الكتاب: أجوبة مسائل جار الله
المؤلف: السيد شرف الدين
الجزء:
الوفاة: ١٣٧٧
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٣٧٣
المطبعة: مطبعة العرفان - صيدا
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

[أجوبة مسائل جار الله]
بقلم
سماحة الإمام آية الله
السيد
عبد الحسين شرف الدين الموسوي
الطبعة الثانية
1373 ه‍ مطبعة العرفان - صيدا. 1953 م
1

[كلمة الناشر]
كان الشيخ موسى جار الله طاف في البلاد الإسلامية،
متنسما أخبارها، واقفا على أحوالها. وقد وجه في نهاية مطافه
إلى علماء الشيعة أسئلة غلفها بالمحافظة على الوحدة الإسلامية.
وهو لو قصد إلى ذلك لما خط حرفا واحدا من تلك الأسئلة
التي ظن أنه أحرج بها المصلحين، ودعاة التقريب بين المسلمين
وحين وصلت هذه الأسئلة إلى آية الله الإمام أصدر هذا
الكتاب شافيا وافيا نازعا السهام التي سددها " جار الله "
إلى روح الإسلام.
وما أن خرج الكتاب من المطبعة " سنة 1355 ه‍ " حتى
أقبل عليه العلماء والمفكرون من حملة لواء الوحدة، ينشرونه
ويبشرون به وينفحون سيدنا المؤلف برسائل الإكبار والتحبيذ
لهذه " الأسئلة " وأهدافها.
وإننا نتقدم بالطبعة الثانية إلى الملحين بطلب الكتاب.
مبتهلين إلى الله تعالى أن يمد في ظل سيدنا مرشدا للأمة،
ونبراسا للمسلمين.
2

سماحة الإمام
المؤلف
3

(الخطبة)
وكفى بها جوابا عن مسائل موسى جار الله، وردا
على كل مشاغب
[بسم الله الرحمن الرحيم]
الحمد لله على هدايته لدينه، والتوفيق لما دعا إليه من سبيله،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وآله
عبده ورسوله جاء بالحق من عنده وصدق المرسلين.
وبعد فقد وردت علي مسائل موسى جار الله كما رفعت
إلى غيري من علماء الإمامية بواسطة جمعية الرابطة العلمية
الأدبية النجفية أعزها الله تعالى مؤرخة في 21 ذي القعدة سنة
1353 ووردت علي من طريق آخر أيضا. فما وقفت عليها
حتى وجست من مغازيها خيفة على الوحدة الإسلامية أن
تنفصم عروتها، وتتفرق جماعتها، إذ وجدت فيها من نبش
الدفائن وإثارة الضغائن ما يشق عصا المسلمين ويمزقهم تمزيقا،
4

والدور عصيب، والظروف حرجة، لا تسع النقض والإبرام
ولا المشادة والمناقشة، فضلا عن هذه المحاربة، التي ليس بعدها
مصاحبة. وكان الواجب ترك هذه الغارات، ولا سيما بعد أن
تركتنا فرائس الحشرات، فحتى م هذا الأرجاف؟ وفيم هذا
الإجحاف؟ أليس الله عز وجل وحده لا شريك له ربنا جميعا؟
والاسلام ديننا؟ والقرآن الحكيم كتابنا؟ وسيد النبيين
وخاتم المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله نبينا؟ وقوله وفعله
وتقريره سنتنا؟ والكعبة مطافنا وقبلتنا؟ والصلوات الخمس،
وصيام الشهر، والزكاة الواجبة، وحج البيت فرائضنا؟
والحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرماه، والحق
ما حققاه، والباطل ما أبطلاه، وأولياء الله ورسوله أولياؤنا
وأعداء الله ورسوله أعداؤنا، وأن الساعة آتية لا ريب فيها
وأن الله يبعث من في القبور (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا
ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) أليس الشيعيون والسنيون
شرعا في هذا كله سواءا؟ (كل آمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك
ربنا وإليك المصير)
5

والنزاع بينهما في جميع المسائل الخلافية صغروي في الحقيقة
ولا نزاع بينهما في الكبرى عند أهل النظر أبدا، ألا تراهما
إذا تنازعا في وجوب شئ أو في حرمته، أو في استحبابه
أو في كراهته أو في إباحته، أو تنازعا في صحته وبطلانه،
أو في جزئيته أو في شرطيته أو في مانعيته، أو في غير ذلك،
كما لو تنازعا في عدالة شخص أو فسقه أو إيمانه أو نفاقه أو
وجوب موالاته أو وجوب معاداته، فإنما يتنازعان في ثبوت
ذلك بالأدلة الشرعية، وعدم ثبوته فيذهب كل منهما إلى
ما تقتضيه الأدلة الإسلامية، ولو علموا بأجمعهم ثبوت الشئ
في دين الإسلام، أو علموا جميعا عدم ثبوته في الدين الإسلامي،
أو شك الجميع في ذلك لم يتنازعوا ولم يختلف فيه منهم شخصان
(1) وقد أخرج البخاري في صحيحه (2) عن كل من أبي سلمة

