الكتاب: أحاديث أم المؤمنين عائشة
المؤلف: السيد مرتضى العسكري
الجزء: ٢
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨ - ١٩٩٧ م
المطبعة: النهضة
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
ردمك: ٩٦٤-٥٨٤١-١٩-٤
ملاحظات:

كلية أصول الدين
دراسة أحاديث
أم المؤمنين عائشة
1

دراسات في الحديث والسيرة
أحاديث
أم المؤمنين عائشة
الجزء الثاني
تأليف السيد مرتضى العسكري
3

ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
الكتاب: أحاديث أم المؤمنين عائشة " ج 2 "
المؤلف: السيد مرتضى العسكري
الناشر: المجمع العلمي الاسلامي
الطبعة: الأولى 1418 ه‍ - 1997 م
المطبعة: النهضة
الكمية: 5000 نسخة
ردمك: 4 - 19 - 5841 - 964 (دوره مجلدين) (set. voI 2) 4 - 19 - 5841 - ISBN 964
يسمح طبعه بالأفست
وترجمته بعد أخذ الاذن من المؤلف
عنوان المراسلة مع المؤلف
لبنان - بيروت - ص. ب: 124 / 24
4

الاهداء
إلى ابنة خاتم الأنبياء وأم المؤمنين خديجة الكبرى وزوجة سيد
الأوصياء، وأم الأئمة الأحد عشر الهداة الأصفياء وسيدة النساء.
إلى جدتي فاطمة الزهراء صلوات الله عليهم أجمعين أهدي هذا
المجهود الضئيل في سبيل تمحيص سنة الرسول (ص) المولي عز وجل
القبول ومن أعلام الأمة النظر في بحوثه بتجرد علمي (فبشر عباد *
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
1 / صفر / 1418 ه‍ مرتضى العسكري
5

بسم الله الرحمن الرحيم
(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا
الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا
أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا) [الأحزاب: 6].
(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى
طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فأدخلوا فإذا طعمتم فانتشروا
ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله
لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب
ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن
تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما * إن تبدوا شيئا
أو تخفوه فإن الله كان بكل شئ عليما * لا جناح عليهن في آبائهن
ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن
ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شئ شهيد * إن الله
وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا
تسليما) [الأحزاب: 53 - 56]
6

بسم الله رحمان رحيم.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة على خاتم الأنبياء وأفضل المرسلين محمد
وآله الطاهرين والسلام على أزواجه أمهات المؤمنين وأصحابه البررة الميامين.
وبعد:
لما كانت سنة الرسول (ص) بعد كتاب الله جل اسمه هي المصدر الثاني
للتشريع الاسلامي ولجميع فنون المعرفة الاسلامية اهتم بدراستها أسلافنا جيلا
بعد جيل، ولكننا مع ذلك لم نستغن اليوم عن دراستها بما قاموا به من دراسة لنبقى
على تقليدهم في علم الدراية، كما بقيت بعض طوائف المسلمين على تقليد فقهاء
مضوا قبل ألف سنة وأكثر، بل لا بد لنا من الاستمرار في دراستها - أيضا - جيلا
بعد جيل. وأداء لهذا الواجب قمت في محاولة متواضعة بسلسلة دراسات في سبيل
تمحيص سنة الرسول (ص) كان منها دراسة أحاديث أم المؤمنين عائشة التي طبع
منها المجلد الأول (أدوار من حياتها) وبقي منها المجلد الثاني دراسة ما روي عنها
من حديث إلى عامنا هذا سنة 1417 ه‍ حيث قمت بتقديمها إلى الطبع بعد أن
أضفت إليها بحوثا جديدة وجدتها أيضا ضرورية لاكمال الدراسة، وقدمت امام
البحوث في ما يأتي موجزا من بحوث المجلد! الأول وجدت في تذكارها ضرورة
لاستيعاب البحوث الآتية.
7

موجز بحوث المجلد الأول
وجدنا في الجزء الأول من هذا الكتاب " أم المؤمنين عائشة " (رض) ذات
مزاج حاد عصبي عنيف. فيها حدة طبع، وحدة ذكاء مع غيرة شديدة.
تغار على زوجها الرسول (ص)، وتدفعها الغيرة إلى الحزن المفرط كل ما
بنى الرسول (ص) بزوجة جديدة (1).
تعير الواهبات أنفسهن للرسول (ص)، وتعلم بعض من تزوجها
الرسول (ص) أن تقول له: (أعوذ بالله منك) فيطلقها الرسول (ص) (2).
وتكسر أواني زوجات الرسول (ص) اللاتي كن يبعثن في يومها بطعام
إليه (3)، وتتعقب الرسول (ص) إذا انسل من فراشه للصلاة في ليلتها، وإلى البقيع
إذا ذهب للاستغفار لأهل البقيع، وتجزع من ولادة إبراهيم من مارية، فيحول
الرسول (ص) مارية إلى مشربة له في العالمية (4).
ووجدناها تقول: (ما غرت عذ امرأة لرسول الله (ص) كما غرت على

(1) راجع: أحاديث أم المؤمنين عائشة الجزء الأول فصل: أدوار من حياتها.
(2) ن. م، مع الواهبات أنفسهن.
(3) ن. م، كسر أواني أزواج الرسول (ص).
(4) ن. م، مع مارية.
8

خديجة لكثرة ذكر رسول الله (ص) إياها وثنائه عليها..) (1).
وتقول: ما غرت على أحد من نساء التي (ص) كما غرت على خديجة
وما رأيتها! ولكن النبي (ص) كان يكثر ذكرها وربما يذبح الشاة ثم يقطعها
أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، ويقول: " إني لأحب حبيبها " وتغار من هذا
فتقول لرسول الله (ص): " ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين،
هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيرا منها ". فيتغير وجه رسول الله (ص) ويقول
لها: " ما أبدلني الله خيرا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني
الناس، وواستني بما لما إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها وحرمني
أولاد النساء " (2).
وكان من الطبيعي أن تزداد بهذا الكلام غيرتها كما كان يؤججها
حدبه (ص) على ابنة خديجة فاطمة وأولادها وتنحصر ذريته (ص) فيهم
وايثاره (ص) صهر خديجة علي بن أبي طالب على غيره من كافة رجال أصحابه
بما فيهم أبو بكر أبوها حتى تقول له: " والله لقد عرفت أن عليا أحب إليك من أبي
ومني، مرتين أو ثلاثا... " (3).
ومن هذا وذاك اشتد غيضها على علي وأولاده، - كما وصفها علي - وقال:
" فأدركها رأي النساء وضغن غلا في صدرها كمرجل القين " (4) حتى لا تستطيع
أن تذكر اسم علي بخير.
وتدفعها الغيرة للعمل في داخل بيت الرسول (ص) وتشكل فيه حزبا

(1) ن. م، مع ذكرى خديجة.
(2) ن. م، مع ذكرى خديجة باجلالها إجلالا لا يدانيه إجلال.
(3) ن. م.
(4) شرح ابن أبي الحديد ج 2 / 456 - 460. و ج 9 / 189 ط. مصر سنة 1960.
9

بمعاونة حفصة. ويفعل الحزب ما تنزل الآيات في لومهما، مثل آيات سورة
التحريم، ويتوفى الرسول (ص) ويتولى الخلافة أبوها أبو بكر، ويعارض علي
وفاطمة حكمه حتى تتوفى فاطمة وهي واجدة على أبي بكر.
ويتوفى أبوها أبو بكر فيولي الصحابي القرشي عمر بن الخطاب
الخلافة.
في هذا العهد عهد الخليفتين بلغت أم المؤمنين عائشة أمنيتها، حيث رأت
اندحار حزب علي وانتصار حزب أبيها، وحيث كرمها الحزب الحاكم ووقرها
فأرجع إليها في الفتوى، وفضلها في العطاء على جميع المسلمين بما فيهم زوجات
الرسول (ص) وذوو قرباه.
وختم الخليفة الثاني عهده بإجلالها إجلالا لا يدانيه إجلال، حيث جعل
بيتها دارا للشورى، فيه يعين خليفة المسلمين.
في هذا العهد بدأ نجم أم المؤمنين يتألق في سماء المجتمع الاسلامي، وينبه
ذكرها ويعظم خطرها، ويمتد الأمر كذلك إلى ست سنوات من عهد الخليفة الثالث
عثمان بن عفان الأموي، وطوال هذه المدة زهاء ثماني عشرة سنة، كانت الخلافة
ترجع إليها في ما تحتاج من فتوى فتفتي معتمدة التحديث عن الرسول (ص)،
ومؤيدة بذلك سياسة الخلافة.
ثم تنقلب الخلافة القرشية في السنوات الست الأخيرة من حكم عثمان إلى
خلافة أموية، فتعارضها سادة قريش بقيادة حزب أبي بكر وفي مقدمتهم أم
المؤمنين عائشة (رض)، التي تقود المعارضين وتحرضهم عك قتل الخليفة، فطورا
تخرج نعلا للرسول (ص) إلى المسجد وتقول: هذه نعل رسول الله (ص) لم تبل
وقد أبلى عثمان سنته، وتارة تقول: اقتلوا نعثلا فقد كفر، وبمجاهدتها زهاء ست
سنوات تندفع الجماهير الاسلامية الثائرة إلى المدينة ويستولي ابن عمها طلحة
10

على بيت المال.
عند هذا تتجه أم المؤمنين عائشة (رض) إلى مكة للحج وتترك عثمان
حصيرا في بيته وهي واثقة من قتله، وبيعة الناس لابن عمها طلحة.
وبينا هي تتفاءل بعودة الخلافة إلى بيتها، وفي طريق رجوعها إلى المدينة
تسمع ببيعة المسلمين عليا (ع)، فقالت لمن أخبرها: والله ليت أن هذه - السماء -
انطبقت على هذه - الأرض - إن تم الأمر لصاحبك! وتعود إلى مكة، وتنقلب من
محرضة على قتل عثمان إلى طالبة بدمه، ويجتمع عليها ولاة عثمان المعزولون وآل
أمية أعداء الامام، فتسوقهم جميعا إلى البصرة. وفي ساحة المعركة يغلب الامام
جيشها ويعيدها إلى المدينة بعد أن قتل زوج أختها الزبير وابن عمها ومرشحها
للخلافة طلحة في المعركة، وتعود إلى للمدينة أسيفة ثكلى، يأفل نجمها طوال عهد
الإمام علي حتى إذا قتل الامام في محرابه سجدت لله شكرا.
وتغلب على الخلافة معاوية، وسوابقه وسوابق بيته في حربهم
لرسول الله (ص) في بدر وأحد والأحزاب وقبلها وبعدها ما تدينه وتدين بيته
وتدحض حجته.
وفي كل أحاديث المسلمين عن تلكم الحوادث وعن أيام الرسول (ص)
عامة مدح لأهل البيت عليهم السلام وعلى رأسهم الحسن والحسين سبطي الرسول (ص)
وأمل الأمة للخلافة الاسلامية، وفي جل حديثهم ذم لأمية وعلى رأسهم أبوه أبو
سفيان وأمه هند وبيته بيت أمية بما فيهم من قتل ببدر: جده وخاله وأخوه وذوو
قرباه عتبة وشيبة والوليد وحنظلة.
إذا فالبيت الذي يقابل معاوية هو بيت علي بن أبي طالب، ولا مناص
لمعاوية وهو يريد أن يشيد حكما أمويا يرثه الأبناء عن الآباء، ولا بد له أن ينشر
بين المسلمين أحاديث في فضائل الخلفاء الثلاثة، ليدحض بذلك حجة بيت علي
11

وشيعته. بالإضافة إلى نشر أحاديث في ذم علي وأبيه وبيته. فأعانه على ذلك
جماعة من أمثال ابن العاص وسمرة بن جندب وفي مقدمتهم أم المؤمنين عائشة.
وكم من الفرق بين أولئك وأم المؤمنين عائشة؟ فان أولئك ينشرون الأحاديث في
فضل حزب أم المؤمنين، وأم المؤمنين تروي الحديث بي فضل أبيها وحزبه
و (ليست الثكلى كالمستأجرة).
والمهم في ذلك الأمر كله أننا وجدنا خلال دراساتنا في الحديث والتاريخ أن
أم المؤمنين عائشة كانت تعتمد حياة الرسول (ص) لكل ما تريد. فإذا أرادت أن
تحرض على عثمان أخرجت نعلا وقالت: هذا نعل الرسول، وإذا أرادت تحطيم
مروان ذكرت قول النبي (ص) في أبيه ولعنه إياه، وإذا أرادت أن تبين فضل عثمان
وحياء حدثت عن ستر الرسول (ص) فخذه عنه، بعد أن كانت مكشوفة أمام
غيره، وكذلك تحدثت عن كيفية تلقي الرسول (ص) الوحي وعن صلاته وصومه
وعن جهاده وغزوه وعن كل شؤون الرسول (ص) منذ بعثته إلى وفاته.
وهكذا أصبح حديثها أكثر استعراضا لحياة الرسول (ص) من أي حديث
آخر.
وقد بعث لنا الرسول (ص) إماما وقائدا وأسوة فلا بد لنا من تدارس تلك
الأحاديث دراسة موضوعية للتعرف على صحيحها من سقيمها. ولا يجدينا
تركها وإهمالها بعد أن أخذ منها قسم من المسلمين معالم سيرة الرسول (ص)
ودانوا بها، وترجم المستشرقون حياة الرسول (ص) اعتمادا عليها، وتمسك بها
مبلغو النصارى في نقد الاسلام وسلوك نبيه (ص).
لهذا كله لم يكن لنا بد من تجشم عناء هذا البحث، والله على ما نقول وكيل
وقد أدرنا البحوث في أبواب الكتاب باذنه تعالى وفق المخطط الآتي:
12

مخطط البحوث
(1)
ثلاثة بحوث تمهيدية
أ - ما جرى في أمر رواية الحديث.
ب - نظرية عدالة جميع الصحابة وصحة جميع ما رووا.
ج - كثرة ما روي عن أم المؤمنين عائشة وأهميته.
(2)
ما روي عن أم المؤمنين عائشة خاصة
أ - في سيرة النبي (ص) معها.
ب - في خبر التحريم والتخيير.
ج - في خبر المسابقة والتيمم والإفك.
خبر غزوة بني المصطلق وروايات قصة الإفك فيها.
د - في خبر وفاة الرسول (ص).
ه‍ - في خبر ما بعد وفاة الرسول (ص).
13

(3)
ما روي عن أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة
في سيرة الرسول (ص)
أ - استماع الني (ص) الغناء و...!
ب - الناس أعلم بأمور دنياهم!
ج - نسيان النبي (ص) آيات من القرآن الكريم!
د - من لعنه النبي (ص) وسبه.
(4)
روايات افتري بها على أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة
أ - بدء نزول الوحي.
ب - بدء الدعوة.
ج - أسطورة الغرانيق.
(5)
قيام أم المؤمنين عائشة بتمحيص سنة الرسول (ص) واستدراكها
على روايات الصحابة والتابعين
1 - أبي الدرداء 2 - أبي هريرة 3 - عروة بن الزبير 4 - عمر بن الخطاب
5 - عبد الله بن عمر 6 - عمرو بن العاص 7 - مروان بن الحكم
8 - كعب الأحبار وغيره
14

(6)
أقوال المستشرقين واستفادتهم من الروايات الماضية
أ - مونتجومري وات في كتابه محمد في مكة.
ب - المستشرق ر. ف. بودلي في كتابه حياة محمد.
ج - كارل بروكلمن في تاريخ الشعوب.
د - ف. بوهل في دائرة المعارف الاسلامية.
ه‍ - يوسف شاخت في دائرة المعارف الاسلامية.
15

الباب الأول
بحوث تمهيدية
أ - ما جرى في أمر رواية الحديث
ب - نظرية عدالة جميع الصحابة
وصحة جميع ما رووا
ج - كثرة ما روي عن أم المؤمنين
عائشة وأهميته
17

أ - ما جرى في أمر رواية الحديث
صنف ابن الجوزي رواة الحديث الذين وقع في حديثهم الموضوع والكذب
والمقلوب إلى خمسة أقسام، وقال عن القسم الثالث منهم: قوم تعمدوا الكذب
الصريح لا لأنهم أخطأوا ولا لأنهم رووا عن كذاب، فتارة يكذبون في الأسانيد
وتارة يسرقون الأحاديث وتارة يضعون أحاديث، وقسم هؤلاء الوضاعون
إلى سبعة أقسام وقال عن القسم الثالث منهم ما موجزه: انهم قوم وضعوا
الأحاديث في الترغيب والترهيب. ومضمون فعلهم أن الشريعة ناقصة نحتاج
إلى تتمة فأتممناها! وفي ما يأتي نورد أمثلة منها باذنه تعالى:
كان غلام خليل يتزهد ويهجن شهوات الدنيا ويتقوت الباقلا تصوفا
وغلقت أسواق بغداد يوم موته، وقيل له هذه الأحاديث تحدث بها من الرقائق
فقال: " وضعناها لنرقق بها قلوب العامة ".
وقالوا لميسرة بن عبد الله: من أين جئت بهذه الأحاديث: من قرأ كذا فله
كذا؟ قال: " وضعتها ارغب الناس فيها " وكان أطول الناس قياما بليل وأكثرهم
صياما بنهار وكان يضع الحديث وضعا.
قال ابن حبان: وكان أبو بشر أحمد بن محمد الفقيه المروزي من أصلب أهل
زمانه في السنة وأذبهم عنها وأقمعهم لمن خالفها، وكان مع هذا يضع الحديث. قد
وضع في فضائل قزوين نحو أربعين حديثا كان يقول: " إني أحتسب في ذلك ".
19

وقيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي: من أين لك عن عكرمة عن
ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟
فقال: " إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي
ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة ".
وقد حكى مؤمل بن إسماعيل أن رجلا وضع في فضائل القرآن حديثا
طويلا.
كان وهب بن حفص من الصالحين، مكث عشرين سنة لا يكلم أحدا.
قال أبو عروبة: " وكان يكذب كذبا فاحشا ".
وكان يحيى بن سعيد القطان يقول: ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه في
من ينسب إلى الخير والزهد (1).
* * *
كانت تلكم أمثلة من أخبار من وضع الحديث من أهل الخير تقربا إلى الله
تعالى، ويسوغ لنا أن نعد من هذا الصنف ممن وضع الحديث تقربا إلى الله،
وضع أخبار وكرامات لبعض الناس تقربا إلى الله كما نجد ذلك في ما جاء في
كتاب الاحياء لأبي حامد الغزالي. فمن كان الغزالي؟ وما هي أخباره؟ وماذا
جاء في كتابه الاحياء؟
أولا: أبو حامد الغزالي وأخباره:
الشيخ أبو حامد محمد الطوسي الملقب بحجة الاسلام الغزالي نسبة إلى عمل
أبيه في غزل الصوف، ولد بطوس سنة 450 ه‍. برع في علوم عصره وكان فقيه
عصره على مذهب الشافعي، حتى قيل فيه هو الشافعي الثاني. ولاه الوزير نظام
الملك تدريس مدرسة النظامية ببغداد فدرس فيها زمانا، ثم أناب أخاه أحمد في

(1) الموضوعات لابن الجوزي ج 1 / 40 - 41 ط. الأولى في المدينة المنورة 1386.
20

التدريس بالنظامية، وسافر للحج وعاد إلى الشام سنة 488 ه‍، واعتكف في
زاوية بالجامع الأموي، وصار يطوف المشاهد ويزور الترب ويأوي إلى القفار،
وسافر إلى بغداد ثم إلى طوس وألف في هذا العهد كتابه " إحياء علوم الدين "
وتوفي بطوس سنة 505 ه‍ (1).
ثانيا: ما جاء في كتابه احياء علوم الدين:
قال أبو حامد الغزالي في بيان علاج حب الجاه: ان أرباب الأحوال ربما
يعالجون أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه مهما رأوا اصلاح قلوبهم فيه ثم يتداركون
ما فرط منهم فيه من صورة التقصير، كما فعل بعضهم، فإنه عرف بالزهد وأقبل
الناس عليه، فدخل حماما ولبس ثياب غيره وخرج، فوقف في الطريق حتى
عرفوه فأخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب وقالوا: انه طرار.
وقال العلامة ابن الجوزي البكري الحنبلي (ت 597 ه‍) عن الغزالي في
كتابه تلبيس إبليس في الرد على الصوفية:
ولقد عجبت لأبي حامد الغزالي الفقيه كيف نزل مع القوم من رتبة الفقه إلى
مذاهبهم حتى أنه قال: لا ينبغي للمريد إذا تاقت نفسه إلى الجماع ان يأكل ويجامع
فيعطي نفسه شهوتين (2)؟
وقال أبو حامد: مما ينبغي أن لا يشغل المريد نفسه بالتزويج فإنه يشغله
عن السلوك ويأنس بالزوجة، ومن أنس بغير الله شغل عن الله تعالى (3).
وحكى عن أبي يزيد أنه قال: دعوت نفسي إلى الله عز وجل فجمحت

(1) ترجمة الغزالي في مقدمة الجزء الأول من احياء علوم الدين ط. دار المعرفة - بيروت. ومن
هذه الطبعة ننقل في ما يأتي من هذا البحث.
(2) تلبيس إبليس ط. بيروت 1368 ه‍ ص 213.
(3) تلبيس إبليس ص 295.
21

فعزمت عليها ان لا اشرب الماء سنة ولا أذوق النوم سنة فوفت لي بذلك (1).
وقد حكى أبو حامد الغزالي في كتاب الاحياء قال: كان بعض الشيوخ في
بداية إرادته يكسل عن القيام، فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل لتسمح
نفسه بالقيام عن طوع، قال: وعالج بعضهم حب المال بأن باع جميع ماله ورماه في
البحر.
وعلق ابن الجوزي على هذا بقوله: أعجب من جميع هؤلاء عندي أبو
حامد، كيف حكى هذه الأشياء ولا ينكرها؟ وكيف ينكرها وقد أتى بها في
معرض التعليم وقال قبل أن يورد هذه الحكايات: ينبغي للشيخ أن ينظر إلى
حالة المبتدئ فان رأى معه مالا فاضلا عن قدر حاجته أخذه وصرفه في الخير
وفرغ قلبه منه حتى لا يلتفت إليه، وان رأى الكبرياء قد غلب عليه أمره أن
يخرج إلى السوق للكد ويكلفه السؤال والمواظبة على ذلك، وان رأى الغالب عليه
البطالة استخدمه في بيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ
ومواضع الدخان، وان رأى شره الطعام غالبا عليه ألزمه الصوم، وان رآه عزبا
ولم تنكسر شهوته بالصوم أمره أن يفطر ليلة على الماء دون الخبز وليلة على الخبز
دون الماء ويمنعه اللحم رأسا؟
قلت: وأني لأتعجب من أبي حامد كيف يأمر بهذه الأشياء التي تخالف
الشريعة؟ وكيف مجل القيام على الرأس طول الليل فينعكس الدم إلى وجهه
ويورثه ذلك مرضا شديدا؟ وكيف يحل رمي المال في البحر؟ وقد نهى
رسول الله (ص) عن إضاعة المال. وهل يحل سب مسلم بلا سبب؟ وهل يجوز
للمسلم أن يستأجر على ذلك؟ وكيف يجوز ركوب البحر زمان اضطرابه وذلك
زمان قد سقط فيه الخطاب بأداء الحج؟ وكيف يحل السؤال لمن يقدر أن يكتسب؟

(1) تلبيس إبليس ص 210.
22

فما أرخص ما باع أبو حامد الغزالي الفقه بالتصوف (1)؟
وقال: وقد قال أبو حامد الغزالي في كتاب الاحياء: مقصود الرياضة
تفريغ القلب وليس ذلك إلا بخلوة في مكان مظلم وقال فإن لم يكن مكان مظلم
فيلف رأسه في جبته أو يتدثر بكساء أو أزار، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء
الحق ويشاهد جلال حضرة الربوبية.
وقال، قلت: انظر إلى هذه الترتيبات، والعجب كيف تصدر من فقيه عالم؟
ومن أين له أن الذي يسمعه نداء الحق وأن الذي يشاهده جلال الربوبية؟ وما
يؤمنه أن يكون ما يجده من الوساوس والخيالات الفاسدة؟ وهذا الظاهر ممن
يستعمل التقلل في المطعم فإنه يغلب عليه الماليخوليا. وقد يسلم الانسان في مثل
هذه الحالة من الوساوس إلا أنه إذا تغشى بثوبه وغمض عينيه تخايل هذه الأشياء
- إلى قوله -: فإن أطرق الانسان وغمض عينيه جال الفكر والتخيل فيرى
خيالات فيظنها ما ذكر من حضرة جلال الربوبية، إلى غير ذلك. نعوذ بالله من
هذه الوساوس والخيالات الفاسدة (2).
وقال: وقد ذكر أبو حامد الطوسي في كتاب الاحياء: ان بعضهم قال:
للربوبية سر لو أظهر بطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلماء بالله
سر لو أظهروه لبطلت الاحكام.
قلت: فانظروا اخواني إلى هذا التخليط القبيح والادعاء على الشريعة ان
ظاهرها يخالف باطنها (3).
تال أبو حامد: ضاع لبعض الصوفية ولد صغير، فقيل له: لو سألت الله ان

(1) نفس المصدر السابق 3 / 288.
(2) تلبيس إبليس ص 288 - 289.
(3) ن. م.
23

يرده عليك، فقال: اعتراضي عليه في ما يقضي أشد علي من ذهاب ولدي (1).
وحكى أبو حامد الغزالي عن ابن الكريني أنه قال: نزلت في محلة فعرفت
فيها بالصلاح فنشب في قلبي فدخلت الحمام وعينت على ثياب فاخرة فسرقتها
ولبستها ثم لبست مرقعتي وخرجت فجعلت أمشي قليلا قليلا فلحقوني فنزعوا
مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام فسكنت
نفسي.
قال أبو حامد: فهكذا كانوا يروضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر
إلى الخلق ثم من النظر إلى النفس. وأرباب الأحوال ربما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي
به الفقيه مهما رأوا صلاح قلوبهم ثم يتداركون ما فرط منهم من صورة التقصير،
كما فعل هذا في الحمام.
قلت: سبحان من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الاحياء،
فليته لم يحك فيه مثل هذا الذي لا يحل. والعجب منه أنه يحكيه ويستحسنه
ويسمي أصحابه أرباب أحوال، وأي حالة أقبح وأشد من حال من يخالف
الشرع ويرى المصلحة في النهي عنه؟ وكيف يجوز أن يطلب صلاح القلوب بفعل
المعاصي..؟ وكيف يحل للمسلم أن يعرض نفسه لأن يقال عنه سارق؟ وهل
يجوز أن يقصد وهن دينه ومحو ذلك عند شهداء الله في الأرض؟ ولو أن رجلا
وقف مع امرأته في طريق يكلمها ويلصمها ليقول عنه من لا يعلم هذا فاسق لكان
عاصيا بذلك. ثم كيف يجوز التصرف في مال الغير بغير إذنه؟ ثم في نص مذهب
أحمد والشافعي أن من سرق من الحمام ثيابا عليها حافظ وجب قطع يده. ثم من
أرباب الأحوال حتى يعملوا بواقعاتهم؟ كلا والله إن لنا شريعة لو رام أبو بكر
الصديق أن يخرج عنها إلى العمل برأيه لم يقبل منه. فعجبي من هذا الفقيه المستلب

(1) تلبيس إبليس ص 339 - 340.
24

عن الفقه بالتصوف أكثر من تعجبي من هذا المستلب الثياب (1).
وقال: وحكى أبو حامد: أن أبا تراب النخشي قال لمريد له: لو رأيت أبا
يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من رؤية الله سبعين مرة.
قلت: وهذا فوق الجنون بدرجات (2).
كان ذلكم بعض ما نقله ابن الجوزي من كتاب الاحياء، ونضيف إليها ما
يأتي ونقول:
ومن كمال عرفان الغزالي قوله في إحياء علوم الدين:
فان قيل: هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو آمر به؟ قلنا: لم يثبت
أصلا فلا يجوز أن يقال إنه قتله أو أمر به ما لم يثبت فضلا عن اللعنة، لأنه لا تجوز
نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق.
فان قيل: فهل يجوز أن يقال: قاتل الحسين لعنه الله؟ أو الآمر بقتله لعنه
الله؟ قلنا: الصواب ان يقال: قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله، لأنه
يحتمل ان يموت بعد التوبة.
ومن كمال عرفانه أيضا انه روى حديثا على رسول الله (ص) لا أصل له
وقال: وقد كان استغراقه بحب الله تعالى بحيث كان يجد احتراقه فيه إلى حد كان
يخشى منه في بعض الأحوال ان يسري ذلك إلى قالبه فيهدمه. فلذلك كان يضرب
بيده على فخذ عائشة أحيانا ويقول: (كلميني يا عائشة) لتشغله بكلامها عن
عظيم ما هو فيه لقصور طاقة قالبه عنه.
وقال العلامة زين أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العرفي (ت 806 ه‍) في
تخريج ما في الاحياء من الاخبار: حديث: كان يضرب يده على فخذ عائشة

(1) تلبيس إبليس ص 355.
(2) ن. م ص 354. وفيه بعض الاختلاف مع ما نقلناه من الاحياء.
25

أحيانا ويقول: (كلميني يا عائشة) لم أجد له أصلا (1).
أقول: وأنا - أيضا - لم أجد له أصلا، والسبب في ذلك أنه لا أصل له،
ولكن العلماء بعد الغزالي اعتمدوا على نقله ونسبوا هذا الحديث إلى رسول
الله (ص) مثل المولى مهدي النراقي (ت 1209 ه‍) الذي أسند هذا الحديث إلى
رسول الله (ص) في كتابه جامع السعادات وابنه الملا احمد النراقي (ت: 1245 ه‍)
الذي نقل الحديث في كتابه معراج السعادة (2).
وهكذا شحن الشيخ أبو حامد كتابه احياء علوم الدين بأمثال تلكم
المفتريات والمختلقات وأخذ منه من أخذ من العلماء. ونحن لا نشك أن الغزالي
كتب ما كتب في الاحياء من كل كذب وافتراء وتدليس احتسابا للخير وبقصد
التقرب إلى الله في تربية السالكين إليه. ولا يمنعنا ذلك من أن ندرس ما روى ونقل
خبرا بعد خبر ونبين زيفه ومخالفته للحق وأحكام الاسلام وعقائده.
وكان الغزالي من أعاظم العلماء في عصره ومن أئمة أهل العرفان في دهره،
وافترى بها على رسول الله (ص) وأصحابه وأئمة أهل بيته مما درسناه في سلسلة
دراسات في سبيل تمحيص سنة الرسول (ص).
* * *
كان ذلك شأن من تأول الخبر واجتهد ودون في كتب العرفان والسير
والسلوك ما لا يوافق شرع الاسلام. وفي ما يأتي نستعين الله وندرس في البحوث
الآتية ما روي عن الصحابة من حديث بعد دراسة ما قاله العلماء في شأن عدالة
الصحابة.

(1) المصدر السابق ج 3 / 101 وبهامشه قول العلامة العرفي حول ما رواه الغزالي عن
أم المؤمنين عائشة.
(2) راجع مصادر النراقيين في " قيام الأئمة بإحياء السنة "، 7 / 64 - 66.
26

ب - نظرية - عدالة جميع الصحابة وصحة جميع ما رووا
الصحابي وعدالته في مدرسة الخلافة:
ترى مدرسة الخلفاء أن الصحابي من لقي النبي (ص) مؤمنا به، ولو ساعة
من نهار، ومات على الاسلام.
وانه لم يبق بمكة والطائف أحد سنة عشر إلا أسلم وشهد مع النبي (ص)
حجة الوداع.
وأنه لم يبق في الأوس والخزرج أحد في آخر عهد النبي (ص) إلا دخل في
الاسلام.
وانهم (كانوا في الفتوح لا يؤمرون إلا الصحابة) وبهذه القاعدة عدوا جميعا
في عداد الصحابة ممن برهنا في كتابنا: " خمسون ومائة صحابي مختلق " أنهم
مختلقون ولم يكن لهم وجود في التاريخ.
وترى أن جميع الصحابة عدول لا يتطرق إليهم الجرح، ومن انتقص أحدا
منهم فهو من الزنادقة، ثم يلتزمون بصحة كل ما رواه من سمي في اصطلاحهم
بالصحابي، ويأخذون من جميعهم معالم دينهم (1).

(1) الإصابة ج 1 / 10 - 18.
27

الصحابي في مدرسة أهل البيت عليهم السلام:
ترى مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن لفظ الصحابي ليس مصطلحا شرعيا، وإنما
شأنه شأن سائر مفردات اللغة العربية، و (الصاحب) في لغة العرب بمعنى الملازم
والمعاشر ولا يقال إلا لمن كثرت ملازمته، والصحبة نسبة بين اثنين، ولذلك
لا يستعمل الصاحب وجمعه الأصحاب والصحابة في الكلام إلا مضافا، كما
ورد في القرآن الكريم: (يا صاحبي السجن) (يوسف / 39 و 41) و (أصحاب
موسى) (الشعراء / 61). وكذلك كان يستعمل في عصر الرسول (ص) ويقال:
صاحب رسول الله، وأصحاب رسول الله، مضافا إلى رسول الله (ص) أو مضافا
إلى غيره، مثل قولهم (أصحاب الصفة) لمن كانوا يسكنون صفة مسجد
الرسول (ص) ثم استعمل الصحابي بعد رسول الله (ص) بلا مضاف إليه وقصد به
أصحاب رسول الله (ص) وصار اسما لهم، وعلى هذا فإن (الصحابي)
و (الصحابة) من اصطلاح المتشرعة وتسمية المسلمين وليس اصطلاحا شرعيا.
أما عدالتهم، فإن مدرسة أهل البيت ترى تبعا للقرآن الكريم، أن في
الصحابة منافقين (مردوا على النفاق) (1) ورموا فراش رسول الله (ص)
بالإفك (2) وحاولوا اغتيال رسول الله (3) وأخبر عنهم الرسول (ص) أنهم يوم
القيامة يختلجون دون رسول الله (ص) فينادي: أصيحابي أصيحابي، فيقال له:

(1) التوبة: 101.
(2) النور: 11 - 17.
(3) مسند أحمد 5 / 453، ومجمع الزوائد 1 / 110، ومغازي الواقدي 3 / 1042 وإمتاع الأسماع
للمقريزي ص 477، وتفسير الدر المنثور للسيوطي 3 / 258 - 259، كان ذلك في
مصادر مدرسة الخلفاء وفي مدرسة أهل البيت: مجار الأنوار: ج 28 / 97.
28

إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم (1).
وأن منهم مؤمنين أثنى الله عليهم والرسول (ص) في أحاديثه، وأنهم
المقصودون في ما ورد من الثناء في القرآن والحديث، وقد عين النبي (ص) العلامة
الفارقة بين المؤمن والمنافق: حب الإمام علي وبغضه، كما رواه الإمام علي (2) عليه السلام

(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة المائدة، باب: (وكنت عليهم شهيدا
ما دمت فيهم فلما توفيتني) 3 / 86، وكتاب الأنبياء، باب: (واتخذ الله إبراهيم خليلا)
2 / 156، وكتاب الرقاق، باب: في الحوض، 4 / 95، وكتاب الفتن، باب: ما جاء في قول
الله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن...) الأنفال / 25، 4 / 147، والترمذي، أبواب: صفة
القيامة، باب: ما جاء في شأن الحشر 9 / 256، وابن ماجة، كتاب المناسك، باب:
الخطبة يوم النحر، ح 3057، 2 / 1016. وراجع: مسند أحمد ج 1 / 453 و ج 3 / 28
و ج 5 / 48. وصحيح مسلم، ط. دار احياء التراث العربي ببيروت، تحقيق محمد فؤاد
عبد الباقي سنة 1972، كتاب الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا، ج 4 / 1800 ح 40.
(2) الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، ابن عم الرسول (ص): ولد في جوف الكعبة، كما
رواه الحاكم في المستدرك ج 3 / 483، والمالكي في الفصول المهمة. وابن المغازلي الشافعي
(ت: 483 ه‍) في المناقب، ح 3 ص 7. والشبلنجي في نور الأبصار ص 96. وكانت
ولادته في 13 رجب سنه ثلاثين من عام الفيل. و بايعه المهاجرون والأنصار سنة 35 ه‍.
وضربه ابن ملجم المرادي ليلة التاسعة عشرة من شهر رمضان سنة 40 للهجرة في محراب
مسجد الكوفة، وتوفي في يوم 21 منه. روى عنه أصحاب الصحاح 536 حديثا. راجع:
ترجمته في الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة وص 276 من جوامع السيرة.
وروايته في المنافقين في صحيح مسلم ج 1 / 61، باب: الدليل على أن حب الأنصار وعلي
من الايمان وبغضهم من علامات النفاق. وصحيح الترمذي ج 13 / 177، باب: مناقب
علي. وسنن ابن ماجة الباب الهادي عشر من مقدمته. وسنن النسائي ج 2 / 271، باب:
علامة المؤمن وباب: علامة المنافق كتاب الايمان وشرائعه وخصائص النسائي ص 38.
ومسند أحمد ج 1 / 84 و 95 و 128. وتاريخ بغداد ج 2 / 255 و ج 8 / 417،
و ج 16 / 426. وحلية الأولياء لأبي نعيم ج 4 / 185 وقال: حديث صحيح متفق عليه.
وتاريخ الاسلام للذهبي ج 2 / 198. وتاريخ ابن كثير ج 7 / 354، وبترجمته في كل من
الاستيعاب ج 2 / 461 وأسد الغابة ج 4 / 292. وكنز العمال ج 15 / 105. والرياض
النضرة ج 2 / 284. والمناقب لابن المغازلي، ص 190 ح 225.
29

وأم المؤمنين أم سلمة (1) وعبد الله بن عباس (2) وأبو ذر الغفاري (3) وأنس بن
مالك (4) وعمران بن حصين (15) ومن ثم فإنهم ينظرون في حال الراوي، فإن كان

(1) أم سلمة هند ابنة أبي أمية بن المغيرة القرشي المخزومي، كانت قبل رسول الله (ص) عند
أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، أسلما قديما وهاجرا إلى الحبشة ثم إلى المدينة، ولما جرح
بأحد وتوفي سنه ثلاث من الهجرة، تزوجها رسول الله (ص) وكانت مصبية، وتوفيت بعد
قتل الحسين سنة إحدى وستين. روى عنها أصحاب الصحاح 378 حديثا. راجع ترجمتها
وترجمة زوجها بأسد الغابة، وجوامع السيرة، ص 276، وتقريب التهذيب ج 2 / 617.
وحديثها في شأن المنافقين في سنن الترمذي ج 13 / 168. ومسند أحمد ج 6 / 292.
والاستيعاب ج 2 / 460، بطرق متعددة. وتاريخ ابن كثير ج 7 / 354. وكنز العمال
6 / 158 ط. الأولى.
(2) عبد الله بن العباس عم النبي ابن عبد المطلب، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي سنة
ثمان وستين بالطائف، وروى عنه أصحاب الصحاح 1660 حديثا. ترجمته بأسد الغابة
والإصابة وجوامع السيرة ص 276.
(3) أبو ذر جندب أو بريد بن جنادة أو عبد الله أو السكن أو غير ذلك، تقدم إسلامه وتأخرت
هجرته، فشهد ما بعد بدر من غزوات رسول الله. توفي منفيا بالربذة سنة اثنتين وثلاثين من
الهجرة. روى عنه أصحاب الصحاح 281 حديثا. ترجمته في التقريب ج 2 / 420.
وجوامع السيرة ص 277. والجزء الثاني من عبد الله بن سبأ.
(4) أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، روى هو أنه خدم النبي عشر سنين، كان
يخلق ذراعيه بخلوق للمعة بياض كانت به، وكان ذلك من دعاء الإمام علي عليه لكتمانه
الشهادة بحديث الغدير أن يضربه الله بيضاء لا تواريها العمامة، أشار إليه في الاعلاق
النفيسة ص 122، وتفصيله بشرح نهج البلاغة ج 4 / 388، وتوفي في البصرة بعد
التسعين. روى عنه أصحاب الصحاح 2286 حديثا. ترجمته بأسد الغابة. والتقريب.
وجوامع السيرة ص 274. وروايته في شأن المنافقين بكنز العمال ج 7 / 140 ط. الأولى.
(5) أبو نجيد عمران بن حصين الخزاعي الكعبي، أسلم عام خيبر، وصحب الرسول (ص)
وقضى بالكوفة، وتوفي بالبصرة سنة 52. روى عنه أصحاب الصحاح 180 حديثا.
وروايته بشأن المنافقين بكنز العمال ج 7 / 140 ط. الأولى. ترجمته في التقريب ج 2 / 72
وجوامع السيرة ص 277.
30

ممن قاتل الامام عليا أو الأئمة من أهل البيت عليهم السلام وعاداهم فإنهم لا يلتمزون
بأخذ ما يروي أمثال هؤلاء، صحابيا كان أو غير صحابي.
31

ج - كثرة ما روي عن أم المؤمنين عائشة وأهميته
أولا: كثرة ما روي عن أم المؤمنين عائشة:
رووا عن أم المؤمنين عائشة - وحدها - عن النبي (ص) 2210 حديثا،
وعن سائر أمهات المؤمنين الثمان 612 حديثا (1)، ولها في مسند أحمد وحده أكثر
من 2270 حديثا بما فيها المكرر ولسائر أمهات المؤمنين 427 حديثا (2) وقد
اشتمل كتاب البخاري ومسلم على 1200 حديث في الاحكام، وفي الكتابين
نيف وتسعون ومائتا حديث عن أم المؤمنين عائشة، ولم يخرج من الاحكام منها
إلا يسيرا ومن ثم قالوا: حمل منها ربع الشريعة (3).
ومن هذا يظهر الفرق جليا بين أحاديثها وأحاديث غيرها من المكثرين
كأبي هريرة - مثلا - فإنهم ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلا ما كان
حديث صفة جنة أو نار أو حث على عمل أو نهي عن شر جاء في القرآن (4).
وفي ما يأتي خلاصة عن أحاديث أمهات المؤمنين استخرجناها من مسند

(1) جوامع السيرة لابن حزم ص 276 - 279 و 285 و 287 و 289.
(2) أحصيناها عن الطبعة الأولى من مسند أحمد وفي أحاديث المسند بعض التكرار.
(3) الإجابة ص 62 - 63.
(4) راجع: ابن كثير ج 8 / 109.
32

أحمد وجوامع السيرة:
1 - أم سلمة: لها في مسند أحمد 277 حديثا، ومجموع أحاديثها في جوامع
السيرة 378 حديثا.
2 - ميمونة: لها في مسند أحمد 62 حديثا، ومجموع أحاديثها في جوامع
السيرة 76 حديثا.
3 - حفصة: طا في مسند أحمد 44 حديثا، ومجموع أحاديثها في جوامع
السيرة 60 حديثا.
4 - أم حبيبة: لها في مسند أحمد 27 حديثا، ومجموع أحاديثها في جوامع
السيرة 65 حديثا.
5 - صفية: لها في مسند أحمد 9 أحاديث، ومجموع أحاديثها في جوامع
السيرة 10 أحاديث.
6 - زينب: لها في مسند أحمد 4 أحاديث، ومجموع أحاديثها في جوامع
السيرة 11 حديثا.
7 - جويرية: لما في مسند أحمد 4 أحاديث، ومجموع أحاديثها في جوامع
السيرة 7 أحاديث.
8 - سودة: لم يخرج لها في المسند، ومجموع أحاديثها في جوامع السيرة 5
أحاديث.
فيكون مجموع أحاديثهن في مسند أحمد 427 حديثا، ومجموع أحاديثها في
جوامع السيرة 612 حديثا.
أما أحاديث عائشة وحدها فهي في مسند أحمد 2270 حديثا، ومجموع
أحاديثها في جوامع السيرة 2210 حديثا.
33

ثانيا: أهمية أحاديث أم المؤمنين عائشة:
قال أبو موسى: ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها
فيه علما (1).
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: ما رأيت أحدا اعلم بسنن رسول الله (ص)
ولا أفقه في رأي إن احتيج إلى رأيه ولا أعلم بآية فيما نزلت ولا فريضة،
من عائشة (2).
قال مسروق: رأيت مشيخة أصحاب رسول الله الأكابر يسألونها عن
الفرائض (3) ويعني بالمشيخة الأكابر من ذكره محمود بن لبيد في حديث له (4) قال
فيه: وكان الأكابر من أصحاب رسول الله (ص) عمر وعثمان بعده يرسلان إليها
فيسألانها عن السنن.
وقال قاسم (5): " كانت عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر
وعمر وعثمان وهلم جرا إلى أن ماتت يرحمها الله ".
وقد روى عنها من الصحابة خاصة أبوها أبو بكر والخليفة عمر وابنه
عبد الله وابن عباس وأبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص وربيعة بن عمرو
الجريشي والسائب بن يزيد وزيد بن خالد الجهني وعبد الله بن عامر بن ربيعة
وعبد الله بن الحارث بن نوفل وصفية بنت شيبة. وروى عنها من التابعين خلق

(1) طبقات ابن سعد ج 2 / 375 و ج 4 / 345 بترجمتها من الإصابة، والإجابة ص 61.
(2) طبقات ابن سعد ج 2 / 375 و ج 4 / 345 بترجمتها من الإصابة، والإجابة ص 61.
(3) طبقات ابن سعد ج 2 / 375 وبترجمتها في الإصابة ج 4 / 345.
(4) طبقات ابن سعد ج 2 / 375.
(5) نفس المصدر.
34

كثير (1).
وكان ابن الزبير إذا حدث عن عائشة قال: والله لا تكذب عائشة على
رسول الله (ص) ابدا (2).
وكان مسروق إذا حدث عنها قال: " حدثتني الصديقة بنت الصديق
حبيبة حبيب الله المبرأة من كل عيب " (3).
سجلها ابن حزم في مقدمة أصحاب الفتيا من الصحابة الذين كتبهم على
مراتبهم في كثرة الفتيا (4).
فكيف أصبحت أكثر الصحابة افتاء بما في ذلك الصحابة الخلفاء الذين كان
المسلمون يرجعون إليهم في شؤونهم؟ وكيف بلغ مجموع أحاديث أزواج الرسول
الثمان 612 حديثا، وبلغ أحاديثها وحدها 2210 حديثا؟ وقد دخلت بيت
الرسول (ص) في السنة الثانية من الهجرة ولم تتجاوز العام العاشر من عمرها
وهي طفلة صغيرة تلعب باللعب، وتوفيت في السنة الثامنة أو التاسعة والخمسين
من الهجرة. ودخلته أم سلمة أيضا في السنة الثانية وهي امرأة كبيرة ايمة، ثم
عاشت بعد عائشة ثلاث سنين حيث توفيت في السنة الثانية والستين أو الثالثة
والستين من الهجرة. والفرق بين أحاديثهما كبير، وكيف كانت لا تسأل عن أمر إلا
وعندها علم منه؟
ألا ينبغي لأحاديث بلغت من الكثرة والأهمية ما بلغته أحاديث أم
المؤمنين عائشة ان تعنى بدراستها عناية خاصة؟ أما أصحاب الحديث الذين

(1) ب راجع: الإجابة ص 41 وقد عد تسعين من التابعين الذين رووا عنها.
(2) بترجمتها في طبقات ابن سعد ج 8 / 69.
(3) طبقات ابن سعد ج 8 / 16 بترجمة عائشة والإجابة ص 42.
(4) جوامع السيرة لابن حزم ص 319.
35

كانوا يدرسون الرواة وأحاديثهم فإنهم أحجموا عن ذلك!
الصحابة يسمع الحديث بعضهم عن بعض ثم يسنده إلى رسول الله (ص)
ويرويه عنه:
أخرج أحمد في مسنده عن حبيب بن عبيد الرحبي أن أبا امامة (1) دخل
على خالد بن يزيد فالقى له وسادة فظن أبو أمامة انها حرير فتنحى يمشي القهقرى
حتى بلغ آخر السماط وخالد يكلم رجلا ثم التفت إلى أبي أمامة فقال له: يا أخي
ما ظننت انها حرير، قال أبو أمامة، قال رسول الله (ص): " لا يستمتع بالحرير
من يرجو أيام الله " فقال له خالد: يا أبا امامة أنت سمعت هذا من رسول
الله (ص)؟ فقال: اللهم غفرا، أنت سمعت هذا من رسول الله (ص)! بل كنا في قوم
ما كذبونا ولا كذبنا (2).
وقد أخبروا أن جمعا من الصحابة رووا عن عائشة ولم يذكروا أنها روت
من أحد شيئا.
ووجدنا أم المؤمنين عائشة أميرة متبوعة لا مأمورة تابعة، سواء في ميادين
الهرب أو في مجالات السلم، وسواء كانت معارضة للحكم أو مؤيدة له، وكذلك
كانت أم المؤمنين في سائر نواحي حياتها تحدث عن النبي (ص) وكثير من
الصحابة كانوا يأخذون عنها ويرجعون إليها، وأحيانا كانوا يروون عن

(1) أبو أمامة الباهلي اسمه صدي بن عجلان واختلفوا في نسبه إلى باهلة - سكن مصر ثم انتقل
منها إلى حمص فسكنها ومات بها سنة 81 أو 86 وكان من المكثرين في الرواية عن رسول
الله (ص) وأكثر حديثه عند الشاميين الاستيعاب ج 2 / 620 الرقم 3.
(2) مسند أحمد ج 5 / 267.
36

النبي (ص) بلا ذكر واسطة ما كانوا قد سمعوه عنه بواسطة، فإذا وجدنا الحديث
ترويه عائشة ويرويه غيرها فنجزم بأنها لم تكن تأخذ من غيرها في الرواية
ولابد أن يكون غيرها قد أخذ الرواية عنها ولم يذكر اسمها ونسبها إلى
الرسول (ص).
37

الباب الثاني
ما روي عن أم المؤمنين عائشة خاصة
أ - في سيرة النبي (ص) معها
ب - في خبر التحريم والتخيير
ج - في خبر المسابقة والتيمم والإفك
د - في خبر وفاة الرسول (ص)
ه‍ - في خبر ما بعد وفاة الرسول (ص)
39

أ - في سيره النبي (ص) معها
أولا - رآها النبي (ص) في المنام قبل أن يتزوجها
في صحيح البخاري وغيره واللفظ للبخاري عن عائشة (رض) قالت:
قال لي رسول الله (ص): " رأيتك في المنام يجئ بك الملك في سرقة من
حرير فقال لي: هذه امرأتك فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت هي فقلت: إن
يك هذا من عند الله يمضه ".
وفي صحيح مسلم:
" ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير " (1).
وفي صحيح الترمذي:
عن عائشة أن جبرائيل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى
النبي (ص) فقال: إن هذه زوجتك في الدنيا والآخرة (2).

(1) صحيح البخاري ج 3 / 165 كتاب النكاح (باب النظر إلى المرأة قبل التزويج)
و 3 / 160 (باب نكاح الابكار)، وكتاب تعبير الرؤيا (باب كشف المرأة في المنام)
وصحيح مسلم ج 4 / 1889 كتاب فضائل الصحابة، ومسند أحمد ج 6 / 41 و 128
و 161، وفي كتاب الإجابة ص 52 - 53، وكذلك بترجمتها في طبقات ابن سعد ج 8 / 64.
وسيرة ابن إسحاق ص 239.
(2) الترمذي كتاب المناقب ج 13 / 256، والاستيعاب ج 2 / 744، وأسد الغابة
ج 7 / 179، والمستدرك للحاكم وتلخيصه للذهبي ج 4 / 9 وفي كنز العمال ج 13 / 119
ط. حيدر آباد سنة 1385 ه‍، ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 5 / 117.
41

هذه أصل الرواية وقد رواها جمع من المحدثين من أصحاب الصحاح
والسنن والمسانيد وسائر الموسوعات الحديثية عن أم المؤمنين وحدها.
وكان شأن هذه الرواية شأن غيرها من الروايات اللاتي يعجب بها
المنقبون فيوسعونها.
فقد رووا عن أبي هريرة أنه قال: " ان طول تلك الخرقة ذراعان وعرضها
شبر " (1).
وعن حبيب مولى عروة بن الزبير أنه قال:
" لما ماتت خديجة حزن عليها النبي (ص) فأتاه جبريل بعائشة في مهد،
فقال: هذه تذهب ببعض حزنك وان فيها لخلفا عن خديجة " (2).
قال الزركشي تعليقا على الحديث:
" فيحتمل انها عرضت عليه مرتين لما يدل عليه اختلاف الحال ويشهد له
رواية البخاري مرتين " (3).
واستفادوا من هذا الحديث حكما شرعيا، قال الزركشي - أيضا -:
" وقد أدخله البخاري في باب النظر إلى المرأة إذا أراد تزويجها، قال
بعضهم: وهو استدلال صحيح لأن فعل النبي (ص) في النوم واليقظة سواء وقد
كشف عن وجهها ".
هذا بعض ما قالوه حول هذه الروايات فما الغاية من روايتها؟

(1) الإجابة للزركشي ص 53، وروى - أيضا - غير هذه الأحاديث في هذا الباب.
(2) الإجابة للزركشي ص 53، وروى - أيضا - غير هذه الأحاديث في هذا الباب.
(3) الإجابة ص 53.
42

الغاية من رواية الأحاديث السابقة:
لعل الهدف من نشر الروايات السابقة معارضة أم المؤمنين زينب في
ما كانت تفخر به على سائر أمهات المؤمنين، فقد كان في قصة زواجها للنبي (ص)
مدعاة فخر لها ولقبيلتها بني أسد كما ذكروا في قصتها وقالوا:
كانت زينب بنت جحش ممن هاجر مع رسول الله (ص) إلى المدينة وكانت
امرأة جميلة فخطبها رسول الله (ص) على زيد بن حارثة وقالت: يا رسول الله
لا أرضاه لنفسي وأنا أيم (1) قريش.
قال: " فاني قد رضيته لك " فزوجها زيد بن حارثة وكان مولى رسول
الله (ص) وقد تبناه، فتزوجت زيدا على كره منها حتى جاء زيد إلى رسول
الله (ص) يشتكيها.
وروى قصتها مولاها مذكور عنها انها قالت:
" خطبني عدة من قريش فأرسلت أختي حمنة إلى رسول الله (ص)
أستشيره، فقال لها رسول الله (ص): " أين هي ممن يعلمها كتاب ربها وسنة
نبيها (ص)؟ ".
قالت: ومن هو يا رسول الله؟
قال: " زيد بن حارثة ".
قالت: فغضبت حمنة غضبا شديدا فقالت: يا رسول الله أتزوج ابنة عمتك
مولاك؟!
قالت: وجاءتني فأعلمتني فغضبت أشد من غضبها فقلت أشد من قولها

(1) الأيم المرأة أو الرجل لا زوج لها أو له.
43

فأنزل الله عز وجل: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا)
الآية، قالت: فأرسلت إلى رسول الله (ص) فقلت: اني استغفر الله وأطيع الله
ورسوله، افعل يا رسول الله ما رأيت.
فزوجني رسول الله (ص) زيدا فكنت أزرأ عليه فشكاني إلى رسول
الله (ص) فعاتبني رسول الله (ص) ثم عدت فأخذته بلساني فشكاني إلى رسول
الله (ص).
فقال رسول الله (ص): " أمسك عليك زوجك واتق الله " فقال: أنا
أطلقها، قالت: فطلقني... " (1).
وروى أنس بن مالك (2) وقال:
" لما انقضت عدة زينب بنت جحش قال رسول الله (ص) لزيد بن حارثة:
" اذهب فاذكرني طا " - قال زيد -: فلما قال ذلك رسول الله (ص) عظمت في
نفسي فذهبت إليها فجعلت ظهري إلى الباب فقلت: يا زينب بعث رسول
الله (ص) يذكرك فقالت: ما كنت لأحدث شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل، فقامت
إلى مسجدها فأنزل الله عز وجل هذه الآية: (فلما قضى زيد منها وطرا
زوجناكها) فجعل رسول الله (ص) يدخل عليها بغير اذن ".
وفي رواية مذكور السابقة بعد قولها: " فطلقني ":
" فلما انقضت عدتي لم أعلم إلا ورسول الله (ص) قد دخل علي بيتي وانا
مكشوفة الشعر فعلمت انه أمر من السماء فقلت: يا رسول الله بلا خطبة
ولا اشهاد؟ فقال: الله زوج وجبريل الشاهد ".
ويذكر الرواة ان نزول الوحي على رسول الله (ص) بشأنها كان في بيت

(1) في ترجمتها من حلية الأولياء لأبي نعيم ج 2 / 52.
(2) حلية الأولياء ج 2 / 52.
44

عائشة كما روى ابن سعد في طبقاته وقال:
" بينا رسول الله (ص) جالس يتحدث مع عائشة أوحى الله إليه في زينب:
(وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك) الآية،
قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغنا من جمالها، وأخرى هي أعظم
الأمور وأشرفها ما صنع لها، زوجها الله من السماء وقلت: هي تفخر علينا
بهذا " (1).
وقالت أم المؤمنين عائشة - أيضا -:
" لم يكن أحد من نساء النبي (ص) تساميني في حسن المنزلة عنده غير
زينب بنت جحش، وكانت تفخر على نساء النبي (ص) فتقول: ان اباءكن
أنكحوكن وان الله أنكحني إياه من فوق سبع سماوات " (2).
وأخبرت أم سلمة عن ذلك كما رواه - أيضا - ابن سعد في طبقاته (3) عن
أم سلمة انها ذكرت زينب بنت جحش فترحمت عليها وذكرت بعض ما كان
يكون بينها وبين عائشة، فقالت زينب: اني والله ما انا كأحد من نساء رسول
الله (ص) انهن زوجهن بالمهور وزوجهن الأولياء وزوجني الله رسوله، " وانزل في
الكتاب يقرأ به المسلمون لا يبدل ولا يغير:
(وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق
الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى
زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم
إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا) [الأحزاب: 37].

(1) طبقات ابن سعد ج 8 / 102 ومستدرك الحاكم ج 4 / 24.
(2) بترجمة زينب من الاستيعاب وقريب منه بترجمتها من حلية الأولياء ج 2 / 53.
(3) بترجمة زينب من طبقات ابن سعد ج 8 / 103.
45

لم يقتصر الامر على مفاخرة زينب أم المؤمنين عائشة داخل بيوت أزواج
النبي (ص) وإنما تعداه إلى الخارج، فقد روى ابن سعد - أيضا - في طبقاته " ان
رجلا من بني أسد فاخر رجلا، فقال الأسدي: هل منكم امرأة زوجها الله من
فوق سبع سماوات؟ يعني زينب بنت جحش " (1).
كان هذا التفاخر ينافي ما مر علينا في الجزء ا الأول من اقتضاء سياسة
الخلفاء إلى السنة السادسة من عهد الخليفة عثمان تفضيل أم المؤمنين عائشة على
جميع المسلمين بما فيهم أمهات المؤمنين وقيامهم بذلك على أحسن وجه، فقد
فضلت في العطاء على جميع المسلمين بما فيهم أمهات المؤمنين وارجعوا إليها في
الفتيا من بين الصحابة وسائر أمهات المؤمنين، إلى غير ذلك مما ذكرناه في بابه من
الجزء الأول.
كان لا بد من علاج لهذا التفاخر الذي يخالف سياسة الخلافة القائمة، وكان
علاجه نشر أمثال تلكم الأحاديث، وبعد رواية تلكم الأحاديث إن كانت أم
المؤمنين زينب تفخر على نساء النبي (ص) بنزول آيات في شأنها يقرأها
المسلمون، وإن كانت بنو أسد تفخر بزواج زينب من فوق سبع سماوات، فلام
المؤمنين عائشة ان تفخر بقصة صورتها في سرقة من حرير وللبكريين - أيضا - أن
يفخروا بهذه القصة بعد أن انتشر هذا الروايات في المجتمع الاسلامي.
نجحت الدعاية وانتشر هذا الخبر وجعله الزركشي من خصائص أم
المؤمنين عائشة (رض) وقال:
الثانية والأربعين: ان الله تعالى اختارها لرسوله.
ونقل عن فتوح الفتوح لابن الجوزي في جواب افتخارها على عائشة:
" يا زينب لقد صدقت ولقد شاركتك عائشة في أن الله تعالى بعث صورتها

(1) طبقات ابن سعد ج 8 / 103.
46

في سرقة من حرير مع جبريل فجلاها، فقال: " هذه زوجتك " فهذا تزويج
مطوي في سر القدر ظهر أثره يوم عقد العقد غير أن عائشة كانت من اختيار الله
لرسوله (ص)، وكنت يا زينب من اختيار الرسول (ص) لنفسه " (1).
* * *
هكذا نجحت السياسة ونشرت فضيلة للمقربين إليها في قبال كل فضيلة
رويت لغيرهم حتى في قبال ما جاء في القرآن الكريم ورواه السلف للخلف جيلا
بعد جيل، وتمسك بها بعض أبناء الأمة الاسلامية ممن كان يلتزم بكل ما يقرره
الحكام والتبس الأمر على كثير من المسلمين، وتعسر عليهم معرفة الحق من سيرة
الرسول (ص) وتاريخ أصحابه حتى يومنا الحاضر، ولا بد لنا من تدارسها لمعرفة
الصواب منها.

(1) الإجابة للزركشي ص 76.
47

ثانيا - روايات الخطبة والمؤاخاة
حديث الخطبة:
في الإصابة عن عائشة قالت:
لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم بن الأوقص امرأة عثمان بن
مظعون وذلك بمكة: أي رسول الله! ألا تزوج، قال: من؟ قالت: إن شئت بكرا
وان شئت ثيبا، قال: فن البكر؟ قالت: بنت أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي
بكر، قال: ومن الثيب؟ قالت: سودة بنت زمعة آمنت بك واتبعتك، قال:
فاذهبي فاذكريهما علي، فجاءت فدخلت بيت أبي بكر فوجدت أم رومان
فقالت: ما ادخل الله عليكم من الخير والبركة! قالت: وما ذاك؟ قالت أرسلني
رسول الله (ص) أخطب عليه عائشة، قالت: وددت، انتظري أبا بكر فجاء أبو
بكر فذكرت له فقال: وهل تصلح له وهي بنت أخيه، فرجعت فذكرت ذلك
للنبي (ص) قال: قولي له: أنت أخي في الاسلام وابنتك تحل لي فجاء فأنكحه...
الحديث (1).

(1) في الإصابة ج 4 / 348 - 349 الرقم 4 0 7 وهذا سياقه: واخرج ابن أبي عاصم من طريق
يحيى القطان عن محمد بن عمرو وعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عائشة: (قالت
لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم) الحديث.
وفي مسند أحمد ج 6 / 210 عن يحيى بن عبد الرحمن وأبي سلمة مرسلا باسقاط اسم
عائشة من السند، وجاء في أثناء الحديث هكذا: (قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا...
قالت: فجاء رسول الله (ص)... فجاءتني... أمي...) مما يدل على أن الرواية مروية عن أم
المؤمنين وان أسقط اسمها عن السند.
48

نرى ان غاية الدعاية في نشر الحديث السابق معارضة الخبر الذي روته
أسماء بنت عميس، قالت: كنت في زفاف فاطمة بنت رسول الله (ص) فلما أصبحنا
جاء النبي (ص) إلى الباب فقال: يا أم أيمن ادعي لي أخي فقالت: هو أخوك
وتنكحه، قال: نعم يا أم أيمن، فجاء علي فنضح النبي (ص) عليه من الماء ودعا له،
ثم قال: ادعي لي فاطمة، قالت: فجاءت تعثر من الحياء فقال لها رسول
الله (ص): اسكني فقد أنكحتك أحب أهل بيتي إلي، قالت: ونضح النبي (ص)
عليها من الماء، ثم رجع رسول الله (ص) فرأى سوادا بين يديه، فقال: من هذا؟
فقلت: أنا أسماء، قال: أسماء بنت عميس؟ قلت: نعم، قال: جئت في زفاف ابنة
رسول الله؟ قلت: نعم، فدعا لي (1).
وغاية الدعاية من نشر حديث أم المؤمنين عائشة السابق وحديثها الذي
جاء في الكنز أن الرسول (ص) قال: " أبو بكر مني وأنا منه وأبو بكر أخي في
الدنيا والاخر " (2) هي إثبات مؤاخاة النبي (ص) لأبي بكر، ومعارضة الأحاديث
الواردة في مؤاخاة النبي (ص) لعلي الآتي بيانها بإذنه تعالى.
مؤاخاة الرسول (ص) لابن عمه:
آخى النبي (ص) ابن عمه عليا أكثر من مرة، وكانت الأولى منها في بدء
الدعوة بمكة عندما نزلت عليه: (وأنذر عشيرتك الأقربين)، دعا بني عبد

(1) المستدرك للحاكم ج 3 / 159 وتلخيصه نرى ان في الحديث تصحيفا في الاسم فإن
الصحيح سلمى بنت عميس زوجة حمزة سيد الشهداء أخت أسماء بنت عميس، وكن عشر
أخوات لأم، وكانت أسماء بنت عميس يومذاك مهاجرة مع زوجها جعفر الطيار إلى الحبشة،
راجع ترجمة أسماء وسلمى ابنتي عميس في أسد الغابة.
(2) كنز العمال ج 12 / 157 الحديث 790 (مر عن عائشة) ط. حيدر آباد سنة 1364 ه‍.
49

المطلب وقال في حديثه لهم: (قد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني
على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي...) الحديث. وكانت الثانية والثالثة
في المدينة (1).
وروى خبر الثانية أبو عمر باختصار في الاستيعاب وقال:
آخى رسول الله (ص) بين المهاجرين ثم آخى بين المهاجرين والأنصار
وقال في كل واحدة منهما لعلي: أنت أخي في الدنيا والآخرة وآخى بينه وبين
نفسه (2).
وروى تفصيلها ابن هشام صاحب السيرة وقال: قال ابن إسحاق: وآخى
رسول الله (ص) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال فيما بلغنا ونعوذ بالله
ان نقول عليه ما لم يقال: " تآخوا في الله أخوين أخوين " ثم اخذ بيد علي بن أبي
طالب فقال: " هذا أخي " فكان رسول الله (ص) سيد المرسلين... وعلي بن أبي
طالب أخوين (3).
وكان حمزة... وزيد بن حارثة مولى رسول الله (ص) أخوين وإليه أوصى
حمزة يوم أحد حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت.

(1) أخرجه الطبري في ج 2 / 217 ط. المطبعة المحسنية المصرية و ج 1 / 1171 - 1172
ط. أوربا، وابن الأثير في ج 2 / 22 وابن كثير ج 3 / 40، وأبو الفداء ج 1 / 216،
واحمد ج 1 / 159، وابن سعد ج 1 / 187، وراجع: كنز العمال ج 12 / 200 و 203،
ومستدرك الحاكم ج 3 / 133 والإصابة ج 1 / 209 ويأتي تفصيل خبرها في روايات بدء
الدعوة إن شاء الله تعالى.
ومن التفاسير في تفسير الآية من سورة الشعراء كل من الطبري 19 / 74 - 75 والسيوطي
5 / 95 - 97.
(2) الاستيعاب بترجمة علي ص 460.
(3) سيرة ابن هشام ج 2 / 124.
50

وكان أبو بكر الصديق ابن أبي قحافة وخارجة بن زيد أخوين، وعمر
وعتبان أخوين. وبلال مولى أبي بكر.. وأبو رويحة... أخوين - إلى قوله -:
فهؤلاء من سمي لنا ممن كان رسول الله (ص) آخى بينهم، فلما دون عمر بن
الخطاب - الدواوين بالشام، وكان بلال قد خرج إلى الشام فأقام بها مجاهدا،
فقال عمر لبلال: إلى من نجعل ديوانك يا بلال؟ قال مع أبي رويحة لا أفارقه ابدا
للاخوة التي كان رسول الله (ص) عقد بينه وبيني، فضم إليه وضم ديوان الحبشة
إلى خثعم، لمكان بلال منهم، فهو في خثعم إلى هذا اليوم بالشام (1).
وخبر الثالثة منها عندما تخاصم علي وزيد وجعفر في الولاية على ابنة حمزة
فقال الرسول لزيد: " أنت مولاي ومولاها " وقال لعلي: " أنت أخي وصاحبي "
وقال لجعفر: " اشبهت خلقي وخلقي... " (2).
وقال في غير هذا: " اللهم اشهد قد بلغت هذا أخي وابن عمي وصهري
وأبو ولدي... " (3) الحديث.
وجاء خبر المؤاخاة في أحاديث كثيرة غير ما ذكرناها (4):
مثل ما رواه ابن عمر وقال: ان رسول الله (ص) آخى بين أصحابه فآخى
بين أبي بكر وعمر وبين طلحة والزبير وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف فقال

(1) أخرجه ابن هشام في ج 2 / 123 - 127 وابن كثير ج 3 / 226 وأخرج مختصر المؤاخاة
ابن القيم في زاد المعاد ج 2 / 63.
(2) مسند أحمد في ج 1 / 230 والاستيعاب ص 460 بترجمة علي (ع)، وإمتاع الأسماع
ص 340.
(3) منتخب الكنز بهامش مسند أحمد ج 5 / 32.
(4) راجع: تاريخ الخطيب ج 12 / 268 وأسد الغابة ج 4 / 91 الترجمة رقم 3783 وابن كثير
ج 7 / 335 والإصابة ص 501 بترجمة علي، والترمذي في مناقب علي من كتاب المناقب
ج 12 / 170 وتذكرة خواص الأمة ص 15.
51

علي: يا رسول الله انك قد آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال رسول الله (ص):
أما ترضى يا علي أن أكون أخاك؟ قال ابن عمر: وكان علي عليه السلام جلدا شجاعا
فقال علي: بلى يا رسول الله! فقال رسول الله (ص): أنت أخي في الدنيا
والآخرة (1).
وكان علي يباهي بهذه المؤاخاة كما ناشد أصحاب الشورى فيما روى ابن
عبد البر (2) عن أبي الطفيل قال: لما احتضر عمر جعلها شورى بين علي وعثمان...
فقال لهم علي: أنشدكم الله هل فيكم أحد آخى رسول الله (ص) بينه وبينه إذ
آخى بين المسلمين غيري؟ قالوا: اللهم لا.
وكان يقول: " أنا عبد الله وأخو رسوله لا يقولها بعدي إلا كذاب " (3).
هذه الأحاديث في مؤاخاة النبي (ص) لعلي مشهورة ومنتشرة حتى أن
بعضهم - كابن كثير في تاريخه - عقد بابا في هذه المؤاخاة، غير أن خصوم علي
استطاعوا أن يعارضوا هذه الأحاديث بحديث أم المؤمنين عائشة في مؤاخاة
النبي (ص) لأبي بكر الذي سبق ذكره، على أن الحديث المروي عن أم المؤمنين
عائشة في مؤاخاة النبي (ص) أبا بكر بمكة يخالف الثابت في زمان المؤاخاة انها
كانت في المدينة، ولم يسبق ذلك من النبي في مكة في غير خبر انذار بني هاشم
الآتي بيانه في بحث سيرة النبي (ص) باذنه تعالى.

(1) المستدرك ج 3 / 14 وفي الترمذي ج 12 / 170 الحديث باختصار وليس فيه ذكر من
آخى بينهم من الصحابة.
(2) الاستيعاب ص 460 بترجمة علي.
(3) ابن كثير ج 7 / 335، كنز العمال ج 12 / 207 الحديث 1179، ومنتخب كنز العمال
بهامش مسند أحمد ج 5 / 32، سنن ابن ماجة المقدمة ج 1 / 44 الحديث 120.
52

ثالثا - روايات وا عروساه
قال الزركشي في تعداد خصائص عائشة:
(الهادية والأربعون): انها سمعته يقول في يوم من الأيام فقدها:
" وا عروساه " فجمعها الله عليه (1).
وتفصيل القصة ما رواه مجاهد وقال:
قالت عائشة: خرج رسول الله (ص) فلما كنا بالسمر انصرفنا وانا على
جمل، وكان آخر العهد منهم وأنا أسمع صوت النبي (ص) وهو بين ظهري ذلك
السمر وهو يقول: " وا عروساه "، قالت: فوالله اني لعلى ذلك إذ نادى مناد أن
القي الخطام، فالقيته فأعقله الله بيده (2).
أقول: إنها لعمر الحق مزية لام المؤمنين عظيمة أن يصرخ الرسول (ص)
قائلا فيها: " وا عروساه " وأن يأتيها النداء: " ألقي الخطام " فإذا ألقته أعقله
الله بيده.
غير أن الرواية رويت من آخر بكيفية أخرى، كما رواها كل من ابن سعد
والطبري عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة انها سئلت: متى بنى بك رسول
الله (ص)؟ فقالت: لما هاجر رسول الله (ص) إلى المدينة خلفنا وخلف بناته، فلما
قدم المدينة بعث إلينا زيد بن حارثة وبعث معه أبا رافع مولاه. وبعث أبو بكر
معهما عبد الله بن أريقط، وكتب إلى عبد الله بن أبي بكر يأمره ان يحمل أهله أمي أم
رومان وأنا وأختي أسماء امرأة الزبير، فخرجنا جميعا حتى إذا كنا بالبيض من منى

(1) في الفصل الثاني من الإجابة ص 75 وقال: ذكره ابن شاهين في كتاب السنة.
(2) مسند أحمد ج 6 / 248، السمر: شجر العضاه، والعضاه شجر الشوك الكبير.
53

نفر بعيري وانا في محفة معي فيها أمي، فجعلت أمي تقول: وا ابنتاه وا عروساه!
حتى أدرك بعيرنا وقد هبط من لفت فسلم الله عز وجل... الحديث (1).
وفي الاستيعاب بترجمة أم رومان عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
عائشة قالت: لما هاجر رسول الله... الحديث (2).
وفيه: (حتى إذا كنا بالبيداء نفر بعيري وأنا في محفة معي فيها أمي فجعلت
تقول: وا ابنتاه! وا عروساه! حتى أدرك بعيرنا).
في الحديثين الأخيرين حدثت أم المؤمنين تفصيل القصة لكل من عمرة
بنت عبد الرحمن وابن عروة، وصرحت فيهما ان الصارخ وا عروساه هي أمها أم
رومان، وليس فيهما ذكر للنداء إليها (القي الخطام) ولا (فأعقله الله بيده).
وقد حاول ابن كثير في تاريخه (3) أن يجمع بين الحديثين المختلفين فقال: قال
الواقدي وابن جرير وغيرهما: ولما رجع عبد الله بن أريقط الدئلي إلى مكة بعث
معه رسول الله (ص) وأبو بكر زيد بن حارثة وأبا رافع موليا رسول الله (ص)
ليأتوا بأهاليهم من مكة، فذهبوا فجاءوا ببنتي النبي (ص) فاطمة وأم كلثوم
وزوجتيه سودة وعائشة وأمها أم رومان وأهل النبي، وقد شرد بعائشة وأمها أم
رومان الجمل في أثناء الطريق فجعلت أم رومان تقول: " وا عروساه وا ابنتاه "
قالت عائشة: فسمعت قائلا يقول: أرسلي خطامه، فأرسلت خطامه فوقف بإذن الله
وسلمنا الله عز وجل....

(1) طبقات ابن سعد ج 8 / 62 - 63 وذيل المذيل لتاريخ الطبري ص 70، واللف: شق
الشئ وجانبه.
(2) الاستيعاب ج 2 / 770.
(3) تاريخ ابن كثير ج 3 / 221.
54

رابعا - روايات رؤيتها لجبرائيل عليه السلام
أورد ابن كثير الحديث الثاني وأخذ من الأول النداء " وا عروساه " حسب
روايات رؤيتها لجبرائيل وسلام جبرائيل عليها الآتية:
في صحيح البخاري ومسند أحمد واللفظ لأحمد:
عن عائشة قالت: لما رجع رسول الله (ص) من الخندق ووضع السلاح
واغتسل فأتاه جبريل عليه السلام وعلى رأسه الغبار، قال: قد وضعت السلاح؟ فوالله
ما وضعتها، أخرج إليهم، قال رسول الله (ص) فأين؟ قال: ها هنا، فأشار إلى
بني قريظة... الحديث (1).
وفي مسند أحمد عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما فرغ
رسول الله (ص) من الأحزاب دخل المغتسل ليغتسل فجاء جبريل عليه السلام، فقال.
أوقد وضعتم السلاح؟ ما وضعنا أسلحتنا بعد انهد إلى بني قريظة، فقالت عائشة:
كأني أنظر إلى جبريل من خلل الباب قد عصب رأسه من الغبار (2).
روي عن علقمة بن وقاص، عن عائشة - حديثا طويلا - قالت فيه:
فجاءه جبريل عليه السلام، وأن على ثناياه لنقع الغبار... الحديث (3).
وعن القاسم عن عائشة: أن جبريل عليه السلام أتى النبي (ص) على برذون وعليه

(1) مسند أحمد ج 6 / 56 واخرج البلاذري رؤيتها لجبرئيل في ذكره غزوة بني قريظة من
فتوح البلدان ص 32 وصحيح البخاري ج 2 / 140 كتاب الجهاد باب الغسل بعد الحرب
والغبار الباب 18.
(2) مسند أحمد ج 6 / 131 و 280.
(3) مسند أحمد ج 6 / 141 - 142.
55

عمامة طرفها بين كتفيه فسألت النبي (ص) عنه فقال: رأيته ذاك جبريل عليه السلام (1).
أخرج ابن سعد في طبقاته عن مسروق قال: قالت لي عائشة: لقد رأيت
جبرائيل واقفا في حجرتي هذه على فرس، ورسول الله (ص) يناجيه، فلما دخل
قلت: يا رسول الله من هذا الذي رأيتك تناجيه؟ قال: وهل رأيته؟ قلت: نعم،
قال: فبمن شبهته؟ قلت: بدحية الكلبي! قال: لقد رأيت خيرا كثيرا ذلك
جبريل، قالت: فما لبثت إلا يسيرا حتى قال: يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك
السلام، قلت: وعليه السلام جزاه الله من دخيل خيرا (2).
غاية الدعاية من الروايات السابقة:
من الجائز أن تكون غاية الدعاية من الروايات السابقة مقابلة حديث
سلام جبرئيل على خديجة كما رواه صاحب أسد الغابة والإصابة في ترجمتها: عن
رسول الله (ص) قال: أتاني جبريل فقال: يا رسول الله (ص) هذه خديجة أتتك

(1) مسند أحمد ج 6 / 148.
(2) طبقات ابن سعد ج 8 / 67 - 68 ط. بيروت سنة 1377 ه‍ ومسند أحمد ج 6 / 74 - 75
وفي ص 146 منه روت ذلك لأبي سلمة وبعد قولها: جزاه الله خيرا من صاحب ودخيل
فنعم الصاحب ونعم الدخيل، قال سفيان: الدخيل الضيف، وراجع: منتخب كنز العمال
ج 5 / 119، والمستدرك ج 4 / 7، وتلخيصه، وأخرج رواية أم المؤمنين، بأن جبريل قد
سلم عليها كل من: كنز العمال ج 13 / 118 واحمد في مسنده ج 6 / 55 و 88 و 112
و 117 و 150 و 224، والبخاري باب فضل عائشة ج 2 / 308 وكتاب الأدب ج
4 / 81، ومسلم ج 4 / 1896، والترمذي ج 10 / 167 كتاب الاستئذان، ومنتخب
كنز العمال ج 5 / 117 وسنن النسائي كتاب عشرة النساء ج 7 / 69، وأسد الغابة ترجمة
عائشة ج 7 / 190.
والدخيل: من دخل في قوم وانتسب إليهم وليس منهم.
56

ومعها اناء فيه طعام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها من ربها السلام ومني....
الحديث (1).
وفي حديث آخر في الإصابة انها خرجت تلتمس رسول الله (ص) بأعلى
مكة ومعها غذاؤها فلقيها جبرائيل في صورة رجل... الخ.
نتيجة البحث:
رووا عن أم المؤمنين عائشة انها قالت: " رأيت الغبار عل رأس
جبرئيل " أو " عصب رأسه الغبار " كما في رواية البخاري أو " ان على ثناياه نقع
الغبا ر ".
وقد جاء في الكتاب والسنة ان الملك يتمثل على صورة انسان، أما
أن يصبح جسما يحمل الغبار فهذا ما خص روايته بما رووا عن أم المؤمنين
عائشة!
* * *
كان ذلكم بعض ما روي عن أم المؤمنين عائشة في فضائلها ويتلو هذا
البحث ما روي عنها في ما بينها وبين الرسول (ص).

