الكتاب: المناظرات في الإمامة
المؤلف: الشيخ عبد الله الحسن
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٥
المطبعة: مهر
الناشر: أنوار الهدى
ردمك:
ملاحظات:

مناظرات
في الإمامة
تأليف وتحقيق
عبد الله الحسن
أنوار الهدى
1

هوية الكتاب:
اسم الكتاب... مناظرات في الإمامة
تأليف وتحقيق... عبد الله الحسن
نشر... أنوار الهدى
الطبعة... الأولى 1415 ه‍. ق
المطبعة... مهر
الكمية... 2000 نسخة
عدد الصفحات... 730 صفحة
السعر...
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
2

بسم الله الرحمن الرحيم
فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون
أحسنه أولئك الذين هداهم الله
وأولئك هم أولوا الألباب
صدق الله العلي العظيم
3

الإهداء:
إلى من قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله - يوم غدير خم: من
كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من
نصره، واخذل من خذله.
إلى من أحله رسول الله - صلى الله عليه وآله - محل هارون من
موسى، فقال: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.
إلى من زوجه رسول الله - صلى الله عليه وآله - ابنته، سيدة نساء
العالمين، وأحل له من مسجده ما حل له، وسد الأبواب إلا بابه، وأودعه
علمه وحكمته، فقال: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد الحكمة
فليأتها من بابها.
سيدي أهدي إليك هذا المجهود المتواضع راجيا القبول:
(يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل
وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين) سورة يوسف الآية 88.
عبد الله الحسن
5

لقد أتحفنا الأديب اللامع والشاعر المبدع الأخ الأستاذ فرات
الأسدي بهذه القصيدة ومؤرخا لصدور كتابنا فشكرا له على ما جادت به
قريحته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ العزيز الحسن - رعاه الله -.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أقدم لكم مع الاعتذار، الأبيات التي كنت وعدتكم بها لكتابكم
الكريم، وقد تطرقت فيها إلى القطيف وبعض مناطقها ثم إلى كتابكم
فأرجو القبول.
أخوكم: فرات الأسدي
لأفق به ناعسات الضفاف * يهدهدها البحر.. حسرى غوافي
يمد إلى حسنها كفه * فتشهق بالوجد سمر المرافي
ويهتز نخل الهوى والشراع * ما مل من لجة في الطواف
- كأن لم أطرز على مثله * دموعي ذاهلة في المنافي
ولم أتذكر بهن الفرات * مناديل دامعة الارتجاف
ترد إلى فرحتي لونها.. * وتحملني عبر ذكرى زفاف
زفاف الدم المر في كربلاء * وزغردة الجرح رهن انتزاف
ونخل الجنوب بأعذاقه * تدلى الردى، رائع الاصطفاف! -
... وتصدح أغنية حلوة * يرقرقها لهب في الشغاف
فتصبو القلوب إلى جمرها * وتهوي عليها سكارى سلاف
6

ويندى على كأسها دمها * وما دمها غير خمر القطاف
به روحها ثمر والدنان * مفاتنها.. نهبا لارتشافي!
لأفق به ناعسات الضفاف * كتبت، وحبر الوريد القوافي
و... تغفو على عطرها * ليأرق ليل العذارى اللهاف
وحيث... تأوي القرون * وأمجادها.. مثل طير خرافي
إلى اليوم في جانحيه النبوغ * ترف قوادمه والخوافي
على شاطئ من خليج القطيف (1) * نديان مستهزئ بالجفاف
وما زال يحمل وجه الربيع * ترود به البحر سفن اكتشاف
ويصطاف بالشمس نوتيها * وباللؤلؤ الرطب أي اصطياف
تحضنه للوصي الولاء * وللناكثين القلا والتجافي
وما راعه أن هوج الرياح * ستأتي له بالسنين العجاف

(1) القطيف: قال ياقوت: القطيف هي مدينة بالبحرين وهي اليوم قصبتها وأعظم مدنها، وكان
قديما اسما " لكورة هناك غلب عليها الآن اسم هذه المدينة وقال أيضا ": القطيف قرية لجذيمة
عبد القيس، وقال عنها ابن بطوطة في رحلة: ثم سافرنا إلى مدينة القطيف - كأنها تصغير
قطف - وهي مدينة كبيرة ذات نخل كثير يسكنها طوائف من العرب.
وقد جاء ذكرها في الشعر العربي، قال عمر العبدي:
وتركن عنتر لا يقاتل بعدها * أهل القطيف قتال خيل تنفع
وقال حمل بن المعني العبدي:
نصحن لعبد القيس يوم قطيفها * فما خير نصح قيل لم يتقبل
فقد كان في أهل القطيف فوارس * حماة إذا ما الحرب القت بكلكل
وقد ذكرها ابن المقرب الأحسائي كثيرا " في شعره، ومن ذلك قوله:
ومن نسل عبد فتية أي فتية * يجل المعادي بأسها فيهابها
وإن صاح داعي حيها في محارب * أتت تتلظى للمنايا حرابها
معجم البلدان ج 4 ص 378، مراصد الاطلاع ج 3 ص 1110، رحلة ابن بطوطة ص 280
7

وأن اللظى شجر علقم * ستورقه عاقرات الفيافي
بل انثال للنبع يروي الظماء * وينهل سلساله وهو صافي
وحيث رعى وده ماجد * بآبائه، طاهر في النطاف
على العلم معتكف لا يحول * فبورك منه طويل اعتكاف
وبورك في يده مزبر * أبان من الحق أجلى صحاف
وسطر في حيدر مصحفا * سيطرب سمع الموالي المصافي
ويقرع سمع الخصوم اللدود * بصوت جرئ جهير الهتاف
يناظر بالحجج الدامغات * ويروي عن القوم كل اعتراف
بأن الإمامة نص جلي * وحق علي بها غير خافي
وأبناءه الطاهرين الهداة * ليس بتفضيلهم من خلاف
إليهم يشير الدليل الصريح * وعنهم بكل (صحيح) يوافي
فيا رب بارك بهم علقتي * وأحسن لهم أوبتي وانصرافي
وأما تاريخ طبع الكتاب فهو:
أيها الكاتب الذي * هو للمرتضى ولي
لك فيما جمعته * خير نص به جلي
ناظر الخصم واثقا * بكتاب ومقول
وإذا ما ظفرت في * الرأي منه بمقتل
قل له الحق تاريخه: - * سل بخ بخ يا علي
1415 ه‍
فرات الأسدي 6 / جمادى الثانية / 1415
8

(2)
ولقد أتحفنا كذلك الأديب خادم أهل البيت الخطيب الشيخ محمد باقر
الأيرواني النجفي دام عزه بهذه القصيدة ومؤرخا لصدور الكتاب فشكرا "
له على ما تفضل به.
في كتاب المناظرات نظرنا * نظرة الشوق بدءه وختامه
فوجدناه جامعا للمغازي * من بحوث دقيقة باستدامه
وعن السنة المصادر تبدو * واضحات صريحة بصرامه
ذاك أن النبي لم يوص إلا * لعلي والله أعلى مقامه
وإذا الخصم قد تجاوز ظلما * فلقد باء وزره وأثامه
إنما الأمر والخلافة خصت * لقرين الزهراء رمز الكرامه
هل سواه قد كان آمن قبلا * أسبق الناس معلنا إسلامه
هل أتى (هل أتى) لشخص سواه * ومن الرب قد حباه وسامه
حبه واجب وفرض أكيد * وهو للمؤمنين أجلى علامه
حربه حرب أحمد ويقينا * سلمه سلمه ليوم القيامه
قل لمن أنكر الحقيقة زورا * وإلى الحق قد ألد خصامه
لا تكن حاقدا على الحق واتبع * منهج الحق كي تنال السلامه
إن تجاهلت فالحساب عسير * لك ويل الوبال ثم الملامه
هذه كتبكم تصرح جهرا * فلراوي الحديث فافهم كلامه
لا تكن كالذي عنادا وبغضا * ضد آل الرسول سل حسامه
9

ودعاه نكران فضل علي * دون جدوى فجد يرمي سهامه
ألزم النفس بالخلاف جحودا * ليس للجاحدين إلا الندامه
فاقبل النصح من وفي نصوح * إنما النصح من وفاء الشهامه
كن مع المرتضى بقلب سليم * وعن الفكر فاطرح أوهامه
فاز بالنصر من يعي ويراعي * سر إرشاد نفسه اللوامه
دربنا المستقيم للحق يهدي * وعلى الحق والهدى الاستقامه
من كتاب المناظرات تزود * تجد الرشد إن أردت اغتنامه
هو نعم الكتاب أقسمت حقا * وبه الكاتب استثار اهتمامه
فاز في النشأتين وعيا وسعيا * وبحبل الولاء نال اعتصامه
وسيحظى بالخير والنصر دوما * كلما للوصي أبدى التزامه
ولمن رام خير دنيا وأخرى * فبنهج الهدى ينال مرامه
ويقينا أرخت: يبقى بطيب * لعلي إثبات حق الإمامه
1415 ه‍
محمد باقر الإيرواني النجفي
10

تقديم:
بقلم العلامة المحقق آية الله الشيخ محمد رضا الجعفري - حفظه الله تعالى -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد خلقه وخاتم أنبيائه
محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين، ولا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
1 - طلب إلي أن أقدم لكتاب (مناظرات في الإمامة) في ظروف لم
تكن تحملني على هذا النوع من العمل الفكري إن لم تكن تعوقني، والله
سبحانه هو المرجو في السراء والضراء وبه المعاذ والملاذ في الشدة
والرخاء، قلت هذا كي يغفر لي القارئ الكريم إن لم يجد في تقديمي هذا
كل ما كان يأمل أن يقرأ حول الكتاب وموضوعه.
ولا يعنيني هنا أن أتكلم عن مدلول (المناظرة) لغويا بعد أن اصطلح
عليها على أن تؤدي معنى الجدل الكلامي المباشر، القائم على المواجهة
واستماع كل من المتجادلين كلام الآخر والرد عليه في محضر المواجهة،
فتكون قسما من أقسام (الرد) و (النقض).
2 - وإذا كان أول خلاف وقع بين الأمة الخلاف في الإمامة والإمام،
وإذا كان الجدل والنقاش وعرض وجهات النظر، والرد على الرأي
المخالف من طريق الكلام والمواجهة أسبق وقوعا من الرد كتابة وتأليفا -
وهذا واضح - فبهذا تكون (المناظرة) والجدل عن طريق الحوار قد
11

سبقت سائر أنواع الجدل والنقاش الفكري سبقا زمنيا، فلا بد لنا من القول
بأن المناظرة حول الإمامة قد سبقت كل مناظرة كلامية تدور حول الصراع
الفكري الذي حدث بين المسلمين في شتى نقاط الخلاف العقائدي
والمذهبي بينهم.
وإن كانت المناظرة حول الإمامة والخلافة في أشكالها الأول قد
تأطرت بإطار (الاحتجاج) من المعارضين على الفائزين في الصراع
السياسي حول قيادة الأمة، وقد أعطي لها هذا العنوان: (الاحتجاج) إلا أنه
لا يخرجها عن شمول عنوان (المناظرة) لها، فإن الاحتجاج في نفسه هو
نوع من أنواع المناظرة، ويعتمد على إدلاء الحجج واعتماد الأدلة
والاعتبارات المناسبة لتصحيح المعارضة وعدم الخضوع لموقف الفئة
الحاكمة أو التي تحاول أن تكسب الحكم، ولا تسلب من الخصم إمكانية
الدفاع عن نفسه وعن وجهات نظره ونقض حجج من يحتج عليه.
بل وإن الغلبة في الحجة والفوز في الخصومة الكلامية إن كانتا في
جانب المعارضين، فإن ذلك يدل دلالة أقوى وآكد على أن الحق معهم، إذ
أن خصومهم الذين يعتزون عليهم بما كسبوه من القدرة السياسية
والعسكرية لا يأنفون أن يدلوا بحججهم ونقض حجج معارضيهم، فإن
سكتوا هنا أمام معارضيهم، فستكون له دلالة أقوى من سكوت أحد
المتناظرين.
ومن الواضح الذي لا يخفى على أحد، لا هو ولا الأسباب والعوامل
الموجبة له، أن المناظرات حول الإمامة تشكل القسم الأكبر والأوسع من
المناظرات الكلامية لعلماء الإمامية ومتكلميهم أعلى الله درجتهم ورضي
عنهم وأرضاهم.
12

3 - وهذا الكتاب أول محاولة مستوعبة تجمع كل صورة من صور
المناظرة حول الإمامة، أمكن للمؤلف - حفظه الله - أن يصل إليها، وشيخنا
الطبرسي رحمه الله وإن كان قد سبقه إليه في كتابه الشهير (الاحتجاج)
لكنه لم يخص موضوع كتابه بالإمامة وحدها، وقد انتهى به إلى عصره
وهو القرن السادس، وقد نظم المؤلف مادة الكتاب حسب التسلسل
الزمني، وهذه حسنة أخرى.
والمناظرة حيث أنها تقوم على الحوار المباشر بين المتناظرين
وجها لوجه، فلا يكون أحدهما هو المدلي بحجته والداخل إلى مجلس
القضاء وحده كي يقال: من كان في مثل حاله سيكون هو الفائز بحجته
والمنتصر على خصمه الغائب عنه، وهذه بعض السمات الخاصة
للمناظرات والتي تمتاز بها عن بقية أنواع النقاش والرد.
هناك شكل آخر من أشكال المناظرة اصطلح عليه بعنوان (الرد) و
(النقض) ويقوم على الاستعانة بالكتابة وتأليف الرسائل والكتب، وإن
كان هذا العنوان لا يختص به من حيث المدلول اللغوي، وقد أكثر منه
عماؤنا الأبرار أيضا وحسبك أن ترجع إلى الذريعة ج 10 ص 174 -
27، 354 - 751 فيما جاء بعنوان (الرد) و ج 24 ص 283 - 292، 459 -
56 فيما جاء بعنوان: (النقض) عدا ما كان له اسم خاص، فلم يذكر إلا
حب وقوع اسمه في موقعه الخاص من سلسلة الحروف العربية.
وذا أضفنا إلى هذين القسمين قسما ثالثا لم يظهر إلا في العصور
الحديثة وهو المقالات التي لا تنشر إلا في الصحف والمجلات
والدوريات، ويشكل كمية ضخمة لا يستهان بها حجما وعطاء، وأرجو
أن يقيض الله سبحانه من يتولى جمعها أو فهرستها، لأدركنا مدى غزارة
13

هذا التراث الثر المعطاء الذي لا يسعنا أن نفرط به.
وقد أحسن المؤلف صنعا حينما نظم هذه المناظرات حسب
التسلسل الزمني لوقوعها، وبهذا مكن الدارسين من متابعة دراستها
للكشف عن نقاط القوة والضعف فيها وفي خلفياتها من حيث قدرة
المتناظرين وضعفهما، وازدهار الثقافة الدينية والتمكن العلمي
وضمورهما، حسب مختلف العصور، والله سبحانه أسأل أن يجعل عمله
هذا خالصا لوجهه الكريم وأن يوفقه إلى أن تكون أعماله الآتية - سواء التي
ترجع إلى كتابه هذا أو إلى غيره - أوسع وأكمل، إنه نعم المولى ونعم
النصير.
محمد رضا الجعفري
3 / 11 / 1414 ه‍
14

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء
والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
فإن مسألة الخلافة بعد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - هي أهم
المسائل التي دارت عليها رحى الخلاف بين المسلمين قديما "
وحديثا "، واحتدم فيها الصراع الفكري بينهم وكانت النتيجة الطبيعية لذلك
الصراع انقسام الأمة الإسلامية إلى فرق متعددة (1) إلا أن أبرز هذه الفرق
فرقتان: السنة الأشاعرة والشيعة الإمامية وإن كانت هناك فرق أخرى برزت
في فترات من التاريخ كالمعتزلة وغيرها ولسنا في مقام التصدي
لاستعراض أدلة كل فريق وتقييمها فإن مجاله علم الكلام وإنما نشير
إجمالا إلى رأي ذينك الفريقين:
فذهبت العامة إلى أن الخلافة لا نص عليها بل هي موكولة إلى الأمة،
فهي التي تختار الخليفة بعد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -،
واختلفوا في كيفية انعقادها بين قائل بالبيعة، وقائل بالشورى، وآخر

(1) ولعل الحديث الوارد عن النبي (ص): ستفترق أمتي بعد على ثلاثة وسبعين فرقة... الخ
إشارة إلى ذلك. انظر: إحقاق الحق ج 7 ص 185، نفحات اللاهوت ص 114 - 115.
15

بالإجماع حتى صرح بعضهم بانعقادها بشخصين (1).
وأما الإمامية فذهبت إلى أن الخلافة لا تكون إلا بالنص انطلاقا من
نظرتها الخاصة في مسألة الخلافة باعتبارها منصبا إلهيا وأمره ليس بيد
البشر، وترى لزوم توفر مواصفات معينة في خليفة النبي - صلى الله عليه
وآله - من قبيل نزاهة الباطن، التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب.
فتؤكد من هذا المنطلق أنه يجب (2) على الله تعالى أن يختار للأمة
خليفة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لتناط به مسؤولية الأمة بعده
مباشرة، ويعينه من خلال نص النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عليه بكل
صراحة ووضوح.
ومن هذا المنطلق تحركت الشيعة الإمامية لإثبات نظريتها في
الإمامة ووضعت النقاط على الحروف وساقت الكثير من الأدلة والبراهين
العقلية والنقلية من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتفق عليها
عند جمهور المسلمين لإثبات الأمرين معا:
الأمر الأول: أن الخلافة والإمامة منصب إلهي وعهد رباني لا يناله
إلا ذو حظ عظيم يمتاز عن سائر أفراد الأمة بعلمه الجم وفضائله الفائقة
وعصمته ونزاهة باطنه.
الأمر الثاني: أنه بالفعل تم التعيين بأمر من الله تعالى، وبنص صريح
وواضح جلي في مواقف عديدة ومناسبات كثيرة من النبي - صلى الله عليه

(1) راجع الأحكام السلطانية للماوردي ص 4
(2) وجوب نصب الإمام على الله تعالى هو بمقتضى قاعدة اللي ف بالعباد إذ لا يمكن أن يوجب العبد شيئا " على مولاه، وهناك من المذاهب من يرى وجوبها شرعا "، راجع شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد ج 2 ص 308.
16

وآله وسلم - على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - ابتداء
بالإنذار يوم الدار وانتهاء بالساعات الأخيرة من حياة النبي - صلى الله عليه
وآله - فكان لا يدع فرصة يمكنه الإشارة فيها أو التصريح بإمامة علي - عليه
السلام - من بعده إلا وبين فيها أمر الإمامة والإمام من بعده، ولعل أبرز تلك
المناسبات قضية الغدير وهي أشهر من أن تذكر، ولا يختلف في تواترها
أحد من المسلمين وإن اختلفوا في دلالة الولاية المنصوص عليها في هذا
الحديث المتواتر، وقد أثبت علماؤنا دلالتها على الأولى بالتصرف.
وانطلاقا من هذا الأمر أخذت الشيعة الإمامية تحتج لأحقية أمير
المؤمنين - عليه السلام - وأبنائه الأحد عشر - عليهم السلام - في الخلافة،
- مستخدمين في ذلك البراهين النقلية والعقلية - وأثبتوا ذلك في مؤلفاتهم
الكثيرة (1) في هذا الشأن قديما وحديثا، وفي خطبهم وشعرهم وأدبهم
فإن أدب الغدير، وأدب الإمامة والخلافة يحتل جانبا كبيرا من الأدب
الإسلامي خصوصا في القرون الأولى.
ومن أقدم تلك الاحتجاجات التي بدأت منذ الساعات الأولى من
ارتحال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الرفيق الأعلى، المحاورات
والمناظرات حول هذه المسألة التي كانت تدور بين الحين والآخر
واستمرت مع التأريخ وتطورت فيها أساليب النقاش ووسائل الأثبات مع
اختلاف المناسبات.
ومما لا يخفى أن أسلوب المناظرة من أحسن الأساليب إقناعا، ومن
أسهلها استيعابا، وأوقعها في النفس، حيث يتفاعل معها الإدراك من خلال

(1) راجع: الشافي في الإمامة للسيد المرتضى، الألفين للعلامة الحلي، تلخيص الشافي للشيخ
الطوسي، دلائل الصدق للمظفر، المراجعات لشرف الدين، الغدير للأميني، وغيرها.
17

الأخذ والرد، ويستفيد منها عامة الناس مع اختلاف مستوياتهم الفكرية.
ومن ناحية أخرى إن طرح موضوع الخلافة كمسألة علمية في إطار
المناظرات والتي احتوت على كثير من الحقائق التاريخية والعلمية مما
يؤدي إلى عمق أكثر في التعرف على نظريات وأدلة كل من المذاهب
الإسلامية في شؤون الخلافة الإسلامية وخصوصا الشيعة الإمامية
والوقوف على نظرياتها في هذه المسألة.
ومن هنا رأيت أن أجمع بعض تلك المحاورات والمناظرات التي
جرت في مسألة الخلافة بالذات، والتي أثبتوا فيها بالأدلة دلالة النصوص
المتظافرة على خلافة أمير المؤمنين - عليه السلام -، مع احتوائها لكثير من
الاستدلالات المختلفة المتنوعة، كما أضفت إليها بعض المناظرات
المخطوطة في هذا الباب وقد اعتمدت في إخراجها على المصادر
الموثوقة والمعتمدة مع تخريج مصادرها من كتب الجمهور.
وسيلاحظ القارئ الكريم لهذه المناظرات أن وسائل الأثبات في
بعضها مرتكزة على الآيات الشريفة، والنصوص المأثورة عن النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم - المتفق عليها بين الفريقين، وأخرى على
الشواهد والوقائع التاريخية، وتارة يستدل من خلال بعض الممارسات
والمقارنة بينها وبين ممارسات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في نظائر
تلك الوقائع، كما أن للأدلة العقلية دورا كبيرا في هذا المجال.
وسيلاحظ أيضا أن بعض الاستدلالات بالآيات أو الأحاديث أو
غيرهما قد تكررت في بعض المناظرات، إلا أن المتأمل فيها يجد أن كل
مناظر له أسلوبه الخاص المتميز في الاستدلال، وربما تناول فيها جانبا
أغفله الآخر، وإن تكررت فيها نفس النصوص.
18

وقد آثرنا في فهرسة وترتيب المناظرات الاعتماد على التسلسل
التاريخي لوقوعها، ليتسنى للقارئ الكريم الاطلاع على سيرها في حقل
الإمامة في أحقاب زمنية متوالية، ابتداء من الصدر الأول وإلى وقتنا
الحاضر.
وبالإمكان الوقوف - من خلال هذا التسلسل لهذه المناظرات - على
وسائل الاستدلال لدى الطرفين عبر عصورها المختلفة، ومدى تطورها.
وهذا الكتاب ليس هو الأول في هذا الباب بل هناك الكتب الكثيرة
التي حوت مثل هذه المناظرات والمحاورات مثل: كتاب الفصول
المختارة للشيخ المفيد - أعلى الله مقامه - وكتاب الاحتجاج للشيخ
الطبرسي - أعلى الله مقامه -، فقد جمع فيه مناظرات واحتجاجات النبي -
صلى الله عليه وآله وسلم - والزهراء والأئمة - عليهم السلام - مع اليهود
والنصارى والزنادقة والملاحدة ومع مختلف المذاهب، والبحار للشيخ
المجلسي - أعلى الله مقامه - في بعض أجزائه، والمراجعات للسيد شرف
الدين - قدس الله سره -، والغدير للأميني - طاب ثراه - في الجزء الأول،
وغيرها.
إلا أننا اقتصرنا في هذا الكتاب على المناظرات التي جرت بشأن
الخلافة والإمامة فقط، كما مرت الإشارة إليه آنفا.
هذا وباب المناظرات في الخلافة باب لا يسع استيفاؤه ولا يمكن
استيعابه، وعسى أن يكون فيما ذكرناه كفاية لمن طلب الحق في هذا
المجال.
وقد رأيت من الضرورة بمكان أن أصدر الكتاب - بمناسبة
موضوعه - ببيان لحكم المناظرة في الشريعة الإسلامية وآدابها وتاريخها
19

في الخلافة ومتى بدأت.
وأخيرا " أرجو من القارئ الكريم أن تكون قراءته بدقة وتمعن
بالغين، وبكل موضوعية بعيدا " عن التعصب، ومما لا يخفى على كل
باحث أن ترك التعصب وتحكيم العقل يؤدي إلى رؤية الحقيقة بأجلى
مظاهرها وأصدق معانيها، هذا والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها
أخذها.
والله تعالى أسأل في هذه الظروف العصيبة أن يلم شمل المسلمين
جميعا ويوحد كلمتهم على الحق ليكونوا يدا " واحدة على أعدائهم قال
تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (1) وقال تعالى:
(واعتصموا بحبل الله جميعا " ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ
كنتم أعداء " فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " وكنتم على شفا
حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم
تهتدون) (2) ولا يفوتني أن أقدم جزيل الشكر والامتنان لكل من ساهم في
مراجعة وإبراز هذا الكتاب راجيا " لهم التوفيق، وإياه تعالى أسأل أن ينفع
بهذه المناظرات إخواني المؤمنين ويجعلها ذخرا " ليوم لا ينفع فيه مال ولا
بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والله من وراء القصد والهادي إلى سواء
السبيل، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
عبد الله الحسن
يوم الجمعة 29 / 11 / 1413 ه‍

(1) سورة الأنبياء: الآية 92.
(2) سورة آل عمران: الآية 103.
20

حكم المناظرة في الشريعة الإسلامية:
تمهيد:
عرفت المناظرة أو المجادلة في الفلسفة اليونانية باسم: (طوبيقا)،
وهي إحدى الصناعات الخمس المهمة التي ينقسم إليها القياس المنطقي،
ويتوقف فهم هذه الصناعة على مقدمات ومبادئ أساسية لا غنى عنها
من يروم الدفاع عما يراه جديرا " بالدفاع عنه لشتى الأغراض، سواء أكان
ذلك في مجال العقيدة أم لم يكن.
على أن رجوع طالب المناظرة أو الجدل إلى المصادر الأولية
للوقوف على مقدمات ومبادئ هذه الصناعة قد لا يخلو من صعوبة، لما
اكتنف تلك المصادر من غموض في العبارة، وإجمال يتيه معه المبتدئ
في خضم الأساليب المنطقية التي لم يعتدها من قبل، ولهذا ننصح
بالرجوع إلى ما كتبه الشيخ محمد رضا المظفر - رحمه الله - في كتابه
المنطق، إذ فيه مادة غنية مبسطة تغني عن الرجوع إلى غيره في تحصيل
أوليات المناظرة فيما يتعلق بصناعة الجدل.
ومن المهم أن نشير في هذا التمهيد إلى أن القياسات الجدلية، - التي
ينبغي معرفتها في مقام المناظرة أو المجادلة - تهدف بالدرجة الأساس إلى
تحصيل ما يفحم به الخصم عند المناظرة، وقطع حجته والظهور عليه بين
السامعين، سواء أكان ذلك حقا " أم باطلا "، إذ ليس الغرض من القياسات
الجدلية هو الحق أو الباطل، وإن كان أحدهما داخلا " في طلب ما يفحم به
21

الخصم، إلا أنه لم يكن مرادا " ومقصودا " بعينه (1).
وهذا ما يفهم من تعريف الجدل أيضا "، إذ لم يذكر في التعريف أي
شرط يقيد معناه بالدفاع عن الحق مثلا "، ولهذا قالوا: الجدل (صناعة علمية
يقتدر معها على إقامة الحجة من المقدمات المسلمة على أي مطلوب
يراد، وعلى محافظة أي وضع يتفق، على وجه لا تتوجه عليه مناقضة
بحسب الإمكان) (2).
ومن هنا كان لا بد من بيان رأي شريعتنا الغراء في المناظرة ما دامت
رحاها تدور على إثبات صحة الآراء والأفكار التي يدعيها كل من الطرفين
المتناظرين بغض النظر عن موافقة تلك الآراء أو مخالفتها لشريعة
الإسلام، وذلك بحسب التقسيم التالي للمناظرة.

(1) رسالة تصور والتصديق لصدر المتألهين شيرازي ص 233، مطبوعة بهامش الجوهر
النضيد للعلامة الحلي
(2) الجوهر النضيد للعلامة الحلي ص 233 والمنطق للشيخ المظفر ج 3 ص 335.
22

أقسام المناظرة:
تناول القرآن الكريم في العديد من الآيات الشريفة، وكذلك السنة
المطهرة في جملة من الأحاديث، موضوع المناظرة والجدل تارة بالتأييد
وأخرى بالتفنيد ومن هنا يمكن القول بأن المناظرة بحسب نظرة الشريعة
الإسلامية تنقسم إلى قسمين وهما:
القسم الأول: المناظرة المشروعة.
القسم الثاني: المناظرة غير المشروعة.
المناظرة المشروعة:
لقد شرع القرآن الكريم المناظرة وجعل لها حدود وضوابط وأكد
على ضرورتها وأهميتها، وذلك في كثير من آيات الذكر الحكيم، وهذا ما
يصور لقارئ القرآن الكريم احتلال المناظرة جانبا " حيويا " في حياة سائر
الأديان، إذ ما من رسول أو نبي إلا وقد ناظر قومه وحاججهم وجادلهم في
إثبات صحة ما يدعوهم إليه.
ومما يزيد الأمر وضوحا " هو أن الله تعالى قد أمر رسوله الكريم
- صلى الله عليه وآله وسلم - بمجادلة المشركين ودعوتهم إلى الحق،
بالحكمة والموعظة الحسنة "، فقال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة
والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن
ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (1).

(1) سورة النحل: الآية 125.
23

كما أمر تعالى بمجادلة أهل الكتاب عن طريق الحكمة والموعظة
لما في ذلك من إلانة قلوبهم وانصياعهم إلى الحق، فقال تعالى: (ولا
تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن..) (2).
لأن الغلظة في المناظرة والجدل لا تزيد الطرف الآخر إلا نفورا "،
وعنادا "، وتعصبا "، وتمسكا " بالباطل كما أوضحه تعالى في قوله الكريم:
(ولو كنت فظا " غليظ القلب لا نفضوا من حولك..) (3).
وهذا ما يكشف عن أسلوب المناظرة النبوية، فهو الأسلوب الأمثل
الذي يجب مراعاته بين المتناظرين.
ومن الأدلة والشواهد القرآنية التي تبين مشروعية المناظرة في
الإسلام، قوله تعالى: (وضرب لنا مثلا " ونسي خلقه قال من يحيي
العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق
عليم، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا " فإذا أنتم منه توقدون،
أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى
وهو الخلاق العليم، إنما أمره إذا أراد شيئا " أن يقول له كن فيكون،
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون) (1).
وهنا يلاحظ ما في جواب من أنكر الأحياء بعد الإماتة، وما فيه من
أدلة عظيمة، وأسلوب رائع يأخذ بمجامع القلوب ويسوقها طوعا إلى
الإذعان والتصديق، ومنه ينكشف مدى تأثير الدليل وطريقة عرضه، إذ
بهما يخلق من الطرف الآخر إنسانا سلس الانقياد.

(1) سورة عنكبوت: الآية 46.
(2) سورة آل عمران: الآية.
(3) سورة يس: الآية 78 - 82.
24

ولم يقتصر هذا الأمر على مناظرات نبينا - صلى الله عليه وآله - مع
مشركي مكة ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وإنما كان ذلك الأسلوب من
المناظرة والجدل متبعا من قبل الأنبياء - عليهم السلام - مع مشركي
أقوامهم كما في قصة إبراهيم - عليه السلام - مع نمرود كما في قوله تعالى:
(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم
ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي
بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا
يهدي القوم الظالمين) (1).
ومثله أيضا " ما جاء في محاجة قومه له - عليه السلام - وجوابه لهم
كما في قوله تعالى: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله) - إلى قوله -
(فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون) (2).
ومثله أيضا " ما جاء في محاجته - عليه السلام - لقومه حينما كسر
أصنامهم وقد ألزمهم بالحجة والعقل والرجوع إلى وجدانهم وعقولهم،
كما في قوله تعالى: (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم، قال بل
فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا
إنكم أنتم الظالمون، ثم نكسوا على رؤسهم لقد علمت ما هؤلاء
ينطقون، قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم، أف
لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) (1).
ومنها مجادلة نوح - عليه السلام - لقومه الذين ركبوا رؤوسهم عنادا
وازدادوا غيا وفسادا، حيث قالوا له وهو يجادلهم في الله تعالى: (يا نوح

(1) سورة البقرة: الآية 258.
(2) سورة الأنعام: الآية 81 - 80.
(3) سورة الأنعام: الآية 62 - 67.
25

قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) (1).
ومن هنا يتبين أن المناظرة أو الجدل لو لم تكن مشروعة لما أمر الله
تعالى بها أنبياءه - عليهم السلام -، في حين أن القرآن الكريم يزخر
بمحاججات الأنبياء لأقوامهم لا سيما نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم -،
وهو القدوة الحسنة والمثل الأعلى الذي لا ينتهي حديث عظمته، ولا
تزيده الدهور إلا سناءا وعلوا.
هذا هو موقف القرآن الكريم من المناظرة المشروعة بشكل موجز،
والذي يمكن أن تكون خلاصته: أن ينظر كل من المتناظرين بعين الاعتبار
إلى الآخر، ولا يستهين بآرائه وإن كانت مخالفة للحق في بداية الأمر وأن
لا ينسب آراءه إلى محض الباطل حتى ولو كان كذلك في نظره لاحظ قوله
تبارك وتعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) (3) حيث أن
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، يجمل إجمالا الضلالة بين الفريقين
تمهيدا للجو الملائم للمناظرة الصحيحة بهدف الوصول إلى الحقيقة ولا
يفاجأهم مباشرة بتفنيد مزاعمهم جملة وتفصيلا رغم أنها كانت محض
الباطل في اعتقاده - صلى الله عليه وآله -، ثم عليه أن يسوق الدليل الذي
يعرفه المقابل نفسه، وأن يعرض الدليل بالطريقة الهادئة مقرونا بالحكمة
والموعظة الحسنة، على أن يكون مراده تحصيل الحق، وإلا ستكون
المناظرة غير مشروعة كما سيأتي الحديث عنها في محله.
أما موقف السنة المطهرة من المناظرة، فهو لا يختلف عن حكم
القرآن، فكلاهما - القرآن والسنة - صنوان لمشرع واحد، قال تعالى: (وما

(1) سورة هود: الآية 32.
(2) سورة سبأ: الآية 24.
26

ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) (1).
ومما ورد من الأدلة والشواهد على مشروعية المناظرة من السنة
الشريفة:
منها: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: (نحن
المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيا) (2).
ومنها: ما روي من مناظرات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مع
أهل الأديان وغيرهم، ومما يروى بهذا الصدد من اجتماع أهل خمسة
أديان وفرق - وهم اليهود - والنصارى، والدهرية، والثنوية، ومشركو
العرب - عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، واحتجاج كل فريق منهم
لدعواه وجواب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لهم وإبطاله
لمزاعمهم. (3)
كما أن المتتبع لسيرة الأئمة - عليهم السلام - يجد أمثلة كثيرة جدا
في مناظراتهم واحتجاجاتهم مع خصومهم، كما وردت عنهم - عليهم
السلام - أخبار كثيرة بشأن مجادلة الخصوم وإقناعهم، وكانوا - عليهم
السلام - يأمرون بعض أصحابهم بذلك ممن يتوسمون فيه القدرة على
مقارعة الحجة بالحجة، كما هو المشهور في موقف الإمام الصادق - عليه
السلام - من هشام بن الحكم وثلة من أصحابه الذين كانوا بالمرصاد في
تصديهم للزنادقة والملحدين والمخالفين في المسائل الاعتقادية
كالمجبرة والمفوضة والمجسمة وغيرها من المذاهب الأخرى.
كما كانت لمسائل الإمامة الحصة الكبرى في مناظرات هؤلاء

(1) سورة النجم: الآية 3 و 4.
(2) الاحتجاج للطبرسي ج 1 - ص 15.
(3) الاحتجاج للطبرسي ج 1 ص 22 - 28، البرهان في تفسير القرآن للبحراني ج 2 ص 116 - 120.
27

الأصحاب وغيرهم مع خصومهم، كما سيبينه كتابنا هذا: مناظرات في
الإمامة.
وفيما يلي نذكر بعض الروايات عن أهل بيت النبوة - عليهم السلام -
الدالة على ما أسلفناه:
منها: رواية الشيخ المفيد بإسناده عن الإمام جعفر بن محمد الصادق
عن أبيه الباقر - عليهما السلام - قال: من أعاننا بلسانه على عدونا أنطقه الله
بحجته يوم موقفه بين يديه عز وجل (1).
ومنها: قول الصادق - عليه السلام -: حاجوا الناس بكلامي، فإن
حاجوكم فأنا المحجوج (2).
ومنها: ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (3) من مناظرة هشام بن الحكم
مع عمرو بن عبيد، حتى أن الإمام الصادق - عليه السلام - أحب أن يسمع
من هشام نفسه ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد، كما ستأتي مفصلة في
هذا الكتاب.
ومع هذا كله فقد تخيل بعض المخالفين أن المناظرة محرمة في رأي
أهل البيت - عليهم السلام -، وأن ما يفعله الشيعة يخالف أمر أئمتهم.
يقول الشريف المرتضى (ره): قلت للشيخ أبي عبد الله أدام الله عزه:
إن المعتزلة والحشوية يزعمون أن الذي نستعمله من المناظرة شئ
يخالف أصول الإمامية ويخرج عن إجماعهم لأن القوم لا يرون المناظرة
دينا وينهون عنها ويروون عن أئمتهم تبديع فاعلها وذم مستعملها، فهل
معك رواية عن أهل البيت - عليهم السلام - في صحتها أم تعتمد على

(1) أمالي المفيد ص 33 ح 7.
(2) تصحيح الاعتقاد الشيخ المفيد: ص 27.
(3) الأصول من الكافي للكليني ج 1 ص 169 - 171.
28

حجج العقول ولا تلتفت إلى من خالفها وإن كان عليه إجماع العصابة؟
فقال: أخطأت المعتزلة والحشوية فيما ادعوه علينا من خلاف
جماعة أهل مذهبنا في استعمال المناظرة وأخطأ من ادعى ذلك من
الإمامية أيضا وتجاهل، لأن فقهاء الإمامية ورؤساءهم في علم الدين كانوا
يستعملون المناظرة ويدينون بصحتها وتلقى ذلك عنهم الخلف ودانوا
به، وقد أشبعت القول في هذا الباب وذكرت أسماء المعروفين بالنظر
وكتبهم ومدائح الأئمة لهم في كتابي الكامل في علوم الدين، وكتاب
الأركان في دعائم الدين، وأنا أروي لك في هذا الوقت حديثا من جملة ما
أوردت في ذلك إن شاء الله.
أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد (بسنده) عن أبي عبد الله
الصادق جعفر بن محمد - عليهما السلام - قال: قال لي: خاصموهم وبينوا
لهم الهدى الذي أنتم عليه، وبينوا لهم ضلالهم وباهلوهم في علي - عليه
السلام - (1).
إلى غير ذلك من الأدلة والشواهد التي تنص على مشروعية المناظرة
على أن التوسع في إيراد الشواهد والأدلة على مشروعية المناظرة قد
يكون على حساب مادة الكتاب، إذ فيه الشئ الكثير الذي لا يمكن
بموجبه إنكار مشروعية المناظرة في الإسلام، زيادة على ما كتب من كتب
إسلامية في هذا المجال بعض المناظرات التي وقعت بين علماء
المسلمين في جوانب شتى من العقيدة وغيرها، ولعل في كتاب الاحتجاج
للشيخ الطبرسي - أعلى الله مقامه - خير دليل على ذلك.

(1) الفصول المختارة: ص 284.
29

المناظرة غير المشروعة:
وأما ما هو غير مشروع من المناظرة فقد سبق وأن ألمحنا إلى أن
القرآن الكريم بين ضوابط المناظرة المشروعة وحدد معالمها، ووضعها
في إطارها الصحيح، وذلك بعبارة جامعة مانعة وهي أن تكون الدعوة فيها
إلى الحق وهو ما عبر عنه تعالى ب‍ (سبيل الله) وأن تكون بالحكمة
والموعظة والمجادلة الحسنة كما في قوله عز شأنه: (ادع إلى سبيل ربك
بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (1).
وحيث إن القرآن الكريم وضع الضوابط والمقاييس للمناظرة
المشروعة فإذا تخلف عنها ما هو شرط أو شطر خرجت المناظرة عن
كونها مشروعة وذلك فيما إذا كانت لإثبات باطل أو للغلبة على الحق أو
كانت عن غير علم، ونحو ذلك فهذه المناظرة هي التي لا يرضاها الله تعالى
ولا يقرها حتى لأنبيائه ومن هذه المناظرات غير المشروعة مناظرات
ومجادلات أهل الكتاب والمشركين والمنافقين مع نبينا محمد - صلى الله
عليه وآله وسلم - وكذا مجادلات الأمم السابقة مع أنبيائهم - عليهم السلام -
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النحو من المناظرات والمجادلات غير
المشروعة في مواضع شتى منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1 - قوله تعالى: (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) (1).
2 - قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل

(1) سورة النحل: الآية 125.
(2) سورة المؤمن: الآية 5.
30

شيطان مريد) (1).
3 - قوله تعالى: (يجادلونك في الحق بعد ما تبين) (2).
4 - قوله تعالى: (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من
محيص) (3).
5 - قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى
ولا كتاب منير) (4).
6 - قوله تعالى: (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم
وأنتم لا تعلمون) (5).
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الأخرى الناهية عن مثل هذه
المجادلات التي لا يبتغى من ورائها إلا الباطل.
فهي إما أن تكون مجادلة في حق قد تبين، وإما أن تكون لإماتة الحق
ونصرة الباطل، وإما أن تكون عن جهل وما يستتبعه من عناد وإصرار على
الباطل، وإما أن تكون بغير هذا وذاك من الدواعي الأخرى التي لا يقرها
دين ولا يؤيدها وجدان، وحري بالمسلم أن يتبع الحق فالحق أحق بأن
يتبع من أي طريق كان.

(1) سورة الحج: الآية 3.
(2) سورة الأنفال: الآية 6.
(3) سورة الشورى: الآية 35.
(4) سورة لقمان: الآية 20.
(5) سورة آل عمران: الآية 66.
31

آداب المناظرة:
لكي تكون المناظرة ناجحة وبناءة هادفة، ولكي يخرج الطرفان
منها بفائدة ونتيجة مثمرة، يحسن بهما أن يتبعا آداب المناظرة التي تشير
إليها الآية الكريمة: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
وجادلهم بالتي هي أحسن) (1) وفيما يلي نذكر أهم الآداب التي ينبغي
مراعاتها في المناظرة وهي:
1 - أن يكون (المناظر) في طلب الحق كمنشد ضالة يكون شاكرا
متى وجدها، ولا يفرق بين أن يظهر على يده أو على يد غيره، فيرى رفيقه
معينا لا خصيما ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق، كما لو أخذ
طريقا في طلب ضالة فنبهه غيره على ضالته في طريق آخر، والحق ضالة
المؤمن يطلبه كذلك، فحقه إذا ظهر الحق على لسان خصمه أن يفرح به
ويشكره، لا أنه يخجله ويسود وجهه ويزيل لونه، ويجتهد في مجاهدته
ومدافعته جهده.
2 - أن لا يمنع معينه من الانتقال من دليل إلى دليل، ومن سؤال إلى
سؤال، بل يمكنه من إيراد ما يحضره ويخرج من كلامه ما يحتاج إليه في
إصابة الحق، فإن وجده في جملته أو استلزمه وإن كان غافلا عن اللزوم
فليقبله ويحمد الله تعالى، فإن الغرض إصابة الحق، وإن كان في كلام
متهافت إذا حصل منه المطلوب.

(1) سورة النحل: الآية 125.
32

فأما قوله: (هذا لا يلزمني فقد تركت كلامك الأول وليس لك ذلك)
ونحو ذلك من أراجيف المناظرين، فهو محض العناد والخروج عن نهج
السداد.
وكثيرا ما ترى المناظرات في المحافل تنقضي بمحض المجادلات
حتى يطلب المعترض الدليل عليه ويمنع المدعي ما هو عالم به، وينقضي
المجلس على ذلك الإنكار والإصرار على العناد، وذلك عين الفساد،
والخيانة للشرع المطهر، والدخول في ذم من كتم علمه.
3 - أن يقصد بها إصابة الحق وطلب ظهوره كيف اتفق لا ظهور
صوابه وغزارة علمه، وصحة نظره، فإن ذلك مراء قد عرفت ما فيه من
القبائح والنهي الأكيد.
ومن آيات هذا القصد أن لا يوقعها إلا مع رجاء التأثير، فأما إذا علم
عدم قبول المناظر للحق وأنه لا يرجع عن رأيه وإن تبين له خطأه
فمناظرته غير جائزة لترتب الآفات وعدم حصول الغاية المطلوبة منها.
4 - أن يناظر في واقعة مهمة، أو في مسألة قريبة من الوقوع، وأن
يهتم بمثل ذلك، والمهم أن يبين الحق ولا يطول الكلام زيادة عما يحتاج
إليه في تحقيق الحق.
ولا يغتر بأن المناظرة في تلك المسائل النادرة توجب رياضة الفكر
وملكة الاستدلال والتحقيق، كما يتفق ذلك كثيرا لقاصدي حظ النفوس
من إظهار المعرفة فيتناظرون في التعريفات وما تشتمل عليه من النقوض
والتزييفات وفي المغالطات ونحوها، ولو اختبر حالهم حق الاختبار
33

لوجد مقصدهم على غير ذلك الاعتبار (1).
5 - أن يتخير الألفاظ الجزلة الفخمة، ويتجنب العبارات الركيكة
العامية، ويتقي التمتمة والغلط في الألفاظ والأسلوب.
6 - أن يكون متمكنا من إيراد الأمثال والشواهد من الشعر،
والنصوص الدينية، والفلسفية، والعلمية، وكلمات العظماء، والحوادث
الصغيرة الملائمة - وذلك عند الحاجة طبعا - بل ينبغي أن يكثر من ذلك ما
وجد إليه سبيلا وذلك يعينه على تحقيق مقصوده وهدفه، والمثل الواحد
قد يفعل في النفوس ما لا تفعله الحجج المنطقية من الانصياع إليه والتسليم به.
7 - أن يتجنب عبارة الشتم واللعن، والسخرية والاستهزاء، ونحو
ذلك مما يثير عواطف الغير ويوقظ الحقد والشحناء، فإن هذا يفسد
الغرض من المجادلة التي يجب أن تكون بالتي هي أحسن.
8 - ألا يرفع صوته فوق المألوف المتعارف، فإن هذا لا يكسبه إلا
ضعفا، ولا يكون إلا دليلا على الشعور بالمغلوبية، بل يجب عليه أن يلقي
الكلام قوي الأداء لا يشعر بالتردد والارتباك والضعف والانهيار، وإن أداه
بصوت منخفض هادئ فإن تأثير هذا الأسلوب أعظم بكثير من تأثير
أسلوب الصياح والصراخ.
9 - أن يتواضع في خطاب خصمه، ويتجنب عبارات الكبرياء
والتعاظم، والكلمات النابية القبيحة.
10 - أن يتظاهر بالإصغاء الكامل لخصمه، ولا يبدأ بالكلام إلا من
حيث ينتهي من بيان مقصوده، فإن الاستباق إلى الكلام سؤالا وجوابا قبل

(1) منية المريد في آداب المفيد والمستفيد: لزين الدين العاملي ص 154.
34

أن يتم خصمه كلامه يربك على الطرفين سير المحادثة، ويعقد البحث من
جهة، ويثير غضب الخصم من جهة أخرى.
11 - أن يتجنب - حد الإمكان - مجادلة طالب الرياء والسمعة ومؤثر
الغلبة والعناد ومدعي القوة والعظمة فإن هذا من جهة يعديه بمرضه
فينساق بالأخير مقهورا إلى أن يكون شبيها به في هذا المرض، ومن جهة
أخرى لا يستطيع مع مثل هذا الشخص أن يتوصل إلى نتيجة مرضية في
المجادلة (1).
12 - أن يكون مطلعا على أفكار وآراء خصمه من كتبه ومصادره لا
من كتبه ومصادره هو.
13 - أن يكون هاضما للفكرة التي يريد طرحها ومحيطا بها تماما،
ومقتنعا بها، لكي يتمكن من إقناع خصمه.
14 - وينبغي أن يختار الكلام المناسب للزمان والمكان فإن لهما
تأثيرا كبيرا في النفوس، ومن هنا قيل في المثل المشهور: لكل مقام مقال.
15 - أن يخاطب خصمه بكلام مفهوم مراعيا مقدار فهمه، ومستواه
الفكري، بأسلوب حسن ومنطق سديد.

(1) المنطق: للمظفر ص 362.
35

تاريخ الاحتجاج والمناظرة في الخلافة الإسلامية:
قد يتصور البعض أن تاريخ الاحتجاج والمناظرة في الإمامة وإثبات
حق أمير المؤمنين - عليه السلام - يعود إلى زمان متأخر، وبالتحديد إلى
ظهور علم الكلام بين الشيعة، وهذا ما دعاني لإثبات ما يؤكد أن تلك
المناظرات والاحتجاجات كانت منذ اليوم الأول لتسلم الخلافة بعد النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم - مباشرة إثر أحداث السقيفة التي غيرت مجرى
التاريخ، كما اعتبر ذلك النزاع أول نزاع حدث بين المسلمين بعد النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم - (1) في الإمامة.
وأول من فتح باب الاحتجاج والمناظرة - في هذا الأمر - هو أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - صاحب الحق الذي ثبت له
بالنصوص الشرعية، كما أن للزهراء والحسن والحسين - عليهم السلام -
وبني هاشم وجملة من الصحابة الدور الكبير في ذلك، وكتب التاريخ
والحديث والسيرة زاخرة باحتجاجاتهم ومناظراتهم في هذا الأمر، وفيما
يلي نذكر بعضا من احتجاجاتهم:
احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام في الخلافة ومطالبته بحقه
الذي يراجع كتب الحديث والسيرة - في خصوص هذا الشأن - يجد
كثيرا من احتجاجاته ومناشداته - عليه السلام - في الخلافة، وكذلك من

انظر مقالات إسلاميين للأشعري ص 2.
36

يراجع نهج البلاغة يجد كثيرا من الخطب والكلمات التي تكشف عن
مدى تأثره - عليه السلام -، ويجد تلك النفس التي ملؤها الحسرة
والتأسف كل ذلك بسبب ما حصل من القوم في حقه.
فقد روى كثير من المحدثين أنه عقيب يوم السقيفة تألم وتظلم،
واستنجد واستصرخ، حيث ساموه الحضور والبيعة، وأنه قال وهو يشير
إلى القبر: (يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) (1)، وأنه قال:
وا جعفراه! ولا جعفر لي اليوم! وا حمزتاه ولا حمزة لي اليوم! (2)
وفيما يلي نذكر بعض خطبه واحتجاجاته في الخلافة، وبعض
النصوص التي تكشف عن موقفه تجاههم:
1 - روي أن عليا - عليه السلام - أتي به إلى أبي بكر وهو يقول:
أنا عبد الله، وأخو رسوله، فقيل له بايع أبا بكر.
فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم، وأنتم أولى بالبيعة لي،
أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - وتأخذونه منا أهل البيت غصبا؟ ألستم زعمتم
للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة،
وسلموا إليكم الأمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على
الأنصار، نحن أولى برسول الله حيا وميتا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلا
فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون.
فقال عمر: إنك لست متروكا حتى تبايع.
فقال له علي: احلب حلبا لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردد عليك

(1) سوره الأعراف: الآية 150.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 11 ص 111.
37

غدا، ثم قال: والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه. - إلى أن قال
لهم -:
الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن
داره وقعر بيته، إلى دوركم وقعر بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في
الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به، لأنا أهل
البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم، أما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه
في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم
الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى
فتضلوا عن سبيل الله، فتزدادوا من الحق بعدا (1).
2 - لما بويع أبو بكر في يوم السقيفة وجددت البيعة له يوم الثلاثاء
على العامة، خرج علي - عليه السلام - فقال: أفسدت علينا أمورنا، ولم
تستشر، ولم ترع لنا حقا.
فقال أبو بكر: بلى، ولكني خشيت الفتنة (2).
3 - قوله - عليه السلام -: واعجبا أن تكون الخلافة بالصحابة ولا
تكون بالصحابة والقرابة.
قال الشريف الرضي - رحمه الله -: وقد روي له شعر قريب من هذا
المعنى وهو:

(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 18 - 19، السقيفة للجوهري ص 60 - 61، شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 11 - 12.
(2) مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 307.
38

فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب (1)
4 - قوله - عليه السلام: اللهم إني أستعديك على قريش ومن
أعانهم، فإنهم قد قطعوا رحمي، وأكفئوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي
حقا كنت أولى من غيري، وقالوا: ألا أن في الحق أن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن
تمنعه، فاصبر مغموما، أو مت متأسفا.
فنظرت فإذا ليس لي رافد، ولا دأب ولا مساعد، إلا أهل بيتي،
فضننت بهم عن المنية، فأغضيت على القذى، وجرعت ريقي على
الشجا، وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم، وآلم للقلب من وخز

(1) نهج البلاغة للإمام علي - عليه السلام - ص 502 من حكمه رقم: 190.
قال بن أبي الحديد في شرح النهج ج 18 ص 416: حديثه عليه السلام - في النثر والنظم
المذكورين مع أبي بكر وعمر.
أما النثر فإلى عمر توجيهه، لأن أبا بكر لما قال لعمر: امدد يدك، قال له عمر: أنت صاحب
رسول الله في المواطن كلها، شدتها ورخائها، فامدد أنت يدك. فقال علي - عليه السلام -: إذا
احتججت لاستحقاقه الأمر بصحبته إياه في المواطن كلها، فهلا سلمت الأمر إلى من قد شركه
في ذلك، وزاد عليه بالقرابة!!.
وأما النظم فموجه إلى أبي بكر، لأن أبا بكر حاج الأنصار في السقيفة. فقال: نحن عترة
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وبيضته التي تفقأت عنه، فلما بويع احتج على الناس
بالبيعة، وأنها صدرت عن أهل الحل والعقد. فقال علي - عليه السلام -: أما احتجاجك على
الأنصار بأنك من بيضة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن قومه، فغيرك أقرب نسبا
منك إليه.
وأما احتجاجك بالاختيار ورضا الجماعة بك، فقد كان قوم من جملة الصحابة غائبين لم
يحضروا العقد فكيف يثبت!.
39

الشفار (1).
5 - قوله - عليه السلام -: أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمدا - صلى
الله عليه وآله وسلم - نذيرا للعالمين، ومهيمنا على المرسلين، فلما مضى
- صلى الله عليه وآله وسلم - تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان
يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده -
صلى الله عليه وآله وسلم - عن أهل بيته، ولا أنهم منحوه عني من بعده،
فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت بيدي حتى رأيت
راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد - صلى
الله عليه وآله وسلم - فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو
هدما، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع
أيام قلائل، يزول منها ما كان كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب،
فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين
وتنهنه (2).
6 - قال - عليه السلام - في خطبته الشقشقية:
أما والله لقد تقمصها فلان، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من
الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا،
وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على
طخية عمياء يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن

(1) نهج البلاغة للإمام علي - عليه السلام - ص 336 من كلام له رقم: 217، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 11 ص 109.
(2) نهج البلاغة للإمام علي ص 451 كتاب رقم: 62، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 17 ص 151، الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 133 بتفاوت.
40

حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين
قذى، وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى
بها إلى ابن الخطاب بعده ثم تمثل بقول الأعشى:
شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر
فيا عجبا! بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته،
لشد ما تشطرا ضرعيها! فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن
مسها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن
أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط
وشماس، وتلون واعتراض، فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة،
حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيا لله وللشورى
متى اعترض الريب في مع الأول منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر!
لكني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا، فصغا رجل منهم لضغنه، ومال
الآخر لصهره، مع هن وهن إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه، بين نثيله
ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع إلى أن
انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته!.... الخ الخطبة (1).
7 - ومن خطبة له - عليه السلام - يقول: وقدر قال قائل: إنك على هذا

(1) نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام ص 48 وهي الخطبة الثالثة، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد، تذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي الحنفي ص 124، الاحتجاج ج 1 ص 191،
الإرشاد للمفيد ص 167، معاني الأخبار للصدوق ج 2 ص 343، مصادر نهج البلاغة للسيد عبد
الزهراء الخطيب ج 2 ص 20 - 31، مدارك نهج البلاغة لكاشف الغطاء ص 237، الغدير للعلامة
الأميني ج 7 ص 82 - 85، فإنه ذكر 28 مصدرا، المعيار والموازنة لأبي جعفر الإسكافي،
والجدير بالذكر أن سنة وفاته 240 ه‍، وهو معتزلي وهذا يعني أن الخطبة الشقشقية كانت
معروفة قبل وفاة الشريف الرضي بأكثر من قرن ونصف من الزمان.
41

الأمر يا بن أبي طالب لحريص، فقلت: بل أنتم والله لأحرص وأبعد، وأنا
أخص وأقرب، وإنما طلبت حقا لي، وأنتم تحولون بيني وبينه،
وتضربون وجهي دونه، فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب كأنه
بهت لا يدري ما يجيبني به؟
اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم! فإنهم قطعوا رحمي،
وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي، ثم قالوا: ألا إن
في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تتركه... الخ الخطبة (1).
8 - سأله بعض أصحابه: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم
أحق به؟
فقال - عليه السلام -: يا أخا بني أسد إنك لقلق الوضين، ترسل في
غير سدد، ولك بعد ذمامة الصهر وحق المسألة، وقد استعلمت فاعلم:
أما الاستبداد علينا بهذا المقام، ونحن الأعلون نسبا، والأشدون
برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نوطا، فإنها كانت أثرة (2) شحت

(1) نهج البلاغة للإمام علي - عليه السلام - ص 246 رقم الخطبة: 172، شرح نهج البلاغة لابن
أبي الحديد ج 9 ص 305، الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 144 ط مصطفى محمد بمصر
و ج 1 ص 134 ط الحلبي، بتفاوت.
على أن تذمر الإمام علي - عليه السلام - من قريش لا يخفى على كل باحث إذ أعرب بصراحة في
مواقف عديدة عن عداء قريش لآل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وكذلك أخبر النبي -
صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك وقد روته كتب السنة أجمع، فكان صرف الخلافة عنه لازما
بموجب هذا العداء، وأما تذرع من يتذرع بصغر سن الإمام وخوف الفتنة فما هو إلا كتمسك
الغريق بقشة، راجع: كتاب الغدير والمعارضون للسيد جعفر مرتضى العاملي لتقف على
عشرات النصوص المصرحة بهذا العداء بعهد النبي الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم -
والمنقولة من كتب السنة.
(2) وقد أشار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى ذلك بقوله للأنصار: ستلقون بعدي أثرة،
والأثرة هي: الاستئثار والاستبداد بالأمر. راجع: شرح النهج لابن أبي الحديد ج 9 ص 243.
42

عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، والحكم الله والمعود إليه
يوم القيامة.
ودع عنك نهبا صيح في حجراته * ولكن حديثا ما حديث الرواحل (1)
9 - ومن خطبة له - عليه السلام - قال: حتى إذا قبض الله رسوله
- صلى الله عليه وآله وسلم -، رجع قوم على الأعقاب (2)، وغالتهم السبل،
واتكلوا على الولائج (3)، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب (4) الذي
أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن رص (5) أساسه، فبنوه في غير موضعه،
معادن كل خطيئة، وأبواب كل ضارب في غمرة، قد ماروا في الحيرة،
وذهلوا في السكرة، على سنة من آل فرعون، من منقطع إلى الدنيا راكن،
أو مفارق للدين مباين (6).

(1) نهج البلاغة للإمام علي - عليه السلام - من كلام له رقم: 162 ص 231، شرح نهج البلاغة لابن
أبي الحديد ج 9 ص 241.
(2) وهذا الحدث التاريخي قد صرحت به الآية الشريفة (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله
الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا
وسيجزي الله الشاكرين) سورة آل عمران: الآية 144.
(3) الولائج جمع وليجة، وهي: البطانة يتخذها الإنسان لنفسه.
(4) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 9 ص 123، في شرحه لهذه الخطبة: وهجروا السبب،
يعني أهل البيت أيضا، وهذه إشارة إلى قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: خلفت فيكم
الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض، لا يفترقان
حتى يردا علي الحوض، فعبر أمير المؤمنين - عليه السلام - عن أهل البيت - عليهم السلام -
بلفظ (السبب) لما كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: (حبلان)، والسبب في اللغة:
الحبل.
(5) الرص مصدر رصصت الشئ أرصه، أي ألصقت بعضه ببعض، ومنه قوله تعالى:
(كأنهم بنيان مرصوص) سورة الصف: الآية 5.
(6) نهج البلاغة للإمام علي - عليه السلام - ص 209 رقم الخطبة: 150، شرح نهج البلاغة لابن
أبي الحديد ج 9 ص 132.
43

10 - ومن خطبة له - عليه السلام - قال: أين الذين زعموا أنهم
الراسخون في العلم دوننا (1)؟ كذبا وبغيا علينا أن رفعنا الله ووضعهم،
وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى، ويستجلى
العمى، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على
سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم... الخ (2).
11 - قوله - عليه السلام -: اللهم فاجز قريشا عني الجوازي فقد
قطعت رحمي، وتظاهرت علي، ودفعتني عن حقي، وسلبتني سلطان ابن
أمي، وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول، وسابقتي في
الإسلام إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه، ولا أظن الله يعرفه، والحمد لله على
كل حال (3).
12 - قوله - عليه السلام -: إن لنا حقا إن نعطه نأخذه وإن نمنعه نركب
أعجاز الإبل وإن طال السرى.
13 - قوله - عليه السلام -: ما زلت مظلوما منذ قبض الله رسوله حتى
يوم الناس هذا.
14 - قوله - عليه السلام -: اللهم اخز قريشا فإنها منعتني حقي،
وغصبتني أمري.
15 - قوله - عليه السلام -: فجزى قريشا عني الجوازي، فإنهم

(1) لا شك أن العقل والشرع يقضيان بالفارق الكبير بين من يقول: أقيلوني، وبين من يقول:
سلوني.
(2) نهج البلاغة للإمام علي - عليه السلام - ص 201 خطبة رقم: 144، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ج 9 ص 84.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 119، ومثله بتفاوت في ج 16 ص 148، ونهج
البلاغة ص 409 رقم الكتاب: 36.
44

ظلموني حقي، واغتصبوني سلطان ابن أمي.
16 - قوله - عليه السلام - وقد سمع صارخا ينادي: أنا مظلوم، فقال:
هلم فلنصرخ معا، فإني ما زلت مظلوما.
17 - قوله عليه السلام: اللهم إني استعديك على قريش فإنهم
ظلموني حقي وغصبوني إرثي.
18 - قوله - عليه السلام -: ما زلت مستأثرا علي، مدفوعا عما
أستحقه وأستوجبه.
19 - قوله - عليه السلام -: لقد ظلمت (1) عدد الحجر والمدر (2).
20 - ومن خطبة له - عليه السلام - بعد البيعة له قال: لا يقاس بآل
محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من
جرت نعمتهم عليه أبدا، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفئ
الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية
والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله (3)، ونقل إلى منتقله (4).
21 - قوله - عليه السلام -: فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي

(1) جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 106 عن المسيب بن نجبة قال: بينا علي -
عليه السلام - يخطب إذ قام أعرابي، فصاح وا مظلمتاه! فاستدناه علي - عليه السلام -، فلما دنا،
قال له: إنما لك مظلمة واحدة، وأنا قد ظلمت عدد المدر والوبر، قال: وفي رواية عباد بن
يعقوب، أنه دعاه، فقال له: ويحك! وأنا والله مظلوم أيضا، هات فلندع على من ظلمنا.
(2) راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 9 ص 306 - 307 و ج 10 ص 286.
(3) قوله - عليه السلام -: الآن إذ رجع الحق إلى أهله: صريح كل الصراحة ولا يحتاج إلى تأويل أو
تفسير، ولازمه: أن الخلافة لم تكن عند أهلها وفي موضعها وقد فهم ابن أبي الحديد هذا
المعنى، ولكن حاول أن يؤوله كما هي عادته في كل نص صريح لا يقبل التأويل والتفسير.
(4) نهج البلاغة للإمام علي - عليه السلام - ص 47 من الخطبة الثانية، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ج 1 ص 138 - 139.
45

فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجى،
وصبرت على أخذ الكظم وعلي أمر من طعم العلقم (1).
22 - قوله - عليه السلام -: اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم
أضمروا لرسولك - صلى الله عليه وآله وسلم - ضروبا من الشر والغدر،
فعجزوا عنها، وحلت بينهم وبينها، فكانت الوجبة بي والدائرة علي، اللهم
احفظ حسنا وحسينا، ولا تمكن فجرة قريش منهما ما دمت حيا، فإذا
توفيتني فأنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شئ شهيد (2).
23 - قوله - عليه السلام -: أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه
لعهد النبي الأمي إلي أن الأمة ستغدر بك من بعدي (3).
24 - قوله - عليه السلام -: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم -: إن اجتمعوا عليك فاصنع ما أمرتك، وإلا فألصق كلكلك
بالأرض، فلما تفرقوا عني جررت على المكروه ذيلي، وأغضيت على
القذى جفني، وألصقت بالأرض كلكلي (4).
25 - عن أنس بن مالك، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله

(1) نهج البلاغة للإمام علي - عليه السلام - ص 68 رقم الخطبة: 26، الإمامة والسياسة لابن قتيبة
ج 1 ص 134 بتفاوت، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 20.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 20 ص 298، من حكمه المنسوبة إليه - عليه السلام -
رقم: 413.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 20 ص 326، من حكمه المنسوبة إليه - عليه السلام -
رقم: 734، وجاء في شرح النهج أيضا ج 6 ص 45: عن حبيب بن ثعلبة بن يزيد، قال: سمعت
عليا يقول: أما ورب السماء والأرض، ثلاثا، إنه لعهد النبي الأمي إلي لتغدرن بك الأمة من
بعدي.
(4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 20 ص 326، من حكمه المنسوبة إليه - عليه السلام -
رقم: 736.
46

وسلم -، وعلي بن أبي طالب معنا، فمررنا بحديقة، فقال علي: يا رسول
الله، ألا ترى ما أحسن هذه الحديقة!.
فقال: إن حديقتك في الجنة أحسن منها، حتى مررنا بسبع حدائق،
يقول علي ما قال: ويجيبه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بما
أجابه، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقف، فوقفنا، فوضع
رأسه على رأس علي وبكى.
فقال علي - عليه السلام -: ما يبكيك يا رسول الله؟
قال: ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني.
فقال: يا رسول الله، أفلا أضع سيفي على عاتقي فأبيد خضراءهم.
قال: بل تصبر.
قال: فإن صبرت؟
قال: تلاقي جهدا.
قال: أفي سلامة من ديني؟
قال: نعم.
قال: فإذا لا أبالي (1).
26 - ومن احتجاجاته الشديدة قوله - عليه السلام -: لو وجدت
أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم (2).
27 - قوله - عليه السلام -: لما عزموا على بيعة عثمان: لقد علمتم أني
أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم
يكن فيها جور إلا علي خاصة، التماسا لأجر ذلك وفضله، وزهدا فيما

(1) شرح نهج البلاغة ج 4 ص 107 - 108.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 47، سفينة البحار للقمي ج 1 ص 503 و 504.
47

تنافستموه من زخرفه وزبرجه (1)
28 - قوله - عليه السلام -: فإنه لما قبض الله نبيه - صلى الله عليه وآله
وسلم -، قلنا: نحن أهله وورثته وعترته، وأولياؤه دون الناس، لا ينازعنا
سلطانه أحد، ولا يطمع في حقنا طامع، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان
نبينا، فصارت الأمرة لغيرنا وصرنا سوقة، يطمع فينا الضعيف، ويتعزز
علينا الذليل، فبكت الأعين منا لذلك، وخشيت الصدور، وجزعت
النفوس، وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر،
ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه... الخ (1).
29 - قوله - عليه السلام - في خطبته عند مسيره للبصرة:
إن الله لما قبض نبيه، استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق
نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق
كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين
يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقل خلف، فولي
الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا، ثم انتقلوا إلى دار الجزاء، والله ولي
تمحيص سيئاتهم، والعفو عن هفواتهم... الخ (3).
30 - قوله - عليه السلام -: لا يعاب المرء بتأخير حقه، إنما يعاب من
أخذ ما ليس له. (4)

(1) نهج البلاغة للإمام علي - عليه السلام - ص 102 رقم الخطبة: 74، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 166.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 307.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 308.
(4) نهج البلاغة للإمام علي - عليه السلام - ص 500 من حكمه رقم: 166.
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 18 ص 390 في شرحه لهذه الكلمة: لعل هذه الكلمة
قالها في جواب سائل سأله: لم أخرت المطالبة بحقك من الإمامة، ولا بد من إضمار شئ في
الكلام على قولنا وقول الإمامية لأنا نحن نقول: الأمر حقه بالأفضلية، وهم يقولون: إنه حقه
بالنص وعلى كلا التقديرين فلا بد من إضمار شئ في الكلام لأن لقائل أن يقول له - عليه
السلام -: لو كان حقك من غير أن يكون للمكلفين فيه نصيب لجاز ذلك أن يؤخر كالدين الذي
يستحق على زيد يجوز لك أن تؤخره لأنه خالص لك وحدك، فأما إذا كان للمكلفين فيه حاجة
ماسة لم يكن حقك وحدك لأن مصالح المكلفين منوطة بإمامتك دون إمامة غيرك، فكيف
يجوز لك تأخير ما فيه مصلحة المكلفين؟ فإذن لا بد من إضمار شئ في الكلام، وتقدير ه لا
يعاب المرء بتأخير حقه إذا كان هناك مانع عن طلبه ويستقيم المعنى حينئذ على المذهبين...
48

31 - قوله - عليه السلام -: كنت في أيام رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم - كجزء من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ينظر إلي كما
ينظر إلى الكواكب في أفق السماء، ثم غض الدهر مني، فقرن بي فلان
وفلان، ثم قرنت بخمسة أمثلهم عثمان، فقلت: وا ذفراه! ثم لم يرض
الدهر لي بذلك، حتى أرذلني، فجعلني نظيرا لابن هند وابن النابغة! لقد
استنت الفصال حتى القرعى (1).
32 - قوله - عليه السلام -: كل حقد حقدته قريش على رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - أظهرته في وستظهره في ولدي من بعدي،
مالي ولقريش! إنما وترتهم بأمر الله وأمر رسوله، أفهذا جزاء من أطاع الله
ورسوله إن كانوا مسلمين (2).
33 - قال له قائل: يا أمير المؤمنين، أرأيت لو كان رسول الله - صلى
الله عليه وآله - ترك ولدا ذكرا قد بلغ الحلم، وآنس منه الرشد، أكانت

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 326، من حكمه المنسوبة إليه - عليه السلام - رقم: 733.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 328، من حكمه المنسوبة إليه - عليه السلام - رقم: 764.
49

العرب تسلم إليه أمرها؟
قال: لا، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت، إن العرب كرهت أمر
محمد - صلى الله عليه وآله - وحسدته على ما آتاه الله من فضله،
واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته، ونفرت به ناقته، مع عظيم إحسانه
إليها، وجسيم مننه عندها وأجمعت مذ كان حيا على صرف الأمر عن أهل
بيته بعد موته... إلى آخر كلامه - عليه السلام - (1).
34 - قال محمد بن حرب: لما توفي النبي - صلى الله عليه وآله -،
وجرى في السقيفة ما جرى تمثل علي - عليه السلام -:
وأصبح أقوام يقولون ما اشتهوا ويطغون لما غال زيدا غوائله (1)
35 - قال عاصم بن قتادة: لقي علي - عليه السلام - عمر، فقال له
علي: أنشدك الله هل استخلفك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟
قال: لا.
قال: فكيف تصنع أنت وصاحبك؟!!
قال: أما صاحبي فقد مضى لسبيله، وأما أنا فسأخلعها من عنقي إلى
عنقك.
فقال: جذع الله أنف من ينقذك منها! لا ولكن جعلني الله علما فإذا
قمت فمن خالفني ضل. (2)
36 - عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال: كنت على الباب يوم
الشورى فارتفعت الأصوات بينهم فسمعت عليا - عليه السلام - يقول:
.

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 20 ص 298 رقم: 414.
(2) السقيفة للجوهري ص 62، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 14.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 58
50

بايع الناس أبا بكر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحق به منه، فسمعت
وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض
بالسيف، ثم بايع الناس عمر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحق به منه،
فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب
بعض بالسيف، ثم أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان؟!!! إذا لا أسمع ولا أطيع
وإن عمر جعلني من خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضلا عليهم في
الصلاح ولا يعرفونه لي كلنا فيه شرع سواء وأيم الله لو أشاء أن أتكلم ثم لا
يستطيع عربيهم ولا عجميهم ولا معاهد منهم ولا المشرك رد خصلة منها
لفعلت (1).
إلى غير ذلك من احتجاجاته - عليه السلام - في شأن الخلافة،
وناهيك عن احتجاجاته ومناشداته بحديث الغدير في مواطن كثيرة منها
في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد وفاته، ويوم
الشورى، وأيام عثمان، ويوم الرحبة، ويوم الجمل، وفي الكوفة، ويوم
صفين، ومواطن أخرى (2).
احتجاج فاطمة الزهراء - عليها السلام - في الخلافة:
1 - فمن خطبة لها حينما عدنها نساء المهاجرين والأنصار، قالت:
ويحهم أنى زحزحوها - أي الخلافة - عن رواسي الرسالة؟! وقواعد
النبوة، ومهبط الروح الأمين، الطبن بأمور الدنيا والدين، ألا ذلك الخسران
المبين، وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا والله نكير سيفه، وشدة

(1) الفرائد السمطين ج 1 ص 320 ح 251.
(2) راجع في ذلك الغدير للأميني ج 1 ص 159 - 196، والاحتجاج للطبرسي.
51

وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله، وتالله لو تكافأ وأعلى زمام نبذه
إليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لاعتقله وسار بهم سيرا سجحا
لا يكلم خشاشه، ولا يتتعتع راكبه، ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا تطفح
ضفتاه، ولا يترنم جانباه، ولأصدرهم بطانة ونصح لهم سرا وإعلانا، غير
متحل منهم بطائل إلا بغمر الناهل، وردعة سورة الساغب، ولفتحت
عليهم بركات من السماء والأرض، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون، ألا
هلم واستمع وما عشت أراك الدهر عجبا، وإن تعجب، فقد أعجبك
الحادث، إلى أي لجأ لجأوا؟ وبأي عروة تمسكوا، لبئس المولى ولبئس
العشير، بئس للظالمين بدلا، استبدلوا والله الذنابا بالقوادم، والعجز
بالكاهل، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ألا إنهم هم
المفسدون ولكن لا يشعرون، ويحهم (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن
يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) (1)... إلى آخر
الخطبة (2).
2 - ومن خطبة لها - عليها السلام - لما منعوها فدكا قالت:
فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة
النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين،
وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من
مغرزه هاتفا بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللعزة فيه ملاحظين، ثم

(1) سورة يونس: الآية 35.
(2) راجع: بلاغات النساء لابن أبي طيفور المتوفى سنة 280 ه‍ ص 12 - 19، شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد ج 16 ص 233 - 234، أعلام النساء لعمر رضا كحالة ج 3 ص 208 -،
الاحتجاج للطبرسي ج 1 ص 108 - 109.
52

استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير
إبلكم، ووردتم غير مشربكم، هذا والعهد قريب والكلم رحيب، والجرح
لما يندمل، والرسول لما يقبر، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة (1) (ألا في
الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) (2) فهيهات منكم، وكيف
بكم، وأنى تؤفكون! وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة وأحكامه
زاهرة وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، وقد خلفتموه
وراء ظهوركم أرغبة عنه تريدون أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا،
(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من
الخاسرين) (3)... إلى آخر الخطبة (4).
احتجاج الإمام الحسن بن علي - عليهما السلام -:
1 - لما رأى الحسن - عليه السلام - أبا بكر وهو يخطب على المنبر
قال له: انزل عن منبر أبي.
فقال أبو بكر: صدقت والله إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي (5).

(1) إشارة إلى قول أبي بكر - وذلك لما بويع - قال له أمير المؤمنين - عليه السلام - أفسدت علينا
أمورنا، ولم تستشر، ولم ترع لنا حقا، فقال أبو بكر: بلى، ولكني خشيت الفتنة. انظر: مروج الذهب
للمسعودي ج 2 ص 307.
(2) سورة التوبة: الآية 49.
(3) سورة آل عمران: الآية 85.
(4) راجع: الاحتجاج للطبرسي ج 1 ص 101، بلاغات النساء لابن أبي طيفور ص 19 - 20، شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 251 بتفاوت، إعلام النساء لكحالة ج 3 ص 219.
(5) راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 42 - 43، الصواعق المحرقة لابن حجر
ص 175 ط المحمدية وص 105 ط الميمنية بمصر، الإتحاف بحب الأشراف للشبراوي ص 7.
53

2 - احتجاجه على معاوية في الإمامة قال - عليه السلام -:
نحن نقول أهل البيت: إن الأئمة منا، وإن الخلافة لا تصلح إلا فينا،
وإن الله جعلنا أهلها في كتابه وسنة نبيه، وإن العلم فينا ونحن أهله، وهو
عندنا مجموع كله بحذافيره، وإنه لا يحدث شئ إلى يوم القيامة حتى
أرش الخدش إلا وهو عندنا مكتوب بإملاء رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - وبخط علي - عليه السلام - بيده وزعم قوم: أنهم أولى بذلك منا
حتى أنت يا بن هند تدعي ذلك... إلى آخر احتجاجه عليه السلام (1).
احتجاج الإمام الحسين بن علي - عليه السلام -:
1 - روي أن عمر بن الخطاب كان يخطب الناس على منبر رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكر في خطبته أنه أولى بالمؤمنين من
أنفسهم، فقال له الحسين - عليه السلام - من ناحية المسجد: انزل عن منبر
أبي رسول الله، لا منبر أبيك، فقال له عمر: فمنبر أبيك لعمري يا حسين لا
منبر أبي (2).
احتجاج العباس بن عبد المطلب:
1 - احتج على أبي بكر إذ قال له في كلام دار بينهما (3):
فإن كنت برسول الله طلبت، فحقنا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين

(1) الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 287 - 288.
(2) الصواعق المحرقة لابن حجر ص 175 ط المحمدية وص 105 ط الميمنية بمصر، الاحتجاج
للطبرسي ج 2 ص 292.
(3) سوف تأتي هذه المناظرة.
54

طلبت، فنحن منهم متقدمون فيهم، وإن كان هذا الأمر إنما يجب لك، فما
وجب إذ كنا كارهين... إلى آخر احتجاجه (1).
2 - قال اليعقوبي في تاريخه في خبر سقيفة بني ساعدة: وجاء البراء
بن عازب، فضرب الباب على بني هاشم وقال: يا معشر بني هاشم، بويع
أبو بكر. فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه، ونحن
أولى بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.
فقال العباس: فعلوها، ورب الكعبة (2)؟!!
احتجاج الفضل بن العباس:
1 - فمن احتجاج له على قريش قال فيه: يا معشر قريش،
وخصوصا يا بني تيم، إنكم إنما أخذتم الخلافة بالنبوة، ونحن أهلها
دونكم، ولو طلبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم
من كراهتهم لغيرنا، حسدا منهم لنا، وحقدا علينا، وإنا لنعلم أن عند
صاحبنا عهدا هو ينتهي إليه (1).
2 - وقال أيضا لما بلغه نبأ بيعة أبي بكر: يا معشر قريش إنه ما حقت
لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم وصاحبنا أولى بها منكم (4).

(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 15، تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 104، شرح نهج البلاغة
ج 1 ص 221.
(2) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 124.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 21، بحار الأنوار ج 28 ص 352.
(4) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 124.
55

احتجاج ابن عباس:
لابن عباس - رضي الله عنه - الكثير من الاحتجاجات والمناظرات
في أحقية أمير المؤمنين - عليه السلام - بالخلافة، سوف تأتي في طيات
هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
احتجاج سلمان المحمدي:
1 - احتجاج سلمان المحمدي - يوم بويع أبو بكر - قال - رضي الله
عنه -:
أصبتم ذا السن منكم وأخطأتم أهل بيت نبيكم، لو جعلتموها فيهم
ما اختلف عليكم اثنان ولأكلتموها رغدا (1).
2 - احتجاج سلمان المحمدي - رضي الله عنه - بعد وفاة النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - لما ترك القوم أمير المؤمنين - عليه السلام -.
ومن جملة ما قال في احتجاجه: أما والله لتركبن طبقا عن طبق،
حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة (2)، أما والذي نفس سلمان بيده، لو
وليتموها عليا لأكلتم من فوقكم، ومن تحت أقدامكم (3)، ولو دعوتم

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 49 و ج 6 ص 43.
(2) إشارة إلى الحديث النبوي الشريف: (ستحذو أمتي حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، حتى
لو دخلوا جحر ضب لدخلتم فيه). راجع: مسند أحمد ج 5 ص 340، كنز العال ج 11 ص 134 ح 30924، كتاب السنة لابن أبي عاصم ج 1 ص 25 ج 45، المعجم الكبير للطبراني ج 17 ص 13 ح 3، مستدرك الحاكم ج 1
ص 129، جامع الأصول ج 10 ص 408 ح 7471، مجمع الزوائد ج 7 ص 260، الدر المنثور
ج 2 ص 62، كتاب سليم بن قيس ص 79 - 93، بحار الأنوار ج 13 ص 18 ح 10.
(3) جاء في أنساب الأشراف للبلاذري ج 1 ص 591 قال سلمان الفارسي حين بويع أبو بكر:
كرداذ وناكرداذ، أي عملتم، لو بايعوا عليا لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
56

الطير لأجابتكم في جو السماء، ولو دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم،
ولما عال ولي الله، ولا طاش لكم سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في
حكم الله، ولكن أبيتم فوليتموها غيره، فأبشروا بالبلايا واقنطوا من
الرخاء، وقد نابذتكم على سواء، فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من
الولاء.
عليكم بآل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإنهم القادة إلى
الجنة، والدعاة إليها يوم القيامة، عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي
طالب - عليه السلام - فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية وإمرة المؤمنين، مرارا
جمة مع نبينا، كل ذلك يأمرنا به، ويؤكده علينا، فما بال القوم عرفوا فضله
احتجاج أبي ذر:
1 - قال ابن لهيعة: لما مات رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
وأبو ذر غائب، وقدم وقد ولي أبو بكر، فقال: أصبتم قناعه، وتركتم قرابه،
لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيكم لما اختلف عليكم اثنان (2).
2 - روي أن أبا ذر كان يقول في عهد عثمان وقد كان واقفا بباب
المسجد: وعلي بن أبي طالب وصي محمد ووارث علمه، أيتها الأمة
المتحيرة بعد نبيها أما لو قدمتم من قدم الله وأخرتم من أخر الله، وأقررتم
الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم، لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت
أقدامكم، ولما عال ولي الله ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف

(1) الاحتجاج ج 1 ص 111.
(2) السقيفة للجوهري ص 62، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 13.
57

اثنان في حكم الله إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيه، فأما
إذا فعلتم ما فعلتم فذوقوا وبال أمركم، (وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب
ينقلبون) (1)، (2).
احتجاج المقداد:
1 - من احتجاج له لما بويع عثمان، روى بعضهم قال: دخلت
مسجد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فرأيت رجلا جاثيا على
ركبتيه يتلهف تلهف من كانت الدنيا له فسلبها، وهو يقول: واعجبا
لقريش ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيهم وفيهم أول المؤمنين... (1).
2 - عن المعروف بن سويد، قال: كنت بالمدينة أيام بويع عثمان،
فرأيت رجلا في المسجد جالسا وهو يصفق بإحدى يديه على الأخرى،
والناس حوله ويقول: واعجبا من قريش واستئثارهم بهذا الأمر على أهل
هذا البيت، معدن الفضل، ونجوم الأرض ونور البلاد، والله إن فيهم لرجلا
ما رأيت رجلا بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أولى منه بالحق،
ولا أقضى بالعدل، ولا آمر بالمعروف، ولا أنهى عن المنكر.
فسألت عنه فقيل: هذا المقداد، فتقدمت إليه وقلت: أصلحك الله من
الرجل الذي تذكره؟ فقال: ابن عم نبيك رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
قال: فلبثت ما شاء الله، ثم أني لقيت أبا ذر - رحمه الله - فحدثته ما قال
58

المقداد.
فقال: صدق.
قلت: فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الأمر فيهم؟
قال: أبى ذلك قومهم.
قلت: فما يمنعكم أن تعينوهم؟
قال: مه لا تقل هذا، إياكم والفرقة والاختلاف.
قال: فسكت عنه ثم كان من الأمر بعد ما كان (2).
احتجاج قيس بن سعد بن عبادة:
قال علي بن سليمان النوفلي: سمعت أبيا يقول: ذكر سعد بن عبادة
يوما عليا بعد يوم السقيفة، فذكر أمرا من أمره نسيه أبو الحسن، يوجب
ولايته، فقال له ابنه قيس بن سعد: أنت سمعت رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم - يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب - عليه السلام - ثم
تطلب الخلافة، ويقول أصحابك منا أمير ومنكم أمير! لا كلمتك والله من
رأسي بعد هذا كلمة أبدا. (1)
وسوف يأتي احتجاجه على معاوية في شأن الخلافة ودفاعه عن
أمير المؤمنين - عليه السلام -.
احتجاج أبي سفيان:
لما اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان وهو

(1) السقيفة للجوهري ص 81، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 9 ص 21 - 22.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 44.
59

يقول: أما والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم، يا لعبد مناف، فيم أبو
بكر من أمركم! أين المستضاف؟ أين الأذلان! - يعني عليا والعباس -، ما
بال هذا في أقل حي من قريش، ثم قال لعلي: أبسط يدك أبايعك، فوالله إن
شئت لأملأنها على أبي فضيل - يعني أبا بكر - خيلا ورجالا، فامتنع عليه
علي - عليه السلام -، فلما يئس منه قام عنه وهو ينشد شعر المتلمس:
ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان، عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فلا يرثي له أحد (2).
ونكتفي بهذا القدر من الاحتجاجات مع الإحالة إلى بقية المناظرات
الأخرى في أصل هذا الكتاب لما في بعضها من السبق الزماني الذي يعود
إلى عصر صدر الإسلام.
وبعد كل هذه الشواهد والبراهين التي مرت عليك نستكشف أن
مسألة الاحتجاج والمناظرة في أحقية أمير المؤمنين - عليه السلام -
وإثبات ذلك بالنصوص الشرعية وغيرها تعود إلى الصدر الأول من

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 221 - 222.
60

المناظرة الأولى
مناظرة العباس (1) بن عبد المطلب (ره) مع أبي بكر وعمر
قال البراء بن عازب من حديث له في أمر الخلافة:
فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، حتى دخلوا على
العباس بن عبد المطلب في الليلة الثانية من وفاة رسول الله صلى الله عليه
وآله.
قال: فتكلم أبو بكر فحمد الله جل وعز وأثنى عليه ثم
قال: إن الله بعث لكم محمدا نبيا، وللمؤمنين وليا، فمن الله عليهم بكونه
بين ظهرانيهم، حتى اختار له ما عنده، وترك للناس أمرهم ليختاروا
لأنفسهم مصلحتهم متفقين لا مختلفين، فاختاروني عليهم واليا،
ولأمورهم راعيا، فتوليت ذلك وما أخاف بعون الله وهنا ولا حيرة ولا
جبنا، وما توفيقي إلا بالله، غير أني لا أنفك من طاعن يبلغني فيقول
بخلاف قول العامة، فيتخذكم لجأ فتكونوا حصنه المنيع، وخطبه البديع،
فإما دخلتم مع فيما اجتمعوا عليه، أو صرفتموهم عما مالوا إليه، فقد

(1) هو: العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، عم رسول الله صلى الله عليه وآله،
يكنى أبا الفضل، كان شريفا مهيبا عاقلا جميلا، صبيحا حلو الشمائل، وله عدة أحاديث يرويها
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووردت في حقه روايات تتضمن إصرار النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - على إكرامه وعدم هضمه، أسلم قبل الهجرة وخرج يوم بدر مع
المشركين مكرها واستأسر للمسلمين ثم فدى نفسه، كانت ولادته قبل النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بثلاث سنين وتوفي سنة اثنين وثلاثين وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
راجع ترجمته في: سير أعلام النبلاء ج 2 ص 78، تاريخ البخاري ج 7 ص 2، تهذيب
الكمال ج 14 ص 225، تنقيح المقال للمامقاني ج 2 ص 126.
61

جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك ولعقبك من
بعدك، إذ كنت عم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وإن كان الناس
أيضا قد رأوا مكانك ومكان صاحبك فعدلوا بهذا الأمر عنكما.
فقال عمر (1): إي والله، وأخرى، يا بني هاشم على رسلكم فإن
رسول الله منا ومنكم، ولم نأتكم لحاجة منا إليكم ولكن كرهنا أن يكون
الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون، فيتفاقم الخطب بكم فانظروا لأنفسكم
وللعامة.
فتكلم العباس فقال: إن الله ابتعث محمدا - صلى عليه وآله وسلم -
كما وصفت نبيا وللمؤمنين وليا، فإن كنت برسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - طلبت هذا الأمر فحقنا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن
منهم، ما تقدمنا في أمرك ولا تشاورنا ولا تؤامرنا، ولا نحب لك ذلك إذ
كنا من المؤمنين وكنا لك من الكارهين!!
وأما قولك أن تجعل لي في هذا الأمر نصيبا، فإن كان هذا الأمر لك
خاصة، فأمسك عليك فلسنا محتاجين إليك، وإن كان حق المؤمنين
فليس لك أن تحكم في حقهم، وإن كان حقنا فإنا لا نرضى منك
ببعضه دون بعض، وأما قولك يا عمر إن رسول الله منا ومنكم، فإن
رسول الله شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها فنحن أولى به
منكم؟!
وأما قولك إنا نخاف تفاقم الخطب بكم بهذا الذي فعلتموه أوائل

(1) فاعترض كلامه عمر وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد، وإتيان الأمر من أصعب
جهاته. فقال: أي والله، وأخرى لم نأتكم حاجة إليكم ولكن كرهنا... (الخ). هكذا في شرح
النهج ج 1 ص 220.
62

ذلك والله المستعان (1). فخرجوا من عنده وأنشأ العباس يقول (2):
ما كنت أحسب هذا الأمر منحرفا عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم وأعلم الناس بالآثار والسنن
وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن جبريل عون له بالغسل والكفن
من فيه ما في جميع الناس كلهم وليس في الناس ما فيه من الحسن
من ذا الذي ردكم عنه فنعرفه ها أن بيعتكم من أول الفتن (3)

(1) إلى هنا تجد هذه المناظرة في شرح ابن أبي الحديد ج 1 ص 220.
(2) ذكر هذه الأبيات الجويني في فرائد السمطين ج 2 ص 82 ونسبها إلى العباس بن عبد
المطلب (رض).
وذكرها أيضا اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 126 ط دار صادر بيروت، و ج 2 ص 103 ط
الغري النجف، ونسبها إلى عتبة ابن أبي لهب، ولم يذكر البيت الخامس.
وذكرها الشيخ المفيد (ره) في كتابه الجمل ص 58 ونسبها إلى عبد الله بن أبي سفيان بن
الحرث بن عبد المطلب.
وذكرها أيضا ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 13 ص 232، ونسبها إلى أبي سفيان بن حرب بن أمية.
(3) كتاب سليم بن قيس ص 76 منشورات دار الكتاب الإسلامية و ط أخرى ص 27 بتحقيق
السيد علاء الدين الموسوي.
كتاب سليم بن قيس كتاب مشهور معتمد عليه عند المحدثين والمؤرخين، قال عنه ابن
النديم في الفهرس ص 307: أول كتاب ظهر للشيعة كتاب سليم، وذكر ذلك أيضا في محاسن
الرسائل في معرفة الأوائل، وروى عن سليم غير واحد من أعلام العامة منهم: الحاكم
الحسكاني في شواهد التنزيل، والجمويني في فرائد السمطين، والقندوزي الحنفي في ينابيع
المودة، والسيد أبو شهاب الهمداني في مودة القربى وغيرهم.
63

المناظرة الثانية
مناظرة العباس بن عبد المطلب مع عمر
عن طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر الشام لقيه أساقفتها
ورؤساؤها وقد تقدمه العباس بن عبد المطلب على فرس، وكان العباس
جميلا بهيا فجعلوا يقولون: هذا أمير المؤمنين، ويقولون له: السلام
عليك يا أمير المؤمنين فيقول: لست بأمير المؤمنين وأمير المؤمنين
ورائي وأنا والله أولى بالأمر منه، فسمعه عمر فقال: ما هذا يا أبا الفضل؟
قال: هو الذي سمعت.
فقال: لكن أنا وإياك قد خلفنا بالمدينة من هو أولى بها مني ومنك.
قال العباس: ومن هو؟
فقال: علي بن أبي طالب.
قال: فما الذي منعك وصاحبك أن تقدماه؟
فقال: خشية أن يتوارثها عقبكم إلى يوم القيامة، وكرهنا أن تجتمع
لكم النبوة والخلافة.
قال له العباس: من حسدنا فإنما يحسد رسول الله - صلى الله
عليه وآله - (1).

(1) المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب لمحمد بن جرير الطبري ص 168، بحار الأنوار ج 8
ص 209 ط حجر، وفي هامش الإيضاح لابن شاذان ص 91.
64

المناظرة الثالثة
مناظرة ابن عباس (1) مع عمر بن الخطاب
قال ابن عباس:
دخلت على عمر في أول خلافته، وقد القي له صاع من تمر على
خصفة (2)، فدعاني إلى الأكل، فأكلت تمرة واحدة، وأقبل يأكل حتى أتى

(1) هو: عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو العباس الهاشمي المكي
ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أمه لبابة بنت الحارث أخت ميمونة زوج النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، وولد قبل الهجرة في الشعب بثلاث سنين، هاجر إلى المدينة
المنورة مع أبويه عام الفتح، وصحب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثلاثين شهرا، وكان
عمره حين وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما روى عنه الكثير من الصحابة والتابعين،
كان محبا لعلي - عليه السلام - وتلميذه، وحاله في الاخلاص والموالاة والنصرة لأمير
المؤمنين - عليه السلام - والذب عنه والخصام في رضاه والموازرة من لا شبهة فيه، وهو حبر
هذه الأمة وعالمها، دعى له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالفقه والحكمة والتأويل، وقال
عنه معروف: كنت إذا رأيت عبد الله بن عباس قلت: أجمل الناس، فإذا تحدث قلت أعلم
الناس، فإذا تكلم قلت: أفصح الناس، وقد استفاض في الأخبار من مجادلته مع عمر بن
الخطاب، ومعاوية وغيرهم في الخلافة، وكف بصره في آخر عمره، ومات بالطائف سنة ثمان
أو تسع وستين، وقال في مرضه الذي توفي فيه: اللهم إني أحيا على ما حيي به علي بن أبي
طالب - عليه السلام - وأموت على ما مات علي بن أبي طالب - عليه السلام - ثم مات، وصلى
عليه محمد بن الحنفية.
راجع ترجمته في: تنقيح المقال للمامقاني ج 2 ص 191، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 331،
الطبقات لابن سعد ج 2 ص 365، حلية الأولياء ج 1 ص 314.
(2) الخصفة: الجلة تعمل من الخوص للتمر.
65

عليه، ثم شرب من جر (1) كان عنده، واستلقى على مرفقة له، وطفق يحمد
الله، يكرر ذلك، ثم قال: من أين جئت يا عبد الله؟
قلت: من المسجد.
قال: كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر.
قلت: خلفته يلعب مع أترابه.
قال: لم أعن ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت.
قلت: خلفته يمتح بالغرب (2) على نخيلات من فلان، وهو يقرأ
القرآن.
قال: عبد الله، عليك دماء البدن إن كتمتنيها؟ هل بقي في نفسه شئ
من أمر الخلافة؟
قلت: نعم.
قال: أيزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نص عليه؟
قلت: نعم وأزيدك، سألت أبي عما يدعيه، فقال: صدق.
فقال عمر: لقد كان من رسول الله - صلى الله عليه وآله - في أمره
ذرو (3) من قول لا يثبت حجة، ولا يقطع عذرا، ولقد كان يربع في أمره
وقتا ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه (4) فمنعت من ذلك (5) إشفاقا

(1) الجر: آنية من خزف، الواحدة جرة.
(2) الغرب: الدلو.
(3) ذرو: طرف
(4) إشارة إلى قول النبي - صلى الله عليه وآله -: آتوني بدواة وكتف لا كتب لكم كتابا لن تضلوا
بعده.
(5) اعتراف الخليفة عمر إنما صد عن كتابة الكتاب حتى لا يجعل الأمر لعلي - عليه السلام -. راجع: شرح نهج البلاغة ج 12 ص 78 - 79. ومما يفيد ذكره هنا بمناسبة منع عمر لكتابة
الكتاب ما ذكره المرحوم الشهيد الصدر (قدس سره) يقول الدكتور التيجاني في كتابه ثم
اهتديت ص 98 - 99: وإني لا زلت أذكر إجابة السيد محمد باقر الصدر، عندما سألته: كيف
فهم سيدنا عمر من بين الصحابة ما يريد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كتابته وهو
استخلاف علي - عليه السلام - على حد زعمكم، فهذا ذكاء منه؟! قال السيد الصدر: لم يكن
عمر وحده فهم مقصد الرسول، ولكن أكثر الحاضرين فهموا ما فهمه عمر، لأنه سبق لرسول
الله - صلى الله عليه وآله - أن قال مثل هذا إذ قال لهم: إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي
أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، وفي مرضه قال لهم: هلم أكتب لكم كتابا لا
تضلوا بعده أبدا، ففهم الحاضرون ومن بينهم عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - يريد أن
يؤكد ما ذكره في غدير خم كتابيا، وهو التمسك بكتاب الله وعترته، وسيد العترة هو علي - عليه
السلام -، فكأنه - صلى الله عليه وآله - أراد أن يقول: عليكم بالقرآن وعلي، وقد قال مثل ذلك
في مناسبات أخرى كما ذكر المحدثون.
66

وحيطة على الإسلام! لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا؟
ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله
- صلى الله عليه وآله - أني علمت ما في نفسه، فأمسك، وأبى الله إلا إمضاء
ما حتم (1).

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 12 ص 20 - 21، كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين
للحلي ص 462 ح 562، كشف الغمة ج 2 ص 46، بحار الأنوار ج 38 ص 156.
67

المناظرة الرابعة
مناظرة ابن عباس مع عمر
يقول ابن عباس:
إني لأماشي عمر في سكة من سكك المدينة، يده في يدي.
فقال: يا بن عباس، ما أظن صاحبك إلا مظلوما، فقلت في نفسي:
والله لا يسبقني بها.
فقلت: يا أمير المؤمنين، فاردد إليه ظلامته، فانتزع يده من يدي،
ثم مر يهمهم ساعة ثم وقف، فلحقته.
فقال لي: يا بن عباس، ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم
استصغروه.
فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى، فقلت: والله ما استصغره الله
حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر (1).

(1) روى أحمد بن حنبل في مسنده ج 1 ص 3: عن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وآله - بعثه
ببراءة لأهل مكة (لا يحج بعد العام مشترك، ولايي وف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة الا نفس
مسلمة من كان بينه وبين رسول الله مدة فأجله إلى مدته والله برئ من المشركين ورسوله). قال: فسار بها ثلاثا ثم قال - صلى الله عليه وآله -: لعلي - عليه السلام - الحقه فرد علي أبا بكر
وبلغها أنت، قال: ففعل قال: فلما قد م على النبي - صلى الله عليه وآله - أبو بكر بك وقال: يا
رسول الله حدث في شئ.
قال - صلى الله عليه وآله -: ما حدث فيك الأخير ولكن أمرت أن لا يبلغه إلا أنا أو رجل مني.
وللحديث مصادر كثيرة منها:
صحيح الترمذي ج 5 ص 257 ح 3091، المستدرك للحاكم ج 2 ص 331، تفسير الطبري
ج 10 ص 45، الدر المنثور للسيوطي ج 3 ص 209 وص 210، الكشاف للزمخشري ج 2
ص 243، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 45، فرائد السمطين ج 1 ص 61 ح 28 و
ص 328 ح 255، الغدير للأميني ج 3 ص 245 و ج 6 ص 338.
68

قال: فأعرض عني وأسرع، فرجعت عنه (1).

(1) السقيفة للجوهري ص 70، شرح النهج لابن أبي الحديد ج 4 ص 45، كشف اليقين للحلي
ص 461 ح 561، كشف الغمة ج 2 ص 45.
69

المناظرة الخامسة
مناظرة ابن عباس مع عمر
قال ابن عباس:
كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل وأنا على
فرس فقرأ آية فيها ذكر علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
فقال: أما والله يا بني عبد المطلب؟ لقد كان علي فيكم أولى بهذا
الأمر مني ومن أبي بكر. فقلت في نفسي: لا أقالني الله إن أقلته.
فقلت: أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين؟ وأنت وصاحبك وثبتما
وأفرغتما الأمر منا دون الناس.
فقال: إليكم يا بني عبد المطلب؟ أما إنكم أصحاب عمر بن الخطاب.
فتأخرت وتقدم هنيهة.
فقال: سر لا سرت، وقال: أعد على كلامك.
فقلت: إنما ذكرت شيئا فرددت عليه جوابه ولو سكت سكتنا.
فقال: إنا والله ما فعلنا الذي فعلنا عن عداوة ولكن استصغرناه،
وخشينا أن لا يجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها.
قال: فأردت أن أقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله - يبعثه
فينطح كبشها فلم يستصغره، أفتستصغره أنت وصاحبك؟
فقال: لا جرم، فكيف ترى؟ والله ما نقطع أمرا دونه، ولا نعمل شيئا
حتى نستأذنه (1).

(1) محاضرات الراغب الاصفهاني ح 7 ص 213، الغدير للأميني ج 1 ص 389.
70

المناظرة السادسة
مناظرة ابن عباس مع عمر بن الخطاب
قال عبد الله بن عمر:
كنت عند أبي يوما، وعنده نفر من الناس، فجرى ذكر الشعر،
فقال: من أشعر العرب؟
فقالوا: فلان وفلان، فطلع عبد الله بن عباس، فسلم وجلس، فقال
عمر: قد جاءكم الخبير، من أشعر الناس يا عبد الله؟
قال: زهير بن أبي سلمى.
قال: فأنشدني مما تستجيده له.
فقال: يا أمير المؤمنين، إنه مدح قوما من غطفان، يقال لهم بنو
سنان، فقال:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا، جن إذا فزعوا مرزؤون بها ليل إذ جهدوا
محسدون على ما كان من نعم لا ينزع الله منهم ماله حسدوا
فقال عمر: والله لقد أحسن، وما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت
من هاشم، لقرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله -.
فقال ابن عباس: وفقك الله يا أمير المؤمنين، فلم تزل موفقا.
فقال: يا بن عباس، أتدري ما منع الناس منكم؟
71

قال: لا يا أمير المؤمنين.
قال: لكني أدري.
قال: ما هو يا أمير المؤمنين؟
قال: كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة، فيجخفوا
جخفا (1)، فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت.
فقال ابن عباس: أيميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع؟
قال: قل ما تشاء.
قال: أما قول أمير المؤمنين: إن قريشا كرهت، فإن الله تعالى
قال لقوم: ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط
أعمالهم (2).
وأما قولك: (إنا كنا نجخف)، فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة،
ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله - صلى الله عليه وآله - الذي
قال الله تعالى: وإنك لعلى خلق عظيم (3)، وقال له: واخفض
جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (4).
وأما قولك: (فإن قريشا اختارت)، فإن الله تعالى يقول: وربك
يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة (5) وقد علمت يا أمير المؤمنين
أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار (6)، فلو نظرت قريش من حيث نظر

(1) جخف: تكبر.
(2) سورة محمد: الآية 9.
(3) سورة ن: الآية 215.
(4) سورة الشعراء: الآية 215.
(5) سورة القصص: الآية 68.
(6) هذه الكلمة من ابن عباس تدل على أنه من المتسالم عليه عندهم أن الخلافة قد ثبتت بالنص
على الإمام علي - عليه السلام - وأنها بأمر الله واختياره، ولو لم يكن كذلك لاعترض عليه
الخليفة في ذلك، والحق يقال أن انعقاد الخلافة بالشورى أو الإجماع أو البيعة ما هو إلا اجتهاد
في مقابل النص وقد قال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون
لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا سورة الأحزاب: الآية 36.
72

الله لها لوفقت وأصابت قريش.
فقال عمر: على رسلك يا بن عباس، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا
غشا في أمر قريش لا يزول، وحقدا عليها لا يحول.
فقال ابن عباس: مهلا يا أمير المؤمنين؟ لا تنسب هاشما إلى الغش،
فإن قلوبهم من قلب رسول الله - صلى الله عليه وآله - الذي طهره الله وزكاه،
وهم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم: إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (1).
وأما قولك: (حقدا) فكيف لا يحقد من غصب شيئه، ويراه في يد
غيره.
فقال عمر: أما أنت يا بن عباس، فقد بلغني عنك كلام أكره أن

(1) سورة الأحزاب: الآية 33.
فقد روى الجمهور أن هذه الآية الشريفة نزلت في خمسة وهم: النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام -.
راجع: صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أهل بيت النبي - صلى الله عليه
وآله وسلم - ج 4 ص 1883 ح 61، صحيح الترمذي ج 5 ص 327 ح 3205 و ح 3206،
المستدرك للحاكم ج 3 ص 133 وص 146 و ج 2 ص 416، شواهد التنزيل للحسكاني ج 2
ص 18 - 141 ح 637 و ح 474، مسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 259 ج 4 ص 107 و ج 6
ص 292، أسباب النزول للواحدي ص 239، المناقب للخوارزمي ص 60 - 61 ح 28 - 29،
تفسير القرطبي ج 14 ص 182، الكشاف للزمخشري ج 3 ص 537، الدر المنثور للسيوطي
ج 6 ص 603، فرائد السمطين ج 2 ص 9 ح 356، الصواعق المحرقة ص 143، فضائل
الخمسة من الصحاح الستة ج 1 ص 270 - 289، وغيرها الكثير من المصادر.
73

أخبرك به، فتزول منزلتك عندي.
قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ أخبرني به، فإن يك باطلا فمثلي
أماط الباطل عن نفسه، وإن يك حقا فإن منزلتي لا تزول به.
قال: بلغني أنك لا تزال تقول: أخذ هذا الأمر منك حسدا وظلما.
قال: أما قولك يا أمير المؤمنين: (حسدا)، فقد حسد إبليس آدم،
فأخرجه من الجنة، فنحن بنو آدم المحسود.
وأما قولك: (ظلما) فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو!
ثم قال: يا أمير المؤمنين، ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول
الله - صلى الله عليه وآله -، واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول
الله - صلى الله عليه وآله -! فنحن أحق برسول الله من سائر قريش.
فقال له عمر: قم الآن فارجع إلى منزلك، فقام، فلما ولى هتف به
عمر: أيها المنصرف، إني على ما كان منك لراع حقك!
فالتفت ابن عباس فقال: إن لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كل
المسلمين حقا برسول الله - صلى الله عليه وآله -، فمن حفظه فحق نفسه
حفظ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع، ثم مضى.
فقال عمر لجلسائه: واها لا بن عباس، ما رأيته لاحى أحدا قط إلا
خصمه! (1).

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد ج 12 ص 52 - 55، تاريخ الطبري ج 4 ص 223، الكامل لابن
الأثير ج 3 ص 62 (في حوادث سنة 23)، الايضاح لابن شاذان ص 87.
74

المناظرة السابعة
مناظرة ابن عباس مع عمر
عن ابن عباس قال:
مر عمر بعلي - عليه السلام -، وأنا معه بفناء داره فسلم عليه.
فقال له علي - عليه السلام -: أين تريد؟
قال: البقيع.
قال: أفلا تصل صاحبك ويقوم معك.
قال: بلى.
فقال لي علي - عليه السلام -: قم معه، فقمت فمشيت إلى جانبه،
فشبك أصابعه في أصابعي، ومشينا قليلا، حتى إذا خلفنا البقيع.
قال لي: يا بن عباس، أما والله إن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر
بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله - إلا أنا خفناه على اثنين.
قال ابن عباس: فجاء بكلام لم أجد بدا من مسألته عنه.
فقلت: ما هما يا أمير المؤمنين؟
قال: خفناه على حداثة سنه، وحبه بني عبد المطلب (1).

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد ج 6 ص 50.
75

المناظرة الثامنة
مناظرة ابن عباس مع عمر
قال ابن عباس:
كنت عند عمر، فتنفس نفسا ظننت أن أضلاعه قد انفرجت.
فقلت: ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا هم شديد!
قال: إي والله يا بن عباس! إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا
الأمر بعدي، ثم قال: لعلك ترى صاحبك لها أهلا!
قلت: وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه!
قال: صدقت، ولكنه امرؤ فيه دعابة.
قلت: فأين أنت عن طلحة!
قال: ذو البأو (1) وبإصبعه المقطوعة!
قلت: فعبد الرحمن؟
قال: رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته.
قلت: فالزبير؟
قال: شكس لقس (2) يلاطم في النقيع في صاع من بر!
قلت: فسعد بن أبي وقاص؟

(1) البأو: العجب والتفاخر.
(2) الشكس اللقس: سي الخلق.
76

قال: صاحب سلاح ومقنب (1).
قلت: فعثمان؟
قال: أوه! ثلاثا، والله لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب
الناس، ثم لتنهض العرب إليه.
ثم قال: يا بن عباس، إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا خصف العقدة، قليل
الغرة، لا تأخذه في الله لومة لائم، ثم يكون شديدا من غير عنف، لينا من
غير ضعف، سخيا من غير سرف، ممسكا من غير وكف (2).
قال: ثم أقبل علي بعد أن سكت هنيئة، وقال: أجرؤهم والله إن وليها
أن يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك! أما إن ولي أمرهم
حملهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم (3).

(1) المقنب: جماعة الخيل.
(2) الوكف: العيب.
(3) شرح النهج لابن أبي الحديد ج 12 ص 51 - 52.
77

المناظرة التاسعة
مناظرة ابن عباس مع عثمان
ومن كلام دار بينهما، قال له عثمان: إني أنشدك يا بن عباس الإسلام
والرحم، فقد والله غلبت وابتليت بكم، والله لوددت أن هذا
الأمر كان صار إليكم دوني فحملتموه عني، وكنت أحد أعوانكم عليه، إذا
والله لوجدتموني لكم خيرا مما وجدتكم لي، ولقد علمت أن الأمر لكم،
ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم، فوالله ما أدري أدفعوه عنكم
أم دفعوكم عنه؟!
قال ابن عباس: مهلا يا أمير المؤمنين، فإنا ننشدك الله والإسلام
والرحم، مثل ما نشدتنا، أن تطمع فينا وفيك عدوا، وتشمت بنا وبك
حسودا! إن أمرك إليك ما كان قولا، فإذا صار فعلا فليس إليك ولا في يديك،
وإنا والله لنخالفن إن خولفنا، ولننازعن إن نوزعنا، وما تمنيك أن يكون
الأمر صار إلينا دونك إلا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس ويعيب كما عابوا!
فأما صرف قومنا عنا الأمر فعن حسد قد والله عرفته، وبغي قد والله
علمته، فالله بيننا وبين قومنا!
وأما قولك: إنك لا تدري أدفعوه عنا أم دفعونا عنه؟ فلعمري إنك
لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الأمر ما زدنا به فضلا إلى فضلنا ولا قدرا إلى
قدرنا وإنا لأهل الفضل وأهل القدر، وما فضل فاضل إلا بفضلنا، ولا سبق
سابق إلا بسبقنا، ولولا هدينا ما اهتدى أحد ولا أبصروا من عمى، ولا
قصدوا من جور... الخ (1).

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 9 ص 9، الموفقيات ص 606.
78

المناظرة العاشرة
مناظرة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - مع الحرورية (1)
قال عبد الله بن عباس: لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دارهم
وكانوا ستة آلاف.
فقلت لعلي - عليه السلام -: يا أمير المؤمنين أبرد بالظهر، لعلي آتي
هؤلاء القوم فأكلمهم.
قال: إني أخاف عليك.
قلت: كلا.
قال: فقمت وخرجت ودخلت عليهم في نصف النهار وهم قائلون،
فسلمت عليهم.
فقالوا: مرحبا بك يا بن عباس، فما جاء بك؟

(1) الحرورية: جماعة من الخوارج النواصب، والنسبة لبلد قرب الكوفة على ميلين منها تسمى
حروراء، نزل بها هؤلاء بعد خروجهم على أمير المؤمنين علي - عليه السلام - حينما قبل
بالتحكيم بينه وبين معاوية، قيل لهم حينئذاك: أنتم الحرورية لاجتماعكم بحروراء، وقال
شاعرهم:
إذا الحرورية الحرى ركبوا * لا يستطيع لهم أمثالك الطلبا
وقالوا يومها: لا حكم إلا لله، فقال علي - عليه السلام -: كلمة حق أريد بها باطل...).
وسموا أيضا بالخوارج والمحكمة، والسبب الذي له سموا خوارج: خروجهم على أمير
المؤمنين - عليه السلام -، والذي له سموا محكمة: إنكارهم الحكمين، وقولهم لا حكم إلا لله.
راجع: معجم الفرق الإسلامية لشريف الأمين ص 94، مقالات الإسلامين للأشعري
ص 127 - 128.
79

قلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
وصهره، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم
أحد، لأبلغكم ما يقولون، وأخبرهم بما تقولون.
قلت: أخبروني ماذا نقمتم على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم - وابن عمه؟
قالوا: ثلاث.
قلت: ما هن؟
قالوا: أما إحداهن، فإنه حكم الرجال في أمر الله، وقال الله تعالى:
إن الحكم إلا لله (1)، ما شأن الرجال والحكم؟!
فقلت: هذه واحدة.
قالوا: وأما الثانية، فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كانوا كفارا
سلبهم، وإن كانوا مؤمنين ما أحل قتالهم (2).
قلت: هذه اثنتان، فما الثالثة؟
قالوا: إنه محى نفسه عن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.
قلت: هل عندكم شئ غير هذا؟
قالوا: حسبنا هذا.
قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنة نبيه - صلى الله
عليه وآله وسلم - ما يرد قولكم، أترضون؟
قالوا: نعم.

(1) سورة الأنعام: الآية 57.
(2) المقصود من كانوا في حرب الجمل، فإن أمير المؤمنين - عليه السلام - نهى عن قتل جريحهم
وسبيهم وسلبهم واتباع مدبرهم.
80

قلت: أما قولكم حكم الرجال في أمر الله، فأنا أقرأ عليكم في كتاب
الله أن قد صير الله حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم، فأمر الله الرجال أن
يحكموا فيه، قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم
حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا
عدل منكم (1) الآية، فأنشدتكم بالله تعالى: أحكم الرجال في أرنب
ونحوها من الصيد أفضل؟ أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم،
وأنت تعلمون أن الله تعالى لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال؟
قالوا: بل هذا أفضل.
وفي المرأة وزوجها قال الله عز وجل: وإن خفتم شقاق بينهما
فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله
بينهما (2) الآية، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن
دمائهم أفضل من حكمهم في امرأة؟ أخرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة،
وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها، وهي أمكم؟ فإن قلتم: إنا نستحل
منها ما نستحل من غيرها، فقد كفرتم، ولأن قلتم: ليست بأمنا، فقد كفرتم،
لأن الله تعالى يقول: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه
أمهاتهم (3). فأنتم تدورون بين ضلالتين، فأتوا منهما بمخرج؟
قلت: فخرجت من هذه؟

(1) سورة المائدة: الآية 95.
(2) سورة النساء: الآية 35.
(3) سورة الأحزاب: الآية 6.
81

قالوا: نعم.
وأما قولكم: محى اسمه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون،
وأراكم قد سمعتم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم الحديبية صالح
المشركين، فقال لعلي - عليه السلام -: اكتب هذا ما صالح عليه محمد
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال المشركون: لا والله، ما نعلم
أنك رسول الله، لو نعلم أنك رسول الله لأطعناك، فاكتب محمد بن عبد الله،
فقال رسول - الله صلى الله عليه وآله وسلم -: امح يا علي (رسول الله) اللهم
إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن
عبد الله. فوالله لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خير من علي، وقد
محا نفسه، ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة؟ (1).
خرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقتلوا على ضلالتهم، فقتلهم
المهاجرون والأنصار (2).

(1) خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص 150 - 152 ح 185، دلائل النبوة للبيهقي ج 4 ص 147،
المناقب للخوارزمي ص 192 ح 231، الكامل في التاريخ ج 2 ص 204، شرح نهج البلاغة ج 2
ص 232 و ج 10 ص 258، الإرشاد للمفيد ص 63، مجمع البيان ج 5 ص 119.
(2) المصنف لعبد الرزاق ج 10 ص 157 - 160، جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج 2
ص 103 - 104، الحاكم في المستدرك ج 2 ص 150، مناقب ابن المغازلي ص 406 ح 460.
82

المناظرة الحادية عشر
مناظرة ابن عباس مع معاوية بن أبي سفيان
حضر عبد الله بن عباس مجلس معاوية بن أبي سفيان فأقبل عليه
معاوية.
فقال: يا بن عباس إنكم تريدون أن تحرزوا الإمامة كما اختصصتم
بالنبوة، والله لا يجتمعان أبدا، إن حجتكم في الخلافة مشتبهة على الناس،
إنكم تقولون: نحن أهل بيت النبي - صلى الله عليه وآله - فما بال خلافة
النبوة في غيرنا؟
وهذه شبهة لأنها تشبه الحق وبها مسحة من العدل، وليس الأمر كما
تظنون، إن الخلافة تتقلب في أحياء قريش برضا العامة، وشورى الخاصة
ولسنا نجد الناس يقولون: ليت بني هاشم ولونا، ولو ولونا كان خيرا لنا في
دنيانا وأخرانا، ولو كنتم زهدتم فيها أمس كما تقولون، ما قاتلتم عليها
اليوم، والله لو ملكتموها يا بني هاشم لما كانت ريح عاد ولا صاعقة ثمود
بأهلك للناس منكم.
فقال ابن عباس - رحمه الله -: أما قولك يا معاوية: إنا نحتج بالنبوة في
استحقاق الخلافة، فهو والله كذلك، فإن لم تستحق الخلافة بالنبوة، فبم
تستحق؟
وأما قولك: إن الخلافة والنبوة لا يجتمعان لأحد، فأين قول الله
عز وجل: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فقد آتينا آل
83

إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (1) فالكتاب هو النبوة،
والحكمة هي السنة، والملك هو الخلافة، فنحن آل إبراهيم، والحكم
بذلك جار فينا إلى يوم القيامة.
وأما دعواك على حجتنا أنها مشتبهة، فليس كذلك، وحجتنا أضوأ
من الشمس وأنور من القمر، كتاب الله معنا، وسنة نبيه - صلى الله عليه
وآله - فينا، وإنك لتعلم ذلك، ولكن ثنى عطفك وصعرك (2) قتلنا أخاك
وجدك وخالك وعمك، فلا تبك على أعظم حائلة وأرواح في النار
هالكة، ولا تغضبوا لدماء أراقها الشرك، وأحلها الكفر، ووضعها الدين.
وأما ترك تقديم الناس لنا فيما خلا، وعدولهم عن الإجماع علينا،
فما حرموا منا أعظم مما حرمنا منهم، وكل أمر إذا حصل حاصله ثبت
حقه، وزال باطله.
وأما افتخارك بالملك الزائل، الذي توصلت إليه بالمحال الباطل،
فقد ملك فرعون من قبلك فأهلكه الله، وما تملكون يوما يا بني أمية إلا

(1) سورة النساء: الآية 54.
والجدير بالذكر أن هذه الآية الشريفة نزلت في أهل البيت - عليهم السلام - وأنهم هم
المحسودون، كما ورد عن الإمام الباقر - عليه السلام - في تفسير هذه الآية أنه قال: نحن الناس
المحسودون والله.
راجع: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي ج 1 ص 183 ح 195 - 198، مناقب
الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - لابن المغازلي الشافعي ص 267 ح 314، ينابيع المودة
للقندوزي الحنفي ص 298، الصواعق المحرقة لابن حجر الشافعي ص 152، نور الأبصار
للشبلنجي ص 102 ط السعيدية وص 101 ط العثمانية، إسعاف الراغبين للصبان الشافعي
بهامش نور الأبصار ص 108 ط السعيدية وص 100 ط العثمانية، الغدير للأميني ج 3 ص 61.
(2) قال الجوهري: (يقال ثني فلان عني عطفه، إذا عرض عنك. وقال: صعر خده وصاعر: أي
أماله من الكسر). ومنه قوله تعالى: ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه
يوم القيامة عذاب الحريق سورة الحج: الآية 9، صحاح الجوهري ج 4 / ص 1405.
84

ونملك بعدكم يومين، ولا شهرا إلا شهرين، ولا حولا إلا ملكنا حولين.
وأما قولك: إنا لو ملكنا كان ملكنا أهلك للناس من ريح عاد وصاعقة
ثمود، فقول الله يكذبك في ذلك قال الله عز وجل: وما أرسلناك إلا
رحمة للعالمين (1) فنحن أهل بيته الأدنون، وظاهر العذاب بتملكك
رقاب المسلمين ظاهر للعيان، وسيكون من بعدك تملك ولدك وولد
أبيك أهلك للخلق من الريح العقيم، ثم ينتقم الله بأوليائه، وتكون العاقبة
للمتقين (2).

