغ علمه أعلم الصحابة في يومه، ما
عشت أراك الدهر عجبا.
- 21 -
رأي الخليفة في الاحرام قبل الميقات
أخرج البيهقي في السنن الكبرى 5: 31 بالإسناد عن داود بن أبي هند إن عبد
الله (1) بن عامر بن كريز حين فتح خراسان قال: لأجعلن شكري لله أن أخرج من
موضعي محرما فأحرم من نيسابور فلما قدم على عثمان لامه على ما صنع قال: ليتك تضبط
من الوقت الذي يحرم منه الناس.
لفظ آخر من طريق محمد بن إسحاق قال: خرج عبد الله بن عامر من نيسابور
معتمرا قد أحرم منها، وخلف على خراسان الأحنف بن قيس، فلما قضى عمرته أتى عثمان
ابن عفان رضي الله عنه وذلك في السنة التي قتل فيها عثمان رضي الله عنه فقال له عثمان
رضي الله عنه: لقد غررت بعمرتك حين أحرمت من نيسابور.
وقال ابن حزم في المحلى 7: 7 7: روينا من طريق عبد الرزاق نا؟ معمر عن أيوب
السختياني عن محمد بن سيرين قال: أحرم عبد الله بن عامر من حيرب (2) فقدم عثمان بن
عفان فلامه فقال له: غررت وهان عليك نسكك. وفي لفظ ابن حجر: غررت بنفسك.
فقال ابن حزم: قال أبو محمد (يعني نفسه): وعثمان لا يعيب عملا صالحا عنده ولا
مباحا وإنما يعيب ما لا يجوز عنده لا سيما وقد بين إنه هوان بالنسك والهوان بالنسك
لا يحل وقد أمر الله تعالى بتعظيم شعائر الحج.
وذكره ابن حجر في الإصابة 3: 61 وقال: أحرم ابن عامر من نيسابور شكرا
لله تعالى وقدم على عثمان فلامه على تغريره بالنسك. فقال: كره عثمان أن يحرم من
خراسان أو كرمان، ثم ذكر الحديث من طريق سعيد بن منصور وأبي بكر ابن أبي
شيبة وفيه: أن ابن عامر أحرم من خراسان. فذكره من طريق محمد بن سيرين والبيهقي
فقال: قال البيهقي: هو عن عثمان مشهور (3)

(1) هو ابن خال عثمان بن عفان. كما في الإصابة راجع ج 3: 61.
(2) وفي نسخة: جيرب. ولم أجدهما في المعاجم.
(3) توجد كلمة البيهقي هذه في سننه الكبرى 5: 31.
208

وذكر هذه كلها في تهذيب التهذيب 5: 273 غير كلمة البيهقي في شهرة الحديث
وفي تيسير الوصول 1: 265: عن عثمان رضي الله عنه: إنه كره أن يحرم الرجل من
خراسان وكرمان. أخرجه البخاري في ترجمته.
قال الأميني: إن الذي ثبت في الاحرام بالحج أو العمرة إن هذه المواقيت
حد للأقل من مدى الاحرام بمعنى إنه لا يعدوها الحاج وهو غير محرم، وأما الاحرام
قبلها من أي البلاد شئ أو من دويرة أهل المحرم، فإن عقده باتخاذ ذلك المحل ميقاتا
فلا شك إنه بدعة محرمة كتأخيره عن المواقيت، وأما إذا جئ به للاستزادة من
العبادة عملا بإطلاقات الخير والبر، أو شكرا على نعمة، أو لنذر عقده المحرم فهو كالصلاة
والصوم وبقية القرب للشكر أو بالنذر أو لمطلق البر، تشمله كل من أدلة هذه العناوين
ولم يرد عنه نهي من الشارع الأقدس، وإنما المأثور عنه وعن أصحابه ما يلي:
1 - أخرج أئمة الحديث بإسناد صحيح من طريق الأخنسي عن أم حكيم عن
أم سلمة مرفوعا: من أهل من المسجد الأقصى لعمرة أو بحجة غفر الله ما تقدم
من ذنبه. قال الأخنسي: فركبت أم حكيم عند ذلك الحديث إلى بيت المقدس حتى
أهلت منه بعمرة.
وفي لفظ أبي داود والبيهقي والبغوي: من أهل بحجة أو عمرة من المسجد
الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. أو: وجبت له الجنة.
وفي لفظ: ووجبت له الجنة.
وفي لفظ ابن ماجة: من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له.
وفي لفظ له أيضا: من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت له كفارة لما قبلها
من الذنوب. قالت: فخرجت أمي من بيت المقدس بعمرة.
وقال أبو داود بعد الحديث: يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس يعني إلى مكة.
راجع مسند أحمد 6: 299، سنن أبي داود 1: 275، سنن ابن ماجة 2: 235
سنن البيهقي 5: 30، مصابيح السنة للبغوي 1: 170، والترغيب والترهيب للمنذري
2: 61 ذكره بالألفاظ المذكورة وصححه من طريق ابن ماجة وقال: ورواه ابن حبان
في صحيحه.
- الغدير 15 -
209

2 - أخرج ابن عدي والبيهقي من طريق أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله
تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله (1) ": إن من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك.
سنن البيهقي 5: 30، الدر المنثور 1: 208، نيل الأوطار 5: 26 قال: ثبت
ذلك مرفوعا من حديث أبي هريرة.
3 - أخرج الحفاظ من طريق علي أمير المؤمنين أنه قال في قوله تعالى: وأتموا
الحج والعمرة لله: إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
أخرجه وكيع، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم،
والنحاس في ناسخه ص 34، وابن جرير في تفسيره 2: 120، والحاكم في المستدرك
2: 276، وصححه وأقره الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى 6: 30، والجصاص
في أحكام القرآن 1: 337، 354، تفسير ابن جزي 1: 74، تفسير الرازي 2: 162
تفسير القرطبي 2: 343، تفسير ابن كثير 1: 230، الدر المنثور 1: 208، نيل
الأوطار 5: 26.
4 - قال الجصاص في أحكام القرآن 1: 310: روي عن علي وعمر وسعيد بن
جبير وطاوس قالوا: إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
وقال في ص 337: أما الاحرام بالعمرة قبل الميقات فلا خلاف بين الفقهاء فيه.
وروي عن الأسود بن يزيد قال: خرجنا عمارا، فلما انصرفنا مررنا بأبي ذر فقال:
أحلقتم الشعث وقضيتم التفث؟ أما إن العمرة من مدركم. وإنما أراد أبو ذر: أن
الأفضل إنشاء العمرة من أهلك، كما روي عن علي: تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
وقال الرازي في تفسيره 2: 162: روي عن علي وابن مسعود: إن إتمامهما
أن يحرم من دويرة أهله. وقال في ص 172: اشتهر عن أكابر الصحابة إنهم قالوا: من
إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله.
وقال القرطبي في تفسيره 2: 343 بعد ذكره حديث علي عليه السلام: وروي ذلك عن
عمر وسعد بن أبي وقاص وفعله عمران بن حصين. ثم قال: أما ما روي عن علي وما فعله
عمران بن حصين في الاحرام قبل المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال به عبد الله

(1) سورة البقرة: 195.
210

ابن مسعود وجماعة من السلف، وثبت أن عمر أهل من إيلياء (1) وكان الأسود وعلقمة
وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم، ورخص فيه الشافعي. ثم ذكر
حديث أم سلمة المذكورة.
وقال ابن كثير في تفسيره 1: 230 بعد حديث علي عليه السلام: وكذا قال ابن عباس
وسعيد بن جبير وطاوس وسفيان الثوري.
5 - أخرج البيهقي في السنن الكبرى 5: 30 من طريق نافع عن ابن عمر: إنه
أحرم من إيلياء عام حكم الحكمين.
وأخرج مالك في الموطأ 1: 242: إن ابن عمر أهل بحجة من إيلياء. وذكره
ابن الديبع في تيسير الوصول 1: 264، وسيوافيك عن ابن المنذر في كلام أبي زرعة:
إنه ثابت.
قال الشافعي في كتاب " الأم " 2: 118: أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن
ديناد عن طاوس قال: " ولم يسم عمرو القائل إلا إنا نراه ابن عباس " الرجل يهل
من أهله ومن بعد ما يجاوز أين شاء ولا يجاوز الميقات إلا محرما. إلى أن قال:
قلت: إنه لا يضيق عليه أن يبتدئ الاحرام قبل الميقات كمالا يضيق عليه لو
أحرم من أهله، فلم يأت الميقات إلا وقد تقدم بإحرامه لأنه قد أتى بما أمر به من أن
يكون محرما من الميقات. ا ه‍.
قال ملك العلماء في بدايع الصنايع 2: 164: كلما قدم الاحرام على المواقيت
هو أفضل وروي عن أبي حنيفة: إن ذلك أفضل إذا كان يملك نفسه أن يمنعها ما يمنع
منه الاحرام، وقال الشافعي: الاحرام من الميقات أفضل بناء على أصله أن الاحرام
ركن فيكون من أفعال الحج، ولو كان كما زعم لما جاز تقديمه على الميقات لأن
أفعال الحج لا يجوز تقديمها على أوقاتها (2) وتقديم الاحرام على الميقات جايز بالاجماع
إذا كان في أشهر الحج، والخلاف في الأفضلية دون الجواز، ولنا قوله تعالى: وأتموا

(1) إيلياء بالمد وتقصر: اسم مدينة بيت المقدس.
(2) لا صلة بين ركنية الاحرام وكونه من افعال الحج وبين عدم جواز تقديمه على المواقيت
كما زعمه ملك العلماء، بل هو ركن يجوز تقديمه عليها لما مر من الأدلة.
211

الحج والعمرة لله، وروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما إنهما قالا: إتمامهما أن
تحرم بهما من دويرة أهلك. وروي عن أم سلمة. الخ.
وقال القرطبي في تفسيره 2: 345: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن
يأتي الميقات أنه محرم، وإنما منع من ذلك من رأى الاحرام عند الميقات أفضل
كراهية أن يضيق المرأ على نفسه ما وسع الله عليه، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث
في إحرامه، وكلهم ألزمه الاحرام إذا فعل ذلك، لأنه زاد ولم ينقص.
وقال الحافظ أبو زرعة في طرح التثريب 5: 5 قد بينا إن معنى التوقيت بهذه
المواقيت منع مجاوزتها بلا إحرام إذا كان مريدا للنسك، أما الاحرام قبل الوصول
إليها فلا مانع منه عند الجمهور، ونقل غير واحد الإجماع عليه، بل ذهب طائفة من
العلماء إلى ترجيح الاحرام من دويرة أهله على التأخير إلى الميقات وهو أحد قولي
الشافعي، ورجحه من أصحابه القاضي أبو الطيب والروياني والغزالي والرافعي وهو
مذهب أبي حنيفة، وروي عن عمر وعلي إنهما قالا في قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة
لله: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وقال ابن المنذر: ثبت إن ابن عمر أهل
من إيلياء يعني بيت المقدس، وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون
من بيوتهم. إنتهى. لكن الأصح عند النووي من قولي الشافعي: إن الاحرام من الميقات
أفضل، ونقل تصحيحه عن الأكثرين والمحققين، وبه قال أحمد وإسحاق، وحكى ابن
المنذر فعله عن عوام أهل العلم بل زاد مالك عن ذلك فكره تقدم الاحرام على الميقات،
وقال ابن المنذر: وروينا عن عمر إنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة،
وكره الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ومالك الاحرام من المكان البعيد. إنتهى.
وعن أبي حنيفة رواية أنه إن كان يملك نفسه عن الوقوع في محظور فالاحرام
من دويرة أهله أفضل، وإلا فمن الميقات، وبه قال بعض الشافعية.
وشذ ابن حزم الظاهري فقال: إن أحرم قبل هذه المواقيت وهو يمر عليها فلا
إحرام له أن ينوي إذا صار الميقات تجديد إحرام، وحكاه عن داود وأصحابه وهو قول
مردود بالاجماع قبله على خلافه قاله النووي، وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن
من أحرم قبل أن يأتي الميقات فهو محرم، وكذا نقل الإجماع في ذلك الخطابي وغيره. ا ه‍.
212

وذكر الشوكاني في نيل الأوطار 5: 26 جواز تقديم الاحرام على الميقات
مستدلا عليه بما مر في قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله. ثم قال:
وأما قول صاحب المنار: إنه لو كان أفضل لما تركه جميع الصحابة. فكلام
على غير قانون الاستدلال، وقد حكى في التلخيص إنه فسره ابن عيينة فيما حكاه عنه
أحمد بأن ينشئ لهما سفرا من أهله. لكن لا يناسب لفظ الاهلال الواقع في حديث الباب
ولفظ الاحرام الواقع في حديث أبي هريرة. ا ه‍.
والامعان في هذه المأثورات من الأحاديث والكلم يعطي حصول الإجماع على
جواز تقديم الاحرام على الميقات، وإن الخلاف في الأفضل من التقديم والاحرام من
الميقات، لكن الخليفة لم يعطي النظر حقه، ولم يوف للاجتهاد نصيبه، أو أنه عزبت
عنه السنة المأثورة، فطفق يلوم عبد الله بن عامر، أو أنه أحب أن يكون له في المسألة
رأي خاص، وقد قال شمس الدين أبو عبد الله الذهبي:
العلم قال الله قال رسوله * إن صح والاجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالة * بين الرسول وبين رأي فقيه
وهلم معي واعطف النظرة فيما ذكرناه عن ابن حزم من أن عثمان لا يعيب عملا
صالحا. الخ. فإنه غير مدعوم بالحجة غير حسن الظن بعثمان، وهذا يجري في أعمال
المسلمين كافة ما لم يزع عنه وازع، وسيرة الرجل تأبي عن الظن الحسن به، وأما
مسألتنا هذه فقد عرفنا فيها السنة الثابتة وإن نهي عثمان مخالف لها، وليس من الهين
الفت في عضد السنة لتعظيم إنسان وتبرير عمله، فإن المتبع في كافة القرب ما ثبت
من الشرع، ومن خالفه عيب عليه كائنا من كان.
وأما تشبثه بالهوان بالنسك فتافه جدا، وأي هوان بها في التأهب لها قبل
ميقاتها بقربة مطلقة إن لم يكن تعظيما لشعائر الله، وإنما الهوان المحرم بالنسك إدخال
الآراء فيها على الميول والشهوات، ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال و
هذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون.
" النمل 116 ".
213

- 22 -
لولا علي لهلك عثمان
أخرج الحافظ العاصمي في كتابه " زين الفتى في شرح سورة هل أتى " من طريق
شيخه أبي بكر محمد بن إسحاق بن محمشاد يرفعه: أن رجلا أتى عثمان بن عفان وهو
أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميت فقال: إنكم تزعمون النار يعرض على هذا و
إنه يعذب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحس منها حرارة النار. فسكت
عنه عثمان وأرسل إلى علي بن أبي طالب المرتضى يستحضره، فلما أتاه وهو في ملأ
من أصحابه قال للرجل: أعد المسألة. فأعادها، ثم قال عثمان بن عفان: أجب الرجل
عنها يا أبا الحسن! فقال علي: ايتوني بزند وحجر. والرجل السائل والناس ينظرون إليه
فأتي بهما فأخذهما وقدح منهما النار، ثم قال للرجل: ضع يدك على الحجر. فوضعها
عليه ثم قال: ضع يدك على الزند. فوضعها عليه فقال: هل أحسست منهما حرارة النار
فبهت الرجل فقال عثمان: لولا علي لهلك عثمان.
قال الأميني: نحن لا نرقب من عثمان وليد بيت أمية الحيطة بأمثال هذه
العلوم التي هي من أسرار الكون، وقد تقاعست عنها معرفة من هو أرقي منه في العلم،
فكيف به؟ وإنما تقلها عيبة العلوم الإلهية المتلقاة من المبدأ الأعلى منشئ
الكون وملقي أسراره فيه، وهو الذي أفحم السائل هاهنا وفي كل معضلة أعوز
القوم عرفانها.
وإنما كان المترقب من عثمان بعد ما تسنم عرش الخلافة الحيطة بما
كان يسمعه ويراه ويفهم ويعقل من السنة المفاضة على أفراد الصحابة، لئلا يرتبك في
موارد السؤال، فيرتكب العظائم ويفتي بخلاف الوارد، أو يرتأي رأيا عدت عنه المراشد
لكن ويا للأسف..
- 23 -
رأي الخليفة في الجمع بين الأختين بالملك
أخرج مالك في الموطأ 2: 10 عن ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن رجلا
سأل عثمان بن عفان عن الأختين من ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلتهما
214

آية وحرمتهما آية، فأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك. قال: فخرج من عنده فلقي
رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال: لو كان لي من الأمر شئ
ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا. قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب.
(لفظ آخر للبيهقي) عن ابن شهاب قال أخبرني قبيصة بن ذؤيب: إن نيارا
الأسلمي سأل رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأختين فيما ملكت اليمين فقال
له: أحلتهما آية وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعل ذلك. قال: فخرج نيار من عند
ذلك الرجل فلقيه رجل آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أفتاك به صاحبك
الذي استفيته فأخبره فقال: إني أنهاك عنهما ولو جمعت بينهما ولي عليك سلطان عاقبتك
عقوبة منكلة.
قال ملك العلماء في البدايع: وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: كل شئ
حرمه الله تعالى من الحرائر حرمه الله تعالى من الإماء إلا الجمع في الوطئ بملك اليمين
وقال الجصاص في أحكام القرآن: وروي عن عثمان وابن عباس إنهما أباحا ذلك
وقالا: أحلتهما آية وحرمتهما آية. وقال: روي عن عثمان الإباحة، وروي عنه أنه
ذكر التحريم والتحليل وقال: لا آمر به ولا أنهى عنه. وهذا القول منه يدل على أنه
كان ناظرا فيه غير قاطع بالتحليل والتحريم فيه فجائز أن يكون قال فيه بالإباحة ثم
وقف فيه، وقطع علي فيه بالتحريم.
وقال الزمخشري: أما الجمع بينهما في ملك اليمين فعن عثمان وعلي رضي الله
عنهما أنهما قالا: أحلتهما آية وحرمتهما آية. فرجح علي التحريم وعثمان التحليل.
قال الرازي: عن عثمان أنه قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحليل أولى
قال ابن عبد البر في كتاب الاستذكار (1): إنما كنى قبيصة بن ذؤيب عن علي بن
أبي طالب لصحبته عبد الملك بن مروان، وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب
رضي الله عنه.
راجع السنن الكبرى للبيهقي 7: 164، أحكام القرآن للجصاص 2: 158، المحلى
لابن حزم 9: 522، تفسير الزمخشري 1: 359، تفسير القرطبي 5: 117، بدايع الصنايع

(1) في بيان حديث الموطأ المذكور في أول العنوان في قول قبيصة: فلقي رجلا.
215

للملك العلماء 2: 264، تفسير الخازن 1: 356، الدر المنثور 2: 136 نقلا عن مالك
والشافعي وعبد بن حميد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي، تفسير
الشوكاني 1: 418 نقلا عن الحفاظ المذكورين.
قال الأميني: يقع البحث عن هذه المسألة في موردين الأول: في حكم الجمع
بين الأختين بملك اليمين ووطأهما جميعا فهو محرم على المشهور بين الفقهاء كما قاله
الرازي في تفسيره 3: 193.
وهو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم وإن كان بعض السلف قد توقف
في ذلك كما قاله ابن كثير في تفسيره 1: 472.
ولا يجوز الجمع عند عامة الصحابة كما في بدايع 2: 264.
كان فيه خلاف بين السلف ثم زال وحصل الإجماع على تحريم الجمع بينهما
بملك اليمين. واتفق فقهاء الأمصار عليه كما قاله الجصاص في أحكام القرآن 2: 158
وذهب كافة العلماء إلى عدم جوازه ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى خلافه
(قول عثمان) لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه ولا يجوز عليهم تحريف التأويل
وممن قال ذلك من الصحابة عمر وعلي وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير
وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل. كذا قاله القرطبي في
تفسيره 5: 116، 117.
وقال أبو عمر في الاستذكار: روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن
عباس ولكن اختلف عليهم ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز
والعراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام والمغرب إلا من شذ عن جماعتهم
باتباع الظاهر ونفي القياس، وقد ترك من يعمل ذلك ظاهرا ما اجتمعنا عليه، وجماعة
الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطئ كما لا يحل
ذلك في النكاح. (1)
وحكيت الحرمة المتسالم عليها بين الأمة جمعاء عن علي وعمر والزبير وابن عباس
وابن مسعود وعائشة وعمار وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وابن منبه وإسحاق

(1) تفسير ابن كثير 1: 473، تفسير الشوكاني 1: 411.
216

ابن راهويه وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان والشعبي والحسن
البصري وأشهب والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة ومالك. (1)
ومع المجمعين الكتاب والسنة فمن الكتاب إطلاق الذكر الحكيم في عد المحرمات
في قوله تعالى: وأن تجمعوا بين الأختين (سورة النساء 23) فقد حرمت الجمع بينهما
بأي صورة من نكاح أو ملك يمين قال ابن كثير في تفسيره 1: 473: وقد أجمع المسلمون
على أن معنى قوله: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم. إلى آخر الآية
(2): أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء وكذلك يجب أن يكون نظرا و
قياسا الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب، وكذلك هو عند جمهورهم وهم
الحجة المحجوج بها " على " من خالفها وشذ عنها. ه‍.
وقد تمسك بهذا الإطلاق الصحابة والتابعون والعلماء وأئمة الفتوى والمفسرون
وكان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يشدد النكير على من يفعل ذلك ويقول: لو كان لي
من الأمر شئ ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا. أو يقول للسائل: إني أنهاك
عنهما ولو جمعت بينهما ولي عليك سلطان عاقبتك عقوبة منكلة.
وروي عن أياس بن عامر أنه قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت: إن لي أختين
مما ملكت يميني اتخذت إحداهما سرية وولدت لي أولادا ثم رغبت في الأخرى فما
أصنع؟ قال: تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى ثم قال: إنه يحرم عليك مما ملكت
يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلا العدد. أو قال: إلا الأربع ويحرم
عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب. (3)
ولو لم يكن في هذا المورد غير كلام الإمام عليه السلام لنهض حجة للفتوى فإنه أعرف الأمة بمغازي الكتاب وموارد السنة، وهو باب علم النبي صلى الله عليهما وآلهما

(1) راجع أحكام القرآن للجصاص 2: 158، المحلى لابن حزم 9: 522، 523، تفسير
القرطبي 5: 117، 118، تفسير أبي حيان 3: 213، تفسير الرازي 3: 193، الدر المنثور
2، 137.
(2) هي آية: وأن تجمعوا بين الأختين.
(3) أخرجه الجصاص في أحكام القرآن 2: 158، وأبو عمر في الاستذكار، وذكره ابن كثير
في تفسيره 1: 472، والسيوطي في الدر المنثور 2: 137.
217

وهو الذي خلفه صلى الله عليه وآله عدلا للكتاب ليتمسكوا بهما فلا يضلوا.
وقد أصفق على ذلك أئمة أهل البيت عليهم السلام من ولده وهم عترته صلى الله عليه وآله
أعدال الكتاب وأبوهم سيدهم وقولهم حجة في كل باب.
وبهذه تعرف مقدار ما قد يعزى إلى أمير المؤمنين عليه السلام من موافقته لعثمان في
رأيه الشاذ عن الكتاب والسنة وقوله: أحلتهما آية وحرمتهما آية. وحاشاه عليه السلام من
أن يختلف رأيه في حكم من أحكام الله، غير إن رماة القول على عواهنه راقهم أن يهون
على الأمة خطب عثمان فكذبوا عليه صلوات الله عليه واختلقوا عليه، قال الجصاص في
أحكام القرآن 2: 158: قد روى أياس بن عامر أنه قال لعلي: إنهم يقولون: إنك
تقول: أحلتهما آية وحرمتهما آية. فقال: كذبوا.
ومن السنة للمجمعين ما استدل به على الحرمة ابن نجيم في البحر الرائق 3:
95، وملك العلماء في بدايع الصنايع 2: 264 وغيرهما من قوله صلى الله عليه وآله: من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه في رحم أختين.
(المورد الثاني): وهل هناك ما يخصص الحرمة المستفادة من القرآن بالسنة
إلى ملك اليمين؟ يدعي عثمان ذلك فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية. ولم يعين الآية
المحللة كما يعينها غيره من السلف، نعم: أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن
حميد وابن حاتم والطبراني من طريق ابن مسعود إنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين
الأمتين فكرهه، فقيل: يقول الله تعالى: إلا ما ملكت أيمانكم. فقال وبعيرك أيضا مما
ملكت يمينك. وفي لفظ ابن حزم: إن حملك مما ملكت يمينك (1)
وقال الجصاص في أحكام القرآن 2: 158: يعنون بالمحلل قوله تعالى: والمحصنات
من النساء إلا ما ملكت أيمانكم. والقول بهذا بعيد عن نطاق فهم القرآن وعرفان
أسباب نزول الآيات، ولا تساعده الأحاديث الواردة في الآية الكريمة، وأنى للقائل من
ثبوت التعارض بين الآيتين بعد ورودهما في موضوعين مختلفين؟ ولأعلام القوم في المقام
بيانات ضافية قيمة نقتصر منها بكلام الجصاص قال في " أحكام القرآن " 2: 199: إن

(1) المحلى لابن حزم 9: 524، تفسير ابن كثير 1: 472، الدر المنثور 2: 137 نقلا
عن الحفاظ المذكورين.
218

الآيتين غير متساويتين في إيجاب التحريم والتحليل وغير جائز الاعتراض بأحدهما على
الأخرى إذ كل واحدة منهما ورود ها في سبب غير سبب الأخرى وذلك: لأن قوله تعالى:
وأن تجمعوا بين الأختين. وارد في حكم التحريم كقوله تعالى: وحلائل أبنائكم. وأمهات
نسائكم. وسائر من ذكر في الآية تحريمها. وقوله تعالى: والمحصنات من النساء إلا
ما ملكت أيمانكم. في إباحة المسبية التي لها زوج في دار الحرب، وأفاد وقوع الفرقة
وقطع العصمة فيما بينهما، فهو مستعمل فيهما ورد فيه من إيقاع الفرقة بين المسبية وبين
زوجها وإباحتها لمالكها، فلا يجوز الاعتراض به على تحريم الجمع بين الأختين، إذ كل
واحدة من الآيتين واردة في سبب غير سبب الأخرى، فيستعمل حكم كل واحدة منهما
في السبب الذي وردت فيه. قال:
ويدل على ذلك إنه لا خلاف بين المسلمين في أنها لم تعترض على حلائل الأبناء
وأمهات النساء وسائر من ذكر تحريمهن في الآية، وإنه لا يجوز وطئ حليلة الابن
ولا أم المرأة بملك اليمين ولم يكن قوله تعالى: " إلا ما ملكت أيمانكم " موجبا
لتخصيصهن لوروده في سبب غير سبب الآية الأخرى، كذلك ينبغي أن يكون حكمه
في اعتراضه على تحريم الجمع وامتناع علي رضي الله عنه ومن تابعه في ذلك من
الصحابة من الاعتراض بقوله تعالى: " إلا ما ملكت أيمانكم ". على تحريم الجمع
بين الأختين يدل على أن حكم الآيتين إذا وردتا في سببين إحداهما في التحليل و
الأخرى في التحريم إن كل واحدة منهما تجري على حكمهما في ذلك السبب ولا
يعترض بها على الأخرى، وكذلك ينبغي أن يكون حكم الخبرين إذا وردا عن الرسول
صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك. الخ.
ونحن نردف كلام الجصاص بما ورد في سبب نزول قوله تعالى: والمحصنات من
النساء إلا ما ملكت أيمانكم. وإنه كما سمعت من الجصاص غير السبب الوارد فيه
قوله تعالى: وأن تجمعوا بين الأختين. أخرج مسلم في صحيحه وغيره بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا نساء
من سبي أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم
فنزلت هذه الآية: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم. فاستحللنا بها فروجهن
219

وفي لفظ أحمد: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أطاس لهن
أزواج من أهل الشرك فكان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من
من غشيانهن قال: فنزلت هذه الآية في ذلك: " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
أيمانكم ".
وفي لفظ النسائي: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم
وظهروا عليهم فأصابوا لهم سبايا لهن أزواج في المشركين فكان المسلمون تحرجوا
من غشيانهن فأنزل الله عز وجل: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم.
راجع صحيح مسلم 1: 416، 417، صحيح الترمذي 1: 135، سنن أبي داود
1: 336، سنن النسائي 6: 110، مسند أحمد 3: 72، 84، أحكام القرآن للجصاص
2: 165، سنن البيهقي 7: 167، المحلى لابن حزم 9: 447، مصابيح السنة 2:
29، تفسير القرطبي 5: 121، تفسير البيضاوي 1: 269، تفسير ابن كثير 1: 372،
تفسير الخازن 1: 375، تفسير الشوكاني 1: 418.
وعلى ذلك تأوله علي وابن عباس وعمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر وابن
مسعود وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وقالوا: إن الآية وردت في ذوات الأزواج
من السبايا أبيح وطؤهن بملك اليمين ووجب بحدوث السبي عليها دون زوجها وقوع
الفرقة بينهما (1).
وقال القرطبي في تفسيره 5: 121: قد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقال
ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: المراد بالمحصنات
هنا المسبيات ذوات الأزواج خاصة، أي هن محرمات إلا ما مملكت اليمين بالسبي من
أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج. وهو قول الشافعي
في أن السباء يقطع العصمة، وقاله ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، و
وقال به أشهب، يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري " وذكر
الحديث فقال ": وهذا نص صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم عن وطئ المسبيات ذوات الأزواج، فأنزل الله تعالى في جوابهم: إلا ما ملكت

(1) أحكام القرآن للجصاص 2: 165، سنن البيهقي 7: 167، تفسير الشوكاني 1: 418.
220

أيمانكم وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو
الصحيح إن شاء الله تعالى. ا ه‍.
(قول آخر في الآية المحللة)
قال ملك العلماء في بدايع الصنايع 2: 264، والزمخشري في تفسيره 1: 359:
عني عثمان بآية التحليل قوله عز وجل: إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم
غير ملومين (1). وهذا إنما يتم بالتمسك بعموم ملك اليمين لكن الممعن في لحن القول يجد
إنه لا يجوز الأخذ بهذا العموم لأنه في مقام بيان ناموس العفة للمؤمنين بأن صاحبها
يكون حافظا لفرجه إلا فيما أباح له الشارع في الجملة من زوجة أو ملك يمين فقال:
والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أوما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين
ولا ينافي هذا وجود شروط في كل منهما، فإن العموم لا يبطل تلكم الشروط الثابتة
من الشريعة، وإنما هي التي تضيق دائرة العموم وهي الناظرة عليه، مثلا لا يقتضي هو
إباحة وطي الزوجة في حال الحيض والنفاس وفي أيام شهر رمضان وفي الاحرام والايلاء
والظهار والمعتدة من وطئ بشبهة، ولا إباحة وطي الأختين ولا وطئ الأمة ذات الزوج
فإن هذه شرايط جاء بها الاسلام لا يخصصها أي شئ، ولا يعارض أدلتها عموم إلا على
أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.
ولو وسعنا عموم الآية لوجب أن نبيح كل هذه أو نراها تعارض أدلتها، ولنا
عندئذ أن نقول في نكاح الأختين وفي بقية ما ورد في الكتاب مما ذكر: أحلته آية
وحرمته آية. فقد استثنيا " الزوجة وملك اليمين " بنسق واحد وهذا مما لا يفوه به
أي متفقه.
وكذلك لو أخذ بعمومها في الرجال والنساء كما جوزه الجصاص لوجب أن
نبيح للمرأة المالكة أن يطأها من تملكه، وهذا لا يحل إجماعا من أئمة المذاهب.
وقال ابن حزم في المحلى 9: 524: لا خلاف بين أحد من الأمة كلها قطعا متيقنا في
أنه ليس على عمومه، بل كلهم مجمع قطعا على أنه مخصوص، لأنه لا خلاف ولا شك

(1) سورة المؤمنين آية 6.
221

في أن الغلام من ملك اليمين وهو حرام لا يحل، وإن الأم من الرضاعة من ملك اليمين
والأخت من الرضاعة من ملك اليمين، وكلتاهما متفق على تحريمهما، أو الأمة يملكها
الرجل قد تزوجها أبوه ووطأها وولد منها حرام على الابن.
وقال: ثم نظرنا في قوله تعالى: وأن تجمعوا بين الأختين. وأمهات نسائكم
وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن. ولا تنكح المشركات حتى
يؤمن. ولم يأت نص ولا إجماع على أنه مخصوص حاش زواج الكتابيات فقط، فلا
يحل تخصيص نص لا برهان على تخصيصه، وإذ لا بد من تخصيص ما هذه صفتها أو
تخصيص نص آخر لا خلاف في أنه مخصص، فتخصيص المخصوص هو الذي لا يجوز
غيره. ا ه‍.
وأما ما قيل (1) من أن الآية المحللة قوله تعالى: وأحل لكم ما وراء ذلكم.
في ذيل آية عد المحرمات فباطل أيضا فإنه بمنزلة الاستثناء مما قبله من المحرمات
ومنها الجمع بين الأختين، وقد عرفت إن الأمة صحابيها وتابعيها وفقهائها مجمعة على
عدم الفرق في حرمة الجمع بين الأختين في الوطئ نكاحا وملك يمين، ولم يفرقوا بينهما
قط، وهو الحجة، على أن ملاك التحريم في النكاح وهو الوطي موجود في ملك اليمين
فالحكم فيهما شرع سواء في المراد مما وراء ذلك هوما وراء المذكورات كلها من الأمهات والبنات إلى آخر ما فيها، ومنها الجمع بين الأختين بقسميه.
وعلى فرض الاغضاء عن كل هذه وعن أسباب نزول الآيات وتسليم إمكان المعارضة
بين الآيتين فإن دليل الحظر مقدم على دليل الإباحة في صورة التعارض ووحدة سبب
الدليلين كما بينه علماء علم الأصول ونص عليه في هذه المسألة الجصاص في أحكام
القرآن 2: 158، والرازي في تفسيره 3: 193.
لكن عثمان كان لا يعرف كل هذا، ولا أحاط بشئ من أسباب نزول الآيات
فطفق يغلب دليل الإباحة في مزعمته على دليل التحريم المتسالم عليه عند الكل، وقد
عزب عنه حكم العقل المستدعي لتقديم أدلة الحرمة دفعا للضرر المحتمل، وقد شذ بذلك
عن جميع الأمة كما عرفت تفصيله ولم يوافقه على هذا الحسبان أي أحد إلا ما يعزى

(1) تفسير القرطبي 5: 117، تفسير ابن كثير 1: 474.
222

إلى ابن عباس بنقل مختلف فيه كما مر عن أبي عمر في الاستذكار.
وفي كلا م الخليفة شذوذ آخر وهو قوله: كل شئ حرمه الله تعالى من الحرائر
حرمه الله تعالى من الإماء إلا الجمع بالوطئ بملك اليمين. فهو باطل في الاستثناء
والمستثنى منه، أما الاستثناء فقد عرفت إطباق الكل على حرمة الجمع بين الأختين بالوطئ
بملك اليمين معتضدا بالكتاب والسنة، وأما المستثنى منه فقد أبقى فيه ما هو خارج منه
بالاتفاق من الأمة جمعاء وهو العدد المأخوذ في الحرائر دون الإماء.
لقد فتحت أمثال هذه المزاعم الباطلة الشاذة عن الكتاب وفقه الاسلام باب الشجار
على الأمة بمصراعيه، فإنها في الأغلب لا تفقد متابعا أو مجادلا قد ضلوا وأضلوا وهم
لا يشعرون، وهناك شرذمة سبقها الإجماع ولحقها من أهل الظاهر لا يأبه بهم لم يزالوا
مصرين على رأي الخليفة في هذه المسألة، لكنهم شذاذ عن الطريقة المثلى، قال القرطبي
في تفسيره 5: 117: شذ أهل الظاهر فقالوا: يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين
في الوطئ كما يجوز الجمع بينهما في الملك، واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من
ملك اليمين: حرمتهما آية وأحلتهما آية.
ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين.
" البقرة 145 "
- 24 -
رأي الخليفة في رد الأخوين الأم عن الثلث
أخرج الطبري في تفسيره 4: 188 من طريق شعبة عن ابن عباس: إنه دخل
على عثمان رضي الله عنه فقال: لم صار الأخوان يردان الأم إلى السدس وإنما قال
الله: فإن كان له إخوة. والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة؟ فقال
عثمان رضي الله عنه: هل أستطيع نقض أمر كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار
وفي لفظ الحاكم والبيهقي: لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار
وتوارث به الناس.
أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 335 وصححه، والبيهقي في سنن الكبرى
6: 227، وابن حزم في المحلى 9: 258، وذكره الرازي في تفسيره 3: 163، وابن
223

كثير في تفسيره 1: 459، والسيوطي في الدر المنثور 2: 126، والآلوسي في روح
المعاني 4: 225.
قال الأميني: ما أجاب به الخليفة ابن عباس ينم عن عدم تضلعه في العربية مع
إنها لسان قومه، ولو كان له قسط منها لأجاب ابن عباس بصحة إطلاق الجمع على
الاثنين وإنه المطرد في كلام العرب، لا بالعجز عن تغيير ما غلط فيه الناس كلهم العياذ
بالله وما هو ببدع في ذلك عمن تقدماه يوم لم يعرفا معنى " الأب " وهو من صميم لغة
الضاد ومشروح بما بعده في الذكر الحكيم، فإن إطلاق الأخوة على الأخوين قد لهج
به جمهور العرب ولذلك لا تجد أي خلاف في حجب الأخوين الأم عن الثلث إلى السدس
بين الصحابة العرب الأقحاح، والتابعين الذين نزلوا منزلتهم من العربية الفصحاء، والفقهاء
من مذاهب الاسلام، ولا استناد لهم في الحكم إلا الآية الكريمة، وما ذلك إلا لتجويزهم
إطلاق الجمع على الاثنين سواء كان ذلك أقله أو توسعا مطردا في الإطلاق.
قال الطبري في تفسيره 4: 187: قال جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين
لهم بإحسان ومن بعدهم من علماء أهل الاسلام في كل زمان: عني الله جل ثناؤه بقوله:
فإن كان له إخوة فلأمه السدس. اثنين كان الأخوة أو أكثر منهما، أنثيين كانتا أو كن
إناثا، أو ذكرين كانا أو ذكورا، أو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى، واعتل كثير
ممن قال ذلك بأن ذلك قالته الأمة عن بيان الله جل ثناؤه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم
فنقلته أمة نبيه نقلا مستفيضا قطع العذر مجيئه، ودفع الشك فيه عن قلوب الخلق
وروده (ثم نقل حديث ابن عباس المذكور فقال): والصواب من القول في ذلك عندي
أن المعني بقوله: فإن كان له إخوة. اثنان من أخوة الميت فصاعدا على ما قاله أصحاب
رسول الله دون ما قاله ابن عباس رضي الله عنه (1) لنقل الأمة وراثة صحة ما قالوه من
ذلك عن الحجة وإنكارهم ما قاله ابن عباس في ذلك. قال:
فإن قال قائل: وكيف قيل في الأخوين إخوة؟ وقد علمت أن الأخوين في منطق
العرب مثالا لا يشبه مثال الأخوة في منطقها؟ قيل: إن ذلك كان كذلك فإن من شأنها
التأليف بين الكلامين بتقارب معنييهما وإن اختلفا في بعض وجوههما فلما كان ذلك

(1) سيوافيك فساد عزو الخلاف إلى ابن عباس.
224

كذلك وكان مستفيضا في منطقها، منتشرا مستعملا في كلامها: ضربت من عبد الله وعمرو
رؤسهما، وأوجعت منهما ظهورهما، وكان ذلك أشد استفاضة في منطقها من أن يقال: أوجعت منهما ظهرهما، وإن كان مقولا أوجعت ظهرهما كما قال الفرزدق:
بما في فؤادينا من الشوق والهوى * فيبرأ منهاض الفؤاد المشغف
غير أن ذلك وإن كان مقولا فأفصح منه بما في أفئدتنا كما قال جل ثناؤه: إن تتوبا إلى
الله فقد صغت قلوبكما. فلما كان ما وصفت من إخراج كل ما كان في الانسان واحدا إذا
ضم إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر فصارا اثنين من اثنين فلفظ الجمع أفصح في منطقها
وأشهر في كلامها، وكان الأخوان شخصين كل واحد منهما غير صاحبه من نفسين مختلفين
أشبه معناها معنى ما كان في الانسان من أعضائه واحدا لا ثاني له، فأخرج أنثييهما بلفظ
أنثى العضوين اللذين وصفت، فقيل: إخوة. في معنى الأخوين، كما قيل: ظهور. في
معنى الظهرين، وأفواه في معنى فموين، وقلوب في معنى قلبين. وقد قال بعض النحويين
إنما قيل: إخوة، لأن أقل الجمع اثنان. الخ. ا ه‍
وأخرج الحاكم بإسناد صححه في المستدرك 4: 335، والبيهقي في السنن 6:
227 عن زيد بن ثابت إنه كان يحجب الأم بالأخوين فقال: إن العرب تسمي الأخوين
إخوة. وذكره الجصاص في أحكام القرآن 2: 99.
وأخرج ابن جرير في تفسيره 4: 189 وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة
في قوله تعالى: فإن كان له إخوة فلأمه السدس. قال: أضروا بالأم، ولا يرثون ولا
يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك. (الدر المنثور 2: 126)
وذكر الجصاص في أحكام القرآن 2: 98 قول الصحابة بحجب الأخوين الأم
عن الثلث كالأخوة فقال: والحجة: إن اسم الأخوة قد يقع على الاثنين كما قال
تعالى: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما. وهما قلبان. وقال تعالى: هل أتاك نبأ
الخصم إذ تسوروا المحراب. ثم قال تعالى: خصمان بغى بعضنا على بعض. فأطلق لفظ
الجمع على اثنين. وقال تعالى: وإن كانوا إخوة رجالا ونساءا فللذكر مثل حظ
الأنثيين. فلو كان أخا وأختا كان حكم الآية جاريا فيهما. الخ. (1)
الغدير 16

(1) بقية كلامه لا تخلو عن فوائد. فراجع الجصاص أحد أئمة الحنفية.
225

قال مالك في الموطأ 1: 331: فإن كان له إخوة فلأمه السدس فمضت السنة
أن الأخوة اثنان فصاعدا.
وفي عمدة السالك وشرحه فيض المالك 2: 122: فإن كان معها أي الأم ولد
أو كان معها ولد ابن ذكر أو أنثى أو كان معها عدد اثنان فأكثر من الأخوة ومن
الأخوات فلها السدس لقوله تعالى: فإن كان له إخوة فلأمه السدس. والمراد بهم اثنان
فأكثر إجماعا. (1)
وقال الشافعي كما في مختصر المزني هامش كتاب الأم 3: 140: وللأم الثلث
فإن كان للميت ولد أو ولد ولد أو اثنان من الأخوة أو الأخوات فصاعدا فلها السدس.
وقال ابن كثير في تفسيره 1: 459: حكم الأخوين كحكم الأخوة عند الجمهور
ثم ذكر حديث زيد بن ثابت من إن أخوين تسمي إخوة.
وقال الشوكاني في تفسيره 1: 398: قد أجمع أهل العلم على أن الاثنين من
الأخوة يقومون مقام الثلاثة فصاعدا في حجب الأم إلى السدس.
هذا رأي الأمة في الأخوة فقد عزب عن الخليفة صحة الإطلاق في الآية
الكريمة في لسان قومه، وإن السلف لم يعرف من الأخوة معنى إلا ما يعم الأخوين
وزعم أن من كان قبله شذوا عن لسان قومه، وذهبوا إلى حجب الأم بالأخوين خلاف
كتاب الله، وجاء يأسف على أنه لم يستطع تغيير ما وقع ونقض ما كان من الناس، هذا
مبلغ علم الرجل بالكتاب وأدلة الأحكام والفروض المسلمة بين الأمة.
وأما ابن عباس فإنه لم يشذ عن لغة قومه وهو من جبهة العرب وعلى سنام قريش
ومن بيت هم أفصح من نطق بالضاد، وإنما أراد باستفهامه من الخليفة أن يعرف الملأ
مقداره من أبسط شئ يجب أن يكون في مثله فضلا عن معضلات المسائل وهو الحيطة
باللغة وعرفان موارد الاستعمال حتى يتسنى له أخذ الحكم من الكتاب والسنة اللذين
جاءا بهذه اللغة الكريمة، ولذلك أتى في قوله بصورة الاستفهام عن مدرك الحكم لاعن
أصله، فإن الحكم كان مسلما عنده لا أن ما قاله للخليفة كان رأيا له في الخلاف في
حجب الأخوين، وإلا لتبعه أصحابه المقتصين أثره، لكنهم كلهم موافقون للأمة وعلمائها

(1) هذا مذهب الحنابلة والكتاب لأحد أئمتهم.
226

في حجب الأخوين كما ذكره ابن كثير في تفسيره 1: 459 فعد ابن عباس مخالفا في
المسألة بهذه الرواية كما فعله الطبري في تفسيره 4: 188، وابن رشد في البداية 2:
327 وغير واحد من الفقهاء وأئمة الحديث ورجال التفسير أغلوطة نشأت من عدم
فهم مغزى كلامه.
25 رأي الخليفة في المعترفة بالزنا
عن يحيى بن حاطب قال: توفي حاطب فأعتق من صلى من رقيقه وصام وكانت
له أمة نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه فلم ترعه إلا بحبلها وكانت ثيبا
فذهب إلى عمر رضي الله عنه فحدثه فقال: لأنت الرجل لا تأتي بخير، فأفزعه ذلك فأرسل
إليها عمر رضي الله عنه فقال: أحبلت؟ فقالت: نعم من مرعوش بدرهمين. فإذا هي تستهل
بذلك لا تكتمه قال: وصادف عليا وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فقال: أشيروا علي وكان عثمان رضي الله عنه جالسا فاضطجع فقال علي وعبد الرحمن: قد
وقع عليها الحد. فقال: أشر علي يا عثمان! فقال: قد أشار عليك أخواك، قال: أشر
علي أنت. قال: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه فقال: صدقت صدقت والذي نفسي بيده، ما الحد إلا على من علمه. فجلدها عمر مائة وغربها
عاما.
قال الأميني: أسلفنا هذا الحديث في الجزء السادس (1) وتكلمنا هنالك حول
رأي الخليفة الثاني وما أمر به من الجلد والاغتراب وإنه خارج عن نطاق الشرع،
وهاهنا ننظر إلى رأي عثمان وفتياه بعدم الحد.
ولو كان ما يقوله الخليفة حقا لبطلت الأقارير والاعترافات في أمثال المورد فيقال
في كلها إنه لا يعلم الحد ولو علمه لأخفاه خيفة إجرائه عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله
يحد بالاقرار ولو بعد استبراء الخبر والتريث في الحكم رجاء أن تكون هناك شبهة
يدرأ بها الحد فكان صلى الله عليه وآله يقول للمعترف بالزنا: أبك جنون؟ (2) أو يقول: لعلك قبلت

(1) صفحة 161 ط 1، و 174 ط 2.
(2) كما في صحيح أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي في السنن 8: 225.
227

أو غمزت أو نظرت؟ (1) وكذلك مولا نا أمير المؤمنين علي وقبله الخليفة الثاني كانا يدافعان
المعترف رجاء أن ينتج الأخذ والرد لشبهة في الاقرار، لكنهما بعد ثبات المعترف على
ما قال كانا يجريان عليه الحد، ألا ترى قول عمر للزانية: ما يبكيك؟ إن المرأة ربما
استكرهت على نفسها. فأخبرت إن رجلا ركبها وهي نائمة فخلى سبيلها، وإن عليا
عليه السلام قال لشراحة حين أقرت بالزنا: لعلك عصيت نفسك؟ قالت: أتيت طائعة غير مكرهة
فرجمها (2)
ولعل من جراء أمثال هذه القضايا طرق سمع الخليفة إن الحدود تدرأ بالشبهات،
والحدود تدفع ما وجد لها مدفع، غير أنه لم يدر أن للإقرار ناموسا في الشريعة لا يعدوه
ولا سيما في مورد الزنا فإنه يؤاخذ به المعترف في أول مرة كما تعطيه قصة العسيف
الواردة في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما، أو بعد أربع أقارير إما في مجلس واحد
كما ورد في قصة الماعز في لفظ الشيخين في الصحيحين، أوفي عدة مجالس كما يظهر
من حديث زاني بني ليث الوارد في سنن البيهقي 8: 228، فتقوم تلكم الأقارير مقام
أربع شهادات، كما وقع في سارق جاء إلى علي فقال: إني سرقت، فرده فقال: إني
سرقت. فقال: شهدت على نفسك مرتين فقطعه (3). وقد عزب عن الخليفة فقه المسألة
كما بيناه، وهي على ما جاءت في الأحاديث المذكورة يختلف حكمها عند أئمة المذاهب
قال القاضي ابن رشد في بداية المجتهد 2: 429: أما عدد الاقرار الذي يجب به الحد
فإن مالكا (4) والشافعي (5) يقولان يكفي في وجوب الحد عليه اعترافه به مرة واحدة
وبه قال داود وأبو ثور الطبري وجماعة، وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى: لا يجب
الحد إلا بأقارير أربعة مرة بعد مرة، وبه قال أحمد وإسحاق، وزاد أبو حنيفة وأصحابه
في مجالس متفرقة.

(1) كما في حديث ماعز وقد أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح وفي مقدمهم البخاري
في صحيحه 10: 39.
(2) أخرجهما الجصاص في أحكام القرآن 3: 325.
(3) كنز العمال 3: 117 نقلا عن عبد الرزاق وابن المنذر والبيهقي.
(4) ذكر تفصيل ما ذهب إليه في الموطأ والمدونة الكبرى.
(5) يوجد تفصيل قوله في كتابه الأم 7: 169.
228

ثم ماذا يعني الخليفة بقوله: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه، وليس الحد إلا
على من علمه؟ هل يريد جهلها بالحد أو بحرمة الزنا؟ أما العلم بثبوت الحد فليس
له أي صلة بإجراء حكم الله فإنه يتبع تحقق الزنا في الخارج علم الزاني أو الزانية
بترتب الحد عليهما أم لم يعلما.
على إنه ليس من الممكن في عاصمة النبوة أن يجهل ذلك أي أحد وهو يشاهد
في الفينة بعد الفينة مجلودا تنال منه السياط، ومرجوما تتقاذفه الأحجار.
وأما حرمة الزنا فلا يقبل من المتعذر بالجهل بها إلا حيث يمكن صدقه كمن عاش
في أقاصي البراري والفلوات والبقاع النائية عن المراكز الإسلامية، فيمكن أن يكون
الحكم لم يبلغه بعد، وأما المدني يومئذ الكائن بين لوائح النبوة ومجاري الأحكام
والحدود وتحت سيطرة الخلفاء، وهو يعي كل حين التشديد في الزنا وحرمته، ويشاهد
العقوبات الجارية على الزناة من جراء حرمة السفاح، فعقيرة ترتفع من ألم السياط،
وجنازة تشال بعد الرجم، فليس من الممكن في حقه عادة أن يجهل حرمة الزنا فلا
تقبل منه دعواه الجهل، ولعل هذا مما اتفقت عليه أئمة المذاهب، قال مالك في المدونة
الكبرى 4: 382 في الرجل يطأ مكاتبته يغتصبها أو تطاوعه: لا حد عليه وينكل إذا كان
ممن لا يعذر بالجهالة.
وقال فيمن يطلق امرأته تطليقة قبل البناء بها فيطؤها بعد التطليقة ويقول: ظننت
أن الواحدة لا تبينها مني وإنه لا يبرأها مني إلا الثلاث: قال ابن القاسم: ليس عليه
الحد إن عذر بالجهالة، فأرى في مسألتك إن كان ممن يعذر بالجهالة أن يدرأ عنه
الحد لأن مالكا قال في الرجل يتزوج الخامسة: إن كان ممن يعذر بالجهالة وممن
يظن إنه لم يعرف أن ما بعد الأربع ليس مما حرم الله، أو يتزوج أخته من الرضاع
على هذا الوجه، فإن مالكا درأ عنه الحد وعن هؤلاء.
وفي ص 401: من وطئ جارية هي عنده رهن إنه يقام عليه الحد، قال ابن -
القاسم: ولا يعذر في هذا أحد ادعى الجهالة. قال مالك: حديث التي قالت زينب بمرعوش
بدرهمين (1) إنه لا يؤخذ به. وقال مالك: أرى أن يقام الحد ولا يعذر العجم بالجهالة.

(1) يعني الحديث المذكور في عنوان المسألة الذي نبحث عما فيه.
229

وقال الشافعي في كتاب الأم 7: 169 في زناء الرجل بجارية امرأته: إن
زناه بجارية امرأته كزناه بغيرها إلا أن يكون ممن يعذر بالجهالة ويقول: كنت أرى
أنها لي حلال.
قال شهاب الدين أبو العباس ابن النقيب المصري في عمدة السالك: ومن زنى و
قال: لا أعلم تحريم الزنا وكان قريب العهد بالاسلام أو نشأ ببادية بعيدة لا يحد، وإن لم يكن كذلك حد (1). ا ه‍.
ولو قبل من كل متعذر بالجهالة لعطلت حدود الله، وتترس به كل زان و
زانية، وشاع الفساد، وساد الهرج، وارتفع الأمن على الفروج والنواميس، ولو راجعت
ما جاء في مدافعة النبي صلى الله عليه وآله والخلفاء عن المعترف بالزنا لإلقاء الشبهة لدرء الحد تراهم
يذكرون الجنون والغمز والتقبيل وما شابه ذلك، ولا تجد ذكر الجهل بالحرمة في شئ
من الروايات، فلو كان لمطلق الجهل تأثير في درء الحد لذكروه لا محالة من غير شك.
على أن الجهل حيث يسمع يجب أن يكون بادعاء من الرجل لا بالتوسم من
وجناته وأسارير جبهته واستهلاله في إقراره كما زعمه الخليفة وهو ظاهر كلمات الفقهاء
المذكورة.
ولما قلناه كله لم يعبأ الحضور بذلك الاستهلال، فأخذها مولانا أمير المؤمنين
وعبد الرحمن فقالا: قد وقع عليها الحد. وأما عمر فالذي يظهر من قوله لعثمان؟ صدقت. إلخ. وفعله من إجراء الجلد والاغتراب إنه هزأ بهذا القول، ولو كان مصدقا لما جلدها
لكنه جلدها وهي تستحق الرجم كما مر في الجزء السادس.
26 شراء الخليفة صدقة رسول الله
أخرج الطبراني في الأوسط من طريق سعيد بن المسيب قال: كان لعثمان آذن
فكان يخرج بين يديه إلى الصلاة قال: فخرج يوما فصلى والآذن بين يديه ثم جاء
فجلس الآذن ناحية ولف ردائه فوضعه تحت رأسه واضطجع ووضع الدرة بين يديه،
فأقبل علي في إزار ورداء وبيده عصا، فلما رآه الآذن من بعيد قال: هذا علي قد أقبل.