(1) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وسلام على عباده
الذين اصطفى، هذا الكلام بمجرده كاف للرد على موسى جار الله وأمثاله
ممن يبتغي السوء بالمؤمنين ويريد أن يشق عصا المسلمين ويفرق جماعتهم
كما لا يخفى
(2) راجع باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ وهو في أواخر
كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة قبل كتاب التوحيد بأقل من ورقتين تجد
الحديث ص 177 من الجزء الرابع من الصحيح.
6

وأبي هريرة وعمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم
فاجتهد ثم أخطأ فله أجر، ا ه‍.
ولذا قال العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي المعاصر
في رسالته - الجرح والتعديل - بعد ذكر الشيعة واحتجاج
مسلم بهم في صحيحه ما هذا لفظه: لأن مجتهدي كل فرقة من
فرق الإسلام مأجورون أصابوا أم أخطأوا بنص الحديث
النبوي ا ه‍.
وقال الشيخ رشيد رضا - في ص 44 من المجلد 17 من
مناره -: إن من أعظم ما بليت به الفرق الإسلامية رمي
بعضهم بعضا بالفسق والكفر مع أن قصد كل الوصول إلى
الحق بما بذلوا جهدهم لتأييده واعتقاده والدعوة إليه، فالمجتهد
وإن أخطأ معذور - وقد أطال في إثبات ذلك حتى بلغ
ص 50 - وقال ابن حزم حيث تكلم فيمن يكفر ولا يكفر
في ص 247 من الجزء الثالث من كتابه - الفصل في الملل
والنحل - ما هذا نصه: وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا
يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا وأن كل من اجتهد
7

في شئ من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل
حال إن أصاب فأجران وإن أخطأ فأجر واحد (قال):
هذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري
وداود بن علي وهو قول كل من عرفنا له قولا في هذه المسألة
من الصحابة لا نعلم منهم خلافا في ذلك أصلا إلى آخر كلامه.
والذين صرحوا بهذا ونحوه من أعلام الأمة كثيرون فلا وجه
أذن لهذه المشاغبات والله عز وجل يقول: (إنما المؤمنون
إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) ورسول
الله صلى الله عليه وآله يقول: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم.
وهم يد على سواهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين.
كنت أرى أن الاقتصار على هذا المقدار في جواب
مسائل موسى جار الله أولى من الاستقصاء في ردها، والامعان
في مناقشته عليها، فإن هذا أقرب إلى السلام، وأبقى للوئام
ولكنني رأيته يلح في تفصيل الجواب، حتى طرق في ذلك
كل باب (1) فلم يبق بد من إجابته، ولا سيما بعد أن كلفني

(1) إذ رفع مسائله هذه إلى علمائنا الأعلام في إيران، وفي البصرة
ثم رفعها إلى أعلام المجتهدين في الكاظمية المقدسة، ثم إلى شيوخ الإسلام
في النجف الأشرف ثم إلينا بواسطة الرابطة العلمية الأدبية النجفية كما بينا
وكلف الجميع بالجواب.
8

بها من لا تسعني مخالفتهم من الأجلاء وأفاضل العلماء، وقد رأيت
أن أضرب صفحا عن كلماته الجارحة، ولا أناقشه بشئ من
مجازفاته الفاضحة، وما أولانا بالإعراض عن نحو قوله: إن
جميع كتب الشيعة أجمعت على أمور لا تحتملها الأمة واتفقت
على أشياء كثيرة لا ترتضيها الأئمة، وقوله إنها جازفت في
مسائل منكرة مستبعدة ما كان ينبغي وجودها في كتب
الشيعة، إلى آخر ما جازف به من الأقاويل، التي لا يمكن
أن يقوم عليها دليل، ونحن لا نأبه بما لا دليل عليه، وما أشد
تهافته في الغرور إذ يقول: أما الأمور التي أعدها منكرة
لا تحتملها الأمة، ولا ترتضيها الأئمة فهي مسائل عديدة، ثم
استرسل في غروره فجاء بعشرين مسألة رغب في الجواب عنها فبلغ
الغاية في ذلك، وأنا أذكرها في هذه العجالة مع ما لدي من الجواب
عنها مسألة مسألة، ومن الله أستمد الهداية إلى الصواب،
وإياه أرجو حسن المآب، وإليه أرغب أن يكون عملي هذا
خالصا لوجهه الكريم، وأن يهديني فيه الصراط المستقيم صراط
9

الذين أنعم الله عليهم (غير المغضوب عليهم ولا الضالين).
(المسألة الأولى)
قال: كتب الشيعة تكفر عامة الصحابة كافة إلى آخر
هذيانه في عدوانه.
فأقول: نعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم،
ومن كل معتد أثيم، ونبرأ إليه تعالى من تكفير المؤمنين،
والسلف الصالح من المسلمين. لعل الرجل رأى في كتب الشيعة
سننا لم يفقهها، وحديثا متشابها لم يعرف مرماه، فاضطره
الجهل إلى هذا الإرجاف وما أظن الذي رآه في جميع كتب
الشيعة من تلك السنن إلا دون ما هو في صحيح البخاري
وحده منها، فلم يصم أهل السنة كتب الشيعة بهذا دون
الصحاح الستة وغيرها؟ ولم لم يعتذروا عن كتبنا بما اعتذروا
به عن كتبهم؟ فإن الإشكال واحد، والجواب هو الجواب.
وإليك ما أخرجه البخاري في باب الحوض وهو في آخر كتاب
الرقاق ص 94 من الجزء الرابع من صحيحه بالإسناد إلى أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله قال: بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا
10

عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم (1) قلت:
أين؟ قال: إلى النار والله، قلت وما شأنهم، قال: إنهم
ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة حتى إذا
عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم، قلت:
أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال إنهم
ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم
إلا مثل همل النعم (2) وأخرج في آخر الباب المذكور عن
أسماء بنت أبي بكر، قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله: إني على الحوض
حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ ناس دوني، فأقول:
يا رب مني ومن أمتي؟ فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟
والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم، فكان ابن أبي مليكة
يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا.
وأخرج في الباب المذكور أيضا عن ابن المسيب أنه كان

(1) هلم في لغة أهل الحجاز يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع والمذكر
والمؤنث تقول هلم يا زيد وهلم يا زيدان وهلم يا زيدون وهلم يا هند وهلم
يا هندات فهي اسم فاعل وفاعله ضمير مستتر تقديره في هذا الحديث أنتم لأن
المخاطبين بها إنما هم الزمرة
(2) قال السندي في تعليقته على صحيح البخاري
همل النعم بفتح الهاء والميم الإبل بلا راع أي لا يخلص منهم من النار إلا قليل
11

يحدث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله أن النبي قال: يرد علي
الحوض رجال من أصحابي فيحلؤون عنه فأقول: يا رب
أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم
ارتدوا على أدبارهم القهقري.
وأخرج في الباب المذكور عن سهل بن سعد، قال: قال النبي
صلى الله عليه وآله: إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب،
ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني،
ثم يحال بيني وبينهم، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن
أبي عياش، فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم
فقال: اشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها،
فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟
فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدي (1).
وأخرج في الباب المذكور أيضا عن أبي هريرة أنه كان
يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يرد علي يوم القيامة
رهط من أصحابي فيحلؤون على الحوض، فأقول: يا رب

(1) قال القسطلاني في شرح هذه الكلمة من إرشاد الساري ما هذا
لفظه: لمن غير بعدي أي دينه لأنه لا يقول في العصاة بغير الكفر سحقا
سحقا بل يشفع لهم ويهتم بأمرهم كما لا يخفي.
12

أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم
ارتدوا على أدبارهم القهقري.
وأخرج في أول الباب المذكور عن عبد الله عن النبي
صلى الله عليه وآله قال: أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجال منكم
ثم ليختلجن دوني، فأقول: يا رب أصحابي فيقال: إنك لا تدري
ما أحدثوا بعدك، قال البخاري: تابعه عاصم عن أبي وائل
وقال حصين: عن أبي وائل عن حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأخرج أيضا في باب غزوة الحديبية ص 30 من الجزء
الثالث من صحيحه عن العلاء بن المسيب عن أبيه،
قال: لقيت البراء بن عازب، فقلت له: طوبى لك صحبت
النبي صلى الله عليه وآله وبايعته تحت الشجرة، فقال: يا ابن أخي إنك
لا تدري ما أحدثنا بعده.
وأخرج أيضا في أول باب قوله تعالى (واتخذ الله إبراهيم
خليلا) من كتاب بدء الخلق ص 154 من جزئه الثاني، عن
ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله قال من حديث: وأن أناسا
من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي
فيقال إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم الحديث.
13

هذا بعض ما وجدناه في صحيح البخاري. أما ما هو من هذا
القبيل في بقية الصحاح وسائر السنن فكثير وكثير جدا، ومن
تتبعه وجده لا يقل عما هو في حديث الشيعة، وحسبك
ما أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي الطفيل في آخر الجزء
الخامس من مسنده فليراجعه كل مناصب للشيعة، وليت
موسى جار الله تدبر القرآن العظيم ليعلم أن كتب الشيعة التي
انتقدها إنما تستقي من سائغ فراته، ولا تستضئ إلا بمصباح
مشكاته (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن
مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن
يضر الله شيئا) (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)
نعوذ بالله من الجهل والغرور.
(فصل)
(رأي الشيعة في الصحابة أوسط الآراء)
إن من وقف على رأينا في الصحابة علم أنه أوسط الآراء،
إذ لم نفرط فيه تفريط الغلاة الذين كفروهم جميعا، ولا أفرطنا إفراط الجمهور الذين وثقوهم أجمعين، فإن الكاملية ومن كان
14

في الغلو على شاكلتهم، قالوا: بكفر الصحابة كافة، وقال
أهل السنة: بعدالة كل فرد ممن سمع النبي صلى الله عليه وآله أو رآه من
المسلمين مطلقا، واحتجوا بحديث كل من دب أو درج منهم
أجمعين أكتعين أبصعين، أما نحن فإن الصحبة بمجردها وإن
كانت عندنا فضيلة جليلة، لكنها - بما هي ومن حيث هي -
غير عاصمة، فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العدول،
وهم عظماؤهم وعلماؤهم، وأولياء هؤلاء وفيهم البغاة، وفيهم
أهل الجرائم من المنافقين، وفيهم مجهول الحال، فنحن نحتج
بعدولهم ونتولاهم في الدنيا والآخرة، أما البغاة على الوصي،
وأخي النبي، وسائر أهل الجرائم والعظائم كابن هند، وابن
النابغة، وابن الزرقاء (1) وابن عقبة، وابن أرطاة،
وأمثالهم فلا كرامة لهم، ولا وزن لحديثهم، ومجهول الحال
نتوقف فيه حتى نتبين أمره، هذا رأينا في حملة الحديث من