(1) سورة الأنبياء: الآية 107.
(2) أمالي الشيخ المفيد ص 15، بحار الأنوار ج 44 ص 117 ح 11.
85

المناظرة الثانية عشر
مناظرة محمد بن أبي بكر (1) مع معاوية
لما صرف علي - عليه السلام - قيس بن سعد بن عبادة عن مصر،
وجه مكانه محمد بن أبي بكر، فلما وصل إليها كتب إلى معاوية كتابا فيه:
من محمد بن أبي بكر، إلى الغاوي معاوية بن صخر، أما بعد، فإن الله
بعظمته وسلطانه خلق خلقه بلا عبث منه، ولا ضعف في قوته، ولا حاجة

(1) هو: محمد بن أبي بكر بن أبي قحافة القرشي التيمي، جليل القدر عظيم المنزلة، كان شجاعا
زاهدا فاضلا، صحيح العقل والرأي، من خواص علي - عليه السلام - ومن حواريه المجتهدين
في طاعته، وأمه أسماء بنت عميس بن النعمان، كانت تحت جعفر بن أبي طالب، وهاجرت
معه إلى الحبشة،، فولدت له هناك عبد الله بن جعفر الجواد، ثم قتل عنها يوم مؤتة، فخلف
عليها أبو بكر، فأولدها محمدا، ثم مات عنها، فخلف عليها علي بن أبي طالب - عليه السلام -،
وكان محمد ربيبه وخريجه، وجاريا عنده مجرى أولاده، رضع الولاء والتشيع مذ زمن الصبا،
فنشأ عليه، فلم يكن يعرف له أبا غير علي، ولا يعتقد لأحد فضيلة غيره، حتى قال علي - عليه
السلام -: محمد ابني من صلب أبي بكر، ولد - رضي الله عنه - في حجة الوداع، وقتل بمصر في
خلافة علي - عليه السلام - سنة 38 ه‍ - بعد واقعة صفين - وكان عامله عليها، وقال فيه - عليه
السلام - لما استشهد: فعند الله نحتسبه ولدا ناصحا، وعاملا كادحا، وسيفا قاطعا، وركنا دافعا.
(نهج البلاغة ص 408 رقم الكتاب: 35) ومن ولده: القاسم فقيه الحجاز، ومن ولد القاسم:
عبد الرحمن من فضلاء قريش ومن ولد القاسم أيضا أم فروة، تزوجها الباقر محمد بن علي
- عليه السلام -، فأولدها الصادق أبا عبد الله جعفر بن محمد - عليه السلام -.
راجع ترجمته في: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6 ص 53 و ج 10 ص 249، تهذيب
الكمال ج 24 ص 541، تهذيب التهذيب ج 9 ص 80، تنقيح المقال للمامقاني ج 2 ص 58.
86

وسعيدا، ثم اختار على علم واصطفى وانتخب منهم محمدا - صلى الله
عليه وآله وسلم -، فانتخبه بعلمه، واصطفاه برسالته، وائتمنه على وحيه،
وبعثه رسولا ومبشرا ونذيرا ووكيلا فكان أول من أجاب وأناب وآمن
وصدق وأسلم وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب - عليه السلام -
صدقه بالغيب المكتوم، وآثره على كل حميم، ووقاه بنفسه كل هول،
وحارب حربه، وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الليل
والنهار والخوف والجوع والخضوع، حتى برز سابقا لا نظير له فيمن
اتبعه، ولا مقارب له في فعله، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت، وهو هو،
أصدق الناس نية، وأفضل الناس ذرية، وخير الناس زوجة، وأفضل الناس
ابن عم، أخوه الشاري بنفسه يوم مؤتة، وعمه سيد الشهداء يوم أحد،
وأبوه (1) الذاب عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وعن حوزته،

(1) هو: عبد مناف - قيل عمران -، بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، عم رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم - كافله وكاشف كربه، وأبو الأئمة الأطهار - عليهم السلام -، وهو الذي كفل
الرسول صغيرا وحماه وحاطه كبيرا ومنعه من مشركي قريش ولقى لأجله عناءا عظيما
وقاسى بلاء شديدا، وصبر على نصره والقيام بأمره، وقد جاء في الخبر أنه لما توفي أبو طالب
أوحى الله للنبي - صلى الله عليه وآله - وقيل له اخرج منها فقد مات ناصرك.
فقد كان - عليه السلام - بحق نعم الناصر والكافل والمحامي المجاهد بالنفس والولد
والأهل، وإلى هذا، يشير ابن أبي الحديد المعتزلي في ميميته العصماء:
ولولا أبو طالب وابنه * لما مثل الدين شخصا فقاما
فذاك بمكة آوى وحامى * وهذا بيثرب جس الحماما
فلله ذا فاتحا للهدى * ولله ذا للمعالي ختاما
والأدلة والشواهد على إيمان أبي طالب - عليه السلام - ظاهرة كظهور الشمس في رابعة
النهار لا تخفى على من له أدنى بصيرة إلا أن حاسدي ومبغضي أمير المؤمنين - عليه السلام -
يأبوا إلا أن يكفروه حسدا وحقدا.
أن يحسدوك على علاك فإنما * متسافل الدرجات يحسد من علا
وذلك مع وجود الأدلة الواضحة، والشواهد اللائحة والتي منها: مواقفه المشهورة تجاه
النبي - صلى الله عليه وآله - والتي تدل على إيمانه العميق بوحدانية الله تعالى وبرسالة رسوله
الكريم ومن تلك الدلائل الواضحة على إيمانه هو: أن فاطمة بنت أسد - عليها السلام - من
السابقات إلى الإسلام، ولم تزل تحت أبي طالب حتى مات، وأن الله تعالى نهى رسوله أن يقر
مسلمة على نكاح كافر، وكان أمير المؤمنين - عليه السلام - يأمر أن يحج عن عبد الله وأبيه وأبي
طالب، ولا يحج عن كافر. وتولى هو - عليه السلام - غسل أبيه، والمسلم لا يجوز له أن يتولى
غسل الكافر.
ومن الشواهد الدالة على إيمانه، الأشعار التي تضمنت إقراره بالله تعالى وبالنبي - صلى الله
عليه وآله - وحيث أنه لا فرق بين أن يكون هذا الإقرار في النثر أو الشعر.
فمنها قوله - عليه السلام -:
نصرت الرسول رسول المليك * ببيض تلالا كلمع البروق
أذب وأحمي رسول الإله * حماية حام عليه شفيق
ومنها أيضا قوله:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد بالتراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة * وأبشر بذاك وقر منك عيونا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه * من خير أديان البرية دينا
وإنما لم يظهر الإسلام ويجاهر به، لأنه لو أظهره لم يتهيأ له من نصرة النبي - صلى الله عليه
وآله - ما تهيأ له.
ومن تلك الأدلة أيضا إجماع أهل البيت، الأئمة الطاهرين - عليهم السلام - الذين هم
كسفينة نوح، من ركبها نجى ومن تأخر عنها غرق وهوى، وهم العترة الذين من تمسك بهم لن
يضل أبدا.
ومما ورد عنهم في ذلك: ما ورد عن عبد العظيم بن عبد الله العلوي أنه كان مريضا فكتب
إلى أبي الحسن الرضا - عليه السلام - عرفني يا بن رسول الله عن الخبر المروي أن أبا طالب في
ضحضاح من نار يغلي منه دماغه فكتب إليه الرضا - عليه السلام -: بسم الله الرحمن الرحيم، أما
بعد: فإنك إن شككت في إيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار.
وأما الأخبار التي يرويها البعض في كفر أبي طالب فلا أساس لها من الصحة، وأما أحاديث
الضحضاح فإنما تروى عن المغيرة بن شعبة، وبغضه لبني هاشم وعلى الخصوص أمير
المؤمنين - عليه السلام - مشهور معلوم وفسقه غير خاف.
وتوفي أبو طالب - عليه السلام - في آخر السنة العاشرة من الهجرة وتوفيت السيدة خديجة
أم المؤمنين - عليها السلام - بعده بثلاثة أيام، فسمى رسول الله - صلى الله عليه وآله - ذلك العام
عام الحزن، وقال: ما زالت قريش قاعدة عني حتى مات أبو طالب.
وقد رثاه أمير المؤمنين - عليه السلام - بقوله:
أبا طالب عصمة المستجير وغيث المحول ونور الظلم
لقد هد فقدك أهل الحفاظ * فصلى عليك ولي النعم
ولقاك ربك رضوانه فقد كنت للطهر من خير عم
فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويم يبعث حيا. ورزقنا الله شفاعته.
راجع: رسالة إيمان أبي طالب للشيخ المفيد، أسنى المطالب في إيمان أبي طالب للعلامة
أحمد زيني دحلان، ديوان أبي طالب وذكر إسلامه لأبي نعيم علي بن حمزة البصري، شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 14 ص 65 - 84، سفينة البحار للقمي ج 2 ص 87 - 90، أبو
طالب مؤمن قريش للعلامة الشيخ عبد الله الخنيزي.
87

وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لرسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - الغوائل، وتجهدان في إطفاء نور الله، تجمعان على ذلك
الجموع، وتبذلان فيه المال، وتؤلبان عليه القبائل، وعلى ذلك مات أبوك،
وعليه خلفته، والشهيد عليك من تدني ويلجأ إليك من بقية الأحزاب
ورؤساء النفاق، والشاهد لعلي - مع فضله المبين القديم - أنصاره الذين
معه وهم الذين ذكرهم الله بفضلهم، وأثنى عليهم من المهاجرين
والأنصار، وهم معه كتائب وعصائب، يرون الحق في اتباعه، والشقاء في
خلافه، فكيف يا لك الويل! تعدل نفسك بعلي وهو وارث رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - ووصيه وأبو ولده، أول الناس له اتباعا،
وأقربهم به عهدا، يخبره بسره، ويطلعه على أمره، وأنت عدوه وابن
89

عدوه، فتمتع في دنياك ما استطعت بباطلك، وليمددك ابن العاص في
غوايتك، فكأن أجلك قد انقضى، وكيدك قد وهى، ثم يتبين لك لمن
تكون العاقبة العليا، واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي أمنت كيده، ويئست
من روحه، فهو لك بالمرصاد، وأنت منه في غرور، والسلام على من اتبع
الهدى.
فكتب إليه معاوية: من معاوية بن صخر، إلى الزاري على أبيه محمد
ابن أبي بكر، أما بعد: فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في عظمته
وقدرته وسلطانه، وما اصطفى به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -،
مع كلام كثير لك فيه تضعيف، ولأبيك فيه تعنيف، ذكرت فيه فضل ابن
أبي طالب، وقديم سوابقه، وقرابته إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم -، ومواساته إياه في كل هول وخوف، فكان احتجاجك علي
وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك، فأحمد ربا صرف هذا الفضل عنك،
وجعله لغيرك، فقد كنا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب وحقه لازما
لنا مبرورا علينا، فلما اختار الله لنبيه - عليه الصلاة والسلام - ما عنده، وأتم
له ما وعده، وأظهر دعوته، وأبلج حجته، وقبضه الله إليه - صلوات الله
عليه -، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه، وخالفه على أمره، على
ذلك اتفقا واتسقا.
ثم إنهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما، وتلكأ عليهما، فهما به
الهموم، وأرادا به العظيم، ثم إنه بايع لهما وسلم لهما، وأقاما لا يشركانه
في أمرهما، ولا يطلعانه على سرهما، حتى قبضهما الله.
ثم قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما وسار بسيرهما، فعبته أنت
وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصى من أهل المعاصي، فطلبتما له الغوائل،
90

وأظهرتما عداوتكما فيه حتى بلغتما فيه منا كما، فخذ حذرك يا بن أبي
بكر، وقس شبرك بفترك، يقصر عن أن توازي أو تساوي من يزن الجبال
بحلمه، لا يلين عن قسر قناته، ولا يدرك ذو مقال أناته أبوك مهد مهاده،
وبنى لملكه وساده، فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك استبد به ونحن
شركاؤه، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب، ولسلمنا إليه،
ولكنا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فأخذنا بمثله، فعب أباك بما بدا لك
أودع ذلك، والسلام على من أناب (1).

(1) مروج الذهب للمسعودي: ج 3 ص 20، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 3 ص 188،
الاحتجاج للطبرسي ج 1 ص 183، بحار الأنوار ج 33 ص 575 ح 723.
91

المناظرة الثالثة عشرة
مناظرة عبد الله بن جعفر (1) مع معاوية بن أبي سفيان
قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: كنت عند معاوية ومعنا الحسن
والحسين - عليهما السلام - وعنده عبد الله بن عباس فالتفت إلى معاوية
فقال: يا عبد الله ما أشد تعظيمك للحسن والحسين - عليهما
السلام -؟! وما هما بخير منك ولا أبوهما خير من أبيك، ولولا أن فاطمة
بنت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لقلت ما أمك أسماء بنت
عميس بدونها.
فقلت: والله إنك لقليل العلم بهما وبأبيهما وبأمهما، بل والله لهما
خير مني، وأبوهما خير من أبي، وأمهما خير من أمي.

(1) هو: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، الهاشمي يكنى
أبا جعفر المدني، أمه أسماء بنت عميس، وأول مولود ولد في الإسلام بأرض الحبشة، كفله
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد استشهاد أبيه في معركة مؤتة، فنشأ في حجره، وكان من
أصحابه، وكان كريما، جوادا، عظيم الشأن واسع العطاء، وله أقاصيص في الكرم هي أشهر من
أن تذكر، شهد يوم صفين مع عمه أمير المؤمنين - عليه السلام -، وله مواقف مشهورة مع
معاوية وعمر بن العاص في دفاعه عن عمه، وواسى ابن عمه الحسين - عليه السلام - بولده
عون ومحمد وعبد الله وقتلوا معه بالطف لما كان هو معذورا في الخروج معه، وعاش إلى
زمان السجاد - عليه السلام - ومات بالمدينة سنة ثمانين، ودفن بالبقيع، وقال المدائني كان
عمره تسعين سنة.
راجع ترجمته في تنقيح المقال للمامقاني ج 2 ص 173، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 456،
الإصابة ج 2 ص 289، الإستيعاب ج 2 ص 880.
92

يا معاوية، إنك لغافل عما سمعته أنا من رسول الله - صلى الله عليه
وآله - يقول فيهما وفي أبيهما وأمهما، قد حفظته ووعيته ورويته.
قال: هات يا ابن جعفر فوالله ما أنت بكذاب ولا متهم؟
فقلت: إنه أعظم مما في نفسك.
قال: وإن كان أعظم من أحد وحراء جميعا، فلست أبالي إذا قتل الله
صاحبك، وفرق جمعكم وصار الأمر في أهله، فحدثنا فما نبالي بما قلتم
ولا يضرنا ما عدمتم.
قلت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله - وقد سئل عن هذه
الآية: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة
في
القرآن (1).
فقال: إني رأيت اثني عشر رجلا من أئمة الضلالة يصعدون منبري
وينزلون، يردون أمتي على أدبارهم القهقرى (2) وسمعته يقول: إن بني

(1) سورة الإسراء: الآية 60.
(1) جاء في تفسير الرازي ج 20 ص 236: قال سعيد بن المسيب: رأى رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم - بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساء ذلك، وفي ص 237 قال ابن العباس
- رضي الله عنهما -: الشجرة بنو أمية، يعني الحكم بن أبي العاص قال: ورأس رسول الله - صلى
الله عليه وآله وسلم - في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره... الحديث
وجاء في الدر المنثور ج 5 ص 310: عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول لأبيك وجدك: (إنكم الشجرة الملعونة في
القرآن).
وجاء في تفسير الطبري ج 15 ص 77: رأى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بني فلان
ينزون على منبره القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات، قال: وأنزل الله
عز وجل في ذلك (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس)
وجاء في دلائل النبوة للبيهقي ج 6 ص 511، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - قال: رأيت في النوم بني الحكم أو بني العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة. قال:
فما رؤي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مستجمعا ضاحكا حتى توفي.
93

أبي العاص إذا بلغوا خمسة عشر رجلا جعلوا كتاب الله دخلا، وعباد الله
خولا، ومال الله دولا (1).
يا معاوية إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله - يقول على
المنبر وأنا بين يديه وعمر بن أبي سلمة، وأسامة بن زيد، وسعد بن أبي
وقاص، وسلمان الفارسي، وأبو ذر، والمقداد، والزبير بن العوام، وهو
يقول: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقلنا: بلى. يا رسول الله، قال:
أليس أزواجي أمهاتكم؟!
قلنا: بلى يا رسول الله.
قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، أو لي به من نفسه، وضرب بيده
على منكب علي فقال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه (2)، أيها الناس،

(1) ذكره الحاكم في المستدرك ج 4 ص 480 باختلاف يسير.
وقد ذكر المؤرخون أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - لعن آل أبي العاص في مواطن كثيرة
راجع: مقتل الحسين - عليه السلام - للخوارزمي ج 1 ص 172، سير أعلام النبلاء ج 2
ص 107، أسد الغالب ج 2 ص 34، شيخ المضيرة أبو هريرة ص 160، الغدير للأميني ج 8 ص 245.
(2) هذا الحديث (من كنت مول ه فعلي مولاه اللهم والي من والاه وعاد من عاداه) هو أشهر من أن
يذكر، فقد ذكرته جل مصادر أهل السنة فمنها على سبيل المثال:
مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 281، كنز العمال ج 11 ص 332، ح 31662 وص 602 ح
32904، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج 1 ص 31 2
ح 275 و ج 2 ص 5 ح 501 و 503، خصائص أمير المؤمنين - عليه السلام - للنسائي الشافعي
ص 96 ح 90، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 56 وص 59، أسد الغابة لابن الأثير
الشافعي ج 1 ص 367 و ج 2 ص 233 و ج 3 ص 92، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ج 1
ص 249 - 258 ح 244 - 250، مجمع الزوائد للهيثمي الشافعي ج 7 ص 17 و ج 9 ص 104،
ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 30 وص 31 وص 32، تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 2 11،
أنساب الأشراف للبلاذري ج 2 ص 112 ح 49، ذخائر العقبى ص 67، المناقب للخوارزمي الحنفي ص 135 ح 152، ميزان الاعتدال للذهبي ج 3 ص 294، الصواعق المحرقة
ص 122 ح 4، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 19 ص 217 و ج 12 ص 49.
94

أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ليس لهم معي أمر، وعلي من بعدي أولى
بالمؤمنين من أنفسهم، ليس لهم معه أمر، ثم ابني الحسن أولى بالمؤمنين
من أنفسهم، ليس لهم معه أمر، ثم عاد فقال: أيها الناس، إذا أنا استشهدت
فعلي أولى بكم من أنفسكم، فإذا استشهد علي فابني الحسن أولى
بالمؤمنين منهم بأنفسهم، فإذا استشهد الحسن فابني الحسين أولى
بالمؤمنين منهم بأنفسهم، فإذا استشهد الحسين فابني علي بن الحسين
أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس لهم معه أمر، ثم أقبل علي - عليه
السلام - فقال: يا علي، إنك ستدركه فأقرأه مني السلام، فإذا استشهد فابني
محمد أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم، وستدركه أنت يا حسين فاقرأه مني
السلام، ثم يكون في عقب محمد رجال، واحد بعد واحد، وليس منهم
أحد إلا وهو أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس لهم معه أمر، كلهم هادون
مهتدون (1).

(1) فقد نص النبي - صلى الله عليه وآله - على الأئمة الاثني عشر - عليهم السلام - تارة بعددهم
وتارة بأسمائهم.
أما النص على عددهم: فقد رواه جمهور علماء المسلمين من أئمة الحديث وأهل السير
والتواريخ بي رقق عديدة، فقد أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده ج 1 ص 398 وص 406 و ج 5
ص 89 عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله - يقول في حجة الوداع:
لا يزال هذا الدين ظاهرا على من ناواه ولا يضره مخالف ولا مطارق حتى يمضي من أمتي اثنا
عشر أميرا كلهم من قريش.
وأخرج مسلم في صحيحه ج 3 ص 1452 - 1453 ح 5 -، عن النبي - صلى الله عليه وآله -
أنه قال: لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.
وفي بعضها: لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا كلهم من قريش.
وفي بعضها: لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش.
وفي صحيح البخاري ج 9 كتاب الأحكام ص 101 عن جابر بن سمرة أن النبي - صلى الله
عليه وآله - قال: (يكون بعدي اثنا عشر أميرا) فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: (كلهم
من قريش).
وفي كنز العمال ج 11 ص 629 ح 33065 عن النبي - صلى الله عليه وآله - أنه قال: (يكون
بعدي اثنا عشر خليفة).
وأيضا ابن حجر في صواعقه الباب 11 فصل 2 ص 189، والقندوزي الشافعي في ينابيع
المودة باب 77 ص 444 وص 445 ط 8.
وأما النص على أسمائهم:
فقد ذكره القندوزي الحنفي في ينابيع المودة بطرق مختلفة باب 76 ص 441 وص 442
وص 443، باب 77 وص 445 ص 447 وباب 93 ص 486 وص 487.
وفي الباب 94 ص 494 عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري
يقول: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله -: يا جابر إن أوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي
أولهم علي، ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف بالباقر
ستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرءه مني السلام ثم جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن
موسى ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم القائم اسمه اسمي وكنيته
كنيتي ابن الحسن بن علي ذاك الذي يفتتح الله تبارك وتعالى على يديه مشارق الأرض
ومغاربها، ذلك الذي يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه
للإيمان.
قال جابر: فقلت: يا رسول الله فهل للناس الانتفاع به في غيبته، فقال إي والذي بعثني
بالنبوة، إنهم يستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن سترها سحاب، هذا
من مكنون سر الله ومخزون علم الله فاكتمه إلا عن أهله.
فالمحصل من ذلك أن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده - صلى الله عليه وآله - اثني
عشر، لا تنطبق إلا على أئمة أهل البيت الاثني عشر - عليهم السلام - فلا يمكن أن تحمل هذه
الأحاديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر، ولا يمكن أن تحمل على
الخلفاء الأمويين أو العباسيين لأنهم يزيدون على العدد المذكور.
وقال بعض المحققين: فإن قيل إن المراد صلحاؤهم فالجواب:
أولا: إن صلحاءهم على زعمكم لا يبلغون الاثني عشر.
ثانيا: يلزم الفترة بين إمام وآخر فيكون زمان خال من الإمام وذلك لا يسوغ، لما ورد عن
النبي - صلى الله عليه وآله - (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).
وقد ورد هذا الحديث في مصادر السنة بألفاظ مختلفة راجع: المعجم الكبير للطبراني
ج 19 ص 388 ح 910، حلية الأولياء لأبي نعيم الاصفهاني ج 3 ص 224، مجمع الزوائد لأبي
بكر الهيثمي ج 5 ص 218، كنز العمال للمتقي الهندي ج 1 ص 103 ح 463 و 464.
فعلى كل حال، إن صرف هذه الأحاديث عن أئمة أهل البيت الاثني عشر - عليهم السلام - ما
هو إلا التعصب الأعمى الذي يقود صاحبه إلى الضلال، أضف إلى ذلك أنه اجتهاد في مقابل النص.
فهؤلاء أمثال السيوطي (راجع فتح الباري ج 13 ص 179 وص 183) فقد جهد على
صرف هذه الأحاديث عن معناها الصحيح.
ولذلك يتعجب منه الأستاذ أبو ريه في كتابه (أضواء على السنة المحمدية، ص 235)
وإليك تعليقه على ما أورده السيوطي:
يقول: أما السيوطي فبعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة، خرج برأي
غريب نورده هنا تفكهة للقراء وهو:
وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر، الخلفاء الأربعة، والحسن، ومعاوية، وابن الزبير،
وعمر بن عبد العزيز، هؤلاء ثمانية، ويحتمل أن يضم إليهم المهدي من العباسيين لأنه فيهم
كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر، لما أوتيه من العدل، وبقي الاثنان
المنتظران!! أحدهما المهدي! لأنه من أهل بيت محمد - - صلى الله عليه وآله -.
ولم يبين المنتظر الثاني، ورحم الله من قال في السيوطي إنه حاطب ليل!!
95

(إلى أن قال): فقال معاوية: يا بن جعفر، لقد تكلمت بعظيم ولئن
كان ما تقول حقا لقد هلكت أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - من
المهاجرين والأنصار غيركم أهل البيت وأولياءكم وأنصاركم؟
فقلت: والله إن الذي قلت حق سمعته من رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم -.
قال معاوية: يا حسن ويا حسين ويا بن عباس ما يقول ابن جعفر؟!
فقال ابن عباس: إن كنت لا تؤمن بالذي قال فأرسل إلى الذين
97

سماهم فاسألهم عن ذلك.
فأرسل معاوية إلى عمر بن أبي سلمة، وإلى أسامة بن زيد فسألهما،
فشهدا أن الذي قال ابن جعفر قد سمعناه من رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - كما سمعه.
فقال معاوية: يا بن جعفر قد سمعناه في الحسن والحسين وفي
أبيهما، فما سمعت في أمهما؟! - ومعاوية كالمستهزئ والمنكر!
فقلت: سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول:
ليس في جنة عدن منزل أشرف ولا أفضل ولا أقرب إلى عرش ربي من
منزلي، ومعي ثلاثة عشر من أهل بيتي أخي علي وابنتي فاطمة وابناي
الحسن والحسين، وتسعة من ولد الحسين، الذين أذهب الله عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا، هداة مهتدون، وأنا المبلغ عن الله، وهم
المبلغون عني، وهم حجج الله على خلقه، وشهداؤه في أرضه، وخزانه
على علمه، ومعادن حكمته، من أطاعهم أطاع الله، ومن عصاهم عصى
الله، لا تبقى الأرض طرفة عين (إلا) ببقائهم، ولا تصلح إلا بهم، يخبرون
الأمة بأمر دينهم، حلالهم وحرامهم، يدلونهم على رضا ربهم، وينهونهم
عن سخطه، بأمر واحد ونهي واحد، ليس فيهم اختلاف ولا فرقة ولا
تنازع، يأخذ آخرهم عن أولهم إملائي وخط أخي علي بيده، يتوارثونه
إلى يوم القيامة، أهل الأرض كلهم في غمرة وغفلة وتيهة وحيرة غيرهم
وغير شيعتهم وأوليائهم، لا يحتاجون إلى أحد من الأمة في شئ من أمر
دينهم، والأمة تحتاج إليهم، هم الذين عنى الله في كتابه وقرن طاعتهم
بطاعته وطاعة رسول الله، فقال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
98

منكم) (1).
فأقبل معاوية على الحسن والحسين وابن عباس والفضل بن عباس
وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد، فقال: كلكم على ما قال ابن جعفر؟!
قالوا: نعم.
قال: يا بني عبد المطلب إنكم لتدعون أمرا عظيما وتحتجون
بحجج قوية، إن كانت حقا! وإنكم لتضمرون على أمر تسرونه والناس عنه
في غفلة عمياء، ولئن كان ما يقولون حقا لقد هلكت الأمة، وارتدت عن
دينها، وتركت عهد نبينا غيركم أهل البيت، ومن قال بقولكم، فأولئك في
الناس قليل.
فقلت: يا معاوية إن الله تبارك وتعالى يقول: وقليل من عبادي
الشكور (2).
ويقول: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (3). ويقول: (إلا
الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) (4). ويقول لنوح - عليه
السلام -: (وما آمن معه إلا قليل) (5).

(1) سورة النساء: الآية 59، فقد ذكر المفسرون وغير هم أن المراد ب‍ (أولي الأمر) هم علي
- عليه السلام - والأئمة من ولده.
راجع: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي ج 1 ص 148 ح 202 - 204، تفسير
الرازي ج 10 ص 144، تفسير البحر المحيط ج 3 ص 278 ط السعادة بمصر، ينابيع المودة
للقندوزي الحنفي ص 134 وص 137 ط الحيدرية وص 114 وص 117 ط اسلامبول، فرائد
السمطين ج 1 ص 314 ج 250، إحقاق الحق للتستري ج 3 ص 424.
(2) سورة سبأ: الآية 13.
(3) سورة يوسف: الآية 103.
(4) سورة ص: الآية 24.
(5) سورة هود: الآية 40.
99

يا معاوية، المؤمنون في الناس قليل، وإن أمر بني إسرائيل أعجب
حيث قالت السحرة لفرعون: (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه
الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا) (1). فآمنوا بموسى وصدقوه واتبعوه، فسار
بهم وبمن تبعه من بني إسرائيل، فأقطعهم البحر وأراهم الأعاجيب، وهم
يصدقون به وبالتوراة، يقرون له بدينه، فمر بهم على قوم يعبدون أصناما
لهم فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة (2). ثم اتخذوا
العجل فعكفوا عليه جميعا غير هارون وأهل بيته.
وقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى (3). وقال لهم بعد
ذلك: ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم (4). فكان من
جوابهم ما قص الله في كتابه: (إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى
يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) (5) قال موسى عليه السلام:
(رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (6).
فاحتذت هذه الأمة ذلك المثال سواء، وقد كانت فضائل وسوابق مع
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومنازل منه قريبة، مقرين بدين
محمد والقرآن، حتى فارقهم نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم - فاختلفوا
وتفرقوا وتحاسدوا وخالفوا إمامهم ووليهم، حتى لم يبق منهم على ما
عاهدوا عليه نبيهم، غير صاحبنا الذي هو من نبينا - صلى الله عليه وآله

(1) سورة طه: الآية 72 - 73.
(2) سورة الأعراف: الآية 138.
(3) سورة طه: الآية 88.
(4) سورة المائدة: الآية 21.
(5) سورة المائدة: الآية 22.
(6) سورة المائدة: الآية 25.
100

وسلم - بمنزلة هارون من موسى، ونفر قليل لقوا الله عز وجل على دينهم
وإيمانهم، ورجع الآخرون القهقرى على أدبارهم كما فعل أصحاب
موسى - عليه السلام - باتخاذهم العجل وعبادتهم إياه، وزعمهم أنه ربهم،
وإجماعهم عليه غير هارون وولده ونفر قليل من أهل بيته.
ونبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - قد نصب لأمته أفضل الناس
وأولاهم وخيرهم بغدير خم (1) وفي غير موطن، واحتج عليهم به
وأمرهم بطاعته، وأخبرهم أنه منه بمنزلة هارون من موسى (2)، وأنه ولي
كل مؤمن بعده، وأنه كل من كان وليه، فعلي وليه، ومن كان أولى به من
نفسه فعلي أولى به، وأنه خليفته فيهم ووصيه، وأن من أطاعه أطاع الله
ومن عصاه عصى الله، ومن والاه والى الله، ومن عاداه عادى الله، فأنكروه

(1) وقد أثبت العلامة الحجة الأميني في كتابه الغدير ج 1 ص 14 - 61 رواة الغدير من الصحابة
وهم: مائة وعشرون صحابيا، وفي ص 62 - 73 رواة الغدير من التابعين وهم: أربعة وثمانون
تابعيا، وفي ص 73 - 151 رواة حديث الغدير من أئمة الحديث وحفاظه والأساتذة وهم:
ثلاثمائة وستون نسمة.
(2) هذا الحديث يعرف بحديث المنزلة، وهو قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
لعلي - عليه السلام -: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وهو من
الأحاديث المتواترة المشهورة فقد روته جل مصادر العامة.
راجع: صحيح البخاري ج 5 ص 24، صحيح مسلم ب من فضائل علي بن أبي طالب ج 4
ص 1870 ح 30 - (2404)، صحيح الترمذي ج 5 ص 596 ح 3724 وص 598 ح 3730،
مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 179 و ج 3 ص 32 و ج 6 ص 369 وص 438، سنن ابن ماجة
ج 1 ص 42 ح 115 و 121، المستدرك للحاكم ج 3 ص 109 و ج 2 ص 337 وصححه، تاريخ
الطبري ج 3 ص 104، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي
ج 1 ح 150، الإصابة لابن حجر ج 2 ص 507 وص 509، حلية الأولياء ج 7 ص 195 - 196
وصححه، ذخائر العقبى ص 63 وص 64، أسد الغابة ج 4 ص 26 وص 27، كنز العمال ج 11
ص 599 ح 32880 و ج 13 ص 150 ح 36470، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 168. وغيرها.
101

وجهلوه وتولوا غيره!!
يا معاوية أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حين
بعث إلى مؤتة أمر عليهم جعفر بن أبي طالب، ثم قال إن هلك جعفر فزيد
ابن حارثة، فإن هلك زيد فعبد الله بن رواحة، ولم يرض لهم أن يختاروا
لأنفسهم.
أفكان يترك أمته لا يبين لهم خليفته فيهم؟! بلى والله، ما تركهم في
عمياء ولا شبهة، بل ركب القوم ما ركبوا بعد نبيهم، وكذبوا على رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فهلكوا وهلك من شايعهم، وضلوا وضل
من تابعهم، فبعدا للقوم الظالمين.
فقال معاوية: يا بن عباس إنك لتتفوه بعظيم! والاجتماع عندنا خير
من الاختلاف، وقد علمت أن الأمة لم تستقم على صاحبك.
فقال ابن عباس: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
يقول: ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها (1)، وإن
هذه الأمة اجتمعت على أمور كثيرة ليس بينها اختلاف ولا منازعة ولا
فرقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والصلوات الخمس،
وصوم شهر رمضان، وحج البيت، وأشياء كثيرة من طاعة الله ونهي الله،
مثل: تحريم الزنا، والسرقة، وقطع الأرحام، والكذب، والخيانة،
واختلفت في شيئين:
أحدهما: اقتتلت عليه وتفرقت فيه وصارت فرقا، يلعن بعضها
بعضا ويبرأ بعضها من بعض.

(1) مجمع الزوائد: ج 1 ص 157، كنز العمال ج 1 ص 183 ح 929.
102

والثاني: لم تقتتل عليه ولم تتفرق فيه، ووسع بعضهم فيه لبعض،
وهو كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - وما يحدث زعمت
أنه ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -.
وأما الذي اختلفت فيه وتفرقت وتبرأت بعضها من بعض، فالملك
والخلافة، زعمت أنها أحق بهما من أهل بيت نبي الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - فمن أخذ بما ليس فيه - بين أهل القبلة - اختلاف ورد علم ما
اختلفوا فيه إلى الله سلم ونجا من النار، ولم يسأله الله عما أشكل عليه من
الخصلتين اللتين اختلف فيهما، ومن وفقه الله ومن عليه ونور قلبه وعرفه
ولاة الأمر ومعدن العلم أين هو، فعرف ذلك كان سعيدا ولله وليا، وكان
نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: رحم الله عبدا قال حقا فغنم أو
سكت فلم يتكلم (1).
فالأئمة من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومنزل الكتاب، ومهبط
الوحي ومختلف الملائكة، لا تصلح إلا فيها، لأن الله خصها وجعلها أهلا
في كتابه على لسان نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فالعلم فيهم وهم أهله
وهو عندهم كله بحذافيره، باطنه وظاهره، ومحكمه ومتشابهه وناسخه
ومنسوخه.
يا معاوية إن عمر بن الخطاب أرسلني في إمرته إلى علي بن أبي
طالب - عليه السلام - أني أريد أن أكتب القرآن في مصحف فابعث إلينا ما
كتبت من القرآن.
فقال: تضرب والله عنقي قبل أن تصل إليه.

(1) كتاب الزهد لابن المبارك: ص 128 ح 380، كشف الخفاء ج 1 ص 514 ح 1374، الفردوس
للديلمي ج 2 ص 259 ح 3204 بتفاوت.
103

قلت: ولم؟!
قال: إن الله يقول: لا يمسه إلا المطهرون (1). يعني لا يناله كله إلا
المطهرون، إيانا عنى، نحن الذين أذهب الله عنا الرجس وطهرنا
تطهيرا (2)، وقال: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا (3).

(1) سورة الواقعة: الآية 79.
(2) إشارة إلى الآية الشريفة (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا) الأحزاب 33، وقد تقدمت تخريجات نزولها فيهم - عليهم السلام -.
(3) سورة فاطر: الآية 32.
فقد ذكروا أنها نزلت في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - راجع، شواهد
التنزيل للحسكاني الحنفي ج 2 ص 155 - 157 ح 782 - 783، غاية المرام للبحراني ص 351.
وجاء في ينابيع المودة ب 30 ص 103 (في تفسير قوله تعالى ومن عنده علم الكتاب) عن
المناقب: سئل علي عليه السلام - أن عيسى بن مريم كان يحيي الموتى وسليمان بن داود كان
يفهم منطق الطير، هل لكم هذه المنزلة، قال إن سليمان بن داود - عليهما السلام - غضب على
الهدهد لفقده لأنه يعرف الماء ولا يعرف سليمان الماء تحت الهواء مع أن
الريح والنمل والإنس والجن والشياطين والمردة كانوا له طائعين وأن الله يقول في كتابه (ولو
أن قرآنا سيرت به الجبال أو قي عت به الأرض أو كلم به الموتى) سورة الرعد: الآية 31،
ويقول تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) سورة فأي ر: الآية 2 3،
فنحن أورثنا هذا القرآن الذي فيه ما يسير به الجبال، وقطعت به البلدان، ويحي به الموتى،
ونعرف به الماء، وأورثنا هذا الكتاب فيه تبيان كل شئ.
أضف إلى ذلك أنه بعد أن ثبت لدى الجمهور أن قوله تعالى: ومن عنده علم
الكتاب) سورة الرعد: الآية 43، المراد به هو أمير المؤمنين علي - عليه السلام - نعلم
بالضرورة أنه هو المراد بمن أورثه الله الكتاب في قوله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين
اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومن هم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات)
قال الشيخ محمد الحسن المظفر (قدس سره) في كتابه دلائل الصدق ج 2 ص 165:
ويشهد أيضا لإرادة علي بمن أورثه الكتاب واصطفاه، الأخبار المستفيضة الدالة على أن
عليا مع القرآن والقرآن معه، فإن المعية تستدعي أن يكون علم القرآن عنده وأنه وارثه.
وقال في ص 166: فإن قلت: لا يمكن أن يراد وحده أو مع الأئمة خاصة لأنهم معصومون
عندكم، والآية قسمت من أورثه الله الكتاب واصطفاه إليه الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق
بالخيرات فيتعين أن يراد بالآية مطلق المؤمنين.
قلت: التقسيم راجع إلى العباد والضمير في قوله تعالى: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم
مقتصد ومنهم سابق بالخيرات عائد إلى قوله تعالى: عبادنا، لا لمن أورثه الكتاب واصطفاه
منهم، إذ لا يصح تقسيم من اصطفاه إلى الظالم وغيره، ولا شمول من أورثه الكتاب لكل مؤمن
عالم وجاهل، فهي نظير قوله تعالى في سورة الحديد: ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا
في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون سورة الحديد: الآية 6 2.
104

فنحن الذين اصطفانا الله من عباده، ونحن صفوة الله ولنا ضرب الأمثال
وعلينا نزل الوحي.
فغضب عمر وقال: إن ابن أبي طالب يحسب أنه ليس عند أحد علم
غيره، فمن كان يقرأ من القرآن شيئا فليأتنا به، فكان إذا جاء رجل بقرآن
فقرأه ومعه آخر كتبه، وإلا لم يكتبه.
فمن قال - يا معاوية -: إنه ضاع من القرآن شئ فقد كذب، هو عند
أهله مجموع.
ثم أمر عمر قضاته وولاته فقال: اجتهدوا رأيكم، واتبعوا ما ترون
أنه الحق، فلم يزل هو وبعض ولاته قد وقعوا في عظيمة فكان علي بن أبي
طالب - عليه السلام - يخبرهم بما يحتج به عليهم، وكان عماله وقضاته
يحكمون في شئ واحد بقضايا مختلفة فيجيزها لهم، لأن الله لم يؤته
الحكمة وفصل الخطاب، وزعم كل صنف من أهل القبلة أنهم معدن العلم
والخلافة دونهم، فبالله نستعين على من جحدهم حقهم، وسن للناس ما
يحتج به مثلك عليهم، ثم قاموا فخرجوا (1).

(1) كتاب سليم بن قيس الكوفي: ص 190 ح 47، بحار الأنوار ج 44 ص 97 بتفاوت.
105

المناظرة الرابعة عشرة
مناظرة قيس بن سعد (1) وابن عباس مع معاوية بن أبي سفيان
قدم معاوية حاجا في خلافته المدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين
- صلوات الله عليه - وبعد ما مات الحسن - عليه السلام -، فاستقبله أهل
المدينة، فنظر فإذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار، فسأل عن

(1) هو: قيس بن سعد بن عبادة بن ديلم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج
ابن ساعدة بن كعب بن الخزرج، الأمير المجاهد، صحابي جليل، ومن أصحاب أمير المؤمنين
والحسن - عليهما السلام -، وكان من الجماعة الذين شهدوا باستخلاف النبي - صلى الله عليه
وآله وسلم - عليا - عليه السلام - يوم الغدير عند استشهاد أمير المؤمنين - عليه السلام - وعدم
نكولهم الشهادة فيمن شهدوا، وجاء في شرح النهج لابن أبي الحديد: وكان قيس بن سعد بن
عبادة من شيعة علي ومناصحيه، وكان مع شجاعته ونجدته جوادا مفضالا، وكان طوالا أطول
الناس وأمدهم قامة، شجاعا مجربا مناصحا لعلي ولولده، ولم يزل على ذلك إلى أن مات، وفي
أسد الغابة: أنه كان من فضلاء الصحابة وأحد دهاة العرب وكرمائهم، وكان من ذوي الرأي
الصائب والمكيدة في الحرب مع النجدة والشجاعة وكان شريف قومه. له أحاديث عديدة،
وروى عنه الكثير، منهم: عبد الله بن مالك الأشجعي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهما، كان
صاحب لواء النبي - صلى الله عليه وآله - في بعض مغازيه، ولي مصر من قبل أمير المؤمنين
- عليه السلام - ثم عزله عنها فقدم المدينة، ثم لحق بعلي وكان على شرطة الخميس، وبعد وفاة
أمير المؤمنين - عليه السلام - صار مع الحسن - عليه السلام - فوجهه على مقدمة جيشه إلى
معاوية، وبعد إبرام الصلح رجع إلى المدينة وتوفي فيها في خلافة معاوية.
تجد ترجمته في كثير من الكتب الرجالية وغيرها منها: طبقات ابن سعد ج 6 ص 52،
تاريخ الطبري، ج 4 ص 546، الإستيعاب ج 3 ص 1288 رقم: 2133، تاريخ بغداد ج 1
ص 177، أسد الغابة ج 4 ص 215، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 57 - 64،
سفينة البحار للقمي ج 2 ص 457، تنقيح المقال للمامقاني ج 2 ص 31 - 33 وغيرها ا لكثير
فمن أراد الاطلاع فليراجع.
106

ذلك فقيل: إنهم محتاجون ليست لهم دواب.
فالتفت معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة فقال: يا معشر الأنصار ما
لكم لا تستقبلوني مع إخوانكم من قريش؟
فقال قيس وكان سيد الأنصار وابن سيدهم: أقعدنا يا أمير المؤمنين
أن لم تكن لنا دواب.
قال معاوية فأين النواضح؟
فقال قيس: أفنيناها يوم بدر ويوم أحد وما بعدهما في مشاهد
رسول الله - صلى الله عليه وآله - حين ضربناك وأباك على الإسلام حتى
ظهر أمر الله وأنتم كارهون.
قال معاوية: اللهم غفرا.
قال قيس: أما إن رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال: سترون بعدي
أثرة (1).
ثم قال: يا معاوية تعيرنا بنواضحنا، والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر
وأنتم جاهدون على إطفاء نور الله، وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا، ثم
دخلت أنت وأبوك كرها في الإسلام الذي ضربناكم عليه.
فقال معاوية: كأنك تمن علينا بنصرتك إيانا، فلله ولقريش بذلك
المن والطول، ألستم تمنون علينا يا معشر الأنصار بنصرتكم رسول الله

(1) راجع: صحيح البخاري ج 9 ص 59، مسند أحمد ج 3 ص 182، سنن الترمذي ج 4
ص 418 ح 2189، شرح السنة للبغوي ج 14 ص 173 ح 3973، صحيح مسلم ج 3
ص 1474 ح 48 - (1845)، كنز العمال ج 13 ص 614 ح 37570، وللحديث مصادر كثيرة.
قال الجزري في النهاية ج 1 ص 22 بمادة (أثر): قال - صلى الله عليه وآله وسلم - للأنصار:
(إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا). الأثرة بفتح الهمزة والثاء الاسم من أثر يؤثر إيثارا إذا أعطى
أراد أنه يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه من الفئ، والاستئثار الانفراد بالشئ.
107

وهو من قريش، وهو ابن عمنا ومنا، فلنا المن والطول أن جعلكم الله
أنصارنا وأتباعنا فهداكم بنا.
فقال قيس: إن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - رحمة
للعالمين، فبعثه إلى الناس كافة، وإلى الجن والأنس، والأحمر والأسود
والأبيض، اختاره لنبوته واختصه برسالته، فكان أول من صدقه وآمن به
ابن عمه علي بن أبي طالب - عليه السلام - وأبو طالب يذب عنه، ويمنعه
ويحول بين كفار قريش وبين أن يردعوه أو يؤذوه، فأمره أن يبلغ رسالة
ربه، فلم يزل ممنوعا من الضيم والأذى، حتى مات عمه أبو طالب وأمر
ابنه بمؤازرته، فآزره ونصره وجعل نفسه دونه في كل شديدة، وكل
ضيق، وكل خوف، واختص الله بذلك عليا - عليه السلام - من بين قريش،
وأكرمه من بين جميع العرب والعجم.
فجمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جميع بني عبد
المطلب، فيهم أبو طالب، وأبو لهب وهم يومئذ أربعون رجلا، فدعاهم
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وخادمه علي - عليه السلام -
ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في حجر عمه أبي طالب.
فقال أيكم ينتدب أن يكون أخي ووزيري ووصيي وخليفتي في
أمتي، وولي كل مؤمن بعدي؟ فسكت القوم حتى أعادها ثلاثا.
فقال علي - عليه السلام -: أنا يا رسول الله عليك - فوضع
رأسه في حجره وتفل في فيه.
وقال: اللهم املأ جوفه علما وفهما وحكما، ثم قال لأبي طالب: يا أبا
108

طالب اسمع الآن لابنك وأطع (1)، فقد جعله الله من نبيه بمنزلة هارون من
موسى وآخى - صلى الله عليه وآله وسلم - بين علي وبين نفسه (2).
فلم يدع قيس شيئا من مناقبه إلا ذكرها واحتج بها.
وقال: منهم جعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة بجناحين، اختصه
الله بذلك من بين الناس، ومنهم حمزة سيد الشهداء، ومنهم فاطمة سيدة
نساء أهل الجنة، فإذا وضعت من قريش رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - وأهل بيته منكم.
لقد قبض رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فاجتمعت الأنصار
إلى أبي، ثم قالوا نبايع سعدا (3) فجاءت قريش فخاصمونا بحجة علي
وأهل بيته - عليهم السلام - وخاصمونا بحقه وقرابته، فما يعدوا قريش أن
يكونوا ظلموا الأنصار وظلموا آل محمد - عليهم السلام - ولعمري ما
لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حق
مع علي - عليه السلام - وولده من بعده.
فغضب معاوية وقال: يا بن سعد عمن أخذت هذا، وعمن رويته،

(1) انظر: فرائد السمطين ج 1 ص 85 - 86 ح 55، معالم التنزيل للحسكاني ج 1
ص 371 ح 514.
وقد ذكرنا المزيد من المصادر وذلك في مناظرة الأنطاكي مع العالم الشافعي فراجع.
(2) فرائد السمطين ج 1 ص 116 ح 81 وص 117 ح 82 وص 121.
(3) راجع: تاريخ الطبري ج 3 ص 205، الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 2 ص 325، طبقات ابن
سعد ج 3 ص 616، سير أعلام النبلاء للذهبي ج 1 ص 276، أسد الغابة ج 2 ص 284، تاريخ
اليعقوبي ج 2 ص 123 والحادثة لها شواهد كثيرة.
109

وعمن سمعته، أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته؟
فقال قيس: سمعته وأخذته ممن هو خير من أبي، وأعظم علي حقا
من أبي.
قال: من؟
قال: علي بن أبي طالب - عليه السلام - عالم هذه الأمة وصديقها
الذي أنزل الله فيه: (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم
الكتاب) (1) فلم يدع آية نزلت في علي إلا ذكرها.

(1) سورة الرعد: الآية 43.
فقد روى الجمهور أنها نزلت في أمير المؤمنين - عليه السلام - وهو الذي عنده علم
الكتاب، وممن روى ذلك:
الثعلبي في تفسيره، من طريقين، أحدهما: عن عبد الله بن سلام، أنه قال: إنما ذلك علي بن
أبي طالب، كما في ينابيع المودة ص 102، وابن المغازلي.
والثاني: عن أبي سعيد الخدري، كما في الإتقان للسيوطي ج 1 ص 13، وينابيع المودة
ص 103، رواه بطرق.
وقيل. إنها نزلت في عبد الله بن سلام ورفيقيه، ومضافا إلى رد ابن سلام على هذا القائل،
فقد أجاب الشعبي كما في تفسير الخازن ج 3 ص 69، وسعيد بن جبير، بأن السورة مكية، فلا
يجوز أن يراد منها ابن سلام وأصحابه، لأنهم آمنوا في المدينة راجع: تفسير الطبري ج 12
ص 117، والدر المنثور ج 4 ص 686، والاتقان ج 1 ص 13.
وأجاب في ينابيع المودة ص 104 - 105: وقال بعض المحققين في هذه الآية الشريفة: ولما
فتح الله أبواب السعادة الكبرى والهداية العظمى برسالة حبيبه على العرب وقريش وخصوصا
علي بني هاشم بقوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) سورة الشعراء: الآية 214 ورهطك
المخلصين اقتضى العقل أن يكون العالم بجميع أسرار كتاب الله لا بد أن يكون رجلا من بني
هاشم بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأنه أقرب له من سائر قريش وأن يكون إسلامه
أولا ليكون واقفا (على) أسرار الرسالة وبدأ الوحي وأن يكون جميع الأوقات عنده بحسن
المتابعة ليكون خيبرا عن جميع أعماله وأقواله وأن يكون من طفولته منزها عن أعمال
الجاهلية ليكون متخلقا بأخلاقه ومؤدبا بآدابه ونظيرا بالرشد من أولاده، فلم توجد هذه
الشروط لأحد إلا في علي - عليه السلام -.
وأما عبد الله بن سلام فإنه لم يسلم إلا بعد الهجرة فلم يعرف سبب نزول السور التي نزلت
قبل الهجرة ولما كان حاله هذا لم يعرف حق تأويلها بعد إسلامه، مع أن سلمان الفارسي الذي
صرف عمره الطويل ثلاثمائة وخمسين سنة في تعلم أسرار الإنجيل والتوراة والزبور وكتب
الأنبياء السابقين والقرآن، لم يكن من عنده علم الكتاب، لفقده الشوي المذكورة، فكيف
يكون من عنده علم الكتاب ابن سلام الذي لم يقرأ الإنجيل ولم توجد فيه الشروط، ولم يصدر
منه مثل ما صدر من علي - عليه السالم - يعسوب الدين من الأسرار والحقائق في الخطبات،
مثل قوله: سلوني قبل أن تفقدوني، فإن بين جنبي علوما كالبحار الزواخر، ومثل ما صدر من
أولاده الأئمة الهداة - عليهم السلام وبركاته - من المعارف والحكم في تأويلات كتاب الله
وأسراره.
110

قال معاوية: فإن صديقها أبو بكر، وفاروقها عمر، والذي عنده علم
الكتاب عبد الله بن سلام.
قال قيس: أحق هذه الأسماء وأولى بها الذي أنزل الله فيه: (أفمن
كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) (1) والذي نصبه رسول الله - صلى

(1) سورة هود: الآية 17.
فقد روى الجمهور: أن (من كان على بينة من ربه) هو رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - والشاهد هو أمير المؤمنين علي - عليه السلام -
راجع: الدر المنثور ج 4 ص 409، روح المعاني ج 21 ص 27، تفسير الخازن ج 2
ص 321، تفسير الطبري ج 21 ص 10، وفي هامش تفسير النيسابوري ص 16، فتح القدير
ج 4 ص 247، شواهد التنزيل، تفسير الفخر الرازي ج 17 ص 201، المناقب للخوارزمي
ص 278 ح 268، ينابيع المودة ص 104 ب 26 ص 99.
وقد جاء في فرائد السمطين ج 1 ص 338 ح 260: عن ابن عباس في قوله تعالى: (أفمن
كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) قال: أريد منه علي خاصة.
وجاء في ص 339 ح 261 عن زاذان قال: سمعت عليا - عليه السلام - يقول:... والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما من رجل من قريش جرت عليه المواسي إلا وأنا أعرف له آية تسوقه إلى
جنة أو تقوده إلى نار. فقام رجل فقال: ما آيتك يا أمير المؤمنين التي نزلت فيك؟ قال: (أفمن
كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) فرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على بينة من
ربه، وأنا الشاهد منه أتلوه: أتبعه ومثل هذا الحديث أيضا بتفاوت في نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ج 6 ص 137، عن كتاب الغارات.
111

الله عليه وآله وسلم - بغدير خم فقال: من كنت أولى به من نفسه فعلي
أولى به من نفسه (1) وفي غزوة تبوك أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا
أنه لا نبي بعدي (2)
وكان معاوية يومئذ بالمدينة، فعند ذلك نادى مناديه وكتب بذلك
نسخة إلى عماله، إلا برئت الذمة ممن روى حديثا في مناقب علي وأهل
بيته، وقامت الخطباء في كل كورة (3) ومكان على المنابر بلعن علي بن أبي
طالب - عليه السلام - والبراءة منه والوقيعة في أهل بيته - عليهم السلام -
واللعن لهم بما ليس فيهم (4) - عليهم السلام -.
ثم إن معاوية مر بحلقة من قريش فلما رأوه قاموا إليه غير عبد الله ابن
العباس.
فقال له: يا بن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلا لموجدة
علي بقتالي إياكم يوم صفين، يا بن عباس إن عمي عثمان قتل مظلوما.
قال ابن عباس: فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما (5) فسلم الأمر إلى

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) تقدم تخريجاته.
(3) الكورة: جمعها كور وهي التي تجمع فيها المساكن والقرى.
(4) انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 56 - 62 و 72 و ج 11 ص 44 - 45،
النصائح الكافية لمن يتولى معاوية لمحمد عقيل، تقوية الإيمان في الرد علي بن أبي سفيان
(5) إنما قال ابن عباس هذا الكلام ليحج به معاوية.
112

ولده وهذا ابنه.
قال: إن عمر قتله مشرك.
قال ابن عباس: فمن قتل عثمان؟
قال: فذلك أدحض لحجتك وأحل لدمه، إن كان المسلمون قتلوه
وخذلوه فليس إلا بحق.
قال: فإنا كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته، فكف
لسانك يا بن عباس وأربع على نفسك (1).
قال: فتنهانا عن قراءة القرآن؟
قال: لا.
قال: فتنهانا عن تأويله؟
قال: نعم.
قال: فنقرأه ولا نسأل عما عنى الله به؟
قال: نعم.
قال: فأيما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟
قال: سل عن ذلك من يتأوله على غير ما يتأوله أنت وأهل بيتك.
قال: إنما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل
أبي معيط واليهود والنصارى والمجوس؟!!

(1) يقال أربع عليك أو على نفسك أو على ظلعك، أي توقف.
113

قال: فقد عدلتنا بهم.
قال: لعمري ما أعدلك بهم، إلا إذا نهيت الأمة أن يعبدوا الله بالقرآن
وبما فيه من أمر ونهي، أو حلال وحرام، أو ناسخ أو منسوخ، أو عام أو
خاص، أو معكم أو متشابه، وإن لم تسأل الأمة عن ذلك هلكوا واختلفوا
وتاهوا.
قال معاوية: فاقرؤا القرآن ولا ترووا شيئا مما أنزل الله فيكم وما قال
رسول الله وارووا ما سوى ذلك.
قال ابن عباس: قال الله تعالى في القرآن (يريدون أن يطفؤا نور الله
بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) (1).
قال معاوية: يا بن عباس اكفني نفسك وكف عني لسانك وإن كنت لا
بد فاعلا فليكن سرا ولا تسمعه أحدا علانية ثم رجع إلى منزله (2)

(1) سورة التوبة: الآية 32.
(2) كتاب سليم بن قيس الكوفي ص 161.
114

المناظرة الخامسة عشرة
مناظرة أروى (1) بنت الحارث بن عبد المطلب مع معاوية
روى ابن عائشة عن حماد بن سلمة عن حميد الطويل عن أنس بن
مالك، قال: دخلت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية بن
أبي سفيان بالموسم وهي عجوز كبيرة، فلما رآها قال: مرحبا بك يا عمه.

(1) هي: أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، ابنة عم رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، أمها غزية بنت قيس بن طريق بن عبد العزيز بن عامر بن عميرة
ابن وديعة بن الحارث بن فهر، تزوجها أبو وداعة بن صبرة بن سعيد بن سعد ابن سهم فولدت
له: المطلب، وأبا سفيان، وأم جميل، وأم حكيم، والربعة بني أبي وداعة، توفيت حدود سنة 50 ه‍.
وهي: من ربات الفصاحة والبلاغة، كانت أغلظ الوافدات على معاوية بن أبي سفيان، حيث
أسمعته ومن معه كلاما قارصا - ووبخته على أخذه ما ليس له واحتجت بأدلة وبراهين على
خلافة أمير المؤمنين - عليه السلام - بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأظهرت
مظلوميته.
نعم هكذا كن نساء العقيدة والمبدأ يتحلين بالشجاعة والصبر والثبات على ما أنعم الله
عليهن بمعرفة الولاية الحقة، والمبدأ يتحلين بالشجاعة والصبر والثبات على ما أنعم الله
يجاهدن بمعرفة الولاية الحقة، فتراهن في حياة الإمام علي - عليه السلام - يقفن إلى جنبه
يجاهدون بلسانهن، ويحضرون معه واقعة صفين يحرضن الرجال على القتال بشعر أو نثر، وبعد
استشهاده - عليه السلام - واغتصاب معاوية الخلافة نراه يبعث وراءهن قاصدا إذا لا لهن وإظهار
نفسه أمام الناس بأنه يتحلى بالعفو عند المقدرة إذ يعفو عنهن ويكرم بعضهن، إلا إنهن يقفن
موقفا بطوليا ويسمعن معاوية ومن معه كلاما قارصا يدل على ثبات عقيدتهن ورسوخها، نعم
إنها كلمة حق عند سلطان جائر. عن كتاب أعلام النساء المؤمنات ص 99 - 103 (لمحمد
الحسون وأم علي مشكور).
راجع ترجمتها في: الطبقات الكبري لابن سعد ج 8 ص 50، أعلام النساء ج 1 ص 28،
الأعلام للزركلي ج 1 ص 290، أعيان النساء ص 24.
115

قالت: كيف أنت يا بن أخي، لقد كفرت بعدي بالنعمة أسأت لابن
عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، بغير بلاء
كان منك، ولا من آبائك في الإسلام، ولقد كفرتم بما جاء به محمد
- صلى الله عليه وآله وسلم - فأتعس الله منكم الجدود، وأصعر منكم
الخدود حتى رد الله الحق إلى أهله، وكانت كلمة الله هي العليا، ونبينا
محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - هو المنصور على من ناواه ولو كره
المشركون، فكنا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظا ونصيبا وقدرا،
حتى قبض الله نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - مغفورا ذنبه مرفوعا
درجته، شريفا عند الله مرضيا، فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى
من آل فرعون، يذبحون أبناءهم، يستحيون نساءهم، وصار ابن عم سيد
المرسلين فيكم بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى (1)، حيث يقول: (ابن
أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) (2) ولم يجمع بعد رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - لنا شمل ولم يسهل لنا وعر وغايتنا الجنة
وغايتكم النار.

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) سورة الأعراف: الآية 150.
جاء في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 20: تحت عنوان: (كيف بيعة
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه)... وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا عليا، فمضوا به إلى أبي
بكر، فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟
قالوا: إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرت عنقك، قال: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله، قال
عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلم، فقال له عمر: إلا تأمر
فيه بأمرك، فقال: لا أكرهه على شئ ما كانت فاطمة إلى جنبه، فلحق علي بقبر رسول الله -
صلى الله عليه وآله وسلم - يصبح ويبكي، وينادي (يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا
يقتلونني)... الخ.
116

قال عمرو بن العاص: أيتها العجوز الضالة، أقصري من قولك،
وغضي من طرفك.
قالت: ومن أنت لا أم لك؟
قال: عمرو بن العاص.
قالت: يا بن اللخناء النابغة، أتكلمني أربع على ظلعك، وأعن بشأن
نفسك فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها، ولا كريم منصبها،
ولقد ادعاك ستة من قريش، كل يزعم أنه أبوك ولقد رأيت أمك أيام منى
بمكة مع كل عبد عاهر (أي فاجر) فأتم بهم فإنك بهم أشبه
فقال مروان الحكم: أيتها العجوز الضالة، ساخ بصرك مع ذهاب
عقلك، فلا يجوز شهادتك.
قالت: يا بني، أتتكلم فوالله لأنت إلى سفيان بن الحارث بن كلدة
أشبه منك بالحكم وإنك لشبهه في رزقه عينيك وحمرة شعرك مع قصر
قامته وظاهر دمامته، ولقد رأيت الحكم ماد القامة، طاهر الأمة سبط
الشعر، وما بينكما قرابة إلا كقرابة الفرس الضامر من الأتان المقرب،
فاسأل أمك عما ذكرك لك فإنها تخبرك بشأن أبيك إن صدقت.
ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما عرضني لهؤلاء غيرك وإن أمك
للقائلة في يوم أحد في قتل حمزة - رحمة الله عليه -:
نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب يوم الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر * أبي وعمي وأخي وصهري
شفيت وحشي غليل صدري * شفيت نفسي وقضيت نذري
فشكر وحشي علي عمري * حتى تغيب أعظمي في قبري
فأجبتها:
117

يا بنت رقاع عظيم الكفر * خزيت في بدر وغير بدر
صبحك الله قبيل الفجر * بالهاشميين الطول الزهر
بكل قطاع حسام يفري * حمزة ليثي وعلي صقري
إذ رام شبيب وأبوك غدري * أعطيت وحشي ضمير الصدر
هتك وحشي حجاب الستر * ما للبغايا بعدها من فخر
فقال معاوية لمروان وعمرو ويلكما أنتما عرضتماني لها
وأسمعتماني ما أكره، ثم قال لها: يا عمة اقصدي قصد حاجتك ودعي
عنك أساطير النساء.
قالت: تأمر لي بألفي دينار وألفي دينار وألفي دينار.
قال: ما تصنعين يا عمة بألفي دينار؟
قالت: أشتري بها عينا خرخارة في أرض خوارة تكون لولد
الحارث بن المطلب.
قال: نعم الموضع وضعتها، فما تصنعين بألفي دينار؟
قالت: أزوج بها فتيان عبد المطلب من أكفائهم.
قالت: أستعين بها على عسر المدينة وزيارة بيت الله الحرام.
قال: نعم الموضع وضعتها، هي لك نعم وكرامة، ثم قال: أما والله لو
كان علي ما أمر لك بها.
قالت: صدقت إن عليا أدى الأمانة، وعمل بأمر الله، وأخذ به، وأنت
ضيعت أمانتك، وخنت الله في ماله، فأعطيت مال الله من لا يستحقه، وقد
فرض الله في كتابه الحقوق لأهلها وبيئها، فلم تأخذ بها ودعانا (أي علي)
إلى أخذ حقنا الذي فرض الله لنا فشغل بحر بك عن وضع الأمور
118

مواضعها، وما سألتك من ما لك شيئا فتمن به إنما سألتك من حقنا ولا
نرى أخذ شئ وغير حقنا، أتذكر عليا فض الله فاك وأجهد بلاءك، ثم علا
بكاؤها وقالت:
ألا يا عين ويحك أسعدينا * ألا وابكي أمير المؤمنينا
رزينا خير من ركب المطايا * وفارسها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال أو احتذاها * ومن قرأ المثاني والمئينا
إذا استقبلت وجه أبي حسن * رأيت البدر راع الناظرينا
ولا والله لا أنسى عليا * وحسن صلاته في الراكعينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا * بخير الناس طرا أجمعينا
فأمر معاوية لها بستة آلاف، وقال لها: يا عمة أنفقي هذه في
ما تحبين، فإذا احتجتيني فاكتبي إلى ابن أخيك يحسن صفدك ومعونتك
إن شاء الله (1).

(1) بلاغات النساء لابن طيفور ص 27، العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي ج 1 ص 357
باختلاف
119

المناظرة السادسة عشرة
مناظرة دارمية الحجونية (1) مع معاوية
روى سهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه، قال
حج معاوية، فسأل عن امرأة من بني كنانة تنزل
بالحجون (2)، يقال لها: دارمية الحجونية، وكانت سوداء كثيرة اللحم،
فأخبر بسلامتها، فبعث إليها فجئ بها.
فقال: ما حالك يا ابنة حام؟
فقالت: لست لحام إن عبتني، أنا امرأة من بني كنانة.
قال: لا يعلم الغيب إلا الله.
قال: بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتني، وواليته
وعاديتني؟
قالت: أو تعفيني؟
قال: لا أعفيك.
قالت: أما إذ أبيت، فإني أحببت عليا على عدله في الرعية، وقسمه

(1) كانت من فضليات النساء، راجحة العقل، فصيحة اللسان، صادقة الولاء لعلي
سيد الأوصياء - عليه السلام -، لها حكاية مع معاوية بن أبي سفيان أظهرت بها فصاحتها، وقوة
حجتها، ورجاحة عقلها، وصدق ولائها وإشراق ثنائها. أعلام النساء المؤمنات ص 333.
(2) الحجون: جبل بمعلاة مكة.
120

بالسوية، وأبغضتك على قتالك من هو أولى منك بالأمر، وطلبتك (1) ما
ليس لك بحق وواليت عليا على ما عقد له رسولا الله - صلى الله عليه
وآله وسلم - من الولاء (2)، وحبه المساكين وإعظامه لأهل الدين،
وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى.
قال: فلذلك انتفخ بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك.
قالت: يا هذا، بهند (3) والله كان يضرب المثل في ذلك لأبي.
قال يا معاوية: يا هذه أربعي (4)، فإنا لم نقل إلا خيرا، إنه إذا انتفخ بطن
المرأة تم خلق ولدها، وإذا عظم ثدياها تروى (5) رضيعها وإذا عظمت
عجيزتها رزن مجلسها فرجعت وسكنت.
قال لها: يا هذه هل رأيت عليا؟
قالت: إي والله.
قال: فكيف رأيته؟
قالت: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي
شغلتك.
قال، فهل سمعت كلامه؟
قالت: نعم والله، فكان يجلو القلب من العمى، كما يجلو الزيت
صدأ الطست.

(1) الطلبة: الطلب.
(2) تشير إلى قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من
والاه، وعاد من عاداه).
(3) هي: هند بنت عتبة، أم معاوية.
(4) ربع: وقف وانتظر وتحبس.
(5) تروى: ارتوى.
121

قال: صدقت، فهل لك من حاجة؟
قالت: أو نفعل إذا سألتك؟
قال: نعم.
قالت: تصنعين بها ماذا؟
قالت: أغذو بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها
المكارم، وأصلح بها بين العشائر.
قال: ماء ولا كصداء، ومرعى ولا كالسعدان، وفتى ولا كمالك (1)،
يا سبحان الله، أو دونه (2) فأنشأ معاوية يقول:
إذا لم أعد بالحلم مني عليكم * فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم
خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد * جزاك على حرب العداوة بالسلم
ثم قال: أما والله لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئا.
قالت: لا والله، ولا وبرة واحدة من مال المسلمين (3).

(1) صداء: عين لم يكن عندهم ماء أعذب من مائها.
والسعدان: نبت ذو شوك، وهو أفضل مراعي الإبل ولا تحسن على نبت حسنها عليه.
ومالك: هو ابن نويرة. قد قال أخوة متمم هذا فيه لما قتل في الردة. وهذه أمثلة
تضرب للشئ يفضل على أشباهه.
(2) استفهام إنكاري منها، أي أولى بك أن تطلب دن محله لا أن تطلب مثل محله.
(3) العقد الفريد: ج 1 ص 352، صبح الأعشى: ج 1 ص 306، بلاغات النساء ص 72.
122

المناظرة السابعة عشرة
مناظرة برد الهمداني مع عمرو بن العاص
ذكروا أن رجلا من همذان يقال له برد قدم على معاوية، فسمع
عمرا يقع في علي - عليه السلام -، فقال له: يا عمرو، إن أشياخنا سمعوا
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: من كنت مولاه فعلي
مولاه (1)، فحق ذلك أم باطل؟
فقال عمرو: حق، وأنا أزيدك أنه ليس أحد من صحابة رسول الله له
مناقب مثل مناقب علي (2)، ففزع الفتى؟!

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) فقد أطبق الجمهور أنه ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من
الفضائل كما جاء لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -
قال رجل لابن عباس: سبحان الله ما أكثر مناقب علي - عليه السلام - وفضائله إني لأحسبها
ثلاثة آلاف، فقال ابن عباس، أو لا تقول: إنها إلى ثلاثين ألفا أقرب.
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: لو أن الغياض
أقلام والبحر مداد والجن حساب والإنس كتاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب - عليه
السلام.
وقال أحمد بن حنبل: ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من
الفضائل مثل ما جاء لعلي بن أبي طالب - عليه السلام -
راجع: المناقب للخوارزمي ص 32 - 33 ح 2 و 3، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي
ص 275 ب 58.
وحكي عن محمد بن إدريس الشافعي إمام المذهب الشافعي، أنه قال في جواب من سأله
عن علي - عليه السلام -: ما أقول في حق من أخفت أولياؤه فضائله خوفا، وأخفت أعداؤه
فضائله حسدا؟، وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين
راجع: وقائع الأيام للخياباني ج 3 ص 474، إرشاد القلوب للديلمي ص 210، إلا أنه نسب
هذه المقالة إل يبعض الفضلاء.
123

فقال عمرو: إنه أفسدها بأمره في عثمان.
فقال برد: هل أمر أو قتل؟
قال: لا، ولكنه آوي ومنع.
قال: فهل بايعه الناس عليها؟
قال: نعم.
قال: فما أخرجك من بيعته؟
قال: اتهامي إياه في عثمان (1).
قال له: وأنت أيضا قد اتهمت.
قال: صدقت، فيها خرجت إلى فلسطين.
فرجع الفتي إلى قومه، فقال: إنا أتينا قوما أخذنا الحجة عليهم من
أفواههم، علي على الحق فاتبعوه (2).

(1) نعم هكذا كل من أراد أن يقاتل أمير المؤمنين أو يشتمه أو يخرج عن طاعته، تذرع بقميص
عثمان، فراحوا بهذا القميص يؤججون عليه نار الفتن والمحن ومن ذلك حرب الجمل
وصفين وغيرهما.
قال مروان بن الحكم: ما كان أحدا أدفع عن عثمان من علي - عليه السلام - فقيل له: مالكم
تسبونه على المنابر؟ قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك.
راجع الصواعق المحرقة ص 55، ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر ج 3 ص
127 ح 1149، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 13 ص 220.
نعم لا يستقيم لهم الأمر إلا بقتاله وشتمه؟! فالله قلب من يرزء بهذه المصائب، فإنا لله وأنا
إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والعاقبة للمتقين.
(2) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 97.
124

المناظرة الثامنة عشرة
مناظرة حرة (1) بنت حليمة السعدية مع الحجاج بن يوسف الثقفي
لما وردت حرة بنت حليمة السعدية على الحجاج بن يوسف
الثقفي، فمثلت بين يديه.
قال لها: أنت حرة بنت حليمة السعدية؟
قالت له: فراسة من غير مؤمن!
فقال لها: الله جاء بك فقد قيل عنك: إنك تفضلين عليا على أبي بكر
وعمر وعثمان.
فقالت: لقد كذب الذي قال: إني أفضله على هؤلاء خاصة.
قال: وعلي من غير هؤلاء؟
قالت: أفضله على آدم ونوع ولوط وإبراهيم وداود وسليمان
وعيسى بن مريم - عليهم السلام -
فقال لها: ويلك إنك تفضلينه على الصحابة وتزيدين عليهم سبعة
من الأنبياء من أولي العزم من الرسل؟ إن لم تأتيني ببيان ما قالت، ضربت
عنقك.
فقالت: ما أنا مفضلته على هؤلاء الأنبياء، ولكن الله عز وجل فضله
عليهم في القرآن بقوله عز وجل في حق آدم: (وعصى آدم ربه

(1) إحدى المؤمنات المواليات لعلي بن أبي طالب، عليه السلام، وإحدى المجاهدات باللسان
التي قالت كلمة الحق أمام السلطان راجع: أعلام النساء المؤمنات تأليف محمد الحسون
ص 295 تحت رقم: 193.
125

فغوي) (1)، وقال في حق علي: (وكان سعيكم مشكورا) (2).
فقال: أحسن ت يا حرة، فبم تفضلينه على نوح ولوط؟
فقالت: الله عز وجل فضله عليهما بقوله: (ضرب الله مثلا للذين
كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين
فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع
الداخلين) (3) وعلي بن أبي طالب كان ملاكه تحت سدرة المنتهى (4).
زوجته بنت محمد فاطمة الزهراء التي يرضي الله تعالى لرضاها ويسخط
لسخطها (5).
فقال الحجاج: أحسنت يا حرة فبم تفضلينه على أبي الأنبياء إبراهيم

(1) سورة طه: الآية 121.
(2) سورة الإنسان: الآية 22 يأتي الحديث عن هذه السورة وأنها نزلت في أهل البيت، عليهم
السلام - فراجع ما أثبتناه من مصادر العامة هناك.
(3) سورة التحريم: الآية 10.
(4) ومما يروي في تزويج علي - عليه السلام - بفاطمة - عليها السلام - ما روي عن جابر بن سمرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: - أيها الناس هذا الناس علي بن أبي طالب أنتم تزعمون
أنني أنا زوجته ابنتي فاطمة ولقد خطبها إلي أشراف قريش فلم أجب، كل ذلك أتوقع الخبر من
السماء حتى جاءني جبرائيل ليلة أربع وعشرين من شهر رمضان فقال: يا محمد، العلي الأعلى
يقرأ عليك السلام، وقد جمع الروحانيين والكروبيين في واد يقال له: الأفيج تحت شجرة
طوبى وزوج فاطمة عليا وأمرني، فكنت الخاطب والله تعالى الولي.. الحديث، راجع، كفاية
الطالب للكنجي الشافعي ص 299، الغدير ج 2 ص 315.
(5) إشارة إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في حق فاطمة - عليها السلام - " إن الله
يغضب لغضبك ويرضي لرضاك ". راجع: المستدرك للحاكم ج 3 ص 154، الإصابة ج 4
ص 278، كنز العمال ج 12 ص 111 ح 34237 و ح 34238، جواهر البحار للبناني ج 1
ص 360، فرائد السمطين ج 2 ص 46 ح 378، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي
ص 351 ح 401، أسد الغابة ج 5 ص 521، تهذيب التهذيب ج 12 ص 441، ذخائر العقبى
ص 39، مقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 52، مجمع الزوائد ج 9 ص 203، الصواعق
المحرقة ص 190 ح 5، فضائل الخمسة ج 3 ص 184، الغدير ج 3 20 وص 180.
126

خليل الله؟
فقالت: الله عز وجل فضله بقوله: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف
تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) (1) ومولاي
أمير المؤمنين قال قولا لا يختلف فيه أحد من المسلمين: لو كشف الغطاء
ما ازددت يقينا (2)، وهذه كلمة ما قالها أحد قبله ولا بعده.
فقال: أحسنت يا حرة فبم تفضلينه على موسى كليم الله؟
قالت: يقول الله عز وجل: (فخرج منها خائفا يترقب) (3) وعلي بن
أبي طالب - عليه السلام - بات على فراش رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - لم يخف حتى أنزل الله تعالى في حقه: (ومن الناس من يشري
نفسه ابتغاء مرضات الله) (4).
قال الحجاج: أحسنت يا حرة فبم تفضلينه على داود وسليمان
- عليهما السلام -؟
قالت: الله تعالى فضله عليهما بقوله عز وجل: (يا داود إنا جعلناك
خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن
سبيل الله) (5).

(1) سورة البقرة: الآية 260.
(2) المناقب للخوارزمي ص 375 ح 395، ينابيع المودة ص 65، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ج 7 ص 253، إحقاق الحق ج 5 ص 48 و ج 7 ص 605 - 607 و ج 17 ص 461. ولله
در البوصيري إذ يقول في هذا المعنى في همزيته العصماء:
ووزير ابن عمه في المعالي * ومن الأهل تسعد الوزراء
لم يزده كشف الغطاء يقينا * بل هو الشمس ما عليه غطاء
(3) سورة القصص: الآية 18.
(4) سورة البقرة: الآية 207. تقدم الحديث عن هذه الآية وأنها نزلت في أمير المؤمنين، فراجع ما
أثبتناه من مصادر العامة.
(5) سورة ص: الآية 26.
127

قال لها: في أي شئ كانت حكومته؟ قالت: في رجلين رجل كان له كرم والآخر له غنم، فنفشت الغنم
بالكرم فرعته فاحتكما إلى داود - عليه السلام - فقال: تباع الغنم وينفق
ثمنها على الكرم حتى يعود إلى ما كان عليه، فقال له ولده: لا يا أبة بل
يؤخذ من لبنها وصوفها، قال الله تعالى: (ففهمناها سليمان) (1).
وإن مولانا أمير المؤمنين عليا - عليه السلام - قال: سلوني عما فوق
العرش، سلوني عما تحت العرش (2)، سلوني قبل أن تفقدوني (3)، وإنه
- عليه السلام - دخل على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم فتح
خيبر فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للحاضرين: أفضلكم
وأعلمكم وأقضاكم علي (4).
فقال لها: أحسنت فبم تفضلينه على سليمان؟
فقالت: الله تعالى فضله عليه بقوله تعالى: (رب هب لي ملكا لا
ينبغي لأحد من بعدي) (5) ومولانا أمير المؤمنين علي - عليه السلام -

(1) سورة الأنبياء: الآية 79.
(2) كنز العمال ج 13 ص 165 ح 36502، إرشاد القلوب للديلمي ص 377، بحار الأنوار ج 10
ص 126 ح 6، مشارق أنوار اليقين ص 178.
(3) نهج البلاغة (صبحي الصالح) ص 280 خطبة 189 وص 137 خطبة 93، تهذيب التهذيب
ج 7 ص 338 كنز العمال ج 13 ص 165 ح 36502، حلية الأولياء ج 1 ص 65، ينابيع المودة
ب 14 في غزارة علمه (ع) ص 66، التوحيد للصدوق ص 92 ح 6 وص 304 ح 1، أمالي الشيخ
الصدوق ص 1 ج 280، الطرائف للسيد بن طاووس ص 73 ح 90، بحار الأنوار ج 10
ص 128 ح 7 و ج 40 ص 153 و ج 41 ص 348 ح 61، الغدير للأميني ج 6 ص 193.
(4) الفضائل لابن شاذان ص 138، بحار الأنوار ج 46 ص 136 ح 25، عوالم العلوم ج 18
ص 189 ح 1، إحقاق الحق ج 5 ص 48.
(5) سورة ص: الآية 35.
128

قال: طلقتك يا دنيا ثلاثا لا حاجة لي فيك (1)، فعند ذلك أنزل الله تعالى فيه:
(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا
فسادا) (2).
فقال: أحسنت يا حرة فبم تفضلينه على عيسى بن مريم - عليه السلام -؟
قالت: الله تعالى عز وجل فضله بقوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى
ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال
سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته
تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب، ما
قلت لهم إلا ما أمرتني به) (2) الآية. فأخر الحكومة إلى يوم القيامة، وعلي
ابن أبي طالب لما ادعوا النصيرية (3) فيه ما ادعوه، قتلهم (4) ولم يؤخر
حكومتهم، فهذه كانت فضائله لم تعد بفضائل غيره.
قال: أحسنت يا حرة خرجت من جوابك، ولولا ذلك لكان ذلك،
ثم أجازها وأعطاها وسرحها سراحا حسنا رحمة الله عليها (5).

(1) راجع: نهج البلاغة (صبحي الصالح) ص 480 الخطبة 77، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ج 18 ص 224، بحار الأنوار ج 40 ص 345 ح 28، حلية الأبرار ج 2 ص 212 ح 5،
خصائص الأئمة (عليهم السلام) للشريف الرضي ص 70.
(2) سورة القصص: الآية 83.
(3) سورة المائدة: الآية 116 - 117.
(4) النصيرية: طائفة من الغلاة السبأية وملخص مقالتهم في الأئمة من أهل البيت - عليهم
السلام -: أنهم روح اللاهوت، وقد نقل ابن حزم في الفصل ج 4 ص 142 والشهرستاني في
الملل والنحل بهامش الفصل ج 2 ص 22 وغيرهما تفصيل مقالاتهم، وقال الشهرستاني عنهم:
غلبوا في وقتنا هذا على جند الأردن بالشام وعلى مدينة طبرية خاصة ولقد افترى الشهرستاني
وابن حزم في عد هذه الطائفة من فرق الشيعة.
(5) انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 8 ص 119 - 120.
(6) الفضائل لابن شاذان ص 137، بحار الأنوار ج 46 ص 134 ج 25، رياحين الشريعة ج 4 ص 144.
129

المناظرة التاسعة عشرة
مناظرة الحسن البصري (1) مع الحجاج
قال عامر الشعبي: قدمنا على الحجاج البصرة، وقدم عليه قراء أهل
المدينة، فدخلنا عليه في يوم صائف شديد الحر، فقال للحسن:
مرحبا بأبي سعيد، إلي - وذكر كلاما - ثم ذكر الحجاج عليا - عليه السلام -
فنال منه، وقلنا قولا مقاربا له فرقا من شره، والحسن ساكت عاض على
إبهامه، فقال: يا أبا سعيد مالي أراك ساكتا؟
فقال: ما عسيت أن أقول.
قال: أخبرني برأيك في أبي تراب؟
قال: أفي علي؟ سمعت الله يقول: (وما جعلنا القبلة التي كنت
عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة
إلا على الذين هدى الله) (2) فعلي ممن هدى الله، ومن أهل
الإيمان.
وأقول: إنه ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وآله - وختنه على ابنته،

(1) هو: الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد، ولد قبل مقتل عمر بعامين في المدينة، كانت
أمه مولاة لأم سلمة زوج رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عاصر كبار الصحابة وروى عن
عدد منهم، وكان من الرؤوس في التابعين، مات سنة 110 ه‍.
راجع ترجمته في: التاريخ الكبير للبخاري ج 2 ص 289، حلية الأولياء ج 2 ص 131،
طبقات ابن سعد ج 7 ص 156، سير أعلام النبلاء ج 4 ص 563، تهذيب الكمال ج 6 ص 95.
(2) سورة البقرة: الآية 143.
130

أحب الناس إليه (1)، وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله، ولا
تستطيع أنت ولا أحد من الناس أن يحصرها عنه، ولا يحول بينها
وبينه.
ونقول: إنه إن كانت لعلي ذنوب فالله حسيبه والله ما أجد قولا أعدل
فيه من هذا القول.
قال الشعبي: فبسر الحجاج وجهه، وقام عن السرير مغضبا،
وخرجنا (1).

(1) جاء في كنز العمال ج 11 ص 334 ح 31670، والرياض النضرة ج 2 ص 211، والمناقب
لابن المغازلي ص 219، عن النبي - صلى الله عليه وآله - قال: علي أحب خلق الله إلى الله
ورسوله.
(2) أنساب الأشراف للبلاذري ج 2 ص 147 ح 148.
131

المناظرة العشرون
مناظرة أبان بن عياش (1) مع الحسن البصري
روى أبان بن عياش، قال: سألت الحسن البصري عن علي - عليه
السلام -.
فقال: ما أقول فيه! كانت له السابقة، والفضل والعلم والحكمة
والفقه والرأي والصحبة والنجدة والبلاء والزهد والقضاء والقرابة، إن عليا
كان في أمره عليا، رحم الله عليا، وصلى عليه!
فقلت: يا أبا سعيد، أتقول: (صلى عليه) لغير النبي - صلى الله عليه
وآله وسلم!
فقال: ترحم على المسلمين إذا ذكروا، وصل على النبي وآله وعلى
خير آله.

(1) هو: أبان بن أبي عياش، واسمه فيروز، وقيل دينار، مولى عبد القيس العبدي أبو إسماعيل
البصري، روى عن علي بن الحسين - عليهما السلام - وروى عن إبراهيم بن يزيد النخعي
وأنس بن مالك والحسن البصري وسعيد بن جبير، وهو الذي آوى سليم بن قيس الهلالي وهو
من أصحاب أمير المؤمنين - عليهم السلام - وكان هاربا من الحجاج لأنه طلبه لقتله فآواه، فلما
حضرته الوفاة، قال لأبان: إن لك علي حقا وقد حضرتني الوفاة يا بن أخي إنه كان من أمر رسول
الله - صلى الله عليه وآله - كيت وكيت وأعطاه كتابا، وهو كتاب سليم بن قيس الهلالي رواه عنه
أبان بن عياش، وعد من أصحاب السجاد والباقر والصادق - عليهم السلام - توفي في أول رجب
سنة 138 ه‍ وقيل إنه بقي حيا إلى بعد سنة 140 ه‍.
تجد ترجمته في: تهذيب الكمال ج 2 ص 19 وص 23، ميزان الاعتدال ج 1 ص 14،
تهذيب التهذيب ج 1 ص 99، الفهرست للطبرسي ص 81، تنقيح المقال ج 1 ص 3.
132

فقلت: أهو خير من حمزة وجعفر؟
قال: نعم.
قلت: وخير من فاطمة وابنيها؟
قال: نعم، والله إنه خير آل محمد كلهم، ومن يشك أنه خير منهم،
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (وأبوهما خير منهما) (1)!
ولم يجر عليه اسم شرك، ولا شرب خمر، وقد قال رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - لفاطمة - عليها السلام -: (زوجتك خير أمتي) (2)، فلو
كان في أمته خير منه لاستثناه، ولقد آخى رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم - بين أصحابه، فآخى بين علي ونفسه، فرسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - خير الناس نفسا، وخيرهم أخا.
فقلت: يا أبا سعيد، فما هذا الذي يقال عنك إنك قلته في علي؟
فقال: يا بن أخي، أحقن دمي من هؤلاء الجبابرة، ولولا ذلك
لسالت بي الخشب (3).

(1) المعجم الكبير للطبراني ج 19 ص 292 ح 650، مجمع الزوائد ج 9 ص 183، المستدرك
للحاكم ج 3 ص 167، ذخائر العقبى ص 129، تاريخ بغداد ج 1 ص 140 وللحديث مصادر
أخرى.
(2) مناقب الخوارزمي ص 106 ح 111، تاريخ ابن عساكر ج 1 ص 263 ح 305 و 306، مسند
أحمد ج 5 ص 26، فضائل الصحابة ج 2 ص 764 ح 1346، وللحديث مصادر كثيرة جدا.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 96.
133

المناظرة الحادية والعشرون
مناظرة رجل من بني هاشم مع عمر بن عبد العزيز الأموي (1)
بينا عمر بن عبد العزيز جالسا في مجلسه، دخل حاجبه ومعه امرأة
أدماء (2) طويلة حسنة الجسم والقامة، ورجلان متعلقان بها، ومعهم كتاب
من ميمون بن مهران إلى عمر، فدفعوا إليه الكتاب، ففضه
فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، من
ميمون بن مهران، سلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فإنه ورد علينا
أمر ضاقت به الصدور، وعجزت عنه الأوساع (3)، وهربنا بأنفسنا عنه،
ووكلناه إلى عالمه، لقول الله عز وجل: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي
الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (4) وهذه المرأة
والرجلان أحدهما زوجها والآخر أبوها، وإن أباها يا أمير المؤمنين
زعم أن زوجها حلف بطلاقها أن علي بن أبي طالب - عليه السلام - خير

(1) هو: أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم ولي بعهد من سليمان بن عبد الملك
يوم الجمعة لعشرة خلون من صفر سنة 99 ه‍، وبقي واليا إلى أن مات يوم الجمعة لخمس بقين
من شهر رجب سنة 101 ه‍.
انظر: تهذيب الكمال ج 21 ص 432، سير أعلام النبلاء: ج 5 ص 114.
(2) أدماء: جمع أدم، وهو الأسمر.
(3) الأوساع: جمع وسع، وهو الطاقة.
(4) سورة النساء الآية: 83.
134

هذه (1) الأمة وأولاها برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإنه يزعم
أن ابنته طلقت منه، وأنه لا يجوز له في دينه أن يتخذه صهرا، وهو
يعلم أنها حرام عليه كأمه، وإن الزوج يقول له: كذبت وأثمت، لقد بر
قسمي، وصدقت مقالتي، وإنها امرأتي على رغم أنفك، وغيظ قلبك،
فاجتمعوا إلي يختصمون في ذلك.
فسألت الرجل عن يمينه، فقال: نعم، قد كان ذلك، وقد حلفت
بطلاقها أن عليا خير هذه الأمة وأولاها برسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم -، عرفه من عرفه، وأنكره من أنكره، فليغضب من غضب، وليرض
من رضي، وتسامع الناس بذلك، فاجتمعوا له، وإن كانت الألسن مجتمعة
فالقلوب شتى، وقد علمت يا أمير المؤمنين اختلاف الناس في أهوائهم،
وتسرعهم إلى ما فيه الفتنة، فأحجمنا عن الحكم لتحكم بما أراك الله
وإنهما تعلقا بها، وأقسم أبوها ألا يدعها معه، وأقسم زوجها ألا يفارقها
ولو ضربت عنقه إلا أن يحكم عليه بذلك حاكم لا يستطيع مخالفته والامتناع منه، فرفعناهم إليك يا أمير المؤمنين، أحسن الله توفيقك
(1) كما نص على ذلك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: (علي خير من أتركه بعدي).
راجع مواقف الأيجي ج 3 ص 276، مجمع الزوائد ج 9 ص 113، الغدير للأميني ج 3
ص 22، وأيضا روى عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: (علي خير البشر فمن أبي فقد كفر).
راجع: كفاية الطالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج 2 ص 444 ح 955 - 958،
ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 246 ط اسلامبول وص 293 ط الحيدرية و ج 2 ص 71 ط
العرفان صيدا، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 5 ص 35، ميزان الاعتدال للذهبي
ج 2 ص 271، كنوز الحقائق ص 98 ط بولاق، إحقاق الحق للتستري ج 4 ص 254، تاريخ
بغداد للخطيب ج 4 ص 154 و ج 7 ص 421، فرائد السمطين ج 1 ص 154 ح 1160، الغدير
للأميني ج 3 ص 22.
135

وأرشدك!
وكتب في أسفل الكتاب:
إذا ما المشكلات وردن يوما * فحارت في تأملها العيون
وضاق القوم ذرعا عن نباها * فأنت لها أبا حفص أمين
لأنك قد حويت العلم طرا * وأحكمك التجارب والشئون
وخلفك الإله على الرعايا * فحظك فيهم الحظ الثمين
قال: فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم وبني أمية وأفخاذ قريش،
ثم قال لأبي المرأة: ما تقول أيها الشيخ؟
قال: يا أمير المؤمنين، هذا الرجل زوجته ابنتي، وجهزتها إليه
بأحسن ما يجهز به مثلها، حتى إذا أملت خيره، ورجوت صلاحه، حلف
بطلاقها كاذبا، ثم أراد الإقامة معها.
فقال له عمر: يا شيخ، لعله لم يطلق امرأته، فكيف حلف؟
قال الشيخ: سبحان الله! الذي حلف عليه لأبين حنثا وأوضح كذبا من أن
يختلج في صدري منه شك، مع سني وعلمي، لأنه زعم أن عليا خير هذه
الأمة وإلا فامرأته طالق ثلاثا.
فقال للزوج: ما تقول؟ أهكذا حلفت؟
قال: نعم.
فقيل: إنه لما قال: نعم، كاد المجلس يرتج بأهله، وبنو أمية ينظرون
إليه شزرا، إلا أنهم لم ينطقوا بشئ، كل ينظر إلى وجه عمر.
فأكب عمر مليا ينكت الأرض بيده والقوم صامتون ينظرون ما
يقوله، ثم رفع رأسه وقال:
إذا ولي الحكومة بين قوم * أصاب الحق والتمس السدادا
136

وما خير الإمام إذا تعدى * خلاف الحق واجتنب الرشادا
ثم قال للقوم: ما تقولون في يمين هذا الرجل؟ فسكتوا.
فقال: سبحان الله! قولوا.
فقال رجل من بني أمية: هذا حكم في فرج، ولسنا نجترئ على
القول فيه، وأنت عالم بالقول، مؤتمن لهم وعليهم، قل ما عندك، فإن
القول ما لم يكن يحق باطلا ويبطل حقا جائز علي في مجلسي.
قال: لا أقول شيئا، فالتفت إلى رجل من بني هاشم من ولد عقيل بن
أبي طالب، فقال له: ما تقول فيما حلف به هذا الرجل يا عقيلي؟
فاغتنمها، فقال: يا أمير المؤمنين، إن جعلت قولي حكما، أو
حكمي جائزا قلت، وإن لم يكن ذلك فالسكوت أوسع لي، وأبقى للمودة.
قال: قل وقولك حكم، وحكمك ماض.
فلما سمع ذلك بنو أمية قالوا: ما أنصفتنا يا أمير المؤمنين إذ جعلت
الحكم إلى غيرنا، ونحن من لحمتك وأولي رحمك!
فقال عمر: اسكتوا أعجزا ولؤما! عرضت ذلك عليكم آنفا فما
انتدبتم له.
قالوا: لأنك لم تعطنا ما أعطيت العقيلي، ولا حكمتنا كما حكمته.
فقال عمر: إن كان أصاب وأخطأتم، وحزم وعجزتم، وأبصر
وعميتم، فما ذنب عمر، لا أبا لكم! أتدرون ما مثلكم؟
قالوا: لا ندري.
قال: ليكن العقيلي يدري، ثم قال: ما تقول يا رجل؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين، كما قال الأول:
دعيتم إلى أمر فلما عجزتم * تناوله من لا يداخله عجز
137

فلما رأيتم ذاك أبدت نفوسكم * نداما وهل يغني من الحذر الحرز
فقال عمر: أحسنت وأصبت، فقل ما سألتك عنه.
قال: يا أمير المؤمنين، بر قسمه، ولم تطلق امرأته.
قال: وأنى علمت ذاك؟
قال: نشدتك الله يا أمير المؤمنين، ألم تعلم أن رسول الله - صلى الله
عليه وآله - قال لفاطمة - عليها السلام - وهو عندها في بيتها عائد لها: يا
بنية، ما علتك؟
قالت: الوعك يا أبتاه - وكان علي - عليه السلام - غائبا في بعض
حوائج النبي - صلى الله عليه وآله -.
فقال لها: أتشتهين شيئا؟
قالت: نعم أشتهي عنبا، وأنا أعلم أنه عزيز، وليس وقت عنب.
فقال - صلى الله عليه وآله -: إن الله قادر على أن يجيئنا به، ثم قال:
اللهم ائتنا به مع أفضل أمتي عندك منزلة.
فطرق علي الباب، ودخل ومعه مكتل قد ألقى عليه طرف ردائه.
فقال له النبي - صلى الله عليه وآله -: ما هذا يا علي؟
قال: عنب التمسته لفاطمة - عليها السلام -.
فقال: الله أكبر الله أكبر، اللهم كما سررتني بأن خصصت عليا
بدعوتي فاجعل فيه شفاء بنيتي، ثم قال: كلي على اسم الله يا بنية.
فأكلت، وما خرج رسول الله - صلى الله عليه وآله - حتى استقلت
وبرأت.
فقال عمر: صدقت وبررت، أشهد لقد سمعته ووعيته، يا رجل،
خذ بيد امرأتك فإن عرض بك أبوها فاهشم أنفه. ثم قال: يا بني عبد
138

مناف، والله ما نجهل ما يعلم غيرنا، ولا بنا عمى في ديننا، ولكنا كما قال
الأول:
تصيدت الدنيا رجالا بفخها * فلم يدركوا خيرا بل استقبحوا الشرا
وأعماهم حب الغنى وأصمهم * فلم يدركوا إلا الخسارة والوزرا
قيل: فكأنما ألقم بني أمية حجرا، ومضى الرجل بامرأته.
وكتب عمر إلى ميمون بن مهران:
عليك سلام، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني قد
فهمت كتابك، وورد الرجلان والمرأة، وقد صدق الله يمين الزوج، وأبر
قسمه، وأثبته على نكاحه، فاستيقن ذلك، واعمل عليه، والسلام عليك
ورحمة الله وبركاته (1).

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 20 ص 222.
139

مناظرة هشام بن الحكم (1) مع بعض المتكلمين في مجلس الرشيد
قال هارون الرشيد لجعفر بن يحيى البرمكي: إني أحب أن أسمع
كلام المتكلمين من حيث لا يعلمون بمكاني فيحتجون عن بعض ما
يريدون، فأمر جعفر المتكلمين فأحضروا داره، وصار هارون في مجلس

(1) هو: هشام بن الحكم أبو محمد، مولى كندة، وكان ينزل ببني شيبان بالكوفة وكان مولده
بالكوفة، ومنشؤه واسط، وتجارته ببغداد ثم انتقل إليها في آخر عمره سنة تسع وتسعين ومائة،
وقيل هذه السنة هي سنة وفاته، عين الطائفة ووجهها ومتكلمها وناصرها، من أرباب
الأصول، وله نوادر وحكايات ولطائف ومناظرات، ممن اتفق علماؤنا على وثاقته، ورفعة
شأنه ومنزلته عند أئمتنا المعصومين - عليهم السلام - وممن دعا له الإمام الصادق - عليه
السلام - فقال: أقول لك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لحسان: لا تزال مؤيدا
بروح القدس ما نصرتنا بلسانك، وبلغ من مرتبته وعلوه عند أبي عبد الله جعفر بن
محمد - عليهما السلام - أنه دخل عليه بمنى وهو غلام أول ما اختط عارضاه وفي مجلسه شيوخ
الشيعة كحمران بن أعين وقيس الماصر ويونس بن يعقوب وأبي جعفر الأحول وغيره فرفعه
على جماعتهم وليس فيهم إلا من هو أكبر منه سنا فلما رأى أبو عبد الله - عليه السلام - إن ذلك
الفعل كبر على أصحابه قال: هذا ناصرنا بقلبه ولسانه ويده، وكان هشام ممن فتق الكلام في
الإمامة، وهذب المذهب بالنظر، وكان حاذقا بصناعة الكلام، حاضر الجواب، وكان ثقة
بالروايات حسن التحقيق بهذا الأمر، وكانت له مباحث كثيرة مع المخالفين في الأصول
وغيرها، عد في أصحاب الصادق والكاظم - عليهما السلام -، وتوفي بعد نكبة البرامكة بمدة
يسيرة متسترا وقيل في خلافة المأمون، وكان لاستتاره قصة مشهورة في المناظرات.
راجع: رجال النجاشي ص 433 رقم: 1164، سفينة البحار ج 2 ص 719، رجال العلامة
ص 187، رجال الطوسي ص 329، رقم: 18 وص 362، رقم: 1، سير أعلام النبلاء ج 10
ص 543 رقم: 174، تنقيح المقال للمامقاني ج 3 ص 294.
140

وغص المجلس بأهله ينتظرون هشام بن الحكم، فدخل عليهم هشام
وعليه قميص إلى الركبة وسراويل إلى نصف الساق، فسلم على الجميع
ولم يخص جعفرا بشئ.
فقال له رجل من القوم: لم فضلت عليا على أبي بكر، والله يقول:
(ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (1).
فقال هشام: فأخبرني عن حزنه في ذلك الوقت أكان لله رضا أم غير
رضا؟ فسكت!
فقال هشام: إن زعمت أنه كان لله رضا فلم نهاه رسول الله - صلى الله
عليه وآله - فقال: (لا تحزن)؟ أنهاه عن طاعة الله ورضاه؟ وإن زعمت أنه
كان لله غير رضا فلم تفتخر بشئ كان لله غير رضا؟ وقد علمت ما قال الله
تبارك وتعالى حين قال: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى
المؤمنين) (2).
ولكنكم قلتم وقلنا وقالت العامة: الجنة اشتاقت إلى أربعة نفر: إلى
علي بن أبي طالب - عليه السلام -، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر،
وأبي ذر الغفاري (3). فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة،
وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة: إن الذابين عن الإسلام أربعة نفر: علي بن

(1) سورة التوبة: الآية 40.
(2) سورة الفتح: الآية 26.
(3) راجع: حلية الأولياء ج 1 ص 142، المعجم الكبير للطبراني ج 6 ص 263 - 4 26، ح 6045،
المستدرك للحاكم ج 3 ص 137، مجمع الزوائد ج 9 ص 307 وص 330، الخصال للشيخ
الصدوق ج 1 ص 303 ح 80، بحار الأنوار ج 22 ص 324 ح 22، ذكر أخبار أصفهان ج 2 ص 328.
141

أبي طالب - عليه السلام -، والزبير بن العوام، وأبو دجانة الأنصاري،
وسلمان الفارسي، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة
وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة: إن القراء أربعة نفر: علي بن أبي طالب
- عليه السلام -، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، فأرى
صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم،
ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة: إن المطهرين من السماء أربعة نفر: علي
ابن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام -، فأرى صاحبنا
قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا
صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة: إن الأبرار أربعة: علي بن أبي طالب
وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام -، فأرى صاحبنا قد دخل مع
هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على
صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة: إن الشهداء أربعة نفر: علي بن أبي طالب
- عليه السلام - وجعفر وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فأرى
صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم،
ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
قال: فحرك هارون الستر وأمر جعفر الناس بالخروج، فخرجوا
مرعوبين، وخرج هارون إلى المجلس.
فقال: من هذا فوالله لقد هممت بقتله وإحراقه بالنار (1).

(1) الاختصاص للشيخ المفيد ص 96، بحار الأنوار ج 10 ص 297.
142

المناظرة الثالثة والعشرون
مناظرة هشام بن الحكم مع يحيى بن خالد البرمكي (1)
سأل يحيى بن خالد البرمكي بحضرة الرشيد هشام بن الحكم فقال
له: أخبرني يا هشام عن الحق هل يكون في جهتين مختلفتين؟
قال هشام: لا.
قال يحيى: فأخبرني عن نفسين اختصما في حكم الدين، وتنازعا
واختلفا، هل يخلو من أن يكونا محقين أو مبطلين أو يكون أحدهما
مبطلا والآخر محقا؟؟
قال هشام: لا يخلوان من ذلك، وليس يجوز أن يكونا محقين على
ما قدمت من الجواب.
قال يحيى: فخبرني عن علي والعباس لما اختصما إلى أبي بكر في
الميراث، أيهما كان المحق من المبطل؟ إذا كنت لا تقول إنهما كانا محقين
ولا مبطلين.

(1) يحيى بن خالد بن برمك: ولد سنة 120، وكان عمره حين تأسيس الدولة العباسية 13 سنة،
ولاه المنصور ولاية أذربيجان سنة 158، وقد اختاره المهدي العباسي وزيرا وكاتبا ومربيا
لابنه هارون الرشيد، فكان الرشيد يناديه بالأبوة، ولما ولي الهادي (أخو هارون الرشيد)
الخلافة أراد أن يحد من سلطانه حتى حبسه ونوى قتله فمات قبل أن يقتله، وولاه هارون
الرشيد الوزارة فأصبح وزيره وصاحب سره وأعطاه خاتمه، له من الأولاد أربعة وهم: الفضل،
وجعفر، ومحمد، وموسى، حبسه هارون الرشيد في نكبتهم المعروفة، وذلك بعد أن قتل ابنه
جعفرا، وصادر أملاكهم وأموالهم كلها وتوفي سنة 190 ه‍.
تجد ترجمته في: تاريخ الطبري ج 8 ص 287، تاريخ الأمم والملوك محمد الخضري بك
ص 119، المنجد قسم الأعلام (آل برمك) ص 120.
143

قال هشام: قال فنظرت فإذا أنني قلت: بأن عليا - عليه السلام - كان
مبطلا كفرت وخرجت عن مذهبي، وإن قلت: أن العباس كان مبطلا
ضرب الرشيد عنقي، ووردت علي مسألة لم أكن سئلت عنها قبل ذلك،
ولا أعددت لها جوابا، فذكرت قول أبي عبد الله الصادق - عليه السلام -
وهو يقول لي: (يا هشام لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا
بلسانك) (1). فعلمت أني لا أخذل، وعن لي الجواب.
فقلت له: لم يكن من أحدهما خطأ، وكانا جميعا محقين، ولهذا
نظير قد نطق به القرآن في قصة داود - عليه السلام -، حيث يقول الله جل
اسمه: (وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب) إلى قوله:
(خصمان بغى بعضنا على بعض) (2). فأي الملكين كان مخطأ وأيهما
كان مصيبا؟ أم تقول إنهما كانا مخطئين، فجوابك في ذلك جوابي بعينه.
قال يحيى: لست أقول: إن الملكين أخطأ، بل أقول: إنهما أصابا
وذلك أنهما لم يختصما في الحقيقة، ولا اختلفا في الحكم، وإنما أظهرا
ذلك، لينبها داود - عليه السلام - على الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه.
قال هشام: كذلك علي والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما
في الحقيقة، وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على غلطه
ويوقفاه على خطيئته، ويدلاه على ظلمه لهما في الميراث، ولم يكونا في
ريب من أمرهما، وإنما ذلك منهما على ما كان من الملكين.
فلم يحر يحيى جوابا، واستحسن ذلك الرشيد (3).

(1) راجع: تنقيح المقال للمامقاني ج 3 ص 294.
(2) سورة ص الآية 21 و 22.
(3) الفصول المختارة ج 1 ص 26، عيون الأخبار لابن قتيبة ج 2 ص 166، العقد الفريد ج 2
ص 251، بحار الأنوار ج 10 ص 293، ضحى الإسلام ج 3 ص 268 - 269 بتفاوت.
144

مناظرة الرابعة والعشرون
مناظرة هشام بن الحكم مع بيان وضرار في مجلس يحيى بن خالد
كان ليحيى بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلمون من كل
فرقة وملة، يوم الأحد، فيتناظرون في أديانهم، ويحتج بعضهم على بعض.
فبلغ ذلك الرشيد، فقال ليحيى بن خالد: يا عباسي ما هذا
المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟
فقال: يا أمير المؤمنين ما شئ مما رفعني به أمير المؤمنين وبلغ من
الكرامة والرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس، فإنه يحضره كل
قوم مع اختلاف مذاهبهم، فيحتج بعضهم على بعض، ويعرف المحق
منهم، ويتبين لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم.
قال له الرشيد: فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس، وأسمع كلامهم
من غير أن يعلموا بحضوري، فيحتشمون ولا يظهرون مذاهبهم.
قال: ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء.
قال: فضع يدك على رأسي ولا تعلمهم بحضوري، ففعل، وبلغ
الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم، وعزموا أن لا يكلموا هشاما إلا في
الإمامة لعلمهم بمذهب الرشيد وإنكاره على من قال بالإمامة.
قال: فحضروا وحضر هشام، وحضر عبد الله بن يزيد الأباضي
145

- وكان من أصدق الناس لهشام بن الحكم، وكان يشاركه في التجارة - فلما
دخل هشام سلم على عبد الله بن يزيد من بينهم.
فقال يحيى بن خالد لعبد الله بن يزيد: يا عبد الله كلم هشاما فيما
اختلفتم فيه من الإمامة.
فقال هشام: أيها الوزير ليس لهم علينا جواب ولا مسألة، هؤلاء قوم
كانوا مجتمعين معنا على إمامة رجل ثم فارقونا بلا علم ولا معرفة،
فلاحين كانوا معنا عرفوا الحق، ولا حين فارقونا علموا على ما فارقونا؟
فليس لهم علينا مسألة ولا جواب.
فقال بيان وكان من الحرورية: أنا أسألك يا هشام، أخبرني عن
أصحاب علي يوم حكموا الحكمين أكانوا مؤمنين أم كافرين؟
قال هشام: كانوا ثلاثة أصناف، صنف مؤمنون، وصنف مشركون،
وصنف ضلال.
فأما المؤمنون: فمن قال مثل قولي، الذين قالوا: إن عليا إمام من عند
الله ومعاوية لا يصلح لها، فآمنوا بما قال الله عز وجل في علي وأقروا به.
وأما المشركون: فقوم قالوا: علي إمام، ومعاوية يصلح لها، فأشركوا
إذ أدخلوا معاوية مع علي.
وأما الضلال: فقوم خرجوا على الحمية والعصبية للقبائل والعشائر،
لم يعرفوا شيئا من هذا، وهم جهال.
قال: وأصحاب معاوية ما كانوا؟
قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف كافرون، وصنف مشركون،
وصنف ضلال.
فأما الكافرون: فالذين قالوا: إن معاوية إمام، وعلي لا يصلح لها،
146

فكفروا من جهتين أن جحدوا إماما من الله، ونصبوا إماما ليس من الله.
وأما المشركون فقوم قالوا: معاوية إمام، وعلي يصلح لها، فأشركوا
معاوية مع علي - عليه السلام -.
وأما الضلال فعلى سبيل أولئك خرجوا للحمية والعصبية للقبائل
والعشائر. فانقطع بيان عند ذلك.
فقال ضرار: فأنا أسألك يا هشام في هذا؟
فقال هشام: أخطأت.
قال: ولم؟
قال: لأنكم مجتمعون على دفع إمامة صاحبي، وقد سألني هذا عن
مسألة وليس لكم أن تثنوا بالمسألة علي حتى أسألك يا ضرار عن مذهب
في هذا الباب.
قال ضرار: فسل.
قال: أتقول إن الله عدل لا يجور؟
قال: نعم، هو عدل لا يجور، تبارك وتعالى.
قال: فلو كلف الله المقعد المشي إلى المساجد، والجهاد في سبيل
الله، وكلف الأعمى قراءة المصاحف والكتب، أتراه كان عادلا أم جائرا؟
قال ضرار: ما كان الله ليفعل ذلك.
قال هشام: قد علمنا أن الله لا يفعل ذلك، ولكن على سبيل الجدل
والخصومة، أن لو فعل ذلك أليس كان في فعله جائرا؟ وكلفه تكليفا لا
يكون له السبيل إلى إقامته وأدائه.
قال: لو فعل ذلك لكان جائرا.
قال: فأخبرني عن الله عز وجل كلف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه
147

لا يقبل منهم إلا أن يأتوا به كما كلفهم؟
قال: بلى. قال: فجعل لهم دليلا على وجود ذلك الدين؟ وكلفهم ما لا دليل
على وجوده؟ فيكون بمنزلة من كلف الأعمى قراءة الكتب، والمقعد
المشي إلى المساجد والجهاد؟
قال: فسكت ضرار ساعة ثم قال: لا بد من دليل، وليس بصاحبك.
قال: فضحك هشام وقال: تشيع شطرك وصرت إلى الحق ضرورة،
ولا خلاف بيني وبينك إلا في التسمية.
قال ضرار: فإني أرجع إليك في هذا القول.
قال: هات.
قال ضرار: كيف تعقد الإمامة؟
قال هشام: كما عقد الله النبوة.
قال: فإذا هو نبي؟
قال هشام: لا لأن النبوة يعقدها أهل السماء، والإمامة يعقدها أهل
الأرض، فعقد النبوة بالملائكة، وعقد الإمامة بالنبي، والعقدان جميعا
بإذن الله عز وجل.
قال: فما الدليل على ذلك؟
قال هشام: الاضطرار في هذا.
قال ضرار: وكيف ذلك؟
قال هشام: لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه:
إما أن يكون الله عز وجل رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول
- صلى الله عليه وآله وسلم - فلم يكلفهم ولم يأمرهم، ولم ينههم، وصاروا
148

بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف عليها، أفتقول هذا يا ضرار أن
التكليف عن الناس مرفوع بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله -؟ قال: لا أقول هذا.
قال هشام: فالوجه الثاني ينبغي أن يكون الناس المكلفون قد
استحالوا بعد الرسول علماء، في مثل حد الرسول في العلم، حتى لا
يحتاج أحد إلى أحد فيكونوا كلهم قد استغنوا بأنفسهم، وأصابوا الحق
الذي لا اختلاف فيه أفتقول هذا، أن الناس قد استحالوا علماء، حتى صاروا
في مثل حد الرسول في العلم حتى لا يحتاج أحد إلى أحد، مستغنين
بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحق؟
قال: لا أقول هذا، ولكنهم يحتاجون إلى غيرهم.
قال: فبقي الوجه الثالث لأنه لا بد لهم من علم يقيمه الرسول لهم لا
يسهو ولا يغلط، ولا يحيف (1)، معصوم من الذنوب، مبرأ من الخطايا،
يحتاج إليه ولا يحتاج إلى أحد.
قال: فما الدليل عليه؟
قال هشام: ثمان دلالات أربع في نعت نسبه، وأربع في نعت نفسه.
فأما الأربع التي في نعت نسبه: بأن يكون معروف الجنس، معروف
القبيلة، معروف البيت، وأن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة،
فلم ير جنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب، الذين منهم صاحب
الملة والدعوة، الذي ينادى باسمه في كل يوم خمس مرات على الصوامع،
أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فتصل دعوته إلى كل بر

(1) الحائف: الظالم، الجائر.
149

فتصل دعوته إلى بر وفاجر، وعالم وجاهل، ومقر ومنكر، في شرق
الأرض وغربها، ولو جاز أن يكون الحجة من الله على هذا الخلق في
غير هذا الجنس لأتى علي الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده، ولو
جاز أن يطلبه في أجناس هذا الخلق من العجم وغيرهم لكان من حيث
أراد الله أن يكون صلاحا يكون فسادا، ولا يجوز هذا في حكم الله
تبارك وتعالى وعدله، أن يفرض على الناس فريضة لا توجد.
فلما لم يجز ذلك لم يجز إلا أن يكون إلا في هذا الجنس لاتصاله
بصاحب الملة والدعوة، ولم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه
القبيلة لقرب نسبها من صاحب الملة وهي قريش، ولما لم يجز أن يكون
من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلا في
هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة، ولما كثر أهل هذا
البيت، وتشاجروا في الإمامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد منهم، فلم
يجز إلا أن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة بعينه واسمه ونسبه
لئلا يطمع فيها غيره.
وأما الأربع التي في نعت نفسه: أن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض
الله وسننه، وأحكامه، حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل، وأن يكون
معصوما من الذنوب كلها وأن يكون أشجع الناس، وأن يكون أسخى
الناس.
قال: من أين قلت: إنه أعلم الناس؟
قال: لأنه إن لم يكن عالما بجميع حدود الله وأحكامه وشرائعه
وسننه، لم يؤمن عليه أن يقلب الحدود، فمن وجب عليه القطع حده،
ومن وجب عليه الحد قطعه، فلا يقيم لله حدا على ما أمر به، فيكون من
حيث أراد الله صلاحا يقع فسادا.
150

قال: فمن أين قلت: إنه معصوم من الذنوب؟ قال: لأنه إن لم يكن معصوما من الذنوب، دخل في الخطأ فلا يؤمن
أن يكتم على نفسه، ويكتم على حميمه وقريبه، ولا يحتج الله عز وجل
بمثل هذا على خلقه.
قال: فمن أين قلت: إنه أشجع الناس؟
قال: لأنه فئة للمسلمين الذين يرجعون إليه في الحروب، وقال الله
عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة
فقد باء بغضب من الله) (1) فإن لم يكن شجاعا فر فيبوء بغضب من الله،
فلا يجوز أن يكون من يبوء بغضب من الله حجة لله على خلقه.
قال: فمن أين قلت: إنه أسخى الناس؟
قال: لأنه خازن المسلمين، فإن لم يكن سخيا تاقت نفسه إلى
أموالهم فأخذها، فكان خائنا، ولا يجوز أن يحتج الله على خلقه بخائن.
فقال عند ذلك ضرار: فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت؟
فقال: صاحب العصر أمير المؤمنين - وكان هارون الرشيد قد سمع
الكلام كله -.
فقال عند ذلك: أعطانا والله من جراب النورة، ويحك يا جعفر -
وكان جعفر بن يحيى جالسا معه في الستر - من يعني بهذا؟
قال: يا أمير المؤمنين يعني موسى بن جعفر.
قال: ما عنى بها غير أهلها، ثم عض على شفته، وقال: مثل هذا حي
ويبقى لي ملكي ساعة واحدة؟! فوالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من
مائة ألف سيف (2).

(1) سورة الأنفال: الآية 16.
(2) بحار الأنوار ج 48 ص 197 ح 7، كمال الدين وتمام النعمة ج 2 ص 362 بتفاوت.
151

المناظرة الخامسة والعشرون
مناظرة هشام بن الحكم مع عالم شامي بمحضر الصادق - عليه السلام -
عن يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبد الله - عليه السلام -
فورد عليه رجل من أهل الشام فقال: إني رجل صاحب كلام وفقه
وفرائض، وقد جئت لمناظرة أصحابك.
فقال له أبو عبد الله - عليه السلام -: كلامك هذا من كلام رسول الله
- صلى الله عليه وآله - أو من عندك؟
فقال: من كلام رسول الله - صلى الله عليه وآله - بعضه، ومن عندي
بعضه.
فقال أبو عبد الله: فأنت إذا شريك رسول الله - صلى الله عليه وآله -؟
قال: لا.
قال: فسمعت الوحي من الله تعالى؟
قال: لا.
قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله؟
قال: لا.
قال: فالتفت إلي أبو عبد الله - عليه السلام - فقال: يا يونس هذا خصم
نفسه قبل أن يتكلم.
(إلى أن قال يونس): وكنا في خيمة لأبي عبد الله - عليه السلام - في
طرف جبل في طريق الحرم، وذلك قبل الحج بأيام، فأخرج أبو عبد الله
152

- عليه السلام - رأسه من الخيمة فإذا هو ببعير يخب، قال: هشام ورب
الكعبة.
قال: وكان شديد المحبة لأبي عبد الله، فإذا هشام بن الحكم، وهو
أول ما اختطت لحيته، وليس فينا إلا من هو أكبر منه سنا، فوسع له أبو عبد
الله وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه ويده.
ثم قال للشامي: كلم هذا الغلام! يعني: هشام بن الحكم.
فقال: نعم، ثم قال الشامي لهشام: يا غلام سلني في إمامة هذا يعني:
أبا عبد الله - عليه السلام -؟
فغضب هشام حتى ارتعد، ثم قال له: أخبرني يا هذا أربك أنظر
لخلقه، أم خلقه لأنفسهم؟
فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه!
قال: ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا؟
قال: كلفهم، وأقام لهم حجة ودليلا على ما كلفهم به، وأزاح في
ذلك عللهم.
فقال له هشام: فما هذا الدليل الذي نصبه لهم؟
قال الشامي: هو رسول الله - صلى الله عليه وآله -.
قال هشام: فبعد رسول الله - صلى الله عليه وآله - من؟
قال: الكتاب والسنة.
فقال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه، حتى
رفع عنا الاختلاف، ومكننا من الاتفاق؟
فقال الشامي: نعم
قال هشام: فلم اختلفنا نحن وأنت، جئتنا من الشام تخالفنا، وتزعم
153

أن الرأي طريق الدين، وأنت مقربان الرأي لا يجمع على القول الواحد
المختلفين؟
فسكت الشامي كالمفكر.
فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: مالك لا تتكلم؟
قال: إن قلت: إنا ما اختلفنا كابرت.
وإن قلت: إن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف، أبطلت (1)،

(1) ولذلك من الوظائف المعتبرة في الإمام بعد النبي - صلى الله عليه وآله - أن يبين للأمة ما أرسل
به النبي - صلى الله عليه وآله - وما اختلفوا فيه، لكي يرتفع عنهم الخلاف.
وهذان المعنيان قد نص عليهما النبي - صلى الله عليه وآله - في علي بن أبي طالب - عليه
السلام - ومن تلك النصوص الصريحة التي لا تقبل الشك:
(أ) ما روي عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وآله - قال: (علي باب علمي، ومبين من
بعدي لأمتي ما أرسلت به، حبه إيمان، وبغضه نفاق... الحديث).
راجع: كنز العمال ج 11 ص 614 ح 32981، فتح الملك العلي بصحة حديث باب
مدينة العلم علي ص 18، ط الأزهر، وص 47 ط الحيدرية، الغدير للأميني ج 3 ص 96.
(ب) ما روي عن أنس، قال: قال - صلى الله عليه وآله - (يا أنس أول من يدخل عليك من
هذا الباب أمير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين، وخاتم الوصيين).
قال أنس: قلت اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمته.
إذ جاء علي فقال: (من هذا يا أنس؟) فقلت: علي، فقام إليه مستبشرا فاعتنقه، ثم جعل
يمسح عرق وجهه بوجهه. قال علي: يا رسول الله - صلى الله عليه وآله - لقد رأيتك صنعت شيئا
ما صنعت بي من قبل؟ قال: (وما يمنعني وأنت تؤدي عني وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما
اختلفوا فيه بعدي)؟
راجع: حلية الأولياء ج 1 ص 63، المناقب للخوارزمي الحنفي ص 85 ح 75، ترجمة أمير
المؤمنين من تاريخ دمشق ج 2 ص 487 ح 1005، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 9
ص 169، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 212، ميزان الاعتدال للذهبي ج 1 ص 64.
(ت) ما روي عن أنس أيضا أن النبي - صلى الله عليه وآله - قال لعلي: (أنت تبين لأمتي ما
اختلفوا فيه من بعدي).
راجع: الحاكم في المستدرك ج 3 ص 122، كنز العمال ج 11 ص 615 ح 32983،
المناقب للخوارزمي ص 329 ح 346، كنوز الحقائق للمناوي ص 203، ينابيع المودة
للقندوزي الحنفي ص 182، ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر ج 2 ص 488
ح 1017 و 1018.
يقول السيد شرف الدين في كتابه المراجعات ص 172 معلقا على هذا الحديث: إن من
تدبر هذا الحديث وأمثاله علم أن عليا من رسول الله بمنزلة الرسول من الله تعالى، فإن الله
سبحانه يقول لنبيه: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة
لقوم يؤمنون) سورة النحل الآية 64، ورسول الله - صلى الله عليه وآله - يقول لعلي: (أنت تبين
لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي).
154

لأنهما يحتملان الوجوه (1)، ولكن لي عليه مثل ذلك
فقال له أبو عبد الله: سله تجده مليا!
فقال الشامي لهشام: من أنظر للخلق ربهم أم أنفسهم؟
فقال: بل ربهم أنظر لهم.
فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم، ويرفع اختلافهم،
ويبين لهم حقهم من باطلهم؟
فقال هشام: نعم.
فقال الشامي: من هو؟
قال هشام: أما في ابتداء الشريعة، فرسول الله - صلى الله عليه وآله -

(1) ومما لا يخفى أن القرآن الكريم فيه من المجمل والمفصل، والمحكم والمتشابه، والظاهر
والمؤول، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، ما لا يمكن معرفته إلا بالرجوع إلى أولي
الأمر، قال الله تعالى: (ولو ردوه إلي الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه
منهم) سورة النساء: الآية 83. وكذلك السنة أيضا بالإضافة إلى وجود الدس - كما صرحت
بذلك الروايات - والكذب والافتراء على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى أنه قام
فيهم خطيبا - كما يروى - وقال: ألا كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده
من النار، فلهذا كله وجب الرجوع إلى أولي الأمر وهم أهل البيت -
عليهم أفضل الصلاة والسلام - لمعرفة الوجه الصحيح من غيره والحق من الباطل.
155

أما بعد النبي فعترته.
قال الشامي: من هو عترة النبي القائم مقامه قي حجته؟
قال هشام: في وقتنا هذا أم قبله؟
قال الشامي: بل في وقتنا هذا.
قال هشام: هذا الجالس يعني: أبا عبد الله - عليه السلام -، الذي تشد
إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن جده.
قال الشامي: وكيف لي بعلم ذلك؟
فقال هشام: سله عما بدا لك.
قال الشامي: قطعت عذري، فعلي السؤال.
فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: أنا أكفيك المسألة يا شامي أخبرك
عن مسيرك وسفرك، خرجت يوم كذا، وكان طريقك كذا، ومررت على
كذا، ومر بك كذا، فأقبل الشامي كلما وصف شيئا من أمره يقول: (صدقت
والله).
فقال الشامي: أسلمت لله الساعة!
فقال له أبو عبد الله - عليه السلام -: بل آمنت بالله الساعة، إن الإسلام
قبل الإيمان وعليه يتوارثون، ويتناكحون، والأيمان عليه يثابون.
قال: صدقت، فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
وأنك وصي الأنبياء (1)

(1) الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 364، ابن شهرآشوب في المناقب ج 4 ص 243، إرشاد المفيد
ص 278، أصول الكافي ج 1 ص 172، بحار الأنوار ج 48 ص 203 ح 7.
156

المناظرة السادسة والعشرون
مناظرة (1) هشام مع عمرو بن عبيد (2) في مسجد البصرة
عن يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي عبد الله - عليه السلام -
جماعة من أصحابه فيهم حمران بن أعين، ومؤمن الطاق، وهشام بن
سالم، والطيار، وجماعة من أصحابه، فيهم هشام بن الحكم، وهو شاب.
فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: يا هشام!
قال: لبيك يا بن رسول الله!
قال: ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟
قال هشام: جعلت فداك يا بن رسول الله، إني أجلك وأستحييك،
ولا يعمل لساني بين يديك.
فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: إذا أمرتكم بشئ فافعلوه!

(1) كل مناظرات هشام بن الحكم تدل على قوته الجدلية وحذقه بصناعة الكلام، وحضور
الجواب عنده بالبداهة مستخدما في كثير منها الأدلة الشرعية، إلا أن هذه المناظرة تدل على قوة
حجته على خلافة أمير المؤمنين - عليه السلام - بالأدلة العقلية، ولذا قيل أنه أول من أخضع
بحث الإمامة للمقاييس العقلية.
(2) هو: عمرو بن عبيد بن باب، ويقال: ابن كيسان التميمي، أبو عثمان البصري، مولى بني
تميم، من أبناء فارس، شيخ القدرية والمعتزلة في عصره، كان جده من سبي فارس وأبوه
نساجا ثم شرطيا للحجاج في البصرة، وفيه قال المنصور الدوانيقي: كلكم يطلب صيد غير
عمرو بن عبيد، ولد سنة 80، وتوفي بمران بقرب مكة سنة 144، ورثاه المنصور ولم يسمع
بخليفة رثى من دونه سواه.
راجع: تهذيب الكمال ج 22 ص 123 ترجمة رقم: 4406، سير أعلام النبلاء ج 6
ص 104 رقم: 27، وفيات الأعيان.
157

قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد، وجلوسه في مسجد
البصرة، وعظم ذلك علي، فخرجت إليه، ودخلت البصرة يوم الجمعة،
وأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة، وإذا بعمرو بن عبيد عليه شملة
سوداء مؤتز بها من صوف وشملة مرتد بها، والناس يسألونه،
فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي، ثم
قلت: أيها العالم أنا رجل غريب، أتأذن لي فأسألك عن مسألة؟
قال: اسأل!
قلت له: ألك عين؟
قال يا بني أي شئ هذا من السؤال، إذا كيف تسأل عنه؟
فقلت: هذه مسألتي.
فقال: يا بني! سل وإن كانت مسألتك حمقى.
قلت: أجبني فيها.
قال: فقال لي: سل!
فقلت: ألك عين؟
قال: نعم.
قلت: قال: فما تصنع بها؟
قال: أرى بها الألوان والأشخاص.
قال: قلت: ألك أنف؟
قال: نعم.
قال: قلت: فما تصنع به؟
قال: أشم به الرائحة.
قال: قلت: ألك لسان؟
قال: نعم.
158

قال: قلت: فما تصنع به؟
قال: أتكلم به.
قال: قلت: ألك أذن؟
قال: نعم.
قلت: فما تصنع بها؟
قال: أسمع بها الأصوات.
قال: قلت: ألك يدان؟
قال: نعم.
قلت: فما تصنع بهما؟
قال: أبطش بهما، وأعرف بهما اللين من الخشن.
قال: قلت: ألك رجلان؟
قال: نعم.
قال: قلت: فما تصنع بهما؟
قال: أنتقل بهما من مكان إلى مكان.
قال: قلت: ألك فم؟
قال: نعم.
قال: قلت: فما تصنع به؟
قال: أعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها.
قال: قلت: ألك قلب؟
قال: نعم.
قال: قلت: فما تصنع به؟
قال: أميز به كلما ورد على هذه الجوارح.
قال: قلت: أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟
159

قال: لا.
قلت: وكيف ذاك وهي صحيحة سليمة؟
قال: يا بني إن الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته،
ردته إلى القلب، فتيقن بها اليقين، وأبطل الشك.
قال: فقلت: فإنما أقام الله عز وجل القلب لشك الجوارح؟
قال: نعم.
قلت: لا بد من القلب وإلا لم يستيقن الجوارح.
قال: نعم.
قلت: يا أبا مروان، إن الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحكم حتى
جعل لها إماما، يصحح لها الصحيح، وينفي ما شكت فيه، ويترك هذا
الخلق كله في حيرتهم، وشكهم، واختلافهم، لا يقيم لهم إماما يردون إليه
شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماما لجوارحك، ترد إليه حيرتك وشكك؟!.
قال: فسكت ولم يقل لي شيئا.
قال: ثم التفت إلي فقال لي: أنت هشام؟
قال: قلت: لا.
فقال لي: أجالسته؟
فقلت: لا.
قال: فمن أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة.
قال: فأنت إذا هو. ثم ضمني إليه، وأقعدني في مجلسه، وما نطق
حتى قمت، فضحك أبو عبد الله - عليه السلام -، ثم قال: يا هشام، من
علمك هذا؟ قلت: يا بن رسول الله جرى على لساني.
قال: يا هشام هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى (1).

(1) الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 367، مروج الذهب ج 4 ص 105، رجال الكشي ص 271
ح 490، الأصول من الكافي ج 1 ص 169 ح 3، علل الشرائع ج 1 ص 193 ح 2 ب 152،
بحار الأنوار ج 23 ص 6 ح 11.
160

المناظرة السابعة والعشرون
مناظرة هشام مع أبي عبيدة المعتزلي (1)
قال أبو عبيدة المعتزلي لهشام بن الحكم: الدليل على
صحة معتقدنا وبطلان معتقدكم كثرتنا (2) وقلتكم، مع كثرة أولاد علي

(1) هو: معمر بن المثنى التميمي، أبو عبيدة مولاهم البصري النحوي، ولد سنة 120 ه‍ له
مصنفات كثيرة ومعروفة منها: مجاز القرآن، غريب الحديث، مقتل عثمان، كتاب أخبار
الحجاج، روى عن جماعة منهم هشام بن عروة وأبو عمرو بن العلاء وغيرهم. وروى
عن جماعة منهم إسحاق بن إبراهيم الموصلي وغيرهم واختلفوا في سنة
وفاته.
راجع: سير أعلام النبلاء ج 9 ص 445 ترجمة رقم: 168، تهذيب الكمال ج 28 ص 316
ترجمة رقم: 6107، تاريخ بغداد ج 13 ص 252.
(2) الكثرة والجماعة ليست ميزانا ومقياسا لأهل الحق بل وجدنا الكثرة في موارد كثيرة من كتاب
الله تعالى هي المذمومة، والقلة هي الممدوحة ومن ذلك قوله تعالى:
(وما آمن معه إلا قليل). سورة هود: الآية 40.
(وقليل من عبادي الشكور). سورة سبأ: الآية 13.
(ما فعلوه إلا قليل منهم). سورة النساء: الآية 66.
(وأكثرهم لا يعقلون). سورة المائدة: الآية 103.
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون). سورة الأعراف: الآية 187.
(ولكن أكثر الناس لا يؤمنون). سورة غافر: الآية 59.
(وأكثرهم للحق كارهون). سورة المؤمنون: الآية 70.
فلا يضر المرء كثرة الناس إذا كان على حق وصواب ولا يستوحش من الحق لقلة سالكيه
ومن هنا يوصي النبي - صلى الله عليه وآله - عمار بن ياسر ويقول: (يا عمار إذا رأيت عليا
قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره فاسلك مع علي، ودع الناس، فإنه لن يدلك على
ردى، ولن يخرجك من هدى). المناقب للخوارزمي الحنفي ص 105 ح 110، ترجمة أمير
المؤمنين من تاريخ ابن عساكر ج 3 ص 214 ح 1219.
161

وادعائهم.
فقال هشام: لست إيانا أردت بهذا القول إنما أردت الطعن على
نوح - عليه السلام - حيث لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم
إلى النجاة ليلا ونهارا، ما آمن معه إلا قليل (1).

