الكتاب: مواقف الشيعة
المؤلف: الأحمدي الميانجي
الجزء: ٢
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: رجب المرجب ١٤١٦
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

مواقف الشيعة
تأليف
علي الأحمدي الميانجي
الجزء الثاني
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين - قم المشرفة
1

مواقف الشيعة
(ج 1)
تأليف: آية الله الشيخ علي الأحمدي الميانجي
الموضوع: تاريخ
طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي
عدد الأجزاء: 3 أجزاء
الطبعة: الأولى
المطبوع: 1000 نسخة
التاريخ: رجب المرجب 1416
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
2

(292)
المفيد رحمه الله وبعض المخالفين
سئل الشيخ المفيد - رحمه الله -: لم أخذ (يعني عليا عليه السلام) عطاءهم،
وصلى خلفهم، ونكح سبيهم وحكم في مجالسهم؟
فقال: أما أخذه العطاء فأخذ بعض حقه. وأما الصلاة خلفهم فهو
الإمام، من تقدم بين يديه فصلاته فاسدة، على أن كلا مؤد حقه. وأما
نكاحه من سبيهم، فمن طريق الممانعة: أن الشيعة روت: أن الحنفية زوجها
أمير المؤمنين عليه السلام محمد بن مسلم الحنفي، واستدلوا على ذلك بأن عمر
ابن الخطاب لما رد من كان أبو بكر سباه لم يرد الحنفية، فلو كانت من
السبي لردها. ومن طريق المتابعة: أنه لو نكح من سبيهم لم يكن لكم
ما أردتم، لأن الذين سباهم أبو بكر كانوا عندكم قادحين في نبوة رسول الله
كفارا، فنكاحهم حلال لكل أحد ولو كان الذين سباهم يزيد وزياد، وإنما
كان يسوغ لكم ما ذكرتموه إذا كان الذين سباهم قادحين في إمامته ثم
نكح أمير المؤمنين.
وأما حكمه في مجالسهم، فإنه لو قدر أن لا يدعهم يحكمون حكما لفعل، إذ
الحكم إليه، وله دونهم.
3

تذييل:
وفي كتاب الكر والفر: قالوا: وجدنا عليا عليه السلام يأخذ عطاء الأول
ولا يأخذ عطاء ظالم إلا ظالم. قلنا: فقد وجدنا دانيال يأخذ عطاء بخت نصر.
وقالوا: قد صح أن عليا لم يبايع ثم بايع، ففي أيهما أصاب وأخطأ
في الأخرى؟
قلنا: وقد صح أن النبي صلى الله عليه وآله لم يدع في حال ودعا
في حال، ولم يقاتل ثم قاتل.
(293)
مسلمة ورجل
قيل لمسلمة بن نميل: ما لعلي عليه السلام رفضه العامة وله في كل خير
ضرس قاطع؟ فقال: لأن ضوء عيونهم قصير عن نوره، والناس إلى أشكالهم
أميل.
قال الشعبي: ما ندري ما نصنع بعلي بن أبي طالب عليه السلام، إن
أحببناه افتقرنا، وإن أبغضناه كفرنا!.
وقال النظام: علي بن أبي طالب محنة على المتكلم، إن وفى حقه غلا،
وإن بخسه حقه أساء، والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن حادة الشاف صعب
الترقي، إلا على الحاذق الدين.
وقال أبو العيناء لعلي بن الجهم: إنما تبغض عليا عليه السلام لأنه
كان يقتل الفاعل والمفعول وأنت أحدهما، فقال له: يا مخنث! فقال أبو

(1) البحار ج 8 ص 145 ط الكمباني عن المناقب
4

العيناء: " فضرب لنا مثلا ونسي خلقه " (1).
سئل زين العابدين عليه السلام وابن عباس أيضا: لم أبغضت قريش عليا
عليه السلام؟
قال: لأنه أورد أولهم النار، وقلد آخرهم العار (2).
(294)
ابن عباس وعمر
روي عن ابن عباس قال: خرجت مع عمر إلى الشام، فانفرد يوما يسير
على بعير، فأتبعته، فقال لي: يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك، سألته أن
يخرج معي فلم يفعل، ولا أزال أراه واجدا أفيما تظن موجدته. قلت:
يا أمير المؤمنين! إنك لتعلم. قال: أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة. قلت: هو
ذاك، إنه يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله أراد الأمر له.
فقال: يا ابن عباس! وأراد رسول الله صلى الله عليه وآله الأمر له، فكان
ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك، إن رسول الله صلى الله عليه وآله أراد أمرا
وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسول الله! أوكلما أراد رسول الله
صلى الله عليه وآله كان؟! إنه أراد إسلام عمه ولم يرده الله تعالى، فلم
يسلم (3).
(295)
ابن عباس وعمر
قال عمر بن الخطاب ليلة في مسيره إلى الجابية: أين عبد الله بن عباس؟

(1) البحار: ج 8 ص 151 ط الكمباني عن المناقب. وسيأتي ص 402.
(2) البحار: ج 8 ص 151 ط كمباني عن المناقب.
(3) البحار: ج 8 ص 266 ط الكمباني
5

فأوتي به، فشكا إليه تخلف علي بن أبي طالب عليه السلام عنه. قال ابن
عباس: فقلت له: أولم يعتذر إليك؟ قال: بلى. قلت: فهو ما اعتذر به.
قال: ثم أنشأ يحدثني، فقال: إن أول من راثكم (ريثكم - خ) عن هذا الأمر
أبو بكر، إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة (قال أبو الفرج:
ثم ذكر قصة طويلة ليست من هذا الباب فكرهت ذكرها) ثم قال: يا ابن
عباس! هل تروي لشاعر الشعراء؟ قلت: ومن هو؟ قال: ويحك شاعر
الشعراء الذي يقول:
فلو أن حمدا يخلد الناس خلدوا * ولكن حمد الناس ليس بمخلد
فقلت: ذاك زهير، فقال: ذاك شاعر الشعراء. قلت: وبم كان شاعر
الشعراء؟ قال: إنه كان لا يعاظل الكلام ويتجنب وحشيه، ولا يمدح أحدا إلا
بما فيه (1).
قال الأحمدي: مرت هذه القصة بألفاظ مختلفة، فراجع ج 1 ص 148 وما بعدها.
(296)
أبو ذر وعثمان
ذكر المسعودي أمر أبي ذر بلفظ هذا نصه، قال:
إنه حضر مجلس عثمان ذات يوم، فقال عثمان: أرأيتم من زكى ماله
هل فيه حق لغيره؟ فقال كعب: لا يا أمير المؤمنين، فدفع أبو ذر في صدر
كعب وقال له: كذبت يا ابن اليهودي! ثم تلا: " ليس البر أن تولوا
وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر
والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 20 ص 155
6

والموفون بعهدهم إذا عاهدوا " الآية.
فقال عثمان: أترون بأسا أن نأخذ مالا من بيت مال المسلمين فننفقه
فيما ينوبنا من أمورنا ونعطيكموه؟ فقال كعب: لا بأس بذلك، فرفع أبو ذر
العصا فدفع بها في صدر كعب، وقال: يا ابن اليهودي؟ ما أجرأك على القول
في ديننا؟! فقال له عثمان: ما أكثر أذاك لي؟ غيب وجهك عني فقد
آذيتني.
فخرج أبو ذر إلى الشام، فكتب معاوية إلى عثمان: أن أبا ذر تجتمع إليه
الجموع، ولا آمن أن يفسدهم عليك، فإن كان لك في القوم حاجة فاحمله
إليك.
فكتب إليه عثمان يحمله، فحمله على بعير عليه قتب يابس، معه خمسة من
الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة، قد تسلخت بواطن أفخاذه، وكاد
أن يتلف، فقيل له: إنك تموت من ذلك! فقال: هيهات! لن أموت حتى
أنفى، وذكر جوامع ما نزل به بعد ومن يتولى دفنه.
فأحسن إليه في داره أياما، ثم دخل إليه فجلس على ركبتيه وتكلم
بأشياء وذكر الخبر في ولد أبي العاص: " إذا بلغوا ثلاثين رجلا اتخذوا عباد
الله خولا ". ومر في الخبر بطوله، وتكلم بكلام كثير، وكان في ذلك اليوم قد
أتي عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال، فنضت البدر حتى
حالت بين عثمان وبين الرجل القائم، فقال عثمان: إني لأرجو لعبد الرحمن
خيرا، لأنه كان يتصدق ويقري الضيف وترك ما ترون، فقال كعب
الأحبار: صدقت يا أمير المؤمنين! فشال أبو ذر العصا فضرب بها رأس كعب
ولم يشغله ما كان فيه من الألم، وقال: يا ابن اليهودي! تقول لرجل مات
وترك هذا المال: إن الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة، وتقطع على الله بذلك
وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " ما يسرني أن أموت وأدع
7

ما يزن قيراطا "، فقال له عثمان: وار عني وجهك.
فقال: أسير إلى مكة، قال: لا والله، قال: فتمنعني من بيت ربي أعبده
فيه حتى أموت؟ قال: إي والله! قال: فإلى الشام؟ قال لا والله، قال:
البصرة؟ قال: لا والله فاختر غير هذه البلدان، قال: لا والله ما أختار غير
ما ذكرت لك ولو تركتني في دار هجرتي ما أردت شيئا من البلدان! فسيرني
حيث شئت من البلاد.
قال: فإني مسيرك إلى الربذة، قال: الله أكبر! صدق رسول الله صلى
الله عليه وآله، قد أخبرني بكل ما أنا لاق.
قال عثمان: وما قال لك؟ قال: أخبرني بأني أمنع عن مكة والمدينة
وأموت بالربذة ويتولى مواراتي نفر ممن يردون من العراق نحو الحجاز
الحديث (1).
(297)
أبو ذر وعثمان
وفي رواية الواقدي من طريق صهبان مولى الأسلميين، قال: رأيت أبا
ذر يوم دخل به على عثمان، فقال له: أنت الذي فعلت ما فعلت! فقال له أبو
ذر: نصحتك فاستغششتني، ونصحت صاحبك فاستغشني. فقال عثمان:
كذبت ولكنك تريد الفتنة وتحبها، قد أنغلت الشام علينا. فقال له أبو ذر:
اتبع سنة صاحبك لا يكن لأحد عليك كلام. قال عثمان: ما لك وذلك
لا أم لك! قال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.

(1) الغدير: ج 8 ص 295 - 296. وراجع قاموس الرجال: ج 6 ص 261. وبهج الصباغة: ج 9 ص
184 - 185
8

فغضب عثمان وقال: أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب! إما أن
أضربه أو أحبسه أو أقتله، فإنه قد فرق جماعة المسلمين، أو أنفيه من أرض
الإسلام.
فتكلم علي عليه السلام وكان حاضرا وقال: أشير عليك بما قاله مؤمن
آل فرعون: " فإن يك كاذبا فعليه كذبه، وإن يك صادقا يصبكم بعض
الذي يعدكم، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " قال: فأجابه عثمان
بجواب غليظ لا أحب ذكره، وأجابه علي بمثله. قال:
ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر و يكلموه، فمكث
كذلك أياما، ثم أمر أن يؤتى به فأتي به، فلما وقف بين يديه، قال: ويحك
يا عثمان! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل
رأيت هذا هداهم؟ إنك لتبطش بي بطش الجبار. فقال: اخرج عنا من
بلادنا! فقال أبو ذر: ما أبغض إلي جوارك! فإلى أين أخرج؟ قال: حيث
شئت. قال فأخرج إلى الشام أرض الجهاد، قال: إنما جلبتك من الشام لما
قد أفسدتها أفأردك إليها؟ قال: فأخرج إلى العراق، قال: لا. قال: ولم؟
قال تقدم على قوم أهل شبه وطعن في الأمة. قال: فأخرج إلى مصر؟ قال: لا،
قال: فإلى أين أخرج؟ قال: حيث شئت. قال أبو ذر: فهو إذن التعرب بعد
الهجرة أخرج إلى نجد، فقال عثمان: الشرف الأبعد أقصى فالأقصى، إمض
على وجهك هذا ولا تعدون الربذة فسر إليها، فخرج إليها (1).
(298)
أبو ذر و عثمان
وقال اليعقوبي: وبلغ عثمان أن أبا ذر يقعد في مجلس رسول الله صلى الله

(1) الغدير: ج 8 ص 297
9

عليه وآله ويجتمع إليه الناس فيحدث بما فيه الطعن عليه وأنه وقف بباب
المسجد، فقال: أيها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر
الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذي " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل
إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم "
محمد الصفوة من نوح، فالأول من إبراهيم والسلالة من إسماعيل، والعترة
الهادية من محمد، إنه شرف شريفهم، و استحقوا الفضل في قوم هم فينا
كالسماء المرفوعة، وكالكعبة المستورة، أو كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس
الضاحية، أو كالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو كالشجرة الزيتونية،
أضاء زيتها وبورك زيدها (زندها ظ)، و محمد وارث علم آدم وما فضلت به
النبيون.
إلى أن قال:
وبلغ عثمان أن أبا ذر يقع فيه ويذكر ما غير وبدل من سنن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسنن أبي بكر وعمر، فسيره إلى الشام إلى معاوية،
وكان يجلس في المجلس ويقول كما كان يقول، ويجتمع إليه الناس حتى كثر
من يجتمع إليه ويسمع منه، وكان يقف على باب دمشق إذا صلى صلاة
الصبح فيقول: جاءت القطار تحمل النار، لعن الله الآمرين بالمعروف
والتاركين له، ولعن الله الناهين عن المنكر والآتين له فقال:
وكتب معاوية إلى عثمان: إنك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر.
فكتب إليه: أن أحمله على قتب بغير وطاء. فقدم به إلى المدينة وقد
ذهب لحم فخذيه! فلما دخل إليه وعنده جماعة قال: بلغني أنك تقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " إذا كملت بنو أمية ثلاثين
رجلا اتخذوا بلاد الله دولا وعباد الله خولا ودين الله دغلا "، فقال: نعم
سمعت رسول الله يقول ذلك. فقال لهم: أسمعتم رسول الله يقول ذلك؟
10

فبعث إلى علي بن أبي طالب، فأتاه، فقال: يا أبا الحسن أسمعت رسول الله
يقول ما حكاه أبو ذر؟ وقص عليه الخبر، فقال علي: نعم. فقال: فكيف
تشهد؟ قال: لقول رسول الله: " ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة
أصدق من أبي ذر ".
فلم يقم بالمدينة إلا أياما حتى أرسل إليه عثمان: والله لتخرجن عنها!
قال: أتخرجني من حرم رسول الله؟ قال: نعم وأنفك راغم؟ قال: فإلى مكة؟
قال: لا، قال: فإلى البصرة؟ قال: لا، قال: فإلى الكوفة؟ قال: لا، ولكن
إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت فيها! يا مروان أخرجه ولا تدع أحدا
يكلمه، الحديث (1).
فقال ابن أبي الحديد: واعلم أن الذي عليه أكثر أرباب السيرة وعلماء
الأخبار والنقل: أن عثمان نفى أبا ذر أولا إلى الشام، ثم استقدمه إلى المدينة
لما شكا منه معاوية، ثم نفاه من المدينة إلى الربذة لما عمل بالمدينة نظير ما
كان يعمل بالشام.
أصل هذه الواقعة: أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت
الأموال، واختص زيد بن ثابت بشئ منها، جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي
الطرقات والشوارع: بشر الكانزين بعذاب أليم، ويرفع بذلك صوته ويتلو
قوله تعالى: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
فبشرهم بعذاب أليم " فرفع ذلك إلى عثمان مرارا وهو ساكت.
ثم إنه أرسل إليه مولى من مواليه: أن انته عما بلغني عنك. فقال أبو
ذر: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى، وعيب من ترك أمر الله
تعالى؟ فوالله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي وخير لي من أن

(1) الغدير: ج 8 ص 298 - 299، وراجع أمالي الشيخ: ج 1 ص 127
11

أسخط الله برضا عثمان.
فأغضب عثمان ذلك وأحفظ فتصابر وتماسك، إلى أن قال عثمان يوما
والناس حوله: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئا قرضا فإذا أيسر قضى؟
فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديين أتعلمنا
ديننا؟ فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي إلحق بالشام،
فأخرجه إليها.
فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية يوما
ثلاثمائة دينار، فقال أبو ذر لرسوله: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه
عامي هذا أقبلها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها، وردها عليه.
ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق. فقال أبو ذر: يا معاوية إن كانت هذه
من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهي الإسراف.
وكان أبو ذر يقول بالشام: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله
ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وآله، والله إني لأرى حقا
يطفأ، وباطلا يحيا، وصادقا مكذبا، وأثرة بغير تقى، وصالحا مستأثرا عليه.
فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية: إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام،
فتدارك أهله إن كان لك فيه حاجة.
وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانية عن جلام بن
جندل الغفاري، قال: كنت غلاما لمعاوية على قنسرين والعواصم في خلافة
عثمان، فجئت إليه يوما أسأله عن حال عملي، إذ سمعت صارخا على باب
داره يقول: " أتتكم القطار بحمل النار، اللهم العن الآمرين بالمعروف
والتاركين له، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له " فازبأر معاوية
وتغير لونه، وقال: يا جلام أتعرف الصارخ؟ فقلت: اللهم لا. قال: من
عذيري من جندب بن جنادة يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما
12

سمعت، ثم قال: أدخلوه علي.
فجئ بأبي ذر قوم يقودونه حتى وقف بين يديه. فقال له معاوية:
يا عدو الله وعدو رسوله! تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع، أما إني لو كنت
قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك،
ولكني أستأذن فيك.
قال جلام: وكنت أحب أن أرى أبا ذر، لأنه رجل من قومي، فالتفت
إليه، فإذا رجل أسمر ضرب من الرجال خفيف العارضين في ظهره حناء،
فأقبل على معاوية وقال: ما أنا بعدو لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوان لله
ولرسوله، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر، ولقد لعنك رسول الله صلى الله
عليه وآله ودعا عليك مرات أن لا تشبع، سمعت رسول الله صلى الله عليه
وآله يقول: " إذا ولي الأمة الأعين الواسع البلعوم الذي يأكل ولا يشبع
فلتأخذ الأمة حذرها منه " فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل. قال أبو ذر: بل
أنت ذلك الرجل، أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسمعته يقول
وقد مررت به: " اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب " وسمعته صلى الله عليه
وآله يقول: " إست معاوية في النار " فضحك معاوية وأمر بحبسه، وكتب إلى
عثمان فيه.
فكتب عثمان إلى معاوية: أن احمل جندبا إلي على أغلظ مركب
وأوعره. فوجه به مع من سار به الليل والنهار، وحمله على شارف ليس عليها
إلا قتب، حتى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد.
فلما قدم بعث إليه عثمان: إلحق بأي أرض شئت، قال: بمكة، قال: لا،
قال: ببيت المقدس، قال: لا، قال: بأحد المصرين، قال: لا ولكني
مسيرك إلى الربذة، فسيره إليها، فلم يزل بها حتى مات.
وفي رواية الواقدي: أن أبا ذر لما دخل على عثمان، قال له:
13

لا أنعم الله بقين عينا * نعم ولا لقاه يوما زينا
تحية السخط إذا التقينا
فقال أبو ذر: ما عرفت اسمي قينا قط.
وفي رواية أخرى: لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب! فقال أبو ذر: أنا
جندب وسماني رسول الله صلى الله عليه وآله عبد الله فاخترت اسم
رسول الله صلى الله عليه وآله الذي سماني به على اسمي. فقال له عثمان:
أنت الذي تزعم أنا نقول: " يد الله مغلولة وأن الله فقير ونحن أغنياء "؟
فقال أبو ذر: لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده، ولكني أشهد
أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " إذا بلغ بنو أبي العاص
ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا وعباده خولا ودينه دخلا " فقال عثمان
لمن حضر: أسمعتموها من رسول الله؟ قالوا: لا. قال عثمان: ويلك يا أبا ذر؟
أتكذب على رسول الله؟ فقال أبو ذر لمن حضر: أما تدرون أني صدقت
قالوا: لا والله ما ندري! فقال عثمان: ادعوا لي عليا، فلما جاء قال عثمان
لأبي ذر: أقصص عليه حديثك في بني أبي العاص، فأعاده، فقال عثمان
لعلي عليه السلام: أسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: لا
وقد صدق أبو ذر، فقال: كيف عرفت صدقه؟ قال: لأني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله يقول: " ما أضلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة
أصدق من أبي ذر " فقال من حضر: أما هذا فسمعناه كلنا من رسول الله
فقال أبو ذر: أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله
فتتهموني؟ ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد
صلى الله عليه وآله!.
وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين، قال:
رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان، فقال له: أنت الذي فعلت وفعلت؟
14

فقال أبو ذر: نصحتك فاستغششتني ونصحت صاحبك فاستغشني. قال
عثمان: كذبت ولكنك تريد الفتنة وتحبها، قد أنغلت الشام علينا. قال له
أبو ذر: اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. فقال عثمان: ما لك
وذلك؟ لا أم لك! قال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر. فغضب عثمان وقال: أشيروا علي في هذا الشيخ
الكذاب، إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله، فإنه قد فرق جماعة المسلمين، أو
أنفيه من أرض الإسلام، فتكلم علي عليه السلام وكان حاضرا، فقال: أشير
عليك بما قال مؤمن آل فرعون: " فإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك
صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب "
فأجابه عثمان بجواب غليظ، وأجابه علي عليه السلام بمثله. ولم نذكر
الجوابين تذمما منهما (1).
قال الواقدي: ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر
ويكلموه، فمكث كذلك أياما، ثم أتى به فوقف بين يديه. فقال أبو ذر:
ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله ورأيت أبا بكر
وعمر؟ هل هداك كهداهم؟ أما إنك لتبطش بي بطش جبار. فقال
عثمان: اخرج عنا من بلادنا، فقال أبو ذر: ما أبغض إلي جوارك! فإلى أين
أخرج؟ قال: حيث شئت، قال: أخرج إلى الشام أرض الجهاد؟ قال: إنما
جلبتك من الشام لما قد أفسدتها أفأردك إليها؟ قال: أفأخرج إلى العراق؟
قال: لا، إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم أولي شقة (2) وطعن على الأئمة
والولاة، قال: أفأخرج إلى مصر؟ قال: لا، قال: فإلى أين أخرج؟ قال: إلى

(1) ذكر في البحار: ج 8 ص 317 الكلامين فراجع.
(2) في شرح النهج: " أولي شبه "
15

البادية، قال أبو ذر: أصير بعد الهجرة أعرابيا! قال: نعم، قال أبو ذر: فأخرج
إلى بادية نجد؟ قال عثمان: بل إلى الشرق الأبعد أقصى فأقصى، امض على
وجهك هذا، فلا تعدون الربذة، فخرج إليها (1).
(299)
أبو ذر وأبو هريرة
عن الأحنف بن قيس، قال: بينما نحن جلوس مع أبي هريرة إذ جاء
أبو ذر، فقال: يا أبا هريرة هل افتقر الله منذ استغنى؟ فقال أبو هريرة:
سبحان الله! بل الله الغني الحميد، لا يفتقر أبدا ونحن الفقراء إليه. قال أبو
ذر: فما بال هذا المال يجمع بعضه إلى بعض؟ فقال: مال الله قد منعوه أهله
من اليتامى والمساكين، ثم انطلق.
فقلت لأبي هريرة: ما لكم لا تأبون مثل هذا؟ قال: إن هذا رجل قد
وطن نفسه على أن يذبح في الله، أما إني أشهد أني سمعت رسول لله صلى
الله عليه وآله يقول: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق
من أبي ذر، فإذا أردتم أن تنظروا إلى أشبه الناس بعيسى بن مريم برا وزهدا
ونسكا فعليكم به (2).
(300)
أبو ذر وعثمان
كان عثمان يخطب، فأخذ أبو ذر بحلقة الباب فقال: أنا أبو ذر من

(1) راجع الغدير: ج 8 ص 303 - 306 والبحار: ج 8 ط الكمباني ص 305 - 316 - 317، و ج 22
ص 414 عن ابن أبي الحديد. وراجع شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 8 ص 257، و ج 3 ص 55. وقاموس
الرجال: ج 6 ص 262 وبهج الصباغة: ج 5 ص 247.
(2) البحار: ج 8 ص 317 ط الكمباني
16

عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب، سمعت رسول الله صلى الله عليه
وآله يقول: " إنما مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح في قومه من تخلف عنها هلك
ومن ركبها نجا " قال له عثمان: كذبت. فقال له علي عليه السلام: إنما كان
عليك أن تقول كما قال العبد الصالح: " إن يك كاذبا فعليه كذبه وإن
يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم " فما أتم حتى قال عثمان: بفيك
التراب، فقال علي عليه السلام: بل بفيك التراب (1).
(301)
عمار وعثمان
خطب عثمان الناس ثم قال فيها: والله لأوثرن بني أمية، ولو كان بيدي
مفاتيح الجنة لأدخلنهم إياها، ولكني سأعطيهم من هذا المال على رغم أنف
من رغم.
فقال عمار بن ياسر: أنفي والله ترغم من ذلك، قال عثمان: فأرغم الله
أنفك، فقال عمار: وأنف أبي بكر وعمر ترغم، قال: وإنك لهناك يا ابن
سمية، ثم نزل إليه فوطأه، فاستخرج من تحته وقد غشي عليه وفتقه (2).
(302)
المقداد وعبد الرحمن
عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، قال: لما بويع عثمان سمعت
المقداد بن الأسود الكندي يقول لعبد الرحمن بن عوف: والله يا عبد الرحمن
ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم! فقال له عبد الرحمن:
وما أنت وذاك يا مقداد؟ قال: إني والله أحبهم لحب رسول الله صلى الله

(1) البحار: ج 8 ص 317 ط الكمباني.
(2) البحار: ج 8 ص 318 و 351 ط الكمباني عن مجالس المفيد رحمه الله
17

عليه وآله لهم، ويعتريني والله وجد لا أبثه بثة، لتشرف قريش على الناس
بشرفهم، واجتماعهم على نزع سلطان رسول الله صلى الله عليه وآله من
أيديهم! فقال له عبد الرحمان: ويحك! والله لقد أجهدت نفسي لكم. قال
له المقداد: والله لقد تركت رجلا من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون، أما
والله! لو أن لي على قريش أعوانا لقاتلتهم قتالي إياهم يوم بدر واحد، فقال
له عبد الرحمن: ثكلتك أمك يا مقداد! لا يسمعن هذا الكلام منك الناس، أم
والله إني لخائف أن تكون صاحب فرقة وفتنة.
قال جندب: فأتيته بعد ما انصرف من مقامه، فقلت له: يا مقداد أنا من
أعوانك، فقال: رحمك الله! إن الذي نريد لا يغني فيه الثلاثة والرجلان.
فخرجت من عنده فأتيت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فذكرت له
ما قال وما قلت، قال: فدعا لنا بخير (1).
(303)
المقداد والشورى
عن حبيب بن أبي ثابت، قال: لما حضر القوم الدار للشورى جاء المقداد
ابن الأسود الكندي رحمه الله فقال: أدخلوني معكم، فإن لله عندي نصحا ولي
بكم خيرا، فأبوا. فقال: أدخلوا رأسي واسمعوا مني، فأبوا عليه ذلك.
فقال: أما إذا أبيتم فلا تبايعوا رجلا لم يشهد بدرا ولم يبايع بيعة الرضوان
وانهزم يوم أحد ويوم التقى الجمعان. فقال عثمان: أم والله لئن وليتها
لأردنك إلى ربك الأول.
فلما نزل بالمقداد الموت قال: أخبروا عثمان أني قد رددت إلى ربي

(1) البحار: ج 8 ص 330 ط الكمباني عن أمالي الشيخ رحمه الله ج 1 ص 194 ومجالس المفيد
رحمه الله ومر ج 1 ص 62. وراجع البحار أيضا: ج 22 ص 439 عن أمالي الشيخ. وقاموس الرجال: ج 7
ص 246. والغدير: ج 9 ص 115 - 116 عن المسعودي وغيره. والعقد الفريد: ج 4 ص 279
18

الأول والآخر.
فلما بلغ عثمان موته جاء حتى أتى قبره، فقال: رحمك الله! إن كنت
وإن كنت يثني عليه خيرا. فقال له الزبير:
لأعرفنك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي
فقال: يا زبير أتقول هذا! أترى أني أحب أن يموت مثل هذا من أصحاب
محمد صلى الله عليه وآله وهو علي ساخط (1).
(304)
ابن عباس وعمر
عن ابن عباس، قال: قال عمر: لا أدري ما أصنع بأمة محمد صلى الله
عليه وآله وذلك قبل أن يطعن. فقلت: ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه
عليهم؟ قال: أصاحبكم؟ يعني عليا عليه السلام، قلت: نعم والله هو لها أهل
في قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وصهره وسابقته وبلائه. وقال
عمر: إن فيه بطالة وفكاهة.
قلت: فأين أنت عن طلحة؟ قال: فإن فيه الزهو والنخوة. قلت:
عبد الرحمن؟ قال: رجل صالح على ضعف فيه. قلت: فسعد؟ قال: ذلك
صاحب مقنب وقتال، لا يقوم بقرية لو حمل أمرها. قلت: فالزبير؟ قال: وعقة
لقس مؤمن الرضا كافر الغضب شحيح، وإن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي
في غير عنف، رفيق في غير ضعف، جواد في غير سرف. قلت: فأين أنت عن
عثمان؟ قال: لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ولو فعلها
لقتلوه (2).

(1) البحار: ج 8 ص 330 ط الكمباني عن مجالس المفيد.
(2) البحار: ج 8 ص 336 بروايتين ط الكمباني. راجع الغدير: ج 7 ص 145 عن البلاذري، ويأتي
نظيره ج 3 ص 138
19

(305)
أبو ذر وعثمان
عن عبد الله بن أبي عمرة الأنصاري، قال: لما قدم أبو ذر على عثمان
قال: أخبرني أي البلاد أحب إليك؟ قال: مهاجري، قال: لست بمجاوري،
قال: فألحق بحرم الله فأكون فيه؟ قال: لا، قال: فالكوفة أرض بها أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: لا، قال: فلست بمختار غيرهن، فأمره
بالمسير إلى الربذة. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي: " أسمع
وأطع وأنفذ حيث قادوك ولو لعبد حبشي مجدوع " فخرج إلى الربذة.
فأقام هنا مدة، ثم دخل المدينة، فدخل على عثمان والناس عنده
سماطين، فقال: يا أمير المؤمنين إنك أخرجتني من أرضي إلى أرض ليس بها
زرع ولا ضرع إلا شويهات، وليس لي خادم إلا محررة، ولا ظل يظلني إلا ظل
شجرة، فأعطني خادما وغنيمات أعيش فيها، فحول وجهه عنه، فتحول إلى
السماط الآخر، فقال مثل ذلك.
فقال له حبيب بن مسلمة: لك عندي يا أبا ذر ألف درهم وخادم وخمسمائة
شاة. قال أبو ذر: أعط خادمك وألفك وشويهاتك من هو أحوج إلى ذلك مني،
فإني إنما أسأل حقي في كتاب الله.
فجاء علي عليه السلام فقال له عثمان: ألا تغني عنا سفيهك هذا! قال:
أي سفيه؟ قال: أبو ذر، قال علي عليه السلام: ليس بسفيه، سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله يقول: " ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من
أبي ذر "، أنزله بمنزلة مؤمن آل فرعون " إن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك
صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم " قال عثمان: التراب في فيك! قال علي
عليه السلام: بل التراب في فيك، أنشد بالله من سمع رسول الله صلى الله عليه
20

وآله يقول ذلك لأبي ذر؟ فقام أبو هريرة وعشرة فشهدوا بذلك قول (1) علي
عليه السلام.
قال ابن عباس: كنت عند أبي على العشاء بعد المغرب، إذ جاء الخادم،
فقال: هذا أمير المؤمنين بالباب، فدخل عثمان فجلس. فقال له العباس:
تعش، قال: تعشيت، فوضع يده.
فلما فرغنا من العشاء قام من كان عنده وجلست، وتكلم عثمان، فقال:
يا خال أشكو إليك ابن أخيك - يعني عليا عليه السلام - فإنه أكثر في شتمي
ونطق في عرضي، وأنا أعوذ بالله في ظلمكم بني عبد المطلب! إن يكن هذا
الأمر لكم فقد سلمتموه إلى من هو أبعد مني، وإن لا يكن لكم فحقي أخذت.
فتكلم العباس، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي، وذكر ما خص
الله به قريشا منه وما خص به بني عبد المطلب خاصة، ثم قال:
أما بعد، فما حمدتك لابن أخي ولا حمدت ابن أخي فيك، وما هو وحده
ولقد نطق غيره، فلو أنك هبطت مما صعدت وصعدوا مما هبطوا لكان ذلك
أقرب، فقال: أنت وذلك يا خال، فقال: فلم تكلم بذلك عنك؟ (2) قال: نعم
أعطهم عني ما شئت. وقام عثمان فخرج.
فلم يلبث أن رجع إليه فسلم وهو قائم، ثم قال: يا خال لا تعجل بشئ
حتى أعود إليك، فرفع العباس يديه واستقبل القبلة، فقال: " اللهم أسبق بي
ما لا خير لي في إداركه " فما مضت الجمعة حتى مات (3).

(1) في الأمالي: " فولى علي عليه السلام ".
(2) كذا في الأمالي والبحار، ولعل الصحيح: " أفأتكلم بذلك عنك ".
(3) البحار: ج 8 ص 346 ط الكمباني عن أمالي الشيخ رحمه الله: ج 2 ص 321 وص 347 عن ابن أبي
الحديد. و ج 22 ص 404 عن أمالي الشيخ رحمه أيضا. شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 9 ص 13 - 14
21

(306)
ابن عباس وعثمان
نزل عثمان فأتى منزله، وأتاه الناس وفيهم ابن عباس، فلما أخذوا مجالسهم
أقبل على ابن عباس، فقال: ما لي ولكم يا ابن عباس؟ ما أغراكم بي وأولعكم
بتعقيب أمري! لتنقمون (1) علي أمر العامة - وعاتبه بكلام طويل - فأجابه ابن
عباس، وقال في جملة كلامه:
أخسئ الشيطان عنك لا يركبك، وأغلب غضبك ولا يغلبك، فما دعاك إلى
هذا الأمر الذي كان منك؟ قال: دعاني إليه ابن عمك علي بن أبي طالب
عليه السلام، قال ابن عباس: وعسى أن يكذب مبلغك، قال عثمان: إنه ثقة،
قال ابن عباس: إنه ليس بثقة من أولع وأغرى. قال عثمان: يا ابن عباس والله
إنك ما تعلم من علي ما شكوت منه؟ قال: اللهم لا، إلا أن يقول كما يقول
الناس وينقم كما ينقمون، فمن أغراك به وأولعك بذكره دونهم؟ قال عثمان:
إنما آفتي من أعظم الداء الذي ينصب نفسه لرأس الأمر، وهو علي ابن عمك
وهذا والله كلمة من نكده وشؤمه! قال ابن عباس: مهلا استثن يا أمير المؤمنين!
قل: إن شاء الله، فقال: إن شاء الله.
ثم قال: إني أنشدك يا ابن عباس الإسلام والرحم! فقد والله غلبت
وابتليت بكم، والله لوددت أن هذا الأمر كان صائرا إليكم دوني، فحملتموه
عني وكنت أحد أعوانكم عليه، إذا والله لوجدتموني لكم خيرا مما وجدتكم
لي، ولقد علمت أن الأمر لكم، ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم
فوالله ما أدري أرفعوكم أم رفعوه عنكم؟.

(1) في شرح النهج: " اتنقمون علي "
22

قال ابن عباس: مهلا يا أمير المؤمنين! فإنا ننشدك الله والإسلام والرحم
مثل ما نشدتنا أن تطمع فينا وفيك عدوا، أو تشمت بنا وبك حسودا، إن أمرك
إليك ما كان قولا، فإذا صار فعلا فليس إليك ولا في يدك، وإنا والله لنخالفن
إن خولفنا، ولننازعن إن نوزعنا، وما يمتنك (1) أن يكون الأمر صار إلينا دونك إلا
أن يقول قائل منا ما يقوله الناس ويعيب كما عابوا.
وأما صرف قومنا عنا الأمر: فعن حسد قد والله عرفته، وبغي والله علمته،
فالله بيننا وبين قومنا.
وأما قولك: إنك لا تدري أرفعوه عنا أم رفعونا عنه، فلعمري إنك لتعرف
أنه لو صار إلينا هذا الأمر ما ازددنا به فضلا إلى فضلنا ولا قدرا إلى قدرنا، وإنا
لأهل الفضل وأهل القدر، وما فضل فاضل إلا بفضلنا، ولا سبق سابق إلا
بسبقنا، ولولا هدانا ما اهتدى أحد، ولا أبصروا من عمى، ولا قصدوا من جور.
فقال عثمان: حتى متى يا ابن عباس يأتيني عنكم ما يأتيني! هبوني كنت
بعيدا، أما كان لي من الحق عليكم أن أراقب وأن أناظر، بلى ورب الكعبة!
ولكن الفرقة سهلت لكم القول في، وتقدمت بكم إلى الإسراع إلي، والله
المستعان.
قال ابن عباس: فخرجت فلقيت عليا، وإذا به من الغضب والتلظي
أضعاف ما بعثمان، فأردت تسكينه فامتنع، فأتيت منزلي وأغلقت بابي
واعتزلتهما.
فبلغ ذلك عثمان، فأرسل إلي، فأتيته وقد هدأ غضبه، فنظر إلي ثم
ضحك، وقال: يا ابن عباس ما أبطأ بك عنا؟ إن تركك العود علينا دليل على
ما رأيت عن صاحبك وعرفت من حاله، فالله بيننا وبينه! خذ بنا في غير ذلك.

(1) في شرح النهج: " وما تمنيك "
23

قال ابن عباس: فكان عثمان بعد ذلك إذا أتاه عن علي عليه السلام شئ
فأردت التكذيب عنه يقول: ولا يوم الجمعة حين أبطأت عنا وتركت العود
إلينا! فلا أدري كيف أرد عليه (1).
(307)
صعصعة وعثمان
عن الشعبي، عن صعصعة بن صوحان العبدي - رحمه الله - قال: دخلت على
عثمان بن عفان في نفر من المصريين، فقال عثمان: قدموا رجلا منكم
يكلمني، فقدموني، فقال عثمان: هذا! وكأنه استحدثني، فقلت له: إن العلم لو
كان بالسن لم يكن لي ولا لك فيه سهم، ولكنه بالتعلم، فقال عثمان: هات.
فقلت: بسم الله الرحمن الرحيم " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا
الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " فقال
عثمان: فينا نزلت هذه الآية، فقلت له: فمر بالمعروف وانه عن المنكر، فقال
عثمان: دع ذا وهات ما معك.
فقلت له: بسم الله الرحمن الرحيم " الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا
أن يقولوا ربنا الله " إلى آخر الآية، فقال عثمان: وهذه أيضا فينا نزلت.
فقلت له: فأعطنا بما أخذت من الله تعالى، فقال عثمان: يا أيها الناس
عليكم بالسمع والطاعة، وإن يد الله على الجماعة، وإن الشيطان مع القذ، فلا
تسمعوا إلى قول هذا، فإن هذا لا يدري من الله ولا أين الله.
فقلت له: أما قولك: " عليكم بالسمع والطاعة " فإنك تريد منا أن نقول
غدا: " ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ". وأما قولك: " أني
لا أدري من الله " فإن الله ربنا ورب آبائنا الأولين. وأما قولك: " أني لا أدري

(1) البحار: ج 8 ص 347 ط الكمباني عن شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 9 ص 8. وقد مر ج 1 ص 156
24

أين الله " فإن الله تعالى بالمرصاد.
قال: فغضب وأمر بصرفنا، وغلق الأبواب دوننا (1).
(308)
عمار وعثمان
ثم إن عمارا بعد ما صلح - من ضرب عثمان إياه كما تقدم ص 17 - من
مرضه، فخرج إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، فبينما هو كذلك إذ دخل
ناعي أبي ذر على عثمان من الربذة، فقال: إن أبا ذر مات بالربذة وحيدا ودفنه
قوم سفر! فاسترجع عثمان وقال: رحمه الله! فقال عمار: رحم الله أبا ذر من
كل أنفسنا.
فقال له عثمان: وإنك لهناك بعد ما برأت! أتراني ندمت على تسييري
إياه؟ قال له عمار: لا والله ما أظن ذاك. قال: وأنت أيضا إلحق بالمكان الذي
كان فيه أبو ذر فلا تبرحه ما حيينا! قال عمار: أفعل، فوالله لمجاورة السباع أحب
إلي من مجاورتك.
قال: فتهيأ عمار للخروج، وجاءت بنو مخزوم إلى أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام فسألوه أن يقوم معهم إلى عثمان ليستنزله عن تسيير عمار،
فقام معهم فسأله فيهم ورفق به حتى أجابه إلى ذلك (2).
(309)
أم سلمة وعائشة
روى الشعبي عن عبد الرحمن بن مسعود العبدي، قال: كنت بمكة مع

(1) البحار: ج 8 ص 450 ط الكمباني عن أمالي الشيخ رحمه الله ج 1 ص 241 وعنه قاموس الرجال: ج 5
ص 122.
(2) البحار: ج 8 ص 351 ط الكمباني عن أمالي المفيد رحمه الله
25

عبد الله بن الزبير وطلحة والزبير، فأرسلا إلى عبد الله بن الزبير فأتاهما وأنا معه،
فقالا له: إن عثمان قتل مظلوما، وإنا نخاف أن ينقض أمر أمة محمد صلى الله
عليه وآله، فإن رأت عائشة أن تخرج معنا، لعل الله أن يرتق بها فتقا، ويشعب بها
صدعا.
قال: فخرجنا نمشي حتى انتهينا إليها، فدخل عبد الله بن الزبير معها في
سترها فجلست على الباب، فأبلغها ما أرسلا.
فقالت: سبحان الله! والله ما أمرت بالخروج! وما يحضرني من أمهات
المؤمنين إلا أم سلمة، فإن خرجت خرجت معها.
فرجع إليهما فبلغهما ذلك، فقالا: ارجع إليهما فلتأتها فهي أثقل عليها منا.
فرجع إليها فبلغها، فأقبلت حتى دخلت على أم سلمة.
فقالت لها أم سلمة: مرحبا بعائشة! والله ما كنت لي بزوارة فما بدا لك؟
قالت: قدم طلحة والزبير فخبرا أن أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوما! قال:
فصرخت أم سلمة صرخة أسمعت من في الدار، فقالت:
يا عائشة أنت بالأمس تشهدين عليه بالكفر وهو اليوم أمير المؤمنين قتل
مظلوما؟ فما تريدين؟ قالت: تخرجين معنا فلعل الله أن يصلح بخروجنا أمر أمة
محمد صلى الله عليه وآله. قالت: يا عائشة أخرج (1) وقد سمعت من رسول الله
صلى الله عليه وآله ما سمعنا؟ نشدتك الله يا عائشة! الذي يعلم صدقك إن
صدقت أتذكرين يوما كان يومك من رسول الله صلى الله عليه وآله فصنعت
حريرة في بيتي فأتيته بها وهو عليه وآله السلام يقول: " والله لا تذهب الليالي
والأيام حتى تتنابح [كلاب] ماء بالعراق يقال له: الحوأب امرأة من نسائي في
فئة باغية " فسقط الإناء من يدي، فرفع رأسه إلي وقال: " ما لك يا أم سلمة؟ "

(1) في الاحتجاج: " تخرجين "
26

فقلت: يا رسول الله ألا يسقط الإناء من يدي وأنت تقول ما تقول؟ ما يؤمنني أن
تكون أنا هي؟ فضحكت أنت فالتفت إليك، فقال عليه السلام: " أما
تضحكين يا حميراء الساقين إني أحسبك هيه ".
ونشدتك بالله يا عائشة! أتذكرين ليلة أسري بنا مع رسول الله صلى الله
عليه وآله من كذا وكذا وهو بيني وبين علي بن أبي طالب عليه السلام يحدثنا،
فأدخلت جملك فحال بينه وبين علي بن أبي طالب، فرفع مقرعة كانت عنده
يضرب بها وجه جملك، وقال: أما والله! ما يومه منك بواحد ولا بليته منك
بواحدة، أما إنه لا يبغضه إلا منافق كذاب.
وأنشدك بالله! أتذكرين مرض رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قبض
فيه، فأتاه أبوك يعوده ومعه عمر، وقد كان علي بن أبي طالب عليه السلام
يتعاهد ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله ونعله وخفه ويصلح ما وهي منها،
فدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وهي حضرمية فهو
يخصفها خلف البيت، فاستأذنا عليه، فأذن لهما، فقالا: يا رسول الله كيف
أصبحت؟ فقال: أصبحت أحمد الله، قالا: ما بد من الموت؟ قال: أجل لا بد
منه، قالا: يا رسول الله فهل استخلفت أحدا؟ قال: " ما خليفتي فيكم إلا
خاصف النعل " فخرجا فمرا على علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يخصف
نعل رسول الله، وكل ذلك تعرفينه يا عائشة وتشهدين عليه.
ثم قالت أم سلمة: يا عائشة أنا أخرج على علي بعد الذي سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وآله؟
فرجعت عائشة إلى منزلها وقالت: يا ابن الزبير أبلغهما أني لست بخارجة
بعد الذي سمعت من أم سلمة.
فرجع فبلغهما، قال: فما انتصف الليل حتى سمعنا رغاء إبلها ترتحل!
27

فارتحلت معهما (1).
(310)
أم سلمة وعائشة
عن أبي أخنس الأرحبي، قال: لما أرادت عائشة الخروج إلى البصرة
كتبت إليها أم سلمة - رضي الله عنها - زوجة النبي صلى الله عليه وآله:
أما بعد، فإنك سدة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين أمته، حجابه
المضروب على حرمته، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه، وسكن عقيراك فلا
تصحريها [إن] الله من وراء هذه الأمة، قد علم رسول الله صلى الله عليه وآله
مكانك، لو أراد أن يعهد إليك لفعل، ولقد عهد فاحفظي ما عهد، فلا تخالفي
فيخالف بك، واذكري قوله عليه السلام في نباح الكلاب بحوأب، وقوله:
" ما للنساء والغزو؟ " وقوله صلى الله عليه وآله: " انظري يا حميراء ألا تكوني
أنت علت علت " بل قد نهاك عن الفرطة في البلاد، وأن عمود الإسلام لن
يثاب بالنساء إن مال ولن يرأب بهن إن صدع، حماديات النساء غض الأبصار
وخفر الأعراض وقصر الوهازة. ما كنت قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه
وآله عارضك ببعض الفلوات ناصة قلوصا من منهل إلى آخر؟ إن بعين الله
مهواك، وعلى رسول الله تردين، قد وجهت سدافته، وتركت عهيداه. لو سرت
مسيرك هذا ثم قيل لي: " ادخلي الفردوس " لاستحييت أن ألقى رسول الله
صلى الله عليه وآله هاتكة حجابا قد ضربه علي. اجعلي حصنك بيتك،

(1) البحار: ج 8 ص 396 ط الكمباني عن الاحتجاج: ج 1 ص 242. وص 400 عن ابن أبي
الحديد: ج 6 ص 217 - 218. وقاموس الرجال: ج 10 ص 397 عنه. وسيأتي ص 98 لما بين النقلين من
الاختلاف. وراجع أيضا قاموس الرجال: ج 2 ص 171، فإنه نقله عن المرتضى في شرح بائية السيد
الحميري وكذا ج 6 ص 381 و ج 10 ص 467 و 367. وبهج الصباغة: ج 4 ص 415. والغدير: ج 5 ص 365
و ج 9 ص 83. وروضة المؤمنين ص 129
28

ورباعة الستر قبرك حتى تلقيه، وأنت على تلك الحال أطوع ما تكونين لله
ما لزمته، وأنصر ما تكونين للدين ما جلست عنه، لو ذكرتك بقول تعرفينه
لنهشتني نهش الرقشاء المطرق.
فقالت عائشة: ما أقبلني لوعظك وما أعرفني بنصحك! وليس الأمر على
ما تظنين، ولنعم المسير مسيرا فزعت إلي فيه فئتان متشاجرتان، إن أقعد ففي غير
حرج، وإن أنهض فإلى ما لا بد من الازدياد منه.
فقالت أم سلمة:
لو كان معتصما من زلة أحد * كانت لعائشة العتبي على الناس
كم سنة لرسول الله دارسة * وتلو آي من القرآن مدراس
قد ينزع الله من قوم عقولهم * حتى يكون الذي يقضي على الرأس (1)
أقول: نقله الصدوق - رحمه الله - وابن عبد ربه وأحمد بن طاهر على أنه كان
كتابا منها إليها، والباقون على أنه كان خطابا، وبين الروايات اختلاف في
الألفاظ، فراجع.
فأجابتها عائشة: من عائشة أم المؤمنين إلى أم سلمة: سلام عليك: فإني
أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد، فما أقبلني لوعظك وأعرفني لحقي نصيحتك، وما أنا بمعتمرة بعد
تعريج، ولمنعم المطلع مطلع فرقت فيه بين فئتين متشاجرتين بين المسلمين، فإن

(1) راجع معاني الأخبار ص 378. والعقد الفريد: ج 4 ص 316. والاحتجاج: ج 1 ص 244.
والاختصاص: ص 113. والإمامة والسياسة: ج 1 ص 55 وتاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 169. والبحار: ج 8
ص 396 ط الكمباني عن الاحتجاج، وص 397 عن معاني الأخبار، وص 399 عن الاختصاص، وص
400 عن ابن أبي الحديد، وقال: كلامها رضي الله عنها مع عائشة متواترة المعنى، رواه الخاصة والعامة
بأسانيد جمة وفسروا ألفاظه. ورواه ابن أبي الحديد في شرح النهج، وذكره ابن قتيبة في غريب الحديث،
ورواه أحمد بن طاهر في بلاغات النساء: ص 7، وابن أبي الحديد في شرح النهج: ج 6 ص 220 عن غريب
الحديث لابن قتيبة
29

أقعد فعن حرج، وإن أمضي فإلى ما لا غنى بي عن الازدياد منه، والسلام.
(311)
أم سلمة وعائشة
نقل ابن أعثم في الفتوح (1)، قال: وأقبلت عائشة حتى دخلت على أم سلمة
زوجة النبي صلى الله عليه وآله وهي يومئذ بمكة، فقالت لها: يا بنت أبي أمية
إنك أول ظعينة هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنت كبيرة أمهات
المؤمنين، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقسم لنا بين بيتك، وقد
خبرت أن القوم استتابوا عثمان بن عفان حتى إذا تاب وثبوا عليه فقتلوه، وقد
أخبرني عبد الله بن عامر أن بالبصرة مائة ألف سيف يقتل فيها بعضهم بعضا،
فهل لك أن تسيري بنا إلى البصرة لعل الله تبارك وتعالى أن يصلح هذا الأمر
على أيدينا؟.
قال: فقالت لها أم سلمة رحمة الله عليها:
يا بنت أبي بكر بدم عثمان تطلبين! والله لقد كنت من أشد الناس عليه،
وما كنت تسميه إلا نعثلا، فما لك ودم عثمان! وعثمان رجل من عبد مناف
وأنت امرأة من بني تيم بن مرة، ويحك يا عائشة! أعلى علي وابن عم رسول الله
صلى الله عليه وآله تخرجين وقد بايعه المهاجرون والأنصار؟.
ثم جعلت أم سلمة - رحمة الله عليها - تذكر عائشة فضائل علي رضي الله عنه
وعبد الله بن الزبير على الباب يسمع ذلك كله، فصاح بأم سلمة، قال: يا بنت
أبي أمية إننا قد عرفنا عداوتك لآل الزبير.
فقالت أم سلمة: والله لتوردنها ثم لا تصدرنها أنت ولا أبوك! أتطمع أن
يرضى المهاجرون والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة، وعلي بن أبي طالب

(1) الفتوح لابن أعثم: ج 2 ص 281
30

حي وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة!؟.
فقال عبد الله بن الزبير: ما سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله
ساعة قط. فقالت أم سلمة رحمة الله عليها: إن لم تكن أنت سمعته فقد سمعته
خالتك عائشة، وها هي فأسألها، فقد سمعته صلى الله عليه وآله يقول: " علي
خليفتي عليكم في حياتي ومماتي، فمن عصاه فقد عصاني " أتشهدين يا عائشة بهذا
أم لا؟ فقالت عائشة: اللهم نعم.
قالت أم سلمة رحمة الله عليها: فاتقي الله يا عائشة في نفسك، واحذري
ما حذرك الله ورسوله صلى الله عليه وآله، ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب،
ولا يغرنك الزبير وطلحة، فإنهما لا يغنيان عنك من الله شيئا (1).
أقول: لا بأس هنا بنقل كتاب أم سلمة إلى علي أمير المؤمنين عليه السلام
بعد خروج عائشة أم المؤمنين إلى البصرة، وإن كان خارجا عن شرط الكتاب:
لعبد الله علي أمير المؤمنين من أم سلمة بنت أبي أمية سلام عليك ورحمة الله
وبركاته.
أما بعد، فإن طلحة والزبير وعائشة وبنيها بني السوء وشيعة الضلال خرجوا
مع ابن الجزار عبد الله بن عامر إلى البصرة، يزعمون أن عثمان بن عفان قتل
مظلوما وأنهم يطلبون بدمه، والله كافيكم وجاعل دائرة السوء عليهم إن شاء الله
تعالى. وتالله لولا ما نهي الله عز وجل منه من خروج النساء من بيوتهن
وما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله عند وفاته لشخصت معك، ولكن
قد بعثت إليك بأحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وإليك ابني عمر
ابن أبي سلمة، والسلام (2).

(1) راجع البحار: ج 8 ص 400 أيضا ط الكمباني.
(2) راجع الفتوح لابن أعثم: ج 2 ص 284. وأحاديث أم المؤمنين: ج 1 ص 139. والبحار: ج 8 ص
400 ط الكمباني عن شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 6 ص 219 تجده بألفاظ متقاربة
31

(312)
الأشتر وعائشة
كتب الأشتر إلى عائشة، وهي بمكة:
أما بعد، فإنك ظعينة رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد أمرك أن تقري في
بيتك، فإن فعلت فهو خير لك، وإن أبيت إلا أن تأخذي منسأتك وتلقي
جلبابك وتبدي للناس شعيراتك، قاتلتك حتى أردك إلى بيتك والموضع الذي
يرضاه لك ربك.
فكتبت إليه في الجواب:
أما بعد، فإنك أول العرب شب الفتنة، ودعا إلى الفرقة، وخالف الأئمة
وسعى في قتل الخليفة، وقد علمت أنك لن تعجز الله حتى يصيبك منه بنقمة
ينتصر بها منك للخليفة المظلوم، وقد جاءني كتابك وفهمت ما فيه، وسيكفينيك
الله وكل من أصبح مماثلا لك في ضلالك وغيك إن شاء الله (1).
(313)
أبو الأسود وعائشة
لما انتهت عائشة وطلحة والزبير إلى حفر أبي موسى قريبا من البصرة،
أرسل عثمان بن حنيف - وهو يومئذ عامل علي عليه السلام على البصرة - إلى
القوم أبا الأسود الدؤلي يعلم له علمهم، فجاء حتى دخل على عائشة، فسألها
عن مسيرها، فقالت: أطلب بدم عثمان. قال: إنه ليس بالبصرة من قتلة
عثمان أحد، قالت: صدقت ولكنهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة، وجئت
أستنهض أهل البصرة لقتاله، أنغضب لكم من سوط عثمان ولا نغضب

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 6 ص 225. والبحار: ج 8 ص 394 ط الكمباني
32

لعثمان من سيوفكم؟ فقال لها: ما أنت من السوط والسيف! إنما أنت حبيس
رسول الله صلى الله عليه وآله، أمرك أن تقري في بيتك وتتلي كتاب ربك،
وليس على النساء قتال ولا لهن الطلب بالدماء، وإن عليا لأولى بعثمان منك
وأمس رحما، فإنهما ابنا عبد مناف.
فقالت: لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت له، أفتظن يا أبا الأسود أن
أحدا يقدم على قتالي؟ فقال: أما والله لتقاتلن قتالا أهونه الشديد.
ثم قام فأتى الزبير، فقال: يا أبا عبد الله عهد الناس بك وأنت يوم بويع أبو
بكر آخذ بقائم سيفك تقول: " لا أحد أولى بهذا الأمر من ابن أبي طالب " وأين
هذا المقام من ذاك؟ فذكر له دم عثمان. قال: أنت وصاحبك وليتماه فيما
بلغنا! قال: فانطلق إلى طلحة فاسمع ما يقول.
فذهب إلى طلحة، فوجده سادرا في غيه، مصرا على الحرب والفتنة. فرجع
إلى عثمان بن حنيف، فقال: إنها الحرب! فتأهب لها (1).
(314)
زيد بن صوحان وعائشة
لما نزل علي عليه السلام بالبصرة كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان
العبدي:
من عائشة بنت أبي بكر الصديق زوج النبي صلى الله عليه وآله إلى ابنها
الخالص زيد بن صوحان. أما بعد، فأقم في بيتك وخذل الناس عن علي،
وليبلغني عنك ما أحب، فإنك أوثق أهلي عندي، والسلام.
فكتب إليها:

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 6 ص 225 - 226. والبحار: ج 8 ص 394 ط الكمباني عنه.
والغدير: ج 9 ص 106 عن الإمامة والسياسة: ج 1 ص 57 وسيأتي، نصه والعقد الفريد: ج 2 ص 278،
وابن أبي الحديد
33

من زيد بن صوحان إلى عائشة بنت أبي بكر. أما بعد، فإن الله أمرك بأمر
وأمرنا بأمر، أمرك أن تقري في بيتك، وأمرنا أن نجاهد، وقد أتاني كتابك
فأمرتني أن أصنع خلاف ما أمرني الله، فأكون قد صنعت ما أمرك الله به
وصنعت ما أمرني الله به! فأمرك عندي غير مطاع وكتابك غير مجاب،
والسلام (1).
(315)
الأحنف وعائشة
ثم إنهم - يعني عائشة وطلحة والزبير - بعثوا إلى الأحنف بن قيس، فدعوه
وقالوا: إننا نريد منك أن تنصرنا على دم عثمان بن عفان، فإنه قتل مظلوما.
قال: فالتفت الأحنف إلى عائشة، وقال: يا أم المؤمنين أنشدك الله! أما
قلت لي ذلك اليوم: إن قتل عثمان فمن أبايع؟ قلت: علي بن أبي طالب،
فقالت عائشة: قد كان ذلك يا أحنف، ولكن هاهنا أمور نحن بها أعلم منك.
فقال الأحنف: لا والله! لا أقاتل علي بن أبي طالب أبدا، وهو أخو رسول الله
صلى الله عليه وآله وابن عمه وزوج ابنته وأبو سبطيه، وقد بايعه المهاجرون
والأنصار (2).
(316)
عمران وعائشة وطلحة والزبير
وفي نقل المفيد - رحمه الله -: دعا عثمان بن حنيف عمران بن الحصين
الخزاعي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، فبعثه وبعث معه

(1) ابن أبي الحديد: ج 6 ص 226 - 227. والبحار: ج 8 ص 394 ط الكمباني عنه. والعقد الفريد:
ج 4 ص 317 وفي طبعة ج 2 ص 318. وقاموس الرجال: ج 4 ص 256. وبهج الصباغة: ج 11 ص 93،
و ج 6 ص 394 - 395. وروضة المؤمنين: ص 134 عن العقد وجمهرة رسائل العرب وابن أبي الحديد.
(2) الفتوح لابن أعثم: ج 2 ص 289
34

أبا الأسود الدؤلي إلى طلحة والزبير وعائشة، فقال: انطلقا فاعلما ما أقدم علينا
هؤلاء القوم وما يريدون؟.
قال أبو الأسود: فدخلنا على عائشة، فقال لها عمران بن الحصين: يا أم
المؤمنين ما أقدمك بلدنا؟ ولم تركت بيت رسول الله صلى الله عليه وآله الذي
فارقك فيه وقد أمرك أن تقري في بيتك؟ وقد علمت أنك إنما أصبت
الفضيلة والكرامة والشرف وسميت أم المؤمنين، وضرب عليك الحجاب ببني
هاشم، فهم أعظم الناس عليك منة وأحسنهم عندك يدا، ولست من
اختلاف الناس في شئ ولا لك من الأمر شئ، وعلي أولى بدم عثمان، فاتقي
الله واحفظي قرابته وسابقته، فقد علمت أن الناس بايعوا أباك فما أظهر عليه
خلافا، وبايع أبوك عمر وجعل الأمر له دونه فصبر وسلم ولم يزل بهما برا، ثم
كان من أمرك وأمر الناس وعثمان ما قد علمت، ثم بايعتم عليا عليه السلام
فغبنا عنكم، فأتتنا رسلكم بالبيعة فبايعنا وسلمنا.
فلما قضى كلامه، قالت عائشة: يا أبا عبد الله ألقيت أخاك أبا محمد؟
تعني طلحة - فقال لها: ما لقيته بعد، وما كنت لآتي أحدا ولا أبدأ به قبلك.
قالت: فأته فانظر ماذا يقول.
قال: فأتيناه، فكلمه عمران فلم يجد عنده شيئا مما يحب. فخرجنا من
عنده فأتينا الزبير وهو متكئ، فقد بلغه كلام عمران وما قال لعائشة. فلما
رآنا قعد، وقال: أيحب ابن أبي طالب أنه حين ملك ليس لأحد معه أمر!
فلما رأى ذلك عمران لم يكلمه، فأتى عمران عثمان فأخبره.
وعن عبد الجليل بن إبراهيم، أن الأحنف بن قيس أقبل حين نزلت
عائشة أول مرحلة من البصرة، فدخل عليها، فقال: يا أم المؤمنين وما الذي
أقدمك، وما أشخصك، وما تريدين؟ قالت: يا أحنف قتلوا عثمان! فقال: يا أم
المؤمنين مررت بك عام أول بالمدينة وأنا أريد مكة وقد أجمع الناس على قتل
35

عثمان ورمي بالحجارة وحيل بينه وبين الماء، فقلت لك: يا أم المؤمنين
اعلمي أن هذا الرجل مقتول، ولو شئت لتردين عنه فعلت، فإن قتل فإلى
من؟ فقلت: إلى علي بن أبي طالب.
قالت: يا أحنف صفوه حتى إذا جعلوه مثل الزجاجة قتلوه! فقال لها:
أقبل قولك في الرضا ولا أقبل قولك في الغضب.
ثم أتى طلحة، فقال: يا أبا محمد ما الذي أقدمك وما الذي أشخصك
وما تريد؟ فقال: قتلوا عثمان! قال: مررت بك عاما أول بالمدينة وأنا أريد
العمرة وقد أجمع الناس على قتل عثمان ورمي بالحجارة وحيل بينه وبين
الماء، فقلت لكم: إنكم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله لو تشاؤون أن
تردوا عنه فعلتم. فقلت: دبر فأدبر، فقلت لك: فإن قتل فإلى من؟ فقلت:
إلى علي بن أبي طالب عليه السلام.
فقال: ما كنا نرى أن أمير المؤمنين يرى أن يأكل الأمر وحده (1).
(317)
عبيد بن كلاب وعائشة
قدمت عائشة من مكة وقد قضت حجها، حتى إذا صارت قريبا من
المدينة استقبلها عبيد بن أبي سلمة الليثي، وكان يقال له: " ابن أم كلاب "
فقالت له عائشة: ويحك! لنا أم علينا؟ فقال: قتل عثمان بن عفان،
فقالت: ثم ماذا؟ فقال: بايع الناس علي بن أبي طالب، قالت عائشة:
وددت أن هذه وقعت علي! قتل والله عثمان بن عفان مظلوما! وأنا مطالبة
بدمه، والله ليوم من عثمان خير من علي الدهر كله.
فقال لها عبيد بن أم كلاب: ولم تقولين ذلك؟ فوالله ما أظن أن أحدا

(1) البحار: ج 8 ص 395 ط الكمباني عن الكافية
36

بين السماء والأرض في هذا اليوم أكرم من علي بن أبي طالب على الله
عز وجل: فلم تكرهين ولايته؟ ألم تكونين تحرضين الناس على قتله؟ ثم إنك
أظهرت عيبه وقلت: اقتلوا نعثلا فقد كفر!
فقالت عائشة: لعمري قد قلت ذلك وقالوا، ثم رجعت عما قلت لما
عرفت خبره من أوله، وذلك أنكم استتبتموه حتى إذا جعلتموه كالفضة
البيضاء قتلتموه، فوالله لأطلبن بدمه!.
فقال لها عبيد بن أم كلاب: هذا والله التخليط يا أم المؤمنين، ثم أنشأ
يقول:
إذا زرتماها فقولا لها * وحط القضاء بذاك القدر
فمنك البداء ومنك الغير * ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت كذا أنه قد كفر
فهبنا أطعناك في قتله * فقاتله عندنا من أمر
فقد بايع الناس ذا مرة * يزيل الشبا ويقيم الصعر
ويلبس للحرب أثوابها * وما من وفي مثل من قد غدر
فلم يسقط السقف من فوقنا * ولم ينكف شمسنا والقمر
قال: فقالت عائشة: يا عبيد إنه لو قال هذه الأبيات غيرك لم يحتمل،
ولكنك في عثمان غير ظنين (1).
(318)
عمار وعائشة
عن سعيد بن كرز، قال: كنت مع مولاي يوم الجمل مع اللواء، فأقبل
فارس فقال: يا أم المؤمنين، قالت عائشة: سلوه من هو؟ قيل له: من أنت؟

(1) الفتوح لابن أعثم: ج 2 ص 248. والبحار: ج 8 ص 395 ط الكمباني عنه، ويأتي بلفظ آخر
37

قال: أنا عمار بن ياسر، قالت: قولوا له: ما تريد؟ قال: أنشدك بالله الذي
أخرج الكتاب على نبيه رسول الله صلى الله عليه وآله في بيتك، أتعلمين أن
رسول الله صلى الله عليه وآله جعل عليا عليه السلام وصيه على أهله؟ قالت:
اللهم نعم.
قال: وجاء فوارس أربعة، فهتف رجل منهم، قالت عائشة: هذا ابن
أبي طالب ورب الكعبة! سلوه ما يريد؟ قال: أنشدك بالله الذي أنزل
الكتاب على رسول الله في بيتك، أتعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وآله
جعلني وصيه على أهله؟ قالت: اللهم نعم (1).
(319)
عمار وعائشة
لما انهزم أهل البصرة أمر علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام أن
تنزل عائشة قصر ابن أبي خلف. فلما نزلت جاءها عمار بن ياسر - رضي الله
عنه - فقال: يا أمه؟ كيف رأيت ضرب بنيك دون دينهم بالسيف؟ فقالت:
استبصرت يا عمار من أجل أنك غلبت! فقال: أنا أشد استبصارا من
ذلك، أم والله لو ضربتمونا حتى تبلغونا مسعفات هجر لعلمنا أنا على الحق
وأنكم على الباطل.
فقالت له عائشة: هكذا يخيل إليك، اتق الله يا عمار! فإن سنك قد
كبرت، ودق عظمك، وفني أجلك وأذهبت دينك لابن أبي طالب.
فقال عمار رحمه الله: إني والله اخترت لنفسي في أصحاب رسول الله

(1) البحار: ج 8 ص 408 ط الكمباني عن سعد السعود لابن طاوس رحمه الله، والايضاح: ص 78،
وفي هامشه عن سعد السعود: ص 236 - 237. والبحار: ج 8 ص 555 من تعليقاته عن مجمع الزوائد
للهيثمي
38

صلى الله عليه وآله، فرأيت عليا أقرأهم لكتاب الله عز وجل، وأعلمهم بتأويله
وأشدهم تعظيما لحرمته، وأعرفهم بالسنة، مع قرابته من رسول الله صلى الله
عليه وآله، وعظم عنائه وبلائه في الإسلام، فسكتت (1).
(320)
ابن عباس وعائشة
لما هزم علي بن أبي طالب عليه السلام أصحاب الجمل، بعث
أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله بن عباس - رحمة الله عليهما - إلى عائشة يأمرها
بتعجيل الرحيل وقلة العرجة.
قال ابن عباس: فأتيتها، وهي في قصر بني خلف في جانب البصرة.
قال: فطلبت الإذن عليها فلم تأذن، فدخلت عليها من غير إذنها، فإذا بيت
قفار لم يعد لي فيه مجلس، فإذا هي من وراء سترين، قال، فضربت ببصري،
فإذا في جانب البيت رحل عليه طنفسة، قال: فمددت الطنفسة فجلست
عليها، فقالت من وراء الستر: يا ابن عباس أخطأت السنة، دخلت بيتنا بغير
إذننا، وجلست على متاعنا بغير إذننا!.
فقال لها ابن عباس رحمة الله عليه: نحن أولى بالسنة منك، ونحن
علمناك السنة، وإنما بيتك الذي خلفك فيه رسول الله صلى الله عليه وآله
فخرجت منه ظالمة لنفسك، غاشة بدينك، عاتية على ربك، عاصية لرسول الله
صلى الله عليه وآله، فإذا رجعتي إلى بيتك لم ندخله إلا بإذنك، ولم نجلس على
متاعك إلا بأمرك. إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعث إليك يأمرك
بالرحيل إلى المدينة وقلة العرجة.
فقالت: رحم الله أمير المؤمنين ذلك عمر بن الخطاب! فقال ابن عباس:

(1) البحار: ج 8 ص 417 ط الكمباني عن أمالي الشيخ رحمه الله: ج 1 ص 142 والاحتجاج
39

هذا والله أمير المؤمنين وإن تربدت فيه وجوه ورغمت فيه معاطس، أما والله!
لهو أمير المؤمنين، وأمس برسول الله رحما، وأقرب قرابة، وأقدم سبقا، وأكثر علما
وأعلى منارا، وأكثر آثارا من أبيك ومن عمر.
فقالت: أبيت ذلك، فقال: أما والله! أن كان إباؤك فيه لقصير المدة
عظيم التبعة ظاهر الشوم بين النكد، وما كان إباؤك فيه إلا حلب شاة،
حتى صرت ما تأمرين ولا تنهين ولا ترفعين ولا تضعين، وما كان مثلك إلا
كمثل ابن الخضرمي بن نجمان أخ بني أسد، حيث يقول:
ما زال إهداء القصائد بيننا * شتم الصديق وكثرة الألقاب
حتى تركتهم كأن قلوبهم * في كل مجمعة طنين ذباب
قال: فأراقت دمعتها وأبدت عويلها وتبدأ نشيجها، ثم قالت: أخرج والله
عنكم، فما في الأرض بلد أبغض إلي من بلد تكونون فيه.
فقال ابن عباس رحمه الله: فلم؟ والله ماذا بلاءنا عندك ولا بصنيعنا
إليك، إنا جعلناك للمؤمنين أما وأنت بنت أم رومان، وجعلنا أباك صديقا
وهو ابن أبي قحافة [حامل قصا الودك لابن جذعان إلى أضيافه].
فقالت: يا ابن عباس تمنون علي برسول الله؟ فقال: ولم لا نمن عليك بمن لو
كان منك قلامة منه مننتنا به، ونحن لحمه ودمه ومنه وإليه، وما أنت إلا حشية
من تسع حشايا خلفهن بعده، لست بأبيضهن لونا ولا بأحسنهن وجها
ولا بأرشحهن عرقا ولا بأنضرهن ورقا ولا بأطراهن أصلا، فصرت تأمرين
فتطاعين وتدعين فتجابين، ما مثلك إلا كما قال أخو بني فهر:
مننت على قومي فأبدوا عداوة * فقلت لهم كفوا العداوة والشكرا
ففيه رضا من مثلكم لصديقه * وأحج بكم أن تجمعوا البغي والكفرا
قال: ثم نهضت وأتيت أمير المؤمنين عليه السلام فأخبرته بمقالتها وما رددت
40

عليها، فقال: أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك (1).
قال الأحمدي: نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (2)، وابن الأعثم في
الفتوح (3) وفيه زيادة لا بأس بنقله:
قال: ثم دعا علي رضي الله عنه بعبد الله بن عباس، فقال له: إذهب إلى
عائشة فقل لها: أن ترتحل إلى المدينة كما جاءت ولا تقيم بالبصرة، فأقبل إلى
عائشة فاستأذن عليها، فأبت أن تأذن له، فدخل عبد الله بغير إذن، ثم التفت
فإذا راحلة عليها وسائد، فأخذ منها وسادة وطرحها، ثم جلس عليها.
فقالت عائشة: يا ابن عباس أخطأت السنة، دخلت منزلي بغير إذني!
فقال ابن عباس: لو كنت في منزلك الذي خلفك فيه رسول الله صلى الله
عليه وآله لما دخلت عليك إلا بإذنك، وذلك المنزل الذي أمرك الله عز وجل
أن تقري فيه، فخرجت منه عاصية لله عز وجل ولرسوله محمد صلى الله عليه
وآله وبعد، فهذا أمير المؤمنين يأمرك بالارتحال إلى المدينة، فارتحلي ولا تعصي.
فقالت عائشة: رحم الله أمير المؤمنين ذاك عمر بن الخطاب! فقال ابن
عباس: وهذا والله أمير المؤمنين! وإن رغمت له الأنوف، وأربدت له الوجوه.
فقالت عائشة: أبيت ذلك عليكم يا بن عباس.
فقال ابن عباس: لقد كانت أيامك قصيرة المدة ظاهرة الشؤم بينة النكد،
وما كنت في أيامك إلا كقدر حلب شاة، حتى صرت ما تأخذين وما تعطين

(1) البحار: ج 8 ص 418 ط الكمباني عن كش ص 57 - 60، وقال: رواه ابن أبي الحديد والشيخ المفيد
رحمه الله في الكافية بسندين: أحدهما من طريق العامة، والآخر من طريق الخاصة باختلاف
يسير في بعض الألفاظ. وراجع قاموس الرجال: ج 6 ص 3. وبهج الصباغة: ج 6 ص 411.
(2) شرح نهج البلاغة: ج 6 ص 229.
(3) الفتوح لابن الأعثم: ج 2 ص 335
41

ولا تأمرين ولا تنهين، وما كنت إلا كما قال أخو بني أسد، حيث يقول:
ما زال إهداء القصائد بيننا * شتم الصديق وكثرة الألقاب
حتى تركت كأن قولك عندهم * في كل محتفل طنين ذباب
قال: فبكت عائشة بكاء شديدا ثم قالت: نعم والله أرحل عنكم، فما خلق
الله بلدا هو أبغض إلي من بلد أنتم به يا بني هاشم! فقال ابن عباس: ولم ذلك؟
فوالله ما هذا بلاؤنا عندك يا بنت أبي بكر! فقالت عائشة: وما بلاؤكم عندي
يا ابن عباس؟ فقال: بلاؤنا عندك أننا جعلناك أم المؤمنين وأنت بنت أم
رومان، وجعلنا أباك صديقا وهو ابن أبي قحافة، وبنا سميت أم المؤمنين لا بتيم
وعدي.
فقالت عائشة: يا ابن عباس أتمنون علي برسول الله صلى الله عليه وآله؟
فقال: ولم لا نمن عليك برسول الله صلى الله عليه وآله ولو كانت فيك شعرة منه
أو ظفر لمننت علينا وعلى جميع العالمين بذلك. وبعد، فإنما كنت إحدى تسع
حشايا من حشاياه، لست بأحسنهن وجها، ولا بأكرمهن حسبا ولا بأرشحهن
عرقا، وأنت الآن تريدين أن تقولي ولا تعصين وتأمري ولا تخالفين! ونحن لحم
الرسول صلى الله عليه وآله ودمه، وفينا ميراثه وعلمه.
فقالت عائشة: يا ابن عباس ما با ذلك عليك علي بن أبي طالب؟ فقال
ابن عباس: إيها! والله أقر له وهو أحق به مني وأولى، لأنه أخوه وابن عمه
وزوج [الطاهرة] ابنته وأبو سبطيه ومدينة علمه وكشاف الكرب عن وجهه،
وأما أنت فلا والله ما شكرت نعماءنا عليك وعلى أبيك من قبلك.
ثم خرج وسار إلى علي، فأخبره بما جرى بينه وبين عائشة من الكلام،
الحديث.
وقد ذكر المؤرخون هنا كلاما جرى بينها وبين أمير المؤمنين عليه السلام
تركناه مراعاة لشرط الكتاب، فمن أراد الاطلاع فليراجع المصادر المتقدمة.
42

وهنا كلام لها بعد مجئ الإمام الحسن عليه السلام إليها بالرسالة، وسيأتي
نقله في ص 139.
(321)
ابن عباس ورجل
عن الأعمش، عن عباية الأسدي، قال: كان عبد الله بن العباس جالسا
على شفير زمزم يحدث الناس، فلما فرغ من حديثه أتاه رجل فسلم عليه، ثم
قال: يا عبد الله بن عباس إني رجل من أهل الشام. فقال: أعوان كل ظالم إلا
من عصم الله منكم، سل عما بدا لك. فقال: يا عبد الله إني جئتك أسألك
عمن قتله علي بن أبي طالب من أهل لا إله إلا الله لم يكفروا بصلاة ولا بحج
ولا بصوم شهر رمضان ولا بزكاة، فقال له عبد الله: ثكلتك أمك! سل عما يعنيك
ودع ما لا يعنيك.
فقال: ما جئتك أضرب إليك من حمص للحج ولا للعمرة، ولكني أتيتك
لتشرح لي أمر علي بن أبي طالب عليه السلام وفعاله.
فقال له: ويلك! إن علم العالم صعب لا تحتمله ولا تقربه القلوب الصدئة،
أخبرك أن علي بن أبي طالب عليه السلام كان مثله في هذه الأمة كمثل
موسى والعالم عليهما السلام، وذلك إن الله تبارك وتعالى قال في كتابه:
" يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن
من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ "
وكان موسى يرى أن جميع الأشياء قد أثبتت له، كما ترون أن علماءكم قد
أثبتوا جميع الأشياء، فلما انتهى موسى إلى ساحل البحر، فلقي العالم فاستنطق
بموسى ليضل (1) علمه، ولم يحسده كما حسدتم أنتم علي بن أبي طالب وأنكرتم

(1) في العلل: " ليصل "
43

فضله. فقال له موسى عليه السلام: " هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت
رشدا " فعلم العالم أن موسى لا يطيق بصحبته ولا يصبر على علمه، فقال له:
" إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا " فقال له
موسى: " ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا " فعلم العالم أن موسى
لا يصبر على علمه فقال: " فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك
منه ذكرا " قال: فركبا في السفينة، فخرقها العالم، فكان خرقها لله عز وجل
رضى وسخطا لموسى. ولقي الغلام فقتله، فكان قتله لله عز وجل رضى، وسخط
ذلك موسى. وأقام الجدار، فكان إقامته لله عز وجل رضى، وسخط موسى ذلك.
كذلك كان علي بن أبي طالب عليه السلام لم يقتل إلا من كان قتله لله
عز وجل رضى، ولأهل الجهالة من الناس سخطا.
اجلس حتى أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وآله تزوج زينب بنت
جحش فأولم، فكانت وليمته الحيس، وكان يدعو عشرة (1)، فكانوا إذا أصابوا
طعام رسول الله صلى الله عليه وآله استأنسوا إلى حديثه واستغنموا النظر إلى
وجهه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يشتهي أن يخفوا عنه (2) فيخلو له
المنزل، لأنه حديث عهد بعرس، وكان يكره أذى المؤمنين، فأنزل الله
عز وجل فيه قرآنا أباد (3) للمؤمنين، وذلك قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا
بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم
فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي
النبي يستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق " فلما نزلت هذه الآية كان

(1) في العلل: " عشرة عشرة ".
(2) في العلل: " يخففوا ".
(3) في العلل: " أدبا "
44

الناس إذا أصابوا طعام نبيهم صلى الله عليه وآله لم يلبثوا أن يخرجوا.
قال: فلبث رسول الله صلى الله عليه وآله سبعة أيام ولياليهن عند زينب
بنت جحش، ثم تحول إلى بيت أم سلمة بنت أبي أمية، وكان ليلتها
وصبيحة يومها من رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: فلما تعالى النهار انتهى علي عليه السلام إلى الباب فدقه دقا خفيفا
له، عرف رسول الله صلى الله عليه وآله دقه وأنكرته أم سلمة، فقال: يا أم
سلمة قومي فافتحي له الباب، فقالت: يا رسول الله من هذا الذي يبلغ من
خطره أن أقوم له فافتح له الباب وقد نزل فينا بالأمس ما قد نزل من قول
الله عز وجل " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب "؟ فمن هذا
الذي بلغ من خطره أن أستقبله بمحاسني ومعاصمي؟.
قال: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله كهيئة المغضب: " من يطع
الرسول فقد أطاع الله " قومي فافتحي له الباب! فإن بالباب رجلا ليس
بالخرق ولا بالنزق ولا بالعجول في أمره، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله،
وليس بفاتح الباب حتى يتوارى عنه الوطأ.
فقامت أم سلمة وهي لا تدري من بالباب، غير أنها قد حفظت النعت
والمدح، فمشت نحو الباب وهي تقول: بخ بخ لرجل يحب الله ورسوله ويحبه
الله ورسوله! ففتحت له الباب. قال: فأمسك بعضادتي الباب ولم يزل قائما
حتى خفي عنه الوطأ ودخلت أم سلمة خدرها، ففتح الباب ودخل، فسلم
على رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أم
سلمة أتعرفينه؟ قالت: نعم وهنيئا له! هذا علي بن أبي طالب، فقال:
صدقت يا أم سلمة، هذا علي بن أبي طالب لحمه من لحمي ودمه من دمي،
وهو مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.
يا أم سلمة إسمعي واشهدي: هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وسيد
45

الوصيين، وهو عيبة علمي وبابي الذي أوتي منه، وهو الوصي بعدي على
الأموات من أهل بيتي والخليفة على الأحياء من أمتي، وأخي في الدنيا
والآخرة، وهو معي في السنام الأعلى. اشهدي يا أم سلمة واحفظي: إنه يقاتل
الناكثين والقاسطين والمارقين.
فقال الشامي: فرجت عني يا عبد الله، وأشهد أن علي بن أبي طالب
مولاي ومولى كل مسلم (1).
(322)
عمار وعبيد الله بن عمر
قال نصر: ثم نادى عمار عبيد الله بن عمر - وذلك قبل مقتله - فقال:
يا ابن عمر صرعك الله! بعت دينك بالدنيا من عدو الله وعدو الإسلام. قال
كلا! ولكن أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم.
قال: كلا! أشهد على علمي فيك أنك أصبحت لا تطلب بشئ من
فعلك وجه الله، وأنك إن لم تقتل اليوم فستموت غدا، فانظر إذا أعطى الله
العباد على نياتهم ما نيتك؟.
ثم قال عمار: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف
بنفسي في هذا البحر لفعلت، اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن
أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى يخرج من ظهري لفعلت، اللهم
وإني أعلم مما أعلمتني أني لا أعمل اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد
هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم اليوم عملا أرضى لك منه لفعلته (2).

(1) البحار: ج 8 ص 431، ط الكمباني عن علل الشرايع: ص 64.
(2) وقعة صفين لنصر: ص 320. والبحار: ج 8 ص 457 عنه ط الكمباني. وقاموس الرجال: ج 6 ص
225
46

عمار مع رجل
عن أسماء بن الحكم الفزاري، قال: كنا بصفين مع علي بن أبي طالب تحت
راية عمار بن ياسر ارتفاع الضحى استظللنا ببرد أحمر، إذ أقبل رجل يستقر
الصف حتى انتهى إلينا، فقال: أيكم عمار بن ياسر؟ فقال عمار بن ياسر:
هذا عمار، قال: أبو اليقظان؟ قال: نعم.
قال: إن لي حاجة إليك، فأنطق بها علانية أو سرا؟ قال: اختر لنفسك
أي ذلك شئت. قال: لا بل علانية، قال: فانطق، قال: إني خرجت من
أهلي مستبصرا في الحق الذي نحن عليه، لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم
وأنهم على الباطل، فلم أزل على ذلك مستبصرا حتى كان ليلتي هذه صباح
يومنا هذا، فتقدم منادينا، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ونادى
بالصلاة، فنادى مناديهم بمثل ذلك، ثم أقيمت الصلاة، فصلينا صلاة
واحدة، ودعونا دعوة واحدة، وتلونا كتابا واحدا، ورسولنا واحد، فأدركني
الشك في ليلتي هذه، فبت بليلة لا يعلمها إلا الله! حتى أصبحت. فأتيت
أمير المؤمنين فذكرت ذلك له، فقال: هل لقيت عمار بن ياسر؟ قلت: لا،
قال: فالقه فانظر ما يقول لك فاتبعه فجئتك لذلك.
قال له عمار: هل تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة (لمقابلتي خ ل
المقابلتي خ ل) فإنها راية عمرو بن العاص، قاتلتها مع رسول الله صلى الله
عليه وآله ثلاث مرات، وهذه الرابعة ما هي بخيرهن ولا أبرهن، بل هي
شرهن وأفجرهن، أشهدت بدرا واحدا وحنينا أو شهدها لك أب فيخبرك
عنها؟ قال: لا. قال: فإن مراكزنا على مراكز رايات رسول الله صلى الله
عليه وآله يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين، وإن هؤلاء على مراكز رايات
47

المشركين من الأحزاب، هل ترى هذا العسكر ومن فيه؟ فوالله لوددت أن
جميع من أقبل مع معاوية ممن يريد قتالنا مفارقا للذي نحن عليه كانوا خلقا
واحدا فقطعته وذبحته! والله لدماؤهم جميعا أحل من دم عصفور، أفترى دم
عصفور حراما؟ قال: لا بل حلال، قال: فإنهم كذلك حلال دماؤهم،
أتراني بينت لك؟ قال: قد بينت لي، قال: فاختر أي ذلك أحببت.
قال: فانصرف الرجل. ثم دعاه عمار بن ياسر، فقال: أما أنهم
سيضربوننا بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم، فيقولون: لو لم يكونوا على
حق ما ظهروا علينا، والله ما هم من الحق على ما يقذي عين ذباب، والله
لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا مسعفات هجر لعرفت أنا على حق وهم على
باطل، وأيم الله لا يكون سلما سالما أبدا حتى يبوء أحد الفريقين على
أنفسهم بأنهم كانوا كافرين، وحتى يشهدوا على الفريق الآخر بأنهم على
الحق وأن قتلاهم في الجنة وموتاهم، ولا ينصرم أيام الدنيا حتى يشهدوا بأن
موتاهم وقتلاهم في الجنة، وأن موتى أعدائهم وقتلاهم في النار وكان
أحياؤهم على الباطل (1).
(324)
عمار مع ذي الكلاع
... فقال أبو نوح: فكنت في الخيل يوم صفين في خيل علي عليه السلام
وهو واقف بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم من أفناء قحطان، وإذا أنا
برجل من أهل الشام يقول: من دل على الحميري أبي نوح؟ فقلنا: هذا
الحميري فأيهم تريد؟ قال: أريد الكلاعي أبا نوح.

(1) وقعة صفين: ص 321. والبحار: ج 8 ص 457 ط الكمباني عنه. وسيأتي برواية أخرى عن ابن أبي
الحديد ص 213
48

قال: قلت: قد وجدته، فمن أنت؟ قال: أنا ذو الكلاع سر إلي. فقلت
له: معاذ الله! أن أسير إليك إلا في كتيبة. قال ذو الكلاع: [بلى] فسر فلك
ذمة الله وذمة رسول وذمة ذي الكلاع حتى ترجع إلى خيلك، فإنما أريد أن
أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه، فسر دون خيلك حتى أسير إليك. فسار
أبو نوح وسار ذو الكلاع حتى التقيا.
فقال ذو الكلاع: إنما دعوتك أحدثك حديثا حدثناه عمرو بن العاص
[قديما] في إمارة عمر بن الخطاب. قال أبو نوح: وما هو؟ قال ذو الكلاع:
حدثنا عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " يلتقي أهل
الشام وأهل العراق، وفي إحدى الكتيبتين الحق وإمام الهدى ومعه عمار بن
ياسر " قال أبو نوح: لعمر الله إنه لفينا! قال: أجاد هو في قتالنا؟ قال أبو
نوح: نعم ورب الكعبة لهو أشد على قتالكم مني! ولوددت أنكم خلق واحد
فذبحته، وبدأت بك قبلهم وأنت ابن عمي! قال ذو الكلاع: ويلك! علام
تتمنى ذلك منا؟ والله ما قطعتك فيما بيني وبينك، وإن رحمك لقريبة
وما يسرني أن أقتلك. قال أبو نوح: إن الله قطع بالإسلام أرحاما قريبة
ووصل به أرحاما متباعدة، وإني لقاتلك أنت وأصحابك! ونحن على الحق
وأنتم على الباطل مقيمون مع أئمة الكفر ورؤوس الأحزاب.
فقال له ذو الكلاع: [فهل تستطيع أن تأتي معي في صف أهل الشام
ف‍] أنا جار لك من ذلك ألا تقتل ولا تسلب ولا تكره على بيعة ولا تحبس
عن جندك، وإنما هي كلمة تبلغها عمرو بن العاص، لعل الله أن يصلح
بذلك بين هذين الجندين ويضع الحرب والسلاح.
فقال أبو نوح: إني أخاف غدراتك وغدرات أصحابك. فقال
ذو الكلاع: أنا لك بما قلت زعيم. فقال أبو نوح: اللهم إنك ترى ما أعطاني
ذو الكلاع، وأنت تعلم ما في نفسي، فاعصمني واختر لي وانصرني وادفع عني
49

ثم سار مع ذي الكلاع حتى عمرو بن العاص، وهو عند معاوية وحوله
الناس، وعبد الله بن عمرو يحرض الناس على الحرب، فلما وقفا على القوم،
قال ذو الكلاع لعمرو: يا أبا عبد الله هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق
يخبرك عن عمار بن ياسر لا يكذبك؟ قال عمرو: ومن هو؟ قال: ابن عمي
هذا وهو من أهل الكوفة. فقال عمرو: إني لأرى عليك سيماء أبي تراب.
قال أبو نوح: علي سيماء محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه، وعليك سيماء أبي
جهل وسيماء فرعون.
فقام أبو الأعور فسل سيفه، ثم قال: لا أرى هذا الكذاب اللئيم يشاتمنا
بين أظهرنا وعليه سيماء أبي تراب! فقال ذو الكلاع: أقسم بالله لئن بسطت
يدك إليه لأخطمن أنفك بالسيف! ابن عمي وجاري عقدت له بذمتي
وجئت به إليكما ليخبركما عما تماريتم فيه.
قال له عمرو بن العاص: أذكرك بالله يا أبا نوح إلا ما صدقتنا ولم تكذبنا
أفيكم عمار بن ياسر؟ فقال له أبو نوح: ما أنا بمخبرك عنه حتى تخبرني لم
تسألني عنه؟ فإنا معنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله عدة غيره
وكلهم جاد في قتالكم! فقال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول: " إن عمارا تقتله الفئة الباغية وإنه ليس ينبغي لعمار أن يفارق الحق و
أن تأكل النار منه شيئا " فقال أبو نوح: لا إله إلا الله والله أكبر! والله إنه لفينا
جاد على قتالكم. فقال عمرو: والله إنه لجاد على قتالنا؟ قال: نعم والله الذي
لا إله إلا هو [و] لقد حدثني يوم الجمل إنا سنظهر عليهم، ولقد حدثني أمس أن
لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على حق وأنهم على باطل،
و [ل‍] - كانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال له عمرو: فهل تستطيع أن
تجمع بيني وبينه؟ قال: نعم.
فلما أراد أن يبلغه أصحابه ركب عمرو بن العاص وابناه وعتبة بن أبي
50

سفيان وذو الكلاع وأبو الأعور السلمي وحوشب والوليد بن [عقبة بن] أبي
معيط، فانطلقوا حتى أتوا خيولهم، وسار أبو نوح ومعه شرحبيل بن ذي الكلاع
حتى انتهيا إلى أصحابه.
فذهب أبو نوح إلى عمار فوجده قاعدا مع أصحاب له منهم ابنا بديل
وهاشم والأشتر وجارية بن المثنى وخالد بن المعمر وعبد الله بن حجل وعبد الله
ابن العباس.
وقال أبو نوح: إنه دعاني ذو الكلاع - وهو ذو رحم - فقال: أخبرني عن عمار
ابن ياسر أفيكم هو؟ قلت: لم تسأل؟ قال: أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر
ابن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " يلتقي أهل الشام
وأهل العراق، وعمار في أهل الحق تقتله الفئة الباغية " فقلت: إن عمارا فينا،
فسألني أجاد هو في قتالنا؟ فقلت: نعم والله أجد مني، ولوددت أنكم خلق
واحد فذبحتكم وبدأت بك يا ذا الكلاع! فضحك عمار وقال: هل يسرك
ذلك؟ قال: قلت: نعم!.
قال أبو نوح: أخبرني [الساعة] عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وآله يقول: " عمار تقتله الفئة الباغية " قال عمار: أقررته بذلك؟
قال: نعم أقررته فأقر، فقال عمار: صدق وليضرنه ما سمع ولا ينفعه!.
ثم قال أبو نوح لعمار - ونحن اثنا عشر رجلا -: فإنه يريد أن يلقاك. فقال
عمار لأصحابه: اركبوا، فركبوا وساروا، ثم بعثنا إليهم فارسا من عبد القيس
يسمى عوف بن بشر، فذهب حتى كان قريبا من القوم، ثم نادى: أين عمرو
ابن العاص؟ قالوا: هاهنا، فأخبره بمكان عمار وخيله. قال عمرو: قل له فليسر
إلينا. قال عوف: إنه يخاف غدراتك، فقال له عمرو: ما أجرأك علي وأنت
على هذه الحال! فقال له عوف: جرأني عليك بصيرتي فيك وفي أصحابك، فإن
شئت نابذتك [الآن] على سواء، وإن شئت التقيت أنت وخصماؤك، وأنت
51

كنت غادرا. فقال له عمرو: ألا أبعث إليك بفارس يواقفك؟ فقال له عوف:
ما أنا بالمستوحش فابعث بأشقى أصحابك! قال عمرو: فأيكم يسر إليه؟ فسار
إليه أبو الأعور.
فلما تواقفا تعارفا، فقال عوف لأبي الأعور: إني لأعرف الجسد وأنكر
القلب، إني لا أراك مؤمنا وإنك لمن أهل النار. فقال أبو الأعور: لقد أعطيت
لسانا يكبك الله به على وجهك في نار جهنم. فقال عوف: كلا! والله إني
أتكلم بالحق، وتتكلم أنت بالباطل، وإني أدعوك إلى الهدى وأقاتل أهل
الضلالة وأفر من النار، وأنت بنعمة الله ضال تنطق بالكذب وتقاتل على
ضلالة وتشتري العقاب بالمغفرة والضلالة بالهدى، انظروا إلى وجوهنا
ووجوهكم وسيمانا وسيماكم واسمعوا إلى دعوتنا ودعوتكم فليس أحد منا إلا
[و] هو أولى بمحمد صلى الله عليه وآله وأقرب إليه قرابة منكم. قال له أبو
الأعور: [لقد] أكثرت الكلام وذهب النهار، ويحك! ادع أصحابك وأدعو
أصحابي فأنا جار لك حتى تأتي موقفك أنت فيه الساعة، فإني لست أبدأ
بغدر ولا أجترئ على غدر حتى تأتي أنت وأصحابك وحتى تقفوا، فإذا علمت
كم هم جئت من أصحابي بعددهم، فإن شاء أصحابك فليقلوا، وإن شاؤوا
فليكثروا.
فسار أبو الأعور في مائة فارس حتى إذا كان حيث كنا بالمرة الأولى وقفوا،
وسار في عشرة بعمرو. وسار عمار في اثني عشر فارسا حتى إذا اختلفت أعناق
الخيل، خيل عمرو وخيل عمار. ورجع عوف بن بشر في خيله وفيها الأشعث
بن قيس، ونزل عمار والذين معه فاحتبوا بحمائل سيوفهم. فتشهد عمرو بن
العاص.
فقال له عمار بن ياسر: اسكت (بعد هذا الكلام ليس عند ابن عقبة إلى
52

موضع العلامة) (1) فقد تركتها في حياة محمد صلى الله عليه وآله وبعد موته ونحن
أحق بها منك، فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك، وإن شئت كان
خطبة فنحن أعلم بفصل الخطاب منك، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل
بيننا وبينك وتكفرك قبل القيام، وتشهد بها على نفسك، ولا تستطيع أن تكذبني
[فيها].
قال عمرو: يا أبا اليقظان ليس لهذا جئت إنما جئت لأني رأيتك أطوع
أهل هذا العسكر فيهم، أذكرك الله إلا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم
وحرضت على ذلك، فعلام تقاتلنا؟ أو لسنا نعبد إلها واحدا ونصلي [إلى]
قبلتكم وندعو دعوتكم ونقرأ كتابكم ونؤمن برسولكم؟.
قال عمار: الحمد لله الذي أخرجها من فيك، إنها لي ولأصحابي: القبلة
و الدين وعبادة الرحمن والنبي صلى الله عليه وآله والكتاب من دونك ودون
أصحابك، الحمد لله الذي قررك لنا بذلك دونك ودون أصحابك، وجعلك
ضالا مضلا لا تعلم هاد أنت أم ضال، وجعلك أعمى، وسأخبرك فعلام
قاتلتك عليه أنت وأصحابك:
أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله أن أقاتل الناكثين وقد فعلت، وأمرني
أن أقاتل القاسطين فأنتم هم، وأما المارقون فما أدري أدركهم أم لا، أيها الأبتر!
ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي: " من كنت مولاه
فعلي مولاه اللهم والي من والاه وعاد من عاداه " وأنا مولى الله و رسوله وعلي
بعده وليس لك مولى.
قال له عمرو: لم تشتمني يا أبا اليقظان و لست أشتمك؟.
قال عمار: وبم تشتمني؟ أتستطيع أن تقول: إني عصيت الله و رسوله يوما قط؟.

(1) يأتي موضع العلامة بعد ذلك ص 54
53

قال له عمرو: إن فيك لمسبات سوى ذلك.
فقال عمار: إن الكريم من أكرمه الله، كنت وضيعا فرفعني الله، ومملوكا
فأعتقني الله، وضعيفا فقواني الله، وفقيرا فأغناني الله.
وقال له عمرو: فما ترى في قتل عثمان؟ قال: فتح لكم باب سوء. قال
عمرو: فعلي قتله؟ قال عمار: بل الله رب علي قتله و علي معه. قال عمرو:
أكنت فيمن قتله (من هنا عند ابن عقبة) قال: كنت مع من قتله، وأنا اليوم
أقاتل معهم.
قال عمرو: فلم قتلتموه؟ قال عمار: أراد أن يغير ديننا فقتلناه. فقال
عمرو: ألا تسمعون؟ قد اعترف بقتل عثمان. قال عمار: وقد قالها فرعون
قبلك لقومه: " ألا تستمعون " فقام أهل الشام ولهم زجل، فركبوا خيولهم
فرجعوا [وقام عمار وأصحابه فركبوا خيولهم ورجعوا] فبلغ معاوية ما كان بينهم
فقال: هلكت العرب! أن أخذتهم خفة العبد الأسود، يعني عمار بن ياسر (1).
(325)
محمد بن أبي حذيفة مع معاوية
حدثني رجل من أهل الشام، قال: كان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن
ربيعة مع علي بن أبي طالب عليه السلام ومن أنصاره وأشياعه - وكان ابن خال
معاوية وكان رجلا من خيار المسلمين - فلما توفي علي عليه السلام أخذه
معاوية وأراد قتله، فحبسه في السجن دهرا.
ثم قال معاوية ذات يوم: ألا نرسل إلى هذا السفيه محمد بن أبي حذيفة؟
فنبكته ونخبره بضلاله، ونأمره أن يقوم فيسب عليا قالوا: نعم

(1) وقعت صفين لنصر: ص 333 - 339. والبحار: ج 8 ص 488 - 489 ط الكمباني. وشرح النهج لابن
أبي الحديد: ج 9 ص 16. وبهج الصباغة: ج 6 ص 5. وسيأتي عن فتوح ابن أعثم، في ص 160
54

فبعث إليه معاوية وأخرجه من السجن.
فقال له معاوية: ألم يأن لك أن تبصر ما كنت عليه من الضلالة بنصرتك
علي بن أبي طالب الكذاب؟ ألم تعلم أن عثمان قتل مظلوما؟ وأن عائشة
وطلحة والزبير خرجوا يطلبون بدمه، وأن عليا هو الذي دس في قتله ونحن اليوم
نطلب بدمه.
قال محمد بن أبي حذيفة: إنك لتعلم أني أمس القوم بك رحما وأعرفهم
بك. قال: أجل. قال: فوالله الذي لا إله غيره ما أعلم أحدا شرك في دم عثمان
وألب الناس عليه غيرك! لما استعملك ومن كان مثلك، فسأله المهاجرون
و الأنصار أن يعزلك، فأبى، ففعلوا به ما بلغك، ووالله ما أحد اشترك في دمه
بدءا وأخيرا إلا طلحة والزبير وعائشة، فهم الذين شهدوا عليه بالعظيمة وألبوا
عليه الناس، وشركهم في ذلك عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار والأنصار
جميعا. قال: قد كان ذلك.
قال: فوالله إني لأشهد أنك منذ عرفتك في الجاهلية والإسلام لعلى خلق
واحد، ما زاد فيك الإسلام قليلا ولا كثيرا، وإن علامة ذلك فيك لبينة، تلومني
على حب علي عليه السلام خرج مع علي عليه السلام كل صوام قوام مهاجري
وأنصاري، وخرج معك أبناء المنافقين والطلقاء والعتقاء، خدعتهم عن دينهم
وخدعوك عن دنياك، والله ما خفي عليك ما صنعت، وما خفي عليهم ما صنعوا،
إذ أحلوا أنفسهم لسخط الله في طاعتك، والله لا أزال أحب عليا لله ولرسوله،
وأبغضك في الله ورسوله أبدا ما بقيت.
قال معاوية: وإني أراك بعد على ضلالك، ردوه! فمات في السجن (1).

(1) قاموس الرجال: ج 7 ص 500. والبحار: ج 8 ص 530 ط الكمباني، كلاهما عن الكشي:
ص 70 - 72
55

(326)
صعصعة مع معاوية
عن عاصم بن أبي النجود، عمن شهد ذلك: أن معاوية حين قدم الكوفة
دخل عليه رجال من أصحاب علي عليه السلام وكان الحسن عليه السلام قد
أخذ الأمان لرجال منهم مسمين بأسمائهم وأسماء آبائهم، وكان منهم
صعصعة.
فلما دخل عليه صعصعة قال معاوية لصعصعة: أما والله! إني كنت
لأبغض أن تدخل في أماني. قال: وأنا والله أبغض أن أسميك بهذا الاسم،
ثم سلم عليه بالخلافة.
قال: فقال معاوية: إن كنت صادقا فاصعد المنبر فالعن عليا.
قال: فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس؟ أتيتكم
من عند رجل قدم شره وأخر خيره، وإنه أمرني أن ألعن عليا! فالعنوه لعنه
الله! فضج أهل المسجد بآمين.
فلما رجع إليه فأخبره بما قال. قال: لا والله ما عنيت غيري، ارجع حتى
تسميه باسمه. فرجع وصعد المنبر ثم قال: أيها الناس! إن أمير المؤمنين أمرني
أن ألعن علي بن أبي طالب! فالعنوا من لعن علي بن أبي طالب! قال:
فضجوا بآمين.
قال: فلما خبر معاوية، قال: لا والله ما عني غيري، أخرجوه لا يساكنني
في بلد، فأخرجوه (1).

(1) البحار: ج 8 ص 531 ط الكمباني عن الكشف. وقاموس الرجال: ج 5 ص 120. والكشي: ص
69. والصراط المستقيم: ج 3 ص 72 عنه
56

(327)
شيخ مع معاوية
قال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: كنت أنا ومعاوية بن
أبي سفيان بالشام، فبينا نحن ذات يوم إذ نظرنا إلى شيخ وهو مقبل من
صدر البرية من ناحية العراق. فقال معاوية: عرجوا بنا إلى هذا الشيخ
لنسأله من أين أقبل وإلى أين يريد؟ وكان مع معاوية أبو الأعور السلمي
وولدا معاوية خالد ويزيد وعمرو بن العاص.
قال: فعرجنا إليه. فقال له معاوية: من أين أقبلت يا شيخ وإلى أين
تريد؟ فلم يجبه الشيخ. فقال عمرو بن العاص: لم لا تجب أمير المؤمنين؟
فقال الشيخ: إن الله جعل التحية غير هذه. فقال معاوية: صدقت يا شيخ
وأخطأنا وأحسنت وأسأنا، السلام عليك يا شيخ فقال: وعليك السلام. فقال
معاوية: ما اسمك يا شيخ؟ فقال: اسمي جبل.
وكان ذلك الشيخ طاعنا في السن، بيده شئ من الحديد ووسطه مشدود
بشريط من ليف المقل، وفي رجليه نعلان من ليف المقل وعليه كساء قد
سقط لحامه وبقي سداته، وقد بانت شراسيف حذبه، وقد غطت حواجبه
على عينيه.
فقال معاوية: يا شيخ من أين أقبلت وإلى أين تريد؟ قال الشيخ: أتيت
من العراق أريد بيت المقدس. قال معاوية: كيف تركت العراق؟ قال:
على الخير والبركة والنفاق. قال: لعلك أتيت من الكوفة من الغري. قال
الشيخ: وما الغري؟ قال معاوية: الذي فيه أبو تراب. قال الشيخ: من تعني
بذلك ومن أبو تراب؟ قال: ابن أبي طالب. قال له الشيخ: أرغم الله
أنفك، ورض الله فاك، ولعن الله أمك وأباك، ولم لا تقول: الإمام العادل،
57

والغيث الهاطل، يعسوب الدين، وقاتل المشركين والقاسطين والمارقين، سيف
الله المسلول، ابن عم الرسول، وزوج البتول، تاج الفقهاء، وكنز الفقراء،
وخامس أهل العباء والليث الغالب، أبو الحسنين علي بن أبي طالب
عليه الصلاة والسلام.
فعندها قال معاوية: يا شيخ! إني أرى لحمك ودمك قد خالط لحم
علي بن أبي طالب عليه السلام ودمه حتى لو مات ما أنت فاعل؟.
قال: لا أتهم في فقده ربي واجلل في بعده حزبي، واعلم أن الله لا يميت
سيدي وإمامي حتى يجعل من ولده حجة قائمة إلى يوم القيامة.
فقال: يا شيخ! هل تركت من بعدك أمرا تفتخر به؟ قال: تركت
الفرس الأشقر والحجر والمدر والمنهاج لمن أراد المعراج.
قال عمرو بن العاص: لعله لا يعرفك يا أمير المؤمنين! فسأله معاوية فقال
له: يا شيخ أتعرفني؟ قال الشيخ: ومن أنت؟ قال: أنا معاوية بن أبي سفيان،
أنا الشجرة الزكية والفروع العلية سيد بني أمية.
فقال له الشيخ: بل أنت اللعين على لسان نبيه وفي كتابه المبين، إن
الله قال: " والشجرة الملعونة في القرآن " والشجرة الخبيثة والعروق المجتثة
الخسيسة الذي ظلم نفسه وربه، وقال فيه نبيه: " الخلافة محرمة على أبي
سفيان الزنيم بن الزنيم ابن آكلة الأكباد الفاشي ظلمه في العباد ".
فعندها اغتاظ معاوية وحنق عليه فرد يده إلى قائم سيفه وهم بقتل
الشيخ، ثم قال: لولا أن العفو حسن لأخذت رأسك، ثم قال: أرأيت لو
كنت فاعلا ذلك؟ قال الشيخ: إذا والله أفوز بالسعادة، وتفوز أنت
بالشقاوة، وقد قتل من هو أشر منك من هو خير مني، وعثمان شر منك.
قال معاوية: يا شيخ هل كنت حاضرا يوم الدار؟ قال: وما يوم الدار؟
قال معاوية: يوم قتل علي عثمان. فقال الشيخ: تالله ما قتله، ولو فعل ذلك
58

لعلاه بأسياف حداد وسواعد شداد وكان يكون في ذلك مطيعا لله ولرسوله.
قال معاوية: يا شيخ هل حضرت يوم صفين؟ وما غبت عنها. قال:
كيف كنت فيها؟ قال الشيخ: أيتمت منك أطفالا، وأرملت منك نسوانا،
وكنت كالليث أضرب بالسيف تارة وبالرمح أخرى. قال معاوية: هل
ضربتني بشي، قط؟ قال الشيخ: ضربتك بثلاثة وسبعين سهما، فأنا
صاحب السهمين اللذين وقعا في بردتك، وصاحب السهمين اللذين وقعا في
مسجدك، وصاحب السهمين اللذين وقعا في عضدك، ولو كشفت الآن
لأريتك مكانهما.
فقال معاوية: يا شيخ هل حضرت يوم الجمل؟ قال: وما يوم الجمل؟
قال معاوية: يوم قاتلت عائشة عليا عليه السلام، قال: وما غبت عنها.
قال معاوية: يا شيخ الحق مع علي أم مع عائشة؟ قال الشيخ: بل مع
علي. قال معاوية: ألم يقل الله: " وأزواجه أمهاتهم "؟ وقال النبي صلى
الله عليه وآله: " أم المؤمنين "؟ قال الشيخ: ألم يقل الله تعالى: " يا نساء
النبي.... وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى "، وقال النبي
صلى الله عليه وآله: " أنت يا علي خليفتي على نسواني وأهلي وطلاقهن
بيدك " أفترى في ذلك معها حق حتى سفكت دماء المسلمين وأذهبت
أموالهم؟ فلعنة الله على القوم الظالمين، وهما (1) كامرأة نوح في النار ولبئس
مثوى الكافرين.
قال معاوية: يا شيخ ما جعلت لنا شيئا نحتج به عليك، فمتى ظلمت
الأمة وطفيت عنهم قناديل الرحمة؟ قال: لما صرت أميرها وعمرو بن
العاص وزيرها. قال: فاستلقى معاوية على قفاه من الضحك وهو على ظهر

(1) كذا في البحار أيضا والظاهر أن الصحيح: " وهي "
59

فرسه فقال: يا شيخ هل من شئ نقطع به لسانك؟ قال: وما ذلك؟ قال:
عشرون ناقة حمراء محملة عسلا وبرا وسمنا، وعشرة آلاف درهم تنفقها على
عيالك وتستعين به على زمانك. قال الشيخ: لست أقبلها! قال: ولم ذلك؟
قال الشيخ: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " درهم
حلال خير من ألف درهم حرام "، قال معاوية: لأن أقمت في دمشق
لأضربن عنقك. قال: ما أنا مقيم معك فيها. قال معاوية: ولم ذلك؟ قال
الشيخ: لأن الله تعالى يقول: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار
وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون " وأنت أول ظالم وآخر ظالم.
ثم توجه الشيخ إلى بيت المقدس (1).
(328)
مجفن بن أبي مجفن ومعاوية
عن الموفقيات للزبير بن بكار الزبيري، حدث عن رجاله، قال: دخل
مجفن بن أبي مجفن (2) الضبي على معاوية، فقال: يا معاوية جئتك من عند
ألام العرب وأعيى العرب وأجبن العرب وأبخل العرب! قال: ومن هو يا أخا
بني تميم؟ قال: علي بن أبي طالب قال معاوية: اسمعوا يا أهل الشام ما يقول
أخوكم العراقي! فابتدره أيهم ينزله عليه ويكرمه، فلما تصدع الناس عنه قال
له: كيف قلت؟ فأعاد عليه.
فقال له: ويحك يا جاهل! كيف يكون ألام العرب وأبوه أبو طالب،

(1) البحار: ج 8 ص 531 - 532 ط الكمباني عن الفضائل.
(2) كذا في البحار، وفي ابن أبي الحديد: ج 1 ص 22 - 34 محفن بن أبي محفن و ج 6 ص 279:
محقن - ثم أشار إلى القصة.
(3) كذا في البحار أيضا والصحيح " أخوكم "
60

وجده عبد المطلب، وامرأته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله؟! وأنى
يكون أبخل العرب؟ فوالله لو كان له بيتان بيت تبن وبيت تبر لأنفد تبره
قبل تبنه. وأنى يكون أجبن العرب؟ ووالله ما التقت فئتان قط إلا كان
فارسهم غير مدافع. وأنى يكون أعيى العرب؟ فوالله ما سن البلاغة لقريش
غيره، ولما قامت أم مجفن عنه ألام وأبخل وأجبن وأعيى لبظر أمه، فوالله لولا
ما تعلم لضربت الذي فيه عيناك، فإياك عليك لعنة الله والعود إلى مثل
هذا؟ قال: والله أنت أظلم مني فعلى أي شئ قاتلته وهذا محله؟ قال: على
خاتمي هذا حتى يجوز به أمري. قال: فحسبك ذلك عوضا من سخط الله
وأليم عذابه! قال: لا يا ابن مجفن، ولكني أعرف من الله ما جهلت، حيث
يقول: " ورحمتي وسعت كل شئ " (1).
(329)
ابن عباس ومعاوية
جاء الخبر إلى معاوية بموت الحسن بن علي عليهما السلام فسجد شكرا لله
تعالى وبان السرور في وجهه - في حديث طويل ذكره الزبير، ذكرت منه
موضع الحاجة إليه - وأذن للناس، وأذن لابن عباس بعدهم، فدخل
فاستدناه، وكان عرف بسجدته، فقال: أتدري ما حدث بأهلك؟ قال: لا.
قال: فإن أبا محمد رحمه الله توفي، فعظم الله أجرك! فقال: إنا لله وإنا إليه
راجعون! عند الله نحتسب المصيبة برسول الله صلى الله عليه وآله، وعند الله
نحتسب مصيبتنا بالحسن رحمه الله، إنه قد بلغتني سجدتك، فلا أظن ذلك إلا
لوفاته، والله لا يسد جسده حفرتك ولا يزيد انقضاء أجله في عمرك، ولطال

(1) البحار: ج 8 ص 533 ط الكمباني عن كشف. وفي الإمامة والسياسة: ج 2 ص 101 وبهج الصباغة
ج 10 ص 268 نقلوه عن عبد الله بن أبي محجن، وكذا ج 6 ص 133 و ج 4 ص 686
61

ما رزينا بأعظم من الحسن ثم جبر الله.
قال معاوية: كم كان أتى له؟ قال: شأنه أعظم من أن يجهل مولده.
قال: أحسبه ترك صبيته صغارا؟ قال: كلنا كان صغيرا فكبر. ثم قال:
أصبحت سيد أهلك. قال: أما ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين بن علي
عليهما السلام فلا، ثم قام وعينه تدمع.
فقال معاوية: لله دره! ما هيجناه قط إلا وجدناه سيدا.
ودخل على معاوية بعد انقضاء العزاء. فقال: يا أبا العباس أما تدري
ما حدث في أهلك؟ قال: لا، قال: هلك أسامة بن زيد فعظم الله أجرك!
قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! رحم الله أسامة، وخرج.
فأتاه بعد أيام وقد عزم على محاققته فصلى في الجامع يوم الجمعة،
واجتمع الناس عليه يسألونه عن الحلال والحرام والفقه والتفسير وأحوال
الإسلام والجاهلية.
وافتقد معاوية الناس، فقيل: إنهم مشغولون بابن عباس، ولو شاء أن
يضربوا معه بمائة ألف سيف قبل الليل لفعل! فقال: نحن أظلم منه،
حبسناه عن أهله ومنعناه حاجته ونعينا إليه أحبته، فانطلقوا وادعوه.
فأتاه الحاجب فدعاه، فقال: إنا بني عبد مناف إذا حضرت الصلاة لم
نقم حتى نصلي، أصلي - إن شاء الله - وآتيه، فرجع.
وصلى العصر وأتاه: فقال: حاجتك؟ فما سأله حاجة إلا قضاها، وقال:
أقسمت عليك لما دخلت بيت المال فأخذت حاجتك. وإنما أراد أن يعرف
أهل الشام ميل ابن عباس إلى الدنيا، فعرف ما يريده فقال: إن ذلك ليس
لي ولا لك، فإن أذنت أن أعطي كل ذي حق حقه فعلت. قال: أقسمت
عليك إلا دخلت فأخذت حاجتك.
فدخل فأخذ برنس خز أحمر، يقال: إنه كان لأمير المؤمنين علي بن أبي
62

طالب عليه السلام ثم خرج، فقال: يا أمير المؤمنين بقيت لي حاجة. قال
ما هي؟ قال: علي بن أبي طالب قد عرفت فضله وسابقته وقرابته، وقد
كفاكه الموت، أحب أن لا يشتم على منابركم. قال: هيهات يا ابن عباس!
أليس فعل وفعل؟ فعدد ما بينه وبين علي عليه السلام، فقال ابن عباس:
أولى لك يا معاوية! والموعد القيامة، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون! وتوجه
إلى المدينة (1).
(330)
ابن عباس ومعاوية
مضى فيما مر (2) كلام لابن عباس مع معاوية في الخلافة، ولكن نورده
هنا برواية أخرى، لما بينهما من الاختلاف:
حدث الزبير عن رجاله عن ابن عباس: أن معاوية أقبل عليه وعلى بني
هاشم، فقال: إنكم تريدون أن تستحقوا الخلافة كما استحققتم النبوة ولا
يجتمعان لأحد، حجتكم في الخلافة شبهة على الناس، تقولون: نحن أهل بيت
النبي صلى الله عليه وآله فما بال خلافة النبي في غيرنا، وهذه شبهة، لأنها
تشبه الحق. فأما الخلافة: فتنقلب في أحياء قريش برضى العامة وشورى
الخاصة، فلم يقل الناس: ليت بني هاشم ولونا، ولو أن بني هاشم ولونا لكان
خيرا لنا في دنيانا وآخرتنا، فلاهم حيث اجتمعوا على غيركم تمنوكم، ولو
زهدتم فيها أمس لم تقاتلوا عليها اليوم؟ وأما ما زعمتم أن لكم ملكا هاشميا
ومهديا قائما، فالمهدي عيسى بن مريم عليه السلام، وهذا الأمر في أيدينا
حتى نسلمه إليه، ولعمري! لئن ملكتمونا ما رائحة عاد ولا صاعقة ثمود

(1) البحار: ج 8 ص 533 ط الكمباني عن الكشف عن الموفقيات. ج 1 ص 82 و 83.
(2) راجع ج 1 ص 83
63

فأهلك للقوم منكم لنا. ثم سكت.
فقال له عبد الله بن عباس رضي الله عنه: أما قولك: إنا نستحق
الخلافة بالنبوة، فإذا لم نستحقها بها، فبم؟
وأما قولك: إن الخلافة والنبوة لا تجتمعان لأحد، فأين قول الله تعالى:
" فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما "؟ فالكتاب
النبوة والحكمة السنة، والملك الخلافة، ونحن آل إبراهيم فينا وفيهم واحد
والسنة لنا ولهم جارية.
وأما قولك: إن حجتنا مشتبهة، فوالله لهي أضوأ من الشمس وأنور من
نور القمر، وإنك لتعلم ذلك، ولكن ثنى عطفك وصعرك، قتلنا أخاك
وجدك وأخاه وخالك، فلا تبك على أعظم حائلة وأرواح أهل النار،
ولا تغضبن لدماء أحلها الشرك ووضعها.
فأما ترك الناس أن يجتمعوا علينا، فما حرموا منا أعظم مما حرمنا
منهم.
وأما قولك: إنا زعمنا أن لنا ملكا مهديا، فالزعم في كتاب الله تعالى:
" زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا " وكل يشهد أن لنا ملكا ولو لم يبق من
الدنيا إلا يوم واحد لبعث الله لأمره منا من يملأ الأرض عدلا وقسطا كما
ملئت جورا وظلما، لا تملكون يوما واحدا إلا ملكنا يومين ولا شهرا إلا ملكنا
شهرين ولا حولا إلا ملكنا حولين.
وأما قولك: أن المهدي عيسى بن مريم، فإنما ينزل عيسى على الدجال
فإذا رآه يذوب كما تذوب الشحمة، والإمام منا رجل يصلي خلفه عيسى
ابن مريم، ولو شئت سميته.
64

وأما ريح عاد وصاعقة ثمود، فإنهما كانا عذابا، وملكنا والحمد لله
رحمة (1).
(331)
ذكوان مع معاوية
نقل الجنابذي في معالم العترة ما لا يخلو نقله هنا عن فائدة، قال:
عن ذكوان مولى معاوية، قال: قال معاوية: لا أعلمن أحدا سمى هذين
الغلامين ابني رسول الله إلا فعلت وفعلت، ولكن قولوا: ابني علي
عليه السلام.
قال ذكوان: فلما كان بعد ذلك أمرني أن أكتب بنيه في الشرف،
قال: فكتبت بنيه وبني بنيه وتركت بني بناته. ثم أتيته بالكتاب، فنظر فيه،
فقال: ويحك! لقد أغفلت كبر بني! فقلت: من؟ قال: أما بنو فلانة لابنته
بني؟ أما بنو فلانة بني لابنته؟ قال: قلت: الله! أيكون بنو بناتك بنيك
ولا يكون بنو فاطمة بني رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: ما لك قاتلك
الله! لا يسمعن هذا أحد منك (2).
(332)
محمد الحميري مع معاوية
اجتمع الطرماح وهشام المرادي ومحمد بن عبد الله الحميري عند معاوية
ابن أبي سفيان، فأخرج بدرة فوضعها بين يديه، ثم قال: يا معشر شعراء
العرب! قولوا قولكم في علي بن أبي طالب، ولا تقولوا إلا الحق وأنا نفي من
صخر بن حرب إن أعطيت هذه البدرة إلا من قال الحق في علي.