(1) راجع فيض الإله المالك في شرح عمدة السالك 2، 312.
230

فجلس عثمان فأخذ عليه رداءه فجاء حتى قام على رأسه فقال: اشتريت ضيعة آل فلان و
لوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائها حق، أما إني قد علمت إنه لا يشتريها غيرك. فقام عثمان
وجرى بينهما كلام حتى ألقى الله عز وجل وجاء العباس فدخل بينهما، ورفع عثمان على
علي الدرة ورفع علي على عثمان العصا، فجعل العباس يسكنهما ويقول لعلي: أمير
المؤمنين. ويقول لعثمان: ابن عمك. فلم يزل حتى سكتا. فلما أن كان من الغد رأيتهما
وكل منهما آخذ بيد صاحبه وهما يتحدثان. مجمع الزوائد 7: 227.
قال الأميني: يعلمنا الحديث إن الخليفة ابتاع الضيعة ومائها وفيه حق لوقف
رسول الله لا يجوز ابتياعه، فإن كان يعلم بذلك؟ وهو المستفاد من سياق الحديث حيث
إنه لم يعتذر بعدم العلم، وهو الذي يلمح إليه قول الإمام عليه السلام: وقد علمت أنه لا يشتريها
غيرك. فأي مبرر استساغ ذلك الشراء؟ وإن كان لا يعلم؟ فقد أعلمه الإمام عليه السلام فما
هذه المماراة والتلاحي ورفع الدرة؟ الذي اضطر الإمام إلى رفع العصا، حتى فصل بينهما
العباس، أوفي الحق مغضبة؟ وهل يكون تنبيه الغافل أو إرشاد الجاهل مجلبة لغضب
الانسان، الديني؟ فضلا عمن يقله أكبر منصة في الاسلام.
وأحسب إن ذيل الرواية ملصق بها لإصلاح ما فيها، وعلى فرض صحته فإنه
لا يجديهم نفعا، فإن الإمام عليه السلام لم يأل جهدا في النهي عن المنكر سواء ارتدع فاعله أو إنه
عليه السلام يأس من خضوعه للحق، وعلى كل فإنه عليه السلام كان يماشيهم على ولاء الاسلام ولا يثيره
إلا الحق إذا لم يعمل به، فيجري في كل ساعة على حكمها من مكاشفة أو ملاينة، وهكذا
فليكن المصلح المنزه عن الأغراض الشخصية الذي يغضب لله وحده ويدعو إلى الحق للحق.
27 الخليفة في ليلة وفاة أم كلثوم
أخرج البخاري في صحيحه في الجنائز باب يعذب الميت ببكاء أهله. وباب من
يدخل قبر المرأة ج 2: 225، 244 بالإسناد من طريق فليح بن سليما عن أنس بن
مالك قال: شهدنا بنت (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر فرأيت

(1) الصحيح عند شراح الحديث إنها أم كلثوم زوجة عثمان بن عفان، وجاء في لفظ أحمد وغيره
إنها رقية. وعقبه السهيلي وقال: هو وهم بلا شك. راجع الروض الآنف 2: 107، فتح الباري
3: 122، عمدة القاري 4: 85.
231

عينيه تدمعان فقال: هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة " زيد بن سهل
الأنصاري ": أنا، قال: فأنزل في قبرها. قال: فنزل في قبرها فقبرها. قال ابن مبارك:
قال فليح: أراه يعني الذنب. قال أبو عبد الله " يعني البخاري نفسه ": ليقترفوا ليكتسبوا (1)
وفي مسند أحمد: قال سريج: يعني ذنبا.
وأخرجه ابن سعد في الطبقات 8: 31 ط ليدن، وأحمد في مسنده 3: 126،
228، 229، 270، والحاكم في المستدرك 4: 47، والبيهقي في السنن الكبرى 4:
53 من طريقين، وذكره السهيلي في الروض الأنف 2: 107 نقلا عن تاريخ البخاري
وصحيحه وعن الطبري فقال: قال ابن بطال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم عثمان النزول في
قبرها وقد كان أحق الناس بذلك لأنه كان بعلها وفقد منها علقا لا عوض منه لأنه حين
قال عليه السلام: أيكم لم يقارف الليلة أهله. سكت عثمان ولم يقل أنا لأنه كان قد قارف ليلة
ماتت بعض نسائه ولم يشغله الهم بالمصيبة وانقطاع صهره من النبي صلى الله عليه وسلم عن المقارفة فحرم
بذلك ما كان حقا له وكان أولى من أبي طلحة وغيره، وهذا بين في معنى الحديث ولعل
النبي صلى الله عليه وسلم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئا لأنه فعل فعلا حلالا غير إن المصيبة
لم تبلغ منه مبلغا يشغله حتى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير تصريح والله أعلم.
ويوجد الحديث في نهاية ابن الأثير 3: 276، لسان العرب 11: 189، الإصابة
4: 489، تاج العروس 6: 220.
قال الأميني: اضطربت كلمات العلماء حول هذا الحديث غير إن فليحا المتوفي
سنة 163، الذي فسر المقارفة بالذنب، وأيد البخاري كلامه بقوله: ليقترفوا ليكتسبوا
وسريجا المتوفى سنة 217 هم أقدم من تكلم فيه، وقال الخطابي (2): معناه لم يذنب
(3) وجاء ابن بطال (4) وخصه بمقارفة النساء، وجمع بينهما العيني (5)، وأيا ما كان

(1) إيعاز إلى قوله تعالى: وليقترفوا ما هم مقترفون. كما في فتح الباري 3: 163، وفي قوله
تعالى: إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون.
(2) أبو سليمان حمد بن محمد البستي صاحب التآليف القيمة المتوفى 388.
(3) ذكره العيني في عمدة القاري 4: 85.
(4) ذكر كلامه السهيلي في الروض الأنف 2: 107 كما مر بلفظه.
(5) عمدة القاري 4: 85
232

فلا شك في إنه أمر استحق من جرائه عثمان الحرمان من النزول في قبر زوجته ابنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أولى الناس بها، والمسلمون كلهم كانوا يعلمون ذلك، لكن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الداعي إلى الستر على المؤمنين والاغضاء عن العيوب، الناهي عن إشاعة
الفحشاء في كتابه الكريم، والمانع عن التجسس عما يقع في الخلوات، المبعوث لإعزاز
أهل الدين، شاء وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى أن يستثني موردا واحدا
تلوح بأمر عظيم حرم لأجله عثمان من الحظوة بالنزول في قبر حليلته أو معقد شرفه
بصهر رسول الله صلى الله عليه وآله وواسطة مفخره بهاتيك الصلة، فعرف المسلمون ذلك المقتضي
بالطبع الأول وهذا المانع من المقارفة المختلف في تفسيرها، فإن كان ذنبا أثر في رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن حط من رتبته بما قلناه؟ ولو كانت صغيرة وهي غير ظاهرة تسترها، لكنها
بلغت من الكبر حدا لم ير صلى الله عليه وآله سترها، ولا رعى حرمة ولا كرامة لمقترفها، فإن
كانت سيئة هذا شأنها؟ فلا خير فيمن يجترح السيئات.
وإن أريدت مقارفة النساء على الوجه المحلل فهي من منافيات المروءة ومن لوازم
الفظاطة ولغلظة فأي إنسان تحبذ له نفسه التمتع بالجواري في أعظم ليلة عليه هي ليلة تصرم مجده، وانقطاع فخره، وانفصام عرى شرفه، فكيف هان ذلك على الخليفة؟ فلم يراع
حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله واستهانت تلك المصيبة العظيمة فتلذذ بالرفث إلى جارية (1)
والمطلوب من الخلفاء معرفة فوق هذه من أول يومهم، ورأفة أربى مما وقع، ورقة
تنيف على ما صدر منه، وحياء يفضل على ما ناء به.
ومن العسير جدا الخضوع للاعتقاد بأن رسول الله صلى الله عليه وآله ارتكب ذلك الهتك
والإهانة على أمر مباح مع رأفته الموصوفة على أفراد الأمة وإغراقه نزعا في الستر
عليهم، وكيف في حق رجل يعلم صلى الله عليه وآله إنه سيشغل منصة الخلافة.
هذا ما عندنا وأما أنت فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.
أيحكم ضميرك الحر عندئذ في رجل هذا شأنه وهذه سيرته مع كريمة رسول الله
صلى الله عليه وآله بصحة ما أخرجه ابن سعد في طبقاته 3: 38 من القول المعزو إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله يوم قارف الرجل، يوم سمع من النبي الأعظم تلك القارصة: لو كان عندي ثالثة

(1) كما في عمدة قاري 4: 85.
233

زوجتهما عثمان، قاله لما ماتت أم كلثوم. كذا قال ابن سعد.
أو قوله: لو كن (يعني بناته) عشرا لزوجتهن عثمان (1)
أو قوله فيما أخرجه ابن عساكر: لو إن لي أربعين بنتا لزوجتك واحدة بعد
واحدة حتى لا تبقى منهن واحدة (2).
أو قوله فيما جاء به ابن عساكر (3) من طريق أبي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لقي عثمان بن عفان على باب المسجد فقال: يا عثمان! هذا جبريل يخبرني إن الله قد
زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية على مثل مصاحبتها.
أكانت مصاحبة عثمان هذه أم كلثوم لدة مصاحبتها رقية وكانت مرضية للمولى
سبحانه؟ أو ترى عثمان متخلفا عن شرط الله في أم كلثوم؟ أنا لا أدري.
على أن إسناد هذا الحديث معلول من جهات، وكفاه علة عبد الرحمن بن أبي
الزناد القرشي وقد ضعفه ابن معين وابن المديني وابن أبي شيبة وعمرو بن علي والساجي
وابن سعد، وقال ابن معين والنسائي: لا يحتج بحديثه (4)
28 اتخاذ الخليفة الحمى له ولذويه
لقد جعل الاسلام منابت العشب من مساقط الغيث والمروج كلها شرعا سواء بين
المسلمين إذا لم يكن لها مالك مخصوص كما هو الأصل في المباحات الأصلية من أجواز
الفلوات وأطراف البراري، فترتع فيها مواشيهم وترعى إبلهم وخيلهم من دون أي
مزاحمة بينهم، وليس لأي أحد أن يحمى لنفسه حمى فيمنع الناس عنه، فقال صلى الله عليه وآله:
المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ والماء والنار.
وقال: ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار.
وقال: لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ. وفي لفظ: لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به
فضل الكلأ. وفي لفظ: من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضله يوم

(1) طبقات ابن سعد ط ليدن 8: 25.
(2) تاريخ ابن كثير 7: 212 وقال: إسناد ضعيف، أخبار الدول للقرماني ص 98.
(3) راجع تاريخ ابن كثير 7: 211.
(4) تهذيب التهذيب 6: 171.
234

القيامة (1) نعم كان في الجاهلية يحمي الشريف منهم ما يروقه من قطع الأرض لمواشيه
وإبله خاصة فلا يشاركه فيه أحد وإن شاركهم هو في مراتعهم، وكان هذا من مظاهر
التجبر السائد عندئذ، فاكتسح رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك فيما اكتسحه من عادات الطواغيت و
تقاليد الجبابرة فقال صلى الله عليه وآله: لا حمى إلا لله ولرسوله (2)
وقال الشافعي في تفسير الحديث: كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل
بلدا في عشيرته استعوى كلبا فحمى لخاصته مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره فلم يرعه
معه أحد، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله. قال: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمى
على الناس حمى كما كانوا في الجاهلية يفعلون. قال:
وقوله: إلا لله ولرسوله. يقول: إلا ما يحمى لخيل المسلمين وركابهم التي ترصد
للجهاد ويحمل عليها في سبيل الله وإبل الزكاة كما حمى عمر النقيع (3) لنعم الصدقة و
الخيل المعدة في سبيل الله (4).
واستعمل عمر على الحمى مولى له يقال له هنى فقال له: يا هنى ضم جناحك للناس، واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة، وادخل رب الصريمة ورب الغنيمة،
وإياي ونعم ابن عفان (5) ونعم ابن عوف فإنهما إن تهلك يرجعان إلى نخل وزرع، وإن
رب الغنيمة والصريمة يأتي بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين! أفتاركهم أنا؟ لا أبا لك. الخ (6)
كان هذا الناموس متسالما عليه بين المسلمين حتى تقلد عثمان الخلافة فحمى لنفسه
دون إبل الصدقة كما في أنساب البلاذري 5: 37، والسيرة الحلبية 2: 87، أو له و
لحكم ابن أبي العاص كما في رواية الواقدي، أو لهما ولبني أمية كلهم كما في شرح

(1) توجد هذه الأحاديث في صحيح البخاري 3: 110، الأموال لأبي عبيد ص 296، سنن
أبي داود 2: 101، سنن ابن ماجة 2: 94.
(2) صحيح البخاري 3: 113، الأموال لأبي عبيد ص 294، كتاب الأم للشافعي 3: 207،
وفي الأخيرين تفصيل ضاف حول المسألة.
(3) على عشرين فرسخا أو نحو ذلك من المدينة " معجم البلدان ".
(4) راجع كتاب الأم 3: 208، معجم البلدان 3: 347، نهاية ابن الأثير 1: 297، لسان
العرب 18: 217، تاج العروس 10: 99.
(5) في لفظ أبي عبيد: ودعني من نعم ابن عفان. بدل (وإياي ونعم ابن عفان).
(6) صحيح البخاري 4: 71، الأموال لأبي عبيد ص 298، كتاب الأم 3: 271.
235

ابن أبي الحديد 1: 67 قال: حمى (عثمان) المرعى حول المدينة كلها من مواشي المسلمين
كلهم إلا عن بني أمية. وحكى في ص 235 عن الواقدي أنه قال: كان عثمان يحمي
الربذة والشرف والنقيع، فكان لا يدخل الحمى بعير له ولا فرس ولا لبني أمية حتى
كان آخر الزمان، فكان يحمي الشرف (1) لإبله: وكانت ألف بعير ولإبل الحكم بن
أبي العاص، ويحمي الربذة (2) لإبل الصدقة، ويحمي النقيع لخيل المسلمين وخيله و
خيل بني أمية. ا ه‍.
نقم ذلك المسلمون على الخليفة فيما نقموه عليه وعدته عائشة مما أنكروه عليه
فقالت: وإنا عتبنا عليه كذا وموضع الغمامة المحماة (3) وضربه بالسوط والعصا،
فعمدوا إليه حتى إذا ماصوه كما يماص الثوب (4). قال ابن منظور في ذيل الحديث:
الناس شركاء فيما سقته السماء من الكلأ إذا لم يكن مملوكا فلذلك عتبوا عليه.
كانت في اتخاذ الخليفة الحمى جدة وإعادة لعادات الجاهلية الأولى التي أزاحها
نبي الاسلام صلى الله عليه وآله وجعل المسلمين في الكلأ مشتركين، وقال: ثلاثة يبغضهم الله. وعد
فيهم! من استن في الاسلام سنة الجاهلية (5) وكان حقا على الرجل أن يحمي حمى
الاسلام قبل حمى الكلأ، ويتخذ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله سنة متبعة ولا يحيي سنة
الجاهلية، ولن تجد لسنة الله تحويلا، ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولكنه..
39 قطع الخليفة فدك لمروان
عد ابن قتيبة في المعارف ص 84، وأبو الفدا في تاريخه 1: 168 مما نقم الناس
على عثمان قطعه فدك لمروان وهي صدقة رسول الله، فقال أبو الفدا: وأقطع مروان

(1) كذا نجد. عند البخاري بالسين المهملة. وفي موطأ ابن وهب: الشرف. بالشين المعجمة
وفتح الراء وهذا الصواب (معجم البلدان).
(2) الربذة في الشرف " المذكورة " هي الحمى الأيمن.
(3) يسمى العشب بالغمامة كما يسمى بالسماء. المحماة من أحميت المكان فهو محمى. أي جعلته
حمى. (الفائق للزمخشري)
(4) راجع الفائق للزمخشري 2: 117، نهاية ابن الأثير 1: 298، ج 4: 121، لسان
العرب 8: 363: ج 18: 217، تاج العروس 10: 99.
(5) بهجة النفوس للحافظ الأزدي ابن أبي جمرة 4: 7 19.
236

ابن الحكم فدك وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي طلبتها فاطمة ميراثا فروى أبو بكر
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقه، ولم تزل فدك
في يد مروان وبنية إلى أن تولى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله وردها صدقة
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى 6: 301 من طريق المغيرة حديثا في فدك
وفيه: إنها أقطعها مروان لما مضى عمر لسبيله. فقال: قال الشيخ: إنما أقطع مروان
فدكا في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه وكأنه تأول في ذلك ما روي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا أطعم الله نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده، وكان مستغنيا
عنها بماله فجعلها لأقربائه ووصل بها رحمهم، وذهب آخرون إلى أن المراد بذلك
التولية وقطع جريان الإرث فيه، ثم تصرف في مصالح المسلمين كما كان أبو بكر وعمر
رضي الله عنهما يفعلان.
وفي العقد الفريد 2: 261 في عد ما نقم الناس على عثمان: إنه أقطع فدك مروان
وهي صدقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وافتتح إفريقية وأخذ خمسه فوهبه لمروان.
وقال ابن الحديد في شرحه 1: 67: وأقطع عثمان مروان فدك، وقد
كانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليه تارة بالميراث وتارة
بالنحلة فدفعت عنها.
قال الأميني: أنا لا أعرف كنه هذا الاقطاع وحقيقة هذا العمل فإن فدك إن
كان فئ للمسلمين؟ كما ادعاه أبو بكر، فما وجه تخصيصه بمروان؟ وإن كان ميراثا
لآل رسول الله صلى الله عليه وآله؟ كما احتجت له الصديقة الطاهرة في خطبتها، واحتج له أئمة
الهدى من العترة الطاهرة وفي مقدمهم سيدهم أمير المؤمنين عليه وعليهم السلام،
فليس مروان منهم، ولا كان للخليفة فيه رفع ووضع. وإن كان نحلة من رسول الله
صلى الله عليه وآله لبضعته الطاهرة فاطمة المعصومة صلوات الله عليها؟ كما ادعته وشهد لها أمير المؤمنين
وإبناها الإمامان السبطان وأم أيمن المشهود لها بالجنة فردت شهادتهم بما لا يرضي
الله ولا رسوله، وإذا ردت شهادة أهل آية التطهير فبأي شئ يعتمد؟ وعلى أي
حجة يعول؟.
إن دام هذا ولم يحدث به غير * لم يبك ميت ولم يفرح بمولود
237

فإن كان فدك نحلة؟ فأي مساس بها مروان؟ وأي سلطة عليها لعثمان؟ حتى
يقطعها لأحد. ولقد تضاربت أعمال الخلفاء الثلاثة في أمر فدك فانتزعها أبو بكر من
أهل البيت عليهم السلام، وردها عمر إليهم، وأقطعها عثمان لمروان، ثم كان فيها ما
كان في أدوار المستحوذين على الأمر منذ عهد معاوية وهلم جرا فكانت تؤخذ وتعطى،
ويفعلون بها ما يفعلون بقضاء من الشهوات كما فصلناه في الجزء السابع ص 195 719 ط 3
ولم يعمل برواية أبي بكر في عصر من العصور، فإن صانعه الملأ الحضور على سماع ما
رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وحابوه وجاملوه؟ فقد أبطله من جاء بعده بأعمالهم وتقلباتهم
فيها بأنحاء مختلفة.
بل إن أبا بكر نفسه أراد أن يبطل روايته بإعطاء الصك للزهراء فاطمة غير أن
ابن الخطاب منعه وخرق الكتاب كما مر في الجزء السابع عن السيرة الحلبية، وبذلك
كله تعرف قيمة تلك الرواية ومقدار العمل عليها وقيمة هذا الاقطاع، وسيوافيك قول
مولانا أمير المؤمنين في قطائع عثمان.
30 رأي الخليفة في الأموال والصدقات
لم تكن فدك ببدع من ساير الأموال من الفئ والغنائم والصدقات عند الخليفة
بل كان له رأي حر فيها وفي مستحقيها، كان يرى المال مال الله، ويحسب نفسه ولي
المسلمين، فيضعه حيث يشاء ويفعل فيه ما يريد، فقام كما قال مولانا أمير المؤمنين نافجا
حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة
الربيع (1).
كان يصل رحمه بمال يستوي فيه المسلمون كلهم، ولكل فرد من الملأ الديني
منه حق معلوم للسائل والمحروم، لا يسوغ في شرعة الحق وناموس الاسلام المقدس
حرمان أحد من نصيبه وإعطاء حقه لغيره من دون مرضاته.
جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله في الغنائم: لله خمسه وأربعة أخماس للجيش، وما أحد
أولى به من أحد، ولا السهم تستخرجه من جنبك، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم (2).

(1) نهج البلاغة 1: 35.
(2) سنن البيهقي 6: 324، 336.
238

وكان صلى الله عليه وآله إذا جاءه فئ قسمه من يومه فأعطى ذا الأهل حظين، وأعطى
العزب حظا (1).
والسنة الثابتة في الصدقات إن أهل كل بيئة أحق بصدقتهم ما دام فيهم ذو
حاجة، وليست الولاية على الصدقات للجباية وهملها إلى عاصمة الخلافة وإنما هي
للأخذ من الأغنياء والصرف في فقراء محالها، وقد ورد في وصية رسول الله صلى الله عليه وآله
معاذا حين بعثه إلى اليمن يدعوهم إلى الاسلام والصلاة أنه قال: فإذا أقروا لك بذلك
فقل لهم: إن الله قد فرض عليكم صدقة أموالكم تؤخذ من أغنيائكم فترد في فقرائكم (2)
قال عمرو بن شعيب: إن معاذ بن جبل لم يزل بالجند إذ بعثه رسول الله إلى
اليمن حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثم قدم على عمر فرده على ما كان عليه فبعث
إليه معاذ بثلث صدقة الناس فأنكر ذلك عمر وقال: لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشئ
وأنا أجد أحدا يأخذه مني. الحديث (3).
ومن كتاب لمولانا أمير المؤمنين إلى قثم بن العباس يوم كان عامله على مكة:
" وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة
مصيبا به مواضع الفاقة والخلات، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا "
نهج البلاغة 2: 128.
وقال عليه السلام لعبد الله بن زمعة لما قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا: " إن هذا المال
ليس لي ولا لك، وإنما هو فئ للمسلمين وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان
لك مثل حظهم، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم. " نهج البلاغة 1: 461.
ومن كلام له عليه السلام: " إن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وآله والأموال أربعة:
أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفي الفرائض، والفئ فقسمه على مستحقيه، و

(1) سنن أبي داود 2: 25، مسند أحمد 6: 29، سنن البيهقي 6: 346.
(2) صحيح بخاري 3: 215، الأموال لأبي عبيد ص 580، 595، 612، المحلى
6: 146.
(3) الأموال ص 596.
239

والخمس فوضعه الله حيث وضعه، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها. " راجع ما أسلفناه
في ج 6: 77 ط 2.
وأتى عليا أمير المؤمنين مال من أصبهان فقسمه بسبعة أسباع ففضل رغيف فكسره
بسبع فوضع على كل جزء كسرة ثم أقرع بين الناس أيهم يأخذ أول (1).
وأتته عليه السلام امرأتان تسألانه عربية ومولاة لها فأمر لكل واحد منها بكر من طعام وأربعين درهما أربعين درهما، فأخذت المولاة الذي أعطيت وذهبت، وقالت العربية
يا أمير المؤمنين! تعطني مثل الذي أعطيت هذه وأنا عربية وهي مولاة؟ قال لها علي
رضي الله عنه: إني نظرت في كتاب الله عز وجل فلم أر فيه فضلا لولد إسماعيل على
ولد إسحاق (2).
ولذلك كله كانت الصحابة لا ترتضي من الخليفة الثاني تقديمه بعضا من الناس
على بعض في الأموال بمزية معتبرة كان يعتبرها فيمن فضله على غيره كتقديم زوجات
النبي صلى الله عليه وآله أمهات المؤمنين على غيرهن، والبدري على من سواه، والمهاجرين على
الأنصار، والمجاهدين على القاعدين، من دون حرمان أي أحد منهم (3)، وكان
يقول على صهوات المنبر: من أراد المال فليأتني فإن الله جعلني له خازنا (4).
ويقول بعد قراءة آيات الأموال: والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في
هذا المال أعطي منه أو منع حتى راع بعدن. (5)
ويقول أبدأ برسول الله صلى الله عليه وآله ثم الأقرب فالأقرب إليه. فوضع الديوان
على ذلك.
وفي لفظ أبي عبيد: إن رسول الله إمامنا فبرهطه نبدأ، ثم بالأقرب فالأقرب (6).

(1) سنن البيهقي 6: 348.
(2) سنن البيهقي 6: 349.
(3) الأموال لأبي عبيد ص 224 227، فتوح البلدان للبلاذري ص 453 416، سنن
البيهقي 6: 349، 350، تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي 79 83.
(4) راجع ج 6 من كتابنا هذا 92 ط 2.
(5) الأموال ص 213، سنن البيهقي 6: 351.
(6) الأموال 224، سنن البيهقي 6: 364.
240

وقبل هذه كلها سنة الله في الذكر الحكيم حول الأموال مثل قوله تعالى:
1 واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل. (الأنفال 41)
2 إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي
الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (التوبة 60)
3 ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله
يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير. ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى
فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. (الحشر 6، 7)
هذه سنة الله وسنة نبيه غير أن الخليفة عثمان نسي ما في الكتاب العزيز، وشذ
عما جاء به النبي الأقدس في الأموال، وخالف سيرة من سبقه، وتزحزح عن العدل و
النصفة، وقدم أبناء بيته الساقط، أثمار الشجرة الملعونة في كتاب الله، رجال العيث
والعبث، والخمور والفجور، من فاسق إلى لعين، إلى حلاف مهين هماز مشاء بنميم،
وفضلهم على أعضاء الصحابة وعظماء الأمة الصالحين، وكان يهب من مال المسلمين
لأحد من قرابته قناطير مقنطرة من الذهب والفضة من دون أي كيل ووزن، ويؤثرهم
على من سواهم كائنا من كان من ذي قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم. ولم يكن يجرأ
أحد عليه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما كان يرى سيرته الخشنة مع أولئك
القائمين بذلك الواجب، ويشاهد فيهم من الهتك والتغريب والضرب بدرة كانت أشد
من الدرة العمرية (1) مشفوعة بالسوط والعصا (2) وإليك نبذة من سيرة الخليفة في
الأموال:
31 أيادي الخليفة عند الحكم بن أبي العاص
أعطى صدقات قضاعة الحكم بن أبي العاص عمه طريد النبي بعد ما قربه وأدناه
وألبسه يوم قدم المدينة وعليه فزر (3) خلق وهو يسوق تيسا والناس ينظرون إلى سوء
الغدير 17

(1) راجع محاضرة الأوائل للسكتواري ص 169.
(2) يأتي حديثه بعيد هذا.
(3) من فزر الثوب: انشق وتقطع وبلى.
241

حاله وحال من معه حتى دخل دار الخليفة ثم خرج وعليه جبة خز وطيلسان (تاريخ
اليعقوبي 2: 41).
وقال البلاذري في الأنساب 5: 28 رواية عن ابن عباس أنه قال: كان مما أنكروا
على عثمان إنه ولى الحكم ابن أبي العاص صدقات قضاعة (1) فبلغت ثلاث مائة ألف
درهم فوهبها له حين أتاه بها.
قال ابن قتيبة وابن عبد ربه والذهبي: ومما نقم الناس على عثمان إنه آوى
طريد النبي صلى الله عليه وسلم الحكم ولم يؤوه أبو بكر وعمر وأعطاه مائة ألف (2).
وعن عبد الرحمن بن يسار قال: رأيت عامل صدقات المسلمين على سوق المدينة
إذا أمسى أتاها عثمان فقال له: إدفعها إلى الحكم بن أبي العاص، وكان عثمان إذا
أجاز أحدا من أهل بيته جائزة جعلها فرضا من بيت المال فجعل يدافعه ويقول له:
يكون فنعطيك إنشاء الله. فألح عليه فقال: إنما أنت خازن لنا فإذا أعطيناك فخذ، وإذا
سكتنا عنك فاسكت. فقال: كذبت والله ما أنا لك بخازن ولا لأهل بيتك إنما أنا
خازن المسلمين، وجاء بالمفاتيح يوم الجمعة وعثمان يخطب فقال: أيها الناس زعم
عثمان إني خازن له ولأهل بيته وإنما كنت خازنا للمسلمين وهذه مفاتيح بيت مالكم.
ورمى بها فأخذها ودفعها إلى زيد بن ثابت. (تاريخ اليعقوبي 2: 145).
قال الأميني: يروى نظير هذه القضية كما يأتي لزيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود
ولعل هذه وقعت لغيرهم من الولاة على الصدقات أيضا. والله العالم.
الحكم وما أدراك ما الحكم؟
كان خصاء يخصي الغنم (3) أحد جيران رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة من أولئك
الأشداء عليه صلى الله عليه وآله المبالغين في إيذاءه شاكلة أبي لهب كما قاله ابن هشام في سيرته
2: 25، وأخرج الطبراني من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كان الحكم يجلس

(1) أبو حي باليمن.
(2) المعارف لابن قتيبة ص 84، العقد الفريد 2: 261، محاضرات الراغب 2: 212،
مرآة الجنان لليافعي 1: 85 نقلا عن الذهبي.
(3) حياة الحيوان للدميري 1: 194.
242

عند النبي صلى الله عليه وآله فإذا تكلم اختلج فبصر به النبي صلى الله عليه وآله فقال: كن كذلك. فما زال
يختلج حتى مات.
وفي لفظ مالك بن دينار: مر النبي صلى الله عليه وآله بالحكم فجعل الحكم يغمز النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بإصبعه فالتفت فرآه فقال: اللهم اجعل به وزغا (1) فرجف مكانه وارتعش. وزاد الحلبي
بعد أن مكث شهرا مغشيا عليه. (2)
أسلفناه من طريق الحفاظ الطبراني والحاكم والبيهقي. ومرت صحته في الجزء
الأول صفحة 237.
روى البلاذري في الأنساب 5: 27: إن الحكم بن العاص كان جارا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وكان أشد جيرانه أذى له في الاسلام، وكان قدومه المدينة بعد
فتح مكة وكان مغموصا عليه في دينه، فكان يمر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغمز به و
يحكيه ويخلج بأنفه وفمه، وإذا صلى قام خلفه فأشار بإصبعه، فبقي على تخليجه وأصابته
خبلة، واطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في بعض حجر نسائه فعرفه وخرج
إليه بعنزة وقال: من عذيري من هذا الوزغة اللعين؟ ثم قال: لا يساكنني ولا ولده
فغربهم جميعا إلى الطائف فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم عثمان أبا بكر فيهم وسأله ردهم
فأبى ذلك وقال: ما كنت لآوي طرداء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لما استخلف عمر كلمه فيهم
فقال مثل قول أبي بكر، فلما استخلف عثمان أدخلهم المدينة وقال: قد كنت كلمت
رسول الله فيهم وسألته ردهم فوعدني أن يأذن لهم فقبض قبل ذلك. فأنكر المسلمون
عليه إدخاله إياهم المدينة.
وقال الواقدي: ومات الحكم بن أبي العاص بالمدينة في خلافة عثمان فصلى عليه و
ضرب على قبره فسطاطا.
وعن سعيد بن المسيب قال: خطب عثمان فأمر بذبح الحمام وقال: إن الحمام
قد كثر في بيوتكم حتى كثر الرمي ونالنا بعضه فقال الناس: يأمر بذبح الحمام وقد آوى
طرداء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) الوزغ: الارتعاش والرعدة.
(2) الإصابة 1: 345، 346، السيرة الحلبية 1: 337، الفائق للزمخشري 2: 305،
تاج العروس 6: 35.
243

وذكره بلفظ أخصر من هذا في صفحة 125 وذكر بيتين لحسان بن ثابت في
عبد الرحمن بن الحكم الآتيين في لفظ أبي عمر فقال: كان يفشي أحاديث رسول الله فلعنه
وسيره إلى طائف ومعه عثمان الأزرق والحارث وغيرهما من بنيه وقال: لا يساكنني
فلم يزالوا طرداء حتى ردهم عثمان فكان ذلك مما نقم عليه.
وفي سيرة الحلبية 1: 337: إطلع الحكم على رسول الله من باب بيته وهو
عند بعض نسائه بالمدينة فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعنزة وقيل بمدرى في يده وقال:
من عذيري من هذه الوزغة لو أدركته لفقأت عينه، ولعنه وما ولد، وذكره ابن الأثير
مختصرا في أسد الغابة 2: 34.
وقال أبو عمر في " الاستيعاب ": أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم من المدينة وطرده
عنها فنزل الطائف وخرج معه ابنه مروان، واختلف في السبب الموجب لنفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم إياه فقيل: كان يتحيل ويستخفي ويتسمع ما يسره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كبار
أصحابه في مشركي قريش وسائر الكفار والمنافقين، فكان يفشي ذلك عنه حتى ظهر
ذلك عليه، وكان يحكيه في مشيته وبعض حركاته، إلى أمور غيرها كرهت ذكرها،
ذكروا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى يتكفأ وكان الحكم يحكيه فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم
يوما فرآه يفعل ذلك فقال صلى الله عليه وسلم فكذلك فلتكن. فكان الحكم مختلجا يرتعش من
يومئذ، فعيره عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقال في عبد الرحمن بن الحكم يهجوه:
إن اللعين أبوك فارم عظامه * إن ترم ترم مخلجا مجنونا
يمسي خميص البطن من عمل التقي * ويظل من عمل الخبيث بطينا (1)
وأخرج أبو عمر من طريق عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يدخل عليكم رجل لعين. وكنت قد تركت عمرا يلبس ثيابه ليقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلم أزل مشفقا أن يكون أول من يدخل فدخل الحكم ابن أبي العاص. (2)
م وقال ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق ص 144: وبسند رجاله رجال
الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه إنه صلى الله عليه وسلم قال: ليدخلن الساعة عليكم رجل

(1) الاستيعاب 1: 118، أسد الغابة 2: 34.
(2) الاستيعاب 1: 119
244

لعين. فوالله ما زلت أتشوق داخلا وخارجا حتى دخل فلان يعني الحكم كما صرحت
به رواية أحمد].
وروى البلاذري في " الأنساب " 5: 126، والحاكم في " المستدرك " 4: 481
وصححه والواقدي كما في السيرة الحلبية 1: 337 بالإسناد عن عمرو بن مرة قال:
استأذن الحكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف صوته فقال: ائذنوا له لعنة الله عليه وعلى
من يخرج من صلبه إلا المؤمنين وقليل ما هم، ذوو مكر وخديعة يعطون الدنيا وما
لهم في الآخرة من خلاق. (3)
م وفي لفظ ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق ص 147: ائذنوا له فعليه
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وما يخرج من صلبه يشرفون في الدنيا، ويترذلون
في الآخرة، ذوو مكر وخديعة إلا الصالحين منهم وقليل ما هم].
وأخرج الحاكم في المستدرك 4: 481 وصححه من طريق عبد الله بن الزبير
قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الحكم وولده.
وأخرج الطبراني وابن عساكر والدارقطني في الأفراد من طريق عبد الله بن عمر
قال: هجرت الرواح رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو الحسن فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ادن: فلم يزل يدنيه حتى التقم أذنيه فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يساره إذ رفع رأسه كالفزع قال:
فدع بسيفه الباب فقال لعلي: إذهب فقده كما تقاد الشاة إلى حالبها. فإذا علي يدخل
الحكم بن أبي العاص آخذا بإذنه ولها زنمة حتى أوقفه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فلعنه
نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ثم قال: أحله ناحية حتى راح إليه قوم من المهاجرين والأنصار
ثم دعا به فلعنه ثم قال: إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه، وسيخرج من صلبه فتن
يبلغ دخانها السماء. فقال ناس من القوم: هو أقل وأذل من أن يكون هذا منه قال:
بلى وبعضكم يومئذ شيعته (كنز العمال 6: 39، 90)
وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن الزبير قال وهو على المنبر: ورب

(1) وذكره الدميري في حياة الحيوان 2: 299، وابن حجر في الصواعق ص 108،
والسيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 6: 90 نقلا عن أبي يعلى والطبراني والحاكم والبيهقي
وابن عساكر.
245

هذا البيت الحرام والبلد الحرام إن الحكم بن أبي العاص وولده ملعونون على لسان
محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظ: إنه قال وهو يطوف بالكعبة: ورب هذه البنية للعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
الحكم وما ولد. كنز العمال 6: 90.
وأخرج ابن عساكر من طريق محمد بن كعب القرظي أنه قال: لعن رسول الله
صلى الله عليه وسلم الحكم وما ولد إلا الصالحين وهم قليل.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وعبد بن حميد والنسائي وابن المنذر والحاكم
وصححه عن عبد الله قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله تعالى قد
أرى لأمير المؤمنين يعني معاوية في يزيد رأيا حسنا أن يستخلفه فقد استخلف أبو
بكر وعمر. فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أهر قلية إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه
والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة
لولده. فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه أف لكما؟ فقال عبد الرحمن: ألست ابن
اللعين الذي لعن رسول الله أباك؟ فسمعت عائشة فقالت: مروان! أنت القائل لعبد الرحمن
كذا وكذا، كذبت والله ما فيه نزلت، نزلت في فلان بن فلان.
وفي لفظ آخر عن محمد بن زياد: لما بايع معاوية لابنه قال مروان: سنة أبي بكر
وعمر. فقال عبد الرحمن: سنة هرقل وقيصر. فقال مروان: هذا الذي قال الله فيه: والذي
قال لوالديه أف لكما. الآية. فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان، كذب مروان
والله ما هو به ولو شئت أن اسمي الذي نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن
أبا مروان ومروان في صلبه فمروان فضض من لعنة الله. وفي لفظ: ولكن رسول الله لعن
أباك وأنت في صلبه فأنت فضض من لعنة الله. وفي لفظ الفائق: فأنت فظاظة (1) لعنة الله و
ولعنة رسوله.
راجع مستدرك الحاكم 4: 481، تفسير القرطبي 16: 197، تفسير الزمخشري
3: 99، الفائق له 2: 325، تفسير ابن كثير 4: 159، تفسير الرازي 7: 491:، أسد
الغابة لابن الأثير 2: 34، نهاية ابن الأثير 3: 23، شرح ابن أبي الحديد 2: 55،

(1) قال الزمخشري: افتظظت الكرش إذا اعتصرت ماءها، كأنه عصارة قذرة من اللعنة.
246

تفسير النيسابوري هامش الطبري 26: 13، الإجابة للزركشي ص 141، تفسير النسفي
هامش الخازن 4: 132، الصواعق لابن حجر ص 108، إرشاد الساري للقسطلاني
7: 325، لسان العرب 9: 73، الدر المنثور 6: 41، حياة الحيوان للدميري 2:
399، السيرة الحلبية 1: 337، تاج العروس 5: 69، تفسير الشوكاني 5: 20، تفسير
الآلوسي 26: 20، سيرة زيني دحلان هامش الحلبية 1: 245.
(لفت نظر) يوجد هذا الحديث في المصادر جلها لولا كلها باللفظ المذكور
غير أن البخاري أخرجه في تفسير صحيحه في سورة الأحقاف وحذف منه لعن مروان
وأبيه وما راقه ذكر ما قاله عبد الرحمن، وهذا دأبه في جل ما يرويه، وإليك لفظه:
كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية
لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال: خذوه. فدخل بيت
عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: والذي قال لوالديه
أف لكما أتعدانني. فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن
إلا أن الله أنزل عذري.
وهذا الحديث يكذب ما عزاه القوم إلى أمير المؤمنين وابن عباس من قولهما
بنزول آية: وأصلح لي في ذريتي. في أبي بكر كما مر في الجزء السابع ص 6 32 ط 2.
وكان الحكم مع ذلك كله يدعو الناس إلى الضلال ويمنعهم عن الاسلام،
اجتمع حويطب بمروان يوما فسأله مروان عن عمره فأخبره فقال له: تأخر إسلامك أيها
الشيخ حتى سبقك الأحداث. فقال حويطب: الله المستعان والله لقد هممت بالاسلام غير
مرة كل ذلك يعوقني أبوك يقول: تضع شرفك، وتدع دين آبائك لدين محدث؟ وتصير
تابعا؟ فسكت مروان وندم على ما كان قال له، " تاريخ ابن كثير 8: 70 "
(الحكم في القرآن)
أخرج ابن مردويه عن أبي عثمان النهدي قال: قال مروان لما بايع الناس ليزيد:
سنة أبي بكر وعمر " إلى آخر الحديث المذكور " فسمعت ذلك عائشة فقالت: إنها لم
تنزل في عبد الرحمن ولكن نزل في أبيك: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم الآية " سورة القلم 10 ".
247

راجع الدر المنثور 6: 41، 251، السيرة الحلبية 1: 337، تفسير الشوكاني
5: 263، تفسير الآلوسي 29: 28، سيرة زيني دحلان هامش الحلبية 1: 245
وأخرج ابن مردويه عن عائشة إنها قالت لمروان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول
لأبيك وجدك " أبي العاص بن أمية " إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.
ويقول لأبيك وجدك " أبي العاص بن أمية ": إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.
ذكره السيوطي في الدر المنثور 4: 191، والحلبي في السيرة 1: 337، و
الشوكاني في تفسيره 3: 231، والآلوسي في تفسيره 15: 107. وفي لفظ القرطبي في
تفسيره 10: 286.
قالت عائشة لمروان: لعن الله أباك وأنت في صلبه، فأنت بعض من لعنة الله ثم قالت:
والشجرة الملعونة في القرآن.
و أخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله رأيت بني
أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، واهتم رسول الله لذلك،
فأنزل الله: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن و
نخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا. " الاسراء 60 "
وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي: إن رسول الله صلى الله عليه وآله أصبح وهو مهموم
فقيل ما لك يا رسول الله؟ فقال: إني أريت في المنام كأن بني أمية يتعاورون منبري
هذا فقيل: يا رسول الله! لا تهتم فإنها دنيا تنالهم فأنزل الله: وما جعلنا الرؤيا التي. الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر، عن سعيد بن
المسيب قال: رأى رسول الله صل الله عليه وسلم بني أمية على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله تعالى
إليه: إنما هي دنيا أعطوها. فقرت عينه وذلك قوله تعالى: وما جعلنا الرؤيا التي
أريناك. الآية.
وأخرج الطبري والقرطبي وغيرهما من طريق سهل بن سعد قال: رأى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات
وأنزل الله تعالى: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك. الآية.
وروى القرطبي والنيسابوري عن ابن عباس: إن الشجرة الملعونة هو بنو أمية
248

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو (1) إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت ولد الحكم
بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة فأنزل الله: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا
فتنة للناس والشجرة الملعونة. يعني الحكم وولده.
وفي لفظ: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام إن ولد الحكم بن أمية يتداولون
منبره كما يتداولون الصبيان الكرة فساءه ذلك.
وفي لفظ للحاكم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر وأبي يعلى من طريق أبي هريرة:
إني أريت في منامي كأن بني الحكم بن العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة.
فما رؤي النبي مستجمعا ضاحكا حتى توفي.
(مصادر ما رويناه) تفسير الطبري 15: 77، تاريخ الطبري 11: 6 35، مستدرك
الحاكم 4: 48، تاريخ الخطيب 8: 28 و ج 9: 44، تفسير النيسابوري هامش الطبراني
15: 55، تفسير القرطبي 10: 283، 286، النزاع والتخاصم للمقريزي ص 52، أسد
الغابة 3: 14 من طريق الترمذي، م تطهير الجنان لابن حجر هامش الصواعق ص 148
فقال: رجاله رجال الصحيح إلا واحدا فثقة] الخصايص الكبرى 2: 118، الدر المنثور
4: 191، كنز العمال 6: 90، تفسير الخازن 3: 177، تفسير الشوكاني 3: 230،
231، تفسير الآلوسي 15: 107 فقال الآلوسي:
ومعنى جعل ذلك فتنة للناس جعله بلاء لهم ومختبرا، وبذلك فسره ابن المسيب و
كان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا، وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا
وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفاءهم منهم ممن كان عندهم عاملا وللخبائث عاملا،
أو ممن كان أعوانهم كيف ما كان، ويحتمل أن يكون المراد: ما جعلنا خلافتهم وما
جعلنا أنفسهم إلا فتنة، وفيه من المبالغة في ذمهم ما فيه، وجعل ضمير " نخوفهم " على
هذا لما كان له أولادا أو شجرة باعتبار أن المراد بها بنو أمية، ولعنهم لما صدر منهم
من استباحة الدماء المعصومة، والفروج المحصنة، وأخذ الأموال من غير حلها، ومنع
الحقوق عن أهلها، وتبديل الأحكام، والحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى على نبيه
عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من القبايح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد

(1) وفي بعض المصادر: ابن عمر.
249

تنسى ما دامت الليالي والأيام، وجاء لعنهم في القرآن إما على الخصوص كما زعمته
الشيعة، أو على العموم كما نقول فقد قال سبحانه وتعالى: إن الذين يؤذون الله ورسوله
لعنهم الله في الدنيا والآخرة. وقال عز وجل: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض
وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. إلى آيات أخر،
ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أوليا. إلى آخر كلامه. راجع.
نظرة في كلمتين
1 قال الطبري بعد روايته حديث الرؤيا: لا يدخل في هذا الرؤيا عثمان ولا
عمر بن عبد العزيز ولا معاوية.
لا يهمنا بسط القول حول هذا التخصيص، ولا ننبس ببنت شفة في تعميم العموم
الوارد في الأحاديث المذكورة وأمثالها الواردة في بني أمية عامة وفي بني أبي العاص
جد عثمان خاصة، من قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من طريق أبي سعيد الخدري: إن أهل
بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريدا، وإن أشد قومنا لنا بغضا بنو أمية و
بنو المغيرة وبنو مخزوم (1).
وقوله صلى الله عليه وآله من طريق أبي ذر: إذا بلغت بنو أمية أربعين اتخذوا عباد الله خولا،
ومال الله نحلا، وكتاب الله دغلا (2).
وقوله صلى الله عليه وآله من طريق حمران بن جابر اليمامي: ويل لبني أمية. ثلاث. أخرجه
ابن مندة كما في الإصابة 1: 353، وحكاه عن ابن مندة وأبي نعيم السيوطي في الجامع
الكبير كما في ترتيبه 6: 39، 91.
وقوله صلى الله عليه وآله من طريق أبي ذر: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا
مال الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا. قال حلام بن جفال: فأنكر على أبي ذر
فشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله يقول: ما أظلت الخضراء
ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، وأشهد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله.
أخرجه الحاكم من عدة طرق وصححه هو والذهبي كما في المستدرك 4: 480

(1) مستدرك الحاكم 4: 487 وصححه.
(2) مستدرك الحاكم 4: 479، وأخرجه ابن عساكر كما في كنز العمال 6: 39.
250

وأخرجه أحمد وابن عساكر وأبو يعلى والطبراني والدار قطني من طريق أبي سعيد و
أبي ذر وابن عباس ومعاوية وأبي هريرة كما في كنز العمال 6: 39، 90.
م وذكر ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق 147 بسند حسنه: إن مروان
دخل على معاوية في حاجة وقال: إن مؤنتي عظيمة أصبحت أبا عشرة، وأخا عشرة، و
عم عشرة ثم ذهب فقال معاوية لابن عباس وكان جالسا معه على سريره: أنشدك بالله يا بن
عباس أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا بلغ بنو أبي الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا
آيات الله بينهم دولا، وعباد الله خولا، وكتابه دخلا، فإذا بلغوا سبعة وأربعمائة كان
هلاكهم أسرع من كذا؟ قال: اللهم نعم.
وقوله صلى الله عليه وآله بإسناد حسنه ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق 143:
شر العرب بنو أمية. وبنو حنيفة. وثقيف. وقال: صح قال الحاكم: على شرط الشيخين
عن أبي برزة رضي الله عنه قال: كان أبغض الأحياء أو الناس إلى رسول الله بنو أمية]
وقول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: لكل أمة آفة وآفة هذه الأمة بنو أمية.
كنز العمال 6: 91 ".
فالحكم في هذه العمومات ولا سيما بعد ملاحظة ما أثبتته السير ومدونات
التاريخ وغيرها، وبعد الإحاطة بأحوال الرجال وما ارتكبوه وما ارتكبوا فيه، أنت و
وجدانك أيها القارئ الكريم!.
2 قال ابن حجر في الصواعق ص 108: قال ابن ظفر: وكان الحكم هذا يرمى
بالداء العضال وكذلك أبو جهل كذا ذكره الدميري في حياة الحيوان.
ولعنته صلى الله عليه وسلم للحكم وابنه لا تضرهما لأنه صلى الله عليه وسلم تدارك ذلك بقوله مما
بينه في الحديث الآخر: إنه بشر يغضب كما يغضب البشر، وإنه سأل ربه إن من سبه
أو لعنه أو دعا عليه أن يكون رحمة وزكاة وكفارة وطهارة. وما نقله " الدميري " عن
ابن ظفر في أبي جهل لا تأويل عليه فيه بخلافه في الحكم فإنه صحابي وقبيح أي قبيح أن
يرمى صحابي بذلك فليحمل على أنه إن صح ذلك كان يرمى به قبل الاسلام. ا ه‍.
أنا لا أدري أيعلم ابن حجر ماذا يلوك بين أشداقه؟ أهو مجد فيما يقول أم هازىء؟
أما ما اعتذر به عن إن لعنته صلى الله عليه وآله لا تضر الحكم وابنه. الخ. فقد أخذه مما أخرجه
251

الشيخان في الصحيحين (1) من طريق أبي هريرة غير إنه حرف منه كلما وزاد فيه
أخرى وإليك لفظه قال: اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت
عندك عهدا لم تخلفنيه فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له كفارة
وقربة تقربه بها إليك.
هذا حط من مقام الرسالة لأجل أموي ساقط، وحسبان إن صاحبها كإنسان عادي
يثيره ما يثير غيره فيغضب لما لا ينبغي أن يغضب له، ومخالف للكتاب العزيز من قوله
سبحانه: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. نعم: هو صلى الله عليه وآله بشر غير إنه كما
قال في الذكر الحكيم: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي. فإن كان في الوحي أن
يلعن الطريد وما ولد فماذا ينجيه من اللعن؟ إلا أن يحسب ابن حجر إن الوحي أيضا
يتبع الشهوات، كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
وكيف يكون اللعن رحمة وزكاة وطهارة وكفارة وقد أصاب موضعه بأمر من
الله سبحانه؟
وما يصنع ابن حجر بالصحيح المتضافر من إن سباب المسلم فسوق (2)؟
وكيف يسوغ له إيمانه أن يكون رسول الله سبابا أو لعانا أو مؤذيا لأحد أو
جالدا لمسلم على غير حق؟ وكل ذلك من منافيات العصمة والله سبحانه يقول: الذين
يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا. وجاء في
الصحيح: إنه صلى الله عليه وآله لم يكن سبابا ولا فحاشا ولا لعانا، وقد أبى رسول الله صلى الله عليه وآله عن
الدعاء على المشركين، وقال صلى الله عليه وآله إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة (3) فهو صلى الله عليه وآله
كان يأمل في أولئك المشركين الهداية فلم يلعنهم ولا دعا عليهم، ولما كان لم يرج في
الحكم وولده أي خير لعنهم لعنا يبقي عليهم خزي الأبد.
نعم رواية الصحيحين المنافي لعصمة الرسول صلى الله عليه وآله اختلقتها يد الهوى على عهد

(1) صحيح البخاري 4: 71 كتاب الدعوة. صحيح مسلم 2: 391 كتاب البر والصلة
(2) أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم من طريق ابن مسعود.
وابن ماجة من طريق جابر وسعد. والطبراني عن عبد الله بن المغفل وعمرو بن النعمان. وصححه
غير واحد من الحفاظ كالهيثمي والسيوطي والمناوي.
(3) أخرجه البخاري 9: 22، ومسلم في صحيحه 2: 393.
252

معاوية تزلفا إليه، وطمعا في رضيخته، وتحببا إلى آل أبي العاص المقربين عنده. ومن
أراد الوقوف على أبسط مما ذكرناه في المقام فليراجع كتاب " أبو هريرة " لسيدنا الآية
السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي ص 118 129.
هبنا " العياذ بالله " ماشينا ابن حجر في أساطيره في نبي العصمة والقداسة فما
حيلة المغفل فيما نزل من الذكر الحكيم في الحكم وبنيه؟ هل فيه ضير؟ أم يراه
أيضا رحمة وزكاة وكفارة وطهارة.
وشتان بين رأي ابن حجر في الحكم وبين ما يأتي من قول أبي بكر لعثمان
فيه: عمك إلى النار وقول عمر لعثمان: ويحك يا عثمان! تتكلم في لعين رسول الله و
طريده وعدو الله وعدو رسوله؟.
وأما ما عالج به داء الحكم فهو يعلم أنه موصوم بما هو أفظع من ذلك من لعن
رسول الله وطرده إياه، وكان الخبيث يهزأ برسول الله صلى الله عليه وآله في مشيته حتى أخذته دعوته
صلى الله عليه وآله، وهل تجديه الصحبة وحاله هذه؟ وهل تشمل الصحبة التي هي من أربى
الفضائل اللص الذي ساكن الصحابة لاستراق أموالهم والقاح الفتن فيهم؟ وهل تشمل
المنافقين الذين كانوا في المدينة يومئذ؟ " ومن أهل المدينة مردوا على النفاق " فإن
طهرت الصحبة أمثال الحكم فهي مطهرة أولئك بطريق أولى لأنه لم يكشف عنهم الغطاء
كما كشف عن الحكم على العهد النبوي وفي دور الشيخين حتى أراد ابن أخيه ينقذه
من الفضيحة فزيد ضغث على أبالة، ونبشت الدفائن، وذكر ما كاد أن ينسى.
ثم هب أن الصحبة مزيحة لعلل النفس والأمراض القلبية فهل هي مزيلة
للأدواء الجسمانية؟ لم نجد في كتب الطب من وصفها بذلك، ولا تعدادها في الصف
الأدوية المفيدة لداء من الأدواء، ولا لذلك الداء العضال الذي زعم ابن حجر إنه منفي
عن الحكم لمحض الاسلام والصحبة، وجوز أن يكون قبل اتصاله بالمسلمين، حيا
الله هذا الطب الجديد.
إن من الممكن جدا أن يكون هذا الداء العضال من علل طرد الرجل من المدينة فلم يرد صلى الله عليه وآله أن يكون بين صحابته في عاصمة نبوءته مخزي مثله.
إذا أنهاك البحث إلى هاهنا وعرفت الحكم ومقداره في أدوار حياته جاهلية
253

وإسلاما فاقرأ ما جاء به سالم بن وابصة تزلفا إلى معاوية بن مروان بن الحكم من قوله:
إذا افتخرت يوما أمية أطرقت * قريش وقالوا: معدن الفضل والكرم
فإن قيل: هاتوا خيركم أطبقوا معا * على إن خير الناس كلهم الحكم
ألستم بني مروان غيث بلادنا * إذ السنة الشهباء سدت على الكظم؟
سبحانك اللهم ما قيمة بشر خيره الحكم؟ وما شأن جدوب غيثها بنو مروان؟
إن هي إلا أساطير الأولين نسجتها يد الغلو في الفضائل.
(المسائلة)
هلم معي نسائل الخليفة في إيواء لعين رسول الله وطريده (الحكم) وبمسمع
منه ومرأى نزول القرآن فيه واللعن المتواصل من مصدر النبوة عليه وعلى من تناصل
منه عدا المؤمنين، وقليل ما هم، ما هو المبرر لعمله هذا ورده إلى مدينة الرسول؟
وقد طرده صلى الله عليه وآله وأبناءه منها تنزيها لها من تلكم الأرجاس والأدناس الأموية وقد سأل
أبا بكر وبعده عمر أن يرداه فقال كل منهما: لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وآله (1)
وقال الحلبي في السيرة 2: 85: كان يقال له: طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه وقد كان
صلى الله عليه وسلم طرده إلى الطائف ومكث به مدة رسول الله ومدة أبي بكر بعد أن سأله عثمان
في إدخاله المدينة فأبى فقال له عثمان: عمي، فقال: عمك إلى النار، هيهات هيهات أن
أغير شيئا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا رددته أبدا، فلما توفي أبو بكر وولي عمر
كلمه عثمان في ذلك فقال له: ويحك يا عثمان! تتكلم في لعين رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريده
وعدو الله وعدو رسوله؟ فلما ولي عثمان رده إلى المدينة فاشتد ذلك على المهاجرين
والأنصار فأنكر ذلك عليه أعيان الصحابة، فكان ذلك من أكبر الأسباب على القيام عليه. ه‍
ألم تكن للخليفة أسوة في رسول الله؟ والله يقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا. (2) أو كان قومه وحامته أحب
إليه من الله ورسوله؟ وبين يديه الذكر الحكيم: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم

(1) الأنساب للبلاذري 5: 27، الرياض النضرة 2: 143، أسد الغابة 2: 35، السيرة
الحلبية 1: 337، الإصابة 1: 345،
(2) سورة الأحزاب: 21.
254

وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها
أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي
القوم الفاسقين. التوبة. 24.
ثم ما هو المبرر لتخصيص الرجل بتلك المنحة الجزيلة من حقوق المسلمين و
أعطياتهم؟ بعد تأمينه على أخذ الصدقات المشترط فيه الثقة والأمانة واللعين لا يكون
ثقة ولا أمينا.
ثم نسائل الحكم والخليفة على تقريره لما ارتكبه من حمل صدقات قضاعة
إلى دار الخلافة وقد ثبت في السند كما مر ص 245 إنها تقسط على فقراء المحل و
عليها أتت الأقوال قال أبو عبيد في الأمول ص 596: والعلماء اليوم مجمعون على هذه
الآثار كلها: أن أهل كل بلد من البلدان، أو ماء من المياه أحق بصدقتهم ما دام فيهم
من ذوي الحاجة واحد فما فوق ذلك وإن أتى ذلك على جميع صدقتها حتى يرجع الساعي
ولا شئ معه منها، بذلك جاءت الأحاديث مفسرة. ثم ذكر أحاديثا فقال ص 597:
قال أبو عبيد: فكل هذه الأحاديث تثبت إن كل قوم أولى بصدقتهم حتى يستغنوا عنها،
ونرى استحقاقهم ذلك دون غيرهم إنما جاءت به السنة لحرمة الجوار وقرب دراهم
من دار الأغنياء. ا ه‍.
ألم يكن في قضاعة ذو حاجة فيعطى؟ أو لم يكن في المدينة الطيبة من فقراء
المسلمين أحد فيقسم ذلك المال الطائل بينهم بالسوية؟ إنما الصدقات للفقراء و
المساكين والعاملين عليها. الآية. فتخصيصها للحكم لماذا؟.
وهلم معي إلى المسكين صاحب المال تؤخذ منه الصدقات شاء أو أبى وهو يعلم
مصب تلكم الأموال ومدرها من أيدي أولئك الجبابرة أو الجباة الجباه السود (نظراء
الحكم ومروان والوليد وسعيد) وما يرتكبونه من فجور ومجون، وبعد لم ينقطع من
أذنه صدى ما ارتكبه خالد بن وليد سيف.. مع مالك بن نويرة وحليلته وذويه
وما يملكه، وكان يسمع من وحي الكتاب قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم
بها وتزكيهم (سورة التوبة 140) فهل يرى المسكين أن هذا الأخذ يطهره ويزكيه؟
لا حكم إلا لله.
255

نعم يقول المغيرة بن شعبة زاني ثقيف: إن النبي صلى الله عليه وآله أمرنا أن ندفعها إليهم و
عليهم حسابهم (1) ويقول ابن عمر: إدفعوها إليهم وإن شربوا بها الخمر. ويقول: إدفعها
إلى الأمراء وإن تمزعوا بها لحوم الكلاب على موائدهم. (2)
نحن لا نقيم لأمثال هذه الآراء وزنا، ولا أحسب إن الباحث يقدر لها قيمة
فإنها ولائد ظنون مجردة. وقد جاء في أولئك الأمراء بإسناد صححه الحاكم والذهبي
من طريق جابر بن عبد الله قال قال صلى الله عليه وآله لكعب بن عجرة: أعاذك الله يا كعب! من إمارة
السفهاء. قال: وما إمارة السفهاء يا رسول الله؟ قال: أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي،
ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني و
لست منهم، ولا يردون علي حوضي (3).
فإعطاء الصدقات لأولئك الأمراء من أظهر مصاديق الإعانة على الإثم والعدوان والله
تعالى يقول: تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " سورة المائدة 2 ".
ثم إن الصدقات كضرائب مالية في أموال الأغنياء لإعاشة الضعفاء من الأمة
قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: إن الله عز وجل فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي
الفقراء فإن جاعوا أو عروا أو جهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله تبارك وتعالى أن
يحاسبهم ويعذبهم. (الأموال لأبي عبيد ص 595، المحلى لابن حزم 6: 158، و
أخرجه الخطيب في تاريخه 5: 208 من طريق علي مرفوعا)
وفي لفظ: إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا
بما متع به غني، والله سائلهم عن ذلك (نهج البلاغة 2: 214)
هذا هو مجرى الصدقات في الشريعة المطهرة، وهو الذي يطهر صاحب المال و
يزكيه، ويكتسح عن المجتمع معرة الآراء الفاسدة من الفقراء، المقلقة للسلام و
المعكرة لصفو الحياة.