(1) المناقب لابن شهرآشوب ج 1 ص 236 - 237، بحار الأنوار ج 47 ص 401 ح 3.
162

المناظرة الثامنة والعشرون
مناظرة هشام مع بعض المتكلمين
وسأل هشام بن الحكم جماعة من المتكلمين فقال: أخبروني حين
بعث الله محمدا - صلى الله عليه وآله - بعثه بنعمة تامة أو بنعمة ناقصة؟
قالوا: بنعمة تامة.
قال: فأيما أتم أن يكون في أهل بيت واحد نبوة وخلافة؟ أو يكون
نبوة بلا خلافة؟
قالوا: بل يكون نبوة وخلافة.
قال: فلماذا جعلتموها في غيرها، فإذا صارت في بني هاشم ضربتم
وجوههم بالسيوف، فأفحموا (1).

(1) المناقب لابن شهرآشوب ج 1 ص 276، بحار الأنوار ج 47 ص 401 ح 3.
163

المناظرة التاسعة والعشرون
مناظرة هشام بن الحكم مع ضرار بن عمرو الضبي (1)
دخل ضرار بن عمرو الضبي على يحيى بن خالد البرمكي فقال
له: يا أبا عمرو هل لك في مناظرة رجل هو ركن الشيعة؟
فقال ضرار: هلم من شئت.
فبعث إلى هشام بن الحكم، فأحضره.
فقال: يا أبا محمد، هذا ضرار، وهو من قد علمت في الكلام
والخلاف لك فكلمه في الإمامة.
فقال: نعم، ثم أقبل على ضرار فقال: يا أبا عمرو: خبرني على ما
تجب الولاية والبراءة أعلى الظاهر أم على الباطن؟
فقال ضرار: بل على الظاهر فإن الباطن لا يدرك إلا بالوحي.
قال هشام: صدقت، فأخبرني الآن أي الرجلين كان أذب عن وجه

(1) ضرار بن عمرو الضبي: هو شيخ الضرارية، رأس من رؤوس المعتزلة لم يذكروا له ولادة ولا
وفاة، ومن سيرته يفهم أنه كان حيا في عصر هارون الرشيد، وكان قاضيا، فشهد قوم على
زندقته عند القاضي سعيد بن عبد الرحمن فأمر بضرب عنقه فهرب، وقيل أخفاه يحيى بن
خالد البرمكي، وكان جلدا في مذهبه له مقالات خبيثة منها أن النار لا حر فيها ولا في الثلج برد
ولا في العسل حلاوة، وإنما يخلق ذلك عند الذوق واللمس، وله تصانيف كثيرة وكان ينكر
عذاب القبر.
راجع: سير أعلام النبلاء ج 10 ص 544 ترجمة رقم: 175، الضعفاء الكبير للعقيلي ج 2
ص 222 ترجمة رقم: 765، ميزان الاعتدال ج 2 ص 328 ترجمة رقم: 3953، لسان الميزان
ج 3 ص 203 ترجمة رقم: 912، الفهرست لابن النديم ص 214.
164

رسول الله - صلى الله عليه وآله - بالسيف وأقتل لأعداء الله بين يديه وأكثر
آثارا في الجهاد أعلي بن أبي طالب أو أبو بكر؟
فقال: بل علي بن أبي طالب - عليه السلام - ولكن أبا بكر كان أشد
يقينا.
فقال هشام: هذا هو الباطن الذي قد تركنا الكلام فيه وقد اعترفت
لعلي - عليه السلام - بظاهر عمله من الولاية، وأنه يستحق بها من الولاية ما
لم يجب لأبي بكر.
فقال ضرار: هذا هو الظاهر نعم.
قال له هشام: أفليس إذا كان الباطن مع الظاهر فهو الفضل الذي لا
يدفع؟!
فقال له ضرار: بلى.
فقال له هشام: ألست تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال
لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي (1).
قال ضرار: نعم.
قال هشام: أفيجوز أن يقول هذا القول إلا وعنده في الباطن مؤمن؟
قال: لا.
قال هشام: فقد صح لعلي - عليه السلام - ظاهره وباطنه ولم يصح
لصاحبك لا ظاهر ولا باطن والحمد لله (2).

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) بحار الأنوار ج 10 ص 292 ح 1، الفصول المختارة ص 9 - 10.
165

المناظرة الثلاثون
أيضا مناظرة هشام مع ضرار
قال ضرار لهشام بن الحكم: ألا دعا علي - عليه السلام - الناس عند
وفاة النبي - صلى الله عليه وآله - إلى الائتمام به إن كان وصيا؟
قال: لم يكن واجبا عليه، لأنه قد دعاهم إلى موالاته والائتمام به
النبي - صلى الله عليه وآله - يوم الغدير (1) ويوم تبوك (2) وغيرهما فلم
يقبلوا منه، ولو كان ذلك جائزا لجاز على آدم أن يدعو إبليس إلى السجود
له بعد إذ دعاه ربه إلى ذلك، ثم إنه صبر كما صبر أولوا العزم من الرسل (3).

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) إشارة إلى حديث (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وقد تقدمت
تخريجاته.
(3) المناقب لابن شهرآشوب ج 1 ص 270.
166

المناظرة الحادية والثلاثون
مناظرة مؤمن الطاق (1) مع ابن أبي خدرة
عن الأعمش قال: اجتمعت الشيعة والمحكمة (2) عند أبي نعيم
النخعي بالكوفة، وأبو جعفر محمد بن النعمان مؤمن الطاق حاضر.
فقال ابن أبي خدرة: أنا أقرر معكم - أيتها الشيعة - أن أبا بكر
أفضل من علي وجميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله - بأربع خصال
لا يقدر على دفعها أحد من الناس، هو ثان مع رسول الله - صلى الله عليه
وآله - في بيته مدفون، وهو ثاني اثنين معه في الغار، وهو ثاني اثنين صلى
بالناس آخر صلاة قبض بعدها رسول الله -، صلى الله عليه وآله -، وهو

(1) مؤمن الطاق: هو محمد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي، مولى الأحول، أبو جعفر،
كوفي، صيرفي، يلقب مؤمن الطاق، وصاحب الطاق، وكان كثير العلم حسن الخاطر، سمي
بالطاق لأنه كان دكانه في طاق المحامل بالكوفة، وله حكايات كثيرة مع أبي حنيفة، عد من
أصحاب الصادق والكاظم - عليهما السلام -، توفي في رجب سنة 374.
راجع: رجال النجاشي ص 325، رقم: 886، رجال الطوسي ص 302 رقم: 355 و
ص 359 رقم: 18، سير أعلام النبلاء ج 10، ص 553 رقم: 187، الكنى والألقاب ج 2 ص 428.
(2) المحكمة الأولى أو المحكمية: أول فرقة من الخوارج انحازوا إلى حروراء بعد رجوع
علي - عليه السلام - من صفين إلى الكوفة، وهم يومئذ اثنا عشر ألفا، وزعيمهم عبد الله بن
الكواء وشبث بن ربعي، كان دينهم تكفير علي وعثمان وأصحاب الجمل وأصحابه
والحكمين، ثم إنهم جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش. معجم الفرق الإسلامية ص 214،
الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 106.
167

قال أبو جعفر مؤمن الطاق (رحمة الله عليه): يا بن أبي خدرة وأنا
أقرر معك أن عليا - عليه السلام - أفضل من أبي بكر وجميع أصحاب
النبي - صلى الله عليه وآله - بهذه الخصال التي وصفتها، وأنها مثلبة
لصاحبك وألزمك طاعة علي - عليه السلام - من ثلاث جهات، من القرآن
وصفا، ومن خبر رسول الله - صلى الله عليه وآله - نصا، ومن حجة العقل
اعتبارا، ووقع الاتفاق على إبراهيم النخعي، وعلى أبي إسحاق السبيعي،
وعلى سليمان بن مهران الأعمش.
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق: أخبرني يا بن أبي خدرة، عن
النبي - صلى الله عليه وآله - أترك بيوته التي أضافها الله إليه، ونهى الناس عن
دخولها إلا بإذنه (1) ميراثا لأهله وولده؟ أو تركها صدقة على جميع
المسلمين؟ قل ما شئت؟ فانقطع ابن أبي خدرة لما أورد عليه ذلك،
وعرف خطأ ما فيه.
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق: إن تركها ميراثا لولده وأزواجه فإنه
قبض عن تسع نسوة، وإنما لعائشة بنت أبي بكر تسع ثمن هذا البيت الذي
دفن فيه صاحبك، ولم يصبها من البيت ذراع في ذراع، وإن كان صدقة
فالبلية أطم وأعظم فإنه لم يصب له من البيت إلا ما لأدنى رجل من
المسلمين، فدخول بيت النبي - صلى الله عليه وآله - بغير إذنه في حياته
وبعد وفاته معصية إلا لعلي بن أبي طالب - عليه السلام - وولده، فإن الله
أحل لهم ما أحل للنبي - صلى الله عليه وآله -.
ثم قال: إنكم تعلمون أن النبي - صلى الله عليه وآله - أمر بسد أبواب

(1) إشارة إلى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم).
سورة الأحزاب: الآية 53.
168

جميع الناس التي كانت مشرعة إلى المسجد ما خلا باب علي (1) - عليه
السلام - فسأله أبو بكر أن يترك له كوة لينظر منها إلى رسول الله - صلى الله
عليه وآله - فأبى عليه، وغضب عمه العباس من ذلك (2) فخطب النبي
- صلى الله عليه وآله - خطبة، وقال: إن الله تبارك وتعالى أمر لموسى
وهارون أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما
جنب ولا يقرب فيه النساء إلا موسى وهارون وذريتهما، وإن عليا مني هو
بمنزلة هارون من موسى (3)، وذريته كذرية هارون، ولا يحل لأحد أن
يقرب النساء في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وآله - ولا يبيت فيه جنبا
إلا علي وذريته - عليهم السلام -، فقالوا بأجمعهم: كذلك كان (4).

(1) قال زيد بن أرقم: كان لنفر من أصحاب رسول الله أبواب شارعة في المسجد فقال رسول الله
- صلى الله عليه وآله -: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي، فتكلم الناس في ذلك، فقام رسول الله
- صلى الله عليه وآله - فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب إلا
باب علي، فقال فيه قائلكم، وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته، ولكني أمرت بشئ فاتبعته.
راجع: المستدرك للحاكم ج 3 ص 125، وصححه، خصائص أمير المؤمنين - عليه
السلام - للنسائي الشافعي ص 55 ح 37، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 203، ينابيع
المودة للقندوزي الحنفي ص 87، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب - عليهما السلام - من تاريخ
دمشق لابن عساكر الشافعي ج 1 ص 278 ح 324 و 325، تذكرة الخواص للسبط ابن
الجوزي الحنفي ص 41، مجمع الزوائد ج 9 ص 114، إحقاق الحق ج 5 ص 546، الغدير
للأميني ج 3 ص 202.
(2) وروي أنه أخرج رسول الله - - صلى الله عليه وآله - - عمه العباس وغيره من المسجد، فقال له
العباس: تخرجنا وتسكن عليا؟ فقال: ما أنا أخرجتكم وأسكنته، ولكن الله أخرجكم وأسكنه.
راجع: المستدرك للحاكم ج 3 ص 117، الغدير للأميني ج 3 ص 206.
(3) تقدمت تخريجاته.
(4) جاء في ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 88 ب 17 هذا الحديث باختلاف يسير وهو: أن
النبي - صلى الله عليه وآله - قام خطيبا فقال: إن رجالا يجدون في أنفسهم شيئا إن أسكنت عليا
في المسجد وأخرجتهم والله ما أخرجتهم، وأسكنته بل الله أخرجهم وأسكنه.
إن الله عز وجل أوحى إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم
قبلة، وأقيموا الصلاة ثم أمر موسى أن لا يسكن مسجده ولا ينكح فيه ولا يدخله جنب إلا
هارون وذريته، وأن عليا مني بمنزلة هارون من موسى وهو أخي ولا يحل لأحد أن ينكح فيه
النساء إلا علي وذريته فمن ساءه فهاهنا وأشار بيده نحو الشام.
169

قال أبو جعفر: ذهب ربع دينك يا بن أبي خدرة وهذه منقبة لصاحبي
ليس لأحد مثلها ومثلبة لصاحبك، وأما قولك: (ثاني اثنين إذ هما في
الغار) (1) أخبرني هل أنزل الله سكينته على رسول الله - صلى الله عليه
وآله - وعلى المؤمنين في غير الغار؟
قال: ابن أبي خدرة: نعم.
قال أبو جعفر: فقد خرج صاحبك في الغار من السكينة وخصه
بالحزن ومكان علي - عليه السلام - في هذه الليلة (2) على فراش النبي
- صلى الله عليه وآله - وبذل مهجته دونه أفضل من مكان صاحبك في
الغار.

(1) سورة التوبة: الآية 40.
(2) وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - لما أراد الهجرة خلف علي بن أبي طالب - عليه
السلام - بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار أن ينام على
فراشه، وقال له: اتشح ببردي الحضرمي الأخضر، فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله
تعالى ففعل ذلك فأوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل - عليهما السلام - إني آخيت بينكما،
وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الأخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختارا كلاهما
الحياة، فأوحى الله عز وجل إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين نبيي
محمد - صلى الله عليه وآله - فبات على فراشه، يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض
فاحفظاه من عدوه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأس علي وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل ينادي:
بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب يباهي الله عز وجل به الملائكة؟! فأنزل الله عز وجل إلى رسوله
وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله)
سورة البقرة: الآية 207، أسد الغابة ج 4 ص 95.
170

فقال الناس: صدقت.
فقال أبو جعفر: يا بن أبي خدرة، ذهب نصف دينك، وأما قولك
ثاني اثنين الصديق من الأمة أوجب الله على صاحبك الاستغفار لعلي بن
أبي طالب - عليه السلام - في قوله عز وجل: (والذين جاؤوا من بعدهم
يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) (1) إلى آخر الآية،
والذي ادعيت إنما هو شئ سماه الناس، وقد قال علي - عليه السلام - على
منبر البصرة: أنا الصديق الأكبر (2) آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وصدقت قبله.
قال الناس: صدقت.
قال أبو جعفر مؤمن الطاق: يا بن أبي خدرة، ذهب ثلاثة أرباع
دينك، وأما قولك في الصلاة بالناس، كنت ادعيت لصاحبك فضيلة لم
تقم له، وإنها إلى التهمة أقرب منها إلى الفضيلة، فلو كان ذلك بأمر رسول
الله - صلى الله عليه وآله - لما عزله عن تلك الصلاة بعينها، أما علمت أنه لما
تقدم أبو بكر ليصلي بالناس خرج رسول الله - صلى الله عليه وآله - فتقدم
وصلى بالناس وعزله عنها، ولا تخلو هذه الصلاة من أحد وجهين، إما أن
تكون حيلة وقعت منه فلما أحس النبي - صلى الله عليه وآله - بذلك خرج
مبادرا مع علته فنحاه عنها لكي لا يحتج بعده على أمته فيكونوا في ذلك
معذورين، وإما أن يكون هو الذي أمره بذلك وكان ذلك مفوضا إليه كما
في قصة تبليغ براءة (3) فنزل جبرائيل - عليه السلام - وقال: لا يؤديها إلا

(1) سورة الحشر: الآية 10.
(2) فرائد السمطين ج 1 ص 248 ح 192، ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر ج 1
ص 61، أنساب الأشراف ج 2 ص 146 ح 146.
171

في قصة تبليغ براءة (1) فنزل جبرائيل - عليه السلام - وقال: لا يؤديها إلا
أنت أو رجل منك، فبعث عليا - عليه السلام - في طلبه وأخذها منه وعزله
عنها وعن تبليغها، فكذلك كانت قصة الصلاة، وفي الحالتين هو مذموم
لأنه كشف عنه ما كان مستورا عليه، وذلك دليل واضح لأنه لا يصلح
للاستخلاف بعده، ولا هو مأمون على شئ من أمر الدين.
فقال الناس: صدقت.
قال أبو جعفر مؤمن الطاق: يا بن أبي خدرة ذهب دينك كله
وفضحت حيث مدحت.
فقال الناس لأبي جعفر: هات حجتك فيما ادعيت من طاعة علي
- عليه السلام -.
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق: أما من القرآن وصفا فقوله عز وجل:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (1) فوجدنا عليا
- عليه السلام - بهذه الصفة في القرآن في قوله عز وجل: (والصابرين في
البأساء والضراء وحين البأس) - يعني في الحرب والتعب - (أولئك
الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) (2) فوقع الإجماع من الأمة بأن عليا
- عليه السلام - أولى بهذا الأمر من غيره لأنه لم يفر عن زحف قط كما فر
غيره في غير موضع.
فقال الناس: صدقت.
وأما الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - نصا فقال: إني تارك

(1) سورة التوبة: الآية 120.
(2) سورة البقرة: الآية 177.
172

فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وعترتي أهل
بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (1) وقوله - صلى الله عليه
وآله - مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف
عنها غرق، ومن تقدمها مرق، ومن لزمها لحق (1) فالمتمسك بأهل بيت

(1) حديث الثقلين هو أشهر من أن يذكر وقد بلغ حد التواتر، وقد أخرجه أكابر علماء السنة في
كتبهم من الصحاح والسنن وممن رواه:
صحيح الترمذي ج 5 ص 622 ح 3788 دار الفكر و ج 2 ص 308، أسد الغابة في معرفة
الصحابة ج 2 ص 12، الدر المنثور للسيوطي ج 6 ص 7 وص 306، ذخائر العقبى ص 16،
الصواعق المحرقة ص 147 وص 226، ط المحمدية وص 89، ط الميمنية بمصر.
فرائد السمطين ج 2 ص 142 ح 436 - 441، مسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 14 وص 17
و ج 5 ص 182، صحيح مسلم ج 4، ص 1874 ح 37، ينابع المودة للقندوزي الحنفي ص 30
وص 36 وص 191 وص 296، تفسير ابن كثير ج 4، ص 123، جامع الأصول لابن الأثير ج 1،
ص 187، كنز العمال ج 1 ص 185 ح 942 - 945، عبقات الأنوار ج 1، ص 4.
(2) قول النبي - صلى الله عليه وآله -: (ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن
تخلف عنها غرق) هو من الأحاديث المتواترة المشهورة.
راجع: المستدرك ج 3 ص 150، نضم درر السمطين للترمذي الحنفي ص 235، ينابيع
المودة للقندوزي الحنفي ص 27 وص 308 ط اسلامبول، إسعاف الراغبين للصبان الشافعي
ص 109 ط السعيدية وص 102 ط العثمانية، فرائد السمطين ج 2 ص 246 ح 519.
وجاء بلفظ آخر أيضا، يقول - صلى الله عليه وآله -: (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من
ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق) تجده في: حلية الأولياء ج 4 ص 306، المناقب لابن
المغازلي الشافعي ص 132 ح 173 - 176، ذخائر العقبى للطبري الشافعي ص 20، مجمع
الزوائد ج 9 ص 168، الجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 533 ح 8162، ينابيع المودة
للقندوزي الحنفي ص 193، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي الحنفي ج 1 ص 104.
وقد ورد حديث السفينة أيضا بألفاظ أخرى، راجع:
المعجم الصغير للطبراني ج 1 ص 139، المستدرك للحاكم ج 2 ص 343، شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 218.
وقال الشافعي في هذا المعنى:
ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم * مذاهبهم في أبحر الغي والجهل
ركبت على أسم الله في سفن النجا * وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل
وأمسكت حبل الله وهو ولاؤهم * كما قد أمرنا بالتمسك بالحبل
انظر: رشفة الصادي لأبي بكر بن شهاب الدين الشافعي ص 15.
173

رسول الله - صلى الله عليه وآله - هاد مهتد بشاهدة من الرسول - صلى الله
عليه وآله -، والمتمسك بغيرهم ضال مضل.
قال الناس: صدقت يا أبا جعفر.
وأما من حجة العقل: فإن الناس كلهم يستعبدون بطاعة العالم
ووجدنا الإجماع قد وقع على علي - عليه السلام - أنه كان أعلم أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وآله - وكان جميع الناس يسألونه ويحتاجون
إليه، وكان علي - عليه السلام - مستغنيا عنهم (1) هذا من الشاهد والدليل
عليه من القرآن قوله عز وجل (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن
لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) (2) فما اتفق يوم أحسن
منه ودخل في هذا الأمر عالم كثير (3).

(1) قيل - للخليل بن أحمد - ما الدليل على أن عليا - عليه السلام - إمام الكل في الكل؟
قال: احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل.
وقيل له: ما تقول في علي بن أبي طالب - عليه السلام -؟
فقال: ما أقول في حق امرئ كتمت مناقبه أولياؤه خوفا وأعداؤه حسدا ثم ظهر من بين
الكتمانين ما ملأ الخافقين. (سفينة البحار ج 1، ص 426)
(2) سورة يونس: الآية 35.
(3) الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 378، بحار الأنوار ج 47 ص 396 ح 1، ضحى الإسلام لأحمد
أمين ج 3 ص 270، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 2 ص 71.
174

المناظرة الثانية والثلاثون
مناظرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة (1)
قال أبو حنيفة لمؤمن الطاق يوما من الأيام:
لم لم يطالب علي بن أبي طالب - عليه السلام - بحقه بعد وفاة رسول
الله - صلى الله عليه وآله - إن كان له حق؟
فأجابه مؤمن الطاق فقال: خاف أن تقتله الجن كما قتلوا سعد بن
عبادة (2) بسهم المغيرة بن شعبة، وفي رواية بسهم خالد بن الوليد (3).

(1) هو: النعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه، مولى تيم الله بن ثعلبة الكوفي، ويقال إنه من أبناء
الفرس، أحد الأئمة الأربعة السنية صاحب الرأي والقياس والفتاوى المعروفة في الفقه، ولد
بالكوفة سنة 80، عاصر بعض معمري الصحابة، أخذ عن التابعين والإمام جعفر الصادق - عليه
السلام -، تاجر وتولى التدريس والفتيا في الكوفة، استدعاه المنصور لتولي القضاء في بغداد
فرفض فأمر به إلى السجن فكان يساط كل يوم حتى توفي في السجن سنة 150 ه‍، وقبره
ببغداد في مقبرة خيزران، له الفقه الأكبر، ومسند أبي حنيفة.
تجد ترجمته في: الجرح والتعديل ج 8 ص 449 رقم: 2062، سير أعلام النبلاء ج 6
ص 390 رقم: 163، تهذيب الكمال ج 29 ص 417 رقم: 6439، المنجد (الأعلام).
(2) سعد بن عبادة: رئيس الخزرج، وكان صاحب راية الأنصار يوم بدر، وأمير المؤمنين - عليه
السلام - صاحب لواء رسول الله - صلى الله عليه وآله - اجتمعت الأنصار إليه وكان مريضا
فجاءوا به إلى سقيفة بني ساعدة وأرادوا تأميره، ولما تم الأمر لأبي بكر امتنع عن مبايعته،
فأرسل إليه أبو بكر ليبايع فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي، وأخضب سنان رمحي،
وأضرب بسيفي ما أطاعني، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن تبعني، ولو اجتمع معكم الجن والأنس
ما بايعتكم حتى أعرض على ربي فقال عمر: لا تدعه حتى يبايع، فقال بشير بن سعد: إنه قد لج
وليس بمبايع لكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته ولا
يضركم تركه، إنما هو رجل واحد فتركوه، وقبلوا مشورة بشير بن سعد، واستنصحوه لما
بدا لهم منه، فكان سعد لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع معهم، ويحج ولا يفيض معهم
بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر، وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج:
وخرج إلى حوران فمات بها، قيل قتله الجن لأنه بال قائما في الصحراء ليلا، ورووا بيتين
من شعر قيل: إنهما سمعا ليلة قتله ولم ير قائلهما:
نحن قتلنا سيد الخزرج * سعد بن عباده
ورميناه بسهمين * فلم نخطئ فؤاده
ويقول قوم: إن أمير الشام يومئذ كمن له من رماه ليلا، وهو خارج إلى الصحراء بسهمين
فقتله لخروجه عن طاعة الإمام وقد قال بعض المتأخرين في ذلك:
يقولون: سعد شكت الجن قلبه * ألا ربما صححت دينك بالغدر
وما ذنب سعد أنه بال قائما * ولكن سعدا لم يبايع أبا بكر
وقد صبرت من لذة العيش أنفس * وما صبرت عن لذة النهي والأمر
راجع: تاريخ الطبري ج 3 ص 210، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 10 ص 111،
تنقيح المقال للمامقاني ج 2 ص 16 رقم: 6499، سفينة البحار للقمي ج 1 ص 620.
(3) الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 381، المناقب لابن شهرآشوب ج 1 ص 270، شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد ج 17 ص 223 بتفاوت.
175

المناظرة الثالثة الثلاثون
مناظرة فضال بن الحسن مع أبي حنيفة
مر الفضال بن الحسن بن فضال الكوفي بأبي حنيفة، وهو في جمع
كثير يملي عليهم شيئا من فقهه وحديثه.
فقال لصاحب كان معه: والله لا أبرح أو أخجل أبا حنيفة.
فقال صاحبه الذي كان معه: إن أبا حنيفة ممن قد علت حالته
وظهرت حجته.
176

قال: مه هل رأيت حجة ضال علت على حجة مؤمن! ثم دنا منه
فسلم عليه فردها، ورد القوم السلام بأجمعهم.
فقال: يا أبا حنيفة، إن أخا لي يقول: إن خير الناس بعد رسول الله
- صلى الله عليه وآله - علي (1) بن أبي طالب - عليه السلام - وأنا أقول:
أبو بكر خير الناس وبعده عمر فما تقول أنت رحمك الله؟ فأطرق مليا ثم
رفع رأسه.
فقال: كفى بمكانهما من رسول الله - صلى الله عليه وآله - كرما
وفخرا أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره، فأي حجة تريد أوضح من هذا!.
فقال له فضال: إني قد قلت ذلك لأخي، فقال: والله لئن كان الموضع
لرسول الله - صلى الله عليه وآله - دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس
لهما فيه حق، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول الله - صلى الله عليه
وآله - لقد أساءا وما أحسنا إذ رجعا في هبتهما ونسيا عهدهما.
فأطرق أبو حنيفة ساعة، ثم قال له: لم يكن له ولا لهما خاصة،
ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع
بحقوق ابنتيهما.
فقال له فضال: قد قلت له ذلك، فقال: أنت تعلم أن النبي - صلى الله

(1) النصوص النبوية الشريفة الدالة على أفضلية أمير المؤمنين - عليه السلام - بعد النبي - صلى
الله عليه وآله - على سائر الناس بلا استثناء مستفيضة جدا ولا تقبل الشك ومنها: قوله - صلى الله
عليه وآله -: (إن وصيي، وموضع سري، خير من أترك بعدي، ينجز عدتي، ويقضي ديني علي
ابن أبي طالب).
راجع: مجمع الزوائد ج 9 ص 113، كنز العمال ج 6 ص 610 ح 32952 ط 1، منتخب
كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 5 ص 32، وإحقاق الحق ج 4، ص 75، وقد تقدمت
تخريجات أمثال هذا الحديث.
177

عليه وآله - مات عن تسع نساء ونظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع الثمن،
ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر، فكيف يستحق الرجلان أكثر
من ذلك؟ وبعد ذلك فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول الله - صلى الله
عليه وآله - وفاطمة ابنته تمنع الميراث؟
فقال أبو حنيفة: يا قوم نحوه عني فإنه رافضي خبيث (1)

(1) الفصول المختارة ج 1 ص 47، كنز الفوائد للكراجكي ج 1 ص 294، الاحتجاج ج 2
ص 382، بحار الأنوار ج 10 ص 231 ح 2 و ج 47 ص 400 ح 2.
178

المناظرة الرابعة والثلاثون
مناظرة رجل مع أبي الهذيل العلاف (1)
حكي عن أبي الهذيل العلاف، قال: دخلت الرقة فذكر لي أن بدير
زكن رجلا مجنونا حسن الكلام، فأتيته فإذا أنا بشيخ حسن الهيئة جالس
على وسادة يسرح رأسه ولحيته، فسلمت عليه، فرد السلام وقال: ممن
يكون الرجل؟
قال: قلت: من أهل العراق.
قال: نعم، أهل الظرف والأدب.
قال: من أيها أنت؟
قلت: من أهل البصرة.
قال: أهل التجارب والعلم.
قال: فمن أيهم أنت؟
قلت: أبو الهذيل العلاف.
قال: المتكلم؟

(1) أبو الهذيل العلاف: محمد بن الهذيل بن عبيد الله العبدي البصري العلاف، رأس المعتزلة،
لقب بالعلاف لأن داره بالبصرة كانت في العلافين، شيخ البصريين في الاعتزال ومن أكبر
علمائهم، وصاحب المقالات في مذهبهم، ولد في سنة إحدى أو أربع وثلاثين ومائة وتوفي
في أول أيام المتوكل سنة خمس وثلاثين ومائتين بسر من رأى وسنه مائة سنة.
راجع: أمالي المرتضى ج 1 ص 178، سير أعلام النبلاء ج 10 ص 542 رقم: 173،
طبقات المعتزلة ص 44.
179

قلت: بلى.
فوثب عن وسادته وأجلسني عليها، ثم قال - بعد كلام جرى بيننا -:
ما تقولون في الإمامة؟
قلت: أي الإمامة تريد؟
قال: من تقدمون بعد النبي - صلى الله عليه وآله -؟
قلت: من قدم رسول الله - صلى الله عليه وآله -.
قال: ومن هو؟
قلت: أبا بكر.
قال لي: يا أبا الهذيل ولم قد متم أبا بكر؟
قال: قلت: لأن النبي - صلى الله عليه وآله - قال: (قدموا خيركم
وولوا أفضلكم) وتراضي الناس به جميعا (1).

(1) لم يحصل تراض أو إجماع على بيعة أبي بكر، فهناك الكثير ممن تخلف من الصحابة عن
بيعته وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
وممن ذكر ذلك: صحيح مسلم ج 5 ص 152 ط محمد علي صبيح و ج 2، ص 81،
ط عيسى الحلبي و ج 5، ص 153، ط المكتبة التجارية، صحيح البخاري ج 5 ص 82 ط
دار الفكر و ج 3 ص 55 ط دار إحياء الكتب، الإمامة والسياسة ج 1 ص 13، مروج الذهب ج 2
ص 307، تاريخ الطبري ج 3، ص 208، العقد الفريد ج 5 ص 13.
وممن تخلف من الصحابة عن بيعة أبي بكر:
1 - العباس بن عبد المطلب. 2 - عتبة بن أبي لهب. 3 - سلمان الفارسي. 4 - أبو ذر الغفاري.
5 - عمار بن ياسر. 6 - المقداد. 7 - البراء بن عازب. 8 - أبي بن كعب. 9 - سعد ابن أبي وقاص.
10 - طلحة بن عبيد الله. 11 - الزبير بن العوام. 12 - خزيمة بن ثابت. 13 - فروة بن عمر
الأنصاري. 14 - خالد بن سعيد بن العاص. 15 - سعد بن عبادة الأنصاري، لم يبايع حتى توفي
بالشام في خلافة عمر. 16 - الفضل بن العباس. وفي مقدمة هؤلاء أمير المؤمنين - عليه
السلام - وبنو هاشم.
راجع في ذلك: العقد الفريد ج 5 ص 13، شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 131،
مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 1 - 3، أسد الغابة لابن الأثير ج 3 ص 222، تاريخ الطبري
ج 3، ص 208، السيرة الحلبية ج 3 ص 356، تاريخ اليعقوبي ج 2، ص 123.
180

قال: يا أبا الهذيل، هاهنا وقعت.
أما قولك: إن النبي - صلى الله عليه وآله - قال: (قدموا خيركم وولوا
أفضلكم)، فإني أوجدك أن أبا بكر صعد المنبر وقال: (وليتكم ولست
بخيركم وعلي فيكم) (1) فإن كانوا كذبوا عليه فقد خالفوا أمر النبي - صلى
الله عليه وآله -، وإن كان هو الكاذب على نفسه فمنبر رسول الله - صلى الله
عليه وآله - لا يصعده الكاذبون.
وأما قولك: أن الناس تراضوا به، فإن أكثر الأنصار قالوا منا أمير
ومنكم أمير، وأما المهاجرون فإن الزبير بن العوام قال: لا أبايع إلا عليا،
فأمر به فكسر سيفه، وجاء أبو سفيان بن حرب وقال: يا أبا الحسن، لو
شئت لأملأنها خيلا ورجالا (2) يعني (المدينة)، وخرج سلمان فقال
بالفارسي: (كرديد ونكرديد، وندانيد كه چه كرديد) (3)، والمقداد
وأبو ذر، فهؤلاء المهاجرون والأنصار.
أخبرني يا أبا الهذيل عن قيام أبي بكر على المنبر وقوله:
إن لي شيطانا يعتريني (4)، فإذا رأيتموني مغضبا فاحذروني، لا أقع
في أشعاركم وأبشاركم، فهو يخبركم على المنبر أني مجنون، وكيف يحل

(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 22، العقد الفريد ج 5 ص 13.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 222.
(3) يعني فعلتم وما فعلتم ولا تعلمون ما الذي فعلتم.
(4) كنز العمال ج 5 ص 589 ح 14050، مجمع الزوائد ج 5 ص 183، الطبري في تاريخه ج 3
ص 244، ابن كثير في البداية والنهاية ج 6 ص 303، ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 6
ص 20، السيوطي في تاريخ الخلفاء ص 71، ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ص 22.
181

لكم أن تولوا مجنونا؟!
وأخبرني يا أبا الهذيل، عن قيام عمر وقوله: وددت أني شعرة في
صدر أبي بكر، ثم قام بعدها بجمعة فقال: (إن بيعة أبي بكر كانت فلتة (1)
وقى الله شرها، فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه) (2) فبينما هو يود أن يكون
شعرة في صدره، وبينما هو يأمر بقتل من بايع مثله.
فأخبرني يا أبا الهذيل عن الذي زعم أن النبي - صلى الله عليه وآله -
لم يستخلف (3)، وأن أبا بكر استخلف عمر، وأن عمر لم يستخلف، فأرى

(1) جاء في المنجد ص 592: الفلتة جمع فلتات: الأمر يقع من غير إحكام، يقال: خرج الرجل
فلتة، أي بغتة، وحدث الأمر فلتة أي فجأة من غير تدبر. وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج
ج 2 ص 37: وذكر صاحب الصحاح أن الفلتة: الأمر الذي يعمل فجأة من غير تردد ولا تدبر.
وهكذا كانت بيعة أبي بكر، لأن الأمر فيها لم يكن شورى بين المسلمين، وإنما وقعت بغتة لم
تمحص فيها الآراء، ولم يتناظر فيها الرجال، وكانت كالشئ المستلب المنتهب، وكان عمر
يخاف أن يموت (أبو بكر) عن غير وصية، أو يقتل قتلا فيبايع أحد من المسلمين بغتة كبيعة
بأبي بكر، فخطب بما خطب له، وقال معتذرا: ألا إنه ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق كأبي بكر
وفي هذا المعنى يقول محمد بن هانئ المغربي - كما في شرح النهج أيضا ج 2 ص 37:
ولكن أمرا كان أبرم بينهم وإن قال قوم فلتة غير مبرم
وقال آخر:
زعموها فلتة فاجئة * لا ورب البيت والركن المشيد
إنما كانت أمورا نسجت * بينهم أسبابها نسج البرود
(2) شرح نهج البلاغة لابن الحديد ج 2 ص 23، النهاية لابن الأثير ج 3 ص 466، تاريخ الطبري
ج 3 ص 205، الصواعق المحرقة ص 36، أنساب الأشراف للبلاذري ج 5 ص 15، تاريخ
الخلفاء للسيوطي ص 68، نهج الحق ص 264.
(3) لا يمكن القول بأن النبي - صلى الله عليه وآله - ترك أمته سدى ولم يعين لهم خليفة وهذا
خلاف فعله وفعل الحكماء أيضا فإنه حينما ترك المدينة في غزوة تبوك لم يتركها بلا خليفة!
بل خلف من يلي أمرهم مقامه وهو علي بن أبي طالب - عليه السلام -، وإذا كان كذلك فكيف
يتركهم بلا خليفة بعد موته وهو يعلم أن أمته سوف تلاقي ويلات من النزاع والاختلاف والفتن
وهو القائل: (ستفترق أمتي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقي في النار)،
ناهيك عن النصوص الكثيرة المستفيضة في كتب المذاهب الإسلامية الدالة على تعيينه
للخليفة والوصي من بعده وهو علي بن أبي طالب - عليه السلام -، وكما تشير إلى ذلك أيضا
الأدلة العقلية، فالذي يزعم أنه - صلى الله عليه وآله - ترك أمته سدى بلا خليفة ما هو إلا مكابر
معاند وما أحسن قول الأزري - عليه الرحمة - في هذا المعنى حيث يقول:
أنبي بلا وصي تعالى * الله عما يقوله سفهاها
زعموا أن هذه الأرض مرعى * ترك الناس فيه ترك سداها
كيف تخلو من حجة وإلى من * ترجع الناس في اختلاف نهاها
وأرى السوء للمقادير ينمى * فإذا لا فساد إلا قضاها
قد علمتم أن النبي حكيم * لم يدع من أموره أولاها
أم جهلتم طرق الصواب من * الدين ففاتت أمثالكم مثلاها
هل ترى الأوصياء يا سعد إلا * أقرب العالمين من أنبياها
أو ترى الأنبياء قد اتخذوا * المشرك دهرا بالله من أوصياها
أم نبي الهدى رأى الرسل ضلت * قبله فاقتفى خلاف اقتفاها
182

أمركم بينكم متناقضا.
وأخبرني يا أبا الهذيل عن عمر حين صيرها شورى بين ستة، وزعم
أنهم من أهل الجنة فقال: (إن خالف اثنان لأربعة فاقتلوا الاثنين، وإن
خالف ثلاثة لثلاثة، فاقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن
عوف) (1).
فهذه ديانة أن يأمر بقتل أهل الجنة (2)؟!!!

(1) عهد الخليفة عمر بالشورى على هذه الكيفية ثابت بالتواتر في مصادر العامة، فراجع على
سبيل المثال:
الكامل لابن الأثير (في حوادث سنة 23) ج 3 ص 66، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
(في شرح الخطبة الشقشقية) ج 1 ص 185 - 194، تاريخ الطبري ج 4 ص 228، وقريب منه
في الطبقات لابن سعد ج 3 ص 338.
(2) أضف إلى ذلك شهادة عمر، بأن رسول الله - صلى الله عليه وآله - مات راضيا عنهم، وهو قوله:
إن رسول الله - صلى الله عليه وآله - مات وهو راض عن هذه الستة من قريش: علي، وعثمان،
وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف؟!!
راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 185 (في قصة الشورى)، تاريخ
الطبري ج 4 ص 227، الكامل في التاريخ ج 3 ص 65.
183

وأخبرني يا أبا الهذيل، عن عمر لما طعين، دخل عليه عبد الله بن
عباس، قال: فرأيته جزعا.
فقلت: يا أمير، ما هذا الجزع؟
قال: يا بن عباس، ما جزعي لأجلي ولكن جزعي لهذا الأمر من يليه
بعدي.
قال: قلت: ولها طلحة بن عبيد الله.
قال: رجل له حدة، كان النبي - صلى الله عليه وآله - يعرفه فلا أولي
أمر المسلمين حديدا.
قال: قلت: ولها زبير بن العوام.
قال: رجل بخيل، رأيته يماكس امرأته في كبة من غزل، فلا أولي
أمور المسلمين بخيلا.
قال: قلت: ولها سعد بن أبي وقاص.
قال: رجل صاحب فرس وقوس، وليس من أحلاس الخلافة.
قال: قلت: ولها عبد الرحمن بن عوف.
قال: رجل ليس يحسن أن يكفي عياله.
قال: قلت: ولها عبد الله بن عمر.
فاستوى جالسا، ثم قال: يا بن عباس! ما الله أردت بهذا أولي رجلا
لم يحسن أن يطلق امرأته؟!
184

قال: والله لئن وليته ليحملن بني أبي معيط على رقاب المسلمين (1)،
ويوشك أن يقتلوه (2). قالها ثلاثا.
قال: ثم سكت لما أعرف من مغائرته لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب
- عليه السلام -.
فقال: يا بن عباس أذكر صاحبك.
قال: قلت: فولها عليا.
قال: فوالله ما جزعي إلا لما أخذنا الحق من أربابه، والله لئن وليته

(1) قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج ج 1 ص 198: وصحت فيه فراسة عمر، إذ قد
أوطأ بني أمية رقاب الناس، وأولاهم الولايات، وأقطعهم القطائع، وافتتحت أرمينيا في أيامه،
فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان فقال عبد الرحمن بن الحنبل الجمحي:
أحلف بالله رب الأنام * ما ترك الله شيئا سدى
ولكن خلقت لنا فتنة * لكي نبتلي بك أو تبتلى
فإن الأمينين قد بينا * منار الطريق عليه الهدى
فما أخذا درهما غيلة * ولا جعلا درهما في هوى
وأعطيت مروان خمس البلاد * فهيهات سعيك ممن سعى
وقد روى هذه الأبيات أيضا ابن قتيبة في المعارف ص 84، وأبو الفدا في تاريخه ج 1
ص 168، بإضافة هذا البيت بعد البيت الرابع:
دعوت اللعين فأدنيته * خلافا لسنة من قد مضى
وذكرها أيضا ابن عبد ربه في العقد الفريد ج 2 ص 261.
(2) يذكر ذلك في باب فراسة عمر، ومن الذين ذكروا ذلك ابن أبي الحديد في شرح النهج (في
قصة الشورى) ج 1 ص 186: أن عمر قال لعثمان (وهو ملقى على فراشه يجود بنفسه): هيها
إليك! كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك، فحملت بني أمية وبني أبي معيط على
رقاب الناس، وآثرتهم بالفئ، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب، فذبحوك على فراشك
ذبحا، والله لئن فعلوا لتفعلن، ولئن فعلت ليفعلن، ثم أخذ بناصيته، فقال: فإذا كان ذلك فاذكر
قولي، فإنه كائن؟!
185

ليحملنهم على المحجة العظمى (1)، وإن يطيعوه يدخلهم الجنة، فهو
يقول هذا ثم صيرها شورى بين ستة فويل له من ربه!!!
قال أبو الهذيل: فوالله بينما هو يكلمني إذ اختلط، وذهب عقله.
فأخبرت المأمون بقصته، وكان من قصته أن ذهب بماله وضياعه
حيلة وغدرا، فبعث إليه المأمون، فجاء به وعالجه وكان قد ذهب عقله بما
صنع به، فرد عليه ماله وضياعه وصيره نديما، فكان المأمون يتشيع
لذلك، والحمد لله على كل حال (1).

(1) روى ابن عبد البر في الاستيعاب أن عمر قال في علي - عليه السلام -: إن ولوها الأجلح سلك
بهم الطريق المستقيم، فقال له ابن عمر: ما يمنعك أن تقدم عليا؟ قال: أكره أن أتحملها حيا
وميتا (عن هامش الايضاح ص 128)، وأيضا نص على هذا المعنى رسول الله - صلى الله عليه
وآله - كما أخرجه أحمد في مسنده ج 1 ص 109 عن النبي - صلى الله عليه وآله - في حديث:
وإن تؤمروا عليا - عليه السلام - ولا أراكم فاعلين، تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الطريق
المستقيم، وفي الفرائد ج 1 ص 266 ح 207، في حديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم: وإن
تستخلفوا عليا - ولا أراكم فاعلين - تجدوه هاديا مهديا يحملكم على المحجة البيضاء.
(2) وقد نص على ذلك النبي - صلى الله عليه وآله -: إن استخلفوا عليا - عليه السلام - أدخلهم
الجنة، فقد روى الخطيب الخوارزمي في المناقب ص 68، مسندا عن عبد الله عن مسعود قال:
كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وآله - وقد أصحر فتنفس الصعداء، فقلت: يا رسول الله مالك
تتنفس؟ قال: يا بن مسعود نعيت إلي نفسي، فقلت: يا رسول الله استخلف، قال: من؟ قلت:
أبا بكر، فسكت، ثم تنفس، فقلت: مالي أراك تتنفس؟ قال: نعيت إلي نفسي. فقلت: استخلف
يا رسول الله، قال: من؟ قلت: عمر بن الخطاب، فسكت، ثم تنفس قال: فقلت: ما شأنك يا
رسول الله؟ قال نعيت إلي نفسي، فقلت: استخلف قال: من؟ قلت: علي بن أبي طالب، قال:
أوه ولن تفعلوا إذا أبدا، والله لئن فعلتموه ليدخلنكم الجنة، ورواه ابن كثير في البداية والنهاية
ج 7 ص 360، وكذلك فرائد السمطين ج 1 ص 273 - 274 ح 212، وفيه: أما والذي نفسي
بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين.
(3) الاحتجاج: ج 2 ص 382 - 385.
186

المناظرة الخامسة والثلاثون
مناظرة الهيثم بن حبيب الصيرفي (1) مع أبي حنيفة
عن محمد بن نوفل قال: كنت عند الهيثم بن حبيب الصيرفي فدخل
علينا أبو حنيفة النعمان بن ثابت، فذكرنا أمير المؤمنين - عليه السلام -،
ودار بيننا كلام فيه.
فقال أبو حنيفة: قد قلت لأصحابنا: لا تقروا لهم بحديث غدير
خم (2) فيخصموكم!!
فتغير وجه الهيثم بن حبيب الصيرفي وقال له: لم لا يقرون به أما هو
عندك يا نعمان؟
قال: هو عندي وقد رويته.
قال: فلم لا يقرون به، وقد حدثنا به حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل (3)

(1) وهو الهيثم بن حبيب الصيرفي الكوفي، أخو عبد الخالق بن حبيب.
تجد ترجمته في: الجرح والتعديل ج 9 ص 80 رقم: 327، ميزان الاعتدال ج 4
ص 320 رقم: 9295، تهذيب التهذيب ج 11 ص 91، تهذيب الكمال ج 30 ص 369 رقم: 6642.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) وهو: أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي الصحابي، وقد روى أيضا مناشدة أمير المؤمنين - عليه
السلام - في الرحبة، بدون واسطة زيد بن أرقم، فقد روى أحمد في مسنده ج 4 ص 370: عن
أبي الطفيل قال: جمع علي - عليه السلام - عنه الناس في الرحبة ثم قال لهم: أنشد الله كل امرء
مسلم سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله - يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام، فقام ثلاثون
من الناس، وقال أبو نعيم: فقام ناس كثير، فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس: أتعلمون أني
أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم
وال من والاه، وعاد من عاداه، قال: فخرجت وكأن في نفسي شيئا، فلقيت زيد بن أرقم فقلت
له: إني سمعت عليا - رضي الله عنه تعالى - يقول: كذا وكذا قال: فما تنكر؟ قد سمعت رسول
الله - صلى الله عليه وآله - يقول له ذلك.
وحكاه عن أحمد سندا ومتنا الحافظ الهيثمي في مجمعه ج 9 ص 104، وأخرجه النسائي
في الخصائص ص 84 ح 76، والكنجي في كفايته ص 50، وابن كثير في البداية ج 5
ص 211، والبدخشي في نزل الأبرار ص 20، وابن الأثير في أسد الغابة ج 5 ص 276.
187

عن زيد بن أرقم (1) أن عليا - عليه السلام - نشد الله في الرحبة من سمعه؟
فقال أبو حنيفة: أفلا ترون أنه قد جرى في ذلك خوض حتى نشد
علي الناس لذلك؟
فقال الهيثم: فنحن نكذب عليا أو نرد قوله؟
فقال أبو حنيفة: ما نكذب عليا ولا نرد قولا قاله، ولكنك تعلم أن
الناس قد غلا فيهم قوم.
فقال الهيثم: يقوله رسول الله - صلى الله عليه وآله - ويخطب به
ونشفق نحن منه ونتقيه لغلو غال أو قول قائل؟! ثم جاء من قطع الكلام
بمسألة سأل عنها... الحديث (2).

(1) وممن أخرجه عن زيد بن أرقم، الهيثمي في مجمع الزوائد ج 9 ص 106 قال: نشد علي
الناس فقال: أنشد الله رجلا سمع النبي - صلى الله عليه وآله - يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه،
اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه؟ فقام اثنا عشر رجلا بدريا فشهدوا بذلك وكنت فيمن كتم،
فذهب بصري.
وقريب منه في: ذخائر العقبى ص 67، ابن كثير في البداية والنهاية ج 7 ص 346.
وجاء في شرح النهج لابن أبي الحديد ج 4 ص 74، وروى أبو إسرائيل عن الحكم عن أبي
سليمان المؤذن، أن عليا - عليه السلام - نشد الناس من سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله -،
يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه! فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم، فلم يشهد - وكان
يعلمها - فدعا علي - عليه السلام - عليه بذهاب البصر فعمي، فكان يحدث الناس بالحديث
بعد ما كف بصره.
(2) أمالي المفيد ص 26 ح 9، بحار الأنوار ج 47 ص 401.
188

المناظرة السادسة والثلاثون
مناظرة أبي الحسن علي بن ميثم (1) مع ضرار
قال جاء ضرار إلى أبي الحسن علي ابن ميثم - رحمه الله - فقال له:
يا أبا الحسن، قد جئتك مناظرا.
فقال له أبو الحسن: وفيم تناظرني؟
فقال: في الإمامة.
فقال: ما جئتني والله مناظرا ولكنك جئت متحكما.
قال له ضرار: ومن أين لك ذلك؟
قال أبو الحسن: علي البيان عنه، أنت تعلم أن المناظرة ربما انتهت
إلى حد يغمض فيه الكلام فتتوجه الحجة على الخصم فيجهل ذلك أو
يعاند، وإن لم يشعر بذلك أكثر مستمعيه بل كلهم، ولكني أدعوك إلى

(1) هو: أبو الحسن علي بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم التمار، مولى بني أسد كوفي سكن
البصرة، من كبار متكلمي علمائنا الإمامية في عصر المأمون والمعتصم، وله مناظرات مع
الملاحدة ومع المخالفين، وأول من تكلم على مذهب الإمامية وصنف كتابا في الإمامة، كلم أبا
الهذيل والنظام، له كتب منها كتاب الإمامة، كتاب الطلاق، كتاب النكاح، كتاب مجالس هشام
ابن الحكم، وعد من أصحاب الإمام الرضا - عليه السلام -، وروى الصدوق في عيون أخبار
الرضا - عليه السلام - ج 1 ص 14 ح 2، بإسناده عن البيهقي، عن الصولي، عن عون بن محمد
الكندي أنه لم ير أحدا قط أعرف بأمور الأئمة وأخبارهم ومناكحهم من أبي الحسن علي بن
ميثم.
راجع ترجمته في: تنقيح المقال ج 2 ص 270، سفينة البحار للقمي ج 2 ص 525، ومعجم
رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره): ج 12 ص 205 رقم: 8541.
189

مصنفة من القول، وهو أن تختار أحد أمرين إما أن تقبل قولي في صاحبي
وأقبل قولك في صاحبك فهذه واحدة.
قال ضرار: لا أفعل ذلك.
قال له أبو الحسن: ولم لا تفعله؟
قال: لأنني إذا قبلت قولك في صاحبك قلت لي: إنه كان وصي
رسول الله - صلى الله عليه وآله - وأفضل من خلفه وخليفته على قومه
وسيد المرسلين فلا ينفعني بعد أن قبلت ذلك منك أن صاحبي كان صديقا
واختاره المسلمون إماما، لأن الذي قبلته منك يفسد هذا علي.
قال له أبو الحسن: فاقبل قولي في صاحبك وأقبل قولك في
صاحبي.
قال ضرار: وهذا لا يمكن أيضا لأني إذا قبلت قولك في صاحبي
قلت لي: كان ضالا مضلا ظالما لآل محمد - عليهم السلام - قعد في غير
مجلسه ودفع الإمام عن حقه وكان في عصر النبي - صلى الله عليه وآله -
منافقا فلا ينفعني قبولك قولي فيه إنه كان خيرا صالحا، وصاحبا أمينا لأنه
قد انتقض بقبولي قولك فيه بعد ذلك إنه كان ضالا مضلا.
فقال له أبو الحسن - رحمه الله -: فإذا كنت لا تقبل قولك في
صاحبك ولا قولي فيه ولا قولك في صاحبي، فما جئتني إلا متحكما ولم
تأتني مباحثا مناظرا (1).

(1) الفصول المختارة ج 1 ص 10 - 11، بحار الأنوار ج 10 ص 371 ح 3.
190

المناظرة السابعة والثلاثون
مناظرة علي بن ميثم مع بعضهم
قيل لعلي بن ميثم: لم قعد علي - عليه السلام - عن قتالهم؟
قال: كما قعد هارون عن السامري وقد عبدوا العجل.
قيل: أفكان ضعيفا؟
قال: كان كهارون حيث يقول: (ابن أم إن القوم استضعفوني) (1)،
وكنوح إذ قال: (أني مغلوب فانتصر) (2)، وكلوط إذ
قوة أو آوى إلى ركن شديد) (3)، وكموسى وهارون إذ قال موسى:
(رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) (4).
وهذا المعنى قد أخذه من قول أمير المؤمنين لما اتصل به الخبر أنه
لم ينازع الأولين.
فقال - عليه السلام -: لي بستة من الأنبياء أسوة:
أولهم خليل الرحمن إذ قال: (وأعتزلكم وما تدعون من دون
الله) (5).
فإن قلتم: إنه اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرتم، وإن قلتم: إنه

(1) سورة الأعراف: الآية 150.
(2) سورة القمر: الآية 10.
(3) سورة هود: الآية 80.
(4) سورة المائدة: الآية 25.
(5) سورة مريم: الآية 48.
191

اعتزلهم لما رأى المكروه منهم، فالوصي أعذر.
وبلوط إذ قال: (لو أن لي بكم قوة، أو آوى إلى ركن شديد) (1).
فإن قلتم: إن لوطا كانت له بهم قوة، فقد كفرتم، وإن قلتم: لم يكن له
بهم قوة، فالوصي أعذر.
وبيوسف إذ قال: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) (2).
فإن قلتم: طالب بالسجن بغير مكروه يسخط الله فقد كفرتم، وإن
قلتم: إنه دعي إلى ما يسخط الله، فالوصي أعذر.
وبموسى إذ قال: (فررت منكم لما خفتكم) (3).
فإن قلتم: إنه فر من غير خوف فقد كفرتم، وإن قلتم: فر منهم لسوء
أرادوه به، فالوصي أعذر.
وبهارون إذ قال لأخيه: (ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا
يقتلونني) (4).
فإن قلتم: لم يستضعفوه ولم يشرفوا على قتله فقد كفرتم، وإن
قلتم: استضعفوه وأشرفوا على قتله فلذلك سكت عنهم، فالوصي أعذر.
وبمحمد إذ هرب إلى الغار وخلفني على فراشه ووهبت مهجتي لله.
فإن قلتم: إنه هرب من غير خوف أخافوه فقد كفرتم، وإن قلتم:
إنهم أخافوه فلم يسعه إلا الهرب إلى الغار، فالوصي أعذر.
فقال الناس: صدقت يا أمير المؤمنين (5).

(1) سورة هود: الآية 80.
(2) سورة يوسف: الآية 33.
(3) سورة الشعراء: الآية 21.
(4) سورة الأعراف: الآية 150.
(5) المناقب لابن شهرآشوب ج 1 ص 270.
192

المناظرة الثامنة والثلاثون
مناظرة أبي الحسن علي بن ميثم مع بعضهم
سئل أبو الحسن علي بن إسماعيل بن ميثم - رحمه الله - فقيل له: لم
صلى أمير المؤمنين - عليه السلام - خلف القوم؟
قال: جعلهم بمنزلة السواري (بمثل سواري المسجد).
قال السائل: فلم ضرب الوليد بن عقبة الحد بين يدي عثمان؟
قال لأن الحد له وإليه فإذا أمكنه إقامته أقامه بكل حيلة.
قال: فلم أشار على أبي بكر وعمر؟
قال: طلبا منه أن يحيي أحكام الله عز وجل ويكون دينه القيم كما
أشار يوسف - عليه السلام - على ملك مصر نظرا منه للخلق، ولأن الفرض
والحكم فيها إليه فإذا أمكنه أن يظهر مصالح الخلق فعل، وإذا لم يمكنه
ذلك بنفسه توصل إليه على يدي من يمكنه طلبا منه لإحياء أمر الله تعالى.
قال: فلم قعد عن قتالهم؟
قال: كما قعد هارون بن عمران عن السامري وأصحابه، وقد عبدوا
العجل.
قال: أفكان ضعيفا؟
قال: كان كهارون - عليه السلام - حيث يقول: (ابن أم إن القوم
193

استضعفوني وكادوا يقتلونني) (1) وكان كنوح - عليه السلام -، إذ قال:
(أني مغلوب فانتصر) (2)، وكان كلوط - عليه السلام - إذ قال (لو أن
لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) (3) وكان كموسى وهارون -
عليهما السلام - إذ قال موسى: (رب إني لا أملك إلا نفسي
وأخي) (4)
قال: فلم قعد في الشورى (5)؟

(1) سورة الأعراف: الآية 150.
(2) سورة القمر: الآية 10.
(3) سورة هود: الآية 80.
(4) سورة المائدة: الآية 25.
(5) والجدير بالذكر هنا هو ما ذكره الشريف المرتضى في الإمامة ج 2 ص 154 - 155
قال:
فأما دخول أمير المؤمنين - عليه السلام - في الشورى فقد ذكر أصحابنا رحمهم الله فيه
وجوها:
أحدها: أنه - عليه السلام - في الشورى فقد ذكر أصحابنا رحمهم الله فيه
وجوها:
وسوابقه وما يدل على أنه أحق بالأمر وأولى، وقد علمنا أنه لو لم يدخلها لم يجز منه أن يبتدئ
بالاحتجاج، وليس هناك مقام احتجاج وبحث فجع - عليه السالم - دخوله ذريعة إلى التنبيه
على الحق، بحسب الإمكان على ما وردت به الرواية فإنها وردت بأنه - عليه السلام - عدد في
ذلك اليوم جميع فضائله ومناقبه أو ذكر بها.
ومنها: أنه - عليه السلام - جوز أن يسلم القوم الأمر له، ويذعنوا لما يورده من الحجج
عليهم بحقه فجعل الدخول في الشورى توصلا إلى مستحق وسببا إلى التمكين من الأمر
والقيام فيه بحدود الله، وللانسان في دخوله - عليه السلام - كان التقية والاستصلاح لأنه - عليه السالم - لما
دعي إلى الدخول في الشورى أشفق من أن يمتنع فيتسبب منه الامتناع إلى المظاهرة
والمكاشفة، وإلى أن تأخر من الدخول في الشورى إنما كان لاعتقاده أنه صاحب الأمر دون من
ضم إليه فحمله على الدخول ما حمله في الابتداء على إظهار الرضا والتسليم.
وقال أيضا أعلى الله مقامه في ج 4 ص 214: ولو لم يدخل فيها (أي في الشورى) إلا
ليحتج بما احتج به من مقاماته وفضائله، وذرائعه ووسائله إلى الإمامة، وبالأخبار الدالة
عند تأملها على النص والإشارة بالإمامة إليه لكان غرضا صحيحا، وداعيا قويا، وكيف لا
يدخل في الشورى وعندهم أن واضعها قد أحسن النظر للمسلمين، وفعل ما لم يسبق إليه
من التحرز للدين!
فأول ما كان يقال له - لو امتنع منها -: إنك مصرح بالطعن على واضعها، وعلى جماعة
المسلمين بالرضا بها، وليس طعنك إلا لأنك ترى أن الأمر لك وأنك أحق به فيعود الأمر إلى
ما كان - عليه السلام - يخافه من تفرق الأمة، ووقوع الفتنة، وتشتت الكلمة. انتهى كلامه عليه
الرحمة.
وربما هناك أسباب أخرى غير هذه منها ما ذكره الراوندي عن أمير المؤمنين - عليه
السلام -، قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 1 ص 189: وروى القطب الراوندي أن عمر لما
قال: كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها، قال ابن عباس لعلي - عليه السلام -: وأنا أعلم ذلك ولكني
أدخل معهم في الشورى، لأن عمر قد أهلني الآن للخلافة وكان قبل ذلك يقول: إن رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - قال أن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت، فأنا أدخل في ذلك
لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته. انتهى.
وليس فقط أمير المؤمنين - عليه السلام - وابن عباس يعرفان نتيجة - الشورى - التي وضعها
عمر على هذه الكيفية بل حتى عمر نفسه يعرف ما تؤول إليه هذه الكيفية التي وضعها، والذي
يؤكد ذلك أيضا قوله لعثمان - وهو على فراش مرضه: هيها إليك! كأني بك قد قلد تك قريش
هذا الأمر لحبها إياك، فهملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفئ،
فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب، فذبحوك على فراشك ذبحا "، والله لئن فعلوا لتفعلن،
ولئن فعلت ليفعلن، ثم آخذ بناصيته، فقال: فإذا كان ذلك فاذكر قولي، فإنه كائن.
انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 186.
194

قال: اقتدارا " منه على الحجة (1)، وعلما " منه بأن القوم إن ناظروه

(1) ولذلك احتج - عليه السلام - عليهم - يوم الشورى - بفضائله ولم يدع منقبة من مناقبه إلا
وذكرها لهم إقامة للحجة عليهم.
راجع: فرائد السمطين ج 1 ص 320 - 322، ترجمة أمير المؤمنين - عليه السلام - من
تاريخ دمشق ج 3 ص 91 ح 1132، المناقب للخوارزمي ص 222 - 225 ط نينوى طهران، لسان الميزان ج 2 ص 156 - 157 ط 1، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 167
- 168، الاحتجاج للطبرسي ج 1 ص 134 - 145.
195

وأنصفوه كان هو الغالب، ولو لم يفعل وجبت الحجة عليه لأنه من كان له
حق فدعي إلى أن يناظر فيه أجاب، فإن ثبت له الحجة سلم الحق إليه
وأعطيه فإن لم يفعل بطل حقه وأدخل بذلك الشبهة على الخلق، وقد قال
- عليه السلام - يومئذ: اليوم أدخلت في باب إن أنصفت فيه وصلت إلى
حقي، يعني أن أبا بكر استبد بها يوم السقيفة ولم يشاوره.
قال: فلم زوج عمر بن الخطاب ابنته؟
قال: لإظهار الشهادتين وإقراره بفضل رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم - وأراد بذلك استصلاحه وكفه عنه، وقد عرض لوط - عليه
السلام - بناته على قومه وهم كفا ليردهم عن ضلالتهم، فقال: (هؤلاء
بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل

(1) سورة هود: الآية 78.
(2) الفصول المختارة ص 41، بحار الأنوار ج 10 ص 373 ح 5.
196

المناظرة التاسعة والثلاثون
مناظرة المأمون (1) مع الفقهاء
عن حماد بن زيد قال: بعث إلي يحيى بن أكثم وإلى عدة من
أصحابي، وهو يومئذ قاضي القضاة، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن
أحضر معي غدا مع الفجر أربعين رجلا كلهم فقيه يفقه (2) ما يقال له
ويحسن الجواب، فسموا من تظنونه يصلح لما يطلب أمير المؤمنين.
فسمينا له عدة، وذكر هو عدة، حتى تم العدد الذي أراد، وكتب تسمية
القوم، وأمر بالبكور (3) في السحر، وبعث إلى من لم يحضر، فأمره بذلك
فغدونا عليه قبل طلوع الفجر، فوجدناه قد لبس ثيابه وهو جالس ينتظرنا،
فركب وركبنا معه حتى صرا إلى الباب، فأدخلنا، فأمرنا بالصلاة فأخذنا
فيها، فلم نستتم حتى خرج الرسول، فقال: ادخلوا فدخلنا فإذا أمير

(1) المأمون: الخليفة، أبو العباس، عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر
المنصور العباسي، ولد سنة سبعين ومائة، بويع بالخلافة أول سنة ثمان وتسعين ومائة، بايع
بالعهد للإمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - ونبذ السواد، وأبدله بالخضرة، توفي سنة
ثماني عشرة ومائتين وحمل إلى طرطوس ودفن بها.
تجد ترجمته في: سير أعلام النبلاء ج 10 ص 272 رقم: 72، تاريخ بغداد ج 10 ص 183،
الكامل في التاريخ ج 6 ص 266، سفينة البحار للقمي ج 1 ص 44.
(2) يفقه: يفهم.
(3) البكور: الإسراع.
197

المؤمنين جالس على فراشه، وعليه سواده وطيلسانه (1) والطويلة
وعمامته، فوقفنا وسلمنا، فرد السلام وأمر لنا بالجلوس، فلما استقربنا
المجلس انحدر عن فراشه ونزع عمامته وطيلسانه ووضع قلنسوته (2) ثم
أقبل علينا، فقال: إنما فعلت ما رأيتم لتفعلوا مثل ذلك، وأما الخف فمنع
من خلعه علة، من قد عرفها منكم فقد عرفها، ومن لم يعرفها فسأعرفه
بها، ومد رجله، وقال: انزعوا قلانسكم وخفافكم وطيالستكم
قال: فأمسكنا فقال لنا يحيى: انتهوا إلى ما أمركم به أمير المؤمنين
فتنحينا فنزعنا أخفافنا وطيالستنا وقلانستنا ورجعنا، فلما استقر بنا
المجلس قال: إنما بعثت إليكم معشر القوم في المناظرة، فمن كان به شئ
من الأخبثين (3) لم ينفع بنفسه ولم يفقه ما يقول فمن أراد منكم الخلاء
فهناك، وأشار بيده، فدعونا له، ثم ألقى مسألة من الفقه.
فقال: يا محمد، قل، وليقل القوم من بعدك، فأجابه يحيى، ثم الذي
يلي يحيى، ثم الذي يليه، حتى أجاب آخرنا، في العلة وعلة وهو
مطرق لا يتكلم، حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى.
فقال: يا أبا محمد، أصبت الجواب وتركت الصواب في العلة. ثم لم
يزل يرد على كل واحد منا مقالته، ويخطئ بعضنا ويصوب بعضنا، حتى
أتى على آخرنا.
ثم قال: إني لم أبعث فيكم لهذا، ولكنني أحببت إن أنبئكم أن أمير

(1) الطيلسان: ضرب من الأوشحة يلبس على الكتف، أو يحيط بالبدن، خال عن التفصيل
والخياطة.
(2) القلنسوة: لباس للرأس مختلف الأنواع والأشكال.
(3) الأخبثين: البول والغائط.
198

المؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه والذي يدين الله به.
قلنا: فليعمل أمير المؤمنين وفقه الله.
فقال: إن أمير المؤمنين يدين الله على أن علي بن أبي طالب - عليه
السلام - خير خلق الله بعد رسوله - صلى الله عليه وآله - وأولى الناس
بالخلافة (1) له.
قال إسحاق: فقلت: يا أمير المؤمنين فينا من لا يعرف ما ذكر أمير
المؤمنين في علي، وقد دعانا أمير المؤمنين للمناظرة.
فقال: يا إسحاق: فاغتنمتها منه، فقلت: بل أسألك يا أمير المؤمنين.
قال: سل.
قلت: من أين؟
قال أمير المؤمنين: إن علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله
وأحقهم بالخلافة بعده؟
قال: يا إسحاق، خبرني عن الناس بم يتفاضلون حتى يقال فلان
أفضل من فلان؟
قلت: بالأعمال الصالحة.
قال: صدقت.
قال: فأخبرني عمن فضل صاحبه على عهد رسول الله - صلى الله
عليه وآله - ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وآله -

(1) ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وآله - في حق علي - عليه السلام - فهو أولى الناس بكم بعدي
راجع: كنز العمال ج 11 ص 608 ح 32941، مجمع الزوائد ج 9 ص 109.
199

بأفضل من علم الفاضل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله -،
أيلحق به؟
قال: فأطرقت.
فقال لي: يا إسحاق، لا تقل نعم، فإنك إن قلت نعم أوجدتك في
دهرنا هذا من هو أكثر منه جهادا وحجا وصياما وصلاة وصدقة.
فقلت: أجل يا أمير المؤمنين، لا يلحق المفضول على عهد رسول
الله - صلى الله عليه وآله - الفاضل أبدا.
قال: يا إسحاق، فانظر ما رواه لك أصحابك ومن أخذت عنهم
دينك وجعلتهم قدوتك من فضائل علي بن أبي طالب، فقس عليها ما
أتوك به من فضائل أبي بكر، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعلي وحده، فقل
إنهما أفضل منه ولا والله، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر
وعثمان، فإن وجدتها مثل فضائل علي، فقل إنهم أفضل منه، لا والله،
ولكن قس بفضائل العشرة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وآله -
بالجنة، فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنهم أفضل منه.
قال: يا إسحاق، أي الأعمال كانت أفضل، يوم بعث الله رسوله؟
قلت: الإخلاص بالشهادة.
قال: أليس السبق إلى الإسلام؟
قلت: نعم.
قال: اقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول: (والسابقون السابقون،
200

أولئك المقربون) (1)، إنما عنى من سبق إلى الإسلام، فهل علمت
أحدا سبق عليا إلى الإسلام (2)؟
قلت: يا أمير المؤمنين، إن عليا أسلم وهو حديث السن لا يجوز
عليه الحكم، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم.
قال: أخبرني أيهما أسلم قبل، ثم أناظرك من بعده في الحداثة
والكمال.
قلت: علي أسلم قبل أبي بكر على هذه الشريطة.
فقال: نعم، فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم: لا يخلو من أن
يكون رسول الله - صلى الله عليه وآله - دعاه إلى الإسلام، أو يكون إلهاما
من الله.
قال: فأطرقت.
فقال لي: يا إسحاق، لا تقل إلهاما فتقدمه على رسول الله - صلى الله
عليه وآله - لأن رسول الله لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبرئيل عن الله
تعالى.
قلت: أجل، بل دعاه رسول الله - صلى الله عليه وآله - إلى الإسلام.

(1) سورة الواقعة: الآية 10 و 11.
(2) وممن ذكر حديث: أن عليا أول الناس اسلاما، الجامع الصحيح للترمذي ج 5 ص 600
ح 3735، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 136، خصائص أمير المؤمنين للنسائي
ص 26 ح 3، مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 368، الرياض النضرة ج 3 ص 109، وفي
الاستيعاب ج 3 ص 1090 قال: وروي عن سلمان أنه قال: أول هذه الأمة ورودا على نبيها -
صلى الله عليه وآله - الحوض أولها اسلاما علي بن أبي طالب - عليه السلام -، وقد ذكر الحجة
الأميني في كتابه الغدير ج 3 ص 219 مائة حديث من طرق مختلفة رواها أئمة الحديث في أن
عليا أول من أسلم.
201

قال: يا إسحاق فهل يخلو رسول الله - صلى الله عليه وآله - حين دعاه
إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تكلف ذلك من نفسه؟
قال: فأطرقت.
فقال: يا إسحاق، لا تنسب رسول الله - صلى الله عليه وآله - إلى
التكلف، فإن الله يقول: (وما أنا من المتكلفين) (1).
قلت: أجل يا أمير المؤمنين، بل دعاه بأمر الله.
قال: فهل من صفة الجبار جل ثناؤه أن يكلف رسله دعاء من لا
يجوز عليه حكم؟
قلت: أعوذ بالله!
فقال: أفتراه في قياس قولك يا إسحاق: (إن عليا أسلم صبيا لا يجوز
عليه الحكم)، قد كلف رسول الله - صلى الله عليه وآله - من دعاء الصبيان ما
لا يطيقون، فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بع ساعة، فلا يجب عليهم في
ارتدادهم شئ ولا يجوز عليهم الحكم الرسول - صلى الله عليه وآله - أترى
هذا جائزا عندك أن تنسبه إلى الله عز وجل؟
قلت: أعوذ بالله.
قال: يا إسحاق، فأراك إنما قصدت لفضيلة فضل بها رسول الله
- صلى الله عليه وآله - عليا هذ الخلق، أبانه بها منهم ليعرف مكانه
وفضله، ولو كان الله تبارك وتعالى أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا عليا؟
قلت: بلى.
قال: فهل بلغك أن الرسول - صلى الله عليه وآله - دعا أحدا من

(1) سورة ص: الآية 86.
202

الصبيان من أهله وقرابته - لئلا تقول إن عليا ابن عمه -؟
قلت: لا أعلم ولا أدري فعل أو لم يفعل.
قال: يا إسحاق، أرأيت ما لم تدره ولم تعلمه هل تسأل عنه؟
قلت: الجهاد في سبيل الله.
قال: صدقت، فهل تجد لأحد من أصحاب رسول الله - صلى الله
عليه وآله - ما تجد لعلي في الجهاد؟
قال: في أي وقت؟
قال: في أي الأوقات شئت!
قلت: لا أدري.
قال: ثلاثة وعشرين، أو اثنين وعشرين (1)، والأربعون لسائر

(1) راجع: المغازي للواقدي ج 1 ص 147 - 153، السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 436،
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 14 ص 208 - 212، الإرشاد للمفيد ص 40، مجمع
البيان ج 2 ص 558، كشف الغمة ج 1 ص 181، بحار الأنوار ج 19 ص 291 وص 293
ص 365.
203

الناس.
قلت: يا أمير المؤمنين كان أبو بكر مع رسول الله - صلى الله عليه
وآله - في عريشه (1).
قال: يصنع ماذا؟
قلت: يدبر.
قال: ويحك! يدبر دون رسول الله أو معه شريكا، أو افتقارا من
رسول الله - صلى الله عليه وآله - إلى رأيه؟ أي الثلاث أحب إليك؟
قلت: أعوذ بالله أن يدبر أبو بكر دون رسول الله - صلى الله عليه
وآله - أو يكون معه شريكا، أو أن يكون برسول الله - صلى الله عليه وآله -
افتقار إلى رأيه.
قال: فما الفضيلة بالعريش إذا كان الأمر كذلك؟ أليس من ضرب
بسيفه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وآله - أفضل ممن هو جالس؟
قلت: يا أمير المؤمنين، كل الجيش كان مجاهدا.
قال: صدقت، كل مجاهد، ولكن الضارب بالسيف المحامي عن
رسول الله - صلى الله عليه وآله - وعن الجالس، أفضل من الجالس، أما
قرأت كتاب الله: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر
والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين
بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل
الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) (2).

(1) العريش: ما يستظل به، والسقف.
(2) سورة النساء: الآية 95.
204

قال: فهل كان لأبي بكر وعمر فضل على من لم يشهد ذلك المشهد؟
قلت: نعم.
قال: فكذلك سبق الباذل نفسه فضل أبي بكر وعمر.
قلت: نعم.
قال: اقرأ علي (هال أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن
شيئا مذكورا) (1) فقرأت منها حتى بلغت: (يشربون من كأس كان
مزاجها كافورا) (2) إلى قوله: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا
ويتيما وأسيرا) (3).
قال: على رسلك، فيمن أنزلت هذه الآيات؟
قلت: في علي (4).

(1) سورة الإنسان: الآية 1.
(2) سورة الإنسان: الآية 5.
(3) سورة الإنسان: الآية 8.
(4) فقد روى الجمهور في سبب نزول هذه الآيات في أهل البيت - عليهم السالم - إن الحسن
والحسين مرضا، فعادهما رسول الله - صلى الله عليه وآله - وعامة العرب، فنذر علي صوم ثلاثة
أيام، وكذا أمهما فاطمة - عليها السلام - وخادمتهم فضة، لئن برئا، فبرئا، وليس عند آل محمد
- صلى الله عليه وآله - قليل ولا كثير، فاستقرض أمير المؤمنين - عليه السلام - ثلاثة أصوع من
الشعير، وطحنت فاطمة منها صاعا، فخبزته أقراصا، لكل واحد قرص، وصلى علي - عليه
السلام - المغرب، ثم أتى المنزل، فوضع بين بيده للإفطار، فأتاهم مسكين، وسألهم، فأعطاه
كل واحد منهم قوته، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا.
لم صاموا اليوم الثاني، فخبزت فاطمة - عليها السلام - صاعا آخر، فلما قدمته بين أيديهم
للافطار أتاهم يتيم، وسألهم القوت، فتصدق كل منهم بقوته فلما كان اليوم الثالث من صومهم،
وقدم الطعام للافطار، أتاهم أسير وسألهم، فأعطاه كل منهم قوته، ولم يذوقوا في الأيام
الثلاثة سوى الماء فرآهم النبي - صلى الله عليه وآله - في اليوم الرابع وهم يرتعشون من
الجوع وفاطمة - عليها السلام - قد التصق بطنها بظهرها من شدة الجوع، وغارت عينها،
فقال - صلى الله عليه وآله - وا غوثاه - يا الله، أهل محمد يموتون جوعا، فهبط جبرئيل،
فقال: خذ ما هنأك الله تعالى به في أهل بيتك، فقال: وما آخذ يا جبرئيل؟ فأقرأه: (هل
أتى). راجع شواهد: التنزيل للحاكم الحسكاني ج 2 ص 393 - 414 ح 1042 - 1070،
مناقب أي المغازلي ص 272 ح 320، أسباب النزول للواحدي ص 296، الدر المنثور
للسيوطي ج 8 ص 371، ذخائر العقبى ص 102، تفسير البيضاوي ص 5 ص 165، تفسير
الطبري ج 29 ص 125، تفسير الفخر الرازي ج 30 ص 243، الكشاف للزمخشري ج 4
ص 670، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 21، إحقاق الحق للتستري ج 3 ص
158 - 196 و ج 9 ص 110 - 123، فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 1 ص 301.
وقال أحد الأدباء في هذه الحادثة الشريفة - كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 19
ص 101: جاد بالقرص والطوى ملء جنبيه * وعاف الطعام وهو سغوب
فأعاد القرص المنير عليه * القرص والمقرض الكرام كسوب
205

قال: فهل بلغك أن عليا حين أطعم المسكين واليتيم والأسير
قال: إنما نطعمكم لوجه الله؟ وهل سمعت الله وصف في كتابه أحدا
بمثل ما وصف به عليه؟
قلت: لا
قال: صدقت، لأن الله جل ثناؤه عرف سيرته يا إسحاق، ألست
تشهد أن العشرة في الجنة؟
قلت: بلى يا أمير المؤمنين.
قال: أرأيت لو أن رجلا قال: والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم
لا، ولا أدري إن كان رسول الله قاله أم لم يقله، أكان عندك كافرا؟
قلت: أعوذ بالله!
206

قال: أرأيت لو أنه قال: ما أدري هذه السورة من كتاب الله أم لا، كان
كافرا؟
قلت: نعم.
قال: يا إسحاق، أرى بينهما فرقا يا إسحاق، أتروي الحديث؟ قلت: نعم.
قال: فهل تعرف حديث الطير (1)؟
قلت: نعم.
قال: فحدثني به قال: فحدثته الحديث.
فقال: يا إسحاق، إني كنت أكلمك وأنا أظنك غير معاند للحق، فأما

(1) حديث الطائر المشوي هو أشهر يذكر فقد روته جل مصادر العامة، فقد جاء في
المستدرك للحاكم ج 3 ص 130: عن أنس بن مالك قال: كنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه
وآله - فقدم لرسول الله صلى الله عليه وآله - فرخ مشوي فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك
يأكل معي من هذا الطير، قال: فقلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار، فجاء علي - عليه السلام -
فقلت: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - على حاجة، ثم جاء، فقلت: إن رسول الله صلى
الله عليه وآله -: ما حسبك يا علي؟ فقال: إن هذه آخر ثلاث كرات يردني أنس، يزعم أنك على
حاجة من قومي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله -: إن الرجل قد يحب قومه.
وقد روي هذا الحديث في مصادر كثيرة منها:
ابن عساكر في ترجمة أمير المؤمنين - عليه السلام - من تاريخ دمشق ج 2 ص 105 - 134
ح 612 - 645، المناقب لابن المغازلي ص 156 - 175 ح 212 - 189، صحيح الترمذي ج 5
ص 595 ح 3721، المستدرك للحاكم ج 3 ص 130، مجمع الزوائد ج 9 ص 125، عيون
أخبار الرضا - عليه السلام - ج 2 187 ح أمالي الصدوق ص 521، الخصال ص 551
ح 30، وممن أفرد هذا الحديث بالتأليف: الحاكم النيسابوري في كتاب سماه (قصة الطير)،
وابن جرير الطبري، والحافظ ابن عقدة والحافظ بن مردويه، والحافظ أبو نعيم الاصفهاني،
والحافظ أبو عبد الله الذهبي.
207

الآن فقد بان لي عنادك، إنك توقن أن هذا الحديث صحيح.
قلت: نعم، رواه من لا يمكنني رده.
قال: أفرأيت من أيقن أن هذا الحديث صحيح، ثم زعم أن أحدا
أفضل من علي لا يخلو من إحدى ثلاثة: من أن تكون دعوة رسول الله
- صلى الله عليه وآله - عنده مردودة عليه، أو أن يقول عرف الفاضل من
خلقه وكان المفضول أحب إليه، أو أن يقول إن الله عز وجل لم يعرف
الفاضل من المفضول، فأي الثلاثة أحب إليك أن تقول؟ فأطرقت... ثم
قال: أجل، لولا أن لأبي بكر فضلا.
قال: أجل، لولا أن له فضلا لما قيل إن عليا أفضل منه، فما فضله
الذي قصدت له الساعة؟
قلت: قول الله عز وجل: (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول
لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (2) فنسبه إلى صحبته.
قال: يا إسحاق، أما لا أحملك على الوعر من طريقك، إني
وجدت الله تعالى نسب إلى صاحبه من رضيه ورضي عنه كافرا، وهو قوله:
(فقال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من
نطفة ثم سواك رجلا، لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا) (3)
قلت: إن ذلك صاحب كان كافرا، وأبو بكر مؤمن.

(1) استنبتك: أنبتك، أقمتك مقامي.
(2) سورة التوبة: الآية 40.
(3) سورة الكهف: الآية 38 و 37.
208

قال: فإذا جاز أن ينسب إلى صحبة من رضيه كافرا، جاز أن ينسب
إلى صحبة نبيه مؤمنا، وليس بأفضل المؤمنين ول ا الثاني ولا الثالث.
قلت: يا أمير المؤمنين، إن قدر الآية عظيم، إن الله يقول: (ثاني
اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (1)!
قال: يا إسحاق، تأبي الآن إلا أن أخرج إلى الاستقصاء عليك!
أخبرني عن حزن أبي بكر: أكان رضا أم سخطا؟
قلت: إن أبا بكر إنما حزن من أجل رسول الله - صلى الله عليه وآله -
شئ من المكروه.
قال: ليس هذا جوابي، إنما كان جوابي أن تقول: رضا، أم سخط.

(1) سورة التوبة: الآية 40، قال الأسترآبادي في هامش رجال الكشي ج 1 ص 131: سياق الآية
الكريمة بلسان بلاغتها تنطق بوجوه من الطعن في جلالة أبي بكر:
الأول: إن همه وحزنه وفزعه وانزعاجه وقلقه حين إذا إذ هو مع النبي الكريم المأمور من تلقاء
ربه الحفيظ الرقيب بالخروج والهجرة، والموعود من السماء على لسان روح القدس الأمين
بالتأييد والنصرة، مما يكشف عن ضعف قينه وركاكة إيمانه جدا.
الثاني: أن إنزال الله سكينته عليه - صلى الله عليه وآله - فقط لا على أبي بكر ولا عليهما
جميعا، مع كون أبي بكر أحوج إلى السكينة حينئذ لقلقه وحزنه يدل على أنه لم يكن أهلا
لذلك.
وتحامل احتمال أن يرجع الضمير في (عليه) على أبي بكر، كما تجشمه البيضاوي مع أن
فيه خرق اتفاق المفسرين وشق عصاهم خلاف ما تتعاطاه قوانين العوام اللسانية والفنون
الأدبية، أليس ضمير (أيده) وعليه في الجملتين المعطوفة للنبي - صلى الله عليه وآله -
بلا امتراء، فكذلك ضمير عليه في الجملة المعطوفة عليها، أعني (فأنزل الله سكينته عليه)
الثالث: إن أسلوب (إذ يقول لصاحبه لا تحزن) في العبارة عن أبي بكر يضاهي أسلوب (يا
صاحبي السجن) في سورة يوسف (فقال لصاحبه وهو يحاوره) في سورة الكهف.
209

قلت: بل كان رضا لله.
قال: فكان الله جل ذكره بعث إلينا رسولا ينهى عن رضا الله عز وجل
وعن طاعته!
قال: أوليس قد زعمت أن حزن أبي بكر رضا الله؟
قلت: لله بلى.
قال: أو لم تجد أن القرآن يشهد أن رسول الله على وآله -
قال: (لا تحزن) نهيا له عن الحزن؟
قلت: أعوذ بالله!
قال: يا إسحاق، إن مذهبي الرفق بك، لعل الله يردك إلى الحق ويعدل
بك عن الباطل، لكثرة ما تستعيذ به، وحدثني عن قول الله: (فأنزل
الله سكينته عليه) (1) من عنى بذلك، رسول الله أم أبا بكر؟
قلت: بل رسول الله.
قال: صدقت.
قال: حدثني عن قول الله عز وجل: (ويوم حنين إذ أعجبتكم
كثرتكم) (2) إلى قوله: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على
المؤمنين) (3)
أتعلم من المؤمنون الذين أراد الله في هذا الموضع؟
قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين.

(1) سورة التوبة: الآية 40.
(2) سورة التوبة: الآية 25.
(3) سورة التوبة: الآية 26.
210

قال: الناس جميعا انهزموا يوما حنين، فلم يبق مع رسول الله - صلى
الله عليه وآله - إلا سبعة نفر من بني هاشم: علي يضرب بسيفه بين يدي
رسول الله - صلى الله عليه وآله - والعباس (1) أخذ بلجام بغلة رسول الله،
والخمسة محدقون به خوفا من أن يناله في هذا الموضع علي خاصة، ثم من حضره
من بني هاشم.
قال: فمن أفضل، من كان مع رسول الله - صلى الله عليه وآله - في
ذلك الوقت، أم من انهزم عنه ولم يره الله موضع لينزلها عليه؟
قلت: بل من أنزلت عليه السكينة.
قال: يا إسحاق، من أفضل، من كان معه في الغار، أم من نام على
فراشه (2) ووقاه بنفسه، حتى تم لرسول الله - صلى الله عليه وآله - ما أراد من
الهجرة؟ إن الله تبارك وتعالى أمر رسوله أن يأمر عليا بالنوم على فراشه،
وأن يقي رسول الله - صلى الله عليه وآله - بنفسه، فأمره رسول الله - صلى
الله - عليه وآله - بذلك، فبكى علي - عليه السلام - فقال له رسول الله - صلى
الله عليه وآله -: ما يبكيك يا علي، أجزعا من الموت؟
قال: لا، والذي بعثك بالحق يا رسول الله، ولكن خوفا عليك،
أفتسلم يا رسول الله؟
قال: نعم.
قال: سمعا وطاعة وطيبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله - ثم أتى

(1) راجع: أصول الأخبار ص 64، الإرشاد للمفيد ص 74، غزوات أمير المؤمنين - عليه السلام -
ص 150.
(2) تقدمت تخريجاته.
211

مضجعه واضطجع، وتسجى (1) بثوبه، وجاء المشركون من قريش
فحفوا (2) به لا يشكون أنه رسول الله - صلى الله عليه وآله - وقد أجمعوا
أن يضربه من كل بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف، لئلا يطلب
الهاشميون من البطون بطنا بدمه، وعلي يسمع ما القوم فيه من إتلاف
نفسه، ولم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع صاحبه في الغار، ولم يزل علي
صابرا محتسبا، فبعث الله ملائكته فمنعته من مشركي قريش حتى أصبح،
فلما أصبح قام فنظر القوم إليه فقالوا: أين محمد؟
قال: وما علمي بمحمد أين هو؟ قالوا: فلا نراك إلا مغررا بنفسك
منذ ليلتنا، فلم يزل على أفضل ما بدأ به يزيد ولا ينقص، حتى قبصه الله
إليه.
يا إسحاق، هل تروي حديث الولاية؟
قلت: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: يا إسحاق، أرأيت هذا الحديث هل أوجب على أبي بكر وعمر
ما لم يوجب لهما عليه؟
قلت: إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة
لشئ جرى بينه وبين علي، وأنكر ولاء علي، فقال رسول الله - صلى الله
عليه وآله -: (من كنت مولاه لعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من
عاداه) (3).

(1) تسجى: تغطي.
(2) حفوا به: استداروا حوله وأحدقوا به.
(3) تقدمت تخريجاته.
212

قال: في أي موضع قال هذا، أليس بعد منصرفه من حجة الوداع؟
قلت: أجل.
قال: فإن قتل زيد بن حارثة قبل الغدير (1)
كيف رضيت لنفسك بهذا؟ أخبرني: لو رأيت
ابنا لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول:
مولاي مولى ابن عمي، أيها الناس فاعلموا ذلك، أكنت منكرا ذلك عليه
تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون؟
فقلت: اللهم نعم.
قال: يا إسحاق، أفتنزه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله - صلى الله
عليه وآله -؟ ويحكم! لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم (2)
إن الله جل ذكره قال في كتابه: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) (3) ولم
يصلوا لهم ولا صاموا ولا زعموا أنهم أرباب، ولكن أمروهم فأطاعوا
أمرهم، يا إسحاق، أتروي حديث: (أنت مني بمنزلة هارون من
موسى) (4)؟
قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قد سمعته من صححه
وجحده.

(1) استشهد زيد بن حارثة في غزوة مؤتة. راجع: طبقات ابن سعد ج 3 ص 40، سير أعلام النبلاء
ج 1 ص 220، الإستيعاب ج 2 ص 542، أسد الغابة ج 2 ص 244.
وأما حادثة الغدير فقد وقعت في السنة العاشرة في حجة الوداع. راجع: طبقات
ابن سعد ج 2 ص 172، تاريخ الذهبي ج 1 ص 701، مغازي الواقدي ج 3 ص 1088 وغيرها
الكثير من المصادر.
(2) الأرباب: جمع رب وهو الإله أو الصاحب.
(3) سورة التوبة: الآية 31.
(4) تقدمت تخريجاته.
213

قال: فمن أوثق عندك، من سمعت منه فصححه، أو من جحده؟
قلت: من صححه.
قال: فهل يمكن أن يكون الرسول - صلى الله عليه وآله - مزح بهذا
قلت: أعوذ بالله!
قال: أفما تعلم أن هارون كان أخا موسى لأبيه وأمه؟
قلت: لا.
قال: بلى.
قال: فهذان الحالان معدومان في علي وقد كانا في هارون، فما معنى
قلت له: إنما أراد أن يطلب بذلك نفس علي لما قال المنافقون: أنه
خلفه استثقالا له.
قال: فأراد أن يطيب نفسه بقول لا معنى له؟
قال: فأطرقت.
قال: يا إسحاق، له معنى في كتاب الله بين.
قلت: ما هو يا أمير المؤمنين؟
قال: قوله عز وجل حكاية عن موسى أنه قال لأخيه هارون:
214

(اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) (1).
قلت: يا أمير المؤمنين إن موسى خلف هارون في قومه وهو
حي، ومضى إلى ربه، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله - خلف عليا
كذلك حين خرج إلى غزاته.
قال: كلا، ليس كما قلت، أخبرني عن موسى حين خلف هارون هل
كان معه حين ذهب إلى ربه أحد من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل؟
قلت: لا.
قال: أوليس استخلفه على جماعتهم؟
قلت: نعم.
قال: فأخبرني عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - حين خرج إلى
غزاته، هل خلف إلا الضعفاء والنساء والصبيان، فأنى يكون مثل ذلك؟
وله عندي تأويل آخر من كتاب الله يدل على استخلافه إياه، لا يقدر أحد
أن يحتج فيه، ولا أعلم أحدا احتج به وأرجو أن يكون توفيقا من الله.
قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟
قال: قوله عز وجل حين حكى عن موسى قوله: (واجعل لي
وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزرى وأشركه في أمري كي
نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا) (2) (فأنت مني يا
علي بمنزلة هارون من موسى، وزيري من أهلي، وأخي، شد الله به
أزري، وأشركه في أمري، كي نسبح الله كثيرا، ونذكره كثيرا)، فهل
يقدر أحد يدخل في هذا شيئا غير هذا ولم يكن ليبطل قول النبي -

(1) سورة الأعراف: الآية 142.
(2) سورة طه: الآية 35.
215

صلى الله عليه وآله - وأن يكون لا معنى له؟
قال: فطال المجلس وارتفع النهار.
فقال: يحيى بن أكثم القاضي: يا أمير المؤمنين، قد أوضحت الحق
لكم أراد الله به الخير، وأثبت ما يقدر أحدا أن يدفعه.
قال إسحاق: فأقبل علينا وقال: ما تقولون؟
فقلنا: كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزه الله.
فقال: والله لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال اقبلوا القول
من الناس، ما كنت لأقبل منكم القول، اللهم قد نصحت لهم القول، اللهم
إني قد أخرجت الأمر من عنقي: اللهم أني أدينك بالتقريب إليك بحب علي
وولايته! (1).

(1) العقد الفريد: ج 5 ص 349.
216

المناظرة الأربعون
مناظرة المأمون مع علماء العامة (1)
عن إسحاق بن حماد بن زيد، قال: جمعنا يحيى بن أكثم القاضي،
قال: أمرني المأمون بإحضار جماعة من أهل الحديث، وجماعة من أهل
الكلام والنظر، فجمعت له من الصنفين زهاء أربعين رجلا، ثم
مضيت بهم فأمرتهم بالكينونة في مجلس الحاجب لأعلمه بمكانهم
ففعلوا، فأعلمته فأمرني بإدخالهم فدخلوا فسلموا، فحدثهم ساعة
وآنسهم.
ثم قال: إني أريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي
هذا حجة، فمن كان حاقنا (2)، أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته وانبسطوا
وسلوا خفافكم، وضعوا أرديتكم، ففعلوا ما أمروا به.
فقال: أيها القوم إنما استحضرتكم لأحتج بكم عند الله تعالى، فاتقوا
الله وانظروا لأنفسكم وإمامكم، ولا يمنعكم جلالتي ومكاني من قول
الحق حيث كان، ورد الباطل على من أتى به، وأشفقوا على أنفسكم من
النار، وتقربوا إلى الله تعالى برضوانه وإيثار طاعته، فما أحد تقرب إلى
مخلوق بمعصية الخالق إلا سلطه الله عليه.

(1) هذه المناظرة مروية في عيون أخبار الرضا - عليه السلام - وهي نفسها المناظرة السابقة
- مناظرة المأمون مع الفقهاء المروية في العقد الفريد - وقد آثرنا ذكرهما كلتيهما لما فيهما من
التفاوت والاختلاف الكبير إلا أن هذه المناظرة أكمل وأوسع وفيها بحوث شتى وفوائد جمة.
(2) الحاقن: من له بول شديد.
217

فناظروني بجميع عقولكم إني رجل أزعم: أن عليا - عليه السلام -
خير البشر بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإن كنت مصيبا
فصوبوا قولي، وإن كنت مخطئا فردوا علي، وهلموا فإن شئتم سألتكم وإن
شئتم سألتموني.
فقال له الذين يقولون بالحديث: بل نسألك.
فقال: هاتوا وقلدوا كلامكم رجلا واحدا منكم، فإذا تكلم، فإن كان
عند أحدكم زيادة فليزد، وإن أتى بخلل فسددوه.
فقال قائل منهم: إنما نحن نزعم أن خير الناس بعد رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - أبو بكر، من قبل أن الرواية المجمع عليها
جاءت عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: اقتدوا بالذين من
بعدي أبو بكر وعمر (1) فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما، علمنا أنه لم

(1) رواه أحمد في مسنده ج 5 ص 382 و 384 بإسناده من طريقين عن حذيفة، وفي إسناده عبد
الملك بن عمير، قال عنه أحمد: مضطرب الحديث جدا مع قلة روايته، ما أرى له خمسمائة
حديث، وقد غلط في كثير منها. تهذيب التهذيب: ج 6 ص 411، ميزان الاعتدال ج 3 ص 660.
وأخرجه الترمذي أيضا في سننه ج 5 ص 569، ح 3662 وص 627 ح 3799 في مناقب أبي
بكر وعمر وعمار بن ياسر، بإسناده من عدة طرق عن حذيفة، وفي إسناده إضافة إلى عبد الملك
ابن عمير سالم بن العلاء المرادي الذي قيل عنه: ضعيف الحديث. (ميزان الاعتدال ج 2
ص 112، تهذيب التهذيب ج 3 ص 440، لسان الميزان ج 3 ص 7).
وأخرج الحديث أيضا في: سنن ابن ماجة ج 1 ص 37 ح 97، الأحكام في أصول الأحكام
ج 2 ص 242، مستدرك الحاكم ج 3 ص 75، الجامع الصغير ج 1 ص 197 ح 1318، ميزان
الاعتدال ج 1 ص 142، مصابيح السنة للبغوي ج 4 ص 162 ح 4742.
ولقد طعن أكابر علماء السنة في سند حديث الاقتداء بقولهم: موضوع أو باطل أو لم يصح
أو منكر، انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير ج 2 ص 56، سنن الترمذي ج 5 ص 569 و
ص 627، الضعفاء الكبير ج 4 ص 95، ميزان الاعتدال ج 1 ص 142، لسان الميزان ج 1 ص 188
وص 273 و ج 5 ص 237، مجمع الزوائد ج 9 ص 53، الدر النضيد ص 97، أسنى المطالب
ص 65 ح 238، الغدير للأميني ج 5 ص 337.
218

يأمر بالاقتداء إلا بخير الناس.
فقال المأمون: الروايات كثيرة ولا بد من أن تكون كلها حقا، أو كلها
باطلا، أو بعضها حقا وبعضها باطلا، فلو كانت كلها حقا كانت كلها باطلا
من قبل أن بعضها ينقض بعضا، ولو كانت كلها باطلا كان في بطلانها
بطلان الدين ودروس الشريعة، فلما بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار.
وهو أن بعضها حق وبعضها باطل، فإذا كان كذلك فلا بد من دليل
على ما يحق منها ليعتقد وينفي خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقا
كان أولى ما اعتقده وأخذ به، وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة
في نفسها.
وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحكم الحكماء،
وأولى الخلق بالصدق، وأبعد الناس من الأمر بالمحال، وحمل الناس على
التدين بالخلاف، وذلك أن هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين
من كل جهة أو مختلفين؟
فإن كانا متفقين من كل جهة كانا واحدا في العدد والصفة والصورة
والجسم وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة.
وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما، وهذا تكليف ما لا
يطاق، لأنك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر.
والدليل على اختلافهما: أن أبا بكر سبا أهل الردة، وردهم عمر
أحرارا (1)، وأشار عمر إلى أبي بكر بعزل خالد وبقتله لمالك بن

(1) تجد أخبار الردة في الكامل في التاريخ ج 2 ص 342 - 383، وفيه أن عمر قال: إنه لقبيح
بالعرب أن يملك بعضهم بعضا، وقد وسع الله عز وجل وفتح الأعاجم، واستشار في فداه، سبايا
العرب في الجاهلية والإسلام إلا امرأة ولدت لسيدها، وانظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
ج 3 ص 151.
219

نويرة (1)، فأبى أبو بكر عليه.

(1) روى ابن جرير الطبري في تاريخه ج 3 ص 280: إن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه: أن إذا
غشيتم دارا من دور الناس فسمعتم فيه أذانا للصلاة فأمسكوا عنه أهلها حتى تسألوهم ما الذي
نقموا، وإن لم تسمعوا أذانا فشنوا الغارة فاقتلوا وأحرقوا، وكان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو
قتادة الحارث بن ربعي أخو بني سلمة، وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حربا
أبدا بعدها، وكان يحدث: أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح، قال:
فقلنا: إنا المسلمون، فقالوا: ونحن المسلمون، قلنا: فما بال السلاح معكم؟ قالوا لنا: فما بال
السلاح معكم؟ قلنا: فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح، قال: فوضعوها، ثم صلينا وصلوا (إلى
أن قال) ثم أقدمه - يعني خالد مالكا - فضرب عنقه وأعناق أصحابه، قال: فلما بلغ قتلهم عمر بن
الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال: عدو الله عدا على امرء مسلم فقتله، ثم نزا على
امرأته، وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد معتجرا
بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما، فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من
رأسه فحطمها، ثم قال: أرياء قتلت امرء مسلما ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنك بأحجارك.
وممن ذكر هذه الحادثة المؤلمة: تاريخ الطبري ج 3 ص 280، تاريخ ابن الأثير ج 2
ص 357، تاريخ دمشق ج 5 ص 115، تاريخ ابن كثير ج 6 ص 321، تاريخ أبي الفداء ج 1
ص 158، تاريخ الخميس ج 2 ص 211، وفيات الأعيان لابن خلكان ج 6 ص 14 (في ترجمة
وثيمه)، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 179، أسد الغابة ج 4 ص 295، الإصابة ج 1
ص 414 و ج 3 ص 357، الغدير للأميني ج 7 ص 158.
وقد قال في هذه الحادثة المؤلمة أبو زهير السعدي:
ألا قل لحي أوطئوا بالسنابك * تطاول هذا الليل من بعد مالك
قضى خالد بغيا عليه بعرسه * وكان له فيها هوى قبل ذلك
فأمضى هواه خالد غير عاطف * عنان الهوى عنها ولا متمالك
وأصبح ذا أهل وأصبح مالك * على غير شئ هالكا في الهوالك
فمن لليتامى والأرامل بعده؟ * ومن للرجال المعدمين الصعالك؟
أصيبت تميم غثها وسمينها * بفارسها المرجو سحب الحوالك
راجع: تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 158، وفيات الأعيان ج 6 ص 15، تاريخ ابن الشحنة هامش
الكامل ج 11 ص 114، عبد الله بن سبأ ج 1 ص 148، الغدير للأميني ج 7 ص 160.
220

وحرم عمر المتعتين (1). ولم يفعل ذلك أبو بكر ووضع عمر ديوان
العطية (2)، ولم يفعله أبو بكر، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر (3)،
ولهذا نظائر كثيرة.
فقال آخر من أصحاب الحديث: فإن النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - قال: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا (4).

(1) قول عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنا أنهى عنهما
وأعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء ثابت لدى الجمهور.
راجع: تفسير الرازي ج 10 ص 50، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 182،
و ج 12 ص 251 وص 252، أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 146، تفسير القرطبي ج 6
ص 130، و ج 2 ص 146، زاد المعاد لابن القيم ج 2 ص 50 فصل إباحة متعة النساء، كنز العمال
ج 16 ص 519 ح 45715، سنن البيهقي ج 7 ص 206، المغني لابن قدامة ج 7 ص 527، المحلى
لابن حزم ج 7 ص 107، شرح معاني الآثار باب مناسك الحج للطحاوي ص 374، مقدمة مرآة
العقول ج 1 ص 200، الغدير للأميني ج 6 ص 211.
وفي رواية أخرى أنه قال: أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - وأنا أنهى عنهن، وأحرمهن، وأعاقب عليهن، متعة الحج ومتعة النساء، وحي على خير
العمل.
راجع: شرح التجريد للقوشجي ص 484، كنز العرفان ج 2 ص 158، الغدير للأميني ج 6 ص 213.
(2) انظر: تاريخ الطبري ج 3 ص 613، سنن البيهقي ج 6 ص 350، الأوائل للعسكري ص 113.
(3) راجع: الكامل في التاريخ ج 2 ص 425.
(4) روي هذا الحديث في مصادر عديدة، منها:
سنن الترمذي ج 5 ص 566 ح 3655، السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص 246، المعجم الكبير
للطبراني ج 3 ص 278 ح 3297 و ج 10 ص 129 ح 10106 و ج 12 ص 119 ح 12647، مسند
الحميدي ج 1 ص 62 ح 113، طبقات ابن سعد ج 3 ص 176، شرح السنة للبغوي ج 14 ص 77
ح 3866، الغدير للأميني ج 3 ص 117.
وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 11 ص 49 جملة من هذه الأحاديث
الموضوعة، ومنها هذا الحديث (لو كنت متخذا خليلا) وقال عنه: إنهم وضعوه في مقابلة
حديث الإخاء.
221

فقال المأمون: هذا مستحيل من قبل أن رواياتكم أنه - صلى الله عليه
وآله وسلم - آخى بين أصحابه وأخر عليا، فقال له في ذلك، فقال: وما
أخرتك إلا لنفسي (1)، فأي الروايتين ثبتت بطلت الأخرى.
قال الآخر: إن عليا - عليه السلام - قال على المنبر: خير هذه الأمة بعد
نبيها أبو بكر وعمر (2).
قال المأمون: هذا مستحيل من قبل أن النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - لو علم أنهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص (3)، ومرة
أسامة بن زيد (4).
ومما يكذب هذه الرواية قول علي - عليه السلام - لما قبض النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم -: وأنا أولى بمجلسه وهو مني بقميصي،
ولكني أشفقت أن يرجع الناس كفارا (5)، وقوله - عليه السلام -: أنى يكونان
خيرا مني وقد عبدت الله تعالى قبلهما وعبدته بعدهما (6).
قال آخر: فإن أبا بكر أغلق بابه، وقال: هل من مستقبل فأقيله؟ فقال

(1) صحيح الترمذي ج 5 ص 595 ح 3720، المستدرك للحاكم ج 3 ص 14.
(2) رواه أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة من عدة طرق في ج 1 ص 76 ح 40 وص 79 ح 43
و 44 وص 80 ح 45 وص 91 ح 60 وص 223 ح 260 وص 365 ح 536، تاريخ بغداد ج 10
ص 114، والضعفاء الكبير للعقيلي ج 3 ص 181.
(3) انظر: الكامل في التاريخ ج 2 ص 232.
(4) انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 52.
(5) روي نحوه في بناء المقالة الفاطمية ص 410، واللآلي المصنوعة ج 1 ص 361.
(6) ورد باختلاف في ذخائر العقبى ص 58، الرياض النضرة ج 3 ص 111، الاحتجاج للطبرسي
ج 1 ص 157، بناء المقالة الفاطمية ص 327.
222

علي - عليه السلام -: قدمك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فمن ذا
يؤخرك (1)؟
فقال المأمون: هذا باطل من قبل أن عليا - عليه السلام - قعد عن بيعة
أبي بكر (2)، ورويتم أنه قعد عنها حتى قبضت فاطمة - عليها السلام - وأنها
أوصت أن تدفن ليلا لئلا يشهدا جنازتها (3).
ووجه آخر وهو أنه إن كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
استخلفه، فكيف كان له أن يستقيل وهو يقول للأنصار: قد رضيت لكم
أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر (4).
قال آخر: إن عمرو بن العاص قال: يا نبي الله من أحب الناس إليك من
النساء؟ قال: عايشة، فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها (5).
فقال المأمون: هذا باطل، من قبل أنكم رويتم: أن النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم - وضع بين يديه طائر مشوي، فقال: اللهم ائتني بأحب
خلقك إليك فكان عليا - عليه السلام - (6)، فأي رواياتكم تقبل؟
فقال آخر: فإن عليا - عليه السلام - قال: من فضلني على أبي بكر
وعمر جلدته حد المفتري (7).

(1) روي في العثمانية للجاحظ ص 235، كنز العمال ج 5 ص 654 ح 14145 باختلاف يسير.
(2) انظر: الإمامة والسياسة ج 1 ص 18، تاريخ الطبري ج 3 ص 208.
(3) انظر: تاريخ الطبري ج 3 ص 208، المستدرك ج 3 ص 162.
(4) ذكر في العثمانية ص 222 و 230 باختلاف، وجاء في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1
ص 14 عن أبي بكر: وليتني يوم سقيفة بني ساعدة، كنت ضربت على يد أحد الرجلين أبي
عبيدة أو عمر، فكان هو الأمير، وكنت أنا الوزير.
(5) روي في البداية والنهاية ج 4 ص 275، واللآلئ المصنوعة ج 1 ص 382.
(6) تقدمت تخريجاته.
(7) روي في فضائل أحمد ج 1 ص 83 ح 49 وص 294 ح 387، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 46.
223

قال المأمون: كيف يجوز أن يقول علي - عليه السلام -: أجلد الحد
على من لا يجب حد عليه؟ فيكون متعديا لحدود الله عز وجل، عاملا
بخلاف أمره، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية.
وقد رويتم عن إمامكم أنه قال: وليتكم ولست بخيركم (1)، فأي
الرجلين أصدق عندكم أبو بكر على نفسه، أو علي - عليه السلام - على أبي
بكر مع تناقض الحديث في نفسه؟ ولا بد له في قوله من أن يكون صادقا أو
كاذبا، فإن كان صادقا فأنى عرف ذلك؟
أبوحي؟ فالوحي منقطع، أو بالتظني؟ فالمتظني متحير، أو بالنظر
فالنظر مبحث، وإن كان غير صادق فمن المحال أن يلي أمر المسلمين
ويقوم بأحكامهم، ويقيم حدودهم كذاب!
قال آخر: فقد جاء أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: أبو بكر
وعمر سيدا كهول أهل الجنة (2).
قال المأمون: هذا الحديث محال، لأنه لا يكون في الجنة كهل،
ويروى أن أشجعية كانت عند النبي - صلى الله عليه وآله - فقال: لا يدخل
الجنة عجوز (3) فبكت، فقال لها - صلى الله عليه وآله وسلم -: إن الله تعالى
يقول: (إنا أنشأناهن إنشاء، فجعلناهن أبكارا، عربا أترابا) (4).

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) روته العامة كثيرا في كتبها، فقد روي في: العثمانية ص 136، سنن الترمذي ج 5 ص 571
ح 3666، سنن ابن ماجة ج 1 ص 36 ح 95، شرح السنة للبغوي ج 14 ص 102 ح 3897، مجمع
الزوائد ج 9 ص 53، وقد أثبت العلامة الحجة الأميني في كتابه الغدير ج 5 ص 322 - 3 32 أن
هذا الحديث من الموضوعات فراجع.
(3) أورده ابن شهرآشوب في المناقب ج 1 ص 148، والبحار ج 16 ص 295.
(4) سورة الواقعة: الآية 35 - 37.
224

فإن زعمتم أن أبا بكر ينشأ شابا إذا دخل الجنة، فقد رويتم أن النبي -
صلى الله عليه وآله وسلم - قال للحسن والحسين: إنهما سيدا شباب أهل
الجنة من الأولين والآخرين وأبوهما خير منهما (1).
قال آخر: فقد جاء أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: لو لم
أكن أبعث فيكم لبعث عمر (2).
قال المأمون: هذا محال لأن الله تعالى يقول: (إنا أوحينا إليك كما
أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) (3)، وقال تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين
ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم) (4)، فهل
يجوز أن يكون من لم يؤخذ منه ميثاقه على النبوة مبعوثا؟ ومن أخذ ميثاقا
على النبوة مؤخرا؟
قال آخر: إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نظر إلى عمر يوم
عرفة فتبسم.
فقال: إن الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة وبعمر خاصة (5).
فقال المأمون: هذا مستحيل من قبل أن الله تبارك وتعالى لم يكن
ليباهي بعمر ويدع نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - فيكون عمر في

(1) فضائل أحمد ج 2 ص 774 ح 1368، سنن ابن ماجة ج 1 ص 44 ح 118، تاريخ بغداد ج 1
ص 140.
(2) روي في فضائل أحمد ج 1 ص 356 ح 519 وص 428 ح 676، الكامل في الضعفاء ج 4
ص 1511، كنز العمال ج 11 ص 581 ح 32761 و ح 32763، مجمع الزوائد ج 9 ص 68 و 69،
اللآلئ المصنوعة ج 1 ص 302، وهذا الحديث من الموضوعات راجع: الغدير ج 5 ص 312.
(3) سورة النساء: الآية 163.
(4) سورة الأحزاب: الآية 7.
(5) المعجم الأوسط للطبراني ج 2 ص 147 ح 1273، أسد الغابة ج 4 ص 65، مجمع الزوائد ج 9
ص 69 و 70.
225

الخاصة، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في العامة.
وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم: أن النبي - صلى الله عليه
وآله وسلم - قال: دخلت الجنة فسمعت خفق نعلين، فإذا بلال مولى أبي
بكر سبقني إلى الجنة (1).
وإنما قالت الشيعة: علي - عليه السلام - خير من أبي بكر، فقلتم: عبد
أبي بكر خير من الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لأن السابق أفضل من
المسبوق، وكما رويتم أن الشيطان يفر من ظل عمر (2)، وألقى على لسان
نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وإنهن الغرانيق العلى (3)، ففر من عمر
وألقى على لسان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بزعمكم الكفار.
قال آخر: قد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: لو نزل العذاب ما

(1) روي باختلاف في المعجم الصغير للطبراني ج 1 ص 208 و ج 2 ص 59، مجمع الزوائد ج 9
ص 299.
(2) انظر: الرياض النضرة ج 2 ص 299، التاج الجامع للأصول ج 3 ص 314.
(3) وملخص هذه القصة المعروفة بقصة الغرانيق، كما روي أنه: بعد هجرة المسلمين إلى
الحبشة بشهرين أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سورة النجم حتى إذا بلغ
قوله تعالى (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) وسوس إليه الشيطان - كما
يزعمون - بكلمات فتكلمها ظنا منه أنها وحي وهي: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن
لترتجي، والغرانيق جمع غرنوق وهي طيور الماء شبهت الأصنام بها لارتفاعها في السماء
فتكون الأصنام مثلها في رفعة القدر.
راجع: تفسير الدر المنثور ج 5 ص 399، تفسير الفخر الرازي ج 23 ص 49، تفسير جامع
البيان للطبري ج 17 ص 132 - 133، تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج 12 ص 85،
تفسير القرآن العظيم لابن كثر ج 3 ص 240، الشفاء للقاضي عياض ج 2 ص 748 - 749،
المناقب لابن شهرآشوب ج 1 ص 49، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 7 ص 19، تفسير
القمي ج 2 ص 85 - 86، مجمع البيان ج 4 ص 90 - 91، بحار الأنوار ج 17 ص 85 ح 14 و
ص 87 ح 15 وص 125، سفينة البحار للقمي ج 2 ص 312.
226

نجا إلا عمر بن الخطاب (1)!!
قال المأمون: هذا خلاف الكتاب أيضا، لأن الله تعالى يقول لنبيه
- صلى الله عليه وآله وسلم -: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) (2)
فجعلتم عمر مثل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -.
قال آخر: فقد شهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لعمر بالجنة في
عشرة من الصحابة (3).
فقال المأمون: لو كان هذا كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة:
نشدتك بالله أمن المنافقين أنا؟
فإن كان قد قال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: أنت من أهل
الجنة ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة فصدق حذيفة ولم يصدق النبي -
صلى الله عليه وآله وسلم -، فهذا على غير الإسلام.
وإن كان قد صدق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلم سأل
حذيفة؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما؟
قال الآخر: فقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: وضعت في
كفة الميزان ووضعت أمتي في كفة أخرى فرجحت بهم، ثم وضع مكاني
أبو بكر فرجح بهم، ثم عمر فرجح بهم، ثم رفع الميزان (4).
فقال المأمون: هذا محال، من قبل أنه لا يخلو من أن يكون
أجسامهما أو أعمالهما، فإن كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنه

(1) رواه القاضي عياض في الشفا ج 2 ص 819.
(2) سورة الأنفال: الآية 33.
(3) سنن أبي داود ج 4 ص 211 ح 4649، سنن الترمذي ج 5 ص 606 ح 3748، كنز العمال ج 1 1
ص 638 ح 33105 وص 646 ح 33137.
(4) انظر العثمانية ص 137، مجمع الزوائد ج 9 ص 58 - 59.
227

محال، لأنه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأمة، وإن كانت أفعالها فلم تكن
بعد فكيف ترجح بما ليس، فأخبروني بما يتفاضل الناس؟
فقال بعضهم: بالأعمال الصالحة.
قال: فأخبروني، فمن فضل صاحبه على عهد النبي - صلى الله عليه
وآله وسلم -؟ ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم - بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - أيلحق به؟
فإن قلتم: نعم، أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهادا وحجا،
وصوما وصلاة وصدقة من أحدهم!
قالوا: صدقت لا يلحق فاضل دهرنا لفاضل عصر النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم -.
قال المأمون: فانظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم
في فضائل علي - عليه السلام -، وقيسوا إليها ما رووا في فضائل تمام
العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة، فإن كانت جزءا من أجزاء كثيرة فالقول
قولكم، وإن كانوا قد رووا في فضائل علي - عليه السلام - أكثر فخذوا عن
أئمتكم ما رووا ولا تعدوه.
قال: فأطرق القوم جميعا.
فقال المأمون: ما لكم سكتم؟
قالوا: قد استقصينا.
قال المأمون: فإني أسألكم، خبروني أي الأعمال كان أفضل يوم
بعث الله نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -.
قالوا: السبق إلى الإسلام لأن الله تعالى يقول: (والسابقون السابقون،
228

أولئك المقربون) (1).
قال: فهل علمتم أحدا أسبق من علي - عليه السلام - إلى الإسلام؟
قالوا: إنه سبق حدثا لم يجر عليه حكم، وأبو بكر أسلم كهلا قد
جرى عليه الحكم، وبين هاتين الحالتين فرق.
قال المأمون: فخبروني عن إسلام علي - عليه السلام - أبإلهام من قبل
الله تعالى أم بدعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟
فإن قلتم: بإلهام فقد فضلتموه على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
لأن النبي لم يلهم بل أتاه جبرئيل عن الله تعالى داعيا ومعرفا.
فإن قلتم: بدعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهل دعاه من قبل
نفسه أو بأمر الله تعالى؟
فإن قلتم: من قبل نفسه فهذا خلاف ما وصف الله تعالى به نبيه
- صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله تعالى: (وما أنا من المتكلفين) (2)
وفي قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (3).

(1) سورة الواقعة: الآية 10 و 11.
والجدير بالذكر أن هذه الآية نزلت في حق أمير المؤمنين - عليه السلام - وممن نص على
ذلك:
شواهد التنزيل للحسكاني ج 2 ص 291 ح 924 - 931، مناقب علي بن أبي طالب لابن
المغازلي الشافعي ص 320 ح 365، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي الحنفي ص 17، الدر
المنثور للسيوطي ج 8 ص 6، الصواعق المحرقة لابن حجر الشافعي ص 123 ط - المحمدية و
ص 74 ط - الميمنية، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 60 وص 115، العقد الفريد لابن عبد
ربه المالكي ج 5 ص 94 ط 8، فتح البيان لصديق حسن خان ج 9 ص 254، تفسير ابن كثير ج 4
ص 305، روح المعاني للآلوسي ج 27 ص 132، فضائل الخمسة ج 1 ص 184، إحقاق الحق
للتستري ج 3 ص 114.
(2) سورة ص: الآية 86.
(3) سورة النجم: الآية 3.
229

وإن كان من قبل الله تعالى فقد أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وآله
وسلم - بدعاء علي - عليه السلام - من بين صبيان الناس، وإيثاره عليهم
فدعاه ثقة به، وعلما بتأييد الله تعالى، وخلة أخرى، خبروني عن الحكيم
هل يجوز أن يكلف خلقه ما لا يطيقون؟
فإن قلتم: نعم، فقد كفرتم، وإن قلتم: لا، فكيف يجوز أن يأمر نبيه
- صلى الله عليه وآله وسلم - بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره
وحداثة سنه وضعفه عن القبول؟!
وخلة أخرى، هل رأيتم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا أحدا
من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أسوة علي - عليه السلام -؟ فإن زعمتم
أنه لم يدع غيره فهذه فضيلة لعلي - عليه السلام - على جميع صبيان الناس.
ثم قال: أي الأعمال بعد السبق إلى الإيمان؟
قالوا: الجهاد في سبيل الله.
قال: فهل تجدون لأحد من العشرة في الجهاد ما لعلي في جميع
مواقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم - من الأثر؟ هذه بدر قتل من
المشركين فيها نيف وستون رجلا قتل علي - عليه السلام - منهم نيفا
وعشرين (1) وأربعون لسائر الناس.
فقال قائل: كان أبو بكر مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في
عريشة يدبرها.
فقال المأمون: لقد جئت بها عجيبة، أكان يدبر دون النبي - صلى الله

(1) تقدمت تخريجاته.
230

وآله وسلم - إلى رأي أبي بكر، أي الثلاث أحب إليك أن تقول؟
فقال: أعوذ بالله من أن أزعم أنه يدبر دون النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - أو يشركه، أو بافتقار من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إليه.
قال: فما الفضيلة في العريش؟ فإن كانت فضيلة أبي بكر بتخلفه عن
الحرب، فيجب أن يكون كل متخلف فاضلا أفضل من المجاهدين، والله
عز وجل يقول: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر،
والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين
بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل
الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) (1) الآية.
قال إسحق بن حماد بن زيد، ثم قال لي اقرأ: (هل أتى على الإنسان
حين من الدهر) (2)، فقرأت حتى بلغت: (ويطعمون الطعام على حبه
مسكينا ويتيما وأسيرا) (3)، إلى قوله: (وكان سعيكم مشكورا) (4).
فقال: فيمن نزلت هذه الآيات؟
فقلت: في علي - عليه السلام - (5).
قال: فهل بلغك أن عليا - عليه السلام - قال: حين أطعم المسكين
واليتيم والأسير: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا
شكورا) (6)، على ما وصف الله عز وجل في كتابه؟

(1) سورة النساء: الآية 95.
(2) سورة الإنسان: الآية 1.
(3) سورة الإنسان: الآية 8.
(4) سورة الإنسان: الآية 22.
(5) تقدمت تخريجات مصادر نزول هذه الآيات في أمير المؤمنين - عليه السلام -.
(6) سورة الإنسان: الآية 9.
231

فقلت: لا.
قال فإن الله تعالى عرف سريرة علي - عليه السلام - ونيته فأظهر ذلك
في كتابه تعريفا لخلقه أمره، فهل علمت أن الله تعالى وصف في شئ مما
وصف في الجنة ما في هذه السورة (قوارير من فضة) (1).
قلت: لا.
قال: فهذه فضيلة أخرى، فكيف تكون القوارير من فضة؟
فقلت: لا أدري.
قال: يريد كأنها من صفائها من فضة يرى داخلها كما يرى خارجها،
وهذا مثل قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: يا إسحاق رويدا شوقك
بالقوارير (2)، وعنى به نساء كأنها القوارير رقة، وقوله - صلى الله عليه وآله
وسلم -: ركبت فرس أبي طلحة فوجدته بحرا - أي كأنه بحر من كثرة
جريه وعدوه - وكقول الله تعالى: (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو
بميت ومن ورائه عذاب غليظ) (3) - أي كأنه يأتيه الموت ولو أتاه من
مكان واحد مات -.
ثم قال: يا إسحاق ألست ممن يشهد أن العشرة في الجنة؟
فقلت: بلى.
قال: أرأيت لو أن رجلا قال: ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا أكان
عندك كافرا؟

(1) سورة الإنسان: الآية 16.
(2) روي في صحيح البخاري ج 8 ص 44 وص 55 وفيه: يا أنجشة.
(3) سورة إبراهيم: الآية 17.
232

قال أفرأيت لو قال ما أدري هذه السورة من القرآن أم لا أكان عندك
كافرا؟
قلت: بلى.
قال: أرى فضل الرجل يتأكد، خبروني يا إسحاق عن حديث الطائر
المشوي (1) أصحيح عندك؟
قلت: بلى.
قال: بان والله عنادك، لا يخلو هذا من أن يكون كما دعاه النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم - أو يكون مردودا أو عرف الله الفاضل من
خلقه، وكان المفضول أحب إليه، أو تزعم أن الله لم يعرف الفاضل من
المفضول، فأي الثلاث أحب إليك أن تقول به؟
قال إسحاق: فأطرقت ساعة، ثم قلت: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى
يقول في أبي بكر: (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن
إن الله معنا) (2)، فنسبه الله عز وجل إلى صحبة نبيه - صلى الله عليه وآله
وسلم -.
فقال المأمون: سبحان الله ما أقل علمك باللغة والكتاب! أما يكون
الكافر صاحبا للمؤمن؟ فأي فضيلة في هذا، أما سمعت قول الله تعالى:
(قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة
ثم سواك رجلا) (3)، فقد جعله الله له صاحبا، وقال الهذلي شعرا:
ولقد غدوت وصاحبي وحشية * تحت الرداء بصيرة بالمشرق

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) سورة التوبة: الآية 40.
(3) سورة الكهف: الآية 37.
233

وقال الأزدي شعرا:
ولقد ذعرت الوحش فيه وصاحبي * محض القوائم من هجان هيكل
فصير فرسه صاحبه.
وأما قوله: إن الله معنا، فإن الله تبارك وتعالى مع البر والفاجر، أما
سمعت قوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة
إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) (1).
وأما قوله: (لا تحزن) فأخبرني من حزن أبي بكر، أكان طاعة أو
معصية؟ فإن زعمت أنه طاعة، فقد جعلت النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - ينهى عن الطاعة وهذا خلاف صفة الحكيم، وإن زعمت أنه معصية
فأي فضيلة للعاصي؟
وخبرني عن قوله تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه) (2)، على من؟
قال إسحاق: فقلت: على أبي بكر، لأن النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - كان مستغنيا عن صفة السكينة.
قال: فخبرني عن قوله عز وجل: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم
فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين
ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) (3)، أتدري من
المؤمنون الذين أراد الله تعالى في هذا الموضع؟
قال: فقلت: لا.
فقال: إن الناس انهزموا يوم حنين فلم يبق مع النبي - صلى الله عليه

(1) سورة المجادلة: الآية 7.
(2) سورة التوبة: الآية 40.
(3) سورة التوبة: الآية 25 و 26.
234

وآله وسلم - إلا سبعة من بني هاشم علي - عليه السلام - يضرب بسيفه،
والعباس (1) آخذ بلجام بغلة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -،
والخمسة يحدقون بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خوفا من أن يناله
سلاح الكفار، حتى أعطى الله تبارك وتعالى رسوله - صلى الله عليه وآله
وسلم - الظفر، وعنى بالمؤمنين في هذا الموضع عليا - عليه السلام - (2)
ومن حضر من بني هاشم.
فمن كان أفضل، أمن كان مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
فنزلت السكينة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعليه، أم من كان
في الغار مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يكن أهلا لنزولها عليه،
يا إسحاق من أفضل؟ من كان مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الغار
أو من نام على مهاده وفراشه ووقاه بنفسه حتى تم للنبي - صلى الله عليه
وآله وسلم - ما عزم عليه من الهجرة؟
إن الله تبارك وتعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يأمر عليا
- عليه السلام - بالنوم على فراشه ووقايته بنفسه، فأمره بذلك، فقال علي
- عليه السلام -: أتسلم يا نبي الله؟
قال: سمعا وطاعة، ثم أتى مضجعه وتسجى بثوبه (3)، وأحدق
المشركون به لا يشكون في أنه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد
أجمعوا على أن يضربه من كل بطن من قريش رجل ضربة لئلا يطلب

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) راجع: شواهد التنزيل ج 1 ص 332 ح 341.
(3) تقدم حديث مبيت أمير المؤمنين - عليه السلام - على فراش النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
مع تخريجاته.
235

الهاشميون بدمه، وعلي - عليه السلام - يسمع بأمر القوم فيه من التدبير في
تلف نفسه، فلم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع أبو بكر في الغار وهو مع
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعلي - عليه السلام - وحده فلم يزل
صابرا محتسبا فبعث الله تعالى ملائكته تمنعه من مشركي قريش فلما
أصبح قام فنظر القوم إليه، فقالوا: أين محمد؟
قال: وما علمي به.
قالوا: فأنت غررتنا، ثم لحق بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلم
يزل علي - عليه السلام - أفضل لما بدا منه إلا ما يزيد خيرا حتى قبضه الله
تعالى إليه وهو محمود مغفور له.
يا إسحاق أما تروي حديث الولاية (1)؟
فقلت: نعم.
قال: اروه فرويته.
فقال: أما ترى أنه أوجب لعلي - عليه السلام - على أبي بكر وعمر من
الحق ما لم يوجب لهما عليه؟
قلت: إن الناس يقولون إن هذا قاله بسبب زيد بن حارثة.
فقال: وأين قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا؟
قلت: بغدير خم بعد منصرفه من حجة الوداع.
قال: فمتى قتل زيد بن حارثة؟
قلت: بمؤتة.
قال: أفليس قد كان قتل زيد بن حارثة قبل غدير خم؟

(1) وهو: من كنت مولاه فعلي مولاه، وقد تقدم مع تخريجاته.
236

قلت: بلى.
قال: أخبرني لو رأيت ابنا لك أتت عليه خمس عشرة سنة يقول:
مولاي مولى ابن عمي أيها الناس فاقبلوا، أكنت تكره له ذلك؟
فقلت: بلى.
قال: أفتنزه ابنك عما لا يتنزه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عنه
ويحكم! أجعلتم فقهاءكم أربابكم، إن الله تعالى يقول: (اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أربابا من دون الله) (1)، والله ما صاموا لهم ولا صلوا لهم، ولكنهم
أمروا لهم فأطيعوا.
ثم قال: أتروي قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لعلي - عليه
السلام -: أنت مني بمنزلة هارون من موسى (2).
قلت: نعم.
قال: أما تعلم أن هارون أخو موسى لأبيه وأمه؟
قلت: بلى.
قال: فعلي - عليه السلام - كذلك؟
قلت: لا.
قال: وهارون نبي وليس علي كذلك، فما المنزلة الثالثة إلا الخلافة،
وهذا كما قال المنافقون: إنه استخلفه استثقالا له، فأراد أن يطيب نفسه.
وهذا كما حكى الله تعالى عن موسى - عليه السلام - حيث يقول
لهارون: (اخلفني في قومي وأصلح، ولا تتبع سبيل المفسدين) (3).