(1) الإصابة ج 4 / 274 وأسد الغابة ج 7 / 84، وكنز العمال ج 13 / 115 ومسلم
ج 4 / 1887 كتاب فضائل الصحابة والبخاري ج 2 / 315.
57

خامسا - روايتها عن معاشرة الرسول (ص) إياها مما لا يليق
بمقام الرسول (ص)
مضت القرون تلو القرون وأحاديث أم المؤمنين عائشة يرويها الخلف عن
السلف متسالمين على صدق جميعها، ولم يشكوا في صدق اسناد روايتها إليها،
ولم يقم أحد بنقدها وتمحيصها، وكان أكثر حديثها عن سيرة رسول الله (ص)
مثل الأحاديث الآتية في صحيح مسلم عن عائشة، قالت:
كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي (ص) فيضع فاه على موضع في
وكنت أتعرق العرق (1) وأنا حائض ثم أناوله النبي (ص) فيضع فاه على موضع
في (2).
وفي رواية أخرى كان رسول الله يعطيني العرق فأتعرقه ثم يأخذه فيضع
فاه على موضع في، ويعطيني الاناء فأشرب ثم يأخذه فيضع فاه على موضع في (3).
وفي مسند أحمد، عن عائشة قالت: كان النبي (ص) يتوشحني (4) وينال من
رأسي وانا حائض (5).

(1) تعرق العظم اخذ ما عليه من اللحم بأسنانه نهشا والعرق العظم اخذ عنه معظم اللحم.
(2) صحيح مسلم، باب الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد من كتاب الحيض
ج 1 / 245 - 246 والنسائي: باب سؤر الحائض ج 1 / 23 و 53 و 54 و 64 وسنن أبي
داود ج 1 / 33 ومسند أبي عوانة ج 1 / 311، وسنن الدارمي ج 1 / 246، ومسند أحمد
ج 6 / 62 و 127، و 192 و 193 و 210 ومنتخب الكنز ج 3 / 473.
(3) مسند أحمد ج 6 / 64.
(4) توشح لبس الوشاح والوشاح شبه قلادة من نسيج عريض يرصع بالجواهر تشده المرأة
بين عاتقها وكشحيها والكشح ما بين السرة ووسط الظهر.
(5) مسند أحمد ج 6 / 187.
58

صلاة النبي (ص) في مرط عائشة:
وفي صحيح مسلم، عن عائشة قالت:
كان النبي (ص) يصلي من الليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعلي مرط (1)
وعليه بعضه إلى جنبه (2).
وفي رواية عن عائشة قالت: كان رسول الله (ص) يقوم ويصلي وعليه
طرف اللحاف وعلى عائشة طرفه ثم يصلي (3).
وهذا يخالف ما ورد في مسند أحمد ان النبي (ص) كره الصلاة في ملاحف
النساء (4).
في مسند أحمد عن عائشة قالت: كنت أبيت أنا ورسول الله (ص) في الشعار
الواحد وأنا طامث حائض قالت: فان أصابه مني شئ غسله لم يعد مكانه وصلى
فيه (5).
وفي رواية أنها طرقتها الحيضة من الليل ورسول الله (ص) يصلي فأشارت
إلى رسول الله (ص) بثوب فيه دم فأشار إليها رسول الله (ص) وهو في الصلاة
اغسليه فغسلت موضع الدم ثم اخذ رسول الله ذلك الثوب فصلى فيه (6).

(1) المرط من أكسية النساء ويكون من صوف أو خز أو غيره تلتحف به.
(2) صحيح مسلم ج 2 / 61 باب الاعتراض بين يدي المصلي ومسند أحمد ج 6 / 67 و 70
و 99 و 129 و 137 و 146 و 199 و 204 و 220 و 249 و 250 و 251.
(3) مسند أحمد ج 6 / 32.
(4) مسند أحمد ج 6 / 129.
(5) مسند أحمد ج 6 / 44.
(6) مسند أحمد ج 6 / 66.
59

النبي يتكئ في حجرها وهي حائض ثم يقرأ القرآن:
في البخاري عن عائشة ان النبي (ص) كان يتكئ في حجري وأنا حائض
ثم يقرأ القرآن (1).
وفي رواية كان النبي (ص) يقرأ القرآن ورأسه في حجري وأنا
حائض (2).
وفي سنن أبي داود في حديث لعائشة قالت: أخبرك بما صنع رسول
الله (ص)؟ دخل فمضى إلى مسجده - تعني مسجد البيت (3) - فلم ينصرف حتى
غلبتني عيني وأوجعه البرد فقال: ادني مني فقلت: اني حائض فقال: وان، اكشفي
عن فخذيك فكشفت فخذي فوضع خده وصدره على فخذي وحنيت عليه حتى
دفئ ونام (4).
فعلته أنا ورسول الله (ص) فاغتسلنا:
في مسند أحمد عن القاسم، عن عائشة زوج النبي (ص) قالت:
إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله (ص)

(1) صحيح البخاري ج 1 / 44 كتاب الحيض باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي
حائض وصحيح مسلم ج 1 / 169 كتاب الحيض ومسند أحمد ج 6 / 68 و 72.
(2) صحيح البخاري ج 4 / 204 كتاب التوحيد باب قول النبي الجاهر بالقرآن ومسند أحمد
ج 6 / 117 و 135 و 190 و 258، وسنن أبي داود ج 1 / 33 و مسند أبي عوانة
ج 1 / 312 - 313 ومنتخب الكنز ج 3 / 473 وقريب منه في مسند أحمد ج 6 / 148
و 158 و 204.
(3) قاله أبو داود.
(4) سنن أبي داود ج 1 / 34.
60

فاغتسلنا (1).
وفيه عن عبد الله بن رباح انه سأل عما يوجب الغسل فقالت: إذا اختلف
الختانان وجبت الجنابة، فعلت أنا ورسول الله (ص) فاغتسلنا (2).
وعن أم كلثوم أن عائشة أخبرتها أنها والنبي فعلا ذلك ثم اغتسلا (3).
وفي رواية قالت: فعلناه مرة فاغتسلنا في الذي يجامع ولا ينزل (4)، وقد
روت ذلك عن النبي أيضا كما في هذا الحديث عن عائشة زوج النبي (ص) قالت: إن
رجلا سأل رسول الله (ص) عن الرجل يجامع أهله ثم يغسل، هل عليهما
الغسل؟ وعائشة جالسة فقال رسول الله (ص): اني لافعل ذلك انا وهذه ثم
نغتسل (5).
في صحيح البخاري عن عائشة زوج النبي (ص) انها قالت: كنت أنام بين
يدي رسول الله (ص) ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا قام
بسطتهما قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح (6).
وفي رواية قالت: كنت أمد رجلي في قبلة النبي (ص) وهو يصلي فإذا سجد

(1) مسند أحمد ج 6 / 161.
(2) مسند أحمد ج 6 / 265.
(3) مسند أحمد ج 6 / 74.
(4) مسند أحمد ج 6 / 110 وقريب من لفظه في ص 68 منه.
(5) صحيح مسلم ج 1 / 187 ومسند أبي عوانة ج 1 / 289.
(6) صحيح البخاري ج 1 / 56 باب الصلاة على الفراش من كتاب الصلاة وص 141
وصحيح مسلم باب الاعتراض بين يدي المصلي ج 2 / 61 ومسند أبي عوانة ج 2 / 52 -
56 ومسند أحمد ج 6 / 148 و 255 و 225 قريبا منه، وكذلك قريب منه ص 37، 40
و 41 و 44 و 50 و 54 و 64 و 94 و 95 و 98 و 103 و 132 و 134 و 148 و 176
و 182 و 183 و 192 و 199 - 200 و 205 و 221 و 234 و 275.
61

غمزني فرفعتها فإذا قام مددتها (1).
عن عمرة عن عائشة قالت: صلى النبي (ص) في حجرتي والناس يأتمون به
من وراء الحجرة يصلون بصلاته (2).
وفي مسند أحمد عن عروة، عن عائشة ان رسول الله (ص) قبل بعض
نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قال عروة: فقلت لها من هي إلا أنت
فضحكت (3).
كانت تغسل رأس النبي وهي حائض وهو معتكف:
في البخاري، عن عائشة قالت: كان النبي (ص) يباشرني وانا حائض
وكان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف فاغسله وأنا حائض (4).
وفي رواية
انها كانت ترجل (5) رسول الله (ص) وهي حائض ورسول الله (ص) حينئذ
مجاور في المسجد يدني لها رأسه وهي في حجرتها فترجله وهي حائض (6).

(1) صحيح البخاري ج 1 / 145 باب ما يجوز العمل في الصلاة.
(2) مسند أحمد ج 6 / 30.
(3) مسند أحمد ج 6 / 210.
(4) صحيح البخاري ج 1 / 239 باب الحائض ترجل المعتكف وباب غسل المعتكف و 242
ومسند أحمد ج 6 / 204.
(5) رجل الشعر: سرحه أي مشطه.
(6) صحيح البخاري ج 1 / 44 كتاب الحيض باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله،
وقريب منه في صحيح مسلم ج 1 / 167 كتاب الحيض والبخاري ج 4 / 29 والموطأ
1 / 78 والنسائي ج 1 / 35 باب غسل الحائض رأس زوجها ومنتخب الكنز ج 3 / 373
وسنن الدارمي ج 1 / 246 - 248 ومسند أحمد ج 6 / 32 و 50 و 55 و 86 و 100
و 104 و 170 و 181 و 189 و 204 و 230 و 234 و 247 و 261 و 262 و 264 و 272
ومسند أبي عوانة ج 1 / 309 والبخاري ج 1 / 45.
62

وفي البخاري عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا والنبي (ص) من اناء
واحد من جنابة (1).
وفي رواية أخرى فأقول له: ابق لي ابق لي (2).
وفي رواية يبادرني وأبا دره فأقول: دع لي دع لي (3).
وفي رواية أخرى أبادره ويبادرني حتى يقول: دعي لي، وأقول أنا:
دع لي (4).
وهذا ينافي ما ورد عنها في المستدرك قالت: كان رسول الله (ص) لا يصلي
في شعرنا ولمحفنا (5).
وفي سنن أبي داود (6) عن عائشة انها قالت:
كنت إذا حضت نزلت عن المثال (7) على الحصير فلم تقرب رسول الله (ص)

(1) صحيح البخاري ج 1 / 41 كتاب الغسل باب هل يدخل الجنب يده في الاناء.
(2) مسند أحمد ج 6 / 91.
(3) النسائي ج 1 / 71 باب اغتسال الرجل والمرأة من اناء واحد وراجع: البخاري ج 1 / 39
و 40 و ج 4 / 31 وصحيح مسلم ج 1 / 176 كتاب الغسل وسنن النسائي ج 1 / 23،
ومسند أبي عوانة ج 1 / 233 - 234 و 284 وسنن الدارمي ج 1 / 192، ومسند أحمد
ج 6 / 30 و 37 و 42 و 43 و 64 و 103 و 118 و 123 و 127 و 129 و 131 و 157
و 161 و 168 و 171 و 172 و 173 و 210 و 231 و 235 و 255 و 265 و 281.
(4) ن. م.
(5) مستدرك الحاكم وتلخيصه ج 1 / 252 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين
ولم يخرجاه.
(6) سنن أبي داود ج 1 / 34.
(7) المثال: الفراش.
63

ولم تدن منه حتى تطهر.
ولكن المقامين يختلفان ففي المقام الأول كان القصد من التحديث بيان حب
النبي (ص) لأم المؤمنين، وفي المقام الثاني بيان واقع حال النبي (ص).
النبي يقبلها وهو صائم:
في مسند أحمد عن عائشة قالت:
أهوى إلي رسول الله ليقبلني فقلت: اني صائمة قال: وأنا صائم فأهوى إلي
فقبلني (1).
وفي رواية أخرى عنها: كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها (2).
وقالت: ان رسول الله (ص) ليظل صائما ثم يقبل ما شاء من وجهي حتى
يفطر (3).
وفي رواية وهو صائم في رمضان (4).
وفي رواية ان رسول الله كان يباشرها وهو صائم ثم يجعل بينه وبينها ثوبا
يعني الفرج (5).

(1) مسند أحمد ج 6 / 134 و 176.
(2) ن. م، ص 123 و 234.
(3) ن. م، ص 101 و 254 و 263.
(4) ن. م، ص 256. وراجع: مسند أحمد ج 6 / 40 و 42 و 44 و 98 و 101 و 123 و 126
و 128 و 130 و 134 و 156 و 162 و 176 و 174 و 179 و 193 و 207 و 212 و 215
و 220 و 223 و 234 و 241 و 242 و 252 و 254 و 255 و 256 و 258 و 263 و 265
و 266 و 280 و 282 وسنن الدارمي ج 1 / 117 والبخاري ج 1 / 229 باب القبلة
للصائم وصحيح مسلم ج 3 / 134 - 137.
(5) مسند أحمد ج 6 / 59. و رواية يباشرها وهو صائم في مسند أحمد ج 6 / 230 و 128.
64

وقد روي عنها حديث التقبيل لكل من:
بكر، وعلقمة، وشريح، وعثمان ابن عبد الله، وطلحة، والقاسم، وعمرو بن
ميمون، وطلحة بن عبد الله بن عوف، ومصدع أبو يحيى، وأبو سلمة، وسعد
التيمي، ومحمد بن الأشعث، ومسروق، والبهي مولى الزبير، وعكرمة،
والأسود، ومعاذة، وعروة.
65

ب - روايات التحريم والتخيير
آيات التحريم والتخيير
التحريم والتخيير قصتان أخبر الله تعالى عن الأولى منهما في سورة
التحريم حيث قال عز اسمه:
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور
رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر
النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض
عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير * إن تتوبا إلى
الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح
المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير * عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا
منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا *
يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها
ملائكة غلاظ شداد لا يصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون * يا أيها الذين
كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون * يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى
الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من
66

تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم
وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك في كل شئ قدير * يا أيها النبي
جهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير * ضرب الله
مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين
فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين * وضرب
الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني
من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين * ومريم ابنت عمران التي أحصنت
فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين)
[الآيات: 1 - 12]
وأخبر عن الثانية في سورة الأحزاب حيث قال عز اسمه:
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها
فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله
والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) - إلى قوله تعالى -:
(واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا)
[الآيات: 28 - 34]
وجاء في تفسير الآيات عن أم المؤمنين عائشة الروايات الآتية:
67

روايات التحريم
روايات تحريم النبي العسل على نفسه:
أ - في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ للأول (1) بسنده عن
أم المؤمنين عائشة انها قالت: إن النبي (ص) كان يمكث عند زينب ابنة جحش
ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي (ص)
فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير (2) أكلت مغافير. فدخل عك إحداهما فقالت له
ذلك، فقال: لا، بل شربت عسلا عند زينب ابنة جحش ولن أعود له، (وقد
حلفت لا تخبري بذلك أحدا) (3) فنزلت: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك)
إلى (إن تتوبا إلى الله) عائشة وحفصة (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه)
بقوله: بل شربت عسلا.

(1) أخرج كل من البخاري ج 3 / 271 كتاب الطلاق باب لم تحرم ما أحل الله لك
و ج 3 / 205 كتاب التفسير باب تبتغي مرضاة أزواجك من سورة التحريم،
و ج 4 / 158 كتاب النذور والايمان باب إذا حرم طعامه، ومسلم ج 4 / 184، والنسائي
في كتاب الطلاق ج 6 / 151 وكتاب الايمان ج 7 / 13 والنذور باب تحريم ما أحل الله
وكتاب عشرة النساء ج 7 / 71 باب الغيرة، ومسند أحمد ج 6 / 221 وابن سعد في
ج 8 / 76 ط. أوربا، والقرطبي في تفسير سورة التحريم ج 18 / 177 و 184 وتيسير
الوصول ج 1 / 189، وأبو داود ج 2 / 145.
(2) المغافير واحدة: مغفور، صمغ حلو كريه الرائحة، ينضح من شجر العرفط، والعرفط
شجر الطلح.
(3) هذه الجملة في بعض طرق هذه الرواية.
68

ب - في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ للأول بسنده عن
عائشة قالت: كان رسول الله (ص) يجب الحلواء ويجب العسل وكان إذا صلى
العصر أجاز على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما
كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقال لي: أهدت امرأة من قومها عكة (1) عسل
فسقت رسول الله (ص) منه شربة فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك
لسودة بنت زمعة وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله
أكلت مغافير؟ فإنه سيقول: لا، فقولي له: ما هذه الريح التي أجد منك؟ وكان
رسول الله (ص) يشتد عليه أن توجد منه الريح، فإنه سيقول: سقتني حفصة شربة
عسل فقولي له: جرست نحله العرفط؟ وسأقول ذلك وقوليه أنت يا صفية، فلما
دخل على سودة قلت: تقول سودة: والذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادره
بالذي قلت لي: وانه لعلى الباب فرقا منك (2)، فلما دنا رسول الله (ص) قلت: يا
رسول الله أكلت مغافير؟ قال: لا، قلت: فما هذه الريح؟ قال: سقتني حفصة شربة
عسل، قلت: جرست نحله (3) العرفط؟ فلما دخل علي قلت له: مثل ذلك، ودخل
على صفية فقالت له: مثل ذلك، فلما دخل على حفصة قالت له: يا رسول الله ألا
أسقيك منه، قال: لا حاجة لي به، قالت: تقول سودة: سبحان الله لقد حرمناه،
قالت: قلت لها: (اسكتي) (4).

(1) العكة: وعاء السمن.
(2) فرقا منك: أي خوفا منك.
(3) جرست النحل: اكلت الحلواء. والحلوة، والحلوى: طعام عمل بالسكر أو العسل.
(4) صحيح البخاري ج 4 / 136 - 137 كتاب الحيل باب ما يكره من احتيال المرأة مع
الزوج والضرائر، وكتاب الطلاق باب لم تحرم ما أحل الله لك ج 3 / 271، وصحيح مسلم
ج 2 / 1101 كتاب الطلاق باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق،
وأحمد في مسنده ج 6 / 59، وابن سعد في الطبقات ج 8 / 85 ط. أوربا، وتيسير
الوصول ج 1 / 188 - 189، والقرطبي في تفسير سورة التحريم ج 18 / 177 - 178،
وكنز العمال في تفسير سورة التحريم ج 2 / 340 الحديث (1788) ط. حيدر آباد.
69

ج - في طبقات ابن سعد بسنده عن أم المؤمنين عائشة قالت: كان رسول
الله (ص) قل يوم إلا وهو يطوف على نسائه فيدنو من أهله فيضع يده ويقبل كل
امرأة من نسائه، حتى يأتي على آخرهن، فإن كان يومها قعد عندها وإلا قام،
فكان إذا دخل بيت أم سلمة يحتبس عندها، فقلت: أنا وحفصة - وكانتا جميعا يدا
واحدة - ما نرى رسول الله يمكث عندها إلا أنه يخلو معها، تعنيان الجماع، قالت:
واشتد ذلك علينا حتى بعثنا من يطلع لنا ما يحبسه عندها، فإذا هو إذا صار إليها
أخرجت له عكة من عسل فتحت له فمها فيلعق منه لعقا (1)، وكان العسل يعجبه،
فقالتا: ما من شئ نكرهه إليه حتى لا يلبث في بيت أم سلمة؟ فقالتا: ليس شئ
أكره إليه من أن يقال له: نجد منك ريح شئ، فإذا جاءك فدنا منك فقولي: إني
أجد منك ريح شئ، فإنه يقول: من عسل أصبته عند أم سلمة، فقولي له: أرى
نحله جرس عرفطا، فلما دخل على عائشة فدنا منها قالت: إني لأجد منك شيئا!
ما أصبت؟ فقال: عسل من بيت أم سلمة، فقالت: يا رسول الله أرى نحله جرس
عرفطا... الحديث (2).
ولا بد لنا في تفهم هذه الأحاديث من دراسة آيات سورة التحريم.
في من نزلت هذه السورة؟
أجمع المفسرون وأصحاب المسانيد والصحاح والسير على أن هذه السورة
نزلت في أمي المؤمنين عائشة وحفصة (رض).

(1) لعق: أكل شيئا بإصبعه أو لسانه.
(2) طبقات ابن سعد ج 8 / 170، في ذكر قسم رسول الله بين نسائه.
70

روى البخاري عن ابن عباس قال:
لبثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على
النبي (ص) فجعلت أهابه فنزل يوما منزلا فدخل الأراك فلما خرج سألته فقال:
عائشة وحفصة... الحديث (1).
وروى البخاري عن ابن عباس قال:
مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع ان أسأله
هيبة له، حتى خرج حاجا فخرجت معه فلما رجعت وكنا ببعض الطريق عدل إلى
الأراك لحاجة له قال: فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت له: يا أمير المؤمنين
من اللتان تظاهرتا على النبي (ص) من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة...
الحديث (2).
وروى مسلم عن ابن عباس قال:
كنت أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على عهد رسول
الله (ص) فلبثت سنة ما أجد له موضعا حتى صحبته إلى مكة، فلما كان بمر
الظهران (3) ذهب يقضي حاجته. فقال: أدركني بأداوة (4) من ماء. فأتيته بها. فلما
قضى حاجته ورجع ذهبت أصب عليه. وذكرت فقلت له: يا أمير المؤمنين! من

(1) صحيح البخاري ج 3 / 137 - 138 في تفسير سورة التحريم من كتاب التفسير باب
تبتغي مرضاة أزواجك وكتاب النكاح ج 3 / 172 باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها،
وكتاب المظالم باب (26) الغرفة والعلية ج 3 / 172.
(2) صحيح البخاري ج 4 / 22 كتاب اللباس باب (31) ما كان النبي يتجوز من
اللباس والبسط.
(3) مر الظهران: الظهران واد قرب مكة وعنده قرية يقال لها مر تضاف إلى هذا الوادي ويقال
مر الظهران. راجع: معجم البلدان.
(4) الإداوة: إناء صغير من جلد.
71

المرأتان؟ فان قضيت كلامي حتى قال: عائشة وحفصة (1).
وفي مسند أحمد عن ابن عباس قال:
أردت أن أسأل عمر فما رأيت موضعا فمكثت سنتين، فلما كنا بمر الظهران
وذهب ليقضي حاجته، فجاء وقد قضى حاجته فذهبت أصب عليه من الماء
قلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله (ص)؟
قال: عائشة وحفصة (2).
وفي مسند الطيالسي عن ابن عباس أنه قال:
... فقلت: يا أمير المؤمنين أريد أن أسألك عن حديث منذ سنة فمنعتني
هيبتك أن أسألك، قال: لا تفعل، إذا علمت أن عندي علما فسلني قال: قلت:
أسألك عن حديث المرأتين قال: نعم حفصة وعائشة... الحديث (3).
كان ذلكم خبر ما روي عن أم المؤمنين في قصة التحريم.
ما روي عن أم المؤمنين عائشة في ما هجر النبي (ص) أزواجه:
روي عنها في سبب هجر النبي (ص) لأزواجه وتخييرهن بين رضا الله
ورضا رسوله (ص) والدار الآخرة وبين متع الدنيا كالآتي بيانه:
أ - في طبقات ابن سعد عن حارثة بن أبي الرجال قال: دخلت مع القاسم

(1) صحيح مسلم ج 2 / 1110 - 1111 كتاب الطلاق باب (5).
(2) مسند أحمد ج 1 / 48، وبلفظ آخر في ج 1 / 33.
(3) مسند أبي داود الطيالسي ص 6 الحديث (23)، وسنن النسائي ج 4 / 137 كتاب الصوم
باب كم الشهر، وصحيح الترمذي ج 12 / 209 تفسير سورة التحريم من كتاب التفسير،
وابن سعد في الطبقات ج 8 / 182 وتفسير القرطبي ج 18 / 189، وكنز العمال ج 2 / 332
و 336 و 338 تفسير سورة التحريم، وفي المستدرك للحاكم ج 2 / 493 عن أنس.
72

ابن محمد على عمرة بنت عبد الرحمن فقال القاسم: يا أم محمد في أي شئ هجر
رسول الله (ص) نساءه؟
فقالت عمرة: أخبرتني عائشة أنه أهدي إلى رسول الله هدية في بيتها
فأرسل إلى كل امرأة من نسائه بنصيبها وأرسل إلى زينب بنت جحش فلم ترض
ثم زادوها مرة أخرى فلم ترض فقالت عائشة: لقد أقمأت (1) وجهك أن ترد
عليك المدية.
فقال رسول الله (ص): لأنتن أهون على الله من أن تقمئنني، لا أدخل
عليكن شرا.
قالت: فدخل في مشربة، وكان عمر بن الخطاب آخى رجلا من الأنصار
لا يسمع شيئا إلا أخبره به ولا يسمع عمر شيئا إلا حدثه.
قال: فلقيه عمر ذلك اليوم فقال: هل كان خبر؟
فقال الأنصاري: نعم عظيم.
فقال عمر: لعل الحارث بن أبي شمر سار إلينا.
قال الأنصاري: أعظم من ذلك.
قال عمر: ما هو؟
قال: ما أرى رسول الله إلا قد طلق نساءه... الحديث إلى قولها: فلما مضى
تسع وعشرون ليلة نزل رسول الله من مشربته... الخ.
وأخرج بعده مسندة إلى ابن مناح عن عائشة مثله وعن الزهري، عن
عائشة أيضا نحوه (2).

(1) أقمأتك: صغرتك وأذللتك.
(2) طبقات ابن سعد ج 8 / 88 1 - 190 ط. بيروت، و ج 8 / 136 - 137 ط. أوربا، ابن
ماجة ج 1 / 664 كتاب الطلاق باب (24).
73

دراسة الروايات:
إن أحاديث أم المؤمنين عائشة في بيان سبب نزول آيات التحريم جاءت
في صحاح كتب الحديث والسنن والمسانيد والتفاسير المعتمدة ومصادر السيرة
الموثقة، ونجد فحاوي تلك الروايات مختلفة كل الاختلاف فيما بينها، ففي بعضها
ان المتواطأ عليها حفصة، وفي أخرى انها زينب، وفي غير ما انها أم سلمة، وعن
المتواطئات تارة ذكرت حفصة وعائشة وأخرى عائشة وسودة وصفية، فكيف
يمكن التوفيق بين هذه الأحاديث؟!
ثم ما قيمة تحريم النبي (ص) العسل على نفسه ليجند الله ملائكته وصالح
المؤمنين ويكون هو تبارك وتعالى معهم ظهيرا للنبي (ص) عليهما؟ أكل ذلك
لأنهما سببا هذا التحريم؟! وما ذلك السر الذي أذاعته إحداهما فأنبأ الله نبيه
" فعرف بعضه وأعرض عن بعض تكرما "؟ أهو افشاء سر تحريم النبي (ص)
العسل على نفسه؟ ألهذا ضرب الله مثلا امرأة لوط وامرأة نوح؟ وكيف فات
النبي (ص) أن العسل لم يكن بذي رائحة كريهة ليحرمها على نفسه؟ وهل كان
فاقدا حاسة الشم ومغفلا إلى هذا الحد لتنطلي عليه هذه الحيلة البسيطة؟ اللهم إن
هذا ما لا يقبله عقل سليم!
* * *
كانت تلكم ما روي عن أم المؤمنين عائشة في سبب هجر النبي (ص)
أزواجه وروى عنها في أمر تخيير النبي (ص) أزواجه ما يأتي:
74

روايات التخيير
في مسند أحمد عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: فلما مضت تسع
وعشرون ليلة دخل علي رسول الله (ص) قالت: بدأ بي فقلت: يا رسول الله إنك
أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنك قد دخلت من تسع وعشرين أعدهن؟
فقال: إن الشهر تسع وعشرون، ثم قال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا
عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ثم قرأ علي الآية: (يا أيها النبي قل
لأزواجك - حتى بلغ - أجرا عظيما).
قالت عائشة: قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: فقلت: أفي
هذا أستأمر أبوي؟ فاني أريد الله ورسوله والدار الآخرة (1).
وفي رواية عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه بعد هذا: " ففرح بذلك
رسول الله (ص) " (2).

(1) مسند أحمد ج 6 / 163، وصحيح البخاري ج 3 / 270 كتاب الطلاق باب من خير
نساءه.
(2) مسند أحمد ج 6 / 78 وللحديث طرق كثيرة منها في مسند أحمد ج 6 / 78 و 103
و 152 - 153 و 185 و 248 و 263 - 264 و 211 - 212 فقال: يا عائشة إني عارض
عليك أمرا فلا تفتاتن فيه بشئ حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان. قالت: أي
رسول الله وما هو؟، وفي صحيح مسلم ج 2 / 1103 كتاب الطلاق باب إن تخيير امرأته
لا يكون طلاقا إلا بالنية و ج 2 / 1107 باب في الايلاء واعتزال النساء وتخييرهن، وابن
ماجة ج 1 / 662 كتاب الطلاق باب التخيير رقم (2053)، والنسائي ج 6 / 159 - 160
كتاب الطلاق، والترمذي ج 12 / 84 وابن سعد ج 8 / 68 - 69.
75

وعلى هذه الأحاديث استند الزركشي في الإجابة في قوله: (كان قوله لها:
لا تبادريني بالجواب خوفا من أن تبتدره باختيار الدنيا) (1).
إن هذه المشاكل إلى غيرها تدعونا إلى الرجوع إلى غير أحاديث
أم المؤمنين عائشة لعلنا نجد فيها تفسيرا يرفع غموض آيات السورتين
الكريمتين.
ما روي عن الخليفة عمر في قصتي التحريم والتخيير:
روي عن الخليفة عمر بن الخطاب في ذلك كالآتي بيانه:
روى البخاري بسنده عن ابن عباس قال:
لبثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على
النبي (ص) فجعلت أهابه فنزل يوما منزلا فدخل الأراك فلما خرج سألته فقال:
عائشة وحفصة، ثم قال: كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئا، فلما جاء الاسلام
وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقا من غير أن ندخلهن في شئ من أمورنا،
وكان بيني وبين امرأتي كلام فأغلظت لي فقلت لما: وإنك لهناك؟
قالت: تقول هذا لي وابنتك تؤذي النبي (ص).
فأتيت حفصة فقلت لها: إني أحذرك أن تعصي الله ورسوله وتقدمت إليها
في اذاه.
فأتيت أم سلمة فقلت لها.
فقالت: أعجب منك يا عمر قد دخلت في أمورنا فلم يبق إلا أن تدخل بين
رسول الله (ص) وأزواجه؟ فرددت وكان رجل من الأنصار إذا غاب عن رسول

(1) الإجابة: ص 66.
76

الله (ص) وشهدته أتيته بما يكون، وإذا غبت عن رسول الله (ص) وشهد أتاني بما
يكون من رسول الله (ص) وكان من حول رسول الله (ص) قد استقام له، فلم يبق
إلا ملك غسان بالشام كنا نخاف أن يأتينا، فما شعرت إلا بالأنصاري وهو يقول:
إنه قد حدث أمر، قلت له: وما هو؟ أجاء الغساني؟ قال: أعظم من ذاك طلق
رسول الله (ص) نساءه، فجئت فإذا البكاء من حجرهن كلها، وإذا النبي (ص) قد
صعد في مشربة له وعلى باب المشربة وصيف، فأتيته فقلت: استأذن لي، فدخلت
فإذا النبي (ص) على حصير قد أثر في جنبه وتحت رأسه مرفقة من أدم حشوها
ليف، وإذا أهب (1) معلقة وقرط، فذكرت الذي قلت لحفصة وأم سلمة والذي
ردت علي أم سلمة فضحك رسول الله (ص) فلبث تسعا وعشرين ليلة ثم نزل (2).
وفي حديثه بصحيح مسلم قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في
وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله! ما يشق عليك من شأن النساء؟ فان كنت
طلقتهن فإن الله معك... ونزلت آية التخيير: (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو
مولاه... * عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) الحديث (3).
إن حديث عمر هذا يناقض بعضه بعضا، ويخالف حديث أم المؤمنين
عائشة، ويزيد في الأمر غموضا على غموض، فإن كان سبب نزول آيات

(1) المشربة والغرفة والعلية: بيت منفصل عن الأرض. والوصيف: الغلام دون المراهق.
ومرفقة من أدم حشوها ليف: المرفقة المتكأ والأدم جمع أديم: الجلد المدبوغ، والليف: قشر
النخل. والأهب: جمع الإهاب جلد لم يدبغ. وقرط: جلد مدبوغ بورق السلم.
(2) صحيح البخاري ج 4 / 22 كتاب اللباس باب ما كان النبي (ص) يتجوز من اللباس
والبسط وطبقات ابن سعد 8 / 182.
(3) صحيح مسلم ج 2 / 1107 كتاب الطلاق باب في الايلاء واعتزال النساء وتخييرهن
وايلاء: حلف.
77

التحريم ما ذكره من أن نساء النبي (ص) كن يراجعنه (1) طوال النهار ويضايقنه،
وانه راجع في ذلك أم سلمة فردته، فما وجه تخصيص عائشة وحفصة من بينهن
باللوم والتقريع في قوله تعالى: (وإن تظاهرا عليه...) الآيات؟ كما صرح به
هو مع اشتراك غيرها معهما في تلك المراجعة والطلب الملح، وهذا يخالف ما
ذكرته أم المؤمنين في أحاديثها من أن سبب نزول الآيات تحريم النبي (ص) العسل
على نفسه في قصة قد ذكرتها، والخليفة بعد هذا لم يذكر ما حرمه الرسول (ص)
على نفسه ابتغاء مرضاة أزواجه ولم يبين السر الذي اذاعته زوج الرسول (ص)
وزاد غموضا في الامر ما ذكر عمر في حديثه عن التحريم: من ايلاء النبي (ص)
أزواجه تسعا وعشرين ليلة وتخييره إياهن، وهذا ما دعا مسلما أن يجعل
التحريم والايلاء والمظاهرة أمرا واحدا في صحيحه حيث قال: باب في الايلاء
واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: (وإن تظاهرا عليه) (2) وشوش على
ابن سعد فذكر التخيير في بابين من طبقاته فقال: باب ذكر المرأتين اللتين تظاهرتا
على رسول الله وتخييره نساءه (3) وقال في باب آخر: ذكر ما هجر فيه رسول
الله (ص) نساءه وتخييره إياهن (4).
هذه الأحاديث إلى عشرات من أمثالها في قصة التحريم والتخيير، الواردة
في كتب الصحاح والسنن والسير والمسانيد تولد للباحث دوارا شديدا في محاولته
معرفة الواقع التأريخي، كما تربك المؤرخ فيما إذا أراد الرجوع إلى أصح كتب
الحديث لكتابة سيرة النبي (ص) وتشوش على المفسر في محاولته تفسير آي الذكر

(1) طبقات ابن سعد ج 8 / 182.
(2) صحيح مسلم ج 2 / 1105.
(3) طبقات ابن سعد ج 8 / 182.
(4) طبقات ابن سعد ج 8 / 179.
78

الحكيم على ضوء الحديث النبوي الشريف، وتضيع على الفقيه جهده في استنباطه
الأحكام استنادا إلى السيرة النبوية، إلا فيما إذا كان كل منهم يدرس موضوعه
دراسة سطحية، ويعتمد على أول حديث يصادفه في إحدى أمهات كتب الصحاح
والمسانيد، ويصدر حكمه القطعي استنادا إلى ما صادفه من حديث دونما تتبع
وتنقيب عن غيره من الأحاديث المتناقضة في هذا الباب. ولعل المستشرق
الأجنبي أبعد من كل هؤلاء عن فهم الواقع من حياة النبي (ص) وماذا عساه أن
يفهم من الرجوع إلى هذه الأحاديث؟!
لقد وجدنا أم المؤمنين في أحاديثها الأولى عن التحريم تذكر أن سبب
نزولها مراجعة نساء النبي إياه، ونجد أم المؤمنين تذكر في أحاديثها الأخيرة أن
النبي هجر نساءه شهرا لأن زينب ردت عليه ما كان قد بعثه إليها، فقالت عائشة:
لقد أقمأت وجهك أن ترد عليك فغضب الرسول من ذلك وقال: " أنتن أهون على
الله من أن تقمئنني لا أدخل عليكن شهرا " وليت شعري ما ذنب سائر أمهات
المؤمنين أن يهجرهن الرسول (ص) شهرا لما قامت به أم المؤمنين عائشة وأم
المؤمنين زينب، وقد قال تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)؟ أضف إلى هذا
أنها قالت: إن الرسول (ص) أمرها أن تراجع أبويها في التخيير، وكان التخيير في
السنة الثامنة بينا أمها كانت قد توفيت في السنة الرابعة أو الخامسة أو السادسة من
الهجرة، وبعد كل هذا هل أن قصة التخيير والمظاهرة هما قصة واحدة أم إنهما
قصتان؟
أما القرآن الكريم فإذا رجعنا إليه وحده - دون الاستئناس إلى الأحاديث
المذكورة - فنجد أمر التخيير مذكورا في الآيات الآتية من سورة الأحزاب
كالآتي:
(يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين
79

أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة
فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) [الآية: 28 و 29] نجد الخطاب في هذه
الآيات إلى قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن
الله كان لطيفا خبيرا) [الآية: 34] موجها إلى جميع زوجات الرسول وليس فيه
تهديد ووعيد وإنما تخيير بين الحياة الدنيا فيسرحهن سراحا جميلا، وبين اختيار
الله ورسوله والدار الآخرة فيعد الله لهن أجرا حسنا.
بينا الخطاب في سورة التحريم موجه إلى اثنتين فقط حيث قال: (إن تتوبا
إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح
المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير * عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا
منكن...) إلى آخر السورة، بما فيها من وعيد وتهديد، وأجمل ما فيها من التمثيل
بامرأتين وامرأتين، كل ذلك يدل على أن قصة التخيير غير قصة المظاهرة والتي
جاء كل منهما في سورة على حدة.
* * *
كان كل ذلكم في ما روي عن أم المؤمنين عائشة والخليفة الصحابي عمر بن
الخطاب في قصتي التحريم والتخيير.
وإذا رجعنا إلى ما روي عن غيرهما من الصحابة وجدنا:
أولا - قصة التخيير:
روى ابن سعد في باب " ذكر ما هجر فيه رسول الله (ص) نساءه وتخييره
إياهن ": عن جارية بن أبي عمران قال: سمعت أبا سلمة الحضرمي يقول:
جلست مع أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وهما يتحدثان وقد ذهب بصر
جابر فجاء رجل فسلم ثم جلس فقال: يا أبا عبد الله أرسلني إليك عروة ابن
80

الزبير أسألك فيم هجر رسول الله (ص) نساءه؟ فقال جابر: تركنا رسول الله يوما
وليلة لم يخرج إلى الصلاة فأخذنا ما تقدم وما تأخر، فاجتمعنا ببابه نتكلم ليسمع
كلامنا ويعلم مكاننا، فأطلنا الوقوف فلم يأذن لنا ولم يخرج إلينا. قال: فقلنا: قد
علم رسول الله مكانكم ولو أراد أن يأذن لكم لأذن، فتفرقوا لا تؤذوه. فتفرق
الناس غير عمر بن الخطاب يتنحنح ويتكلم ويستأذن حتى أذن له رسول الله،
قال عمر: فدخلت عليه وهو واضع يده على خده أعرف به الكآبة، فقلت: أي
نبي الله بأبي أنت وأمي ما الذي رابك؟ وما لقي الناس بعدك من فقدهم لرؤيتك؟
فقال: يا عمر يسألنني أولاء ما ليس عندي، يعني نساءه، فذاك الذي بلغ مني ما
ترى. فقلت: يا نبي الله قد صككت (1) جميلة بنت ثابت صكة ألصقت خدها منها
بالأرض لأنها سألتني ما لا أقدر عليه، وأنت يا رسول الله على موعد من ربك
وهو جاعل بعد العسر يسرا.
قال: فلم أزل أكلمه حتى رأيت رسول الله قد تحلل عنه بعض ذلك. قال:
فخرجت فلقيت أبا بكر الصديق فحدثته الحديث فدخل أبو بكر على عائشة
فقال: قد علمت أن رسول الله لا يدخر عنكن شيئا فلا تسألنه ما لا يجد، انظري
حاجتك فاطلبيها إلي. وانطلق عمر إلى حفصة فذكر لها مثل ذلك، ثم اتبعا أمهات
المؤمنين فجعلا يذكران لهن مثل ذلك حتى دخلا على أم سلمة فذكرا لها مثل ذلك،
فقالت لها أم سلمة: ما لكما ولما هاهنا رسول الله (ص)، أعلى بأمرنا عينا ولو أراد
أن ينهانا لنهانا، فمن نسأل إذا لم نسأل رسول الله؟ هل يدخل بينكما وبين أهليكما
أحد؟ فان نكلفكما هذا. فخرجا من عندها، فقال أزواج النبي (ص) لأم سلمة:
جزاك الله خيرا حين فعلت ما فعلت، ما قدرنا أن نرد عليهما شيئا. ثم قال جابر
لأبي سعيد: ألم يكن الحديث هكذا؟ قال: بلى وقد بقيت منه بقية. قال جابر: فأنا

(1) صكه: ضربه ضربا شديدا. وصك وجهه: لطمه.
81

آتي على ذلك إن شاء الله، ثم قال: فأنزل الله في ذلك: (يا أيها النبي قل
لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا
جميلا) يعني متعة الطلاق، ويعني بتسريحهن تطليقهن طلاقا جميلا (وإن كنتن
تردن الله ورسوله والدار الآخرة) تخترن الله ورسوله فلا تنكحن بعده أحدا.
فانطلق رسول الله فبدأ بعائشة فقال: إن الله قد أمرني أن أخيركن بين أن تخترن
الله ورسوله والدار الآخرة وبين أن تخترن الدنيا وزينتها، وقد بدأت بك فأنا
أخيرك. قالت: اي نبي الله وهل بدأت بأحد منهن قبلي؟ قال: لا. قالت: فإني
أختار الله ورسوله والدار الآخرة فاكتم علي ولا تخبر بذاك نساءك. قال رسول
الله (ص): بل أخبرهن. فأخبرهن رسول الله (ص) جميعا فاخترن الله ورسوله
والدار الآخرة، وكان خياره بين الدنيا والآخرة أن يخترن الآخرة أو الدنيا.
قال: (وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات
منكن أجرا عظيما). فاخترن أن لا يتزوجن بعده. ثم قال: (يا نساء النبي من
يأت منكن بفاحشة مبينة - يعني الزنى - يضاعف لها العذاب ضعفين - يعني في
الآخرة - وكان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكن لله ورسوله - يعني تطع
الله ورسوله (ص) - وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين - مضاعفا لها في الآخرة
وكذلك العذاب - وأعتدنا لها رزقا كريما * يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن
اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض - يقول: فجور - وقلن قولا
معروفا * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)، يقول:
لا تخرجن من بيوتكن ولا تبرجن، يعني إلقاء القناع فعل أهل الجاهلية الأولى.
فقال أبو سعيد: هذا الحديث على وجهه (1).

(1) طبقات ابن سعد ج 8 / 179 - 181.
82

كانت تلكم قصة التخيير، حدث عنها صحابيان ممن أدركا الواقعة بتفصيل
واف، وبينا موقف الشيخين المشرف من ابنتيهما، وليس فيه ذكر للهجر والتحريم
والطلاق مما لا مبرر للقيام به في هذه الواقعة، والتي تنتهي في يومين وليس في
شهر وأن ما ذكراه يتناسب وسياق آيات التخيير.
ثانيا - قصة المظاهرة والتحريم:
وأما قصة المظاهرة والتحريم، فكالآتي بيانه:
أخرج ابن سعد في باب " ذكر المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله (ص)
وتخييره نساءه " من طبقاته بسنده إلى عروة بن الزبير قال: انطلقت حفصة إلى
أبيها تحدث عنده، وأرسل رسول الله (ص) إلى مارية فظل معها في بيت حفصة
وضاجعها، فرجعت حفصة من عند أبيها وأبصرتها فغارت غيرة شديدة، ثم إن
رسول الله (ص) أخرج سريته فدخلت حفصة فقالت: قد رأيت ما كان عندك
وقد والله سؤتني. قال النبي (ص): فإني والله لأرضينك، إني مسر إليك سرا
فأخفيه لي، فقالت: ما هو؟ قال: أشهدك أن سريتي علي حرام يريد بذلك رضا
حفصة... الحديث (1).
واخرج (2) عن ابن عباس يقول:
خرجت حفصة من بيتها، وكان يوم عائشة، فدخل رسول الله (ص)
بجاريته وهي مخمر وجهها فقالت حفصة لرسول الله (ص): أما إني قد رأيت ما

(1) طبقات ابن سعد ج 8 / 187 وط. أوربا ج 8 / 135.
(2) طبقات ابن سعد ج 8 / 185 - 186 و ج 8 / 34 1 ط. أوربا وفي مستدرك الحاكم عن
انس: ان النبي (ص) كانت له أمة يطأها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على
نفسه... الحديث.
83

صنعت، فقال لها رسول الله (ص): فأكتمي عني وهي حرام، فانطلقت حفصة إلى
عائشة فأخبرتها وبشرتها بتحريم القبطية، فقالت له عائشة: أما يومي فتعرس
فيه بالقبطية، وأما سائر نسائك فتسلم لهن أيامهن! فأنزل الله: (وإذ أسر النبي
إلى بعض أزواجه حديثا - لحفصة - فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه
وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير * إن
تتوبا إذ الله فقد صغت قلوبكما - يعني عائشة وحفصة - وإن تظاهرا عليه - يعني
حفصة وعائشة - فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك
ظهير * عسى ربه إن طلقكن...) الآية. فتركهن رسول الله (ص) تسعا
وعشرين ليلة ثم نزل: (يا أيها النبي لم تحزم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة
أزواجك والله غفور رحيم) فأمر فكفر يمينه وحبس نساءه عليه.
وعن جبير بن مطعم قريبا من هذا (1).
وعن القاسم بن محمد أيضا باختصار (2).
وعن زيد بن أسلم أن النبي حرم أم إبراهيم فقال: " هي علي حرام، قال:
والله لا أقربها "، قال: فنزل (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم...) الحديث (3).
وعن مسروق قال: آلى رسول الله من أمته وحرمها فأنزل الله في الايلاء
(قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) وأنزل الله: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله
لك تبتغي مرضاة أزواجك) فالحرام هنا حلال (4).
وأما، من هجرهن الرسول (ص)، وهل إنه هجر جميع نسائه تسعا

(1) ن. م، ج 8 / 186 - 187. و ج 8 / 125 ط. أوربا.
(2) ن. م، ج 8 / 187 و 213. و ج 8 / 125 و 154 ط. أوربا.
(3) طبقات ابن سعد ج 8 / 186. و ج 8 / 124 ط. أوربا.
(4) ن. م، ج 8 / 186 و ج 8 / 134 ط. أوربا.
84

وعشرين يوما؟ أو هجر بعضهن؟
ففي حديث أم سلمة بيان ذلك فيما أخرجه أحمد في مسنده ومسلم في
صحيحه واللفظ للأول:
عن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث أن أم سلمة أخبرته أن رسول
الله (ص) حلف أن لا يدخل على بعض أهله شهرا، فلما مضى تسعة وعشرون
يوما غدا عليهم (أو راح).
فقيل له: حلفت يا نبي الله أن لا تدخل علينا شهرا؟
فقال: إن الشهر تسعة وعشرون يوما.. (1).
وفي سنن ابن ماجة وصحيح البخاري واللفظ للأول:
عن أم سلمة أن رسول الله (ص) آلى من بعض نسائه شهرا فلما كان تسعة
وعشرون يوما راح أو غدا.
فقيل: يا رسول الله إنما مضى تسع وعشرون.
فقال: الشهر تسع وعشرون (2).
وهذا يتناسب وأصل الواقعة من قيام بعض أمهات المؤمنين بما سبب
التحريم فهجر الرسول (ص) تلكم البعض فحسب.
إذن فهؤلاء الرواة يحدثون أن النبي (ص) كان قد وطأ سريته مارية في بيت
حفصة، فاستاءت من ذلك فحرمها على نفسه ابتغاء مرضاتها، وأسر ذلك إلى

(1) مسند أحمد ج 6 / 315، وصحيح مسلم ج 2 / 764 كتاب الصوم باب الشهر يكون
تسعا وعشرين، وصحيح البخاري ج 3 / 174 كتاب النكاح باب هجرة النبي (ص)
نساءه في غير بيوتهن، وكتاب المظالم ج 2 / 48 باب الغرفة والعلية.
(2) سنن ابن ماجة ج 1 / 664 - 665 كتاب الطلاق باب الايلاء، وصحيح البخاري
ج 2 / 48 كتاب المظلم باب الغرفة والعلية وكتاب النكاح ج 3 / 174 باب هجرة
النبي (ص) نساءه في غير بيوتهن.
85

حفصة فأذاعته إلى عائشة.
وفي بعض الروايات أن ذلك كان في يوم عائشة، وغير بعيد هذا القول لان
النبي (ص) كان قد خصص لكل واحدة من زوجاته يوما وليلة، أما السرية فلم
يكن لها يوم مخصوص ليقضي معها الرسول (ص) فلابد أنه كان يطؤها في يوم
بعض أزواجه، ولما صادف ذلك في بيت حفصة ويوم عائشة، وكانتا متصافيتين
فيما بينهما متظاهرتين على غيرهما، راجعتا النبي (ص) بذلك بشدة فحرم
النبي (ص) السرية على نفسه، كل ذلك جائز والعقل يستسيغه. ويؤيد ذلك أن
النبي (ص) لما هجرهن تسعا وعشرين ليلة مكث في العلية التي كان أسكنها مارية،
والتي كيت بعد ذلك بمشربة أم إبراهيم يومين، كل ذلك جائز.
وأما أنه كيف كان تظاهرهما الذي ذكره القرآن حين قال: (وإن تظاهرا
عليه فإن الله هو مولاه...)؟ وما هو الأمر الذي أعرض عن ذكره الرسول (ص)
تكرما؟ فلا نطمئن إلى شئ مما حدثته الرواة في ذلك، فإن كان الرسول أعرض
عن ذكره تكرما ولم يجبهم به، وأنهما ومن كان معهما لم يحدثوا ذلك لأحد فمن أين
عرفه الرواة؟
فقد وجدنا الخليفة عمر وأم المؤمنين عائشة لم يريا من الحكمة بيان ذلك في
ما حدثوا عنه.
أما ما قاله الرواة في ذلك فقد رووا عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى:
(وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا...).
قال: اطلعت حفصة على النبي (ص) مع أم إبراهيم فقال: " لا تخبري
عائشة " وقال لها: " إن أباك وأباها سيملكان أو سيليان بعدي فلا تخبري
عائشة ".
قال: فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة، فأظهره الله عليه فعرف بعضه
86

وأعرض عن بعض... (فلما نبأت به) أي أخبرت به عائشة لمصافاة كانت
بينهما، وكانتا متظاهرتين على نساء النبي (ص) (وأظهره الله عليه) أي أطلعه
الله عليه ومعنى (عرف بعضه وأعرض عن بعض، عرف حفصة بعض ما أوحي
إليه وأعرض عن بعض تكرما (1).
عن الضحاك في قوله: (يا أيها النبي لم تحرم) كانت لرسول الله (ص) فتاة
فغشيها فبصرت به حفصة، وكان اليوم عائشة وكانتا متظاهرتين، فقال
رسول الله (ص): " اكتمي علي ولا تذكري لعائشة ما رأيت " فذكرت حفصة
لعائشة فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله (ص) حتى حلف أن لا يقربها أبدا فأنزل
الله هذه الآية، وأمره أن يكفر يمينه ويأتي جاريته (2).
عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) إلى قوله:
(وهو العليم الحكيم) قال: كانت عائشة وحفصة متحابتين، وكانتا زوجتي
النبي (ص)، فذهبت حفصة إلى أبيها فتحدثت عنده، فأرسل النبي (ص) إلى
جاريته فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت
حفصة فوجدتهما في بيتها فجعلت تنتظر خروجهما وغارت غيرة شديدة فأخرج
رسول الله (ص) جاريته، ودخلت حفصة فقالت: قد رأيت من كان عندك، والله
لقد سؤتني فقال النبي (ص): لأرضينك فإني مسر إليك سرا فأحفظيه قالت: ما
هو؟ قال: إني أشهدك أن سريتي هذه علي حرام رضا لك... (3) الحديث.
عن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب من المرأتان اللتان تظاهرتا؟

(1) راجع: تفسير القرطبي ج 18 / 186 - 187 في تفسير (التحريم) والسيوطي في الدر
المنثور ج 6 / 241.
(2) تفسير الطبري ج 28 / 102، تفسير سورة التحريم.
(3) تفسير الطبري ج 28 / 101 تفسير سورة التحريم والسيوطي ج 6 / 239.
87

قال: عائشة وحفصة؟ وكان بدء الحديث في شأن مارية أم إبراهيم القبطية،
أصابها النبي (ص) في بيت حفصة في يومها فوجدت حفصة فقالت: يا نبي الله لقد
جئت إلي شيئا ما جئته إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري وعلى فراشي
قال: ألا ترضين أن احرمها فلا أقربها؟ قالت: بلى، فحرمها وقال: لا تذكري
ذلك لأحد، فذكرته لعائشة فأظهره الله عز وجل عليه فأنزل الله: (يا أيها النبي لم
تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك) الآيات كلها، فبلغنا أن رسول
الله (ص) كفر عن يمينه وأصاب جاريته (1).
وفي تفسير سورة التحريم من القرطبي (2).
روى الدارقطني عن ابن عباس، عن عمر: دخل رسول الله (ص) بأم ولده
مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت
أبيها - فقالت له: تدخلها بيتي! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني
عليك، فقال لها: " لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها " قالت
حفصة: وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها، فقال
النبي (ص): " لا تذكريه لأحد " فذكرته لعائشة فآلى لا يدخل على نسائه شهرا
فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة، فأنزل الله عز وجل: (لم تحرم ما أحل الله لك)
الآية.
وفي رواية ابن عباس بكنز العمال: حتى إذا كان يوم حفصة قالت:
يا رسول الله إن لي حاجة إلى أبي فأذن لي آيته، فأذن لها، ثم أرسل إلى مارية
جاريته فأدخلها بيت حفصة، فوقع عليها، فقالت حفصة: فوجدت الباب مغلقا

(1) كنز العمال ج 2 / 332 - 339 من تفسير سورة التحريم والحديث (1786)،
والدر المنثور للسيوطي ج 6 / 239 والطبري في تفسير سورة التحريم ج 28 / 102.
(2) تفسير القرطبي ج 18 / 178 تفسير سورة التحريم.
88

فجلست عند الباب فخرج رسول الله (ص) وهو فزع ووجهه يقطر عرقا وحفصة
تبكي، فقال: " ما يبكيك "؟
قالت: إنما أذنت لي من أجل هذا؟ أدخلت أمتك بيتي، ثم وقعت عليها
على فراشي، ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن، أما والله لا يحل لك هذا يا
رسول الله!
فقال: " والله ما صدقت، أليس هي جاريتي وقد أحلها الله لي؟ أشهدك
أنها علي حرام ألتمس رضاك، لا تخبري بهذا امرأة منهن، فهي عندك أمانة " فلما
خرج رسول الله (ص) قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا
أبشرك أن رسول الله (ص) قد حرم عليه أمته، وقد أراحنا الله تعالى منها، فأنزل
الله.... الحديث (1).
عن زيد بن أسلم (2) أن رسول الله (ص) أصاب أم ولده إبراهيم في بيت
بعض نسائه قال: فقالت: أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي! فجعلها عليه
حراما. فقالت: يا رسول الله كيف تحرم عليك الحلال؟ فحلف لما بالله لا يصيبها
فأنزل الله عز وجل: (يا أيها النبي...) الآية. قال زيد: فقوله: أنت علي حرام
لغو (3).
قال ابن زيد في قوله: (يا أيها النبي لم تحرم) قال: إنه وجدت امرأة من
نساء رسول الله (ص) ورسول الله مع جاريته في بيتها، فقالت: يا رسول الله أني

(1) كنز العمال ج 2 / 535 - 537 ط. مؤسسة الرسالة في تفسير سورة التحريم
و ج 2 / 340 - 341 ط. حيدر آباد.
(2) الطبري في تفسيره ج 28 / 100 تفسير سورة التحريم.
(3) وهناك 14 حديثا في الباب أنها نزلت في تحريم الجارية، راجع تفسير الطبري
ج 28 / 100 - 101.
89

كان هذا الأمر، وكنت أهونهن عليك؟ فقال لها رسول الله (ص): " اسكتي
لا تذكري هذا لأحد، هي علي حرام إن قربتها بعد هذا أبدا "، فقالت: يا رسول
الله وكيف تحرم عليك ما أحل الله لك حين تقول: هي علي حرام أبدا؟ فقال:
" والله لا آتيها أبدا... " الحديث.
90

خلاصة بحثي التحريم والتخيير ونتيجتهما
أ - قصة التحريم:
نزلت سورة التحريم في شأن أمي المؤمنين عائشة وحفصة بسبب ان رسول
الله (ص) أصاب جاريته مارية في يوم عائشة وبيت حفصة فتألمت حفصة من
ذلك فحرم الرسول (ص) مارية على نفسه تطييبا لخاطرها، واستكتمها الخبر
فأنبأت أم المؤمنين عائشة بذلك وتظاهرتا على رسول الله (ص) فأنبأه الله على ما
تظاهرتا عليه، فأنبأ الرسول حفصة ببعض ما تظاهرتا عليه واعرض عن ذكر
بعض ما انبأه الله لها تكرما، ثم خاطبهما الله وقال: (ان تتوبا إلى الله فقد صغت
قلوبكما وان تظاهرا عليه فان الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة
بعد ذلك ظهير) ثم تهديد بالتطليق في الدنيا وبعد ذلك تهديد بعذاب الآخرة،
ودعوة ثانية لعامة المؤمنين بالتوبة النصوح اي الخالصة من التردد وبتخويف
وتهديد بعذاب الآخرة، وذكر لحال النبي (ص) والذين آمنوا معه يومذاك، ثم
ضرب مثلا بسوء عاقبة زوجتي رسولين خانتا زوجيهما في مقابل حسن عاقبة مؤمنتين.
* * *
كان ذلكم خلاصة ما جاء في سورة التحريم، وأجمعت الروايات وتواترت
عن غير أم المؤمنين عائشة ان المتظاهرتين على رسول الله (ص) هما أم المؤمنين
عائشة وأم المؤمنين حفصة. واختلفت روايات أم المؤمنين عائشة في ذكر
91

المتظاهرة الثانية معها، وذكرت ان الذي حرمه الرسول (ص) على نفسه هو
العسل، ولا يليق بعظمة الباري جل اسمه وحكمته ان يجيش لهذا الأمر ملائكته
وصالح المؤمنين.
ولا يتفق محتوى الآيات والتنصيص على أن المظاهرتين كانتا اثنتين مع
رواية الخليفة عمر بأن الرسول (ص) طلق جميع أزواجه بسبب مطالبتهن
الرسول (ص) بأكثر مما يتيسر له من النفقة، وإنما يناسب ذلك آيات التخيير التي
أمر الله جل اسمه رسوله (ص) أن يخير أزواجه بين أن يمتعهن ويسرحهن سراحا
جميلا. إن أردن الدنيا وزينتها وبين أن يخترن الله ورسوله والدار الآخرة التي أعد
للمحسنات منهن فيها أجرا عظيما.
ب - قصة التخيير:
نعرف حقيقة قصة التخيير مما ذكره الصحابي جابر في الأمر أن
الرسول (ص) لم يحفر لصلاة الجاعة في مسجده يوما وليلة وان الخليفة عمر
استأذن النبي (ص) فدخل وأخبره النبي بان أزواجه يطالبنه من النفقة ما ليس
عنده، وانه وأبا بكر طلبا من ابنتيهما أن لا تطالبا الرسول (ص) ما لا يتيسر له
انفاقه عليهما، وبعدها يخاطبان سائر أزواج الرسول (ص) بذلك فجابهتهما أم
سلمة بقولها: ما لكما ولما هاهنا رسول الله (ص) أعلى بأمرنا... الحديث. فأنزل
الله تعالى في هذا الشأن قوله الكريم: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن
الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا - يعني متعة الطلاق
- وان كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة...) الآية. فبدأ بعائشة فقال: إن
الله أمرني أن أخيركن بين أن تخترن الله ورسوله والدار الآخرة وبين أن تخترن
الدنيا وزينتها وقد بدأت بك فانا أخيرك فقالت: فاني اختار الله ورسوله والدار
92

الآخرة اكتم علي ولا تخبر بذلك نساءك قال: " بل اخبرهن " واخبرهن واخترن
جميعا الله ورسوله والدار الآخرة، ولا يمتد زمان هذه الواقعة أكثر من يوم وليلة،
ولم يشتهر فيها انه طلق نساءه فيما وإنما الطلاق يناسب شأن المتظاهرتين عليه،
وفيها قال الله تعالى: (عسى ربه ان طلقكن ان يبدله أزواجا خيرا منكن...)
فحلف الرسول (ص) أن لا يدخل عليهما شهرا تأديبا لهما، ولعله كان يذهب في
نوبتهما إلى مشربة مارية. ولما تم تسع وعشرون ليلة دخل في نوبتهما في بيتيهما
وكان غاية الدعاية في خلط القصتين في بعض الروايات الدفاع عن حرمة أم
المؤمنين عائشة وأم المؤمنين حفصة.
93

ج - روايات المسابقة والتيمم والإفك
قال المقريزي في غزوة المريسيع:
كان حديث الإفك، وذلك أن رسول الله (ص) نزل منزلا ليس معه ماء
وسقط عقد عائشة (رض) من عنقها، فأقام (ص) بالناس حتى أصبحوا وضجر
الناس وقالوا: حبستنا عائشة، فضاق بذلك أبو بكر وعاتب عائشة عتابا
شديدا، ونزلت آية التيمم...
ثم ساروا ونزلوا موضعا دمثا طيبا ذا أراك فقال رسول الله (ص): " يا
عائشة! هل لك في السباق "؟
قالت: نعم، فتحزمت ثيابها وفعل ذلك رسول الله (ص)، ثم استبقا،
فسبق (ص) عائشة (رض)، فقال: (هذه بتلك السبقة التي كنت سبقتني ".
وكان جاء إلى منزل أبي بكر، ومع عائشة شئ فقال: " هلميه " فأبت
وسعت وسعى في أثرها فسبقته.... وكان يرحل بعير عائشة أبو مويهبة ورجل
آخر، وكانت تقعد في هودج... ثم ذكر قصة الإفك (1).
وقال ابن سعد بعد ايراده خبر غزوة بني المصطلق:
وفي هذه الغزاة سقط عقد لعائشة فاحتبسوا على طلبه، فنزلت آية التيمم،
فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.

(1) إمتاع الأسماع للمقريزي ص 206 - 207.
94

وفي هذه الغزاة كان حديث عائشة وقول أهل الإفك فيها.
قال: وأنزل الله تبارك وتعالى براءتها.
وغاب رسول الله (ص) في غزاته هذه ثمانية وعشرين يوما وقدم المدينة
لهلال شهر رمضان (1).
وتفصيل الاخبار في كتب الحديث كالآتي بيانها باذنه تعالى:

(1) طبقات ابن سعد ج 2 / 65 ط. بيروت.
95

أولا - حديث المسابقة
أخرج أحمد حديث المسابقة بأربعة أسانيد في مسنده (1).
عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: خرجت مع النبي (ص) في بعض
أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم
قال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته فسكت عني حتى إذا حملت اللحم
وبدنت ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس: تقدموا، فتقدموا ثم
قال: تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: هذه بتلك.
عن أبي سلمة مثله (2).
وعن هشام، عن أبيه أيضا قريبا منه (3).
وعن القاسم بن محمد، عن عائشة باختصار (4).
* * *
كانت تلكم أحاديث المسابقة في مسند أحمد. وفي ما يأتي حديث التيمم
بإذنه تعالى.

(1) مسند أحمد ج 6 / 264 و 280 و 39 و 182 و 129 و 261 وراجع منتخب
الكنز ج 6 / 173 وفي عيون الأخبار ج 1 / 315 بسنده إلى أبي سلمة وفي سنن ابن ماجة
ص 635 كتاب النكاح باب حسن المعاشرة عن هشام عن أبيه موجز الحديث.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(4) تقدم آنفا تحت رقم 2.
96

ثانيا - حديث التيمم:
في صحيحي البخاري ومسلم وسنن النسائي وسنن الدارمي وسنن ابن
ماجة وموطأ مالك ومسند أحمد وأبي عوانة واللفظ للأول:
عن عائشة انها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول
الله (ص) ناسا من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء فلما أتوا
النبي (ص) شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير: جزاك الله
خيرا فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجا وجعل للمسلمين فيه
بركة (1).
وفي مسند أحمد: عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة زوج النبي (ص):
أقبلنا مع رسول الله (ص) في بعض أسفاره حتى إذا كنا بتربان بلد بينه وبين المدينة
بريد وأميال وهو بلد لإماء به... الحديث.
وفيه أن أباها قال لها: والله ما علمت يا بنية انك لمباركة، ماذا جعل الله

(1) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب فضل عائشة 2 / 308، وصحيح مسلم، كتاب
الحيض، الحديث رقم 109، ج 1 / 279، وسنن النسائي، كتاب الطهارة، باب بدء التيمم
1 / 163 - 164، وسنن الدارمي، كتاب الوضوء، باب التيمم مرة 1 / 190 - 191،
وموطأ مالك، كتاب الطهارة، باب في التيمم، ح: 89، ج 1 / 53 - 54، ومسند أحمد
6 / 176، وسنن ابن ماجة، كتاب الطهارة، ح: 568، ج 1 / 188، ومسند أبي
عوانة 1 / 302.
97

للمسلمين في حبسك إياهم من البركة واليسر (1).