(1) هي الزرقاء بنت موهب جدة مروان بن الحكم لأبيه وكانت من
ذوات الرايات التي يستدل بها على ثبوت البغاء فلذا كان الحكم وبنوه يذمون
بها نص على هذا كله ابن الأثير حيث ذكر صفة مروان ونسبه وأخباره في
حوادث سنة 65 للهجرة ص 57 من الجزء الرابع من تاريخه الكامل - وصرح به غير واحد من أهل الأخبار.
15

الصحابة وغيرهم، والكتاب والسنة بيننا على هذا الرأي،
كما هو مفصل في مظانه من أصول الفقه، لكن الجمهور بالغوا
في تقديس كل من يسمونه صحابيا حتى خرجوا عن الاعتدال
فاحتجوا بالغث منهم والسمين واقتدوا بكل مسلم سمع النبي
أو رآه صلى الله عليه وآله اقتداء أعمى، وأنكروا على من يخالفهم في هذا
الغلو، وخرجوا في الإنكار على كل حد من الحدود، وما أشد
إنكارهم علينا حين يروننا نرد حديث كثير من الصحابة مصرحين،
بجرحهم أو بكونهم مجهولي الحال، عملا بالواجب الشرعي
في تمحيص الحقائق الدينية، والبحث عن الصحيح من الآثار
النبوية، وبهذا ظنوا بنا الظنونا، فاتهمونا بما اتهمونا، رجما
بالغيب، وتهافتا على الجهل، ولو ثابت إليهم أحلامهم،
ورجعوا إلى قواعد العلم، لعلموا أن أصالة العدالة في الصحابة
مما لا دليل عليه، ولو تدبروا القرآن الحكيم لوجدوه مشحونا بذكر
المنافقين منهم، وحسبك من سوره، التوبة، والأحزاب،
وإذا جاءك المنافقون، ويكفيك من آياته المحكمة (الأعراب
أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على
16

رسوله) (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم (1)
نحن نعلمهم) (لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور
حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون) (وهموا بما لم
ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله)
فليتني أدري أين ذهب المنافقون بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
وقد كانوا جرعوه الغصص مدة حياة، حتى دحرجوا الدباب (2)

(1) من يتدبر هذه الآية وغيرها من أمثالها يحصل له العلم الاجمالي
بوجود المنافقين في غير معلومي الإيمان. وحيث أن الشبهة محصورة كان
الاجتناب عن حديث الجميع واجبا حتى يثبت الإيمان والعدالة، ونحن في
غنى عن أطراف هذه الشبهة المحصورة بحديث معلومي العدالة من الصحابة
وهم عظماؤهم وعلماؤهم وأهل الذكر الذين أمر الله بسؤالهم والصادقون
الذين أمر الله سبحانه بأن نكون معهم على أن في حديث الأئمة من أهل
بيت النبوة وموضع الرسالة ومهبط الوحي والتنزيل كفاية وأي كفاية فهم
أعدال الكتاب وبهم يعرف الصواب.
(2) كان قوم من الصحابة دحرجوا الدباب ليلة العقبة لينفروا برسول
الله صلى الله عليه وآله ناقته فيطرحوه وكان صلى الله عليه وآله إذ ذاك راجعا من وقعة تبوك التي
استخلف فيها عليا، وحديث أحمد بن حنبل في آخر الجزء الخامس من
مسنده عن أبي الطفيل في هذه الطامة طويل وفي آخره أن رهطا من
الصحابة لعنهم رسول الله يومئذ وهذا الحديث مشهور مستفيض بين المسلمين
كافة.
17

وصدوه عن الكتاب، وقد تعلمون أنه صلى الله عليه وآله خرج إلى
أحد بألف من أصحابه فرجع منهم قبل الوصول ثلاث مئة
من المنافقين (1) وربما بقي معه منافقون لم يرجعوا خوف
الشهرة أو رغبة بالدفاع عن أحساب قومهم، ولو لم يكن في
الألف إلا ثلاث مئة منافق، لكفى دليلا على أن النفاق
كان زمن الوحي فاشيا، فكيف ينقطع بمجرد انقطاع الوحي
ولحوق النبي صلى الله عليه وآله بالرفيق الأعلى؟ فهل كانت حياته سببا
في نفاق المنافقين؟! وموته سببا في إيمانهم وعدالتهم وصيرورتهم
أفضل الخلق بعد الأنبياء وكيف انقلبت حقائقهم بعد وفاته
صلى الله عليه وآله فأصبحوا - بعد ذلك النفاق - بمثابة من الفضل
لا يقدح فيها شئ مما ارتكبوه من الجرائم والعظائم، وما
المقتضي للالتزام بهذه المكابرات؟! التي تنفر منها الأسماع
والأبصار والأفئدة؟ وما الدليل على هذه الدعاوي من كتاب
أو سنة أو إجماع أو قياس؟ وما ضرنا لو صدعنا بحقيقة أولئك
المنافقين، فإن الأمة في غنى عنهم بالمؤمنين المستقيمين من
الصحابة، وهم أهل السوابق والمناقب، وفيهم الأكثرية