(1) البحار: ج 8. ص 534 ط الكمباني عن الكشف عن الموفقيات.
(2) البحار: ج 8 ص 534 ط الكمباني
65

فقام الطرماح، فتكلم وقال في علي ووقع فيه. فقال معاوية: اجلس
فقد عرف الله نيتك ورأى مكانك.
ثم قام هشام المرادي، فقال أيضا ووقع فيه. فقال معاوية: اجلس، فقد
عرف الله مكانكما.
فقال عمرو بن العاص لمحمد بن عبد الله الحميري - وكان خاصا به -:
تكلم ولا تقل إلا الحق، ثم قال: يا معاوية قد آليت ألا تعطي هذه البدرة
إلا قائل الحق في علي. قال: نعم أنا نفي من صخر بن حرب إن أعطيتها
منهم إلا من قال الحق في علي.
فقام محمد بن عبد الله، فتكلم، ثم قال:
بحق محمد قولوا بحق * فإن الإفك من شيم اللئام
أبعد محمد بأبي وأمي * رسول الله ذي الشرف الهمام
أليس علي أفضل خلق ربي؟ * وأشرف عند تحصيل الأنام؟
ولايته هي الإيمان حقا * فذرني من أباطيل الكلام
وطاعة ربنا فيها وفيها * شفاء للقلوب من السقام
علي إمامنا بأبي وأمي * أبو الحسن المطهر من حرام
إمام هدى أتاه الله علما * به عرف الحلال من الحرام
ولو أني قتلت النفس حبا * له ما كان فيها من اثام
يحل النار قوم يبغضوه * وإن صاموا وصلوا ألف عام
ولا والله ما تزكو صلاة * بغير ولاية العدل الإمام
أمير المؤمنين بك اعتمادي * وبالغرر الميامين اعتصامي
برئت من الذي عادى عليا * وحاربه من أولاد الحرام
تناسوا نصبه في يوم خم * من الباري ومن خير الأنام
66

برغم الأنف من يشنأ كلامي * علي فضله كالبحر طامي
وأبرأ من أناس أخروه * وكان هو المقدم بالمقام
علي هزم الأبطال لما * رأوا في كفه ماح الحسام
على آل النبي صلاة ربي * صلاة بالكمال وبالتمام
فقال معاوية: أنت أصدقهم قولا، فخذ هذه البدرة (1).
(333)
بنو هاشم ومعاوية
عن سليم أنه قال: حدثني عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال: كنت عند
معاوية ومعنا الحسن والحسين صلوات الله عليهما وعنده عبد الله بن عباس،
فالتفت إلي معاوية، فقال: يا عبد الله ما أشد تعظيمك للحسن والحسين!
وما هما بخير منك ولا أبوهما خير من أبيك، ولولا أن فاطمة بنت رسول الله صلى
الله عليه وآله لقلت ما أمك أسماء بنت عميس بدونها، فقلت: والله إنك لقليل
العلم بهما وبأبيهما وبأمهما، بل والله لهما خير مني وأبوهما خير من أبي وأمهما خير
من أمي، يا معاوية إنك لغافل عما سمعته أنا من رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول فيهما وفي أبيهما وأمهما، قد حفظته ووعيته ورويته.
قال: هات يا ابن جعفر! فوالله ما أنت بكذاب ولا متهم. فقلت: إنه أعظم
مما في نفسك. قال: وإن كان أعظم من أحد وحراء جميعا فلست أبالي إذا
قتل الله صاحبك وفرق جمعكم وصار الأمر في أهله، فحدثنا فما نبالي ما قلتم
ولا يضرنا ما عددتم.
قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسئل عن هذه الآية " وما جعلنا
الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن " فقال: إني

(1) البحار: ج 8 ص 534 ط الكمباني. وراجع فرائد السمطين: ج 1 ص 374 - 375
67

رأيت اثني عشر رجلا من أئمة الضلالة يصعدون منبري وينزلون، يردون أمتي
على أدبارهم القهقرى، فيهم رجلين من حيين من قريش مختلفين، وثلاثة من
بني أمية، وسبعة من ولد الحكم بن أبي العاص، إذا بلغوا خمسة عشر رجلا
جعلوا كتاب الله دخلا وعباد الله خولا. يا معاوية إني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله يقول على المنبر وأنا بين يديه وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد
وسعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام وهو
يقول: " ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم "؟ فقلنا: بلى يا رسول الله. فقال:
" أليس أزواجي أمهاتكم "؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: " من كنت مولاه فهذا
مولاه أولى به من نفسه - وضرب بيده على منكب علي عليه السلام - اللهم وال
من والاه وعاد من عاداه، أيها الناس! أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم
معي أمر وعلي من بعدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم معه أمر، ثم ابني
الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم معه أمر ".
ثم عاد فقال: " أيها الناس! إذا أنا استشهدت فعلي أولى بكم من
أنفسكم، فإذا استشهد علي فابني الحسن أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم، وإذا
استشهد الحسن فابني الحسين أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم، فإذا استشهد
الحسين فابني علي بن الحسين أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس لهم معه أمر - ثم أقبل
إلى علي فقال: يا علي إنك ستدركه فاقرأه مني السلام - فإذا استشهدوا فابني
محمد أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم - وستدركه أنت يا حسين فاقرأه مني السلام - ثم
يكون في عقب محمد رجال واحد بعد واحد، وليس منهم أحد إلا وهو أولى
بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس لهم معه أمر، كلهم هادون مهتدون ".
فقام علي بن أبي طالب وهو يبكي، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله!
أتقتل؟ قال: " نعم أهلك شهيدا بالسم، وتقتل أنت بالسيف وتخضب لحيتك
من دم رأسك، ويقتل ابني الحسن بالسم، ويقتل ابني الحسين بالسيف، يقتله
68

طاغي ابن طاغ ودعي ابن دعي.
فقال معاوية: يا ابن جعفر لقد تكلمت بعظيم! ولئن كان ما تقول حقا لقد
هلكت أمة محمد من المهاجرين والأنصار غيركم أهل البيت وأولياؤكم
وأنصاركم!.
فقلت: والله إن الذي قلت بحق سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله
قال معاوية: يا حسن يا حسين ويا ابن عباس ما يقول ابن جعفر؟. فقال ابن
عباس - ومعاوية بالمدينة أول سنة اجتمع عليه الناس بعد قتل علي
عليه السلام -: إن كنت لا تؤمن بالذي قال فأرسل إلى الذين سماهم
فاسألهم عن ذلك.
فأرسل معاوية إلى عمر بن أبي سلمة وإلى أسامة بن زيد، فسألهما، فشهدا
أن الذي قال ابن جعفر قد سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله كما
سمعه.
فقال معاوية: يا ابن جعفر قد سمعنا في الحسن والحسين وفي أبيهما، فما
سمعت في أمهما - ومعاوية كالمستهزئ والمنكر - فقلت: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله يقول: " ليس في جنة عدن منزل أشرف ولا أفضل ولا أقرب إلى
عرش ربي من منزلي، ومعي ثلاثة عشر من أهل بيتي: أولهما أخي علي،
وابنتي فاطمة وابناي الحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين، الذين أذهب الله
عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، هداة مهتدون، أنا المبلغ عن الله، وهم المبلغون
عني، وهم حجج الله على خلقه وشهداؤه في أرضه، وخزانه على علمه ومعادن
حكمه، من أطاعهم أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله، لا تبقى الأرض
طرفة عين إلا ببقائهم ولا تصلح إلا بهم، يخبرون الأمة بأمر دينهم حلالهم
وحرامهم، يدلونهم على رضا ربهم، وينهونهم عن سخطه بأمر واحد ونهي واحد،
ليس فيهم اختلاف ولا فرقة ولا تنازع، يأخذ آخرهم عن أولهم إملائي وخط
69

أخي علي بيده، يتوارثونه يوم القيامة أهل الأرض كلهم في غمرة وغفلة وتيهة
وحيرة غيرهم وغير شيعتهم وأوليائهم، لا يحتاجون إلى أحد من الأمة في شئ من
أمر دينهم والأمة تحتاج إليهم، هم الذين عنى الله في كتابه وقرن طاعتهم بطاعته
وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم ".
فأقبل معاوية على الحسن والحسين وابن عباس والفضل بن عباس وعمر
ابن أبي سلمة وأسامة بن زيد، فقال: كلكم على ما قال ابن جعفر؟ قالوا:
نعم. قال: يا بني عبد المطلب إنكم لتدعون أمرا عظيما وتحتجون بحجج قوية إن
كانت حقا، وإنكم لتضمرون على أمر تسرونه والناس عنه في غفلة عمياء،
ولإن كان ما تقولون حقا لقد هلكت الأمة وارتدت عن دينها وتركت عهد نبيها
صلى الله عليه وآله غيركم أهل البيت، ومن قال بقولكم فأولئك في الناس
قليل.
فقلت: يا معاوية إن الله تبارك وتعالى يقول: " وقليل من عبادي الشكور "
ويقول: " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " ويقول: " إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وقليل ما هم " ويقول لنوح: " وما آمن معه إلا قليل " ويقول:
" وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " يا معاوية المؤمنون في الناس قليل.
فقال ابن عباس: يا معاوية إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: " وقليل
ما هم " و يقول لنوح: " وما آمن معه إلا قليل " ويقول: " وما أكثر الناس ولو
حرصت بمؤمنين " يا معاوية المؤمنون في الناس قليل، وإن أمر بني إسرائيل
أعجب حيث قالت السحرة لفرعون: " اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة
الدنيا إنا آمنا برب العالمين " فآمنوا بموسى وصدقوه وتابعوه فسار بهم وبمن تبعه
من بني إسرائيل، فأقطعهم البحر وأراهم الأعاجيب وهم مصدقون به
وبالتوراة مقرون له بدينه، فمر بهم على قوم يعبدون أصناما لهم، فقالوا: " يا موسى
70

اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " ثم اتخذوا العجل فعكفوا عليه جميعا! غير هارون
وأهل بيته، وقال لهم السامري: " هذا إلهكم وإله موسى "، وقال لهم بعد ذلك:
" ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم " فكان من جوابهم ما قص الله في
كتابه: " إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا
منها فإنا داخلون " قال موسى: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا
و بين القوم الفاسقين " فأحدثت هذه الأمة ذلك المثال سواء، وقد كانت لهم
فضائل وسوابق مع رسول الله صلى الله عليه وآله، ومنازل بينه قريبة
منه (1) مقرين بدين محمد والقرآن حتى فارقهم نبيهم صلى الله عليه وآله
فاختلفوا و تفرقوا وتحاسدوا، وخالفوا إمامهم ووليهم حتى لم يبق منهم على
ما عاهدوا عليه نبيهم غير صاحبنا الذي هو من نبينا بمنزلة هارون من موسى
ونفر قليل لقوا الله عز وجل على دينهم وإيمانهم، ورجع الآخرون القهقرى على
أدبارهم كما فعل أصحاب موسى عليه السلام باتخاذهم العجل وعبادتهم إياه
وزعمهم أنه ربهم وإجماعهم عليه غير هارون وولده ونفر قليل من أهل بيته
ونبينا صلى الله عليه وآله قد نصب لأمته أفضل الناس وأولاهم وخيرهم بغدير
خم وفي غير موطن، واحتج عليهم به، وأمر بطاعتهم، وأخبرهم أنه منه بمنزلة
هارون من موسى، وأنه ولي كل مؤمن من بعده، وأنه كل من كان هو وليه
ومن كان أولى به من نفسه فعلي أولى به، وأنه خليفته فيهم ووصيه، وأن من
أطاعه أطاع الله، ومن عصاه عصى الله، ومن والاه والى الله، ومن عاداه عادى
الله، فأنكروه وجهلوه وتولوا غيره. يا معاوية أما علمت أن رسول الله صلى الله
عليه وآله حين بعث إلى مؤتة أمر عليهم جعفر بن أبي طالب عليه السلام.
ثم قال: " إن هلك جعفر فزيد بن حارثة، فإن هلك زيد فعبد الله بن

(1) في كتاب سليم " ومنازل منه قريبة "
71

رواحة " ولم يرض لهم أن يختاروا لأنفسهم، أفكان يترك أمته؟ ولا بين لهم
خليفته فيهم بعده؟ بلى ما تركهم في عمى ولا شبهة، بل ركب القوم ما ركبوا
بعد نبيهم وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله، فهلكوا وهلك من
شايعهم، وضل من تابعهم، فبعدا للقوم الظالمين.
فقال معاوية: يا ابن عباس إنك لتتفوه بعظيم! والاجتماع عندنا خير من
الاختلاف، وقد علمت أن الأمة لم تستقم على صاحبك. فقال ابن عباس:
إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " ما اختلفت أمة بعد نبيها
إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها "، وإن هذه الأمة أجمعت على أمور كثيرة
ليس بينها اختلاف ولا منازعة ولا فرقة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا
رسول الله صلى الله عليه وآله، والصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وحج
البيت، وأشياء كثيرة من طاعة الله ونهي الله، مثل تحريم الزنا، والسرق،
وقطع الأرحام، والكذب، والخيانة. واختلفت في شيئين: أحدهما اقتتلت
عليه وتفرقت فيه، وصارت فرقا يلعن بعضها بعضا ويبرأ بعضها من
بعض (1) فالملك والخلافة زعمت أنها (2) أحق بهما من أهل بيت نبي الله صلى
الله عليه وآله فمن أخذنا بما ليس أهل القبلة اختلاف (3)، ورد علم ما اختلفوا
فيه إلى الله، سلم ونجى من النار، ولم يسأله الله عما أشكل عليه من
الخصلتين اللتين اختلف فيهما، ومن وفقه الله ومن عليه ونور قلبه وعرفه ولاة
الأمر ومعدن العلم أين هو فعرف ذلك كان سعيدا ولله وليا، وكان نبي الله
صلى الله عليه وآله يقول: " رحم الله عبدا قال حقا فغنم، أو سكت فلم

(1) سقط من هنا كلمات راجع كتاب سليم بن قيس: ص 237.
(2) كذا في البحار أيضا، والظاهر: " أنك ".
(3) كذا في البحار أيضا، وفي كتاب سليم: " فمن أخذ بما ليس فيه بين أهل القبلة اختلاف "
72

يتكلم " فالأئمة من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومنزل الكتاب ومهبط
الوحي ومختلف الملائكة، لا تصلح إلا فيها، لأن الله خصها بها، وجعلها أهلها
في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله، فالعلم فيهم وهم أهله، وهو
عندهم كله بحذافيره، باطنه وظاهره، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه.
يا معاوية إن عمر بن الخطاب أرسلني في إمرته إلى علي بن أبي طالب
عليه السلام: إني أريد أن أكتب القرآن في مصحف فابعث إلينا ما كتبت
من القرآن. فقال: تضرب والله عنقي قبل أن تصل إليه. قلت: ولم؟ قال:
إن الله يقول: " لا يمسه إلا المطهرون " يعني لا يناله كله إلا المطهرون، إيانا
عنى، نحن الذين اصطفانا الله من عباده، ونحن صفوة الله وضرب لنا
الأمثال، وعلينا نزل الوحي.
فغضب عمر، وقال: إن ابن أبي طالب يحسب أنه ليس عند أحد علم
غيره، فمن كان يقرأ من القرآن شيئا فليأتنا به، فكان إذا جاء رجل بقرآن
فقرأه ومعه آخر كتبه، وإلا لم يكتبه. فمن قال يا معاوية: إنه ضاع من القرآن
شئ فقد كذب، هو عند أهله مجموع. ثم أمر عمر قضاته وولاته، فقال:
اجتهدوا رأيكم واتبعوا ما ترون أنه الحق.
فلم يزل هو وبعض ولاته قد وقعوا في عظيمة، فكان علي بن أبي
طالب عليه السلام يخبرهم بما يحتج عليهم، وكان عماله وقضاته يحكمون في
شي، واحد بقضايا مختلفة فيجيزها لهم، لأن الله لم يؤته الحكمة وفصل
الخطاب، وزعم كل صنف من أهل القبلة أنهم معدن العلم والخلافة
دونهم! فبالله نستعين على من جحدهم حقهم، وسن للناس ما يحتاج به مثلك
عليهم (1).

(1) البحار: ج 8 ص 536 - 537 ط الكمباني عن سليم والاحتجاج وتقدم ج 1 ص 365
73

ثم قاموا فخرجوا.
(334)
خالد بن معمر مع معاوية
قال معاوية لخالد بن معمر: على ما أحببت عليا؟ قال: على ثلاث
خصال: على حلمه إذا غضب، وعلى صدقه إذا قال، وعلى عدله إذا ولي (1).
(335)
طارق ومعاوية
عن عوانة، قال: خرج النجاشي في أول يوم من رمضان، فمر بأبي
سمال الأسدي (له إدراك وكان سخيا) وهو قاعد بفناء داره، فقال له: أين
تريد؟ قال: أريد الكناسة. قال: هل لك في رؤوس وأليات قد وضعت في
التنور من أول الليل فأصبحت قد أينعت وتهرأت؟ قال: ويحك! في أول يوم
من رمضان؟ قال: دعنا مما لا نعرف (مما لا يعرف خ). قال: ثم مه؟
قال: ثم أسقيك من شراب كالورس، يطيب النفس ويجري في العرق ويزيد
في الطرق، يهضم الطعام، ويسهل للفدم الكلام. فنزل فتغديا، ثم أتاه بنبيذ
فشرباه.
فلما كان من آخر النهار علت أصواتهما، ولهما جار يتشيع من أصحاب
علي عليه السلام - فأتى عليا عليه السلام - فأخبره بقصتهما، فأرسل إليهما قوما
فأحاطوا بالدار. فأما أبو سمال فوثب إلى دور بني أسد فأفلت. وأما
النجاشي فأوتي به عليا عليه السلام، فلما أصبح أقامه في سراويل فضربه
ثمانين ثم زاده عشرين سوطا. فقال: يا أمير المؤمنين [أما الحد فقد عرفته] فما
هذه العلاوة التي لا تعرف؟ قال: لجرأتك على ربك وإفطارك في شهر

(1) البحار: ج 8 ص 537 ط الكمباني
74

رمضان، ثم أقامه في سراويله للناس، فجعل الصبيان يصيحون به: خرى
النجاشي، فجعل يقول: كلا! والله إنها يمانية [وكاؤها شعر].
ومر به هند بن عاصم السلولي فطرح عليه مطرفا، ثم جعل الناس يمرون
به فيطرحون عليه المطارف حتى اجتمعت عليه مطارف كثيرة، ثم أنشأ
يقول:
إذا الله حيا صالحا من عباده * تقيا فحيا الله هند بن عاصم
وكل سلولي إذا ما دعوته * سريع إلى داعي العلى والمكارم
ثم لحق بمعاوية وهجا عليا فقال:
ألا من مبلغ عني عليا * بأني قد أمنت فلا أخاف
عمدت لمستقر الحق لما * رأيت قضية فيها اختلاف
عن أبي الزناد قال: دخل النجاشي على معاوية، وقد أذن معاوية
للناس عامة، فقال لحاجبه: ادع النجاشي. قال: والنجاشي بين يديه ولكن
اقتحمته عينه. فقال: ها أنا ذا النجاشي بين يديك يا أمير المؤمنين، إن الرجال
ليست بأجسامها، إنما لك من الرجل أصغراه: قلبه ولسانه.
قال: ويحك! أنت القائل:
ونجى ابن حرب سابح ذو علالة * أجش هزيم والرماح دوان
إذا قلت أطراف الرماح تنوشه * مرية له الساقان والقدمان
ثم ضرب بيده إلى ثديه وقال: ويحك! إنما مثلي لا تعدو به الخيل.
فقال: [يا أمير المؤمنين] إني لم أقل هذا لك، إنما قلته لعتبة بن أبي
سفيان.
ولما حد علي عليه السلام النجاشي غضب لذلك من كان مع علي
[من اليمانية] وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب بن أسامة
النهدي، فدخل على أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين ما كنا نرى
75

أن أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن
الفضل سيان في الجزاء، حتى رأيت ما كان من صنيعك بأخي الحارث،
فأوغرت صدورنا، وشتت أمورنا، وحملتنا على الجادة التي كنا نرى أن سبيل
من ركبها النار.
فقال علي عليه السلام: " إنها لكبيرة إلا على الخاشعين " يا أخا بني نهد
وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة [من حرم الله، فأقمنا عليه حدا
كان كفارته؟] إن الله تعالى يقول: " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا
اعدلوا هو أقرب للتقوى ".
قال: فخرج طارق من عند علي وهو مظهر بعذره قابل له، فلقاه الأشتر
النخعي - رحمه الله - فقال له: يا طارق أنت القائل لأمير المؤمنين: إنك أوغرت
صدورنا وشتت أمورنا؟ قال طارق: نعم أنا قائلها. قال له الأشتر: والله
ما ذاك كما قلت، وإن صدورنا له لسامعة، وإن أمورنا له لجامعة.
قال: فغضب طارق وقال: ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت.
فلما جنه الليل همس هو والنجاشي [إلى معاوية، فلما قدما عليه دخل
آذنه فأخبره بقدومهما، وعنده] وجوه أهل الشام، منهم عمرو بن مرة الجهني
وعمرو بن صيفي وغيرهما.
قال: فدخلا عليه، فلما نظر معاوية إليه قال: مرحبا بالمورق غصنه
المعرق أصله المسود غير المسود، في أرومة لا ترام ومحل يقصر عنه الرامي، من
رجل كانت منه هفوة ونبوة باتباعه صاحب الفتنة ورأس الضلالة والشبهة
التي اغترز في ركاب الفتنة حتى استوى على رحلها، ثم أوجف في عشوة
ظلمتها وتيه ضلالتها، وأتبعه رجرجة من الناس وهنون من الحثالة، أما والله!
ما لهم أفئدة " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ".
فقام طارق، فقال: يا معاوية إني متكلم فلا يسخطك أول دون آخر.
76

ثم قال وهو متكئ على سيفه: إن المحمود على كل حال رب علا فوق عباده
فهم منه بمنظر ومسمع، بعث فيهم رسولا منهم لم يكن يتلو من قبله كتابا
ولا يخطه بيمينه إذا لارتاب المبطلون، فعليه السلام من رسول كان بالمؤمنين
[برا] رحيما.
أما بعد، فإنا كنا نوضع [فيما أوضعنا فيه بين يدي إمام تقي عادل] في
رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أتقياء مرشدين، ما زالوا
منارا للهدى ومعلما للدين [معالم خ] خلفا عن سلف مهتدين، أهل دين
لا دنيا، وأهل الآخرة كل الخير فيهم، واتبعهم من الناس ملوك وأقيال
[وسوق أقيال خ] وأهل بيوتات وشرف ليسوا بناكثين ولا قاسطين، فلم تك
رغبة من رغب عنهم وعن صحبتهم إلا لمرارة الحق حيث جرعوها، ولو عورته
حيث سلكوها، وغلبت عليهم دنيا مؤثرة و هوى متبع، وكان أمر الله
قدرا مقدورا [وقد فارق الإسلام قبلنا جبلة بن الأيهم فرارا من الضيم وأنفا
من الذلة] فلا تفخرن يا معاوية أن قد شددنا إليك الرحال وأوضعنا نحوك
الركاب، فتعلم وتنكر [أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولجميع
المسلمين].
ثم التفت إلى النجاشي، وقال: ليس بعشك فادرجي.
فشق على معاوية ذلك [وغضب ولكنه أمسك] فقال: يا عبد الله ما أدرنا
أن نوردك مشرع ظمأ، ولا أن نصدرك عن مكرع رواء [إنا لم نرد بما قلناه أن
نوردك مشرع ظمأ، ولا أن نصدرك عن مكرع ري خ] ولكن القول قد يجري
ألمعيه إلى غير الذي ينطوي عليه من الفعل. ثم أجلسه معه على سريره، ودعا
له بمقطعات وبرود فصبها عليه، ثم أقبل عليه بوجهه يحدثه حتى قام.
فلما قام طارق خرج وخرج معه عمرو بن مرة وعمرو بن صيفي
الجهنيان فأقبلا يلومانه في خطبته إياه وفيما عرض لمعاوية.
77

فقال طارق لهما: والله ما قمت [بما سمعتماه] حتى خيل لي أن بطن
الأرض أحب إلي من ظهرها عند إظهاره ما أظهر من البغي والعيب
والنقص لأصحاب محمد صلى الله عليه وآله، ولمن هو خير منه في العاجلة
والآجلة [وما زهت به نفسه وملكه عجبه وعاب أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وآله واستنقصهم] ولقد قمت مقاما عنده أوجب الله علي فيه أن
لا أقول إلا حقا، وأي خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا؟ وأنشأ يتمثل بشعر
لبيد بن عطارد التميمي:
لا تكونوا على الخطيب مع الدهر * فإني فيما مضى لخطيب
أصدع الناس في المحافل بالخطبة * يعيى بها الخطيب الأريب
وإذا قالت الملوك من الحاسم * للداء قيل ذاك الطبيب
غير أني إذا قمت كاربني الكربة * لا يستطيعها المكروب
وكذاك الفجور يصرعه البغي * وفي الناس مخطئ ومصيب
وخطيب النبي أقول بالحق * وما في مقاله عرقوب
إن من جرب الأمور من الناس * وقد ينفع الفتى التجريب
لحقيق بأن يكون هواه * وتقاه فيما إليه يؤوب
فبلغ عليا عليه السلام مقالة طارق وما قال لمعاوية. فقال: لو قتل أخو
بني نهد يومئذ لقتل شهيدا.
وزعم بعض الناس أن طارق بن عبد الله رجع إلى علي عليه السلام
ومعه النجاشي.
وعمل معاوية في إطراء طارق وتعظيم أمره حتى تسلل ما كان في
نفسه (1).

(1) الغارات للثقفي: ج 2 ص 533 تحقيق الأرموي، ونقل في شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 4 ص 90 - 91،
والمستدرك للنوري رحمه الله باب الحدود ج 3 ص 234 شطرا منه. وكذا الوسائل كتاب الحدود عن
الكافي والتهذيب والفقيه (راجع ج 18 ص 474) والبحار: ج 8 ص 538 و 675 ط الكمباني
78

(336)
رجل ومعاوية
روي: أن معاوية بن أبي سفيان قال: إني أحب أن ألقى رجلا قد أتت
عليه سن وقد رأى الناس، يخبرنا عما رأى. فقيل له: هذا رجل بحضرموت.
فأرسل إليه، فأتاه، فقال له: ما اسمك؟ قال: أمد، قال: ابن من؟ قال:
ابن لبد، قال ما أتى عليك من السنين؟ قال: ثلاثمائة وستون سنة، قال:
كذبت.
ثم تشاغل عنه معاوية، ثم أقبل عليه بعد ذلك، فقال: ما اسمك؟
قال: أمد، قال: ابن من؟ قال: ابن لبد، قال: ما أتى عليك من السنين؟
قال: ستون وثلاثمائة، قال: أخبرنا عما رأيت من الأزمان الماضية إلى
زماننا هذا من ذاك، قال: يا أمير المؤمنين وكيف تسأل من يكذب؟ قال:
إني ما كذبتك ولكن أحببت أعلم كيف عقلك.
قال: يوم شبيه يوم وليلة شبيهة بليلة، يموت ميت ويولد مولود، ولولا من
يموت لم تسعهم الأرض، ولولا من يولد لم يبق أحد على وجه الأرض.
قال: فأخبرني هل رأيت هاشما؟ قال: نعم رأيت رجلا طوالا حسن
الوجه، يقال: إن بين عينيه بركة أو غرة بركة.
قال: فهل رأيت أمية؟ قال: نعم رأيت رجلا قصيرا أعمى، يقال له:
إن في وجهه أشرا أو شؤما.
قال: فهل رأيت محمدا؟ قال: من محمد؟ قال: رسول الله صلى الله
عليه وآله، قال: ويحك! أفلا فحمته كما فخمه الله فقلت: رسول الله صلى الله
79

عليه وآله؟.
قال: فأخبرني ما كانت صناعتك؟ قال: كنت رجلا تاجرا، قال: فما
بلغت في تجارتك؟ قال: كنت لا أستر عيبا ولا أرد ربحا.
قال معاوية: سلني قال: أسألك أن تدخلني الجنة، قال: ليس ذلك
بيدي ولا أقدر عليه. قال: فأسألك أن ترد علي شبابي، قال: ليس ذلك
بيدي ولا أقدر عليه. قال: فلا أرى عندك شيئا من أمر الدنيا ولا أمر
الآخرة، فردني من حيث جئت بي. قال: أما هذا فنعم.
ثم أقبل معاوية على جلسائه فقال: لقد أصبح هذا زاهدا فيما أنتم فيه
راغبون (1).
(337)
رجل من همدان مع عمرو
في خلفاء ابن قتيبة: ذكروا أن رجلا من همدان يقال له: برد، قدم على
معاوية فسمع عمرا يقع في علي عليه السلام، فقال له: يا عمرو إن أشياخنا
سمعوا النبي صلى الله عليه وآله يقول: " من كنت مولاه فعلي مولاه "
فحق ذلك أم باطل؟ فقال عمرو: حق، وأنا أزيدك أنه ليس أحد من
صحابة النبي صلى الله عليه وآله له مناقب مثل مناقب علي، ففزع الفتى!
فقال عمرو: إنه أفسدها بأمره في عثمان.
فقال برد: هل أمر أو قتل؟ قال: لا ولكنه آوى ومنع، قال: فهل بايعه
الناس عليها؟ قال: نعم، قال: فما أخرجك من بيعته؟ قال: اتهامي إياه في
عثمان، قال له: وأنت أيضا قد اتهمت! قال: صدقت وفيها خرجت إلى
فلسطين.

(1) البحار: ج 8 ص 538 ط الكمباني عن كنز الفوائد للكراجكي
80

فرجع الفتى إلى قومه فقال: إنا أتينا قوما أخذنا الحجة عليهم من
أفواههم، علي على الحق فاتبعوه (1).
(338)
رجل من أهل الكوفة ومعاوية
عن محارب بن ساعدة الأيادي، قال: كنت عند معاوية بن أبي سفيان
وعنده أهل الشام ليس فيهم غيرهم، إذ قال: يا أهل الشام قد عرفتم حبي
لكم وسيرتي فيكم، وقد بلغكم صنيع علي بالعراق وتسويته بين الشريف
وبين من لا يعرف قدره.
فقال رجل منهم: لا يهد الله ركنك ولا يهيض جناحك ولا يعدمك ولدك
ولا يرينا فقدك. فقال: فما تقولون في أبي تراب؟ قال: فقال كل رجل منهم
ما أراد، ومعاوية ساكت، وعنده عمرو بن العاص ومروان بن الحكم،
فتذاكرا عليا عليه السلام بغير الحق.
فوثب رجل من آخر المجلس من أهل الكوفة [وكان قد] دخل مع القوم،
فقال: يا معاوية تسأل أقواما في طغيانهم يعمهون، اختاروا الدنيا على
الآخرة، والله لو سألتهم عن السنة ما أقاموها، فكيف يعرفون عليا وفضله؟
أقبل علي أخبرك، ثم لا تقدر أن تنكر أنت ولا من عن يمينك يعني عمروا.
هو والله الرفيع جاره، الطويل عماده، دمر الله به الفساد، وأبار به
الشرك، ووضع به الشيطان وأولياءه، وضعضع به الجور، وأظهر به العدل،
وأنطق زعيم الدين، وأطاب المورد، وأضحى الداجي، وانتصر به المظلوم،
وهدم به بنيان الشقاق، وانتقم به من الظالمين، وأعز به المسلمين، العلم

(1) بهج الصباغة: ج 6 ص 4 و ج 4 ص 685. وقاموس الرجال: ج 6 ص 377 عن خلفاء ابن قتيبة:
ج 1 ص 97. والغدير: ج 9 ص 138 عنه أيضا
81

المرفوع، والكهف للعواذ، ربيع الروح، وكنف المستطيل، ولي الهارب، كريح
رحمة أثارت سحابا متفرقا بعضها إلى بعض حتى التحم واستحكم فاستغلظ
فاستوى، ثم تجاوبت نواتقه، وتلالات بوارقه، واسترعد خرير مائه، فأسقى
وأروى عطشانه، وتداعت جنانه، واستقلت به أركانه، واستكثرت وابله،
ودام رذاذه، وتتابع مهطوله، فرويت البلاد واخضرت وأزهرت، ذلك علي
ابن أبي طالب سيد العرب، إمام الأمة وأفضلها وأعلمها وأجملها وأحكمها،
أوضح للناس سيرة الهدى بعد السعي في الردى، فهو والله إذا اشتبهت
الأمور وهاب الجسور واحمرت الحدق وانبعث القلق وأبرقت البواتر،
استربط عند ذلك جأشه، وعرف بأسه، ولاذ به الجبان الهلوع، فنفس
كربته وحمى حمايته عند الخيول النكراء والداهية الدهياء، مستغن برأيه عن
مشورة ذوي الألباب برأي صليب وحلم أريب مجيب، للصواب مصيب.
فأمسكت القوم جميعا. وأمر معاوية بإخراجه، فأخرج وهو يقول: " قد
جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " (1).
(339)
عمر بن علي وسعيد بن المسيب
عن أبي داود الهمداني، قال: شهدت سعيد بن المسيب، وأقبل عمر بن
علي بن أبي طالب عليهما السلام فقال له سعيد: يا ابن أخي ما أراك تكثر
غشيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله كما يفعل إخوتك وبنو عمك؟
فقال عمر: يا ابن المسيب أكلما دخلت فأجئ فأشهدك؟ فقال سعيد:
ما أحب أن تغضب، سمعت والدك عليا يقول: " والله إن لي من الله مقاما
لهو خير لبني عبد المطلب مما على الأرض من شئ " فقال عمر: سمعت

(1) البحار: ج 8 ص 539 ط الكمباني عن الغارات: ج 2 ص 547 - 548 واللفظ له
82

والدي يقول: " ما من كلمة حكمة في قلب منافق فيخرج من الدنيا حتى
يتكلم بها ".
[فقال سعيد: يا ابن أخي جعلتني منافقا؟] قال: ذلك ما أقول لك.
قال: ثم انصرف (1).
(340)
طرماح ومعاوية
كتب معاوية لعنه الله إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله: بسم الله
الرحمن الرحيم، أما بعد، يا علي لأضربنك بشهاب قاطع لا يدكنه الريح
ولا يطفئه الماء، إذا اهتز وقع وإذا وقع نقب، والسلام.
فلما قرأ علي عليه السلام كتابه دعا بدواة وقرطاس، ثم كتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، يا معاوية فقد كذبت، أنا علي بن أبي
طالب، وأنا أبو الحسن والحسين، قاتل جدك وعمك وخالك وأبيك، وأنا
الذي أفنيت قومك يوم بدر ويوم الفتح ويوم أحد، وذلك السيف بيدي تحمله
ساعدي بجرأة قلبي كما خلفه النبي صلى الله عليه وآله بكف الوصي، لم
استبدل بالله ربا، وبمحمد صلى الله عليه وآله نبيا وبالسيف بدلا، والسلام
على من اتبع الهدى.
ثم طوى الكتاب ودعا الطرماح بن عدي الطائي - وكان رجلا مفوها
طوالا - فقال له: خذ كتابي هذا فانطلق به إلى معاوية ورد جوابه.
فأخذ الطرماح الكتاب، ودعا بعمامة فلبسها فوق قلنسوته، ثم ركب
جملا بازلا فتيقا مشرفا عاليا في الهواء، فسار حتى نزل مدينة دمشق، فسأل
عن قواد معاوية، فقيل له: من تريد منهم؟ فقال: أريد جرولا وجضما

(1) الغارات: ج 2 ص 580
83

وصلادة وقلادة وسوادة وصاعقة أبا المنايا وأبا الحتوف وأبا الأعور السلمي
وعمرو بن العاص وشمر بن ذي الجوشن والهدى بن [محمد بن] الأشعث
الكندي، فقيل: إنهم يجتمعون عند باب الخضراء.
فنزل وعقل بعيره، وتركهم حتى اجتمعوا ركب إليهم، فلما بصروا به
قاموا إليه يهزؤون به، فقال واحد منهم: يا أعرابي أعندك خبر من السماء؟
قال: نعم جبرئيل في السماء، وملك الموت في الهواء، وعلي في القضاء
[القفاء ظ] فقالوا له: يا أعرابي من أين أقبلت؟ قال: من عند التقي النقي
إلى المنافق الردي. قالوا له: يا أعرابي فما تنزل إلى الأرض حتى نشاورك؟
قال: والله ما في مشاورتكم بركة، ولا مثلي يشاور أمثالكم. قالوا: يا أعرابي
فإنا نكتب إلى يزيد بخبرك - وكان يزيد يومئذ ولي عهدهم - فكتبوا إليه (1).
أما بعد يا يزيد، فقد قدم علينا من عند علي بن أبي طالب عليه السلام
أعرابي له لسان يقول فما يمل ويكثر فما يكل، والسلام.
فلما قرأ يزيد الكتاب أمر أن يهول عليه وأن يقام له سماطان بالباب
بأيديهم أعمدة الحديد، فلما توسطهم الطرماح قال: من هؤلاء كأنهم زبانية
مالك في ضيق المسالك عند تلك الهوالك؟ قالوا: اسكت، هؤلاء أعدوا
ليزيد.
فلم يلبث أن خرج يزيد، فلما نظر إليه قال: السلام عليك يا أعرابي،
قال: الله السلام المؤمن المهيمن وعلى ولد أمير المؤمنين. قال: إن أمير المؤمنين
يقرأ عليك السلام، قال: سلامه معي من الكوفة. قال: إنه يعرض عليك
الحوائج، قال: أما أول حاجتي إليه فنزع روحه من بين جنبيه، وأن يقوم من
مجلسه حتى يجلس فيه من هو أحق به وأولى منه.

(1) فيه ما لا يخفى، فإن ولايته العهد كان بعد قتل الحسن عليه السلام
84

قال له: يا أعرابي فإنا ندخل عليه فما فيك حيلة، قال: لذلك قدمت،
فاستأذن له على أبيه.
فلما دخل على معاوية نظر إلى معاوية والسرير قال: السلام عليك أيها
الملك! قال: وما منعك أن تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: نحن المؤمنون فمن أمرك
علينا؟ فقال: ناولني كتابك، قال: إني لأكره أن أطأ بساطك. قال:
فناوله وزيري، قال: خان الوزير وظلم الأمير. قال: فناوله غلامي قال:
غلام سوء اشتراه مولاه من غير حل واستخدمه في غير طاعة الله. قال: فما
الحيلة يا أعرابي؟ قال: ما يحتال مؤمن مثلي لمنافق مثلك، قم صاغرا فخذه!
فقام معاوية صاغرا فتناوله ثم فضه وقرأ.
ثم قال: يا أعرابي كيف خلفت عليا؟ قال: خلفته والله جلدا حريا
ضابطا كريما شجاعا جوادا، لم يلق جيشا إلا هزمه، ولا قرنا إلا أرداه، ولا قصرا
إلا هدمه.
قال: فكيف خلفت الحسن والحسين؟ قال: خلفتهما صلوات الله عليهما
صحيحين فصيحين كريمين شجاعين جوادين شابين طريين، يصلحان للدنيا
والآخرة.
قال: فكيف خلفت أصحاب علي؟ قال: خلفتهم وعلي عليه السلام
بينهم كالبدر وهم كالنجوم، إن أمرهم ابتدروا، وإن نهاهم ارتدعوا.
فقال له: يا أعرابي ما أظن بباب علي أحدا أعلم منك، قال: ويلك!
استغفر ربك وصم سنة كفارة لما قلت، كيف لو رأيت الفصحاء الأدباء
النطقاء ووقعت في بحر علومهم لفرقت يا شقي! قال: الويل لأمك! قال:
بل طوبى لها! ولدت مؤمنا يغمز منافقا مثلك.
قال له: يا أعرابي هل لك في جائزة؟ قال: أرى استنقاص روحك
فكيف لا أرى استنقاص مالك؟ فأمر له بمائة ألف درهم. قال: أزيدك
85

يا أعرابي؟ قال: أسد يدا سد أبدا، فأمر له بمائة ألف أخرى. قال: ثلثها فإن
الله فرد، ثم ثلثها، فقال: الآن ما تقول؟ فقال: أحمد الله وأذمك قال: ولم
ويلك؟ قال: لأنه لم يكن لك ولأبيك ميراثا، إنما هو من بيت مال
المسلمين أعطيتنيه.
ثم أقبل معاوية على كاتبه، فقال: اكتب للأعرابي جوابا، فلا طاقة لنا
به، فكتب:
أما بعد يا علي، فلأوجهن إليك بأربعين حملا من خردل مع كل خردلة
ألف مقاتل يشربون الدجلة ويسقون الفرات.
فلما نظر الطرماح إلى ما كتب به الكاتب أقبل على معاوية فقال له:
سوأة لك يا معاوية! فلا أدري أيكما أقل حياء؟ أنت أم كاتبك؟ ويلك!
لو جمعت الجن والإنس وأهل الزبور والفرقان كانوا لا يقولون بما قلت.
قال: ما كتبه عن أمري، قال: إن لم يكن كتبه عن أمرك فقد
استضعفك في سلطانك، وإن كان كتبه بأمرك فقد استحييت لك من
الكذب، أمن أيهما تعتذر؟ ومن أيهما تعتبر؟ أما إن لعلي صلوات الله عليه
ديكا أشتر جيد العنصر، يلتقط الخردل لجيشه وجيوشه، فيجمعه في حوصلته!.
قال: ومن ذلك يا أعرابي؟ قال: ذلك مالك بن الحارث الأشتر.
ثم أخذ الكتاب والجائزة وانطلق به إلى علي بن أبي طالب صلوات الله
عليه، فأقبل معاوية على أصحابه، فقال: نرى لو وجهتكم بأجمعكم في كل
ما وجه به صاحبه ما كنتم تؤدون عني عشر عشير ما أدى هذا عن صاحبه (1).

(1) الإختصاص للمفيد - رحمه الله -: ص 138. والبحار: ج 8 ص 541 ط الكمباني عنه، ونقل ذلك أيضا
برواية أخرى وجدها بخط بعض الأفاضل، فراجع
86

(341)
أبو المرقع ومعاوية
نقل من خط الشهيد - قدس سره - أنه قال معاوية لأبي المرقع الهمداني:
اشتم عليا، قال: بل أشتم شاتمه وظالمه. قال: أهو مولاك؟ قال: ومولاك
إن كنت من المسلمين. قال: فادع عليه، قال: بل أدعو على من هو دونه.
قال: ما تقول في قاتله؟ قال: هو في النار مع من سن ذلك. قال: من
قومك؟ قال: الزرق من همدان الذين أشجوك يوم صفين (1).
(342)
ابن عباس مع الخوارج
عن يوسف بن إبراهيم، قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام قال:
إن عبد الله بن العباس لما بعثه أمير المؤمنين عليه السلام إلى الخوارج يواقفهم،
لبس أفضل ثيابه وتطيب بأطيب طيبه وركب أفضل مراكبه، فخرج فواقفهم
فقالوا: يا ابن عباس بينا أفضل الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم
فتلا عليهم هذه الآية: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من
الرزق " فالبس وتجمل، فإن الله جميل يحب الجمال، وليكن من حلال (2).
(343)
صعصعة والخوارج
عن مسمع بن عبد الله البصري عن رجل، قال: لما بعث علي بن أبي
طالب عليه السلام صعصعة بن صوحان إلى الخوارج، قالوا له: أرأيت لو كان

(1) البحار: ج 8 ص 543 ط الكمباني.
(2) البحار: ج 8 ص 566 ط الكمباني عن الكافي
87

علي معنا في موضعنا أتكون معه؟ قال: نعم. قالوا: أنت إذا مقلد عليا دينك
ارجع فلا دين لك، فقال لهم صعصعة: ويلكم! ألا أقلد من قلد الله فأحسن
التقليد، فاضطلع بأمر الله صديقا لم يزل، أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه
وآله إذا اشتدت الحرب قدمه في لهواتها، فيطأ صماخها بأخمصه ويخمد لهبها
بحده، مكدودا في ذات الله، عنه يعبر رسول الله والمسلمون، فأين تصرفون؟
وأين تذهبون؟ وإلى من ترغبون؟ وعمن تصدفون؟ عن القمر الباهر، والسراج
الزاهر، وصراط الله المستقيم، وسبيل الله المقيم، قاتلكم الله أنى تؤفكون! أفي
الصديق الأكبر والغرض الأقصى ترمون؟ طاشت عقولكم وغارت حلومكم
وشاهت وجوهكم! لقد علوتم القلة من الجبل وباعدتم العلة من النهل،
أتستهدفون أمير المؤمنين صلوات الله عليه ووصي رسول الله صلى الله عليه
وآله؟ لقد سولت لكم أنفسكم خسرانا مبينا، فبعدا وسحقا للكفرة الظالمين!
عدل بكم عن القصد الشيطان، وعمى لكم عن واضح المحجة الحرمان.
فقال له عبد الله بن وهب الراسبي: نطقت يا ابن صوحان بشقشقة بعير،
وهدرت فأطنبت في الهدير، أبلغ صاحبك إنا مقاتلوه على حكم الله والتنزيل،
فقال عبد الله بن وهب أبياتا (قال العكلي الحرماري: ولا أدري أهي له أم
لغيره):
نقاتلكم كي تلزموا الحق وحده * ونضربكم حتى يكون لنا الحكم
فإن تبتغوا حكم الإله نكن لكم * إذا ما اصطلحنا الحق والأمن والسلم
وإلا فإن المشرقية محذم * بأيدي رجال فيهم الدين والعلم
فقال صعصعة: كأني أنظر إليك يا أخا راسب مترملا بدمائك، يحجل
الطير بأشلائك، لا تجاب لكم داعية ولا تسمع لكم واعية، يستحل ذلك
منكم إمام هدى. قال الراسبي:
سيعلم الليث إذا التقينا * دور الرحى عليه أو علينا
88

أبلغ صاحبك أنا غير راجعين عنه أو يقر لله بكفره أو يخرج عن ذنبه، فإن
الله قابل التوب شديد العقاب وغافر الذنب، فإذا فعل ذلك بذلنا المهج.
فقال صعصعة: " عند الصباح يحمد القوم السرى " ثم رجع إلى علي
صلوات الله عليه فأخبره بما جرى بينه وبينهم، فتمثل علي عليه السلام:
أراد رسولاي الوقوف فراواحا * يدا بيد ثم اسهما لي على السواء
بؤسا للمساكين يا ابن صوحان! أما لقد عهد إلي فيهم، وإني لصاحبهم،
وما كذبت ولا كذبت، وإن لهم ليوما يدور فيه رحى المؤمنين على المارقين
فيها، فيا ويحها حتفا! ما أبعدها من روح الله! ثم قال: الحديث (1).
(344)
قيس وحسان
لما نصب علي عليه السلام محمد بن أبي بكر لحكومة مصر، فقدمها،
فقال له قيس: ما بال أمير المؤمنين! ما غيره؟ فغضب وخرج عنها مقبلا إلى
المدينة، ولم يمض إلى علي بالكوفة.
فلما قدم المدينة جاء حسان بن ثابت شامتا به - وكان عثمانيا - فقال له:
نزعك علي بن أبي طالب عليه السلام وقد قتلت عثمان، فبقي عليك
الإثم (2) ولم يحسن لك الشكر! فزجره قيس وقال: يا أعمى القلب! يا أعمى
البصر! والله لولا أن ألقى بيني وبين رهطك حربا لضربت عنقك. ثم أخرجه
من عنده (3).
* * *

(1) الاختصاص: ص 121. والبحار: ج 8 ص 566 ط الكمباني. وقاموس الرجال: ج 5 ص 124.
(2) في البحار: " الاسم ".
(3) البحار: ج 8 ص 594 ط الكمباني. والغدير: ج 9 ص 128
89

(345)
امرأة عمرو بن الحمق مع معاوية
قال: كان عمرو بن الحمق الخزاعي شيعة لعلي بن أبي طالب
عليه السلام، فلما صار الأمر إلى معاوية انحاز إلى شهر زور من الموصل، وكتب
إليه معاوية:
أما بعد، فان الله قد أطفأ النائرة وأخمد الفتنة وجعل العاقبة للمتقين،
ولست بأبعد أصحابك همة، ولا أشدهم في سوء الأثر صنعا، كلهم قد أسهل
لطاعتي وسارع إلى الدخول في أمري، وقد بطأ بك ما بطأ، فادخل فيما دخل
فيه الناس يمح عنك سالف ذنوبك ومحى داثر (1) حسناتك، ولعلي لا أكون
لك دون من كان قبلي إن أبقيت واتقيت ووقيت وأحسنت، فاقدم علي آمنا
في ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وآله محفوظا من حسد القلوب وإحن
الصدور، وكفى بالله شهيدا.
فلم يقدم عليه عمرو بن الحمق، فبعث إليه من قتله وجاء برأسه، وبعث
به إلى امرأته.
فوضع في حجرها، فقالت: سترتموه عني طويلا، وأهديتموه إلي قتيلا،
فأهلا وسهلا من هدية غير قالية ولا مقلية! بلغ أيها الرسول عني معاوية
ما أقول: طلب الله بدمه، وعجل الوبيل (2) من نقمه، فقد أتى أمرا فريا وقتل بارا
تقيا، فأبلغ أيها الرسول معاوية ما قلت.
فبلغ الرسول ما قالت.

(1) في البحار: " ونحى دائر ".
(2) في البحار: " وعجل له الويل من نقمه "
90

فبعث إليها، فقال لها: أنت القائلة ما قلت؟ قالت: نعم غير ناكلة عنه
ولا معتذرة منه. قال لها: أخرجي من بلادي، قالت: أفعل فوالله ما هو لي
بوطن ولا أحن فيها إلى سجن (1)، ولقد طال بها سهري، واشتد بها عبري، وكثر فيها
ديني من غير ما قرت به عيني.
فقال عبد الله بن أبي سرح الكاتب: يا أمير المؤمنين إنها منافقة فألحقها
بزوجها، فنظرت إليه، فقالت: يا من بين لحييه كجثمان الضفدع ألا قتلت
من أنعمك خلعا وأصفاك كساء، إنما المارق المنافق من قال بغير الصواب
واتخذ العباد كالأرباب فأنزل كفره في الكتاب.
فأومأ معاوية إلى الحاجب بإخراجها، فقالت: واعجباه من ابن هند!
يشير إلي ببنانه ويمنعني نوافذ لسانه، أما والله لأبقرنه بكلام عتيد
كنواقد (2) الحديد أو ما أنا بآمنة بنت الشريد (3) (4).
(346)
زينب عليها السلام ويزيد
روى الشيخ الصدوق عن مشايخ بني هاشم وغيرهم من الناس: أنه لما
دخل علي بن الحسين عليهما السلام وحرمه على يزيد وجئ برأس الحسين
ووضع بين يديه في طست، فجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده، وهو
يقول:
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل

(1) في البحار: " إلا شجن ".
(2) في البحار: " كنوافذ ".
(3) في البحار: " بنت الرشيد ".
(4) الاختصاص: ص 16، والبحار: ج 8 ص 673 ط الكمباني عنه. وراجع قاموس الرجال: ج 10 ص
377 و ج 7 ص 142. وقد مر ج 1 ص 405
91

ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحا * ولقالوا يا زيد لا تشل
فجزيناه ببدر مثله * فأقمنا مثل بدر واعتدل
لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل
فقامت زينب بنت علي بن أبي طالب - وأمها فاطمة بنت رسول الله صلى
الله عليه وآله - وقالت:
الحمد لله ربت العالمين، والصلاة على جدي سيد المرسلين، صدق الله
سبحانه كذلك يقول: " ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوءا أن كذبوا بآيات
الله وكانوا بها يستهزؤن " أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض
وضيقت علينا آفاق السماء فأصبحنا لك في إسار نساق إليك سوقا في قطار
وأنت علينا ذو اقتدار أن بنا من الله هوانا وعليك منه كرامة وامتنانا؟ وأن
ذلك لعظم خطرك وجلالة قدرك؟ فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك
تضرب أصدريك فرحا وتنفض مذرويك مرحا، حين رأيت الدنيا لك
مستوسقة والأمور لديك متسقة، وحين صفا لك ملكنا وخلص لك سلطاننا،
فمهلا مهلا! لا تطش جهلا، أنسيت قول الله عز وجل: " ولا تحسبن الذين
كفروا إنما نملي لهم خيرا لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب
مهين ".
أمن العدل يا ابن الطلقاء! تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات
رسول الله سبايا؟ قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدوا بهن الأعداء
من بلد إلى بلد، وتستشرفهن أهل المناقل، ويتبرزن لأهل المناهل، ويتصفح
وجوههن القريب والبعيد والغائب والشهيد والشريف والوضيع والدني
والرفيع، ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حميم (حمي خ) عتوا منك
على الله، وجحودا لرسول الله، ودفعا لما جاء به من عند الله، ولاغرو منك
92

ولا عجب من فعلك.
وأنى يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الشهداء، ونبت لحمه بدماء
السعداء، ونصب الحرب لسيد الأنبياء، وجمع الأحزاب وشهر الحراب، وهز
السيوف في وجه رسول الله، أشد العرب لله جحودا، وأنكرهم له رسولا،
وأظهرهم له عدوانا، وأعتاهم على الرب كفرا وطغيانا، ألا إنها نتيجة خلال
الكفر، وضب يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر، فلا يستبطئ في بغضنا أهل
البيت من كان نظره إلينا شنفا وشنانا وإحنا وأضغانا، يظهر كفره برسوله،
ويفصح ذلك بلسانه، وهو يقول فرحا بقتل ولده وسبي ذريته غير متحوب
ولا مستعظم:
لأهلوا واستهلوا فرحا * ولقالوا: يا يزيد لا تشل
منتحيا على ثنايا أبي عبد الله، وكان مقبل رسول الله صلى الله عليه وآله
ينكتها بمخصرته قد التمع السرور بوجهه.
لعمري لقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دم سيد شباب
أهل الجنة وابن يعسوب العرب وشمس آل عبد المطلب، وهتفت بأشياخك
وتقربت بدمه إلى الكفرة من أسلافك، ثم صرخت بندائك، ولعمري لقد
ناديتهم لو شهدوك، ووشيكا تشهدهم ولن يشهدوك ولتود يمينك كما زعمت
شلت بك عن مرفقها وجذت، وأحببت أمك لم تحملك وأباك لم يلدك حين
تصير إلى سخط الله ومخاصمك رسول الله.
اللهم خذ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا
ونفض ذمارنا (1)، وقتل حماتنا، وهتك عنا سدولنا.
وفعلت فعلتك التي فعلت، وما فريت إلا جلدك، وما جزرت إلا لحمك،

(1) في البحار: " ونقص ذمامنا "
93

وسترد على رسول الله بما تحملت من ذريته وانتهكت من حرمته وسفكت من
دماء عترته ولحمته، حيث يجمع به شملهم ويلم به شعثهم وينتقم من ظالمهم
ويأخذ لهم بحقهم من أعدائهم، فلا يستفزنك الفرح بقتله، " ولا تحسبن الذي
قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من
فضله " وحسبك بالله وليا وحاكما، وبرسول الله خصيما، وبجبرئيل ظهيرا،
وسيعلم من بوأك (سولك) ومكنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلا
وأنكم شر مكانا وأضل سبيلا.
وما استصغاري قدرك ولا استعظامي تقريعك توهما لانتجاع الخطاب
فيك بعد أن تركت عيون المسلمين عبرى وصدورهم عند ذكره حرى، فتلك
قلوب قاسية، ونفوس طاغية، وأجسام محشوة بسخط الله ولعنة الرسول، قد
عشش فيه الشيطان وفرخ ومن هناك مثلك ما درج ونهض.
فالعجب كل العجب! لقتل الأتقياء وأسباط الأنبياء وسليل الأوصياء
بأيدي الطلقاء الخبيثة ونسل العهرة الفجرة، تنطف أكفهم من دمائنا،
وتتحلب أفواههم من لحومنا، وتلك الجثث الزاكية على الجبوب (الجبون خ)
الضاحية، تنتابها العواسل وتعفرها الفراعل (وتعفرها أمهات الفواعل خ ل)
فلئن اتخذتنا مغنما لتتخذنا وشيكا مغرما، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك،
وما الله بظلام للعبيد، فإلى الله المشتكى والمعول، وإليه الملجأ والمؤمل.
ثم كد كيدك واجهد جهدك، فوالذي شرفنا بالوحي والكتاب والنبوة
والانتخاب لا تدرك أمدنا ولا تبلغ غايتنا ولا تمحو ذكرنا، ولا يرحض عنك
عارنا، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد يوم ينادي
المنادي: " ألا لعن الله الظالم العادي " والحمد لله الذي حكم لأوليائه
بالسعادة، وختم لأصفيائه بالشهادة ببلوغ الإرادة، نقلهم إلى الرحمة والرأفة
و الرضوان والمغفرة، ولم يشق بهم غيرك، ولا ابتلي بهم سواك، ونسأله أن يكمل
94

لهم الأجر ويجزل لهم الثواب والذخر، ونسأله حسن الخلافة وجميل الإنابة، إنه
رحيم ودود.
فقال يزيد:
يا صيحة تحمد من صوائح * ما أهون الموت على النوائح (1)
(347)
زينب عليها السلام ويزيد
الطبري: عن فاطمة بنت علي عليه السلام قالت: لما أجلسنا بين يدي
يزيد رق لنا. ثم إن رجلا من أهل الشام أحمر قام إلى يزيد، فقال: هب لي
هذه - يعنيني - فأرعدت وفرقت وأخذت بثياب أختي زينب - وكانت تعلم أن
ذلك لا يكون - فقالت: كذبت والله ولؤمت! ما ذلك لك ولا له.
فغضب يزيد، فقال: كذبت! إن ذلك لي ولو شئت أن أفعله لفعلت،
قالت: كلا والله! ما جعل الله ذلك لك إلا تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا.
فغضب واستطار، ثم قال: إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين
أبوك وأخوك، فقالت: بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت
وأبوك.
قال: كذبت يا عدوة الله! فقالت: أنت أمير مسلط تشتم ظالما وتقهر
بسلطانك.
فكأنه استحيى فسكت.
نقله الإرشاد واللهوف لكن بدلا " فاطمة بنت علي " بفاطمة بنت

(1) الاحتجاج: ج 2 ص 34. وراجع قاموس الرجال: ج 10 ص 450. وحياة الحسين: ج 3
ص 380 عن أعلام النساء: ج 2 ص 504 وبلاغات النساء ص 21. ومقتل الخوارزمي: ج 2 ص 64.
والسيدة زينب. وأخبار الزينبيات: ص 86. والحدائق الوردية: ج 1 ص 129 - 131 واللهوف: ص 79.
والبحار: ج 45 ص 133 و 157
95

الحسين عليه السلام، والظاهر أن الصواب الأول، لكونه الأصل (1).
(348)
زينب عليها السلام وأهل الكوفة
قال بشير بن خزلم الأسدي: نظرت إلى زينب بنت علي عليه السلام يومئذ
(في الكوفة) ولم أر خفرة أنطق والله منها، كأنها تفرغ من لسان أمير المؤمنين
عليه السلام وقد أومأت إلى الناس: أن اسكتوا! فارتدت الأنفاس وسكنت
الأجراس، ثم قالت:
الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار. أما بعد، يا أهل
الكوفة! يا أهل الختل والغدر! أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة، إنما
مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا
بينكم. ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف والصدر الشنف وملق الإماء
وغمز الأعداء؟ أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة، ألا ساء
ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون وتنتحبون؟ إي والله! فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا، فلقد ذهبتم
بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا، وأنى ترحضون قتل سليل
خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة وملاذ خيرتكم ومفزع
نازلتكم ومنار حجتكم ومدرة سنتكم، ألا ساء ما تزرون، وبعدا لكم
وسحقا، فلقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب
من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.
ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي كريمة له
أبرزتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي حرمة له انتهكتم؟ ولقد جئتم بها صلعاء

(1) قاموس الرجال: ج 10 ص 448. والاحتجاج: ج 2 ص 38
96

عنقاء خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو ملاء السماء، أفعجبتم أن مطرت
السماء دما؟ ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون.
فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا يخفره البدار ولا يخاف فوت الثار، وإن
ربكم لبالمرصاد.
قال الراوي: فوالله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون وقد وضعوا
أيديهم في أفواهم، الحديث (1).
(349)
زينب عليها السلام وابن زياد
في الطبري والارشاد واللهوف - واللفظ للأخير -: جلس ابن زياد في القصر
للناس وأذن إذنا عاما، وجئ برأس الحسين عليه السلام فوضع بين يديه وأدخل
نساء الحسين عليه السلام وصبيانه إليه، فجلست زينب بنت علي عليه السلام.
فأقبل عليها، فقال: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم، فقالت:
إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا.
فقال ابن زياد: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت:
ما رأيت إلا جميلا! هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم،
وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن يكون الفلج يومئذ
هبلتك أمك يا ابن مرجانة! فغضب ابن زياد، وكأنه هم بها، فقال له عمرو بن
حريث: إنها امرأة والمرأة لا تؤخذ بشئ من منطقها، فقال ابن زياد: لقد شفى

(1) قاموس الرجال: ج 10 ص 448 عن اللهوف. وراجع الاحتجاج: ج 2 ص 29 - 30. والمناقب
لابن شهرآشوب: ج 2 ص 226 الطبع الحجري والبحار: ج 45 ص 108 عن اللهوف وص 163 عن
الاحتجاج / 164 عن مجالس المفيد. وأمالي الشيخ رحمه الله: ج 1 ص 90. وحياة الحسين عليه السلام:
ج 3 ص 335 عن مقتل الحسين للمقرم. ونور الأبصار للشبلنجي: ص 167. وبلاغات النساء: ص 23،
إلا أنه رواها لأم كلثوم عليها السلام
97

الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك، فقالت: لعمري!
لقد قتلت كهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاك فقد
اشتفيت.
فقال ابن زياد: هذه سجاعة ولقد كان أبوك شاعرا سجاعا، فقالت:
يا ابن زياد ما للمرأة والسجاعة.
وزاد الطبري إن لي عن السجاعة لشغلا، ولكن نفثي ما أقول (1).
(350)
أم سلمة وعائشة
قال أبو مخنف: جاءت عائشة إلى أم سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم
عثمان، فقالت لها: يا بنت أبي أمية أنت أول مهاجرة من أزواج النبي صلى
الله عليه وآله وأنت كبيرة أمهات المؤمنين، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله
يقسم لنا من بيتك، وكان جبرئيل أكثر ما يكون في منزلك.
فقالت أم سلمة: لأمر ما قلت هذه المقالة؟ فقالت عائشة: إن عبد الله
أخبرني أن القوم استتابوا عثمان، فلما تاب قتلوه صائما في شهر حرام! وقد
عزمت على الخروج إلى البصرة ومعي الزبير وطلحة، فاخرجي معنا لعل الله أن
يصلح هذا الأمر على أيدينا وبنا.
فقالت أم سلمة: إنك كنت بالأمس تحرضين على عثمان وتقولين فيه
أخبث القول وما كان اسمه عندك إلا نعثلا! وإنك لتعرفين منزلة علي بن أبي
طالب عند رسول الله صلى الله عليه وآله، أفأذكرك؟ قالت: نعم.
قالت: أتذكرين يوم أقبل عليه السلام ونحن معه حتى إذا هبط من قديد

(1) قاموس الرجال: ج 10 ص 451 - 452 عنهم. وحياة الحسين: ج 3 ص 344 - 345 عن المنتظم: ج 5
ص 98. ومقتل أبي مخنف: ص 104 بنحو آخر. ومحادثات النساء: ص 108
98

ذات الشمال، خلا بعلي يناجيه فأطال، فأردت أن تهجمي عليهما فنهيتك
فعصيتني فهجمت عليهما، فما لبثت أن رجعت باكية، فقلت: ما شأنك؟
فقلت: إني هجمت عليهما وهما يتناجيان، فقلت لعلي: ليس لي من رسول الله
إلا يوم من تسعة أيام، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي! فأقبل رسول الله
صلى الله عليه وآله علي وهو غضبان محمر الوجه، فقال: " ارجعي وراءك! والله
لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلا وهو خارج من الإيمان "
فرجعت نادمة ساقطة؟ قالت عائشة: نعم أذكر ذلك.
قالت: وأذكرك أيضا: كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله
وأنت تغسلين رأسه وأنا أحيس له حيسا - وكان الحيس يعجبه - فرفع رأسه
وقال: " يا ليت شعري! أيتكن صاحبة الجمل الأذنب تنبحها كلاب الحوأب
فتكون ناكبة عن الصراط " فرفعت يدي من الحيس، فقلت: أعوذ بالله
وبرسوله من ذلك! ثم ضرب على ظهرك وقال: " إياك أن تكونيها! " ثم قال:
" يا بنت أبي أمية إياك أن تكونيها! يا حميراء أما أنا فقد أنذرتك! " قالت
عائشة: نعم أذكر هذا.
قالت: وأذكرك أيضا: كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله
في سفر له وكان علي يتعاهد نعلي رسول الله صلى الله عليه وآله فيخصفها،
ويتعاهد أثوابه فيغسلها، فنقبت له نعل، فأخذها يومئذ يخصفها، وقعد في ظل
سمرة. وجاء أبوك ومعه عمر فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب، ودخلا
يحادثانه فيما أراد. ثم قالا: يا رسول الله إنا لا ندري قدر ما تصحبنا، فلو أعلمتنا
من يستخلف علينا ليكون بعدك مفزعا؟ فقال لهما: " أما إني قد أرى مكانه،
ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران " فسكتا ثم
خرجا. فلما خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قلت له - وكنت أجرأ
عليه منا -: من كنت يا رسول الله مستخلفا عليهم؟ فقال: " خاصف النعل "
99

فنظرنا فلم نر أحدا إلا عليا، فقلت: يا رسول الله ما أرى إلا عليا، فقال: هو
ذاك. فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك.
فقالت: فأي خروج تخرجين بعد هذا؟ فقالت: إنما أخرج للإصلاح بين
الناس وأرجو فيه الأجر إن شاء الله! فقالت: أنت ورأيك.
فانصرفت عائشة عنها وكتبت أم سلمة بما قالت وقيل لها إلى علي
عليه السلام (1).
(351)
أبو سعيد الخدري وأبو هارون العبدي
عن أبي هارون العبدي، قال: كنت أرى رأي الخوارج لا رأي لي غيره،
حتى جلست إلى أبي سعيد الخدري - رحمه الله - فسمعته يقول: أمر الناس
بخمس، فعملوا بأربع وتركوا واحدة، فقال له رجل: يا أبا سعيد ما هذه الأربع
التي عملوا بها؟ قال: " الصلاة والزكاة والحج وصوم شهر رمضان " قال: فما
الواحدة التي تركوها؟ قال: " ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام " قال
الرجل: وأنها المفترضة معهن؟ قال أبو سعيد: نعم ورب الكعبة! قال الرجل:
فقد كفر الناس إذن! قال أبو سعيد: فما ذنبي؟ (2)
(352)
خطبة أبي ذر
بلغ عثمان أن أبا ذر يقعد في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ويجتمع إليه الناس فيحدث بما فيه الطعن عليه، وأنه وقف بباب المسجد فقال:

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 6 ص 217 - 218. وقاموس الرجال: في ترجمة أم سلمة عنه. وقد
مر ص 28 وقد أعدناه لما فيه من الفائدة. وراجع فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 281.
(2) البحار: ج 27 ص 102 عن مجالس المفيد رحمه الله، و ج 22 ص 115 عنه أيضا
100

أيها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري، أنا
جندب بن جنادة الربذي، " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران
على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم " محمد الصفوة من نوح،
فالأول من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من محمد، إنه
أشرف شريفهم، واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة وكالكعبة
المستورة، أو كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية، أو كالقمر الساري، أو
كالنجوم الهادية، أو كالشجرة الزيتونية أضاء زيتها وبورك زبدها (زندها خ)
ومحمد وارث علم آدم وما فضلت به النبيون، وعلي بن أبي طالب وصي محمد
ووارث علمه.
أيها الأمة المتحيرة! أما لو قدمتم من قدم الله وأخرتم من أخر الله وأقررتم
الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت
أقدامكم، ولما عال ولي الله، ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان
في حكم الله إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيه، فأما إذ
فعلتم ما فعلتم فذوقوا وبال أمركم " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون " (1).
(353)
ابن أذينة وابن أبي ليلى
روينا عن عمر بن أذينة - وكان من أصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمد
عليهما السلام - أنه قال: دخلت يوما على عبد الرحمن بن أبي ليلى بالكوفة وهو

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 171 والاحتجاج: ج 1 ص 228. وكنز الفوائد للكراجكي ص 282،
وفيهما أنها كانت في مكة وهو آخذ بحلقة باب الكعبة. والبحار: ج 27 ص 320 عن تفسير فرات. وقد مر نبذ منها
عن الغدير راجع ص 16. والبحار: ج 23 ص 120 و 121 و 123 و 135 بأسانيد متعددة. وأمالي الشيخ: ج 1
ص 96
101

قاض، فقلت: أردت - أصلحك الله - أن أسألك عن مسائل (وكنت حديث
السن) فقال: سل يا ابن أخي عما شئت.
فقلت: أخبرني عنكم معاشر القضاة ترد عليكم القضية في المال والفرج والدم،
فتقضي أنت فيها برأيك، ثم ترد تلك القضية بعينها على قاضي مكة فيقضي
فيها بخلاف قضيتك، وترد على قاضي البصرة وقضاة اليمن وقاضي المدينة
فيقضون فيها بخلاف ذلك، ثم تجتمعون عند خليفتكم الذي استقضاكم
فتخبرونه باختلاف قضاياكم فيصوب قول كل واحد منكم! وإلهكم واحد
ونبيكم واحد ودينكم واحد، أفأمركم الله عز وجل بالاختلاف فأطعتموه؟ أم
نهاكم عنه فعصيتموه؟ أم كنتم شركاء لله في حكمه فلكم أن تقولوا وعليه أن
يرضى؟ أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بكم على إتمامه؟ أم أنزله الله تاما
فقصر رسول الله صلى الله عليه وآله عن أدائه؟ أم ماذا تقولون؟
فقال: من أنت يا فتى؟ قلت: من أهل البصرة. قال: من أيها؟ قلت: من
عبد القيس. قال: من أيهم؟ قلت: من بني أذينة. قال: ما قرابتك من
عبد الرحمن بن أذينة؟ قلت: هو جدي، فرحب بي وقربني، وقال: أي فتى!
لقد سألت فغلظت، وانهمكت فعوصت، وسأخبرك إن شاء الله.
أما قولك في اختلاف القضايا: فإنه ما ورد علينا من أمر القضايا مما له
في كتاب الله أصل وفي سنة نبيه فليس لنا أن نعدو الكتاب والسنة، وما ورد
علينا ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله فإنا نأخذ فيه برأينا.
قلت: ما صنعت شيئا، لأن الله عز وجل يقول: " ما فرطنا في الكتاب من
شئ " وقال: " فيه تبيان كل شئ " أرأيت لو أن رجلا عمل بما أمره الله
وانتهى عما نهاه الله عنه أبقي لله شئ يعذبه عليه إن لم يفعله أو يثيبه عليه إن
فعله؟ قال: وكيف يثيبه على ما لم يأمره به أو يعاقبه على ما لم ينهه عنه!.
قلت: وكيف يرد عليك من الأحكام ما ليس له في كتاب الله أثر ولا في
102

سنة نبيه خبر؟ قال: أخبرك يا ابن أخي حديثا حدثناه بعض أصحابنا، يرفع
الحديث إلى عمر بن الخطاب: أنه قضى قضية بين رجلين، فقال له أدنى
القوم إليه مجلسا: أصبت يا أمير المؤمنين، فعلاه عمر بالدرة وقال: ثكلتك
أمك! والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ، إنما رأي اجتهدته، فلا تزكونا في
وجوهنا.
قلت: أفلا أحدثك حديثا؟ قال: وما هو؟.
قلت: أخبرني أبي، عن أبي القاسم العبدي، عن أبان، عن علي بن أبي
طالب عليه السلام أنه قال: " القضاة ثلاثة: هالكان وناج، فأما الهالكان
فجائر جار متعمدا ومجتهد أخطأ، والناجي من عمل بما أمره الله به " فهذا نقض
حديثك يا عم!.
قال: أجل والله يا ابن أخي! فتقول: إن كل شئ في كتاب الله؟ قلت:
الله قال ذلك، وما من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي إلا وهو في كتاب الله،
عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله، ولقد أخبرنا عز وجل فيه بما لا نحتاج
إليه فكيف بما نحتاج إليه؟.
قال: كيف قلت؟ قلت: قوله: " فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها "
قال: فعند من يوجد علم ذلك؟ قال: عند من عرفت. قال: وددت لو أني
عرفته فأغسل قدميه وأخدمه وأتعلم منه.
قلت: أناشدك الله هل تعلم رجلا كان إذا سأل رسول الله صلى الله
عليه وآله أعطاه وإذا سكت عنه ابتدأه؟ قال: نعم ذلك علي بن أبي طالب
عليه السلام، قلت: فهل علمت أن عليا سأل أحدا بعد رسول الله صلى الله
عليه وآله عن حلال أو حرام؟
قال: لا، قلت: فهل علمت أنهم كانوا
يحتاجون إليه ويأخذون عنه؟ قال: نعم، قلت: فذلك عنده.
قال: فقد مضى فأين لنا به؟ قلت: تسأل في ولده، فإن ذلك العلم فيهم وعندهم.
103

قال: وكيف لي بهم؟ قلت: أرأيت قوما كانوا في مفازة من الأرض
ومعهم أدلاء، فوثبوا عليهم فقتلوا بعضهم وأخافوا بعضهم فهرب واستتر من بقي
لخوفه، فلم يجدوا من يدلهم فتاهوا في تلك المفازة حتى هلكوا، ما تقول فيهم؟
قال: إلى النار.
واصفر وجهه، وكانت في يده سفرجلة فضرب بها الأرض فتهشمت،
وضرب بين يديه وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! (1).
(354)
الأعمش وأبو حنيفة وابن قيس
عن شريك، قال: بعث إلينا الأعمش وهو شديد المرض، فأتيناه وقد
اجتمع عنده أهل الكوفة - وفيهم أبو حنيفة وابن قيس الماصر - فقال لابنه:
يا بني أجلسني، فأجلسه، فقال: يا أهل الكوفة! إن أبا حنيفة وابن قيس الماصر
أتياني فقالا: إنك قد حدثت في علي بن أبي طالب عليه السلام أحاديث،
فارجع عنها فإن التوبة مقبولة ما دامت الروح في البدن، فقلت لهما: مثلكما
يقول لمثلي هذا! أشهدكم يا أهل الكوفة فإني في آخر يوم من أيام الدنيا وأول
يوم من أيام الآخرة، إني سمعت عطاء بن رباح يقول: سألت رسول الله صلى
الله عليه وآله عن قول الله عز وجل: " ألقيا في جهنم كل كفار عنيد " فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: " أنا وعلي نلقي في جهنم كل من عادانا ".
فقال أبو حنيفة لابن قيس: قم بنا لا يجئ بما هو أعظم من هذا، فقاما
وانصرفا (2).

(1) دعائم الإسلام: ج 1 ص 92 - 95. والبحار: ج 104 ص 270 - 272 عنه.
(2) البحار: ج 2 ص 273 عن الكنز ج 1 ص 342 وقد مر ص 335 بنحو آخر
104

(355)
الأعمش وهشام بن عبد الملك
في حياة الحيوان للدميري (في عنوان الشاة): أن هشام بن عبد الملك بعث
إلى الأعمش: أن اكتب إلي بمناقب عثمان ومساوئ علي.
فأخذ الأعمش القرطاس أدخله في فم شاة فلاكته، وقال للرسول: قل
له: هذا جوابه!.
فذهب الرسول، ثم عاد وقال: إنه آلى أن يقتلني إن لم آته بالجواب،
وتحيل عليه بإخوته، فقالوا: أفده من القتل. فلما ألحوا عليه كتب إليه:
أما بعد، فلو كان لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كان لعلي
مساوي أهل الأرض ما ضرتك، فعليك بخويصة نفسك، والسلام (1).
(356)
هشام وضرار
سأل ضرار هشام بن الحكم عن الدليل على الإمام بعد النبي صلى الله
عليه وآله.
فقال هشام: الدلالة عليه ثمان دلالات: أربعة منها في نعت نسبه،
وأربعة في نعت نفسه.
أما الأربعة التي في نعت نسبه: فأن يكون معروف القبيلة، معروف الجنس،
معروف النسب، معروف البيت.
وذلك أنه إذا لم يكن معروف القبيلة معروف الجنس معروف النسب
معروف البيت، جاز أن يكون في أطراف الأرض وفي كل جنس من الناس.

(1) قاموس الرجال: ج 4 ص 495. وسيأتي ج 3 ص 188 عن وفيات الأعيان
105

فلما لم يجز أن يكون إلا هكذا ولم نجد جنسا في العالم أشهر من جنس محمد
صلى الله عليه وآله وهو جنس العرب الذي منه صاحب الملة والدعوة الذي
ينادى باسمه في كل يوم وليلة خمس مرات على الصوامع والمساجد في جميع
الأماكن " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله "، ووصلت دعوته إلى كل
بر وفاجر من عالم وجاهل معروف غير منكر في كل يوم وليلة، فلم يجز أن
يكون الدليل [إلا] في أشهر الأجناس. ولما لم يجز أن يكون إلا في هذا
الجنس لشهرته، لم يجز إلا أن يكون في هذه القبيلة التي منها صاحب الملة دون
سائر القبائل من العرب. ولما لم يجز إلا أن يكون في هذه القبيلة التي منها
صاحب الدعوة لاتصالها بالملة، لم يجز إلا أن يكون في هذا البيت الذي هو
بيت النبي صلى الله عليه وآله لقرب نسبه من النبي صلى الله عليه وآله
إشارة إليه دون من أهل بيته.
ثم إن لم يكن إشارة إليه اشترك أهل هذا البيت وادعيت فيه، فإذا
وقعت الدعوة فيه وقع الاختلاف والفساد بينهم، ولا يجوز إلا أن يكون من
النبي صلى الله عليه وآله إشارة إلى رجل من أهل بيته دون غيره لئلا يختلف
فيه أهل هذا البيت أنه أفضلهم وأعلمهم وأصلحهم لذلك الأمر.
وأما الأربعة التي في نعت نفسه: فأن يكون أعلم الخلق، وأسخى الخلق
وأشجع الخلق، وأعف الخلق وأعصمهم من الذنوب صغيرها وكبيرها، لم تصبه
فترة ولا جاهلية، ولا بد أن يكون في كل زمان قائم بهذه الصفة إلى أن تقوم
الساعة.
فقال عبد الله بن يزيد الأباضي وكان حاضرا: من أين زعمت يا هشام أنه
لا بد أن يكون أعلم الخلق؟ قال: إن لم يكن عالما [لم] يؤمن أن ينقلب شرائعه
وأحكامه، فيقطع من يجب عليه الحد ويحد من يجب عليه القطع، وتصديق
ذلك قول الله عز وجل: " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا
106

أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ".
قال: فمن أين زعمت أنه لا بد أن يكون معصوما من جميع الذنوب؟ قال:
إن لم يكن معصوما لم يؤمن أن يدخل فيما دخل فيه غيره من الذنوب، فيحتاج
إلى من يقيم عليه الحد كما يقيمه على غيره، وإذا دخل في الذنوب لم يؤمن أن
يكتم على جاره وحبيبه وقريبه وصديقه، وتصديق ذلك قول الله عز وجل:
" إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ".
قال: فمن أين زعمت أنه أشجع الخلق؟ قال: لأنه قيمهم الذي يرجعون
إليه في الحرب، فإن هرب فقد باء بغضب من الله، ولا يجوز أن يبوء الإمام
بغضب من الله، وذلك قول الله عز وجل: " وإذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا
تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء
بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ".
قال: فمن أين زعمت أنه لا بد أن يكون أسخى الخلق؟ قال: لأنه إن لم
يكن سخيا لم يصلح للإمامة، لحاجة الناس إلى نواله وفضله والقسمة بينهم
بالسوية، ليجعل الحق في موضعه، لأنه إذا كان سخيا لم تتق نفسه إلى أخذ
شئ من حقوق الناس والمسلمين، ولا يفضل نصيبه في القسمة على أحد من
رعيته، وقد قلنا: إنه معصوم.
فإذا لم يكن أشجع الخلق وأعلم الخلق وأسخى الخلق وأعف الخلق لم يجز
أن يكون إماما (1).
(357) هشام وابن أبي عمير
عن ابن أبي عمير، قال: ما سمعت ولا استفدت من هشام بن الحكم في

(1) البحار: ج 15 ص 142 عن علل الشرائع: ص 202 الباب 155
107

طول صحبتي إياه شيئا أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام، فإني
سألته يوما عن الإمام أهو معصوم؟ قال: نعم، قلت له: فما صفة العصمة فيه؟
وبأي شئ تعرف؟ قال: إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها:
الحرص والحسد والغضب والشهوة، فهذه منتفية عنه.
لا يجوز أن يكون حريصا على هذه الدنيا وهي تحت خاتمه، لأنه خازن
المسلمين فعلى ماذا يحرص؟
ولا يجوز أن يكون حسودا، لأن الإنسان إنما يحسد من فوقه وليس فوقه أحد،
فكيف يحسد من هو دونه؟
ولا يجوز أن يغضب لشئ من أمور الدنيا إلا أن يكون غضبه لله عز وجل،
فإن الله قد فرض عليه إقامة الحدود، وأن لا تأخذه في الله لومة لائم ولا رأفة في
دينه حتى يقيم حدود الله عز وجل.
ولا يجوز أن يتبع الشهوات ويؤثر الدنيا على الآخرة، لأن الله عز وجل حبب
إليه الآخرة كما حبب إلينا الدنيا، فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدنيا،
فهل رأيت أحدا ترك وجها حسنا لوجه قبيح، وطعاما طيبا لطعام مر، وثوبا
لينا لثوب خشن، ونعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية؟ (1).
الربيع وعبد الله بن الحسن
عن الربيع بن عبد الله، قال: وقع بيني وبين عبد الله بن الحسن كلام في
الإمامة، فقال عبد الله بن الحسن: إن الإمامة في ولد الحسن والحسين
عليهما السلام، فقلت: بلى هي في ولد الحسين إلى يوم القيامة دون ولد الحسن.

(1) البحار: ج 25 ص 192 عن الخصال والعلل ومعاني الأخبار والأمالي. وراجع قاموس الرجال: ج 9
ص 337 وبهج الصباغة: ج 3 ص 33
108

فقال لي: وكيف صارت في ولد الحسين دون ولد الحسن عليهما السلام.
وهما سيدا شباب أهل الجنة وهما في الفضل سواء، إلا أن للحسن على الحسين
فضلا بالكبر، وكان الواجب أن تكون الإمامة إذن في ولد الأفضل؟
فقلت له: إن موسى وهارون كانا نبيين مرسلين، وكان موسى أفضل من
هارون، فجعل الله عز وجل النبوة والخلافة في ولد هارون دون ولد موسى،
وكذلك جعل الله عز وجل الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن ليجري في
هذه الأمة سنة من قبلها من الأمم حذو النعل بالنعل، فما أجبت في أمر موسى
وهارون عليهما السلام بشئ فهو جوابي في أمر الحسن والحسين عليهما السلام،
فانقطع.
ودخلت على الصادق عليه السلام، فلما بصر بي قال لي: أحسنت يا ربيع!
فيما كلمت به عبد الله بن الحسن، ثبتك الله (1).
(359)
شيعي وناصبي
قال ناصبي لشيعي: أتحب أم المؤمنين؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: يقول
النبي صلى الله عليه وآله: لم تجد امرأة غير امرأتي تحبها؟ ما لي ولزوجة النبي
صلى الله عليه وآله! أفترضى أن أحب امرأتك؟ (2).
(360)
المفيد والسائل
قال الشيخ السعيد المفيد - قدس الله روحه - في المسائل السروية في جواب
من سأل عن تزويج النبي صلى الله عليه وآله ابنته زينب ورقية من عثمان،

(1) البحار: ج 25 ص 258 - 259 عن علل الشرائع.
(2) البحار: ج 22 ص 246. وزهر الربيع: ص 58 و 259
109

قال - رحمه الله - (بعد إيراد بعض الأجوبة عن تزويج أمير المؤمنين عليه السلام
بنته من عمر): وليس ذلك بأعجب من قول لوط: " هؤلاء بناتي هن أطهر
لكم " فدعاهم إلى العقد عليهم لبناته وهم كفار ضلال قد أذن الله تعالى في
هلاكهم، وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وآله ابنتيه قبل البعثة كافرين
يعبدان الأصنام، أحدهما عتبة بن أبي لهب، والآخر أبو العاص بن الربيع،
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله فرق بينهما وبين ابنتيه، فمات عتبة على
الكفر، وأسلم أبو العاص، فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يكن صلى الله عليه
وآله في حال من الأحوال كافرا ولا مواليا لأهل الكفر، وقد زوج من يتبرأ من
دينه وهو معاد له في الله عز وجل، وهما اللذان زوجهما عثمان بعد هلاك عتبة
وموت أبي العاص، وإنما زوجه النبي صلى الله عليه وآله على ظاهر الإسلام،
ثم إنه تغير بعد ذلك، ولم يكن على النبي صلى الله عليه وآله تبعة فيما يحدث في
العاقبة.
هذا على قول بعض أصحابنا، وعلى قول فريق آخر: إنه زوجه على الظاهر
وكان باطنه مستورا عنه، ويمكن أن يستر الله عن نبيه صلى الله عليه وآله نفاق
كثير من المنافقين، وقد قال الله سبحانه: " ومن أهل المدينة مردوا على النفاق
لا تعلمهم نحن نعلمهم " فلا ينكر أن يكون في أهل مكة كذلك، والنكاح على
الظاهر دون الباطن.
وأيضا يمكن أن يكون الله تعالى قد أباحه مناكحة من يظاهر الإسلام وإن
علم من باطنه النفاق، وخصه بذلك ورخص له فيه، كما خصه في أن يجمع
بين أكثر من أربع حرائر في النكاح، وأباحه أن ينكح بغير مهر، ولم يحظر عليه
المواصلة في الصيام ولا الصلاة بعد قيامه من النوم بغير وضوء، وأشباه ذلك مما
خص به وحظر على غيره من عامة الناس.
فهذه أجوبة ثلاثة عن تزويج النبي صلى الله عليه وآله عثمان، وكل
110

واحد منها كاف بنفسه مستغن عما سواه، والله الموفق للصواب.. (1).
(361)
الإمام الصادق عليه السلام وولد العباس
توفي مولى لرسول الله صلى الله عليه وآله لم يخلف وارثا، فخاصم فيه ولد
العباس أبا عبد الله عليه السلام وكان هشام بن عبد الملك قد حج في تلك
السنة، فجلس لهم.
فقال داود بن علي: الولاء لنا، وقال أبو عبد الله عليه السلام: بل الولاء لي.
فقال داود بن علي: إن أباك قاتل معاوية، فقال: إن كان أبي قاتل معاوية
فقد كان حظ أبيك فيه الأوفر، ثم فر بجنايته وقال: لأطوقنك غدا طوق
الحمامة. فقال داود بن علي: كلامك هذا أهون علي من بعرة في وادي
الأزرق، فقال: أما إنه واد ليس لك ولا لأبيك فيه حق. قال: فقال هشام:
إذا كان غدا جلست لكم فلما أن كان من الغد خرج أبو عبد الله عليه السلام
ومعه كتاب في كرباسة، وجلس لهم هشام، فوضع أبو عبد الله عليه السلام
الكتاب بين يديه.
فلما أن قرأ قال: ادعوا لي جندل الخزاعي وعكاشة الضمري - وكانا
شيخين قد أدركا الجاهلية - فرمى بالكتاب إليهما، فقال: تعرفان هذه الخطوط؟
قالا: هذا خط العاص بن أمية، وهذا خط فلان وفلان لقوم فلان من قريش،
وهذا خط حرب بن أمية، فقال هشام: يا أبا عبد الله أرى خطوط أجدادي
عندكم! فقال: نعم، قال: قد قضيت بالولاء لك.
قال: فخرج وهو يقول:
إن عادت العقرب عدنا لها * وكانت النعل لها حاضرة

(1) البحار: ج 22 ص 164
111

قال: فقلت: ما هذا الكتاب جعلت فداك؟ قال: إن نثيلة كانت أمة
لأم الزبير ولأبي طالب وعبد الله، فأخذها عبد المطلب فأولدها فلانا. فقال له
الزبير: هذه الجارية ورثناها من آمنا وابنك هذا عبد لنا، فتحمل عليه ببطون
قريش. قال: فقال له: قد أجبتك على خلة على أن لا يتصدر ابنك هذا في
مجلس ولا يضرب معنا في سهم، فكتب عليه كتابا وأشهد عليه، فهو هذا
الكتاب (1).
(362)
سلمان الفارسي ورجل
عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده عليهم السلام قال: وقع
بين سلمان الفارسي - رحمه الله - وبين رجل كلام وخصومة، فقال له الرجل:
من أنت يا سلمان؟ فقال سلمان: أما أولي وأولك فنطفة قذرة، وأما آخري
وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة ووضعت الموازين، فمن ثقل ميزانه
فهو الكريم، ومن خف ميزانه فهو اللئيم (2).
(363)
سلمان الفارسي وعمر
احتجاج سلمان الفارسي - رضوان الله عليه - على عمر بن الخطاب في
جواب كتاب كتبه إليه، كان حين هو عامله على المدائن بعد حذيفة بن
اليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سلمان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله إلى عمر بن الخطاب:

(1) البحار: ج 22 ص 270 عن روضة الكافي.
(2) البحار: ج 22 ص 355 عن الأمالي وبهج الصباغة: ج 11 ص 47
112

أما بعد، فإنه أتاني منك كتاب يا عمر تؤنبني وتعيرني، وتذكر فيه أنك
بعثتني أميرا على أهل المدائن، وأمرتني أن أقص أثر حذيفة وأستقصي أيام
أعماله وسيره ثم أعلمك قبيحها، وقد نهاني الله عن ذلك يا عمر في محكم
كتابه حيث قال: " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن
إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا
فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم " وما كنت لأعصي الله في أثر حذيفة وأطيعك.
وأما ما ذكرت: أني أقبلت على سف الخوص وأكل الشعير، فما هما مما
يعير به مؤمن ويؤنب عليه، وأيم الله يا عمر! لأكل الشعير وسف الخوص
والاستغناء به عن رفيع المطعم والمشرب وعن غصب مؤمن حقه وادعاء
ما ليس له بحق أفضل وأحب إلى الله عز وجل وأقرب للتقوى، ولقد رأيت
رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أصاب الشعير أكل وفرح به ولم يسخطه.
وأما ما ذكرت: من إعطائي، فإني قدمته ليوم فاقتي وحاجتي، ورب العزة
يا عمر! ما أبالي إذا جاز طعامي لهواتي وانساغ في حلقي ألباب البر ومخ المعز
كان أو خشارة الشعير.
وأما قولك: إني ضعفت سلطان الله وهنته وأذللت نفسي وامتهنتها حتى
جهل أهل المدائن إمارتي واتخذوني جسرا يمشون فوقي ويحملون علي ثقل
حمولتهم، وزعمت أن ذلك مما يوهن سلطان الله ويذله.
فاعلم: أن التذلل في طاعة الله أحب إلي من التعزز في معصيته وقد
علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله يتألف الناس ويتقرب منهم
ويتقربون منه في نبوته وسلطانه حتى كأنه بعضهم في الدنو منهم، وقد كان
يأكل الجشب ويلبس الخشن وكان الناس عنده قرشيهم وعربيهم وأبيضهم
وأسودهم سواء في الدين.
113

وأشهد أني سمعته يقول: " من ولى سبعة من المسلمين بعدي ثم لم يعدل
فيهم لقي الله وهو عليه غضبان " فليتني يا عمر أسلم من عمارة (1) المدائن مع
ما ذكرت أني أذللت نفسي وامتهنتها، فكيف يا عمر حال من ولي الأمة بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله وإني سمعت الله يقول: " تلك الدار الآخرة
نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ".
إعلم أني لم أتوجه اسوسهم وأقيم حدود الله فيهم إلا بإرشاد دليل عالم
فنهجت فيهم بنهجه وسرت فيهم بسيرته (2).
واعلم أن الله تبارك وتعالى لو أراد بهذه الأمة خيرا أو أراد بهم رشدا
لولى عليهم أعلمهم وأفضلهم، ولو كانت هذه الأمة من الله خائفين، ولقول
نبي الله متبعين، وبالحق عالمين ما سموك أمير المؤمنين، فاقض ما أنت قاض إنما
تقضي هذه الحياة الدنيا، ولا تغتر بطول عفو الله عنك وتمديده بذلك من
تعجيل عقوبته.
واعلم أنه سيدركك عواقب ظلمك في دنياك وآخرتك، وسوف تسأل
عما قدمت وأخرت، والحمد لله وحده (3).
(364)
أبو ذر بالشام
عن أبي جهضم الأزدي، عن أبيه - وكان من أهل الشام - قال: لما سير
عثمان أبا ذر من المدينة إلى الشام كان يقص علينا، فيحمد الله فيشهد شهادة
الحق، ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله ويقول: أما بعد، فإنا كنا في

(1) في البحار: " إمارة ".
(2) يريد عليا عليه السلام.
(3) البحار: ج 22 ص 360 - 361 عن الاحتجاج ج 1 ص 185
114

جاهليتنا قبل أن ينزل علينا الكتاب ويبعث فينا الرسول، ونحن نوفي بالعهد،
ونصدق الحديث (بالحديث خ) ونحسن الجوار، ونقري الضيف، ونواسي الفقير،
فلما بعث الله تعالى فينا رسول الله وأنزل علينا كتابه كانت تلك الأخلاق
يرضاها الله ورسوله، وكان أحق بها أهل الإسلام وأولى أن يحفظوها، فلبثوا
بذلك ما شاء الله أن يلبثوا.
ثم إن الولاة قد أحدثوا أعمالا قباحا ما نعرفها: من سنة تطفأ، وبدعة
تحيى، وقائل بحق مكذب، وأثرة لغير تقي، وأمين مستأثر عليه من الصالحين.
اللهم إن كان ما عندك خيرا لي فاقبضني إليك غير مبدل ولا مغير، وكان
يعيد هذا الكلام ويبديه.
فأتى حبيب بن مسلمة معاوية بن أبي سفيان، فقال: إن أبا ذر يفسد
عليك الناس بقوله: كيت وكيت، فكتب معاوية إلى عثمان، الحديث (1).
(365)
أبو ذر بالشام
عن أبي جهضم، عن أبيه، قال: لما أخرج عثمان أبا ذر الغفاري
- رحمه الله - من المدينة إلى الشام، كان يقوم في كل يوم فيعظ الناس، ويأمرهم
بالتمسك بطاعة الله، ويحذرهم عن ارتكاب معاصيه، ويروي عن رسول الله
صلى الله عليه وآله ما سمعه منه في فضائل أهل بيته عليه وعليهم السلام
ويحضهم على التمسك بعترته.
فكتب معاوية إلى عثمان: أما بعد، فإن أبا ذر يصبح إذا أصبح ويمسي
إذا أمسى وجماعة من الناس كثير عنده، فيقول: كيت وكيت، فإن كان لك
حاجة في الناس قبلي، فأقدم أبا ذر إليك، فإني أخاف أن يفسد الناس

(1) البحار: ج 22 ص 395
115

عليك، والسلام.
فكتب إليه عثمان: أما بعد، فأشخص إلي أبا ذر حين تنظر في كتابي
هذا، والسلام.
فبعث معاوية إلى أبي ذر، فدعاه وأقرأه كتاب عثمان، وقال له: النجا
الساعة! فخرج أبو ذر إلى راحلته فشدها بكورها وأنساعها.
فاجتمع إليه الناس، فقالوا له: يا أبا ذر - رحمك الله - أين تريد؟ قال:
أخرجوني إليكم غضبا علي وأخرجوني منكم إليهم الآن عبثا بي، ولا يزال هذا
الأمر فيما أرى شأنهم فيما بيني وبينهم حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر،
ومضى.
وسمع الناس بمخرجه فاتبعوه حتى خرج من دمشق، فساروا معه حتى
انتهى إلى دير المران، فنزل ونزل معه الناس، فاستقدم فصلى بهم، ثم قال:
أيها الناس! إني موصيكم بما ينفعكم، وتارك الخطب والتشقيق، احمدوا
الله عز وجل. قالوا: الحمد لله. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده
ورسوله، فأجابوه بمثل ما قال. فقال: أشهد أن البعث حق وأن الجنة حق وأن
النار حق، وأقر بما جاء من عند الله واشهدوا علي بذلك، قالوا: نحن على ذلك
من الشاهدين. قال: ليبشر من مات منكم على هذه الخصال برحمة الله
وكرامته، ما لم يكن للمجرمين ظهيرا ولا لأعمال الظلمة مصلحا ولا لهم معينا.
أيها الناس! أجمعوا مع صلاتكم وصومكم غضبا لله عز وجل إذا عصي
في الأرض، ولا ترضوا أئمتكم بسخط الله، وإن أحدثوا ما لا تعرفون فجانبوهم
وازرؤا عليهم وإن عذبتم وحرمتم وسيرتم حتى يرضى الله عز وجل، فإن الله
أعلى وأجل لا ينبغي أن يسخط برضى المخلوقين، غفر الله لي ولكم،
استودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله.
116

فناداه الناس أن: سلم الله عليك ورحمك يا أبا ذر يا صاحب رسول الله!
ألا نردك إن كان هؤلاء القوم أخرجوك؟ ألا نمنعنك؟ فقال لهم: ارجعوا
رحمكم الله، فإني أصبر منكم على البلوى، وإياكم والفرقة والاختلاف.
فمضى حتى قدم على عثمان، فلما دخل عليه قال له: لا قرب الله بعمرو
عينا! فقال أبو ذر: والله ما سماني أبواي عمروا، ولكن لا قرب الله من عصاه
وخالف أمره وارتكب هواه!.
فقام إليه كعب الأحبار، فقال له: ألا تتقي الله يا شيخ تجبه (وتجيب خ
ل) أمير المؤمنين بهذا الكلام! فرفع أبو ذر عصا كانت في يده فضرب بها رأس
كعب، ثم قال له: يا ابن اليهوديين ما كلامك مع المسلمين؟ فوالله ما خرجت
اليهودية من قلبك بعد.
فقال عثمان: والله لا جمعتني وإياك دار! قد خرفت وذهب عقلك،
أخرجوه من بين يدي تركبوه قتب ناقته بغير وطاء، ثم انجو به الناقة
وتعتعوه حتى توصلوه الربذة، فنزلوه بها من غير أنيس حتى يقضي الله فيه ما هو
قاض.
فأخرجوه متعتعا ملهوزا بالعصي، وتقدم ألا يشيعه أحد من الناس.
فبلغ ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فبكى حتى بل
لحيته بدموعه! ثم قال: أهكذا يصنع بصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله
إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم نهض ومعه الحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله
ابن العباس والفضل وقثم وعبيد الله حتى لحقوا أبا ذر فشيعوه.
فلما بصر بهم أبو ذر - رحمه الله - حن إليهم وبكى عليهم! وقال: بأبي وجوه
إذا رأيتها ذكرت بها رسول الله صلى الله عليه وآله وشملتني البركة برؤيتها، ثم
رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم إني أحبهم ولو قطعت إربا إربا في محبتهم!
ما زلت عنها ابتغاء وجهك والدار الآخرة، فارجعوا رحمكم الله، والله أسأل أن
117

يخلفني فيكم أحسن الخلافة، فودعه القوم ورجعوا وهم يبكون على فراقه (1).
(366)
المقداد وعثمان
عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن عثمان قال للمقداد: أما والله لتنتهين
أو لأردنك إلى ربك الأول. قال: فلما حضرت المقداد الوفاة قال لعمار: أبلغ
عثمان عني أني قد رددت إلى ربي الأول (2).
(367)
ابن حازم مع المخالفين
عن ابن حازم، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني ناظرت قوما
فقلت: ألستم تعلمون أن رسول الله هو الحجة من الله على الخلق؟ فحين ذهب
رسول الله صلى الله عليه وآله من كان الحجة من بعده؟ فقالوا: القرآن.
فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم فيه المرجي والحروري والزنديق الذي
لا يؤمن حتى يغلب الرجل خصمه، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم
ما قال فيه من شئ كان حقا. قلت: فمن قيم القرآن؟ قالوا: قد كان عبد الله
ابن مسعود وفلان وفلان وفلان يعلم. قلت كله؟ قالوا: لا. فلم أجد أحدا
يقال: إنه يعرف ذلك كله إلا علي بن أبي طالب عليه السلام، وإذا كان
الشئ بين القوم وقال هذا: لا أدري وقال هذا: لا أدري وقال هذا: لا أدري
وقال هذا: لا أدري، فأشهد أن علي بن أبي طالب عليه السلام كان قيم
القرآن، وكانت طاعته مفروضة، وكان حجة بعد رسول الله صلى الله عليه
وآله على الناس كلهم، وأنه عليه السلام ما قال في القرآن فهو حق.