(1) سورة التوبة: الآية 31.
(2) تقدم مع تخريجاته.
(3) سورة الأعراف: الآية 142.
237

فقلت: أن موسى خلف هارون في قومه وهو حي، ثم مضى إلى
ميقات ربه تعالى، وإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خلف عليا - عليه
السلام - حين خرج إلى غزاته.
فقال: أخبرني عن موسى حين خلف هارون، أكان معه حيث مضى
إلى ميقات ربه عز وجل أحد من أصحابه؟
فقلت: نعم.
قال: أوليس قد استخلفه على جميعهم؟
قلت: بلى.
قال: فكذلك علي - عليه السلام - خلفه النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - حين خرج إلى غزاته في الضعفاء والنساء والصبيان، إذ كان أكثر
قومه معه وإن كان قد جعله خليفة على جميعهم.
والدليل على أنه جعله خليفة عليهم في حياته إذا غاب وبعد موته
قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه
لا نبي بعدي، وهو وزير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أيضا بهذا القول
لأن موسى - عليه السلام - قد دعا الله تعالى، وقال فيما دعا: (واجعل لي
وزيرا من أهلي هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري) (1)، فإذا
كان علي - عليه السلام - منه - صلى الله عليه وآله وسلم - بمنزلة هارون من
موسى، فهو وزيره كما كان هارون وزير موسى وهو خليفته كما كان
هارون خليفة موسى - عليه السلام -.
ثم أقبل على أصحاب النظر والكلام، فقال: أسألكم أو تسألوني؟

(1) سورة طه: الآية 29 - 32.
238

فقالوا: بل نسألك
قال: قولوا.
فقال قائل منهم: أليست إمامة علي - عليه السلام - من قبل الله عز
وجل، نقل ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من نقل الفرض
مثل، الظهر أربع ركعات، وفي مأتي درهم خمسة دراهم، والحج إلى مكة؟
فقال: بلى.
قال: فما بالهم لم يختلفوا في جميع الفروض واختلفوا في خلافة
علي - عليه السلام - وحدها؟
قال المأمون: لأن جميع الفروض لا يقع فيه من التنافس والرغبة ما
يقع في الخلافة.
فقال آخر: ما أنكرت أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
أمرهم باختيار رجل منهم يقوم مقامه رأفة بهم ورقة عليهم من غير أن
يستخلف هو بنفسه، فيعصى خليفته فينزل بهم العذاب؟
فقال: أنكرت ذلك من قبل أن الله تعالى أرأف بخلقه من النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - وقد بعث نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - إليهم وهو
يعلم أن فيهم عاص ومطيع، فلم يمنعه تعالى ذلك من إرساله.
وعلة أخرى: ولو أمرهم باختيار رجل منهم كان لا يخلو من أن
يأمرهم كلهم أو بعضهم فلو أمر الكل من كان المختار؟ ولو أمر بعضنا دون
بعض كان لا يخلو من أن يكون على هذا البعض علامة، فإن قلت: الفقهاء،
فلا بد من تحديد الفقيه وسمته.
قال آخر: فقد روي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ما رآه
المسلمون حسنا فهو عند الله تعالى حسن، وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح.
239

فقال: هذا القول لا بد من أن يكون يريد كل المؤمنين أو البعض، فإن
أراد الكل فهذا مفقود، لأن الكل لا يمكن اجتماعهم، وإن كان البعض، فقد
روى كل في صاحبه حسنا، مثل رواية الشيعة في علي، ورواية الحشوية (1)
في غيره، فمتى يثبت ما تريدون من الإمامة؟
قال آخر: فيجوز أن تزعم أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله
وسلم - أخطأوا؟
قال: كيف تزعم أنهم أخطأوا واجتمعوا على ضلالة وهم لم يعلموا
فرضا ولا سنة، لأنك تزعم أن الإمامة لا فرض من الله تعالى ولا سنة من
الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فكيف يكون فيما ليس عندك بفرض
ولا سنة خطأ؟
قال آخر: إن كنت تدعي لعلي - عليه السلام - من الإمامة دون غيره
فهات بينتك على ما تدعي؟
فقال: ما أنا بمدع ولكني مقر ولا بينة على مقر والمدعي من يزعم أن
إليه التولية والعزل وأن إليه الاختيار والبينة لا تعري من أن تكون من
شركائه فهم خصماء أو تكون من غيرهم، والغير معدوم فكيف يؤتى

(1) الحشوية - بفتح الحاء وسكون الشين أو فتحها -: طائفة اختلف العلماء في تعريفها، فابن قتيبة
يذكر في تأويل مختلف الحديث ص 96 أنها من الألقاب التي كان أهل الحديث يلقبون بها،
قال: وقد لقبوهم بالحشوية والنابتة والمجبرة.
وقال النوبختي في فرق الشيعة ص 7: والبترية أصحاب الحديث، منهم سفيان بن سعيد
النوري، وشريك بن عبد الله، وابن أبي ليلى، ومحمد بن إدريس الشافعي، ومالك بن أنس،
ونظراؤهم من أهل الحشو والجمهور العظيم، وقد سموا الحشوية، ويطلقون هذا اللفظ أيضا
على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، وكذا المجسمة، انظر: شفاء الغليل للخفاجي.
240

قال آخر: فما كان الواجب على علي - عليه السلام - بعد مضي رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.
قال: ما فعله؟
قال: إنما وجب عليه أن يعلم الناس أنه إمام.
فقال: إن الإمامة لا تكون بفعل منه في نفسه، ولا بفعل من الناس فيه
من اختيار أو تفضيل أو غير ذلك، وإنما تكون بفعل من الله تعالى فيه كما
قال لإبراهيم - عليه السلام -: (إني جاعلك للناس إماما) (1)، وكما قال
تعالى لداود - عليه السلام -: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) (2)،
وكما قال عز وجل للملائكة في آدم: (إني جاعل في الأرض خليفة) (3).
فالإمام إنما يكون إماما من قبل الله تعالى وباختياره إياه في بدء
الصنيعة، والتشريف في النسب، والطهارة في المنشأ، والعصمة في
المستقبل، ولو كانت بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقا
للإمامة، وإذا عمل خلافها اعتزل فيكون خليفة من قبل أفعاله.
قال آخر: فلم أوجبت الإمامة لعلي - عليه السلام - بعد الرسول -
صلى الله عليه وآله وسلم -؟
فقال: لخروجه من الطفولية إلى الإيمان كخروج النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم - من الطفولية إلى الإيمان، والبراءة من ضلالة قومه عن
الحجة واجتنابه للشرك، كبراءة النبي من الضلالة واجتنابه للشرك لأن
الشرك ظلم، ولا يكون الظالم إماما ولا من عبد وثنا بإجماع، ومن شرك فقد

(1) سورة البقرة: الآية 124.
(2) سورة ص: الآية 26.
(3) سورة البقرة: الآية 30.
241

حل من الله تعالى محل أعدائه، فالحكم فيه الشهادة عليه بما اجتمعت عليه
الأمة حتى يجئ إجماع آخر مثله، ولأن من حكم عليه مرة، فلا يجوز أن
يكون حاكما، فيكون الحاكم محكوما عليه، فلا يكون حينئذ فرق بين
الحاكم والمحكوم عليه.
قال آخر: فلم لم يقاتل علي - عليه السلام - أبا بكر وعمر كما قاتل
معاوية؟
فقال: المسألة محال لأن (لم) اقتضاء، ولم يفعل نفي، والنفي لا تكون
له علة، إنما العلة للإثبات، وإنما يجب أن ينظر في أمر علي - عليه السلام -
أمن قبل الله أم من قبل غيره فإن صح أنه من قبل الله تعالى فالشك في تدبيره
كفر لقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم
ثم لا تجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (1)، فأفعال
الفاعل تبع لأصله، فإن كان قيامه عن الله تعالى فأفعاله عنه وعلى الناس
الرضا والتسليم، وقد ترك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - القتال يوم
الحديبية، يوم صد المشركون هديه عن البيت، فلما وجد الأعوان وقوي
حارب كما قال الله تعالى في الأول: (فاصفح الصفح الجميل) (2)، ثم قال
عز وجل: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم
واقعدوا لهم كل مرصد) (3).
قال آخر: إذا زعمت أن إمامة علي - عليه السلام - من قبل الله تعالى
وأنه مفترض الطاعة، فلم لم يجز إلا التبليغ والدعاء للأنبياء - عليهم

(1) سورة النساء: الآية 65.
(2) سورة الحجر: الآية 85.
(3) سورة التوبة: الآية 5.
242

السلام - وجاز لعلي أن يترك ما أمر به من دعوة الناس إلى طاعته؟
فقال: من قبل إنا لم نزعم أن عليا - عليه السلام - أمر بالتبليغ فيكون
رسولا ولكنه - عليه السلام - وضع علما بين الله تعالى وبين خلقه، فمن
تبعه كان مطيعا ومن خالفه كان عاصيا، فإن وجد أعوانا يتقوى بهم جاهد،
وإن لم يجد أعوانا فاللوم عليهم لا عليه، لأنهم أمروا بطاعته على كل حال
ولم يؤمر هو بمجاهدتهم إلا بقوة وهو بمنزلة البيت على الناس الحج إليه،
فإذا حجوا أدوا ما عليهم، وإذا لم يفعلوا كانت للأئمة عليهم لا على البيت.
وقال آخر: إذا وجب أنه لا بد من إمام مفترض الطاعة بالاضطرار،
كيف يجب بالاضطرار أنه علي - عليه السلام - دون غيره؟
فقال: من قبل أن الله تعالى لا يفرض مجهولا، ولا يكون المفروض
ممتنعا، إذ المجهول ممتنع فلا بد من دلالة الرسول - صلى الله عليه وآله
وسلم - على الفرض، ليقطع العذر بين الله عز وجل وبين عباده، أرأيت لو
فرض الله تعالى على الناس صوم شهر فلم يعلم الناس أي شهر هو؟ ولم
يوسم بوسم، وكان على الناس استخراج ذلك بعقولهم حتى يصيبوا ما أراد
الله تعالى، فيكون الناس حينئذ مستغنين عن الرسول المبين لهم وعن
الإمام الناقل خبر الرسول إليهم.
وقال آخر: من أين أوجبت أن عليا - عليه السلام - كان بالغا حين دعاه
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن الناس يزعمون أنه كان صبيا حين
دعي ولم يكن جاز عليه الحكم ولا بلغ مبلغ الرجال.
فقال: من قبل أنه لا يعرى في ذلك الوقت من أن يكون ممن أرسل
إليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليدعوه، فإن كان كذلك فهو محتمل
التكليف قوي على أداء الفرائض، وإن كان ممن لم يرسل إليه، فقد لزم
243

النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قول الله عز وجل (ولو تقول علينا
بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين) (1)، وكان مع
ذلك فقد كلف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عباد الله ما لا يطيقون عن
الله تبارك وتعالى، وهذا من المحال الذي يمتنع كونه ولا يأمر به حكيم، ولا
يدل عليه الرسول تعالى الله عن أن يأمر بالمحال، وجل الرسول من أن يأمر
بخلاف ما يمكن كونه في حكمة الحكيم، فسكت القوم عند ذلك جميعا.
فقال المأمون: قد سألتموني ونقضتم علي، أفأسألكم؟
قالوا: نعم.
قال: أليس قد روت الأمة بإجماع منها أن النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - قال: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2).
قالوا: بلى.
قال: ورووا عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: من عصى الله
بمعصية صغرت أو كبرت ثم اتخذها دينا ومضى مصرا عليها، فهو مخلد
بين أطباق الجحيم؟
قالوا: بلى.
قال: فخبروني عن رجل تختاره الأمة فتنصبه خليفة، هل يجوز أن
يقال له خليفة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن قبل الله عز
وجل، ولم يستخلفه الرسول؟
فإن قلتم: نعم فقد كابرتم، وإن قلتم: لا، وجب أن أبا بكر لم يكن

(1) سورة الحاقة: الآية 44 - 46.
(2) صحيح مسلم ج 1 ص 10 ح 3، مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 47 و 78 و 90 و 130 و 165،
مجمع الزوائد ج 1 ص 143.
244

خليفة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا كان من قبل الله عز وجل،
وأنكم تكذبون على نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإنكم متعرضون
لأن تكونوا ممن وسمه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بدخول النار.
وخبروني: في أي قوليكم صدقتم، أفي قولكم مضى - صلى الله عليه
وآله - ولم يستخلف، أو في قولكم لأبي بكر، يا خليفة رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم -؟ فإن كنتم صدقتم في القولين فهذا ما لا يمكن كونه، إذ
كان متناقضا، وإن كنتم صدقتم في أحدهما بطل الآخر، فاتقوا الله وانظروا
لأنفسكم ودعوا التقليد وتجنبوا الشبهات، فوالله ما يقبل الله تعالى إلا من
عبد لا يأتي إلا بما يعقل ولا يدخل إلا فيما يعلم أنه حق والريب شك
وإدمان الشك كفر بالله تعالى وصاحبه في النار.
وخبروني: هل يجوز أن يبتاع أحدكم عبدا فإذا ابتاعه صار مولاه
وصار المشتري عبده؟
قالوا: لا.
قال: فكيف جاز أن يكون من اجتمعتم عليه أنتم لهواكم
واستخلفتموه صار خليفة عليكم وأنتم وليتموه ألا كنتم أنتم الخلفاء عليه،
بل تأتون خليفة وتقولون إنه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
ثم إذا سخطتم عليه قتلتموه كما فعل بعثمان بن عفان؟
فقال قائل منهم: لأن الإمام وكيل المسلمين إذا رضوا عنه ولوه وإذا
سخطوا عليه عزلوه.
قال: فلمن المسلمون والعباد والبلاد؟
قالوا: لله تعالى.
قال: فوالله أولى أن يوكل على عباده وبلاده من غيره لأن من إجماع
الأمة أنه من أحدث حدثا في ملك غيره فهو ضامن وليس له أن يحدث،
245

فإن فعل فآثم غارم.
ثم قال خبروني عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هل استخلف
حين مضى أم لا؟
فقالوا: لم يستخلف.
قال: فتركه ذلك هدى أم ضلال؟
قالوا: هدى.
قال: فعلى الناس أن يتبعوا الهدى ويتركوا الباطل ويتنكبوا الضلال؟
قالوا: قد فعلوا ذلك.
قال: فلم استخلف الناس بعده وقد تركه هو فترك فعله ضلال،
ومحال أن يكون خلاف الهدى هدى، وإذا كان ترك الاستخلاف هدى، فلم
استخلف أبو بكر ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم جعل
عمر الأمر من بعده شورى بين المسلمين خلافا على صاحبه؟ لأنكم
زعمتم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يستخلف وأن أبا بكر
استخلف وعمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - بزعمكم ولم يستخلف كما فعل، أبو بكر وجاء بمعنى ثالث،
فخبروني: أي ذلك ترونه صوابا؟ فإن رأيتم فعل النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - صوابا فقد خطأتم أبا بكر، وكذلك القول في بقية الأقاويل.
وخبروني: أيهما أفضل ما فعله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
بزعمكم من ترك الاستخلاف أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف؟
وخبروني: هل يجوز أن يكون تركه من الرسول - صلى الله عليه
وآله وسلم - هدى، وفعله من غيره هدى فيكون هدى ضد هدى؟ فأين
الضلال حينئذ؟
وخبروني: هل ولي أحد بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
246

باختيار الصحابة منذ قبض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى اليوم؟
فإن قلتم: لا، فقد أوجبتم أن الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم - وإن قلتم: نعم، كذبتم الأمة وأبطل قولكم الوجود الذي لا
يدفع، وخبروني: عن قول الله عز وجل: (قل لمن ما في السماوات
والأرض قل لله) (1)، أصدق هذا أم كذب؟
قالوا: صدق.
قال: أفليس ما سوى الله لله إذ كان محدثه ومالكه؟
قالوا: نعم.
قال: ففي هذا بطلان ما أوجبتم من اختياركم خليفة تفترضون طاعته
وتسمونه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنتم استخلفتموه
وهو معزول عنكم إذا غضبتم عليه وعمل بخلاف محبتكم ومقتول إذا أبى
الاعتزال، ويلكم لا تفتروا على الله كذبا، فتلقوا وبال ذلك غدا إذا قمتم بين
يدي الله تعالى، وإذا وردتم على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد
كذبتم عليه متعمدين، وقد قال: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من
النار (2)، ثم استقبل القبلة ورفع يديه، وقال: اللهم إني قد أرشدتهم، اللهم
إني قد أخرجت ما وجب علي إخراجه من عنقي، اللهم إني لم أدعهم في
ريب، ولا في شك، اللهم إني أدين بالتقرب إليك بتقديم علي - عليه
السلام - على الخلق بعد نبيك محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - كما أمرنا
به رسولك - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ثم افترقنا فلم نجتمع بعد ذلك
حتى قبض المأمون (3).

(1) سورة الأنعام: الآية 12.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) عيون أخبار الرضا - عليه السلام - للشيخ الصدوق (ره) ج 2 ص 183.
247

المناظرة الحادية والأربعون
مناظرة ابن شاذان النيسابوري (1) مع بعضهم
قيل لأبي محمد الفضل بن شاذان النيسابوري - رحمه الله - ما الدليل
على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -؟
فقال: الدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل، ومن سنة نبيه
- صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن إجماع المسلمين.
فأما كتاب الله سبحانه وتعالى، قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (2)، فدعانا سبحانه وتعالى

(1) هو: أبو محمد الفضل بن شاذان بن الخليل الأزدي النيسابوري، أحد أعلام الإسلام
المفكرين، ومن شيوخ الشيعة القدامى المشهورين، اشتهر بمركزه العلمي والديني، وبمكانته
الاجتماعية، وبإنتاجه الخصب، وبآثاره ومؤلفاته التي عالج فيها مواضيع الساعة التي طغت في
ذلك العهد على تفكير المجتمع الإسلامي، وأخذ العلم عن الإمام الرضا، والإمام الجواد والإمام
الهادي - عليهم السلام -، وقد اتفق مترجموه على أنه كان ثقة من أجلاء فقهاء الشيعة الإمامية
ومتكلميهم، عده الشهرستاني في الملل والنحل من مؤلفي الشيعة الكلاميين وكذلك الأشعري
في المقالات، ويعتبر النيسابوري من أكثر العلماء والمفكرين إنتاجا وتأليفا، وقد أحصى له
مترجموه مائة وثمانين كتابا في الفقه والتفسير والكلام والملاحم والفضائل والقراءات
والبلدان وغيرها، وله ردود كثيرة على الفرق المنحرفة، ويستفاد من بعض النصوص أن وفاته
كانت سنة 260 ه‍.
راجع ترجمته في: فلاسفة الشيعة للشيخ عبد الله نعمة ص 358 - 263، تأسيس الشيعة
ص 377، فهرست ابن النديم ص 323، الكنى والألقاب ج 1 ص 36، سفينة البحار ج 2
ص 269، الملل والنحل ج 1 ص 170، مقالات الاسلاميين ج 1 ص 163.
(2) سورة النساء: الآية 59.
والمراد ب‍ (أولي الأمر) هم أمير المؤمنين والأئمة من ولده - عليهم السلام - كما نص على
ذلك المفسرون وغيرهم من الجمهور وقد تقدمت تخريجات نزولها فيهم - عليهم السلام -
فراجع.
248

إلى إطاعة أولي الأمر كما دعانا إلى طاعة نفسه وطاعة رسوله - صلى الله
عليه وآله وسلم - فاحتجنا إلى معرفة أولي الأمر كما وجبت علينا معرفة الله
ومعرفة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فنظرنا في أقاويل الأمة
فوجدناهم قد اختلفوا في أولي الأمر وأجمعوا في الآية على ما يوجب
كونها في علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
فقال بعضهم: أولوا الأمر هم أمراء السرايا، وقال بعضهم: هم
العلماء، وقال بعضهم: هم القوام على الناس والآمرون بالمعروف
والناهون عن المنكر، وقال بعضهم: هم علي بن أبي طالب والأئمة من
ذريته - عليهم السلام -.
فسألنا الفرقة الأولى، فقلنا لهم: أليس علي بن أبي طالب من أمراء
السرايا؟
فقالوا: بلى.
فقلنا للثانية: ألم يكن علي - عليه السلام - من العلماء؟
قالوا: بلى.
وقلنا للثالثة: أليس علي - عليه السلام - قد كان من القوام على الناس
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فقالوا: بلى، فصار أمير المؤمنين - عليه السلام - معنيا بالآية باتفاق
الأمة وإجماعها، وتيقنا ذلك بإقرار المخالف لنا في إمامته - عليه السلام -
والموافق عليها، فوجب أن يكون إماما بهذه الآية لوجود الاتفاق على أنه
249

معني بها، ولم يجب العدول إلى غيره والاعتراف بإمامته لوجود الاختلاف
في ذلك، وعدم الاتفاق وما يقوم مقامه في البرهان.
وأما السنة: فإنا وجدنا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - استقضى
عليا - عليه السلام - على اليمن، وأمره على الجيوش، وولاه الأموال، وأمره
بأدائها إلى بني جذيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد ظلما، واختاره - عليه
السلام - لأداء رسالات الله عز وجل والإبلاغ عنه في سورة البراءة (1)،
واستخلفه عند غيبته على من خلف، ولم نجد النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - سن هذه السنن في غيره ولا اجتمعت هذه السنن في أحد بعد
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما اجتمعت في علي - عليه السلام -،
وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد موته واجبة كوجوبها في
حياته.
وإنما تحتاج الأمة إلى الإمام لهذه الخصال التي ذكرناها فإذا وجدناها
في رجل قد سنها الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه كان أولى
بالإمامة ممن لم يسن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه شيئا من ذلك.
وأما الإجماع: فإن إمامته تثبت من جهته من وجوه:
منها: أنهم قد أجمعوا جميعا على أن عليا - عليه السلام - قد كان إماما
ولو يوما واحدا، ولم يختلف في ذلك أصناف أهل الملة ثم اختلفوا.
فقالت طائفة: كان إماما في وقت كذا دون وقت كذا، وقالت طائفة:
كان إماما بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في جميع أوقاته، ولم
تجتمع الأمة على غيره أنه كان إماما في الحقيقة عين، والإجماع أحق

(1) تقدمت تخريجاته.
250

أن يتبع من الخلاف.
ومنها: أنهم أجمعوا جميعا على أن عليا - عليه السلام - كان يصلح
للإمامة وأن الإمامة تصلح لبني هاشم، واختلفوا في غيره، وقالت طائفة: لم
تكن تصلح لغير علي بن أبي طالب - عليه السلام - ولا تصلح لغير بني
هاشم، والإجماع حق لا شبهة فيه، والاختلاف لا حجة فيه.
ومنها: أنهم أجمعوا على أن عليا - عليه السلام - كان بعد النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم - ظاهر العدالة واجبة له الولاية، ثم اختلفوا فقال
قوم: إنه كان مع ذلك معصوما من الكبائر والضلال.
وقال آخرون: لم يك معصوما، ولكن كان عدلا برا تقيا على الظاهر
لا يشوب ظاهره الشوائب، فحصل الإجماع على عدالته، واختلفوا في نفي
العصمة عنه.
ثم أجمعوا كلهم جميعا على أن أبا بكر لم يك معصوما واختلفوا في
عدالته، فقالت طائفة: كان عدلا، وقالت أخرى: لم يكن عدلا لأنه أخذ ما
ليس له، فمن أجمعوا على عدالته واختلفوا في عصمته أولى بالإمامة ممن
اختلفوا في عدالته وأجمعوا على نفي العصمة عنه. (1)

(1) الفصول المختارة: ج 1 ص 83 - 85، بحار الأنوار ج 10 ص 374 ح 3.
251

المناظرة الثانية والأربعون
مناظرة الشيخ الصدوق (1) (ره) مع الملك ركن الدولة بن بابويه
لقد ذكر في المجلس الذي جرى بين الشيخ الإمام أبي جعفر محمد
بن علي بن الحسين بن بابويه القمي مع الملك ركن الدولة أبي
علي الحسين بن بابويه الديلمي، قيل: إنه وصف للملك المذكور حال أبي
جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، وما يقعده في المجالس
وما عليه م الآثار وما يجيب عنه من المسائل والأخبار ورجوع الإمامية

(1) هو: الشيخ الأجل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي المشتهر
بالصدوق، شيخ من مشايخ الشيعة، وركن من أركان الشريعة، رئيس المحدثين، ولد بقم حدود
سنة 306 بدعاء الإمام - الثاني عشر - الحجة - عجل الله تعالى فرجه الشريف -، ونال بذلك
عظيم الفضل والفخر، ووصفه الإمام - عليه السلام - في التوقيع الخارج من ناحيته المقدسة
بأنه: فقيه خير مبارك ينفع الله به، فعمت بركته ببركة الإمام - عليه السلام - وانتفع به الخاص
والعام، وبقيت آثاره ومصنفاته مدى الأيام، وعم الانتفاع بفقهه وحديثه الفقهاء الأعلام، وكان
جليلا حافظا للأحاديث بصيرا بالرجال ناقدا للأخبار لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة
علمه، له نحو من ثلاثمائة مصنف في شتى فنون العلم وأنواعه، وأشهرها كتاب من لا يحضره
الفقيه، عيون أخبار الرضا، علل الشرائع، إكمال الدين وإتمام النعمة، أمالي الصدوق، معاني
الأخبار.
توفي في بلدة الري سنة 381 ه‍ وقبره بالقرب من قبر السيد عبد العظيم بن عبد الله
الحسني (رضي الله عنه).
تجد ترجمته في: تنقيح المقال للعلامة المامقاني ج 3 ص 154، الفهرست للشيخ الطوسي
ص 184، روضات الجنات ج 6 ص 132 ترجمة رقم: 574 وفي أكثر كتبه في المقدمة، وفي
العديد من الكتب الرجالية.
252

إليه وإلى أقواله في البلدان والأمصار.
فأحب لقاءه ومسألته فقدم إلى حاجبه البرمكي إحضاره، فركب
الحاجب إليه وأحضره إلى مجلس السلطان، فلما دخل عليه قربه وأدناه
وأكرمه ورفع مجلسه، فلما استقر به المجلس.
قال له السلطان: أيها الشيخ الفقيه العالم، اختلف الحاضرون في القوم
الذين طعنوا فيهم الشيعة، فقال بعضهم: يجب الطعن، وقال بعضهم: لا
يجب ولا يجوز، فما عندك في هذا؟
فقال الشيخ (ره): أيها الملك، إن الله تعالى لم يقبل من عباده الإقرار
بتوحيده حتى ينفوا كل إله سواه، وكل صنم عبد من دون الله، ألم تر أنا أمرنا
أن نقول: (لا إله إلا الله)، فلا إله نفي كل إله عبد من دونه.
وقوله: إلا، إثبات الله عز وجل، وكذلك لم يقبل الإقرار بنبوة محمد
نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى ينفوا كل متنبئ كان في وقته، مثل
مسيلمة الكذاب، وسجاح بنت الأسود العنسي وأشباههم، وهكذا لا يقبل
القول بإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - إلا بعد نفي
كل ضد نصب للإمامة دونه.
قال الملك: هذا هو الحق، وأخبرني أيها الشيخ بشئ جلي واضح
من أمر من انتصب للإمامة دونه؟
قال الشيخ: أيها الملك، اجتمعت الأمة على نقل خبر سورة براءة (1)،
وفيه خروج أبي بكر من الإسلام، وفيه نزول ولاية أمير المؤمنين - عليه
السلام - من السماء وعزل أبي بكر، وفيه أنه لم يكن من النبيين.

(1) تقدمت تخريجاته.
253

قال الملك: وكيف ذلك؟
فقال الشيخ - رحمه الله -: روى جميع أهل النقل منا ومن مخالفينا أنه
لما نزلت سورة براءة على رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا أبا بكر
فقال: يا أبا بكر خذ هذه السورة فأدها عني بالموسم بمكة، فأخذها أبو
بكر وسار، فلما بلغ بعض الطريق هبط جبرئيل - عليه السلام - فقال: يا
محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل
منك، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أمير المؤمنين - عليه
السلام - وأمره أن يلحق أبا بكر ويأخذ منه سورة براءة ويؤديها عن الله
تعالى أيام الموسم بمكة، فلحقه أمير المؤمنين - عليه السلام - وأخذ منه
سورة براءة وأداها عن الله تعالى.
حيث أنهم أخروا من قدمه الله تعالى وقدموا من أخره الله استهانة
بالله سبحانه، وقد صح أن أبا بكر ليس من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
لقول جبرئيل - عليه السلام -: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، فإذا لم
يكن من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن تابعا له، قال الله تعالى:
(فمن تبعني فإنه مني) (1)، وإن لم يكن متبعا للنبي - صلى الله عليه
وآله وسلم - لم يكن محبا لله عز وجل لقوله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله
فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (2)، وإذا لم يكن محبا كان
مبغضا وبغض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كفر.
وقد صح بنفس هذا الخبر أن عليا - عليه السلام - من النبي، هذا مع ما
رواه المخالف في تفسير قوله: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد

(1) سورة إبراهيم: الآية 36.
(2) سورة آل عمران: الآية 31.
254

منه) (1) أن الذي على بينة من ربه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
والشاهد الذي يتلوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
وما رواه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: علي مني وأنا
من علي (2)، وما رواه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: لينتهين أو
لأبعثن عليه رجلا نفسه نفسي وطاعته كطاعتي ومعصيته كمعصيتي (2).
ومما روي عن جبرئيل - عليه السلام - في غزوة أحد أنه نزل على
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فنظر إلى علي - عليه السلام - وجهاده بين
يدي رسول الله، فقال جبرئيل: هذه المواساة، فقال: يا جبرئيل لأنه مني وأنا

(1) سورة هود: الآية 17.
فقد روى الجمهور أن الشاهد هو أمير المؤمنين علي - عليه السلام - وقد تقدمت الآية مع
تخريجاتها من كتب العامة فراجع.
(2) قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: (علي مني وأنا من علي ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي)
هو من الأحاديث المتواترة عند الجمهور، فراجع:
سنن ابن ماجة ج 1 ص 44 ح 119، صحيح الترمذي ج 5 ص 594، خصائص أمير المؤمنين
للنسائي الشافعي ص 82 ح 71، ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج 2
ص 376 ح 878 - 880، المناقب للخوارزمي الحنفي ص 165 ح 197، مناقب علي بن أبي
طالب لابن المغازلي الشافعي ص 221 ح 267 و ح 272 و ح 273، ينابيع المودة للقندوزي
الحنفي ص 55 وص 180 وص 181 وص 371، الصواعق المحرقة لابن حجر ص 122،
إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص 140 ط - العثمانية وص 154 ط - السعيدية بمصر،
تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي الحنفي ص 36، نور الأبصار للشبلنجي ص 72 ط
- العثمانية وص 71 ط - السعيدية، مصابيح السنة للبغوي ج 4 ص 172 ح 4768، جامع الأصول
لابن الأثير ج 9 ص 471 ح 6481، التاج الجامع للأصول ج 3 ص 335، فرائد السمطين ج 1
ص 58 و 59 ح 24 و 25.
(3) مجمع الزوائد ج 7 ص 110، فضائل الصحابة لأحمد: ج 2 ص 571 ح 966، وص 593
ح 1008، الكتاب المصنف لابن أبي شيبة ج 12 ص 85 ح 12186، المطالب العالية لابن حجر
ج 4 ص 56 ح 3949.
255

منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما (1).
فكيف يصلح أيها الملك للإمامة رجل لم يأتمنه الله تعالى على تبليغ
آيات من كتابه أن يؤديها إلى الناس أيام الموسم، فكيف يجوز أن يكون
مؤتمنا على أن يؤدي جميع دين الله عز وجل بعد النبي ويكون واليا عليهم
وعزله الله عز وجل وولى عليا - عليه السلام -؟
وكيف لا يكون علي مظلوما وقد أخذوا ولايته وقد نزل بها جبرئيل
من السماء؟
فقال الملك: هذا بين واضح.
وكان رجل واقفا على رأس الملك يقال له: (أبو القاسم) فاستأذنه في
كلامه، فأذن له.
فقال: أيها الشيخ كيف يجوز أن تجتمع هذه الأمة على خطأ مع قول
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: لا تجتمع أمتي على ضلالة (2)؟
فقال الشيخ: إن صح هذا الحديث فيجب أن تعرفه الأمة، ومعناها أن
الأمة في اللغة هي الجماعة وأقل الجماعة رجل وامرأة، وقد قال الله تعالى:
(إن إبراهيم كان أمة قانتا) (3)، فسمى واحدا أمة، قال النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم -: رحم الله قسا يحشر يوم القيامة أمة واحدة (4)، فما ينكر

(1) تاريخ الطبري ج 2 ص 514، فرائد السمطين ج 1 ص 257 ح 198، ترجمة أمير المؤمنين من
تاريخ دمشق ج 1 ص 167 ح 215، الفصول المائة ج 1 ص 335.
(2) سنن الترمذي ج 4 ص 405 ح 2167، مسند أحمد ج 5 ص 145، كتاب السنة لابن أبي عاصم
ص 41 ح 84.
(3) سورة النحل: الآية 120.
(4) دلائل النبوة للبيهقي ج 2 ص 113، المعجم الكبير للطبراني ج 18 ص 265 ح 663، كنز العمال
ج 12 ص 77 ح 34072 و 34073، أمالي الشيخ المفيد ص 342 ح 7.
256

أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن كان قال هذا الحديث - عنى به عليا
- عليه السلام - ومن تبعه.
فقال: عنى به الأعظم ومن هو كان أكثر عددا.
فقال الشيخ (ره): وجدنا الكثرة في كتاب الله عز وجل مذمومة والقلة
مرحومة محمودة في قوله عز وجل: (لا خير في كثير من نجواهم) (1)،
(بل أكثرهم لا يعقلون) (2)، (ولكن أكثرهم لا يعلمون) (3)، (بل أكثرهم
لا يؤمنون) (4)، (ولكن أكثرهم لا يشكرون) (5)، (ولكن أكثرهم
يجهلون) (6)، (وأن أكثركم فاسقون) (7)، (وما وجدنا لأكثرهم من عهد
وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) (8)، وقال الله تعالى في مدح القلة: (إلا الذين
آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) (9)، (وقليل من عبادي
الشكور) (10)، (وما آمن معه إلا قليل) (11). وذكر الله في قول موسى: (ومن
قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) (12).
قال الملك: كيف يجوز الارتداد على العدد الكثير مع قرب العهد

(1) سورة النساء: الآية 114.
(2) سورة العنكبوت: الآية 63.
(3) سورة الدخان: الآية 39.
(4) سورة البقرة: الآية 100.
(5) سورة النمل: الآية 73.
(6) سورة الأنعام: الآية 111.
(7) سورة المائدة: الآية 59.
(8) سورة الأعراف: الآية 102.
(9) سورة ص: الآية 24.
(10) سورة سبأ: الآية 13.
(11) سورة هود: الآية 40.
(12) سورة الأعراف: الآية 159.
257

بموت صاحب الشريعة؟
فقال الشيخ (ره): كيف لا يجوز الارتداد عليهم مع قوله تعالى:
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم
على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي الله
الشاكرين) (1)، وليس ارتدادهم ذلك بأعجب من ارتداد بني إسرائيل
حين مضى موسى - عليه السلام - لميقات ربه واستخلف عليهم أخاه
هارون وقال: (اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) (2)
ووعد قومه بأنه يعود إليهم بعد ثلاثين ليلة وأتمها الله بعشر، فتم ميقات
ربه أربعين ليلة، فلم يصبر قومه إلى أن خرج فيهم السامري وصنع لهم من
حليهم عجلا جسدا له خوار، فقال لهم: هذا إلهكم وإله موسى،
واستضعفوا هارون خليفة موسى وأطاعوا السامري في عبادة العجل، ولم
يحفظوا في هارون وصية موسى به ولا خلافته عليهم، (ولما رجع
موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم
أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم
استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع
القوم الظالمين) (3).
هذا مما قص الله تعالى من تمام هذه القصة، وإذا جاز على بني
إسرائيل - وهم من أمة أولي العزم - أن يرتدوا بغيبة موسى - عليه السلام -
بزيادة عشر ليال حتى خالفوا وصيته وأطاعوا السامري في عبادة العجل،

(1) سورة آل عمران: الآية 144.
(2) سورة الأعراف: الآية 142.
(3) سورة الأعراف: الآية 150.
258

فكيف لا يجوز على هذه الأمة بعد موت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
أن تخالف وصيه وخليفته وخير الخلق بعده وتطيع سامري هذه الأمة؟
وإنما علي - عليه السلام - بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعد
محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - لما روي عن جميع أهل النقل.
فقال الملك للشيخ الفاضل: ما سمعت في المعنى كلاما أحسن من
هذا ولا أبين.
فقال الشيخ (ره): أيها الملك زعم القائلون بإمامة سامري هذه الأمة
أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مضى ولم يستخلف واستخلفوا
رجلا وأقاموه، فإن كان ما فعله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على
زعمهم من ترك الاستخلاف حقا فالذي أثبته القوم من الاستخلاف باطل،
وإن كان الذي أثبته الأمة من الاستخلاف صوابا فالذي فعله النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم - خطأ، فمن لم يحكم بالخطأ عليه يحكم به على النبي
- صلى الله عليه وآله - وعليهم.
فقال الملك: بل عليهم.
قال الشيخ (ره): فكيف يجوز أن يخرج النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - من الدنيا ولا يوصي بأمر الأمة إلى أحد، ونحن لا نرضى من عقل
أكار (1) في قرية إذا مات وخلف مسحاة وفأسا لا يوصي به إلى أحد من
بعده (2)؟

(1) وهو: الزراع يقال: أكرت الأرض أي حفرتها وبه سمي الأكار ويراد هنا احتقاره (النهاية لابن
الأثير ج 1 ص 57).
(2) حتى راعي الغنم لا بد أن يوص على غنمه إذا أراد تركها في نظر العقلاء، فكيف بمن يترك أمة
كاملة ولا يوصي إلى أحد!!
ولهذا يعترض عبد الله بن عمر على أبيه حين لم يستخلف، فقد روي عن سالم عن عبد
الله، قال: دخلت على أبي، فقلت: سمعت الناس يقولون مقالة، وآليت أن أقولها لك، زعموا
أنك غير مستخلف، وأنه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثم جاءك وتركها رأيت أنه قد ضيع،
فرعاية الناس أشد؟!!.
انظر: شرح النهج لابن أبي الحديد ج 12 ص 190.
259

فقال الشيخ: وهنا حكاية أخرى، وهي أنهم زعموا أن النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - لم يستخلف فخالفوه باستخلافهم من أقاموه
وخالف النبي من أقامه بالأمر، فلما حضرته الوفاة لم يعتد بالنبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - في ترك الاستخلاف على رغمه واستخلف بعده
الثاني، والثاني لم يعتدوا به ولا بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى
جعل الأمر شورى في قوم معدودين، وأي بيان أوضح من هذا؟
فقال الملك: هذا بين واضح، فأي شبهة ولدوها في إمامة هذا الرجل
وإقامته؟
فقال الشيخ: إنهم زعموا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال:
قدمه للصلاة، وهذا خير لا يضر، وقد اختلفوا فيه، فمنهم من روى أن النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم - قال لعائشة: أمرت أباك أن يصلي بالناس، وأن
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما عرف تقدم أبي بكر خرج متكئا على
علي - عليه السلام - وعلى الفضل بن العباس حتى دخل المسجد، فنحى أبا
بكر وصلى بالناس قاعدا وأبو بكر خلفه والناس كانت خلف أبي بكر (1).

(1) راجع مسند أحمد ج 6 ص 121، صحيح البخاري ج 1 ص 176، سنن ابن ماجة ج 1 ص 389
ح 1232، تاريخ الطبري ج 3 ص 197، طبقات ابن سعد ج 2 ص 217، تاريخ الإسلام للذهبي
ج 2 ص 554.
260

ومنهم من روى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر حفصة أن
تأمر أباها أن يصلي بالناس (1)، وهذا الخبر لا يصح لأن المهاجرين
والأنصار لم يحتجوا به ولا ذكروه يوم السقيفة، ولو صح هذا الخبر لما
وجبت إمامة أبي بكر، ولو وجبت الإمامة بالتقديم إلى الصلاة لوجب أن
يكون عبد الرحمن بن عوف أولى بالإمامة، لأنهم رووا عن النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - أنه صلى خلفه ولم يختلفوا في ذلك (2)، وكيف يلزمنا
أيها الملك قبول خبر عائشة وحفصة بجرهما النفع إلى أبيهما وإلى
أنفسهما، ولا يلزمهم قبول قول فاطمة - عليها السلام - وهي سيدة نساء
العالمين فيما ادعته من أمر فدك (3)، وأن أباها نحلها إياها (4)، مع كون فدك
في يدها سنين من حياته - صلى الله عليه وآله وسلم - مع شهادة علي
والحسن والحسين - عليهم السلام - وشهادة أم أيمن لها (5)؟ وكيف يصح

(1) صحيح البخاري ج 1 ص 173.
(2) المغازي للواقدي ج 3 ص 1012، تهذيب الكمال ج 14 ص 122.
(3) يقول ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 16 ص 284: سألت علي بن الفارقي مدرس
المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له: أكانت فاطمة - عليها السلام - صادقة؟ قال: نعم، قلت: فلم
لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم، ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه
وحرمته وقلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها
الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشئ، لأنه يكون قد
أسجل على نفسه أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود، وهذا
كلام صحيح، وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل.
(4) راجع: مجمع الزوائد: ج 7 ص 49، شرح نهج البلاغة ج 16 ص 268، شواهد التنزيل للحاكم
الحسكاني ج 1 ص 438 - 442 ح 467 - ح 473.
(5) الاحتجاج ج 1 ص 92، شرح نهج البلاغة ج 16 ص 269، فتوح البلدان للبلاذري ص 43.
ولذا يقول أمير المؤمنين علي - عليه السلام - في أمر فدك: بلى كانت في أيدينا فدك من كل
ما أضلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم
الله.
راجع: نهج البلاغة للإمام علي - عليه السلام - ص 417 رقم الكتاب: 45 (من كتاب له إلى
عامله في البصرة عثمان بن حنيف).
261

هذا الخبر عندهم وقد رووا أن شهادة النساء على النصف من شهادة
وقولهم: إن شهادة النساء لا تجوز في عشرة دراهم ولا أقل إذا لم
يكن معهن رجل (1)، ومع قولهم: إن شهادة النساء على النصف من شهادة
الرجال.
فقال الملك: قولهم في هذا غير صحيح، والحق والصدق فيما قاله
الشيخ الفاضل.
ثم قال الملك: أيها الشيخ، لم قلت: إن الأئمة اثنا عشر ولله عز وجل
مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي؟
فقال الشيخ: أيها الملك، إن الإمامة فريضة من فرائض الله وما أوجب
الله فريضة غير معدودة، ألا ترى أن فرض الصلاة في اليوم والليلة سبع
عشرة ركعة، وفرض الزكاة معلوم وهي عندنا على تسعة أشياء، ووجوب
الصوم معلوم وهو ثلاثون يوما، وبين مناسك الحج وهي معدودة، وكذلك
تكون الأئمة عددا لا يجوز أن يقال بأكثر ولا أقل.
فقال الملك: فهل بين الله لذلك مجملا، والنبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - بين عددها في سننه لأن السنن إلى النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم -؟
فقال الشيخ: نعم قد بين الفرائض والسنن كلها بأمر الله تعالى، قال الله

(1) شرح فتح القدير لابن الهمام الحنفي ج 1 ص 452، الفقه الإسلامي وأدلته ج 6 ص 69 5.
(2) شرح فتح القدير لابن الهمام الحنفي ج 1 ص 450، الفقه الإسلامي وأدلته ج 6 ص 60 5.
262

تعالى: وأنزلنا إليك لتبين للناس ما نزل إليهم) (1) وإن الله تعالى
قال: (وأقيموا الصلاة) (2)، ولم يبين عدد ركعاتها وبينها النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم -، وقال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم
بها) (3)، ولم يبين عدد الأصناف التي تجب عليها الزكاة، وقال الله تعالى:
(كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) (4)، ولم يبين
حدوده وهيئته وبينها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال الله تعالى:
(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (5)، ولم يبين مناسك
الحج فبينها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، كذلك قال الله تعالى: (يا أيها
الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (6)، (إنما
وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
وهم راكعون) (7)، ولم يبين عدد الأئمة فبينها النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - في سننه (8) كما بين سائر الفرائض.
فقال الملك: إن أمر الإمامة لم يوافقكم عليه مخالفوكم كما وافقوكم
على عدد الفرائض.
فقال الشيخ (ره): ليس يبطل قولنا في الإمامة بمخالفة مخالفينا، كما

(1) سورة النحل: الآية 44.
(2) سورة البقرة: الآية 43.
(3) سورة التوبة: الآية 103.
(4) سورة البقرة: الآية 183.
(5) سورة آل عمران: الآية 97.
(6) سورة النساء: الآية 59.
(7) سورة المائدة: الآية 55.
(8) تقدمت النصوص على عددهم وأسمائهم من مصادر العامة.
263

لا يبطل الإسلام ومعجزات النبي بمخالفه اليهود والنصارى والمجوس
والبراهمة (1)، ولو بطل بشئ من مخالفة المخالفين لم يثبت في العالم
شئ، لأن ما من شئ إلا وفيه خلاف.
فقال الملك: صدقت هذا هو الحق وأنتم عليه. وأولى الملك في
تلك الساعة لأمير المؤمنين - عليه السلام - وسب أعداءه ومن شايعهم
على ذلك، والحمد لله رب العالمين وسلم تسليما كثيرا (2).

(1) البراهمة: هم المنكرون للنبوات أصلا، ومنهم من يميل إلى الدهر، ومنهم من يميل إلى
مذهب الثنوية، ويقول بملة إبراهيم - عليه السلام -، وأكثر هم على مذهب الصابئة.
انظر: الملل والنحل للشهرستاني ج 2 ص 258.
(2) الكشكول للشيخ يوسف البحراني ج 1 ص 226، قصص العلماء للتنكابني ص 391
(فارسي)، وقد نص على هذه المناظرة آقا بزرك الطهراني في الذريعة ج 22 ص 293 تحت
رقم: 7151.
264

المناظرة الثالثة والأربعون
مناظرة المفيد (1) مع عمر في المنام
عن الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد النعمان - رضي الله
عنه - قال: رأيت في المنام سنة من السنين كأني قد اجتزت في بعض
الطرق فرأيت حلقة دائرة فيها أناس كثيرة، فقلت: ما هذا؟
فقالوا: هذه حلقة فيها رجل يعظ.
قلت: ومن هو؟

(1) هو: محمد بن محمد بن النعمان، البغدادي، يعرف بابن المعلم، من أعاظم علماء الإمامية
وأكبر شخصية شيعية ظهرت في القرن الرابع، انتهت إليه رئاسة متكلمي الشيعة في عصره،
كان كثير التقشف والتخشع والاكباب على العلم، وكان فقيها متقدما فيه، حسن الخاطر دقيق
الفطنة، حاضر الجواب، ونعم ما قاله فيه الخطيب البغدادي: إنه لو أراد أن يبرهن للخصم أن
الأسطوانة من ذهب وهي من خشب لاستطاع، وله قريب من مائتي مصنف، ولد سنة 338 ه‍
وتوفي سنة 413 ه‍ وكان يوم وفاته يوما لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة
البكاء من المخالف والموافق وقيل شيعه ثمانون ألفا من الناس وصلى عليه الشريف
المرتضى، ودفن بجوار الإمامين (الكاظم والجواد - عليهما السلام -) وحكي أنه وجد مكتوبا
على قبره بخط القائم - عليه السلام -:
لا صوت الناعي بفقدك أنه * يوم على آل الرسول عظيم
إن كنت غيبت في جدث الثرى * فالعدل والتوحيد فيك مقيم
والقائم المهدي يفرح كلما * تليت عليك من الدروس علوم
تجد ترجمته في: أوائل المقالات في المذاهب والمختارات للشيخ المفيد المقدمة
ص 16، سير أعلام النبلاء ج 17 ص 344 رقم: 213. تاريخ بغداد ج 3 ص 231، الذريعة ج 2
ص 209، ميزان الاعتدال ج 4 ص 30، لسان الميزان ج 5 ص 368، رجال النجاشي ص 283،
الفهرست للشيخ الطوسي ص 157.
265

قالوا: عمر بن الخطاب، ففرقت الناس ودخلت الحلقة فإذا أنا
برجل يتكلم على الناس بشئ لم أحصله فقطعت عليه الكلام.
وقلت: أيها الشيخ أخبرني ما وجه الدلالة على فضل صاحبك أبي
بكر عتيق بن أبي قحافة من قول الله تعالى: (ثاني اثنين إذ هما في
الغار) (1).
فقال: وجه الدلالة على فضل أبي بكر في هذه الآية على ستة
مواضع:
الأول: أن الله تعالى ذكر النبي - صلى الله عليه وآله - وذكر أبا بكر
وجعله ثانيه، فقال: (ثاني اثنين إذ هما في الغار).
والثاني: وصفهما بالاجتماع في مكان واحد لتأليفه بينهما فقال: (إذ
هما في الغار).
والثالث: أنه أضافه إليه بذكر الصحبة فجمع بينهما بما تقتضي الرتبة
فقال: (إذ يقول لصاحبه).
والرابع: أنه أخبر عن شفقة النبي - صلى الله عليه وآله - ورفقه به
لموضعه عنده فقال: (لا تحزن).
والخامس: أخبر أن الله معهما على حد سواء، ناصرا لهما ودافعا
عنهما فقال: (إن الله معنا).
والسادس: أنه أخبر عن نزول السكينة على أبي بكر لأن رسول الله
- صلى الله عليه وآله - لم تفارقه سكينته قط، قال: (فأنزل الله سكينته
عليه) (2).

(1) سورة التوبة: الآية 40.
(2) سورة التوبة: الآية 27.
266

فهذه ستة مواضع تدل على فضل أبي بكر من آية الغار، حيث لا
يمكنك ولا غيرك الطعن فيها.
فقلت له: خبرتك بكلامك في الاحتجاج لصاحبك عنه وإني بعون
الله سأجعل ما أتيت به كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
أما قولك: إن الله تعالى ذكر النبي - صلى الله عليه وآله - وجعل أبا بكر
معه ثانيه، فهو إخبار عن العدد، ولعمري لقد كانا اثنين، فما في ذلك من
الفضل؟! فنحن نعلم ضرورة أن مؤمنا ومؤمنا، أو مؤمنا وكافرا، اثنان فما
أرى لك في ذلك العد طائلا تعتمده.
وأما قولك: إنه وصفهما بالاجتماع في المكان، فإنه كالأول لأن
المكان يجمع الكافر والمؤمن كما يجمع العدد المؤمنين والكفار، وأيضا:
فإن مسجد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أشرف من الغار، وقد جمع
المؤمنين والمنافقين والكفار، وفي ذلك يقول الله عز وجل: (فما للذين
كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين) (1)، وأيضا: فإن
سفينة نوح - عليه السلام - قد جمعت النبي، والشيطان، والبهيمة، والكلب،
والمكان لا يدل على ما أوجبت من الفضيلة، فبطل فضلان.
وأما قولك: إنه أضافه إليه بذكر الصحبة، فإنه أضعف من الفضلين
الأولين لأن اسم الصحبة تجمع المؤمن والكافر، والدليل على ذلك قوله
تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم
من نطفة ثم سواك رجلا) (2) وأيضا: فإن اسم الصحبة يطلق على العاقل
والبهيمة، والدليل على ذلك من كلام العرب الذي نزل بلسانهم، فقال الله
والبهيمة، والدليل على ذلك من كلام العرب الذي نزل بلسانهم، فقال الله

(1) سورة المعارج: الآية 37.
(2) سورة الكهف: الآية 35.
267

عز وجل: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) (1) أنه قد سموا
الحمار صاحبا فقال الشاعر (2):
إن الحمار مع الحمير مطية * فإذا خلوت به فبئس الصاحب
وأيضا: قد سموا الجماد مع الحي صاحبا، فقالوا ذلك في السيف
وقالوا شعرا:
زرت هندا وكان غير اختيان * ومعي صاحب كتوم اللسان (3)
يعني: السيف، فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر، وبين
العاقل والبهيمة، وبين الحيوان والجماد، فأي حجة لصاحبك فيه؟!
وأما قولك: إنه قال: (لا تحزن) فإنه وبال عليه ومنقصة له، ودليل
على خطئه لأن قوله: (لا تحزن)، نهي وصورة النهي قول القائل: لا تفعل
فلا يخلو أن يكون الحزن قد وقع من أبي بكر طاعة أو معصية، فإن كان
طاعة فالنبي - صلى الله عليه وآله - لا ينهى عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو
إليها، وإن كانت معصية فقد نهاه النبي عنها، وقد شهدت الآية بعصيانه
بدليل أنه نهاه.
وأما قولك: إنه قال: (إن الله معنا) فإن النبي - صلى الله عليه وآله - قد
أخبر أن الله معه، وعبر عن نفسه بلفظ الجمع، كقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا
الذكر وإنا له لحافظون) (4) وقد قيل أيضا إن أبا بكر، قال: يا رسول الله
حزني على علي بن أبي طالب - عليه السلام - ما كان منه، فقال له النبي

(1) سورة إبراهيم: الآية 4.
(2) هو أمية: بن أبي الصلت، راجع: كنز الفوائد ج 2 ص 50.
(3) قد ورد في كنز الفوائد ج 2 ص 50 للكراجكي هكذا:
زرت هندا وذاك بعد اجتناب * ومعي صاحب كتوم اللسان
(4) سورة الحجر: الآية 9.
268

- صلى الله عليه وآله -: (لا تحزن فإن الله معنا) أي معي ومع أخي علي
بن أبي طالب - عليه السلام -.
وأما قولك: إن السكينة نزلت على أبي بكر، فإنه ترك للظاهر، لأن
الذي نزلت عليه السكينة هو الذي أيده الله بالجنود، وكذا يشهد ظاهر
القرآن في قوله: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) (1). فإن
كان أبو بكر هو صاحب السكينة فهو صاحب الجنود، وفي هذا إخراج
للنبي - صلى الله عليه وآله - من النبوة على أن هذا الموضع لو كتمته عن
صاحبك كان خيرا، لأن الله تعالى أنزل السكينة على النبي في موضعين كان
معه قوم مؤمنون فشركهم فيها، فقال في أحد الموضعين:
(فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة
التقوى) (2) وقال في الموضع الآخر: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله
وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها) (3) ولما كان في هذا الموضع
خصه وحده بالسكينة، فقال: (فأنزل الله سكينته عليه) فلو كان معه
مؤمن لشركه معه في السكينة كما شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين،
فدل إخراجه من السكينة على خروجه من الأيمان، فلم يحر جوابا وتفرق
الناس واستيقظت من نومي (4).

(1) سورة التوبة: الآية 41.
(2) سورة الفتح: الآية 26.
(3) سورة التوبة: الآية 27.
(4) الاحتجاج ج 2 ص 499 - 501، كنز الفوائد للكراجي ج 2 ص 48، بحار الأنوار ج 21
ص 327 ح 1، والكشكول للبحراني ج 2 ص 5.
269

المناظرة الرابعة والأربعون
مناظرة الشيخ المفيد (ره) مع القاضي أبي بكر بن سيار
قال السيد المرتضى - رضي الله عنه - في كتاب الفصول: اتفق للشيخ
أبي عبد الله المفيد - رحمة الله عليه - اتفاق مع القاضي أبي بكر أحمد بن
سيار في دار الشريف أبي عبد الله محمد بن محمد بن طاهر
الموسوي - رضي الله عنه -، وكان بالحضرة جمع كثير يزيد عددهم على
مائة إنسان، وفيهم أشراف من بني علي وبني العباس ومن وجوه الناس
والتجار حضروا في قضاء حق الشريف - رحمه الله -، فجرى من جماعة
من القوم خوض في ذكر النص على أمير المؤمنين - عليه السلام -، وتكلم
الشيخ أبو عبد الله - أيده الله - في ذلك بكلام يسير على ما اقتضته الحال.
فقال له القاضي أبو بكر ابن سيار: خبرني ما النص في الحقيقة؟ وما
معنى هذه اللفظة؟
فقال الشيخ: أيده الله -: النص هو الإظهار والإبانة، من ذلك قولهم:
فلان قد نص قلوصه (1): إذا أبانها بالسير، وأبرزها من جملة الإبل، ولذلك
سمي المفرش العالي (منصة) لأن الجالس عليه يبين بالظهور من
الجماعة، فلما أظهره المفرش سمي منصة على ما ذكرناه، ومن ذلك أيضا

(1) القلوص من الإبل: الطويلة القوائم الشابة منها أو الباقية على السير.
270

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش (1) * إذا هي نصته ولا بمعطل
يريد إذا هي أظهرته، وقد قيل: نصبته، والمعنى في هذا يرجع إلى
الإظهار، فأما هذه اللفظة فإنها قد جعلت مستعملة في الشريعة على
المعنى الذي قدمت، ومتى أردت حد المعنى منها قلت: حقيقة النص هو
القول المنبئ عن المقول فيه على سبيل الإظهار.
فقال القاضي: ما أحسن ما قلت! ولقد أصبت فيما أوضحت
وكشفت، فخبرني الآن إذا كان النبي - صلى الله عليه وآله - قد نص على
إمامة أمير المؤمنين - عليه السلام - فقد أظهر فرض طاعته، وإذا أظهره
استحال أن يكون مخفيا، فما بالنا لا نعلمه إن كان الأمر على ما ذكرت في
حد النص وحقيقته؟
فقال الشيخ - أيده الله -: أما الإظهار من النبي - صلى الله عليه وآله -
فقد وقع ولم يك خافيا في حال ظهوره، وكل من حضره فقد علمه ولم
يرتب فيه ولا اشتبه عليه، وأما سؤالك عن علة فقدك العلم به الآن وفي هذا
الزمان فإن كنت لا تعلمه على ما أخبرت به عن نفسك فذلك لدخول
الشبهة عليك في طريقه، لعدولك عن وجه النظر في الدليل المفضي بك
إلى حقيقته، ولو تأملت الحجة فيه بعين الأنصاف لعلمته، ولو كنت
حاضرا في وقت إظهار النبي - صلى الله عليه وآله - له لما أخللت بعلمه،
ولكن العلة في ذهابك عن اليقين فيه ما وصفناه.
فقال: وهل يجوز أن يظهر النبي - صلى الله عليه وآله - شيئا في زمانه
فيخفى عمن ينشأ بعد وفاته حتى لا يعلمه إلا بنظر ثاقب واستدلال عليه

(1) الريم: الظبي الخالص البياض.
271

فقال الشيخ - أيده الله تعالى -: نعم يجوز ذلك، بل لا منه لمن غاب
عن المقام في علم ما كان منه إلى النظر والاستدلال، وليس يجوز أن يقع له
به علم الاضطرار لأنه من جملة الغائبات، غير أن الاستدلال في هذا الباب
يختلف في الغموض والظهور والصعوبة والسهولة على حسب الأسباب
المعترضات في طرقه، وربما عرى طريق ذلك من سبب فيعلم بيسير من
الاستدلال على وجه يشبه الاضطرار (1)، إلا أن طريق النص حصل فيه من
الشبهات للأسباب التي اعترضته ما يتعذر معها العلم به إلا بعد نظر ثاقب
وطول زمان في الاستدلال (2).
فقال: فإذا كان الأمر على ما وصفت فما أنكرت أن يكون النبي
- صلى الله عليه وآله - قد نص على نبي آخر معه في زمانه، أو نبي يقوم من
بعده مقامه، وأظهر ذلك وشهره على حد ما أظهر به إمامة أمير المؤمنين
- عليه السلام - فذهب عنا علم ذلك كما ذهب عنا علم النص وأسبابه؟
فقال له الشيخ - أيده الله -: أنكرت ذلك من قبل أن العلم حاصل لي
ولكل مقر بالشرع ومنكر له بكذب من ادعى ذلك على رسول الله - صلى
الله عليه وآله وسلم -، ولو كان ذلك حقا لما عم الجميع على بطلانه وكذب
مدعيه ومضيفه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (3)، ولو تعرى بعض

(1) أي على وجه يشبه العلم الضروري والبديهي.
(2) وأهم الأسباب شدة إخفاء الخلفاء ومن بيدهم السلطة والقدرة ذلك، وشدة النكير على من
كان يظهره، وخوف الناقلين منهم، ولولا أن قيض الله سبحانه رجالا لم تأخذهم لومة لائم لكان
يجب عادة أن لا يكون من ذلك عين ولا أثر، ويكون ذلك نسيا منسيا، ويكون الاضطرار
بخلافه.
(3) والحاصل أن العلم ببطلان ذلك ضروري من الأمة، وحصول العلم الضروري لهم في ذلك
دون مسألة الإمامة لعدم الدواعي على الاخفاء والكتمان فيه.
272

العقلاء من سامعي الأخبار عن علم ذلك لاحتجت في إفساده إلى تكلف
دليل غير ما وصفت، لكن الذي ذكرت يغنيني عن اعتماد غيره فإن كان
النص على الإمامة نظيره فيجب أن يعم العلم ببطلانه جميع سامعي
الأخبار حتى لا يختلف في اعتقاد ذلك اثنان، وفي تنازع الأمة فيه واعتقاد
جماعة صحته والعلم به، واعتقاد جماعة بطلانه دليل على فرق ما بينه
وبين ما عارضت به.
ثم قال له الشيخ - أدام الله حراسته -: ألا أنصف القاضي من نفسه
والتزم ما ألزمه خصومه فيما شاركهم فيه من نفي ما تفردوا به؟ ففصل بينة
وبين خصومه في قوله: إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد نص على
رجم الزاني وفعله، وموضع قطع السارق وفعله، وعلى صفة الطهارة
والصلاة وحدود الصوم والحج والزكاة وفعل ذلك وبينه وكرره وشهره،
ثم التنازع موجود في ذلك، وإنما يعلم الحق فيه وما عليه العمل من غيره
بضرب من الاستدلال، بل في قوله: إن انشقاق القمر لرسول الله - صلى الله
عليه وآله - كان ظاهرا في حياته ومشهورا في عصره وزمانه، وقد أنكر
ذلك جماعة من المعتزلة وغيرهم من أهل الملل والملحدة، وزعموا أن
ذلك من توليد أصحاب السير ومؤلفي المغازي وناقلي الآثار، وليس
يمكننا أن ندعي على من خالفنا فيما ذكرنا علم الاضطرار وإنما نعتمد على
غلطهم في الاستدلال، فما يؤمنه أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله - قد
نص على نبي من بعده وإن عرى من العلم بذلك على سبيل الاضطرار،
وبم يدفع أن يكون قد حصلت شبهات حالت بينه وبين العلم بذلك كما
حصل لخصومه فيما عددناه ووصفناه، وهذا ما لا فصل فيه.
فقال له: ليس يشبه النص على أمير المؤمنين - عليه السلام - جميع
273

ما ذكرت، لأن فرض النص عندك فرض عام، وما وقع فيه الاختلاف فيما
قدمت فروض خاصة، ولو كانت في العموم كهو لما وقع فيها الاختلاف.
فقال الشيخ - أيده الله -: فقد انتقض الآن جميع ما اعتمدته، وبان
فساده، واحتجت في الاعتماد إلى غيره، وذلك أنك جعلت موجب العلم
وسبب ارتفاع الخلاف ظهور الشئ في زمان ما واشتهاره بين الملأ، ولم
تضم إلى ذلك غيره ولا شرطت فيه موصوفا سواه، فلما نقضناه عليك
ووضح عندك دماره عدلت إلى التعلق بعموم الفرض وخصوصه، ولم يك
هذا جاريا فيما سلف، والزيادة في الاعتلال انقطاع، والانتقال من اعتماد
إلى اعتماد أيضا انقطاع، على أنه ما الذي يؤمنك أن ينص على نبي يحفظ
شرعه فيكون فرض العمل به خاصا في العبادة كما كان الفرض فيما
عددناه خاصا، فهل فيها من فصل يعقل؟ فلم يأت بشئ تجب
حكايته (1).

(1) بحار الأنوار ج 10 ص 408 ح 2 (مع هوامشها)، الفصول المختارة ج 1 ص 1 - 4.
274

المناظرة الخامسة والأربعون
مناظرة الشيخ المفيد مع الكتبي ورجل من المعتزلة
سأله المعروف بالكتبي فقال له: ما الدليل على فساد إمامة أبي بكر؟
فقال له: الأدلة على ذلك كثيرة، فأنا أذكر لك منها دليلا يقرب
من فهمك، وهو أن الأمة مجتمعة على أن الإمام لا يحتاج إلى إمام، وقد
أجمعت الأمة على أن أبا بكر قال على المنبر: (وليتكم ولست بخيركم،
فإن استقمت فاتبعوني، وإن اعوججت فقوموني) (1)، فاعترف بحاجته
إلى رعيته وفقره إليهم في تدبيره، ولا خلاف بين ذوي العقول أن من
احتاج إلى رعيته فهو إلى الإمام أحوج (2)، وإذا ثبتت حاجة أبي بكر إلى
الإمام بطلت إمامته بالإجماع المنعقد على أن الإمام لا يحتاج إلى الإمام،

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) وفي هذا المعنى يقول شاعر أهل البيت - عليهم السلام - سفيان بن مصعب العبدي الكوفي -
المتوفى - سنة 120 ه‍ -:
وقال: رسول الله ما اختار بعده * إماما ولكنا لأنفسنا اخترنا
أقمنا إماما إن أقام على الهدى * أطعنا وإن ضل الهداية قومنا
فقلنا إذن أنتم إمام إمامكم * بحمد من الرحمن تهتم وما تهنا
ولكننا اخترنا الذي اختار ربنا * لنا يوم خم ما اعتدينا ولا حلنا
سيجمعنا يوم القيامة ربنا * فتجزون ما قلتم ونجزى الذي قلنا
ونحن على نور من الله واضح * فيا رب زدنا منك نورا وثبتنا
وفي العبدي - رحمه الله تعالى - روي عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: يا معشر الشيعة
علموا أولادكم شعر العبدي فإنه على دين الله. أنظر: الكنى والألقاب للقمي ج 2 ص 414 - 415.
275

فلم يدر الكتبي بم يعترض، وكان بالحضرة من المعتزلة رجل يعرف
بعرزالة.
فقال: ما أنكرت على من قال لك: إن الأمة أيضا مجتمعة على أن
القاضي لا يحتاج إلى قاض، والأمير لا يحتاج إلى أمير، فيجب على هذا
الأصل أن يوجب عصمة الأمراء، أو يخرج من الإجماع.
فقال له الشيخ: إن سكوت الأول أحسن من كلامك هذا، وما كنت
أظن أنه يذهب عليك الخطأ في هذا الفصل، أو تحمل نفسك عليه مع
العلم بوهنه، وذلك أنه لا إجماع في ما ذكرت، بل الإجماع في ضده، لأن
الأمة متفقة على أن القاضي الذي هو دون الإمام يحتاج إلى قاض هو الإمام،
وذلك يسقط ما تعلقت به، اللهم إلا أن تكون أشرت بالأمير والقاضي إلى
نفس الإمام، فهو كما وصفت غير محتاج إلى قاض يتقدمه أو أمير عليه،
وإنما استغنى عن ذلك لعصمته وكماله، فأين موضوع إلزامك عافاك الله؟
فلم يأت بشئ (1).

(1) البحار ج 10 ص 411 ح 4، الفصول المختارة ج 1 ص 7 - 8.
276

المناظرة السادسة والأربعون
مناظرة الشيخ المفيد مع رجل من أصحاب الحديث
قال له رجل من أصحاب الحديث ممن يذهب إلى مذهب
الكرابيسي (1) ما رأيت أجسر من الشيعة فيما يدعونه من المحال، وذلك
أنهم زعموا أن قول الله عز وجل: (إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (2) نزلت في علي وفاطمة
والحسن والحسين - عليهم السلام - (3)، مع ما في ظاهر الآية أنها نزلت في
أزواج النبي - صلى الله عليه وآله -، وذلك أنك إذا تأملت الآية من أولها إلى
آخرها وجدتها منتظمة لذكر الأزواج خاصة، ولن تجد لمن ادعوها له
ذكرا.
قال الشيخ - أدام الله عزه -: أجسر الناس على ارتكاب الباطل وأبهتهم
وأشدهم إنكارا للحق وأجهلهم من قام مقامك في هذا الاحتجاج، ودفع ما
عليه الإجماع والاتفاق، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن الآية من القرآن قد

(1) هو: أبو علي الحسين بن علي الكرابيسي الشافعي المتوفى 245 ه‍ أو 248 ه‍، وكان من
المتحاملين حتى على أحمد بن حنبل فضلا عن أهل البيت - عليهم السلام - فقد تكلم على إمام
الحنابلة ويقول لما سمع قوله في القرآن: أيش نعمل بهذا الصبي؟ إن قلنا القرآن مخلوق، قال
بدعة، وإن قلنا: غير مخلوق قال: بدعة، وروى أحاديث مكذوبة في أهل البيت - عليهم
السلام -، راجع: تاريخ بغداد للخطيب ج 8 ص 64، الغدير للأميني ج 5 ص 287.
(2) سورة الأحزاب: الآية 33.
(3) نزول آية التطهير في فضل أصحاب الكساء في بيت أم سلمة مما أجمعت عليه الأمة
الإسلامية، وروي ذلك متواترا عن أئمة أهل البيت - عليهم السلام - وكثير من الصحابة وقد
تقدم تخريج ذلك.
277

عليه الإجماع والاتفاق، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن الآية من القرآن قد
تأتي وأولها في شئ وآخرها في غيره، ووسطها في معنى وأولها في
سواه، وليس طريق الاتفاق في المعنى إحاطة وصف الكلام في الآئي، فقد
نقل الموافق والمخالف أن هذه الآية نزلت في بيت أم سلمة - رضي الله
عنها -، ورسول الله - صلى الله عليه وآله - في البيت، ومعه علي وفاطمة
والحسن والحسين - عليهم السلام - وقد جللهم بعباء خيبرية، وقال:
اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأنزل الله عز وجل عليه: (إنما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (1) فتلاها رسول الله - صلى
الله عليه وآله -.
فقالت أم سلمة - رضي الله عنها -: يا رسول الله ألست من أهل بيتك؟
فقال لها: إنك إلى خير، ولم يقل لها: إنك من أهل بيتي، حتى روى
أصحاب الحديث أن عمر سئل عن هذه الآية، قال: سلوا عنها عائشة،
فقالت عائشة: إنها نزلت في بيت أختي أم سلمة فسلوها عنها فإنها أعلم
بها مني، فلم يختلف أصحاب الحديث من الناصبة وأصحاب الحديث
من الشيعة في خصوصها فيمن عددناه، وحمل القرآن في التأويل على
ما جاء به الأثر أولى من حمله على الظن والترجيم، مع أن الله سبحانه قد دل
على صحة ذلك بمتضمن هذه الآية حيث يقول: (إنما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وإذهاب الرجس لا يكون
إلا بالعصمة من الذنوب، لأن الذنوب من أرجس الرجس، والخبر عن
الإرادة ههنا إنما هو خبر عن وقوع الفعل خاصة، دون الإرادة التي يكون

(1) سورة الأحزاب: الآية 33.
278

بها لفظ الأمر أمرا، لا سيما على ما أذهب إليه في وصف القديم بالإرادة،
وأفرق بين الخبر عن الإرادة ههنا والخبر عن الإرادة في قوله سبحانه:
(يريد الله ليبين لكم) (1) وقوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم
العسر) (2) إذ لو جرت مجرى واحدا لم يكن لتخصيص أهل البيت بها
معنى، إذ الإرادة التي يقتضي الخبر والبيان يعم الخلق كلهم على وجهها في
التفسير ومعناها، فلما خص الله تبارك وتعالى أهل البيت - عليهم السلام -
بإرادة إذهاب الرجس عنهم دل على ما وصفناه من وقوع إذهابه عنهم،
وذلك موجب للعصمة على ما ذكرناه، وفي الاتفاق على ارتفاع العصمة
عن الأزواج دليل على بطلان مقال من زعم أنها فيهن، مع أن من عرف
شيئا من اللسان وأصله لم يرتكب هذا القول ولا توهم صحته، وذلك أنه لا
خلاف بين أهل العربية أن جمع المذكر بالميم، وجمع المؤنث بالنون،
وأن الفصل بينهما بهاتين العلامتين، ولا يجوز في لغة القوم وضع علامة
المؤنث على المذكر، ولا وضع علامة المذكر على المؤنث، ولا استعملوا
ذلك في الحقيقة ولا المجاز، ولما وجدنا الله سبحانه قد بدأ في هذه الآية
بخطاب النساء وأورد علامة جمعهن من النون في خطابهن فقال: (يا نساء
النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي
في قلبه مرض) إلى قوله: (وأطعن الله ورسوله) ثم عدل بالكلام عنهن
بعد هذا الفصل إلى جمع المذكر فقال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (3) فلما جاء بالميم وأسقط النون

(1) سورة النساء: الآية 26.
(2) سورة البقرة: الآية 185.
(3) سورة الأحزاب: الآية 32 و 33.
279

علمنا أنه لم يتوجه هذا القول إلى المذكور الأول بما بيناه من أصل العربية
وحقيقتها، ثم رجع بعد ذلك إلى الأزواج فقال: (واذكرن ما يتلى في
بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا) (1) فدل بذلك
على إفراد من ذكرناه من آل محمد - عليهم السلام - بما علقه عليهم من
حكم الطهارة الموجبة للعصمة وجليل الفضيلة، وليس يمكنكم معشر
المخالفين أن تدعوا أنه كان في الأزواج مذكورا رجل غير النساء، أو ذكر
ليس برجل، فيصح التعلق منكم بتغليب المذكر على المؤنث إذ كان في
الجمع ذكر، وإذا لم يمكن ادعاء ذلك وبطل أن يتوجه إلى الأزواج فلا غير
لهن توجهت إليه إلا من ذكرناه ممن جاء فيه الأثر على ما بيناه (2).

(1) سورة الأحزاب: الآية 34.
(2) الفصول المختارة 29 - 31، بحار الأنوار ج 10 ص 424 ح 9.
280

المناظرة السابعة والأربعون
مناظرة الشيخ المفيد (ره) مع بعضهم
سئل (الشيخ المفيد عليه الرحمة) في مجلس الشريف أبي الحسن
أحمد بن القاسم العلوي المحمدي، فقيل له: ما الدليل على أن أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - كان أفضل الصحابة؟
فقال: الدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وآله -: اللهم ائتني
بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، فجاء أمير المؤمنين - عليه
السلام - (1)، وقد ثبت أن أحب الخلق إلى الله عز وجل أعظمهم ثوابا عند
الله تعالى، وأن أعظم الناس ثوابا لا يكون إلا لأنه أشرفهم أعمالا وأكثرهم
عبادة لله تعالى، وفي ذلك برهان على فضل أمير المؤمنين - عليه السلام -
على الخلق كلهم سوى الرسول - صلى الله عليه وآله -.
فقال له السائل: ما الدليل على صحة هذا الخبر، وما أنكرت أن
يكون غير معتمد، لأنه إنما رواه أنس بن مالك وحده، وأخبار الآحاد
ليست بحجة فيما يقطع على الله عز وجل بصوابه؟
فقال الشيخ - آدام الله عزه -: هذا الخبر وإن كان من أخبار الآحاد على
ما ذكرت، من أن أنس بن مالك رواه وحده فإن الأمة بأجمعها قد تلقته
بالقبول، ولم يروا أن أحدا رده على أنس ولا أنكر صحته عند روايته،

(1) تقدمت تخريجات الحديث.
281

فصار الإجماع عليه وهو الحجة في صوابه، ولم يخل ببرهانه كونه من
أخبار الآحاد بما شرحناه، مع أن التواتر قد ورد بأن أمير المؤمنين - عليه
السلام - احتج به في مناقبه يوم الدار (1)، فقال: أنشدكم الله هل فيكم أحد
قال له رسول الله - صلى الله عليه وآله -: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك
يأكل معي من هذا الطائر فجاء أحد غيري؟
قالوا: اللهم لا.
قال: اللهم اشهد، فاعترف الجميع بصحته، ولم يك أمير المؤمنين
- عليه السلام - ليحتج بباطل، لا سيما وهو في مقام المنازعة والتوصل
بفضائله إلى أعلى الرتب التي هي الإمامة والخلافة للرسول - صلى الله عليه
وآله -، وإحاطة علمه بأن الحاضرين معه في الشورى يريدون الأمر دونه،
مع قول النبي - صلى الله عليه وآله -: (علي مع الحق والحق مع علي يدور
حيثما دار) (2) وإذا كان الأمر على ما وصفناه دل على صحة الخبر حسبما
بيناه.
فاعترض بعض المجبرة، فقال: إن احتجاج الشيعة برواية إنس من

(1) قد احتج - عليه السلام - بحديث الطائر في عدة مواطن راجع: الاحتجاج للطبرسي ج 1
ص 124 وص 138، فرائد السمطين ج 1 ص 322 ح 251.
(2) راجع: الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 73 ط مصطفى محمد بمصر و ج 1 ص 68 ط
أخرى، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج 3 ص 119
ح 1162، صحيح الترمذي ج 5 ص 297 ح 3798، فرائد السمطين ج 1 ص 176 - 177
ح 138 - 140، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 10 ص 270، مستدرك الحاكم ج 3
ص 119 و 124، مجمع الزوائد ج 7 ص 235، كنز العمال ج 11 ص 603 ح 32912، الملل
والنحل ج 1 ص 103، تاريخ بغداد ج 14 ص 321، بتفاوت. وقال الرازي في تفسيره ج 1
ص 205: ومن اقتدى بعلي بن أبي طالب - عليه السلام - فقد اهتدى، والدليل عليه قوله - صلى
الله عليه وآله وسلم -: اللهم أدر الحق مع علي حيث دار.
282

أطرف الأشياء وذلك إنهم يعتقدون تفسيق إنس بل تكفيره، فيقولون: إنه
كتم الشهادة في النص حتى دعا عليه أمير المؤمنين - عليه السلام - ببلاء لا
يواريه الثياب، فبرص (1) على كبر السن ومات وهو أبرص، فكيف
يستشهد برواية الكافرين؟ (2)
فقالت المعتزلة: قد أسقط هذا الكلام الرجل ولم يجعل الحجة في
الرواية أنسا، وإنما جعلها الإجماع، فهذا الذي أوردته هذيان وقد تقدم
إبطاله.
فقال السائل: هب أنا سلمنا صحة الخبر ما أنكرت أن لا يفيد ما
ادعيت من فضل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الجماعة؟ وذلك أن

(1) راجع: المعارف لابن قتيبة (في باب البرص) ص 194 وص 391، بحار الأنوار ج 34
ص 287 و ج 37 ص 197 و ج 42 ص 148 و ج 38 ص 351، سفينة البحار للقمي ج 1
ص 47، عبقات الأنوار (حديث الثقلين) ج 2 ص 309، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
ج 19 ص 217 - 218، وقال في ج 4 ص 74 (فصل في ذكر المنحرفين عن علي - عليه
السلام -):
وذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أن عدة من الصحابة والتابعين والمحدثين كانوا
منحرفين عن علي - عليه السلام -، قائلين فيه السوء، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ميلا
مع الدنيا، وإيثارا للعاجلة، فمنهم أنس بن مالك، ناشد علي - عليه السلام - الناس في رحبة
القصر - أو قال: رحبة الجامع بالكوفة -: أيكم سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله - يقول: من
كنت مولاه فعلي مولاه. فقام اثنا عشر رجلا فشهدوا بها، وأنس بن مالك في القوم لم يقم، فقال
له: يا أنس، ما يمنعك أن تقوم فتشهد، ولقد حضرتها؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كبرت ونسيت،
فقال: اللهم إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة. قال طلحة بن عمير: فوالله لقد رأيت
الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه.
وروى عثمان بن مطرف أن رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن علي بن أبي طالب
- عليه السلام -، فقال: إني آليت ألا أكتم حديثا سئلت عنه في علي - عليه السلام - بعد يوم
الرحبة، ذاك رأس المتقين يوم القيامة، سمعته والله من نبيكم.
(2) بل الاعتراض من أطرف الأشياء، لأن المسلم في محله صحة استدلال الخصم في الحجاج
بما يراه المستدل عليه صحيحا، ولا يلزم أن يكون هو عند المستدل أيضا صحيحا.
283

ادعيت من فضل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الجماعة؟ وذلك أن
المعنى فيه: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي، يريد أحب الخلق
إلى الله عز وجل في الأكل معه، دون أن يكون أراد أحب الخلق إليه في
نفسه لكثرة أعماله، إذ قد يجوز أن يكون الله سبحانه يحب أن يأكل مع نبيه
من غيره أفضل منه، ويكون ذلك أحب إليه للمصلحة.
فقال الشيخ - أدام الله عزه -: هذا الذي اعترضت به ساقط، وذلك أن
محبة الله تعالى ليست ميل الطباع، وإنما هي الثواب، كما أن بغضه وغضبه
ليسا باهتياج الطباع، وإنما هما العقاب ولفظ أفعل في أحب وابغض لا
يتوجه إلا إلى معناهما من الثواب والعقاب، ولا معنى على هذا الأصل
لقول من زعم أن أحب الخلق إلى الله عز وجل يأكل مع رسول الله - صلى
الله عليه وآله - توجه إلى محبة الأكل والمبالغة في ذلك بلفظ أفعل، لأنه
يخرج اللفظ عما ذكرناه من الثواب إلى ميل الطباع، وذلك محال في صفة
الله سبحانه.
وشئ آخر: وهو أن ظاهر الخطاب يدل على ما ذكرناه دون ما
عارضت به أن لو كانت المحبة على غير معنى الثواب، لأنه - صلى الله عليه
وآله - قال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر،
وقوله: بأحب خلقك إليك كلام تام، وبعده: يأكل معي من هذا الطائر كلام
مستأنف ولا يفتقر الأول إليه، ولو كان أراد ما ذكرت لقال: اللهم ائتني
بأحب خلقك إليك في الأكل معي، فلما كان اللفظ على خلاف هذا وكان
على ما ذكرناه لم يجز العدول عن الظاهر إلى محتمل على المجاز.
وشئ آخر: وهو أنه لو تساوى المعنيان في ظاهر الكلام لكان
الواجب عليك تحميلهما اللفظ معا دون الاقتصار على أحدهما إلا بدليل،
284

لأنه لا يتنافى الجمع بينهما فيكون أراد بقوله: (أحب خلقك إليك) في
نفسه وللأكل معي، وإذا كان الأمر على ما بيناه سقط اعتراضك.
فقال رجل من الزيدية - كان حاضرا - للسائل: هذا الاعتراض ساقط
على أصلك وأصلنا، لأنا نقول جميعا إن الله تعالى لا يريد المباح، والأكل
مع النبي - صلى الله عليه وآله - مباح وليس بفرض ولا نفل، فيكون الله
يحبه فضلا عن أن يكون بعضه أحب إليه من بعض، وهذا السائل من
أصحاب أبي هاشم فلذلك أسقط الزيدي كلامه على أصله، إذ كان يوافقه
في الأصول على مذهب أبي هاشم.
فخلط السائل هنيئة ثم قال للشيخ - أدام الله عزه -: فأنا أعترض
باعتراض آخر وهو: أن أقول ما أنكرت أن يكون هذا القول إنما أفاد أن عليا
- عليه السلام - كان أفضل الخلق في يوم الطائر، ولكن بم تدفع أن يكون
قد فضله قوم من الصحابة عند الله تعالى بكثرة الأعمال والمعارف بعد
ذلك؟ وهذا الأمر لا يعلم بالعقل، وليس معك سمع في نفس الخبر يمنع
من ذلك، فدل على أنه - عليه السلام - أفضل من الصحابة كلهم إلى وقتنا
هذا، فإنا لم نسألك عن فضله عليهم وقتا بعينه.
فقال الشيخ - أدام الله عزه -: هذا السؤال أوهن مما تقدم، والجواب
عنه أيسر، وذلك أن الأمة مجمعة على إبطال قول من زعم أن أحدا اكتسب
أعمالا زادت على الفضل الذي حصل لأمير المؤمنين - عليه السلام - على
الجماعة، من قبل أنهم بين قائلين:
فقائل يقول: إن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أفضل من الكل في
وقت الرسول - صلى الله عليه وآله - لم يساوه أحد بعد ذلك، وهم: الشيعة
الإمامية، والزيدية، وجماعة من شيوخ المعتزلة، وجماعة من أصحاب
285

الحديث.
و قائل يقول: إنه لم يبن لأمير المؤمنين - عليه السلام - في وقت من
الأوقات فضل على سائر الصحابة يقطع به على الله تعالى ويجزم الشهادة
بصحته، ولا بان لأحد منهم فضل عليه، وهم: الواقفة في الأربعة من
المعتزلة، منهم: أبو علي وأبو هاشم وأتباعهما.
وقائل يقول: إن أبا بكر كان أفضل من أمير المؤمنين - عليه والسلام -
في وقت الرسول - صلى الله عليه وآله - وبعده، وهم: جماعة من المعتزلة،
وبعض المرجئة، وطوائف من أصحاب الحديث.
وقائل يقول: إن أمير المؤمنين - عليه السلام - خرج عن فضله
بحوادث كانت منه فساواه غيره، وفضل عليه من أجل ذلك من لم يكن له
فضل عليه، وهم: الخوارج وجماعة من المعتزلة، منهم: الأصم والجاحظ
وجماعة من أصحاب الحديث أنكروا قتال أهل القبلة، ولم يقل أحد من
الأمة إن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أفضل عند الله سبحانه من
الصحابة كلهم ولم يخرج عن ولاية الله عز وجل ولا أحدث معصية الله
تعالى ثم فضل عليه غيره بعمل زاد به ثوابه على ثوابه، ولا جوز ذلك
فيكون معتبرا، فإذا بطل الاعتبار به للاتفاق على خلافه سقط، وكان
الإجماع حجة يقوم مقام قول الله تعالى في صحة ما ذهبنا إليه، فلم يأت
بشئ.
وذاكرني الشيخ - أدام الله عزه - هذه المسألة بعد ذلك فزادني فيها
زيادة ألحقتها، وهي أن قال: إن الذي يسقط ما اعترض به السائل من تأويل
قول النبي - صلى الله عليه وآله - (اللهم ائتني بأحب خلقك إليك) على
المحبة للأكل معه دون محبته في نفسه بإعظام ثوابه بعد الذي ذكرناه في
286

إسقاطه: أن الرواية جاءت عن أنس بن مالك أنه قال:
لما دعا رسول الله - صلى الله عليه وآله - أن يأتيه الله تعالى بأحب
الخلق إليه، قلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار ليكون لي الفضل بذلك،
فجاء علي - عليه السلام - فرددته، وقلت له: رسول الله على شغل، فمضى
ثم عاد ثانية فقال لي: استأذن على رسول الله - صلى الله عليه وآله -، فقلت
له: إنه على شغل، فجاء ثالثة فاستأذنت له ودخل، فقال له النبي - صلى الله
عليه وآله -: قد كنت سألت الله تعالى أن يأتيني بك دفعتين، ولو أبطأت
علي الثالثة لأقسمت على الله عز وجل أن يأتيني بك.
فلولا أن النبي - صلى الله عليه وآله - سأل الله عز وجل أن يأتيه بأحب
خلقه إليه في نفسه وأعظمهم ثوابا عنده، وكانت هذه من أجل الفضائل لما
آثر أنس أن يختص بها قومه، ولولا أن أنسا فهم ذلك من معنى كلام
الرسول - صلى الله عليه وآله - لما دافع أمير المؤمنين - عليه السلام - عن
الدخول، ليكون ذلك الفضل لرجل من الأنصار فيحصل له جزء منه.
وشئ آخر: وهو أنه لو احتمل معنى لا يقتضي الفضيلة لأمير
المؤمنين - عليه السلام - لما احتج به أمير المؤمنين - عليه السلام - يوم
الدار، ولا جعله شاهدا على أنه أفضل من الجماعة، وذلك أنه لو لم يكن
الأمر على ما وصفناه وكان محتملا لما ظنه المخالفون من أنه سأل ربه
تعالى أن يأتيه بأحب الخلق إليه في الأكل معه لما أمن أمير المؤمنين - عليه
السلام - من أن يتعلق بذلك بعض خصومه في الحال، أو يشتبه ذلك على
إنسان، فلما احتج به - عليه السلام - على القوم واعتمده في البرهان دل
على أنه لم يك مفهوما منه إلا فضله، وكان إعراض الجماعة أيضا عن
دفاعه عن ذلك بتسليم ما ادعى دليلا على صحة ما ذكرناه، وهذا بعينه
287

يسقط قول من زعم أنه يجوز مع إطلاق النبي - صلى الله عليه وآله - في
أمير المؤمنين - عليه السلام - ما يقتضي فضله عند الله تعالى على الكافة
وجود من هو أفضل منه في المستقبل، لأنه لو جاز ذلك لما عدل القوم عن
الاعتماد عليه، ولجعلوه شبهة في منعه مما ادعاه من القطع على نقصانهم
عنه في الفضل، وفي عدول القوم عن ذلك دليل على أن القول مفيد
بإطلاقه فضله - عليه السلام -، ومؤمن من بلوغ أحد منزلته في الثواب
بشئ من الأعمال، وهذا بين لمن تدبره (1).

(1) الفصول المختارة ج 1 ص 64 - 69، بحار الأنوار ج 10 ص 431 ح 12.
288

المناظرة الثامنة والأربعون
مناظرة الشيخ المفيد مع أبي بكر بن صراما
حضر الشيخ المفيد مجلس أبي منصور بن المرزبان وكان بالحضرة
جماعة من متكلمي المعتزلة، فجرى كلام وخوض في
شجاعة الإمام - عليه السلام -.
فقال أبو بكر بن صراما: عندي أن أبا بكر الصديق كان من شجعان
العرب ومتقدميهم في الشجاعة!
فقال الشيخ - أدام الله عزه -: من أين حصل ذلك عندك؟ وبأي وجه
عرفته؟
فقال: الدليل على ذلك أنه رأى قتال أهل الردة وحده في نفر معه،
وخالفه على رأيه في ذلك جمهور الصحابة وتقاعدوا عن نصرته.
فقال: أما والله لو منعوني عقالا لقاتلتهم، ولم يستوحش من اعتزال
القوم له، ولا ضعف ذلك نفسه، ولا منعه من التصميم على حربهم، فلولا
أنه كان من الشجاعة على حد يقصر الشجعان عنه لما أظهر هذا القول عند
خذلان القوم له!
فقال الشيخ - أدام الله عزه -: ما أنكرت على من قال لك: إنك لم تلجأ
إلى معتمد عليه في هذا الباب، وذلك أن الشجاعة لا تعرف بالحس
لصاحبها فقط ولا بادعائها، وإنما هي شئ في الطبع يمده الاكتساب،
والطريق إليها أحد الأمرين: إما الخبر عنها من جهة علام الغيوب المطلع
289

على الضمائر جلت عظمته، فيعلم خلقه حال الشجاع وإن لم يبد منه فعل
يستدل به عليها.
والوجه الآخر: أن يظهر منه أفعال يعلم بها حاله كمبارزة الأقران،
ومقاومة الشجعان، ومنازلة الأبطال، والصبر عند اللقاء، وترك الفرار عند
تحقق القتال، ولا يعلم ذلك أيضا بأول وهلة (1)، ولا بواحدة من الفعل
حتى يتكرر ذلك على حد يتميز به صاحبه ممن حصل له ذلك اتفاقا، أو
على سبيل الهوج (2) والجهل بالتدبير، وإذا كان الخبر عن الله سبحانه
بشجاعة أبي بكر معدوما وكان هذا الفعل الدال على الشجاعة غير موجود
للرجل فكيف يجوز لعاقل أن يدعي له الشجاعة بقول قاله ليس من دلالتها
في شئ عند أحد من أهل النظر والتحصيل؟ لا سيما ودلائل جبنه
وهلعه (3) وخوفه وضعفه أظهر من أن يحتاج فيها إلى التأمل، وذلك أنه لم
يبارز قط قرنا (4) ولا قاوم بطلا ولا سفك بيده دما، وقد شهد مع رسول الله
- صلى الله عليه وآله - مشاهده، فكان لكل أحد من الصحابة أثر في الجهاد
إلا له، وفر في يوم أحد، وانهزم في يوم خيبر، وولى الدبر يوم التقى
الجمعان، وأسلم رسول الله - صلى الله عليه وآله - في هذه المواطن مع ما
كتب الله عز وجل عليه من الجهاد! فكيف تجتمع دلائل الجبن ودلائل
الشجاعة لرجل واحد في وقت واحد لولا أن العصبية تميل بالعبد إلى
الهوى؟

(1) يقال: لقيته أول وهلة أو واهلة أي أول شئ.
(2) الهوج محركة: الطيش والتسرع.
(3) الهلع: الجبن عند اللقاء.
(4) القرن بالكسر: نظيرك في الشجاعة أو العلم.
290

وقال رجل من طياب الشيعة كان حاضرا: عافاك الله أي دليل هذا؟
وكيف يعتمد عليه وأنت تعلم أن الإنسان قد يغضب فيقول: لو سامني
السلطان هذا الأمر ما قبلته، وإن عندنا لشيخا ضعيف الجسم، ظاهر
الجبن، يصلي بنا في مسجدنا فما يحدث أمر يضجره وينكره إلا قال:
والله لأصبرن على هذا أو لأجاهدن فيه ولو اجتمعت فيه ربيعة ومضر!.
فقال: ليس الدليل على الشجاعة ما ذكرت دون غيره، والذي اعتمدنا
عليه يدل كما يدل الفعل والخبر، ووجه الدلالة فيه أن أبا بكر باتفاق لم
يكن مؤوف العقل، ولا غبيا ناقصا، بل كان بالإجماع من العقلاء، وكان
بالاتفاق جيد الآراء، فلولا أنه كان واثقا من نفسه عالما بصبره وشجاعته
لما قال هذا القول بحضرة المهاجرين والأنصار وهو لا يأمن أن يقيم القوم
على خلافه فيخذلونه، ويتأخرون عنه ويعجز هو لجبنه أن لو كان الأمر
على ما ادعيتموه عليه فيظهر منه الخلف في قوله، وليس يقع هذا من عاقل
حكيم، فلما ثبتت حكمة أبي بكر دل مقاله الذي حكيناه على شجاعته كما
وصفناه.
فقال الشيخ - أدام الله عزه -: ليس تسليمنا لعقل أبي بكر وجودة رأيه
تسليما لما ادعيت من شجاعته بما رويت عنه من القول، ولا يوجب ذلك
في عرف ولا عقل ولا سنة ولا كتاب، وذلك أنه وإن كان ما ذكرت من
الحكمة فليس يمنع أن يأتي بهذا القول من جبنه وخوفه وهلعه ليشجع
أصحابه، ويحض (1) المتأخرين عنه على نصرته، ويحثهم على جهاد
عدوه، ويقوي عزمهم في معونته، ويصرفهم عن رأيهم خذلانه،

(1) حضه على الأمر: حمله عليه وأغراه به.
291

وهكذا تصنع الحكماء في تدبيراتهم، فيظهرون من الصبر ما ليس
عندهم، ومن الشجاعة ما ليس في طبائعهم حتى يمتحنوا الأمر وينظروا
عواقبه، فإن استجاب المتأخرون عنهم ونصرهم الخاذلون لهم وكلوا
الحرب إليهم وعقلوا الكلفة بهم، وإن أقاموا على الخذلان واتفقوا على
ترك النصرة لهم والعدول عن معونتهم أظهروا من الرأي خلاف ما سلف،
وقالوا: قد كانت الحال موجبة للقتال، وكان عزمنا على ذلك تاما فلما رأينا
أشياعنا وعامة أتباعنا يكرهون ذلك أوجبت الضرورة إعفاءهم مما
يكرهون، والتدبير لهم بما يؤثرون، وهذا أمر قد جرت به عادة الرؤساء
في كل زمان، ولم يك تنقلهم من رأي إلى رأي مسقطا لأقدارهم عند
الأنام، فلا ينكر أن يكون أبو بكر إنما أظهر التصميم على الحرب لحث
القوم على موافقته في ذلك، ولم يبد لهم جزعه لئلا يزيد ذلك في فشلهم،
ويقوي به رأيهم، واعتمد على أنهم إن صاروا إلى أمره ونجع هذا التدبير
في تمام غرضه فقد بلغ المراد، وإن لم ينجع ذلك عدل عن الرأي الأول!
كما وصفناه من حال الرؤساء في تدبيراتهم، على أن أبا بكر لم يقسم بالله
تعالى في قتال أهل الردة بنفسه، وإنما أقسم بأنصاره الذين اتبعوه على
رأيه، وليس في يمينه بالله سبحانه لينفذن خالدا وأصحابه ليصلوا بالحرب
دليل على شجاعته في نفسه.
وشئ آخر: وهو أن أبا بكر قال هذا القول عند غضبه لمباينة القوم
له، ولا خلاف بين ذوي العقول أن الغضبان يعتريه عند غضبه من هيجان
الطباع ما يفسد عليه رأيه حتى يقدم من القول على ما لا يفي به عند سكون
نفسه، ويعمل من الأعمال ما يندم عليه عند زوال الغضب عنه، ولا يكون
وقوع ذلك منه دليلا على فساد عقله، ووجوب إخراجه عن جملة أهل
292

التدبير، وقد صرح بذلك الرجل في خطبة المشهورة عنه التي لا يختلف
اثنان فيها، وأصحابه خاصة يصولون بها، ويجعلونها من مفاخره، حيث
يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وآله - خرج من الدنيا وليس أحد
يطالبه بضربة سوط فما فوقها وكان - صلى الله عليه وآله - معصوما من
الخطأ، يأتيه الملائكة بالوحي، فلا تكلفوني ما كنتم تكلفونه فإن لي
شيطانا يعتريني عند غضبي، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني، لا أوثر في
أشعاركم وأبشاركم (1) فقد أعذر هذا الرجل إلى القوم فيما يأتيه عند
غضبه من قول وفعل، ودلهم على الحال فيه، فلذلك أمن من نكير
المهاجرين والأنصار عليه مقاله عند غضبه مع إحاطة العلم منهم بما لحقه
في الحال من خلاف المخالفين عليه حتى بعثه على ذلك المقال، فلم يأت بشئ (2).

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) الفصول المختارة ج 1 ص 85 - 89، البحار ج 10 ص 436 ح 13.
293

المناظرة التاسعة والأربعون
مناظرة الشيخ المفيد مع بعضهم ردا على الحشوية والمعتزلة
سأله بعض أصحابه فقال له: إن المعتزلة والحشوية يدعون أن
جلوس أبي بكر وعمر مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في
العريش كان أفضل من جهاد أمير المؤمنين - عليه السلام - (1) بالسيف

(1) وادعى ذلك أيضا الجاحظ أبو عثمان وقال: إن فضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم بدر أعظم من جهاد علي - عليه السلام - ذلك اليوم وقتله
أبطال قريش.
وقد تصدى للرد عليه أبو جعفر الإسكافي كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد في شرح النهج
ج 13 ص 281 وإليك جوابه نصا:
وكيف يقول الجاحظ: لا فضيلة لمباشرة الحرب، ولقاء الأقران، وقتل أبطال الشر ك! وهل
قامت عمد الإسلام إلا على ذلك! وهل ثبت الدين واستقر إلا بذلك! أتراه لم يسمع قول الله
تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) سورة الصف:
الآية 4، والمحبة من الله تعالى هي إرادة الثواب، فكل من كان أشد ثبوتا في هذا الصف، وأعظم
قتالا، كان أحب إلى الله، ومعنى الأفضل هو الأكثر ثوابا، فعلي - عليه السلام - إذا هو أحب
المسلمين إلى الله، لأنه أثبتهم قدما في الصف المرصوص، لم يفر قط بإجماع الأمة، ولا بارزه
قرن إلا قتله.
أتراه لم يسمع قول الله تعالى: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما)،
سورة النساء: الآية 95 وقوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والأنجيل والقرآن)، ثم قال
سبحانه مؤكدا لهذا البيع والشراء: (ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به
وذلك هو الفوز العظيم) سورة التوبة الآية 111، وقال الله تعالى: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ
ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا
إلا كتب لهم به عمل صالح) سورة التوبة: الآية 120.
فمواقف الناس في الجهاد على أحوال، وبعضهم في ذلك أفضل من بعض، فمن دلف إلى
الأقران، واستقبل السيوف والأسنة، كان أثقل على أكتاف الأعداء، لشدة نكايته فيهم، ممن
وقف في المعركة، وأعان ولم يقدم، وكذلك من وقف في المعركة، وأعان ولم يقدم، إلا أنه
بحيث تناله السهام والنبل أعظم عناء، وأفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك، ولو كان الضعيف
والجبان يستحقان الرياسة بقلة بسط الكف وترك الحرب، وأن ذلك يشاكل فعل النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم -، لكان أوفر الناس حظا في الرياسة، وأشدهم لها استحقاقا حسان بن
ثابت، وإن بطل فضل علي - عليه السلام - في الجهاد، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان
أقلهم قتالا، كما زعم الجاحظ ليبطلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الأنفاق، لأن رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - كان أقلهم مالا!... الخ.
294

لأنهما كانا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مستقره يدبران الأمر
معه ولولا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه، فبأي
شئ يدفع هذا؟
فقال له الشيخ - أدام الله عزه -: سبيل هذا القول أن يعكس وهذه
القصة أن تقلب وذلك أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لو علم أنهما لو
كانا في جملة المجاهدين بأنفسهما يبارزان الأقران ويقتلان الأبطال
ويحصل لهما جهاد يستحقان به الثواب، لما حال بينهما وبين هذه المنزلة
التي هي أجل وأشرف وأعلى وأسنى من القعود على كل حال بنص
الكتاب حيث يقول الله سبحانه: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير
أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله
المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله
الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) (1).
فلما رأينا الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قد منعهما هذه

(1) سورة النساء: الآية 95.
295

الفضيلة وأجلسهما معه، علمنا أن ذلك لعلمه بأنهما لو تعرضا للقتال أو
عرضا له لأفسدا، إما بأن ينهزما أو يوليا الدبر، كما صنعا في يوم أحد (1)،
وخيبر (2)، وحنين (3)، فكان يكون في ذلك عظيم الضرر على المسلمين
ولا يؤمن وقوع الوهن فيهم بهزيمة شيخين من جملتهم، أو كانا لفرط ما

(1) فرار أبي بكر يوم أحد:
راجع: شرح نهج البلاغة ج 13 ص 293، طبقات ابن سعد ج 2 ص 46 - 47، السيرة النبوية
لابن كثير ج 3 ص 58، تاريخ الخميس ج 1 ص 431، البداية والنهاية ج 4 ص 29، كنز العمال
ج 10 ص 268 وص 269.
فرار عمر يوم أحد:
راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 15 ص 20 وص 23 وص 24، حياة محمد
لهيكل ص 265، كنز العمال ج 2 ص 242، حياة الصحابة ج 3 ص 497، المغازي للواقدي ج 1
ص 199، الكامل في التاريخ ج 2 ص 148.
وقال الفخر الرازي في تفسيره ج 9 ص 50 في ذيل تفسير قوله تعالى: (إن الذين تولوا
منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) سورة آل عمران: الآية
155، قال: ومن المنهزمين - يعني يوم أحد - عمر، إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين...
ومنهم: عثمان، انهزم مع رجلين من الأنصار يقال لهما: سعد وعقبة، انهزموا حتى بلغوا
موضعا بعيدا، ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: لقد ذهبتم
فيها عريضة.
(2) فرار أبي بكر وعمر يوم خيبر:
راجع: أسد الغابة ج 4 ص 21، مسند أحمد ج 6 ص 353، البداية والنهاية ج 4 ص 186،
مجمع الزوائد ج 9 ص 122 وص 124، الكامل لابن الأثير ج 2 ص 216، المستدرك للحاكم
ج 3 ص 37.
(3) فرار أبي بكر يوم حنين:
راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 13 ص 293، الصحيح من سيرة النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - ج 3 ص 282.
فرار عمر يوم حنين:
راجع: صحيح البخاري ج 6 ص 80، كتاب التفسير باب قوله تعالى: (ويوم حنين إذ
أعجبتكم كثرتكم) سورة التوبة: الآية 25، سيرة المصطفى لهاشم معروف الحسيني ص 618.
296

يلحقهما من الخوف والجزع يصيران إلى أهل الشرك مستأمنين أو غير
ذلك من الفساد الذي يعلمه الله تعالى، ولعله لطف للأمة بأن أمر نبيه - صلى
الله عليه وآله وسلم - بحبسهما عن القتال.
فأما ما توهموه من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما فقد ثبت أنه كان
كاملا وأنهما كانا ناقصين عن كماله، وكان معصوما وكانا غير معصومين،
وكان مؤيدا بالملائكة وكانا غير مؤيدين، وكان يوحى إليه وينزل القرآن
عليه ولم يكونا كذلك، فأي فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما لولا عمى
القلوب وضعف الرأي وقلة الدين، والذي يكشف لك عن صحة ما ذكرناه
آنفا في وجه إجلاسهما معه في العريش قول الله سبحانه: (إن الله اشترى
من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله
فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والأنجيل والقرآن) (1).
فلا يخلو الرجلان من أن يكونا مؤمنين أو غير مؤمنين، فإن كانا
مؤمنين، فقد اشترى الله أنفسهما منهما بالجنة، على شرط القتال المؤدي
إلى القتل منهما لغيرهما أو قتل غيرهما لهما، ولو كانا كذلك لما حال النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم - بينهما وبين الوفاء بشرط الله عليهما من القتل،
وفي منعهما من ذلك دليل على أنهما بغير الصفة التي يعتقدها فيهما
الجاهلون، فقد وضح بما بيناه أن العريش وبال عليهما ودليل على
نقصهما وأنه بالضد مما توهموه لهما والمنة لله (2).

(1) سورة التوبة: الآية 111.
(2) الفصول المختارة ص 14 - 16، بحار الأنوار ج 10 ص 417 ح 7.
297

المناظرة الخمسون
مناظرة المفيد (ره) مع شيخ من المعتزلة
وذكرت بحضرة الشيخ أبي عبد الله - أدام الله عزه - ما ذكره أبو جعفر
محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي - رحمه الله - في كتاب
(الأنصاف) حيث ذكر أن شيخا من المعتزلة أنكر أن تكون العرب تعرف
المولى سيدا وإماما، قال: فأنشدته قول الأخطل (1):
فما وجدت فيها قريش لأمرها * أعف وأولى من أبيك وأمجدا
وأورى بزنديه ولو كان غيره * غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا
فأصبحت مولاها من الناس كلهم * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
قال أبو جعفر: فأسكت الشيخ كأنما ألقم حجرا، وجعلت أستحسن
ذلك.
فقال لي الشيخ أبو عبد الله - أدام الله عزه -: قد قال لي أيضا شيخ من
المعتزلة: إن الذي تدعونه من النص الجلي على أمير المؤمنين - عليه
السلام - شئ حادث، ولم يك معروفا عند متقدمي الشيعة ولا اعتمده
أحد منهم وإنما بدأ به وادعاه ابن الراوندي في كتابه في الإمامة، وناضل
عليه ولم يسبقه إليه أحد، ولو كان معروفا فيما سلف لما أخل السيد
إسماعيل بن محمد (2) - رحمه الله - به في شعره ولا ترك ذكره في نظمه مع

(1) هو أبو مالك غياث بن غوث التغلبي، من شعراء الدولة الأموية البارزين مات سنة 92 ه‍.
(2) هو السيد الحميري، الشاعر الطائر الصيت المولود سنة 105 والمتوفى سنة 3 17 أو
سنة 179. صاحب القصيدة المشهورة:
لأم عمرو باللوى مربع * طامسة أعلامها بلقع
من أصحاب الصادق - عليه السلام -، ومن شعراء أهل البيت - عليهم السلام - المجاهرين،
حاله في الجلالة ظاهر، ومجده باهر، قال العلامة في حقه: ثقة جليل القدر عظيم الشأن
والمنزلة، وكان في بدء الأمر كيسانيا ثم إماميا، وقيل له كيف تشيعت وأنت شامي حميري
فقال: صبت علي الرحمة صبا فكنت كمؤمن آل فرعون، وروي أن الصادق - عليه السلام - لقاه،
فقال: سمتك أمك سيدا ووفقت في ذلك أنت سيد الشعراء، وقيل إن له في أهل البيت - عليهم
السلام - نحو الفين وثلاثمائة قصيدة.
انظر ترجمته في تنقيح المقال للمامقاني ج 1 ص 142 - 144، سفينة البحار ج 1 ص 335 - 337.
298

إغراقه في ذكر فضائل أمير المؤمنين - عليه السلام - ومناقبه حتى تعلق
بشاذ الحديث وأورد من الفضائل ما لا نسمع به إلا منه، فما باله إن كنتم
صادقين لم يذكر النص الجلي ولا اعتمده في شئ من مقاله وهو الأصل
المعول عليه لو ثبت.
فقلت له: قد ذهب عنك أيها الشيخ مواضع مقاله في ذلك لعدولك
عن العناية برواية شعر هذا الرجل، ولو كنت ممن صرف همته إلى تصفح
قصائده لعرفت ما ذهب عليك من ذلك، وأسكنتك المعرفة به عن
الاعتماد على ما اعتمدته من خلو شعره على ما وصفت في استدلالك
بذلك، وقد قال السيد إسماعيل بن محمد - رحمه الله - في قصيدته الرائية
التي يقول في أولها:
ألا الحمد لله حمدا كثيرا * ولي المحامد ربا غفورا
حتى انتهى إلى قوله:
وفيهم علي وصي النبي * بمحضرهم قد دعاه أميرا
وكان الخصيص به في الحياة * وصاهره واجتباه عشيرا (1).

(1) ديوان السيد الحميري ص 224، رقم القصيدة: 78 باختلاف في البيت الثاني والمذكور
هكذا.
علي إمام وصي النبي * بمحضره قد دعاه أميرا
والبيت الأول قد ذكر في ص 210 قصيدة رقم: 75، راجع: مناقب ابن شهرآشوب ج 3
ص 56، أعيان الشيعة ج 3 ص 423.
299

أفلا ترى أنه قد أخبر في نظمه أن رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - دعا عليا - عليه السلام - في حياته بإمرة المؤمنين واحتج بذلك فيما
ذكره من مناقبه - عليه السلام - فسكت الشيخ وكان منصفا (1).

(1) الفصول المختارة ص 4 - 5.
300

المناظرة الحادية والخمسون
مناظرة الشيخ المفيد (ره) مع الرماني (1)
يروى: أنه حضر لأول مرة درس أستاذه علي بن عيسى الرماني،
فقام رجل من البصرة وسأل الرماني عن خبر الغدير والغار.
فقال له الرماني: إن حديث الغار دراية، وخبر الغدير رواية،
والرواية لا توجب ما توجبه الدراية، فسكت البصري ولم يكن عنده
شئ.
فلما خف المجلس تقدم المفيد إلى الرماني، ولم يكن يعرفه قبل
هذا، وسأله عمن قاتل الإمام العادل.
فقال الرماني: إنه كافر (2)، ثم استدرك، فقال: إنه فاسق.

(1) هو: أبو الحسن علي بن عيسى الرماني من شيوخ المعتزلة البارزين ولد سنة 6 29، عد من
مشايخ الشيخ المفيد (ره)، كان من أهل المعرفة، مفننا في علوم كثيرة، من الفقه والقرآن،
والنحو واللغة والكلام على مذهب المعتزلة، قال عنه الذهبي: وكان يتشيع ويقول علي أفضل
الصحابة، وأصله من سر من رأى، مات ببغداد سنة 384.
انظر ترجمته في: تاريخ بغداد ج 12 ص 16 - 17 ترجمة رقم: 6377، سير أعلام النبلاء
للذهبي ج 16 ص 533 - 534، لسان الميزان ج 4 ص 248.
(2) وقد وردت أحاديث كثيرة في من قاتل عليا عليه السلام منها:
عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: من ناصب عليا
الخلافة بعدي فهو كافر وقد حارب الله ورسوله، ومن شك في علي فهو كافر. المناقب لابن
المغازلي ص 46 ح 68.
وروي عنه - صلى الله عليه وآله وسلم -: من قاتل عليا على الخلافة فاقتلوه كائنا من كان.
ينابيع المودة للقندوزي ص 181.
301

فقال المفيد: ما تقول في علي بن أبي طالب - عليه السلام - ويوم
الجمل وطلحة والزبير؟
فقال الرماني: إنهما تابا.
فقال: أما خبر الجمل فدراية، وخبر التوبة فرواية، فأفحم الرماني،
ولم يأت بشئ، غير أنه قال له: كنت حاضرا عند سؤال البصري؟
قال: نعم.
ثم دخل الرماني المنزل، وجاء برقعة مختومة، وقال له: أوصلها إلى
من اتصلت به، وهو أبو عبد الله البصري المعروف (بجعل) فلما وقف
عليها جعل يبتسم، وسأل المفيد عما جرى بينهما فأعاد عليه القصة،
فقال: إنه كتب إلي بذلك وقد لقبك بالمفيد (1).

(1) مجموعة الشيخ ورام ص 456 و ج 2 ص 302 ط طهران، منتهى المقال ص 292.
302

المناظرة الثانية والخمسون
مناظرة الشيخ المفيد (ره) مع بعض مشايخ العباسيين في سامراء (1)
حضر الشيخ أبو عبد الله المفيد - أيده الله - بسر من رأى، واحتج
عليه من العباسيين وغيرهم جمع كثير.
فقال له بعض مشايخ العباسيين: أخبرني من كان الإمام بعد رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟
فقال له: كان الإمام من دعاه العباس إلى أن يمد يده لبيعته على حرب
من حارب وسلم من سالم.
فقال له العباسي: ومن هذا الذي دعاه العباس إلى ذلك؟
فقال له الشيخ: هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -

(1) سامراء: جاء في الراصد: وهي المدينة التي أنشأها المعتصم - بين بغداد وتكريت - وهو على
دجلة من شرقيها - تحت تكريت - وحين انتقل المعتضد عتها وسكن بغداد خربت، ولم يبقى
منها الآن إلا يسير، ولها أخبار طويلة، والباقي منها الآن موضع يسمى بالعسكر، كان - الإمام -
علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر - عليهم السلام - وابنه - الإمام - الحسن بن علي
- عليه السلام - وهما المعسكران يسكنان به فنسبا إليه وبه دفنا، وعليهما مشهد يزار فيه.
وروي في أمالي الطوسي: عن الإمام الهادي - عليه السلام - قال: أخرجت إلى سر من رأى
كرها ولو أخرجت منها أخرجت كرها، قيل ولم يا سيدي؟ قال: لطيب هوائها وعذوبة مائها
وقلة دائها.
وروي في سبب تسميتها سر من رأى: أنه لما شرع في بنائها المعتصم ثقل ذلك على
عسكره فلما انتقل بهم إليها سر كل منهم برؤيتها فلزمها هذا الاسم أي سر من رأى، وسامراء:
لغة في سر من رأى.
أنظر: مراصد الاطلاع ج 2 ص 684 - 685، سفينة البحار ج 1 ص 614 - 615.
303

حيث قال له العباس في اليوم الذي قبض فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - بما اتفق عليه أهل النقل: أبسط يدك يا بن أخ أبايعك فيقول الناس:
عم رسول الله بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان (1).
فقال له شيخ من فقهاء أهل البلد: فما كان الجواب من علي؟
فقال: كان الجواب أن قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عهد
إلي أن لا أدعو أحدا حتى يأتوني، ولا أجرد سيفا حتى يبايعوني، ومع هذا
فلي برسول الله شغل.
فقال العباسي: فقد كان العباس - رحمه الله - إذن على خطأ في دعائه
له إلى البيعة.
فقال له الشيخ: لم يخطئ العباس فيما قصد لأنه عمل على الظاهر
وكان عمل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الباطن وكلاهما أصاب الحق
ولم يخطئه والحمد لله رب العالمين.
فقال له العباسي: فإن كان علي بن أبي طالب هو الإمام بعد النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم - فقد أخطأ أبو بكر وعمر ومن اتبعهما وهذا
أعظم في الدين.
فقال له الشيخ: لست أنشط الساعة للفتيا بتخطئة أحد، وإنما أجبتك
عن شئ سألت عنه، فإن كان صوابا وضمن تخطئة إنسان فلا تستوحش
من اتباع الصواب، وإن كان باطلا فتكلم على إبطاله فهو أولى من التشنيع
بما لا يجدي نفعا، مع أنه إن استعظمت تخطئة من ذكرت فلا بد لك من
تخطئة علي والعباس من قبل أنهما قد تأخرا عن بيعة أبي بكر ولم يرضيا

(1) راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 10 ص 253، الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1
ص 12.
304

بتقدمه عليهما، ولا عملا له ولصاحبه عملا ولا تقلدا لهما ولاية ولا رآهما
أبو بكر ولا عمر أهلا أن يشركاهما في شئ من أمورهما، وخاصة ما
صنعه عمر بن الخطاب فإنه ذكر من يصلح للإمامة في الشورى ومن
يصلح للنظر في الاختيار فلم يذكر العباس من إحدى الطائفتين، ولما ذكر
عليا - عليه السلام - عابه ووصفه بالدعابة تارة وبالحرص على الدنيا أخرى
وأمر بقتله إن خالف عبد الرحمن بن عوف وجعل الحق، في حين عبد
الرحمن دونه وفضله عليه.
هذا وقد أخذ منه ومن العباس ومن جميع بني هاشم الخمس الذي
جعله الله تعالى لهم وأرغمهم فيه وحال بينهم وبينه، وجعله في السلاح
والكراع، فإن كنت أيها الشريف تنشط للطعن على علي والعباس
بخلافهما الشيخين بكراهتهما لإمامتهما وتأخرهما عن بيعتهما وترى من
العقد فيهما ما سنه الشيخان من أمرهما في التأخير لهما عن شريف
المنازل والغض منهما والحط من أقدارهما فصر إلى ذلك فإنه الضلال
بغير شبهة، وإن كنت ترى ولايتهما والتعظيم لهما والاقتداء بهما فاسلك
سبيلهما ولا تستوحش من تخطئة من خالفهما، وليس ها هنا منزلة ثالثة.
فقال العباسي عند سماع هذا الكلام: اللهم أنت تحكم بين عبادك
فيما كانوا فيه يختلفون (1).

(1) الفصول المختارة: ص 277 - 279، بحار الأنوار ج 10 ص 451 ح 18.
305

المناظرة الثالثة والخمسون
مناظرة الكراجكي مع رجل من العامة
قال الشيخ الكراجكي (1) - أعلى الله مقامه -:
سألني رجل من أهل الخلاف فقال: إنا نراكم معشر الشيعة تكثرون
القول بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - أفضل من أبي
بكر وعمر وعثمان، وتناظرون على ذلك، وترددون هذا الكلام، وإطلاق
هذا اللفظ منكم يضاد مذهبكم، ويناقض معتقدكم، ولستم تعلمون أن
التفضيل بين الشيئين لا يكون إلا وقد شمل الفضل لهما، ثم زاد في الفضل
أحدهما على صاحبه، وأن ذلك لا يجوز مع تعري أحدهما من خلال
الفضل على كل حال، لم جهلتم ذلك من معنى الكلام؟ فإن زعمتم أن لأبي

(1) هو: أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان المعروف بالكراجكي، من أجلاء علماء وفقهاء
ورؤساء الشيعة في حلب، له عدة كتب منها عدة المصير في صحيح الغدير، التلقين لأولاد
المؤمنين، ردع الحاصل وتنبيه الغافل، نهج البيان في مناسك النسوان، روضة العابدين، كنز
الفوائد، وغيرها، وكان جوالا بين دمشق وبغداد وحلب وطبرية وصيدا وصور وطرابلس،
ومن شيوخه: الشيخ المفيد والشريف المرتضى وغيرهم من أجلة العلماء، ومن تلاميذه:
المفيد النيسابوري، وعبد العزيز الطرابلسي وغيرهما.
والكراجكي من أئمة عصره في الفقه والكلام والفلسفة والطب والفلك والرياضيات
وغيرها من العلوم، قال عنه العماد الحنبلي: كان نحويا لغويا، منجما طبيبا متكلما متقنا، من
كبار أصحاب الشريف المرتضى، وتوفي في حوادث سنة 499 ه‍.
راجع ترجمته في: شذرات الذهب ج 3 ص 283 في حوادث سنة 499 ه‍، سير أعلام
النبلاء ج 18 ص 121، لسان الميزان ج 5 ص 300، مرآة الجنان ج 3 ص 69 - 70.
306

بكر وعمر وعثمان قسطا من الفضل يشملهم به، يصح به القول أن أمير
المؤمنين - عليه السلام - أفضلهم، تركتم مذهبكم وخالفتم سلفكم، وإن
مضيتم على أصلكم ونفيتم عنهم جميع خلال الفضل على ما عهد من
قولكم لم يصح القول بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - أفضل منهم.
فقلت له: ليس في إطلاق أن القول بأن أمير المؤمنين - عليه السلام -
أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ما يوجب على قائله ما ذكرتم في السؤال.
والشيعة أعرف من خصومهم بمواقع الألفاظ ومعاني الكلام،
وذلك: أن التفضيل، وإن كان كما وصفت يكون بين الشيئين إذا اشتركا في
الفضل وزاد أحدهما على الآخر فيه، فقد يصح أيضا فيهما إذا اختص
بالفضل أحدهما، وعرى الآخر منه، ويكون معنى قول القائل: هذا أفضل
من هذا، أنه الفاضل دونه، وأن الآخر لا فضل له، وليس في هذا خروج عن
لسان العرب، ولا مخالفة لكلامها، وكتاب الله تعالى يشهد به، وأن أشعار
المتقدمين يتضمنه، قال الله جل اسمه: (أصحاب الجنة يومئذ خير
مستقرا وأحسن مقيلا) (1).
يعني أنهم خير من أصحاب النار، وقد علم أن أصحاب النار
أصحاب شر، ولا خير فيهم. ووصف النار في آية أخرى فقال: (بل كذبوا
بالساعة واعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا، إذا رأتهم من كان بعيد
سمعوا لها تغيظا وزفيرا) إلى قوله (وادعوا ثبورا) (2) ثم قال: (قل أذلك
خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون، كانت لهم جزاء
ومصيرا) (3). فذكر سبحانه أن الجنة وما أعد فيها خير من النار، ونحن

(1) سورة الفرقان: الآية 24.
(2) سورة الفرقان: الآية 11 - 14.
(3) سورة الفرقان: الآية 15.
307

ومصيرا) (1) فذكر سبحانه أن الجنة وما أعد فيها خير من النار، ونحن
نعلم أنه لا خير في النار.
وقال تعالى في آية أخرى: (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار
وعدها الله الذين كفروا، وبئس المصير) (2). وقال: (وهو أهون
عليه) (3).
والمعنى في ذلك هين، لأن شيئا لا يكون أهون على الله من شئ،
فكذلك قولنا: هذا أفضل، يكون المراد به هذا الفاضل.
وليس بعد إيراد هذه الآيات لبس في السؤال يعترض العاقل، وقد
قال حسان بن ثابت في رجل هجا سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - من المشركين:
هجوت محمدا برا تقيا * وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفؤ * فشركما لخيركما فداء (4).
وقد علمنا أنه لا شر في النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا خير
فيمن هجاه.
وقال غيره من الجاهلية:
خالي بنو أنس وخال سراتهم * أوس، فأيهما أدق وألأم
يريد فأيهما الدقيق واللئيم، وليس المعنى فيه أن الدقة واللؤم قد
اشتملا عليهما ثم زاد أحدهما على صاحبه فيهما.