(1) مسند أحمد ج 6 / 272 وفي مادة تربان من معجم البلدان.
98

ثالثا - حديث الإفك
أ - في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد (1) واللفظ للأول: عن أم المؤمنين
عائشة أنها قالت:
كان رسول الله (ص) إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج
سهمها خرج بها رسول الله (ص) معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها
فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله (ص) بعد ما نزل الحجاب فأنا أحمل في
هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله (ص) من غزوته تلك وقفل
ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت
حتى جاوزت الجيش، فلم قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع
ظفار (2) قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا

(1) أخرج هذه الرواية كل من البخاري ج 6 / 127 في باب (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون
والمؤمنات بأنفسهم خيرا) من تفسير سورة النور ط. بيروت دار التراث العربي، وفي باب
حديث الإفك من كتاب المغازي ج 3 / 26 - 28. ومسلم في (باب في حديث الإفك) من
كتاب التوبة ج 8 / 112 - 118. وفي مسند أحمد ج 6 / 194 - 198 والطبري في تفسيره
بسندهم إلى الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص
الليثي، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة (رض) زوج
النبي (ص) حين قال لما أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا: وكل حدثني طائفة من
الحديث وبعض حديثهم يصدق بعضا وإن كان بعضهم أوعى له من بعض. الحديث.
(2) الجزع: الخزر اليماني وظفار: بلد باليمن.
99

يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم
يحسبون اني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما تأكل العلقة (1) من
الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية... حديثة السن
فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس
بها داع ولا مجيب، فأقمت في منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدوني
فيرجعون إلي، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن
المعطل السلمي ثم الزكواني - عرس - (2) من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي
فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب،
فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة
ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فوطئ عل يديها فركبتها
فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة (3)
فهلك من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة
فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر
بشئ من ذلك وهو يريبني في وجعي اني لا أعرف من رسول الله (ص) اللطف
الذي كنت أرى منه حين اشتكي، إنما يدخل علي رسول الله (ص) فيسلم ثم
يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني ولا أشعر، حتى خرجت بعدما
نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع (4) وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا

(1) البلغة: البلغة من الطعام.
(2) في رواية مسلم. وعرس في السفر: نزل آخر الليل لنوم أو استراحة، أدلج: سار آخر
الليل.
(3) في نحر الظهيرة: نحر الظهيرة حين تبلغ الشمس منتهاها من ارتفاع كأنها وصلت إلى النحر
وهو أعلى الصدر.
(4) المناصع: هي المواضع التي يختلى فيها لقضاء الحاجة واحدها منصع.
100

إلى ليل، وذلك قبل ان نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في
التبرز قبل الغائط، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا وأم
مسطح وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر
الصديق وابنها مسطح بن أثاثة، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من
شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح.
فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا؟
قالت: أي هنتاه (1) أو لم تسمعي ما قال؟
قلت: وما قال؟
قالت: فأخبر تني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي، قالت:
فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله (ص) - تعني سلم - ثم قال: كيف
تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر
من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله (ص) فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما
يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة
عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله ولقد
تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع
ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي، فدعا رسول الله (ص) علي بن أبي طالب
وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يستأمر هما فراق أهله،
قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله (ص) بالذي يعلم من براءة أهله
وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيرا،
وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها
كثير، تسأل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله (ص) بريرة فقال: أي

(1) أي هنتاه: يا امرأة، يا هذه، يا بلهاء.
101

بريرة هل رأيت شئ يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق ان رأيت عليها
أمرا أغمصه (1) عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها
فتأتي الداجن (2) فتأكله، فقام رسول الله (ص) فاستعذر يومئذ عبد الله بن أبي ابن
سلول، قالت: فقال رسول الله وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من
رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا. ولقد ذكروا
رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن
معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت
عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا،
ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله،
فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله
لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، أأنت الحيان الأوس والخزرج حتى
هموا ان يقتتلوا ورسول الله (ص) قائم على المنبر فلم يزل رسول الله (ص)
يخفضهم حتى سكتوا وسكت، قالت: فمكثت يومي ذلك لا يرقا لي دمع ولا
أكتحل بنوم، قالت: فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم
ولا يرقأ لي دمع يظنان أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما ما جالسان عندي
وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لما فجلست تبكي معي،
قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله (ص) فسلم ثم جلس، قالت:
ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل قبلها وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني،

(1) أغمصه: أعيبه عليها.
(2) الداجن: هو الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم وقد يسمى به كل ما يألف البيوت من
الطير وغيرها.
102

قالت: فتشهد رسول الله (ص) حين جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه قد
بلغني عنك كذا وكذا فان كنت بريئة فسيبرئك الله وان كنت ألممت بذنب
فاستغفري الله وتوبي إليه فان العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله
عليه، قالت: فلما قضى رسول الله (ص) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه
قطرة فقلت لأبي: أجب رسول الله (ص) فيما قال: قال: والله ما أدري ما أقول
لرسول الله (ص) فقلت لأمي: أجيبي رسول الله (ص) قالت: ما أدري ما أقول
لرسول الله (ص) قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن:
اني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به،
فلئن قلت لكم انى بريئة والله يعلم اني بريئة لا تصدقوني والله ما أجد لكم مثلا إلا
قول أبي يوسف: (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) قالت: ثم تحولت
فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا حينئذ أعلم اني بريئة وان الله مبرئني
ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في
نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول
الله (ص) في النوم رؤيا يبرئني الله بها، قالت: فوالله ما قام رسول الله (ص) ولا
خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء (1)
حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي
ينزل عليه قالت: فلما سري عن رسول الله (ص) وسري عنه وهو يضحك فكانت
أول كلمة تكلم بها: يا عائشة اما الله عز وجل فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه،
قالت: فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل وأنزل الله: (إن الذين
جاءوا بالإفك عصبة منكم) العشر الآيات كلها، فلم أنزل الله هذا في براءتي قال
أبو بكر الصديق - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره -: والله

(1) البرحاء: الشدة.
103

لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله: (ولا يأتل
أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل
الله وليعفوا وليصفحوا الا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) قال أبو بكر:
بلى والله اني أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه
وقال: والله لا أنزعها منه أبدا، قالت عائشة: وكان رسول الله (ص) سأل زينب
بنت جحش عن أمري فقال لزينب: ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله
أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا، قالت عائشة: وهي التي كانت
تساميني من أزواج النبي (ص) فعصمها الله بالورع، قالت: وطفقت أختها حمنة
تحارب لما فهلكت في من هلك من أصحاب الإفك.
ب - وأخرج البخاري (1) ومسلم في قصة الإفك أيضا عن هشام بن عروة
قال: أخبرني أبي عن عائشة قالت: لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به قام
رسول الله (ص) في الناس خطيبا... ثم قال: فقام سعد بن معاذ فقال: ائذن لي يا
رسول الله أن نضرب أعناقهم، وقام رجل من بني الخزرج وكانت أم حسان بن
ثابت من رهط ذلك الرجل فقال: كذبت... ولما كان مساء ذلك اليوم خرجت
لبعض حاجتي ومعي أم مسطح فعثرت فقالت: تعس مسطح... ثم عثرت الثالثة
فقالت: تعس مسطح فانتهرتها فقالت: والله ما أسبه إلا فيك. قلت: في أي

(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة النور، باب (إن الذين يحبون أن تشيع
الفاحشة...)، ج 3 / 112 و 113 و ج 6 / 135 - 136 وهذا سنده: وقال أبو أسامة عن
هشام بن عروة... واللفظ له، وأخرجه مسلم في باب الإفك من صحيحه وهذا سنده: ثنا
أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء قالا: ثنا أبو أسامة... الحديث ج 8 / 118 وط. تحقيق
محمد فؤاد عبد الباقي ص 2129 - 2130، والطبري في تفسيره 18 / 74 - 76،
والترمذي ج 2 / 388
104

شأني؟... فبقرت (1) لي الحديث، فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت لا أجد منه
لا قليلا ولا كثيرا ووعكت فقلت لرسول الله: أرسلني إلى بيت أبي فأرسل معي
الغلام... فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ فنزل... قال: أقسمت عليك
أي بنية إلا رجعت إلى بيتك فرجعت... وبلغ الأمر إلى ذلك الرجل الذي قيل له،
فقال: سبحان الله، والله ما كشفت كنف (2) أنثى قط، قالت عائشة: فقتل شهيدا في
سبيل الله، قالت: وأصبح أبواي عندي فلم يزالا حتى دخل رسول الله (ص)...
فحمد ثم قال: اما بعد يا عائشة ان كنت قارفت سوءا أو ظلمت فتوبي... قالت:
وقد جاءت امرأة من الأنصار فهي جالسة بالباب، فقلت: ألا تستحي (3) من هذه
المرأة؟... تشهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ثم قلت: اما بعد...
وانزل على رسول الله (ص)... إلى قولها: وكان الذي يتكلم فيه مسطح وحسان
ابن ثابت والمنافق عبد الله بن أبي وهو الذي كان يستوشيه (4) ويجمعه وهو الذي
تولى كبره منهم هو وحمنة... الحديث.
يختلف هذا الحديث عن الذي قبله من وجوه منها انه جاء في الحديث
الأول قصة خروجها للتبرز وكلام أم مسطح معها بعد المرض، وفي الحديث الثاني
ذكر أن مرضها كان بعد اخبار أم مسطح لها، ويظهر من هذا وغيره مما ينتبه إليه
القارئ فيما إذا قارن بين الحديثين من وجوه الاختلاف. ومضافا إلى هذين
الحديثين، قد جاء في مسند أحمد (5) طرف من حديث الإفك بسند ابنه عبد الله إلى

(1) بقرت لي الحديث: فتحته.
(2) كنف الانسان: حظنه.
(3) كلمة نابية ولا أرى أم المؤمنين كانت تجابه الرسول (ص) بمثلها.
(4) استوشى الحديث: بحث عنه وجمعه.
(5) مسند أحمد ج 6 / 103.
105

عمر عن أبيه عن عائشة....
ج - في صحيح البخاري بسنده عن الزهري: قال لي الوليد بن عبد الملك:
أبلغك أن عليا كان فيمن قذف عائشة؟ قلت: لا. ولكن قد أخبرني رجلان من
قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن عائشة
قالت لهما: كان علي مسلما في شأنها (1).
د - في صحيح البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه، عن أم المؤمنين
عائشة قالت: فقام رسول الله (ص) فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي بن سلول.
قالت: فقال رسول الله (ص) وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من
رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا
رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن
معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت
عنقه وإن كان من اخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت: فقام سعد بن
عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال
لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد ابن حضير وهو ابن
عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن
المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله (ص)
قائم على المنبر فلم يزل رسول الله (ص) يخفضهم حتى سكتوا وسكت (2).
ه‍ - في سنن ابن ماجة وأبي داود والترمذي ومسند أحمد واللفظ للأول:
عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة قالت: لما نزل عذري، قام رسول
الله (ص) على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن. فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا

(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث الإفك 3 / 28.
(2) صحيح البخاري ج 3 / 111 في تفسير سورة النور، وكتاب المغازي ج 3 / 27.
106

حدهم (1).
وفي سنن أبي داود بسنده: فأمر برجلين وامرأة ممن تكلم بالفاحشة حسان
ابن ثابت ومسطح بن أثاثة، قال النفيلي: ويقولون المرأة حمنة بنت جحش.
وفي سنن الترمذي عن عروة عن عائشة مثله.
وفي صحيح البخاري: وشاور عليا وأسامة في ما رمى به أهل الإفك
عائشة فسمع منهما حتى نزل القرآن فجلد الرامين ولم يلتفت إلى تنازعهم ولكن
حكم بما أمر الله (2).
وفي مغازي الواقدي بسنده عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة.
كانت تلكم روايات أم المؤمنين عائشة في أوثق كتب الحديث والسيرة
والتفسير عن قصتي التيمم والإفك ونجد لرواياتها صدى في أحاديث غيرها، كما
نورد أمثله منها في ما يأتي بأذنه تعالى.
أصداء روايات أم المؤمنين في أحاديث غيرها:
أ - في حديث الخليفة عمر بن الخطاب.
روى السيوطي في تفسير الآيات بسنده عن الخليفة عمر أنه قال: كان
رسول الله (ص) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ثلاثا فن أصابتها القرعة خرج بها
معه، فلما غزا بني المصطلق أقرع بينهن فأصابت عائشة وأم سلمة فخرج بهما
معه، فلما كانوا في بعض الطريق مال رحل أم سلمة فأناخوا بعيرها ليصلحوا

(1) سنن ابن ماجة، باب حد القذف، ص 857، وسنن أبي داود، باب حد القذف، الحديث
4447، و 4475، 4 / 162، وفي سنن الترمذي، كتاب التفسير، تفسير سورة النور
2 / 57، ومسند أحمد 6 / 35.
(2) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث الإفك 3 / 27 - 28.
107

رحلها، وكانت عائشة تريد قضاء حاجة فلما أبركوا إبلهم قالت عائشة: فقلت في
نفسي: إلى ما يصلح رحل أم سلمة أقضي حاجتي، قالت: فنزلت من الهودج ولم
يعلموا بنزولي فأتيت خربة فانقطعت قلادتي فاحتبست في جمعها ونظامها، ولجت
القوم إبلهم ومضوا وظنوا اني في الهودج، فخرجت ولم أر أحدا فاتبعتهم حتى
اعييت، فقلت في نفسي: ان القوم سيفقدوني ويرجعون في طلبي فقمت على بعض
الطريق، فمر بي صفوان بن المعطل وكان سأل النبي (ص) أن يجعله على الساقة
فجعله، وكان إذا رجا الناس قام ليصلي ثم اتبعهم فما سقط منهم من شئ حمله
حتى يأتي به أصحابه، قالت عائشة: فلما مر بي ظن أني رجل فقال: يا نومان قم
فان الناس قد مضوا، فقلت: اني لست رجلا أنا عائشة قال: إنا لله وإنا إليه
راجعون ثم أناخ بعيره فعقل يديه ثم ولى عني فقال: يا أمه قومي فاركبي فإذا
ركبت فآذنيني، قالت: فركبت فجاء حتى حل العقال ثم بعث جمله فأخذ بخطام
الجمل، قال عمر: فما كلمها كلاما حتى أتى بها إلى رسول الله (ص) فقال عبد الله
ابن أبي بن سلول للناس: فجر بها ورب الكعبة وأعانه على ذلك حسان بن ثابت
ومسطح بن أثاثة وحمنة، وشاع ذلك في العسكر فبلغ ذلك النبي (ص) فكان في
قلب النبي (ص) مما قالوا حتى رجعوا إلى المدينة، وأشاع عبد الله بن أبي هذا
الحديث في المدينة واشتد ذلك على رسول الله (ص) قالت عائشة: فدخلت ذات
يوم أم مسطح فرأتني وأنا أريد المذهب فحملت معي السطل وفيه ماء فوقع
السطل منها فقالت: تعس مسطح قالت لها عائشة: سبحان الله تسبين رجلا من
أهل بدر وهو ابنك، قالت لها أم مسطح: انه سال بك السيل وأنت لا تدرين
وأخبرتها بالخبر، قالت: فلما أخبرتني أخذتني الحمى بنافض مما كان ولم أجد
للمذهب قالت عائشة: وقد كنت أرى من النبي (ص) قبل ذلك جفوة ولم أدر من
أي شئ هو، فلما حدثتني أم مسطح علمت أن جفوة رسول الله (ص) من ذاك،
108

فلما دخل علي قلت: أتأذن لي أن أذهب إلى أهلي؟ قال: اذهبي، فخرجت
عائشة حتى أتت أباها، فقال: مالك؟: قالت: أخرجني رسول الله (ص) من بيته،
قال لها أبو بكر: فأخرجك رسول الله (ص) من بيته وآويك أنا والله لا آويك
حتى يأمر رسول الله (ص) فأمره رسول الله (ص) ان يؤويها، فقال لها أبو بكر:
والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية قط فكيف وقد أعزنا الله بالاسلام؟ فبكت عائشة
وأمها أم رومان وأبو بكر وعبد الرحمن وبكى معهم أهل الدار، وبلغ ذلك
النبي (ص) فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال: يا أيها الناس من يعذرني ممن
يؤذيني؟ فقام إليه سعد بن معاذ وسل سيفه وقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه،
ان يكن من الأوس أتيتك برأسه وان يكن من الخزرج أمرتنا بأمرك فيه، فقام
سعد بن عبادة فقال: كذبت والله ما تقدر على قتله إنما طلبتنا بذحول كانت بيننا
وبينكم في الجاهلية، فقال هذا: يا للأوس وقال هذا: يا للخزرج فاضطربوا
بالنعال والحجارة فتلاطموا فقام أسيد بن حضير فقال: فيم الكلام هذا رسول
الله (ص) يأمرنا بأمره فنفعله عن رغم أنف منا، ونزل جبريل وهو على المنبر فلما
أسري عنه تلا عليهم ما نزل به جبريل: (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، إلى
آخر الآية، فصاح الناس: رضينا بما انزل الله وقام بعضهم إلى بعض وتلازموا أو
تصايحوا فنزل النبي (ص) عن المنبر، وابطا الوحي في عائشة فبعث النبي (ص) إلى
علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد وبريدة وكان إذا أراد ان يستشير في أمر أهله لم
يعد عليا وأسامة بن زيد بعد موت أبيه، فقال لعلي: ما تقول في عائشة فقد أهمني
ما قال الناس؟ قال: يا رسول الله قد قال الناس وقد حل لك طلاقها، وقال
لأسامة: ما تقول أنت؟ قال: سبحان الله ما يحل لنا ان نتكلم بهذا سبحانك هذا
بهتان عظيم، قال لبريرة: ما تقولين يا بريرة؟ قالت: والله يا رسول الله ما علمت
على أهلك إلا خيرا إلا أنها امرأة نؤوم تنام حتى تجئ الداجن فتأكل عجينها
109

وإن كان شئ من هذا ليخبرنك الله، فخرج النبي (ص) حتى أتى منزل أبي بكر
فدخل عليها فقال: يا عائشة ان كنت فعلت هذا الأمر فقولي لي حتى استغفر الله
لك، فقالت: والله لا استغفر الله منه أبدا ان كنت قد فعلته فلا غفر الله لي وما أجد
مثلي ومثلكم إلا مثل أبي يوسف. اذهب اسم يعقوب من الأسف (1) (قال إنما
أشكو بثي وحزني إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون) فبينا رسول الله (ص)
يكلها إذ نزل جبريل بالوحي فأخذت النبي (ص) نعسة فسري وهو يبتسم
فقال: يا عائشة ان الله قد أنزل عذرك، فقالت: بحمد الله لا بحمدك، فتلا عليها
سورة النور إلى الموضع الذي انتهى إليه عذرها وبراءتها، فقال رسول الله (ص):
قومي إلى البيت، فقامت وخرج رسول الله (ص) إلى المسجد، فدعا أبا عبيدة بن
الجراح فجمع الناس ثم تلا عليهم ما أنزل الله من البراءة لعائشة، وبعث إلى
عبد الله بن أبي فجئ به ففر به النبي (ص) حدين وبعث إلى حسان ومسطح
وحمنة فضربوا ضربا وجيعا ووجى في رقابهم.
قال ابن عمر: إنما ضرب رسول الله (ص) عبد الله بن أبي حدين لأنه من
قذف أزواج النبي (ص) فعليه حدان.
فبعث أبو بكر إلى مسطح: لا وصلتك بدرهم أبدا ولا عطفت عليك بخير
أبدا ثم طرده أبو بكر وأخرجه من منزله، ونزل القرآن: (ولا يأتل أولو الفضل
منكم) إلى آخر الآية، فقال أبو بكر: اما إذ نزل القرآن يأمرني فيك لأضاعفن
لك.
وكانت امرأة عبد الله بن أبي منافقة معه فنزل القرآن: (الخبيثات) يعني
امرأة عبد الله (للخبيثين) مع عبد الله (والخبيثون للخبيثات) عبد الله
وامرأته (والطيبات) يعني عائشة وأزواج النبي (ص) (للطيبين) يعني

(1) هكذا في الأمل.
110

النبي (ص) (1).
ب - أيضا أخرج السيوطي في تفسير الآية عن ابن عباس أنه قال:
إن النبي (ص) كان إذا سافر جاء ببعض نسائه وسافر بعائشة وكان لها
هودج وكان الهودج له رجال يحملونه ويضعونه، فعرس رسول الله (ص)
وأصحابه وخرجت عائشة للحاجة فباعدت فلم يعلم بها فاستيقظ النبي (ص)
والناس قد ارتحلوا.
وجاء الذين يحملون الهودج فحملوه فلم يعلموا إلا أنها فيه
فساروا.
وأقبلت عائشة فوجدت النبي (ص) والناس قد ارتحلوا فجلست مكانها
فاستيقظ رجل من الأنصار (2) يقال له صفوان بن معطل وكان لا يقرب النساء
فتقرب منها ومعه بعير له، فلما رآها وكان قد عرفها وهي صغيرة قال: أم
المؤمنين؟ ولوى وجهه وحملها ثم أخذ بخطام الجمل وأقبل يقوده حتى لحق الناس
والنبي (ص) قد نزل وفقد عائشة، فأكثروا القول وبلغ ذلك النبي (ص) فشق عليه
حتى اعتزلها.
واستشار فيها زيد بن ثابت وغيره فقال: يا رسول الله دعها لعل الله
يحدث أمره فيها.
فقال علي بن أبي طالب: النساء كثير.
وخرجت عائشة ليلة تمشي في نساء فعثرت أم مسطح فقالت: تعس
مسطح، قالت عائشة: بئس ما قلت، فقالت: انك لا تدرين ما يقول فأخبرتها
فسقطت عائشة مغشيا عليها، ثم أنزل الله: (إن الذين جاءوا بالإفك)

(1) الدر المنثور ج 5 / 28 - 29.
(2) يبدو ان الراوي يخلط كثيرا فان صفوان لم يكن من الأنصار.
111

الآيات.
وكان أبو بكر يعطي مسطحا ويصله ويبره فحلف أبو بكر لا يعطيه فتزل:
(ولا يأتل أولو الفضل منكم) الآية، فأمره النبي (ص) أن يأتيها ويبشرها فجاء
أبو بكر فأخبرها بعذرها وما أنزل الله فيها فقالت: بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد
صاحبك (1).
ج - في الدر المنثور عن أبي اليسر الأنصاري:
أن النبي (ص) قال لعائشة: يا عائشة قد أنزل الله عذرك قالت: بحمد الله
لا بحمدك، فخرج رسول الله (ص) من عند عائشة فبعث إلى عبد الله بن أبي
ففر به حدين وبعث إلى مسطح وحمنة ففر بهم (2).
و - في صحيح البخاري بسنده عن مسروق بن الأجدع قال:
حدثتني أم رومان وهي أم عائشة قالت: بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ
ولجت امرأة من الأنصار فقالت: فعل الله بفلان وفعل، فقالت أم رومان: وما
ذاك؟ قالت: ابني فيمن حدث الحديث، قالت: وما ذاك؟ قالت: كذا وكذا، قالت
عائشة: سمع رسول الله (ص)؟ قالت: نعم، قالت: وأبو بكر؟ قالت: نعم، فخرت
مغشيا عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض، فطرحت عليها ثيابها فغطيتها،
فجاء النبي (ص) فقال: ما شأن هذه؟ قلت: يا رسول الله أخذتها الحمى بنافض،
قال: فلعل في حديث تحدث به، قالت: نعم، فقعدت عائشة فقالت: والله لئن

(1) الدر المنثور 5 / 28 ومن هذه الرواية أخذ الشيخ الطوسي (ت: 460 ه‍) ما رواه بتفسير
الآية من تفسيره البيان.
(2) الدر المنثور ج 5 / 29 وأبو أنس قال بترجمته في أسد الغابة ج 5 / 142: أبو أنس
الأنصاري مدني، وقال في آخر ترجمته: وأبو انس يتصحف من أبي أسيد وكذا في الدر
المنثور ذكره أبو اليسر.
112

حلفت لا تصدقوني، ولئن قلت لا تعذروني، مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه، والله
المستعان على ما تصفون، قالت: وانصرف ولم يقل شيئا، فأنزل الله عذرها،
قالت: بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك (1).
وإنما قلنا إن الروايات الآنفة من اصداء روايات أم المؤمنين عائشة لأن في
الرواية المروية عن الخليفة عمر بعد الاسترسال في الحديث عن القصة جاء: قالت
عائشة. إذا فان ما روي عن الخليفة مصدره أم المؤمنين عائشة وتفرد هذا
الحديث خاصة بذكر ما يأتي:
أ - ان أباها لم يؤوها حتى اذن له رسول الله (ص).
ب - ان الأوس والخزرج تضاربوا بالنعال حتى أنزل الله فيهم: (وان
طائفتان من المؤمنين اقتتلوا...) الآية.
ج - ان امرأة عبد الله بن أبي كانت - أيضا - منافقة وأنزل الله تعالى في
شأنهما: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات) وأنزل سبحانه في شأن عائشة
وسائر أزواج الرسول وا لرسول (ص): (والطيبات للطيبين) الآية.
أما الرواية المروية عن ابن عباس فقد تفردت بذكر ما يأتي:
أ - فاستيقظ النبي (ص) والناس قد ارتحلوا.
ب - فاستيقظ رجل من الأنصار يقال له صفوان بن المعطل بينما صفوان
كان من المهاجرين.
ج - استشار النبي (ص) في أمرها زيد بن ثابت بينما جاء في روايات
الصحاح انه استشار في أمرها أسامة بن زيد.
وإنما قلنا إن هذه الرواية - أيضا - من اصداء روايات أم المؤمنين لأن ابن

(1) صحيح البخاري ط. دار الكتب العربية بمصر سنة 1327، كتاب المغازي، باب حديث
الإفك ج 3 / 28.
113

عباس كان قد هاجر إلى المدينة مع أبيه في السنة الثامنة من الهجرة ولم يكن في
المدينة قبل ذلك، وخبر الإفك كما ترويه أم المؤمنين عائشة كان قبل ذلك، ولأن
روايته للحديث الذي دار بين أم المؤمنين عائشة وأم مسطح لم يحضرها ليرويها
إلا أن يكون قد سمعها من أحاديث أم المؤمنين عائشة التي مرت بنا في ما سبق
والتي كانت قد انتشرت منذ عصر أم المؤمنين عائشة بين المسلمين وبقيت كذلك
حتى اليوم.
وكذلك الأمر في ما روي عن أبي أنيس انه أخبر أن أم المؤمنين عائشة
قالت لرسول الله بعد نزول الآيات: (بحمد الله لا بحمدك) فهل كان أبو أنيس
حاضرا معهما يخبر عما دار بينهما من حديث؟ أم ان هذا الخبر - أيضا - من أصداء
روايات أم المؤمنين عائشة؟
ورواية مسروق بن الأجدع سوف يأتي في التراجم بآخر البحث انه لم يلق
أم رومان، وانه جاء إلى المدينة بعد وفاة أم رومان، ثم إن أم رومان - أيضا - على
الأصح كانت قد توفيت قبل غزوة بني المصطلق.
* * *
كانت تلكم روايات المسابقة والتيمم والإفك في كتب الصحاح والسنن
والمسانيد وفي ما يأتي نورد أخبارها باذنه تعالى من أوثق مصادر سيرة
الرسول (ص).
114

حديث الإفك في أوثق مصادر السيرة والتاريخ
أخرج حديث الإفك الأول عن أم المؤمنين كل من: ابن هشام (1)،
والطبري (2)، وابن كثير (3)، وابن الأثير (4)، عن محمد بن إسحاق وهذا سياقهم (5):
(فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع فخرج سهمي

(1) قال ابن هشام في ج 3 / 341 - 347: خبر الإفك في غزوة بني المصطلق " سنة ست "
قال ابن إسحاق: ثنا الزهري، عن علقمة بن وقاص، وعن سعيد بن جبير، وعن عروة بن
الزبير، وعن عبيد الله بن عتبة، قال: كل قد حدثني ببعض هذا الحديث، وبعض القوم كان
أوعى له من بعض، وقد جمعت لك ما حدثني القوم.
قال محمد بن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة،
وعبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة نفسها حين قال فيها أهل
الإفك ما قالوا، وكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا، يحدث بعضهم ما لم يحدث
صاحبه، وكل كان عنها ثقة، فكلهم حدث عنها ما سمع.
قالت: كان رسول الله (ص) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه... الحديث.
(2) وأخرجه الطبري في ذكره حوادث السنة السادسة ج 3 / 67 وهذا سياقه: ثنا ابن حميد
قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، ثم أورد سند ابن هشام الأول بلفظه ثم
قال: ثنا ابن حميد قال: ثنا ابن سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، ثم أورد سند ابن هشام
الثاني بلفظه ثم أورد الحديث بنفسه كابن هشام.
(3) ابن كثير ج 4 / 160 - 161 وهذا لفظه: (قصة الإفك) وهذا سياق محمد بن إسحاق ثم
أورد رواية ابن هشام عن ابن إسحاق - والذي أخرجه الطبري أيضا - نقلها بألفاظها.
(4) قد أورد ابن الأثير مختصر هذا الحديث في ج 2 / 73 - 75 من تأريخه وهو يورد ما جرى
بين الصحابة عن تأريخ الطبري كما صرح بذلك في مقدمة تأريخه الكامل، اذن فكل هؤلاء
المؤرخين ينتهي سندهم في حديث الإفك إلى ابن إسحاق والطبري في تفسيره.
(5) واللفظ لابن هشام.
115

عليهن معه فخرج بي رسول الله...) الحديث.
وروى الواقدي في القصة في مغازيه في باب (ذكر عائشة وأصحاب
الإفك) (1) ما موجزة:
عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعائشة (رض): حدثينا يا أمه
حديثك في غزوة المريسيع.
قالت: يا بن أخي، إن رسول الله (ص) كان إذا خرج في سفر أقرع بين
نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها، وكان يحب ألا أفارقه في سفر ولا حضر.
فلما أراد غزوة المريسيع أقرع بيننا فخرج سهمي وسهم أم سلمة، فخرجنا معه،
فغنمه الله أموالهم وأنفسهم، ثم انصرفنا راجعين.
فنزل رسول الله (ص) بتربان منزلا ليس معه ماء ولم ينزل على ماء. وقد
سقط عقد لي من عنقي، فأخبرت رسول الله (ص) فأقام بالناس حتى أصبحوا،
وضج الناس وتكلموا وقالوا: احتبستنا عائشة. وأتى الناس أبا بكر فقالوا: ألا
ترى إلى ما صنعت عائشة؟ حبست رسول الله (ص)، والناس على غير ماء
وليس معهم ماء.
فضاق بذلك أبو بكر فجاءني مغيظا فقال: ألا ترين ما صنعت بالناس؟
حبست رسول الله والناس على غير ماء وليس معهم ماء.
قالت عائشة: فعاتبني عتابا شديدا وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا
يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله (ص)، رأسه على فخذي وهو نائم.
فقال أسيد بن حضير: والله، إني لأرجو أن تنزل لنا رخصة، ونزلت آية
التيمم.

(1) مغازي الواقدي 2 / 426، وقد تابع المقريزي في كتابه إمتاع الأسماع ما جاء في مغازي
الواقدي عن القصة ص 427 - 434.
116

فقال رسول الله (ص): كان من قبلكم لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم،
وجعلت لي الأرض طهورا حيثما أدركتني الصلاة. فقال أسيد بن حضير: ما هي
بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
قالت: وكان أسيد رجلا صالحا في بيت من الأوس عظيم. ثم إنا سرنا مع
العسكر حتى إذا نزلنا موضعا دمثا طيبا ذا أراك، قال: يا عائشة، هل لك في
السباق؟
قلت: نعم. فتحزمت بثيابي وفعل ذلك رسول الله (ص)، ثم استبقنا
فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة التي كنت سبقتيني. وكان جاء إلى منزل أبي
ومعي شئ فقال: هلميه! فأبيت فسعيت وسعى على أثري فسبقته. وكانت هذه
الغزوة بعد أن ضرب الحجاب.
قالت: وكان النساء إذ ذاك إلى الخفة، هن إنما يأكلن العلق (1) من الطعام، لم
يهيجن (2) باللحم فيثقلن. وكان اللذان يرحلان بعيري رجلين، أحدهما مولى
رسول الله (ص) يقال له أبو موهبة، وكان رجلا صالحا، وكان الذي يقود بي
البعير.
وإنما كنت أقعد في الهودج فيأتي فيحمل الهودج فيضعه على البعير، ثم
يشده بالحبال ويبعث بالبعير. ويأخذ بزمام البعير فيقود بي البعير. وكانت أم
سلمة يقاد بها هكذا، فكنا نكون حاشية من الناس، يذب عنا من يدنو منا، فربما
سار رسول الله (ص) إلى جنبي وربما سار إلى جنب أم سلمة. قالت: فلما دنونا من
المدينة نزلنا منزلا فبات به رسول الله (ص) بعض الليل، ثم أدلج وأذن للناس

(1) العلق: جمع علقة، وهي ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغذاء. (شرح أبي ذر،
ص 335).
(2) التهييج: كالورم في الجسد. (شرح أبي ذر، ص 335).
117

بالرحيل فارتحل العسكر. وذهبت لحاجتي فمشيت حتى جاوزت العسكر وفي
عنقي عقد لي من جزع ظفار (1)، وكانت أمي أدخلتني فيه على رسول الله (ص).
فلما قضيت حاجتي انسل من عنقي فلا أدري به، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت
ألتمسه في عنقي فلم أجده، وإذا العسكر قد نغضوا (2) إلا عيرات (3)، وكنت أظن أني
لو أقمت شهرا لم يبعث بعيري حتى أكون في هودجي، فرجعت في التماسه فوجدته
في المكان الذي ظننت أنه فيه، فحبسني ابتغاؤه وأتى الرجلان خلافي، فرحلوا
البعير وحملوا الهودج وهم يظنون أني فيه، فوضعوه على البعير ولا يشكون أني
فيه - وكنت قبل لا أتكلم إذ أكون عليه فلم ينكروا شيئا - وبعثوا البعير فقادوا
بالزمام وانطلقوا، فرجعت إلى العسكر وليس فيه داع ولا مجيب، ولا أسمع صوتا
ولا زجرا.
قالت: فالتفت بثوبي واضطجعت وعلمت أني إن افتقدت رجع إلي.
قالت: فوالله، إني لمضطجعة في منزلي، قد غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان بن
معطل السلمي ثم الذكواني على ساقة الناس من ورائهم، فأدلج فأصبح عند منزلي
في عماية الصبح، فيرى سواد إنسان فأتاني، وكان يراني قبل أن ينزل الحجاب
وأنا ملتفة، فأثبتني فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني. فخمرت وجهي
بملحفتي، فوالله إن كلمني كلمة غير أني سمعت استرجاعه حين أناخ بعيره.
ثم وطأ على يده موليا عني، فركبت على رحله، وانطلق يقود بي حتى جئنا
العسكر شد الضحى، فارتعج العسكر وقال أصحاب الإفك الذي قالوا - وتولى
كبره عبد الله بن أبي - ولا أشعر من ذلك بشئ والناس يخوضون في قول أصحاب

(1) ظفار: موضع باليمن قرب صنعاء، ينسب إليه الجزع. (القاموس المحيط، ج 2، ص 81).
(2) نغضوا: تحركوا. (القاموس المحيط، ج 2، ص 346).
(3) في ب: " ا إلا غير ات ".
118

الإفك.
ثم قدمنا فلم أنشب أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني من ذلك
شئ، وقد انتهى ذلك إلى أبوي، وأبواي لا يذكران لي من ذلك شيئا، إلا أني قد
أنكرت من رسول الله (ص) لطفه بي ورحمته، فلا أعرف منه اللطف الذي كنت
أعرف حين اشتكيت، إنما يدخل فيسلم فيقول: كيف تيكم؟ فكنت إذا اشتكيت
لطف بي ورحمني وجلس عندي. وكنا قوما عربا لا نعرف الوضوء في البيوت،
نعافها ونقذرها، وكنا نخرج إلى المناصع (1) بين المغرب والعشاء لحاجتنا. فذهبت
ليلة ومعي أم مسطح ملتفعة في مرطها، فتعلقت به فقالت: تعس مسطح! فقلت:
بئس لعمر الله ما قلت، تقولين هذا لرجل من أهل بدر؟ فقالت لي مجيبة: ما
تدرين وقد سال بك السيل. قلت: ماذا تقولين؟ فأخبر تني بقول أصحاب
الإفك، فقلص ذلك مني، وما قدرت على أن أذهب لحاجتي، وزادني مرضا على
مرضي، فما زلت أبكي ليلي ويومي. قالت: ودخل رسول الله (ص) بعد ذلك
فقلت: ائذن لي أذهب إلى أبوي، وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما. فأذن لي
فأتيت أبوي فقلت لأمي: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به وذكروا ما
ذكروا ولا تذكرين لي من ذلك شيئا! فقالت: يا بنية، خفضي عليك الشأن، فوالله
ما كانت جارية حسناء عند رجل يحبها ولما ضرائر إلا كثرن عليها القالة وكثر
الناس عليها. فقلت: سبحان الله، وقد تحدث الناس بهذا كله؟ قالت: فبكيت
تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم.
قالت: فدعا رسول الله (ص) عليا وأسامة فاستشار هما في فراق أهله.
قالت: وكان أحد الرجلين ألين قولا من الآخر. قال أسامة: يا رسول الله، هذا
الباطل والكذب، ولا نعلم إلا خيرا، وإن بريرة تصدقك. وقال علي: لم يضيق

(1) هي المواضع التي يتخلى فيها لقضاء الحاجة. واحدها منصع. (النهاية، ج 4، ص 149).
119

الله عليك، النساء كثير وقد أحل الله لك وأطاب، فطلقها وانكح غيرها. قالت:
فانصرفا، وخلا رسول الله (ص) ببريرة فقال: يا بريرة، أي امرأة تعلمين
عائشة؟ قالت: هي أطيب من طيب الذهب، والله ما أعلم عليها إلا خيرا، والله
يا رسول الله، لئن كانت على (1) غير ذلك ليخبرنك الله عز وجل بذلك، إلا أنها
جارية ترقد عن العجين حتى تأتي الشاة فتأكل عجينها، وقد لمتها في ذلك غير
مرة. وسأل رسول الله (ص) زينب بنت جحش ولم تكن امرأة تضاهي (2) عائشة
عند رسول الله (ص) غيرها. قالت عائشة: ولقد كنت أخاف عليها أن تهلك
للغيرة علي، فقال هلا النبي (ص): يا زينب، ماذا علمت على عائشة؟ قالت: يا
رسول الله، حاشا سمعي وبصري، ما علمت عليها إلا خيرا. والله، ما أكلمها
وإني لمهاجرتها، وما كنت أقول إلا الحق. قالت عائشة: أما زينب، فعصمها الله،
وأما غيرها فهلك مع من هلك. ثم سأل رسول الله (ص) أم أيمن فقالت: حاشا
سمعي وبصري أن أكون علمت أو ظننت بها قط إلا خيرا. ثم صعد رسول
الله (ص) المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: من يعذرني ممن يؤذيني في أهلي؟
ويقولون لرجل، والله ما علمت على ذلك الرجل إلا خيرا، وما كان يدخل بيتا
من بيوتي إلا معي، ويقولون عليه غير الحق. فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك
منه يا رسول الله؟ إن يك من الأوس آتك برأسه، وإن يك من إخواننا من
الخزرج فمرنا بأمرك نمضي لك. فقام سعد بن عبادة - وكان قبل ذلك رجلا صالحا،
ولكن الغضب بلغ منه، وعلى ذلك ما غمص (3) عليه في نفاق ولا غير ذلك إلا أن
الغضب يبلغ من أهله، فقال: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله. والله ما

(1) في ب: " ا لئن كانت على ذلك ".
(2) في ب: " تناضي ".
(3) تقول هو مغموص عليه، أي مطعون في دينه. (القاموس المحيط، ج 2 ص 310).
120

قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنه من الخزرج، ولو كان من الأوس ما قلت
ذلك، ولكنك تأخذنا بذحول (1) كانت بيننا وبينك في الجاهلية، وقد محا الله ذلك!
فقال أسيد بن حضير: كذبت والله، لنقتلنه وأنفك راغم فإنك منافق تجادل عن
المنافقين! والله، لو نعلم ما يهوى رسول الله من ذلك في رهطي الأدنين ما رام
رسول الله مكانه حتى آتيه برأسه؟ ولكني لا أدري ما يهوى رسول الله! قال سعد
ابن عبادة: تأبون يا آل أوس إلا أن تأخذونا بذحول كانت في الجاهلية والله ما
لكم بذكرها حاجة، وإنكم لتعرفون لمن الغلبة فيها. وقد محا الله بالاسلام ذلك
كله. فقام أسيد بن حضير فقال: قد رأيت موطننا يوم بعاث! ثم تغالظوا،
وغضب سعد بن عبادة فنادى: يا آل خزرج! فانحازت الخزرج كلها إلى سعد بن
عبادة. ونادى سعد بن معاذ: يا آل أوس! فانحازت الأوس كلها إلى سعد بن
معاذ. وخرج الحارث بن حزمة مغيرا حتى أتى بالسيف يقول: أضرب به رأس
النفاق وكهفه. فلقيه أسيد بن حضير وهو في رهطه وقال: ارم به، يحمل السلاح
من غير أمر رسول الله! لو علمنا أن لرسول الله في هذا هوى أو طاعة ما سبقتنا
إليه. فرجع الحارث (2) واصطفت الأوس والخزرج، وأشار رسول الله (ص) إلى
الحيين جميعا أن اسكتوا، ونزل عن المنبر فهدأهم وخفضهم حتى انصرفوا.
قالت عائشة: وجاء رسول الله (ص) فدخل علي فجلس عندي، وقد
مكث شهرا قبل ذلك لا يوحى إليه في شأني. قالت: فتشهد رسول الله (ص) حين
جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة يبرئك
الله، وإن كنت ألممت بشئ مما يقول الناس فاستغفري الله عز وجل، فإن العبد إذا

(1) في الأصل: " بدخول "، وما أثبتناه هو قراءة ب. والذحول: العداوة. (النهاية
ج 2 / 43).
(2) في ب: " فرجع الحارث بسيفه ولغطت الأوس والخزرج ".
121

اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه. قالت: فلما قضى رسول الله (ص)
كلامه ذهب دمعي حتى ما أجد منه شيئا، وقلت لأبي: أجب رسول الله (ص).
فقال: والله، ما أدري ما أقول وما أجيب به عنك، قالت: فقلت لأمي: أجيبي
عني رسول الله (ص) فقالت: والله ما أدري ما أجيب عنك لرسول الله (ص)،
وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيرا من القرآن: قالت: فقلت: إني والله قد
علمت أنكم سمعتم بهذا الحديث، فوقع في أنفسكم فصدقتم به، فلئن قلت لكم إني
بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر يعلم الله أني منه بريئة لتصدقوني.
وإني والله ما أجد لي مثلا إلا أبا يوسف إذ يقول: (بل سولت لكم أنفسكم أمرا
فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) (1) والله ما يحضرني ذكر يعقوب، وما
أهتدي من الغيظ الذي أنا فيه. ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وقلت: والله
يعلم أني بريئة، وأنا بالله واثقة أن يبرئني الله ببراءتي. فقال أبو بكر: فما أعلم
أهل بيت من العرب دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر، والله، ما قيل لنا هذا
في الجاهلية حيث لا نعبد الله ولا ندع له شيئا، فيقال لنا في الاسلام! قالت: وأقبل
علي أبي مغضبا، قالت: فاستعبرت فقلت في نفسي: " والله لا أتوب إلى الله مما
ذكرتم أبدا "، وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأنا من أن ينزل في قرآن
يقرأه الناس في صلاتهم، ولكن قد كنت أرجو أن يرى رسول الله (ص) في نومه
شيئا يكذبهم (2) الله عني به لما يعلم من براءتي، أو يخبر خبرا، فأما قرآن فلا والله
ما ظننته! قالت: فوالله، ما برح رسول الله (ص) من مجلسه، ولا خرج أحد
من أهل البيت حتى يغشاه من أمر الله ما كان يغشاه. قالت: فسجي بثوبه
وجمعت وسادة من أدم تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت ما رأيت فوالله لقد

(1) سورة يوسف: الآية 18.
(2) في ب: " يكذب الله عني به ".
122

فرحت به وعلمت أني بريئة، وأن الله تعالى غير ظالم لي. قالت: وأما أبواي
فوالذي نفسي بيده ما سري عن النبي (ص) حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا أن
يأتي أمر من الله تحقيق ما قال الناس. ثم كشف رسول الله (ص) عن وجهه وهو
يضحك، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان، وهو يمسح جبينه، فكانت أول كلمة قالها:
" يا عائشة، إن الله قد أنزل براءتك ". قالت: وسري عن أبوي وقالت أمي:
قومي إلى رسول الله. فقلت: والله، لا أقوم إلا بحمد الله لا بحمدك، فأنزل الله هذه
الآية: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه) (1) الآية. قالت: فخرج
رسول الله (ص) إلى الناس مسرورا، فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو
أهله، ثم تلا عليهم بما نزل عليه في براءة عائشة. قالت: فضربهم رسول الله (ص)
الحد، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي، وكان مسطح بن أثاثة، وحسان بن
ثابت. قال أبو عبد الله: ويقال إن رسول الله (ص) لم يضربهم - وهو أثبت عندنا.
* *
كانت تلكم أخبار المسابقة والتيمم والإفك في غزوة بني المصطلق
ولا بد لنا في دراستها أن ندرس أخبار غزوة بني المصطلق في ما يأتي بإذنه
تعالى.
غزوة بني المصطلق
في مغازي الواقدي ما موجزه:
كانت غزوة المريسيع، ويقال غزوة بني المصطلق وهم بنو جذيمة بن كعب
ابن خزاعة. فجذيمة هو المصطلق، والمريسيع ماء لخزاعة بينه وبين الفرع نحو من

(1) سورة النور: 11.
123

يوم، وبين الفرع والمدينة ثمانية برد (1). وكانت في سنة خمس من الهجرة، خرج
رسول الله (ص) يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان، وسببها أن الحارث بن أبي
ضرار الخزاعي سيد بين المصطلق سار في قومه ومن قدر عليه من العرب،
فدعاهم إلى حرب رسول الله (ص)، فابتاعوا خيلا وسلاحا وتهيأوا للمسير إلى
رسول الله (ص). وجعلت الركبان تقدم من ناحيتهم فيخبرون بمسيرهم، فبلغ
ذلك رسول الله (ص) فبعث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم علم ذلك، واستأذن
النبي (ص) أن يقول فأذن له، فخرج حتى ورد عليهم ماءهم، فوجد قوما
مغرورين قد تألبوا وجمعوا المجموع، فقالوا: من الرجل؟ قال: رجل منكم،
قدمت لما بلغني عن جمعكم لهذا الرجل، فأسير في قومي ومن أطاعني فتكون يدنا
واحدة حتى نستأصله. قال الحارث ابن أبي ضرار: فنحن على ذلك، فعجل
علينا. قال بريدة: أركب الآن فآتيكم بجمع كثيف من قومي ومن أطاعني.
فسروا بذلك منه، ورجع إلى رسول الله (ص) فأخبره خبر القوم، فندب رسول
الله (ص) الناس، وأخبرهم خبر عدوهم فأسرع الناس للخروج، وقادوا الخيول
وهي ثلاثون فرسا، في المهاجرين منها عشرة وفي الأنصار عشرون، ولرسول
الله (ص) فرسان.
وخرج مع رسول الله (ص) بشر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قط
مثلها، ليس بهم رغبة في الجهاد إلا أن يصيبوا من عرض الدنيا، وقرب عليهم
السفر. فخرج رسول الله (ص) حتى سلك على الحلائق (2) فنزل بها، فأصاب عينا
من المشركين فضرب عنقه بعد أن عرض عليه الاسلام فأبى. وانتهى (ص) إلى

(1) البرد جمع بريد: والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع.
(2) يروى أيضا بالخاء المعجمة، وهو مكان به مزارع وآبار قرب المدينة. (شرح على
المواهب اللدنية، ج 2، ص 116).
124

المريسيع [وهو ماء لخزاعة من ناحية قديد إلى الساحل] وقد بلغ القوم مسير
رسول الله (ص) وقتله عينهم، فتفرق عن الحارث من كان قد اجتمع إليه من
أفناء (1) العرب. وضرب له (ص) قبة من أدم، فصف أصحابه وقد تهيأ الحارث
للحرب، ونادى عمر بن الخطاب في الناس: قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم
وأموالكم. فأبوا ورموا بالنبل، فرمى المسلمون ساعة بالنبل ثم حملوا على
المشركين حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، وقتل منهم عشرة وأسر
سائرهم، وسبيت النساء والذرية، وغنمت الإبل والشاء. ولم يقتل من المسلمين
إلا رجل واحد يقال له هشام بن صبابة: أصابه رجل من الأنصار من رهط
عبادة بن الصامت، وهو يرى أنه من العدو، فقتله خطأ.
فأخرج رسول الله (ص) الخمس من جميع المغنم فكان يليه محمية بن جزء،
وكان يجمع إليه الأخماس. وكانت الصدقات على حدتها، أهل الفئ بمعزل عن
الصدقة، [وأهل الصدقة] بمعزل عن الفئ. فكان يعطي من الصدقة اليتيم
والمسكين والضعيف، وفرق السبي، فصار في أيدي الرجال، وقسم المتاع والنعم
والشاء، وصارت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في سهم ثابت بن قيس بن
شماس أو ابن له - فكاتبها على تسع آواق من ذهب. فبينا النبي (ص) على الماء إذ
دخلت عليه تسأله في كتابتها وقالت: يا رسول الله! إني امرأة مسلمة وتشهدت
وانتسبت، وأخبرته بما جرى لها، واستعانته في كتابتها، فقال: أو خير من ذلك،
أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك! قالت: نعم! فطلبها من ثابت فقال: هي لك
يا رسول الله. فأدى ما عليها وأعتقها وتزوجها. وخرج الخبر إلى الناس وقد
اقتسموا رجال بني المصطلق وملكوهم ووطئوا نساءهم، فقالوا: أصهار النبي!

(1) يقال: قوم من أفناء القبائل: أي نزاع من ههنا وههنا، فهم أخلاط لا يدرى من أي
قبيلة هم.
125

فأعتقوا ما بأيديهم من ذلك السبي. وكانت جويرية (رض) عظيمة البركة على
قومها (1).
* * *
كان ذلكم موجز أخبار غزوة بني المصطلق على ماء المريسيع، وبعد انتهاء
القتال وانتصار الرسول (ص) عليهم وقعت منافرة على ماء المريسيع أدى بابن
أبي أن يقول ما قال، وكان بعد ذلك ما سننقله موجزا من مغازي الواقدي بإذنه
تعالى.
ذكر ما كان من أمر ابن أبي:
روى الواقدي وقال:
فبينا المسلمون على ماء المريسيع قد انقطعت الحرب، وهو ماء ظنون (2) إنما
يخرج في الدلو نصفه. أقبل سنان بن وبر الجهني ومعه فتيان من بني سالم يستقون
وعلى الماء جمع من المهاجرين والأنصار. فأدلى سنان دلوه، وأدلى جهجاه بن
مسعود ابن سعد بن حرام الغفاري - أجير عمر بن الخطاب - دلوه، فالتبست دلو
سنان ودلو جهجاه وتنازعا، فضرب جهجاه سنانا فسال الدم فنادى: يا آل
خزرج! وثارت الرجال، فهرب جهجاه وجعل ينادي في العسكر: يالقريش!
يالكنانة! فأقبلت قريش وأقبلت الأوس والخزرج وشهروا السلاح حتى كادت
تكون فتنة عظيمة، فقام رجال في الصلح فترك سنان حقه.
وكان عبد الله بن أبي جالسا في عشرة من المنافقين فغضب وقال: والله ما

(1) مغازي الواقدي 1 / 404 - 411.
(2) الماء الظنون: أي القليل (النهاية).
126

رأيت كاليوم مذلة! والله إن كنت لكارها لوجهي هذا ولكن قومي قد غلبوني، قد
فعلوها، قد نافرونا (1) وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا منتنا (2) والله ما صرنا
وجلابيب (3) قريش هذه إلا كما قال القائل: " ممن كلبك يأكلك ". والله لقد ظننت
أني سأموت قبل أن أسمع هاتفا يهتف بما هتف به جهجاه وأنا حاضر لا يكون
لذلك مني غير (4) والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل
على من حضر من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم بلادكم،
ونزلوا منازلكم، وآسيتموهم (5) في أموالكم حتى استغنوا، أما والله لو
أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، ثم لم ترضوا ما فعلتم
حتى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا فقتلتم دونهم، فأيتمتم أولادكم وقللتم
وكثروا... الحديث.
وفي الأغاني (6) فقال عبد الله بن أبي بن سلول: هذا ما جزونا به، آويناهم
ثم هم يقاتلوننا! وبلغ حسان بن ثابت الذي بين جهجاه وبين الفتية الأنصار،

(1) نافره: خاصمه وفاخره، فيكون أحدهما أعز نفرا من صاحبه.
(2) المنة: الاحسان والنعمة.
(3) الجلباب: إزار يشتمل به فيغطي الجسد، وهو من خشن اللباس يلبسه الفقراء، وكان
المهاجرون لما هاجروا - على ما هم عليه من الخلة والعيلة - كان ذلك أكثر لباسهم فيما يرى،
فجعل المنافقون يسمونهم " الجلابيب " كناية عن فقرهم وقلتهم وغربتهم، وجعلوا ذلك
نبزا وتهزؤا.
(4) والغير: الاسم من قولك غيرت الشئ تغييرا، يريد لا يكون مني لهذا العدوان دفع أو
تغيير أو قصاص.
(5) آسيتموهم: يريد سويتم بينكم وبينهم في هذه الأموال.
(6) الأغاني ج 4 / 12 - 13 ط. ساسي وقال ابن كثير في ج 4 / 163: وقد ذكر ابن إسحاق
ان حسان بن ثابت قال شعرا يهجو فيه صفوان بن المعطل وجماعة من قريش ممن تخاصم
على الماء من أصحاب جهجاه.
127

فقال وهو يريد المهاجرين من القبائل قدموا على رسول الله (ص) في الاسلام،
وهذا الشعر من رواية مصعب دون الزهري:
أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا * وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
يمشون بالقول سرا في مهادنة * تهددا لي كأني لست من أحد
قد ثكلت أمه من كنت صاحبه * أو كان منتشبا في برثن الأسد
ما للقتيل الذي اسمو فأقتله * من دية فيه أعطيها ولا قود
ما البحر حين تهب الريح شامية * فيغطئل ويرمي العبر بالزبد
يوما بأغلب مني حين تبصرني * أفري من الغيظ فري العارض البرد
أما قريش فإني لست تاركهم * حتى ينيبوا من الغيات بالرشد
ويتركوا اللات والعزى بمعزلة * ويسجدوا كلهم للواحد الصمد
ويشهدوا أن ما قال الرسول لهم * حق ويوفوا بعهد الله في سدد
أبلغ بني بأني قد تركت لهم * من خير ما ترك الاباء للولد
الدار واسطة والنخل شارعة * والبيض يرفلن في القسي كالبرد
قال: فقال رسول الله (ص): " يا حسان نفست علي إسلام قومي " (1).
وقال الواقدي والمقريزي:
فقام زيد بن أرقم بهذا الحديث كله إلى رسول الله (ص)، فيجد عنده نفرا
من أصحابه من المهاجرين والأنصار فأخبره الخبر. فكره رسول الله (ص) خبره
وتغير وجهه، ثم قال رسول الله (ص): يا غلام، لعلك غضبت عليه! قال:
لا والله، لقد سمعته منه. قال: لعله أخطأ سمعك! قال: لا يا نبي الله! قال: لعله شبه
عليك! قال: لا والله، لقد سمعته منه يا رسول الله! وشاع في العسكر ما قال ابن

(1) الأغاني ج 4 / 12 - 13 ط. ساسي.
128

أبي، وليس للناس حديث إلا ما قال ابن أبي، وجعل الرهط من الأنصار (1)
يؤنبون الغلام ويقولون: عمدت إلى سيد قومك تقول عليه ما لم يقل، وقد ظلمت
وقطعت الرحم! فقال زيد: والله لقد سمعت منه! قال: ووالله، ما كان في الخزرج
رجل واحد أحب إلي من عبد الله بن أبي، والله، لو سمعت هذه المقالة من أبي
لنقلتها إلى رسول الله (ص)، وإني لأرجو أن ينزل الله تعالى على نبيه حتى يعلموا
أنا كاذب أم غيري، أو يرى رسول الله (ص) تصديق قولي. وجعل زيد يقول:
اللهم أنزل على نبيك ما يصدق حديثي! فقال قائل: يا رسول الله، مر عباد بن
بشر فليأتك برأسه. فكره رسول الله (ص) هذه المقالة. ويقال قال: قل لمحمد بن
مسلمة يأتك برأسه. فقال النبي (ص) وأعرض عنه: لا يتحدث الناس أن محمدا
يقتل أصحابه. وقام النفر من الأنصار الذين سمعوا قول النبي (ص) ورده على
الغلام، فجاءوا إلى ابن أبي فأخبروه، وقال أوس بن خولي: يا أبا الحباب، إن
كنت قلته فأخبر النبي يستغفر لك، ولا تجحده فينزل ما يكذبك. وإن كنت لم تقله
فأت رسول الله (ص) فاعتذر إليه واحلف لرسول الله (ص) ما قلته. فحلف بالله
العظيم ما قال من ذلك شيئا. ثم إن ابن أبي أتى إلى رسول الله (ص) فقال: يا بن
أبي، إن كانت سلفت منك مقالة فتب. فجعل يحلف بالله ما قلت ما قال زيد،
ولا تكلمت به! وكان في قومه شريفا، فكان يظن أنه قد صدق، وكان يظن به
سوء الظن. ثم مشى إلى رسول الله (ص) وحلف بالله ما قال. وأسرع رسول
الله (ص) عند ذلك السير، ورحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها.
ولم يشعر أهل العسكر إلا برسول الله (ص) قد طلع على راحلته القصواء،
وكانوا في حر شديد، وكان لا يروح حتى يبرد، إلا أنه لما جاءه خبر ابن أبي
رحل في تلك الساعة، فكان أول من لقيه، أسيد بن حضير، فقال: السلام عليك

(1) في ب: " يقولون ويؤنبون ".
129

أيها النبي ورحمة الله! فقال رسول الله (ص): وعليك السلام! فقال: يا رسول الله،
قد رحلت في ساعة فنكرة ما كنت ترحل فيها! فقال رسول الله (ص): أو لم
يبلغكم ما قال صاحبكم؟ قال: أي صاحب يا رسول الله؟ قال: ابن أبي، زعم
أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل! قال: فأنت يا رسول الله تخرجه
إن شئت، فهو الأذل وأنت الأعز، والعزة لله ولك وللمؤمنين. ثم قال: يا رسول
الله، ارفق به فوالله لقد جاء الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز، ما بقيت عليهم
إلا خرزة واحدة عند يوشع اليهودي، قد أرب (1) بهم فيها لمعرفته بحاجتهم إليها
ليتوجوه، فجاء الله بك على هذا الحديث، فما يرى إلا قد سلبته ملكه.
قال: فبينا رسول الله (ص) يسير من يومه ذلك، وزيد بن أرقم يعارض
النبي (ص) براحلته، يريه وجهه في المسير، ورسول الله يستحث راحلته فهو مغذ
في السير، إذ نزل عليه الوحي. قال زيد بن أرقم: فما هو إلا أن رأيت رسول
الله (ص) تأخذه البرحاء ويعرق جبينه، وتثقل يدا راحلته حتى ما كاد ينقلها،
عرفت أن رسول الله (ص) يوحى إليه، ورجوت أن يكون ينزل عليه تصديق
خبري. قال زيد بن أرقم: فسري عن رسول الله (ص)، فأخذ بأذني وأنا على
راحلتي حتى ارتفعت من مقعدي ويرفعها إلى السماء، وهو يقول: وفت أذنك يا
غلام، وصدق الله حديثك! ونزل في ابن أبي السورة من أولها إلى آخرها وحده:
(إذا جاءك المنافقون...) (2).
قال عمر: فأقبلت حتى جئت رسول الله (ص) وهو في فئ شجرة، عنده
غليم أسيود يغمز ظهره، فقلت: يا رسول الله كأنك تشتكي ظهرك. فقال:
تقحمت بي الناقة الليلة. فقلت: يا رسول الله، إيذن لي أن أضرب عنق ابن أبي

(1) أرب بهم: اشتد (القاموس المحيط ج 1، ص 36).
(2) سورة المنافقون.
130

في مقالته. فقال رسول الله (ص): أو كنت فاعلا؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق!
قال رسول الله (ص): إذا لأرعدت له آنف بيثرب كثيرة، لو أمرتهم بقتله قتلوه.
قلت: يا رسول الله، فمر محمد بن مسلمة يقتله. قال: لا يتحدث الناس أن محمدا
قتل أصحابه. ومر عبادة بن الصامت بعبد الله بن أبي عشية راح النبي (ص) من
المريسيع، وقد نزل على النبي (ص) سورة المنافقون فلم يسلم عليه، ثم مر أوس
ابن خولي فلم يسلم عليه، فقال ابن أيي: إن هذا الأمر قد تمالأتما (1) عليه. فرجعا
إليه فأنباه وبكتاه بما صنع، وبما نزل من القرآن إكذابا لحديثه، وجعل أوس بن
خولي يقول: لا أكذب عنك أبا حتى أعلم أن قد تركت ما أنت (12) عليه وتبت إلى
الله، إنا أقبلنا على زيد بن أرقم نلومه ونقول له: " كذبت على رجل من قومك "
حتى نزل القرآن بتصديق حديث زيد وإكذاب حديثك. وجعل ابن أبي يقول:
لا أعود أبدا! وبلغ ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي مقالة عمر بن الخطاب لرسول
الله (ص): " مر محمد بن مسلمة يأتك برأسه " فجاء إلى النبي (ص) فقال: يا
رسول الله، إن كنت تريد أن تقتل أبي فيما بلغك عنه فمرني، فوالله لأحملن إليك
رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا. والله، لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل
أبر بوالد مني، وما أكل طعاما منذ كذا وكذا من الدهر، ولا يشرب شرابا
إلا بيدي، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي
أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأدخل النار، وعفوك أفضل،
ومنك أعظم. قال رسول الله (ص): يا عبد الله، ما أردت قتله وما أمرت به،
ولنحسنن صحبته ما كان بين أظهرنا. فقال عبد الله: يا رسول الله، إن أبى

(1) أي تساعدا واجتمعا عليه. (النهاية، ج 4، ص 105).
(2) في الأصل: " ما أنزل عليه "، وما أثبتناه هو قراءة ب.
131

كانت هذه البحرة (1) قد اتسقوا عليه ليتوجوه عليهم، فجاء الله بك، فوضعه الله
ورفعنا بك، ومعه قوم يطيفون به ويذكرون أمورا قد غلب الله عليها. قال:
فلما انصرف من عند النبي (ص) وعرف أن رسول الله (ص) قد تركه ولم يأمره
بقتله، قال:
ألا إنما الدنيا حوادث تنتظر * ومن أعجب الأحداث ما قاله عمر
يشير على من عنده الوحي هكذا * ولم يستشره بالتي تحلق الشعر
ولو كان للخطاب ذنب كذنبه * فقلت له ما قال في والدي كشر
غداة يقول ابعث إليه محمدا * ليقتله بئس لعمرك ما أمر
فقلت رسول الله إن كنت فاعلا * كفيتك عبد الله لمحك بالبصر
تساعدني كف ونفس سخية * وقلب على البلوى أشد من الحجر
وفي ذاك ما فيه والأخرى غضاضة * وفي العين مني نحو صاحبها عور
فقال ألا لا يقتل المرء طائعا * أباه وقد كادت تطير بها مضر
قال رافع بن خديج:
لما رحنا من المريسيع قبل الزوال كان الجهد بنا يومنا وليلتنا، ما أناخ منا
رجل إلا لحاجته أو لصلاة يصليها. وإن رسول الله (ص) يستحث راحلته،
ويخلف بالسوط في مراقها (2) حتى أصبحنا، ومددنا يومنا حتى انتصف النهار أو
كرب، ولقد راح الناس وهم يتحدثون بمقالة ابن أبي وما كان منه، فما هو إلا أن
أخذهم السهر والتعب بالمسير، فان نزلوا حتى ما يسمع لقول ابن أبي في أفواههم
- يعني ذكرا - وإنما أسرع رسول الله (ص) بالناس ليدعوا حديث ابن أبي، فلما

(1) البحرة: البلدة، يعني المدينة.
(2) أي في مراق بطنها، وهي مارق منه في أسافله. (أساس البلاغة، ص 362).
132

نزلوا وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما. ثم راح رسول الله (ص) بالناس مبردا،
فنزل من الغد ماء يقال له بقعاء فوق النقيع، وسرح الناس ظهرهم، فأخذتهم ريح
شديدة حتى أشفق الناس منها، وسألوا عنها رسول الله (ص) وخافوا أن يكون
عيينة بن حصن خالف إلى المدينة، وقالوا: لم تهج هذه الريح إلا من حدث! وإنما
بالمدينة الذراري والصبيان. وكانت بين النبي (ص) وبين عيينة مدة، فكان ذلك
حين انقضائها فدخلهم أشد الخوف، فبلغ رسول الله (ص) خوفهم، فقال رسول
الله (ص): ليس عليكم بأس منها، ما بالمدينة من نقب إلا عليه ملك يحرسه، وما
كان ليدخلها عدو حتى تأتوها، ولكنه مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة،
فلذلك عصفت الريح. وكان موته للمنافقين غيظا شديدا، وهو زيد بن رفاعة بن
التابوت، مات ذلك اليوم.
قال جابر بن عبد الله، قال: كانت الريح يومئذ أشد ما كانت قط. إلى أن
زالت الشمس، ثم سكنت آخر النهار. قال جابر: فسألت حين تدمت قبل أن
أدخل بيتي: من مات؟ فقالوا: زيد بن رفاعة بن التابوت. وذكر أهل المدينة أنهم
وجدوا مثل ذلك من شدة الريح حتى دفن عدو الله فسكنت الريح.
قال عبادة بن الصامت يومئذ لابن أبي: أبا حباب، مات خليلك! قال:
أي أخلائي؟ قال: من موته فتح للاسلام وأهله. قال: من؟ قال: زيد بن رفاعة
ابن التابوت. قال: يا ويلاه، كان والله وكان! فجعل يذكر، فقلت: اعتصمت
بالذنب الأبتر (1). قال: من أخبرك يا أبا الوليد بموته؟ قلت: رسول
الله (ص) أخبرنا الساعة أنه مات هذه الساعة. قال: فأسقط في يديه وانصرف
كئيبا حزينا. قالوا: وسكنت الريح آخر النهار فجمع الناس ظهورهم.
ثم تقدم عبد الله بن عبد الله بن أبي الناس حتى وقف لأبيه على الطريق

(1) أي المقطوع. (النهاية، ج 1، ص 58).
133

- عند مضيق المدينة - فلما رآه أناخ به وقال: لا أفارقك حتى تزعم انك الذليل
ومحمد العزيز. وفي رواية فقال: قف فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله (ص)
في ذلك، فلما جاء رسول الله (ص) استأذنه في ذلك فأذن له فأرسل حتى دخل
المدينة (1).
انقسمت الصحابة في هذه الواقعة إلى قسمين، قسم مالت بهم العصبية
القبلية عن الحق وآخرون عصمهم المبدأ والعقيدة عن الانجراف وراءها وكان
حسان بن ثابت شاعر الأنصار ممن لبى نداء العصبية.
قال ابن شهاب الزهري:
وبلغ حسان بن ثابت الذي بين جهجاه وبين الفتية الأنصار فقال وهو يريد
المهاجرين من القبائل الذين قدموا على رسول الله (ص) في الاسلام: (امسى...)
الأبيات.
وفي رواية مصعب:
(فغضب من ذلك حسان فقال هذا الشعر). مالت العصبية القبلية بحسان
لما بلغه قول ابن أبي: ما صرنا وجلابيب قريش إلا كما قال القائل: سمن كلبك
يأكلك. فأنشد يقول:
أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا * وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
قد ثكلت أمه من كنت صاحبه * أو كان منتشبا في برثن الأسد
ما لقتيلي الذي اغدو فاخذه * من دية فيه يعطاها ولا قود
ما البحر حين تهب الريح شامية * فيغطئل ويرمي المعبر بالزبد

(1) طبقات ابن سعد ج 2 / 65.
134

يوما بأغلب مني حين تبصرني * ملغيظ افري كفري العارض البرد (1)
ثم حدا به المبدأ ان يتلافى ما قال فقال بعد هذا:
اما قريش فاني لن أسالمهم * حتى ينيبوا من الغيات للرشد
ويتركوا اللات والعزى بمعزلة * ويسجدوا كلهم للواحد الصمد
ويشهدوا ان ما قال الرسول لهم * حق ويوفوا بعهد الله والوكد
ان قول حسان: " أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا... " الأبيات إلى
قوله: " كفري العارض البرد " إن هي إلا صدى لقول ابن أبي: (ما اعدنا
وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك ".
فان حسان يقول: امسى هؤلاء الجلابيب قد عزوا وقد كثروا وابن
الفريعة - يقصد بها نفسه - امسى وحيدا وهو يلمح بهذا إلى أن الأنصار أصبحوا
أقلية ثم يقول: إن صاحبي ثكلته أمه قد أصبح ذليلا كمن هو عالق في برثن الأسد
ويقول: بلغت من العزة إلى حد ان قتيلي لا يعطى دية فيه وقاتله لا يقاد به، ثم
تحمس بعد هذا وقال مهددا: ليس البحر حين تهب الريح عليه ويموج ويرمي
بالزبد جوانبه بأغلب مني حين افري اقطع من الغيظ كفري السحاب الذي به
البرد، قال كل هذا في شأن اخوانه المهاجرين ثم رجع إلى رشده وكان بليغا في
تخلصه مما تورط فيه حين قال: اما قريش فلن أسالمهم حتى يتركوا اللات

(1) (الجلابيب): كان المشركون بمكة يلقبون أصحاب النبي (ص) بالجلابيب و (الفريعة):
اسم أم حسان. و (منتشبا): عالقا في برثن الأسد. و (القود): قتل النفس بالنفس،
(يغطئل): يموج ويتحرك. و (العبر): جانب النهر والبحر. و (ملغيظ) مخفف من الغيظ.
و (فرى): اقطع. و (العارض): البرد السحاب الذي فيه البرد. و (الوكد): المواثيق
المؤكدة.
135

والعزى ويسجدوا لله ويشهدوا بان ما قال لهم الرسول (ص) حق. ويح حسان ألم
يكن من سماهم بالجلابيب من فقراء المهاجرين بالمؤمنين؟ فما باله يستكثر عليهم
ويتهدد بهم؟
بلغ فقراء المهاجرين أبيات حسان هذه فحزت في نفوسهم قال
المقريزي (1): (فجاء صفوان بن المعطل إلى جعيل بن سراقة فقال: انطلق بنا
نضرب حسان، فوالله ما أراد غيرك وغيري، ولنحن أقرب إلى رسول الله (ص)
منهم. فأبى جعيل ان يذهب إلا بأمر رسول الله (ص) وخرج صفوان مصلتا
السيف حتى ضرب حسان بن ثابت في نادي قومه).
وقال ابن هشام (2): فاعترضه صفوان بن المعطل فضربه بالسيف ثم قال:
تلق ذباب السيف عني فإنني * غلام إذا هوجيت لست بشاعر
ثم إن ثابت بن قيس بن شماس وثب على صفوان بن المعطل - حين ضرب
حسان - فجمع يديه إلى عنقه بميل، ثم انطلق به إلى دار بني الحرث بن الخزرج
فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال: ما هذا؟ قال: اما أعجبك ضرب حسان
بالسيف؟ والله ما أراه إلا قتله، قال له عبد الله بن رواحة: هل علم رسول
الله (ص) بشئ مما صنعت؟ قال: لا والله، قال: لقد اجترأت، اطلق الرجل،
فأطلقه ثم اتوا رسول الله (ص) فذكروا ذلك له فدعا حسان وصفوان ابن المعطل،
فقال حسان: يا رسول الله شهر علي السيف في نادي قومي ثم ضربني لأن أموت
ولا أراني الا ميتا من جراحاتي! فقال (ص) لصفوان: لم ضربته وحملت السلاح
عليه؟ وتغيظ. فقال: يا رسول الله آذاني وهجاني وسفه علي وحسدني على

(1) إمتاع الأسماع ص 211.
(2) سيرة ابن هشام ج 3 / 352 ط. مصر، تاريخ الطبري ج 2 / 618.
136

الاسلام، فقال لحسان: " أسفهت على قوم أسلموا "؟
ثم قال: (احبسوا صفوان فان مات حسان فاقتلوه به) فخرجوا بصفوان،
وبلغ ذلك سعد بن عبادة، فأقبل على قومه من الخزرج، فقال: عمدتم إلى رجل
من قوم رسول الله تؤذونه وتهجونه بالشر وتشتمونه، فغضب لما قيل له، ثم
اسرتموه أقبح الأسر ورسول الله (ص) بين أظهركم.
قالوا: فإن رسول الله أمرنا بحبسه وقال: إن مات صاحبكم فاقتلوه.
قال سعد: والله ان أحب الأمرين إلى رسول الله (ص) العفو، ولكن رسول
الله (ص) ليحب ان يترك صفوان، والله لا أبرح حتى يطلق.
فقال حسان: ما كان لي من حق فهو لك وأبى قومه فغضب قيس بن سعد
بن عبادة، وقال: عجبا لكم ما رأيت كاليوم أن حسان قد ترك حقه وتأبون
أنتم؟ ما ظننت أحدا من الخزرج يرد أبا ثابت في أمر يهواه! فاستحيا القوم
واطلقوا صفوان من الوثاق فذهب به سعد إلى بيته فكساه حلة، ثم خرج به إلى
المسجد ليصلي فيه، فرآه رسول الله (ص)، فقال: صفوان؟ قالوا: نعم يا رسول
الله، قال: من كساه؟ قالوا: سعد بن عبادة، قال: كساه الله من ثياب الجنة ثم كلم
بعد حسان حتى أقبل في قومه إلى رسول الله (ص) وقال: يا رسول الله، كل حق
لي قبل صفوان بن معطل فهو لك، قال: قد أحسنت وقبلت ذلك وأعطى حسان
أرضا براحا (1) وهي بيرحا وما حوله وسيرين أخت مارية وأعطاه سعد بن
عبادة حائطا كان يجد ما لا كثيرا (2) عوضا بما عفا عن حقه، ويروى أن حسان -
لما حبس صفوان - أرسل إليه رسول الله (ص) فقال: يا حسان أحسن فيما أصابك

(1) البراح: الأرض الظاهرة الواسعة لانبات بها.
(2) جد من نخلة كذا وكذا وسقا أي أخذ من ثمرتها واقتطع وأخرجت له ذلك على أن سيرين
لم تكن عند ذاك بالمدينة فإنها جاءت مع ماريه.
137

فقال: هو لك يا رسول الله فأعطاه بيرحا وسيرين عوضا (1).
* * *
كانت تلكم روايات المسابقة والتيمم والإفك وظروفها في مصادر
الدراسات الاسلامية وفي ما يأتي نستعين الله عز اسمه ونقوم بدراستها باذنه تعالى
بدءا بدراسة تراجم المذكورين في الاخبار وأسنادها:

(1) ان سيرين قد أهداها الرسول (ص) إلى حسان بعد هذه الواقعة بأربع سنوات أو أكثر
وبعد وصولها المدينة في السنة الثامنة من الهجرة وأخطأ الرواة في ذكر إهدائها هنا.
138

تراجم المذكورين في الأخبار السابقة
أ - أبو مويهبة
ويقال: أبو موهبة وأبو موهوبة: مولى رسول الله (ص) كان من مولدي
مزينة اشتراه رسول الله (ص) فاعتقه، يقال إنه شهد المريسيع ولا يوقف له على
اسم (1).
ب - أسامة بن زيد
أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي وأمه أم أيمن حاضنة
النبي (ص)، وكان يسمى حب رسول الله استعمله رسول الله (ص) في مرض
وفاته في السنة الثانية عشرة من الهجرة على جيش وأمره ان يسير إلى الشام
وأوعب فيه المهاجرين الأولين ولعن المتخلف عن جيشه وكان عمره يومئذ ثماني
عشرة سنة، فلما اشتد برسول الله (ص) المرض لم يسيروا.
فرض له عمر خمسة آلاف، يبايع عليا ولا شهد معه شيئا من حروبه.
وقال له: لو أدخلت يدك في فم تنين لأدخلت يدي معها ولكنك قد سمعت ما قال
لي رسول الله (ص) حين قتلت ذلك الرجل الذي شهد أن لا إله إلا الله.
توفي بالجرف وحمل إلى المدينة سنة ثمان أو تسع وخمسين في أيام

(1) أسد الغابة ج 5 / 310 والكنى من الاستيعاب ص 4 / 187 والإصابة ج 4 / 188 الترجمة
المرقمة / 1105.
139

معاوية (1).
ج - أسيد بن حضير الأنصاري
أسيد بن حضير الأنصاري الأوسي كان فارس الأوس في حروبهم مع
الخزرج - شهد العقبة الثانية ومشاهد رسول الله (ص) كلها وثبت في أحد وله في
بيعة أبي بكر بالسقيفة أثر عظيم وكان أبو بكر لا يقدم أحدا من الأنصار عليه -
توفي سنة 20 وأوصى إلى عمر فحمل عمر نعشه بنفسه (2).
د - أم رومان:
أم رومان بنت عامر كانت تحت عبد الله بن الحارث الأزدي حليف أبي
بكر ولدت له الطفيل وتوفي عنها، فخلف عليها أبو بكر فولدت له أم المؤمنين
عائشة وعبد الرحمن. اختلفوا في سنة وفاتها في سنة أربع أو خمس أو ست من
الهجرة.
قال ابن الأثير في ترجمتها بأسد الغابة: (قلت: من زعم أنها توفيت في سنة
أربع أو خمس فقد وهم فإنه قد صح أنها كانت في الإفك حية حينئذ وكان الإفك في
سنة ست في شعبان والله أعلم) (3).

(1) ترجمته بأسد الغابة وطبقات ابن سعد وتاريخ اليعقوبي ج 2 / 113 ط. بيروت. وتاريخ
ابن الأثير ذكر سرية أسامة. وعبد الله بن سبأ (ج 1) ذكر بعث أسامة هذا الغلام على
المهاجرين الأولين.
(2) الاستيعاب ج 1 / 31 - 33 وأسد الغابة ج 1 / 91 - 92 والإصابة 1 / 64.
(3) أسد الغابة ج 5 / 583.
140

ه‍ - بريدة:
بريدة بن الحصيب الأسلمي أسلم حين مر به النبي (ص) مهاجرا إلى
المدينة، قدم المدينة وشهد أحدا فما بعدها وتحول منها بعد رسول الله إلى البصرة
ثم خرج غازيا إلى خراسان وتوفي بمرو.
و - بريرة:
بريرة مولاة أم المؤمنين عائشة كانت مولاة أناس قبلها فكاتبوها ثم
باعوها من عائشة فأعتقتها، وكان اسم زوجها مغيثا وكان عبدا، فخيرها رسول
الله (ص) فاختارت فراقه.
وفي ترجمة مغيث من أسد الغابة عن ابن عباس أنه قال:
إن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي
ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي (ص): الا تعجبون من حب مغيث بريرة
ومن بغض بريرة مغيثا؟ فقال النبي (ص): لو راجعتيه! قالت: يا رسول الله:
تأمرني؟ قال: إنما اشفع، قالت: لا حاجة لي فيه (1).
ز - جعبل بن سراقة الضمري:
وقيل الغفاري أخو عوف وقيل جعال وهو من أهل الصفة من فقراء
المسلمين، أسلم قديما وشهد أحدا أصيبت عينه يوم قريظة.
وفي رواية أن النبي (ص) استخلفه على المدينة في شعبان سنه ست عندما غزا بني

(1) ترجمة بريرة من أسد الغابة ج 5 / 409 ومغيث من أسد الغابة ج 4 / 405.
141

المصطلق (1).
ح - جهجاه بن مسعود الغفاري:
كان أجيرا لعمر - مات بعد عثمان بقليل (2).
ط - حسان بن ثابت الخزرجي:
وأمه الفريعة بنت خالد الخزرجي يكنى أبا الوليد وأبا عبد الرحمن وأبا
الحسام لمناضلته عن رسول الله (ص) ولتقطيعه اعراض المشركين (3).
في صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله (ص) يقول
لحسان بن ثابت: اهجهم أو هاجهم وجبريل معك (4).
وقد كان رسول الله (ص) ينصب له منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر
عن رسول الله (ص) ورسول الله (ص) يقول: إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما
نافح عن رسول الله (ص).
وروي ان الذين كانوا يهجون رسول الله (ص) من مشركي قريش: أبو
سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن الزبعرى وعمرو بن العاص
وضرار بن الخطاب. وقال قائل لعلي بن أبي طالب: اهج القوم الذين يهجوننا،
فقال: إن اذن رسول الله (ص) فعلت، فقال رسول الله (ص): إن عليا ليس عنده

(1) الاستيعاب ص 324 أسد الغابة ج 1 / 290 و 284.
(2) الاستيعاب ص 357 أسد الغابة ج 1 / 309.
(3) بترجمة حسان من أسد الغابة.
(4) صحيح مسلم ص 1933، باب مناقب حسان بن ثابت.
142

ما يراد من ذلك، ثم قال: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله (ص) بأسيافهم ان
ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان: انا لها وأخذ بطرف لسانه وقال: والله ما
يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء، قال رسول الله (ص): كيف تهجوهم وانا
منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي؟ فقال: يا رسول الله لأسلنك منهم
كما تسل الشعرة من العجين (1).
فقال له الرسول (ص): أنت له، اذهب إلى أبي بكر يخبرك بمثالب القوم ثم
اهجهم وجبريل معك فقال يرد على أبي سفيان:
ألا أبلغ أبا سفيان عني * مغلغلة فقد برح الخفاء
هجوت محمدا فأجبت عنه * وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بند * فشر كما لخير كما الفداء
فن يهجو رسول الله منكم * ويطريه ويمدحه سواء
لنا في كل يوم من معد * سباب أو قتال أو هجاء
لساني صارم لا عيب فيه * وبحري لا تكدره الدلاء
فإن أبي ووالده وعرضي * لعرض محمد منكم وقاء (2)
وفي الأغاني: جاء الحارث بن عوف بن أبي حارثة إلى النبي (ص) فقال:
معي من يدعو إلى دينك وأنا له جار، فأرسل معه رجلا من الأنصار، فغدر
بالحارث عشيرته فقتلوا الأنصاري، فقدم الحارث على رسول الله (ص) وكان
عليه الصلاة والسلام لا يؤنب أحدا في وجهه، فقال: " ادعوا لي حسان، فدعي
له، فلما رأى الحارث أنشده:

(1) ترجمة حسان من أسد الغابة.
(2) العقد الفريد ج 5 / 294 - 295 وفي الاستيعاب بترجمة حسان أكثر تفصيلا وأوفى.
143

يا حار من يغدر بذمة جاره * منكم فإن محمدا لم يغدر
إن تغدروا فالغدر منكم شيمة * والغدر ينبت في أصول السخبر
فقال الحارث: اكففه عني يا محمد، وأؤدي إليك دية الخفارة، فأدى إلى
النبي (ص) سبعين عشراء وكذلك دية الخفارة، وقال: يا محمد، أنا عائذ بك من
شره، فلو مزج البحر بشعره مزجه (1).
وفي ترجمة مسافع بن عياض القريشي التيمي ابن خال أبي بكر: كان
مسافع بن عياض شاعرا فتعرض لهجاء حسان بن ثابت ففيه يقول حسان:
يا آل تيم الا تنهون جاهلكم * قبل القذاف بصم كالجلاميد
منهنهوه فاني غير تارككم * ان عاد ما اهتز ماء في ثرى عود
لو كنت من هاشم أو من بني أسد * أو عبد شمس أو أصحاب اللوا الصيد
أو من بني نوفل أو ولد مطلب * لله درك لم تهجم بتهديد
أو من بني زهرة الأبطال قد عرفوا * أو من بني جمع الحفر الجلاعيد
أو في الذؤابة من تيم إذا انتسبوا * أو من بني الحارث البيض الأماجيد
لولا الرسول واني لست عاصيه * حتى يغيبني في الرمس ملحودي
وصاحب النار إني سوف احفظه * وطلحة بن عبيد الله ذو الجود (2)
وفي ترجمة حسان بن ثابت من أسد الغابة: وانتدب لهجو المشركين ثلاثة
من الأنصار حسان وكعب بن مالك وعبد الله ابن رواحة فكان حسان وكعب

(1) الأغاني ج 4 / 11 ط. ساسي وترجمة الحارث في أسد الغابة ج 1 / 342 - 343.
(2) الاستيعاب ص 1257 والإصابة رقم الترجمة 7927 أسد الغابة ج 4 / 252 - 253،
وترجمة طلحة من تهذيب ابن عساكر ج 7 / 83 والكامل للمبرد ج 1 / 169 - 170.
144

يعارضانهم مثل قولهم في الوقائع والأيام والماثر ويذكرون مثالبهم، وكان عبد الله
ابن رواحة يعيرهم بالكفر وبعبادة ما لا يسمع ولا ينفع فكان قوله أهون القول
عليهم، وكان قول حسان وكعب أشد القول عليهم، فلما أسلموا وفقهوا كان قول
عبد الله أشد القول عليهم. ونهى عمر بن الخطاب في انشاد شئ من مناقصة
الأنصار ومشركي قريش وقال: في ذلك شتم الحي والميت وتجديد الضغائن وقد
هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الاسلام (1).
وروي أنهم قالوا: فضل حسان الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في
الجاهلية، وشاعر النبي (ص) في النبوة، وشاعر اليمن كلها في الاسلام (2).
وقال أيضا: كان حسان من فحول الشعراء في الجاهلية فلما جاء الاسلام
سقط شعره. وقيل لحسان: لان شعرك وهرم يا أبا الحسام، فقال للسائل: يا بن
أخي إن الاسلام يحجز عنا الكذب، يعني ان الإجادة في الشعر هو الافراط في
الذي يقوله وهو كذب يمنع الاسلام منه فلا يجئ الشعر جيدا (3).
وقال أيضا: عن هشام، عن أبيه أن رسول الله (ص) جلد الذين قالوا
لعائشة ما قالوا ثمانين ثمانين حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت
جحش، وكان حسان ممن خاض في الإفك فجلد فيه في قول بعضهم وأنكر قوم
ذلك.
وقال أيضا: وقالوا: إن عائشة كانت في الطواف ومعها أم حكيم بن خالد
ابن العاص وأم حكيم بنت عبد الله بن أبي ربيعة فذكرتا حسان بن ثابت وسبتاه
فقالت عائشة: اني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه عن النبي (ص) بلسانه، أليس

(1) أسد الغابة ترجمة حسان بن ثابت.
(2) أسد الغابة ج 2 / 5.
(3) أسد الغابة ج 2 / 5 - 6.
145

هو القائل:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء؟
وبرأته من أن يكون افترى عليها، فقالتا: ألم يقل فيك؟ فقالت: لم يقل
شيئا ولكنه الذي يقول:
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فإن كان ما قد قيل عني قلته فلا رفعت سوطي إلي أناملي
وكان حسان من أجبن الناس حتى أن النبي (ص) جعله مع النساء في
الآطام يوم الخندق. إذ كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن
ثابت قالت: وكان حسان بن ثابت معنا فيه مع النساء والصبيان حيث خندق
النبي (ص) قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن قالت له
صفية: إن هذا اليهودي يطيف بالحصن كما ترى ولا آمنه ان يدل على عورتنا من
ورائنا من يهود وقد شغل عنا رسول الله (ص) وأصحابه فأنزل إليه فاقتله قال:
يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.
قالت صفية: فلما قال ذلك أخذت عمودا ونزلت من الحصن إليه فضربته
بالعمود حتى قتلته ثم رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان أنزل فاسلبه فقال:
مالي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب.
ولم يشهد مع النبي (ص) شيئا من مشاهده لجبنه، ووهب له
النبي (ص) جاريته سيرين أخت مارية فأولدها عبد الرحمن بن حسان فهو
وإبراهيم بن رسول الله (ص) ابنا خالة (1).

(1) أسد الغابة ج 2 / 6.
146

ي - حمنة بنت جحش:
أم حبيبة حمنة بنت جحش بن رياب الأسدية أمها أميمة بنت عبد المطلب
عمة النبي (ص) وأخت أم المؤمنين زينب بنت جحش، قتل زوجها مصعب بن
عمير في غزوة أحد فتزوجها طلحة بن عبيد الله، فولدت له محمدا وعمران ابني
طلحة، وقال بعضهم: انها جلدت مع من جلد فيه - في قصة الإفك - وقيل لم
يجلد أحد (1).
ك - ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري الخزرجي:
وكان ثابت خطيب الأنصار وخطيب النبي (ص) كما كان حسان شاعره،
وقد شهد أحدا وما بعدها وقتل يوم اليمامة في خلافة أبي بكر (2).
ل - زيد بن أرقم بن زيد الأنصاري الخزرجي:
كان يتيما في حجر عبد الله بن رواحه أول مشاهده غزوة المريسيع. نزل
الكوفة وابتنى دارا في كندة وتوفي سنة ثمان وستين (3).
م - سعد بن عبادة بن دليم:
كان رئيس الخزرج أراد الأنصار أن يبايعوه في سقيفة بني ساعدة يوم وفاة
رسول الله (ص) فغلبهم المهاجرون وبايعوا أبا بكر، فبقي في المدينة إلى عصر عمر

(1) ترجمتها في أسد الغابة ج 5 / 428 و ج 2 / 51.
(2) الاستيعاب ص 251 أسد الغابة ج 1 / 229.
(3) الاستيعاب ص 816 أسد الغابة ج 2 / 219.
147

فأشار عليه بالخروج من المدينة فذهب إلى حوارين بالشام، فأرسل إليه خالد
ابن الوليد فطلب منه أن يبايع فأبى فرماه بسهم فقتله، ثم انشدوا على لسان الجن
انهم انشدوا:
وقتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين فلم تخط فؤاده (1)
ن - سعد بن معاذ بن النعمان الخزرجي الأنصاري:
من بني عبد الأشهل يكنى أبا عمر، رمي يوم الخندق بسهم فعاش شهرا
حتى نزلت بنو قريظة على حكمه فحكم بقتل الرجال وسبي النساء والذرية، ثم
انتفض جرحه بعد ذلك فمات في سنة خمس من الهجرة (2).
أأنت - سنان بن تيم الجهني:
ويقال سنان بن وبره الجهني حليف لبني عوف بن الخزرج (3).
ع - سيرين أخت مارية القبطية:
أهداهما المقوقس صاحب الإسكندرية ومعهما مابور فبلغوا المدينة في
السنة الثامنة هجرية فأهدى الرسول (ص) سيرين إلى حسان بن ثابت فولدت له
ابنه عبد الرحمن (4).