(1) سنن البيهقي 4: 115.
(2) سنن البيهقي 4: 115، الأموال لأبي عبيد ص. 57.
(3) مستدرك الحاكم 4: 422.
256

ثم: الخليفة يدعي (1) إن رسول الله صلى الله عليه وآله وعده رد الحكم بعد أن فاوضه في
ذلك، إن كان هذا الوعد صحيحا فلم لم يعلم به أحد غيره؟ ولا عرفه الشيخان قبله.
وهلا رواه لهما حين كلمهما في رده فجبهاه بما عرفت؟ أو أنهما لم يثقا بتلك الرواية؟
فهذه مشكلة أخرى. أو إنهما صدقاه؟ غير إنهما رأيا أن صلى الله عليه وآله وعده أن يرده هو
صلى الله عليه وآله ولم يرده، ولعل المصلحة الواقعية أو الظروف لم تساعده على إنجاز الوعد
حتى قضى نحبه، فمن أين عرف الترخيص له في رده؟ ولو كانت هناك شبهة رخصة؟
لعمل بها الشيخان حين فاوضهما هو في ذلك، لكنهما ما عرفا الشبهة ولا علما تلميحا
للرخصة بل رأياه عقدة لرسول الله صلى الله عليه وآله لا تنحل، وفي الملل والنحل للشهرستاني
1: 25: فما أجابا إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخا. ه‍. ومن هنا
رأى ابن عبد ربه في العقد، وأبو الفدا في تاريخه 1: 168: أن الحكم طريد رسول الله
وطريد أبي بكر وعمر أيضا، وكذلك الصحابة كلهم ما عرفوا مساغا لرد الرجل وأبناؤه
وإلا لما نقموا به عليه ولعذروه على ما ارتكبه وفيهم من لا تخفى عليه مواعيد النبي صلى الله عليه وآله.
وللخليفة معذرة أخرى قال ابن عبد ربه في العقد الفريد 2: 272: لما رد
عثمان الحكم طريد النبي صلى الله عليه وسلم وطريد أبي بكر وعمر إلى المدينة تكلم الناس في
ذلك فقال عثمان: ما ينقم الناس مني؟ أني وصلت رحما وقريت عينا. ا ه‍ ونحن لا نخدش
العواطف بتحليل كلمة الخليفة هذه، ولا نفصل القول في مغزاها وإنما نمر به كراما،
وأنت إذا عرفت الحكم وما ولد فعلمت أن ردهم إلى المدينة المشرفة وتوليهم على
الأمور، وتسليطهم على ناموس الاسلام، واتخاذ الحمى لهم كما مر ص 242 جناية
كبيرة على الأمة لا تغتفر، ولا تقر بها قط عين.
32 أيادي الخليفة عند مروان
أعطى مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن عمه وصهره من ابنته أم أبان خمس
غنائم أفريقية وهو خمسمائة ألف دينار، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن حنبل الجمحي
الكندي مخاطبا الخليفة:
الغدير 18

(1) الأنساب للبلاذري 5: 27، الرياض النضرة 2: 143، مرآة الجنان لليافعي 1: 85
الصواعق ص 68، السيرة الحلبية 2: 86.
257

سأحلف بالله جهد اليمين ما ترك الله أمرا سدى
ولكن خلفت لنا فتنة * لكي نبتلى لك أو تبتلى
فإن الأمينين قد بينا * منار الطريق عليه الهدى
فما أخذا درهما غيلة * وما جعلا درهما في الهوى
دعوت اللعين فأدنيته * خلافا لسنة من قد مضى
وأعطيت مروان خمس العبا د ظلما لهم وحميت الحمى
هكذا رواه ابن قتيبة في المعارف ص 84، وأبو الفدا في تاريخه 1: 168، و
ذكر البلاذري الأبيات في الأنساب 5: 38 ونسبها إلى أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي
الخزرجي الذي منع أن يدفن عثمان بالبقيع وإليك لفظها: ا
قسم بالله رب العبا د ما ترك الله خلقا سدى
دعوت اللعين فأدنيته * خلافا لسنة من قد مضى
قال: يعني الحكم والد مروان.
وأعطيت مروان خمس العبا د ظلما لهم وحميت الحمى
ومال أتاك به الأشعري * من الفئ أنهيته من ترى
فأما الأمينان إذ بينا * منار الطريق عليه الصوى
فلم يأخذا درهما غيلة * ولم يصرفا درهما في هوى
وذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد 2: 261 ونسبها إلى عبد الرحمن، وروى
البلاذري من طريق عبد الله بن الزبير أنه قال: أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين أفريقية فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فأعطى عثمان مروان بن الحكم خمس
الغنائم. وفي رواية أبي مخنف: فابتاع الخمس بمائتي ألف دينار فكلم عثمان فوهبها له
فأنكر الناس ذلك على عثمان (1).
وفي رواية الواقدي كما ذكره ابن كثير: صالحه بطريقها على ألفي ألف دينار
وعشرين ألف دينار فأطلقها كلها عثمان في يوم واحد لآل الحكم ويقال: لآل مروان (2)

(1) الأنساب 5: 27، 28.
(2) تاريخ ابن كثير 7: 152. لا يخفى على القاري تحريف ابن كثير رواية الواقدي
والصحيح ما ذكره الطبري عنه.
258

وفي رواية الطبري عن الواقدي عن أسامة بن زيد عن كعب قال: لما وجه
عثمان عبد الله بن سعد إلى أفريقية كان الذي صالحهم عليه بطريق أفريقية (جرجير)
ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، فبعث ملك الروم رسولا وأمره
أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطار كما أخذ منهم عبد الله بن سعد. إلى أن قال: كان الذي صالحهم
عليه عبد الله بن سعد ثلاثمائة قنطار ذهب، فأمر بها عثمان لآل الحكم. قلت: أو لمروان؟
قال لا أدري. (تاريخ الطبري 5: 50).
وقال ابن الأثير في الكامل 3: 38: وحمل خمس أفريقية إلى المدينة فاشتراه
مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار فوضعها عنه عثمان، وكان هذا مما أخذ عليه،
وهذا أحسن ما قيل في خمس أفريقية، فإن بعض الناس يقول: أعطى عثمان خمس
أفريقية عبد الله بن سعد. وبعضهم يقول: أعطاه مروان الحكم، وظهر بهذا إنه أعطى
عبد الله خمس الغزوة الأولى، وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتحت فيها
جميع أفريقية. والله أعلم.
وروى البلاذري وابن سعد: إن عثمان كتب لمروان بخمس مصر وأعطى أقرباءه
المال، وتأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها، واتخذ الأموال واستسلف من بيت المال
وقال: إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما، وإني أخذته فقسمته في أقربائي.
فأنكر الناس عليه ذلك. (1)
وأخرج البلاذري في الأنساب 5: 28 من طريق الواقدي عن أم بكر بنت المسور
قالت: لما بني مروان داره بالمدينة دعا الناس إلى طعامه وكان المسور فيمن دعا، فقال
مروان وهو يحدثهم: والله ما أنفقت في داري هذه من مال المسلمين درهما فما فوقه. فقال
المسور: لو أكلت طعامك وسكت لكان خيرا لك، لقد غزوت معنا إفريقية وإنك لأقلنا
مالا ورقيقا وأعوانا وأخفنا ثقلا، فأعطاك ابن عفان خمس إفريقية وعملت على الصدقات
فأخذت أموال المسلمين. فشكاه مروان إلى عروة وقال: يغلظ لي وأنا له مكرم متق.
قال ابن أبي الحديد في الشرح 1: 67: أمر (عثمان) لمروان بمائة ألف من
بيت المال وقد زوجه ابنته أم أبان فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها

(1) طبقات ابن سعد 3: 44 ط ليدن، الأنساب للبلاذري 5: 25.
259

بين يدي عثمان وبكى فقال عثمان: أتبكي إن وصلت رحمي؟ قال: لا. ولكن أبكي لأني
أظنك إنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقت في سبيل الله في حياة رسول
الله صلى الله عليه وآله، ولو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا. فقال: ألق المفاتيح يا ابن أرقم!
فإنا سنجد غيرك، وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة فقسمها كلها في بني أمية.
وقال الحلبي في السيرة 2: 87: وكان من جملة ما انتقم به على عثمان رضي الله
تعالى عنه أنه أعطى ابن عمه مروان بن الحكم مائة ألف وخمسين أوقية.
مروان وما مروان؟
مر في صفحة 246 ما صح من لعن رسول الله صلى الله عليه وآله على أبيه وعلى من يخرج
من صلبه. وأسلفنا ما صح من قول عائشة لمروان: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أباك فأنت
فضض من لعنة الله.
وأخرج الحاكم في المستدرك 4: 479 من طريق عبد الرحمن بن عوف وصححه
أنه قال: كان لا يولد لأحد بالمدينة ولد إلا أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأدخل عليه
مروان بن الحكم فقال: هو الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون.
وذكر الدميري في حياة الحيوان 2: 399، وابن حجر في الصواعق ص 108،
والحلبي في السيرة 1 6 337 ولعل معاوية أشار إليه بقوله لمروان: يا ابن الوزغ لست
هناك. فيما ذكره ابن أبي الحديد 2: 56.
وأخرج ابن النجيب من طريق جبير بن مطعم قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله
فمر الحكم بن أبي العاص فقال النبي صلى الله عليه وآله: ويل لأمتي مما في صلب هذا (1).
وفي شرح ابن أبي الحديد 2: 55 نقلا عن الاستيعاب: نظر علي عليه السلام يوما إلى
مروان فقال له: ويل لك وويل لأمة محمد منك ومن بيتك إذا شاب صدغاك. وفي
لفظ ابن الأثير: ويلك وويل أمة محمد منك ومن بنيك. " أسد الغابة 4: 348 "
ورواه ابن عساكر بلفظ آخر كما في كنز العمال 6: 91.
وقال مولانا أمير المؤمنين يوم قال له الحسنان السبطان: يبايعك مروان يا أمير

(1) أسد الغابة 2: 34، الإصابة 1: 346، السيرة الحلبية 1: 337، كنز العمال
6: 40.
260

المؤمنين: أو لم يبايعني قبل قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته، إنها كف يهودية
لو بايعني بيده لغدر بسبته، أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش
الأربعة (1) وستلقى الأمة منه ومن ولده يوما أحمر " نهج البلاغة ".
قال ابن أبي الحديد في الشرح 2: 53: قد روي هذا الخبر من طريق كثيرة
ورويت فيه زيادة لم يذكرها صاحب " نهج البلاغة " وهي قوله عليه السلام في مروان: يحمل
راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه وإن له إمرة. الخ.
هذه الزيادة أخذها ابن أبي الحديد من ابن سعد ذكرها في طبقاته 5: 30 ط ليدن
قال: قال علي بن أبي طالب يوما ونظر إليه: ليحملن راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه،
وله إمرة كلحسة الكلب أنفه. ا ه‍. وهذا الحديث كما ترى غير ما في " نهج البلاغة "
وليس كما حسبه ابن أبي الحديد زيادة فيه، ولا توجد تلك الزيادة في رواية السبط
أيضا في تذكرته ص 45. والله العالم.
قال البلاذري في الأنساب 5: 126: كان مروان يلقب خيط باطل لدقته وطوله
شبه الخيط الأبيض الذي يرى في الشمس، فقال الشاعر ويقال: إنه عبد الرحمن بن الحكم أخوه:
لعمرك ما أدري وإني لسائل * حليلة مضروب القفا كيف يصنع (2)
لحى الله قوما أمروا خيط باطل * على الناس يعطي ما يشاء ويمنع (3)
وذكر البلاذري في الأنساب 5: 144 في مقتل عمرو بن سعيد الأشدق الذي
قتله عبد الملك بن مروان ليحيى بن سعيد أخي الأشدق قوله
غدرتم بعمرو يا بني خيط باطل * ومثلكم يبني البيوت على الغدر
وذكر ابن أبي الحديد في شرحه 2: 55 لعبد الرحمن بن الحكم في أخيه قوله:

(1) هم بنو عبد الملك: الوليد. سليمان. يزيد. هشام. كذا فسره الناس وعند ابن أبي الحديد
هم أولاد مروان: عبد الملك. بشر. محمد. عبد العزيز.
(2) أشار بقوله: مضروب القفا إلى ما وقع يوم الدار، فإن مروان ضرب يوم ذاك على قفاه
كما يأتي حديثه في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.
(3) ورواهما وما قبلهما ابن الأثير في أسد الغابة 4: 348.
261

وهبت نصيبي منك يا مرو كله * لعمرو ومروان الطويل وخالد
ورب ابن أم زائد غير ناقص * وأنت ابن أم ناقص غير زائد
ومن شعر مالك الريب " المترجم في الشعر والشعراء لابن قتيبة " يهجو مروان قوله:
لعمرك ما مروان يقضي أمورنا * ولكن ما تقضي لنا بنت جعفر (1)
فيا ليتها كانت علينا أميرة * وليتك يا مروان أمسيت ذاحر
وروى الهيثمي في مجمع الزوائد 10: 72 من طريق أبي يحيى قال: كنت بين
الحسن والحسين ومروان يتسابان فجعل الحسن يسكت الحسين فقال مروان: أهل
بيت ملعونون. فغضب الحسن وقال: قلت أهل بيت ملعونون. فوالله لقد لعنك الله
وأنت في صلب أبيك. أخرجه الطبراني وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه
6: 90 نقلا عن ابن سعد وأبي يعلى وابن عساكر.
إن الذي يستشفه المنقب من سيرة مروان وأعماله إنه ما كان يقيم لنواميس
الدين الحنيف وزنا، وإنما كان يلحظها كسياسات زمنية فلا يبالي بإبطال شئ منها
أو تبديله إلى آخر حسب ما تقتضيه ظروفه وتستدعيه أحواله، وإليك من شواهد ذلك
عظائم وعليها فقس ما لم نذكره:
1 أخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده 4: 94 من طريق عباد بن عبد الله بن
الزبير قال: لما قدم عينا معاوية حاجا، قدمنا معه مكة قال: فصلى بنا الظهر ركعتين
ثم انصرف إلى دار الندوة قال: وكان عثمان حين أتم الصلاة فإذا قدم مكة صلى بها
الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا أربعا، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة،
فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة، فلما صلى بنا الظهر
ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك
بأقبح ما عبته به. فقال لهما: وما ذاك؟ قال: فقال له: ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة؟
قال: فقال لهما: ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله
ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. قالا: فإن ابن عمك قد أتمها وإن خلافك إياه

(1) بنت جعفر هي الهاشمية الشهيرة بأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب زوجة عبد
الملك بن مروان. ثم طلقها فتزوجها علي بن عبد الله بن عباس.
262

له عيب. قال: فخرج معاوية إلى العصر فصلاها بنا أربعا.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 156 نقلا عن أحمد والطبراني فقال:
رجال أحمد موثقون.
فإذا كان لعب مروان وخليفة وقته معاوية بالصلاة التي هي عماد الدين إلى درجة
يقدم فيها التحفظ على عثمان في عمله الشاذ عن الكتاب والسنة على العمل بسنة
رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أخضع معاوية لما ارتآه من الرأي الشائن في صلاة العصر، فما ذا
يكون عبثهما بالدين فيما هو دون الصلاة من الأحكام؟.
وإن تعجب فعجب إنه يعد مخالفة عثمان في رأيه الخاص له عيبا عليه يغير
لأجله الحكم الديني الثابت، ولا يعد مخالفة رسول الله وما جاء به محظورة تترك
لأجلها الأباطيل والأحداث.
ومن العجب أيضا أن ينهى معاوية عن مخالفة عثمان، ولا ينهى من خالف رسول
الله صلى الله عليه وآله عن مخالفته. أهؤلاء من خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون
عن المنكر وتؤمنون بالله؟ وأعجب من كل ذلك حسبان أولئك العابثين بدين الله عدولا
وهذه سيرتهم ومبلغهم من الدين الحنيف.
2 أخرج البخاري من طريق أبي سعيد الخدري قال: خرجت مع مروان وهو
أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت فإذا
مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت ثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة
فقلت: غيرتم والله. فقال: أبا سعيد! قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم.
فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة. وفي لفظ
الشافعي: يا أبا سعيد ترك الذي تعلم.
أترى مروان كيف يغير السنة؟ وكيف يفوه ملأ فمه بما لا يسوغ لمسلم أن يتكلم
به؟ كأن ذلك مفوض إليه، وكأن تركها المنبعث عن التجري على الله ورسوله يكون
مبيحا لإدامة الترك، لماذا ذهب ما كان يعلمه أبو سعيد من السنة؟ ولماذا ترك؟
نعم: كان لمروان في المقام ملحوظتان: الأولى اقتصاصه أثر ابن عمه عثمان،
والآخر إنه كان يقع في الخطبة في مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ويسبه ويلعنه فتتفرق عنه
263

الناس لذلك فقدمها على الصلاة لئلا يجفلوا فيسمعوا العظائم ويصيخوا إلى ما يلفظ به
من كبائر وموبقات. راجع تفصيلا أسلفناه صفحة 164 171 من هذا الجزء.
ويستظهر مما سبق ص 166 من كلام عبد الله بن الزبير: كل سنن رسول الله صلى الله عليه وآله
قد غيرت حتى الصلاة. إن تسرب التغيير ولعب الأهواء بالسنن لم يكن مقصورا على
الخطبة قبل الصلاة فحسب، وإنما تطرق ذلك إلى كثير من الأحكام كما يجده الباحث
السابر أغوار السير والحديث.
3 سبه لمولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام وكان الرجل كما قال أسامة بن زيد:
فاحشا متفحشا (1).
الحجر الأساسي في ذلك هو عثمان جرأ الوزغ اللعين على أمير المؤمنين يوم
قال له: أقد مروان من نفسك. قال عليه السلام مم ذا؟ قال: من شتمه وجذب راحلته. وقال
له: لم لا يشتمك؟ كأنك خير منه؟ (2) وعلاه معاوية بكل ما عنده من حول وطول،
لكن مروان تبعه شر متابعة، ولم يأل جهدا في تثبيت ذلك كلما أقلته صهوة المنبر،
أو وقف على منصة خطابة، ولم يزل مجدا في ذلك وحاضا عليه حتى عاد مطردا بعد
كل جمعة وجماعة في أي حاضرة يتولى أمرها، وبين عماله يوم تولى خلافة هي كلعقة الكلب
أنه " تسعة أشهر " كما وصفها مولانا أمير المؤمنين، ولم تكن هذه السيرة السيئة إلا لسياسة
وقتية، وقد أعرب عما في سريرته بقوله فيما أخرجه الدارقطني من طريقه عنه قال: ما كان
أحد أدفع عن عثمان من علي. فقيل له: مالكم تسبونه على المنبر؟ قال: إنه لا يستقيم
لنا الأمر إلا بذلك (1).
م قال ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق ص 142: وبسند رجاله ثقات:
إن مروان لما ولي المدينة كان يسب عليا على المنبر كل جمعة، ثم ولي بعده سعيد بن
العاص فكان لا يسب، ثم أعيد مروان فعاد للسب، وكان الحسن يعلم ذلك فيسكت
ولا يدخل المسجد إلا عند الإقامة، فلم يرض بذلك مروان حتى أرسل للحسن في بيته

(1) الاستيعاب في ترجمة أسامة.
(2) يأتي حديثه تفصيلا في قصة أبي ذر في هذا الجزء إن شاء الله تعالى.
(3) الصواعق لابن حجر ص 33.
264

بالسب البليغ لأبيه وله، ومنه: ما وجدت مثلك إلا مثل البغلة يقال لها: من أبوك؟
فتقول: أبي الفرس. فقال للرسول: إرجع إليه فقل له: والله لا أمحو عنك شيئا مما قلت
بأني أسبك، ولكن موعدي وموعدك الله، فإن كنت كاذبا فالله أشد نقمة، قد أكرم
جدي أن يكون مثلي مثل البغلة. إلخ.].
ولم يختلف من المسلمين اثنان في إن سب الإمام ولعنه من الموبقات، وإذا
صح ما قاله ابن معين كما حكاه عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب 1: 509 من إن كل
من شتم عثمان أو طلحة أو أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله دجال لا يكتب عنه وعليه
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ا ه‍.
فما قيمة مروان عندئذ؟ ونحن مهما تنازلنا فإنا لا نتنازل عن أن مولانا أمير
المؤمنين كأحد الصحابة الذين يشملهم حكم كل من سبهم ولعنهم، فكيف ونحن
نرى إنه عليه السلام سيد الصحابة على الإطلاق، وسيد الأوصياء، وسيد من مضى ومن
غبر عدا ابن عمه صلى الله عليه وآله وهو نفس النبي الأقدس بنص الذكر الحكيم، فلعنه وسبه
لعنه وسبه وقد قال: صلى الله عليه وآله: من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله (1).
وكان مروان يتربص الدوائر على آل بيت العصمة والقداسة، ويغتنم الفرص
في إيذائهم قال ابن عساكر في تاريخه 4: 227: أبى مروان أن يدفن الحسن في حجرة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما كنت لأدع ابن أبي تراب يدفن مع رسول الله، قد دفن عثمان
بالبقيع. ومروان يومئذ معزول يريد أن يرضي معاوية بذلك، فلم يزل عدوا لبني هاشم
حتى مات. ا ه‍.
أي خليفة هذا يجلب رضاه بإيذاء عترة رسول الله؟ ومن ومن أولى بالدفن في
الحجرة الشريفة من السبط الحسن الزكي؟ وبأي كتاب وبأية سنة وبأي حق ثابت
كان لعثمان أن يدفن فيها؟ ومن جراء ذلك الضغن الدفين على بني هاشم كان ابن
الحكم يحث ابن عمر على الخلافة والقتال دونها. أخرج أبو عمر من طريق الماجشون
وغيره: إن مروان دخل في نفر على عبد الله بن عمر بعد ما قتل عثمان رضي الله عنه
فعرضوا عليه أن يبايعوا له قال: وكيف لي بالناس؟ قال: تقاتلهم ونقاتلهم معك. فقال:

(1) مستدرك الحاكم 3: 121، مسند أحمد 6: 323. وسيوافيك تفصيل طريقه.
265

والله لو اجتمع علي أهل الأرض إلا فدك ما قاتلتهم، قال: فخرجوا من عنده ومروان يقول:
والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا (1)
لماذا ترك الوزغ سنة الانتخاب الدستوري في الخلافة بعد انتهاء الدور إلى
سيد العترة؟ وما الذي سوغ له ذلك الخلاف؟ وحض ابن عمر على الأمر، وتثبيطه على
القتال دونه، بعد إجماع الأمة وبيعتهم مولانا أمير المؤمنين؟ نعم: لم يكن من يوم الأول
هناك قط انتخاب صحيح، ورأي حر لأهل الحل والعقد، أنى كان ثم أنى؟
والملك بعد أبي الزهراء لمن غلبا
هذا مروان
فهلم معي إلى الخليفة نستحفيه الخبر عن هذا الوزغ اللعين في صلب أبيه وبعد
مولده بماذا استباح إيواءه وتأمينه على الصدقات والطمأنينة به في المشورة في الصالح
العام؟ ولم استكتبه وضمه إليه فستولي عليه؟ (2) ونصب عينيه ما لهج به النبي الأعظم
صلى الله عليه وآله، وما ناء به هو من المخاريق والمخزيات، ومن واجب الخليفة تقديم الصلحاء
من المؤمنين وإكبارهم شكرا لأعمالهم لا الاحتفال بأهل المجانة والخلاعة كمروان
الذي يجب الانكار والتقطيب تجاه عمله الشائن، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من رأى
منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع
بلسانه فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (3) وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أدنى الانكار أن
تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة.
وهب أن الخليفة تأول وأخطأ لكنه ما هذا التبسط إليه بكله؟ وتقريبه وهو
ممن يجب إقصاءه، وإيواءه وهو ممن يستحق الطرد، وتأمينه وهو أهل بأن يتهم، ومنحه بأجزل المنح من مال المسلمين ومن الواجب منعه، وتسليطه على أعطيات المسلمين
ومن المحتم قطع يده عنها؟.
أنا لا أعرف شيئا من معاذير الخليفة في هذه المسائل لعل لها عذرا وأنت تلومها

(1) الاستيعاب ترجمة عبد الله بن عمر.
(2) كما ذكره أبو عمر في الاستيعاب، وابن الأثير في أسد الغابة 4: 348
(3) مر الحديث في ص 169.
266

لكن المسلمين في يومه ما عذروه وهم الواقفون على الأمر من كثب، والمستشفون
للحقايق الممعنون فيها، وكيف يعذره المسلمون ونصب أعينهم قوله عز من قائل: واعلموا
أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن
كنتم آمنتم بالله؟ أليس إعطاء الخمس لمروان اللعين خروجا عن حكم القرآن؟ أليس
عثمان هو الذي فاوض بنفسه ومعه جبير بن مطعم رسول الله صلى الله عليه وآله أن يجعل لقومه نصيبا
من الخمس فلم يجعل ونص على أن بني عبد شمس وبني نوفل لا نصيب لهم منه؟.
قال جبير بن مطعم: لما قسم رسول الله سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب (1)
أتيته أنا وعثمان فقلت: يا رسول الله! هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي
وضعك الله به منهم، أرأيت بني المطلب أعطيتهم ومنعتنا؟ وإنما نحن وهم منك بمنزلة
واحدة. فقال: إنهم لم يفارقوني أو: لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام وإنما هم
بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد وشبك بين أصابعه، ولم يقسم رسول الله لبني عبد الشمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس شيئا كما قسم لبني هاشم وبني المطلب (2)
ومن العزيز على الله ورسوله أن يعطى سهم ذوي قربى الرسول صلى الله عليه وآله لطريده
ولعينه، وقد منعه النبي صلى الله عليه وآله وقومه من الخمس، فما عذر الخليفة في تزحزحه عن
حكم الكتاب والسنة، وتفضيل رحمه أبناء الشجرة الملعونة في القرآن على قربى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين أوجب الله مودتهم في الذكر الحكيم؟ أنا لا أدري. والله من ورائهم
حسيب.
33 إقطاع الخليفة وعطيته الحارث
أعطى الحارث بن الحكم بن العاص أخا مروان وصهر الخليفة من ابنته
عائشة ثلاثمائة ألف درهم كما في أنساب البلاذري 5: 52، وقال في ص 28: قدمت
إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم.

(1) المطلب أخو هاشم لأب وأم وأمهما عاتكة بنت مرة.
(2) صحيح البخاري 5: 28، الأموال ص 331، سنن البيهقي 6: 340، 342، سنن أبي
داود 2: 31، مسند أحمد 4: 81، المحلى 7: 328.
267

وقال ابن قتيبة في المعارف ص 84، وابن عبد ربه في العقد الفريد 2: 261، و
ابن أبي الحديد في شرحه 1: 67، والراغب في المحاضرات 2: 212: تصدق رسول الله
صلى الله عليه وآله بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزون (1) على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث
بن الحكم.
وقال الحلبي في السيرة 2: 87: أعطى الحارث عشر ما يباع في السوق، أي
سوق المدينة.
قال الأميني: لقد اصطنع الخليفة لهذا الرجل ثلاثا لا أظنه يخرج من عهدة
النقد عليها: 1 إعطاءه ثلاثمائة ألف ولم يكن من حر ماله.
2 هبته إبل الصدقة إياه وحده.
3 إقطاعه إياه ما تصدق به رسول الله صلى الله عليه وآله على عامة المسلمين.
أنا لا أدري بماذا استحق الرجل هذه الأعطيات الجزيلة؟ وكيف خص به ما تصدق
به رسول الله صلى الله عليه وآله على كافة أهل الاسلام، وحرمه الباقون؟ ولو كان الخليفة موفرا عليه
بهذه الكمية من مال أبيه لاستكثر ذلك نظرا إلى حاجة المسلمين وجيوشهم ومرابطيهم،
فكيف به؟ وقد وهبه ما يملك من مال المسلمين ومن الأوقاف والصدقات، وما كان
الرجل يعرف بشئ من الأعمال البارة والمساعي المشكورة في سبيل الدعوة الإلهية
وخدمة المجتمع الديني حتى يحتمل فيه استحقاق زيادة في عطاءه، وهب أنا نجزنا
ذلك الاستحقاق لكنه لا يعدو أن يكون مخرج الزيادة مما يسوغ للخليفة التصرف فيه
لا مما لا يجوز تبديله من إقطاع ما تصدق به النبي صلى الله عليه وآله وجعله وقفا عاما على المسلمين
لا يخص به واحد دون آخر، ومن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبد لونه.
فلم يبق مبرر لتلكم الصنايع أو الفجايع إلا الصهر بينه وبين الخليفة والنسب
لأنه ابن عمه. ولك حق النظر في صنيع كل من الخليفتين: 1 عثمان وقد علمت
ما ارتكبه هاهنا وفي غيره 2 مولانا علي عليه السلام يوم جاءه عقيل يستميحه صاعا من البر

(1) في المعارف: مهزوز. وفى شرح ابن أبي الحديد: تهروز. وفي محاضرات الراغب:
مهزور.
268

للتوسيع له ولعياله مما قدر له في العطاء، فأدى عليه السلام ما هو حق الأخوة والتربية، ولا سيما
في مثل عقيل من الأشراف والأعاظم الذي يجب فيهم التهذيب أكثر من غيرهم فأدى
إليه الحديدة المحماة فتأوه فقال عليه السلام: تجزع من هذه وتعرضني لنار جهنم؟. (1) وفي رواية ابن الأثير في أسد الغابة 3: 423 من طريق سعد: إن عقيل بن
أبي طالب لزمه دين فقدم على علي بن أبي طالب الكوفة فأنزله وأمر ابنه الحسن فكساه
فلما أمسى دعا بعشائه فإذا خبز وملح وبقل فقال عقيل: ما هو إلا ما أرى. قال: لا. قال: فتقضي ديني؟ قال وكم دينك؟ قال: أربعون ألفا. قال: ما هي عندي ولكن اصبر
حتى يخرج عطائي فإنه أربعة آلاف فأدفعه إليك. فقال له عقيل: بيوت المال بيدك و
أنت تسوفني بعطائك؟. فقال: أتأمرني أن أدفع إليك أموال المسلمين وقد ائتمنوني
عليها؟. إقرأ، فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى.
34 حظوة سعيد من عطية الخليفة
أعطى سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية مائة ألف درهم قال أبو مخنف
والواقدي: أنكر الناس على عثمان إعطاءه سعيد بن العاص مائة ألف درهم فكلمه علي
والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف في ذلك فقال: إن له قرابة ورحما. قالوا: أفما كان لأبي بكر وعمر قرابة وذو رحم؟ فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع
قرابتهما وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي، قالوا: فهديهما والله أحب إلينا من هديك. فقال:
لا حول ولا قوة إلا بالله (2) قال الأميني: كان العاص أبو سعيد من جيران رسول الله صلى الله عليه وآله الذين كانوا يؤذونه،
وقتله مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يوم بدر مشركا (3). وأما خلفه (بالسكون) سعيد فهو ذلك الشاب المترف كما في رواية ابن سعد (4)

(1) الصواعق لابن حجر ص 79.
(2) أنساب البلاذري 5: 28.
(3) طبقات ابن سعد 1: 185 ط مصر، أسد الغابة 2: 310.
(4) الطبقات 5: 21 ط ليدن. وننقل عنه كلما يأتي في سعيد بن العاص، وذكره ابن
عساكر في تاريخه 6: 135.
269

ورد الكوفة من غير سابقة واليا من قبل عثمان بعد عزله الوليد ولم يحمل أي حنكة
فطفق يلهج من أول يومه بما يثير العواطف ويجيش الأفؤدة، فنسبهم إلى الشقاق والخلاف
وقال: إن هذا السواد بستان لأغيلمة من قريش.
ولقد أزرى هذا الغلام بهاشم بن عتبة المرقال الصحابي العظيم صاحب راية مولانا
أمير المؤمنين عليه السلام بصفين العبد الصالح الذي فقئت إحدى عينيه في سبيل الله يوم اليرموك
ومات شهيدا في الجيش العلوي.
قال ابن سعد: قال سعيد مرة بالكوفة: من رأى الهلال منكم؟ وذلك في فطر
رمضان فقالوا له: ما رأيناه. فقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص: أنا رأيته. فقال له سعيد:
بعينك هذه العوراء رأيته من بين القوم؟ فقال هاشم: تعيرني بعيني وإنما فقئت في سبيل
الله؟ وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك، ثم أصبح هاشم في داره مفطرا وغدى الناس
عنده، فبلغ ذلك سعيدا فأرسل إليه فضربه وحرق داره.
ما أجرأ ابن العاص على هذا العظيم من عظماء الصحابة فيضربه ويحرق داره
لعمله بالسنة الثابتة في الأهلة بقوله صلى الله عليه وآله: إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه
فافطروا. وفي لفظ: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته (1)؟
لم يكن يعلم هاشم المرقال بأن آراء الولاة وأهوائهم لها صولة وجولة في رؤية
الهلال أيضا، وإن الشهادة بها قد تكون من الجرائم التي لا تغفر، وإن السياسة الوقتية
لها دخل في شهادات الرجال، وإن حملة النزعة العلوية لا تقبل شهاداتهم.
قد شكاه إلى الخليفة الكوفيون مرة فلم يعبأ بها فقال: كلما رأى أحدكم من
أميره جفوة أرادنا أن نعزله، فانكفئ سعيد إلى الكوفة، وأضر بأهلها إضرارا شديدا (2)
ونفى في سنة 33 بأمر من خليفته جمعا من صلحاء الكوفة وقرائها إلى الشام كما يأتي
تفصيله. ولم يفتأ على سيرته السيئة إلى أن رحل من الكوفة إلى عثمان مرة ثانية
34 والتقى هنالك بالفئة الشاكية إلى عثمان وهم: الأشتر بن الحارث. يزيد بن مكفف. ثابت بن قيس. كميل بن زياد. زيد بن

(1) صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن الدارمي، سنن النسائي 7 سنن ابن
ماجة، سنن البيهقي.
(2) أنساب البلاذري 5.
270

صوحان. صعصعة بن صوحان. الحارث الأعور. جندب بن زهير. أبو زينب الأزدي
أصغر بن قيس الحارثي.
وهم يسألون الخليفة عزل سعيد، فأبى وأمره أن يرجع إلى عمله، وقفل القوم
قبله إلى الكوفة واحتلوها ودخلها من ورائهم، وركب الأشتر مالك بن الحارث في
جيش يمنعه من الدخول فمنعوه حتى ردوه إلى عثمان، فجرى هناك ما جرى، ويأتي
نبأه بعد حين إنشاء الله تعالى.
لقد أراد الخليفة أن يصل رحمه من هذا الشباب المجرم بإعطاء تلك الكمية
الزائدة على حده وحقه من بيت المال، إن كان له ثمة نصيب، ولو كان هذا العطاء حقا
لما نقده عليه أعاظم الصحابة وفي طليعتهم مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليه.
وأما ما تترس به من المعذرة من الاحتساب بصلة الرحم كما احتسب من قبله
بمنع رحمهم عن الزيادة في أعطياتهم من بيت المال فتافه، لأن الصلة إنما تستحسن
من الانسان إن كان الانفاق من خالص ماله لا المال المشترك بين آحاد المسلمين،
ومن وهب مالا يملكه لا يعد أمينا على أرباب المال، فهو إلى الوزر أقرب منه إلى الأجر.
35 هبة الخليفة للوليد من مال المسلمين
أعطى الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية أخا الخليفة من أمه
ما استقرض عبد الله بن مسعود من بيت مال المسلمين ووهبه له. قال البلاذري في
الأنساب 5: 30: لما قدم الوليد الكوفة ألفي ابن مسعود على بيت المال فاستقرضه
مالا وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثم ترد ما تأخذ، فأقرضه عبد الله ما سأله، ثم إنه اقتضاه
إياه فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان فكتب عثمان إلى عبد الله بن مسعود: إنما أنت
خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال. فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال:
كنت أظن أني خازن للمسلمين فأما إذ كنت خازنا لكم فلا حاجة لي في ذلك، وأقام
بالكوفة بعد إلقائه مفاتيح بيت المال.
وعن عبد الله بن سنان قال: خرج علينا ابن مسعود ونحن في المسجد وكان على بيت مال الكوفة وفي الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط فقال: يا أهل الكوفة! فقدت
271

من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتني بها كتاب أمير المؤمنين ولم يكتب لي بها براءة.
قال فكتب الوليد بن عقبة إلى عثمان في ذلك فنزعه عن بيت المال. العقد الفريد 2: 272.
الوليد ومن ولده
أما أبوه عقبة بن أبي معيط. فكان أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله في إيذائه من جيرانه، أخرج ابن سعد بالإسناد من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كنت بين شر جارين بين أبي لهب وعقبة بن معيط، إن كانا
ليأتيان؟ فيطرحانها على بابي، حتى أنهم ليأتون ببعض ما يطرحون من الأذى
فيطرحونه على بابي (1).
وقال ابن سعد في طبقات 1: 185: كان أهل العداوة والمناواة لرسول صلى الله عليه وسلم
وأصحابه الذين يطلبون الخصومة والجدل أبو جهل، أبو لهب " إلى أن عد " عقبة بن
أبي معيط، والحكم بن أبي العاص فقال: وذلك إنهم كانوا جيرانه، والذي كان تنتهي
عداوة رسول الله صلى الله عليه وآله إليهم: أبو جهل، أبو لهب، وعقبة بن أبي معيط.
وقال ابن هشام في سيرته 2: 25: كان النفر الذي يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في
بيته: أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط.
وقال في ج 1: 358: كان أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط متصافيين حسنا
ما بينهما، فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه فبلغ ذلك أبيا فأتى
عقبة فقال له: ألم يبلغني إنك جالست محمدا وسمعت منه؟ ثم قال: وجهي من وجهك
حرام أن أكلمك، واستغلظ له من اليمين إن أنت جلست إليه أو سمعت منه أو لم تأته فتتفل
في وجهه. ففعل ذلك عدو الله عقبة بن أبي معيط لعنه الله، فأنزل الله تعالى فيهما: ويوم
يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا. يا ويلتا ليتني لم أتخذ
فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني، وكان الشيطان للانسان خذولا (2).
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل بإسناد صححه السيوطي من طريق

(1) طبقات ابن سعد 1: 186 ط مصر.
(2) سورة الفرقان 28 29.
272

سعيد بن جبير عن ابن عباس: إن عقبة (1) بن أبي معيط كان يجلس مع النبي بمكة لا
يؤذيه وكان له خليل (2) غائب عنه بالشام فقالت قريش: صبا عقبة. وقدم خليله من الشام
ليلا فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشد ما كان أمرا. فقال: ما
فعل خليلي عقبة؟ فقالت: صبا. فبات بليلة سوء فلما أصبح أتاه عقبة فحياه فلم يرد
عليه التحية فقال: مالك لا ترد علي تحيتي؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت،
قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال: نعم، قال: فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلته؟ قال: تأتيه
في مجلسه فتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم، ففعل، فلم يرد رسول
الله صلى الله عليه وسلم على أن مسح وجهه من البزاق ثم التفت إليه فقال: إن وجدتك خارجا من
جبال مكة أضرب عنقك صبرا. فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج فقال
له أصحابه: أخرج معنا قال: وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة أن
يضرب عنقي صبرا، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه. فخرج
معهم فلما هزم الله المشركين وحمل به جمله في جدود من الأرض فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسيرا في سبعين من قريش وقدم إليه عقبة فقال: أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم، بما
بزقت في وجهي. وفي لفظ الطبري: بكفرك وفجورك وعتوك على الله ورسوله. فأمر
عليا فضرب عنقه فأنزل الله فيه: ويوم يعض الظالم على يديه. إلى قوله تعالى: وكان
الشيطان للانسان خذولا.
وقال الضحاك: لما بزق عقبة رسول الله صلى الله عليه وآله رجع بزاقه على وجهه لعنه الله تعالى
ولم يصل حيث أراد فأحرق خديه وبقي أثر ذلك فيهما حتى ذهب إلى النار.
وفي لفظ: كان عقبة يكثر مجالسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتخذ ضيافة فدعا إليها
رسول الله صلى الله عليه وآله فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبي بن
خلف صديقه فعاتبه وقال: صبأت يا عقبة؟ قال: لا ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي
وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له والشهادة ليست في نفسي فقال: وجهي من وجهك

(1) وقع في الدر المنثور الاشتباه في اسم الرجل فجعله أبا معيط وتبعه على علاته من حكاه
عنه كالشوكاني وغيره.
(2) هو أبي بن خلف كما سمعت وفي غير واحد من المصادر: أمية بن خلف
273

حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق وجهه وتلطم عينه. فوجده ساجدا في دار
الندوة ففعل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وآله: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف
الحديث.
وقال الطبري في تفسيره: قال بعضهم عني بالظالم عقبة بن أبي معيط لأنه ارتد بعد
إسلامه طلبا منه لرضا أبي بن خلف وقالوا: فلان هو أبي.
وروي عن ابن عباس أنه قال: كان أبي بن خلف يحضر النبي صلى الله عليه وآله فزجره
عقبة بن ابن معيط فنزل: ويوم يعض الظالم على يديه. الخ. قال: الظالم: عقبة. وفلان:
أبي. وروي مثله عن الشعبي وقتادة وعثمان ومجاهد.
أخرج نزول الآيات الكريمة يوم يعض الظالم إلى قوله: خذولا. في عقبه و
إن الظالم هو. ابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، وابن المنذر، وعبد الرزاق في المصنف
وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، والفريابي، وعبد بن حميد، وسعيد بن منصور، وابن
جرير. راجع تفسير الطبري 19: 6، تفسير البيضاوي 2: 161، تفسير القرطبي 13:
25، تفسر الزمخشري 2: 326، تفسير ابن كثير 3: 317، تفسير النيسابوري هامش
الطبري 19، 10، تفسير الرازي 6: 369، تفسير ابن جزي الكلبي 3: 77، إمتاع
المقريزي ص 61، 90، الدر المنثور للسيوطي 5: 68، تفسير الخازن 3: 365، تفسير
النسفي هامش الخازن 3: 365، تفسير الشوكاني 4: 72، تفسير الآلوسي 19: 11.
هذا الوالد، وما أدراك ما ولد؟
أما الوليد الفاسق بلسان الوحي المبين، الزاني، الفاجر، السكير، المدمن للخمر
المتهتك في أحكام الدين وتعاليمه، المهتوك بالجلد على رؤس الاشهاد، فسل عنه قوله
تعالى: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا (1) فإن من المجمع عليه بين أهل العلم بتأويل القرآن
نزوله فيه كما مر في ص 124.
وسل عنه قوله تعالى: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون. وهذه الآية
كسابقتها تومي بالفاسق إليه كما أسلفناه في الجزء الثاني 42، 43 ط 1، و 46، 47 ط 2.
وسل عنه محراب جامع الكوفة يوم قاء فيه من السكر وصلى الصبح أربعا وأنشد
فيها رافعا صوته:

(1) سورة الحجرات 6.
274

علق القلب الربابا * بعد ما شابت وشابا
وقال: هل أزيدكم؟ فضربه ابن مسعود بفردة خفه، وأخذه الحصباء من المصلين
ففر عنهم حتى دخل داره والحصباء من وراءه، كما فصلناه في هذا الجزء ص 124120
وسل عنه سوط عبد الله بن جعفر لما جلده حد الشارب بأمر مولانا أمير المؤمنين
وهو يسبه بمشهد عثمان بعد ضوضاء من المسلمين على تأخير الحد كما مر ص 124.
وسل عنه ابن عمه سعيد بن العاص لما غسل منبر جامع الكوفة ومحرابه تطهيرا
من أقذار الفاسق حين ولاه عثمان على الكوفة بعد الوليد.
وسل عنه الإمام السبط الحسن المجتبى يوم تكلم عليه في مجلس معاوية فقال
عليه السلام: وأما أنت يا وليد! فوالله ما ألومك على بغض علي وقد جلدك ثمانين في الخمر
وقتل أباك بين يدي رسول الله صبرا، وأنت الذي سماه الله الفاسق، وسمى عليا المؤمن
حيث تفاخرتما فقلت له: اسكت يا علي! فأنا أشجع منك جنانا، وأطول منك لسانا،
فقال لك علي: اسكت يا وليد! فأنا مؤمن، وأنت فاسق. فأنزل الله تعالى في موافقته
قوله: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون. ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضا:
إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا. ويحك يا وليد! مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر (1)
فيك وفيه:
أنزل الله والكتاب عزيز * في علي وفي الوليد قرآنا
فتبوأ الوليد إذ ذاك فسقا * وعلي مبوء إيمانا
ليس من كان مؤمنا عمرك الله كمن كان فاسقا خوانا
سوف يدعى الوليد بعد قليل * وعلي إلى الحساب عيانا
فعلي يجزى بذاك جنانا * ووليد يجزى بذاك هوانا
رب جد لعقبة بن أبان * لابس في بلادنا تبانا
وما أنت وقريش؟ إنما أنت علج من أهل صفورية، وأقسم بالله لأنت أكبر
في الميلاد وأسن ممن تدعى إليه. " شرح ابن أبي الحديد 2: 103 ".