(1) سورة الفرقان: الآية 15.
(2) سورة الحج: الآية 72.
(3) سورة الروم: الآية 27.
(4) ديوان حسان بن ثابت ص 9، من قصيدة يمدح فيها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل فتح
مكة ويهجو أبا سفيان.
308

وعلى هذا المعنى فسر عثمان بن الجني (1) قول المتنبي:
أعق خليليه الصفيين لائمه.
وأنهما لم يشتركا في العقوق ثم زاد أحدهما على الآخر صاحبه فيه،
مع كونهما خليلين صفيين، وإنما المراد إن الذي يستحيل منهما عن
الصفا، فيصير عاقا لائمه.
والشواهد في ذلك كثيرة، وفيما أوردته منها كفاية في إبطال ما
ألزمت، ودلالة على أن الشيعة في قولها إن أمير المؤمنين - عليه السلام -
أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان، لم تناقض لها مذهبا، ولا خالفت
معتقدا، وإن المراد بذلك أنه الفاضل دونهم، والمختص بهذا الوصف
عنهم، فتأمل ذلك تجده صحيحا، والحمد لله.
على أن من الشيعة من امتنع من إطلاق هذا المقال عند تحقيق
الكلام، ويقول في الجملة: إنه - عليه السلام - بعد رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - أفضل الناس، فسؤالك ساقط عنه، إذ كان لا يلفظ بما
ذكرته إلا على المجاز.
فلما سمع السائل الجواب اعترف بأنه الصواب، ولم يزد حرفا في
هذا الباب، والحمد لله على خيرته من خلقه سيدنا محمد رسوله وآله
الطيبين الطاهرين وسلامه وبركاته (2).

(1) أبو الفتح عثمان بن جني ولد ونشأ في الموصل وسكن وتوفي ببغداد عام (392 ه‍)، من
أكابر علماء النحو والصرف والأدب وهو من أساتذة الشريفين الرضي والمرتضى، وله
مؤلفات عديدة ومنها شرح ديوان المتنبي
(2) كنز الفوائد للكراجكي ج 2 ص 57.
309

المناطرة الرابعة والخمسون
مناظرة ابن أبي الحديد المعتزلي (1) مع أبي جعفر يحيى بن محمد
العلوي
قال بن أبي الحديد:
سألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة، وقت قراءتي
عليه، عن هذا الكلام، وكان - رحمه الله - على ما يذهب إليه من مذهب
العلوية منصفا وافر العقل، فقلت له: من يعني - عليه السلام - بقوله: "

(1) هو: عبد الحميد أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد عز
الدين المدائني، أحد جهابذة العلماء، وإثبات المؤرخين، كان فقهيا أصوليا، ومتكلما جدليا
نظارا، وكان مذهبه الاعتزال كما شهد لنفسه في إحدى قصائده في مدح أمير المؤمنين - عليه
السلام -:
ورأيت دين الاعتزال وأنني * أهوى لأجلك كل من يتشيع
وعلى أساسه جادل وناظر، وحاج وناقش، وله مع الأشعري والغزالي والرازي كتب
ومواقف، وكان أديبا ناقدا، ثاقب النظر خبيرا بمحاسن الكلام ومساوئه، متضلعا في فنون
الأدب، متقنا لعلوم اللسان، عارفا بأخبار العرب، مطلعا على لغاتها، جامعا لخطبها
ومنافراتها، راويا لأشعارها وأمثالها، قارئا مستوعبا لكل ما حوته الكتب والأسفار في زمانه،
ولد بالمدائن سنة 586 ه‍، ونشأ بها وتلقى عن شيوخها، ودرس المذاهب الكلامية فيها، ثم
مال إلى مذهب الاعتزال منها، ثم ارتحل إلى بغداد، واختلط بالعلماء من أصحاب المذاهب،
وكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفتي وكان حظيا عند الوزير ابن العلقمي وكما فوض
إليه أمر خزائن الكتب، وله عدة مصنفات منها: شرح نهج البلاغة، الاعتبار، ديوان شعر،
العبقري الحسان، القصائد السبع العلويات، المستنصريات، الوشاح الذهبي في العلم الأبي،
وغيرها، توفي سنة 655 ه‍، وقيل سنة 656 ه‍.
راجع ترجمته في: مقدمة شرح نهج البلاغة تحقيق محمد أبو الفضل، وفيات الأعيان ج 5
ص 391 - 392، البداية والنهاية ج 13 ص 199، سفينة البحار ج 1 ص 233.
310

كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين)؟ (1)
ومن القوم الذين عناهم الأسدي بقوله: (كيف دفعكم قومكم عن هذا
المقام وأنتم أحق به)؟ هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى؟
فقال: يوم السقيفة.
فقلت: إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ودفع النص.
فقال: وأنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول - صلى الله
عليه وآله وسلم - إلى إهمال أمر الإمامة، وأن يترك الناس فوضى سدى
مهملين، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميرا وهو حي
ليس بالبعيد عنها، فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث!
ثم قال: ليس يشك أحد من الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - كان عاقلا كامل العقل، أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم، وأما
اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون أنه حكيم تام الحكمة (2)، سديد
الرأي، أقام ملة، وشرع شريعة، فاستجد ملكا عظيما بعقله وتدبيره، وهذا

(1) نهج البلاغة للإمام علي - عليه السلام - من كلام له برقم: 161، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ج 9 ص 241.
(2) تنصيب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لأمير المؤمنين علي - عليه السلام - في نظر
الإمامية وحي من الله تعالى، فإن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كما قال تعالى عنه: (وما
ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) سورة النجم: الآية 3 و 4، وأما هذا الجواب الذي
ذكره العلوي فهو جواب لمن لا يعتقد بعصمته، أو لا يعتقد بنبوته كاليهود والنصارى الذين
يرونه حكيما من الحكماء، أو ملكا من الملوك، فالمناظر هنا يريد أن يثبت في استدلاله أنه
حتى لو لم يكن نبيا بل كان ملكا أو حكيما فإنه لا بد أن ينصب علي بن أبي طالب - عليه
السلام - للأمور المذكورة وغيرها، فإذا تم هذا فمن باب أولى بالنسبة لمن يعتقد بنبوته
وعصمته أن يعتقد بوجوب النص على أمير المؤمنين - عليه السلام -.
311

الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبهم بالثارات
والذحول ولو بعد الأزمان المتطاولة، ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من
بيت آخر، فلا يزال أهل ذلك المقتول وأقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه،
حتى يدركوا ثأرهم منه، فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه وأهله، فإن لم
يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة به وإن لم يكونوا
رهطه الأدنين، والإسلام لم يحل طبائعهم، ولا غير هذه السجية المركوزة
في أخلاقهم، والغرائز بحالها، فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل
وتر العرب، وعلى الخصوص قريشا، وساعده على سفك الدماء وإزهاق
الأنفس وتقلد الضغائن ابن عمه الأدنى وصهره، وهو يعلم أنه سيموت
كما يموت الناس، ويتركه بعده وعنده ابنته، وله منها ابنان يجريان عنده
مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما، ومحبة لهما، ويعدل عنه في الأمر
بعده، ولا ينص عليه ولا يستخلفه، فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه
! ألا يعلم هذا العاقل الكامل، أنه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية،
فقد عرض دماءهم للإراقة بعده، بل يكون هو - صلى الله عليه وآله وسلم -
هو الذي قتله، وأشاط (1) بدمائهم، لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم،
وإنما يكونون مضغة للأكل، وفريسة للمفترس، يتخطفهم الناس، وتبلغ
فيهم الأغراض!
فأما إذا جعل السلطان فيهم، والأمر إليهم، فإنه يكون قد عصمهم
وحقن دماءهم بالرياسة التي يصولون بها، ويرتدع الناس عنهم لأجلها
ومثل هذا معلوم بالتجربة، ألا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو
قتل الناس ووترهم، وأبقي في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه، ثم أهمل

(1) أشاط بدمائهم: أهدرها أو عمل على هلاكها.
312

أمر ولده وذريته من بعده، وفسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم،
وواحدا منهم، وجعل بنيه سوقة كبعض العامة، لكان بنوه بعده قليلا
بقاؤهم، سريعا هلاكهم، ولوثب عليهم الناس ذوو الأحقاد والترات من
كل جهة، يقتلونهم ويشردونهم كل مشرد، ولو أنه عين ولدا من أولاده
للملك، وقام خواصه وخدمه وخوله بأمره بعده، لحقنت دماء أهل بيته،
ولم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك، وأبهة السلطنة، وقوة
الرئاسة، وحرمة الأمارة!
أفترى ذهب عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا المعنى،
أم أحب أن يستأصل أهله وذريته من بعده! وأين موضع الشفقة على
فاطمة العزيزة عنده، الحبيبة إلى قلبه!
أتقول: إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة، تتكفف
الناس، وأن يجعل عليا، المكرم المعظم عنده، الذي كانت حاله معه
معلومة، كأبي هريرة الدوسي، وأنس ابن مالك الأنصاري، يحكم الأمراء
في دمه وعرضه ونفسه وولده، فلا يستطيع الامتناع، وعلى رأسه مائة ألف
سيف مسلول، تتلظى أكباد أصحابها عليه، ويودون أن يشربوا دمه
بأفواههم، ويأكلوا لحمه بأسنانهم، قد قتل أبناءهم وإخوانهم وآباءهم
وأعمامهم، والعهد لم يطل، والقروح لم تتقرف (1)، والجروح لم
تندمل (2)!

(1) تقرف الجرح: طلعت فوقه قشرة، أي شارف البرء.
(2) وهذا ما حصل بالفعل فإنه بعد ما غصبوهم الخلافة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - أغاروا على ذريته وعترته وأول ما لحق الأذى بفاطمة الزهراء - عليها السلام - بضعته
وروحه التي بين جنبيه حتى كسروا ضلعها وأسقطوا جنينها بين الحائط والباب وغصبوها
نحلتها، حتى فارقت الدنيا وملوء قلبها الحزن والأسى، ودفنت ليلا لئلا يشهد جنازتها من
ظلمها وآذاها، وأعفي قبرها، وأغاروا كذلك على أمير المؤمنين - عليه السلام - وقادوه للبيعة
وفي عنقه الحبل، وقد قال وهو يشير إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وآله -: (يا بن أم إن القوم
استضعفوني وكادوا يقتلونني) انظر شرح النهج لابن أبي الحديد ج 11 ص 111.
وأصبح جليس داره خمس وعشرين سنة صابرا محتسبا يرى تراثه نهبا حتى قاسى
الدواهي العظام والمحن الجسام ومن ذلك حرب الجمل وصفين والنهروان، كل ذلك حسدا
وبغضا وكراهية له، وما فعله بصناديدهم يوم بدر وحنين، كما صرح بذلك أعداؤه ومبغضوه،
إلى أن مضى قتيلا على يد بن ملجم المرادي، ومن بعده ابنه الحسن - عليه السلام - غدروا به
حتى جرعوه السموم، ومنعوا دفنه عند جده المصطفى - صلى الله عليه وآله - ثم جرت أعظم
الدواهي والمصائب على ذريته فقتلوا سبطه الحسين وأهل بيته - عليهم السلام - وسبوا نسائه
وأولاده من بلد إلى بلد.
فراحت ذريته تقاسي ألوان العذاب والتشريد والقتل من بني أمية وبني العباس وغيرهم.
فكل ما جرى على أهل البيت - عليهم السلام - هو بسبب غصبهم الخلافة وتنحيتهم عنها،
ولو كانت الخلافة في يد أهلها لما جرى عليهم ما جرى ولم يجري على الأمة ما جرى من
الفرقة والاختلاف والنزاع والفتن وليس هذا فحسب بل كل ما ابتليت به الأمة من محن وفقر
وبلاء وذل وغير ذلك هو بسبب تركهم من اختاره الله ونصبه خليفة لرسوله - صلى الله عليه وآله
وسلم - قال تعالى: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) الجن: الآية 16،
وقال تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن
كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) الأعراف: الآية 96، ولهذا المعنى يشير سلمان الفارسي
في قوله: ولكن أبيتم فوليتموها - أي الخلافة - غيره فأبشروا بالبلايا واقنطوا من الرخاء
(الاحتجاج ج 1 ص 111) وأشار إلى هذا المعنى أيضا أبو ذر في قوله: أما لو قدمتم من قدم الله
وأخرتم من أخر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم
ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولي الله ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في
حكم الله إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيه، فأما إذا فعلتم ما فعلتم فذوقوا
وبال أمركم (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). راجع: تاريخ اليعقوبي ج 2
ص 171 عند ذكر ما نقم على أبي ذر.
313

فقلت له: لقد أحسنت فيما قلت، إلا أن لفظه - عليه السلام - يدل
على أنه لم يكن نص عليه، ألا تراه يقول: (ونحن الأعلون نسبا،
والأشدون بالرسول نوطا)، فجعل الاحتجاج بالنسب وشدة القرب، فلو
314

كان عليه نص، لقال عوض ذلك: (وأنا المنصوص علي، المخطوب
باسمي).
فقال - رحمه الله -: إنما أتاه من حيث يعلم، لا من حيث يجهل، ألا
ترى أنه سأله، فقال: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام، وأنتم أحق به؟
فهو إنما سأل عن دفعهم عنه، وهم أحق به من جهة اللحمة والعترة، ولم
يكن الأسدي يتصور النص ولا يعتقده، ولا يخطر بباله، لأنه لو كان هذا
في نفسه، لقال له: لم دفعك الناس عن هذا المقام، وقد نص عليك رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ ولم يقل له هذا، وإنما قال كلاما عاما لبني
هاشم كافة: كيف دفعكم قومكم عن هذا وأنتم أحق به! أي باعتبار
الهاشمية والقربى.
فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الذي تعلق به الأسدي بعينه، تمهيدا
للجواب، فقال: إنما فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول الله - صلى الله
عليه وآله - من غيرنا لأنهم استأثروا علينا، ولو قال له: أنا المنصوص علي،
والمخطوب باسمي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وآله - لما كان قد
أجابه، لأنه ما سأله هل أنت منصوص عليك أم لا؟ ولا: هل نص رسول
الله - صلى الله عليه وآله - بالخلافة على أحد أم لا؟ وإنما قال: لم دفعكم
قومكم عن الأمر وأنتم أقرب إلى ينبوعه ومعدنه منهم؟ فأجابه جوابا
ينطبق على السؤال ويلائمه أيضا، فلو أخذ يصرح له بالنص، ويعرفه
تفاصيل باطن الأمر لنفر عنه، واتهمه ولم يقبل قوله، ولم ينجذب إلى
تصديقه، فكان أولى الأمور في حكم السياسة وتدبير الناس، أن يجيب
بما لا نفرة منه، ولا مطعن عليه فيه (1).

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 9 ص 248 - 251، بحار الأنوار ج 38 ص 163، سفينة
البحار ج 2 ص 308 - 309.
315

المناظرة الخامسة والخمسون
مناظرة ابن طاووس (1) مع رجل حنبلي
قال ابن طاووس في وصاياه لولده:
حضرني يا ولدي محمد حفظك الله جل جلاله لصلاح آبائك
وأطال في بقائك نقيبا، وأتى رجلا حنبليا، وقال: هذا صديقنا ويحب أن
يكون على مذهبنا فحدثه.
فقلت له: ما تقول إذا حضرت القيامة، وقال لك محمد - صلى الله
عليه وآله وسلم -: لأي حال تركت كافة علماء الإسلام، واخترت أحمد
ابن حنبل إماما من دونهم، هل معك آية من كتاب بذلك أو خبر عني

(1) هو: رضي الدين أبو القاسم (وأبو الحسن) علي بن السيد سعد الدين بن موسى بن جعفر بن
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي عبد الله محمد الطاووس بن إسحاق بن الحسن بن
محمد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب - عليهما
السلام - ولد في سنة 589 ه‍ بالحلة ونشأ بها وترعرع، ثم هاجر إلى بغداد وأقام بها نحوا من
خمس عشرة سنة وأسكنه المستنصر العباسي دارا في الجانب الشرقي من بغداد، ثم رجع إلى
الحلة، ثم انتقل إلى النجف ثم كربلاء ثم عاد إلى بغداد.
ولي نقابة الطالبيين وبقي فيها إلى أن توفي سنة 664، نشأ وسط أسرة علمية عريقة،
وتتلمذ على أيدي علماء أعلام منهم: الشيخ ورام والشيخ نجيب الدين محمد بن نما وغيرهم
الكثير، وروى عنه الكثير منهم: الأربلي صاحب كشف الغمة، وسديد الدين والد العلامة
الحلي وغيرهم، ترك ثروة ضخمة من التأليف القيمة منها: أسرار الصلاة، الإقبال، والتحصين،
كشف المحجة، واليقين.
انظر ترجمته في: مقدمة اليقين وجمال الأسبوع، أمل الآمل ج 2 ص 205 ترجمة
رقم: 262، معجم رجال الحديث ج 12 ص 188، سفينة البحار ج 2 ص 96.
316

بذلك، فإن كان المسلمون ما كانوا يعرفون الصحيح حتى جاء أحمد ابن
حنبل وصار إماما فعمن روى أحمد بن حنبل عقيدته وعلمه وإن كانوا
يعرفون الصحيح وهم أصل عقيدة أحمد بن حنبل فهلا كان السلف قبله
أئمة لك وله.
فقال: هذا لا جواب لي عنه لمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.
فقلت له: إذا كان لا بد لك من عالم من الأمة تقلده فالزم أهل بيت
نبيك - عليهم السلام - فإن أهل كل أحد أعرف بعقيدته وأسراره من
الأجانب فتاب ورجع.
وقلت لبعض الحنابلة: أيما أفضل آباؤك وسلفك الذين كانوا قبل
أحمد بن حنبل إلى عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو آباؤك
وسلفك الذين كانوا بعد أحمد بن حنبل فإنه لا بد أن يقول إن سلفه
المتقدمين على أحمد بن حنبل أفضل لأجل قربهم إلى الصدر الأول ومن
عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.
فقلت: إذا كان سلفك الذين كانوا قبل أحمد بن حنبل أفضل فلأي
حال عدلت عن عقائدهم وعوائدهم إلى سلفك المتأخرين عن أحمد بن
حنبل وما كان الأوائل حنابلة لأن أحمد بن حنبل ما كان قد ولد ولا كان
مذكورا عندهم فلزمته الحجة وانكشفت له المحجة والحمد لله رب
العالمين (1).

(1) كشف المحجة لابن طاووس: ص 81.
317

المناظرة السادسة والخمسون.
مناظرة ابن طاووس مع رجل من الزيدية وآخر من أهل العلم.
قال ابن طاووس في وصاياه لولده:
وحضر عندي - يا ولدي محمد رعاك الله جل جلاله بعنايته
الإلهية - بعض الزيدية وقد قال: لي إن جماعة من الإمامية يريدون مني
الرجوع عن مذهبي بغير حجة وأريد أن تكشف لي عن حقيقة الأمر بما
يثبت في عقلي.
قلت له: أول ما أقول أنني علوي حسني وحالي معلوم ولو وجدت
طريقا إلى ثبوت عقيدة الزيدية كان ذلك نفعا ورئاسة لي دينية ودنيوية،
وأنا أكشف لك بوجه لطيف عن ضعف مذهبك بعض التكشف.
هل يقبل عقل عاقل فاضل أن سلطان العالمين ينفذ رسولا أفضل
من الأولين والآخرين إلى الخلائق في المشارق والمغارب ويصدقه
بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة ثم يعكس هذا الاهتمام الهائل
والتدبير الكامل ويجعل عيار اعتماد الإسلام والمسلمين على ظن ضعيف
يمكن ظهور فساده وبطلانه للعارفين.
فقال: كيف هذا؟
فقلت: لأنكم إذا بنيتم أمر الإمامة أنتم ومن وافقكم أو وافقتموه على
الاختيار من الأمة للإمام على ظاهر عدالته وشجاعته وأمانته وسيرته
وليس معكم في الاختيار له إلا غلبة الظن الذي يمكن أن يظهر خلافه لكل.
318

من عمل عليه كما جرى للملائكة وهم أفضل اختيارا من بني آدم لما
عارضوا الله جل جلاله في أنه جعل آدم خليفة وقالوا: (أتجعل فيها من
يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) (1)، فلما
كشف لهم حال آدم - عليه السلام - رجعوا عن اختيارهم لعزل آدم،
وقالوا: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) (2)، وكما جرى لآدم
الأكل من الشجرة، وكما جرى لموسى في اختياره سبعين رجلا من خيار
قومه للميقات، ثم قال عنهم بعد ذلك: (أتهلكنا بما فعل السفهاء
منا) (3)، حيث قالوا: (أرنا الله جهرة) (4).
وكما جرى ليعقوب - عليه السلام - في اختياره أولاده لحفظ ولده
يوسف، وغيره من اختيار الأنبياء والأوصياء والأولياء وظهر لهم بعد ذلك
الاختيار ضعف تلك الآراء، فإذا كان هؤلاء المعصومون قد دخل عليهم
في اختيارهم ما قد شهد به القرآن والإجماع من المسلمين فكيف يكون
اختيار غيرهم ممن يعرف من نفسه أنه ما مارس أبدا خلافة ولا أمارة ولا
رياسة حتى يعرف شروطها وتفصيل مباشرتها فيستصلح لها من يقوم لها
وما معه إلا ظن ضعيف بصلاح ظاهر من يختاره.
وهل يقبل عقل عاقل وفضل فاضل أن قوما ما يعرفون مباشرة ولا
مكاشفة تفصيل ما يحتاج إليه من يختارونه فيكون اختيارهم لأمر لا
يعرفونه حجة على من حضر وعلى من لم يحضر، أما هذا من الغلط

(1) سورة البقرة: الآية 30.
(2) سورة البقرة: الآية 32.
(3) سورة الأعراف: الآية 150.
(4) سورة النساء: الآية 153.
319

المستنكر؟
ومن أين للذين يختارون إمامهم معرفة بتدبير الجيوش والعساكر
وتدبير البلاد وعمارة الأرضين والإصلاح لاختلاف إرادات العالمين حتى
يختاروا واحدا يقوم بما يجهلونه، إنا لله وإنا إليه راجعون ممن قلدهم في
ذلك أو يقلدونه.
ومما يقال لهم: إن هؤلاء الذين يختارون الإمام للمسلمين من الذي
يختارهم لهم لتعيين الإمام ومن أي المذاهب يكونون فإن مذاهب الذين
يذهبون إلى اختيار الإمام مختلفة، وكم يكون مقدار ما بلغوا إليه من العلوم
حتى يختاروا عندها الإمام وكم يكون عددهم وهل يكونون من بلد واحد
أو من بلاد متفرقة، وهل يحتاجون قبل اختيارهم للإمام أن يسافروا إلى
البلاد يستعلمون من فيها ممن يصلح للإمامة أو لا يصلح أو هل يحتاجون
أن يراسلوا من بعد عنهم من البلاد ويعرفونهم أنهم يريدون اختيار الإمام
للمسلمين فإن كان في بلد غير بلدهم من يصلح أو يرجح ممن هو في
بلادهم يعرفونهم أم يختارون من غير كشف لما في البلاد ومن غير
مراسلة لعلماء بلاد الإسلام فإن كان سؤال من هذه السؤالات يتعذر قيام
الحجة على صحته وعلى لزومه لله جل جلاله ولزومه لرسوله - صلى الله
عليه وآله وسلم - ولزومه لمن لا يكون مختارا لمن يختارونه من علماء
الإسلام أفلا ترى تعذر ما ادعوه من اختيار الإمام؟!
ولقد سمع مني بعض هذا الكلام شخص من أهل العلم من علم
الكلام.
فقال: إن الناس ما زالوا يعملون في مصالحهم على الظنون.
فقلت له: هب أنهم يعملون في مصالحهم في نفوسهم بظنونهم
320

فكيف تجاوزوا ذلك إلى التحكم على تدبير الله جل جلاله في عباده
وبلاده والأقدام بظنونهم الضعيفة على هدم الاهتمام بثبوت أقدام النبوة
الشريفة ونقل تدبيرها عن اليقين الشريف إلى الظن الضعيف ومن جعل
لهم ولاية على كل من في الدنيا والدين وما حضروا معهم في اختيار الإمام
ولا شاركوهم ولا أذنوا لهم من سائر بلاد الإسلام ومن وليهم علي وأنا
غافل بعيد عنهم حتى يختاروا لي بظنهم الضعيف إماما ما وكلتهم فيه ولا
أرضى أبدا بالاختيار منهم فهل هذا إلا ظلم هائل وجور شامل من غير
رضى من يدعي وكالته ونيابة ما استنابه فيها من غير رضى من يدعي
نيابته؟!
ثم قلت لهم: أنتم ما كنتم تتفكرون فساده في أول مرة لما أظهر
العدل واجتمعتم عليه فلما تمكن منكم قتلكم وأخذ أموالكم وقد رأيتم
ورأينا وسمعتم وسمعنا من اختيار الملوك والخلفاء والاطلاع على الغلط
في الاختيار لهم وقتلهم وعزلهم وفساد تلك الآراء.
وقلت لهم: أنتم تعلمون أنه يمكن أن يكون عند وقت اختياركم
لواحد من ولد فاطمة - عليها السلام - غير معصوم ولا منصوص عليه أن
يكون في ذلك البلد وغيره من هو مثله أو أرجح منه ولا تعرفونه فكيف
تبايعون رجلا وتقتلون أنفسكم بين يديه ولعل غيره أرجح منه وأقوم بما
تريدون.
وقلت له: أنتم يا بني الحسن لعل ما منعكم من القول بإمامة أئمة بني
الحسين إلا أنكم ولد الإمام الأكبر ولعلكم أبيتم أن تكونوا تبعا لولد الإمام
الأصغر وما أراكم خلصتم من هذا العار لأنكم قلدتم زيدا وهو حسني
فنسبتم مذهبكم إليه وفي بني الحسن والحسين - عليهما السلام - من هو
321

أفضل منه، قبله كان عبد الله بن الحسن وولداه والباقر والصادق - عليهما
السلام - ما يقصرون عنه، ثم إنكم ما وجدتم له فقها أو مذهبا يقوم
بالشريعة فتممتم مذهبكم بمذهب أبي حنيفة وأبو حنيفة من العوام
والغلمان لجدكم ولكم، فإذا رضيتم إماما زيديا وهو حسني مرقع مذهبه
بمذهب أبي حنيفة فأنا أدلكم على الباقر والصادق وغيرهما - عليهم
السلام - من بني الحسين - عليه السلام - من غير مرقعين وعلومهم كافية
في أمور الدنيا والدين.
ثم قلت له: الناس يعرفون أنا كنا معشر بني هاشم رؤساء في
الجاهلية والإسلام وما كنا أبدا تبعا ولا أذنابا للعوام، فلما بعث
محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وشرفنا بنبوته وشريعته نصير تبعا
لغلمانه وللعوام من أمته وتعجز عناية الله جل جلاله به أن يكون لنا رئيس
منا أي مصيبة حملتكم على ذلك وفينا من لا يحسن أبو حنيفة يجلس بين
يديه ويحتاج أبو حنيفة وغيره من العلماء أن يقرؤا عليه فعرف الزيدي
الحق ورجع عن مذهبه في الحال، وقد اختصرت في المقال (1).

(1) كشف المحجة لابن طاووس: ص 82 - 86.
322

المناظرة السابعة والخمسون
مناظرة ابن طاووس مع فقيه من المستنصرية (1)
قال ابن طاووس - عليه الرحمة -:
إني كنت في حضرة مولانا الكاظم والجواد - عليهما السلام - فحضر
فقيه من المستنصرية، كان يتردد علي قبل ذلك اليوم،
فلما رأيت وقت حضوره يحتمل المعارضة له في مذهبه، قلت له: يا فلان
ما تقول لو أن فرسا لك ضاعت منك وتوصلت في ردها إلي أو فرسا لي
ضاعت مني وتوصلت في ردها إليك أما كان ذلك حسنا أو واجبا؟
فقال: بلى.
فقلت له: قد ضاع الهدى، إما مني وإما منك والمصلحة أن ننصف
من أنفسنا وننظر ممن ضاع الهدى فنرده عليه.
فقال: نعم.
فقلت له: لا أحتج بما ينقله أصحابي لأنهم متهمون عندك، ولا
تحتج بما ينقله أصحابك لأنهم متهمون عندي أو على عقيدتي، ولكن
نحتج بالقرآن، أو بالمجمع عليه من أصحابي وأصحابك، أو بما رواه
أصحابي لك وبما رواه أصحابك لي.
فقال: هذا إنصاف.

(1) المستنصرية: جامعة في بغداد، أنشأها المستنصر بالله الخليفة العباسي، لا تزال آثارها
قائمة. (المنجد).
323

فقلت له: ما تقول فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحها؟ فقال: حق بغير شك.
فقلت: فهل تعرف أن مسلما روى في صحيحه عن زيد بن أرقم أنه
قال ما معناه: إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خطبنا في (خم) فقال:
أيها الناس إني بشر يوشك أن أدعى فأجيب، وإني مخلف فيكم الثقلين
كتاب الله وعترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل
بيتي (1).
فقال: هذا صحيح.
فقلت: وتعرف أن مسلما روى في صحيحه (2) في مسند عائشة أنها
روت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه لما نزلت آية (إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (3) جمع عليا
وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - فقال: هؤلاء أهل بيتي.
فقال: نعم هذا صحيح.
فقلت له: تعرف أن البخاري ومسلما رويا في صحيحيهما، أن
الأنصار اجتمعت في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة وأنهم ما
نفذوا إلى أبي بكر ولا عمر ولا إلى أحد من المهاجرين حتى جاء أبو بكر
وعمر وأبو عبيدة لما بلغهم في اجتماعهم، فقال لهم أبو بكر: قد رضيت
لكم أحد هذين الرجلين، يعني عمر وأبا عبيدة، فقال عمر: ما أتقدم عليك

(1) مسند أحمد ج 3 ص 17، طبقات ابن سعد ج 2 ص 194، المستدرك للحاكم ج 3 ص 09 1،
كنز العمال ج 1 ص 185 ح 944، بحار الأنوار ج 23 ص 114 ح 23، والحديث له مصادر وطرق
كثيرة وروي بألفاظ متفاوتة، وقد تقدمت تخريجاته فيما سبق.
(2) صحيح مسلم: ج 4 ص 1883 ح 61 - (2424).
(3) سورة الأحزاب: الآية 33.
324

فبايعه عمر وبايعه من الأنصار (1) وأن عليا - عليه السلام - وبني
هاشم امتنعوا من المبايعة ستة أشهر (2)، وأن البخاري ومسلما قالا فيما
جمعه الحميدي من صحيحيهما: وكان لعلي - عليه السلام - وجه بين
الناس في حياة فاطمة - عليها السلام - فلما ماتت فاطمة - عليها السلام -
بعد ستة أشهر من وفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - انصرفت وجوه
الناس عن علي - عليه السلام - فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه
خرج إلى مصالحة أبي بكر (3).
فقال: هذا صحيح.
فقلت له: ما تقول في بيعة تخلف عنها أهل بيت رسول الله - صلى
الله عليه وآله وسلم - الذين قال عنهم: أنهم الخلف من بعده وكتاب الله جل
جلاله، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - فيهم: أذكركم الله في أهل
بيتي (4).
وقال عنهم: إنهم الذين نزلت فيهم آية الطهارة (5)، وإنهم ما تأخروا
مدة يسيرة حتى يقال: إنهم تأخروا لبعض الاشتغال، وإنما كان التأخر
للطعن في خلافة أبي بكر بغير إشكال في مدة ستة أشهر، ولو كان الإنسان
تأخر عن غضب يرد غضبه أو عن شبهة زالت شبهته بدون هذه المدة،
وإنه ما صالح أبا بكر على مقتضى حديث البخاري ومسلم إلا لما ماتت

(1) صحيح البخاري: ج 5 ص 8.
(2) صحيح البخاري: ج 8 ص 210.
(3) صحيح البخاري: ج 5 ص 177.
(4) تقدمت تخريجاته.
(5) وهي قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) سورة
الأحزاب: الآية 33 وقد تقدمت تخريجات نزولها فيهم - عليهم السلام -.
325

فاطمة - عليها السلام - ورأى انصراف وجوه الناس عنه خرج عند ذلك إلى
المصالحة.
وهذه صورة حال تدل على أنه ما بايع مختارا، وأن البخاري
ومسلما رويا في هذا الحديث أنه ما بايع أحد من بني هاشم حتى بايع علي
- عليه السلام -.
فقال: ما أقدم على الطعن في شئ قد عمله السلف والصحابة.
فقلت له: فهذا القرآن يشهد بأنهم عملوا في حياة النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم - وهو يرجى ويخاف والوحي ينزل عليه بأسرارهم في
حال الخوف وفي حال الأمن وحال الصحة والإيثار عليه ما لا يقدروا أن
يجحدوا الطعن عليهم به، وإذا جاز منهم مخالفته في حياته وهو يرجى
ويخاف فقد صاروا أقرب إلى مخالفته بعد وفاته وقد انقطع الرجاء
والخوف منه وزال الوحي عنه.
فقال: في أي موضع من القرآن؟
فقلت: قال الله جل جلاله في مخالفتهم في الخوف: (ويوم حنين
إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما
رحبت ثم وليتم مدبرين) (1)، فروى أصحاب التواريخ أنه لم يبق معه إلا
ثمانية أنفس، علي - عليه السلام - والعباس، والفضل بن العباس، وربيعة،
وأبو سفيان، ابنا الحارث بن عبد المطلب، وأسامة بن زيد، وعبيدة بن أم
أيمن وروي أيمن بن أم أيمن (2).

(1) سورة التوبة: الآية 25.
(2) راجع: تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 62، السيرة الحلبية ج 3 ص 67، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ج 13 ص 278، الإفصاح للمفيد ص 58، الإرشاد للمفيد ص 74، مجمع البيان ج 5
ص 28، بتفاوت.
326

وقال الله جل جلاله في مخالفتهم له في الأمن: (وإذا رأوا تجارة
أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن
التجارة والله خير الرازقين) (1)، فذكر جماعة من المؤرخين أنه كان
يخطب يوم الجمعة فبلغهم أن جمالا جاءت لبعض الصحابة مزينة
فسارعوا إلى مشاهدتها وتركوه قائما، وما كان عند الجمال شئ يرجون
الانتفاع به (2).
فما ظنك بهم إذا حصلت خلافة يرجون نفعها ورئاستها، وقال الله
تعالى في سوء صحبتهم ما قال الله جل جلاله: (ولو كنت فظا غليظ
القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في
الأمر) (3)، ولو كانوا معذورين في سوء صحبتهم ما قال الله جل جلاله
(فاعف عنهم واستغفر لهم)، وقد عرفت في صحيحي مسلم والبخاري
معارضتهم للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في غنيمة هو أذن لما أعطى
المؤلفة قلوبهم أكثر منهم، ومعارضتهم له لما عفى عن أهل مكة، وتركه
تغيير الكعبة وإعادتها إلى ما كانت في زمن إبراهيم - عليه السلام - خوفا من
معارضتهم له (4) ومعارضتهم له لما خطب في تنزيه صفوان بن المعطل لما

(1) سورة الجمعة: الآية 11.
(2) راجع: مسند أحمد ج 3 ص 313 وص 370، صحيح البخاري ج 6 ص 179، الجامع الصحيح
للترمذي ج 5 ص 386 ح 3311، الدر المنثور ج 8 ص 165، جامع البيان للطبري ج 28 ص 67،
مجمع البيان ج 10 ص 433.
(3) سورة آل عمران: الآية 159.
(4) راجع: صحيح مسلم: ج 2 ص 968 - 972 ح 398.
327

قذف عائشة، وأنه ما قدر أن يتم الخطبة، أتعرف هذا جميعه في صحيحي
مسلم والبخاري؟
فقال: هذا صحيح.
فقلت: وقال الله جل جلاله في إيثارهم عليه القليل من الدنيا: (يا
أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) (1)،
وقد عرفت أنهم امتنعوا من مناجاته ومحادثته لأجل التصدق برغيف وما
دونه حتى تصدق علي بن أبي طالب - عليه السلام - بعشرة دراهم عن
عشر دفعات ناجاه فيها ثم نسخت الآية بعد أن صارت عارا عليهم
وفضيحة إلى يوم القيامة بقوله جل جلاله: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي
نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم) (2)

(1) سورة المجادلة: الآية: 12.
(2) سورة المجادلة: الآية 13 فقد روى الثعالبي والواحدي وغيرهما من علماء التفسير أن
الأغنياء أكثروا مناجاة النبي - صلى الله عليه وآله - وغلبوا الفقراء على المجالسة عنده حتى كره
رسول الله - صلى الله عليه وآله - ذلك واستطال جلوسهم وكثرت مناجاتهم فأنزل الله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر
فإن الله غفور رحيم).
فأمر بالصدقة أمام المناجاة فأما أهل العسرة فلم يجدوا وأما الأغنياء فبخلوا، وخف ذلك
على رسول الله - صلى الله عليه وآله - وخف ذلك الزحام وغلبوا على حبه والرغبة في مناجاته
حب الحطام، واشتد على أصحابه، فنزلت الآية التي بعدها راشقة لهم بسهام الملام ناسخة
بحكمها حيث أحجم من كان دأبه الإقدام وقال علي - عليه السلام - إن في كتاب الله لآية ما عمل
بها أحد قبلي ولا يعمل أحد بها بعدي وهي آية المناجاة، فإنها نزلت كان لي دينار فبعته
بدراهم، وكنت إذا ناجيت الرسول - صلى الله عليه وآله - تصدقت حتى فنيت فنسخت بقوله:
(أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات) الآية.
راجع: تفسير الطبري ج 28، ص 14، أسباب النزول للواحدي ص 235، خصائص
النسائي ص 39، أحكام القرآن للجصاص ج 3 ص 428، الدر المنثور ج 6 ص 185، تفسير الفخر الرازي ج 29، ص 272، كنز العمال ج 3 ص 155، كفاية الطالب ص 135، الثعالبي ج 4
ص 279 - 280 منشورات الأعلمي بيروت، سفينة البحار ج 2 ص 579، الكشاف للزمخشري
ج 4 ص 493 - 494، نشر الكتاب العربي بيروت، الحاكم في المستدرك ج 2 ص 482، فرائد
السمطين ج 1 ص 357 ح 283 وص 358 ح 284.
وكان ابن عمر يغبط أمير المؤمنين - عليه السلام - على هذه الفضيلة التي لم يسبقه ولم
يلحقه إليها أحد، وكان يقول: كان لعلي ثلاثة، لو كان لي واحدة منها، كانت أحب إلي من حمر
النعم: تزويجه بفاطمة - عليها السلام -، وإعطاء الراية يوم خيبر، وآية النجوى. منتخب كنز
العمال المطبوع في هامش مسند أحمد ج 5 ص 35، وكفاية الطالب ص 137.
328

فإذا حضرت يوم القيامة بين يدي الله جل جلاله وبين يدي رسوله -
صلى الله عليه وآله وسلم - وقالا لك: كيف جاز لك أن تقلد قوما في
عملهم وفعلهم وقد عرفت منهم مثل هذه الأمور الهائلة، فأي عذر وأي
حجة تبقى لك عند الله وعند رسوله في تقليدهم فبهت وحار حيرة عظيمة.
فقلت له: أما تعرف في صحيحي البخاري ومسلم في مسند جابر
ابن سمرة وغيره أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال في عدة
أحاديث: لا يزال هذا الدين عزيزا ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش،
وأمثال هذه الألفاظ كلها تتضمن هذا العدد الاثنا عشر فهل تعرف
في الإسلام فرقة تعتقد هذا العدد غير الإمامية الاثني عشرية فإن كانت هذه
أحاديث صحيحة كما شرطت على نفسك في تصحيح ما نقله البخاري
ومسلم، فهذه مصححة لعقيدة الإمامية وشاهدة بصدق ما رواه سلفهم وإن
كانت كذبا فلأي حال رويتموها في صحاحكم.
فقال: ما أصنع بما رواه البخاري ومسلم من تزكية أبي بكر وعمر

(1) تقدمت تخريجاته.
329

وعثمان وتزكية من تابعهم؟
فقلت له: أنت تعرف أنني شرطت عليك أن لا تحتج علي بما ينفرد
به أصحابك، وأنت أعرف أن الإنسان ولو كان من أعظم أهل العدالة وشهد
لنفسه بدرهم وما دونه ما قبلت شهادته، ولو شهد في الحال على أعظم
أهل العدالة بمهما شهد من الأمور مما يقبل فيه شهادة أمثاله قبلت شهادته
والبخاري ومسلم يعتقدان إمامة هؤلاء القوم، فشهادتهم لهم شهادة
بعقيدة نفوسهم ونصرة لرئاستهم ومنزلتهم.
فقال: والله ما بيني وبين الحق عداوة، ما هذا إلا واضح لا شبهة فيه،
وأنا أتوب إلى الله تعالى بما كنت عليه من الاعتقاد، فلما فرغ من شروط
التوبة، إذا رجل من ورائي قد أكب على يدي يقبلها ويبكي.
فقلت: من أنت؟
فقال: ما عليك اسمي، فاجتهدت به حتى قلت: فأنت الآن صديق أو
صاحب حق، فكيف يحسن لي أن لا أعرف صديقي وصاحب حق علي
لأكافئه فامتنع من تعريفي اسمه.
فسألت الفقيه الذي من المستنصرية.
فقال: هذا فلان بن فلان من فقهاء النظامية (1) سهوت عن اسمه
الآن (2).

(1) النظامية: فرقة من المعتزلة أصحاب أبي إسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري
المتوفى سنة 231 ه‍، وهو ابن أخت أبي الهذيل العلاف شيخ المعتزلة، وكان أستاذا للجاحظ.
معجم الفرق الإسلامية ص 250.
(2) كشف المحجة لابن طاووس ص 76 - 80.
330

المناظرة الثامنة والخمسون
مناظرة العلامة الحلي (1) مع علماء المذاهب الأربعة بمحضر الشاه
خدا بنده (2)
يقال: إن الشاه خدابنده غضب يوما على امرأته فقال لها: أنت طالق
ثلاثا، ثم ندم وجمع العلماء.
فقالوا: لا بد من المحلل.
فقال: عندكم في كل مسألة أقاويل مختلفة أوليس لكم هنا

(1) هو: أبو منصور الحسن بن الشيخ الفقيه النبيه سديد الدين يوسف بن علي بن المطهر الحلي
المشهور بالعلامة، له أكثر من تسعين كتابا في مختلف العلوم الإسلامية، من أشهرها: مختلف
الشيعة، المنتهى، نهج الحق وكشف الصدق، منهاج الكرامة، الألفين، وهو ابن أخت المحقق
الحلي حيث اهتم بتربيته وتدريسه، بالإضافة إلى ذلك فقد تتلمذ العلامة على أيدي أساطين
العلماء منهم: والده، والسيدين جمال الدين أحمد، ورضي الدين علي ابني طاووس، والشيخ
ميثم بن علي البحراني وغيرهم الكثير، توفي ليلة السبت الحادي والعشرين من شهر محرم
الحرام سنة ست وعشرين وسبعمائة، حيث قد ولد لإحدى عشرة ليلة خلون أو بقين من شهر
رمضان المبارك عام ثمانية وأربعين وستمائة في مدينة الحلة في العراق، ونقل نعشه الشريف
إلى جوار أمير المؤمنين - عليه السلام - ودفن هناك. راجع: روضات الجنات ج 2 ص 269
رقم: 198.
(2) محمد بن أرغون بن أبغا بن هلاكو بن تولى بن جنكزخان المغولي، السلطان غياث الدين
المعروف بخدابند ومعناه بالعربية عبد الله، ملك العراق وخراسان وآذربيجان، ولد سنة نيف
وسبعين وستمائة، كان على مذهب العامة فتشيع وكان يحب العمارة أنشأ مدينة جديد
بأذربيجان سماها السلطانية توفي سنة 716. راجع: الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني ج 3
ص 378 ترجمة رقم: 1003.
331

اختلاف؟
فقالوا: لا.
فقال أحد وزرائه: إن عالما بالحلة وهو يقول ببطلان هذا الطلاق.
فبعث كتابه إلى العلامة، وأحضره، فلما بعث إليه.
قال علماء العامة: إن له مذهبا باطلا، ولا عقل للروافض (1)، ولا يليق

(1) الرافضة: اسم أطلقه خصوم ومبغضو الشيعة عليهم وذلك للاستهانة بهم وتحقير هم وسبب
ذلك كله هو أنهم والوا عليا وأهل بيته واعتقدوا بإمامتهم - عليهم السلام - لما ثبت عندهم
بالأدلة القطعية الصارمة من خلافتهم وإمامتهم ووجب التمسك بهم - عليهم السلام - وهل
من يوالي عليا وأهل بيته ويتمسك بهم يعتبر رافضيا؟ إذا كان كذلك فهذا نعم الاسم فنحن
غيرهم.
فهذا كل ما في المسألة فالذي يتبعهم ويروي أخبارهم ويذكر مناقبهم وفضائلهم يعتبر
رافضيا، يقول الربيع بن سلمان، قلت للشافعي: إن ههنا قوما لا يصبرون على سماع فضيلة
لأهل البيت فإذا أراد أحد أن يذكر ها يقولون: هذا رافضي!! قال، فأنشأ الشافعي يقول:
إذا في مجلس ذكروا عليا * وسبطيه وفاطمة الزكية
فأجرى بعضهم ذكرى سواهم * فأيقن أنه سلقلقيه
إذا ذكروا عليا أو بينه * تشاغل بالروايات العلية
وقال: تجاوزوا يا قوم هذا * فهذا من حديث الرافضية
برأت إلى المهيمن من أناس * يرون الرفض حب الفاطمية
على آل الرسول صلاة ربي * ولعنته لتلك الجاهلية
فرائد السمطين ج 1 ص 135 ح 98. وقال أيضا:
قالوا ترفضت؟ قلت: كلا * ما الرفض ديني ولا اعتقادي
لكن توليت غير شك * خير إمام وخير هادي
إن كان حب الولي رفضا * فإنني أرفض العباد
فرائد السمطين ج 1 ص 423.
وقال أيضا:
يا راكبا قف بالمحصب من منى * واهتف بقاعد خيفها والناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى من * فيضا كملتطم الفرات الفائض
إني أحب بني النبي المصطفى * وأعده من واجبات فرائضي
لو كان رفضا حب آل محمد * فليشهد الثقلان إني رافضي
فرائد السمطين ج 1 ص 423 - 424.
وبعد هذا كله تعرف أن سبب في التسمية يكمن في اتباع الشيعة لأهل البيت - عليهم
السلام - الذين قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عنهم: (أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها
نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى) وقال أيضا: (أوصيكم بالثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي
لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما) ولهذه الأدلة وغيرها تمسكنا بهم واتبعناهم فأطلقوا علينا هذا
الاسم.
وقد جاء في المحاسن عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر - عليه السلام - جعلت فداك اسم
سمينا به استحلت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا، قال: وما هو؟ قلت: الرافضة، فقال أبو
جعفر - عليه السلام -: إن سبعين رجلا من عسكر فرعون رفضوا فرعون فأتوا موسى - عليه
السلام - فلم يكن في قوم موسى أحدا أشد اجتهادا وأشد حبا لهارون منهم فسما هم قوم موسى
الرافضة فأوحى الله تعالى إلى موسى - عليه السلام - أن أثبت لهم هذا الاسم في التوراة فإني
نحلتهم وذلك اسم قد نحلكموه الله. سفينة البحار ج 3 ص 384.
ولكن يأبى الله عز وجل إلا أن يجعل عليا - عليه السلام - شبيها لهارون حتى في شيعته
ومحبيه ألم يقل سيد البشر - صلى الله عليه وآله وسلم -: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا
أنه لا نبي بعدي؟ فكل خصال هارون - عليه السلام - ثابتة لعلي - عليه السلام - إلا النبوة.
332

بالملك أن يبعث إلى طلب رجل خفيف العقل.
قال الملك: حتى يحضر.
فلما حضر العلامة بعث الملك إلى جميع علماء المذاهب الأربعة،
وجمعهم. فلما دخل العلامة أخذ نعليه بيده، ودخل المجلس، وقال:
السلام عليكم، وجلس عند الملك.
فقالوا للملك: ألم نقل لك إنهم ضعفاء العقول.
قال الملك: اسألوا عنه في كل ما فعل.
333

فقالوا له: لم ما سجدت للملك وتركت الآداب؟
فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان ملكا وكان يسلم
عليه، وقال الله تعالى: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من
عند الله مباركة) (1)، ولا خلاف بيننا وبينكم أنه لا يجوز السجود لغير الله.
ثم قال له: لم جلست عند الملك؟
قال: لم يكن مكان غيره، وكلما يقوله العلامة بالعربي كان المترجم
يترجم للملك.
قالوا له: لأي شئ أخذت نعلك معك، وهذا مما لا يليق بعاقل بل
إنسان؟
قال: خفت أن يسرقه الحنفية كما سرق أبو حنيفة نعل رسول الله!!
فصاحت الحنفية: حاشا وكلا، متى كان أبو حنيفة في زمان رسول
الله - صلى الله عليه وآله - بل كان تولده بعد المأة من وفاته - صلى الله عليه
وآله وسلم -.
فقال: فنسيت فلعله كان السارق الشافعي!!
فصاحت الشافعية كذلك، وقالوا: كان تولد الشافعي في يوم وفاة
أبي حنيفة، وكانت نشوءه في المأتين من وفاة رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم -.
وقال: لعله كان مالك!!
فصاحت المالكية كالأولين.
فقال: لعله كان أحمد ففعلت الحنبلية كذلك.

سورة النور: الآية 61.
334

فأقبل العلامة إلى الملك، وقال: أيها الملك علمت أن رؤساء
المذاهب الأربعة لم يكن أحدهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - ولا الصحابة، فهذا أحد بدعهم أنهم اختاروا من مجتهديهم هذه
الأربعة، ولو كان فيهم من كان أفضل منهم بمراتب لا يجوزون أن يجتهد
بخلاف ما أفتى واحد منهم.
فقال الملك: ما كان واحد منهم في زمان رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم - والصحابة؟!
فقال الجميع: لا.
فقال العلامة: ونحن معاشر الشيعة تابعون لأمير المؤمنين - عليه
السلام - نفس رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأخيه وابن عمه
ووصيه، وعلى أي حال فالطلاق الذي أوقعه الملك باطل لأنه لم يتحقق
شروطه، ومنها العدلان فهل قال الملك بمحضرهما؟
قال: لا.
ثم شرع في البحث مع العلماء حتى ألزمهم جميعا، فتشيع الملك،
وبعث إلى البلاد والأقاليم حتى يخطبوا بالأئمة الاثني عشر - عليهم
السلام -، ويضربوا السكك على أسمائهم وينقشوها على أطراف
المساجد والمشاهد منهم (1).
ومن لطائفه أنه بعد إتمام المناظرة وبيان أحقية مذهب الإمامية
الاثني عشرية، خطب الشيخ - قدس الله لطيفه - خطبة بليغة مشتملة على
حمد الله والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - والأئمة - عليهم

(1) روضات الجنات للخونساري: ج 2 ص 279.
335

السلام - فلما استمع ذلك السيد الموصلي الذي هو من جملة المسكوتين
بالمناظرة.
قال: ما الدليل على جواز توجيه الصلاة على غير الأنبياء - عليهم
السلام -؟
فقرأ الشيخ في جوابه - بلا انقطاع الكلام -: (الذين إذا أصابتهم
مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم
ورحمة وأولئك هم المهتدون) (1).
فقال الموصلي على طريق المكابرة: ما المصيبة التي أصاب آله حتى
أنهم يستوجبون لها الصلاة؟
فقال الشيخ - رحمه الله -: من أشنع المصائب وأشدها أن حصل من
ذراريهم مثلك الذي يرجح المنافقين الجهال المستوجبين اللعنة والنكال
على آل رسول الملك المتعال.
فاستضحك الحاضرون، وتعجبوا من بداهة جواب آية الله في
العالمين، وقد أنشد بعض الشعراء:
إذا العلوي تابع ناصبيا * بمذهبه فما هو من أبيه
وكان الكلب خيرا منه حقا * لأن الكلب طبع أبيه فيه (2)

(1) سورة البقرة: الآية 156 و 157.
(2) روضات الجنات: ج 2 ص 284.
336

المناظرة التاسعة والخمسون
مناظرة أبي القاسم بن محمد الحاسمي (1) مع رفيع الدين حسين
قال الأمير السيد حسين العاملي - المعروف بالمجتهد المعاصر
للسلطان شاه عباس الماضي الصفوي - في أواخر رسالته المعمولة في
أحوال أهل الخلاف في النشأتين، عند ذكر بعض المناظرات الواقعة بين
الشيعة وأهل السنة هكذا:
وثانيهما: حكاية غريبة وقعت في بلدة طيبة همذان (2) بين شيعي
اثني عشري وبين سني، رأيت في كتاب قديم يحتمل أن يمضي من تاريخ
كتابته ثلاثمائة سنة نظرا إلى العادة، وكان المسطور في الكتاب المذكور
أنه وقع بين بعض من علماء الشيعة الاثني عشرية اسمه: أبو القاسم بن
محمد بن أبي القاسم الحاسمي وبين بعض من علماء أهل السنة: رفيع

(1) قال عنه صاحب الرياض هو: الفاضل العالم الكامل المعروف بالحاسمي، وكان من أكابر
مشائخ أصحابنا، والظاهر أنه من قدماء الأصحاب.
رياض العلماء للأصبهاني ج 5 ص 504.
(2) همذان: مدينة من الجبال أعذبها ماء وأطيبها هواء، وهي أكبر مدينة بها، وإنما خربها بخت
نصر، ولم تزل بعد ذلك خرابا إلى أن عمرها بعد ذلك درا بن دارا، وحصنها ونقل أمواله إليها،
وما زالت محلا للملوك ومعدنا لأهل الدين والفضل، إلا أن شتاءها مفرط البرد، وفي ذلك يقول
الشاعر:
النار في همذان يبرد حرها * والبرد في همذان داء مسقم
إلا أنها مع ذلك كثيرة الزاهر والرياحين في الربيع، وأرضهم منبت الزعفران، وعندهم أنواع
من الألوان لا تكون في بلاد غيرهم. مراصد الاطلاع ج 3 ص 1464 - 1465.
337

الدين حسين، مصادقة ومصاحبة قديمة، ومشاركة في الأموال،
ويتخالطان في أكثر الأحوال والأسفار، وكل واحد منهما لا يخفي مذهبه
وعقيدته عن الآخر، وعلى سبيل الهزل ينسب أبو القاسم رفيع الدين إلى
الناصبي، وينسب رفيع الدين أبا القاسم إلى الرافضي، وبينهما في هذه
المصاحبة لا يقع مباحثة في المذهب، إلى أن وقع الاتفاق في مسجد بلدة
طيبة همذان يسمى ذلك المسجد بالمسجد العتيق، وفي أثناء المكالمة
فضل رفيع الدين حسين أبا بكر وعمر على أمير المؤمنين علي - عليه
السلام -، ورد أبو القاسم على رفيع الدين وفضل عليا - عليه السلام - على
أبي بكر وعمر، وأبو القاسم استدل على مدعاه بآيات عظيمة وأحاديث
منزلة وذكر كرامات ومقامات ومعجزات وقعت منه - عليه السلام -.
ورفيع الدين يعكس القضية واستدل على تفضيل أبي بكر على علي
- عليه السلام - بمخالطته ومصاحبته في الغار، ومخاطبته بخطاب الصديق
الأكبر من بين المهاجرين والأنصار، وأيضا قال: إن أبا بكر مخصوص من
بين المهاجرين والأنصار بالمصاهرة والخلافة والإمامة، وأيضا قال رفيع
الدين: الحديثان عن النبي واقعان في شأن أبي بكر أحدهما (أنت بمنزلة
القميص) - الحديث، وثانيهما (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر
وعمر) (1).
وأبو القاسم الشيعي بعد استماع هذا المقال من رفيع الدين، قال
لرفيع الدين: لأي وجه وسبب تفضل أبا بكر على سيد الأوصياء وسند
الأولياء وحامل اللواء (2)، وعلي إمام الأنس والجان، وقسيم

(1) تقدم الكلام عنه مع تخريجاته.
(2) راجع: ينابيع المودة ص 81، كنز العمال ج 13 ص 153 ح 36487، وجاء في المناقب للخوارزمي ص 358 ح 369: عن جابر بن سمرة قال: قيل يا رسول الله من يحمل رأيتك يوم
القيامة قال: من عسى أن يحملها إلا من حملها في الدنيا علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
338

الجنة والنار (1)، والحال أنك تعلم أنه - عليه السلام - الصديق

(1) راجع: لسان الميزان ج 3 ص 247، مناقب ابن المغازلي ص 67 ح 97، الفردوس ج 3
ص 64 ح 418، بحار الأنوار ج 38 ص 95 ح 11.
وقد جاء في فرائد السمطين ج 1 ص 326 ح 254 عن علي - عليه السلام - قال: أنا قسيم
النار إذا كان يوم القيامة قلت: هذا لك وهذا لي.
قوله - عليه السلام -: (أنا قسيم النار) أي مقاسمها ومساهمها يعني أصحابه على شطرين
مهتدون وضالون فكأنه قاسم النار إياهم فشطر لها وشطر معه في الجنة، فالذين هم ضالون في
نار الجحيم، والذين هم مهتدون مهتدون إلى جناب جنات النعيم. ولله در القائل في مدحه
- عليه السلام - وقد بلغ فيه غاية الكمال والتمام:
علي حبه جنة * قسيم النار والجنة
وصي المصطفى حقا * إمام الأنس والجنة
وقال ابن أبي الحديد - في شرح النهج ج 19 ص 139 -: ومنها قوله - عليه السلام: أنا
قسيم النار، قال ابن قتيبة: أراد أن الناس فريقان! فريق معي فهم على هدى، وفريق علي فهم
على ضلالة، كالخوارج، ولم يجسر ابن قتيبة أن يقول: وكأهل الشام، يتورع يزعم، ثم إن الله
أنطقه بما تورع عن ذكره، فقال متمما للكلام بقوله: فأنا قسيم النار، نصف في الجنة معي،
ونصف في النار، قال: وقسيم في معنى مقاسم، مثل جليس وأكيل وشريب. قلت: قد ذكر أبو
عبيد الهروي هذه الكلمة في الجمع بين الفريقين، قال: وقال قوم إنه لم يرد ما ذكره، وإنما أراد:
هو قسيم النار والجنة يوم القيامة حقيقة، يقسم الأمة، فيقول: هذا للجنة، وهذا للنار.
وقد جاء هذا المعنى في الأبيات المشهورة المنسوبة إليه - عليه السلام -:
يا حار همدان من يمت يرني * من مؤمن أو منافق قبلا
يعرفني شخصه وأعرفه * بعينه واسمه وما فعلا
وأنت يا حار إن تمت ترني * فلا تخف عثرة ولا زللا
أسقيك من بارد على ظمأ * تخاله في الحلاوة العسلا
أقول للنار حين تعرض في ال‍ * حشر ذريه لا تقربي الرجلا
ذريه لا تقربيه إن له * حبلا بحبل الوصي متصلا
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 299.
وجاء في سفينة البحار للقمي ج 2 ص 428 - 429: عن كشف الغمة، قال المأمون للرضا
- عليه السلام - يا أبا الحسن أخبرني عن جدك علي بن أبي طالب - عليه السلام - بأي وجه هو
قسيم الجنة والنار. فقال: يا أمير المؤمنين ألم ترو عن أبيك عن آبائه عن عبد الله ابن عباس أنه
قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: حب علي إيمان وبغضه كفر. فقال:
بلى. قال الرضا - عليه السلام -: فقسم الجنة والنار. فقال المأمون: لا أبقاني الله بعدك يا أبا
الحسن أشهد أنك وارث علم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.
وقد صنف محمد بن سعد كتاب (من روى في علي - عليه السلام - أنه قسيم النار)، انظر:
بحار الأنوار ج 39 ص 204.
339

الأكبر (1)، والفاروق الأزهر (2)، أخو رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
وزوج البتول، وتعلم أيضا أنه - عليه السلام - وقت فرار الرسول إلى الغار
من الظلمة وفجرة الكفار ضاجع على فراشه (3)، وشاركه علي في حال
العسر والفقر، وسد رسول الله أبواب الصحابة من المسجد إلا بابه (4)،
وحمل عليا على كتفه لأجل كسر الأصنام (5) في أول الإسلام، وزوج الحق

(1) فقد جاء في فرائد السمطين ج 1 ص 248 ح 192: عن عباد بن عبد الله الأسدي قال: قال
علي - عليه السلام -: أنا عبد الله وأخو رسول الله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب،
صليت قبل الناس سبع سنين.
(2) وقد جاء أيضا في فرائد السمطين ج 1 ص 39 ح 3: عن أبي سخيلة قال: حججت أنا وسلمان
فنزلنا بأبي ذر فكنا عنده ما شاء الله، فلما حان منا حفوف قلنا: يا أبا ذر إني أرى أمورا قد حدثت
وإني خائف على الناس الاختلاف فإن كان ذلك فما تأمرني؟ قال: الزم كتاب الله وعلي بن أبي
طالب - عليه السلام - فأشهد أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: علي أول
من آمن بي وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر وهو الفاروق يفرق بين الحق
والباطل.
(3) تقدمت تخريجاته.
(4) تقدمت تخريجاته.
(5) راجع: مسند أحمد ج 1 ص 84، ذخائر العقبى ص 85، المناقب للخوارزمي ص 71
فصل 11 ط طهران، وقد جاء في فرائد السمطين ج 1 ص 249 ح 192: عن علي بن أبي طالب
- عليه السلام - قال: انطلق بي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى أتى بي الكعبة فقال
لي: اجلس فجلست إلى جنب الكعبة فصعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على منكبي،
فقال لي: انهض، فنهضت فلما رأى ضعفي تحته، فقال لي اجلس. فجلست فقال: يا علي
اصعد منكبي، فصعدت على منكبيه ثم نهض بي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال لي: اذهب
إلى صنمهم الأكبر صنم قريش، وكان من نحاس موتدا بأوتاد من حديد إلى الأرض، فقال النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم -: عالجه والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: إيه إيه (جاء
الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا) الإسراء 17، ولم أزل أعالجه حتى استمكنت منه،
فقال لي: اقذفه، فقذفت به وتكسر ونزلت من فوق الكعبة فانطلقت أنا والنبي - صلى الله عليه
وآله وسلم - وخشينا أن يرانا أحد من قريش أو غيرهم. فقال علي: فما صعدته حتى الساعة.
وممن روى هذا الحديث الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى: (وقل جاء
الحق وزهق الباطل).
وقد قال الشافعي في هذه الفضيلة الشريفة:
قيل لي: قل في علي مدحا * ذكره يخمد نارا موصدة
قلت: لا أقدم في مدح امرء * ضل ذو اللب إلى أن عبده
والنبي المصطفى قال لنا * ليلة المعراج لما صعده
وضع الله بظهري يده * فأحس القلب مما برده
وعلي واضع أقدامه * في محل وضع الله يده
340

جل وعلا فاطمة بعلي في الملأ الأعلى (1)، وقاتل - عليه السلام - مع عمرو
ابن عبد ود (2)، وفتح خيبر (3)، ولا أشرك بالله تعالى طرفة عين بخلاف

(1) راجع: كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 299، فرائد السمطين ج 1 ص 88 ح 67 و
ص 90، العذير للأميني ج 2 ص 315.
(2) فقد روى المؤرخون في غزوة الخندق أنه:
خرج عمرو بن ود يوم الخندق فنادى من يبارز فقام علي - عليه السلام - فقال: أنا له يا نبي
الله، فقال له: اجلس إنه عمرو، ونادى عمرو ألا رجل، وهو يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التي
تزعمون أنه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزون إلي رجالا، فقام علي، فقال: يا رسول الله أنا له،
فقال: إنه عمرو وقال: وإن كان عمرو فأذن له رسول الله فمشى إليه حتى أتاه وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتاك * مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة * والصدق منجي كل فائز
إني لأرجو أن أقيم عليك * نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى * ذكرها عند الهزائز
فقال له عمرو: ومن أنت؟ فقال: أنا علي، قال: ابن عبد مناف، قال: أنا علي ن أبي طالب،
فقال: غيرك يا بن أخي من أعمامك فإني أكره أن أهريق دمك، فقال له علي - عليه السلام -:
لكني والله ما أكره أن أهريق دمك، فغضب ونزل فسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي
- عليه السلام - مغضبا واستقبله علي - عليه السلام - بدرقته فضربه عمرو في الدرقة فقدها
وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه وضربه علي على حبل العاتق فسقط وقده نصفين
وثار الغبار العجاج وسمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - التكبير فعرف أن عليا - عليه
السلام - قد قتله ثم أقبل علي - عليه السلام - نحو رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ووجهه
يتهلل نورا.
راجع: المناقب للخوارزمي ص 169 ح 202، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 32،
ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر ج 1 ص 169 - 174، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ج 19 ص 62 - 64، السيرة النبوية لابن هشام ج 3 ص 241.
(3) راجع: المغازي للواقدي ج 2 ص 654 - 655، تاريخ الطبري ج 3 ص 12 - 14، مسند أحمد
ابن حنبل ج 6 ص 8، سيرة ابن هشام ج 3 ص 349 - 350، مناقب الخوارزمي ص 172 ح 207.
وجاء في فرائد السمطين ج 1 ص 253 ح 196 عن سهل بن سعد قال: إن النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم - قال يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله
ويحبه الله ورسوله، قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا
على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كلهم يرجون أن يعطاها!! فقال: أين علي بن أبي
طالب؟ قالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه. فأتي به فبصق في عينه ودعا له
فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية... الخ.
وجاء في ص 261 ح 201 عن أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - برايته،
فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول
علي باب الحصن فتترس عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من
يده فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن
نقلبه. وجاء في ح 202 عن جابر بن عبد الله قال: جعل علي باب خيبر يومئذ - حتى صعد
المسلمون عليه ففتحوها - فجرب بعده فلم يحمله إلا أربعون رجلا:
وقال في هذه الحادثة الشريفة الشيخ كاظم الأزري - عليه الرحمة -:
وله يوم خيبر فتكات * كبرت منظرا على من رآها
يوم قال النبي: إني لأعطي * رايتي ليثها وحامي حماها
فاستطالت أعناق كل فريق * ليروا أي ماجد يعطاها
فدعا أين وارث العلم والحلم * مجير الأيام من بأساها
أين ذو النجدة الذي لودعته * في الثريا مروعة لباها
فأتاه الوصي أرمد عين * فسقاه من ريقه فشفاها
ومضى يطلب الصفوف فولت * عنه علما بأنه أمضاها
وبرى (مرحبا) بكف اقتدار * أقوياء الأقدار من ضعفاها
ودحا بابها بقوة بأس * لو حمتها الأفلاك منه دحاها
انظر: تخميس الأزرية ص 138.
341

الثلاثة، وشبه - صلى الله عليه وآله وسلم - عليا بالأنبياء الأربعة، حيث قال:
(من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في فهمه وإلى موسى في
بطشه وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب) (1)، ومع وجود
هذه الفضائل والكمالات الظاهرة الباهرة ومع قرابته - عليه السلام -
للرسول - صلى الله عليه وآله -، ورد الشمس له (2)، كيف يعقل ويجوز

(1) راجع: البداية والنهاية ج 7 ص 356، كفاية الطالب ص 121 - 122، كنز العمال ص 226،
فرائد السمطين ج 1 ص 170 ح 131، الغدير للأميني ج 3 ص 353، بتفاوت.
(2) راجع: مشكل الآثار للطحاوي ج 2 ص 8، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص 49،
البداية والنهاية ج 6 ص 282، مناقب ابن المغازلي ص 96 ح 140، كفاية الطالب ص 381،
فرائد السمطين ج 1 ص 183 ح 146.
وممن ذكر حديث رد الشمس لأمير المؤمنين - عليه السلام - القندوزي في ينابيع المودة
في ب 46 في رد الشمس بعد غروبها قال في ص 137: أخرج ابن المغازلي والحمويني
وموفق بن أحمد الخوارزمي وهم جميعا بالإسناد عن أسماء بنت عميس قالت: أوحى الله إلى
نبيه فتغشاه الوحي فستره علي - عليه السلام - بثوبه حتى غابت الشمس فلما سرى عنه قال: يا
علي صليت العصر قال: لا يا رسول الله شغلت عتها بك، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -:
اللهم أردد الشمس إلى علي، قالت أسماء: فرجعت حتى بلغت حجرتي.
وقال في ص 138: وفي كتاب الإرشاد أن أم سلمة وأسماء بنت عميس وجابر بن عبد الله
وأبا سعيد الخدري وغيرهم من جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا: إن رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - كان في منزل، فلما تغشاه الوحي توسد فخذ علي فلم يرفع رأسه
حتى غابت الشمس، وصلى علي - عليه السلام - صلاة العصر بالإيماء فلما أفاق - صلى الله عليه
وآله وسلم - قال: اللهم أردد الشمس لعلي - عليه السلام - فردت عليه الشمس حتى صارت في
السماء وقت العصر فصلى علي - عليه السلام - العصر ثم غربت. فأنشأ حسان بن ثابت:
يا قوم من مثل علي وقد * ردت عليه الشمس من غائب
أخو رسول الله وصهره * والأخ لا يعدل بالصاحب
وللحديث مصادر أخرى كثيرة.
343

تفضيل أبي بكر على علي - عليه السلام -.
ولما سمع رفيع الدين هذه المقالة من أبي القاسم من تفضيله عليا
- عليه السلام - على أبي بكر، انهدم بناء خصوصيته لأبي القاسم، وبعد
اللتيا والتي قال رفيع الدين لأبي القاسم: كل رجل يجئ إلى المسجد فأي
شئ يحكم من مذهبي أو مذهبك نطيع، ولما كان عقيدة أهل همذان على
أبي القاسم ظاهرا كان خائفا من هذا الشرط الذي وقع بينه وبين رفيع
الدين، لكن لكثرة المجادلة والمباحثة قبل أبو القاسم الشرط المذكور
ورضي به كرها.
وبعد قرار الشرط المذكور بلا فصل جاء إلى المسجد فتى ظهر من
بشرته آثار الجلالة والنجابة ومن أحواله لاح المجئ من السفر ودخل في
المسجد وطاف، ولما جاء بعد الطواف عندهما قام رفيع الدين على كمال
الاضطراب والسرعة، وبعد السلام للفتى المذكور سأله وعرض الأمر
المقرر بينه وبين أبي القاسم وبالغ مبالغة كثيرة في إظهار عقيدة الفتى وأكد
بالقسم وأقسمه بأن يظهر عقيدته على ما هو الواقع، والفتى المذكور بلا
توقف أنشأ هذين البيتين:
344

متى أقل مولاي أفضل منهما * أكن للذي فضلته متنقصا
ألم تر أن السيف يزري بحده * مقالك هذا السيف أحدى من العصا
ولما فرغ الفتى من إنشاء هذين البيتين كان أبو القاسم مع رفيع الدين
قد تحيرا من فصاحته وبلاغته، ولما أرادا تفتيش حال الفتى غاب عن
نظرهما ولم يظهر أثره، ورفيع الدين لما شاهد هذا الأمر الغريب العجيب
ترك مذهبه... واعتقد المذهب الحق الاثني عشري.
أقول: الظاهر أن ذلك الفتى هو القائم - عليه السلام -،
وأما البيتان فهما المادة للأبيات التي قد أوردها في مثل هذا
المقام الشيخ إبراهيم القطيفي (1) - المعاصر للشيخ علي

(1) هو: الفاضل الشهير والعالم النحرير الشيخ إبراهيم ابن الشيخ سليمان البحراني أصلا،
القطيفي نشأة، الحلي ملجأ، الغروي مدفنا.
وعرف أيضا بالفاضل القطيفي، قال: عنه المجلسي في بحاره: كان في غاية الفضل، وقال
عنه الشيخ عباس القمي في فوائده: شيخ أجل أكمل فاضل صالح عالم رباني معاصر محقق،
ثاني صاحب تصنيفات فائقة وإجازات نافعة ومقامات عالية، وقال عنه العلامة الميرزا محمد
باقر في روضات الجنات: كان عالما فاضلا ورعا صالحا من كبار المجتهدين وأعلام الفقهاء
والمحدثين.
هجر وطنه القطيف وسكن النجف الأشرف سنة 913 ه‍ وهناك قرأ على معظم مشايخ
الإجازة العلوم المعهودة في الرتبة العالية، منهم الشيخ علي الجزائري، والشيخ محمد بن زاهد
النجفي، والشيخ إبراهيم الوراق، وتتلمذ عليه العديد من الفطاحل وأصحاب النظر، منهم:
السيد شريف الدين المرعشي التستري، والسيد نعمة الله الحلي، والسيد معز الدين الأصفهاني.
وله عدة تصنيفات منها: رسالة السراج الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج، ورسالة في
حرمة صلاة الجمعة في زمن الغيبة، والرسالة الحائرية، والرسالة الصومية، ورسالة في أحكام
الشكوك، وكتاب الفرقة الناجية، وحاشية على الشرائع، والرسالة الرضاعية، وكتاب الأربعين،
وله مع الشيخ علي الكركي محاورات ومناقشات في قبول هدية السلطان توفي حدود
سنة 950 ه‍. انظر: ترجمته في روضات الجنات ج 1 ص 25، لؤلؤة البحرين ص 159 وفي
مقدمة كتاب السراج الوهاج للمترجم له.
345

الكركي (1) - في أوائل إجازته (2) للسيد شريف بن السيد جمال الدين
نور الله ابن شمس الدين محمد شاه الحسيني التستري، إذ الظاهر أنه قد
أخذها من ذينك البيتين في كلامه - عليه السلام - في تلك المحاكمة،
فتأمل والذي أورده في تلك الإجازة هكذا:
يقولون لي فضل عليا عليهم * فلست أقول التبر أعلى من الحصا
إذا أنا فضلت الإمام عليهم * أكن بالذي فضلته متنقصا
ألم تر أن السيف يزرى بحده * مقالة هذا السيف أمضى من العصا (3)

هو: الفقيه قدوة المحققين الشيخ الجليل نور الدين أبو الحسن علي بن الحسين بن عبد
العالي العاملي الكركي واشتهر بالمحقق الثاني، ولد - رحمه الله - في كرك سنة 868 ه‍ ودرس
فيها حيث كانت كرك آنذاك معقلا للشيعة يتواجد فيها الكثير من العماة وطلاب العلوم
الدينية، وقال عنه المحقق البحراني في لؤلؤة البحرين: وكان مجتهدا صرفا أصوليا بحتا.
وكان من علماء دولة شاه طهماسب الصفوي، جعل أمور المملكة بيده وكتب رقما إلى
جميع الممالك بامتثال ما يأمر به وكان الشيخ يكتب إلى جميع البلدان كتبا بدستور العمل في
الخراج وما يبغي تدبيره في أمور الرعية حتى أنه غير القبلة في كثير بلاد العجم، باعتبار
مخالفتها لما يعلم من كتب الهيئة.
ومن أساتذته وشيوخه: العينائي وزين الدين الجزائري وشمس الدين العاملي، وغيرهم،
وتتلمذ على يديه عدد من الأعلام والمجتهدين، وله عدة تصانيف منها: دراية الحديث،
الرسالة الخواجية، إثبات الرجعة، جامع المقاصد في شرح القواعد، رسالة في الرضاع، رسالة
قاطعة اللجاج في تحقيق حل الخراج، وتوفي في سنة 940 ه‍.
انظر ترجمته في: روضات الجنات ج 4 ص 360، وفي مقدمة كتاب رسائل المحقق
الكركي وغيرها.
(2) انظر: بحار الأنوار ج 105 ص 116 ط بيروت و ج 108 ص 116 - 117 ط طهران.
(3) رياض العلماء للأصفهاني ج 5 ص 504.
346

المناظرة الستون
مناظرة ابن أبي جمهور الأحسائي (1) مع الهروي في خراسان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده، والصلاة على سيدنا محمد وآله وسلم
تسليما كثيرا.
وبعد فقد سألتني أطال الله بقاءك عما كان بيني وبين الهروي في بلاد
خراسان من المجادلات في المذهب، وما ألزمته من الحجة.

(1) هو: العالم الجليل والحكيم المتكلم المحقق الشيخ محمد بن الشيخ زين الدين أبي الحسن
علي بن حسام الدين إبراهيم بن حسن بن إبراهيم بن أبي جمهور الهجري الأحسائي.
قال العلامة القاضي الشوشتري: صيت فضائله، معروف ومشهور بين الجمهور، وهو في
عداد المجتهدين الإمامية، وفنون كمالاته خارجة عن حد الإحصاء، ولد في الأحساء ودرس
فيها وتفوق على أقرانه، ونال قصب السبق في دراسته، ثم سافر إلى العراق وحضر عند د علمائها
منهم الفاضل شرف الدين حسين بن عبد الكريم الفتال، الشيخ علي بن هلال الجزائري،
الشيخ حرز الدين الأوبلي، كما درس أيضا عند والده المرحوم الشيخ علي.
ومن مؤلفاته (ره) أسرار الحج، الأقطاب الفقهية، كشف الحال عن أحوال الاستدلال، درر
اللآلئ العمادية في الأحاديث الفقهية، غوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، وغيرها.
وقد أثيرت حول ابن أبي جمهور الأحسائي شبهات عديدة، جمعها ورد عليها آية الله
العظمى السيد المرعشي النجفي (ره) في رسالة سماها الردود والنقود على الكتاب ومؤلفه
والأجوبة الشافية الكافية عنهما، وطبعت هذه الرسالة في مقدمة كتاب الغوالي، توفي في أوائل
القرن العاشر ولعله في العقد الأول منه.
راجع ترجمته في كتاب الأقطاب الفقهية في ترجمة المصنف، مجالس المؤمنين
للشوشتري ج 1 ص 581، روضات الجنات للخوانساري ج 7 ص 26، لؤلؤة البحرين للشيخ
يوسف البحراني ص 166، الأعلام للزركلي ج 6 ص 288، أعيان الشيعة ج 9 ص 434.
347

فاعلم أني كنت في سنة ثمان وسبعين وثمانمائة مجاورا في مشهد
الرضا - عليه السلام -، وكان منزلي السيد الأجل، والكهف الأظل
وسيد محسن بن محمد الرضوي القمي، وكان من أعيان أهل المشهد
وساداتهم، بارزا على أقرانه بالعلم والعمل، وكان هو وكثير من أهل
المشهد يشتغلون معي في علم الكلام والفقه، فأقمنا على ذلك مدة، فورد
علينا من الهراة (1) خال السيد محسن، وكان مهاجرا فيها لتحصيل العلم.
فقال: إن السبب في ورودي عليكم ما ظهر عندنا بالهراة من اسم هذا
الشيخ العربي المجاور بالمشهد، وظهور فضله بالعلم والأدب، فقدمت
لأستفيد من فوائده شيئا، وخلفي رجل من أهل كيج ومكران (2) ولكنه من
قريب سنتين متوطن الهراة، مصاحب لعلمائها يطلبون منه فنون العلم،
وقد صار الآن مبرزا في كثير من الفنون، مثل علم النحو، والصرف،
والمنطق، والكلام، والمعاني، والبيان، والأصول، والفقه، وغير ذلك،
وهو عامي المذهب.

(1) هراة: مدينة عظيمة مشهورة من أمهات مدن خراسان، فيها بساتين كثيرة ومياه غزيرة إلا أن
التتار خربوها وقال الشاعر فيها:
هراة أرض خصبها واسع * ونبتها اللقاح والنرجس
ما أحد منها إلى غيرها * يخرج إلا بعد ما يفلس
(مراصد الاطلاع: ج 3 - ص 1455)، وهي اليوم من مدن أفغانستان المعروفة.
(2) مكران: ولاية واسعة تشتمل على مدن وقرى، غربيها كرمان، وسجستان شماليها، والبحر
جنوبيها.
وإياها عنى عمر بن معد يكرب بقوله:
قوم هم ضربوا الجبابر إذ بغوا * بالمشرفية من بني ساسان
حتى استبيح قرى السواد وفارس * والسهل والأجبال من مكران
انظر: مراصد الاطلاع ج 3 ص 1301.
348

وله مجادلات مع أهل المذاهب، وقوة إلزام الخصوم في الجدل،
وقد سمع يذكر هذا الشيخ العربي فجاء لقصد زيارة الإمام الرضا - عليه
السلام -، وقصد ملاقاة هذا الشيخ والجدل معه، وها هو على الأثر يقدم
غدا أو بعد غد فما أنتم قائلون؟
فأشار إلي السيد بما قال خاله مستطلعا لرأيي، وقال: إذا قدم هذا
الرجل فبالضرورة يكون ضيفا لنا لأنه قدم مع خالي وخالي ضيف لنا، وما
يحسن منا تضييف أحد المتصاحبين وترك الآخر، فإن حصلت الضيافة
التقى معك بالضرورة، وتحصل المجادلة بينكما، لأنه إنما أتى لهذا
الغرض فما أنت قائل؟ أتحب أن تلاقيه وتجادله، أو لا تحب ذلك فتحتال
في رده عنا.
فقلت: إني أستعين بالله على جداله، وأرجو أن يقهره الحق بفالجه،
ويغلبه بنوره، وقال السيد: ذلك هو مراد الأصحاب، فلما كان بعد يوم من
مجئ خال السيد قدم الهروي إلى المدرسة، وعلم السيد وخاله بوصوله
فمضينا إليه وجاء به إلى المنزل وأضافوه وعملوا وليمة أحضروا فيها
جميع الطلبة وجماعة من الأشراف والسادة وحصل بيني وبينه الملاقاة في
منزل السيد فجادلت معه في ثلاثة مجالس:
(المجلس) الأول: كان في منزل السيد يوم الضيافة بحضور الطلبة
والأشراف فكان أول ما تكلم به معي قبل البحث أن قال: يا شيخ، ما
اسمك؟
فقلت: محمد.
فقال: من أي بلاد العرب؟
349

فقلت: من بلاد هجر الموسومة بالأحساء (1) أهل العلم والدين.
فقال: أي شئ مذهبك؟
فقلت: سألتني عن الأصول أو الفروع؟
فقال: عن كليهما.
فقلت: مذهبي في الأصول كل ما قام الدليل عليه، وأما في الفروع
فلي فقه منسوب إلى أهل البيت - عليهم السلام -.
فقال: أراك أمامي المذهب.

(1) الأحساء: هي علم على مواضع من بلاد العرب: أحساء بني سعد بحذاء هجر، أول من عمرها
وحصنها وجعلها قصبة هجر أبو طاهر القرمطي، وهي مشهورة، وأحساء بني وهب: على
خمسة أميال من المرتمي، بين القرعاء وواقصة على طريق الحاج، فيه بركة وتسعة آبار، كبار
وصغار، وهو أيضا: ماء لغني.
قال الحسين بن مطير:
أين جيراننا على الأحساء أين جيراننا على الأطواء
وفي المنجد: الأحساء أو الحساء إقليم يشمل الساحل الشرقي في المملكة العربية
السعودية عرف سابقا باسم (هجر) و (البحرين) يعرف اليوم بالمنطقة الشرقية الغنية زراعيا
(تمور وفواكه)، منطقة نفط هامة، أشهر مدنه: الهفوف، القطيف، جبيل، جزيرة جنة، صفوي،
الدمام، الخبر، الظهران، رأس تنورة. وجاء في أنوار البدرين: وهي (أي بلاد الأحساء) مدينة
كبيرة عظيمة من أكبر مدن الإسلام القديمة وهي هجر (تغليبا) وينسب إليه رشيد الهجري
الذي هو من خواص أصحاب أمير المؤمنين - عليه السلام - ومن حملة أسراره، وهذه المدينة
تقارب جزيرة أوال أو تزيد، ذات الأترج والنخيل والأرز والقطن، وتمرها أجود تمر، وفيها
آثار قديمة وينقل مستفيضا أن في بعض قراها - ولعلها القارة - آثارا من زمن المسيح عيسى بن
مريم - عليه السلام - ومن أقدم قراها جواثة وهي قاعدة بلاد الأحساء في الزمن القديم، خربها
الرمل وفي الحديث: أول جمعة أقيمت بعد المدينة في جواثة في بني عبد القيس، وفيها الجبل
المشهور المعروف بجبل القارة، من عجائب الدنيا فيه مغارات كثيرة عظيمة ليس فيه شئ من
هوام الأرض وحشراتها أصلا حتى النمل، ومن خواصه البرودة العظيمة في الصيف.
راجع: مراصد الاطلاع ج 1 ص 36 - 37، المنجد (قسم الأعلام) ص 24، أنوار البدرين
في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين ص 382.
350

فقلت: نعم، أنا إمامي المذهب، فما تقول؟
فقال: إن الإمامي يقول: إن علي بن أبي طالب - عليه السلام - إمام بعد
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بلا فصل.
فقلت: نعم، وأنا أقول ذلك.
فقال: أقم الدليل على دعواك.
فقلت: لا أحتاج إلى إقامة دليل على ذلك.
فقال: ولم؟
فقلت: لأنك لا تنكر إمامة علي - عليه السلام - أصلا، أنا وأنت
متفقان على أنه إمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولكنك
أنت تدعي الواسطة بينه وبين الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأنا
أنفي الواسطة، فأنا ناف وأنت مثبت، فإقامة الدليل عليك اللهم إلا أن تنكر
إمامة علي - عليه السلام - أصلا وتقول: إنه ليس إماما أصلا ورأسا، فتخرق
الإجماع وتلزمني إقامة الدليل حينئذ.
فقال: أعوذ بالله ما أنكر إمامة علي - عليه السلام -، ولكني أقول: هو
الرابع بعد الثلاثة قبله.
فقلت: إذن أنت المحتاج إلى إقامة الدليل على دعواك لأني لا
أوافقك على إثبات هذه الوسائط، فضحك الأشراف والحاضرون من
الطلبة، وقالوا: إن العربي لمصيب، والحق أحق بالا تباع، إنك أنت
المدعي وهو المنكر، والمدعي محتاج إلى إثبات دعواه إلى البينة فألزمته
الحجة.
قال: الدليل على مدعاي كثير.
فقلت: أريد واحدا لا غير.
351

فقال: الإجماع من الأمة على إمامة أبي بكر بعد رسول الله - صلى الله
عليه وآله - بلا فصل وأنت لا تنكر حجة الإجماع.
فقلت: ما تريد بالإجماع، الإجماع الحاصل من كثرة القائل بذلك
في ذلك الوقت، أو الإجماع الحاصل من أهل الحل والعقد من يوم موت
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ إن أردت الأول فلا حجة فيه، لأن
المخالف موجود ولا حجة فيها بنص القرآن لأنه تعالى يقول: (وقليل من
عبادي الشكور) (1)، ولم تزل الكثرة مذمومة في جميع الأمور حتى في
القتال، قال تعالى: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع
الصابرين) (2) وإن أردت الثاني فلي في إبطاله طريقان، طريقة على
مذهبي ولا تلزمك، وهي أن الإجماع عندنا إنما يكون حجة مع دخول
المعصوم فيه (3)، فكل إجماع خال منه لا حجة فيه عندنا لجواز الخطأ على
كل واحد واحد فهكذا على الكل لتركبه من الآحاد، وأنت لا تقول بدخول
المعصوم، فالاجماع الذي تدعيه لا يكون عندنا صحيحا فلا يكون حجة
وطريقة على مذهبك، وهو أن الإجماع هو: اتفاق أهل والعقد من
أمة النبي - صلى الله عليه وآله - على أمر من الأمور.
وهذا المعنى لا يحصل لأبي بكر يوم السقيفة، بل كان فضلاء العرب
وعلماؤهم وزهادهم وذو والأقدار أولوا الأيدي والأبصار منهم وأهل
الحل والعقد غيابا لم يحضروا معهم السقيفة بالاتفاق كعلي بن أبي طالب،

(1) سورة سبأ: الآية 13.
(2) سورة البقرة: الآية 249.
(3) فرائد الأصول: للشيخ مرتضى الأنصاري ج 1 ص 80، كفاية الأصول: للشيخ محمد كاظم
الخراساني (الآخوند) ص 331.
352

والعباس، وابنه عبد الله بن العباس، والزبير، والمقداد، وعمار، وأبي ذر،
وسلمان الفارسي، وجماعة من بني هاشم، وغيرهم من الصحابة لأنهم
كانوا مشتغلين بتجهيز النبي - صلى الله عليه وآله - فرأى الأنصار فرصة
باشتغال بني هاشم، فاجتمعوا إلى سقيفة بني ساعدة لإجالة الرأي، وعلم
أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وجماعة من الطلقاء باجتماع الأنصار
في السقيفة واختلافهم في الإمامة، فحضروا معهم، وكانت بينهم
مجادلات ومخاصمات في الخلافة حتى قال الأنصار: منا أمير، ومنكم
أمير، فغلبهم أبو بكر بحديث رواه فقال: إن النبي - صلى الله عليه وآله -
قال: الأئمة من قريش (1)، فخصم الأنصار بذلك.
فقام عمر وأبو عبيدة فسبقا الأنصار على البيعة، وصفقا على يد أبي
بكر وقالا: السلام عليك يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وآله - فكانت
البيعة الخاطئة لأبي بكر يومئذ في السقيفة (2) بالخديعة والحيلة والعجلة
والغلبة والقهر، ولهذا قال عمر: كانت بيعتي لأبي بكر فلتة وقى الله
المسلمين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (3)، فأين الإجماع المدعى
حصوله، وقد عرفت أن فضلاء الأصحاب وزهادهم وذوي الأقدار
والمهاجرين والأنصار لم يحضروا معهم، ولم يبايعوا ولم يستطلعوا
رأيهم، وهل يصح من هؤلاء الأدنون من الصحابة الذين كان أكثرهم طلقا
ومنافقين ومؤلفة أن يعقدوا الخلافة التي هي قائمة مقام النبوة بغير حضور

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) وممن روى حديث السقيفة: ابن الأثير في الكامل في التاريخ: ج 2 ص 325، الشهرستاني
في الملل والنحل: ج 1 ص 30، ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 2 ص 21 - 60، و ج 5
ص 5 - 52، أبو بكر الجوهري في كتاب السقيفة.
(3) تقدمت تخريجاته.
353

أولئك المشتهرين في الفضل والعلم والشرف والزهد مع أن الإجماع لا
ينعقد عند الكل إلا باتفاق أهل الحل والعقد فدعوى الإجماع حينئذ على
خلافته بعيدة.
فقال: ما ذكرته مسلم، ولكن من ذكرت من الأصحاب وغيرهم بعد
ذلك بايعوا ورضوا فحصل الإجماع من الكل بحيث لا يخالف في ذلك
أحد وإن لم يكن إيقاعهم دفعة فإن ذلك غير شرط في الإجماع.
فقلت: إن اتفاقهم وحصول رضاهم بعد ذلك كما زعمت لا يقوم
حجة لتطرق الاحتمال فيه بالإجبار والإكراه والتقية، فإنهم لما رأوا هؤلاء
العامة والرعاع الذين يميلون عند كل ناعق ولا يستضيئون بضوء العلم قد
استمالهم الرجل وخدعهم وصاروا أتباعا له، وقلدوه في أمورهم، وقلدوا
كبراءهم في اتباعه لم يمكن لهؤلاء الباقين المخالفة لهذه العوام وخافوا
على أنفسهم من الخلاف عليهم والقتل فانقادوا كرها، فلا يكون انقيادهم
الحاصل بالإكراه مصححا للإجماع بل دل على عدم صحته.
فقال: ومن أين عرفت ذلك منهم حتى يكون ما ذكرت حقا؟
فقلت: قد تقرر في علم الميزان أن الاحتمال إذا قام على الدليل بطل،
واحتمال الإكراه قد قام في هذا الإجماع فيكون باطلا مع أنه قد ظهرت
إمارات الإكراه في روايات كثيرة وأنا أورد لك بعضها، منها:
الأول: ما ورد من ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (1) مع أنه
عامي المذهب، فقال: في باب فضائل عمر: إن عمر هو الذي وطأ الأمر
لأبي بكر، وقام فيه حتى أنه دفع في صدر المقداد، وكسر سيف الزبير،

(1) شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد ج 1 ص 174.
354

وكان قد شهره عليهم وهذا غاية الإكراه.
الثاني: ما رواه أيضا (1) عن البراء بن عازب، قال: لم أزل محبا لأهل
البيت، ولما مات النبي - صلى الله عليه وآله - أخذني ما يأخذ الواله من
الحزن، وخرجت لأنظر ما يكون من الناس فإذا أنا بأبي بكر وعمر وأبي
عبيدة سائرين ومعهم جماعة من الطلقاء وعمر شاهر سيفه، وكلما مر
رجل من المسلمين قال له: بايع أبا بكر كما بايعه الناس فيبايع له إن شاء
ذلك أو لم يشأ فأنكر عقلي ذلك الأمر فحيث اشتد الأمر جئت حتى أتيت
عليا - عليه السلام - فأخبرته بخبر القوم، وكان يسوي قبر رسول الله -
صلى الله عليه وآله - بمسحاته فوضع المسحاة من يده ثم قرأ: (آلم،
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) (2).
فقال العباس: تربت أيديكم بني هاشم إلى آخر الدهر، وهذا دليل
الإكراه بترجع علي والعباس له، وما ظنك بامرء يدفع صدور المهاجرين،
ويكسر سيوفهم ويشهر فيه السيوف على رؤوس المسلمين كيف لا
يكون إكراها لولا عمى أفئدة!: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى
القلوب التي في الصدور) (3).
ومنها: قول عمر لسعد بن عبادة الخزرجي سيد الأنصار وأميرهم
لما امتنع من البيعة وهم في السقيفة لأنه كان حاضرا معهم ولم يبايع، قال:
أوطئوا سعدا واقتلوا سعدا، قتل الله سعدا (4)، وهذا عين الإكراه.

(1) شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 219، وفي بحار الأنوار: ج 28 ص 284 ح 46 نحوه.
(2) سورة العنكبوت: الآية 1 و 2.
(3) سورة الحج: الآية 46.
(4) شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 174، وفي تاريخ الطبري: ج 3 ص 222 و 223، الكامل في
التاريخ: ج 2 ص 328 نحوه.
355

ومنها: ما رواه أهل الحديث، ورواه عدة من أصحابنا ممن يوثق
بنقلهم، وتعرف عدالتهم أن أبا بكر لما صعد المنبر أول يوم جمعة قام إليه
اثنا عشر رجلا، ستة من المهاجرين، وستة من الأنصار، فأنكروا عليه
قيامه ذلك المقام حتى أفحموه على المنبر ولم يرد جوابا، فقام عمر،
وقال: يا...، إن كنت لا تقوم بحجة فلم أقمت نفسك هذا المقام، وأخذ
بيده وأنزله عن المنبر (1).
ولما كان الأسبوع الثاني جاءوا في جمع وجاء خالد بن الوليد معهم
في مائة رجل وجاء معاذ بن جبل في مائة رجل شاهرين سيوفهم حتى
دخلوا المسجد وكان علي - عليه السلام - فيه وجماعة من أصحابه معه
ومعهم سلمان.
فقال عمر: والله يا أصحاب علي، لئن ذهب رجل منكم يتكلم بالذي
تكلم بالأمس لآخذن الذي فيه عيناه، فقام سلمان الفارسي، فقال: صدق
رسول الله - صلى الله عليه وآله - إنه قال: بينما أخي وابن عمي جالس في
مسجدي إذ وثب عليه طائفة من كلاب أهل النار يريدون قتله ولا شك
أنتم هم، فأهوى إليه عمر بالسيف ليضربه، فأخذ علي - عليه السلام -
بمجامع ثوبه وجذبه إلى الأرض، وقال: يا بن صهاك الحبشية أبأسيافكم
تهددونا، وبأجمعكم تكاثرونا؟! والله لولا كتاب من الله سبق، وعهد من
رسول الله تقدم لأريتكم أينا أقل عددا وأضعف ناصرا، ثم قال لأصحابه:
تفرقوا (2).
وإذا كانت الأحوال الجارية بينهم على مثل هذه الروايات دلت على

(1) الاحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 75 - 79.
(2) الاحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 79 - 80 بتفاوت.
356

وقوع الكراهة وعدم تمكن هؤلاء المتخلفين عن السقيفة من ترك المبايعة
، فلا تكون بالموافقة الحاصلة منهم وإنما هي بالكراهة، فلا تكون حجة
بالإجماع.
فقال: هذه الروايات من طرقكم، فلا تكون حجة علينا.
فقلت: سلمنا، ولكن منها ما يكون من طرقكم كرواية ابن أبي
الحديد مع أن احتمال الإكراه غير مندفع بحجة من عندكم، والدليل قاطع
فيبقى احتمال الكراهة بحاله فحينئذ لا يحصل الإجماع المدعى حصوله
فلا تقوم لك الدلالة على الواسطة فأت بغيرها إن كان لك حجة قاطعة على
مدعاك وإلا فاعترف ببطلانها.
فقال: هاهنا حجة.
فقلت: وما هي؟
فقال: أمر النبي - صلى الله عليه وآله - بالصلاة خلف أبي بكر في
مرض موته (1) وذلك دليل على تقديمه له على سائر أصحابه لأن المقدم
في الصلاة يقدم في غيرها إذ لا قائل بالفرق.
فقلت: هذه حجة ضعيفة جدا.
أما أولا: فلأنه لو كان التقديم صحيحا كما زعمت وكان مع صحته
دالا على إمامته لكان ذلك نصا من النبي صلى الله عليه وآله بالإمامة، ومتى
حصل النص لا يحتاج معه إلى غيره فكيف وأبو بكر وأصحاب السقيفة لم
يجعلوا ذلك دليلا على إمامته، وكيف أبو بكر وعمر لم يحتجوا به على
الأنصار وكيف توقفت الخلافة على المبايعة التي حصل عليهم فيها

(1) انظر فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: ج 1 ص 106 ح 78.
357

الاختلاف والاحتياج إلى إشهار السيوف مع أن هذه الواقعة كانت أثبت
دليلا، وأقوى حجة لأنها نص النبي - صلى الله عليه وآله -، فكيف عدلوا
إلى الأضعف الذي هو أحد الأمرين الأعسر، والعاقل لا يختار الأصعب مع
إنجاح الأسهل إلا لعجزه عنه.
فعلم أن ذلك ليس فيه حجة أصلا، فكيف ما لا يكون حجة عندهم
ولا عند أحد من الصحابة تجعله أنت حجة، ومن ذلك يعلم أن قصدك
المغالطة.
وأما ثانيا: فلأن التقديم في الصلاة لا يدل على الإمامة العامة لأن
الخاص لا يدل على العام خصوصا على مذهبكم من جواز إمامة الفاسق
في الصلاة، وعدم اشتراط العدالة في التقديم بها، والإمامة العامة يشترط
فيها العدالة بالإجماع وأن الإمام لو فسق عندكم وجب على الأمة عزله،
فكيف تجعلون ما لا يحتاج إلى العدالة حجة فيما يحتاج إليها إن هذا
الاحتجاج واهي الدليل غير مسموع ولا مقبول عند العقلاء ومن له أدنى
روية.
وأما ثالثا: إن هذا التقديم غير صحيح عند الكل أما عندنا فلأن
المنقول أن بلالا لما جاء يعلم بوقت الصلاة كان النبي - صلى الله عليه وآله -
مغمورا بالمرض، وكان علي - عليه السلام - مشتغلا بالرسول - صلى الله
عليه وآله -، فقال بعضهم: علي يصلي بالناس فقالت عائشة (1): مروا أبا
بكر يصلي بالناس فظن بلال أن ذلك من أمر النبي - صلى الله عليه وآله -
فجاء وأعلم أبا بكر بذلك فتقدم، فلما كبر أفاق النبي - صلى الله عليه وآله -

(1) انظر: تاريخ الطبري: ج 3 ص 197، فضائل الصحابة لأحمد ج 1 ص 109 ح 80 وص 118
ح 88 الكامل في التاريخ ج 2 ص 322، طبقات ابن سعد ج 3 ص 178 - 181.
358

فسمع التكبير، فقال: من يصلي بالناس؟
فقيل له: أبو بكر.
فقال: أخرجوني إلى المسجد، فقد حدثت في الإسلام فتنة ليست
بهينة، فخرج - صلى الله عليه وآله - يتهادى بين علي والفضل بن العباس
حتى وصل إلى المحراب، ونحى أبا بكر، وصلى بالناس، وأما عندكم
فتدعون أن ذلك كان بأمر رسول الله - صلى الله عليه وآله - وهي دعوى
باطلة من وجوه.
الأول: أن الاتفاق واقع على أن الأمر الذي خرج إلى بلال لم يكن
مشافهة من النبي - صلى الله عليه وآله - فقيل له: يا بلال، قل لأبي بكر
يصلي بالناس، أو قل للناس يصلون خلف أبي بكر، بل كان بواسطة
بينهما لأن بلالا لم يحصل له الأذن في تلك الحالة بالدخول على النبي
- صلى الله عليه وآله - لاشتغال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالمرض
وإذا كان بواسطة احتمل كذب الواسطة لأنه غير معصوم، وإذا احتمل كذبه
لم يبق في هذا الوجه حجة لاحتمال أن يكون بغير أمر النبي - صلى الله
عليه وآله - ولا علمه، ويدل على ذلك خروجه عليهم في الحال لما علم
وعزل أبي بكر وتوليته الصلاة بنفسه.
الثاني: أنه لو كان ذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وآله - كما زعمتم
لكان خروجه في الحال مع ضعفه بالمرض وتنحيته أبا بكر عن المحراب
وتوليه الصلاة بنفسه مع صدور الأمر منه أولا مناقضة صريحة لا تليق بمن
لا ينطق عن الهوى لأن الاتفاق واقع على أن أبا بكر لم يتم الصلاة بالناس
بل خرج النبي - صلى الله عليه وآله - ونحى أبا بكر عنها وأتم الصلاة
بالناس رواه أهل السنة في جملة مصنفاتهم.
359

الثالث: لو سلمنا جميع ذلك لكان خروج النبي - صلى الله عليه
وآله - وعزله له مبطلا لهذه الأمارة لأنه - عليه السلام - نسخها بعزله عنها
فكيف يكون ما نسخه النبي - صلى الله عليه وآله - بنفسه حجة على ثبوته
إن هذا لعجب بل أقول: إن عزل النبي - صلى الله عليه وآله - له بعد تقديمه
كما زعمتم إنما كان لإظهار نقصه عند الأمة وعدم صلاحيته في التقدم في
شئ فإن من لا يصلح أن يكون إماما في الصلاة مع أنها أقل المراتب
عندكم لصحة تقديم الفاسق فيها كيف يصح أن يكون إماما عاما، ورئيسا
مطاعا لجميع الخلق، وإنما كان قصده - صلى الله عليه وآله - إن كان هذا
الأمر وقع منه - إظهار نقصه وعدم صلاحيته للتقديم على الناس ليكون
حجة عليهم.
وما أشبه هذه القصة بقصة براءة (1) وعزله عنها، وإنفاذه بالراية يوم
خيبر (2) فإن ذلك كله بيان لإظهار نقصه وعدم صلاحيته لشئ من الأمور
البينة وإظهار ذلك للناس يعرف ذلك من له أدنى روية، والعجب منكم
كيف تستدلون بالأمر بالصلاة التي عزل عنها ولم يتمها بالإجماع على
إمامته؟ وكيف لا تستدلون على إمامة علي - عليه السلام - باستخلافه النبي
- صلى الله عليه وآله - على المدينة في غزوة تبوك المتفق على نقلها
وحصوله منه - صلى الله عليه وآله - لعلي - عليه السلام - وعدم عزله عنها
بالاتفاق؟! فإن الاستخلاف على المدينة التي هي دار الهجرة، وعدم
الوثوق عليها لأحد إلا علي - عليه السلام - دليل على أنه القائم بالأمر بعده
في جميع غيباته ومهماته وإذا ثبت استخلافه على المدينة وعدم عزله

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) تقدمت تخريجاته.
360

عنها ثبت استخلافه على غيرها إذ لا قائل بالفرق.
ولما وصلنا في المجادلة في ذلك المجلس إلى هذا الحد حضرت
مائدة السيد فانقطعت بحضورها المجادلة واشتغل جميع الحاضرين
بالأكل والملا أيضا معهم واشتغلت به في جملتهم، وعرضت لي فكرة
حال الأكل في الحديث المروي عن النبي - صلى الله عليه وآله - وهو قوله -
عليه السلام -: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية (1).
فقلت: يا ملا إجازة.
قال: نعم.
قلت: ما تقول في هذا الحديث المروي عن النبي - صلى الله عليه
وآله - أهو حديث صحيح أم لا؟ وأوردت الحديث.
فقال: بل حديث صحيح متفق على صحته.
فقلت: من إمامك؟
فقال: ليس الحديث على ظاهره، بل المراد بالإمام في الحديث
القرآن، وتقديره من مات ولم يعرف إمام زمانه الذي هو القرآن مات ميتة
جاهلية.
فقلت: إذن يلزم أن يكون العلم بالقرآن واجبا عينا على كل مكلف
مع أن ذلك لم يقل به أحد من العلماء.
فقال: ليس المراد القرآن كله، بل المراد الفاتحة والسورة لأنهما

(1) انظر: مسند أحمد ج 4 ص 96، المعجم الكبير ج 19 ص 388 ح 910، كنز العمال ج 1
ص 103 ح 464، و ج 6 ص 65 ح 14863، مجمع الزوائد لأبي بكر الهيثمي ج 5 ص 218،
سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني ص 354 ح 350، الأصول من الكافي ج 1 ص 377 ح 3،
رسائل الشيخ المفيد: ص 384، الغيبة للنعماني ص 129 ح 6، حلية الأولياء ج 3 ص 224،
بحار الأنوار ج 23 ص 78 ح 9.
361

شرطان في صحة الصلاة، فإنهما واجبان عينا بالإجماع فمن جهلهما
يكون جاهليا.
فقلت: إن النبي - صلى الله عليه وآله - أضاف الإمام إلى الزمان في
الحديث وهو دليل على اختصاص أهل كل زمان بإمام يجب عليهم
معرفته. ومع القول بالفاتحة والسورة لا فائدة في هذا التخصيص حينئذ
فلا يكون هذا تأويلا مطابقا لمقتضى الحديث.
فقال الأشراف والحاضرون من الطلبة: صدق الشيخ، إن هذه
الإضافة في الحديث تقتضي تخصيص أهل كل زمان بإمام يجب عليهم
معرفته، وأن من مات قبل معرفته مات جاهليا، والتأويل بالفاتحة ينافي
ذلك، لوجوب الفاتحة على أهل كل زمان، فانقطع ورجع.
فقال: إذن أنا وأنت سواء في ذلك في هذا الزمان.
فقلت: حاش لله، ليس الأمر كما زعمت، بل أنا لي إمام في زماني
هذا أعتقد إمامته، وأعرفه حق معرفته، قامت لي الدلائل على ذلك ولست
أنت كذلك فما أنا وأنت سواء.
فقال: إن إمامك الذي تعتقده أنت ونحن لا نشاهده ولا نعرف مكانه،
ولا تنتفع به في دينك، ولا تأخذ عنه فتاويك فكان الأمر في وفيك سواء.
قلت: كلا إن الحديث لم يتضمن وجوب معرفة مكان الإمام
ووجوب أخذ الفتاوى عنه، وإنما تضمن وجوب معرفته وأنا الحمد لله قد
عرفته وقامت لي الدلائل القاطعة على وجوده ووجوب إمامته واتباعه،
وأرجو في كل وقت ظهوره وملاقاته لي ولسائر الأمة وهذا هو الذي
وجب علي بمقتضى الحديث لأنه لم يقل: من لم يأخذ عن إمام زمانه
الفتاوى ولا قال: من لا يعرف مكان إمامه بل قال: من لا يعرف إمامه، وأنا
362

بحمد الله قد عرفته، وأنت تعتقد أن الإمام لك وأن الزمان الذي أنت فيه
خال من الإمام فلست أنا وأنت سواء والحمد لله.
فقال: أنا في طلبه وتحصيل معرفته، وقد ذكر لي أن باليمن رجلا
يدعي الإمامة وأنا أريد الوصول إليه لأعرف صحة إمامته ودعواه فأتبعه.
فقلت له: إذن أنت في هذا الوقت لا إمام لك فأنت في هذا الوقت
جاهل، ثم قلت: ولا يصح لك ذلك إلا أن تترك مذهبك وترجع إلى غيره
لأن هذا المدعي ليس من أهل السنة بل هو من الزيدية فإن كنت منهم صح
لك ذلك وإن كنت من السنة فالسنة لا يعتقدون ذلك لأنهم لا يعتقدون
وجود الإمام في كل وقت، ولا يرجون وجوده على كل حال، فسكت ولم
يرد جوابا، وفرغ الحاضرون من الأكل ورفعت المائدة وودعنا الحاضرون
وخرجوا وتفرق أهل المجلس، وخرج الملا في جملتهم.
المجلس الثاني:
كان يوم العيد العاشر من ذي الحجة اتفق أن السيد محسن بن محمد
خرج من المنزل وكنت معه فقصدنا زيارة الإمام الرضا - عليه السلام -
والأخوان في ذلك اليوم الشريف فجئنا وزرنا الإمام - عليه السلام -، وبعد
الفراغ دخلنا مدرسة السلطان شاهرخ التي هي بجنب حضرة الإمام - عليه
السلام - وكان فيها جماعة من الطلبة ساكنين، فقصدناهم فيها للسلام
عليهم وزيارتهم وكان فيها رجل مدرس اسمه ملا غانم فوجدناه جالسا
في المدرسة ومعه جماعة من أهل العلم والعوام من أهل المشهد وغيرهم
ووجدنا الملا الهروي معهم فسلمنا على الحاضرين وجلسنا معهم
فتخاوضوا في الأحاديث والحكايات والمذاكرة في العلم، فجرى بينهم
أشياء كثيرة ثم إن الملا الهروي أشار إلي بمسألة.
363

فقال: ما تقول في ولد الزنا هل تنسبه إلى أبيه وأمه أم لا؟
فقلت: الذي عليه علماء أهل البيت - عليهم السلام - أنه لا يصح
نسبته إلى أبيه ولا إلى أمه لأنه عندهم أنه ليس ولدا شرعيا والنسب عندهم
إنما يثبت بالنكاح الصحيح، والشبهة دون الزنا.
فقال: فيلزمكم عند انتفاء النسبة الشرعية أن لا يكون محرما فيحل
له وطئ أمه وأخواته ويحل للأب وطئ ابنته وهذا لا يقول به أحد من
أهل الإسلام.
فقلت: إنه ولد لغة لا شرعا، ونحن نقول: بالتحريم المذكور من
حيث اللغة، فالتحريم عندنا يتبع اللغة وغيره من الأحكام يتبع الشرع.
فقال: هذا خبط في البحث لأنكم مرة تقولون: إنه ولد وتحكمون له
بأحكام الأولاد، ومرة تقولون: إنه غير ولد وتحكمون له بأحكام
الأجانب، وهذه مناقضة وخبط في الفتوى.
فقلت: ليس ذلك مناقضة بل أثبت له أحكام الأولاد من حيثية،
والأجانب من حيثية، ولا استحالة في اختلاف الأحكام باختلاف
الحيثيات.
فقال: وأي حاجة لكم إلى هذه التمحلات ولم تتبعوا اللغة دائما لأنه
عند أهل اللغة ولد حقيقة وإنما جاء الشرع تابعا للغة.
قلت: ليس الشرع تابعا للغة دائما لأنه عند أهل اللغة ولد حقيقة كما
ذكرت، والشرع إنما جاء تابعا للغة دائما فإن الألفاظ اللغوية وإن كانت
على لفظها في الاصطلاح الشرعي إلا أنها في المعاني مغايرة لها فإن
الصلاة لغة الدعاء، والزكاة لغة النمو، وفي الشرع وإن كانت تسميتها كذلك
إلا أن المعني منها غير المعنى اللغوي، فإن الصلاة والزكاة شرعا غير الدعاء
364

والنمو ومع ذلك فإن مذهبنا مبني على الاحتياط فإن التحريم في الوطئ
والنظر وما يتبع النسب من الأحكام نظرا إلى اللغة أخذا بالأحوط وموضع
الوفاق وهي في النسب تتبع الشرع لأنه عين الموافق لمراد الشارع، فلو
جعلناه منتفيا في كل الأحكام لاحتمل أن يكون غير مراد الشارع فيحصل
حينئذ العقاب أيضا باعتبار التولد اللغوي، فالاحتياط التام مذهبنا والشارع
قد نفاه في قوله - عليه السلام -: الولد للفراش، وللعاهر الحجر (1)، فلولا
إسقاط حكم الزنا في ذلك لم يصح نفيه لاحتمال حصوله من الزنا دون
الفراش، فأعرض عن المجادلة في هذه المسألة، ثم أقبل ينظر إلى كتاب
كان معي، وقال: ما هذا الكتاب الذي معك.
فقلت: هذا مصنف للشيخ جمال الدين الحسن بن المطهر الحلي
من مشائخ الإمامية وعلمائهم، يسمى بكتاب نهج الحق وكشف
الصدق (1)، يبحث فيه عن أحوال الخلاف بين الإمامية وأهل السنة، وقد
ذكر فيه حديثا ينقله عن صحيح مسلم أتحب أن أحكيه لك.
فقال: وما هذا الحديث؟
فقلت: ما تقول فيما اشتمل عليه صحيح مسلم أتنكره؟
فقال: لا بل جميع ما اشتمل عليه صحيح مسلم من الأحاديث فإني
معترف بصحته.
فقلت: روى مسلم في صحيحه، والحميدي في الجمع بين

(1) صحيح البخاري ج 5 ص 192. سنن أبي داود ج 2 ص 282 ح 2273، مسند أحمد ج 1
ص 59 و 65، الموطأ ج 2 ص 739 ح 20، السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص 86.
(2) هو أحد مؤلفات العلامة الحلي - رحمه الله - في علم الكلام، كتبه إجابة لطلب السلطان محمد
خدابنده - عبد الله - الملك المغولي المتشيع.
365

الصحيحين في مسند عبد الله بن العباس، قال: لما احتضر النبي - صلى الله
عليه وآله - كان في بيته رجال، منهم: عمر بن الخطاب، فقال النبي - صلى
الله عليه وآله -: هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا.
فقال عمر بن الخطاب: إن النبي - صلى الله عليه وآله - قد غلب عليه
الوجع، وإن الرجل ليهجر، فاختلف الحاضرون عند النبي - صلى الله عليه
وآله -، فبعضهم يقول: القول ما قاله النبي - صلى الله عليه وآله -، وبعضهم
يقول: القول ما قاله عمر، فلما كثر اللغط والاختلاف قال النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم -: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع (1).
فقال: هذا حديث صحيح، ولكن أي طعن على عمر فيه؟
فقلت: الطعن من وجهين:
الأول: أنه سوء أدب منه ومن الجماعة في حق النبي - صلى الله عليه
وآله - في ردهم عليه مراده، وعدم قبولهم أوامره، رفع أصواتهم فوق
صوت النبي - صلى الله عليه وآله - حتى تأذى بذلك وقال لهم: قوموا عني
تبرئا منهم، وقد قال الله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه

(1) حديث مشهور روي بألفاظ متقاربة انظر: صحيح مسلم: ج 3 ص 1259 ج 22، شرح نج
البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 55 و ج 6 ص 51، الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 9 2،
المسند للحميدي ج 1 ص 241 ح 526، طبقات ابن سعد ج 2 ص 36 و 37، مسند أحمد بن
حنبل ص 293 و 355، صحيح البخاري ج 1 ص 39 و ج 4 ص 85 و 121، المعجم الكبير
للطبراني ج 11 ص 445 ح 12261، شرح السنة للبغوي ج 11 ص 180 ح 2755، تاريخ ابن
الأثير ج 2 ص 320.
وأخرجه في البحار ج 22 ص 468، عن إعلام الورى ص 141، إرشاد المفيد ص 89،
وفي ص 472 ح 21، عن مناقب ابن شهرآشوب ج 1 ص 235، وفي ص 474 ح 22 عن أمالي
المفيد ص 36 ح 3، وفي ص 498 ح 44 عن كتاب سليم بن قيس ص 210.
366

فانتهوا) (1) وقال تعالى: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) (2)، وقال
تعالى: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول
كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) (3)، ومع
ذلك لم يقتصر عمر على هذه الوجوه بل قابله بالشتم في وجهه وقال: بأن
نبيكم ليهجر، أي يهذي وقال تعالى: (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا
وحي يوحى) (4).
الثاني: إن النبي - صلى الله عليه وآله - لما أراد إرشادهم وحصول
الألف بينهم وعدم وقوع الاختلاف والعداوة والبغضاء بكتب الكتاب
الذي يكون نافيا لضلالهم أبدا بنص الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -
منعه عمر وحال بينه وبين مراده وهو مأمور بتوقيره، واتباع أوامره، وقد
قال الله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن
يكون لهم الخيرة) (5)، فكيف ساغ لعمر أن يختار منع النبي - صلى الله
عليه وآله - عن مراده مقابلا له في وجهه بحضرة أصحابه ولهذا كان عبد الله
ابن عباس إذا ذكر هذا الحديث يبكي حتى تبل دموعه الحصى ويقول: يوم
الخميس وما يوم الخميس (6)، وكان يقول دائما: الرزية كل الرزية ما حال

(1) سورة الحشر: الآية 7.
(2) سورة الحجرات: الآية 1.
(3) سورة الحجرات: الآية 2.
(4) سورة النجم: الآية 3 و 4.
(5) سورة الأحزاب: الآية 36.
(6) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص 54، صحيح مسلم ج 3 ص 1257 - 1258
ح 20 - (1637).
367

بين رسول الله - صلى الله عليه وآله - وبين كتابه (1).
فقال: أما قولكم إن قوله: إن نبيكم ليهجر شتم، فغير مسلم، أما
الأول فلأنه لم يقصد بهذه اللفظة ظاهرها فإن في جلالة عمر، وعظم شأنه
ما يمنعه من ذلك ولكن إنما أخرجها على مقتضى خشونة غريزته، وكان
موصوفا بالخشانة وإباءة الطبع.
وأما ثانيا: فلأن قوله: إن نبيكم ليهجر، مشتق من هجر مهاجرة،
فتكون معناه إن نبيكم ليهاجر، وأما قولكم إنه منع النبي - صلى الله عليه
وآله - عن كتابه، وتقدم بين يديه، ورده عن مراده، فإنه اجتهاد رأيه فسوغ
لمثله العمل باجتهاده فإنه لما رأى في اجتهاده أن ترك هذا الكتاب أصلح،
ساغ له المنع منه على مقتضى اجتهاده وإن كان مخطئا في ذلك الاجتهاد
فإن الخطأ في ذلك غير معاقب عليه، ولا يصح ذم فاعله لأنه أقصى تكليفه.
فقلت: هذا الجواب غير مسموع.
أما الأول: فإن قولك: إنه غير شتم، دليل على قلة معرفتك بلغة
العرب، وعدم علمك باصطلاحاتهم في المخاطبات فإن ما هو دون هذه
اللفظة عندهم شتم يقاتلون عليه ويتخاصمون، فكيف بهذه اللفظة، ولا
ألومك على قلة معرفتك بذلك لأنك لست بعربي.
وأما قولك: فإنه لم يقصد بها ظاهرها إلى آخر الكلام، فهو اعتراف
منك بأن ظاهرها منكر وزور ونزهته عن ذلك فمن أين عرفت عدم قصده
مع أنه تلفظ بها متعمدا واللفظ إذا وقع عن عمد وإرادة دل بظاهره على أنه

(1) راجع: صحيح مسلم في آخر كتاب الوصية ج 2 ص 1259 ح 22، مسند أحمد ج 1 ص 222،
صحيح البخاري ك المرض ب قول المريض قوموا عني ج 7 ص 153 - 154، شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 55 و ج 6 ص 51.
368

مراد المتكلم وظاهر الكلام دل على أنه منكر فادعاؤك عدم قصده يحتاج
إلى دليل.
وأما قولك: إنما أخرجها على مقتضى خشونة غريزته، فإن ذلك
ليس بعذر يسقط التكليف، لأن كل مكلف فطبعه يقتضي الميل إلى
الشهوة والنفور عن الحسن مع أنه مكلف بكسر الشهوة فالواجب عليه
حينئذ كسر هذه الغريزية وقطع هذه العادة والإصغاء والاستماع إلى قول
النبي - صلى الله عليه وآله - والاتباع له في جميع الأحوال لأنه مكلف
بذلك، فبأي دليل ساغ له ترك ما كلف به والتنازع والرد على النبي - صلى
الله عليه وآله - والتهجم عليه بالكلام المنكر على مقتضى طبعه، إن ذلك
لم يقع منه إلا لعدم علمه بالتكاليف، وشدة سرعة نكرها.
وأما قولك: إن قوله إن نبيكم ليهجر مشتق من هجر مهاجرة معناه أن
نبيكم يهاجر، فقول مردود من جهة اللفظ والمعنى، أما من جهة اللفظ فإن
الاشتقاق الذي ذكرته لم يقل به أحد، ولما وصلت في اعتراضي عليه إلى
هذا الموضع أنكر عليه ذلك الملا المدرس؟
وقال: هذه اللفظة ليست من هذا الاشتقاق بل هو من هجر يهجر
هجرا لا مهاجرة فإن ذلك على غير القياس، وإذا كان معناها ذلك ما
احتملت إلا الهجر الذي هو الهذيان ويرد عليك ما قاله الشيخ.
فاعترف بالخطأ في ذلك، ثم عدت فقلت: وأما غلطك من جهة
المعنى، فإن قولك إن النبي - صلى الله عليه وآله - ليهاجر كلام لا فائدة له
لأن المهاجرة من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في تلك الحالة غير
متصورة لأنه في حالة الاحتضار ولأن الهجرة قد انقطعت ومع ذلك فهو
غير مطابق لمقتضى الحال.
369

وأما الثاني: فإن قولك: إنه إنما منع منه على مقتضى اجتهاده قول
ضعيف جدا، أما أولا: فلأن الاجتهاد غير سائغ في هذه المسألة.
وأما ثانيا: فلأن الاجتهاد لا يجوز مع وجود صاحب الشريعة، فإن
فرض الجميع في زمانه مع الحضور عنده التقليد لقوله تعالى: (وما آتاكم
الرسول فخذوه) (1).
وأما ثالثا: فلأن الاجتهاد لا يعارض النص كما تقرر في الأصول،
وهذا الكلام من النبي - صلى الله عليه وآله - نص يقتضي وجوب اتباع أمره
في الإتيان بالكتاب، فكيف يصح أن يخالف نصه وأمره ويعارض
بالاجتهاد، فإن النص يفيد القطع، والاجتهاد لا يفيد إلا الظن، والظن لا
يعارض اليقين، فكيف يسوغ لعمر أن يترك اليقين القطعي المتلقى ممن لا
ينطق عن الهوى بوحي الله تعالى ويرده ويهمله ويمنع منه، ويعمل
باجتهاده إن ذلك لضلال وقلة احترام للشرع، وهتك للتكاليف، ومع ذلك
لم يقتصر على المنع والرد حتى تكلم بالشتم وتوصل إلى المنع من أقبح
الجهات بلفظ منكر صريح المنكر بظاهره وباطنه ومع ذلك تقول إن ذلك
اجتهاد، أي اجتهاد يسوغ في هذا الموضع؟ وأي قول يسمع في رد كتاب
النبي - صلى الله عليه وآله - يحصل بذلك صلاح الأمة، وعدم وقوع
الاختلاف بينهم؟
وأما قولك: إنه رأى ترك هذا الكتاب أصلح للدين، فقول مخالف
للمعقول والمنقول لأن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وآله - إما أن يكون
فيه فساد أو صلاح، ولا سبيل إلى الأول لأحد لاستلزامه الكفر، وإذا كان

(1) سورة الحشر: الآية 7.
370

صلاحا علمه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الله تعالى وعلم عمر أن
الترك أصلح فهل كان النبي - صلى الله عليه وآله - والله تعالى يعلمان ما علمه
عمر أم لا؟
فإن قلت: إنهما كانا يعلمان ما علم، فكان الواجب عليهما العمل
بالأصلح لأن فعل الأصلح واجب في الحكمة، فكيف تركا العمل بالأصلح
وعلمه عمر، وهل كان ألطف بالخلق منهما؟
وإن قلت: إنهما لا يعلمان، فقد أبطلت وأحلت فاختر أيهما فإنها لا
تخالف المعقول والمنقول.
فقال: الذي ينبغي لذوي العقول أن لا يحملوا هذه الأشياء الواقعة
بين هؤلاء الذين هم في محل التعظيم والشرف على مثل ما ذكرت، بل
ينبغي حملها على الوجه الجميل، كما قيل إن بعض الناس سمع أعرابيا
يقول مخاطبا لله عز وجل في سنة جدب:
قد كنت تسقي الغيث ما بدا لك * أنزل علينا الغيث لا أبا لك
فقال الشاهد: أشهد أنه لا أبا له ولا ولد، فأخرجها على أحسن
مخرج (1).
فينبغي لمن سمع هذه اللفظة من هذا القائل وأمثاله أن يحملها على
مثل ما حمل عليه لفظ الأعرابي.
وأما قولك: إن الاجتهاد لا يعارض النص، وإن عمر لا يسوغ له
الاجتهاد في هذا المحل، فإن ذلك على حالة غير هذه الحالة فإن هذه
الحالة كانت حالة الاحتضار، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مغلوب

(1) الكامل: ج 7 ص 145 بشرح المرصفي، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 83 1.
371

بالمرض حتى أنه كان يغمى عليه مرة ويفيق أخرى، فاحتمل أن يكون
أمره في حال غير حالة الصحة، فساغ له الاجتهاد والنظر حينئذ فأداه
الاجتهاد إلى الحكم بأن ذلك منه حال كونه مغلوبا بالمرض.
فقلت: والذي ينبغي لأهل الدين والصلاح أن لا يحرفوا الكلم عن
مواضعه، وهذه الكلمة الخارجة من هذا القائل ليس لها محمل غير
ظاهرها، فلا يمكن حملها على غيره، وأما حمل كلام الأعرابي على ما
حمل عليه فإنه حمل ظاهر يعرفه من له أدنى روية، ولفظة عمر لا تلقى
أنت ولا غيرك لها محملا غير ظاهرها الذي شتم الرسول - صلى الله عليه
وآله وسلم -، فإن كان لها محمل فاذكره، ولكنك تقول: ينبغي أن تحمل
على غير ظاهرها مع عدم وجود محمل، كيف يتصور ذلك! فالعجب
منكم كيف تحملون ظواهر الآيات التي فيها عقاب الأنبياء - عليهم
السلام - على ترك الأولى على ظواهرها، وتحكمون عليهم بالمعاصي
والخطأ مع دلالة العقل على وجوب تنزههم عن ذلك مع وجود المحامل
لظواهر تلك الآيات، وتتركون ذلك وتحملون كلام عمر الذي ظاهره
المنكر ومرتبته أقل من مراتب الأنبياء بأضعاف على غير ظواهرها،
وتمنعون من جواز حمله على ظاهره مع أنه كلام لا محمل له، وتتركون
العمل بظاهرها بغير تأويل واضح، ولا دليل لائح، وهلا ساويتم بينه وبين
الأنبياء الذين هم في محل التعظيم، وما ذاك إلا من قلة إنصافكم، وكثرة
تستركم للحق، وشدة تسرعكم إلى التعمية بإيراد الشبه.
وأما قولك: إن عمر إنما عارض أمر النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - لأنه في حالة غير حالة الصحة، ولو كان في حال الصحة لما
عارضه، فإنه كلام ردئ جدا لأن النبي - صلى الله عليه وآله - أمره بالكتاب
372

لا يخلو إما أن يكون متصفا بالعقل وأن أمره صدر عن إرادة جازمة أو غير
ذلك، ولا سبيل لك إلى الثاني لقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى) (1)،
ولكن كلمة صاحبك تدل على ذلك وهي المنكر الذي نحن بصدد
الاعتراض عليه، ومن الأول يلزم وجوب اتباع أوامره، والانقياد إلى
إرادته، وقبول أقواله لأنه واجب الطاعة في جميع الأحوال فلا يسوغ
الاجتهاد حينئذ لأن الأمر الواقع عنه إيجاب لما أمر به فيكون أيضا يقتضي
وجوب العمل به فالراد عليه يكون رادا لجميع الأوامر الشرعية، وذلك
على حد الشرك نعوذ بالله.
وما أعجب حالكم تستدلون على إمامة أبي بكر بتقديم النبي - صلى
الله عليه وآله - في مرض الموت في الصلاة وتجعلون ذلك حجة لكم في
وجوب اتباعه، وتجعلون الأمر منه بالكتاب الذي فيه هدي الأمة وعدم
حصول الاختلاف بينهم محل الهذيان والهذر وتسوغون لعمر أن يمنع
منه بالاجتهاد لجواز أن يكون هذرا وهذيانا في اجتهاده، فكيف لا يحتمل
الأمر في ذلك مثله، إن هذا إلا قلة الأنصاف والخبط، وأعجب من هذا أنكم
تستدلون على خلافة عمر بأن أبا بكر نص عليه بها مع أن ذلك وقع منه في
حال المرض بإجماع الكل، فكيف لم تحمل كلام أبي بكر على الهذيان
وتحمل كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على ذلك؟ فهل كان أبو
بكر أكمل من النبي - صلى الله عليه وآله - وأتم؟! وما أحسن قول بعضهم
في هذا المعنى شعرا:
أوصى النبي فقال قائلهم * قد ضل يهجر سيد البشر

(1) سورة النجم: الآية 3.
373

وأرى أبا بكر أصاب فلم * يهجر وقد أوصى إلى عمر
(إلى آخر المجلس الثاني)
المجلس الثالث: يوم الجمعة يوم آخر أتى المنزل لغرض له مع
السيد محسن وكنت مع السيد ولم يكن معنا أحد فخلوت معه فجلس،
وقال: إن هذا اليوم المجلس خال من الناس وأريد أن أبحث معك في هذه
الخلوة.
فقلت: تكلم بما تريد.
فقال: ابحث لي عن حال الخلفاء، وما كانت صفتهم، وما تعتقده
منهم لأناظرك في ذلك.
فقلت: أما الخليفة الأول فقد ظهر من طريقته وصفته أن توصل إلى
التقديم على المسلمين، وأخذ الخلافة من آل الرسول - صلى الله عليه
وآله -، والتسارع إلى ذلك، والتوصل إليه بما عرفت من الخدع والمكر
والتحيل والتغلب وتحلى بحلية لم يحله الله بها ولا رسوله، ويكفيك في
ذلك تركه النبي - صلى الله عليه وآله - في حال مصيبة الموت لم يحضره
ولا اشتغل بتجهيزه، ولا عظمت عنده تلك المصيبة، ولا جلت لديه تلك
الرزية، ولا التفت إلى ما أصاب الإسلام من الفادح العظيم، والخطب
الجسيم بموت النبي الكريم بل استغنم الفرصة باشتغال على - عليه
السلام - وبني هاشم بمصيبتهم بالنبي - صلى الله عليه وآله - وولى هو تلك
المصيبة العظيمة دبره، ومضى إلى السقيفة لتحصيل الأمارة والمنازعة
عليها، وترك الحضور في عزاء نبيه وغسله ودفنه والصلاة عليه وتعزية
أهله، ولم يحضر هو ولا صاحبه شيئا من ذلك، ووقوع ذلك منهم دليل
على قلة احترامهم وعدم مبالاتهم بالإسلام، وإنهم إنما ابتغوا بذلك نيل
374

الرئاسات والولايات لا للدين لأنهما ومن كان معهما في السقيفة من
الأنصار وغيرهم لم يكن لهم قوة في الدين ولا عقيدة في الإسلام، فإن كل
من لم تدخل مصيبة النبي - صلى الله عليه وآله - في قلبه، ولم تخشع لها
جوارحه، ولا اشتغل بها عن جميع مهماته فإنه ناقص الدين، ضعيف
الاعتقاد، بل غير مسلم فكيف يليق بحال من هو متأهل لخلافة المسلمين
والقيام مقام نبيهم أن يترك نبيه ميتا لا يحضره ولا يقوم بشئ من مهماته،
وحرمته ميتا كحرمته حيا بنص الشرع، فالواجب عليه وعلى جميع أهل
الإسلام الحضور لتلك المصيبة والاشتغال بها وتعزية بعضهم بعضا عليها
حتى ينقضي عزاؤه، ثم بعد ذلك يقومون في مهماتهم، فلما علموا ذلك
أهملوه غاية الإهمال وتسارعوا إلى المنازعة في سلطانه، والقيام في مقامه
قبل دفنه بل قبل غسله وقع ذلك منهم على ما ذكرناه مع أنه صهرهم، ولا
يليق بأحد من الناس أن يترك زوج ابنته بغير غسل ولا تكفين ولا دفن، بل
يعلم منه أنه كاره له غاية الإكراه وهذا واضح بحمد الله على ما هو عادة خلق
الله، بل يعلم منه الفرح والسرور بموته لا يشك فيه ذو لب، ولا يحيد عنه
إلا جاحد للرسول والرب، بل وأنهم شامتون بموته ومن له أدنى إنصاف
يعرف ذلك.
ثم إنه لم يكفه ذلك حتى شرع في الظلم والجور فأول ظلم سنه ظلم
البتول فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين التي هي من أولي القربى الذين
أمر الله بمودتهم في محكم كتابه وجعله أجر الرسالة فقال تعالى: (قل لا
أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (1)، وأي قرابة أبلغ من البنوة،

(1) سورة الشورى: الآية 23.
375

وقد قال في حقها رسول الله - صلى الله عليه وآله -: فاطمة بضعة مني من
آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فقد دخل النار (1).
حديث اتفق عليه الفريقان.
منعها من إرث أبيها بخبر رواه وحده ولم ينقله أحد، وهو قوله إن
النبي - صلى الله عليه وآله - قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث (2) وهذا
الحديث كذب لأن الله تعالى يقول: (وورث سليمان داود) (3) وقال:
حاكيا عن زكريا: (يرثني ويرث من آل يعقوب) (4)، وأراد إرث المال
لأنه تعالى قال بعده: (واجعله رب رضيا) (5) لأنه لو أراد إرث النبوة لم
يحتج إلى طلب كونه رضيا لأن الوارث لها لا يكون إلا كذلك، وقال الله
تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (6)،
وهو عام في حق النبي - صلى الله عليه وآله - وغيره ثم لم يقنعه ذلك حتى
منعها من فدك والعوالي وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وآله - قد
أعطاها فاطمة - عليها السلام - لما نزل قوله تعالى: (وآت ذا القربى
حقه) (7) واستغلتها فاطمة - عليها السلام - في حياة أبيها فرفع يدها عنها،

(1) فضائل الصحابة لأحمد: ج 2 ص 755 ح 1324، كشف الغمة ج 1 ص 466، شرح نهج البلاغة
ج 16 ص 273.
(2) تاريخ الطبري: ج 3 ص 208، شرح نهج البلاغة ج 16 ص 227، كشف الغمة ج 1 ص 78 4.
(3) سورة النمل: الآية 16.
(4) سورة مريم: الآية 6.
(5) سورة مريم: الآية 6.
(6) سورة النساء: الآية 11.
(7) سورة الإسراء: الآية 26، روى السيوطي في السند المنثور: ج 5 ص 273 في تفسير قوله
تعالى: (وآت ذا القربى حقه) قال: أخرج البزاز، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن
أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله - صلى الله عليه وآله - فاطمة - عليها
السلام - فأعطاها فدكا. وأخرج نحوه عن ابن مردويه عن ابن عباس.
ومما يفيد ذكره هنا هو ما أخرجه في مجمع الزوائد ج 9 ص 39 من طريق الطبراني في
المعجم الأوسط عن عمر قال: لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وآله - جئت أنا وأبو بكر إلى
علي - عليه السلام - فقلنا: ما تقول فيما ترك رسول الله؟ قال: نحن أحق الناس برسول الله. قال:
فقلت: والذي بخيبر؟! قال: والذي بخيبر.
قلت: والذي بفدك؟! قال: والذي بفدك.
فقلت: أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير فلا!!!
376

فكلمته في الإرث وفيها، فقلت: كيف ترث أباك ولا أرث أبي، ثم قالت:
وهذه نحلتي من أبي كيف تأخذها وتمنعني منها، فطالبها بالبينة وهو غير
المشروع لأن القابض منكر والبينة على المدعي، ثم إنها أتت بعلي
والحسن والحسين - صلوات الله وسلامه عليهم - وأم أيمن شهودا على
النحلة، فرد شهادتهم عنادا للشرع، وتبطيلا للأحكام، وبغضا لأهل البيت
- عليهم السلام -، كل ذلك ثبت بالروايات الصحيحة لا يسع أحد إنكارها
لأن ذلك قد اتفق على نقله الفريقان، ولهذا ما ماتت إلا وهي ساخطة على
صاحبيك وحلفت ألا تكلمهما، وأوصت ألا يصليا عليها (1)، مع قول

(1) راجع صحيح البخاري: ج 6 ص 177، تاريخ الخميس: ج 1 ص 313، أسد الغابة
ج 5 ص 524، الإستيعاب ج 2 ص 751، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 16 ص 214
وص 218، ومن لطيف ما يذكر في هذا الباب ما ذكر عن بهاء الملة والدين أنه قال: كنت في
الشام مظهرا أني على مذهب الشافعي، فقال لي يوما أفضل فضلائهم، يا فلان تحصل عند
الشيعة حجة يعتمد عليها فقال له: حججهم كثيرة، فطلب مني أن أحكي له شيئا منها. فقلت له:
يقولون إن البخاري روى في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: فاطمة
بضعة مني فمن أغضبها أغضبني، ثم روى بعد هذا بأربع ورقات أنها خرجت من الدنيا وهي
غاضبة عليهما - يعني على الشيخين - فما ندري كيف الجواب؟! فأطرق مليا وقال: هذا كذب
على البخاري أنا أراجعه الليلة فغدوت عليها من الصباح، فلما رآني ضحك، ثم قال: أما قلت
لك أن الرافضة تكذب، راجعت صحيح البخاري البارحة فرأيت بين الحديثين أزيد من
خمس ورقات، وكان يتباجح بهذا الجواب. روضات الجنات ج 7 ص 71.
377

النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: يا فاطمة، إن الله يسخط لسخطك،
ويرضى لرضاك (1) ومن هذا حاله مع أهل بيت - عليهم السلام - كيف
يؤمن على غيرهم؟ وكيف يصح اتباعه وتقليده؟ كيف تجعله واسطة
بينك وبين خالقك؟ وله أحوال غير ذلك لو نروم تعدادها لا تسع
الخطاب، قل منك الجواب.
وإما الخليفة الثاني: فقد عرفت ما كان عليه في حياة النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم -، ثم لما ولي الخلافة أظهر البدع، وعمل بضد الصواب،
فمنع المتعة الثابت حلها في الشرع المحمدي، وقد أمر الله بها ورسوله
واتفق الكل على نقلها في زمن النبي - صلى الله عليه وآله - وزمن أبي بكر
وبرهة من خلافته، ثم منع منها مخالفا للكتاب والسنة والإجماع، وقام
وقعد في توطئة الأمر لأبي بكر حتى توعد الناس ممن تأخر عن بيعته
بالضرب والقتل، وأراد حرق بيت فاطمة لما امتنع علي - عليه السلام -
وبعض بني هاشم من البيعة (2)، وضغطها بالباب حتى أجهضت جنينها،
وضربها قنفذ بالسوط (3) عن أمره حتى أنها ماتت وألم السياط في
جسمها، وغير ذلك من الأشياء المنكرة.
فقال: إن ذلك من روايتكم وطريقكم فلا تقوم حجة على غيركم.