(1) راجع: عبد الله بن سبأ ج 51 بحث موقف سعد بن عبادة بعد البيعة.
(2) الاستيعاب ص 2333.
(3) الاستيعاب ص 2444، أسد الغابة ج 3 / 352 و 359.
(4) راجع تراجمهم في أسد الغابة.
148

ف - صفوان بن المعطل بن ربيعة السلمي ثم الذكواني:
يكنى أبا عمر أسلم قبل غزوة المريسيع وشهد المريسيع وما بعدها،
واختلفوا في مقتله ومدفنه (1).
في جمهرة أنساب العرب: صفوان بن المعطل بن رخصة بن المؤمل من بني
سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان العدناني.
وفي نهاية الأدب (2): بنو ذكوان بطن من سليم من العدنانية.
وفي سنن أبي داود ومسند أحمد وطبقات ابن سعد وتاريخ خليفة بن خياط
واللفظ للأول بسنده عن أبي سعيد الخدري قال:
جاءت امرأة صفوان بن المعطل إلى النبي (ص) ونحن عنده فقالت:
يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت ويفطرني إذا صمت
ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده، قال: فسأله عما
قالت، فقال: يا رسول الله أما قولها يضربني إذا صامت فإنها تقرأ بسورتين فقد
نهيتها، قال: فقال: " لو كانت سورة واحدة لكفت الناس " وأما قولها يفطرني
فإنها تصوم، وانا رجل شاب فلا أصبر، قال: فقال رسول الله (ص): يومئذ
" لا تصومن امرأة إلا بإذن زوجها "، قال: وأما قولها: إني لا أصلي حتى تطلع
الشمس فانا أهل بيت قد عرف لنا ذاك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس،
قال: " فإذا استيقظت فصل " ورجاله ثقات (3)، وبترجمته في الإصابة: (وإسناده

(1) ترجمته في الاستيعاب ص 318 الرقم 1383، وأسد الغابة ج 3 / 26، والإصابة 4089،
والمستدرك ج 3 / 518.
(2) نهاية الأدب ص 239.
(3) سنن أبي داود، باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها ص 3308، وطبقات ابن سعد
ج 4 / 249، وتاريخ خليفة ص 79، والتاريخ الكبير ج 3 / 254، والجرح والتعديل
ج 3 / 439، والطبراني الكبير ج 4 / 265، وتاريخ ابن عساكر ج 6 / 24، وتهذيب
الكمال ص 396، وتاريخ الاسلام ج 2 / 222، وتهذيب التهذيب ج 2 / 206 - 207،
وخلاصة تذهيب الكمال ص 112، وتهذيب ابن عساكر ج 6 / 441، ومسند أحمد
ج 3 / 80.
149

صحيح).
ص - عباد بن بشر بن وقش الأنصاري الأشهلي:
أسلم بالمدينة قبل هجرة النبي (ص) إليها على يد مصعب بن عمير، وشهد
المشاهد كلها مع رسول الله وكان عباد ممن قتل كعب بن الأشرف اليهودي الذي
كان يؤذي النبي (ص).
قالت عائشة: كان في بني عبد الأشهل ثلاثة لم يكن بعد النبي (ص) من
المسلمين أحد أفضل منهم: سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر قتل
يوم اليمامة وهو ابن خمس وأربعين سنة (1).
ق - عبادة بن الصامت:
عبادة بن الصامت الخزرجي عقبي بدري جمع القرآن على عهد النبي (ص)
وكان يعلم أهل الصفة القرآن، أرسله عمر ليعلم الناس القرآن بالشام ويفقههم في
الدين فأقام بحمص وأنكر على معاوية أشياء، ورحل إلى المدينة واعاده عمر
وتولى قضاء فلسطين، توفي سنة أربع وثلاثين بالرملة (2).

(1) أسد الغابة ج 3 / 100 الاستيعاب ص 1827.
(2) ترجمته في أسد الغابة.
150

ر - عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي:
وأمه كبشة بنت واقد بن عمرو وكان نقيب بني الحارث، وشهد المشاهد
كلها مع رسول الله (ص) واستشهد في ليلة العقبة في غزوة مؤتة، فقد أمر رسول
الله (ص) يومذاك على جيشه زيد بن حارثة فان أصيب فجعفر بن أبي طالب فان
أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة فاستشهدوا جميعا، وكان ذلك في جمادى سنة
ثمان من الهجرة.
وكان من الشعراء المحسنين الذين كانوا يردون الأذى عن رسول الله (ص).
روى ابن حجر قال: دخل النبي (ص) مكة في عمرة القضاء وابن رواحة
بين يديه وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر: يا بن رواحة أفي حرم الله وبين يدي رسول الله (ص) تقول هذا
الشعر؟ فقال (ص): " خل عنه يا عمر فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من
وقع النبل ".
روى ابن عبد البر أنه مشى ليلة إلى أمة له فقال لها، وفطنت له امرأته
فلامته فجحدها وكانت قد رأت جماعة لها فقالت: إن كنت صادقا فاقرأ القرآن
فالجنب لا يقرأ القرآن فقال:
شهدت بأن وعد الله حق وان النار مثوى الكافرينا
وان العرش فوق الماء حق وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة غلاظ ملائكة الاله المؤمنينا
151

فقالت امرأته: صدق الله وكذبت عيني وكانت لا تحفظ القرآن ولا تقرؤه.
ش - عبد الله بن أبي بن سلول الأنصاري:
من بني عوف بن الخزرج، وسلول امرأة من خزاعة ويكنى أبا الحباب
بابنه الحباب وكان رأس المنافقين ومن أشراف الخزرج، وكانت الخزرج قد
اجتمعت على أن يتوجوه ويسندوا إليه أمرهم قبل مبعث النبي (ص) فلما جاء الله
بالاسلام نفس على رسول الله (ص) النبوة وأخذته العزة. مات بعد غزوة
المريسيع ودفن بالمدينة (1).
* * *
لقد فصلنا القول في بعض التراجم الآنفة لحاجتنا إليها لدراسة أخبار الإفك
في ما يأتي:

(1) الاستيعاب بترجمة ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي 1 / 366.
152

دراسة روايات المسابقة والتيمم والإفك
جاء في ما روي عن أم المؤمنين عائشة (رض) في مسند أحمد: أقبلنا مع
رسول الله (ص) في بعض أسفاره حتى إذا كنا بتربان بلد بينه وبين المدينة بريد
وأميال وهو بلد لا ماء فيه... الحديث.
ما جاء في هذه الرواية عن مكان تربان يناقض ما ذكره الحموي عن
تربان في معجم البلدان حيث قال:
" تربان واد بين ذات الجيش وملل والشيانة على المحجة نفسها فيه مياه
كثيرة مرتبة نزلها رسول الله (ص) في غزوة بدر ".
لست أدري كيف لم ينتبه رواة أحاديث المسابقة والتيمم والإفك
والمحدثون الذين أخرجوا تلك الروايات في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها
إلى تناقض ما فعله الرسول (ص) في عودته من غزوة المريسيع مع ما رووه؟ فان
رسول الله عندما بلغه خبر مقالة ابن أبي على ماء المريسيع رحل في ساعة لم يكن
ير تحل فيها، ولم يشعر أهل العسكر إلا برسول الله (ص) طلع على راحلته يسوقها
وكانوا في حر شديد، وكان قبل ذلك لا يروح حتى يبرد وانه سار قبل الزوال إلى
آخر الليل وحتى انتصف النهار لليوم الثاني، وكان يسوق راحلته بالسوط حتى
سقط على الأرض فاخذ يغمز ظهره غليم اسود ولم يكن يفعل ذلك قبل هذه
الغزوة ولم يفعلها بعده وإنما أسرع رسول الله (ص) بالناس ليدعوا حديث ابن أبي،
فلما نزلوا ووجدوا مس الأرض وقعوا نياما، ثم سار رسول الله (ص) في برد
المساء كذلك حتى بلغوا مضيقا قريبا من المدينة وكان قد تقدم عبد الله بن عبد الله
153

ابن أبي ووقف حتى بلغ المكان والده عبد الله ابن أبي فأناخ براحلته وقال: لن
تدخلها... الحديث.
لست أدري مع كيفية سير رسول الله (ص) في رجوعه من ماء المريسيع في
أي منزل منها قال لجيشه: تقدموا فتقدموا، فقال لام المؤمنين عائشة: تعالي حتى
أسابقك... الحديث؟
وفي أي منزل منها لإماء فيه وليسوا على ماء انقطع عقد أم المؤمنين فأقام
جيشه هناك في سبيل التماس عقدها حتى أصبحوا فجاء أبو بكر ينخسها
ولا تستطيع حراكا لأن رأس رسول الله (ص) كان على فخذها فأنزل الله آية
التيمم؟
وفي أي منزل منها ذهبت لقضاء حاجتها فإذا عقد لها من جزع ظفار قد
انقطع فالتمسته وأقبل الرهط الذين يرحلون بعيرها واحتملوا هودجها ولم
يشعروا بخفة الهودج ورحلوه على بعيرها؟
* * *
في ضوء الروايات السابقة نرى أن هناك أربع قصص ينبغي دراسة كل منها
على حدة وهي:
أ - المسابقة.
ب - المنافرة بين المهاجرين والأنصار حتى ضرب جهجاه حسان بن
ثابت.
ج - شأن نزول آية التيمم.
د - شأن نزول آيات الإفك.
ونستعين الله ونقول:
154

أولا - المسابقة:
جاء في رواية هشام بن عروة عن أم المؤمنين في مسند أحمد أنها قالت:
خرجت مع النبي (ص) في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال
للناس: تقدموا فتقدموا ثم قال: تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقته فسكت عني
حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس:
تقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقني فجعل يضحك ويقول هذه
بتلك.
وجاء في روايتها لعباد بن عبد الله بن الزبير في مغازي الواقدي أنه قال:
قلت لعائشة: حدثينا يا أمه حديثك في غزوة المريسيع، قالت: يا بن أختي ان
رسول الله (ص) كان إذا خرج في سفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج
بها، وكان يحب ألا أفارقه في سفر ولا حضر فلما أراد غزوة مريسيع أقرع بيننا
فخرج سهمي وسهم أم سلمة، فخرجنا معه فغنمه الله أموالهم وأنفسهم، ثم
انصرفنا راجعين فنزل رسول الله منزلا ليس معه ماء ولم ينزل على ماء، وقد
سقط عقد لي من عنقي فأخبرت رسول الله (ص) فأقام بالناس حتى أصبحوا...
فجاء أبو بكر فعاتبني عتابا شديدا وجعل يطعن بيده على خاصرتي فلا يمنعني من
التحرك إلا مكان رسول الله (ص) رأسه على فخذي وهو نائم.... ثم سرنا مع
العسكر حتى إذا نزلنا دمثا طيبا ذا أراك قال: يا عائشة هل لك في السباق؟ قلت:
نعم فتحزمت بثيابي وفعل ذلك رسول الله (ص) ثم استبقنا فسبقني فقال: هذه
بتلك السبقة التي كنت سبقتيني، وكان جاء إلى منزل أبي ومعي شئ فقال:
هلميه! فأبيت فسعيت وسعى على أثري فسبقته. وكانت هذه الغزوة بعد أن
ضرب الحجاب.
155

قالت: وكان النساء إذ ذاك إلى الخفة هن إنما يأكلن العلق من الطعام
لم يهيجن باللحم فيثقلن، وكان اللذان يرجلان بعيري رجلين... إلى آخر
حديث الإفك.
والسؤال هنا أن المسابقة الأولى هل كانت في بعض أسفاره كما جاء في
رواية هشام بن عروة عنها أم في بيت أبيها كما جاء في رواية عباد بن عبد الله بن
الزبير!؟
وإذا كانت في بيت أبيها وكان بيدها شئ اراده النبي (ص) كيف سبقت
النبي (ص) ولم يستطع النبي (ص) تناول الشئ من يدها؟ وهل كان بيت أبيها
فلاة لتسبق النبي (ص) ولا يستطيع النبي (ص) إدراكها؟ أم كان البيت محدودا
يصل إليها النبي (ص) إلى أي جهة منه اتجهت؟ وإذا كانت الأولى والثانية في فلاة
وكانا يسيران ضمن جيش كيف يصح أن يقال: إن الرسول (ص) أمر جيشه بأن
يتقدموه ليسابق زوجته؟
لست أدري أي قائد جيش سليم العقل يقوم بما نسبوه إلى رسول الله بأن
يأمر جيشه ان يتقدموا ليسابق زوجته؟ ثم كم ينبغي ان يتقدم الجيش ويبتعد
عنهم الرسول (ص) وزوجته كي لا يروا مسابقته مع زوجته؟ وهل يتيسر ذلك؟
أضف إليه حال الرسول (ص) وجيشه في رجوعهم من ماء المريسيع، وهل
يصدق ذو مسكة، وقوع المسابقة مع تلك الحالة!؟
وهل كانت أم سلمة معهما كما جاء في رواية عباد عنها؟ أم لم تكن معهما كما
جاء في رواية هشام بن عروة وغيره عنها؟ وإذا كانت معهما أين كانت في زمن
المسابقة، بين الجيش أم معهما!؟
وهل كانت في المسابقة الثانية في غزوة بني المصطلق كما جاء في رواية عباد
وكان النساء إذ ذاك إلى الخفة إنما يأكلن العلق من الطعام لم يهيجن باللحم فيثقلن؟
156

أم كانت كما جاء في رواية هشام " حملت اللحم وبدنت "؟
ثانيا - المنافرة بين المهاجرين والأنصار حتى ضرب جهجاه حسان بن
ثابت:
ان حقيقة الخبر أن ابن أبي لما قال مقالته تبعه حسان بانشاد شعره في
الهجاء فارتحل الرسول (ص) وأسرع السير ونزلت سورة " المنافقون "، وذل ابن
أبي وضعف موقف حسان وتشجع جهجاه فضربه بالسيف في المدينة فمنحه
الرسول وسعد بن عبادة وأرضوه.
ويدل على ذلك قول حسان في هجاء فقراء المهاجرين: " ان الجلابيب قد
عزوا وقد كثروا... " واستنهاض صفوان لجميل، وقوله لحسان: " فإنني غلام إذا
ما هو جيت... " ولم يقل إذا ما قذفت، وقوله للرسول: " انه قد هجاني " مضافا
إلى أنه لم يرد في كل هذه المحاورات الطويلة بين صفوان وجميل والنبي، وسعد بن
عبادة، وابنه قيس، وغيرهم من قصة الإفك قليل ولا كثير فكأن الإفك لم يكن
ابدا وكأن أحدا لم يسمع به يومذاك، غير أن ابن هشام لم يوردها في محلها بعد
ذكره الخصام على ماء المريسيع وما بدر من ابن أبي، وإنما أخر ذكرها حتى إذا
انتهى من سرد قصة الإفك اقحمها بعدها فأوهم انها كانت من اثر الإفك، وقد
اقتدى به في ذلك كل من الطبري وابن الأثير وابن كثير في تواريخهم، وقد التبس
الامر على من جاء بعد ابن إسحاق كابن عبد البر في الاستيعاب حيث قال:
اعترض صفوان بن المعطل حسان بن ثابت بالسيف لما قد قذفه بالإفك...، ذكره
ابن إسحاق في ذلك وذكر الخبر في ذلك. ومن الغريب انا نجد ابن إسحاق عندما
يذكر قصة ضرب صفوان لحسان يروي أنه قال:
تلق ذباب السيف مني فإنني غلام إذا هو جيت لست بشاعر
157

ولم يرو بعده بيتا آخر، وكذلك كل من روى عنه ابن إسحاق، كابن
هشام، وابن جرير، وابن الأثير، وابن كثير. كل هؤلاء يرووا بعد هذا البيت
بيتا آخر، على أن ابن إسحاق مغرم بايراد الاشعار في ذكره أخبار الحوادث حتى
إذا كان القرن الخامس نجد الحاكم في المستدرك وابن الأثير في أسد الغابة يضيفان
إلى هذا البيت ما يلي:
ولكنني أحمي حماي وأشتفي * من الباهت الرامي البراء الطواهر
ولست أدري من أين جاء بهذا البيت الذي لم يعثر عليه كل من ابن
إسحاق في القرن الثاني ورواته ابن هشام وابن جرير في القرن الثالث والرابع.
ثالثا - التيمم:
1 - في القرآن الكريم:
قال الله سبحانه:
أ - في سورة المائدة:
(يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى
المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن
كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا
ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه...) [الآية: 6].
ب - في سورة النساء:
(يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما
تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو
جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا
158

فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا) [الآية: 43].
2 - في الحديث:
جاء في تفسير الآيتين من صحيحي البخاري ومسلم:
أ - عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة انها استعارت من أسماء
قلادة فهلكت فبعث رسول الله (ص) رجلا فوجدها فأدركتهم الصلاة وليس معه
ماء فصلوا. فشكوا ذلك إلى رسول الله (ص) فأنزل الله آية التيمم فقال: أسيد بن
حضير لعائشة: جزاك الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك
لك وللمسلمين فيه خيرا (1).
ولفظ الحديث في سنن النسائي:
بعث رسول الله (ص) أسيد بن حضير وناسا يطلبون قلادة كانت لعائشة
نسيتها في منزل نزلته فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم مجدوا ماء فصلوا
بغير وضوء فذكروا ذلك لرسول الله (ص) فأنزل الله عز وجل آية التيمم...
الحديث (2).
ب - في صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد واللفظ للأول بسنده عن
عمران بن حصين:
ان رسول الله (ص) رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال: يا فلان ما

(1) صحيح البخاري، كتاب التيمم، باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا، 1 / 86، وصحيح مسلم،
الحديث 109، ج 1 / 279، وسنن ابن ماجة، أبواب التيمم، باب ما جاء في سنن التيمم،
الحديث 568، ص 188، وفى لفظهما فأرسل ناسا، ومسند أحمد 6 / 57 رجالا، وسنن
الدارمي، باب التيمم، ج 1 / 190.
(2) سنن النسائي 1 / 61، و 172 باب من لم يجد الماء والصعيد.
159

منعك أن تصلي في القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولاماء قال: عليك
بالصعيد فإنه يكفيك (1).
ج - في طبقات ابن سعد والاستيعاب، وأسد الغابة، والإصابة، والدر
المنثور للسيوطي، وكنز العمال واللفظ للأول:
عن الربيع بن بدر قال: حدثني أبي عن جدي ان رجلا منهم يقال له
الأسلع قال: كنت أخدم النبي (ص) وأرحل له.
قال: فقال لي (ص) ذات ليلة: يا أسلع قم فارحل لي.
فقلت: يا نبي الله أصابتني جنابة فسكت ساعة واتاه جبريل عليه السلام بآية
الصعيد.
قال فدعاني النبي (ص) فأراني كيف أمسح فمسحت ورحلت له وصليت،
فلما انتهى إلى الماء قال لي: قم يا أسلع فاغتسل.
وأخرجه الخطيب في تاريخه قريبا من هذا وليس فيه ذكر نزول آية التيمم
بسببه (2).
د - في تفسير الآية بتفسير الطبري بسنده في قوله تعالى: (ولا جنبا

(1) صحيح البخاري ج 1 / 73 كتاب التيمم، وصحيح مسلم ج 1 / 475، ومسند أحمد
ج 4 / 434، وسنن النسائي ج 1 / 171 باب التيمم بالصعيد.
(2) طبقات ابن سعد 7 / 65، وفي الاستيعاب 1 / 54، وأسد الغابة 1 / 91، والإصابة
1 / 52، بترجمة الأسلع، وألفاظ الحديث تختلف في بعضها عما ذكرنا عن الطبقات، ورواه
المتقي في الكنز، الحديث 2961، ج 5 / 145 عن ابن سعد وعتبة بن حميد، وابن جرير
والقاضي إسماعيل في الاحكام، والطحاوي في مشكل الآثار، والدار قطني في سننه،
والطبراني في سننه الكبير، وأبو نعيم في المعرفة، والبيهقي في السنن، وابن مردويه في سننه،
والضياء المقدسي في المختارة، والطبري في تفسير آية التيمم من سورة النساء 5 / 68،
والسيوطي في تفسير آية التيمم 2 / 165.
160

إلا عابري سبيل) قال: إن
رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فكانت تصيبهم
جنابة ولاماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرا في المسجد فأنزل الله
هذه الآية (1).
ه‍ - أيضا في تفسير الآية بتفسير السيوطي بسنده قال:
أصاب أصحاب رسول الله (ص) جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة
فشكوا ذلك إلى النبي (ص) فنزلت (وإن كنتم مرضى...) الآية كلها (2).
و - في تفسير الآية بتفسير السيوطي بسنده عن مجاهد في قوله: (وان كنتم
مرضى) قال:
نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا فلم يستطع ان يقوم فيتوضأ
ولم يكن له خادم فيناوله، فاتى رسول الله (ص) فذكر ذلك له فأنزل الله هذه
الآية (3).
ز - بتفسير آية التيمم من سورة المائدة من تفسير السيوطي بسنده عن
عطاء قال:
احتلم رجل على عهد رسول الله (ص) وهو مجذوم فغسلوه فات فقال
رسول الله (ص): قتلوه قتلهم الله ضيعوه ضيعهم الله.
في صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي ومسند الطيالسي
واحمد وأبي عوانة واللفظ للطيالسي:
بسنده عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: أتى رجل عمر فذكر انه كان

(1) تفسير الطبري 5 / 64، والسيوطي في الدر المنثور 2 / 166.
(2) الدر المنثور للسيوطي 2 / 166 بتفسير الآية.
(3) تفسير السيوطي 2 / 166.
161

في سفر فأجنب ولم يجد الماء، فقال: لا تصل. فقال عمار: أما تذكر يا أمير
المؤمنين إذ كنت أنا وأنت في سرية فاجنبنا فلم نجد الماء فاما أنت فلم تصل وأما
أنا فتمعكت في التراب وصليت، فلما قدمنا على رسول الله (ص) ذكرنا ذلك له
فقال لك: اما أنت فلم يكن ينبغي لك ان تدع الصلاة، واما أنت يا عمار فلم يكن
ينبغي لك ان تمعك كما تتمعك الدابة إنما كان يجزئك - وضرب رسول الله (ص) بيده
الأرض إلى التراب - فقال: هكذا فنفخ فيها ومسح وجهه ويديه إلى المفصل
وليس فيه إلى الذراعين. الحديث (1).
* * *
كان ذلكم ما جاء في الذكر الحكيم والأحاديث المروية عن رسول
الله (ص) في أمر التيمم وينبغي أن ندرسها في ما يأتي بإذنه تعالى.
دراسة أخبار التيمم:
ينبغي أن ندرس في هذا المقام أربعة أمور:
أ - زمان نزول، حكم التيمم.
ب - روايات التيمم عدا روايات أم المؤمنين عائشة.
ج - زمان نزول آيتي التيمم.

(1) اخرج الحديث: الطيالسي في مسنده، الحديث 638، واحمد في مسنده 4 / 265 و 319،
ومسلم في صحيحه، باب التيمم ج 1 / 280، والنسائي في ج 1 / 165 - 166 باب
التيمم في الحضر، وأبو داود السجستاني في ج 1 / 44 من سننه، وأبو عوانة في ج 1 / 306
من مسنده، وفي الكنز ج 5 / 142، الحديث 2926 قريبا منه، ورواه البخاري في ج
1 / 87 في باب التيمم مع اختلاف في اللفظ.
وتمعكت الدابة: تمرغت وتقلبت في التراب.
162

د - روايات أم المؤمنين عائشة الأخيرة في شأن نزول آيتي التيمم.
ونستعين الله ونقول:
أ - زمان نزول حكم التيمم:
نزل حكم الصلاة على رسول الله (ص) بعد ما بعث، وعلمه جبرئيل
الوضوء والصلاة بعد ذلك.
وكان (ص) يؤديها مع علي وخديجة ومن آمن من بعدهما من المسلمين،
ومع ذلك لم نجد ذكر الوضوء في القرآن الكريم في غير سورتي المائدة والنساء
المدنيتين.
ونحن نرى ان حكم الغسل من الجنابة وحكم التيمم بدلا عن الوضوء
والغسل عند عدم تيسر هما - أيضا - كان قد نزل في مكة، فإن قلة وجود الماء في
أراضي الحجاز يومذاك كانت تقتضي نزول حكم التيمم بدلا عن الوضوء
والغسل بعد نزول حكم الوضوء للصلاة.
ب - روايات التيمم عدا روايات أم المؤمنين عائشة:
اختلفت روايات التيمم في تعيين الأمر الذي بسببه نزلت آيتا التيمم، ففي
رواية: ان رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فكانت تصيبهم جنابة
ولا ماء عندهم... فأنزل الله هذه الآية.
وفي ثانية: انها نزلت في مجروحين ابتلوا بالجنابة.
وفي ثالثة: انها نزلت في رجل من الأنصار أجنب ولم يستطع أن يتوضأ.
163

ج - زمان نزول آيتي التيمم:
ان شأن آيتي التيمم شأن آيات أخرى نزلت تخبر عن نزول حكم بوحي
غير قرآني مثل قوله تعالى في سورة الأحزاب:
(وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق
الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق ان تخشاه).
وكان الذي أخفاه الرسول (ص) في نفسه ما أوحى الله إليه قبل ذلك بوحي
غير قرآني وأخبر عنه هنا بوحي قرآني حيث قال تعالى:
(فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين
حرج...) الآية.
وكذلك الشأن في زمان نزول آيتي التيمم فقد كان حكم التيمم قد نزل
بوحي غير قرآني ثم نزل القرآن يخبر عن حكم الله في بدلية التيمم عن الوضوء
والغسل.
نستنتج مما سبق ان حكم التيمم كان قد نزل في أوائل بعثة
الرسول (ص) وعمل به في مكة ثم نزلت الآيتان في المدينة تخبران عن ذلك
الحكم، وبعد نزول الآيتين كان الرسول (ص) يتلو إحداهما بالمناسبة كلما اقتضى
المقام ذلك.
وبما ان الخلفاء كانوا قد نهوا عن كتابة سنة الرسول (ص) إلى عصر عمر بن
عبد العزيز وقع هذا الالتباس في الروايات وأدى ذلك إلى هذا الاختلاف
في شأن نزول الآيتين.
164

د - روايات أم المؤمنين عائشة الأخيرة في شأن نزول آيتي التيمم:
اننا نرى ان لفظ النسائي قد يكون هو الصحيح حيث يقول: إن رسول
الله (ص) بعث في طلب قلادة لأم المؤمنين عائشة (نسيتها في منزل نزلته). وان
المبعوث كان رجلا واحدا كما يفهم ذلك من حديث جاء في البخاري، فان طلب
القلادة لا يحتاج إلى ناس يذهبون له ونرى أن ذلك الرجل كان أسيد ابن حضير،
ولم يتيسر له الماء للطهور وأخبر الرسول بذلك بعد رجوعه فتلا عليه الآية كما
تلاها على غيره.
* * *
كان ذلكم نتيجة دراساتنا في شأن نزول آيتي التيمم والروايات التي تخبر
عنهما.
وفي ما يأتي ندرس باذنه تعالى قصة الإفك والآيات النازلة في أمر
الإفك.
رابعا - الإفك:
أ - في القرآن الكريم:
قال الله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم
بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم والذي تولى كبره منهم له
عذاب عظيم * لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا
هذا إفك مبين * لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك
165

عند الله هم الكاذبون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم
في ما أفضتم فيه عذاب عظيم * إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس
لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم * ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون
لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن
كنتم مؤمنين * ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم * إن الذين يحبون أن
تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا
تعلمون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم * يا أيها الذين
آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء
والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله
يزكي من يشاء والله سميع عليم * ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا
أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن
يغفر الله لكم والله غفور رحيم * إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات
لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم
وأرجلهم بما كانوا يعملون) [النور: 11 - 24].
دراسة الآيات الكريمة:
في هذه الآيات الكريمة: (الذين جاءوا بالإفك عصبة) والعصبة: جماعة
متعصبة متعاضدة (1) ويقابلها تجمع اللفيف، واللفيف: ما اجتمع من الناس من
قبائل شتى فيهم الشريف والدني (2).
بناء على ذلك اننا نرى ان الإفك لابد وانه كان قد وقع في حدود ضيقة من

(1) مادة عصب من مفردات القرآن للراغب.
(2) مادة لف من المعجم الوسيط.
166

بيت النبي (ص) ولم يطلع عليه إلا خاصته ممن لم يشيعوا ذكره تأدبا بقوله تعالى:
(والذين يحبون ان تشيع الفاحشة).
ثم إن رميهم من قذفوا بالفاحشة لم يتعد حدود الارجاف ولم يبلغ منهم إلى
درجة الشهادة ليوجب عليهم حد القذف، فلم يكن اي واحد منهم جادا في ذلك
البتة، لعدم وجود الموجب له. ونرى أن المرأة والرجل اللذين رميا بالإفك لابد
وانهما لم يكونا من البيوتات العربية لتثأر لهما العشيرة والاهل، وإنما كانا من
المغمورين المنقطعين عن الرهط ولم يكن لهم ناصر إلا الله ورسوله (ص)، واما
القاذفون فلا بد وانهم كانوا عصبة قوية يومذاك. ولما نزلت آيات الإفك خمدت
أنفاس العصبية وسكتت على مضض وسكت الرسول عنهم وسكت المتصلون
بالرسول، ولا بد ان هذه العصبة بقيت قوية بعد الرسول وصعدت قمة المجتمع
الاسلامي وأصبحت مهابة ملحوظة الجانب، فأجتهد المحدثون والمؤرخون في
اخفاء معالم الواقعة مهما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
وقد انتهى إلينا من زوايا كتب الحديث والسير ما ينير لنا الطريق بعض
الشئ، وذلك ما سندرسه إن شاء الله تعالى بعد دراسة أخبار الإفك في ما يأتي:
ب - في الحديث
ما روي عن أم المؤمنين عائشة في قصة الإفك ودراستها:
جاء في ما روي عنها في صحاح الحديث أن رسول الله استشار أسامة بن
زيد وكان أسامة يومذاك في السنة الخامسة أو السادسة من الهجرة غلاما لم يبلغ
الحلم لأنه كان في مرض وفاة الرسول حين ولاه على الجيش في السنة الثانية
عشرة من الهجرة عمره ثماني عشرة سنة، واستنكروا تعيينه وهو غلام على جيش
167

أوعب فيه المهاجرين الأولين كيف يصح أن يستشير الرسول في أمر هام مثل
قصة الإفك غلاما في أوائل العقد الثاني من عمره ولم يستشر والده زيد وكان
يومذاك على قيد الحياة؟ فإنه استشهد في غزوة مؤتة وفي السنة الثامنة. وجاء في
الحديث الذي أوردناه في أول البحث ان رسول الله (ص) قال عن صفوان:
(وذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي) في
حين أن صفوان كان قد أسلم قبل تلك الغزوة، فكيف كان يدخل مع رسول الله
على أهله؟
وجاء في الحديث التالي انها قالت عن صفوان: وبلغ الأمر ذلك الرجل
فقال: (سبحان الله والله ما كشفت كنف أنثى قط).
وفي رواية ابن هشام: (وكانت عائشة تقول: لقد سئل عن ابن المعطل
فوجدوه رجلا حصورا ما يأتي النساء) (1).
وقد مر بنا في الحديث الصحيح أن زوجة صفوان اشتكت إلى رسول
الله (ص) إن صفوان يضربها إذا صلت ويفطرها إذا صامت وانه لا يصلي صلاة
الصبح... الحديث، وبناء على ذلك فان صفوان لا يقول: سبحان الله والله ما
كشفت كنف أنثى قط!؟
وانتبه إلى هذا التناقض الحافظ ابن حجر فقد قال في ترجمته في الإصابة:
ومما انتبه العلماء إلى ما في تلكم الأحاديث من تناقض مع الواقع التاريخي ما جاء
فيها: ان الرسول سأل من الجارية بريرة عنها، في حين أن بريرة كانت يومذاك
جارية لبعض بني هلال، وإنما اشترتها أم المؤمنين بعد ذاك بسنتين أو أكثر يوم
كان العباس عم النبي في المدينة، وأن له كلاما في العباس وقصة شراء بريرة كما

(1) سيرة ابن هشام ج 3 / 352 - 353، والطبري ج 3 / 71، وابن كثير ج 4 / 163،
والأغاني ج 4 / 14.
168

جاء في ترجمتهما في الإصابة.
وجاء في ترجمة مغيث عن ابن عباس انه رآى مغيثا بعد عتقها يمشي خلفها
ويبكي، وإنما هاجر العباس قبيل فتح مكة التي كانت في السنة الثامنة من
الهجرة (1) وبناء على ذلك كان شراء عائشة لبريرة وعتقها في السنة الثامنة من
الهجرة، وما كانت في السنة الخامسة أو السادسة للهجرة التي رويت فيها روايات
الإفك في واقعة غزوة بني المصطلق.
حيرة العلماء في رفع تناقض روايات الصحاح والمسانيد في قصة الإفك:
أ - قال الحافظ ابن حجر في ترجمة صفوان من الإصابة:
أورد على هذا أن صفوان كيف كان حصورا وقد روي عن أبي داود عن
أبي سعيد أنه قال: جاءت امرأة صفوان إلى النبي (ص) فقالت: يا رسول الله إن
زوجي صفوان يضربني. ثم قال ابن حجر: وإسناده صحيح ولكن يشكل عليه
أن عائشة قالت في حديث الإفك: ان صفوان قال: والله ما كشفت عن كنف أنثى
قط... ثم ذكر ان البخاري قد انتبه إلى هذا التنافي ولذلك ضعف حديث أبي داود
ليسلم حديث الإفك.
ب - اخرج البخاري والطيالسي وعبد الله بن أحمد في مسند (2) أبيه جميعا

(1) راجع ترجمة العباس من الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه ج 3 / 28 باب في حديث الإفك: والطيالسي في
ص 231 - 232، ومسند أحمد ج 6 / 367 وهذا سياقه واللفظ للبخاري بسنده إلى
أبي وائل قال: " حدثني مسروق بن الأجدع قال: حدثتني أم رومان وهي أم عائشة
قالت:... " الحديث، وأخرجه البخاري في ج 3 / 112 باب قوله: (ولولا فضل الله
عليكم) مختصرا وهذا سياقه: ثنا محمد بن كثير، انا سليمان، عن حصين، عن أبي وائل،
عن مسروق، عن أم رومان أم عائشة أنها قالت: لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها.
169

عن مسروق (1) عن أم رومان:
إن مسروقا لم يدرك أم رومان فان أم رومان كانت قد توفيت في السنة
الرابعة أو الخامسة أو السادسة من الهجرة في المدينة ومسروق ولد في السنة
الأولى من الهجرة في اليمن وقدم من اليمن بعد وفاة رسول الله (ص).
قال الشيباني في الجمع بين رجال الصحيحين (2):
(وأنكر على البخاري اخراج حديثه عن أم رومان، إذ كانت بلا خلاف
قد توفيت في عهد النبي ولم يكن مسروق حينئذ وهو حديث واحد).
وقال ابن عبد البر (3): (رواية مسروق عن أم رومان مرسلة ولعله سمع
ذلك من عائشة).
وقال الزركشي (4): " رون البخاري لأم رومان حديثا واحدا من حديث
الإفك من رواية مسروق عنها ولم يلقها وقيل: (عن مسروق حدثتني أم
رومان) وهو وهم... ذكر ابن سعد وغيره ان أم رومان ماتت في حياة رسول
الله (ص) في سنة ست من الهجرة ونزل رسول الله (ص) في قبرها، وهذا يقوي
الاشكال في إخراج البخاري رواية مسروق عنها، لكن أنكر قوم موتها في حياة

(1) مسروق بن الأجدع من بني همدان الذين سكنوا الكوفة، ولما وفد مسروق أو أبوه على
الخليفة عمر غير اسم أبيه - الأجدع - وسماه عبد الرحمن (1 - 61 أو 63 ه‍) ترجمته في
الطبقات ج 6 / 76 - 84، والتهذيب ج 10 / 109 - 111، والخلاصة ص 319، وراجع:
ترجمة أم رومان من الإصابة.
(2) الجمع بين رجال الصحيحين لمحمد بن طاهر المقدسي ج 2 / 516 - 517.
(3) بترجمة أم رومان من الاستيعاب وقد أجابوا عن هذا الايراد الذي أورد على البخاري في
صحيحه بأجوبة فيها تمحلات كثيرة.
(4) الإجابة ص 38 - 39.
170

رسول الله (ص) منهم أبو نعيم الأصفهاني، ولاعمدة لمن أنكره إلا رواية
مسروق. وقال الخطيب: لم يسمع مسروق من أم رومان شيئا والعجب كيف خفي
ذلك على البخاري وقد فطن مسلم؟ ".
وإنما قال: فطن مسلم لأنه لم يخرج حديث مسروق في الإفك عن أم
رومان.
ج - روى الحافظ ابن حجر في ترجمة صفوان من الإصابة عن أبي داود
عن أبي سعيد أنه قال: جاءت امرأة صفوان إلى النبي (ص) فقالت: يا رسول
الله (ص) ان زوجي صفوان يضربني.
ثم قال ابن حجر: وإسناده صحيح، ولكن يشكل عليه أن عائشة قالت في
حديث الإفك أن صفوان قال: والله ما كشفت عن كنف أنثى قط....
ثم ذكر أن البخاري قد انتبه إلى هذا التنافي، ولذلك ضعف حديث أبي داود
ليسلم حديث الإفك.
د - أشكل على حديث الإفك في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من
كتب الحديث أن ما جاء نجبه من محاورة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يتنافى
ووفاة سعد بن معاذ قبل ذاك بعام أو أكثر فإنه كان قد توفي بعد غزوة بني قريظة،
وقد أجاب بعضهم عن هذا الايراد بان المحاورة في سيرة ابن هشام ومن تبعه من
المؤرخين قد وقعت بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة وان ما في رواية ابن
هشام أسيد بن حضير بدل سعد بن معاذ هو الصحيح وما في صحيح البخاري
ومسلم خطأ في الاسم ووهم.
أقول: وهذا الجواب غير واف فان اسم أسيد قد جاء في رواية الصحيحين
بعد اسم سعد بن معاذ ونسب إلى كل منهما دور خاص في ذلك الموقف وهذا لفظ
171

الصحيحين (1):
فقام سعد أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك فإن كان من
الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك... فقام
سعد بن عبادة... فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله.... فقام أسيد ابن حضير
وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل
عن المنافقين... الحديث.
ففي رواية الصحيحين نسب إلى سعد بن معاذ الاقتراح بقتل القاذفين وإلى
ابن عمه أسيد بن حضير مهاجمة سعد بن عبادة دفاعا عن سعد بن معاذ مع
التصريح باسمه أسيد ونسبته من سعد. ويؤيد ما نرى من أن رواة الصحاح لم
يوهموا ولم يخطئوا في ذكر الاسم، وأنهم كانوا قد لحظوا التنافي بين موت سعد بن
معاذ قبل غزوة بني المصطلق وحضوره في ذلك الموقف، انهم لم يصرحوا باسم
الغزوة في صدر هذا الحديث الذي ذكر فيه اسم سعد بن معاذ وإنما قالوا في غزوة
غزاها بينما في سيرة ابن هشام لما لم يرد اسم سعد بن معاذ في روايتهم صرح باسم
الغزوة وقالوا: (فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه...) الحديث.
ولعل الزهري قبل كل هؤلاء قد لاحظ بعض التباين والتنافي في أحاديث
الإفك المروية عن أم المؤمنين حين لم يأت بها على وجهها، بل أدمج بعضها في
بعض ثم قال (2): إن بعض القوم كان أدعى لحديثها من بعض. وفي هذا القول
إشارة واضحة باختلاف الأحاديث التي أدمج بعضها ببعض، ولولا هذا التصرف
منه لاستطعنا اليوم مقارنة تلك الأحاديث وتفهم الواقع التاريخي أكثر من هذا.

(1) اللفظ للبخاري في ج 3 / 27.
(2) هذا القول موجود في سند الصحيحين إلى الزهري في قصة الإفك وكذلك في سند ابن
هشام ومن تبعه من المؤرخين، راجع قبله حديث الإفك.
172

ه‍ - خبر حد القذف:
جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أيضا في ذيول هذه القصة
انها قالت: " لما نزل عذري قام النبي (ص) على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن فلما
نزل أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم " (1).
وفي رواية ابن هشام عنها: " ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما
أنزل الله عليه من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة
بنت جحش - وكانوا ممن أفصح بالفاحشة - فضربوا حدهم " (2).
هكذا جاء في ما روي عن أم المؤمنين غير أنه لم يثبت إجراء حد القذف
على واحد من هؤلاء، فقد مر بنا قول الواقدي: (قالت - أي أم المؤمنين عائشة:
فضربهم رسول الله (ص) الحد... ويقال: ان رسول الله (ص) لم يضربهم وهو
أثبت عندنا).
وفي تراجم:
أ - حسان بن ثابت:
في أسد الغابة: عن هشام، عن أبيه - عروة بن الزبير - ان رسول الله جلد

(1) أخرجه أبو داود السجستاني في باب حد القذف من سننه ج 2 / 237 وابن ماجة في باب
حد القذف من كتاب الحدود ص 857 الحديث 2567 وفي مسند أحمد ج 6 / 35
والترمذي ج 2 / 389 في تفسير سورة النور " عن عمرة عن عائشة قالت ": واللفظ
للأول.
(2) سيرة ابن هشام ج 3 / 342 وأخرجه الطبري في ج 3 / 70 وابن كثير ج 3 / 162 وابن
الأثير ج 2 / 75 وإلى هذا الحديث يستند من يروي جلد حسان ومسطح وحمنة
كالبخاري في ج 4 / 181.
173

الذين قالوا لعائشة ما قالوا ثمانين، حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت
جحش، وكان حسان ممن خاض في الإفك فجلد فيه في قول بعضهم وأنكر
قوم ذلك.
ب - حمنة بنت جحش:
في ترجمتها في أسد الغابة: وقال بعضهم انها جلدت مع من جلد فيه - في
الإفك - وقيل لم يجلد أحد.
وإنما قال العلماء لم يضربهم الحد وأنكروا ذلك مع التصريح بذلك في ما رووا
عن أم المؤمنين عائشة في الصحاح والسن والمسانيد، لان حد القذف إنما يثبت
عندما يشهد الشهود امام الحاكم وفي وجه من يرمونه بالفاحشة، كما وقع ذلك
لأبي بكرة ونافع ابني الحارث بن كلدة الثقفي وشبل ابن معبد البجلي أمام الخليفة
عمر بأن المغيرة زنى بأم جميل بنت الأفقم وفي وجه المغيرة ونكل زياد بن أبيه عن
الشهادة فأمر الخليفة بضربهم ثمانين جلدة، وعلى اثر ذلك سقطت شهادتهم عن
الاعتبار حتى أعلن نافع وشبل توبتهما فقبلت بعد ذلك شهادتهما، ولم يتب أبو
بكرة فكان لا يستطيع ان يدلي الشهادة في أمر إلى آخر عمره (1).
وما جاء في الروايات المروية عن أم المؤمنين عائشة في قصة الإفك ان كلا
من عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش أرجفوا
بخبر الإفك، ولم يأت في تلكم الروايات أكثر من ذلك. وبناء على ذلك لا يثبت
عليهم حد القذف ليجريه عليهم رسول الله (ص).
هذا ما وجدناه عند العلماء من مناقشات حول ما روي عن أم المؤمنين في

(1) راجع: (قصة المغيرة بن شعبة) من المجلد الأول من عبد الله بن سبأ.
174

خبر الإفك ونضيف إلى ذلك ما يأتي بيانه بإذنه تعالى..
عود على بدء في خبر المسابقة والتيمم والإفك:
جاء في روايات الصحاح والسنن والمسانيد في خبر نزول آية التيمم عن أم
المؤمنين عائشة أنها قالت: إن الرسول (ص) أنزل جيشه في عراء لا ماء فيه
وليس معهم ماء في التماس عقد لأم المؤمنين عائشة كانت فقدته، حتى إذا أصبح
الجيش على تلك الحالة جاء أبوها أبو بكر يعنفها ويضرب في خاصرتها ويقول
لها في كل سفر للمسلمين منك بلاء وعناء، ورسول الله واضع رأسه على فخذ
أم المؤمنين عائشة مستسلم للنوم ولم تستطع حراكا لمكان رسول الله منها. بينا
جاء في روايات الإفك عنها أنها بقيت منفردة في منزلها ليس معها الرسول
ولا أحد من جواريها أو من ذوي قرباها، يرحل لها الأغراب وتركب وحدها.
بينا القصتان في غزوة واحدة، ولأجل ضياع عقد واحد من الجزع. ثم يأخذنا
العجب في هذا الحديث من حركة الجيش السريعة، فكم من الوقت كان يستغرق
ذهاب أم المؤمنين في طلب العقد كي يتحرك الجيش برمته ولا يبقى منهم هناك داع
أو مجيب؟ في حين ان الجيش لا بد له من مقدمة وساقه، ولم يكن مكان ظعينة
الرسول في الساقة (1)!
ولو فرضنا ان الجيش هذا كان في عصرنا الحاضر يستقل أسرابا من
الطائرات النفاثة لما صدق عليه هذا الوصف، فإنه لابد لتحليق الطائرات واحدة
بعد أخرى وسربا بعد آخر من وقت يستطيع الانسان معه أن يذهب لمبرزه

(1) مصادر البحث: ابن هشام ج 3 / 351 - 352 والطبري ج 3 / 70 وابن الأثير وابن كثير
في ذيل غزوة المريسيع وإمتاع الأسماع ص 210 والأغاني ج 4 / 13.
175

ويعود ويدرك الطائرات الأخيرة، وكيف يكون الحال مع ركوب الجمال أو غيرها
من الدواب؟ ثم كم بعدت أم المؤمنين من الجيش للتبرز بحيث لم تسمع رغاء
البعير ولا همهمة الرجال حين ظعنوا؟ وشئ آخر في هذا الحديث لا أكاد أفهمه
وهو ان الهودج كيف يحمله الحاملون ولا يشعرون خلوه من راكب مهما كان ذاك
الراكب خفيفا؟ ثم ما بال عقيلة تيم تركت عرضة لألسنة القاذفين أكثر من شهر
ولا من رادع؟ وأين كان عنها سيوف سروات تيم؟ وما بال أبيها أبو بكر
وأخويها عبد الله وعبد الرحمن وأبناء عمها طلحة الجود وأخيه عبد الرحمن وابن
أخيه عبد الرحمن بن عثمان؟ وكيف خبتوا لهذا الصغار ولم ينبسوا ببنت شفة طوال
هذا الشهر (1)؟ أكان هؤلاء أجبن من صفوان حين عمم حسان بالسيف لما
استشعر انه كان ممن عناه في هجائه بقوله: (ان الجلابيب قد عزوا وقد
كثروا...)؟ وما بال سائر اباة قريش ترضى بهذا الذل؟ فان قريشا وإن كان قد
أسلم من أسلم منها إلا أنها لم تنس خيلاءها وعصبيتها في يوم من الأيام.
وقد روى أبو عمر (2): أن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب وبلال (3)
فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال لهم أبو بكر:
أتقولون هذا لشيخ قريش؟!.... الحديث.
ما بال أبي بكر لا يسكت عن ذكر جمع من إخوانه المسلمين رئيس
المشركين بسوء وهو لا تصدر منه كلمة في من ثلب شرف بيته؟!
ثم من القاذفون؟ أحسان شاعر الرسول يقذف حرم ممدوحه الرسول

(1) تراجمهم في الاستيعاب والإصابة وأسد الغابة.
(2) أخرجه ابن عبد البر بترجمة صهيب ص 316 الرقم 1378.
(3) ترجمته في الاستيعاب والإصابة وأسد الغابة.
176

بالإفك؟ أحسان الذي هجاه مسافع بن عياض (1) التيمي؟ فقال فيه حسان:
يا آل تيم ألا تنهون جاهلكم قبل القذاف بصم كالجلاميد
إلى قوله:
لولا الرسول واني لست عاصيه حتى يغيبني في الرمس ملحودي
وصاحب الغار اني سوف أحفظه وطلعة بن عبيد الله ذي الجود
أحسان هذا الذي يسكت عن هجاء رجل من تيم حفظا لكرامة أبي بكر
يقذف أعظم امرأة في بيت أبي بكر؟ ثم ما الذي كان يدعو حسان لهذا القذف؟
وماذا كان يجني من ورائه؟
وما بال حمنة تهلك فيمن هلك بقذف عائشة؟ أعلى حساب أختها زينب
التي قالت: " أحمي سمعي وبصري "؟ إذن فان بال زينب هذه لم تردع أختها حمنة
عن غيها؟ وما بال زوج حمنة طلحة بن عبد الله ابن عم عائشة يسكت عن زوجه
في قذفها ابنة عمه؟
ومسطح بن أثاثة ربيب نعمة أبي بكر ماذا دهاه ليخوض مع الخائضين
وعطاء أبي بكر كان يجري عليه غدقا؟
ثم من هم القاذفون؟ أابن أبي الذي نزل في ذمه وتقريعه " سورة
المنافقون " في قصة التخاصم على ماء المريسيع فيوصم بوصمة " النفاق " الذي
لا يرحضه ماء أبد الدهر؟! أابن أبي هذا الذي بلغ من الذل في تلك الآونة أنه لما
انتشر خبر قوله وارتحل رسول الله (ص) في غير ساعة رحيل، وفي حر شديد
فجاء أسيد بن حضير وقال له: يا رسول الله (ص) قد رحلت في ساعة منكرة ما
كنت ترحل فيها، قال: أو لم يبلغكم ما قال صاحبكم؟ لئن رجعنا إلى المدينة

(1) على ما ذكرته أم المؤمنين في ذيل الرواية.
177

ليخرجن الأعز منها الأذل؟ فقال: أنت يا رسول الله تخرجه إن شئت فهو الأذل
وأنت الأعز، والعزة لله ولك وللمؤمنين. ولما نزلت (سورة المنافقون) على
رسول الله (ص) عشية راح النبي (ص) من المريسيع مر عليه عبادة بن الصامت
فلم يسلم عليه، ثم مر عليه أوس بن خولي فلم يسلم عليه، فقال ابن أبي: ان هذا
الأمر تمالأتما عليه فرجعا إليه فأنباه وبكتاه.
ابن أبي الذي يقولون لرسول الله (ص) مر محمد بن مسلمة يأتيك برأسه
فجاء ابنه عبد الله إلى النبي (ص) فقال: ان كنت تريد ان تقتل أبي فمرني فوالله
لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، فاني لأخشى يا رسول الله ان
تأمر غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله
فادخل النار. ابن أبي الذي بلغه في تلك الآونة خبر موت خليله زيد بن رفاعة
بن التابوت المنافق فقال: يا ويلاه كان والله وكان، وأسقط في يديه وسار كئيبا
حزينا. ابن أبي الذي بلغ من الذل ان يتقدم الناس ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي
ويقف له على الطريق عند مضيق المدينة فينيخ راحلته ويقول له: لا أفارقك
حتى تزعم انك الذليل ومحمد (ص) العزيز، فوالله لن تدخلها حتى يأذن رسول
الله (ص) في ذلك.
اذن مع من اجتمع ابن أبي هذا وقذف زوج الرسول (ص) بالإفك.
ثم ما الرابط بين حمنة وحسان وابن أبي ومسطح؟ وما الذي كان يجمع بين
هؤلاء الثلاثة؟ أكانوا جميعا من قريش؟ أم كانوا جميعا من الأنصار؟ أم كانوا
جميعا من المنافقين؟ وفي أي ناد كانوا يجتمعون؟ ومن أية عصابة كانوا؟ ليصدق
عليهم قوله تعالى: (ان الذين جاءوا بالإفك عصبة).
ثم أين أجري الحد عليهم؟ ومن أجراه؟ وكيف جلدوا (1)؟ وكيف خفي كل

(1) يراجع في الجلد تفسير سورة النور لأبي الأعلى المودودي.
178

ذلك على كل الصحابة ولم يتكلم أحد منهم عن ذلك؟
ثم ما بال سعد بن عبادة يدافع عن رئيس المنافقين وصاحبه بالإفك
حسان أمام النبي (ص) الذي قد قذفا زوجه؟ أليس ابن عبادة هو الذي لم يرض
باعتقال صفوان في ضرب حسان الذي كان أوشك أن يموت من جرحه بل أطلقه
وخلع عليه لأنه من فقراء المهاجرين الذين ينتمون إلى الرسول (ص)؟
ثم ما بال هذه القصص الطويلة في قدف أم المؤمنين بالإفك وشجار الأوس
والخزرج في ذلك، واستشارة النبي (ص) أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب في
الأمر واستفساره من جاريتها بريرة، وبقاء الناس أكثر من شهر يفيضون في هذا
الحديث، ثم نزول آيات الإفك في شأنها وتنفيذ حد القذف على قاذفيها (1)؟
كل هذه القصص الطويلة كيف اقتصرت روايتها على أم المؤمنين عائشة؟
أكان الله قد ختم أفواه آلاف الصحابة فلم يستطع أحد غيرها أن يحدثنا بشئ
منها؟!!
ونختم هذا البحث بما قاله المقريزي في إمتاع الأسماع حيث قال:
تنبيه: قد اختلف في غزوة المريسيع فذهب الواقدي - كما تقدم - إلى (2)
أنها كانت في شعبان سنة خمس، وقال ابن إسحاق في شعبان من السنة السادسة
وصححه جماعة. وفيه إشكال، فإنه وقع في الصحيحين وغير هما أن المقاول لسعد
ابن عبادة سعد بن معاذ، كما تقدم عند خطبة رسول الله (ص) بسبب أهل الإفك.
ولا يختلف أحد في أن سعد بن معاذ مات إثر قريظة، وقد كانت عقب الخندق،
وهي في سنة خمس على الصحيح. ثم حديث الإفك لا يشك أحد من علماء الآثار

(1) كل ما ذكرنا هنا قد ورد في الحديث المروي عن أم المؤمنين في كتب الصحاح والسير
والمسانيد، راجع أحاديث الإفك قبله.
(2) في الأصل: " إلا ".
179

أنه في غزوة بني المصطلق هذه، وهي غزوة المريسيع.
وقد اختلف الناس في الجواب عن هذا، فقال موسى بن عقبة - فيما حكاه
البخاري عنه -: إن غزوة المريسيع كانت في سنة أربع، وهذا خلاف الجمهور.
ثم في الحديث ما ينفي ما قال لأنها قالت: " وذلك بعد ما نزل الحجاب "،
ولا خلاف أن الحجاب نزل صبيحة دخول رسول الله (ص) بزينب بنت جحش،
وقال: سأل (ص) زينب عن شأن عائشة في ذلك فقالت: " أحمي سمعي
وبصري ". قالت عائشة: " وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي (ص) ".
وقد ذكر علماء الأخبار أن تزويجه (ص) بزينب كان في ذي القعدة سنة خمس،
فبطل ما قال موسى بن عقبة، ولم ينحل الاشكال. وقال ابن إسحاق: إن
المريسيع كانت في سنة ست، وذكر فيها حديث الإفك، إلا أنه قال: عن الزهري،
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة، فذكر الحديث - قال: فقام أسيد
بن الحضير فقال: " أنا أعذرك منه "، ولم يذكر سعد ابن معاذ.
قال الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم: وفي مرجع الناس من
غزوة بني المصطلق قال أهل الإفك ما قالوا، وأنزل الله تعالى في ذلك من براءة
عائشة (رض) ما أنزل، وقد روينا من طرق صحاح أن سعد بن معاذ كانت له في
شئ من ذلك مراجعة مع سعد بن عبادة. وهذا عندنا وهم، لأن سعد ابن معاذ
مات إثر فتح بني قريظة بلا شك، وفتح بني قريظة في آخر ذي القعدة من السنة
الرابعة من الهجرة، وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة - بعد سنة
وثمانية أشهر من موته، وكانت المقاولة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من
غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة.
وذكر ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، وغيره، أن
المقاول لسعد بن عبادة إنما كان أسيد بن الحضير، وهذا هو الصحيح. والوهم لم
180

يعر منه أحد من بني آدم. والله أعلم (1).
* * *
هذا ما وجدناه عند العلماء من مناقشات حول ما روي عن أم المؤمنين
عائشة في خبر الإفك.
وبناء على ما تبين من نتيجة الدراسات المستفيظة الآنفة ان تلكم الروايات
يناقض بعضها بعضا الاخر ويناقض الواقع التاريخي، فما هو الخبر الذي كان فيه
شأن نزول آيات الإفك؟ ذلك ما يتضح لنا من الروايات الآتية:
في تبرءة من نزلت آيات الإفك
فقد أخرج مسلم في صحيحه (2) عن أنس: ان رجلا كان يتهم بأم ولد (3)
رسول الله (ص) فقال رسول الله لعلي: اذهب فاضرب عنقه، فاتاه علي فإذا هو
في ركي (4) يتبرد فيها، فقال علي: اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب
ليس له ذكر، فكف علي عنه ثم اتى النبي فقال: يا رسول الله انه لمجبوب ماله ذكر.
وأخرج ابن سعد في طبقاته عن الزهري، عن أنس بن مالك قال: كانت
أم إبراهيم سرية للنبي (ص) في مشربتها وكان قبطي يأوي إليها ويأتيها بالماء

(1) إمتاع الأسماع ص 106 - 107. هذا ما وجدناه عند العلماء من مناقشات حول ما روي
عن أم المؤمنين عائشة في خبر الإفك.
(2) صحيح مسلم ج 4 / 2139 باب براءة حرم النبي (ص) من الريبة كتاب التوبة، وهذا
سنده: ثني زهير ابن حرب، * ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت عن انس...
الحديث. والمستدرك ج 4 / 39 وقال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم وفي
تلخيصه، وراجع: ترجمة مابور في الإصابة وغيره.
(3) وفي المستدرك بأم إبراهيم ولد رسول الله (ص).
(4) الركية: البئر ذات الماء.
181

والحطب فقال الناس في ذلك: علج يدخل على علجة، فبلغ ذلك رسول الله
فأرسل علي بن أبي طالب فوجده علي على نخلة فلما رأى السيف وقع في نفسه
فألقي الكساء الذي كان عليه وتكشف فإذا هو مجبوب، فرجع علي إلى النبي
فأخبره فقال: يا رسول الله أرأيت إذ أمرت أحدنا بالأمر ثم رأى غير ذلك
أيراجعك؟ قال: نعم، فأخبره بما رأى من القبطي، قال: وولدت مارية إبراهيم
فجا، جبرائيل عليه السلام إلى النبي (ص) فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، فاطمأن
رسول الله (ص) إلى ذلك (1).
وأخرج أيضا عن محمد بن عمر: حدثني عبد الله بن محمد بن عمر، عن
أبيه، عن علي مثل ذلك غير أنه قال: خرج علي فلقيه وعلى رأسه قدرة مستعذبا
لها من الماء، فلما رآه علي شهر السيف وعمد له فلما رآه القبطي طرح القربة ورقى
في نخلة وتعرى فإذا هو مجبوب، فأغمد علي سيفه، ثم رجع إلى النبي (ص)
فأخبره الخبر فقال رسول الله (ص): أصبت ان الشاهد يرى ما لا يرى
الغائب (2) فمن هي مارية التي مر علينا قصتها مع أم المؤمنين في حديث التحريم؟
ومن القبطي الذي كان يأوي إليها؟ عن عاثشة قالت: أهديت مارية إلى رسول
الله (ص) ومعها ابن عم لها، قالت: فوقع عليها وقعة فاستمرت حاملا، قالت:
فعزلها عند ابن عمها، قالت: فقال أهل الإفك (3) والزور من حاجته إلى الولد
ادعى ولد غيره وكانت أمة قليلة اللبن فابتاعت له ضائنة لبون فكان يغذى بلبنها

(1) طبقات ابن سعد بترجمة مارية ج 8 / 214 وهذا سنده: أخبرنا محمد بن عمر، ثنا محمد
بن عبد الله، عن الزهري، عن انس بن مالك... الحديث.
(2) طبقات ابن سعد ج 8 / 214 وهذا سنده: انا محمد بن عمر، ثني عبد الله بن محمد بن
عمر، عن أبيه، عن علي... الحديث.
(3) نجد هنا ذكر الإفك في حديث أم المؤمنين عن مارية.
182

فحسن عليه لحمه، قالت عائشة: فدخل به على النبي (ص) ذات يوم فقال: كيف
ترين؟
فقلت: من غذي لبن الضأن يحسن لحمه.
قال: ولا أشبه.
قالت: فحملني ما يحمل النساء من الغيرة ان قلت: ما أرى شبها.
قالت: وبلغ رسول الله (ص) ما يقول الناس فقال لعلي: خذ هذا السيف
فانطلق فاضرب عنق ابن عم مارية حيث وجدته.
قالت: فانطلق فإذا هو في حائط على نخلة يخترف (1) رطبا، قالت: فلما نظر
إلى علي ومعه السيف استقبلته رعدة، قالت: فسقطت الخرقة فإذا هو لم يخلق الله
عز وجل له ما للرجل شئ ممسوح (2).
تزوج رسول الله (ص) مارية بنت سمعون وهي التي أهداها إلى رسول
الله (ص) المقوقس صاحب الإسكندرية واهدى معها أختها سيرين وخصبا يقال
له مابور، فوهب رسول الله (ص) سيرين لسان بن ثابت - والمقوقس من القبط
وهم نصارى - وولدت مارية لرسول الله (ص) إبراهيم في ذي الحجة سنه ثمان من
الهجرة ومات إبراهيم بالمدينة وهو ابن ثمانية عشر شهرا (3).
* * *
كانت تلكم أخبار مارية وما رميت به من افك في ولدها من رسول
الله (ص) إبراهيم في كتب الحديث والسيرة بمدرسة الخلفاء ولست أدري ألم

(1) يخترف الثمر: مجنيه.
(2) المستدرك ج 4 / 39 وفي تلخيصه مختصرا بترجمة مارية.
(3) المستدرك ج 4 / 38، اعطاء مارية يقتضي أن تكون قصة المهاجاة بين حسان وجهجاه
بعد وصول مارية إلى النبي (ص).
183

يكن ينبغي في هذه القصة أن ينزل الله فيها آيات يبرئ فيها مارية ويصحح نسب
إبراهيم من النبي (ص) فإنه كان أهم للنبي (ص) الذي كان ينحصر ولده يومذاك
بإبراهيم؟ إلا فيما إذا قلنا إن المقذوفين كانا علجا وعلجة ولا يهم أمرهما وامر ابن
علجة بقدر ما يهم الامر لو كانوا من أرومة سادة قريش وبيت الخلافة.
وإذا رجعنا إلى كتب الحديث والتفسير بمدرسة أهل البيت وجدنا في
روايات متعددة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من ولده الإمام الباقر
والإمام الصادق والإمام الرضا عليهم السلام ما موجزه:
ان ملك القبط أهدى إلى الرسول (ص) غلاما يدعى جريج وجارية
تدعى مارية القبطية، فأسلما وحسن اسلامهما. فضم الرسول (ص) الجارية إليه
فولدت له إبراهيم فكان بحبهما حبا شديدا وأصبح سببا لحسد أم المؤمنين عائشة
وأم المؤمنين حفصة حتى قالتا مع أبويهما للرسول (ص): ان إبراهيم ليس بابنك؟!
بل هو ولد الغلام جريج ونحن نشهد على ذلك. وعلى الرغم من علم
الرسول (ص) بكذب الشهادة والتهمة لما كان يلهمه من أثر في النفوس أراد أن
يظهر الامر ويبين الحقيقة لأصحابه فأمر عليا - وهو غاضب - أن يذهب ويقتل
الغلام جريجا، وقال له: إذا بان لك أن الامر على غير ما قيل فلا تتعرض له بسوء.
فذهب الإمام علي (ع) إلى جريج شاهرا سيفه، ففر جريج من خوفه وتسلق
شجرة فتبعه الإمام علي فأهوى جريج بنفسه على الأرض فانحسر ثوبه عن
رجليه فبأن لعلي أنه ممسوح، فاتى به الرسول (ص) وعرضه عليه ما رأى منه.
فأحضر الرسول (ص) أصحابه فشاهدوا الغلام وانكشف أمرهم وبطلت تهمتهم.
فجاءوا إلى الرسول (ص) يطلبون المغفرة... الحديث فنزلت الآيات بتبرءة
الجارية مارية وجريج عن التهمة التي اتهما بها (1)

(1) راجع تفسير الآيات بتفسير آية الإفك في سورة النور من تفسير البرهان ط. قم سنة 1417 ه‍ وأطيب البيان والدرر والغرر للشريف المرتضى.
184

نتيجة بحوث التيمم والمسابقة والإفك
أولا - قصة المسابقة:
أ - ان ما روي عن مسابقة الرسول (ص) مع أم المؤمنين عائشة لا يفعله أي
قائد جيش مع جيشه، فكيف يفعله الرسول الحكيم (ص)؟
ب - لا يتيسر تقدم الجيش بحيث لا يرون المسابقة بحال من الأحوال.
ج - كيف تروي المسابقة في حال سير الرسول (ص) وجيشه ليلا ونهارا
بعد الشجار على ماء المريسيع كما مر بنا.
ثانيا - قصة نزول آية التيمم:
رويت في سبب نزول حكم التيمم في الذكر الحكيم روايات متعددة كل
واحدة تخبر عن نزول آية التيمم في واقعة خاصة، إحداها رواية أم المؤمنين
عائشة انها قالت:
بعث رسول الله (ص) أسيد بن حضير في طلب قلادة لام المؤمنين كانت قد
نسيتها في منزل نزلته، فحضرت الصلاة ولم يكن هناك ماء للوضوء فصلى بغير
وضوء، فذكر ذلك لرسول الله (ص) فنزلت آية التيمم.
185

ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث بأن الرسول (ص) كان يقرأ آية التيمم
على كل واحد يخبره بخبره ووقع الخطأ في النقل لان كتابة الحديث كانت ممنوعة
إلى سنة 143 ه‍ حين أمر أبو جعفر المنصور بكتابة الحديث (1) عدا سنتين مدة
خلافة عمر بن عبد العزيز.
وأما ما روي عن أم المؤمنين عائشة بان الرسول (ص) في رجوعه من
غزوة بني المصطلق أنزل جيشه ليلا - في صحراء لإماء فيها وليس معهم ماء - في
التماس عقدها، ولما أصبحوا كذلك ورسول الله واضع رأسه على فخذها مستسلما
للنوم، ولما استيقض انزل الله عليه آية التيمم فهي تناقض الواقع التاريخي كما
ذكرناه، وتناقض روايتها في الصحاح من أنها كانت قد نسيت قلادتها في منزل
وأرسل الرسول (ص) أسيد بن حضير في طلبها.
ثالثا - شأن نزول آيات الإفك:
لقد ذكرنا جملة من التناقضات في ما روي عن أم المؤمنين عائشة في شأن
نزول آيات الإفك ومخالفتها مع الواقع التاريخي وتناقض بعضها مع بعض، ونحن
نرى كما ذكرنا انه لما وقع الشجار على ماء المريسيع وقال ابن أبي ما قال: وقال
حسان: (ان الجلابيب قد عزوا وقد كثروا) الأبيات، بادر الرسول (ص)
بالرحيل واخمد بذلك النائرة. وفي سيره إلى المدينة نزلت سورة " المنافقون "
فتقوى بذلك جهجاه وعندما رجعوا إلى المدينة ضرب جهجاه حسان بن ثابت،
وارضاه الرسول (ص) وسعد بن عبادة بما أعطياه وعفا عن جهجاه.

(1) راجع: تاريخ الاسلام للذهبي ج 6 / 5 - 6 في ذكره حوادث سنة 143 ه‍ وترجمة المنصور
في تاريخ الخلفاء للسيوطي.
186

وفي السنة السابعة من الهجرة ارسل المقوقس صاحب الإسكندرية مارية
وأختها سيرين ومعهما مابور شيخ كبير هدية، واتخذ مارية لنفسه يطأها بملك
اليمين فولدت له إبراهيم في السنة الثامنة من الهجرة، ووهب سيرين لحسان
فولدت له عبد الرحمن بن حسان. وكان رسول الله (ص) معجبا بأم إبراهيم
فثقلت على نساء النبي (ص) وغرن عليها ولا مثل أم المؤمنين عائشة، فقال أهل
الإفك: من حاجته إلى الولد ادعى ولد غيره (1).
و - أيضا - نرى ان آيات الإفك نزلت بمناسبة ما قاله أهل الإفك في شأن
مارية وابن الرسول (ص) إبراهيم منها كما أوضحناه سابقا وبعد السنة الثامنة.
وبناء على ما ذكرنا فان اهداء الرسول (ص) سيرين إلى حسان - أيضا - كان في
السنة الثامنة، وليس كما جاء في ما روي عن أم المؤمنين عائشة، وان تناقضات
تلكم الروايات لا تنحصر بما ذكرناه وبحاجة إلى بحث مستفيض (2).
وفي ما ذكرنا كفاية لمعرفة غاية الدعاية في اثبات حب النبي (ص)
لام المؤمنين عائشة وإن كان في ذلك حط لكرامة النبي العظيم، ويا ليت تلكم
الروايات لم ترو عن أم المؤمنين عائشة، وانا لله وانا إليه راجعون!!!

(1) راجع: قصة مارية في المجلد الأول من هذا الكتاب وما نقلناه هنا قبل نتيجة بحوث التيمم
والمسابقة والإفك.
(2) مدر بحث مستفيض في تلكم الأحاديث بقلم البحاثة السيد جعفر مرتضى العاملي بعنوان
(حديث الإفك) جدير بأهل العلم قراءته ويا ليته كبح جماح قلمه في مواطن كان الا لم
يعصر فيها قلبه.
187

د - ما روي عن أم المؤمنين عائشة في خبر
وفاة الرسول (ص)
روايات أخبار ما كان قبل وفاة الرسول (ص)
أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة ان رسول الله (ص) كان يسأل
في مرضه الذي مات فيه: " أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ " حرصا على بيت
عائشة (1).
وفي صحيح مسلم عن عائشة: كان رسول الله ليتفقد يقول: " أين أنا
اليوم؟ أين أنا غدا؟ " استبطاء ليوم عائشة (2).
وفي حديث آخر قالت: أول ما اشتكى رسول الله (ص) في بيت ميمونة

(1) صحيح - البخاري، كتاب الجنائز باب ما جاء في قبر النبي (ص)، 1 / 168، وكتاب
النكاح، باب إذا استأذن الرجل نساءه في أن يمرض في بيت بعضهن 3 / 175، وكتاب
الفضائل، باب فضل عائشة 2 / 205، وكتاب المغازي، باب مرض النبي (ص) 3 / 63 -
64، وكتاب الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي (ص) 2 / 126
(2) صحيح مسلم، باب فضائل عائشة، الحديث 84، ص 1893، وكتاب الصلاة، باب
استخلاف الامام 1 / 312، ومسند أحمد 6 / 228 - 229 و 117، ومسند أبو عوانة
2 / 114 - 115.
188

فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتها فاذن له.
وفي صحيح البخاري عنها قالت:
لما ثقل رسول الله (ص) واشتد به وجعه استأذن أزواجه فاذن له، فخرج
وهو بين الرجلين تخط رجلاه في الأرض عباس ابن عبد المطلب وبين رجل
آخر.
وفي حديث آخر: وهو يخط رجليه في الأرض، قال عبيد الله - وهو
الراوي -: فحدثت به ابن عباس فقال: أتدرون من الرجل الآخر الذي لم تسم
عائشة؟ هو علي ولكن عائشة لاتطيب له نفسا (1).
وفي مسند أحمد (2) قالت:
اشتكى فجعل ينفث فجعلنا نشبه نفثه نفث آكل الزبيب " وكان يدور على
نسائه، فلما اشتكى شكواه استأذنهن أن يكون في بيت عائشة ويدرن عليه، فاذن
له فدخل رسول الله بين رجلين... الحديث.
وفي صحيح البخاري (3) ان عائشة كانت تقول: من نعم الله علي ان رسول
الله (ص) توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري (4) وأن الله جمع بين ريقي

(1) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب 22 (لم يسم الباب)، 4 / 9، ومسند أحمد
6 / 228.
(2) مسند أحمد 6 / 38 و 48 و 121 و 200 و 274 روايات بين سحري ونحري، ومسند
أبي عوانة 2 / 113.
(3) صحيح البخاري لا كتاب المغازي، باب مرض النبي 3 / 64، وقريب منه في كتاب
الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي 2 / 126، وصحيح مسلم، باب فضائل
عائشة 4 / 1893، والمستدرك 4 / 7، ومنتخبه 5 / 119، ومسند أحمد 6 / 48 و 200،
وطبقات ابن سعد 2 / 262.
(4) سحري وسحري وسحري: رئتي والنحر: أعلى الكدر أو موضع القلادة.
189

وريقه عند موته، دخل علي عبد الرحمن وبيده السواك وأنا مسندة رسول
الله (ص) إلى صدري فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك فقلت: آخذه لك،
فأشار برأسه: أن نعم، فتناولته فاشتد عليه وقلت: ألينه لك فأشار برأسه: أن
نعم، فلينته.... الحديث.
وفي حديث اخر (1) قالت: فاستن به استنانا فما رأيت رسول الله (ص) استن
استنانا قط أحسن فما عدا أن فرغ رسول الله (ص) رفع يده وإصبعه ثم قال:
الرفيق الاعلى ثلاثا، ثم قضى، وكانت تقول: مات ورأسه بين حاقنتي
وذاقنتي (2)
وفي حديث آخر (3) قالت: مات رسول الله (ص) بين سحري ونحري، وفي
دولتي لم أظلم فيه أحدا، فمن سفهي وحداثة سني ان رسول الله (ص) قبض وهو
في حجري ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت التدم (4) مع النساء واضرب
وجهي.
وقالت في حديث آخر (5): مات رسول الله (ص) وانه لبين حاقنتي
وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد ابدا بعد ما رأيت من رسول الله (ص).
وقالت (6): بينا رسول الله (ص) ذات يوم على صدري وقد وضع رأسه
على عاتقي إذ مال رأسه فظننت أنه يريد شيئا من رأسي، وخرجت من فيه نطفة
باردة فوقعت على ثغرة نحري فاقشعر لها جلدي، فظننت أنه قد غشي عليه

(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي (ص) 3 / 63.
(2) الحاقنة: المعدة وما بين الترقوتين. الذاقنة: طرف الحلقوم الناتئ.
(3) مسند أحمد ج 6 / 274 وطبقات ابن سعد ج 2 / 262 و 261 قريبا منه.
(4) التدمت المرأة: ضربت صدرها أو وجهها في النياحة.
(5) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي (ص) 3 / 63.
(6) طبقات ابن سعد ج 2 / 260.
190

فسجيته بثوب (1).
وقالت (2): سمعت رسول الله (ص) قبل أن يتوفى وأنا مسندته إلى صدري
... الحديث.
وقالت (3): قبض رسول الله (ص) ورأسه بين سحري ونحري، فلما خرجت
نفسه لم أجد ريحا قط أطيب منه.
وفي حديث آخر (4) قالت: حضره القبض ورأسه على فخذ عائشة.
وأخرج البخاري ومسلم وابن سعد والنسائي واحمد عن الأسود قال:
ذكر عند عائشة ان النبي (ص) أوصى إلى علي فقالت: من قاله؟ وفي
رواية: متى أوصى إليه؟ لقد رأيت النبي (ص) وأنا مسندته إلى صدري، أو
قالت: حجري " فدعا بالطست ليبول فيها فانخنث فات فما شعرت به، فكيف
أوصى إلى علي؟ أو فمتى أوصى إلى علي؟ وما مات إلا بين سحري ونحري (5) توفي
وليس أحد عنده غيري (6).

(1) الثغرة: نقرة النحر (بين الترقوتين) والترقوة: العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق.
والنطفة: الماء الصافي.
(2) صحيح مسلم ج 4 / 1893 بسنده عن أبي أسامة وعروة.
(3) مسند أحمد ج 6 / 120 - 122.
(4) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي (ص) 3 / 63، وباب آخر ما تكلم
به النبي (ص)، وكتاب الدعوات، باب دعاء النبي (ص) اللهم الرفيق الأعلى 4 / 71، وباب
من أحب لقاء الله من كتاب الرقاق 4 / 87، ومسند أحمد 6 / 89.
(5) صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب قول النبي (ص) وصية الرجل مكتوبة عنده
2 / 84، وكتاب المغازي، باب مرض النبي (ص) 3 / 65، وصحيح مسلم، باب ترك
الوصية لمن ليس له شئ، 3 / 1257، وطبقات ابن سعد 2 / 61 و 62، ومسند أحمد
6 / 32.
(6) سنن النسائي ج 6 / 241.
191

وعنها قالت: لما قبض رسول الله (ص) اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر:
سمعت من رسول الله (ص) شيئا ما نسيته قال: ما قبض الله نبيا إلا في الموضع
الذي يحب أن يدفن فيه ادفنوه في موضع فراشه (1).
دراسة الروايات:
تناقض الروايات الآنفة رواية عباد عن أم المؤمنين عائشة انها قالت:
" إن من نعمة الله علي أن نبي الله مات بين سحري ونحري، وفي بيتي وفي دولتي لم
أظلم فيه أحدا " يدل على أن وفاة الرسول كانت قد صادفت يوم عائشة وعندما
كان النبي (ص) في بيتها ونوبتها (2).
وكذلك ما روى عروة عنها انها قالت: " توفي رسول الله بين سحري
ونحري وفي دولتي لم أظلم فيه أحدا " (3) بان مغزى قولها في الحديثين: " لم
أظلم فيه أحدا " ان ذلك لم يكن في يوم غيرها من أمهات المؤمنين لتكون
أم المؤمنين عائشة قد ظلمت صاحبة اليوم بأخذ نصيبها من رسول الله (ص)،
ويؤكد ذلك رواية أبي مليكة عنها انها قالت: " توفي النبي (ص) في بيني وفي
ليلتي " (4).