(1) البحار: ج 22 ص 395 - 397 عن مجالس المفيد - رحمه الله -: ص 95 - 98.
(2) البحار: ج 22 ص 438 عن الكافي
118

فقال: رحمك الله!
فقبلت رأسه، وقلت: إن علي بن أبي طالب عليه السلام لم يذهب حتى
ترك حجة من بعده كما ترك رسول الله حجة من بعده، وأن الحجة من بعد
علي عليه السلام الحسن بن علي عليه السلام، واشهد على الحسن بن علي
عليهما السلام أنه كان الحجة وأن طاعته مفترضة.
فقال: رحمك الله!.
فقبلت رأسه، وقلت: أشهد على الحسن بن علي عليهما السلام أنه لم
يذهب حتى ترك حجة من بعده كما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله
وأبوه، وأن الحجة بعد الحسن الحسين بن علي عليهما السلام وكانت طاعته
مفترضة.
فقال: رحمك الله!
فقبلت رأسه، وقلت: وأشهد على الحسين بن علي عليهما السلام أنه لم
يذهب حتى ترك حجة من بعده، وأن الحجة من بعده علي بن الحسين
عليهما السلام وكانت طاعته مفترضة.
فقال: رحمك الله!
فقبلت رأسه، وقلت: وأشهد على علي الحسين أنه لم يذهب حتى
ترك حجة من بعده، وأن الحجة من بعده محمد بن علي أبو جعفر عليه السلام
وكانت طاعته مفترضة.
فقال: رحمك الله!
قلت: أصلحك الله أعطني رأسك، فقبلت رأسه، فضحك.
فقلت: أصلحك الله قد علمت أن أباك عليه السلام لم يذهب حتى ترك
حجة من بعده كما ترك أبوه، فاشهد بالله أنك أنت الحجة من بعده، وأن
طاعتك مفترضة.
119

فقال: كف رحمك الله!
قلت: أعطني رأسك اقبله، فضحك.
قال: سلني عما شئت فلا أنكرك بعد اليوم أبدا (1).
(368)
أبو عبيدة وسالم بن أبي حفصة
عن أبي عبيدة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك! إن
سالم بن أبي حفصة يلقاني فيقول لي: ألستم تروون أنه " من مات وليس له
إمام فموتته موتة جاهلية "؟ فأقول له: بلى. فيقول لي: قد مضى أبو جعفر
عليه السلام فمن إمامكم اليوم؟ فأكره - جعلت فداك - أن أقول له: جعفر
عليه السلام، فأقول: أئمتي آل محمد صلى الله عليه وآله، فيقول لي: ما أراك
صنعت شيئا.
فقال عليه السلام: ويح سالم بن أبي حفصة لعنه الله! وهل يدري سالم
ما منزلة الإمام؟ إن منزلة الإمام أعظم مما يذهب إليه سالم والناس أجمعون،
فإنه لن يهلك منا إمام قط إلا ترك من بعده من يعلم مثل علمه ويسير مثل
سيرته ويدعو إلى مثل الذي دعا إليه، فإنه لم يمنع الله ما أعطى داود أن أعطى
سليمان أفضل منه (2).
(369)
نص آخر
عن أبي عبيدة الحذاء قال: كنا زمان أبي جعفر عليه السلام حين قبض

(1) البحار: ج 23 ص 17 - 18 عن علل الشرائع. وراجع بهج الصباغة: ج 3 ص 5.
(2) البحار: ج 23 ص 41 عن إكمال الدين وص 80 عن الكشي وص 86 عن بصائر الدرجات بنحو
آخر يأتي
120

نتردد، كالغنم لا راعي لها، فلقينا سالم بن أبي حفصة، فقال: يا أبا عبيدة من
إمامك؟ قلت: أئمتي آل محمد صلى الله عليه وآله، فقال: هلكت وأهلكت!
أما سمعت أنا وأنت معي أبا جعفر عليه السلام وهو يقول: " من مات وليس
عليه إمام مات ميتة جاهلية "؟ قلت: بلى لعمري فرزقني الله المعرفة.
قال: فقلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن سالم بن أبي حفصة قال لي:
كذا وكذا. فقال لي: يا أبا عبيدة: إنه لم يمت منا ميت حتى يخلف من بعده من
يعمل مثل عمله ويسير بمثل سيرته ويدعو إلى مثل الذي دعا إليه، يا أبا عبيدة!
إنه لم يمنع ما أعطى داود أن أعطى سليمان.
قال: ثم قال: يا أبا عبيدة إنه إذا قام قائم آل محمد حكم بحكم داود
وسليمان، لا يسأل الناس بينة (1).
(370)
حذيفة بن اليمان مع ربيعة
عن ربيعة السعدي، قال: أتيت حذيفة بن اليمان وهو في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: من الرجل؟ قلت: ربيعة السعدي، فقال
لي: مرحبا مرحبا! بأخ لي قد سمعت به ولم أر شخصه قبل اليوم، حاجتك؟
قلت: ما جئت في طلب غرض من الأغراض الدنيوية، ولكني قدمت من
العراق من عند قوم قد افترقوا خمس فرق.
فقال حذيفة: سبحان الله تعالى! وما دعاهم إلى ذلك والأمر واضح بين
وما يقولون؟
قال: قلت: فرقة تقول: أبو بكر أحق بالأمر وأولى بالناس، لأن رسول الله
صلى الله عليه وآله سماه الصديق وكان معه في الغار. وفرقة تقول: عمر بن

(1) البحار: ج 23 ص 86 عن بصائر الدرجات
121

الخطاب، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " اللهم أعز الدين بأبي
جهل أو بعمر بن الخطاب ".
فقال حذيفة: الله تعالى أعز الدين بمحمد ولم يعزه بغيره.
وقالت فرقة: أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، لأن النبي قال: " ما أظلت
الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ".
فقال حذيفة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله أصدق منه وخير وقد
أظلته الخضراء وأقلته الغبراء.
وفرقة تقول: سلمان الفارسي، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله يقول
فيه " أدرك العلم الأول وأدرك العلم الآخر، وهو بحر لا ينزف، وهو منا أهل
البيت "، ثم إني سكت.
فقال حذيفة: ما منعك من ذكر الفرقة الخامسة.
قال: قلت: لأني منهم، وإنما جئت مرتادا لهم وقد عاهدوا الله على أن
لا يخالفوك، وأن لا ينزلوا عند أمرك (1).
فقال لي: يا ربيعة اسمع مني وعه واحفظه وقه، وبلغ الناس عني: إني
رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وقد أخذ الحسين بن علي ووضعه على
منكبه وجعل يقي بعقبه، وهو يقول: " أيها الناس! إنه من استكمال حجتي
على الأشقياء من بعدي التاركين ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام، ألا!
وإن التاركين ولاية علي بن أبي طالب هم المارقون من ديني! أيها الناس!
هذا الحسين بن علي خير الناس جدا وجدة، جده رسول الله صلى الله عليه
وآله سيد ولد آدم، وجدته خديجة سابقة نساء العالمين إلى الإيمان بالله
وبرسوله، وهذا الحسين خير الناس أبا وأما، أبوه علي بن أبي طالب وصي

(1) لعل المراد: وأن لا يقفوا عند أمرك، أو فيه سقط، صحيحة: وأن لا ينزلوا إلا عند أمرك
122

رسول رب العالمين ووزيره وابن عمه، وأمه فاطمة بنت محمد رسول الله، وهذا
الحسين خير الناس عما وعمة، عمه جعفر بن أبي طالب المزين بالجناحين
يطير بهما في الجنة حيث يشاء، وعمته أم هاني بنت أبي طالب، وهذا الحسين
خير الناس خالا وخالة، خاله القاسم بن رسول الله، وخالته زينب بنت محمد
رسول الله. ثم وضعه عن منكبه ودرج بين يديه، ثم قال:
أيها الناس! وهذا الحسين جده في الجنة، وجدته في الجنة، وأبوه في
الجنة، وأمه في الجنة، وعمه في الجنة، وعمته في الجنة، وخاله في الجنة،
وخالته في الجنة، وهو في الجنة، وأخوه في الجنة.
ثم قال: أيها الناس! إنه لم يعط أحد من ذرية الأنبياء الماضين ما أعطي
الحسين، ولا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله.
ثم قال: أيها الناس! لجد الحسين خير من جد يوسف " فلا تخالجنكم
الأمور، بأن الفضل والشرف والمنزلة والولاية ليست إلا لرسول الله صلى الله
عليه وآله وذريته وأهل بيته، فلا تذهبن بكم الأباطيل (1).
(371)
حذيفة وربيعة
عن ربيعة السعدي، قال: أتيت حذيفة بن اليمان، فقلت له: يا أبا عبد الله
إنا لنتحدث عن علي ومناقبه، فيقول لنا أهل البصرة: إنكم تفرطون في
علي، فهل أنت محدثي بحديث فيه؟
فقال حذيفة: يا ربيعة وما تسألني عن علي؟ فوالذي نفسي بيده! لو وضع
جميع أعمال أصحاب محمد في كفة الميزان منذ بعث الله محمدا إلى يوم القيامة
ووضع عمل علي عليه السلام في الكفة الأخرى لرجح عمل علي عليه السلام

(1) البحار: ج 23 ص 111 - 112 عن الطرائف للسيد ابن طاوس رحمه الله تعالى
123

على جميع أعمالهم.
فقال ربيعة: هذا الذي لا يقام له ولا يقعد ولا يحمل.
فقال حذيفة: يا لكع! وكيف لا يحمل؟ وأين كان أبو بكر وعمر وحذيفة
وجميع أصحاب محمد صلى الله عليه وآله يوم عمرو بن عبد ود قد دعا إلى
المبارزة فأحجم الناس كلهم ما خلا عليا عليه السلام؟ فإنه برز إليه وقتله الله
على يده، والذي نفس حذيفة بيده! لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من عمل
أصحاب محمد صلى الله عليه وآله إلى يوم القيامة (1).
(372)
الأحنف ومعاوية
قال معاوية للأحنف: صف لي الناس وأوجز.
قال: رؤوس رفعهم الحظ، وأكتاف عظمهم التدبير، وأعجاز شهرهم
المال، وأذناب ألحقهم بهم الأدب، ثم الناس بعدهم أشباه البهائم، إن شبعوا
ناموا وإن جاعوا استاموا (2).
(373)
صعصعة ومعاوية
تكلم صعصعة عند معاوية فعرق. فقال: أبهرك القول؟ فقال: إن الجياد
نضاحة بالماء (3).
(374)
عقيل رحمه الله ومعاوية
قال معاوية لعقيل: ما أبين الشبق في رجالكم يا بني هاشم! قال: لكنه في

(1) البحار: ج 20 ص 256 عن الإرشاد للمفيد رحمه الله.
(2) ربيع الأبرار للزمخشري: ج 1 ص 402.
(3) ربيع الأبرار: ج 1 ص 669. والعقد الفريد: ج 2 ص 271، والبيان والتبيين: ج 1 ص 133
124

نسائكم أبين يا بني أمية! (1).
(375)
شريك بن الأعور ومعاوية
دخل شريك بن الأعور على معاوية - وكان دميما - فقال له: إنك لدميم
والجميل خير من الدميم، وإنك لشريك وما لله شريك، وإن أباك لأعور
والصحيح خير من الأعور، فكيف سدت قومك؟.
فقال: وإنك معاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت الكلاب، وإنك
لابن حرب والسلم خير من الحرب، وإنك لابن صخر والسهل خير من
الصخر، وإنك لابن أمية وما أمية إلا أمة صغرت، فكيف صرت أمير المؤمنين؟
وخرج وهو يقول:
أيشتمني معاوية بن حرب * وسيفي صارم ومعي لساني
وحولي من ذوي يمن ليوث * ضراغمة تهش إلى الطعان
يعير بالدمامة من سفاه * وربات الخدور من الغواني
ذوات الحسن والريبال جهم * شتيم وجهه ماضي الجنان (2)
(376)
عمرو بن العجلان ومعاوية
حج معاوية فتلقته قريش بوادي القرى، والأنصار بأبواب المدينة.
فقال: يا معشر الأنصار! ما منعكم أن تلقوني حيث تلقتني قريش؟ قالوا:
لم يكن لنا دواب. قال: فأين النواضح؟ قال الغمر بن عجلان: أنضيناها يوم

(1) ربيع الأبرار: ج 1 ص 675.
(2) ربيع الأبرار: ج 1 ص 699. والغدير: ج 10 ص 171 - 172 عن المستطرف: ج 1 ص 72. وزهر الربيع:
ص 50 ويأتي ص 137
125

بدر في طلب أبي سفيان وأصحابه، فسكت مفحما.
فلما دخل المدينة قال: أين زيد بن ثابت؟ قالوا: عليل أصابه سلس
البول. فقال: علي به.
فقال: ما منعك من تلقيي؟ قال: علتي. قال: ليس كذا، ولكن غرك
ما قيل في زيد بن ثابت: كاتب الوحي. قال: بلى حيث لم يأمنك الله
ورسوله، فأفحم (1).
(377)
علوي وأبو العيناء
قال علوي لأبي العيناء: أتبغضني وقد أمرت بالصلاة علي، تقول:
" صلى الله على محمد وآله " قال: إني أقول: " الطيبين الأخيار " فتخرج أنت (2).
(378)
ابن الحنفية والحجاج
أخذ الحجاج ابن الحنفية بمبايعة عبد الملك، قال: إذا اجتمع الناس عليه
كنت كأحدهم. قال: لأقتلنك، قال: أو لا تدري؟ قال: وما لا أدري؟ قال:
حدثني أبي: " إن لله في كل يوم ثلاثمائة وستين لحظة، له في كل لحظة
ثلاثمائة وستون قضية " فلعله يكفيك في كل قضية من قضاياه.
فارتعد الحجاج وانتفض! وقال: لقد لحظك الله، فاذهب حيث شئت.
فكتب الحجاج بحديثه إلى عبد الملك، ووافق ذلك كتاب ملك الروم
إليه يتهدده، فكتب عبد الملك إلى قيصر بحديث محمد.

(1) ربيع الأبرار: ج 1 ص 689.
(2) ربيع الأبرار: ج 1 ص 717. والمحاضرات للراغب: ج 1 ص 344 وفيه: " لرجل " مكان " لأبي
العيناء ". وقاموس الرجال: ج 8 ص 345. وزهر الربيع: ص 33
126

فكتب إليه قيصر: هيهات هيهات! هذه كلام ما أنت بأبي عذره، هذا
كلام لم يخرج إلا من نبي أو من أهل بيت نبوة (1).
(379)
ابن قيس ومعاوية
خالف ناس من قريش معاوية، فقال: لقد هممت أن أبعث إليهم من
يأتيني برؤوسهم.
فقام إليه ابن قيس (لعله عبد الله بن قيس بن مخرمة بن عبد المطلب بن
عبد مناف) فقال: لو فعلت ذلك لقطعنا أعدادها من رؤوس بني أبي سفيان.
فقال معاوية: أنت يا غراب! فقال: إن الغراب يدب إلى الرخمة حتى
ينقف رأسها.
فضحك معاوية وسكت (2).
(380)
عقيل رحمه الله ومعاوية
كتب معاوية إلى عقيل بن أبي طالب يعتذر إليه من شئ جرى بينهما:
من معاوية بن أبي سفيان إلى عقيل بن أبي طالب: أما بعد يا بني
عبد المطلب، فأنتم والله فروع قصي، ولباب عبد مناف، وصفوة هاشم، فأين
أحلامكم الراسية وعقولكم الكاسية، وحفظكم الأواصر وحبكم العشائر؟
ولكم الصفح الجميل والعفو الجزيل، مقرونان بشرف النبوة وعز الرسالة، وقد
والله ساء أمير المؤمنين ما كان جرى، ولن يعود لمثله إلى أن يغيب في الثرى.
فكتب إليه عقيل:

(1) ربيع الأبرار: ج 1 ص 721 - 722.
(2) ربيع الأبرار: ج 1 ص 722
127

صدقت وقلت حقا غير أني * أرى أن لا أراك ولا تراني
ولست أقول سوءا في صديقي * ولكني أصد إذا جفاني
فركب إليه معاوية وناشده في الصفح وأجازه بمائة ألف درهم حتى
رجع (1).
(381)
الأحنف ورجل
قال رجل للأحنف: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه!! قال: ما ذممت
مني يا ابن أخي؟ قال: الدمامة وقصر القامة. قال: لقد عبت علي ما لم أؤامر
فيه (2).
(382)
شيخ مع هشام بن عبد الملك
قال: فبينا هشام بن عبد الملك ذات يوم في برية الشام يتنزه ويتصيد، إذ
نظر إلى غبار ساطع على قارعة الطريق، فقال هشام لمن معه: قفوا في
مواضعكم لا يتبعني أحد منكم إلى أن أرجع إليكم.
قال: ثم حرك هشام ومضى نحو الغبار، فإذا بعير قد أقبلت من بعض
مدائن الشام عليها زيت وأمتعة من أمتعة الشام يراد بها الكوفة. قال: وفي
العير شيخ من أهل الكوفة له رواء ومنظر، ومع الشيخ غلمة له أحداث وهم
بنوه، ومع هشام مولى له يقال له: ربيع.
قال: فسلم هشام فردوا عليه السلام، وهم لا يعرفونه، فأقبل هشام على
الشيخ فقال: ممن أنت وأين منشؤك؟ فقال الشيخ: أما المنشأ فالكوفة، وأما
من أين فما سؤالك عن ذلك؟ فوالله إني لو كنت من العرب في أعلاها لما

(1) ربيع الأبرار: ج 1 ص 734.
(2) ربيع الأبرار: ج 1 ص 846
128

نفعك، ولو كنت من أدناها لما ضرك.
فقال هشام: والله يا شيخ ما أظنك كتمت نسبك إلا وأنت مستحي.
فقال: فضحك الشيخ! ثم قال: يا هذا ما هو إلا ما ظننت، وإني لأرجو أن
يسأل الله عز وجل عمن يحبسني بما أطلع عليه من دناءة جنسك ونسبك إذ
أنبأتني به، فإن قبح وجهك وحول عينيك وذمامة خلقتك وسوء منطقك قد
أطمعني في ذلك منك: وأنا أخبرك ممن أنا إذ قد أبيت إلا ذلك:
أنا رجل من حكم، وأمي سلولية، ونحن اليوم خلف في عكل.
فقال هشام: نسأل الله العافية ممن قد ابتلاك به يا شيخ! لقد اجتمع
فيك ما لم يجتمع في أحد قط.
فقال: ولم تقول ذلك وقد أملت أن يسأل الله عمن ينسبنا عندما قد
توسمته فيك عند معرفتي بنسبك؟ فمن أنت يا هذا؟
فقال: هشام: أنا رجل من قريش.
فقال الشيخ: إن قريشا كثير، وإن فيهم من قد علا نجمه، وفيهم من قد
سقط سهمه، فمن أيها أنت؟
فقال هشام: أنا والله من أعلاها وأسناها وأزكاها، أنا رجل من بني أمية
التي لا تسامى أخطارها ولا يدرك آثارها.
فقال الشيخ: مرحبا بك يا أخي (1) بني أمية! سليت ورب الكعبة غمي
وفرجت عني كربي، كنتم والله يا بني أمية في الجاهلية تربون في التجارة، وفي
الإسلام عاصين لأهل الطهارة، سيدكم حمار وأميركم جبار، إن قللتم عن
الأربعين لم تدركوا بثار، وإن بلغتموها كنتم بشهادة الرسول من أهل النار،
رجالكم يتقلبون في [عار] النسبة، ونساؤكم على نساء الأنام سبة، ومنكم

(1) كذا في الأصل والصحيح يا أخا
129

الباكي على معلليه (1)، ومنكم معاليه مؤوي الطرداء وباقي الأخيار
السعداء، الذي اختار القرابة على الصحابة، صرف المال عن أهل النجابة،
منكم صاحب الراية يوم القليب، أبو اللعينة ذات العيوب، ومنكم صخر بن
حرب، فكان في الجاهلية خمارا، وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله مجهزا
كفارا، وفي إسلامه رديا منافقا، وإلى كل السوءات سابقا، وابنه معاوية لعنه
رسول الله صلى الله عليه وآله لعنات سبعا سبعا (سبعة سبعة خ)، منعه الله
عز وجل أن ينال بدعوته عليه سبعا، منع أباه من الإسلام وحثه على عبادة
الأصنام، ثم قال في الشعر الذي بعث به إلى أبيه يقول:
يا صخر لا تسلمن طوعا فتفضحنا * بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا
خالي وجدي وعم الأم ثالثهم * والمرء حنظلة المهدي لنا أرقا
لا تركنن إلى أمر تقلدنا * والرافضات به في مكة الخرقا
فالموت أهون من قول النساء لنا * خلا ابن حرب عن العقبى كذا فرقا
ثم إنه بعد ذلك عادى النبي صلى الله عليه وآله، وقاتل الوصي، وألحق
زياد الدعي، وعهد إلى ابنه الفاسق الردي، وبدل مكان كل سنة بدعة،

(1) زيد في (د): الذي يقول:
يا جواري الحي عن قيبه * منعوا مني معاليه
كيف تلوموني على رجل * لو شفاني هم مساعيه
لم يقل إني ندمت ولا * عندها فاضت مدامعيه
وفي الفارسية:
يا جواري الحي عن بنيه * يا جواري لا تلمنيه
لا نفر النفا وقد * حجبوا عني معلليه
كم تلوموني على رجل * لو سقاني سم ساعيه
لم أقل إني ندمت ولا * عندها فاضت مدامعيه
130

وجعل لابنه يزيد في إراقة الدماء فسحة وسعة، ونبش قبر حمزة سيد الشهداء،
وأجرى فيه الماء عداوة وبغضا، ألحق زياد بن عبيد اللعين بأبي سفيان
الخمار، وزوجه من نسائه ذات القلائد والخمار، وقد قال النبي صلى الله
عليه وآله: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " فترك قول النبي صلى الله عليه
وآله وبزياد بن عبيد افتخر، وسلطه على شيعة علي بن أبي طالب، ولم يخف
من سوء العواقب.
ومنكم عقبة بن أبي معيط، نفاه رسول الله صلى الله عليه وآله من قريش
وسائر العرب، وضرب عنقه بين يديه علي ذو الحسب، وألبسكم بقتله من
بين قريش العار، وجعل أرواحهم إلى النار، فقبلتم نسبه فيكم، وزوجتموه،
وهو علج من أهل صفورية فادعيتموه. وابنه المحدود في الخمر، صلى بالناس
أربعا في الفجر والظهر في مساجد الله وهو سكران، وقرب أهل الخيانة
والغدر، فسماه الله في كتابه فاسقا، وجعله في الدرك الأسفل منافقا.
ومنكم يا بني أمية الحكم بن العاص الملقب بالحياص، نفاه رسول الله
صلى الله عليه وآله بعد لعنه إياه وأردفه ثانية وباللعنة ثناه.
ومنكم عبد الملك، غصب الأبرار، واستعان بالفجار، وتهاون بالأخيار،
فالحجاج أفضل حسناته، والغدر والفجور أقل سيئاته. ثم بنوه الجبابرة في
الإسلام، أبناء اللعنة والجور في الأحكام: منهم سليمان والوليد وهشام، وقبله
يزيد، لا نذكر أحدا منهم برأي سديد، وما لهم في اللعنة من مزيد، خونة غدرة،
رموا بيت الله الحرام بالحجارة والعذرة، وقتلوا قبل ذلك العشرة البررة.
ومن نسائكم آكلة الأكباد، ومظهرة الفساد [الصادة لزوجها عن الرشاد
والداعية إلى الكفر والفساد] والعناد، وصويحباتها الناقرات يوم أحد بالدفوف
المغنيات، وقد دنت الزحوف.
فأنتم يا بني أمية الشجرة الملعونة في القرآن، لا ينكر ذلك إنس ولا جان،
131

لا أحد من أهل الإيمان، فأولكم ردئ، وأوسطكم درئ، وشريفكم دنئ،
وآخركم مسئ.
ألا فخذها يا أخا أمية * يكون في قلبك منهاكية
لا تفخرن بعدها علية * ما تركت فخرا لك سمية
قال: ثم مر الشيخ على وجهه حتى لحق بالعير، وبقي هشام حيرانا
لا يدري بما يقول، ثم أقبل على غلامه ربيع، فقال: ويلك يا ربيع! رأيت
ما منينا به في هذا اليوم من هذا الشيخ، والله لقد أظلمت الدنيا علي حتى
ظننت أني لا أبصر شيئا! ولكن هل تحفظ من كلامه شيئا؟ فقال ربيع:
يا أمير المؤمنين والله لقد بقيت متحيرا لا أعقل من أمري شيئا، ولقد هممت أن
أعلوه بالسيف مرارا لولا هيبتك، فكيف أحفظ ما قال؟ فقال هشام: لكني
والله قد حفظته! ولو علمت أنك تحفظه لضربت عنقك.
قال: ثم رجع هشام إلى أصحابه، ووجه الخيل في طلب الشيخ وعزم على
قتله. قال: فكان الشيخ داهيا، فوقع في قلبه أنه هشام بن عبد الملك، واتقى
ما قال وخشي الطلب، فعدل عن الطريق وأخذ في البرية على مياه بني
كلاب، فطلب فلم يقدر عليه، ومضى حتى دخل الكوفة، فلم يزل هشام
متأسفا على ما فاته من قتل الشيخ.
قال: فكان ربيع يقول: والله ما شذ عني من كلام الشيخ شئ وإني
لأحفظه، و [ما] حدثت بهذا الحديث أحدا حتى مات هشام (1).
(383)
رجل من أهل السكاسك ومعاوية
ذكر في تهيؤ معاوية لحرب صفين وخدعه شرحبيل، أنه قال: وجعل

(1) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 481 وما بعدها
132

شرحبيل لا يأتي مدينة من مدائن الشام إلا دعاهم إلى نصر معاوية وحرضهم
على قتال علي بن أبي طالب، حتى اجتمع إليه خلق كثير، فأقبل بهم إلى
معاوية فبايعوه على أنهم يقاتلون بين يديه ويموتون تحت
ركابه.
قال: فوثب رجل من أهل السكاسك، وكان مجتهدا فاضلا وكان شاعرا،
واسمه الأسود بن عرفجة، فوقف بين يدي معاوية، وأنشأ [وجعل] يقول أبياتا
من الشعر مطلعها:
كانت الشام قبل شرح وبيل * لعلي ظهرا له حدباء
[فإذا فأقبل (1) الإمام وقد قال * أناس بحطة الأهواء
فاستوى الغث والسمين لدى الناس * وقالوا الجماء كالقرناء
ودعانا عميدنا شرحبيل * إلى فتنة بها صماء
فقتلنا الذي دعانا إليه * وثنينا أعنة البغضاء
غير أنا نحب أبا السبطين * إذ كان سيد الأوصياء] (2)
[شهد الفتح والنضير وبدرا * وحنينا وأحد يوم البلاء
وله يوم خيبر راية النصر * وقد قل شوكة الأعداء
وله في قريظة الخطر الأعظم * إذ قل جد أهل اللواء
فاحذر اليوم صولة الأسد الورد * إذا جاء في رحى الهيجاء] (3)
قال: فقطع عليه معاوية كلامه، ثم قال: من هذا الأسد الورد؟ فقال:
هذا والله علي بن أبي طالب، أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وابن عمه،
وزوج ابنته، وأبو سبطيه، الذي قتل جدك وعم أمك و أخاك وخالك يوم

(1) كذا في الأصل والصحيح: " أقبل ".
(2) ما بين المعقوفتين اقتبسناه من الهامش
(3) ما بين المعقوفتين اقتبسناه من الهامش
133

بدر، فأنت تطالبه في الإسلام بما فعل في قومك الكفرة الفجرة!.
فقال معاوية: خذوه، فوثب إليه غلامان من غلمان معاوية.
وقام إليه شرحبيل، فقال: كف عنه يا معاوية، فإنه رجل من سادات
قومه، فلا تؤذيه فانقض والله ما في عنقي من بيعتك. قال معاوية: فإني قد
وهبته لك.
قال: فهرب الرجل إلى مصر، ثم كتب إلى علي - رضي الله عنه - أبياتا من
الشعر، مطلعها:
ألا أبلغ أبا حسن عليا * فكفي بالذي تهوى طويلة
[أعد مآثرا عظمت وطالت * وأخرى منك أذكرها جميلة
فسر بها معاوية بن صخر * وأيقن أنها ليست قليلة
وقال لشرحبيل منك هذا * فقال المرء من أعلى قبيلة
وأهل الشام يستمعون قولي * أجوز بالقلوب لها فضيلة
فكاشرني وكنت من أجرب (كذا) * كذئب السوء في الشاة الأكيلة
أريهم ما أحب ويزلقوني * بأبصار على البغضاء دليلة
فأمست بعد سابقة بمصر * وكانت من مقالته جليلة
فأيقن أنني منها برئ * وأني منه منقطع الوسيلة
فلا تفرح معاوية بن حرب * فإن الشام عزتها ذليلة] (1) (2)
(384)
عبد الرحمن وشرحبيل
قال: فلما ورد كتاب معاوية على شرحبيل وقرأه، أقبل إلى عبد الرحمن

(1) ما بين المعقوفتين في الهامش.
(2) فتوح بن أعثم: ج 2 ص 407 - 409
134

ابن غنم الأزدي - وهو صاحب معاذ بن جبل وكان أفقه أهل الشام - فاستشاره
في المسير إلى معاوية.
فقال له عبد الرحمن: ويحك يا شرحبيل! إن الله تعالى لم يزل يريد بك
خيرا مذ هاجرت إلى وقتك هذا، وإنه لن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع
الشكر من الناس، ولا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأنت رجل من
خيار كندة، وإن القالة قد فشت في الناس أن عليا قتل عثمان، ولو كان
علي قتله لما بايعه المهاجرون والأنصار وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله وهم الحكام على الناس، وإنما معاوية إنما يدعوك إلى نفسه ليأخذ من
دينك ويعطيك من دنياه، كما فعل بعمرو بن العاص، فإن كان ولا بد أن
تكون أميرا فسر إلى علي بن أبي طالب، فإنه أحق الناس بهذا الأمر من
معاوية وغير معاوية، ثم جعل يقول أبياتا، مطلعها:
أيا شرح يا ابن السمط إنك بالغ * بأخذ علي ما تريد من الأمر
[أيا شرح يا ابن السمط لأنك مصغيا * إلى فتنة عمياء ينتهه الخبر
أيا شرح إن الشام شامك ما بها * سواك فدع قول المضلل من قهر
فإن ابن هند ناصب لك خدعة * تكون علينا مثل راغية البكر
فان نال ما يرجو بنا كان ملكه * هنيئا له والحرب قاصمة الظهر
فبايع ولا ترجع إلى العقب ناكصا * أعيذك بالله العزيز من الكفر
ولا تقبلن قول الطغاة فإنما * يريدون أن يلقوك في لجة البحر
وماذا عليهم أن تطاعن عنهم * عليا بأطراف المثقفة السمر
فإن غلبوا كانوا علينا أئمة * ونطلب طول الدهر بالرحل والوتر
وإن غلبوا لم يصل بالحرب غيرنا * وكان علينا حربهم آخر الدهر
وهان على عليا لؤي بن غالب * دماء بني قحطان في ملكهم تجري
ودع عنك عثمان بن عفان إننا * لك الخير لا ندري وإنك لا تدري
135

على أي حال كان مصرع جنبه * ولا تسمعن قول ابن هند ولا عمرو] (1).
قال: فلما سمع شرحبيل بن السمط هذا الشعر كأنه [وقع] بقلبه ثم أقبل
على عبد الرحمان بن غنم، فقال: إني سمعت ما قلت وقد أحببت أن أسمع
كلام معاوية، الخبر (2).
(385)
ابن عم عمرو وعمرو
لما بايع عمرو بن العاص معاوية بن أبي سفيان وبايع دينه بمصر، أخذ
عمرو الكتاب وانصرف إلى منزله مسرورا، فقال له ابن عم له: أبا عبد الله
ما لي أراك فرحا مستبشرا وقد بعت دينك بدنياك! أتظن أن أهل مصر
يسلمون إليك مصر وهم الذين قتلوا عثمان بن عفان؟ فتبسم عمرو، ثم
قال: يا ابن أخي إن الأمر لله عز وجل دون علي ومعاوية.
قال: فأنشأ ذلك الفتى يقول شعرا:
[ألا يا أخت أخت بني زياد * رمى عمرو بداهية البلاد
تشرط في الكتاب عليه حرفا * يناديه بخدعته المناد
ألا يا عمرو ما أحرزت مصرا * ولا ملت الغداة إلى الرشاد
أبعت الدين بالدنيا خسارا * فأنت بذاك من شر العباد
وفدت إلى معاوية بن صخر * فكنت بها كوافد قوم عاد
فأعطيت الذي عظمت بطرس * به خدع ونضج من مداد
بأنك آخذ ما عشت مصرا * ودون مرامها خرط القتاد
ألم تعرف أبا حسن عليا * وما نالت يداه من الأعادي

(1) ما بين المعقوفتين من الهامش.
فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 198
136

عدلت به معاوية بن صخر * فيا بعد الصلاح من الفساد
ينادي بالنزال وأنت منه * شديد الخوف فانظر من تعادي] (1)
قال: فقال له عمرو: يا ابن أخي إني لو كنت مع علي لوسعني بيتي،
ولكني مع معاوية. فقال له الفتى: أما معاوية فإنه لم يردك، ولكنه أراد
دينك واردت دنياه.
قال: وبلغ ذلك معاوية وما تكلم به الفتى معه وهم بقتله فهرب فصار إلى
علي رضي الله عنه فحدثه بالقصة وكيف بايع عمرو معاوية، فقربه علي
وأدناه وفرض له في كل أصحابه (2).
(386)
رجل من طي مع معاوية
قال: ثم إن معاوية ذات يوم ركب وخرج إلى الصحراء ومعه جماعة من
وجوه أهل الشام، فبينا هو كذلك إذا بشخص قد أقبل من ناحية العراق على
قعود له، فقال: علي بهذا المقبل، فأتوا به.
فقال له معاوية: ممن الرجل؟ قال: من طي. قال: فمن أين أقبلت؟
قال: من الكوفة. قال: وأين تريد؟ قال: أريد ابن عم لي يكون في ناحيتك
يقال له: حابس بن سعد الطائي.
فقال معاوية: علي بحابس، فأقبل إليه، فلما نظر إلى ابن عمه رحب به
وقربه وفرح برؤيته وأحضره بين يدي معاوية.
فقال له معاوية: كيف خلفت علي بن أبي طالب وأين تركته وعلى ماذا
قد عزم؟ فقال: نعم يا معاوية أخبرك أنه قدم من البصرة إلى الكوفة، فلما

(1) هذه الأشعار بين المعقوفتين اقتبسناها من الهامش.
(2) فتوح ابن الأعثم: ج 2 ص 388. وسيأتي ص 384 عن نصر
137

دخلها تهافت الناس عليه بالبيعة، ثم إنه ندب الناس إلى قتالك، فرأيته وقد
حف به الناس من المهاجرين والأنصار، حتى لقد حمل إليه الصبي، ودنت
منه العجوز، وخرجت إليه العروس، كل ذلك فرحا بولايته، ولقد تركته وماله
همة إلا الشام، فهذا ما عندي من الخبر.
فقال معاوية: ما اسمك؟ قال: اسمي خفاف. قال: هل تقول شيئا من
الشعر؟ قال: نعم فأنشأ يقول شعرا:
[قلت والليل ساقط الأكناف * ولجنبي على الفراش تجاف
ارق بالنجم لا يمنى الغمض * بعين طويلة التذراف
ليت شعري وإنني لمسول * على إلى اليوم بالمدينة صاف
من صحاب النبي إذ عظم الخطب * وفيهم على البلية كاف
أحلال دم الإمام بذنب * أم حرام بشبهة الوقاف
قال لي القوم لا سبيل إلى ما * تطلب اليوم قلت حسبي كفاف
عند قوم ليسوا بأوعية العلم * ولا أهل صحة وعفاف
جمجم القوم عندما قلت ماتوا * خبروني معاشر الأشراف
لم قتلتم إمامكم قال قوم * لست تقوى على الأمور الخوافي
قلت لما ضعفت عنه دعوني * إن قلبي من القلوب الضعاف
قد مضى ما مضى ومر به الدهر * كما مر ذاهب الأسلاف
فاسمع الآن يا ابن هند مقالا * من حكيم مهذب وصاف
ليس يألوك في النصيحة جهدا * فاقبلها نصيحة من خفاف] (1)
قال: فلما سمع معاوية هذا الشعر كأنه انكسر بذلك، ثم أقبل على
حابس بن سعد، فقال: ويحك يا حابس! أرى ابن عمك هذا عينا علينا لأهل

(1) ما بين المعقوفتين من الهامش
138

العراق، فأخرجه عنا لا يفسد علينا أهل الشام.
فقال: والله ما قدمت الشام رغبة مني فيها ولا في أهلها، وإني لراحل عنها
وزاهد في جوارك (1).
(387)
الإمام الحسن عليه السلام مع عائشة
ذكر ابن أعثم في الفتوح (2) (بعد ذكر إرسال أمير المؤمنين عليه السلام ابن
عباس إلى عائشة وذكر مجئ أمير المؤمنين إليها بنفسه) قال:
فلما كان من الغد بعث إليها ابنه الحسن [فجاء الحسن] فقال لها: يقول
لك أمير المؤمنين: أما والذي خلق الحبة وبرأ النسمة! لئن لم ترحلي الساعة
لأبعثن عليك بما تعلمين.
قال: وعائشة في وقتها ذلك قد ضفرت قرنها الأيمن وهي تريد أن تضفر
الأيسر. فلما قال لها الحسن ما قال وثبت من ساعتها وقالت: رحلوني!!.
فقالت لها امرأة من المهالبة: يا أم المؤمنين جاءك عبد الله بن عباس
فسمعناك وأنت تجاوبيه حتى علا صوتك، ثم خرج من عنك وهو مغضب،
ثم جاءك الآن هذا الغلام برسالة أبيه فأقلقك وقد كان أبوه جاءك فلم نر
منك هذا القلق والجزع؟.
فقالت عائشة: إنما أقلقني لأنه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، فمن
أحب أن ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فلينظر إلى هذا الغلام، وبعد
فقد بعث إلي أبوه بما قد علمت لا بد من الرحيل.

(1) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 360. ونقله ابن أبي الحديد في شرحه: ج 3 ص 111 بنحو آخر يأتي. وراجع
الإمامة والسياسة: ج 1 ص 84.
(2) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 339
139

فقالت لها المرأة: سألتك بالله وبمحمد صلى الله عليه وآله إلا أخبرتني
بماذا بعث إليك علي رضي الله عنه؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: ويحك!
إن رسول الله صلى الله عليه وآله أصاب من مغازيه نفلا، فجعل يقسم ذلك،
فسألناه أن يعطينا منه شيئا وألححنا عليه في ذلك، فلامنا علي رضي الله عنه
وقال: حسبكن أضجرتن رسول الله صلى الله عليه وآله، فتجهمناه وأغلظنا له
في القول، فقال: " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن "
فأغلظنا له أيضا في القول وتجهمناه، فغضب النبي صلى الله عليه وآله من
ذلك وما استقبلنا به عليا، فأقبل عليه، ثم قال: يا علي إني قد جعلت
طلاقهن إليك، فمن طلقتها منهن فهي بائنة، ولم يوقت النبي صلى الله عليه
وآله في ذلك وقتا في حياة ولا موت، فهي تلك الكلمة، وأخاف أن أبين من
رسول الله صلى الله عليه وآله (1).
(388)
أم كلثوم وحفصة
(لما بلغ حفصة بنت عمر بن الخطاب أن جمعا من أهل البصرة وافقوا
عائشة ووازروها واجتمعوا إليها) فأرسلت إلى أم كلثوم فدعتها، ثم أخبرتها
باجتماع الناس إلى عائشة، كل ذلك ليغمها بكثرة الجموع إلى عائشة.
قال: فقالت لها أم كلثوم: على رسلك يا حفصة! فإنكم إن تظاهرتم على
أبي فقد تظاهرتم على رسول الله صلى الله عليه وآله، فكان الله مولاه وجبرئيل
وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.

(1) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 339 - 340. وراجع قاموس الرجال: ج 10 ص 317. وبهج الصباغة:
ج 6 ص 417. والايضاح: ص 79 ولكن فيه: " أرسل إليها الحسين عليه السلام بعد أن أرسل الحسن
عليه السلام " وفي هامشه: عن ابن شهرآشوب والبحار وغيرهما
140

فقالت حفصة: يا هذه أعوذ بالله من شرك! فقالت أم كلثوم: وكيف
يعيذك الله من شري وقد ظلمتني حقي مرتين: الأولى ميراثي من أمي فاطمة
بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، والثاني ميراثي من أبيك عمر بن الخطاب.
قال: لامت النساء حفصة على ذلك لوما شديدا (1).
(389)
أم سلمة وعائشة
(نقلنا فيما مضى موقف أم سلمة - رحمة الله عليها - مع عائشة، ونقله ابن أعثم
في الفتوح، ونقل في ذيله وقال:)
ثم جعلت أم سلمة - رحمة الله عليها - تذكر عائشة فضائل علي رضي الله
عنه وعبد الله بن الزبير على الباب يسمع ذلك كله، فصاح بأم سلمة! قال:
يا بنت أبي أمية إننا قد عرفنا عداوتك لآل الزبير.
فقالت أم سلمة: والله لتوردنها ثم لا تصدرنها أنت ولا أبوك، أتطمع أن
يرضى المهاجرون والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة، وعلي بن أبي طالب
حي، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة؟ فقال عبد الله بن الزبير: ما سمعنا هذا من
رسول الله صلى الله عليه وآله ساعة قط.
فقالت أم سلمة رحمة الله عليها: إن لم تكن أنت سمعته فقد سمعته
خالتك عائشة، ها هي فاسألها، فقد سمعته صلى الله عليه وآله يقول: " علي
خليفتي عليكم في حياتي ومماتي، فمن عصاه فقد عصاني " أتشهدين يا عائشة
بهذا أم لا؟ فقالت عائشة: اللهم نعم.
قالت أم سلمة رحمة الله عليها: فاتق الله يا عائشة في نفسك، واحذري

(1) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 299 - 300. وراجع قاموس الرجال: ج 10 ص 472. ويأتي برواية
أخرى ص 237
141

ما حذرك الله ورسوله صلى الله عليه وآله، ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب
لا يغرنك الزبير وطلحة، فإنهما لا يغنيان عنك من الله شيئا (1).
(390)
رجال الشيعة وعثمان
قال: فجلس نفر من أهل الكوفة، منهم: يزيد بن قيس الأرجي، ومالك
ابن حبيب اليربوعي، وحجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي،
وزياد بن حفيظة التميمي، وعبيد الله بن الطفيل البكائي، وزياد بن النضر
الحارثي، وكرام بن الحضرمي المالكي، ومعقل بن قيس الرياحي، وزيد بن
حصن السنبسي، وسليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نخية الفزاري،
ورجال كبير (2) من قرى أهل الكوفة ورؤسائهم، فكتبوا إلى عثمان بن عفان:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من الملأ المسلمين من
أهل الكوفة: سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد، فإننا كتبنا إليك هذا الكتاب نصيحة لك واعتذارا وشفقة على
هذه الأمة من الفرقة، وقد خشينا أن تكون خلقت لها فتنة، وإن لك ناصرا
ظالما وناقما عليك مظلوما، فمتى نقم عليك الناقم ونصرك الظالم أخلفت
الكلمتان وتباين الفريقان، وحدثت أمور متفاقمة أنت جنيتها بأحداقك
يا عثمان، فاتق الله! والزم سنة الصالحين من قبلك، وانزع عن ضرب قرابتنا
ونفي صلحائنا وقسم فيئنا بين أشرارنا والاستبدال عنا واتخاذك بطانة من
الطلقاء وأبناء الطلقاء دوننا، فأنت أميرنا ما أطعت الله واتبعت ما في كتابه
وأنبت إليه وأحييت أهله، وجانبت الشر وأهله، وكنت للضعفاء، ورددت من

(1) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 282 - 283، وراجع قاموس الرجال: ج 10 ص 399 عنه.
(2) كذا في الأصل والصحيح " كثير "
142

نفيت منا، وكان القريب والبعيد عندك في الحق سواء، فقد قضينا ما علينا من
النصيحة لك، وقد بقي ما عليك من الحق، فإن تبت من هذه الأفاعيل نكون
لك على الحق أنصارا وأعوانا، وإلا فلا تلوم إلا نفسك، فإننا لن نصالحك
على البدعة وترك السنة، ولن نجد عند الله عذرا إن تركنا أمره لطاعتك، ولن
نعصي الله فيما يرضيك، هو أعز في أنفسنا وأجل من ذلك، نشهد الله على
ذلك وكفى بالله شهيدا، ونستعينه وكفى بالله ظهيرا، راجع الله بك إلى طاعته
يعصمك بتقواه من معصيته، والسلام.
قال: فلما كتبوا الكتاب وفرغوا منه، قال رجل منهم: من يبلغه عنا
كتابنا؟ فوالله أن ما نرى أحدا يجترئ على ذلك. قال: فقال (1) رجل من عنزة
آدم ممشوق، فقال: والله ما يبلغ هذه الكتاب إلا رجل لا يبالي أضرب أم
حبس أم قتل أم نفي أم حرم، فأيكم عزم على أن يصيبه خصلة من هذه
الخصال فيأخذه! فقال القوم: ما هاهنا أحد يحب أن يبتلي بخصلة من هذه
الخصال، فقال العنزي: هاتوا كتابكم! فوالله إني لا عافية [لي] وإن ابتليت
فما أنا يائس أن يرزقني ربي صبرا وأجرا، قال: فدفعوا إليه كتابهم.
وبلغ ذلك كعب بن عبيدة النهدي - وكان من المتعبدين - فقال: والله
لأكتبن إلى عثمان كتابا باسمي واسم أبي بلغ ذلك من عنده ما بلغ! ثم
كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من كعب بن
عبيدة:
أما بعد، فإني نذير لك من الفتنة متخوف عليك فراق هذه الأمة، وذلك
أنك قد نفيت خيارهم، ووليت أشرارهم، وقسمت فيأهم في عدوهم،

(1) كذا في المصدر، والصحيح " فقام "
143

واستأثرت بفضلهم، ومزقت كتابهم، وحميت قطر السماء ونبت الأرض،
وحملت بني أبيك على رقاب الناس، حتى قد أوغرت صدورهم واخترت
عداوتهم، ولعمري! لئن فعلت ذلك فإنك تعلم أنك إذا فعلت ذلك وتكرمت
فإنما تفعله من فيئنا وبلادنا، والله حسيبك يحكم بيننا وبينك، وإن أنت
أبيت وعنيت قتلنا وأذانا ولم تفعل فإننا نستعين الله ونستجيره من ظلمك لنا
بكرة وعشيا، والسلام.
ثم جاء كعب بن عبيدة بكتابه هذا إلى العنزي - وقد ركب يريد المدينة -
فقال: أحب أن تدفع كتابي هذا إلى عثمان، فإن فيه نصيحة له وحثا على
الإحسان إلى الرعية والكف عن ظلمها، فقال: أفعل ذلك.
قال: ثم أخذ الكتاب منه ومضى إلى المدينة.
ورجع كعب بن عبيدة حتى دخل المسجد الأعظم فجعل يحدث أصحابه
بما كتب إلى عثمان. فقالوا: والله يا هذا لقد اجترأت وعرضت نفسك لسطوة
هذا الرجل! فقال: لا عليكم فإني أرجو العافية والأجر العظيم، ولكن ألا
أخبركم بمن هو أجرأ مني؟ قالوا: بلى ومن ذلك؟ فقال: الذي ذهب
بالكتاب. فقالوا: بلى صدقت إنه لكذلك! وإنا لنرجو أن يكون أعظم هذا
المصر أجرا عند الله غدا.
ذكر قدوم العنزي على عثمان وما كان من قصته معه:
قال: وقدم العنزي على عثمان - رض - بالمدينة، فدخل وسلم عليه، ثم ناوله
الكتاب الأول - وعنده نفر من أهل المدينة - فلما قرأه عثمان ارتد لونه وتغير
وجهه! ثم قال: من كتب إلي هذا الكتاب؟ فقال العنزي: كتبه إليك
ناس كثير من صلحاء الكوفة وقرائها وأهل الدين والفضل. فقال عثمان:
كذبت إنما كتبه السفهاء وأهل البغي والحسد، فأخبرني من هم؟ فقال
144

العنزي: ما أنا بفاعل. فقال عثمان إذا والله أوجع جنبك وأطيل حبسك،
فقال العنزي: والله لقد جئتك وأنا أعلم أني لا أسلم منك. فقال عثمان:
جردوه!
فقال العنزي: وهذا كتاب آخر، فاقرأه من قبل أن تجردني. فقال
عثمان: آت به، فناوله إياه، فلما قرأه قال: من كعب بن عبيدة هذا؟ قال
العنزي: إيه! قد نسب لك نفسه. قال عثمان فمن أي قبيل هو؟ قال العنزي:
ما أنا مخبرك عنه إلا ما أخبرك عن نفسه.
قال: فالتفت عثمان إلى كثير بن شهاب الحارثي، فقال: يا كثير هل
تعرف كعب بن عبيدة؟ قال كثير: نعم يا أمير المؤمنين هو رجل من بني نهد.
قال: فأمر عثمان بالعنزي، فجردوه من ثيابه ليضرب. فقال علي بن أبي
طالب رضي الله عنه: لماذا يضرب هذا الرجل؟ إنما هو رسول جاء بكتاب
وأبلغك رسالة حملها، فلم يجب عليه في هذا ضرب. فقال عثمان رض: أفترى
أن أحبسه؟ قال: لا ولا يجب عليه الحبس.
قال: فخلى عثمان عن العنزي وانصرف إلى الكوفة، وأصحابه لا يشكون
أنه قد حبس أو ضرب أو قتل.
قال: فلم يشعروا به إلا وقد طلع عليهم، فما بقي في الكوفة رجل مذكور إلا
أتاه ممن كان على رأيه، ثم سألوه عن حاله، فأخبرهم بما قال وما قيل له: ثم
أخبرهم بصنع علي - رضي الله عنه - فعجب أهل الكوفة من ذلك ودعوا لعلي
بخير وشكروه على فعله.
قال: وكتب عثمان إلى سعيد بن العاص: أن تسرح إلي كعب بن عبيدة
مع سائق عنيف حتى يقدم علي به، والسلام.
قال: فلما ورد كتاب عثمان رضي الله عنه على سعيد بن العاص ونظر
فيه، أرسل إلى كعب بن عبيدة، فشده في وثاق ووجه به إلى عثمان مع رجل
145

فظ غليظ، فلما صار في بعض الطريق جعل الرجل ينظر إلى صلاة كعب بن
عبيده وتسبيحه واجتهاده، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! بعثت مع رجل
مثل هذا أهديه إلى القتل والعقوبة الشديدة أو الحبس الطويل! ثم أقبل
بكعب بن عبيدة حتى أدخله على عثمان.
فلما سلم عليه جعل عثمان ينظر إليه، ثم قال: تسمع بالمعيدي خير من
أن تراه! أنت تعلمني الحق وقد قرأت القرآن وأنت في صلب أب مشرك؟
قال كعب: على رسلك يا ابن عفان! فإن كتاب الله لو كان للأول دون
الآخر لم يبق للآخر شئ، ولكن القرآن للأول والآخر.
فقال عثمان: والله ما أراك تدري أين ربك! قال: بلى يا عثمان هو لي
ولك بالمرصاد! فقال مروان: يا أمير المؤمنين حلمك على مثل هذا وأصحابه
أطمع فيك الناس. فقال كعب: يا عثمان إن هذا وأصحابه أغمروك وأغرونا
بك.
قال عثمان: جردوه! فجردوه وضربه عشرين سوطا، ثم أمر به فرد إلى
الكوفة، وكتب إلى سعيد بن العاص: أما بعد، فإذا قدم عليك كعب بن
عبيدة هذا فوجه به مع رجل فظ غليظ إلى جبال كذا، فليكن منفيا عن بلده
وقراره.
قال: فلما قدم كعب على سعيد بن العاص دعا به فضمه إلى رجل من
أصحابه يقال له: بكير بن حمران الأحمري، فخرج به حتى جعله كذلك
حيث أمر عثمان.
قال: وأقبل طلحة والزبير حتى دخلا على عثمان (فذكر اعتراضهما على
أعمال عثمان. ثم قال)
قال: فدعا عثمان من ساعته بدواة وقرطاس وكتب إلى عامله بالكوفة
سعيد بن العاص.
146

أما بعد، فإني خشيت أن أكون قد اقترفت ذنبا عظيما وإثما كبيرا من
كعب بن عبيدة! وإذا ورد كتابي هذا إليك فابعث إليه فليقدم عليك، ثم
عجل به إلي، والسلام.
قال: فلما ورد الكتاب على سعيد بن العاص دعا ببكير بن حمران
الأحمري وأنفذه إلى كعب بن عبيدة فأشخصه إليه، ثم وجه به إلى المدينة.
فلما أدخل على عثمان سلم فرد عليه السلام، ثم أدنى مجلسه وقال: يا أخا
بني نهد إنك كتبت إلي كتابا غليظا، ولو كتبت أنت لي فيه بعض اللين
وسهلت بعض التسهيل لقبلت مشورتك ونصيحتك، ولكنك أغلظت لي
وتهددتني واتهمتني حتى أغضبتني فنلت منك ما نلت، وإنه وإن كان لكم
علي حق فلي عليكم مثله مما لا ينبغي أن تجهلوه.
قال: ثم نزع عثمان قميصه ودعا بالسوط فدفعه إليه، وقال: قم يا أخا بني
نهد اقتص مني ما ضربتك! فقال كعب بن عبيدة: أما أنا فلا أفعل ذلك،
فإني أدعه لله تعالى، ولا أكون أول من سن الاقتصاص من الأئمة، والله لئن
تصلح أحب إلي من أن تفسد، ولئن تعدل أحب إلي من أن تجور، ولئن
تطيع الله أحب إلي من أن تغضبه.
ثم وثب كعب بن عبيدة، فخرج من عند عثمان، فتلقاه قوم من
أصحابه، فقالوا: ما منعك أن تقتص منه وقد أمكنك من نفسه؟ فقال:
سبحان الله! والي أمر هذه الأمة! ولو شاء لما أفداني (1) من نفسه، وقد وعد
التوبة وأرجو أن يفعل (2).

(1) كذا في المصدر أيضا ولعل الصحيح: " أقداني ".
(2) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 179 - 188. وراجع الغدير: ج 9 ص 47 وما بعدها
147

(391)
الأشتر وسعيد بن العاص
قال: فبينا سعيد بن العاص ذات يوم في مسجد الكوفة - وقت صلاة
العصر - وعنده وجوه أهل الكوفة، إذ تكلم حسان بن محدوج الذهلي، فقال:
والله إن سهلنا لخير من جبلنا. فقال عدي بن حاتم: أجل! السهل أكثر برا
وخصبا وخيرا. فقال الأشتر: وغير هذا أيضا، السهل أنهاره مطردة ونخله
باسقات، وما من فاكهة ينبتها الجبل إلا والسهل ينبتها، والجبل خور وعر يحفي
الحافر، وصخره يعمي البصر ويحبس عن السفر، وبلدتنا هذه لا ترى فيها ثلجا
ولا قرا شديدا.
قال: فقال عبد الرحمن بن خنيس الأسدي صاحب شرطة سعيد بن
العاص: هو لعمري كما تذكرون، ولوددت أنه كله للأمير ولكم أفضل منه.
فقال له الأشتر: يا هذا يجب عليك أن تتمنى للأمير أفضل منه ولا تتمنى
له أموالنا، فما أقدرك أن تتقرب إليه بغير هذا! فقال عبد الرحمان بن خنيس:
وما يضرك من ذلك يا أشتر؟ فوالله إن شاء الأمير لكان هذا كله له. فقال له
الأشتر: كذبت والله يا ابن خنيس! والله أن لو رام ذلك لما قدر عليه، ولو رمته
أنت لفزعت دون فزعا يذل يخشع.
قال: فغضب سعيد بن العاص من ذلك، ثم قال: لا تغضب يا أشتر! فإنما
السواد كله لقريش، فما نشاء منه أخذنا وما نشاء تركنا، ولو أن رجلا قدم فيه
رجلا لم يرجع إليه أو قدم فيه يدا لقطعتها! فقال له الأشتر: أنت تقول هذا أم
غيرك؟ فقال سعيد بن العاص: لا بل أنا أقوله. فقال الأشتر: أتريد أن تجعل
مراكز رماحنا وما أفاء الله علينا بأسيافنا بستانا لك ولقومك؟ والله ما يصيبك
من العراق إلا كل ما يصيب رجلا من المسلمين.
قال: ثم التفت الأشتر إلى عبد الرحمن بن خنيس، فقال: وأنت يا عدو الله
148

ممن يزين له رأيه في ظلمنا والتعدي علينا، لكون ولاك الشرطة. قال: ثم
مد الأشتر يده فأخذ حمائل سيف ابن خنيس فجذبه إليه وقال: دونكم
يا أهل الكوفة هذا الفاسق فاقتلوه! حتى لا يكون للمجرمين ظهير. قال:
فأخذته الأيدي حتى وقع لجنبه، ثم جروا برجله.
فوثب سعيد بن العاص مسرعا حتى دخل إلى منزله.
وقام الأشتر فخرج من المسجد، وخرجوا معه أصحابه وهم يقولون: وفقك
الله فيما صنعت وقلت! فوالله لئن رخصنا لهؤلاء قليلا لزعموا أن دورنا
وموارثنا التي ورثناها عن آبائنا وبلادنا لهم دوننا.
قال: فكتب سعيد بن العاص من ساعته بذلك إلى عثمان كتابا في
أوله: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من سعيد بن
العاص، أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أني ما أملك من الكوفة شيئا مع
الأشتر النخعي، ومعه قوم يزعمون أنهم القراء وهم السفهاء! فهم يردون علي
أمري ويعيبون علي صالح أعمالي، وإن الأشتر كان بينه وبين صاحب
شرطي كلام ومراجعة في شئ لا أصل له، فأغرى به الأشتر سفهاء أصحابه
وأشرار أهل المصر حتى وثبوا عليه وأنا جالس، فضربوه حتى وقع لجنبه وهو
لما به، فليكتب إلي أمير المؤمنين برأيه أعمل به إن شاء الله.
فكتب إليه عثمان كتابا في أوله:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنك
لا تملك من الكوفة شيئا مع الأشتر، ولعمري إنك منها العريض الطويل، وقد
كتبت إلى الأشتر كتابا وضمنته كتابك، فادفعه إليه، وانظر أصحابه هؤلاء
الذين ذكرتهم فألحقهم به، والسلام.
قال: ثم كتب عثمان إلى الأشتر: أما بعد، فقد بلغني يا أشتر أنك تلقح
وتريد أن تنبح، وأيم الله أني لا أظن أنك تستر أمرا لو أنك أظهرته لحل به
149

دمك! وما أراك منتهيا عن الفتنة أو يصيبك الله بقارعة ليس معها بقيا!
فانظر إذا أتاك كتابي هذا فقرأته ورأيت أن لي عليك طاعة فسر إلى الشام
فتكون بها مقيما حتى يأتيك أمري، واعلم أني إنما أسيرك إليها لا لشئ إلا
لإفسادك علي الناس، وذلك بأنك لا تألوهم خبالا ولا ضلالا.
قال: فلما ورد كتاب عثمان على الأشتر وقرأه عزم على الخروج عن
الكوفة، وأرسل إليه سعيد بن العاص: أن اخرج وأخرج من كان معك على
رأيك، فأرسل إليه الأشتر: أنه ليس بالكوفة أحد إلا وهو يرى رأيي فيما أظن
لا يحبون أن تجعل بلادهم بستانا لك ولقومك، وأنا خارج فيمن اتبعني، فانظر
فيما يكون من بعد هذا.
قال: ثم خرج الأشتر من الكوفة ومعه أصحابه، وهم: صعصعة بن
صوحان العبدي، وأخوه، وعائذ بن حملة الظهري، وجندب بن زهير الأزدي،
والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني، وأصغر بن قيس الحارثي، ويزيد بن
المكفف، وثابت بن قيس بن منقع، وكميل بن زياد، ومن أشبههم من
إخوانهم، حتى صاروا إلى كنيسة يقال لها: " كنيسة مريم " فأرسل إليهم
معاوية، فدعاهم فجاءوا حتى دخلوا ثم سلموا وجلسوا.
فقال لهم معاوية:
يا هؤلاء اتقوا الله! ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم
البينات.
قال: ثم سكت معاوية، قال له كميل بن زياد:
يا معاوية! فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فنحن
أولئك الذين هداهم الله.
فقال له معاوية: كلا يا كميل! إنما أولئك الذين أطاعوا الله ورسوله وولاة
الأمر، فلم يدفنوا محاسنهم ولا أشاعوا مساويهم
150

فقال كميل: يا معاوية! لولا أن عثمان بن عفان وفق منك بمثل هذا
الكلام وهذه الخديعة لما أتخذك لنا سجنا.
فقال له الأشتر: يا كميل ابتدأنا (1) بالمنطق وأنت أحدثنا سنا. قال:
فسكت كميل وتكلم الأشتر، فقال:
أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى أكرم هذه الأمة برسوله محمد صلى الله
عليه وآله فجمع به كلمتها وأظهرها على الناس، فلبث بذلك ما شاء الله أن
يلبث ثم قبضه الله عز وجل إلى رضوانه ومحل جنانه صلى الله عليه وآله وسلم
كثيرا. ثم ولي من بعده قوم صالحون عملوا بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى
الله عليه وآله وجزاهم بأحسن ما أسلفوا من الصالحات. ثم حدثت بعد ذلك
أحداث، فرأى المؤمنون من أهل طاعة الله أن ينكروا الظلم وأن يقولوا بالحق،
فإن أعاننا ولاتنا - أعفاهم الله من هذه الأعمال التي لا يحبها أهل الطاعة -
فنحن معهم ولا نخالف عليهم، وإن أبوا ذلك فإن الله تبارك وتعالى قد قال في
كتابه وقوله الحق: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس
ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون "
فلسنا يا معاوية بكاتمي برهان الله عز وجل ولا بتاركي أمر الله لمن جهله حتى
يعلم مثل الذي علمنا، وإلا فقد غشتنا أئمتنا وكنا كمن نبذ الكتاب وراء
ظهره.
فقال له معاوية: يا أشتر إني أراك معلنا بخلافنا مرتضيا بالعداوة لنا،
والله لأشدن وثاقك ولأطيلن حبسك!.
فقال له عمرو بن زرارة: يا معاوية! لئن حبسته لتعلمن أن له عشيرة
كثيرة عددها لا يضام، شدها شديد على من خالفها ونبزها.

(1) كذا في المصدر أيضا ولعل الصحيح: " ابتدأتنا "
151

فقال معاوية: وأنت يا عمرو تحب أن يضرب عنقك ولا تترك حيا،
اذهبوا بهم إلى السجن!.
قال: فذهبوا بهم إلى السجن.
فقام زيد بن المكفكف، فقال: يا معاوية! إن القوم بعثوا بنا إليك لم
يكن بهم عجز في حبسنا في بلادنا لو أرادوا ذلك، فلا تؤذينا وأحسن مجاورتنا
ما جاورناك، فما أقل ما نجاورك حتى نفارقك! إن شاء الله تعالى.
قال: ثم وثب صعصعة بن صوحان، فقال: يا معاوية! إن مالك بن
الحارث الأشتر وعمرو بن زرارة رجلان لهما فضل في دينهم وحالة حسنة في
عشيرتهم وقد حبستهم، فأمر بإخراجهم فذلك أجمل في الرأي.
قال معاوية: علي بهم، فأوتي بهم من الحبس، فقال معاوية: كيف ترون
عفوي عنكم يا أهل العراق بعد جهلكم واستحقاقكم الحبس؟ رحم الله
أبا سفيان لقد كان حليما ولو ولد الناس كلهم لكانوا حلماء.
فقال صعصعة بن صوحان: والله يا معاوية لقد ولدهم من هو خير من
أبي سفيان فسفهاؤهم وجهالهم أكثر من حلمائهم!.
فقال معاوية: قاتلك الله يا صعصعة! قد أعطيت لسانا حديدا، اخرجوا
واتقوا الله وأحسنوا الثناء على أئمتكم، فإنهم جنة لكم
فقال صعصعة: يا معاوية! إننا لا نرى لمخلوق طاعة في معصية الخالق.
فقال معاوية: اخرج عني أخرجك الله إلى النار! فلعمري أنك حدث.
فخرج القوم من عند معاوية وصاروا إلى منازلهم فلم يزالوا مقيمين بالشام، وقد
وكل بهم قوم يحفظونهم أن لا يبرحوا (1). إلى هنا انتهى الأصل بخط المؤلف.
قال - بعد ذكر منع معاوية الماء -: فدعا علي - رضي الله عنه - بشبث بن

(1) فتوح ابن أعثم: ج 2 ص 170 - 177. وراجع الغدير ج 9 ص 30 - 36 و 37 وما بعدها
152

ربعي الرياحي وصعصعة بن صوحان العبدي، فقال لهما: انطلقا إلى معاوية،
فقولا له: إن خيلك قد حالت بيننا وبين الماء، ولو كنا سبقناك لم نحل بينك
وبينه، فإن شئت فخل عن الماء حتى نستوي فيه نحن وأنت، وإن شئت
قاتلناك عليه حتى يكون لمن غلب وتركنا ما جئنا له من الحرب.
قال: فأقبل شبث، فقال: يا معاوية إنك لست بأحق من هذا الماء منا،
فخل عن الماء فإننا لا نموت عطشا وسيوفنا على عواتقنا.
ثم تكلم صعصعة بن صوحان، فقال: يا معاوية إن أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب يقول لك: إننا قد سرنا مسيرنا هذا وإني أكره قتالكم قبل الاعذار
إليكم، فإنك قدمت خيلك، فقاتلتنا من قبل أن نقاتلك وبدأتنا بالقتال،
ونحن من رأينا الكف حتى نعذر إليك ونحتج عليك، وهذه مرة أخرى قد
فعلتموها، حلتم بين الناس والماء، وأيم الله لنشربن منه شئت أم أبيت! فامنن
إن قدرت عليه من قبل أن نغلب فيكون الغالب هو الشارب.
فقال لعمرو بن العاص: ما ترى أبا عبد الله؟ فقال: أرى أن عليا لا يظمأ
وفي يده أعنة الخيل، وهو ينظر إلى الفرات دون أن يشرب منه، وإنما جاء لغير
الماء، فخل عن الماء حتى يشرب ونشرب.
قال: فقال الوليد بن عقبة: يا معاوية إن هؤلاء قد منعوا عثمان بن عفان
الماء أربعين يوما وحصروه! فامنعهم إياه حتى يموتوا عطشا واقتلهم، قاتلهم الله
أنى يؤفكون!
قال: ثم تكلم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فقال: صدق الوليد في قوله
فامنعهم الماء، منعهم الله إياه يوم القيامة.
فقال صعصعة: إنما يمنعه الله يوم القيامة الكفرة الفسقة الفجرة مثلك ومثل
نظرائك هذا الذي سماه الله في الكتاب فاسقا الوليد بن عقبة الذي صلى
بالناس الغداة أربعا وهو سكران، ثم قال: أزيدكم؟ فجلد الحد في الإسلام.
153

قال: فثاروا إليه بالسيوف، فقال معاوية: كفوا عنه، فإنه رسول... الخ (1).
(392)
الخليل وابن المقفع
كان ابن المقفع والخليل يحبان أن يجتمعا، فاتفق التقاؤهما، فاجتمعا ثلاثة
أيام يتحاوران، فقيل لابن المقفع: كيف رأيته؟ فقال: وجدت رجلا عقله زائد
على علمه، وسئل الخليل عنه، فقال: وجدت رجلا علمه فوق عقله (2).
(393)
الأحنف ومعاوية
قال معاوية: ما من شئ يعدل التثبت، فقال الأحنف: إلا أن تبادر
بالعمل الصالح أجلك، تعجل إخراج ميتك، وتنكح الكفوء ابنتك (3).
(394)
أبو الأسود وزياد
قال زياد لأبي الأسود: لولا أنك كبرت لاستعملتك واستشرتك، فقال:
إن كنت تريدني للصراع فليس في، وإن كنت تريد الرأي فهو وافي (4).
(395)
الأعرابي وعبد الملك
انقطع عبد الملك عن أصحابه فانتهى إلى أعرابي، فقال: أتعرف
عبد الملك؟ قال: نعم جائر بائر! قال: ويحك أنا عبد الملك! قال: لا حياك الله
ولا بياك ولا قربك، أكلت مال الله وضيعت حرمته. قال: ويحك! أنا أضر
وأنفع، قال: لا رزقني الله نفعك، ولا دفع عني ضرك! فلما وصلت خيله علم
صدقه، فقال: يا أمير المؤمنين اكتم ما جرى، فالمجالس بالأمانة (5).

(1) فتوح ابن أعثم: ج 3 ص 1 - 3.
(2) المحاضرات للراغب: ج 1 ص 16.
(3) المحاضرات: ج 1 ص 26.
(4) المحاضرات: ج 1 ص 28.
(5) المحاضرات: ج 1 ص 231
154

(396)
الأعرابي والحجاج
سأل الحجاج أعرابيا عن أخيه محمد بن يوسف، كيف تركته؟ فقال:
تركته سمينا عظيما. قال: إنما سألت عن سيرته؟ قال: ظلوما غشوما. قال: أما
علمت أنه أخي؟ قال: نعم ما هو بك أعز مني بالله. فأمر بضربه، فقيل له:
اعتذر إليه، فقال: معاذ الله! أن أعتذر من حق أوردته (1).
(397)
رجل مع الحجاج
خطب الحجاج يوما فأطال، فقام رجل، فقال: الصلاة! الوقت لا ينتظرك
والرب لا يعذرك، فأمر بحبسه فأتاه قومه، وزعموا أنه مجنون، فإن رأى أن يخلي
سبيله. فقال: إن أقر بالجنون خليته، فقيل له ذلك، فقال: معاذ الله! لا أزعم
أن الله ابتلاني وقد عافاني، فبلغ ذلك الحجاج فعفا عنه لصدقه (2).
(398)
يحيى والحجاج
قال الحجاج ليحيى: أنت تزعم أن الحسن والحسين أبناء رسول الله صلى
الله عليه وآله؟ قال: نعم. قال: والله! لأقتلنك إن لم تأت بآية تدل على
ذلك، فقال: نعم إن الله تعالى يقول: " ومن ذريته داود وسليمان وأيوب - إلى
قوله - وزكريا ويحيى وعيسى " وهو ابن مريم وقد نسبه إليه. فقال الحجاج: أولى
لك! قد نجوت (3).

(1) المحاضرات: ج 1 ص 238.
(2) المحاضرات: ج 1 ص 239.
(3) المحاضرات: ج 1 ص 345، وسيأتي بنقل أبسط
155

(399)
حماد بن عيسى وصديقه
كان حماد بن موسى يترفض، وكان له صديق يثق إليه ويوافقه في
مذهبه، فأودعه حماد دراهم وطالبه بها بعد مدة فجحده، فاضطر إلى أن مضى
لمحمد بن سليمان وسأله أن يحضره ويحلف له بحق علي بن أبي طالب، فإنه
يتحرج من ذلك، فقال: أعز الله الأمير! هذا الرجل أجل عندي من أن أحلف
له بالبراءة من مختلف في ولايته وإيمانه، ولكني أحلف له بالمتفق على إيمانهما
وخلافتهما - أبي بكر وعمر - فضحك محمد بن سليمان والتزم بعض ما ادعي عليه
وصالحه على بعض (1).
(400)
رجل مع معاوية
قال (لما منع معاوية الماء بصفين ورجع رسل علي عليه السلام من عند
معاوية وأصر هو على المنع): فوثب رجل من أهل الشام، يقال له: المعراء بن
الفيل بن الأهول فقال: ويحك يا معاوية! و الله لو سبقك علي إلى الماء فنزل
عليه من قبلك إذا لما منعك منه أبدا، و لكن أخبرني عنك [أنك] إذ أنت منعته
الماء من هذا الموضع ألا تعلم أنه يرحل من موضعه هذا وينزل على مشرعة
أخرى فيشرب منه ثم يحاربك على ما صنعت؟ ألا تعلم أن فيهم العبيد والإماء
والضعيف ومن لا ذنب له؟ هذا والله أول البغي والفجور، والله لقد حملت من
لا يريد قتالك على قتالك [و] يمنعك هذا الماء، فإن شئت فاغضب وإن شئت
فارض، فإني لا أدع القول بالحق ساءك أم سرك.
ثم أنشأ يقول:

(1) المحاضرات: ج 1 ص 485
156

لعمرو أبي معاوية بن صخر * وعمرو ما لدائهما دواء
سوى طعن يحار العقل فيه * وضرب حين يختلط الدماء
فلست بتابع دين ابن هند * طوال الدهر ما أرسى حراء
لقد ذهب العتاب فلا عتاب * وقد ذهب الولاء فلا ولاء
وقولي في حوادث كل أمري * على عمرو وصاحبه العفاء
ألا لله درك يا ابن هند * لقد ذهب الحياء فلا حياء
أتحمون الفرات على رجال * وفي أيديهم ألاسل الظماء
وفي الأعناق أسياف حداد * كأن القوم عندكم نساء
فترجو أن يجاوركم علي * بلا ماء وللأحزاب ماء
دعاهم دعوة فأجاب قوم * كجرب الإبل خالطها الهناء
قال: فأمر معاوية بقتل هذا الرجل، فوثب قوم من بني عمه فاستوهبوه منه
فوهبه لهم، فلما كان الليل هرب إلى علي بن أبي طالب فصار معه (1).
(401)
سعيد بن قيس وأصحابه مع معاوية
قال (بعد أن نقل أنه أخذ مشرعة الفرات من أيدي عساكر الشام بالحرب
الشديد بين جنود العراق والشام): ثم دعا علي - رضي الله عنه - سعيد بن قيس
الهمداني وبشير بن عمرو الأنصاري، فقال لهما: انطلقا إلى معاوية فادعواه إلى
الله عز وجل وإلى الطاعة والجماعة واحتجا عليه، وانظرا ما رأيه وعلى ماذا قد
عزم.
قال: فأقبلا حتى دخلا على معاوية، فتقدم بشير بن عمرو، فقال: يا
معاوية! إن الدنيا غدارة غرارة، سفيهة جائرة، وعنك زائلة، وإنك راجع إلى

(1) فتوح ابن أعثم: ج 3 ص 4 - 5
157

الله عز وجل فمحاسبك على عملك ومجازيك بما قدمت يداك.
قال: فقطع معاوية عليه الكلام، ثم قال: فهلا بهذا أوصيت صاحبك؟
فقال الأنصاري: يا سبحان الله العظيم! إن صاحبي ليس مثلك، إنه أحق بهذا
الأمر منك للفضل في الدين والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول صلى الله
عليه وآله.
فقال معاوية: فيقول ماذا؟ قال: إني آمرك بتقوى الله وإجابة الحق
والدخول فيما دخلت فيه المهاجرون والأنصار والتابعون، فإن ذلك أسلم لك في
دنياك وآخرتك.
فقال معاوية: ونطل دم عثمان، لا والله! لا كان ذلك أبدا، وما لكما ولا
لصاحبكما عندي إلا السيف، فاخرجا عني.
قال: فوثبا قائمين والتفت إليه سعيد فقال: والله يا ابن هند لتغلبن سيوف
صاحبنا ما تود أن أمك هند لم تلدك ولم تكن في العالمين! فقال معاوية: يد الله
فوق يدك.
قال: وأقبلا إلى علي - رضي الله عنه - يخبرانه بذلك، فدعا علي بشبث بن
ربعي الرياحي ويزيد بن قيس الأرجي وزياد بن خصفة التميمي وعدي بن
حاتم الطائي، فأرسلهم إلى معاوية وقال [لهم]: اعذروا إليه وأنذروه قبل
الإقدام على الحرب.
قال: فجاء القوم حتى دخلوا على معاوية وتقدم عدي بن حاتم، فقال:
يا معاوية إننا قد أتيناك ندعوك إلى أمر الله يجمع الله [به] كلمتنا ويحقن
دماء المسلمين، وندعوك إلى أفضل الناس سابقة وأحسنهم في الإسلام أثرا وقد
اجتمع الناس إليه وأرشدهم الله تعالى بالذي رأوا، فاتق الله يا معاوية! وانته
عما قد أزمعت عليه من قبل أن يصيبك الله وأصحابك بما أصاب به أنصار الجمل.
فقال معاوية: كأنك إنما جئت متهددا، كلا والله يا عدي! إني لابن
158

صخر بن حرب ما يقعقع لي بالشنآن، أما إنك من المجلبين على عثمان، وأنا
أرجو [أن تكون] ممن يقتله الله، فأراد عدي إجابته فسبقه شبث بن ربعي،
فقال:
يا معاوية [لقد] أتيناك فيما يصلحنا وإياك، فصرت تضرب لنا الأمثال
التي لا ينتفع بها [أحد].
قال: ثم تكلم يزيد بن قيس، فقال: يا معاوية إننا لم نأتك إلا لنبلغ ما
بعثنا به ونؤدي عنك ما نسمعه منك، وإن صاحبنا هو من قد عرفته وعرفه
المسلمون، وإننا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى ولا أهدى في الدين ولا
أجمع خصال الخير كلها منه.
قال معاوية: إنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم
إليها فنعما هي. وأما الطاعة لصاحبكم، فإننا لا نراها واجبة علينا، لأن
صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا، وهو يزعم أنه لم يقتل ولم يأمر، ونحن
لا نرد ذلك عليه غير أن قتلة صاحبنا عنده، فليدفعهم إلينا لنفديهم بصاحبنا،
ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
قال شبث: لو مكنت من عمار بن ياسر هل كنت قاتله؟ فقال معاوية:
وما يمنعني من قتله؟ والله لو قدرت على ابن سمية لما قتلته بعثمان، ولكني
كنت أقتله بقاتل مولى عثمان بن عفان! فقال شبث بن ربعي: إذا والله
ما عدلت يا معاوية! والله لا تصل إلى قتل عمار أو ترى الهامات، وقد ندرت عن
الكواهل وتضيق عليك أرض الفضاء برحبها.
قال: ثم خرج القوم من عند معاوية، فصاروا إلى علي - رضي الله عنه -
فأخبروه بالذي كان بينهم وبين معاوية من الكلام (1)

(1) فتوح ابن أعثم: ج 3، ص 23 وما بعدها، وشرح النهج لابن أبي الحديد: ج 5 ص 14 و 20 و 21 و 22
عن نصر ويأتي ص 426 عن لفظ نصر أيضا لما بين الروايتين من الاختلاف
159

(402)
عمار وعمرو بن العاص
قال (في ذكر وقعة صفين): فأصبح القوم، فدنا بعضهم من بعض ومع
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يومئذ رجل من حمير يكنى بأبي نوح، وكان
مفوها متكلما، وكان له فضل وقدر وطاعة في الناس، فقال لعلي: يا
أمير المؤمنين أتأذن لي في كلام ذي الكلاع؟ فإنه رجل من قومي وهو سيد عند
أهل الشام، فلعلي أشككه فيما هو فيه، فقال له علي: يا أبا نوح إن رد مثل ذي
الكلاع شديد عند أهل الشام، فإن أحببت لقاءه فالقه بالجميل، وإياك
والكتب!
قال: فبعث أبو نوح إلى ذي الكلاع: إني أريد لقاءك، فاخرج إلي
أكلمك.
قال: فجاء ذو الكلاع إلى معاوية، فقال: إن أبا نوح يريد كلامي ولست
مكلمه إلا بإذنك، فما ترى في كلامه أكلمه أم لا؟ فقال معاوية: وما تريد إلى
كلامه؟ فوالله ما نشك في هداك ولا في ضلالته ولا في حقك ولا في باطله.
فقال ذو الكلاع: على ذلك ائذن لي في كلامه، فقال معاوية: ذاك إليك.
وفشا أمر أبي نوح وذي الكلاع في الناس، فأنشأ رجل من أصحاب علي يقول:
أذكر أخا كلع أمرا سيعقبه * شكا وشيكا فبادره أبا نوح
حتى نشككه في دين صاحبه * والشك منه قريب شبه تصريح
أما الرجوع فإني لست آمله * إلا وبعض دماء القوم مسفوح
من يحصب ورعين أو ذوي كلع * وأصبح الشمر ذي الرأي المراجيح
كم ساعد قد أبان السيف مرفقها * ورأس أشوس وسط القوم مطروح
قال ابن هند له قولا فأطمعه * إن المطامع باب غير مفتوح
بادره من قبل أن تنشب أظافره * من ابن هند بتشبيع وتجليح
160

وامنحه نصحك إما كنت ناصحه * ما كان نصح أبي نوح بمشروح
إن خالف اليوم أهل الشام ذو الكلع * لا يمس بالشام قرن غير منطوح
قال: وأقبل [أبو] نوح حتى وقف بين الجمعين، وخرج ذو الكلاع حتى
وقف قبالته، فقال أبو نوح: يا ذا الكلاع! إنه ليس في هذين الجمعين أحد أولى
بنصيحتك مني، إن معاوية بن أبي سفيان أخطأ وأخطأتم معه في خصال كثيرة
لخطأة واحدة، إنه من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، فأخطأ بادعائه إياه
وأخطأتم باتباعه وأخطأ في الطلب بدم عثمان وأخطأتم معه، لأن غيره أولى
بطلب دم عثمان منه، وأخطأ أنه رمى عليا بدم عثمان وأخطأتم بتصديقكم
إياه ونصركم له، وهذا أمر قد شهدناه وغبتم عنه، فاتق الله ويحك يا ذا الكلاع!
فإن عثمان بن عفان أبيح له (أتيح له - خ) قوم فقتلوه بدعوى ادعوا عليه، والله
الحاكم في ذلك يوم القيامة، وقد بايعت الناس عليا برضاء منه ومنهم، لأنه لم
يك للناس بد من إمام يقوم بأمرهم، وليس لأهل الشام مع المهاجرين
والأنصار أمر، فإن قلت: إن عليا ليس بخير من معاوية ولا بأحق منه بهذا
الأمر، فهات رجلا من قريش ممن ترضى دينه حتى يعدل بينهم في شئ من
الدين والشرف والسابقة في الإسلام.
فقال له ذو الكلاع: إنني قد سمعت كلامك أبا نوح ولم يخف علي منه
شئ، ولكن هل فيكم عمار بن ياسر؟ فقال أبو نوح: نعم هو فينا، قال: فهل
يتهيأ لك أن تجمع بينه وبين عمرو بن العاص فيتكلمان وأنا أسمع؟ فقال
أبو نوح: نعم.
ثم ولى إلى عسكره، فصار إلى عمار وطلب إليه وسأله أن يلقى عمرو بن
العاص.
قال: فخرج عمار في ثلاثين رجلا من المهاجرين والأنصار ليس فيهم
رجل إلا وقد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وآله غير رجلين: عمرو بن
161

الحمق الخزاعي، ومالك بن الحارث الأشتر.
قال: وقام الصباح الحميري إلى معاوية، فقال له: إني أرى لك أن
لا تأذن لذي الكلاع أن يلقى أبا نوح، فإنه قد طمع فيه، وأخاف أن يشككه في
دينه! فقال معاوية: إني قد نهيته فلم ينته عن ذلك، وهو رجل من سادات
حمير، وأنا أرجو أن لا يخدع.
قال: فأنشأ رجل من أصحاب معاوية في ذلك يقول:
إني رأيت أبا نوح له طمع * في ذي الكلاع فلا يقرب أبا نوح
إني أخاف عليه من بوادره * كيد العراق وقرنا غير منطوح
إن يرجع اليوم للعقبين ذو كلع * يرجع له الشام من شك وتصريح
ما قول عمرو وشر القول أكذبه * إلا هشيم ذراه عاصف الريح
لا بارك الله في عمرو وخطبته * إن التي رامها فجر وتجليح
لو شاء قال له قولا يشككه * حتى يظن سحوق النخل كالشيح
قال: قأقبل ذو الكلاع إلى عمرو بن العاص إذ هو واقف يحرض الناس
على القتال، فقال له: أبا عبد الله هل لك في رجل ناصح صادق لبيب شفيق
يخبرك عن عمار بن ياسر بالحق؟ فقال له عمرو: [و] من هذا معك؟ فقال:
هذا ابن عم لي من أهل العراق غير أنه جاء معي بالعهد والميثاق على أنه
لا يؤذى ولا يهاج حتى يرجع إلى عسكره. فقال عمرو: إنا لنرى عليه سيماء
أبي تراب، فقال أبو نوح: بل سيماء محمد وأصحابه علي وعليك سيماء جهل بن
أبي جهل وسيماء فرعون ذي الأوتاد.
قال: فوثب أبو الأعور السلمي فسل سيفه ثم قال: أرى هذا الكذاب
الأثيم يشاتمنا وهو بين أظهرنا، وعليه سيماء أبي تراب. فقال ذو الكلاع: مهلا يا
أبا الأعور! لأقسم بالله لو بسطت يدك إليه لأخطمن أنفك بالسيف! ابن
عمي وجاري قد عقدت له ذمتي وجئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم فيه
162

فتسل عليه السيف!!
قال: فسكت أبو الأعور وتكلم عمرو بن العاص، فقال: ألست أبا نوح؟
فقال: بلى أنا أبو نوح. قال عمرو: فأنا أذكرك الله أبا نوح إلا صدقتنا ولم
تكذبنا أفيكم عمار بن ياسر؟ قال أبو نوح: ما أنا بمخبرك حتى تخبرني لم
تسألني عنه؟ فإن معنا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله - وكلهم
جاد في قتالكم، فقال عمرو: لأني سمعت رسول الله وهو يقول لعمار:
" تقتلك الفئة الباغية " وإنه " ليس ينبغي لعمار بن ياسر أن يفارق الحق ولا
تأكل النار منه شيئا " فقال أبو نوح: لا إله إلا الله والله أكبر! إن عمارا معنا وإنه
لجاد في قتالكم، فقال عمرو: إنه والله لجاد على قتالنا؟ فقال أبو نوح: والله لقد
حدثني يوم الجمل إننا سنظهر عليهم، فكان كما قال: ولقد حدثني بالأمس أن
لو هزمتمونا حتى تبلغونا إلى سعفات هجر لعلمنا بأننا على حق وأنكم على
باطل، وأن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال عمرو: فهل تستطيع أن
تجمع بيني وبينه؟ قال أبو نوح: نعم، وها هو واقف في ثلاثين رجلا من
أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
فأقبل عمرو بن العاص حتى وقف قريبا من أصحاب علي، ومعه نفر من
أصحاب معاوية. قال: ونظر إليهم عمار، فأرسل إليهم برجل من عبد القيس
يقال له: عوف بن بشر، فأقبل حتى إذا كان قريبا منهم نادى بأعلى صوته:
أين عمرو بن العاص؟ فقال عمرو: ها أنا فهات ما عندك، فقال: هذا عمار
قد حضر، فإن شئت فتقدم إليه. قال عمرو: فسر إلينا حتى نكلمك، فقال:
أنا أخاف غدراتك. قال عمرو: فما الذي جرأك وأنت على هذه الحالة؟ فقال
له عوف بن بشر: الله جرأني عليك وبصرني فيك وفي أصحابك، فإن شئت
نابذتك، وإن شئت التقيت أنت وخصماؤك. فقال له عمرو: من أنت يا
أخي؟ قال: أنا عوف بن بشر الشني رجل من عبد القيس. قال عمرو: فهل
163

لك: أن أبعث لك بفارس يوافقك؟ فقال له عوف: ما أنا بمستوحش من
ذلك، فابعث إلي أشقى أصحابك. فقال عمرو لأصحابه: أيكم يخرج إليه
فيكلمه، فقال أبو الأعور: أنا إليه أسير.
ثم أقبل إليه أبو الأعور حتى واقفه، فقال له عوف: إني لأرى رجلا
لا أشك أنه من أهل النار إن كان مصرا على ما أرى، فقال له أبو الأعور: لقد
أعطيت لسانا حديدا أنكبك الله في نار جهنم! فقال عوف: كلا! والله إني
لا أتكلم إلا بالحق ولا أنطق إلا بالصدق، وإني أدعو إلى الهدى وأقاتل أهل
الضلال وأفر من النار، وأنت رجل تشتري العقاب بالمغفرة والضلالة بالهدى،
فانظر إلى وجوهنا ووجوهكم وسيمانا وسيماكم، واسمع إلى دعوانا ودعواكم،
فليس منا أحد إلا وهو أولى بمحمد صلى الله عليه وآله وأقرب إليه منكم.
فقال أبو الأعور: أكثرت الكلام وذهب النهار، فاذهب وادع أصحابك
وأدعو أصحابي وأنا جار لك حتى تأتي موقفك هذا الذي أنت فيه، ولست
أبدأك بغدر حتى تأتي أنت وأصحابك.
قال: فرجع عوف بن بشر إلى عمار بن ياسر ومن معه، فأخبرهم بذلك،
وأقبل عمار ومعه الأجلاء من أهل عسكره، وتقدم عمرو بن العاص في أجلاء
عسكره حتى اختلفت أعناق الخيل، فنزلوا هؤلاء وهؤلاء عن خيولهم واحتبوا
بحمائل سيوفهم، وذهب عمرو [يتكلم] التشهد، فقال عمار: اسكت! وقد
تركتها في حياة محمد صلى الله عليه وآله وبعد موته، ونحن أحق بها منك،
فاخطب بخطبة الجاهلية، وقل قول من كان في الإسلام دنيا ذليلا وفي الضلال
رأسا محاربا، فإنك ممن قاتل النبي صلى الله عليه وآله في حياته وبعد موته
وفتن أمته من بعده، وأنت الأبتر ابن الأبتر شانئ محمد صلى الله عليه وآله
وشانئ أهل بيته.
قال: فغضب عمرو، ثم قال: أما إن فيك لهنات! ولو شئت أن أقول لقلت.
164

فقال عمار: وما عسى أن تقول ابن عمي؟ إني كنت ضالا فهداني الله،
ووضيعا فرفعني الله، وذليلا فأعزني الله، فإن [كنت] تزعم هذا [فقد]
صدقت، وإن [أنت] تزعم أني خنت الله ورسوله يوما واحدا أو تولينا غير الله
يوما واحدا فقد كذبت، ولكن هلم إلى ما نحن فيه الآن، فإن شئت كانت
خصومة فيدفع حقنا باطلك، وإن شئت كانت خطب فنحن أعلم بفصل
الخطاب منك، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك وتكفرك قبل
القيام من مجلسك وتشهد بها على نفسك، ولا تستطيع أن تكذبني:
هل تعلم أن عثمان بن عفان كان عليه الناس بين خاذل له ومحرض عليه
[و] ما هم فيه من نصره بيده ولا نهي عنه بلسانه؟ وقد حصر أربعين يوما في
جوف داره ليس له جمعة ولا جماعة، وتظن ما كان فيه قبل أن يقتل ما كان من
طلحة والزبير وعائشة بنت أبي بكر حين منعها أرزاقها فقالت فيه ما قالت
وحرضت على قتله، فلما قتل خرجت فطلبت بدمه بغير حق ولا حكم من الله
تعالى في يدها، ثم إن صاحبك هذا معاوية قد طلب إلى أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب أن يترك له ما في يده، فأبى علي ذلك، فانظر في هذا، ثم سلط الحق
على نفسك فاحكم لك وعليك.
قال: فقال عمرو: صدقت أبا اليقظان قد كان ذلك كما ذكرت في أمر
عائشة وطلحة والزبير. وأما معاوية فله أن يطلب بدم عثمان، لأنه رجل من
بني أمية وعثمان من بني أمية وليس لهذا جئت... إذا رسل هذا الأمر الذي قد
شجر بيننا وبينكم، لأني رأيتك أطوع هذا العسكر، فاذكر الله إلا كففت
سلاحهم وحقنت دماءهم وحرضت على ذلك، ويحك أبا اليقظان! على ماذا
تقاتلنا؟ ألسنا نعبد الله واحدا؟ ألسنا نصلي إلى قبلتكم وندعو بدعوتكم ونقرأ
كتابكم ونؤمن بنبيكم؟
فقال عمار: الحمد لله الذي أخرجها من فيك! القبلة والله لي ولأصحابي،
165

ولنا الدين والقرآن وعبادة الرحمن، ولنا النبي والكتاب، من دونك ودون
أصحابك، وإن الله - تبارك وتعالى - قد جعلك ضالا مضلا، وأنت لا تعلم أهاد
أنت أم ضال، ولقد أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله أن أقاتل الناكثين
فقد فعلت، وأمرني أن أقاتل القاسطين فأنتم هم، وأما المارقون فلا أدري
أدركهم أم لا.
أيها الأبتر! ألست تعلم أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " من كنت
مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره
واخذل من خذله "؟ فأنا مولى لله ولرسوله وعلي مولاي من بعده، وأنت فلا مولى لك.
فقال عمرو بن العاص: ويحك أبا اليقظان! لم تشتمني ولست أشتمك؟
فقال عمرو: فما ترى في قتل عثمان؟ فقال عمار: قد أخبرتك كيف قتل
عثمان. فقال عمرو: فعلي قتله، فقال عمار: بل الله قتله. قال عمرو: فهل
كنت فيمن قتله؟ قال عمار: أنا مع من قتله وأنا اليوم أقاتل لمن قتله، لأنه أراد
أن يقتل الدين، فقتل.
فقال عمرو: يا أهل الشام إنه قد اعترف بقتل عثمان أمامكم! فقال
عمار: قد قالها فرعون لقومه " ألا تسمعون "، أخبرني يا ابن النابغة! هل أقررت
أني أنا الذي قتلت عثمان حتى تشهد علي أهل الشام؟ فقال عمرو يا هذا:
إنه كان من أمر عثمان ما كان [و] أنتم الذين وضعتم سيوفكم على عواتقكم
وتحربتم علينا مثل لهب النيران حتى ظننا أن صاحبكم لا بقية عنده، فإن
تنصفونا من أنفسكم فادفعوا إلينا قتلة صاحبنا وارجعوا من حيث جئتم، ودعوا
لنا ما في أيدينا، وإن أبيتم ذلك فإن دون ما تطلبون منا والله خرط القتاد!.
قال: ثم تبسم عمار، ثم قال: ليس أول كلامك هذا يا ابن النابغة! يا
دعي يا ابن الدعي! يا ابن حرار قريش! يا من ضرب على خمسة بسهامهم كل
يدعيك حتى قاربك شرهم! أفي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب تغتمز؟ أما
166

والله! لقد علمت قريش قاطبة أن عليا لا يجلس له علا ولا يقعقع له بالشنآن
ولا يغمز غمز التين.
قال: فقام أهل الشام فركبوا خيولهم ولهم زجل فصاروا إلى معاوية، فقال
له معاوية: ما وراء كم؟ فقالوا: وراءنا والله إننا قد سمعنا من عمار بن ياسر
كلاما يقطر الدم! ووالله لقد أخرس عمرو بن العاص حتى ما قدر له على
الجواب! فقال معاوية: هلكت العرب بعد هذا ورب الكعبة!
قال: ورجع عمار في أصحابه إلى علي بن أبي طالب فأخبره بالذي دار بينه
وبين عمرو بن العاص، فأنشأ رجل من أصحاب علي يقول:
[ما زلت يا عمرو قبل اليوم مبتدر * تبغي الخصومة جهرا غير سرار
حتى رأيت أبا اليقظان منتصبا * لله در أبي اليقظان عمار
ما زال يقرع منك العظم منتقيا * مخ العظام بحق غير إنكار
حتى رمى بك في بحر له لجج * يرمي بك الموج في لج من النار]
قال: وقد كان مع معاوية رجل من حمير يقال له: الحصين بن مالك،
وكان يكاتب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ويدله على عورات معاوية،
وكان له صديق من أصحاب معاوية يقال له: الحارث بن عوف السكسكي،
فلما كان ذلك اليوم قال الحصين بن مالك للحارث بن عوف: يا حارث إنه
قد آتاك الله ما أردت، هذا عمرو وعمار وأبو نوح وذو الكلاع قد التقوا، فهل
لك أن تسمع من كلامهم؟ فقال الحارث بن عوف: إنما هو حق وباطل، وفي
يدي من الله هدى، فسر بنا يا حصين.
قال: فجاء الحصين والحارث حتى سمعا كلام عمرو وعمار، فلما سمع
الحارث بن عوف كلام عمار وتظاهر الحجة على عمرو بقي متحيرا، فقال له
الحصين: ما عندك الآن يا حارث؟ فقال الحارث: ما عندي وقعة والله بين
العار والنار، ووالله لا أقاتل مع معاوية بعد هذا اليوم أبدا، فقال له: ولا أنا
167

أقاتل عليا بعد هذا اليوم أبدا.
قال: ثم هربا من عسكر معاوية جميعا فصار أحدهم إلى حمص وأظهر
التوبة، وصار الحارث بن عوف إلى مصر تائبا من قتال علي - رضي الله عنه -
وأنشأ يقول:
[قال الحصين ولم أعلم بنيته * يا حار هل لك في عمرو وعمار
يا حار هل لك في أمر له نبأ * فيه شر كان من عوف وإنكار (1)
فاسمع وتسمع ما يأتي العيان به * إن العيان شفاء النفس يا حار
لما رأيت لجاج الأمر قلت له * قولا ضعيفا نعم والكره إضماري
سرنا إلى ذلك المرأين مع نفر * شم كرام وجدنا زندهم واري
لما تشهد عمرو قال صاحبه * اسكت فإنك من ثوب الهدى عاري
فارتد عمرو على عقبيه منكسرا * كالهر يرقب ختلا عازم الفار
ما زال يرميه عمار بحجته * حتى أقر له من غير إكثار
قال الحصين لما أبصرت حجته * غراء مثل بياض الصبح للساري
ما بعد هذين من عيب لمنتظر * فاختر فدى لك بين العار والنار
قلت الحياة فراق القوم معترفا * بالذنب حقا وليس العار كالعار]
قال: وأقبل نفر من أصحاب معاوية إلى عمرو بن العاص، فقال له بعضهم:
أبا عبد الله ألست الذي رويت لنا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " يدور
الحق مع عمار حيث ما دار "؟ فقال عمرو: بلى قد رويت ذلك ولكنه يصير
إلينا ويكون معنا.
فقال له ذو الكلاع: هذا والله محال من الكلام! والله لقد أفحمك عمار
حيث بقيت وأنت لا تقدر على إجابته، قال عمرو: صدقت وربما كان كلام

(1) كذا في الفتوح
168

ليس له جواب.
قال: فأنشأ رجل من بني قيس يقول في ذلك:
[والراقصات بركب عامدين له * إن الذي كان في عمرو لمأثور
قد كنت أسمع والأنباء شائعة * هذا الحديث فقلت الكذب والزور
حتى تلقيته عن أهل محنته (1) * فاليوم أرجع والمغرور مغرور
واليوم أبرأ من عمرو وشيعته * ومن معاوية المحذو به العير
لا لا أقاتل عمارا على طمع * بعد الرواية حتى ينفخ الصور
تركت عمروا وأشياعا له نكرا * إني بتركهم يا صاح معذور
يا ذا الكلاع فدع لي معشرا كفروا * أو لا فديتك دين فيه تعزير
ما في مقال رسول الله في رجل * شك ولا في مقال الرسل تحيير]
قال: ثم هرب صاحب هذا الشعر حتى لحق بعلي بن أبي طالب، فصار معه.
قال: فدعا معاوية عمرو بن العاص، فقال: يا هذا إنك أفسدت أهل
الشام علي، أكل ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وآله - تقوله
وترويه؟ ما أكثر ما سمعنا منه فلم نروه! فقال عمرو: يا هذا والله لقد رويت
هذا الحديث وأنا لا أظن أن صفين تكون، ولست أعلم الغيب ولقد رويت
أنت أيضا في عمار مثل الذي رويت أنا فما ذنبي؟ قال: ثم أنشأ عمرو يقول:
[أعاتبني إن قلت شيئا سمعته * وقد قلت لو أنصفتني مثله قبلي
فعلك فيما قلت فعل بنيه * وتزلق بي في مثل ما قلته فعلي
وهل كان لي علم بصفين أنها * تكون وعمار يحث على قتلي
فلو كان لي بالغيب علم كتمته * وكابرت أقواما مراجلهم تغلي
أبى الله إلا أن صدرك واغر * علي بلا ذنب جنيت ولا ذحل
169

سوى أنني والراقصات عشية * بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل
فلا وضعت عندي حصان قناعها * ولا حملت وجناء عرمسة رحلي
ولا زلت أدعى في لؤي بن غالب * قليلا غناي لا أمر ولا أحلي
إن الله أرخى من خناقك مرة * ونلت الذي أرجوه إن لم أرد أهلي
وأترك لك الشام الذي ضاق رحبها * عليك ولم يهنك بالعيش من أجلي]
قال: فأجابه معاوية وأنشأ يقول:
الآن لما ألقت الحرب بركها * وقام بنا الأمر الجليل على رجل
غمزت قناتي بعد سبعين حجة * شفاها كأني لا أمر ولا أحلي
أبيت لأمر فيه للشام فتنة * وفي دون ما أظهرته زلة النعل
فقلت لك القول الذي ليس ضائرا * ولو ضر لم يضررك حملك لي نعلي
تعاتبني في كل يوم وليلة * كأن الذي أبليت ليس كما ابلي
فما قبح الله العتاب وأهله * ألم تر ما أصبحت فيه من الشغل
فدع ذا ولكن هل لك اليوم حيلة * ترد بها قوما مراجلهم تغلي
دعاهم علي فاستجابوا لدعوة * أحب إليهم من بقي المال والأهل
إذا قال خوضوا غمرة الموت أرقلوا * إلى الموت إرقال الملوك إلى الفحل] (1)
قال: فلما انتهى هذا الشعر إلى عمرو جاء إلى معاوية فأعتبه ورضي كل
واحد منهم من صاحبه (2).
(403)
عدي بن حاتم ومعاوية
قال: فلما كان بعد مقتل علي - رضي الله عنه - أقبل عدي بن حاتم،

(1) لا توجد هذه الأبيات في المصادر غير فتوح ابن أعثم.
(2) فتوح ابن أعثم: ج 3 ص 114 - 132، وقد مر ص 48 وأعدنا ذكره لفوائد وزوائد في هذه الرواية.
وراجع قاموس الرجال: ج 10 ص 204. والغدير: ج 2 ص 144 - 148 عن صفين نصر وشرح ابن أبي الحديد وراجع صفين نصر ص 333 - 346
170

فدخل على معاوية وعنده عمرو بن العاص ورجل من بني الوحيد، فسلم عدي
فردوا عليه السلام.
فقال له معاوية: أبا طريف! ما الذي أبقى لك الدهر من ذكر علي بن
أبي طالب؟ فقال عدي: وهل يتركني الدهر أن لا أذكره؟ قال: فما الذي بقي في
قلبك من حبه؟ قال عدي: كله وإذا ذكر ازداد.
فقال معاوية: ما أريد بذلك إلا أخلاق ذكره، فقال عدي: قلوبنا ليست
بيدك يا معاوية، فضحك معاوية، ثم قال: يا معشر طي! إنكم ما زلتم تشرفون
الحاج ولا تعظمون الحرم. فقال عدي:: إنا كنا نفعل ذلك ونحن لا نعرف حلالا
ولا ننكر حراما، فلما جاء الله عز وجل بالإسلام غلبناك وأباك على الحلال
والحرام، وكنا للبيت أشد تعظيما منكم له. فقال معاوية: عهدي بكم يا معشر
طي وإن أفضل طعامكم الميتة.
فقال عمرو بن العاص والرجل الذي عنده من بني الوحيد: كف عنه يا
أمير المؤمنين، فإنه بعد صفين ذليل. فقال عدي: صدقتم! ثم خرج عدي من
عند معاوية، وأنشأ يقول:
يحاولني معاوية بن حرب * وليس إلى الذي يرجو سبيل
يذكرني أبا حسن عليا * وحظي في أبي حسن جليل
يكاشرني ويعلم أن طرفي * على تلك التي أخفى دليل
ويعلم أننا قوم جفاة * حراديون ليس لنا عقول
وكان جوابه عندي عتيدا * ويكفي مثله مني القليل
وقال ابن الوحيد وقال عمرو * عدي بعد صفين ذليل
فقلت صدقتما قد هد ركني * وفارقني الذي بهم أصول
ولكني على ما كان مني * أبلبل صاحبي بما أقول
وإن أخاك في كل يوم * من الأيام محمله ثقيل
171

قال: فأرسل إليه معاوية بجائزة سنية وترضاه (1).
(404)
حجل بن أثال مع ابنه
قال: وبرز رجل من أصحاب معاوية يقال له: حجل بن أثال بن عامر
العبسي حتى وقف بين الجمعين، ثم نادى: يا أهل العراق من يبارز؟ فما لبث
أن خرج إليه ابنه وكان الابن مع علي - رضي الله عنه - والأب مع معاوية
والابن يقال له: أثال.
قال: فخرج إليه وهو لم يعرفه فتطاعنا بالرماح، فطعنه ابنه طعنة أرداه عن
فرسه. قال: وسقطت البيضة عن رأس الشيخ، فنظر إليه الفتى فعرفه أنه أبوه!
فرمى بنفسه عن فرسه وأكب عليه وقال: يا أبتي أظن أنه قد أهنتك طعنتي.
فقال: نعم يا بني، وليس على منها بأس إن شاء الله، لكن يا بني هلم إلى
الشام والأموال الكثيرة مع معاوية. فقال له الابن: هلم الآخرة وجنة الخلد مع
علي بن أبي طالب. فقال الشيخ: يا بني هذا ما لا يكون من أبيك أبدا. قال
الفتى: يا أبتي هذا ما لا يكون من ابنك أبدا، فارجع إلى صاحبك فإني راجع
إلى صاحبي.
قال: فرجع كل منهما إلى صاحبه وعجب أهل العسكرين منهما جميعا،
وضربوا في الأمثال بعد ذلك، فأنشأ الشيخ يقول:
[إن حجل بن عامر واثالا * أصبحا يضربان في الأمثال
أقبل الفارس المدجج في النقع * أثال يجري يريد نزالي
دون أهل العراق إذ عظم النقع * على ظهر هيكل ذيال
فدعاني له ابن عند وما زال * قليلا في صحيه أمثالي

(1) فتوح ابن أعثم: ج 3 ص 134 - 135
172

فتناولته ببادرة الرمح * فأهوى بأسمر عسال
فأطعنا وذاك من عجب الدهر * عجيب بحادثات الليالي
شاجرا بالقناة صدر أبيه * وعزيز علي طعن أثال
لا أبالي إذا طعنت اثالا * واثالا كذاك ليس يبالي
فافترقنا على السلامة والنفس * تقيها مؤخر الآجال
لا يراني على الهدى وأراه * من هداي على سبيل الضلال
وكلانا يرجو الثواب إلى الله * يقينا بغير قيل وقال
قال: فلما انتهى شعر الشيخ بأهل العراق أنشأ ابنه يقول:
إن طعني وسط العجاجة حجلا * لم أرد بالذي فعلت عقوقا
كنت أرجو به الثواب من الله * وكوني مع النبي رفيقا
لم أزل أنصر العراق من الشام * أراني بفعل ذاك حقيقا
قال أهل العراق إذ عظم الخطب * ونق المبارزون نقيقا
من فتى يأخذ الطريق إلى الله * وكنت الذي أخذت الطريقا
حاسر الرأس لا أريد سوى الموت * أرى كل ما يكون دقيقا
فإذا فارس تقحم في النقع * بيوتا تخاله أم عنيقا
فسبقني حجل بنافذة الطعن * وما كنت قبلها مسبوقا
وتلاقيته بطعنة صدق * وكلانا يبارز العيوقا
أحمد الله ذا الجلال [وذا] القدرة * حمدا يزيدني توفيقا
إنني لم أزل بنافذة الطعن * سواء ولم يك تعويقا
قلت للشيخ لست أكفرك الدهر * لطيف الغذاء والتنفيقا
غير أني أخاف من لهب النار * بتركي الهدى فكن لي رفيقا
فأبى الشيخ أن يكون سعيدا * ولقد كنت ناصحا وشفيقا] (1)

(1) فتوح ابن أعثم: ج 3 ص 135 - 139
173

(405)
أبو الطفيل ومعاوية
قال: ثم أقبل عبد الله بن الطفيل إلى علي، فقال: كيف رأيت فعلنا في
عدونا يا أمير المؤمنين؟ (وذلك في صفين) والله لقد استكرهوني على الانصراف
فاستكرهتهم على الرجعة. قال: فأعجب عليا ذلك منه، وأثنى عليه وعلى قومه
خيرا، فأنشأ أبو الطفيل يقول:
[تحامت كنانة في حربها * وحامت تميم وحامت أسد
وحامت هوازن من بعدها * فما حام منا ومنهم أحد
لقينا الفوارس يوم الخميس * والعيد والسبت قبل الأحد
وأمدادهم خلف أذنابهم * وليس لنا من سوانا مدد
لقينا قبائل أنسابهم * إلى حضرموت وأهل الجند
فلما تنادوا بآبائهم * دعونا معدا ونعم المعد
فظلنا نفلق هاماتهم * ولم نك فيها ببيض البلد
ونعم الفوارس يوم الوغى * فقل من عديد وقل في عدد
وقل في طعان كفرغ الدلاء * وضرب عظيم كنار الوقد
ولكن عصفنا بهم عصفة * وفي الحرب بشر وفيها نكد
طحنا الفوارس يوم العجاج * وسقنا الأراذل سوق النقد
وقلنا علي لنا والد * ونحن له في ولاة الولد]
قال: فاشتد هذا الشعر على معاوية وغمه غما شديدا.
ثم إنه جلس ذات يوم - وذلك بعد صفين - وعنده يومئذ عمرو بن العاص
وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم، فذكروا هذه القصيدة، فما منهم أحد إلا
وشتم أبا الطفيل أقبح الشتيمة، وبلغ ذلك أبا الطفيل، فأنشأ يقول:
[أيشتمني عمرو ومروان ضلة * لرأي ابن هند والشقي سعيد
174

وحول ابن هند شايعون كأنهم * إذا ما استقاموا في الحديث قرود
يعضون من غيض علي أكفهم * وذلك غم لا أحب شديد
وما سبني إلا ابن هند وإنني * بتلك التي يشجى بها لرصود
كما بلغت أيام صفين نفسه * تراقبه والشامتون شهود
فلم يمنعوه والرماح تنوشه * وطاعتهم رحب العنان عنود
وطارت لعمرو في الفجاج شظية * ومروان من وقع السيوف بعيد
وما لسعيد همة غير نفسه * وكل التي يخشونها ستعود
فتخطؤهم والحرب خطأ كأنهم * حمام وبازي في الهوى وصيود] (1)
(406)
رجل من أهل الشام مع هاشم
قال: فخرج إليه (يعني إلى هاشم بن عتبة المرقال - رضوان الله عليه - في يوم
من أيام صفين وهو في ميدان النضال) رجل من أصحاب معاوية، وجعل يشتم
عليا ويقول القبيح!
فقال له هاشم: يا هذا! إن لهذا الكلام بعده الخصام، فاتق الله ولا تشتم، فإنك
راجع إلى ربك وأنه مسائلك عن هذا الموضع وعن هذا الكلام.
فقال الشامي: وكيف لا أشتمكم ولا ألعنكم وقد بلغني عن صاحبكم أنه
لا يصلي وأنكم لا تصلون؟! فقال له هاشم: يا هذا الرجل! أما قولك: إننا ما
نصلي، فوالله ما فينا أحد يؤخر الصلاة عن وقتها طرفة عين. وأما قولك: عن
صاحبنا أنه لا يصلي، فوالله أنه لأول ذكر صلى من هذه الأمة بعد رسول الله
صلى الله عليه وآله، وأنه لأفقه خلق الله في دين الله وأولاهم برسول الله
صلى الله عليه وآله، وليس معه أحد إلا وهو قارئ لكتاب الله عالم بحدود

(1) فتوح ابن أعثم: ج 3 ص 168 - 169
175

الله، ولا يغرنك هؤلاء الأشقياء المغرورون.
فقال الشامي: يا هذا! ما أظنك والله إلا وقد نصحتني في ديني ولكن هل
من توبة؟ قال: نعم إن تبت تاب الله عليك، فإنه هو الذي يقبل التوبة عن
عباده و يعفو عن السيئات. قال: فقنع الشامي فرسه وركض، فصار إلى علي
- رضي الله عنه - فكان معه. (1)
(407)
رجال من أصحاب علي عليه السلام مع عمرو
قال (في بيان وقعة صفين): فأقبل عمرو (بن العاص) على بغلة له
شهباء حتى دنا من ميسرة علي - رضي الله عنه - ثم نادى بأعلى صوته: يا أهل
أمي أنا عمرو بن العاص، فليخرج إلي رجل منكم.
قال: فخرج إليه رجل من عبد القيس يقال له: " عقيل بن ثويرة " فقال
له عمرو: من أنت يا ابن أخ؟ فقال: أنا رجل من عبد القيس شهدت يوم
الجمل فأبلاني الله بلاء حسنا، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، ووالله! أن
لو كان بعدي رجل هو أعدى لك مني لما خرجت إليك، ويلك! أما تستحيي
وأنت شيخ قريش؟ أنت تؤثر معاوية على علي وتبيع دينك بمصر وتنصر رجالا
من الطلقاء على رجل من سادات المهاجرين والأنصار.
قال: فتبسم عمرو، ثم قال: يا ابن أخ أحب أن يخرج إلي غيرك، فقال
الرجل: والله لا يخرج إليك إلا من هو مثلي في عداوتك، ثم رجع إلى أصحابه.
وخرج إلى عمرو رجل من بني تميم يقال له: " طحل بن الأسود بن ردلج "
فقال له عمرو: من أنت يا ابن أخ؟ فقال: أنا من لا يقيلك عثرتك، ولا يقبل

(1) راجع فتوح ابن أعثم: ج 3 ص 196. وشرح ابن أبي الحديد: ج 8 ص 36. وبهج الصباغة: ج 6
ص 28. والغدير: ج 9 ص 122. وصفين نصر: 354 - 355
176

معذرتك، ولا يرحم عبرتك، ولا يبلعك ريقك، أما والله! لقد أخذت دنيا دنية
فانية بآخرة عند الله باقية، ولقد خالفت عليا وإنك لتعلم أنه خير من معاوية.
فقال عمرو: ليس لهذا دعوتك يا ابن أخ، ولكن هل فيكم رجل من
عنزة؟ قال: نعم، قال عمرو: فادعه إلي.
قال: فرجع الرجل، وخرج إلى عمرو رجل من عنزة فانتسب له، فرحب
به عمرو. فقال له العنزي: أما الترحيب فإني أرده عليك، وأما السلام فإني
لا أبالي به، فلا تظن أني دون صاحبي اللذين خرجا إليك من قبلي، فوالله ما
خرجت إليك إلا وأنا أريد أن أجيبك بما يسوؤك وأنا الذي أقول:
[يضرب الشام يا أمامة بالحق * وأهل العراق بالتمحيص
وابن هند يدعو إلى النار * وكعب يدعو إلى الترخيص
باعه القوم دينهم بمناه * عرض بيع من البيوع رخيص
وعلي يدعو العباد إلى الله * وفيما يقول عمرو نكوص
وعزيز عليه ما عنت القوم * حريص وذاك غير حريص
يا حماة العراق لا تسأموا اليوم * في الضرب والطعان القريص
أطلقوا هذه النفوس عن الفرش * وقرب النساء ولبس القميص
واحملوها على مباشرة الموت * فما عن لقائه من محيص
تغلبوهم والراقصات على الشام * بحكم الوصي للتمحيص
فقال له عمرو: يا هذا إنه ما أتاني أحد أشد علي منك، فأخرج إلي رجلا
من بني هظيم.
قال: فرجع العنزي وخرج إلى عمرو رجل من بني هظيم، فانتسب لعمرو،
فإذا هو من أخواله! فقال له عمرو: إنه لم يلقني [أحد] أحب إلي منك لأنك
من أخوالي فالقني بالجميل حتى أفارقك، فقال: قل ما تشاء.
فقال عمرو: إني إنما أتيتكم حمية مني لكم فلا تفضحوني، واعلموا أن
177

العرب لا بد لها من ذكر صفين بعد هذا اليوم، فلا تنكسوا رأسي واكفوني
أمركم، ودعونا وعليا وأصحابه.
قال: فقال له الرجل: يا عدو الله! أتخطب إلينا عقولنا؟ فقال عمرو: لا
لعمر الله! ما أخطب إليكم عقولكم، ولكن شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري
يزعم بأنكم لستم بأكفاء في الحروب، فلهذا جئتكم.
قال: فقال له الهضيمي: أعزب قبحك الله! وقبح كلاعا كلها، وقبح لما.
جئت به (1).
(408)
عبد الله بن عباس مع الخوارج
قال: فبينا علي - كرم الله وجهه - مقيم بالكوفة ينتظر انقضاء المدة التي
كانت بينه وبين معاوية ثم يرجع إلى محاربة أهل الشام، إذ تحركت طائفة من
خاصة أصحابه في أربعة آلاف فارس، وهم من النساك العباد أصحاب
البرانس، فخرجوا عن الكوفة وتحزبوا وخالفوا عليا - كرم الله وجهه - وقالوا:
" لا حكم إلا لله ولا طاعة لمن عصى الله " قال: وانحاز إليهم نيف عن ثمانية
آلاف رجل ممن يرى رأيهم.
قال: فصار القوم في اثني عشر ألفا وساروا حتى نزلوا بحروراء، وأمروا
عليهم عبد الله بن الكواء.
قال: فدعا علي - رضي الله عنه - بعبد الله بن عباس فأرسله إليهم، وقال: يا
ابن عباس امض إلى هؤلاء القوم، فانظر ما هم عليه ولماذا اجتمعوا.
قال: فأقبل [عليهم] ابن عباس حتى إذا أشرف عليهم ونظروا إليه ناداه
بعضهم وقال: ويلك يا ابن عباس! أكفرت بربك كما كفر صاحبك علي بن
أبي طالب؟ فقال ابن عباس: إني لا أستطيع أن أكلم كلكم، ولكن أنظروا

(1) فتوح ابن أعثم: ج 3 ص 230 - 233. وراجع قاموس الرجال: ج 6 ص 254
178

أيكم أعلم بما يأتي ويذر فليخرج إلي حتى أكلمه.
قال: فخرج إليه رجل منهم يقال له: " عتاب بن الأعور الثعلبي " حتى
وقف قبالته، وكأن القرآن إنما كان ممثلا بين عينيه، فجعل يقول ويحتج
ويتكلم بما يريد، وابن عباس ساكت لا يكلمه بشئ حتى إذا فرغ من كلامه
أقبل عليه ابن عباس، فقال: إني أريد أن أضرب [لك] مثلا، فإن كنت
عاقلا فافهم. فقال الخارجي: قل ما بدا لك.
فقال له ابن عباس: خبرني عن دار الإسلام هذه هل تعلم لمن هي ومن
بناها؟ فقال الخارجي: نعم هي لله عز وجل وهو الذي بناها على أيدي أنبيائه
وأهل طاعته، ثم أمر من بعثه إليها من الأنبياء أن يأمروا الأمم أن لا تعبدوا إلا
إياه فآمن قوم وكفر قوم، وآخر من بعثه إليها من الأنبياء محمد صلى الله عليه
وآله، فقال ابن عباس: صدقت، ولكن خبرني عن محمد حين بعث إلى
دار الإسلام فبناها كما بناها غيره من الأنبياء هل أحكم عمارتها وبين حدودها
وأوقف الأمة على سبلها وعملها [و] شرايع أحكامها ومعالم دينها؟ قال
الخارجي: نعم قد فعل محمد ذلك.
قال ابن عباس: فخبرني الآن عن محمد هل بقي فيها أو رحل عنها؟ قال
الخارجي: بل رحل عنها. قال ابن عباس: فخبرني رحل عنها وهي كاملة
العمارة بينة الحدود، أم رحل عنها وهي خربة لا عمران فيها؟ قال الخارجي:
بل رحل عنها وهي كاملة العمارة بينة الحدود قائمة المنار.
قال ابن عباس: صدقت الآن، فخبرني هل كان لمحمد صلى الله عليه
وآله أحد يقوم بعمارة هذه الدار من بعده أم لا؟ قال الخارجي، بلى قد كان له
صحابة وأهل بيت ووصي وذرية يقومون بعمارة هذه الدار من بعده.
قال ابن عباس: ففعلوا أم لم يفعلوا؟ قال الخارجي: بلى قد فعلوا وعمروا
هذه الدار من بعده
179

قال ابن عباس: فخبرني الآن عن هذه الدار من بعده هل هي اليوم على ما
تركها محمد صلى الله عليه وآله من كمال عمارتها وقوام حدودها أم هي
خربة عاطلة الحدود؟ قال الخارجي: بل هي عاطلة الحدود، خربة.
قال ابن عباس: أفذريته وليت هذه الخراب أم أمته؟ قال: بل أمته.
قال: ابن عباس: أفأنت من الأمة أو من الذرية؟ قال: أنا من الأمة.
قال ابن عباس: يا عتاب فخبرني الآن عنك كيف ترجو النجاة من النار
وأنت من أمة قد أخربت دار الله ودار رسوله وعطلت حدودها؟ فقال
الخارجي: إنا لله وإنا إليه راجعون! ويحك يا ابن عباس! احتلت والله حتى
أوقعتني في أمر عظيم وألزمتني الحجة حتى جعلتني ممن أخرب دار الله، ولكن
ويحك يا ابن عباس! فكيف الحيلة في التخليص مما أنا فيه؟
قال ابن عباس: الحيلة في ذلك: أن تسعى في عمارة ما أخربته الأمة من
دار الإسلام. قال: فدلني على السعي في ذلك.
قال ابن عباس: إن أول ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في
خراب هذه الدار فتعاديه وتعلم من يريد عمارتها فتواليه. قال: صدقت يا ابن
عباس، والله ما أعرف أحد في هذا الوقت يحب عمارة دار الإسلام غير ابن
عمك علي بن أبي طالب لولا أنه حكم عبد الله بن قيس في حق هو له.
قال ابن عباس: ويحك يا عتاب! إنا وجدنا الحكومة في كتاب الله
عز وجل، إنه قال تعالى: " فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا
إصلاحا يوفق الله بينهما "، وقال تعالى: " يحكم به ذوا عدل منكم ".
قال: فصاحت الخوارج من كل ناحية، وقالوا: فكأن عمرو بن العاص
عندك من العدول؟ وأنت تعلم أنه كان في الجاهلية رأسا وفي الإسلام ذنبا،
وهو الأبتر ابن الأبتر ممن قاتل محمدا صلى الله عليه وآله وفتن أمته من بعده.
180

قال: فقال ابن عباس: يا هؤلاء إن عمرو بن العاص لم يكن حكما
أفتحتجون به علينا؟ إنما كان حكما لمعاوية، وقد أراد أمير المؤمنين علي - رضي
الله عنه - أن يبعثني أنا فأكون له حكما فأبيتم عليه، وقلتم: قد رضينا بأبي موسى
الأشعري، وقد كان أبو موسى لعمري رضي في نفسه وصحبته وإسلامه
وسابقته، غير أنه خدع، فقال ما قال، وليس يلزمنا من خديعة عمرو بن
العاص لأبي موسى، فاتقوا ربكم وارجعوا إلى ما كنتم عليه من طاعة
أمير المؤمنين، فإنه وإن كان قاعدا عن طلب حقه فإنما ينتظر انقضاء المدة، ثم
يعود إلى محاربة القوم، وليس علي - رضي الله عنه - ممن يقعد عن حق جعله
الله له.
قال: فصاحت الخوارج وقالوا: هيهات يا ابن عباس! نحن لا نتولى عليا
بعد هذا اليوم أبدا، فارجع إليه وقل له: فليخرج إلينا بنفسه حتى نحتج عليه
ونسمع كلامه (1)... الحديث.
(409)
عبد الله بن أبي عقب مع الخوارج
كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى الخوارج كتابا وطواه وختمه ودفعه
إلى عبد الله بن أبي عقب وأرسله.
قال: فأقبل عبد الله بن أبي عقب إلى الخوارج بالكتاب حتى إذا صار إلى
النهروان، تقدم إلى عبد الله بن وهب الراسبي، وهو جالس على شاطئ النهروان
محتب بحمائل سيفه، وحرقوص بن زهير إلى جانبه، ورؤساء الخوارج جلوس
حولهم.