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) راجع: الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 57، لسان الميزان للعسقلاني ج 1 ص 293،
فرائد السمطين ج 2 ص 36، المناقب لابن شهرآشوب ج 3 ص 358، دلائل الإمامة للطبري
ص 45، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 14 ص 193، كتاب سليم بن قيس ص 83 - 85،
إثبات الوصية للمسعودي ص 23 - 24، بحار الأنوار ج 43 ص 170، سفينة البحار للقمي ج 2
ص 597، تفسير العياشي ج 2 ص 307 - 308، بتفاوت.
378

فقلت: أما حديث الإرث والعوالي وفدك، فقد رواه منكم الواقدي،
وموفق بن أحمد المكي.
وأما حديث المتعة ومنع عمر لها فمشهور عندكم، وأما حديث
الإحراق وإجهاض الجنين فبعضه مروي عنكم وهو العزم على الإحراق،
رواه الطبري والواقدي.
ثم عدت فقلت: وأما الخليفة الثالث فما كان عليه من المنكرات
وعمل المقبحات فمشهور، لا يحتاج إلى بيان، فإنه ضرب ابن مسعود،
وأحرق مصحفه (1) ونفى أبا ذر إلى الربذة (3)، ورد الحكم بن العاص بعد
نفي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (1) وقوله - صلى الله عليه وآله -: لا
يجاورني حيا ولا ميتا، فمن خالف فعليه لعنة الله، ثم آواه وقربه وأدناه،
ولم يكفه ذلك حتى طعن على النبي - صلى الله عليه وآله - في نفيه الحكم،
فقال عند وصوله المدينة: ما نفيت إلا بغيا وعدوانا، واستعمل في ولايته
أقرباءه بني أمية الفسقة المتظاهرين بالفسق وشرب الخمور، ويكفيك في
ذلك أن المسلمين أجمعوا على قتله لما أبدع في الدين وخالف ما عليه
الخلفاء المتقدمين، فقتلوه في بيته بين أهله ولم ينكر عليهم ذلك أحد من
الصحابة وكان علي - عليه السلام - حاضرا في المدينة يشهد الواقعة ولو
كان قتله غير جائز لوجب على علي - عليه السلام - الدفع عنه ومن حيث
جاز قتله لم يصح الدفاع عنه فهو غير... فاختر أيها شئت، إما أن يكون علي
- عليه السلام - ترك الدفع عنه مع وجوبه أو تركه لعدم جوازه.

(1) انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص 40 - 41.
(2) شرح نهج البلاغة ج 1 ص 199 و ج 3 ص 52 و 54 و 55 و ج 8 ص 256 و 258.
(3) شرح نهج البلاغة ج 1 ص 198 و 335 و ج 3 ص 29.
379

فقال: يمكن أن يكون ترك الدفع تقية.
فقلت: هذا الكلام غير مسموع، أما أولا فلأنه - عليه السلام - في
تلك الحالة كثير الأتباع، قليل الأعداء، وجميع المسلمين يستطلعون
رأيه، ولم يكن هناك أحد ممن يعدلونه به وكان قوله مسموعا عندهم.
وأما ثانيا: فلأنه ترك بعد قتله ثلاثة أيام لم يدفن فهلا كان أمر بدفنه
في تلك المدة، وما ذاك إلا أنه غير مستحق للدفن.
وأما ثالثا: فلأنه كان الخليفة بعد قتله، فلم لا أقاد قاتليه لوارثه،
وقتلهم به مع تمكنه من ذلك.
فقال: إني أحب أن تترك البحث في هؤلاء الثلاثة إلى غيرهم من بقية
الخلفاء.
فقلت له: إنهم الأساس، فلا يصح العدول عنهم حتى يتحقق عندك
ما كانوا عليه وقد أوضحت لك طريقتهم، ثم إني أسهل عليك الطريق، ألم
تعتقد أن عليا - عليه السلام - في غاية ما يكون من الصفات المحمودة،
والعدالة المطلقة، وأنه ليس لطاعن عليه سبيل.
فقال: بلى أعتقد ذلك وأدين الله به.
فقلت: ما تقول في شكايته منهم وتظلمه ونسبتهم إلى غصب
حقه (1)، والتغلب عليه، أليس يكون قادحا لعدالتهم، ومبطلا لخلافتهم إذ
لا يصح التظلم والشكاية ممن لم يفعل معه ما يوجب ذلك.
فقال: بلى إن ثبت ذلك.
فقلت: قد نقل ذلك عن علي - عليه السلام - نقلا متواترا لا يختلف

(1) راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 10 ص 286.
380

فيه يكفيك فيه الوقوف على كتاب نهج البلاغة الذي شاع ذكره عند جميع
العلماء والمدرسين في الخطبة الموسومة الشقشقية (1) برواية ابن عباس
وغيره.
فقال: إني لم أسمعها!!
فقلت: أتحب أن أسمعها لك؟
فقال: نعم.
فقلت: ذكر السيد الرضي - رحمه الله - في نهج البلاغة مرفوعا إلى
ابن عباس أنه قال: كنت مع علي - عليه السلام - برحبة الجامع في الكوفة،
فتذاكرنا الخلافة وتقدم من تقدم عليه فيها، فتنفس الصعداء.
فقال: أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها
محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت
دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء
أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير، ويشيب منها الصغير، ويكدح
فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فعلمت أن الصبر على هاتي أحجى، فصبرت
وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبا، وحكيتها له إلى
آخرها.
فقال: فمن يعرف من أصحابنا أن هذه الخطبة من لفظ علي - عليه
السلام -؟
فقلت: هذا عبد الحميد بن أبي الحديد قد شرح نهج البلاغة
وصحح هذه الخطبة وروى أنها من كلام علي - عليه السلام - وشرحها، (2)

(1) راجع: نهج البلاغة ص 48 الخطبة الثالثة، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 151.
(2) انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 151 - 206.
381

وتكلم على من أنكر أنها من كلام غير علي - عليه السلام -، أو قال: إنها من
لفظ السيد الرضي بكلام يعلم منه أنه من كلام علي - عليه السلام -، وقال:
إن كلام الرضي لا يقع هذا الموقع، ولا يبلغ هذا الحد.
وقال: إن مشايخنا من المعتزلة وغيرهم قد رووا هذه الخطبة عن
علي - عليه السلام - وأثبتوها في مصنفاتهم قبل أن يكون الرضي موجودا
بمدة (1)، ثم إنه لم يسعه إنكارها واعترف بصحتها، وأنه من كلام علي
- عليه السلام -، وحمل الشكايات الواردة فيها منه - عليه السلام - من
الصحابة على أنه إنما شكا على ترك الأولى لأنه كان - عليه السلام - الأولى
والأحق بالخلافة منهم لفضله عليهم، فلما عدلوا عن الأفضل الأحق إلى
من لا يساويه في فضل، ولا يوازنه في شرف، ولا يقاربه في سؤدد وعلم،
صح له أن يبث بالشكوى والتظلم على هذا الوجه لا أنه على وجه الغصب
والجور.
واعترضت عليه بأن ذلك غير مسموع لأنه نسبهم إلى أخذ حقه،
وسمى فعلهم نهبا، قال: أرى تراثي نهبا، وعنى بتراثه الخلافة لأنها إرثه
من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهكذا شرح ابن أبي الحديد
هذا اللفظ، فقال: وعنى بالإرث هنا الخلافة لأنها إرث من النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم -، ثم إن كان العدول عن الأولى لمصلحة لم يصح من علي
- عليه السلام - الشكاية منهم فيما عملوه مصلحة للمسلمين، وإن كان لا
لمصلحة كان عدولا عن الأولى لمجرد التشهي فيكون مردودا، هذا مع أن
العذر إنما يتصور على رأي من يقول بتفضيل علي - عليه السلام - على

(1) نفس المصدر ج 1 ص 205 - 206.
382

الخلفاء الثلاثة وهم الأقل، وأما المشايخ القائلون بتفضيل الثلاثة فما
عذرهم مع أنهم الأكثر، والسواد الأعظم فأحد الأمرين لازم، إما الطعن
على علي - عليه السلام - بتظلمه ممن ليس ظالما له، وإما الطعن عليهم
بأنهم أخذوا حقه ظلما.
فقال: ابن أبي الحديد ليس منا بل من الشيعة!!
فقلت له: هذا يدل على عدم اطلاعك بأحوال الرجال، فإن ابن أبي
الحديد مشهور بالاعتزال، وهو من مشايخ المعتزلة ومشاهيرهم وله
مصنفات حكى فيها مذهبه وأشعار (1) وكذلك، فاعترف بذلك أنه
معتزلي.
ثم قال: دعني حتى أتروى في هذه الخطبة، فأخذت له نهج البلاغة
وأخرجت له الخطبة منه، فأخذ نهج البلاغة مني فطالع فيها ساعة، ثم قال:
إني لا أترك مذهبي واعتقادي في هؤلاء الثلاثة بمجرد هذه الخطبة.
فقلت: إذن أنت مكابر الحق!!
ثم إنه قال: فما ظنك في مثل الشيخ فخر الدين الرازي، وأثير الدين
الأبهري، وجار الله العلامة الزمخشري، وسعد الدين التفتازاني،
والسمرقندي، والأصفهاني، وغيرهم من العلماء المدرسين ملأت
مصنفاتهم الآفاق، وشاع ذكرهم في جميع الأمصار كلهم على ضلال، لولا
أن لهم على ما ذهبوا إليه دلائل ثابتة، وبراهين واضحة لما ثبتوا على هذا
المذهب، ولا اعتقدوا خلافة هؤلاء الثلاثة ولكن لما ثبت عندهم بالأدلة
القاطعة، والبراهين الساطعة اعتقدوا ذلك وأثبتوه في مصنفاتهم وقرروه

(1) ومنها قوله في إحدى قصائده:
ورأيت دين الاعتزال وإنني * أهوى لأجلك كل من يتشيع
383

لأتباعهم وتلاميذهم، وإنما أخذت العلم عن مصنفاتهم فأنا لا أترك
طريقهم مع اعتقادي صدقهم وعدالتهم، واستفادتي من علومهم، وأسلك
طريق من لا أعرف صحة قوله، ولا أعتقد عدالته، ولا ثبت عندي علمه.
فقلت: إذن أنت مقلد لهم، فقد خرجت عن حيز الاستدلال الذي
حث الله عليه بقوله تعالى: (ائتوني بكتب من قبل هذا أو أثرة من علم إن
كنتم صادقين) (1)، وقال تعالى: (انظروا ماذا في السماوات والأرض) (2)
إلى حيز التقليد الذي ذم الله فاعله ووبخه بقوله: (إنا وجدنا آباءنا على أمة
وإنا على آثارهم مقتدون) (3)، وقال تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من
الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب) (4) فكيف تترك
الاستدلال المأمور به وترجع إلى التقليد المنهي عنه المذموم فاعله بنص
الكتاب أم كيف يسوغ لك التقليد في مثل ما نحن فيه؟!
فقال: نعم، التقليد في مثل هذه المسألة جائز لأن مسألة الإمامة
ليست من أصول الدين، بل هي عندنا من الفروع، والفروع يصح التقليد
فيها، وأنا أقلد فيها وأترك الاستدلال.
فقلت: لا يصح ذلك، أما أولا فلأن مسألة الإمامة ليست من الفروع،
بل هي من أعظم أصول الدين، وأحد أركان الإيمان، لأنها قائمة مقام النبوة
في حفظ الشريعة، وانتظام أمور العالم، وبقاء نوع الإنسان في معاشه
ومعاده، والنبوة من الأصول اتفاقا، فكذا القائم مقامه من غير فرق.

(1) سورة الأحقاف: الآية 4.
(2) سورة يونس: الآية 101.
(3) سورة الزخرف: الآية 22.
(4) سورة البقرة: الآية 166.
384

وأما ثانيا: فلأنا لو سلمنا أنها من الفروع لم يصح لك التقليد أيضا،
لأن التقليد في الفروع إنما يسوغ لمن لم يقدر على الاجتهاد، ولا يتمكن
من إقامة الدليل فيسوغ له التقليد حينئذ لعجزه عن الاستدلال لأن التكليف
بغير المقدور قبيح، وأما مع قدرة المكلف على الاستدلال وتمكنه منه لا
يسوغ له التقليد لا في الأصول ولا في الفروع، بل يجب عليه النظر
والاستدلال بالبراهين والأمارات وأنت قادر على الاجتهاد، متمكن من
إقامة الدليل، فلا يسوغ لك التقليد بل يجب عليك الاجتهاد والنظر في
الأدلة والأمارات، ومع ذلك فقد قام لك الدليل على بطلان خلافة هؤلاء
الثلاثة فيجب عليك المصير إليه لأنه لم يعرض لك ما ينقضه أو يعارضه
فكيف يسوغ لك التقليد بعد قيام الدليل ومعرفتك به وعدم حصول ما
ينقضه أو يعارضه فكيف تتركه وترجع إلى التقليد.
وهذا شئ لم يقله أحد، ولم يسوغه عالم مع أني أقول: إن كنت من
المقلدين فلم رجحت تقليد هؤلاء المشائخ دون غيرهم من أمثالهم، فإن
في مذهبنا من العلماء والمصنفين والمدرسين مثل ما ذكرت وأزيد،
كالإمام المحقق نصير الدين الطوسي الذي سمي في المعقول المحقق،
وسمي فخر الدين بالمشكك، وكذلك السيد مرتضى الموسوي الذي
أفحم كل من ناظره وألزمه في جميع العلوم، والشيخ المفيد محمد بن
النعمان البغدادي الذي سمي به لكثرة استفادة الخلق من علومه، والشيخ
أبو الفضائل الطبرسي الذي أحيا علوم القرآن في جميع البلدان، والشيخ
أبو جعفر الطوسي الذي اشتهر عند العامة والخاصة، والشيخ جمال الدين
الحلي الذي سارت مصنفاته في جميع الأمصار، والسيد شريف الحسني
الذي درس في جميع بلاد العجم، وركن الدين الجرجاني، ونصير الدين
385

القاشي، وغيرهم من علماء العرب والعجم فإن مصنفاتهم قد ملأت
البلدان، وذكرهم قد شاع في جميع الأمصار، وقد أبطلوا في مصنفاتهم
جميع الأدلة التي ذكرها علماؤكم وقابلوها بالأجوبة المسكتة، وصنفوا
في الإمامة كتبا ومصنفات ضخمة وذكروا فيها أدلة كثيرة على صحة إمامة
علي عليه السلام بعد النبي - صلى الله عليه وآله - بلا فصل، وأبطلوا إمامة
غيره، حتى أن الشيخ جمال الدين بن المطهر - قدس الله روحه - وضع
كتابا سماه بكتاب الألفين (1) ذكر فيه ألف دليل على إمامة علي - عليه
السلام - وألف دليل على إبطال إمامة غيره، فما وجه الترجيح في تقليدك
أولئك دون هؤلاء؟ فسكت ولم يجبني بشئ.
ثم قال: ابحث لي عن سيرة باقي الخلفاء من بعد علي، واترك
البحث عن المتقدمين.
فقلت: أول ما أبحث لك في معاوية وأسألك عما تعتقد به.
فقال: أعتقد أنه موحد مسلم سادس الإسلام، وخال المؤمنين، وأنه
خليفة من خلفاء المسلمين، لا يجوز وصمه ولا الطعن عليه بحال.
فقلت: وكيف تعتقد هذا الاعتقاد فيه مع أنه حارب عليا - عليه
السلام - وقالته، وخالف بين المسلمين حتى قتل كثيرا منهم، وقد قال
رسول الله - صلى الله عليه وآله -: يا علي، حربك حربي، وسلمك
سلمي (2)، وهذا حديث اتفق عليه الكل أو تنكره أنت؟

(1) الألفين في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -، كتبه العلامة الحلي رحمه
الله بالتماس ولده فخر المحققين، فيه ألف دليل على إمامة أمير المؤمنين - عليه السلام - وألف
دليل على إبطال شبه المخالفين، فرغ من جزئه الأول سنة 709، ومن جزئه الثاني سنة 712،
طبع الكتاب مرارا في إيران والعراق، انظر الذريعة: ج 2 ص 298.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 18 ص 24، وذكر أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
قال لعلي - عليه السلام - في ألف مقام: (أنا حرب لمن حارت وسلم لمن سالمت).
البحار: ج 40 ص 93، ينابيع المودة: ص 85، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي
ص 50 و ح 285، المناقب للخوارزمي في ص 129 ح 143.
386

فقال: لست أنكره.
فقلت: إذن حرب علي حرب رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم -، كفر بالإجماع، فحرب معاوية عليا كذلك بمقتضى الحديث.
فقال: إن حربه كان باجتهاده والعمل بالاجتهاد جائز بل واجب وقد
أداه اجتهاده إلى المحاربة وإن كان مخطئا في اجتهاده والخطأ في الاجتهاد
لا لوم على صاحبه.
فقلت: لقد أبطلت وأحلت، كيف أنت تترك الاجتهاد في الاستدلال
على إثبات الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله - وترجع إلى
التقليد، وتقول: إن مسألة الإمامة من الفروع التي يكفي فيها التقليد
وتسوغ لمعاوية الاجتهاد في محاربة من نص النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - على أن حربه مثل حربه على الإمامة مع أنه في تلك الحالة إمام
واجب الاتباع بالإجماع إن هذا إلا خبط وقلة حياء في إيراد الشبهة التي
تعلم أنها ليست حجة.
ثم قلت له: أليس علي - عليه السلام - خليفة ثابت الخلافة بعد
عثمان بما عندكم بالإجماع من أهل الحل والعقد؟
فقال: بلى.
فقلت: أليس معاوية قد خالف الإجماع، ومخالف الإجماع كافر؟
وهل يصح الاجتهاد في مسألة بعد حصول الإجماع من الأمة على خلافه
وقد تقرر في الأصول أن الاجتهاد لا يعارض الإجماع فكيف ساغ لمعاوية
387

الاجتهاد المؤدي إلى الفساد والاختلاف بين أمة محمد - صلى الله عليه
وآله وسلم -، وحصول القتل العظيم، ونهب الأموال حتى قتل في تلك
الحرب عمار بن ياسر، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في
حقه: عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية (1)، هذا حديث نقله كل الأمة
ولما قتل قال أهل الشام: نحن الفئة الباغية بنص الرسول - صلى الله عليه
وآله وسلم - لأنا القاتلون لعمار.
فقال معاوية مجيبا لهم بالتمويه وستر الحق: إنما قتله من جاء به إلينا
فأوهمهم بهذه الشبهة أن الفرقة الباغية أهل العراق، ولما سمع ابن عباس
اعتذار معاوية بما ذكره، قال: قاتل الله معاوية وأبعده يلزم أن يكون رسول
الله - صلى الله عليه وآله - قاتل حمزة وعبيدة وغيرهما من شهداء بدر
وأحد، لأنه هو الذي جاء بهم إلى الكفار (2)، وكيف يعتذر لهم بهذا
الاعتذار ومع ذلك فكيف يسوغ له سب علي - عليه السلام -، وشتمه على
المنابر وعلى رؤوس الأشهاد (3)، حتى استمر على ذلك بنو أمية برهة من
الزمان إلى وقت خلافة عمر بن عبد العزيز فرفعه (4)، وكيف يسوغ له ذلك
مع أن النبي - صلى الله عليه وآله - يقول: من سب عليا فقد سبني، ومن

(1) انظر: تاريخ بغداد ج 11 ص 289 و ج 13 ص 187، كشف الغمة ج 1 ص 258، بحار الأنوار
ج 33 ص 12 ح 375، كنز العمال ج 11 ص 722 ح 33033، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
ج 18 ص 24، فرائد السمطين ج 1 ص 120 ص 287 ح 227.
(2) راجع: نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي ص 307.
(3) راجع: النصائح الكافية لمن يتولى معاوية لمحمد عقيل، تقوية الإيمان في الرد على ابن أبي
سفيان لمحمد عقيل، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 56 - 59 و ج 11 ص 44،
الغدير للأميني ج 10 ص 257.
(4) انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 59.
388

سبني فقد سب الله (1) الحديث، وهل يصح أن يجتهد في ذلك، فما عذره
وعذر من يعتذر له عند الله إذا سب من مدحه الله تعالى.
وأوجب حقه، ونزهه عن الخطأ، وفضله وكان أساس الإسلام
بسيفه ونظام الأمة بتدبيره، وأحكام الشريعة بعلومه، وقد قال فيه رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما
دار (2)، حديث اتفق على نقله الكل، ثم إني قلت: ما أظن عالما مثلك يقف
على مثل هذه الأحوال ثم يتوقف ويخالطه شك في معاوية، أليس مولانا

(1) راجع: ينابيع المودة للقندوزي: ص 25، الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 74 ط الميمنية
وص 121 ط المحمدية بتفاوت، ذخائر العقبى ص 66، المناقب للخوارزمي ص 137 ح
154، كفاية الطالب للكنجي ص 83.
وروي أنه: مر ابن عباس - بعد ما كف بصره - بقوم ينالون من علي - عليه السلام - ويسبونه،
فقال لقائده: أدنيني منهم، فأدناه، فقال: أيكم الساب الله؟!!
قالوا: نعوذ بالله أن نسب الله، فقال: أيكم الساب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -،
قالوا: سبحان الله من سب رسول الله فقد كفر، فقال: أيكم الساب علي بن أبي طالب؟ قالوا: أما
هذه فنعم، قال: أشهد لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: (من سبني فقد
سب الله، ومن سب عليا فقد سبني) (وفي رواية: (فرائد السمطين) قال: أشهد بالله أني سمعت
النبي - صلى الله عليه وآله - يقول: من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله عز وجل،
ومن سب الله أكبه الله على منخريه في النار) فأطرقوا، فلما ولى قال لقائده: كيف رأيتهم؟
فقال:
نظروا إليك بأعين مزورة نظر التيوس إلى شفار الجازر
فقال: زدني فداك أبي وأمي، فقال:
خزر العيون منكسي أذقانهم نظر الذليل إلى العزيز القاهر
قال: زدني فداك أبي وأمي، قال: ما عندي مزيد، قال: ولكن عندي:
أحياؤهم تجني على أمواتهم والميتون
فضيحة للغابر
راجع: مروج الذهب للمسعودي: ج 2 ص 435، فرائد السمطين ج 1 ص 302 - 303
ح 241، بحار الأنوار ج 39 ص 311، الغدير للأميني ج 2 ص 219.
(2) تقدمت تخريجاته.
389

سعد الدين التفتازاني لما وقف على هذه الأحوال وتحققها تبرأ منه وسبه
حتى اشتهر ذلك عنه في جميع بلاد خراسان، فكيف تمدحه أنت أو
تتوقف في وصمه؟
ثم قلت: ما تقول في يزيد؟
فقال: لا أشك أنه ملعون يجب على كل مسلم التبري منه لقتله
الحسين - عليه السلام -، بل وقتل الأنصار يوم الحرة (1)، وضرب الكعبة
بالمجانيق حتى هدمها (2)، وحكيت له القصص.
فقال: إني لا أشك في لعنه.
فقلت: فإن خلافته مسببة من أبيه فكان العصيان والفسوق والفساد
الحاصل منه كله مسببا عن أبيه فكانا نظيرين، فإن الأب سم الحسن (3)
- عليه السلام -، والابن قتل الحسين - عليه السلام -، فتعجب من قصة سم
الحسن - عليه السلام -.
فقلت: إنها قصة ثابتة عند أهل السير والأحاديث وحكيتها له وما
كان السبب فيها، فوافق على التبري منه ولعنه.
فقلت: إن خلافته مسببة عن عثمان لأنه هو الذي استعمله على
الشام فبقي متغلبا عليها، مانعا لعلي - عليه السلام - عن التصرف فيها،
والسبب في ذلك عثمان حيث استعمل على بلاد الإسلام من يعلم فسقه

(1) تاريخ الطبري: ج 5 ص 482 (في حوادث سنة 63)، العقد الفريد: ج 5 ص 36 1.
(2) راجع: وفاء الوفاء: ج 1 ص 127، رسائل الجاحظ ص 298، الفصول المهمة لشرف الدين
ص 116، مروج الذهب للمسعودي: ج 3 ص 81.
(3) راجع: مروج الذهب للمسعودي: ج 3 ص 5، مقاتل الطالبيين لأبي فرج الاصفهاني ص 29،
تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 225، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 49، صلح الحسن
للشيخ راضي آل ياسين ص 364 - 368.
390

بل كفره حتى حصل منه الفساد، وهتك الإسلام والمسلمين وخراب الدنيا
والدين بما قد حصل بل أقول: إن قتل الحسين - عليه السلام - مسبب عن
عمر بن الخطاب.
فقال: أقم لي الدليل على ذلك؟!
فقلت: الدليل واضح لأن الحق لائح فإنه لولا قصة الشورى التي
ابتدعها عمر، وتعدى في ابتداعها، وأدخل عثمان فيها، وجعل الأمر إلى
عبد الرحمان بن عوف، وأمر بقتل من يخالف الفريق الذي فيه عبد
الرحمان لم يتوصل عثمان إلى الخلافة أصلا ولا كانت الأمة عدلت به عن
علي - عليه السلام - لأنه لا يوازنه في الفضل، ولا يماثله في سبق، ولا
يضاهيه في علم، ولا يقاربه في سؤدد وشرف، فكانت خلافته مسببة عن
الشورى التي هي بنص عمر، وخلافة معاوية مسببة عن عثمان لأنه جعله
واليا على الشام (1) ولولا عثمان لم يحصل لمعاوية ولاية الشام لخموله في
الإسلام وكونه من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم يعرف ذلك أهل السير فخلافة
يزيد التي حصل بها قتل الحسين - عليه السلام - والأنصار وهدم الكعبة
بنص معاوية ومتابعة أهل الشام، وبذله عليها الأموال فكان قتل الحسين
- عليه السلام - عن عمر وأنا أروي لك حديثا يعرف منه صحة ذلك.
فقال: وما هو؟
فقلت: إن عبد الله بن عمر لما قتل الحسين - عليه السلام - أنكر ذلك
على يزيد واستعظمه، فكتب عبد الله بن عمر إلى يزيد - لعنه الله -:
أما بعد فقد عظمت الرزية، وجلت المصيبة، وحدث في الإسلام

(1) فقد ولى عمر بن الخطاب معاوية على بعض الشام في خلافته، فلما قتل عمر أقر عثمان
ولاية معاوية، راجع: تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 161، الكامل في التاريخ: ج 3 ص 77.
391

حدث عظيم، ولا يوم كيوم الحسين - عليه السلام - (1).
فكتب إليه يزيد: أما بعد، يا أحمق فإنا جئنا إلى بيوت مجددة،
وفرش ممهدة، ووسائد منضدة، فقاتلنا عليها، فإن يكن الحق لنا فعن
حقنا قاتلنا، وإن يكن الحق لغيرنا فأبوك أول من سن هذا، وأستأثر بالحق
على أهله، والسلام.
فسكت عبد الله بن عمر عن جوابه، وأظهر للناس عذر يزيد فيما
فعله.
فقال: هذا أظلم من يزيد - يعني عبد الله بن عمر - فإن عمر لم يأمر
بذلك ولم يعلم أن الأمر يصل إلى يزيد ولو وصل إليه لم يعلم أنه يعمل
مثل هذه المناكير، فأي ذنب كان لعمر لأنه لم ينصب معاوية ولا نص عليه
فضلا عن يزيد؟
فقلت: فإن عمر وإن لم يكن قد نص على معاوية فإنه نص على
الشورى (1) التي كانت سبب خلافة عثمان، وعثمان كان سببا في تولية
معاوية، ومعاوية كان سببا في خلافة يزيد، فيكون عمر سببا في خلافة
يزيد لأن سبب السبب سبب بالضرورة.
فقال: إنه لم يكن سببا تاما بل جزء السبب.
فقلت: الحمد لله قد اعترفت أنه جزء العلة، وجزء العلة علة لتوقف
التأثير عليه، فقد صار عمر جزء العلة التامة في قتل الحسين - عليه السلام -
باعترافك، فاعترف وسكت.
وقال: ابحث لي عن باقي الخلفاء من بني العباس.

(1) انظر: بحار الأنوار ج 45 ص 328، عوالم العلوم ج 17 ص 647 ح 1.
(2) تقدمت تخريجاته.
392

فقلت له: إن البحث عن أولئك الفروع لا فائدة فيه، بل البحث عن
هذه الأصول لأن خلافة أولئك مسببة عن هؤلاء ومع ذلك فإني أقول ما
تقول في هذا الإمام المدفون في أرض خراسان الذي اسمه علي بن موسى
الرضا - عليه السلام - الذي أنت تزوره وتتبرك بساحته صباحا ومساء،
وتتقرب إلى الله بزيارته؟
فقال: وما أقول فيه إلا أنه من ذرية الرسول واجب المحبة والمودة
من جميع أهل الإسلام، وأنه من أهل الله وخاصته وخالصته الذين صفاهم
الله واصطفاهم بالعلم والعمل والزهد والفضل والشرف.
فقلت: وما تقول في أبيه الإمام موسى بن جعفر - عليه السلام -؟
فقال: أقول فيه: كما قلت في ابنه.
فقلت: وما تقول في خليفة حبس الأب ودس إليه السم حتى قتله،
وخليفة قتل الابن أيضا بالسم بعد الاعتراف بفضله؟!
فقال: ومن ذاك؟
فقلت: الخليفة الأول هارون الرشيد، حبس الإمام موسى بن جعفر
- عليه السلام - في حبس السندي بن شاهك مدة من الزمان، وأعطاه السم
فدسه إليه في الحبس حتى قتله، وقد ثبت ذلك في الأخبار الصحيحة،
والخليفة الثاني ولده المأمون قد اشتهر عند الكل أنه كان يفضل الرضا عليه
السلام وعقد له ولاية العهد بعده ثم إنه بعد ذلك قتله بالسم، ثبت ذلك
عند أكثر أهل العلم ولم يخالف فيه إلا القليل.
فقال: أريد أن تريني ذلك في مصنفات العلماء.
فقلت: تريد من علمائنا أو علمائكم.
فقال: أريد من الطرفين.
393

فقلت: أما من طرقنا فكثير، مثل: كتاب إرشاد المفيد (1)، وكتاب
عيون الأخبار لابن بابويه (2)، وكتاب كشف الغمة للأربلي (3) وغيرها،
وبالاتفاق في بيت السيد محسن كتاب (عيون الأخبار) فأوقفته على قصة
الإمام موسى الكاظم - عليه السلام - مع الرشيد وما جرى عليه من الأمور
المنكرة وما قتل من بني هاشم وما خاف منهم حتى تفرقوا في البلاد، وما
حبس منهم حتى ماتوا في الحبس والأغلال، فأنكر عليه غاية الإنكار،
وبكى لما جرى على بني هاشم واعترف بصحة قولي.
ثم قلت: فأما طرقكم فلم يحضرني الآن شئ من كتبكم.
فقال السيد: بلى عندي هنا كتاب يسمى كتاب العاقبة مصنف لبعض
الشافعية فلعل فيه شئ من ذلك.
فقلت: هات الكتاب، فجاء به ففتشناه فوجدناه مشتملا على ذكر
عواقب الأمور، فجرى فيه فصل يذكر فيه عواقب الخلفاء فوقفناه على
ذلك الفصل فوجدناه قد اشتمل على ذكر عواقب ذميمة وأخلاق ردية
كانت لهم حتى أنه ذكر أن منهم من مات مخمورا، ومنهم من تعشق
جارية، ومنهم من مات تحت الغناء وضرب الأوتار، وأمثال ذلك.
فلما وقف الملا على ذلك وتحقق صحته قال: اللهم إني أشهدك أني
أتبرأ إليك من جملة هؤلاء الخلفاء من بني أمية وبني العباس وأدينك
بالبراءة منهم واللعن عليهم ومن أتباعهم، فظهر عليه الغلب.
ثم إنا وجدنا في كتاب العاقبة حديثا يسنده إلى علي - عليه السلام -

(1) إرشاد المفيد: ص 298 - 302 وص 315.
(2) عيون أخبار الرضا - عليه السلام -: ج 2 ص 237 - 241.
(3) كشف الغمة: ج 2 ص 230 - 235 وص 280 - 283.
394

وهو أنه قال يوما وهو جالس في نفر من أصحابه: أنا أول من يجلس بين
يدي الله يوم القيامة للخصومة مع الثلاثة (1)، فلما رأيت هذا الحديث
مسندا إلى علي - عليه السلام - قلت له: إن هذا الحديث حجة عليك.
فقال: إن صاحب الكتاب قد حمله على غير الثلاثة الذين تدعونهم،
فإنه قال: المراد بالثلاثة عتبة وشيبة والوليد الذين برزوا إلى حمزة وعبيدة
يوم بدر.
فقلت: هذا الحمل بعيد لأن الشكوى من قبلهم بل ظاهر الحديث
يقتضي أنه يشتكي من ظلامته من الثلاثة ولا يعرف له ظلامة من ثلاثة
يشتكي منهم عند الله إلا من الثلاثة الذين أخذوا حقه، واستأثروا بالأمر من
دونه مع أن الاستحقاق كان له دونهم، وذلك لائح، ثم إني قلت: ما تقول
في الحديث المروي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو قوله لعلي
- عليه السلام -: يا أبا الحسن، إن أمة موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة،
فرقة ناجية، والباقون في النار، وإن أمة عيسى - عليه السلام - افترقت اثنين
وسبعين فرقة، فرقة ناجية، والباقي أهل النار، وإن أمتي ستفترق على
ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية، والباقي أهل النار (1)؟
فقال: حديث صحيح.

(1) انظر: ترجمه أمير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر: ج 3 ص 224 ج 1227، وفيه: أنا أول من
يجثو، وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 170: أنا أول من يجثو للحكومة بين
يدي الله تعالى.
(2) انظر إحقاق الحق: ج 7 ص 185، نفحات اللاهوت: ص 114 - 115، مسند أحمد ج 2
ص 332، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1332 ح 3992، المعجم الكبير للطبراني ج 18 ص 15
ح 91، المناقب للخوارزمي ص 331، مجمع الزوائد ج 7 ص 323، كنز العمال ج 1 ح 1637،
الخصال ص 585 ح 11، أمالي الطوسي ج 2 ص 137، الاحتجاج ص 263.
395

فقلت: من الفرقة الناجية، إن هي إلا أهل البيت الذين شهد الله لهم
بالتطهير من الرجس بحكم الكتاب العزيز في قوله تعالى: (إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (1). فإن هذه الآية
نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - باتفاق الكل
لما ألحفهم النبي - صلى الله عليه وآله - بكسائه وقال: (اللهم أهل بيتي
فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) (2).
إن الله أمره في الاستعانة بهم في الدعاء في مباهلة النصارى بنص
القرآن قال الله تعالى: (قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم
وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (3). ولما
خرج النبي - صلى الله عليه وآله - للمباهلة لم يخرج بأحد غيرهم باتفاق
الكل فعلم أنهم المعنيون في الآية دون غيرهم.
وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: مثل أهل بيتي كمثل سفينة

(1) سورة الأحزاب: الآية 33.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) سوره آل عمران: الآية، فقد أجمع الجمهور أن الآية الشريفة نزلت في النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم - وعلي وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - حين باهل بهم نصارى
نجران.
راجع: شواهد التنزيل للحاكم الحنفي ج 1 ص 120 - 129 ح 168، المستدرك للحاكم
ج 3 ص 150، أسباب النزول للنيسابوري ص 67، صحيح مسلم ج 4 ص 1883 ح 61،
صحيح الترمذي ج 4 ص 293 ح 3085 و ج 5 ص 301 ح 3808، مسند أحمد ابن حنبل ج 3
ص 97 ح 1608، تفسير الطبري ج 3 ص 299، الكشاف للزمخشري ج 1 ص 368، تفسير
ابن كثير ج 1 ص 370، تفسير القرطبي ج 4 ص 104، أحكام قرآن للجصاص ج 2
ص 295 - 296، تفسير الفخر الرازي ج 8 ص 85، جامع الأصول لابن الأثير ج 9 ص 470،
ذخائر العقبى ص 25، شرح النهج لابن أبي الحديد ج 16 ص 291، إحقاق الحق للتستري ج 3
ص 46 - 62 و ج 9 ص 70 - 91 و ج 14 ص 131 - 148، فضائل الخمسة ج 1 ص 344.
396

نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق (1) فأيما الأولى بالاقتداء
والاتباع؟ هل هؤلاء وأتباعهم السالكين آثارهم، والمقتدين بأقوالهم
وأفعالهم أو الجاحدين لهم الضالين عن طريقهم، المقتدين لمن لم ينص
الله تعالى على طهارته ولا حض على اتباعه ولا أمر نبيه بالاستعانة بدعائه،
بل أقول: الأحق بالاتباع، والأولى بالاقتداء مذهب الإمامية، ويدل على
ذلك وجوه.
الأول: أنهم أخذوا مذهبهم عن الأئمة الذين يعتقدون عصمتهم
وفضلهم وعلمهم وزهدهم وشرفهم على أهل زمانهم فوافقهم الخصم
على ذلك فاعترف بفضلهم وعدالتهم وعلمهم وزهدهم وشرفهم على
أهل زمانهم حتى أنهم صنفوا في فضائلهم وتعداد مناقبهم كتبا مثل كتاب
ابن طلحة (2)، وكتاب غاية السؤول في مناقب آل الرسول لابن المغازلي،
وكتاب أبي بكر محمد بن مؤمن الشيرازي المستخرج من التفاسير الاثني
عشر، وكتاب موفق بن محمد المكي، وغيرها من الكتب، وإذا كان
الخصم مساعدا على مدح هؤلاء الأئمة الذين اعتقدوا الإمامة فيهم وليس
لطاعن إليه سبيل كانوا بالاتباع أولى ممن لا يساعد الخصم على مدح
أئمتهم بل طعن فيهم ببعض المثالب الشينة، وظهرت عنهم الأعمال
القبيحة رواها مجموع الأمة من يعتقد إمامتهم وغيرهم فأي الفريقين

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) هو أبو سالم كمال الدين محمد بن طلحة بن محمد بن الحسن القرشي العدوي النصيبي
الشافعي، المفتي الرحال، ولد سنة 582 ه‍ بالعمرية من قرا نصيبين وتوفي في 17 رجب
سنة 652 ه‍، وكتابه هو (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول) ألفه بعد أن فقد كتابه (زبدة
المقال في أحوال الآل) الذي ضمنه غرائب الفنون، راجع: مقدمة مطالب السؤول - ط
النجف -
397

حينئذ أولى بالاقتداء وأحق بالاتباع هؤلاء الذين اتفق الكل على مدح
أئمتهم وتعظيمهم أو أولئك الطاعنون في أئمتهم المقدوح في عدالتهم
من أتباعهم وغيرهم، ومع ذلك مشاهدهم اليوم من تعظيم الناس كقبور
هؤلاء الأئمة واجتماع العام والخاص عليها وزيارتهم لها وتبركهم
بقصدها من جميع الأقطار وكونها في غاية التعظيم في قلوب جميع
الخلق دليل واضح على عظم شأنهم عند الله تعالى، وأنهم الأئمة الذين
أوجب الله حقهم على خلقه، وجعلهم حجة عليهم، أن النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم - نص على وجوب اتباع أهل بيته وسلوك آثارهم
والاقتداء بهم وحض الناس على ذلك في روايات كثيرة من الطرفين، ولا
حاجة في إيراد الروايات الواردة في ذلك من طرق الإمامية لشهرتها
عندهم.
وأما ما ورد من طرق الجمهور فكثير نورد بعضها من جملته في
الجمع بين الصحاح الستة عنه - عليه السلام - قال: رحم الله عليا، اللهم أدر
الحق معه حيثما دار (1).
وروى أحمد بن موسى بن مردويه من عدة طرق أن رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - قال: الحق مع علي، وعلي مع الحق، لن يفترقا
حتى يردا على الحوض (2).
وفي مسند أحمد بن حنبل، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله

(1) تقدمت تخريجاته، وبالإضافة إلى ما هناك تجده في البداية والنهاية ج 7 ص 360، العلل
المتناهية ج 1 ص 325 ح 410.
(2) انظر: تاريخ بغداد: ج 14 ص 321، إحقاق الحق: ج 5 ص 623، الإمامة والسياسة لابن قتيبة
ج 1 ص 73.
398

عليه وآله وسلم -: يا علي، خلقت أنا وأنت من شجرة أنا أصلها، وأنت
فرعها، والحسن والحسين أغصانها، فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخله
الله تعالى الجنة (1).
وروى عنه سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -:
إني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله حبل ممدود من
السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لا يفترقان حتى يردا
على الحوض (2).
وفي صحيح مسلم في موضعين، عن زيد بن أرقم قال: خطب بنا
رسول الله - صلى الله عليه وآله - بين مكة والمدينة، ثم قال بعد الوعظ: أيها
الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول الله ربي فأجيبه فإني تارك فيكم
الثقلين، أولهما كتاب الله تعالى، والثاني أهل بيتي.
وروى جار الله العلامة الزمخشري بإسناده قال: قال رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم -: فاطمة مهجة قلبي، وابناها ثمرة فؤادي،
وبعلها نور بصري، والأئمة من ولدها أمناء ربي، حبل ممدود بينه وبين
خلقه من اعتصم به نجا، ومن تخلف عنه هوى (3).
وروى الثعلبي (4) في تفسيره بأسانيد متعددة أن رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - قال: أيها الناس قد تركت فيكم الثقلين إن أخذتم بهما لن

(1) انظر: ميزان الاعتدال: ج 3 ص 41، العلل المتناهية: ج 1 ص 259 ح 419، إحقاق الحق: ج 7
ص 183، فرائد السمطين ج 1 ص 51 ح 16.
(2) انظر: سنن الترمذي: ج 5 ص 622 ح 3788، نفحات اللاهوت: ص 86، و 4 قد تقدمت تخريجاته.
(3) انظر إحقاق الحق: ج 13 ص 77 و 79.
(4) انظر: ينابيع المودة: ص 32.
399

تضلوا، كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي،
وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض.
وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي: إنما أنا بشر يوشك أن
يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين، كتاب الله فيه الهدى
والنور، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل
الأرض.
وكذلك في رواية موفق بن أحمد المكي وفي صحيح البخاري في
موضعين بطريقين عن جابر، وعن عيينة قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وآله -: ما يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من
قريش.
وفي رواية أخرى: لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلهم
من قريش.
وفي صحيح مسلم (1): لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ويكون
عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.
وفي صحيح أبي داود، والجمع بين الصحيحين، وتفسير الترمذي،
قال: لما كرهت سارة مكان هاجر أمر الله إبراهيم - عليه السلام - فقال:
انطلق بإسماعيل وأمه حتى تنزله البيت التهامي - يعني مكة - فإني ناشر
ذريته وجاعلهم ثقلا على من كفر بي، وجاعل منهم نبيا عظيما ومظهره
على الأديان وجاعل من ذريته اثني عشر إماما عظيما.
وعن مسروق، قال: سألت عبد الله بن مسعود، فقلت له: كم عهد

(1) انظر: صحيح مسلم: ج 3 ص 1453 ح 10، عوالم العلوم: ج 15 / 3 ص 149 ج 96، وقد
تقدمت تخريجات هذه الأحاديث.
400

إليكم نبيكم يكون بعده خليفة؟
فقال: إنك لحدث السن وهذا شئ ما سألني عنه أحد، نعم عهد إلينا
نبينا يكون بعده اثنا عشر خليفة عدد نقباء بني إسرائيل، والروايات في هذا
المعنى كثيرة من طرق الجمهور لو أردنا الاستقصاء لطال علينا الأمر
واتسع، وقد دلت هذه الأحاديث على الحث والأمر بالاقتداء بأهل البيت،
ووجوب اتباعهم، والتمسك بطريقهم، فإنهم اثنا عشر خليفة من ذرية
الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا قائل بالحصر في الاثني عشر
سوى الإمامية القائلين بإمامة هؤلاء المشهورين بالفضل والعلم والزهد
عند أهل الإسلام فوجب الاقتداء بهم والانحياز إلى فريقهم، وظهر أن
مذهب القائل بإمامتهم واجب الاتباع.
إن أحسن الاعتقادات، وخير المقالات ما اشتمل عليه مذهب
الإمامية أصولا وفروعا، يعرف ذلك من اطلع على أصول المذاهب، ونظر
في فروع الاعتقادات، فإنه بعد النظر الخالي عن مخالطة الشبه والتقليد
يتحقق أن مذهب الإمامية من بينهم أولى بالاتباع، وأحق بالاقتداء وقد
صدق فيهم قوله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) (1)،
فإن في أصولهم من تنزيه الله تعالى وتعظيمه وتنزيه الأنبياء والأئمة
وتعظيمهم ما لا يكون في أصول غيرهم فإنهم نزهوا الله عن التشبيه،
والرؤية، والاتحاد، والحلول، والمعاني القديمة، وخلق أفعال العباد،
والرضى بالكفر والفسوق، ونسبة القبائح والسرقة إليه وكون أفعاله لا
لغرض وأنه كلف ما لا يطاق.

(1) سورة الزمر: الآية 18.
401

واعتقدوا في الأنبياء أنهم معصومون عن الخطأ والمعاصي، الصغائر
والكبائر، والنسيان والسهو، من أول أعمارهم إلى آخرها، وأن أئمتهم
أيضا معصومون عن الخطايا والمعاصي، وأنهم أعلم الخلق بعد رسول
الله - صلى الله عليه وآله - وأفضلهم، وأكرمهم نفسا، وأشرفهم نسبا (1).
وفي مذاهب السنة ما يخالف ذلك وينافيه فجوزوا
التشبيه (2) والجهة (3) والاتحاد (4) والحلول (5) والتجسيم (6) والرؤية (8)،
والمعاني الزائدة القديمة، وقالوا: إنه لا فاعل في الوجود إلا الله، وإن جميع
المعاصي والقبائح والشرور كلها بخلق الله وإرادته (8) وإن العباد

(1) راجع: كتب العقائد للإمامية، على سبيل المثال:
نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي، تجريد الاعتقاد للشيخ الطوسي، تنزيه الأنبياء
للشريف المرتضى، الشافي في الإمامة للشريف المرتضى وغيرها.
(2) وأصحاب هذا الرأي يسمون بالمشبهة راجع: معجم الفرق الإسلامية: ص 225، الملل
والنحل للشهرستاني ج 1 ص 95.
(3) الملل والنحل للشهرستاني: ج 1 ص 99.
(4) راجع: شرح التجريد للعلامة الحلي ص 318 (في نفي الاتحاد عنه تعالى) وقال - أعلى الله
مقامه - في نهج الحق وكشف الصدق ص 57: الضرورة قاضية ببطلان الاتحاد، فإنه لا يعقل
صيرورة الشيئين شيئا واحدا، وخالف في ذلك جماعة من الصوفية من الجمهور، فحكموا
بأنه تعالى يتحد مع أبدان العارفين، حتى أن بعضهم قال: إنه تعالى نفس الوجود، وكل موجود
هو الله تعالى، وهذا عين الكفر والالحاد.
(5) مقالات الاسلاميين للأشعري: ص 214 وجاء فيه: وأجاز عليه بعضهم الحلول في الأجسام،
وأصحاب الحلول إذا رأوا انسانا يستحسنونه، لم يدروا لعل إلههم فيه!!، شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد ج 3 ص 232، معجم الفرق الإسلامية ص 102.
(6) مقالات الاسلاميين: ص 207 - 209، معجم الفرق الإسلامية: ص 213، شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد ج 3 ص 229.
(7) مقالات الاسلاميين: ص 213 - 217، شرح نهج البلاغة لابن أبي البلاغة ج 3 ص 6 23.
(8) مقالات الاسلاميين: ص 245.
402

مجبورون (1) وأنه راض بالكفر والمعاصي وأن أفعاله لا لغرض، وأن
القبائح بخلقه وأنه كلف عباده فوق ما يطيقون، وأن الأنبياء يجوز عليهم
الكفر والمعاصي والخطأ والنسيان (2) ورووا في نبيهم روايات تقتضي
الدناءة والخسة ورووا أنه نسي فصلى الظهر ركعتين ولم يذكر حتى ذكره
بعض أصحابه (3)، وأنه دخل المحراب للصلاة بالناس جنبا، وأنه يستمع
إلى اللعب بالدفوف وغناء البغات (4)، وأنه بال قائما (5)...، وغير ذلك من
الأشياء القبيحة التي لا تليق بأدنى الناس.
وقالوا: إن الخلفاء الذين تجب طاعتهم جائزو الخطأ والمعاصي
والكبائر، وأنهم غير عالمين بما تحتاج إليه الأمة، بل لهم الرجوع إلى الأمة
والاحتياج في الفتاوى والأحكام إليهم، وأنهم لا يحتاج إلى أن يكونوا
أفضل الخلق، ولا أشرفهم نسبا، ولا أعلاهم محلا في الإسلام.
وأما الفروع فإن الإمامية لم يأخذوا بالقياس، ولا بالرأي، ولا
بالاستحسان، ولا اضطربوا في الفتاوى، ولا اختلفوا في المسائل، ولا كفر
بعضهم بعضا، ولا حرم بعضهم الاقتداء بالآخر، لأنهم أخذوا فتاواهم
وأحكامهم عن أئمتهم الذين هم ذرية الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -
الذين يعتقدون عصمتهم، وأنهم أخذوا علومهم واحدا عن واحد، وكابرا
عن كابر، وآخر عن أول إلى جدهم، فكانت فروعهم أوثق الفروع،

(1) وهم الجبرية راجع: الملل والنحل للشهرستاني: ج 1 ص 79، معجم الفرق الإسلامية: ص 81.
(2) انظر: مقالات الاسلاميين: ص 151 وص 226 - 227، معجم الفرق الإسلامية ص 99، شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 7 ص 11 و 12 و 19.
(3) انظر: مسند أحمد: ج 2 ص 386، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 7 ص 19.
(4) انظر: الموضوعات لابن الجوزي: ج 3 ص 115.
(5) انظر: سنن النسائي: ج 1 ص 25.
403

وشرعهم أحسن الشرائع، ودينهم أتم الأديان فإن غيرهم أخذوا بالقياس
والاستحسان والرأي، وأسندوا رواياتهم عن الفسقة والمتعمدين
للكذب، وافترقوا أربع فرق، كل فرقة تطعن على الأخرى، وتتبرأ
منها (1)، ويكفرون بعضهم بعضا، ويحللون ويحرمون عمن هو جائز
الخطأ والمعاصي والكبائر.
وانقطعت عنهم مواد الأخذ عن النبي - صلى الله عليه وآله - لأنهم لم
يرضوا بالاتباع لأهل بيته ووضعوا الشرع على مقتضى رأيهم وزادوا فيه
ونقصوا وحرفوا وغيروا، فأحلوا ما حرم الله، وحرموا ما أحل الله لأنهم لم
يأخذوا الحلال والحرام عن من لا يجوز عندهم كذبه وخطؤه كالإمامية
فكان حينئذ حلالهم وحرامهم وفرائضهم وأحكام شرعهم معرضة للخطأ
والكذب لأنها ليست عن الله تعالى، ولا عن رسوله، يعرف ذلك من اطلع
على أصولهم وفروعهم، فإنا نجد في فتاويهم الأشياء المنكرة التي
تخالف المعقول والمنقول ومن له أدنى إنصاف واطلاع بأحوال المذاهب
يعرف ذلك ويتحققه، ومصنفات الفريقين تدل على صحة ذلك، وإذا نظر
العاقل المنصف في المقالتين، ولمح المذهبين عرف موقع مذهب
الإمامية في الإسلام وأنهم أولى بالاتباع، وأحق بالاقتداء لأنهم الفرقة
الناجية بنص الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -.
وقد روى أبو بكر محمد بن موسى الشيرازي في كتابه المستخرج
من التفاسير الاثني عشر في إتمام الحديث المتقدم بعد ما قال النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم -: ستفترق أمتي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة

(1) راجع مقالات الإسلاميين للأشعري: ص 3 - 4.
404

ناجية، والباقون في النار (1).
قال علي - عليه السلام -: يا رسول الله من الفرقة الناجية؟ قال:
المتمسكون بما أنت عليه وأصحابك.
وفي الأحاديث المذكورة آنفا ما يدل على أن المتبعين لأهل البيت
- عليهم السلام -، والمقتدين بهم هم الفرقة الناجية بحث الرسول - صلى
الله عليه وآله وسلم - على الاقتداء بهم، والتمسك بما هم عليه، وإيجاب
ذلك على جميع الخلق بروايات الكل فعلمنا علما ضروريا أن أهل البيت
هم الفرقة الناجية، فكل من اقتدى بهم، وسلك آثارهم فقد نجا، ومن
تخلف عنهم وزاغ عن طريقهم فقد هوى، ويدل عليه الحديث المشهور
المتفق على نقله: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن
تخلف عنها غرق، وهذا حديث نقله الفريقان وصححه القبيلان لا يمكن
لطاعن أن يطعن فيه وأمثاله في الأحاديث كثيرة.
فقال الملا الهروي: ما ذكرته في وجوه هذه الدلالات على أن
مذهب الإمامية واجب الاتباع، وأنهم هم الفرقة الناجية يكثر على السامع
بروايات الآحاد، وأيضا فإن أهل السنة يقولون في مذهبهم من المدائح
مثل ما ذكرت وأكثر ما يذمون مذاهب غيرهم بأقبح الذمائم وقد قال
تعالى: (كل حزب بما لديهم فرحون) (2).
وقال الشاعر:
كل بما عنده مستبشر فرح * يرى السعادة فيما قال واعتقدا
وفي المثل: الكل في ريقه في فيه حلق، ولكن الذي ينبغي لذوي

(1) انظر: إحقاق الحق ج 7 ص 185، وقد تقدم المزيد من تخريجاته.
(2) سورة الروم: الآية 32.
405

العقول و العلم والإنصاف في المجادلة قلة الانشغال في المدح والذم فإنه
باب واسع يطول فيه المجال، ويكثر فيه من الطرفين التعداد والمقال.
فقلت: أنت محق في ذلك، وقد قلت الأنصاف، ولكن ما تقول في
هذه الأحاديث المروية في كتبكم التي تشتمل على حصر الخلفاء في اثني
عشر من قريش أليس هي دالة على صحة مذهب الإمامية لأنهم قائلون
بتخصيصها في اثني عشر من ذرية الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -
دون غيرهم من الفرق؟
فقال: هذه الأحاديث معارضة بأمثالها والذنب فيها على الرواة.
فقلت: إن الروايات إذا وردت من الطرفين، وتظافرت من رجال
الفريقين، وساعد على إيرادها الخصمان صارت متواترة عند الأمة فيجب
المصير إليه والترك لما ورد من الطرف الواحد وهذه الأحاديث المعارضة
لهذه الأخبار المروية من الطرفين لم تروها الكل ولم يتفق على نقلها
الفريقان، بل ردها الخصم وأنكرها، فكان حينئذ الأولى في الترجيح
الواجب على السامع العمل بما اتفق على نقله، وطرح ما اختلف فيه من
المعارضة لأنه الاحتياط التام، والأخذ بالحزم من الرأي.
ثم قلت: ومع هذا فهنا برهان واضح، ودليل لائح موجود الآن
مشاهد بالأبصار، وقد شاع في جميع الأمصار.
فقال: وما هو؟
فقلت: هذا مشهد الحسين - عليه السلام - يزوره الزوار من كل البلاد
في ميقات، وله في كل سنة ميقات، هو أول ليلة من شهر رجب يجتمع
عنده عالم كثير من الإمامية وأهل السنة وغيرهم بعمي وصم ويأتون أهل
السنة يرونهم مقعدين ويضعونهم على ساحته - عليه السلام - تلك الليلة
406

فكل من خرج من أولئك العمي والصم والمقعدين من دين السنة، وتبرأ
منهم، ونظف قلبه، وخلص اعتقاده برئ من علته، وصار بصيرا ماشيا
بعد العمى والإقعاد، ومن بقي على حالته فلم يبرأ مما به، فما تقول في
هذه المعجزة؟
فهل عندك في هذا طعن، أو لك إلى القدح فيه سبيل؟ وهل ذلك دال
على أن مذهب أهل السنة على الخطأ والباطل وأنه يجب على كل مكلف
الخروج منه والدخول في مذهب الإمامية، وهذا دليل واضح وبرهان لائح
مشاهد بالأبصار، لا يمكن لأحد رده، ولا الطعن فيه.
فقال: ومن شاهد هذا، ومن عرف صحته؟
فقال السيد محسن: إن هذا ثابت بالتواتر من الأمة إن ذلك يقع عند
الحسين - عليه السلام - في كل عام، لا ينكره إلا مكابر ولو شئت
لأسمعتك هذه المعجزة ممن شاهدها ورآها أربعون رجلا وخمسون،
وأكثر من أهل الصلاح والدين.
فقال: إن صح ما ذكرتم فهو حجة قاطعة، ودليل ظاهر، ولما وصلت
المجادلة إلى هذا الحد أذن المؤذن للصلاة، فقمنا لصلاة الجمعة، وتفرق
المجلس ولم ألقه بعد ذلك، وقد حكى لي السيد محسن أنه لقيه بعد
مفارقته لنا بأيام وسأله عن حاله فظهر له منه أنه بقي مترددا لا مذهب له،
وأنه قال: أريد أمضي إلى الحسين - عليه السلام - لأنظر ما حكيتموه من
المقعد والأعمى إذا خرجا من مذهب أهل السنة ودخلا في مذهب الإمامية.
وبعد ذلك لا نعرف ما صار إليه أمره، وهذا ما كان بيني وبينه من
المجادلة في المجالس الثلاثة التي ذكرت، ومن المجادلة على الاستقصاء.
والحمد لله على ظهور الحق، وزهوق الباطل، إن الباطل كان زهوقا،
407

ونستغفر الله عن الزيادة والنقصان فإنه هو الغفور الرحيم المستعان.
تمت الرسالة يوم الثلاثاء حادي عشر من شهر جمادى الآخرة من
سنين خمس وتسعين وتسعمائة من الهجرة النبوية حرره الفقير
الحقير المذنب الجاني، المحتاج إلى رحمة الله صالح بن محمد بن
عبد الإله السلامي في بلدة إصفهان، رحم الله من دعا لمالكها
ولكاتبها بالغفران آمين رب العالمين، والحمد لله رب العالمين (1).

(1) حصلنا على مخطوطة هذه المناظرة من مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي (قدس
سره)، ضمن المجموعة رقم: 6896، وذكرت في فهرس المكتبة (المطبوع) ج 18 ص 89.
ونص عليها أيضا أغا بزرك الطهراني في الذريعة: ج 22 ص 285 تحت هذه المناضرة في آخر
الكتاب.
وأما منهجنا في تحقيقها فقد اعتمدنا طريقة التلفيق بين المخطوطة وما جاء في هامشها
حسب ما جاء من الإشارة إليه من الاختلاف والزيادة في بعض النسخ - آخذين بالأرجح منها،
كما أن بعض الكلمات لا تتم إلا بما في الهامش، ولذا آثرنا هذه الطريقة، كما قمنا بتخريج
أحاديثها وإرجاعها إلى مصادرها الأصلية إن وجدت، وتخريج بقية الأحاديث من أهم
المصادر المتبعة عند الجمهور حسب ما أمكن، وبالله التوفيق.
408

المناظرة الحادية والستون
مناظرة (2) مع قطب الدين عيسى
قد ورد علينا قديما إلى الشام، سيد من سادات شيراز الصفوية،
اسمه قطب الدين عيسى، كان قد هرب قديما مع أبيه من الشاه إسماعيل
إلى الهند وكان في الطبقة العليا من الفضل، وله مصنفات
وتحقيقات شتى، قرأت عليه جانبا من شرح التجريد وكان لقنا منصفا،
وعلم مني الميل إلى أهل البيت - عليهم السلام - وشيعتهم، وكان يميل إلى
البحث معي في المذهب ويقول: قل كل ما تعلمه من جهتهم.
فقلت له يوما: هل أوجب الله في كتابه أو نص رسوله - صلى الله عليه
وآله وسلم - أو أجمع أهل الإسلام أو قام دليل عقلي على وجوب اتباع
الشافعي بخصوصه؟
قال: لا.
قلت: فلم اتبعته؟
قال: لأنه مجتهد وأنا مقلد! فيجب علي اتباع مجتهد.
قلت: فما تقول في الإمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن
علي بن أبي طالب - عليهم السلام - هل كان مجتهدا؟

(1) وجدنا مخطوطة هذه المناظرة ضمن مجموعة تحت رقم: 6896، من مكتبة آية الله العظمى
السيد المرعشي (قدس سره)، ولم يذكر اسم صاحب المناظرة، انظر: صورة الصفحة الأولى،
والصفحة الأخيرة من هذه المخطوطة في آخر الكتاب.
409

فقال: كيف لا يكون ذلك وتلاميذه المجتهدون كانوا نحو أربعمائة
مجتهد، أحدهم أبو حنيفة.
قلت: فما تقول فيمن تبعه؟
قال: هو على الحق بغير شبهة، ولكن مذهبه لم ينقل كما نقل
مذهب أبي حنيفة.
فقلت له: تعني أنه لم ينقله أحد أصلا أم أهل السنة لم ينقلوه، فإن
أردت الأول لم يتمش أما أولا، فلأنه شهادة على نفي فلا تسمع، لأن
مضمونها أني لا أعلم أن أحدا نقله، وأما ثانيا، فلأنه مكابرة على
المتواترات المشتهرة لأن نقل أحاديثهم وآدابهم وعباداتهم ومذهبهم في
فروع الفقه ومعتقداتهم بين شيعتهم أظهر من الشمس، وقد نقلوا من ذلك
ما يزيد على ما في الصحاح الست بأسانيد معتبرة، ونقحوا رجال الأسانيد
بالجرح والتعديل غاية التنقيح، ولم يقبلوا رواية إلا من ثبت توثيقه،
ويقولون إن أئمتهم ومجتهديهم في كل عصر من لدن علي بن أبي طالب
- عليه السلام - إلى يومنا هذا لا يقصرون عن علماء فرقة من الفرق، بل هم
في كل زمان أعلم وأكثر مما في زمن أئمتهم الاثني عشر - صلوات الله
وسلامه عليهم - فواضح أنه لم يماثلهم أحد في علم ولا عمل، لأن قولهم
لم يكن بظن واجتهاد وإنما كان بالعلم الحقيقي إما بنقل كل واحد عن أبيه
إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وإما بالكشف والإلهام، بحيث
يتساوى صغيرهم وكبيرهم، ولهذا ما روي أن أحدا منهم في صغره ولا في
كبره تردد إلى معلم أو استفاد من أستاذ، ولا سئل أحدهم عن سؤال
فتوقف أو تعلم أو رجع إلى كتاب أو احتاج إلى فكر، ومن وقف على
سيرهم التي نقلها مخالفوهم فضلا عن مناقبهم وفضائلهم كتبا لا تدخل
410

تحت الحصر.
وأما تلاميذهم كمحمد بن مسلم (1) وهشام بن الحكم، وزرارة بن
أعين (2)، وجميل بن دراج (3)، وأشباههم، فإنهم يزيدون عن الحصر حتى
كان بيت جعفر الصادق - عليه السلام - كالتجار أو السوق يزدحم حتى
المستفيدون منه والآخذون عنه من كل الفرق، وأكثر هم كانوا مجتهدين
أصحاب مذاهب، ذكرهم علماء السنة وأثنوا عليهم بالعلم والعمل بما لا
مزيد عليه، ومن طالع كتب الرجال لأهل السنة علم صدق ذلك.
وأما بعدهم فإن لهم من العلماء من لا يقصر عنهم مثل الشيخ محمد

(1) محمد بن مسلم بن رباح أبو جعفر، من الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم العلم في الحلال
والحرام والفتيا والأحكام، يعد في مقدمة فقهاء أصحاب الإمامين الباقرين - عليهما السلام -،
وروى عنهما وكان من أوثق الناس وممن أجمعت الصحابة على تصديقه، ومن أكبر رجال
الشيعة فقها وحديثا ومعرفة بالكلام والتشيع، وكان شاعرا أديبا قد اجتمعت فيه خلال الفضل
والدين، صادقا فيما يرويه، ووثقه كل من صنف في الرجال وإن اختلفت في حاله الأخبار
فالأصحاب متفقون على أن هذا الرجل بلغ من الجلالة والعظم ورفعة الشأن وسمو المكان إلى
ما فوق الوثاقة المطلوبة للقبول والاعتماد، توفي سنة 150 للهجرة، وله نحو من سبعين سنة.
تنقيح المقال ج 3 ص 184، معجم رجال الحديث ج 17 ص 233 رقم: 11776.
(2) زرارة بن أعين واسمه عبد ربه يكنى أبو الحسن وزرارة لقب له، من أصحاب الإمام الباقر
والصادق والكاظم - عليهم السلام - له كتب ومصنفات عديدة منها كتاب الاستطاعة والجبر وله
كتاب يسمى الأربعمائة مسألة في أبواب الحلال والحرام، ويعد في الطبقة الأولى من رجالات
الشيعة الثقات توفي سنة 150 للهجرة.
تنقيح المقال: ج 1 ص 438 - 439، معجم رجال الحديث ج 7 ص 218 رقم: 4662،
الفهرست لابن النديم ص 308.
(3) جميل بن دارج: أبو الصبيح بن عبد الله أبو علي النخعي من أصحاب الإمامين الصادق
والكاظم - عليهما السلام - ثقة ثبت معروف، توفي في حياة الإمام الرضا - عليه السلام -.
تنقيح المقال: ج 1 ص 231، معجم رجال الحديث ج 4 ص 149، رقم: 2361.
411

ابن يعقوب الكليني (1)، وابني بابويه (2)، والصاحب بن عباد (3) وشيخ

(1) محمد بن يعقوب بن إسحاق أبو جعفر الكليني الرازي، عالم فقيه محدث ثقة ورع جليل
الشأن عظيم القدر، قال عنه بعضهم: في العلم والفقه والحديث والثقة والورع وجلالة الشأن
وعظم القدر وعلو المنزلة وسمو المرتبة أشهر من أن يحيط به قلم ويستوفيه رقم، له كتب
عديدة وأشهرها كتابه الكافي حيث ألفه في عشرين عاما، ومن كتبه: كتاب الرد على القرامطة،
كتاب رسائل الأئمة - عليهم السلام -، كتاب تعبير الرؤيا، كتاب الرجال، كتاب ما قيل في
الأئمة - عليهم السلام - من الشعر، ومن طريف ما نقل في ترجمته ما ذكره كتاب روضة
العارفين، عن بعض الثقات المعاصرين له: إن بعض حكام بغداد رأى قبره عطر الله مرقده
فسأل عنه فقيل له: إنه قبر بعض الشيعة فأمر بهدمه فحفر القبر فرأى أنه بكفنه لم يتغير،
ومدفون معه آخر صغير بكفنه أيضا، فأمر بدفنه وبنى عليه قبة فهو إلى الآن قبره مزار ومشهد،
وعن بعضهم في سبب الحفر المذكور أن ذلك الحاكم لما رأى إقبال الناس على زيارة قبر مولانا
باب الحوائج موسى بن جعفر - عليه السلام - حمله النصب على حفر القبر وقال: الرافضة
يدعون في أئمتهم أنهم لا تبلى أجسامهم بعد موتهم، وأريد أن أكذبهم حتى امنع الناس من
زيارته، فقال وزيره: إنهم يدعون في علمائهم أيضا ما يدعون في أئمتهم، وهنا قبر محمد بن
يعقوب الكليني من علمائهم، فأمر بحفره، فإن كان على ما يدعونه عرفنا صدق مقالتهم في
أئمتهم، وإلا تبين للناس كذبهم، فأمر بحفره - إلى آخر القصة، توفي في بغداد عام 329 ودفن
بباب الكوفة.
تنقيح المقال: ج 3 ص 201 - 202، معجم رجال الحديث ج 18 ص 50 رقم: 12038.
(2) تقدمت ترجمة الابن، وأما الأب فهو أبو الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي والد الشيخ
الصدوق، شيخ القميين ومقدمهم وفقيههم وثقتهم، كان معاصرا للإمام العسكري - عليه
السلام -، ولد بقم وتوفي عام 329 ه‍.
تنقيح المقال: ج 3 ص 42، مقدمة الإمامة والتبصرة.
(3) هو إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد أحمد بن إدريس الديلمي الأصفهاني
ولد سنة 326 في فارس، عالم فاضل ماهر شاعر أديب محقق متكلم عظيم الشأن جليل القدر
في العلم والأدب والدين والدنيا، وكان من الشيعة الإمامية ومن شعراء أهل البيت - عليهم
السلام - المتجاهرين، ولأجله ألف ابن بابويه عيون الأخبار، وألف الثعالبي يتيمة الدهر في
ذكر أحواله وأحوال شعرائه، ومن مؤلفاته: الشواهد، والتذكرة، والتعليل، والأنوار، وديوان
شعره، وكتاب الإمامية ذكر فيه تفضيل علي بن أبي طالب - عليه السلام - وتثبيت إمامته، وقال ابن خلكان عند ذكره، كان نادرة الزمان وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه وكرمه، ولي
الوزارة لمؤيد الدولة ثم فخر الدولة من بعده، توفي سنة 385 ه‍ بالري ونقل إلى أصفهان ودفن
في بيته.
راجع: تنقيح المقال للمامقاني ج 1 ص 135، أعيان الشيعة ج 3 ص 328، لسان الميزان
ج 1 ص 413، سير أعلام النبلاء ج 16 ص 511.
412

الطائفة محمد بن النعمان المفيد (1)، والشيخ أبي جعفر الطوسي (2)، وابن
البراج (3)، والسيد المرتضى علم الهدى (4)، وأبي القاسم جعفر بن سعيد
الحلي (5)، والشيخ سديد الدين الحلي (6)، وولده الشيخ جمال الدين (7)،

(1) تقدمت ترجمته.
(2) الشيخ الطوسي: أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي نسبة إلى طوس من
مدن خراسان حيث ولد فيها سنة 385، هاجر إلى بغداد حيث كانت قبلة للعلماء عام 408 ه‍،
فتتلمذ على الشيخ المفيد ثم السيد المرتضى من بعده، فاستقل بالزعامة الدينية من بعده إلى أن
توفي في النجف الأشرف عام 460 ه‍ وله مؤلفات كثيرة جدا. لؤلؤة البحرين ص 293.
(3) سعد الدين أبو القاسم عبد العزيز بن البراج، وجه من وجوه الأصحاب وفقيههم، كان قاضيا
في طرابلس، له كتب ومصنفات عديدة منها المهذب والمعتمد والروضة وغيرها وقيل إنه كان
خليفة الشيخ الطوسي في البلاد الشامية وقد تتلمذ على يدي علم الهدى والشيخ الطوسي،
توفي عام 481. لؤلؤة البحرين ص 331.
(4) علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر - عليه
السلام - ولد سنة 355 في بغداد، له كتب ومؤلفات كثيرة وكان من الأذكياء والأولياء، توفي في
سنة 436 في بغداد عن عمر يناهز الثمانين عاما.
تنقيح المقال: ج 2 ص 284، سير أعلام النبلاء ج 17 ص 588، تاريخ بغداد ج 11 ص 402.
(5) جعفر بن سعيد الحلي: أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا يحيى بن الحسن
ابن سعيد الهذلي الحلي، المعروف بالمحقق الحلي، ولد عام 602 صاحب الشرائع، وأخباره
معروفة مشهورة، توفي سنة 676 عن عمر يناهز أربع وسبعين عاما، أعيان الشيعة ج 4 ص 89.
(6) الشيخ سديد الدين يوسف بن علي بن المطهر الحلي والد العلامة الحلي عالم فقيه متكلم،
يروي عن جماعة من العلماء منهم الشيخ راشد البحراني والسيد العريضي ويروي عنه ولده
العلامة وأخوه رضي الدين، أمل الآمل ج 2 ص 350، رياض العلماء ج 5 ص 395.
(7) جمال الدين أبو منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين علي بن محمد بن
مطهر الحلي المعروف بالعلامة الحلي، انتهت رئاسة الإمامية إليه في المعقول والمنقول ولد
سنة 648 وتوفي سنة 726. ودفن في الحلة ثم نقل إلى النجف ودفن في حجرة في الحضرة
المقدسة لأمير المؤمنين - عليه السلام - إلى جهتها اليمنى. أعيان الشيعة ج 5 ص 396، لسان
الميزان ج 2 ص 317، رياض العلماء ج 1 ص 358.
413

وولده فخر المحققين (1)، ومولانا نصير الدين الطوسي (2)، والشيخ.
الشهيد (3)، وأمثالهم ممن لا يحصرهم حد ولا عد، ومصنفاتهم
وتحقيقاتهم في العلوم العقلية والنقلية قد ملأت الخافقين، ونقلها أهل
السنة في مصنفاتهم كما لا يخفى، ولا يدعون أن الشيعة أكثر من أهل السنة
بل ولا يرضون ذلك ويجدونه نقصا في شأنهم لأنه قد صح عن رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال لأمته: لتركبن سنة من قبلكم حذو
النعل بالنعل والقذة بالقذة (4) وهو كما قال.
والباري عز وجل قد أخبر في كتابه العزيز أن الفرقة القليلة من كل
الأمم كانت هي المحقة الناجية كقوله تعالى: (وما آمن معه إلا

(1) فخر المحققين: أبو طالب محمد بن الحسن بن يوسف بن مطهر، من وجوه الطائفة
وأعيانها درس على يد أبيه فخر آل المطهر، ولد سنة 682 وتوفي سنة 771 عن عمر يناهز
التسع والثمانين، لؤلؤة البحرين ص 190.
(2) نصير الدين الطوسي: هو محمد بن محمد بن الحسن الجهروردي القمي الطوسي، ولد
بمشهد سنة 597، فيلسوف كبير وصاحب علوم رياضة والرصد، كان رأسا " في العلم له
مصنفات كثيرة، توفي سنة 672، ودفن في الكاظمية ببغداد، لؤلؤة البحرين ص 245.
(3) الشيخ الشهيد: أبو عبد الله محمد بن الشيخ جمال الدين مكي بن شمس الدين محمد
الدمشقي الجزيني، ولد سنة 734 في جبل عامل من ألمع تلامذة فخر المحققين العلامة الحلي
في الفقه والفلسفة، سافر إلى أقطار الأرض طلبا للعلم والمعرفة، له تصانيف عديدة منها
الذكرى، واللمعة الدمشقية، توفي سنة 786 بدمشق حيث قتل فيها بالسيف ثم صلب ورجم
ثم أحرق بفتوى القاضي برهان الدين المالكي ابن جماعة الشافعي، لؤلؤة البحرين ص 143.
(4) تقدمت تخريجاته.
414

قليل) (1)، وما كان أكثرهم مؤمنين) (2) (وما وجدنا لأكثر هم من
عهد) (3) (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك) (4) وأمثال ذلك كثير،
وعلى هذا القياس كلما كان في الدنيا أقل فهو أعز، كالأنبياء في نوع
والمعادن وهلم جرا ويقولون لا يضرنا قلتنا بل هي دليل أحقيتنا.
والذي أوجب خمولنا في الجملة استيلاء أعدائنا على أئمتنا - عليهم
السلام - وعلى شيعتهم لأن أعداءنا كانوا ملوك الأرض الناس على دين
ملوكهم إما ظاهرا فقط، وإما ظاهرا وباطنا، وأكثر أئمتنا - عليهم السلام -
مات قتلا بالسيف أو سما في الحبس، وأكابر علمائنا في أكثر الأوقات
كانوا خائفين مستترين بالتقية، والملوك إنما يقبلون ويرفعون من
يوافقهم في العقيدة ويعظمون محله ليضعوا من أهل البيت - عليهم
السلام - وشيعتهم، ومع كثرة أعدائنا وعظمتهم في الدنيا لم يمكنهم إخفاء
نور الحق، بل ظهر من علمائنا وشيعتهم ومصنفاتهم ما قد اشتهر وبهر
ولم يضمحل نور الحق كما اضمحل باطل الخوارج والمجبرة والمعتزلة
والمرجئة وأمثالهم من الفرق الكثيرة.
رجعنا إلى ما كنا بصدده، وإن أردت أن أهل السنة لم ينقلوا مذهب
جعفر الصادق - عليه السلام - فهذا ليس نقصا ولا طعنا فيما نقل عن
شيعتهم، كما أنه لا يقتضي عدم نقل الشيعة مذهب الشافعي نقصا فيه، ولا

(1) سورة هود: الآية 40.
(2) سورة الشعراء: الآية 8.
(3) سورة الأعراف: الآية 102.
(4) سورة الأنعام: الآية 119.
415

يقتضي عدم نقل الشافعية مذهب أبي حنيفة نقصا فيه، وبالعكس.
ثم إنهم يتنزلون بالبحث ويقولون: سلمنا أن أئمتنا لم يكونوا
معصومين كما ندعيه فقد كانوا مجتهدين، لم يخالف في ذلك أحد
وسلمنا أن أئمتكم الأربعة كانوا مجتهدين أيضا أبرارا ولكن لم يقم لنا
دليل عقلي ولا نقلي من الله ولا من رسوله على وجوب التمسك بواحد
منهم كما قام ذلك في أهل البيت - عليهم السلام - كما سمعته من أن
المتمسك بهم وبكتاب الله لن يضل أبدا (1).
سلمنا أن الباري لم ينص في كتابه على طهارتهم، ولا أمر النبي
بالتمسك بهم، فالمزية التي في أئمتكم المجوزة لاتباعكم لهم وهو
الاجتهاد حاصل فيهم، مع زيادة أخرى وهي اتفاق جميع الفرق على
طهارتهم وتعففهم وغزارة علمهم، بحيث لا يشك فيه أحد ولم يتمكن
أحد من أعدائهم من الطعن عليهم بما ينقصهم ولا بطريق الكذب تقربا
إلى أعدائهم مع كثرتهم وعلو شأنهم في الدنيا، كخلفاء بني أمية وبني
العباس.
وما ذاك إلا لعلم جميع الناس بطهارتهم والكاذب عليهم يعلم أنه
يكذبه كل من يسمعه، وهذه المزية لم تحصل لغيرهم، فإن من سواهم قد
طعن بعضهم على بعض، حتى صنف بعض الشافعية كتابا سماه النكت
الشريفة في الرد على أبي حنيفة، وأثبت كفره بمخالفة السنة المطهرة بما
يطول شرحه.
والحنفية والمالكية وأكثر الطوائف ويكفرون الحنابلة لقولهم

(1) إشارة إلى حديث الثقلين ومصادره كثيرة جدا منها على سبيل المثال: المستدرك ج 3 ص 19،
المناقب لابن المغازلي ص 16 ح 23، وتقدمت مصادر أخرى له.
416

بالتجسيم، ولا ريب في وجوب اتباع المتفق على عدالته وعلمه ولا يجوز
العمل بالمرجوح مع إمكان العمل بالراجح، فقد لزمكم القول بصحة
مذهبنا لأرجحية أهل البيت - عليهم السلام - على غيرهم، بل يلزم ذلك
كل من وقف نفسه على جادة الأنصاف ولم يغلب عليه الهوى، لأن
المقتضي للنجاة عندكم تقليد المجتهد، وهذا حاصل لنا باعترافكم، مع ما
في أهل البيت - عليهم السلام - من المرجحات التي لا يمكن إنكارها وقد
بيناها، ولا يلزمنا القول بصحة مذهبكم لأنا شرطنا في المتبع العصمة
حتى يؤمن من الخطأ منه.
فنكون نحن الفرقة الناجية إجماعا، بالدليل المسلم المقدمات
عندكم، فأي مسلم يخاف الله واليوم الآخر يحكم بخطأ متبع أهل البيت
- عليهم السلام - لولا ظلمة اتباع الهوى والتعصب.
وكان هذا السيد لا يبعد عن الأنصاف وإنما كان يمسك عن المكابرة
ويتأمل، وكان يقول إذا كان هذا حالهم فالباري ثبتهم لأنه لا يكلف بما لا
يطاق، وقد جعل لكل مجتهد نصيبا من كرمه.
417

المناظرة الثانية والستون
مناظرة يوحنا (1) مع علماء المذاهب الأربعة في بغداد
يقول يوحنا بن إسرائيل الذمي: إني كنت رجلا ذميا (2)، متقنا للفنون
العقلية، ممتعا من العلوم النقلية، لا يحيدني عن الحق مموهات الدلائل،
ولا يلقيني في الباطل مزخرفات العبارات، ومنمقات الرسائل، أنجر
ينابيع التحقيق من أطواد الحلوم، وأستخرج بالفكر الدقيق المجهول من
العلوم، أتصفح بنظر الاعتبار ومعتقد فريق فريق، وأميز بين ذلك سواء
الطريق، والناس إذ ذاك قد مزقوا دينهم وكانوا شيعا وتمزقوا كل ممزق
وتبروا قطعا، فلهم قلوب لا يفقهون، بها ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم

(1) وقد وجدنا مناظرة يوحنا مخطوطة (بالفارسي) في مكتبة آية العظمى المرعشي النجفي
(قدس سره) ضمن مجموعة تحت رقم: 6154، وذكرت في فهرس المكتبة (الخطي) ج 16
ص 153.
وقد ذكر هذه المناظرة آغا بزرك الطهراني في الذريعة ج 23 ص 176 - 177 باسم: منهاج
المناهج تحت رقم: 8547، وقال عنها رحمه الله تعالى: منهاج المناهج في تحقيق المذاهب
الأربعة وإثبات الإمامة على أسلوب أصحابنا، ليوحنا بن إسرائيل المصري المستبصر، وكان
عند شيخنا النوري هذه النسخة بخط جده الميرزا علي محمد النوري، وهو المعروف ب‍
(رسالة يوحناي إسرائيلي) أو (كتاب يوحنا) أو (إمامت) أو (رسالة كلامي) ولم أدر إلى من
انتقلت النسخة بعد شيخنا وبما أن وفاة والده كانت في سنة 1264، فيكون تاريخ خط جده
حدود سنة 1200، وذكر في ص 890 و 950 و 997 من (فهرست نسخه هاي خطي فارسي)
12 نسخة منها، أقدمها كتابة في مكتبة أمير المؤمنين - عليه السلام - (770 بالنجف) ضمن
المجموعة المؤرخة (17 رجب 1078) وأخرى في (الملك 2 / 5216) كتبت بقلم النستعليق
في سنة 1089، ونسخة منه مع الترجمة الإنجليزية، توجد في المتحف البريطاني
(or 1193) كتبت في القرن الثالث عشر.
(2) بما أن هذه المناظرة ترتبط ببعض هذه المقدمات التي ذكرها صاحبها لذا نذكرها بمقدماتها.
418

آذان لا يسمعون بها، يخبطون خبط عشواء فهم لا يبصرون ويتعسفون
مهامة الضلالة فهم في ريبهم يترددون، فبعضهم دينه صابئي، وغيرهم
مجوسي، وهذا يهودي، وهذا نصراني، وآخر محمدي، وبعض عبدوا
الكواكب، وبعض عبدوا الشمس، وطائفة عبدوا النار، وقوم عبدوا
العجل، وكل فرقة من هؤلاء صاروا فرقا لا تحصى.
فلما رأيت تشعب القول، وشاهدت تناقض النقول، طابقت
المعقول بالمنقول، وميزت الصحيح من المعلول، وأقمت الدليل على
وجوب اتباع ملة الإسلام، والاقتداء بها إلى يوم الحساب والقيام،
فأظهرت كلمة الشهادة، وألزمت نفسي بما فيه من العبادة، وجمعت
الكتب الإسلامية من التفاسير والأحاديث والأصول والفروع من جميع
الفرق المختلفة، وجعلت أطالعها ليلا ونهارا وأتفكر في المناقضات التي
وقعت في دين الإسلام.
فقال بعضهم: إن صفات الله تعالى عين ذاته، وبعض قال: لا عين ذاته
ولا زائدة، وبعض قال: إن الله عز وجل أراد الشر وخلقه، وبعض نزهه عن
ذلك، وبعض جوز على الأنبياء الصغائر، وبعض جوز الكبائر، وبعض
جوز الكفر (1)، وبعض أوجب عصمتهم، وبعض أوجب النص
بالإمامة (2)، وبعض أنكره، وبعض قال: بإمامة أبي بكر وأنه أفضل، وبعض
كفره، وبعض قال: بإمامة علي، وبعض قال: بإلهيته، وبعض ساق الإمامة
في أولاد الحسن، وبعض ساقها في أولاد الحسين، وبعض وقف على

(1) تقدمت تخريجاته في ما سبق.
(2) انظر: الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 131.
419

موسى الكاظم (1)، وبعضهم قال: بإثني عشر إماما، إلى غير ذلك من الأقوال
التي لا تحصى.
وكل هذه الاختلافات إنما نشأت من استبدادهم بالرأي في مقابلة
النص، واختيارهم الهوى في معارضة النفس وتحكيم العقل على من لا
يحكم عليه العقل وكان الأصل فيما اختلف فيه جميع الأمم السالفة
واللاحقة من الأصول شبهة إبليس، وكان الأصل في جميع ما اختلف فيه
المسلمون من الفروع مخالفة وقعت من عمر بن الخطاب لرسول
الله - صلى الله عليه وآله - واستبداده برأي منه في مقابلة الأمر النبوي،
فصارت تلك الشبهة والمخالفة مبدأ كل بدعة، ومنبع كل ضلالة.
أما شبهة إبليس فتشعبت منها سبع شبه، فصارت في الخلائق،
وفتنت العقلاء، وتلك الشبهات السبع مسطورة في شرح الأناجيل،
مذكورة في التوراة، متفرقة على شكل مناظرة بين إبليس وبين الملائكة
بعد الأمر بالسجود والامتناع منه.
فقال إبليس للملائكة: إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق،
عالم قادر، ولا يسأل عن قدرته ومشيئته، وإنه مهما أراد شيئا قال له: كن
فيكون، وهو حكيم إلا أنه يتوجه على مساق حكمته أسئلة.
قالت الملائكة: وما هي؟ وكم هي؟
قال إبليس: سبع.
الأول: أنه قد علم قبل خلقي أي شئ يصدر عني، ويحصل مني،
فلم خلقني أولا؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟

(1) انظر: فرق الشيعة للنوبختي ص 80.
420

الثاني: إذا خلقني على مقتضي إرادته ومشيئته فلم كلفني بطاعته
وأماط الحكمة في التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعته، ولا يتضرر بمعصيته؟
الثالث: إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة،
فعرفت وأطعت، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا
التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في طاعتي ومعرفتي؟
الرابع: إذ خلقني وكلفني بهذا التكليف على الخصوص فإذ لم
أسجد لعنني وأخرجني من الجنة، ما الحكمة في ذلك بعد إذ لم أرتكب
قبيحا إلا قولي لا أسجد إلا لك؟
الخامس: إذ خلقني وكلفني مطلقا وخصوصا، فلما لم أطع في
السجود فلعنني وطردني، فلم طرقني إلى آدم حتى دخلت الجنة وغررته
بوسوستي، فأكل من الشجرة المنهي عنها؟ ولم أخرجه معي؟ وما
الحكمة في ذلك بعد أن لو منعني من دخول الجنة امتنع استخراجي لآدم
وبقي في الجنة؟
السادس: إذ خلقني وكلفني عموما وخصوصا ولعنني ثم طرقني
إلى الجنة وكانت الخصومة بيني وبين آدم، فلم سلطني على أولاده حتى
أراهم من حيث لا يروني، وتؤثر فيهم وسوستي، ولا يؤثر في حولهم ولا
قوتهم ولا استطاعتهم؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلاهم على الفطرة
دون من يغتالهم عنها فيعيشون طاهرين سالمين مطيعين كان أليق وأحرى
بالحكمة؟
السابع: سلمت لهذا كله خلقني وكلفني مطلقا ومقيدا وإذ لم أطع
طردني ولعنني وإذا أردت دخول الجنة مكنني وطرقني وإذ عملت عملي
أخرجني ثم سلطني على بني آدم، فلم إذ استمهلته أمهلني، فقلت: (
421

فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت
المعلوم) (1)؟ وما الحكمة في ذلك بعد إذ لو أهلكني في الحال استراح
الخلق مني، وما بقي شر في العالم، أليس ببقاء العالم على نظام الخير خير
من امتزاجه بالشر؟
قال: فهذه الحجة حجتي على ما ادعيته من كل مسألة.
قال شارح الإنجيل: فأوحى الله تعالى إلى الملائكة قولوا له: أما
تسليمك الأولى أني إلهك وإله الخلق فإنك غير صادق فيه ولا مخلص، إذ
لو صدقت أني إله العالمين لما احتكمت علي بلم وأنا الله الذي لا إله إلا هو
لا أسأل عما أفعل والخلق يسألون.
قال يوحنا: وهذا الذي ذكرته من التوراة في الإنجيل مسطور على
الوجه الذي ذكرته (2).
وأما المخالفة التي وقعت من عمر بن الخطاب: أنه لما مرض رسول
الله - صلى الله عليه وآله - مرضه الذي توفي فيه دخل عليه جماعة من
الصحابة، وفيهم: عمر بن الخطاب، وعرف رسول الله - صلى الله عليه
وآله - رحلته من الدنيا واختلاف أمته بعده، وضلال كثير منهم، فقال
للحاضرين: (ائتوني بدواة وبيضاء لأكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي.
قال عمر بن الخطاب: إن النبي قد غلب عليه الوجع، وإن الرجل
ليهجر، وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله (3).

(1) سورة الحجر: الآية 37 و 38.
(2) أورد هذه المناظرة الشهرستاني في الملل والنحل: ج 1 ص 24، الآلوسي في تفسير روح
المعاني ج 8 ص 92.
(3) تقدمت تخريجاته.
422

فلو أن عمر لم يحل بينه وبين الكتاب لكتب الكتاب، ولو كتبه
لارتفع الضلال عن الأمة، لكن عمر منعه من الكتابة، فكان هو السبب في
وقوع الضلال، وأنا والله لا أقول هذا تعصبا للرافضة ولكني أقول ما
وجدته في كتب أهل السنة الصحيحة، وهو مصرح في صحيح مسلم الذي
يعتمدون عليه.
ومن الخلاف الذي جرى بين عمر وبعض الصحابة: أنه لما مرض
رسول الله - صلى الله عليه وآله - مرضه الذي توفي فيه جهز جيشا إلى
الروم إلى موضع يقال له: مؤتة، وبعث فيه وجوه الصحابة مثل أبي بكر
وعمر وغيرهما، فأمر عليهم أسامة بن زيد فولاه وبرزوا عن المدينة، فلما
ثقل المرض برسول الله - صلى الله عليه وآله - تثاقل الصحابة عن السير
وتسللوا، وبقي أبو بكر وعمر يجيئان ويتجسسان أحوال صحة رسول الله
- صلى الله عليه وآله - ومرضه ليلا ويذهبان إلى المعسكر نهارا، ورسول
الله يصيح بهم: (جهزوا جيش أسامة، لعن الله المتخلف عنه) حتى قالها
ثلاثا.
فقال قوم: يجب علينا امتثال أمره، وقال قوم: لا تسع قلوبنا
المفارقة (1).
ولا يخفى على العاقل قصد النبي - صلى الله عليه وآله - في بعث أبي

(1) ورد الحديث بألفاظ متفاوتة، انظر:
طبقات ابن سعد: ج 2 ص 1 ح 37 و ج 2 ص 2 ح 41 و ج 4 ص 1 ح 47، فتح الباري
للعسقلاني: ج 7 ص 87 و ج 8 ص 152، كنز العمال: ج 10 ص 572 ح 30266، تهذيب تاريخ
ابن عساكر: ج 1 ص 117 و 122، دلائل الصدق: ج 3 ص 4 و 5، الملل والنحل: ج 1 ص 29،
شرح نهج البلاغة: ج 6 ص 52، أصول الأخيار: ص 68.
وأخرجه في البحار: ج 22 ص 466 عن إرشاد المفيد: ص 98 وإعلام الورى: ص 140.
423

بكر وعمر تحت ولاية أسامة في مرضه وحثهم على المسير، ولا يخفى
أيضا مخالفتهم ورجوعهم من غير إذنه لما كان ذلك، ولا يخفى لعن النبي
- صلى الله عليه وآله - المتخلف عن جيش أسامة فلماذا كان؟ (فإنها لا
تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (1).
ومن الخلاف: أنه لما مات النبي - صلى الله عليه وآله - قال عمر:
(والله ما مات محمد، ولن يموت، ومن قال إن محمدا مات قتلته بسيفي
هذا، وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى بن مريم)، فلما تلا عليه أبو
بكر: (إنك ميت وإنهم ميتون) (2) رجع عمر وقال: كأني لم أسمع بهذه
حتى قرأها أبو بكر (3).
ومن الخلاف الواقع في الإمامة: أنه ما سل سيف في الإسلام على
قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة، وهو أنه لما مات النبي - صلى الله عليه
وآله - اشتغل علي - عليه السلام - بتجهيزه ودفنه وملازمته ذلك ومضى أبو
بكر وعمر إلى سقيفة بني ساعدة، فمد عمر يده فبايع أبا بكر وبايعه
الناس، وتخلف علي - عليه السلام - عن البيعة وعمه العباس والزبير وبنو
هاشم وسعد بن عبادة الأنصاري، ووقع الخلاف الذي سفك فيه الدماء،
ولو ترك عمر بن الخطاب الاستعجال وصبر حتى يجتمع أهل الحل
والعقد ويبايعوا الأول لكان أولى ولم يحصل الخلاف لمن بعدهم في

(1) سورة الحج: الآية: 46.
(2) سورة الزمر: الآية 30.
(3) روى نحوه البخاري في صحيحه: ج 5 ص 8، وابن الأثير في جامع الأصول: ج 4 ص 470
ح 2075، وانظر: فتح الباري في شرح صحيح البخاري: ج 7 ص 21، تاريخ ابن الأثير: ج 2
ص 323، الملل والنحل: ج 1 ص 29، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 178.
424

الاستخلاف (1).
ومن الخلاف: أنه لما مات النبي - صلى الله عليه وآله - وفي يد فاطمة
- عليها السلام - فدك متصرفة فيها من عند أبيها (2) فرفع أبو بكر يدها عنها
وعزل وكلاءها، فأتت إلى أبي بكر وطلبت ميراثها من أبيها، فمنعها
واحتج بأن النبي - صلى الله عليه وآله - قال: ما تركناه يكون صدقة (3)،
واحتجت فاطمة فلم يجبها، فولت غضبانة عليه (4)، وهجرته فلم تكلمه

(1) انظر: ابن الأثير في الكامل في التاريخ: ج 2 ص 325، الشهرستاني في الملل والنحل ج 1 ص 30.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) روي هذا الحديث في: طبقات ابن سعد: ج 8 ص 28، وصحيح البخاري: ج 4، ص 96 - 98
و ج 5، ص 25 وص 114 - 115 وص 177 و ج 7، ص 82 و ج 8، ص 185 و ج 9، ص 122
بألفاظ متفاوتة، وصحيح مسلم: ج 3، ص 1380، ح 1759 وانظر: الملل والنحل: ج 1، ص 31.
(4) وممن روى ذلك ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ج 1 ص 19 تحت عنوان (كيف كانت بيعة
علي - عليه السلام -).
وفيه أنها - عليها السلام - قالت لأبي بكر وعمر: (إني أشهد الله وملائكته أنكما
أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي - صلى الله عليه وآله - لأشكونكما إليه). وفيه
أيضا: (والله، لأدعون عليك في كل صلاة أصليها).
ومما لا يخفى على كل مسلم منصف بالنظر إلى هذه الأخبار وغيرها أن الزهراء - عليها
السلام - ماتت وهي غضبى عليهم ومن اللازم أن يغضب لها كل مسلم لغضب رسول الله - صلى
الله عليه وآله - أيضا فإذا كان كذلك فبالأحرى أن يغضب لها أولادها وشيعتها ومحبوها.
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 6 ص 49: قال أبو بكر (بسنده) عن داود: قال: أتينا
عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ونحن راجعون من
الحج في جماعة، فسألناه عن مسائل، وكنت أحد من سأله، فسألته عن أبي بكر وعمر، فقال:
أجيبك بما أجاب به جدي عبد الله بن الحسن، فإنه سئل عنهما، فقال: كانت أمنا صديقة ابنة
نبي مرسل، وماتت وهي غضبى على قوم، فنحن غضاب لغضبها.
قلت: قد أخذ هذا المعنى بعض شعراء الطالبيين من أهل الحجاز، أنشدنيه النقيب جلال
الدين عبد الحميد بن محمد بن عبد الحميد العلوي، قال: أنشدني هذا الشاعر لنفسه - وذهب
عني أنا اسمه - قال:
يا أبا الحفص الهوينى وما كنت * مليا بذاك لولا الحمام
أتموت البتول غضبى ونرضى * ما كذا يصنع البنون الكرام
425

حتى ماتت (1)، وفي اثنا المحاجة أذعن أبو بكر لقولها، فكتب لها بفدك
كتابا، فلما رآه عمر مزق الكتاب (2) وكان هذا هو السبب الأعظم في
الاعتراض على الصحابة والتشنيع عليهم بإيذاء فاطمة - عليها السلام - مع
روايتهم أن من آذاها فقد آذى رسول الله - صلى الله عليه وآله - (3)، وفي
الحقيقة ما كان لائقا من الصحابة أن يعطي رسول الله - صلى الله عليه وآله -
ابنته مما أفاء الله عليه فينزعه أبو بكر وعمر منها مع علمهم أنها كانت
تطحن الشعير بيدها، وإنما كانت تريد بالذي ادعته من فدك صرفه
للحسن والحسين - عليهما السلام - فيحرمونها ذلك ويتركونها محتاجة
كئيبة حزينة، وعثمان بن عفان يعطي مروان بن الحكم (4) طريد رسول الله

(1) وممن روى ذلك البخاري في صحيحه ج 5 ص 177، كتاب المغازي باب في غزوة خيبر،
بإسناده إلى عائشة قالت: إن فاطمة - عليها السلام - بنت النبي - صلى الله عليه وآله - أرسلت إلى
أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله - صلى الله عليه وآله - مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك
وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال لا نورث ما
تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله -
صلى الله عليه وآله - عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله - ولا عملن
فيها بما عمل به رسول الله - صلى الله عليه وآله - فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا،
فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي -
صلى الله عليه وآله - ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها
... الحديث.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 274.
(3) انظر: صحيح مسلم: ج 4 ص 1903 ح 94، مسند أحمد ج 4 ص 332، سنن الترمذي ج 5
ص 656، ح 3869، المصنف لابن أبي شيبة ج 12 ص 126، ح 12319، حلية الأولياء ج 2 ص 40.
(4) تقدمت تخريجاته.
426

- صلى الله عليه وآله - مائتي مثقال من الذهب من بيت مال المسلمين ولا
ينكرون عليه ولا على أبي بكر، ولو أن عمر لم يمزق الكتاب أو أنه ساعد
فاطمة في دعواها، لكان لهم أحمد عاقبة ولم تبلغ الشنيعة ما بلغت.
قال يوحنا: ومن الخلاف الذي وقع وكان سببه عمر: الشورى (1)،
فإنه جعلها في ستة وقال: إذا افترقوا فريقين فالذي فيهم عبد الرحمن بن
عوف فهم على الحق، وعبد الرحمن لا يترك جانب عثمان كما هو معلوم
حتى قال علي - عليه السلام - للعباس: يا عم عدل بها عني فيا ليته تركها
هملا كما يزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - تركها، أو كان ينص بها
كما نص أبو بكر فخالف الأمرين حتى أفضت الخلافة إلى عثمان، فطرد
من آواه (2) رسول الله - صلى الله عليه وآله -، وآوى من طرده (3) رسول الله -

(1) انظر: تاريخ الطبري ج 4 ص 227 - 241، تاريخ ابن كثير ج 7 ص 144 - 146، وقد تقدمت
تخريجاته بالإضافة إلى ما هنا.
(2) وهو أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - من شيعة أمير المؤمنين - عليه السلام -، وسبب نفيه هو
إنكاره على عثمان هباته الأموال لأقربائه وقصة نفيه إلى الربذة مشهورة، راجع: شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد ج 3 ص 52 و ج 8 ص 252 - 262، أنساب الأشراف للبلاذري ج 5
ص 52 - 54، طبقات لابن سعد ج 4 ص 232، عمدة القاري ج 4 ص 291، مسند
أحمد بن حنبل ج 5 ص 197، الغدير للأميني ج 8 ص 292 - 386.
(3) وهو: الحكم بن العاص الأموي وقد رويت أحاديث كثيرة في لعنه وذريته فمنا ما روى
عن عمرو بن مرة، قال: استأذن الحكم على رسول الله - صلى الله عليه وآله - فعرف
صوته فقال: ائذنوا له لعنة الله عليه وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمنين وقليل ما هم، ذو
مكر وخديعة يعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق.
راجع: مستدرك الحاكم ج 4 ص 481 وصححه، والواقدي كما في السيرة الحلبية ج 1
ص 337، البلاذري في أنساب الأشراف ج 5 ص 126.
وكان الحكم يحكي مشية رسول الله - صلى الله عليه وآله - وحركاته فنفاه وطرده، فلما ولي
عثمان أعاده وأعطاه مائة ألف درهم وأقطع ولده مروان فدك وقد كانت فاطمة - عليها السلام -
طلبتها بعد وفاة أبيها تارة بالميراث، وتارة بالنحلة فدفعت عنها.
راجع: الملل والنحل ج 1 ص 19، مجمع الزوائد ج 5 ص 240، أسد الغابة ج 2 ص 33،
شرح النهج ج 1 ص 198، فتح الباري ج 13 ص 9، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 107، شيخ
المضيرة أبو هريرة ص 168، الغدير ج 8 ص 241 - 267.
427

صلى الله عليه وآله - وأحدث أمورا قتل بها وفتح بها با القتال إلى يوم
القيامة، وأفضت الخلافة إلى معاوية الذي ألب عائشة وطلحة والزبير على
حرب علي - عليه السلام - حتى قتل يوم الجمل ستون ألفا، ثم حارب عليا
- عليه السلام - ثمانية عشر شهرا وقتل في حربه مائة وخمسون ألفا،
وأفضت الخلافة إلى ولده يزيد فقتل الحسين - عليه السلام - بتلك
الشناعة، وحاصر عبد الله بن الزبير في مكة فلجأ إلى الكعبة فنصب بمكة
المنجنيق، وهدم الكعبة، ونهب المدينة، وأباحها لعسكره ثلاثة أيام (1).
وقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن النبي - صلى الله عليه
وآله - أنه قال: (المدينة حرم ما بين عاير إلى وعير، من أحدث فيه حدثا
فعليه لعنة الله) (2)، فما ظنك بمن يقتل أولاده، ويرفع رؤوسهم على
الرماح، ويطوف بها في البلاد جهرا، وأفضى الأمر إلى أنهم أمروا بسب
علي على المنابر ألف شهر، وطلبوا العلويين فقتلوهم وشردوهم (3)،
وأفضى الأمر إلى الوليد بن عبد الملك الذي تفأل يوما بالمصحف فظهر له
قوله تعالى: (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) (4) فنصب المصحف

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) صحيح البخاري ج 3 ص 25 - 26، صحيح مسلم ج 2 ص 994 ح 467 وص 999 ح 469
وص 1147 ح 1370.
(3) انظر: صحيح مسلم ج 4 ص 1871 ح 32، سنن الترمذي ج 5 ص 596 ح 3724.
(4) سورة إبراهيم: الآية 15.
428

يوما فرماه بالنشاب وأنشد شعرا:
تهددني بجبار عنيد * فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر * فقل يا رب مزقني الوليد (1)
فإذا نطر العاقل إلى هذه المفاسد كلها لرأى أن أصلها منع رسول الله
- صلى الله عليه وآله - عن كتابة الكتاب، وجعل الخلافة باختيار الناس من
غير نص ممن له النص فكل السبب من عمر بن الخطاب.
ولا يظن أحمد أني أقول هذا بعضا لعمر لا والله وإنما هو مسطور في
كتبهم والحال كذلك فما يسعني أن أنكر شيئا مما وقع ومضى.
قال يوحنا: فلما رأيت هذه الاختلافات من كبار الصحابة الذين
يذكرون مع رسول الله صلى الله عليه وآله - فوق المنابر عطم علي الأمر
وغم علي الحال وكدت أفتتن في ديني، فقصدت بغداد وهي قبة الإسلام
لأفاوض فيما رأيت من اختلاف علماء المسلمين لأنظر الحق واتبعه،
فلما اجتمعت بعلماء المذاهب الأربعة، قلت لهم: إني رجل ذمي، وقد
هداني الله إلى الإسلام فأسلمت وقد أتيت إليكم لأنقل عنم معالم الدين،
وشرائع الإسلام، والحديث، لازداد بصيرة في ديني.
فقال كبيرهم وكان حنفيا: يا يوحنا، مذاهب الإسلام أربعة فاختر
واحدا منهما، ثم اشرع في قراءة ما تريد.
فقلت له: إني رأيت تخالفا وعلمت أن الحق منها واحد فاختاروا لي
ما تعلمون أنه الحق الذي كان عليه نبيكم.
قال الحنفي: إنا نعلم يقينا ما كان عليه نبيا بل نعلم أن طريقته

(1) شذرات الذهب ج 1 ص 168 - 169، البدء والتاريخ للمقدسي ج 6 ص 53، تاريخ الخميس
ج 2 ص 220، تاريخ ابن الأثير ج 5 ص 137، الحور العين لابن نشوان ص 190، وغيرها.
429

ليست خارجة من الفرق الإسلامية وكل من أربعتنا يقول إنه محق، لكن
يمكن أن مذهب أبي حنيفة أنسب المذاهب، وأطبقها للسنة، وأوفقها
بالعقل، وأرفعها عند الناس، إن مذهب مختار أكثر الأمة بل مختار
سلاطينها، فعليك به تنجى.
قال يوحنا: فصاح به إمام الشافعية وأطن أنه كان بين الشافعي
والحنفي منازعات.
فقال له: اسكت لا نطقت، والله لقد كذبت وتقولت، ومن أين أنت
والتمييز بين المذاهب، وترجيح المجتهدين؟ ويلك ثكلتك أمك وأين
لك وقوفا على ما قال أبو حنيفة، وما قاسه برأيه، فإنه المسمي بصاحب
الرأي يجتهد في مقالة النص ويستحسن في دين الله ويعمل به حتى
أوقعه رأيه الواهي في أن قال: لو عقد رجل في بلا د الهند على امرأة كانت
في الروم عقدا شرعيا، ثم أتاها بعد سنين فوجدها حاملة وبين يديها
صبيان يمشون ويقول لها: ما هؤلاء؟ وتقول له: أولادك فيرافعها في ذلك
إلى القاضي الحنفي فيحكم أن الأولاد من صلبه، ويلحقونه طاهرا وباطنا،
يرثهم ويرثونه، فيقول ذلك الرجل: وكيف هذا ولم أقربها قط؟ فيقول
القاضي: يحتمل أنك أجنبت أو أن تكون أمنيت فطار منيك في قطعة
فوقعت في فرج هذه المرأة، وهل هذا يا حنفي مطابق للكتاب والسنة؟
قال الحنفي: نعم إنما يلحق به لأنها فراشه والفراش يلحق ويلتحق
بالعقد ولا يشترط فيه الوطي، وقال النبي - صلى الله عليه وآله -: (الولد

(1) انظر: الفقه على المذاهب الأربعة ج 4 ص 14 - 15.
430

للفراش وللعاهر الحجر) (1) فمنع الشافعي أن يصير فراشا بدون الوطي،
وغلب الشافعي الحنفي بالحجة.
ثم قال الشافعي: وقال أبو حنيفة: لو أن امرأة زفت إلى زوجها
فعشقها رجل فادعى عند قاضي الحنيفة أنه عقد عليها قبل الرجل الذي
زفت إليه، وأرشى المدعي فاسقين حتى شهدا له كذبا بدعواه، فحكم
القاضي له تحرم على زوجها الأول طاهرا وباطنا وثبتت زوجية تلك
المرأة للثاني وأنها تحل عليه ظاهرا وباطنا، وتحل منها على الشهود الذين
تعمدوا الكذب في الشهادة (2)! فانظروا أيها الناس هل هذا مذهب من
عرف قواعد الإسلام؟
قال الحنفي: لا اعتراض لك عندنا إن حكم القاضي ينفذ ظاهرا
و باطنا وهذا متفرع عليه فخصمه الشافعي ومنع أن ينفذ حكم القاضي
ظاهرا وباطنا بقوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) (3) ولم ينزل
الله ذلك.
ثم قال الشافعي: وقال أبو حنيفة: لو أن امرأة غاب عنها زوجها
فانقطع خبره، فجاء رجل فقال لها: إن زوجك قد مات فاعتدي، فاعتدت،
ثم بعد العدة عقد عليها آخر ودخل عليها، وجاءت منه بالأولاد، ثم غاب
الرجل الثاني وظهر حياة الرجل الأول وحضر عندها فإن جميع أولاد
الرجل الثاني أولاد للرجل الأول يرثهم ويرثونه (4).

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) أنظر: الأم للشافعي ج 5 ص 22 - 25.
(3) سورة المائدة: الآية 49.
(4) الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 119.
431

فيا أولي العقول، فهل يذهب إلى هذا القول من له دراية وفطنة؟
فقال الحنفي: إنما أخذ أبو حنيفة هذا من قول النبي - صلى الله عليه
وآله -: (الولد للفراش وللعاهر الجر) فاحتج عليه الشافعي بكون
الفراش مشروطا بالدخول، فغلبه.
ثم قال الشافعي: وإمامك أبو حنيفة قال: أيما رجل رأي امرأة مسلمة
فادعى عند القاضي بأن زوجها طلقها، وجاء بشاهدين، شهدا له كذبا،
فحكم القاضي بطلاقها، حرمت على زوجها، وجاز للمدعي نكاحها،
وللشهود أيضا (1)، وزعم أن حكم القاضي ينفذ ظاهرا وباطنا.
ثم قال الشافعي: وقال أبو حنيفة: لو لاط رجل بصبي وأوقبه فلا حد
عليه بل يعزر (3).
وقال رسولا لله - صلى الله عليه وآله - (من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا فاعل والمفعول) (4).
وقال أبو حنيفة: لو غصب أحد حنطة فطحنها ملكها بطحنها، فلو
أراد أن يأخذ صاحب الحنطة طحينها ويعطي الغاصب الأجرة لم يجب

(1) ومثله أيضا، كما في ج 13 من تاريخ بغداد ص 370، قال الحارث بن عمير: وسمعته يقول (
يعني أبا حنيفة): لو أن شاهدين شهدا عند قاض، أن فلان بن فلان طلق امرأته، وعلما جميعا
أنهما شهدا بالزور ففرق القاضي بينهما، ثم لقيها أحد الشاهدين فله أن يتزوج بها.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 129.
(3) الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 141.
(4) المستدرك للحاكم ج 4 ص 355، كنز العمال ج 5 ص 340 ح 13129.
432

على الغاصب إجابته وله منعه، فإن قتل صاحب الحنطة كان دمه هدرا، ولو
قتل الغاصب قتل صاحب الحنطة به (1).
وقال أبو حنيفة: لو سرق سارق ألف دينار وسرق أخر ألفا آخر من
آخر ومزجها ملك الجميع ولزمه البدل.
وقال أبو حنيفة: لو قتل المسلم والتقي العالم كافرا جاهلا قتل
المسلم به والله يقول: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلا) (2).
وقال أبو حنيفة: لو اشترى أحد أمه أو أخته ونكحهما لم يكن عليه
حد وإن علم وتعمد (3).
قال أبو حنيفة: لا تجب النية في الوضوء (5)، ولا في الغسل (6)،
وفي الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات) (7).

(1) الفتاوي الخيرية ج 2 ص 150.
(2) سورة النساء الآية 141.
(3) الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 123.
(4) الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 124.
(5) الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 63.
(6) الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 117.
(7) مسند أحمد ج 1 ص 25، حلية الأولياء، ج 6 ص 342، السنن الكبرى للبيهقي ج 1 ص 41.
433

وقال أبو حنيفة: لا تجب البسملة في الفاتحة (1) وأخرجها منها مع
أن الخلفاء كتبوها في المصاحف بعد تحرير القرآن.
وقال أبو حنيفة: لو سلخ جلد الكلب الميت ودبغ طهر وإن له
الشراب فيه ولبسه في الصلاة (2)، وهذا مخالف للنص بتنجيس العين
المقتضي لتحريم الانتفاع به.
ثم قال: يا حنفي، يجوز في مذهبك للمسلم إذا أراد الصلاة أن
يتوضأ بنبيذ، ويبدأ بغسل رجليه، ويختم بيديه (3)، ويلبس جلد كلب
ميت مدبوغ (4)، ويسجد علي عذرة يابسة، ويكبر بالهندية، ويقرأ فاتحة
الكتاب بالعبرانية (5)، ويقول بعد الفاتحة، دو برك سبز - يعني مدهامتان -
ثم يركع ولا يرفع رأسه، ثم يسجد ويفصل بين السجدتين بمثل حد
السيف وقبل السلام يتعمد خروج الريح، فإن صلاته صحيحة، وأن أخرج
الريح ناسيا بطلت صلاته (6).