(1) نص على هذا كل من أرخ غزوة أحد من أهل السير والأخبار
فراجع.
18

الساحقة، ولا سيما علماؤهم وعظماؤهم حملة الآثار النبوية،
وسدنة الأحكام الإلهية (وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم
المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها ذلك الفوز العظيم) وهم في غنى عن مدحة المادحين بمدحة
الله تعالى، وثنائه عليهم في الذكر الحكيم، وحسبهم تأييد
الدين، ونشر الدعوة إلى الحق المبين.
على أنا نتولى من الصحابة كل من اضطر إلى الحياد - في
ظاهر الحال - عن الوصي، أو التجأ إلى مسايرة أهل السلطة
بقصد الاحتياط على الدين، والاحتفاظ بشوكة المسلمين،
وهم السواد الأعظم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين
فإن مودة هؤلاء لازمة والدعاء لهم فريضة (ربنا اغفر لنا
ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين
آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم).
(المسألة الثانية)
قال: وللشيعة في تكفير الأول والثاني صراحة شديدة
ومجازفات طاغية، إلى آخر إرجافه.
19

(المسألة الثالثة)
زعم أن لهم في لعنهما عبارات ثقيلة شنيعة، إلى آخر عدوانه.
فأقول: ليس هذا الرجل أول من رمى الشيعة بهاتين
المسألتين، ولا نحن أول من ناقش في ذلك، وقد أكل الدهر
على هذه الأمور وشرب، فالتحريش بمثل هذه المسائل ليس
إلا إيقاظا للفتنة الراقدة، وإيقادا للحرب الخامدة، (وتفريقا
بين المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل،
وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون)
وأي فائدة للأمة في هذا البوق يجأر فيه المرجف بأنكر
الأصوات؟ وأي عائدة من هذا الطنبور ونغمه المزعج،
وقد تقطعت أوتاره بتقادم عهده؟ وطول ما وقعت عليه
أجيال المرجفين، وقد كان لبني أبي سفيان وبني مروان
وأوليائهم قدم في هذه الدعاية وهم أهل السطوة، وأهل
الحول والقوة، وأهل الطول والثروة، وأهل المكر
والنكرة، وأهل الخداع والحيلة، وقد سخروا كل ما لديهم
في تعريض هذه المسائل وتطويلها (فما ربحت تجارتهم وما
20

كانوا مهتدين) والشيعة كانوا حيال ذلك كالجبل الأشم لا يحفل
بالعواصف، ولا يأبه بالقواصف، هذا والعصر مظلم، والحياة
مهددة، أما اليوم فنور وحرية يأبيان ذلك كل الإباء، وما
على الشيعة لو جابهت النواصب بالحقيقة الناصعة، وأدلتها
القاطعة، ولعل النواصب يضطروننا إلى هذا.
رأيت الحلم دل علي قومي * وقد يتجهل الرجل الحليم -
استغفر الله، إن المسلمين إلى المسالمة أحوج منهم إلى
الملاكمة، وما اغنانا عن استعراض مثل هذه المسائل المثيرة
عونا في المعارك الفكرية التي لا تحمد عقباها، وقد أعذر
من أنذر.
على أن هاتين المسألتين - مسألتي التكفير واللعن - مما
لا وزن له عند أهل السنة لو رجعوا إلى أصول مذهبهم
الأشعري، لأن الإيمان عندهم عقد بالقلب لا ينافيه شئ مما
يلفظه اللسان، حتى شتم الله تعالى ورسوله، كما نص عليه
ابن حزم في ص 204 من الجزء 4 من كتابه الفصل حيث
نسب إلى إمام أهل السنة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري
وأصحابه القول: بأن الإيمان عقد بالقلب، وإن أعلن الكفر
21

بلسانه بلا تقية، وعبد الأوثان، أو لزم اليهودية أو النصرانية
في دار الإسلام، وعبد الصليب، وأعلن التثليث في دار
الإسلام، ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله
ولي لله من أهل الجنة، هذا كلامه بعين لفظه، وقال في أول
ص 206 من الجزء 4 من فصله أيضا: وأما الأشعرية فقالوا:
إن شتم من أظهر (1) الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش
ما يكون من الشتم وإعلان التكذيب بهما باللسان بلا تقية
ولا حكاية، والاقرار بأنه يدين بذلك ليس شئ من ذلك
كفرا، انتهى بعين لفظه.
نقل في الصفحة نفسها عن الأشاعرة القول بأن من عرف
الحق من اليهود والنصارى المعاصرين لرسول الله فاعتقد بأنه
رسول الله حقا، ثم كتم ذلك وتمادى في الجحود، وإعلان
الكفر، فحارب النبي في خيبر وغيرها فهو مؤمن عند الله،
ولي لله تعالى من أهل الجنة (2).