(1) كنز العمال ج 7 / 163 - 164. مرآة الجنان لليافعي ج 1 / 58 ط. بيروت الثانية.
(2) طبقات ابن سعد ج 2 / 262.
(3) طبقات ابن سعد ج 2 / 262.
(4) مسند أحمد ج 6 / 160 وقريب منه في المستدرك ج 4 / 6 و 7.
192

روايات صلاة أبي بكر في مرض النبي (ص)
في صحيح مسلم (1) قالت: لما دخل رسول الله (ص) بيتي قال: " مروا أبا
بكر فليصل بالناس " قالت: فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ
القرآن لا يملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر... فراجعته مرتين أو ثلاثا فقال:
" ليصل بالناس أبو بكر فإنكن صواحب يوسف ".
وفي حديث آخر (2) قالت: وأنه إن قام في مصلاك بكى فمر عمر بن الخطاب
فليصل للناس... الحديث.
وفي حديث آخر (3) قالت: قال النبي (ص) في مرضه الذي مات: " مروا
أبا بكر يصلي بالناس " قلت: ان أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء،
قال: " مروا أبا بكر يصلي بالناس " فقلت لحفصة: قولي ان أبا بكر لا يسمع

(1) صحيح مسلم ج 1 / 313، كتاب الصلاة باب استخلاف الامام لعذر. وصحيح البخاري
ج 1 / 87 كتاب الاذان ج 1 / 87، ومسند أحمد ج 6 / 229 ومسند أبي عوانة
ج 2 / 114.
(2) صحيح البخاري ج 1 / 87 و ج 2 / 161 باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة من
كتاب الصلاة باب لقد كان في يوسف واخوته آيات للسائلين بتغيير يسير في ألفاظه ومسند أحمد
ج 6 / 270.
(3) صحيح البخاري ج 1 / 87 وباب إذا بكى الامام ص 93 منه وباب ما يكره من التعمق
والتنازع من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ج 4 / 173، وصحيح الترمذي في مناقب
أبي بكر ج 2 / 455 ومسند أحمد ج 6 / 202 ومسند أبي عوانة ج 2 / 117 وقريبا منه في
ص 115، وطبقات ابن سعد ج 2 / ق 1 / 127 ط أوربا باب ذكر الصلاة.
193

الناس من البكاء فلو أمرت عمر، فقال: " صواحب يوسف مروا أبا بكر يصلي
بالناس " فالتفتت إلي حفصة، فقالت: لم أكن لأصيب منك خيرا.
وقالت: لقد راجعت رسول الله (ص) في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته
إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، وكنت أرى أنه لن
يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله
عن أبي بكر (1).
وفي مسند أحمد: فقال النبي (ص) - وهو في بيت ميمونة - لعبد الله: بن زمعة
" مر الناس فليصلوا " فلقي عمر بن الخطاب، فقال: يا عمر صل بالناس، فصلى
بهم فسمع رسول الله (ص) صوته فعرفه وكان جهير الصوت، فقال رسول
الله (ص): " أليس هذا صوت عمر "، قالوا: بلى، قال: " يأبي الله عز وجل ذلك
والمؤمنون، مروا أبا بكر فليصل " إلى قولها: انه رجل رقيق، وقول
الرسول (ص): " إنكن صواحب يوسف " (2).
وفي حديث آخر عن عائشة قالت: لما مرض رسول الله (ص) مرضه
الذي مات فيه جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، إلى
قوله: فإنكن صواحب يوسف، فأرسلنا إلى أبي بكر فصلى بالناس فوجد
النبي (ص) من نفسه خفة فخرج يهادي بين رجلين... فلما أحس به أبو بكر ذهب
يتأخر فأومأ إليه النبي (ص) أن مكانك، فجاء النبي حتى جلس إلى جنب أبي بكر

(1) البخاري 5 كتاب المغازي، باب مرض النبي (ص) 3 / 63، وقريب منه في حديثها بصحيح
مسلم 1 / 313، ومسند أحمد 6 / 34 و 229، ومسند أبي عوانة 1 / 114، وطبقات
ابن سعد ج 2 / 217.
(2) مسند أحمد ج 6 / 34.
194

وكان أبو بكر يأتم بالنبي (ص) والناس يأتمون بأبي بكر (1).
وفي حديث آخر قالت: إن رسول الله (ص) لما ثقل فقال: " أصلى
الناس؟ " فقلنا: لا، هم ينتظرونك.... فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم
افاق فقال:، (أصلى الناس؟ " فقلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله، قالت:
والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله لصلاة العشاء، فأرسل رسول
الله (ص) إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، وكان أبو بكر رجلا رقيقا، فقال: يا عمر
صل بالناس، فقال عمر: أنت أحق بذلك، فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام، ثم إن
رسول الله وجد خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر فلما رآه أبو
بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه ان لا تتأخر وأمرهما فأجلساه إلى جنبه، فقال ابن
عباس: سمت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا، قال: هو علي (2).
وفي حديث آخر قالت: فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسه فذهب
ليتأخر فأومأ إليه رسول الله (ص): ان قم كما أنت، فجاء رسول الله (ص) حتى
قام عن يسار أبي بكر جالسا، فكان رسول الله (ص) يصلي بالناس جالسا وأبو
بكر قائما يقتدي أبو بكر برسول الله (ص) والناس يقتدون بصلاة أبي بكر (3).

(1) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب حد المريض ان يشهد الجماعة 1 / 85 و 92،
وصحيح مسلم، باب استخلاف الامام 1 / 92 و 85، ومسند أحمد ج 6 / 210 وقريب
منه ما في ص 224 منه، وسنن النسائي. باب الإمامة باب الامام يصلي قاعدا
3 / 99 - 100.
(2) صحيح البخاري ج 1 / 88 باب إنما جعل الامام ليؤتم به، وصحيح مسلم ج 2 / 20 باب
استخلاف الامام، وسنن النسائي ج 1 / 134 باب الائتمام بالامام يصلي قاعدا، ومسند
أحمد ج 6 / 251، والكنز ج 4 / 59، وطبقات ابن سعد ج 2 / 218.
(3) سنن النسائي ج 2 / 100 كتاب الإمامة، باب الامام يصلي قاعدا، وقريب منه في مسند
أبي عوانة ج 2 / 115.
195

وفي حديث آخر قالت: فكان رسول الله (ص) بين يدي أبي بكر يصلي
بالناس قاعدا وأبو بكر يصلي خلفه (1).
وفي حديث آخر قالت: فصلى أبو بكر وصلي النبي (ص) خلفه قاعدا (2).
وفي آخر قالت: صلى رسول الله (ص) خلف أبي بكر قاعدا في مرضه
الذي مات فيه (3).
وفي حديث آخر قالت: إن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله (ص) في
الصف خلفه (4).
دراسة الروايات:
نجد في أحاديث أم المؤمنين هذه بشأن صلاة أبي بكر اختلافا شديدا في من
كان الواسطة في أمر الصلاة، هل هي أم المؤمنين عائشة أو حفصة أو عبد الله بن
زمعة أو بلال؟ ومن راجعت الرسول في عدم تعيين أبي بكر، أم المؤمنين عائشة
أو حفصة؟ ومن المخاطب منهما بقوله: " إنكن صويحبات يوسف "؟ وانه هل ندب
عبد الله بن زمعة عمر بن الخطاب للصلاة فقال النبي (ص): " يأبى الله ذلك
والمؤمنون " كما عرف صوته؟ أو ندبه أبو بكر فلم يقبل عمر أن يتقدم على أبي
بكر؟ أو انه لم يندبه أحد للصلاة ابدا؟ وان النبي (ص) لما وجد خفة وذهب
للصلاة، هل جلس إلى جنب أبي بكر قاعدا واقتدى به أبو بكر قائما وان الناس

(1) مسند أحمد ج 6 / 249 ومسند أبي عوانة ج 2 / 112 - 113.
(2) مسند أحمد 6 / 159 وسنن النسائي ج 2 / 79 كتاب الإمامة باب صلاة الامام خلف رجل من رعيته.
(3) مسند أحمد 6 / 159 وسنن النسائي ج 2 / 79 كتاب الإمامة باب صلاة الامام خلف رجل من رعيته.
(4) مسند أحمد 6 / 159 وسنن النسائي ج 2 / 79 كتاب الإمامة باب صلاة الامام خلف رجل من رعيته.
196

اقتدوا بأبي بكر وأن النبي (ص) جلس خلف أبي بكر أو جلس في الصف وائتم
بأبي بكر؟!
كل هذا الاختلاف في أحاديث أم المؤمنين، أما غير أم المؤمنين فقد ذكر
ابن أبي الحديد عن شيخه ان عليا كان يتهم أم المؤمنين عائشة انها هي التي أمرت
بلالا مولى أبيها أن يأمر أبا بكر بالصلاة، وان الرسول (ص) لم يعين أحدا للصلاة
وان تلك الصلاة كانت صلاة الصبح، ولما أفاق الرسول (ص) وانتبه إلى ذلك
خرج في آخر رمق يتهادى بين علي والفضل بن العباس حتى قام في المحراب
وصلى ثم رجع إلى بيته ومات في ارتفاع الضحى. وان عليا كان يذكر هذا
لأصحابه في خلواته كثيرا ويقول: ان النبي (ص) لم يقل: " إنكن صويحبات
يوسف " إلا انكارا لهذه الحال وغضبا منها، لأنها وحفصة تبادرتا إلى تعيين
أبويهما، واستدركه النبي (ص) بخروجه وصرف أبي بكر عن المحراب.
197

روايات أراد النبي (ص) أن يكتب لأبي بكر
في صحيح مسلم عن عائشة قالت: قال لي رسول الله (ص) في مرضه:
" ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتابا، فإني أخاف ان يتمنى متمن ويقول
قائل: انا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " (1).
وفي مسند أحمد عن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله (ص) قال لعبد الرحمن
ابن أبي بكر: ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر لا يختلف عليه، فلما ذهب
عبد الرحمن ليقوم قال: " أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك أبا بكر " (2).
دراسة الروايات:
أرى غاية الدعاية في هذا الحديث إنما هي معالجة حديث القرطاس الذي
رواه عمر بن الخطاب (3) حيث قال: كنا عند النبي (ص) وبيننا وبين النساء
حجاب، فقال رسول الله (ص): اغسلوني بسبع قرب وائتوني بصحيفة ودواة
اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا. فقالت النسوة (4): ائتوا رسول الله (ص)

(1) صحيح مسلم ج 4 / 1857 باب فضائل أبي بكر، ومسند أحمد ج 6 / 144 و 47
و 106، وطبقات ابن سعد ج 2 / 225 - 226 و 317 الحديث 5283 واللفظ لمسلم.
(2) مسند أحمد ج 6 / 47. قريب منه في صحيح البخاري.
(3) طبقات ابن سعد ج 2 / 243 - 244، ونهاية الإرب للنويري ج 18 / 374 - 375
ط. القاهرة 1374 ه‍.
(4) في إمتاع الأسماع ص 546 بدل فقالت النسوة، وقالت زينب بنت جحش وصواحبها.
198

بحاجته، قال عمر: فقلت: اسكتن فإنكن صواحبه إذا مرض عصرتن أعينكن
وإذا صح أخذتن بعنقه، فقال رسول الله (ص): هن خير منكم!
وحديث ابن عباس (1) الذي قال: لما حضر رسول الله (ص) وفي البيت
رجال منهم عمر بن الخطاب، قال النبي (ص): هلم اكتب لكم كتابا لا تضلوا
بعده، فقال عمر: ان رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله،
فاختلف أهل البيت واختصموا منهم من يقول: قدموا يكتب لكم رسول الله كتابا
لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قاله عمر، فكثر اللغو والاختلاف. فقال
رسول الله: قوموا عني، فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين
رسول الله وبين ان يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.
فأرادت الدعاية أن تعين بحديث أم المؤمنين عائشة حديث القرطاس
ومنعهم من كتابة حديث الرسول (ص).
في مسند أحمد بسنده عن أم المؤمنين عائشة زوج النبي (ص) قالت: لما
أرادوا غسل رسول الله (ص) اختلفوا فيه، فقالوا: والله ما نرى كيف نصنع، أنجرد
رسول الله (ص) كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ قالت: فلما اختلفوا
أرسل الله عليهم السنة حتى والله ما من القوم من رجل إلا ذقنه في صدره نائما،
قالت: ثم كلمهم من ناحية البيت لا يدرون من هو فقال: اغسلوا النبي (ص)
وعليه ثيابه، قالت: فثاروا إليه فغسلوا رسول الله (ص) وهو في قميصه يفاض

(1) راجع: أسناد الحديثين في عبد الله بن سبأ ج 1 / 97 - 99. ونستدرك عليه ما يأتي: صحيح
البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم ج 1 / 22 - 23، وكتاب الجهاد، باب يستشفع أهل
الذمة ج 2 / 120، وكتاب الخمس، باب اخراج اليهود من جزيرة العرب ج 2 / 136،
وباب مرض النبي من كتاب المغازي ج 3 / 62، ونهاية الإرب ج 18 / 373، ومسند
أحمد ج 1 / 222 و 324 - 325 و 336.
199

عليه الماء والسدر ويدلكه الرجال بالقميص. وكانت تقول: لو استقبلت من الأمر
ما استدبرت ما غسل رسول الله (ص) إلا نساؤه (1).
وفي كنز العمال بسنده عن أم المؤمنين عائشة قالت: لما توفي رسول
الله (ص) اشرأب النفاق وارتدت العرب وانحازت الأنصار، فلو نزل بالجبال
الراسيات ما نزل بأبي لهاضها فما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بفنائها وفصلها
قالوا: أين يدفن رسول الله (ص)؟ فان وجدنا عند أحد علما، فقال أبو بكر:
سمعت رسول الله (ص) يقول: ما من نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات
فيه. قالت: واختلفوا في ميراثه فما وجدوا عند أحد من ذلك علما، فقال أبو بكر:
سمعت رسول الله يقول: إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة (2).
* * *
كان ذلكم ما روي عن أم المؤمنين عائشة في خبر وفاة الرسول (ص) وما
يتبعه، وانكارها وصية الرسول (ص) للإمام علي.
وفي ما يأتي ننقل باذنه تعالى روايات غيرها في تلكم الاخبار للمقارنة بين
رواياتها وروايات غيرها.
مقارنة ما روي عن أم المؤمنين عائشة بروايات غيرها
أولا - إخبار الرسول (ص) كيف يغسلونه ويدفنونه:
في طبقات ابن سعد بسنده عن ابن مسعود أنه قال: نعى لنا نبينا وحبيبنا
نفسه قبل موته بشهر، بأبي هو وأمي ونفسي له الفداء، فلما دنا الفراق جمعنا في

(1) مسند أحمد ج 6 / 267 وطبقات ابن سعد ج 2 / 276.
(2) كنز العمال ج 14 / 130 ط 2 بحيدر آباد.
200

بيت أمنا عائشة وتشدد لنا فقال: مرحبا بكم حياكم الله بالسلام رحمكم الله
حفظكم الله جبركم الله رزقكم الله رفعكم الله نفعكم الله أداكم الله وقاكم الله!
أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم أستخلفه عليكم وأحذركم الله، إني لكم منه
نذير مبين ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده فإنه قال لي ولكم: (تلك الدار
الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين).
وقال: (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) قلنا: يا رسول الله متى اجلك؟ قال:
دنا الفراق والمنقلب إلى الله وإلى جنة المأوى وإلى سدرة المنتهى وإلى الرفيق
الأعلى والكأس الأوفى والحظ والعيش المهنى، قلنا: يا رسول الله من يغسلك؟
فقال: رجال من أهلي الأدنى فالأدنى. قلنا: يا رسول الله ففيم نكفنك؟ فقال: في
ثيابي هذه إن شئتم أو ثياب مصر أو في حلة يمانية. قال: قلنا: يا رسول الله من
يصلي عليك؟ وبكينا وبكى فقال: مهلا رحمكم الله وجزاكم عن نبيكم خيرا، إذا
أنتم غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري هذا على شفة قبري في بيتي
هذأ، ثم اخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلي علي حبيبي وخليلي جبريل ثم
ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت معه جنوده من الملائكة بأجمعهم، ثم ادخلوا
فوجا فوجا فصلوا علي وسلموا تسليما، ولا تؤذوني بتزكية ولا برنة، وليبتدئ
بالصلاة علي رجال أهلي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد، واقرأوا السلام على من غاب
من أصحابي واقرأوا السلام على من تبعني على ديني من يومي هذا إلى يوم
القيامة! قلنا: يا رسول الله فن يدخلك قبرك؟ قال: أهلي مع ملائكة كثيرين
يرونكم من حيث لا ترونهم (1).

(1) طبقات ابن سعد ط. بيروت ج 2 / 256 - 257 باب ذكر ما أوصى به الرسول (ص) عند
مرضه الذي مات فيه.
201

ثانيا - روايات وفاة الرسول (ص) في حجر الإمام علي ووصيته إياه:
أ - في تاريخ ابن كثير بسنده عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال في
مرضه: " ادعوا لي أخي " فدعوا له أبا بكر فأعرض، عنه ثم قال: " ادعوا لي
أخي " فدعوا له عمر فأعرض عنه، ثم قال: " ادعوا لي أخي " فدعوا له عثمان
فأعرض عنه، ثم قال: " ادعو لي أخي " فدعي له علي بن أبي طالب فستره
بثوب وأكب عليه فلما خرج من عنده قيل له: ما قال؟ قال: علمني ألف باب
يفتح كل باب إلى ألف باب (1).
وفي رواية قال رسول الله (ص) لما حضرته الوفاة: " ادعوا لي حبيبي "
فدعوا له أبا بكر فنظر إليه ثم وضع رأسه فقال: " ادعوا لي حبيبي " فدعوا له عمر
فلما نظر إليه وضع رأسه ثم قال: " ادعوا لي حبيبي " فدعوا له عليا، فلما رآه
أدخله معه في الثوب الذي كان عليه فلم يزل يحتضنه حتى قبض (ص) (2).
ب - في مسند أحمد والمستدرك عن أم سلمة قالت: والذي أحلف به، إن كان
علي بن أبي طالب لأقرب الناس عهدا برسول الله (ص) عدنا رسول
الله (ص) غداة وهو يقول: (جاء علي، جاء علي " مرارا فقالت فاطمة: كأنك
بعثته في حاجة قالت: فجاء بعد، قالت أم سلمة: فظننت ان له إليه حاجة،
فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب وكنت من أدناهم إلى الباب، فأكب عليه
رسول الله (ص) وجعل يساره ويناجيه، ثم قبض رسول الله (ص) من يومه ذلك
فكان علي أقرب الناس عهدا (3).

(1) تاريخ ابن كثير ج 7 / 359.
(2) ذخائر العقبى ص 72، وكفاية الطالب للكنجي ص 133 ومسند أحمد ج 6 / 30.
(3) مسند أحمد ج 6 / 300 أخرجه الحاكم في المستدرك ج 3 / 138 - 139 وقال: هذا
حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه، واعترف بصحته الذهبي في تلخيص المستدرك،
وأخرجه ابن عساكر في بابه أنه كان أقرب الناس عهدا برسول الله (ص) من ترجمة الإمام علي
ج 3 / 16 - 17 بطرق متعددة، ومجمع الزوائد لأبي بكر الهيثمي 9 / 112
ط. دار الكتاب بيروت، وكنز العمال ج 15 / 128 ط. الثانية بحيدر آباد، كتاب الفضائل،
باب فضائل علي بن أبي طالب، وتذكرة خواص الأمة لابن الجوزي باب حديث النجوى،
والوصية عن كتاب الفضائل لأحمد بن حنبل وخصائص النسائي.
202

ج - في طبقات ابن سعد في " ذكر من قال توفي رسول الله (ص) في حجر
علي بن أبي طالب " بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري ان كعب الأحبار قام
زمن عمر فقال ونحن جلوس عند عمر أمير المؤمنين: ما كان آخر ما تكلم به
رسول الله (ص)؟ فقال عمر: سل عليا، قال: أين هو؟ قال: هو هنا، فسأله فقال
علي: أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال: الصلاة الصلاة! فقال
كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أمروا وعليه يبعثون، قال: فمن غسله يا أمير
المؤمنين؟ قال: سل عليا، قال: فسأله فقال: كنت أنا أغسله وكان عباس
جالسا، وكان أسامة وشقران يختلفان إلي بالماء (1).
د - وبسنده عن الإمام علي قال: قال رسول الله (ص) في مرضه: " ادعوا
لي أخي "، قال: فدعي له علي فقال: ادن مني، فدنوت منه فاستند إلي، فلم يزل
مستندا إلي وانه ليكلمني حتى إن بعض ريق النبي (ص) ليصيبني ثم نزل برسول
الله (ص) وثقل في حجري، فصحت: يا عباس أدركني فإني هالك! فجاء العباس
فكان جهد هما جميعا ان أضجعاه (2).
5 - وفي كنز العمال عن علي قال: دخلت على نبي الله (ص) وهو مريض
فإذا رأسه في حجر رجل أحسن ما رأيت من الخلق والنبي (ص) نائم، فلما
دخلت عليه قلت: أدنو؟ فقال الرجل: ادن إلى ابن عمك فأنت أحق مني،

(1) طبقات ابن سعد وكنز العمال ج 2 / 262 - 263.
(2) طبقات ابن سعد ج 2 / 263 وكنز العمال ج 7 / 178 - 179.
203

فدنوت منهما، فقام الرجل وجلست مكانه ووضعت رأس النبي (ص) في حجري
كما كان في حجر الرجل، فمكثت ساعة ثم إن النبي (ص) استيقظ فقال: أين
الرجل الذي كان رأسي في حجره؟ فقلت: لما دخلت عليك دعاني ثم قال: ادن
إلى ابن عمك فأنت أحق به مني ثم قام فجلست مكانه، قال: فهل تدري من
الرجل؟ قلت: لا بأبي وأمي قال: ذاك جبريل كان يحدثني حتى خف عني وجعي
ونمت ورأسي في حجره (1).
و - وفي طبقات ابن سعد بسنده عن أبي غطفان قال: سألت ابن عباس:
أرأيت رسول الله (ص) توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال: توفي وهو مستند إلى
صدر علي، قلت: فان عروة حدثني عن عائشة انها قالت: توفي رسول الله (ص)
بين سحري ونحري، فقال ابن عباس: أتعقل؟ والله لتوفي رسول الله (ص) وانه
لمستند إلى صدر علي، وهو الذي غسله وأخي الفضل ابن عباس وأبى أبي ان
يحضر وقال: ان رسول الله (ص) كان يأمرنا ان نستتر فكان عند الستر (2).
ز - في خطبة لعلي: وقد علمتم أني لم أخالف رسول الله (ص) ولم أعصه في
أمر قط، أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال وترعد فيها الفرائص،
نجدة أكرمني الله بها فله الحمد.
ولقد قبض رسول الله (ص) وإن رأسه لفي حجري، ولقد وليت غسله بيدي
وحدي تقلبه الملائكة المقربون معي، وأيم الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها إلا ظهر
أهل باطلها على حقها إلا ما شاء الله (3).

(1) كنز العمال ج 7 / 177 - 178.
(2) طبقات ابن سعد ج 2 / 263 في ذكر من قال توفي رسول الله (ص) ورأسه في حجر علي
والكنز ج 7 / 179.
(3) وقعة صفين لنصر بن مزاحم ط. الثانية، المؤسسة العربية الحديثة بالقاهرة.
204

وفي خطبة أخرى للامام: ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (ص)
أني لم أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي
تنكص فيها الأبطال وتتأخر فيها الأقدام، نجدة أكرمني الله بها.
ولقد قبض رسول الله (ص) وإن رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في
كفي فأمررتها على وجهي، ولقد وليت غسله (ص) والملائكة أعواني فضجت
الدار والأفنية، ملأ يهبط وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلون عليه
حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حيا وميتا؟ فانفذوا على بصائركم
ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم فوالذي لا إله إلا هو إني لعلى جادة الحق،
وانهم لعلى مزلة الباطل، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم (1).
* * *
بعد أن قارنا بين ما روي عن أم المؤمنين عائشة وما روي عن غيرها في
مرض الرسول (ص) ووفاته، ندرس في ما يأتي باذنه تعالى ما روي عنها في
انكارها تعيين الرسول (ص) عليا وصيا من بعده:
دراسة ما روي عن أم المؤمنين عائشة حول تعيين الرسول (ص)
عليا وصيا من بعده
اتفقت مضامين روايات غير أم المؤمنين عائشة ان الرسول (ص) قبض
ورأسه في حجر ابن عمه علي، أما ما روي عنها من أنها أنكرت وصية
الرسول (ص) لابن عمه فإنه على فرض صحه وفاة الرسول (ص) بين حاقنة أم
المؤمنين وذاقنتها أو سحرها ونحرها أو صدرها أو فخذها فان ذلك لا يلزم عدم

(1) نهج البلاغة ص 224 الخطبة رقم 197 في طبعة صبحي الصالح.
205

وصيته إلى علي، بعد أن ورد باثباتها نصوص متعددة عنه، منها قول النبي (ص)
في حديثه يوم الانذار، قال النبي (ص) لعلي: " هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم
فاسمعوا له وأطيعوا.... " الحديث (1).
ومنها ما رواه سلمان قال: قلت: يا رسول الله إن لكل نبي وصيا فمن
وصيك؟ فسكت عني، فلما كان بعد رآني فقال: يا سلمان، فأسرعت إليه قلت:
لبيك، قال: تعلم من وصي موسى؟ قلت: نعم يوشع بن نون، قال: لم؟ قلت:
لأنه كان أعلمهم يومئذ، قال: فان وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي
وينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب (2).
* * *

(1) راجع: كنز العمال ج 12 / 209 ومنتخبه ج 5 / 32 بمسند أحمد عن الطبراني.
(2) مجمع الزوائد ج 9 / 113 والطبراني في المعجم الكبير ج 6 / 221.
206

الباب الثالث
ما روي من الحديث
عن أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة
في سيرة الرسول (ص)
أ - روايات استماع النبي (ص) للغناء و...!
ب - روايات الناس اعلم بأمور، دنياهم و...!
ج - روايات نسيان النبي (ص) آي من
القرآن الكريم!
د - روايات من لعنه النبي (ص) وسبه!
207

أولا - روايات استماع النبي (ص) للغناء " معاذ الله "
أ - في صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة: أن أبا بكر دخل عليها
والنبي عندها يوم فطر أو أضحى، وعندها قينتان تغنيان بما تقاذفت الأنصار يوم
بعاث، فقال أبو بكر: مزمار الشيطان، مرتين. فقال النبي (ص) دعهما يا أبا بكر.
إن لكل قوم عيدا وإن عيدنا هذا اليوم (1).
ب - في صحيحي البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة: أن أبا بكر
دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان والنبي متغش بثوبه
فانتهرها أبو بكر، فكشف النبي عن وجهه فقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد
وتلك الآيام أيام منى (2).
ج - في صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة قالت: دخل علي رسول
الله (ص) وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول
وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال؟ مزمارة الشيطان عند النبي (ص)، فأقبل

(1) صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي (ص)، باب مقدم النبي وأصحابه المدينة
2 / 225، وفي لفظ آخر في مسند أحمد ج 6 / 99.
(2) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب قصة الحبش وقول النبي (ص): يا بني أرفدة
2 / 179، وكتاب العيدين، باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين 1 / 123، وصحيح
مسلم، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب 2 / 608، ومسند أحمد
6 / 84.
209

عليه رسول الله (ص) فقال: دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا (1).
وفي مسند أحمد عن عائشة قالت: دخل علينا أبو بكر في يوم عيد وعندنا
جاريتان تذكران يوم بعاث يوم قتل فيه صناديد الأوس والخزرج، فقال أبو
بكر: عباد الله أمزمور الشيطان؟ عباد الله أمزمور الشيطان؟ عباد الله أمزمور
الشيطان؟ قالها ثلاثا فقال رسول الله (ص): يا أبا بكر ان لاكل قوم عيدا وان
اليوم عيدنا (2).
المفردات:
تقاذفت الأنصار: تشاتموا به.
قينتان: القينة: غالبا تستعمل في المغنية، وفي لفظ بعض الروايات
جاريتان.
تدففان: تضربان، أي تضربان بالدف، والدف آلة طرب ينقر عليها.
المزمار والمزمور: آلة من خشب أو معدن تنتهي قصبتها ببوق صغير.
وغمزتهما: غمزه بالعين أو الجفن أو الحاجب: أشار إليه بما يريد.
بعاث: اسم حصن للأوس، ويوم بعاث يوم جرت فيه معركة بين الأوس
والخزرج في الجاهلية انتصر فيه الأوس على الخزرج.
د - في صحيحي البخاري ومسلم إن عائشة قالت: والله! لقد رأيت رسول

(1) صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد ج 1 / 118 - 119،
وصحيح مسلم، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب ج 2 / 609، والسيرة
الحلبية ج 1 / 62 - 62، وهامش ارشاد الساري ج 4 / 195 - 199 والسنن الكبرى
للبيهقي ج 10 / 224.
(2) مسند أحمد ج 6 / 134 وصحيح مسلم ج 2 / 609 كتاب صلاة العيدين باب الرخصة
في اللعب، وسنن ابن ماجة ج 1 / 612 كتاب النكاح باب الغناء والدف.
210

الله (ص) يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول
الله (ص)، ورسول الله (ص) يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من
أجلي حتى أكون أنا التي انصرف. فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصة
على اللهو (1).
ه‍ - في صحيحي البخاري ومسلم: " ورأيت النبي (ص) يسترني بردائه
وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر فقال النبي: دعهم!
أمنا بني أرفدة - يعني من الأمن - فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع
اللهو (2).
و - في صحيحي البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى: فإما سألت
النبي (ص) وإما قال: أتشتهين تنظرين؟ قلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على
خده وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة، حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم،
قال: فاذهبي.
وفي رواية ثانية قالت: جاء حبش يزفنون (3). وفي رواية للعابين أود أني

(1) صحيح مسلم ج 2 / 609 كتاب صلاة العيدين باب الرخصة في اللعب، وهامش إرشاد
الساري ج 9 / 194، وصحيح البخاري ج 1 / 63 كتاب الصلاة باب أصحاب الحراب في
المسجد، ومسند أحمد ج 6 / 270 و 247 و 166.
و (فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن): قال النووي: معناه أنها تحب اللهو والتفرج والنظر
إلى اللعب حبا بليغا.
(2) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب قصة الحبش وقول النبي (ص): يا بني أرفدة
ج 2 / 179، وكتاب العيدين، باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين ج 1 / 123، وصحيح
مسلم، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب ج 2 / 608، حيث قال في نهاية
الحديث: "... فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السن " والعربة معناها المشتهية اللعب
المحبة له.
(3) صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب الحراب والدرق يوم العيد ج 1 / 118،
وبني أرفدة لقب للحبشة. ودونكم من ألفاظ الاغراء ومعناه: عليكم بهذا اللعب الذي أنتم
فيه. ويزفنون: أي يرقصون.
211

أراهم...
ز - وفي رواية ثالثة أنها قالت: (مر رسول الله (ص) بالذين يدوكون
بالمدينة فقام عليهم وكنت انظر فيما بين اذنيه وهو يقول: خذوا يا بني أرفدة! حتى
تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة، فجعلوا يقولون: أبو القاسم الطيب،
فجاء عمر فارتدعوا (1).
ح - في رواية رابعة: فقال: يا عائشة تعالي فانظري، فجئت فوضعت
لحيي على منكب رسول الله (ص) فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه فقال
لي: أما شبعت؟ أما شبعت؟ قالت: فجعلت أقول لا لأنظر منزلتي عنده، إذ طلع
عمر قال: فارفض الناس عنها، قالت: فقال رسول الله: إني لأنظر إلى شياطين
الإنس والجن قد فروا من عمر (2).
ط - جاء عن أم المؤمنين عائشة في ذلك روايات أخرى غير ما ذكرناه.
ي - في صحيح البخاري عن أبي هريرة: إذ دخل عمر بن الخطاب فأهوى
إلى الحصباء يحصبهم بها، فقال رسول الله (ص): دعهم يا عمر (3).
ك - في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة قالت:
كنت العب بالبنات في عهد النبي (ص) وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان

(1) مسند أحمد ج 6 / 116 و 233 وكنز العمال ج 19 / 162 - 163 و 153 الكتاب الثالث
من حرف اللام ومنتخب الكنز بهامش مسند أحمد ج 6 / 173 ويدوكون: داك القوم
ونحوهم ماجوا واختلطوا.
(2) صحيح الترمذي ج 13 / 148 كتاب المناقب باب مناقب عمر.
(3) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب اللهو بالحراب ج 2 / 103، وصحيح مسلم
ج 610 / 2.
212

رسول الله (ص) إذا دخل يتقمعن فيسربهن (1) إلي فيلعبن معي (2).
وفي طبقات ابن سعد عن عائشة انه كن لها بنات تعني اللعب... الحديث.
وفي رواية (3) سأل منها الرسول: " ما هذا؟ " فقالت: خيل سليمان، فضحك.
وفي سنن الترمذي بسنده عن بريدة أنه قال: خرج رسول الله (ص) في
بعض مغازيه، فلهم انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت
نذرت إن ردك الله صالحا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال لها (ص):
إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا، فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب،
ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت
الدف تحت استها ثم قعدت عليه، فقال رسول الله (ص): إن الشيطان ليخاف
منك يا عمر، إني كنت جالسا وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم
دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر
ألقت الدف (4).
وفي مسند أحمد بسنده عن أم المؤمنين عائشة (5) قالت: لعبت الحبشة عند
النبي (ص) في المسجد فجئت انظر فجعل يطأطئ لي منكبيه لأنظر إليهم.
وفي رواية أخرى انها قالت (6): ان الحبشة كانوا يلعبون عند رسول (ص)

(1) يتقمعن: يتفيين في البيت، يسر بهن: يردهن في مجراهن.
(2) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الانبساط ج 4 / 47، وصحيح مسلم، كتاب
فضائل الصحابة، باب فضل عائشة ج 4 / 91.
(3) طبقات ابن سعد ج 8 / 42 و 44 ط. أوربا، ومسند أحمد ج 6 / 166 و 233 - 234
وسن أبي دارد ج 4 / 283 - 284 كتاب الأدب.
(4) سنن الترمذي، أبواب المناقب، باب مناقب عمر 13 / 147.
(5) مسند أحمد ج 6 / 83.
(6) مسند أحمد ج 6 / 56 - 57.
213

في يوم عيد، قالت: فاطلعت من فوق عاتقه فطأطأ لي رسول (ص) منكبيه
فجعلت أنظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت ثم انصرفت.
وفي ثالثة انها قالت: إن الحبشة لعبوا لرسول (ص) فدعاني فنظرت من
فوق منكبيه حتى شبعت (1).
وفي رابعة انها قالت: كان رسول الله (ص) في حجرتي يسترني بردائه وأنا
انظر إلى الحبشة كيف يلعبون حتى أكون أنا أسأم وأقدرت والجارية الحديثة السن
الحريصة على اللهو (2).
* * *

(1) مسند أحمد ج 6 / 233.
(2) مسند أحمد ج 6 / 85.
214

روايات اشتراك الرسول (ص) في حفلة عرس تسقي
العروس فيها الرجال والنساء
1 - في صحيح البخاري، قالت الربيع بنت معوذ بن عفراء: جاء
النبي (ص) فدخل حين بنى علي فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت
جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت
إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال (ص): دعي هذه وقولي بالذي كنت
تقولين (1).
2 - في صحيح البخاري بسنده قال: دعا أبو أسيد الساعدي رسول
الله (ص) في عرسه، وكانت امرأته يومئذ خادمهم وهي العروس، قال سهل:
تدرون ما سقت رسول الله (ص)؟ أنقعت له تمرات من الليل فلما أكل سقته

(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب ضرب الدف ج 3 / 167، وكتاب المغازي
ج 3 / 8، وفي ترجمة الربيع بنت عفراء من طبقات ابن سعد ج 8 / 328 ط. أوربا،
والإصابة ج 4 / 293، وسنن ابن ماجة، كتاب النكاح، باب الغناء والدف قريب منه
ج 1 / 611، وسنن أبي داود ج 4 / 281 كتاب الأدب. قال ابن حجر: ثبت جواز خلوة
رسول الله (ص) بالأجنبية والنظر إليها فتح الباري ج 11 / 108.
215

إياه (1).
3 - في صحيح البخاري بسنده عن سهل قال: لما عرس أبو أسيد
الساعدي دعا النبي (ص) وأصحابه، فما صنع لها طعاما ولاقربه إليهم إلا امرأته
أم أسيد، بلت تمرات في تور من حجارة من الليل فلما فرغ النبي (ص) من الطعام
اماثته له فسقته، تتحفه بذلك (2).
4 - في صحيح البخاري بسنده عن أم المؤمنين عائشة انها زفت امرأة إلى
رجل من الأنصار فقال نبي الله: يا عائشة ما كان معكم من لهو؟ فان الأنصار
يعجبهم اللهو (3).
وفي رواية بسنن ابن ماجة بسنده عن ابن عباس قال: أنكحت عائشة
ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله (ص) فقال: أهديتم الفتاة؟ قالوا:
نعم، قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت: لا. فقال رسول الله (ص): إن الأنصار
قوم فيهم غزل. فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم (4).
5 - في سنن ابن ماجة بسنده عن انس بن مالك: ان النبي (ص) مر ببعض

(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب حق إجابة الوليمة ج 3 / 170، وباب النقيع
والشراب الذي لا يسكر 3 / 171، وكتاب الأشربة، باب الانتباذ في الأوعية والتور
ج 3 / 215، وباب نقيع التمر ما لم يسكر ج 3 / 215، وصحيح مسلم، كتاب الأشربة،
باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ج 3 / 1590.
والتور: اناء يشرب فيه.
(2) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم
بالنفس ج 3 / 171، وسنن ابن ماجة، باب الوليمة، ج 1 / 616 قريب منه.
واماثته، ماث الشئ: مرسه بيده حتى انحلت اجزاؤه.
(3) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب النسوة اللاتي يهدين المرأة إلى زوجها 3 / 169.
(4) سنن ابن ماجة، كتاب النكاح، باب الغناء والدف ج 1 / 612.
وغزل بالمرأة غزلا: حادثها وتودد إليها فهو غزل.
216

المدينة فإذا هو بجوار يضربن بدفهن يتغنين ويقلن:
نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار
فقال النبي (ص): الله يعلم إني لأحبكن (1).
خلاصة الروايات
أ - موجز الروايات:
ان رسول الله (ص) كان في يوم عيد أضحى في بيت أم المؤمنين عائشة
وبمحضره تغني جاريتان بما تقاولت الأوس والخزرج من اشعار في حرب بعاث،
فدخل الصحابي أبو بكر وتأثم من انتشار صوت الغناء وزجر الجاريتين فغمزتهما
أم المؤمنين عائشة فخرجتا.
ب - موجز روايات الرقص:
تعددت تعابير روايات اشتراك النبي (ص) وعائشة في مشاهدة رقص
الحبشة في مسجد الرسول (ص).
منها ما فيها ان الرسول (ص) كان يسترها بردائه كي تنظر إلى لعب
الحبشة، وان عمر تحرج من عملهم وزجرهم، ولكن الرسول (ص) لا يتأثم وقال
لهم: دونكم بني أرفدة حتى تعلم اليهود والنصارى ان في ديننا فسحة.
وفي رواية: فجاء عمر فارتدعوا، وفي أخرى فطلع فتفرق الناس
والصبيان فقال رسول الله: رأيت شياطين الإنس والجن فروا من عمر.
وفي رواية ان الرسول (ص) كان يسترها بردائه، وفي أخرى فقام عليهم
وكنت انظر فيما بين اذنيه، وفي ثالثة كنت انظر بين اذنيه، وفي رابعة: فأقامني وراءه

(1) سنن ابن ماجة ج 1 / 612 كتاب النكاح باب الغناء والدف. وقريب منه في صحيح
البخاري ج 3 / 171 كتاب النكاح باب (76) ذهاب النساء والصبيان إلى العرس.
217

خدي على خده، وفي خامسة: انظر ما بين المنكبين إلى رأسه فجعل يقول: يا
عائشة ما شبعت؟ فأقول: لا! لأنظر منزلتي عنده فلقد رأيته يراوح بين قدميه.
ج - موجز روايات اشتراك النبي في حفلة عرس تسقي العروس فيها
الرجال والنساء. في رواية ان الرسول جلس على فراش العروس وكانت
جويريات لهم يضربن بالدف ويندبن قتلى بدر، وفي ثانية ان العروس كانت
تخدمهم وسقت رسول الله مع من سقت ماء التمر.
وان النبي (ص) قال لعائشة في زفة عرس للأنصار: ما كان معكم من لهو
فان الأنصار يعجبهم اللهو. وفي أخرى قال لها: أرسلتم معها - العروس - من
يغني؟ فان الأنصار قوم فيهم غزل.
وفي رواية: ان النبي مر بجوار من الأنصار يضربن بدفهن يتغنين، فقال
النبي (ص): الله يعلم اني لأحبكن.
دراسة روايات اشتراك النبي (ص) في اللهو:
لست أدري هل أسس الرسول (ص) مسجده لإقامة الصلاة وأقراء القرآن
ونشر تعاليم الاسلام وإدارة شؤون المسلمين أم أسسه ملهى للرقص واللهو!؟
ولست أدري هل كانت أم المؤمنين عائشة أطول قامة من الرسول (ص)
ليتيسر لها أن تضع خدها على خده أم ان الرسول (ص) طأطأ هلا من قامته كل
تلكم المدة وهو يراوح بين قدميه!؟
وكيف قالت: إنها كانت جارية حديثة السن؟ وفي ارشاد الساري
(8 / 118): (ان ذلك كان بعد قدوم وفد الحبشة وان قدومهم كان سنة سبع
ولعائشة يومئذ ست عشرة سنة فكانت بالغة).
وكيف يضع الرسول (ص) خده تحت خد عائشة بمرأى من المشاهدين
218

وهو يسترها بردائه؟
وكيف تفر شياطين الإنس والجن من عمر ولا تفر من رسول الله (ص)؟.
وكيف خفيت كل هذه المتناقضات على أصحاب الصحاح ودونوها في
كتب الصحاح والسنن!؟
وكيف خفي عليهم انها تناقض قوله تعالى:
أ - في سورة لقمان: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل به عن
سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين)؟ [الآية: 6].
وقد سئل ابن مسعود عن قوله: (لهو الحديث)، فحلف بالله الذي لا إله
إلا هو أنه الغناء، ثلاث مرات. وبهذا فسر الآية ابن عباس وعبد الله بن عمر
وغيرهم من كبار المفسرين القدماء (1).
ب - في سورة الإسراء في خطاب الله جل جلاله لإبليس: (واستفزز من
استطعت منهم بصوتك) [الآية: 164]. عن ابن عباس وغيره: الغناء والمزامير (2).
وأيضا تناقض ما روي:
أ - عن عائشة: عن رسول الله (ص) قال: إن الله حرم القينة وبيعها وثمنها
وتعليمها والاستماع إليها.
ب - ما روي عن مجاهد قال: كنت مع ابن عمر، فسمع صوت طبل
فأدخل إصبعيه في اذنيه، ثم تنحى، حتى فعل ذلك ثلاث مرات. ثم قال: هكذا

(1) راجع: تفسير الطبري ج 21 / 39 - 40، وتفسير القرطبي ج 14 / 51 و 52 و 53،
وتفسير ابن كثير ج 3 / 441 - 442، وتفسير الدر المنثور ج 5 / 159 - 160.
(2) تفسير الطبري ج 15 / 81، وتفسير القرطبي ج 10 / 288، وتفسير ابن كثير
ج 3 / 49، وتفسير الألوسي ج 15 / 111.
219

فعل رسول الله (ص) (1).
ج - عن أبي موسى الأشعري مرفوعا: من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن
له أن يستمع الروحانيين، فقيل: ومن الروحانيون يا رسول الله؟ قال: قراء أهل
الجنة (2).
د - عن علي مرفوعا: تمسخ طائفة من أمتي قردة، وطائفة خنازير،
ويخسف بطائفة، ويرسل على طائفة الريح العقيم بأنهم شربوا الخمر ولبسوا
الحرير، واتخذوا القيان، وضربوا الدفوف (3).
5 - عن أنس مرفوعا: بعثني الله رحمة وهدى للعالمين، وبعثني بمحق
المعازف والمزامير وأمر الجاهلية (4).
* * *

(1) سنن ابن ماجة، كتاب النكاح، باب الغناء والدف، ح 1901، ج 1 / 613، وسنن
أبي داود، كتاب الأدب، باب كراهية الغناء والزمر ج 4 / 281 - 282.
(2) تفسير القرطبي ج 14 / 54.
(3) الدر المنثور ج 2 / 324.
(4) ن. م، ج 2 / 323.
220

ثانيا - روايات الناس اعلم بأمور دنياهم من النبي (ص)
في صحيح مسلم وسنن ابن ماجة ومسند أحمد واللفظ للأول بسندهم عن
أنس بن مالك وأم المؤمنين عائشة: ان النبي (ص) مر بقوم يلقحون فقال: لو لم
تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصا، فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: كذا وكذا،
قال: أنتم اعلم بأمر دنياكم (1).
وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن ابن ماجة واللفظ للأول بسنده عن
طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله (ص) بقوم على رؤوس النخل. فقال: ما
يصنع هؤلاء؟ فقالوا: يلقحونه. يجعلون الذكر في الأنثى فيتلقح. فقال رسول
الله (ص): ما أظن يغني ذلك شيئا. قال فأخبروا بذلك فتركوه. فأخبر رسول
الله (ص) بذلك فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فاني إنما ظننت ظنا، فلا
تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به. فإني لن أكذب على

(1) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا، ح 139 - 141،
ج 4 / 1836، دون ما ذكره (ص) من معايش الدنيا على سبيل الرأي ومسند أحمد
ج 1 / 162 وسنن ابن ماجة ج 2 / 825 ح 2470 - 2471، كتاب الرهون، باب تلقيح
النخل.
ولقح: ادخل من طلع ذكر النخل في طلع الأنثى منه فتعلق والشيص: البسر الردئ الذي
إذا يبس صار حشفا.
221

الله عز وجل (1)
دراسة الرواية:
كل من يسكن بلادا يزرع فيها النخل يعلم أن للنخل ذكرا وأنثى ويلقح
طلع نخل الأنثى بطلع النخل الذكر لتثمر، والا يصبح تمره شيصا لا يشتد نواه، وإذا
جف تمره أصبح حشفا لا يصلح للطعام، فكيف خفي هذا الأمر على رسول
الله (ص) وهو من سكان الجزيرة العربية، وأشهر أشجارها النخيل؟ وإذا كان
الرسول (ص) لم يعلم ذلك كيف لم يخبره الأنصار في المدينة بذلك؟ والصحيح في
الأمر ان الغاية من اسناد هذا الخبر إلى الرسول (ص) ليسند إليه أنه قال: (أنتم
اعلم بأمر دنياكم) ويروى عنه ان غيره من البشر اعلم بأمور الدنيا من رسول
الله (ص). ومغزى هذه الرواية والروايات الأخرى معها فصل أمور الدنيا عن
أمور الدين، وفقا للمقولة المشهورة (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله). وان يبطل
جميع سنة الرسول (ص) في ما عدا العبادات!!

(1) صحيح مسلم 4 / 1835، ومسند أحمد 1 / 162، وسنن ابن ماجة 2 / 825.
222

ثالثا - روايات نسيان النبي (ص) آي من القرآن الكريم
في صحيحي البخاري ومسلم بسند ما عن أم المؤمنين عائشة قالت: كان
النبي (ص) يستمع قراءة رجل في المسجد فقال: رحمه الله لقد أذكرني آية كنت
نسيتها.
وفي لفظ آخر: يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت قد أسقطتها من
سورة كذ وكذا. وفي لفظ البخاري: أنسيتها من سورة كذا وكذا (1).
دراسة الرواية:
لست أدري كيف يقول الرسول (ص) ذلك؟ وقد جاء في صحيحي
البخاري ومسلم بسندهما عن ابن مسعود أنه قال: بئسما لأحدهم يقول: نسيت
آية كيت وكيت، بل هو نسي، استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور
الرجال من النعم بعقلها (2).

(1) صحيح البخاري ج 3 / 155 باب نسيان القرآن من كتاب فضائل القرآن وصحيح مسلم
ج 1 / 543 من باب فضائل القرآن من كتاب صلاة المسافرين وقصرها ومسند أحمد
ج 6 / 12.
(2) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب استذكار القرآن ج 3 / 155، وقريب منه
لفظ أبي موسى الأشعري وصحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضائل
القرآن ج 1 / 544 واللفظ له
وأشد تفصيا: أشد انفصالا وأشد تفلتا، والنعم: الإبل والبقر والغنم، والمراد هنا الإبل
خاصة لأنها التي تعقل.
223

وكيف نسي الرسول (ص) آيات من القرآن؟ وقد قال سبحانه:
أ - في سورة الاعلى: (سنقرئك فلا تنسى) [الآية: 7].
ب - في سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه
وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه) [الآيات: 16 - 19].
ج - في سورة طه: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك
وحيه) [الآية: 114].
وجاء في تفسير الآيات: كان النبي (ص) إذا نزل عليه جبرائيل عليه السلام
بالوحي يقرأه مخافة ان ينساه، فكان لا يفرغ جبرائيل عليه السلام من آخر الوحي حتى
يتكلم هو بأوله، فلما نزلت هذه الآية لم ينس بعد ذلك شيئا (1).
وكيف ينسى الرسول (ص) آيات من القرآن الكريم؟ وقد جاء في صحيح
البخاري وسنن ابن ماجة ومسند ابن حنبل عن فاطمة عليه السلام انها قالت: أسر إلي
النبي (ص) ان جبريل يعارضني بالقرآن كل سنة وانه عارضني العام مرتين ولا
أراه إلا حضور أجلي (2).
كيف ينسى الرسول (ص) آيات من القرآن الكريم وجبرائيل يعارضه
القرآن في كل سنة مرة!؟
وكيف ينسى الرسول (ص) آيات القرآن الكريم وكان إذا نزل عليه شئ

(1) مجمع البيان ج 10 / 475 والكشاف ج 4 / 243 وتفسير الميزان ج 20 / 390 وراجع:
تفسير السيوطي ج 4 / 339.
(2) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن. باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي (ص)
ج 3 / 151 - 152، وسنن ابن ماجة، كتاب الصيام، باب ما جاء في الاعتكاف
ج 1 / 562، ومسند أحمد ج 6 / 282 و ج 1 / 405.
224

من القرآن يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي
يذكر فيها كذا وكذا؟ وكان ذلك القرآن في بيته وأوصى ابن عمه عليا ان يجمعه
بعد وفاته ففعل.
وكيف يسقط الرسول (ص) آيات من القرآن وكان كل صحابي يمارس
الكتابة يكتب ما نزل من القرآن؟ فقد كان خباب بن الأرت يقرئ بمكة أخت
عمر بن الخطاب وختنه القرآن (1) وكان عند أمهات المؤمنين عائشة وحفصة وأم
سلمة وعبد الله بن مسعود وأبي وغيرهم مصاحف مكتوبة (2).

(1) راجع: فصل من تاريخ القرآن في المجلد الأول من القرآن الكريم وروايات المدرستين.
(2) راجع: فصل اختلاف المصاحف من المجلد الثاني من القرآن الكريم وروايات المدرستين.
225

رابعا - روايات من لعنه النبي (ص) وسبه
كان له رحمة وطهورا
نورد روايات هذا الباب حسب سياق مسلم في صحيحه (1) قال:
باب من لعنه النبي (ص) أو سبه أو دعا عليه، وليس هو أهلا لذلك، كان له
زكاة وأجرا ورحمة.
وروى بسنده:
1 - عن عائشة قالت: دخل على رسول الله (ص) رجلان فكلماه بشئ
لا أدري ما هو فأغضباه، فلعنهما وسبهما. فلما خرجا قلت: يا رسول الله! من
أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان. قال: وما ذاك؟ قالت: قلت: لعنتهما
وسببتهما. قال: أو ما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر فأي
المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا.
وفي لفظ آخر: (فخلوا به، فسبهما ولعنهما وأخرجهما...) الحديث.
2 - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): اللهم إنما أنا بشر، فأيما

(1) صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ج 4 / 2007 - 2010 كتاب البر والصلة باب من لعنه
النبي (ص) الحديث 88 إلى 97 من الباب. وفي مسند أحمد 6 / 45 وكنز العمال 2 / 123.
226

رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة.
3 - عن جابر، عن النبي (ص) مثله. إلا أن فيه: زكاة وأجرا.
قال المؤلف: مثله. أي مثل حديث أبي هريرة السابق.
4 - عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله (ص) يقول: اللهم فأيما عبد مؤمن
سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة.
5 - عن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: اللهم! إني
اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن سببته أو جلدته فاجعل ذلك كفارة له
يوم القيامة.
6 - عن جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: إنما أنا بشر
وإني اشترطت على ربي عز وجل، أي عبد من المسلمين سببته أو شتمته، أن
يكون ذلك له زكاة وأجرا.
7 - عن أنس بن مالك قال: كانت عند أم سليم يتيمة وهي أم أنس (1).
فرأى رسول الله (ص) اليتيمة. فقال: أنت هيه (2)؟ لقد كبرت لا كبر سنك،
فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك يا بنية؟ قالت الجارية:
دعا علي نبي الله (ص) أن لا يكبر سني، فالآن لا يكبر سني أبدا. أو قالت
قرني (3). فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها (4) حتى لقيت رسول
الله (ص)، فقال لها رسول الله (ص): ما لك يا أم سليم؟ فقالت: يا نبي الله

(1) يعني أم سليم هي أم أنس.
(2) (هيه): بإسكان الهاء، وهي هاء السكت.
(3) (قرني) قال القاضي: السن والقرن واحد. يقال سنه وقرنه، مماثله في العمر. فكأنه قال
لها: لا طال عمرك، لأنه إذا طال عمرها طال عمر أصل قرنها.
(4) (تلوث خمارها): أي تديره على رأسها.
227

أدعوت على يتيمتي؟ قال: وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعوت أن لا
يكبر سنها ولا يكبر قرنها. قال: فضحك رسول الله (ص) ثم قال: يا أم سليم!
أما تعلمين أن شرطي على ربي أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر، أرضى
كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي
بدعوة ليس لها بأهل أن مجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة.
8 - عن ابن عباس قال: كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله (ص)
فتواريت خلف باب، قال: فجاء فحطأني حطأة (1) وقال: اذهب وادع لي معاوية
قال: فجئت فقلت: هو يأكل. قال: ثم قال لي: اذهب فادع لي معاوية قال:
فجئت فقلت: هو يأكل لا فقال: لا أشبع الله بطنه.
وفي لفظ آخر: فجاء رسول الله (ص) فاختبأت منه.
بالإضافة إلى ما رواه مسلم في هذا الباب في مسند أحمد.
9 - عن عائشة قالت: إن امداد العرب كثروا على رسول الله (ص) حتى
غموه، وقام إليه المهاجرون يفرجون عنه، حتى قام على عتبة عائشة فرهقوه،
فأسلم رداءه في أيديهم ووثب على العتبة فدخل وقال: اللهم العنهم، فقالت
عائشة: يا رسول الله هلك القوم! فقال: كلا والله يا بنت أبي بكر، لقد اشترطت
على ربي عز وجل شرطا لا خلف له، فقلت: إنما انا بشر أضيق كما يضيق به
البشر، فأي المؤمنين بدرت إليه مني بادرة فاجعلها له كفارة (2).
وفي لفظ آخر: لقد اشترطت على ربي شرطا لا خلف له، فقلت: اللهم إنما
انا بشر اغضب كما يغضبون، وأجد كما يجدون، فأي المسلمين ضربت أو سببت

(1) (فحطأني حطأة): فسر الراوي حطأني: أي قفدني، هو الضرب باليد مبسوطة، بين
الكتفين.
(2) مسند أحمد ج 6 / 107 بسنده إلى عروة. وغمه: غطاه. احزنه.
228

أو لعنت أو آذيت فاجعلها له مغفرة ورحمة وقربة تقربه بها يوم القيامة (1).
وفي رواية أخرى: يا عائشة اما شعرت ما عاهدت عليه ربي فيما بيني
وبينه؟ قلت: يا رب اني بشر اغضب كما يغضب البشر، فأي المسلمين دعوت
عليه فاجعله عليه صلاة (2).
وفي رواية أخرى: اما علمت يا عائشة اني قلت لربي فيما بيني وبينه إنما انا
بشر اغضب فأي دعوة دعوت بها على غضب على أحد من أمتي أو أحد من أهل
بيتي أو أحد من أزواجي فاجعلها له بركة ومغفرة ورحمة وطهورا (3)؟
10 - عن عائشة قالت: كان رسول الله (ص) يرفع يديه يدعو حتى اسمع:
اللهم إنما انا بشر فلا تعاقبني بشتم رجل من المسلمين ان آذيته (4).
11 - عن عائشة (5) قالت: دخل علي رسول الله (ص) في بيتي في أزار
ورداء فاستقبل القبلة وبسط يديه وقال: اللهم إنما انا بشر فأي عبد من عبادك
ضربت أو آذيت فلا تعاقبني فيه.
وفي رواية (6) أيما رجل من المؤمنين آذيته وشتمته فلا تعاقبني فيه.
وفي رواية يرفع يديه يدعو حتى لاسأم له مما يرفعهما يدعو: اللهم فإنما أنا
بشر فلا تعذبني بشتم رجل شتمته أو آذيته (7).
12 - عن عائشة قالت: دخل علي النبي (ص) بأسير فلهوت عنه فذهب

(1) كنز العمال، الحديث 3039، 3 / 348 حم وابن عساكر عن عائشة.
(2) كنز العمال، الباب الثاني في الأخلاق والأفعال المذمومة، ح 3041، 3 / 349.
(3) كنز العمال، الباب الثاني في الأخلاق والأفعال المذمومة، ح 3027، 3 / 347.
(4) مسند أحمد 6 / 160 عن عكرمة.
(5) مسند أحمد ج 6 / 133 و 180.
(6) مسند أحمد ج 6 / 258 وراجع 251.
(7) مسند أحمد ج 6 / 225، عن عكرمة، عن عائشة.
229

فجاء النبي (ص) فقال: ما فعل الأسير. قالت: لهوت عنه مع النسوة فخرج. فقال:
ما لك قطع الله يدك أو يديك. فخرج فآذن به الناس فطلبوه فجاؤوا به فدخل علي
وأنا أقلب يدي فقال: ما لك أجننت؟ قلت: دعوت علي فأنا أقلب يدي أنظر أيهما
يقطعان فحمد الله وأثنى عليه ورفع يديه مدا وقال: اللهم إني بشر أغضب كما
يغضب البشر فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه فاجعله له زكاة وطهور (1).
دراسة الروايات:
لست أدري كيف تصح هذه الروايات وقد قال الله سبحانه في نعت
رسوله (ص):
أ - في سورة القلم: (ن؟ * والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك
بمجنون * وان لك لأجرا غير ممنون * وانك لعلى خلق عظيم) [الآية: 1 - 4].
ب - في سورة آل عمران: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ
القلب لا نفضوا من حولك... [الآية: 159].
ج - في سورة التوبة: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم
حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) [الآية: 128].
كيف تصح تلكم الروايات وقد قال رسول الله (ص): بعثت لأتمم حسن
الأخلاق (2).
وقال أنس: كان النبي (ص) أحسن الناس خلقا (3).

(1) مسند أحمد 6 / 52.
(2) موطأ مالك، كتاب حسن الخلق ج 2 / 904، ومسند أحمد ج 2 / 381، ومستدرك
الحاكم ج 2 / 613.
(3) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الكنية للصبي 4 / 55، وصحيح مسلم، كتاب
المساجد، باب جواز النافلة في الجماعة الحديث 267، 1 / 457، وباب استحباب تحنيك
المولود الحديث 30، وسن أبي داود، كتاب الأدب 4 / 246.
230

وكيف تصح تلكم الروايات؟ وجاء أن الصحابي عياض بن حماد سأل
الرسول (ص) بعد أن أسلم فقال:
يا نبي الله الرجل من قومي من أسفل مني يشتمني، أفأنتصر منه؟
فقال (ص): المستبان شيطانان يتكاذبان (1).
وعنه أيضا - ان رسول الله (ص) قال: إثم المستبين ما قالا على البادئ
حتى يعتدي المظلوم (2).
وعن ثابت بن الضحاك - وكان من أصحاب الشجرة - ان رسول
الله (ص) قال:... ومن لعن مؤمنا فهو كقتله ومن قذف مؤمنا بكفر فهو
كقتله (3).
وفي حديث ابن عباس ان رجلا نازعته الريح رداءه فلعنها فقال
النبي (ص): لا تلعنها... من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه (4).
وفي حديث ابن مسعود - وكان قد خرج من دار لعنوا جارية لهم تأخرت
في حاجتهم - ان النبي (ص) قال: إن اللعنة إلى من وجهت إليه فان أصابت إليه

(1) مسند أحمد ج 4 / 162 وطبقات ابن سعد ج 7 / 36 ترجمة عياض بن معاد بن محمد بن
سليمان، وكنز العمال ج 3 / 341 ط. حيدر آباد الدكن.
(2) مسند أحمد ج 2 / 235 و 488 و 517 و ج 4 / 162 و 266، وصحيح مسلم، كتاب
البر، الحديث 68، ج 4 / 2000، وسنن ابن أبي داود ج 4 / 274 كتاب الأدب
باب 46،، وصحيح الترمذي، كتاب البر باب 51، ج 8 / 151.
(3) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن 4 / 39، ومسند أبي
عوانة ج 1 / 44 - 45 واللفظ للبخاري.
(4) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في اللعن ج 4 / 278، وكنز العمال 2 / 343.
231

سبيلا... وإلا... فيقال لها: ارجعي من حيث أتيت... الحديث (1).
وعن ابن مسعود أيضا قال رسول الله (ص): ليس المؤمن بطعان ولا بلعان
ولا بالفاحش البذئ (2).
وعن أبي الدرداء، قال رسول الله (ص): لا يكون اللعانون شفعاء ولا
شهداء (3).
وقال: أنهاك أن تكون لعانا (4).
وقال: لعن المؤمن كقتله (5).
وقال: لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعانا (6).
وقال: لا يجتمع أن يكونوا لعانين صديقين (7).
وتال: يا أبا بكر لعانين وصديقين لا ورب الكعبة.
وفي حديث أم المؤمنين عائشة أنها كانت مع النبي (ص) فلعنت بعيرا لها
فأمر به النبي (ص) أن يرد وقال: لا يصحبني شئ ملعون (8).

(1) أخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 408 الحديث 3876 والكنز ج 3 / 351 وفيه عن عبد الله
وأبي الدرداء مثله.
(2) أخرجه أحمد في مسنده ج 1 / 405 الحديث 3839 وقريب منه ثلاث روايات في
المستدرك ج 1 / 12 - 13.
(3) سنن أبي داود ج 4 / 278 كتاب الأدب باب في اللعن والكنز ج 3 / 350 ط. حيدر آباد
1370 ه‍ عن مسند أحمد ومسلم والمستدرك ج 1 / 48.
(4) كنز العمال ج 2 / 125 و ج 3 / 350 ط. حيدر آباد ابن سعد عن جرموز الجهني عن
عبد الله بن عامر وابن مسعود، وثابت بن الضحاك الأنصاري.
(5) كنز العمال ج 3 / 350 الخرائطي في مبادئ الأخلاق.
(6) كنز العمال ج 3 / 350 عن مستدرك الحاكم عن ابن عمر.
(7) كنز العمال ج 3 / 350 عن مستدرك الحاكم عن أبي هريرة عن عائشة.
(8) مسند أحمد ج 6 / 72 و 257 - 258 والكنز ج 3 / 351 عن أبي الجوزاء.
232

وفي رواية انها ركبت جملا فلعنته، فقال لها: " لا تركبيه " (1).
وفي صحيح مسلم ان امرأة من الأنصار لعنت ناقتها، فقال رسول
الله (ص): خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة (2).
كيف كان النبي (ص) يضيق صدره فيلعن المؤمنين؟ وقد قال: سباب
المسلم فسوق، وقال: من لعن مؤمنا فهو كقتله، وقال: من لعن شيئا ليس له
بأهل رجعت اللعنة إليه.
كيف كان النبي (ص) يضيق صدره فيلعن هذا وذاك؟ وقد قالت عائشة:
ما لعن رسول الله (ص) مسلما من لعنة تذكر، ولا انتقم لنفسه شيئا يؤتى إليه إلا أن
تنتهك حرمات الله عز وجل، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يضرب بها في
سبيل الله، وما سئل شيئا قط فمنعه إلا أن يسأل مأثما، فإنه كان أبعد الناس منه،
ولا خير بين أمرين قط إلا اختار أيسر هما (3).
وقالت: ما ضرب رسول الله (ص) خادما له قط ولا امرأة له قط،
ولا ضرب بيده إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شئ فانتقمه من صاحبه
إلا أن تنتهك محارم الله عز وجل فينتقم لله عز وجل، وما عرض عليه أمران
أحدهما أيسر من الآخر إلا أخذ بأيسرهما، إلا أن يكون مأثما فإن كان مأثما كان
أبعد الناس منه (4).

(1) مسند أحمد ج 6 / 138 عن يحيى بن وثاب.
(2) صحيح مسلم ج 4 / 204 كتاب البر والصلة والآداب باب النهي عن لعن الدواب
والكنز ج 3 / 351 وسن الدارمي ج 2 / 288.
(3) في مسند أحمد ج 6 / 130 وطبقات ابن سعد ج 1 / 2 / 91 ط. أوربا، واللفظ لها.
والمستدرك ج 2 / 613 وصحيح البخاري ج 2 / 181 في باب صفة النبي من كتاب
المناقب و ج 4 / 115 باب إقامة الحدود وصحيح مسلم ج 7 / 80 باب مباعدته للآثام.
(4) مسند أحمد ج 6 / 32 و 114 و 115 و 116 و 162 و 182 و 206 و 223
و 229 و 232 و 262 و 281 وقريبا من الروايات الثلاث في الترمذي ج 2 / 526.
233

وفي صحيح البخاري عن عائشة: ان يهودا أتوا النبي (ص) فقالوا: السام
عليكم، فقالت عائشة: عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم. فقال النبي (ص):
مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش... الحديث (1).
ولا بد للنبي الذي يقول: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق أن يكون لينا عف
اللسان ولو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله.
عجيب أمر هذه الأحاديث التي تحط من قدر النبي العظيم (ص) وتزيل كل
ثقة به وبلعنه ودعائه وحديثه! ويزود هذا العجب إذا ما راجعنا صحيح مسلم
" باب من لعنه النبي أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك كان له زكاة وأجرا
ورحمة " فان مسلم قد فتح هذا الباب بحديث أم المؤمنين عائشة وقولها: دخل
على رسول الله رجلان - إلى قولها -: إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته
فاجعله له زكاة واجرا (2). وختمه بحديث ابن عباس: ان الرسول أرسله إلى
معاوية وقال له: اذهب فادع لي معاوية قال: فجئت فقلت: هو يأكل فقال:
لا أشبع الله بطنه. اذن فهذا الدعاء من النبي على معاوية زكاة له واجر ورحمة
وطهور لمعاوية ولأبيه أبي سفيان حينما قال رسول الله (ص) فيه وهو يقود أباه أبا
سفيان: لعن الله القائد والمقود، ويل لامتي من معاوية ذي الأشباه (3).

(1) صحيح البخاري ج 4 / 38 كتاب الأدب باب لم يكن النبي (ص) فاحشا ولا متفحشا
وراجع: ص 39 منه باب ما ينهى من السباب واللعن و ج 4 / 61 و 67 كتاب الاستئذان
باب كيف يرد على أهل المذمة عن أبي مليكة وعروة عن عائشة.
والسام: الموت.
(2) صحيح مسلم ج 8 / 24 - 27 وتيسير الوصول ج 3 / 292.
(3) اخرج ابن سعد في طبقاته بترجمة نصر بن عاصم الليثي عن أبيه قال دخلت مسجد رسول
الله (ص) وأصحاب النبي (ص) يقولون: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، قلت:
ما هذا؟ قالوا: معاوية مر قبيل هذا اخذا بيد أبيه ورسول الله (ص) على المنبر فخرجا من
المسجد فقال رسول الله (ص) فيهما قولا، ولم يصرح ابن سعد بقول رسول الله وإنما صرح به
ابن الأثير في أسد الغابة وابن حجر في الإصابة بترجمة عاصم الليثي حيث قالا: روى عنه
ابنه نصر أنه قال: دخلت مسجد النبي (ص) وأصحاب رسول الله يقولون: نعوذ بالله من
غضب الله وغضب رسوله، قلت: مم ذاك؟ قالوا: إن رسول الله كان يخطب آنفا فقام رجل
فأخذ بيد ابنه ثم خرجا، فقال رسول الله (ص): لعن الله القائد والمقود، ويل لهذه الأمة من
فلان ذي الأشباه. ان ابن سعد ذكر اسم معاوية في الرواية ولم يذكر ما قاله الرسول صونا
لكرامة معاوية وأبي سفيان، وابن الأثير وابن حجر ذكرا قول الرسول (ص) ولم يذكرا اسم
القائد والمقود. راجع: طبقات ابن سعد ج 7 / 78 وأسد الغابة ج 3 / 76 والإصابة
ج 2 / 237 - 238 الترجمة 4355.
234

وما جاء من لعن النبي (ص) للحكم وما ولد، فيما أورده من حديث زكاة
لهم وأجر ورحمة وطهور!!
ومنها ما رواه عبد الرحمن بن عوف قال: كان لا يولد لأحد مولود إلا اتي
به النبي (ص) فدعا له، فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال: هو الوزغ ابن الوزغ
الملعون ابن الملعون (1).
وما رواه عمرو بن مرة الجهني قال: استأذن الحكم بن أبي العاص على
النبي (ص) فعرف صوته فقال: ائذنوا له حية أو ولد حية عليه لعنة الله وعلى كل
من يخرج من صلبه إلا المؤمن منهم، وقليل ما هم، يشرفون في الدنيا ويوضعون
في الآخرة -، ذوو مكر وخديعة يعظمون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق (2).
وما جاء في حديث ابن عمر: بينما النبي (ص) يساره - يعني يسار عليا - إذ
رفع رأسه كالفزع قال: فدع بسيفه الباب فقال لعلي: اذهب فقده كما تقاد الشاة

(1) المستدرك ج 4 / 479 قال: وهذا حديث صحيح الاسناد.
(2) المستدرك ج 4 / 481 وقال: وهذا حديث صحيح الاسناد، والكنز ج 11 / 349 كتاب
الفتن الباب الرابع ط. الهند، ومنتخبه ج 5 / 453.
235

إلى حالبها، فإذا علي يدخل الحكم بن أبي العاص آخذا باذنه ولها زنمة حتى أوقفه
بين يدي النبي (ص) فلعنه نبي الله (ص) ثلاثا... الحديث (1).
وما روته عائشة قالت: كان النبي (ص) في حجرته فسمع حسا فاستنكره،
فذهبوا فنظروا فإذا الحكم كان يطلع على النبي (ص) فلعنه النبي (ص) وما في
صلبه ونفاه عاما (2).
وما رواه محمد بن كعب القرظي قال: أشهد لقد سمعت رسول الله (ص)
يلعن الحكم وما ولد (3).
وما ورد عن عبد الله بن الزبير قال: أشهد لسمعت من رسول الله (ص)
يلعن الحكم وما ولد (4).
وقال وهو يطوف بالكعبة: ورب هذه البنية للعن رسول الله (ص) الحكم
وما ولد (5).
وقال وهو على المنبر: ورب هذا البيت الحرام والبلد الحرام ان الحكم بن
أبي العاص وولده ملعونون على لسان محمد (ص) (6).
وما قاله الحسن لمروان حين قال مروان للحسن والحسين: أهل بيت
ملعونون، فغضب الحسن وقال: أقلت أهل بيت ملعونون؟ فوالله لقد لعنك الله
على لسان نبيه (ص) وأنت في صلب أبيك (7).
قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله (ص) من رد سبايا حنين إلى أهلها

(1) المستدرك ج 4 / 479 وقال: صحيح الاسناد، والكنز ج 11 / 352 ومنتخبه بهامش
مسند أحمد ج 5 / 453. والزنمة: ما يقطع من اذن الشاة فيترك معلقا.
(2) كنز العمال، كتاب الفتن، الباب الرابع ج 11 / 351.
(3) الكنز ج 11 / 354 ومنتخبه ج 5 / 454 بهامش مسند أحمد.
(4) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 5 / 453 وكنز العمال ج 11 / 349 - 351 كتاب الفتن الباب الرابع.
(5) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 5 / 453 وكنز العمال ج 11 / 349 - 351 كتاب الفتن الباب الرابع.
(6) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 5 / 453 وكنز العمال ج 11 / 349 - 351 كتاب الفتن الباب الرابع.
(7) منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 5 / 453 وكنز العمال ج 11 / 349 - 351 كتاب الفتن الباب الرابع.
236

ركب، واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله! أقسم علينا فيأنا من الإبل والغنم،
حتى ألجوه إلى شجرة فاختطفت عنه رداءه، فقال: ردوا علي ردائي أيها الناس!
فوالله ان لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما لقيتموني بخيلا
ولا جبانا ولا كذوبا... الحديث (1).
ولم نقل ما قلنا اعتباطا وإنما عرفنا ذلك مما قاله الذهبي (ت 748 ه‍) حيث
قال: قلت: لعل هذه منقبة لمعاوية لقول النبي (ص): اللهم من لعنته أو شتمته
فاجعل ذلك له زكاة ورحمة (2).
وجاء بعده ابن كثير (ت 774 ه‍) وقال دونه: انتفع معاوية بهذه الدعوة في
دنياه واخراه. وهذا لفظ أبن كثير: عن ابن عباس، قال: كنت ألعب مع الغلمان
فإذا رسول الله (ص) قد جاء، فقلت: ما جاء إلا إلي، فاختبأت على باب
فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين ثم قال: اذهب فادع لي معاوية - وكان يكتب
الوحي - قال: فذهبت فدعوته له، فقيل: إنه يأكل. فأتيت رسول الله (ص)
فقلت: إنه يأكل، فقال: اذهب فادعه، فأتيته الثانية فقيل: إنه يأكل، فأخبرته،
فقال في الثالثة: لا أشبع الله بطنه. قال: فان شبع بعدها. وقد انتفع معاوية بهذه
الدعوة في دنياه وأخراه. أما في دنياه، فإنه لما صار إلى الشام أميرا كان يأكل في
اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لم كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع
أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا، ويقول: والله ما أشبع وإنما أعيا،
وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك. وأما في الآخرة فقد أتبع مسلم هذا
الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من
الصحابة، أن رسول الله (ص) قال: اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو

(1) سيرة ابن هشام ج 4 / 138 - 139.
(2) تذكرة الحفاظ ص 698 - 701.
237

دعوت عليه، وليس لذلك أهلا، فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم
القيامة. فركب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له
غير ذلك (1). انتهى كلام ابن كثير.
وأراد بما قال: أن دعاء الرسول (ص) على معاوية دعاء له في الدنيا
والآخرة، أما في الدنيا فبما ذكره من مزية كثرة الأكل للملوك، وأما في الآخرة
فاعتمد الأحاديث التي نسبت إلى رسول الله (ص) أنه كان يلعن المؤمنين - معاذ
الله - ودعا أن يكون لهم زكاة وطهورا، وأن مسلما حين أورد هذا الحديث في
آخر هذا الباب أثبت لمعاوية رضوانا وتقربا إلى الله يوم القيامة.
ومما قاله ابن حجر الهيتمي في كتابه الصواعق المحرقة: ولعنته (ص) للحكم
وابنه لا تضرهما لأنه (ص) تدارك ذلك بقوله مما بينه في الحديث الآخر: انه بشر
يغضب كما يغضب البشر، وانه سأل ربه ان من سبه ولعنه، أو دعا عليه أن يكون
ذلك رحمة وزكاة وكفارة وطهارة (2).
* * *
كان ذلكم ما جاء في روايات مصادر مدرسة الخفاء من صفات
الرسول (ص) وسلوكه.
وفي ما يأتي نذكر ما جاء في مصادر مدرسة أهل البيت عن أئمة أهل البيت
في صفات النبي (ص)، وأهل البيت أدرى بما فيه:

(1) البداية والنهاية ج 8 / 119 - 120.
(2) الصواعق المحرقة لابن حجر ص 179 ط. الأولى.
238

صفات النبي (ص) في روايات أهل البيت:
في معاني الأخبار للصدوق بسنده عن ابن أبي هالة التميمي، عن الحسن بن
علي (ع) وبطريق آخر عن الرضا، عن آبائه، عن علي بن الحسين، عن الحسن بن
علي (ع). وبطريق آخر عن رجل من ولد أبي هالة، عن أبيه، عن الحسن بن
علي (ع). قال: سألت خالي " هند بن أبي هالة " وكان وصافا للنبي (ص)، وأنا
أشتهي أن يصف لي منه شيئا لعلي أتعلق به. فقال:
كان رسول الله (ص) فخما مفخما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر،
أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، ان انفرقت
عقيصته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة اذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع
الجبين، أزج الحواجب، سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى
العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم. كث اللحية، سهل الخدين، ضليع
الفم، أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة،
معتدل الخلق، بادنا متماسكا، سواء البطن والصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم
الكراديس، عريض الصدر، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر
يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك. أشعر الذراعين والمنكبين
وأعلى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين. سائل
الأطراف، سبط القصب، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا
زال زال قلعا، يخطو تكفؤا، ويمشي هونا، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط في
صبب، وإذا التفت التفت جميعا. خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من
239

نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يبدر من لقيه بالسلام.
قال (ع): فقلت له: صف لي منطقه فقال: كان (ص) متواصل الأحزان دائم
الفكر، له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه
بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلام فصلا لا فضول فيه ولا تقصير، دمثا، ليس بالجافي
ولا بالمهين، تعظم عنده النعمة وإن دقت لا يذم منها شيئا، غير أنه كان لا يذم
ذواقا ولا يمدحه. ولا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد،
ولم يقم لغضبه شئ حتى ينتصر له، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها،
وإذا تحدث اتصل بها، فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب
أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه. جل ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حب
الغمام (1).
قال الصدوق: إلى هنا رواية القاسم بن المنيع، عن إسماعيل بن محمد بن
إسحاق بن جعفر بن محمد، والباقي رواية عبد الرحمن إلى آخره.
قال الحسن (ع): وكتمتها الحسين (ع) زمانا ثم حدثته به فوجدته قد سبقني
إليه، فسألته عنه فوجدته قد سأل أباه عن مدخل النبي (ص) ومخرجه، ومجلسه،
وشكله، فلم يدع منه شيئا.
قال الحسين (ع): سألت أبي عن مدخل رسول الله (ص)، فقال: كان
دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك، فإذا آوى إلى منزله جزء دخوله ثلاثة أجزاء:
جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه. ثم جزء جزأه بينه وبين الناس فيرد ذلك
بالخاصة على العامة ولا يدخر عنهم منه شيئا، وكان من سيرته في جزء الأمة
ايثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فنهم ذو الحاجة،
ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم

(1) الغمام: السحاب، يقال: يفتر عن مثل حب الغمام: أي يكشف عن أسنان بيض كالبرد.
240

والأمة من مسألته عنهم وبإخبارهم بالذي ينبغي، ويقول: ليبلغ الشاهد منكم
الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يقدر على إبلاغ حاجته، فإنه من أبلغ سلطانا
حاجة من لا يقدر على إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك،
ولا يقبل من أحد عثرة، يدخلون روادا ولا يفترقون إلا عن ذواق ويخرجون
أدلة.
قال: فسألته (ع)، عن مخرج رسول الله (ص) كيف كان يصنع فيه؟
فقال (ص): كان رسول الله (ص) يخزن لسانه إلا عما كان يعنيه، ويؤلفهم
ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من
غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في
الناس، ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهنه. معتدل الأمر غير مختلف،
لا يغفل مخافة أن يغفلوا ويميلوا، ولا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من
الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة للمسلمين، وأعظمهم عنده منزلة
أحسنهم مؤاساة وموازرة.
قال: فسألته (ع) عن مجلسه، فقال: كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر،
لا يوطن الأماكن، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به
المجلس ويأمر بذلك. ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب أحد من جلسائه أن
أحدا أكرم عليه منه، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، من سأله
حاجة لم يرجع إلا بها أو ميسور من القول. قد وسع الناس منه خلقه وصار لهم
أبا وصاروا عنده في الخلق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء، وصدق وأمانة.
ولا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه المحرم. ولا تنثى فلتأته (1)، متعادلين

(1) نثى الخبر: حدث به وأشاعه. و " لا تنثى فلتأته ": أي لا يحدث بما وقع في مجلسه من
الهفوات والزلات ولا تذاع بين الناس.
241

متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين، يوقرون الكبير ويرحمون الصغير، ويؤثرون
ذا الحاجة ويحفظون الغريب.
فقلت: كيف كان سيرته في جلسائه؟ فقال (ع): كان دائم البشر، سهل
الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا ضحاك ولا فحاش ولا عياب
ولا مداح. يتغافل عما لا يشتهي فلا يؤيس منه، ولا يخيب فيه مؤمليه. قد ترك
نفسه من ثلاث: المراء، والاكثار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان
لا يذم أحدا ولا يعيره، ولا يطلب عثراته ولا عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا
ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأن على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا،
ولا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم أنصتوا له، حتى يفرغ. حديثهم عنده
حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر
للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه، حتى أن كان أصحابه يستجلبونهم،
ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه. ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ،
ولا يقطع على أحد كلامه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام.
قال: فسألته (ع) عن سكوت رسول الله (ص)، فقال (ع): كان سكوته على
أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكير. فأما التقدير ففي تسوية النظر
والاستماع بين الناس. وأما تفكره ففيما يبقي ويفنى، وجمع له الحلم والصبر، فكان لا
يغضبه شئ ولا يستفزه، وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالمحسن ليقتدى به،
وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاده الرأي في صلاح أمته، والقيام فيما جمع له خير
الدنيا والآخرة (1).
* * *

(1) بحار الأنوار للمجلسي ج 16 / 148 - 153، ومعاني الأخبار ص 79 - 83 ط. إيران
(وحيدي)، وعيون أخبار الرضا ج 1 / 316.
242

كان ذلكم ما روي عن أئمة أهل البيت في سيرة الرسول (ص) وصفاته في
مقابل ما روي عن أم المؤمنين عائشة فيهما.
وفي ما يأتي ندرس ما روي في سيرة الرسول (ص) عن أم المؤمنين عائشة
وغيرها من الصحابة، ونرى أن تلكم الروايات افتري عليهم روايتها.
243

الباب الرابع
ما افتري به على أم المؤمنين عائشة
وغيرها من الصحابة
أ - روايات بدء نزول الوحي
ب - روايات بدء الدعوة
ج - روايات أسطورة الغرانيق
245

أولا - روايات بدء نزول الوحي
أ - عن أم المؤمنين عائشة:
في صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد وتفاسير الطبري والقرطبي
وابن كثير والسيوطي وسيرة ابن هشام وتاريخ الطبري واللفظ للأول بسنده عن
عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول
الله (ص) من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل
فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد في
الليالي ذوات العدد - قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة
فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال:
ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال:
اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: (اقرأ باسم
ربك الذي خلق * خلق الانسان من علق * اقرأ وربك الأكرم) فرجع بها
رسول الله (ص) يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها،
فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها
الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك
لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب
247

الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن
عم خديجة، وكان امرءا تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب
من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له
خديجة: يا بن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟
فأخبره رسول الله (ص) خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله
على موسى يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول
الله (ص): أو مخرجي هم؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي،
وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر
الوحي (1).
ب - عن ابن عباس:
في طبقات ابن سعد بسنده عن ابن عباس أن النبي (ص) قال: يا خديجة
إني أسمع صوتا وأرى ضوءا، وإني أخشى أن يكون في جنن، فقالت: لم يكن الله
ليفعل بك ذلك يا بن عبد الله، ثم أتت ورقة بن نوفل فذكرت له ذلك، فقال: إن يك
صادقا فهذا ناموس مثل ناموس موسى، فإن يبعث وأنا حي فسأعزره وأنصره

(1) صحيح البخاري ج 1 / 3 و ج 3 / 145 باب بدء الوحي ط. مصر سنة 1327.
وصحيح مسلم ط. بيروت دار احياء التراث العربي، افسيت على الطبعة الأولى، سنة 1313
1376 ه‍ - 1956 م. ومسند أحمد ج 6 / 223 و 232 - 233 ط. مصر، سنة 1313
وتفسير الطبري ج 30 / 161 ط. بولاق، سنة 1392. وتاريخ الطبري ج 1 / 147 - 148
ط. أوربا وتفسير القرطبي ج 20 / 118 ط. مصر سنة 1387 ه‍ - 1967 م وتفسير ابن
كثير ج 4 / 527 ط. مصر وتفسير السيوطي ج 6 / 368 ط. مصر، سنة 1316 ه‍
248

وأومن به (1).
وفي رواية ثانية بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس قال: فبينا رسول
الله (ص) على ذلك وهو بأجياد، إذ رأى ملكا واضعا إحدى رجليه على الأخرى
في أفق السماء يصيح: يا محمد، أنا جبريل، يا محمد، أنا جبريل، فذعر رسول
الله (ص) من ذلك، وجعل يراه كلما رفع رأسه إلى السماء، فرجع سريعا إلى
خديجة فأخبرها خبره وقال: يا خديجة والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئا
قط ولا الكهان، وإني لأخشى أن أكون كاهنا، قالت: كلا يا بن عم لا تقل
ذلك، فإن الله لا يفعل ذلك بك أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي
الأمانة وإن خلقك لكريم، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل، وهي أول مرة أتته،
فأخبرته ما أخبرها به رسول الله (ص) فقال ورقة: والله إن ابن عمك لصادق،
وإن هذا لبدء نبوة، وإنه ليأتيه الناموس الأكبر، فمريه أن لا يجعل في نفسه إلا
خيرا (2).
ج - عن عروة بن الزبير:
في طبقات ابن سعد بسنده عن عروة أن رسول الله (ص) قال: يا خديجة
إني أرى ضوءا وأسمع صوتا، لقد خشيت أن أكون كاهنا، فقالت: إن الله
لا يفعل بك ذلك يا بن عبد الله، إنك تصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتصل
الرحم (3).