(1) هو حسان بن ثابت. راجع الجزء الثاني ص 42 ط 1، و 46 ط 2.
(2) أبان اسم أبي معيط جد الوليد.
275

وإن شئت فسل الخليفة عثمان عن تأهيله إياه للولاية على صدقات بني تغلب ثم
للإمارة على الكوفة، وائتمانه على أحكام الدين وأعراض المسلمين، وتهذيب الناس
ودعوتهم إلى الدين الحنيف، وإسقاط ما عليه من الدين لبيت مال المسلمين وإبراء ذمته
عما عليه من مال الفقراء، هل في الشريعة الطاهرة تسليط مثل الرجل على ذلك كله؟
أنا لا أعرف لذلك جوابا، ولعلك تجد عند الخليفة ما يبرر عمله، أو تجد عند ابن حجر
بعد اعترافه بصحة ما قلناه وإنه جاء من طريق الثقات جوابا منحوتا لا نعرف المحصل
منه قال في تهذيب التهذيب 11: 144: قد ثبتت صحبته وله ذنوب أمرها إلى الله تعالى
والصواب السكوت. أ ه‍.
أما نحن فلا نرى السكوت صوابا بعد أن لم يسكت عنه الذكر الحكيم وسماه
فاسقا في موضعين، أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون، ومهما سكتنا عن أمر بينه
وبين الله سبحانه فليس من السائغ أن نسكت عن ترتيب آثار العدالة عليه والرواية
عنه وهو فاسق في القرآن، متهتك بالجرائم على رؤس الاشهاد، متعد حدود الله
ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون.
36 هبة الخليفة لعبد الله من مال المسلمين
أعطى لعبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية ثلاثمائة ألف درهم و
لكل رجل من قومه ألف درهم. وفي العقد الفريد 2: 261، والمعارف لابن قتيبة ص 84،
وفي شرح ابن أبي الحديد 1: 66: إنه أعطى عبد الله أربعمائة ألف درهم.
قال أبو مخنف: كان على بيت مال عثمان عبد الله بن الأرقم فاستسلف عثمان من
بيت المال مائة ألف درهم وكتب عليه بها عبد الله بن الأرقم ذكر حق للمسلمين وأشهد
عليه عليا وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، فلما حل الأجل رده
عثمان ثم قدم عليه عبد الله بن خالد بن أسيد من مكة وناس معه غزاة فأمر لعبد الله
بثلاثمائة ألف درهم ولكل رجل من القوم بمائة ألف درهم، وصك بذلك إلى ابن أرقم
فاستكثره ورد الصك له. ويقال: إنه سأل عثمان أن يكتب عليه به ذكر حق فأبى ذلك
فامتنع ابن الأرقم من أن يدفع المال إلى الأرقم، فقال له عثمان: إنما أنت خازن لنا فما
276

حملك على ما فعلت؟ فقال ابن الأرقم: كنت أراني خازنا للمسلمين وإنما خازنك غلامك
والله لا ألي لك بيت المال أبدا. وجاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر، ويقال: بل ألقاها إلى
عثمان فدفعها عثمان إلى ناتل مولاه، ثم ولى زيد بن ثابت الأنصاري بيت المال وأعطاه
المفاتيح. ويقال: إنه ولي ببيت المال معيقيب بن أبي فاطمة، وبعث إلى عبد الله بن
الأرقم ثلاثمائة ألف درهم فلم يقبلها " أنساب البلاذري 5: 58 ".
وذكر أبو عمر في " الاستيعاب " وابن حجر في " الإصابة " حديث عبد الله بن أرقم
في ترجمته ورده ما بعث إليه عثمان من ثلاثمائة ألف. وفي رواية الواقدي: قال عبد الله:
مالي إليه حاجة وما عملت لأن يثيبني عثمان والله لئن كان هذا من مال المسلمين ما بلغ قدر
عملي أن أعطى ثلاثمائة ألف درهم، ولئن كان من مال عثمان ما أحب أن آخذ من ماله شيئا.
وقال اليعقوبي في تاريخه 2: 145: زوج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد بن أسيد و
أمر له بستمائة ألف درهم، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البضرة.
قال الأميني: أنا لا أدري هل قررت الشريعة لبيت مال المسلمين حسابا وعددا؟
أو أنها أمرت أن يكال ويوزن لأي أحد بغير حساب؟ إذن فمن ذا الذي أمرته بالقسمة
على السوية، والعدل في الرعية؟ لقد بلغ الفوضى في الأموال على عهد هذا الخليفة
حدا لم يسطع معه أمناءه على بيت المال أن تستمروا على عملهم، فكانوا يلقون مفاتيحه
إليه لما كانوا يجدونه من عدم تمكنهم من الجري على النواميس المطردة في الأموال
الثابتة في السنة الشريفة، ولا على ما مضى الأولان عليه من الحصول على مرضاة
العامة في تقسيمها، فرأوا التنصل من هذه الوظيفة أهون عليهم من تحمل تبعاتها الوبيلة
وقد ناقشوا الحساب فلم يجدوا لعبد الله بن خالد أي جدارة للتخصص بهذه الكميات
فهو لو عد في عداد غيرهم لم يحظ بغير عطاءه زنة أعطيات المسلمين، لكن صهر الخلافة
والاتصال بالنسب الأموي لعلهما يبرران ما هو فوق الناموس المالي المطرد في الشريعة.
37 عطية الخليفة أبا سفيان
7 أعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه
لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال! قاله ابن أبي الحديد في الشرح 1: 67،
277

قال الأميني: لا أرى لأبي سفيان المستحق للمنع عن كل خير أي موجب لذلك
العطاء الجزل من بيت مال المسلمين وهو كما في " الاستيعاب " لأبي عمر عن طائفة: كان
كهفا للمنافقين منذ أسلم وكان في الجاهلية ينسب إلى الزندقة. قال الزبير يوم اليرموك
لما حدثه ابنه أن أبا سفيان كان يقول: إيه بني الأصفر: قاتله الله يأبى إلا نفاقا أو
لسنا خيرا له من بني الأصفر؟. وقال له علي عليه السلام: ما زلت عدوا للاسلام وأهله. ومن
طريق ابن المبارك عن الحسن: إن أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة
إليه فقال: صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أمية فإنما
هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار. فصاح به عثمان: قم عني فعل الله بك وفعل
" الاستيعاب " 2: 690.
وفي تاريخ الطبري 11 ص 357: يا بني عبد مناف! تلقفوها تلقف الكرة، فما هناك
جنة ولا نار.
وفي لفظ المسعودي: يا بني أمية! تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان
ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة. (مروج الذهب 1: 440).
م وأخرج ابن عساكر في تاريخه 6: 407 عن أنس: إن أبا سفيان دخل على
عثمان بعد ما عمي فقال: هل هنا أحد؟ فقالوا: لا. فقال: اللهم اجعل الأمر أمر جاهلية،
والملك ملك غاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني أمية].
وقال ابن حجر: كان رأس المشركين يوم أحد ويوم الأحزاب، وقال ابن سعد
في إسلامه: لما رأى الناس يطؤن عقب رسول الله حسده فقال في نفسه: لو عاودت
الجمع لهذا الرجل. فضرب رسول الله في صدره ثم قال: إذا يخزيك الله: وفي رواية:
قال في نفسه: ما أدري لم يغلبنا محمد؟ فضرب في ظهره وقال: بالله يغلبك. الإصابة 2: 179.
وإن سألت مولانا أمير المؤمنين عن الرجل فعلى الخبير سقطت قال في حديث له:
معاوية طليق ابن طليق، حزب من هذه الأحزاب، لم يزل لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله
وللمسلمين عدوا هو وأبوه حتى دخلا في الاسلام كارهين (1).
وحسبك ما في كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان من قوله: يا ابن صخر يا ابن

(1) تاريخ الطبري 6: 4.
278

اللعين (1) ولعله عليه السلام يوعز بقوله هذا إلى ما رويناه من إن رسول الله صلى الله عليه وآله لعنه وابنيه
معاوية ويزيد لما رآه راكبا وأحد الولدين يقود والآخر يسوق فقال: اللهم اللعن
الراكب والقائد والسائق (2).
وذكر ابن أبي الحديد في الشرح 4: 220 من كتاب للإمام عليه السلام كتبه إلى معاوية
قوله: فلقد سلكت طرائق أبي سفيان أبيك وعتبة جدك وأمثالهما من أهلك ذوي الكفر
والشقاق والأباطيل.
ويعرفك أبا سفيان قول أبي ذر لمعاوية لما قال له (يا عدو الله وعدو رسوله):
ما أنا بعدو لله ولا لرسوله بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله، أظهرتما الاسلام و
أبطنتما الكفر. إلى آخر ما يأتي في البحث عن مواقف أبي ذر مع عثمان.
هذا حال الرجل يوم كفره وإسلامه ولم يغير ما هو عليه حتى لفظ نفسه الأخير
فهل له في أموال المسلمين قطمير أو نقير فضلا عن الآلاف؟ لولا أن النسب الأموي برر
الخليفة أن يخصه بمنائحه الجمة من مال الناس، وافق السنة أم خالفها.
38 عطاء الخليفة من غنائم إفريقية
أعطى عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاعة الخمس من غنائم إفريقية
في غزوها الأول كما مر في صفحة 259 وقال ابن كثير: أعطاه خمس الخمس. وكان
مائة ألف دينار على ما ذكره أبو الفدا من تقدير ذلك الخمس بخمسمائة ألف دينار. و
كان حظ الفارس من تلك الغنيمة العظيمة ثلاثة آلاف، ونصيب الراجل ألف كما ذكره
ابن الأثير في أسد الغابة 3: 173، وابن كثير في تاريخه 7، 152.
وقال ابن أبي الحديد في شرحه 1: 67: أعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما
أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب، وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة، من غير أن
يشركه فيه أحد من المسلمين.
وقال البلاذري في الأنساب 5، 26: كان (عثمان) كثيرا ما يولي من بني أمية

(1) شرح ابن أبي الحديد 3: 411، و ج 4: 51.
(2) راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث صفحة 222 ط 1، و 252 ط 2.
279

من لم يكن له مع النبي صلى الله عليه وآله صحبة فكان يجئ من امرأته ما ينكره أصحاب محمد
صلى الله عليه وآله وكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم، فلما كان في الست الأواخر استأثر ببني عمه
فولاهم وولى عبد الله بن أبي سرح مصر، فمكث عليها سنين فجاء أهل مصر يشكونه و
يتظلمون منه (إلى أن قال:) فلما جاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح كتب إليه
كتابا يتهدده فيه فأبى أن ينزع عما نهاه عثمان عنه، وضرب بعض من كان شكاه إلى
عثمان من أهل مصر حتى قتله، فخرج من أهل مصر سبع مائة إلى المدينة فنزلوا المسجد
وشكوا ما صنع بهم ابن أبي سرح في مواقيت الصلاة إلى أصحاب محمد، فقام طلحة إلى
عثمان فكلمه بكلام شديد، وأرسلت إليه عائشة رضي الله عنها تسأله أن ينصفهم من
عامله، ودخل عليه علي بن أبي طالب وكان متكلم القوم فقال له: إنما يسئلك القوم رجلا
مكان رجل وقد ادعوا قبله دما فاعزله عنهم واقض بينهم، فإن وجب عليه حق فأنصفهم
منه. فقال لهم: اختاروا رجلا أوليه عليكم مكانه. فأشار الناس عليهم بمحمد بن أبي بكر
الصديق فقالوا: استعمل علينا محمد بن أبي بكر فكتب عهده على مصر ووجه معهم عدة من
المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن أبي سرح. وسيأتي تمام الخبر وكتاب عثمان
إلى ابن أبي سرح يأمره بالتنكيل بالقوم.
قال الأميني: ابن أبي سرح هذا هو الذي أسلم قبل الفتح وهاجر ثم ارتد مشركا
وصار إلى قريش بمكة فقال لهم: إني أضرب محمدا حيث أريد. فلما كان يوم الفتح
أمر صلى الله عليه وآله بقتله وأباح دمه ولو وجد تحت أستار الكعبة، ففر إلى عثمان فغيبه حتى
أتى به رسول الله بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له فصمت رسول الله صلى الله عليه وآله طويلا
ثم قال: نعم فلما انصرف عثمان قال صلى الله عليه وآله لمن حوله: ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم
فيضرب عنقه وقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله؟ فقال: إن النبي
لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين (1).
ونزل القرآن بكفره في قوله تعالى: ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال

(1) سنن أبي داود 2: 220، أنساب البلاذري 5. 49، مستدرك الحاكم 3: 100،
الاستيعاب 1: 381، تفسير القرطبي 7: 40، أسد الغابة 3: 173، الإصابة 2: 317،
تفسير الشوكاني 2: 134.
280

أوحي إلي ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله. الآية (الأنعام 93)
أطبق المفسرون على إن المراد بقوله: سأنزل مثل ما أنزل الله هو عبد الله بن
أبي سرح وسبب ذلك فيما ذكروه: أنه لما نزلت الآية التي في المؤمنين: ولقد خلقنا
الانسان من سلالة من طين. دعاه النبي صلى الله عليه وآله فأملاها عليه فلما انتهى إلى قوله: ثم
أنشأناه خلقا آخر. عجب عبد الله في تفصيل خلق الانسان فقال: تبارك الله أحسن
الخالقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هكذا أنزلت علي، فشك عبد الله حينئذ وقال: لئن
كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، وإن كان كاذبا لقد قلت كما قال. فارتد
عن الاسلام ولحق بالمشركين فذلك قوله: ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله.
راجع الأنساب للبلاذري 5: 49، تفسير القرطبي 7: 40، تفسير البيضاوي 1:
391، كشاف الزمخشري 1: 461، تفسير الرازي 4: 96، تفسير الخازن 2: 37،
تفسير النسفي هامش الخازن 2؟ 37، تفسير الشوكاني 2: 133، 135 نقلا عن ابن أبي
حاتم، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جريج، وابن جرير، وأبي الشيخ.
كان الرجل أموي النزعة والنشأة أرضعته وعثمان ثدي الأشعرية فقربته الأخوة
من الرضاعة إلى الخليفة، وآثرته نزعاته الأموية على المسلمين، وأوصلته إلى الحظوة
والثروة من حطام الدنيا، وحللت له تلك المنحة الطائلة وإن لم تساعد الخليفة على
ذلك النواميس الدينية، إذ لم يكن أمر الغنائم مفوضا إليه وإنما خمسها لله ولرسوله
ولذي القربى، أدى الرجل شكر تلكم الأيادي بامتناعه عن بيعة علي أمير المؤمنين
بعد قتل أخيه الخليفة، والله يعلم منقلبهم ومثواهم.
هذه يسيرة عثمان وسنته في الأموال وفي لسانه قوله على صهوة الخطابة: هذا
مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت، فأرغم الله أنف من رغم. ولا يصيخ إلى قول
عمار يوم ذاك: أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك.
وبين شفتيه قوله: لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ وإن رغمت أنوف أقوام. ولا
يعبأ بقول مولانا أمير المؤمنين في ذلك الموقف: إذا تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه (1).
نعم: هذا عثمان وهذا قيله، والمشرع الأعظم صلى الله عليه وآله يقول فيما أخرجه البخاري

(1) سيوافيك تفصيل الحديثين في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.
281

في صحيحه 5: 15: إنما أنا قاسم وخان والله يعطي. ويقول: ما أعطيكم ولا أمنعكم
إنما أنا قاسم حيث أمرت. وفي لفظ: والله ما أوتيكم من شئ ولا أمنعكموه، إن أنا إلا
خازن أضع حيث أمرت (1). وقد حذر صلى الله عليه وآله أمته من التصرف في مال الله بغير حق
بقوله: إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة (2).
تلك حدود الله فلا تقربوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون.
38 الكنوز المكتنزة ببركة الخليفة
إقتنى جماعة من رجال سياسة الوقت، وأصحاب الفتن والثورات من جراء
الفوضى في الأموال ضياعا عامرة، ودورا فخمة، وقصورا شاهقة، وثروة طائلة، ببركة
تلك السيرة الأموية في الأموال الشاذة عن الكتاب والسنة الشريفة وسيرة السلف،
فجمعوا من مال المسلمين مالا جما، وأكلوه أكلا لما.
* (منهم) *: الزبير بن العوام خلف كما في صحيح البخاري في كتاب الجهاد باب
بركة الغازي في ماله ج 5: 21: لحدي عشرة دارا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارا
بالكوفة، ودارا بمصر، وكان له أربع نسوة فأصاب كل امرأة بعد رفع الثلث ألف
ألف ومائتا ألف. قال البخاري: فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف. وقال ابن
الهائم: بل الصواب أن جميع ماله حسبما فرض: تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة
ألف (3) وصرح ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما: بأن الصواب ما قاله ابن الهائم، و
إن البخاري غلط في الحساب.
كذا نجدها في صحيح البخاري وغيره من المصادر غير مقيدة بالدرهم أو الدينار
غير أن في تاريخ ابن كثير 7: 249 قيدها بالدرهم.
وقال ابن سعد في الطبقات 3: 77 طليدن: كان للزبير بمصر خطط، وبالإسكندرية
خطط، وبالكوفة خطط، وبالبصرة دور، وكانت له غلات تقدم عليه من أعراض المدينة.

(1) صحيح البخاري 5: 17، سنن أبي داود 2: 25، طرح التثريب 7: 160.
(2) صحيح البخاري 5: 17.
(3) ذكره شراح البخاري، راجع فتح الباري، إرشاد الساري، عمدة القاري، شذرات
الذهب 1: 43.
282

وقال المسعودي في المروج 1: 434، خلف ألف فرس وألف عبد وألف أمة وخططا.
* (ومنهم) *: طلحة بن عبيد الله التيمي: ابتنى دارا بالكوفة تعرف بالكناس
بدار الطلحتين، وكانت غلته من العراق كل يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك وله
بناحية سراة (1) أكثر مما ذكر، وشيد دارا بالمدينة وبناها بالآجر والجص والساج.
وعن محمد بن إبراهيم قال: كان طلحة يغل بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة
ألف، ويغل بالسراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقل.
وقال سفيان بن عيينة: كان غلته كل يوم ألف وافيا. والوافي وزنه وزن الدينار،
وعن موسى بن طلحة: إنه ترك ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار،
وكان ماله قد اغتيل.
وعن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: كان قيمة ما ترك طلحة من العقار والأموال
وما ترك من الناض (2) ثلثين ألف ألف درهم، ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم
ومائتي ألف دينار والباقي عروض.
وعن سعدى أم يحيي بن طلحة: قتل طلحة وفي يد خازنه ألفا ألف درهم ومائتا
ألف درهم، وقومت أصوله وعقاره ثلاثة ألف ألف درهم.
وعن عمرو بن العاص: أن طلحة ترك مائة بهار في كل بهار ثلاث قناطر ذهب
وسمعت إن البهار جلد ثور. وفي لفظ ابن عبد ربه من حديث الخشني: وجدوا في
تركته ثلاثمائة بهار من ذهب وفضة.
وقال ابن الجوزي: خلف طلحة ثلاثمائة جمل ذهبا.
م وأخرج البلاذري من طريق موسى بن طلحة قال: أعطى عثمان طلحة في
خلافته مائتي ألف دينار].
راجع طبقات ابن سعد 3: 158 ط ليدن، الأنساب للبلاذري 5: 7، مروج
الذهب 1: 434، العقد الفريد 2: 279، الرياض النضرة 2: 258، دول الاسلام للذهبي
1: 18. الخلاصة للخزرجي ص 152.

(1) بين تهامة ونجد أدناها الطائف وأقصاها قرب صنعاء.
(2) الناض: الدرهم والدينار.
283

وسيأتي عن عثمان قوله: ويلي على ابن الحضرمية (يعني طلحة) أعطيته كذا
وكذا بهارا ذهبا وهو يروم دمي يحرض على نفسي.
* (ومنهم) *، عبد الرحمن بن عوف الزهري. قال ابن سعد: ترك عبد الرحمن ألف
بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحا.
وقال: وكان فيما خلفه ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه،
وترك أربع نسوة فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا. وعن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن
قال: صالحنا امرأة عبد الرحمن التي طلقها في مرضه من ربع الثمن بثلاثة وثمانين ألفا.
وقال اليعقوبي: ورثها عثمان فصولحت عن ربع الثمن على مائة ألف دينار. وقيل:
ثمانين ألف. وقال المسعودي: ابتنى داره ووسعها وكان على مربطه مائة فرس، وله ألف
بعير، وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ بعد وفاته ثمن ماله أربعة وثمانين ألفا.
راجع طبقات ابن سعد 3: 96 ليدن، مروج الذهب 1: 434، تاريخ اليعقوبي
2: 146، صفة الصفوة لابن الجوزي 1، 138، الرياض النضرة لمحب الطبري 2: 291
* (ومنهم) *: سعد بن أبي وقاص، قال ابن سعد: ترك سعد يوم مات مائتي
ألف وخمسين ألف درهم، ومات في قصره بالعقيق. وقال المسعودي: بني داره بالعقيق
فرفع سمكها ووسع فضاءها وجعل أعلاها شرفات. طبقات ابن سعد 3: 105، مروج
الذهب 1: 434.
* (ومنهم) * يعلى بن أمية. خلف خمسمائة ألف دينار. وديونا على الناس و
عقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته مائة ألف دينار. كذا ذكره المسعودي في مروج
الذهب 1: 434.
* (ومنهم) *: زيد بن ثابت المدافع الوحيد عن عثمان، قال المسعودي: خلف
من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة
ألف دينار. " مروج الذهب 1: 434 ".
هذه نبذ مما وقع فيه التفريط المالي على عهد عثمان، ومن المعلوم إن التاريخ
لم يحص كلما كان هنا من عظائم شأنه في أكثر الحوادث والفتن ولا سيما المتدرجة
منها في الحصول.
284

وأما ما اقتناه الخليفة لنفسه فحدث عنه ولا حرج، كان ينضد أسنانه بالذهب
ويتلبس بأثواب الملوك قال محمد بن ربيعة: رأيت على عثمان مطرف خز ثمن مائة
دينار فقال: هذا لنائلة (1) كسوتها إياه، فأنا ألبسه أسرها به. وقال أبو عامر سليم: رأيت
على عثمان بردا ثمنه مائة دينار (2).
قال البلاذري: كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر فأخذ منه
عثمان ما حلى به بعض أهله، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلموه فيه بكلام شديد
حتى أغضبوه فقال: هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت فأرغم الله أنف من رغم
وفي لفظ: لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ ولن رغمت أنوف أقوام. فقال له علي: إذا
تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه. إلى آخر الحديث الآتي في مواقف الخليفة مع عمار
وجاء إليه أبو موسى كيلة ذهب وفضة فقسمها بين نسائه وبناته، وأنفق أكثر
بيت المال في عمارة ضياعه ودوره (3).
وقال ابن سعد في الطبقات 3: 53 ط ليدن: كان لعثمان عند خازنه يوم قتل
ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة درهم، وخمسون ومائة ألف دينار فانتبهت وذهبت
وترك ألف بعير بالربذة وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتي ألف
دينار.
وقال المسعودي في المروج 1: 433: بنى في المدينة وشيدها بالحجر والكلس
وجعل أبوابها من الساج والعرعر، واقتنى أموالا وجنانا وعيونا بالمدينة، وذكر عبد الله
بن عتبة: إن عثمان يوم قتل كان عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف
ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف خيلا
كثيرا وابلا.
وقال الذهبي في دول الاسلام 1: 12 كان قد صار له أموال عظيمة رضي الله عنه
وله ألف مملوك.

(1) هي حليلة عثمان بنت الفرافصة.
(2) طبقات ابن سعد 3: 40 ط ليدن، أنساب البلاذري: 3: 4، الاستيعاب في ترجمة
عثمان 2: 476.
(3) الصواعق المحرقة ص 68، السيرة الحلبية 2: 87.
285

صورة متخذة
من أعطيات الخليفة والكنوز العامرة ببركته
الدينار الأعلام الدرهم الأعلام
000، 500 مروان 000، 300 الحكم
000، 100 ابن أبي سرح 000، 020، 2 آل الحكم
000، 200 طلحة 000، 300 الحارث
000، 560، 2 عبد الرحمن 000، 100 سعيد
000، 500 يعلى بن أمية 000، 100 الوليد
000، 100 زيد بن ثابت 000، 300 عبد الله
000، 150 عثمان الخليفة 000، 600 عبد الله
000، 200 عثمان الخليفة 000، 200 أبو سفيان
000، 310، 4 الجمع 000، 100 مروان
أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرة 000، 200، 2 طلحة
آلاف دينار. 000، 000، 30 طلحة
إقرأ ولا تنس قول مولانا أمير 000، 800، 59 الزبير
المؤمنين في عثمان: قام نافجا حضينه 000، 250 ابن أبي وقاص
بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه 000، 500، 30 عثمان الخليفة
يخضمون مال الله خضمة الإبل
نبتة الربيع. 000، 770، 126 المجموع
وقوله الآتي بعيد هذا: ألا إن مائة وستة وعشرون مليونا
كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل وسبعمائة وسبعون ألف درهما.
مال أعطاه من مال الله فهو مردود
في بيت المال.
286

بقي هنا أن نسأل الخليفة عن علة قصر هذه الأثرة على المذكورين ومن جرى
مجراهم من زبانيته، أهل خلقت الدنيا لأجلهم؟ أو أن الشريعة منعت عن الصلات
وإعطاء الصدقات للصلحاء الأبرار من أمة محمد صلى الله عليه وآله كأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر،
وعبد الله بن مسعود إلى نظرائهم؟ فيجب عليهم أن يقاسوا الشدة، ويعانوا البلاء، و
يشملهم المنع بين منفي ومضروب ومهان، وهذا سيدهم أمير المؤمنين يقول: إن بني أمية
ليفوقونني تراث محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفويقا (1) أي يعطونني من المال قليلا قليلا كفواق الناقة.
وهل الجود هو بذل الرجل ماله وما تملكه ذات يده؟ أو جدحه من سويق
غيره؟ (2) كما كان يفعل الخليفة. ليتني وجدت من يحير جوابا عن مسئلتي هذه؟ أما
الخليفة فلم أدركه حتى استحفي منه الخبر، ولعله لو كنت مستحفيا منه لسبقت
الدرة الجواب.
نعم يعلم حكم تلكم الأعطيات والقطائع وقد أقطع أكثر أراضي بيت المال (3)
من خطبة لمولانا أمير المؤمنين، ذكرها الكلبي مرفوعة إلى ابن عباس قال: إن عليا عليه السلام
خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال: ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل
مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شئ،
ولو وجدته قد تزوج به النساء، وفرق في البلدان، لرددته إلى حاله، فإن في العدل
سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عنه أضيق (4).
قال الكلبي: ثم أمر عليه السلام بكل سلاح وجد لعثمان في داره مما تقوى به على
المسلمين فقبض، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة فقضبت، وأمر بقبض
سيفه ودرعه، وأمر أن لا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين، وبالكف عن
جميع أمواله التي وجدت في داره وغير داره، وأمر أن ترجع الأموال التي أجاز بها
عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها، فبلغ ذلك عمرو بن العاص وكان بأيلة من

(1) نهج البلاغة 1: 126.
(2) يقال: جدح جوين من سويق غيره. مثل يضرب لمن يجود بأموال الناس.
(3) السيرة الحلبية 2: 87.
(4) نهج البلاغة 1. 46، شرح ابن أبي الحديد 1: 90.
287

أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها، فكتب إلى معاوية: ما كنت صانعا
فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها. وقال
الوليد بن عقبة " المذكور آنفا " يذكر قبض علي عليه السلام نجائب عثمان وسيفه وسلاحه:
بني هاشم! ردوا سلاح ابن أختكم * ولا تنهبوه لا تحل مناهبه
بني هاشم! كيف الهوادة بيننا؟ * وعند علي درعه ونجائبه
بني هاشم! كيف التودد منكم؟ * وبز ابن أروى فيكم وحرائبه
بني هاشم! إلا تردوا فإننا * سواء علينا قاتلاه وسالبه
بني هاشم! إنا وما كان منكم * كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه
قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه * كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بأبيات طويلة من جملتها:
فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم * أضيع وألقاه لدى الروع صاحبه
وشبهته كسرى وقد كان مثله * شبيها بكسرى هديه وضرائبه
قال: أي كان كافرا كما كان كسرى كافرا، وكان المنصور رحمه الله تعالى إذا انشد
هذا البيت يقول: لعن الله الوليد هو الذي فرق بين نبي عبد مناف بهذا الشعر (1).
هذه الأبيات المعزوة إلى عبد الله نسبها المسعودي في مروج الذهب 1: 443 إلى
الفضل بن العباس بن أبي لهب وذكر منها:
سلوا أهل مصر عن سلاح ابن أختنا * فهم سلبوه سيفه وحرائبه
وكان ولي العهد بعد محمد * علي وفي كل المواطن صاحبه
علي ولي الله أظهر دينه * وأنت مع الأشقين فيما تحاربه
وأنت امرؤ من أهل صيفور مارح * فما لك فينا من حميم تعاتبه
وقد أنزل الرحمن إنك فاسق * فما لك في الاسلام سهم تطالبه
39 الخليفة والشجرة الملعونة في القرآن
كان مزيج نفس الخليفة حب بني أبيه آل أمية الشجرة الملعونة في القرآن و

(1) شر ابن أبي الحديد 1: 90.
288

تفضيلهم على الناس، وقد تنشب ذلك في قلبه وكان معروفا منه من أول يومه، وعرفه بذلك
من عرفه قال عمر بن الخطاب لابن عباس: لو وليها عثمان لحمل بني أبي معيط على رقاب
الناس ولو فعلها لقتلوه (1).
وفي لفظ الإمام أبي حنيفة: لو وليتها عثمان لحمل آل أبي معيط على رقاب الناس،
والله لو فعلت لفعل، ولو فعل لأوشكوا أن يسير وإليه حتى يجزوا رأسه، ذكره القاضي
أبو يوسف في الآثار ص 217.
ووصى إلى عثمان بقوله: إن وليت هذا الأمر فاتق الله ولا تحمل آل أبي معيط
على رقاب الناس (2).
وبهذه الوصية أخذه علي وطلحة والزبير لما ولى الوليد بن عقبة على الكوفة
وقالوا له: ألم يوصك عمر ألا تحمل آل أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس؟ فلم يجبهم
بشئ. (أنساب البلاذري 5: 30).
كان يبذل كل جهده في تأسيس حكومة أموية قاهرة في الحواضر الإسلامية
كلها تقهر من عداهم، وتنسي ذكرهم في القرون الغابرة، غير أن القدر الحاتم راغمه
على منوياته فجعل الذكر الجميل الخالد والبقية المتواصلة في الحقب والأجيال كلها
لآل علي عليه وعليهم السلام، وأما آل حرب فلا تجد من ينتمي إليهم غير متوار بانتسابه،
متخافت عند ذكر نسبه، فكأنهم حديث أمس الدابر، فلا ترى لهم ذكرا، ولا تسمع
لأحد منهم ركزا.
كان الخليفة يمضي وراء نيته هاتيك قدما، وراء أمل أبي سفيان فيما قال له يوم
استخلف: فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أمية. فولى على الأمر في المراكز الحساسة
والبلاد العظيمة أغلمة بني أمية، وشبابهم المترف المتبختر في شرح الشبيبة وغلوائها
وأمر فتيانهم الناشطين للعمل، الذين لم تحنكهم الأيام ولم يأدبهم الزمان، وسلطهم على
رقاب الناس، ووطد لهم السبل، وكسح عن مسيرهم العراقيل، وفتح باب الفتن والجور
بمصراعيه على الجامع الصالح في الأمصار الإسلامية، وجر الويلات بيد أولئك الطغام

(1) أنساب البلاذري 5: 16.
(2) طبقات ابن سعد 3: 247، أنساب البلاذري 5: 16، الرياض النضرة 2: 76.
289

على نفسه وعلى الأمة المرحومة من يومه وهلم جرا.
قال أبو عمر: دخل شبل بن خالد على عثمان رضي الله عنه حين لم يكن عنده غير
أموي فقال: ما لكم يا معشر قريش؟ أما فيكم صغير تريدون. أن ينبل؟ أو فقير تريدون
غناه؟ أو خامل تريدون التنويه باسمه؟ علام أقطعتم هذا الأشعري يعني أبا موسى
العراق يأكلها هضما؟ فقال عثمان: ومن لها؟ فأشاروا بعبد الله (1) بن عامر وهو ابن
ستة عشر سنة (2) فولاه حينئذ.
وكان هؤلاء الأغلمة لا يبالي أحدهم بما يفعل، ولا يكترث لما يقول، والخليفة لا
يصيخ إلى شكاية المشتكي، ولا يعي عذل أي عاذل، ومن أولئك الأغلمة والي الكوفة
سعيد بن العاص ذاك الشاب المترف، كان يقول كما مر في ص 270 على صهوة المنبر
إن السواد بستان لأغلمة من قريش.
وهؤلاء الأغلمة هم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: إن فساد أمتي
على يدي غلمة سفهاء من قريش. (3)
وبقوله صلى الله عليه وآله: هلاك هذه الأمة على يد أغيلمة من قريش. (4)
وأولئك السفهاء الأمراء هم المعنيون بقوله صلى الله عليه وآله لكعب بن عجزة: أعاذك الله
يا كعب! من إمارة السفهاء. قال: وما إمارة السفهاء يا رسول الله؟ قال: أمراء يكونون
بعدي لا يهدون بهديي ولا يستنون بسنتي. الحديث مر في صفحة 256.
وأولئك هم المعنيون بقوله صلى الله عليه وآله: إسمعوا هل سمعتم؟ إنه سيكون بعدي

(1) كان ابن خال عثمان لأن أم عثمان أروى بنت كريز. وعبد الله بن عامر بن كريز بن
ربيعة بن حبيب بن عبد شمس.
(2) أحسبه تصحيفا قال أبو عمر في ترجمة عبد الله بن عامر: عزل عثمان أبا موسى الأشعري
عن البصرة وعثمان بن أبي العاص عن فارس وجمع ذلك كله لعبد الله. قال صالح: وهو ابن أربع و
عشرين سنة. وقال أبو اليقظان: قدم ابن عامر البصرة واليا عليها وهو ابن أربع أو خمس و
عشرين سنة.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الفتن 10: 146، والحاكم في المستدرك 4:
470 صححه هو والذهبي وقال الحاكم: شهد حذيفة بن اليمان بصحة هذا الحديث.
(4) مستدرك الحاكم 4: 479: فقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ولهذا
الحديث توابع وشواهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الطاهرين والأئمة من التابعين
لم يسعني إلا ذكرها ثم ذكر بعض ما أسلفنا في الحكام ومروان وبني أبي العاص.
290

أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه
وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على
ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض، وفي لفظ: سيكون أمراء يكذبون و
يظلمون فمن صدقهم بكذبهم. الخ. (1)
وفي لفظ أحمد في المسند 4: 267: ألا إنه سيكون بعدي أمراء يكذبون و
يظلمون، فمن صدقهم بكذبهم ومالاهم على ظلمهم فليس مني ولا أنا منه، ومن لم يصدقهم
بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه.
وهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وآله: سيكون أمراء بعدي يقولون ما لا يفعلون، و
يفعلون ما لا يؤمرون (مسند أحمد 1: 456).
م يستعملهم عثمان وهو أعرف بهم من أي ابن أنثى وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله
قوله: من استعمل عاملا من المسلمين وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله
وسنة نبيه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين. (2) وفي تمهيد الباقلاني ص 190 من تقدم
على قوم من المسلمين وهو يرى أن فيهم من هو أفضل منه فقد خان الله ورسوله والمسلمين]
فعهد أولئك الأغيلمة عهد هلاك أمة محمد ودور فسادها، منهم بدأت الفتن و
عليهم عادت، فترى الولادة يوم ذاك من طريد لعين إلى وزغ مثله، ومن فاسق مهتوك
بالذكر الحكيم إلى طليق منافق، ومن شاب مترف إلى أغيلمة سفهاء.
وكان للخليفة وراء ذلك كله أمل بأنه لو بيده مفاتيح الجنة ليعطيها بني أمية
حتى يدخلوها من عند آخرهم، أخرج أحمد في المسند 1: 62 من طريق سالم بن أبي
الجعد قال: دعا عثمان رضي الله عنه ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فيهم عمار بن ياسر
فقال: إني سائلكم وإني أحب أن تصدقوني، نشدتكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله
كان يؤثر قريشا على سائر الناس، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم فقال
عثمان رضي الله عنه: لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند
آخرهم. (إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح).

(1) تاريخ الخطيب البغدادي 2: 107، ج 5: 362.
(2) سنن البيهقي 10: 118. مجمع الزوائد: 211.
291

فكأن الخليفة يحسب إن الهرج الموجود في العطاء عنده سوف يتسرب معه
إلى باب الأجنة يحابي قومه بالنعيم كما حاباهم في الدنيا بالأموال، فما حظي الخليفة
بما أحب لهم في الدنيا يوم طحنهم بكلكله البلا، وأجهزت عليهم المآثم والجرائم، وأما
الآخرة فإن بينهم وبين الجنة لسدا بما اقترفوه من الآثام، فلا أرى الخليفة يحظى
بأمنيته هنالك، ونحن لا نعرف نظرية الخليفة في أمر الثواب والعقاب، ولا ما يأول
به الآي الواردة فيهما في الذكر الحكيم، ولا رأيه في الجنة والنار وأهلهما، أيطمع كل
امرء منهم أن يدخل جنة نعيم؟ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين
آمنوا وعملوا الصالحات سواء؟ كلا إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها
يوم الدين. كلا إن كتاب الفجار لفي سجين. كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما
الحطمة؟ نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. أزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم
للغاوين، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة.
فهؤلاء الأمويون لم يكونوا في أمل الخليفة ولا أغنوا عنه شيئا يوم ضحى نفسه
وجاهه وملكه لأجلهم حتى قتل من جراء ذلك، ولا أحسب أنهم مغنون عنه شيئا
غدا عند الله يوم لا يغني عنه مال ولا بنون.
م ألا تعجب من خليفة لا يروقه إيثار نبيه بني هاشم على سائر قريش وتدعوه
عصبيته العمياء إلى أن يعارض بمثل هذا التافه المخزي قوله صلى الله عليه وآله فيما أخرجه أحمد:
يا معشر بني هاشم والذي بعثني بالحق نبيا لو أخذت بحلقة الجنة ما بدأت إلا بكم]. (1)
20 تسيير الخليفة أبا ذر إلى الربذة
روى البلاذري: لما أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث
ابن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة
ألف درهم جعل أبو ذر يقول: بشر الكانزين بعذاب أليم ويتلو قول الله عز وجل: والذين
يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (2) فرفع ذلك

(1) الصواعق ص 95.
(2) سورة التوبة. آية 34.
292

مروان بن الحكم إلى عثمان فأرسل إلى أبي ذر ناتلا مولاه أن انته عما يبلغني عنك
فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله؟ فوالله لأن أرضي الله
بسخط عثمان أحب إلي وخير لي من أن أسخط الله برضاه. فأغضب عثمان ذلك و
أحفظه فتصابر وكف، وقال عثمان يوما: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر
قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديين أتعلمنا ديننا؟
فقال عثمان: ما أكثر أذاك لي وأولعك بأصحابي؟ إلحق بمكتبك وكان مكتبه بالشام
إلا أنه كان يقدم حاجا ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله فيأذن
له في ذلك، وإنما صار مكتبه بالشام لأنه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعا:
إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا بلغ البناء سلعا فالهرب. فأذن لي آتي الشام
فأغزو هناك. فأذن له، وكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها وبعث إليه معاوية بثلاث
مائة دينار فقال: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا؟ قبلتها، وإن كانت
صلة؟ فلا حاجة لي فيها. وبعث إليه حبيب بن مسلمة الفهري بمائتي دينار فقال: أما
وجدت أهون عليك مني حين تبعث إلي بمال؟ وردها.
وبنى معاوية الخضراء بدمشق فقال: يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله؟
فهي الخيانة، وإن كانت من مالك؟ فهذا الإسراف. فسكت معاوية، وكان أبو ذر يقول:
والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه، والله إني لأرى
حقا يطفأ، وباطلا يحيى، وصادقا يكذب، وأثرة بغير تقى، وصالحا مستأثرا عليه.
فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية: إن أبا ذر مفسد عليك الشام فتدارك أهله إن كانت لكم
به حاجة. فكتب معاوية إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية: أما بعد فاحمل جندبا
إلي على أغلظ مركب وأوعره فوجه معاوية من سار به الليل والنهار، فلما قدم أبو ذر
المدينة جعل يقول: تستعمل الصبيان، وتجمي الحمى، وتقرب أولاد الطلقاء. فبعث
إليه عثمان: إلحق بأي أرض شئت. فقال: بمكة. فقال: لا. قال: فبيت المقدس. قال:
لا. قال: فبأحد المصرين. قال: لا. ولكني مسيرك إلى الربذة. فسيره إليها فلم يزل
بها حتى مات.
ومن طريق محمد بن سمعان قال لعثمان: إن أبا ذر يقول: إنك أخرجته إلى
293

الربذة. فقال: سبحان الله ما كان من هذا شئ قط، وإني لأعرف فضله، وقديم إسلامه
وما كنا نعد في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله أكل شوكة منه.
ومن طريق كميل بن زياد قال: كنت بالمدينة حين أمر عثمان أبا ذر باللحاق بالشام
وكنت بها في العام المقبل حين سيره إلى الربذة.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: تكلم أبو ذر بشئ كرهه (1)
عثمان فكذبه (2) فقال: ما ظننت إن أحدا يكذبني بعد قول رسول الله صلى الله عليه وآله: ما
أقلت الغبراء وما أطبقت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، ثم سيره إلى الربذة
فكان أبو ذر يقول: ما ترك الحق لي صديقا. فلما سار إلى الربذة قال: ردني عثمان
بعد الهجرة أعرابيا.
قال: وشيع علي أبا ذر فأراد مروان منعه منه فضرب علي بسوطه بين أذني
راحلته، وجرى بين علي وعثمان في ذلك كلام حتى قال عثمان: ما أنت بأفضل عندي
منه. وتغالظا فأنكر الناس قول عثمان ودخلوا بينهما حتى اصطلحا.
وقد روي أيضا: إنه لما بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال: رحمه الله. فقال
عمار بن ياسر: نعم. فرحمه الله من كل أنفسنا. فقال عثمان: يا عاض أير أبيه أتراني
ندمت على تسييره؟ " يأتي تمام الحديث في ذكر مواقف عمار ".
ومن طريق ابن حراش الكعبي قال: وجدت أبا ذر بالربذة في مظلة شعر فقال:
ما زالا بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يترك الحق لي صديقا.
ومن طريق الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: قلت لأبي ذر: ما أنزلك
الربذة؟ قال: أنصح لعثمان ومعاوية.
ومن طريق بشر بن حوشب الفزاري عن أبيه قال: كان أهلي بالشربة (3) فجلبت
غنما لي إلى المدينة فمررت بالربذة وإذا بها شيخ أبيض الرأس واللحية قلت. من هذا؟
قالوا: أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا هو في حفش (4) ومعه قطعة من غنم فقلت:

(1) في رواية الواقدي والمسعودي كما يأتي: أنه قال: لسمعت رسول الله يقول: إذا بلغ
بنو أبي العاص ثلاثين رجلا الحديث.
(2) في لفظ الواقدي: قال عثمان: ويلك يا أبا ذر أتكذب على رسول الله؟.
(3) الشربة بفتح أوله وثانيه وتشديد الموحدة: موضع بين السليلة والربذة في طريق مكة.
(4) الحفش بكسر المهملة: البيت الصغير، أو هو من الشعر.
294

والله ما هذا البلد بمحلة لبني غفار فقال أخرجت كارها. فقال بشر بن حوشب: فحدثت
بهذا الحديث سعيد بن المسيب فأنكر أن يكون عثمان أخرجه وقال: إنما خرج أبو ذر
إليها راغبا في سكناها (1).
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فقلت
لأبي ذر: ما أنزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: الذين
يكنزون الذهب والفضة. فقال: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: فينا وفيهم. فكتب يشكوني
إلى عثمان فكتب عثمان: إقدم المدينة. فقدمت فكثر الناس علي كأنهم لم يروني قبل ذلك
فذكر ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريبا. فذلك الذي أنزلني هذا المنزل.
قال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث: وفي رواية الطبري إنهم كثروا
عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية
على أهل الشام. وقال بعد قوله: إن شئت تنحيت. في رواية الطبري: تنح قريبا. قال:
والله لن أدع ما كنت أقوله. ولابن مردويه: لا أدع ما قلت.
وذكر المسعودي أمر أبي ذر بلفظ هذا نصه: إنه حضر مجلس عثمان ذات
يوم فقال عثمان: أرأيتم من زكى ماله هل فيه حق لغيره؟ فقال كعب: لا يا أمير المؤمنين
فدفع أبو ذر في صدر كعب وقال له: كذبت يا ابن اليهودي ثم تلا: ليس البر أن تولوا
وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة
والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل
والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا. الآية (2).
فقال عثمان: أترون بأسا أن نأخذ مالا من بيت مال المسلمين فننفقه فيما ينوبنا من أمورنا
ونعطيكموه؟ فقال كعب: لا بأس بذلك. فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب
وقال: يا ابن اليهودي ما أجرأك على القول في ديننا؟ فقال له عثمان: ما أكثر أذاك لي
غيب وجهك عني فقد آذيتني. فخرج أبو ذر إلى الشام فكتب معاوية إلى عثمان:
إن أبا ذر تجتمع إليه الجموع ولا آمن أن يفسدهم عليك، فإن كان في

(1) انظر إلى ابن المسيب يكذب أبا ذر لتبرير عثمان من تسييره ولا يكترث لاستلزامه
تكذيب رسول الله صلى الله عليه وآله، وسيوافيك البحث عنه.
(2) سورة البقرة: 177.
295

القوم حاجة فاحمله إليك. فكتب إليه عثمان يحمله فحمله على بعير عليه قتب يابس
معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة قد تسلخت بواطن أفخاذه وكاد
أن يتلف، فقيل له: إنك تموت من ذلك. فقال: هيهات لن أموت حتى أنفى، وذكر
جوامع ما نزل به بعد ومن يتولى دفنه، فأحسن إليه في داره أياما ثم دخل إليه
فجلس على ركبتيه وتكلم بأشياء وذكر الخبر في ولد أبي العاص: إذا بلغوا ثلاثين رجلا
اتخذوا عباد الله خولا. ومر في الخبر بطوله وتكلم بكلام كثير وكان في ذلك اليوم قد
أتي عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال فنضت البدر حتى حالت بين عثمان
وبين الرجل القائم فقال عثمان: إني لأرجو لعبد الرحمن خيرا لأنه كان يتصدق ويقري
الضيف وترك ما ترون. فقال كعب الأحبار: صدقت يا أمير المؤمنين! فشال أبو ذر العصا فضرب
بها رأس كعب ولم يشغله ما كان فيه من الألم وقال: يا ابن اليهودي! تقول لرجل مات و
ترك هذا المال إن الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة وتقطع على الله بذلك وأنا سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله يقول: ما يسرني أن أموت وأدع ما يزن قيراطا. فقال له عثمان: وارعني وجهك.
فقال: أسير إلى مكة. قال: لا والله. قال: فتمنعني من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت؟
قال: أي والله. قال: فإلى الشام. قال: لا والله. قال: البصرة. قال: لا والله فاختر غير
هذه البلدان. قال: لا والله ما أختار غير ما ذكرت لك ولو تركتني في دار هجرتي ما أردت
شيئا من البلدان، فسيرني حيث شئت من البلاد. قال: فإني مسيرك إلى الربذة.
قال: الله أكبر صدق رسول الله صلى الله عليه وآله قد أخبرني بكل ما أنا لاق. قال عثمان: وما قال
لك؟ قال: أخبرني بأني امنع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة ويتولى مواراتي
نفر ممن يردون من العراق نحو الحجاز وبعث أبو ذر إلى جمل له فحمل عليه امرأته و
قيل ابنته، وأمر عثمان أن لا يتجافاه الناس حتى يسير إلى الربذة، فلما طلع عن المدينة
ومروان يسيره عنها إذ طلع عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعه ابناه وعقيل أخوه
وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر فاعترض مروان فقال: يا علي إن أمير المؤمنين قد
نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر في مسيره ويشيعوه فإن كنت لم تدر بذلك فقد أعلمتك.
فحمل عليه علي بن أبي طالب بالسوط بين أذني راحلته وقال: تنح نحاك الله إلى النار:
ومضي مع أبي ذر فشيعه ثم ودعه وانصرف، فلما أرادا الانصراف بكى أبو ذر وقال:
296

رحمكم الله أهل البيت إذا رأيتك يا أبا الحسن! وولدك ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه وآله
فشكا مروان إلى عثمان ما فعل به علي بن أبي طالب فقال عثمان: يا معشر المسلمين! من
يعذرني من علي، رد رسولي عمار وجهته له وفعل كذا والله لنعطينه حقه. فلما رجع
علي استقبله الناس (1) فقالوا: إن أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر. فقال
علي: غضب الخيل على اللجم. ثم جاء فلما كان بالعشي جاء إلى عثمان فقال له: ما حملك
على ما صنعت بمروان واجترأت علي ورددت رسولي وأمر؟ قال: أما مروان فإنه
استقبلني يردني فرددته عن ردي؟ وأما أمرك فلم أرده، قال عثمان: أولم يبلغك إني
قد نهيت الناس عن أبي ذر وعن تشييعه؟ فقال علي: أو كل ما أمرتنا به من شئ يرى
طاعة لله والحق في خلافه اتبعنا فيه أمرك؟ بالله لا نفعل. قال عثمان: أقد مروان. قال:
وما أقيده؟ قال: ضربت بين أذني راحلته (2) قال علي: أما راحلتي فهي تلك فإن أراد أن
يضربها كما ضربت راحلته فليفعل، وأما أنا فوالله لئن شتمني لأشتمنك أنت مثلها بما لا
أكذب فيه ولا أقول إلا حقا. قال عثمان: ولم لا يشتمك إذا شتمته فوالله ما أنت عندي بأفضل
منه. فغضب علي بن أبي طالب وقال: إلي تقول هذا القول؟ وبمروان تعدلني؟ فأنا
والله أفضل منك، وأبي أفضل من أبيك، وأمي أفضل من أمك، وهذه نبلي قد نثلتها
وهلم فأقبل بنبلك. فغضب عثمان واحمر وجهه فقام ودخل داره وانصرف علي فاجتمع إليه
أهل بيته ورجال من المهاجرين والأنصار، فلما كان من الغد واجتمع الناس إلى عثمان
شكا إليهم عليا وقال: إنه يعيبني ويظاهر من يعيبني يريد بذل أبا ذر وعمار بن ياسر
وغيرهما فدخل الناس بينهما وقال له علي: والله ما أردت تشييع أبي ذر إلا لله.
وفي رواية الواقدي من طريق صهبان مولى الأسلميين قال: رأيت أبا ذر يوم دخل
به على عثمان فقال له: أنت الذي فعلت ما فعلت؟ فقال له أبو ذر: نصحتك فاستغششتني
ونصحت صاحبك فاستغشني. فقال عثمان: كذبت ولكنك تريد الفتنة وتحبها قد أنغلت

(1) هذه الجملة تعرب عن غيبة الإمام عليه السلام عن المدينة المشرفة في تشييع أبي ذر أياما
وتقرب ما قاله الأستاذ عبد الحميد جودت السحار المصري في كتابه (الاشتراكي الزاهد) ص 192
ومضى علي ورفقائه مع أبي ذر حتى بلغوا الربذة فنزلوا عن رواحلهم وجلسوا يتحدثون.
(2) في العبارة سقط يظهر من الجواب وسيأتي صحيحها بعيد هذا إن شاء الله.
297

الشام علينا فقال له أبو ذر: اتبع سنة صاحبك لا يكن لأحد عليك كلام. قال عثمان:
مالك وذلك؟ لا أم لك قال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر. فغضب عثمان وقال: أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب إما أن اضربه أو
أحبسه أو أقتله فإنه قد فرق جماعة المسلمين أو أنفيه من أرض الاسلام. فتكلم علي عليه السلام
وكان حاضرا وقال: أشير عليك بما قاله مؤمن آل فرعون: فإن يك كاذبا فعليه كذبه، وإن
يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب. قال: فأجابه
عثمان بجواب غليظ لا أحب ذكره وأجابه علي بمثله. قال:
ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ويكلموه فمكث كذلك أياما
ثم أمر أن يؤتى به فأتي به فلما وقف بين يديه قال: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول
الله صلى الله عليه وآله ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل رأيت هذا هديهم؟ إنك لتبطش بي بطش الجبار
فقال: أخرج عنا من بلادنا. فقال أبو ذر: ما أبغض إلي جوارك فإلى أين أخرج؟ قال: حيث
شئت. قال: فأخرج إلى الشام أرض الجهاد. قال: إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها،
أفأردك إليها؟ قال: فأخرج إلى العراق. قال: لا. قال: ولم؟ قال: تقدم على قوم أهل شبه
وطعن في الأمة؟ قال: فأخرج إلى مصر. قال: لا. قال: فإلى أين أخرج؟ قال: حيث
شئت. قال أبو ذر. فهو إذن التعرب بعد الهجرة أخرج إلى نجد فقال عثمان: الشرف
الأبعد أقصى فالأقصى إمض على وجهك هذا ولا تعدون الربذة فسر إليها فخرج إليها.
وقال اليعقوبي: وبلغ عثمان أن أبا ذر يقعد في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله ويجتمع
إليه الناس فيحدث بما فيه الطعن عليه وأنه وقف بباب المسجد فقال: أيها الناس من
عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذي،
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض
والله سميع عليم. محمد الصفوة من نوح فالأول من إبراهيم والسلالة من إسماعيل و
العترة الهادية من محمد، إنه شرف شريفهم واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء
المرفوعة، وكالكعبة المستورة، أو كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية، أو كالقمر
الساري، أو كالنجوم الهادية، أو كالشجر الزيتونية أضاء زيتها وبورك زيدها (1) ومحمد