(1) أظن الصواب في هذه العبارة أن يقال: إن شتم من أبطن
الإسلام كما لا يخفي ولعل الغلط من الناسخ
(2) كان أحمد بن زاهر السرخسي وهو أجل أصحاب الإمام الأشعري يقول -
فيها نقله الشعراني عنه في أواخر المبحث 58 من يواقيته -: لما حضرت الشيخ
أبا الحسن الأشعري
الوفاة بداري في بغداد أمرني بجمع أصحابه فجمعتهم له فقال:
اشهدوا علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة بذنب لأني رأيتهم كلهم
يشيرون إلى معبود واحد، والاسلام يشملهم ويعمهم، هذا كلام إمام
السنيين وكفى به دحضا لإرجاف المرجفين.
22

قلت: ما عسى بعد هذا أن يقول المرجف بالشيعة مع
علمه بما انعقدت عليه قلوبهم واعتقدته ضمائرهم، ولهجت به
ألسنتهم ونبضت به شرايينهم، فخالط دمهم ومخهم، ونبت
عليه لحمهم، واشتد عظمهم ودانت به جوارحهم من الإيمان
بالله وحده، والتصديق بما جاءت به رسله، وهبطت به ملائكته
ونزلت به كتبه، ولو فرض أن في الشيعة جماعة يكفرون
أو يلعنون الذين ذكرهم هذا المرجف فإنهم إنما نزلوا في ذلك
على حكم الأدلة الشرعية، وهبها شبها لكنها توجب العذر لمن
غلبت عليه، لأنها لا تعدو الكتاب والسنة، وقد أوجبت لهم
القطع الجازم بما صاروا إليه، فهم معذورون ومأجورون
بحكم ما سمعته (1) من النص والفتوى، وقد قال ابن حزم
- في ص 227 من الجزء الثالث من الفصل - ما هذا لفظه:
وأما من سب أحدا من الصحابة فإن كان جاهلا فمعذور، وإن

(1) في خطبة هذه الرسالة فراجع منها الصفحة 8 والتي بعدها
23

قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق كمن زنى أو سرق،
وإن عاند الله في ذلك ورسوله فهو كافر (قال): وقد قال
عمر بحضرة النبي عن حاطب، وحاطب مهاجري بدري: دعني
أضرب عنق هذا المنافق. فما كان بتكفيره حاطبا كافرا،
بل كان مخطئا متأولا.
قلت: هذا رأي من لا تزدهفه العاطفة، ولا يستخفه في
هذه المسألة غضب، من كل عالم معتدل لا يؤثر على اتباع
الأدلة شيئا، وابن حزم لم يكن من هؤلاء المنصفين، لكن
الله عز وجل غالب على أمره، والحق ينطق منصفا وعنيدا أن أدلة
العقل والنقل، وشواهد الطبع والوضع لتثبت معذرة المتأولين
في هاتين المسألتين وأمثالهما كما فصلناه في فصولنا المهمة (1)

(1) راجع منها الفصل 2 المعقود لبيان معنى الإسلام
والإيمان، والفصل 3 المختص باحترام أهل القبلة، والفصل 5
المختص بنجاتهم، والفصل 6 المنعقد لبيان فتاوي علماء أهل
السنة بإيمان أهل القبلة كافة واحترامهم ونجاتهم جميعا والفصل
7 المختص ببشائر السنة للشيعة، والفصل 8 المختص بمعذرة المتأولين
والفصل 9 المشتمل على الفتوى بكفر الشيعة وتفصيل ما استدل
به المفتي بذلك والرد عليه بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة
فحقيق بكل بحاثة أن يقف على تلك الفصول.
24

وهو الذي صرح به مجتهدو الأمة (1). وقد كان الصحابة
على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتنازعون ويتشاتمون فلم يؤثر
عنه في حقهم شئ سوى الصلح بينهم. وقد تشاتموا مرة أمامه
وتضاربوا بالجرائد والأيدي والنعال (2) فأصلح صلى الله عليه وآله
بينهم، وتقاتل الأوس والخزرج على عهده صلى الله عليه وآله وأخذوا
السلاح واصطفوا للقتال (3) فلم يرو عنه صلى الله عليه وآله إلا إصلاح
ذات بينهم. وتشاتم عمار بن ياسر وخالد بن الوليد بين يديه
صلى الله عليه وآله فأغلظ عمار لخالد فغضب خالد وقال: يا رسول الله
أتدع هذا العبد يشتمني؟ فوالله لولا أنت ما شتمني، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: يا خالد كف عن عمار، فإنه من يسب

(1) كما بيناه في الدليل الخامس من الأدلة على عدم كفر
المتأولين في السب والتكفير ص 148 من الطبعة الثانية من
فصولنا المهمة في تأليف الأمة.
(2) هذا ثابت في الصحيحين فراجعه في أوائل كتاب
الصلح من صحيح البخاري ص 74 من جزئه الثاني، وفي أواخر
باب دعاء النبي إلى الله من كتاب الجهاد من صحيح مسلم
(3) رواه جميع أهل الأخبار وحسبك ما في آخر ص 107
من الجزء الثاني من السيرة الحلبية.
25

عمارا يسبه الله، ومن يبغض عمارا يبغضه الله، الحديث (1)
وشتم رجل أبا بكر، والنبي جالس فجعل النبي صلى الله عليه وآله
يعجب ويبتسم، فلما أكثر الشتم رد عليه أبو بكر بعض قوله
فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقام منصرفا من المجلس، فلحقه
أبو بكر فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس؟
فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، الحديث (2) وليس
فيه أن النبي صلى الله عليه وآله فعل مع ذلك الرجل أو قال له شيئا
أصلا. وتسور على مقام أبي بكر أيام خلافته بالشتم رجل