(1) طبقات ابن سعد ط. أوربا ج 1 / 129 - 130 وط. بيروت 1 / 194 - 195.
(2) طبقات ابن سعد ج 1 / 129 - 130 ط. اروبا.
(3) طبقات ابن سعد، ط. اروبا 1 / 129 - 130.
249

د - عن عبد الله بن شداد:
في تفسير الطبري وتاريخه: عن عبد الله بن شداد قال: اتى جبريل
محمدا (ص) فقال: يا محمد اقرأ، فقال: ما أقرأ؟ قال: فضمه، ثم قال: يا محمد،
أقرأ، قال: ما أقرأ؟ قال: فضمه، ثم قال: يا محمد، اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال:
(اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الانسان من علق) حتى بلغ: (علم الانسان
ما لم يعلم)، قال: فجاء إلى خديجة فقال: يا خديجة، ما أراني إلا قد عرض لي،
قالت: كلا والله ما كان ربك يفعل ذلك بك، ما أتيت فاحشة قط، قال: فأتت
خديجة ورقة بن نوفل فأخبرته الخبر، فقال: لئن كنت صادقة إن زوجك لنبي،
وليلقين من أمته شدة، ولئن أدركته لأومنن به.
قال: ثم أبطأ عليه جبريل، فقالت له خديجة: ما أرى ربك إلا قد قلاك،
قال: فأنزل الله عز وجل: (والضحى والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما
قلى) (1).
5 - عبيد بن عمير الليثي:
نجد هذه الأخبار مجموعة في رواية قاص أهل مكة عبيد بن عمير الليثي كما
رواه كل من ابن هشام والطبري بسند هما عن وهب بن كيسان مولى آل الزبير
قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا
يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله (ص) من النبوة حين جاء

(1) تفسير الطبري، ط. بولاق 30 / 161 - 162: وتاريخ الطبري ط. مصر 2 / 300
وط. اروبا؟ 1 / 1148 - 1149، وتفسير السيوطي 6 / 368 - 369.
250

جبريل عليه السلام؟ فقال عبيد - وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير ومن عنده من
الناس -: كان رسول الله (ص) يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما
تحنث به قريش في الجاهلية - والتحنث: التبرر - وقال أبو طالب:
وراق ليرقى في حراء ونازل
فكان رسول الله (ص) يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه
من المساكين، فإذا قضى رسول الله (ص) جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ
به - إذا انصرف من جواره - الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا، أو ما
شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله عز وجل
فيه ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه فيها، وذلك في شهر رمضان، خرج
رسول الله (ص) إلى حراء - كما كان يخرج لجواره - معه أهله؟ حتى إذا كانت الليلة
التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول
الله (ص): فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج، فيه كتاب، فقال: اقرأ، فقلت: ما
أقرأ؟ فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ماذا أقرأ؟ وما
أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلي بمثل ما صنع بي، قال: (اقرأ باسم ربك
الذي خلق) إلى قوله: (علم الانسان ما لم يعلم)، قال: فقرأته، قال: ثم انتهى،
ثم انصرف عني وهببت من نومي، وكأنما كتب في قلبي كتابا.
قال: ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إلي من شاعر أو مجنون، كنت
لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت: إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون،
لا تحدث بها عني قريش أبدا! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه
فلأقتلنها فلأستريحن.
قال: فخرجت أريد ذلك، حتى إذا كنت في وسط من الجبل، سمعت صوتا
من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسي إلى
251

السماء؟ فإذا جبرئيل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، يقول: يا محمد،
أنت رسول الله وانا جبرئيل. قال: فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت فما
أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية
منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي، حتى بعثت
خديجة رسلها في طلبي، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني. ثم
انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها
مضيفا (1) فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، حتى
بلغوا مكة ورجعوا إلي. قال: قلت لها: إن الأبعد لشاعر أو مجنون، فقالت:
أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم! ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من
صدق حديثك، وعظم أمانتك، وحسن خلقك، وصلة رحمك! وما ذاك يا بن
عم! لعلك رأيت شيئا؟ قال: فقلت لها: نعم. ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت:
أبشر يا بن عم وأثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه
الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد -
وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة
والإنجيل - فأخبرته بما أخبرها به رسول الله (ص) أنه رأى وسمع، فقال ورقة:
قدوس، قدوس! والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه
الناموس (2) الأكبر - يعني بالناموس جبرئيل عليه السلام، الذي كان يأتي موسى - وإنه
لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله (ص)، فأخبرته
بقول ورقة، فسهل ذلك عليه بعض ما هو فيه من الهم، فلما قضى رسول الله (ص)

(1) مضيفا: أي ملتصقا بها مائلا إليها، أضفت إلى الرجل، إذا ملت نحوه ولصقت به.
(2) أصل الناموس، هو صاحب سر الرجل في خيره وشره، فعبر عن الملك الذي جاء
بالوحي بذلك.
252

جواره وانصرف صنع كما كان يصنع، وبدأ بالكعبة فطاف بها. فلقيه ورقة بن
نوفل وهو يطوف بالبيت، فقال: يا بن أخي، أخبرني بما رأيت أو سمعت، فأخبره
رسول الله (ص) فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد
جاءك الناموس الأكبر الذي جاء إلى موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه، ولتخرجنه،
ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك لأنصرن الله نصرا يعلمه. ثم أدنى رأسه فقبل
يافوخه، ثم انصرف رسول الله (ص) إلى منزله.
وقد زاده ذلك من قول ورقة ثباتا، وخفف عنه بعض ما كان فيه من الهم.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن
إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير، أنه حدث عن خديجة انها قالت لرسول
الله (ص) فيما يثبته فيما أكرمه الله به من نبوته: يا بن عم أتستطيع أن تخبرني
بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به،
فجاءه جبرئيل عليه السلام كما كان يأتيه، فقال رسول الله (ص) لخديجة: يا خديجة هذا
جبرئيل قد جاءني، فقالت: نعم، فقم يا بن عم، فاجلس على فخذي اليسرى،
فقام رسول الله (ص) فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول
فاقعد على فخذي اليمنى، فتحول رسول الله (ص) فجلس عليها، فقالت: هل
تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاجلس في حجري، فتحول فجلس في حجرها،
قالت: هل تراه؟ قال: نعم، فتحسرت، فألقت نهارها ورسول الله (ص) جالس
في حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا، فقالت: يا بن عم أثبت وأبشر فوالله إنه
لملك وما هو بشيطان (1).
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق،
قال: وحدثت بهذا الحديث عبد الله بن الحسن، فقال: قد سمعت أمي فاطمة بنت

(1) سيرة ابن هشام ج 1 / 253 - 257. وتاريخ الطبري ج 1 / 1149 - 1153 ط. اروبا.
253

الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني قد سمعتها تقول: أدخلت رسول
الله (ص) بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبرئيل، فقالت لرسول الله (ص):
إن هذا لملك، وما هو بشيطان.
تمحيص الروايات
لعل تضافر هذه الروايات في كتب الصحاح والسنن والتفسير والسيرة
والتاريخ بمدرسة الخلفاء وتعاضد بعضها بعضا الآخر يكون سببا لاطمئنان
الباحثين إلى محتواها غير أنها تنهار لدى تمحيصها كالآتي بيانه:
دراسة السند:
أ - أم المؤمنين عائشة:
ان أم المؤمنين عائشة ولدت سنة (14 أو 15 أو 16) بعد البعثة (1).
ب - ابن عباس:
إن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات أو في السنة العاشرة بعد
البعثة.
وان عكرمة متهم بالكذب عند علماء الرجال، وكان يروي الأحاديث
الموضوعة عن ابن عباس (2).
ج - عروة بن الزبير:
عروة بن الزبير، ولد في زمن حكومة عمر بن الخطاب وكان يحسب من
التابعين ومن الطبقة الثانية (3).

(1) ترجمتها بميزان الاعتدال ج 3 / 94.
(2) ترجمة عكرمة في ميزان الاعتدال 3 / 93 - 97.
(3) ترجمته بتقريب التهذيب ج 3 / 19.
254

د - عبد الله بن شداد الليثي:
وعبد الله بن شداد الليثي لا يعد من الصحابة، وولد في زمن النبي (ص)
ولصغر سنه لم يدرك صحبة النبي (ص) وقتل في سنة (81 ه‍) (1).
ه‍ - عبيد بن عمير الليثي قاص أهل مكة:
ولد في آخر حياة النبي، وكان عبد الله بن شداد لا يعده من أصحاب
النبي (2) وعلى اي حال لم يدرك عصر الرسول (ص) بمكة ليخبر عنه.
و - إسماعيل بن أبي حكيم المزني خم أحد بني فضيل وقال عنه ابن مندة
لا أعرف له رؤية ولا صحبة (3)
ز - فاطمة بنت الحسين (ع):
في ذيل رواية عبيد بن عمير أسندت الرواية مع تغيير في اللفظ إلى فاطمة
بنت الحسين (ع) عن أم المؤمنين خديجة، ومتى رأت جدة أبيها لتروي عنها ما
أسند إليها روايته؟
* * *
كان ذلكم شأن اسناد تلكم الروايات. وفي ما يأتي نقارن بإذن الله تعالى
بين محتوى تلك الروايات وآي من الذكر الحكيم وروايات موثقة تصرح بان
الرسول (ص) كان عليما بأمر رسالته قبل ان ينزل الله الوحي إليه بواسطة
جبرائيل (ع). وكذلك الأحبار والكهنة في عصره كانوا ينتظرون بعثته ويبشرون
معاصريهم بقرب مبعثه.

(1) أسد الغابة ج 7 / 189.
(2) تقريب التهذيب ج 1 / 422.
(3) راجع ترجمته في أسد الغابة والإصابة.
255

مقارنة محتوى الروايات
أولا - آيات من الذكر الحكيم:
قال الله سبحانه:
أ - في سورة آل عمران:
(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول
مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري
قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) [الآية: 81].
ب - في سورة الأعراف:
(الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في
التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات
ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين
آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم
المفلحون) [الآية 157].
ج - في سورة الفتح:
(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا
سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك
مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى
على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا
الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) [الاله 29].
256

د - في سورة الصف:
(وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما
بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم
بالبينات قالوا هذا سحر مبين) [الآية: 6].
ه‍ - في سورة البقرة:
(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم
ليكتمون الحق وهم يعلمون) [الآية: 146].
و - في سورة الأنعام:
(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا
أنفسم فهم لا يؤمنون) [الآية: 20].
ز - في سورة الأحزاب:
(يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله باذنه
وسراجا منيرا) [الآيات: 45 - 46].
ح - في سورة الجن:
(وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد
منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) [الآيات: 8 - 9].
ثانيا - روايات فيها تفسير للآيات السابقة:
أ - في تفسير الطبري بسنده إلى الإمام علي عليه السلام أنه قال: لم يبعث الله نبيا
آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه
ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من
257

كتاب وحكمة) الآية (1).
ب - في تفسير الطبري بسنده عن ابن عباس في الآية قال: ثم ذكر ما أخذ
عليهم - يعني على أهل الكتاب وعلى أنبيائهم - من الميثاق بتصديقه - يعني
بتصديق محمد (ص) - إذا جاءهم واقرارهم به على أنفسهم (2).
ج - في تفسير الطبري بسنده عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى:
(فان شهدوا) يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك وأنا معكم من الشاهدين عليكم
وعليهم، فمن تولى عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم فأولئك هم الفاسقون
هم العاصون في الكفر (3).
د - في تفسير السيوطي بسنده عن ابن عباس قال: لما قدم رسول
الله (ص) المدينة قال عمر بن الخطاب لعبد الله بن سلام: قد أنزل الله على نبيه:
(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) فكيف يا عبد الله هذه
المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، إذ
رأيته مع الصبيان وأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني، فقال عمر: كيف ذلك؟ قال: إنه
رسول الله حق من الله وقد نعته الله في كتابنا ولا أدري ما تصنع النساء، فقال
له عمر: وفقك الله يا بن سلام. وأخرج الطبراني عن سلمان الفارسي قال:
خرجت أبتغي الدين فوقعت في الرهبان بقايا أهل الكتاب، قال الله تعالى:
(يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) فكانوا يقولون: هذا زمان نبي قد أطل يخرج من
أرض العرب له علامات، من ذلك شامة مدورة بين كتفيه خاتم النبوة (4).

(1) تفسير الطبري ج 3 / 236 - 237 و 239، وتفسير القرطبي ج 4 / 124 - 126،
وتفسير ابن كثير ج 1 / 378.
(2) تفسير الطبري ج 3 / 236 - 237 و 239، وتفسير القرطبي ج 4 / 124 - 126،
وتفسير ابن كثير ج 1 / 378.
(3) المصدر السابق.
(4) الدر المنثور ج 1 / 147 وتفسير القرطبي ج 2 / 162 - 163.
258

ه‍ - في تفسير السيوطي بسنده عن ابن عباس قال: كتب رسول الله (ص)
إلى يهود خيبر: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صاحب موسى
وأخيه المصدق لما جاء به موسى، ألا ان الله قد قال لكم: يا معشر أهل التوراة
وانكم تجدون ذلك في كتابكم: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار
رحماء بينهم) إلى آخر السورة (1).
و - في صحيح البخاري وسنن الدارمي ومسند أحمد وطبقات ابن سعد
وتفسير الطبري بسندهم عن عطاء بن يسار قال: لقيمت عبد الله بن عمرو بن
العاص قلت: اخبرني عن صفة رسول الله (ص) قال: أجل والله انه لموصوف في
التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا
وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ
ولاسخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه
الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا اله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا
وآذانا صما وقلوبا غلفا (2).
ز - في تفسير الطبري بسنده عن ابن عباس في قوله: (ويحرم عليهم
الخبائث، قال: كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلون من المحرمات من المآكل
التي حرمها الله. وفي قوله: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال إلي كانت عليهم)
قال: هو ما كان أخذ الله عليهم من الميثاق فيما حرم عليهم (3).

(1) الدر المنثور 6 / 82 - 83.
(2) تفسير سورة الفتح من كتاب التفسير في صحيح البخاري ج 3 / 189 - 190
و ج 2 / 14 كتاب البيوع باب 50 وسنن الدارمي ج 1 / 4 ومسند أحمد ج 2 / 174
وتفسير الطبري ج 9 / 57.
(3) تفسير الطبري ج 9 / 57 - 58.
259

ح - من طبقات ابن سعد وسنن الدارمي: عن عبد الله بن سلام قال: صفة
رسول الله (ص) في التوراة: يا أيها النبي انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا
وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا
سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله
حتى يقيم به الملة العوجاء حتى يقولوا: لا إله إلا الله ويفتح أعينا عميا وآذانا صما
وقلوبا غلفا (1).
ط - في الدر المنثور: أخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة، وأبو نعيم في
الدلائل عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (ص): صفتي: أحمد المتوكل، مولده
بمكة ومهاجره إلى طيبة، ليس بفظ ولا غليظ، يجزي بالحسنة الحسنة ولا يكافئ
بالسيئة، أمته الحمادون، يأتزرون على أنصافهم ويوضئون أطرافهم، أناجيلهم في
صدورهم، يصفون للصلاة كما يصفون للقتال، قربانهم الذي يتقربون به إلي
دماؤهم، رهبان بالليل ليوث النهار (2).
ي - في مستدرك الحاكم وتلخيصه عن أم المؤمنين عائشة: ان رسول
الله (ص) مكتوب في الإنجيل: لا فظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق، ولا يجزي
بالسيئة مثلها بل يعفو ويصفح (3).
ك - في طبقات ابن سعد بسنده عن سهل مولى عتيبة قال: قرأت في
الإنجيل نعت محمد (ص) انه لا قصير ولا طويل، أبيض، ذو ضفيرين، بين كتفيه
خاتم، يكثر الاحتباء ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير ويحتلب الشاة،

(1) طبقات ابن سعد ج 1 / 360، وسنن الدارمي ج 1 / 4.
(2) الدر المنثور للسيوطي 3 / 132.
(3) مستدرك الحاكم ج 2 / 614 وطبقات ابن سعد ج 1 / 363 ودلائل النبوة لأبي
نعيم ص 72.
260

ويلبس قميصا مرقوعا، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر، وهو يفعل ذلك وهو
من ذرية إسماعيل عليه السلام اسمه أحمد (1).
ل - في سنن الدارمي بسنده عن كعب قال: في السطر الأول: محمد رسول
الله عبدي المختار، لافظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة
السيئة ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام. وفي السطر
الثاني: محمد رسول الله، أمته الحمادون يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون
الله في كل منزلة ويكبرونه على كل شرف، رعاة الشمس يصلون الصلاة إذا جاء
وقتها ولو كانوا على رأس كناسة، ويأتزرون على أوساطهم، ويوضئون أطرافهم،
وأصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل (2).
م - وأخرج ابن سعد والدارمي وابن عساكر عن أبي فروة عن ابن عباس
أنه سأل كعب الأحبار: كيف قد نعت رسول الله (ص) في التوراة؟ فقال كعب:
نجده محمد بن عبد الله، يولد بمكة ويهاجر إلى طابة ويكون ملكه بالشام، وليس
بفحاش ولا صخاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسيئة السيئة لكن يعفو ويغفر، أمته
الحامدون يحمدون الله في كل سراء وضراء، ويكبرون الله على كل نجد. يوضئون
أطرافهم، ويأتزرون في أوساطهم، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم،
دويهم في مساجدهم كدوي النحل يسمع مناديهم في جو السماء (3).
ن - وأخرج البيهقي في دلائل النبوة والسيوطي في الدر المنثور عن أم
الدرداء قالت: قلت لكعب: كيف تجدون صفة رسول الله (ص) في التوراة؟ قال:

(1) طبقات ابن سعد ج 1 / 363.
(2) سنن الدارمي 1 / 5 - 6.
(3) طبقات ابن سعد 1 / 630، وسنن الدارمي 1 / 6، ومختصر تاريخ دمشق في ترجمة
كعب الأحبار 21 / 183.
261

نجده موصوفا فيها: محمد رسول الله، اسمه المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ
ولا سخاب في الأسواق، وأعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينا عورا، ويسمع به
آذانا صما، ويقيم به ألسنة معوجة، حتى يشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
يعين المظلوم ويمنعه من أن يستضعف (1).
أأنت - في طبقات ابن سعد: عن كصب قال: إن أبي كان من أعلم الناس بما
أنزل الله على موسى، وكان لم يدخر عني شيئا مما كان يعلم، فلما حضره الموت
دعاني فقال لي: يا بني انك قد علمت اني لم أدخر عنك شيئا مما كنت أعلمه، إلا
اني قد حبست عنك ورقتين فيهما نبي يبعث قد أظل زمانه، فكرهت أن أخبرك
بذلك فلا آمن عليك أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتطيعه، وقد جعلتهما في هذه
الكوة التي ترى، وطينت عليهما فلا تعرضن لهما ولا تنظرن فيهما حينك هذا، فان
الله ان يرد بك خيرا ويخرج ذلك النبي تتبعه، ثم إنه مات فدفناه فلم يكن شئ
أحب إلي من أن أنظر في الورقتين، ففتحت الكوة ثم استخرجت الورقتين فإذا
فيهما: محمد رسول الله خاتم النبيين لا نبي بعده، مولده بمكة ومهاجره بطيبة، لافظ
ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ويجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويصفح، أمته
الحمادون الذين يحمدون الله على كل حال، تذلل ألسنتهم بالتكبير وينصر نبيهم
على كل من ناواه، يغسلون فروجهم ويأتزرون على أوساطهم، أناجيلهم في
صدورهم، وتراحمهم بينهم تراحم بني الام، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة
من الأمم. فمكثت ما شاء الله ثم بلغني أن النبي (ص) قد خرج بمكة فاخرت حتى
استثبت، ثم بلغني أنه توفي وان خليفته قد قام مقامه وجاءتنا جنوده فقلت:
لا أدخل في هذا الدين حتى أنظر سيرتهم وأعمالهم، فلم أزل أدافع ذلك وأؤخره
لأستثبت، حتى قدمت علينا عمال عمر بن الخطاب، فلما رأيت وفاءهم بالعهد وما

(1) دلائل النبوة للبيهقي 1 / 279 - 280، والدر المنثور للسيوطي 3 / 132.
262

صنع الله لهم على الأعداء علمت أنهم هم الذين كنت أنتظر، فوالله اني لذات ليلة
فوق سطحي فإذا رجل من المسلمين يتلو قول الله: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب
آمنوا بما نزلناه مصدقا لما معكم من قبل ان نطمس وجوها) الآية فلما سمعت هذه
الآية خشيت ان لا أصبح حتى يحول وجهي في قفاي فما كان شئ أحب إلي من
الصباح فغدوت على المسلمين (1).
ما جرى قبل ميلاد الرسول (ص) نتيجة لتلك البشارات
أ - في طبقات ابن سعد:
ان تبعا لما قدم المدينة ونزل بقناة فبعث إلى أحبار اليهود فقال: إني مخرب
هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية ويرجع الأمر إلى دين العرب، قال: فقال له
سامول اليهودي، وهو يومئذ أعلمهم: أيها الملك إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي
من بني إسماعيل مولده مكة اسمه أحمد، وهذه دار هجرته، إن منزلك هذا الذي
أنت به يكون به من القتلى والجراح أمر كبير في أصحابه وفي عدوهم، قال تبع:
ومن يقاتله يومئذ وهو نبي كما تزعمون؟ قال: يسير إليه قومه فيقتتلون ها هنا،
قال: فأين قبره؟ قال: بهذا البلد، قال: فإذا قوتل لمن تكون الدبرة؟ قال:
تكون عليه مرة وله مرة، وبهذا المكان الذي أنت به تكون عليه، ويقتل به
أصحابه مقتلة لم يقتلوا في موطن، ثم تكون العاقبة له، ويظهر فلا ينازعه هذا
الأمر أحد، قال: وما صفته؟ قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه
حمرة، يركب البعير، ويلبس الشملة، سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى أخا أو
ابن عم أو عما حتى يظهر أمره، قال تبع: ما إلى هذا البلد من سبيل، وما كان

(1) طبقات ابن سعد ج 1 / 360 إلى: وأمته الحمادون وسنن الدارمي ج 1 / 6.
263

ليكون خرابها على يدي، فخرج تبع منصرفا إلى اليمن (1).
ب - في دلائل النبوة لأبي نعيم:
انه قدم رسول الله (ص) المدينة وأبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن النعمان
ابن ضبيعة بن زيد كان قد ترهب ولبس المسوح، وكان يقال له الراهب، وكان قد
أدرك وسمع.
وفي رواية عمرو بن محمد: ما كان في الأوس والخزرج رجل واحد أوصف
لرسول الله (ص) منه، كان يألف اليهود، ويسائلهم عن الدين، ويخبرونه بصفة
رسول الله (ص)، ثم خرج إلى الشام فسأل النصارى، فأخبروه بصفة
النبي (ص)، فرجع أبو عامر وهو يقول: أنا على دين إبراهيم الهنيفي، فأقام
مترهبا وزعم أنه ينتظر خروج النبي (ص)، فلما ظهر رسول الله (ص) بمكة لم
يخرج إليه، وأقام على ما كان عليه، فأتي رسول الله (ص) حين قدم المدينة فقال:
ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال: جئت بالحنفية دين إبراهيم، قال: فأنا عليها،
قال رسول الله (ص): إنك لست عليها، قال: بلى، أدخلت يا محمد في الحنفية ما
ليس فيها، قال: ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية.
قال أبو عامر: الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا - يرض برسول
الله (ص) - إنك جئت كذلك؟ قال رسول الله (ص): أجل فمن كذب فعل الله ذلك
به، فكان هو عدو الله، خرج إلى مكة، فلما افتتح رسول الله (ص) مكة خرج إلى
الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات طريدا غريبا وحيدا (2).
ج - في دلائل النبوة لأبي نعيم:
بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت أبي مالك بن سنان يقول: جئت

(1) طبقات ابن سعد، ط. بيروت ج 1 / 159.
(2) دلائل النبوة للأبي نعيم ص 80 - 81 ح 42.
264

بني عبد الأشهل يوما لأتحدث فيهم، ونحن يومئذ في هدنة من الحرب، فسمعت
يوشع اليهودي يقول: أظل خروج نبي يقال له أحمد، يخرج من الحرم، فقال له
خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزئ به: ما صفته؟ قال: رجل ليس بقصير ولا
بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا
البلد مهاجره، قال: فخرجت إلى قومي بني خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما قال،
فأسمع رجلا يقول: ويوشع يقول هذا وحده؟! كل يهود يثرب تقول هذا، قال
أبي مالك بن سنان: فخرجت حتى جئت بني قريظة، فأجد جمعا، فتذاكروا
النبي (ص)، فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلا
بخروج نبي وظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد، وهذه مهاجره، قال أبو سعيد: فلما
قدم رسول الله (ص) المدينة أخبره أبي هذا الخبر، فقال رسول الله (ص): لو أسلم
الزبير وذووه - من رؤسائهم - كلهم له تبع (1).
د - في طبقات ابن سعد:
بسنده عن عامر بن ربيعة ان زيد بن عمرو بن نفيل كان يقول: أنا أنتظر
نبيا من ولد إسماعيل ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أو من به
وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام،
وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك، قلت: هلم! قال: هو رجل ليس بالطويل
ولا بالقصير ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم
النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منه
ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه فإني
طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من أسأل من اليهود والنصارى

(1) دلائل النبوة لأبي نعيم ص 79 - 80 ح 40.
265

والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبق
نبي غيره، قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت رسول الله (ص) قول زيد بن
عمرو وأقرأته منه السلام، فرد عليه السلام وترحم عليه وقال: قد رأيته في الجنة
يسحب ذيولا (1).
ه‍ - في طبقات ابن سعد:
ان زيد بن عمرو بن نفيل قال: شاممت النصرانية واليهودية فكرهتهما،
فكنت بالشام وما والاه حتى أتيت راهبا في صومعة، فوقفت عليه، فذكرت له
اغترابي عن قومي وكراهتي عبادة الأوثان واليهودية والنصرانية، فقال لي:
أراك تريد دين إبراهيم! يا أخا أهل مكة إنك لتطلب دينا ما يؤخذ اليوم به، وهو
دين أبيك إبراهيم، كان حنيفا لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، كان يصلي ويسجد إلى
هذا البيت الذي ببلادك، فالحق ببلدك، فإن نبيا يبعث من قومك في بلدك يأتي
بدين إبراهيم بالحنيفية، وهو أكرم الخلق على الله (2).
و - في مستدرك الحاكم بسنده عن نافع بن جبير أنه قال: سمعت رسول
الله (ص) يقول: أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر والخاتم والعاقب (3).
وكان الشائع على لسان أهل الكتاب ان اسمه احمد ومحمد، ولذلك سمى
بعض العرب بنيهم بمحمد رجاء أن يكون هو الرسول المبشر به كما أخبر عن ذلك
ابن سعد في طبقاته وقال:

(1) طبقات ابن سعد 1 / 161 - 162.
(2) طبقات ابن سعد ج 1 / 162.
(3) مستدرك الحاكم ج 2 / 604.
266

ذكر من تسمى في الجاهلية بمحمد رجاء أن تدركه النبوة
كانت العرب تسمع من أهل الكتاب ومن الكهان أن نبيا يبعث من العرب
اسمه محمد، فسمى من بلغه ذلك من العرب ولده محمدا طمعا في النبوة.
وقال: سمي محمد بن خزاعي بن حزابة من بني ذكوان من بني سليم طمعا
في النبوة، فأتى أبرهة باليمن فكان معه على دينه حتى مات، فلما وجه قال أخوه
قيس بن خزاعي:
فذلكم ذو التاج منا محمد ورايته في حومة الموت تخفق
وقال: كان في بني تميم محمد بن سفيان بن مجاشع، وكان أسقفا، قيل لأبيه:
إنه يكون للعرب نبي اسمه محمد، فسماه محمدا.
ومحمد الجشمي في بني سواءة، ومحمد الأسيدي، ومحمد الفقيمي سموهم
طمعا في النبوة.
* * *
كان ذلكم بعض ما جرى قبل ميلاد الرسول (ص) نتيجة لبشارات الأنبياء
بمبعثه.
وفي ما يأتي نذكر باذنه تعالى ما جرى في ليلة ميلاد الرسول (ص) فما بعد:
ما جرى في ليلة ميلاد الرسول (ص) فما بعد:
أ - في مستدرك الحاكم: عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول
الله (ص) انهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال: دعوة أبي إبراهيم
وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له بصرى،
267

وبصرى من أرض الشام (1).
ب - في تاريخ الطبري: ان آمنة ابنة وهب أم رسول الله (ص) كانت تحدث
انها أتيت في منامها لما حملت برسول الله (ص) فقيل لها: انك حملت بسيد هذه
الأمة، فإذا وقع بالأرض قولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد. ثم سميه محمدا.
ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض
الشام، فلما وضعته أرسلت إلى جده عبد المطلب انه قد ولد لك غلام فأته فانظر
إليه، فنظر إليه وحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت أن
تسميه.
وقال عثمان بن أبي العاص: حدثتني أمي انها شهدت ولادة آمنة ابنة وهب
لرسول الله (ص) فما شئ أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني لأنظر النجوم
لتدنو حتى اني لأقول لتقعن علي (2).
ج - في دلائل النبوة لأبي نعيم بسنده عن حسان بن ثابت أنه قال:
والله إني لغلام يفعة ابن ثمان سنين أو سبع، أعقل ما سمعت، إذ سمعت
يهوديا يصرخ على أطمة يثرب:
يا معشر اليهود، حتى اجتمعوا إليه، فقالوا له: ويلك ما لك؟
قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به (3).
د - وعن حسان بن ثابت - أيضا - أنه قال: والله إني لفي منزلي ابن سبع
سنين وأنا أحفظ ما أرى وأعي ما أسمع، وأنا مع أبي، إذ دخل علينا فتى منا يقال

(1) مستدرك الحاكم ج 2 / 600 وقال: صحيح ولم يخرجاه، وصححه الذهبي - أيضا -
وطبقات ابن سعد ج 1 / 149.
(2) تاريخ الطبري ج 2 / 156 - 157 ط. القاهرة.
(3) دلائل النبوة لأبي نعيم 1 / 75.
268

له ثابت بن الضحاك، وهو يوم نجوى، فتحدث فقال: زعم يهودي من يهود
قريظة الساعة، وهو يلاحيني، قد أظل خروج نبي يأتي بكتاب مثل كتابنا،
يقتلكم قتل عاد، قال حسان: فوالله إني لعلى فارع - يعني أطم (1) - حسان في
السحر إذ سمعت صوتا ما أسمع صوتا قط أنفذ منه، فإذا يهودي على أطم من آطام
المدينة، معه شعلة من نار، فاجتمع إليه الناس فقالوا: ما لك ويلك؟ قال حسان:
فأسمعه يقول: هذا كوكب أحمد قد طلع، هذا كوكب لا يطلع إلا بالنبوة، ولا يبق
من الأنبياء، إلا أحمد، قال: فجعل الناس يضحكون منه ويعجبون لما يأتي منه (2).
فعمر حسان مائة وعشرين سنة، ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في
الاسلام.
ه‍ - في طبقات ابن سعد بسنده عن ابن عباس قال: كانت يهود قريظة
والنضير وفدك وخيبر يجدون صفة النبي عندهم قبيل أن يبعث، وأن دار هجرته
بالمدينة، فلما ولد رسول الله (ص)، قالت أحبار اليهود: ولد أحمد الليلة، هذا
الكوكب قد طلع، فلما تنبى قالوا: قد تنبى أحمد، قد طلع الكوكب الذي يطلع،
كانوا يعرفون ذلك ويقرون به ويصفونه إلا الحسد والبغي... (3).
و - في دلائل النبوة لأبي نعيم بسنده عن حويصة بن مسعود أنه قال: كنا
ويهود فينا كانوا يذكرون نبيا يبعث بمكة اسمه أحمد، ولم يبق من الأنبياء غيره،
وهو في كتبنا، وما أخذ علينا منه، وصفته كذا وكذا، حتى يأتوا على نعته، قال:
وأنا غلام وما أرى أحفظ، وما أسمع أعي، إذ سمعت صياحا من ناحية [بني]

(1) الأطم: بضم الهمزة وضم الطاء وتسكينها، الحصن، وكل حصن مبني بالحجارة، أو كل
بيت مربع مسطح مرتفع.
(2) دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني ص 75 - 76، ح 35.
(3) طبقات ابن سعد ج 1 / 159 - 160.
269

عبد الأشهل، فأرى قوما فزعوا وخافوا أن يكون أمر حدث، خم خفي الصوت،
ثم عاد فصاح ففهمنا صياحه: يا أهل يثرب، هذا كوكب أحمد الذي ولد به، قال:
فجعلنا نعجب من ذلك، ثم أقمنا دهرا طويلا، ونسينا ذلك، فهلك قوم وحدث
آخرون، وصرت رجلا كبيرا: فإذا مثل ذلك الصياح: يا أهل يثرب، قد خرج
أحمد، وتنبأ وجاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى (ع)، فلم ألبث أن
سمعت أن بمكة رجلا خرج يدعي النبوة، وخرج من خرج من قومنا، وتأخر من
تأخر، وأسلم فتيان منا أحداث، ولم يقض لي أن أسلم حتى قدم رسول الله (ص)
المدينة (1).
ز - في تاريخ الطبري ودلائل النبوة للبيهقي ولأبي نعيم والمنتظم لابن
الجوزي ما موجزه:
ان في ليلة ميلاد الرسول (ص) ارتجف إيوان كسرى وسقطت منه أربع
عشرة شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف
عام، ورأي الموبذان في المنام إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة
وانتشرت في بلادهم، فلما أصبح كسرى أفزعه ما رأى فتصبر عليه تشجعا، ثم
رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته، فلبس تاجه وقعد على سريره
وجمعهم إليه، فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون في ما بعثت إليكم؟ قالوا: لا إلا أن
يخبرنا الملك.
قال ابن الجوزي: رأى كسرى ارتجاف الإيوان وسقوط الشرف فحسب،
وليس المنام، فالمنام كان للموبذان وهو قاضي قضاتهم، فبينا هم كذلك إذ ورد
عليهم كتاب بخمود النار فازداد غما إلى غمه، فقال الموبذان وانا قد رأيت في هذه
الليلة، وقص عليه الرؤيا قي الإبل، فقال: أي شئ يكون هذا يا موبذان؟ فقال:

(1) دلائل النبوة لأبي نعيم ص 77 الحديث 36.
270

حادث يكون من عند العرب، فكتب إلى النعمان بن منذر ان وجه إلي عالما أسأله
عما أريد، فوجه إليه عبد المسيح بن عمرو الغساني، فأخبره بما رأى، فذهب
عبد المسيح إلى خاله سطيح في الشام، وكان من كهان العرب، فأنباه بما وقع في
فارس، فأنشده شعرا قال فيه: انه يملك من ملوك إيران على عدد الشرفات...
فلم عاد عبد المسيح إلى كسرى وأخبره بقول سطيح، قال كسرى: إلى أن يملك
منا أربعة عشر ملكا تكون امرر وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين والباقون
إلى أن قتل عثمان (1).
ما جرى بعد ميلاد الرسول (ص) في سني رضاعه
خبر رضاع الرسول (ص):
في طبقات ابن سعد: قدمت حليمة مع زوجها وابن لها صغير ترضعه يقال
له عبد الله، وأتان قمراء وشارف لهم عجفاء قد مات سقبها من العجف ليس في
ضرع أمه قطرة لبن، فقالوا: نصيب ولدا نرضعه، ومعها نسوة سعديات، فقدمن
فأقمن أياما، فأخذن ولم تأخذ حليمة، ويعرض عليها النبي (ص)، فقالت: يتيم
لا أب له، حتى إذا كان آخر ذلك أخذته وخرج صواحبها قبلها بيوم، فقالت
آمنة: يا حليمة اعلمي أنك قد أخذت مولودا له شأن، والله لحملته فما كنت أجد
ما تجد النساء من الحمل، ولقد أتيت فقيل لي: إنك ستلدين غلاما فسميه أحمد
وهو سيد العالمين، ولوقع معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء، قال: فخرجت
حليمة إلى زوجها فأخبرته، فسر بذلك، وخرجوا على أتانهم منطلقة، وعلى

(1) تاريخ الطبري ج 2 / 131 - 132، ودلائل النبوة لأبي نعيم ج 1 / 139 - 141، ح 82،
ودلائل النبوة للبيهقي ج 1 / 126 - 127، والمنتظم لابن الجوزي ج 2 / 250 ط. بيروت.
271

شارفهم قد درت باللبن، فكانوا يحلبون منها غبوقا وصبوحا، فطلعت على
صواحبها، فلما رأينها قلن: من أخذت؟ فأخبرتهن، فقلن: والله إنا لنرجو أن
يكون مباركا، قالت حليمة: قد رأينا بركته، كنت لا أروي ابني عبد الله ولا
يدعنا ننام من الغرث، فهو وأخوه يرويان ما أحبا وينامان ولو كان معهما ثالث
لروي، ولقد أمرتني أمه أن أسأل عنه، فرجعت به إلى بلادها، فأقامت به حتى
قامت سوق عكاظ، فانطلقت برسول الله (ص) حتى تأتي به إلى عراف من هذيل
يريه الناس صبيانهم، فلما نظر إليه صاح: يا معشر هذيل! يا معشر العرب!
فاجتمع إليه الناس من أهل الموسم، فقال: اقتلوا هذا الصبي! وانسلت به حليمة،
فجعل الناس يقولون: أي صبي؟ فيقول: هذا الصبي! ولا يرون شيئا قد انطلقت
به أمه، فيقال له: ما هو؟ قال: رأيت غلاما، وآلهته ليقتلن أهل دينكم،
وليكسرن آلهتكم، وليظهرن أمره عليكم، فطلب بعكاظ فلم يوجد، ورجعت به
حليمة إلى منزلها، فكانت بعد لا تعرضه لعراف ولا لأحد من الناس (1).
إخبار سيف بن ذي يزن عبد المطلب بشأن الرسول (ص)
في دلائل النبوة لأبي نعيم، في حديث طويل موجزه:
انه لما ظهر سيف بن ذي يزن على اليمن وظفر بالحبشة ونفاهم عنها - وذلك
بعد مولد رسول الله (ص) بسنتين - أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنيه
وتمدحه، فأتاه وفد قريش، وفيهم عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن
قصي، و....
فقال سيف بن ذي يزن: وأيهم أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن

(1) طبقات ابن سعد ج 1 / 151 - 152.
272

هاشم بن عبد مناف، قال: ابن أختنا؟ قال: نعم، قال: فأدناه، ثم أقبل عليه
وعلى القوم، فقال: مرحبا وأهلا....
قال: إذا ولد بتهامة غلام به علامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة،
ولكم به الزعامة، إلى يوم القيامة.
قال عبد المطلب: - أبيت اللعن - لقد إبت بخير ما آب به وافد قوم، ولولا
هيبة الملك وإعظامه وإجلاله لسألته من بشارته إياي ما أزداد به سرورا.
قال سيف بن ذي يزن: هذا زمنه الذي يولد فيه، أو قد ولد؟ اسمه محمد،
بين كتفيه شامة، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، وقد وجدناه مرارا، والله
باعثه جهارا، وجاعل له منا أنصارا، يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه،
ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم كرائم الأرض، ويعبد الرحمن،
ويدحر الشيطان، ويخمد النيران، ويكسر الأوثان، قوله فصل، وحكمه عدل،
يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله....
إلى أن قال: فقال سيف بن ذي يزن: إنك يا عبد المطلب، لجده غير كذب،
قال: فخر عبد المطلب ساجدا، فقال: ارفع رأسك، فقد ثلج صدرك، وعلا
أمرك، فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟
قال عبد المطلب: نعم أيها الملك، إنه كان لي ابن وكنت به معجبا، وعليه
رقيقا، فزوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة،
فجاءت بغلام سميته محمدا، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه، بين كتفيه شامة،
وفيه كل ما ذكرت من علامة.
قال سيف بن ذي يزن: إن الذي ذكرت لك كما ذكرت لك، فاحتفظ بابنك،
واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، واطو
ما ذكرت لك، دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم
273

النفاسة... الحديث (1).
بقية خبر الرسول (ص) عندما كان عند مرضعته حليمة:
في طبقات ابن سعد: خرجت حليمة - ذات يوم - تطلب النبي (ص)، وقد
بدت البهم تقيل " فوجدته مع أخته، فقالت: في هذا الحر؟ فقالت أخته: يا أمه
ما وجد أخي حرا، رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقف، وإذا سار سارت معه
حتى انتهى إلى هذا الموضع (2).
و - أيضا - في طبقات ابن سعد قال: قدم كاهن مكة، ورسول الله (ص)
ابن خمس سنين، وقد قدمت بالنبي (ص) ظئره إلى عبد المطلب، وكانت تأتيه به
في كل عام، فنظر إليه الكاهن مع عبد المطلب فقال: يا معشر قريش اقتلوا هذا
الصبي، فإنه يقتلكم ويفرقكم، فهرب به عبد المطلب، فلم تزل قريش نخشى من
امره ما كان الكاهن محذرهم (3).
سفره مع عمه أبي طالب إلى الشام
في طبقات ابن سعد قال: لما خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول
الله (ص) في المرة الأولى، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فلما نزل الركب، بصرى من
الشأم، وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له، وكان علماء النصارى يكونون في
تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه، فلما نزلوا بحيرا وكان كثيرا ما

(1) دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، ح 50، ص 95 - 98.
(2) طبقات ابن سعد ج 1 / 152.
(3) طبقات ابن سعد ج 1 / 166 - 167.
274

يمرون به لا يكلمهم، حتى إذا كان ذلك العام، ونزلوا منزلا قريبا من صومعته قد
كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا، فصنع لهم طعاما ثم دعاهم، وإنما حمله على
دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله (ص) من بين القوم حتى
نزلوا تحت الشجرة، ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة واخضلت أغصان
الشجرة على النبي (ص) حين استظل تحتها، فلما رأى بحيرا ذلك نزل من صومعته
وأمر بذلك الطعام فأتي به وأرسل إليهم، فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر
قريش، وأنا أحب أن تحضروه كلكم، ولا تخلفوا منكم صغيرا ولا كبيرا، حرا
ولا عبدا، فإن هذا شئ تكرموني به، فقال رجل: إن لك لشأنا يا بحيرا، ما كنت
تصنع بنا هذا، فما شأنك اليوم؟ قال: فإنني أحببت أن أكرمكم ولكم حق،
فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله (ص) من بين القوم لحداثة سنه، ليس في القوم
أصغر منه في رحالهم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا إلى القوم فلم ير الصفة التي
يعرف ويجدها عنده، وجعل ينظر ولا يرى الغمامة على أحد من القوم، ويراها
متخلفة على رأس رسول الله (ص) قال بحيرا: يا معشر قريش لا يتخلفن منكم
أحد عن طعامي، قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا في رحالهم،
فقال: ادعوه فليحضر طعامي فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد مع أني
أراه من أنفسكم، فقال القوم: هو والله أوسطنا نسبا وهو ابن أخي هذا الرجل،
يعنون أبا طالب، وهو من ولد عبد المطلب، فقال الحارث بن عبد المطلب بن عبد
مناف: والله إن كان بنا للؤم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا، ثم قام إليه
فاحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام والغمامة تسير على رأسه، وجعل
بحيرا يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء في جسده قد كان يجدها عنده من
صفته، فلما تفرقوا عن طعامهم قام إليه الراهب فقال: يا غلام أسألك بحق اللات
والعزى إلا أخبرتني عما أسألك، فقال رسول الله (ص): لا تسألني باللات
275

والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما! قال: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه،
قال: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله حتى نومه، فجعل رسول
الله (ص) يخبره فيوافق ذلك ما عنده، ثم جعل ينظر بين عينيه، ثم كشف عن
ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضع الصفة التي عنده، قال: فقبل موضع
الخاتم، وقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا، وجعل أبو طالب، لما
يرى من الراهب، يخاف على ابن أخيه، فقال الراهب لأبي طالب: ما هذا الغلام
منك؟ قال أبو طالب: ابني، قال: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون
أبوه حيا، قال: فابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: هلك وأمه حبلى به، قال: فما
فعلت أمه؟ قال: توفيت قريبا، قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر
عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليبغنه عنتا، فإنه كائن لابن
أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا، واعلم أني قد أديت
إليك النصيحة. فلما فرغوا من تجاراتهم خرج به سريعا، وكان رجال من يهود قد
رأوا رسول الله (ص) وعرفوا صفته، فأرادوا أن يغتالوه فذهبوا إلى بحيرا
فذاكروه أمره، فنهاهم أشد النهي وقال لهم: أتجدون صفته؟ قالوا: نعم، قال: فما
لكم إليه سبيل، فصدقوه وتركوه، ورجع به أبو طالب، فما خرج به سفرا بعد ذلك
خوفا عليه.
وقال: قال الراهب لأبي طالب: لا تخرجن بابن أخيك إلى ما ههنا، فإن
اليهود أهل عداوة، وهذا نبي هذه الأمة، وهو من العرب، واليهود تحسده تريد
أن يكون من بني إسرائيل، فاحذر على ابن أخيك (1).

(1) طبقات ابن سعد ج 1 / 153 - 155.
276

في سفره (ص) للتجارة بأموال خديجة
في طبقات ابن سعد: خرج مع غلام خديجة ميسرة حتى قدما بصرى من
الشأم، فنزلا في سوق بصرى في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان
يقال له نسطور، فاطلع الراهب إلى ميسرة، وكان يعرفه قبل ذلك، فقال:
يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال ميسرة: رجل من قريش
من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، ثم قال: في
عينيه حمرة؟ قال ميسرة: نعم لا تفارقه، قال الراهب: هو هو آخر الأنبياء،
يا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج! ثم حفر رسول الله (ص) سوق بصرى
فباع سلعته التي خرج بها واشترى غيرها، فكان بينه وبين رجل اختلاف في
شئ، فقال له الرجل: احلف باللات والعزى، فقال رسول الله (ص): ما حلفت
بهما قط وإني لأمر فأعرض عنهما، قال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة،
وخلا به: يا ميسرة هذا والله نبي! والذي نفسي بيده إنه لهو تجده أحبارنا في كتبهم
منعوتا، فوعى ذلك ميسرة، ثم انصرف أهل العير جميعا، وكان ميسرة يرى
رسول الله (ص) إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس
وهو على بعيره... الحديث (1).
وأنشد في ذلك أبو طالب قصيدتين قال في إحداهما:
ان ابن آمنة الني محمدا عندي يفوق منازل الأولاد
لما تعلق بالزمام رحمته والعيس قد قلصن بالأزواد

(1) طبقات ابن سعد ج 1 / 156 وأوردنا تفصيل تلكم الاخبار في سيرة النبي في أول الجزء
الثاني من عقائد الاسلام من القرآن الكريم.
277

إلى قوله:
راعيت فيه قرابة موصولة وحفظت فيه وصية الأجداد
إلى قوله:
حتى إذا ما قوم بصرى عاينوا لاقوا على شرك من المرصاد
قوم يهود قد رأوا ما قد رأى ظل الغمام وعز ذي الأكباد
ثاروا لقتل محمد فنهاهم عنه وجاهد أحسن الجهاد
وقال في الثانية:
ألم ترني من بعد هم هممته بفرقة خير الوالدين كرام
بأحمد لما ان شددت مطيتي برحل وقد ودعته بسلام
بكى حزنا والعيس قد قلصت بنا...
إلى قوله:
وجاء بحيرا عند ذلك حاسرا لنا بشراب طيب وطعام
فلما رآه مقبلا نحو داره يوقيه حر الشمس ظل غمام
حنى رأسه شبه السجود وضمه إلى نحره والصدر أي ضمام
وأقبل ركب يطلبون الذي رأى بحيرا من الاعلام وسط خيام
فجاءوا وقد هموا بقتل محمد فردهم عنه بحسن خصام
إلى آخر الأبيات.
ما جرى للرسول (ص) عندما بلغ العشرين من عمره
في تاريخ اليعقوبي ما موجزه: ولما بلغ العشرين ظهرت فيه العلامات،
وجعل أصحاب الكتب يقولون فيه ويتذاكرون أمره ويتوصفون حاله ويقربون
ظهوره. وأخبر الرسول (ص) عمه ما كان يرى في المنام من بشائر النبوة. فوصف
278

أبو طالب ما قال لبعض من كان بمكة من أهل العلم، فلما نظر إلى رسول الله (ص)
قال: هذه الروح الطيبة! هذا والله النبي المطهر. فقال له أبو طالب: فاكتم على ابن
أخي لا تغر به قومه، فوالله إنما قلت: لعلي ما قلت، ولقد أنبأني أبي عبد المطلب
بأنه النبي المبعوث وأمرني أن أستر ذلك لئلا يغري به الأعادي (1).
ما جرى للرسول (ص) مقارنا لبعثته
تسليم الشجر والحجر على الرسول (ص) قبل ان يبعث:
أ - في مسند أحمد وسنن الترمذي واللفظ للأول بسنده عن جابر بن سمرة
قال: قال رسول الله (ص): اني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن
ابعث (2).
ب - وفي طبقات ابن سعد بسنده عن برة بنت أبي تجراة قالت: إن رسول
الله (ص) حين أراد الله به كرامته وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجة أبعد حتى
لا يرى بيتا، ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجرة إلا
قالت: السلام عليك يا رسول الله، فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى
شيئا (3).
ج - وفي سنن الترمذي والدارمي واللفظ للأول بسنده عن علي بن أبي

(1) تاريخ اليعقوبي ج 2 / 12 - 14، وراجع: تاريخ ابن عساكر، مجلد السيرة النبوية ص 97
ط. دمشق الأولى.
(2) مسند أحمد ج 5 / 89 و 95 وسنن الترمذي ج 13 / 110.
(3) طبقات ابن سعد ط. ج 8 / 246 بيروت وقال في ترجمتها: برة بنت أبي تجراة بن أبي
فكيهة واسمه يسار، ويقولون إنهم من الأزد حلفاء بني عبد الدار ولهم فيهم ولادات. وقد
روت برة عن رسول الله (ص).
279

طالب قال: كنت مع النبي (ص) بمكة، خرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل
ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله (1).
في ما جرى للرسول (ص) بعد بعثته
أ - في دلائل النبوة لأبي نعيم قال المغيرة بن شعبة في خروجه إلى المقوقس
مع بني مالك: وإنهم لما دخلوا على المقوقس قال لهم: كيف خلصتم إلي من
طلبتكم ومحمد وأصحابه بيني وبينكم؟....
إلى أن قال: قال المقوقس: هو نبي مرسل إلى الناس كافة، ولو أصاب
القبط والروم تبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى بن مريم، وهذا الذي تصفون منه
بعث به الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد، ويظهر دينه إلى
منتهى الخف والحافر، ومنقطع البحور، ويوشك قومه يدافعونه بالرماح....
وقال المغيرة: فرجعنا إلى منازلنا، فأقمت بالإسكندرية لا أدع كنيسة إلا
دخلتها، وسألت أساقفها من قبطها ورومها عما يجدون من صفة محمد (ص) وكان
أسقف من القبط هو رأس كنيسة أبي غني كانوا يأتونه بمرضاهم فيدعو لهم، لم أر
أحدا قط يصلي الصلوات الخمس أشد اجتهادا منه، فقلت: أخبرني هل بقي أحد
من الأنبياء؟ قال: نعم، وهو آخر الأنبياء، ليس بينه وبين عيسى بن مريم أحد،
وهو نبي قد أمرنا عيسى باتباعه، وهو النبي الأمي العربي، اسمه أحمد، ليس
بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة، ليس بالأبيض ولا بالأدم، يعفي شعره،
ويلبس ما غلظ من الثياب، ويجتزئ بما لقي من الطعام، سيفه على عاتقه،
ولا يبالي من لاقى، يباشر القتال بنفسه ومع أصحابه، يفدونه بأنفسهم، هم له

(1) سنن الترمذي ج 13 / 111 أبواب المناقب وسنن الدارمي ومستدرك الحاكم ج 2 / 620.
280

أشد حبا من أولادهم وآبائهم، يخرج من أرض القرظ (1) ومن حرم يأتي إلى
حرم، يهاجر إلى أرض سباج (2) ونخل، يدين بدين إبراهيم عليه السلام.
قال المغيرة بن شعبة: زدني في صفته، قال: يأتزر على وسطه، ويغسل
أطرافه، ويخص بما لم يخص به الأنبياء قبله، كان النبي يبعث إلى قومه، وبعث إلى
الناس كافة، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركته الصلاة تيمم
وصلى، ومن كان قبله مشددا عليهم لا يصلون إلا في الكنائس والبيع.
قال الشيخ أبو نعيم: ونعوته وصفاته في الكتب المنزلة وعند الرهابنة
والأساقفة والأحبار من أهل الكتابين مستفيض، وكانوا يرجعون في أمر بعثته
وإرساله إلى علم متيقن كالضروري، لتبشير الأنبياء صلوات الله عليهم به
وبارساله، وإيصائهم أمتهم بتصديقه إن أدركته، وما كانت في أيديهم من الكتب والعهود المتقدمة المتواترة عن آبائهم وأسلافهم (3).
ب - في دلائل النبوة لأبي نعيم عن محمد بن إسحاق: أن هرقل قال لدحية
الكلبي حين قدم عليه بكتاب رسول الله (ص): ويحك، والله إني لأعلم أن
صاحبك لنبي مرسل وأنه للذي كنا ننتظره، نجده في كتبنا، ولكني أخاف الروم
على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته، فاذهب إلى " ضغاطر " الأسقف فاذكر له أمره،
فهو والله في الروم أعظم مني، وأجوز عندهم قولا حتى أنظر ماذا يقول، قال:
فجاءه دحية الكلبي، فأخبره بما جاء به من رسول الله (ص) إلى هرقل، وإلى ما

(1) القرظ: شجر يسمى أيضا بشجر السلم، وهو شجر من العضاه يستعمل في الدباغة
ويستخرج منه الصمغ المعروف، ومنه سمي " ذو سلم " وهو المكان الذي مر به رسول
الله (ص) حين هاجر من مكة إلى المدينة. انظر: تهذيب سيرة ابن هشام، تبويب وتعليق
محمد رواس قلعة جي ج 1 / 147.
(2) أرض سباخ: أرض لم تحرث.
(3) دلائل النبوة لأبي نعيم ص 85 - 89، ح 45.
281

يدعو إليه، قال: فقال ضغاطر: صاحبك والله نبي مرسل، نعرفه بصفته، ونجده في
كتبنا باسمه، قال: ثم دخل فألقى ثيابا كانت عليه سودا، ولبس ثيابا بيضا، ثم
أخذ عصاه فخرج على الروم وهم في الكنيسة، فقال: يا معشر الروم، إنه قد
جاءنا كتاب أحمد، يدعونا فيه إلى الله، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده
ورسوله، قال: فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فظربوه حتى قتلوه، فلما رجع دحيه
إلى هرقل وقد أخبره الخبر قال: قد قلت لك: انا نخافهم على أنفسنا، فضغاطر
والله كان أعظم عندهم مني، وأجوز قولا مني (1).
ج - في طبقات ابن سعد قال: كان الزبير بن باطا، وكان أعلم اليهود،
يقول: إني وجدت سفرا كان أبي يختمه علي، فيه ذكر أحمد نبي يخرج بأرض
القرظ صفته كذا وكذا، فتحدث به الزبير بعد أبيه والنبي (ص) لم يبعث، فما هو إلا
أن سمع بالنبي (ص) قد خرج بمكة حتى عمد إلى ذلك السفر فمحاه وكتم شأن
النبي (ص) وقال: ليس به (2).
د - في طبقات ابن سعد قال: كانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر رسول
الله (ص) في كتبهم ويعلمونه الولدان بصفته واسمه ومهاجره إلينا، فلما ظهر رسول
الله (ص) حسدوا وبغوا وقالوا: ليس به (3).
5 - في طبقات ابن سعد: أن إسلام ثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعية وأسد بن
عبيد ابن عمهم إنما كان عن حديث ابن الهيبان أبي عمير، قدم ابن الهيبان،
يهودي من يهود الشأم، قبيل الاسلام بسنوات، قالوا: وما رأينا رجلا لا يصلي
الصلوات الخمس خيرا منه، وكان إذا حبس عنا المطر احتجنا إليه، نقول له:

(1) دلائل النبوة لأبي نعيم ص 101 - 102 ح 53.
(2) طبقات ابن سعد ج 1 / 195.
(3) طبقات ابن سعد ج 1 / 160.
282

يا بن الهيبان اخرج فاستسق لنا، فيقول: لا حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة،
فنقول: وما نقدم؟ فيقول: صاعا من تمر أو مدين من شعير عن كل نفس، فنفعل
ذلك فيخرج بنا إلى ظهر وادينا، فوالله لن نبرح حتى تمر السحاب فتمطر علينا،
ففعل ذلك بنا مرارا، كل ذلك نسقى، فبينا هو بين أظهرنا إذ حضرته الوفاة، فقال:
يا معشر اليهود ما الذي ترون أنه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض
البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم يا أبا عمير! قال: إنما قدمتها أتوكف خروج
نبي قد أظلكم زمانه، وهذا البلد مهاجره، وكنت أرجو أن أدركه فأتبعه، فإن
سمعتم به فلا تسبقن إليه، فإنه يسفك الدماء ويسبي الذراري والنساء، فلا يمنعكم
هذا منه، ثم مات، فلما كان في الليلة التي في صبيحتها فتحت بنو قريظة، قال لهم
ثعلبة وأسيد ابنا سعية وأسد بن عبيد فتيان شباب: يا معشر يهود، والله إنه
الرجل الذي وصف لنا أبو عمير بن الهيبان، فاتقوا الله واتبعوه، قالوا: ليس به،
قالوا: بلى والله إنه لهو هو، فنزلوا وأسلموا وأبى قومهم أن يسلموا (1).
و - في طبقات ابن سعد: أن كعب بن أسد قال لبني قريظة حين نزل
النبي (ص) في حصنهم: يا معشر يهود تابعوا الرجل فوالله إنه النبي، وقد تبين لكم
أنه نبي مرسل، وأنه الذي كنتم تجدونه في الكتب، وأنه الذي بشر به عيسى، وأنكم
لتعرفون صفته، قالوا: هو به ولكن لا نفارق حكم التوراة (2).
ز - وأخرج الحاكم عن علي بن أبي طالب: ان يهوديا كان له على رسول
الله (ص) دنانير، فتقاضى النبي (ص) فقال له: ما عندي ما أعطيك، قال: فاني
لا أفارقك يا محمد حتى تعطيني، قال: اذن أجلس معك يا محمد، فجلس معه
فصلى النبي (ص) الظهر والعصر والمغرب والعشاء والغداة وكان أصحاب

(1) طبقات ابن سعد ج 1 / 160 - 161.
(2) طبقات ابن سعد ج 1 / 164.
283

النبي (ص) يتهددون اليهودي ويتوعدونه فقالوا: يا رسول الله يهودي يحبسك،
قال: منعني ربي أن أظلم معاهدا ولا غيره، فلما ترحل النهار أسلم اليهودي
وقال: شطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت الذي فعلت بك إلا لأنظر إلى
نعتك في التوراة: محمد ابن عبد الله، مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام،
ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفحشاء ولا قوال
للخنى (1).