(1) ولعل الصحيح زندها. كما في بعض المصادر.
298

وارث علم آدم وما فضلت به النبيون إلى أن قال:
وبلغ عثمان أن أبا ذر يقع فيه ويذكر ما غير وبدل من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسنن أبي بكر وعمر فسيره إلى الشام إلى معاوية، وكان يجلس في المجلس فيقول كما
كان يقول ويجتمع إليه الناس حتى كثر من يجتمع إليه ويسمع منه، وكان يقف على
باب دمشق إذا صلى صلاة الصبح فيقول: جاءت القطار تحمل النار، لعن الله الآمرين
بالمعروف والتاركين له، ولعن الله الناهين عن المنكر والآتين له. فقال:
وكتب معاوية إلى عثمان إنك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر فكتب إليه
أن أحمله على قتب بغير وطاء فقدم به إلى المدينة وقد ذهب لحم فخذيه، فلما دخل
إليه وعنده جماعة قال: بلغني أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا كملت
بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا؟ فقال:
نعم سمعت رسول الله يقول ذلك. فقال لهم: أسمعتم رسول الله يقول ذلك؟ فبعث إلى
علي بن أبي طالب فأتاه فقال: يا أبا الحسن! أسمعت رسول الله يقول ما حكاه أبو ذر؟ وقص
عليه الخبر فقال علي: نعم. قال: فكيف تشهد؟ قال لقول رسول الله: ما أظلت الخضراء
ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر. فلم يقم بالمدينة إلا أياما حتى أرسل إليه
عثمان: والله لتخرجن عنها، قال: أتخرجني من حرم رسول الله؟ قال: نعم وأنفك
راغم، قال: فإلى مكة؟ قال: لا. قال: فإلى البصرة؟ قال: لا. قال: فإلى الكوفة؟ قال:
لا. ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت فيها. يا مروان! أخرجه ولا تدع
أحدا يكلمه حتى يخرج. فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته فخرج علي والحسن
والحسين وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر ينظرون فلما رأى أبو ذر عليا قام إليه
فقبل يده ثم بكى وقال: إني إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول الله فلم أصبر
حتى أبكي. فذهب علي يكلمه، فقال مروان: إن أمير المؤمنين قد نهى أن يكلمه
أحد. فرفع علي السوط فضرب وجه ناقة مروان وقال: تنح نحاك الله إلى النار. ثم شيعه
وكلمه بكلام يطول شرحه، وتكلم كل رجل من القوم وانصرفوا وانصرف مروان إلى
عثمان، فجرى بينه وبين علي في هذا بعض الوحشة وتلاحيا كلاما.
وأخرج ابن سعد من طريق الأحنف بن قيس قال: أتيت المدينة ثم أتيت الشام
299

فجمعت فإذا أنا برجل لا ينتهي إلى سارية إلا خر أهلها يصلي ويخف صلاته. قال:
فجلست إليه فقلت له: يا عبد الله من أنت؟ قال: أنا أبو ذر. فقال لي: فأنت من أنت؟
قال: قلت أنا الأحنف بن قيس. قال: قم عني لا أعدك بشر. فقلت له: كيف تعدني
بشر؟ قال: إن هذا يعني معاوية نادى مناديه ألا يجالسني أحد.
وأخرج أبو يعلى من طريق ابن عباس قال: استأذن أبو ذر عثمان فقال: إنه
يؤذينا فلما دخل قال له عثمان: أنت الذي تزعم إنك خير من أبي بكر وعمر؟ قال:
لا، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن أحبكم إلي وأقربكم مني من بقي على
العهد الذي عاهدته عليه وأنا باق على عهده (1) قال: فأمره أن يلحق بالشام وكان يحدثهم
ويقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم.
فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر. فكتب إليه عثمان:
أن أقدم علي فقدم.
راجع الأنساب 5: 5452، صحيح البخاري في كتابي الزكاة والتفسير، طبقات
ابن سعد 4: 168، مروج الذهب 1: 438، تاريخ اليعقوبي 2: 148، شرح ابن
أبي الحديد 1: 242240 فتح الباري 3: 213، عمدة القاري 4: 291.
كلمة أمير المؤمنين
لما أخرج أبو ذر إلى الربذة
يا أبا ذر إنك غضبت لله فارج من غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم
على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم
إلى ما منعتهم، وما أغناك عما منعوك، وستعلم من الرابح غدا، والأكثر حسدا، ولو
إن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا،
لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت
منها لأمنوك (2).
ذكر ابن أبي الحديد في الشرح 2: 387375 تفصيل قصة أبي أبي ذر ورآه

(1) حديث العهد أخرجه أحمد في مسنده.
(2) نهج البلاغة 1: 247.
300

مشهورا متضافرا وإليك نصه قال:
واقعة أبي ذر وإخراجه إلى الربذة أحد الأحداث التي نقمت على عثمان وقد
روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق
عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي
في الناس: أن لا يكلم أحد أبا ذر ولا يشيعه، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به
فخرج به وتحاماه الناس إلا علي بن أبي طالب عليه السلام وعقيلا أخاه وحسنا وحسينا عليهما
السلام وعمارا فإنهم خرجوا معه يشيعونه فجعل الحسن عليه السلام يكلم أبا ذر فقال له
مروان: أيها يا حسن! ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإن كنت
لا تعلم فاعلم ذل. فحمل علي عليه السلام على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته وقال:
تنح نحاك الله إلى النار. فرجع مروان مغضبا إلى عثمان فأخبره الخبر فتلظى على
علي عليه السلام ووقف أبو ذر فودعه القوم ومعه ذكوان مولى أم هاني بنت أبي طالب قال
ذكوان: فحفظت كلام القوم وكان حافظا فقال علي عليه السلام:
يا أبا ذر! إنك غضبت لله أن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك،
فامتحنوك بالقلى ونفوك إلى القلا، والله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا ثم
اتقى الله لجعل له منها مخرجا، يا أبا ذر! لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشن إلا الباطل.
ثم قال لأصحابه: ودعوا عمكم. وقال لعقيل: ودع أخاك فتكلم عقيل فقال:
ما عسى ما نقول يا أبا ذر؟! وأنت تعلم أنا نحبك وأنت تحبنا، فاتق الله فإن التقوى
نجاة، واصبر فإن الصبر كرم، واعلم أن استثقالك الصبر من الجزع، واستبطاءك
العافية من اليأس، فدع الياس والجزع.
ثم تكلم الحسن فقال: يا عماه لولا إنه لا ينبغي للمودع أن يسكت وللمشيع
أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف، وقد أتى من القوم إليك ما ترى، فضع عنك
الدنيا بتذكر فراغها، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها، واصبر حتى تلقى نبيك
صلى الله عليه وآله وهو عنك راض.
ثم تكلم الحسين عليه السلام فقال: يا عماه إن الله تعالى قادر أن يغير ما قد ترى، الله كل
يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، فما أغناك عما منعوك، وأحوجهم.
301

إلى ما منعتهم؟ فاسأل الله الصبر والنصر، واستعذبه من الجشع والجزع، فإن الصبر
من الدين والكرم، وإن الجشع لا يقدم رزقا، والجزع لا يؤخر أجلا.
ثم تكلم عمار مغضبا فقال: لا آنس الله من أوحشك، ولا آمن من أخافك، أما و
الله لو أردت دنياهم لأمنوك، ولو رضيت أعمالهم لأحبوك، وما منع الناس أن يقولوا
بقولك إلا الرضا بالدنيا والجزع من الموت، ومالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه، والملك لمن غلب، فوهبوا لهم دينهم ومنحهم القوم دنياهم، فخسروا الدنيا والآخرة، إلا ذل هو
الخسران المبين.
فبكى أبو ذر رحمه الله وكان شيخا كبيرا وقال: رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة!
إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه وآله، مالي بالمدينة سكن ولا شجن، غيركم، إني
ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله
بالمصرين (1) فافسد الناس عليهما فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله، والله
ما أريد إلا الله صاحبا، وما أخشى مع الله وحشة.
ورجع القوم إلى المدينة فجاء علي عليه السلام إلى عثمان فقال له: ما حملك على رد
رسولي وتصغير أمري؟ فقال علي عليه السلام: أما رسولك فأراد أن يرد وجهي فرددته، و
أما أمرك فلم أصغره، قال: أما بلغت نهيي عن كلام أبي ذر؟ قال: أو كلما أمرت بأمر
معصية أطعناك فيه؟ قال عثمان: أقد مروان من نفسك. قال: م ذا؟ قال: من شتمه و
جذب راحلته. قال: أما راحلته فراحلتي بها، وأما شتمه إياي فوالله لا يشتمني شتمة
إلا شتمتك مثلها لا أكذب عليك. فغضب عثمان وقال: لم لا يشتمك؟ كأنك خير منه؟
قال علي: أي والله ومنك. ثم قام فخرج فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والأنصار
وإلى بني أمية يشكو إليهم عليا عليه السلام فقال القوم: أنت الوالي عليه وإصلاحه أجمل.
قال: وددت ذاك. فأتوا عليا عليه السلام فقالوا: لو اعتذرت إلى مروان وأتيته. فقال: كلا
أما مروان فلا آتيه ولا اعتذر منه، ولكن إن أحب عثمان أتيته. فرجعوا إلى عثمان
فأخبروه فأرسل عثمان إليه فأتاه ومعه بنو هاشم فتكلم علي عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه

(1) يعني مصر والبصرة، كان والي مصر عبد الله بن سعيد بن أبي سرح أخا عثمان من الرضاعة
وكان على البصرة عبد الله بن عامر ابن خاله كما مر ص 290.
302

ثم قال: أما ما وجدت علي فيه من كلام أبي ذر ووداعه فوالله ما أردت مساءتك ولا
الخلاف عليك ولكن أردت به قضاء حقه، وأما مروان فإنه اعترض يريد ردي عن قضاء
حق الله عز وجل فرددته، رد مثلي مثله، وأما ما كان مني إليك فإنك أغضبتني فأخرج
الغضب مني ما لم أرده.
فتكلم عثمان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما ما كان منك إلي فقد وهبته لك،
وأما ما كان منك إلى مروان فقد عفى الله عنك، وأما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق،
فادن يدك. فأخذ يده فضمها إلى صدره، فلما نهض قالت قريش وبنو أمية لمروان:
أأنت رجل جبهك علي وضرب راحلتك؟ وقد تفانت وائل في ضرع ناقة، وذبيان و
عبس في لطمة فرس، والأوس والخزرج في نسعة (1) أفتحمل لعلي عليه السلام ما أتاه إليك؟
فقال مروان: والله لو أردت ذلك لما قدرت عليه.
فقال ابن أبي الحديد: واعلم أن الذي عليه أكثر أرباب السيرة وعلماء الأخبار
والنقل: إن عثمان نفى أبا ذر أولا إلى الشام ثم استقدمه إلى المدينة لما شكى منه
معاوية، ثم نفاه من المدينة إلى الربذة لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام،
أصل هذه الواقعة: إن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال واختص
زيد بن ثابت بشئ منها جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع: بشر
الكانزين (2) بعذاب أليم، ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب
والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. فرفع ذلك إلى عثمان مرارا
وهو ساكت ثم إنه أرسل إليه مولى من مواليه أن انته عما بلغني عنك فقال أبو ذر: أينهاني
عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى، وعيب من ترك أمر الله تعالى؟ فوالله لأن أرضي الله بسخط
عثمان أحب إلي وخير لي من أن أسخط الله برضا عثمان، فأغضب عثمان ذلك واحفظ فتصابر
وتماسك إلى أن قال عثمان يوما والناس حوله: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئا قرضا
فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديين أتعلمنا
ديننا؟ فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي، إلحق بالشام. فأخرجه إليها فكان

(1) النسعة بكسر النون: حبل عريض طويل تشد به الرحال.
(2) في النسخة: الكافرين. والصحيح ما ذكرناه كما مر عن البلاذري.
303

أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار فقال أبو ذر لرسوله:
إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا؟ اقبلها، وإن كاتنت صلة؟ فلا حاجة لي
فيها. وردها عليه، ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر: يا معاوية! إن كانت هذه
من مال الله؟ فهي الخيانة، وإن كانت من مالك؟ فهي الإسراف، وكان أبو ذر يقول بالشام،
والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وآله، والله
إني لأرى حقا يطفأ، وباطلا يحيا، وصادقا مكذبا، وأثرة بغير تقى، وصالحا مستأثرا
عليه. فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية: إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك
أهله إن كان لك فيه حاجة.
وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانية عن جلام بن جندل الغفاري
قال: كنت غلاما لمعاوية على قنسرين والعواصم في خلافة عثمان فجئت إليه يوما أسأله
عن حال عملي إذ سمعت صارخا على باب داره يقول: أتتكم القطار بحمل النار، اللهم
العن الآمرين بالمعروف والتاركين له، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له.
فازبأر (1) معاوية وتغير لونه وقال: يا جلام! أتعرف الصارخ؟ فقلت: الله لا. قال:
من عذيري من جندب بن جنادة يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ثم
قال: أدخلوه علي فجئ بأبي ذر قوم يقودونه حتى وقف بين يديه فقال له معاوية:
يا عدو الله وعدو رسوله! تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع، أما إني لو كنت قاتل
رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك ولكنك استأذن فيك.
قال جلام: وكنت أحب أن أرى أبا ذر لأنه رجل من قومي فالتفت إليه فإذا رجل
أسمر ضرب (2) من الرجال خفيف العارضين في ظهره حناء فأقبل على معاوية وقال:
ما أنا بعدو لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله، أظهرتما الاسلام
وأبطنتما الكفر، ولقد لعنك رسول الله صلى الله عليه وآله ودعا عليك مرات أن لا تشبع،
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا ولي الأمة الأعين (3) الواسع البلعوم الذي يأكل

(1) ازبأر الرجل ازبئرارا: تهيأ للشر.
(2) الضرب: الرجل الماضي الندب.
(3) في لفظ الحديث سقط كما لا يخفى.
304

ولا يشبع فلتأخذ الأمة حذرها منه (1). فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل. قال أبو ذر:
بل أنت ذلك الرجل أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسمعته يقول وقد مررت به:
اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب. وسمعته صلى الله عليه وآله يقول: إست معاوية في النار. فضحك
معاوية وأمر بحبسه وكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية: أن احمل جندبا
إلي على أغلظ مركب وأوعره. فوجه به مع من سار به الليل والنهار وحمله على شارف
ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد فلما قدم بعث
إليه عثمان: الحق بأي أرض شئت قال: بمكة. قال: لا. قال: بيت المقدس. قال: لا. قال:
بأحد المصرين. قال: لا، ولكني مسيرك إلى الربذة فسيره إليها فلم يزل بها حتى مات.
وفي رواية الواقدي: أن أبا ذر لما دخل على عثمان قال له:
لا أنعم الله بقين عينا * نعم ولا لقاه يوما زينا
تحية السخط إذا التقينا
فقال أبو ذر: ما عرفت اسمي قينا قط. وفي رواية أخرى: لا أنعم الله بك عينا يا
جنيدب. فقال أبو ذر: أنا جندب وسماني رسول الله صلى الله عليه وآله عبد الله فاخترت اسم رسول
لله صلى الله عليه وآله الذي سماني به على اسمي، فقال له عثمان: أنت الذي تزعم إنا نقول: يد الله
مغلولة وإن الله فقير ونحن أغنياء؟ فقال أبو ذر: لو كنتم لا تقولون هذا؟ لأنفقتم مال الله
على عباده، ولكني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا بلغ بنو أبي العاص
ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا، وعباده خولا، ودينه دخلا. فقال عثمان لمن حضر:
أسمعتوها من رسول الله؟ قالوا: لا. قال عثمان: ويلك أبا ذر! أتكذب على رسول الله؟
فقال أبو ذر لمن حضر: أما تدرون أني صدقت؟ قالوا: لا والله ما ندري. فقال عثمان:
ادعوا لي عليا. فلما جاء قال عثمان لأبي ذر: أقصص عليه حديثك في بني أبي العاص.
فأعاده فقال عثمان لعلي عليه السلام: أسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: لا وقد صدق
أبو ذر فقال: كيف عرفت صدقه؟ قال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما أظلت

(1) وفي حديث علي عليه السلام: لا يذهب أمر هذه الأمة الأعلى رجل واسع السرم، ضخم
البلعوم.
ذكره ابن الأثير في النهاية 1: 112، لسان العرب 14: 322، تاج العروس 8: 206.
305

الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر. فقال من حضر: أما هذا
فسمعناه كلنا من رسول الله. فقال أبو ذر: أحدثكم إني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله
فتتهموني؟ ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله.
وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين قال: رأيت أبا ذر يوم
دخل به على عثمان فقال له: أنت الذي فعلت وفعلت؟ فقال أبو ذر: نصحتك فاستغششتني
ونصحت صاحبك فاستغشني قال عثمان: كذبت ولكنك تريد الفتنة وتحبها قد انغلت
الشام علينا قال له أبو ذر: اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام فقال عثمان:
مالك وذل؟ لا أم لك. قال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف و
النهي عن المنكر. فغضب عثمان وقال: أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب، إما أن
أضربه أو أحبسه أو أقتله فإنه قد فرق جماعة المسلمين، أو أنفيه من أرض الاسلام.
فتكلم علي عليه السلام وكان حاضر فقال: أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون فإن يك كاذبا؟
فعليه كذبه، وإن يك صادقا، يصبكم بعض الذي يعدكم، إن الله يهدي من هو مسرف
كذاب. فأجابه عثمان بجواب غليظ وأجابه علي عليه السلام بمثله ولم نذكر الجوابين
تذمما منهما.
قال الواقدي: ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ويكلموه فمكث
كذلك أياما ثم أتي به فوقف بين يديه فقال أبو ذر: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله
صلى الله عليه وآله؟ ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل هديك كهديهم؟ أما إنك لتبطش بي بطش جبار. فقال
عثمان: أخرج عنا من بلادنا. فقال أبو ذر: ما أبغض إلي جوارك فإلى أين أخرج؟ قال:
حيث شئت. قال: أخرج إلى الشام أرض الجهاد. قال: إنما جلبتك من الشام لما قد
أفسدتها، أفأردك إليها؟ قال: أفأخرج إلى العراق؟ قال: لا إنك إن تخرج إليها تقدم
على قوم أولي شقة وطعن على الأئمة والولاة. قال: أفأخرج إلى مصر؟ قال: لا،
قال: فإلى أين أخرج؟ قال: إلى البادية. قال أبو ذر: أصير بعد الهجرة أعرابيا؟ قال:
نعم. قال أبو ذر: فأخرج إلى بادية نجد. قال عثمان: بل إلى الشرق الأبعد أقصى فأقصى
امض على وجهك هذا فلا تعدون الربذة فخرج إليها.
وروى الواقدي أيضا عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة: إن أبا الأسود
306

الدؤلي قال: كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة فجئته فقلت
له: ألا تخبرني أخرجت منا المدينة طائعا؟ أم أخرجت كرها؟ فقال كنت في ثغر من
ثغور المسلمين أغني عنهم فأخرجت إلى المدينة فقلت: دار هجرتي وأصحابي، فأخرجت
من المدينة إلى ما ترى، ثم قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد على عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله إذ مر بي عليه السلام فضربني برجله وقال: لا أراك نائما في المسجد. فقلت: بابي أنت
وأمي غلبتني عيني فنمت فيه. قال: فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: إذا الحق بالشام
فإنها أرض مقدسة وأرض الجهاد. قال: فكيف تصنع إذا أخرجت منها؟ قلت: أرجع.
إلى المسجد. قال: فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: آخذ سيفي فأضربهم به فقال: ألا
أدلك على خير من ذلك؟ انسق معهم حيث ساقوك وتسمع وتطيع. فسمعت وأطعت و
أنا أسمع وأطيع، والله ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبي.
ثم ذكر ابن أبي الحديد الخلاف في أمر أبي ذر وحكى عن أبي علي حديث البخاري
الذي أسلفناه ص 295 فقال: ونحن نقول: هذه الأخبار وإن كانت قد رويت لكنها
ليست في الاشتهار والكثرة كتلك الأخبار، والوجه أن يقال في الاعتذار عن عثمان و
حسن الظن بفعله: إنه خاف الفتنة واختلاف كلمة المسلمين فغلب على ظنه إن إخراج
أبي ذر إلى الربذة أحسم للشغب وأقطع لأطماع من يشرئب إلى شق العصا، فأخرجه
مراعاة للمصلحة ومثل ذلك يجوز للإمام، هكذا يقول أصحابنا المعتزلة وهو الأليق
بمكارم الأخلاق فقد قال الشاعر:
إذا ما أتت من صاحب لك زلة * فكن أنت محتالا لزلته عذرا
وإنما يتأول أصحابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان، فأما من لم يحتمل
حاله التأويل وإن كانت له صحبة سالفة كمعاوية وأضرابه فإنهم لا يتأولون لهم، إذا
كانت أفعالهم وأحوالهم لا وجه لتأويلها ولا تقبل العلاج والاصلاح. انتهي.
من المستصعب جدا التفكيك بين الخليفتين وبين أعمالهما، فإنهما من شجرة
واحدة، وهما في العمل صنوان، لا يشذ أحدهما عن الآخر، فتربص حتى حين، وسنوقفك
على جلية الحال.
307

هلم معي إلى نظارة التنقيب
قال الأميني: هل تعرف موقف أبي ذر الغفاري من الإيمان، وثباته على المبدأ،
ومحله من الفضل، ومبلغه من العلم، ومقامه من الصدق، ومبوأه من الزهد، ومرتقاه
من العظمة، وخشونته في ذات الله، ومكانته عند صاحب الرسالة الخاتمة؟ فإن كنت
لا تعرف؟ فإلى الملتقى.
تعبده قبل البعثة. سبقه في الاسلام. ثباته على المبدأ
1 أخرج ابن سعد في الطبقات 4، 161 من طريق عبد الله بن الصامت قال:
قال أبو ذر. صليت قبل الاسلام قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث سنين. فقلت: لمن؟
قال. لله. فقلت: أين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني الله.
وأخرج من طريق أبي معشر نجيح قال: كان أبو ذر يتأله في الجاهلية ويقول:
لا إله إلا الله، ولا يعبد الأصنام، فمر عليه رجل من أهل مكة بعد ما أوحي إلى
النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا أبا ذر! إن رجلا بمكة يقول مثل ما تقول: لا إله إلا الله. ويزعم
إنه نبي. وذكر حديث إسلامه ص 164.
وفي صحيح مسلم في المناقب 7: 153، بلفظ ابن سعد الأول، وفي ص 155
بلفظ: صليت سنتين قبل مبعث النبي، قال: قلت: فأين كنت توجه؟ قال: حيث و
وجهني الله.
وفي لفظ أبي نعيم في الحلية 1: 157: يا ابن أخي صليت قبل الاسلام بأربع سنين
وذكره ابن الجوزي في صفوة الصفوة 1: 238.
م وفي حديث أخرجه ابن عساكر في تاريخه 7: 218: أخذ أبو بكر بيد أبي ذر
وقال: يا أبا ذر! هل كنت تتأله في جاهليتك؟ قال: نعم لقد رأيتني أقوم عند الشمس
فما أزال مصليا حتى يؤذيني حرها فأخر كأني خفاء، فقال: فأين كنت تتوجه؟ قال: لا
أدري إلا حيث وجهني الله.
2 أخرج ابن سعد في الطبقات 4: 161 من طريق أبي ذر قال: كنت في الاسلام
خامسا. وفي لفظ أبي عمر وابن الأثير: أسلم بعد أربعة. وفي لفظ آخر. يقال: أسلم
بعد ثلاثة. ويقال: بعد أربعة. وفي لفظ الحاكم: كنت ربع الاسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر
308

وأنا الرابع. وفي لفظ أبي نعيم: كنت رابع الاسلام، أسلم قبلي ثلاثة وأنا الرابع.
وفي لفظ المناوي: أنا رابع الاسلام. وفي لفظ ابن سعد من طريق ابن أبي وضاح
البصري: كان إسلام أبي ذر رابعا أو خامسا.
راجع حلية الأولياء 1: 157، مستدرك الحاكم 3: 342، الاستيعاب 1: 83،
ج 2: 664، أسد الغابة 5: 186، شرح الجامع الصغير للمناوي 5: 423، الإصابة
4: 63.
3 أخرج ابن سعد في الطبقات 4: 161 من طريق أبي ذر قال: كنت أول من
حياه صلى الله عليه وآله وسلم بتحية الاسلام فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فقال: وعليك ورحمة
الله. وفي لفظ أبي نعيم: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وآله حين قضى صلاته فقلت: السلام عليك
فقال: وعليك السلام.
وأخرجه مسلم في " المناقب " من الصحيح 7: 154، 155، وأبو نعيم في " الحلية "
1: 159، وأبو عمر في " الاستيعاب " 2: 664.
4 أخرج ابن سعد والشيخان في الصحيحين من طريق ابن عباس واللفظ للأول
قال: لما بلغه أن رجلا خرج بمكة يزعم إنه نبي أرسل أخاه فقال: إذهب فائتني بخبر
هذا الرجل وبما تسمع منه. فانطلق الرجل حتى أتى مكة فسمع من رسول الله صلى الله عليه وآله
فرجع إلى أبي ذر فأخبره إنه: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بمكارم الأخلاق
فقال أبو ذر: ما شفيتني. فخرج أبو ذر ومعه شنة فيها ماءه وزاده حتى أتى مكة ففرق
أن يسأل أحدا عن شئ ولما يلق رسول الله صلى الله عليه وآله فأدركه الليل فبات في ناحية المسجد
فلما اعتم مر به علي فقال: ممن الرجل؟ قال: رجل من بني غفار. قال: قم إلى منزلك
قال: فانطلق به إلى منزله ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ وغدا أبو ذر يطلب فلم
يلقه وكره أن يسأل أحدا عنه، فعاد فنام حتى أمسى فمر به علي فقال: أما آن للرجل
أن يعرف منزله؟ فانطلق به فبات حتى أصبح لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ فأصبح
اليوم الثالث فأخذ على علي لئن أفشي إليه الذي يريد ليكتمن عليه وليسترنه، ففعل
فأخبره إنه بلغه خروج هذا الرجل يزعم إنه نبي فأرسلت أخي ليأتيني بخبره وبما سمع
منه فلم يأتيني بما يشفيني من حديثه فجئت بنفسي لألقاه، فقال له على إني غاد فاتبع أثري
309

فإني إن رأيت ما أخاف عليك اعتللت بالقيام كأني أهريق الماء فأتيك، وإن لم أر
أحدا فاتبع أثري حتى تدخل حيث أدخل. ففعل حتى دخل على أثر علي على النبي صلى الله عليه وآله
فأخبره الخبر وسمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله فأسلم من ساعته ثم قال: يا نبي الله ما تأمرني؟
قال: ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري. قال: فقال له: والذي نفسي بيده لا أرجع
حتى أصرخ بالاسلام في المسجد. قال: فدخل المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد
أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. قال: فقال المشركون: صبأ الرجل، صبأ
الرجل، فضربوه حتى صرع فأتاه العباس فأكب عليه وقال: قتلتم الرجل يا معشر قريش!
أنتم تجار وطريقكم على غفار فتريدون أن يقطع الطريق فأمسكوا عنه. ثم عاد اليوم
الثاني فصنع مثل ذلك ثم ضربوه حتى صرع فأكب عليه العباس وقال لهم مثل ما قال
في أول مرة فأمسكوا عنه.
وذكر ابن سعد في حديث إسلامه: ضربه لإسلامه فتية من قريش فجاء إلى النبي
صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله! أما قريش فلا أدعهم حتى أثأر منهم، ضربوني، فخرج حتى أقام
بعسفان وكلما أقبلت عير لقريش يحملون الطعام ينفر لهم على ثنية غزال فتلقى أحمالها
فجمعوا الحنط فقال لقومه: لا يمس أحد حبة حتى تقولوا: لا إله إلا الله. فيقولون:
لا إله إلا الله، ويأخذون الغرائر.
راجع طبقات ابن سعد 4: 165، 166، صحيح البخاري كتاب المناقب باب
إسلام أبي ذر 6: 24، صحيح مسلم كتاب المناقب 7: 156، دلائل النبوة لأبي نعيم
2: 86، حلية الأولياء له 1: 159، مستدرك الحاكم 3: 338، الاستيعاب 2: 664
وأخرج أبو نعيم في الحلية 1: 158 من طريق ابن عباس عن أبي ذر قال: أقمت
مع رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة فعلمني الاسلام وقرأت من القرآن شيئا، فقلت: يا رسول الله!
إني أريد أن أظهر ديني. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني أخاف عليك أن تقتل. قلت:
لا بد منه وإن قتلت. قال: فسكت عني فجئت وقريش حلق يتحدثون في المسجد فقلت
أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فانتقضت الحلق فقاموا فضربوني حتى
تركوني كأني نصب أحمر، وكانوا يرون إنهم قد قتلوني فأفقت فجئت إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فرأى ما بي من الحال فقال لي: ألم أنهك. فقلت: يا رسول الله! كانت حاجة في
310

نفسي فقضيتها، فأقمت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إلحق بقومك فإذا بلغك ظهور فأتني
وأخرج من طريق عبد الله بن الصامت قال: قال لي أبو ذر رضي الله عنه: قدمت
مكة فقلت: أين الصابئ؟ فقالوا: الصابئ. فأقبلوا يرمونني بكل عظم وحجر
حتى تركوني مثل النصب الأحمر.
وأخرجه أحمد في " المسند " 5: 174 بصورة مفصلة، ومسلم في " المناقب "، و
الطبراني كما في مجمع الزوائد 9: 329.
حديث علمه
1 أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى 5: 170 طليدن من طريق زاذان سئل
علي عن أبي ذر فقال: وعى علما عجز فيه، وكان شحيحا حريصا على دينه، حريصا على
العلم، وكان يكثر السؤال فيعطى ويمنع، أما أن قد ملئ له في وعائه حتى امتلأ.
وقال أبو عمر: روى عنه جماعة من الصحابة وكان من أوعية العلم المبرزين في
الزهد والورع والقول بالحق، سئل علي عن أبي ذر فقال: ذلك رجل وعى علما عجز عنه
الناس، ثم أوكأ فيه فلم يخرج شيئا منه " الاستيعاب 1: 83، ج 2: 664 ".
وحديث علي عليه السلام ذكره ابن الأثير في أسد الغابة 5: 186، والمناوي في شرح
الجامع الصغير 5: 423 ولفظه: وعاء ملئ علما ثم أوكأ عليه، وابن حجر في الإصابة
4: 64 وقال: أخرجه أبو داود بسند جيد.
2 أخرج المحاملي في أماليه والطبراني من طريق أبي ذر قال: ما ترك رسول
الله صلى الله عليه وآله شيئا مما صبه جبرئيل وميكائيل في صدره إلا وقد صبه في صدري. الحديث.
مجمع الزوائد 9: 331، الإصابة 3: 484.
قال أبو نعيم في الحلية 1: 156: العابد الزهيد، القانت الوحيد، رابع الاسلام
ورافض الأزلام قبل نزل الشرع والأحكام، تعبد قبل الدعوة بالشهور والأعوام، وأول
من حيا الرسول بتحية الاسلام، لم يكن تأخذه في الحق لائمة اللوام، ولا تفزعه
سطوة الولاة والحكام، أول من تكلم في علم البقاء والفناء، وثبت على المشقة والعناء،
وحفظ العهود والوصايا، وصبر على المحن والرزايا، واعتزل مخالطة البرايا، إلى أن حل
بساحة المنايا. أبو ذر الغفاري رضي الله عنه. خدم الرسول، وتعلم الأصول، ونبذ الفضول.
311

وفي ص 169: قال الشيخ رحمه الله تعالى: كان أبو ذر رضي الله تعالى عنه للرسول
صلى الله عليه وآله ملازما وجليسا، وعلى مسائلته والاقتباس منه حريصا، وللقيام على ما استفاد
منه أنيسا، سأله عن الأصول والفروع، وسأله عن الإيمان والاحسان، وسأله عن رؤية
ربه تعالى، وسأله عن أحب الكلام إلى الله تعالى، وسأله عن ليلة القدر أترفع مع
الأنبياء أم تبقى؟ وسأله عن كل شئ حتى مس الحصى في الصلاة. ثم أخرج من
طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن كل شئ
حتى سألته عن مس الحصى. فقال: مسه مرة أودع.
وأخرج أحمد في " مسند " 5: 163 عن أبي ذر قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله عن
كل شئ حتى سألته عن مسح الحصي فقال: واحدة أودع.
وقال ابن حجر في الإصابة 4: 64: كان يوازي ابن مسعود في العلم.
حديث صدقه وزهده
1 أخرج ابن سعد والترمذي من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله
بن عمر، وأبي الدرداء مرفوعا: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر.
وأخرج الترمذي بلفظ: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق
ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى بن مريم. فقال عمر بن الخطاب كالحاسد: يا رسول الله!
أفتعرف ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه.
وفي لفظ الحاكم. ما تقل الغبراء ولا تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق ولا
أو في من أبي ذر شبيه عيسى بن مريم. فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! فنعرف
ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه له.
وفي لفظ ابن ماجة من طريق عبد الله بن عمرو: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء
بعد النبيين أصدق من أبي ذر.
وفي لفظ أبي نعيم من ريق أبي ذر: ما تظل الخضراء ولا تقل الغبراء على ذي لهجة
أصدق من أبي ذر شبيه ابن مريم.
وفي لفظ ابن سعد من طريق أبي هريرة: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي
لهجة أصدق من أبي ذر، من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر.
312

وفي لفظ لأبي نعيم: أشبه الناس بعيسى نسكا وزهدا وبرا.
وفي لفظ من طريق الهجنع بن قيس: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي
لهجة أصدق من أبي ذر ثم رجل بعدي، من سره أن ينظر إلى عيسى بن مريم زهدا وسمتا
فلينظر إلى أبي ذر.
وفي لفظ من طريق علي عليه السلام: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة
أصدق من أبي ذر، يطلب شيئا من الزهد عجز عنه الناس.
وفي لفظ من طريق أبي هريرة: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة
أصدق من أبي ذر، فإذا أردتم أن تنظروا إلى أشبه الناس بعيسى بن مريم هديا وبرا
ونسكا فعليكم به.
وفي لفظ من طريق أبي الدرداء: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة
أصدق من أبي ذر.
وفي لفظ ابن سعد من طريق مالك بن دينار: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على
ذي لهجة أصدق من أبي ذر، من سره أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر.
أخرجه على اختلاف ألفاظه. ابن سعد، الترمذي، ابن ماجة، أحمد، ابن أبي شيبة،
ابن جرير، أبو عمر، أبو نعيم، البغوي، الحاكم، ابن عساكر، الطبراني، ابن الجوزي.
راجع طبقات ابن سعد 4: 167، 168 ط ليدن، صحيح الترمذي 2: 221، سنن
ابن ماجة 1: 68، مسند أحمد 2: 163، 175، 223، ج 5: 197، ج 6: 442،
مستدرك الحاكم 3: 342 صححه وأقره الذهبي، و ج 4: 480 صححه أيضا وأقره
الذهبي، مصابيح السنة 2: 228، صفة الصفوة 1 240، الاستيعاب 1: 84، تمييز الطيب
لابن الديبع ص 137، مجمع الزوائد 9: 329، الإصابة لابن حجر 3: 622، و ج 4:
64، الجامع الصغير للسيوطي من عدة طرق، شرح الجامع الصغير للمناوي 5: 423
فقال: قال الذهبي: سنده جيد وقال الهيثمي: رجال أحمد وثقوا وفي بعضهم خلاف،
كنز العمال 6: 169، و ج 8: و ج 8: 1715.
2 أخرج الترمذي في صحيحه 2: 221 مرفوعا: أبو ذر يمشي في الأرض بزهد
عيسى بن مريم.
313

وفي لفظ أبي عمر في " الاستيعاب " 2: 664: أبو ذر في أمتي على زهد عيسى بن
مريم وفي ص 84 من ج 1: أبو ذر في أمتي شبيه عيسى بن مريم في زهده. وبلفظ: من
سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر.
وذكره ابن الأثير في أسد الغابة 5: 186 بلفظ أبي عمر الأول.
3 أخرج الطبراني مرفوعا: من أحب أن ينظر إلى المسيح عيسى بن مريم
إلى برده وصدقه وجده فلينظر إلى أبي ذر.
كنز العمال 6: 169. مجمع الزوائد 9: 330.
4 أخرج الطبراني من طريق ابن مسعود مرفوعا: من سره أن ينظر إلى شبه
عيسى خلقا وخلقا فلينظر إلى أبي ذر.
مجمع الزوائد 9: 330، كنز العمال 6: 169.
5 أخرج الطبراني من طريق ابن مسعود مرفوعا: إن أبا ذر ليباري عيسى بن
مريم في عبادته. كنز العمال 6: 169.
حديث فضله
1 عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله: إن الله عز وجل أمرني بحب أربعة وأخبرني
إنه يحبهم: علي وأبو ذر والمقداد وسلمان.
أخرجه الترمذي في صحيحه 2: 213، وابن ماجة في سننه 1: 66، والحاكم
في المستدرك 3: 130 وصححه، وأبو نعيم في الحلية 1: 172، وأبو عمر في الاستيعاب
2: 557، وذكره السيوطي في الجامع الصغير وصححه وأقر تصحيحه المناوي في شرح
الجامع 2: 215، وابن حجر في الإصابة 3: 455، وقال السندي في شرح سنن ابن
ماجة: الظاهر إنه أمر إيجاب ويحتمل الندب، وعلى الوجهين فما أمر به النبي صلى الله عليه وآله فقد
أمر به أمته، فينبغي للناس أن يحبوا هؤلاء الأربعة خصوصا.
2 أخرج ابن هشام في السيرة 4: 179 مرفوعا: رحم الله أبا ذر يمشي وحده،
ويموت وحده، ويبعث وحده.
وأخرج ابن هشام في السيرة، وابن سعد في الطبقات الكبرى 4: 170 في حديث
دفنه قال: فاستهل عبد الله بن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله: تمشي وحدك،
314

وتموت وحدك، وتبعث وحدك.
وذكره أبو عمر في " الاستيعاب " 1: 83، وابن الأثير في " أسد الغابة " 5: 188،
وابن حجر في " الإصابة " 4: 164.
3 أخرج البزار من طريق أنس بن مالك مرفوعا: الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي
وعمار وأبي ذر.
ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 330 فقال: إسناده حسن.
4 أخرج أبو يعلى من طريق الحسين بن علي قال: أتى جبرئيل النبي صلى الله عليه وآله فقال:
يا محمد! إن الله يحب من أصحابك ثلاثة فأحبهم: علي بن أبي طالب، وأبو ذر، والمقداد
بن الأسود. مجمع الزوائد 9: 330.
5 أخرج الطبري من طريق أبي الدرداء إنه ذكر أبا ذر فقال: إن رسول الله
صلى الله عليه وآله كان يأتمنه حين لا يأتمن أحدا، ويسر إليه حين لا يسر إلى أحد. كنز العمال
8: 15.
وأخرج أحمد في المسند 5: 197 من طريق عبد الرحمن بن غنم قال: إنه زار
أبا الدرداء بحمص فمكث عنده ليالي وأمر بحماره فأوكف فقال أبو الدرداء: ما أراني
إلا متبعك فأمر بحماره فأسرج فسارا جميعا على حماريهما فلقيا رجلا شهد الجمعة بالأمس
عند معاوية بالجابية فعرفهما الرجل ولم يعرفاه فأخبرهما خبر الناس، ثم إن الرجل
قال: وخبر آخر كرهت أن أخبركما أراكما تكرهانه. فقال أبو الدرداء: فلعل أبا ذر
نفي؟ قال: نعم والله، فاسترجع أبو الدرداء وصاحبه قريبا من عشر مرات ثم قال: أبو
الدرداء: ارتقبهم واصطبر. كما قيل لأصحاب الناقة، اللهم إن كذبوا أبا ذر فإني لا
أكذبه، اللهم وإن اتهموه فإني لا أتهمه، اللهم وإن استغشوه فأني لا استغشه، فإن
رسول الله صلى الله عليه وآله كان يأتمنه حين لا يأتمن أحدا، ويسر إليه حين لا يسر إلى أحد، أما و
الذي نفس أبي الدرداء بيده لو أن أبا ذر قطع يميني ما أبغضه بعد الذي سمعت من رسول
الله صلى الله عليه وآله يقول: ما أظلت الخضراء. الحديث.
وأخرجه الحاكم ملخصا في المستدرك 3 344 وصححه وقال الذهبي:
سند جيد.
315

6 من طريق ابن الحارث عن أبي الدرداء أنه قال وذكرت له أبا ذر: والله إن
كان رسول الله صلى الله عليه وآله ليدنيه دوننا إذا حضر، ويتفقده إذا غاب، ولقد علمت أنه قال: ما
تحمل الغبراء ولا تظل الخضراء للبشر بقول أصدق لهجة من أبي ذر.
كنز العمال 8: 15، مجمع الزوائد 9: 330، الإصابة 4: 63، نقلا عن الطبراني
لفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يبتدئ أبا ذر إذا حضر ويتفقده إذا غاب.
7 أخرج أحمد في مسنده 5: 181 من طريق أبي الأسود الدؤلي أنه قال:
رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وآله فما رأيت لأبي ذر شبيها.
وذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 331.
8 روى شهاب الدين الأبشيهي في المستطرف 1: 166 قال: مر أبو ذر على النبي
صلى الله عليه وآله ومعه جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي فلم يسلم فقال جبريل: هذا أبو ذر لو
سلم لرددنا عليه. فقال: أتعرفه يا جبريل؟ قال: والذي بعثك بالحق نبيا لهو في ملكوت
السماوات السبع أشهر منه في الأرض قال: بم نال هذه المنزلة؟ قال: بزهده في هذه
الحطام الفانية. وذكره الزمخشري في ربيع الأبرار باب 23.
عهد النبي الأعظم إلى أبي ذر
1 أخرج الحاكم في " المستدرك " 3: 343 من طريق صححه عن أبي ذر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا ذر! كيف أنت إذا كنت في حثالة؟ وشبك بين أصابعه، قلت:
يا رسول الله! فما تأمرني؟ قال: اصبر اصبر اصبر، خالقوا الناس بأخلاقهم، وخالفوهم في
أعمالهم.
2 أخرج أبو نعيم في الحلية 1. 162 من طريق سلمة بن الأكوع عن أبي ذر
رضي الله عنه قال: بينا أنا واقف مع رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لي: يا أبا ذر! أنت رجل
صالح وسيصيبك بلاء بعدي. قلت: في الله؟ قال: في الله. قلت: مرحبا بأمر الله.
3 أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى 4 ص 166 ط ليدن من طريق أبي ذر
قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: يا أبا ذر! كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يستأثرون بالفئ؟
قال: قلت: إذا والذي بعثك بالحق أضرب بسيفي حتى الحق به. فقال: أفلا أدلك على
ما هو خير من ذلك؟ اصبر حتى تلقاني.
316

وفي لفظ أحمد وأبي داود: كيف أنت وأئمة من بعدي تستأثرون بهذا الفئ؟
قال: قلت: إذا والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي ثم أضرب به حتى ألقاك؟ أو:
الحق بك. قال: أولا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ تصبر حتى تلقاني وفي لفظ:
كيف أنت عند ولاة يستأثرون بهذا الفئ؟.
مسند أحمد 5: 180، سنن أبي داود 2: 282، لأحمد طريقان كلاهما صحيحان
رجالهما كلهم ثقات، وهم:
1 يحيى بن آدم، مجمع على ثقته من رجال الصحاح الست.
2 زهير بن معاوية الكوفي، متفق على ثقته من رجال الصحاح الست.
3 يحيى بن أبي بكير الكوفي مجمع على ثقته من رجال الصحاح الست.
4 مطرف بن طريف، متفق على ثقته من رجال الصحاح الست.
5 أبو الجهم سليمان بن الجهم الحارثي تابعي لا خلاف في ثقته.
6 خالد بن وهبان، تابعي ثقة.
4 أخرج أحمد في المسند 5: 178 من طريق أبي السليل في حديث عن أبي ذر
عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: يا أبا ذر! كيف تصنع إن أخرجت من المدينة؟ قال: قلت:
إلى السعة والدعة انطلق حتى أكون حمامة من حمام مكة. قال: كيف تصنع إن أخرجت
من مكة؟ قال: قلت: إلى السعة والدعة إلى الشام والأرض المقدسة. قال: وكيف
تصنع إن أخرجت من الشام؟ قال: إذا والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي قال:
أو خير من ذلك؟ قال: قلت: أو خير من ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن كان عبدا
حبشيا.
رجال الاسناد كلهم ثقات وهم:
1 يزيد بن هارون بن وادي. مجمع على ثقته من رجال الصحيحين.
2 كهمس بن الحسن البصري. ثقة من رجال الصحيحين.
3 أبو السليل ضريب بن نقير البصري. ثقة من رجال مسلم والصحاح الأربعة
غير البخاري.
وفي لفظ: كيف تصنع إذا خرجت منه؟ أي المسجد النبوي. قال: آتي الشام.
317

قال: كيف تصنع إذا خرجت منها؟ قال: أعود إليه أي المسجد. قال: كيف تصنع إذا
خرجت منه؟ قال: أضرب بسيفي. قال: أدلك على ما هو خير لك من ذلك وأقرب
رشدا؟ قال: تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك.
فتح الباري 3: 213، عمدة القاري 4: 291.
5 أخرج الواقدي من طريق أبي الأسود الدؤلي قال: كنت أحب لقاء أبي ذر
لأسأله عن سبب خروجه فنزلت الربذة فقلت له: ألا تخبرني أخرجت من المدينة
طائعا، أم خرجت مكرها؟ فقال: كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغنى عنهم فأخرجت
إلى مدينة الرسول عليه السلام فقلت: أصحابي ودار هجرتي فأخرجت منها إلى ما ترى ثم قال:
بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد إذ مر بي رسول الله فضربني برجله وقال: لا أراك نائما في
المسجد فقلت: بأبي أنت وأمي غلبتني عيني فنمت فيه فقال: كيف تصنع إذا أخرجوك
منه؟ فقلت: إذن الحق بالشام فإنها أرض مقدسة وأرض بقية الاسلام وأرض الجهاد
فقال: فكيف تصنع إذا أخرجت منها؟ فقلت: أرجع إلى المسجد قال: فكيف تصنع
إذا أخرجوك منه؟ قلت: إذن آخذ سيفي فأضرب به فقال صلى الله عليه وآله: ألا أدلك على خير
من ذلك؟ انسق معهم حيث ساقوك وتسمع وتطيع. فسمعت واطع وأنا أسمع وأطيع
والله ليلقين الله عثمان وهو آثم في جنبي. شرح ابن أبي الحديد 1: 241.
وبهذا الطريق واللفظ أخرجه أحمد في المسند 5: 156 والإسناد صحيح رجاله
كلهم ثقات وهم:
1 علي بن عبد الله المديني، وثقه جماعة وقال النسائي: ثقة مأمون أحد
الأئمة في الحديث.
2 معمر بن سليمان أبو محمد البصري، متفق على ثقته من رجال الصحاح الست
3 داود بن أبي الهند أبو محمد البصري، مجمع على ثقته من رجال الصحاح غير
البخاري وهو يروي عنه في التاريخ من دون غمز فيه.
4 أبو الحرب بن الأسود الدؤلي، ثقة من رجال مسلم.
5 أبو الأسود الدؤلي، تابعي متفق على ثقته من رجال الصحاح الست.
6 مر في ص 296 في حديث تسيير أبي ذر: قال " عثمان ": فإني مسيرك
318

إلى الربذة. قال " أبو ذر " الله أكبر صدق رسول الله صلى الله عليه وآله قد أخبرني بكل ما أنا لاق
قال عثمان: وما قال لك؟ قال: أخبرني بأني أمنع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة.
الحديث.
هذا أبو ذر
وفضايله وفواضله وعلمه وتقواه وإسلامه وإيمانه ومكارمه وكرائمه ونفسياته
وملكاته الفاضلة وسابقته ولاحقته وبدء أمره ومنتهاه، فأيا منها كان ينقمه الخليفة عليها
فطفق يعاقبه ويطارده من معتقل إلى منفي، ويستجلبه على قتب بغير وطاء، يطير مركبه
خمسة من الصقالبة الأشداء حتى أتوا به المدينة وقد تسلخت بواطن أفخاذه وكاد أن
يتلف، ولم يفتأ يسومه سوء العذاب حتى سالت نفسه في منفاه الأخير " الربذة " على
غير ماء ولا كلاء يلفحه حر الهجير، وليس له من ولي حميم يمرضه، ولا أحد من قومه
يواري جثمانه الطاهر، مات رحمه الله وحده، وسيحشر وحده كما أخبره رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم الذي خوله بتلكم الفضائل، والله سبحانه من فوقهما نعم الخصيم للمظلوم،
فانظر لمن الفلج يومئذ.
لقد كان الخليفة يباري الريح في العطاء لحامته ومن ازدلف إليه ممن يجري
مجراهم، فملكوا من عطاياه وسماحه الملايين، وليس فيهم من يبلغ شأو أبي ذر في السوابق
والفضائل، ولا يشق له غبارا في أكرومة، فماذا الذي أخر أبا ذر عنهم حتى قطعوا عنه
عطائه الجاري؟ ومنعوه الحظوة بشئ من الدعة، وأجفلوه عن عقر داره وجوار النبي
الأعظم، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولماذا نودي عليه في الشام أن لا يجالسه
أحد (1)؟ ولماذا يفر الناس منه في المدينة؟ ولماذا حظر عثمان على الناس أن يقاعدوه
ويكلموه؟ ولماذا يمنع الخليفة عن تشييعه ويأمر مروان أن لا يدع أحدا يكلمه؟
فلم يحل ذلك الصحابي العظيم إلا محلا وعرا، ولم يرتحل إلا إلى متبوأ الارهاب
كأنما خلق أبو ذر للعقوبة فحسب، وهو من عرفته الأحاديث التي ذكرناها، وقصته
لعمر الله وصمة على الاسلام وعلى خليفته لا تنسى مع الأبد.