(1) فتوح ابن أعثم: ج 4 ص 89 - 95 وقد مر سابقا احتجاج ابن عباس على الخوارج، وذكرنا روايات
متعددة منه، وأعدنا ذكره هنا لكثير الفائدة. وراجع الفتوح: ج 4 ص 121. ولقد تركنا احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام، ولعلنا نأتيه في كتاب منفرد إن شاء الله تعالى
181

قال: فسلم عبد الله بن أبي عقب ودفع الكتاب إلى عبد الله بن وهب،
فأخذه وفضه وقرأه عن آخره، ثم ألقاه إلى حرقوص، فقرأه، ثم رفع رأسه إلى
ابن أبي عقب، فقال له: لولا أنك رسول لألقيت منك أكثرك شعرا! فمن
أنت؟ قال: رجل من الموالي. قال: من أي الموالي أنت؟ قال: من موالي
بني هاشم. قال: إني أظنك من هذا الرجل بسبب، يعني علي بن أبي طالب،
فقال: أنا رجل من أصحابه. قال: أفحلال أنت [أم لا]؟ قال: بل حرام دمي
في كتاب الله عز وجل.
فقال: ما أراك تعرف كتاب الله! قال: بلى إني لأعرف منه الناسخ
والمنسوخ والمكي والمدني والسفري والحضري. قال: وتعرف الله حق معرفته؟
فقال: نعم إني لأعرفه ولا أنكره، أؤمن به ولا أكفره. قال: وبماذا عرفته؟
قال: برسوله وكتابه المنزل. قال: صدقت، فأصدقني ما تكون من علي بن
أبي طالب؟ قال: أنا أخوه في الإسلام.
قال عبد الله بن وهب: أو مسلم أنت؟ قال: أنا مسلم والحمد لله.
قال: ما الإسلام؟ قال له ابن أبي عقب: إن الإسلام عشرة أسهم، خاب
من لا سهم له فيها: شهادة أن لا إله إلا الله وهي الملة، والصلاة وهي الفطرة،
والزكاة وهي الطهر، والصوم وهو الجنة، والحج وهو الشريعة، والجهاد وهو الغزو
والأمر بالمعروف وهو الوفاق، والنهي عن المنكر وهو الحجة، والطاعة وهي
العصمة، والجماعة وهي الألفة.
قال: صدقت. فخبرني ما الإيمان؟ فقال: الإيمان بالله وملائكته وكتبه
ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ونحن له مسلمون، والرضا بما جاء من عند الله
من سخط أو رضى، والجنة حق والنار حق، وأن الله يبعث من في القبور.
فقال عبد الله بن وهب: أيها الرجل إنه حرم علينا دمك، فخبرني أعالم
أنت أم متعلم؟ قال (فقال له خ): متعنت أنت أم مسترشد؟ قال: بل
182

مسترشد. قال عبد الله بن وهب: فكم الصلوات؟ فقال: أما الفريضة فإنها خمس
ومعها نوافل، أفعن الفريضة تسألني أم عن النافلة؟ فقال: بل عن الفريضة
أسألك فكم في الفريضة من ركعة؟ قال: سبع عشرة ركعة وفيها سبع عشرة مرة
سمع الله لمن حمده وفيها أربع وثلاثون سجدة وفيها أربع وتسعون تكبيرة، قال:
صدقت فكم السنة؟ قال: السنة عشر، خمس منها في الرأس، وخمس في الجسد،
فأما اللواتي في الرأس: فالمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك،
وفرق الشعر. وأما اللواتي في الجسد: فالختان، وحلق العانة، والاستنجاء
بالماء، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار.
فقال عبد الله بن وهب: صدقت أيها الرجل، ولكن خبرني كم يجب في
خمس من الإبل صدقة؟ فقال ابن أبي عقب: في خمس من الإبل شاة، وفي عشر
شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، فإذا بلغت عشرين ففيها أربع شياه، إلى
أن تبلغ خمسا وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها بنت مخاض، فإن لم توجد
بنت مخاض، فابن لبون إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها بنت لبون
إلى أن تبلغ خمسا وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها جذعة إلى أن تبلغ خمسا
وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقتان طريدتا الفحل إلى أن تبلغ عشرين
ومائة، فإذا بلغت الإبل عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل
خمسين حقة، فإذا بلغت الإبل ثلاثين ومائة فالحساب على ما خبرتك، وليس
هذا من علم مثلي فسل عن غير هذا.
فقال له عبد الله بن وهب: ذر عنك هذا! فخبرني عن صدقة البقر، قال:
إذا أخبرك بذلك، في كل ثلاثين بقرة تبيع فهو حولي لسنة، وفي الأربعين بقرة
منه إلا ما كان من البقر العوامل التي تحرث الأرض ويسقى عليها الحرث، فإنه
لا صدقة عليها، لأنها بمنزلة الدواب المركوبة، والتي يحمل عليها الأثقال من
183

البغل والحمير فقد خرج حكمها عن حكم البقر السائمة، فسنة البقر السائمة
بخلاف سنة البقر العوامل، وأما من أراد بها التجارة فيقوم في رأس السنة
وينظر إلى ثمنها فيحسب ذلك، ويخرج صاحبها زكاتها كما تخرج زكاة المال من
كل مائتي درهم خمسة دراهم، ومن كل عشرين مثقالا نصف مثقال، وما زاد
فبالحساب.
فقال عبد الله بن وهب: صدقت، فخبرني عن صدقة الغنم ما هي؟ فقال
ابن أبي عقب: نعم، أما الغنم: فإنها إذا كانت دون الأربعين فلا صدقة عليها،
فإذا بلغت أربعين فصدقتها شاة إلى أن تبلغ عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على
العشرين والمائة واحدة فصدقتها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل
مائة شاة [شاة خ] فهذا ما سألت عنه من صدقة الإبل والبقر والغنم وليس مثلي
[من] يسأل عن مثل هذا، ولكن سل أيها الرجل عما أحببت من العلوم
الواسعة.
فقال ابن وهب: خبرني عن الواحد ما هو؟ قال: فتبسم ابن أبي عقب، ثم
قال: هذه مسألة قد مضت في الدهر الواحد هو الله وحده لا شريك له.
قال: فخبرني عن الاثنين لم يكن لهما في عصر ثالث؟ قال: آدم وحواء.
قال: فخبرني عن ثلاث لا رابع لها؟ قال: الطلاق.
قال: فخبرني عن أربع لا خامس لها؟ قال: أربع نسوة حلال ولا تحل
خامسة.
قال: فخبرني عن خامسة ليس لها سادسة؟ قال: الخمس صلوات
مكتوبة.
قال: فخبرني عن ستة لا سابع لها؟ قال: الأيام التي خلق الله فيها
السماوات والأرض.
قال: فخبرني عن سبعة ليست لها ثامنة؟ فقال له ابن أبي عقب: يا هذا
184

الرجل إن السبعة في كتاب الله عز وجل كثير [وهن] السماوات سبع
والأرضون سبع والبحار سبع، وقال الله تعالى: " لها سبعة أبواب لكل باب
منهم جزء مقسوم " وقال: " سبعة إذا رجعتم " وقال الريان بن الوليد ملك
مصر: " إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات
خضر وآخر يابسات " وقال يوسف النبي: " تزرعون سبع سنين دأبا " ومثل
هذا في كتاب الله كثير.
قال: فخبرني عن سبع وثمانية؟ قال: نعم قول الله عز وجل: " سخرها
عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما " قال: صدقت.
فخبرني عن ثلاث وأربع وخمس وست وسبع وثمان؟ قال: فتبسم عبد الله بن
أبي عقب ثم قال: يا سبحان الله! من جمع هذه الجموع وخرج على مثل علي بن
أبي طالب وهو يعلم أنه أقضى هذه الأمة وأبصر بحلالها وحرامها يسأل رسوله
عن مثل هذه المسائل، قال الله تبارك وتعالى: " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم
ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم فهذا
ما سألت.
فقال حرقوص: أيها الرجل، فإني سائلك عن غير ما سألك صاحبي،
قال: سل عما بدا لك. قال: من يتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله قال: أتولى أولياء الله المؤمنين أتولى أبا بكر وعمر وعثمان ومقداد وسلمان
وأبا ذر وصهيبا وبلالا وأسلاف المؤمنين. قال: فممن تتبرأ؟ قال: ما أتبرأ من
أحد " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا
يعملون ".
قال: فما تقول في صاحبك علي؟ وما تقول في عثمان وطلحة والزبير
ومعاوية والحكمين وعمرو بن العاص وعبد الله بن قيس؟
قال: أما صاحبي علي: فلو قلت فيه سوء لم أكن بالذي أصحبه ولا أقاتل
185

بين يديه ولا أقول بفضله. وأما عثمان: فإنه ابن عم النبي وابن ابنة عمه
وختنه على ابنته رقية. وأم كلثوم، وله فضائل كثيرة، وقد جاءت بها العلماء ولا
أقول فيه إلا خيرا. وأما طلحة والزبير: فإنهما حواري رسول الله صلى الله عليه
وآله ولم أسمع صاحبي يقول فيهما إلا خيرا، ولا أقول فيهما إلا كقوله. وأما
معاوية والحكمان: فمعاوية رضي برجل وعلي صاحبي برجل فخدع أحدهما
صاحبه والخلافة لا تثبت لأحد بالمكر والخديعة، ونحن على رأس أمرنا إلى
انقضاء المدة.
فقال حرقوص: أيها الرجل إنك قد أوجبت على نفسك القتل. قال: ولم
ذاك؟ قال: لأنك توليت قوما كفروا بعد إيمانهم وأحدثوا الأحداث.
فقال له ابن أبي عقب: أيها الرجل إنك لم تبلغ في العلم ما يجب عليك أن
تفتش عن علم الإمام ولكني أسألك عن مسائل يسأل صبياننا بعضهم بعضا
عنها في المكتب، قال: سل عما بدا لك.
فقال ابن أبي عقب: خبرني أيها الرجل عن المتحابين ما هما؟ وعن
المتباغضين ما هما؟ وعن المستبقين والجديدين والدائبين، وعن الطارف والتالد
وعن الطم والرم، وعن نسبة الله عز وجل ما هي؟
قال حرقوص: ما رأيت أحدا يسأل عن مثل هذا، ولكن خبرني عنها وأنت
آمن.
فقال له ابن أبي عقب: أما المتحابان: فالمال والولد، وأما المتباغضان:
فالموت والحياة، وأما المستبقان: فالنور والظلمة، وأما الجديدان: فالليل
والنهار، وأما الدائبان: فالشمس والقمر، وأما الطارف والتالد: فالمال
المستحدث والمال القديم، وأما الطم والرم: فالطم البحر والرم الثرى، وأما
نسبة الله عز وجل، فإن قريشا سألت النبي صلى الله عليه وآله فقالوا: يا محمد
صف لنا ربك، فنزلت سورة الاخلاص، وهي: " قل هو الله أحد. الله
186

الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد (1).
(410)
الأحنف ومعاوية
(حينما كان معاوية يشاور في البيعة ليزيد) ثم أرسل إلى الأحنف بن
قيس، فدعاه ثم شاوره في أمر يزيد.
فقال: يا أمير المؤمنين إننا نخافكم إن صدقنا ونخاف الله إن كذبنا، ولكن
عليك بغيري. قال: فأمسك عنه معاوية (2).
(411)
الأحنف ومعاوية
قال: ثم قام الحصين بن نمير السكوني، فقال: يا معاوية والله لئن لقيت الله
ولم تبايع ليزيد لتكونن مضيعا للأمة، فالتفت إلى الأحنف بن قيس معاوية،
وقال: يا أبا بحر ما يمنعك من الكلام؟ فقال: يا أمير المؤمنين أنت أعلمنا بيزيد
في ليله ونهاره ومدخله ومخرجه وسره وعلانيته، فإن كنت تعلمه لله عز وجل
ولهذه الأمة رضى فلا تشاورن فيه أحدا من الناس، وإن كنت تعلم لله غير ذلك
فلا تزوده الدنيا وأنت ماض إلى الآخرة، فإن قلنا ما علينا أن نقول: سمعنا
وأطعنا، قال: فقال معاوية: أحسنت يا [أبا] بحر! جزاك الله عن السمع
والطاعة خيرا (3).
(412)
عبد الله بن عباس و معاوية
(خرج معاوية من الشام إلى الحجاز قاصدا الحج فنزل المدينة...) أرسل

(1) فتوح ابن أعثم: ج 4 ص 108 - 118.
(2) فتوح ابن أعثم: ج 4 ص 229.
(3) فتوح ابن أعثم: ج 4 ص 231، وسيأتي قريب منه ص 446
187

معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر والزبير فأخبر أنهم قد مضوا إلى مكة
فسكت ساعة يفكر في أمرهم، ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس فدعاه، فلما
دخل عليه قرب مجلسه، ثم قال: يا ابن عباس أنتم بنو هاشم وأنتم أحق الناس
بنا وأولاهم بمودتنا لأننا بنو عبد مناف، وإنما باعد بيننا وبينكم هذا الملك [و]
قد كان هذا الأمر في تيم وعدي، فلم يعترضوا عليهم ولم يظهروا لهم من
المباعدة، ثم قتل عثمان بين أظهركم فلم تغيروا، ثم وليت هذا الأمر فوالله لقد
قربتكم وأعطيتكم ورفعت مقداركم، فما تزدادون مني إلا بعدا، وهذا الحسين
ابن علي قد بلغني عنه هنات غيرها خير له منها، فاذكروا علي بن أبي طالب
ومحاربته إياي ومعه المهاجرون والأنصار، فأبى الله تبارك وتعالى إلا ما قد
علمتم، أفترجون بعد علي مثله؟ أم بعد الحسن مثله؟
قال: فقطع عليه ابن عباس الكلام، ثم قال:
صدقت يا معاوية نحن بنو عبد مناف، أنتم أحق الناس بمودتنا وأولاهم
بنا، وقد مضى أول الأمر بما فيه، فأصلح آخره، فإنك صائر إلى ما تريد.
وأما ما ذكرت من عطيتك إيانا فلعمري ما عليك في جود من عيب.
وأما قولك: ذهب علي أفترجون مثله؟ فمهلا يا معاوية رويدا! لا تعجل
فهذا الحسين بن علي حي وهو ابن أبيه، واحذر أن تؤذيه يا معاوية فيؤذيك
أهل الأرض، فليس على ظهرها اليوم ابن بنت نبي سواه، فقال معاوية: إني
قد قبلت منك يا ابن عباس (1).
(413)
عبد الله بن عباس ومعاوية
قال معاوية لابن عباس - رضي الله عنه -: إنكم يا بني هاشم تصابون في

(1) فتوح ابن أعثم: ج 4 ص 238 - 239
188

أبصاركم! فقال: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم (1).
مؤمن الطاق مع الخارجي
لقي الخارجي شيطان الطاق، فقال له: إن لم تتبرأ من عثمان وعلي
قتلتك، فقال: أنا من علي ومن عثمان برئ. (إنما أراد أنا من علي أي من
مواليه وبرئ من عثمان فتخلص من الخارجي).
(414)
مسلم بن عقيل وعبيد الله
قال: فأدخل مسلم بن عقيل على عبيد الله بن زياد، فقال الحرسي: سلم
على الأمير، فقال له مسلم: اسكت لا أم لك! ما لك وللكلام؟ والله ليس
هو لي بأمير فأسلم عليه، وأخرى فما ينفعني السلام عليه وهو يريد قتلي، فإن
استبقاني فسيكثر عليه سلامي.
فقال له عبيد الله بن زياد: لا عليك سلمت أم لم تسلم فإنك مقتول، فقال
مسلم بن عقيل إن قتلتني فقد قتل شر منك من كان خيرا مني.
فقال ابن زياد: يا شاق يا عاق! خرجت على إمامك وشققت عصا
المسلمين [وألقحت الفتنة؟ فقال مسلم: كذبت يا ابن زياد! والله ما كان]
معاوية [خليفة بإجماع الأمة، بل تغلب على وصي النبي بالحيلة وأخذ عنه
الخلافة بالغصب] و [كذلك] ابنه يزيد. وأما الفتنة فإنك ألقحتها، أنت وأبوك
زياد بن علاج من بني ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شر
بريته، فوالله ما خالفت ولا كفرت ولا بدلت، وإنما أنا في طاعة أمير المؤمنين
الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن أولى
بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.

(1) المحاضرات للراغب: ج 2 ص 481.
(2) المحاضرات للراغب: ج 2 ص 164
189

فقال له ابن زياد: يا فاسق! ألم تكن تشرب الخمر في المدينة؟ فقال مسلم
ابن عقيل: أحق والله بشرب الخمر مني من يقتل النفس الحرام وهو في ذلك
يلهو ويلعب كأنه لم يسمع شيئا.
فقال له ابن زياد: يا فاسق! منتك نفسك أمرا أحالك الله دونه وجعله
لأهله، فقال مسلم بن عقيل: ومن أهله يا ابن مرجانة؟ فقال: أهله يزيد
ومعاوية، فقال مسلم بن عقيل: الحمد لله كفى بالله حكما بيننا وبينكم.
فقال ابن زياد لعنه الله: أتظن أن لك من الأمر شيئا؟ فقال مسلم بن
عقيل: لا والله ما هو الظن ولكنه اليقين.
فقال ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك، فقال مسلم: إنك لا تدع سوء
القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة، والله لو كان معي عشرة ممن أثق بهم وقدرت
على شربة من ماء لطال عليك أن تراني في هذا القصر، ولكن إن كنت عزمت
على قتلي ولا بد لك من ذلك فأقم علي رجلا من قريش أوصي إليه بما أريد.
فوثب إليه عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: أوص إلي بما تريد يا
ابن عقيل، فقال: أوصيك ونفسي بتقوى الله، فإن التقوى فيها الدرك لكل
خير، وقد علمت ما بيني وبينك من القرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب عليك
لقرابتي أن تقضي حاجتي. قال: فقال ابن زياد: لا يجب (1) يا ابن عمر أن
تقضي حاجة ابن عمك (كذا) وإن كان مسرفا على نفسه، فإنه مقتول لا
محالة.
فقال عمر بن سعد: قل ما أحببت يا ابن عقيل، فقال مسلم - رحمه الله -:
حاجتي إليك أن تشتري فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم فتبيعه وتقضي عني
سبعمائة درهم استدنتها في مصركم، وأن تستوهب جثتي إذا قتلني هذا وتواريني

(1) الظاهر: " يجب " بحذف " لا "
190

في التراب، وأن تكتب إلى الحسين بن علي أن لا يقدم فينزل به ما نزل بي.
قال: فالتفت عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد، فقال: أيها الأمير إنه
يقول كذا وكذا.
فقال ابن زياد: أما ما ذكرت يا ابن عقيل من أمر دينك: فإنما هو مالك
يقضي به دينك، ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت. وأما جسدك: إذا نحن
قتلناك فالخيار في ذلك ولسنا نبالي ما صنع الله بجثتك. وأما الحسين فإن
لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه.
ولكني أريد أن تخبرني يا ابن عقيل بماذا أتيت إلى هذا البلد؟ شتت
أمرهم، وفرقت كلمتهم، ورميت بعضهم على بعض.
فقال مسلم بن عقيل: لست لذلك أتيت هذا البلد، ولكنكم أظهرتم
المنكر، ودفنتم المعروف، وتأمرتم على الناس من غير رضى، وحملتموهم على غير
ما أمركم الله به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر فيهم
بالمعروف وننهاهم عن المنكر وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنة، وكنا أهل
ذلك، ولم تزل الخلافة لنا منذ قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ولا تزال
الخلافة لنا، فإنا قهرنا عليها، لأنكم أول من خرج على إمام هدى وشق عصا
المسلمين، وأخذ هذا الأمر غصبا ونازع أهله بالظلم والعدوان، ولا نعلم لنا ولكم
مثلا إلا قول الله تبارك وتعالى، " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ".
قال: فجعل ابن زياد يشتم عليا والحسن والحسين - رضي الله عنهم - فقال
له مسلم: أنت وأبوك أحق بالشتيمة منهم، فاقض ما أنت قاض! فنحن أهل
بيت موكل بنا البلاء.
فقال عبيد الله بن زياد: الحقوا به إلى أعلى القصر، فاضربوا عنقه وألحقوا
رأسه جسده.
فقال مسلم رحمه الله: أما والله يا ابن زياد! لو كنت من قريش أو كان
191

بيني وبينك رحم أو قرابة لما قتلتني، ولكنك ابن أبيك (1).
(415)
قيس بن مسهر مع ابن زياد
قال (في سرد قصة كربلاء): فمضى قيس إلى الكوفة وعبيد الله بن زياد قد
وضع المراصد والمصابيح على الطرق، فليس أحد يقدر أن يجوز إلا فتش، فلما
تقارب من الكوفة قيس بن مسهر لقاه عدو الله يقال له: الحصين بن نمير
السكوني، فلما نظر إليه قيس كأنه أتقى على نفسه، فأخرج الكتاب سريعا
فمزقه عن آخره. قال: وأمر الحصين أصحابه، فأخذوا قيسا وأخذوا الكتاب
ممزقا حتى أتوا به إلى عبيد الله بن زياد.
فقال له عبيد الله بن زياد: من أنت؟ قال: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين
الحسين بن علي - رضي الله عنهما - قال: فلم خرقت الكتاب الذي كان معك؟
قال: خوفا حتى لا تعلم ما فيه. قال: وممن كان هذا الكتاب وإلى من كان؟
فقال: كان من الحسين إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم.
قال: فغضب ابن زياد غضبا عظيما، ثم قال: والله لا تفارقني أبدا أو
تدلني على هؤلاء القوم الذي كتب إليهم هذا الكتاب، أو تصعد المنبر فتسب
الحسين وأباه وأخاه فتنجو من يدي، أو لأقطعنك، فقال قيس: أما هؤلاء القوم
فلا أعرفهم، وأما لعنة الحسين وأبيه وأخيه فإني أفعل.
قال: فأمر به فأدخل المسجد الأعظم، ثم صعد المنبر وجمع له الناس
ليجتمعوا ويسمعوا اللعنة، فلما علم قيس أن الناس قد اجتمعوا وثب قائما،
فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على محمد وآله، وأكثر الترحم على علي وولده،
ثم لعن عبيد الله بن زياد ولعن أباه ولعن عتاة بني أمية عن آخرهم، ثم دعا

(1) فتوح ابن أعثم: ج 5 ص 97 - 102
192

الناس إلى نصرة الحسين بن علي (1).
(416) برير وعمر بن سعد
قال: وأرسل إليه - يعني إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص في كربلاء -
الحسين - رضي الله عنه - بريرا، فقال برير: يا عمر بن سعد أتترك أهل بيت
النبوة يموتون عطشا، وحلت بينهم وبين الفرات أن يشربوه وتزعم أنك تعرف الله
ورسوله؟ قال: فأطرق عمر بن سعد ساعة إلى الأرض ثم رفع رأسه وقال: إني
والله أعلمه يا برير علما يقينا أن كل من قاتلهم وغصبهم على حقوقهم في النار
لا محالة، ولكن ويحك يا برير! أتشير علي أن أترك ولاية الري فتصير لغيري؟
ما أجد نفسي تجيبني إلى ذلك أبدا ثم أنشأ يقول:
دعاني عبيد الله من دون قومه * إلى خطة فيها خرجت لحيني
فوالله لا أدري وأني لواقف * على خطر بعظم علي وسيني (2)
أأترك ملك الري و الري رغبة * أم أرجع مذموما بثار حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها * حجاب وملك الري قرة عين
قال: فرجع برير بن خضير إلى الحسين، فقال: يا ابن بنت رسول الله إن
عمر بن سعد قد رضي أن يقتلك بملك الري (3).
(417)
برير مع الشمر بن ذي الجوشن
قال: وجاء الليل فبات الحسين في الليل ساجدا وراكعا مستغفرا يدعو الله

(1) فتوح ابن أعثم: ج 5 ص 146 - 147.
(2) كذا في المصدر، والظاهر أن الصحيح: " يعظم علي وسيني " أي يعظم علي نومي، أي أن هذا الخطر
نفى نومي.
(3) فتوح ابن أعثم: ج 5 ص 172
193

تعالى، له دوي كدوي النحل.
قال: وأقبل الشمر بن ذي الجوشن - لعنه الله - في نصف الليل ومعه جماعة
من أصحابه حتى تقارب من عسكر الحسين، والحسين قد رفع صوته وهو يتلو
هذه الآية " ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم... " - إلى آخرها - قال: فصاح
لعين من أصحاب شمر بن ذي الجوشن: نحن ورب الكعبة الطيبون؟ وأنتم
الخبيثون! وقد ميزنا منكم.
قال: فقطع برير الصلاة فناداه: يا فاسق يا فاجر يا عدو الله! أمثلك يكون
من الطيبين؟ ما أنت إلا بهيمة لا تعقل، فأبشر بالنار يوم القيامة والعذاب
الأليم.
قال: فصاح به شمر بن ذي الجوشن - لعنه الله - وقال: أيها المتكلم! إن الله
تبارك وتعالى قاتلك وقاتل صاحبك عن قريب.
فقال له برير: يا عدو الله! أبالموت تخوفني؟ والله إن الموت أحب إلينا من
الحياة معكم! والله لا ينال شفاعة محمد صلى الله عليه وآله قوم (1) أراقوا دماء
ذريته وأهل بيته.
قال: وأقبل رجل من أصحاب الحسين إلى برير بن خضير، فقال له: رحمك
الله يا برير! إن أبا عبد الله يقول لك: ارجع إلى موضعك ولا تخاطب القوم،
فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، فلقد نصحت
وأبلغت في النصح (2).
* * *

(1) قوما ظ.
(2) فتوح ابن أعثم: ج 5 ص 179 - 180
194

(418)
عبد الله بن عفيف وعبيد الله
قال: فصعد ابن زياد المنبر (بعد أن قتل الحسين عليه السلام) فحمد الله
وأثنى عليه، وقال في بعض كلامه: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر
أمير المؤمنين وأشياعه، وقتل الكذاب ابن الكذاب! (وشيعته خ ل) قال: فما زاد
على هذا الكلام شيئا ووقف.
فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي - رحمه الله - وكان من خيار الشيعة
وكان أفضلهم، وكان قد ذهبت عينه اليسرى في يوم الجمل والأخرى في يوم
صفين، وكان لا يفارق المسجد الأعظم يصلي فيه إلى الليل، ثم ينصرف إلى
منزله، فلما سمع مقالة ابن زياد وثب قائما ثم قال:
يا ابن مرجانة! الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك ومن استعملك وأبوه،
يا عدو الله! أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المؤمنين؟
قال فغضب ابن زياد، ثم قال: من المتكلم؟ فقال: أنا المتكلم يا عدو
الله! أتقتل الذرية الطاهرة التي قد أذهب الله عنها الرجس في كتابه وتزعم
أنك على دين الإسلام؟ واعوناه! أين أولاد المهاجرين والأنصار؟ لا ينتقمون
من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمد نبي رب العالمين.
قال: فازداد غضبا عدو الله حتى انتفخت أوداجه، ثم قال: علي به!
قال: فتبادرت إليه الجلاوزة من كل ناحية ليأخذوه، فقامت الأشراف
من الأزد من بني عمه فخلصوه من أيدي الجلاوزة وأخرجوه من باب المسجد،
فانطلقوا به إلى منزله.
ونزل ابن زياد عن المنبر ودخل القصر، ودخل عليه أشراف الناس، فقال:
أرأيتم ما صنع هؤلاء القوم؟ فقالوا: قد رأينا أصلح الله الأمير! إنما الأزد فعلت
ذلك فشد يديك بساداتهم، فهم الذين استنقذوه من يدك حتى صار إلى منزله.
195

قال: فأرسل ابن زياد إلى عبد الرحمان بن مخنف الأزدي، فأخذه وأخذ معه جماعة من
الأزد فحبسهم، وقال: والله لا خرجتم من يدي أو تأتوني بعبد الله بن عفيف.
قال: ثم دعا ابن زياد عمرا بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن الأشعث
وشبث بن الربعي وجماعة من أصحابه، قال لهم: اذهبوا إلى هذا الأعمى
أعمى الأزد الذي قد أعمى الله قلبه كما أعمى عينيه ائتوني به.
قال: فانطلقت رسل عبيد الله بن زياد إلى عبد الله بن عفيف، وبلغ الأزد،
فاجتمعوا واجتمع معهم أيضا قبائل اليمن ليمنعوا عن صاحبهم عبد الله بن
عفيف... فكسروا الباب واقتحموا عليه، فصاحت ابنته: يا أبت أتاك القوم
من حيث لا تحتسب! فقال: لا عليك يا ابنتي، ناوليني السيف.
قال: فناولته فأخذه وجعل يذب عن نفسه، وهو يقول:
أنا ابن ذي الفضل العفيف الطاهر * عفيف شيخي وابن أم عامر
كم دارع من جمعهم وحاسر * وبطل جندلته (1) مغادر
قال: وجعلت ابنته تقول: يا ليتني كنت رجلا! فأقاتل بين يديك اليوم
هؤلاء الفجرة قاتلي العترة البررة...
ثم أوتي به حتى أدخل على عبيد الله بن زياد، فلما رآه قال: الحمد الذي أخزاك!
فقال عبد الله بن عفيف: يا عدو الله! بماذا أخزاني، والله لو فرج [الله] عن
بصري لضاق عليك موردي [و] مصدري.
قال: فقال ابن زياد: يا عدو نفسه! ما تقول في عثمان بن عفان رضي الله
عنه؟ فقال: يا ابن عبد بني علاج يا ابن مرجانة وسمية ما أنت وعثمان بن
عفان؟ أساء أم أحسن وأصلح أم أفسد، والله تبارك وتعالى ولي خلقه يقضي بين
خلقه وبين عثمان بن عفان بالعدل والحق، ولكن سلني عن أبيك عن يزيد وأبيه.

(1) (جدلته خ)
196

فقال ابن زياد: والله لا سألتك عن شئ أو تذوق الموت! فقال عبد الله بن
عفيف: الحمد لله رب العالمين، أما إني كنت أسأل ربي عز وجل أن يرزقني
الشهادة والآن، فالحمد الله الذي رزقني إياها بعد الإياس منها وعرفني الإجابة
منه لي في قديم دعائي.
فقال ابن زياد: اضربوا عنقه! فضربت رقبته وصلب، رحمة الله عليه. (1)
(419)
جندب بن عبد الله مع ابن زياد
قال: ثم دعا ابن زياد بجندب بن عبد الله الأزدي، فقال: يا عدو الله!
ألست صاحب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في يوم صفين؟ فقال: بلى
والله يا ابن زياد، أنا صاحب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ولا زلت له
وليا ولا أبرأ إليك من ذلك.
فقال ابن زياد: أظن أني أتقرب إلى الله - تعالى - بدمك. فقال جندب: والله
ما يقربك دمي من الله، ولكنه يباعدك منه، وبعد فإنه لم يبق من عمري إلا
أقله، وما أكره أن يكرمني الله بهوانك.
فقال ابن زياد: أخرجوه عني فإنه شيخ قد خرف وذهب عقله.
قال: فأخرج عنه، وخلي سبيله (2).
(420)
محمد بن الحنفية وأصحابه وابن الزبير
نظر عبد الله بن الزبير إلى المختار وغلبته على البلاد، فعلم أنه إنما يفعل ذلك
بظهر محمد بن الحنفية، فأرسل إليه أن هلم فبايع، فإن الناس قد بايعوا، فأرسل

(1) فتوح ابن أعثم: ج 5 ص 229 - 234، وراجع قاموس الرجال: ج 6 ص 85، وبهج الصباغة: ج 9
ص 384.
(2) فتوح ابن أعثم: ج 5 ص 234 - 235
197

إليه ابن الحنفية: إذا لم يبق أحد من الناس غيري أبايعك.
قال: فأبى ابن الزبير أن يتركه، وأبى ابن الحنفية أن يبايع، وجرى بينهم
كلام كثير، فأرسل ابن الزبير إلى نفر من أصحاب ابن الحنفية، فدعاهم، ثم
قال لهم: إني أراكم لا تفارقون هذا الرجل، فمن أنتم؟ فإني لا أعرفكم. فقالوا
نحن قوم من أهل الكوفة، قال: فما يمنعكم من بيعتي وقد بايعني أهل بلدكم؟
لعله قد غركم هذا المختار الكذاب! فقالوا: يا هذا ما لنا وللمختار؟ إننا لو أردنا
أن نكون مع المختار لما قدمنا هذه البلدة، نحن قوم قد اعتزلنا أمور الناس وأتينا
هذا الحرم، فنزلناه لكي لا نقتل ولا نقتل ولا نؤذي ولا نؤذى، فنحن هاهنا
مقيمون عند هذا الرجل محمد بن علي، فإذا اجتمعت الأمة على رجل واحد
دخلنا فيما دخل فيه الناس.
قال: فقال عبد الله بن الزبير: فأنا لا أفارقكم أو تبايعوا طائعين أو
مكرهين. قالوا: فإننا لا نبايع أبدا أو نرى صاحبنا هذا قد بايع.
قال: فغضب ابن الزبير، ثم قال: ومن صاحبكم؟ فوالله ما صاحبكم
هذا برضى في الدين ولا محمود الرأي ولا راجح العقل ولا لهذا الأمر بأهل!
قال: فقال له رجل من القوم يقال له: " معاذ بن هانئ ": أيها الرجل!
إننا لا ندري ما يقول، ولكنا رأيناه على مثل هدانا وأمرنا وطريقتنا، وقد اعتزل
الناس وما هم فيه ونحن قعود بهذا الحرم لكي لا نقتل ولا نؤذى إلى أن يجمع الله
أمر الأمة على ما شاء من خلقه، فندخل فيما دخل فيه الأسود والأبيض،
فأجبناه على ذلك ولزمنا هداه وطريقته ومذهبه، ومع ذلك فإنه لا يعيش
والسلام (1) ولا يكافئ بالسوء ولا يغتاب الغائب ولا يمكر به، ثم إنه قد أمرنا أن
نكف أيدينا ولا نسفك دماءنا، ففعلنا ما أمرنا به، ولعمري يا ابن الزبير لئن لم

(1) كذا في المصدر
198

يخالفك أحد من الناس إلا كخلافنا إياك، فإنه لم يدخل عليك في ذلك شئ
من الضرر.
قال: ثم تقدم عبد الله بن هانئ - وهو أخو هذا المتكلم - فقال: يا ابن الزبير
إننا قد سمعنا كلامك وما ذكرت به ابن عمك من السوء، ونحن أعلم به منك
وأطول له معاشرة، وهو والله الرجل البر، الطيب الطعمة، الكريم الطبيعة،
الطاهر الأخلاق، الصادق النية، وهو مع ذلك أنصح لهذه الأمة منك، لأنك
أنت رجل تدعو الناس إلى بيعتك، فمن لا يبايعك استحللت ماله ودمه، وهو
رجل لا يرى ذلك، وبعد يا ابن الزبير! فإننا ما خليناك وتركنا هذا الأمر أن
تكونوا ولاة علينا إلا لمكان الرسول محمد صلى الله عليه وآله، لأنكم أولى
الناس بمنزلته وميراثه و قيامه في أمته، إذ كنتم من قريش، فإننا سلمنا إليكم
هذا الأمر من هذا الطريق فإن أنتم عدلتم بينكم كما عدلنا عليكم علمت أنت
خاصة، إن صاحبنا هذا محمد بن علي هو أهل لهذا الأمر وأولى الناس به،
لمكان أبيه علي به أبي طالب، فإن أبيت أن تقر بهذا الأمر أنه مكذب، فإننا
وجدناه رجلا من صالحي العرب، معروف الحسب، ثابت النسب، ابن
أمير المؤمنين، وابن أول ذكر صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فغضب ابن الزبير وقال: من هاهنا؟ اهزؤه وأوجؤه في قفاه! قال ابن
هانئ: يا ابن الزبير! إن حرم الرحمن وجوار البيت الحرام الذي من دخله كان
آمنا!.
قال: ثم تقدم أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، فقال: يا ابن الزبير! " إن
تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين " فقال
ابن الزبير: وأنت هاهنا يا ابن واثلة؟ فقال: نعم أنا هاهنا يا ابن الزبير، فاتق
الله! ولا تكن ممن " إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم " قال: أفلا تسمع
إلى كلام هذا الرجل الذي يضرب لي الأمثال ويأتيني بالمقاييس؟ فقال
199

عبد الله بن هانئ: " إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم
الحساب " قال: فازداد غضب ابن الزبير ثم قال لأصحابه: ادفعوهم عني،
فإنهم بئس العصابة.
قال: فخرجوا من بين يديه، وأقبلوا إلى محمد بن الحنفية، فأخبروه بما كان
بينهم وبين ابن الزبير، فقال لهم: جزاكم الله عني من قوم خير الجزاء! أما إني
أتقي عليكم من هذا المسرف على نفسه، وأرى لكم من الرأي أن تعتزلوني
ولا تكونوا قريبا مني إلى أن تنظروا ما يكون من عاقبة أمري وأمره، فإني أكره
أن تكونوا معي، ولعله يناله منكم أمر أغتم لكم منه.
قال: فقال أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني: جعلت فداك يا ابن
أمير المؤمنين! والله ما أنطق إلا بما في قلبي ولا أخبر إلا عن نفسي، وأنا أشهد
الله في وقتي هذا أني قد رضيت أن أقتل إن قتلت، وأن أوسر إن أسرت، وأن
أحبس إن حبست، وأن أشبع إن شبعت، وأن أجوع إن جعت، وأن أظمأ إن
ظمئت، ولا والله لا أفارقك في عسر ولا يسر ولا ضيق ولا جهد ما أردتني
وقبلتني، أرى لك ذلك علي فرضا واجبا وحقا لازما، وما لا أبغي به منك
جزاء وإكراما، ولا أريد بذلك إلا ثواب الله والدار الآخرة ودفع الظلم عن
أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: ثم وثب معاذ بن هانئ الكندي، فقال: جعلت فداك! نحن شيعتك
وشيعة أبيك من قبلك نواسيك بأنفسنا ونقيك بأيديا، ونحن معك على الخوف
والأمن والخصب والجدب إلى أن يأتيك الله تبارك وتعالى بالفرج من عنده،
غضب ابن الزبير بذلك أم رضي.
قال: فقال محمد بن الحنفية: إن قدرتم على ذلك فأنا استأنس بكم، وإن
عرضت لكم مآرب وأشغال فأنتم في أوسع العذر.
قال: فبينا القوم كذلك إذا بعمر بن عروة بن الزبير قد أقبل! حتى دخل
200

على محمد بن الحنفية فسلم، ثم قال: إن أمير المؤمنين يقول لك: هلم فبايع أنت
وأصحابك هؤلاء الذين معك، فإنكم [إن] لم تفعلوا حبستكم وأطلت
حبسكم.
قال: فسكت القوم، وأقبل عليه ابن الحنفية فقال له: ارجع إلى عمك
فقل له: يقول لك محمد بن علي: يا ابن الزبير! أصبحت منتهكا للحرمة
متلبثا في الفتنة جريا على نفسك الدم الحرام، فعش رويدا! فإن أمامك
عقبة كؤدا وحسابا طويلا وسؤالا حفيا، وكتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصاها، وبعد فوالله لا بايعتك أبدا أو لا يبقى أحد إلا بايعك، فاقضي ما
أنت قاض!
قال فرجع عمر بن عروة بن الزبير إلى عمه عبد الله بن الزبير، فأخبره
بذلك.
قال: وهم أصحاب محمد بن الحنفية بالوثوب على عبد الله بن الزبير،
فقال لهم محمد: مهلا يا قوم! لا تفعلوا، فوالله ما أحب أني أمرتكم بقتل
حبشي أجدع، وأنه أجمع لي بعد ذلك سلطان العرب قاطبة من المشرق إلى
المغرب.
قال - بعد ذكر استعانة محمد بن الحنفية من المختار وإرساله الجند إلى
مكة لإخراجه من حصار ابن الزبير -: ثم أرسل ابن الزبير إلى أبي عبد الله
الجدلي وأصحابه القادمين من الكوفة، فدعاهم، ثم قال:
أخبروني عنكم يا أهل الكوفة، أما كفاكم خروجكم مع المختار
وإفسادكم علي العراق؟ حتى قدمتم هذا البلد تناوؤني في سلطاني، أتظنون
أني أخلي صاحبكم هذا دون أن يبايع وتبايعوا أنتم أيضا معه صاغرين؟
قال: فقال له أبو عبد الله الجدلي: إي والركن والمقام والحل والحرام وهذا
البلد الحرام وحرمة الشهر الحرام! لتخلين سبيل صاحبنا ابن علي، ولينزلن
201

من مكة حيث يشاء ومن الأرض حيث يحب، أو لنجاهدنك بأسيافنا جهادا
وجلادا يرتاب منه المبطلون.
قال: وإذا محمد بن الحنفية قد أقبل في جماعة من أصحابه حتى دخل
المسجد الحرام. قال: ونظر ابن الزبير فإذا أصحابه كثير وأصحاب ابن
الحنفية قليل غير أنهم مغضبون مجمعون على الحرب محبون لذلك، فعلم أن
جانبهم خشن، وأن وراءهم شوكة شديدة من قبل المختار، فجعل يتشجع
ويقول لإخوته وأصحابه:
ومن ابن الحنفية وأصحابه هؤلاء؟ والله ما هم عندي شئ! ولو أني
هممت بهم لما مضى ساعة من النهار حتى تقطف رؤوسهم كما يقتطف
الحنظل.
قال له رجل من أصحاب ابن الحنفية:
والله يا ابن الزبير! لئن رمت ذلك منا، فإني أرجو أن يوصل إليك من
قبل أن ترى فينا ما تحب.
قال: ثم ضرب الطفيل بيده إلى سيفه فاستله، فهم أن يفعل شيئا.
فقال ابن الحنفية لأبيه: يا أبا الطفيل قل لابنك فليكف عما يريد أن
يصنع، ثم أقبل على أصحابه، فقال:
يا هؤلاء مهلا! فإني أذكركم الله إلا كففتم عنا أيديكم وألسنتكم فإني
ما أحب أن أقاتل أحدا من الناس ولا أقول للناس إلا حسنا، ولا أريد أيضا أن
أنازع ابن الزبير في سلطانه ولا بني أمية في سلطانهم، ولا أدعوكم إلى أن
يضرب بعضكم بعضا بالسيف، وإنما آمركم أن تتقوا الله ربكم وأن تحقنوا
دماءكم، فإني قد اعتزلت هذه الفتنة التي فيها ابن الزبير وعبد الملك بن
مروان إلى أن تجتمع الأمة على رجل واحد، فأكون كواحد من المسلمين.
قال: فقال رجل من أصحاب عبد الله بن الزبير: صدق والله الرجل - يعني
202

ابن الحنفية - والله ما هذه إلا فتنة كما قال، والسعيد عندي من اعتزلها.
قال: فصاح به ابن الزبير وقال: اسكت أيها الرجل! فإنك لا تعقل ما
يأتي، وما تدري من هذا حتى يسمع قوله ويؤخذ برأيه، إنما كان هذا مع أخويه
الحسن والحسين كالعسيف الذي لا يؤامر ولا يشاور.
قال: فقال له محمد بن الحنفية: كذبت والله لومت! ما كان إخواني بهذه
المنزلة، ولكنهم كانوا أخوي وشقيقي، وكنت أعرف لهم فضلهم ونسبهم
وقرابتهم من الرسول محمد صلى الله عليه وآله، وقد كانوا يعرفون لي من الحق
مثل ذلك، وما قطعوا أمرا دوني مذ عقلت. وأما قولك: أنه لا ينبغي أن يسمع
قولي ولا يؤخذ برأيي فأنا والله أوجب حقا على الأمة منك وأحق بالمودة
والنصر، لحق علي بن أبي طالب وقرابته من الرسول محمد صلى الله عليه وآله
ولو أني أعتمد على الناس بحق النبوة أنها في بني هاشم دون غيرهم لكان
ينبغي لذوي الرأي والعلم أن يأخذوا برأيي ويستمعوا لقولي ويكونوا لي أود
ومني أسمع ولي أنصح منهم لك يا ابن الزبير.
قال: فلم يزل هذا الكلام بين محمد بن الحنفية وبين عبد الله بن الزبير وقد
ضاق الناس بعضهم بعضا في المسجد الحرام عليهم السلاح، والمعتمرون يمشون
بينهم بالصلح حتى سكت ابن الزبير ولم يقل شيئا (1).
الأحوص مع عوف بن ضبعان
قال - في ذكر حرب إبراهيم بن الأشتر مع عبيد الله بن زياد -: وتقدم رجل
من عتاة أهل الشام ومردتهم يقال له: " عوف بن ضبعان الكلبي " حتى وقف
بين يدي الجمعين على فرس أدهم، ثم نادى: ألا يا شيعة أبي تراب! ألا يا

(1) فتوح ابن أعثم: ج 6 ص 125 - 136، وراجع شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 20 ص 124
203

شيعة المختار الكذاب! ألا يا شيعة ابن الأشتر المرتاب! من كان منكم يدل
بشجاعته وشدته فليبرز إلي إن كان صادقا وللقران معانقا، ثم جعل يجول في
ميدان الحرب، وهو يرتجز ويقول:
أنا ابن ضبعان الكريم المفضل * إني أنا الليث الكمي الهذلي
من عصبة يبرأن من دين علي * كذاك كانوا في الزمان الأول
يا رجال، فما لبث أن خرج إليه الأحوص بن شداد الهمداني، وهو يرتجز
ويقول:
أنا ابن شداد على دين علي * لست بمروان بن ليلى بولي
لاصطلين الحرب فيمن يصطلي * أخوض نار الحرب حتى تنجلي
قال: فجعل الشامي يشتم الأحوص بن شداد، فقال له الأحوص: يا هذا
لا تشتم إن كنت غريبا، فإن الذي بيننا وبينكم أجل من الشتيمة، أنتم
تقاتلون عن بني مروان ونحن نطالبكم بدم ابن بنت نبي الرحمن، فادفعوا إلينا
هذا الفاسق اللعين عبيد الله بن زياد الذي قتل ابن بنت نبي رب العالمين محمد
صلى الله عليه وآله حتى نقتله ببعض موالينا الذين قتلوا مع الحسين بن
علي، فإننا لا نراه للحسين كفؤا فنقتله به، فإذا دفعتموه إلينا فقتلناه جعلنا بيننا
وبينكم حكما من المسلمين.
فقال له الشامي:
إننا قد جربناكم في يوم صفين عندما حكمنا وحكمتم، فغدرتم ولم ترضوا بما
حكم عليكم.
قال: فقال له الأحوص بن شداد:
يا هذا إن الحكمين لم يحكما برضا الجميع، وأحدهما خدع صاحبه الآخر،
والخلافة لا تعقد في الخديعة، ولا يجوز في الدين إلا النصيحة، ولكن ما اسمك
أيها الرجل؟ فقال الشامي: اسمي منازل الاقران حلال، فقال له الأحوص
204

ابن شداد: ما أقرب الاسمين بعضهم من بعض! أنت منازل الأبطال وأنا
مقرب الآجال! ثم حمل عليه الأحوص والتقيا بضربتين ضربه الأحوص ضربة
سقط الشامي قتيلا، الخ (1).
(422)
رجل مع مصعب
وقال - بعد ذكر قتل المختار -: ثم أقبل مصعب وأصحابه حتى أحدقوا
بالقصر، فجعلوا ينادون لمن في القصر ويقولون: أخرجوا ولكم الأمان، فقد قتل
الله صاحبكم!
قال: ففتح القوم باب القصر وخرجوا فأخذوا بأجمعهم حتى أتى بهم
مصعب بن الزبير، فقدموا حتى وقفوا بين يديه، وجعل رجل منهم يقول:
ما كنت أخشى أن أرى أسيرا * ولا أرى مدمرا تدميرا
إن الذين خالفوا الأميرا * قد رغموا وتبروا تتبيرا
قال: فرفع مصعب رأسه إليهم، فقال: الحمد لله الذي أمكن منكم يا شيعة
الدجال.
قال: فتكلم رجل منهم يقال له: بحير بن عبد الله السلمي، فقال:
لا والله! ما نحن بشيعة الدجال، ولكنا شيعة آل محمد صلى الله عليه و
آله، وما خرجنا بأسيافنا إلا طلبا بدمائهم، وقد ابتلانا الله بالأسر وابتلاك
بالعفو أيها الأمير والصفح والعفاف، وهما منزلتان منزلة رضا ومنزلة سخط، فمن
عفا عفي عنه، ومن عاقب لم يأمن من القصاص، وبعد، فإننا إخوانكم في
دينكم وشركاؤكم في حظكم، ونحن أهل قبلتكم، لسنا بالترك ولا بالديلم، وقد
كان منا ما كان من أهل العراق وأهل الشام، فاصفح إن قدرت (2).

(1) فتوح ابن أعثم: ج 6 ص 176 - 177.
(2) الفتوح: ج 6 ص 198
205

(423)
امرأة المختار مع مصعب
قال: وأقبل مصعب حتى دخل قصر الإمارة، فجلس على سرير المختار، ثم
أرسل إلى امرأتي المختار: أم ثابت بنت سمرة بن جندب الفزارية، وعمرة بنت
النعمان بن بشير الأنصارية، فلما أوتي بهما قال لهما مصعب: ما تقولان في
المختار؟ فقالت الفزارية: نقول فيه كما تقولون فيه، فقال مصعب: أحسنت!
اذهبي فلا سبيل عليك. فقالت الأنصارية: ولكني أقول: كان عبدا مؤمنا محبا
لله ورسوله وأهل بيت رسوله محمد صلى الله عليه وآله، فإنكم إن قتلتموه لم
تبقوا بعده إلا قليلا، فغضب مصعب بن الزبير ثم أمر بها فقتلت، فقال بعضهم
في ذلك:
إن من أعجب العجائب عندي * قتل بيضاء حرة عطبول
قتلت هكذا على غير جرم * إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا * وعلى المحصنات جر الذيول (1)
(424)
محمد بن النعمان وهشام
عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، قال: حضرت محمد بن النعمان
الأحول، فقام إليه رجل فقال له: بم عرفت ربك؟
قال: بتوفيقه وإرشاده وتعريفه وهدايته.
قال: فخرجت من عنده فلقيت هشام بن الحكم، فقلت: ما أقول لمن
يسألني فيقول لي: بم عرفت ربك؟
فقال: إن سأل سائل فقال: بم عرفت ربك؟ قلت: عرفت الله جل جلاله

(1) الفتوح: ج 6 ص 199
206

بنفسي، لأنها أقرب الأشياء إلي، وذلك أني أجدها أبعاضا مجتمعة، وأجزاء
مؤتلفة، ظاهرة التركيب، متينة الصنعة، مبنية على ضروب من التخطيط
والتصوير، زائدة من بعد نقصان، وناقصة من بعد زيادة، قد أنشأ لها حواس
مختلفة وجوارح متبائنة: من بصر وسمع وشام وذائق ولامس، مجبولة على
الضعف والنقص والمهانة، لا تدرك واحدة منها مدرك صاحبتها ولا تقوى على
ذلك، عاجزة عن اجتلاب المنافع إليها ودفع المضار عنها، واستحال في العقول
وجود تأليف لا مؤلف له، وثبات صورة لا مصور لها، فعلمت أن لها خالقا خلقها
ومصورا صورها، مخالفا لها في جميع جهاتها، قال الله جل جلاله: " وفي أنفسكم
أفلا تبصرون " (1).
(425)
هشام بن الحكم مع هشام بن سالم
عن جعفر بن محمد بن حكيم الخثعمي، قال: اجتمع ابن سالم وهشام بن
الحكم وجميل بن دراج وعبد الرحمن بن الحجاج ومحمد بن حمران وسعيد بن
غزوان ونحو من خمسة عشر من أصحابنا، فسألوا هشام بن الحكم أن يناظر
هشام بن سالم فيما اختلفوا فيه من التوحيد وصفة الله عز وجل وعن غير ذلك،
لينظروا أيهم أقوى حجة، فرضي هشام بن سالم أن يتكلم عند محمد بن
أبي عمير، ورضي هشام بن الحكم أن يتكلم عند محمد بن هشام، فتكالما وساقا
ما جرى بينهما.
وقال: قال عبد الرحمن بن الحجاج لهشام بن الحكم: كفرت والله بالله
العظيم وألحدت فيه، ويحك! ما قدرت أن تشبه بكلام ربك إلا العود يضرب
به.

(1) البحار: ج 3 ص 49 - 50 عن التوحيد
207

قال جعفر بن محمد بن حكيم: فكتب إلى أبي الحسن موسى عليه السلام
يحكي له مخاطبتهم وكلامهم ويسأله أن يعلمهم ما القول الذي ينبغي أن يدين
الله به من صفة الجبار.
فأجابه في عرض كتابه: فهمت رحمك الله! واعلم رحمك الله إن الله أجل
وأعلى وأعظم من أن يبلغ كنه صفته، فصفوه بما وصف به نفسه، وكفوا عما سوى
ذلك (1).
(426)
هشام مع الديصاني
عن محمد بن أبي إسحاق عن عدة من أصحابنا: أن عبد الله الديصاني أتى
هشام بن الحكم، فقال له:
ألك رب؟
فقال: بلى.
قال: قادر؟
قال: نعم قادر قاهر.
قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلها في البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر
الدنيا؟
فقال هشام: النظرة.
فقال له: قد أنظرتك حولا.
ثم خرج عنه فركب هشام إلى أبي عبد الله عليه السلام فأستأذن عليه،
فأذن له، فقال: يا ابن رسول الله أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعول فيها
إلا على الله وعليك.

(1) البحار: ج 3 ص 266 عن الكشي. وراجع قاموس الرجال: ج 9 ص 333
208

فقال له أبو عبد الله عليه السلام: عماذا سألك؟ فقال: قال لي كيت
وكيت.
فقال له أبو عبد الله عليه السلام:
يا هشام كم حواسك؟
قال: خمس.
فقال: أيها أصغر؟
فقال: الناظر.
قال: وكم قدر الناظر؟
قال: مثل العدسة أو أقل منها.
فقال: يا هشام فانظر أمامك وفوقك وأخبرني.
فقال: أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وترابا وجبالا وأنهارا.
فقال له أبو عبد الله عليه السلام:
إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقل منها قادر أن يدخل الدنيا
كلها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة.
فانكب هشام عليه وقبل يديه ورأسه ورجليه، وقال: حسبي يا ابن رسول
الله! فانصرف إلى منزله، وغدا عليه الديصاني.
فقال له: يا هشام إني جئتك مسلما، ولم أجئك متقاضيا للجواب.
فقال له هشام: إن كنت جئت متقاضيا فهاك الجواب، فخرج عنه
الديصاني، فأخبر أن هشاما دخل على أبي عبد الله عليه السلام فعلمه
الجواب.... الخ (1).
* * *

(1) البحار: ج 4 ص 140 - 141 عن التوحيد
209

(427)
هشام مع النظام
قال النظام لهشام بن الحكم: إن أهل الجنة لا يبقون في الجنة بقاء الأبد
فيكون بقاؤهم كبقاء الله ومحال أن يبقوا كذلك.
فقال هشام: أن أهل الجنة يبقون بمبق لهم، والله يبقى بلا مبق، وليس هو
كذلك.
فقال: محال أن يبقوا الأبد.
قال: قال: ما يصيرون؟
قال: يدركهم الخمود.
قال: فبلغك أن في الجنة ما تشتهي الأنفس؟
قال: نعم.
قال: فإن اشتهوا أو سألوا ربهم بقاء الأبد؟
قال: إن الله تعالى لا يلهمهم ذلك.
قال: فلو أن رجلا من أهل الجنة نظر إلى ثمرة على شجرة فمد يده ليأخذها
فتدلت إليه الشجرة والثمار ثم حانت منه لفتة فنظر إلى ثمرة أخرى أحسن منها،
فمد يده اليسرى ليأخذها فأدركه الخمود ويداه متعلقان بشجرتين فارتفعت
الأشجار، وبقي هو مصلوبا فبلغك إن في الجنة مصلوبين؟
قال: هذا محال.
قال: فالذي أتيت به أمحل منه: أن يكون قوم قد خلقوا وعاشوا فأدخلوا
الجنان تموتهم فيها يا جاهل! (1)
* * *

(1) البحار: ج 8 ص 143 عن الكشي. وقاموس الرجال: ج 9 ص 329 عنه
210

(428)
سلمان مع ابن صوريا
قال - في احتجاج رسول الله صلى الله عليه وآله مع عبد الله بن صوريا
اليهودي، وأن ابن صوريا قال: كان ذلك، يعني جبرئيل عدونا فقال له سلمان
الفارسي:
فما بدء عداوته لك؟
قال: نعم يا سلمان، عادانا مرارا كثيرة وكان من أشد ذلك علينا أن الله
أنزل على أنبيائه أن بيت المقدس يخرب على يد رجل يقال له: " بخت نصر "
وفي زمانه، وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه، والله يحدث الأمر بعد الأمر فيمحو
ما يشاء ويثبت، فلما بلغنا ذلك الحين الذي يكون فيه هلاك بيت المقدس
بعث أوائلنا رجلا من أقوياء بني إسرائيل وأفاضلهم نبيا كان يعد من أنبيائهم
يقال له: " دانيال " في طلب بخت نصر ليقتله، فحمل معه وقر مال لينفقه في
ذلك، فلما انطلق في طلبه لقاه ببابل غلاما ضعيفا مسكينا ليس له قوة
ولا منعة، فأخذه صاحبنا ليقتله، فدفع عنه جبرئيل، وقال لصاحبنا: إن كان
ربكم هو الذي أمر بهلاككم، فإنه لا يسلطك عليه، وإن لم يكن هذا فعلى أي
شئ تقتله؟ فصدقه صاحبنا وتركه، ورجع إلينا وأخبرنا بذلك، وقوى بخت
نصر وملك وغزانا وخرب بيت المقدس، فلهذا نتخذه عدوا وميكائيل عدو
لجبرئيل.
فقال سلمان: يا ابن صوريا بهذا العقل المسلوك به غير سبيله ضللتم! أرأيتم
أوائلكم كيف بعثوا من يقتل بخت نصر، وقد أخبر الله في كتبه وعلى ألسنة
رسله أنه يملك ويخرب بيت المقدس؟ أرادوا تكذيب أنبياء الله تعالى في
أخبارهم واتهموهم في أخبارهم، أو صدقوهم في الخبر عن الله ومع ذلك أرادوا
مغالبة الله، هل كان هؤلاء ومن وجهوه إلا كفارا بالله؟ وأي عداوة تجوز أن
211

يعتقد لجبرئيل وهو يصد عن مغالبة الله عز وجل، وينهى عن تكذيب خبر الله
تعالى؟
فقال ابن صوريا: قد كان الله تعالى أخبر بذلك على ألسن أنبيائه، لكنه
يمحو ما يشاء ويثبت.
قال سلمان: فإذا لا تثقوا بشئ مما في التوراة من الأخبار عما مضى وما
يستأنف، فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت! وإذا لعل الله قد كان عزل موسى
وهارون عن النبوة وأبطلا في دعوتهما، لأن الله يمحو ما يشاء ويثبت! ولعل كل
ما أخبراكم أنه يكون لا يكون وما أخبراكم أنه لا يكون يكون! وكذلك ما
أخبراكم عما كان لعله لم يكن وما أخبراكم أنه لم يكن لعله كان! ولعل ما
وعده من الثواب يمحوه ولعل ما توعد به من العقاب يمحوه، فإنه يمحو ما يشاء
ويثبت! إنكم جهلتم معنى " يمحو الله ما يشاء ويثبت " فلذلكم أنتم بالله
كافرون، ولإخباره عن الغيوب مكذبون، وعن دين الله منسلخون.
ثم قال سلمان: فإني أشهد أن من كان عدوا لجبرئيل، فإنه عدو
لميكائيل، وإنهما جميعا عدوان لمن عاداهما سلمان لمن سالمهما، فأنزل الله تعالى
عند ذلك موافقا لقول سلمان - رحمة الله عليه -: " قل من كان عدوا لجبريل "
ابن عباس مع عائشة
روى الطبري أيضا قال: قال ابن عباس - رحمه الله -: لما حججت بالناس
نيابة عن عثمان وهو محصور، مررت بعائشة بالصلصل، فقالت: يا ابن عباس
أنشدك الله - فإنك قد أعطيت لسانا وعقلا - أن تخذل الناس عن طلحة! فقد
بانت لهم بصائرهم في عثمان وأنهجت ورفعت لهم المنار وتحلبوا من البلدان
لأمر قد حم، وإن طلحة - فيما بلغني - قد اتخذ رجالا على بيوت الأموال، وأخذ

(1) البحار: ج 9 ص 287
212

مفاتيح الخزائن، وأظنه يسير - إن شاء الله - بسيرة ابن عمه أبي بكر. فقال: يا
أمه؟ لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا، فقالت: إيها عنك
يا بن عباس! إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك (1).
(429)
رجل مع عمار
عن أسماء بن حكيم الفزاري، قال: كنا بصفين مع علي تحت راية عمار
ابن ياسر ارتفاع الضحى، وقد استظللنا برداء أحمر، إذ أقبل رجل يستقري
الصف حتى انتهى إلينا، فقال: أيكم عمار بن ياسر؟ فقال عمار: أنا عمار،
قال: أبو اليقظان؟ قال: نعم، قال: إن لي إليك حاجة أفأنطق بها سرا أو
علانية؟ قال: اختر لنفسك أيهما شئت، قال: لا بل علانية، قال: فانطق.
قال: إني خرجت من أهلي مستبصرا في الحق الذي نحن عليه، لا أشك في
ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل، فلم أزل على ذلك مستبصرا حتى ليلتي
هذه، فإني رأيت في منامي مناديا تقدم فأذن وشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله ونادى بالصلاة، ونادى مناديهم مثل
ذلك، ثم أقيمت الصلاة، فصلينا صلاة واحدة وتلونا كتابا واحدا ودعونا دعوة
واحدة، فأدركني الشك في ليلتي هذه، فبت بليلة لا يعلمها إلا الله حتى
أصبحت، فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له، فقال: هل لقيت عمار بن
ياسر؟ قلت لا، قال: فألقه فانظر ماذا يقول لك عمار فاتبعه، فجئتك لذلك.
فقال عمار: تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي، فإنها راية عمرو بن
العاص، قاتلتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث مرات وهذه الرابعة،
فما هي بخيرهن ولا أبرهن، بل هي شرهن وأفجرهن، أشهدت بدرا واحدا

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 10 ص 6. وبهج الصباغة: ج 6 ص 135
213

ويوم حنين؟ أو شهدها أب لك فيخبرك عنها؟ قال: لا، قال: فإن مراكزنا
اليوم على مراكز رايات رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر ويوم أحد ويوم
حنين، وإن مراكز رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب، فهل
ترى هذا العسكر ومن فيه؟ والله لوددت أن جميع من فيه ممن أقبل مع معاوية
يريد قتالنا - مفارقا للذي نحن عليه - كانوا خلقا واحدا فقطعته وذبحته! والله
لدماؤهم جميعا أحل من دم عصفور! أفترى دم عصفور حراما؟ قال: لا بل
حلال، قال: فإنهم حلال كذلك، أتراني بينت لك؟ قال: قد بينت لي، قال:
فاختر أي ذلك أحببت.
فانصرف الرجل، فدعاه عمار، ثم قال: أما إنهم سيضربونكم بأسيافهم
حتى يرتاب المبطلون منكم، فيقولوا: لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا،
والله ما هم من الحق على ما يقذي عين ذباب، والله لو ضربونا بأسيافهم حتى
يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على حق وأنهم على باطل (1).
(430)
رجل من طي مع معاوية
وقام عدي بن حاتم الطائي إلى علي عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين إن
عندي رجلا لا يوازى به رجل، وهو يريد أن يزور ابن عمه حابس بن سعد
الطائي بالشام، فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله أن يكسره ويكسر أهل الشام،
فقال علي عليه السلام: نعم، فأمره عدي بذلك، وكان اسم الرجل خفاف
ابن عبد الله.
فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام، وحابس سيد طي بها، فحدث
خفاف حابسا أنه شهد عثمان بالمدينة وسار مع علي إلى الكوفة، وكان لخفاف

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 5 ص 256. وصفين نصر: ص 321
214

لسان وهيئة وشعر، فغدا حابس بخفاف إلى معاوية، فقال: إن هذا ابن عم لي
قدم الكوفة مع علي وشهد عثمان بالمدينة، وهو ثقة.
فقال له معاوية: هات حدثنا عن عثمان، فقال، نعم حصره المكشوح
[وحكم فيه حكيم ووليه عمار وتجرد في أمره ثلاثة نفر: عدي بن حاتم]
والأشتر النخعي وعمرو بن الحمق، وجد في أمره رجلان: طلحة والزبير، وأبرأ
الناس منه علي.
قال: ثم مه؟
قال: ثم تهافت الناس على علي بالبيعة تهافت الفراش حتى ضاعت
النعل وسقط الرداء ووطئ الشيخ، ولم يذكر عثمان، ولم يذكر له.
ثم تهيأ للمسير، وخف معه المهاجرون والأنصار، وكره القتال معه ثلاثة
نفر: سعد بن مالك، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، فلم يستكره أحدا
واستغنى بمن خف معه عمن ثقل، ثم سار حتى أتى جبل طي، فأتته منا جماعة
كان ضاربا بهم الناس حتى إذا كان ببعض الطريق أتاه مسير طلحة والزبير
وعائشة إلى البصرة، فسرح رجالا إلى الكوفة يدعونهم، فأجابوا دعوته، فسار إلى
البصرة فإذا هي في كفه، ثم قدم الكوفة، فحمل إليه الصبي، ودبت إليه
العجوز، وخرجت إليه العروس فرحا به وشوقا إليه، وتركته وليس له همة إلا
الشام.
فذعر معاوية من قوله، وقال حابس: أيها الأمير لقد أسمعني شعرا غير به
حالي في عثمان، وعظم به عليا عندي.
فقال معاوية: أسمعنيه يا خفاف، فأنشده شعرا أوله:
قلت والليل ساقط الأكناف * ولجنبي عن الفراش تجافي
(يذكر فيه حال عثمان وقتله، وفيه إطالة عدلنا عن ذكره بحسبها، ومن
جملته):
215

وفي نصر: [أرقب النجم مائلا ومتى الغمض * بعين طويلة التذارف
ليت شعري وإنني لسؤول * هل لي اليوم في المدينة شاف
من صحاب النبي إذ عظم الخطب * فيهم في البرية كاف
إحلال دم الإمام بذنب * أم حرام بسنة الوقاف
قال لي القوم لا سبيل إلى ما * تطلب اليوم قلت حسب خفاف
عند قوم ليسوا بأوعية العلم * ولا أهل صحة وعفاف
قلت لما سمعت قولا دعوني * إن قلبي من القلوب ضعاف] (1)
قد مضى ما مضى ومر به الدهر * كما مر ذاهب الأسلاف
إنني والذي يحج له الناس * علي لحق البطون عجاف
تتبارى مثل القي من النبع * بشعث مثل السهام تخاف
أرهب اليوم إن أتاكم علي * صيحة مثل صيحة الأحقاف
إنه الليث غاديا وشجاع * مطرق نافث بسم زعاف
واضع السيف فوق عاتقه الأيمن * يفري به (شؤون الصحاف
[لا يرى القتل في الخلاف عليه * ألف ألف كانوا من الأشراف
سوم الخيل ثم قال لقوم * بايعوه إلى الطعان خفاف
استعدوا لحرب طاغية الشام * فلبوه كاليدين اللطاف
ثم قالوا أنت الجناح لك الريش * القدامي ونحن منه الخوافي
[أنت وال وأنت والدنا البر * ونحن الغداة كالأضياف
وقري الضيف في الديار قليل * قد تركنا العراق للأتحاف
وهم ما هم إذا نشب البأس * من ذوي الفضل والأمور الكوافي]

(1) نقلنا من النصر ما بين المعقوفين وتركنا اختلاف النسخ واعتمدنا على رواية ابن أبي الحديد
216

فانظر اليوم قبل بادرة القوم * لسلم تهم آم بخلاف
[إن هذا رأي الشفيق على الشام * ولولاه ما خشيت نشاف]
قال: فانكسر معاوية، وقال: يا حابس إني لأظن هذا عينا لعلي، أخرجه
عنك لئلا يفسد علينا أهل الشام (1).
(431)
الأشتر وجرير
لما رجع جرير إلى علي عليه السلام (من عند معاوية وكان أمير المؤمنين
عليه السلام أرسله إليه) كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية،
فاجتمع جرير والأشتر عند علي عليه السلام، فقال الأشتر: أما والله يا
أمير المؤمنين! أن لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيرا لك من هذا الذي
أرخى خناقه، وأقام عنده حتى لم يدع بابا يرجو فتحه إلا فتحه، ولا بابا يخاف
أمره إلا سده.
فقال جرير: لو كنت والله أتيتهم لقتلوك - وخوفه بعمرو وذي الكلاع
وحوشب - وقال: إنهم يزعمون أنك من قتلة عثمان.
فقال الأشتر: والله لو أتيتهم يا جرير لم يعييني جوابها ولم يثقل علي محملها،
ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر.
قال: فائتم إذن! قال: الآن؟ وقد أفسدتهم ووقع بينهم الشر.
عن الشعبي قال: اجتمع جرير والأشتر عند علي عليه السلام فقال
الأشتر: أليس قد نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا وأخبرتك بعداوته
وغشه؟ وأقبل الأشتر يشتمه ويقول: يا أخا بجيلة إن عثمان اشترى منك دينك

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 3 ص 111 - 112 وقد مضى شطر منه 137 عن ابن أعثم،
وراجع صفين نصر: ص 64 - 68 وما بين المعقوفتين لنصر. وراجع الإمامة والسياسة: ج 1 ص 78
217

بهمدان، والله ما أنت بأهل أن تترك تمشي فوق الأرض، إنما أتيتهم لتتخذ
عندهم يدا بمسيرك إليهم، ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم، وأنت والله
منهم! ولا أرى سعيك إلا لهم، لئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنك
وأشباهك في حبس لا تخرجون منه حتى تستتم هذه الأمور، ويهلك الله الظالمين.
قال جرير: وددت والله أن لو كنت مكاني بعثت، إذن والله لم ترجع!
قال: فلما سمع جرير مثل ذلك من قوله فارق عليا عليه السلام فلحق
بقرقيساء ولحق به ناس من قسر من قومه، فلم يشهد صفين من قسر غير تسعة
عشر رجلا، ولكن شهدها من أحمس سبعمائة رجل.
وقال الأشتر فيما كان من تخويف من جرير إياه بعمرو وحوشب [وذي
الكلاع]:
لعمرك يا جرير لقول عمرو * وصاحبه معاوي بالشام
وذي كلع وحوشب ذي ظليم * أخف علي من ريش النعام
إذا اجتمعوا علي فخل عنهم * وعن باز مخالبه دوامي
ولست بخائف ما خوفوني * وكيف أخاف أحلام النيام
وهمهم الذي حاموا عليه * من الدنيا وهمي من أمامي
فإن أسلم أعمهم بحرب * يشيب لهولها رأس الغلام
وإن أهلك فقد قدمت أمرا * أفوز بفلجه يوم الخصام
وقد زادوا علي وأوعدوني * ومن ذا مات من خوف الكلام (1)
(432)
رجل ناسك مع معاوية
لما غلب أهل الشام على الفرات فرحوا بالغلبة، وقال معاوية: يا أهل
الشام هذا والله أول الظفر! لا سقاني الله ولا أبا سفيان إن شربوا منه أبدا حتى

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 3 ص 116 - 117 عن كتاب صفين، وسيأتي برواية أخرى ص 368
218

يقتلوا بأجمعهم عليه، وتباشر أهل الشام.
فقام إلى معاوية رجل من أهل الشام همداني ناسك يتأله ويكثر العبادة
يعرف بمعرى بن أقبل، وكان صديقا لعمرو بن العاص وأخا له، فقال: يا
معاوية سبحان الله! لأن سبقتم القوم إلى الفرات فغلبتموهم عليه تمنعونهم
الماء، أما والله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه! أليس أعظم ما تنالون من القوم أن
تمنعوهم الفرات؟ فينزلوا على فرضة أخرى ويجازوكم بما صنعتم، أما تعلمون أن
فيهم العبد والأمة والأجير والضعيف ومن لا ذنب له؟ هذا والله أول الجور! لقد
شجعت الجبان، ونصرت المرتاب، وحملت من لا يريد قتالك على كتفيك.
فأغلظ له معاوية، وقال لعمرو: اكفني صديقك، فأتاه عمرو فأغلظ له.
فقال الهمداني في ذلك شعرا:
لعمر أبي معاوية بن حرب * وعمرو ما لدائهما دواء
سوى طعن يحار العقل فيه * وضرب حين تختلط الدماء
ولست بتابع دين ابن هند * طوال الدهر ما أرسى حراء
لقد ذهب العتاب فلا عتاب * وقد ذهب الولاء فلا ولاء
وقولي في حوادث كل خطب * على عمرو وصاحبه العفاء
ألا لله درك يا بن هند * لقد برح الخفاء فلا خفاء
أتحمون الفرات على رجال * وفي أيديهم الأسل الظماء
وفي الأعناق أسياف حداد * كأن القوم عندهم نساء
أترجو أن يجاوركم علي * بلا ماء وللأحزاب ماء
دعاهم دعوة فأجاب قوم * كجرب الإبل خالطها الهناء
قال: ثم سار الهمداني في سواد الليل حتى لحق بعلي عليه السلام (1).

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 3 ص 320 - 321. ووقعة وصفين لنصر: ص 163 - 164
219

(433)
محمد بن أبي بكر وعمرو بن العاص ومعاوية
قال: (في مقتل محمد بن أبي بكر رحمه الله تعالى): إن عمرو بن العاص لما
قتل كنانة أقبل نحو محمد بن أبي بكر، وقد تفرق عنه أصحابه، فخرج محمد
متمهلا، فمضى في طريقه حتى انتهى إلى خربة فآوى إليها.
وجاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط وخرج معاوية بن حديج في
طلب محمد حتى انتهى إلى علوج على قارعة الطريق فسألهم: هل مر بهم أحد
ينكرونه؟ قالوا: لا. قال أحدهم: إني دخلت تلك الخربة، فإذا أنا برجل
جالس، قال ابن حديج: هو هو ورب الكعبة! فانطلقوا يركضون حتى دخلوا
على محمد، فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشا فأقبلوا به نحو الفسطاط.
قال: ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص وكان في
جنده، فقال: لا والله! لا يقتل أخي صبرا، ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه،
فأرسل عمرو بن العاص: أن ائتني بمحمد، فقال معاوية: أقتلتم كنانة بن بشر
ابن عمي وأخلي عن محمد هيهات! " أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة
في الزبر ".
فقال محمد: اسقوني قطرة من الماء!
فقال له معاوية بن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدا، إنكم منعتم
عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائما محرما، فسقاه الله من الرحيق المختوم،
والله لأقتلنك يا ابن أبي بكر وأنت ظمآن ويسقيك الله من الحميم والغسلين!
فقال له محمد: يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك اليوم إليك ولا إلى
عثمان، إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه وهم أنت وقرناؤك
ومن تولاك وتوليته، والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني ما بلغتم.
فقال له معاوية بن حديج: أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف هذا
220

الحمار الميت ثم أحرقه عليك بالنار.
قال: إن فعلتم ذاك بي فطالما فعلتم ذاك بأولياء الله، وأيم الله! إني لأرجو
أن يجعل الله هذه النار التي تخوفني بها بردا وسلاما، كما جعلها الله على إبراهيم
خليله، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه، وإني
لأرجو أن يحرقك الله وإمامك معاوية وهذا - أشار إلى عمرو بن العاص - بنار
تلظى كلما خبت زادها الله عليكم سعيرا.
فقال له معاوية بن حديج: إني لا أقتلك ظلما، وإنما أقتلك بعثمان بن
عفان.
قال محمد: وما أنت وعثمان؟ رجل عمل بالجور وبدل حكم الله والقرآن
وقد قال الله عز وجل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "
" فأولئك هم الظالمون " " فأولئك هم الفاسقون " فنقمنا عليه أشياء عملها،
فأردنا أن يخلع من الخلافة علنا فلم يفعل، فقتله من قتله من الناس.
فغضب معاوية بن حديج فقدمه فضرب عنقه، ثم ألقاه في جوف حمار
وأحرقه بالنار (1).
(434)
الأعرابي والحجاج
نزل الحجاج في يوم حار على بعض المياه ودعا بالغداء، وقال لحاجبه: انظر
من يتغذى معي، واجهد ألا يكون من أهل الدنيا، فرأى الحاجب أعرابيا نائما
عليه شملة من شعر، فضربه برجله وقال: أجب الأمير، فأتاه، فدعاه الحجاج
إلى الأكل.

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 6 ص 86 - 88، وراجع قاموس الرجال: ج 6 ص 256 و ج 7
ص 498، و راجع تفصيله في الغدير: ج 11 ص 64 وما بعدها
221

فقال: دعاني من هو خير من الأمير، فأجبته.
قال: من هو؟
قال: الله دعاني إلى الصوم فصمت.
قال: أفي هذا اليوم الحار؟
قال: نار جهنم أشد حرا.
قال: أفطر وتصوم غدا.
قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد!
قال: ليس ذلك إلي.
قال: فكيف أدع عاجلا لآجل لا تقدر عليه!
قال: إنه طعام طيب.
قال: إنك لم تطيبه ولا الخباز، ولكن العافية طيبته لك (1).
(435)
جعفر بن أبي طالب وعمرو عند النجاشي
عن أم سلمة بنت أبي أمية المخزومية زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله
قالت:
لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا
وعبدنا الله، لا نؤذى كما كنا نؤذى بمكة، ولا نسمع شيئا نكرهه.
فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي في أمرنا رجلين
منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان
من أعجب ما يأتيه منه الأدم، فجمعوا أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 6 ص 235، وبهج الصباغة: ج 11 ص 23 عن البيان للجاحظ،
والعقد الفريد: ج 3 ص 444
222

بطريقا إلا أهدوا إليه هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة
المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما:
إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم.
ثم قدما إلى النجاشي، ونحن عنده في خير دار عند خير جار، فلم يبق من
بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته، قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا للبطارقة:
إنه قد فر إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في
دينكم، وجاؤوا بدين لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك أشراف قومهم
لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ولا
يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليه، فقالوا لهما: نعم.
ثم إنهما قربا هدايا الملك إليه فقبلها منهم، ثم كلماه فقالا له:
أيها الملك قد فر إلى بلادك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم
يدخلوا في دينك، جاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا فيهم
إليك أشراف قومنا من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم عليهم فهم أعلى
بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاينوه منهم.
قالت أم سلمة:
ولم يكن شئ أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن
يسمع النجاشي كلامهم.
فقالت بطارقة الملك وخواصه حوله: صدقا أيها الملك! قومهم أعلى بهم
عينا وأعلم بما عابوا عليهم فليسلمهم الملك إليهما ليرداهم إلى بلادهم وقومهم،
فغضب الملك، وقال: لا ها الله! إذا لا أسلمهم إليهما، ولا أخفر قوما جاوروني
ونزلوا بلادي واختاروني على سواي، حتى أدعوهم وأسألهم عما يقول هذان
في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا
على غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني
223

قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فدعاهم، فلما
جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟
قالوا: والله ما علمناه وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وآله كائنا [في ذلك] ما
هو كائن.
فلما جاءوه - وقد دعا النجاشي أساقفته - فنشروا مصاحفهم حوله سألهم
فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا في
دين أحد من هذه الملل؟
قالت أم سلمة: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له:
أيها الملك! إنا كنا قوما في جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي
الفواحش ونقطع الأرحام ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على
ذلك حتى بعث الله عز وجل علينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته
وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا عليه نحن وآباؤنا من دونه
من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن
التجاور والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن سائر الفواحش وقول الزور
وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا،
وبالصلاة وبالزكاة والصيام (قالت: فعدد عليه أمور الإسلام كلها) فصدقناه
وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا
وحرمنا ما حرم علينا واحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن
ديننا ليردونا إلى عبادة الأصنام والأوثان عن عبادة الله، وأن نستحل ما كنا
نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين
ديننا، خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك، ورجونا
ألا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: فهل معك مما جاء به صاحبكم عن الله شئ؟ فقال
224

جعفر: نعم، فقال: اقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من " كهيعص " فبكى حتى
اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلوا لحاهم.
ثم قال النجاشي: والله إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة
واحدة والله لا أسلمكم إليهم.
قالت أم سلمة:
فلما خرج القوم من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لأعيبهم غدا عنده
بما يستأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى
الرجلين -: لا تفعل فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفوا قال: والله لأخبرنه
غدا إنهم يقولون في عيسى بن مريم: إنه عبد.
ثم غدا عليه من الغد فقال: أيها الملك! إن هؤلاء يقولون في عيسى بن
مريم قولا عظيما! فأرسل إليهم فسألهم عما يقولون فيه، فأرسل إليهم
قالت أم سلمة:
فما نزل بنا مثلها، واجتمع المسلمون وقال بعضهم لبعض: ما تقولون في
عيسى إذا سألكم عنه؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه والله ما قال
عز وجل وما جاء به نبينا عليه السلام كائنا في ذلك ما هو كائن.
فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر نقول:
إنه عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
قالت: فضرب النجاشي يديه على الأرض، وأخذ منها عودا وقال: ما عدا
عيسى بن مريم ما قال هذا العود.
قالت: فقد كانت بطارقته تفاخرت حوله حين قال جعفر ما قال، فقال
لهم النجاشي: وإن تفاخرتم!
ثم قال للمسلمين: إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - أي آمنون - من سبكم غرم،
ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبرا ذهبا وأني آذيت
225

رجلا منكم - والدبر بلسان الحبشة الجبل - ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي
فيها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حتى ردني إلى ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما
أطاع الناس في أفأطيعهم فيه؟ الخ (1).
(436)
عبد الله بن عباس وبسر بن أرطاة
روى أبو الحسن المدائني، قال: اجتمع عبد الله بن عباس وبسر بن أرطاة
يوما عند معاوية - بعد صلح الحسن عليه السلام - فقال له ابن عباس: أنت
أمرت اللعين السئ الفدم أن يقتل ابني؟!
فقال: ما أمرته بذلك ولوددت أنه لم يكن قتلهما.
فغضب بسر ونزع سيفه فألقاه، وقال لمعاوية: اقبض سيفك، قلدتنيه
وأمرتني أن أخبط به الناس ففعلت، حتى إذا بلغت ما أردت قلت: لم أهو ولم
آمر!
فقال: خذ سيفك إليك، فلعمري إنك ضعيف مائق حين تلقي السيف
بين يدي رجل من بني عبد مناف قد قتلت أمس ابنيه.
فقال له عبيد الله: أتحسبني يا معاوية قاتلا بسرا بأحد ابني؟ هو أحقر وألام
من ذلك! ولكني والله لا أرى لي مقنعا ولا أدرك ثارا إلا أن أصيب بهما يزيد
وعبد الله!
فتبسم معاوية وقال: وما ذنب معاوية وابني معاوية؟ والله ما علمت ولا
أمرت ولا رضيت ولا هويت! واحتملها منه لشرفه وسؤدده (2).

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 6 ص 307، وراجع قاموس الرجال: ج 2 ص 371.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 2 ص 17 - 18 وقد مر برواية أخرى
226

(437)
الأشتر وسعيد
قال:... ثم اتفق أن الوليد بن عقبة لما كان عامله - أي عثمان - على
الكوفة وشهد عليه بشرب الخمر صرفه وولى سعيد بن العاص مكانه، فقدم
سعيد الكوفة واستخلص من أهلها قوما يسمرون عنده.
فقال سعيد يوما: إن السواد بستان لقريش وبني أمية.
فقال الأشتر النخعي: وتزعم أن السواد الذي أفاءه الله على المسلمين
بأسيافنا بستان لك ولقومك؟
فقال صاحب شرطته: أترد على الأمير مقالته وأغلظ له.
فقال الأشتر لمن كان حوله من النخع وغيرهم من أشراف الكوفة: ألا
تسمعون؟ فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطؤوه وطئ عنيفا وجروا برجله، فغلظ ذلك
على سعيد وأبعد سماره فلم يأذن بعد لهم، فجعلوا يشتمون سعيدا في مجالسهم
ثم تعدوا ذلك إلى شتم عثمان، واجتمع إليهم ناس كثير حتى غلظ أمرهم،
فكتب سعيد إلى عثمان في أمرهم.
فكتب إليه: أن يسيرهم إلى الشام لئلا يفسدوا أهل الكوفة، وكتب إلى
معاوية - وهو والي الشام - أن نفرا من أهل الكوفة قد هموا بإثارة الفتنة وقد
سيرتهم إليك، فانههم، فإن آنست منهم رشدا، فأحسن إليهم وارددهم إلى
بلادهم.
فلما قدموا على معاوية - وكانوا: الأشتر مالك بن كعب الأرحبي، والأسود
ابن يزيد النخعي، وعلقمة بن قيس النخعي، وصعصعة بن صوحان العبدي،
وغيرهم - جمعهم يوما وقال لهم:
إنكم قوم من العرب ذوو أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفا،
وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم، وقد بلغني أنكم ذممتم قريشا ونقمتم على الولاة
227

فيها، ولولا قريش لكنتم أذلة! إن أئمتكم لكم جنة، فلا تفرقوا عن جنتكم،
إن أئمتكم ليصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم العقاب، والله لتنتهن أو
ليبتلينكم الله بمن يسومكم الخسف ولا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون
شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم.
فقال له صعصعة بن صوحان: أما قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا
أمنعها في الجاهلية، وإن غيرها من العرب لأكثر منها كان وأمنع.
فقال معاوية: إنك لخطيب القوم ولا أرى لك عقلا! وقد عرفتكم الآن
وعلمت أن الذي أغراكم قلة العقول، أعظم عليكم أمر الإسلام فتذكرني
الجاهلية، أخزى الله قوما عظموا أمركم! افقهوا عني ولا أظنكم تفقهون! إن
قريشا لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا بالله وحده، لم تكن بأكثر العرب ولا
أشدها، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا وأمحضهم أنسابا وأكملهم مروءة ولم
يمتنعوا في الجاهلية - والناس تأكل بعضهم بعضا - إلا بالله، فبوأهم حرما آمنا
يتخطف الناس من حولهم، هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا إلا وقد
أصابهم الدهر في بلدهم وحرمهم إلا ما كان من قريش، فإنه لم يردهم أحد
من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل، حتى أراد الله تعالى أن يستنقذ
من أكرمه باتباع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير
خلقه، ثم ارتضى له أصحابا وكان خيارهم قريشا، ثم بنى هذا الملك عليهم
وجعل هذه الخلافة فيهم، فلا يصلح الأمر إلا بهم، وقد كان الله يحوطهم في
الجاهلية وهم على كفرهم، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه؟!
أف لك ولأصحابك! أما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر القرى، أنتنها
نبتا وأعمقها واديا، وألأمها جيرانا، وأعرفها بالشر، لم يسكنها شريف قط ولا
وضيع إلا سب بها، نزاع الأمم وعبيد فارس، وأنت شر قومك، أحين أبرزك
الإسلام وخلطك بالناس أقبلت تبغي دين الله عوجا وتنزع إلى الغواية؟ إنه
228

لن يضر ذلك قريشا ولا يضعهم ولا يمنعهم من تأدية ما عليهم، إن الشيطان
عنكم لغير غافل، قد عرفكم بالشر فأغراكم بالناس، وهو صارعكم وإنكم
لا تدركون بالشر أمرا إلا فتح عليكم شر منه وأخزى، قد أذنت لكم فاذهبوا
حيث شئتم، لا ينفع الله بكم أحدا أبدا ولا يضره، ولستم برجال منفعة
ولا مضرة، فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتهم ولا تبطرنكم النعمة، فإن البطر
لا يجر خيرا، اذهبوا حيث شئتم! فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم.
وكتب إلى عثمان:
إنه قدم علي قوم ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون الله
بشئ ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتنة والله مبتليهم ثم فاضحهم، وليسوا
بالذين نخاف نكايتهم، وليسوا الأكثر ممن له شغب ونكير، ثم أخرجهم من
الشام (1).
(438)
ابن عباس والزبير
روى الزبير بن بكار في الموفقيات: قال: لما سار علي عليه السلام إلى
البصرة، بعث ابن عباس، فقال: إئت الزبير فاقرء عليه السلام، وقل له: يا أبا
عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة؟ فقال ابن عباس: أفلا آتي
طلحة؟ قال: لا إذا تجده عاقصا قرنه في حزن يقول: هذا سهل.
قال: فأتيت الزبير فوجدته في بيت يتروح في يوم حار وعبد الله ابنه عنده،
فقال: مرحبا بك يا ابن لبابة! أجئت زائرا أم سفيرا؟

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 2 ص 129 - 131، والغدير: ج 9 ص 33.
أقول هذا ما نقله المدائني، وأما ما نقله ابن أعثم فقد مر ص 148، وما نقله المسعودي مر ج 1 ص 253،
وما نقله ابن أبي الحديد مر ص 265
229

قلت: كلا! إن ابن خالك يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا أبا عبد الله
كيف عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة؟
فقال:
علقتهم أني خلقت عصبة * قتادة تعلقت بنشبة
لن أدعهم حتى أألف بينهم
قال: فأردت منه جوابا غير ذلك، فقال لي ابنه عبد الله: قل له: بيننا و
بينك دم خليفة ووصية خليفة، واجتماع اثنين وانفراد واحد، وأم مبرورة
ومشاورة العشيرة.
قال: فعلمت أنه ليس وراء هذا الكلام إلا الحرب، فرجعت إلى علي عليه
السلام فأخبرته (1).
(439)
الأشتر مع الخوارج
[عن رجل من النخع] قال: سأل مصعب إبراهيم بن الأشتر عن الحال (في
الحكمين) كيف كانت؟ فقال: كنت عند علي عليه السلام حين بعث إلى
الأشتر ليأتيه، وقد كان الأشتر أشرف على معسكر معاوية ليدخله، فأرسل إليه
علي عليه السلام يزيد بن هانئ: أن ائتني، فأتاه فأبلغه.
فقال الأشتر: ائته فقل له: ليس هذه بالساعة التي ينبغي أن تزيلني عن
موقفي! إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني.
فرجع يزيد بن هانئ إلى علي عليه السلام فأخبره، فما هو إلا أن انتهى
إلينا حتى ارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر، وظهرت دلائل الفتح

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 2 ص 169. وبهج الصباغة: ج 6 ص 341. والعقد الفريد: ج 4
ص 314، ولكنه اختصر ونسب الكلام إلى الزبير
230

والنصر لأهل العراق، ودلائل الخذلان والادبار على أهل الشام.
فقال القوم لعلي: والله ما نراك أمرته إلا بالقتال.
قال: أرأيتموني ساررت رسولي إليه؟ أليس إنما كلمته على رؤوسكم
علانية وأنتم تسمعون؟
قالوا: فابعث إليه فليأتك، وإلا فوالله اعتزلناك! فقال: ويحك يا يزيد!
قل له: أقبل إلي، فإن الفتنة قد وقعت!
فأتاه فأخبره، فقال الأشتر: أبرفع هذه المصاحف؟ قال: نعم، قال: أما
والله! لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع خلافا وفرقة، إنها مشورة ابن النابغة!
ثم قال ليزيد بن هانئ: ويحك! ألا ترى إلى الفتح! ألا ترى إلى ما يلقون؟ ألا
ترى إلى الذي يصنع الله لنا؟ أينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه؟ فقال له
يزيد أتحب أنك ظفرت هاهنا وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه
ويسلم إلى عدوه؟ قال: سبحان الله! لا والله لا أحب ذلك، قال: فإنهم قد
قالوا له وحلفوا عليه: لترسلن إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا
عثمان أو لنسلمنك إلى عدوك.
فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم فصاح:
يا أهل الذل والوهن! أحين علوتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا
المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟ وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها وتركوا سنة
من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم أمهلوني فواقا (1) فإني قد أحسست بالفتح. قالوا:
لا نمهلك، قال: فأمهلوني عدوة الفرس فإني قد طمعت في النصر. قالوا: إذن
ندخل معك في خطيئتك!
قال: فحدثوني عنكم وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم متى كنتم محقين؟

(1) الفواق: ما بين الحلبتين، يقال: انتظرتك فواق ناقة
231

أحين كنتم أهل الشام؟ فأنتم الآن حين أمسكتم عن قتالهم مبطلون، أم
أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقون، فقتلاكم إذن - الذين لا تنكرون
فضلهم وأنهم خير منكم - في النار!
قالوا: دعنا منك يا أشتر! قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله، إنا لسنا
نطيعك فاجتنبنا.
قال: خدعتم والله فانخدعتم! ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب
الجباه السود، كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله، فلا أرى
فراركم إلا إلى الدنيا من الموت، ألا فقبحا! يا أشباه النيب الجلالة، ما أنتم
برأيين بعدها عزا أبدا فابعدوا كما بعد القوم الظالمون.
فسبوه وسبهم وضربوا بسياطهم وجه دابته وضرب بسوطه وجوه دوابهم،
وصاح بهم علي، فكفوا... الخ (1).
(440)
شريح بن هانئ وأبو موسى
لما أراد أبو موسى المسير (إلى الحكمية) قام إليه شريح بن هانئ فأخذ بيده،
وقال: يا أبا موسى إنك نصبت لأمر عظيم لا يجبر صدعه ولا تستقال فتنته، ومهما
تقل من شئ عليك أو لك يثبت حقه وتر صحته وإن كان باطلا، وإنه لا
بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية، ولا بأس على أهل الشام إن ملكهم
علي، وقد كانت منك تثبيطة أيام الكوفة والجمل، فإن تشفعها بمثلها يكن
الظن بك يقينا والرجاء منك يأسا، ثم قال له شريح في ذلك شعرا:
أبا موسى رميت بشر خصم * فلا تضع العراق فدتك نفسي
واعط الحق شامهم وخذه * فإن اليوم في مهل كأمس

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 2 ص 217 - 219، وصفين لنصر: ص 491
232

وإن غدا يجئ بما عليه * كذاك الدهر من سعد ونحس
ولا يخدعك عمرو إن عمروا * عدو الله مطلع كل شمس
له خدع يحار العقل منها * مموهة مزخرفة بلبس
فلا تجعل معاوية بن حرب * كشيخ في الحوادث غير نكس
هداه الله للإسلام فردا * سوى عرس النبي وأي عرس
فقال أبو موسى: ما ينبغي لقوم اتهموني أن يرسلوني لأدفع عنهم باطلا أو أجر
إليهم حقا (1).
(441)
عبد الله بن عباس وأبو موسى
قال لما أجمع أهل العراق على طلب أبي موسى وأحضروه للتحكيم على كره
من علي عليه السلام أتاه عبد الله بن العباس - وعنده وجوه الناس وأشرافهم -
فقال له:
يا أبا موسى إن الناس لم يرضوا بك ولم يجتمعوا عليك لفضل لا تشارك
فيه، وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار والمتقدمين قبلك! ولكن أهل
العراق أبوا إلا أن يكون الحكم يمانيا، ورأوا أن معظم أهل الشام يمان، وأيم
الله! إني لأظن ذلك شرا لك ولنا، فإنه قد ضم إليك داهية العرب.
وليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة، فإن تقذف بحقك على باطله
تدرك حاجتك منه، وإن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك، واعلم يا
أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه رأس الأحزاب، وأنه يدعي الخلافة
من غير مشورة ولا بيعة، فإن زعم لك أن عمر وعثمان استعملاه فلقد صدق،

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 2 ص 245 عن كتاب نصر: ص 534، والغدير: ج 10 ص 337
عنهما، وعن الإمامة والسياسة: ج 1 ص 99 و ج 1 ص 115 في نسخة عندي
233

استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي ويوجره ما يكره،
ثم استعمله عثمان برأي عمر، وما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة!
واعلم أن لعمر مع كل شئ يسرك خبيئا يسوؤك، ومهما نسيت فلا تنس أن
عليا بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وأنها بيعة هدى، وأنه لم
يقاتل إلا العاصين والناكثين.
فقال أبو موسى: رحمك الله! والله مالي إمام غير علي، وإني لواقف عندما
رأى، وإن حق الله أحب إلي من رضا معاوية وأهل الشام، وما أنت وأنا إلا
بالله (1).
(442)
الأحنف وأبو موسى
كان آخر من ودع أبا موسى الأحنف بن قيس، أخذ بيده ثم قال له:
يا أبا موسى اعرف خطب هذا الأمر، واعلم أن له ما بعده، وأنك إن
أضعت العراق فلا عراق، اتق الله! فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك، وإذا
لقيت غدا عمروا فلا تبدأه بالسلام، فإنها وإن كانت سنة إلا أنه ليس من
أهلها ولا تعطه يدك فإنها أمانة، وإياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها
خدعة، ولا تلقه إلا وحده، واحذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع تخبأ لك فيه
الرجال والشهود ثم أراد أن يثور ما في نفسه لعلي، فقال له:
فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي فليختر أهل العراق من قريش
الشام من شاءوا، أو فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاءوا.
فقال أبو موسى: قد سمعت ما قلت ولم ينكر ما قاله من زوال الأمر عن
علي عليه السلام.

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 2 ص 246 عن المدائني في كتاب صفين، والغدير: ج 10 ص 337
عنه
234

فرجع الأحنف إلى علي عليه السلام فقال له: أخرج أبو موسى والله
زبدة سقائه في أول مخضه، لا أرانا إلا بعثنا رجلا لا ينكر خلعك! فقال علي
والله غالب على أمره، قال: فمن ذلك نجزع يا أمير المؤمنين، وفشا أمر الأحنف
وأبي موسى في الناس، فجهز الشني راكبا فتبع به أبا موسى بهذه الأبيات:
أبا موسى جزاك الله خيرا * عراقك إن حظك في العراق
وأن الشام قد نصبوا إماما * من الأحزاب معروف النفاق
وإنا لا نزال لهم عدوا * أبا موسى إلى يوم التلاق
فلا تجعل معاوية بن حرب * إماما ما مشت قدم بساق
ولا يخدعك عمرو إن عمروا * أبا موسى تحاماه الرواقي
فكن منه على حذر وأنهج * طريقك لا تزل بك المراقي
ستلقاه أبا موسى مليا * بمر القول من حق الخناق
ولا تحكم بأن سوى علي * إماما أن هذا الشر باق (1)
(443)
ابن عباس وعبد الرحمن بن خالد
قال عبد الرحمان بن خالد بن الوليد: حضرت الحكومة - في دومة الجندل -
فلما كان يوم الفصل جاء عبد الله بن عباس فقعد إلى جانب أبي موسى وقد
نشر أذنيه حتى كاد أن ينطق بهما، فعلمت أن الأمر لا يتم لنا ما دام هناك،
وأنه سيفسد على عمرو حيلته، فأعملت المكيدة في أمره، فجئت حتى قعدت
عنده، وقد شرع عمرو وأبو موسى في الكلام، فكلمت ابن عباس كلمة
استطعمته جوابها فلم يجب، فكلمته أخرى فلم يجب، فكلمته ثالثة فقال:
إني لفي شغل عن حوارك الآن!

(1) نقلناه من شرح ابن أبي الحديد وأخذنا من حوله " فجهز الشني " إلى آخره من صفين نصر
235

فجبهته وقلت: با بني هاشم لا تتركون بأوكم وكبركم أبدا! أما والله! لولا
مكان النبوة لكان لي ولك شأن، قال: فحمى وغضب واضطرب فكره ورأيه،
وأسمعني كلاما يسوء سماعه، فأعرضت عنه وقمت وقعدت إلى جانب عمرو بن
العاص، فقلت: قد كفيتك التقوالة، إني قد شغلت باله بما دار بيني وبينه
فاحكم أنت أمرك.
قال: فذهل، والله ابن عباس عن الكلام الدائر بين الرجلين حتى قام
أبو موسى، فخلع عليا (1).
(444)
أحمد بن جعفر الواسطي مع ابن أبي الحديد
(ذكر ابن أبي الحديد ما ذكره أبو حيان التوحيدي من تفضيل جعفر بن
أبي طالب على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ثم نقل ما قاله
النقيب في رده، ثم قال:)
فلما خرجت من عند النقيب أبي جعفر بحثت في ذلك اليوم في هذا
الموضوع مع أحمد بن جعفر الواسطي - رحمه الله - وكان ذا فضل وعقل: وكان
إمامي المذهب، فقال لي: صدق النقيب فيما قال.
ألست تعلم أن أصحابكم المعتزلة على قولين؟ أحدهما: إن أكثر المسلمين
ثوابا أبو بكر، والآخر: أن أكثرهم ثوابا علي، وأصحابنا يقولون: إن أكثر
المسلمين ثوابا علي وكذلك الزيدية، وأما الأشعرية والكرامية وأهل الحديث
فيقولون: أكثر المسلمين ثوابا أبو بكر، فقد خلص من مجموع هذه الأقوال: أن
ثواب حمزة وجعفر دون ثواب علي عليه السلام.
أما على قول الإمامية والزيدية والبغداديين كافة وكثير من البصريين من

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 2 ص 261 عن أمالي الأنباري
236

المعتزلة فالأمر ظاهر، وأما الباقون فعندهم أن أكثر المسلمين ثوابا أبو بكر ثم
عمر ثم عثمان ثم علي، ولم يذهب ذاهب إلى أن ثواب حمزة وجعفر أكثر من
ثواب علي من جميع الفرق، فقد ثبت الإجماع الذي ذكره النقيب إذا فسرنا
الأفضلية بالأكثرية ثوابا، وهو التفسير الذي يقع الحجاج والجدال في إثباته
لأحد الرجلين، وأما إذا فسرنا الأفضلية بزيادة المناقب والخصائص وكثرة
النصوص الدالة على التعظيم فمعلوم أن أحدا من الناس لا يقارب عليا عليه
السلام في ذلك، لا جعفر ولا حمزة ولا غيرهما (1).
(445)
ابن عباس وعمر
قال (عمر بن الخطاب) لابن عباس: يا عبد الله أنتم أهل رسول الله وآله
وبنو عمه، فما تقول منع قومكم منكم؟ قال: لا أدري علتها، والله ما أضمرنا
لهم إلا خيرا، قال: اللهم غفرا! إن قومكم كرهوا أن يجتمع لكم النبوة
والخلافة فتذهبوا في السماء شمخا وبذخا، ولعلكم تقولون: إن أبا بكر أول من
أخركم، أما إنه لم يقصد ذلك، ولكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم مما فعل،
ولولا رأي أبي بكر في لجعل لكم في الأمر نصيبا، ولو فعل ما هنأكم مع
قومكم، إنهم ينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره (2).
(446)
عائشة وحفصة وأم كلثوم
قال: ولما نزل علي عليه السلام ذي قار كتبت عائشة إلى حفصة بنت
عمر: أما بعد، فإني أخبرك أن عليا قد نزل ذي قار وأقام بها مرعوبا خائفا لما

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 22 ص 119.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 12 ص 9
237

بلغه من عدتنا وجماعتنا، فهو بمنزلة الأشقر إن تقدم عقر وإن تأخر نحر.
فدعت حفصة جواري لها يتغنين ويضربن بالدفوف، فأمرتهن أن يقلن في
غنائهن: ما الخبر ما الخبر علي في السفر كالفرس الأشقر إن تقدم عقر وإن تأخر نحر.
وجعلت بنات الطلقاء يدخلن على حفصة ويجتمعن لسماع ذلك الغناء.
فبلغ أم كلثوم بنت علي - عليه السلام - فلبست جلابيبها ودخلت عليهن في
نسوة متنكرات ثم أسفرت عن وجهها! فلما عرفتها حفصة خجلت
واسترجعت، فقالت أم كلثوم: لئن تظاهرتما عليه منذ اليوم لقد تظاهرتما على
أخيه من قبل، فأنزل الله فيكما ما أنزل.
فقالت حفصة: كفي رحمك الله، وأمرت بالكتاب فمزق واستغفرت
الله (1).
(447)
الحسن عليه السلام وعمار مع أبي موسى
قال: فلما سمع أبو موسى خطبة الحسن وعمار، قام فصعد المنبر وقال:
الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد فجمعنا بعد الفرقة، وجعلنا إخوانا متحابين بعد
العداوة، وحرم علينا دماءنا وأموالنا، قال الله سبحانه: " ولا تأكلوا أموالكم
بينكم بالباطل " وقال تعالى: " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا
فيها " فاتقوا الله عباد الله! وضعوا أسلحتكم وكفوا عن قتال إخوانكم.
أما بعد يا أهل الكوفة، إن تطيعوا الله باديا وتطيعوني ثانيا تكونوا جرثومة
من جراثيم العرب، يأوي إليكم المضطر ويأمن فيكم الخائف، إن عليا إنما
يستنفركم لجهاد أمكم عائشة وطلحة والزبير حواري رسول الله ومن معهم من

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 14 ص 13، وقاموس الرجال: ج 10 ص 472 وبهج الصباغة: ج 11
ص 104 و ج 6 ص 392
238

المسلمين، وأنا أعلم بهذه الفتن، إنها إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت أسفرت،
إني أخاف عليكم أن يلتقي غاران منكم فيقتتلا ثم يتركا كالأحلاس الملقاة
بنجوة من الأرض، ثم يبقى رجرجة من الناس لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر.
إنها قد جاءتكم فتنة كافرة، لا يدرى من أين تؤتى، تترك الحليم حيران،
كأني أسمع رسول الله صلى الله عليه وآله بالأمس يذكر الفتن، فيقول:
" أنت فيها نائما خير منك قاعدا، وأنت فيها جالسا خير منك قائما، وأنت فيها
قائما خير منك ساعيا " فثلموا سيوفكم، وقصفوا رماحكم وانصلوا سهامكم،
وقطعوا أوتاركم، وخلوا قريشا ترتق فتقها وترأب صدعها، فإن فعلت فلأنفسها
ما فعلت، وإن أبت فعلى أنفسها ما جنت سمنها في أديمها، استنصحوني ولا
تستغشوني، وأطيعوني ولا تعصوني، يتبين لكم رشدكم، ويصلى هذه الفتنة من
جناها.
فقام إليه عمار بن ياسر فقال: أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه
وآله يقول ذلك؟
قال: نعم هذه يدي بما قلت.
فقال: إن كنت صادقا فإنما عناك بذلك وحدك واتخذ عليك الحجة
فالزم بيتك ولا تدخلن في الفتنة، أما أني أشهد أن رسول الله صلى الله عليه
وآله أمر عليا بقتال الناكثين وسمى له فيهم من سمى، وأمره بقتال
القاسطين، وإن شئت لأقيمن لك شهودا يشهدون أن رسول الله صلى الله
عليه وآله إنما نهاك وحدك وحذرك من الدخول في الفتنة، ثم قال له: أعطني
يدك على ما سمعت، فمد إليه يده، فقال له عمار: غلب الله من غالبه
وجاهده، ثم جذبه، فنزل عن المنبر (1).

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 14 ص 14 - 15
239

(448)
الحسن عليه السلام وعمار مع أبي موسى
قال أبو جعفر - رحمه الله -: فرجع ابن عباس (من الكوفة) إلى علي عليه
السلام فأخبره، فدعا الحسن ابنه عليه السلام وعمار بن ياسر وأرسلهما إلى
الكوفة، فلما قدماها كان أول من أتاهما مسروق بن الأجدع، فسلم عليهما
وأقبل على عمار، فقال: يا أبا اليقظان علام قتلتم أمير المؤمنين؟ قال: على شتم
أعراضنا وضرب أبشارنا، قال: فوالله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم
لكان خيرا للصابرين.
ثم خرج أبو موسى فلقي الحسن عليه السلام فضمه إليه، وقال لعمار: يا
أبا اليقظان أغدوت فيمن غدا على أمير المؤمنين وأحللت نفسك مع الفجار؟
قال: لم أفعل ولم تسوءني.
فقطع عليهما الحسن، وقال لأبي موسى: يا أبا موسى لم تثبط الناس عنا؟
فوالله ما أردنا إلا الاصلاح، وما مثل أمير المؤمنين يخاف على شئ، قال
أبو موسى: صدقت بأبي وأمي ولكن المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله يقول: " ستكون فتنة... " وذكر تمام الحديث.
فغضب عمار وساءه ذلك، وقال: أيها الناس إنما قال رسول الله صلى
الله عليه وآله ذلك له خاصه.
وقام رجل من بني تميم، فقال لعمار: اسكت أيها العبد! أنت أمس مع
الغوغاء وتسافه أميرنا اليوم.
وثار زيد بن صوحان وطبقته فانتصروا لعمار، وجعل أبو موسى يكف
الناس ويردعهم عن الفتنة، ثم انطلق حتى صعد المنبر، وأقبل زيد بن صوحان
ومعه كتاب من عائشة إليه خاصة وكتاب منها إلى أهل الكوفة عامة تثبطهم
عن نصرة علي وتأمرهم بلزوم الأرض، وقال:
240

أيها الناس انظروا إلى هذه! أمرت أن تقر في بيتها وأمرنا نحن أن نقاتل
حتى لا تكون فتنة، فأمرتنا بما أمرت به، وركبت ما أمرنا به.
فقام إليه شبث بن ربعي، فقال له: وما أنت وذاك أيها العماني الأحمق!
سرقت أمس بجلولاء فقطعك الله وتسب أم المؤمنين.
فقام زيد وشال يده المقطوعة وأومأ بيده إلى أبي موسى وهو على المنبر وقال
له: يا عبد الله بن قيس أترد الفرات عن أمواجه، دع عنك ما لست تدركه، ثم
قرأ: " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا " الآيتين، ثم نادي: سيروا
إلى أمير المؤمنين وصراط سيد المرسلين وانفروا إليه أجمعين.
وقام الحسن بن علي عليه السلام فقال: أيها الناس! أجيبوا دعوة
إمامكم وسيروا إلى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لئن
يليه أولو النهى أمثل في العاجلة وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على
أمرنا، أصلحكم الله.
وقام عبد خير: فقال: يا أبا موسى أخبرني عن هذين الرجلين ألم يبايعا
عليا؟ قال: بلى، قال: أفأحدث علي حدثا يحل به نقض بيعته؟ قال: لا
أدري، قال: لا دريت ولا أتيت! إذا كنت لا تدري فنحن تاركوك حتى
تدري، أخبرني هل تعلم أحدا خارجا عن هذه الفرق الأربع: علي بظهر
الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة رابعة بالحجاز قعود
لا يجبى بهم فئ ولا يقاتل بهم عدو؟
فقال أبو موسى: أولئك خير الناس.
قال عبد خير: اسكت يا أبا موسى! فقد غلب غشك (1).