(1) مستدرك الحاكم ج 2 / 622 ودلائل النبوة لأبي نعيم ص 91 ح 48 عن عبد الله بن سلام
قصة اسلام زيد بن اشعثة.
284

خلاصة البحث
جاء في روايات مدرسة الخلفاء ان الملك جاء إلى النبي (ص) في غار حراء
وقال له: اقرأ، فقال: ما انا بقارئ، فاخذه فغطه حتى بلغ به الجهد، ثم أرسله فقال:
اقرأ، فقال: ما انا بقارئ، فأخذه فغطه... وفي الثانية قال له: (اقرأ باسم
ربك...) الآيات فرجع الرسول (ص) إلى زوجته خديجة يرجف فؤاده وقال:
زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، وقال لخديجة: خشيت على
نفسي....
وفي ثانية قال لخديجة: اخشى أن تكون في جنن...!
وفي ثالثة: قال لها: لأخشى ان أكون كاهنا!
وفي رابعة: قال لها: فغطني حتى ظننت انه الموت! أو لم يكن أحد من خلق
الله أبغض إلي من شاعر أو مجنون، لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي
منه فلأقتلنها فلأستريحن، أو أنه جلس إلى فخذ خديجة ملتصقا بها مائلا إليها.
وفي جميع الروايات ان خديجة هدأته وطمأنته، ولزيادة الاطمئنان
والمعرفة الكاملة بالأمر أخذته إلى ابن عمها النصراني ورقة بن نوفل، وبعد ان
استمع النصراني إلى حديثها عن الرسول (ص) اخبرها الخبر اليقين بان زوجها
هو نبي هذه الأمة، ثم اتجه إلى النبي (ص) يطمئنه ويبدد خوفه ويعرفه ما كان به
جاهلا من أنه نبي هذه الأمة، وانه قد جاءه الناموس الأكبر الذي جاء إلى
موسى عليه السلام.
وان خديجة طلبت منه أن يخبرها عندما يأتيه جبرائيل، فلما أتاه وأخبرها
قالت: يا بن عم اجلس على فخذي اليسرى، ففعل (ص) ذلك، فقالت: هل
285

تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى، ففعل (ص) فقالت: هل
تراه؟ قال: نعم! قالت: فتحول فاجلس في حجري ففعل (ص) فقالت: هل
تراه؟ قال: نعم! فتحسرت، فألقت خمارها ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا، فقالت
يا بن عم! أثبت وأبشر فوالله انه لملك وما هو بشيطان.
وفي رواية ان خديجة أدخلت الرسول (ص) بينها وبين درعها فذهب عند
ذلك جبرائيل، فقالت للرسول (ص): ان هذا لملك وما هو بشيطان!!!
ولدراسة هذه الأخبار رجعنا إلى اسنادها فلم نجد واحدا ممن رواها أدرك
عصر الواقعة ليحدث عنها.
ورجعنا إلى متونها وقارناها بما جاء في القرآن الكريم وروايات أخرى
بمدرسة الخلفاء فوجدنا:
أولا: ان القرآن يخبر ان الله اخذ ميثاق النبيين آدم فمن بعده في محمد (ص)
لئن بعث خاتم الرسل وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد كذلك
على قومه.
ثانيا: جاءت صفاته ونعته (ص) في التوراة والإنجيل، وان اسمه أحمد
ومحمد وبشر ببعثته الأنبياء، ولذلك فان أهل الكتاب كانوا يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم، كما ذكرت صفات أمته - أيضا - في الكتب السماوية.
ثالثا: كان الأحبار والكهان يخبرون: بان مولده (ص) في مكة ويهاجر إلى
المدينة، وبسبب علمهم بذلك هاجر قبائل من اليهود إلى المدينة ونواحيها
ينتظرون بعثته، وأخبروا تبعا بذلك عندما أراد أن يهدم المدينة فانصرف عنها ولم
يمس أحدا بسوء، وبشروا به جده عبد المطلب. وبسبب اشتهار ذلك في المجتمع
الجاهلي سمعي بعض العرب أبناءهم بمحمد رجاء أن تدركه النبوة.
رابعا: في ليلة ميلاده (ص) رأت آمنة أم الرسول (ص) حين حملت به نورا
286

خرج منها أضاءت له بصرى من ارض الشام، وقيل لها في المنام، انك حملت
بسيد هذه الأمة فإذا ولد سميه محمدا.
ولما ولد (ص) رآى من كان في البيت كل شئ في البيت كأنه نور، وكأن
النجوم تدنو حتى يروها كأنها تقع عليهم.
وأرسلت أمه إلى جده عبد المطلب فلما جاء حدثته بما رأت حين حملت به
وما قيل لها وما أمرت ان تسميه.
ورأي عالم اليهود في المدينة طلوع نجمه فصعد بيتا مرتفعا ومعه شعلة نار
فصرخ: يا معشر اليهود، فلما اجتمعوا إليه قال: هذا كوكب احمد قد طلع وهذا
الكوكب لا يطلع إلا بالنبوة!
وفي فارس تزلزل إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وغاضت
بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، وكانوا يعبدونها، ولم تخمد نار فارس قبله منذ
الف سنة، ورأي الموبذان في منامه إبلا صعابا تقود خيلا عرابا عبرت نهر دجلة
وانتشرت في بلادهم، فأعلمهم سطيح الكاهن بان ملك فارس ينتهي بعد مضي
أربعة عشر ملكا منهم.
خامسا: لما أخذته (ص) مرضعته حليمة رأت من دلائل نبوته انتشار
البركة لما در لبنها ولبن البهم من دواجنها، ورأت تظليل الغمام إياه، فأدركت
وعرفت عظيم امره، ولما سمعت من الكاهن في سوق عكاظ وغيره ما سمعت
وشاهدت من امره ما شاهدت خشيت عليه وأرجعته إلى أمه في مكة، وعندئذ
أخبرتها أمه بما رأت وسمعت في شأنه عند ولادته.
سادسا: ما جرى في سفره (ص) مع عمه إلى الشام: لما نزل الركب بصرى
من الشام ورأي عالم النصارى بحيرا من صومعته الغمامة تظلل رسول الله (ص)
دعاهم إلى طعامه وجعل يلحظ رسول الله (ص) وسأله عن أحواله، ورأي خاتم
287

النبوة بين كتفيه، فأخبر عمه بأنه نبي هذه الأمة وان اليهود تحسده لأنه ليس من
بني إسرائيل، ورآه هناك رجال من اليهود وعرفوا صفته فذاكروا بحيرا باغتياله،
فنهاهم غنه وقال لهم: إن كان هو ما تخبرون عنه فليس لكم عليه سبيل، فصدقوه
وتركوه، فأنشد أبو طالب في ذلك قصيدتين.
سابعا: ما جرى في سفره (ص) في تجارة لخديجة: رأى ميسرة غلام
خديجة كيف يظلل من الشمس، ورأه نسطورا الراهب وعرف انه النبي لما رأى
فيه من علامات، وقال لميسرة: هو آخر الأنبياء.
ثامنا: ما جرى للنبي (ص) مقارنا لبعثته حين أراد الله كرامته وابتدأه
بالنبوة، كان إذا خرج لحاجة أبعد حتى يفضي إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر
بحجر ولا شجرة إلا قالت: السلام عليك يا رسول الله!
مع كل ما أوردناه من مصادر الدراسات الاسلامية بمدرسة الخلفاء لست
أدري كيف لم ينتبه الاعلام منهم إلى مناقضة الآيات الماضية والروايات السابقة
مع ما رووا من أن الرسول (ص) عندما نزل عليه جبرائيل بسورة اقرأ، قال له:
اقرأ، قال: لست بقارئ، فغطه حتى بلغ منه الجهد حتى ظن أنه الموت، يفعل ذلك
به ثلاث مرات، وفي الأخيرة قال له: (اقرأ باسم ربك الذي خلق...) ولم لم يقرأ
عليه الآيات ليعرف الرسول (ص) ماذا يقرأ؟
وكيف خشي أن يكون به جنن أو إنه أصبح كاهنا؟ أي أن النبي (ص) ظن أن
جبرائيل جني يكلمه، وبذلك أصبح كاهنا وأخذ فؤاده يرجف، وقال عن
نفسه: إن الابعد، لشاعر أو مجنون - معاذ الله - حتى ذهبت به خديجة إلى ورقة بن
نوفل النصراني فطمأنه وعرفه ان الذي كلمه هو الناموس الأكبر الذي نزل على
موسى عليه السلام.
وإن المعرفة بجبرائيل بعد أن أجلست خديجة الرسول (ص) في حجرها
288

وكشفت عن رأسها، أو بعد ان أدخلته في درعها وتغيب جبرائيل عن عين
الرسول (ص).
لست أدري أيصح ان يسجل مثل هذا السخف في سيرة الرسول (ص)؟
وإذا كانت هذه الروايات في خبر بدء تلقي الرسول (ص) الوحي تناقض
القرآن الكريم وتناقض البشارات المنتشرة في الكتب السماوية والروايات
الصحيحة المتواترة في مصادر الدراسات الاسلامية بمدرسة الخلفاء، فكيف كان
تلقي الرسول (ص) أول وحي نزل إليه؟ نرجع لمعرفة ذلك إلى مصادر الدراسات
الاسلامية بمدرسة أهل البيت، فنجد في خطبة للإمام علي في نهج البلاغة يخبر عن
ذلك ويقول:
(ولقد قرن الله به (ص) من لدن إن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته
يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت اتبعه اتباع
الفصيل اثر أمه، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به. ولقد
كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في
الاسلام غير رسول الله (ص) وخديجة وانا ثالثهما، أرى نور الوحي، وأشم ريح
النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (ص) فقلت: يا رسول الله
ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته، انك تسمع ما اسمع وترى ما
أرى إلا انك لست بنبي، ولكنك وزير وانك على خير) (1).
وقال علي بن محمد الهادي عليه السلام: إن رسول الله (ص) لما ترك التجارة إلى
الشام، وتصدق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات، كان يغدو كل يوم إلى
حراء يصعده وينظر من قلله إلى آثار رحمة الله، وإلى أنواع عجائب رحمته

(1) نهج البلاغة، خطبة 192، (الخطبة القاصعة) ص 300 - 301 تحقيق صبحي الصالح
وشرح محمد عبده 2 / 182، ط. مصر، مطبعة الاستقامة.
289

وبدائع حكمته، وينظر إلى أكناف السماء (1) وأقطار الأرض والبحار والمفاوز
والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار، ويتذكر بتلك الآيات، ويعبد الله حق عبادته، فلما
استكمل أربعين سنة، ونظر الله عز وجل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب وأجلها
وأطوعها وأخشعها وأخضعها، أذن لأبواب السماء ففتحت ومحمد ينظر إليها،
وأذن للملائكة فنزلوا ومحمد ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق
العرش إلى رأس محمد وغرته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوق بالنور
طاووس الملائكة هبط إليه وأخذ بضبعه (2) وهزه وقال: يا محمد اقرأ، قال: وما
أقرأ؟ قال: يا محمد (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الانسان من علق * اقرأ
وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الانسان ما لم يعلم) (3)، ثم أوحى إليه ما
أوحى إليه ربه عز وجل، ثم صعد إلى العلو ونزل محمد (ص) من الجبل (4) وقد
غشيه من تعظيم جلال الله وورد عليه من كبير (5) شأنه ما ركبه الحمى والنافض (6).
يقول: وقد اشتد عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره ونسبتهم إياه
إلى الجنون، وإنه يعتريه شياطين (7)، وكان من أول أمره أعقل خلق الله (8)، وأكرم
براياه، وأبغض الأشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين وأقوالهم، فأراد الله
عز وجل أن يشرح صدره، ويشجع قلبه، فأنطق الله الجبال والصخور والمدر،

(1) وأقطارها (خ).
(2) الضبع: وسط العضد وفي المصدر: بضبعيه.
(3) سورة العلق: 1 - 5.
(4) عن الجبل (خ ل).
(5) من كبر شأنه (خ ل) وفي المصدر: من كبرياء شأنه.
(6) النافض: ص الرعدة.
(7) شيطان (خ ل). وفي المصدر: الشيطان
(8) خليقة الله. (خ ل).
290

وكلما وصل إلى شئ منها ناداه: السلام عليك يا محمد، السلام عليك يا ولي الله،
السلام عليك يا رسول الله (1) أبشر، فإن الله عز وجل قد فضلك وجملك وزينك
وأكرمك فوق الخلائق أجمعين من الأولين والآخرين، لا يحزنك أن تقول قريش
إنك مجنون. وعن الدين مفتون، فإن الفاضل من فضله رب العالمين، والكريم من
كرمه خالق الخلق أجمعين، فلا يضيقن صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب
لك، فسوف يبلغك ربك أقصى منتهى الكرامات، ويرفعك إلى أفرفع الدرجات،
وسوف ينعم ويفرح أولياءك بوصيك علي بن أبي طالب، وسوف يبث علومك في
العباد والبلاد بمفتاحك وباب مدينة حكمتك (2): علي بن أبي طالب، وسوف يقر
عينك ببنتك فاطمة، وسوف يخرج منها ومن علي الحسن والحسين سيدي شباب
أهل الجنة، وسوف ينشر في البلاد دينك، وسوف يعظم أجور المحبين لك
ولأخيك، وسوف يضع في يدك لواء الحمد فتضعه في يد أخيك علي، فيكون تحته
كل نبي وصديق وشهيد، يكون قائدهم أجمعين إلى جنات النعيم، فقلت في سري:
يا رب من علي بن أبي طالب الذي وعدتني به؟ - وذلك بعدما ولد علي عليه السلام وهو
طفل - أهو ولد عمي؟ وقال بعد ذلك لما. تحرك علي وليدا (3) وهو معه: أهو هذا؟
ففي كل مرة من ذلك أنزل عليه ميزان الجلال، فجعل محمد في كفة منه، ومثل له
علي عليه السلام وسائر الخلق من أمته إلى يوم القيامة في كفة، فوزن بهم فرجح، ثم اخرج
محمد من الكفة وترك علي في كفة محمد التي كان فيها فوزن بسائر أمته فرجح بهم،

(1) زاد في المصدر: بعد قوله: رسول الله: السلام عليك يا حبيب الله ابشر، ولم يذكر قوله:
السلام عليك أبا محمد
(2) في المصدر: مدينة علمك.
(3) قليلا (خ ل): وهو الموجود في المصدر.
291

وعرفه (1) رسول الله بعينه وصفته ونودي في سره: يا محمد هذا علي بن أبي طالب
صفيي الذي أؤيد به هذا الدين، يرجح على جميع أمتك بعدك، فذلك حين شرح
الله صدري بأداء الرسالة، وخفف عني مكافحة الأمة، وسهل علي مبارزة العتاة
الجبابرة من قريش (2).
* * *
هكذا كان الإمام علي هو الشاهد الوحيد لبدء نزول الوحي. وأهل البيت
أدرى بما في البيت.
وأما الروايات التي سبق ايرادها فهي مختلقة وافتريت روايتها على
أم المؤمنين وغيرها من الصحابة، وسوف نبحث عمن اختلقها بعد ايراد روايات
بدء الدعوة وأسطورة الغرانيق ودراستها بإذنه تعالى:

(1) فعرفه (خ ل).
(2) بحار الأنوار للمجلسي 18 / 205 - 207.
وما أخبر به علي بن محمد الهادي (ع) من سيرة وحديث كان مما أخذه عن آبائه عن جده
علي (ع) كما أثبتنا ذلك في المجلد الثاني من معالم المدرستين، الفصل الربع، بحث أحاديث أئمة
أهل البيت (ع) مسندة إلى الله ورسوله (ص).
292

ثانيا - روايات بدء الدعوة
أ - في صحيح مسلم عن عائشة قالت: لما نزلت: (وانذر عشيرتك
الأقربين، قام رسول الله (ص) على الصفا فقال: يا فاطمة بنت محمد! يا صفية
بنت عبد المطلب! يا بني عبد المطلب! لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالي
ما شئتم (1).
ب - في صحيح مسلم وسنن النسائي ومسند أحمد واللفظ للأول عن أبي
هريرة قال: لما أنزلت هذه الآية: (وانذر عشيرتك الأقربين) دعا رسول
الله (ص) قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال: يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم
من النار. يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار... يا بني هاشم! أنقذوا
أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة! أنقذي
نفسك من النار، فاني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها (2).
ج - في صحيح مسلم: ان أبا هريرة قال: قال رسول الله (ص) حين انزل

(1) صحيح مسلم، كتاب الايمان، باب وانذر عشيرتك الأقربين ج 1 / 192، وسنن
النسائي، كتاب الوصايا ج، باب إذا أوصى لعشيرته الأقربين 6 / 250، ومسند أحمد
2 / 360 و 6 / 187، وصحيح البخاري 2 / 179، وسنن الترمذي، كتاب الزهد، باب ما
جاء في انذار النبي (ص) قومه 9 / 191، وكتاب التفسير تفسير سورة الشعراء، 12 / 59.
(2) صحيح مسلم، كتاب الايمان، باب وانذر عشيرتك الأقربين ج 1 / 192، وسنن النسائي
ج 6 / 248 كتاب الوصايا، ومسند أحمد ج 2 / 333 و 519.
293

عليه: (وانذر عشيرتك الأقربين): يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله
لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئا،
يا عباس ابن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله!
لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله! سليني بما شئت لا أغني
عنك من الله شيئا (1).
د - في سنن الترمذي وتفسيري الطبري والسيوطي عن أبي موسى
الأشعري، يقول أبو موسى: لما نزلت: (وأنذر عشيرتك الأقربين) وضع رسول
الله (ص) إصبعه في اذنيه فرفع من صوته فقال: يا بني عبد مناف يا صباحاه
فخاطبهم: اني أنذركم وأخوفكم من الخطر... (2).
ه‍ - في تفسير السيوطي عن ابن عباس قال: لما نزلت: (وأنذر عشيرتك
الأقربين) ورهطك منهم المخلصين خرج النبي (ص) حتى صعد على الصفا فنادى:
يا صباحاه، فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد! فاجتمعوا إليه، فجعل
الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش،
فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم ان خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟
قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فاني نذير لكم بين يدي عذاب
شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: (تبت يدا أبي

(1) صحيح مسلم، كتاب الايمان باب وانذر عشيرتك الأقربين ج 1 / 192 - 193، وسنن
الدارمي، كتاب الرقاق، باب وانذر عشيرتك الأقربين ج 2 / 305، وسنن النسائي، كتاب
الوصايا ج 6 / 249، ومسند أحمد ج 2 / 350 و 399.
وذكر السيوطي روايتين أخريين في تفسير هذه الآية ج 5 / 96 عن انس بن مالك وبراء
بن عازب وهي شبيهة تماما برواية أبي هريرة.
(2) الدر المنثور للسيوطي ج 5 / 96، نقلا عن تاريخ الطبري ج 19 / 73 وما بعدها، وسنن
الترمذي ج 12 / 62 ط. مصر سنة 1353 ه‍.
294

لهب وتب) (1).
و - في مسند أحمد وصحيح مسلم وتفسير الطبري والسيوطي عن أبي
عثمان النهدي، عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو قال: لما نزلت على رسول
الله (ص): (وأنذر عشيرتك الأقربين) انطلق رسول الله (ص) إلى صخرة من
جبل فعلا أعلاها، ثم نادى أو قال: يا آل عبد مناف اني نذير، ان مثلي ومثلكم
كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربؤ أهله ينادي، أو قال: يهتف يا صباحاه (2).
ز - في الدر المنثور بسنده عن أنس قال: لما نزلت: (وأنذر عشيرتك
الأقربين) بكى رسول الله (ص) ثم جمع أهله فقال: يا بني عبد مناف أنقذوا
أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا
أنفسكم من النار، ثم التفت إلى فاطمة فقال: يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من
النار، فاني لا أغني عنكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها (3).
ح - عن البراء قال: لما نزلت على النبي (ص): (وأنذر عشيرتك
الأقربين) صعد النبي (ص) ربوة من جبل فنادى: يا صباحاه، فاجتمعوا،
فحذرهم وأنذرهم ثم قال: لا أملك لكم من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد أنقذي
نفسك من النار، فاني لا أملك لك من الله شيئا (4).
ط - عن أبي أمامة قال: لما نزلت: (وأنذر عشيرتك الأقربين) جمع
رسول الله (ص) بني هاشم فأجلسهم على الباب، وجمع نساءه وأهله فأجلسهم

(1) تفسير السيوطي ج 5 / 96، وسنن الترمذي ج 12 / 259.
(2) مسند أحمد ج 3 / 476 و ج 5 / 60، وصحيح مسلم، كتاب الايمان، باب وانذر
عشيرتك الأقربين والدر المنثور للسيوطي ج 5 / 95 وتفسير الطبري ج 19 / 73.
(3) الدر المنثور ج 5 / 96.
(4) الدر المنثور للسيوطي ج 5 / 96.
295

في البيت، ثم اطلع عليهم فقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار واسعوا في
فكاك رقابكم وافتكوها بأنفسكم من الله، فاني لا أملك لكم من الله شيئا، ثم اقبل
على أهل بيته فقال: يا عائشة بنت أبي بكر ويا حفصة بنت عمر ويا أم سلمة ويا
فاطمة بنت محمد... اشتروا أنفسكم من الله واسعوا في فكاك رقابكم، فاني
لا أملك لكم من الله شيئا ولا أغني، فبكت عائشة وقالت: وهل يكون ذلك اليوم
لا تغني عنا شيئا... (1)؟
دراسة اسناد الروايات:
أجمع العلماء والمفسرون ان آية: (وأنذر عشيرتك الأقربين) من سورة
الشعراء المكية نزلت في العام الثالث بعد البعثة (2). وينتهي سند الرواية الأولى إلى
أم المؤمنين عائشة، وقد ولدت في السنة الرابعة بعد البعثة (3) فأنى لها أن تتحدث
عن خبر آية نزلت قبل ولادتها بعام!؟
وتنتهي الرواية الثانية والثالثة إلى الصحابي أبي هريرة، والرابعة إلى
الصحابي أبي موسى الأشعري، وكلاهما ورد المدينة في السنة السابعة بعد الهجرة
وبعد فتخ خيبر.
والرواية الخامسة عن ابن عباس وقد ولد في شعب أبي طالب وقبل الهجرة

(1) المصدر نفسه.
(2) تاريخ الطبري: ذكر حوادث السنة الثالثة ج 1 / 1169 - 1174 ط. أوربا و ج 2 / 318
- 322 طبعة مصر تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وابن الأثير ج 2 / 44 وتاريخ ابن كثير
ج 3 / 37 وتاريخ الخميس ج 1 / 287 وأنساب الأشراف ج 1 / 116 والاكتفاء للكلاعي
ج 1 / 279 - 280 طبعة مصر.
(3) أسد الغابة ج 7 / 188 - 192 الترجمة 7085.
296

إلى المدينة بثلاث سنوات أي بعد نزول الآية الكريمة بسبع سنوات (1).
والرواية السادسة يرويها أبو عثمان عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو،
وقبيصة بن مخارق من قبيلة بني هلال، ولم ير الرسول (ص) بمكة، بل كان أول
لقائه للنبي (ص) عندما جاء مع وفد من قبيلته إلى المدينة واسلم يومئذ ثم رجع
إلى موطنه (2).
وزهير بن عمرو لم يرد أي ذكر عنه في غير هذه الرواية، ويقول الباحثون
في علم الرجال وأحوال الصحابة: ان أول ما عرف زهير من الناحية التاريخية
كان في البصرة، ولم يعرف عنه أي خبر قبل ذلك، وكان له بيت في هذه المدينة التي
أسست عام 14 ه‍، وهذه الرواية هي العلامة الوحيدة لكونه صحابيا، وقال علماء
الرجال: لا نعرف له حديثا غير هذا، وان البخاري لم يعتقد بصحة هذا الحديث،
ولم ينقله في كتابه، وقال: ان الدليل على بطلان الرواية وعلى أن زهيرا هذا لم
يكن صحابيا ان زهيرا لم يذكر في هذا الحديث أنه سمعه من رسول الله (ص) (3).
والحاصل ان الذي عد زهيرا في عداد الصحابة اعتمد هذا الحديث، في
حين ان هذا الحديث لا يدل على درك زهير لصحبة النبي (ص) بل يوجد الشك
في لقائه للنبي (ص).
وبنا، على ما أوردناه ان راويي هذا الحديث لم يشاهدا الرسول (ص) بمكة
ليخبرا عن أحواله في بدء الدعوة.
والرواية السابعة عن انس بن مالك، وكان قد ولد في المدينة في السنة

(1) الإصابة ج 2 / 322 الترجمة 4781.
(2) للمزيد عن حياته راجع: الإصابة ج 3 / 215. وأسد الغابة ج 4 / 383 - 384 الترجمة
4259.
(3) الإصابة ج 1 / 536 الترجمة 2835، تهذيب التهذيب ج 3 / 347.
297

الثالثة من البعثة، أي في سنة نزول الآية، فكيف يخبر عن خبر نزول آية في تلك
السنة في مكة المكرمة؟
والرواية الثامنة عن البراء بن عازب وهو من قبيلة الأوس من الأنصار،
وحضر بدر في السنة الثانية بعد الهجرة، ولم يكن قد بلغ الخامسة عشرة، فلم
يقبل الرسول (ص) اشتراكه في الحرب لصغر سنه، فكيف يخبر عن شأن نزول آية
نزلت قبل ذلك التاريخ باثنتي عشرة سنة.
والرواية التاسعة عن أبي أمامة، وفي باب الكنى بأسد الغابة ترجم لخمسة
كناهم بابي امامة.
1 - أبو امامة أسعد بن زرارة، شهد بيعة العقبة الأولى والثانية وتوفي في
شوال بعد تسعة أشهر من الهجرة.
2 - أبو امامة الأنصاري، ذكر حديثا جاء فيه اسمه لا يدرى من هو!
3 - أبو امامة الباهلي، سكن مصر وتوفي إحدى أو ست وثمانين هجرية في
الشام، وهذا لم يدرك النبي (ص) بمكة ليتحدث عن بدء نزول الوحي.
4 - أبو امامة بن ثعلبة الأنصاري، له عن النبي (ص) ثلاثة أحاديث، وهذا
- أيضا - لم يكن من أهل مكة ليدرك النبي (ص).
5 - أبو امامة بن سهل بن حنيف، توفي سنه مائة وهو ابن نيف وتسعين
سنة، وهذا - أيضا - لا يدرك عصر الرسول (ص) بمكة (1).
هكذا كان اسناد الروايات إلى رواة لم يدركوا عصر الرسول (ص) بمكة
ليخبروا عنه.

(1) راجع تراجمهم في أسد الغابة ج 6 / 16 - 18 ط. مصر.
298

دراسة متون الروايات:
أولا: علمنا أن آية: (وأنذر عشيرتك الأقربين) نزلت في العام الثالث
بعد البعثة، وقد جاء في الروايات 1 و 2 و 3 و 7 و 8 و 9، ان رسول الله (ص)
خاطب ابنته فاطمة في من خاطب، وقال في الأولى: اني لا أملك لكم من الله
شيئا... وقال في 2 و 7 و 8: يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، وقال في الثالثة: يا
فاطمة بنت رسول الله (ص) سليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا، بينما كانت
فاطمة على القول الأصح ولدت في السنة الخامسة بعد البعثة (1).
ولو قبلنا رأي الآخرين والذين اختلفوا في سنة مولدها، فقد كان عمرها
عام البعثة قبل سن البلوغ ولا تصح مخاطبتها يومذاك كسائر المكلفين، بينما كان لها
ثلاث أخوات متزوجات ولا يأت ذكر هن في الروايات.
ثانيا: جاء في الروايات 1 و 2 و 3 و 7، ان رسول الله خاطب بني عبد
المطلب وبني كعب بن لؤي وقريش وقال لهم: اني لا أملك لكم من الله شيئا،
أنقذوا أنفسكم من النار.
وهذا الخطاب يصح ان يخاطب به من يؤمن بيوم القيامة وبرسالة
الرسول (ص) وينتظر شفاعته يوم القيامة، وكيف يخاطب به من قال قائلهم:
(ان هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) و: (من يحيي العظام وهي رميم)
وقال في الرسول (ص): انه ساحر ومجنون؟
ومتى كان لرسول الله (ص) مال ليقول لهم: خذوا من مالي ما شئتم؟ انه
كان يعيش من أموال زوجته خديجة.

(1) أصول الكافي ج 1 / 457 وتاريخ الأئمة لابن أبي الثلج ص 6 مجموعة نفيسة وتاج المواليد
للطبرسي ص 97 مجموعة نفيسة والمستدرك على الصحيحين ج 3 / 156.
299

ثالثا: جاء في الروايات 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7 ان رسول الله (ص) عندما
نزلت عليه آية: (وأنذر عشيرتك الأقربين) خاطب قريشا وآل عبد مناف
وقال:.... في حين ان الآية خصت أمر الانذار بعشيرته الأقربين، وهم بنو عبد
المطلب وبنو هاشم، وليس ما عداهم من قبائل قريش!
رابعا: في رواية أبي أمامة الأخيرة، انه لما نزلت الآية جمع الرسول (ص)
بني هاشم بباب البيت ونساءه وأهله فاطمة وعائشة وحفصة وأم سلمة وقال:...
في حين ان رسول الله (ص) تزوج بعائشة وحفصة وأم سلمة في المدينة، والآية
نزلت كما ذكرنا في مكة وفي السنة الثالثة من البعثة.
* * *
كان ذلكم شأن الروايات التي أسندت روايتها إلى الصحابة، ولا نطيل
البحث بايراد روايات رويت في هذا المقام عن التابعين الذين لم يدركوا
الرسول (ص) ليخبرونا عما حدث في عصره، وكذلك شأن من جاء بعد التابعين
من الرواة.
بعد وضوح تناقض هذه الروايات بعضها مع بعض وتناقضها مع الواقع
التاريخي نرجع إلى مصادر الدراسات الاسلامية، ويظهر لنا ان هذه الروايات
بمجموعها تتحدث عن خبرين كالآتي بيانه:
عندما بعث رسول الله (ص) امن به من كان في بيته زوجه خديجة وابن
عمه علي ومولاه زيد، وفي السنة الثالثة من البعثة نزلت آية: (وأنذر عشيرتك
الأقربين) وكان من خبره ما تحدث عنه الإمام علي ممن شاهد الحادثة واشترك
فيها.
روى الطبري، وابن عساكر، وابن الأثير، وابن كثير، والمتقي، وغيرهم -
واللفظ للأول - قال: عن علي بن أبي طالب (ع) قال:
300

لما نزلت هذه الآية على رسول الله (ص): (وأنذر عشيرتك الأقربين).
دعاني رسول الله (ص) فقال لي: يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي
الأقربين، فضقت بذلك ذرعا، وعرفت أني متى أباديهم بهذا الامر أرى ما أكره،
فصمت عليه حتى جاءني جبرئيل فقال: يا محمد إن لا تفعل ما تؤمر به يعذبك
ربك. فاصنع لنا صاعا من طعام، واجعل عليه رجل شاة، وأملأ لنا عسا من لبن،
ثم أجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به.
ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون
رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب. فلما
اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول
الله (ص) حذية (أي: قطعة) من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاه في نواحي
الصحفة، ثم قال: خذوا بسم الله. فأكل القوم حتى ما لهم بشئ من حاجة، وما
أرى إلا موضع أيديهم. وأيم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم
ليأكل ما قدمت لجميعهم. ثم قال: إسق القوم، فجئتهم بذاك العس، فشربوا منه
حتى رووا منه جميعا، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.
فلم أراد رسول الله (ص) أن يكلمهم، بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لشد
ما سحركم صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله (ص). فقال الغد: يا
علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن
أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم إلي.
قال: ففعلت، ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام، فقربته لهم، ففعل كما فعل
بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشئ حاجة، ثم قال: إسقهم، فجئتهم بذاك العس،
فشربوا حتى رووا منه جميعا. ثم تكلم رسول الله (ص) فقال: يا بني عبد المطلب،
إني والله ما أعلم شابا في الرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، إني قد جئتكم
301

بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على
هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟
قال: فأحجم القوم عنها جميعا وقلت - وإني لأحدثهم سنا، وأرمصهم
عينا، وأعظمهم بطنا، وأحمشهم ساقا -: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ
برقبتي، ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، قال:
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (1).
أشرنا في ما مضى أن دعوة النبي (ص) قد انحصرت في بيته ابتداء، وقد
أحس أمير المؤمنين (ع) العطر السماوي والوحي الإلهي في أول لحظات البعثة،
حيث إنه (ع) كان يرافق النبي (ص) في غار حراء، وبعد رجوعه (ص) إلى البيت
التحقت بهما السيدة خديجة، فأصبح عدد المسلمين ثلاثة، وهناك شواهد موثوقة
على أن الاسلام لم يتجاوز هؤلاء الثلاثة لمدة مديدة (2).
ثم التحق بهم بعد زمن مديد زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب، وإنا
لا نعرف الزمن المحدد لاسلامهما.
ان الله تعالى أمر النبي الأكرم (ص) في السنة الثالثة للبعثة أن يدعو
الأقربين من عشيرته إلى الاسلام، وذلك بعد ثلاث سنوات من سرية الدعوة،

(1) تاريخ الطبري ج 3 / 1171 - 1172 ط. أوربا. وابن عساكر تحقيق المحمودي ج 1 من
ترجمة الامام. وتاريخ ابن الأثير ج 2 / 222. وشرح ابن أبي الحديد ج 3 / 263. وفي
تاريخ ابن كثير ج 3 / 39، وقد حذف الألفاظ وقال،: كذا وكذا. وكنز العمال للمتقي ج
15 / 100 و 115 و 116 منه وفي ص 130: يكون أخي وصاحبي ووليكم بعدي.
والسيرة الحلبية ج 1 / 285 نشر المكتبة الاسلامية ببيروت.
(2) الطبري ج 2 / 311 - 312 ثلاثة أحاديث ط. مصر تحقيق محمد أبو الفضل،
الاستيعاب على هامش الإصابة ج 3 / 163، الإصابة ج 2 / 480، أسد الغابة ج 4 / 49،
الترجمة 3696.
302

وكانت الآية 214 من سورة الشعراء حاملة لهذا التكليف، كما عرفنا قصة هذه
الدعوة قبل ذلك عن لسان الامام أمير المؤمنين (ع)، وكان بعد هذا الوحي
السماوي أن دعا رسول الله (ص) الأقربين من عشيرته إلى وليمة، وانذرهم وبلغهم
في بيته، وبعد هذه الدعوة انتشرت الدعوة، واعتنق الاسلام مختلف الناس
تدريجا، فازداد عدد المسلمين.
عند وجود النبي (ص) في مكة لم يكن توجيه مثل هذا الخطاب العام إلى
قريش ميسورا، فان قريش لم يؤمنوا به (ص) سوى عدد قليل منهم، حتى
ينذرهم من عذاب النار ويكلمهم عن الشفاعة وعدمها، فمثل هذا الكلام يصح
إذا خضعت قريش للاسلام واعتقدوا برسول الله (ص) كنبي، وإن كان اعتقادا
ظاهريا، ففي الحالة التي كان الرسول (ص) في صراع ليل ونهار مع قريش
المترفين والمقتدرين واتباعهم، كانوا يهزأون به وأحيانا يلقون أمعاء الإبل على
رأسه الشريف أو يصبون عليه الرماد، في مثل هذه الظروف لا يعقل ان يكلمهم
النبي (ص) ويقول لهم بأنه لا يتمكن من الشفاعة لهم، وعليهم أن يخلصوا أنفسهم
من النار بعملهم الصالح (1). وعندما نفرض توفر مثل هذا الانذار العام فيجب أن يكون
ذلك عندما أسلم كلهم ولو ظاهريا وقبلوه (ص) نبيا.
وقد وجدنا في روايات أئمة أهل البيت:
أولا: ان الروايات المتضمنة آية الانذار تحكي جميعها عن انذار الأقربين
من العشيرة في بيت النبي (ص) ولا تحكي عن شئ آخر (2).
ثانيا: تخبر عن صعود النبي (ص) على جبل الصفا، وخطبته العامة

(1) راجع: الروايات المتعلقة بالموضوع في صحيح مسلم ج 1 / 192 - 194.
(2) راجع: تفسير البرهان ج 3 / 189 - 192 حيث نقل عشرة أحاديث بهذا المضمون في
ذيل الآية.
303

تأخرت إلى بعد فتح مكة.
على جبل الصفا
فقد روى الإمام الصادق ان الرسول (ص) عندما فتح مكة، قام على جبل
الصفا وقال: يا بني هاشم وأولاد عبد المطلب! أنا رحيم بكم وشفوق، لا تقولوا
محمد منا، والله ليس أقربائي منكم ومن غيركم سوى المتقين، لا تكونوا ممن
يأتون يوم القيامة حاملين الدنيا على عواتقهم، ويأتي الآخرون حاملين الآخرة
معهم، اعلموا أني لم أدع أي عذر بيني وبينكم، ولا بين الله تعالى وبينكم، ولي
عملي ولكم عملكم (1).
لقد كان ينوي الرسول الكريم (ص) من هذه الخطبة البليغة توجيه أقربائه
أن لا يتجهوا إلى الدنيا اعتمادا على قدرة النبي (ص) بعد أن انتصر على أهل مكة
وأصبح حاكما في الواقع على جزيرة العرب، وأن عليهم أن يعرفوا أساس القربى
والرابطة بالنبي (ص) الذي يرتبط بالتقوى وحسب، وهذا لا ينسجم مع حب
الدنيا ونهب ثروات الناس، وأن لا يفكروا كسائر الحكام الدنيويين، ولا يقولوا
ان في مثل هذه الظروف التي يحكم فيها أحد أقربائهم ويقود المجتمع، فلهم الحق في
الوصول إلى القدرة والثروة والراحة، ويكون لهم السيادة الدنيوية والأخروية.
وفي الخاتمة، نكرر أنه من الممكن جدا نسبة تلك الرواية إلى أحد الرواة،
وأن الراوي عنه بنفسه غير مطلع على هذه النسبة. وذلك كالرواية التي كان ينقلها
أبو عثمان النهدي عن زهير بن عمرو وقبيصة بن مخارق، وعرفنا رأي علماء
الحديث حيث قالوا: إنه بمفرده نقل هذه الرواية عنهما، وان غيره من الناس لم

(1) صفات الشيعة ص 165 الحديث الثامن عن علي والشيعة طبعة 1958 النجف.
304

يسمع هذه الرواية منهما، وكذلك الرواية المنقولة عن ابن عباس أو عن أبي أمامة
أو براء بن عازب وأمثالهم، فمن الممكن انه لم يقل أحد من هؤلاء مثل هذا الذي
نقل عنهم، بل يمكن أن نثق بعدم صدور ذلك عنهم، لكنه بعد أن صدر مرسوم
معاوية، وجهز جميع القدرة الأموية لجعل مثل هذه الأحاديث، حينئذ يمكننا ان
نتصور بوضوح ان عروة بن الزبير ناقل روايات أم المؤمنين عائشة، أو محمد بن
شهاب الزهري ناقل روايات أبي هريرة (1)، ممن قد جعلا هذه الروايات أساسا،
ثم نسبوها إلى أمثال عائشة وأبي هريرة وابن عباس.
وفي طبقات ابن سعد روايات تصرح بان قول رسول الله (ص): لا أغني
من الله شيئا، كان في مرض وفاة الرسول (ص) كالآتي بيانه:
أ - بسنده عن الصحابي ابن مسعود أنه قال: نعى لنا نبينا وحبيبنا نفسه قبل
موته بشهر، بأبي هو وأمي ونفسي له الفداء، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا
عائشة وتشدد لنا فقال: مرحبا بكم حياكم الله بالسلام، رحمكم الله، حفظكم الله،
جبركم الله، رزقكم الله، رفعكم الله، نفعكم الله، أداكم الله، وقاكم الله، أوصيكم
بتقوى الله وأوصي الله بكم، أستخلفه عليكم وأحذركم الله إني لكم منه نذير مبين،
ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده فإنه قال لي ولكم: (تلك الدار الآخرة نجعلها
للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). وقال: (أليس
في جهنم مثوى للمتكبرين)؟
ب - بسنده عن أم المؤمنين عائشة ان رسول الله (ص) قال في مرضه الذي
توفي فيه: أيها الناس! لا تعلقوا علي بواحدة، ما أحللت الا ما أحل الله وما
حرمت إلا ما حرم الله.
ج - بسنده عن عبيد بن عمير قال: قال رسول الله (ص) في مرضه الذي

(1) انظر صحيح مسلم ج 1 / 192 - 194 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
305

توفي فيه: أيها الناس! والله لا تمسكون علي بشئ، إني لا أحل إلا ما أحل الله
ولا أحرم إلا ما حرم الله! يا فاطمة بنت رسول الله، يا صفية عمة رسول الله،
اعملا لما عند الله، إني لا أغني عنكما من الله شيئا.
د - بسنده عن سعيد بن المسيب أنه قال: قال رسول الله (ص): يا بني عبد
مناف لا أغني عنكم من الله شيئا! يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله
شيئا! يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا! سلوني ما شئتم (1).
دراسة الأحاديث:
إن الأحاديث الأربعة الماضية من حيث الزمان يناسب أن يكون في مرض
وفاة الرسول (ص) وفي المدينة، وليس في مكة وفي السنة الثالثة من بعثة
الرسول (ص) كما جاء في الأحاديث اللاتي درسناها قبل هذا. والحديثان الأول
والثاني يصح سندها ومتنهما، والحديثان الثالث والرابع في سندهما ومتنهما
مناقشة.
* * *
كانت تلكم نتيجة دراساتنا لروايات بدء نزول الوحي وبدء الدعوة.
وفي ما يأتي ندرس باذنه تعالى روايات أسطورة الغرانيق.

(1) طبقات ابن سعد ج 2 / 256.
306

ثالثا - روايات أسطورة الغرانيق
رويت في عدة روايات ما موجزها:
ان رسول الله (ص) لما رأى من قومه ما شق عليه من مباعدة ما جاءهم به
من الله تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه، وكان يسره، مع
حبه قومه وحرصه عليهم، أن يلين له بعض ما قد غلظ عليه من أمرهم، حتى
حدثت بذلك نفسه وتمناه وأحبه، فأنزل الله عليه:
(والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن
الهوى) فلما انتهى إلى قوله: (أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى)
القى الشيطان على لسانه لما كان تحدث به نفسه ويتمنى ان يأتي به قومه: (تلك
الغرانيق العلى، وان شفاعتهن ترتضي - أو - ترتجى).
فلما سمعت ذلك قريش فرحوا وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم،
فأصاخوا له، والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم ولا يتهمونه على
خطأ ولا وهم ولا زلل، فلما انتهى إلى السجدة فيها وختم السورة سجد فيها،
فسجد المسلمون بسجود نبيهم تصديقا لما جاء به، واتباعا لأمره، وسجد من في
المسجد من المشركين من قريش وغيرهم لما سمعوا من ذكر الهتهم، فلم يبق في
المسجد من مؤمن ولا كافر إلا سجد، سوى الوليد بن المغيرة، فإنه كان شيخا
كبيرا فلم يستطع السجود، فأخذ بيده من البطحاء فسجد عليها، ثم تفرق الناس
307

من المسجد.
وخرجت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم، يقولون:
قد ذكر محمد الهتنا بأحسن الذكر. قد زعم في ما يتلو: (انها الغرانيق العلى،
وان شفاعتهن ترتضي).
وبلغ خبر السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله (ص) وقيل
لهم: أسلمت قريش.
فنهض منها رجال وتخلف آخرون، وعادوا إلى مكة، حتى إذا دنوا من
مكة بلغهم ان الذي كان تحدثوا به من اسلام أهل مكة كان باطلا، فبقي بعضهم
بجوار مكة أو مستخفيا، ورجع منهم من رجع.
هذه خلاصة ما أورده في تفاسيرهم كل من الطبري والواقدي والزمخشري
والبيضاوي والسيوطي وغيرهم.
ولكشف زيف هذه الأسطورة وتمحيص سنة الرسول (ص) نستعين الله،
ونراجع الأسطورة في تفسير الطبري (ت: 310 ه‍) ونقول:
1 - أخرج الطبري عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس انهما قالا:
جلس رسول الله (ص) في ناد من أندية قريش، كثير أهله، فتمنى يومئذ أن
لا يأتيه من الله شئ فينفروا عنه، فأنزل الله عز وجل: (والنجم إذا هوى * ما
ضل صاحبكم وما غوى)، فقرأها رسول الله (ص) حتى إذا بلغ: (أفرأيتم
اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى) القى الشيطان عليه كلمتين: (تلك
الغرانيق العلى، وان شفاعتهن لترجى). فتكلم بهما، ثم مضى فقرأ السورة كلها،
فسجد في آخر السورة وسجد القوم معه جميعا، ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى
جبهته فسجد عليه، وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلم به
وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت، وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه
308

تشفع لنا عنده، فإذا جعلت لها نصيبا فنحن معك.
قالا: فلما أمسى أتاه جبرائيل عليه السلام فعرض عليه السورة، فلهم بلغ الكلمتين
اللتين القى الشيطان عليه قال: ما جئتك بهاتين، فقال رسول الله (ص): افتريت
على الله وقلت على الله ما لم يقل، فأوحى الله إليه: (وان كادوا ليفتنونك عن
الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره - إلى قوله -: ثم لا تجد لك علينا نصيرا)
(الاسراء: 73 - 75).
فما زال مغموما مهموما حتى نزلت عليه: (وما أرسلنا من قبلك من
رسول ولا نبي إلا إذا تمنى القى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم
يحكم الله آياته والله عليم حكيم) (الحج: 52).
قال: فسمع من كان بأرض الحبشة من المهاجرين أن أهل مكة قد أسلموا
كلهم، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا
حين نسخ الله ما ألقى الشيطان (1).
2 - وأخرجها أكثر تفصيلا عن محمد بن كعب القرظي وحده، قال:
لما رأى رسول الله (ص) تولي قومه عنه، وشق عليه ما يرى من مباعدتهم
ما جاءهم به من عند الله، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه،
وكان يسره مع حبه وحرصه عليهم أن يلين له بعض ما غلظ عليه من أمرهم،
حتى حدث بذلك نفسه وتمناه وأحبه، فأنزل الله:
(والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى) فلهم انتهى إلى قول الله:
(أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى) ألقى الشيطان على لسانه -
لما كان يحدث به نفسه ويتمنى ان يأتي به قومه -: " تلك، لغرانيق العلى وإن

(1) تاريخ الطبري، ط. دائرة المعارف بمصر 2 / 340 - 341، وتفسير الطبري بتفسير الآية
52 من سورة الحج 17 / 131.
309

شفاعتهن لترتجي " فلما سمعت ذلك قريش فرحوا سرهم وأعجبهم ما ذكر به
آلهتهم فأصاخوا له، والمؤمنون مصدقون نبيهم في ما جاءهم به عن ربهم،
ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل، فلما انتهى إلى السجدة منها وختم
السورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم تصديقا لما جاء به، واتباعا
لأمره، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم لما سمعوا من ذكر
آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد، إلا الوليد بن المغيرة، فإنه
كان شيخا كبيرا فلم يستطع السجود، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها،
ثم تفرق الناس من المسجد، وخرجت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر
آلهتهم، يقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر. وقد زعم فيما يتلو " (أنها
الغرانيق العلى وإن شفاعتهم ترتضي " وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من
أصحاب رسول الله (ص)، وقيل: أسلمت قريش، فنهض منهم رجال وتخلف
آخرون.
وأتى جبرائيل رسول الله (ص) فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على
الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل، وقلت ما لم يقل لك، فحزن رسول الله (ص)
عند ذلك حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا، فأنزل الله تبارك وتعالى عليه:
(وكان به رحيما) (1) يعزيه ويخفض عليه الامر، ويخبره أنه لم يكن قبله نبي
ولا رسول تمنى كما تمنى، ولا أحب كما أحب، إلا والشيطان قد القى في أمنيته
كما
القى على لسانه (ص)، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته، أي فإنما أنت
كبعض الأنبياء والرسل، فأنزل الله عز وجل: (وما أرسلنا من قبلك من رسول
ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته...).
فأذهب الله عز وجل عن نبيه (ص) الحزن، وآمنه من الذي كان يخاف،

(1) هكذا في الأصل، وليست في القرآن آية بهذا الشكل.
310

ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم " انها الغرانيق العلى وأن
شفاعتهن ترتضي ".
يقول الله حين ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: (ألكم الذكر
وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى * إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم
- إلى قوله تعالى - لمن شاء ويرضى) (الآيات: 21 - 26). أي فكيف تنفع شفاعة
الهتكم عنده؟
فلما جاءه من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه. قالت
قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتكم عند الله فغير ذلك وجاء بغيره،
وكان ذانك الحرفان اللذان القى الشيطان على لسان رسوله (ص) قد وقعا في فم
كل مشرك، فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه (11).
3 - أخرج عن أبي العالية قال:
قالت قريش لرسول الله (ص): إنما جلساؤك عبد بني فلان ومولى بني
فلان، فلو ذكرت الهتنا بشئ جالسناك، فإنه يأتيك اشراف العرب فإذا رأوا
جلساءك اشراف قومك كان ارغب لهم فيك. قال: فألقى الشيطان في أمنيته،
فنزلت هذه الآية: (أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى). قال:
فأجرى الشيطان على لسانه: " تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترجى مثلهن
لا ينسى ".
قال: فسجد النبي (ص) حين قرأها وسجد معه المسلمون والمشركون. فلما
علم الذي أجري علن لسانه كبر ذلك عليه فأنزل الله: (وما أرسلنا من قبلك من
رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) إلى قوله: (والله عليم

(1) تفسير الطبري 17 / 131 - 132 وتاريخ الطبري ط. دار المعارف بمصر سنة 1961،
2 / 338 - 339 وط. اروبا 1 / 1192 - 1194.
311

حكيم) (1).
4 - أخرج هذه الرواية أكثر تفصيلا بسند آخر عن أبي العالية، قال:
قالت قريش: يا محمد إنما يجالسك الفقراء والمساكين وضعفاء الناس، فلو
ذكرت الهتنا بخير لجالسناك، فان الناس يأتونك من الآفاق.
فقرأ رسول الله (ص) سورة النجم، فلم انتهى على هذه الآية: (أفرأيتم
اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى، فألقى الشيطان على لسانه: " وهي
الغرانقة العلى وشفاعتهن ترتجى ". فلما، فرغ منها سجد رسول الله (ص)
والمسلمون والمشركون، إلا أبا أحيحة سعيد ابن العاص، اخذ كفا من تراب
وسجد عليه وقال: قد آن لابن أبي كبشة أن يذكر الهتنا بخير، حتى بلغ الذين
بالحبشة من أصحاب رسول الله (ص) من المسلمين أن قريشا قد أسلمت، فاشتد
على رسول الله (ص) ما ألقى الشيطان على لسانه فأنزل الله: (وما أرسلنا من
قبلك من رسول ولا نبي) الآية.
5 و 6 - روى الطبري هاتين الروايتين عن سعيد بن جبير قال:
لما نزلت هذه الآية: (أفرأيتم اللات والعزى). قرأها رسول الله (ص)
فقال: " تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجي ". فسجد رسول الله (ص)،
فقال المشركون: إنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه، فأنزل
الله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في
أمنيته) إلى قوله: (عذاب يوم عقيم) (الحج 52 - 55).
7 - روى عن ابن عباس قال:
قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان
في أمنيته، إلى قوله: (والله عليم حكيم).

(1) تفسير الطبري 17 / 131.
312

وذلك أن نبي الله (ص) بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب، فجعل
يتلوها فسمعه المشركون، فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير، فدنوا منه، فبينما هو
يتلوها وهو يقول: (أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى) القى
الشيطان: " إن تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى ". فجعل يتلوها، فنزل
جبرائيل (ع) فنسخها، ثم قال له: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا
إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) إلى قوله: (والله عليم حكيم، (1).
8 - روى عن الضحاك أنه قال في قوله:
(وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) الآية: أن نبي الله (ص) وهو
بمكة أنزل الله عليه في آلهة العرب، فجعل يتلو: (اللات والعزى، ويكثر
ترديدها، فسمع أهل مكة نبي الله يذكر آلهتهم، ففرحوا بذلك ودنوا يستمعون،
فالقى الشيطان في تلاوة النبي (ص): " تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ".
فقرأها النبي (ص) كذلك، فأنزل الله عليه:! وما أرسلنا من قبلك من رسول)
إلى: (والله عليم حكيم) (2).
9 - روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث:
أن رسول الله (ص) وهو بمكة قرأ عليهم: (والنجم إذا هوى) فلما بلغ:
(أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى). قال: إن شفاعتهن ترتجى.
وسهى رسول الله (ص)، فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض، فسلموا عليه
وفرحوا بذلك. فقال لهم: إنما ذلك من الشيطان، فأنزل الله: (وما أرسلنا من
قبلك من رسول ولا نبي) حتى بلغ: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان).
قال الطبري: واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (تمنى) في هذا

(1) نفس المصدر السابق.
(2) نفس المصدر السابق.
313

الموضع.
فمنهم من قال: النبي من النبي (ص): ما حدثته نفسه من محبته مقاربة
قومه...
ومنهم من قال: ذلك محبة منه في بعض الأحوال أن لا تذكر بسوء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك، إذا قرأ وتلا أو حدث.
ثم روى عن عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (إلا إذا تمنى)
يعني بأتمنى: التلاوة والقراءة. قال الطبري: وهذا القول أشبه بتأويل الكلام،
بدلالة قوله: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته) على ذلك، لان
الآيات التي أخبر الله جل ثناؤه انه يحكمها لا شك انها آيات تنزيله، فمعلوم بذلك
ان الذي ألقى فيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالى ذكره انه نسخ ذلك منه وابطله ثم
احكمه بنسخه ذلك منه، فتأويل الكلام إذا: وما أرسلنا من قبلك من رسول
ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله، وقرأ أو حدث وتكلم ألقى الشيطان في كتاب الله
الذي تلاه وقرأه، أو في حديثه الذي حدت وتكلم، فينسخ الله ما يلقي الشيطان،
يقول تعالى: فيذهب الله ما يلقي الشيطان من ذلك على لسان نبيه ويبطله.
وروى في تأييد قوله:
1 - عن ابن عباس قال: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان): فيبطل الله ما
ألقى الشيطان.
2 - عن الضحاك أنه قال في قوله: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان): نسخ
جبرئيل بأمر الله ما القى الشيطان على لسان النبي (ص) وأحكم الله آياته. وقوله:
(ثم يحكم الله آياته) يقول: خم يخلص الله آيات كتابه من الباطل الذي القى
الشيطان على لسان نبيه، والله عليم بما يحدث في خلقه من حدث لا يخفى عليه منه
شئ، حكيم في تدبيره إياهم، وصرفه لهم في ما شاء وأحب.
314

وقال في تأويل قوله: (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم
مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) (الحج: 53): يقول تعالى
ذكره: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته) كي يجعل ما يلقي
الشيطان في أمنية نبيه من الباطل، كقول النبي (ص): " تلك الغرانيق العلى وإن
شفاعتهن لترتجي " فتنة، يقول: اختبارا، يختبر به الذين في قلوبهم مرض من
النفاق، وذلك الشك في صدق رسول الله (ص) وحقيقة ما يخبرهم به.
ثم روى عن قتادة، قال:
إن النبي (ص) كان يتمنى أن لا يعيب الله آلهة المشركين، فألقى الشيطان في
أمنيته، فقال: إن الآلهة التي تدعى، ان شفاعتها لترتجي، وإنها للغرانيق العلى،
فنسخ الله ذلك، واحكم الله آياته (أفرأيتم اللات والعزى)، حتى بلغ (من
سلطان) قال قتادة: لما ألقى الشيطان ما ألقى، قال المشركون: قد ذكر الله آلهتهم
بخير، ففرحوا بذلك، فذكر قوله: (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم
مرض).
وقال في تفسير قوله تعالى:
(وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم
وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم) (الحج: 54):
يقول تعالى ذكره: وكي يعلم أهل العلم بالله أن الذي أنزله الله من آياته
التي أحكمها لرسوله ونسخ ما القى الشيطان فيه انه الحق من عند ربك - يا محمد -
فيؤمنوا به. يقول: فيصدقوا به (فتخبت له قلوبهم)، يقول: فتخضع للقرآن
قلوبهم وتذعن بالتصديق به، والاقرار بما فيه (وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى
صراط مستقيم) وإن الله لمرشد الذين آمنوا بالله ورسوله إلى الحق القاصد والحق
الواضح، بنسخ ما ألقى الشيطان في أمنية رسوله، فلا يضرهم كيد الشيطان
315

والقاؤه بالباطل على لسان نبيهم (1).
وأورد السيوطي ما رواه الطبري، وأضاف إليها روايات أخرى مثل ما
رواه عن السدي، قال:
خرج النبي (ص) إلى المسجد ليصلي، فبينما هو يقرأ إذ قال: (أفرأيتم
اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى) فألقى الشيطان على لسانه، فقال:
" تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن ترتجى " حتى إذا بلغ آخر السورة سجد
وسجد أصحابه، وسجد المشركون لذكره آلهتهم، فلما رفع رأسه حملوه فاشتدوا به
بين قطري مكة يقولون: نبي بني عبد مناف، حتى إذا جاءه جبرئيل عرض عليه،
فقرأ ذينك الحرفين، فقال جبرئيل: معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا! فاشتد عليه
فأنزل الله يطيب نفسه: (وما أرسلنا من قبلك...) الآية (2).
وأورد النيسابوري في تفسير الآية بغرائب القرآن عن ابن عباس أنه قال: إن
شيطانا يقال له الأبيض اتاه على صورة جبرئيل وألقاها إليه، فلما سمع
المشركون ذلك أعجبهم، فجاء جبرئيل واستعرضه فقرأها، فلما بلغ إلى تلك
الكلمة أنكر عليه جبريل، فقال: انه أتاني آت على صورتك فألقاها على
لساني (3).
و - أيضا - روى الطبري الرواية بإيجاز عن مجاهد في تفسيره.

(1) تفسير الطبري ج 17 / 131 - 134.
(2) الدر المنثور ج 4 / 368.
(3) تفسير غرائب القرآن للنيسابوري ج 17 / 110 ط. الباب الحلبي بمصر.
316

دراسة أسناد الروايات:
هذه المجموعة من الروايات التي وردت في تاريخ الطبري، وتفسيره
وتفسير الواقدي والزمخشري والبيضاوي والسيوطي وغيرهم، إنما رويت:
1 - عن " محمد بن كعب بن سليم القرظي " الذي كان من سلالة يهود بني
قريظة وولد سنة 40 هجرية.
2 - وعن " محمد بن قيس " الذي كان الناطق الرسمي للخلافة في عصر
عمر بن عبد العزيز.
3 - وعن " أبي العالية البراء " اسمه زياد وقيل كلثوم وقيل أدينة وقيل ابن
أدينة - من الرابعة مات سنة 90.
4 - وعن " سعيد بن جبير " وهو من التابعين ولم يكن من الصحابة، ولم
يدرك عصر الرسول (ص).
5 - وعن " عبد الله بن عباس " الذي ولد كما ذكرنا في السنة العاشرة من
البعثة ولم يكن قد ولد في العصر الذي تتحدث عنه الأسطورة.
ورويت بعض الروايات:
6 - عن " الضحاك بن مزاحم الهلالي " وهو من الطبقة الخامسة من الرواة،
(توفي سنة 94 هجرية).
7 - وعن " مجاهد بن جبر " وهو من الطبقة الثالثة، توفي سنة 103 أو
104 ه‍.
8 - وعن " قتادة بن دعامة السدوسي " وهو من الطبقة الرابعة، توفي سنة
بضع عشرة بعد المائة.
9 - وعن " السدي أبي محمد إسماعيل بن عبد الرحمن " وهو من الطبقة
317

الرابعة، توفي سنة 127 ه‍.
10 - " أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث المدني " ولد زمن عمر وهو
من الطبقة الثالثة، مات سنة أربع وتسعين.
وليس في كل هؤلاء الرواة ممن صحب النبي (ص) ورآه غير ابن عباس
الذي قلنا إنه ولد في السنة العاشرة، ولم يكن واحد من هؤلاء الرواة ممن كان
موجودا في العصر الذي تتحدث عنه الأسطورة.
كانت هذه اسناد روايات الأسطورة، ولم نجد رواية نسبت إلى غيرهم في
كتب التفاسير والسير والتاريخ والحديث، فقد انحصرت الروايات بهؤلاء (1).
دراسة متون الروايات:
أما متون روايات الأسطورة، فإنها تتحدث عن سورة النجم وآيات في
سورة الحج:
أ - آيات سورة النجم:
أما سورة النجم فإنها تتحدث عن عقائد المشركين حول بعضي أصنامهم
وتردها، وخاصة عقيدتهم حول الأصنام الثلاثة: اللات والعزى ومناة الثالثة
الأخرى، اللاتي كانوا يزعمون أنها تمثل بعض الملائكة بنات الله.
ففي هذه الآيات أشار إلى هذا الزعم، حيث قال جل اسمه: (أفرأيتم
اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى) أي انكم
تعتقدون ان الملائكة بنات الله، ولكم الذكر ولله البنات، ثم يقول بعد هذه الآية:
(تلك إذا قسمة ضيزى).
ويرد قولهم بعد ذلك فيقول: (ان هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما

(1) راجع ترجمتهم بتقريب التهذيب المجلد الأول والثاني.
318

انزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من
ربهم الهدى * أم للانسان ما تمنى * فلله الآخرة والأولى * وكم من ملك في
السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى * إن
الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى * وما لهم به من علم إن
يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا * فأعرض عن من تولى عن
ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل
عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) (النجم: 23 - 30).
هكذا ترد هذه الآيات مزاعم المشركين، حيث كانوا يزعمون أن الملائكة
تشفع لهم، وان هذه الأصنام التي سميت باسم الملائكة - تمثل الملائكة الذين كانوا
يعتقدون بأنهم بنات الله، والله يقول إن الملائكة لا يشفعون إلا لمن يأذن منهم أن
يشفع، فكيف بهذه الأصنام التي سميتموها باسم الملائكة وزعمتم أن الملائكة
إناث؟ وما لكم به من علم، إن تتبعون إلا الظن.
ولو فرضنا إن قائلا قال هكذا: " أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة
الأخرى، تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى، الكم الذكر وله الأنثى، تلك
إذا قسمة ضيزى، ان هي إلا أسماء سميتموها التم واباؤكم ما انزل الله بها من
سلطان ان يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ". إذا كانت الآيات تدل على هذه
المزعمة: " ان تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى، ان هي إلا أسماء
سميتموها أنتم واباؤكم وما انزل الله بها من سلطان!! ".
لست أدري كيف لم ينتبه واضعوا هذه الأسطورة السخيفة حين قالوا: إن
الشيطان القى على لسان رسول الله (ص) بعد ذكره اللات والعزى ومناة الثالثة
الأخرى، أن يقول: تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتهن لترتجي؟! كيف لم ينتبهوا
ان بعد الآية (أفرأيتم...) مباشرة استهزاء بهذه العقيدة بقوله تعالى: (ألكم
319

الذكر وله الأنثى) (تلك إذا قسمة ضيزى)؟ ثم مجابهة لهم بالاستنكار
وبتكذيب زعمهم بقوله تعالى بعدها: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم *
ما أنزل الله بها من سلطان). خم اعقبه انكار شفاعة الملائكة بدون اذن الله،
فكيف بتماثيلهم من الأصنام؟! وأكد في الانكار عليهم مرة أخرى في تسميتهم
الملائكة تسمية الأنثى، وان المشركين لا علم لهم بذلك، ثم أمر الرسول (ص)
بالاعراض عنهم وان يدمغهم بقوله تعالى: (ذلك مبلغهم من العلم...) الآيات.
لست أدري كيف غاب عن ناسبي هذه الأسطورة ومصدقيها من اعلام
مفسري مدرسة الخلفاء ان المشركين الجاهليين بمكة لم يكونوا عجما لا يفهمون
هذه المعركة الصاخبة من الذم والتقريع والاستهزاء والسخرية؟ بل كانوا عربا
اقحاحا، جل ثقافتهم نظم القصائد في المدح والهجاء، ومرهفي الاحساس فيما
يجري في معاريض الكلام. يطربهم المدح، ويثيرهم الهجاء إلى حد إقامة الحروب
وإراقة الدماء في سبيل المفاخرة والمناظرة!!
كان ذلك مغزى الآيات في سورة النجم المناقضة لمغزى الآيات الشيطانية
المفتراة التي يدركها بجلاء من كان له أدنى إلمام باللغة العربية.
ب - آيات سورة الحج:
اما في ما ورد في سورة الحج، فان واضعي الأسطورة افتروا على الوحي
وعلى رسول الله (ص) وقالوا: ان جبريل جاء بعد ذلك إلى رسول الله، أي بعد ان
القى الشيطان على لسانه (ص) - معاذ الله -: " تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة
ترتجى "، وقرأها رسول الله (ص) ضمن تلاوته للسورة، وسجد لقراءته
المشركون وسجد المسلمون لسجود رسول الله (ص)، بعد ذلك جاءه جبريل
وأخبر الرسول (ص) بان الجملتين لم ينزلهما الله عليه، وإنما هما من الشيطان،
فحزن لذلك رسول الله (ص) فأنزل الله عليه هذه الآية من سورة الحج:
320

(وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في
أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل ما
يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي
شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له
قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم) (الحج: 52 - 54).
وزعموا أن معنى الآية: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا
تمنى، يعني: الا إذا تلا، أي قرأ كتاب الله، القى الشيطان في أمنيته، أي في قراءته،
فينسخ الله ما يلقي الشيطان. هكذا زعموا!
ولفهم مغزى الآيات ينبغي ان نرجع إلى اللغة العربية والى ما ورد في
القرآن الكريم من مادة الأمنية، ولنرى فيم استعملت كلمتا الأمنية والتمني.
فنقول: أما الأمنية فهي من مادة " منى ": تمنى الشئ المحبوب، يعني:
رغب في أن يناله، وحدثته نفسه بوقوعه. والأمنية: ما يرغب فيه المرء
ويتشهاه، وتجمع على الأماني.
هكذا ورد معنى الكلمة في معاجم اللغة العربية، أما موارد استعمالها في
القرآن الكريم: فقد ورد في سورة النجم الآية 24 بنفسي المعنى: (أم للانسان ما
تمنى * فلله الآخرة والأولى). وليس معناه: أم للانسان ما قرأ، بل ما اشتهته
النفس.
وفي سورة القصص - أيضا - بعد أن يتحدث عن قارون وما أوتي من
المال، وكيف خرج على قومه في زينته، قال: (قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا
ليت لنا مثل ما أوتي قارون انه لذو حظ عظيم) - إلى قوله تعالى -: (وخسفنا به
وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من
المنتصرين " وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط
321

الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر...) الآية.
إذا فان: (تمنوا مكانه) ليس معناه: قرأوا مكانه، بل تمنوا أن يكونوا
مكانه في ما يملك من المال.
وكذلك وردت هذه المادة (م ن ي) في سورة آل عمران / 143
والنساء / 32 و 123 والجمعة / 6 و 7 والبقرة / 94 و 95 و 111.
ولم ترد هذه المادة بمعنى " قرأ " في لغة العرب ولا في القرآن الكريم، غير أن
المفسرين استنادا إلى روايات تلك الأسطورة فسروا " الأمنية " و " تمنى "
بالقراءة وقرأ، وبذلك شوشوا على الباحثين ممن جاء بعدهم فهم الآية.
وإذا رجعنا إلى الآيات في سورة الحج وموضعها، نجد ان الآيات:
(50 - 53)، التي تحدثت عنها الأسطورة، وردت ضمن آيات ذات وحدة
موضوعية، ابتداء من الآية (41) حتى الآية (55) وما بعدها، حيث يقول الله
تعالى فيها: (وان يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود * وقوم
إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم
فكيف كان نكير). ثم يذكر عاقبة المكذبين في الآيات (45 - 48) ثم يخاطب
نبيه ويسليه لأنه نذير وقال: (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق
كريم * والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم). ويستمر في
التسلية ويقول: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى) أي إذا
أحب واجتهد في نجاح دعوته (ألقى الشيطان) العراقيل والشبهة في طريق أمنيته
فينسخ الله - أي يزيلها ويبطل أثرها - كما قال في سورة الأنبياء: (بل نقذف
بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) [الآية: 118].
وعلى هذا، فان تمني النبي (ص) وأمنيته، هي رغبته الملحة في هداية الناس.
والقاء الشيطان فيها هو القاء الشبهة والوساوس في طريق أمنيته، وينسخها الله
322

يعني: يزيل تلك الشبهات والوساوس، وفي ذلك يكون إحكام آياته.
كان ذلك تفسير الآية مع ملاحظة موقعها ضمن الآيات ذات الوحدة
الموضوعية في السورة.
الالقاءات الشيطانية:
وأما الالقاءات الشيطانية التي كان يقوم بها خصوم الاسلام فقد ورد في
قوله تعالى:
1 - (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم
تغلبون) (1).
2 - (والذين سعوا في آياتنا معاجزين...) (2).
3 - (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا
أساطير الأولين) (3).
4 - (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم
آخرون... * وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) (4).
وأخبر سبحانه وتعالى عن بعض ما يلقون إلى الناس وقال: (ولقد نعلم
أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي
مبين) (5).

(1) فصلت: 26.
(2) الحج: 51 - سبأ: 5.
(3) الأنفال: 31.
(4) الفرقان: 4 و 5.
(5) النحل: 103.
323

وكثير مثلها التي أخبر سبحانه وتعالى عن الالقاءات الشيطانية في شأن
القرآن الكريم من شبهات أمحاها الله ونسخها وأحكم آياته البينات بما تحداهم في
أمثال قوله تعالى: (وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله
وادعوا شهداءكم من دون الله ان كنتم صادقين " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا
النار التي وقودها الناس والحجارة...) (1).
ويخبر الله تعالى عن الشياطين الذين يلقون الشبهات والوساوس انهم من
الجن والإنس وقال: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي
بعضهم إذ بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما
يفترون) (2).
وأخيرا لسنا بحاجة إلى كل هذا التفصيل إذا عرفنا انهم زعموا ان الآيات
من سورة الحج وآية: (وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى) كانت ضمن
الحادثة التي وقعت في مكة في قصة الغرانيق المفتراة، بينما سورة الحج كلها مدنية،
نزلت في المدينة، وأين هذا من ذاك؟ وفي هذا أعظم دليل على كذب الأسطورة،
ولا نحتاج لكل ما أوردناه من الاحتجاج على بطلان هذه القصة!!
مقارنة الروايات بنصوص القرآن
لست أدري، كيف يصدقون الأسطورة ويكتبونها في كتب التفاسير وقد
قال الله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * انه ليس
له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه

(1) البقرة: 23 و 24.
(2) الانعام: 112.
324

والذين هم به مشركون) (1)؟
كيف يصدقون ذلك؟ وهم يتلون في كتاب الله:
ا - (ان عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) (2).
2 - (ان عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) (3).
3 - ويقول الله سبحانه وتعالى: (وانه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد * ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل
من قبلك... ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي
وعربي...) (4).
4 - ويتلون - أيضا - في سورة النجم نفسها: (وما ينطق عن الهوى * إن
هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى) (5).
5 - وفي سورة الحاقة: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه
باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين) (6).
6 - وفي سورة يونس: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع
إلا ما يوحى إلي) (7).
وليت شعري كيف لم يدرك هؤلاء وأولئك أن الذي يقضي حياته في
مكافحة عبادة الأصنام وتحطيمها لا يمكن أن يتفوه بهذه الكلمات؟

(1) النحل: 98 - 100.
(2) الاسراء: 65.
(3) الحجر: 42.
(4) فصلت: 41 - 44.
(5) النجم: 3 - 5.
(6) الحاقة: 44 - 47.
(7) يونس: 15.
325

مخالفة الأسطورة لعصمة الأنبياء في التبليغ
إن العلماء، بمدرسة الخلفاء، وإن لم يعترفوا بعصمة الأنبياء كما اعترف بها
أتباع مدرسة أهل البيت في جميع أفعالهم وأقوالهم، غير أنهم يقولون بعصمة
الأنبياء في تبليغ الوحي وعصمتهم في حفظ الوحي كي يصدق القول بعصمتهم في
التبليغ. وبايمانهم بهذه الأسطورة ورواياتهم لأخبارها ناقضوا هذا الايمان، فان
النبي (ص) على ما زعموا في الاخبار المفتراة على رسول الله (ص) لم يعصمه الله
عن القاء الشيطان في تلقيه الوحي وحفظه وتبليغه، وماذا يبقى من الاطمئنان
بالقرآن الكريم بعد هذا (1)؟!
كشف الحقيقة:
هذه الأسطورة وردت - كما ذكرنا - في تفاسير مدرسة الخلفاء وبعض كتب
السير والتاريخ عندهم. وإذا رجعنا إلى مدرسة أهل البيت نجد كشف الحقيقة عند
أحد تلاميذ الإمام الصادق عليه السلام وهو ابن الكلي (المتوفى سنة 204 أو 206 ه‍) انه
يخبر في كتابه " الأصنام " عن حقيقة الواقعة، يقول: وكانت قريش تطوف
بالكعبة وتقول: واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلى،
وان شفاعتهن لترتجي. وكانوا يقولون: بنات الله (عز وجل عن ذلك) وهن
يشفعن إليه.
فلما بعث الله رسوله (ص) أنزل عليه: (أفرأيتم اللات والعزى * ومناة

(1) ان هذا الكلام يرد على من دون تلك الروايات المختلقة في كتابه، وجعل الأجيال من بعده
يتداولونها حتى اليوم، ولا يرد على من أنكرها من أعلام مدرسة الخلفاء.
326

الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى * إن هي إلا
أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) (1).
وروي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة انه الف كتابا في هذا الصدد وبرهن
فيه ان روايات الغرانيق وضعتها الزنادقة.
فأقول: إني لم أر الكتاب، ولم أعرفه، ولم أر دليله على ذلك، ولكننا في
بحوثنا عن الزنادقة وجدناهم يختلقون ما يختلقون، ويدخلونها ويدسونها في سنة
الرسول (ص). ووجدنا عند علماء الحديث وصفا لكيفية عمل الزنادقة، وبيانا
يزيل الغموض. مثل ما ذكره ابن الجوزي (ت 597 ه‍) في كتاب الموضوعات، في
وصف من تعمدوا الكذب الصريح في رواية الحديث، حيث قال في تعدادهم:
القسم الأول: الزنادقة الذين قصدوا إفساد الشريعة، وايقاع الشك فيها في
قلوب العوام، والتلاعب بالدين، كعبد الكريم بن أبي العوجاء، وكان خال معن
ابن زائدة وربيب حماد بن سلمة، وكان يدس الأحاديث في كتب حماد. كذلك
قال أبو أحمد بن عدي الحافظ، فلما أخذ ابن أبي العوجاء أتي به محمد بن سليمان بن
علي فأمر بضرب عنقه، فلما أيقن بالقتل قال: والله لقد وضعت فيكم أربعة آلاف
حديث أحرم فيها الحلال واحلل فيها الحرام، ولقد فطرتكم في يوم صومكم،
وصومتكم في يوم فطركم (2).
وروي عن المهدي الخليفة العباسي أنه قال: أقر عندي رجل من الزنادقة
انه وضع أربع مائة حديث فهي تجول في أيدي الناس.
وقال المصنف: وكان ممن يضع الحديث (مغيرة بن سعيد) و (بيان).

(1) الأصنام لابن الكلبي ص 19 تحقيق احمد زكي ط. مصر سنة 1384.
(2) الطبري ج 3 / 376 ط. أوربا وابن الأثير ج 6 / 3. وابن كثير ج 10 / 113 والذهبي في
ميزان الاعتدال.
327

وقال ابن نمير: كان مغيرة ساحرا، وكان بيان زنديقا، فقتلهما خالد بن
عبد الله القسري وأحرقهما بالنار، وقد كان في هؤلاء الزنادقة من يأخذ من شيخ
مغفل كتابه فيدس في كتابه ما ليس من حديثه، فيرويه ذلك الشيخ ظنا منه أن
ذلك من حديثه.
وروي عن الحكم بن المبارك أنه قال: سمعت حماد بن زيد يقول: وضعت
الزنادقة على رسول الله (ص) أربعة عشر ألف حديث (1).
* * *

(1) الموضوعات لابن الجوزي ج 1 / 37 - 38 ط. المدينة المنورة سنة 1286 ه‍.
328

نتيجة البحث
كانت تلكم حقيقة خبر الجمل المسجوعة في شأن الغرانيق. وأما حقيقة
شأن رجوع المهاجرين من الحبشة فكالآتي خبره:
قال البلاذري في خبر أمر الهجرة من مكة إلى المدينة: فجعلوا يتجهزون
إلى المدينة في خفى وستر، ويتسللون. فيقال إنه كان بين أولهم وآخرهم أكثر من
سنة. وجعلوا يترافدون بالمال والظهر، ويترافقون. وبلغ من بالحبشة من
المسلمين هجرة اخوانهم، فقدم من قدم منهم مكة للهجرة مع النبي (ص). وكان
ممن قدم مكة أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، واسم
أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، ثم هاجر، فكان الثالث بعد مصعب بن عمير
وابن أم مكتوم. وكان مصعب أول من قدمها، وجهه رسول الله (ص) ليعلم الناس
القرآن. ثم تلاه ابن أم مكتوم. وسمعت من يذكر أن أبا سلمة قبل ابن أم مكتوم.
والخبر الأول أثبت (1).
إذا فقد كانت حقيقة رجوع بعض المهاجرين من الحبشة إلى مكة لوصول
خبر هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة، ولكن الوضاعين أسندوا جملات قريش
المسجوعة في شأن الغرانيق إلى الرسول (ص)، وذكروا أن سبب رجوع بعض
المهاجرين من الحبشة إلى مكة وصول ذلك الخبر المفترى به على رسول الله (ص)
بينا كان سبب رجوع بعضهم إلى مكة وصول خبر هجرة المسلمين إلى المدينة.

(1) أنساب الأشراف ج 1 / 257 ط. مصر سنة 1369 رقم الخبر / 596 وفي ترجمته بأسد
الغابة ج 1 / 31: أسلم... وهاجر إلى ارض الحبشة معه امرأته أم سلمة، ثم عاد وهاجر إلى
المدينة وشهد بدرا وجرح بأحد واستشهد في جمادى الآخرة سنة ثلاث من الهجرة.
329

هكذا لفق الوضاعون من الزنادقة من الخبرين الآنفين أسطورة خرافية
وأسندوا روايتها إلى بعض الصحابة والتابعين وتابعي التابعين زورا وبهتانا، ثم
دسوها في كتب بعض المصنفين بمدرسة الخلفاء دون أن ينتبه إليها) ثم جاء بعدهم
كتاب السيرة والتفسير بمدرسة الخلفاء ودونوها في مصنفاتهم غفلة منهم عن
حقيقة الأمر.
وإنما قلنا أن واضعي تلك الأسطورة هم الزنادقة، لما وجدناهم وضعوا
آلاف الأخبار المفتراة التي كشفنا عن حقيقة مئات منها في كتابينا (عبد الله بن
سبأ) و (خمسون ومائة صحابي مختلق). وقد أخبر قبلنا محمد بن إسحاق بن
خزيمة (ت 311 ه‍) ان الزنادقة هم الذين وضعوا هذه الأسطورة، ونحن نرى ان
زمان وضع تلكم الأسطورة كان أوائل القرن الثاني الهجري.
ومهما يكن أمر زمان تلكم الأحاديث فإنها انتشرت في كتب تفاسير
مدرسة الخلفاء وكتب السير والتاريخ عندهم، وتناقلوها جيلا بعد جيل، حتى
برز المستشرقون في القرون الأخيرة، ووجدوا بغيتهم في هذه الأسطورة ونقلوها
في كتبهم التي ألفوها باسم معرفة الاسلام وتعريف نبيه، وزادوا عليها من عندهم
على قدر ما ساعدهم خيالهم الخصيب في التحوير والتزوير باسم التحليل
والتعليل، كالمستشرق الهولندي " يوسف شاخت " في مادة " أصول " من دائرة
المعارف الاسلامية، والمستشرق الدانماركي " بوهل " الأستاذ في جامعة
لايبزيك في مختصر دائرة المعارف الاسلامية، بعد تقديم مقدمات يصور
الأسطورة على أنها حقيقة، والبرفسور " مونتغمري واط " الأستاذ في العلوم
الاسلامية ورئيس قسم اللغة العربية في جامعة ادنبرغ في اسكتلندا في كتابه:
" محمد الرسول والسياسي ".
وكل هؤلاء زينوا الأسطورة وأوردوها بصورة تحليل وتحقيق علمي مع
330

مقدمات ومؤخرات (1).
وكان آخرهم وليس الأخير، المرتد في عصرنا " سلمان رشدي " الذي
أوردها على صورة خيالية وبصورة سخرية واستهزاء.
* * *
إلى هنا درسنا الروايات التي أسندت روايتها إلى أم المؤمنين عائشة
وحدها أو مع غيرها بقصد تمحيص سنة الرسول (ص).
وفي البحث الآتي ندرس باذنه تعالى مشاركة أم المؤمنين عائشة في تمحيص
سنة الرسول (ص).

(1) تأتي أقوالهم ودراستها في الباب السادس من الكتاب باسم: المسشرقون واستفادتهم من
الروايات - انشاء الله -.
331

باب الخامس
مشاركة أم المؤمنين عائشة في
تمحيص سنة الرسول (ص) واستدراكها على:
- أبي درداء - أبي هريرة - عروة بن
الزبير - الخليفة عمر - عبد الله بن عمر
- عبد الله بن عمرو بن العاص - كعب
الأحبار - مروان بن الحكم - بعض الناس
333

أ - استدراكها على أبي الدرداء في قوله: من أدرك الصبح فلا وتر له:
في مسند أحمد، بسنده:
أخبر أن أبا الدرداء كان يخطب الناس أن لا وتر لمن أدرك الصبح، فانطلق
رجال من المؤمنين إلى عائشة فاخبروها.
فقالت: كان رسول الله (ص) يصبح فيوتر (1).
ولفظه في سنن البيهقي:
عن أبي الدرداء انه خطب فقال: من أدركه الصبح فلا وتر له، فذكر ذلك
لعائشة فقالت: كذب أبو الدرداء، كان رسول الله (ص) يصبح فيوتر (2).
ب - استدراكها على أبي هريرة في روايته قول الرسول (ص): الدار
والمرأة والفرس:
في مسند أحمد، بسنده قال: إن
رجلين دخلا على عائشة فقالا: ان أبا هريرة يحدث أن نبي الله (ص)
كان يقول: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار قال: فطارت شقة منها في السماء
وشقة في الأرض.

(1) مسند أحمد ج 6 / 242 - 243.
(2) سن البيهقي ج 2 / 78 4 كتاب الصلاة.
335

فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول، ولكن نبي
الله (ص) كان يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة،
ثم قرأت عائشة: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في
كتاب) إلى آخر الآية (1).
ج - استدراكها على أبي هريرة في روايته قول الرسول (ص): امرأة عذبت
في هرة:
في مسند أحمد، بسنده عن علقمة قال:
كنا عند عائشة فدخل عليها أبو هريرة، فقالت: يا أبا هريرة أنت الذي
تحدث أن امرأة عذبت في هرة لها ربطتها لم تطعمها ولم تسقها؟
فقال أبو هريرة: سمعته منه، يعني النبي (ص).
فقالت عائشة: أتدري ما كانت المرأة؟
قال: لا.
قالت: إن المرأة مع ما فعلت كانت كافرة، ان المؤمن أكرم على الله من أن
يعذبه في هرة، فإذا حدثت عن رسول الله (ص) فانظر كيف تحدث (2).
وفي صحيح مسلم بسنده عن أبي بكر قال:
سمعت أبا هريرة يقص في قصصه: من أدركه الفجر جنبا فلا يصم.
قال: فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحرث (لأبيه) فأنكر ذلك، فانطلق
عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة، فسألهما عبد الرحمن

(1) مسند أحمد ج 6 / 246 وبألفاظ أخرى في ص 150 و 240.
(2) مسند أحمد ج 6 / 299.
336

عن ذلك.
قال: فكلتاهما قالت: كان النبي (ص) يصبح جنبا من غير حلم ثم
يصوم (1)....
د - استدراكها على أبي هريرة في روايته قول الرسول (ص): لأن أمتع
بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد الزني:
روى البيهقي بسنده قال:
بلغ عائشة أن أبا هريرة يقول: إن رسول الله (ص) قال: لان أمتع بسوط
في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد الزنى، وان رسول الله (ص) قال: ولد
الزنى شر الثلاثة، وان الميت يعذب ببكاء الحي.
فقالت عائشة: رحم الله أبا هريرة أساء سمعا فأساء إصابة.
(اما قوله): لان أمتع بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد
الزنى، انها لما تزلت: (فلا اقتحم العقبة * وما ادراك ما العقبة) قيل: يا رسول
الله ما عندنا ما نعتق، إلا أن أحدنا له جارية سوداء تخدمه وتسعى عليه، فلو
أمرناهن فزنين فجئن بالأولاد فأعتقناهم، فقال رسول الله (ص): لان أمتع بسوط
في سبيل الله أحب إلي من أن آمر بالزنى ثم أعتق الولد.
(واما قوله): ولد الزنا شر الثلاثة، فلم يكن الحديث على هذا، إنما كان
رجل من المنافقين يؤذي رسول الله (ص) فقال: من يعذرني من فلان؟ قيل:
يا رسول الله مع ما به ولد زنى، فقال رسول الله (ص): هو شر الثلاثة، والله

(1) صحيح مسلم ج 3 / 137 ط. دار الجيل باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو
جنب.
337

عز وجل يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (1).
ه‍ - استدراكها على أبي هريرة وابن عمر في قوله (ص): لان يمتلئ جوف
أحدكم قيحا ودما:
في صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود بسندهم
عن أبي هريرة وابن عمر:
ان رسول الله (ص) قال: (لان يمتلى جوف أحدكم قيحا ودما خيرا من
أن يمتلى شعرا " (2).
فقالت عائشة: لم يحفظ إنما قال: من أن يمتلى شعرا هجيت به (3).
وروت عن رسول الله (ص): انه كان يضع لحسان منبرا في المسجد فيقوم
عليهم يهجو من قال في رسول الله (ص)، وقول الرسول (ص): " إن روح القدس
مع حسان ما نافح عن رسول الله " (4).
في مستدرك الحاكم وتلخيصه:
عن عائشة أنها دعت أبا هريرة فقالت له: يا أبا هريرة ما هذه الأحاديث
التي تبلغنا انك تحدث بها عن النبي (ص)؟ هل سمعت إلا ما سمعنا؟ وهل رأيت إلا
ما رأينا؟ قال: يا أماه كان يشغلك عن رسول الله (ص) المراة والمكحلة والتصنع

(1) سنن البيهقي ج 2 / 215 كتاب العتق و ج 10 / 58 كتاب الايمان.
(2) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الانسان الشعر،
ج 4 / 50 - 51، وصحيح مسلم، كتاب الشر، الحديث 7 - 9، ج 4 / 1769، ومسند أحمد
ج 1 / 177 و 2 / 39 و 96، وسنن أبي داود ج 2 / 304 الحديث رقم 5009.
(3) فتح الباري، كتاب الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الانسان الشعر 13 / 167.
(4) سنن أبي داود 4 / 304، ح 5015، والمعجم الكبير 4 / 37، ح 3580.
338

لرسول الله (ص) واني والله ما كان يشغلني عنه شئ (1).
و - استدراكها على عروة بن الزبير في قوله: ما أبالي أن لا أطوف بين
الصفا والمروة:
في صحيح مسلم وسنن النسائي، واللفظ للنسائي قال ما موجزه:
ان عروة ابن الزبير قال: قرأت على عائشة: (فلا جناح عليه أن يطوف
بهما) قلت: ما أبالي أن لا أطوف بينهما.
فقالت: بسما قلت: إنما كان ناس من أهل الجاهلية لا يطوفون بينهما، فلما
كان الاسلام ونزل القرآن: (إن الصفا والمروة من شعائر الله، الآية. فطاف
رسول الله (ص) وطفنا معه فكانت سنة.
أخبرني عمرو بن عثمان قال: حدثنا أبي، عن شعيب، عن الزهري، عن
عروة قال: سألت عن قول الله عز وجل: (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) فوالله
ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة.
قالت عائشة: بئسما قلت يا بن أختي، إن هذه الآية لو كانت كما أولتها
كانت: " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " ولكنها نزلت في الأنصار قبل أن
يسلموا، كانوا يهلون لمناة الطاغية (2) التي كانوا يعبدون عند المشلل (3) وكان من
أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله (ص) عن ذلك

(1) المستدرك ج 3 / 509 وقال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه، وقال في تلخيصه:
صحيح.
(2) (لمناة الطاغية): هي صفة لمناة. وصفت بها باعتبار طغيان عبدتها. والطغيان مجاوزة الحد
في العصيان. فهي صفة أطلقها الاسلام عليها.
(3) (المشلل): جبل يهبط منه إلى قديد. قديد واد وموضع.
339

أنزل الله عز وجل: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا
جناح عليه أن يطوف بهما) ثم قد سن رسول الله (ص) الطواف بينهما فليس
لأحد أن يترك الطواف بهما (1).
ز - استدراكها على عروة بن الزبير وآخرين في قولهم: إن الصلاة يقطعها
الكلب والحمار والمرأة:
في صحيح مسلم ومسند أحمد، واللفظ للأول:
ان عائشة ذكر عندها ما يقطع الصلاة: الكلب والحمار والمرأة.
فقالت عائشة: قد شبهتمونا بالحمير والكلاب. والله! لقد رأيت رسول
الله (ص) يصلي وإني على السرير، بينه وبين القبلة مضطجعة! فتبدو لي الحاجة
فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله (ص) فأنسل من عند رجليه (2).
وفي رواية أخرى قالت: عدلتونا.
ح - استدراكها على الخليفة عمر بن الخطاب في ضربه على الصلاة بعد
العصر:
في صحيح البخاري ومسلم ما موجزه:
أن عبد الله بن عباس قال: كنت أضرب مع عمر بن الخطاب عن الصلاة

(1) سنن النسائي ج 5 / 237 - 239 كتاب الحج باب ذكر الصفا والمروة. صحيح مسلم
ج 2 / 929 كتاب الحج باب 243 الحديث 261.
(2) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلى، الحديث رقم 266، وباب
الاعتراض بين يدي المصلى، الحديث رقم 269 و 270 و 271، ج 1 / 365 - 367،
ومسند أحمد ج 6 / 42 و 134.
340

بعد العصر (1).
وفي صحيح مسلم بعده: أنها قالت: وهم غمر. إنما نهى رسول الله (ص) أن
يتحرى طلوع الشمس وغروبها (2).
وفي رواية أخرى أنها قالت:
لم يدع رسول الله (ص) الركعتين بعد العصر. قال: فقالت عائشة: قال
رسول الله (ص): لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها، فتصلوا عند ذلك (3).
قال المؤلف: لعل الحكمة في ذلك: ان التحري لطلوع الشمس وغروبها
للصلاة يشبه فعل من يعبدون الشمس.
ط - استدراكها على الخليفة عمر وابنه عبد الله روايتهما عن رسول
الله (ص) أنه قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه (4).
روى مسلم بسنده عن أبي موسى أنه قال:
لما أصيب عمر أقبل مهيب من منزله حتى دخل على عمر فقام بحياله (5)
يبكي.
فقال عمر: علام تبكي؟ أعلي تبكي؟

(1) صحيح البخاري ج 1 / 149 كتاب السهو، باب إذا كلم وهو يصلي و ج 3 / 53
كتاب المغازي، باب وفد عبد القيس وصحيح مسلم ج 1 / 571 - 572، كتاب صلاة
المسافرين، باب لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس وغروبها، الحديث 295 و 296
و 297، وباب استحباب ركعتين قبل المغرب، الحديث 301 و 299، ومسند أحمد،
ج 6 / 124 و 255.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(4) الجملة عنوان لمجموع ما روي عنهما في الباب.
(5) بحياله: أي حذاءه وعنده.
341

قال: إي والله! لعليك أبكي يا أمير المؤمنين!
قال: والله! لقد علمت أن رسول الله (ص) قال: من يبكى عليه يعذب.
قال: فذكرت ذلك لموسى بن طلحة. فقال: كانت عائشة تقول: إنما كان
أولئك اليهود (1).
بسنده عن أنس أنه قال:
أن عمر بن الخطاب لما طعن عولت عليه حفصة.
فقال: يا حفصة! أما سمعت رسول الله (ص) يقول: المعول (2) عليه يعذب؟
وعول عليه صهيب. فقال عمر: يا صهيب! أما علمت أن المعول عليه
يعذب (3)؟
في صحيح البخاري (4) ومسلم، واللفظ لمسلم:
انه ذكر عند عائشة أن ابن عمر يرفع إلى النبي (ص): إن الميت يعذب في
قبره ببكاء أهله عليه.
فقالت: وهل (5). إنما قال رسول الله (ص): إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه، وإن
أهله ليبكون عليه الآن (6).