(1) أخرجه المحدثون وذكره المفسرون في تفسير قوله
تعالى من سورة المائدة: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم، وأورده الإمام الواحدي في تفسير
هذه الآية ص 118 من كتابه أسباب النزول.
(2) أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة ص 436
من الجزء الثاني من مسنده - ورواه الشيخ نصر السمرقندي
في باب كظم الغيظ من كتابه - تنبيه الغافلين بأحاديث خاتم
النبيين - ص 71.
26

آخر فقال أبو برزة الأسلمي (1): يا خليفة رسول الله دعني
أضرب عنقه، فقال: أجلس ليس ذلك لأحد إلا لرسول الله
صلى الله عليه وآله هذا حكم أبي بكر فيمن واجهه بالسب وتسور على
مقامه بالشتم، فمن أين نحكم بعده بالتكفير، أو نفتي بالتعزيز؟؟
واقتدى به في ذلك عمر بن عبد العزيز إذ كتب إليه عامله بالكوفة
يستفتيه في قتل رجل سب عمر بن الخطاب، فكتب إليه (2):
لا يحل قتل امرء مسلم بسب أحد من الناس، إلا رجلا

(1) كما أورده القاضي عياض في الباب الأول من القسم
الرابع من كتابه - الشفا - وأخرج نحوه الإمام أحمد من
حديث أبي بكر في ص 9 من الجزء الأول من مسنده.
وكذا الحاكم في ص 355 وفي ص 354 من الجزء الرابع
من المستدرك بالسند الصحيح على شرط الشيخين وأورده
الذهبي في التلخيص معترفا بصحته على شرطهما.
(2) كما في الباب الأول من القسم الرابع من كتاب
- الشفا - وأخرج محمد بن سعد في أحوال عمر بن عبد العزيز
ص 279 من الجزء الخامس من طبقاته بسنده إلى سهيل بن
أبي صالح قال: إن عمر بن عبد العزيز قال: لا يقتل أحد
في سب أحد إلا في سب نبي ا ه‍.
27

سب رسول الله فمن سبه صلى الله عليه وآله حل دمه.
وأنت إذا نظرت في أحوال الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
وجدت حروبا تشب، وغارات تشن، وحرمات مهتوكة
ودماء مسفوكة، وشتما وضربا، وهضما وسلبا، وحسبك:
اقتلوا نعثلا فقد كفر، فحوصر وقتل، ثم كانت وقعة الجمل
الأصغر فوقعة الجمل الأكبر فصفين، ثم كان من معاوية وأوليائه
ما كان مما طار في الأجواء، وطبق الأرض والسماء، فلينظر
ناظر بعقله هل كان بين هؤلاء وبين الله عز وجل قرابة فيحابيهم
بها؟ كلا ما كان الله ليثيب قوما بأمر يعاقب عليه آخرين، إن
حكمه في الأولين والآخرين لواحد، وما بينه عز وجل وبين
أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين، فإذا
كان التأول عذرا للأولين فهو عذر للآخرين (إن في ذلك
لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
[فصل]
إن في سيرة الصحابة نوادر تؤيد ما قلناه، من أن الصحبة
بمجردها ليست بعاصمة، وحسبك ما كان من قدامة بن مظعون
28

الصحابي إذ شرب الخمر على عهد الخليفة الثاني، وشهد عليه
بذلك أبو هريرة الدوسي، والجارود العبدي، وهما يعلمان أنه
أحد السابقين الأولين، وأنه ممن هاجر الهجرتين، وأنه من
أهل بدر، فلم تمنعهما صحبته، ولا سابقته من الشهادة عليه ولا
كان شئ من ذلك وازعا للخليفة عن إقامة الحد عليه إذ جلده
ثمانين (1).
وشهد أبو بكرة وهو من فضلاء الصحابة، ونافع بن
الحرث وهو من الصحابة أيضا، وشبل بن معبد (2) وزياد بن
عبيد - وهم إخوة لأم - شهدوا جميعا عند الخليفة الثاني على
المغيرة بن شعبة بالزنى، في محصنة الحجاج بن عتيك الجشمي،

(1) راجع ترجمة قدامة بن مظعون من كل من الإستيعاب
والإصابة وغيرهما تجد القضية مفصلة وقد أخرجها الحاكم في
ص 376 من الجزء 4 من المستدرك ثم قال: هذا حديث صحيح
الإسناد ولم يخرجاه وصححه الذهبي إذ أورده في تلخيصه.
(2) ذكره العسقلاني في القسم الثالث من إصابته، وذكر
الشهادة منه ومن إخوته على المغيرة.
29

وهي أم جميل بنت عمرو، في قضية ثابتة (1) هي من أشهر
الوقائع التاريخية، فما أنكر عليهم أحد بشهادتهم على الصحابي
بالفاحشة ولا رد الخليفة شهادتهم من حيث أنها توجب رجم
الصحابي، وحين تلكأ الشاهد الرابع وهو زياد أمر الخليفة
بجلد كل من الشهود الثلاثة، ثمانين جلدة، ولم تكن صحبة أبي
بكرة ونافع وازعة للخليفة عن جلدهما حد القذف.
وقال عمر لأبي هريرة مرة: يا عدو الله، وعدو كتابه سرقت
مال الله، قال أبو هريرة: فقلت ما أنا بعدو الله، ولا عدو
كتابه ولكني عدو من عاداهما، ولا سرقت مال الله، قال: فمن
أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قال. قلت خيلي تناسلت،
وعطائي تلاحق، قال: فأمر بها أمير المؤمنين فقبضت.
الحديث، أخرجه ابن سعد في ترجمة أبي هريرة من طبقاته.
وقال ابن عبد ربه المالكي في أوائل الجزء الأول من عقده