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 14 ص 19 - 20، وقاموس الرجال: ص 271 عن ذيل الطبري
وتاريخ الخطيب، وسيأتي برواية أخرى ص 362، والغدير: ج 9 ص 112
241

(449)
الأشتر وأبو موسى
قال أبو جعفر: وأتت الأخبار عليا عليه السلام باختلاف الناس
بالكوفة، فقال للأشتر: أنت شفعت في أبي موسى أن أقره على الكوفة، فاذهب
فأصلح ما أفسدت.
فقام الأشتر فشخص نحو الكوفة، فأقبل حتى دخلها والناس في المسجد
الأعظم، فجعل لا يمر بقبيلة إلا دعاهم، وقال: اتبعوني إلى القصر حتى وصل
القصر فاقتحمه وأبو موسى يومئذ يخطب الناس على المنبر ويثبطهم، وعمار يخاطبه
والحسن عليه السلام يقول: اعتزل عملنا وتنح عن منبرنا، لا أم لك!
قال أبو جعفر: فروى أبو مريم الثقفي، قال: والله إني لفي المسجد يومئذ، إذ
دخل علينا غلمان أبي موسى يشتدون ويبادرون أبا موسى: أيها الأمير هذا
الأشتر قد جاء فدخل القصر فضربنا وأخرجنا! فنزل أبو موسى من المنبر وجاء
حتى دخل القصر، فصاح به الأشتر: أخرج من قصرنا لا أم لك! أخرج الله
نفسك! فوالله إنك لمن المنفقين قديما. قال: أجلني هذه العشية، قال: قد
أجلتك ولا تبيتن في القصر [الليلة] ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى،
فمنعهم الأشتر، وقال: إني قد أخرجته وعزلته عنكم، فكف الناس حينئذ
عنه (1).
(450)
محمد بن معد مع ابن أبي الحديد
قال: حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه على رأي الشيعة
الإمامية - رحمه الله - في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة ثمان وستمائة، وقارئ
يقرأ عنده مغازي الواقدي، فقرأ:

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 14 ص 20 - 21، وبهج الصباغة: ج 6 ص 372 عن الطبري
242

حدثنا الواقدي، قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رياح، عن
أبي سفيان - مولى ابن أبي أحمد - قال: سمعت محمد بن مسلمة يقول: سمعت
أذناي وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم أحد - وقد
انكشف الناس إلى الجبل وهو يدعوهم وهم لا يلوون عليه - سمعته يقول: إلي
يا فلان، إلي يا فلان، أنا رسول الله، فما عرج عليه واحد منهما ومضيا.
فأشار ابن معد إلى: أن اسمع، فقلت: وما في هذا؟ قال: هذه كناية
عنهما، فقلت: ويجوز ألا يكون عنهما لعله عن غيرهما، قال: ليس في الصحابة من
يحتشم ويستحيا من ذكره بالفرار وما شابهه من العيب فيضطر القائل إلى
الكناية إلا هما. قلت له: هذا وهم، فقال: دعنا من جدلك ومنعك، ثم
حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما، وأنه لو كان غيرهما لذكره صريحا، وبان في
وجهه التنكر من مخالفتي له (1).
(451)
قيس ومعاوية
قال أبو الفرج: فلما تم الصلح بين الحسن ومعاوية أرسل إلى قيس بن سعد
يدعوه إلى البيعة فجاءه، وكان رجلا طوالا يركب الفرس المشرف ورجلاه
تخطان في الأرض وما في وجهه طاقة شعر وكان يسمى خصي الأنصار، فلما
أرادوا إدخاله إليه، قال: إني حلفت ألا ألقاه إلا وبيني وبينه الرمح أو
السيف، فأمر معاوية برمح وسيف فوضعا بينه وبينه ليبر يمينه.
قال أبو الفرج: وقد روي أن الحسن لما صالح معاوية اعتزل قيس بن
سعد في أربعة آلاف فارس: فأبي أن يبايع، فلما بايع الحسن أدخل قيس
ليبايع، فأقبل على الحسن، فقال: أفي حل أنا من بيعتك؟ قال: نعم، فألقى له

(1) شرح النهج لابن الحديد: ج 15 ص 23 - 24
243

كرسي وجلس معاوية على سرير والحسن معه، فقال: له معاوية: أتبايع يا
قيس؟ قال: نعم، ووضع يده على فخذه ولم يمدها إلى معاوية، فجاء معاوية من
سريره وأكب على قيس حتى مسح يده على يده وما رفع إليه قيس يده (1).
(452)
وليد بن جابر مع معاوية
روى أبو عبيد الله محمد بن موسى بن عمران المرزباني، قال: كان الوليد
ابن جابر بن ظالم الطائي ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله فأسلم
ثم صحب عليا عليه السلام وشهد معه صفين، وكان من رجاله المشهورين،
ثم وفد على معاوية في الاستقامة، وكان معاوية لا يثبته معرفة بعينه، فدخل
عليه في جملة الناس، فلما انتهى إليه استنسبه فانتسب له، فقال: أنت صاحب
ليلة الهرير؟ قال: نعم، قال: والله ما تخلو مسامعي من رجزك تلك الليلة وقد
علا صوتك أصوات الناس وأنت تقول:
شدوا فداء لكم أمي وأب * فإنما الأمر غدا لمن غلب
هذا ابن عم المصطفى والمنتجب * تنمه للعلياء سادات العرب
ليس بموصوم إذا نص النسب * أول من صلى وصام واقترب
قال: نعم أنا قائلها.
قال: فلما ذا قلتها؟
قال: لأنا كنا مع رجل لا نعلم خصلة توجب الخلافة ولا فضيلة تصير إلى
التقدمة إلا وهي مجموعة له، كان أول الناس سلما وأكثرهم علما وأرجحهم
حلما، فات الجياد فلا يشق غباره، يستولي على الأمة فلا يخاف عثاره، وأوضح
منهج الهدى فلا يبيد مناره، وسلك القصد فلا تدرس آثاره، فلما ابتلانا الله

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 16 ص 48
244

بافتقاده، وحول الأمر إلى من يشاء من عباده دخلنا في جملة المسلمين، فلم ننزع
يدا عن طاعة ولم نصدع صفاة جماعة، على أن لك منا ما ظهر، وقلوبنا
بيد الله، وهو أملك بها منك، فاقبل صفونا وأعرض عن كدرنا، ولا تتركوا من
الأحقاد، فإن النار تقدح بالزناد.
قال معاوية: وإنك لتهددني يا أخا طي بأوباش العراق! أهل النفاق
ومعدن الشقاق.
فقال: يا معاوية هم الذين أشرقوك بالريق، وحبسوك في المضيق، وذادوك
عن سفن الطريق، حتى لذت منهم بالمصاحف ودعوت إليها من صدق بها
وكذبت وآمن بمنزلها وكفرت وعرف من تأويلها ما أنكرت.
فغضب معاوية وأدار طرفه فيمن حوله، فإذا جلهم من مضر ونفر قليل من
اليمن، فقال: أيها الشقي الخائن! إني لأخال أن هذا آخر كلام تفوه به.
وكان عقير (عفيرة خ) بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية حينئذ، فعرف
موقف الطائي ومراد معاوية، فخافه عليهم فهجم عليهم الدار وأقبل على اليمانية
فقال: شاهت الوجوه! ذلا وقلا وجدعا وقلا! كشم الله هذه الأنف كشما
مرعبا.
ثم التفت إلى معاوية، فقال: إني والله يا معاوية ما أقول قولي هذا حبا
لأهل العراق ولا جنوحا إليهم، ولكن الحفيظة تذهب الغضب، لقد رأيتك
بالأمس خاطبت أخا ربيعة - يعني صعصعة بن صوحان - وهو أعظم جرما
عندك من هذا وأنكأ لقلبك وأقدح في صفاتك وأجد في عداوتك وأشد
انتصارا في حربك، ثم أثبته وسرحته، وأنت الآن مجمع على قتل هذا - زعمت -
استصغارا لجماعتنا، فإنا لا نمر ولا نحلى، ولعمري! لو وكلتك أبناء قحطان إلى
قومك لكان جدك العاثر وذكرك الداثر وحدك المغلول وعرشك المثلول،
فأربع على ظلعك واطونا على بلالتنا، ليسهل لك حزننا ويتطامن لك شاردنا،
245

فإنا لا نرأم بوقع الضيم، ولا نتلمظ جرع الخسف، ولا نغمز بغماز الفتن، ولا نذر على
الغضب.
فقال معاوية: الغضب شيطان، فأربع نفسك أيها الإنسان! فإنا لم نأت
إلى صاحبك مكروها ولم نرتكب منه مغضبا ولم ننتهك منه محرما، فدونكه!
فإنه لم يضق عنه حلمنا ويسع غيره.
فأخذ عفير بيد الوليد وخرج به إلى منزلة وقال له: والله لتؤوبن بأكثر مما
آب به معدي من معاوية! وجمع من بدمشق من اليمانية وفرض على كل رجل
دينارين في عطائه فبلغت أربعين ألفا، فتعجلها من بيت المال ودفعها إلى الوليد
ورده إلى العراق (1).
(453)
رجل من المنصور
قال الأحمدي: وجدت كلاما جديرا بأن ينقل وإن كان لعله خارج عن
شرط الكتاب:
روى ابن قتيبة في كتاب " عيون الأخبار " قال: بينما المنصور يطوف ليلا
بالبيت سمع قائلا يقول: " اللهم إليك أشكو ظهور البغي والفساد وما يحول بين
الحق وأهله من الطمع ".
فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه، فصلى
ركعتين واستلم الركن وأقبل على المنصور فسلم عليه بالخلافة. فقال المنصور: ما
الذي سمعتك تقوله، من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق
وأهله من الطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني (2).

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 6 ص 129 ص 131.
(2) ارمضيني: أي شدد الحرارة علي
246

فقال: يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها، وإلا
احتجزت منك واقتصرت على نفسي، فلي فيها شاغل.
قال: أنت آمن على نفسك، فقل.
فقال: إن الذي دخلها الطمع حتى حال بينه وبين إصلاح ما ظهر من
البغي والفساد لأنت.
قال: ويحك! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي والحلو
والحامض عندي؟
قال: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟ إن الله عز وجل استرعاك
المسلمين وأموالهم، فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك
وبينهم حجبا من الجص والآجر وأبوابا من الحديد وحجبة معهم السلاح، ثم
سجنت نفسك فيها منهم، وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعها، فقويتهم
بالسلاح والرجال والكراع، وأمرت بألا يدخل عليك إلا فلان وفلان - نفر
سميتهم - ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف، ولا الجائع والفقير، ولا الضعيف
والعاري، ولا أحد ممن له في هذا المال حق، فما زال هؤلاء النفر الذين
استخلصتم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا عنك، يجبون
الأموال ويجمعونها ويحجبونها، وقالوا: هذا رجل قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد
سخرنا! فائتمروا على ألا يصل إليك من أخبار الناس شئ إلا ما أرادوا،
ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا بغضوه عندك وبغوه الغوائل حتى
تسقط منزلته ويصغر قدره.
فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم، وكان أول من
صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك
ذو والقدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله
بالطمع بغيا وفسادا، وصار هؤلاء شركاؤك في سلطنتك وأنت غافل، فإن جاء
247

متظلم حيل بينه وبين دخول دارك، وإن أراد رفع قصة إليك عند ظهورك
وجدك وقد نهيت عن ذلك، ووقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم، فإن جاء
المتظلم إليه أرسلوا إلى صاحب المظالم ألا يرفع إليك قصته ولا يكشف لك حاله،
فيجيبهم خوفا منك ولا يزال المظلوم يختلف نحوه ويلوذ به ويستغيث إليه وهو
يدفعه ويعتل عليه، وإذا أجهد وأحرج وظهرت أنت لبعض شأنك صرخ بين
يديك فيضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره، وأنت تنظر ولا تنكر! فما بقاء
الإسلام على هذا؟
ولقد كنت أيام شبيبتي أسافر إلى الصين فقدمتها مرة، وقد أصيب ملكها
بسمعه فبكى بكاء شديدا، فحداه جلساؤه على الصبر، فقال: أما إني لست
أبكي للبلية النازلة، ولكن أبكي للمظلوم بالباب يصرخ فلا أسمع صوته، ثم
قال: أما إذ ذهب سمعي، فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا
أحمر إلا مظلوم، ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره ينظر هل يرى مظلوما.
فهذا مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين على شح نفسه، وأنت مؤمن بالله
من أهل بيت نبيه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك، فإن كنت إنما
تجمع المال لولدك فقد أراك الله تعالى عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ماله
في الأرض مال، وما من مال يومئذ إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فلا يزال الله
يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست بالذي تعطي، ولكن
الله يعطي من يشاء ما يشاء.
وإن قلت: إنما أجمع المال لتشييد السلطان، فقد أراك الله عبرا في بني أمية
ما أغني عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة وأعدوا من الرجال والسلاح والكراع
حين أراد الله بهم ما أراد.
وإن قلت: أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها،
فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه، انظر هل
248

تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ قال: لا، قال: فإن الملك الذي خولك
ما خولك لا يعاقب من عصاه بالقتل بل بالخلود في العذاب الأليم، وقد رأى
ما قد عقدت عليه قلبك وعملته جوارحك ونظر إليه بصرك واجترحته يداك
ومشت إليه رجلاك، وانظر هل يغني عنك ما شححت عليه من أمر الدنيا إذا
انتزعه من يدك، ودعاك إلى الحساب على ما منحك؟
فبكى المنصور! وقال:
ليتني لم أخلق، ويحك! فكيف أحتال لنفسي؟ قال: إن للناس أعلاما
يفزعون إليهم في دينهم ويرضون بقولهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم
في أمرك يسددوك.
قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني!
قال: نعم خافوا أن تحملهم على طريقك، ولكن افتح بابك وسهل
حجابك، وانظر المظلوم واقمع الظالم، وخذ الفئ والصدقات مما حل
وطاب، واقسمه بالحق والعدل على أهله وأنا الضامن عنهم أن يأتوك
ويسعدوك على صلاح الأمة.
وجاء المؤذنون فسلموا عليه ونادوا بالصلاة، فقام وصلى وعاد إلى
مجلسه، فطلب الرجل فلم يوجد (1).
(454)
الأعرابي وسليمان بن عبد الملك
وقال ابن قتيبة في الكتاب المذكور: وقد قام أعرابي بين يدي سليمان
ابن عبد الملك بنحو هذا، قال له:
إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام [فيه بعض الغلظة] فاحتمله إن

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 18 ص 144 - 147
249

كرهته، فإن وراءه ما تحب.
قال: قل.
قال: إني سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن من عظتك تأدية لحق
الله، (1) إنك قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دنياهم بدينهم (2)
فهم حرب الآخرة سلم الدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لم
يألوا الأمانة تضييعا والأمة خسفا وأنت مسؤول عما اجترحوا، وليسوا مسؤولين
عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبنا من
باع آخرته بدنيا غيره.
قال: فقال سليمان: أما أنت يا أعرابي فإنك قد سللت علينا عاجلا
لسانك وهو أقطع سيفيك، فقال: أجل! لقد سللته، ولكن لك لا عليك (3).
(455)
صعصعة ومعاوية
سأل معاوية صعصعة بن صوحان العبدي عن قبائل قريش، فقال: إن
قلنا غضبتم، وإن سكتنا غضبتم! فقال: أقسمت عليك. قال: فيمن يقول
شاعركم:
وعشرة كلهم سيد * آباء سادات وأبناؤها
إن يسألوا يعطوا وإن يعدموا * يبيض من مكة بطحاؤها (4)

(1) وحق إمامتك (العقد).
(2) ورضاك بسخط ربهم خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك (العقد)
(3) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 18 ص 148 واللفظ له، والعقد الفريد: ج 3 ص 166، وعيون
الأخبار: ج 2 ص 333.
(4) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 18 ص 289
250

(456)
يحيى بن عبد الله مع ابن مصعب
روى أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني (في كتاب مقاتل
الطالبيين): إن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه
السلام لما أمنه الرشيد بعد خروجه بالديلم وصار إليه بالغ إليه في إكرامه
وبره، فسعى به بعد مدة عبد الله بن مصعب الزبيري إلى الرشيد - وكان
يبغضه - وقال له: إنه قد عاد يدعو إلى نفسه سرا وحسن له نقض أمانه، فأحضره
وجمع بينه وبين عبد الله بن مصعب ليناظره فيما قذفه به ورفعه عليه، فجبهه
ابن مصعب بحضرة الرشيد وادعى عليه الحركة في الخروج وشق العصا.
فقال يحيى: يا أمير المؤمنين أتصدق هذا علي وتستنصحه وهو ابن
عبد الله بن الزبير الذي أدخل أباك عبد الله وولده الشعب وأضرم عليهم النار،
حتى خلصه أبو عبد الله الجدلي صاحب علي بن أبي طالب عليه السلام منه
عنوة، وهو الذي ترك الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله أربعين
جمعة في خطبته، فلما التاث عليه الناس قال: إن له أهيل سوء إذا صليت
عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم واشرأبوا لذكره، فأكره أن أسرهم أو أقر أعينهم،
وهو الذي كان يشتم أباك ويلصق به العيوب حتى ورم كبده فمات، ولقد
ذبحت بقرة يوما لأبيك فوجدت كبدها سوداء قد نقبت، فقال علي ابنه: أما
ترى كبد هذه البقرة يا أبت؟ فقال: يا بني هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك.
ثم نفاه إلى الطائف، فلما حضرته الوفاة قال لابنه علي: يا بني إذا مت
فالحق بقومك من بني عبد مناف بالشام ولا تقم في بلد لابن الزبير فيه إمرة،
فاختار له صحبة يزيد بن معاوية على صحبة عبد الله بن الزبير، ووالله إن
عداوة هذا يا أمير المؤمنين لنا جميعا بمنزلة سواء، ولكنه قوي علي بك
وضعف عنك، فتقرب بي إليك ليظفر منك بي ما يريد إذا لم يقدر على مثله
251

منك وما ينبغي لك أن تسوغه ذلك في، فإن معاوية بن أبي سفيان - وهو أبعد
نسبا منك إلينا - ذكر الحسن بن علي يوما فسبه، فساعده عبد الله بن الزبير
على ذلك، فزجره وانتهره، فقال: إنما ساعدتك يا أمير المؤمنين! فقال: إن
الحسن لحمي آكله ولا أوكله. ومع هذا فهو الخارج مع أخي محمد على
أبيك المنصور أبي جعفر، والقائل لأخي في قصيدة طويلة أولها:
إن الحمامة يوم الشعب من خضن * هاجت فؤاد محب دائم الحزن
يحرض أخي فيها على الوثوب والنهوض إلى الخلافة، ويمدحه ويقول
له:
عر ركنا نزار عن سطوتها * إن أسلمتك ولا ركنا ذوي يمن
ألست أكرمهم عودا إذا انتسبوا * يوما وأطهرهم ثوبا من الدرن
وأعظم الناس عند الناس منزلة * وأبعد الناس من عيب ومن وهن
قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتها * إن الخلافة فيكم يا بني حسن
إنا يثاب على الإحسان محسننا * بعد التدابر والبغضاء والإحن
حتى يثاب على الإحسان محسننا * ويأمن الخائف المأخوذ بالدمن
وتنقضي دولة أحكام قادتها * فينا كأحكام قوم عابدي وثن
مظالما قد بروا بالجور أعظمنا * بري الصناع قداح النبع بالسفن
فتغير وجه الرشيد عند سماع هذا الشعر وتغيظ على ابن مصعب، فابتدأ
ابن مصعب يحلف بالله الذي لا إله إلا هو وبأيمان البيعة أن هذا الشعر ليس
له وأنه لسديف.
فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين ما قاله غيره وما حلفت كاذبا ولا
صادقا بالله قبل هذا، وإن الله عز وجل إذا مجده العبد في يمينه فقال: " والله
الطالب الغالب الرحمان الرحيم " استحيى أن يعاقبه، فدعني أن أحلفه بيمين
ما حلف بها أحد قط كاذبا إلا عوجل.
252

قال: فحلفه، قال: قل: " برئت من حول الله وقوته واعتصمت بحولي
وقوتي وتقلدت الحول والقوة من دون الله استكبارا على الله واستعلاء عليه
واستغناء عنه إن كنت قلت هذا الشعر " فامتنع عبد الله من الحلف بذلك،
فغضب الرشيد وقال للفضل بن الربيع: يا عباسي ما له لا يحلف إن كان
صادقا؟ هذا طيلساني علي وهذه ثيابي لو حلفني بهذه اليمين إنها لي
لحلفت، فوكز الفضل عبد الله برجله - وكان له فيه هوى - وقال له: إحلف
ويحك! فجعل يحلف بهذه اليمين ووجهه متغير وهو يرعد.
فضرب يحيى بين كتفيه، وقال: يا بن مصعب قطعت عمرك، لا تفلح
بعدها أبدا.
قالوا: فما برح من موضعه حتى عرض له أعراض الجذام، استدارت عيناه
وتفقأه وجهه، وقام إلى بيته، فتقطع وتشقق لحمه وانتثر شعره ومات بعد ثلاثة
أيام، وحضر الفضل بن الربيع جنازته، فلما جعل في القبر انخسف اللحد به
حتى خرجت منه غبرة شديدة! وجعل الفضل يقول: التراب التراب! فطرح
التراب وهو يهوى فلم يستطيعوا سده حتى سقف بخشب وطم عليه.
فكان الرشيد يقول بعد ذلك للفضل: أرأيت يا عباسي ما أسرع ما اديل
ليحيى من ابن مصعب (1).
(457)
أبو دلف والمأمون
روى أبو الفرج الأصبهاني عن عبدوس بن أبي دلف، قال: حدثني أبي،
قال: قال لي المأمون: يا قاسم أنت الذي يقول فيك علي بن جبلة:
" إنما الدنيا أبو دلف " البيتين.

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 19 ص 91 - 94، وراجع قاموس الرجال: ج 5 ص 452، و ج 6
ص 148
253

فقلت مسرعا: وما ينفعني ذلك يا أمير المؤمنين مع قوله في:
أبا دلف يا أكذب الناس كلهم * سواي فإني في مديحك أكذب
ومع قول بكر بن النطاح في:
أبا دلف إن الفقير بعينه * لمن يرتجى جدوى يديك ويأمله
أرى لك بابا مغلقا متمنعا * إذا فتحوه عنك فالبؤس داخله
كأنك طبل هائل الصوت معجب * خليا من الخيرات تعس مداخله
وأعجب شئ فيك تسليم إمرة * عليك على طنز و أنك قابله
قال: فلما انصرفت، قال المأمون لمن حوله: لله دره! حفظ هجاء نفسه
حتى انتفع به عندي، وأطفأ لهيب المنافسة (1).
(458)
يحيى بن محمد مع ابن أبي الحديد
حضرت عند النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري في سنة
إحدى عشرة وستمائة ببغداد، وعنده جماعة وأحدهم يقرأ في الأغاني
لأبي الفرج، فمر ذكر المغيرة بن شعبة، وخاض القوم، فذمه بعض، وأثنى عليه
بعضهم، وأمسك عنه آخرون.
فقال بعض فقهاء الشيعة ممن كان يشتغل بطرف من علم الكلام على
رأي الأشعري: الواجب الكف والامساك عن الصحابة وعما شجر بينهم،
فقد قال أبو المعالي الجويني: إن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن
ذلك، وقال: " إياكم وما شجر بين صحابتي " وقال: " دعوا لي أصحابي فلو
أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا لما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " وقال: " أصحابي
كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقال: " خيركم القرن الذي أنا فيه ثم الذي

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 19 ص 97 - 98
254

يليه ثم الذي يليه ثم الذي يليه " وقد ورد في القرآن الثناء على الصحابة
وعلى التابعين، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " وما يدريك لعل الله
اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وقد روي عن
الحسن البصري أنه ذكر عنده الجمل وصفين، فقال: تلك دماء طهر الله
منها أسيافنا فلا نلطخ بها ألسنتنا.
ثم إن تلك الأحوال قد غابت عنا وبعدت أخبارها على حقائقها،
فلا يليق بنا أن نخوض فيها، ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب [أن
يحفظ رسول الله صلى الله عليه وآله فيه ومن المروءة] أن يحفظ رسول الله
صلى الله عليه وآله في عائشة زوجته وفي الزبير ابن عمته وفي طلحة الذي
وقاه بيده.
ثم ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحدا من المسلمين أو نبرأ منه؟
وأي ثواب في اللعنة والبراءة؟ إن الله تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلف لم
لم تلعن؟ بل قد يقول: لم لعنت؟ ولو أن إنسانا عاش عمره كله لم يلعن
إبليس لم يكن عاصيا ولا آثما، وإذا جعل الإنسان عوض اللعنة " استغفر الله "
كان خيرا له.
ثم كيف يجوز للعامة أن تدخل أنفسها في أمور الخاصة؟ وأولئك قوم
كانوا أمراء هذه الأمة وقادتها، ونحن اليوم في طبقة سافلة جدا عنهم، فكيف
يحسن بنا التعرض لذكرهم؟ أليس يقبح من الرعية أن تخوض في دقاق أمور
الملك وأحواله وشؤونه التي تجري بينه وبين أهله وبني عمه ونسائه وسراريه؟
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله صهرا لمعاوية وأخته أم حبيبة تحته،
فالأدب أن تحفظ أم حبيبة - وهي أم المؤمنين - في أخيها.
وكيف يجوز أن يلعن من جعل الله تعالى بينه وبين رسوله مودة؟ أليس
المفسرون كلهم قالوا: هذه الآية أنزلت في أبي سفيان وآله، وهي قوله تعالى:
255

" عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة " فكان ذلك
مصاهرة رسول الله صلى الله عليه وآله أبا سفيان وتزويجه ابنته، على أن
جميع ما تنقله الشيعة من الاختلاف بينهم والمشاجرة لم يثبت، وما كان
القوم إلا كبني أم واحدة، ولم يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قط، ولا
وقع بينهم اختلاف ولا نزاع.
فقال أبو جعفر - رحمه الله -:
قد كنت منذ أيام علقت بخطي كلاما وجدته لبعض الزيدية في هذا
المعنى نقضا وردا على أبي المعالي الجويني فيما اختاره لنفسه من هذا
الرأي، وأنا أخرجه إليكم لاستغني بتأمله عن الحديث على ما قاله هذا
الفقيه، فإني أجد ألما يمنعني من الإطالة في الحديث، لا سيما إذا خرج
مخرج الجدل ومقاومة الخصوم. ثم أخرج من بين كتبه كراسا قرأناه في
ذلك المجلس واستحسنه الحاضرون، وأنا أذكر هاهنا خلاصة:
قال: لولا أن الله تعالى أوجب معاداة أعدائه كما أوجب موالاة أوليائه،
وضيق على المسلمين تركها إذا دل العقل عليها أو صح الخبر عنها بقوله:
سبحانه: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله
ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " وبقوله تعالى: " ولو كانوا
يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء " وبقوله سبحانه: " لا تتولوا
قوما غضب الله عليهم "، ولاجماع المسلمين على أن الله تعالى فرض عداوة
أعدائه وولاية أوليائه، وعلى أن البغض في الله واجب والحب في الله
واجب، لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين ولا البراءة منه،
ولكانت عداوتنا للقوم تكلفا.
ولو ظننا أن الله عز وجل يعذرنا إذا قلنا: " يا رب غاب أمرهم عنا فلم
يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنا معنى " لاعتمدنا على هذا العذر
256

وواليناهم، ولكنا نخاف أن يقول سبحانه لنا: إن كان أمرهم قد غاب عن
أبصاركم فلم يغب عن قلوبكم وأسماعكم، قد أتتكم به الأخبار الصحيحة
التي بمثلها ألزمتم أنفسكم الإقرار بالنبي صلى الله عليه وآله، وموالاة من
صدقه ومعاداة من عصاه وجحده، وأمرتم بتدبر القرآن وما جاء به الرسول، فهلا
حذرتم من أن تكونوا من أهل هذه الآية غدا: " ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا
فأضلونا السبيلا ".
فأما لفظة " اللعن " فقد أمر الله تعالى بها وأوجبها، ألا ترى إلى قوله:
" أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " فهو إخبار معناه الأمر، كقوله:
" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " وقد لعن الله العاصين بقوله:
" لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود " وقوله: " إن الذين يؤذون
الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا " وقوله:
" ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا " وقال الله تعالى لإبليس: " وإن
عليك لعنتي إلى يوم الدين " وقال: " إن الله لعن الكافرين وأعد لهم
سعيرا ".
فأما قول من يقول: أي ثواب في اللعن؟ وأن الله تعالى لا يقول
للمكلف: " لم لم تلعن؟ " بل قد يقول له: " لم لعنت؟ " وأنه لو جعل مكان
" لعن الله فلانا " " اللهم اغفر لي " لكان خيرا له، ولو أن إنسانا عاش عمره
كله لم يلعن إبليس لم يؤاخذ بذلك، فكلام جاهل لا يدري ما يقول.
اللعن طاعة ويستحق عليها الثواب إذا فعلت على وجهها، وهو أن يلعن
مستحق اللعن لله وفي الله، لا في العصبية والهوى، إلا أن الشرع قد ورد بها
في نفي الولد ونطق بها القرآن، وهو أن يقول الزوج في الخامسة " إن لعنة الله
عليه إن كان من الكاذبين " فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه
اللفظة وأنه قد تعبدهم بها، لما جعلها من معالم الشرع، ولما كررها في كثير
257

من كتابه العزيز، ولما قال في حق القائل: " وغضب الله عليه ولعنه " وليس
المراد من قوله: " ولعنه " إلا الأمر لنا بأن نلعنه، ولو لم يكن المراد بها ذلك
لكان لنا أن نلعنه، لأن الله تعالى قد لعنه، أفيلعن الله إنسانا ولا يكون لنا أن
نلعنه؟ هذا ما لا يسوغ في العقل، كما لا يجوز أن يمدح الله انسانا إلا ولنا أن
نمدحه، ولا يذمه إلا ولنا أن نذمه، وقال تعالى: " هل أنبئكم بشر من ذلك
مثوبة عند الله من لعنه الله " وقال: " ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم
لعنا كبيرا " وقال عز وجل: " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا
بما قالوا ".
وكيف يقول القائل: إن الله تعالى لا يقول للمكلف لم لم تلعن؟ ألا يعلم
هذا القائل أن الله تعالى أمر بولاية أوليائه وأمر بعداوة أعدائه؟ فكما يسأل عن
التولي يسأل عن التبري، ألا ترى أن اليهودي إذا أسلم يطالب بأن يقال له:
تلفظ بكلمة الشهادتين ثم قل: برئت من كل دين يخالف دين الإسلام؟
فلا بد من البراءة، لأن بها يتم العمل ألم يسمع هذا القائل قول الشاعر:
تود عدوي ثم تزعم أنني * صديقك أن الرأي عنك لعازب!
فمودة العدو خروج عن ولاية الولي، وإذا بطلت المودة لم يبق إلا البراءة،
لأنه لا يجوز أن يكون الإنسان في درجة متوسطة مع أعداء الله وعصاته - بألا
يودهم ولا يبرأ منهم - بإجماع المسلمين على نفي هذه الواسطة.
وأما قوله: " لو جعل عوض اللعنة استغفر الله لكان خيرا له " فإنه لو
استغفر من غير أن يلعن أو يعتقد وجوب اللعن لما نفعه استغفاره ولا قبل منه،
لأنه يكون عاصيا لله تعالى مخالفا أمره في إمساكه عمن أوجب الله تعالى عليه
البراءة وإظهار البراءة منه، والمصر على بعض المعاصي لا تقبل توبته واستغفاره
عن البعض الآخر.
وأما من يعيش عمره ولا يلعن إبليس: فإن كان لا يعتقد وجوب لعنه فهو
258

كافر، وإن كان يعتقد وجوب لعنه ولا يلعنه فهو مخطئ. على أن الفرق بينه
وبين ترك لعنه رؤوس الضلال في هذه الأمة - كمعاوية والمغيرة وأمثالهما - أن
أحدا من المسلمين لا يورث عنده الامساك عن لعن إبليس شبهة في أمر إبليس،
والامساك عن لعن هؤلاء وأضرابهم يثير شبهة عند كثير من المسلمين في أمرهم،
وتجنب ما يورث الشبهة في الدين واجب، فلهذا لم يكن الامساك عن لعن
إبليس نظيرا للامساك عن أمر هؤلاء.
قال: ثم يقال للمخالفين: أرأيتم لو قال قائل: قد غاب عنا أمر يزيد بن
معاوية والحجاج بن يوسف، فليس ينبغي أن نخوض في قصتهما ولا أن نلعنهما
ونعاديهما ونبرأ منهما، هل كان هذا إلا كقولكم: قد غاب عنا أمر معاوية
والمغيرة بن شعبة وأضرابهما فليس لخوضنا في قصتهم معنى؟
وبعد، فكيف أدخلتم أيها العامة والحشوية وأهل الحديث أنفسكم في أمر
عثمان وخضتم فيه وقد غاب عنكم؟ وبرئتم من قتلته ولعنتموهم؟
وكيف لم تحفظوا أبا بكر الصديق في محمد ابنه؟ فإنكم لعنتموه وفسقتموه،
ولا حفظتم عائشة أم المؤمنين في أخيها محمد المذكور، ومنعتمونا أن نخوض
وندخل أنفسنا في أمر علي والحسن والحسين ومعاوية الظالم له ولهما، المتغلب على
حقه وحقوقهما.
وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنة عندكم، ولعن ظالم علي والحسن
والحسين تكلفا؟!
وكيف أدخلت العامة أنفسها في أمر عائشة وبرئت ممن نظر إليها ومن
القائل لها: يا حميراء أو إنما هي حميراء، ولعنته بكشفه سترها، ومنعتنا نحن عن
الحديث في أمر فاطمة وما جرى لها بعد وفاة أبيها؟!
فإن قلتم: إن بيت فاطمة إنما دخل وسترها إنما كشف حفظا لنظام
الإسلام وكي لا ينتشر الأمر ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة
259

ولزوم الجماعة.
قيل لكم: وكذلك ستر عائشة إنما كشف وهودجها إنما هتك لأنها نشرت
حبل الطاعة وشقت عصا المسلمين وأراقت دماء المسلمين من قبل وصول علي
ابن أبي طالب عليه السلام إلى البصرة، وجرى لها مع عثمان بن حنيف
وحكيم بن جبلة ومن كان معهما من المسلمين الصالحين من القتل وسفك
الدماء ما تنطق به كتب التواريخ والسير. فإذا جاز دخول بيت فاطمة لأمر لم
يقع بعد، جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق، فكيف صار هتك ستر
عائشة من الكبائر التي يجب معها التخليد في النار والبراءة من فاعله ومن أوكد
عرى الإيمان، وصار كشف بيت فاطمة والدخول عليها منزلها وجمع حطب ببابها
وتهددها بالتحريق من أوكد عرى الدين وأثبت دعائم الإسلام ومما أعز الله به
المسلمين وأطفأ به نار الفتنة؟! والحرمتان واحدة والستران واحد.
وما نحب أن نقول لكم: إن حرمة فاطمة أعظم ومكانها أرفع وصيانتها
لأجل رسول الله صلى الله عليه وآله أولى، فإنها بضعة منه وجزء من لحمه
ودمه، وليست كالزوجة الأجنبية التي لا نسب بينها وبين الزوج، وإنما هي
وصلة مستعارة، وعقد يجري مجرى إجارة المنفعة وكما يملك رق الأمة بالبيع
والشراء. ولهذا قال الفرضيون: أرباب التوارث ثلاثة: سبب ونسب وولاء،
فالنسب القرابة، والسبب النكاح، والولاء: ولاء العتق، فجعلوا النكاح
خارجا عن النسب، ولو كانت الزوجة ذات نسب لجعلوا الأقسام الثلاثة:
قسمين.
وكيف تكون عائشة أو غيرها في منزلة فاطمة وقد أجمع المسلمون كلهم
- من يحبها ومن لا يحبها منهم - أنها سيدة نساء العالمين؟
قال: وكيف يلزمنا اليوم حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في زوجته
وحفظ أم حبيبة في أخيها، ولم تلزم الصحابة أنفسها حفظ رسول الله صلى الله عليه
260

عليه وآله في أهل بيته؟
ولا ألزمت الصحابة أنفسها حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في صهره
وابن عمه عثمان بن عفان، وقد قتلوهم ولعنوهم، ولقد كان كثير من الصحابة
يلعن عثمان وهو خليفة! منهم عائشة، كانت تقول: اقتلوا لعنة الله نعثلا!
ومنهم عبد الله بن مسعود.
وقد لعن معاوية علي بن أبي طالب وابنيه حسنا وحسينا وهم أحياء
يرزقون بالعراق، وهو يلعنهم بالشام على المنابر ويقنت عليهم في الصلوات.
وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وهو حي وبرئا منه وأخرجاه من
المدينة إلى الشام.
ولعن عمر خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة.
وما زال اللعن فاشيا في المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي
اللعن والبراءة.
قال: ولو كان هذا أمرا معتبرا وهو أن يحفظ زيد لأجل عمرو فلا يلعن،
لوجب أن تحفظ الصحابة في أولادهم، فلا يلعنوا لأجل آبائهم، فكان يجب أن
يحفظ سعد بن أبي وقاص فلا يلعن ابنه عمر بن سعد قاتل الحسين، وأن يحفظ
معاوية، فلا يلعن يزيد صاحب وقعة الحرة وقاتل الحسين ومخيف المسجد الحرام
بمكة، وأن يحفظ عمر بن الخطاب في عبيد الله ابنه قاتل الهرمزان والمحارب عليا
عليه السلام في صفين.
قال: على أنه لو كان الإمساك عن عداوة من عادى الله من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله من حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله في
أصحابه ورعاية عهده وعقده لم نعادهم ولو ضربت رقابنا بالسيوف، ولكن محبة
رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه ليست كمحبة الجهال الذين يضع
أحدهم محبته لصاحبه موضع العصبية، وإنما أوجب رسول الله صلى الله عليه
261

وآله محبة أصحابه لطاعتهم لله، فإذا عصوا الله وتركوا ما أوجب محبتهم له،
فليس عند رسول الله صلى الله عليه وآله محاباة في ترك لزوم ما كان عليه من
محبتهم، ولا تغطرس في العدول عن التمسك بموالاتهم.
فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحب أن يعادي أعداء الله
ولو كانوا عترته، كما يحب أن يوالى أولياء الله ولو كانوا أبعد الخلق نسبا منه،
والشاهد على ذلك إجماع الأمة على أن الله تعالى قد أوجب عداوة من ارتد بعد
الإسلام، وعداوة من نافق وإن كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر بذلك ودعا إليه.
وذلك: أنه صلى الله عليه وآله قد أوجب قطع يد السارق، وضرب
القاذف، وجلد البكر إذا زنى وإن كان من المهاجرين أو الأنصار. ألا ترى أنه
قال: لو سرقت فاطمة لقطعتها، فهذه ابنته الجارية مجرى نفسه لم يحابها في دين
الله ولا راقبها في حدود الله. وقد جلد أصحاب الإفك، ومنهم مسطح بن أثاثة
وكان من أهل بدر.
قال: وبعد، فلو كان محل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله محل
من لا يعادى إذا عصى الله سبحانه ولا يذكر بالقبيح، بل يجب أن يراقب
لأجل اسم الصحبة ويغضى عن عيوبه وذنوبه، لكان كذلك صاحب موسى
المسطور ثناؤه في القرآن لما اتبع هواه، فانسلخ مما أوتي من الآيات وغوى،
قال سبحانه: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان
فكان من الغاوين " ولكان ينبغي أن يكون محل عبدة العجل من أصحاب
موسى هذا المحل، لأن هؤلاء كلهم قد صحبوا رسولا جليلا من رسل الله
سبحانه.
قال: ولو كانت الصحابة عند أنفسها بهذه المنزلة لعلمت ذلك من حال
أنفسها، لأنهم أعرف بمحلهم من عوام أهل دهرنا، وإذا قدرت أفعال بعضهم
262

ببعض دلتك على أن القصة كانت على خلاف ما قد سبق إلى قلوب الناس
اليوم.
هذا علي وعمار وأبو الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت وجميع من كان مع
علي عليه السلام من المهاجرين والأنصار لم يروا أن يتغافلوا عن طلحة والزبير
حتى فعلوا بهما وبمن معهما ما يفعل بالشراة في عصرنا، وهذا طلحة والزبير وعائشة،
ومن كان معهم وفي جانبهم لم يروا أن يمسكوا عن علي حتى قصدوا له كما
يقصد للمتغلبين في زماننا.
وهذا معاوية وعمرو لم يريا عليا بالعين التي يرى بها العامي صديقه
أو جاره، ولم يقصرا دون ضرب وجهه بالسيف ولعنه ولعن أولاده وكل من
كان حيا من أهله وقتل أصحابه. وقد لعنهما هو أيضا في الصلوات المفروضات،
ولعن معهما أبا الأعور السلمي وأبا موسى الأشعري وكلاهما من الصحابة.
وهذا سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وسعيد بن زيد
ابن عمرو بن نفيل وعبد الله بن عمر وحسان بن ثابت وأنس بن مالك، لم يروا
أن يقلدوا عليا في حرب طلحة، ولا طلحة في حرب علي، وطلحة والزبير بإجماع
المسلمين أفضل من هؤلاء المعدودين، لأنهم زعموا أنهم قد خافوا أن يكون
علي قد غلط وزل في حربهما، وخافوا أن يكونا قد غلطا وزلا في حرب علي.
وهذا عثمان قد نفى أبا ذر إلى الربذة كما يفعل بأهل الخنا والريب، وهذا
عمار وابن مسعود تلقيا عثمان بما تلقياه به لما ظهر لهما - بزعمهما - منه ما وعظاه
لأجله، ثم فعل بهما عثمان ما تناهى إليكم، ثم فعل القوم بعثمان ما قد علمهم
وعلم الناس كلهم.
وهذا عمر يقول في قصة الزبير بن العوام لما استأذنه في الغزو: ها أني
ممسك بباب هذا الشعب أن يتفرق أصحاب محمد في الناس فيضلوهم، وزعم
أنه وأبو بكر كانا يقولان: إن عليا والعباس في قصة الميراث زعماهما كاذبين
263

ظالمين فاجرين، وما رأينا عليا والعباس اعتذرا ولا تنصلا، ولا نقل أحد من
أصحاب الحديث ذلك، ولا رأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
أنكروا عليهما ما حكاه عمر عنهما ونسبه إليهما. ولا أنكروا أيضا على عمر قوله في
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله: إنهم يريدون إضلال الناس ويهمون
به.
ولا أنكروا على عثمان دوس بطن عمار، ولا كسر ضلع ابن مسعود، ولا
على عمار وابن مسعود ما تلقيا به عثمان، كإنكار العامة اليوم الخوض في
حديث الصحابة، ولا اعتقدت الصحابة في أنفسها ما يعتقده العامة فيها. اللهم
إلا أن يزعموا أنهم أعرف بحق القوم منهم!
وهذا علي وفاطمة والعباس ما زالوا على كلمة واحدة يكذبون الرواية:
" نحن معاشر الأنبياء لا نورث " ويقولون: إنها مختلقة.
قالوا: وكيف كان النبي صلى الله عليه وآله يعرف هذا الحكم غيرنا
ويكتمه عنا ونحن الورثة؟ ونحن أولى الناس بأن يؤدى هذا الحكم إليه.
وهذا عمر بن الخطاب يشهد لأهل الشورى أنهم النفر الذين توفي رسول
الله صلى الله عليه وآله وهو عنهم راض، ثم يأمر بضرب أعناقهم إن أخروا
فصل حال الإمامة، هذا بعد أن ثلبهم وقال في حقهم ما لو سمعته العامة اليوم
من قائل لوضعت ثوبه في عنقه سحبا إلى السلطان، ثم شهدت عليه بالرفض
واستحلت دمه. فإن كان الطعن على بعض الصحابة رفضا، فعمر بن الخطاب
أرفض الناس وإمام الروافض كلهم.
ثم ما شاع واشتهر من قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها،
فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. وهذا طعن في العقد وقدح في البيعة الأصلية.
ثم ما نقل عنه: من ذكر أبي بكر في صلاته وقوله عن عبد الرحمن ابنه: دويبة
سوء، ولهو خير من أبيه.
264

ثم عمر القائل في سعد بن عبادة وهو رئيس الأنصار وسيدها: اقتلوا سعدا
قتل الله سعدا، اقتلوه فإنه منافق!
وقد شتم أبا هريرة وطعن في روايته، وشتم خالد بن الوليد وطعن في دينه،
وحكم بفسقه وبوجوب قتله، وخون عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان
ونسبهما إلى سرقة مال الفئ واقتطاعه.
وكان سريعا إلى المساءة، كثير الجبه والشتم والسب لكل أحد، وقل أن
يكون في الصحابة من سلم من معرة لسانه أو يده، ولذلك أبغضوه وملوا أيامه
مع كثرة الفتوح فيها.
فهلا احترم عمر الصحابة كما تحترمهم العامة؟ إما أن يكون عمر مخطئا
وإما أن تكون العامة على الخطأ.
فإن قالوا: عمر ما شتم ولا ضرب ولا أساء إلا إلى عاص مستحق لذلك.
قيل لهم: فكأنا نحن نقول: إنا نريد أن نبرأ ونعادي من لا يستحق البراءة
والمعاداة، كلا! ما قلنا هذا ولا يقول هذا مسلم ولا عاقل.
وإنما غرضنا الذي إليه نجري بكلامنا هذا أن نوضح أن الصحابة قوم من
الناس لهم ما للناس وعليهم ما عليهم، من أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم
حمدناه، وليس لهم على غيرهم من المسلمين كبير فضل إلا بمشاهدة الرسول
ومعاصرته لا غير، بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم، لأنهم
شاهدوا الأعلام والمعجزات فقربت اعتقاداتهم من الضرورة، ونحن لم نشاهد
ذلك فكانت عقائدنا محض النظر والفكر وبعرضية الشبه والشكوك فمعاصينا
أخف لأنا أعذر.
ثم نعود إلى ما كنا فيه فنقول:
وهذه عائشة أم المؤمنين خرجت بقميص رسول الله صلى الله عليه وآله
فقالت للناس: هذا قميص رسول الله لم يبل وعثمان قد أبلى سنته! ثم تقول:
265

اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا! ثم لم ترض بذلك حتى قالت: أشهد أن عثمان
جيفة على الصراط غدا. فمن الناس من يقول: روت في ذلك خبرا، ومن
الناس من يقول: هو موقوف عليها، وبدون هذا لو قاله إنسان اليوم يكون عند
العامة زنديقا.
ثم قد حصر عثمان، حصرته أعيان الصحابة، فما كان أحد ينكر ذلك
ولا يعظمه ولا يسعى في إزالته، وإنما أنكروا على من أنكر على المحاصرين له،
وهو رجل كما علمتم من وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم من
أشرافهم، ثم هو أقرب إليه من أبي بكر وعمر، وهو مع ذلك إمام المسلمين
والمختار منهم للخلافة، وللإمام حق على رعيته عظيم. فإن كان القوم قد أصابوا،
فإذن ليست الصحابة في الموضع الذي وضعتها به العامة، وإن كانوا ما أصابوا
فهذا هو الذي نقول من أن الخطأ جائز على آحاد الصحابة، كما يجوز على آحادنا
اليوم ولسنا نقدح في الإجماع، ولا ندعي إجماعا حقيقيا على قتل عثمان، وإنما
نقول: إن كثيرا من المسلمين فعلوا ذلك، والخصم يسلم أن ذلك كان خطأ
ومعصية، فقد سلم أن الصحابي يجوز أن يخطئ ويعصي وهو المطلوب.
وهذا المغيرة بن شعبة وهو من الصحابة ادعي عليه الزنا وشهد عليه قوم
بذلك، فلم ينكر ذلك عمر، ولا قال: هذا محال باطل لأن هذا صحابي من
صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله لا يجوز عليه الزنا، وهلا أنكر عمر على
الشهود وقال لهم: ويحكم! هلا تغافلتم عنه لما رأيتموه يفعل ذلك، فإن الله
تعالى قد أوجب الامساك عن مساوئ أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله وأوجب الستر عليهم!! وهلا تركتموه لرسول الله صلى الله عليه وآله في
قوله: " دعوا لي أصحابي "؟ ما رأينا عمر إلا قد انتصب لسماع الدعوى وإقامة
الشهادة وأقبل يقول للمغيرة: يا مغيرة ذهب ربعك! يا مغيرة ذهب نصفك!
يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك! حتى اضطرب الرابع، فجلد الثلاثة. وهلا قال
266

المغيرة لعمر: كيف تسمع في قول هؤلاء وليسوا من الصحابة وأنا من الصحابة
ورسول الله صلى الله عليه وآله قد قال: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم
اهتديتم "؟ ما رأيناه قال ذلك بل استسلم لحكم الله تعالى.
وهاهنا من هو أمثل من المغيرة وأفضل، قدامة بن مظعون، لما شرب الخمر
في أيام عمر فأقام عليه الحد، وهو رجل من علية الصحابة ومن أهل بدر
والمشهود لهم بالجنة فلم يرد عمر الشهادة ولا درأ عنه الحد لعلة أنه بدري
ولا قال: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله من ذكر مساوئ الصحابة.
وقد ضرب عمر أيضا ابنه حدا فمات، وكان ممن عاصر رسول الله صلى الله
عليه وآله، ولم تمنعه معاصرته له من إقامة الحد عليه.
وهذا علي عليه السلام يقول: ما حدثني أحد بحديث عن رسول الله صلى
الله عليه وآله إلا استحلفته عليه، أليس هذا اتهاما لهم بالكذب؟ وما استثنى
أحدا من المسلمين إلا أبا بكر - على ما ورد في الخبر - وقد صرح غير مرة بتكذيب
أبي هريرة، وقال: لا أحد أكذب من هذا الدوسي على رسول الله صلى الله
عليه وآله، وقال أبو بكر في مرضه الذي مات فيه: وددت أني لم أكشف بيت
فاطمة ولو كان أغلق على حرب، فندم، والندم لا يكون إلا عن ذنب.
ثم ينبغي للعاقل أن يفكر في تأخر علي عليه السلام عن بيعة أبي بكر
ستة أشهر إلى أن ماتت فاطمة، فإن كان مصيبا فأبو بكر على الخطأ في انتصابه
في الخلافة، وإن كان أبو بكر مصيبا فعلي على الخطأ في تأخره عن البيعة
وحضور المسجد.
ثم قال أبو بكر في مرض موته أيضا للصحابة: فلما استخلفت عليكم
خيركم في نفسي - يعني عمر - فكلكم ورم لذلك أنفه، يريد أن يكون الأمر له
لما رأيتم الدنيا قد جاءت، أما والله! لتتخذن ستائر الديباج ونضائد الحرير.
أليس هذا طعنا في الصحابة وتصريحا بأنه قد نسبهم إلى الحسد لعمر لما نص
267

عليه بالعهد؟
ولقد قال له طلحة لما ذكر عمر للأمر: ماذا تقول لربك إذا سألك عن
عباده وقد وليت عليهم فظا غليظا؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أجلسوني بالله
تخوفني! إذا سألني قلت: وليت عليهم خير أهلك، ثم شتمه بكلام كثير منقول.
فهل قول طلحة إلا طعن في عمر؟ وهل قول أبي بكر إلا طعن في طلحة؟
ثم الذي كان بين أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود من السباب، حتى
نفى كل واحد منهما الآخر عن أبيه، وكلمة أبي بن كعب مشهورة منقولة: ما
زالت هذه الأمة مكبوبة على وجهها منذ فقدوا نبيهم. وقوله: ألا هلك أهل
العقيدة، والله ما آسى عليهم إنما على من يضلون من الناس.
ثم قول عبد الرحمن بن عوف: ما كنت أرى أن أعيش حتى يقول لي
عثمان: يا منافق. وقوله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما وليت عثمان
شسع نعلي. وقوله: اللهم إن عثمان قد أبى أن يقيم كتابك فافعل به وافعل.
وقال عثمان لعلي عليه السلام في كلام دار بينهما: أبو بكر وعمر خير
منك، فقال علي: كذبت أنا خير منك ومنهما، عبدت الله قبلهما وعبدته
بعدهما.
وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، قال: كنت عند عروة بن
الزبير، فتذاكرنا كم أقام النبي بمكة بعد الوحي؟ فقال عروة: أقام عشرا.
فقلت: كان ابن عباس يقول: ثلاث عشرة. فقال: كذب ابن عباس.
وقال ابن عباس: المتعة حلال. فقال له جبير بن مطعم: كان عمر ينهى
عنها. فقال: يا عدي نفسه من هاهنا ضللتم، أحدثكم عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وتحدثني عن عمر!
وجاء في الخبر عن علي عليه السلام: لولا ما فعل عمر بن الخطاب في
المتعة ما زنى إلا شقي. وقيل: ما زنى إلا شفا، أي قليلا.
268

فأما سب بعضهم بعضا وقدح بعضهم في بعض في المسائل الفقهية فأكثر
من أن يحصى، مثل قول ابن عباس وهو يرد على زيد مذهبه القول في
الفرائض: إن شاء - أو قال: من شاع - باهلته، إن الذي أحصى رمل عالج
عددا أعدل من أن يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا، هذان النصفان قد ذهبا
بالمال، فأين موضع الثلث؟
ومثل قول أبي بن كعب في القرآن: لقد قرأت القرآن وزيد هذا غلام ذو
ذؤابتين يلعب بين صبيان اليهود في المكتب.
وقال علي عليه السلام في أمهات الأولاد وهو على المنبر: كان رأيي
ورأي عمر ألا يبعن، وأنا أرى الآن بيعهن. فقام إليه عبيدة السلماني فقال:
رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة.
وكان أبو بكر يرى التسوية في قسم الغنائم، وخالفه عمر وأنكر فعله.
وأنكرت عائشة على أبي سلمة بن عبد الرحمن خلافه على ابن عباس في عدة
المتوفى عنها زوجها وهي حامل، وقالت: فروج يصقع مع الديكة.
وأنكرت الصحابة على ابن عباس قوله في الصرف، وسفهوا رأيه حتى
قيل: إنه تاب من ذلك عند موته.
واختلفوا في حد شارب الخمر حتى خطأ بعضهم بعضا.
وروى بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: الشؤم في
ثلاثة: المرأة والدار والفرس. فأنكرت عائشة ذلك وكذبت الراوي، وقالت:
إنه إنما قال عليه السلام ذلك حكاية عن غيره.
وروى بعض الصحابة عنه عليه السلام أنه قال: التاجر فاجر. فأنكرت
عائشة ذلك وكذبت الراوي، وقالت: إنما قال عليه السلام في تاجر دلس.
وأنكر قوم من الأنصار رواية أبي بكر: " الأئمة من قريش " ونسبوه إلى
افتعال هذه الكلمة.
269

وكان أبو بكر يقضي بالقضاء فينقضه عليه أصاغر الصحابة، كبلال
وصهيب ونحوهما، قد روي ذلك في عدة قضايا.
وقيل لابن عباس: إن عبد الله بن الزبير يزعم أن موسى صاحب الخضر
ليس موسى بني إسرائيل. فقال: كذب عدو الله! أخبرني أبي بن كعب قال:
خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وذكر كذا بكلام يدل على أن موسى
صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل.
وباع معاوية أواني ذهب وفضة بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله ينهى عن ذلك. فقال معاوية: أما أنا
فلا أرى به بأسا. فقال أبو الدرداء: من عذيري من معاوية! أخبره عن الرسول
صلى الله عليه وآله وهو يخبرني عن رأيه، والله لا أساكنك بأرض أبدا.
وطعن ابن عباس في أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله: " إذا
استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخلن يده في الإناء حتى يتوضأ " وقال: " فما
نصنع بالمهراس ".
وقال علي عليه السلام لعمر - وقد أفتاه الصحابة في مسألة وأجمعوا عليها -:
إن كانوا راقبوك فقد غشوك، وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطأوا.
وقال ابن عباس: ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل
أب الأب أبا!
وقالت عائشة: أخبروا زيد بن أرقم أنه قد أحبط جهاده مع رسول الله
صلى الله عليه وآله.
وأنكرت الصحابة على أبي موسى قوله: " إن النوم لا ينقض الوضوء "
ونسبته إلى الغفلة وقلة التحصيل. وكذلك أنكرت على أبي طلحة الأنصاري
قوله: " إن أكل البرد لا يفطر الصائم " وهزئت به ونسبته إلى الجهل.
وسمع عمر عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في
270

الثوب الواحد فصعد المنبر وقال: إذا اختلف اثنان من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وآله فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أسمع رجلين يختلفان
بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت.
وقال جرير بن كليب: رأيت عمر ينهى عن المتعة، وعلي عليه السلام
يأمر بها، فقلت: إن بينكما لشرا. فقال علي عليه السلام: ليس بيننا إلا الخير
ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين.
قال هذا المتكلم: وكيف يصح أن يقول رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "؟ لا شبهة أن هذا يوجب أن
يكون أهل الشام في صفين على هدى، وأن يكون أهل العراق أيضا على هدى،
وأن يكون قاتل عمار بن ياسر مهتديا! وقد صح الخبر الصحيح أنه قال له:
" تقتلك الفئة الباغية " وقال في القرآن: " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر
الله " فدل على أنها ما دامت موصوفة بالمقام على البغي مفارقة لأمر الله، ومن
يفارق أمر الله لا يكون مهتديا.
وكان يجب أن يكون بسر بن أرطاة الذي ذبح ولدي عبيد الله بن عباس
الصغيرين مهتديا، لأن بسرا من الصحابة أيضا.
وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللذان كانا يلعنان عليا
أدبار الصلاة وولديه مهتديين.
وقد كان في الصحابة من يزني ومن يشرب الخمر - كأبي محجن الثقفي - ومن
يرتد عن الإسلام - كطليحة بن خويلد - فيجب أن يكون كل من اقتدى بهؤلاء
في أفعالهم مهتديا!
قال: وإنما هذا من موضوعات متعصبة الأموية، فإن لهم من ينصرهم
بلسانه وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف.
وكذا القول في الحديث الآخر، وهو قوله: " القرن الذي أنا فيه " ومما يدل
271

على بطلانه: أن القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة شر قرون الدنيا، وهو أحد
القرون التي ذكرها في النص، وكان ذلك القرن هو القرن الذي قتل فيه
الحسين، وأوقع بالمدينة، وحوصرت مكة، ونقضت الكعبة، وشربت خلفاؤه
والقائمون مقامه والمنتصبون في منصب النبوة الخمور، وارتكبوا الفجور كما جرى
ليزيد بن معاوية، وليزيد بن عاتكة، وللوليد بن يزيد، وأريقت الدماء الحرام،
وقتل المسلمون، وسبي الحريم، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار، ونقش على
أيديهم كما ينقش على أيدي الروم، وذلك في خلافة عبد الملك وإمرة الحجاج.
وإذا تأملت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية شرا كلها لا خير فيها،
ولا في رؤسائها وأمرائها، والناس برؤوسائهم وأمرائهم، والقرن خمسون سنة
فكيف يصح هذا الخبر؟
قال: فأما ما ورد في القرآن من قوله تعالى: " لقد رضي الله عن المؤمنين "
وقوله: " محمد رسول الله والذين معه ".
وقول النبي صلى الله عليه وآله: " إن الله اطلع على أهل بدر " إن كان
الخبر صحيحا فكله مشروط بسلامة العاقبة، ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفا غير
معصوم بأنه لا عقاب عليه، فليفعل ما شاء.
قال هذا المتكلم: ومن أنصف وتأمل أحوال الصحابة وجدهم مثلنا يجوز
عليهم ما يجوز علينا، ولا فرق بيننا وبينهم إلا بالصحبة لا غير، فإن لها منزلة
وشرفا، ولكن لا إلى حد يمتنع على كل من رأى الرسول أو صحبه يوما أو شهرا
أو أكثر من ذلك أن يخطأ ويزل. ولو كان هذا صحيحا ما احتاجت عائشة
إلى نزول براءتها من السماء، بل كان رسول الله صلى الله عليه وآله من أول يوم
يعلم كذب أهل الإفك، لأنها زوجته وصحبتها له آكد من صحبة غيرها،
وصفوان بن المعطل أيضا كان من الصحابة، فكان ينبغي ألا يضيق صدر
رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا يحمل ذلك الهم والغم الشديدين اللذين
272

حملهما، ويقول: صفوان من الصحابة وعائشة من الصحابة والمعصية عليهما
ممتنعة.
وأمثال هذا كثير وأكثر من الكثير لمن أراد أن يستقرئ أحوال القوم. وقد
كان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك، ويقولون في العصاة منهم مثل هذا
القول، وإنما اتخذهم العامة أربابا بعد ذلك.
قال: ومن الذي يجترئ على القول بأن أصحاب محمد لا تجوز البراءة من
أحد منهم وإن أساء وعصى بعد قول الله تعالى للذي شرفوا برؤيته: " لئن
أشركت ليحبطن عملك وتكونن من الخاسرين " بعد قوله: " قل إني أخاف
إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم " وبعد قوله: " فاحكم بين الناس بالحق ولا
تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب
شديد "؟ إلا من لا فهم له ولا نظر معه ولا تمييز عنده.
قال: ومن أحب أن ينظر إلى اختلاف الصحابة وطعن بعضهم في بعض
ورد بعضهم على بعض، وما رد به التابعون عليهم واعترضوا به أقوالهم واختلاف
التابعين أيضا فيما بينهم وقدح بعضهم في بعض، فلينظر في كتاب النظام.
قال الجاحظ: كان النظام أشد الناس إنكارا على الرافضة، لطعنهم على
الصحابة حتى إذا ذكر الفتيا وتنقل الصحابة فيها وقضاياهم بالأمور المختلفة
وقول من استعمل الرأي في دين الله انتظم مطاعن الرافضة وغيرها وزاد عليها،
وقال في الصحابة أضعاف قولها.
قال: وقال بعض رؤساء المعتزلة: غلط أبي حنيفة في الأحكام عظيم، لأنه
أضل خلقا. وغلط حماد أعظم من غلط أبي حنيفة، لأن حمادا أصل أبي حنيفة
الذي منه تفرع. وغلط إبراهيم أغلظ وأعظم من غلط حماد، لأنه أصل حماد.
وغلط علقمة والأسود أعظم من غلط إبراهيم، لأنهما أصله الذي عليه اعتمد.
وغلط ابن مسعود أعظم من غلط هؤلاء جميعا، لأنه أول من بدر إلى وضع
273

الأديان برأيه، وهو الذي قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله وإن
يكن خطأ فمني.
قال: واستأذن أصحاب الحديث على ثمامة بخراسان - حيث كان مع
الرشيد بن المهدي - فسألوه كتابه الذي صنفه على أبي حنيفة في اجتهاد الرأي،
فقال: لست على أبي حنيفة كتبت ذلك الكتاب، وإنما كتبته على علقمة
والأسود وعبد الله بن مسعود، لأنهم الذين قالوا بالرأي قبل أبي حنيفة.
قال: وكان بعض المعتزلة أيضا إذا ذكر ابن عباس استصغره وقال:
صاحب الذؤابة يقول في دين الله برأيه.
وذكر الجاحظ في كتاب المعروف ب‍ " كتاب التوحيد ": أن أبا هريرة ليس
بثقة في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: ولم يكن علي عليه
السلام يوثقه في الرواية، بل يتهمه ويقدح فيه، وكذلك عمر وعائشة.
وكان الجاحظ يفسق عمر بن عبد العزيز ويستهزئ به ويكفره، وعمر بن
عبد العزيز وإن لم يكن من الصحابة، فأكثر العامة يرى له من الفضل ما يراه
لواحد من الصحابة.
وكيف يجوز أن نحكم حكما جزما أن كل واحد من الصحابة عدل؟ ومن
جملة الصحابة: الحكم بن أبي العاص وكفاك به عدوا ومبغضا لرسول الله
صلى الله عليه وآله. ومن الصحابة الوليد بن عقبة الفاسق بنص الكتاب.
ومنهم حبيب بن مسلمة الذي فعل ما فعل بالمسلمين في دولة معاوية. وبسر بن
أرطاة عدو الله وعدو رسوله. وفي الصحابة كثير من المنافقين لا يعرفهم الناس.
وقال كثير من المسلمين: مات رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يعرفه
الله سبحانه كل المنافقين بأعيانهم، وإنما كان يعرف قوما منهم ولم يعلم بهم
أحدا إلا حذيفة فيما زعموا، فكيف يجوز أن نحكم حكما جزما أن كل واحد
ممن صحب رسول الله أو رآه أو عاصره عدل مأمون لا يقع منه خطأ ولا
274

معصية؟ ومن الذي يمكنه أن يتحجر واسعا كهذا التحجر أو يحكم هذا الحكم؟
قال: والعجب من الحشوية وأصحاب الحديث! إذ يجادلون على معاصي
الأنبياء ويثبتون أنهم عصوا الله تعالى، وينكرون على من ينكر ذلك ويطعنون
فيه ويقولون: قدري معتزلي، وربما قالوا: ملحد مخالف لنص الكتاب، وقد
رأينا منهم الواحد والمائة والألف يجادل في هذا الباب، فتارة يقولون: إن
يوسف قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من المرأة، وتارة يقولون: إن داود قتل
أوريا لينكح امرأته، وتارة يقولون: إن رسول الله كان كافرا ضالا قبل النبوة،
وربما ذكروا زينب بنت جحش وقصة الفداء يوم بدر.
فأما قدحهم في آدم عليه السلام وإثباتهم معصيته ومناظرتهم من يذكر
ذلك فهو دأبهم وديدنهم، فإذا تكلم واحد في عمرو بن العاص أو في معاوية
وأمثالهما ونسبهم إلى المعصية وفعل القبيح احمرت وجوههم وطالت أعناقهم
وتخازرت أعينهم وقالوا: مبتدع رافضي يسب الصحابة ويشتم السلف!
فإن قالوا: إنما اتبعنا في ذكر معاصي الأنبياء نصوص الكتاب، قيل لهم:
فاتبعوا في البراءة من جميع العصاة نصوص الكتاب، فإنه تعالى قال: " لا تجد
قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " وقال: " فإن بغت
إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله " وقال: " أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ".
ثم يسألون عن بيعة علي عليه السلام هل هي صحيحة لازمة لكل
الناس؟ فلا بد من بلى، فيقال لهم: فإذا خرج على الإمام الحق خارج أليس
يجب على المسلمين قتاله حتى يعود إلى الطاعة؟ فهل يكون هذا القتال إلا
البراءة التي نذكرها، لأنه لا فرق بين الأمرين، وإنما برئنا منهم لأنا لسنا في
زمانهم فيمكننا أن نقاتل بأيدينا، فقصارى أمرنا الآن أن نبرأ منهم ونلعنهم،
وليكون ذلك عوضا عن القتال الذي لا سبيل لنا إليه.
275

قال هذا المتكلم: على أن النظام وأصحابه ذهبوا أنه لا حجة في الإجماع
وأنه يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ والمعصية وعلى الفسق بل على الردة. وله
كتاب موضوع في الإجماع يطعن فيه أدلة الفقهاء، ويقول: إنها ألفاظ غير
صريحة في كون الإجماع حجة، نحو قوله: " جعلناكم أمة وسطا " وقوله: " كنتم
خير أمة " وقوله: " ويتبع غير سبيل المؤمنين ".
وأما الخبر الذي صورته: " لا تجتمع أمتي على الخطأ " فخبر واحد. وأمثل
دليل للفقهاء قولهم: إن الهمم المختلفة والآراء المتباينة إذا كان أربابها كثيرة
عظيمة، فإنه يستحيل اجتماعهم على الخطأ، وهذا باطل باليهود و النصارى
وغيرهم من فرق الضلال (1).
هذه خلاصة ما كتبه النقيب أبو جعفر علقه بخطه على الجزء الذي أقرأناه.
(459)
الأحنف ومعاوية
سأل معاوية الأحنف عن أشعر الشعراء؟ فقال: زهير. قال: وكيف ذاك؟
قال: ألقى على المادحين فضول الكلام وأخذ خالصه وصفوته. قال: مثل
ماذا؟ قال: مثل قوله:
وما يك من خير أتوه فإنما * توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه * وتغرس إلا في منابتها النخل (2)
(460)
محمد بن الحنفية وعبد الله بن الزبير
قال: ونظر عبد الله بن الزبير أنه قد صفت له العراقان جميعا والبصرة

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 20 ص 10 - 34.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 20 ص 156
276

والكوفة بقتل المختار بن أبي عبيد وعبيد الله بن الحر، فأرسل إلى محمد بن الحنفية
بأخيه عروة بن الزبير: أن هلم فبايع، فقد قتل الله الكذاب وابن الحر المرتاب،
والأمة قد استوسقت، والبلاد قد افتتحت، فادخل فيما دخل فيه الناس من أمر
البيعة، وإلا فإننا منابذوك.
قال: فغضب محمد بن الحنفية من ذلك، ثم أقبل على عروة بن الزبير،
فقال: بؤسا لأخيك! ما ألجه في إسخاط الله وأغفله عن طاعة الله! أنا أبايع
أخاك وعبد الملك بن مروان بالشام يرعد ويبرق؟
قال: ثم وثب رجل من أصحابه، فقال: جعلت فداك! يا ابن أمير المؤمنين
علي الرضي وابن عم النبي، والله ما الرأي عندنا إلا أن توثق هذا الساعة في
الحديد وتحبسه عندك، فإن أمسك عنك أخاه وبعث بالرضا، وإلا قدمت هذا
فضربت عنقه.
فقال محمد بن الحنفية: سبحان الله! أو يكون هذا الذي ذكرت من
أعمال الجبابرة وأهل الغدر؟ معاذ الله أن نقتل من لم يقتلنا أو نبدأ بقتال من لم
يقاتلنا.
قال: ثم أقبل ابن الحنفية على عروة بن الزبير، فقال له: انطلق إلى أخيك
هذا فقل له عني: إنك ذكرت أنه قد استوسق لك الناس وفتحت لك البلاد،
وهذا عبد الملك بن مروان حي قائم يدعى له بالشامات كلها وأرض مصر، وفي
يده مفاتيح الخلافة، ولست أدري ما يكون من الحدثان، فإذا علمت أنه ليس
أحد يناويك في سلطانك بايعتك ودخلت في طاعتك والسلام.
قال: فرجع عروة إلى أخيه عبد الله، فأخبره بذلك.
قال: ثم قام محمد بن الحنفية في أصحابه خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه،
وقال: أيها الناس! إن هذه الأمة قد ضلت عن رسول الله صلى الله عليه وآله
في ربها وتاهت عن معالم دينها، إلا قليلا منها، فهم يرتعون في هذه الدنيا حتى
277

كأنهم لها خلقوا، وقد نسوا الآخرة حتى كأنهم بها لم يؤمروا، فهم يضلون على
الدنيا أنفسهم، ويقطعون فيها أرحامهم، ويفرطون لها عن سنة نبيهم، ولا
يبالون ما أتوه فيها من نقص دينهم إذا سلمت لهم دنياهم. اللهم فلا تنسنا
ذكرك، ولا تؤمنا مكرك، ولا تجعل الدنيا لنا هما، ولا تحرمنا صحبة الصالحين
في دار السلام.
قال: ثم أقبل على أصحابه، فقال:
إني أرى ما بكم من الجهد، ولو كان عندي فضل لم أدخره عنكم، وقد
تعلمون ما ألقى من هذا الرجل الذي قرب دماؤه وساء جواره، وظهرت عداوته
واشتدت ظغينته، يريد أن يثور بنا في مكاننا هذا، وقد أذنت لمن أحب منكم
أن ينصرف إلى بلاده، فإنه لا لوم عليه مني، وأنا مقيم في هذا الحرم أبدا حتى
يفتح الله لي، وهو خير الفاتحين.
قال: فقام إليه أبو عبد الله الجدلي - وكان من خيار أصحابه - فقال:
سبحان الله! يا أبا القاسم، نحن نفارقك على هذه الحالة وننصرف عنك!
لا والله! ما سمعنا إذا ولا أبصرنا ما نقلنا أقدامنا وثبتت قوائم سيوفنا في أكفنا،
وعقلنا عن الله أمرنا ونهينا.
قال: ثم وثب عبد الله بن سلع الهمداني، فقال:
ثكلتني أمي وعدمتني إن أنا فارقتك وانصرفت عنك إلى أحد من الناس
هو خير منك أو شبيه بك، والله ما نعلم مكان أحد هو أصلح منك في وقتنا
هذا، ولكن نصير معك، فإن نمت فمجدا، وإن نقتل فشهداء، ولا والله لئن
أقتل معك على بصيرة محتسبا لنفسي أحب إلي من أن أوتى أجر عشرين
شهيدا معك.
قال: ثم وثب محمد بن بشر الشاكري، فقال:
يا ابن خير الأخيار وابن أبر الأبرار ما خلا النبيين والمرسلين، والله لئن
278

آكل الأطعمة المحرمة والحلوى البالية والميتة والدم على حال الضرورة أحب
إلي من البقاء مع القوم الظالمين، لأنه قد ابتلي الصالحون من قبلنا، فكانت
تقطع أيديهم وأرجلهم وتسمل أعينهم ويصلبون على جذوع النخل أحياء، كما
فعل ابن سمية زياد بن أبيه وابن مرجانة عبيد الله بن زياد الفاجر الفاسق
بشيعتكم، فكانوا يقتلون صبرا، كما قتل حجر بن عدي وأصحابه، وكل ذلك
كانوا يقتلون، وعلى ذلك كانوا يصبرون.
قال: فقال لهم محمد بن الحنفية: جزاكم الله من صحابة خير ما جزى
الصالحين الصابرين.
قال: وجد عبد الله بن الزبير في عداوة محمد بن الحنفية، كل ذلك ليبايع
ابن الحنفية، وهو يأبى ذلك.
قال: وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان فكتب إلى محمد بن الحنفية:
أما بعد، فقد بلغني ما به ابن الزبير مما لست له أهل، وأنا عن قليل سائر
إليه إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فانظر إذا قرأت كتابي هذا،
فسر إلى ما قبلي أنت ومن معك من شيعتك، وانزل حيث شئت من أرض الشام
آمنا مطمئنا إلى أن يستقيم أمر الناس فنختار أي الخصال أحببت، والسلام.
قال: فعندها عزم محمد بن الحنفية على المسير إلى الشام، وكتب عبد الله بن
عباس إلى عبد الملك بن مروان:
أما بعد، فإنه قد توجه إلى بلادك رجل منا: لا يبدأ بالسوء، ولا يكافئ على
الظلم، لا بعجول ولا بجهول، سريع إلى الحق، أصم عن الباطل، ينوي العدل،
ويعاف الحيف، ومعه نفر من أهل بيته وعدة من رجال شيعته، لا يدخلون دارا
إلا بإذن، ولا يأكلون إلا بثمن، رهبان بالليل ليوث بالنهار، فاحفظنا فيهم
رحمك الله! فإن ابن الزبير قد نابذنا ونابذناه بالعداوة، والسلام.
قال: فكتب إليه عبد الملك بن مروان:
279

أما بعد، فقد أتاني كتابك توصيني فيه بمن توجه إلى ما قبلي من أهل
بيتك، فما أسرني بصلة رحمك وحفظ وصيتك! وكل ما هويت من ذلك فمفعول
متبع، فأنزل بي حوائجك رحمك الله! إن أحببت، فلن أعرج عن حاجة لك
قبلي، فإنك أصبحت عظيم الحق علي مكينا لدي، وفقنا الله وإياك لأفضل
الأمور، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قال: فعندنا تجهز محمد بن الحنفية وخرج من مكة فيمن معه من أهل بيته
وأصحابه، وبين يديه رجل من شيعته يرتجز ويقول أبياتا مطلعها
هديت يا مهدي وابن المهتدي * أنت الذي نرضى به ونقتدي
إلى آخرها.
قال: ثم جعل أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني يرتجز أيضا بين يدي محمد
ابن الحنفية، وهو يقول أبياتا مطلعها:
يا إخوتي يا شيعتي لا تبعدوا * إني زعيم لكم أن ترشدوا
إلى آخرها.
قال: ثم سار محمد بن الحنفية حتى صار إلى مدينة مدين وبها يومئذ عامل
من قبل عبد الملك بن مروان يقال له: " مطهر بن يحيى العتكي " فلما نظر
هؤلاء القوم أمر بباب المدينة فأغلق ولقي من ناحيتهم، فناداهم
أصحاب محمد: يا أهل مدين لا تخافوا فإنكم آمنون، إنما نريد منكم أن تقيموا
لنا السوق حتى نتسوق منه ما نريد، نحن أصحاب محمد بن علي بن
أبي طالب، لسنا نرزأ أحدا شيئا ولا نأكل شيئا إلا بثمن.
قال: ففتح أهل مدين باب مدينتهم وأخرجوا لهم الأنزال.
فقال محمد بن الحنفية لأصحابه: أيها الناس إني قد وطئت بكم آثار
الأولين وأريتكم ما فيه معتبر وتبصرة لكم إن كنتم تعقلون، ألم تروا إلى ديار
عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين! كانوا عمار الأرض من قبلكم وسكانها،
280

أعطوا من الأموال ما لم تعطوا، وأوتوا من الأعمار ما لم تؤتوا، فأصبحوا في القبور
رميما، كأنهم لم يعمروا الأرض طرفة عين ولم تكن لهم الدنيا بدار.
قال: ثم سار محمد بن الحنفية وأصحابه حتى نزلوا مدينة إيلة، فجعلوا
يصومون النهار ويقومون الليل، وجعل كل من مر بهم وقدم إلى دمشق يحدث
عنهم، ويقول: ما رأينا قوما قط خيرا من هؤلاء القوم الذين قد دخلوا أرض
الشام، إنما هم صيام وقيام لا يظلمون أحدا ولا يؤذون مسلما ولا معاهدا،
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
قال: وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فندم على كتابه إلى ابن الحنفية
وسؤاله إياه أن يقدم إلى بلاد الشام لما شاع في الناس من خبره وحسن الثناء
عليه.
ذكر كتاب عبد الملك بن مروان إلى محمد بن الحنفية من دمشق وجوابه إياه:
أما بعد، فإنك قدمت إلى بلادنا بإذن منا، وقد رأيت أن لا يكون في
سلطاني رجل لم يبايعني، فإن أنت بايعتني فهذه مراكب قد أقبلت من أرض
مصر إلى إيلة، فيها من الأطعمة والأمتعة والأشياء كذا وكذا، فخذ ما فيها لك،
ومع ذلك ألف ألف درهم اعجل لك منها مائتي ألف درهم، وتؤخرني بقيتها
إلى أن افرغ من أمر ابن الزبير ويجتمع الناس إلى إمام واحد، وإن أنت أبيت
أن تبايع فانصرف إلى بلد لا سلطان لنا بها، والسلام.
قال: فكتب إليه محمد بن الحنفية:
أما بعد، فإننا قدمنا هذه البلاد بإذنك إذ كان موافقا لك، ونحن راحلون
عنها بأمرك إذ كنت كارها لجوارنا، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قال: ثم خرج محمد بن الحنفية من إيلة راجعا إلى مكة ومعه أهل بيته
وأصحابه، وهو يتلو هذه الآية: " قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك
يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا
281

كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما
يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله
توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين " (1).
قال: ثم سار ابن الحنفية حتى صار إلى مدين أقبل على أصحابه فقال: يا
هؤلاء! أنتم نعم الإخوان والأنصار ما علمتم، ولو كان عندي ما يسعكم لأحببت
أن لا تفارقوني أبدا حتى تنجلي هذه الغمة، فإن أحببتم فانصرفوا إلى مصركم
محمودين، فإنكم تقدمون إلى الناس وبهم إليكم حاجة، وأنا سأقدم إلى مكة
إلى معاندة ابن الزبير، ولا أحب أن تكونوا مجهودين.
قال: فعندها ودع أصحابه وانصرفوا إلى الكوفة، وبها يومئذ مصعب بن
الزبير.
فأرسل إليهم فدعاهم، وقال: من أنتم؟ وما أقدمكم إلى مصرنا هذا
ذنبكم (2)؟ فقالوا: نحن أصحاب محمد بن الحنفية ولم نقدم لسوء، إنما قدمنا إلى
بلادنا، فاجعل لنا أرزاقنا واصطنعنا، وإن دخلت (3) ذلك دخلنا في بيعتك وأقررنا في
بلدك وعشائرنا.
قال: فأمرهم مصعب بن الزبير فبايعوه وأقاموا عنده.
ومضى ابن الحنفية بمن معه من أهل بيته ومواليه حتى نزل بشعب
أبي طالب بمكة، وبلغ عبد الله بن الزبير، فأرسل إليه: أن ارتحل عن هذا
الشعب أنت وأصحابك هؤلاء الذين معك، وإلا هلم فبايع.
فقال ابن الحنفية لرسوله: ارجع إليه وقل له: إن الله تعالى قد جعل هذا
البلد آمنا وأنت تخيفني فيه! ولست بشاخص عن مكاني هذا أبدا إلى أن يأذن

(1) الأعراف: 88 - 89.
(2) كذا في الأصل.
(3) " فعلت " ظ
282

الله لي في ذلك، فاصنع ما أنت صانع!!
وجرى بينهم اختلاف شديد، وبلغ ذلك من كان بالكوفة من أصحابه
الذين فارقوه، فرجعوا إليه في جمعهم حتى نزلوا في الشعب، قالوا: والله
لا نفارقك أبدا أو لنموتن بين يديك! قال: وأمسك ابن الزبير عن ابن الحنفية
وكف عنه إلى أن حجت الناس.
فلما كان يوم النفر أرسل بأخيه عروة بن الزبير وعبد الله بن مطيع العدوي
في رجال من قريش إليه، فأقبل القوم حتى دخلوا الشعب إلى ابن الحنفية،
فقالوا: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تتنحى عن هذا الشعب الذي أنت نازل فيه،
فإنه قد عزم إن لم تفعل ولم تنتقل إلى موضع غيره أن يسير إليك حتى يناجزك،
فإن أردت الشخوص فهذا يوم الجمعة قم فانفر مع الناس وامضي إلى حيث
شئت من البلاد.
قال: فسكت ابن الحنفية وقام رجل من أصحابه يقال له: معاذ بن هاني،
فقال: أيها المهدي! إن هذا البلد قد جعل الله عز وجل الناس فيه سواء
العاكف فيه والباد، وليس أحد أحق به من أحد، وهذا الرجل قد ألحد في
الحرم وسفك فيه الدم، وقد بعث إليك مرة بعد أخرى يأمرك بالتنحي عنه،
فإن هو أبى إلا إشخاصك تركا لأمر الله وجرأة عليه، فقد بدأك بالظلم وبما لم
تكن تستحله، وقد اضطرك وإيانا إلى ما لا صبر لك عليه، فخل بيننا وبينه،
فوالله إني لأرجو أن آتيك به سلما أو يقتل هؤلاء أصحابه الفساق الجبارون
وأعداء الصالحين، فإنما هم أعراب أهل اليمامة وجهال أهل مكة، ولقد قاتلهم
قوم ينوون رضوان الله وثواب الآخرة، ولما ثبتوا للطعان والضراب ولا تذعروا
بدعارة أولاد الحجل.
قال: فغضب عبد الله بن مطيع من ذلك، ثم أقبل على ابن الحنفية فقال:
يا أبا القاسم! لا يغرنك عن نفسك حائك أهل اليمن هذا وأشباهه، فإني أعلم
283

أنهم إن أوردوك لم يصدروك، أفليس هم قتلة أبيك وابن عمك وأخيك؟
فقال ابن الحنفية: لا بل هم أنصاري وشيعتي الذين عليهم أعتمد بعد الله.
فقال عبد الله بن مطيع: اقبل مني، إما أن تبايع هذا الرجل وإلا فانج
بنفسك من قبل التورط، ومن قبل أن تتمنى النجاة ولات حين نجاة.
قال: فقال معاذ بن هانئ لعبد الله بن مطيع: يا ابن نساجة العبا! نحن
نسلم لك ولصاحبك هذا ولما نقتل بين يديه أو نبيدكم عن آخركم؟
قال: وارتفعت أصوات القوم فسكتهم ابن الحنفية عن آخرهم، ثم أقبل
على أصحابه، فقال: أخبروني عنكم ماذا عندكم من الرأي فإني أكره سفك
الدماء في حرم الله وحرم رسوله محمد صلى الله عليه وآله؟
قال أصحابه: الرأي رأيك، فانظر ما هو الصواب فالقه إلينا فإننا لن
نعدوه، إن أمرتنا بقتال القوم قاتلناهم، وإن أمرتنا بالكف عنهم كففنا، وحمدنا
الله على ذلك، ورجونا الخيرة فيما قضى الله عز وجل من ذلك وقدر.
قال: فأطرق ابن الحنفية ساعة، وقال: اللهم إن هذا الرجل قد ظلمني
وتعدى علي في إخراجه إياي من حرمك وحرم رسولك محمد صلى الله عليه
وآله، اللهم فألبسه لباس الذل والخوف وسلط عليه وعلى أشياعه وناصريه من
يسومهم سوء العذاب، اللهم عاقبه بخطيئته، واجعل دائرة السوء عليه بسوء
نيته وجريرته، وخذه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله، وأنزل به
بأسك وغضبك الذي لا ترده عن القوم المجرمين.
قال: ثم عزم ابن الحنفية على المسير إلى الطائف هو وأصحابه (1).
* * *

(1) الفتوح لابن أعثم: ج 6 ص 237
284

(461)
ابن عباس وابن الزبير
قال: وبلغ ذلك عبد الله بن عباس أن ابن الحنفية يريد أن يمضي إلى
الطائف فأقبل مغضبا حتى دخل على عبد الله بن الزبير فقال: يا هذا! والله
ما ينفعني تعجبي منك ومن ائتزازك (1) وجرأتك على بني عبد المطلب، تخرجهم من
حرم الله وحرم رسوله محمد صلى الله عليه وآله وهم بالحرم وأعظم فيه نصيبا
منك، أما والله! إن عواقب الظلم لترد إلى مساءة وندامة.
فقال له ابن الزبير: يا ابن عباس، إنه قد قتل الله المختار الكذاب الذي
كنتم تمدون أعينكم إلى نصرته لكم.
فقال ابن عباس: يا ابن الزبير! دع عنك المختار، فإنه قد بقيت لك عقبة
تأتيك من أرض الشام، فإذا قطعتها فأنت أنت
قال: فغضب ابن الزبير، ثم قال: والله يا ابن عباس ما منك أعجب بل
أعجب من نفسي! كيف أدعك تنطق بين يدي بملء فيك؟
قال: فتبسم ابن عباس، ثم قال: والله ما نطقت بين يدي أحد من الولاة
كما نطقت بين يديك، ولقد نطقت وأنا غلام بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وآله وأبي بكر الصديق، فعجبوا لتوفيق الله إياي، ولقد نطقت وأنا رجل
بين يدي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وكانوا يروني
أحق من نطق، يستمع رأيي ويقبل مشورتي، وهؤلاء الذين ذكرتهم من بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله خير منك ومن أبيك.
قال: فازداد غضب ابن الزبير، ثم قال: لقد علمت أنك ما زلت لي
ولأهل بيتي مبغضا منذ كنت، ولقد كتمتم (كتمت خ ل) بغضكم يا

(1) أزر: أي ماج، والائتزاز: الهجوم والازدحام
285

بني هاشم أربعين سنة.
فقال ابن عباس: فازدد إذا بي غضبا، فوالله لا نبالي أحببتنا أم أبغضتنا.
قال له ابن الزبير: اخرج عني لا أراك تقربني. قال ابن عباس: أنا أزهد
فيك من أن تراني عندك.
قال ابن الزبير: دع عنك هذا! واذهب إلى ابن عمك هذا فقل: ليخرج
عن جواري ولا يتربص، فإني ما أظنه سالما مني أو يصيبه مني ظفر.
قال ابن عباس: ما ولوعك بابن عمي وما تريد منه؟ قال: أريد منه أن يبايع
كما بايع غيره، قال: مهلا يا ابن الزبير! احذر، فإن مع اليوم غدا.
قال ابن الزبير: صدقت مع اليوم غد، وليس يجب عليك أن تكلمني في
رجل ضعيف سخيف ليس له قدم ولا أثر محمود.
قال: فتنمر ابن عباس غضبا، ثم قال له: إنه ليس على هذا صبر يا ابن
الزبير، والله إن أباه لأفضل من أبيك، أسرته خير من أسرتك، وإنه لفي نفسه
خير منك، وبعد فرماه الله بك إن كان شرا منك في الدين والدنيا.
قال: ثم خرج ابن عباس من عند ابن الزبير مغضبا، وأقبل حتى جلس
في الحجر، واجتمع إليه قوم من أهل بيته ومواليه، فقالوا: ما شأنك يا ابن
عباس؟ فقال: ما شأني؟! أيظن ابن الزبير أني مساعده على بني عبد المطلب!
والله إن الموت معهم لأحب إلي من الحياة معه، أما والله! إن كان ابن الحنفية
سخيفا ضعيفا كما يقول لكانت أنملته أحب إلي من ابن الزبير وآله الزبير، فإنه
والله عندي لأوفر عقلا من ابن الزبير وأفضل منه دينا وأصدق منه حياء
وورعا.
قال: فقال له رجل من جلسائه: يا ابن عباس إنه قد ندم على ما كان من
كلامه وهو الذي بعثنا اعتذارا.
قال ابن عباس: فليكف عن أهل بيته، فقد قال القائل: " غثك خير من
286

سمين غيرك " أما والله لو فتح لي من بصري لكان لي ولابن الزبير ولبني أبيه
يوم أرونان (1) (2).
(462)
ابن عباس وابن الزبير
قال: وبلغ ابن الزبير أن ابن عباس يقول فيه ما يقول، فخرج من منزله في
عدة من أصحابه حتى وقف في الناس خطيبا، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال:
أيها الناس! إن فيكم رجلا أعمي الله قلبه كما أعصى الله بصره، يزري على
عائشة أم المؤمنين ويعيب طلحة والزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وآله
ويحل المتعة، فاجتنبوه، جنبه الله السداد.
قال: وكان ابن عباس يومئذ حاضرا، فلما سمع ذلك وثب قائما على
قدميه، ثم قال: يا ابن الزبير! أما ما ذكرت من أم المؤمنين عائشة، فإن أول
من هتك عنها الحجاب أنت وأبوك وخالك، وقد أمرها الله عز وجل أن تقر في
بيتها، فلم تفعل، فتجاوز الله عنها ورحمها. وأما أبوك وأنت وخالك طلحة
وأشياعكم، فلقد لقيناكم يوم الجمل فقاتلنا كم، فإن كنا مؤمنين فقد كفرتم
بقتالكم المؤمنين، وإن كنا كفارا فقد كفرتم بفراركم من الزحف. وأما ذكرك
للمتعة، إني أحلها، فإني إنما كنت أفتيت فيها في خلافة عثمان بن عفان.
وقلت: إنما هي كالميتة والدم ولحم الخنزير لمن اضطر إليها حتى نهاني عنها
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقال: أني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وآله حين رخص فيها على حد الضرورة، وسمعته حين حرمها ونهى عنها بعد
ذلك، وإن الله تبارك وتعالى قد حرمها ونهى أن يرخص فيها، فما رخصت فيها

(1) الأرونان: الصوت والصعب من الأيام، ويوم أرونان مضافا ومنعوتا: صعب وسهل ضد (قاموس)
وراجع لسان العرب.
(2) الفتوح لابن أعثم: ج 6 ص 248 - 251 وراجع نور القبس: ص 68
287

لأحد بعد ذلك إلى يومي هذا. فإنه قد كان يجب عليك أن لا تذكر المتعة،
فإنك إنما ولدت من متعة، فإذا نزلت عن منبرك هذا فصر إلى أمك فسلها عن
بردي عوسجة.
قال: فقال له ابن الزبير: أخرج عني لا تجاورني، فقال: نعم و الله
لأخرجن خروج من يقلوك ويذمك. ثم قال ابن عباس: اللهم إنك قادر على
خلقك وقائم على كل نفس بما كسبت، اللهم وإن هذا الرجل فقد أبدى لنا
العداوة والبغضاء، فارمه منك بحاصب وسلط عليه من لا يرحمه.
قال: ثم خرج ابن عباس من مكة إلى الطائف ومحمد بن الحنفية في
أصحابه (1).
(463)
محمد بن الحنفية وعبد الملك
قال (بعد ذكر مقتل عبد الله بن الزبير) وإذا كتاب عبد الملك بن مروان قد
ورد على محمد بن الحنفية: أما بعد، فإذا أتاك كتابي وبلغك رسولي فاخرج إلى
عاملي الحجاج بن يوسف فبايعه واستقم، فإن الناس قد بايعوا واستقاموا، فإن
فعلت ذلك منعت مني مالك وأهلك وولدك، وإلا فوالذي لا إله إلا هو لئن
أبيت وتربصت وارتبت وقدمت رجلا وأخرت أخرى لا سقيتك بكأس ابن
الزبير ولأنزلنك بالمنزلة التي أنزلت بها نفسك، والسلام.
قال [فكتب] إليه ابن الحنفية: أما بعد، فقد أتاني كتابك ترعد لي وتبرق،
وتذكر أن الناس قد بايعوا واستقاموا، وأنه لم يكن من شأني أن أبايع أحدا
حتى يجتمع الناس على رجل واحد كنت أنت أم غيرك، وأيما واحد من
الناس رضوا به بايعته، وإلا فهذا مكاني حتى يحكم الله بيني وبين من أرادني

(1)
فتوح ابن أعثم: ج 6 ص 251 - 252، وراجع ج 5 ص 451
288

بسوء وهو أحكم الحاكمين. وأما ما ذكرت أنك تسقيني بكأس ابن الزبير إن
أنا لم أستقم ولم أبايع، فإن ذلك ليس إليك ولا بيدك، إن لله تعالى في كل يوم
ثلاثمائة لمحة يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويرفع ويضع، ويفعل ما يشاء ويحكم
ما يريد، وقد رجوت أن يلحقك بعض لمحاته فيرد عني كيدك وبغيك
وظلمك، والسلام.
قال: فلما ورد كتاب محمد بن الحنفية على عبد الملك بن مروان غضب
لذلك ثم استشار أهل الشام في قتله فكل أشار عليه بذلك، قال: واتقى ابن
الحنفية وخشي أن يكتب إلى الحجاج فيأمره فيه بأمر ولم يجد من البيعة لعبد
الملك بن مروان بدا فعزم على الكتاب إليه في ذلك.
قال: فدعا ابن الحنفية برجل من شيعته يكنى أبا عبد الله ويعرف بالجدلي،
وكان من خيار شيعته، فكتب معه كتابا إلى عبد الملك بن مروان:
أما بعد، فإني لما رأيت هذه الأمة قد اختلفت نيتها وضيعت دينها
وسفهت أحلامها ونبذت علم كتاب الله ربها وسفكت دماءها بغير حق،
اعتزلتهم إلى البيت الحرام الذي من دخله كان آمنا لأمنع بذلك دمي من
الجهال والضلال والظالمين وكل جبار عنيد لا يؤمن بيوم الحساب، وتركت
الناس أشياعا وأحزابا، كل يعمل على شاكلته، والله يقضي بالحق، ويحكم
يوم القيامة بين الخلق، فيجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا
بالحسنى. وقد كان من رأيي ورأي من اتبعني واقتدى برأيي: أن لا نجتمع بأحد
اختلف الناس عليه ولا نخالف أحدا اجتمع الناس له، قد رأينا أن قد اجتمع
الناس لك، ونحن عصابة قليلون، وقد بعثنا إليك رسولا ليأخذ منك أمانا وعلى
الوفاء لنا بذلك عهدا وثيقا، فإن أجبت إلى ذلك كنا إليك سراعا، وإن أبيت
فأرض الله واسعة ولمن أتقى تكون العاقبة، وقد أردت بهذا الكتاب اتخاذ الحجة
عليك، وفقنا الله وإياك لمراشد الأمور، والسلام.
289

قال: فمضى رسول ابن الحنفية إلى عبد الملك بن مروان، وإذا رسول
الحجاج قد أقبل إلى ابن الحنفية أن هلم فبايع! وإلا ألحقتك بمن قد علمت،
والسلام.
قال: فأرسل إليه ابن الحنفية: إني كتبت إلى عبدا الملك بن مروان كتابا
وأرسلت إليه رسولا ليأخذ لي منه أمانا، وإنما انتظاري لجواب الكتاب، ثم
البيعة إذا أعطاني ما سألت، والسلام.
قال: فأرسل إليه الحجاج: يا ابن الحنفية وتشترط على أمير المؤمنين
الشروط! والله لتبايعن طائعا أو كارها، وإلا ألحقتك بابن الزبير! قال: فكره
ابن الحنفية أن يبايع الحجاج من قبل أن يقدم إليه رسوله بالأمان من عند
عبد الملك بن مروان.
قال: ولج الحجاج في أمره حتى اتقاه ابن الحنفية على نفسه، وأقبل عبد الله
ابن عمر بن الخطاب حتى دخل على الحجاج، فقال: أيها الأمير ما تريد من
هذا الرجل؟ فوالله إنه لخير فاضل، وما أعلم في زمانه رجلا مثله ولا أزكى على
الله أحدا، فكف عنه أيها الأمير، فإنه قد كتب إلى ابن عمه كتابا وإنما ينتظر
الجواب، ثم يبايع.
قال: فكف عنه الحجاج، وإذا بأبي عبد الله الجدلي قد أقبل بالجواب من
عبد الملك بن مروان:
أما بعد، فقد قدم رسولك بكتابك فقرأته، وفهمت ما ذكرت فيه وما
نويت بذلك، وأنت لعمري عندنا البر المحمود، فأقبل إلينا آمنا مطمئنا مأمونا
حبيبا قريبا، ولك بذلك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله محمد صلى الله عليه
وآله، وأشد ما أخذ الله على أنبيائه ورسله من العهود والمواثيق المؤكدة الغليظة،
إنك لا تهاج ولا تؤذى في سلطاننا أبدأ ما بقيت أنت ولا أهلك ولا ولدك ولا
أحد من أصحابك شاهدا ولا غائبا، ولا يبدو لك منا شئ من المكروه،
290

ولعمري! لئن نحن ألجأناك إلى الذهاب في الأرض الواسعة فقد ظلمناك
وجفوناك وقطعنا رحمك، وما أنت لذلك بأهل لفضلك وإسلامك وحقك
وقرابتك، فهلم إلي حين تقرأ كتابي إن شئت ذلك إلى الرحب والسعة والأثرة
وحسن المنزلة، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قال: وجعل عبد الملك بن مروان يقول لمن عنده: وما سبيلنا على ابن
الحنفية! فقد والله سلم وغنم، ودارت لنا رحاها، واضطرب بنا أمواجها.
قال: فلما ورد كتاب عبد الملك بن مروان على ابن الحنفية وقرأه أقبل إلى
الحجاج فبايع لعبد الملك (1).
(464)
أشعب ورجل من ولد الزبير
روى الأغاني عن الهيثم بن عدي، قال: دخل أشعب مسجد النبي صلى
الله عليه وآله فجعل يطوف الحلق، فقيل له: ما تريد؟ فقال: استفتي في مسألة،
فبينا هو كذلك إذ مر برجل من ولد الزبير وهو مسند إلى سارية وبين يديه رجل
علوي، فخرج أشعب مبادرا! فقيل له: أوجدت من أفتاك في مسألتك؟ قال:
لا، ولكني علمت ما هو خير لي منها، قيل: وما ذاك؟ قال: وجدت المدينة قد
صارت كما قال الحارث بن خالد:
قد بدلت أعلى مساكنها سفلا * وأصبح سفلها يعلو
رأيت رجلا من ولد الزبير جالسا في الصدر ورجلا من ولد علي بن
أبي طالب عليه السلام جالسا بين يديه، فكفى هذا عجبا! فانصرفت (2).

(1) فتوح ابن أعثم: ج 6 ص 283 - 286، والعقد الفريد ج 4 ص 400.
(2) قاموس الرجال: ج 2 ص 96 في ترجمة أشعب
291

(465)
برير ويزيد بن معقل
عن عفيف بن زهير وكان قد شهد مقتل الحسين عليه السلام: أن يزيد بن
معقل خرج يوم الطف وقال لبرير بن خضير: كيف ترى الله صنع بك؟
قال: صنع الله والله بي خيرا، وصنع الله بك شرا.
قال: كذبت وقبل اليوم ما كنت كذابا، هل تذكر وأنا أماشيك في بني
لوذان وأنت تقول: إن عثمان كان على نفسه مسرفا، وإن معاوية ضال مضل،
وإن إمام الحق والهدى علي؟
فقال برير: أشهد أن هذا رأيي وقولي.
فقال يزيد: فإني أشهد أنك من الظالين.
فقال له برير: هل لك أباهلك؟ ولندع الله أن يلعن الكاذب ويقتل
المبطل، ثم اخرج لأبارزك، فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن
الكاذب وأن يقتل المحق المبطل.
ثم برز كل واحد منهما لصاحبه، فضرب يزيد بريرا ضربة خفيفة لم تضره
شيئا وضربه برير ضربة قدت المغفر وبلغت الدماغ، فخر كأنما هوى من حالق
الخ (1).
(466)
بهلول وأبو حنيفة
عن مجالس المؤمنين: أنه - يعني بهلول المعروف بالمجنون - سمع أبا حنيفة
يقول: إن جعفر بن محمد يقول بثلاثة أشياء لا أرتضيها، يقول: الشيطان يعذب

(1) قاموس الرجال: ج 2 ص 177، و ج 6 ص 275 عن الطبري. وبهج الصباغة: ج 6 ص 42، و ج 3
ص 245، و ج 4 ص 630
292

بالنار كيف وهو من النار؟ ويقول: إن الله لا يرى ولا تصح عليه الرؤية،
وكيف لا تصح الرؤية على موجود؟ ويقول: إن العبد هو الفاعل لفعله،
والنصوص بخلافه.
فأخذ البهلول حجرا وضربه به، فأوجعه! فذهب أبو حنيفة إلى هارون
واستحضروا البهلول ووبخوه على ذلك. فقال لأبي حنيفة: أرني الوجع الذي
تدعيه أو لا فأنت كاذب. وأيضا فأنت من تراب كيف تألمت من تراب؟
ثم ما الذي أذنبته إليك؟ والفاعل ليس هو العبد، بل الله! فسكت أبو حنيفة
وقام خجلا.
وقال: ينبغي أن يكون أبو حنيفة ذهب إلى المنصور، لأنه مات قبل خلافة
هارون (1).
(467)
بهلول وعمرو بن عطاء
عن إيضاح محمد بن جرير بن رستم الطبري: أن البهلول قال لعمرو بن
عطاء العدوي (في مجلس محمد بن سليمان العباسي، ابن عم الرشيد): لم سمي
جدك عمر أبا بكر صديقا؟ ألم يكن في زمانه سواه صديق؟ قال: لا. قال:
كذبت وخالفت قوله تعالى: " والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم
الصديقون "، وحديث رسوله صلى الله عليه وآله: " إذا فعلت الخير كنت
صديقا ".
فقال العدوي: سموه صديقا، لأنه أول من صدق النبي صلى الله عليه
وآله، قال: مع أن ذلك تخصيص خطأ في اللغة، ومخالفة للآية.
فغالطه العدوي وقال: من إمامك يا بهلول؟

(1) قاموس الرجال: ج 3 ص 252. وروضة المؤمنين: ص 6 عن محجة الاعتقاد
293

قال: إمامي من سبح في كفه الحصى، وكلمه الذئب إذ عوى، وردت له
الشمس بين الملأ، وأوجب الرسول صلى الله عليه وآله على الخلق له الولا،
فتكاملت فيه الخيرات، وتنزه عن الخلق الدنيات، فذلك إمامي وإمام
البريات.
فقال العدوي: ويلك! أليس هارون إمامك؟
قال: بل الويل لك! حيث لم تر أمير المؤمنين لهذه المحامد أهلا، وما أخالك
إلا عدوا له تظهر طاعته وتضمر مخالفته، ولئن بلغه مقالك ليؤدبنك.
فضحك العباسي وأمر بإخراج العدوي، وقال لبهلول: ما الفضل إلا
فيك، وما العقل إلا من عندك، والمجنون من سماك مجنونا، أخبرني علي
أفضل أو أبو بكر؟
قال: أصلح الله الأمير! إن عليا - عليه السلام - من النبي صلى الله عليه
وآله كالشئ من الشئ والصنو من الصنو وكالمفصل من الذراع، وأبو بكر
ليس فيه ولا يوازيه في فضله إلا مثله، ولكل فاضل فضله.
قال: أخبرني بنو علي أحق بالخلافة أم بنو العباس؟ فسكت البهلول، قال:
لم سكت؟
قال: ما للمجانين وهذا التحقيق والتمييز! ثم خرج وهو يقول:
إن كنت تهواهم حقا بلا كذب * فالزم حياتك في جد وفي لعب
إياك من أن يقولوا: عاقل فطن * فتبتلي بطويل الكد والنصب
مولاك يعلم ما تطويه من خلق * فما يضرك إن سموك بالكذب
فقال العباسي: لا إله إلا الله! لقد رزق الله علي بن أبي طالب لب كل
ذي لب (1).

(1) قاموس الرجال: ج 2 ص 253
294

بهلول وإسحاق
قال الجاحظ في بيانه: ومن مجانين الكوفة بهلول، وكان يتشيع، قال له
إسحاق بن صباح: أكثر الله في الشيعة مثلك! قال: بل أكثر الله في المرجئة
مثلي وأكثر في الشيعة مثلك! (1).
(469)
الكميت والكلبي
روى الأغاني عن المستهل بن الكميت، قال: قلت لأبي: إنك هجوت
الكلبي ففخرت ببني أمية وأنت تشهد عليهم بالكفر، فهلا فخرت بعلي عليه
السلام وبني هاشم الذين نتولاهم؟
فقال: يا بني أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية، فلو ذكرت عليا عليه
السلام لترك ذكري وأقبل على هجائه، فأكون قد عرضت عليا عليه السلام
له، ولا أجد له ناصرا من بني أمية، ففخرت عليه ببني أمية، وقلت: إن نقضها
علي قتلوه، وإن أمسك عن ذكرهم قتلته غما وغلبته، فكان كما قال (2).
(470)
النوبختي مع الحلاج
عن هبة الله بن أبي جعفر العمري، قال: لما أراد الله تعالى أن يكشف أمر
الحلاج ويظهر فضيحته ويخزيه، وقع له: أن أبا سهل بن إسماعيل النوبختي
ممن تجوز عليه مخرقته وتتم عليه حيلته، فوجه إليه يستدعيه وظن أن أبا سهل
كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله، وقدر أن يستجره إليه فيتمخرق به

(1) قاموس الرجال: ج 2 ص 253.
(2) قاموس الرجال: ج 3 ص 389
295

ويتصوف بانقياده على غيره، فيستتب له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على
الضعفة، لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحله من العلم والأدب أيضا عندهم،
و يقول له في مراسلته إياه: إني وكيل صاحب الزمان (وبهذا كان أولا يستجر
الجهال، ثم يعلو منه إلى غيره) وقد أمرت بمراسلتك وإظهار ما تريد من النصرة
لك لتقوى نفسك ولا ترتاب بهذا الأمر.
فأرسل إليه أبو سهل - رضي الله عنه - يقول له: إني أسألك أمرا يسيرا يخف
مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو أني رجل
أحب الجواري وأصبو إليهن، ولي منهن عدة أتحظاهن والشيب يبعدني عنهن،
وأحتاج أن أخضبه في كل جمعة وأتحمل منه مشقة شديده لأستر عنهن ذلك،
وإلا انكشف أمري عندهن فصار القرب بعدا والوصال هجرا، وأريد أن تغنيني
عن الخضاب وتكفيني مؤونته وتجعل لحيتي سوداء، فإني طوع يديك وصائر
إليك، وقائل بقولك وداع إلى مذهبك، مع مالي في ذلك من البصيرة ولك من
المعونة.
فلما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم أنه قد أخطأ في مراسلته
وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جوابا ولم يرسل إليه
رسولا، وصيره أبو سهل - رضي الله عنه - أحدوثة وضحكة ويطنز به عند كل
أحد. وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سببا لكشف أمره وتنفير
الجماعة عنه (1).
(471)
الحر مع أهل الكوفة
فاستقدم - الحر بن يزيد - أمام أصحابه، ثم قال:

(1) قاموس الرجال: ج 3 ص 332
296

أيها القوم! ألا تقبلون من الحسين خصلة من هذه الخصال التي عرض
عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟
قالوا: هذا الأمير عمر بن سعد فكلمه، فكلمه بمثل ما كلمه قبل وبمثل ما
كلم به أصحابه. قال عمر: قد حرصت لو وجدت إلى ذلك سبيلا فعلت.
فقال: يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر! إذ دعوتموه حتى إذا أتاكم
أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم لتقتلوه، أمسكتم بنفسه
وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب، فمنعتموه التوجه في بلاد الله
العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته، وأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك
لنفسه نفعا ولا يدفع ضرا، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات
الجاري الذي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني وتمرغ فيه خنازير السواد
وكلابه، وها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمدا في ذريته! لا أسقاكم
الله إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا من ساعتكم هذه (1).
(472)
سلمان وعمر
جلس عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ينتسبون، وفيهم
سلمان الفارسي، وإن عمر سأله عن نسبه وأصله، فقال: أنا سلمان بن عبد الله
كنت ضالا فهداني الله بمحمد صلى الله عليه وآله، وكنت عائلا فأغناني الله
بمحمد صلى الله عليه وآله، وكنت مملوكا فأعتقني الله بمحمد صلى الله عليه
وآله، وهذا حسبي ونسبي.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله، فحدثه سلمان وشكا إليه ما لقي
من القوم وما قال لهم.

(1) قاموس الرجال: ج 3 ص 101
297

فقال النبي صلى الله عليه وآله يا معشر قريش! إن حسب الرجل دينه
ومروته وأصله عقله، قال الله تعالى: " إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم
شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " يا سلمان ليس لأحد من
هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى الله، وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل (1).
(473)
الإمام الصادق عليه السلام مع جماعة
قال الأحمدي: حديث أحببت إيراده هنا وإن كان خارجا عن موضوع
الكتاب وهو:
عن ميمون بن عبد الله قال: أتى قوم أبا عبد الله عليه السلام يسألونه
الحديث من الأمصار، وأنا عنده، فقال لي: أتعرف أحدا من القوم؟
قال: قلت: لا. قال: كيف دخلوا علي؟ قلت: هؤلاء قوم يطلبون
الحديث من كل وجه، لا يبالون ممن أخذوا الحديث.
فقال لرجل منهم: هل سمعت من غيري من الحديث؟ قال: نعم. قال:
فحدثني ببعض ما سمعت.
قال: إنما جئت لأسمع منك، لم أجئ أحدثك. وقال للآخر: ذلك ما
يمنعه أن يحدثني بما سمع؟ قال: تتفضل أن تحدثني بما سمعت، أجعل الذي
حدثك حديثه أمانة لا تحدث به أحدا؟ قال: لا. قال: فأسمعنا بعض ما
اقتبست من العلم حتى نقتدي بك إن شاء الله تعالى.
قال: حدثني سفيان الثوري عن جعفر بن محمد، قال: " النبيذ كله حلال
إلا الخمر " ثم سكت.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: زدنا.