(1) صحيح مسلم ج 2 / 639 - 640 كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه،
الحديث رقم 20.
(2) المعول عليه يعذب، قال محققو أهل اللغة: يقال: عول عليه وأعول، لغتان وهو البكاء
بصوت. وقال بعضهم: لا يقال إلا أعول، وهذا الحديث يرد عليه.
(3) صحيح مسلم ج 2 / 642 - 643 كتاب الجنائز باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه
الحديث رقم 21.
(4) صحيح البخاري ج 3 / 5 كتاب المغازي باب قتل أبي جهل.
(5) (وهل): بفتح الواو، وفتح الهاء وكسرها. أي غلط ونسي.
(6) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، الحديث رقم 26.
342

ولفظ الحديث في رواية أخرى لمسلم قال:
ذكر عند عائشة قول ابن عمر: الميت يعذب ببكاء أهله عليه.
فقالت: رحم الله أبا عبد الرحمن. سمع شيئا فلم يحفظه. إنما مرت على
رسول الله (ص) جنازة يهودي وهم يبكون عليه، فقال: أنتم تبكون وإنه
ليعذب (1).
وفي رواية عن مالك بن أنس:
ان عائشة ذكر لما أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي.
فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ.
إنما مر رسول الله (ص) على يهودية يبكى عليها. فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها
لتعذب في قبرها (2).
بسنده عن ابن عباس ما موجزه قال:
لما أصيب الخليفة عمر جاء صهيب يقول: وا أخاه! وا صاحباه!
فقال عمر: ألم تعلم، أو لم تسمع أن رسول الله (ص) قال: إن الميت ليعذب
ببعض بكاء أهله.
قال ابن عباس: فقمت فدخلت على عائشة، فحدثتها بما قال ابن عمر،
فقالت: لا والله! ما قال رسول الله (ص) قط: إن الميت يعذب ببكاء أحد، ولكنه
قال: إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا وإن الله لهو أضحك وأبكى (3). ولا تزر

(1) صحيح مسلم ج 2 / 642 - 643، الحديث رقم 25.
(2) صحيح مسلم ج 2 / 642 - 643 الحديث رقم 27.
(3) (والله أضحك وأبكى): يعني أن العبرة لا يملكها ابن آدم، ولا تسبب له فيها. فكيف
يعاقب عليها؟ فضلا عن الميت.
343

وازرة وزر أخرى (1).
وفي رواية أخرى قال:
لما أن أصيب عمر، دخل صهيب يبكي يقول: وا أخاه! وا صاحباه!
فقال عمر: يا صهيب! أتبكي علي؟ وقد قال رسول الله (ص): إن الميت
يعذب ببعض بكاء أهله عليه. فقال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك
لعائشة، فقالت: يرحم الله عمر، لا والله! ما حدث رسول الله (ص): إن الله
يعذب المؤمن ببكاء أحد، ولكن قال: إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه.
قال: وقالت عائشة: حسبكم القرآن (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (2)
قال: وقال ابن عباس عند ذلك: والله أضحك وأبكى.
وبسنده عن القاسم بن محمد بن أبي بكر أنه قال: لما بلغ عائشة قول عمر
وابن عمر قالت: إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع
يخطئ.
ى - استدراكها على عبد الله بن عمر نهيه للمحرمة لبس الخفين:
روى أبو داود وأحمد ما موجزه:
أن عبد الله بن عمر كان يقطع الخفين للمرأة المحرمة. وإن عائشة قالت:
إن رسول الله (ص) قد كان رخص للنساء في الخفين، فترك عبد الله بن عمر
ذلك (3).

(1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، الحديث رقم 22
و 32، ج 2 / 640 - 642.
(2) فاطر: الآية 18.
(3) سنن أبي داود 2 / 166 - 167 كتاب المناسك، ح رقم 1831. ومسند أحمد 6 / 35.
344

ك - استدراكها على عبد الله بن عمر أن الشهر تسع وعشرون يوما:
في مسند أحمد بسنده قال:
أخبرت عائشة ان ابن عمر يقول: قال رسول الله (ص): الشهر تسع
وعشرون.
فأنكرت ذلك عائشة وقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، ليس كذلك قال
رسول الله (ص) ولكنه قال: الشهر يكون تسعا وعشرين (1).
ل - استدراكها على عبد الله بن عمرو بن العاص في نقض النساء رؤوسهن
عند الغسل:
روى مسلم بسنده قال:
بلغ عائشة أن عبد الله بن عمر يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن
رؤوسهن.
فقالت: يا عجبا لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن
رؤوسهن. أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت أغتسل أنا ورسول
الله (ص) من إناء واحد. ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات (2).
ولفظ الحديث في سنن ابن ماجة قال:
بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر نساءه إذا اغتسلن، أن ينقضن
رؤوسهن.

(1) مسند أحمد ج 6 / 243 و 51.
(2) صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب حكم ظفائر المغتسلة، حديث رقم 59، ج 1 / 260.
345

فقالت: يا عجبا لابن عمرو.... الحديث (1).
م - استدراكها على كعب قوله: إن محمدا (ص) رأى ربه:
روى الترمذي ما موجزه:
إن كعب الأحبار كان يقول: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى،
فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين.
قال مسروق: فدخلت على عائشة فقلت: هل رأى محمد ربه؟
فقالت: لقد تكلمت بشئ قف له شعري.
قلت: رويدا، ثم قرأت: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى).
قالت: أين يذهب بك؟ إنما هو جبريل، من أخبرك أن محمدا رأى ربه أو
كتم شيئا مما أمر به أو يعلم الخمس التي قال الله: (إن الله عنده علم الساعة
وينزل الغيث) فقد أعظم الفرية. ولكنه رأى جبريل، لم يره في صورته إلا
مرتين: مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد له ستمائة جناح قد سد الأفق (2).
وفي لفظ البخاري:
قال مسروق: قلت لعائشة: يا أمتاه هل رأى محمد ربه؟
فقالت: لقد قف شعري مما قلت... الحديث (3).

(1) سنن ابن ماجة، كتاب الطهارة، باب ما جاء في غسل النساء في الجنابة ج 1 / 198.
(2) سنن الترمذي ج 12 / 168 - 170 و ج 11 / 188 - 189 كتاب أبواب التفسير، باب
تفسير سورة والنجم.
(3) صحيح البخاري ج 3 / 129 كتاب تفسير، باب سورة والنجم. و ج 1 / 160 كتاب
الايمان، باب 77.
346

ن - استدراكها على مروان بن الحكم قوله في عبد الرحمن بن أبي بكر:
هذا الذي أنزل الله فيه: (والذي قال لوالديه أف):
روى البخاري بسنده وقال:
كان مروان واليا على الحجاز استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد
ابن معاوية لكي يبايع بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال:
خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل
الله فيه: (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني) فقالت عائشة من وراء
الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري (1).
إن البخاري لم يذكر الخبر بتمامه.
وتمامه في تاريخ ابن الأثير كالآتي:
قام مروان خطيبا فقال: إن أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل، وقد
استخلف ابنه يزيد بعده.
فقام عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: كذبت والله يا مروان! وكذب معاوية،
ما الخيار أردتما لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل
قام هرقل.
فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه: (والذي قال لوالديه أف لكما)
الآية، فسمعت عائشة مقالته من وراء الحجاب، فقامت من وراء الحجاب،
وقالت:
يا مروان! يا مروان! فأنصت الناس، وأقبل مروان بوجهه، فقالت: أنت

(1) البخاري ج 3 / 126، في تفسير سورة الأحقاف.
347

القائل لعبد الرحمن: إنه نزل فيه القرآن؟ كذبت والله ما هو به، ولكنه فلان بن
فلان، ولكنك فضض من لعنة الله.
وفي رواية:
فقالت: كذب والله ما هو به، ولكن رسول الله لعن أبا مروان ومروان في
صلبه، فمروان فضض من لعنة الله عز وجل. انتهى (1).
أأنت - استدراكها على بعض الناس استنكارهم على ادخال الجنازة في
مسجد الرسول (ص):
في صحيح مسلم بسنده عن عائشة:
أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص، أرسل أزواج النبي (ص) أن يمروا بجنازته
في المسجد فيصلين عليه. ففعلوا. فوقف به على حجرهن يصلين عليه. اخرج به
من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد (2). فبلغهن أن الناس عابوا ذلك وقالوا: ما
كانت الجنائز يدخل بها المسجد. فبلغ ذلك عائشة. فقالت: ما أسرع الناس إلى أن
يعيبوا ما لا علم لهم به! عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد! وما صلى رسول
الله (ص) على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد (3).

(1) ابن الأثير ج 3 / 199 في حوادث سنة 56، وينبغي أن تكون هذه القصة بعد القصة
الأولى من أمر مروان بهدم دار سعيد وبالعكس وبعد أن روض من نفوس بني أمية على أخذ
البيعة ليزيد.
أخرج القصة بتفصيلها في الأغاني ج 16 / 90 - 91، وراجع: ترجمة الحكم بن أبي العاص
من الاستيعاب، وأسد الغابة، والإصابة، والمستدرك وغيرها.
(2) (المقاعد): أي كان منهيا إلى موضع يسمى مقاعد، بقرب المسجد الشريف. اتخذ للقعود
فيه للحوائج والوضوء.
(3) صحيح مسلم ج 2 / 668 كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد.
348

الباب السادس
أقوال المستشرقين واستفادتهم من
الروايات التي درسناها في أبواب
الكتاب الماضية
أ - مونتجومري وات في كتابه محمد في مكة.
ب - ر. ف بودلي في كتابه حياة محمد.
ج - كارل بروكلمن في تاريخ الشعوب.
د - ف. بوهل في دائرة المعارف الاسلامية.
ه‍ - يوسف شاخت في دائرة المعارف الاسلامية.
349

تمهيد
درسنا بحمد الله تعالى في الباب الثالث والرابع من هذا الكتاب الروايات
التي رويت عن أم المؤمنين عائشة وحدها وبينا زيفها.
وفي الباب الرابع منه درسنا ما افتري عليها وعلى غيرها من الصحابة من
روايات وكشفنا زيفها.
وفي هذا الباب " السادس " نستعرض كيف استفاد المستشرقون من تلكم
الروايات الزائفة في حربهم للاسلام باسلوبهم الماكر وبعنوان البحث العلمي
الهادئ الرصين ولما كنا قد كشفنا في الأبواب السابقة عن زيف كل تلكم
الروايات التي اعتمدوها في بحوثهم الماكرة فلا حاجة بعد ذلك إلى مناقشة
دراساتهم المنبعثة من حقدهم للاسلام وأهله لأنهم بنوها (على شفا جرف هار)
وإنما غايتنا الكشف عما استفاده المستشرقون ليعرف أهل العلم والبحث أن
غايتنا من عرض تلكم الأحاديث ومناقشتها كانت للدفاع عن الاسلام وأهله،
وبدون تلك الدراسات لم يكن يتيسر لنا كشف زيف ما استند إليه أعداء الاسلام
في حربهم للاسلام والله من وراء القصد.
351

أ - في سورة البقرة:
(وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان
من المشركين * قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل و
إسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم
لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) (الآيات / 135 - 136).
ب - في سورة البقرة - أيضا -:
(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو
الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي
ولا نصير) (الآية / 120).
ج - في سورة النساء:
(من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا
واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا
وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون
إلا قليلا * يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم)
(الآيات / 46 - 47).
د - في سورة المائدة:
(ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك
يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه
فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن
يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزى ولهم في الآخرة عذاب عظيم) (الآية / 41).
* * *
وفي ما يأتي نجد مصاديق لما قاله تعالى في كتابه الكريم:
352

أولا - مونتجومري وات في كتابه محمد في مكة (1)
أ - رواية الزهري:
تقول الروايات إن الله دعا محمدا لأداء رسالة النبوة في الأربعين من عمره،
وأخذ يتلقى الوحي من الله. وأفضل نقطة للابتداء هي رواية الزهري مصحوبة
بشروح نفس المؤرخ عن فترة انقطاع الوحي. وهذه الرواية ليست متصلة كرواية
ابن هشام بل هي تجمع مقاطع وصلت إلى علم الزهري، والنص كما وصل إلينا
لا يحتوي على تقسيمات. وقد أدخلنا بعض التقسيمات هنا للتسهيل، وهي تظهر في
نص الزهري عند تغير الراوي.
(أ) سمعت النعمان بن راشد يحدث عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها
قالت كان أول ما ابتدئ به رسول الله (ص) من الوحي الرؤيا الصادقة، كانت
تجئ مثل فلق الصبح.
(ب) ثم حبب إليه الخلاء فكان بغار حراء يتحنث فيه الليالي ذوات العدد
قبل أن يرجع إلى أهله، ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق فأتاه
فقال: يا محمد أنت رسول الله.
(ج) قال رسول الله (ص) فجثوت لركبتي وأنا قائم ثم زحفت ترجف

1 - تعريب شعبان بركات، نشر المكتبة العصرية بيروت، ص 75 وكان موتنجومري
أستاذ العلوم الاسلامية ورئيس قسم اللغة العربية بجامعة ادمبرغ في اسكوتلندا.
353

بوادي ثم دخلت على خديجة فقلت زملوني، زملوني! حتى ذهب عني الروع، ثم
أتاني فقال: يا محمد أنت رسول الله.
(د) قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق جبل، فتبدى لي حين
هممت بذلك فقال: يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله.
(ه‍) ثم قال: اقرأ، وقلت: ما أقرأ؟ قال: فأخذني فغتني ثلاث مرات حتى
بلغ مني الجهد ثم قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، فقرأت.
(و) فأتيت خديجة فقلت: لقد أشفقت على نفسي فأخبرتها خبري. فقالت
أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، ووالله انك لتصل الرحم.
ب - رؤى محمد:
لا نملك أي دليل قاطع للشك في الفكرة الأساسية للمقطع (أ) وهي أن
دعوة محمد بدأت " برؤيا حقيقية " وهذا يختلف كليا عن الأحلام. كما نجد
" الرؤى " في المقطع (ب) إذا وضعنا جانبا ظهور جبرائيل في (د).
ويؤيد نص المقطع (أ) ما نعلم من سورة النجم، ولكنه مشتق بصورة
مستقلة عن ملاحظات محمد.
ويذكر لنا القرآن رؤيين: (والنجم إذا هوى... ما ضل صاحبكم وما
غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة
فاستوى، وهو بالأفق الاعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى
إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلة
أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ
البصر وما طغى لقد رأى آيات ربه الكبرى) (النجم / 1 - 18).
تفسير المسلمين لهذه الآيات يهئ للاعتقاد بأنها تتحدث عن رؤيا
354

جبرائيل ولكن هناك أسباب تحملنا على الاعتقاد بان محمدا قد فسرها على أنها
رؤيا الله نفسه، فنحن لا نجد أي ذكر لجبرائيل في القرآن حتى في الفترة المدنية
وان الكلمات في (5 / 10) يجب أن تعني " عبد الله " كما يعترف به المسلمون.
ولكن هذا يجعل الجملة غير مستقيمة إلا إذا كان الله فيها الفاعل الضمني للأفعال.
والجملة في نهاية المقطع (ب) " حتى فجأه الحق فقال " لها نفس القيمة لأن " الحق "
وسيلة للإشارة إلى الله ويمكن تفسير المقطع (ج) بنفس الطريقة لأن النص هو " ثم
أتاني فقال " وكذلك بعض الروايات المتعلقة بسورة المدثر عن جابر تقول عن
محمد: " سمعت صوتا يناديني، فتلفت حولي فلم أر أحدا فرفعت رأسي فرأيته
هناك جالسا على عرش ".
وربما كان ذلك تفسير محمد نفسه، ولكنا لا نستطيع الادعاء بأنه اتبع ذلك
دائما لأنه على عكس (6 / 103) " لا تدركه الابصار ". وإذا كانت سورة النجم
يمكن أن تفسر بهذا الشكل فإنها يمكن تفسيرها بشكل آخر، ولا شك ان القول:
(لقد رأى من آيات ربه الكبرى)، لا يعني رؤيا الله. ولكن يبدو أنه يمكن تفسير
ذلك بمعنى ان ما رآه محمد كان آية أو رمزا لجلالة الله. والآية (11) (ما زاغ البصر
وما طغى) (وربما أضيفت فيما بعد) توحي بتطور لاحق لهذه النظرية، أي حينما
كانت الانظار ترى الآية أو الرمز، كان القلب يدرك الشئ الذي يرمز إليه.
ولو أن محمدا فسر، في الأصل، الرؤيا على أنها رؤيا مباشرة لله فان هذا
يعنى إذن أنه لم يخطئ في الشئ الأساسي، وإن كان تفسيره لم يكن صحيحا
تماما وربما كان يجب تفسير الآية هكذا: لا يخطئ القلب فيما رآه هو كانسان،
وبهذه الطريقة، يمكن تجنب جعلها رؤيا جبرائيل.
وقال:
355

ج - رؤيا حراء، التحنث
ان زيارة محمد لحراء، وهو جبل قريب من مكة، بصحبة عائلته أو بدونها،
ليست مستحيلة، ويمكن أن يكون ذلك للفرار من أتون المدينة خلال فصل
الصيف للذين لا يستطيعون التوجه إلى الطائف، ويمكن للتأثير اليهودي المسيحي
ولا سيما مثل الرهبان، أو تجربة شخصية لمحمد أن يكون قد أثار فيه الحاجة للخلوة
والرغبة فيها.
وليس المعنى الدقيق والمشتق " للتحنث " واضحا. وإن كنا بصورة بديهية
بصدد بعض طقوس العبادة. ولربما كانت أفضل فرضية هي فرضية ه‍. هرشفلد (1)
بالاعتماد على اللفظ العبري " تحنوث " (fehinnath) أو " تحت " (fehinnath)
الذي يعني " الصلاة لله ". ويمكن لهذا المعنى أن يكون قد تأثر بالجذر العربي، حنث
تعني نقض القسم والعهد، أو العجز عن تنفيذه، كما تعني بالمعنى العام الخطيئة،
والتحنث يعني " القيام بعمل للفرار من خطيئة أو جريمة " واستعمال كلمة
" التحنث " هنا ربما كان دليلا على أن المادة قديمة فهي بذلك صحيحة (2).
وربما استطعنا أن نتم هذا العرض الموجز بما سبق الدعوة وأول ما نزل من
الوحي، ولابد أن محمدا قد عرف منذ شبابه بعض المشاكل الاجتماعية والدينية في ا
مكة. ولا شك أن وضعه كيتيم قد أطلعه على القلق السائد في المجتمع، وربما كانت
أفكاره من وجهة المنظر الدينية ترجع إلى التوحيد الغامض الذي نلاحظه عند
المكيين المثقفين، ولكن يضاف إلى ذلك أنه ولا شك فكر ببعض الاصلاح في مكة،
وكان كل ما يحيط به يساعد على أن يوحي إليه بأن هذا الاصلاح يجب أن يكون

(1) أبحاث جديدة في تأليف القرآن وتفسيره، لندن 1902، ص 10.
(2) قابل كايناني حوليات، 1 / 222 رقم 2
356

أولا اصلاحا دينيا. ولهذا نرى محمدا يصبو إلى الخلوة للتفكير في الأمور الإلهية
والقيام ببعض العبادات، وربما كان ذلك للتكفير عن الخطايا، وربما سبق هذه
" العزلة " بعض التجارب الدينية، ولكننا لا نعرف عنها شيئا. وتوحي الروايات
بأن الرؤيا حدثت أثناء العزلة. ولكن تواريخ مختلف جوانب دعوة محمد غير
أكيدة. تارة تقول بأن الرؤيا كانت غير منتظرة، وتارة يبدو أن خديجة كانت
قريبة منها.
د - أنت رسول الله:
تتكرر هذه الكلمات أربع مرات في مقاطع الزهري في ب، ج، د وط، في
المقطعين الأخيرين يتحدث جبرائيل وفي الأول " الحق " وفي الثاني " هو "
وتختلف المناسبات في المقاطع الأولية. ومن خم أفلا يمكن لهذه الروايات الأربع أن
تكون لها علاقة بمختلف جوانب الحادث الذي ترويه؟
ان ذكر جبرائيل لا يستحق الثقة في البدء، لأننا لأننا نجد هذا الذكر كثيرا في
القرآن. وتبدو الوقائع لأول وهلة، على نوعين على الأقل: النص (ب) مع النص
(ج) يمكن أن يصورا الدعوة إلى النبوة، بينما (د) و (ط) يبدوان كتأكيد لهذا مع
السعي لتطمينه وإزالة قلقه.
وإذا كان النص (ب) يرجع للدعوة الأولى فما هي علاقته بالرؤيا؟ إن
وصف الرؤيا الأولى في سورة " النجم " يأتي في مقطع يرد على بعض
الاعتراضات التي أثارها المكيون حول حقيقة الوحي الذي نزل على محمد
ولا شك أن محمدا كان قد أعلن هذا الوحي مرة أو أكثر. وحديث الرؤيا في هذا
النص يدل على أن لها علاقة ما بالوحي. وليس هناك ما يدل على أن سماع المقاطع
كان يصحب الرؤيا، وفي الحقيقة لو أن أكثر من هذين المقطعين كان موضع
357

التساؤل لأصبح ذلك مستحيلا. ويبدو أن النتيجة العملية للرؤيا هي شئ أكثر
شمولا كالشعور بأن هذه المقاطع هي رسائل من عند الله وانه كان على محمد أن
يعلنها أمام الناس، وهذا يفترض أن محمدا كان قد نزل عليه الوحي سابقا، ولكنه
لم يكن واثقا من طبيعة الوحي الذي ينزل عليه، وقد أخبر الآن أو انه تلقى تأكيدا
بصدده. ويمكن أن تكون الرؤيا، من ناحية ثانية، دعوة لطلب الوحي، كما يمكن أن
يكون محمدا قد عرف شيئا ما عن الوسائل الخاصة لاثارته والافتراض الأخير
هو الأقرب. ويجب أن نلاحظ بصدد هذا أن ما (1) كان يوحى إليه كان " مسلكه
العملي " الذي يسير عليه. ومعنى الرويا، في هذه الحالة، معنى عام، يتفق تماما مع
النص (ب) ويمكن أن لا تكون كلمات " رسول الله " تعبيرا خارجيا كما يمكن أن
لا تكون تعبيرا خياليا بل تعبيرا فكريا، أي انه لم يسمع ولم يخيل إليه أنه يسمع، إذ
أن هاتين الكلمتين كانتا تعلنان عن رسالة وصلته بدون كلمات. فصورة الكلمتين
لاحقة للرؤيا.
هل يمكن لمغامرة من هذا النوع أن تتكرر؟
ليس هذا مستحيلا تماما، ويتضمن جمع الرؤيين في سورة النجم بعض
الشبه في محتواهما. ولا نجد من ناحية ثانية، أي ذكر للوحي في وصف الرؤيا
الثانية، ومن المتفق عليه عادة أننا بصدد إشارة إلى الجنة ولا تساعدنا المقاطع (ج)
و (د) و (ط) بأي شكل. وليس المقطعان الأخيران نداءا لمحمد أكثر منهما تأكيدا
وتذكيرا بالنداء الأول. ومن الطبيعي الافتراض أن محمدا قد تذكر رؤياه الأولى
في ساعات الشقاء.
وربما ساورته الفكرة في ساعة الشدة فنسب ذلك لتدخل خارق. ومهما
كانت الوقائع بصدد ذكريات من هذا النوع، فإنه ليس لها أهمية التجربة الأصلية.

(1) ر. بل، " رؤى محمد " في MW 1934، ص 145 - 54.
358

ه‍ - " اقرأ "
تتضمن الرواية المتعلقة بوحي سورة العلق (96) عدة أشكال، ويظهر أحد
هذه الاشكال من خلال المقطع (ه‍) للزهري. ويجب تفسير قول محمد " ما أقرأ "
في رده على قول الملك " اقرأ " ب‍ " لا أستطيع القراءة " أو " التلاوة ". يتضح لنا ذلك
من وجود رواية تقول: " ما أنا بقارئ ".
وفي أتميز عند ابن هشام " ما أقرأ " و " ماذا أقرأ " حيث التعبير الثاني
لا يمكن أن يعني إلا: " ما أتلو " وهذا هو المعنى الطبيعي لقوله: " ما أقرأ "، ويبدو
من المؤكد، تقريبا، ان المفسرين التقليديين اللاحقين تجنبوا المعنى الطبيعي لهذه
الكلمات ليجدوا أساسا للعقيدة التي تريد أن محمدا لم يكن يرف الكتابة، وهذا
عنصر رئيسي للتدليل على طبيعة القرآن المعجزة، ومحتوى رواية عبد الله بن
شداد في تفسير الطبري يفترض، إذا كان النص صحيحا ان " ما " بمعنى " ماذا "
لأنها مسبوقة بالواو.
إن كلمتي " قرأ " و " قرآن " هما من الكلمات الدينية التي أدخلتها المسيحية
إلى شبه الجزيرة العربية وتعني قرأ مثلا نصوصا مقدسة، بينما " قرآن " هي
" كريانا " السورية استعملت للدلالة على " القراءة " ودرس من الكتابات
المقدسة. وبينما أصبح معنى اللفظ الثاني " قرأ " فإن له في هذه السورة، كما يبدو،
معنى " تلا عن ظهر قلب " أي من الذاكرة التي وصلته بصورة خارقة. علا من كان
على محمد أن يتلو، وفي أية مناسبة؟ لا نجد مناقشة واضحة لهذه المسألة عند
القدماء والتفسير الطبيعي أن محمدا كان عليه أن يتلو ما يتبع ذلك كجزء من
عبادة الله الشكلية. وهذا يتفق مع استعمال الكلمة في اللغة السريانية وأن
المسلمين يسمون تلاوة سورة أو عدة سور في صلاتهم " قراءة " كما يجب أن
359

نلاحظ ان في رواية عبد الله بن شداد المشار إليها سابقا، الجواب على السؤال: ما
أقرأ؟ ليس " اقرأ باسم من " بل " باسم من ". فهل كان ذلك بداية ل " بسم الله ".
وليس هناك من اعتراض فعلي على رأي فقهاء الاسلام القائل بأن هذه
السورة هي أول ما أوحي من القرآن. ولا يعارض أي مقطع آخر قول سورة
العلق، فالأمر بالعبادة هو أول ما يمكن انتظار صدوره بالنسبة لمحتوى رسالة
القرآن الرئيسية. وكلمة " اقرأ " موجهة إلى محمد بمفرده، وان لم يكن صعبا جعلها
موجهة إلى أتباعه، لان فكرة الاتباع لم ترد على فكره ساعة الوحي، أي انها
ترجع إلى فترة سابقة على الفترة التي بدأ فيها بدعوة الآخرين، وليس من
المستبعد، طبعا، ان محمدا كان قد تلقى دعوات أخرى لم يعتبرها جزءا من القرآن.
نجد مثالا على ذلك في الكلمات " أنت رسول الله ".
و - سورة المدثر، الفترة:
هناك رواية عن جابر بن عبد الله الأنصاري تقول إن الآيات في مقدمة
سورة " المدثر " هي أول ما نزل من الوحي وهي الآيات التي تقول: " قم فأنذر "
وتبدو كامر للعمل كنبي أو رسول، ولكنها لا يمكن أن تكون أول ما نزل من
الوحي إلا إذا كان محمد قد نهض بدعوته العامة دون أية فترة في الاعداد. أما إذا
كان هناك، على العكس، فترة اعداد نزل فيها الوحي، فإن هذه الكلمات لا يمكن
أن تكون أول الوحي. وقد رأينا ان " اقرأ " لا تتضمن بالضرورة رسالة عامة.
واستمرار هذه الرواية بالرغم من الرأي العام القائل بأن أول الوحي هو سورة
" العلق " يوحي بأنها تتضمن شيئا من الحقيقة. والأقرب أن تكون تعبيرا عن
بداية دعوته للناس.
360

و - أيضا - قال مونتجومري في كتابه محمد في مكة (1):
يحق لنا الاعتقاد بأن محمدا، في أول دعوته، قد لقى بعض النجاح. ولكن
المعارضة مع ذلك لم تعتم أن ظهرت ثم أصبحت ضخمة. ويعترضنا هنا سؤالان:
متى وكيف ظهرت هذه المعارضة، وعلى أي أسباب رئيسية اعتمدت؟ والسؤال
الثاني هو الأهم. ومن ذلك علينا أن نحاول الإجابة أولا على السؤال الأول.
أ - رسالة عروة:
حفظ لنا الطبري نسخة عن وثيقة كتبت منذ زمن بعيد وتبدو عليها مظاهر
الصحة:
قد حدثنا هشام بن عروة عن عروة انه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما
بعد فإنه - يعني رسول الله (ص) - لما دعا قومه لما بعثه الله من الهدى والنور
الذي نزل عليه، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم وكادوا يسمعون له، حتى ذكر
طواغيتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال، أنكروا ذلك عليه،
واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال لهم وأغروا به من أطاعهم فانصفق عنه عامة
الناس، فتركوه إلا من حفظ الله منهم، وهم قليل فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث.
ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم
وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال على من اتبع رسول (ص) من أهل
الاسلام، فافتتن من اففتق وعصم الله منهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين
أمرهم رسول الله (ص) أن يخرجوا إلى أرض الحبشة. وكان بالحبشة ملك صالح
يقال له النجاشي، لا يظلم أحد بأرضه، وكان يثني عليه، مع ذلك صلاح، وكانت

(1) محمد في مكة، ص 166.
() الطبري تاريخ 1180، راجع كايتاني تاريخ 1 / 267.
361

أرض الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها، مجدون فيها رفاغا من الرزق وأمنا
ومتجرا حسنا فأمرهم بها رسول الله (ص)، فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة،
وخاف عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح، فمكث بذلك سنوات يشتدون على من
أسلم منهم. ثم أنه فشا الاسلام فيها ودخل فيه رجال من أشرافهم ".
وتشبه رواية أبي العالية تقريبا الرواية السابقة، ولكنها لا تحتوي على بيت
الشعر الثالث. ولكنها مع ذلك تذكرنا، كبعض الروايات الأخرى، كيف امتنع كبار
القرشيين، بسبب أعمارهم، عن السجود فمسحوا جباههم بالتراب عرضا عن
ذلك، وهي على عكس الروايات الأخرى، تضيف ان أبا أهيهة، سعيد بن العاص،
لاحظ قائلا: بأن ابن أبي كبشة أشاد بآلهتهم. يمكن أن تكون الملاحظة صحيحة
ونجد إشارة مشابهة لمحمد في ملاحظة أخرى تنسب لهذا الرجل.
وإذا قارنا مختلف الروايات وحاولنا أن نميز بين الوقائع الخارجية التي
تتفق معها والدوافع التي يستخدمها المؤرخ لتفسير الوقائع، نلاحظ واقعتين
نستطيع أن نعتبرهما أكيدتين. أولا رتل محمد في وقت من الأوقات الآيات التي
أوحى بها الشيطان على أنها جزء من القرآن لأنه لا يمكن أن تكون القصة قد
اخترعها مسلمون فيما بعد أو دسها غير المسلمين. ثم أعلن محمد فيما بعد أن هذه
الآيات لا يجب أن تعتبر جزءا من القرآن ويجب استبدالها بآيات تختلف عنها
كثيرا في مضمونها. والروايات الأولى لا تحدد الوقت الذي حدث فيه ذلك.
والأقرب أن يكون ذلك قد وقع بعد بضعة أسابيع أو أشهر.
وهناك واقعة ثالثة أو مجموعة وقائع نستطيع أن نكون واثقين منها. وهي
أنه كان يجب على محمد ومعاصريه المكيين أن يشير في القرآن للآلهة اللات التي
كانت معبودة في الطائف والعزى المعبودة في نخلة بالقرب من مكة، ومناة التي
كان معبدها بين مكة والمدينة. كانت العزى معبودة عند القرشيين أولا، ولكن
362

العائلة الكهنوتية كانت تنتمي لبني سليم وكنانة وخزاعة وثقيف. يذكر بعض
أفراد من هوازن على أنهم كانوا يعبدونها. ونسمع عن أشراف المدينة الذين كانوا
يملكون في بيوتهم تماثيل من الخشب تمثل مناة، ولكن العرب في مجموعهم في ذلك
العصر ربما لم يفكروا بأية عبادة سوى المراسيم التي تقام على معابد خاصة. وهذا
موقف يختلف تماما مثلا عن تقديس المسيحيين الكاثوليك لمريم العذراء ويمكن
للمسيحي أن يقول: " السلام عليك يا مريم " في أي مكان. بينما مناة، حسب الرأي
السائد عند العرب، لا يمكن أن تفيد إلا في معبدها. ما تعنيه إذن الآيات الإبليسية
ان الاحتفالات مقبولة في المعابد الثلاثة حول مكة. وأما معنى الآيات التي تقول
بأن العبادة في هذه المعابد غير مقبولة فهي لا تحرم العبادة في الكعبة.
ويجب أن نعترف بأن الآيات التي صححت سورة النجم تمجد الكعبة على
حساب المعابد الأخرى، إلا إذا افترضنا وجود آيات أخرى كانت تحرم ذلك ثم
رفعت فيما بعد من القرآن. ولكن ليس لدينا أي سبب يمكن الأخذ به. ومن المهم أن
نتذكر بهذا الصدد ان هذه المعابد قد هدمت عند صعود نجم محمد.
ب - الآيات الإبليسية، الأسباب، التفاسير:
اعتبر الفقهاء المسلمون، الذين ظلوا بعيدين عن المفهوم الغربي الحديث
للنمو التدريجي، محمدا على أنه قد أخبر مغذ البدء بالمضمون الكامل لعقيدة
الاسلام، فكان من الصعب عليهم أن لم ير محمد خروج الآيات الإبليسية على
عقيدة الاسلام. والحقيقة هي أن توحيده كان في الأصل، كما كان توحيد
معاصريه المثقفين، غامضا ولم ير بعد أن قبول هذه الخلوقات الإلهية كان
يتعارض مع هذا التوحيد، لا شك أنه يعتبر اللات والعزى ومناة على أنها
كائنات سماوية أقل من الله، كما اعترفت اليهودية والمسيحية بوجود الملائكة.
363

ويتحدث القرآن عنها في الفترة الأخيرة المكية باسم الجن. وإن كان يتحدث عنها
في الفترة المدنية على أنها مجرد أسماء، إذا كان ذلك فليس من الضروري اكتشاف
سبب خاص للآيات الإبليسية فهي لا تدل على أي تقهقر واع للتوحيد بل هي
تعبير عن النظريات التي دافع عنها دائما محمد.
وهكذا فإن قيمة الآيات السياسية مهمة. فهل اعترف محمد بصحتها لأنه
كان يهمه كسب الأنصار في المدينة والطائف وبين القبائل المجاورة؟ هل كان
يحاول التخفيف من تأثير الزعماء القرشيين المعارضين له باكتساب عدد كبير من
الأتباع؟ ذكر هذه المعابد دليل على أن نظرته أخذت في الاتساع.
تشير الرواية عن أبي العالية، المذكورة آنفا، أن القرشيين عرضوا على محمد
إدخاله في دائرتهم إذا رضى بذكر آلهتهم. ونجد روايات أخرى بهذا الصدد.
ويقولون أنهم قدموا إليه الثروة والزواج من غنية، ومكانة عالية. كما عرضوا
عليه أن يشركوه في عبادتهم ومصالحهم.
ويبقى علينا أن نعرف ما إذا كانت كل هذه القصص قد اخترعت للتعظيم
من شان محمد في هذه الفترة. فهل عظم شأنه ليعامله زعماء مكة معاملة الند للند؟
إن وصف مكانة محمد، على الا جهال، كما نجده في الاخبار قريب من الحقيقة.
ويجب أن نتذكر أن هناك من حاول التقليل من أهمية الانتصارات الأولية التي
حازها محمد لأن أحقاد الذين تبعوه لفترة من الزمن ثم تركوه كانوا لا يودون
تذكر هذه الأمور.
نرى محمدا في رواية أبي العالية شخصية كبيرة بين زائري مكة، وإن لم
يستقبله زعماء مكة استقبالا حسنا، فلو أن الامر كان مجرد اختراع لما لو حظ هذا
التناقض بشكل قوي. فلنفترض إذن ان زعماء قريش عرضوا على محمد عرضا
من هذا النوع وذلك بأن ينال بعض الامتيازات المادية مقابل أن يعترف بآلهتهم.
364

ويؤكد القرآن ذلك كما سنرى. ولا نستطيع أن نكون مطمئنين إلى التفاصيل.
واعلان الآيات القرآنية مرتبط بهذه القصة.
وتبعا لهذا الرأي فإن نسخ الآيات مرتبط أيضا بفشل هذه التسوية.
ولا شئ يسمح لنا بالاعتقاد أن محمدا قد استسلم لخداع المكيين. ولكنه انتهى به
الأمر إلى إدراك أن الاعتراف ببنات الله (كما كانت تسمى الألهة الثلاث وغيرها)
يعني انزال الله إلى مستواها. وعبادة الله في الكعبة، لم تكن في الظاهر تختلف عن
عبادتها في نخلة والطائف وقديد، وهذا يعني ان رسول الله لم يكن يختلف كثيرا
عن كهانهم وأنه لم يكن يرى نفسه مدعوا لان يكون تأثيره أعظم من تأثيرهم.
ينتج عن ذلك أن الاصلاح الذي عمل له من كل قلبه لن يتحقق.
وهكذا لم يرفض محمد عروض المكيين لأسباب زمنية بل لسبب ديني
حقيقي. ليس لأنه لم يكن يثق بهم، مثلا، أو لأنه لم يبق شئ من مطامحه الشخصية
بل لأن الاعتراف بآطهتهم يؤدي إلى فشل قضيته والمهمة التي تلقاها من الله.
ولا شك ان الوحي قد نبهه إلى ذلك، كما أنه من الممكن أن يكون قد شعر بخطئه
بهذا الصدد قبل نزول الوحي.
وإذا نظرنا إلى الوضع بصورة مجردة يبدو أن هناك قليلا من الأسباب
للاعتراض على الاعتراف باللات والآلهة الأخرى على أنها مخلوقات سماوية
ثانوية. ولا يتعارض الاعتراف بالملائكة مع التوحيد، ليس فقط في اليهودية
والمسيحية بل في الاسلام. وهناك مع ذلك عاملان حالا دون الاعتراف بذلك في
مكة. أولا كانت العبادة في الكعبة، التي كانت في السابق متعددة الألهة، آخذة
بالطهارة، وكانت في نظر المسلمين تسير في طريق التوحيد.
فإذا كانت عبادة مماثلة تمارس في معابد عديدة، فلسوف يخيل لشعب
الحجاز أن آلهة متساوية تقريبا تعبد فيها. ثم إن جملة " بنات الله " تتضمن نتائج
365

خطيرة حتى ولو لم نفرض تفسيرا حرفيا (1).
تستعمل كلمة " بنات " وغيرها من الكلمات غالبا مجازا في اللغة العربية.
وهكذا " بنت الشفة " أي: الكلمة و " بنت العين " أي: الدمعة، و " بنات الدهر "،
أي: المصائب. يمكن عندئذ أن تكون هذه الجملة " بنات الله " لم تكن تعني في
الأصل سوى " مخلوقات سماوية أو خارقة " لان " الله " هو مجرد " إله " وليس
الاله الواحد العلي، أي الله. ولما كانت كلمة " الله " أو كلمة " الاله " لم تعد
تستعمل إلا للتدليل على " الله " يجب تفسير الجملة على أنها تعني وجود مخلوقات
مساوية لله تقريبا فلا يتفق ذلك مطلقا مع التوحيد.
ويتفق الرأي القائل بأن قطع العلاقات بين محمد والمكيين نتيجة لنسخ
الآيات الإبليسية (مع رفض العروض التي قدمت إليه)، يتفق مع النقطة الثانية
المشار إليها سابقا في رسالة عروة أي: يتفق مع القول بأن القرشيين الموسرين في
الطائف هم الذين تزعموا المعارضة الفعالة ضد محمد. وهناك تفسيرات متعددة
ممكنة لهذا الأمر، وسوف نرى بسهولة التفسير الأقرب. وهو ان بعض القادة
المكيين المهتمين بتجارة الطائف نجحوا في جعل النشاط التجاري في الطائف
يصبح خاضعا لنفوذ مكة المالي، ولا شك ان رفض الاعتراف بمعبد اللات قد هدد
بشكل ما مشاريعهم وأثار غضبهم على محمد.
وقال في كتابه محمد، الرسول والسياسي:
" كانت عقيدة التوحيد مبهمة في أذهان أهل مكة وكانوا يرونها مخالفة
للشرك بصورة تامة وقد بان هذا الأمر بشكل واضح في الآيات الشيطانية، فإنه
في الوقت الذي كان محمد ينظر الوحي كي يزيل تشكيكات رؤساء مكة، حيث
كان منهكا من شدة مشاكساتهم، هذه الحالة نزل الوحي بما لا يزيد على

(1) فلوزن reste 24.
366

الآيتين أو الثلاث آيات، وأجازت الشفاعة لبعض الأوثان الموجودة في معابد
أطراف مكة! ثم أدرك محمد ان هذه الآيات ما أوحيت إليه من الله وما هي إلا من
الوساوس الشيطانية، فكان يريد قبولها في الوهلة الأولى، وهذا يدل على أنه في
هذه المرحلة من ايمانه بالتوحيد ما كان يمتنع من الاحترام والدعاء لبعض
الموجودات (الميتافيزيقية) ما فوق الطبيعة التي كان يعتقدها نوعا من
الملائكة " (1).
وتقرأ في مكان آخر من كتابه المذكور ما يلي:
" بما ان الروايات اختلفت في بيان جزئيات هذه الواقعة يجدر بنا أن نبدأ
بذكر ما هو موثوق في هذه القصة.
يبدو أنها كانت في وقت كان محمد قد جاء ببعض الآيات القرآنية التي
يستشف منها جواز الاستشفاع بالأوثان ومضمون إحدى هذه الآيات هو:
" أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن
لترتجي ". ولم تمض مدة حتى نزل الوحي بآيات تنسخ الآيات المذكورة أعلاه في
حين أن الآيات: الأولى والثانية منها قد انتشرت في كل مكان، وبيان هذا
الاصلاح والنسخ هو ان الشيطان قد انزلق بالآيات دون أن يشعر محمد بذلك.
هذه القصة عجيبة ومحيرة، ان النبي الذي يبلغ أعظم الأديان في التوحيد
هو بنفسه مجيز الشرك، وحقيقة هذه القصة عجيبة إلى حد تدل على أن أساسها
صحيح.
؟ لا يتصور أن أحدا اخترعها ثم طلب من المسلمين أن يصدقوا بها وان
أحد الأوجه الملفتة للنظر في هذه القصة أنها توضح لنا نظرة وعقيدة محمد في زمن
القصة وأن محمدا كان مؤمنا بأنه لم يقل بهذه الآيات بل انها تنزل إليه ولم يكن

(1) نفس الكتاب، الترجمة الفارسية لإسماعيل والي زادة، ص 33.
367

منتبها في بداية الأمر ان هذه الآيات مخالفة للدين الذي يبلغه هو، وهل هذا يعني
أنه كان في ذلك الزمان مشركا ".
وقال في كتابه محمد في المدينة:
وكانت الخطوة الأولى لتميزهن عن سائر النساء فرض الحجاب عليهن،
وكانت كلمة الحجاب تعني في الأصل " الستار " (1).
وهاك الآية القرآنية بصدد ذلك: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت
النبي إلا أن يؤذن لكم.. ولكن إذا دعيتم فأدخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا
مستأنسين لحديث ان ذلكم كان يؤذي النبي.. وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من
وراء حجاب، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) (الأحزاب / 53).
وربما ترجع هذه الآية الأخرى إلى نفس الوقت: (يا أيها النبي قل
لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدفى أن
يعرفن فلا يؤذين) (الأحزاب / 59).
تفسر لنا عدة روايات أسباب هذه التشريعات. فقد بقي بعض المدعوين
أثناء حفلة زفاف زينب بنت جحش وقتا طويلا. وكذلك لامست أيدي بعض
الرجال أيدي نساء محمد، وكانت نساء النبي يخرجن في الليل لقضاء حاجاتهن
فيهينهن بعض المنافقين، وكان ذلك مقصودا غير أن المنافقين كانوا يعتذرون بأنهم
حسبوا نساء النبي جواري.
والسبب الرئيسي لفرض الحجاب، هو أن منزل محمدا أصبح بسبب ازدياد
أهمية النبي شيئا فشيئا، مكانا عاما وكان الناس يجتمعون باستمرار في الساحة
التي تطل عليها مساكن النساء. وكانت إحدى الوسائل لنيل رضى النبي اقناع
إحدى نسائه بتقديم الطلب إليه. وكان ينظر بجذر إلى كل لقاء خاص بين امرأة

(1) محمد في المدينة، تعريب شعبان بركات، نشر المكتبة العصرية بيروت، ص 435.
368

ورجل ليس قريبا لها، وكان لابد من حماية النساء تجنبا للفضيحة. وتدل حادثة
" حديث الإفك " التي لاكت فيها ألسنة السوء اسم عائشة في المدينة وهي حادثة
وقعت بعد وقت قصير من فرض الحجاب، تدل هذه الحادثة على مدى حاجة
محمد إلى الحذر، ومن بين الشائعات التي انتشرت لتشويه سمعة عائشة، شائعة
تقول بأنها قبل فرض الحجاب، تحدثت عدة مرات مع الشاب الذي عاد بها إلى
المدينة.
369

ثانيا - المستشرق ر. ف. بودلى
قال في حديث الإفك بكتابه " حياة محمد " (1):
للنساء العربيات ضلع كبيرة في شؤون البيت على عكس الاعتقاد السائد،
فقد يتصور المرء أنهن إن هن إلا متاع لأزواجهن لحبسهن في الحريم أو لعزلهن في
خيامهن، ومن المحتمل أن الرجال يتصورون ذلك، ولكن لما كان الأمر يتعلق
بالنساء فالرجال مخطئون كالعادة.
فالنساء العربيات، على الرغم من أنهن لا يتمتعن بالحرية النسوية
كأخواتهن الغربيات، وعلى الرغم من أن فرص إثارة الغيرة، والهروب وارتداء
الثياب المثيرة لا تتاح لهن، فإنهن يحكمن أزواجهن ويستولين عليهم، ويخدعنهم
بطريقة ليست أقل من السحر.
والعرب يهتمون بسيدات النقاب، ويحافظون على شعورهن أكثر من
أغلبية الغربيين، فن الواجب أن يكونوا أكثر تعقلا في مراقبة قطيع نسائهن.
ولا يستثنى محمد من ذلك، فقد كانت له غريزته الأسرية، وأظهر وأعظم
الحدب على أزواجه اللاتي يقطن أكواخا حول المسجد.
وكان يعلن أن النساء أنصاف الرجال التوائم ويقول: (لا يفرك مؤمن

(1) حياة محمد، تأليف ر. ف بودلى E. V. R، bodley، ترجمة عبد الحميد خوده السحار،
محمد محمد فرج ط. دار الكتاب العربي بمصر ص 261.
370

مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر ".
ولم يسجل أبدا ما إذا كان أزواج المدينة قد استغللن محمدا وخدعنه، وقد
افتريت حادثة واحدة، ولما كانت عائشة هي موضوع الافتراء، فقد كان الشك
يحتمل الوجهين، فقد كان في رأس هذه الفتاة من الأفكار أكثر مما في رأس ألف
نابه، وكان لها قدرة الحصول على ما تبغي، فقد كانت متمتعة بكل ما يخلب
الألباب، وكانت غانية أيضا، ففي زمن الحادث الذي نحن بصدده لم تكن تقدر
زينب أو أم سلمة حق قدرهما، ولطبيعتها المستقلة وطفولتها كانت قادرة على
إتيان أي شئ دون تحمل مسؤوليته وهاك ما حدث.
كان محمد يأخذ دائما معه زوجة أو زوجتين إذا ما قام برحلة أو خرج في
إغارة، وكن يرحلن في هودج فوقه مظلة مشدودة على اطار من الأغصان، وكان
الهودج يشد إلى سنام البعير، فكان النازل فيه يختفي عن الأنظار كلية، فكان من
المحال معرفة ما إذا كان قي الهودج أحد أو كان فارغا، ما لم ترفع المظلة.
كان محمد قد أتم غزوته القصاصية الناجحة ضد قبيلة بني المصطلق، حيث
تزوج من جويرية زوجه الثامنة، وكان في طريق عودته إلى المدينة بجنده وبعيره
وغنائمه، وكانت المرحلة الأخيرة لبلوغ المدينة طويلة، فكان على المسلمين أن
يحملوا خيامهم في الفجر، فلما استيقظت عائشة خرجت إلى الخلاء لبعض
حاجتها، فلما عادت كانت خيمتها قد رفعت، وكان جملها منتظرا، فلما همت
بدخول هودجها اكتشفت أن قلادتها قد انسلت من عنقها، فعادت أدراجها دون
أن تخطر أحدا للبحث عنها، وكان من الصعب رؤية قلادة منسلة في عماية الصبح
بين الحصى والأعشاب ولاح نور الصباح قبل أن تعثر عليها، ثم ثبتتها حول
عنقها وعادت لتلحق بالقافلة، ولكن لم تجد هناك قافلة، وكانت نيران العسكر
هي الدليل على أن أناسا كانوا هناك. لقد حسب المكلفون بنقل عائشة أن السيدة
371

في هودجها فشدوه إلى بعيره، فقد كانت عائشة صغيرة خفيفة جدا حتى أنه ما
كان أحد ليلحظ وجودها في الهودج من غيابها، فلما تحرك الركب، انطلق الرجال
وهم يقودون بعيرا غير محمل.
وقفت عائشة لحظة تحدق في فضاء الصحراء العريض، وقد انسحب الفجر
ليفسح لحرارة الصباح، وكانت الشمس ترسل أشعتها الحامية إلى الفضاء
الصخري، فلم تجد أثرا لقومها أو قافلتها، فهزت منكبيها وجلست، فما كان يجدي
الذعر، وما كان هناك من فائدة في محاولتها اللحاق بقافلتها، وإنه لمن الأفضل أن
تبقى في المكان الذي رؤيت فيه آخر مرة. وإنها لتأمل أن يعود القوم إليها إذ اما
افتقدوها فلم يجدوها في الهودج. فلما ارتفعت حرارة النهار استولى عليها خمول،
فالتفت في جلبابها، واستظلت تحت شجرة ثم نامت، فلما استيقظت كانت الشمس
مرتفعة في السماء ولم تكن وحيدة.
كان ينظر إليها من فوق هجين مرتفع شاب وسيم، ففركت عائشة عينيها،
فابتسم الشاب، ثم أناخ بعيره وقال إنه صفوان بن المعطل، ولم تقدم عائشة نفسها
له، تبعا لما قالته عائشة لما روت القصة، وكان صفوان يعرفها بالنظر فقد خاطبها
بعائشة بنت أبي بكر.
سألها صفوان: ما تفعله بجلوسها منفردة في وسط صحراء العرب؟
فشرحت له عائشة الأمر، فضحك صفوان ثم عرض عليها بعيره ليقودها إلى
المدينة، فقبلت عائشة، فساعدها صفوان على الركوب ثم انطلقا.
وفي نفس الوقت استمرت قافلة المسلمين في طريقها دون أن يفطن أحد
إلى أن عائشة ليست فيها، ولم يكتشف اختفاؤها قبل أن يناخ الجمل بالهودج
الفارغ أمام مساكن النبي، ثم ابتدأت الدهشة.
إن قواد الجمل الذين كانوا مقتنعين بأنهم رحلوا من المعسكر بعائشة قد
372

عزوا اختفاءها إلى الجن، وكان هذا هو الشرح الوحيد المقبول ما دام أنهم لم يقفوا
في الطريق أبدا، وما كان محمد ليوافق على خرافات كهذه، فراح ينظم جماعة
للخروج للبحث عنها لما أقبل بعير من طرقات المدينة الضيقة يقوده شاب وسيم
جميل، وكانت عائشة جالسة على ظهر البعير حلوة كالفجر، وأنيخ البعير أمام
مدخل دارها، فنزلت عائشة، وابتسمت لصفوان ودلفت إلى الدار دون أن تحس
أنها عرضة للانتقاد كأنما اعتادت السفر في الصحراء مع شبان أغراب.
وكان محمد مسرورا برؤية زوجه الأثيرة عنده سالمة، فرحب بها، ولما كان
الأمر يتعلق به فقد انتهت المحادثة، وكان من الواجب أن تنتهي ما لم يتدخل في
الأمر عبد الله بن أبي.
لم يقل لي أحد من أصدقائي العرب كيف كان يبدو عبد الله بن أبي، ولم
يوصف في أي كتاب من الكتب التي قرأتها، ولكن من الواجب أن يكون شخصية
غير محببة، شخصية خائنة شريرة، فظة جبانة، ويلوح أن يكون له خصال
مفيستو فيليز وياجو ويورياهيب والشخصيات الشريرة الأخرى المعروفة في
تاريخ القصص. ويلوح أن أمنية حياته كانت مضايقة محمد، فما إن سمع بعودة
عائشة منفردة إلى المدينة حتى راح يوسع الأرض إذاعة، فقال دون أن يحاول
معرفة الظروف الملابسة للحادث، ان صفوان عشيق عائشة، وأضاف إلى ذلك أنه
لا يلوم عائشة، وإن الشئ الوحيد الذي كان يدهشه هو إخلاص هذه الفتاة
الفاتنة التي كانت في السادسة عشرة، هذه المدة الطويلة لهذا الشيخ المرتجف الذي
يقرب من الستين، فإذا كان الجميع لا يوافقون، فالجميع منافقون.
ولم يشارك عبد الله في فريته إلا القليلون، منهم حمنة أخت زينب بنت
جحش، وكانت زينب تعتقد أن الله نفسه زوجها من محمد فكانت تحس أنه من
الواجب أن تحتل مكان عائشة الأثيرة عنده، ولقد فشلت حتى ذلك الوقت في أن
373

تنال بغيتها، وقد هيأت لها هذه الفضيحة المفتراة فرصة، وما كانت تود أن تضر
عائشة، وما كانت تعتقد في حديث الإفك، كما أشارت إلى ذلك فيما بعد، ولكن لما
كان عبد الله يذكي نار الشائعات وكانت حمنة متأهبة لنشرها، فإنها تركت
الأمور تجري في أعنتها، وانتشر اللغط في دور النبي، وانتشر اللغط في الخارج،
فكان لكل انسان في المدينة روايته عن مسألة عائشة وصفوان، وما كان يتأخر
عن سردها وزيادة على ذلك وكما هي العادة فقد كان الزوج آخر من عرف، فلما
بلغه الخبر لم يكن يدري ما يفعل.
إن محمدا يحب عائشة، وانه ليحبها أحب خديجة، ولكن بطريقة أخرى،
فإنه أحبها أكثر مما أحب أية امرأة أخرى كانت في حياته، وما كان يستطيع أن
يصدق أن هذه الفتاة الصغيرة التي كانت له دائما صديقة كما كانت حبيبة، قادرة
على أن تخونه متعمدة، وإن ما بلغه قد أزعجه حتى أنه لم يقدر على أن يتهم عائشة
مباشرة، ولكنه أعرض عنها.
وقد لاحظت عائشة التي كانت تحب محمدا أيضا حبا جما إعراضه عنها،
ولكنها لم تفطن إلى السبب فورا، ولما فطنت امتلأت حنقا، فأقسمت وهي تذرف
الدمع السخين أنها بريئة، واندفعت إلى بيت أبويها، راحت أمها وأختها
تواسيانها، وقالتا لها لتخففا عنها لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها
ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها، فلو أنها انتظرت دون محاولة مقابلة المثل
بالمثل لعاد كل شئ إلى أصله. ولم يقل أبو بكر شيئا، ولم يفاتحه النبي في شئ،
فأغلق بابه عليه وراح يقرأ القرآن، ولم يستشر محمد عمر، ومن المحتمل أنه فكر
في صرامته فخشى أن ينصح بالطلاق، وعلى كل حال فقد أفضى إلى علي بالأمر.
لم يكن علي رجل نساء، وكان محاربا مسلما لا يعتقد في جميع هؤلاء النسوة
اللاتي يخلطن حياتهن بحياة قائده الأعلى، وكان يعكس كره فاطمة لزوجة أبيها
374

الشابة، فأجاب على استشارة محمد بان جميع النساء سواء، وان عائشة لا تختلف
عن الأخريات، وقد بلغ هذا القول عائشة فلم تنسه أبدا، فلما بويع لعلي بالخلافة
بعد ثلاثين سنة عارضته بشدة حتى أنها أثارت حربا أهلية دموية بين المسلمين،
ولا زال ترجيع هذه الملاحظة والغضبة التي أثارتها في عائشة ظاهرة حتى اليوم
في بعض الشقاق الاسلامي.
وفي هذا الوقت كان صفوان يطوف بالمدينة ويقسم أنه لم يكن بينه وبين
عائشة أدنى شئ، وأنه لم يرها أبدا إلا في هذه المناسبة في الصحراء، وكان هدف
غضبه الرئيسي حسان بن ثابت، شاعر النبي الذي ندين له كثيرا بالأدب المعاصر
لهذه الحقبة، وكان حسان صديقا شخصيا لمحمد، ولكنه لم يستطع أن يقاوم إغراء
نظم بعض الشعر اللاذع عن الحادثة، وقد كلفه ذلك أن ضربه صفوان، والظاهر
أنه كان يستحق ذلك، وفي الحقيقة ما كان أحد بقادر على أن يقاوم إغراء تحليل
القصة ثم إعادة سردها، فقد احتلت مكانة أعظم من المجادلات السياسية
الاسلامية.
وعرف محمد أخيرا أنه الوحيد الذي يلام، فإن الفضيحة ستستمر ما دام
مترددا، فإن من واجبه أن يحكم ببراءة عائشة أو إدانتها، فقام بعمل حاسم كما
هي عادته في المعارك.
ففي الاجتماع التالي للصلاة، قام في الناس يخطبهم فقال: " يا أيها الناس. ما
بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهن غير الحق! والله ما علمت منهن إلا
خيرا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا ".
ولما انتهى من ذلك ذهب إلى عائشة، فوجدها مع والديها وقد جلسا
بجوارها على حصير، فقال:
- يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله، وإن كنت قد
375

قارفت سوءا مما يقولون، فتوبي إلى الله فان اله يقبل التوبة من عباده.
وانتظرت عائشة لحظة لعل أبويها يجيبان رسول الله عنها، ولكنهما ظلا
صامتين فانفجرت وأخبرت محمدا أنه ليس هناك ما تعترف به، فقد كانت تعرف
ذلك أكثر من أي فرد آخر، فكانت تتكلم في قوة وفي حدة، ثم انفجرت باكية.
استمع محمد إليها ولكنه لم يفعل شيئا ليهون على زوجه المنتحبة، وحدق
فيها فاحصا ثم ابتدأ يتنهد، وأغلقت عيناه بعد قليل، ثم تمدد على الحصير، فسجاه
أبو بكر بثوبه، وراح في غيبوبة مدة، فتوقفت عائشة عن البكاء، وراحت ترقب
محمدا الذي كان يتنفس تنفسا عميقا في قلق، وفجأة ألقى محمد بالثوب عنه
وانتصب واقفا وكانت عيناه تشعان سرورا فقال:
أبشري يا عائشة، قد أنزل الله براءتك.
وخرج من الدار في خطى سريعة واسعة، ووقف أمام المسجد وقرأ
الآيات التي أوحيت إليه: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء
فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون).
واستمر في التلاوة لدقائق قليلة مبينا أحكام الزنا، وهذه الأحكام مفصلة
في السورة الرابعة والخامسة من القرآن.
فلما انتهى أمر بتنفيذ العقوبة التي شرعها الان في حسان وحمنة ومسطح
وكان صديقا لأبي بكر، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، ولم يحمل أحدا منهم حقدا
بسبب ذلك، ولا يتبدل إخلاص حسان لمحمد، وقد وضع شرا بعد ذلك يمتدح فيه
فضائل عائشة.
وقد تجاهل محمد عبد الله بن أبي الذي كان السبب الحقيقي لكل هذه
المتاعب فما كان مسلما وعلى ذلك لم يكن خاضعا للأحكام الاسلامية، وزيادة
على ذلك، وعلى الرغم من نمو قوة محمد، فإنه لم يشعر بعد بقدرته على عداء هذا
376

الشخص البغيض عداء مكشوفا، ومات عبد الله قبله، وكان في موته كما كان في
حياته شوكة في جنب محمد.
وإن السؤال الذي يظهر أنه لم يجد الجواب العملي المعقول بعد هو ما إذا
كانت عائشة بريئة أو غير بيئة. كانت حمنة تصر دائما على أن مقابلة عائشة
لصفوان كانت مدبرة، فلعلها كانت تتألم من " الثمانين جلدة "، وحتى لو كان الأمر
كذلك فإن في رواية عائشة نقطا ضعيفة. كيف تنطلق عائشة دون أن تخبر أحدا
وهي تعلم أن القافلة وشيكة الرحيل ثم تضيع وقتا طويلا قي البحث عن قلادتها؟
إن عنصر الوقت هنا هام.
إن المعسكر العربي يحتاج إلى وقت لرفعه وعلى الأخص معسكرا كبيرا
كمعسكر قوة مغيرة، وحتى إذا ما سارت المجموعة الرئيسية من الجمال في طريقها
فهناك المتخلفون، وقلما يتحرك قطار الإبل سريعا، فإنه ليقطع ميلين في الساعة،
وعلى ذلك فمعنى عودة عائشة إلى المعسكر ولم تجد أثرا للقافلة، ولا أثرا
للمتخلفين، ولا أثرا لمئات الرجال والدواب في بلاد مكشوفة حتى الأفق، معنى
ذلك أن عائشة قد استغرقت ساعتين على الأقل في البحث عن قلادتها، ولقد
نامت بعد ذلك كما قالت، فلنفرض أن غفوتها لم تزد عن ساعة حيث ظهر صفوان
بعد ثلاث ساعات من مسيرة محمد وجنوده، فكيف عرف صفوان عائشة بالنظر،
وعلى الأخص حسب ما جاء في قوله في المدينة بعد ذلك، أنه لم تقع عيناه عليها
من قبل؟ إن رواية عائشة إما أنها بسيطة وصادقة حتى إنها لتبدو غير محتملة،
وإما أن صفوان والقلادة شئ واحد ونفس الشئ.
وهناك بعض الاعتراضات على هذا الفرض الأخير،... فهل كانا يبلغان
المدينة معا ويعرضان مسألتهما في الطرقات؟ وهلا كان صفوان يركب بعيره
السريع لينذر القافلة بأن عائشة ليست فيها؟ إن الأمر جميعه غير واضح، وإننا لن
377

نعرف الصواب أبدا، كما كان صديقي مدني يقول عندما كنا نناقش البراهين التي
تؤيد وتدحض الوسائل الاسلامية المعارضة للوسائل المسيحية في تناول المرأة
" فهناك ثلاثة أشياء لا يراها إلا الله وحده هي أثر السمك في الماء، وأثر الطير في
الهواء وأثر الرجل في المرأة ".
وكانت عائشة تقول بعد ذلك بسنين، إن صفوان قد ظهر أنه كان حصورا
لا يأتي النساء، أفهذه ملاحظة شريكة بريئة أم شريكة مذنبة؟ أم هذه روح دعابة
طروب؟
وقد فقدت منها قلادتها في مناسبة أخرى فأوقفت جيش محمد جميعه
وجعلت الجنود يبحثون عنها حتى وجدوها.
ويقال إن هذا اللهو قد تسبب في رخصة استعمال الرمل في الاغتسال بدل
الماء، لان الجيش قد أمضى وقتا طويلا في البحث عن هذه الحلية حتى حان أوان
الصلاة قبل أن يصل الجيش إلى الآبار التي سينزل عندها، وكان محمد يهتم
بالوضوء، وينبغي أن يسبق الوضوء كل صلاة من الصلوات الخمس، فكان لذلك
يحمل معه ماء أكثر من الضروري، فلما ضيع جيش المسلمين ساعات كثيرة في
البحث عن القلادة، نفد الماء فاستعمل محمد الرمل في التيمم، فأصبح أغلب العرب
الرحل يغتسلون بالرمل كثيرا، فسواء أكانت القلادة هي التي جاءت بهذا أم لم
تكن، فإن هذا التشريع جعل العرب من أكثر الناس اغتسالا في العالم.
378

ثالثا - كارل بروكلمن في كتابه تاريخ الشعوب الاسلامية
قال: وأغلب الظن أن محمدا قد انصرف إلى التفكير في المسائل الدينية في
فترة مبكرة جدا. وهو أمر لم يكن مستغربا عند أصحاب النفوس الصافية من
معاصريه الذين قصرت العبادة الوثنية عن إرواء ظمأهم الروحي. وتذهب
الروايات إلى أنه اتصل في رحلاته ببعض اليهود والنصارى، أما في مكة نفسها
فلعله اتصل بجماعات من النصارى كانت معرفتهم بالتوراة والإنجيل هزيلة إلى
حد بعيد. ومع الأيام أخذ الايمان بالله يعمر قلبه ويملك عليه نفسه، فيتجلى له
فراغ الآلهة الأخرى. ولكنه على ما يظهر اعترف في السنوات الأولى من بعثته
بآلهة الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونها بنات الله ولقد أشار إليهن في
إحدى الآيات الموحاة إليه بقوله: " تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتضي ".
أما بعد ذلك حين قوي شعور النبي بالوحدانية فلم يعترف بغير الملائكة
شفعاء عند الله، وجاءت السورة الثالثة والخمسون وفيها انكار لان تكون الألهة
بنات الله. ولم يستطع التقليد المتأخر أن يعتبر ذلك التسليم إلا تحولا أغراه به
الشيطان، ولذلك أرجئت حوادثه إلى أشد أوقات النبي ضيقا في مكة، ثم ما لبث
أن أنكره وتبرأ منه في اليوم التالي (1).

(1) تاريخ الشعوب الاسلامية، كارل بروكلمن، تعريب نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي،
الطبعة السابعة 1977، بيروت، دار العلم للملايين.
379

رابعا - ف. بوهل في دائره المعارف الاسلامية
قال: ويشير المستشرق الدنماركي ف. بوهل (1260 - 1351) الأستاذ في
جامعة لايبزك، إلى هذه القصة الخرافية المختلقة في دائرة المعارف الاسلامية بعد
تقديم ما يلزمه من مقدمة ويقول كان النبي مستعدا لتفهم الكلمات التي كانت تلقي
إليه من ايحاءاته اللاشعورية، وكان عليه أن يحارب همسات الشيطان، كما تشير
إليه الآية 200 من سورة الأعراف، والآية 97 من سورة المؤمنون، ولكنه بين
حين وآخر يحاول أن يمزج بين الوحي، وهذه النداءات الشيطانية الخفية، وان هذا
ملحوظ تماما في الآية 98 من سورة النحل، ولكي يصون نفسه من هذه النداءات،
كان يدعو الله ليصونه من ذلك.
لكن تشير الروايات الموثوقة المعتمد عليها انه سمح لنفسه أن تغوي
بواسطة الشيطان لمدح اللات والعزى ومناة إلى حد ما لكنه اكتشف زلته فيما بعد
ثم أوحيت إليه الآية 19 من سورة النجم.
380

خامسا - يوسف شاخت في دائرة المعارف الاسلامية
قال: ويشير أيضا إلى أسطورة الغرانيق الخرافية المختلقة وتدخل الشيطان
في القرآن (على ما يزعم) المستشرق الهولندي يوسف شاخت. أستاذ اللغة العربية
في جامعة ليدن وأستاذ جامعة القاهرة واكسفورد في لندن وأستاذ جامعة في
يبرك السويسرية وكولومبيا في أميركا في مادة " أصول " من (دائرة المعارف
الاسلامية).
ويقول في القرآن:
وليس هناك من شك في قطعية ثبوته وتنزيهه عن الخطأ على الرغم من
امكان سعي الشيطان لتخليطه.
* * *
أنتجت الروايات السابقة ما قاله الأستاذ جارودي روجيه مرشح الحزب
الشيوعي - سابقا - لمنصب رئيس الجمهورية الفرنسية بعد أن أسلم في حوار له
مع الأستاذ سعد الدين كالآتي:
قرأت القرآن الكريم وأعدت قراءته مرات كثيرة ولا أدرى ان كنت قد
فهمته جيدا بالطريقة التي يجب على الانسان أن يفهمه بها أم لا فقد بدا لي ان
الرسول عليه الصلاة والسلام جاء بدين عظيم هو أساس الأديان، لم ينكر فيه
الأنبياء السابقين بل جاءت رسالته متممة ومكملة للرسالات السابقة، ثم شرعت
381

في قراءة الأحاديث النبوية وعندما أتيح لي السفر إلى المدينة المنورة قمت بشراء
واقتناء مجموعة الأحاديث في كتب البخاري ومسلم فرأيت شيئا آخر أعبر عنه
بهذه العبارة الصريحة رأيتني وكأنني أمام دين آخر ونشأ في نفسي انطباع من
قراءاتي للحديث الشريف انني أمام دين تقليدي. فكل ما وجدته في كتب
الأحاديث وكل ما رأيت للرسول عليه الصلاة والسلام يتحدث عنه أو يشير إلى
فعله يتعلق بلبس الثياب أو كيفية الدخول للمكان والخروج منه وأشياء أخرى
من هذا القبيل. لا كما رأيت في القرآن الكريم عن الأساسيات التي تدل على كمال
الدين الاسلامي.
عدنان سعد الدين
هذا الذي استخلصته من دراسة الأحاديث بعدما قرأتها في صحيحي
البخاري ومسلم.
المترجم: بدا للأستاذ جارودي بعد دراسة الأحاديث الشريفة وكأنه ليس
أمام الدين الاسلامي الحنيف الذي قرأ عنه وتعرف عليه في القرآن الكريم.
والذي هو كامل ومكمل للأديان. بل كأنه من خلال الأحاديث يقرأ عن دين
خاص يعطي صورة عن حياة الرسول (ص) عليه الصلاة والسلام وأموره
الخاصة. فهي ذات طابع شخصي وهذا لا يثير اهتمام الغربيين ولا يعنيهم أن يعرفوا
كيف كان الرسول يلبس ثيابه أو نعاله وكيف كان يأكل ويجلس ويدخل ويخرج
بل يعنيهم ويشد من انتباههم القضايا الكلية والمصيرية والأساسية في حياة
الانسان، مثل النظرة إلى الكون والطبيعة والحياة والتوحيد والايمان بالله
والرسالات (1).

(1) حوار مع الأستاذ رجاء جارودي لعدنان سعد الدين، القاهرة مكتبة وهبة، مطبعة دار
التضامن، ط الأولى سنة 1408 ه‍، ص 19.
382

خلاصة وخاتمة:
وأنتجت الروايات التي درسناها في أبواب الكتاب ما تقوله المستشرقون
كالآتي بيانه:
أولا - المستشرق مونتجومري وات:
وجد مونتجومري وات بغيته في الروايات المختلقة المنسوبة إلى أم المؤمنين
عائشة وسائر الصحابة في بدء الوحي وقال في كتابه " محمد في مكة ": (لم يكن
محمد واثقا من طبيعة الوحي الذي ينزل عليه و...).
وقال عن أسطورة الغرانيق، في هذا الكتاب وفي كتابه الاخر " محمد
الرسول والسياسي ": (رتل محمد في وقت من الأوقات الآيات التي أوحي بها
الشيطان على أنها جزء من القرآن... ثم أعلن محمد فيما بعد ان هذه الآيات لا يجب
أن تعتبر جزءا من القرآن... وقال: وكان يريد قبولها في الوهلة الأولى، وهذا يدل
على أنه في هذه المرحلة من ايمانه بالتوحيد ما كان يمتنع من الاحترام والدعاء
لبعض الموجودات التي كان يعتقدها نوعا من الملائكة... وقال: وهل هذا يعني انه
كان في ذلك الزمان مشركا).
وقال في كتابه الآخر: " محمد في المدينة " في سبب فرض الحجاب: (وكان
لابد من حماية النساء تجنبا للفضيحة. وتدل حادثة (حديث الإفك التي لاكت فيها
ألسنة السوء اسم عائشة في المدينة... إلى قوله: ومن بين الشائعات التي انتشرت
383

... شائعة تقول بأنها قبل فرض الحجاب، تحدثت عدة مرات مع الشاب الذي عاد
بها إلى المدينة).
ثانيا - المستشرق كارل بروكلمن
قال بروكلمن في كتابه " تاريخ الشعوب الاسلامية " عن أسطورة الغرانيق:
(ولكنه على ما يظهر اعترف في السنوات الأولى بآلهة الكعبة... ولقد أشار إليهن
في إحدى الآيات الموحاة إليه بقوله: تلك الغرانيق العلى.. - إلى قوله - أما بعد
ذلك حين قوى شعور النبي بالوحدانية... ما لبث أن أنكره وتبرء منه في اليوم
التالي).
ثالثا - المستشرق ف. بوهل:
قال بوهل في مادة " قرآن " عن دائرة المعارف الاسلامية: (كان النبي
مستعدا لتفهم الكلمات... من ايحاءاته اللاشعورية وكان عليه أن يحارب همسات
الشيطان... ولكنه بين حين وآخر يحاول أن يمزج بين الوحي وهذه النداءات
الشيطانية الخفية... إلى قوله: وتشير الروايات الموثوقة انه سمح لنفسه أن تغوى
بواسطة الشيطان لمدح اللات والعزى ومناة إلى حد ولكنه اكتشف زلته فيما بعد).
رابعا - المستشرق يوسف شاخت
قال شاخت في مادة " أصول " عن دائرة المعارف الاسلامية: (وليس هناك
من شك في قطعية ثبوت القرآن وتنزيهه عن الخطأ على الرغم من امكان سعي
الشيطان لتخليطه).
384

دراسة موجزة في ما تقوله المستشرقون في ما سبق
1 - عن بدء الوحي: ان أقوال المستشرقين في بدء الوحي نتيجة للروايات
التي درسناها سابقا في الباب الرابع من الكتاب وعرفنا انها مخالفة للواقع
التاريخي.
2 - عن أسطورة الغرانيق: كذلك قد بينا في الباب الخامس انها من مختلقات
الزنادقة واستفاد المستشرقون منها.
وقد قال سبحانه وتعالى: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من
فوق الأرض ما لها هن قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا
وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) (إبراهيم / 26).
خامسا - المستشرق ر. ف. بودلى
قال ر. ف. بودلى في كتابه " حياة محمد " عن حديث الإفك: (كان محمد
يأخذ دائما معه زوجة أو زوجتين إذا ما قام برحلة أو خرج في إغارة... إلى قوله:
فلما استيقظت عائشة خرجت إلى الخلاء لبعض حاجتها... فلما همت بدخول
هودجها اكتشفت ان قلادتها قد انسلت من عنقها فعادت أدراجها... وعادت
لتلحق بالقافلة، ولكن لم تجد هناك قافلة... فالتفت في جلبابها... فلما استيقظت
كانت الشمس مرتفعة في السماء ولم تكن وحيدة... ففركت عائشة عينيها، فابتسم
الشاب، ثم أناخ بعيره... وان السؤال الذي لم يجد الجواب... كيف تنطلق عائشة
دون أن تخبر أحدا...
385

دراسة موجزة فيما تقوله المستشرقون في أخبار الإفك
قد درسنا في الباب الثاني في أخبار الإفك وبينا انها لاواقع لها بهذه الكيفية
بل الإفك كان في شأن مارية القبطية، والذين جاؤوا بالإفك عصبة غير هؤلاء،
ولكن المستشرقين قد وجدوا في أخبار الإفك ما يريدون وأخذوا بها وعلقوا
عليها وفق أهوائهم.
وصدق الله سبحانه حيث يقول: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله
ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله
لا يهدي القوم الظالمين) (التوبة / 109).
* * *
386