(1) الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 242.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 26.
(3) الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 68. الفقه على المذاهب الخمسة ص 37
(4) الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 26.
(5) الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 230.
(6) الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 307.
ذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 2 ص 86 في ترجمة محمد بن سبكتكين عن إمام
الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني في كتابه الذي سماه: (مغيث الخلق في اختيار
الأحق) قال: إن السلطان محمود المذكور كان على مذهب أبي حنيفة وكان مولعا بعلم
الحديث، وكانوا يسمو عن الحديث من الشيوخ بين يديه وهو يسمع وكان يستفسر الأحاديث
فوجد أكثرها موافقا لمذهب الشافعي فوقع في خلده حكمه، فجمع العلماء من الفريقين في
مرو، والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر فوقع الاتفاق على أن يصلوا
بين يديه ركعتين على مذهب الشافعي وعلى مذهب أبي حنيفة... فصلى القفال المروزي... إلى
أن قال: ثم صلى ركعتين على ما يجوز أبو حنيفة فلبس جلد كلب مدبوغا ثم لطخ ربعه
بالنجاسة وتوضأ بنبيذ التمر وكان في صميم الصيف في المفازة واجتمع عليه الذباب
والبعوض وكان وضوؤه منكسا منعكسا ثم استقبل القبلة وأحرم بالصلاة من غير نية في
الوضوء، وكبر بالفارسية، ثم قرأ آية بالفارسية (دو برگ سبز) ثم نقر نقرتين كنقرات الديك من
غير فصل ومن غير ركوع وتشهد، وضرط في آخره من غير نية السلام، وقال: أيها السلطان
هذه صلاة أبي حنيفة فقال السلطان: ولو لم تكن هذه الصلاة صلاة أبي حنيفة ولقتلتك، فأنكرت
الحنيفة أن تكون هذه صلاة أبي حنيفة فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة وأمر السلطان
نصرانيا كاتبا يقرأ المذهبين فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال،
فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة.
434

ثم قال: نعم يجوز هذا، فاعتبروا يا أولي الأبصار، هل يجوز التعبد
بمثل هذه العبادة؟ أم يجوز لنبي أن يأمر أمته بمثل هذه العبادة افتراء على
الله ورسوله؟!
فأفحم الحنفي وامتلأ غيظا وقال: يا شافعي اقصر فض الله فاك،
وأين أنت عن الأخذ على أبي حنيفة وأين مذهبك من مذهبه؟ فإنما
مذهبك بمذهب المجوس أليق لأن في مذهبك يجوز للرجل أن ينكح
ابنته من الزنا وأخته، ويجوز أن يجمع بين الأختين من الزنا ويجوز أن
ينكح أمه من الزنا، وكذا عمته وخالته من الزنا (1)، والله يقول: (حرمت
عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم) (2) وهذه
صفات حقيقية لا تتغير بتغير الشرائع والأديان، ولا تظن بيا شافعي يا أحمق
أن منعهم من التوريث يخرجهم من هذه الصفات الذاتية الحقيقية ولذا
تضاف إليه، فيقال: بنته وأخته من الزنا، وليس هذا التقييد موجبا لمجازيته
كما في قولنا أخته من النسب بل لتفصيله، وإنما التحريم شامل للذي

(1) انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 134.
(2) سورة النساء: الآية 23.
435

يصدق عليه الألفاظ حقيقة ومجازا اجتماعا، فإن الجدة داخلة تحت الأم
إجماعا، وكذا بنت البنت، ولا خلاف في تحريمها بهذه الآية، فانظروا يا
أولي الألباب هل هذا إلا مذهب المجوس، يا خارجي.
وأما يا شافعي إمامك أباح للناس لعب الشطرنج (1) مع أن النبي
- صلى الله عليه وآله - قال: (لا يحب الشطرنج إلا عابد وثن).

(1) انظر: الأم للشافعي ج 6 ص 208، الفقه الإسلامي وأدلته ج 5 ص 566، وقد ذكر في
(مختصر العلم والعمل) لابن عبد البر بهامش (مبيد النقم ومعيد النعم) للتاج السبيكي
الشافعي الأبيات التالية: في اختلاف أئمة المذاهب الأربعة وهي:
الشافعي من الأئمة قائل * اللعب بالشطرنج غير حرام
وأبو حنيفة قال وهو مصدق * في كل ما يروي من الأحكام
شرب المثلث والمربع جائز * فاشرب على من من الآثام
والحبر أحمد حل جلده عميرة * وبذاك يستغني عن الأرحام
وأباح مالك الفقاع تكرما * في بطن جارية وظهر غلام
فاشرب ولط وازن وقامر واحتج * في كل مسألة بقول إمام
عن كتاب من فقه الجنس للدكتور الشيخ أحمد الوائلي ص 212.
وقال الزمخشري أيضا في هذا المعنى:
إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به * وأكتمه كتمانه لي أسلم
فإن حنفيا قلت قالوا بأنني * أبيح لهم لحم الكلاب وهم هم
وإن شافعيا قلت قالوا بأنني * أبيح نكاح البنت والبنت تحرم
وإن حنبليا قلت قالوا بأنني * ثقيل حلولي بغيض مجسم
وإن قلت من أهل الحديث وحزبه * يقولون تيس ليس يدري ويفهم
تعجبت من هذا الزمان وأهله * فما أحد من ألسن الناس يسلم
وأخرني دهري وقدم معشرا * على أنهم لا يعلمون وأعلم
ومذ أفلح الجهال أيقنت أنني * أنا الميم والأيام أفلح أعلم
الكشاف للزمخشري ج 4 ص 310 (في ترجمة المؤلف).
436

وأما يا شافعي، إمامك أباح للناس الرقص والدف والقصب (1)، فقبح
الله مذهبك مذهبا ينكح فيه الرجل أمه وأخته ويلعب بالشطرنج،
ويرقص، ويدف، فهل هذا الظاهر الافتراء على الله والرسول، وهل يلزم
بهذا المذهب إلا أعمى القلب وأعمى عن الحق.
قال يوحنا: وطال بينهما الجدال واحتمى الحنبلي للشافعي،
واحتمى المالكي للحنفي، ووقع النزاع بين المالكي والحنبلي، وكان فيما
وقع بينهم أن الحنبلي قال: إن مالكا أبدع في الدين بدعا أهلك الله عليها
أمما وهو أباحها، وهو لواط الغلام، وأباح لواط المملوك وقد صح أن
رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال: (من لاط بغلام فاقتلوا الفاعل
والمفعول) (2).
وأنا رأيت مالكيا ادعى عند القاضي على آخر أنه باعه مملوكا
والمملوك لا يمكنه من وطئه، فأثبت القاضي أنه عيب في المملوك
ويجوز له رده، أفلا تستحي من الله يا مالكي يكون لك مذهب مثل هذا
وأنت تقول مذهبي خير من مذهبك؟ وإمامك أباح لحم الكلاب فقبح الله
مذهبك واعتقادك.
فرجع المالكي عليه وصاح به: اسكت يا مجسم يا حلولي، يا
حلولي، يا فاسق، بل مذهبك أولى بالقبح، وأحرى بالتعبير، إذ عندك إمامك
أحمد بن حنبل أن الله جسم يجلس على العرش، ويفضل عن العرش
بأربع أصابع، وأنه ينزل كل ليلة جمعة من سماء الدنيا على سطوح
المساجد في صورة أمرد، قطط الشعر، له نعلان شراكهما من اللؤلؤ

(1) الفقه الإسلامي وأدلته ج 7 ص 128.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 140.
437

الرطب، راكبا على حمار له ذوائب (1).
قال يوحنا: فوقع بين الحنبلي والمالكي والشافعي والحنفي النزاع،
فعلت أصواتهم وأظهروا قبائحهم ومعايبهم حتى ساء كل من حضر
كلامهم الذي بدا منهم، وعاب العامة عليهم.
فقلت لهم: على رسلكم، فوالله قسما إني نفرت من اعتقاداتكم،
فإن كان الإسلام هذا فيا ويلاه، وا سوأتاه، لكني أقسم عليكم بالله الذي لا إله
إلا هو أن تقطعوا هذا البحث وتذهبوا فإن العوام قد أنكروا عليكم.
قال يوحنا: فقاموا وتفرقوا وسكتوا أسبوعا لا يخرجون من
بيوتهم، فإذا خرجوا أنكر الناس عليهم، ثم بعد أيام اصطلحوا واجتمعوا
في المستنصرية فجلست غدا إليهم وفاوضتهم فكان فيما جرى أن قلت
لهم: كنت أريد عالما من علماء الرافضة نناظره في مذهبه، فهل عليكم أن
تأتونا بواحد منهم فنبحث معه؟
فقال العماء: يا يوحنا، الرافضة فرقة قليلة لا يستطيعون أن
يتظاهروا بين المسلمين لقلتهم، وكثرة مخالفيهم، ولا يتظاهرون فضلا
أن يستطيعوا المحاجة عندنا على مذهبهم، فهم الأرذلون الأقلون،
ومخالفوهم الأكثرون، فهذا مدح لهم لأن الله سبحانه وتعالى مدح القليل،
وذم الكثير بقوله: (وقليل من عبادي الشكور) (2)، (وما آمن معه إلا
قليل) (3)، (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (4)، (

(1) الإمام الصادق والمذاهب الأربع ج 2 ص 509 - وممن أنه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا (
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) البخاري في التهجد بالليل، مسند أحمد بن حنبل ج 1،
ص 120 وص 446، الترمذي ج 1 ص 142.
438

ولا تجد أكثرهم شاكرين) (5)، (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) (6)، (
ولكن أكثرهم لا يعلمون) (7)، (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) (8) إلى غير
ذلك من الآيات.
قالت العلماء: يا يوحنا حالهم أعظم من أن يوصف لأنهم لو علمنا
بأحد منهم فلا نزال نتربص به الدوائر حتى نقتله لأنهم عندنا كفرة تحل
علينا دماؤهم، وفي علمائنا من يفتي بحل أموالهم ونسائهم.
قال يوحنا: الله أكبر هذا أمر عظيم، أتراهم بما استحقوا هذا فهم
ينكرون الشهادتين؟
قالوا: لا.
قال: أفهم لا يتوجهون إلى قبلة الإسلام؟
قالوا: لا.
قال: إنهم ينكرون الصلاة أم الصيام أم الحج أم الزكاة أم الجهاد؟
قالوا: لا، بل هم يصلون ويصومون و يزكون ويحجون
ويجاهدون.
قالوا: لا، بل مقرون بذلك بأبلغ وجه.
قال: أفهم يبيحيون الزنا واللواط وشرب الخمر والربا والمزامر
وأنواع الملاهي؟

(4) سورة الأنعام: الآية 16.
(5) سورة الأعراف: الآية 17.
(6) سورة البقرة: الآية 243.
(7) سورة الأنعام: الآية 37.
(8) سورة الرعد: الآية 1.
439

قالوا: بل يجتنبون عنها ويحرمونها.
قال يوحنا: فيالله والعجب قوم يشهدون الشهادتين، ويصلون إلى
القبلة، ويصومون شهر رمضان، ويحجون البيت الحرام، ويقولون
بالحشر والنشر وتفاصيل الحساب، كيف تباح أموالهم ودماؤهم
ونساؤهم ونبيكم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا
الله، وأن محمدا رسولا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم
ونساءهم إلا بحق وحسابهم على الله) (1).
قال العلماء: يا يوحنا إنهم أبدعوا في الدين بدعا فمنها: إنهم يدعون
أن عليا - عليه السلام - أفضل الناس بعد الرسول الله - صلى الله عليه وآله -
ويفضلونه على الخلفاء الثلاثة (2)، والصدر الأول أجمعوا على أن أفضل

(1) صحيح مسلم ج 1 ص 51 - 53، ح 32 - 365، سنن النسائي ج 7 ص 77 - 79، سنن الترمذي
ج 5، ص 5 و 6، ح 2606 و 2607، مسند أحمد ج 1 ص 11 - 19، المصنف لعبد الرزاق ج 4
ص 43 - 44 ح 6916.
(2) انظر: عقائد الإمامية الاثني عشرية للسيد إبراهيم الزنجاني ج 1 ص 80، قال ابن أبي الحديد
في شرح النهج ج 20 ص 221:
والقول بالتفضيل (أي تفضيل أمير المؤمنين على - عليه السلام - على جميع الصحابة)
قول قديم قد قال به كثير من الصحابة والتابعين، فمن الصحابة عمار، والمقداد، وأبو ذر،
وسلمان، وجابر بن عبد الله، وأبي بن كعب، وحذيفة، وبريدة، وأبو أيوب، وسهل بن حنيف،
وعثمان بن حنيف، وأبو الهيثم بن التيهان، وخزيمة بن ثابت، وأبو الطفيل عامر بن واثلة،
والعباس بن عبد المطلب وبنوه، وبنو هاشم كافة وبنو المطلب كافة
وكان من بني أمية قوم يقولون بذلك منهم خالد بن سعيد بن العاص، ومنهم عمر بن عبد
العزيز.
وقال في ص 226: فأما من قال بتفضيله على الناس كافة من التابعين فخلق كثير، كأويس
القرني، وزيد بن صوحان، وصعصعة أخيه، وجندب، وعبيدة السلماني، وغيرهم ممن لا
يحصى كثرة، ولم تكن لفظة الشيعة تعرف في ذلك العصر، إلا لمن قال بتفضيله، ولم تكن
مقالة الإمامية ومن نحا نحوها من الطاعنين في إمامة السلف مشهورة حينئذ على هذا النحو من
الاشتهار، فكان القائلون بالتفضيل هم المسمون الشيعة، وجميع ما ورد من الآثار والأخبار
في فضل الشيعة وأنهم موعودون بالجنة فهؤلاء هم المعنيون به دون غيرهم....
440

الخلفاء كبير تيم (1) قال يوحنا: أفترى إذا قال أحد: إن عليا يكون خيرا من
أبي بكر وأفضل منه تكفرونه؟
قالوا: نعم لأنه خالف الإجماع.
قال يوحنا: فما تقولون في محدثكم الحافظ أبي بكر أحمد بن
موسى بن مردويه؟
قال العلماء: هو ثقة مقبول الرواية صحيح المثل.
قال يوحنا: هذا كتاب المسمى بكتاب المناقب روى فيه أن رسول
الله - صلى الله عليه وآله - قال: (علي خير البشر، ومن أبى فقد كفر) (2).
وفي كتابه أيضا عن سلمان، عن النبي - صلى الله عليه وآله - أنه قال: (علي
ابن أبي طالب خير من أخلفه بعدي) (4).
وفي كتابه أيضا عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه
وآله - قال: (أخي ووزيري وخير من أخلفه بعدي علي بن أبي

(1) الرياض النضرة لمحب الدين الطبري ج 1 ص 136.
(2) إحقاق الحق ج 4 ص 254، تاريخ بغداد ج 7 ص 421، تهذيب التهذيب ج 9 ص 419، وقد
تقدمت بعض المصادر بالإضافة إلى ما هنا.
(3) إحقاق الحق ج 4 ص 49 - 50.
(4) إحقاق الحق ج 4 ص 54، مواقف الإيجي ج 3 ص 276، مجمع الزوائد ج 9 ص 113،
الغدير للأميني ج 3 ص 22.
441

طالب) (1).
وعن إمامكم أحمد بن حنبل روى في مسنده أن النبي - صلى الله
عليه وآله - قال لفاطمة: (أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما،
وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما) (2).
وروي في مسند أحمد بن حنبل أيضا أن النبي - صلى الله عليه وآله -
قال: (اللهم ائتني بأحب خلقك إليك) (3) فجاء علي بن أبي طالب في
حديث الطائر، وذكر هذا الحديث النسائي والترمذي في صحيحهما (4)
وهما من علمائكم.
وروى أخطب خوارزم في كتاب المناقب وهو من علمائكم عن
معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله -: (يا علي أخصمك
بالنبوة ولا بنوة بعدي وتخصم الناس بسبع فلا يحاجك أحد من قريش:

(1) إحقاق الحق ج 4 ص 76، وفي هذا المعنى يقول الآزري عليه الرحمة:
حسبك الله في مآثر شتى * هي مثل الأعداد لا تتناهى
ليت عينا بغير روضك ترعى * قذيت واستمر فيها قذاها
أنت بعد النبي خير البرايا * والسما خير ما بها قمراها
لك ذات كذاته حيث لولا * أنها مثلها لما أخاها
قد تراضعتما بثدي وصال * كان من جوهر التجلي غذاها
(2) مسند أحمد ج 5 ص 25، المعجم الكبير للطبراني ج 20 ص 229 - 230 ح 538، مجمع
الزوائد ج 9 ص 102، كنز العمال ج 11 ص 605 ح 32924.
(3) المعجم الكبير للطبراني ج 1 ص 226 ح 730، تاريخ بغداد ج 9 ص 369، كنز العمال ج 13
ص 167 ح 36507، وقد أفردت لهذا الحديث كتاب مستقلة، مثل: قصة الطير للحاكم
النيسابوري المتوفى سنة 405 ه‍، وقد تقدم بعض المصادر لهذا الحديث فراجع.
(4) صحيح الترمذي: ج 595 ح 3721، مجمع الزوائد ج 9 ص 126، المستدرك ج 3،
ص 130 - 131، مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي ج 32 ص 1721 ح 6085، خصائص أمير
المؤمنين للنسائي ص 34 ح 12.
442

أنت أولهم إيمانا بالله وأوفاهم بأمر الله وبعهده، وأقسمهم بالسوية،
وأعدلهم بالرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم يوم القيامة عند الله عز
وجل في المزية) (1).
وقال صاحب كفاية الطالب من علمائكم: هذا حديث حسن عال
رواه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء (2).
قال يوحنا: فيا أئمة الإسلام فهذه أحاديث صحاح روتها أئمتكم
وهي مصرحة بأفضلية علي وخيرته على جميع الناس، فما ذنب
الرافضة؟ وإنما الذنب لعلمائكم والذين يروون ما ليس بحق، ويفترون
الكذب على الله ورسوله.
قالوا: يا يوحنا، إنهم لم يرووا غير الحق، ولم يفتروا بل الأحاديث
لها تأويلات ومعارضات.
قال يوحنا: فأي تأويل تقبل هذه الأحاديث بالتخصيص على البشر،
فإنه نص في أنه خير من أبي بكر إلا أن تخرجوا أبا بكر من البشر، سلمنا أن
الأحاديث لا تدل ذلك فأخبروني أيهم أكثر جهادا؟
فقالوا: علي.
قال يوحنا: قال الله تعالى: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين
أجرا عظيما) (3) وهذا نص صريح.
قالوا: أبو بكر أيضا مجاهد فلا يلزم تفضيله عليه.
قال يوحنا: الجهاد الأقل إذا نسب إلى الجهاد الأكثر بالنسبة إليه

(1) مناقب الخوارزمي: ص 110 ح 118، فرائد السمطين ج 1 ص 223 ح 174.
(2) كفاية الطالب: ص 270، حلية الأولياء ج 1 ص 65 - 66.
(3) سورة النساء: الآية 95.
443

قعود، وهب أنه كذلك فما مراد كم بالأفضل؟
قالوا: الذي تجتمع فيه الكمالات والفضائل الجبلية والكسبية
كشرف الأصل والعلم والزهد والشجاعة والكرم وما يتفرع عليها.
قال يوحنا: فهذه الفضائل كلها لعلي - عليه السلام - بوجه هو أبلغ
من حصولها لغيره.
قال يوحنا: أما شرف الأصل فهو ابن عم النبي - صلى الله عليه وآله -،
وزوج ابنته، وأبو سبطيه.
وأما العم فقال النبي - صلى الله عليه وآله -: (أنا مدينة العلم وعلي
بابها) (1) وقد تقرر في العقل أن أحدا لا يستفيد من المدينة شيئا إلا إذا أخذ
من الباب، فانحصر طريق الاستفادة من النبي - صلى الله عليه وآله - في
علي - عليه السلام -، وهذه مرتبة عالية، وقال - صلى الله عليه وآله -
(أقضاكم علي) (2) وإليه تعزى كل قضية وتنتهي كل فرقة، وتنحاد إليه كل
طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، و أبو عذرها، وسابق مضمارها،
ومجلي حلبتها، كل من برع فيها فمنه أخذ، وبه اقتفى، وعلى مثاله
احتذى، وقد عرفتم أن أشرف العلوم العلم الإلهي، ومن كلامه اقتبس،
وعنه نقل، ومنه ابتدأ.

(1) راجع: ابن جرير الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار ص 105 ح 173، المستدرك ج 3
ص 126، مجمع الزوائد ج 9 ص 114، المعجم الكبير للطبراني ج 11 ص 65 - 66
ح 11061، تاريخ بغداد ج 4 ص 348، كنز العمال ج 11 ص 614، ح 32977 و 32978،
ذخائر العقبى ص 83، وقد أفردت لهذا الحديث كتب مستقلة، مثل فتح الملك العلي بصحة
حديث باب مدينة العلم علي، للمغربي.
(2) طبقات ابن سعد ج 12 ص 135، ذخائر العقبى ص 83، مناقب الخوارزمي ص 81 ح 66،
مسند أحمد ج 5 ص 113.
444

فإن المعتزلة الذين هم أهل النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن هم
تلامذته، فإن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد
ابن الحنفية (1)، وأبو هاشم عبد الله تلميذ أبيه، وأبوه تلميذ علي بن أبي
طالب - عليه السلام -.
وأما الأشعريون فإنهم ينتهون إلى أبي الحسن الأشعري وهو تلميذ
أبي علي الجبائي، وهو تلميذ واصل ابن عطاء (2).
وأما الإمامية والزيدية فانتهاؤهم إليه ظاهر.
وأما علم الفقه فهو أصله وأساسه، وكل فقيه في الإسلام فإليه يعزي نفسه.
أما مالك فأخذ الفقه عن ربيعة الرأي، وهو أخذ عن عكرمة، وهو
أخذ عن عبد الله، وهو أخذ عن علي.
وأما أبو حنيفة فعن الصادق - عليه السلام -.
وأما الشافعي فهو تلميذ مالك، والحنبلي تلميذ الشافعي (3)، وأما
فقهاء الشيعة فرجوعهم إليه ظاهر، وأما فقهاء الصحابة فرجوعهم إليه
ظاهر كابن عباس وغيره، وناهيكم قول عمر غير مرة: (لا يفتين أحد في
المسجد وعلي حاضر) وقوله: (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو
الحسن) (4)، وقوله: (لولا علي لهلك عمر) (5).

(1) هو عبد لله بن محمد بن الحنفية الملقب بالأكبر، والمكنى بأبي هاشم، إمام الكيسانية مات
سنة 98 أو 99. تنقيح المقال للمامقاني ج 2 ص 212.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 17.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 17 - 18.
(4) مناقب الخوارزمي ص 96 - 97، ح 97 و 98، فرائد السمطين ج 1، ص 344 - 345، ح 266 و 267.
(5) فيض القدير ج 4، ص 357، فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2، ص 309، على إمام
المتقين لعبد الرحمن الشرقاوي ج 1 ص 100 - 101، مناقب ابن شهرآشوب ج 2، ص 61 3.
445

وقال الترمذي في صحيحه والبغوي عن أبي بكر قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وآله -: (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في
فهمه، وإلى يحيى بن زكريا في زهده، وإلى موسى بن عمران في بطشه
فلينظر إلى علي بن أبي طالب) (1).
وقال البيهقي بإسناده إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - (من أراد
أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه،
وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي
طالب) (2) وهو الذي بين حد الشرب (3)، وهو الذي أفتى في المرأة التي
وضعت لستة أشهر (4)، وبقسمة الدارهم على صاحب الأرغفة (5) والأمر
بشق الولد نصفى (6)، والأمر بضرب عنق العبد، والحاكم في ذي
الرأسين (7) مبين أحكام البغاة (8)، وهو الذي أفتى في الحامل

(1) البداية والنهاية ج 7، ص 356، كفاية الطالب ص 121.
(2) كنز العمال ص 226، الرياض النضرة ج 2 ص 218، كفاية الطالب ص 122، الغدير ج ص 353.
(3) الموطأ لمالك ج 2 ص 842 ح 2، المستدرك ج 4 ص 375، فضائل الخمسة ج 2 ص 310.
(4) الإستيعاب ج 3، ص 1103، شرح البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 19، وذكر القرطبي في
تفسيره ج 16 ص 390، عند الكلام على تفسير قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثل ثون شهرا)
سورة الأحقاف: الآية 15، إن عثمان قد أوتي بامرأة ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقضي عليها
الحق فقال له علي - عليه السلام - ليس ذلك عليها، قال الله تعالى (وحمله وفصاله
ثلاثون شهرا).
(5) الإستيعاب ج 3، ص 1105 - 1106، فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2 ص 302،
ذخائر العقبى ص 84، الصواعق المحرقة ص 77.
(6) مناقب ابن شهرآشوب ج 2 ص 367، الفصول المائة ج 5 ص 336 ح 51، كنز العمال ج 3
(7) كنز العمال ج 3 ص 179، بحار الأنوار ج 40 ص 257.
(8) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 9 ص 231، كتاب الأم ج 4 ص 233، باب الخلاف في
قتال أهل البغي، وقد قال الشافعي: عرفنا حكم البغاة من علي - عليه السلام -.
446

الزانية (1).
ومن العلوم علم التفسير، وقد علم الناس حال ابن عباس فيه وكان
تلميذ علي - عليه السلام - وسئل فقيل له: أين علمك من علم أين عمك؟
فقال: كبشة مطر في البحر المحيط (2).
ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة، وعلم التصوف، وقد علمتم أن
أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون، وعنده يقفون، وقد
صرح بذلك الشبلي والحنبلي وسرى السقطي وأبو زيد البسطامي وأبو
محفوظ معروف الكرخي وغيرهم، ويكفيكم دلالة على ذلك الخرقة التي
هي شعارهم وكونهم يسندونها بإسناد معنعن إليه أنه واضعها (3).
ومن العلوم علم النحو والعربية، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي
ابتدعه وأنشأه، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامع تكاد تلحق
بالمعجزات، لأن القوة البشرية لا نفي بمثل هذا الاستنباط.
فأين من هو بهذه الصفة من رجل يسألونه ما معنا (أبا) فيقول: لا
أقول في كتاب الله برأيي، ويقضي في ميراث بمائة قضية يغاير

(1) فقد روي أنه أتي عمر بن الخطاب بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور فأمر برجمها فلقاها علي
فقال: ما بال هذه فقالوا: أمر عمر برجمها، فردها علي - عليه السلام - وقال: هذا سلطانك عليها
فما سلطانك على ما في بطنها ولعلك انتهرتها، أو أخفتها، قال قد كان ذلك، أو ما سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال: لا حد على معترف بعد بلاء أنه من قيد أو حبس أو تهدد
فلا إقرار له، فخلى سبيلها ثم قال: عجزت النساء أن تلد مثل علي بن أبي طالب، لولا علي لهلك
عمر. راجع: الرياض النضرة ج 3 ص 163، ذخائر العقبى ص 81، مطالب السؤول ص 13،
مناقب الخوارزمي ص 48، الأربعين للفخر الرازي ص 466، الغدير ج 6 ص 110.
(2) نهج الحق وكشف الصدق ص 238، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 19.
(3) نهج الحق وكشف الصدق ص 228، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 19.
447

بعضها بعضا، ويقول: إن زغت فقوموني وإن استقمت فاتبعوني (1). وهل
يقيس عاقل مثل هذا إلى من قال: سلوني قبل أن تفقدوني (2)، سلوني عن
طرق السماء فوالله إني لأعلم لها منكم من طرق الأرض؟ وقال إن هاهنا
لعلما جما، وضرب بيده على صدره، وقال: لو كشف الغطاء ما ازددت
يقينا فقد ظهر أنه أعلم (3).
وأما الزهد فإنه سيد الزهاد، وبد الأبدال، وإليه تشد الرحال،
وتنقص الأحلاس، وما شبع من طعام قط، وكان أخشن الناس لبسا
ومأكلا.
قال عبد الله بن أبي رافع: دخلت على علي - عليه السلام - يوم عيد
فقدم جرابا مختوما فوجد فيه خبزا شعيرا يابسا مرضوضا فتقدم فأكل.
فقلت: يا أمير المؤمنين فكيف تختمه وأنما هو خبز شعير؟
فقال: خفت هذين الولدين يلتانه بزيت أو سمن (4). وكان ثوبه
مرقوعا بجلد تارة وبليف أخرى، ونعلاه من ليف، وكان يلبس الكرباس
الغليظ فإن وجد كمه طويلا قطعه بشفرة ولم يخيطه، وكان لا يزال ساقطا
على ذراعيه حتى يبقى سدى بلا لحمة، وكان يأتدم إذا ائتدم بالخل والملح
فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من
ألبان لإبل، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ويقول: لا تجعلوا بطونكم مقابر
الحيوانات، وكان مع ذلك أشد الناس قوة، وأعظمهم يدا (5).

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) شرح نهج البلاغة لابن الحديد ج 7 ص 253، وقد تقدمت تخريجاته فيما سبق.
(4) فرائد السمطين ج 1 ص 352 ح 277، مناقب الخوارزمي ص 118 ح 130.
(5) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 26.
448

وأما العبادة فمنه تعلم الناس صلاة الليل، وملازمة الأوراد، وقيام
النافلة، وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير، ومن محافظته على
ورده أن بسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير ليلة الهرير فيصلي عليه والسهام تقع
عليه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى
يفرغ من وظيفته.
فأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ووقفت على ما فيها من تعظيم الله
سبحانه وتعالى وإجلاله وما تضمنته من الخضوع لهيبته والخشوع لعزته
عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص.
وكان زين العابدين - عليه السلام - يصلي في كل ليلة ألف ركعة
ويقول: أنى لي بعبادة علي - عليه السلام - (1).
وأما الشجاعة فهو ابن جلاها وطلاع ثناياها، نسي الناس فيها ذكر
من قبله، ومحى اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحروب مشهورة
تضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فر قط ولا ارتاع
من كتيبة، ولا بارز أحدا إلا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت إلى ثانية.
وجاء في الحديث إذا ضرب واعتلا قد، وإذا ضرب واعترض قط،
وفي الحديث: كانت ضرباته وترا (2)، وكان المشركون إذا أبصروه في
الحرب عهد بعضهم إلى بعض، وبسيفه شيدت مباني الدين، وثبتت
دعائمه، وتعجبت الملائكة من شدة ضرباته وحملاته.
وفي غزوة بدر الداهية العظمى على المسلمين قتل فيها صناديد
قريش كالوليد بن عتبة والعاص بن سعيد ونوفل بن خويلد الذي قرن

(1) الإرشاد للمفيد ص 256، إعلام الورى ص 255، بحار الأنوار ج 46 ص 74 ح 62.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 20.
449

أبا بكر وطلحة قبل الهجرة وعذبهما، وقال رسول الله - صلى الله عليه
وآله -: (الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه) (1) ولم يزل في ذلك يصرع
صنديدا بعد صنديد حتى قتل نصف المقتولين فكان سبعين، وقتل
المسلمون كافة مع ثلاثة آلاف من الملائكة مسومين النصف الآخر (2).
وفيه نادى جبرئيل:
(لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي) (3)
ويوم أحد لما انهزم المسلمون عن النبي - صلى الله عليه وآله -
ورمي رسول الله - صلى الله عليه وآله - إلى الأرض وضربه المشركون
بالسيوف والرماح وعلي - عليه السلام - مصلت سيفه قدامه، ونظر النبي
- صلى الله عليه وآله - بعد إفاقته من غشوته فقال: يا علي ما فعل
المسلمون؟
فقال: نقضوا العهود وولوا الدبر.
فقال: اكفني هؤلاء، فكشفهم عنه ولم يزل يصادم كتيبة بعد كتيبة
وهو ينادي المسلمين حتى تجمعوا وقال جبرئيل - عليه السلام -: إن هذه
لهي المواساة، لقد عجبت الملائكة من حسن موالاة علي لك بنفسه.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله -: وما يمنعه من ذلك وهو مني

(1) المغازي للواقدي ج 1 ص 92.
(2) المغازي ج 1 ص 147 - 152، الإرشاد للشيخ المفيد ص 41 - 43، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 24.
(3) مناقب الخوارزمي ص 167 - 200، مناقب ابن المغازلي ص 199 - 198، ح 235، كفاية
الطالب ص 277، الطبري ج 2 ص 197، ابن هشام في السيرة ج 3 ص 52، سنن البيهقي ج 3
ص 276، المستدرك ج 2 ص 385، الرياض النضرة ج 3 ص 155، ذخائر العقبى ص 4 7،
ميزان الاعتدال ج 2 ص 317، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 29.
450

وأنا منه (1). ولثبات علي - عليه السلام - رجع بعض المسلمين ورجع
عثمان بعد ثلاثة أيام، فقال له النبي - صلى الله عليه وآله -: فقد ذهبت بها
عريضة (2).
وفي غزاة الخندق إذ أحدق المشركون بالمدينة كما قال الله تعالى:
(إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت
القلوب الحناجر) (3)، ودخل عمرو بن عبد ود الخندق على المسلمين
ونادى بالبراز فأحجم عنه المسلمون وبرز علي - عليه السلام - متعمما
بعمامة رسول الله - صلى الله عليه وآله - وبيده سيف فضربه ضربة كانت
توازن عمل الثقلين إلى يوم القيامة (4)، وأين هناك أبو بكر وعمر وعثمان
ومن نظر غزوات الواقدي وتاريخ البلاذري علم محله من رسول
الله من الجهاد وبلاء يوم الأحزاب، وهو يوم بني المصطلق، ويوم قلع
باب خيبر، وفي غزاه خيبر، وهذا باب لا يغني الإطناب فيه لشهرته.
وروى أبو بكر الأنباري في أماليه أن عليا - عليه السلام - جلس إلى
عمر في المسجد وعنده أناس، فلما قام عرض واحد بذكره ونسبه إلى
التيه والعجب.
فقال عمر: لمثله أن يتيه والله لولا سيفه لما قام عمود الدين، وهو

(1) ذخائر العقبى ص 68، فضائل الصحابة لأحمد ج 2 ص 594 ح 1010، مجمع الزوائد ج 6
ص 114، نهج الحق وكشف الصدق ص 249.
(2) تاريخ الطبري ج 2 ص 203، الكامل لابن الأثير ج 2، ص 110، السيرة الحلبية ج 2
ص 227، البداية والنهاية ج 4 ص 28، السيرة النبوية لابن كثير ج 3 ص 55، شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد ج 15 ص 21، الدر المنثور ج 2 ص 89.
(3) سورة الأحزاب: الآية 10.
(4) المغازي للواقدي ج 2 ص 470 - 471، وقد تقدم حديث قتل عمر بن ود.
451

بعد أقضي الأمة وذو سابقتها، وذو شأنها.
فقال له ذلك القائل: فما منعكم يا أمير المؤمنين منه؟
فقال: ما كرهناه إلا على حداثة سنه، وحبه لبني عبد المطلب،
وحمله سورة براءة إلى مكة.
ولما دعا معاوية إلى البراز لتسريح الناس من الحرب بقتل أحدهما
فقال له عمرو: قد أنصفك الرجل.
فقال له معاوية: ما غششتني كلما نصحتني إلا اليوم، أتأمرني
بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطوق؟ أراك طمعت في
إمارة الشام بعدي (1). وكانت العرب تفتخر لوقوعها في الحرب في مقابلة، فأما قتلاه
فافتخر رهطهم لأنه - عليه السلام - قتلهم وأظهر وأكثر من أن يحصى
وقالت (2) في عمر بن عبد ود ترثيه:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله * بكيته أبدا " ما عشت في الأبد
لكن قاتله من لا نظير له * قد كان يدعى أبوه بيضة البلد (3)
وجملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتمي، وباسمه من مشارق
الأرض ومغاربها.
وأما كرمه وسخاؤه فهو الذي كان يطوي في صيامه حتى صام طاويا "
ثلاثة أيام يؤثر السؤال كل ليلة بطعامه حتى أنزل الله فيه: (هل أتى على

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 20 و ج 8 ص 53.
(2) وهي أخته عمرة وكنيتها أم كلثوم.
(3) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 33، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 62،
الإرشاد للمفيد ج 1 ص 108، لسان العرب لابن منظور ج 7 ص 127.
452

الإنسان) (1) وتصدق بخاتمه في الركوع فنزلت الآية: (إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون) (2)، وتصدق بأربعة دراهم فأنزل الله فيه الآية: (الذين ينفقون
أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية) (3) وتصدق بعشرة دراهم يوم

(1) سورة الإنسان: الآية 1، تقدمت تخريجاتها.
(2) سورة المائدة: الآية 55.
نزول هذه الآية في أمير المؤمنين - عليه السلام - مما اتفق عليه المفسرون والمحدثون
راجع: شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج 1 ص 161 - 184 ح 216 - 241، ترجمة الإمام
علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج 2 ص 409 ح 908 و 909، كفاية
الطالب للكنجي الشافعي ص 228 و 250 و 251، ط الحيدرية وص 106 و 122 و 123، ط
الغربي، ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري الشافعي ص 88 و 102، المناقب للخوارزمي
الحنفي ص 187، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 123 و 108، الدر المنثور
للسيوطي ج 2، ص 293، فتح القدير للشوكاني ج 2 ص 53، الكشاف للزمخشري ج 1
ص 649، تفسير الطبري ج 6 ص 288، تفسير القرطي ج 6 ص 219، أسباب النزول
للواحدي ص 148 ط الهندية وص 113 ط الحلبي بمصر، نور الأبصار للشبلنجي ص 71،
ص العثمانية وص 70 ط السعيدية بمصر، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 115 ط
اسلامبول وص 135 ط الحيدرية، تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 26 و 20 ط البهية بمصر و
ج 3 431 ط الدار العامرة بمصر، تفسير ابن كثير ج 2 ص 26 و 20، ط البهية بمصر و ج 3
ص 431، ط الدار العامرة بمصر، تفسير ابن كثير ج 2 ص 71 ط دار إحياء الكتب، أحكام
القرآن للجصاص ج 4 ص 102 ط عبد الرحمن محمد، مجمع الزوائد ج 7 ص 17، شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد ج 13 ص 277 ط مصر بتحقيق محمد أبو الفضل و ج 3 ص 275 ط 1
بمصر، الصواعق المحرقة لابن حجر ص 24 ط الميمنية وص 39 المحمدية، جامع الأصول
ج 9 ص 478، إحقاق الحق ج 4 ص 399، الغدير للأميني ج 2 ص 52 و ج 3 ص 156.
(3) سورة البقرة الآية 274.
فقد روى الجمهور أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين - عليه السلام - كانت معه أربعة
دراهم، أنفق في الليل درهما، وفي النهار درهما، وفي السر درهما، وفي العلانية درهما.
راجع: شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج 1، ص 109، ح 155 - 163، مناقب علي بن
أبي طالب لابن المغازلي ص 280، ح 325، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 232، ط
الحيدرية وص 108، ط الغزي، أسباب النزول للواحدي ص 50، ط الحلبي وص 64، ط
الهندية بمصر الكشاف للزمخشري ج 1، ص 319 ط بيروت و ج 1 ص 164 ط مصر،
ذخائر العقبى للطبري الشافعي ص 88، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي الحنفي ص 14،
نور الأبصار للشبلنجي ص 71، ط العثمانية وص 71، ط السعيدية، تفسير الفخر الرازي ج 7،
ص 89، ط البهية بمصر، تفسير القرطبي ج 3، ص 347، تفسير ابن كثير ج 1، ص 326، شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1، ص 21 و ج 13، ص 276، مجتمع الزوائد ج 6، ص 324،
الدر المنشور للسيوطي الشافعي ج 1، ص 363، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 92
و 212، ط اسلامبول وص 106 و 250، ط الحيدرية، المناقب المودة للخوارزمي الحنفي ص 198.
ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي بهامش تفسير الخازن ج 1،
ص 249، إحقاق الحق للتستري ج 3، ص 246، فرائد السمطين ج 1، ص 356.
453

النجوى (1) فخفف الله سبحانه عن سائر الأمة بها، وهو الذي كان يستسقي
للنخل بيده ويتصدق بأجرته، وفيه قال معاوية بن أبي سفيان الذي كان
عدوه لمحفن الضبي لما قال له: جئتك من عند أبخل الناس فقال، ويحك
كيف قلت؟ تقول له أبخل الناس ولو ملك بيتا من بتر وبيتا من تبن لأنفق
تبره قبل تبنه (2)، وهو الذي يقول: يا صفراء ويا بيضاء غري غيري، بي
تعرضت أم لي تشوقت، هيهات هيهات قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها (3)،
وهو الذي جاد بنفسه ليلة الفراش وفدى النبي صلى الله عليه وآله - حتى
نزل في حقه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) (4).
قال يوحنا: فلما سمعوا هذا الكلام لم ينكره أحد منهم، وقالوا:
صدقت إن هذا الذي قلت قرأناه من كتبنا ونقلناه عن أئمتنا لكن محبة الله

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 22.
(3) نهج البلاغة (صبحي الصالح)، ص 480 - 481، قصار الحكم 77.
(4) سورة البقرة: الآية 207، تخريجاته نزولها.
454

ورسوله وعنايتهما أمر وراء هذا كله، فعسى الله أن يكون له عناية بأبي بكر
أكثر من على فيفضله عليه.
قال يوحنا. إنا نعلم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى، وهذا
الذي قلتموه تخرص، وقال الله تعالى: (قتل الخراصون) (1) ونحن إنما
نحكم بالشواهد التي لعلي - عليه السلام - على أفضليته فذكرناها.
وأما عناية الله به فتحصل من هذه الكمالات دليل قاطع عليها، فأي
عناية خير من أن يجعل بعد نبيه أشرف الناس نسبا، وأعظمها حلما،
وشجعهم قلبا، وأكثر هم جهادا وزهدا وعبادة وكرما وورعا، وغير ذلك
من الكمالات القديمة، هذا هو العناية.
وأما محبة الله ورسوله فقد شهد بها رسول الله - صلى الله عليه وآله -
في مواضع، منها: الموقف الذي لم ينكر وهو يوم خبير، إذ قال النبي
- صلى الله عليه وآله -: (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه
الله و رسوله) (2) فأعطاها عليا.

(1) سورة الذاريات: الآية 10.
(2) ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج 1 ص 205 ح 269 و
ص 157 ح 219 - 231، سنن الترمذي ج 5 ص 596 ح 3724: فرائد السمطين ج 1 ص 259،
مجمع الزوائد ج 6 ص 151، المستدرك للحاكم ج 3 ص 38 وص 438، عيون الأثر ج 2
ص 132، مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 384، صحيح مسلم ج 4 ص 1871 ح 33 -
(2405)، أنساب الأشراف للبلاذري ج 2 ص 93، خصائص النسائي ص 34 ح 11، مناقب
علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص 181 ح 216، الطبقات لابن سعد ج 2 ص 110، ينابيع
تذكره الخواص للسبط بن الجوزي ص 24، السنن الكبرى للبيهقي ج 9 ص 106 وص 131
حلية الأولياء ج 1 ص 62، أسنى المطالب للجزري ص 62، صحيح البخاري ج 5 ص 22،
أسد الغابة ج 4 ص 21، البداية والنهاية ج 4 ص 182، تاريخ الطبري ج 3 ص 12، ذخائر
العقبى ص 87، تاريخ الإسلام للذهبي ج 2 ص 194، العقد الفريد ج 2 ص 194، الكامل في
التاريخ ج 2 ص 161.
ولقد تمنى عمر بن الخطاب أن تكون له هذه الفضيلة التي حاز عليها أمير المؤمنين - عليه
السلام -.
فقد روي أن عمر قال: (لقد أعطي علي بن أبي طالب - عليه السلام - ثلاثا لأن تكون لي
واحدة منها أحب إلي من حمر النعم: زوجته بنت رسول الله، وسكناه المسجد مع رسول الله
يحل له ما يحل له فيه، والراية يوم خبير).
انظر: المستدرك للحاكم ج 3 ص 125، مسند أحمد ج 2 ص 26، ينابيع المودة للقندوزي
ص 210، المناقب للخوارزمي ص 322 ح 354، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ
دمشق لابن عساكر ج 1 ص 220 ح 283، الصواعق المحرقة ص 125، مجمع الزوائد ج 9
ص 120، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 172، نظم درر السمطين ص 129، فرائد السمطين
ج 1 ص 345 ح 268، أسنى المطالب للجزري ص 65، فضائل الخمسة ج 2 ص 250، الغدير
ج 3 ص 204.
455

وروى عالمكم أخطب خوارزم في كتاب المناقب أن النبي - صلى
الله عليه وآله - قال: " يا علي لو أن عبدا عبد الله عز وجل مثلما قام نوح في
قومه، وكان له مثل جبل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله، ومد في عمره حتى
حج ألف حجة على قدميه، ثم قتل ما بين الصفا والمروة مظلوما ثم لم
يوالك يا علي لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها " (1).

(1) المناقب للخوارزمي ص 67، لسان الميزان ج 5 ص 219، ميزان الاعتدال ج 3 ص 597.
وفي هذا المعنى قال بعضهم - عليه الرحمة -.
لو أن عبدا " أتى بالصالحات غدا " * وود كل نبي مرسل وولي
وقام ما قام قوما " بلا كسل * وصام ما صام صواما " بلا ملل
وحج ما حج من فرض ومن سنن * وطاف بالبيت حاف غير منتعل
وطار في الجو لا يأوي إلى أحد * وغاص في البحر لا يخشى من البلل
وعاش في الناس آلافا " مؤلفة * خلوا " من الذنب معصوما " من الزلل
يكسو اليتامى من الديباج كلهم * ويطعم البائسين البر بالعسل
ما كان في الحشر عند الله منتفعا " * إلا بحب أمير المؤمنين علي
456

وفي الكتاب المذكور قال رسول الله - صلى الله عليه وآله -: (لو
اجتمع الناس على حب علي بن أبي طالب لم يخلق الله النار) (1) وفي كتاب
الفردوس: حب علي حسنة لا تضر معها سيئة، وبغضه سيئة لا تنفع معها
حسنة (2).
وفي كتاب ابن خالويه عن حذيقة بن اليمان قال، قال رسول الله
- صلى الله عليه وآله -: (من أراد أن يتصدق بفصه الياقوت التي خلق الله
بيده ثم قال لها: كوني فكانت فليتول علي بن أبي طالب بعدي).
وفي مسند أحمد بن حنبل في المجلد الأول: أن رسول الله - صلى
الله عليه وآله - أخذ بيد حسن وحسين وقال: (أحبني وأحب هذين
وأحب أباهما كان معي في درجتي يوم القيامة (3).
قال يوحنا: يا أئمة الإسلام هل بعد هذا كلام في قول الله تعالى
ورسوله في محبته وفي تفضيله على من هو عاطل عن هذه الفضائل؟
قالت الأئمة: يا يوحنا، الرافضة يزعمون أن النبي - صلى الله عليه
وآله - أوصى بالخلافة إلى علي - عليه السلام - ونص عليه بها، وعندنا أن
النبي - صلى الله عليه وآله - لم يوص إلى أحد بالخلافة.
قال يوحنا: هذا كتابكم فيه: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم
المت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) (4).
وفي بخاريكم يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله -: (ما من

(1) مناقب الخوارزمي ص 67 ح 398، الفردوس ج 3 ص 373 خ 5135.
(2) الفردوس ج 2 ص 142 ح 2725، مناقب الخوارزمي ص 75 ح 56.
(3) مسند أحمد ج 1 ص 77، سنن الترمذي ج 5 ص 599 ح 3733، تاريخ بغداد ج 13
ص 288، كنز العمال ج 13 ص 639 ح 37613.
(4) سورة البقرة: الآية 180.
457

حق امرئ مسلم أن يبيت إلا وصيته تحت رأسه) (1) أفتصدقون أن نبيكم
يأمر بما لا يفعل مع أن في كتابكم تقريعا للذي يأمر بما لا يفعل من قوله:
(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا
تعقلون) (2) فوالله إن كان نبيكم قد مات بغير وصية فقد خالف أمر ربه،
وناقض قول نفسه، ولم يقتد بالأنبياء الماضية من إيصائهم إلى من يقوم
بالأمر من بعدهم، على أن الله تعالى يقول: (فبهداهم اقتده) (3) لكنه
حاشاه من ذلك وإنما تقولون هذا لعدم علم منكم وعناد، فإن إمامكم
أحمد بن حنبل روى في مسنده أن سلمان قال: يا رسول الله فمن وصيك؟
قال: يا سلمان من كان وصي أخي موسى - عليه السلام -؟
قال: يوشع بن نون! قال: فإن وصيي ووارثي بإسناده علي بن أبي طالب.
وفي كتاب ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن رسول الله - صلى الله
عليه وآله - قال: لكل نبي وصي ووارث، وأنا وصيي ووارثي علي بن أبي
طالب (4).
وهذا الإمام البغوي محيي سنة الدين، وهو من أعاظم محدثيكم
ومفسريكم، وقد روى في تفسيره المسمى بمعالم التنزيل عند قوله
تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (5)، عن علي - عليه السلام - أنه قال:
لما نزلت هذه الآية أمرني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن أجمع

(1) صحيح البخاري ج 4 ص 2، صحيح مسلم ج 3 ص 1249 ح 1، سنن ابن ماجة ج 2 ص 901
ح 2699.
(2) سورة البقرة: الآية 44.
(3) سورة الأنعام: الآية 90.
(4) سورة ابن المغازلي: ص 200 - 238، ذخائر العقبى ص 71.
(5) سورة الشعراء: الآية 214.
458

له بني عبد المطلب فجمعتهم وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو
ينقصون، فقال لهم بعد أن أضافهم برجل شاة وعس من لبن شبعا وريا
وأنه كان أحدهم ليأكله ويشربه: يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخير
الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني عليه،
ويكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي؟ فلم يجبه أحد.
قال علي: فقمت إليه، وقلت: أنا أجيبك يا رسول الله.
فقال لي: أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي، فاسمعوا له
وأطيعوا، فقاموا يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع
لابنك وتطيع (1).
وهذه الرواية قد رواها أيضا أمامكم أحمد بن حنبل في مسنده (2)
ومحمد بن إسحاق الطبري في تاريخه (3) والخركوشي أيضا رواها، فإن
كانت كذبا فقد شهدتم على أئمتكم بأنهم يروون الكذب على الله
ورسوله، والله تعالى يقول: (إلا لعنة الله على الظالمين) (4) (الذين
يفترون على الله الكذب) (5)، قال الله تعالى في كتابه: (فنجعل لعنة الله
على الكاذبين) (6) وإن كان لم يكذبوا وكان الأمر على ذلك فما ذنب
الرافضة؟ إذن فاتقوا الله يا أئمة الإسلام، بالله عليكم ما ذا تقولون في خبر
الغدير الذي تدعيه الشيعة؟

(1) معالم التنزيل للبغوي ج 3 ص 400.
(2) مسند أحمد ج 1 ص 159.
(3) تاريخ الطبري ج 2 ص 319 - 321.
(4) سورة هود: الآية 18.
(5) سورة يونس: الآية 60 و 69، وسورة النحل: الآية 116.
(6) سورة آل عمران: الآية 61.
459

قال الأئمة: أجمع علماؤنا على أنه كذب مفترى.
قال يوحنا: الله أكبر، فهذا إمامكم ومحدثكم أحمد بن حنبل روى
في مسنده إلى البراء بن عازب قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - في سفر فنزلنا بغدير خم (1) فنودي فينا الصلاة جامعة وكشح

(1) غدير خم: قبل: موضع تصب فيه عين، بئر من الميثب، حفرها مرة بن كعب، نسب
إلى ذلك غدير خم، وهو بين مكة والمدينة، قيل: على ثلاثة أميال من الجحفة، وقيل: على
ميل، وهي التي عناها الشاعر في قوله:
وقالت بالغدير غدير خم * أخي إلى متى هذا الركوب
وهناك مسجد للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال الشهيد (ره) في الذكرى: من
المساجد الشريفة مسجد الغدير وهو بقرب الجحفة جدرانه باقية إلى اليوم وهو مشهور بين
وقد كان طريق الحج عليه غالبا.
انظر: مراصد الاطلاع ج 1 ص 482، سفينة البحار ج 2 ص 309.
وقد جاء اسم هذا المكان - غدير خم - كثيرا في الشعر وذلك بمناسبة تنصيب رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - أمير المؤمنين - عليه السلام - خليفة من بعده، في هذا المكان
وذلك بعد عودته من حجة الوداع، وقال فيه يومئذ: إلا من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم
وال من والاه، وعاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.... الخ.
ومن الشعراء الذين ذكروا ذلك في شعرهم: حسان بن ثابت في قصيدته الشهيرة حيث
يقول:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأكرم بالنبي مناديا
والكميت أيضا حيث يقول:
ويوم الدوح دوح غدير خم * أبان له الولاية لو أطيعا
ولكن الرجال تدافعوها * فلم أر مثلها خطرا منيعا
وقال أبو تمام في قصيدته الرائية كما في ديوانه:
ويوم الغدير استوضح الحق أهله * بفيحاء ما فيها حجاب ولا ستر
أقام رسول الله يدعوهم بها * ليقربهم عرف وينآهم، نكر
يمد بضبيعه ويعلم أنه * ولي ومولاكم فهل لكم خبر
وقال السيد الحميري في ذلك أيضا:
قام النبي يوم خم خاطبا * بجانب الدوحات أو حيالها
فقال: من كنت له مولى فذا * مولاه ربي اشهد مرارا قاله
راجع: الغدير للعلامة الأميني المجلد الأول، سفينة البحار ج 2 ص 360.
وقد ذكر العلامة الأميني في كتابه الغدير الشعراء الذين خلدوا واقعة الغدير في شعرهم
ابتداء من القرن الأول حتى القرن الرابع عشر، وقد طبع منه أحد عشر مجلدا وقد ذكر فيه - 105 -
من شعراء الغدير وقد انتهى به المطاف إلى القرن الثاني عشر الهجري.
460

لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تحت شجرتين، وصلى الظهر،
وأخذ بيد على - عليه السلام - فقال: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن
من نفسه؟
قالوا: بلى فأخذ بيد علي ورفعها حتى بان بياض إبطيهما وقال لهم:
من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من
من نصره، واخذل من خذله.
فقال له عمر بن الخطاب: هنيئا يا بن أبي طالب أصبحت مولاي
ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
ورواه في مسنده بطريق آخر وأسنده إلى أبي الطفيل، ورواه بطريق
آخر وأسنده إلى زيد بن أرقم (1)، ورواه ابن عبد ربه في كتاب العقد (2)،
ورواه سعيد بن وهب، وكذا الثعالبي في تفسيره (3) وأكد الخبر مما رواه
من تفسير (سأل سائل) أن حارث بن النعمان الفهري أتى رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في ملأ من من أصحابه فقال: يا محمد أمرتنا أن

(1) مسند أحمد ج 2 ص 93 و ج 4 ص 368 وص 372 وص 381.
(2) العقد الفريد ج 5 ص 61.
(3) وممن ذكر خبر الحارث بن النعمان: فرائد السمطين 1 ص 82 ح 53، نور الأبصار
للشبلنجي ص 71 ط السعيدية وص 71 ط العثمانية، نطم درر السمطين للزرندي الحنفي
ص 93، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 328 ط الحيدرية وص 274، ط اسلامبول و ج 2 ص 99 ط العرفان بصيدا.
461

نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله فقبلنا، وأمرتنا أن نصلي
خمسا فقبلنا منك، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلنا، وأمرتنا أن نحج
البيت فقبلنا، ثم لم ترض حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا
وقلت (من كنت مولاه فعلي مولاه) فهذا شئ منك أم من الله؟
فقال: والله الذي لا إله إلا هو، إنه أمر من الله تعالى، فولى الحارث بن
النعمان وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد - صلى الله عليه وآله - حقا
فأمطر علينا حجارة من السماء فما وصل إلى راحلته حتى رمى الله بحجر
فسقي على رأسه وخرج من دبره فخر صريعا، فنزل: (سأل سائل
بعذاب واقع) (1)، فكيف يجوز منكم أن يروي أئمتكم وأنتم تقولون: إنه
مكذوب غير صحيح؟
قال الأئمة: يا يوحنا قد روت أئمتنا ذلك لكن إذا رجعت إلى عقلك
وفكرك علمت أنه من المحال أن ينص رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - على علي بن أبي طالب الذي هو كما وصفتم م يتفق كل الصحابة
على كتمان هذا النص ويتراخون عنه، ويتفقون على إخفائه، ويعدلون إلى
أبي بكر التيمي الضعيف القليل العشيرة، مع أن الصحابة كانوا إذا أمرهم
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقلت أنفسهم فعلوا، فكيف يصدق
عاقل هذا الحال من المحال؟
قال يوحنا: لا تعجبوا من ذلك فأمه موسى - عليه السلام - كانوا ستة
أضعاف أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، واستخلف عليهم أخاه
هارون وكان نبيهم أيضا وكانوا يحبونه أكثر من موسى، فعدلوا عنه إلى

(1) سورة المعارج: الآية 1.
462

السامري، وعكفوا على عبادة عجل جسد له خوار، فلا يبعد من أمه محمد
أن يعدلوا عن وصيه بعد موته إلى شيخ كان رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - تزوج ابنته، ولعله لو لم يرد القرآن بقصة عبادة العجل لما
صدقتموها.
قال الأئمة: يا يوحنا فلم لا ينازعهم بل سكت عنهم وبايعهم؟
قال يوحنا: لا شك أنه لما مات رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - وكان المسلمون قليلا، واليمامة فيها مسيلمة الكذاب وتبعه ثمانون
ألفا والمسلمون الذين في المدينة حشوهم منافقون، فلو أظهر النزاع
بالسيف لكان كل م نقتل علي بن أبي طالب بنيه أو أخاه كان عليه وكان
الناس يومئذ قليل من لم يقتل علي من قبيلته وأصحابه وأنسابه قتيلا أو
أشهر بلا خلاف بين أهل السنة، ثم بعد جرى من طلب البيعة منهم فعند
أهل السنة أنه بايع، وعند الرافضة أنه لم يبايع، وتاريخ الطبري (1) يدل على
أنه لم يبايع، وأنما العباس لما شاهد الفتنة صاح: بايع ابن أخي.
وأنتم تعلمون أن الخلافة لو لم تكن لعلي لما ادعاها، ولو ادعاها
بغير حق لكان مبطلا، وأنتم تروون عن رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - أنه قال: (علي مع الحق والحق مع علي) (2)، فكيف يجوز منه أن
يدعي ما ليس بحق فيكذب نبيكم يومئذ ما هذا بصحيح.
وأما تعجبكم من مخالفة بني إسرائيل نبيهم في خليفته وعدولهم
إلى العجل والسامري ففيه سر عجيب إنكم رويتم أن نبيكم قال: (ستحذو

(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 208، وقد تقدمت تخريجاته.
(2) تقدمت تخريجاته.
463

أمتي حذو النعل، والقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتم
فيه) (1) وقد ثبت في كتابكم أن بني إسرائيل خالفت نبيها في خليفته،
وعدلوا عنه إلى ما لا يصلح لها.
قال العلماء: يا يوحنا أفتدري أنت أن أبا بكر لا يصلح للخلافة؟
قال يوحنا: أما أنا فوالله لم أر أبا بكر يصلح للخلافة، ولا أنا متعصب
للرافضة، لكني نظرت الكتب الإسلامية فرأيت أن أئمتكم أعلمونا أن الله
ورسوله أخبرني أن أبا بكر لا يصلح للخلافة.
قال الأئمة: وأين ذلك؟
قال يوحنا: رأيت في بخاريكم (2)، وفي الجميع بين الصحاح الستة،
وفي صحيح أبي داود، وصحيح الترمذي (3)، ومسند أحمد بن حنبل (4) أن
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعث سروة براءة مع أبي بكر إلى
أهل مكة، فلما بلغ ذي الحليفة (5) دعا عليا - عليه السلام -، ثم قال له: أدرك
أبا بكر وخذ الكتاب منه فاقرأه عليه م، فلحقه بالجحفة (6) فأخذ الكتاب

(1) انظر: معالم التنزيل للبغوي ج 4 ص 465، مجمع البيان ج 10 ص 462 باختلاف، وقد تقدم
المزيد من تخريجاته الحديث فيما سبق.
(2) صحيح البخاري ج 6 ص 81.
(3) سنن الترمذي ج 5 ص 256 - 257 ح 3090 - 3092 و ج 3 ص 222 ح 871.
(4) مسند أحمد ج 4 ص 164.
(5) ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، ومنها ميقات أهل المدينة، وهي من
مياه بني جشم. وذو الحليفة: موضع من تهامة بين حاذة وذات عرق. مراصد الاطلاع ج 1
ص 420.
(6) الجحفة: كانت قرية كبيرة، ذات منبر، على طريق مكة على أربع مراحل، وهي ميقات أهل
مصر والشام، وأن لم يمروا على المدينة، وكان اسمها مهيعة، وسميت الجحفة لأن السيل
جحفها، وبينها وبين البحر ستة أميال، وبينها وبين غدير خم ميلان، مراصد الاطلاع ج 1
ص 315.
464

منه ورجع أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: يا رسول
الله أنزل في شئ؟
قال: لا ولكن جاء ني جبرئيل - عليه السلام -، وقال: لن يؤدي عنك
إلا أنت أو رجل منك.
فإذا كان الأمر هكذا وأبو بكر لا يصلح لأداء آيات يسيرة عن النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم - في حياته، فكيف يصلح أن يكون خليفته بعد
مماته ويؤدي عنه كله وعلمنا من هذا أن عليا - عليه السلام - يصلح أن
يؤدي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.
فيا أيها المسلمون لم تتعاملون عن الحق الصريح؟ ولم تركنون إلى
هؤلاء وكم ترهبون الأهوال؟
قال الحنفي منهم: يا يوحنا والله إنك لتنظر بعين الإنصاف، وإن
الحق لكما تقول، وأزيدك في معنى هذا الحديث، وهو أن الله تعالى أراد أن
يبين للناس أن أبا بكر لا يصلح للخلافة، فترك رسول الله حتى أخرج أبا
بكر بسورة براءة على رؤوس الأشهاد، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم - أن يخرج عليا وراءه ويعزله عن هذا المنصب العظيم ليعلم
الناس أن أبا بكر لا يصلح لها، وأن الصالح لها علي - عليه السلام -، فقال
لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: والله يبلغ عنك إلا أنت أو رجل
منك (1)، فما تقول أنت يا مالكي؟
قال المالكي: والله فإنه لم يزل يختلج في خاطري أن عليا نازع أبا
بكر في خلافته مدة ستة أشهر، وكل متنازعين في الأمر لا بد وأن يكون

(1) مسند أحمد ج 3 ص 212، المصنف لابن أبي شيبة ص 84 - 85 ح 12184، كنز العمال ج 2
ص 431 ح 4421، بداية والنهاية ج 5 ص 37، وقد تقدمت تخريجاته.
465

أحدهما محقا، فإن قلنا إن أبا بكر كان محقا فقد خالفنا مدلول قول النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم -: (علي مع الحق والحق مع علي) (1). وهذا
حديث صحيح لا خلاف فيه، فما تقول يا حنبلي؟
قال الحنبلي: يا أصحابنا كم نتعامى عن الحق؟ والله أن اليقين أن أبا
بكر وعمر غصبا حق علي - عليه السلام - فكانا... الخ.
فقال له الحنفي: ولا بهذه العبارة.
فقال الحنبلي: يا حنفي تيقظ لأمرك فإن البخاري ومسلم أورادا في
صحيحهما أنه لما توفي أبو بكر وجلس عمر مكانه أتى العباس وعلي إلى
عمر وطلبا ميراثهما من رسول الله، فغضب عمر وقال كلام يقول فيه:
فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال أبو بكر أنا ولي
رسول الله، فجثت أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب علي هذا
ميراث امرأته من أبيها.
فقال لكما أبو بكر: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال:
(نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه يكون صدقة) (2)، فرأيتماه كاذبا
أثما غادرا خائنا، ثم توفي أبو بكر فقلت: أنا ولي رسول الله - صلى
الله عليه وآله وسلم - من بعده وولي أبو بكر، فجئت أنت وعلي وأنتما
جميعا أمركما واحد فقلتم: الأمر لنا دونكم فقلت لكما مقالة أبي بكر
فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا، وقول عمر هذا لعلي - عليه السلام - كان
بمحضر أنس بن مالك وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد،
ولم يعتذر أمير المؤمنين علي ولا العباس عما نسب إليهما من الاعتقاد

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) البداية والنهاية ج 5 ص 290 - 291، وقد تقدمت تخريجاته.
466

الذي ذكره عمر ولا أحد من الحاضرين اعتذر إلى أبي بكر، فيا حنفي أن
كان عمر صدق فيما نسب إلى أبي بكر وإلى نفسه فمن يعتقد فيه العباس
وعلي أنه كاذب آثم خائن غادر فكيف يصلح للخلافة؟ وإن عمر
كان كاذبا في ذلك فكفاه ذلك.
قال يوحنا: يا أئمة الإسلام هذه الرواية هي سبب تجري الناس على
أبي بكر في الطعن عليه وعلى عمر، فإذا سمعت الرافضة أن في بخاريكم
أن عمر قد شهد على نفسه أن عليا هو الذي رويتم فيه أن رسول الله - صلى
الله عليه وآله وسلم - قال في حقه: (علي مع الحق والحق مع علي)
والعباس عم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شهد على أبي بكر
وعمر أنهما كاذبان آثمان خائنان فكيف لا يتجرئون عليهم ويجعلون هذا
مبدأ أشياء أخر.
قالت العلماء: يا يوحنا إن الرافضة يطعنون في أكثر الصحابة، وهذا
هو الذي أوجب قتلهم، إن رسول الله مدح الصحابة وقال: (أصحابي
كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (1) فكيف يصح للرافضة أن يطعنوا فيهم؟
قال يوحنا: علماء الإسلام لا تقولوا هذا فمن الجائز أن يطعنوا فيهم؟
المدح لهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد رسول الله
حصل لبعضهم الارتداد، فإن إمامكم ومحدثكم الحميدي روى في الجمع
بين الصحيحين من المتفق عليه عندكم من الحديث الستين من مسند
عبد الله بن العباس، قال: إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ألا إنه
سيجئ برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي

(1) ميزان الاعتدال ج 2 ص 413، لسان الميزان ج 2 ص 118.
467

أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول لهم كما قال
العبد الصالح: (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت
أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد، إن تعذبهم فإنهم
عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (1) فيقال: إنهم
لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم (2).
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة عن
عبد الله، الحديث الحادي عشر من أفراد مسلم قال: إن النبي - صلى الله عليه
وآله وسلم - قال: إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟
قال عبد الرحمن: نكون كما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم -.
فقال رسول الله: بل تتنافسون وتتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم
تتباغضون وتنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون المهاجرين
فتحملون بعضهم على رقاب بعض (3).
أليس هذا وعد بارتدادهم، وناهيك بقوله تعالى: (وما محمد إلا
رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) (4).
قالت العلماء: يا يوحنا، هذا الذي ذكرته يدل على أن ذلك البعض
أبو بكر وعمر وأتباعهما وما ندري ما الذي جرأهم على ذلك؟ ومن أين

(1) سورة المائدة: الآية 117 و 118.
(2) صحيح البخاري ج 6 ص 69 و 122، صحيح مسلم ج 4 ص 2194 - 1295 ح 58، سنن
الترمذي ج 4 ص 532 ح 2423.
(3) صحيح مسلم ج 4 ص 2274 ح 7.
(4) سورة آل عمران: الآية 144.
468

جاز لهم ذلك؟
قال يوحنا: جرأهم على ذلك أئمتكم وعلماؤكم كالبخاري (1)
ومسلم، فإنهم أوردوا أنه لما مات رسول الله - صلى الله عليه وآله - أرسلت
فاطمة - صلوات الله عليها - إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها - صلى الله
عليه وآله وسلم - مما أفاء الله عليه بالمدينة من فدك وما بقي من خمس
خيبر، فأبي أبو بكر مما أقلقها وأحزنها فهجرته ولم تكلم مما وقع عليها
منه من الأزدي وما زالت تتنفس حتى ماتت، وإنها عاشت بعد أبيها ستة
أشهر، فلما توفيت دفنها علي - عليه السلام - ليال سرا ولم يؤذن بها أبا
بكر، ومع هذه الشناعة روى أئمتكم في الصحيحين أن رسول الله - صلى
الله عليه وآله وسلم - قال: (فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني، ويؤذيني
ما آذاها) (2)، فأخذ الرافضة هذين الحديثين وركبوا منهما مقدمتين وهو:
أبو بكر آذى فاطمة، ومن آذى فاطمة فقد آذى رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم -، ولا شك أن الله سبحانه يقول: (إن الذين يؤذون الله ورسوله
لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) (3)، ولو إنكار نتيجتها.
وقال يوحنا: فاختبط القوم، وكثر بينهم النزاع لكن كان مآل كلامهم،
أن الحق في طرف الرافضة، وكان أقربهم إلى الحق إذن إمام الشافعية، فقال

(1) صحيح البخاري ج 5 ص 25 - 26.
() تقدمت تخريجاته.
(2) صحيح البخاري ج 5 ص 26، صحيح مسلم ج 4 ص 1903 ح 94، وقد تقدمت تخريجاته.
(3) سورة الأحزاب: الآية 57.
469

لهم: أراكم تشكون أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: من مات ولم
يعرف إمام زمانه (1) فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا.
فما المراد بإمام الزمان؟ ومن هو؟
قالوا: إمام زماننا القرآن فإنا به نقتدي.
فقال الشافعي: أخطأتم لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال:
الأئمة من قريش (2) ولا يقال للقرآن إنه قريشي.
فقالوا: النبي إمامنا.
فقال الشافعي: أخطأتم، لأن علماءنا لما اعترض عليهم بأن كيف
يجوز لأبي بكر وعمر أن يتركا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
مسجى غير مغسل ويذهبا لطلب الخلافة، وهذا دليل على حرصهم
عليها، وهو قادح في صحة خلافتهما.
أجاب علماؤنا إنهم لمحوا أقوال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -:
(من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ولم يجوزوا على
أنفسهم الموت قبل تعيين الإمام، فبادروا لتعيينه هربا من ذلك الوعيد،
فعلمنا أن ليس المراد بالإمام هنا النبي.
فقالوا للشافعي: فأنت يا شافعي؟
قال: إن كنت من قبيلتكم فلا إمام لي، وإن كنت من قبيلة الاثني
عشرية فإمامي محمد بن الحسن - عليه السلام -.
فقال العلماء: هذا والله أمر بعيد كيف يجوز أن يكون واحد من مدة

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) مسند أبي داود ص 125 ج 926، مسند أحمد ج 3 ص 183، المصنف لابن أبي شيبة ج 12
ص 169 ح 12438 وص 173 ح 124474، كنز العمال ج 12 ص 30 ح 33831.
470

لا يعيش أحد مثله، ولا يراه أحد هذا بعيد جدا.
فقال الشافعي: هذا الدجال من الكفرة تقولون: إنه حي وموجود،
وهو قبل المهدي والسامري كذلك ووجود إبليس لا تنكرونه، وهذا
الخضر، وهذا عيسى تقولون: إنهما حيان، وقد ورد عندكم ما يدل على
التعمير في حق السعداء والأشقياء، وهذا القرآن ينطق أن أهل الكهف
ناموا ثلاث مائة سنة وتسع سنين لا يأكلون ولا يشربون، أفبعيد أن يعيش
من ذرية محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - واحد مدة طويلة يأكل
ويشرب إلا أنه لا يخبرنا أحد أنه رآه، واستبعادكم هذا بعيد جدا.
قال يوحنا: إن نبيكم قال: ستفترق أمتي من بعدي ثلاث وسبعين،
واحدة ناجية، واثنتان وسبعون في النار فهل تعرف الناجية من هي؟
قالوا: إنهم أهل السنة والجماعة لقول النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - لما سئل عن الفرقة الناجية من هم؟ فقال: (الذين هم على ما أنا
عليه اليوم وأصحابي) (1).
قال يوحنا: فمن أين لكم أنكم أنتم اليوم على ما كان عليه النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم -؟
قالوا: ينقل ذلك الخلف عن السلف.
فقال يوحنا: فمن الذي يعتمد على نقلكم؟
قالوا: وكيف ذلك؟

(1) المعجم الصغير للطبراني ج 1 ص 256، كنز العمال ج 1 ص 210 ح 1055 و 1057، مجمع
الزوائد ج 1 ص 189.
471

قال: لوجهين:
لأول: أن علماءكم نقلوا كثيرا من الأحاديث التي تدل على إمامة
علي - عليه السلام - وأفضليته، وأنتم تقولون إنه مكذوب عليه، وشهدتم
على علمائكم أنهم ينقلون الكذب فربما بكون هذا يتفق أيضا كذبا ولا
مرجح لكم.
الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يصلي كل يوم
الصلوات الخمس في المسجد ولم يضبط له أنه هل كان يبسمل للحمد أم
لا؟ وهل كان يعتقد وجوبها أم لا؟ وهل كان يسبل يديه أم لا؟ ولو كان
يعقدهما فهل يعقدهما تحت السرة أو فوقها؟ وهل كان يمسح في
الوضوء ثلاث شعرات أو ربع الرأس أم جميع الرأس؟ حتى إن أئمتكم
اختلفوا، فبعض أوجب البسملة، وبعض استحبها، وبعض كرهها،
وبعض أسبل يديه، وبعض عقدها تحت السرة، وبعض فوقها، وبعض
أوجب مسح ثلاث شعرات، وبعض ربع الرأس، وبعض جميعه، فإذا كان
سلفكم لم يضبط شيئا كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يفعله في
اليوم والليلة مرارا متعددة، فكيف يضبطون شيئا لم يفعله في العمر إلا مرة
واحدة أو مرتين، هذا بعيد! وكيف تقولون إن أهل السنة هم على ما كان
عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والحال أنهم يناقض بعضهم بعضا
في اعتقاداتهم، واجتماع النقيض محال.
قال يوحنا: فأطرقوا جميعا، ودار الكلام بينهم، وارتفعت الأصوات
بينهم، وقالوا: الصحيح أنا لا نعرف الفرقة الناجية من هي، وكل منا يزعم
أنه هو الناجي، وأن غيره هو الهالك، ويمكن أن يكون هو الهالك، وغيره
الناجي.
472

قال يوحنا هذه الرافضة الذين تزعمون أنهم ضالون يجزمون
بنجاتهم، وهلاك من سواهم، ويستدلون على ذلك بأن اعتقادهم أوفى
للحق، وأبعد عن الشك.
قالت العلماء: يا يوحنا، قل وأنا والله لا نتهمك لعلمنا أنك تجادلنا
على إظهار الحق.
قال يوحنا: أنا أقول باعتقاد الشيعة أن الله قديم ولا قديم سواه، وأنه
واجب الوجود، وأنه ليس بجسم. ولا في محل وهو منزه عن الحلول،
واعتقادكم أنكم تثبتون معه ثمانية قدماء هي الصفات حتى أن إمامكم
الفخر الرازي شنع عليكم، وقال: إن النصارى واليهود كفروا حيث جعلوا
مع الله إلهين اثنين قديمين وأصحابنا أثبتوا قدماء تسعة، وابن حنبل أحد
أئمتكم قال: إن الله على العرش، وإنه ينزل في صورة أمرد،
فبالله عليكم أليس الحال كما قلت؟
قالوا: نعم.
قال يوحنا: فاعتقادهم إذا خير من اعتقادكم، واعتقاد الشيعة إن الله
سبحانه لا يفعل قبيحا، ولا يخل بواجب، وليس في فعله ظلم، ويرضون
بقضاء الله لأنه لا يقضي إلا بالخير، ويعتقدون أن فعله لغرض لا لعبث،
وأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يضل أحدا من عباده، ولا يحيل بينهم
وبين عبادته، وأنه أراد الطاعة، ونهى عن المعصية، وأنهم مختارون في
أفعال أنفسهم، واعتقادكم أنتم أن الفواحش كلها من الله - تعالى الله عن
ذلك علوا كبيرا - وأنه كل ما يقع في الوجود من الكفر والفسوق والمعصية
والقتل والسرقة والزنا فإنه خلقه الله تعالى في فاعليه وأراده منهم وقضى
عليهم به ورفع اختيارهم، ثم يعذبهم عليه، وأنتم لا ترضون بقضاء الله بل
473

إن الله تعالى لا يرضى بقضاء نفسه، وإنه هو الذي أضل العباد وحال بينهم
وبين العبادة والإيمان، وإن الله تعالى يقول: (ولا يرضى لعباده الكفر وإن
تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى) (1)، فاعتبروا هل
اعتقادكم خير من اعتقادهم أو اعتقادهم خير من اعتقادكم وأنتم تتلون
الكتاب أفلا تعقلون؟!
وقالت الشيعة: أنبياء الله معصومون من أول عمرهم إلى آخره عن
الصغائر والكبائر فيما يتعلق بالوحي وغيره عمدا وخطأ، واعتقادكم أنه
يجوز عليهم الخطأ والنسيان، ونسبتم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - سهى في القرآن بما يوجب الكفر فقلتم: إنه صلى الصبح فقرأ في
سورة النجم (أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى) (2) تلك
الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى (3)، وهذا كفر وشرك جلي، حتى أن
بعض علماءكم صنف كتابا فيه تعداد ذنوب نسبها للأنبياء - عليهم السلام -
فأجابته الشيعة عن ذلك الكتاب بكتاب سموه بتنزيه الأنبياء (4)، فماذا
تقولون أي الاعتقادين أقرب إلى الصواب، وأدنى من الفوز؟
واعتقاد الشيعة أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقبض
حتى أوصي إلى من يقوم بأمره بعده، وأنه لم يترك أمته هملا ولم يخالف
قوله تعالى، واعتقادكم أنه ترك أمته خملا، ولم يوص إلى من يقوم بالأمر
بعده، ومن كتابكم الذي أنزل عليكم فيه وجوب الوصية، وفي حديث

(1) سورة الزمر: الآية 7.
(2) سورة النجم: الآية 19 - 20.
(3) تقدم الحديث عن قصة الغرانيق مع تخريجاته.
(4) تنزيه الأنبياء لعلم الهدى الشريف المرتضى - أعلى الله مقامه -
474

نبيكم وجوب الوصية، فلزم على اعتقادكم أن يكون النبي - صلى الله عليه
وآله وسلم - أمر الناس بما لا يفعله، فأي الاعتقادين أولى بالنجاة.
واعتقاد الشيعة أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يخرج
من الدنيا حتى نص بالخلافة على علي بن أبي طالب - عليه السلام - ولم
يترك أمته هملا فقال له يوم الدار: (أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي
فاسمعوا له وأطيعوا أمره (1) وأنتم نقلتموه ونقله إمام القراء والطبري
والخركوشي وابن إسحاق.
وقال فيه يوم غدير خم: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) حتى قال
له عمر: بخ بخ لك يا علي، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، نقله
إمامكم أحمد بن حنبل في مسنده (2). قال فيه لسلمان: (إن وصيي
ووارثي علي بن أبي طالب) رواه إمامكم أحمد بن حنبل (3). قال فيه (إن
الأنبياء ليلة المعراج قالوا لي: بعثنا على الإقرار بنبوتك، والولاية لعلي بن
أبي طالب) ورويتموه في الثعلبي والبيان وقال فيه: (إنه يحب الله
ورسوله)، ورويتموه في البخاري والمسلم (4). وقال فيه (لا يؤدي عني إلا أنا
أو رجل مني)، وعنى به علي بن أبي طالب، ورويتموه في الجمع بين
الصحيحين، وقال فيه: (أنت بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي
بعدي)، ورويتموه في البخاري (5). وأنزل الله فيه: (هل أتى على

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) مسند أحمد ج 4 ص 281.
(3) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج 2 ص 615 ح 1052.
(4) صحيح مسلم ج 4 ص 1871 - 1873 ح 32 - 35، صحيح البخاري ج 5 ص 23.
(5) صحيح مسلم ج 5 ص 1870 ح 30 - 32، صحيح البخاري ج 5 ص 24.
475

الإنسان حين من الدهر) (1) وأنزل فيه: (إنما وليكم الله ورسوله والذين
آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (2) وإنه
صاحب آية الصدقة (3)، وضربته لعمر وبن عبد ود العامري أفضل من عمل
الأمة إلى يوم القيامة (4)، وهو أخو رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
وزوج ابنته، وباب المدينة، إمام المتقين، ويعسوب الدين، وقائد الغر
المحجلين (5)، حلال المشكلات، وفكاك المعضلات، هو الإمام بالنص
الإلهي، ثم من بعده الحسن والحسين اللذان قال فيهما النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم -: (هذان إمامان قاما أو قعدا، وأبو هما خير
منهما) (6). وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: (الحسن والحسين سيدا
شباب أهل الجنة) (7)، ثم علي زين العابدين، ثم أولاد المعصومين الذين

(1) سورة الدهر: الآية 1.
(2) سورة المائدة: الآية 55.
(3) وهي قوله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية)، سورة البقرة:
الآية 274، وقد تقدمت تخريجات نزولها فيه - عليه السلام -.
(4) المستدرك ج 3 ص 32، تاريخ بغداد ج 13 ص 19 رقم: 6978، الفردوس بمأثور الخطاب
ج 3 ص 455 ح 5406.
(5) فقد جاء في فرائد السمطين ج 1 ص 143 ح 105: عن عبد الله بن عكيم الجهني، قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: إن الله تبارك وتعالى أوحى إلي في علي - عليه السلام -
ثلاثة أشياء ليلة أسري بي: إنه سيد المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين.
ومثله أيضا بتفاوت ما جاء في ص 145 ح 109، بحار الأنوار ج 18 ص 343، سفينة البحار
ج 1 ص 133.
(6) كفاية الأثر: ص 38، بحار الأنوار ج 36 ص 289.
(7) مسند أحمد ج 3 ص 3 و 62، سنن الترمذي ج 5 ص 614 ح 3768، تاريخ بغداد ج 11
ص 90، كنز العمال ج 12 ص 112 ح 34246.
476

خاتمهم الحجة القائم المهدي إمام الزمان - عليه السلام - الذي من مات ولم
يعرفه مات ميتة جاهلية (1)، وأنتم رويتم في صحاحكم عن جابر بن سمرة
أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: (يكون
بعدي اثنا عشر أميرا ") وقال كلمة لم أسمعها (2) وفي بخاريكم (3) قال
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: (يكون بعدي اثنا عشر أميرا)
وقال كلمه لم اسمعها (2) وفي بخاريكم (3) قال
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم
اثنا عشر رجلا) ثم تكلم بكلمة خفيفة خفيت على.
وفي صحيح مسلم (لا يزال أمر الدين قائما حتى تقوم الساعة،
ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) (4)، وفي الجمع بين
الصحيحين والصحاح الستة أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال:
(إن الأمر لا ينقضي حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) (5).
وروى عالمكم ومحدثكم وثقتكم صاحب كفاية الطالب عن أنس
ابن مالك، قال: كنت أنا وأبو ذر وسلمان وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم عند
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ دخل الحسن والحسين - عليهما
لسلام - فقبلهما رسول الله، وقام أبو ذر فانكب عليهما، وقبل أيديهما،
ورجع فقعد معنا، فقلنا له سرا: يا أبا ذر رأيت شيخا من أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقوم إلى صبيين من بني هاشم فينكب
عليهما ويقبلهما ويقبل أيديهما؟

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) مسند أحمد ج 5 ص 92 و 94، المعجم الكبير ج 2 ص 236 ح 1875 وص 248 ح 1923.
(3) صحيح البخاري ج 4 ص 218.
(4) صحيح مسلم ج 3 ص 1453 ح 10.
(5) صحيح مسلم ج 3 ص 1452 ح 5، مسند أحمد ج 4 ص 94 و 96، وقد تقدمت تخريجات
هذه الأحاديث.
477

فقال: نعم، لو سمعتم ما سمعت لفعلتم بهما أكثر مما فعلت.
فقلنا: وما سمعت فيهما عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
يا أبا ذر؟
فقال: سمعته لعلي ولهما: (والله لو أن عبدا صلى وصام حتى
يصير كالشن البالي إذا ما نفعه صلاته ولا صومه إلا بحبكم والبراءة من
عدوكم.
يا علي، من توصل إلى الله بحقكم فحق على الله أن ل يرده خائبا.
يا علي، من أحبكم وتمسك بكم فقد تمسك بالعروة الوثقى).
قال: ثم قام أبو ذر وخرج فتقدمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - فقلنا: يا رسول الله أخبرنا أبو ذر بكيت وكيت.
فقال: صدق أبو ذر، والله ما أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من
أبي ذر (1).
ثم قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: خلقني الله تعالى وأهل بيتي من
أبي ذر (1).
نور واحد قبل أن يخلق الله آدم بسبعة آلاف عام، ثم نقلنا من صلبه في
أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات.
قلت يا رسول الله: وأين كنتم؟ وعلى أي شئ شأن كنتم؟
فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: كنا أشباحا من نور
تحت العرش نسبح الله ونقدسه.
ثم قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: لما عرج بي إلى السماء وبلغت

(1) مجمع الزوائد ج 5 ص 197 و ج 6 ص 442، مشكل الآثار ج 1 ص 224، مسند أحمد بن
حنبل ج 2 ص 175، وص 233 ط الميمنية، الكامل في الضعفاء لابن عدي ج 5 ص 816 1
البداية والنهاية ح 7 ص 165، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 8 ص 259، بتفاوت.
478

إلى سدرة المنتهى ودعني جبرئيل.
فقلت: يا حبيبي جبرئيل في مثل هذا المقام تفارقني؟
فقال: يا محمد إني لا أجوز هذا الموضع فتحترق أجنحتي، ثمن زج
بي من النور إلى النور ما شاء الله تعالى، فأوحى الله تعالى إلى محمد - صلى
الله عليه وآله وسلم -: إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها
وجعلتك نبيا، ثم اطلعت ثانيا فاخترت منها عليا وجعلته وصيك ووارث
علمك وإماما من بعدك، وأخرج من أصلابكم الذرية الطاهرة والأئمة
المعصومين خزان علمي، ولولا هم ما خلقت الدنيا ولا الآخرة، ولا الجنة
ولا النار، أتحب أن تراهم؟
فقلت: نعم يا رب، فنوديت: يا محمد ارفع رأسك، فرفعت رأسي
فإذا أنا بأنوار علي، والحسن، والحسن، وعلي بن الحسين، ومحمد بن
علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والحجة بن الحسن يتلألأ
من بينهم كأنه كوكب دري - عليهم أفضل الصلاة والسلام -.
فقلت: يا رب من هؤلاء ومن هذا؟
فقال سبحانه وتعالى: هؤلاء الأئمة من بعدك المطهرون من
صلبك، وهذا هو الحجة الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما
وجورا ويشفي صدور قوم مؤمنين.
فقلنا: بآبائنا وأمهاتنا أنت يا رسول الله لقد قلت عجبا.
فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: وأعجب من هذا أن أقواما
يسمعون هذا مني ثم يرجعون على أعقابهم بعد إذ هداهم الله ويؤذونني
479

فيهم لا أنا لهم الله شفاعتي (1).
قال يوحنا: واعتقادكم أنتم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
لما مات مات على غير وصية، ولمم ينص على خليفته، وأن عمر بن
الخطاب اختار أبا بكر وبايعه وتبعته الأمة، وأنتم تعلمون كلكم أن أبا بكر وعمر لما
مات رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تركوه بغير غسل ولا كفن
وذهبا إلى سقيفة بني ساعدة فنازعا الأنصار في الخلافة، وولي أبو بكر
الخلافة ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مسجى، ولا شك أن
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يستخلفه، وأنه كان يعبد الأصنام
قبل أن يسلم أربعين سنة، والله تعالى يقول: (لا ينال عهدي
الظالمين) (2) ومنع فاطمة إرثها من أبيها رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - بخبر (رواه).
قالت فاطمة: يا أبا بكر ترث أباك ولا أرث أبي، لقد جئت شيئا فريا،
وعارضته بقول الله: (يرثني ويرث من آل يعقوب) (3). (وورث
سليمان داود) (4)، وقال الله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) (5) ولو
كان حديث أبي بكر صحيحا لم يمسك علي بن أبي طالب - عليه السلام -
سيف رسولا الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بغلته وعمامته ونازع
العباس عليا بعد موته فاطمة - عليها السلام - في ذلك، ولو كان هذا

(1) كفاية الأثر: ص 69 - 73.
(2) سورة البقرة: الآية 124.
(3) سورة مريم: الآية 6.
(4) سورة النمل: الآية 16.
(5) سورة النساء: الآية 11.
480

الحديث معروفا لم يجز لهم ذلك، وأبو بكر منع فاطمة - عليها السلام -
فدكا لأنها ادعت ذلك، وذكرت أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نحلها
إياها فلم يصدقها في ذلك مع أنها من أهل الجنة، وأن الله تعالى أذهب عنها
الرجس الذي هو أعم من الكذب وغيره، واستشهدت عليا - عليه السلام -
وأم أيمن مع شهادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لها بالجنة، فقال:
رجل مع رجل وامرأة، وصدق الأزواج في ادعاء الحجرة، ولم يجعل
الحجرة صدقة فأوصت فاطمة وصية مؤكدة أن يدفنها علي ليلا حتى لا
يصلي عليها أبو بكر (1).
وأبو بكر قال: أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم (2)، فإن صدق
فلا يصح له التقدم على علي بن أبي طالب - عليه السلام -، وأن كذب فلا
يصلح للإمامة، ولا يحمل هذا على التواضع لجعله شيئا موجبا لفسخ
الإمامة، وحاملا له عليه.

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 280 - 281، وقد تقدمت تخريجاته.
(2) الإمامة والسياسة ج 1 ص 22، كنز العمال ج 5 ص 588 ح 14046 و ح 1405، تاريخ الطبري
ج 3 ص 210، نهج الحق ص 264، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 169.
ومعنى كلامه هنا أنه يرى نفسه غير صالح للخلافة وذلك لقوله: أقيلوني فلست بخيركم،
وقد اعترف في ضمن كلمته هذه بأحقية علي - عليه السلام - منه بالخلافة؟!! ومن رأى نفسه
كذلك لا يجوز له أن يقبل الخلافة ولا أن يعهد بها إلى غيره!
ولذلك يتعجب منه أمير المؤمنين - عليه السلام - إذ يقول في خطبته الشقيقة: فيا عجبا!
بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها!
وقال في هذا المعنى مهيار الديلمي:
حملوها يوم السقيفة أوزارا * تخف الجبال وهي ثقال
ثم جاءوا من بعدها يستقيلون *، وهيهات عثرة لا تقال
انظر: ديوان مهيار الديلمي ج 3 ص 16، ورواها أيضا ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 1
ص 168.
481

وأبو بكر قال: إن لي شيطانا يعتريني، فإذا زغت فقوموني (1). ومن
يعتريه الشيطان فلا يصلح للإمامة!!
وأبو بكر قال في حقه عمر: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، ووقى الله
المسلمين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (2)، فتبين أن بيعته كانت خطا
على غير الصواب، وأن مثلها مما يجب المقاتلة عليها.
وأبو بكر لم يوله رسول الله - صلى الله عليه وآله - عملا في زمانه قط
إلا سورة براءة، وحين ما خرج أمر الله تعالى رسوله بعزله وأعطاها
عليا (4).
وأبو بكر لم يكن عالما بالأحكام الشرعية، حتى قطع يسار سارق،
وأحرق بالنار الفجأة السلمي التيمي (5)، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم -: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) (6).
ولما سئل عن الكلالة لم يعرف ما يقول فيها فقال: أقول برأيي فإن
كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن الشيطان.
وسألته جدة عن ميراثها، فقال: لا أجد لك في كتاب الله شيئا ولا في

(1) نفس المصدر السابق.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) انظر: الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 144، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 96.
(4) تقدمت تخريجاته.
(5) راجع: الإمامة والسياسة ج 1 ص 14.
(6) شرح السنة للبغوي ج 12 ص 198، مجمع الزوائد ج 6 ص 251، كشف الأستار ج 2 ص 211 ح 1538.
482

سنة محمد، ارجعي حتى أسأل فأخبره المغيرة بن شعبة أن النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم - أعطاها السدس وكان يستفتي الصحابة في كثير من
الأحكام.
وأبو بكر لم يكر على خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة، ولا
في تزويج امرأته ليلة قتله من غير عدة (1).
وأبو بكر بعث إلى بيت أمير المؤمنين - عليه السلام - لما امتنع من
البيعة فأضرم فيه النار (2) وفيه فاطمة - عليها السلام - وجماعة من بني
هاشم وغيرهم فأنكروا عليه.
وأبو بكر لما صعد المنبر جاء الحسن والحسن وجماعة من بني
هاشم وغيرهم وأنكروا عليه وقال له الحسن والحسين - عليها السلام -:
هذا مقام جدنا ولست أهلا له (3).
وأبو بكر لما حضرته الوفاة، قال: يا ليتني تركت بيت فاطمة لم
أكشفه، وليتني كنت سألت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: هل
للأنصار في هذا الأمر حق؟
وقال: ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت على يد أحد الرجلين، وكان
هو الأمير وأنا الوزير (4).

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) الإمامة والسياسة ج 1 ص 191، نهج الحق ص 27، وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
ج 2 ص 56: فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت، فخرج إليه الزبير بالسيف، وخرجت فاطمة
- عليها السلام - تبكي وتصيح، فنهنهت من الناس إلخ وروى ذلك عن أبي بكر الجوهري.
(3) نهج الحق: ص 272، أسد الغابة، ج 2 ص 14، الصواعق المحرقة ص 175، ط المحمدية وص 105 ط الميمنية بمصر.
(4) الإمامة والسياسة: ج 1 ص 14، مروج الذهب ج 2 ص 301 - 302، نهج الحق ص 5 26، فقد
ذكر المؤرخون أن أبا بكر ندم على أشياء فعلها وتمنى فعل أشياء تركها وممن ذكر ذلك، ابن
قتيبة في الإمامة والسياسة ص 24: وذكر ذلك في مرضه دخول جماعة عليه منهم عبد
الرحمن وقال له: ولا أراك تأسى على شئ من الدنيا فاتك، قال أجل: والله ما آسى إلا على
ثلاث فعلتهن ليتني تركتهن، وثلاث تركتهن ليتني فعلتهن، وثلاث ليتني تركت بيت
علي وإن كان أعلن علي الحرب، وليتني يوم سقيفة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد
الرجلين: أبي عبيدة أو عمر، فكان هو الأمير، وكنت أنا الوزير، وليتني حين أتيت بالفجاءة
السلمي أسيرا أني قتلته ذبيحا أو أطلقته نجيحا، ولم أكن أحرقته بالنار، وأما اللاتي تركتهن
وليتني كنت فعلتهن، ليتني حين آتيت بالأشعث بن قيس أسيرا أني قتلته ولم أستحيه، فإني
سمعت منه وأراه لا يرى غيا ولا شرا إلا أعان عليه، وليتني حين بعثت خالد بن الوليد إلى الشام،
أني كنت بعثت عمر بن الخطاب إلى العراق.. الخ.
483

وأبو بكر عندكم أنه خالف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
في الاستخلاف، لأنه استخلف عمر بن الخطاب ولم يكن النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم - ولاه قط عملا إلا غزوة خيبر فرجع منهزما، وولاه
الصدقات فشا العباس فعزله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأنكر
الصحابة على أبي بكر تولية عمر حتى قال طلحة: وليت عمر فظا غليظا.
وأما عمر، فإنه أتي إليه بامرأة زنت وهي حامل فأمر برجمها، فقال
علي - عليه السلام -: إن كان لك عليها سبيل فليس لك على حملها من
سبيل، فأمسك وقال: لولا علي لهلك عمر (1).
وعمر شك في موت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ما
مات محمد ولا يموت حتى تلا عليه أبو بكر الآية: (إنك ميت وإنهم
ميتون) (2) فقال: صدقت، وقال: كأني لم أسمعها (3).

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) سورة الزمر: الآية 3.
(3) تاريخ الخميس ج 2 ص 167، صحيح البخاري ج 6 ص 17، وقد تقدم الحديث مع
تخريجاته.
484

وجاءوا إلى عمر بأمرة مجنونة قد زنت فأمر برجمها، فقال له علي
- عليه السلام - القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق، فأمسك، فقال: لولا
علي لهلك عمر (1).
وقال في خطبة له: من غالي في مهر امرأته جعلته في بيت مال
المسلمين، فقالت له امرأة: تمنعا ما أحل الله لنا حيث يقول: (وآتيتم
إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) (2)
فقال: كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت (3).
وكان يعطي حفصة وعائشة كل واحدة منهما مائتي ألف درهم،
وأخذ مائتي ألف درهم من بيت المال فأنكر عليه المسلمون فقال: أخذته
على وجه القرض (4).
ومنع الحسن والحسين - عليهما السلام - إرثهما من رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم، ومنعهما الخمس (5).
وعمر قضي في الحد بسبعين قضية وفضل في العطاء والقسمة
ومنع المتعتين وقال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم - حلالتان وأنا محرمها، ومعاقب من فعلهما (6).

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) سورة النساء: الآية 20.
(3) الدر المنثور ج 2 ص 466، نهج الحق ص 278، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1
ص 182 و ج 12 ص 17.
(4) نهج الحق ص 279، وفيه عشرة آلاف.
(5) أحكام القرآن للجصاص ج 3 ص 61.
(6) نهج الحق: ص 281، الدر المنثور ج 2 ص 487، وقد تقدمت تخريجاته.
485

وخالف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبا بكر في النص
وعدمه، وجعل الخلافة في ستة نفر، ثم ناقض نفسه وجعلها في أربعة
نفر، ثم في الثلاثة، ثم في واحد، فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف
الاختيار بعد أن وصفه بالضعف والقصور، ثم قال: إن اجتمع علي وعثمان
فالقول ما قالا، وإن صاروا ثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمن بن
عوف، لعلمه أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر، وأن عبد الرحمن بن
عوف لا يدل بالأمر عن ابن أخته وهو عثمان، ثم أمر بضرب عنق من
تأخر عن البيعة ثلاثة أيام (1)
وعمر أيضا مزق الكتاب كتاب فاطمة - عليها السلام - وهو أنه لما
طالت المنازلة بين فاطمة وأبي بكر، رد عليها فدك والعوالي، وكتب لها
كتابا فخرجت والكتاب في يدها فلقيها عمر فسألها عن شأنها، فقصت
قصتها، فأخذ منها الكتاب وخرقة (2)، ودعت عليه فاطمة، فدخل، فدخل على أبي
بكر ولامه على ذلك، وأنفقا على منعها.
وأما عثمان بن عفان فجعل الولايات بين أقاربه، فاستعمل الوليد
أخاه لأمه على الكوفة، فشرب الخمر، وصلى بالناس وهو سكران (3).
فطرده أهل الكوفة، فظهر منه ما ظهر.
وأعطى الأموال العظيمة أزواج بناته الأربع، فأعطى كل واحد من
أزواجهن مائة ألف مثقال من الذهب من بيت مال المسلمين، وأعطى

(1) الإمامة والسياسة ج 1 ص 28 - 29، نهج الحق ص 285، تقدم الحديث مع تخريجاته.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديث ج 16 ص 274.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديث ج 3 ص 18، تاريخ الخميس ج 2 ص 255 و 259، الكامل
في التاريخ ج 3 ص 52، الإمامة والسياسة ج 1 ص 32، أسد الغابة ج 5 ص 90، نهج الحق ص 290.
486

مروان ألف ألف درهم من خمس إفريقية (1).
وعثمان حمى لنفسه عن المسلمين ومنعهم عنه (2)، ووقع منه أشياء
منكرة في حق الصحابة.
وضرب ابن مسعود (3) حتى مات وأحرق مصحفه وكان ابن
مسعود يطعن في عثمان ويكفره.
وضرب عمار بن ياسر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى صار به فتق (4).
واستحضر أبا ذر من الشام لهوي معاوية وضربه ونفاه إلى
الربذة (5)، مع أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقرب هؤلاء الثلاثة.
وعثمان أسقط القود - عن ابن عمر - لما قتل النوار بعد الإسلام.
وأراد أن يسقط حد الشراب عن الوليد بن عتبة الفاسق، فاستوفى
منه علي - عليه السلام - وخذلته الصحابة حتى قتل ولم يدفن إلا بعد ثلاثة
أيام ودفنوه في حش كوكب.

(1) تاريخ الخميس ج 1 ص 26، تاريخ الطبري ج 5 ص 49، تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 155.
المعارف لابن قتيبة ص 84، نهج الحق ص 293، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1
ص 198.
(2) نهج الحق ص 294، تاريخ الخميس ج 2 ص 262، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1
ص 199، تاريخ الخلفاء ص 164.
(3) نهج الحق ص 295، أسد الغابة ج 3 ص 259، تاريخ ابن كثير ج 7 ص 163، تاريخ الخميس
ج 2 ص 268، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 198، و ج 3 ص 40.
(4) تاريخ الخميس ج 2 ص 271، الإمامة والسياسة ج 1 ص 32، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ج 1 ص 238، نهج الحق ص 296.
(5) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 162، الكامل في التاريخ ج 3 ص 56، نهج الحق ص 298، أنساب
الأشراف ج 5 ص 52، مروج الذهب ج 2 ص 339.
487

وغاب عن المسلمين يوم بدر ويوم أحد، وعن بيعة الرضوان
وهو كان السبب في أن معاوية حارب عليا - عليه السلام - على
الخلافة، ثم آل الأمر إلى أن سب بنو أمية عليا - عليه السلام - على المنبر،
وسموا الحسن، وقتلوا الحسين، وشهروا أولاد النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - وذريته في البلاد يطاف بهم على المطايا (1)، فآل الأمر إلى الحجاج
حتى إنه قتل من آل محمد اثني عشر ألفا وبني كثيرا منهم في الحيطان وهم
أحياء، وكل السبب في هذا أنهم جعلوا الإمامة بالاختيار والإرادة، ولو
أنهم اتبعوا النص في ذلك ولم يخالف عمر بن الخطاب النبي -
صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله: " آتوني بدواة وبيضاء لأكتب لكم كتابا لن
تضلوا بعدي أبدا " (2)، لما حصل الخلاف وهذا الضلال.
قال يوحنا: يا علماء الدين هؤلاء الفرقة الذين يسمون الرافضة هذا
اعتقادهم الذي ذكرنا، وأنتم هذا اعتقادكم الذي قررناه، ودلائلهم هذه التي
سمعتموها، ودلائل هذه التي نقلتموها.
فبالله عليكم أي الفريقين أحق بالأمر إن كنتم تعلمون؟
فقالوا بلسان واحد: والله إن الرافضة على الحق، وإنهم المصدقون
على أقوالهم، لكن الأمر جرى على ما جرى فإنه لم يزل أصحاب الحق
مقهورين، واشهد علينا يا يوحنا إنا على موالاة آل محمد، ونتبرأ من
أعدائهم، إلا أنا نستدعي منك أن تكتم علينا أمرنا لأن الناس على دين
ملوكهم.
قال يوحنا: فقمت عنهم وأنا عارف بدليلي، واثق باعتقادي بيقين

(1) انظر: ينابيع المودة ب 61 ص 350، مقتل الحسين - عليه السلام - للمقرم.
(2) تقدمت تخريجاته.
488

فلله الحمد والمنة، ومن يهد الله فهو المهتد.
فسطرت هذه الرسالة لتكون هداية لمن طلب سبيل النجاة، فمن
نظر فيها بعين الانصاف أرشد إلى الصواب، وكان بذلك مأجورا، ومن
ختم على قلبه ولسانه فلا سبيل إلى هدايته كما قال الله تعالى: (إنك لا
تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) (1) فإن أكثر المتعصبين (
سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) (2).
اللهم إنا نحمدك على نعمك الجسام، ونصلي على محمد وآله
المطهرين من الآثام، مدي الأيام، على الدوام، إلى يوم القيامة.
إلى هنا ما وقفنا عليه من الكتاب المذكور، ولله سبحانه الحمد
والمنة (3).
.

(1) سورة القصص: الآية 56.
(2) سورة البقرة: الآية 6 - 7.
(3) الكشكول للبحراني: ج 2 ص 28
489

المناظرة الثالثة والستون
مناظرة الشيخ محمد باقر المازندراني مع رجل من العامة
يقول - رحمه الله -: حين أويت لحرارة الصيف إلى الفئ، في
مسجد من مساجد الري، رأيت واحدا من أهل سنة (1).
وكان من دهاة أهل السنة وجدته شابا عاقلا فطنا، ومتكلما كيسا
لسنا، فسلم علي، وجلس لدي وتكلمنا معا فصار معي مأنوسا،
بعد ما كان من الرفضة باعتقاد مأيوسا، حتى ما انفك مني لحظة، ولا غفل
عني نوما ولا يقظة، وكنت أنا معه كذلك، في كل المواقف والمساك.
وقلت له ذات يوم: أيها الشاب العاقل، والحبيب الفطن الكامل، أنت
طالبي وأنا مطلوبك، وحبيبي وأنا محبوبك، لا ينبغي أن تكون في مذهب
وأكون أنا في مذهب سواه، مع إنا من أولي الألباب بلا اشتباه، فلا بد أن
نتكلم في المذاهب بالإنصاف ولا نسلك سبيل التعصب وطريق
الاعتساف، حتى نرى بلا تعصب ونزاع، أن مذهب أينا أحق بالاتباع،
فيصير الوداد بيننا باطنيا ومعنويا، بعد ما كان ظاهريا ولفظيا.
فقبل وتبسم، وقال: ما شئت تكلم.
فقلت له: أخبرني عن رجل اتفق الفريقان على اتصافه بجميع
الصفات الكاملة، واستجماعه بتمام المحاسن الفاضلة، ما من نعوت
محمودة إلا وهو مجمعها، وما من شموس محمودة إلا وهو مطلعها، وما
من مناقب إلا وهو أبو عذرها، وما فضائل إلا وهو مجلي مضمارها

(1) قوله: سنة بفتح السين بلد معروف.
490

وابن بجدتها، ومن رجل اتفق فريق على اتصافه بالمحامد لكن لا بهذه
الدرجة العظمى والمرتبة العليا.
واتفق فريق آخر على كونه منبع الكفر والعصيان، ومجمع الشرك
والطغيان، أيهما أحق بكونه متبوعا في البين؟
قال: من وقع عليه الاتفاق من الفريقين.
قلت: إن كنت لا بد أن ترد زوجتك وبنتك المحبوبتين إلى بلدك
ودارك، ولا يمكنك الذهاب معهما لاضطرارك، والمفروض أن هذين
الرجلين المذكورين يريدان السفر إلى بلدك، وكل منهما يقبل أن
يوصلهما إلى مقامك ومقعدك فأنت أيهما تختار لذلك؟
قال: أختار من وقع إجماع الفريقين على محاسنة في جميع
المسالك.
قلت: أترضي أن تفوضهما إلى من وقع الاتفاق على محامده من
فريق وعلى مثالبه من آخر، وترفض من وقع الإجماع على فضائله من
الفريقين؟
قال: كلا وحاشا إلا أن أكون معدوم العقل والفطانة، ومسلوب
البصيرة في والكياسة.
قال: لأنه لو وقع الفساد من هذا الرجل الممدوح من الفريقين
بالنسبة إلى أهلي لم أكن أخجل عند نفسي ولا عند العقلاء ملوما، بل لم
أكن عند أحد مذموما، بخلاف ما لو فوضت أمرهما إلى من وقع اتفاق
فريق على مدحه وإجماع آخر على ذمه فإن وقع منه فساد بالنسبة إليها
ذمني العقلاء بل الجهلاء أشد الذم، ولاموني أتم الملام، وأكون عند نفسي
خجلا، وكلما دار ذلك في خلدي أكون متحسرا ومنفعلا.
491

قال: ومن شك في ذلك فهو ممن سلب عنه المشاعر والمدارك؟!
ثم قلت: إن كنت سلطانا وغرضك إعلاء الدين نظما وبرهانا
وإيصال المنافع إلى الغير وامتياز الشر من الخير، والفساد من الصلاح،
والنكاح من السفاح، والجائر من العادل، والعالم من الجاهل والرفيع من
الوضيع والفطيم من الرضيع والعابد من العاصي، والأذناب من النواصي،
والأداني من الأقاصي، والحمار من الفرس الشناصي (1)، والبيوت من
الشعر من الصياصي والعاتي من الخاشع، والطامع من القانع، أيمكن ذلك
بلا نزاع وجدال وتسلط وقهر وغلبة وقتال؟
قال: لا!
قلت: هل يحصل التسلط والقهر والغلبة وتفريق الصفوف، بدون
مد الرماح وإشهار السيوف وإطارة السهام الثواقب وتجهيز العساكر
والمقانب، وإجالة السبوح أو البعير، وتسديد الرأي والتدبير؟
قال: لا.
قلت: هل يحصل ذلك بلا قائد للفيالق وبدون رئيس راتق وفاتق،
وغطريف ذي كياسة، وبطريق عارف بقواعد الرئاسة، وأمير ذي سياسة،
وشجاع صاحب رأي متين، ومنظم لأمور المجاهدين؟
قال: لا.
قلت: فإذا كان لك ابن متصف بسداد الرأي والتدبير، وكان شجاعا
مقداما وصاحب فطانة وكياسة، وعارفا بقواعد السياسة، ومستحقا
للرئاسة، ومفرقا للكتائب، وممزقا للمقانب، ومفينا للأعداء والأبطال،

(1) شناص وشناصي: طويل شديد جواد.
492

ومجدلا للأقران والأمثال، وعالما بقواعد الحرب، وضوابط القتل
والضرب.
وكان ممن يبتغي مرضاتك ولا يتساهل في خدماتك، ويقول
بساستك ويعترف برئاستك، لا يقول إلا ما قلت، ولا يحكم إلا ما حكمت
ولا يسلك إلا سبيلك، ولا يرى إلا دليلك بل قد جربته في الغزوات،
ودريت أنه لا يخاف المهلكات ورأيته بذل لك الروح، وأظهر لك الظفر
والفتوح، وعلمت أنه صاحب العزم، وتيقنت أنه ثابت الجزم، وعاينت
استقرار سلطنتك من عضده واهتمامه، وشاهدت جلالتك من ساعده
ويده وصمصامه، هل تجعله أميرا لعسكرك، وأمينا لضبط أمرك؟
قال: لا شك في ذلك، بل أجعله صاحب اختيار رعيتي وأهلي
وأقاربي في كل المواقف والمسالك.
قلت: هل يمكن أن تدعه مهملا، وتجعله عن السلطنة عاطلا، إذا
ظهرت آثار موتك، وبلغ زمان فوتك، ولا تجعله نائبك وخليفتك ولا
تشيد أركان نيابته، وصرح خلافته، ما دام لك شعور، ولا تهوى أن تكون
السلطنة في سلالتك، ولا تشتهي أن تكون الرئاسة في أعقابك؟
قال: كلا وحاشا إلا أن أكون سفيها أو مجنونا!!
قال: بل أجعله نائبي ووصيي وخليفتي، والتزم من أهل مملكتي،
أن يصدقوا نيابته ويعترفوا برئاسته، ويقروا بعد وفاتي سلطته، بل في
حال حياتي لأني مأمون من مخالفته من جميع الوجوه وقاطع باستحقاقه
إياها وأظهر جلالته عند العباد وأبدي سلطنته، في البلاد، وأسعى في
إعلائه وارتفاعه ووجوب رئاسته وقبول اتباعه، من الأداني والأقاصي،
ومن الأذناب والنواصي، ومن المطيع والعاصي.
493

وأفوض إليه الكنوز والصياصي، لأنه قاتل الأعداء وأهل الشقاق،
ودمر الأشقياء وأصحاب النفاق واستأصل القبائل، وضيق على الأوغاد
والأراذل، وبذل جهده في إنجاح مأمولي، وإسعاف مسئولي، وأوقع نفسه
في المعارك، وصيرها معرضا للمهالك، واختار نفسي على ذاته، وآثر
حياتي على حياته، فإن لم أجعله وصيي ووليي وخليفتي وصفيي، لكنت
من أبخل الناس وأسفههم، وأجهل الخلق وأبلههم، وأرذل البرايا
وأسفلهم وأحط العباد وأكسلهم.
بل إن لم أفعل ذلك لكنت أجعل أهلي وأولادي معرضا للقتل
والسبي والاستيصال وأقاربي وعشائري موردا للإفناء والإعدام
والاختلال، وكنوزي عرضة للنهب، وقصوري منصة للهدم، لا سيما ابني
الذي بذل سعيه في إعانتي، واهتم في إعلاء درجتي ومرتبتي، وما قصر
في حمايتي، وما أهمل في كل ما فيه إرادتي، لأن أعقاب المقتولين،
وعشائر المستأصلين، ينتهزون الفرصة في الكمين حتى يطلبوا الثارات
والدخول، لما ارتكز في النفوس والعقول، من طلب ثار المقتول، ولو
بعد أزمنة طويلة وعهود متطاولة فيجعلوه عرضة للأسياف والرماح،
ويعضوه كالكلب النباح، في الصباح والرواح فيصير مضغة للأكل وفريسة
للمفترس الصائل.
قلت: فإذا كان لك خدام أجانب، ولهم عندك منازل ومراتب فإذا
حدث لك أمر من هجوم الأعداء، وتحتاج إلى المقاتلة في الهيجاء
وجهزت العساكر وأردت الجهاد، وأقبلت على الأعادي وأهل الفساد.
فإذا احتدمت الحرب، ووقعت صدمات الكسر والضرب، وظهرت
السيوف تعلو وترسب وتجيئ وتذهب، والرماح تتصعد وتتصوب،
494

والسهام تطير يمينا وشمالا وخلفا وقداما ورأوا العثير مثارا، والجواد
صاهلا، والعسكر صائلا، والبطل راجزا، والمضمار متزلزلا، والدماء
فائضة، والأبدان فيها خائضة، والرؤوس كالحباب، والدروع كالسحاب.
تراهم يفرون عن أعادي القتال ويجعلونك معرضا للقتل والنهب
والاستئصال ويسعون في نجاتهم حبا لحياتهم، وابنك الموصوف بين
الأبطال والصفوف، يغزو ويجعله مضربا للسيوف، ومعرضا للسهام
والحتوف، لا يخاف من الفوت ولا يبالي بالموت ويسعى في طرد الأعداء
عنك محصورا، حتى لا تصير مقتولا أو مأسورا، ولم يكن هذا العمل
ظهر منه في واقعة واحدة، بل في وقائع متعددة.
وفي كل هذه الوقائع أيضا فر سواه، ولم تكن ترى في الحرب أحدا
عداه، حتى استقام أمرك بسعيه، وقام لك عمود السلطنة بوعيه، وكنت في
مدة رئاستك، وأزمنة سياستك، من فرارهم في الهيجاء محروق السويدا،
ومن حينهم شديد الألم، وعظيم الكربة والغم.
فإذا اتفق موتك، وظهر فوتك مدوا أعناقهم نحو السلطنة وادعوا
الرئاسة، واستحقاق السياسة، وأمروا ابنك المقدام إلى متابعتهم حتى
يجعلوه من رعاياهم، وقالوا: نحن نشيد صرح السلطنة ونحفظ المملكة
ونجعل اسم السلطان مبسوطا ونراعي أولاده، أترى إن صرت حيا أنهم
صادقون في هذا القول والكلام، بعد ما ظهر منهم عدم الاهتمام، في حال
حياتك وعدم الرعاية في نجاتك، مع كون تنظيم الأمر في ذلك الوقت
أصعب وأشكل وفي هذا الزمان أسهل.
قال: لا أصدقهم في هذا القول، بل أقول بالتسوية بين هذا القول
والبول، لأنهم في زمان كانت الأعادي أقوياء ونحن أضعف من جميع
495

الوجوه، وكدت في أكثر الغزوات والوقائع أتوه، ما اهتموا في تشييد
صرح السلطنة، وتعمير قصر المملكة وتنظيم أمور العباد في الأمكنة
والأزمنة، وما راعوا ما يجب رعايته، وما حفظوا ما يلزم حمايته.
فإذا انتظمت الأمور، وعمرت البلاد والقصور، ومن الأعادي خلت
الأمكنة، وقام عمود السلطنة انتهزوا الفرصة ليصيروا ملوكا، ورام كل
واحد منهم أن لا يسمى صعلوكا، وذلك يدل على متابعتهم الأهواء وابتغاء
الرئاسة، وحبهم صوت النعلين واشتهائهم السياسة، وإلا لكان ظهر منهم
ما ظهر من ابني الباسل المقدام، وقت هجوم الأعداء اللئام، ولو ظفروا في
تلك الأيام، لما بقي لنا عين ولا أثر في الأشهر والأعوام، ولا يستقر أمر
السلطنة كما استقر بعد قمعهم، ولا تنتظم أمور الأبرار كما انتظم بعد
جمعهم، بل استقامة أمور الدين من الجماعة والجمع بمعونة هذا الهزبر
المدرع والكمي المقنع.
ثم قال: والله لا شك أن هذا بناء على فرضك يدل على متابعتهم
الأهواء، ومن أنكر ذلك معدود من المجانين والسفهاء!!
ثم قلت: أكان علي - عليه السلام - بين الفريقين مجمع المناقب؟
قال: كيف لا، وهو أسد الله الغالب.
قلت: أكان أبو بكر ممدوحا بين أهل السنة؟
قال: نعم.
قلت: أكان محمودا عند الشيعة؟
قال: لا.
قلت: أيكون الدين أعز من الزوجة والبنت أم لا؟
قال: الدين أعز.
496

قلت: فلم فوضت دينك إلى أبي بكر ورضيت أن تفوض أهلك إلى
من لا يكون ممدوح الفريقين؟ فأطرق إلى الأرض مليا.
ثم قلت: ألم يك أمير المؤمنين - عليه السلام - في غزوات
المشركين فعل ما فعل كما هو مشهور، وفي كتب الفريقين مسطور، وألم
يك أبو بكر وعمر فرا كما هو في الألسنة مذكور وفي التواريخ (1) مزبور؟
قال: نعم.
قلت: لم يسعيا في غزوات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مع
كونهما مبشرين بالنعيم إن صارا مقتولين ومعززين عند الله ورسوله إن كانا
حيين، وحيث لم يسعيا في ذلك الزمان، أوان ضعف الإسلام والأيمان،
وحين شوكة الشرك والكفر، بل فرا في كل الغزوات وما خجلا عن رسول
الكائنات، علم أن طلبهم الرئاسة وابتغائهم السياسة، كان لأجل الغرض،
بل في قلوبهم مرض، فأطرق أيضا إلى الأرض مليا.
ثم قلت: أنت ما رضيت بأن تترك الوصية لابنك وأهلك وأولادك
لئلا تخرج السلطنة عنهم، ولا يصيرون معرضا للقتل والنهب والأسر
والذلة، فكيف يرضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يموت ولا
ينصب عليا - عليه السلام - خليفته وقاضي دينه ومنجز وعده ولا يجعله
إمام العباد، وسلطان البلاد، مع علمه بغرائز العرب، وكثرة إفسادهم في
حالة الغضب.
حيث يقتلون القبائل، لطلبهم ثارا واحدا من الأراذل، ولا ينتهون

(1) المغازي للواقدي ج 1 ص 240، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - من تاريخ
دمشق لابن عساكر ج 1 ص 177 ح 242 و 243 و 247، الشذرات الذهبية لابن طولون
ص 52، كشف الغمة للأربلي ج 1 ص 188، بحار الأنوار ج 20 ص 101 ح 29.
497

عن ابتغائهم الذحول ولو كانوا في ضنك المحول (1)، وقد زوجه من فلذة
كبده ومهجة خلده فاطمة البتول - عليها السلام -، أيصدر ذلك من الظلوم
الجهول، فضلا عن الرسول سلطان أهل العدل والعقول، ضرورة أن ذلك
موجب لإراقة دمائهم واستئصالهم وسبب لاختلالهم وفساد
أحوالهم.
مع أن الله تعالى أوجب مودتهم وفرض محبتهم للخلق عجما وعربا
وقال: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (2) وأنزل في

(1) المحول: الضيق والشدة.
(2) سورة الشورى: الآية 23.
فقد روى الجمهور أن هذه الآية نزلت في قربى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهم:
علي وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام -.
راجع: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي ج 2 ص 130 ح 822 - 828، مناقب علي
ابن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي ص 307 ح 352، الصواعق المحرقة لابن حجر
الشافعي ص 101 و 135 ط الميمنية بمصر وص 168 و 225 ط المحمدية بمصر، كفاية
الطالب للكنجي الشافعي ص 91 ط الحيدرية وص 31 ط الغري، تفسير الكشاف للزمخشري
ج 3 ص 402 ط مصطفى محمد و ج 4 ص 220 ط بيروت، تفسير الفخر الرازي ج 27
ص 166 ط عبد الرحمن بمصر و ج 7 ص 405، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 106 ط
إسلامبول وص 123 ط الحيدرية و ج 1 ص 105 ط العرفان، إحقاق الحق للتستري ج 3
ص 2 - 22، فضائل الخمسة ج 1 ص 259، فرائد السمطين ج 1 ص 20 و ج 2 ص 13 ح 359،
الغدير للأميني ج 2 ص 306 - 311.
فوجوب محبتهم - عليهم السلام - مما لا إشكال فيه، وفي هذا المعنى يقول الشافعي:
يا أهل بيت رسول الله حبكم * فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الفضل أنكم * من لم يصل عليكم لا صلاة له
راجع: ينابيع المودة ص 354 ط الحيدرية وص 259 ط إسلامبول، نور الأبصار ص 105
ط السعيدية وص 103 ط العثمانية، الغدير للأميني ج 3 ص 173، وفي هذا المعنى أيضا قال
الفرزدق:
من معشر حبهم دين وبغضهم * كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
ديوان الفرزدق ج 2 ص 180 ط دار صادر بيروت.
498

حقهم آية التطهير (1)، فأطرق إلى الأرض مليا.
قلت له: أيها الشاب الكامل والحبيب الفطن العاقل إن الله تعالى نهى
عن أخذ التعصب والمراء، واتباع الأمهات والآباء.
أطلب منك الأنصاف والانحراف عن مسلك الاعتساف، أو ما قرع
سمعك أن من تعود أن يصدق من غير دليل فقد انسلخ عن الفطرة
الإنسانية؟
قال: والله ما قلت: حق وما نطقت: صدق، يطابقه النقل ويحكم به
بديهة العقل.
فقلت له: إن العقل شاهد صدق ودليل حق، والله تعالى أنعمك به
خذ ما يقتضيه ودع متابعة أبيك وأبيه لئلا تصير مستحقا للعقاب، في يوم
الحساب، لو كان متابعة الأباء حقا والعقل معزولا لما كان أحد معذبا
ومسئولا، مع علمك بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - ما كان مسبوقا
بالكفر، وما عبد الأوثان والأصنام، وما شرب الخمر، وما أكل الميتة في
الأيام، وما ذبح على النصب والأزلام، دون أبي بكر.
وما أخرج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بابه عن المسجد (2)

(1) وهي قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)
الأحزاب: 33، وقد تقدمت تخريجات مصادر نزولها فيهم - عليهم السلام -.
(2) وهو حديث سد الأبواب إلا باب علي - عليه السلام - وقد تقدم مع تخريجاته.
499

وأدخله تحت العباء وأثبت له منزلة هارون من موسى (1).
وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم خيبر: لأعطين الراية غدا
رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله (2)، وأرسله لتبليغ سورة
براءة (3).
وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: أنا مدينة العلم وعلي بابها (4)
وزوج فاطمة - عليها السلام - منه، وسماه أمير المؤمنين (5) ويعسوب
المؤمنين (6)، وأبا تراب (7).

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) تقدمت تخريجاته.
(3) تقدمت تخريجاته.
(5) ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر ج 2 ص 260 ح 785، مجمع الزوائد ج 9
ص 102، لسان الميزان ج 2 ص 414، حياة الحيوان للدميري ج 2 ص 441، فرائد السمطين
ج 1 ص 145 ح 109.
(6) حلية الأولياء ج 1 ص 163، بحار الأنوار ج 38 ص 2 ح 1، المناقب لابن شهرآشوب ج 3
ص 48، ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر ج 2 ص 259 ح 783.
واليعسوب هو: السيد العظيم المالك لأمور الناس، وقد قال أمير المؤمنين - عليه السلام -
في نهج البلاغة:
أنا يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الفجار. وقال ابن أبي الحديد في شرحه لهذه
الكلمة - في شرح النهج ج 19 ص 224 -: هذه كلمة قالها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
بلفظين مختلفين، تارة: أنت يعسوب الدين، وتارة: أنت يعسوب المؤمنين، والكل راجع إلى
معنى واحد، كأنه جعله رئيس المؤمنين وسيدهم، أو جعل الدين يتبعه، ويقفو أثره، حيث
سلك كما يتبع النحل اليعسوب، وهذا نحو قوله - صلى الله عليه وآله - وأدر الحق معه كيف دار.
(7) فقد ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد ج 9 ص 100: عن أبي الطفيل قال: جاء النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم - وعلي - عليه السلام - نائم في التراب فقال: إن أحق أسمائك أبو تراب، أنت
أبو تراب.
وأيضا ذكروا أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وجد عليا أمير المؤمنين وعمارا
نائمين في دقعاء من التراب فأيقظهما وحرك عليا فقال: قم يا أبا تراب، ألا أخبرك بأشقى الناس
رجلين: أحيمر ثمود عاقر الناقة، والذي يضربك على هذه (يعني قرنه) فيخضب هذه منها (يعني لحيته).
راجع: مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 263 وص 264، المستدرك للحاكم ج 3 ص 14،
تاريخ الطبري ج 2 ص 261، السيرة النبوية ج 2 ص 236، تاريخ ابن كثير ج 3 ص 247،
مجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 136، الجامع الكبير للسيوطي ج 6 ص 399، عمدة القاري
ج 7 ص 630.
500

وقال له: أنت سيد العرب (1).
وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: علي خير البشر فمن أبى فقد
كفر (2).
وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: لضربة علي يوم الخندق أفضل
من عبادة الثقلين (3)، وجعله أحد الثقلين.
وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: إنه مع الحق والحق معه كيفما
دار، وجعل له خمس ذي القربى وما كان لأبي بكر شئ منها، ونص عليه
يوم الغدير ودعا له وقال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه وانصر من
نصره واخذل من خذله (4)، ونزلت فيه آية التطهير (5)، وظهر للمباهلة (6).