(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات 4: 168.
319

نعم إن أبا ذر ينقم ما كان مطردا عند ذاك من السرف في العطاء من دون أي كفائة
في المعطى (بالفتح) ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وفي كلما يخالف السنة الشريفة
واضطهاد أهل السوابق من الأمة بيد أمراء البيت الأموي رجال العيث والعبث، وكانوا
يحسبون عرش ذلك اليوم قد استقر على تلكم الأعمال، فرأوا أن في الاصاخة إلى قيل
أبي ذر وشاكلته من صلحاء الصحابة تزحزحا لذلك العرش عن مستقره، أو أن مهملجة
الجشع الذين حصلوا على تلكم الثروات الطائلة خافوه أن يسلب ما في أيديهم إن
وعى واع إلى هتافه، فتألبوا عليه وأغروا خليفة الوقت به بتسويلات متنوعة حتى
وقع ما وقع، والخليفة أسير هوى قومه، ومسير بشهواتهم، مدفوع بحب بني أبيه وإن
كانوا من الشجرة المنعوتة في القرآن.
وما كان أبو ذر يمنعهم عن جلب الثروة من حقها، ولا يبغي سلب السلطة عمن
ملك شيئا ملكا مشروعا، لكنه كان ينقم أهل الأثرة على اغتصابهم حقوق المسلمين،
وخضمهم مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، وما كان يتحرى إلا ما أراد الله سبحانه بقوله
عز من قائل: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم
بعذاب أليم، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله في الجهات المالية.
أخرج أحمد في مسنده 5: 164، 176 من طريق الأحنف بن قيس قال: كنت
بالمدينة فإذا أنا برجل يفر الناس منه حين يرونه قال: قلت: من أنت؟ قال: أنا أبو ذر
صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله قال: قلت: ما يفر الناس منك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز
بالذي كان ينهاهم عنه رسول الله.
وفي لفظ مسلم في صحيحه 3: 77 قال الأحنف بن قيس: كنت في نفر من قريش
فمر أبو ذر رضي الله عنه وهو يقول: بشر الكانزين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم،
وبكي من أقفيتهم بخرج من جباههم قال: ثم تنحى فقعد إلى سارية فقلت: من هذا؟
قالوا: هذا أبو ذر فقمت إليه فقلت: ما شئ سمعتك تقول قبيل؟ قال: ما قلت إ شيئا
سمعته من نبيهم صلى الله عليه وآله قال: قلت: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه فإن فيه اليوم
معونة فإذا كان ثمنا لدينك فدعه. " سنن البيهقي 6: 359 ".
وأخرج أبو نعيم في الحلية 1: 162 من طريق سفيان بن عيينة بإسناده عن أبي ذر
320

قال: إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل، ولبطن الأرض أحب إلي من ظهرها،
وللفقر أحب إلي من الغنى، فقال له رجل: يا أبا ذر! مالك إذا جلست إلى قوم قاموا
وتركوك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز.
وفي فتح الباري 3: 213 نقلا عن غيره: الصحيح إن إنكار أبي ذر كان على
السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه. وتعقبه النووي بالابطال
لأن السلاطين حينئذ كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان وهؤلاء لم يخونوا. ا ه‍.
وفي هذا التعقيب تدجيل ظاهر فإن يوم هتاف أبي ذر بمناويه لم يكن العهد
لأبي بكر وعمر، وإنما كان ذلك يوم عثمان المخالف لهما في السيرة مخالفة واضحة،
والمبائن للسيرة النبوية في كل ما ذكرناه، ولذلك كله كان سلام الله عليه ساكتا عن
هتافه في العهدين وكان يقول لعثمان: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله؟
ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل رأيت هذا هديهم؟ إنك تبطش بي بطش الجبار. ويقول: اتبع
سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. راجع ص 298 و 306.
ولم يكن لأبي ذر منتدح من نداءه والدعوة إلى المعروف الضايع، والنهي عن
المنكر الشايع وهو يتلو آناء الليل وأطراف النهار قوله تعالى: ولتكن منكم أمة
يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (1). قال
ابن خراش: وجدت أبا ذر بالربذة في مظلة شعر فقال: ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر حتى لم يترك الحق لي صديقا (2).
وكان ينكر مع ذلك على معاوية المتخذ شناشن الأكاسرة والقياصرة بالترفه
والتوسع والاستيثار بالأموال وكان في العهد النبوي صعلوكا لا مال له ووصفه به رسول
الله صلى الله عليه وآله (3) وفي لفظ: إن معاوية ترب خفيف الحال (4)

(1) سورة آل عمران 104.
(2) الأنساب 5: 55، ومر مثله من طريق آخر ص 301.
(3) صحيح مسلم كتاب النكاح والطلاق 4: 195، سنن النسائي 6: 75، سنن البيهقي
7: 135.
(4) صحيح مسلم 4: 199.
321

فما واجب أبي ذر عندئذ؟ وقد أمره النبي الأعظم في حديث (1) السبعة التي أوصاه
بها، بأن يقول الحق وإن كان مرا، وأمره بأن لا يخاف في الله لومة لائم. وما الذي
يجديه قول عثمان: مالك وذلك؟ لا أم لك؟ ولأبي ذر أن يقول له كما قال: والله
ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولم تكن لما رفع به أبو ذر عقيرته جدة ليس لها سلف من العهد النبوي، فلم
يهتف إلا بما تعلمه من الكتاب والسنة، وقد أخذه من الصادع الكريم من فلق فيه، ولم
يكن صلى الله عليه وآله يسلب ثروة أحد من أصحابه وكان فيهم تجار وملاك ذوو يسار، ولم يأخذ
منهم زيادة على ما عليهم من الحقوق الإلهية، وعلى حذوه حذا أبو ذر في الدعوة والتبليغ.
كان صلى الله عليه وآله أخبره بما يجري عليه من البلاء والعناء وما يصنع به من طرده من الحواضر
الإسلامية: مكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة. ووصفه عند ذلك بالصلاح وأمره
بالصبر وأن ما يصيبه في الله، فقال أبو ذر: مرحبا بأمر الله. فصلاح أبي ذر يمنعه عن الأمر
بخلاف السنة بما يخل نظام المجتمع، وكون بلاءه في الله يأبى أن يكون ما جر إليه
ذلك البلاء غير مشروع.
وإن كان ذلك خلاف الصالح العام ولم تكن فيه مرضاة الله ورسوله لوجب عليه
صلى الله عليه وآله أن ينهاه عما سينوء به من الإنكار وهو يعلم أن تلك الدعوة تجر عليه الأذى
والبلاء الفادح، وتشوه سمعة خليفة المسلمين، وتسود صحيفة تاريخه، وتبقى وصمة
عليه مع الأبد.
وما كانت الشريعة السمحاء تأتي بذلك الحكم الشاق الذي اتهم به أبو ذر، ولم
يكن قط يقصده وهو شبيه عيسى في أمة محمد صلى الله عليه وآله زهدا ونسكا وبرا وهديا وصدقا
وجدا وخلقا.
هكذا وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله غير أن عثمان قال لما غضب عليه: أشيروا علي

(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات 164 من طريق عبادة بن الصامت عن أبي ذر قال: أوصاني
خليلي بسبع: بحب المساكين والدنو منهم. وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو
فوقي. وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا. وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت. وأمرني أن أقول
الحق وإن كان مرا. وأمرني أن لا أخاف لومة لائم. وأمرني أن أكثر من لا حول ولا قوة إلا
بالله. فإنهن من كنز تحت العرش.
322

في هذا الشيخ الكذاب إما أن اضربه أو أحبسه أو اقتله. وكذبه حين رواه عن رسول
الله صلى الله عليه وآله حديث بني العاص، عجبا هذا جزاء من نصح لله ورسوله وبلغ عنهما صادقا؟
لاها الله هذا أدب يخص بالخليفة. وأعجب من هذا جواب عثمان لمولانا أمير المؤمنين
لما دافع عن أبي ذر بقوله: أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون. أجابه بجواب غليظ
أخفاه الواقدي وما أحب أن يذكره ونحن وإن وقفنا عليه من طريق آخر لكن ننزه
الكتاب عن ذكره.
وقد تجهم عثمان مرة أخرى إمام المؤمنين عليه السلام بكلام فظ لما شيع هو و
ولداه السبطان أبا ذر في سبيله إلى المنفى ومروان يراقبه وقد مر تفصيله ص 294، 297
وفيه قوله لعلي عليه السلام: ما أنت بأفضل عندي من مروان.
إن من هوان الدنيا على الله أن يقع التفاضل بين علي ومروان الوزغ ابن الوزغ
اللعين ابن اللعين، أنا لا أدري هل كان الخليفة في معزل عن النصوص النبوية في مروان؟
أو لم يكن مروان ونزعاته الفاسدة بمرأى منه ومسمع؟ أو القرابة والرحم بعثته إلى
الاغضاء عنها فرأى ابن الحكم عدلا لمن طهره الجليل ورآه نفس النبي الأعظم في
الذكر الحكيم. كبرت كلمة تخرج من أفواهم..
أفحكم
الجاهلية يبغون؟
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟
323

جناية التاريخ
ما أكثر جناية التاريخ على ذوي الفضل والأحساب الذين تستفيد الأمة من
تاريخ حياتهم، ورائم أخلاقهم وآثار مآثرهم، ونفسياتهم الكاملة، ومعاقد أقوالهم
وبوالغ عظاتهم، ودرر حكمهم، وموارد إقدامهم وإحجامهم.
تجد التاريخ هنا يسرع السير فينسي ذكرهم، ويغمط فضلهم، أو يأتي بمجمل
من القول في صورة مصغرة، أو يحور الكلام ومزيجه الخبر المائن أو رواية شائنة،
كل ذلك تأييدا لمبدأ، وأخذا بناصر نزعة، وسترا على أقوام آخرين تمس الحقيقة
الراهنة بهم وبكرامتهم، وتبعا لأهواء وشهوات من ساسة الوقت أو زعماء الزمن.
فمن هذه النواحي كلها أغفل التاريخ عن التبسط في حياة أبي ذر الماثلة بالفضائل
والفواضل الشاخصة بالعبقرية والكمال، التي يجب أن تتخذ قدوة في السلوك و
التهذيب، وأن تكون للأمة بها أسوة وقدوة في التقوى والمبدأ.
البلاذري
فتجد البلاذري يذكر حديث إخراج أبي ذر إلى الربذة من عدة طرق بصورة
مرت في صفحة 292 ويروي قول أبي ذر لحوشب الفزاري " وأبو ذر هو الذي ما أظلت
الخضراء. الخ ". أخرجت كارها. ثم عقبه بأكذوبة سعيد بن المسيب " الذي كان
من مناوي العترة الطاهرة وشيعتهم " من إنكار إخراج عثمان إياه، وإنه خرج إليها راغبا
في سكناها.
ولا يعلم المغفل إن في ذلك تكذيبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخبر أبا ذر بأنه
يخرج من المدينة كما مر ص 316 بطرق صحيحة. وتكذيبا لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام
حيث قال لعثمان بعد وفاة أبي ذر في المنفى وقد صمم عثمان أن يتبع ذلك بنفي عمار:
يا عثمان! إتق الله فإنك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسيير (1) وتكذيبا

(1) سيوافيك الحديث بتمامه إن شاء الله تعالى.
324

لأبي ذر في قوله الآنف فيما رواه البلاذري نفسه من طريق صحيح: ردني عثمان بعد
الهجرة أعرابيا.
وتكذيبا لعثمان الذي روى عنه البلاذري أيضا إنه لما انهى إليه نعي أبي ذر
قال: رحمه الله. فقال عمار: نعم فرحمه الله من كل أنفسنا فقال عثمان: يا عاض أير أبيه
أتراني ندمت على تسييره " يأتي تمام الحديث في مواقف عمار ".
وتكذيبا لما رواه البلاذري أيضا عن كميل بن زياد النخعي في حديث أسلفناه ص
294 وتكذيبا، وتكذيبا.
ولا يعلم المسكين إن تلك الحادثة الفجيعة المتعلقة بعظيم من عظماء الصحابة كأبي ذر
وقد كثر حوله الحوار أو الأخذ والرد وتوفرت النقمة والنقد حتى عدت من عظائم
الحوادث، وسار بحديثها الركبان، وتذمر لها المؤمنون، وشمت فيها من شمت، و
نقم بها على الخليفة، وكان مما استتبعها: إن ناسا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو
بالربذة: إن هذا الرجل فعل بك وفعل، هل أنت ناصب لنا راية؟ يعني نقاتله. فقال:
لا، لو أن عثمان سيرني من المشرق إلى المغرب سمعت وأطعت (1).
وقال ابن بطال كما في عمدة القاري للعيني 4: 291: إنما كتب معاوية يشكو
أبا ذر لأنه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له وكان في جيشه ميل إلي أبي ذر
فأقدمه عثمان خشية الفتنة لأنه كان رجلا لا يخاف في الله لومة لائم.
فما كنت يومئذ تمر بحاضرة من الحواضر الإسلامية إلا وتجد توغلا من أهلها
في هذا الحديث، وتغلغلا بين أرجائها من جراء ذلك الحادث الجلل.
إن حادثة كمثلها لا تستر بإنكار مثل ابن المسيب المنبعث عن الولاء الأموي لكنه
شاء أن يقول فقال، ذاهلا عن إنه لا يقبل منه ذو مسكة أن يترك مثل أبي ذر دارا هجرته
ومهجر شرفه ويعرض عن جوار نبيه ويختار الربذة منزلا له ولأهله مع جدبها وقفرها،
ولو كانت له خيرة في الأمر، فما تلك المدامع الجارية من لوعة المصاب وغصة الاكتئاب؟
وما تلكم النفثات الملفوظة منه ومن مشيعيه في ذلك الوادي الوعر لما حان التوديع
وآن الفرقان بين الأحبة؟.

(1) طبقات ابن سعد 3: 212.
325

ومن أمانة البلاذري في النقل: أنه عند سرد قصة أبي ذر ومشايعة مولانا أمير المؤمنين
له قال: جرى بين علي وعثمان في ذلك كلام. ولم يذكر ما جرى لأن فيه نيلا من صاحبه.
ابن جرير الطبري
وإنك تجد الطبري في التاريخ لما بلغ إلى تاريخ أبي ذر يقول: في هذه السنة أعني
سنة 30 كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة،
وقد ذكر في سبب إشخاصه إياه منها إليها أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها، فأما العاذرون
معاوية في ذلك فإنهم ذكروا في ذلك قصة. ا ه‍.
لماذا ترك الطبري تلكم الأمور الكثيرة ولم يذكر منها إلا قصة العاذرين؟
التي افتعلوها معذرة لمعاوية وتبريرا لعمل الخليفة، وأما الحقائق الراهنة التي كانت
تمس كرامة الرجلين، وكانت حديث أمة محمد وقتئذ وهلم جرا من ذلك اليوم حتى
عصرنا الحاضر فكره إيرادها، وحسب إنها تبقى مستورة إن لم يلهج هو بها، وقد ذهب
عليه إن في فجوات الدهر، وثنايا التاريخ، وغضون كتب الحديث منها بقايا كافية لمن
تروقه معرفة نفسيات مناوي أبي ذر، وتحقق أعلام النبوة التي جاء بها النبي الأعظم
في قصة أبي ذر من المغيبات.
ثم ذكر القصة بصورة مكذوبة مختلقة لا يصح شئ منها، وكل جملة منها يكذبه
التاريخ الصحيح أو الحديث المتسالم على صحته، وكفاها وهنا ما في سندها من الغمز
وإليك رجاله
1 السري. مر الكلام فيه في هذا الجزء ص 140 وإنه مشترك بين اثنين عرفا
بالكذب والوضع.
2 شعيب بن إبراهيم الأسيدي الكوفي، أسلفنا صفحة 140 من هذا الجزء قول
الحافظين: ابن عدي والذهبي فيه وإنه مجهول لا يعرف.
3 سيف بن عمر التيمي الكوفي، ذكرنا في صفحة 84 من هذا الجزء أقوال
الحفاظ وأئمة الجرح والتعديل حول الرجل وإنه ضعيف، متروك، ساقط،
وضاع، عامة حديثه منكر، يروي الموضوعات عن الاثبات، كان يضع الحديث،
واتهم بالزندقة.
326

أضف إلى المصادر السابقة: " الاستيعاب " ترجمة القعقاع 2: 535، " الإصابة "
3: 239، مجمع الزوائد للهيثمي 10: 21.
4 عطية بن سعد العوفي الكوفي. للقوم فيه آراء متضاربة بين توثيق وتضعيف
وقال الساجي: ليس بحجة وكان يقدم عليا على الكل. وقال ابن سعد: كتب الحجاج إلى
محمد بن القاسم أن يعرضه على سب علي فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته
فاستدعاه فأبى أن يسب فأمضى حكم الحجاج فيه (1) وذكر ابن كثير في تفسيره 1: 501 عن
صحيح الترمذي من طريق عطية في علي مرفوعا: لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد
غيري وغيرك. فقال: ضعيف لا يثبت فإن سالما متروك وشيخه عطية ضعيف. ا ه‍. وكون
الرجل في الاسناد آية كذب الرواية إذ الشيعي الجلد كالعوي لا يروي حديث الخرافة.
5 يزيد الفقعسي. لا أعرفه ولا أجد له ذكرا في كتب التراجم.
فانظر إلى أمانة الطبري على ودايع التاريخ فإنه يصفح عن ذلك الكثير الثابت
الصحيح ويقتصر على هذه المكاتبة المكذوبة المفتعلة. حيا الله الأمانة.
نظرة قيمة في تاريخ الطبري
شوه الطبري تاريخه بمكاتبات السري الكذاب الوضاع، عن شعيب المجهول
الذي لا يعرف، عن سيف الوضاع، المتروك، الساقط، المتهم بالزندقة، وقد جاءت
في صفحاته بهذا الاسناد المشوه 701 رواية وضعت للتمويه على الحقايق الراهنة في
الحوادث الواقعة من سنة 11 إلى 37 عهد الخلفاء الثلاثة فحسب، ولا يوجد شئ من
هذا الطريق الوعر في أجزاء الكتاب كلها غير حديث واحد ذكره في السنة العاشرة،
وإنما بدا برواية تلكم الموضوعات من عام وفاة النبي الأقدس، وبثها في الجزء الثالث
والرابع والخامس، وانتهت بانتهاء خامس الأجزاء.
ذكر في الجزء الثالث من ص 210 في حوادث سنة 11 57 حديثا
أخرج في الجزء الرابع في حوادث السنة الثانية عشر 427 حديثا
أورد في الجزء الخامس في حوادث السنة ال‍ 3723 207 حديثا
المجموع 701 حديثا

(1) تهذيب لابن حجر 7: 226.
327

ومما يهم لفت النظر إليه إن الطبري من صفحة 210 من الجزء الثالث إلى ص 241
يروي عن السري بقوله: حدثني. المعرب عن السماع منه، ومن ص 241 يقول: كتب
إلى السري. إلى آخر ما يروي عنه إلا حديثا واحدا في الجزء الرابع ص 82 يقول فيه:
حدثنا.
ولست أدري إن السري، وسيف بن عمر هل كان علمهما بالتاريخ مقصورا على
حوادث تلكم الأعوام المحدودة فقط؟ ومن حوادثها على ما يرجع إلى المذهب فحسب
لا مطلقا؟ أو كانت موضوعاتهما تنحصر بالحوادث الخاصة المذهبية الواقعة في الأيام
الخالية من السنين المعلومة؟ لكونها الحجر الأساسي في المبادئ والآراء والمعتقدات،
وقد أرادوا خلط التاريخ الصحيح وتعكير صفوه بتلكم المفتعلات تزلفا إلى أناس،
واختذالا عن آخرين، ومن أمعن النظر في هذه الروايات يجدها نسيج يد واحدة،
ووليد نفس واحد، ولا أحسب إن هذه كلها تخفى على مثل الطبري، غير إن الحب
يعمي ويصم.
وقد سودت هاتيك المخاريق المختلفة صحائف تاريخ ابن عساكر، وكامل ابن
الأثير، وبداية ابن كثير، وتاريخ ابن خلدون، وتاريخ أبي الفدا إلى كتب أناس آخرين
اقتفوا أثر الطبري على العمى، وحسبوا أن ما لفقه هو في التاريخ أصل متبع لا غمز
فيه، مع إن علماء الرجال لم يختلفوا في تزييف أي حديث يوجد فيه أحد من رجال هذا
السند فكيف إذا اجتمعوا في إسناد رواية.
والتآليف المتأخرة اليوم المشحونة بالتافهات التي هي من ولائد الأهواء و
الشهوات كلها متخذة من هذه السفاسف التي عرفت حالها وسنوقفك على نماذج منها
في الجزء التاسع إنشاء الله تعالى.
ابن الأثير الجزري
وأنت ترى ابن الأثير في الكامل الناقص تبعا للطبري في الذكر والاهمال
كما هو كذلك في كل ما توافقا عليه من التاريخ لكنه زاد ضغثا على أبالة فقال: وفي
هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة، وقد
ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة من سب معاوية إياه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة
328

من الشام بغير وطاء، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع لا يصح النقل به، ولو صح
لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان، فإن للإمام أن يؤدب رعيته، وغير ذلك من الأعذار
لا أن يجعل ذلك سببا للطعن عليه كرهت ذكرها. ا ه‍
إن الذي لم يصحح الرجل نقله صححه آخرون فنقلوه قبله وبعده فلم ينل
المسكين مبتغاه، وكان قد حسب أن الحقائق الثابتة تخفى عن أعين الناس إن سترها هو بذيل
أمانته، وقد ذهب عليه إن أهل النصفة من المؤلفين ورواد الحقايق من الرواة سوف
لا يدعون صغيرة ولا كبيرة إلا ويحصونها على الأمة، وإن مدونة التاريخ ليست قصرا
على كتابه.
هب إنه ستر التاريخ بالاهمال لكنه ماذا يصنع بالمحدثين؟ الذين أثبتوا حديث
إخراجه من المدينة وطرده عن مكة والشام في باب الفتن وفي باب أعلام النبوة (1)
أولا يبهظ ذلك أبا ذر وزملائه من رجالات أهل البيت عليهم السلام ومن يرى رأيه
من صلحاء الأمة، ولا سيما إن سابقة الطرد من عاصمة النبوة لم تكن إلا لمثل الحكم
" عم الخليفة " وابنه وعائلته زبانية العيث والفساد تنزيها للعاصمة عن معرتهم، وتطهيرا
لها عن لوث بقائهم فيها، أفهل يساوي أبو ذر ذلك العظيم عند الله ورسوله شبيه عيسى بن
مريم في أمة محمد صلى الله عليه وآله الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق
منه، وقد أمر الله سبحانه رسوله بحبه، وهو من الثلاثة الذين تشتاق إليهم الجنة،
والثلاثة الذين يحبهم الله تعالى.
أفهل يساوي من هو هذا بالطريد اللعين، فيشوه ذكره بهذه التسوية، ويشهر
بين الملأ موصوما بذلك، ويمنع الناس عن التقرب إليه، وينادي عليه بذل الاستخفاف،
ويحرم الناس عن علومه الجمة التي هو وعائها، ولعمر الحق، وشرف الاسلام، ومجد
الانسانية، وقداسة أبي ذر، إن النشر بالمناشير، والقرض بالمقاريض أهون على الديني
الغيور من بعض هاتيك الشنايع.
ثم إن تأديب الخليفة للرعية إنما يقع على من فقد الآداب الدينية وطوحت
به طوائح الجهل إلى مساقط الضعة. وأما مثل أبي ذر الذي أطراه رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) راجع ص 328324.
329

بما لم يطر به غيره وقر به وأدناه وعلمه وإذا غاب عنه تفقده، وشهد إنه شبيه عيسى بن
مريم هديا وسمتا وخلقا وبرا وصدقا ونسكا وزهدا. فبماذا يؤدب؟ ولما؟ وأي
تأديب هذا يراه النبي الأعظم بلاء في الله؟ ويأمر أبا ذر بالصبر وهو يقول: مرحبا بأمر
الله. وبم ولم استحق أبو ذر التأديب؟ وعمله مبرور مشكور عند المولى سبحانه،
ويراه مولانا أمير المؤمنين غضبا لله ويقول له: فارج من غضبت له (1).
نعم: يجب أن يكون أبو ذر هو المؤدب للناس لما حمله من علم النبوة وأحكام
الدين وحكمه، والنفسيات الكريمة، والملكات الفاضلة التي تركته شبيها بعيسى بن
مريم في أمة محمد صلى الله عليه وآله.
ما بال الخليفة يتحرى تأديب أبي ذر وهو هذا، ويبهظه تأديب الوليد بن عقبة
السكير على شرب الخمر واللعب بالصلاة المفروضة؟.
ويبهظه تأديب عبيد الله بن عمر على قتل النفوس المحترمة.
ويبهظه تأديب مروان وهو يتهمه بالكتاب المزور عليه.
ويبهظه تأديب الوقاح المستهتر المغيرة بن الأخنس وهو يقول له: أنا أكفيك
علي بن أبي طالب. فأجابه الإمام بقوله: يا ابن اللعين الأبتر والشرة التي لا أصل لها
ولا فرع أنت تكفيني؟ فوالله ما أعز الله من أنت ناصره الخ (2).
ما بال الخليفة يطرد أبا ذر ويردفه بصلحاء آخرين ويرى الإمام الطاهر أمير المؤمنين
أحق بالنفي منهم (3) ويأوي طريد رسول الله الحكم وابنه ويرفدهما وهما هما؟.
ما بال الخليفة يخول مروان مهمات المجتمع؟ ويلقي إليه مقاليد الصالح العام؟
ولم يصخ إلى قول صالح الأمة مولانا أمير المؤمنين له: أما رضيت من مروان ولا رضي
منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به؟ والله ما
مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه، وأيم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك وما أنا بعائد
بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على أمرك، يأتي تمام الحديث في الجزء
التاسع إن شاء الله تعالى.

(1) راجع ما مر في هذا الجزء صفحة 300.
(2) نهج البلاغة 1: 253.
(3) سيوافيك حديثه في مواقف عمار إن شاء الله تعالى.
330

ما بال الخليفة يعطي مروان أزمه أموره ويشذ عن السيرة الصالحة حتى توبخه
زوجته نائلة بنت الفرافصة؟ وتقول: قد أطعت مروان يقودك حيث شاء، قال: فما اصنع
قالت. تتقي الله وتتبع سنة صاحبيك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له
عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة، وإنما تركك الناس لمكانه، فأرسل إلى علي فاستصلحه
فإن له قرابة وهو لا يعصى (1) ليت الخليفة كانت له أذن واعية تسمع من بنت الفرافصة
كلمتها الحكمية التي كانت فيها نجاته في النشأتين.
كان من صالح الخليفة أن يدني إليه أبا ذر فيستفيد بعلمه وخلقه ونسكه وأمانته
وثقته وتقواه وزهده لكنه لم يفعل، وماذا كان يجديه لو فعل؟ وحوله الأمويون وهو
المتفاني في حبهم وهم لا يرون ذلك الرأي السديد لأنه على طرف النقيض مما حملوه
من النهمة والشره، واكتناز الذهب والفضة، والسير مع الهوى والشهوات، وهم
المسيطرون على رأي الخليفة وأبو سفيان يقول: يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة فوالذي
يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة. أو يقول لعثمان:
صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أمية فإنما هو الملك ولا
أدري ما جنة ولا نار. " راجع ص 285 ".
وعثمان وإن زبره تلك الساعة لكنه لم يعد رأيه في بني أمية المتلاعبين بالدين
لعبهم بالاكر، ولا أدري هل تهجس في تأديب أبي سفيان على ذلك القول الإلحادي
الشائن كما تهجس وفعل في أبي ذر البر التقي، ومن يماثله من الصلحاء الأتقياء؟.
لقد فات ابن الأثير كل هذا فاعتذر عن الرجل بأن الخليفة يؤدب رعيته.
عماد الدين ابن كثير
جاء ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية 7: 155 فبنى على أساس ما علاه من
قبله في حذف ما كان هنالك من هنات وزاد في الطنبور نغمات قال: كان أبو ذر ينكر
على من يقتني مالا من الأغنياء ويمنع أن يدخر فوق القوت ويوجب أن يتصدق بالفضل
ويتأول قول الله سبحانه وتعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل
الله فبشرهم بعذاب أليم. فينهاه معاوية عن إشاعة ذلك فلا يمتنع فبعث يشكوه إلى عثمان

(1) تاريخ الطبري 5: 112، الكامل لابن الأثير 3 69.
331

فكتب عثمان إلى أبي ذر أن يقدم عليه المدينة فقدمها فلامه عثمان على بعض ما صدر منه
واسترجعه فلم يرجع فأمره بالمقام بالربذة وهي شرقي المدينة ويقال: إنه سال عثمان
أن يقيم بها وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي: إذا بلغ البناء سلعا فاخرج منها. وقد
بلغ البناء سلعا، فأذن له عثمان بالمقام بالربذة وأمره أن يتعاهد المدينة في بعض الأحيان
حتى لا يرتد أعرابيا بعد هجرته ففعل فلم يزل مقيما بها حتى مات. أه‍.
وقال في ص 165 عند ذكر وفاته: جاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها ما
رواه الأعمش عن أبي اليقظان عثمان بن عمير عن أبي حرب بن أبي الأسود عن عبد الله
ابن عمرو إن رسول الله قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي
ذر. وفيه ضعف. ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وآله ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان
فيه حتى وقع بينه وبين معاوية فاستقدمه عثمان إلى المدينة ثم نزل الربذة فأقام بها حتى
مات في ذي الحجة من هذه السنة، وليس عنده سوى امرأته وأولاده فبينما هم كذلك
لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحاب فحضروا
موته وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل: قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه، وكان قد
أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى
أهله فضمهم مع أهله. أ ه‍.
هذا كل ما في عيبة ابن كثير من المخاريق في المقام. وفيه مواقع للنظر:
1 اتهامه أبا ذر بأنه كان ينكر اقتناء المال على الأغنياء. الخ. هذه النظرية
قديما ما عزوه إلى الصحابي العظيم اختلاقا عليه وزورا، وقد تحولت في الأدوار
الأخيرة بصورة مشوهة أخرى من نسبة الاشتراكية إليه وسنفصل القول عنها تفصيلا
إنشاء الله تعالى.
2 إنه حسب نزوله الشام وهبوطه الربذة بخيرة منه بعد ما أوعز إلى أن عثمان
أمره بالمقام بالربذة، أما حديث الربذة فقد أوقفناك آنفا على أنه كان منفيا إليها، و
أخرج من مدينة الرسول بصورة منكرة، ووقع هنالك ما وقع بين علي عليه السلام ومروان،
وبينه وبين عثمان، وبين عثمان وبين عمار، واعتراف عثمان بتسييره، وتسجيل علي
أمير المؤمنين عليه ذلك، وسماع غير واحد من أبي ذر الصادق نفسه حديثه، وإن عثمان
332

جعله أعرابيا بعد الهجرة، وهو مقتضى إعلام النبوة في إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله إياه
بأنه سوف يخرج من المدينة، ويطرد من مكة والشام، وأما خبر الشام فقد مر
إخراجه إليها ولم يكن ذلك باختياره أيضا.
3 وأما حديث بلوغ البناء السلع فإفك مفترى على أم ذر وقد جاء في مستدرك
الحاكم 3: 344، وذكره البلاذري كما مر في ص 293 ورآه سبب خروج أبي ذر إلى
الشام بإذن عثمان لا سبب خروجه إلى الربذة كما في حديث الطبري.
على إن ابن كثير أخذه من الطبري في التاريخ وجل ما عنده إنما هو ملخص
ما فيه مع التصرف فيه على ما يروقه، وإسناد الرواية في التاريخ رجاله بين كذاب وضاع
وبين مجهول لا يعرف إلى ضعيف متهم بالزندقة كما أسلفناه في ص 84، 140، 141
327 وهم:
1 السري 2 شعيب 3 سيف 4 عطية 5 يزيد الفقعسي.
وحديث يكون في إسناده أحد من هؤلاء لا يعول عليه، وعلى فرض اعتباره فإنه
لا يقاوم الصحاح المعارضة له الدالة على إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله بأنه يخرج ويطرد من
مكة والمدينة والشام: راجع ص 316 319 وهي معتضدة بما مر عن أبي ذر وعثمان وغيرهما
في تسيير عثمان إياه، أضف إليها الأعذار الباردة الواردة عن أعلام القوم في تبرير عثمان
عن هذا الوزر الشائن.
4 وأما ما ذكره من أمر عثمان أبا ذر أن يتعاهد المدينة حتى لا يرتد أعرابيا
فإنه من جملة تلك الرواية المكذوبة التي تشمل على حديث السلع، وقد مر من
طريق البلاذري بإسناد صحيح في ص 294 قول أبي ذر: ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا.
على إنه لم يذكر أحد إن أبا ذر قدم المدينة خلال أيام نفيه من سنة ثلاثين إلى وفاته
سنة اثنتين وثلاثين حتى يكون ممتثلا لأمر عثمان بالتعاهد.
5 ما ذكره من إنه جاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها. الخ.
إن شنشنة الرجل في الفضائل إنه إذا قدم لسرد تاريخ من يهواه من الأمويين
ومن انضوى إليهم من رواد النهم جاء بأشياء كثيرة وسرد التافه الموضوع في صورة
الصحاح من غير تعرض لإسنادها أو تعقيب لمضامينها، ولا يمل من تسطيرها وإن
333

سودت أضابير من القراطيس، لكنه إذا وصلت النوبة إلى ذكر فضل أحد من أهل
البيت عليهم السلام أو شيعتهم وبطانتهم من عظماء الأمة وصلحائها كأبي ذر تضييق عليه
الأرض برحبها، وتلكأ وتلعثم كأن في لسانه عقلة وفي شفتيه عقدة، أو إنه كان في
أذنه وقرأ عن سماعها فلم تنه إليه، وإن اضطرته الحالة إلى ذكر شئ منها جاء به
في صورة مصغرة كما تجده هاهنا حيث جعل ما هو من أشهر فضائل أبي ذر ضعيفا،
وهو يعلم أن طريق هذا الاسناد ليس منحصرا بما ذكره هو من طريق ابن عمرو الذي
أخرجه ابن سعد والترمذي وابن ماجة والحاكم، وإنما جاء من طريق علي أمير المؤمنين
وأبي ذر وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وأبي هريرة، وحسن الترمذي
غير واحد من طرقه في صحيحه 2: 221.
وإسناد أحمد من طريق أبي الدرداء في مسنده 5: 197 صحيح رجاله كلهم ثقات.
وإسناد الحاكم من طريق أبي ذر صححه هو وأقره الذهبي كما في " المستدرك "
3: 342.
وإسناد الحاكم من طريق علي عليه السلام وأبي ذر أيضا صححه هو وأقره الذهبي كما
في " المستدرك " 4: 480.
وأما إسناد ما أخرجه ابن كثير من طريق ابن عمرو فقال الذهبي فيما نقله عنه
المناوي في شرح الجامع الصغير: سنده جيد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال
أحمد وثقوا وفي بعضهم خلاف. وحسنه السيوطي في الجامع الصغير. فأين الضعف المزعوم؟
ولا يهمنا التعرض لبقية ما رمى القول فيه على عواهنه فإنها مأخوذة من الطبري
مع عدم الإجادة في الأخذ، لعله أراد إصلاح ما في روايته من التهافت فزاد عوارا على
عواره، وروايته هي من جملة أساطير أوقفناك على وضعها ص 327.
والممعن في كتب المحدثين يعلم أن هذه الجنايات التي أوعزنا إلى بعضها لم تعد
كتب الحديث فتجدها تثبت ما من حقه الحذف، وتحذف ما يجب أن يذكر، ونكل
عرفان ذلك إلى سعة باعك أيها القارئ الكريم!؟
لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك
فبصرك اليوم حديد " سور ق 22 "
334

نظرية أبي ذر في الأموال
وافى سيدنا أبو ذر كغيره من قرناءه المقتصين أثر الكتاب والسنة يبغي صالح
قومه ونجاح أمته، يبغي بهم أن لا يتخلفوا عنهما قيد ذرة، يريد أن ينفي عن الناس البخل
الذميم، وأن تكون لضعفاء الأمة لماظة من منائح الأغنياء، وأن لا يمنعوا حقوقهم
التي افترضها الله لهم، وكان نكيره الشديد متوجها إلى مغتصبي أموال الفقراء، والى
أهل الأثرة الذين كانت القناطير المقنطرة من الذهب والفضة منضدة في دورهم، و
كانت سبائك التبر تقسم بكسرها بالفؤوس، من دون أن تخرج منها الحقوق المفروضة
من أخماس وزكوات، ومن غير إغاثة للملهوفين الذين كان قوتهم السغب، وريهم الظمأ
وراحتهم النكد، وعند القوم أموال لهم متكدسة لا تنتفع بها العفاة، ولا يستفيد من
نماءها المجتمع، ولا يصرف شئ منها في الصالح العام، وقد شاء الله سبحانه للذهب
والفضة أن تتداول بهما الأيدي، ويتقلبا في وجوه الحرف والمهن والصنايع، فتنتجع
العامة بهما فأربابهما بالأرباح، والضعفاء بالأجور، والبلاد بالعمران، والأراضي بالإحياء
والمعالم والمعارف بالدعاية والنشر، والملأ العلمي بالجوامع والكليات والكتب و
الصحف، والمضطرون بحقوقهما الإلهية واستحكامات تقتضيها الظروف، حتى تكون
الأمة سعيدة بما يتسنى لها من تلكم الجهات من السعي وراء مناجحها، ولذلك حرم
المولى سبحانه اتخاذ الأواني من الذهب والفضة لئلا يبقيا جامدين يعدوهما أعظم
الفوائد وأكثرها المرقومة فيهما المترقبة منهما من الوجوه التي ذكرناها.
كان نكير سيدنا أبي ذر موجها إلى أمثال من ذكرناهم كمعاوية الذي كان يرفع
أبو ذر عقيرته على بابه كل يوم ويتلو قوله تعالى: الذين يكنزون الذهب والفضة ولا
ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. وكان يرى الأموال تجبى إليه فيقول:
جاءت القطار تحمل النار.
وكمروان الذي كان إحدى منايح عثمان له خمس إفريقية وهو خمسمائة ألف دينار.
335

وكعبد الرحمن بن عوف وقد خلف ذهبا قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال
منه، وترك أربع نسوة فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا، فتكون ثروته من هذا الذهب
المكنوز فحسب ما مر في صفحة 284.
وكزيد بن ثابت المخلف من الذهب والفضة غير الأموال المكردسة والضياع
العامرة ما كان يكسر عند تقسيمه بالفؤوس.
وكطلحة التارك بعده مائة بهارا في كل بهار ثلاث قناطر ذهب، والبهار جلد
ثور وهذه هي التي قال عثمان فيها: ويلي على ابن الحضرمية (يعني طلحة) أعطيته كذا
وكذا بهار ذهبا وهو يروم دمي يحرض على نفسي (1) أو طلحة التارك مائة جمل ذهبا
كما مر عن ابن الجوزي.
وأمثال هؤلاء البخلاء على المجتمع الديني، وهو يرى إن خليفة الوقت يأتيه
أبو موسى بكيلة ذهب وفضة فيقسمها بين نسائه وبناته من دون أي اكتراث لمخالفة
السنة الشريفة، وهو يعلم الكمية المدخرة من النقود التي نهبت يوم الدار. زين
للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من المذهب والفضة والخيل
المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عند حسن المآب (2).
فما ظنك بالرجل الديني الواقف على كل هذه الكنوز من كثب؟ وهو يعلم
بواسع ما وعاه من رسول الله صلى الله عليه وآله من المغيبات، ومما يشاهده من نفسيات القوم، إن
تلكم الأموال المكتنزة سوف يصرف أكثرها في الدعوة إلى الباطل، وفي تجهيز العساكر
من ناكثي بيعة الإمام الطاهر والخارجين عليه والمزحزحين حليلة المصطفى عن خدرها
عن عقر داره صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أجور الوضاعين للأحاديث في فضائل بني أمية والوقيعة في
رجالات أهل البيت عليهم السلام، وفي محر في الكلم عن مواضعه، وفي منائح لاعني
مولانا أمير المؤمنين وقاتلي الصلحاء الأبرياء من موالي العترة الطاهرة، ويصرف شئ
كثير منها في الخمور والفجور، إلى غير ذلك من وجوه الشر.
ما ظنك بالرجل؟ وفي أذنه نداء الصادع الكريم: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين

(1) شرح ابن أبي الحديد 2: 404.
(2) سورة آل عمران: 14.
336

رجلا اتخذوا مال الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا. ويرى بين عينيه آل
أبي العاص بلغوا ثلاثين وجاءوا يلعبون بالملك تلاعب الصبيان بالأكر، وقد اتخذوا
مال الله دولا..
فهل تراه يخفق على ذلك كله، كأنه لا يبصر ولا يسمع ولا يعلم؟ أو أنه يدوخ
العالم بعقيرته؟ ويلفت الأنظار إلى جهات الحكمة ووجوه الفساد. عساه يكسح شيئا
من الشر الحاضر، ويسد عادية المعرة المقبلة وإن أسس هذا الدين الحنيف الدعوة
إلى الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. (1)
لقد ناء أبو ذر بهذه المهمة الدينية وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وما كان
يلهج إلا بقوله تعالى: الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم
بعذاب أليم. ولم يشذ في تأويل الآية عما يقتضيه ظاهرها لأن مطمح نظره كان هؤلاء
الذين ذكرناهم ممن جمعوا من غير حله، وادخروا على غير حقه، ولم يؤدوا المفترض
مما استباحوه من المال واكتنزوه، ولذلك لم يوجه نكيره إلى ناس آخرين من زملائه
ومعاصريه من أهل اليسار كقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الذي كان يهب غير الحقوق
الواجبة عليه آلافا مؤلفة وقد عرفت شطرا من يساره في الجزء الثاني 8885.
وكأبي سعيد الخدري الذي كان يقول: ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا
منا (2).
وكعبد الله بن جعفر الطيار الذي دوخ الأجواء ذكر ثروته وعطاياه وقد فصلها ابن
عساكر في تاريخه 7: 344325 وغيره.
وعبد الله بن مسعود الذي خلف تسعين ألفا كما في صفة الصفوة.
وحكيم بن حزام الذي كانت بيده دار الندوة فباعها من معاوية بمائة ألف درهم
فقال له عبد الله بن الزبير: بعت مكرمة قريش. فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى
يا ابن أخي إني اشتريت بها دارا في الجنة أشهدك أني قد جعلتها في سبيل الله. وحج

(1) سورة آل عمران آية: 104.
(2) صفة الصفوة لابن الجوزي 1: 300.
337

حكيم ومعه مائة بدنة قد أهداها وجللها الحبرة، وقف مائة وصيف يوم عرفة في أعناقهم
أطوقة الفضة قد نقش في رؤسها: عتقاء الله عز وجل عن حكيم وأعتقهم، وأهدى
ألف شاة (1).
إلى أناس آخرين لدة هؤلاء من أهل اليسار. فلم تسمع أذن الدنيا إن أبا ذر
وجه إلى أحد من هؤلاء الأثرياء لوما لأنه كان يعلم بأنهم اقتنوها من طرقها المشروعة
وأدوا ما عليهم منها وزادوا، وراعوا حقوق المروءة حق رعايتها، وما كان يبغي بالناس
إلا هذه.
لماذا يرى أبو ذر بناء معاوية الخضراء في دمشق فيقول: يا معاوية! إن كانت هذه
الدار من مال الله؟ فهي الخيانة، وإن كانت من مالك؟ فهذا الإسراف. فسكت معاوية
ويقول أبو ذر: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه،
والله إني لأرى حقا يطفأ، وباطلا يحيى، وصادقا يكذب، وأثرة بغير تقى، وصالحا
مستأثر عليه (2).
ويرى بناء المقداد داره بالمدينة بالجرف وقد جعلها مجصصة الظاهر والباطن
كما في مروج الذهب 1: 434 فلا ينكره عليه ولا ينهاه عنه ولا ينبس ببنت شفة، وليس
ذلك إلا لما كان يراه من الفرق الواضح بين المالين والبنائين وصاحبيهما.
وأما وجوب إنفاق المال الزائد على القوت كله الذي عزاه إلى سيدنا أبي ذر
المختلقون فمن أفائكم المفتريات، لم يدعه أبو ذر ولا دعا إليه وكيف يكون ذلك؟ وأبو ذر
يعي من شريعة الحق وجوب الزكاة؟ وهل يمكن ذلك إلا بعد اليسار والوفر الزائد على
المؤن؟ والله سبحانه يقول: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم، وفي تنكير
الصدقة و (من) التبعيض دلالة على أن المأخوذ بعض المال لأكله.
على إن النصب الزكوية المضروبة في النقدين والأنعام والغلات كلها نصوص
على إن الباقي من المال مباح لأربابه، ولأبي ذر نفسه في آداب الزكاة أحاديث أخرجها
البخاري ومسلم وغيرها من رجال الصحاح وأحمد والبيهقي وغيرهم.

(1) صفة الصفوة لابن الجوزي 1: 304
(2) راجع ما مر ص 304.
338

فلو كان يجب إنفاق بعد إخراج الزكاة فما معنى التحديد بالنصب والإخراج
منها؟ وهذا معنى واضح لا يخفى على كل مسلم فضلا عن مثل أبي ذر الذي هو وعاء العلم
والمحيط بالسنة الشريفة.
ولو كانت على المكلف بقية من الواجب بعد الزكاة لم يؤدها فما معنى الفلاح؟
الذي وصف الله تعالى به المؤمنين بقوله: قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم
خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، سورة المؤمنون 41
وليت شعري إن كان من المفترض إنفاق كل ما للانسان من المال بعد المؤن
فبماذا يحترف أو يمتهن؟ وليس عنده فاضل على المؤن. أبما ادخره لقوته؟ أم بما
رجع عنه بخفي حنين؟ ومماذا يخرج الزكاة؟ فيسد بها خلة الضعفاء ويقتات هو في مستقبله
الذي هو أوان فاقته. أمن المحتمل إن أبا ذر كان يوجب ترك كل هذه؟ ويريد أن
تكون الدنيا مشحونة بالعفاة المتكففين؟ فلا يرى المتسول إلا شحاذا مثله، ولا يجد
العافي منتجعا لكشف كربته وتسديد إعوازه إن دامت الحالة على ما يتقول به على
أبي ذر سنة أو دون سنة.
تالله لا يبغي أبو ذر بالمجتمع الديني هذه الضعة وهو لا يحب لهم إلا الخير كله،
ولا يريد هذا أي مصلح أو صالح في نفسه فضلا عن أبي ذر المعدود في علماء الصحابة
ومصلحيهم وصلحائهم.
نعم: غضب أبو ذر لله كما قاله مولانا أمير المؤمنين (1) وغضب للمسلمين حيث رأى
فيئهم مدخرا عنهم تتمتع به سماسرة النهمة والجشع.
يرى فيئهم في غيرهم متقسما * وأيديهم من فيئهم صفرات
فكان كل ما انتابه من جراء هذا الأخذ والرد بعين الله وفي سبيله كما عهد إليه
رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: أنت رجل صالح وسيصيبك بلاء بعدي قال: في الله؟ قال: في الله.
قال: مرحبا بأمر الله. راجع ص 316 من هذا الجزء.
ثم إن ما شجر من الخلاف بين أبي ذر ومعاوية في قوله تعالى: الذين يكنزون
الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم فخصه معاوية بأهل

(1) راجع ص 300 من هذا الجزء.
339

الكتاب وعممه أبو ذر عليهم وعلى المسلمين كما أخرجه البخاري ومر بلفظه ص 295
وهذه الرواية هي المستند الوحيد لجملة من الأفاكين على أبي ذر ظاهر في أنه لا خلاف
بينهما في المقدار المنفق من المال وإنما هو في توجيه الخطاب، فارتأى معاوية إن المخاطب
به أهل الكتاب، وعلم أبو ذر من مستقي الوحي ولحن الآية الكريمة إنها تعم كل
مكلف. إذن فيجب إما أن يعزى هذا الشذوذ إليهما جميعا، أو تبرئان عنه جميعا، فإفراد
أبي ذر بالقذف من ولائد الضغائن والإحن.
وأياما كان فالمراد إنفاق البعض لا الكل، وإن كان النظر القاصر قد يجنح إلى الأخير
لأول وهلة. وليست هذه الآية بدعا من آيات أخرى تماثلها في السياق كقوله تعالى:
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل. الآية " البقرة
261 ".
وقوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند
ربهم. " البقرة 274 ".
وقوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا
أذى لهم أجرهم عند ربهم. " البقرة 262 ".
وقوله تعالى: ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله. الآية " البقرة 265 "
على أن هذه الآيات أصرح من هاتيك في العموم لمكان الجمع المضاف فيها، لكن
المعلوم بالضرورة من دين الاسلام إنه نزلها إلى البعض، ولعل النكتة في الاتيان بالجمع
المضاف فيها: إن الموصوفين بها بلغوا من نزاهة النفس وكرم الطباع وعلو الهمة حدا
لا يبالون معه لو توقفت الحالة على إنفاق كل أموالهم. أو إنهم حين يسمحون بإنفاق
البعض في سبيل الله تعالى يجعله سبحانه في مكان إنفاق الكل بفضل منه ويثيبهم على
ذلك. وبهذا يعلم السر في قوله تعالى: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن
سبيلهم " الأنفال 36 ". وقوله تعالى: والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس. الآية
" النساء 38 ".
فليست هذه الآيات في منتأى عن قوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما
تحبون. " آل عمران 92 ".
340

وقوله تعالى: قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقون مما رزقناهم سرا
وعلانية. " إبراهيم 31 ".
وقوله تعالى: الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.
" البقرة 3 ".
وقوله تعالى: الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. " الأنفال 3 ".
وقوله تعالى: والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. " الحج 35 ".
وقوله تعالى: ويدرأون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون، " السجدة 16 ".
وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناهم " البقرة 254 ".
وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " البقرة 267 ".
وقوله تعالى: وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت " المنافقون 10 ".
على إن غير واحد من تلكم الآيات تومي إلى الانفاق المندوب كما نص عليه علماء
التفسير وحفاظ الحديث، ومع ذلك لم يدعها سبحانه على ما يتوهم منها من جمعها المضاف
حتى جعل لها حدا بقوله عز وجل: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل
البسط فتقعد ملوما محسورا. " الاسراء 29 ". وقوله تعالى: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا
ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما. " الفرقان 67 ".
أترى أن أبا ذر سلام الله عليه عزب عنه كل هذه الآيات الكريمة والأصول
المسلمة، أو كان له رأي خاص في تأويلها تجاه الحقائق الراهنة؟ حتى جاء بعد لأي من
عمر الدنيا رعرعة تجشأهم الدهر فقائهم وقفوا على تلكم الكنوز المخبأة.
ولو كان لأبي ذر أدنى شذوذ عن الطريقة المثلى في حكم إلهي، شذوذا يخل
بنظام المجتمع ويقلق السلام والوئام، وتكثر حوله القلاقل، وفيه إنارة العواطف و
الاخلال بالأمن أو التزحزح عن مبادئ الاسلام؟ لكان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أول من
يردعه ويحبسه عن قصده السيئ وأبو ذر أطوع له من الظل لديه؟ لكنه عليه السلام بدلا
عن ذلك يقول: غضبت لله فارج من غضبت له. ويقول: والله ما أردت تشييع أبي ذر
إلا لله. ويقول لعثمان: إتق الله فإنك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك.
وأمير المؤمنين من تعرفه بتنمره في ذات الله لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو مع الحق
341

والحق معه في كل ما يقول ويفعل.
وهل ترى؟ أن رسول الله صلى الله عليه وآله مع أنه كان يعلم أن أبا ذر سوف ينوء في أخرياته
بدعوة باطلة كهذه طفق ينوه به، ويعرفه بني الملأ بصفات فاضلة تكبر مقامه، وتعظم
مكانته عند الجامعة، وتمكنه من القلوب الصالحة ويول عمر له صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله!
فتعرف ذلك له؟ فيقول صلى الله عليه وآله: نعم فاعرفوه له؟ فيكون صلى الله عليه وآله مؤيدا له على عيثه،
ومؤسسا لباطله، ومعرفا لضلاله؟ حاشا رسول العظمة من مثل ذلك.
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم
قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إذ تلقونه بألسنتكم
وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، ما لهم به من
علم ولا لآبائهم، إن يتبعون إلا الظن
وإن هم إلا يخرصون
342

أبو ذر والاشتراكية
لقد عرفت كل ما في كنانة الأولين من نبال مرشوقة إلى العبد الصالح شبيه عيسى
في أمة محمد صلى الله عليه وآله فهلم هاهنا إلى رجرجة الآخرين من مقلدة الدور الأخير الخابطين
خبط عشواء، الذين رموا أبا ذر وأجله بالاشتراكية تارة وبالشيوعية أخرى.
هل أحاط علما هؤلاء الأغرار بمبادئ الشيوعية التعيشة، ومواد الاشتراك الذي
هو بمقربة من رديفته المبغوضة؟
وهل أتيح لهم عرفان مغازي أبي ذر المصلح العظيم فيما قال ودعا إليه؟ حتى
طفقوا يوفقوا بين المبدأين.
لا أحسب إنهم عرفوا شيئا من تلكم المغازي وإنهم في ظني الغالب بهم شيوعية
خونة يديفون السم في الدسم، ويسرون حسوا في ارتغاء، اتخذوا ما قالوه بل تقولوه
أكبر دعاية إلى تلكم المبادئ الهدامة لأسس المدنية والحضارة، المضادة لناموس
الطبيعة، فضلا عن حدود الاسلام، بجعل مثل أبي ذر العظيم شيوعيا أو اشتراكيا، وقد
صافقه على ما هتف به ونقم على من ناوءه وآذاه من القوم جل الصحابة إن لم نقل
كلهم ممن يعبأ به وبرأيه، واستاءوا لما نكب به من جراء ذلك الهتاف وفي مقدمهم
مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام وابناه الإمامان إن قاما وإن قعدا، وعمار الذي قال فيه
رسول الله صلى الله عليه وآله: إن عمارا مع الحق والحق معه يدور عمار مع الحق أينما دار (1)
إلى كثيرين وافقوا هؤلاء على النقمة والاستياء، فلم يكن أبو ذر شاذا في رأيه، ولا أنهي
إلينا إنه خالفه أحد من الصحابة فدونك صحايف التاريخ وزبر الحديث.
نعم: خالفه الذين يريدون أن يخضموا مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، وكانوا
يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون منها ما يجب عليهم إنفاقه، ويحرمون الأمة عن
أعطياتهم وما ينمو منها، ويريدون للضعفاء أن يرزحوا تحت نير الاضطهاد، ويرسفوا

(1) سيوافيك في محله في الجزء التاسع بإذن الله تعالى.
343

في قيود الفاقة والضعة، خاضعين لهم مستعبدين، وللقوم من أموالهم قصور مشيدة
ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، يأكلون فيها مال الله أكلا لما، ويحبون احتكاره
حبا جما.
نعم: خالفه أولئك الذين عرفهم يزيد بن قيس الأرحبي يوم صفين بقوله من
خطبة له: يحدث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت، ويأخذ مال الله، ويقول: لا إثم علي
فيه، كأنما أعطي تراثه من أبيه، كيف؟ إنما هو مال الله أفاءه علينا بأسيافنا ورماحنا
قاتلوا. عباد الله! القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله ولا تأخذكم فيهم لومة لائم،
إنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم، وهم من قد عرفتم وجربتم (1)
فأي إنسان يبلغه إن العظماء الذين نوهنا بذكرهم وهم أهل الفضائل والعلوم
اعتنقوا مبدءا لا يروقه أن يقتص أثرهم؟ وهو لا يعلم أن ذلك العزو المختلق تقولوه دعاية
إلى ضلالهم وترويجا لباطلهم وسترا على عوارهم.
دع ذلك كله وهلم معي إلى النظر في مبادئ الشيوعية والفرق الاشتراكيين،
إن القوم على تعدد فرقهم إلى الاشتراكية " الديمقراطية " والاشتراكية " الوطنية
النازية " والشيوعية، والماركسية " اشتراكية رأس المال " وبالرغم من تباينهم الكثير
في شتى النواحي لا يختلفون في مواد ثلاثة تجمع شملهم المبدد " بدد الله شملهم ".
1 تقويض النظام الحالي، وتشييد نظام جديد على أنقاضه يضمن توزيع الثروة
توزيعا عادلا بين الأفراد.
2 إلغاء الملكية الخاصة " ثروات الانتاج " كراس المال، والأرض، والمصانع
على أن تستولي الدولة على هذه الملكيات جميعها، وتجعلها ملكية عامة تديرها
للمصلحة العامة.
3 يشتغل الأفراد لحساب الدولة بأجور تعطى لهم بالتساوي، على أساس قيمة
العمل الذي ينتجه كل منهم، وتبعا لذلك لا يكون هناك دخل للأفراد سوى الأجور.
وتنفرد الشيوعية عن بقية الاشتراكيين بأمرين: أحدهما إلغاء الملكية الخاصة
إلغاء نهائيا من غير فرق بين (ثروات الانتاج وثروات الاستهلاك).