(1) قاموس الرجال: ج 4 ص 416. وبهج الصباغة: ج 11 ص 134
298

قال: حدثني سفيان عمن حدثه عن محمد بن علي أنه قال: من لا يمسح
على خفيه فهو صاحب بدعة، ومن لم يشرب النبيذ فهو مبتدع، ومن لم يأكل
الجريث وطعام أهل الذمة وذبائحهم فهو ضال، أما النبيذ فقد شربه عمر نبيذ
زبيب فرشحه بالماء، وأما المسح على الخفين فقد مسح عمر على الخفين ثلاثا
في السفر ويوما وليلة في الحضر، وأما الذبائح فقد أكلها علي وقال: كلوها،
فإن الله تعالى يقول: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب
حل لكم وطعامكم حل لهم "، ثم سكت.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: زدنا.
فقال: قد حدثتك بما سمعت. فقال: أكل الذي سمعت هذا؟ قال: لا
قال: زدنا.
قال: حدثني عمرو بن عبيد، عن الحسن، قال: أشياء صدق الناس بها
وأخذوا بها وليس في الكتاب لها أصل، منها عذاب القبر، ومنها الميزان، ومنها
الحوض، ومنها الشفاعة، ومنها النية ينوي الرجل من الخير والشر فلا يعمله
فيثاب عليه، ولا يثاب الرجل إلا بما عمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
فقال: فضحكت من حديثه، فغمزني أبو عبد الله عليه السلام أن كف
حتى نسمع. قال: فرفع رأسه إلي فقال: وما يضحكك؟ أمن الحق أم من
الباطل؟ قلت: أصلحك الله وأبكي! وإنما يضحكني منك تعجبا كيف
حفظت هذه الأحاديث؟ فسكت.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: زدنا.
قال: حدثنا سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر، أنه رأى عليا على منبر
بالكوفة، وهو يقول: لئن أتيت برجل يفضلني على أبي بكر وعمر لأجلدنه حد
المفتري.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: زدنا.
299

قال: حدثنا سفيان عن جعفر أنه قال: حب أبي بكر وعمر إيمان وبغضهما
كفر.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: زدنا.
فقال: حدثنا يونس بن عبيد، عن الحسن: أن عليا أبطأ على بيعة أبي بكر،
فقال له عتيق: ما خلفك يا علي عن البيعة، والله لقد هممت أن أضرب
عنقك، فقال له: يا خليفة رسول الله لا تثريب، فقال: لا تثريب.
قال له أبو عبد الله عليه السلام: زدنا.
قال: حدثنا سفيان الثوري، عن الحسن: أن أبا بكر أمر خالد بن الوليد أن
يضرب عنق علي إذا سلم من صلاة الصبح، وأن أبا بكر سلم بينه وبين نفسه،
ثم قال: يا خالد لا تفعل ما أمرتك.
فقال: أبو عبد الله عليه السلام: زدنا.
فقال: حدثني نعيم بن عبد الله عن جعفر بن محمد أنه قال: ود علي بن
أبي طالب أنه بنخيلات ينبع يستظل بظلهن ويأكل من حشفهن ولم يشهد يوم
الجمل ولا النهروان. وحدثني به سفيان عن الحسن.
قال أبو عبد الله عليه السلام: زدنا.
قال: حدثنا عباد، عن جعفر بن محمد، أنه قال: لما رأى علي بن
أبي طالب يوم الجمل كثرة الدماء، قال لابنه الحسن: يا بني هلكت! قال له
يا أبه ألست قد نهيتك عن هذا الخروج؟ فقال علي: يا بني لم أدر أن الأمر
يبلغ هذا المبلغ.
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: زدنا.
قال: حدثنا سفيان الثوري عن جعفر بن محمد: أن عليا لما قتل أهل
صفين بكى عليهم، فقال: جمع الله بيني وبينهم في الجنة.
قال: فضاق بي البيت وعرقت، وكدت أن أخرج من مسكي، فأردت أن
300

أقوم إليه فأتوطأه، ثم ذكرت غمز أبي عبد الله عليه السلام فكففت.
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: من أي البلاد أنت؟ قال: من أهل البصرة
قال: هذا الذي تحدث عنه وتذكر اسمه جعفر بن محمد هل تعرفه؟ قال: لا
قال: فهل سمعت منه شيئا قط؟ قال: لا. قال: فهذه الأحاديث عندك حق؟
قال: نعم، قال: فمتى سمعها؟ قال: لا أحفظ، إلا أنها أحاديث أهل
مصرنا منذ دهرنا لا يمترون فيها. قال له أبو عبد الله عليه السلام: لو رأيت هذا
الرجل الذي تحدث عنه فقال لك: هذه التي ترويها عني كذب وقال: لا
أعرفها ولم أحدث بها، هل كنت تصدقه؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: لأنه شهد
على قوله رجال لو شهد أحدهم على عتق رجل لجاز قوله.
فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، حدثني أبي، عن جدي - قال: ما
اسمك؟ قال: ما تسأل عن اسمي؟ - إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:
خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ثم أسكنها الهواء، فما تعارف منها ائتلف
هاهنا وما تناكر منها ثمة اختلف هاهنا، ومن كذب علينا أهل البيت حشره
الله يوم القيامة أعمى يهوديا، وإن أدرك الدجال آمن به، وإن لم يدرك آمن به
في قبره، الحديث (1).
(474)
سعيد بن جبير والحجاج
في حديث... فلما قدم سعيد (بن جبير) على الحجاج، قال له: ما
اسمك؟ قال: سعيد. قال: ابن من؟ قال: ابن جبير. قال: بل أنت شقي بن
كسير! قال سعيد: أمي أعلم باسمي واسم أبي. قال الحجاج: شقيت وشقيت
أمك، قال سعيد: الغيب يعلمه غيرك. قال الحجاج: لأوردنك حياض

(1) قاموس الرجال: ج 4 ص 392 - 394
301

الموت، قال سعيد: أصابت إذا أمي اسمي! فقال الحجاج: لأبدلنك بالدنيا
نارا تلظى، قال سعيد: لو أني أعلم ذلك بيدك لاتخذتك إلها...
قال الحجاج: فما قولك في محمد؟ قال سعيد: نبي الرحمة ورسول رب
العالمين إلى الناس كافة بالموعظة الحسنة. فقال الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟
قال سعيد: لست عليهم بوكيل، كل امرئ بما كسب رهين. قال الحجاج
أشتمهم أم أمدحهم؟ قال سعيد: لا أقول ما لا أعلم، إنما استحفظت أمر
نفسي.
وقال الحجاج: أيهم أعجب إليك؟ قال: حالاتهم يفضل بعضهم على
بعض. قال الحجاج: صف لي قولك في علي أفي الجنة هو أم في النار؟ قال
سعيد: لو دخلت الجنة فرأيت أهلها علمت ولو رأيت من في النار علمت، فما
سؤالك عن غيب قد حفظ بالحجاب؟
قال الحجاج: فأي رجل أنا يوم القيامة؟ فقال سعيد: أنا أهون على الله من
أن يطلعني على الغيب. قال الحجاج: أبيت أن تصدقني؟ قال سعيد: بل لم أرد
أن أكذبك.
فقال الحجاج: فدع عنك هذا كله، أخبرني ما لك لم تضحك قط؟ قال: لم
أر شيئا يضحكني، وكيف يضحك مخلوق من طين والطين تأكله النار ومنقلبه
إلى الجزاء، واليوم يصبح ويمسي في الابتلاء. قال الحجاج: فأنا أضحك، فقال
سعيد: كذلك خلقنا الله أطوارا.
قال الحجاج: هل رأيت شيئا من اللهو؟ قال: لا أعلمه، فدعا الحجاج
بالعود والناي. قال: فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى سعيد! قال
الحجاج: ما يبكيك؟ قال: يا حجاج، ذكرتني أمرا عظيما، والله لا شبعت
ولا رويت ولا اكتسيت ولا زلت حزينا لما رأيت؟ قال: الحجاج: وما كنت
رأيت هذا اللهو؟ فقال سعيد: بل هذا والله الحزن يا حجاج! أما هذه النفخة
302

فذكرتني يوم النفخ في الصور، وأما هذا المصران فمن نفس ستحشر معك إلى
الحساب، وأما هذا العود فنبت بحق وقطع لغير حق.
فقال الحجاج: أنا قاتلك! قال سعيد: قد فرغ من تسبب في موتي!
قال الحجاج: أنا أحب إلى الله منك، قال سعيد: لا يقدم أحد على ربه
حتى يعرف منزلته منه والله بالغيب أعلم. قال الحجاج: كيف لا أقدم على
ربي في مقامي هذا وأنا مع إمام الجماعة وأنت مع إمام الفرقة والفتنة؟ قال
سعيد: ما أنا بخارج عن الجماعة ولا أنا براضي عن الفتنة، ولكن قضاء الرب
نافذ لا مرد له.
قال الحجاج: كيف ترى ما نجمع لأمير المؤمنين؟ قال سعيد: لم أر.
فدعا الحجاج بالذهب والفضة والكسوة والجوهر فوضع بين يديه، قال
سعيد: هذا حسن إن قمت بشرطه. قال الحجاج: وما شرطه؟ قال: أن تشتري
له بما تجمع الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة، وإلا فإن كل مرضعة تذهل عما
أرضعت ويضع كل ذي حمل حمله ولا ينفعه إلا ما طاب منه.
قال الحجاج: فترى طيبا؟ قال: برأيك جمعته وأنت أعلم بطيبه.
قال الحجاج: أتحب أن لك شيئا منه؟
قال: لا أحب ما لا يحب الله.
قال الحجاج: ويلك!
قال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة فأدخل النار!
قال الحجاج: اذهبوا فاقتلوه.
قال: إني أشهدك يا حجاج أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن
محمدا عبده ورسوله، استحفظكهن يا حجاج حتى ألقاك.
فلما أدبر ضحك؟
قال الحجاج: ما يضحكك يا سعيد؟
303

قال: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك.
قال الحجاج: إنما أقتل من شق عصا الجماعة، ومال إلى الفرقة التي نهى الله
عنها، اضربوا عنقه.
قال سعيد: حتى أصلي ركعتين، فاستقبل القبلة وهو يقول: وجهت
وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين.
قال الحجاج: اصرفوه عن القبلة إلى قبلة النصارى الذين تفرقوا واختلفوا
بغيا بينهم، فإنه من حزبهم، فصرف عن القبلة.
فقال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله الكافي بالسرائر.
قال الحجاج: لم نوكل بالسرائر وإنما وكلنا بالظواهر.
قال سعيد: اللهم لا تترك له ظلمي، واطلبه بدمي، واجعلني آخر قتيل يقتل
من أمة محمد، فضربت عنقه... (1)
(475)
أبو بكر الحضرمي مع زيد
عن بكار بن أبي بكر الحضرمي:
قال: دخل أبو بكر وعلقمة على زيد بن علي، وكان علقمة أكبر من أبي،
فجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، وكان بلغهما أنه قال: ليس الإمام
منا من أرخى عليه ستره، إنما الإمام من شهر سيفه.
فقال له أبو بكر - وكان أجرأهما -: يا أبا الحسين أخبرني عن علي بن
أبي طالب عليه السلام كان إماما وهو مرخ عليه ستره أو لم يكن إماما حتى
خرج وشهر سيفه؟
وكان زيد يبصر الكلام، فسكت فلم يجبه، فرد عليه الكلام ثلاث مرات

(1) الإمامة والسياسة: ج 2 ص 43 - 44. وراجع قاموس الرجال: ج 4 ص 356. وقد مر ج 1 ص 357
304

كل ذلك لا يجيبه بشئ، فقال له أبو بكر: إن كان علي بن أبي طالب عليه
السلام [إماما] فقد يجوز أن يكون بعده إمام مرخى عليه ستره، وإن كان علي
ابن أبي طالب عليه السلام لم يكن إماما وهو مرخ عليه ستره فأنت ما جاء بك
هاهنا؟
قال: فطلب إلى علقمة أن يكف عنه، فكف (1).
(476)
محمد بن علي الأحول مع زيد
عن محمد بن علي الأحول، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام
فدخل زيد بن علي، فقال لي: أنت الذي تزعم أن في آل محمد عليهم السلام
إماما مفترض الطاعة معروفا بعينه؟
قال: قلت: نعم أبوك أحدهم.
قال: ويحك! وما يمنعه أن يقول؟ فوالله لقد كان يؤتى بالطعام الحار
فيقعدني على فخذه ويتناول البضعة فيبردها ثم يلقمنيها، أفتراه يشفق علي من
حر الطعام ولا يشفق علي من حر النار؟
قال: قلت: كره أن يقول لك فيجب عليك من الله الوعيد ولا يكون له
فيك شفاعة، فتركك مرجئا لله فيك المسألة وله فيك الشفاعة (2).
(477)
أبو الصباح مع زيد
عن أبي الصباح الكناني، قال: جاءني سدير، فقال لي: إن زيدا تبرأ
منك. قال: فأخذت علي ثيابي - قال: وكان أبو الصباح رجلا ضاريا - قال:

(1) قاموس الرجال: ج 4 ص 286. وراجع الكشي: ص 416 الرقم 788.
(2) قاموس الرجال: ج 4 ص 268. و ج 8 ص 306 بأسانيد متعددة
305

فأتيته فدخلت عليه فسلمت عليه، فقلت له: يا أبا الحسين بلغني أنك زعمت
أن الأئمة أربعة: ثلاثا مضوا، والرابع هو القائم.
قال زيد: هكذا قلت.
قال: فقلت لزيد: هل تذكر قولك لي بالمدينة في حياة أبي جعفر عليه
السلام وأنت تقول: إن الله تعالى قضى في كتابه أن " من قتل مظلوما فقد
جعلنا لوليه سلطانا " وإنما الأئمة ولاة الدم وأهل الباب، وهذا أبو جعفر الإمام،
فإن حدث به حدث، فإن فينا خلفا.
فقال لي: ما أتذكر هذا القول.
فقلت: بلى، فإن منكم من هو كذلك... الخ (1).
(478)
سورة مع زيد
عن سورة بن كليب، قال: قال لي زيد: كيف علمتم أن صاحبكم على ما
تذكرونه؟ فقلت له: على الخبير سقطت. فقال: هات، فقلت له: كنا نأتي
أخاك محمد بن علي عليهما السلام نسأله فيقول: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وقال الله عز وجل في كتابه، حتى مضى أخوك، فأتيناكم آل محمد،
وأنت في من أتينا، فتخبرونا ببعض ولا تخبرونا بكل الذي نسألكم عنه حتى
أتينا ابن أخيك جعفر عليه السلام فقال لنا كما قال أبوه عليه السلام: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وقال تعالى، فتبسم وقال: أما والله! إن قلت
هذا، فإن كتب علي عنده.
* * *

(1) قاموس الرجال: ج 4 ص 269.
(2) قاموس الرجال: ج 4 ص 267
306

(479)
زيد وهشام
كان سبب خروج أبي الحسين زيد - رضي الله عنه - أنه دخل على هشام
ابن عبد الملك وقد جمع له هشام أهل الشام، وأمر أن يتضايقوا في المجلس حتى
لا يتمكن من الوصول إلى قربه.
فقال له زيد: إنه ليس من عباد الله أحد فوق أن يوصي بتقوى الله، ولا من
عباده أحد دون أن يوصى بتقوى الله، وأنا أوصيك بتقوى الله فاتقه!
فقال له هشام: أنت المؤهل نفسك للخلافة الراجي لها، وما أنت وذاك؟
لا أم لك! وإنما أنت ابن أمة.
فقال له زيد: إني لا أعلم أحدا أعظم منزلة عند الله من نبيه وهو ابن أمة،
فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية لم يبعث، وهو إسماعيل بن إبراهيم،
فالنبوة أعظم منزلة عند الله أم الخلافة يا هشام؟ وبعد فما يقصر برجل أبوه رسول
الله وهو ابن علي بن أبي طالب أن يكون ابن أمة.
فوثب هشام عن مجلسه ودعا قهرمانه وقال: لا يبيتن هذا في عسكري.
فخرج زيد، وهو يقول: إنه لم يكره قوم قط حر السيوف إلا ذلوا (1).
(480)
زهير مع أهل الكوفة
عن كثير بن عبد الله الشعبي، قال: لما زحفنا نحو الحسين خرج إلينا زهير
على فرس له ذنوب شاك في السلاح، فقال:
يا أهل الكوفة نذار لكم من عذاب الله نذار! إن حقا على المسلم نصيحة
أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة وعلى دين واحد وملة واحدة ما لم يقع بيننا

(1) قاموس الرجال: ج 4 ص 260. ومر ج 1 ص 122 برواية أخرى
307

وبينكم السيف وأنتم للنصيحة منا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة
وكنا أمة وأنتم أمة، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد صلى الله عليه
وآله لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية
عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما بسوء عمر سلطانهما إلا ليسملان
أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع
النخل، ويقتلون أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن
عروة وأشباهه.
فسبوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له، وقالوا: والله لا نبرح حتى
نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلما.
فقال لهم زهير:
عباد الله! إن ولد فاطمة - رضوان الله عليها - أحق بالود والنصر من ابن
سمية، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم! فخلوا بين هذا الرجل وبين
ابن عمه يزيد بن معاوية، فلعمري! إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل
الحسين عليه السلام.
فرماه شمر بسهم، وقال: اسكت أسكت الله نامتك! أبرمتنا بكثرة
كلامك.
فقال له زهير: يا ابن البوال على عقبيه! ما إياك أخاطب إنما أنت بهيمة،
والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب
الأليم.
فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.
فقال زهير: أفبالموت تخوفني؟ فوالله للموت معه أحب إلي من الخلد
معكم.
ثم أقبل على الناس رافعا صوته، فقال:
308

عباد الله! لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي، فوالله لا تنال شفاعة
محمد صلى الله عليه وآله قوما هراقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم
وذب عن حريمهم.
قال: فناداه رجل، فقال له: إن أبا عبد الله عليه السلام يقول لك: أقبل
فلعمري! لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت
لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والابلاغ (1).
(481)
دلف مع أبيه
روي أن دلفا كان ينتقص عليا عليه السلام، ويضع منه ومن شيعته
وينسبهم إلى الجهل، وأنه قال يوما - وهو في مجلس أبيه ولم يكن أبوه حاضرا -:
يزعمون أن لا ينتقص عليا أحد إلا لغير رشده، وأنتم تعلمون غيرة الأمير وأنا
أبغض عليا.
قال: فما كان بأوشك من أن خرج أبو دلف، فلما رأينا قمنا له. فقال: قد
سمعت ما قاله دلف، والحديث لا يكذب والخبر الوارد في هذا المعنى لا يختلق،
هو والله لزنية! وذلك أني كنت عليلا فبعثت أختي إلي جارية كنت معجبا
بها، فلم أتمالك أن وقعت عليها، وكانت حائضا، فعلقت به، فلما ظهر حملها
وهبتها لي (2).
(482)
المفيد مع شيخ من العامة
نقل الطرائف عن عيون المفيد: أن شيخا من العامة قال له: لو كان النص

(1) قاموس الرجال: ج 4 ص 206 - 207، وبهج الصباغة: ج 5 ص 352.
(2) قاموس الرجال: ج 4 ص 85 - 86
309

على علي ظاهرا لذكره السيد.
فقال المفيد: - رحمه الله -: قد ذكره في قصيدته الرائية يقول فيها:
الحمد لله حمدا كثيرا * ولي الحمد ربا غفورا
حتى انتهى إلى قوله:
وفيهم علي وصي النبي * بمحضرهم قد دعاه أميرا (1)
(483)
شريح بن هاني وعمرو
الطبري عن شريح بن هاني الحارثي: أن عليا عليه السلام أوصاه
بكلمات إلى عمرو بن العاص - إلى أن قال: - فبلغ عمروا شريح ذلك فتمعر
وجه عمرو بن العاص، ثم قال: متى كنت أقبل مشورة علي وأنتهي إلى أمره أو
أعتد برأيه؟
فقال له شريح: وما يمنعك يا ابن النابغة! أن تقبل من مولاك وسيد
المسلمين بعد نبيهم مشورته؟ فقد كان من هو خير منك أبو بكر وعمر يستشيرانه
ويعملان برأيه.
فقال عمرو: إن مثلي لا يكلم مثلك.
فقال له شريح: وبأي أبويك ترغب عني؟ أبأبيك الوشيظ؟ أم بأمك
النابغة؟ (2)
شريك ومعاوية
عن أبان بن الأحمر: أن شريك بن الأعور دخل على معاوية، فقال له:
والله إنك لشريك وليس لله شريك، وإنك لابن الأعور والبصير خير من
الأعور، وإنك لدميم والجيد خير من الدميم، فكيف سدت قومك؟

(1) قاموس الرجال: ج 5 ص 46.
(2) قاموس الرجال: ج 5 ص 70، ويأتي عن نصر ص 434
310

فقال له شريك: إنك لمعاوية وما معاوية إلا كلبة عوت واستعوت، وإنك
لابن صخر والسهل خير من الصخر، وإنك لابن حرب والسلم خير من الحرب،
وإنك لابن أمية وما أمية إلا أمة صغرت فاستصغرت، فكيف صرت
أمير المؤمنين؟ فغضب معاوية، فخرج شريك وهو يقول:
أيشتمني معاوية بن صخر * وسيفي صارم ومعي لساني
وحولي من ذوي يمن ليوث * ضراغمة تهش إلى الصعان
فلا تبسط علينا يا ابن هند * لسانك إن بلغت ذرى الأماني
وإن تك للشقاء لنا أميرا * فإنا لا نقر على الهوان
وإن تك من أمية في ذراها * فإنا في ذوي عبد المدان (1)
(484)
محمد بن الحنفية وابن الزبير
خطب ابن الزبير، فقال: قد بايعني الناس ولم يتخلف إلا هذا الغلام
- يعني محمد بن الحنفية - والموعد بيني وبينه أن تغرب الشمس، ثم أضرم داره
عليه نارا، فدخل عليه ابن العباس، فقال: يا ابن عم إني لا آمنه عليك
فبايعه! فقال: سيمنعه عني حجاب قوي، فجعل ابن عباس ينظر إلى الشمس
ويفكر في كلام ابن الحنفية، وقد كادت الشمس أن تغرب فوافاهم أبو عبد الله
الجدلي في ما ذكرنا من الخيل (2).
(485)
شاب من أهل الكوفة مع أبي هريرة
عن عمر بن عبد الغفار: أن أبا هريرة لما قدم الكوفة مع معاوية - وكان

(1) قاموس الرجال: ج 5 ص 72 عن ابن شهرآشوب.
(2) قاموس الرجال: ج 5 ص 451
311

يجلس بالعشيات بباب كندة يجلس الناس إليه - فجاء شاب من أهل الكوفة
فجلس إليه فقال:
يا أبا هريرة أنشدك بالله! هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول لعلي عليه السلام: " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه
وعاد من عاداه "؟
قال: نعم.
قال: فإني رأيتك واليت أعداءه وعاديت أولياءه.
فقال أبو هريرة: إنا لله وإنا إليه راجعون! (1).
(486)
عبد الرحمن بن حنبل مع عثمان
وفي تاريخ اليعقوبي: سير عثمان عبد الرحمان بن حنبل إلى القموص من
خيبر. وعن تقريب أبي الصلاح الحلبي: ومن بدع عثمان ضرب عبد الرحمن بن
حنبل وكان بدريا مائة سوط، وحمله على جمل يطاف به في المدينة لإنكاره عليه
إحداثه وإظهاره عيوبه في الشعر، وحبسه بعد ذلك موثقا بالحديد حتى كتب إلى
علي عليه السلام وعمار من الحبس - إلى أن قال: - فلم يزل علي عليه
السلام بعثمان يكلمه حتى خلى سبيله على أن لا يساكنه بالمدينة، فسيره إلى
خيبر، فأنزله قلعتها القموص، فلم يزل بها حتى ناهض المسلمون عثمان و
ساروا إليه من كل بلد.
فقال عبد الرحمن:
لولا علي فإن الله أنقذني * على يديه من الأغلال والصفد
لما رجوت الذي شد بجامعة * يمنى يدي غياث الفوت من أحد

(1) قاموس الرجال: ج 5 ص 376، و ج 6 ص 376
312

نفسي فداء علي إذ يخلصني * من كافر بعد ما أغضى على ضمد (1)
(487)
عبد الرحمن والحجاج
روي عن الأعمش، قال: لما ظفر الحجاج بعبد الرحمن أقامه على المصطبة،
فقال له: اشتم عليا، فجعل يذكر مناقب علي عليه السلام ويقول: كان
والله راكعا في الصف، بارزا بالسيف، صائما في الصيف. فأمر أن يضرب
بالسياط، فقال: يا صفور يا منقوص عشر أمالك بعينك الكثكث ولك
الأثلث، ويلك! تزاحمني ببالك فأمر بقتله.
عن الأعمش، قال: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، وضربه الحجاج حتى
اسود كتفاه، ثم أقامه للناس على سب علي عليه السلام، والجلاوزة معه
يقولون: سب الكذابين، فجعل يقول: العن الكذابين علي وابن الزبير والمختار.
رواية: فقال: اللهم الكذابين آه - ثم يسكت - علي و عبد الله بن الزبير
والمختار (2).
(488)
أبو الطفيل وعمر بن عبد العزيز
وفي تاريخ اليعقوبي: أتى أبو الطفيل عمر بن عبد العزيز، وقال له: منعتني
عطائي. قال: بلغني أنك صقلت سيفك وشحذت سنانك ونصلت سهمك
وعلقت قوسك تنتظر الإمام القائم، فإذا خرج وفاك عطاءك.
فقال: إن الله تعالى سائلك عن هذا، فاستحيى عمر وأعطاه (3).

(1) قاموس الرجال: ج 5 ص 291، ويأتي تفصيله ص 416.
(2) قاموس الرجال: ج 5 ص 277 وشطرا منه في العقد الفريد: ج 5 ص 32.
(3) قاموس الرجال: ج 5 ص 203
313

(489)
أبو الطفيل ومعاوية
وعن المناقب: وقال معاوية له وقد أحضر جماعة ليستهزئوا منه - يعني
أبا الطفيل بن واثلة -: هذا عمرو بن العاص السهمي وهذا مروان بن الحكم
الأموي، وهذا عبد الرحمان بن أم الحكم السفياني، وهذا عتبة بن أبي سفيان
الأموي.
فقال: نعم يا معاوية نطقوا بغير ألسنتهم فتكلموا على غير ذلك.
فقال معاوية: وكيف ذلك؟
فقال: أما عمرو الأبتر الشانئ لنبي الله ولولي الله فأنطقته مصر، وأنطقت
الحجاز مروان الوزغ طريد رسول الله صلى الله عليه وآله، وعبد الرحمان أنطقته
أم الحكم، ولا جواب لمن لا حياء له دينا ولا دنيا وقد وهبناه لها.
وأما أخوك عتبة، فإنه لمن لا يرجى ولا يخشى ولا يضر ولا ينفع. وابن أبي
سرح لقد طالما كاد الله ورسوله ووليه وكتابه وصد عن سبيله وبغاها عوجا،
فويل للقاسية قلوبهم! وأنطقت سعيدا مكة.
ثم قال لعمرو: أكفرا بعد إيمان ونقضا بعد توكيد؟ وأنا من الحكمين برئ
ومنكم براء، وقال الله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "
وقال لمروان: " ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله
عذاب مهين " وقال لابن أبي سرح: " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا،
فذرهم حتى يخوضوا في حديث غيره " وقال لسعيد: " فذرهم في غمرتهم حتى
حين " (1).
* * *

(1) قاموس الرجال: ج 5 ص 201
314

(490)
صيفي بن فسيل وزياد
قال الجزري: إن زيادا بعث في طلبه - يعني صيفي بن فسيل الشيباني - فأوتي
به. فقال: يا عدو الله! ما تقول في أبي تراب؟ فقال: لا أعرفه.
فقال: ما أعرفك به! أتعرف علي بن أبي طالب؟ قال: نعم. قال: فذاك
أبو تراب. قال: كلا، ذاك أبو الحسن والحسين.
فقال له صاحب الشرطة: يقول الأمير هو أبو تراب وتقول لا؟ قال: فإن
كذب الأمير أكذب أنا وأشهد على باطل كما شهد.
فقال له زياد: وهذا أيضا مع ذنبك، علي بالعصا، فأوتي بها، فقال: ما
تقول في علي؟ قال: أحسن قول! قال: اضربوه، فضربوه حتى لصق بالأرض،
ثم قال: اقلعوا عنه ما قولك في علي؟ قال: والله لو شرحتني بالمواسي ما قلت
فيه إلا ما سمعت منه! قال: لتلعننه أو لأضربن عنقك، قال: لا أفعل،
فأوثقوه حديدا.
قلت: ورواه الطبري وزاد في أوله: " أنه جاء قيس بن عباد الشيباني إلى
زياد، فقال: إن امرءا منا من بني همام يقال له: صيفي بن فسيل من رؤساء
أصحاب حجر، وهو أشد الناس عليك، فبعث إليه زياد فأوتي به " وفيه بعد
قوله: " لأضربن عنقك " قال: إذن تضربها والله قبل ذلك، فإن أبيت إلا أن
تضربها رضيت بالله وشقيت أنت قال: ادفعوا في رقبته. ثم قال: أوقروه حديدا
وألقوه في السجن (1).

(1) قاموس الرجال: ج 5 ص 138 - 139. وبهج الصباغة ج 5 ص 255 عن الطبري، والغدير: ج 10 ص 262
عن الطبري: ج 6 ص 149، والأغاني: ج 16 ص 7. وكامل ابن الأثير: ج 3 ص 204، وتاريخ ابن
عساكر: ج 6 ص 459 والغدير ج 11 عن مصادر جمة
315

(491)
صعصعة ومعاوية
دخل صعصعة على معاوية وعمرو بن العاص جالس معه على سريره،
فقال معاوية لعمرو: وسع له على ترابيته. فقال صعصعة: إني والله ليراني منه
خلقت وإليه أعود ومنه ابعث وإنك لمارج من مارج من نار (1).
(492)
صعصعة ومعاوية
في ديوان معاني العسكري: تكلم صعصعة عند معاوية بكلام أحسن فيه،
فحسده عمرو بن العاص فقال: هذا بالتمر أبصر منه بالكلام، قال صعصعة:
أجل أجوده ما دق نواه ورق سحاه وعظم لحاه والريح تنفجه والشمس تنضجه
والبرد يدمجه، ولكنك يا ابن العاص لا تمرا تصف ولا الخير تعرف، بل تحسد
فتقرف.
فقال معاوية لعمرو: رغما لك! فقال له عمرو: أضعاف الرغم لك وما بي
إلا بعض ما بك (2).
(493)
صعصعة والمغيرة
روى سبط ابن الجوزي مسندا عن عمرو بن يحيى، قال: مر صعصعة على
المغيرة، فقال له: من أين أقبلت؟ فقال: من عند الولي التقي الجواد الحي،
الحليم الوفي، الكريم الحفي، المانع بسيفه الجواد بكفه، الورى زنده الكثير رفده،
الذي هو من ضئضئ أشرف أمجد أمجاد ليوث أنجاد، ليس بأقعاد ولا أنكاد،

(1) قاموس الرجال: ج 5 ص 123 عن العقد الفريد: ج 4 ص 366.
(2) قاموس الرجال: ج 5 ص 123، وبهج الصباغة: ج 11 ص 270
316

ليس في أمره بوغد ولا في قوله فند، ليس بالطائش النزق ولا بالرائث المذق،
كريم الآباء شريف الأبناء، حسن البلاء ثاقب السناء، مجرب مشهور وشجاع
مذكور، زاهد في الدنيا راغب في الأخرى.
فقال المغيرة: هذه صفات أمير المؤمنين علي (1).
(494)
صعصعة وعمر
وفي أسد الغابة: صعصعة هو القائل لعمر حين قسم المال الذي بعث إليه
أبو موسى، وكان ألف ألف درهم وفضلت فضلة، فاختلفوا: أين نضعها؟
فخطب عمر وقال: بقيت لكم فضلة بعد حقوق الناس.
فقام صعصعة وهو غلام شاب، وقال:
إنما يشاور الناس في ما لم ينزل فيه قرآن، فأما ما نزل به القرآن فضعه
مواضعه التي وضعها الله عز وجل فيها، فقال: صدقت أنت مني وأنا منك
فقسمه بين المسلمين (2).
(495)
شعبة بن غريض ومعاوية
عن الهيثم بن عدي قال: حج معاوية - وكان حج في خلافته حجتين - فرأى
شخصا يصلي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان، فقال: من هذا؟ قالوا:
شعبة بن غريض، فأرسل إليه يدعوه، فقيل له: أجب أمير المؤمنين. قال:
أوليس قد مات أمير المؤمنين؟ قيل: فأجب معاوية، فأتاه فلم يسلم عليه
بالخلافة. قال له معاوية: فأنشدني شعر أبيك يرثي نفسه، فقال: قال أبي:

(1) قاموس الرجال: ج 5 ص 122.
(2) قاموس الرجال: ج 5 ص 121
317

يا ليت شعري حين اندب هالكا * ماذا تؤبنني به النواحي
أيقلن لا تبعد فرب كريهة * فرجتها ببشارة وسماح
ولقد ضربت بفضل مالي حقه * عند الشتاء وهبة الأرياح
ولقد أخذت الحق غير مخاصم * ولقد رددت الحق غير ملاح
وإذا دعيت لصعبة سهلتها * ادعى بأفلح مرة ونجاح
فقال معاوية: أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك، فقال شعبة: كذبت
ولؤمت، قال: أما كذبت فنعم، وأما لؤمت فلم؟ قال: لأنك كنت ميت الحق
في الجاهلية وميت الحق في الإسلام. أما في الجاهلية: فقاتلت النبي صلى الله
عليه وآله والوحي حتى جعل الله كيدك المردود. وأما في الإسلام: فمنعت
ولد رسول الله صلى الله عليه وآله الخلافة، وما أنت وهي وأنت طليق ابن
طليق!
فقال معاوية: قد خرف الشيخ، فأقيموه (1).
(496)
شريك والمهدي
إن المهدي رأى في منامه شريكا القاضي مصروفا وجهه عنه، فلما انتبه
قص رؤياه على الربيع. فقال: إن شريكا مخالف لك، فإنه فاطمي محضا، فقال
المهدي: علي بشريك فأوتي به، فلما دخل عليه قال:
بلغني أنك فاطمي؟
قال: أعيذك بالله أن تكون غير فاطمي! إلا أن تعني فاطمة بنت كسرى.
قال: لا، ولكن أعني فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله.
قال شريك: فتلعنها؟ قال: لا معاذ الله!

(1) قاموس الرجال: ج 5 ص 79 - 80 عن الأغاني. وكذا الغدير: ج 10 ص 176 عنه وعن الإصابة
ملخصا
318

قال: فما تقول فيمن يلعنها؟
قال: عليه لعنة الله.
قال: فالعن هذا، يعني الربيع.
فقال الربيع: لا والله ما ألعنها.
فقال له شريك: يا ماجن! فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيد
المرسلين في مجالس الرجال؟
قال المهدي: فما وجه المنام؟
قال: إن رؤياك ليست رؤيا يوسف، وإن الدماء لا تستحل بالأحلام (1).
(497)
شريك والمهدي
دخل شريك على المهدي، فقال له: ما ينبغي أن تقلد الحكم بين المسلمين
قال: ولم؟ قال: لخلافك على الجماعة وقولك بالإمامة. قال: أما قولك:
" بخلافك على الجماعة " فعن الجماعة أخذت ديني، فكيف أخالفهم وهم
أصل ديني؟ وأما قولك: " وقولك بالإمامة " فما أعرف إلا كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وآله، وأما قولك: " مثلك ما يقلد الحكم بين المسلمين "
فهذا شئ أنتم فعلتموه، فإن كان خطأ فاستغفروا الله منه، وإن كان صوابا
فأمسكوا عليه.
قال: ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: ما قال جدك العباس
وعبد الله، قال: وما قالا فيه؟ قال: فأما العباس: فمات وعلي عنده أفضل
الصحابة، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عما ينزل من النوازل، وما

(1) قاموس الرجال: ج 5 ص 76. ومر ج 1 ص 123 برواية أخرى، وفي العقد: ج 2 ص 179 نقله بزيادة
سيأتي نقلها ص 465
319

احتاج هو إلى أحد حتى لحق بالله. وأما عبد الله: فإنه كان يضرب بين يديه
بسيفين وكان في حروبه رأسا متبعا وقائدا مطاعا، فلو كانت إمامته على جور
كان أول من يقعد عنها أبوك لعلمه بدين الله وفقهه في أحكام الله.
فسكت المهدي وأطرق، ولم يمض بعد هذا المجلس إلا قليل حتى عزل
شريك (1).
(498)
علي بن جعفر ورجل
عن علي بن جعفر بن محمد، قال: قال رجل - أحسبه من الواقفة -: ما فعل
أخوك أبو الحسن؟ قلت: قد مات. قال: وما يدريك بذلك؟ قال: قلت:
اقتسمت أمواله وأنكحت نساؤه ونطق الناطق من بعده. قال: ومن الناطق
بعده؟ قلت: ابنه علي. قال: فما فعل؟ قلت له: مات. قال: وما يدريك أنه
مات؟ قلت: قسمت أمواله ونكحت نساؤه ونطق الناطق من بعده. قال: ومن
الناطق من بعده؟ قلت: أبو جعفر ابنه.
قال: فقال لي أنت في سنك وقدرك وابن جعفر بن محمد تقول هذا القول
في هذا الغلام؟! قلت: ما أراك إلا شيطانا! قال: ثم أخذ بلحيته فرفعها إلى
السماء، ثم قال: فما حيلتي إن كان الله رآه أهلا لهذا ولم ير هذه الشيبة لهذا
أهلا! (2).
(499)
الهيثم بن حبيب وأبو حنيفة
روى الجعابي مسندا عن محمد بن نوفل الصيرفي، قال: كنت عند الهيثم بن

(1) تاريخ بغداد للخطيب: ج 9 ص 292، وبهج الصباغة: ج 1 ص 393.
(2) قاموس الرجال: ج 6 ص 436
320

حبيب الصيرفي، فدخل علينا أبو حنيفة النعمان بن ثابت، فذكرنا أمير المؤمنين
عليه السلام ودار كلام بيننا في غدير خم.
فقال أبو حنيفة: قلت لأصحابنا: لا تقروا لهم بحديث غدير خم
فيخصموكم.
فتغير وجه الهيثم وقال له: لم لا يقرون به وقد حدثنا به حبيب بن
أبي ثابت، عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم: " أن عليا - عليه السلام - نشد الله
في الرحبة من سمعه "؟
فقال أبو حنيفة: أفلا ترون أنه قد جرى في ذلك حتى نشد على الناس
لذلك.
فقال الهيثم: فنحن نكذب عليا عليه السلام، أو نرد قوله؟
فقال أبو حنيفة: لا نكذب عليا ولا نرد قولا قاله، ولكنك تعلم أن الناس
قد غلا منهم قوم. فقال الهيثم: يقوله رسول الله صلى الله عليه وآله ويخطب به
ونشفق نحن منه بغلو غال أو قلي قال " وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم " " يريدون أن يطفئوا نور
الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " (1).
(500)
أبو ذر وبعض من يعوده
في الطرائف عن ابن مردويه في مناقبه، بإسناده إلى داود بن أبي عوف قال:
قال معاوية بن أبي ثعلبة الخشني: ألا أحدثكم بحديث لم يخلط؟ قلت: بلى.
قال: مرض أبو ذر فأوصى إلى علي عليه السلام، فقال بعض من يعوده: لو
أوصيت إلى أمير المؤمنين عمر كان أجمل لوصيتك.

(1) قاموس الرجال: ج 6 ص 392 - 393، وقد مر في ج 1 ص 333 بلفظ آخر، و ج 9 ص 374
321

فقال: والله! لقد أوصيت إلى أمير المؤمنين حقا، والله البديع الذي يسكن
إليه! ولو قد فارقكم لقد أنكرتم الناس وأنكرتم الأرض.
قلت: يا أبا ذر إنا نعلم أن أحبهم إلى رسول الله أحبهم إليك.
قال: أجل.
قلنا: فأحبهم إليك من؟
قال: هذا الشيخ المضطهد المظلوم، يعني علي بن أبي طالب عليه
السلام (1).
(501)
الأصبغ بن نباتة ومعاوية
في تذكرة السبط: لما عسكر علي عليه السلام بالنخيلة وبعث الأصبغ
ابن نباتة بكتابه إلى معاوية، دخل عليه وعمرو بن العاص عن يمينه وذو الكلاع
وحوشب عن يساره - إلى أن قال: - وأبو هريرة بين يديه، فقال أصبغ لأبي هريرة:
أنت صاحب رسول الله أقسم عليك بالله الذي لا إله إلا هو وبحق رسوله هل
سمعته يقول يوم غدير خم في حق أمير المؤمنين عليه السلام: " من كنت مولاه
فعلي مولاه "؟ فتنفس أبو هريرة وقال: " إنا لله وإنا إليه راجعون " فتغير وجه
معاوية، وقال: يا هذا كف عن كلامك، فلا تستطيع أن تخدع أهل الشام عن
الطلب بدم عثمان (2).
(502)
عقيل ومعاوية
دخل عقيل على معاوية وقد كف بصره، فقال له: أنتم معشر بني هاشم

(1) قاموس الرجال: ج 6 ص 379.
(2) قاموس الرجال: ج 6 ص 378 و ج 10 ص 215
322

تصابون في أبصاركم! فقال عقيل: وأنتم معشر بني أمية تصابون في بصائركم (1).
(503)
عقيل ومعاوية
في بيان الجاحظ: قال معاوية: يا أهل الشام هل سمعتم قول الله في كتابه
" تبت يدا أبي لهب وتب "؟
قالوا: نعم.
قال: فإن أبا لهب عم عقيل.
فقال عقيل: فهل سمعتم قول الله عز وجل: " وامرأته حمالة الحطب "؟
قالوا: نعم.
قال: فإنها عمته.
وزاد العقد: ثم قال يا معاوية: إذا دخلت النار فاعدل ذات اليسار،
فإنك ستجد عمي أبا لهب مفترشا عمتك حمالة الحطب، فانظر أيهما خير
الفاعل أو المفعول بها؟ (2).
(504)
عقيل ومعاوية
أذن معاوية لعقيل فدخل عليه، فقال عقيل: يا معاوية من هذا معك؟
قال: الضحاك بن قيس. فقال: الحمد لله الذي رفع الخسيسة وتمم النقيصة،
هذا الذي كان أبوه يخصي بهمنا بالأبطح، لقد كان بخصائها رفيقا.
فقال الضحاك: إني لعالم بمحاسن قريش، وإن عقيلا عالم بمساويها (3).

(1) قاموس الرجال: ج 6 ص 320 عن العقد الفريد.
(2) قاموس الرجال: ج 6 ص 320 وقد مر بألفاظ أخر.
(3) قاموس الرجال: ج 6 ص 319
323

(505)
أبو ذر ومعاوية
في شرح ابن أبي الحديد في رواية الواقدي: أن أبا ذر لما دخل على عثمان
بعد بعث معاوية له من الشام قال عثمان له: يا جنيدب لا أنعم الله بك عينا!
فقال أبو ذر: أنا جندب وسماني النبي صلى الله عليه وآله عبد الله، واخترت
اسم النبي صلى الله عليه وآله الذي سماني على اسمي.
فقال له عثمان: أنت الذي تزعم إنا نقول: يد الله مغلولة، وأن الله فقير ونحن
أغنياء؟ فقال أبو ذر: لو كنتم ما تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده، ولكني
أشهد لقد سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: إذا بلغ بنو أبي العاص
ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا وعباده خولا.
فقال عثمان لمن حضر: أسمعتموها؟ قالوا: لا. قال عثمان: ويلك يا
أبا ذر! تكذب على رسول الله؟ فقال أبو ذر لمن حضر: أما تدرون أني صدقت؟
قالوا: لا والله ما ندري.
فقال عثمان: ادعو لي عليا، فلما جاء قال عثمان لأبي ذر: أقصص عليه
حديثك في بني أبي العاص، فأعاده. فقال عثمان لعلي عليه السلام: سمعت
هذا من رسول الله؟ قال: لا وصدق أبو ذر، فقال: كيف عرفت صدقه؟ قال:
لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " ما أظلت الخضراء ولا
أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر " فقال من حضر: أما هذا
فسمعناه كلنا من رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال أبو ذر: أحدثكم أني سمعت هذا من النبي صلى الله عليه وآله
فتتهموني، ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد (1).

(1) قاموس الرجال: ج 6 ص 262 - 263، وقد مر ص 14 وما بعدها بلفظ آخر
324

(506)
عمار والمقداد في يوم الشورى
في مروج المسعودي: وقد كان عمار حين بويع عثمان بلغه قول أبي سفيان
في دار عثمان عقيب الوقت الذي بويع فيه عثمان، ودخل داره ومعه بنو أمية،
فقال أبو سفيان: أفيكم أحد من غيركم - وقد كان عمي - قالوا: لا، قال: يا
بني أمية تلقفوها تلقف الكرة! فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم
ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة، إلى أن قال:
فقام عمار في المسجد فقال: يا معشر قريش! أما إذ صرفتم هذا الأمر عن
أهل بيت نبيكم هاهنا مرة وهاهنا مرة فما أنا بآمن أن ينزعه الله فيضعه في
غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله.
وقام المقداد فقال: ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيهم.
فقال له عبد الرحمن بن عوف: وما أنت وذاك يا مقداد؟
فقال: والله إني لأحبهم بحب رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن الحق
معهم وفيهم يا عبد الرحمن - إلى أن قال: - وأيم الله يا عبد الرحمن لو أجد على قريش
أنصارا لقاتلتهم كقتالي إياهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر (1).
(507)
عبد الرحمن بن حسان ومعاوية
قال معاوية لعبد الرحمن بن حسان من أصحاب حجر بن عدي: ما تقول في
علي؟
قال: أشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيرا، ومن الآمرين بالحق

(1) قاموس الرجال: ج 6 ص 259، ومر ص 17 بلفظ آخر، وراجع شرح ابن أبي الحديد ط مصر: ج 2
ص 412 و ج 3 ص 172
325

والقائمين بالقسط، والعافين عن الناس.
قال: فما قولك في عثمان؟
قال: هو أول من فتح أبواب الظلم وأغلق أبواب الحق.
فرده معاوية إلى زياد، فدفنه زياد حيا (1).
(508)
عبيد الله الليثي مع عائشة
إن عائشة لما بلغها قتل عثمان وهي بمكة أقبلت مسرعة وهي تقول: " إيه
ذا الإصبع لله أبوك! أما إنهم وجدوا طلحة لها كفؤا "، فلما انتهت إلى شراف
استقبلها عبيد بن أبي سلمة الليثي، فقالت له: ما عندك؟ قال: قتل عثمان!
قالت: ثم ماذا؟ قال: جازت بهم الأمور إلى خير مجاز، بايعوا عليا عليه
السلام، فقالت: لوددت أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا، ويحك!
انظر ماذا تقول؟ قال: هو ما قلت لك، فولولت. فقال لها: ما شأنك؟ والله ما
أعرف بين لابتيها أحدا أولى بها منه ولا أحق، ولا أرى له نظيرا في جميع
حالاته، فلماذا تكرهين ولايته؟
قال: فما ردت عليه جوابا (2).
(509)
عبد الله بن عباس ومعاوية
فلما كانت سنة إحدى وخمسين مرض الحسن بن علي مرضه الذي مات
فيه، فكتب عامل المدينة إلى معاوية يخبره بشكاية الحسن، فكتب إليه معاوية:

(1) قاموس الرجال: ج 6 ص 256 عن الجزري، وبهج الصباغة: ج 6 ص 40 عن الطبري، و ج 5
ص 260، وسيأتي مفصلا ص 419.
(2) قاموس الرجال: ج 6 ص 198، و ج 10 ص 237 برواية أخرى تأتي. بهج الصباغة: ج 6 ص 121،
والغدير: ج 9 ص 82
326

إن استطعت ألا يمضي يوم يمر بي إلا أن يأتيني فيه خبره فافعل، فلم يزل يكتب
إليه بحاله حتى توفي.
فكتب إليه بذلك، فلما أتاه الخبر أظهر فرحا وسرورا حتى سجد وسجد
من كان معه، فبلغ ذلك عبد الله بن عباس - وكان بالشام يومئذ - فدخل على
معاوية، فلما جلس قال معاوية: يا ابن عباس هلك الحسن بن علي! فقال ابن
عباس: نعم هلك إنا لله وإنا إليه راجعون! ترجيعا مكررا، وقد بلغني الذي
أظهرت من الفرح والسرور لوفاته، أما والله! ما سد جسده حفرتك، ولا زاد
نقصان أجله في عمرك، ولقد مات وهو خير منك، ولئن أصبنا به لقد أصبنا
بمن كان خيرا منه، جده رسول الله صلى الله عليه وآله فجبر الله مصيبته
وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة.
ثم شهق ابن عباس وبكى، وبكى من حضر في المجلس، وبكى معاوية!
فما رأيت أكثر باكيا من ذلك اليوم.
فقال معاوية: بلغني أنه ترك بنين صغارا، فقال ابن عباس: كلنا كان
صغيرا فكبر.
فقال معاوية: كم أتى له من العمر؟ فقال ابن عباس: أمر الحسن أعظم
من أن يجهل أحد مولده.
قال: فسكت معاوية يسيرا، ثم قال: يا ابن العباس أصبحت سيد قومك
من بعده.
فقال ابن عباس: أما ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين فلا.
قال معاوية: لله أبوك يا بن عباس! ما استنبأتك إلا وجدتك معدا (1).

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 ص 150 - 151، وقاموس الرجال: ج 6 ص 53 عنه. وقد مضى لفظان من
هذه القصة، وإنما كررناه لما فيه من الفائدة، فراجع
327

عبد الله بن عباس وعمر
قال اليعقوبي: روى ابن عباس، قال: طرقني عمر بعد هدأة من الليل،
فقال: اخرج بنا نحرس نواحي المدينة، فخرج وعلى عنقه درته حافيا حتى أتى
بقيع الغرقد، فاستلقى على ظهره وجعل يضرب أخمص قدميه بيده، وتأوه
صعداء! فقلت له يا أمير المؤمنين: ما أخرجك إلى هذا الأمر؟ قال: أمر الله يا
ابن عباس! قلت: إن شئت أخبرتك بما في نفسك، قال: غص يا غواص إن
كنت فتقول فتحسن.
قلت: ذكرت هذا الأمر بعينه وإلى من تصيره، قال: صدقت! قال: قلت له: أين
أنت عن عبد الرحمان بن عوف؟ إلى أن قال: فقلت: عثمان بن عفان؟ قال:
إن ولي حمل بني أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس وأعطاهم مال الله، ولئن
ولي ليفعلن والله ولئن فعل لتسيرن العرب إليه حتى تقتله في بيته.
ثم سكت (قال:) فقال: امضها يا ابن عباس! أترى صاحبكم لها موضعا؟
قال فقلت له: وأين يتبعد من ذلك مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه؟ قال: هو
والله كما ذكرت ولو وليهم لحملهم على منهج الطريق فأخذ المحجة الواضحة، إلا
أن فيه خصالا: الدعابة في المجلس، واستبداد الرأي، والتبكيت للناس، مع
حداثة السن.
قلت: يا أمير المؤمنين، هلا استحدثتم سنه يوم الخندق إذ خرج عمرو بن
عبد ود وقد كعم عنه الأبطال وتأخرت عنه الأشياخ، ويوم بدر إذ كان يقط
الأقران قطا وهلا سبقتموه بالإسلام إذ كان جعلته السعب (1) وقريش
فقال: إليك يا ابن عباس! أتريد أن تفعل بي كما فعل أبوك وعلي
بأبي بكر يوم دخلا عليه؟ قال: فكرهت أن أغضبه، فسكت.

(1) كذا في المصدر
328

فقال: والله يا ابن عباس إن عليا ابن عمك لا حق الناس بها، ولكن
قريشا لا تحتمله، ولئن وليهم ليأخذهم بمر الحق لا يجدون عنده رخصة، ولئن
فعل لينكثن بيعته ثم ليحاربن (1).
(510)
ابن عباس ورجل من الخوارج
قال: إن رجلا من الخوارج سأل ابن عباس عن علي بن أبي طالب عليه
السلام، فأعرض عنه، ثم سأله، فقال:
والله لكان علي أمير المؤمنين عليه السلام يشبه القمر الزاهر، والأسد
الخادر، والفرات الزاخر، والربيع الباكر، فأشبه من القمر ضوءه وبهاءه، ومن
الأسد شجاعته ومضاءه، ومن الفرات جوده وسخاءه، ومن الربيع خصبه
وحباءه، عقمت النساء أن يأتين بمثل علي بن أبي طالب عليه السلام بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله، تالله ما رأيت ولا سمعت إنسانا مثله، وقد
رأيته يوم صفين وعليه عمامة بيضاء وكأن عينيه سراجان، وهو يقف على شرذمة
شرذمة يحثهم ويحضهم إلى أن انتهى إلي وأنا في كنف من المسلمين، فقال:
معاشر الناس! استشعروا الخشية وأميتوا الأصوات، الخبر (2).
(511)
الناشي مع الراضي
قال علي بن عبد الله بن وصيف الناشي: دخلت على الراضي، فقال
لي: أنت الناشي الرافضي؟ فقلت: خادم أمير المؤمنين الشيعي، فقال: من أي
الشيعة؟ قلت: شيعة بني هاشم، فقال: هذا خبث حيلة، قلت: مع طهارة مولد (3).

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 158 وفي ط 148.
(2) قاموس الرجال: ج 6 ص 29 وبهج الصباغة: ج 10 ص 171 كلاهما عن تفسير فرات.
(3) قاموس الرجال: ج 7 ص 75 عن الحموي، والغدير: ج 4 ص 29
329

(512)
الناشي مع الأشعري
ناظر (الناشي) أشعريا فصفعه، فقال: ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال: هذا
فعل الله بك، فلم تغضب مني؟ فقال: ما فعله غيرك، وهذا سوء أدب وخارج
عن المناظرة! فقال: ناقضت، إن أقمت على مذهبك: أن كل فعل من الله، وإن
انتقلت فخذ العوض. فانقطع المجلس بالضحك وصارت نادرة (1).
(513)
الناشي مع بعض المجبرة
الناشي ناظر بعض المجبرة، فحرك الجبري يده، فقال للناشي: من حركها؟
فقال: من أمه زانية! فغضب الرجل، فقال: ناقضت! إذا كان المحرك
غيرك فلم تغضب؟ (2).
(514)
ابن دكين مع رجل
روي عن الفضل بن دكين: أنه نصب له كرسي عظيم ببغداد ليحدث،
فقام إليه رجل وقال: أتتشيع؟ فكره مقالته وصرف وجهه وتمثل بقول مطيع
ابن أياس:
وما زال بي حبيك حتى كأنني * برجع جواب السائلي عنك أعجم
لأسلم من قول الوشاة وتسلمي * سلمت وهل حي على الناس يسلم
فلم يفقه وعاد سائلا: أتتشيع؟ فقال: يا هذا كيف بليت! وأي ريح هبت
إلي بك؟ سمعت الحسن بن صالح عن جعفر بن محمد يقول: حب علي عبادة،

(1) قاموس الرجال: ج 7 ص 76.
(2) المصدر نفسه
330

وأفضل العبادة ما كتم (1).
(515)
قنبر مع الحجاج
عن إبراهيم بن الحسين الحسيني العقيقي - رفعه - قال: سأل الحجاج قنبرا
مولى علي عليه السلام: مولى من أنت؟
فقال: أنا مولى من ضرب بسيفين، وطعن برمحين، وصلى القبلتين، وبايع
البيعتين، وهاجر الهجرتين، ولم يكفر بالله طرفة عين. أنا مولى صالح المؤمنين،
ووارث النبيين، وخير الوصيين، وأكبر المسلمين، ويعسوب المؤمنين، ونور
المجاهدين، ورئيس البكائين، وزين العابدين، وسراج الماضين، وضوء
القائمين، وأفضل القانتين، ولسان رسول الله رب العالمين، وأول المؤمنين من آل
يس. المؤيد بجبرئيل الأمين، والمنصور بميكال المتين، المحمود عند أهل
السماوات أجمعين. سيد المسلمين والسابقين، وقاتل الناكثين والقاسطين
والمارقين، والمحامي عن حرم المسلمين، ومجاهد أعدائه الناصبين، ومطفئ نار
الموقدين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأول من أجاب واستجاب لله.
أمير المؤمنين، ووصي نبيه في العالمين، وأمينه على المخلوقين، وخليفة من
بعث إليهم أجمعين. سيد المسلمين والسابقين، ومبيد المشركين، وسهم من
مرامي الله على المنافقين، ولسان كلمة العابدين، ناصر دين الله وولي الله،
ولسان كلمة الله، وناصره في أرضه، وعيبة علمه، وكهف دينه. إمام الأبرار من
رضي عنه العلي الجبار، سمح سخي، بهلول سنحنحي (2)، ذكي مطهر

(1) قاموس الرجال: ج 7 ص 319.
(2) في الكشي: " سنحنحي " بالسين المهملة ثم النون المفتوحة ثم الحاء المهملة ثم النون المفتوحة، قال في
اللسان " وفي حديث على سنحنح الليل كأني جني " أي لا أنام الليل أبدا، وأما ما في قاموس
الرجال: " سنخنخ " فالظاهر أنه سهو: ولم أجده في اللغة
331

أبطحي، باذل جرئ، همام (1) صابر صوام، مهدي مقدام، قاطع الأصلاب،
مفرق الأحزاب، عالي الرقاب. أربطهم عنانا، وأثبتهم جنانا، وأشدهم
شكيمة. باذل باسل، صنديد هزبر ضرغام، حازم عزام (2)، حصيف (3)
خطيب، محجاج (4) كريم الأصل، شريف الفضل، فاضل القبيلة، نقي
العشيرة. زكي الركانة (5)، مؤدي الأمانة. من بني هاشم، وابن عم النبي
والإمام، مهدي الرشاد، مجانب الفساد، الأشعث الحاتم (6)، البطل
الحماحم (7)، والليث المزاحم، بدري، مكي، حنفي، روحاني، شعشعاني، من
الجبال شواهقها، ومن ذي الهضبات رؤوسها، ومن العرب سيدها، ومن
الوغى ليثها. البطل الهمام، والليث المقدام، والبدر التمام. محك المؤمنين،
ووارث المشعرين، وأبو السبطين: الحسن والحسين، والله أمير المؤمنين حقا حقا
علي بن أبي طالب، عليه من الله الصلوات الزكية والبركات السنية (8).
(516)
قيس بن مسهر مع ابن زياد
أقبل قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة بكتاب الحسين عليه السلام،

(1) همام كما في الكشي، وما في القاموس الرجال: " دهمام " فهو سهو، والمعنى واضح.
(2) " عزام " بالعين المهملة والزاء المعجمة كما في الكشي، أي صاحب عزم وصبر، وفي هامشه: " غرام "
بالغين المعجمة والراء المهملة فالظاهر أنه مبالغة في الغريم بمعنى الكفيل والضامن، بمعنى أنه عليه
السلام يتكفل ويؤدي الديون، ولعله إشارة: إلى تكفله عليه السلام أداء ديون رسول الله صلى الله عليه
وآله وما وعده للناس.
(3) الحصيف: أي جيد الرأي ومحكم العقل كما في أقرب الموارد.
(4) المجاج: المسبار، وهو ميل يسبر في الجرح لغرض معالجته. وهي كناية، والمعنى واضح.
(5) يقال: رجل ركين: وقور، رزين. (لسان العرب).
(6) الحاتم: الحاكم الموجب للحكم. (لسان العرب).
(7) كذا في القاموس، وفي بعض نسخ الكشي: " الجماجم " وهم: السادات والعظماء.
(8) قاموس الرجال: ج 7 ص 391. والكشي: ص 72 الرقم 129
332

حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيد الله، فقال
له: اصعد إلى القصر فسب الكذاب ابن الكذاب، فصعد ثم قال:
أيها الناس إن هذا الحسين خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسوله، وأنا
رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر (1) فأجيبوه. ثم لعن عبيد الله وأباه، واستغفر
لعلي عليه السلام.
فأمر به عبيد الله أن يرمى به من فوق القصر، فرمي به فتقطع فمات رحمه
الله (2).
(517)
كريم بن عفيف وعبد الرحمان ومعاوية
(لما أخذ حجر وأصحابه وقتل هو وجمع معه) قال كريم بن عفيف الخثعمي
وعبد الرحمن بن حسان العنزي من أصحاب حجر: ابعثوا بنا إلى معاوية نقول
في هذا الرجل مثل مقالته، ولما أرادا الشخوص قالا لحجر: لا تبعد يا حجر
ولا يبعد مثواك، فنعم أخو الإسلام كنت.
فلما دخل كريم على معاوية قال له: الله الله يا معاوية! إنك منقول من
هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ومسؤول عما أردت بقتلنا وفيم
سفكت دماءنا!
فقال له: ما تقول في علي؟
قال: أقول فيه قولك: أتتبرأ من دين علي الذي كان يدين الله به؟ (3).
(518)
الشيخ الطوسي والخليفة العباسي
حكى جماعة: أنه وشي بالشيخ - أي الشيخ الطوسي رحمه الله تعالى - إلى

(1) الحاجر: موضع بطريق مكة " الأساس ".
(2) قاموس الرجال: ج 7 ص 405.
(3) قاموس الرجال: ج 7 ص 420. وسيأتي تفصيله في باب عبد الرحمان بن حسان العنزي ومعاوية
333

الخليفة العباسي بأنه وأصحابه يسبون الصحابة، وكتابه " المصباح " يشهد
بذلك، فإنه ذكر: أن من دعاء يوم عاشوراء: " اللهم خص أنت أول ظالم
باللعن مني... إلى آخره ".
فأجاب: بأن المراد بالأول: قابيل قاتل هابيل وهو أول من سن القتل
والظلم، وبالثاني: عاقر ناقة صالح، وبالثالث: قاتل يحيى، وبالرابع:
عبد الرحمان بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب عليه السلام.
فرفع الخليفة شأنه، وانتقم من الساعي وأهانه (1).
(519)
محمد بن الحنفية والسائل
قيل لمحمد - أي ابن الحنفية -: لم يغرر بك أبوك في الحرب ولا يغرر
بالحسن والحسين عليهما السلام؟ فقال: إنهما عيناه، وأنا يمينه، فهو يدفع عن
عينه بيمينه (2).
(520)
الزهري والوليد
وفي العقد: إن الوليد بن عبد الملك قال له - أي لمحمد بن شهاب الزهري -:
حدثنا أهل الشام: " إن الله إذا استرعى عبدا رعيته كتب له الحسنات ولم
يكتب عليه السيئات ".
فقال الزهري: حديث باطل، أنبي خليفة أكرم على الله أم خليفة غير نبي؟
قال: بل خليفة نبي، قال: فإن الله تعالى يقول لنبيه داود عليه السلام: " يا
داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى

(1) قاموس الرجال: 8 / 135.
(2) قاموس الرجال: 8 / 159
334

فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا
يوم الحساب " فهذا وعيد لنبي خليفة فما ظنك بخليفة غير نبي؟
فقال: إن الناس ليغروننا عن ديننا (1).
(521)
جهني مع محمد بن طلحة
في الطبري: أقبل - يوم الجمل - غلام من جهينة على محمد بن طلحة - وكان
محمد رجلا عابدا - فقال: أخبرني عن قتلة عثمان؟ فقال: نعم، دم عثمان
ثلاثة أثلاث: ثلث على صاحبة الهودج - يعني: عائشة - وثلث على صاحب
الجمل الأحمر - يعني: طلحة - وثلث على علي بن أبي طالب.
فضحك الغلام وقال: " ألا أراني على ضلال " ولحق بعلي عليه السلام
وقال في ذلك شعرا:
سألت ابن طلحة عن هالك * بجوف المدينة لم يقبر
فقال: ثلاثة رهط هم * أماتوا ابن عفان واستعبر
فثلث على تلك في خدرها * وثلث على راكب الأحمر
وثلث على ابن أبي طالب * ونحن بدوية قرقر
فقلت: صدقت على الأولين * وأخطأت في الثالث الأزهر (2)
(522)
أبو العيناء وموسى بن عبد الملك
لما وكل موسى بن عبد الملك الأصبهاني بنجاح بن سلمة ليستأديه ما عليه
من الأموال عاقبه موسى فهلك.

(1) قاموس الرجال: 8 / 215.
(2) قاموس الرجال: 8 / 223، وبهج الصباغة 6: 122 و 4: 689 عن الطبري أيضا، والإمامة والسياسة:
1 / 61
335

فقال أبو العيناء: " فوكزه موسى فقضى عليه " فبلغت كلمته موسى، فلقيه
وقال له: أبي تولع؟ والله لأقومنك، فقال: " أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا
بالأمس " (1)
(523)
أبو العيناء والمتوكل
قال الخطيب: روي أن المتوكل قال: أشتهي أن أنادم أبا العيناء لولا أنه
ضرير، فقال: إن أعفاني من رؤية الأهلة ونقش الخواتيم فإني أصلح. وقال له
المنتصر: ما أحسن الجواب! فقال: ما أسكت المبطل وحير المحق! فقال:
أحسنت والله (2).
(524)
أبو العيناء والمتوكل
قاله له (3) المتوكل: هل رأيت طالبيا حسن الوجه؟ قال: نعم، رأيت
ببغداد منذ ثلاثين واحدا، فقال المتوكل: نجده كان مؤاجرا وكنت أنت تقود
عليه فقال: يا أمير المؤمنين، أو يبلغ هذا من فراغي أدع مواليي مع كثرتهم وأقود
على الغرباء؟ فقال المتوكل للفتح: أردت أن أشتفي منهم، فاشتفى لهم مني (4).
(525)
أبو العيناء ورجل من بني العباس
قال له: بلغني أنك بغاء، فقال: وما أنكرت مع ذلك مع قول النبي

(1) قاموس الرجال: 8 / 344.
(2) المصدر نفسه.
(3) أي: لأبي العيناء مولى العباسيين.
(4) قاموس الرجال: 8 / 345 عن الكتاب الأدباء.
(5) أي: قال لأبي العيناء رجل من بني هاشم، أي من العباسيين
336

صلى الله عليه وآله: " مولى القوم منهم "، فقال: إنك دعي فينا، فقال: بغائي
صحح نسبي فيكم (1).
(526)
ابن السكيت والمتوكل
في طبقات السيوطي: قال: وبينا هو (2) مع المتوكل في بعض الأيام إذ مر
به ولداه المعتز والمؤيد، فقال له: يا يعقوب، من أحب إليك ابناي هذان أم
الحسن والحسين عليهما السلام؟ فغض من ابنيه وقال: " قنبر خير منهما "، وأثنى
على الحسن والحسين عليهما السلام بما هما أهله.
وقيل: قال: " والله إن قنبرا خادم علي عليه السلام خير منك ومن
ابنيك، فأمر الأتراك فداسوا بطنه، فحمل فعاش يوما وبعض يوم. وقيل:
حمل ميتا في بساط، وقيل: قال: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا به ذلك فمات (3).
(527)
ابن السكيت واللحياني
في تاريخ بغداد: قال المبرد: ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من
كتابه (4) في المنطق، وكان اللحياني عازما على أن يملي نوادر له ضعف ما
أملى، فقال يوما: تقول العرب: " مثقل استعان بذقنه "، فقام إليه ابن
السكيت - وهو حدث - فقال: إنما تقول: " مثقل استعان بدفيه "، يريدون: أن
الجمل إذا نهض بالحمل استعان بجنبيه. فقطع الإملاء.

(1) قاموس الرجال: 8 / 346.
(2) أي: ابن السكيت يعقوب بن إسحاق.
(3) قاموس الرجال: 9 / 460، وبهج الصباغة: 3 / 338 و 9 / 383 عن المعجم، وتاريخ الخلفاء:
ص 348.
(4) أي: كتاب ابن السكيت
337

فلما كان في المجلس الثاني أملى، فقال: تقول العرب: " هو جاري
مكاشري "، فقام إليه ابن السكيت، فقال: وما معنى " مكاشري "؟ إنما هو:
" مكاسري " يعني: كسر بيتي إلى كسر بيته.
فقطع اللحياني الإملاء فما أملى بعد ذلك شيئا. وكان من أهل الفضل
والدين موثوقا بروايته.
وسأل الفراء السكيت أباه عن نسبه؟ فقال: خوزي من قرى دورق من
كور الأهواز (1).
(528)
ابنا عباس وابن الزبير
مر عبد الله بن صفوان بن أمية يوما بدار عبد الله بن عباس بمكة، فرأى فيها
جماعة من طالبي الفقه. ومر بدار عبيد الله بن عباس فرأى فيها جماعة ينتابونها
للطعام، فدخل على ابن الزبير فقال له: أصبحت والله كما قال الشاعر:
فإن تصبك من الأيام قارعة * لم نبك منك على دنيا ولا دين
قال: وما ذاك يا أعرج؟ قال: هذان ابنا عباس أحدهما يفقه الناس
والآخر يطعم الناس فما بقيا لك مكرمة.
فدعا عبد الله بن مطيع وقال: انطلق إلى ابني عباس فقل لهما: يقول لكما
أمير المؤمنين: اخرجا عني أنتما ومن أصغى إليكما من أهل العراق، وإلا فعلت
وفعلت.
فقال عبد الله: والله ما يأتينا إلا رجلان: رجل يطلب فقها ورجل يطلب
فضلا، فأي هذين تمنع؟ وكان بالحضرة أبو الطفيل، فجعل يقول:
لا در در الليالي كيف تضحكنا * منها خطوب أعاجيب وتبكينا

(1) قاموس الرجال: 9 / 459
338

ومثل ما تحدث الأيام من عبر * في ابن الزبير عن الدنيا تسلينا
كنا نجئ ابن عباس فيسمعنا * فقها ويكسبنا أجرا ويهدينا
ولا يزال عبيد الله مترعة * جفانه مطعما ضيفا ومسكينا
فالبر والدين والدنيا بدارهما * ننال منها الذي نبغي إذا شينا
إن النبي هو النور الذي كشطت * به عمايات ماضينا وباقينا
ورهطه عصبة في دينه لهم * فضل علينا وحق واجب فينا (1)
(529)
محمد بن وهيب ويزيد بن هارون
في أغاني أبي الفرج: قال أبو هفان: كان محمد بن وهيب يتردد إلى مجلس
يزيد بن هارون، فلزمه عدة مجالس يملي فيها كلها فضائل أبي بكر وعمر وعثمان
ولم يذكر شيئا من فضائل علي عليه السلام. فقال ابن وهيب:
آتي يزيد بن هارون ادالجه (2) * في كل يوم ومالي وابن هارون
فليت لي بيزيد حين أشهده * راحا وقصفا وندمانا تسليني
أغدو إلى عصبة صمت مسامعهم * عن الهدى بين زنديق ومأفون
لا يذكرون عليا في مشاهدهم * ولا بنيه بني البيض الميامين
إني لأعلم أني لا أحبهم * كما هم بيقين لا يحبوني
لو يستطيعون من ذكرى أبا حسن (3) * وفضله قطعوني بالسكاكين
ولست أترك تفضيلي له أبدا * حتى الممات على رغم الملاعين (4)

(1) قاموس الرجال: 6 / 62 عن الإستيعاب.
(2) أدالجه: يقال أدلج بالتخفيف إذا سار من أول الليل، وبالتشديد إذا سار من آخره. مجمع البحرين:
مادة دلج.
(3) هكذا في الأصل والصحيح: " أبي الحسن ".
(4) قاموس الرجال: 8 / 423، و 9 / 451 باستثناء البيت الأخير
339

وقال إسحاق بن محمد بن القاسم بن يوسف: كان محمد بن وهيب يأتي
أبي، فقال له أبي يوما: إنك تأتينا وقد عرفت مذهبنا، فنحب أن تعرفنا
مذهبك فنوافقك أو نخالفك، فقال: في غد أبين أمري، فلما كان من غد كتب
إليه:
أيها السائل قد بينت إن كنت ذكيا * أحمد الله كثيرا بأياديه عليا
شاهدا ألا إله غيره من دمت حيا * وعلى أحمد بالصدق رسولا ونبيا
ومنحت الود قرباه وواليت الوصيا * وأتاني خبر مطرح لم يك شيا
إن على غير اجتماع عقدوا الأمر بديا * فوفقت (1) القوم تيما وعديا وأميا
غير شتام، ولكني توليت عليا (2)
(530)
هشام والجاثليق
عن هشام بن الحكم، عن جاثليق من جثالقة النصارى يقال له: بريهة، قد
مكث جاثليق النصرانية سبعين سنة (3)، وكان يطلب الإسلام، ويطلب من
يحتج عليه ممن يقرأ كتبه ويعرف المسيح بصفاته ودلائله وآياته، قال: وعرف
بذلك حتى اشتهر في النصارى والمسلمين واليهود والمجوس، حتى افتخرت به
النصارى، وقالت: لو لم يكن في دين النصرانية إلا بريهة لأجزأنا، وكان طالبا
للحق والإسلام مع ذلك.
وكانت معه امرأة تخدمه طال مكثها معه، وكان يسر إليها ضعف النصرانية
وضعف حجتها، قال: فعرفت ذلك منه، فضرب بريهة الأمر ظهرا لبطن، وأقبل

(1) وفق الشئ: ما لاءمه، وقد وافقه موافقة (لسان العرب).
(2) قاموس الرجال: ج 8 / 424.
(3) الجاثليق: صاحب مرتبة من المراتب الدينية النصرانية، وقوله: جاثليق النصرانية بالنصب حال من
فاعل مكث، أي مكث بريهة سبعين سنة حال كونه صاحب هذه المرتبة في النصرانية
340

يسأل فرق المسلمين والمختلفين في الإسلام من أعلمكم؟ وأقبل يسأل عن أئمة
المسلمين وعن صلحائهم وعلمائهم وأهل الحجى منهم، كان يستقرئ فرقة فرقة
لا يجد عند القوم شيئا، وقال: لو كانت أئمتكم أئمة على الحق لكان عندكم
بعض الحق، فوصفت له الشيعة ووصف له هشام بن الحكم.
فقال يونس بن عبد الرحمان: فقال لي هشام: بينما أنا على دكاني على باب
الكرخ جالس وعندي قوم يقرأون علي القرآن، فإذا أنا بفوج النصارى معه ما
بين القسيسين إلى غيرهم نحو من مائة رجل عليهم السواد والبرانس، والجاثليق
الأكبر فيهم بريهة حتى نزلوا حول دكاني، وجعل لبريهة كرسي يجلس عليه،
فقامت الأساقفة والرهابنة على عصيهم وعلى رؤوسهم برانسهم.
فقال بريهة: ما بقي من المسلمين أحد ممن يذكر بالعلم بالكلام إلا وقد
ناظرته في النصرانية فما عندهم شئ، وقد جئت أناظرك في الإسلام.
قال: فضحك هشام فقال: يا بريهة إن كنت تريد مني آيات كآيات
المسيح فليس أنا بالمسيح ولا مثله ولا أدانيه، ذاك روح طيبة خميصة (1) مرتفعة،
آياته ظاهرة، وعلاماته قائمة.
قال بريهة: فأعجبني الكلام والوصف.
قال هشام: إن أردت الحجاج فهاهنا.
قال بريهة: نعم فإني أسألك ما نسبة نبيكم هذا من المسيح نسبة الأبدان؟
قال هشام: ابن عم جده [لامه] لأنه من ولد إسحاق ومحمد من ولد
إسماعيل.
قال بريهة: وكيف تنسبه إلى أبيه؟
قال هشام: إن أردت نسبه عندكم أخبرتك، وإن أردت نسبه عندنا

(1) أي خالية منزهة من الرذائل النفسية والكدورات المادية
341

أخبرتك.
قال بريهة: أريد نسبه عندنا، وظننت أنه إذا نسبه نسبتنا أغلبه، قلت: فانسبه
بالنسبة التي ننسبه بها.
قال هشام: نعم تقولون: أنه قديم من قديم، فأيهما الأب وأيهما الابن؟
قال بريهة: الذي نزل إلى الأرض الابن.
قال هشام: الذي نزل إلى الأرض الأب.
قال بريهة: الابن رسول الأب.
قال هشام: إن الأب أحكم من الابن، لأن الخلق خلق الأب.
قال بريهة: إن الخلق خلق الأب وخلق الابن.
قال هشام: ما منعهما أن ينزلا جميعا كما خلقا إذا اشتركا؟
قال بريهة: كيف يشتركان وهما شئ واحد؟ إنما يفترقان بالاسم.
قال هشام: إنما يجتمعان بالاسم.
قال بريهة: جهل هذا الكلام.
قال هشام: عرف هذا الكلام.
قال بريهة: إن الابن متصل بالأب.
قال هشام: إن الابن منفصل من الأب.
قال بريهة: هذا خلاف ما يعقله الناس.
قال هشام: إن كان ما يعقله الناس شاهدا لنا وعلينا فقد غلبتك، لأن
الأب كان ولم يكن الابن، فتقول هكذا يا بريهة؟
قال: ما أقول هكذا.
قال: فلم استشهدت قوما لا تقبل شهادتهم لنفسك؟
قال بريهة: إن الأب اسم والابن اسم يقدر به القديم.
قال هشام: الاسمان قديمان كقدم الأب والابن؟
342

قال بريهة: لا، ولكن الأسماء محدثة.
قال: فقد جعلت الأب ابنا والابن أبا إن كان الابن أحدث هذه الأسماء
دون الأب فهو الأب، وإن كان الأب أحدث هذه الأسماء دون الابن فهو
الأب، والابن أب وليس هاهنا ابن.
قال بريهة: إن الابن اسم للروح حين نزلت إلى الأرض.
قال هشام: فحين لم تنزل إلى الأرض فاسمها ما هو؟
قال بريهة: فاسمها ابن نزلت أو لم تنزل.
قال هشام: فقبل النزول هذه الروح كلها واحدة واسمها اثنان.
قال بريهة: هي كلها واحدة، روح واحدة.
قال: قد رضيت أن تجعل بعضها ابنا وبعضها أبا.
قال بريهة: لا، لأن اسم الأب واسم الابن واحد.
قال هشام: فالابن أبو الأب، والأب أبو الابن، والابن واحد.
قالت الأساقفة بلسانها لبريهة: ما مر بك مثل ذا قط تقوم، فتحير بريهة
وذهب ليقوم فتعلق به هشام، قال: ما يمنعك من الإسلام أفي قلبك حزازة؟
فقلها، وإلا سألتك عن النصرانية مسألة واحدة تبيت عليها ليلك هذا فتصبح
وليس لك همة غيري. قالت الأساقفة: لا ترد هذه المسألة لعلها تشكك.
قال بريهة: قلها يا أبا الحكم.
قال هشام: أفرأيتك الابن يعلم ما عند الأب؟
قال: نعم.
قال: أفرأيتك الأب يعلم كل ما عند الابن؟
قال: نعم.
قال: أفرأيتك تخبر عن الابن، أيقدر على حمل كل ما يقدر عليه الأب؟
قال: نعم.
343

قال: أفرأيتك تخبر عن الأب أيقدر على كل ما يقدر عليه الابن؟
قال: نعم.
قال هشام: فكيف يكون واحد منهما ابن صاحبه وهما متساويان؟
وكيف يظلم كل واحد منهما صاحبه؟
قال بريهة: ليس منهما ظلم.
قال هشام: من الحق بينهما أن يكون الابن أب الأب، والأب ابن الابن،
بت عليها يا بريهة.
وافترق النصارى وهم يتمنون أن لا يكونوا رأوا هشاما ولا أصحابه.
قال: فرجع بريهة مغتما مهتما حتى صار إلى منزله، فقالت امرأته التي
تخدمه: ما لي أراك مهتما مغتما؟ فحكى لها الكلام الذي كان بينه وبين
هشام، فقالت لبريهة: ويحك أتريد أن تكون على حق أو على باطل؟ فقال
بريهة: بل على الحق، فقالت له: أينما وجدت الحق فمل إليه، وإياك واللجاجة
فإن اللجاجة شك، والشك شؤم، وأهله في النار، قال: فصوب قولها، وعزم على
الغدو على هشام.
قال: فغدا عليه وليس معه أحد من أصحابه، فقال: يا هشام ألك من
تصدر عن رأيه، وترجع إلى قوله، وتدين بطاعته؟
قال هشام: نعم يا بريهة.
قال: وما صفته؟
قال هشام: في نسبه، أو في دينه؟
قال: فيهما جميعا صفة نسبه، وصفة دينه.
قال هشام: أما النسب خير الأنساب، رأس العرب، وصفوة قريش،
وفاضل بني هشام، كل من نازعه في نسبه وجده أفضل منه، لأن قريشا أفضل
العرب، وبني هاشم أفضل قريش، وأفضل بني هاشم خاصهم ودينهم وسيدهم،
344

وكذلك ولد السيد أفضل من ولد غيره وهذا من ولد السيد.
قال: فصف دينه.
قال هشام: شرائعه أو صفة بدنه وطهارته؟
قال: صفة بدنه وطهارته.
قال هشام: معصوم فلا يعصي، وسخي فلا يبخل، شجاع فلا يجبن، وما
استودع من العلم فلا يجهل، حافظ للدين، قائم بما فرض عليه، من عترة
الأنبياء، وجامع علم الأنبياء، يحلم عند الغضب، وينصف عند الظلم، ويعين
عند الرضا، وينصف من الولي والعدو، ولا يسأل شططا في عدوه، ولا يمنع إفادة
وليه، يعمل بالكتاب، ويحدث بالأعجوبات، من أهل الطهارات، يحكي قول
الأئمة الأصفياء، لم تنقض له حجة، ولم يجهل مسألة، يفتي في كل سنة، ويجلو
كل مدلهمة.
قال بريهة: وصفت المسيح في صفاته، وأثبته بحججه وآياته، إلا أن الشخص
بائن عن شخصه، والوصف قائم بوصفه، فإن يصدق الوصف نؤمن بالشخص.
قال هشام: إن تؤمن ترشد، وإن تتبع الحق لا تؤنب.
ثم قال هشام: يا بريهة ما من حجة أقامها الله على أول خلقه إلا أقامها على
وسط خلقه وآخر خلقه، فلا تبطل الحجج، ولا تذهب الملل، ولا تذهب السنن.
قال بريهة: ما أشبه هذا بالحق، وأقر به من الصدق، وهذه صفة الحكماء،
يقيمون من الحجة ما ينفون به الشبهة.
قال هشام: نعم.
فارتحلا حتى أتيا المدينة والمرأة معهما وهما يريدان أبا عبد الله عليه السلام
فلقيا موسى بن جعفر عليهما السلام، فحكى له هشام الحكاية فلما فرغ قال
موسى بن جعفر عليهما السلام: يا بريهة كيف علمك بكتابك؟ قال: أنا به
عالم، قال: كيف ثقتك بتأويله؟ قال: ما أوثقني بعلمي فيه.
345

قال: فابتدأ موسى بن جعفر عليهما السلام بقراءة الإنجيل.
قال بريهة: والمسيح لقد كان يقرأ هكذا، وما قرأ هذه القراءة إلا المسيح. ثم
قال بريهة: إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة، أو مثلك.
قال: فآمن وحسن إيمانه، وآمنت المرأة وحسن إيمانها.
قال: فدخل هشام وبريهة والمرأة على أبي عبد الله عليه السلام، وحكى
هشام الحكاية والكلام الذي جرى بين موسى عليه السلام وبريهة.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: " ذرية بعضها من بعض والله سميع
عليم " (1).
فقال بريهة: جعلت فداك أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟
قال: هي عندنا وراثة من عندهم، نقرؤها كما قرؤوها، ونقولها كما قالوها،
إن الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شئ فيقول: لا أدري... (2).
(531)
هشام والمتكلمون
في الاكمال صحيحا عن محمد بن أبي عمير قال: أخبرني علي الأسواري
قال: كان ليحيى بن خالد مجلس بداره يحضره المتكلمون من كل فرقة يوم
الأحد، فيتناظرون في أديانهم، يحتج بعض على بعض، فبلغ ذلك الرشيد،
فقال ليحيى: يا عباسي ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره
المتكلمون؟ قال: ما شئ رفعني به الخليفة وبلغ بي من الكرامة والرفعة أحسن
موقعا عندي من هذا المجلس، يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم، فيحتج
بعضهم على بعض، ويعرف المحق من بينهم، ويبين لنا فساد كل مذهب من

(1) آل عمران: 34.
(2) توحيد الصدوق: ص 270، وراجع قاموس الرجال: ج 9 / 348
346

مذاهبهم.
فقال له الرشيد: أنا أحب أن أحضر هذا المجلس وأسمع كلامهم، على أن
لا يعلموا بحضوري فيحتشمون ولا يظهرون مذاهبهم، قال: ذلك إلى الخليفة إن
شاء ومتى شاء، قال: فضع يدك على رأسي أن لا تعلمهم بحضوري ففعل
ذلك، وبلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا بينهم، وعزموا أن لا يتكلموا (1) هشاما إلا في
الإمامة، لعلمهم بمذهب الرشيد وإنكاره على من قال بالإمامة. فحضروا وحضر
هشام وحضر عبد الله بن يزيد الأباظي، وكان من أصدق الناس لهشام وكان
يشاركه في المحاورة.
فلما دخل هشام، وسلم على عبد الله من بينهم، فقال يحيى لعبد الله: كلم
هشاما في ما اختلفتم فيه من الإمامة.
فقال هشام: أيها الوزير ليس لهؤلاء علينا مسألة ولا جواب.
فقال بنان - وكان من الحرورية -: أنا أسألك يا هشام، أخبرني عن أصحاب
علي يوم حكموا الحكمين، كانوا مؤمنين أم كافرين؟
قال هشام: كانوا ثلاثة أصناف: صنف مؤمنون، وصنف مشركون
وصنف ضالون، فأما المؤمنون فمن قال مثل قولي: إن عليا عليه السلام إمام
من عند الله عز وجل ومعاوية لا يصلح لها، فآمنوا بما قال الله عز وجل في علي
عليه السلام وأقروا به. وأما المشركون فقوم قالوا: علي إمام ومعاوية يصلح
لها فأشركوا إذ أدخلوا معاوية مع علي عليه السلام. وأما الضالون فقوم خرجوا
بالحمية والعصبية للقبائل والعشائر، فلم يعرفوا شيئا من هذا وهم جهال.
قال: فأصحاب معاوية؟
قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف كافرون، وصنف مشركون، وصنف

(1) هكذا في الأصل والظاهر أنه " لا يكلموا "
347

ضالون. أما الكافرون فالذين قالوا: إن معاوية إمام وعلي لا يصلح لها فكفروا
من جهتين، إذ جحدوا إماما من الله عز وجل ونصبوا إماما ليس من الله. وأما
المشركون فقوم قالوا: معاوية إمام وعلي يصلح لها فأشركوا معاوية مع علي عليه
السلام. وأما الضالون فعلى سبيل أولئك خرجوا بالحمية والعصبية للقبائل
والعشائر.
فانقطع بنان عند ذلك.
فقال ضرار: وأنا أسألك يا هشام. قال: أخطأت. قال: ولم؟ قال: لأنكم
كلكم مجتمعون على رفع إمامة صاحبي، وقد سألني هذا عن مسألة، وليس لكم
أن تثنوا علي بالمسألة حتى أسألك يا ضرار عن مذهبك في هذا الباب، فقال
ضرار: فسل.
قال: أتقول: إن الله تعالى عدل لا يجور؟
قال: نعم.
قال: فلو كلف الله المقعد المشي إلى المساجد والجهاد في سبيله وكلف
الأعمى قراءة المصاحف والكتب أتراه كان عادلا؟
قال ضرار: ما كان الله ليفعل ذلك.
قال هشام: قد علمت أن الله لا يفعل ذلك، ولكن ذلك على سبيل الجدال
والخصومة.
قال ضرار: لو فعل كان جائرا، قال: فأخبرني عن الله تعالى كلف العباد
دينا واحدا لا اختلاف فيه، لا يقبل منهم إلا أن يأتوا به كما كلفهم، قال: بلى.
قال: فجعل لهم دليلا على وجود ذلك الدين، أو كلفهم ما لا دليل لهم على
وجوده، فيكون بمنزلة من كلف الأعمى قراءة الكتب والمقعد المشي إلى الجهاد
والمساجد، فسكت ضرار ساعة ثم قال: لا بد من دليل وليس كصاحبك.
فتبسم هشام وقال: تشيع شطرك، وصرت إلى الحق ضرورة ولا خلاف
348

بيني وبينك إلا في التسمية.
قال ضرار: فإني أرجع القول عليك في هذا.
قال: هات.
قال: كيف تعقد الإمامة؟ قال: كما عقد الله النبوة.
قال: فهو إذن نبي؟
قال هشام: لا، لأن النبوة تعقدها أهل السماء والإمامة تعقدها أهل
الأرض، فعقد النبوة بالملائكة وعقد الإمامة بالنبي صلى الله عليه وآله
والعقدان جميعا بأمر الله جل جلاله.
قال: فما الدليل على ذلك؟
قال هشام: الاضطرار في هذا.
قال ضرار: وكيف ذلك؟
قال هشام: لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه: إما أن يكون الله
عز وجل رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وآله ولم يكلفهم
لا يأمرهم ولا ينهاهم، فصاروا بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف عليها،
أفتقول هذا يا ضرار؟
قال: لا.
قال هشام: فالوجه الثاني: ينبغي أن الناس المكلفين استحلوا بعد الرسول
صلى الله عليه وآله، علما في مثل علم الرسول صلى الله عليه وآله حتى
لا يحتاج أحد إلى أحد؟
قال ضرار: لا أقول هذا أيضا.
قال: فبقي الوجه الثالث: وهو أنه لا بد لهم من عالم يقيمه الرسول لهم لا
يسهو ولا يغلط ولا يحيف، معصوم من الذنوب، مبرأ من الخطايا، يحتاج الناس
إليه ولا يحتاج إلى أحد.
349

قال ضرار: فما الدليل عليه؟
قال هشام: ثمان دلالات: أربع في نعت نسبه وأربع في نعت نفسه، فأما
الأربع التي وقعت في نعت نسبه: فإنه يكون معروف الجنس، معروف القبيلة،
معروف البيت، وأن يكون من صاحب الملة والدعوة إشارة إليه، فلم تر جنسا
من هذا الخلق أشهر من جنس العرب الذي منهم صاحب الملة والدعوة الذي
ينادى باسمه كل يوم خمس مرات على الصوامع " أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا رسول الله " تصل دعوته إلى كل بر وفاجر وعالم وجاهل مقرر
منك في شرق الأرض وغربها، ولو جاز أن يكون الحجة من الله تعالى على هذا
الخلق في غير هذا الجنس لأتى على الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده، ولجاز
أن يطلبه في أجناس من هذا الخلق، ولكان من حيث أراد تعالى أن يكون
صلاح يكون فساد، ولا يجوز هذا في حكمته تعالى وعدله أن يفرض على الناس
فريضة لا توجد، فلما لم يجز ذلك لم يجز أن يكون من غير هذا الجنس لاتصاله
بصاحب الملة، ولم يجز من ذلك أن يكون هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لقرب
نسبها من صاحب الملة وهو قريش.
ولما لم يجز أن يكون هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من
هذه القبيلة إلا في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة، ولما أكثر
أهل البيت التشاجر في الإمامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد، فلم يجز إلا أن
يكون إليه إشارة من صاحب الملة والدعوة بعينه واسمه ونسبه، لئلا يطمع فيها
غيره.
وأما الأربع التي في نعت نفسه: فأن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض الله
وسنته وأحكامه حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل، وأن يكون معصوما من
الذنوب، كلها وأن يكون أشجع الناس، وأسخى الناس.
فقال عبد الله بن يزيد الأباضي: من أين قلت: إنه أعلم الناس؟
350

قال: لأنه لو لم يكن عالما بجميع حدود الله وأحكامه وشرايعه وسننه لم يؤمن
عليه أن يقلب الحدود، فمن وجب عليه القطع حده ومن وجب عليه الحد قطعه
فلا يقيم لله تعالى حدا على أمره، ومن حيث أراد تعالى صلاحا يقع فسادا.
قال: فمن أين قلت: إنه معصوم من الذنوب؟
قال: لأنه لو لم يكن معصوما من الذنوب دخل في الخطأ، فلا يؤمن أن يكتم
على نفسه ويكتم على حميمه وقريبه، ولا يحتج تعالى بمثله على خلقه.
قال: فمن أين قلت: إنه أشجع الخلق؟
قال: لأنه فئة المسلمين الذين يرجعون إليه في الحرب، وقد قال تعالى:
" ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من
الله " فإن لم يكن شجاعا يبوء بغضب من الله، ولا يجوز أن يكون من يبوء بغضبه
حجته على خلقه.
قال: فمن أين قلت: إنه أسخى الناس؟
قال: لأنه خازن المسلمين، فإن لم يكن سخيا فقد تاقت إلى أموالهم
فأخذها فكان خائنا، ولا يجوز أن يحتج الله على خلقه بخائن.
فعند ذلك قال ضرار: فمن بهذه الصفة في هذا الوقت؟ قال: صاحب
القصر أمير المؤمنين.
وكان هارون قد سمع الكلام كله، فقال عند ذلك: أعطانا والله من جراب
النورة، ويحك يا جعفر - وكان جعفر بن يحيى جالسا معه في الستر - من يعني بهذا
قال: يعني به موسى بن جعفر، قال: ما عنى به غيره، ثم عض على شفتيه، وقال:
مثل هذا حي ويبقى لي ملكي ولا ساعة فوالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس
من لف سيف، وعلم يحيى أن هشاما قد أتى فدخل الستر، فقال: يا عباسي
ويحك من هذا الرجل؟ فقال: يا أمير المؤمنين حسبك يكفي يكفي.
ثم خرج إلى هشام فغمزه، فعلم هشام أنه قد أتي، فقام يوهم أنه يبول
351

ويقضي حاجة، فلبس نعله وانسل ومر من وقته نحو الكوفة ونزل على بشير
النبال - وكان من حملة الحديث من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام - فأخبره
الخبر، ثم اعتل علة شديدة، فقال له بشير: آتيك بطبيب؟ قال: لا أنا
ميت... (1)
(532)
مؤمن الطاق وأبو حنيفة
عن محمد بن جعفر الأسامي: كان أبو حنيفة يتهم شيطان الطاق بالرجعة،
وكان شيطان الطاق يتهم أبا حنيفة بالتناسخ، فخرج أبو حنيفة يوما إلى السوق
فاستقبله شيطان الطاق ومعه ثوب يريد بيعه، فقال له أبو حنيفة: أتبيع هذا
الثوب إلى رجوع علي، فقال: إن أعطيتني كفيلا أن لا تمسخ قردا بعتك، فبهت
أبو حنيفة (2).
(533)
المقطع العامري ومعاوية
لما كان عام الجماعة [و] بايع الناس معاوية، سأل عن المقطع العامري
حتى نزل عليه فدخل عليه، فإذا هو شيخ كبير، فلما رآه قال: آوه لولا أنك في
هذا الحال، ما أفلتني، قال: نشدتك الله إلا قتلتني وأرحتني من بؤس الحياة،
وأدنيتني إلى لقاء الله. قال: أني لا أقتلك، وإن لي إليك حاجة. قال: فما
حاجتك؟ قال: جئت لأواخيك، قال: إنا وإياكم قد افترقنا في الله، أما أنا
فأكون على حالي حتى يجمع الله بيننا في الآخرة. قال: فزوجني ابنتك. قال:
قد منعتك ما هو أهون علي من ذلك. قال: فاقبل مني صلة. قال: فلا حاجة
لي في ما قبلك، فتركه فلم يقبل منه شيئا (3).

(1) قاموس الرجال: ج 9 / 337، وقد مر قريب منه.
(2) قاموس الرجال: ج 9 / 215، وقد مر بلفظ آخر.
(3) وقعة صفين لنصر: ص 278، ط مصر الثانية وقاموس الرجال: ج 9 / 117 عنه
352

(534)
المقداد بن عمرو ومناوئ علي عليه السلام
روى بعضهم قال: دخلت مسجد رسول الله فرأيت رجلا جاثيا على
ركبتيه يتلهف تلهف من كأن الدنيا كانت له فسلبته، وهو يقول: واعجبا
لقريش ودفعهم هذا الأمر على أهل بيت نبيهم وفيهم أول المؤمنين وابن عم
رسول الله أعلم الناس وأفقههم في دين الله وأعظمهم عناء في الإسلام
وأبصرهم بالطريق وأهداهم للصراط المستقيم، والله لقد زووها عن الهادي
المهتدي الطاهر النقي، وما أرادوا إصلاحا للأمة ولا صوابا في المذهب،
ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة فبعدا وسحقا للقوم الظالمين.
فدنوت منه فقلت: من أنت يرحمك الله، ومن هذا الرجل؟ فقال: أنا المقداد
ابن عمرو وهذا الرجل علي بن أبي طالب. قال: فقلت: ألا تقوم بهذا الأمر
فأعينك عليه؟ فقال: يا ابن أخي إن هذا الأمر لا يجزي فيه الرجل ولا
الرجلان، ثم خرجت فلقيت أبا ذر فذكرت له ذلك، فقال: صدق أخي
المقداد... (1).
(535)
صعصعة والمغيرة
في الطبري: إن صعصعة لما قال للمغيرة: ابعثني إلى المستورد الخارجي
قال له: اجلس فإنما أنت خطيب، فكان أحفظه ذلك، وإنما قال له ذلك، لأنه
بلغه أنه يعيب عثمان، ويكثر ذكر علي عليه السلام ويفضله، وقد كان دعاه
فقال: إياك أن يبلغني عنك أنك تظهر من فضل علي شيئا علانية، فإنك

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 / 153، وقاموس الرجال: ج 9 / 113 عنه ولعله رواية أخرى مما مر ج 1 ص 62
و ج 2 ص 17، فراجع أيضا القاموس: ج 9 / 53، والغدير: ج 9 / 115
353

لست بذاكر من فضل علي شيئا أجهله، بل أنا أعلم بذلك، ولكن هذا
السلطان قد ظهر، وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس فنحن ندع كثيرا مما أمرنا به
ونذكر الشئ الذي لا نجد بدا منه، ندافع به هؤلاء القوم عن أنفسنا، فإن
كنت ذاكرا فضله فاذكره بينك وبين أصحابك وفي منازلكم سرا.... الخ (1).
(536)
المأمون وإبراهيم بن المهدي.
في مروج المسعودي: كان المأمون يظهر التشيع وإبراهيم بن المهدي
المعروف بابن شكلة التسنن فقال المأمون:
إذا المرجي سرك أن تراه * يموت لحينه من قبل موته
فجدد عنده ذكرى علي * وصل على النبي وآل بيته
فأجابه ابن شكلة رادا عليه.
إذا الشيعي جمجم في مقال * فسرك أن يبوح بذات نفسه
فصل على النبي وصاحبيه * وزيريه وجاريه برمسه (2)
(537)
سليمان بن محمد والمأمون
في شرح النهج: أمر المأمون بإشخاص سليمان بن محمد الخطابي من
البصرة، فلما مثل بين يديه قال له: " أنت القائل: العراق عين الدنيا، والبصرة
عين العراق، والمربد عين البصرة، ومسجدي عين المربد، وأنا عين مسجدي،
وأنت أعور فإذن عين الدنيا عوراء "؟ قال: لم أقل ذلك ولا أظن أنك أحضرتني
لذلك قال: بلغني أنك أصبحت فوجدت على سارية من سواري مسجدك:

(1) قاموس الرجال: ج 9 / 88، وبهج الصباغة: ج 11 / 269، و ج 4 / 685 عن الطبري.
(2) قاموس الرجال: ج 10 / 350
354

" رحم الله عليا إنه كان تقيا " فأمرت بمحوه، قال: كان " لقد كان نبيا "
فأمرت بإزالته، فقال له المأمون، كذبت كانت القاف أصح من عينك
الصحيحة، والله لولا أن أقيم لك عند العامة سوقا لأحسنت تأديبك (1).
(538)
ابن أم كلاب وعائشة
في الطبري: أن عائشة لما أخبرت بقتل عثمان وبيعة الناس مع
أمير المؤمنين عليه السلام انصرفت من سرف إلى مكة وهي تقول: قتل عثمان
والله مظلوما والله لأطلبن بدمه.
فقال لها ابن أم كلاب: ولم؟! فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد
كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر.
قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول.
فقال لها ابن أم كلاب:
منك البداء ومنك الغير * ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا: إنه قد كفر
فهبنا أطعناك في قتله * وقاتله عندنا من أمر
ولم يسقط السقف من فوقنا * ولم تنكسف شمسنا والقمر
وقد بايع الناس ذا تدرء * يزيل الشبا ويقيم الصعر
ويلبس للحرب أثوابها * وما من وفى مثل من قد غدر
فقالت له: والله ليت أن هذه - أي السماء - انطبقت على هذه - أي الأرض
إن تم الأمر لصاحبك (2).

(1) قاموس الرجال: ج 10 / 350.
(2) قاموس الرجال: ج 10 / 237، وبهج الصباغة: ج 6 / 410 عن الطبري و ج 6 / 121، والإمامة
والسياسة: ج 1 / 49 و 50
355

(539)
أبو قتادة وعائشة
روى الخطيب: أن أبا قتادة نقل لعائشة قتل أمير المؤمنين عليه السلام
الخوارج والمحذج - إلى أن قال: - فقالت عائشة: ما يمنعني ما بيني وبين علي أن
أقول الحق، سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: " تفترق أمتي على فرقتين
تمرق بينهما فرقة محلقون رؤوسهم، محفون شواربهم، أزرهم إلى أنصاف ساقهم،
يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يقتلهم أحبهم إلي وأحبهم إلى الله تعالى ".
قال أبو قتادة: فقلت: يا أم المؤمنين فأنت تعلمين هذا فلم كان الذي
منك.
قالت: يا أبا قتادة وكان أمر الله قدرا مقدورا (1).
(540)
البرقي وأبو غيث
وجدت في كتاب للسيد الجزائري ما لفظه: أبو عبد الله البرقي قال: لقيت
أبا غيث الأصبهاني - وكان من أصحاب ضرار - فقلت له: ما حجتك على من
خالفك؟
فقال: الإجماع.
فقلت، لم يفهم المسألة، فأعدتها عليه ثلاث مرات كل ذلك يقول: الإجماع،
فقلت له: لم تفهم.
قال: وكيف؟ قلت: إني سألتك الحجة على من خالفك ولو كان الإجماع لم
يخالفك أحد.
فقال: أردها عليك فقال: ما حجتك على من خالفك؟

(1) قاموس الرجال: ج 10 / 165، وبهج الصباغة: ج 6 / 414 و ج 4 / 679 عن تاريخ بغداد
356

قلت: رجل مأمون معصوم مطهر عالم، لا يضل ولا يضل، ولا يخطئ
ولا يجهل، الناس محتاجون إليه وهو غني عنهم، لما جعل الله عنده من العلم
والفضل.
فقال: هذا لا يوجد في الأمة.
فقلت: أليس إذا كان مثل هذا في الأمة فهو أصلح لها؟
فقال: بلى ولكنه لا يوجد.
فقلت: وما يدريك أنه لا يوجد وفيه صلاح الخلق، وأنت لم تمتحن الخلق
جميعا، ولم تطف برا ولا بحرا ولا سهلا ولا جبلا ولا عرفت الخيار من الشرار، فمن
أين دفعته وأنت جاهل بالخلق؟ (1)
(541)
أبو عدي وبنو أمية
روى الأغاني (2) عن ابن عائشة قال: كان أبو عدي يكره ما يجري عليه
بنو أمية من ذكر علي صلوات الله عليه وسبه على المنابر، ويظهر الإنكار
لذلك، فشهد عليه قوم من بني أمية بمكة بذلك، ونهوه عنه، فانتقل إلى المدينة
وقال:
شردوا بي عند امتداحي عليا * ورأوا ذاك في داء دويا
فوربي ما أبرح الدهر حتى * تختلي مهجتي بحبي عليا
وبنيه لحب أحمد أني * كنت أحببتهم بحبي النبيا
حب دين لا حب دنيا وشر * الحب حب يكون دنيويا (3)

(1) قاموس الرجال: ج 10 / 155.
(2) هكذا في المصدر والصحيح: روي في الأغاني.
(3) قاموس الرجال: ج 10 / 131
357

(542)
ثمامة وأبو العتاهية
روي: أن ثمامة كان في مجلس بعض الخلفاء، والتمس أبو العتاهية مناظرته
فأذن له، فحرك أبو العتاهية يده وقال: من حرك هذه؟
فقال ثمامة: حركها من أمه زانية. فقال أبو العتاهية: شتمني في مجلسك.
فقال ثمامة: ترك مذهبه، يزعم أن الله حركها فلأي شئ غضب؟ (1)
(543)
رجل من أصحاب علي ومعاوية
أسر معاوية يوم صفين رجلا من أصحاب علي عليه السلام، فلما أقيم بين
يديه قال: الحمد لله الذي أمكن منك.
قال: لا تقل ذلك فإنها مصيبة.
قال: وأية نعمة أعظم من أن يكون الله أظفرني برجل قتل في ساعة واحدة
جماعة من أصحابي، اضربا عنقه.
فقال: اللهم إشهد أن معاوية لم يقتلني فيك ولا لأنك ترضى قتلي، ولكن
قتلني في الغلبة على حطام الدنيا، فإن فعل فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل
فافعل به ما أنت أهله.
فقال له معاوية: قاتلك الله لقد سببت فأوجعت في السب، ودعوت
فأبلغت في الدعاء، خليا سبيله (2).
(544)
صعصعة ورجل
في البيان: خرج صعصعة إلى مكة، فلقيه رجل، فقال: يا عبد الله كيف

(1) قاموس الرجال: ج 10 / 129 وسيأتي في ج 3 ص 232. وقد مر ص 330 عن الناشي.
(2) بهج الصباغة: ج 11 / 304 عن العيون
358

تركت الأرض؟ قال: عريضة أريضة.
قال: إنما عنيت السماء. قال: فوق البشر ومد البصر..
قال: سبحان الله، إنما أردت السحاب، قال: تحت الخضراء وفوق الغبراء.
قال: إنما أعني المطر، قال: قد عفى الأثر، وملأ القتر، وبل الوبر، ومطرا حي
المطر.
قال: إنسي أنت أم جني؟ قال: بل إنسي من أمة رجل مهدي (1).
(545)
أبو ذر وموليا عثمان
أرسل عثمان إلى أبي ذر موليين له، ومعهما مائتي دينار وقال لهما: قولا له:
عثمان يقرؤك السلام ويقول لك: هذه مائتا دينار، فاستعن بهما على ما نابك.
فقال لهما أبو ذر: هل أعطى أحدا من المسلمين مثل ما أعطاني؟ قالا: لا.
قال: فإنما أنا رجل من المسلمين يسعني ما يسعهم.
قالا: إنه يقول: هذا من صلب مالي، والله الذي لا إله إلا هو ما خالطهما
حرام.
فقال لهما: لا حاجة لي فيها، وقد أصبحت يومي هذا وأنا من أغنى الناس
فقالا له: ما نرى في بيتك قليلا ولا كثيرا.
فقال: بلى تحت هذا الإكاف الذي ترون رغيفا شعير قد أتى عليهما أيام، فما
أصنع بهذه الدنانير، لا والله حتى يعلم أني لا أقدر على قليل ولا كثير، وقد
أصبحت غنيا، بولاية علي بن أبي طالب وعترته الهادين المهديين الراضين
المرضيين الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، كذلك سمعت النبي صلى الله

(1) بهج الصباغة: ج 11 / 301
359

عليه وآله يقول: وإنه لقبيح بالشيخ أن يكون كذابا. ثم قال لهما: فرداها عليه
وأعلماه أنه لا حاجة لي فيها حتى ألقى الله ربي فيكون هو الحاكم بيني وبينه (1).
(546)
إبراهيم بن العباس وإسحاق بن إبراهيم
في المروج: ذكر رجل من الكتاب أن إسحاق بن إبراهيم - أخا زيد بن
إبراهيم - حدثه أنه كان يتقلد الصيمرة والسيروان، وأن إبراهيم بن العباس
اجتاز به يريد خراسان والمأمون بها وقد بايع بالعهد لعلي بن موسى الرضا عليه
السلام، وقد امتدحه بشعر يذكر فيه فضل آل علي عليهم السلام، وأنهم أحق
بالخلافة من غيرهم، فاستحسنت القصيدة وسألته أن ينسخها لي ففعل،
ووهبت له ألف درهم وحملته على دابة، وضرب الدهر من ضربه إلى أن ولي
إبراهيم ديوان الضياع مكان موسى بن عبد الملك - وكنت أحد عمال موسى -
وكان يحب أن يكشف أسباب موسى، فعزلني وأمرني أن تعمل مؤامرة، فعملت
وكثر علي فيها فحضرت للمناظرة عنها، فجعلت أحتج بما لا يدفع فلا يقبله ويحكم
لي الكتاب فلا يلتفت إلى حكمهم، ويسمعني في خلال ذلك بدعا من الكلام،
إلى أن أوجب علي الكتاب اليمين على باب من الأبواب فحلفت عليه فقال:
ليست يمين السلطان عندك يمينا لأنك رافضي.
فقلت له: أتأذن لي في الدنو منك؟ فأذن لي، فقلت: ليس مع تعريضك
بمهجتي للقتل صبر وها هو المتوكل إن كتبت إليه بما أسمع منك لم آمنه على
نفسي، وقد احتملت كل ما جرى سوى الرفض، والرافضي من زعم أن عليا
- عليه السلام - أفضل من العباس، وأن ولده - عليه السلام - أحق بالخلافة من
ولد العباس.

(1) بهج الصباغة: ج 11 / 35 عن رجال الكشي
360

قال: ومن ذلك؟ قلت: أنت، وخطك عندي به، وأخبرته بالشعر، فوالله ما
هو إلا أن قلت ذلك له حتى سقط في يده، ثم قال: أحضر الدفتر الذي بخطي:
فقلت له: هيهات لا والله أو توثق لي بما أسكن إليه إنك لا تطالبني بشئ مما
جرى على يدي، وتخرق هذه المؤامرة، ولا تنظر لي في حساب. فحلف لي على
ذلك، وخرق العمل المعمول وأحضرته الدفتر، فوضعه في خفه وانصرفت، وقد
زالت عني المطالبة (1).
(547)
ابن عباس ومعاوية
حكي أن معاوية سأل ابن عباس عن أمير المؤمنين عليه السلام، فقال:
هيهات عقم النساء أن يأتين بمثله، والله ما رأيت رئيسا مجربا يوزن به، لقد رأيته
في بعض أيام صفين وعلى رأسه عمامة بيضاء تبرق وقد أرخى طرفيها على صدره
و ظهره، وكأن عينيه سراجا وهاجا من سليط، وهو يقف على كتيبة حتى انتهى
إلي و أنا في كثف من القوم وهو يقول: " معاشر المسلمين استشعروا الخشية
- إلى أن قال: - ولن يتركم أعمالكم، وزاد وأنشأ يقول:
إذ المشكلات تصدين لي * كشفت غوامضها بالنظر
وإن برقت في مخيل الظنون * عمياء لا تجليها الفكر
مقنعة بغيوب الأمور * وضعت عليها حسام العبر
معي أصمعي كظبي المرهفات * أثري به عن بنات السرر
لسان كشقشقة الأرحبي * أو كالحسام اليماني الذكر
ولست بإمعة في الرجال * السائل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مدرة الاصغرين * أقيس بما قد مضى ما غبر

(1) بهج الصباغة: ج 10 / 74
361

ثم غاب عني ثم رأيته قد أقبل وسيفه ينطف دما وهو يقرأ " قاتلوا أئمة الكفر
إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون " (1).
(548)
كميل والحجاج
روي أنه جاء كميل إلى الحجاج يأخذ عطاءه، فقال له: أنت الذي فعلت
بعثمان - وكلمه بشئ - فقال له كميل: لا تكثر علي اللوم، ولا تهل علي الكثيب
وما ذاك رجل لطمني فأصبرني فعفوت عنه فأينا كان المسئ؟ فأمر بضرب
عنقه (2).
(549)
عمار ومحمد بن أبي بكر وأبو موسى
(لما بعث علي عليه السلام في مسيره إلى الجمل عمارا ومحمد بن أبي بكر
إلى أهل الكوفة) وكان أبو موسى عاملا لعثمان على الكوفة، فبعثهما علي إليه
وإلى أهل الكوفة يستنفرهم، فلما قدما عليه قام عمار بن ياسر ومحمد بن
أبي بكر، فدعوا الناس إلى النصرة لعلي، فلما أمسوا دخل رجال من أهل الكوفة
على أبي موسى، فقالوا: ما ترى؟ أتخرج مع هذين الرجلين إلى صاحبهما، أم لا؟
فقال أبو موسى: أما سبيل الآخرة ففي أن تلزموا بيوتكم، وأما سبيل الدنيا
فالخروج مع من أتاكم، فأطاعوه، فتباطأ الناس على علي، وبلغ عمارا ومحمدا
ما أشار به أبو موسى على أولئك الرهط، فأتياه فأغلظا له في القول.
قال أبو موسى: إن بيعة عثمان في عنقي وعنق صاحبكم، ولئن أردنا القتال
ما لنا إلى قتال أحد من سبيل حتى نفرغ من قتلة عثمان.