(1) المستدرك للحاكم ج 3 ص 124، حلية الأولياء ج 5 ص 38، تاريخ بغداد ج 11 ص 89،
لسان الميزان ج 6 ص 39.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) راجع: كنز العمال ج 11 ص 623 ح 33035، المستدرك للحاكم ج 3 ص 32، تاريخ بغداد
ج 13 ص 19، الفردوس ج 3 ص 455 ح 5406، إرشاد القلوب للديلمي ج 2 ص 219.
(4) تقدمت تخريجاته.
(5) تقدمت تخريجات نزولها فيهم - عليهم السلام -.
(6) وذلك بنص الآية الشريفة (قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا
وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) سورة آل عمران: الآية 61، وقد تقدمت
تخريجات نزولها فيهم - عليهم السلام -.
501

وأكل الطائر المشوي (1)، وسقط النجم في داره (2)، وحرمت
الصدقة عليه وعلى أهل بيته (3)، وفرضت مودته ومودة أهل بيته (4)، وكان
ولداهما سيدي شباب أهل الجنة (5)، وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم
- له: أنت قسيم الجنة والنار (6).
وقال: لحمك لحمي (7) الخ، وما أمر أسامة عليه (8)، وعلمه ألف باب

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) العمدة لابن البطريق ص 78 ح 95، المناقب لابن المغازلي ص 266 ح 313، ميزان الاعتدال
ج 2 ص 45، لسان الميزان ج 2 ص 449، إرشاد القلوب ج 2 ص 299، أمالي الصدوق ج 4
ص 453، بحار الأنوار ج 35 ص 276 ح 5.
وجاء في ينابيع المودة للقندوزي ص 239 في المناقب السبعين في فضائل أهل البيت
- عليهم السلام - ح 58.
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كنا جلوسا بمكة مع طائفة من شبان قريش وفينا رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ انقض نجم، فقال - عليه السلام -: من انقض هذا النجم في
منزله فهو وصيي من بعدي، فقاموا ونظروا وقد انقض في منزل علي - عليه السلام - فقالوا قد
ضللت بعلي فنزلت (والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى) رواه ابن المغازلي.
(3) راجع: مجمع الزوائد ج 3 ص 90، مسند أبي داود الطيالسي ص 325 ح 2482، صح مسلم
ج 2 ص 751 ح 161، مسند أحمد ج 1 ص 200، تاريخ بغداد ج 1 ص 418، أسد الغابة ج 2
ص 176، السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 29، فرائد السمطين ج 1 ص 35.
(4) بنص الآية الشريفة قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى).
(5) تقدمت تخريجاته.
(6) راجع: لسان الميزان ج 3 ص 247، مناقب ابن المغازلي ص 67 ح 97، الفردوس ج 3 ص 64
ح 4180، أمالي الشيخ الصدوق ج 1 ص 81 ح 1، بحار الأنوار ج 38 ص 95 ح 11.
(7) راجع: لسان الميزان ج 2 ص 415، مجمع الزوائد ج 9 ص 111، ينابيع المودة ص 50 الباب
السادس، نظم درر السمطين ص 79، فرائد السمطين ج 1 ص 150 ح 113 وص 332 ح 257.
(8) لم يؤمر أسامة عليه ولا غيره، سئل الحسن البصري عن علي - عليه السلام - فقال: ما أقول
فيمن جمع الخصال الأربع، ائتمانه على براءة، وما قال له الرسول في غزاة تبوك، فلو كان غير
النبوة شئ يفوته لاستثناه، وقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: الثقلان كتاب الله وعترتي،
وإنه لم يؤمر عليه أمير قط وقد أمرت الأمراء على غيره. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4
ص 95 - 96 عن الواقدي، الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 144.
502

من العلم ينفتح له من كل باب ألف باب (1)، وآخاه وواساه بنفسه ونام على
فراشه ليفديه بنفسه (2)، وتصدق بخاتمه ونزلت فيه الآية (3)،
وتصدق بأربعة دراهم في الليل والنهار سرا وعلانية (4)، وتصدق على
المسكين والأسير واليتيم (5)، ونزل فيه (ومن عنده علم
الكتاب) (6) وأكل مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - طعام الجنة.
وكان حامل لواء الحمد (7) دون أبي بكر، وكتب في العرش

(1) نظم درر السمطين ص 113، ينابيع المودة ص 77، فرائد السمطين ج 1 ص 101 ح 70.
(2) وقد نزل فيه - عليه السلام - قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله)
سورة البقرة: الآية 207، وقد تقدمت الآية مع تخريجات مصادر نزولها فيه - عليه السلام - من
مصادر العامة.
(3) وهي قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون) سورة المائدة: الآية 55، وقد تقدمت تخريجات مصادر
نزولها فيه - عليه السلام - من مصادر العامة.
(4) ونزل فيه قوله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم
أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون) سورة البقرة: الآية 274، وقد
تقدمت تخريجات مصادر نزولها فيه - عليه السلام - من مصادر العامة.
(5) ونزل فيه قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)
سورة الإنسان: الآية 8، وقد تقدمت تخريجات مصادر نزولها فيه - عليه السلام - من مصادر
العامة.
(6) سورة الرعد: الآية 43، وقد تقدمت الآية مع تخريجات مصادر نزولها فيه - عليه السلام -.
(7) راجع: ينابيع المودة ص 81، كنز العمال ج 13 ص 153 ح 36487، أمالي الشيخ الطوسي ج 1
ص 264، بحار الأنوار ج 7 ص 233 ح 4، فرائد السمطين ج 1 ص 87 ح 57، وجاء في المناقب
للخوارزمي ص 358 ح 369: عن علي بن أبي طالب - عليه السلام - عن النبي - صلى الله عليه
وآله - قال: أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة وأنت معي ومعنا لواء الحمد وهو بيدك
تسير به أمامي تسبق به الأولين والآخرين.
503

اسمه (1) - عليه السلام - وكان أستاذا لجبرئيل، وصعد على منكب خير
الأنام لكسر الأصنام (2)، وكان نفس الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -
بآية أنفسنا (3)، ورد الشمس (4)، وأخبر بالغيب (5).

(1) راجع: لسان الميزان ج 3 ص 238، ينابيع المودة ص 238 في المناقب السبعين من فضائل
أهل البيت ح 52، ذخائر العقبى ص 69، نظم درر السمطين ص 120، مجمع الزوائد ج 9
ص 121.
(2) راجع: مسند أحمد ج 1 ص 84، خصائص أمير المؤمنين - عليه السلام - للنسائي ص 113
ح 119، المستدرك للحاكم ج 2 ص 366، تاريخ بغداد ج 13 ص 302، تذكرة الخواص للسبط
ابن الجوزي ص 27، ذخائر العقبى ص 85، ينابيع المودة ص 139.
(3) وهي قوله تعالى: (قل تعالوا ندع أبنائنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) سورة
آل عمران: الآية 61.
وقد تقدمت الآية مع تخريج مصادر نزولها فيهم - عليهم السلام - من مصادر العامة.
(4) تقدمت تخريجاته.
(5) فقد أخبر أمير المؤمنين - عليه السلام - بالأمور الغيبية في عدة مواطن، رواها المحدثون
والمؤرخون.
فمنها: أنه قال في خطبة: (سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله لا تسألونني عن فئة تضل مائة،
وتهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقها وسائقها، فقام إليه رجل فقال: أخبرني بما في رأسي ولحيتي
من طاقة شعر، فقال له علي - عليه السلام -: والله لقد حدثني خليلي أن على كل طاقة شعر من
رأسك ملكا يلعنك، وإن على كل طاقة شعر من لحيتك شيطانا يغويك، وإن في بيتك سخلا
يقتل ابن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وكان ابنه قاتل الحسين - عليه السلام - يومئذ
طفلا يحبو، وهو سنان بن أنس النخعي.
راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 488، رواه عن كتاب الغارات لابن
هلال الثقفي، نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي ص 241.
ومنها: إخباره - عليه السلام - بمقتل ولده الحسين - عليه السلام - لما اجتاز بأرض كربلا: (
بكى وقال: ههنا مناخ ركابهم وههنا موضع رحالهم وها هنا مهراق دمائهم فتية من آل محمد
- صلى الله عليه وآله وسلم - يقتلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء والأرض).
راجع: ينابيع المودة ص 216، نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي ص 243،
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 3 ص 169 - 171، دلائل النبوة لابن نعيم ص 509،
ذخائر العقبى ص 97، نور الأبصار ص 117.
ومنها: إخباره - عليه السلام - بقتل (ذي الثدية) من الخوارج، وعدم عبور الخو ارج
النهر، بعد أن قيل له: قد عبروا.
راجع: مروج الذهب ج 2 ص 405 وص 406، الكامل لابن الأثير ج 3 ص 174
وص 175، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 272 و 277، نهج الحق وكشف
الصدق للعلامة الحلي ص 242.
504

وكان نوره موجودا قبل إيجاد آدم (1) - عليه السلام -، واستشفع آدم
باسمه - صلى الله عليه وآله وسلم - (2).
وذكرت له الشواهد والدلائل، فلما لقيني في الصباح، قال: رأيت
في الرؤيا كأنك كسوتني شملة بيضاء.
قلت: الحمد لله أهل العظمة والكبرياء، جزم في اعتقاده، ورسخ
الحق في فؤاده،... هذه خلاصة ما جرى بيني وبينه وأقر الله تعالى عيني
وعينه. (3)

(1) راجع: الفردوس ج 2 ص 191 ح 2952، نظم درر السمطين ص 79، ينابيع المودة ص 10،
فرائد السمطين ج 1 ص 41 ح 6، فضائل الصحابة لأحمد ج 2 ص 662 ح 1130، بحار الأنوار
ج 15 ص 24 ح 42.
وقال المرحوم الحجة الشيخ حسن التاروتي - رحمة الله عليه - في هذا المعنى:
ومهللين مكبرين وآدم * من مائه والطين لن يتركبا
(2) وقد روى القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 97 عن ابن المغازلي بسنده عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال: فتاب عليه قال: سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين
فتاب عليه وغفر له.
(3) أنوار الرشاد للأمة في معرفة الأئمة: للشيخ محمد باقر المازندراني ص 46 1 بتصرف.
505

مناظرة أبي ذر (أبوان) المسيحي الكاثوليكي مع رجل تركماني
في السجن
هذا العظيم يعتنق الدين الإسلامي الحنيف وبالخصوص مذهب
الشيعة مذهب أهل البيت - عليهم السلام - وذلك عام 1353 ه‍.
ولد أبوان عام 1330 ه‍ في المملكة الهستانية من أبوين مسيحيين
وبعد بضع سنين دخل إحدى المدارس هناك ودام فيها ثلاث سنين، تاقت
نفسه يوما لمغادرة بلاده فقصد روسيا، وفيها واصل دراسته ستة أعوام
أخرى فلم يشاهد ثمة في المدرسة إلا المعارضة ضد الدين، وهذا ما
أوجب تركه المدرسة فعزم على مغادرة روسيا فغادرها، فقبض عليه في
الحدود الروسية الإيرانية، وسجن تسعة عشر يوما، فاتفق أن وجد في
السجن مسلمين أحدهما شيعي فارسي، والآخر سني تركماني.
فجرى حديث إسلامي بينهم فاطلع على شئ من معتقدات الشيعة والسنة
حول خلافة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - فمال
من حينه إلى مذهب الشيعة.
ولنستمع إليه كيف يحدثنا بما جرى له في أيام سجنه مع الرجلين
المسلمين:
قال: لما كنت سجينا في روسيا مع المسلمين المذكورين، رأيت
506

المسلم السني يتحامل على المسلم الشيعي وينسبه إلى المروق من الدين،
عجبت من ذلك وقلت في نفسي: كيف ينسبه إلى ذلك وهما سيان في
العقيدة. سألت الشيعي عن سبب ذلك.
قال: إننا معاشر الإمامية نقول: بخلافة رجل - هو صهر نبينا وابن
عمه - من بعد النبي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - بلا فصل وهو الإمام
علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
وهذا ينفي خلافته كذلك، وهو السبب في تحامله علي ونسبته لي
إلى المروق من الدين.
قال: فتوجهت إلى السني، وقلت له: إننا في السجن الآن ثمانية
رجال ولو فرضنا أن لك بنتا واحدة فخطبها منك كل منا كنت تزوج أينا
منها؟
أجاب: كنت أزوج أعلمكم وأكرمكم وعدد خصالا حميدة.
فأجبته: فقد أثبت بنفسك أفضلية علي - عليه السلام - على غيره من
الصحابة، إذ لم يزوج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ابنته فاطمة - عليها
السلام - إلا إلى علي (1) - عليه السلام -، مع تقدم غيره من الصحابة عليه في
خطبتها (2) منه، فلم يرد علي جوابا، انتهى.

(1) وجاء في ينابيع المودة ص 183 عن بريدة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن الله تعالى
أمرني أن أزوج فاطمة من علي - عليه السلام -، وفي فرائد السمطين ج 1 ص 90 ح 59، عن
أنس بن مالك قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فغشيه الوحي فلما أفاق قال لي:
يا أنس أتدري ما جاءني به جبرئيل - عليه السلام - من عند صاحب العرش غز وجل؟ قال:
فقلت: بأبي وأمي ما جاءك به جبرئيل؟ قال: إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي - عليه
السلام - الخ.
(2) راجع: خصائص أمير المؤمنين - عليه السلام - للنسائي: ص 114 - ح 120، المناقب لابن
المغازلي ص 347 ح 399، فرائد السمطين للجويني ج 1 - ص 88 ح 68، ذخائر العقبى
للطبري 27، وللحديث مصادر أخرى كثيرة.
507

فمن ذلك الوقت عاهد ربه في نفسه، إن خرج من السجن في يوم
أضمره في نفسه أن يدخل إيران ويعتنق الدين الإسلامي وبالخصوص
مذهب الشيعة مذهب أهل البيت - عليهم السلام -، وما إن حل ذلك اليوم
وإذا بالأمر يصدر بإطلاق سراحه بلا سؤال ولا تحقيق.
فدخل إيران وأم خراسان مشهد الإمام الرضا - عليه السلام - وبقي
شهرين أو ثلاثة أشهر أظهر فيها رغبته في اعتناق الدين الإسلامي رسميا
وبالخصوص مذهب الشيعة مذهب أهل البيت - عليهم السلام - وفاء
بعهده، فدخل على العلامة الحجة المغفور له الشيخ مرتضى الآشتياني
واعتنق الإسلام على يديه وبالخصوص المذهب الجعفري وسماه أبا ذر
كنية الصحابي الجليل جندب بن جنادة أبي ذر الغفاري - رضوان الله عليه -
الذي ثبت حين انقلب الناس أجمع مع رفاقه الثلاثة سلمان مقداد وعمار.
وأبو ذر (أبوان) يجيد اللغة الفارسية ويتكلم باللغتين الهستانية
والروسية كما أنه يقرأ ويكتب فيهما (1).

(1) ماذا في التاريخ للقبيسي: ج 25 ص 373، (كتاب) لماذا اختار هؤلاء العظماء مذهب أهل
البيت - عليهم السلام - للقبيسي ص 18 - 19.
508

مناظرة الأنطاكي (1) مع عالم شافعي من الشام
يقول الشيخ الأنطاكي:
بعد اشتهار أمرنا بالتشيع أتاني أحد أعاظم علماء الشافعية
المشهورين بالعلم والفضيلة في مدينة حلب الشهباء (2)، وسألني بكل

(1) هو: سماحة العلامة الكبير المجاهد الشيخ محمد مرعي الأمين الأنطاكي مولدا، والحلبي
نشأة، والأزهري تخرجا، والشافعي مذهبا، والشيعي خاتمة، من أبرز علماء سوريا، ولد
سنة 1314 ه‍ في قرية من القرى التابعة إلى أنطاكية، درس في قريته قرابة ثلاث سنوات ثم
انتقل إلى أنطاكية للدراسة، وبقي فيها قرابة سبع سنوات، ثم انتقل إلى الجامع الأزهر مع أخيه،
ودرس عند العلامة الأكبر الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر ورئيس المجلس
الإسلامي الأعلى، والعلامة الكبير الشيخ محمد أبو طه المهنى، والعلامة الكبير الشيخ رحيم
وغيرهم من مشيخة الأزهر، حصل على شهادات راقية من جامع الأزهر، وعاد إلى بلاده
وامتهن إمامة الجماعة والجمعة والتدريس والإفتاء والخطابة نحو خمسة عشر عاما.
وأخيرا أخذ بمذهب أهل البيت - عليهم السلام - لما تبين له مذهب الحق، وذلك بسبب
قرائته لكتاب المراجعات للعلامة الحجة السيد شرف الدين الموسوي، ولوقوع الكثير من
المناظرات بينه وبين علماء الشيعة الإمامية، وقد تشيع على يده ويد أخيه الشيخ أحمد الكثير
من أبناء العامة من سوريا ولبنان وتركية وغيرها.
قد استفدنا هذه الترجمة من كتابه (لماذا اخترت مذهب الشيعة).
(2) حلب: (وتعرف بالشهباء أيضا) مدينة مشهورة بالشام، واسعة كثيرة الخيرات، طيبة الهواء،
وهي قصبة جند قنسرين. قيل: سميت حلب، لأن إبراهيم - عليه السلام - كان نازلا بها يحلب
غنمه في الجمعات، ويتصدق به فتقول الفقراء: حلب. وهو قول بعيد، وقيل: كان حلب
وحمص وبرذعة إخوة من عمليق، فبنى كل واحد منهم مدينة سميت به. ومشرب أهل حلب
من صهاريج في بيوتها، تمتلئ بماء المطر، على بابها نهر يعرف بقويق، يمد في الشتاء
وينصب في الصيف، وبجانب منها قلعة كبيرة محكمة، بها جامع وكنيستان، وميدان ودور
كثيرة، وبها مقام لإبراهيم الخليل - عليه السلام - ومن حلب إلى قنسرين يوم، وإلى المعرة
يومان، وإلى منبج وبالس يومان.
انظر: مراصد الاطلاع ج 1 ص 417، سفينة البحار ج 1 ص 296.
509

لطف لماذا أخذتم بمذهب الشيعة وتركتم مذهبكم وما هو السبب الداعي
لكم واعتمادكم عليه وما هو دليلكم على أحقية علي - عليه السلام - من أبي
بكر؟
فناظرته كثيرا، وقد وقعت المناظرة فيما بيننا مرارا وأخيرا اقتنع
الرجل.
ومن جملة المناظرة أنه سألني عن بيان الأحقية في أمر الخلافة هل
أبو بكر أحق أم علي؟
فأجبته إن هذا شئ واضح جدا بأن الخلافة الحقة لأمير المؤمنين
علي - عليه السلام - فور وفاة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم من
بعده إلى الحسن المجتبى - عليه السلام - ثم إلى الحسين الشهيد بكربلاء
- عليه السلام - ثم إلى علي بن الحسين زين العابدين - عليه السلا م -، ثم
إلى محمد بن علي الباقر - عليهما السلام -، ثم إلى جعفر بن محمد الصادق
- عليهما السلام -، ثم إلى موسى بن جعفر الكاظم - عليهما السلام - ثم إلى
علي بن موسى الرضا - عليهما السلام -، ثم إلى محمد بن علي الجواد
- عليهما السلام - ثم إلى علي بن محمد الهادي - عليهما السلام -، ثم إلى
الحسن بن علي العسكري - عليهما السلام -، ثم إلى الحجة بن الحسن
المهدي الإمام الغائب المنتظر - عجل الله فرجه - (1).

(1) تقدمت تخريجات النصوص على أسماءهم وعددهم من قبل النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - من كتب العامة فراجع.
510

ودليل الشيعة على ذلك الكتاب الكريم، والسنة الثابتة عن رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - من الطرفين، وكتبهم مليئة من الحجج
والبراهين الرصينة، ويثبتون مدعاهم من كتبكم ومؤلفاتكم، إلا أنكم
أعرضتم عن الرجوع إلى مؤلفات الشيعة والوقوف على ما فيها، وهذا نوع
من التعصب الأعمى؟
أما الكتاب:
فقوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (1).
وأن هذه الآية نزلت في ولاية علي بلا ريب، بإجماع الشيعة وأكثر
علماء السنة في كتب التفسير كالطبري (2)، والرازي (3)، وابن كثير (4)،
وغيرهم (5)، فإنهم قالوا بنزولها في علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
ومما لا يخفى على ذي مسكة بأن الله جل وعلا هو الذي يرسل
الرسل إلى الأمم لا يتوقف أمرهم على إرضاء الناس وكذلك أمر الوصاية
تكون من الله لا بالشورى ولا بأهل الحل والعقد ولا بالانتخاب أبدا، لأن
الوصاية ركن من أركان الدين والله جل وعلا لا يدع ركنا من أركان الدين
إلى الأمة تتجاذبه أهواؤهم كل يجر إلى قرصه.
بل لا بد من أن يكون القائم بأمر الله بعده وفاة النبي - صلى الله عليه
وآله وسلم - منصوصا عليه من الله لا ينقص عن الرسل ولا يزيد، معصوما

(1) سورة المائدة: الآية 55.
(2) ج 6 ص 288 وص 289.
(3) ج 12 ص 26 وص 20 ط - البهية بمصر و ج 3 ص 431 ط - الدار العامرة بمصر.
(4) ج 2 ص 71 ط دار إحياء الكتب.
(5) تقدمت تخريجات ذلك فيما سبق فراجع.
511

عن الخطأ.
فالآية نص صريح في ولاية علي (1)، وقد أجمعت الشيعة وأكثر
المفسرين من السنة أيضا أن الذي أعطى الزكاة حال الركوع هو علي بلا
خلاف، فتثبت ولايته - عليه السلام - أي خلافته بعد رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - بهذه الآية.
فأورد علي حجة يدعي بها تدعيم خلافة أبي بكر.
فقال: إن أبا بكر أحق بالخلافة، إذ أنه أنفق أموالا كثيرة قدمها إلى
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وزوجه ابنته، وقام إماما في
الجماعة أيام مرض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم.
فأجبته قائلا: أما إنفاق أمواله، دعوى تحتاج إلى دليل يثبتها، ونحن
لا نعترف بهذا الانفاق، ولا نقر به، ثم نقول: من أين اكتسب هذه الأموال
الطائلة، ومن الذي أمره به، ولنا أن نسألك: هل الانفاق كان في مكة أم
المدينة؟ (2)

(يقول المقداد السيوري في شرح الباب الحادي عشر ص 96 -: إن المراد ب‍ (الذين
آمنوا) في الآية هو بعض المؤمنين لوجهين.
الوجه الأول: أنه لولا ذلك، لكان كل واحد وليا لنفسه - وهو باطل -
الوجه الثاني: أنه وصفهم بوصف غير حاصل لكلهم، وهو إيتاء الزكاة حال الركوع، إذا
الجملة هنا حالية.
(فعلي هذا) أن المراد بذلك البعض هو علي بن أبي طالب - عليه السلام - خاصة للنقل
الصحيح، واتفاق أكثر المفسرين على أنه كان يصلي، فسأله سائل فأعطاه خاتمه راكعا، وإذا
كان - عليه السلام - أولى بالتصرف فينا، تعين أن يكون هو الإمام لأنا لا نعني بالإمام إلا ذلك.
(2) والجدير بالذكر هنا ما رواه ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج ج 13 ص 272، عن
شيخه ردا على هذا الادعاء قال:
قال شيخنا أبو جعفر - رحمه الله -: أخبرونا على أي نوائب الإسلام أنفق هذا المال، وفي أي
وجه وضعه؟ فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت، وينسي ذكره، وأنتم فلم
تقفوا على شئ أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها لا يبلغ ثمنها في ذلك العصر مائة
درهم، وكيف يدعى له الإنفاق الجليل، وقد باع من رسول الله - صلى الله عليه وآله - بعيرين
عند خروجه إلى يثرب، وأخذ منه الثمن في مثل تلك الحال، وروى ذلك جميع المحدثين
، وقد رويتم أيضا أنه كان حيث كان بالمدينة غنيا موسرا، ورويتم عن عائشة أنها قالت: هاجر
أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم، وقلتم: إن الله تعالى أنزل فيه: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم
والسعة أن يؤتوا أولي القربى) النور / 22، قلتم: هي في أبي بكر ومسطح بن أثاثة، فأين الفقر
الذي زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباءة؟ ورويتم أن الله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا
بالعباءة وأن النبي - صلى الله عليه وآله - رآهم ليلة الإسراء، فسأل جبرئيل عنهم، فقال: هؤلاء
ملائكة تأسوا بأبي بكر بن أبي قحافة صديقك في الأرض، فإنه سينفق عليك ماله، حتى يخلل
عباءه في عنقه، وأنتم أيضا رويتم أن الله تعالى لما أنزل آية النجوى، فقال: (يا أيها الذين آمنوا
إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم) المجادلة / 12، لم يعمل
بها إلا علي بن أبي طالب وحده، مع إقراركم بفقره وقلة ذات يده، وأبو بكر في الحال التي ذكرنا
من السعة أمسك عن مناجاته، فعاتب الله المؤمنين في ذلك، فقال: (أأشفقتم أن تقدموا بين
يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم)، فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه،
وهو إمساكهم عن تقديم الصدقة، فكيف سخت نفسه بإنفاق أربعين ألفا، وأمسك عن مناجاة
الرسول، وإنما كان يحتاج فيها إلى إخراج درهمين! الخ.
512

فإن قلت: في مكة فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يجهز جيشا
ولم يبن مسجدا، ومن يسلم من القوم يهاجره إلى الحبشة والنبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - وجميع بني هاشم لا تجوز عليهم الصدقة، ثم إن
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غني بمال خديجة كما يروون.
وإن قلت: بالمدينة فأبو بكر هاجر ولم يملك من المال سوى
(600) درهم فترك لعياله شيئا وحمل معه ما بقي ونزل على الأنصار،
فكان هو وكل من يهاجر عالة على الأنصار، ثم إن أبا بكر لم يكن من
التجار بل كان تارة بزازا يبيع يوم اجتماع الناس أمتعته يحملها على كتفه،
وتارة معلم الأولاد وأخرى نجارا يصلح لمن يحتاج بابا أو مثله.
513

وأما تزويجه ابنته لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فهذا لا
يلزم منه تولي أمور المسلمين به.
وأما صلاته في الجماعة إن صحت - فلا يلزم منها تولي الإمامة
الكبري والخلافة العظمى فصلاة الجماعة غير الخلافة.
وقد ورد أن الصحابة كان يؤم بعضهم بعضا حضرا وسفرا، فلو
كانت هذه تثبت دعواكم لصح أن يكون منهم حقيق بالخلافة، ولو صحت
لادعاها يوم السقيفة لنفسه لكنها لم تكن آنذاك بل وجدت أيام الطاغية
معاوية لما صار الحديث متبحرا.
ثم حديث الجماعة جاء عن ابنته عائشة فقط، ولا تنسى لما سمع
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تكبيرة الصلاة قال: من يؤم الجماعة؟
فقالوا: أبو بكر.
قال: احملوني، فحملوه بأبي وأمي معصبا مدثرا يتهادى بين
رجلين علي والفضل حتى دخل المسجد، فعزل أبا بكر وأم الجماعة
بنفسه، ولم يدع أبا بكر يكمل الصلاة (1)، فلو كانت صلاة أبي بكر بإذن
النبي - صلى الله عليه وآله وسمل، أو برضاه فلماذا خرج بنفسه - صلى الله
عليه وآله وسلم - وهو مريض وأم القوم؟
والعجب كل العجب من إخواننا أنهم يقيمون الحجة بهذه الأشياء
التي لا تنهض بالدليل، ويتناسون ما ورد في علي - عليه السلام - من الأدلة
التي لا يمكن عدها، كحديث يوم الانذار إذ جمع رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - عشيرته الأقربين بأمر من الله: (وأنذر عشيرتك

(1) تقدمت تخريجاته.
514

الأقربين) (1)، فجمعهم الرسو - صلى الله عليه وآله وسمل - وكانوا آنذاك
أربعين رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون، ووضع لهم طعاما يكفي الواحد منهم فأكلوا جميعهم حتى شبعوا وبعد أن فرغوا.
قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: يا بني هاشم من منكم
يؤازرني على أمري هذا فلم يجبه أحد.
فقال علي - عليه السلام.، أنا يا رسول الله أؤازرك، قالها ثلاثا، وفي
كل مرة يجيب علي أنا يا رسول الله، فأخذ برقبته وقال: أنت وصيي
وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا (2).

(1) سورة الشعراء: الآية 214.
(2) هذا الحديث قد بلغ حد التواتر وقد أخرجه بهذه الألفاظ وقريب منها كثير من الحفاظ
والعلماء.
راجع: تاريخ الطبري ج 2 ص 319 - 321، الكامل في التاريخ لابن الأثير الشافعي ج 2
ص 62 وص 63، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 13 ص 210 وص 244، السيرة الحلبية
للحلبي الشافعي ج 1 ص 311، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 5 ص 41 وص 42،
شواهد التنزيل للحسكاني ج 1 ص 311، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 5 ص 41 وص 42،
شواهد التنزيل للحسكاني ج 1 ص 371 ح 514 و 580، كنز العمال ج 15 ص 115 ح 334.
ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج 1 ص 85 ح 139
و 140 و 141 وص 99 ح 137 و 138 و 139، التفسير المنير لمعالم التنزيل للجاوي ج 2
ص 118، تفسير الخازن لعلاء الدين الشافعي ج 3 ص 371 و 390، حياة محمد لمحمد حسين
هيكل ص 104 الطبعة الأولى سنة 1354 ه‍، وفي الطبعة الثانية وما بعدها من طبعات الكتاب
حذف من الحديث قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: وأن يكون أخي، ووصي وخليفتي
فيكم "؟!! وأكبر شاهد مراجعة الطبعة الأولى والطبعات الأخرى، ومراجعة جريدة السياسة
المصرية لمحمد حسين هيكل ملحق عدد - 2751 - بتاريخ 12 ذي القعدة 1350 ه‍ ص 5
وص 6 من ملحق عدد - 2785 - ذكر الحديث بتمامه، تفسير الطبري ج 19 ص 121، ولكن
المؤلف أو الناشر حرف آخر الحديث، فحذف قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: " إن هذا أخي
ووصيي وخليفتي فيكم " وذكر بدله " إن هذا أخي وكذا وكذا "؟!! مع أنه ذكر الحديث بتمامه في
تاريخه ج 2 ص 319 ط دار المعارف بمصر، الغدير ج 2 ص 278 - 284.
515

وحديث يوم الغدير المشهور (1). وحديث الثقلين (2) وحديث
المنزلة (3) وحديث السفينة (4) وحديث باب حطة (5)، وحديث أنا مدينة
العلم وعلي بابها (6) وحديث المؤاخاة (7) وحديث تبليغ سورة براءة (8).

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) تقدمت تخريجاته.
(4) وهو قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: (ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من
ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)، وقد تقدم مع تخريج مصادره.
(5) وهو قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: " إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني
إسرائيل من دخله غفر له "، وهو من الأحاديث المتواترة المشهورة.
راجع: كنز العمال ج 11 ص 603 ح 32910، الفردوس بمأثور الخطاب ج 3 ص 64
ح 3179، أسني المطالب ص 201 ح 895، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 378، مجمع
الزوائد للهيثمي الشافعي ج 9 ص 168، المعجم الصغير للطبراني ج 2 ص 22، ينابيع المودة
للقندوزي الحنفي ص 298، رشفة الصادي لأبي بكر الحضرمي ص 79، أرجح المطالب لعبيد
الله الحنفي ص 33، الصواعق المحرقة ص 91 ط - الميمنية وص 150 ط - المحمدية بمصر،
فرائد السمطين ج 2 ص 242 ح 516 و 519.
(6) تقدمت تخريجاته.
(7) حديث المؤاخاة بين الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وعلي - عليه السلام.
راجع: صحيح الترمذي ج 5 ص 300 ح 3804، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 194
الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 21، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص 20 -
24، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي ص 37 ح 57، المناقب للخوارزمي
الحنفي ص 39 ح 7، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 170، السيرة النبوي ة لابن هشام ج 2
ص 108، أسد الغابة لابن الأثير ج 2 ص 221 و ج 3 ص 137 و ج 4 ص 29، ذخائر العقبى
ص 66، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 18 ص 24 و ج 6 ص 167 مقتل الحسين
للخوارزمي الحنفي ج 1 ص 48، مجمع الزوائد ج 9 ص 112 الإصابة لابن حجر ج 2
ص 507، الطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 ص 22، الرياض النضرة ج 2 ص 220، جامع
الأصول لابن الأثير ج 9 ص 468، إحقاق الحق للتستري ج 4 ص 171 و ج 6 ص 462، الغدير
للأميني ج 3 ص 113.
(8) تقدمت تخريجاته.
516

وسد الأبواب (1)، وقلع باب خيبر (2)، وقتل عمر بن ود (3)، وزوج بضعة
الرسول فاطمة الزهراء - عليها السلام -، إلى كثير وكثير من ذلك النمط مما
لو أردنا جمعها لملأنا المجلدات الضخمة.
أفكل هذه الروايات المتفق عليها لا تثبت خلافة علي - عليه السلام -
وتلك الروايات المختلف فيها المفتعلة تثبت لأبي بكر تولي منصب
الرسالة وهذا شئ عجاب؟!
ثم قال لي: أنتم لا تعترفون بخلافة أبي بكر.
قلت: هذا لا نزاع فيه عندنا، ولكن ننازع في الأحقية والأولوية، هل
كان أبو بكر أحق بها أم المؤمنين؟ هاهنا النزاع، ولنا عندئذ نظر في
هذا الأمر العظيم الذي جر على الأمة بلاء وفرق الأمة ابتداء يوم السقيفة
إلى فرقتين بل إلى أربع فرق، فالأنصار انقسموا على أنفسهم قسمين،
قسم يريد عليا - عليه السلام - وذلك بعد خراب البصرة، والآخر استسلم
وسلم الأمر إلى أبي بكر، وكذلك المهاجرون منهم من يريد أبا بكر
والآخر عليا، ثم إلى فرق تبلغ الثالثة والسبعين كل فرقة تحمل على من
سواها من الفرق حملة شعواء لا هوادة فيها، فجر الأمة الإسلامية إلى نزاع
دائم عنيف فكفر بعضهم بعضا ولا زالت الأمة تخمر في بحور من الدماء
من ذلك اليوم المشؤوم إلى يوم الناس هذا، ثم إلى يوم يأتي الله بالفرج.
فالشيعة بر متهم يحكمون بما ثبت عندهم من الأدلة قرآنا وسنة
وتاريخا ويحتجون من كتب خصومهم السنة فضلا عن كتبهم بالخلافة

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) تقدمت تخريجاته.
517

لعلي ولبنيه الأئمة الأحد عشر - عليهم السلام - الذين تمسكت الشيعة
بإمامتهم.
إلى غير ذلك من الأدلة أوردتها على فضيلة فسمع واقتنع
وخرج من عندنا وهو في ريب من مذهبه، وشاكرا لنا على ما قدمناه له من
الأدلة، وقد طلب مني بعض كتب الشيعة ومؤلفاتهم فأعطيته جملة منها
وفيها من كتب الإمام الحجة المجاهد السيد عبد الحسين شرف الدين (1).

(1) كتاب لماذا اخترت مذهب الشيعة للأنطاكي ص 319.
518

المناظرة السادسة والستون
مناظرة الشيخ الأناطكي مع رجل من أهل حمص (1)
دخل علي يوما في حلب نفران من أهل حمص أحدهما شيعي
مستبصر، والآخر سني مستهتر، وكانت بينهما مناقشة أولوية علي - عليه
السلام - بالخلافة.
فقال لي الشيعي: يقول صاحبي هذا وهو من أهل السنة ليس
هناك نص على علي - عليه السلام، بأنه الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم
- بلا فصل؟!
فسألني السني: هل هناك نص صريح؟
فأجبته: نعم، بل نصوص صريحة في كتبكم ومصادركم، وأحلته
على تاريخ الطبري، وابن الأثير والتفاسير أجمع وذكرت له تفسير
آية (وأنذر عشيرتك الأقربين (2)، من تاريخ الكامل لابن الأثير (3)
والحديث بطوله، وقد رواه ابن الأثير بزيادة ألفاظ على ما رواه الطبري (4)
إلى أن انتهيت إلى قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم: أيكم يا بني عبد

(1) حمص: بلد مشهور كبير مسور، في طرفه القبلي قلعة حصينة على تل عال كبير، بين دمشق
وحلب، في نصف الطريق، يسمى باسم من أحدثه وهو: حمص بن مكنف العمليقي، انظر:
مراصد الاطلاع ج 1 ص 425.
(2) سورة الشعراء: الآية 214.
(3) ج 2 ص 62 وص 63.
(4) في تاريخه ج 2 ص 319 - 321
519

المطلب يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي من
بعدي، وأجابه علي لما لم يجبه أحد منهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم -: هذا أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له
وأطيعوا (1).
ثم قلت له: أيها المحترم أتطلب نصا أصرح من هذا النص؟
فقال: إذا ما صنعوا؟!.
ففهمت من قوله: ما صنعوا، يشير إلى اجتماعهم في السقيفة
وتنازعهم فيمن يختلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أمهاجرون
أم أنصار.
فقلت له: هذا ما وقع؟
فقال: عجبا عجبا وانتهى الأمر.
وقال قولا في هذا المقام ولا أريد ذكره، ثم استبصر وذهب حامدا
شاكرا (2).

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) لماذا اخترت مذهب الشيعة للأنطاكي ص 327.
520

المناظرة السابعة والستون
مناظرة الشيخ الأنطاكي مع أحد مشايخ الأزهر
في يوم السابع من شهر ذي القعدة الحرام عام 1371 ه‍ قبيل الظهر
أخبرني أحد وجهاء حلب وهو الأستاذ شعبان أبو رسول بأن أحد مشايخ
الأزهر (1)، وهو علامة كبير، ومؤلف شهير يقصد زيارتكم
فمتى يأتكم؟
فقلت: يا أهلا وسهلا، فليشرف في هذا اليوم فجائني بعد العصر،
وبعد أن أخذ بنا المجلس، ورحبت به.
سألني قائلا: إنني قصدتك للاستفسار عن السبب الذي دعاكم على
الأخذ بالمذهب الشيعي وترككم المذهب السني الشافعي؟
فأجبته بكل لطف: الدواعي كثيرة جدا، منها: رأيت اختلاف
المذاهب الأربعة فيما بينهم، ومنها، ومنها، وقد أخذت أعدد له الأسباب

(1) الأزهر: مسجد في القاهرة، بناء 972 - جوهر الصقلي بأمر الخليفة الفاطمي المعز لدين الله،
سمي بالأزهر، إشارة إلى " الزهراء "، وهو لقب فاطمة - عليها السلام - يقصد أهل التقي لا سيما
طلاب العلم من كل صوب، يسمون " المجاورين " لسكناهم بجواره، أما الأساتذة
" المدرسون " فيسمون أنفسهم " خدمة العلم " وغايتهم نقل ما ورثوه من السلف في أمانة
وإخلاص وبرامج العلوم في الأزهر تتناول النحو واللغة والبيان والمنطق والأدب والعلوم
الدينية من علم التوحيد والفقه والحديث والتصوف وغير ذلك، أصبح - 1936 - جامعة تضم
كليات الشريعة وأصول الدين واللغة العربية أضيفت إليها عدة كليات بعد - 1961 - المنجد -
قسم الأعلام - ص 38 - 39.
521

التي دعتني إلى الأخذ بالمذهب الشيعي.
ثم قلت: وأهمها أمر الخلافة العظمى التي هي السبب الأعظم في
وقوع الخلاف بين المسلمين إذ لا يعقل أن الرسول الأعظم - صلى الله عليه
وآله وسلم - يدع أمته بلا وصي عليهم يقوم بأمر الشريعة التي جاء بها عن
الله كسائر الأنبياء، إذ ما من نبي إلا وله وصي أو أوصياء معصومون يقومون
بشريعته وقد ثبت عندي أن الحق مع الشيعة إذ معتقدهم أن النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - قد أوصى لعلي - عليه السلام - قبل وفاته بل من بدء
الدعوة وبعد أولاده الأئمة الأحد عشر، وأنهم يأخذون أحكام دينهم
عنهم، وهم أئمة معصومون في معتقدهم بأدلة خاصة بهم.
لهذا وأمثاله أخذت بهذا المذهب الشريف، ثم أنا لم نعثر على دليل
يوجب علينا الأخذ بأحد المذاهب الأربعة بل ولا مرجح أيضا غير أننا
عثرنا على أدلة كثيرة توجب الأخذ بمذهب أهل البيت - عليهم السلام -
وتقود المسلم إلى سواء السبيل.
ثم عرضت له كثيرا من الأدلة القطعية الصريحة بوجوب الأخذ
بمذهب أهل البيت - عليهم السلام - وكله سمع يصغي إلي، إلى أن قلت: يا
فضيلة الشيخ أنت من العلماء الأفاضل فهل وجدت في كتاب الله وسنة
الرسول دليلا ترشدك إلى الأخذ بأحد المذاهب الأربعة، فأجابني: كلا.
ثم قلت له: ألا تعرف أن المذاهب الأربعة كل واحد منهم يخالف
الآخر في كثير من المسائل ولم يقيموا دليلا قويا وبرهانا جليا واضحا
على أنه الحق دون غيره وإنما يذكر الملتزم بأحد المذاهب أدلة لا قوام لها
إذ ليس لها معضد من كتاب أو سنة فهي: (كشجرة خبيثة اجتثت من فوق
522

الأرض ما لها من قرار) (1).
مثلا لو سألت الحنفي: لم اخترت مذهب الحنفية دون غيره، ولم
اخترت أبا حنيفة إماما لنفسك بعد ألف عام من موته، ولم تختر المالكي أو
الشافعي، أو أحمد بن حنبل مع بعض مزاياهم التي يذكرونها فلم يجبك
بجواب تطمئن إليه النفس.
والسر في ذلك أن كل واحد منهم لم يكن نبي أو وصي نبي وما كان
يوحى إليهم، ولم يكونوا ملهمين بل أنهم كسائر من ينتسب إلى العلم
وأمثالهم كثير وكثير من العلماء.
ثم أنهم لم يكونوا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
وأكثرهم أو كلهم لم يدركوا النبي ولا أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - فاتخاذ مذهب واحد منهم وجعله مذهبا لنفسه، والالتزام به
وبآرائه التي يمكن فيه الخطأ والسهو.... وكل واحد منهم ذوي آراء متشتتة
يخالف بعضها بعضا لا يقره العقل ولا البرهان ولا تصدقه الفطرة السليمة
ولا الكتاب ولا السنة ولا حجة لأحد على الله في يوم الحساب، بل لله
الحجة البالغة عليها حتى أنه لو سأل الله من التزم بأحد المذاهب الأربعة في
يوم القيامة بأي دليل أخذت بمذهبك هذا لم يكن له جواب سوى قوله:
(إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) (2).
أو يقول: (إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) (3)، فبالله
عليك يا فضيلة الشيخ هل يكون لملتزمي أحد المذاهب الأربعة يوم

(1) سورة إبراهيم: الآية 26.
(2) سورة الزخرف: الآية 23.
(3) سورة الأحزاب: الآية 67.
523

القيامة أمام الله الواحد القهار جوابا.
فأطرق رأسه مليا ثم رفع رأسه وقال: لا.
فقلت: هل يكون أحد معذورا بذاك الجواب؟
أجابني: كلا.
ثم قلت: وأما نحن المتمسكين بولاء العترة الطاهرة آل بيت
الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - العاملين بالفقه الجعفري فنقول في
يوم الحساب عند وقوفنا أمام الله العزيز الجبار: ربنا إنك أمرتنا بذلك
لأنك قلت في كتابك: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا) (1).
وقال نبيك محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - باتفاق المسلمين
(أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا
وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) (2). وقال - صلى الله عليه وآله
وسلم -: (مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف
عنها غرق) (3).
ولا ريب لأحد أن الإمام الصادق جعفر بن محمد - عليهما السلام -
من العترة الطاهرة وعلمه علم أبيه وعلم أبيه علم جده رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - وعلم رسول الله من علم الله (4)، هذا مضافا إلى أن الإمام

(1) سورة الحشر: الآية 7.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) تقدمت تخريجاته.
(4) وفي ذلك قال الشاعر: إذا شئت أن تبغي لنفسك مذهبا * ينجيك يوم الحشر من لهب النار
فدع عنك قول الشافعي ومالك * وأحمد والمروي عن كعب أحبار
ووال أناسا قولهم وحديثهم * روى جدنا عن جبرئيل عن الباري
524

الصادق قد اتفق جميع المسلمين على صدقه ووثاقته، وهناك طائفة كبيرة
من المسلمين من يقول بعصمته وإمامته وأنه الوصي السادس لرسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - وإنه حجة الله على البرية، وأن الإمام الصادق
- عليه السلام - كان يروي عن آبائه الطيبين الطاهرين ولا يفتي برأيه ولا
يقول بما يستحسنه فحديثه حديث أبيه وجده، إذ أنهم منابع العلم
والحكمة، ومعادن الوحي والتنزيل.
فمذهب الإمام الصادق - عليه السلام - هو مذهب أبيه وجده
المأخوذ عن الوحي لا يحيد عنه قيد شعرة، لا بالاجتهاد كغيره ممن
اجتهد فالأخذ بمذهب جعفر بن محمد - عليهما السلام - ومذهب أجداده
آخذ بالصواب ومتمسك بالكتاب والسنة.
وبعد أن أوردت عليه ما سمعت من الأدلة أكبرني وفخم مقامي
وشكرني فأجبته: أن الشيعة لا يطعنون على الصحابة جميعا، بل إن الشيعة
يعطون لكل منهم حقهم لأن فيهم العدل وغير العدل، وفيهم العالم
والجاهل، وفيهم الأخيار والأشرار، وهكذا ألا ترى ما أحدثوه يوم
السقيفة تركوا نبيهم مسجى على فراشه وأخذوا يتراكضون على الخلافة
كل يراها لنفسه كأنها سلعة ينالها من سبق إليها مع ما رأوا بأعينهم،
وسمعوا بآذانهم من النصوص الثابتة الصارخة عن الرسول - صلى الله عليه
وآله وسلم - من يوم الذي أعلن الدعوة إلى اليوم الذي احتضر فيه.
مع أن القيام بتجهيز الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أهم من أمر
الخلافة على فرض أن النبي لم يوص فكان الواجب عليهم أن يقوموا
بشأن الرسول وبعد الفراغ يعزون آله وأنفسهم، لو كانوا ذوي إنصاف فأين
525

العدالة والوجدان، وأين مكارم الأخلاق، وأين الصدق والمحبة؟!
ومما يزيد في النفوس حزازة تهجمهم على بيت بضعته فاطمة
الزهراء - عليها السلام - نحوا من خمسين رجلا، وجمعهم الحطب
ليحرقوا الدار على من فيها حتى قال قائل لعمر: إن فيها الحسن والحسين
وفاطمة، قال: وإن. ذكر هذا الحادث كثير من مؤرخي السنة (1) فضلا عن
إجماع الشيعة.
وقد علم البر والفاجر وجميع من كتب في التأريخ أن النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - قال: (فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن
أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله ومن أغضب الله أكبه الله
على منخريه في النار (2).
ووقائع الصحابة الدالة على عدم القول بعدالة الجميع كثيرة، راجع
البخاري ومسلم في ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في
حديث الحوض تعلم صحة ما ذهب إليه الشيعة ومن نحا نحوهم من

(1) راجع: الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 12، تاريخ الطبري ج 3 ص 202، شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 56 و ج 6 ص 48، الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 57،
تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 156، تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 105، أعلام النساء لكحالة ج 3
ص 205، الأموال لأبي عبيد ص 131، تاريخ ابن شحنة بهامش الكامل ج 7 ص 164، مروج
الذهب ج 1 ص 404، بحار الأنوار ج 28 ص 328 وص 239، الغدير للأميني ج 7 ص 77،
عبد الله بن سبأ ج 1 ص 108.
وقد نظم هذا المعنى شاعر النيل حافظ إبراهيم بقوله:
وقولة لعلي قالها عمر * أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرقت دارك لا أبقي عليك بها * إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها!!
ما كان غير أبي حفص بقائلها * أمام فارس عدنان وحاميها!!
انظر: ديوان حافظ إبراهيم ج 1 ص 82، تحت عنوان: (عمر وعلي).
(2) تقدمت تخريجاته.
526

السنة، فأي ذنب لهم إذا قالوا بعدم عدالة كثير منهم؟ وهم الذين دلوا على
أنفسهم، وحرب الجمل وصفين أكبر دليل على إثبات مدعاهم، والقرآن
الكريم كشف عن سوء أحوال كثير منهم وكفانا سورة براءة دليلا، ونحن
ما أتينا شيئا إذا؟
ألا ترى إلى ما أحدثه الطاغية معاوية، وعمرو بن العاص، ومروان
وزياد، وابن زياد، ومغيرة بن شعبة، وعمر بن سعد، الذي أبوه من العشرة
المبشرة في الجنة على ما زعموا، وطلحة، والزبير، اللذان بايعا عليا
ونقضا البيعة وحاربا إمامهما مع عائشة في البصرة، وأحدثوا فيها من
الجرائم التي لا يأتي بها ذو مروءة.
فليت شعري هل كان وجود النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بينهم
موجبا لنفاق كثير منهم، ثم بعد لحوقه بالرفيق الأعلى بأبي وأمي صار
كلهم عدولا.
ونحن لم نسمع قط بأن نبيا من الأنبياء أتى قومه وصاروا كلهم
عدولا، بل الأمر في ذلك بالعكس، والكتاب والسنة بينتنا على ذلك، فماذا
أنت قائل أيها الأخ المحترم؟
فأجابني: حقا لقد أتيت بما فيه المقنع فجزاك الله عني خيرا.
ثم قلت: جاء في كتاب الجوهرة في العقائد للشيخ إبراهيم اللوقاني
المالكي:
فتابع الصالح ممن سلفا * وجانب البدعة ممن خلفا
قال: نعم هكذا موجود.
قلت: أرشدني من هم السلف الذين يجب علينا اتباعهم؟ ومن
الخلف الذين يجب علينا مخالفتهم؟
قال: السلف هم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.
527

قلت: إن الصحابة عارض بعضهم بعضا، وجرى ما جرى بينهم مما
لا يخفى على مثلكم.
فتوقف برهة ثم قال: هم أصحاب القرون الثلاثة.
قلت له: إذا أنت في جوابك هذا قضيت على المذاهب الأربعة لأنهم
خارجون عن القرون الثلاثة.
فتوقف أيضا، ثم قال: ماذا أنت تريد بهذا السؤال؟
قلت: الأمر ظاهر وهو يجب علينا أن نتبع الذين نص عليهم رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن يكونوا قدوة للأمة.
قال: ومن هم؟
قلت: علي بن أبي طالب وبنيه الحسن والحسين وأبناء الحسين
التسعة - عليهم السلام - آخرهم المهدي - عجل الله فرجه الشريف -.
قال: والخلفاء الثلاثة؟
قلت: الخلاف واقع فيهم فالأمة لم تجتمع عليهم وحدث منهم
أعمال توجه عليهم النقد.
قال عجبا: وهذا من رأي الشيعة؟
قلت: وإن يكن، هل وقع في الصحابة ما ذكرت لكم أم لا.
قال: بلى.
قلت: إذا يجب علينا أن نأخذ بمن اتفقت عليهم الأمة وندع
المختلف فيهم، فالشيعة وهم طائفة كبيرة من الإسلام يكثر عددهم عن
مائة مليون وهم منتشرون في الدنيا كما تقدم وفيهم العلماء الأعاظم
والفقهاء الأكابر والمحدثين الأفاضل.... فلم يعترفوا بخلافة الثلاثة.
ولكن أهل السنة والجماعة اعترفوا بخلافة أمير المؤمنين - عليه
السلام -، فخلافة أمير المؤمنين مجمع عليه عند المسلمين عامة وخلافة
528

الثلاثة ليس بمجمع عليه.
والخلافة بعد أمير المؤمنين علي إلى ولده الحسن ثم إلى الحسين
ثم إلى ولده الأئمة التسعة خاتمهم قائمهم - عجل الله تعالى فرجه
الشريف - والنصوص في ذلك من كتبكم بكثرة وجاءت الروايات من
طرقكم بفضل أهل البيت وتقدمهم على غيرهم وأهمها العصمة.
قال: نحن لا نقول بالعصمة.
قلت: أعلم ذلك، ولكن الدليل قائم عند الشيعة على ما قلت
وسأقدم لك كتابا يقنعك ويرضيك.
قال: إذا ثبت لدي عصمتهم انحل الأشكال بيني وبينك، فقدمت له
الكتاب، وهو كتاب (الألفين) لأحد أعاظم مجتهدي الشيعة الإمام الأعظم
(العلامة الحلي ره) (1)، فأخذ الكتاب يتصفحه في مجلسه فأكبره وأعجبه
هذا السفر العظيم.
ثم قال لي: هل تعلم أن فضيلتك أدخلت علي الريب في المذاهب
الأربعة وملت إلى مذهب أهل البيت - عليهم السلام - لكن أريد منك
تزويدي ببعض كتب الشيعة.
فقدمت جملة منها له، ومنها كتب الإمام شرف الدين ودلائل
الصدق، والغدير وأمثالها وأرشدته إلى سائر كتب الشيعة.
ثم ودعني وقام شاكرا حامدا قاصدا إلى محله وهو متزلزل العقيدة
وذهب، ثم بعد أيام أتتني رسالة شكر منه من الأزهر الشريف وأخبرني
فيها بأنه قد اعتنق بمذهب أهل البيت - عليهم السلام - وصار شيعيا،
ووعدني أن يكتب رسالة في أحقية مذهب الشيعة (2).

(1) وهو: الحسن بن يوسف المطهر الحلي، المتوفى سنة 637 ه‍ وقد تقدمت ترجمته.
(2) لماذا اخترت مذهب الشيعة للأنطاكي ص 332.
529

المناظرة الثامنة والستون
مناظرة الشيخ مغنية (1) مع الشيخ عبد العزيز بن صالح
يقول الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله تعالى:
ذهبت إلى المحكمة الشرعية بالمدينة المنورة، وفيها جميع قضاتها
وهم خمسة، وعليهم رئيس، كما هي الحال بمكة المكرمة، دخلت غرفة

(1) هو: العلامة الجليل والمفكر الإسلامي الكبير الشيخ محمد جواد بن الشيخ محمود مغنية،
من أبرز علماء لبنان، ولد سنة 1322 ه‍ في قرية طير دبا من جبل عامل، درس على شيوخ
قريته ثم سافر إلى النجف الأشرف، وأنهى هناك دراسته، ومن أبرز أساتذته، السيد حسين
الحمامي (قدس سره)، والسيد الخوئي (قدس سره) ثم عاد إلى جبل عامل وسكن قرية طير
حرفا، ثم عين قاضيا شرعيا في بيروت ثم مستشارا للمحكمة الشرعية العليا فرئيسا لها
بالوكالة، إلى أن أحيل للتقاعد.
والشيخ - رحمه الله تعالى - من الذين أبدعوا في شتى الميادين الإسلامية والاجتماعية
والوطنية، توجه بإنتاجه وأفكاره بصورة خاصة إلى جيل الشباب في المدارس والجامعات
والحياة العامة، فكان يعالج في كتبه المشاكل والمسائل التي تؤرقهم وتثير قلقهم كمسائل العلم
والأيمان، ومسائل الحضارة والدين، ومشاكل الحياة المادية والعصرية، وكان يقضي في
مكتبته بين 14 إلى 18 ساعة من اليوم والليلة، وأما مؤلفاته فإنها تربو على اثنين وستين كتابا،
أشهرها، الشيعة في الميزان، الفقه على المذاهب الخمسة، عقليات إسلامية، فقه الإمام
الصادق - عليه السلام -، تفسير الكاشف، في ظلال نهج البلاغة، وله الكثير من المقالات
والنشرات، وكان كثير الذب عن التشيع بلسانه وقلمه ضد التجني والافتراءات، توفي ليلة
السبت في التاسع عشر من محرم الحرام سنة 1400 ه‍، ونقل جثمانه إلى النجف الأشرف
وشيع تشييعا باهرا حيث صلى عليه السيد الخوئي (قدس سره)، ودفن في إحدى غرف مقام
الإمام علي - عليه السلام -.
اقتطفنا هذه الترجمة من كتاب تجارب محمد جواد مغنية بقلمه، وأعيان الشيعة:
ج 9 ص 205.
530

أحدهم، وجلست على بعض مقاعدها، فنظر إلى القاضي، وقال: هل من
حاجة؟
قلت له: هل أنت قاض؟
قال: نعم، ونائب الرئيس.
سألته عن اسمه؟
قال: عبد المجيد بن حسن.
قلت: هل تسمح بالاطلاع على سجل الأحكام، فإني أحب أن أقارن
بينها وبين الأحكام في لبنان؟
قال: هل أنت قاض؟
قلت: أجل.
قال: في المحاكم الحنفية، أو الجعفرية؟
قلت: أنا جعفري، وشرعت بالحديث عن الإسلام والمسلمين،
وبأي شئ يؤكدون أنفسهم، ويطورون قواهم اجتماعيا وسياسيا، وكان
يردد قول طيب طيب، ولا يزيد، وحين هممت بوداعه قال: إلى أين؟.
قلت: إلى الرئيس الشيخ عبد العزيز بن صالح، فأرسل معي شرطيا
أرشدني إلى غرفته، فتحت الباب، ودخلت، فأهل ورحب.
وابتدأت الحديث بهذا السؤال: كيف تفسرون قول الرسول - صلى
الله عليه وآله وسلم -: اختلاف أمتي رحمة (1)؟
قال: اختلافهم في الفروع، لا في الأصول.
قلت: إذن جميع الطوائف الإسلامية من أمة محمد، لأن الأصول هي

(1) كنز العمال ج 1 ص 136 ح 28686، تذكرة الموضوعات ص 90، إتحاف السادة المتقين
ج 1 ص 240.
531

الإيمان بالله، والرسول، واليوم الآخر، والكل يؤمنون بذلك دون استثناء.
قال: وهناك أصل آخر.
قلت: ما هو؟
قال: خلافة أبي بكر، وأنها حق له بعد الرسول بلا فاصل.
قلت: الخلافة من الأصول؟!
قال: نعم.
قلت: لقد نفى السنة عنهم هذا القول، ونسبوه إلى الشيعة الإمامية،
وأنكروه عليهم.
قال: أجمع أهل السنة على أن خلافة أبي بكر من الأصول، وأصر!!
قلت: لا يثبت أصل من أصول الدين إلا ببديهة العقل، أو بنص
الكتاب نصا صريحا، أو بسنة تكون بقوة القرآن ثبوتا، وبدلالة لا إله إلا الله
وضوحا، أما أخبار الآحاد فليست بشئ في باب الأصول، وإن كانت
حجة في الفروع.
قال: هذا صحيح، وقد تواتر عن الرسول - صلى الله عليه وآله
وسلم - إنه قال: يأبى الله ورسوله إلا أبا بكر (1).
قلت: كيف يكون هذا متواترا، ولم يروه البخاري، ولا احتج به أبو
بكر، ولا عمر، ولا أحد يوم السقيفة حين رأى الأنصار أنهم أولى من أبي
بكر بالخلافة؟

(1) كنز العمال ج 11 ص 550 ح 32583، بتفاوت.
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج 11 ص 49، عن هذا الحديث: إنهم وضعوه في
مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه: (ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده
أبدا)، فاختلفوا عنده، وقال قوم منهم: لقد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله!!
532

فشرع يتكلم عن الحديث وأقسامه، ثم أكد مصرا على تواتره، وأنه
لم يخالف في ذلك إلا الشيعة.
ولما لم أجد وسيلة لإقناعه، قلت له: هل من شرط صحة الحديث
أن يثبت عند الجميع، أو عند من يعمل به فقط؟
قال: بل عند من يعمل به.
قلت: هذا الحديث لم يثبت عند الشيعة لا بطريق التواتر، ولا
بطريق الآحاد، ولذا لم تكن خلافة أبي بكر عندهم من الأصول، ولا من
الفروع (1).

(1) تجارب الشيخ محمد جواد مغنية بقلمه ص 374.
533

المناظرة التاسعة والستون
مناظرة الشيخ القبيسي (2) مع الدكتور الشيخ محمد الزعبي

(1) هو: العلامة الحجة المرحوم الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي كان فاضلا، جليلا،
صالحا، تقيا، ورعا، زاهدا، ولد في جبل عامل سنة 1333 ه‍ - 1912 م، ونشأ في أسرة علمية
عريقة في تاريخها العلمي، درس مقدمات العلوم في جبل عامل، ثم رحل إلى مركز العلم
والعلماء النجف الأشرف على ساكنها آلاف التحية والسلام، مارس نشاطه العلمي في الدرس
والتدريس إلى أن بلغ المراتب العالية، وحضر الدروس العالية (البحث الخارج) على يد
فطاحل الحوزة في النجف الأشرف منهم آية الله العظمى السيد الحكيم وآية الله العظمى السيد
الخوئي، تغمدهما الله برحمته، وشغل منصب المرشد الديني في العراق في مدينة الكفل
وأنشأ فيها حسينية وبعض المشاريع الخيرية، ومن ثم شغل منصب المرشد الديني أيضا في
مدينة الفجر من لواء الناصرية.
وبعد مدة شاءت الظروف والأقدار أن يقفل راجعا إلى بلاده، فسكن جبل عامل (أنصار)
وشغل فيها منصب المرشد الديني، وأنشأ فيها مسجدا وجمعية خيرية لحل المشاكل
الاجتماعية وإحياء المراسم الدينية، كما أن له خد مات أخرى في المناطق المجاورة.
وبعد مدة انتقل إلى العاصمة بيروت، فاستقر في منطقة الشياح، وهي من أهم المناطق
الشيعية في بيروت، فمارس فيها نشاطه التبليغي مدة غير قصيرة، ومن ثم اعتزل الناس أكثر
من خمسة عشر عاما، واستمر على هذه الحال إلى وفاته منكبا على التأليف، حتى صدرت له
عشرات الكتب وقد طبعت كلها في حياته أكثر من مرة وكان لها رواج رائع في لبنان وخارجها.
وهي: ماذا في التاريخ 75 جزء، الحلقات الذهبية 50 جزء، أشعة الإشراق 3 أجزاء، نظرة
في شرح نهج البلاغة 3 أجزاء، الأحاديث الصافية جزئين، أين كمال المرأة، لماذا اختار هؤلاء
العظماء مذهب أهل البيت - عليهم السلام -، وغيرها من المؤلفات، ارتحل عن هذه الدنيا عن
عمر يناهز 81 عاما أو أكثر على أثر وعكة صحية استمرت أكثر من خمسة أشهر في 5 / ج 2
/ 1414 ه‍، وشيع في العاصمة بيروت ثم نقل إلى مثواه الأخير في النجف الأشرف، فشيع فيها
ودفن قرب أمير المؤمنين علي - عليه السلام -، فأسكنه الله فسيح جناته وحشره مع أئمته
- عليهم السلام - استفدنا هذه الترجمة من حفيده الأخ العزيز الشيخ هادي الشيخ حسن
القبيسي حفظه الله.
534

لقاء سعيد بدون ميعاد.
في يوم من أيام الجمعة المباركة سنة 1967 م بعد فراغنا من صلاة
الظهر وقبل مغادرتنا لمكان الصلاة في مسجد الشياح، بيروت لبنان، وإذا
بدخول شيخ من مشايخ أهل السنة، من خريجي الأزهر وحملة شهادة
الدكتوراه، وهو من المعاصرين فعلا في بيروت ويصحب الشيخ المذكور
بعض الرفقاء من الشباب، منهم من عرفناه ومنهم من لم تسبق لنا معرفة
به، وبالخصوص فضيلة الشيخ الذي لم يسبق لنا به رؤية قبل لقائنا هذا.
وبعد التحية والسلام والتعارف التام بفضيلة الشيخ مع رفقائه
الكرام، أظهروا الرغبة في الاجتماع معنا، فرحبنا بهم وشكرناهم على
اللقاء الميمون، فدعوناهم إلى منزلنا الموجود فعلا في محلة الشياح،
وخرجنا من المسجد قاصدين المنزل المذكور وعندما استقر بنا المقام
دار بيننا الكلام في جهات شتى، وكان من جملة الجهات التي طرقها
فضيلة الشيخ أن قال - ما يقرب لفظه من هذا مع الحفاظ على حقيقة
المعنى -:
نحن الآن في عصر حرج وزمان فاسد، فينبغي لنا أن نتآلف
ونتكاتف لنكافح بعض ما يدهمنا من هذه المفاسد والمصاعب.
أجبته بكل سرور وترحاب قائلا له: هذا ما نحبه ونبتغيه ونتمنى
حصوله، ولو كلفنا ذلك إلى التضحية بكل غال ونفيس، ولكن يا أخي
التآلف والتكاتف يحتاج إلى منهاج ونظام، وإلا غمرته الفوضى وعمه
الفساد والضلال بقدر عدده وكثرة أفراده.
فهل يجوز للعقلاء أن يبذلوا جهدهم ويتعبوا أنفسهم في زيادة
الفساد والإفساد بين أهلهم وإخوانهم ومن يعز عليهم؟!
535

أجاب الشيخ: المنهاج والنظام موجودان وهما القرآن وسنة النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم -، وعليهما يكون السير وبهما الالتزام وعليهما
المعول في حل جميع المشاكل التي تحدث أو تصير بين أفراد المجتمع،
وعليه فلا يبقى أدنى توقف في هذا المجال الذي ادعيتم عسره وصعوبته.
قلنا له: يا فضيلة الشيخ، هل القرآن ينظم أمورنا ويحل مشاكلنا؟
فلو صح هذا لوجب أن لا يكون هناك أدنى خلاف أو نزاع بين أفراد
المسلمين مع أنه توجد ثلاث وسبعون فرقة (1)، كلهم يدعي الإسلام
ويدعي التمسك بالقرآن والسير على وفق أوامره ونواهيه، وأكثرهم يتبرأ
بعضهم من بعض ويضلل بعضهم بعضا وينسب إلى نفسه الحق
والصواب وينسب لغيره الخروج والانحراف.
وهذا أمر لا يمكن لكل مدرك رشيد جحوده أو إنكاره، سواء كان
مسلما أو غير مسلم، لأن القرآن له وجوه متعددة وفيه الناسخ والمنسوخ،
والمحكم والمتشابه، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل
والمبين، ولذا ترى جميع الفئات يخاصمون به ويستدلون به على صحة
عملهم وحسن عقائدهم، حتى المفوضة (2)، والمجبرة (3)،
والمجسمة (4)، والملحدة والزنادقة ولذا نطق بذلك القرآن المجيد نفسه

(1) إشارة إلى حديث افتراق الأمة، وقد تقدمت تخريجاته.
(2) المفوضة: فرقة زعمت أن الله خلق محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم فوض إليه خلق
العالم وتدبيره، الفرق بين الفرق ص 238، معجم الفرق الإسلامية ص 235.
(3) المجبرة: هذه الفرقة تقول بإسناد فعل العبد إلى الله، أي أن الإنسان مجبور في أعماله لا اختيار
له، معجم الفرق الإسلامية ص 81.
(4) المجسمة: فرقة تقول بأن الله جسم وله ست جهات وأن له يدين ورجلين، معجم الفرق
الإسلامية ص 213.
536

فقال عز وجل: (هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات هن
أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه
منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في
العلم، يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) (1).
وقال تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة، فمنهم من يقول أيكم زادته
هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون، وأما الذين
في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) (2)
وقال تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد
الظالمين إلا خسارا) (3).
إذن فالقرآن لا يمكن أن نتمسك به لحل مشاكلنا في كل شئ حتى
يوجد من يعرف منه كل شئ، لأنه هو يخبرنا أنه يوجد فيه كل شئ
فاستمع إليه حيث يقول تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (4)،
وقال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة
وبشرى للمسلمين) (5)، وقال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم
وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (6)، وقال تعالى:
(وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) (7)، وقال تعالى: (ما ننسخ من آية

(1) سورة آل عمران: الآية 7.
(2) سورة التوبة: الآية 124 و 125.
(3) سورة الأسراء: الآية 82.
(4) سورة الأنعام: الآية 38.
(5) سورة النحل: الآية 89.
(6) سورة المائدة: الآية 3.
(7) سورة يس: الآية 12.
537

أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) (1)، وقال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر
وإنا له لحافظون) (2).
إذن فهنا آيات عديدة توجد في هذا القرآن المجيد، بعضها تخبر أن
في هذا القرآن آيات محكمات، وهي التي يفهم معناها من ظاهرها كل
عربي بدون أدنى توقف أو تردد ولا يختلف في فهمها اثنان من العرب،
وفيه آيات متشابهات يستحيل أن يفهم معناها والمراد منها إلا الله
والراسخون في العلم، وهم الأنبياء والأوصياء ومن أخذوا عنهم بحق،
وهناك جماعة إذا سمعوا بعض آيات القرآن زادتهم إيمانا وهم
يستبشرون وهناك جماعة إذا سمعوا تلك الآيات نفسها زادتهم رجسا إلى
رجسهم، وهناك جماعة تزيدهم آيات الله نورا وشفاء، وهناك جماعة
تكون عليهم عمى وخسرانا، وهناك آيات تثبت لنا أن هذا القرآن جامع
مانع لم ينقص منه شئ ولم يخل منه شئ مما يحتاجه العباد إلى يوم
الميعاد، وفيه تبيانا وبيانا لكل شئ.
وهناك آيات تخبرنا أن هذا القرآن قد أخبر الله به عن تمام النعمة
وكمال الدين بكمال الشريعة بالضرورة، والحق واضح لكل من طلبه
وأراد الالتزام به والسير عليه، والباطل فاضح لكل من اتبع هواه وأسخط
سيده ومولاه.
فإن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد انتقل إلى جوار ربه
قبل أن يبلغ عشر معشار ما يحتاج إليه الخلق الموجود في عصره، فضلا
عن الأجيال المتتالية إلى منتهى الأبد، والمفروض والمقرر بين كافة

(1) سورة البقرة: الآية 106.
(2) سورة الحجر: الآية 9.
538

المسلمين أنه ليس بعد محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أنبياء ولا
شرائع، وحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
إذن فمتى يصح لأحد من المسلمين أن يقول بحق وعدل: أن شريعة
الإسلام قد كملت قبل موت الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، إذا
اقتصرنا على ما نفهم من هذا القرآن المجيد.
إذن فقد ظهر أيضا أن الأحكام التي ينسبها بعض فرق المسلمين إلى
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا تفي في حل مشاكل المجتمع وما
يحتاج إليه ولذا بعض الفئات اضطرهم الأمر إلى الرجوع إلى القياس
والاستحسان، اللذين ما أنزل الله بهما من سلطان، واللذان يمحقان الدين
والشريعة إذا تمسك أهل التدين بهما.
وهنا يحدثنا التاريخ عما جرى لأبي حنيفة مع الإمام الصادق - عليه
السلام - قال: دخل أبو حنيفة على الصادق بن محمد الباقر بن علي بن
الحسين - عليهم السلام -، فقال له: يا أبا حنيفة أنت مفتي أهل العراق؟
قال: نعم.
قال: بم تفتيهم؟ قال: بكتاب الله، قال: أفأنت عالم بكتاب الله
عز وجل، ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه؟ قال: نعم.
قال: فأخبرني عن قوله تعالى: (وقدرنا فيها السير سيروا فيها
ليالي وأياما آمنين) (1) أي موضع هو؟
قال أبو حنيفة: هو بين مكة والمدينة، فالتفت الصادق - عليه
السلام - إلى جلسائه، فقال: نشدتكم بالله هل تسيرون بين مكة والمدينة

(1) سورة سبأ: الآية 18.
539

ولا تأمنون على دمائكم من القتل وعلى أموالكم من السرقة فقالوا: اللهم
نعم.
قال: ويحك يا أبا حنيفة إن الله لا يقول إلا حقا، ثم قال - عليه
السلام -: أخبرني عن قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا) (1)، أي موضع
هو؟
قال أبو حنيفة: ذلك البيت الحرام، فالتفت الصادق - عليه السلام -
إلى جلسائه، فقال لهم: نشدتكم بالله هل تعلمون أن عبد الله بن الزبير
وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل؟ قالوا: اللهم نعم، فقال - عليه
السلام -: ويحك يا أبا حنيفة إن الله لا يقول إلا حقا.
فقال أبو حنيفة: ليس لي علم بكتاب الله عز وجل، أنا صاحب قياس
قال الصادق - عليه السلام -: فانظر في قياسك إن كنت مقيسا، أيها أعظم
عند الله القتل أم الزنا؟
قال: بل القتل.
قال الصادق - عليه السلام -، فكيف رضي الله في القتل بشاهدين ولم
يرض في الزنا إلا بأربعة؟
ثم قال - عليه السلام -: الصلاة أفضل أم الصيام.
قال: الصلاة أفضل.
قال - عليه السلام -: فيجب على قياسك على الحائض قضاء ما فاتها
من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله عليها قضاء
الصوم دون الصلاة.

(1) سورة آل عمران: الآية 97.
540

ثم قال - عليه السلام -: البول أقذر أم المني؟
قال: البول أقذر.
قال - عليه السلام -: يجب على قياسك أنه يجب الغسل من البول
دون المني، وقد أوجب الله الغسل عن المني دون البول.
قال أبو حنيفة: إنما أنا صاحب حدود.
فقال - عليه السلام -: فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح،
وأقطع قطع يد رجل، كيف يقام عليه الحد؟
قال أبو حنيفة: أنا صاحب رأي.
قال - عليه السلام -: فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج
عبده في ليلة واحدة، ثم سافرا وجعلا المرأتين في بيت واحد فولدتا
غلامين، فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان أيهما في رأيك
المالك، وأيهما المملوك وأيهما الوارث وأيهما الموروث؟
قال أبو حنيفة: إنما أنا رجل عالم بمباحث الأنبياء.
قال - عليه السلام -: فأخبرني عن قوله تعالى لموسى وهارون حين
بعثهما إلى دعوة فرعون: (لعله يتذكر أو يخشى) (1) فلعل، منك شك؟
قال: نعم.
قال - عليه السلام -: ذلك من الله شك إذ قال: لعله.
قال أبو حنيفة: لا أعلم.
قال الصادق - عليه السلام -: يا أبا حنيفة لا تقس فإن أول من قاس
إبليس فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) (2)، فقاس ما بين النار

(1) سورة طه: الآية 44.
(2) سورة ص: الآية 76.
541

والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النار لعرف فضل ما بين النورين
وصفاء أحدهما على الآخر.
يا أبا حنيفة: إنك تفتي بكتاب الله ولست ممن ورثه، وتزعم أنك
صاحب قياس وأول من قاس إبليس، ولم يبن دين الإسلام على القياس،
وتزعم أنك صاحب رأي وكان الرأي من رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - صوابا ومن دونه خطأ لأن الله تعالى قال: (لتحكم بين الناس بما
أراك الله) (1)، ولم يقل لغيره، وتزعم أنك صاحب حدود ومن أنزلت عليه
أولى بعلمها منك، ولولا أن يقال: دخل على ابن رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم - فلم يسأله عن شئ ما سألتك عن شئ فقس إن كنت قياسا!!
قال أبو حنيفة: لا تكلمت بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا
المجلس.
قال الصادق - عليه السلام -: كلا إن حب الرئاسة غير تاركك كما لم
يترك غيرك من كان قبلك (2).
ثم يأتينا كلام أمير المؤمنين وسيد الوصيين - عليه السلام - فيفند لنا
أسباب اختلاف السنة الواردة من رسول - الله صلى الله عليه وآله وسلم -
وما كان يعتريها من المصائب والبلايا، فاستمع إليه أيها القارئ الكريم
وهو يحدثنا عن ذلك في نهجه القويم (3)، وقد سأله سائل عن سبب
اختلاف الأخبار التي في أيدي الناس فقال - عليه السلام -: إن في أيدي
الناس حقا وباطلا، وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا،

(1) سورة النساء: الآية 105.
(2) الاحتجاج ج 2 ص 267.
(3) نهج البلاغة: ص 325 رقم الخطبة: 210، كتاب سليم ص 61، بحار الأنوار ج 37 ص 277 ح 97.
542

ومحكما ومتشابها، وحفظا ووهما، ولقد كذب على رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - على عهده حتى قام خطيبا فقال: من كذب علي متعمدا
فليتبوأ مقعده من النار (1) وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم
خامس.
رجل منافق مظهر للأيمان، متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج
يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - متعمدا، فلو علم الناس
أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا: صاحب
رسول الله رأى وسمع منه ولقف عنه فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن
المنافقين بما أخبرك ووصفهم بما وصفهم به لك، ثم بقوا بعده - عليه وآله
السلام - فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان فولوهم
الأعمال وجعلوهم حكاما على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس
مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله، فهو أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شيئا لم
يحفظه على وجهه فوهم فيه ولم يتعمد كذبا فهو في يديه ويرويه ويعمل
به ويقول: أنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلو علم
المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شيئا
يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به، وهو
لا يعلم فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه

(1) صحيح البخاري: ج 1 ص 38 مسند أحمد ج 1 ص 78، المستدرك على الصحيحين ج 1
ص 77، مجمع الزوائد ج 1 ص 142، تاريخ بغداد ج 14 ص 225، مسند أبي يعلى الموصلي
ج 7 ص 12 ح 1149 - (3904).
543

ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب
خوفا من الله وتعظيما لرسوله، ولم يتوهم بل حفظ ما سمع على وجهه،
فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه، فحفظ الناسخ فعمل به،
وحفظ المنسوخ فتجنب عنه، وعرف الخاص والعام فوضع كل شئ
موضعه، وعرف المتشابه ومحكمه.
وقد كان يكون من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الكلام له
وجهان: فكلام خاص وكلام عام فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به ولا ما
عنى رسول الله، فيحمله السامع ويوجهه على غير وجهه ومعناه، وما
قصد به وما خرج من أجله، وليس كل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وآله وسلم -، من كان يسأله ويستفهمه حتى أنهم كانوا ليحبون أن يجئ
الأعرابي والطارئ فيسأله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يسمعوا،
وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألت عنه وحفظته فهذه وجوه ما عليه
الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم.
هذا هو مفسر القرآن وهذا هو الرجل الرابع من هؤلاء الرواة الذي
عرف الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والعام والخاص والمجمل
والمبين والمطلق والمقيد، ولم يغب عنه شئ ولم تخف عليه خافية ولم
يشتبه عليه أمر، وهذا هو كتاب الله الناطق العالم بجميع حقائق كتاب الله
الصامت وهذا هو الذي غذاه رسول الله بكل ما نزل عليه من ربه وزقه العلم
زقا وعلمه من العلم ألف باب ينفتح له من كل باب ألف باب (1).

(1) نظم درر السمطين ص 113، ينابيع المودة ص 77، فرائد السمطين ج 1 ص 101 ح 70.
544

وهذا هو الذي بولايته كمل الدين والشرع المبين وتمت بولايته
وخلافته النعمة وبإمامته وفرض طاعته على الخلائق أجمع رضي
الرحمان وفاض الإحسان، وهذا هو الذي نطق بولايته كتاب رب العالمين
وقرن طاعته بطاعته وطاعة رسوله بدون أدنى تفاوت، فقال عز من قائل: (
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (1)،
ثم يزداد في البيان والإيضاح فيقول عز وجل: (إنما وليكم الله ورسوله
والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن
يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (2).
هذا الذي كمل بولايته الدين وتمت بخلافته النعمة ورضي بإمامته
رب العالمين، يوم نصبه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفرض
طاعته المطلقة على كل رجل وأنثى وأبيض وأسود وعربي وأعجمي،
وذلك في غدير خم عند رجوعه من حجة الوداع التي شهدها مائة ألف أو
يزيدون (3).
ثم انقلب فريق منهم يوم السقيفة، وأسكر فريقا آخر منهم حب
الرئاسة وغنائم الأموال، وأرهب فريقا آخر التهديد والتنكيل بسيوف أهل
السقيفة، وإرهابهم الأثيم الذين خرجوا شاهرين سيوفهم لم يمر بهم أحد
أو لم يمروا بأحد إلا خبطوه ومسحوا يده بيد خليفتهم (4) الجديد، الذي

(1) سورة النساء: الآية 59.
(2) سورة المائدة: الآية 55 و 56.
(3) انظر الغدير ج 1 ص 9.
(4) وقد صور لنا هذا المشهد التاريخي، البراء بن عازب إذ رأى ذلك بعينه يقول - رضي الله عنه -:
لم أزل لبني هاشم محبا، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وآله - خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة
رسول الله - صلى الله عليه وآله -، فكنت أتردد إلى بني هاشم وهم عند النبي - صلى الله عليه
وآله - في الحجرة، وأتفقد وجوه قريش، فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر، وإذا قائل يقول:
القوم في سقيفة بني ساعدة، وإذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر، فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر
قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية
لا يمرون بأحد إلا خبطوه، وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو
أبى، فأنكرت عقلي... الخ.
انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 219، كتاب سليم بن قيس ص 75.
545

ترك رسول الله - صلى الله عليه وآله - على فراشه بلا غسل ولا كفن ولا دفن
وأسرع لعقد الخلافة وتتميم الأمر قبل الفوات وذهاب الرئاسة من أيديهم
التي طالما انتظروها بفارغ الصبر وتعاقدوا عليها وعلقوا صحيفتهم في
جوف الكعبة، وستشهد عليهم يوم تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم
وأفئدتهم بما كانوا يعملون.
هذا هو صاحب الحق والأولى بالأمر بعد الرسول بلا فصل بأمر من
الله ورسوله، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة بإجماع المفسرين لهذه الآية
الكريمة وأنها نزلت في علي بن أبي طالب - عليه السلام - حينما تصدق
بخاتمه على السائل وهو في صلاته في حال ركوعه حتى نزلت الآية تصفه
كما هو عليه.
ولنستمع الآن إلى ما يحدثنا عنه من شهد له رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - بأنه: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة
أصدق منه) (1)، وهو من حواري رسول الله الصحابي الجليل أبو ذر
الغفاري - رضوان الله عليه -.
عن الأعمش بن غيابة بن ربعي، قال: بينا عبد الله بن عباس جالس

(1) تقدمت تخريجاته.
546

على شفير زمزم: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، إذ أقبل
رجل متعمم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول: قال رسول الله. إلا قال
الرجل: قال رسول الله، فقال ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟ فكشف
العمامة عن وجهه، وقال: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم
يعرفني فأنا أعرفه بنفسي أنا جندب بن جنادة، البدري أبو ذر الغفاري
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بهاتين وإلا صمتا ورأيته
بهاتين وإلا عميتا يقول:
علي - عليه السلام - قائد البررة وقاتل الكفرة، منصور من نصره،
مخذول من خذله، أما إني صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد
شيئا فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم اشهد أني سألت في مسجد
رسول الله فلم يعطني أحد شيئا وكان علي - عليه السلام - راكعا.
فأومأ بخنصره اليمنى إليه وكان يتختم فيها، فأقبل السائل حتى أخذ
الخاتم من خنصره، وذلك بعين رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
فلما فرغ النبي من صلاته رفع إلى السماء رأسه وقال: اللهم إن أخي موسى
سألك فقال (رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من
لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به
أزري وأشركه في أمري) (1)، فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: (سنشد عضدك
بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما) (2)، اللهم وأنا محمد
نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا

(1) سورة طه: الآية 25 - 32.
(2) سورة القصص: الآية 35.
547

من أهلي عليا أخي اشدد به أزري - ظهري -.
قال أبو ذر: فوالله ما استتم رسول الله الكلمة حتى نزل جبرئيل من
عند الله، فقال: يا محمد اقرأ، قال وما أقرأ قال أقرأ: (إنما وليكم الله
ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون) (1) فكبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال: (ومن
يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (2).
وروى هذا الخبر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره، والطبري (3)، وأبو
بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن، وحكاه المغربي والرماني، وهو قول
مجاهد والسدي وهو المروي عن الإمام الباقر والصادق - عليهما السلام -
وجميع علماء أهل البيت - عليهم السلام - ورواه السيد أبو الحمد عن أبي
القاسم الحسكاني (4) وكثير من ذلك عن مجمع البيان (5)، فراجع.
ونظم ذلك حسان بن ثابت فقال شعرا (6):
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي * وكل بطئ في الهدى ومسارع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا * زكاة فدتك النفس يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولاية * وأثبتها مثنى كتاب الشرائع

(1) سورة المائدة: الآية 56.
(2) تفسير الطبري: ج 6 ص 186.
(3) شواهد التنزيل: ج 1 ص 221 ح 230.
(4) مجمع البيان: ج 2 ص 210.
(5) راجع: المناقب للخوارزمي ص 265 ح 264، فرائد السمطين للحموي ج 1 ص 189 ح 150
ب 39، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 229 ب 61، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي
ص 15 - 16.
548

ويحدث الأصبغ بن نباتة فيقول: لما بويع أمير المؤمنين - عليه
السلام - خرج إلى المسجد متعمما بعمامة رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - لابسا بردته منتعلا بنعله ومتقلدا بسيفه، فصد المنبر فجلس
متمكنا ثم شبك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه.
ثم قال: يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني: هذا سفط العلم،
هذا لعاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، هذا ما زقني رسول الله
زقا زقا.
سلوني قبل أن تفقدوني، فإن عندي علم الأولين والآخرين أما والله
لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل
الإنجيل بإنجيلهم، وأهل الزبور بزبورهم، وأهل القرآن بقرآنهم، حتى
ينطق كل كتاب من كتب الله فيقول: صدق علي لقد أفتاكم بما أنزل الله فيه،
ولولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم
القيامة، وهي قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم
الكتاب) (1).
ثم قال - عليه السلام -: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة
وبرئ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل نزلت أم في نهار مكيتها
ومدنيها ناسخها ومنسوخها، محكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها
لأنبأتكم (2).
هذا هو حجة الله على الخلائق أجمعين ومن أنكر خلافته وولايته

(1) سورة الرعد: الآية 39.
(2) الاحتجاج ج 1 ص 258، فرائد السمطين ج 1 ص 341 ح 263 بتفاوت.
549

كتاب الله الناطق والقرآن كتاب الله الصامت وأنا أفيد لكم من القرآن، كما
في نهجه القويم.
فظهر أن القرآن والسنة إنما ينفعان إذا رجعنا في أصولنا وفروعنا إلى
أهل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذين نزل عليهم القرآن
واستقر في قلوبهم وعرفوا جميع ما يهدف إليه وورثوا علم الرسول،
جدهم - صلى الله عليه وآله وسلم - وعندهم المنهج الصحيح والنظام
علم الرسول وأبناء البتول الذين عصمهم الله وطهرهم من الرجس تطهيرا،
لم يشركوا بالله ولم يشكوا فيه طرفة عين ولم يهموا بما يخالف أمر الله
ونهيه، وعندهم علم الأولين والآخرين ولم يترددوا في جواب شئ
سئلوا عنه أبدا وعلمهم بتعليم الله لهم كابر عن كابر حتى ينتهي أمرهم إلى
جدهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وجميع أهل العلم والمعرفة
عيال عليهم وهم أغنياء عن جميع الخلق بما منحهم الله وفضلهم على كافة
الخلق تفضيلا.
فهل عندكم يا فضيلة الشيخ مثيل هؤلاء أم يعتريكم في ذلك شك أو
ارتياب؟ ألم ترد الأخبار الصحيحة من جميع حفاظكم عن أعلمكم
وأفضلكم ومصدر حقائقكم (عمر بن الخطاب) أنه قال بكل صراحة: لولا
علي لهلك عمر ولا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن علي - عليه
السلام - (1) فإذا كان عظيمكم هكذا حاله فما حالة من هو لا يساويه ولا

تقدمت تخريجاته.
550

يدانيه بعشر معشاره.
وهنا يتوقف الشيخ ويحتار في الجواب وكأنه صار في عالم غير هذا
العالم ولكني هونت عليه واختصرت له الكلام بأشد الإيجاز.
فقلت له: يا فضيلة الشيخ لندع الكلام في المواضيع الواسعة
المطولة، ولنقتصر على مسألة واحدة لا غير وعليها يبنى كل شئ ومنها
تتفرع الأشياء، وهنا نسأل فضيلة الشيخ فنقول له: ما تقولون بيوم الشورى
ألم تعرض الخلافة على علي بن أبي طالب - عليه السلام - من قبل عبد
الرحمن بن عوف قبل أن يعرضها على عثمان بن عفان، فلماذا نبذها
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - دونه؟!
أليس لأن عبد الرحمن بن عوف اشترط عليه أن يعمل بسيرة
الشيخين أبي بكر وعمر فكان جواب علي - عليه السلام - لعبد الرحمن،
بل أعمل بكتاب الله وسنة رسوله، فذهب إلى عثمان فقال: نعم فرجع إلى
علي - عليه السلام - وقال له: أبسط يدك لأبايعك على أن تعمل بكتاب الله
وسنة رسوله وسيرة الشيخين، فكرر ذلك ثلاثا وفي الجميع يأبى علي
- عليه السلام - أن يلتزم بسيرة الشيخين حتى صفق عبد الرحمن على يد
عثمان وبارك له بالخلافة (1) تنفيذا لوصية عمر بن الخطاب التي لم تخف
فإذ سألنا: لماذا ترك علي بن أبي طالب الخلافة ونبذها حينما أراد
عبد الرحمن أن يقيده بسيرة الشيخين؟ ونقول: هل كانت سيرة الشيخين
مأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله ونبذها علي، ولم يلتزم بهما؟ فإذا كان
الأمر كذلك أليس الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله التزام بسيرة الشيخين

(1) تاريخ الطري: ج 4 ص 238، الكامل في التاريخ ج 3 ص 71، تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 165،
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 188.
551

على فرض أنها مأخوذة منهما حتما وضرورة؟!
وما الداعي لعلي أن لا يقبل تقيد الخلافة بسيرة الشيخين إذا فرضنا
أنهما مأخوذة منهما أو موافقة لهما على أقل الاحتمالات وأضعفها؟
إذن فترك علي - عليه السلام - للخلافة التي يراها أنها من حقه
الخاص دون سواه وهو يعلم جيدا أنه إذا لم يقبلها سيقبلها عثمان وهو
يسمع ويرى تنعيمه لعبد الرحمن في كل مرة يعرضها عليه، ويعلم حقيقة
أنه إن أخذها عثمان سيؤول أمرها إلى صبيان وغلمان بني أمية يلعبون بها
وهو يعلم بدون شك وارتياب أن بني أمية وسيدهم أبو سفيان لم
يؤمنوا بالله ولا برسوله، وإنما استسلموا للإسلام لتسلم رؤوسهم من
القطع ونفوسهم من الإعدام.
فبأي شرع أو نظام يجوز لعلي - عليه السلام - الذي هو نبراس العدل
والحنان ومتراس التضحية والجهاد أن يدع حوزة الإسلام ودين الله القويم
أن يصل لصبيان بني أمية فتلعب به غلمانهم كيفما يشاؤون وهم أعداء
الإسلام من أول يوم وجد فيه الإسلام؟!
أيجوز لعلي بن أبي طالب - عليه السلام - الذي غرس الإسلام بيده
وسقاه بدماء أحبائه وأعزائه وضحى في حفظه وصيانته بكل غال ونفيس،
أن يتركه لتترأس على منابره الغلمان وتلعب به الصبيان من بني أمية وبني
مروان وهو على يقين من هذا كله؟ لا بالله هذا لا يقبله عقل ولا وجدان ولا
يقوله مخلوق مدى الأجيال والأزمان!!
إذن فلا بد أن يكون الأمر أعظم من هذا وأضخم فلا بد من أن يكون
الالتزام بسيرة الشيخين سيكلف عليا خسرانا ووبالا أشد من فقدان
الخلافة وخسرانها ولم يوجد شئ في جميع ما نتصور وجوده واحتماله
552

أنه سيوقع الخسران على علي بن أبي طالب - عليه السلام - إلا فقدان الدين
وخسران العقيدة ورضا الخالق القهار، وهنا لا بد لعلي ولكل من عرف
عليا - عليه السلام - وعرف دين علي وعقيدة علي ورب علي أن يعذر عليا
ولا ينسب إليه أدنى لوم أو عتاب لتركه هذه الخلافة إذا كانت تسبب له
ذهاب دينه وفقدان عقيدته وسخط سيده وخالقه.
ولا شك ولا ارتياب بأن الذي دعا عليا إلى التوقف عن قبول شرط
وعقيدته ورضا خالقه وما أعطاه علي بن أبي طالب من العهد والميثاق لله
ولرسوله أنه سيحافظ على هذا الدين ويصون هذه الشريعة الغراء ويبذل
في سبيل الحفاظ عليها كل غال ونفيس حتى ولو أدى إلى التضحية بنفسه
وولده وجميع عشيرته.
إذن فقد ظهر سبب امتناع علي عن قبوله سيرة الشيخين والعمل
بهما حفاظا على دينه وعقيدته ومبدئه ورضا خالقه ومبدعه.
إذن فنحن نكون قد وصلنا إلى النتيجة المتوخاة، والغاية المطلوبة،
فكيف يا فضيلة الشيخ نتفق وإياكم ونضع يدنا بأيديكم؟
فهل أنتم تتركون التمسك بسيرة الشيخين وتتركون العمل
بموجبها؟ أم نحن ندع ديننا وعقيدتنا ورضا خالقنا ونبينا ونتبعكم على
سيرة الشيخين، وبطبيعة الحال سيكلفنا هذا أن ندع إمامنا علي بن أبي
طالب - عليه السلام - الذي ترك الخلافة العظمى ولم يقبل الالتزام بتلك
السيرة التي أنتم ملتزمون بها من آبائكم وأجدادكم، ومن زمن ما تبعتم
الشيخين ونحن تبعنا شيخنا وسيدنا وعميدنا وإمامنا علي بن أبي طالب
وأبناءه الغر الميامين الذين اصطفاهم الله وزكاهم وعصمهم وطهرهم من
الرجس تطهيرا
553

أم نضع أيدينا بأيديكم وأنتم تبقون متمسكين بسيرة الشيخين،
ونحن نبقى نتبع عليا الذي هو نفس الرسول بنص القرآن والسنة، ولا
شك أنا إذا فارقنا عليا يلزمنا أن نفارق ابن عمه محمد - صلى الله عليه وآله -
ودينهما وعقيدتهما ورضا خالقهما الذين يتنافون مع سيرة الشيخين
بنص أبي الحسنين وسيد الكونين.
أتباع كتاب الله وسنة رسوله نكون كمن يطلب المحال وكمن يطلب
اجتماع الضدين واجتماع المشرق والمغرب والليل والنهار في مكان
واحد وأوان واحد!
وهذا ما نراه السبب في عدم اجتماع السنة والشيعة اجتماعا حقيقيا
مع تمسك السنة بسيرة الشيخين، وتمسك الشيعة بكتاب الله وسنة نبيه
الذين يستحيل اجتماعهما بنص إمام الحق وعدل القرآن علي بن أبي
طالب - عليه السلام -.
فدعونا متمسكين بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -
ولا تلزمونا بما يتنافى معهما، ونحن معكم على طول الخط بدون أدنى
توقف أو تردد، أجيبونا مأجورين ولكم الفضل العميم والثواب الجزيل
والشكر الكثير.
وهنا انتهى المقام وقام فضيلة الشيخ للوداع بعد مضي ما يقارب من
أربع ساعات، فودعناه بأمان وحملناه مزيد الكرامة والسلام، ولحد الآن
لم نر له بعد ذلك شخصا أو خيالا فإنا لله وإنا إليه راجعون، (وسيعلم

(1) سورة الشعراء: الآية 227.
(2) ماذا في التاريخ للقبيسي: ج 36 ص 343.
554

المناظرة السبعون
مناظرة بين شيعي وسني
قال السني للشيعي: أنتم معشر الشيعة روافض، والروافض في
الدنيا يشملهم العار، وفي الآخرة مقرهم النار وبئس القرار.
أجاب الشيعي بكل هدوء وسكون: عافاك الله يا أخي أليس من
العدل والإنصاف أن لا يحكم العاقل على غيره بدون دليل ولا برهان، فما
دليلك على أننا روافض؟ وعلى تقدير صحة ما تقول، ما هو برهانك على
أن علينا في الدنيا العار، ومصيرنا في الآخرة إلى النار وبئس القرار؟
قال السني: أما كونكم معشر الشيعة روافض لأنكم ترفضون خلافة
خلفاء رسول الله الراشدين، وهذا أمر لا يمكن لكل شيعي إنكاره، وهذا
من أكبر العار عليكم.
وأما كونكم مقركم النار وبئس القرار، لأنه قد قام الإجماع على أن
كل من امتنع عن الإقرار بخلفاء رسول الله الراشدين، فهو بمثابة الخروج
من الدين، وهذا أيضا لا يتمكن كل شيعي من إنكاره.
فقال الشيعي: عافاك الله يا أخي، ها أنا شيعي وأنا أتبرؤ من كل من
رفض خلفاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأنا أشهد على كل
شيعي قد فهم حقيقة التشيع أنه أيضا يتبرء مثلي من كل من رفض خلفاء
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فدعواك هذه على الشيعة ظلم
وافتراء، وعار على أمثالك من أهل العلم والفضل أن يتصفوا بهذه الصفات
555

الذميمة التي قد يتحاشاها أبسط الجهال والعوام، وحينئذ لا يبقى لحكمك
يا أخي على الشيعة بالنار وبئس القرار أدنى قيمة أو اعتبار.
فأين دليلك وبرهانك اللذان قد اعتمدت عليهما في حكمك هذا
الجائر الباطل، وأرجو المسامحة فأنت أحوجتني لهذا المقال؟!
قال السني - وقد استشاط غضبا وغيظا -: ألستم معشر الشيعة
ترفضون خلافة أبي بكر وعمر وعثمان أصحاب رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - وخلفائه الراشدين، وكيف يمكنك أو يمكن لكل شيعي
أن ينكر هذا الأمر الذي هو أشهر من نور الشمس عند كل من عرف الشيعة
حتى من غير المسلمين، فما جوابك إن كنت من المنصفين؟
فقال الشيعي: عافاك الله يا أخي ما ذكرت غير الذي به حكمت، وبين
الموضوعين بون بعيد وفارق عظيم قد كان حكمك السابق مستندا إلى أن
الشيعة ترفض خلفاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والآن تثبت
لهم رفضهم لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وهذا موضع آخر غير ما
ذكرته سابقا.
لأن نفس هؤلاء الخلفاء الثلاثة وجميع أتباعهم وأشياعهم
يستنكرون على كل من يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -،
قد استخلف وعين له خليفة من بعده أو نص عليه وأخذ له على الناس
الخلافة والولاية، وكلهم يشهدون ويجزمون على أن رسول الله قد مات
ولم يعين له خليفة، وهذا شئ كاد أن يكون من خصائص أبي بكر وعمر
وعثمان وأشباههم في ذلك العصر، والباقي أتباع لهم وعنهم قد أخذوا
بهذا القول والدعوة التي يدعونها حتى عصرنا الحاضر.
فقولك: إن الشيعة ترفض أو رفضت خلفاء رسول الله - صلى الله
556

عليه وآله وسلم -، هذا قد تسالم جميع السنة على إنكاره ورفضه، فمتى
صار أبو بكر وعمر وعثمان خلفاء لرسول الله وهم أشد المنكرين على
الشيعة الذين يدعون أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، قد أوصى
في حياته ونص على خليفته وعينه بشخصه وذاته وأخذ له من جميع
المسلمين على مشهد مائة ألف أو يزيدون يوم غدير خم بعد رجوعه من
حجة الوداع.
ولو نظرت يا أخي بعين الأنصاف لكان عنوان الرافضة يصدق على
جماعة السنة بالخصوص دون سواهم، لأنهم هم رفضوا وصية رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - وخالفوه مخالفة صريحة، وهذه كتبهم
وصحاحهم تشهد بذلك بأوضح ما يكون، وإذا أردت فهم ذلك جليا
فعليك بكتاب الغدير للشيخ النجفي حتى تعرف الحقيقة إذا كنت تجهلها،
وأبو بكر وعمر هما أول من بايع خليفة رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - في غدير خم وعمر هو الذي أعلنها صرخة مدوية في ذلك المكان
وهو يقول: بخ بخ لك يا بن أبي طالب لقد أصبحت مولاي ومولى كل
مؤمن ومؤمنة (1)، حتى قام حسان بن ثابت وأنشد في ذلك الموقف أبياته
التي قل أن يخلو منها كتاب مؤرخ من محدثيهم وصحاحهم وإليك بها:

(1) راجع: ترجمة أمير المؤمنين - عليه السلام - من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج 2
ص 75 ح 575 و 577، المناقب للخوارزمي الحنفي ص 94، شواهد التنزيل للحاكم
الحسكاني الحنفي ج 1 ص 158 ح 213، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي
ص 18 ح 24، فرائد السمطين ج 1 ص 77 ح 44، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 30
و 31 و 249 ط 1 اسلامبول وص 33 و 34 و 297 ط الحيدرية، تفسير الفخر الرازي الشافعي
ج 3 ص 63 ط الدار العامرة بمصر و ج 12 ص 50 ط مصر 1375 ه‍، إحقاق الحق ج 6
ص 256، الغدير للأميني ج 1 ص 276، بتفاوت.
557

يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالرسول مناديا
يقول فمن مولاكم ووليكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولم تر منا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا: اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا (1)
وقد أخرج الطبري محمد بن جرير في كتاب الولاية عن زيد بن
أرقم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جعل يقول في ذلك
الموقف الرهيب ويخاطب الجموع الغفيرة المتراصة حوله:
معاشر الناس قولوا أعطيناك على ذلك عهدا عن أنفسنا وميثاقا
بألسنتنا وصفقة بأيدينا نؤديه إلى أولادنا وأهالينا، لا نبغي بذلك بدلا
وأنت شهيد علينا وكفى بالله شهيدا، قال زيد بن أرقم: فعند ذلك بادر
الناس يقولون: نعم نعم سمعنا وأطعنا، وكان أبو بكر وعمر أول من صافق
وتداكوا على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وعلى علي - عليه
السلام -.
وخصوص حديث تهنئة الشيخين رواه من أئمة الحديث والتفسير
ما يزيد على ستين محدثا وراويا ومؤرخا وكاتبا راجع الغدير الجزء الأول
ص 272 ترى العجب العجيب.
وأما قولك الأخير إن الشيعة ترفض خلافة أبي بكر وعمر وعثمان

(1) مناقب الخوارزمي ص 135 ح 152، فرائد السمطين الجويني ج 1 ص 73 ح 39 وص 74
ح 40، تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 80، بحار الأنوار ج 37 ص 150، سفينة البحار ج 2
ص 306، وقد روي هذا الشعر في مصادر كثيرة جدا راجع: الغدير للأميني ج 2 ص 34 - 39.
558

فهذا شئ صحيح لا ينكره ولا واحد من الشيعة وقوام الشيعة على هذا
الإنكار واستنكار، وهذا فخر وشرف للشيعة لأن الذي دعاها لإنكار
ذلك هو نفس إطاعتها وإذعانها لأمر نبيها محمد - صلى الله عليه وآله
وسلم - والثبات على عهده الذي أعطوه إياه في غدير خم بأمر من الله
تعالى حينما أنزل على نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - في ذلك الموضع
وألزمه بالتبليغ وهدده إذا هو لم يبادر ويعلن خلافة علي - عليه السلام - من
بعده قبل أن تتفرق الجموع الهائلة وتذهب جهوده أدراج الرياح، فأنزل
عليه قوله عز وجل: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم
تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (1)، فلم يكتف
بالتهديد حتى أخبره أنك إن لم تفعل فجميع جهادك وجهودك يذهب
هباء منثورا، ولا يترتب عليه أدنى أثر أو نفع، ولذا تراه بعد قيامه بواجب
التبليغ والإعلان نزل قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت
عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (2) فجعل النبي - صلى الله عليه
وآله وسلم - يقول: الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة من الله بولاية
أخي وابن عمي وخليفتي من بعدي علي بن أبي طالب - عليه السلام - (3).
وإذا الشيعة رفضت كل من خالف الله ورسوله لا خصوص أبي بكر
وعمر وعثمان، وتمسكت بأمر الله ورسوله تكون مذمومة ومستحقة
لعذاب النار كيف يكون ذلك (4)؟!

(1) سورة المائدة: الآية 67.
(2) سورة المائدة: الآية 3.
(3) شواهد التنزيل للحسكاني ج 1 ص 200 ح 210 وما بعده، مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن
سليمان الكوفي ج 1 ص 118 ح 66 وص 137 ح 76.
(4) ماذا في التاريخ للقبيسي ج 12 ص 61.
559

المناظرة الحادية والسبعون
مناظرة الدكتور التيجاني (1) مع أحد علماء الزيتونة (2)
يقول الدكتور التيجاني:
والعجيب والغريب أن أغلب المسلمين عندما تذكر له حديث
الغدير، لا يعرفه أو قل لم يسمع به والأعجب من هذا كيف يدعي علماء
أهل السنة بعد هذا الحديث المجمع على صحته، بأن رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - لم يستخلف وترك الأمر شورى بين المسلمين.
فهل هناك للخلافة حديث أبلغ من هذا وأصرح يا عباد الله؟؟ وإني
لأذكر مناقشتي مع أحد علماء الزيتونية في بلادنا عندهما ذكرت له حديث

(1) هو: الدكتور محمد التيجاني السماوي التونسي، حفظ القرآن في سن مبكر، نشأ وترعرع
على طريقة الصوفية التيجانية وهي منتشرة بكثرة في المغرب، والجزائر، وتونس، وليبيا،
والسودان، ومصر، والتي من أسسها الحفاظ على الشعائر الدينية واحترام الأولياء والصالحين
وترتيل القرآن، ولها أذكارها وأدعيتها الخاصة وكان على مذهب الإمام مالك بن أنس وأخيرا
اعتنق المذهب الشيعي بعد بحث طويل في تحقيق مسائل الخلاف بين المذاهب الإسلامية،
كما جرت بينه وبين بعض العلماء مناظرات حين زيارته للنجف الأشرف منهم السيد الخوئي
- قدس سره -، والشهيد السيد محمد باقر الصدر - قدس سره -، له من المؤلفات كتاب ثم
اهتديت الذي شرح فيه كيفية استبصاره والأسباب التي دعته إلى الأخذ بمذهب أهل البيت
- عليهم السلام -، لأكون مع الصادقين، الشيعة هم أهل السنة، فاسألوا أهل الذكر، وقد حصل
على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون - باريس. استفدنا هذه الترجمة من
كتابه ثم اهتديت.
(2) الزيتونة: جامع في تونس بنته عطف أرملة المستنصر الحفصي - 1283 - خارج باب البحر.
المنجد - قسم الأعلام - ص 341.
560

الغدير محتجا به على خلافة الإمام علي - عليه السلام - فاعترف بصحته،
بل وزاد في الحبل وصلة فأطلعني على تفسيره للقرآن الذي ألفه بنفسه،
والذي يذكر فيه حديث الغدير ويصححه، ويقول بعد ذلك:
(وتزعم الشيعة بأن هذا الحديث هو نص على خلافة سيدنا علي
- كرم الله وجهه -، وهو باطل عند أهل السنة والجماعة لأنه يتنافى مع
خلافة سيدنا أبي بكر الصديق وسيدنا عمر الفاروق وسيدنا عثمان ذي
النورين، فلا بد من تأويل لفظ المولى الوارد في الحديث على معنى
المحب والناصر، كما ورد ذلك في الذكر الحكيم، وهذا ما فهمه الخلفاء
الراشدون والصحابة الكرام - رضي الله تعالى عليهم أجمعين -، وهذا ما
أخذه عنهم التابعون وعلماء المسلمين، فلا عبرة لتأويل الرافضة لهذا
الحديث لأنهم لا يعترفون بخلافة الخلفاء ويطعنون في صحابة الرسول
وهذا وحده كاف لرد أكاذيبهم وإبطال مزاعمهم) انتهى كلامه في الكتاب.
سألته: هل الحادثة وقعت بالفعل في غدير خم (1)؟
أجاب: لو لم تكن وقعت ما كان ليرويها العلماء والمحدثون!
قلت: فهل يليق برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يجمع
أصحابه في حر الشمس المحرقة ويخطب لهم خطبة طويلة ليقول لهم:
بأن علي محبكم وناصركم؟ فهل ترضون بهذا التأويل؟
أجاب: إن بعض الصحابة اشتكى عليا وكان فيهم من يحقد عليه
ويبغضه، فأراد الرسول أن يزيل حقدهم، فقال لهم: بأن عليا محبكم
وناصركم، لكي يحبوه ولا يبغضوه.

(1) تقدمت تخريجاته.
561

قلت: هذا لا يتطلب إيقافهم جميعا والصلاة بهم وبدأ الخطبة بقوله:
ألست أولى بكم من أنفسكم، لتوضيح معنى المولى، وإذا كان الأمر كما
تقول فكان بإمكانه أن يقول لمن اشتكى منهم عليا: (إنه محبكم وناصركم
)، وينتهي الأمر بدون أن يحبس في الشمس، تلك الحشود الهائلة وهي
أكثر من مائة ألف فيهم الشيوخ والنساء، فالعاقل لا يقنع بذلك أبدا!
فقال: وهل العاقل يصدق بأن مائة ألف صحابي لم يفهموا ما فهمت
أنت والشيعة؟؟
قلت: أولا لم يكن يسكن المدينة المنورة إلا قليل منهم.
وثانيا: إنهم فهموا بالضبط ما فهمته أنا والشيعة، ولذلك روى
العلماء بأن أبا بكر وعمر كانا من المهنئين لعلي بقولهم: بخ بخ لك يا بن
أبي طالب أمسيت وأصبحت مولى كل مؤمن (1).
قال: فلماذا لم يبايعوه إذا بعد وفاة النبي؟ أتراهم عصوا وخالفوا أمر
النبي؟ أستغفر الله من هذا القول!
قلت: إذا كان العلماء من أهل السنة يشهدون في كتبهم بأن بعضهم -
أعني من الصحابة - كانوا يخالفون أوامر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
في حياته وبحضرته (2)، فلا غرابة في ترك أوامره بعد وفاته، وإذا كان
أغلبهم يطعن في تأميره أسامة بن زيد لصغر سنه رغم أنها سرية محدودة
ولمدة قصيرة فكيف يقبلون تأمير علي على صغر سنه ولمدة الحياة،

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) صحيح البخاري ومسلم إذ أخرجا عدة مخالفات لهم كما في صلح الحديبية وكما في رزية
يوم الخميس وغير ذلك كثير، وخير من كتب في هذا الموضوع السيد شرف الدين (قدس
سره) في كتابه: النص والاجتهاد فراجع.
562

وللخلافة المطلقة؟ ولقد شهدت أنت بنفسك بأن بعضهم كان يبغض عليا
ويحقد عليه!!
أجابني متحرجا: لو كان الإمام علي - كرم الله وجهه ورضي الله عنه -
يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - استخلفه، ما كان ليسكت
عن حقه وهو الشجاع الذي لا يخشى أحدا ويهابه كل الصحابة.
قلت: سيدي هذا موضوع آخر لا أريد الخوض فيه لأنك لم تقتنع
بالأحاديث النبوية الصحيحة، وتحاول تأويلها وصرفها عن معناها حفاظا
على كرامة السلف الصالح، فكيف أقنعك بسكوت الإمام علي أو
باحتجاجه عليهم بحقه في الخلافة؟
ابتسم الرجل قائلا: أنا والله من الذين يفضلون سيدنا عليا - كرم الله
وجهه - على غيره، ولو كان الأمر بيدي لما قدمت عليه أحدا من الصحابة،
لأنه باب مدينة العلم وهو أسد الله الغالب، ولكن مشيئة الله سبحانه هو
الذي يقدم من يشاء ويؤخر من يشاء، (لا يسأل عما يفعل وهم
يسألون) (1).
ابتسمت بدوري له، وقلت: وهذا أيضا موضوع آخر يجرنا
للحديث عن القضاء والقدر، وقد سبق لنا أن تحدثنا فيه وبقي كل منا على
رأيه، وإني لأعجب يا سيدي لماذا كلما تحدثت مع عالم من علماء أهل
السنة وأفحمته بالحجة سرعان ما يتهرب من الموضوع إلى موضوع آخر
لا علاقة له بالبحث الذي نحن بصدده.
قال: وأنا باق على رأيي لا أغيره.

(1) سورة الأنبياء: الآية 23.
563

ودعته وانصرفت. بقيت أفكر مليا لماذا لا أجد واحدا من علمائنا
يكمل معي هذا المشوار ويوقف الباب على رجله، كما يقول المثل الشائع
عندنا.
فالبعض يبدأ الحديث، وعندما يجد نفسه عاجزا عن إقامة الدليل
على أقواله يتملص بقوله: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما
كسبتم) (1) والبعض يقول ما لنا ولإثارة الفتن والأحقاد فالمهم أن السنة
والشيعة يؤمنون بإله واحد ورسول واحد وهذا يكفي، والبعض يقول
بإيجاز: يا أخي اتق الله في الصحابة، فهل يبقى مع هؤلاء مجال للبحث
العلمي وإنارة السبيل والرجوع للحق الذي ليس بعده إلا الضلال؟ وأين
هؤلاء من أسلوب القرآن الذي يدعو الناس لإقامة الدليل: (قل هاتوا
برهانكم إن كنتم صادقين) (2) مع العلم بأنهم لو يتوقفون عن طعنهم
وتهجمهم على الشيعة لما ألجأونا للجدال معهم حتى بالتي هي أحسن (3).

(1) سورة البقرة: الآية 134.
(2) سورة البقرة: الآية 111.
(3) مع الصادقين للدكتور التيجاني السماوي ص 58.
564

المناظرة الثانية والسبعون
مناظرة الدكتور التيجاني مع أحد العلماء
قلت لأحد علمائنا: إذا كان معاوية قتل الأبرياء وهتك الأعراض
وتحكمون بأنه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد.
وإذا كان يزيد قتل أبناء الرسول وأباح المدينة (1) لجيشه
وتحكمون بأنه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد، حتى قال بعضكم: (قتل
الحسين بسيف جده) (2) لتبرير فعل يزيد.
فلماذا لا أجتهد أنا في البحث، وهو ما يجرني للشك في الصحابة
وتعرية البعض منهم وهذا لا يقاس بالنسبة للقتل الذي فعله معاوية وابنه
يزيد في العترة الطاهرة، فإن أصبت فلي أجران وإن أخطأت فلي أجر (
واحد)، على أن انتقاصي لبعض الصحابة لا أريد منه السب والشتم
واللعن، وإنما أريد الوصول إلى الحقيقة لمعرفة الفرقة الناجية من بين
الفرق الضالة.
وهذا واجبي وواجب كل مسلم، والله سبحانه يعلم السرائر وما
تخفي الصدور.
أجابني العالم قائلا: يا بني لقد أغلق باب الاجتهاد من زمان.

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) حياة الإمام الحسين - عليه السلام - للقرشي ج 3 ص 403، العواصم من القواصم لابن العربي
ص 232 بما معناه.
565

فقلت: ومن أغلقه؟
قال: الأئمة الأربعة.
فقلت متحررا: الحمد لله إذ لم يكن الله هو الذي أغلقه ولا رسول الله
ولا الخلفاء الراشدون الذين (أمرنا بالاقتداء بهم) فليس علي حرج إذا
اجتهدت كما اجتهدوا.
فقال: لا يمكنك الاجتهاد إلا إذا عرفت سبعة عشر علما، منها علم
التفسير واللغة والنحو والصرف والبلاغة والأحاديث والتاريخ وغير
ذلك.
وقاطعته قائلا: أنا لن أجتهد لأبين للناس أحكام القرآن والسنة أو
لأكون صاحب مذهب في الإسلام، كلا، ولكن لأعرف من على الحق ومن
على الباطل، ولمعرفة إن كان الإمام علي على الحق، أو معاوية مثلا، ولا
يتطلب ذلك الإحاطة بسبعة عشر علما، ويكفي أن أدرس حياة كل منهما
وما فعلاه حتى أتبين الحقيقة.
قال: وما يهمك أن تعرف ذلك: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت
ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) (1).
قلت: أتقرأ (ولا تسألون) بفتح التاء أم بضمها؟
قال: تسألون بالضم.
قلت: الحمد لله لو كانت بالفتح لامتنع البحث، وما دامت بالضم
فمعناها أن الله سبحانه سوف لن يحاسبنا عما فعلوا وذلك كقوله تعالى:
(كل نفس بما كسبت رهينة) (2)، و (أن ليس للإنسان إلا ما

(1) سورة البقرة: الآية 134.
(2) سورة المدثر: الآية 38.
566

سعى) (1).
وقد حثنا القرآن الكريم على استطلاع أخبار الأمم السابقة
ولنستخلص منها العبرة، وقد حكى الله لنا عن فرعون وهامان ونمرود
وقارون وعن الأنبياء السابقين وشعوبهم، لا للتسلية ولكن ليعرفنا الحق
من الباطل.
أما قولك: (وما يهمني من هذا البحث)؟
فأجيب عليه بقولي: يهمني:
أولا: لكي أعرف ولي الله فأواليه، وأعرف عدو الله فأعاديه، وهذا ما
طلبه مني القرآن بل أوجبه علي.
ثانيا: يهمني أن أعرف كيف أعبد الله وأتقرب إليه بالفرائض التي
افترضها وكما يريدها هو جل وعلا، لا كما يريدها مالك أو أبو حنيفة أو
غيرهم من المجتهدين لأني وجدت مالكا يقول بكراهة البسملة في
الصلاة (2) بينما يقول أبو حنيفة بوجوبها (3)، ويقول غيره ببطلان الصلاة
بدونها!
وبما أن الصلاة هي عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد
ما سواها، فلا أريد أن تكون صلاتي باطلة، كما أن الشيعة يقولون بمسح
الرجلين في الوضوء ويقول السنة بغسلهما بينما نقرأ في القرآن
(وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) (4) وهي صريحة في المسح، فيكف

(1) سورة النجم: الآية 39.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة للجزري ج 1 257.
(3) الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 257، الفقه الإسلامي وأدلته ج 1 ص 646.
(4) سورة المائدة: الآية 6.
567

تريد يا سيدي أن يقبل المسلم العاقل قول هذا ويرد قول ذاك بدون بحث
ودليل.
قال: بإمكانك أن تأخذ من كل مذهب ما يعجبك لأنها مذاهب
إسلامية وكلهم من رسول الله ملتمس.
قلت: أخاف أن أكون ممن قال الله فيهم: (أفرأيت من اتخذ إلهه
هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره
غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) (1). يا سيدي أنا لا أعتقد بأن
المذاهب كلها على حق ما دام الواحد منهم يبيح الشئ ويحرمه الآخر،
فلا يمكن أن يكون الشئ حراما وحلالا في آن واحد والرسول - صلى الله
عليه وآله وسلم - لم يتناقض في أحكامه لأنه (وحي من القرآن)، (ولو
كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (2). وبما أن المذاهب
الأربعة فيها اختلاف كثير فليست من عند الله ولا من عند رسوله لأن
الرسول لا يناقض القرآن.
ولما رأى الشيخ العالم كلامي منطقيا وحجتي مقبولة.
قال: أنصحك لوجه الله تعالى مهما شككت فلا تشك في الخلفاء
الراشدين، فهم أعمدة الإسلام الأربعة إذا هدمت عمودا منها سقط البناء!!
قلت: استغفر الله يا سيدي فأين رسول الله إذن إذا كان هؤلاء هم
أعمدة الإسلام؟
أجاب: رسول الله هو ذاك البناء! هو الإسلام كله.
ابتسمت من هذا التحليل وقلت: استغفر الله مرة أخرى يا سيدي

(1) سورة الجاثية: الآية 23.
(2) سورة النساء: الآية 82.
568

الشيخ فأنت تقول من حيث لا تشعر: بأن رسول الله - صلى الله عليه وآله
وسلم - لم يكن ليستقيم إلا بهؤلاء الأربعة بينما يقول الله تعالى: (هو الذي
أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله
شهيدا) (1).
فقد أرسل محمدا بالرسالة ولم يشركه فيها أحدا من هؤلاء الأربعة
ولا من غيرهم، وقد قال الله تعالى في هذا الصدد: (كما أرسلنا فيكم
رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة
ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) (2).
قال: هذا ما تعلمناه نحن من مشايخنا وأئمتنا، ولم نكن نحن في
جيلنا نناقش ولا نجادل العلماء مثلكم اليوم الجيل الجديد أصبحتم
تشكون في كل شئ وتشككون في الدين، وهذه من علامات الساعة فقد
قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: لن تقوم الساعة إلا على شرار الخلق (3).
فقلت: يا سيدي لماذا هذا التهويل، أعوذ بالله أن أشك في الدين أو
أشكك فيه، فقد آمنت بالله وحده لا شريك له وملائكته وكتبه ورسله،
وآمنت بأن سيدنا محمدا عبده ورسوله وهو أفضل الأنبياء والمرسلين
وخاتمهم وأنا من المسلمين، فكيف تتهمني بهذا؟
قال: أتهمك بأكثر من هذا لأنك تشكك في سيدنا أبي بكر وسيدنا
عمر وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي

(1) سورة الفتح: الآية 28.
(2) سورة البقرة: الآية 151.
(3) مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 394، صحيح مسلم ج 4 ص 2268 ح 131 - (2949)، المعجم
الكبير للطبراني ج 10 ص 127 ح 10097، شرح السنة للبغوي ج 15 ص 90 ح 4286، كنز
العمال ج 14 ص 112 ح 38436.
569

بكر لرجح إيمان أبي بكر (1).
وقال في حق سيدنا عمر: عرضت علي أمتي وهي ترتدي قمصا لم
تبلغ الثدي وعرض علي عمر وهو يجر قميصه، قالوا: ما أولته يا رسول
الله؟ قال: الدين (2).
وتأتي أنت اليوم في القرن الرابع عشر لتشكك في عدالة الصحابة
وبالخصوص أبي بكر وعمر، ألم تعلم بأن أهل العراق هم أهل الشقاق،
هم أهل الكفر والنفاق!!
ماذا أقول لهذا العالم المدعي العلم الذي أخذته العزة بالإثم، فتحول
من الجدال بالتي هي أحسن إلى التهريج والافتراء وبث الإشاعات أمام
مجموعة من الناس المعجبين به والذين احمرت أعينهم وانتفخت
أوداجهم ولاحظت في وجوههم الشر.
فما كان مني إلا أن أسرعت إلى البيت وأتيتهم بكتاب الموطأ للإمام
مالك وصحيح البخاري، وقلت: يا سيدي إن الذي بعثني على هذا الشك

(1) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج 2 ص 418 ح 653، شعب الإيمان للبيهقي ج 1 ص 9 6
ح 36، كشف الخفاء للعجلوني ج 2 ص 216 ح 2130، إتحاف السادة المتقين للزبيدي ج 1
ص 323.
والحديث حكم بضعفه وذلك لضعف راويه وهو عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد لأنه
يحدث عن أبيه، عن نافع عن ابن عمر بأحاديث لا يتابعه أحد عليها.
قال ذلك ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال ج 4 ص 1518، وقال عنه العقيلي يحدث
عن أبيه، أحاديثه مناكير غير محفوظة، ليس ممن يقيم الحديث الضعفاء الكبير ج 2 ص 279
ترجمة رقم: 842، وفي ميزان الاعتدال قال أبو حاتم وغيره: أحاديثه منكرة، وقال ابن الجنيد:
لا يساوي فلسا ج 2 ص 455.
(2) مسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 86، صحيح البخاري ج 5 ص 15، صحيح مسلم ج 4 ص 1859
ح 15 - (2390)، الرياض النضرة ج 2 ص 304.
570

هو رسول الله نفسه، وفتحت كتاب الموطأ وفيه روى مالك أن رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم - قال لشهداء أحد: هؤلاء أشهد عليهم، فقال
أبو بكر الصديق: ألسنا يا رسول الله إخوانهم أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا
كما جاهدوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: بلى ولكن لا
أدري ما تحدثون بعدي! فبكى أبو بكر ثم بكى ثم قال: (إننا لكائنون
بعدك (1).
ثم فتحت صحيح البخاري وفيه: دخل عمر بن الخطاب على
حفصة وعندها أسماء بنت عميس فقال - حين رآها -: من هذه؟ قالت:
أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه، قالت أسماء:
نعم، قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت
وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا
في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله،
وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك للنبي أسأله والله
لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - قالت: يا نبي الله، عمر قال: كذا وكذا.
قال: فما قلت له. قالت: كذا وكذا.
قال: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم
أهل السفينة هجرتان، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة
يأتونني أرسالا يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا شئ هم به أفرح
ولا أعظم ما في أنفسهم مما قال لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (2).

(1) الموطأ لمالك ج 2 ص 461 ح 32، المغازي للواقدي ج 1 ص 310.
(2) صحيح البخاري ج 5 ص 175، صحيح مسلم ج 4 ص 1946 ح 2503، حلية الأولياء ج 2
ص 74، دلائل النبوة للبيهقي ج 4 ص 244، البداية والنهاية لابن كثير ج 4 ص 206.
571

وبعد ما قرأ الشيخ العالم والحاضرون معه الأحاديث تغيرت
وجوههم وبدأوا ينظرون بعضهم إلى بعض ينتظرون رد العالم الذي صدم
فما كان منه إلا أن رفع حاجبيه علامة التعجب وقال: (وقل رب زدني
علما) (1).
فقلت: إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هو أول من
شك في أبي بكر ولم يشهد عليه لأنه لا يدري ماذا سوف يحدث من بعده،
وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقر بتفضيل عمر بن
الخطاب على أسماء بنت عميس بل فضلها عليه، فمن حقي أن أشك وأن
لا أفضل أحدا حتى أتبين وأعرف الحقيقة ومن المعلوم أن هذين
الحديثين يناقضان كل الأحاديث الواردة في فضل أبي بكر وعمر
ويبطلانها، لأنهما أقرب إلى الواقع المعقول من أحاديث الفضائل المزعومة.
قال الحاضرون: وكيف ذلك؟
قلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يشهد على أبي
بكر، وقال له إنني لا أدري ماذا تحدثون بعدي! فهذا معقول جدا وقد قرر
ذلك القرآن الكريم والتاريخ يشهد أنهم بدلوا بعده ولذلك بكى أبو بكر،
وقد بدل وأغضب فاطمة الزهراء بنت الرسول، وقد بدل حتى ندم قبل
وفاته (2) وتمنى أن لا يكون بشرا.
أما الحديث الذي يقول: لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح
إيمان أبي بكر (3)، فهو باطل وغير معقول، ولا يمكن أن يكون رجل
قضى أربعين سنة من عمره يشرك بالله ويعبد الأصنام أرجح إيمانا من أمة

(1) سورة طه: الآية 114.
(2) تقدمت تخريجاته.
(3) تقدمت تخريجاته.
572

قضى أربعين سنة من عمره يشرك بالله ويعبد الأصنام أرجح إيمانا من أمة
محمد بأسرها، وفيها أولياء الله الصالحين والشهداء والأئمة الذين قضوا
أعمارهم كلها جهادا في سبيل الله، ثم أين أبو بكر من هذا الحديث؟ لو
كان صحيحا لما كان في آخر حياته يتمنى أن لا يكون بشرا.
ولو كان إيمانه يفوق إيمان الأمة ما كانت سيدة النساء فاطمة بنت
الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، تغضب عليه وتدعو الله عليه في كل
صلاه تصليها (1).
ولم يرد العالم بشئ، ولكن بعض المجالسين قالوا: لقد بعث والله
هذا الحديث الشك فينا، عند ذلك تكلم العالم ليقول لي: أهذا ما تريده؟
لقد شككت هؤلاء في دينهم!!
وكفاني أحدهم الرد عليه، إذ قال: كلا، إن الحق معه، نحن لم نقرأ في
حياتنا كتابا كاملا، واتبعناكم واقتدينا بكم في ثقة عمياء بدون نقاش، وقد
تبين لنا الآن أن ما يقوله الحاج صحيح، فمن واجبنا أن نقرأ ونبحث!!
ووافقه على رأيه بعض الحاضرين، وكان ذلك انتصارا للحق والحقيقة،
ولم يكن انتصارا بالقوة والقهر ولكنه انتصار العقل والحجة والبرهان
(قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (2).
ذلك ما دفعني وشجعني على الدخول في البحث وفتح الباب على
مصراعيه فدخلته باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، راجيا منه سبحانه
وتعالى التوفيق والهداية فهو الذي وعد بهداية كل باحث عن الحق وهو لا
يخلف وعده (3).

(1) تقدمت تخريجاته.
(2) سورة البقرة: الآية 111.
(3) كتاب ثم اهتديت للدكتور التيجاني ص 149.
573

صورة الصفحة الأولى من مخطوطة مناظرة ابن أبي جمهور الأحسائي في مكتبة آية الله
العظمى المرعشي النجفي قدس سره رقم: 6896
574

صورة الصفحة الأخيرة من مخطوطة مناظرة ابن أبي جمهور الأحسائي في مكتبة آية الله
العظمى المرعشي النجفي قدس سره رقم: 6896
575

صورة الصفحة الأولى من مخطوطة مناظرة مع قطب الدين في مكتبة آية الله العظمى المرعشي
النجفي قدس سره رقم: 6896
576

صورة الصفحة الأخيرة من مخطوطة مناظرة مع قطب الدين في مكتبة آية الله
العظمى المرعشي النجفي قدس سره رقم: 6896
577