(1) تاريخ الطبري 6: 10، كامل ابن الأثير 3: 128، شرح ابن أبي الحديد 1: 485.
344

وثانيهما: توزيعها المال بين الأفراد لكل على حسب حاجته، ويستخدم من كل
على حسب قدرته، فيكلف العامل بالعمل على قدر استطاعته، ويدر عليه المعاش بما
يسد حاجته.
فعلينا هاهنا أن نعيد ذكر ما هتف به أبو ذر في شتى مواقفه، وما رواه عن رسول
الله صلى الله عليه وآله في باب الأموال، وما قال في حقه عظماء الصحابة في الاطراء له والدفاع عنه
بعد هتافه بما هتف، وما يؤثر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله من الثناء الجميل وعهده إليه بما
ينتابه من النكبات فنظر إليها نظرة مستشف للحقيقة فنرى هل ينطبق شئ منها على
مواد (الشيوعية والاشتراكية)؟ أو ينحسر عنه ذلك الإفك المفترى داحرا إلى حضيض
البهت والافتراء؟.
إن من قول أبي ذر لعثمان: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله ورأيت
أبا بكر وعمر؟ هل رأيت هذا هديهم؟ إنك لتبطش بي بطش الجبار.
ومن قوله له أيضا: اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. قال عثمان:
مالك وذلك؟ لا أم لك. قال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.
تجد أبا ذر هاهنا يلفت نظر عثمان إلى عهد الرسالة ثم إلى عهد الشيخين ويدعوه
إلى اتباع تلكم السير، ومن جلية الحال عند هاتيك الأدوار الثلاثة إطراد الملكية
الخاصة، ووجود أهل اليسار من الملاكين، والتجار، وحريتهم في ثروتي الانتاج
والاستهلاك، واختصاص كل مالية من نقود أو عقار أو ضياع أو مصانع أو أطعمة بأربابها
ومن النواميس المسلمة عند نبي الاسلام صلى الله عليه وآله إنه لا يحل مال امرء إلا بطيب
نفسه (1) وفي الذكر الحكيم: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة
عن تراض، فتجده يعزو الأموال إلى أربابها ويحرم أكلها بالباطل إلا أن تستباح بتجارة
شرعية تستتبع رضا المالك الخاص، وهناك آيات كريمة كثيرة تربو على خمسين آية
لم يعدها عزو الأموال إلى مالكيها تقدم شطر منها في صفحة 340.
فأبو ذر في هذا الموقف يدعو إلى ضد الدعوة الاشتراكية الملغية للملكية

(1) مر الحديث ص 129.
345

الخاصة، ويرى مخالفة ذلك من المنكر الذي يجب النهي عنه، فلم يردعه عما مضى فيه
قول عثمان: مالك وذلك؟ لا أم لك.
ومن قوله لمعاوية لما بنى الخضراء، إن كانت هذه الدار من مال الله؟ فهي الخيانة
وإن كانت من مالك؟ فهذا الإسراف
فأبو ذر هاهنا يجوز أن يكون المال مقسوما إلى مال الله وإلى ما يخص للانسان
نفسه، فيرتب على الأول الخيانة، وعلى الثاني السرف، ولم ينقم على معاوية نفس
تصرفه في المال وإنما نقم عليه أحد الأمرين الخيانة أو الإسراف، ولو كان ملغيا للملكية
لكان الواجب عليه أن ينتقد منه أصل تصرفه في تلكم الأموال.
وتراه يسمي مال المسلمين من الفئ والصدقات والغنائم مال الله، وقد روى ذلك
عن رسول الله صلى الله عليه وآله أيضا لعثمان حيث قال له: أشهد إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
إذا بلغ بنوا أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا وعباده خولا، ودينه دخلا
وصدقه في حديثه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام.
وهذه التسمية لم تكن قصرا على عهد أبي ذر ومعاوية وإنما كانت دارة قبله
وبعده، هذا عمر بن الخطاب وقوله لأبي هريرة لما قدم من البحرين: يا عدو الله وعدو
كتابه! أسرقت مال الله؟ قال: لست بعدو الله ولا بعدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما
ولم أسرق مال الله (1).
وقال الأحنف بن قيس: كنا جلوسا بباب عمر فخرجت جارية فقلنا: هذه سرية
عمر فقالت: إنها ليست بسرية عمر إنها لا تحل لعمر، إنها من مال الله. قال: فتذاكرنا
بيننا ما يحل له من مال الله قال: فرقي ذلك إليه فأرسل إلينا فقال: ما كنتم تذاكرون؟
فقلنا: خرجت علينا جارية فقلنا: هذه سرية عمر. فقالت: إنها ليست بسرية عمر إنها
لا تحل لعمر، إنها من مال الله؟ فتذاكرنا بيننا ما يحل لك من مال الله. فقال: ألا أخبركم
بما استحل من مال الله؟ حلتين حلة الشتاء والقيظ (2).
وقال عمر: لا يترخصن أحدكم في البرذعة أو الحبل أو القتب فإن ذلك للمسلمين

(1) الأموال لأبي عبيد ص 269، راجع ما أسلفناه في ج 6 ص 254 ط 1 و 271 ط 2.
(2) الأموال لأبي عبيد ص 268.
346

ليس أحد منهم إلا وله فيه نصيب، فإن كان لانسان واحد؟ رآه عظيما، وإن كان
لجماعة المسلمين؟ إرتخص فيه وقال: مال الله (1).
ومن قوله في حديث: البلاد بلاد الله، وتحمى لنعم مال الله، يحمل عليها في
سبيل الله (2).
وفي حديث من قوله: المال مال الله، والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل عليه في
سبيل الله ما حميت من الأرض شبرا في شبر (3).
وكان عمر كلما مر بخالد قال: يا خالد! أخرج مال الله من تحت استك (4).
وهذا مولانا أمير المؤمنين يقول في خطبته الشقشقية (5): إلى أن قام ثالث القوم
نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة
الربيع.
وفي خطبة له عليه السلام: لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف؟ والمال مال الله، ألا
وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف (6).
ومن كتاب له إلى عامله بآذربيجان: ليس لك أن تقتات في رعية، ولا تخاطر
إلا بوثيقة، وفي يديك مال من مال الله عز وجل وأنت من خزانه (7).
ومن كتاب له إلى أهل مصر: ولكنني آسي أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها
وفجارها فيتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا (8)
ومن كتاب له إلى عبد الله بن العباس: وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه
إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة. (9)
وروي أنه عليه السلام رفع إليه رجلان سرقا من مال الله أحدهما عبد من مال الله والآخر

(1) الأموال لأبي عبيد س 268.
(2) الأموال لأبي عبيد ص 299.
(3) الأموال لأبي عبيد ص 299.
(4) راجع ما أسلفناه في الجزء السادس ص 257 ط 1 و 274 ط 2.
(5) أسلفنا مصادرها في الجزء السابع ص 8782.
(6) نهج البلاغة 1: 242.
(7) نهج البلاغة 2: 6، العقد الفريد: 2: 283.
(8) نهج البلاغة 2: 120.
(9) نهج البلاغة 2: 128.
347

من عروض الناس. فقال عليه السلام: أما هذا فهو من مال الله ولا حد عليه، مال الله أكل بعضه
بعضا. الحديث (نهج البلاغة 2: 202)
كما أن التسمية بمال المسلمين أيضا كان مطردا قبل هذا العهد وبعده، قال عمر
ابن الخطاب لعبد الله بن الأرقم: أقسم بيت مال المسلمين في كل شهر مرة، أقسم مال
المسلمين في كل جمعة مرة. ثم قال: أقسم بيت المال في كل يوم مرة. قال: فقال
رجل من القوم: يا أمير المؤمنين! لو أبقيت في مال المسلمين بقية تعدها لنائبة. سنن
البيهقي 6: 357.
وقال عمر في خالد لما أعطى الأشعث بن قيس عشرة آلاف: إن كان دفعها من
ماله؟ فهو سرف، وإن كان من مال المسلمين؟ فهي خيانة. الغدير 6: 274 ط 2
وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له في ذكر أصحاب الجمل: فقدموا على
عاملي بها وخزان بيت المسلمين وغيرهم من أهلها. ونهج البلاغة 1: 320.
وقال لعبد الله بن زمعة: إن هذا المال ليس لي ولا لك وإنما هو فئ للمسلمين
نهج البلاغة 1: 461.
ومن كتاب له إلى زياد بن أبيه: وإني أقسم بالله قسما صادقا لئن بلغني إنك
خنت من فئ المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدن عليك شدة. نهج البلاغة 2: 19.
وفي كتاب لعبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر بن عبد العزيز: إني قد أخرجت
للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال. فكتب إليه: انظر كل من أدان في غير
سفه ولا سرف فاقض عنه. فكتب إليه: إني قد قضيت عنهم وبقي في بيت مال المسلمين
مال فكتب إليه: أن انظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه وأصدق عنه. فكتب
إليه: إني قد زوجت كل من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مال. (الأموال
لأبي عبيد ص 251)
ولكل من التسميتين وجه معقول، أما التسمية بمال الله فلأنه لله سبحانه و
هو الآمر بإخراجه ومعين النصب، ومبين الكميات المخرجة، ومشخص المصارف و
المستحقين، وأما التسمية بمال المسلمين فلأنهم المصرف والمدر له، فلا غضاضه على
أبي ذر لو سماه بأي من الاسمين، ولا يعرب أي منهما عن مبدء سوء.
348

وما رواه الطبري في تاريخه 5: 66 من طريق عرفناك رجاله في ص 337333
وإنه باطل لا يعول عليه من إنه لما ورد ابن السوداء (1) الشام لقي أبا ذر فقال: يا
أبا ذر! ألا تعجب إلى معاوية يقول: المال مال الله، ألا إن كل شئ لله؟ كأنه يريد أن
يحتجنه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذر فقال: ما يدعوك إلى أن تسمي
مال المسلمين مال الله: قال: يرحمك الله يا أبا ذر! ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه
والأمر أمره؟ قال: فلا تقله. قال: فإني لا أقول: إنه ليس لله ولكن سأقول: مال المسلمين.
فهذا بعد الغض عن إسناده الباطل ومتنه الركيك وبعد الاغضاء عن أن مثل أبي
ذر الذي هو من أوعية العلم وعلب الفضائل وحملة الرأي السديد ليس بالذي يحركه
ابن السوداء اليهودي فيعيره أذنا واعية ثم يمضي لما ألقاه عليه من التلبيس فيخبط
الجو ويعكر الصفو. فقصارى ما فيه إن أبا ذر وجد معاوية متدرعا بهذه التسمية إلى
الحيف في أموال المسلمين والتقلب فيها على حسب الميول والشهوات بإيهام إن المال
مال الله فهو مباح لعبيده يتصرف كل منهم فيه كيف شاء ويتملك منه ما شاء كالمباحات
الأصلية، فأراد أبو ذر أن يدحر حجته الداحضة ورأيه الضئيل بأن المال للمسلمين كافة
بأمر من مالكه الأصلي جلت آلائه فليس لأحد أن يستبد بشئ منه دونهم، ويستغله
بحرمانهم واكتناز الذهب والفضة، وفيهم أمس الحاجة إلى مقدراتهم.
ويعرب عن رأي معاوية ما جرى بينه وبين صعصعة بن صوحان، رواه المسعودي
في مروج الذهب 2: 79 من طريق إبراهيم بن عقيل البصري قال: قال معاوية يوما
وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب علي وعنده وجوه الناس: الأرض لله، وأنا
خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي، وما تركت منه كان جائزا لي، فقال صعصعة:
تمنيك نفسك ما لا يكون جهلا معاوي! لا تأثم
فهذا الحوار بين أبي ذر ومعاوية في منتأى عن إثبات المالكية ونفيها، وليس فيه
إلى المبدأ الاشتراكي أي طرف رامق، وتعرف عن رأي معاوية خطبة الأرحبي
المذكورة ص 344.

(1) يعني عبد الله بن سبأ اليهودي الممقوت لكافة فرق المسلمين خصوصا الشيعة منهم فإنه محكوم
عليه عندهم بالكفر وقد نقم عليه وعلى أصحابه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لإلحادهم.
349

ومن كلمات أبي ذر قوله لمعاوية لما بعث إليه بثلاثمائة دينار: إن كانت من عطائي
الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها.
فإنك تشهد هاهنا أبا ذر يقسم المال إلى العطاء المفترض الذي منع منه عامه ذلك
" لأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر " وإلى المال المملوك الذي يخرج منه الصلة بطوع
من صاحبه ورغبة، فإن الصلة من المروءات وهي لا تكون إلا من خالص مال الرجل،
ومن غير الحقوق الإلهية، ومن غير الأموال المسروقة، فأين هو عن إلغاء الملكية الذي
هو الحجر الأساسي للاشتراكيين؟ على أنه ليس عندهم صلة ولا غيرها من حقوق
الانسانية وإنما هي عندهم أجور على قيم أعمال الرعية.
رواياته في الأموال
وأما ما رواه أبو ذر في باب الأموال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينادي بما لا يلائم
الاشتراكية قط وإليك جملة منه:
1 ما من مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله عز وجل إلا استقبلته
حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده. قلت: وكيف ذلك؟ قال صلى الله عليه وآله: إن كانت رجالا
فرجلين، وإن كانت إبلا فبعيرين، وإن كانت بقرا فبقرتين.
وفي لفظ: من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنة (1).
ففيه إثبات المال لكل إنسان بالرغم من المبدأ الاشتراكي، والترغيب بالتطوع
بالانفاق في سبيل الله من كل نوع زوجين.
2 في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البر صدقته.
3 ما من رجل يموت فيترك غنما أو إبلا أو بقرا لم يؤد زكاته إلا جاءت يوم
القيامة أعظم ما تكون وأسمن حتى تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها.
وفي لفظ: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة
الحديث (2).

(1) أخرجه أحمد في مسنده 5: 151، 153، 159، 164.
(2) مسند أحمد 5: 152، 158، 169، 179، الأموال لأبي عبيد ص 355، سنن
ابن ماجة 1: 544.
350

فهي تثبت المالية وإنه لا فريضة على الانسان في ماله غير الزكاة، وهي من بعضها
وإن الباقي لصاحبه، رضي الاشتراكي أو غضب.
وأما ما وقع له مع كعب الأحبار في مشهد عثمان وهو من عمدة ما تشبث
به المتحاملون على أبي ذر وقاذفوه مما أخرجه الطبري بإسناده الواهي عن السري
الكذاب الوضاع، عن شعيب المجهول الذي لا بعرف، عن سيف بن عمر الوضاع المتهم
بالزندقة الذين عرفت حالهم في صفحة 327326 من طريق ابن عباس قال: كان أبو ذر
يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الإعرابية وكان يحب الوحدة والخلوة فدخل على
عثمان وعنده كعب الأحبار فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا
المعروف، وقد ينبغي لمؤدي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان
ويصل القرابات فقال كعب: من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه. فرفع أبو ذر محجنه
فضربه فشجه فاستوهبه عثمان فوهبه له وقال: يا أبا ذر! إتق الله واكفف يدك ولسانك.
وقد كان قال له: يا ابن اليهودية ما أنت وما هاهنا؟ والله لتسمعن مني أو لأدخل عليك (1).
ومر ص 295 في لفظ المسعودي: إن أبا ذر حضر مجلس عثمان ذات يوم فقال
عثمان: أرأيتم من زكى ماله هل فيه حق لغيره؟ فقال كعب: لا يا أمير المؤمنين! فدفع
أبو ذر في صدر كعب وقال له: كذبت يا ابن اليهودي ثم تلا: ليس البر أن تولوا وجوهكم
قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب
والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل
والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا. الآية (2)
فقال عثمان: أترون بأسا أن نأخذ مالا من بيت مال المسلمين فننفقه فيما ينوبنا من
أمورنا ونعطيكموه؟ فقال كعب: لا باس بذل. فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر
كعب وقال: يا ابن اليهودي! ما أجرأك على القول في ديننا؟ فقال له عثمان: ما أكثر
أذاك لي؟ غيب وجهك عني فقد آذيتني فخرج أبو ذر إلى الشام (3)

(1) تاريخ الطبري 5: 67.
(2) سورة البقرة: 177.
(3) هذه القضية كما ترى وقعت قبل إخراج أبي ذر إلى الشام وهي السبب الوحيد في نفيه
إليها فهذا اللفظ يكذب ما في رواية الطبري من أن أبا ذر كان يختلف من الربذة إلى المدينة. الخ.
ولم يختلف اثنان في أن أبا ذر في مدة نفيه إلى الربذة لم يأت قط إلى المدينة كما مر في ص 333.
351

فإنما دعا أبو ذر في هذه الواقعة إلى العطاء المندوب المدلول عليه بقوله:
" ينبغي " الوارد في رواية الطبري، وبالآية الكريمة الواردة في حديث المسعودي،
وهو من واجبات البشرية وفروض الانسانية التي ضيعتها الشيوعية الممقوتة، و
الأحاديث المرغبة لكل مما ذكر أبو ذر أكثر من أن تحصى.
جاء من طريق فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وآله إنه قال: إن في المال حقا
سوى الزكاة ثم قرأ: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن
البر من آمن بالله واليوم الآخر. الآية المذكورة. وروى بيان وإسماعيل هذا الحديث
عن الشعبي.
أخرجه ابن أبي حاتم والترمذي وابن ماجة وابن عدي وابن مردويه والدار قطني
وابن جرير وابن المنذر. راجع سنن البيهقي 4: 84، أحكام القرآن للجصاص 1:
153، تفسير القرطبي 2: 223، تفسير أين كثير 1: 208، شرح سنن ابن ماجة 1: 546
تفسير الشوكاني 1: 151، تفسير الآلوسي 472.
وأخرج البخاري في الصحيح في كتاب الزكاة 3: 29 من طريق أنس قال: كان
أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (1) وكانت
مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس:
فلما أنزلت هذه الآية: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول: لن تنالوا البر حتى تنفقوا
مما تحبون. وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند
الله فضعها يا رسول الله! حيث أراك الله قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: بخ ذلك مال رابح،
ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة:
أفعل يا رسول الله! فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وأخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي مختصرا.
وأخرج أبو عبيد في الأموال ص 358 من طريق ابن جريج قال: سال المؤمنون رسول
الله صلى الله عليه وآله: ماذا ينفقون؟ فنزلت: يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين

(1) بيرحاء. بفتح الموحدة والراء المهملة: موضع بقرب المسجد بالمدينة يعرف بقصر بنى جديلة.
352

والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل. قال: فتلك التطوع والزكاة سوى ذلك.
وقال أبو عبيد في الأموال ص 358: إن هذا مذهب ابن عمر وأبي هريرة، وأصحاب
رسول الله أعلم بتأويل القرآن وأولى بالاتباع، ومذهب طاوس والشعبي إن في المال
حقوقا سوى الزكاة مثل بر الوالدين، وصلة الرحم، وقرى الضيف، مع ما جاء في المواشي
من الحقوق.
وفي الأموال ص 358 من طريق أبي حمزة قال: قلت للشعبي: إذا أديت زكاة
مالي؟ قال: فقرأ علي هذه الآية: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب
ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر. إلى آخر الآية المذكورة.
فنداء أبي ذر في موقفه هذا نداء القرآن الكريم ونداء المشرع الأعظم ونداء
تابعيهما من الصحابة والتابعين، ولا يرد ذلك إلا مثل كعب الأحبار الذي هو حديث عهد
باليهودية، وقد اعتنق الاسلام أمس، على حين إنه لم يسلم طيلة عهد النبوة وإنما
سالم على عهد عمر، ولا أدري هل حدته إلى ذلك الحقيقة؟ أو الفرق من بطش المسلمين
وشوكتهم؟ أو الطمع في العطاء الجاري؟ ولا أدري أيضا إنه في مدة إسلامه القصيرة هل
أحاط خبرا بنواميس الاسلام وفروضه وسننه أو لا؟ ولا أحسب. كما أوعز إليه أبو ذر
الناظر إليه من كثب حيث قال له: يا ابن اليهودية ما أنت وما هاهنا؟ وكان من حقه
أن يؤدب بالمحجن كما فعله سيد غفار ساء الخليفة أم سره لأنه لم يكن أهلا
للفتيا فأفتى تجاه عالم من علماء الصحابة الذي ملأ إهابه العلم بالكتاب والسنة، و
حشو ردائه الفروض والسنن، ولا يفرغ إلا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وما أظلت الخضراء
وما أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق وأوفى من أبي ذر.
الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم
فيسخرون بينهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم. " التوبة " 79.
وإثبات العطاء مندوبا ومفترضا فرع إثبات المالية للأشخاص، ولا تتفق معه
الشيوعية بحال، وأين يقع أبو ذر منها؟.
4 ثلاثة يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم.
وفي لفظ: إن الله يبغض الشيخ الزاني، والفقير المختال، والمكثر البخيل.
353

وفي لفظ: إن الله لا يحب كل مختال فخور، والبخيل المنان، والتاجر الحلاف (1).
في هذه الروايات ذكر لاختلاف طبقات الناس وحدودهم بما يملكون، فقير وغني
ومكثر وتاجر الذي تقوم تجارته برأس ماله، والاشتراكي يرى إن الناس شرع
سواء بالنسبة إلى الأموال.
5 قلت: يا رسول الله! ذهب الأغنياء بالار يصلون ويصومون ويحجون قال:
وأنتم تصلون وتصومون وتحجون. قلت: يتصدقون ولا نتصدق. قال: وأنت فيك
صدقة: رفعك العظم عن الطريق صدقة، وهدايتك الطريق صدقه، وعونك الضعيف
بفضل قوتك صدقة، وبيانك عن الارتم صدقة، ومباضعتك امرأتك صدقة. قال: قلت:
يا رسول الله! نأتي شهوتنا ونؤجر؟ قال: أرأيت لو جعلته في حرام أكان تأثم؟ قال: قلت:
نعم. قال: فتحتسبون بالشر، ولا تحتسبون بالخير؟
وفي لفظ: قالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور يضلون كما نصلي و
يصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: فقال رسول الله: أوليس قد جعل
الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة وبكل تحميدة صدقة. الحديث.
وفي لفظ: قيل للنبي صلى الله عليه وآله: ذهب أهل الأموال بالأجر. فقال النبي صلى الله عليه وآله:
إن فيك صدقة كثيرة فذكر فضل سمعك فضل بصرك. الحديث.
وفي لفظ: على كل نفس في كل يوم طلعت فيه الشمس صدقة عنه على نفسه. قلت:
يا رسول الله: من أين تصدق وليس لنا أموال؟ قال: لأن من أبواب الصدقة: التكبير،
وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، واستغفر الله، وتأمر بالمعروف وتنهى عن
المنكر، وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى وتسمع
الأصم والأبكم حتى يفقه، وتدل المستدل على حاجة له وقد علمت مكانها، وتسعى
بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف. كل ذلك

(1) مسند أحمد 5: 153، 176، وأخرجه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه والنسائي
والترمذي في باب كلام الحور العين وصححه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، راجع
الترغيب والترهيب للمنذري 1: 247، و ج 2، 230، 238.
354

من أبواب الصدقة منك على نفسك (1)
وفي هذه الأحاديث تقرير الأغنياء وأهل الدثور والأموال على أحوالهم المنوطة
بالوفر المخصوص بهم واليسار الممنوح لهم وإنه ليس منهم، وذكر الصدقة من فضول
أموال المثرين، والتأسف على ما يفوت الفقراء من صدقاتهم بالأموال فرضا وتطوعا،
وأين يثبت الاشتراكي مالا لأحد فيثبت له فضولا؟ ومتى يرى في العالم غنيا غير غاصب؟
وأنى يبقى موضوعا للصلات والصدقات وفروض الانسانية؟ لكن روايات أبي ذر تثبت
كل ذلك.
6 أمرني خليلي صلى الله عليه وآله بسبع أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن
أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي.
وفي لفظ: أوصاني حبي بخمس: أرحم المساكين وأجالسهم وأنظر إلى من هو
تحتي ولا أنظر إلى من هو فوقي (2).
ومما لا غبار عليه إن المراد من الدون والتحت في الحديثين: من هو دونه في
المال ليشكر الله سبحانه على تفضيله عليهم، ولا ينظر إلى من فوقه لئلا يشغله الاستياء
أو الحسد على تفضيل غيره عليه عن الذكر والشكر والنشاط في العبادة، وأما الأعمال
والطاعات والملكات الفاضلة، فينبغي للانسان أن ينظر إلى من هو فوقه فيها ليتنشط
على مثل عمله فيتحرى شأوه، ولا ينظر إلى من هو دونه فيفتر عن العمل ويقعد عن
اكتساب الفضائل والفواضل، وربما داخله العجب.
ففي الحديثين إثبات المالية والتفاضل فيها بالرغم من المبدأ الشيوعي.
7 ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول: اللهم
خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه. أو: أحب
أهله وماله إليه (3).
نحن لا نحتج هنا بدعوة الفرس ورأيه لكن بما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله من إلهام

(1) مسند أحمد 5: 154، 167، 178، صحيح مسلم 3: 82، سنن البيهقي 4: 188.
(2) مسند أحمد 5: 159، 173، حلية أبي نعيم 1: 160.
(3) مسند أحمد 5: 170.
355

الله سبحانه إياه أنه يدعو بتلك الدعوة وفيها إثبات التخويل والمالية وإن أزور عنهما
الشيوعي.
هذه جملة من روايات أبي ذر الصدوق المصدق تضاد بنصها ما اتهم به من
المبدأ الممقوت، وإن هي إلا نداء القرآن الكريم وما صدع به الرسول الأمين.
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله
وأولئك هم أولوا الألباب، فأما الذين في قلوبهم زيغ
فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة
وابتغاء تأويله
سورة الزمر 18، سورة التوبة 89
356

نظرة في الكلمات
الواردة في إطراء أبي ذر هل تلائم ما اتهم به؟
أما ثناء الصحابة عليه بعد نفيه ودؤبه على ما هتف به فحسبك من ذلك قول مولانا
أمير المؤمنين عليه السلام: إنك غضبت لله فارج من غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم
وخفتهم على دينك. إلى آخر ما مر في صفحة 300.
صدرت هذه الكلمة الذهبية من الإمام عليه السلام في منصرم ما صعد به أبو ذر وصوب
فليس له بعد هذا إلا طفائف سمعها منه من زاره بالمنفى الربذة فلم يكن لها شأن
كبير، وفي الكلمة صراحة بأن غضب أبي ذر كان لله فعليه أن يرجو من عضب له،
وهو فرع رضا الله سبحانه على ما ناء به ودعا إليه، وإن ما لهج به مما أغضب القوم كانت كلمة
دينية محضة تجاه الدنيوية المحضة التي خافها أبو ذر على دينه وخافها القوم على دنياهم،
فامتحنوه بالقلى ونفوه إلى الفلا، وإن هو الرابح غدا، وإنما القوم حاسدوه، وأي من
هذه تلتئم مع الشيوعية التي هي مادية محضة ليس بينهما وبين مرضاة الله تعالى أي صلة؟.
أتحسب إن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أطرى أبا ذر بهذا الإطراء البالغ ويقول
في كلمته الأخرى لعثمان: إتق الله سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك
فيراه صالحا ويرى هلاكه في ذلك التسيير حوبا لا يصدر من المتقي، إنه أطراه وهو غير
مستشف لنظريته؟ ولا عارف بنفسيته؟ وهو كروحه التي بين جنبيه، أو أنه يوافقه
على المذهب الشيوعي؟ أو أنه يراغم أعداءه مع حيطته بباطله؟ وقد قال لعثمان " وهو
الصادق الأمين ": والله ما أردت مساءت ولا الخلاف عليك ولكن أردت به قضاء حقه.
وأي حق للشيوعي متحري الفساد في الجامعة وباخش حقوق الأمة؟ وإنما الحق
للمؤمن الكامل في نفسه، المحق في دعاءه، الصالح في رأيه.
وهناك ما هو أصرح من ذلك في كون أبي ذر محقا وإن نظرية من خالفه من
الباطل المحض وهو قول الإمام في ذيل كلمته في توديع أبي ذر! يا أبا ذر! لا يؤنسنك إلا
357

الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل، وأي اشتراكي. يكون هكذا؟ نعوذ بالله من السفاسف
أضف إلى كلمة الإمام قول ولده الإمام الزكي السبط المجتبى أبي محمد الحسن
لأبي ذر: قد أتى من القوم إليك ما ترى فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها، واصبر حتى تلقى
نبيك وهو عنك راض. راجع ص 301.
فترى الإمام المعصوم يتذمر مما أصاب أبا ذر من القوم ويأمره بالصبر المقابل
بالأجر الجزيل، وأنه سيلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو عنه راض، وهل تجد توفيقا بين
الرسول ومعتقد الإمام المجتبى وبين الشيوعية؟ ذلك المعول الهدام لأساس دين
المصطفى وسنة الله التي لن تجد لها تحويلا.
واشفع الكلمتين بقول الإمام السبط الشهيد أبي عبد الله لأبي ذر: قد منعك القوم
دنياهم ومنعتهم دينك، فاسأل الله الصبر والنصر.
وهذه الكلمة لدة كلمات أبيه وأخيه صلوات الله عليهم في المصارحة بأن دعوة
أبي ذر كانت دينية ولم يكن فيها أي شذوذ، ودعوة مناوئيه دنيوية، والمرجع في
الإفراج عنه إزاء ما انتابه من المحن هو الله، لرضاه سبحانه بدعوة المنكوب وسخطه
على من نال منه، ولا يحسب عاقل إن شيئا من ذلك يلتأم مع الاشتراكية الممقوتة
وبعد تلكم الكلمات الذهبية خطاب عمار بن ياسر أبا ذر بقوله: لا آنس الله
من أوحشك ولا آمن من أخافك، والله لو أردت دنياهم لآمنوك، ولو رضيت أعمالهم
لأحبوك.
أيجوز لمسلم عادي فضلا عن مثل عمار الذي لا يفارق الحق ولا يفارقه نصا من
النبي الكريم أن يدعو على أناس نكبوا بعائث في المجتمع الديني المقلق فيهم السلام
بذلك الدعاء المجهد؟ ويحكم عليهم بأنهم أهل دنيا غرتهم الأماني، وإن أعمالهم غير
مرضية، وانهم خسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين؟.
يدعو عليهم بذلك في مشهد إمام معصوم خشن في ذات الله كمولانا أمير المؤمنين
وشبليه السبطين الحسنين ثم لا ينكر ذلك عليه أحد منهم. إن هذا لا يكون.
وإن مشايعة القوم لأبي ذر قبل هذه الكلمات كلها مع العلم بنهي الخليفة عنها
إشادة بأمره، وتصديق لمقاله، والإمام يرى إن النهي عن مشايعته معصية أو أنه خلاف
358

الحق لا يتبع كما قاله لعثمان (1) ولا يجتمع شئ من ذلك مع ما قذفوه به من الطامة
الكبرى.
كانت الصحابة كلهم المهاجرون منهم والأنصار ينقمون ما نيل به أبو ذر من النفي
والتعذيب، وكان قيل النقمة بين شفافهم، وفي طيات قلوبهم، وأسطر خطاباتهم، يوم التجمهر
ويوم الدار، وكانت إحدى العلل المعدة لما جرى هنالك من مغبات الأعمال، فلم
تكن الغضبة عمن ذكرنا أسماءهم بدعا من جمهرة الأصحاب غير إن منهم من صبها
في بوتقة الاطراء لأبي ذر، ومنهم من أفرغها في قالب العيب على من نال منه، ولهم
هنالك لهجات مختلفة في الصورة متحدة في المآل، ولذلك عد المؤرخون مما
أنكر الصحابة من سيرة عثمان تسييره أبا ذر. وقال البلاذري: قد كانت من عثمان قبل
هنات إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار فكان في قلوب هذيل وبني زهرة وبني غفار
وأحلافها من غضب لأبي ذر (2)
وهذه النقمة العامة المنبعثة عن مودة القوم لأبي ذر مودة خالصة دينية وإخاء
في الإيمان وولاء في الطريقة المثلى كل ذلك أخذا بما وعوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله في
أبي ذر وهديه وسمته ونسكه وتقواه وإيمانه وصدقه. لا تلتأم مع شئ مما قذفوا به أبا
ذر من الشيوعية، أو تقول: أن الصحابة كلهم شيوعيون. أعوذ بالله من الفرية الشاينة
ولو كان أبو ذر شيوعيا؟ كان في الحق نفيه عن أديم الأرض لا عن المدينة فحسب، و
كان من واجب الصحابة أن يرضوا بذلك الحكم البات. قال الله تعالى: إنما جزاء الذين
يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم
وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب
عظيم (3) وأي فساد في الأرض أعظم من هذا المبدأ التعيس المضاد للكتاب والسنة؟
وفي الكتاب الكريم قوله سبحانه: أهم يقسمون رحمة ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم

(1) راجع صفحة 297 و 303.
(2) أنساب البلاذري 5: 26، تاريخ اليعقوبي 2: 150، مروج الذهب 1: 438، 441
، الرياض النضرة 2: 124، تاريخ ابن خلدون 2: 385، الصواعق ص 68، تاريخ الخميس
2: 261.
(3) سورة المائدة: 33.
359

في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة
ربك خير مما يجمعون (1) وأما السنة الشريفة فحدث عنها في باب الأموال والاختصاص
فيها وتقرير خير مما يجمعون (1) وأما السنة الشريفة فحدث عنها في باب الأموال والاختصاص
فيها وتقرير ميسرة الأغنياء ولا حرج. وبذلك كله تقوم دعائم المدنية، وتشاد علالي
الحضارة الراقية.
* ثناء النبي صلى الله عليه وآله عليه وعهد إليه *
أما ما أثر عن نبي الاسلام من ذلك فقد قدمنا شطرا منه في صفحة 319312
ولا منتدح من أن نقول: إن نبي العظمة كان جد عليم بواسع علم النبوة بما سوف
ينوء به أبو ذر في خواتيم أيامه بأقوال وأعمال تبهظ مناوئيه، وكان يعلم أيضا إن
أمته سيتخذون كل ما لهج به أصولا متبعة، فلو كان يعلم في أبي ذر شذوذا. لما
أغرى الأمة بموافقته بتلكم الكلم الدرية، على أنه صلى الله عليه وآله عهد إليه وأخبره إن ما يصيبه
من الكوارث من جراء ما يدعو إليه في الله وبعينه، فلا يعقل أن يكون في رأيه شذوذ
عن طريقة الدين، بل كان من واجبه صلى الله عليه وآله أن ينبهه على خطأه في الرأي وغلطه في
الدعوة، فإذ لم يفعل واشفع ذلك بثنائه البالغ عليه وعهده إليه علمنا أن أبا ذر هو ذلك
البر التقي، ورجل الاصلاح، ومثال العطف والحنو على ضعفاء الأمة، وطالب الخير
والسعادة لأقوياءها، ولقد تحمل الشدائد لينقذ المكبين على الدنيا من مغبة العمل
السئ، وليسعد آخرين برغد العيش وبلهنية الحياة، موصولة حلقات حياتهم الدنيا
بدرجات الآخرة العليا، لكن جهلوه وجهلوا أمره وجهلوا حقه، وأضاعوه وإي فتى
أضاعوا؟ وأضاعوا فيه وصية نبيه صلى الله عليه وآله وناوءه قوم ليسوا له بأكفاء.
ولو أني بليت بهاشمي * خؤولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن * تعالوا وانظروا بمن ابتلاني
فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
" الصف آية 14 "
360

نظرة في مقال
أصدرته لجنة الفتوى بالأزهر
جاء في جريدة الوقت المصرية العدد الثاني لسنتها الأولى الموافقة سنة 1367 ما نصه:
(لجنة الفتوى بالأزهر تقول: " لا شيوعية في الاسلام " عن الأهرام الغراء)
كانت وزارة الداخلية قد أحالت إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر
كتابا وتنال فيه مؤلفه مذهب العالم الصحابي أبي ذر الغفاري غفر الله له، وخلص من
بحثه إلى القول بوجود (الشيوعية في الاسلام) وذلك لكي تعرف الوزارة رأي الدين
في ذلك، وما إذا كان هذا الكتاب يمكن تداوله. وقد أحال فضيلة الأستاذ الأكبر هذا
الموضوع إلى لجنة الفتوى في الأزهر، فاجتمعت برئاسة فضيلة الأستاذ الشيخ عبد المجيد
سليم المفتي السابق ورئيس هذه اللجنة، وبحثت موضوع الكتاب بحثا مستفيضا، ثم
أصدرت فيه فتواها وقد تلقت وزارة الداخلية هذه الفتوى من فضيلة الأستاذ الأكبر.
وهذا نصها بعد الديباجة:
* لا شيوعية في الاسلام *
إن من مبادئ الدين الاسلام احترام الملكية ولن لكل امرئ أن يتخذ
من الوسائل والسبل المشروعة لاكتساب المال وتنميته ما يحبه ويستطيعه ويتملك بهذه
السبل ما يشاء، هذا وقد ذهب جمهور من الصحابة وغيرهم من الفقهاء المجتهدين إلى أنه
لا يجب في مال الأغنياء إلا ما أوجبه الله من الزكاة والخراج والنفقات الواجبة بسبب
الزوجية أو القرابة وما يكون لعوارض موقتة وأسباب خاصة كإعانة ملهوف وإطعام
جائع مضطر، وكالكفارات وما يتخذ من العدة للدفاع عن الأوطان وحفظ النظام
إذا كان ما في بيت مال المسلمين لا يكفي لهذا، ولسائر المصالح العامة المشروعة كما هو
مفصل في كتب التفسير وشروح السنة وكتب الفقه الاسلامي. هذا هو الواجب. غير إن
الاسلام يدعو كل قادر من المسلمين أن يتطوع بما شاء من ماله يصرفه في وجوه البر
361

والخير مع عدم الإسراف والتبذير في ذلك كما قال الله تعالى: " ولا تجعل يدك مغلولة
إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا " وكما قال عز وجل في وصف عباده
الذين أثنى عليهم: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " و
كما تدل عليه السنة في أحاديث كثيرة. وذهب أبو ذر الغفاري رضي الله عنه إلى إنه
يجب على كل شخص أن يدفع ما فضل عن حاجته من مال مجموع عنده في سبيل الله
أي في سبيل البر والخير وإنه يحرم ادخاره ما زاد عن حاجته ونفقته ونفقة عياله.
هذا هو مذهب أبي ذر ولا يعلم أن أحدا من الصحابة وافقه عليه. وقد تكفل
كثير من علماء المسلمين برد مذهبه وتصويب ما ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين
بما لا مجال للشك معه في أن أبا ذر رضي الله عنه مخطئ في هذا الرأي. والحق إن
هذا مذهب غريب من صحابي جليل كأبي ذر وذلك لبعده عن مبادئ الاسلام وعما
هو الحق الظاهر الواضح، ولذلك استنكره الناس في زمنه واستغربوه منه، قال الآلوسي
في تفسيره بعد ما بين مذهبه ما نصه: (وكثر المعترضون على أبي ذر في دعواه تلك وكان
الناس يقرأون له آية المواريث ويقولون: لو وجب إنفاق كل المال لم يكن للآية وجه.
وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حل مستغربين منه ذلك. ا ه‍.
ومن هذا يتبين إن هذا الرأي خطأ وصاحبه مجتهد مغفور له خطؤه
بل مأجور على اجتهاده، ولكنه لا يتابع فيما أخطأ فيه بعد تبيين إنه خطأ لا يتفق
هو وما يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله وقواعد الدين الاسلامي.
ولما كان مذهبه داعيا إلى الاخلال بالنظام والفتنة بين الناس طلب معاوية والي
الشام من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يستدعيه إلى المدينة وكان أبو ذر وقتئذ في
الشام فاستدعاه الخليفة فأخذ أبو ذر يقرر مذهبه ويفتي به ويذيعه بين الناس فطلب
منه عثمان: أن يقيم بجهة بعيدة عن الناس فأقام (بالربذة) (مكان بين مكة والمدينة)
قال ابن كثير في تفسيره: كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد
على نفقة العمال. وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه
معاوية فلم ينته فخشي أن يضر بالناس في هذا فكتب يشكوه إلى عثمان وأن يأخذه إليه
فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالربذة وحده وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان.
362

وجاء في فتح الباري للحافظ ابن حجر ما خلاصته: (إن دفع المفسدة مقدم على
جلب المصلحة ولذلك أمر عثمان أبا ذر أن يقيم بالربذة مع أن في بقائه بالمدينة مصلحة
كبيرة لطالبي العلم لما في بقائه بالمدينة من مفسدة تترتب على نشر مذهبه)
ومما ذكرنا يتبين إن ما في هذا الكتاب (الشيوعية في الاسلام) لا يتفق هو
ومبادئ الاسلام وقواعده. كما يتبين إنه لا شيوعية في الاسلام بالمعنى الذي يفهمه
الناس، والذي صرح به صاحب هذا الكتاب وسماه (شيوعية الاسلام) ومن أجل هذا
نرى ألا يذاع مثل هذا الكتاب بين الناس لئلا يتخذها المفسدون في الأرض الهدامون
للنظم الصالحة ذريعة للاخلال بالنظام وإفساد عقول ضعفاء الإيمان والجاهلين بمبادئ
الاسلام.
* (قال الأميني) *: إن الوزارة الداخلية أو شيخ الأزهر لو أحال كل منهما
النظر في هذه المهمة إلى لجنة عارفة بحال أبي ذر، واقفة على مقاله، مطلعة على كتب
الحديث والسير والتفاسير، بصيرة على ما فيها من الغث والثمين، خالية عن الأغراض،
بعيدة عن النعرات الطائفية، لحكمت بما هو الحق الصراح، وعرفت إن ما دعا إليه
أبو ذر لم يكن خارجا عما سردته هي في مفتتح مقالها من اعتبار المالكية لكل إنسان،
وما يجب عليه إنفاقه من المال، وما يتطوع به الرجل من النفقات، وقد أوقفناك قبل هذا
على كل ذلك، وأن هياجه لم يكن موجها إلا إلى أناس معلومين كانوا يكنزون الذهب
والفضة ولا ينفقون منها في سبيل الله، ويحرمون الأمة من منافعها المفروضة لها فضلا
عن المندوب إليها والمرغب فيها. وبذلك كله تعرف إن ما عزت إليه اللجنة الحاكمة
من غير بصيرة من وجوب إنفاق ما فضل من المال على حاجة الانسان ونفقته ونفقة
عياله زور من القول، وفند من الرأي، وليتها أشارت إلى مصدر ما ادعته من مذهب
أبي ذر الذي حسبته مخالفا لجمهور الصحابة والتابعين، وقد أسلفنا لك جملة مما أثر
عنه في ذلك، وليس في شئ منه أي دلالة على ما ادعته من العز والمختلق، وليتها بينت
العلماء الذين تصدوا لنقض مذهب أبي ذر، وأشارت إلى ما جاءوا به في تدعيم حجتهم،
ولعلها أرادت بهم المؤرخ محمد الخضري، وأحمد أمين، وصادق إبراهيم عرجون، وعمر
أبي نصر، ومحمد أحمد جاد المولى بك، وعبد الحميد بك العبادي، وأمثالهم من المحدثين
363

المتسرعين الذين منيت بهم البلاد والعباد.
وأسلفنا لك أيضا قول عظماء الصحابة في أبي ذر وموافقتهم له على حقيقة رأيه،
واستيائهم لما نكب به من جراء ذلك، وإجماع صلحائهم على إن ما جاء به كان رأيا
صحيحا دينيا محضا مستفادا من الكتاب والسنة.
وعجيب استغرابها مذهب أبي ذر وهي لا تعرفه، وأعجب منه اعتذارها له ببعده
عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح مع قولها باجتهاد أبي ذر، أي اجتهاد
هذا من عيلم أخذ المبادئ من مشرعها يبعد حامله عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق
الظاهر الواضح؟ نعم: كم وكم عند القوم من المجتهدين البعداء آرائهم عن مبادئ الاسلام
كابن ملجم قاتل الإمام أمير المؤمنين، وأبي الغادية قاتل عمار، وابني هند والنابغة قائدي
الفئة الباغية، وأمثالهم؟ (1) لكن شتان بين هؤلاء وسيد غفار؟.
أوليس مما يضحك الثكلى ويبكي كل مسلم؟ أن يحسب إن مذهب أبي ذر
بعيد عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح، وهو الذي لم يعبد الصنم قبل
إسلامه وصلى سنين قبل المبعث الشريف موليا وجهه إلى الله وهو محسن، وهو ربع
الاسلام ورابع المسلمين، وقد طوى جل سنيه على عهد النبوة في صحبة الرسول الأعظم
ولم يفتأ متعلما منه، مصيخا إلى كل ما يدعو إليه ويهتف به، فتنتقش كل تلكم المثل
العليا في نفسه كما تنتقش الصور في المرآة الصافية، بل تثبت فيها كما تثبت في العدسة
اللاقطة.
كان صلى الله عليه وآله يدنيه دون الصحابة إذا حضر، ويتفقده إذا غاب، وكان شحيحا
على دينه حريصا على العلم، وقد سال رسول الله صلى الله عليه وآله عن كل شئ حتى عن مس
الحصى في الصلاة، وقد صب صلى الله عليه وآله في صدره ما صبه جبريل وميكائيل في صدره
صلى الله عليه وآله، وعرفه صلى الله عليه وآله لأمته بأنه شبيه عيسى هديا وسمتا ونسكا وبرا وصدقا و
خلقا وخلقا (2).
وما ظنك برجل قال فيه باب مدينة علم النبي مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لما

(!) ممن أسلفنا ذكرهم في الجزء السابع ص 105، 106 ط 2.
(2) راجع في كل ذلك صفحة 316312 من هذا الجزء.
364

سئل عنه: وعاء ملئ علما ثم أوكى عليه؟ (1)
أوليس من العجب العجاب إن من هو هكذا وهو في عهد النبوة لم يزل في مدينة
الرسول يتلقى منه صلى الله عليه وآله كل إفاضاته، ويستقي من مستقى الوحي يكون مذهبه بعيدا
عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الواضح، ويكون رأي كعب الأحبار اليهودي
حديث العهد بالاسلام أو من بعده بعد لأي من عمر الدهر وقد نمى وترعرع وشب و
شاب في عاصمة الفراعنة يوم غشيت الحقايق ظلمات بعضها فوق بعض قريبا منها و
يكون صاحبه عارفا بها حاكما على مثل أبي ذر بما حكم، كأن الحقايق الإسلامية
نصب عينه دون سيد غفار، أو معلقة على شحمة أذنه يسمع رنتها دون ذلك الصحابي
العظيم؟.
هب أنا تنازلنا للجنة الحاكمة عن كل ما قلناه، ولكن هل يسعنا التغاضي عما
جاء به الحفاظ وأئمة الحديث من طرق صحيحة عن نبي الاسلام صلى الله عليه وآله في إطراء الرجل
والثناء عليه وإكباره وتقرير هديه وهداه مع عدم استثناء شئ من أطواره في أولياته أو
أخرياته؟ وهو العارف بعلم النبوة بكل ما ينهض به أبو ذر بعده، فهلا بدر صلى الله عليه وآله
إلى ردعه عما سينوء به؟ بدل أمره إياه بالصبر على ما ينتابه من جراء ما قام به ودعا
إليه، بدل عده ما أصابه من المحن مما هو لله وفيه، بدل إخباره بكل ما يجري عليه
من النفي والجلاء مقصورا على ذلك من غير ردع.
ونسائل اللجنة الحاكمة عن الذين استنكروا مذهب أبي ذر واستغربوه منه من
الصحابة أهم من علية الصحابة أو من أذنابها؟ وبطبع الحال إنها ستجيبنا إنهم الحكم بن
أبي العاص، وأخوه الحارث بن الحكم، ومروان بن الحكم، والوليد بن عقبة، ومعاوية
بن أبي سفيان، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن خالد، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح،
وإن شئت قلت حثالة من بني أمية البعداء عن مبادئ الاسلام وعما هو الحق الواضح
وهن حذا حذوهم في الإكباب علي حطام الدنيا واكتناز المال من غير حله ممن أقلقوا
السلام، وجروا الويلات إلى خليفة الوقت، وحرموا ضعفاء الأمة عن حقوقهم، وولغوا
في الدماء المحرمة وأثاروها حروبا دامية، وألقحوها فتنة شعواء، فلم تزل عداء محتدما

(1) راجع ص 311 من هذا الجزء.
365

تتلقاها الأجيال من بعدهم حتى انتهت إلى عصرنا الحاضر، وهو الذي حفز اللجنة
الحاكمة على رميها القول على عواهنه، ولكن صافق أبا ذر على رأيه الصحيح الموافق
لمبادئ الدين الإمام أبو السبطين وشبلاه الإمامان وصلحاء الأمة كلهم ومن استاء
لنكبات أبي ذر ونقم بها على خليفة الوقت.
* (حن قدح ليس منها) *
لقد جرأ تقحم هذه اللجنة الجائرة في حكمها " جبران ملكون " الصحافي
النصراني صاحب جريدة الأخبار العراقية في سنتها العاشرة 1368 ه‍ في عددها المتسلسل
2503 الصادر في جمادى الأولى، فطفق يرقص لما هنالك من مكاء وتصدية، والمسكين
لا يعرف مبادئ الاسلام ولو عرفها لا تبعها، ولا مبالغ رجالات المسلمين ولو عرفهم لنزههم
وذب عنهم، لكنه حسب ما لفقوه حقيقة راهنة وصبها في بوتقة من القول هو أربى
في إفادة ما حاولوه غير إنه يطفو عليه القوارص ولواذع قال:
لكن أبا ذر الغفاري يعتقد إنه يتعين على كل فرد أن ينفق في سبيل الله كل
ما يفيض عن حاجته وحاجة أسرته، ولكن لم يعرف إن أحدا من الصحابة شاطره هذا
الرأي، وإنما عارض الكثير من عقلاء المسلمين وحكمائهم في هذا المبدأ، فلا شك إذن في
أن أبا ذر كان مخطئا في رأيه، ولا ينبغي اتباعه بعد أن ثبت أنه خطأ، وإن رأيه لا
يتفق مع القرآن ولا السنة ولا المبادئ الإسلامية وتعاليمها. ا ه‍.
ونحن هاهنا لا نعاتبه ولا نستعتبه، أما الأول فإن الرجل كما قلناه بعيد عن
كل ما يجب أن يقرب منه في أمثال هذه المباحث حتى يتسنى له الحكم البات فيها،
وإنا أحسن ظنه بأولئك المتقولين زاعما إنهم هم الأقرباء من المبادئ الإسلامية
العرفاء بحقيقة ما حكموا به، ولو كان الأمر كما زعم لكان الحق معهم، وإن كان لنا
أن نؤاخذه بأن مرحلة حسن الظن لا يكتفى بها في باب القضاء الحاسم على عظيم من
عظماء الأمة، فكان من واجبه أن يستفرغ وسعه في تحقيق تلكم المزاعم وهو في عاصمة
من عواصم الاسلام " بغداد " وبمطلع الأكمة منه عاصمة الدنيا في العلم والدين " النجف
الأشرف " وفيها العلماء، والمؤلفون، والمحققون، والجهابذة، وعباقرة الوقت في كل
جيل، فكان من السهل عليه أن يستحفي الخبر هنالك أو هاهنا، ولهذا لسنا نستعتبه
366

لخروجه عن الطريقة المثلى في القضاء، ونحن نعد هذه وأمثالها سيئة من سيئات اللجنة
الحاكمة وهي المؤاخذة بها. وكأني بها وهي تحسب إنها تحسن صنعا، وتبتهج بما
نشرته من الحكم الساقط وقذف عظيم من عظماء الأمة بما تبرأ منه ساقة المسلمين،
وتراه دفاعا عن بيضة الاسلام المقدس، وكفاحا للشيوعية الهدامة، وردما لثلمة أتت
على الدين من ذلك المبدء التعس، وكأنها جاءت بقرني حمار لما استشهدت على ما
ارتأته بأقاويل أناس زور عن مواقف الحق والصدق.
شهود اللجنة
لقد استشهدت اللجنة على ما أرادت بكلام الآلوسي وابني كثير وحجر كأنها
لم تجد في أبي ذر كلاما لغير هؤلاء من ناصبي العداوة لأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم
وما أذهلها أو تذاهلت هي عما قدمناه من الكلمات فيه؟ وما كان أغناه عن الركون إلى
هذه التافهات المختلقة المائنة؟ لكنا نعذرها على ذلك لأنها تتحرى ما يدعم دعواها،
وما أشرنا إليه من الكلمات السابقة تنقض تلكم الدعوى وتدحرها، ولذلك اقتصرت
في النقل على بعض تلكم الكلم، وإنما أسقطت البعض الآخر مما لفقوه للتهافت الظاهر
بينها، فكأنها شعرت بذلك فحذفته، وهي تحسب أن البحاثة لا تراجع تلك الكتب
ولا تقف على تناقضها، أو أن الآراء لا مناقشة في حسابها وليس ورائها محاسب ولو بعد
حين، فنقول هاهنا: أما الآلوسي فإليك تمام كلامه في تفسيره 10: 87 قال: في تفسير
قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم
بعذاب أليم.
أخذ بظاهر الآية فأوجب إنفاق جميع المال الفاضل عن الحاجة أبو ذر رضي الله
عنه، وجرى بينه لذلك وبين معاوية رضي الله عنه في الشام ما شكاه له إلى عثمان رضي
عنه في المدينة، فاستدعاه إليها فرآه مصرا على ذلك حتى أن كعب الأحبار رضي الله
عنه قال له: يا أبا ذر! إن الملة الحنيفية أسهل الملل وأعدلها وحيث لم يجب إنفاق كل
المال في الملة اليهودية وهي أضيق الملل وأشدها كيف يجب فيها؟ فغضب رضي الله
تعالى عنه وكانت فيه حدة وهي التي دعته إلى تعيير بلال رضي الله عنه بأمه وشكايته
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وقوله فيه: " إنك امرؤ فيك جاهلية " فرفع عصاه ليضربه وقال
367

له: يا يهودي! ما ذاك من هذه المسائل؟ فهرب كعب فتبعه حتى استعاذ بظهر عثمان
رضي الله عنه فلم يرجع حتى ضربه، وفي رواية: إن الضربة وقعت على عثمان، وكثر
المتعرضون على أبي ذر في دعواه ذلك، وكان الناس يقرءون له آية المواريث ويقولون:
لو وجب إنفاق كل المال لم يكن للآية وجه، وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حل
مستغربين منه ذلك، فاختار العزلة فاستشار عثمان فيها، وأشار إليه بالذهاب إلى الربذة،
فسكن فيها حسبما يريد، وهذا ما يعول عليه في هذه القصة، ورواها الشيعة على وجه
جعلوه من مطاعن ذي النورين وغرضهم بذلك إطفاء نوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره. ا ه‍
* في هذه الكلمة مواقع للنظر *
1 قوله: أخذ بظاهر الآية. الخ. ليس للآية ظاهر غير باطنها وليس فيها إيجاب
لإنفاق جميع المال المؤد زكاته الفاضل عن الحاجة، فأي ظهور فيها يعاضد ما عزوه
إلى أبي ذر؟ حتى يسعه الأخذ به والتعويل عليه، وإنما هي زاجرة عن الاكتناز الذي
بيناه في صفحة 320 ولم يؤثر قط عن أبي ذر المصارحة ولا الإشارة إلى شئ مما عزاه
إليه، بل أوقفناك على أن كل ما روي عنه أو فيه مناف لذلك.
2 ما رتبه على ذلك من وقوع النزاع بينه وبين معاوية وقد أسلفنا في صفحة
295 عن صحيح البخاري من أن النزاع بينهما كان في نزول الآية لا في مفادها فكان
معاوية يزعم إنها نزلت في أهل الكتاب وأبو ذر يعمهما عليهم وعلى المسلمين، ومر
أيضا مراد أبي ذر من الانفاق ومقدار المنفق من المال وإنه ليس ما فضل عن الحاجة
وإنما هو ما ندب إليه الشرع واجبا أو تطوعا، ولم يكن إنكار إلا على الاكتناز
الذي هو لدة الاحتكار في الأطعمة يحر الملأ عن منافع النقدين ونمائهما، ويحرم
الفقراء خاصة عن حقوقهم المجعولة فيهما من ناحية الدين، وقد فصلنا القول في
هذه كلها.
3 ما رواه من قصة كعب الأحبار. لقد أقرأناك المأثور من هذه القصة و
كيفية الحال فيها واختلاف ألفاظها وليس في شئ منها أكثر ما لفقه الآلوسي من
قول الرجل لأبي ذر: إن الملة الحنيفة. الخ. ومن استعاذته بظهر عثمان، وعدم
اكتراث أبي ذر لذلك ووقوع الضربة على عثمان، ووليته ذكر لما تقوله مصدرا ولو من
368

أضعف الكتب أو من مدونات القصاصين، لكنه أراد أن ينشب على أبي ذر ثورة وهو
في عالم البرزخ بوقوع الضربة على عثمان، غير أنه أخفق ظنه وأكدى أمله بفضل
التنقيب الصحيح.
ونذكر لك هنالك لفظ أحمد في مسنده 1 ا: 63 من طريق مالك بن عبد الله
الزيادي عن أبي ذر: إنه جاء يستأذن على عثمان بن عفان رضي الله عنه فأذن له و
بيده عصاه فقال عثمان رضي الله عنه: يا كعب! إن عبد الرحمن توفي وترك مالا، فما
ترى فيه؟ فقال: إن كان يصل فيه حق الله فلا باس. فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعبا
وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهبا أنفقه ويتقبل
مني أذر خلفي منه ست أواق. أنشدك الله يا عثمان! أسمعته؟ ثلاث مرات. قال: نعم.
ومنه يتجلى إنها قضية في واقعة ترجع إلى مال عبد الرحمن بن عوف الذي ترك
ذهبا قطع بالفؤس حتى مجلت أيدي الرجال منه، وبلغ ربع ثمنه ثمانين ألفا، وقد
أعطي له ذلك بغير استحقاق من مال الله الذي يستوي فيه المسلمون، فكانت أثرة ممقوتة
واكتنازا منهيا عنه، وما كانت فتوى كعب تبرر شيئا من عمله لأنه لم يكن من نماء
زرع أو نتاج ماشية أو ربحا من تجارة حتى يطهره إخراج حقوق الله منه، وإنما كان
المال كله لله، وأفراد المسلمين فيه شرع سواء، وإن كان لابن عوف فيه حقا فعلى
زنة بقية المسلمين فحسب.
والعجب من هذا الاستفتاء ومن توجيهه إلى كعب خاصة وهو يهودي قريب
العهد بالاسلام وفي المنتدى مثل أبي ذر عالم الصحابة، والمستفتي جد عليم بحقيقة
ذلك المال لأنه هو الذي أدره عليه جزاء حسن اختياره للخلافة يوم الشورى، ولم
تكن ثروته الشخصية تفي لتلكم العطايا الجزيلة، فليس لها مدر إلا مال الله، فعلى
أبي ذر البصير بمواقع أحكام الشرع أن ينكر تلكم المنكرات على من استباح ذلك
العطاء، وعلى من استباح أخذه واكتنازه، وعلى من حاول أن يبرر تلكم الأعمال.
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك
هم المفلحون.
وإن كانت توجب نظرية أبي ذر هذه الشيوعية أو الاشتراكية؟ فقد سبقه إليها
369

الخليفة الثاني ببيان أو في وتقرير أوضح، أخرجه الطبري في تاريخه 5: 33 من طريق
أبي وائل قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت
لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين.
وأخرجه ابن حزم في المحلى 6: 158 فقال: هذا إسناد في غاية الصحة والجلالة
وفي عصر المأمون 1: 2: حرم عمر بن الخطاب على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة
لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم وما يملكون من عبيد وموال، كل ذلك يدفعه لهم من
بيت المال، فما بهم إلى اقتناء المال من حاجة.
نعم: عزبت عن اللجنة نظرية الخليفة الثاني في ناحية المال أو أن عظمة الخلافة
صدتهم عن الجرأة عليه لكن أبا ذر لم يكن خليفة، فتمنعهم عظمته عن التقول عليه،
وقد مات في المنفى فريدا وحيدا لا يجد من يعينه أو يدافع عنه أو يجهزه بعد موته
فيتوثب عليه حتى الخنافس والديدان، غير إن له يوما آخر يحشر فيه أمة واحدة
هنالك تبلى السرائر ويعلم ما ارتآه أبو ذر وما رمي به. ذلك يوم مشهود له الناس،
والحكم هنالك لله الواحد القهار.
4 ما عزا إليه من الحدة وهو ينافي تشبيه رسول الله صلى الله عليه وآله إياه بعيسى بن
مريم في هديه وخلقه ونسكه وزهده (1) فهو ممثل المسيح عليه السلام في هذه الأمة، و
أنى تقع الحدة منه؟ إلا أن يدعوه إليها الدين كما هو من خصال المؤمنين الموصوفين
بالوداعة بينهم، والخشونة في ذات الله، وأبو ذر في الرعيل الأول منهم، فليس من المستطاع
أن نخضع لصحة هذه الرواية وفيها الوقيعة من أبي ذر فيمن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله
يقربه ويدنيه ويحبه.
فلا تكاد تنهض حجة على مفادها ولو جاءت بسند صحيح لأن المعلوم من حال
أبي ذر هو ما أخبر بن النبي الصادق الأمين، وعلى فرض صحتها قضية في واقعة لا تعدو
أن تكون فلتة ليست لها لدة، ولعلها صدرت منه قبل تحريم ذلك كما ذهب إليه شراح
صحيح البخاري (2) وبمثلها لا يمكن أن تثبت لأبي ذر غريزة الحدة فيحمل ما صدر

(1) راجع ص 312 314 من هذا الجزء.
(2) راجع فتح الباري لابن حجر، وإرشاد الساري للقسطلاني، وعمدة القاري للعيني.
370

منه في المقام عليها.
وكأن الرجل هاهنا ذهل عما ذكره في كتابه (مسائل الجاهلية) ص 129 من
قوله: إن أبا ذر رضي الله تعالى عنه قبل بلوغه المرتبة القصوى من المعرفة تساب هو
وبلال الحبشي المؤذن فقال له: يا ابن السوداء. فلما شكا بلال إلى رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم قال له: شتمت بلالا وعيرته بسواد أمه؟ قال: نعم. قال: حسبت إنه
بقي فيك شئ من كبر الجاهلية. فألقى أبو ذر خده على التراب ثم قال: لا أرفع خدي
حتى يطأ بلال خدي بقدمه. ا ه‍.
وهكذا رواه البرماوي، وذكره القسطلاني في إرشاد الساري 1: 113 وقال:
زاد ابن الملقن: فوطئ خده.
هذا أبو ذر وهذا أدبه وكرم أخلاقه، وإنه لعلى خلق عظيم.
5 ما ادعاه من كثرة المتعرضين على أبي ذر. الخ. ليته سمى واحدا من
أولئك المتعرضين، أو سمى مصدرا ولو من أتفه المصادر يصافقه على هذه الدعوى،
وإنما كانت الصحابة يومئذ بين مصافق لأبي ذر على هتافه، ومسل له على نكبته،
ومستاء على ما أصابه من الأذى، وناقم على من فعل به ذلك، فلم يكن عندئذ من
يرد عليه قوله، ويحفظ آية المواريث وأبو ذر ناسيها وهو وعاء ملئ علما بشهادة من
أعلم الأمة باب مدينة علم النبي صلى الله عليهما وآلهما.
كان من العزيز على صلحاء الصحابة المنابأة بالفادح الجلل تسيير أبي ذر إلى الربذة
لكرههم ذلك ونبوء سمعهم عنه، وكان الصحابي الصالح يسترجع مرارا لما قرع
سمعه ذلك النبأ المزري، وكان يقول: ارتقبهم واصطبر، اللهم إن كذبوا أبا ذر فإني
لا أكذبه، اللهم وإن اتهموه فإني لا أتهمه، اللهم وإن استغشوه فإني لا استغشه، فإن
رسول الله صلى الله عليه وآله كان يأتمنه حين لا يأتمن أحدا، ويسر إليه حين لا يسر إلى أحد (1)
ولعل الآلوسي يريد بمن ذكرهم من المتعرضين طغمة آل أمية المتخذين
مال الله دولا، وعباده خولا، ودينه دخلا، وكتابه دغلا، غير أنهم ما كانوا يجادلون
بالقرآن وما كانوا يعرفون منه إلا ظاهرا من قوله تعالى: ولا تنس نصيبك من الدنيا.