(1) بهج الصباغة: ج 10 / 170 - 171 عن خصائص السيد الرضي (ره).
(2) بهج الصباغة: ج 10 / 214
362

ثم خرج أبو موسى، فصعد المنبر، ثم قال: أيها الناس: إن أصحاب رسول
الله الذين صحبوه في المواطن أعلم بالله ورسوله ممن لم يصحبه، وإن لكم حقا
علي أؤديه إليكم، إن هذه الفتنة النائم فيها خير من اليقظان، والقاعد خير من
القائم، والقائم فيها خير من الساعي، والساعي خير من الراكب، فاغمدوا
سيوفكم حتى تنجلي هذه الفتنة.
فقام عمار بن ياسر: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس: إن
أبا موسى ينهاكم عن الشخوص إلى هاتين الجماعتين، ولعمري ما صدق فيما
قال وما رضي الله من عباده بما ذكر، قال عز وجل: " وإن طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى
تفئ إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا " وقال: " وقاتلوهم
حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " فلم يرض من عباده بما ذكر أبو موسى
من أن يجلسوا في بيوتهم ويخلوا بين الناس فيسفك بعضهم دماء بعض.
فسيروا معنا إلى هاتين الجماعتين واسمعوا من حججهم، وانظروا من أولى
بالنصرة فاتبعوه، فإن أصلح الله أمرهم رجعتم مأجورين وقد قضيتم حق الله،
وإن بغى بعضهم على بعض نظرتم إلى الفئة الباغية فقاتلتموها حتى تفئ إلى
أمر الله، كما أمركم الله، وافترض عليكم، ثم قعد (1).
(550)
ابن عباس وعمر
عن ابن عباس قال: خرجت مع عمر في بعض أسفاره، فإنا لنسير ليلة وقد
دنوت منه، إذ ضرب مقدم رحله بسوطه، وقال:

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 65 - 66. وبهج الصباغة: ج 10 / 242، وقد مر بلفظ آخر
ص 238 و ج 6 / 365 - 370
363

كذبتم وبيت الله يقتل أحمد * ولما نطاعن دونه ونفاضل
ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ثم قال: استغفر الله، ثم سار فلم يتكلم قليلا، ثم قال:
وما حملت من ناقة فوق رحلها * أبر وأوفى ذمة من محمد
وأكسى لبرد الخال قبل ابتذاله * وأعطى لرأس السابق المتجرد
ثم قال: استغفر الله، يا ابن عباس ما منع عليا من الخروج معنا؟ قلت:
لا أدري.
قال: يا ابن عباس أبوك عم النبي وأنت ابن عمه، فما منع قومكم منكم؟
قلت: لا أدري.
قال: لكني أدري، يكرهون ولايتكم لهم. قلت: لم؟ ونحن لهم كل الخير.
قال: اللهم غفرا، يكرهون أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة فيكون بجحا
بجحا، لعلكم تقولون: إن أبا بكر فعل ذلك، لا والله ولكن أبا بكر أتى أحزم ما
حضره ولو جعلها لكم ما نفعكم مع قربكم، أنشدني لشاعر الشعراء زهير قوله:
إذا ابتدرت قيس عيلان غاية * من المجد من يسبق إليها يسود
فأنشدته وطلع الفجر - الخبر (1).
(551)
الفرزدق وهشام
عن الشعبي، قال: حج الفرزدق بعد ما كبر وقد أتت له سبعون سنة، وكان
هشام بن عبد الملك قد حج في ذلك العام، فرأى علي بن الحسين عليه السلام
في غمار الناس في الطواف، فقال: من هذا الشاب الذي تبرق أسرة وجهه كأنه
مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها؟ فقالوا: هذا علي بن الحسين بن

(1) بهج الصباغة: ج 10 / 299 عن الطبري
364

علي بن أبي طالب - عليهم السلام - فقال الفرزدق:
يا سائلي حل الجود والكرم * عندي بيان إذا طلابه قدموا
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا الذي أحمد المختار والده * صلى عليه إلهي ما جرى القلم
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه * لخر يلثم منه ما وطي القدم
هذا علي رسول الله والده * أمست بنور هداه تهتدي الأمم
هذا الذي عمه الطيار جعفر * والمقتول حمزة ليث حبه قسم
هذا ابن سيدة النسوان فاطمة * وابن الوصي الذي في سيفه نقم
إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
وليس قولك: من هذا؟ بضائره * العرب تعرف من أنكرت والعجم
ينمي إلى ذروة العز الذي قصرت * عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يغضي حياء ويغضى من مهابته * فما يكلم إلا حين يبتسم
ينجاب نور الدجى عن نور غرته * كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم
بكفه خيزران ريحه عبق * من كف أروع في عرنينه شمم
ما قال: " لا " قط إلا في تشهده * لولا التشهد كانت لاؤه نعم
مشتقة من رسول الله نبعته * طابت عناصره والخيم والشيم
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا * حلو الشمائل تحلو عنده نعم
إن قال قال بما يهوى جميعهم * وإن تكلم يوما زانه الكلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله * بجده أنبياء الله قد ختموا
الله فضله قدما وشرفه * جرى بذاك له في لوحه القلم
من جده دان فضل الأنبياء له * وفضل أمته دانت لها الأمم
365

عم البرية بالإحسان وانقشعت * عنها العماية والاملاق والظلم
كلتا يديه غياث عم نفعهما * يستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره * يزينه خصلتان: الحلم والكرم
لا يخلف الوعد ميمونا نقيبته * رحب الفناء أريب حين يعترم
من معشر حبهم دين وبغضهم * كفر وقربهم منجى ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم * ويستزاد به الإحسان والنعم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم * في كل فرض ومختوم به الكلم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل: من خير أهل الأرض قيل: هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم * ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت * والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم * خيم كريم وأيد بالندى هضم
لا يقبض العسر بسطا من أكفهم * سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
أي القبائل ليست في رقابهم * لأولية هذا أو له نعم؟
من يعرف الله يعرف أولية ذا * فالدين من بيت هذا ناله الأمم
بيوتهم في قريش يستضاء بها * في النائبات وعند الحكم إن حكموا
فجده من قريش في أرومتها * محمد وعلي بعده علم
بدر له شاهد والشعب من أحد * والخندقان ويوم الفتح قد علموا
وخيبر وحنين يشهدان له * وفي قريضة يوم صيلم قتم
مواطن قد علت في كل نائبة * على الصحابة لم أكتم كما كتموا
فغضب هشام ومنع جائزته وقال: ألا قلت فينا مثلها؟
قال: هات جدا كجده وأبا كأبيه وأما كأمه حتى أقول فيكم مثلها،
فحبسوه بعسفان بين مكة والمدينة، فبلغ ذلك علي بن الحسين عليهما السلام
فبعث إليه باثني عشر ألف درهم وقال: إعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا أكثر
366

من هذا لوصلناك به، فردها وقال: يا ابن رسول الله ما قلت الذي قلت إلا
غضبا لله ولرسوله، ما كنت لأرزأ عليه شيئا، فردها إليه وقال: بحقي عليك لما
قبلتها، فقد رأى الله مكانك وعلم نيتك، فقبلها، فجعل الفرزدق يهجو هشاما
وهو في الحبس فكان مما هجاه به قوله:
أيحبسني بين المدينة والتي * إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد * وعينا له حولاء باد عيوبها
فأخبر هشام بذلك فأطلقه (1).
(552)
أبو ذر وعثمان
روى الثقفي في تأريخه عن ابن عباس قال: استأذن أبو ذر على عثمان فأبى

(1) أقول، نقل هذه القصة صاحب البحار: ج 46 / 124 - 128 عن المناقب: ج 3 / 306 وعن حلية
الأولياء: ج 3 / 139، والأغاني: ج 14 / 75 و ج 19 / 40 ط الساسي بمصر وفي تعليقته على الإختصاص للمفيد
(ره): 191، وكشف الغمة: ج 2 / 267، وعيون المعجزات: ص 63، وصفة الصفوة: ج 2 / 54
وطبقات الشافعية للسبكي: ج 1 / 153، وشذرات الذهب: ج 1 / 142، ومرآة الجنان لليافعي:
ج 1 / 239، وابن عساكر في ترجمة الإمام زين العابدين عليه السلام، وابن خلكان في ترجمة الفرزدق
ومطالب السئول: ص 79 ط إيران، والفصول المهمة: ص 193 ط نجف، وتذكرة الخواص: ص 185
ط إيران، وحياة الحيوان للدميري: كلمة " أسد "، وشرح شواهد المغني: ص 249، وكفاية الطالب:
ص 303، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي: ج 2 / 28، والعيني في شرح الشواهد الكبرى بهامش خزانة
الأدب للبغدادي: ج 2 / 513، وزهر الآداب للقيرواني: ج 1 / 65، وشرح رسالة ابن زيدون بهامش
الغيث المسجم للصفدي: ج 2 / 163، والبداية والنهاية: ج 9 / 108، والصواعق: ص 198، ونور الأبصار:
ص 129، وديوان الفرزدق للصاوي: ج 2 / 848، ونفس الديوان: ج 1 / 51 (إلى هنا لخصناه من
تعليقة البحار).
وراجع بهج الصباغة: ج 9 / 408، والروايات مختلفة في عدد الأبيات وألفاظها فراجع، وحقق
كي لا تقع في الخطأ كما وقع بعض الكتاب، وراجع أيضا مجمع الزوائد: ج 9 / 200، والعقد الفريد:
ج 5 / 325، والفصول المختارة: ص 18
367

أي يأذن له، فقال لي: استأذن لي عليه، فرجعت فاستأذنت له قال: إنه يؤذيني،
فقلت: عسى أن لا يفعل، فأذن له من أجلي، فلما دخل عليه قال: اتق الله يا
عثمان، وجعل يقول: اتق الله، وعثمان يتوعده.
فقال أبو ذر: حدثني النبي صلى الله عليه وآله: " أنه يجاء بك
وبأصحابك يوم القيامة فتبطحون على وجوهكم، فتمر عليكم البهائم فتطأكم،
كلما مرت أخراها ردت أولاها، حتى يفصل بين الناس " (1).
(553)
الأشتر وجرير
لما رجع جرير - من الشام حين أرسله إلى معاوية لأخذ البيعة منه - إلى
علي، كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية، فاجتمع جرير والأشتر
عند علي.
فقال الأشتر: أما والله يا أمير المؤمنين لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت
خيرا لك من هذا الذي أرخى من خناقه، وأقام [عنده] حتى لم يدع بابا يرجو
روحه (2) إلا فتحه أو يخاف غمه إلا سده
فقال جرير: والله لو أتيتهم لقتلوك - وخوفه بعمرو، وذي الكلاع، وحوشب
ذي ظليم - (3) وقد زعموا أنك من قتلة عثمان.
فقال الأشتر: لو أتيته والله يا جرير لم يعييني جوابها، ولم يثقل علي محملها،
ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر.
قال: فائتهم إذا.
قال: الآن وقد أفسدتهم ووقع بينهم الشر!

(1) بهج الصباغة: ج 6 / 61.
(2) روحه: أي ما فيه من روح. والروح - بالفتح -: الراحة.
(3) ظليم: بهيئة التصغير، كما في القاموس. وهو حوشب بن طخمة
368

قال نصر: عمر بن سعد، عن نمير بن وعلة، عن عامر الشعبي قال: اجتمع جرير
والأشتر عند علي، فقال الأشتر:
أليس قد نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا، وأخبرتك بعداوته وغشه؟
وأقبل الأشتر يشتمه ويقول: يا أخا بجيلة، إن عثمان اشترى منك دينك
بهمدان، والله ما أنت بأهل أن تمشي فوق الأرض حيا إنما أتيتهم لتتخذ
عندهم يدا بمسيرك إليهم، ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم. وأنت والله
منهم، ولا أرى سعيك إلا لهم، ولئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنك
وأشباهك في محبس لا تخرجون منه، حتى تستبين هذه الأمور، ويهلك الله
الظالمين.
قال جرير: وددت والله أنك كنت مكاني بعثت إذا والله لم ترجع.
قال: فلما سمع جرير ذلك لحق بقرقيسيا...
وقال الأشتر فيما كان من تخويف جرير إياه بعمرو وحوشب ذي ظليم وذي
الكلاع:
لعمرك يا جرير لقول عمرو * وصاحبه معاوية الشآمي
وذي كلع وحوشب ذي ظليم * أخف علي من زف النعام
إذا اجتمعوا علي فخلي عنهم * وعن باز مخالبه دوام
فلست بخائف ما خوفوني * وكيف أخاف أحلام النيام
وهمهم الذين حاموا عليه * من الدنيا وهمي ما أمامي
فإن أسلم أعمهم بحرب * يشيب لهولها رأس الغلام
وإن أهلك فقد قدمت أمرا * أفوز بفلجه يوم الخصام
وقد زأروا إلي وأوعدوني * ومن ذا مات من خوف الكلام (1)

(1) وقعة صفين لنصر: ص 59 - 61، وراجع بهج الصباغة: ج 6 / 20 عن الطبري
369

(554)
عمار وعثمان
ذكروا أنه اجتمع ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، وكتبوا
كتابا ذكروا فيه ما خالف عثمان من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسنة
صاحبيه، وما كان من هبته خمس أفريقية لمروان وفيه حق الله ورسوله ومنهم
ذووا القربى واليتامى والمساكين، وما كان من تطاوله في البنيان حتى عدوا
سبع دور بناها بالمدينة: دارا لنائلة، ودارا لعائشة - ابنته - وغيرهما من أهله
وبناته، وبناء مروان القصور بذي خشب وعمارة الأموال بها من الخمس
الواجب لله ولرسوله، وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من
بني أمية أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول، ولا تجربة لهم بالأمور،
وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلى بهم الصبح - وهو أمير عليها
سكران - أربع ركعات ثم قال لهم: إن شئتم أن أزيدكم الصلاة زدتكم،
وتعطيله إقامة الحد عليه، وتأخيره ذلك عنه، وتركه المهاجرين والأنصار
لا يستعملهم على شئ ولا يستشيرهم، واستغنى برأيه عن رأيهم، وما كان من
الحمى الذي حمي حول المدينة، وما كان من إدراره القطائع والأرزاق
والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي عليه الصلاة والسلام
ثم لا يغزون ولا يذبون، وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط، وأنه أول من
ضرب بالسياط ظهور الناس، وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة
والخيزران.
ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب في يد عثمان، وكان ممن حضر الكتاب
عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وكانوا عشرة، فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه
إلى عثمان والكتاب في يد عمار جعلوا يتسللون عن عمار، حتى بقي وحده
فمضى حتى جاء دار عثمان، فاستأذن عليه فأذن له في يوم شات، فدخل عليه
370

وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية، فدفع إليه الكتاب فقرأه، فقال له:
أنت كتبت هذا الكتاب؟
قال: نعم.
قال: ومن كان معك؟
قال: معي نفر تفرقوا فرقا منك.
قال: من هم؟
قال: لا أخبرك بهم.
قال: فلم اجترأت علي من بينهم؟
فقال مروان: يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود - يعني عمارا - قد جرأ
عليك الناس، وأنك إن قتلته نكلت به من وراءه.
قال عثمان: اضربوه، فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه، فغشي
عليه فجروه حتى طرحوه على باب الدار، فأمرت به أم سلمة - زوج النبي عليه
الصلاة والسلام - فأدخل منزلها (1).
(555)
ابن عباس وعثمان
ذكروا أن ابن عباس قال: خرجت إلى المسجد فإني لجالس فيه مع علي
حين صليت العصر إذ جاء رسول عثمان يدعو عليا، فقال علي: نعم، فلما أن
ولى الرسول أقبل علي فقال: لم تراه دعاني؟ قلت له: دعاك ليكلمك،
فقال: انطلق معي، فأقبلت فإذا طلحة والزبير وسعد وأناس من المهاجرين،
فجلسنا فإذا عثمان عليه ثوبان أبيضان، فسكت القوم، ونظر بعضهم إلى

(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1 / 32 - 33، وراجع بهج الصباغة: ج 6 / 26، ويأتي ص 408 بصورة
أخرى، والغدير: ج 9 / 17 و 18، والعقد الفريد: ج 4 / 307
371

بعض، فحمد الله عثمان، ثم قال:
أما بعد فإن ابن عمي معاوية هذا قد كان غائبا عنكم وعما نلتم مني،
وما عاتبتكم عليه وعاتبتموني، وقد سألني أن يكلمكم وأن يكلمه من أراد.
فقال سعد بن أبي وقاص: وما عسى أن يقال لمعاوية أو يقول إلا ما قلت
أو قيل لك؟!
فقال: على ذلكم تكلم يا معاوية، فحمد الله وأثنى عليه - إلى أن قال: - قال:
ثم خرج القوم وأمسك عثمان ابن عباس، فقال له عثمان: يا ابن عمي ويا
ابن خالتي، فإنه لم يبلغني عنك في أمري شئ أحبه ولا أكرهه علي ولا لي، وقد
علمت أنك رأيت بعض ما رأى الناس، فمنعك عقلك وحلمك من أن تظهر ما
أظهروا، وقد أحببت أن تعلمني رأيك فيما بيني وبينك فأعتذر.
قال ابن عباس: فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك قد ابتليتني بعد العافية،
وأدخلتني في الضيق بعد السعة، ووالله إن رأيي لك أن يجل سنك ويعرف
قدرك وسابقتك، والله لوددت أنك لم تفعل ما فعلت مما ترك الخليفتان
قبلك، فإن كان شيئا تركاه لما رأيا أنه ليس لهما علمت أنه ليس لك، كما لم
يكن لهما، وإن كان ذلك لهما، فتركاه خيفة أن ينال منهما مثل الذي ينل منك،
تركته لما تركاه له، ولم يكونا أحق بإكرام أنفسهما منك بإكرام نفسك.
قال: فما منعك أن تشير علي بهذا قبل أن أفعل ما فعلت؟
قال: وما علمي أنك تفعل ذلك قبل أن تفعل؟
قال: فهب لي صمتا حتى ترى رأيي (1).
* * *

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 33، وبهج الصباغة: ج 6 / 59
372

(556)
ابن عباس وطلحة
في جمل المفيد: لما أرسل عليه السلام - يعني عليا عليه السلام - ابن عباس
مع مصحف إلى طلحة والزبير وعائشة يدعوهم إلى ما فيه، نادى طلحة: ناجزوا
القوم فإنكم لا تقولون لحجاج ابن أبي طالب.
قال ابن عباس: فقلت يا أبا محمد أبالسيف تخوف ابن أبي طالب، أما والله
ليعاجلنك السيف (1).
(557)
الأحنف والزبير
قال الزبير لعبد الله بن عامر: من رجال البصرة؟ قال: ثلاثة كلهم سيد
مطاع: كعب بن سور في اليمن، والمنذر بن ربيعة في ربيعة، والأحنف بن قيس
في مضر، فكتب طلحة والزبير إلى... الأحنف بن قيس: أما بعد فإنك وافد
عمر وسيد مضر وحليم أهل العراق، وقد بلغك مصاب عثمان، ونحن قادمون
عليك والعيان أشفى لك من الخبر، والسلام.
... وكتب الأحنف إليهما: أما بعد، فإنه لم يأتنا من قبلكم أمر لا نشك فيه
إلا قتل عثمان، وأنتم قادمون علينا، فإن يكن في العيان فضل نظرنا فيه
ونظرتم، وإلا يكن فيه فضل فليس في أيدينا ولا في أيديكم ثقة، والسلام (2).
(558)
عمران وأبو الأسود مع طلحة والزبير وعائشة
ذكروا أن طلحة والزبير لما نزلا البصرة، قال عثمان بن حنيف: نعذر

(1) راجع بهج الصباغة: ج 6 / 132.
(2) الإمامة والسياسة: ج 1 / 58 وبهج الصباغة ج 6 / 137
373

إليهما برجلين، فدعا عمران بن الحصين - صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله -
وأبا الأسود الدؤلي فأرسلهما إلى طلحة والزبير، فذهبا إليهما، فناديا: يا طلحة،
فأجابهما، فتكلم أبو الأسود الدؤلي فقال:
يا أبا محمد: إنكم قتلتم عثمان غير مؤامرين لنا في قتله، وبايعتم عليا غير
مؤامرين في بيعته، فلم نغضب لعثمان إذ قتل، ولم نغضب لعلي إذ بويع، ثم
بدا لكم، فأردتم خلع علي، ونحن على الأمر الأول، فعليكم المخرج مما دخلتم
فيه.
ثم تكلم عمران فقال: يا طلحة: إنكم قتلتم عثمان، ولم نغضب له إذ لم
تغضبوا، ثم بايعتم عليا، وبايعنا من بايعتم، فإن كان قتل عثمان صوابا فمسيركم
لماذا؟ وإن كان خطأ فحظكم منه الأوفر، ونصيبكم منه الأوفى.
فقال طلحة: يا هذان إن صاحبكما لا يرى أن معه في هذا الأمر غيره،
وليس على هذا بايعناه، وأيم الله ليسفكن دمه.
فقال أبو الأسود: يا عمران: أما هذا فقد صرح أنه إنما غضب للملك.
ثم أتيا الزبير فقالا: يا أبا عبد الله. إنا أتينا طلحة.
قال الزبير: إن طلحة وإياي كروح في جسدين، وإنه والله يا هذان، قد
كانت منا في عثمان فلتات، احتجنا فيها إلى المعاذير، ولو استقبلنا من أمرنا ما
استدبرنا نصرناه.
ثم أتيا فدخلا على عائشة، فقالا: يا أم المؤمنين، ما هذا المسير؟ أمعك من
رسول الله به عهد؟
قالت: قتل عثمان مظلوما، غضبنا لكم من السوط والعصا، ولا نغضب
لعثمان من القتل؟!
فقال أبو الأسود: وما أنت من عصانا وسيفنا وسوطنا؟
فقالت: يا أبا الأسود بلغني أن عثمان بن حنيف يريد قتالي.
374

فقال أبو الأسود: نعم والله قتالا أهونه تندر منه الرؤوس (1).
(559)
ابن عياش وعبد الله الزبيري
في تأريخ بغداد: دخل أبو بكر بن عياش على موسى بن عيسى وهو على
الكوفة، وعنده عبد الله بن مصعب الزبيري، فأدناه، ودعا له بتكاء فاتكأ وبسط
رجله.
فقال عبد الله بن مصعب لموسى: من هذا الذي دخل ولم نستأذن له ثم
اتكأته وبسطته؟
قال: هذا فقيه الفقهاء، والرأس عند أهل البصرة، أبو بكر بن عياش.
فقال: فلا كثير ولا طيب ولا مستحق لكل ما فعلته به.
فقال ابن عياش: أيها الأمير من هذا الذي سأل عني بجهل ثم تتابع في
جهله بسوء قول وفعل - فنسبه له - فقال له ابن عياش: اسكت مسكتا فبأبيك
غدر ببيعتنا، وبقول الزور خرجت أمنا، وبابنه هدمت كعبتنا، وبك أحرى
أن يخرج الدجال فينا.
فضحك موسى حتى فحص برجله، وقال للزبيري: أنا والله أعلم أنه يحوط
أهلك وأباك ويتولاه ولكنك مشؤوم على آبائك (2).
(560)
جارية بن قدامة مع عائشة
أقبل جارية بن قدامة السعدي إلى عائشة يوم الجمل فقال لها: لقتل
عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح، أنه

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 61، وقد مر ص 34 بنحو آخر، وراجع الغدير ج 9 / 107 عنه.
(2) بهج الصباغة: ج 6 / 359
375

قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك، أنه من رأى
قتالك يرى قتلك، إن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت
أتيتنا مستكرهة فاستعني بالناس (1).
(561)
أم أوفى مع عائشة
دخلت أم أوفى العبدية - بعد الجمل - على عائشة، فقالت: يا أم المؤمنين ما
تقولين في امرأة قتلت ابنا لها صغيرا؟ قالت: وجبت لها النار.
قالت فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفا في صعيد
واحد؟ قالت: خذوا بيد عدوة الله (2).
(562)
ابن عباس وعائشة
وفي أمالي الشيخ الحديث بأسانيد عن ابن عباس في وصية الحسن عليه
السلام ودفنه - إلى أن قال: - قال: ابن عباس فإذا أنا بعائشة في أربعين راكبا
على بغل مرحل تقدمهم، وتأمرهم بالقتال، فلما رأتني قالت: إلي إلي يا ابن
عباس لقد اجترأتم علي في الدنيا تؤذونني مرة بعد أخرى، تريدون أن تدخلوا
بيتي من لا أهوى ولا أحب.
فقلت: وا سوأتاه يوم على بغل ويوم على جمل تريدين أن تطفئي نور الله
وتقاتلي أولياء الله، وتحولي بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين حبيبه أن
يدفن معه، ارجعي فقد كفى الله المؤونة، ودفن الحسن عليه السلام إلى جنب
أمه، فلم يزدد من الله إلا قربا وما ازددتم منه والله إلا بعدا، يا سوأتاه انصرفي

(1) بهج الصباغة: ج 6 / 359 - 360، وروضة المؤمنين / 135 عن الإمام علي صوت العدالة الإنسانية.
(2) بهج الصباغة: ج 6 / 387 عن العقد وروضة المؤمنين / 137 برواية أخرى عن زهر الربيع
376

فقد رأيت ما سرك.
فقطبت في وجهي ونادت بأعلى صوتها: ما نسيتم الجمل يا ابن عباس،
إنكم لذوي أحقاد.
فقلت: أم والله ما نسيه أهل السماء فكيف ينساه أهل الأرض، فانصرفت
وهي تقول:
فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر (1)
(563)
امرأة وابن الجوزي
قال ابن الجوزي يوما على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فسألته امرأة عمار:
روي أن عليا - عليه السلام - سار في ليلة إلى سلمان، فجهزه ورجع.
فقال: روي ذلك.
فقال: فعثمان طرح ثلاثة أيام منبوذا على المزابل وعلي حاضر.
قال: نعم.
فقالت: قد ألزم الخطأ لأحدهما.
فقال لها: إن كنت خرجت من بيتك بغير إذن زوجك فعليك لعنة الله،
وإلا فعليه.
فقالت له: فعائشة خرجت إلى حرب علي بإذن النبي أو بغير إذنه؟ فانقطع
ولم يحر جوابا (2).
(564)
زينب وعائشة
قال أبو الفرج في مقاتله: إن عائشة لما جاءها قتل أمير المؤمنين علي عليه

(1) راجع بهج الصباغة: ج 6 / 390.
(2) بهج الصباغة: ج 6 / 395 و ج 5 / 88، وروضة المؤمنين / 131
377

السلام سجدت وتمثلت:
فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر
ثم قالت: من قتله؟ فقيل: رجل من مراد فقالت:
فإن يك نائيا فلقد بغاه * غلام ليس في فيه التراب
فقالت لها زينب بنت أم سلمة: العلي عليه السلام تقولين هذا؟ فقالت:
إذا نسيت فذكروني، ثم تمثلت:
ما زالت إهداء القصائد بيننا * شتم الصديق وكثرة الألقاب
حتى تركت كأن قولك فيهم * في كل مجتمع طنين ذباب (1)
(565)
أم سلمة ومعاوية
كتب معاوية إلى عماله أن يلعنوه - يعني عليا عليه السلام - على المنابر،
ففعلوا، فكتبت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله إلى معاوية:
" إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنكم تلعنون علي بن
أبي طالب ومن أحبه، وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله " فلم يلتفت إلى
كلامها (2).
(566)
قيس بن سعد ومعاوية
أخرج الحافظ عبد الرزاق عن ابن عيينة قال: قدم قيس بن سعد على
معاوية، فقال له معاوية: وأنت يا قيس تلجم علي مع من ألجم؟ أما والله لقد
كنت أحب أن لا تأتيني هذا اليوم إلا وقد ظفر بك ظفر من أظافري موجع.

(1) بهج الصباغة: ج 6 / 419.
(2) الغدير: ج 2 / 102 عن العقد
378

فقال له قيس: وأنا والله قد كنت كارها أن أقوم في هذا المقام، فأحييك
بهذه التحية.
فقال له معاوية: ولم؟ وهل أنت حبر من أحبار اليهود؟
فقال له قيس: وأنت يا معاوية كنت صنما من أصنام الجاهلية، دخلت
في الإسلام كارها، وخرجت منه طائعا، فقال معاوية: اللهم غفرا مد يدك.
فقال له قيس: إن شئت زدت وزدت (1).
(567)
قيس ومعاوية
كان قيصر بعث إلى معاوية بعلج من علوج الروم طويل جسيم، معجبا
بكمال خلقته وامتداد قامته، فعلم معاوية أنه ليس بمطاولته ومقاومته إلا قيس
بن سعد بن عبادة فإنه كان أجسم الناس وأطولهم، فقال له يوما وعنده العلج:
إذا أتيت رحلك فابعث إلي بسراويلك.
فعلم قيس مراده فنزعها ورمى بها إلى العلج، والناس ينظرون، فلبسها
العلج فطالت إلى صدره، فعجب الناس وأطرق الرومي مغلوبا، وليم قيس على
ما فعل بحضرة معاوية فأنشد يقول:
أردت لكيما يعلم الناس أنها * سراويل قيس والوفود شهود
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه * سراويل عاد قد نمته ثمود
وإني من القوم ا اليمانين سيد * وما الناس إلا سيد ومسود
وبز جميع الناس أصلي ومنصبي * وجسم به أعلو الرجال مديد (2)

(1) الغدير: ج 2 / 105 عن تاريخ ابن كثير: ج 8 / 99، وقد مر بنحو آخر في ج 1 ص 100 فراجع.
(2) الغدير: ج 2 / 109 عن ثمار القلوب للثعالبي / 480 والبداية والنهاية: ج 8 / 103
379

عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص
روى الحافظ ابن عساكر في تاريخ الشام 7 / 330: أن عمرو بن العاص
قال لعبد الله بن جعفر الطيار ذي الجناحين في مجلس معاوية: يا ابن جعفر؟
يريد تصغيره، فقال له: لئن نسبتني إلى جعفر فلست بدعي ولا أبتر، ثم ولى وهو
يقول:
تعرضت قرن الشمس وقت ظهيرة * لتستر منه ضوءه بظلامكا
كفرت اختيارا ثم آمنت خيفة * وبغضك إيانا شهيد بذلكا (1)
(569)
عبد الله بن أبي سفيان وعمرو
أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه ج 7 / 438: أن عبد الله بن أبي سفيان
ابن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي قدم معاوية وعنده عمرو، فجاء الآذن
فقال: هذا عبد الله وهو بالباب. فقال: إئذن له، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين لقد
أذنت لرجل كثير الخلوات للتلهي، والطربات للتغني، صدوف عن السنان
محب للقيان، كثير مزاحه، شديد طماحه، ظاهر الطيش، لين العيش، أخاذ
للسلف، صفاق للشرف.
فقال عبد الله: كذبت يا عمرو وأنت أهله، ليس كما وصفت ولكنه لله
ذكور، ولبلائه شكور، وعن الخنا زجور، سيد كريم، ماجد صميم، جواد
حليم، إن ابتدأ أصاب، وإن سئل أجاب، غير حصر ولا هياب، ولا فاحش
عياب، كذلك قضى الله في الكتاب، فهو كالليث الضرغام، الجرئ المقدام،
في الحسب القمقام، ليس بدعي ولا دني، كمن اختصم فيه من قريش شرارها

(1) الغدير: ج 2 / 124
380

فغلب عليه جزارها، فأصبح ينوء بالدليل ويأوي فيها إلى القليل، قد بدت بين
حيين، كالساقط بين المهدين، لا المعتزي إليهم قبلوه ولا الظاعن عنهم فقدوه،
فليت شعري بأي حسب تنازل للنضال؟ أم بأي قديم تعرض للرجال؟
أبنفسك؟ فأنت الخوار الوغد الزنيم. أم بمن تنتمي إليه؟ فأنت أهل السفه
والطيش والدناءة في قريش، لا بشرف في الجاهلية شهر، ولا بقديم في الإسلام
ذكر، غير أنك تنطق بغير لسانك، وتنهض بغير أركانك، وأيم الله إن كان
لأسهل للوعث (1) وألم للشعث أن يكعمك (2) معاوية على ولوعك بإعراض
قريش كعام الضبع في وجاره فأنت لست لها بكفي، ولا لإعراضها بوفي.
قال: فتهيأ عمرو للجواب، فقال له معاوية: نشدتك الله إلا ما كففت
فقال عمرو: يا أمير المؤمنين دعني أنتصر فإنه لم يدع شيئا.
فقال معاوية: أما في مجلسك هذا فدع الانتصار وعليك بالاصطبار (3).
(570)
أبو الأسود وعمرو بن العاص
قدم أبو الأسود الدؤلي على معاوية بعد مقتل علي - رضي الله عنه - وقد
استقامت لمعاوية البلاد، فأدنى مجلسه، وأعظم جائزته، فحسده عمرو بن
العاص، فقدم على معاوية فاستأذن عليه في غير وقت الإذن، فأذن له، فقال له
معاوية: يا أبا عبد الله ما أعجلك قبل وقت الإذن، فقال: يا أمير المؤمنين أتيتك
لأمر قد أوجعني وأرقني وغاظني، وهو من بعد ذلك نصيحة لأمير المؤمنين قال:
وما ذاك يا عمرو؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن أبا الأسود رجل مفوه له عقل
وأدب من مثله للكلام يذكر؟ وقد أذاع بمصرك من الذكر لعلي، والبغض

(1) الوعث: العسر الغليظ.
(2) كعم البعير: شد فمه لئلا يعض أو يأكل.
(3) الغدير: ج 2 / 125 وقد تقدم بنحو آخر
381

لعدوه، وقد خشيت عليك أن يترى (1) في ذلك حتى يؤخذ لعنقك، وقد رأيت
أن ترسل إليه، وترهبه، وترعبه، وتسبره، وتخبره، فإنك من مسألته على إحدى
خبرتين، إما أن يبدي لك صفحته فتعرف مقالته، وإما أن يستقبلك فيقول ما
ليس من رأيه، فيحتمل ذلك عنه فيكون لك في ذلك عاقبة صلاح إن شاء الله
تعالى.
فقال له معاوية: إني امرؤ والله لقل ما تركت رأيا لرأي امرئ قط إلا
كنت فيه بين أن أرى ما أكره وبين بين، ولكن إن أرسلت إليه فسألته فخرج
من مساءلتي بأمر لا أجد عليه مقدما ويملأني غيظا لمعرفتي بما يريد، وإن الأمر
فيه أن يقبل ما أبدى من لفظه فليس لنا أن نشرح عن صدره، وندع ما وراء
ذلك يذهب جانبا.
فقال عمرو: أنا صاحبك يوم رفع المصاحف بصفين، وقد عرفت رأيي
ولست أرى خلافي وما آلوك خيرا، فأرسل إليه ولا تفرش مهاد العجز فتتخذه
وطيئا.
فأرسل معاوية إلى أبي الأسود، فجاء حتى دخل عليه فكان ثالثا، فرحب به
معاوية وقال: يا أبا الأسود خلوت أنا وعمرو فتناجزنا في أصحاب محمد - صلى
الله عليه وآله - وقد أحببت أن أكون من رأيك على يقين.
قال: سل يا أمير المؤمنين عما بدا لك.
فقال يا أبا الأسود: أيهم كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله؟
فقال أشدهم حبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وأوقاهم له بنفسه.
فنظر معاوية إلى عمرو وحرك رأسه، ثم تمادى في مسألته.
فقال: يا أبا الأسود فأيهم كان أفضلهم عندك؟ قال: أتقاهم لربه

(1) ترى تريا في الأمر: تراخى فيه
382

وأشدهم خوفا لدينه.
فاغتاظ معاوية على عمرو.
ثم قال: يا أبا الأسود فأيهم كان أعلم؟ قال: أقولهم للصواب وأفصلهم
للخطاب.
قال: يا أبا الأسود، فأيهم كان أشجع؟ قال: أعظمهم بلاء وأحسنهم
عناء وأصبرهم على اللقاء.
قال: فأيهم كان أوثق عنده؟ قال: من أوصى إليه فيما بعده.
قال: فأيهم كان للنبي - صلى الله عليه وآله - صديقا؟ قال: أولهم به
تصديقا.
قال: فأقبل معاوية على عمرو وقال: لا جزاك الله خيرا، هل تستطيع أن
ترد مما قال شيئا؟
فقال أبو الأسود: إني قد عرفت من أين أتيت، فهل تأذن لي فيه؟ فقال: نعم
فقل ما بدا لك.
فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الذي ترى هجا رسول الله صلى الله عليه
وآله بأبيات من الشعر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم إني لا
أحسن أن أقول الشعر فالعن عمرا بكل بيت لعنة، أفتراه بعد هذا نائلا فلاحا،
أو مدركا رباحا؟ وأيم الله إن امرء لم يعرف إلا بسهم أجيل عليه فجال لحقيق
أن يكون كليل اللسان ضعيف الجنان، مستشعرا للاستكانة، مقارنا للذل
والمهانة، غير ولوج فيما بين الرجال، ولا ناظر في تسطير المقال، إن قالت الرجال
أصغى، وإن قامت الكرام أقعى، متعيص لدينه لعظيم دينه، غير ناظر في أبهة
الكرام ولا منازع لهم، ثم لم يزل في دجة ظلماء مع قلة حياء، يعامل الناس
بالمكر والخداع، والمكر والخداع في النار.
فقال عمرو: يا أخا بني الدؤل، والله إنك لأنت الذليل القليل ولولا ما
383

تمت به من حسب كنانة لاختطفتك من حولك اختطاف الأجدل الحدية (1)
غير أنك بهم تطول، وبهم تصول، فلقد استطبت مع هذا لسانا قوالا، سيصير
عليك وبالا، وأيم الله إنك لأعدى الناس لأمير المؤمنين قديما وحديثا، وما كنت
قط بأشد عداوة له منك الساعة، وأنك لتوالي عدوه، وتعادي وليه، وتبغيه
الغوائل، ولئن أطاعني ليقطعن عنه لسانك، وليخرجن من رأسك شيطانك، فأنت العدو المطرق له إطراق الأفعوان في أصل الشجرة.
فتكلم معاوية فقال: يا أبا الأسود، أغرقت في النزع ولم تدع رجعة
لصلحك. وقال لعمرو: فلم تغرق كما أغرقت ولم تبلغ ما بلغت، غير أنه كان
منه الابتداء والاعتداء، والباغي أظلم، والثالث أحلم، فانصرفا عن هذا القول
إلى غيره، وقوما غير مطرودين. فقام عمرو وهو يقول:
لعمري لقد أعيى القرون التي مضت * لغش ثوى بين الفؤاد كمين
وقام أبو الأسود وهو يقول:
ألا إن عمرا رام ليث خفية * وكيف ينال الذئب ليث عرين (2)
(571)
ابن عم لعمرو وعمرو
كان مع عمرو بن العاص ابن عم له فتى شاب وكان داهيا حليما، فلما
جاء عمرو بالكتاب مسرورا، عجب الفتى وقال: ألا تخبرني يا عمرو بأي رأي
تعيش في قريش وأعطيت دينك، وتمنيت دنيا غيرك، أترى أهل مصر وهم
قتلة عثمان يدفعونها إلى معاوية وعلي حي؟ وتراها إن صارت إلى معاوية لا
يأخذها بالحرف الذي قدمه بالكتاب، يعني كتاب معاوية إلى عمرو؟ فقال

(1) الأجدل: الصقر. والحدأة: طائر من الجوارح، والعامة تسميه الحدية.
(2) الغدير: ج 2 / 146 - 148
384

عمرو: يا ابن الأخ: إن الأمر لله دون علي ومعاوية. فقال الفتى في ذلك
شعرا:
ألا يا هند أخت بني زياد * دهي عمرو بداهية البلاد
رمي عمرو بأعور عبشمي * بعيد القعر محشي الكباد
له خدع يحار العقل فيها * مزخرفة صوائد للفؤاد
فشرط في الكتاب عليه حرفا * يناديه بخدعته المنادي
وأثبت مثله عمرو عليه * كلا المرأين حية بطن وادي
ألا يا عمرو: ما أحرزت مصرا * وما ملت الغداة إلى الرشاد
وبعت الدين بالدنيا خسارا * فأنت بذاك من شر العباد
فلو كنت الغداة أخذت مصرا * ولكن دونها خرط القتاد
وفدت إلى معاوية بن حرب * فكنت بها كوافد قوم عاد
وأعطيت الذي أعطيت منها * بطرس فيه نضح من مداد
ألم تعرف أبا حسن عليا * وما نالت يداه من الأعادي
عدلت به معاوية بن حرب * فيا بعد البياض من السواد
ويا بعد الأصابع من سهيل * ويا بعد الصلاح من الفساد
أتأمن أن تراه على خدب * يحث الخيل بالأسل الحداد (1)
ينادى بالنزال وأنت منه * بعيد فانظرن من ذا تعادي
فقال عمرو: يا ابن أخي لو كنت مع علي وسعني بيتي، ولكن الآن مع
معاوية.
فقال الفتى: إنك إن لم ترد معاوية لم يردك، ولكنك تريد دنياه وهو يريد
دينك. وبلغ معاوية قول الفتى فطلبه، فهرب فلحق بعلي فحدثه بأمر عمرو

(1) خدب بالكسر وتشديد الموحدة: سنام البعير الضخم. الأسل: الرماح
385

ومعاوية. قال: فسر ذلك عليا وقربه (1).
(572)
ابن عباس وعمرو
قال ابن عبد البر في الإستيعاب ج 2 / 436 دخل عبد الله بن عباس على
عمرو بن العاص في مرضه فسلم عليه وقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟
قال: أصبحت وقد أصلحت من دنياي قليلا، وأفسدت من ديني كثيرا،
فلو كان الذي أصلحت هو الذي أفسدت والذي أفسدت هو الذي أصلحت
لفزت، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت،
فصرت كالمنخنق بين السماء والأرض، لا أرقي بيدين، ولا أهبط برجلين فعظني
بعظة أنتفع بها يا ابن أخي.
فقال له ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله، صار ابن أخيك أخاك
ولا تشاء أن تبكي إلا بكيت، كيف يؤمن برحيل من هو مقيم؟
فقال عمرو: وعلى حينها حين ابن بضع وثمانين سنة تقنطني من رحمة ربي
اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك فخذ مني حتى ترضى.
قال ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله، أخذت جديدا وتعطي خلقا.
فقال عمرو: ما لي ولك يا ابن عباس؟ ما أرسلت كلمة إلا أرسلت
نقيضها (2).
(573)
السيد الحميري ووالداه
كتب السيد الحميري إلى والديه يدعوهما إلى التشيع وولاء أمير المؤمنين

(1) وقعة صفين لنصر: 41 - 42 وراجع الإمامة والسياسة: ج 1 / 88 والغدير ج 2 / 149 عنهما وعن ابن
أبي الحديد: ج 1 / 138.
(2) راجع الغدير: ج 2 / 175، والاستيعاب المطبوع بهامش الإصابة: ج 2 / 513
386

عليه السلام، وينهاهما عن سبه وكانا أباضيين:
خف يا محمد فالق الإصباح * وأزل فساد الدين بالإصلاح
أتسب صنو محمد ووصيه؟! * ترجو بذاك الفوز بالإنجاح
هيهات قد بعدا عليك وقربا * منك العذاب وقابض الأرواح
أوصى النبي له بخير وصية * يوم الغدير بأبين الإفصاح
من كنت مولاه فهذا واعلموا * مولاه قول إشاعة وصراح
قاضي الديون ومرشد لكم كما * قد كنت أرشد في هدى وفلاح
أغويت أمي وهي جد ضعيفة * فجرت بقاع الغي جري جماح
بالشتم للعلم الإمام ومن له * إرث النبي بأوكد الايضاح
إني أخاف عليكما سخط الذي * أرسى الجبال بسبسب صحصاح
أبوي فاتقيا الإله وأذعنا * للحق..... (1)
(574)
السيد الحميري وأبو الخلال
روى أبو الفرج في الأغاني ج 7 / 262: إن أبا الخلال العتكي دخل على
عقبة بن سلم - والسيد الحميري عنده - وقد أمر له بجائزة، وكان أبو الخلال شيخ
العشيرة وكبيرها، فقال له: أيها الأمير أتعطي هذه العطايا رجلا ما يفتر عن
سب أبي بكر وعمر؟ فقال له عقبة: ما علمت ذلك ولا أعطيته إلا على العشرة
والمودة القديمة، وما يوجبه حقه وجواره، مع ما هو عليه من موالاة قوم يلزمنا
حقهم ورعايتهم. فقال له أبو الخلال: فمره إن كان صادقا أن يمدح أبا بكر وعمر
حتى نعرف براءته مما ينسب إليه من الرفض، فقال: قد سمعك، فإن شاء فعل
فقال السيد:

(1) الغدير: ج 2 / 214 عن المرزباني والبيت الأخير وجدناه بياضا في المصدر
387

إذا أنا لم أحفظ وصاة محمد * ولا عهده يوم الغدير مؤكدا
فإني كمن يشري الضلالة بالهدي * تنصر من بعد الهدى أو تهودا
وما لي وتيما أو عديا وإنما * أولو نعمتي في الله من آل أحمدا
تتم صلاتي بالصلاة عليهم * وأدعو لهم ربا كريما ممجدا
بذلت لهم ودي ونصحي ونصرتي * مدى الدهر ما سميت يا صاح سيدا
وإن امرءا يلحى على صدق ودهم * أحق وأولى فيهم أن يفندا
فإن شئت فاختر عاجل الغم ظلة * وإلا فأمسك كي تصان وتحمدا (1)
(575)
السيد الحميري وسوار القاضي
بلغ سوار بن عبد الله العنبري قاضي البصرة قول شاعرنا السيد الحميري في
حديث الطائر المشوي المتفق عليه:
لما أتى بالخبر الأنبل * في طائر أهدي إلى المرسل
في خبر جاء أبان به * عن أنس في الزمن الأول
هذا وقيس الحبر يرويه عن * سفينة ذي القلب الخول
سفينة يمكن من رشده * وأنس خان ولم يعدل
في رده سيد كل الورى * مولاهم في المحكم المنزل
فصده ذو العرش عن رشده * وشأنه بالبرص الأنكل
فقال سوار: ما يدع هذا أحدا من الصحابة إلا رماه بشعر يظهر عواره، وأمر
بحبسه، فاجتمع بنو هاشم والشيعة وقالوا له: والله لئن لم تخرجه وإلا كسرنا
الحبس وأخرجناه، أيمتدحك شاعر فتثيبه، ويمتدح أهل البيت شاعر فتحبسه؟!
فأطلقه على مضض، فقال يهجوه:

(1) الغدير: ج 2 / 215
388

قولا لسوار أبي شملة * يا واحدا في النوك والعار
ما قلت في الطير خلاف الذي * رويته أنت بآثار
وخبر المسجد إذ خصه * محللا من عرصة الدار
إن جنبا كأن وإن طاهرا * في كل إعلان وإسرار
وأخرج الباقين منه معا * بالوحي من إنزال جبار
حبا عليا وحسينا معا * والحسن الطهر لأطهار
وفاطما أهل الكساء الأولى * خصوا بإكرام وإيثار
فمبغض الله يرى بغضهم * يصير للخزي وللنار
عليه من ذي العرش في فعله * وسم يراه العائب الزاري
وأنت يا سوار رأس لهم * في كل خزي طالب الثار
تعيب من آخاه خير الورى * من بين أطهار وأخيار
وقال في " خم " له معلنا * ما لم يلقوه بإنكار:
من كنت مولاه فهذا له * مولى فكونوا غير كفار
فعولوا بعدي عليه ولا * تبغوا سراب المهمة الجاري (1)
(576)
السيد الحميري والباهلي
عن محمد بن سهل الحميري عن أبيه قال: انحدر السيد الحميري في سفينة
إلى الأهواز، فما رآه رجل في تفضيل علي عليه السلام وباهله على ذلك، فلما
كان الليل قام الرجل ليبول على حرف السفينة، فدفعه السيد فغرقه، فصاح
الملاحون: غرق والله الرجل، فقال السيد: دعوه فإنه باهلي (باهلني).

(1) الغدير: ج 2 / 217 - 218.
(2) الغدير: ج 2 / 254
389

السيد الحميري ورجل
عن سويد بن حمدان بن الحصين قال: كان السيد يختلف إلينا ويغشانا،
فقام من عندنا ذات يوم فخلفه رجل وقال: لكم شرف وقدر عند السلطان
فلا تجالسوا هذا فإنه مشهور بشرب الخمر وشتم السلف، فبلغ ذلك السيد فكتب
إليه:
وصفت لك الحوض يا بن الحصين * على صفة الحارث الأعور
فإن تسق منه غدا شربة * تفز من نصيبك بالأوفر
فما لي ذنب سوى أنني * ذكرت الذي فر عن خيبر
ذكرت امرءا فر عن مرحب * فرار الحمار من القسور
فأنكر ذاك جليس لكم * زنيم أخو خلق أعور
لحاني بحب إمام الهدى * وفاروق أمتنا الأكبر
سأحلق لحيته إنها * شهود على الزور والمنكر
قال: فهجر والله مشايخنا جميعا ذلك، ولزموا محبة السيد ومجالسته (1).
(578)
السيد الحميري والمهدي
حدثني أبو سليمان الناجي قال: جلس المهدي يوما يعطي قريشا صلات
لهم وهو ولي عهد، فبدأ ببني هاشم ثم بسائر قريش، فجاء السيد فرفع إلى الربيع
- حاجب المنصور - رقعة مختومة وقال: إن فيها نصيحة للأمير فأوصلها إليه.
فأوصلها، فإذا فيها:
قل لابن عباس سمي محمد * لا تعطين بني عدي درهما

(1) الغدير: ج 2 / 255 عن الأغاني: ج 7 / 250 - 254
390

أحرم بني تيم بن مرة إنهم * شر البرية آخرا ومقدما
إن تعطهم لا يشكروا لك نعمة * ويكافئوك بأن تذم وتشتما
وإن ائتمنتهم أو استعملتهم * خانوك واتخذوا خراجك مغنما
ولئن منعتهم لقد بدأوكم * بالمنع إذ ملكوا وكانوا أظلما
منعوا تراث محمد أعمامه * وابنيه وابنته عديلة مريما
وتأمروا من غير أن يستخلفوا * وكفى بما فعلوا هنالك مأثما
لم يشكروا لمحمد أنعامه * أفيشكرون لغيره إن أنعما؟!
والله من عليهم بمحمد * وهداهم وكسا الجنوب وأطعما
ثم انبروا لوصيه ووليه * بالمنكرات فجرعوه العلقما
قال: فرمى بها إلى أبي عبيد الله معاوية بن يسار الكاتب للمهدي ثم قال:
اقطع العطاء، فقطعه، وانصرف الناس، ودخل السيد إليه، فلما رآه ضحك
وقال: قد قبلنا نصيحتك يا إسماعيل، ولم يعطهم شيئا (1)
(579)
السيد الحميري وسوار
عن معاذ بن سعيد الحميري قال: شهد السيد إسماعيل بن محمد الحميري
- رحمه الله - عند سوار القاضي بشهادة، فقال له: ألست إسماعيل بن محمد
الذي يعرف بالسيد؟ فقال: نعم. فقال له: كيف أقدمت على الشهادة عندي
وأنا أعرف عداوتك للسلف؟ فقال السيد: قد أعاذني الله من عداوة أولياء الله
وإنما هو شئ لزمني. ثم نهض، فقال له: قم يا رافضي، فوالله ما شهدت بحق.
فخرج السيد - رحمه الله - وهو يقول:
أبوك ابن سارق عنز النبي * وأنت ابن بنت أبي جحدر

(1) الغدير: ج 2 / 254 - 255، وراجع بهج الصباغة: ج 4 / 515 عن الأغاني
391

ونحن على رغمك الرافضون * لأهل الضلالة والمنكر
ثم عمل شعرا وكتبه في رقعة وأمر من ألقاها في الرقاع بين يدي سوار. قال:
فأخذ الرقعة سوار، فلما وقف عليها خرج إلى أبي جعفر المنصور، وكان قد نزل
الجسر الأكبر ليستعدي على السيد، فسبقه السيد إلى المنصور فأنشأ قصيدته التي
يقول فيها:
يا أمين الله يا منصور * يا خير الولاة
إن سوار بن عبد الله * من شر القضاة
نعثلي جملي * لكم غير مواتي
جده سارق عنز * فجرة من فجرات
لرسول الله والقا * ذفة بالمنكرات
والذي كان ينادي * من وراء الحجرات
يا هنات اخرج إلينا * إننا أهل هنات
فاكفنيه لا كفاه الله * شر الطارقات
سن فينا سننا كانت * مواريث الطغاة
فهجوناه ومن يهجو * يصب بالفاقرات (1)
قال: فضحك أبو جعفر المنصور وقال: نصبتك قاضيا، فامدحه كما هجوته
فأنشد - رحمه الله - يقول:
إني أمرؤ من حمير أسرتي * بحيث تحوي سروها حمير
آليت لا أمدح ذا نائل * له سناء وله مفخر
إلا من الغر بني هاشم * إن لهم عندي يدا تشكر

(1) الفاقرة: الداهية الشديدة
392

إن لهم عندي يدا شكرها * حق وإن أنكرها منكر
يا أحمد الخير الذي إنما * كان علينا رحمة تنشر
حمزة والطيار في جنة * فحيث ما شاء دعا جعفر
منهم وهادينا الذي نحن من * بعد عمانا فيه نستبصر
لما دجا الدين ورق الهدى * وجار أهل الأرض واستكبروا
ذاك علي بن أبي طالب * ذاك الذي دانت له خيبر
دانت وما دانت له عنوة * حتى تدهدا عرشه الأكبر
ويوم سلع إذ أتى عاتبا * عمرو بن عبد مصلتا يخطر
يخطر بالسيف مدلا كما * يخطر فحل الصرمة الدوسر
إذ جلل السيف على رأسه * أبيض عضبا حده مبتر
فخر كالجذع وأوداجه * ينصب منها حلب أحمر (1)
(580)
السيد الحميري وسوار
روى أبو الفرج للسيد مما أنشده المنصور في سوار القاضي قوله:
قل للإمام الذي ينجى بطاعته * يوم القيامة من بحبوحة النار
لا تستعينن جزاك الله صالحه * يا خير من دب في حكم بسوار
لا تستعن بخبيث الرأي ذي صلف * جم العيوب عظيم الكبر جبار
تضحي الخصوم لديه من تجبره * لا يرفعون إليه لحظ أبصار
تيها وكبرا ولولا ما رفعت له * من ضبعه كان عين الجائع العاري
فدخل سوار، فلما رآه المنصور تبسم وقال: أما بلغك خبر أياس بن معاوية
حيث قبل شهادة الفرزدق واستزاد في الشهود، فما أحوجك للتعريض للسيد

(1) الفصول المختارة: 59، الغدير: ج 2 / 256
393

ولسانه ثم أمر السيد بمصالحته، وأمره بأن يصير إليه معتذرا ففعل فلم يعذره،
فقال:
أتيت دعي بني العنبر * أروم اعتذارا فلم أعذر
فقلت لنفسي وعاتبتها * على اللؤم في فعلها: أقصري
أيعتذر الحر مما أتى * إلى رجل من بني العنبر
أبوك ابن سارق عنز النبي * وأمك بنت أبي جحدر
ونحن على رغمك الرافضون * لأهل الضلالة والمنكر
قال: وبلغ السيد أن سوارا قد أعد جماعة يشهدون عليه بسرقة ليقطعه،
فشكاه إلى أبي جعفر، فدعا بسوار وقال له: قد عزلتك عن الحكم للسيد عليه، فما
تعرض له بسوء حتى مات (1).
السيد الحميري ورجلان يتفاخران
عن إسماعيل بن الساحر قال: تلاحى رجلان من بني عبد الله بن دارم في
المفاضلة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، فرضيا بحكم أول من يطلع، فطلع
السيد، فقاما إليه وهما لا يعرفانه، فقال له مفضل علي بن أبي طالب عليه
السلام منهما: إني وهذا اختلفنا في خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه
وآله: فقلت علي بن أبي طالب. فقطع السيد كلامه ثم قال: وأي شئ قال
هذا الآخر ابن الزانية؟! فضحك من حضر ووجم الرجل ولم يحر جوابا (2).
* * *

(1) الغدير: ج 2 / 260.
(2) الغدير: ج 2 / 260، عن الأغاني: ج 7 / 241، وطبقات الشعراء لابن المعتز / 7
394

(582)
السيد الحميري مع إباضية
اجتمع السيد في طريقه بامرأة تميمية إباضية، فأعجبها وقالت: أريد أن
أتزود بك ونحن على ظهر طريق.
قال: يكون كنكاح أم خارجة قبل حضور ولي وشهود. فاستضحكت
وقالت: ننظر في هذا، وعلى ذلك فمن أنت؟ فقال:
إن تسأليني بقومي تسألي رجلا * في ذروة العز من أحياء ذي يمن
حولي بها ذو كلاع في منازلها * وذو رعين وهمدان وذو يزن
والأزد أزد عمان الأكرمون إذا * عدت مآثرهم في سالف الزمن
بانت كريمتهم عني فدارهم * داري وفي الرحب من أوطانهم وطني
لي منزلان بلحج منزل وسط * منها ولي منزل للعز في عدن
ثم الولاء الذي أرجو النجاة به * من كبة النار للهادي أبي حسن
فقالت: قد عرفناك ولا شئ أعجب من هذا، يمان وتميمية، ورافضي
وإباضية فكيف يجتمعان؟
فقال: بحسن رأيك في، تخسو نفسك، ولا يذكر أحدنا سلفا ولا مذهبا.
قالت: أفليس التزويج إذا علم انكشف معه المستور، وظهرت خفيات
الأمور؟!
قال: أعرض عليك أخرى. قالت: ما هي؟ قال: المتعة التي لا يعلم بها
أحد. قالت: تلك أخت الزنا.
قال: أعيذك بالله أن تكفري بالقرآن بعد الإيمان. قالت: فكيف؟ قال:
قال الله تعالى: " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم
فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ".
فقالت: ألا تستخير الله وأقلدك إن كنت صاحب قياس؟! قال: قد
395

فعلت.
فانصرفت معه وبات معرسا بها، وبلغ أهلها من الخوارج أمرها، فتوعدوها
بالقتل وقالوا: تزوجت بكافر. فجحدت ذلك ولم يعلموا بالمتعة. فكانت مدة
تختلف إليه على هذه السبيل من المتعة وتواصله حتى افترقا (1).
(583)
السيد الحميري مع ابن سليمان
قال علي بن المغيرة: كنت مع السيد على باب عقبة بن سلم ومعنا ابن
لسليمان بن علي ننتظره وقد أسرج له ليركب، إذ قال ابن سليمان بن علي
يعرض بالسيد: أشعر الناس والله الذي يقول:
محمد خير من يمشي على قدم * وصاحباه وعثمان بن عفانا
فوثب السيد وقال: أشعر والله منه الذي يقول:
سائل قريشا إذا ما كنت ذا عمه * من كان أثبتها في الدين أوتادا؟
من كان أعلمها علما وأحلمها * حلما وأصدقها قولا وميعادا؟
إن يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن * إن أنت لم تلق للأبرار حسادا؟
ثم أقبل على الهاشمي فقال: يا فتى، نعم الخلف أنت لشرف سلفك،
أراك تهدم شرفك و تثلب سلفك، وتسعى بالعداوة على أهلك، وتفضل من
ليس أصلك من أصله على من فضلك من فضله، وسأخبر أمير المؤمنين عنك بذا
حتى يضعك. فوثب الفتى خجلا، ولم ينتظر عقبة بن سلم. وكتب إليه صاحب
خبره بما جرى عند الركوبة، حتى خرجت الجائزة للسيد (2).
* * *

(1) الغدير: ج 2 / 261.
(2) الغدير: ج 2 / 262، وأشار إليه في نور القبس: ص 122
396

(584)
السيد الحميري والقاص
عن سليمان بن أرقم قال: كنت مع السيد فمر بقاص على باب أبي سفيان
ابن العلاء وهو يقول: يوزن رسول الله صلى الله عليه وآله يوم القيامة في كفة
بأمته أجمع فيرجح بهم، ثم يؤتى بفلان فيوزن بهم فيرجح، ثم يؤتى بفلان فيوزن
بهم فيرجح، فأقبل على أبي سفيان فقال: لعمري إن رسول الله صلى الله عليه
وآله ليرجح على أمته في الفضل والحديث حق، وإنما رجح الآخران الناس في
سيئاتهم، لأن من سن سنة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزرها ووزر من
عمل بها، قال: فما أجابه أحد، فمضى فلم يبق أحد من القوم إلا سبه (1).
(585)
جعفر بن حسين ومروان بن أبي حفصة
حكى القاضي أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أحمد بن هبة الله بن
أبي جرادة الحلبي المتوفى سنة 565 في شرح قصيدة أبي فراس الميمية المعروفة
بالشافية عن مروان بن أبي حفصة أنه قال: أنشدت المتوكل شعرا ذكرت فيه
الرافضة، فعقد لي على البحرين واليمامة، وخلع لي أربع خلع في دار العامة،
والشعر هو هذا:
لكم تراث محمد * وبعد لكم تنفى الظلامة
يرجو التراث بنو البنات * وما لهم فيه قلامه
والصهر ليس بوارث * والبنت لا ترث الإمامة
ما للذين تمخلوا * ميراثكم إلا الندامة
أخذ الوراثة أهلها * فعلام لومكم علامه؟!

(1) الغدير: ج 2 / 266 عن الأغاني: ج 7 / 271
397

لو كان حقكم لها * قامت على الناس القيامة
ليس التراث لغيركم * لا والإله ولا كرامه
أصبحت بين محبكم * و المبغضين لكم علامه
فرد عليه رجل يقال له جعفر بن حسين بقوله:
قل للذي بفجوره * في شعره ظهرت علامه
ويبيع جهلا دينه * لمضلل يرجو حطامه
من أين أنت لعنت؟ أو * من أين أسرار الإمامة؟!
أظننتها إرث النبي * فما أصبت ولا كرامه
إن الإمامة بالنصوص * لمن يقوم بها مقامه
كمقالة في يوم " خم " * لحيدر لما أقامه
من كنت مولاه فذا * مولاه يسمعهم كلامه
سل عنه ذا خبر به * فلتذهبن إذا ندامه
فهو الذي بحسامه * للنقع قد جلى قتامه
في يوم بدر إذ شكا * سادات مالككم صدامه
وأنين والدهم وقد * منع النبي به منامه
إن الإمام لديننا * من شاده وبنى دعامه
في كل معترك إذا * شب الوغى أطفى ضرامه
فتاح خيبر بعد ما * فر الذي طلب السلامة
تاالله لو وزن الجميع * لما وفوا منه القلامه (1)
(586)
فاطمة ونساء النبي صلى الله عليه وآله
في تاريخ اليعقوبي ج 2 / 105: وكان بعض نساء رسول الله أتينها، أي فاطمة

(1) الغدير: ج 4، وأعيان الشيعة: ج 4 ص 93
398

عليها السلام في مرضها، فقلن، يا بنت رسول الله، صيري لنا في حضور غسلك
حظا. قالت: أتردن تقلن في كما قلتن في أمي، لا حاجة لي في حضوركن،
ودخلن إليها في مرضها نساء رسول الله وغيرهن من نساء قريش فقلن، كيف
أنت؟ قالت: أجدني كارهة لدنياكن، مسرورة لفراقكن، ألقى الله ورسوله
بحسرات منكن، فما حفظ لي الحق، ولا رعيت مني الذمة، ولا قبلت الوصية،
ولا عرفت الحرمة (1).
(587)
علي ابن الفارقي وابن أبي الحديد
قال ابن أبي الحديد ج 16 / 284 طبع دار إحياء الكتب العربية: سألت
علي ابن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة
صادقة؟ قال: نعم. قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟
فتبسم ثم قال: كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته.
قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها
الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يمكنه الاعتذار والموافقة بشئ، لأنه يكون قد
سجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة
ولا شهود.
وهذا كلام صحيح وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل (2).
(588)
رجل و مقاتل بن سليمان
قال مقاتل بن سليمان - وقد دخلته أبهة العلم -: سلوني عما تحت العرش
إلى أسفل الثرى، فقام إليه رجل فقال: ما نسألك عما تحت العرش ولا أسفل

(1) راجع بهج الصباغة: ج 5 / 17.
(2) راجع بهج الصباغة: ج 5 / 27
399

الثرى، ولكن أسألك عما كان في الأرض، وذكره الله في كتابه، أخبرني عن
كلب أهل الكهف ما كان لونه؟ فأفحمه (1).
(589)
قصة لأحد الوعاظ ببغداد
قال ابن أبي الحديد ج 13 / 107 - 109: وعلى ذكر قوله عليه السلام:
" سلوني " حدثني من أثق به من أهل العلم حديثا، وإن كان فيه بعض
الكلمات العامية، إلا أنه يتضمن ظرفا ولطفا، ويتضمن أيضا أدبا.
قال: كان ببغداد في صدر أيام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن
المستضئ بالله واعظ مشهور بالحذق ومعرفة الحديث والرجال، وكان يجتمع
إليه تحت منبره خلق عظيم من عوام بغداد ومن فضلائها أيضا، وكان مشتهرا
بذم أهل الكلام وخصوصا المعتزلة وأهل النظر، على قاعدة الحشوية، ومبغضي
أرباب العلوم العقلية، وكان أيضا منحرفا عن الشيعة برضى العامة بالميل
عليهم، فاتفق قوم من رؤساء الشيعة على أن يضعوا عليه من يبكته ويسأله تحت
منبره، ويخجله ويفضحه بين الناس في المجلس، وهذه عادة الوعاظ، يقوم إليهم
قوم فيسألونهم مسائل يتكلفون الجواب عنها، وسألوا عمن ينتدب لهذا، فأشير
عليهم بشخص كان ببغداد يعرف بأحمد بن عبد العزيز الكزي، كان له لسن،
ويشتغل بشئ يسير من كلام المعتزلة، ويتشيع، وعنده قحة، وقد شدا أطرافا
من الأدب، وقد رأيت أنا هذا الشخص في آخر عمره، وهو يومئذ شيخ،
والناس يختلفون إليه في تعبير الرؤيا.
فأحضروه وطلبوا إليه أن يعتمد ذلك، فأجابهم، وجلس ذلك الواعظ في
يومه الذي جرت عادته بالجلوس فيه، واجتمع الناس عنده على طبقاتهم، حتى

(1) بهج الصباغة: ج 5 / 88، وراجع الغدير: ج 9 / 195
400

امتلأت الدنيا بهم، وتكلم على عادته فأطال، فلما مر ذكر صفات الباري
سبحانه في أثناء الوعظ، قام إليه الكزي، فسأله أسئلة عقلية، على منهاج
المتكلمين من المعتزلة، فلم يكن للواعظ عنها جواب نظري، وإنما دفعه بالخطابة
والجدل، وسجع الألفاظ، وتردد الكلام بينهما طويلا.
وقال الواعظ في آخر الكلام: أعين المعتزلة حول، وأصواتي في مسامعهم
طبول، وكلامي في أفئدتهم نصول، يا من بالاعتزال يصول، ويحك كم تحوم
وتجول حول من لا تدركه العقول! كم أقول كم أقول، خلو هذا الفضول!
فارتج المجلس، وصرخ الناس، وعلت الأصوات، وطاب الواعظ وطرب،
وخرج من هذا الفصل إلى غيره فشطح شطح الصوفية، وقال: سلوني قبل أن
تفقدوني، وكررها.
فقام إليه الكزي، فقال: يا سيدي ما سمعنا أنه قال هذه الكلمة إلا علي
ابن أبي طالب عليه السلام، وتمام الخبر معلوم. وأراد الكزي بتمام الخبر قوله
عليه السلام: " لا يقولها بعدي إلا مدع ".
فقال الواعظ وهو في نشوة طربه، وأراد إظهار فضله ومعرفته برجال
الحديث والرواة: من علي بن أبي طالب؟ أهو علي بن أبي طالب بن المبارك
النيسابوري؟ أم علي بن أبي طالب بن إسحاق المروزي؟ أم علي بن
أبي طالب بن عثمان القيرواني؟ أم علي بن أبي طالب بن سليمان الرازي؟
وعد سبعة أو ثمانية من أصحاب الحديث كلهم علي بن أبي طالب.
فقام الكزي، وقام من يمين المجلس آخر ومن يسار المجلس ثالث، انتدبوا
له، وبذلوا أنفسهم للحمية ووطنوها على القتل.
فقال الكزي: أشا يا سيدي فلان الدين، أشا! صاحب هذا القول هو
علي بن أبي طالب زوج فاطمة سيدة نساء العالمين عليها السلام، وإن كنت ما
عرفته بعد بعينه فهو الشخص الذي لما آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بين
401

الأتباع والأذناب آخى بينه وبين نفسه وأسجل على أنه نظيره ومماثله، فهل
نقل في جهازكم أنتم من هذا شئ؟ أو نبت تحت خبكم من هذا شئ؟
فأراد الواعظ أن يكلمه، فصاح عليه القائم من الجانب الأيمن وقال: يا
سيدي فلان الدين، محمد بن عبد الله كثير في الأسماء، ولكن ليس فيهم من قال
له رب العزة: " ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي
يوحى " وكذلك علي بن أبي طالب كثير في الأسماء، ولكن ليس فيهم من قال
له صاحب الشريعة: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي
بعدي ".
وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى * كثيرا ولكن ميزوا في الخلائق
فالتفت إليه الواعظ ليكلمه، فصاح عليه القائم من الجانب الأيسر، وقال:
يا سيدي فلان الدين، حقك تجهله، أنت معذور في كونك لا تعرفه:
وإذا خفيت عل الغبي فعاذر * ألا تراني مقلة عمياء
فاضطرب المجلس وماج كما يموج البحر، وافتتن الناس، وتواثبت العامة
بعضهم إلى بعض، وتكشفت الرؤوس، ومزقت الثياب، ونزل الواعظ،
واحتمل حتى أدخل دارا أغلق عليه بابها، وحضر أعوان السلطان فسكنوا
الفتنة، وصرفوا الناس إلى منازلهم وأشغالهم، وأنفذ الناصر لدين الله في آخر
نهار ذلك اليوم فأخذ أحمد بن عبد العزيز الكزي والرجلين الذين قاما معه
فحبسهم أياما لتطفأ نائرة الفتنة، ثم أطلقهم (1).
(590)
أبو العيناء وعلي بن الجهم
في الأغاني: سمع أبو العيناء علي بن الجهم يوما يطعن على أمير المؤمنين عليه

(1) راجع بهج الصباغة: ج 5 / 109 ونقل في الغدير نظائر لمن قال: (سلوني) بعد أمير المؤمنين وافتضح
راجع ج 6 / 195 - 198
402

السلام، فقال له: أنا أدري لم تطعن عليه. فقال له: أتعني قصة بيعة أهلي من
مصقلة، قال: لا أنت أوضع من ذلك، ولكن لأنه قتل الفاعل فعل قوم لوط
والمفعول به وأنت أسفلهما. وفيه يقول البحتري:
إذا ما حصلت عليا قريش * فلا في العير أنت ولا النفير
ولو أعطاك ربك ما تمنى * لزاد الخلق في عظم الايور
علام هجوت مجتهدا عليا * بما لفقت من كذب وزور
أما لك في استك الوجعاء شغل * يكفك عن آذى أهل القبور (1)
(591)
نعيم بن هبيرة ومصقلة
كتب نعيم بن هبيرة وهو شيعي إلى مصقلة في جواب كتابه:
لا ترمين هداك الله معترضا * بالظن منك فما بالي وحلوانا
ذاك الحريص على نال من طمع * وهو البعيد فلا يحزنك إذ خانا
ماذا أردت إلى إرساله سفها * ترجو سقاط امرئ لم يلق وسنانا
عرضته لعلي أنه أسد * يمشي العرنضى من آساد خفانا
قد كنت في منظر عن ذا ومستمع * تحمي العراق وتدعى خير شيبانا
حتى تقحمت أمرا كنت تكرهه * للراكبين له سرا وإعلانا
لو كنت أديت ما للقوم مصطبرا * للحق أحييت أحيانا وموتانا
لكن لحقت بأهل الشام ملتمسا * فضل ابن هند وذاك الرأي أشجانا
فاليوم تقرع سن الغرم من ندم * ماذا تقول وقد كان الذي كانا
أصبحت تبغضك الأحياء قاطبة * لم يرفع الله بالبغضاء إنسانا (2)

(1) بهج الصباغة: ج 5 ص 180 ومر ص 4.
(2) بهج الصباغة: ج 5 / 182 - 183
403

(592)
عمار وعمر
إن رجلا أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء، فقال عمر: لا تصل.
فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين، إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد
ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت، فقال النبي
صلى الله عليه وآله: إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم
تمسح بهما وجهك وكفيك.
فقال عمر: إتق الله يا عمار! قال: إن شئت لم أحدث به (1).
(593)
صورة أخرى
كنا عند عمر فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنما نمكث الشهر والشهرين
ولا نجد الماء؟ فقال عمر: أما أنا فلم أكن لأصلي حتى أجد الماء. فقال عمار:
يا أمير المؤمنين تذكر حيث كنا بمكان كذا ونحن نرعى الإبل فتعلم أنا أجنبنا؟
قال: نعم قال: فإني تمرغت في التراب، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله
فحدثته فضحك، وقال: كان الطيب كافيك، وضرب بكفيه الأرض، ثم نفخ
فيهما، ثم مسح، بهما وجهه وبعض ذراعه؟!
قال: إتق الله يا عمار! قال: يا أمير المؤمنين: إن شئت لم أذكره ما عشت
أو ما حييت؟ قال: كلا والله، ولكن نوليك من ذلك ما توليت (2).
(594)
ابن عباس وعمر
أخرج ابن عساكر بإسناده من طريق الحافظ عبد الرزاق عن ابن عباس

(1) الغدير: ج 6 / 83 عن سنن أبي داود وسنن ابن ماجة ومسند أحمد وسنن النسائي وسنن البيهقي.
(2) الغدير: ج 6 / 83 عن صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي
404

قال: مشيت وعمر بن الخطاب في بعض أزقة المدينة، فقال: يا ابن عباس أظن
القوم استصغروا صاحبكم إذ لم يولوه أموركم. فقلت: والله ما استصغره رسول
الله صلى الله عليه وآله إذ اختاره لسورة براءة يقرأها على أهل مكة. فقال لي:
الصواب تقول والله لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي بن
أبي طالب: من أحبك أحبني، ومن أحبني أحب الله، ومن أحب الله أدخله
الجنة مدلا (1).
(595)
المأمون وعلماء السنة في فدك
في الطرائف: ذكر صاحب التاريخ المعروف بالعباسي: أن جماعة من ولد
الحسن والحسين عليهما السلام رفعوا قصة إلى المأمون يذكرون أن فدك
والعوالي كانت لأمهم فاطمة عليها السلام، وأن أبا بكر أخرج يدها عنها بغير
حق، وسألوا المأمون إنصافهم وكشف ظلامتهم، فأحضر المأمون مائتي رجل من
علماء الحجاز والعراق وغيرهما، وهو يؤكد في أداء الأمانة واتباع الصدق،
وعرفهم ما ذكره ورثة فاطمة عليها السلام، وسألهم عما عندهم من الحديث
الصحيح في ذلك، فروى غير واحد من بشر بن الوليد وبشر بن غياث والواقدي
في أحاديث يرفعونها إلى نبيهم صلى الله عليه وآله: أنه لما فتح خيبر اصطفى
لنفسه قرى من قرى اليهود. فنزل جبرئيل عليه السلام بهذه الآية: " فآت ذا
القربى حقه " قال: من ذو القربى؟ فقال: فاطمة، فدفع إليها فدك، ثم أعطاها
العوالي بعد ذلك، فاستغلتها حتى توفي أبوها.
فلما بويع أبو بكر قال: لا أمنعك ما رفع إليك أبوك، فأراد أن يكتب لها
كتابا، فاستوقفه عمر، وقال: إنها امرأة فادعها بينة على ما ادعت، فأمرها

(1) الغدير: ج 6 / 344 عن كنز العمال: ج 6 / 391 وشرح ابن أبي الحديد: ج 3 / 105
405

أبو بكر أن تفعل، فجاءت بأم أيمن وأسماء بنت عميس مع علي بن أبي طالب
عليه السلام، فشهدوا لها جميعا بذلك، فكتب لها أبو بكر فبلغ ذلك عمر، فأتاه
فأخذ الصحيفة وقال: إن فاطمة امرأة، وعلي زوجها هو جار إلى نفسه،
ولا تكون شهادة امرأتين دون رجل، فأرسل أبو بكر إلى فاطمة فأعلمها ذلك،
فحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنهم ما شهدوا إلا بالحق.
فقال أبو بكر: فلعلك أنت تكوني صادقة، ولكن أحضري شاهدا لا يجر إلى
نفسه.
فقالت: ألم تسمعا من أبي يقول: أسماء بنت عميس وأم أيمن من أهل
الجنة؟ فقالا: بلى، فقالت: امرأتان من أهل الجنة تشهدان بباطل، فانصرفت
صارخة تنادي أباها وتقول: قد أخبرني أني أول من ألحق به، فوالله لأشكونهما
إليه.
فلم تلبث أن مرضت، فأوصت عليا عليه السلام ألا يصليا عليها،
وهجرتهما فلم تكلمهما حتى ماتت، فدفنها علي عليه السلام والعباس ليلا.
ثم أحضر المأمون في اليوم الآخر ألف رجل من أهل العلم والفقه، وشرح
لهم الحال، وأمرهم بتقوى الله ومراقبته، فتناظروا، فقالت فرقة منهم: الزوج
جار إلى نفسه فلا شهادة له، ولكنا نرى أن يمين فاطمة قد أوجبت لها ما ادعت
مع شهادة المرأتين، وقالت طائفة: نرى اليمين مع الشهادة لا يوجب حكما ولكن
شهادة الزوج جائزة ولا نراه جارا إلى نفسه، وقد وجبت بشهادته مع شهادة
المرأتين لفاطمة ما ادعت، فكان اختلاف الطائفتين إجماعا منهما على استحقاق
فاطمة فدكا والعوالي.
فسألهم المأمون بعد ذلك عن فضائل لعلي وفاطمة عليهما السلام، فذكروا
طرفا جليلا. وسألهم عن أم أيمن و أسماء، فرووا عن نبيهم صلى الله عليه وآله
أنهما من أهل الجنة.
406

فقال المأمون: أيجوز أن يقال: إن عليا مع ورعه وزهده يشهد لفاطمة عليها
السلام بغير حق، وقد شهد له الله ورسوله بهذه الفضائل، أو يجوز مع علمه
وفضله أن يقال: إنه يمشي في شهادة، وهو يجهل الحكم فيها؟ وهل يجوز أن
يقال: إن فاطمة مع طهارتها وعصمتها وأنها سيدة نساء العالمين وسيدة نساء
أهل الجنة، كما رويتم تطلب شيئا ليس لها، وتظلم فيه جميع المسلمين، وتقسم
عليه بالله؟ أو يجوز أن يقال عن أم أيمن وأسماء: إنهما تشهدان بالزور وهما من
أهل الجنة؟ إن الطعن على فاطمة عليها السلام وشهودها طعن على كتاب
الله وإلحاد في دين الله.
ثم عارضهم المأمون بحديث رووه: أن عليا عليه السلام أقام مناديا بعد
وفاة النبي صلى الله عليه وآله ينادي: من كان له على النبي صلى الله عليه
وآله دين أو عدة فليحضر، فحضر جماعة، فأعطاهم بغير بينة، وأن أبا بكر أمر
مناديا ينادي بمثل ذلك، فحضر جرير بن عبد الله، وجابر بن عبد الله فأعطاهما
بغير بينة.
فقال المأمون: أما كانت فاطمة عليها السلام وشهودها يجرون مجرى
جرير وجابر؟ (1).
(596)
علي بن ميثم وملحد
دخل أبو الحسن علي بن ميثم - رحمه الله - على الحسن بن سهل وإلى جانبه
ملحد قد عظمه الناس حوله، فقال له: لقد رأيت عجبا، قال: وما هو قال:
رأيت سفينة تعبر بالناس من جانب إلى جانب بلا ملاح ولا ماصر.
فقال له صاحبه الملحد: إن هذا أصلحك الله لمجنون، قال: فقلت:

(1) بهج الصباغة: ج 5 / 36 - 38
407

وكيف؟ قال: لأنه يذكر عن خشب جماد لا حيلة له ولا قوة ولا حياة فيه
ولا عقل: إنه يعبر بالناس ويفعل فعل الإنسان، كيف يصح هذا؟
فقال له أبو الحسن: فأيما أعجب هذا أو هذا الماء الذي يجري على وجه
الأرض يمنة ويسرة بلا روح ولا حيلة ولا قوة، وهذا النبات الذي يخرج من
الأرض والمطر الذي ينزل من السماء؟ كيف يصح ما تزعمه من أنه لا مدبر له
كله، وأنت تنكر أن تكون سفينة تتحرك بلا مدبر، وتعبر بالناس بلا ملاح.
قال: فبهت الملحد (1).
(597)
عمار وعثمان
أخرج البلاذري في الأنساب ج 5 / 48 بالإسناد من طريق أبي مخنف قال:
كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر، فأخذ منه عثمان ما حلى به
بعض أهله، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك، وكلموه فيه بكلام شديد حتى
أغضبوه، فخطب فقال: لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ وإن رغمت أنوف
أقوام، فقال له علي: إذا تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه، وقال عمار بن
ياسر: أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك، فقال عثمان: أعلي يا ابن المتكاء
تجترئ؟ خذوه، فأخذ، ودخل عثمان ودعا به فضربه حتى غشي عليه، ثم أخرج
فحمل حتى أوتي به منزل أم سلمة - زوج رسول الله صلى الله عليه وآله - فلم
يصل الظهر والعصر والمغرب، فلما أفاق توضأ وصلى وقال: الحمد لله ليس هذا
أول يوم أوذينا فيه في الله (2)...
* * *

(1) روضة المؤمنين: ص 8، عن الكراجكي في الكنز.
(2) الغدير: ج 9 / 15، وراجع أيضا بهج الصباغة: ج 4 / 653
408

(598)
عمار وعثمان
قال البلاذري في الأنساب ج 5 / 54: وقد روي أيضا أنه لما بلغ عثمان
موت أبي ذر بالربذة قال: رحمه الله، فقال عمار بن ياسر: نعم فرحمه الله من كل
أنفسنا، فقال عثمان: يا عاض أير أبيه أتراني ندمت على تسييره، وأمر فدفع في
قفاه وقال: إلحق بمكانه، فلما تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى علي فسألوه أن
يكلم عثمان فيه، فقال له علي: يا عثمان، إتق الله فإنك سيرت رجلا صالحا
من المسلمين فهلك في تسييرك، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره، وجرى بينهما
كلام حتى قال عثمان: أنت أحق بالنفي منه، فقال علي: رم ذلك إن شئت،
واجتمع المهاجرون فقالوا: إن كنت كلما كلمك رجل سيرته ونفيته فإن هذا
شئ لا يسوق، فكف عن عمار (1).
(599)
أبو الأسود وزياد
كان علي استعمل أبا الأسود على البصرة، وزيادا على الديوان والخراج
فبلغ أن زيادا يطعن عليه عند علي فقال (من الطويل):
رأيت زيادا ينتميني بشره * وأعرض عنه وهو باد مقاتله
وكل امرئ والله بالناس عالم * له عادة قامت عليه شمائله
تعودها فيما مضى من شبابه * كذلك يدعو كل أمر أوائله
ويعجبه صفحي له وتحملي * وذو الجهل يجزي الفحش من لا يعادله (2)

(1) الغدير: ج 9 / 19 وراجع بهج الصباغة: ج 4 / 653.
(2) نور القبس: ص 8
409

(600)
أبو الأسود ومعاوية
أرسل معاوية إلى زياد رسولا فهما في أمر أراده، فقال: سترى عنده
أبا الأسود الدؤلي شيخا عليه عمامة سوداء يجلس عن يمينه، لا يتقدمه عنده أحد
في الكلام، فقل له: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام، ويقول لك: خبرني عن
قولك (من الوافر):
يقول الأرذلون بني قشير (1) * طوال الدهر لا تنسى عليا
أحب محمدا حبا شديدا * وعباسا وحمزة والوصيا
أحبهم لحب الله حتى * أجئ إذا بعثت على هويا
هوى أعطيته منذ استدارت * رحى الإسلام لم يعدل سويا
وما أنسى الذي لاقى حسين * ولا حسن بأهونهم عليا
بنو عم النبي وأقربوه * أحب الناس كلهم إليا
فإن يك حبهم رشدا رشدنا * ولست بمخطئ إن كان غيا
أشككت في حبهم أرشد هو أم غي؟
فلما حضر عند زياد، قال لأبي الأسود ذلك، فقال أبو الأسود: قل له: ما
كنت أحب ألا تعلم أني متحقق متيقن في حبهم إنه رشد، فإن الله عز وجل
قال: " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " أفيرى الله عز وجل شك في
ضلالتهم؟ ولكنه حققه بهذا عليهم (2).
(601)
أبو الأسود وبنو قشير
لما وقعت الفتنة بالبصرة في أيام ابن الزبير مر أبو الأسود على مجلس

(1) " بنو قشير " صححناه من قاموس الرجال: ج 5 / 173.
(2) نور القبس: ص 9
410

بني قشير فقال: يا بني قشير على ماذا اجتمع في هذه الفتنة؟ قالوا: ولم
تسألنا؟ قال: لأخالفه، فإن الله لا يجمعكم على هدى، وأنشد عمر في هذا
المعنى (من الطويل):
إذا اشتبه الأمران يوما وأشكلا * علي ولم أعرف صوابا ولم أدر
سألت أبا بكر خليلي محمدا * فقلت له ما تستحب من الأمر
فإن قال قولا قلت شيئا خلافه * لأن خلاف الحق قول أبي بكر (1).
(602)
أبو الأسود ومعاوية
قال زياد لأبي الأسود: كيف حبك لعلي؟
قال حبي يزداد له شدة، كما يزداد بغضك له شدة، ويزداد لمعاوية حبا،
وأيم الله، إني لأريد بما أنا فيه الآخرة وما عند الله، وإنك لتريد بما أنت فيه
الدنيا وزخرفها، وذلك زائل بعد قليل.
فقال له زياد: إنك شيخ قد خرفت، ولولا أني أتقدم إليك لأنكرتني.
فقال أبو الأسود (من الكامل):
غضب الأمير بأن صدقت وربما * غضب الأمير على البرئ المسلم (2)
(603)
أبو الأسود ومعاوية
دخل أبو الأسود على معاوية، فقال له: أصبحت جميلا يا أبا الأسود، فلو
علقت تميمة تدفع عنك العين، فقال أبو الأسود وعرف أنه يهزأ به (من
البسيط):
أفنى الشباب الذي فارقت بهجته * كر الجديدين من آت ومنطلق

(1) نور القبس: ص 10.
(2) المصدر نفسه
411

لم يتركا لي في طول اختلافهما * شيئا أخاف عليه لذعة الحدق
قد كنت أرتاع للبيضاء أنظرها * في شعر رأسي وقد أيقنت بالبلق
والآن حين خضبت الرأس فارقني * ما كنت التذ من عيش ومن خلق (1)
(604)
أبو الأسود وزياد
قال زياد لأبي الأسود: لولا أنك قد كبرت لاستعنا بك في بعض أمورنا،
فقال: إن كنت تريدني للصراع فليس عندي، وإن كنت تريد رأيي وعقلي فهو
أوفر مما كان، وأنشأ يقول (من الكامل):
زعم الأمير بأن كبرت وإنما * نال المكارم من يدب على العصا
أأبالمغيرة رب أمر مبهم * فرجته بالمكر مني والدها (2)
(605)
ابن عباس وابن الزبير
عن الخليل أنه قال: كلم ابن عباس عبد الله بن الزبير في محمد بن الحنفية
وقال: ما تريد من رجل كف لسانه ويده عنك؟ اتق الله، فإنك قادم على
ربك، فقال له ابن الزبير: تكلمني في رجل سخيف الرأي ضعيف العقل،
ليس له بذم ولا دين، فقال ابن عباس: رماه الله بداء لا شفاء له إن كان شرا
منك في الدين والدنيا، فغضب ابن الزبير، وقال: أنت أيضا تتكلم عندي؟!
فقام ابن عباس، وندم ابن الزبير على ما قال، وخرج من عند ابن الزبير من
وجهه إلى الطائف، وقال: العجب من حنيكل يتعجب من كلامي عنده، وقد
تكلمت غلاما عند رسول الله صلى الله عليه وآله، وعند أبي بكر وعمر وعثمان

(1) نور القبس: ص 10، والعقد الفريد: ج 3 / 49.
(2) نور القبس: ص 11
412

وعلي - رضي الله عنهم - يرونني أحق من نطق، يستمع قولي، وتقبل مشورتي،
ليحك حنيكل جربه، ولا ينقاص علي انقياص الكثيب، أظن ابن الزبير أني
مساعده على بني عبد المطلب؟! والله لأنملة من أنامل ابن الحنفية أحب إلي من
ابن الزبير والله، إنه لأوفر منه عقلا، وأوفى منه عهدا، وأكمل منه رأيا، وأفضل
دينا وأصدق ورعا (1).
(606)
الشيعة مع معاوية
كتب معاوية إلى عثمان - بعد ما جرى بين الأشتر وأصحابه وبينه وقد مر
سابقا (1) -: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عثمان - أمير المؤمنين - من معاوية بن
أبي سفيان، أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إلي أقواما يتكلمون بألسنة
الشياطين، وما يملون عليهم، ويأتون الناس، زعموا من قبل القرآن فيشبهون على
الناس، وليس كل الناس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة، ويقربون فتنة، قد أثقلهم
الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيرا من
الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولست آمن إن أقاموا وسط
أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم، فارددهم إلى مصرهم، فلتكن
دارهم في مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم، والسلام.
فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردهم
إليه، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا، وكتب سعيد إلى عثمان
يضج منهم، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن

(1) نور القبس: ص 68 وقد مر عن الفتوح راجع: ص 285.
(2) وهم: مالك بن الحارث وزيد وصعصعة ابنا صوحان، وعائد بن حملة الطهوي - من بني تميم - وكميل
بن زياد النخعي وجندب بن زهير الأزدي والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ويزيد بن المكفف
النخعي وثابت بن قيس بن المنقع النخعي وأصعر بن قيس بن الحارث الحارثي
413

الوليد وكان أميرا على حمص، وهم الأشتر وثابت بن قيس الهمداني وكميل بن
زياد النخعي وزيد بن صوحان وأخوه صعصعة وجندب بن زهير الغامدي
وحبيب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعي.
وكتب عثمان إلى الأشتر وأصحابه: أما بعد فإني قد سيرتكم إلى حمص،
فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها، فإنكم لستم تألون الإسلام وأهله شرا،
والسلام.
فلما قرأ الأشتر الكتاب قال: اللهم أسوءنا نظرا للرعية، وأعملنا فيهم
بالمعصية فعجل له النقمة، فكتب بذلك سعيد إلى عثمان، وسار الأشتر
وأصحابه إلى حمص، فأنزلهم عبد الرحمان بن خالد الساحل وأجرى عليهم رزقا.
وروى الواقدي: إن عبد الرحمان بن خالد جمعهم بعد أن أنزلهم أياما وفرض
لهم طعاما، ثم قال لهم: يا بني الشيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا، قد رجع
الشيطان محسورا و أنتم بعد في بساط ضلالكم وغيكم، جزى الله عبد الرحمان إن
لم يؤذكم، يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم، أتراكم تقولون لي ما قلتم
لمعاوية؟ أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ
عين الردة، والله يا ابن صوحان، لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى إن بلغني أن
أحدا ممن معي دق أنفك فاقتنعت رأسك.
قال: فأقاموا عنده شهرا كلما ركب أمشاهم معه ويقول لصعصعة: يا ابن
الخطية، إن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، ما لك لا تقول كما كنت تقول
لسعيد ومعاوية؟ فيقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله، فما زال ذاك دأبه
ودأبهم حتى قال: تاب الله عليكم. فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم و يسأله
فيهم، فردهم إلى الكوفة (1).

(1) الغدير: ج 9 / 36 - 37، عن الطبري: ج 5 / 88 - 90، والكامل لابن الأثير: ج 3 / 57 - 60 وشرح ابن
أبي الحديد: ج 1 / 158 - 160، وتاريخ ابن خلدون: ج 2 / 387 - 389، و تاريخ أبي الفداء: ج 1 / 168
414

(607)
عامر بن عبد قيس التميمي مع عثمان
أخرج الطبري من طريق العلاء بن عبد الله بن زيد العنبري أنه قال:
اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع، فاجتمع رأيهم
على أن يبعثوا إليه رجلا يكلمه ويخبره باحداثه، فأرسلوا إليه عامر بن عبد الله
التميمي ثم العنبري وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس، فأتاه فدخل عليه، فقال
له:
إن ناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورا
عظاما، فاتق الله عز وجل وتب إليه، وانزع عنها.
قال له عثمان: انظر إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ثم هو يجئ
فيكلمني في المحقرات، فوالله ما يدري أين الله.
قال عامر: أنا لا أدري أين الله؟
قال: نعم، والله ما تدري أين الله.
قال عامر: بلى والله إني لأدري إن الله بالمرصاد لك... (1)
(608)
عامر بن عبد قيس ومعاوية
روى ابن المبارك في الزهد من طريق بلال بن سعد: أن عامر بن عبد قيس
وشي به إلى عثمان، فأمر أن ينفى إلى الشام على قتب، فأنزله معاوية الخضراء،
وبعث إليه بجارية وأمرها أن تعلمه ما حاله، فكان يقوم الليل كله ويخرج من
السحر فلا يعود إلا بعد العتمة، ولا يتناول من طعام معاوية شيئا، كان يجئ

(1) الغدير: ج 9 / 52، عن أنساب البلاذري: ج 5 / 43، وتاريخ الطبري: ج 5 / 94، والكامل لابن الأثير:
ج 3 / 62، وتاريخ ابن خلدون: ج 2 / 390
415

معه بكسر فيجعلها في ماء فيأكلها ويشرب من ذلك الماء.
فكتب معاوية إلى عثمان بحاله، فأمره أن يصله ويدنيه، فقال: لا إرب لي
في ذلك (1).
(609)
عبد الرحمان بن حنبل مع عثمان
قال اليعقوبي: سير عبد الرحمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى
القموص من خيبر، وكان سبب تسييره أنه بلغه كرهه مساوي ابنه وخاله وأنه
هجاه.
وقال العلائي عن مصعب وأبي عمر في الاستيعاب: إنه لما أعطى عثمان
مروان خمسمائة ألف من خمس أفريقية قال عبد الرحمن:
وأحلف بالله جهد اليمين * ما ترك الله أمرا سدى
ولكن جعلت لنا فتنة * لكي نبتلي بك أو تبتلى
دعوت الطريد فأدنيته * خلافا لما سنه المصطفى
ووليت قرباك أمر العباد * خلافا لسنة من قد مضى
وأعطيت مروان خمس الغنيمة * آثرته وحميت الحمى
ومالا أتاك به الأشعري * من الفئ أعطيته من دنا
فإن الأمينين قد بينا * منار الطريق عليه الهدى
فما أخذا درهما غيلة * ولا قسما درهما في هوى
فأمر به فحبس بخيبر. وأنشد له المرزباني في معجم الشعراء أنه قال وهو في
السجن:

(1) الغدير: ج 9 / 54
416

إلى الله أشكو لا إلى الناس ما عدا * أبا حسن غلا شديدا أكابده
بخيبر في قعر الغموص كأنها * جوانب قبر أعمق اللحد لاحده
أإن قلت حقا أو نشدت أمانة * قتلت فمن للحق إن مات ناشده
وكتب إلى علي وعمار من الحبس:
أبلغ عليا وعمارا فإنهما * بمنزل الرشد إن الرشد مبتدر
لا تتركا جاهلا حتى يوقره * دين الإله وإن هاجت به مرر
لم يبق لي منه إلا السيف إذ علقت * حبائل الموت فينا الصادق البرر
يعلم بأني مظلوم إذا ذكرت * وسط الندي حجاج القوم والعذر
فلم يزل علي يكلم عثمان حتى خلى سبيله على أنه لا يساكنه بالمدينة،
فسيره إلى خيبر، فأنزله قلعة بها تسمى القموص، فلم يزل بها حتى ناهض
المسلمون عثمان وصاروا إليه من كل بلد، فقال عبد الرحمان:
لولا علي فإن الله أنقذني * على يديه من الأغلال والصفد
لما رجوت لدى شد بجامعة * يمنى يدي غياث الفوت من أحد
نفسي فداء علي إذ يخلصني * من كافر بعد ما أغضى على صمد
فكان عبد الرحمن مع علي في صفين (1).
(610)
عبد الله بن حكيم مع طلحة
قال: وأتاهما عبد الله بن حكيم التميمي (يعني طلحة والزبير بعد أن نزلا
البصرة) لما نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه، فقال لطلحة: يا أبا محمد،

(1) الغدير: ج 9 / 59، عن الطبري: ج 6 / 25، وتاريخ اليعقوبي: ج 2 / 150، والاستيعاب: ج 2 / 410،
وشرح ابن أبي الحديد: ج 1 / 66، والإصابة ج 2 / 395 ويوجد في شرح ابن أبي الحديد طباعة بيروت:
ج 1 / 198
417

أما هذا كتبك إلينا؟ قال: بلى.
قال: فكتبت: أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله، حتى إذا قتلته، أتيتنا
ثائرا بدمه! فلعمري ما هذا رأيك، لا تريد إلا هذه الدنيا. مهلا! إذا كان هذا
رأيك، فلم قبلت من علي ما عرض عليك من البيعة فبايعته طائعا راضيا، ثم
نكثت بيعته، ثم جئتنا لتدخلنا في فتنتك؟
فقال: إن عليا دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس، فعلمت لو لم أقبل
ما عرضه علي لم يتم لي، ثم يغري بي من معه (1).
(611)
عمار ومقداد مع بني أمية وعبد الرحمان بن عوف
ذكر ابن عبد ربه في بيعة عثمان وما جرى في الشورى وما فعل عبد الرحمان
بن عوف، فقال: قال عمار بن ياسر: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع
عليا، فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار، وإن بايعت عليا قلنا: سمعنا وأطعنا.
قال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان، إن بايعت
عثمان سمعنا وأطعنا.
فشتم عمار ابن أبي سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين؟ فتكلم
بنو هاشم وبنو أمية.
فقال عمار: أيها الناس إن الله أكرمنا بنبينا وأعزنا بدينه، فإلى متى
تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيكم؟
فقال له رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا بن سمية، وما أنت
وتأمير قريش لأنفسها!

(1) الغدير: ج 9 / 99 عن ابن أبي الحديد: ج 9 / 318
418

فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمان افرغ قبل أن يفتتن الناس [فقال
عبد الرحمان: إني قد نظرت وشاورت] فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم
سبيلا - ودعا عليا - فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه
وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال: أعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ثم دعا عثمان
فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعلمن بكتاب الله وسنة نبيه، وسيرة
الخليفتين من بعده؟ فقال: نعم، فبايعه، فقال علي: حبوته محاباة ليس ذا بأول يوم
تظاهرتم فيه علينا، أما والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم
هو في شأن، فقال عبد الرحمان: يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا، فإني قد
نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان أحدا، فخرج علي وهو
يقول: سيبلغ الكتاب أجله.
فقال المقداد: يا عبد الرحمان أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق
وبه يعدلون.
فقال: يا مقداد والله لقد اجتهدت للمسلمين.
قال: لئن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين، ثم قال: ما
رأيت مثل ما أوتي أهل هذا البيت بعد نبيهم [إني لأعجب من قريش إنهم
تركوا رجلا ما أقول إن أحدا أعلم منه] ولا أقضى بالعدل ولا أعرف بالحق،
أما والله لو أجد أعوانا!!
قال له عبد الرحمان: يا مقداد إتق الله فإني أخشى عليك الفتنة (1).
(612)
عبد الرحمان بن حسان العنزي ومعاوية
لما قتل حجر بن عدي - سلام الله عليه - وخمسة من أصحابه - رضوان الله

(1) العقد الفريد: ج 4 / 279، والغدير: ج 9 / 115 عنه، وقال: أخرج الطبري نحوه: ج 5 / 37 وابن الأثير
في الكامل: ج 3 / 29، وابن أبي الحديد في الشرح: ج 1 / 193
419

عليهم - قال عبد الرحمان بن حسان وكريم بن عفيف الخثعمي (وكانا من
أصحاب حجر): إبعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول في هذا الرجل مثل
مقالته، فبعثوا إلى معاوية، فأخبروه، فبعث: إئتوني بهما، فالتفتا إلى حجر، فقال
له العنزي: لا تبعد يا حجر، ولا يبعد مثواك، فنعم أخو (1) الإسلام كنت، وقال
الخثعمي نحو ذلك، ثم مضى بهما، فالتفت العنزي فقال متمثلا:
كفى بشفاة القبر بعدا لهالك * وبالموت قطاعا لحبل القرائن
فلما دخل عليه الخثعمي قال له: الله الله يا معاوية، إنك منقول من هذه
الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ومسؤول عم أردت بقتلنا وفيم سفكت
دماءنا، فقال: ما تقول في علي؟ قال: أقول فيه قولك: أتبرأ من دين علي
الذي كان يدين الله به؟
وقام شمر بن عبد الله الخثعمي فاستوهبه، فقال: هو لك غير أني حابسه
شهرا فحبسه، ثم أطلقه على أن لا يدخل الكوفة ما دام له سلطان، فنزل الموصل
فكان ينتظر موت معاوية ليعود إلى الكوفة، فمات قبل معاوية بشهر.
وأقبل على عبد الرحمان بن حسان، فقال له: يا أخا ربيعة، ما تقول في
علي؟ قال: أشهد أنه من الذاكرين الله كثيرا، والآمرين بالمعروف، والناهين
عن المنكر، والعافين عن الناس.
قال: فما تقول في عثمان؟ قال: هو أول من فتح أبواب الظلم، وارتج أبواب
الحق.
قال: قتلت نفسك. قال: بل إياك قتلت لا ربيعة بالوادي (يعني أنه ليس
ثم أحد من قومه فيتكلم فيه).
فبعث به معاوية إلى زياد وكتب إليه: إن هذا شر من بعثت به فعاقبه

(1) هكذا في المصدر والصحيح " أخا "
420

بالعقوبة التي هو أهلها، واقتله شر قتلة، فلما قدم به على زياد بعث به إلى قيس
الناطف فدفنه حيا (1).
(613)
أبو الطفيل ومعاوية
قدم أبو الطفيل الشام يزور ابن أخ له من رجال معاوية، فأخبر معاوية
بقدومه، فأرسل إليه، فأتاه وهو شيخ كبير، فلما دخل عليه، قال له معاوية:
أنت أبو الطفيل عامر بن واثلة؟ قال: نعم.
قال معاوية: أكنت ممن قتل عثمان أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكن ممن
شهد فلم ينصره.
قال: ولم؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار.
فقال معاوية: أما والله إن نصرته كانت عليهم وعليك حقا واجبا وفرضا
لازما، فإذ ضيعتموه فقد فعل الله بكم ما أنتم أهله، وأصاركم إلى ما رأيتم.
فقال أبو الطفيل: فما منعك يا أمير المؤمنين، إذ تربصت به ريب المنون، أن
تنصره ومعك أهل الشام؟ فقال معاوية: أو ما ترى طلبي لدمه [نصرة له].
فضحك أبو الطفيل وقال: بلى ولكني وإياك، كما قال عبيد بن الأبرص:
لا أعرفنك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي
فدخل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحكم فلما
جلسوا نظر إليهم معاوية، ثم قال: أتعرفون هذا الشيخ؟ قالوا: لا، فقال معاوية:
هذا خليل علي بن أبي طالب، وفارس صفين، وشاعر أهل العراق، هذا
أبو الطفيل، قال سعيد بن العاص: قد عرفناه يا أمير المؤمنين، فما يمنعك منه؟

(1) الغدير: ج 9 / 120، عن الأغاني: ج 16 / 10، والطبري: ج 6 / 115، وتاريخ ابن عساكر: ج 2 / 379،
والكامل لابن الأثير: ج 3 / 209
421

وشتمه القوم، فزجرهم معاوية، وقال: مهلا فرب يوم ارتفع عن الأسباب قد
ضقتم به درعا، ثم قال: أتعرف هؤلاء يا أبا الطفيل؟ قال: ما أنكرهم من سوء،
ولا أعرفهم بخير، وأنشد شعرا:
فإن تكن العداوة قد أكنت * فشر عداوة المرء السباب
فقال معاوية: يا أبا الطفيل ما أبقى لك الدهر من حب علي؟ قال: حب
أم موسى، وأشكو إلى الله التقصير.
فضحك معاوية وقال: ولكن والله هؤلاء الذين حولك لو سئلوا عني ما
قالوا هذا، فقال مروان: أجل والله، لا نقول الباطل (1).

(1) راجع الإمامة والسياسة: ج 1 / 165، والغدير: ج 9 / 139 عنه، وعن المروج، وتاريخ ابن عساكر:
ج 7 / 201، والاستيعاب في الكنى، وتاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 133 أقول: قد مر ج 1 ص 248 عن
العقد والمروج وغيرهما، وتوجد في صفين لنصر: ص 554 على اختلاف ألفاظ الروايات وزاد نصر في
آخرها: ثم قال معاوية: هو الذي يقول - يعني أبا لطفيل -: (إلى رجب السبعين تعرفونني مع السيف
في خيل وأحمي عديدها) وقال معاوية: يا أبا الطفيل، أجزها، فقال أبو الطفيل:
زحوف كركن الطود كل كتيبة * إذا استمكنت منها يفل شديدها
كأن شعاع الشمس تحت لوائها * بها ينصر الرحمان ممن يكيدها
لها سرعان من رجال كأنها * دواهي السباع نمرها وأسودها
يمورون مور الموج ثم ادعاؤهم * إلى ذات أنداد كثير عديدها
إذا نهضت مدت جناحين منهم * على الخيل فرسان قليل صدودها
كهول وشبان يرون دماءكم * طهورا وثارات لها تستقيدها
كأني أراكم حين تختلف القنا * وزالت بأكفال الرجال لبودها
ونحن نكر الخيل كرا عليكم * كخطف عتاق الطير طيرا تصيدها
إذا نعيت موتى عليكم كثيرة * وعيت أمور غاب عنكم رشيدها
هنالك النفس تابعة الهدى * ونار إذا ولت وأز شديدها
فلا تجزعوا إن أعقب الدهر دولة * وأصبح منآكم قريبا بعيدها
فقالوا: نعم، قد عرفناه، هذا أفحش شاعر، وألام جليس، فقال معاوية: يا أبا الطفيل، أتعرف
هؤلاء؟ قال: ما أعرفهم بخير ولا أبعدهم من شر. فأجابه أيمن بن خريم الأسدي:
إلى رجب أو عرة الشهر بعده * يصبحكم حمر المنايا وسودها
ثمانين ألفا دين عثمان دينهم * كتائب فيها جبرئيل يقودها
فمن عاش عبدا عاش فينا ومن يمت * ففي النار يسقى، مهلها وصديدها
422

(614)
أم سلمة ومعاوية
كتب معاوية إلى عماله أن يلعنوه على المنابر - أي يلعنوا أمير المؤمنين عليا
صلوات الله عليه - ففعلوا، فكتبت أم سلمة - زوج النبي صلى الله عليه وآله - إلى
معاوية:
" إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنكم تلعنون علي بن
أبي طالب ومن أحبه، وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله " فلم يلتفت إلى
كلامها (1).
(615)
الأشتر وعثمان
إن عثمان كتب إلى الأشتر وأصحابه مع عبد الرحمان بن أبي بكر والمسور بن
مخرمة يدعوهم إلى الطاعة، ويعلمهم أنهم أول من سن الفرقة، ويأمرهم بتقوى
الله ومراجعة الحق، والكتاب إليه بالذي يحبون.
فكتب إليه الأشتر: من مالك بن الحارث إلى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد
عن سنة نبيه النابذ لحكم القرآن وراء ظهره.
أما بعد فقد قرأنا كتابك، فإنه نفسك وعمالك عن الظلم والعدوان وتسيير
الصالحين نسمح لك بطاعتنا وزعمت أنا قد ظلمنا أنفسنا، وذلك ظنك الذي
أرداك، فأراك الجور عدلا والباطل حقا، وأما محبتنا فإن تنزع وتتوب وتستغفر
الله من تجنيك على خيارنا، وتسييرك صلحاءنا، وإخراجك إيانا من ديارنا،

(1) العقد الفريد: ج 4 / 366، والغدير: ج 2 / 102 عنه
423

وتوليتك الأحداث علينا، وأن تولي مصرنا عبد الله بن قيس أبا موسى
الأشعري وحذيفة فقد رضيناهما، واحبس عنا وليدك وسعيدك ومن يدعوك
إليه الهوى من أهل بيتك إن شاء الله. والسلام (1).
(616)
صعصعة وعثمان
قام صعصعة إلى عثمان بن عفان وهو على المنبر فقال: يا أمير المؤمنين ملت
فمالت أمتك، اعتدل يا أمير المؤمنين تعتدل أمتك.
قال: وتكلم صعصعة يوما فأكثر، فقال عثمان: يا أيها الناس إن هذا
البجباج النفاج ما يدري من الله، ولا أين الله. فقال: أما قولك: ما أدري من
الله. فإن الله ربنا ورب آبائنا الأولين، وأما قولك: لا أدري أين الله. فإن الله
لبالمرصاد، ثم قرأ: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم
لقدير ".
فقال عثمان: ما نزلت هذه الآية إلا في وفي أصحابنا، أخرجنا من مكة
بغير حق (2).
(617)
ابن أخت شرحبيل وشرحبيل
لما خدع معاوية شرحبيل وصمم رأيه وشحذ عزمه، بلغ ذلك قومه فبعث
ابن أخت له من بارق - وكان يرى رأي علي بن أبي طالب، فبايعه بعد، وكان
ممن لحق من أهل الشام وكان ناسكا - فقال:
لعمر أبي الأشقى ابن هند لقد رمى * شرحبيل بالسهم الذي هو قاتله

(1) الغدير: ج 9 / 142، عن أنساب الأشراف: ج 5 / 46.
(2) الغدير: ج 9 / 147، وقال: أوعز إليه في لسان العرب في (بجباج). وابن عساكر في تاريخه:
ج 6 / 424، والزمخشري في الفائق: ج 1 / 35
424

ولفف قوما يسحبون ذيولهم * جميعا وأولى الناس بالذنب فاعله
فألفى يمانيا ضعيفا نخاعه * إلى كل ما يهوون تحدى رواحله
فطأطأ لها لما رموه بثقلها * ولا يرزق التقوى من الله خاذله
ليأكل دنيا لابن هند بدينه * ألا وابن هند قبل ذلك آكله
وقالوا علي في ابن عفان خدعة * ودبت إليه بالشنان غوائله
ولا والذي أرسى ثبيرا مكانه * لقد كف عنه كفه ووسائله
وما كان إلا من صحاب محمد * وكلهم تغلي عليه مراجله
فلما بلغ شرحبيل هذا القول قال: هذا بعيث الشيطان، الآن امتحن الله قلبي.
والله لأسيرن صاحب هذا الشعر أو ليفوتنني. فهرب الفتى إلى الكوفة - وكان
أصله منها - وكاد أهل الشام أن يرتابوا (1).
(618)
النجاشي بن الحارث وشرحبيل بن السمط
بعث النجاشي بن الحارث إلى شرحبيل وكان صديقا له:
شرحبيل ما للدين فارقت أمرنا * ولكن لبغض المالكي جرير
وشحناء دبت بين سعد وبينه * فأصبحت كالحادي بغير بعير
وما أنت إذ كانت بجيلة عاتبت * قريشا فيالله بعد نصير
أتفصل أمرا غبت عنه بشبهة * وقد حار فيها عقل كل بصير
بقول رجال لم يكونوا أئمة * ولا للتي لقوكها بحضور
وما قول قوم غائبين تقاذفوا * من الغيب ما دلاهم بغرور
وتترك أن الناس أعطوا عهودهم * عليا على أنس به وسرور

(1) وقعة صفين لنصر: ص 49 - 50، والغدير: ج 10 / 297، عنه، والاستيعاب: ترجمة شرحبيل، وأسد
الغابة: ج 2 / 392، والجزري في الكامل: ج 3 / 119، وشرح ابن أبي الحديد ج 1 / 139 و 249 و 250
425

إذا قيل هاتوا واحدا تقتدونه * نظيرا له لم يفصحوا بنظير
لعلك أن تشقى الغداة بحربه * شرحبيل، ما ما جئته بصغير (1)
(619)
جمع من رسل علي عليه السلام عند معاوية
(بعد أن استرد أهل العراق الماء من أهل الشام) قال: ثم إن عليا دعا بشير بن
عمرو بن محصن الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي
التميمي، فقال: ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله عز وجل وإلى الطاعة والجماعة،
وإلى اتباع أمر الله تعالى.
فقال له شبث: ألا نطمعه في سلطان توليه إياه، ومنزلة تكون به له أثرة
عندك إن هو بايعك؟
قال علي: ائتوه الآن فألقوه واحتجوا عليه وانظروا ما رأيه - وهذا في شهر
ربيع الآخر - فأتوه فدخلوا عليه، فحمد أبو عمرة بن محصن الله وأثنى عليه وقال:
يا معاوية، إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإن الله عز وجل
مجازيك بعملك، ومحاسبك بما قدمت يداك، وإني أنشدك بالله أن تفرق جماعة
هذه الأمة، وأن تسفك دماءها.
فقطع معاوية عليه الكلام، فقال: هلا أوصيت صاحبك؟
فقال: سبحان الله، إن صاحبي ليس مثلك، إن صاحبي أحق البرية في
هذا الأمر في الفضل والدين والسابقة والإسلام، والقرابة من رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم.
قال معاوية: فتقول ماذا؟ قال: أدعوك إلى تقوى ربك وإجابة ابن

(1) وقعة صفين لنصر: ص 51، والغدير: ج 10 / 297 عنه، وعن الاستيعاب: ترجمة شرحبيل وأسد الغابة:
ج 2 / 392، والكامل لابن الأثير: ج 3 / 119، وشرح ابن أبي الحديد: ج 1 / 139 و 249 و 250 وفي
طبع بيروت: ج 3 / 84
426

عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق، فإنه أسلم لك في دينك، وخير لك في
عاقبة أمرك. قال: ويطل دم عثمان؟ لا والرحمان، لا أفعل ذلك أبدا. قال: فذهب
سعيد يتكلم فبدره شبث فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
يا معاوية قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه لا يخفي علينا ما تقرب
وما تطلب، إنك لا تجد شيئا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم
وتستخلص به طاعتهم إلا أن قلت لهم: قتل إمامكم مظلوما فهلموا نطلب بدمه
فاستجاب لك سفهاء طغام رذال، وقد علمنا أنك قد أبطأت عنه بالنصر،
وأحببت له القتل بهذه المنزلة التي تطلب، ورب مبتغ أمرا وطالبه يحول الله
دونه، وربما أوتي المتمني أمنيته، وربما لم يؤتها. ووالله ما لك في واحدة منها
خير، والله لئن أخطأك ما ترجو إنك لشر العرب حالا، ولئن أصبت ما تتمناه
لا تصيبه حتى تستحق صلي النار، فاتق الله يا معاوية، ودع ما أنت عليه،
ولا تنازع الأمر أهله.
قال: فحمد الله معاوية وأثنى عليه ثم قال:
" أما بعد فإن أول ما عرفت به سفهك وخفة حلمك: قطعك على هذا
الحبيب الشريف سيد قومه منطقه، ثم عتبت بعد فيما لا علم لك به. ولقد
كذبت ولويت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما وصفت وذكرت.
انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلا السيف " قال: وغضب فخرج القوم
وشبث يقول: أفعلينا تهول بالسيف أما والله لنعجلنه إليك، فأتوا عليا عليه
السلام فأخبروه بالذي كان من قوله، وذلك في شهر ربيع الآخر (1).