(1) راجع من هذا الجزء صفحة 315.
371

وكانت مجادلته مجالدة بالحراب والعتاد، وكان قولهم في ذلك صخبا وجلبة، فتبعهم
الآلوسي تحت جامع النزهة.
6 حسبانه بأن خروجه إلى الربذة كان مللا منه من تعرض الناس وازدحامهم
عليه مستغربين منه رأيه بعد أن استشار عثمان فأشار إليه بالذهاب إليها فسكن فيها
حسبما يريد. وهذه أكذوبة أخرى فقد مر فيما تقدم إنه نفي إلى الربذة، ومنع
الناس عن مشايعته، فلم يدن منه أحد إلا مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وابناه الإمامان وعمار
معهم، وما جرى بينهم وبين مروان، ثم ما جرى بين الإمام وبين عثمان، وما قال له مشايعوه
من كلمات التسلية، وما قاله أبو ذر نفسه لمن زاره في الربذة، وقول عثمان لعمار: يا
عاض أير أبيه! أتحسب أني ندمت من تسييره؟ إلى كلمات أخرى كلها صريحة في تسييره
على صورة غير مرضية، ونقمة الصحابة جمعاء على من فعل به ذلك. وقد عرفت قبل
هذه كلها إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك النفي والإخراج بالرغم من أشواق أبي ذر المحتدمة
على جواره مرقد النبي الأعظم، فراجع تفاصيل هذه الجمل فيما تقدم من صحائف
هذا الجزء، لكن الآلوسي أراد أن يخفف وطأة النقد على من والاه ورد النقمة عنه
فصدر للقصة صورة خيالية، وحسب أن التنقيب لا يكشف عن عوارها، وليت اللجنة
الحاكمة لم تتغافل عن إن هذه الجملة الأخيرة تنافي ما استشهدت به من كلام ابني
كثير وحجر فقد اعترفا بأن خروج أبي ذر إلى الربذة كان تسييرا بلا اختيار منه غير أنهما
حاولا الاعتذار عن قبل من ارتكب ذلك.
7 قوله: هذا ما يعول عليه في هذه القصة. الخ. انظر إلى هذا الرجل كيف
يحاول أن يغمط الحقائق الثابتة حسب ميوله وأهواءه، وهو يزعم أن الأمة ستتخذ
ما لفقه أصلا متسبعا، فتمحو الكتب وتلقي الستار على صفحة التاريخ، وتحذف الأحاديث
من مدوناتها وتضرب صفحا عن غير كتابه مما ثبت فيها كل ما نفاه هو كما قدمنا لك
ذلك في أبحاثنا هذه؟ وقصارى القول إن العلماء في هذه المسألة فريقان: فقسم سرد
تلكم الأحوال سردا تاريخيا أو أخرجها إخراج الحديث من غير تعرض لما لها أو عليها
وقد عرفت هؤلاء، وفريق يعترف بكل ما هنالك غير إنه يعتذر عمن ارتكب هاتيك
الأحوال بأنها كانت لحفظ أبهة الخلافة، وصيانة منصب الشريعة، وإقامة حرمة الدين
372

(1) وليس أحد من هؤلاء من الشيعة حتى يجعل الآلوسي روايتهم غير معول عليها،
وهل من الجائز أن لا يتفطن أعلام القوم وحفاظهم في كل تلكم القرون الخالية لما
جاء به الآلوسي، وحسبوا أولئك ما روته الشيعة صحيحا وجعلوه من مطاعن عثمان
المتسالم عليه عندهم، وجاءوا ينحتون له الأعذار في تبريره؟ وبعد هذه كلها فلا عذر
للجنة الحاكمة في أن تعتمد على مثل هذه الكلمة التي مزيجها الكذب، وحشوها
الأغلاط، والعوار مكتنف بها من شتى نواحيها، هذا حال الشاهد الأول الذي استشهدت
به اللجنة الحاكمة.
الشاهد الثاني
أما شاهد اللجنة الثاني وهو ابن كثير، وما أدراك ما ابن كثير، وما أراك ما كتاباه
في التفسير والتاريخ؟ مجاميع الفحش، وموسوعات البهت، وكراريس الدجل، ومن
تدجيله هاهنا ما ادعاه من نسبة تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال إلى أبي ذر و
إنه كان يفتي به ويحثهم عليه. الخ. على حين إنه لا يوجد لأبي ذر أي فتوى تصرح
أو تلوح بذلك التحريم أو حث له على ذلك أو أمر به أو تغليظ فيه، غير ما لفقه
الأفاكون في الأدوار المتأخرة من عزو مختلق، نعم: وربما يتخذ مصدرا لهذه الأفائك
ما شوه به الطبري صحيفة تاريخه من مكاتبة السري الكذاب من طريق شعيب المجهول
عن سيف الساقط المتهم بالزندقة، الذين عرفت موقفهم من الدين والصدق والأمانة
وعرفت حال روايتهم خاصة في ص 328326، وغير خاف ذلك على مثل ابن كثير و
من لف لفه، لكنهم نبذوا الرجل نبذة ليسقطوه عن محله، ويسقطوا آرائه عن الاعتبار
فتشبثوا بالحشيش كالغريق، لكنهم خابوا وفشلوا، وإنما المأثور عنه تلاوة الآية
الكريمة، ونقل السنة الواردة عن نبي الاسلام في اكتناز الذهب والفضة، وأما الآية الكريمة فقد عرفت مقدار دلالتها وإن الخلاف لواقع بين أبي ذر ومعاوية إنما هو
بالنسبة إلى نزولها دون المفاد، وإنه لو صحت النسبة لوجب قذفهما معا أو تبرئتهما معا.
علي أن لأبي ذر في ما ادعاه من شأن الآية مصافقون فروى ابن كثير نفسه عن ابن
عباس: إنها عامة. وعن السدي أنه قال: هي في أهل القبلة. فهو أيضا يوافقه في الجملة.

(1) راجع الرياض النضرة 2: 146، الصواعق ص 68، تاريخ الخميس 2:
373

وفي تفسير الخازن 2: 232: قال ابن عباس والسدي: نزلت في مانعي الزكاة
من المسلمين، وقال القرطبي في تفسيره 8: 123: قال أبو ذر وغيره: المراد بها أهل
الكتاب وغيرهم من المسلمين، وهو الصحيح لأنه لو أراد أهل الكتاب خاصة لقال: و
يكنزون بغير " والذين " فلما قال: " والذين " فقد استأنف معنى آخر يبين إنه عطف
جملة على جملة، فالذين يكنزون كلام مستأنف وهو رفع على الابتداء، قال السدي:
على أهل القبلة.
وقال الزمخشري في الكشاف 2: 31: ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير
المنفقين. وقال البيضاوي في تفسيره 1: 499: ويجوز أن يراد به المسلمون الذين
يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدون حقه. وقال الشوكاني في تفسيره 2: 339: والأولى
حمل الآية على عموم اللفظ فهو أوسع من ذلك. وقال الآلوسي في تفسيره 10: 87:
والمراد من الموصول إما الكثير من الأحبار والرهبان، وإما المسلمون وهو الأنسب
لقوله: ولا ينفقونها في سبيل الله.
فرأي أبي ذر أخذا بمجاميع هذه الكلمات هو الصحيح والأنسب والأولى، وما
تفرد به بل ذهب إليه آخرون، فلماذا لا يقذفون هؤلاء بما قذف به أبو ذر، وهل
لأبي ذر حساب آخر يسوغ الفرية عليه دون أولئك؟ نعم. نعم.
وأما السنة فقد روى نظير ما رواه غير واحد من الصحابة، لكن القوم لم يضمروا
على أحد منهم من الحقد ما أضمروه على أبي ذر لمكان رأيه في الإمامة منذ الصدر
الأول، ونزعته العلوية التي لم يزل مجاهرا بها، ومناوئته للبيت الأموي، فحاولوا
تشويه ذكره وتفنيد رأيه بكل ما تيسر لهم، فمن أولئك الصحابة:
1 عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله على بلال وعنده صبرة من تمر
فقال: ما هذا يا بلال؟ قال: أعد ذلك لأضيافك. قال: أما تخشى أن يكون لك دخان
في نار جهنم؟ أنفق بلال! ولا تخش من ذي العرش إجلالا.
رواه البزاز بإسناد حسن والطبراني في الكبير وقال: أما تخشى أن يفور له بخار
في نار جهنم؟.
2 أبو هريرة قال: إن النبي صلى الله عليه وآله عاد بلال فأخرج له صبرا من تمر فقال: ما هذا
374

يا بلال؟ قال: ادخرته لك يا رسول الله! قال: أما تخشى أن يجعل لك بخار في نار جهنم؟
أنفق يا بلال! ولا تخش من ذي العرش إقلالا.
رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط بإسناد حسن.
3 أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا توكي فيوكا عليك. وفي
رواية: أنفقي، أو أنفحي، أو أنضحي، ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي
الله عليك. رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
4 بلال مرفوعا: يا بلال! مت فقيرا ولا تمت غنيا، قلت: وكيف لي بذلك؟ قال
ما رزقت فلا تخبأ، وما سئلت فلا تمنع. فقلت: يا رسول الله! وكيف لي بذلك؟ قال:
هو ذاك أو النار.
رواه الطبراني في الكبير، وابن حبان في كتاب الثواب، والحاكم وصححه.
5 أنس بن مالك قال أهديت للنبي ثلاث طوائر فأعطى خادمه طائرا فلما كان
من الغد أتته بها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد، فإن الله
يأتي برزق غد. رواه أبو يعلى والبيهقي ورجال أبي يعلى ثقات.
6 أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يدخر شيئا لغد.
رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي.
7 سمرة بن جندب مرفوعا: إني لألج هذه الغرفة ما ألجها خشية أن يكون
فيها مال فأتوفى ولم أنفقه. رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن.
8 أبو سعيد الخدري مرفوعا: ما أحب أن لي أحدا ذهبا أبقى صبح ثالثة و
عندي منه شئ إلا شئ أعده للدين.
رواه البزار وهو إسناد حسن وله شواهد كثيرة.
9 أبو أمامة: إن رجلا توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يوجد له كفن
فأتي النبي صلى الله عليه وآله فقال: انظروا إلى داخلة إزاره فأصيب دينار أو ديناران فقال: كيتان
10 توفي رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
كية. ثم توفي آخر فوجد في مئزرة ديناران، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: كيتان.
رواه أحمد والطبراني من عدة طرق، وابن حبان في صحيحه من طريق عبد الله
375

ابن مسعود.
11 سلمة بن الأكوع قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وآله فأتي بجنازة ثم
أتي بأخرى فقال: هل ترك من دين؟ قالوا: لا. قال: فهل ترك شيئا؟ قالوا: نعم ثلاثة
دنانير. فقال بإصبعه: ثلاث كيات.
أخرجه أحمد بإسناد جيد وابن حبان في صحيحه باللفظ المذكور والبخاري نحوه
12 أبو هريرة: إن أعرابيا غزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله خيبر فأصابه من سهمه
ديناران فأخذهما الأعرابي فجعلهما في عباءة فخيط عليهما ولف عليهما، فمات الأعرابي
فوجد الديناران فذكر ذلك لرسول الله فقال: كيتان.
رواه أحمد وإسناد حسن لا بأس به.
هذه جملة من تلكم الأحاديث، وقد جمعها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب
1: 253 258.
13 أخرج أحمد في مسنده 1: 300 من طريق ابن عباس قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
التفت إلى أحد فقال: والذي نفس محمد بيده ما يسرني إن أحدا يحول لآل محمد ذهبا
أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت ادع منه دينارين إلا دينارين أعدهما للدين إن كان.
14 أخرج ابن كثير نفسه في تفسيره 2: 352 من طريق عبد الله بن مسعود:
والذي لا إله غير لا يكون عبد يكنز فيمس دينار دينارا ولا درهم درهما ولكن يوسع
جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته.
رواه سفيان عن عبد الله بن عمر بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود، ورواه
ابن مردويه عن أبي هريرة.
15 حكى ابن كثير عن أبي جعفر ابن جرير الطبري من طريق ثوبان مرفوعا:
من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه ويقول: ويلك
ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك. ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها
ثم يتبعها سائر جسده. قال: ورواه ابن حبان في صحيحه.
16 ونقل في ص 353 عن ابن أبي حاتم بإسناده من طريق ثوبان مرفوعا: ما من رجل
يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه.
376

17 وذكر عن أبي يعلى بالإسناد من طريق أبي هريرة مرفوعا: لا يوضع
الدينار على الدينار، ولا الدرهم على الدرهم، ولكن يوسع جلده فيكوى بها جباههم
وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون.
18 أخرج أحمد من طريق عبد الله بن أبي الهذيل قال: حدثني صاحب لي:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تبا للذهب والفضة وقال: إنه انطلق مع عمر بن الخطاب
فقال: يا رسول الله! قولك: تبا للذهب والفضة. ماذا ندخر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وزوجة تعين على الآخرة. تفسير ابن كثير 2: 351.
19 أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان
قال: لما نزلت في الذهب والفضة ما نزل قالوا: فأي المال نتخذ؟ قال عمر: فأنا أعلم
لكم ذلك فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره فقال: يا رسول الله! أي المال نتخذ؟
قال: قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وزوجة تعين أحدكم على أمر الآخرة.
20 وقبل هذه كلها ما أخرجه إمام الحنابلة أحمد في مسنده 1: 62 من طريق
عثمان بن عفان من أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: كل شئ سوى ظل بيت، وجلف الخبز،
وثوب يواري عورته والماء، فما فضل عن هذا فليس لابن آدم فيهن حق. وأخرجه أبو
نعم في حلية الأولياء 1: 61.
هذه الأحاديث أخرجها أئمة الفقه وحفاظ الحديث وأعلام التفسير في تآليفهم
محتجين بها لما ارتأوه من الترغيب إلى الزهد والتطوع بالانفاق، والترهيب عن الاكتناز
والادخار، ولم يتكلم أحد منهم في راو من رواتها، وما أتهم أي منهم بما اتهم به
أبو ذر، فإن كان للتأويل والحمل على معنى صحيح فيها مجال فهي وما رواه أبو ذر
على شرع سواءا فأي وازع عن تأويل ما جاء به أبو ذر؟ ولماذا رشقوه بين أولئك الصحابة
بنبال القذف؟ مع أن أبا ذر لم يكن هتافه ذلك للدعوة إلى تهذيب النفس بالزهادة في
حطام الدنيا والفوز بمراتب الكمال، وإنما كان نكيره على أمة اتخذت كنوزا مكدسة
من الذهب والفضة على غير وجه حلها كما فصلنا القول في ذلك تفصيلا.
وإذ لم يجد ابن كثير شاهدا قويما لما ادعاه من أقوال أبي ذر تشبث بعمله فقال:
وقد أحضره رضي الله عنه وهو عنده هل يوافق عمله قوله فبعث إليه بألف دينار ففرقها
377

من يومه ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات
الذهب فقال: ويحك إنها خرجت ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به.
وليس فيه إلا زهد أبي ذر المهلك سبده ولبده، ولم يكن عمله هذا عن فتوى و
لا إيجاب، وإنما كان تطوعا ومبالغة في الزهادة والجود، وقد سبقه إلى ذلك سيد
البشر صلى الله عليه وآله، عاش صلى الله عليه وآله كما عرفت ومات ولم دع دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا
أمة ولا شاة ولا بعيرا، وترك درعه رهنا عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير (1) وحذا
حذوه آله سلام الله عليهم الذين كانوا يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (2) الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و
يؤتون الزكاة وهم راكعون (3) الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية (4)
وقد خرج الإمام السبط الحسن الزكي من ماله مرتين، وقاسم الله عز وجل ماله ثلاث
مرارا حتى أن كان ليعطي نعلا ويمسك نعلا، ويعطي خفا ويمسك خفا (5)
وما أكثر الزهاد أمثال أبي ذر في أمة محمد صلى الله عليه وآله وقد أفنت الزهادة كل مالهم
من ثمة ورمة وقد عد ذلك في الجميع فضيلة يذكرون بها ويشكرون عليها إلا
في أبي ذر شبيه عيسى بن مريم في الأمة المرحومة فاتخذوه مدركا لتلك الفتوى المزعومة
غفرانك اللهم وإليك المصير.
استشهاد اللجنة بكلمة ابن حجر
أما الشاهد الثالث (ابن حجر) فليت اللجنة الحاكمة لم تلخص كلامه ففيما
سرده في فتح الباري 3: 213 ما لا يلائم خطة اللجنة ففيه من أعلام النبوة ما قدمنا
ذكره من عهد النبي صلى الله عليه وآله بذلك النفي والإخراج في سياق يؤدي أن أبا ذر سيكون
مضطهدا في ذلك مظلوما، ويؤكد هذا السياق ما أسلفناه من قوله صلى الله عليه وآله: يا أبا ذر! أنت

(1) طبقات ابن سعد ط مصر رقم التسلسل 836، 837، مسند أحمد 1: 300، تاريخ الخطيب
البغدادي 4: 396.
(2) راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث 107 111 ط 2.
(3) راجع ما فصلناه في الجزء الثاني ص 47، 52، ج 3: 163155 ط 2.
(4) نزلت في أمير المؤمنين كما مر في هذا الجزء. ص 54.
(5) حلية الأولياء 2: 38، صفة الصفوة 1: 330، الصواعق ص 82.
378

رجل صالح وسيصيبك بلاء بعد. قال: في الله؟ فقال صلى الله عليه وآله: في الله. قال: مرحبا بأمر
الله. وما كان في الله وبعين الله ويعرف صلى الله عليه وآله صاحبه بالصلاح، ويراه في هديه ونسكه
وزهده شبيه نبي معصوم كعيسى سلام الله عليه، ويأمره بالصبر لا يكون فاسدا ولا تترتب
عليه مفسدة، إذن فلا أدري أين يكون مقيل نظرية ابن حجر الملخصة عند اللجنة من
الصدق؟
ومما ذكره ابن حجر في فتح الباري ما حكاه عن بعض أعلام قومه: الصحيح أن
إنكار أبي ذر كان على سلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه.
نعم هذا هو الصحيح كما قدمناه في صفحة 335 ويعرفه كل من سبر التاريخ و
الحديث. إذن فليس من المتسالم عليه ما حاوله ابن حجر في ملخص قوله وتحرته اللجنة
في حكمها والاستشهاد بكلامه، مثل هذا الأساس لا تبنى عليه برهنة، ولا يصح به
حكم لأي إنسان أو عليه لكن ابن حجر قال، والجنة حكمت، والقوة نفذت ذلك
الحكم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
هؤلاء شهود اللجنة الحاكمة، وقد اختبرت أنت أيها القارئ حالهم ومقالهم،
إذن فما ظنك بما ابتنوه على ذلك من شفا جرف هار؟ نحن أعلم بما يقولون، وما أنت
عليهم بجبار، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد.
هاهنا أكرر مخاطبة اللجنة بأن دليلها في إثبات شيوعية أبي ذر غيرنا ناهضة لإثبات
ما ترتأيه لأن نظرية أبي ذر على ما ادعته هي وجوب إنفاق ما فضل عن حاجة الانسان،
ومقتضاه أنه يملك التصرف في قدر الحاجة، والشيوعي لا يقول بذلك وإنما يحاول
إلغاء الملكية رأسا، ثم إن الحكومة الشيوعية تدر عليه قدر الحاجة أو بمقدار العمل
صونا لحياته فهو كالأجير عندها يقتات بما يعمل أو كعائلتها تسد عيلتها بمقدار خلتها،
على ما قدمناه من أن رأي أبي ذر لا يستوعب المال كله وإنما يريد الإخراجات الواجبة
وما تدعو إليه العاطفة البشرية والمروءات من الأعطيات المندوبة، فاللجنة لم تعط
النصفة حقها في إسناد ما أسندته إلى أبي ذر، كما إنها لم تؤد حق الرد على الشيوعية
الممقوتة، فهي مائنة فيما تقول خبريا أو مخبريا، وجائرة في حكمها من حيث لا تشعر.
كان حقا علينا أن ننظر في بقية الكلمات المقولة في شيوعية أبي ذر على وجه.
379

التفصيل ككلمة الخضري في المحاضرات 2: 36، 37. و
عبد الحميد بك العبادي عميد كلية الآداب في (صور من التاريخ الاسلامي)
ص 13109 تحت عنوان (أبو ذر الغفاري). و
أحمد أمين في فجر إسلامه 1: 136. و
محمد أحمد جاد المولى بك في " إنصاف عثمان " ص 4541. و
صادق إبراهيم عرجون في " إنصاف عثمان " ص 35. و
عبد الوهاب النجار في " الخلفاء الراشدون " ص 317.
ومن حذا حذوهم ممن اقتحم معارك التاريخ والأبحاث الخطرة من دون منة
علمية تنقذهم من القحمة وصرعة الاسترسال التي لا تستقال، لكنهم لم يألوا بأكثر
مما فندناه غير ما ذكره بعضهم (1) من أن أبا ذر أخذ المبدأ الشيوعي من عبد الله بن سبا
استنادا إلى رواية الطبري السابقة في ص 326 عن السري عن شعيب عن سيف عن عطية
عن يزيد الفقعسي، وقد عرفناك هنالك ما في رجالها من أفاك وضاع، أو معتد أثيم،
أو ضعيف متفق على ضعفه، أو مجهول لا يعرف، وما في متنها من ملامح الكذب
وآثار الافتعال.
على أن عبد الله بن سبا المعروف باليهودية والافساد وتفريق كلمة المسلمين الذي
عزوا إليه ثورة المصريين، وإنه يمم الحواضر الإسلامية لإلقاح الفتن وإثارة الملأ
على خليفة الوقت، وبث تلكم المبادئ التعيسة، لم ينظر إليه رامق شزرا، ولا وقع
عليه قبض من سلطات الوقت، ولا أصابه نفي عن الأوساط الدينية، وقد ترك يلهو
ويلعب كما تشاء له الميول والشهوات، لكن النقمات كلها توجهت على الأبرار من
صحابة محمد صلى الله عليه وآله والتابعين لهم بإحسان كأبي ذر، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن
ياسر، ومالك بن الحارث الأشتر، وزيد وصعصعة ابني صوحان، وجندب بن زهير،
وكعب بن عبدة الناسك، ويزيد الأرحبي العظيم عند الناس، وعامر بن قيس الزاهد
الناسك، وعمرو بن الحمق المعروف بدعاء النبي صلى الله عليه وآله له، وعروة البارقي الصحابي
الجليل، وكميل بن زياد الثقة الأمين، والحارث الهمداني الفقيه الثقة (2) فمن منفي

(1) كالخصري وأحمد أمين.
(2) سيوافيك حديث أمرهم في الجزء التاسع بإذن الله تعالى.
380

هلك في تسييره، إلى مضروب كسرت أضالعه، إلى مهان توجهت إليه لسبات الألسن
وقبل هؤلاء مولانا أمير المؤمنين صالح الأمة، يراه عثمان أحق بالنفي من أولئك
كما يأتي حديثه، وأخرجه إلى ينبع مرة بعد أخرى ليقل هتاف الناس باسمه للخلافة،
وقال لابن عباس: اكفني ابن عمك. وقال ابن عباس: ابن عمي ليس بالرجل يرى له
ولكنه يرى لنفسه فأرسلني إليه بما أحببت. قال: قل له: فليخرج إلى ماله بالينبع
فلا اغتم به ولا يغتم بي. فأتى عليا فأخبره فقال: ما اتخذني عثمان إلا ناضحا ثم
أنشد يقول:
فكيف به إني أدواي جراحه * فيدوى فلا مل الدواء ولا الداء
وقال: يا ابن عباس! ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملا ناضحا بالغرب (1) أقبل
وأدبر بعث إلي أن أخرج، ثم بعث إلي أن أقدم، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج
والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما. (2)
فهلا كان ابن سبا وأصحابه بمرأى من الخليفة ومسمع وقد طغوا في البلاد و
أكثروا فيها الفساد؟ وكيف بهضة أمر أولئك الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ولا
يهمه قمع تلكم الجرثومة الخبيثة باجتثاث أصلها؟ بإعدام عبد الله بن سبا، أو صلبه على
جذوع النخل، أو قطع يده ورجله من خلاف، أو نفيه من الأرض.
هلا كان واجب الخليفة أن يشاور صلحاء الصحابة في الرجل الضال المضل بدل
ما شاور أبناء بيته الساقط في أبي ذر العظيم بقوله القارص: أشيروا علي في هذا الشيخ
الكذاب إما أن اضربه أو أحبسه أو اقتله، فإنه قد فرق جماعة المسلمين، أو أنفيه من
أرض الاسلام؟ (3)
نعم: كان عبد الله بن سبا من جراثيم العيث والفساد، وجذوم الكفر والالحاد،
ولم يفتأ يتقلب بين المسلمين بنواياه السيئة وإن لم يثبت عنه المبدأ الشيوعي قط، ولا

(1) نضح الجمل حمله من بئر أو نهر ليسقى به الزرع فهو ناضح. والغرب بالفتح فسكون:
الدلو العظيمة، والكلام تمثيل للتسخير.
(2) نهج البلاغة 1: 468، العقد الفريد 2: 274.
(3) راجع ما مر ص 298، 306 من هذا الجزء.
381

إثارة الثائرين على عثمان إلا بمكتوبة السري عن شعيب عن سيف المكذوبة الساقطة
التي لا قيمة لها في سوق الاعتبار (1) فإن المسلمين خصوصا الثائرين على عثمان والمتجمهرين
عليه وهم جل الصحابة لو لم نقل كلهم (كما يأتي تفصيله في الجزء التاسع بإذن الله) و
خصوصا من لاث بمولانا أمير المؤمنين من علية الصحابة كأبي ذر وعمار ومالك الأشتر
وابني صوحان وأمثالهم ما كان يقيمون وزنا لنعرات أي ابن أنثى تجاه ما اتخذوه من
مستقى الوحي فضلا عن مثل ابن سبا المعروف عندهم ملكاته ونزعاته في أمسه ويومه
ذاك، فأنى يصيخون إلى ماله من هلجة وهم رجال الفكرة الصالحة في المجتمع الديني
ولم يثبت التاريخ الصحيح اتصال أحد منهم بهذا الرجل فضلا عن تأثيره في نفسياتهم
وإثارة الفتن في المجتمع الديني بأيديهم، وهلا كان خليفة الوقت أراح المسلمين من
شره بتشتيت شمله وتمزيق جمعه؟ كما فعله مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، فقطع عن أديم
الأرض أصول تلك النزعات الوبيلة بإلقاء الدخان على حامليها كما مر في الجزء السابع
ص 156 ط 2، وذكره ابن حزم في الفصل 4: 186.
كلمتنا الأخيرة
لو درست الأساتذة حقيقة الشيوعية وما يهتفون به من أصولها وحقيقة أبي ذر
العالم الصحابي ونظراءه وما يؤثر عنهم من قول وعمل وأحاديث جاءت فيهم عرفوا البون
الشاسع بين المبدأين، وإن مثل أبي ذر لا يكون شيوعيا مهما أسف من أوج عظمته
وانكفأ عن صهوة علمه، وتنازل عن مبادئه المقدسة، وإنه لا يعتنق ذلك المذهب عالم
وإن قلت بضاعته، وضعفت منته العلمية.
أنى يهتف بالشيوعية ويعتنقها من وقف واطلع على ما جاء به الاسلام المقدس
في تأمين مؤن الفقراء وسد عيلتهم، وما وطد من مشارع تخفف عنهم ما يبهضهم من
عمبء حزانتهم، وما شرع لهم من منابع الحياة المادية في أموال الأغنياء، بقدر ما يسعهم
كما أخبر به النبي الأعظم بقوله: إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر
الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا و

(1) راجع ص 328326 من هذا الجزء.
382

إن الله يحاسبهم حسابا شديدا ويعذبهم عذابا أليما (1). فبعد ترصيف السياسة المالية
على أحسن نظام وأرقى منهج وتعبية ما يسد خلة الفقراء، سد عليهم أبواب السؤال و
التكدي وشدد النكير عليهما بمثل قوله صلى الله عليه وآله: إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث: لذي
فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع (2) ورغبهم إلى الاستعفاف والاستغناء
عن الناس بكل ما تيسر من العمل بقوله صلى الله عليه وآله: لأن يأخذ أحدكم حبلا فيأتي
الجبل فيجئ بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيستغني بها خير له من أن يسأل
الناس أعطوه أو منعوه (3) وقرر على أهل اليسار للفقراء والمساكين حقوقا محدودة من
شتى النواحي بعناوين مختلفة كرواتب سنوية أو كجراية شهرية تتعلق على الأنعام
والغلات والنقدين وأرباح المكاسب والركاز والمعادن والأنفال وغيرها من الواجب المالي
المقرر، مضافا على ما قد يجب على الانسان حينا بعد حين لموجب هنالك كالكفارات
والنذور والمظالم.
وأما التطوع بالصدقات والانفاق مما فضل وهو الذي كاد أن يعد من فروض
الانسانية فحدث عنه ولا حرج، وقد بالغ الصادع الكريم في الحث عليه ومر شطر
من أحاديثه، وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما من طريق أبي أمامة مرفوعا: يا ابن آدم
إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف. الترغيب
والترهيب 1: 232، 252.
وأخرج مسلم من طريق أبي سعيد الخدري مرفوعا: من كان معه فضل من ظهر
فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له.
سنن البيهقي 4: 182.
وفي صحيح مر في ص 354 قوله صلى الله عليه وآله وسلم: على كل نفس يوم طلعت فيه الشمس
صدقة عنه على نفسه.

(1) أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير كما في الترغيب والترهيب 1: 213، وروى
موقوفا على أمير المؤمنين كما مر ص 256.
(2) الترغيب والترهيب 1: 233 نقلا عن أبي داود والبيهقي.
(3) صحيح البخاري 3: 34، صحيح مسلم 3: 97، سنن البيهقي 4: 195، الترغيب
والترهيب 1: 233.
383

وللاسلام وراء هذه كلها آداب وسنن تعرب عن حرمة من قتر عليه رزقه وعن
كرامته في الملأ الديني تصديقا للإنكار الوارد في قوله تعالى: فأما الانسان إذا ما ابتلاه
ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي
أهانن. كلا (1). فأمر كتابه المقدس بالإنفاق من جيد المال ونفيسه بقوله: يا أيها الذين
آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث
منه تنفقون. الآية (2) وقوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا
من شئ فإن الله به عليم (3) ونهى عن نهر السائل وإبطال الصدقات بالمن والأذى ورياء
الناس فقال عز من قائل: وأما السائل فلا تنهر (4) وقال: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا
صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله
كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا (5).
وقال: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم
عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (6). وقال: قول معروف ومغفرة خير من صدقة
يتبعها أذى والله غني حليم (7).
وقال النبي الأعظم صلى الله عليه وآله: لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان والمتحدث
بصدقته يطلب السمعة، والمعطي في ملأ من الناس يبغي الرياء (8).
وأخرج مسلم في صحيحه مرفوعا: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم
ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى.. سنن البيهقي 4: 191.
وذكر ابن كثير مرفوعا: لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر.
تفسير ابن كثير 1: 318.

(1) سورة الفجر آية 15، 16.
(2) سورة البقرة آية 267.
(3) سورة آل عمران آية 92.
(4) سورة الضحى آية 10.
(5) سورة البقرة آية 264.
(6) سورة البقرة آية 262.
(7) سورة البقرة آية 263.
(8) إحياء العلوم 1: 222.
384

ولقطع أصول المن بالاعطاء وتنزيه نفوس أهل اليسار عن الاستعلاء والترفع
والعجب بأعطياتهم، ومن كان غنيا فليستعفف، وتطهير قلوب الفقراء الشريفة عما
يعتريها من ذل المسكنة، وتطييب خواطرهم من هوان بسط يد الأخذ إلى الأغنياء،
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل (6).
وفي صحيح أخرجه مسلم 3: 85 من طريق أبي هريرة مرفوعا: ما تصدق أحد
بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمان بيمينه وإن كانت تمرة،
فتربو في كف الرحمان حتى تكون أعظم من الجبل. الحديث.
فيرى المعطي المسلم وجهه إلى الله وهو محسن إنه مسلم إلى الله جلا وعلا حقه
مما خوله سبحانه بمنه إياه. والفقير يرى أنه آخذ من الله وباسط كفه إلى الله و
يد الله هي مدر الأنعم، وهي اليد العليا، وهي الوسيطة بين المعطي والآخذ، وله المن
عليهما، والله الغني وأنتم الفقراء (2)! إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما (3)
فالشيوعي لا يكون شيوعيا إلا ويغمره تيار الجهل الهائج، وإن سماسرة الشيوعية
يمنعون قبل كل شئ عن تحري العلم الصحيح ويسوقون الملأ إلى مستوى الجهل
والبساطة، ولعلك لا تشك في ذلك متى جست خلال الديار في المملكة " السوفيتية "
ومن جنح إليها من أقطار الأرض، فإنك لا تجد من يهملج إلى الغاية الشيوعية إلا
الرجرجة الدهماء الذين لم يعطوا من العلم شيئا، لكن البلاد الخصبة بالعلم والعلماء
كلها من إسلامي وغيره في منتأى عن تلك الخسة، وكذلك كل من أوتي نصيبا من
العلم لا تدعه عقليته أن يسف إلى تلكم الهوة الوبيئة وكيف بأبي ذر " وعاء العلم " وأمثاله؟.
نعم: للبلاد الإسلامية خاصتها في الابتعاد عن هاتيك السفاسف لوجود العلم
الصحيح الناجع عند علمائها " لا ما جاءت به اللجنة الحاكمة " والمواد الحيوية المبثوثة في
دينها الاسلامي الحنيف، فهي وهم سدان قويان لدفع ذلك السيل الآتي، فليس لمجابهة
الشيوعية ومكافحتها شئ أقوى من العلم والدين، وتنوير فكرة الشعب الاسلامي

(1) أخرجه الدارقطني والبيهقي في شعب الإيمان.
(2) سورة محمد آية 38.
(3) سورة النساء آية 135.
385

بهما، فمن واجب الدول الإسلامية " وقد شعرت هي بهذا الواجب " توسيع نطاق العلم،
وبث نواميس الدين، وإحياء ناشئة الانسان الذي خلق جهولا بروح الثقافة الدينية
وتربية أبناء الوطن العزيز في صفوف المدارس الابتدائية إلى العالية بدراسة العلوم
الناجعة، والتحفظ على حقوق ضعفاء الأمة، والأخذ بناصر أخي عيلة العائل بإجراء
مقررات الدين المبين، وتعظيم العلماء الصالحين، وتقدير رجالات الوعظ والخطابة
لتستمر طهارة البلاد عن تلكم الرجاسة، فحيا الله العلماء العاملين، وحيا الله الحكومات
الإسلامية الناهضين بكلاءة العباد والبلاد.
فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهوائهم، وقل: آمنت
بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا لنا
أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله
يجمع بيننا وإليه المصير
سورة الشورى آية: 15.
الحمد
لله أولا وآخرا
إنتهى الجزء الثامن
من كتاب " الغدير " ويتلوه الجزء التاسع
يبتدأ فيه بتتمة هذه المباحث إن شاء الله فتربص حتى حين
ولا تعجل بالقران من قبل أن يقضى إليك
386

التقاريظ المنضدة
لجمع من شعراء اليوم وللجميع الشكر المتواصل
1 للعلامة السيد محمد الهاشمي قصيدة غديرية نشرتها مجلة البيان النجفية الغراء
في عددها ال‍ 80 من سنتها الرابعة الصادر في 19 محرم سنة 1370 مطلعها:
يحتفي الخلد فيك مجدا وفخرا * فتطاول على السماكين قدرا
واقتحم ساحة الحياة بعزم * يهرب الموت منه خوفا وذعرا
لك من روحك العظيمة جيش * يهزم الحادثات كرا وفرا
والذي يغمر الليالي ألطافا * سيحيى في صفحة الأفق فجرا
ومنها بعد 75 بيتا في ختامها قوله:
الغدير الغدير، ذلك سفر * خالد في الحياة، قدس سفرا
دبجته يراعة الناقد الفحل * فلم تبق فيه للب قشرا
أظهرت ما اختفي وأخفت عيوبا * قدست في الورى خداعا ومكرا
إن يكن يصلح الخلود وساما * (فالأميني) فيه أولى وأحرى
ونذكر تمام القصيدة وترجمة عاقد سمطها في شعراء القرن الرابع عشر إنشاء
الله تعالى.
2 للخطيب الشهير الشيخ كاظم آل علي خطيب عفك:
كانوا ثلاثة بالعصور الماضيه * نصروا عليا نصرة متماديه
غير الأولى في مالهم وسيوفهم * حفظوا الوصي كلائة متواليه
هذا الفرزدق أولا في مكة * نصر الأئمة في بيوت ساميه
387

والثاني الاقساس في منظومة * أبياته للحشر فينا باقيه
وأبو فراس نصره بقصيدة * ميمية طعن الأسنة شافيه (1)
والرابع المعروف ما بين الورى * كالشمس رائعة النهار الضاحيه
وهو " الأميني " الأمين مؤلف * كتب " الغدير " فما لها من ثانيه
كتب تقاعست الورى عن مثلها * تدع العدى أعجاز نخل خاويه
روض ترى فيه مغارس للهدى * وقطوفها في كل آن دانيه
كانت مآثر دونها ستر العمى * أظهرتها فينا فعادت هاديه
أنت الذي أنقذتنا وتركتنا * أحلاف مجد بالحضارة راقيه
أنت الذي أتعبت نفسك هاديا * بك أمة المختار اضحت ناجيه
يا صاحب السفر الكريم الا استمع * مدحا تهادى نحو قدسك زاهيه
أولاك رب العالمين مثوبة * عن عدها زمر الخلائق نابيه
3 لشاعر أهل البيت المكثر الشيخ محمد رضا الخالصي الكاظمي عافاه الله ما بلي
به من المرض.
" الأميني " فقيه نيقد * ماله في عصرنا من مشبه
زانه الله بأيراد التقى * حق أن يفتخر الشرق به
كم غدير يا له بين الورى * طافح تروي الملأ من عذبه
له كلمات ضافية وشعر كثير في تقريظ الكتاب نذكر شطرا منها في ترجمته
4 للأستاذ الفذ السيد شمس الدين الخطيب الموسوي البغدادي:
الفظ؟ أم لئال؟ أم عقود * تنظم؟ أم هو الدر النضيد؟
ونور؟ أم سطور؟ أم علوم * يميط لثامها العلم النجيد؟
" غدير " والبحور تفيض منه * ببرهان به الجحود
يقيم من الخصوم له جنودا * وللحق الخصوم هي.

(1) الشافية اسم قصيدة أبي فراس الحمداني راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث ص 399 ط 2
388

ويقرع بالدليل هراء إفك * ليكشف عنه ما أخفى الحسود
ويحدوه لذاك غزير علم * وإيمان يفل به الحديد
وحق قد أراد الله حقا * بأن يبقى فكان له الخلود
أراد القوم أن يمحى عنادا * ويأبى الله إلا ما يريد
وقد زعموا بأن: ما نص طاها * وإن الناس تنصب من يسود
وما زعموا بشرع العقل زور * وبالمنقول بهتان أكيد
..... جاء بأن طاها * إذا ما همه سفر بعيد
تخير من صحابته كريما * يقوم مقامه حتى يعودوا
وما من غزوة أو جمع صحب * ولم يك فيهم لهم عميد
فكيف لربه يمضي ولما * يعين من تقام به الحدود؟
وهذا النص يوم " غدير خم " * جلي لا يغطيه الجحود
غداة رقى على الأحداج هاد * وحيدر دونه وهم شهود
وقال لهم: ألا من كنت مولى * له فعلي مولاه الرشيد
ونص الذكر أوضح في بيان * لذي عقل له رأي سديد
فقد جعل الولاية بعد طاها * لمن صلى ويركع إذ يجود
5 للشاعر المكثر المجيد الحاج الشيخ محمد الشيخ بندر عفك
أ " عبد الحسين " جمعت الغدير * بعزم يجل عن الواصف
تتبعت آثار أهل الحديث * تتبع ذي حكمة عارف
ورحت بمنظارك المستنير * تميز الصحيح من الزائف
فنلت بسعيك شأو الكرام * وحزت التليد مع الطارف
فجاء " غديرك " فصل الخطاب * ينير المحجة للعاسف
هتفت به عن لسان الهدى * فبوركت للحق من هاتف
فلله درك من نيقد * ولله درك من قائف (1)

(1) القائف: الذي يتتبع الآثار ويعرفها.
389

فإن يجحد الحق بعد (الغدير) * فلا تعجبن من الحائف (1)
ولا تعجبن إذا أمعنوا * فرقص الطروب من العازف (2)
فإن لكل أناس هوى * وذا ديدن الجاهد الآنف
فبشراك " عبد الحسين " الأمين * بنور هدى سفرك الكاشف
فأجرك عند إمام الهدى * ومثواك في ظله الوارف
وبشرى لشيعته بالنجاة * فمحض ولاه حمى الخائف
6 للفاضل البارع الحاج الشيخ محمد الباقر الهجري نزيل النجف الأشرف:
فكر من الحق المبين اضاءا * زانت به دنيا العلوم رواءا
وزها به جو الحقيقة والهدى * مذ شع في أفق الجلال ضياءا
منحته أوسمة الخلود عقيدة * وضعته في لوح العلا طغراءا
إيه أمين الحق خلفك أمة * ترنو إليك تحاول الاصغاءا
هذا " غديرك " والصواب ممازج * لنميره يشفي الصدور ظماءا
يا صاحب القلم الذي بسموه * زاد البيان مكانة وعلاءا
صور من الأوهام ضاق بها الفضا * زيفتها فجعلتهن جفاءا
وكشفت عن وجه الحقائق أسدلا * بصحائف التاريخ كن سناءا
وبعيني التنقيب ثم غشاوة * فكشفت عنها بالحجاج غشاءا
خلدت في صحف الزمان مآثرا * تبقى على مر العصور ثناءا
يا صاحب القلم الذي ببيانه * قد أعجب البلغاء والفصحاء
أبرزتها لهبا يجول فيرتمي * حرقا على قلب العتي عناءا
وجلوتها دررا يروق سناءها * ونظمتها فكرا يشع بهاءا
ونثرتها وتروم أنت بنثرها * جمع القلوب تآخيا وصفاءا
فسموت عن مدح القصائد رفعة * وفم الزمان يثيبك الاطراءا

(1) حاف حيفا فهو حائف: جار وظلم.
(2) العازف: المغني.
390

7 للشاعر المبدع الشيخ محمد آل حيدر النجفي من قصيدة نشرت شطرا منها وهو
67 بيتا (هيئة فرع الشعراء الحسينيين) في كراس ذات 84 صحيفة أسمته (الغدير في
جامة النجف) مطلعها:
بشرى لقلبي في ولاك إذ اهتدى * مذ لاح لي قبس ذبالته الهدى
وقد تقاعس الناظم عن نشر ما يرجع إلى كتابنا من قصيدته وأرجأه إلى نشره
في صفحات الغدير ألا وهو:
كرمت فيك (أبا الحسين) نوابغا * هصروا العقول على ولاءك سؤددا
وتلمسوا غيب السماء فما رأوا * إلاك بابا للحقيقة موصدا (1)
فهم وإن نسج الزمان ستارة * حازوا من التاريخ أكرمها يدا
ذابوا وكانوا كالشموع لخابط * تيها وحسبهم إذا ذابوا هدى
الحاملين إلى الحياة لواءها الخفا ق والمستقبلين به العدى
والماسحين الإثم عن تاريخها * والغارسين على شواطئها الندا
والملصقين إلى السطور عقولهم * والمازجين مع الحروف الأكبدا
ما الدهر إلا ناظران تراهما * طرفا يشع هدى وطرفا أرمدا
ويدان ذي حملت لها عقلا وذي * حملت لها مما تحاول عسجدا
* * *
إيه أمين الشرق والدنيا فم * ألهمته لحن السماء فغردا
وفتحته بيد أبر من الحيا * فأتاك يحمد بابتسامته اليدا
ذهن تلاطفه السماء بلطفها * وتنيله مقل الكواكب موردا
وتود لو رفعتك في أحضانها * روحا بأشباح الوجود تجسدا
سبحانك اللهم كم من مبدع * ذات خواطره على قبس الهدى
أأخا اليراع الحر حسبك رفعة * أن قد حملت رسالة لمن اهتدى

(1) إن مولانا أمير المؤمنين هو باب الله المفتوح الذي لا يسد وإن خاله من صدته عنه
العراقيل موصدا.
391

كم نابغ ملك الحياة بفكره * ومفوه سحر القلوب بما شدا
فلسوف تحتفل الأعاصر منك في * أقصوصة للحق شاسعة المدى
ستعرف الأجيال عن لغة السما * أن كيف عاش النابغي مخلدا
وبكل جارحة ستنزل رحمة * وبكل إنسان يشع توقدا
وتسير حيث الدهر سار حداته * لا يقصدون سوى " غديرك " معبدا
أرهفت للكلم المعمى مبردا * وحملت للنظر المغلف مرودا
لا الطائفية أنطقتك ولا جرى * نفس التعصب فيك يوم تصعدا
كلا ولا حاولت غير صراحة * فيها عظمت مؤلفا وموحدا
فجلوتها سبعا (1) فكن لساريات * الأفق في محراب بيتك مسجدا
حتى الندا والزهر والأنسام قد * عبرت بزورقها " الغدير " مع الهدى
* * *
أيه أمين الشرق! ما حادث بك * النزعات مغرضة إلى حيث الردى
كم راح يزرع في طريقك شوكه؟ * من رحت تلبسه العلا والسؤددا
والمارد الممسوخ كم لذعتك من * كفيه أظفار كأنخلقت مدى
قدود لو سد الفضا وأراك من * ظلماته قطعا وليلا أسودا
ويداك يحتضنان كل فضيلة * لحياته مذ حاد عنك ونددا
وغرست حبتك التي قد أنبتت * في الأرض سبع سنابل كي يحصدا
وقتلت نفسا لو جرى نفس الضحى * من فوقها لمشى الهوينا واهتدى
لا غرو إن الشمع يقتل نفسه * طمعا لأن يحيا سواه ويخلدا
لفت نظر
كل فصل وكلمة وجملة توجد في المتن أو التعليق مرموزة بم في
هذا الجزء وبقية أجزاء الكتاب فهي من ملحقات الطبعة الثانية
وزياداتها، تبدأ ب‍ م وتنتهي بقويس تتلوها.

(1) لم يكن الناظم يوم أتى بقصيدته واقفا على غير الأجزاء السبعة من الغدير.
392