(1) وقعة صفين لنصر: ص 187، والغدير: ج 9 / 150 عنه وعن الطبري والجزري وابن أبي الحديد:
ج 10 / 307
427

(620)
رسل أمير المؤمنين عليه السلام ومعاوية
عن المحل بن الخليفة قال: (بعد أن اقتتل الناس ذا الحجة كله تداعوا أن
يكفوا عن القتال إلى أن ينقضي المحرم لعل الله أن يجري صلحا) لما توادع علي
عليه السلام ومعاوية بصفين اختلف الرسل فيما بينهما رجاء الصلح، فأرسل
علي بن أبي طالب إلى معاوية عدي بن حاتم، وشبث بن ربعي، ويزيد بن
قيس، وزياد بن خصفة، فدخلوا على معاوية، فحمد الله عدي بن حاتم وأثنى
عليه ثم قال:
أما بعد فإنا أتيناك لندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمتنا، ويحقن الله
به دماء المسلمين، وندعوك إلى أفصلها سابقة وأحسنها في الإسلام آثارا، وقد
اجتمع له الناس، وقد أرشدهم الله بالذي رأوا فأتوا، فلم يبق أحد غيرك وغير
من معك، فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك الله وأصحابك بمثل يوم الجمل.
فقال له معاوية: كأنك جئت متهددا ولم تأت مصلحا. هيهات يا عدي،
كلا والله، إني لابن حرب ما يقعقع لي بالشنآن. أما والله إنك لمن المجلبين
على ابن عفان، وأنت لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله. هيهات يا
عدي، قد حلبت بالساعد الأشد.
وقال له شبث بن ربعي وزياد بن خصفة - وتنازعا كلاما واحدا -: أتيناك
فيما يصلحنا وإياك، فأقبلت تضرب الأمثال لنا. دع ما لا ينفع من القول
والفعل، وأجبنا فيما يعمنا وإياك نفعه.
وتكلم يزيد بن قيس الأرحبي فقال:
إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك، ولنؤدي عنك ما سمعنا منك،
لن ندع أن ننصح لك، وأن نذكر ما ظننا أن لنا به عليك حجة، أو أنه راجع
بك إلى الألفة والجماعة، إن صاحبنا لمن قد عرفت وعرف المسلمون فضله، ولا
428

أظنه يخفى عليك أن أهل الدين والفضل لن يعدلوك بعلي عليه السلام ولن
يميلوا بينك وبينه فاتق الله يا معاوية، ولا تخالف عليا، فإنا والله ما رأينا رجلا
قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه.
فحمد الله معاوية وأثنى عليه وقال:
أما بعد فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها
فنعما هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها. إن صاحبكم قتل خليفتنا،
وفرق جماعتنا، وآوى ثأرنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد
ذلك عليه، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم؟!
فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
فقال له شبث بن ربعي: أيسرك يا معاوية أن أمكنت من عمار بن ياسر
فقتلته؟ قال: وما يمنعني من ذلك؟ والله لو أمكنني صاحبكم من ابن سمية (1)
ما قتلته بعثمان، ولكن كنت أقتله بنائل مولى عثمان بن عفان، فقال له شبث
وإله السماء ما عدلت معدلا، لا والله الذي لا إله إلا هو لا تصل إلى قتل ابن
ياسر حتى تندر الهام عن كواهل الرجال، وتضيق الأرض الفضاء عليك برجها
فقال له معاوية: إنه لو كان ذلك كانت عليك أضيق.
ورجع القوم عن معاوية، فلما رجعوا من عنده بعث إلى زياد بن خصفة
التيمي فدخل عليه، فحمد الله معاوية وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد يا أخا ربيعة فإن عليا قطع أرحامنا، وقتل إمامنا، وآوى قتلة
صاحبنا، وإني أسألك النصرة عليه بأسرتك وعشيرتك ولك علي عهد الله
وميثاقه إذا ظهرت أن أوليك أي المصرين أحببت.

(1) سمية: هي أم عمار بن ياسر، وهي أول شهيدة استشهدت في الإسلام، وجأها أبو جهل بحربة
فماتت
429

قال أبو المجاهد (سعد الطائي الكوفي): سمعت زياد بن خصفة يحدث بهذا
الحديث قال: فلما قضى معاوية كلامه حمدت الله وأثنيت عليه ثم قلت له:
" أما بعد فإني لعلى بينة من ربي، وبما أنعم علي فلن أكون ظهيرا
للمجرمين ".
قال: ثم قمت، فقال معاوية لعمرو بن العاص - وكان إلى جانبه جالسا -:
ليس يكلم رجل منا رجلا منهم بكلمة فيجيب بخير، ما لهم عضبهم الله، ما
قلوبهم إلا قلب رجل واحد (1).
(621)
عمار وعبيد الله بن عمر وعمرو بن العاص
قال: ثم مضى - يعني عمار بن ياسر - ومضى معه أصحابه، فلما دنا من
عمرو بن العاص قال: يا عمرو بعت دينك بمصر! تبا لك، وطالما بغيت
الإسلام عوجا! ثم حمل عمار، وهو يقول:
صدق الله وهو للصدق أهل * وتعالى ربي وكان جليلا
رب عجل شهادة لي بقتل * في الذي قد أحب قتلا جميلا
مقبلا غير مدبر إن للقتل * على كل ميتة تفضيلا
إنهم عند ربهم في جنان * يشربون الرحيق والسلسبيلا
من شراب الأبرار خالطه المسك * وكأسا مزاجها زنجبيلا
ثم نادى عمار عبيد الله بن عمر، وذلك قبل مقتله، فقال: يا ابن عمر
صرعك الله! بعت دينك بالدنيا من عدو الله وعدو الإسلام. قال: كلا، ولكن
أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم. قال: كلا أشهد على علمي فيك أنك

(1) وقعة صفين لنصر: ص 197 - 200، والغدير: ج 10 / 308 - 309، عن الطبري: 6 / 3 والجزري:
3 / 124، وابن كثير: 7 / 258، وفي بعضها: " حنظلة "
430

أصبحت لا تطلب بشئ من فعلك وجه الله، وإنك إن لم تقتل اليوم فستموت
غدا. فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيتك؟
ثم قال عمار: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي
في هذا البحر لفعلت. اللهم إنك تعلم إني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة
سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى يخرج من ظهري لفعلت. اللهم وإني أعلم
مما أعلمتني أني لا أعمل اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين
ولو أعلم اليوم عملا أرضى لك منه لفعلته (1).
(622)
أهل العراق مع خطيب أهل الشام
قال: (بعد قصة التحكيم وخلاف الخوارج وبراءتهم من علي عليه
السلام) وقام خطيب أهل الشام حمل بن مالك بين الصفين فقال:
أنشدكم الله يا أهل العراق إلا أخبرتمونا لم فارقتمونا؟
قالوا: فارقناكم لأن الله عز وجل أحل البراءة ممن حكم بغير ما أنزل الله،
فتوليتم الحاكم بغير ما أنزل الله، وقد أحل عداوته وأحل دمه إن لم يرجع إلى
التوبة ويبوء بالدين. وزعمتم أنتم خلاف حكم الله فتوليتم الحاكم بغير ما أنزل
الله وقد أمر الله بعداوته، وحرمتم دمه وقد أمر الله بسفكه، فعاديناكم لأنكم
حرمتم ما أحل الله، وحللتم ما حرم الله، وعطلتم أحكام الله، واتبعتم هواكم بغير
هدى من الله.
قال الشامي حمل بن مالك: قتلتم أخانا وخليفتنا ونحن غيب عنه، بعد أن
استتبتموه فتاب، فعجلتم عليه فقتلتموه، فنذكركم الله لما أنصفتم الغائب المتهم
لكم، فإن قتله لو كان عن ملأ من الناس ومشورة كما كانت إمرته، لم يحل لنا

(1) وقعة صفين لنصر: ص 320
431

الطلب بدمه، وإن أطيب التوبة والخير في العاقبة أن يعرف من لا حجة له
الحجة عليه وذلك أقطع للبغي، وأقرب للمناصحة. وقد رضينا أن تعرضوا
ذنوبه على كتاب الله أولها وآخرها فإن أحل الكتاب دمه برئنا منه وممن
تولاه ومن يطلب دمه وكنتم قد أجرتم في أول يوم وآخره، وإن كان كتاب الله
يمنع دمه ويحرمه تبتم إلى الله ربكم، وأعطيتم الحق من أنفسكم في سفك دم بغير
حله بعقل أو قود، أو براءة ممن فعل ذلك وهو ظالم. ونحن قوم نقرأ القرآن
وليس يخفى علينا منه شئ، فأفهمونا الأمر الذي استحللتم عليه دماءنا.
قالوا: نعم قد بعثنا منا رجلا ومنكم رجلا يقرآن القرآن كله ويتدارسان ما
فيه، وينزلان عند حكمه علينا وعليكم. وإنا قد بعثنا منا من هو عندنا مثل
أنفسنا، وجعلنا لهما أن ينتهيا إليه، وأن يكون أمرهما على تؤدة، ونسأل عما
يجتمعان عليه وما يتفرقان عنه، فإنما فارقناكم في تفسيره ولم نفارقكم في
تنزيله. ونحن وأنتم نشهد أنه من عند الله، فإنما نريد أن نسأل عنه مما تفسرون،
مما جهلنا نحن تفسيره، فنسأل عنه أهل العلم منا ومنكم، فأعطيناكم على
هذا الأمر ما سألتم من شأن الحكمين. وإنما بعثا ليحكما بكتاب الله، يحييان ما
أحيا الكتاب ويميتان ما أمات الكتاب، فأما ما لم يجدا في الكتاب فالسنة
العادلة الجامعة غير المفرقة. ولم يبعثا ليحكما بغير الكتاب. ولو أرادا اللبس على
أمة محمد لبرئت منهما الذمة، وليس لهما على أمة محمد حكم.
فلما سمع المسلمون قولهم علموا أن على كل مخاصم إنصاف خصيمه
وقبول الحق منه وإن كان قد منعه فقاتل عليه، لأنهم إلى الحق دعوا أول يوم،
وبه عملوا يقينا غير شك، ومن الباطل استعتبوا، وعلى عماية قتلوا من قتلوا.
ونظر القوم في أمرهم، وشاوروا قائدهم، وقالوا: قد قبلنا من عثمان بن عفان
حين دعي إلى الله والتوبة من بغيه وظلمه، وقد كان منا عنه كف حين أعطانا
أنه تائب حتى جرى علينا حكمه بعد تعريفه ذنوبه، فلما لم يتم التوبة وخالف
432

بفعله عن توبته قلنا: اعتزلنا ونولي أمر المؤمنين رجلا يكفيك ويكفينا، فإنه
لا يحل لنا أن نولي أمر المؤمنين رجلا نتهمه في دمائنا وأموالنا، فأبى ذلك
وأصر، فلما أن رأينا ذلك منه قتلناه ومن تولاه بعد قتلنا إياه، وهم يعرضون
كتاب الله بيننا وبينهم، ويسألونا حجتنا عليهم، وإنما هم صادقون أو كاذبون
في نيتهم، وليس لنا عذر في إنصافهم والموادعة والكف عنهم حتى يرجعوا بتوبة
أو مناصحة بعد أن نقررهم ونعرفهم ظلمهم وبغيهم، أو يصروا فيغلبنا عليهم ما
غلبنا على قائدهم فنقتلهم، فإنما نطلب الحجة بعد العذر، ولا عذر إلا ببينة،
ولا بينة إلا بقرآن أو سنة.
وهم خلطاء في الدين، ومقرون بالكتاب والنبي صلى الله عليه وآله وسلم
ليسوا بمنزلة أحد ممن حارب المسلمين، أهل بغي ممن أمر الله أن يقاتلوا حتى
يفيئوا من بغيهم إلى أمر الله، وبرئوا، ببغيهم من الإيمان، قال الله عز وجل على
لسان نبيه داود: " وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين
آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ". هؤلاء منافقون، لأمرهم بالمنكر ونهيهم
عن المعروف وقتالهم عليه، ولاتباعهم ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط
أعمالهم، بذلك تفنى حسناتهم، وذلك أنه كانت لهم حسنات لم تنفعهم حين
عاداهم، فقبل أمير المؤمنين مناصفتهم في المنازعة عند الحكمين بالدين بأن يحكم
بكتاب الله، ويرد المحق والمبطل إلى أمره و [ما] يرضى به، وفيما نزل بهم أمر ليس
فيه قرآن يعرفونه فالسنة الجامعة العادلة غير المفرقة، فلم يكن يسع أحدا من
الفريقين ترك كتاب الله والسنة بعد قول الله عز وجل في صفة عدوه ومن
يرغب عن كتابه وهو مقر بتنزيله، حامل لميثاقه: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا
من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم
معرضون " وقال الله تعالى يعيرهم بذلك: " أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون
أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون " وما أولئك بالمؤمنين، إنهم
433

لو كانوا مؤمنين رضوا بكتابي ورسولي. ثم أنزل: " إنما كان قول المؤمنين إذا
دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم
المفلحون " يعني أنهم أصابوا حقائق الإيمان والصلح فلم يسع عليا أمير المؤمنين
إلا الكف بعد توكيدهم الميثاق، وضربهم الأجل، والرضا بأن يحكم بينهم
رجلان بكتاب الله - فيما تنازع فيه عباد الله - بما أنزل الله وسنة رسوله، ليبلغ
الشاهد الغائب منهم سبيل المحق من المبطل ألا يغير بمؤمن غائب برضا غوي (1)
أو عم غير مهتد، فيسمى أمير المؤمنين من كل باسمه حتى يقره الكتاب على
منزلته (2).
(623)
شريح بن هاني مع عمرو بن العاص
عن النضر بن صالح قال: كنت مع شريح بن هاني في غزوة سجستان،
فحدثني: أن عليا أوصاه بكلمات إلى عمرو بن العاص، قال له: قل لعمرو إن
لقيته: إن عليا يقول لك: إن أفضل الخلق عند الله من كان العمل بالحق
أحب إليه وإن نقصه، وإن أبعد الخلق من الله من كان العمل بالباطل أحب
إليه وإن زاده. والله يا عمرو إنك لتعلم أين موضع الحق فلم تتجاهل؟ أبأن
أوتيت طمعا يسيرا فكنت لله ولأوليائه عدوا، فكأن والله ما أوتيت قد زال
عنك، فلا تكن للخائنين خصيما، ولا للظالمين ظهيرا. أما إني أعلم أن يومك
الذي أنت فيه نادم هو يوم وفاتك، وسوف تتمنى أنك لم تظهر لمسلم عداوة،
ولم تأخذ على حكم رشوة.
قال شريح: فأبلغته ذلك فتمعر وجه عمرو وقال: متى كنت أقبل مشورة

(1) كذا وردت هذه العبارة.
(2) وقعة صفين لنصر: ص 514 - 517
434

علي أو أنيب إلى أمره وأعتد برأيه؟! فقلت: وما يمنعك يا ابن النابغة أن تقبل
من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم صلى الله عليه وآله مشورته. لقد كان من
هو خير منك، أبو بكر وعمر، يستشيرانه ويعملان برأيه. فقال: إن مثلي لا يكلم
مثلك. فقلت: بأي أبويك ترغب عن كلامي؟ بأبيك الوشيظ (1)، أم بأمك
النابغة؟ فقام من مكانه، وأقبلت رجال من قريش على معاوية فقالوا: إن عمرا
قد أبطأ بهذه الحكومة وهو يريدها لنفسه فبعث إليه معاوية.... (2).
(624)
شاعر العراق وشاعر الشام
بعد خدع عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، قال كعب بن جعيل
شاعر معاوية:
كأن أبا موسى عشية أذرح * يطوف بلقمان الحكيم يواربه
فلما تلاقوا في تراث محمد * نمت بابن هند في قريش مضاربه
سعى بابن عفان ليدرك ثأره * وأولى عباد الله بالثأر طالبه
وقد غشيتنا في الزبير غضاضة * وطلحة إذ قامت عليه نوادبه
فرد ابن هند ملكه في نصابه * ومن غالب الأقدار فالله غالبه
وما لابن هند في لؤي بن غالب * نظير وإن جاشت عليه أقاربه
فهذاك ملك الشام واف سنامه * وهذاك ملك القوم قد جب غاربه
يحاول عبد الله عمرا (3) وإنه * ليضرب في بحر عريض مذاهبه
دحا دحوة في صدره فهوت به * إلى أسفل المهوى ظنون كواذبه
فرد عليه رجل من أصحاب علي فقال:

(1) الوشيظ: الخسيس، والتابع، والحليف، والدخيل في القوم ليس من صميمهم.
(2) وقعة صفين لنصر: ص 542 وقد مر ص 310 فراجع.
(3) كذا في الأصل والصحيح عمروا
435

غدرتم وكان الغدر منكم سجية * فما ضرنا عذر اللئيم وصاحبه
وسميتم شر البرية مؤمنا * كذبتم فشر الناس للناس كاذبه
ولكم بن (1) حرب بصيرة * بلعن رسول الله إذ كان كاتبه (2)
(625)
عمرو بن العاص وابن عباس
قال عمرو بن العاص حين خدع أبا موسى:
خدعت أبا موسى خديعة شيظم * يخادع سقبا في فلاة من الأرض (3)
فقلت له إنا كرهنا كليهما * فنخلعهما قبل التلاتل والدحض (4)
فإنهما لا يغضيان على قذى * من الدهر حتى يفصلان على أمض (5)
فطاوعني حتى خلعت أخاهم * وصار أخونا مستقيما لدى القبض
وإن ابن حرب غير معطيهم الولا * ولا الهاشمي الدهر أو يربع الحمض
فرد عليه ابن عباس فقال:
كذبت ولكن مثلك اليوم فاسق * على أمركم يبغي لنا الشر والعزلا
وتزعم أن الأمر منك خديعة * إليه وكل القول في شأنكم فضلا
فأنتم ورب البيت قد صار دينكم * خلافا لدين المصطفى الطيب العدلا
أعاديتم حب النبي ونفسه * فما لكم من سابقات ولا فضلا
وأنتم ورب البيت أخبث من مشى * على الأرض ذا نعلين أو حافيا رجلا
غدرتم وكان الغدر منكم سجية * كأن لم يكن حرثا وأن لم يكن نسلا (6)

(1) كذا في الأصل والصحيح " بابن ".
(2) وقعة صفين لنصر: ص 549.
(3) الشيظم: الطويل الجسيم الفتى من الناس والخيل والإبل. والسقب: ولد الناقة.
(4) التلاتل: الشدائد. والدحض: الزلق والزلل.
(5) الأمض: الباطل والشك.
(6) وقعة صفين لنصر: ص 550
436

(626)
ابن أبي الحديد مع متكلم إمامي
قال ابن أبي الحديد: وقلت لمتكلم من متكلمي الإمامية يعرف بعلي بن
تقي من بلدة النيل (1): وهل كانت فدك إلا نخلا يسيرا وعقارا ليس بذلك
الخطير؟!
فقال لي: ليس الأمر كذلك. بل كانت جليلة جدا، وكان فيها من النخل
نحو ما بالكوفة الآن من النخل، وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا ألا
يتقوى علي بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة، ولهذا اتبعا ذلك بمنع فاطمة
وعلي وسائر بني هاشم وبني المطلب حقهم في الخمس، فإن الفقير الذي لا مال
تضعف همته ويتصاغر عند نفسه، ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب
عن طلب الملك والرياسة (2).
(627)
علوي مع ابن أبي الحديد
قال: قال لي علوي من الحلة يعرف بعلي بن مهنأ، ذكي ذو فضائل: ما
تظن قصد أبي بكر وعمر بمنع فاطمة فدكا؟ قلت: ما قصدا؟ قال: أرادا ألا
يظهرا لعلي - وقد اغتصباه الخلافة - رقة ولينا وخذلانا، ولا يرى عندهما خورا
فاتبعا القرح بالقرح (3).
(628)
عبد الرحمان بن غنم مع أبي هريرة وأبي الدرداء
قال أبو عمر في الاستيعاب ج 2 / 424 هامش الإصابة: كان عبد الرحمان

(1) النيل هنا: بليدة في سواد الكوفة.
(2) شرح ابن أبي الحديد: ج 16 / 236.
(3) المصدر نفسه
437

ابن غنم - الصحابي - من أفقه أهل الشام، وهو الذي فقه عامة التابعين بالشام،
كانت له جلالة وقدر، وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بمحص إذ انصرفا
من عند علي رضي الله عنه رسولين لمعاوية، وكان مما قال لهما: عجبا منكما،
كيف جاز عليكما ما جئتما به، تدعوان عليا إلى أن يجعلها شورى، وقد علمتما أنه
قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجاز والعراق، وأن من رضيه خير ممن
كرهه، ومن بايعه خير ممن لم يبايعه؟ وأي مدخل لمعاوية في الشورى وهو من
الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة، وهو وأبوه من رؤوس الأحزاب؟
فندما على مسيرهما وتابا منه بين يديه (1).
(629)
عبد الرحمان مع شرحبيل
قال: فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل وهو بحمص استشار أهل اليمن
فاختلفوا عليه، فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي وهو صاحب معاذ بن جبل
وختنه، وكان أفقه أهل الشام، فقال:
يا شرحبيل بن السمط، إن الله لم يزل يزيدك خيرا مذ هاجرت إلى اليوم،
وإنه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من الناس، ولا يغير ما بقوم
حتى يغيروا ما بأنفسهم. إنه قد ألقى إلينا قتل عثمان، وأن عليا قتل عثمان
(وأنه ألقى إلى معاوية أن عليا قتل عثمان ولهذا يريدك). فإن يك قتله فقد
بايعه المهاجرون والأنصار، وهم الحكام على الناس، وإن لم يكن قتله فعلام
تصدق معاوية عليه؟ لا تهلك نفسك وقومك. فإن كرهت أن يذهب بخطها
جرير فسر إلى علي فبايعه على شامك وقومك.
فأبى شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية، فبعث إليه عياض الثمالي وكان

(1) أسد الغابة: ج 10 / 318 في ترجمته، وراجع الغدير: ج 10 / 331، وقاموس الرجال: ج 5 / 308 عنه
438

ناسكا:
يا شرح يا ابن السمط إنك بالغ * بود علي ما تريد من الأمر (1)
ويا شرح إن الشام شامك ما بها * سواك فدع قول المضلل من فهر
فإن ابن حرب ناصب لك خدعة * تكون علينا مثل راغية البكر
فإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا * هنيئا له، والحرب قاصمة الظهر
فلا تبغين حرب العراق فإنها * تحرم أطهار النساء من الذعر
وإن عليا خير من وطأ الحصى * من الهاشميين المداريك للوتر
له في رقاب الناس عهد وذمة * كعهد أبي حفص وعهد أبي بكر
فبايع ولا ترجع على العقب كافرا * أعيذك بالله العزيز من الكفر
ولا تسمعن قول الطغام فإنما * يريدون أن يلقوك في لجة البحر
وماذا عليهم أن تطاعن دونهم * عليا بأطراف المثقفة السمر
فإن غلبوا كانوا عليك أئمة * وكنا بحمد الله من ولد الظهر
وإن غلبوا لم يصل بالحرب غيرنا * وكان علي حربنا آخر الدهر
يهون على عليا لؤي بن غالب * دماء بني قحطان في ملكهم تجري
فدع عنك عثمان بن عفان إننا * لك الخير، لا ندري وإنك لا تدري
على أي حال كان مصرع جنبه * فلا تسمعن قول الأعيور أو عمرو (2)
(630)
عبد الله بن عباس ومعاوية
قال معروف بن خربوذ المكي: بينا عبد الله بن عباس جالس في المسجد ونحن
بين يديه إذ أقبل معاوية فجلس إليه، فأعرض عنه ابن عباس، فقال له

(1) شرح: مرخم شرحبيل، وهذا بضم الشين وفتح الراء وسكون الحاء، ولكنه سكن الراء للشعر.
(2) وقعة صفين لنصر: ص 45 و 46، والغدير: ج 10 / 395 عنه وعن مصادر أخرى تقدمت عنه وابن
أبي الحديد: ج 2 / 72
439

معاوية: ما لي أراك معرضا؟ ألست تعلم أني أحق بهذا الأمر من ابن عمك؟
قال: لم؟ لأنه كان مسلما وكنت كافرا؟ قال: لا، ولكني ابن عم عثمان.
قال: فابن عمي خير من ابن عمك. قال: إن عثمان قتل مظلوما، قال:
وعندهما ابن عمر، فقال ابن عباس: فإن هذا والله أحق بالأمر منك. فقال
معاوية: إن عمر قتله كافر وعثمان قتله مسلم، فقال ابن عباس: ذاك والله
أدحض لحجتك (1).
(631)
أبو أيوب ومعاوية
وفي رواية: إن أبا أيوب أتى معاوية فشكا إليه أن عليه دينا فلم ير منه ما
يحب، فرأى أمرا كرهه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
إنكم سترون بعدي أثرة قال: فأي شئ قال لكم؟ قال: أمرنا بالصبر، قال:
فاصبروا، قال: فوالله لا أسألك شيئا أبدا (2).
(632)
أبو قتادة ومعاوية
قال عبد الله بن محمد بن عقيل: قدم معاوية المدينة فلقاه أبو قتادة
الأنصاري - الحارث بن ربعي - فقال معاوية: تلقاني الناس كلهم غيركم يا
معشر الأنصار، قال: لم يكن لنا دواب. قال: فأين النواضح؟ قال: عقرناها في
طلبك وطلب أبيك يوم بدر.
ثم قال أبو قتادة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لنا: إنكم سترون
بعدي أثرة. قال معاوية: فما أمركم؟ قال: أمرنا أن نصر. قال: فاصبروا، فبلغ

(1) الغدير: ج 10 / 326، عن المستدرك للحاكم: ج 3 / 467، وتأريخ الخلفاء للسيوطي: ص 201.
(2) الغدير: ج 10 / 283، عن ابن عساكر: ج 5 / 41 - 42، والخصائص الكبرى: ج 2 / 150 بألفاظ
مختلفة، فراجع
440

ذلك عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقال:
ألا أبلغ معاوية بن حرب * أمير المؤمنين نبأ كلامي
فإنا صابرون ومنظروكم * إلى يوم التغابن والخصام (1)
(633)
صعصعة والمغيرة
قدمت الخطباء إلى المغيرة بن شعبة بالكوفة، فقام صعصعة بن صوحان
فتكلم، فقال المغيرة: أخرجوه فأقيموه على المصطبة فليلعن عليا، فقال: لعن الله
من لعن الله ولعن علي بن أبي طالب.
فأخبروه بذلك فقال: أقسم بالله لتقيدنه. فخرج فقال: إن هذا يأبى إلا
علي بن أبي طالب، فالعنوه لعنه الله. فقال المغيرة: أخرجوه أخرج الله
نفسه (2).
(634)
أنيس مع معاوية
روى ابن الأثير في أسد الغابة ج 1 / 134 - في ترجمة أنيس بن قتادة - عن
شهر بن حوشب قال: أقام فلان (3) خطباء يشتمون عليا - رضي الله عنه
وأرضاه - ويقعون فيه حتى كان آخرهم رجل من الأنصار أو غيرهم يقال له:
أنيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنكم قد أكثرتم اليوم في سب هذا الرجل
وشتمه، وإني أقسم بالله إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
إني لأشفع يوم القيامة لأكثر مما على الأرض من مدر وشجر، وأقسم بالله ما

(1) تاريخ الخلفاء: ص 201، والغدير: ج 10 / 282 عنه وعن الاستيعاب: ج 1 / 255 وتاريخ ابن
عساكر: ج 7 / 213.
(2) الغدير: ج 10 / 263 عن الأذكياء لابن الجوزي ومر ص 258.
(3) يعني معاوية
441

أحد أوصل لرحمه منه، أفترون شفاعته تصل إليكم وتعجز عن أهل بيته (1).
(635)
عقيل ومعاوية
قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: إن عليا قد قطعك وأنا وصلتك، ولا
يرضيني منك إلا أن تلعنه على المنبر، قال: أفعل. فصعد المنبر، ثم قال بعد أن
حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله: أيها الناس إن معاوية
ابن أبي سفيان قد أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب فالعنوه، فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين.
ثم نزل فقال له معاوية: إنك لم تبين من لعنت منهما، بينه. فقال: والله لا زدت
حرفا ولا نقصت حرفا، والكلام إلى نية المتكلم (2).
(636)
عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر مع معاوية
قال: قالوا: فاستخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتى قدم المدينة
سنة خمسين فتلقاه الناس، فلما استقر في منزله أرسل إلى عبد الله بن عباس،
وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير،
وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر، فلما جلسوا
تكلم معاوية:
فقال: الحمد لله الذي أمرنا بحمده، ووعدنا عليه ثوابه، نحمده كثيرا كما
أنعم علينا كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده
ورسوله. أما بعد: فإني قد كبر سني، ووهن عظمي، وقرب أجلي، وأوشكت

(1) الغدير: ج 10 / 261 عنه وعن الإصابة: ج 1 / 77.
(2) الغدير: ج 10 / 260، عن العقد الفريد: ج 2 / 144، والمستطرف: ج 1 / 54
442

أن أدعى فأجيب، وقد رأيت أن أستخلف عليكم بعدي يزيد، ورأيته لكم
رضى، وأنتم عبادلة قريش وخيارها و أبناء خيارها، ولم يمنعني أن أحضر حسنا
وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما على حسن رأيي فيهما وشديد محبتي لهما، فردوا على
أمير المؤمنين خيرا يرحمكم الله.
قال: فتكلم عبد الله بن عباس فقال: الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده
واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وصلى الله على محمد وآل محمد. أما
بعد: فإنك قد تكلمت فأنصتنا، وقلت فسمعنا، وأن الله جل ثناؤه وتقدست
أسماؤه اختار محمدا صلى الله عليه وآله لرسالته، واختاره لوحيه، وشرفه على
خلقه، فأشرف الناس من تشرف به، وأولاهم بالأمر وأخصهم به، وإنما على
الأمة التسليم لنبيها إذ اختاره الله لها فإنه إنما اختار محمدا بعلمه وهو العليم
الخبير، وأستغفر الله لي ولكم.
قال: فقام عبد الله بن جعفر فقال: الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه نحمده على
إلهامنا حمده، ونرغب إليه في تأدية حقه، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا لم
يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله أما بعد:
فإن هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في
كتاب الله، وإن أخذ فيها بسنة رسول الله فأولوا رسول الله، وإن أخذ فيها بسنة
الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل
الرسول؟ وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه، ولأطيع
الرحمان، وعصي الشيطان، وما اختلف في الأمة سيفان، فاتق الله يا معاوية،
فإنك قد صرت راعيا ونحن رعية، فانظر لرعيتك فإنك مسؤول عنها غدا وأما ما
ذكرت من ابني عمي، وتركك أن تحضرهما، فوالله ما أصبت الحق ولا يجوز لك
ذلك إلا بهما، وإنك لتعلم أنهما معدن العلم والكرم فقل أو دع، واستغفر الله لي
443

ولكم.
(ثم نقل كلام عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر فقال:)
فتكلم معاوية فقال: قد قلت وقلتم، وإنه ذهبت الآباء وبقيت الأبناء،
فابني أحب إلي من أبنائهم، مع أن ابني إن قاولتموه وجد مقالا، وإنما كان هذا
الأمر لبني عبد مناف، لأنهم أهل رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما مضى
رسول الله صلى الله عليه وآله ولي الناس أبو بكر وعمر من غير معدن الملك
ولا الخلافة غير أنهما سارا بسيرة جميلة، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف،
فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر
منها، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله (1).
(637)
ابن عباس ومعاوية
كتب معاوية إلى جمع في البيعة ليزيد وكتب إلى ابن عباس:
أما بعد فقد بلغني إبطاؤك عن البيعة ليزيد ابن - أمير المؤمنين - وإني لو
قتلتك بعثمان لكان ذلك إلي، لأنك ممن ألب عليه وأجلب، وما معك من
أمان فتطمئن به، ولا عهد فتسكن إليه، فإذا أتاك كتابي هذا فاخرج إلى
المسجد، والعن قتلة عثمان، وبايع عاملي، وقد أعذر من أنذر وأنت بنفسك
أبصر والسلام.
فكتب إليه ابن عباس:
أما بعد، فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت وأن ليس معي منك أمان
وأنه والله ما منك يطلب الأمان يا معاوية، وإنما يطلب الأمان من الله رب

(1) الخلفاء لابن قتيبة: ج 1 / 149 - 150، والغدير: ج 10 / 242 عنه، وعن جمهرة الخطب:
ج 2 / 233 - 236
444

العالمين. وأما قولك في قتلي فوالله لو فعلت للقيت الله ومحمدا صلى الله عليه
وآله خصمك، فما أخاله أفلح ولا أنجح من كان رسول الله خصمه. وأما ما
ذكرت من أني ممن ألب في عثمان وأجلب، فذلك أمر غبت عنه، ولو حضرته
ما نسبت إلي شيئا من التأليب عليه، وأيم الله ما أرى أحدا غضب لعثمان
غضبي ولا أعظم أحد قتله إعظامي، ولو شهدته لنصرته أو أموت دونه، ولقد
قلت وتمنيت يوم قتل عثمان: ليت الذي قتل عثمان لقاني فقتلني معه ولا
أبقى بعده. وأما قولك لي: العن قتلة عثمان، فلعثمان ولد وخاصة وقرابة هم
أحق بلعنهم مني، فإن شاءوا أن يلعنوا فليلعنوا، وإن شاءوا أن يمسكوا فليمسكوا،
والسلام (1).
(638)
عبد الله بن جعفر ومعاوية
وكتب إلى عبد الله بن جعفر: أما بعد، فقد عرفت إثرتي إياك على من
سواك وحسن رأي فيك وفي أهل بيتك، وقد أتاني عنك ما أكره، فإن بايعت
تشكر وإن تأب تجبر، والسلام.
فكتب إليه عبد الله بن جعفر:
أما بعد، فقد جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من إثرتك إيامي
على من سواي، فإن تفعل فبحظك أصبت، وإن تأب فبنفسك قصرت. وأما ما
ذكرت من جبرك إياي على البيعة ليزيد فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد
أجبرناك وأباك على الإسلام حتى أدخلناكما كارهين غير طائعين. والسلام (2).
* * *

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 154 - 155.
(2) الإمامة والسياسة: ج 1 / 154 - 155، والغدير: ج 10 / 241 عنه
445

(639)
الأحنف ومعاوية
لما اجتمع الوفود عند معاوية (حينما أراد البيعة ليزيد) فقال معاوية
للضحاك بن قيس الفهري لما اجتمع الوفود عنده: إني متكلم فإذا سكت
فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد وتحثني عليها. فلما جلس معاوية تكلم
فعظم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقها، وما أمر الله به من طاعة ولاة الأمر، ثم
ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة، وعرض ببيعته، فعارضه الضحاك فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: - إلى أن قال: - فقال معاوية للأحنف: ما تقول يا أبا بحر؟
فقال: نخافكم إن صدقنا، ونخاف الله إن كذبنا، وأنت أمير المؤمنين أعلم
بيزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله تعالى
وللأمة رضى فلا تشاور فيه، وأن كنت تعلم فيه غير ذلك فلا تزوده الدنيا وأنت
صائر إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا.
وقام رجل من أهل الشام فقال: ما ندري ما تقول هذه المعدية العراقية،
وإنما عندنا سمع وطاعة وضرب وازدلاف. فتفرق الناس يحكون قول الأحنف،
وكان معاوية يعطي المقارب، ويداري المباعد ويلطف به... (1)
(640)
المقدام بن معدي كرب ومعاوية
أخرج أبو داود من طريق خالد قال: وفد المقدام بن معدي كرب وعمرو

(1) الغدير: ج 1 / 237 عن العقد الفريد: ج 2 / 302 - 302 وفي نسخة أخرى: ج 4 / 370، والكامل لابن
الأثير: ج 3 / 214 - 216 وقد مر ص 187 بنحو آخر وفي الإمامة والسياسة: ج 1 / 148 هكذا: يا
أمير المؤمنين، أنت أعلمنا بليله ونهاره وبسره وعلانيته، فإن كنت تعلم أنه خير لك قوله فاستخلفه،
وإن كنت تعلم أنه شر لك فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، فإنه ليس لك من الآخرة إلا ما
طاب، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين، وأنت تعلم من هما وإلى
ما هما، وإنما علينا أن نقول: " سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير "
446

ابن الأسود ورجل من بني أسد من أهل قنسرين إلى معاوية بن أبي سفيان، فقال
معاوية للمقدام: أعلمت أن الحسن بن علي توفي، فرجع المقدام فقال له رجل:
أتراها مصيبة؟ (فقال له معاوية: أتراها مصيبة. مسند أحمد) فقال: ولم لا
أراها مصيبة، وقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وآله في حجره فقال: هذا
مني وحسين من علي. فقال الأسدي: جمرة أطفأها الله عز وجل.
قال: فقال المقدام: أما أنا فلا أبرح اليوم حتى أغيظك وأسمعك ما تكره
ثم قال: يا معاوية، إن أنا صدقت فصدقني، وإن أنا كذبت فكذبني قال:
أفعل. قال: فأنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى
عن لبس الحرير؟ قال: نعم. قال: فأنشدك بالله هل سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله ينهى عن لبس الذهب؟ قال: نعم. قال: فأنشدك بالله هل
تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن لبس جلود السباع والركوب
عليها؟ قال: نعم.
قال: فوالله لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية، فقال معاوية: قد
علمت أني لن أنجو منك يا مقدام (1).
(641)
رجل كوفي مع معاوية
إن رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم
عن صفين، فتعلق به رجل من دمشق، فقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين،
فارتفع أمرهما إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته
فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه. فقال الكوفي: أصلحك الله

(1) الغدير: ج 10 / 215، عن سنن أبي داود: ج 2 / 186 ومسند أحمد: ج 4 / 130 وأشار إليه قاموس
الرجال: ج 9 / 116
447

إنه جمل وليس بناقة. فقال معاوية: هذا حكم قد مضى. ودس إلى الكوفي بعد
تفرقهم، فأحضره وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه وبره وأحسن إليه،
وقال له: أبلغ عليا أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل (1).
(642)
عبادة بن الصامت مع معاوية
كان عبادة بن الصامت بالشام فرأى آنية من فضة، يباع الإناء بمثلي ما
فيه، أو نحو ذلك، فمشى إليهم عبادة فقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني،
ومن لم يعرفني فأنا عبادة بن الصامت، ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وآله في مجلس من مجالس الأنصار ليلة الخميس في رمضان ولم يصم
رمضان بعده يقول: " الذهب بالذهب، مثلا بمثل، سواء بسواء، وزنا بوزن، يدا
بيد، فما زاد فهو ربا والحنطة بالحنطة، قفيز بقفيز، يد بيد، فما زاد فهو ربا، والتمر
بالتمر، قفيز بقفيز، يد بيد، فما زاد فهو ربا ".
قال: فتفرق الناس عنه. فأتي معاوية فأخبر بذلك، فأرسل إلى عبادة، فأتاه،
فقال له معاوية: لئن كنت صحبت النبي صلى الله عليه وآله وسمعت منه
لقد صحبناه وسمعنا منه، فقال له عبادة: لقد صحبته وسمعت منه. فقال له
معاوية: فما هذا الحديث الذي تذكره؟ فأخبره به، فقال له معاوية: اسكت
عن هذا الحديث ولا تذكره، فقال له: بلى وإن رغم أنف معاوية، ثم قام فقال
له معاوية، ما نجد شيئا أبلغ فيما بيني وبين أصحاب محمد صلى الله عليه وآله
من الصفح عنهم.

(1) الغدير: ج 10 / 195 عن مروج الذهب: ج 2 / 72.
(2) الغدير: ج 10 / 185 عن ابن عساكر: ج 7 / 312، ومصادر جمة أخرى أوعز إليه في الإصابة:
ج 2 / 269، وأسد الغابة: ج 3 / 106
448

(643)
عبادة ومعاوية
لما استخلف (معاوية) قام على المنبر فخطب الناس فذكر أبا بكر وعمر
وعثمان ثم قال: وليت فأخذت حتى خالط لحمي ودمي، فهو خير مني، وأنا
خير ممن بعدي. يا أيها الناس، إنما أنا لكم جنة، فقام عبادة بن الصامت
فقال: أرأيت إن احترقت الجنة؟ قال: إذن تخلص إليك النار. قال: من ذلك
أفر، فأمر به فأخذ. فأضرط بمعاوية، ثم قال: علمت كيف كانت البيعتان حين
دعينا إليهما؟ دعينا على أن نبايع على أن لا نزني ولا نسرق ولا نخاف في الله لومة
لائم، فقلت: أما هذه فاعفني يا رسول الله، ومضيت أنا عليها، وبايعت رسول
الله صلى الله عليه وآله، ولأنت يا معاوية أصغر في عيني من أن أخاف في الله
عز وجل (1).
(644)
عبد الرحمان بن سهل مع معاوية
غزا عبد الرحمان بن سهل الأنصاري في زمن عثمان، ومعاوية أمير على
الشام، فمرت به روايا خمر - لمعاوية - فقام إليها برمحه فبقر كل راوية منها فناوشه
الغلمان حتى بلغ شأنه معاوية، فقال: دعوه فإنه شيخ قد ذهب عقله. فقال:
كلا والله ما ذهب عقلي ولكن رسول الله - صلى الله عليه وآله نهانا أن ندخل
بطوننا وأسقيتنا خمرا، وأحلف بالله لئن بقيت حتى أرى في معاوية ما سمعت من
رسول الله صلى الله عليه وآله لأبقرن بطنه أو لأموتن دونه (2).

(1) الغدير: ج 10 / 182 عن ابن عساكر: ج 7 / 213.
(2) الغدير: ج 10 / 181 عن الإصابة: ج 2 / 401، وتهذيب التهذيب ملخصا: ج 6 / 193، وأبو عمر مختصرا
في الاستيعاب: ج 2 / 401، وكذا أسد الغابة: ج 3 / 299، فقال أخرجه الثلاثة
449

(645)
عبادة ومعاوية
مر على عبادة بن الصامت وهو في الشام قطارة تحمل الخمر، فقال: ما هذه
أزيت؟ قيل، لا، بل خمر تباع لفلان، فأخذ شفرة من السوق فقام إليها فلم يذر
فيها راوية إلا بقرها، وأبو هريرة إذ ذاك بالشام، فأرسل فلان إلى أبي هريرة يقول
له: أما تمسك عنا أخاك عبادة؟ أما بالغدوات فيغدو إلى السوق فيفسد على
أهل الذمة متاجرهم، وأما بالعشي فيقعد في المسجد ليس له عمل إلا شتم
أعراضنا أو عيبنا، فأمسك عنا أخاك.
فأقبل أبو هريرة يمشي حتى دخل على عبادة فقال: يا عبادة، ما لك ولمعاوية
ذره وما حمل فإن الله يقول: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما
كسبتم ".
قال: يا أبا هريرة لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله،
بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر،
وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا في الله
لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا
وأزواجنا وأهلنا ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وآله التي
بايعناه عليها فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما بايع عليه رسول الله
صلى الله عليه وآله وفي الله له بما بايع عليه نبيه.
فلم يكلمه أبو هريرة بشئ (1).
* * *

(1) الغدير: ج 10 / 179 و 180 عن ابن عساكر: ج 7 / 211
450

(646)
عبادة ومعاوية
عن عمرو بن قيس قال: إن عبادة أتى حجرة معاوية وهو بأنطرطوس (1)
فألزم ظهره الحجرة وأقبل على الناس بوجهه وهو يقول: بايعت رسول الله صلى
الله عليه وآله أن لا أبالي في الله لومة لائم، ألا إن المقداد بن الأسود قد غل
بالأمس حمارا، وأقبلت أوسق من مال، فأشارت الناس إليها فقال:
أيها الناس إنها تحمل الخمر، والله ما يحل لصاحب هذه الحجرة أن
يعطيكم منها شيئا ولا يحل لكم أن تسألوه، وإن كانت مقبلة - يعني سهما - في
جنب أحدكم، فأتى رجل المقداد وفي يده قرصافة، فجعل يتل الحمار بها وهو
يقول: معاوية هذا حمارك شأنك به، حتى أورده الحجرة (2).
(647)
صعصعة ومعاوية
أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه ج 6 / 425 من طريق الشعبي قال:
خطب الناس معاوية فقال: لو أن أبا سفيان ولد الناس كلهم كانوا أكياسا.
فقام إليه صعصعة بن صوحان فقال له: قد ولد الناس كلهم من هو خير
من أبي سفيان - آدم عليه السلام - فمنهم الأحمق والكيس. فقال معاوية: إن
أرضنا قريبة من المحشر. فقال له: إن المحشر لا يبعد على مؤمن، ولا يقرب من
كافر.
فقال معاوية: إن أرضنا أرض مقدسة. فقال له صعصعة: إن الأرض
لا يقدسها شئ ولا ينجسها، إنما تقدسها الأعمال.

(1) بلدة من سواحل بحر الشام، هي آخر أعمال دمشق من البلاد الساحلية وأول أعمال حمص " معجم ".
(2) الغدير: ج 10 / 180 عن ابن عساكر: ج 7 / 213
451

فقال معاوية: عباد الله اتخذوا الله وليا واتخذوا خلفاءه جنة تحترزوا بها.
فقال صعصعة: كيف وكيف، وقد عطلت السنة، واخفرت الذمة، فصارت
عشواء مطلخمة، في دهياء مدلهمة، قد استوعبتها الأحداث، وتمكنت منها
الأنكاث؟
فقال له معاوية: يا صعصعة، لأن تقعي على ظلعك خير لك من استبراء
رأيك، وإبداء ضعفك، تعرض بالحسن بن علي علي، ولقد هممت أن أبعث
إليه.
فقال له صعصعة: أي والله وجدتهم أكرمهم جدودا، وأحياكم حدودا،
وأوفاكم عهودا، ولو بعثت إليه لوجدته في الرأي أريبا، وفي الأمر صليبا، وفي
الكرم نجيبا، يلذعك بحرارة لسانه، ويقرعك بما لا تستطيع إنكاره.
فقال له معاوية: والله لأجفينك عن الوساد، ولأشردن بك في البلاد.
فقال له صعصعة: والله إن في الأرض لسعة، وإن في فراقك لدعة. فقال
معاوية: والله لأحبسنك عطاءك.
قال: إن كان ذلك بيدك فافعل، إن العطاء وفضائل النعماء في ملكوت
من لا تنفد خزائنه، ولا يبيد عطاؤه، ولا يحيف في قضيته. فقال له معاوية: لقد
استقتلت.
فقال له صعصعة: مهلا، لم أقل جهلا، ولم أستحل قتلا، لا تقتل النفس
التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلوما كان الله لقاتله مقيما يرهقه أليما،
ويجرعه حميما، ويصليه جحيما (1).
(648)
أهل المدينة ومعاوية
لما كتب معاوية إلى أهل المدينة ومكة:

(1) الغدير: ج 10 / 173 - 174
452

أما بعد، فإنه مهما غاب عنا، فإنه لم يفت علينا أن عليا قتل عثمان،
والدليل على ذلك أن قتلته عنده، وإنما نطلب بدمه حتى يدفع إلينا قتلته
فنقتلهم بكتاب الله تعالى، فإن دفعهم إلينا كففنا عنه وجعلناها شورى بين
المسلمين، على ما جعلها عمر بن الخطاب. فأما الخلافة فلسنا نطلبها، فأعينونا
يرحمكم الله، وانهضوا من ناحيتكم.
قال: وذكروا أنه لما قرئ عليهم كتابه اجتمع رأيهم على أن يسندوا أمرهم
إلى المسور بن مخرمة، فجاوب عنهم فكتب إليه:
أما بعد: فإنك أخطأت خطأ عظيما وأخطأت مواضع النصرة، وتناولتها
من مكان بعيد، وما أنت والخلافة يا معاوية؟ وأنت طليق وأبوك من
الأحزاب؟ فكف عنا فليس لك قبلنا ولي ولا نصير (1).
(649)
حجر بن عدي مع زياد، معاوية، المغيرة
إن معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين، فلما
أمره عليها دعاه وقال له:
أما بعد: فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا. وقد قال المتلمس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا * وما علم الإنسان إلا ليعلما
وقد يجزى عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة فأنا
تاركها اعتمادا على بصرك بما يرضيني ويسعد سلطاني، ويصلح رعيتي، ولست
تارك إيصاءك بخصلة: لا تقهم عن شتم علي وذمه، والترحم على عثمان
والاستغفار له والعيب على أصحاب علي والإقصاء لهم، وترك الاستماع
منهم، وبإطراء شيعة عثمان - رضوان الله عليه - والإدناء لهم، والاستماع منهم.

(1) الإمامة والسياسة: ج 1 / 88، والغدير: ج 10 / 31
453

فقال المغيرة: قد جربت وجربت وعملت قبلك لغيرك، فلم يذمم بي رفع
ولا وضع، فستبلو فتحمد أو تذم.
ثم قال: بل نحمد إن شاء الله. فأقام المغيرة عاملا على الكوفة سبع سنين
وأشهرا وهو من أحسن شئ سيرة وأشده حبا للعافية، غير أنه لا يدع شتم علي
والوقوع فيه والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرحمة
والاستغفار له والتزكية لأصحابه.
فكان حجر بن عدي إذا سمع ذلك قال: بل إياكم فذم الله ولعن، ثم قام
وقال: إن الله عز وجل يقول: " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " وأنا أشهد أن
من تذمون وتعيرون لاحق بالفضل، وأن من تزكون وتطرون أولى بالذم.
فيقول له المغيرة: يا حجر، لقد رمي بسهمك إذ كنت أنا الوالي عليك يا
حجر، ويحك اتق السلطان، اتق غضبه وسطوته، فإن غضب السلطان أحيانا
مما يهلك أمثالك كثيرا. ثم يكف عنه ويصفح، فلم يزل حتى كان في آخر
إمارته قام المغيرة فقال في علي وعثمان كما كان يقول، وكانت مقالته: اللهم
ارحم عثمان بن عفان وتجاوز عنه واجزه بأحسن عمله، فإنه عمل بكتابك
واتبع سنة نبيك صلى الله عليه وآله، وجمع كلمتنا، وحقن دماءنا، وقتل
مظلوما، اللهم فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيه والطالبين بدمه، ونال من علي بن
أبي طالب - عليه السلام - ولعنه ولعن شيعته.
فوثب حجر فنعر نعرة أسمعت كل من كان في المسجد وخارجه وقال:
إنك لا تدري بمن تولع من هرمك أيها الإنسان، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنك
قد حبستها عنا ولم يكن ذلك لك، ولم يكن يطمع في ذلك من كان قبلك، وقد
أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين وتقريظ المجرمين.
فقام معه أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق والله حجر وبر، مر لنا
بأرزاقنا وأعطياتنا فإنا لا ننتفع بقولك هذا، ولا يجدي علينا شيئا. وأكثروا في
454

مثل هذا القول.
فنزل المغيرة فدخل القصر فاستأذن عليه قومه فأذن لهم، فقالوا: علام تترك
هذا الرجل يقول هذه المقالة ويجترئ عليك في سلطانك هذه الجرأة، فيوهن
سلطانك، ويسخط عليك أمير المؤمنين معاوية؟ وكان أشدهم له قولا في أمر
حجر والتعظيم عليه عبد الله بن أبي عقيل الثقفي، فقال لهم المغيرة: إني قد قتلته
إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه يصنع بي، فيأخذه
عند أول وهلة فيقتله شر قتلة، إنه قد اقترب أجلي وضعف عملي، ولا أحب أن
ابتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم وسفك دماءهم، فيسعدوا بذلك وأشقى،
ويعز في الدنيا معاوية، ويذل يوم القيامة المغيرة.
ثم هلك المغيرة سنة 51. فجمعت الكوفة والبصرة لزياد - ابن سمية - فأقبل
زياد حتى دخل القصر بالكوفة، ووجه إلى حجر فجاءه وكان له قبل ذلك
صديقا، فقال له: قد بلغني ما كنت تفعله بالمغيرة فيحتمله منك، وإني والله لا
أحتملك على مثل ذلك أبدا، أرأيت ما كنت تعرفني به من حب علي ووده
فإن الله قد سلخه من صدري فصيره بغضا وعداوة، وما كنت تعرفني به من
بغض معاوية وعداوته فإن الله قد سلخه من صدري وحوله حبا ومودة، وإني
أخوك الذي تعهد، إذا أتيتني وأنا جالس للناس فاجلس معي على مجلسي،
وإذا أتيت ولم أجلس للناس فاجلس حتى أخرج إليك، ولك عندي في كل
يوم حاجتان: حاجة غدوة، وحاجة عشية، إنك إن تستقم تسلم لك دنياك
ودينك، وإن تأخذ يمينا وشمالا تهلك نفسك، وتشط عندي دمك، إني لا
أحب التنكيل قبل التقدمة، ولا آخذ بغير حجة، اللهم اشهد.
فقال حجر: لن يرى الأمير مني إلا ما يحب، وقد نصح وأنا قابل نصيحته.
ثم خرج من عنده.
ولما ولي زياد جمع أهل الكوفة فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر
455

ليعرضهم على البراءة من علي، فقام في الناس وخطبهم ثم ترحم على عثمان
وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه.
فقام حجر ففعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة، وكان زياد يقيم ستة أشهر
في الكوفة وستة أشهر في البصرة، فرجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة
عمرو بن حريث، فبلغه أن حجرا يجتمع إليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية
والبراءة منه، وأنهم حصبوا عمرو بن حريث، فشخص إلى الكوفة حتى دخلها
فأتى القصر فدخله، ثم خرج فصعد المنبر وعليه قباء سندس ومطرف خز أخضر،
قد فرق شعره، وحجر جالس في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا، فصعد المنبر
وخطب وحذر الناس وقال:
أما بعد فإن غب البغي والغي وخيم، إن هؤلاء جموا فأشروا، وأمنوني
فاجترؤوا على الله، لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم ولست بشئ إن لم
أمنع باحة الكوفة من حجر، وأدعه نكالا لمن بعده، ويل أمك يا حجر سقط
العشاء بك على سرحان.
ثم قال لشداد بن الهيثم الهلالي أمير الشرط: اذهب فأتني بحجر فذهب إليه
فدعاه، فقال أصحابه: لا يأتيه ولا كرامة، فسبوا الشرط، فرجعوا إلى زياد
فأخبروه، فقال: يا أشراف أهل الكوفة أتشجعون بيد وتأسون بأخرى، أبدانكم
عندي وأهواؤكم مع هذه الهجاجة المذبوب (ابن عساكر: ج 1 / 42)، وفي
الكامل: أبدانكم معي، وقلوبكم مع حجر الأحمق والله، ليظهرن لي برأتكم،
أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم.
فقالوا: معاذ الله، أن يكون لنا رأي إلا طاعتك وما فيه رضاك، قال:
فليقم كل رجل منكم فليدع من عند حجر من عشيرته وأهله. ففعلوا وأقاموا
أكثر أصحابه عنه، وقال زياد لصاحب شرطته: انطلق إلى حجر، فإن تبعك
فائتني به وإلا فشدوا عليهم بالسيوف، حتى تأتوني به. فأتاه صاحب الشرطة
456

يدعوه، فمنعه أصحابه من إجابته، فحمل عليهم، فقال أبو عمرطة الكندي لحجر:
إنه ليس معك رجل معه سيف غيري، فما يغني سيفي، فالحق بأهلك يمنعك
قومك، فقال: وزياد ينظر إليهم وهو على المنبر، وغشيهم أصحاب زياد، فضرب
رجل من الحمراء يقال له: بكر بن عبيد رأس عمرو بن الحمق بعمود، فوقع
وحمله رجلان من الأزد وأتيا به دار رجل يقال له: عبيد الله بن موعد الأزدي...
فخرج حجر فأتى الأزد فاختفى عند ربيعة بن ناجذ...
فمكث حجر بن عدي في بيت ربيعة يوما وليلة، فأرسل إلى محمد بن
الأشعث يقول له: ليأخذ له من زياد أمانا حتى يبعث به إلى معاوية، فجمع
محمد جماعة منهم جرير بن عبد الله، وحجر بن يزيد، وعبد الله بن الحارث أخو
الأشتر، فدخلوا على زياد فاستأمنوا له على أن يرسله إلى معاوية فأجابهم
فأرسلوا إلى حجر بن عدي فحضر عند زياد، فلما رآه قال: مرحبا بك
أبا عبد الرحمان، حرب في أيام الحرب، وحرب وقد سالم الناس. على أهلها تجني
براقش.
فقال حجر: ما خلعت طاعة ولا فارقت جماعة وإني لعلى بيعتي.
فقال: هيهات هيهات يا حجر، أتشج بيد وتأسو بأخرى؟ وتريد إذا أمكننا
الله منك أن نرضى؟ كلا والله لأحرصن على قطع خيط رقبتك.
فقال: ألم تؤمنني حتى آتي معاوية فيرى في رأيه.
قال: بلى، انطلقوا به إلى السجن، فلما مضى به قال: أما والله لولا أمانه ما
برح حتى يلقط عصبه، فاخرج وعليه برنس في غداة باردة، فحبس عشر ليال
وزياد ما له غير الطلب لرؤوس أصحاب حجر.
كان أصحاب حجر عدة منهم عمرو بن الحمق الصحابي العظيم خرج إلى
المدائن، ثم إلى الموصل فأخذه العامل وقتله وبعث برأسه إلى معاوية. ومنهم
صيفي بن فسيل مر كلامه مع زياد حين أخذ ص 315، ومنهم قبيصة بن
457

ضبيعة، ومنهم عبد الله بن خليفة هرب من الكوفة ومات في الجبلين، ومنهم
شريك بن شداد، ومحرز بن شهاب المنقري، ومنهم كدام بن حيان العنزي،
ومنهم عبد الرحمان بن حسان العنزي وقد مر كلامه مع معاوية ص 325، ومنهم
كريم بن عفيف وقد مر كلامه مع معاوية ص 333، ومنهم عبد الله بن حوية
التميمي، ومنهم عاصم بن عوف البجلي، ومنهم رقاء بن سمي البجلي، ومنهم
أرقم بن عبد الله الكندي، ومنهم عتبة بن الأخنس السعدي، ومنهم سعد بن
نمران الهمداني أخذوا مع حجر من هنا وهناك (1).
جمع زياد من أصحاب حجر بن عدي اثني عشر رجلا في السجن، ثم دعا
رؤساء الأرباع، وهم: عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد بن
عرفطة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة، وأبو بردة
ابن أبي موسى على ربع مذحج وأسد، فشهد هؤلاء أن حجرا جمع إليه الجموع
وأظهر شتم الخليفة، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح
إلا في آل أبي طالب، وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه
وأهل حربه، وأن هؤلاء الذين معه هم رؤوس أصحابه وعلى مثل رأيه.
ونظر زياد في شهادة الشهود وقال: ما أظن هذه شهادة قاطعة، وأحب أن
يكون الشهود أكثر من أربعة، فدعا الناس ليشهدوا عليه وقال زياد: على مثل
هذه الشهادة فاشهدوا، أما والله، لأجهدن على قطع خيط عنق الخائن الأحمق.
دفع زياد حجر بن عدي وأصحابه إلى وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن
شهاب وأمرهما أن يسيرا بهم إلى الشام، فخرجوا عشية، وسار معهم صاحب
الشرطة حتى أخرجهم من الكوفة، فلما انتهوا إلى جبانة عرزم نظر قبيصة بن
ضبيعة العبسي إلى داره وهي في جبانة عرزم فإذا بناته مشرفات، فقال لوائل

(1) نقل أحوالهم في الغدير مفصلا، فراجع
458

وكثير: إئذنا لي فأوصي أهلي، فأذنا له، فلما دنا منهن وهن يبكين سكت عنهن
ساعة ثم قال: اسكتن، فسكتن، فقال: اتقين الله عز وجل واصبرن فإني أرجو
من ربي في وجهي هذا إحدى الحسنيين: إما الشهادة وهي السعادة، وإما
الانصراف إليكن في عافية، وإن الذي يرزقكن ويكفيني مؤونتكن هو الله تعالى
وهو حي لا يموت، أرجو أن لا يضيعكن وأن يحفظني فيكن. ثم انصرف فمر بقومه
فجعل القوم يدعون الله له بالعافية.
فساروا حتى انتهوا بهم إلى مرج عذراء عند دمشق وهم اثنا عشر رجلا:
حجر بن عدي، والأرقم بن عبد الله، وشريك بن عبد الله، وقبيصة بن ضبيعة،
وكريم بن عفيف، وعاصم بن عوف، وورقاء بن سمي، وكدام بن حيان،
وعبد الرحمان بن حسان، ومحرز بن شهاب، وعبد الله بن حوية.
فحبسوا بمرج عذراء، فبعث معاوية إلى وائل بن حجر وكثير بن شهاب
فأدخلهما وأخذ كتابهما فقرأه على أهل الشام، فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين من زياد
ابن أبي سفيان أما بعد، فإن الله قد أحسن عند أمير المؤمنين البلاء، فأداله من
عدوه، وكفاه مؤونة من بغى عليه، إن طواغيت الترابية الصبائية رأسهم حجر بن
عدي خالفوا أمير المؤمنين، وفارقوا جماعة المسلمين، ونصبوا لنا الحرب، فأظهرنا
الله عليهم وأمكننا منهم، وقد دعوت خيار أهل المصر وأشرافهم وذوي النهى
والدين فشهدوا عليهم بما رأوا وعلموا، وقد بعثت بهم إلى أمير المؤمنين، وكتبت
شهادة صلحاء أهل المصر وخيارهم في أسفل كتابي هذا.
فلما قرأ معاوية الكتاب وشهادة الشهود عليهم قال: ماذا ترون في هؤلاء
النفر الذين شهد عليهم قومهم بما تسمعون؟ فقال له يزيد بن أسد البجلي: أرى
أن تفرقهم في قرى الشام فيكفيكهم طواغيتها، وكتب معاوية إلى زياد أما بعد،
فقد فهمت ما اقتصصت به من أمر حجر وأصحابه وشهادة من قبلك عليهم،
459

فنظرت في ذلك، فأحيانا أرى قتلهم أفضل من تركهم، وأحيانا أرى العفو
عنهم أفضل من قتلهم، والسلام.
فكتب إليه زياد مع يزيد بن حجية التميمي: أما بعد، فقد قرأت كتابك
وفهمت رأيك في حجر وأصحابه، فعجبت لاشتباه الأمر عليك فيهم، وقد شهد
عليهم بما قد سمعت من هو أعلم بهم، فإن كانت لك حاجة في هذا المصر
فلا تردن حجرا وأصحابه إلي.
فأقبل يزيد بن حجية حتى مر بهم بعذراء فقال: يا هؤلاء، أما والله ما
أرى برأتكم، ولقد جئت بكتاب فيه الذبح فمروني بما أحببتم مما ترون أنه لكم
نافع أعمل به لكم وأنطق به.
فقال حجر: أبلغ معاوية: أنا على بيعتنا لا نستقيلها ولا نقيلها، وإنما شهد
علينا الأعداء والأظناء.
فقدم يزيد بالكتاب إلى معاوية وأخبره بقول حجر، فقال معاوية: زياد
أصدق عندنا من حجر. فقال عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، ويقال: عثمان
بن عمير الثقفي: جذاذها جذاذها. فقال له معاوية: لا تعن أبرا. فخرج أهل
الشام ولا يدرون ما قال معاوية وعبد الرحمان، فأتوا النعمان بن بشير فقالوا له
مقالة ابن أم الحكم، فقال النعمان: قتل القوم.
أقبل عامر بن الأسود العجلي وهو بعذراء يريد معاوية ليعلمه بالرجلين
اللذين بعث بهما زياد، ولحقا بحجر و أصحابه، فلما ولى ليمضي، قام إليه حجر
ابن عدي يرسف في القيود فقال: يا عامر، اسمع مني، أبلغ معاوية: إن دماءنا
عليه حرام. وأخبره أنا قد أومنا وصالحناه فليتق الله ولينظر في أمرنا. فقال له
نحوا من هذا الكلام، فأعاد عليه حجر مرارا.
فدخل عامر على معاوية فأخبره بأمر الرجلين، فقام يزيد بن أسد البجلي
فاستوهب الرجلين، وكان جرير بن عبد الله كتب في أمر الرجلين: أنهما من
460

قومي، من أهل الجماعة والرأي الحسن، سعى بهما ساع ظنين إلى زياد وهما ممن
لا يحدث حدثا في الإسلام، ولا بغيا على الخليفة، فلينفعهما ذلك عند أمير المؤمنين
فوهبهما له وليزيد بن أسد.
وطلب وائل بن حجر في الأرقم الكندي فتركه.
وطلب أبو الأعور في عتبة بن الأخنس فوهبه له.
وطلب حمزة بن مالك الهمداني في سعيد بن نمران فوهبه له.
وطلب حبيب بن مسلمة في عبد الله بن حوية التميمي فخلى سبيله.
فقام مالك بن هبيرة فسأله في حجر فلم يشفعه، فغضب وجلس في بيته،
فبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي من بني سلامان بن سعد، والتحصين
ابن عبد الله الكلابي، وأبا شريف البدي - في الأغاني: أبا حريف البدري -
فأتوهم عند المساء، فقال الخثعمي حين رأى الأعور مقبلا: يقتل نصفنا وينجو
نصفنا. فقال سعيد بن نمران: اللهم اجلعني ممن ينجو وأنت عني راض. فقال
عبد الرحمان بن حسان العنزي: اللهم اجعلني ممن تكرم بهوانهم، وأنت عني
راض، فطالما عرضت نفسي للقتل، فأبى الله إلا ما أراد.
فجاء رسول معاوية إليهم بتخلية ستة وبقتل ثمانية، فقال لهم رسل
معاوية: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له، فإن فعلتم
هذا تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، وإن أمير المؤمنين يزعم أن دماءكم قد حلت
له بشهادة أهل مصركم عليكم، غير أنه قد عفا عن ذلك، فابرأوا من هذا الرجل
نخل سبيلكم.
قالوا: لسنا فاعلين، فأمروا بقيودهم فحلت، وبقبورهم فحفرت، وأدنيت
أكفانهم، فقاموا الليل كله يصلون، فلما أصبحوا قال أصحاب معاوية: يا
هؤلاء قد رأيناكم البارحة أطلتم الصلاة، وأحسنتم الدعاء، فأخبرونا ما قولكم
في عثمان؟ قالوا: هو أول من جار في الحكم، وعمل بغير الحق. فقال أصحاب
461

معاوية: أمير المؤمنين كان أعلم بكم، ثم قاموا إليهم وقالوا: تبرأون من هذا
الرجل؟ قالوا: بل نتولاه، فأخذ كل رجل منهم رجلا ليقتله، فوقع قبيصة بن
ضبيعة في يدي أبي الشريف البدي، فقال له قبيصة: إن الشر بين قومي وقومك
أمن - أي آمن - فليقتلني غيرك. فقال له: برتك رحم، فأخذ الحضرمي فقتله،
وقتل القضاعي صاحبه.
قال لهم حجر: دعوني أصلي ركعتين، فأيم الله ما توضأت قط إلا صليت
ركعتين. فقالوا له: صل، فصلى، ثم انصرف، فقال: والله ما صليت صلاة قط
أقصر منها، ولولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لأحببت أن أستكثر منها، ثم
قال: اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل الكوفة شهدوا علينا. وإن أهل
الشام يقتلوننا، أما والله لئن قتلتموني بها، إني لأول فارس من المسلمين سلك
في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها. فمشى إليه هدبة الأعور
بالسيف فأرعدت فصائله، فقال: كلا زعمت أنك لا تجزع من الموت فأنا
أدعك فابرأ من صاحبك. فقال: ما لي لا أجزع، وأنا أرى قبرا محفورا، وكفنا
منشورا، وسيفا مشهورا؟ وإني والله إن جزعت لا أقول ما يسخط الرب، فقيل
له: مد عنقك. فقال: إن ذلك لدم ما كنت لأعين عليه. فقدم فضربت عنقه،
وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حتى قتلوا ستة.
قال عبد الرحمان بن حسان العنزي، وكريم بن عفيف الخثعمي: ابعثوا بنا
إلى أمير المؤمنين، فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته، فبعثوا إلى معاوية
فأخبروه، فبعث: ائتوني بهما، فالتفتا إلى حجر فقال له العنزي: لا تبعد يا حجر،
ولا يبعد مثواك، فنعم أخو الإسلام كنت. وقال الخثعمي نحو ذلك، ثم مضى
بهما فالتفت العنزي، فقال متمثلا:
كفى بشفاة القبر بعدا لهالك * وبالموت قطاعا لحبل القرائن
فلما دخل عليه الخثعمي قال له: الله الله يا معاوية، إنك منقول من هذه
462

الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ومسؤول عما أردت بقتلنا وفيم سفكت
دماءنا. فقال معاوية: ما تقول في علي؟ قال أقول فيه قولك، أتتبرأ من دين
علي الذي كان يدين الله به؟ فسكت، وكره معاوية أن يجيبه. فقام شمر بن
عبد الله الخثعمي، فاستوهبه، فقال: هو لك غير أني حابسه شهرا، فحبسه، فكان
يرسل إليه بين كل يومين فيكلمه، ثم أطلقه على أن لا يدخل الكوفة ما دام له
سلطان. فنزل الموصل فكان يقول: لو قد مات معاوية قدمت المصر، فمات قبيل
معاوية بشهر.
ثم أقبل على عبد الرحمان بن حسان فقال له: إيه يا أخا ربيعة ما قولك في
علي؟ قال: دعني ولا تسألني فإنه خير لك. قال: والله لا أدعك حتى تخبرني
عنه، قال: أشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيرا، ومن الآمرين بالمعروف
والناهين عن المنكر (1) والعافين عن الناس. قال: فما قولك في عثمان؟ قال:
هو أول من فتح باب الظلم وارتج أبواب الحق. قال: قتلت نفسك، قال: بل
إياك قتلت لا ربيعة بالوادي - يعني أنه ليس ثم أحد من قومه فيتكلم فيه -
فبعث به معاوية إلى زياد وكتب إليه: أما بعد، فإن هذا العنزي شر من بعثت
به فعاقبه بالعقوبة التي هو أهلها، واقتله شر قتلة، فلما قدم به على زياد بعث به
إلى قس الناطف (2) فدفن به حيا (3).
(650)
صعصعة ومعاوية
قال معاوية لصعصعة بن صوحان: إنما أنت هاتف بلسانك لا تنظر في أود

(1) في الأغاني: من الآمرين بالحق، والقائمين بالقسط.
(2) موضع قرب الكوفة على شاطئ الفرات الشرقي.
(3) الغدير: ج 11 / 37 - 53، عن الأغاني: ج 16 / 2 - 11، وتاريخ الطبري: ج 6 / 141، ومستدرك
الحاكم: ج 3 / 468، وتاريخ ابن عساكر: ج 4 / 84 و ج 6 / 459، والكامل لابن الأثير: ج 3 / 202
وتاريخ ابن كثير: ج 8 / 49، واختصرنا نحن المواضع منه
463

الكلام ولا استقامته، فإن كنت تنظر في ذلك، فأخبرني عن أفضل المال.
فقال: والله يا أمير المؤمنين، إني لأدع الكلام حتى يختمر في صدري فما
أرهف به، ولا أتلهق فيه، حتى أقيم أوده، واحرر متنه، وإن أفضل المال لبرة
سمراء في تربة غبراء، أو نعجة صفراء في روضة خضراء، أو عين خرارة في
أرض خوارة.
قال معاوية: لله أنت، فأين الذهب والفضة؟
قال: حجران يصطكان، إن أقبلت عليهما نفدا، وإن تركتهما لم يزيدا (1).
(651)
جامع المحاربي والحجاج
العتبي قال: دخل جامع المحاربي على الحجاج - وكان جامع شيخا صالحا
خطيبا لبيبا جريئا على السلطان، وهو الذي قال للحجاج إذ بنى مدينة واسط:
بنيتها في غير بلدك، وتورثها غير ولدك - فجعل الحجاج يشكو سوء طاعة أهل
العراق وقبح مذهبهم، فقال له جامع: أما إنه لو أحبوك لأطاعوك على أنهم ما
شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك، فدع عنك ما يبعدهم منك إلى ما
يقربهم إليك، والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد
وعيدك، ووعيدك بعد وعدك.
قال الحجاج: ما أرى أن أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف، قال: أيها
الأمير، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار.
قال الحجاج: الخيار يومئذ لله. قال: أجل، ولكنك لا تدري لمن يجعله
الله، فغضب وقال: يا هناة إنك من محارب.
فقال جامع:

(1) العقد الفريد: ج 3 / 32
464

وللحرب سمينا وكنا محاربا * إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا
فقال الحجاج: والله، لقد هممت بأن أخلع لسانك فأضرب به وجهك، قال
جامع: إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله فغضب الأمير
أهون علينا من غضب الله.
قال: أجل وسكن. وشغل الحجاج ببعض الأمر، فانسل جامع فمر بين
الصفوف من أهل الشام حتى جاوزها إلى صفوف العراق... (1).
(652)
قيس بن عباد وعبيد الله بن زياد
قال عبيد الله بن زياد لقيس بن عباد: ما تقول في وفي الحسين؟ قال:
اعفني عافاك الله.
قال: لا بد أن تقول. قال: يجئ أبوه يوم القيامة فيشفع له، ويجئ أبوك
فيشفع لك.
قال: قد علمت غشك وخبثك، لئن فارقتني يوما لأضعن أكثرك شعرا
بالأرض (2).
(653)
شريك والمهدي
كان بين شريك القاضي والربيع حاجب المهدي معارضة، فكان الربيع
يحمل عليه المهدي، فلا يلتفت إليه حتى رأى المهدي في منامه شريكا القاضي
مصروفا وجهه عنه، فلما استيقظ من نومه دعا الربيع وقص عليه رؤياه، فقال:
يا أمير المؤمنين إن شريكا مخالف لك، وأنه فاطمي محض. قال المهدي: علي

(1) العقد الفريد: ج 3 / 179 - 180.
(2) العقد الفريد: ج 3 / 175
465

به، فلما دخل عليه قال له: يا شريك بلغني أنك فاطمي.
قال له شريك: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، أن تكون غير فاطمي إلا أن
تعني فاطمة بنت كسرى. قال: ولكني أعني فاطمة بنت محمد صلى الله عليه
وآله.
قال: أفتلعنها يا أمير المؤمنين؟ قال: معاذ الله.
قال: فما تقول فيمن يلعنها؟ قال: عليه لعنة الله.
قال: فالعن هذا - يعني الربيع - فإنه يلعنها، فعليه لعنة الله. قال الربيع: لا
والله يا أمير المؤمنين، ما ألعنها. قال له شريك: يا ماجن فما ذكرك لسيدة نساء
العالمين وابنة سيد المرسلين في مجالس الرجال؟
قال المهدي: دعني من هذا، فإني رأيتك في منامي كأن وجهك مصروف
عني وقفاك إلي، وما ذلك إلا بخلافك علي، ورأيت في منامي كأني أقتل
زنديقا.
قال شريك: إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا يوسف الصديق
- صلوات الله على محمد وعليه - وأن الدماء لا تستحل بالأحلام، وأن علامة
الزندقة بينة. قال: وما هي؟ قال: شرب الخمر، والرشا في الحكم، ومهر
البغي.
قال: صدقت والله أبا عبد الله، أنت والله خير من الذي حملني عليك (1).
(654)
مسلم بن الوليد وهارون الرشيد
كان هارون الرشيد يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم، وكان مسلم بن الوليد
صريع الغواني قد رمي عنده - يعني هارون - بالتشيع، فأمر بطلبه فهرب منه، ثم

(1) العقد الفريد: ج 2 / 178 - 179
466

أمر بطلب أنس بن أبي شيخ - كاتب البرامكة - فهرب منه، ثم وجد هو و مسلم
ابن الوليد عند قينة ببغداد، فلما أوتي بهما، قيل له: يا أمير المؤمنين، قد أوتي
بالرجلين، قال: أي الرجلين؟ قال: أنس بن أبي شيخ ومسلم بن الوليد. فقال
الحمد لله الذي أظفرني بهما، يا غلام أحضرهما، فلما دخلا عليه نظر إلى مسلم
وقد تغير لونه، فرق له وقال: إيه يا مسلم أنت القائل:
أنس الهوى ببني علي في الحشا * وأراه يطمح عن بني عباس
قال: بل أنا الذي أقول يا أمير المؤمنين:
أنس الهوى ببني العمومة في الحشا * مستوحشا من سائر الايناس
وإذا تكاملت الفضائل كنتم * أولى بذلك يا بني العباس
قال: فعجب هارون من سرعة بديهته، وقال بعض جلسائه: استبقه يا
أمير المؤمنين، فإنه من أشعر الناس، وامتحنه فسترى منه عجبا... (1).
(655)
الكميت الأسدي وهشام
كان الكميت بن زيد يمدح بني هاشم، ويعرض ببني أمية، فطلبه هشام
فهرب منه عشرين سنة لا يستقر به القرار من خوف هشام، وكان مسلمة بن
عبد الملك له على هشام حاجة في كل يوم يقضيها له ولا يرده فيها، فلما خرج
مسلمة بن عبد الملك يوما إلى بعض صيوده، أتى الناس يسلمون عليه، وأتاه
الكميت بن زيد فيمن أتى، فقال:
السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
قف بالديار وقوف زائر * وتأن أنك غير صاغر
حتى انتهى إلى قوله:

(1) العقد الفريد: ج 2 / 180 - 181، وقاموس الرجال: ج 9 / 487. ونقل القاموس عن الخطيب في تاريخ
بغداد أن الرشد هو الذي سماه صريع الغواني
467

يا مسلم بن أبي الوليد * لميت إن شئت ناشر
علقت حبالي من حبا * لك ذمة الجار المجاور
فالآن صرت إلى أمية * والأمور إلى المصائر
والآن كنت به المصيب * كمهتد بالأمس حائر
فقال مسلمة: سبحان الله من هذا الهندكي الجلحاب (1)، الذي أقبل من
أخريات الناس، فبدأ بالسلام، ثم أما بعد، ثم الشعر؟ قيل له: هذا الكميت
ابن زيد، فأعجب به لفصاحته وبلاغته، فسأله مسلمة عن خبره وما كان فيه
طول غيبته، فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه، فضمن له مسلمة أمانه وتوجه به
حتى أدخله على هشام، وهشام لا يعرفه.
فقال الكميت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الحمد لله
قال هشام: نعم الحمد لله يا هذا.
قال الكميت: مبتدئ الحمد ومبتدعه، والذي خص بالحمد نفسه، وأمر به
ملائكته، وجعله فاتحة كتابه، ومنتهى شكره، وكلام أهل جنته، أحمده حمد من
علم يقينا، وأبصر مستبينا، وأشهد له بما شهد به لنفسه، قائما بالقسط وحده
لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده العربي ورسوله الأمي، أرسله والناس في
هبوات حيرة، ومدلهمات ظلمة، عند استمرار أبهة الضلال، فبلغ عن الله ما
أمر به، ونصح لأمته، وجاهد في سبيله، وعبد ربه حتى أتاه اليقين صلى الله
عليه وآله.
ثم إني يا أمير المؤمنين، تهت في حيرة، وحرت في سكرة إدلام بي خطرها،
وأهاب بي داعيها، وأجابني غاويها، فاقطوطيت إلى الضلالة، وتسكعت في

(1) الهنادك بالكاف في آخره رجال الهند يقال: رجل هندي وهندكي. الجلحاب بالكسر الجلحابة بهاء:
هو الشيخ الكبير (راجع تاج العروس وأقرب الموارد). في " هند " و " جلب "
468

الظلمة والجهالة، حائدا عن الحق، قائلا بغير صدق، فهذا مقام العائذ، ومنطق
التائب، ومبصر الهدى بعد طول العمى، ثم يا أمير المؤمنين، كم من عاثر أقلتم
عثرته؟ ومجترم عفوتم عن جرمه؟
فقال له هشام - وأيقن أنه الكميت -: ويحك من سن لك الغواية وأهاب
بك في العماية؟
قال: الذي أخرج أبي آدم من الجنة فنسي ولم يجد له عزما، وأمير المؤمنين
كريح رحمة أثارت سحابا متفرقا، فلفقت بعضه إلى بعض حتى التحم
فاستحكم وهدر رعده وتلألأ برقه، فنزل الأرض فرويت وأخضلت واخضرت
وأسقيت، فروي ظمآنها، وامتلأ عطشانها، فكذلك نعدك أنت يا أمير المؤمنين
أضاء الله بك الظلمة الداجية بعد الغموس فيها، وحقن بك دماء قوم أشعر
خوفك قلوبهم، فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك، وقد علموا أنك
الحرب وابن الحرب إذا احمرت الحدق، وعضت المغافر بالهام، عز بأسك،
واستربط جأشك مسعار هتاف وكاف، بصير بالأعداء، مغري الخيل بالنكراء،
مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب، برأي أريب وحلم مصيب، فأطال
لأمير المؤمنين البقاء، وتمم عليه النعماء، ودفع به الأعداء.
فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة (1).
(656)
الفرزدق وسليمان بن عبد الملك
دخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك، فقال له: من أنت؟ وتجهم له
كأنه لا يعرفه.
فقال له الفرزدق: وما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا.

(1) العقد الفريد: ج 3 / 183 - 185
469

قال: أنا من قوم منهم أوفى العرب، وأسود العرب، وأجود العرب وأحلم
العرب، وأفرس العرب، وأشعر العرب.
قال: والله لتبينن ما قلت، أو لأوجعن ظهرك ولأهدمن دارك.
قال: نعم يا أمير المؤمنين، أما أوفى العرب: فحاجب بن زرارة الذي رهن
قوسه عن جميع العرب فوفى بها، وأما أسود العرب: فقيس بن عاصم الذي وفد
على رسول الله صلى الله عليه وآله فبسط له رداءه، وقال: هذا سيد الوبر.
وأما أحلم العرب: فعتاب بن ورقاء الرياحي، وأما أفرس العرب: فالحريش
ابن هلال السعدي، وأما أشعر العرب فأنا ذا بين يديك يا أمير المؤمنين.
فاغتم سليمان مما سمع من فخره ولم ينكره، وقال: ارجع على عقبيك
فما لك عندنا شئ من خير، فرجع الفرزدق وقال:
أتيناك لا من حاجة عرضت لنا * إليك ولا من قلة في مجاشع (1)
(657)
عبد الله بن عباس ومعاوية
كتب قيصر إلى معاوية: أخبرني عما لا قبلة له، وعمن لا أب له، وعمن
لا عشيرة له، وعمن سار به قبره، وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم، وعن شئ
ونصف شئ ولا شئ، وابعث إلي في هذه القارورة ببزر كل شئ.
فبعث معاوية بالكتاب والقارورة إلى ابن عباس، فقال [ابن عباس]: أما
ما لا قبلة له: فالكعبة، وأما من لا أب له: فعيسى، وأما من لا عشيرة له،
فآدم، وأما من سار به قبره: فيونس، وأما ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم: فكبش
إبراهيم، وناقة ثمود، وحية موسى، وأما شئ: فالرجل له عقل يعمل بعقله،
وأما نصف شئ: فالرجل ليس له عقل ويعمل برأي ذوي العقول، وأما

(1) العقد الفريد: ج 3 / 193
470

لا شئ: فالذي ليس له عقل يعمل به، ولا يستعين بعقل غيره. وملأ القارورة
ماء وقال: هذا بزر كل شئ.
فبعث به إلى معاوية، فبعث به معاوية إلى قيصر، فلما وصل إليه الكتاب
والقارورة، قال: ما خرج هذا إلا من أهل بيت النبوة (1).
(658)
عبد الله بن الحسن وعبد الملك
كتب ملك الروم إلى عبد الملك بن مروان: أكلت لحم الجمل الذي هرب
عليه أبوك من المدينة، لأغزينك جنودا مائة ألف ومائة ألف.
فكتب عبد الملك إلى الحجاج: أن يبعث إلى عبد الله بن الحسن ويتوعده
ويكتب إليه بما يقول، ففعل.
فقال [عبد الله بن الحسن]: إن لله (2) عز وجل لوحا محفوظا يلحظه كل يوم
ثلاثمائة لحظة، ليس منها لحظة إلا يحيي [فيها] ويميت ويعز ويذل، ويفعل ما
يشاء، وإني لأرجو أن يكفنيك منها بلحظة واحدة.
فكتب به الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، وكتب به عبد الملك إلى ملك
الروم، فلما قرأه قال: ما خرج هذا إلا من كلام النبوة (3).
(659)
المأمون مع الثنوي
قال المأمون للثنوي الذي تكلم عنده: أسألك عن حرفين لا أزيد عليهما
هل ندم مسئ قط على إساءته؟ قال: بلى. قال: فالندم على الإساءة إساءة أم
إحسان؟ قال: بل إحسان. قال: فالذي ندم هو الذي أساء أم غيره؟ قال: بل

(1) العقد الفريد: ج 2 / 201 - 202.
(2) في الأصل: " الله " والصحيح ما أثبتناه.
(3) العقد الفريد: ج 2 / 203
471

هو الذي أساء. قال: فأرى صاحب الخير هو صاحب الشر. قال: فإني أقول:
إن الذي ندم غير الذي أساء. قال: فندم على شئ كان منه أم على شئ كان
من غيره؟ فسكت (1).
(660)
المأمون مع الثنوي أيضا
قال له أيضا: أخبرني عن قولك باثنين، هل يستطيع أحدهما أن يخلق خلقا
لا يستعين فيه بصاحبه؟ قال: نعم. قال: فما تصنع باثنين؟ واحد يخلق كل
شئ خير لك وأصح (2).
(661)
المأمون والمرتد الخراساني
قال المأمون للمرتد الخراساني الذي أسلم على يديه وحمله معه إلى العراق
فارتد عن الإسلام: أخبرني ما الذي أوحشك مما كنت به آنسا من ديننا؟
فوالله لئن أستحييك بحق أحب إلي من أن أقتلك بحق، وقد صرت مسلما بعد
أن كنت كافرا، ثم عدت كافرا بعد أن صرت مسلما، وإن وجدت عندنا
دواء لدائك تداويت به، وإن أخطأت الشفاء وتباعد عنك كنت قد أبليت
العذر في نفسك ولم تقصر في الاجتهاد لها، فإن قتلناك قتلناك في الشريعة،
وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار واليقين، ولم تفرط في الدخول من باب
الحزم.
قال المرتد: أوحشني منكم ما رأيت من كثرة الاختلاف في دينكم.
قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما: كاختلافنا في الأذان، وتكبير

(1) العقد الفريد: ج 2 / 384.
(2) المصدر نفسه
472

الجنائز، وصلاة العيدين، والتشهد والتسليم من الصلاة، ووجوه القراءات،
واختلاف وجوه الفتيا، وما أشبه ذلك، وهذا ليس باختلاف، وإنما تخيير
وتوسعة، وتخفيف من السنة، فمن أذن مثنى وأقام مثنى لم يأثم، ومن ربع لم
يأثم.
والاختلاف الآخر: كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتاب الله،
وتأويل الحديث عن نبينا مع اجتماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عين
الخبر، فإن كان إنما أوحشك هذا، فينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة
والإنجيل متفقا على تأويله، كما يكون متفقا على تنزيله، ولا يكون بين اليهود
والنصارى اختلاف في شئ من التأويلات، ولو شاء الله أن ينزل كتبه
مفسرة ويجعل كلام أنبيائه ورسله لا يختلف في تأويله لفعل، و لكنا لم نجد شيئا
من أمور الدين والدنيا وقع إلينا على الكفاية إلا مع طول البحث والتحصيل
والنظر، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحن، وذهب التفاضل والتباين،
ولما عرف الحازم من العاجز ولا الجاهل من العالم، وليس على هذا بنيت
الدنيا.
قال المرتد: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن المسيح
عبد الله، وأن محمدا صادق، وأنك أمير المؤمنين [حقا] (1).
(662)
هشام مع المؤبذ
دخل المؤبذ على هشام بن الحكم، والمؤبذ هو عالم الفرس، فقال له: يا
هشام حول الدنيا شئ؟ قال: لا، قال: فإن أخرجت يدي فثم شئ يردها؟
قال هشام: ليس ثم شئ يردها، ولا شئ تخرج يدك فيه. قال: فكيف أعلم

(1) العقد الفريد: ج 2 / 384 - 385
473

هذا؟ قال له: يا مؤبذ، أنا وأنت على طرف الدنيا، فقلت لك: يا مؤبذ إني لا
أرى شيئا، فقلت لي: ولم لا ترى؟ فقلت لك: ليس هاهنا ظلام يمنعني؟ قلت
لي أنت: يا هشام إني لا أرى شيئا، فقلت لك: ولم لا ترى؟ قلت: ليس ضياء
أنظر به، فهل تكافأت الملتان في التناقض؟ قال: نعم، قال: فإذا تكافأتا في
التناقض لم تتكافأ في الإبطال أن ليس شئ؟ فأشار المؤبذ بيده: أن أصبت (1).
(663)
هشام بن الحكم مع رجل
قال رجل لبعض ولاة بني العباس: أنا أجعل هشام بن الحكم يقول في
علي - رضي الله عنه - أنه ظالم [فقال: إن فعلت ذلك فلك كذا وكذا. ثم أحضر
هشام] فقال له: نشدتك الله أبا محمد، أما تعلم أن عليا نازع العباس عند
أبي بكر؟ قال: نعم.
قال: فمن الظالم منهما؟ فكره أن يقول: العباس فيوقع سخط الخليفة، أو
يقول: علي فينقض أصله، قال: ما منهما ظالم.
قال: فكيف يتنازع اثنان في شئ لا يكون أحدهما ظالما؟ قال: قد تنازع
الملكان عند داود عليه السلام وما فيهما ظالم و لكن لينبها داود على الخطيئة،
وكذلك هذان أرادا تنبيه أبي بكر من خطيئته. فأسكت الرجل، وأمر الخليفة
لهشام بصلة عظيمة (2).
(664)
الأحنف و معاوية
الهيثم بن عدي [عن عامر الشعبي] قال: دخل الأحنف بن قيس على

(1) العقد الفريد: ج 2 / 411، وفي التعليقة عن عيون الأخبار لابن قتيبة.
(2) العقد الفريد: ج 2 / 412 وفي هامشه عن عيون الأخبار لابن قتيبة: ج 2 / 150
474

معاوية فأشار إليه إلى وسادة، فلم يجلس عليها، فقال له: ما منعك يا أحنف
أن تجلس على الوسادة؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن فيما أوصى به قيس بن عاصم
ولده أن قال: لا تسع السلطان حتى يملك، ولا تقطعه حتى ينساك، ولا تجلس له
على فراش ولا وسادة، واجعل بينك وبينه مجلس رجل أو رجلين [فإنه ربما أتى
من هو أولى منك بهذا المجلس فتقام فيكون قيامك هذا زيادة له ونقصا عليك،
حسبي بهذا المجلس يا أمير المؤمنين] (1).
(665)
الأحنف ومعاوية
أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس فقال: يا أبا بحر ما تقول في الولد؟
قال: [يا أمير المؤمنين] ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة وسماء
ظليلة، فإن طلبوا فاعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودهم، ويحبوك
جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلا فيملوا حياتك، ويحبوا وفاتك، فقال: لله أنت يا
أحنف، لقد دخلت علي وإني لمملوء غضبا على يزيد فسللته من قلبي.
فلما خرج الأحنف من عنده بعث معاوية إلى يزيد بمائتي ألف درهم
ومائتي ثوب، فبعث يزيد إلى الأحنف بمائة ألف درهم ومائة ثوب شاطره
إياها (2).
(666)
عبد الله بن عباس وزياد
دخل عبد الله بن عباس على معاوية وعنده زياد، فرحب به معاوية ووسع
له إلى جنبه، وأقبل عليه يسائله ويحادثه، وزياد ساكت، فقال له ابن عباس:

(1) العقد الفريد: ج 2 / 429 وفي الهامش عن بعض المراجع.
(2) العقد الفريد: ج 2 / 437
475

كيف حالك أبا المغيرة، كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجرة؟ فقال:
لا، ولكنه لا يسلم على قادم بين يدي أمير المؤمنين. قال ابن عباس: ما أدركت
الناس إلا وهم يسلمون على إخوانهم بين يدي أمرائهم، فقال له معاوية: كف
عنه يا ابن عباس فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت (1).
(667)
مؤمن الطاق مع خارجي
لقي شيطان الطاق رجلا من الخوارج وبيده سيف، فقال له الخارجي:
والله لأقتلنك أو تبرأ من علي، فقال له: أنا من علي، ومن عثمان برئ [يريد
أنه من علي، وبرئ من عثمان] (2).
(668)
صعصعة مع معاوية
قال معاوية لصعصعة بن صوحان: إصعد المنبر فالعن عليا، فامتنع من
ذلك وقال: أو تعفيني؟ قال: لا.
فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: معاشر الناس: إن معاوية
أمرني أن ألعن عليا، فالعنوه لعنه الله (3).
(669)
الأحنف وعمر بن الخطاب
المدائني قال: قدم الأحنف بن قيس التميمي على عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - في أهل البصرة وأهل الكوفة، فتكلموا عنده في أنفسهم وما ينوب كل
واحد منهم، وتكلم الأحنف فقال:

(1) العقد الفريد: ج 2 / 459 و ج 1 / 16.
(2) العقد الفريد: ج 2 / 465.
(3) العقد الفريد: ج 2 / 466
476

يا أمير المؤمنين، إن مفاتيح الخير بيد الله، وقد أتتك وفود أهل العراق، وأن
إخواننا من أهل الكوفة والشام ومصر نزلوا منازل الأمم الخالية، والملوك
الجبابرة، ومنازل كسرى وقيصر وبني الأصغر، فهم من المياه العذبة، والجنان
المخصبة، في مثل حولاء السلى، وحدقة البعير، تأتيهم ثمارهم غضة لم تتغير، وإنا
نزلنا أرضا نشاشة، طرف في فلاة وطرف في ملح أجاج، جانب منها منابت
القصب، وجانب سبخة نشاشة لا يجف ترابها، ولا ينبت مرعاها، تأتينا منافعها
في مثل مرئ النعامة، يخرج الرجل الضعيف منا يستعذب الماء من فرسخين،
وتخرج المرأة بمثل ذلك ترنق ولدها ترنيق العنز، تخلف عليه العدو والسبع، فألا
ترفع خسيستنا، وتنعش ركيستنا، وتجبر فاقتنا، وتزيد في عيالنا عيالا، وفي
رجالنا رجالا، وتصغر درهمنا، وتكبر قفيزنا، وتأمر لنا بحفر نهر نستعذب منها
الماء هلكنا.
قال عمر: هذا والله السيد، هذا والله السيد.
قال الأحنف: فما زلت أسمعها بعد. فأراد زيد بن جبلة أن يضنع منه،
فقال: يا أمير المؤمنين: إنه ليس هناك وأمه باهلية.
قال عمر: هو خير منك إن كان صادقا، يريد إن كانت له نية.
فقال الأحنف:
أنا ابن الباهلية أرضعتني * بثدي لا أجد ولا وخيم
أغض على القذى أجفان عيني * إذا شر السفيه إلى الحليم
قال: فرجع الوفد واحتبس الأحنف عنده حولا وأشهرا، ثم قال: إن رسول
الله صلى الله عليه وآله حذرنا كل منافق صنع اللسان، وإني خفتك
فاحتبستك، فلم يبلغني عنك إلا خير، رأيت لك جولا ومعقولا، فارجع إلى
منزلك، واتق الله ربك. وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يحتفر لهم نهرا (1).

(1) العقد الفريد: ج 2 / 163 - 164، وفي الهامش عن سرح العيون: ص 54
477

(670)
رجل مع معاوية
أوتي معاوية يوم صفين بأسير من أهل العراق، فقال: الحمد لله الذي أمكنني
منك. قال: لا تقل ذلك يا معاوية، فإنها مصيبة، قال: وأي نعمة أعظم من أن
أمكنني الله [عز وجل] من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة؟
اضرب عنقه يا غلام، فقال الأسير: اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك،
وأنك لا ترضى بقتلي، وإنما يقتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا، فإن فعل
فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله. قال له: ويحك لقد
سببت فأبلغت، ودعوت فأحسنت، خليا عنه (1).
(671)
صعصعة مع معاوية
قال معاوية لصعصعة بن صوحان: أي النساء أشهى إليك؟ قال: المواتية
لك فيما تهوى. قال: فأيهن أبغض؟ قال: أبعدهن مما ترضى.
قال: هذا النقد العاجل. فقال صعصعة: بالميزان العادل (2).
(672)
صعصعة مع معاوية
قال صعصعة لمعاوية: يا أمير المؤمنين كيف ننسبك إلى العقل وقد غلب
عليك نصف إنسان؟ يريد غلبة امرأته فاختة بنت قرظة عليه، فقال معاوية:
إنهن يغلبن الكرام، ويغلبهن اللئام (3).

(1) العقد الفريد: ج 2 / 172 - 173.
(2) العقد الفريد: ج 6 / 106، وفي الهامش عن عيون الأخبار.
(3) العقد الفريد: ج 6 / 106
478

(673)
محمد بن عبد الله مع المنصور
لما انصرف أبو جعفر إلى العراق خرج محمد بن عبد الله بالمدينة، فكتب
إليه أبو جعفر:
من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله " إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم
من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب
عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " ولك
علي عهد الله وميثاقه وذمة الله وذمة نبيه إن أنتما أتيتما وتبتما ورجعتما من قبل أن
أقدر عليكما، وأن يقع بيني وبينكما سفك الدماء أن أؤمنكما وجميع ولدكما ومن
شايعكما وتابعكما على دمائكم وأموالكم، وأوسعكم ما أصبتم من دم أو مال،
وأعطيكما ألف ألف درهم لكل واحد منكما، وما سألتما من الحوائج، وأبوئكما
من البلاد حيث شئتما، وأطلق من الحبس جميع ولد أبيكما، ثم لا أتعقب واحدا
منكما بذنب سلف منه أبدا، فلا تشمت بنا وبك عدونا من قريش، فإن
أحببت أن تتوثق من نفسك بما عرضت عليك فوجه إلي من أحببت، ليأخذ
لك من الأمان والعهود والمواثيق ما تأمن وتطمئن إليه إن شاء الله، والسلام.
فأجابه محمد بن عبد الله: من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن
محمد " طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق
لقوم يؤمنون " إلى قوله: " ما كانوا يحذرون " وأنا أعرض عليك من الأمان ما
عرضته، فإن الحق معنا، وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم إليه بشيعتنا،
وخطيتم بفضلنا، وإن أبانا عليا رحمه الله كان الإمام فكيف ورثتم ولاية ولده؟
وقد علمتم أنه لم يطلب هذا الأمر أحد بمثل نسبنا ولا شرفنا، وإنا لسنا من أبناء
479

الظئار ولا من أبناء الطلقاء، وأنه ليس يمت أحد بمثل ما نمت به من القرابة
والسابقة والفضل، وإنا بنو أم أبي رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة بنت
عمرو في الجاهلية وبنو فاطمة ابنته في الإسلام دونكم، وأن الله اختارنا واختار
لنا فولدنا من النبيين أفضلهم، ومن السلف أولهم إسلاما علي بن أبي طالب،
ومن النساء أفضلهن خديجة بنت خويلد، وأول من صلى إلى القبلة منهن، ومن
البنات فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ولدت الحسن والحسين سيدي شباب أهل
الجنة صلوات الله عليهما، وأن هاشما ولد عليا مرتين، وأن عبد المطلب ولد
حسنا مرتين، وأن النبي صلى الله عليه وآله ولدني مرتين، وأني من أوسط
بني هاشم نسبا وأشرفهم أبا وأما، ولم تعرق في العجم، ولم تنازع في أمهات
الأولاد، فما زال الله بمنه وفضله يختار لي الأمهات في الجاهلية والإسلام حتى
اختار لي في النار، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأهونهم عذابا في النار،
وأبي خير أهل الجنة، وأبي خير أهل النار، فأنا ابن خير الأخيار [وابن خير
الأشرار] فلك الله إن دخلت في طاعتي وأجبت دعوتي، أن أؤمنك على نفسك
وما لك ودمك وكل أمر أحدثته إلا حدا من حدود الله، أو حق امرئ مسلم أو
معاهد، فقد علمت ما يلزمك من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد،
لأنك لا تعطي من العهد أكثر مما أعطيت رجالا قبلي، فأي الأمانات تعطيني؟
أمان بن هبيرة، أو أمان عمك عبد الله بن علي، أو أمان أبي مسلم، والسلام.
فكتب إليه أبو جعفر المنصور:
من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله بن الحسن، أما بعد فقد بلغني
كتابك وفهمت كلامك، فإذا جل فخرك، بقرابة النساء لتضل به الغوغاء ولم
يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة الأولياء، لأن الله جعل العم
أبا وبدأ به في القرآن على الوالد الأدنى [فقال جل ثناؤه عن نبيه يوسف عليه
480

السلام: " واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب " على أن المذكورين في
الآية ليسوا بأعمام ليوسف، فيعقوب أبوه، وإسحاق جده، وإبراهيم أبو جده] ولو
كان اختيار الله لهن على قدر قرابتهن لكانت آمنة أقربهن رحما وأعظمهن حقا،
وأول من يدخل الجنة غدا، ولكن اختيار الله لخلقه على قدر علمه الماضي لهم.
فأما ما ذكرت من فاطمة جدة النبي صلى الله عليه وآله وولادتها لك،
فإن الله لم يرزق أحدا من ولدها دين الإسلام، ولو أن أحدا من ولدها رزق
الإسلام بالقرابة لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الدنيا
والآخرة، ولكن الأمر لله يختار لدينه من يشاء، وقد قال جل ثناؤه: " إنك
لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ".
وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وله عمومة أربعة، فأنزل الله عليه:
" وأنذر عشيرتك الأقربين " فدعاهم فأنذرهم، فأجابه اثنان أحدهما أبي، وأبى
عليه اثنان أحدهما أبوك فقطع الله ولايتهما منه، ولم يجعل بينهما إلا ولا ذمة
ولا ميراثا، وقد زعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابا وابن خير الأشرار،
وليس في الشر خيار، ولا فخر في النار، وسترد فتعلم " وسيعلم الذين ظلموا أي
منقلب ينقلبون "، وأما ما فخرت به من فاطمة أم علي، وأن هاشما ولد عليا
مرتين، وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين، وأن النبي صلى الله عليه وآله
ولدك مرتين، فخير الأولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وآله لم يلده
هاشم إلا مرة واحدة، ولا عبد المطلب إلا مرة واحدة، وزعمت أنك أوسط
بني هاشم نسبا وأكرمهم أبا وأما، وأنك لم تلدك العجم، ولم تعرق فيك أمهات
الأولاد، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرا، فانظر أين أنت ويحك من الله
غدا، فإنك قد تعديت طورك وفخرت على من هو خير منك نفسا وأبا وأولا
وآخرا، فخرت على إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وآله، وهل خيار ولد
أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات أولاد؟ وما ولد منكم بعد وفاة
481

رسول الله صلى الله عليه وآله أفضل من علي بن الحسين وهو لأم ولد، وهو
خير من جدك حسن بن حسن، وما فيكم بعده مثل ابنه محمد بن علي وجدته
أم ولد وهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر وهو خير منك وجدته أم ولد.
وأما قولك: إنا بنو رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن الله يقول: " ما
كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " ولكنكم بنو
ابنته وهي امرأة لا تحرز ميراثا، ولا ترث الولاء، ولا يحل لها أن تؤم فكيف
تورث بها إمامة؟ ولقد ظلمها أبوك بكل وجه، فأخرجها (1) نهارا ومرضها سرا
ودفنها ليلا فأبى الناس إلا (تقديم) الشيخين وتفضيلهما.
ولقد كانت السنة التي لا اختلاف فيها أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يرثون.
وأما ما فخرت به من علي وسابقته، فقد حضرت النبي صلى الله عليه
وآله الوفاة فأمز غيره بالصلاة، ثم أخذ الناس رجلا بعد رجل فما أخذوه، وكان
في الستة من أصحاب الشورى فتركوه كلهم، رفضه عبد الرحمان بن عوف،
وقاتله طلحة والزبير، وأبى سعد بيعته وأغلق بابه دونه وبايع معاوية بعده، ثم
طلبها بكل وجه فقاتل عليها، ثم حكم الحكمين ورضي بهما وأعطاهما عهد الله
وميثاقه، فاجتمعا على خلعه واختلفا في معاوية، ثم قام جدك الحسن فباعها
بخرق ودراهم ولحق بالحجاز، وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأموال إلى غير
أهلها وأخذ مالا من غير ولائه، فإن كان لكم فيها حق فقد بعتموه وأخذتم
ثمنه، ثم خرج عمك الحسين على ابن مرجانة، فكان الناس معه عليه حتى
قتلوه وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع
النخل، وأحرقوكم بالنيران، ونفوكم من البلدان حتى قتل يحيى بن زيد بأرض
خراسان، وقتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء وحملوهم كالسبي المجلوب إلى
الشام، حتى خرجنا عليهم فطلبنا بثأركم وأدركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضهم

(1) فأخرجها تخاصم خ ل
482

وديارهم وأموالهم، وإردنا أشراككم في ملكنا فأبيتم إلا الخروج علينا، وظننت
ما رأيت من ذكرنا أباك وتفضيلنا إياه إنا نقدمه على العباس وحمزة وجعفر
وليس كما ظننت، ولكن هؤلاء سالمون مسلم منهم مجتمع بالفضل عليهم،
وابتلى بالحرب أبوك، فكانت بنو أمية تلعنه على المنابر كما تلعن أهل الكفر في
الصلاة المكتوبة فاحتججنا له وذكرنا فضله وعنفناهم وظلمناهم فيما نالوا منه.
وقد علمت أن المكرمة في الجاهلية: سقاية الحاج الأعظم، وولاية بئر
زمزم، وكانت للعباس من بين إخوته، وقد نازعنا فيها أبوك فقضى لنا بها رسول
الله صلى الله عليه وآله، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام، فقد علمت أنه لم
يبق أحد من بعد النبي صلى الله عليه وآله من بني عبد المطلب غير العباس
وحده، فكان وارثه من بين إخوته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم
فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايتنا، وميراث النبي صلى الله عليه وآله
ميراثنا، والخلافة بأيدينا، فلم يبق فضل ولا شرف في الجاهلية والإسلام إلا
والعباس وارثه ومورثه، والسلام (1).
(674)
شيخ كوفي ومحمد بن هشام
عوانة بن الحكم قال: حج محمد بن هشام، و نزلت رفقة فإذا فيها شيخ كبير
قد احتوشه الناس وهو يأمر وينهى، فقال محمد بن هشام لمن حوله: تجدون
الشيخ عراقيا فاسقا؟ فقال له بعض أصحابه: نعم، و كوفيا منافقا. فقال محمد:
علي به، فأوتي بالشيخ، فقال له: أعراقي أنت؟ فقال له: نعم عراقي. قال:
وكوفي؟ قال: وكوفي. قال: وترابي؟ قال: و ترابي من التراب خلقت وإليه

(1) العقد الفريد: ج 5 / 79 - 85، وفي الهامش عن الطبري والكامل لابن الأثير وصبح الأعشى
للقلقشندي
483

أصير. قال: أنت ممن يهوى أبا تراب، قال: ومن أبو تراب؟ قال: علي بن
أبي طالب. قال: أتعني ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، وزوج فاطمة
ابنته، وأبا الحسن والحسين؟ قال: نعم. قال: فما قولك فيه؟ قال: قد رأيت
من يقول خيرا ويحمد، ورأيت من يقول شرا ويذم. قال: فأيهما أفضل عندك،
أهو أم عثمان؟ قال: وما أنا وذاك؟ والله لو أن عليا جاء بوزن الجبال حسنات
ما نفعني، ولو أنه جاء بوزنها سيئات ما ضرني، وعثمان مثل ذلك. قال: فاشتم
أبا تراب. قال: أو ما ترضى مني بما رضي به من هو خير منك ممن هو خير مني
فيمن هو شر من علي؟! قال: وما ذاك؟ قال: رضى الله وهو خير منك من
عيسى وهو خير مني في النصارى وهم شر من علي إذ قال: " إن تعذبهم فإنهم
عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " (1).
(675)
علي بن عبد الله والوليد
كان علي سيدا شريفا عابدا زاهدا، وكان يصلي كل يوم ألف ركعة
وضرب مرتين [كلتاهما] ضربه الوليد [فإحداهما]: في تزوجه لبابة بنت عبد الله
ابن جعفر، وكانت عند عبد الملك بن مروان، فعض تفاحة ورمى بها إليها، وكان
أبخر، فدعت بسكين، فقال: ما تصنعين به؟ قالت: أميط عنها الأذى،
فطلقها، فتزوجها علي بن عبد الله بن عباس، فضربه الوليد، وقال: إنما تتزوج
أمهات أولاد الخلفاء لتضع منهم، لأن مروان بن الحكم إنما تزوج أم خالد بن
يزيد ليضع منه، فقال: علي بن عبد الله بن عباس: إنما أرادت الخروج من هذه
البلدة، وأنا ابن عمها، فتزوجتها لأكون لها محرما.
وأما ضربه إياه في المرة الثانية: فإن محمد بن يزيد قال: حدثني من رآه

(1) العقد الفريد: ج 5 / 90
484

مضروبا يطاف به على بعير، ووجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح عليه:
هذا علي بن عبد الله الكذاب. قال: فأتيته فقلت: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى
الكذب؟ قال: بلغهم أني أقول: إن هذا الأمر سيكون في ولدي، والله ليكونن
فيهم حتى تملكهم عبيدهم الصغار العيون، العراض الوجوه، الذين كأن
وجوههم المجان المطرقة.
وفي حديث آخر:
إن علي بن عبد الله دخل على هشام بن عبد الملك، ومعه ابناه: أبو العباس
وأبو جعفر، فشكا إليه دينا لزمه. فقال له: كم دينك؟ قال: ثلاثون ألفا، فأمر
له بقضائه، فشكره عليه، وقال: وصلت رحما، وأنا أريد أن تستوصي بابني
هذين خيرا. قال: نعم، فلما تولى قال هشام لأصحابه: إن هذا الشيخ قد اهتر
وأسن، وخولط فصار يقول: إن هذا الأمر سينقل إلى ولده، فسمعه علي بن
[عبد الله بن] العباس، فقال: والله ليكونن ذلك، وليملكن ابناي هذان ما
تملكه (1).
(676)
الأحنف ومعاوية
قال الأحنف لمعاوية حين شاوره في استخلاف يزيد فسكت عنه، فقال:
ما لك لا تقول؟ فقال: إن صدقناك أسخطناك، وإن كذبناك أسخطنا الله،
فسخط أمير المؤمنين أهون علينا من سخط الله. فقال له: صدقت (2).
(677)
هانئ ومعاوية
ذكر أن معاوية ولى كثير بن شهاب المذحجي خراسان، فاختان مالا

(1) العقد الفريد: ج 5 / 103 - 104.
(2) العقد الفريد: ج 1 / 59، وقد مر بألفاظ مختلفة فراجع
485

كثيرا، ثم هرب، فاستتر عند هانئ بن عروة المرادي، فبلغ ذلك معاوية، فهدر
دم هانئ، فخرج هانئ إلى معاوية، فكان في جواره، ثم حضر مجلسه وهو
لا يعرفه، فلما نهض الناس ثبت مكانه، فسأله معاوية عن أمره، فقال: أنا
هانئ بن عروة. فقال: إن هذا اليوم ليس باليوم الذي يقول فيه أبوك:
أرجل جمتي وأجر ذيلي * وتحمل شكتي أفق كميت
وأمشي في سراة بني غطيف * إذا ما ساءني أمر أبيت
قال: أنا والله يا أمير المؤمنين اليوم أعز مني ذلك اليوم، فقال: بم ذلك؟
قال: بالإسلام. قال: أين كثير بن شهاب؟ قال: عندي وعندك يا
أمير المؤمنين. قال: انظر إلى ما اختانه فخذ منه بعضا وسوغه بعضا، وقد آمناه
ووهبناه لك (1).
(678)
صعصعة ومعاوية
سأل معاوية بن أبي سفيان صعصعة بن صوحان: أي الخيل أفضل؟ قال:
الطويل الثلاث، القصير الثلاث، العريض الثلاث، الصافي الثلاث. قال: فسر
لنا. قال: أما الطويل الثلاث: فالإذن والعنق والخرام، وأما القصير الثلاث:
فالصلب والعسيب والقضيب، وأما العريض الثلاث: فالجبهة والمنخر والورك،
وأما الصافي الثلاث: فالأديم والعين والحافر (2).
(679)
الفرزدق وبلال بن أبي بردة
دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة وعنده ناس من اليمامة يضحكون،

(1) العقد الفريد: ج 1 / 136.
(2) العقد الفريد: ج 1 / 154
486

فقال: يا أبا فراس، أتدري مم يضحكون؟ قال: لا أدري. قال: من جفائك،
قال: أصلح الله الأمير، حججت فإذا رجل على عاتقه الأيمن صبي وامرأة آخذة
بمئزره، وهو يقول:
أنت وهبت زائدا ومزيدا * وكهلة أولج فيها الاجردا
وهي تقول: إذا شئت فسألت ممن الرجل؟ قيل: من الأشعريين، فأنا أجفى
من ذلك الرجل؟ قال: لا حياك الله، وقد علمت أنا لا نفلت منك (1).
(680)
مؤمن الطاق وأبو حنيفة
لما مات جعفر بن محمد قال أبو حنيفة لشيطان الطاق: مات إمامك وذلك
عند المهدي. فقال شيطان الطاق: لكن إمامك من المنظرين إلى يوم الوقت
المعلوم.
فضحك المهدي من قوله وأمر له بعشرة آلاف درهم (2).
(681)
حضين بن المنذر وعبيد الله بن ظبيان
لما قدم الحجاج العراق واليا عليها، خرج عبيد الله بن ظبيان متوكئا على
مولى له، وقد ضربه الفالج، فقال: قدم العراق رجل على ديني، فقال له حضين
ابن المنذر الرقاشي: فهو إذا منافق. قال: عبيد الله: إنه يقتل المنافقين، قال له
حضين: إذا يقتلك (3).

(1) العقد الفريد: ج 4 / 40.
(2) العقد الفريد: ج 4 / 42، وراجع روضة المؤمنين: ص 52 عن الأنوار
النعمانية.
(3) العقد الفريد: ج 4 / 44
487

(682)
الفرزدق وابن عفراء
أبو الحسن قال: لقي الفرزدق عمرو بن عفراء فعاتبه في شئ بلغه عنه،
فقال له ابن عفراء، وهو بالمربد: ما من شئ أحب إلي من أن آتي كل شئ
تكرهه، قال له الفرزدق: بالله أنت تأتي كل شئ أكرهه؟ قال: نعم، قال:
فإني أكره أن تأتي أمك، فأتها (1).
(683)
شريك ورجل
قال رجل لشريك: أليس قول علي لابنه الحسين عليهما السلام في يوم
الجمل: " يا بني! يود أبوك أنه مات قبل هذا اليوم بثلاثين سنة " يدل على
أن في الأمر شيئا؟ فقال شريك: ليس كل حق يشتهى أن يتعب فيه، وقد
قالت مريم في حق لا يشك فيه: " يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا
منسيا " (2).
(684)
السيد المرتضى ورجل
وقال رجل للمرتضى: أي خليفة قاتل ولم يسب ولم يغنم؟ فقال: ارتد
غلام في أيام أبي بكر فقتلوه ولم يعرض أبو بكر لماله، وروي مثل ذلك في
مرتد قتل في أيام عمر فلم يعرض لماله، وقتل علي عليه السلام مستورد
العجلي ولم يتعرض لماله، فالقتل ليس بأمارة على تناول المال (3).

(1) العقد الفريد: ج 3 / 53.
(2) البحار: ج 8 ص 146 ط الكمباني عن المناقب.
(3) البحار: ج 8 ص 145 ط الكمباني
488