(1) فصلها ابن خلكان في أواخر ترجمة يزيد بن زياد
الحميري. وأشار إليها كل من ترجم أبا بكرة ونافعا وشبلا
والمغيرة بن شعبة وهي من حوادث سنة 17 للهجرة المشهورة
لا يخلو منها كتاب يشتمل على حوادث تلك السنة.
30

الفريد (1): دعا عمر أبا هريرة فقال له: هل علمت أني استعملتك على
البحرين، وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراسا بألف دينار
وستمائة دينار، قال: كان لنا أفراس تناتجت، وعطايا تلاحقت قال:
قد حسبت لك رزقك ومؤنتك، وهذا فضل فأده، قال:
ليس لك ذلك، قال: بلى والله أوجع ظهرك، ثم قام إليه
بالدرة حتى أدماه، ثم قال: إئت بها، قال: احتسبتها عند الله
قال: ذلك لو أخذتها من حلال، وأديتها طائعا، أجئت من
أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين،
ما رجعت (2) بك أميمة إلا لرعية الحمر، قال ابن عبد ربه
وأميمة أم أبي هريرة، قال: وفي حديث أبي هريرة: لما
عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدو الله، وعدو كتابه
سرقت مال الله، قال: فقلت: ما أنا عدو الله، ولا عدو
كتابه، ولكني عدو من عاداك، وما سرقت مال الله، قال:

(1) حيث ذكر ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم.
(2) الرجع والرجيع. الروث والمعنى ما روثت بك
أمك لتكون واليا وأميرا وإنما تغوطت بك لترعى الحمير ثم عزله
31

فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قلت خيل تناتجت،
وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت، قال فقبضها مني فلما صليت
الصبح استغفرت لأمير المؤمنين، قال لي بعد ذلك: أتعمل؟
قلت: لا، قال: قد عمل من هو خير منك يوسف عليه
السلام، قلت: يوسف نبي، وأنا ابن أميمة أخشى أن يشتم
عرضي، ويضرب ظهري، وينزع مالي، ا ه‍.
قلت: لو كان أمر الصحابة كما تعتقده العامة ما ضرب عمر
ظهره، ولا شتم عرضه، ولا أخذ ماله. وقتل خالد بن الوليد
مالك بن نويرة وهما صحابيان، ونكح خالد من ليلته (1)
زوجة مالك أم تميم بنت المنهال، وكانت من أجمل نساء العرب
ثم رجع إلى المدينة وقد غرز في عمامته أسهما، فقام إليه عمر
فنزعها وحطمها، وقال له - كما في تاريخ ابن الأثير وغيره -
قتلت امرءا مسلما ثم نزوت عن امرأته والله لأرجمنك بأحجارك
ثم قال لأبي بكر - كما في ترجمة وثيمة بن موسى من وفيات
ابن خلكان -: إن خالدا قد زنى فارجمه، قال: ما كنت

(1) كما اعترف به ابن حجر الهيثمي وأرسله - في ص
21 من صواعقه - إرسال المسلمات والقضية مشهورة مسلمة.
32

لأرجمه، فإنه تأول فأخطأ، قال: إنه قتل مسلما فاقتله به،
قال ما كنت لأقتله به، إنه تأول فأخطأ، وودي مالكا من بيت
المال، وفك الأسرى والسبايا من آله (1).
وأن هذه العجالة لتضيق عن استقصاء ما كان من هذا
القبيل من الحوادث الدالة على أن الصحابة لم يثبتوا لأنفسهم
من المنزلة ما أثبته لهم المجازفون.
(المسألة الرابعة)
نسب إلى الشيعة القول بتحريف القرآن بإسقاط كلمات

(1) هذه الواقعة من المسلمات، لا ريب في صدورها من
خالد، وقد ذكرها محمد بن جرير الطبري في تاريخه، وابن
الأثير في كامله، ووثيمة بن موسى بن الفرات والواقدي
في كتابيهما، وسيف بن عمر في كتاب الردة والفتوح،
والزبير بن بكار في الموفقيات، وثابت بن قاسم في الدلائل
وابن حجر العسقلاني في ترجمة مالك من إصابته، وابن
الشحنة في روضة المناظر، وأبو الفداء في المختصر، وخلق
كثير من المتقدمين والمتأخرين.
33

وآيات الخ.
فأقول: نعوذ بالله من هذا القول، ونبرأ إلى الله تعالى
من هذا الجهل، وكل من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا
أو مفتري علينا، فإن القرآن العظيم، والذكر الحكيم متواتر
من طرقنا بجميع آياته وكلماته، وسائر حروفه وحركاته
وسكناته، تواترا قطعيا عن أئمة الهدى من أهل البيت عليهم
السلام، لا يرتاب في ذلك إلا معتوه، وأئمة أهل البيت كلهم
أجمعون رفعوه إلى جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله عن الله تعالى،
وهذا أيضا مما لا ريب فيه، وظواهر القرآن الحكيم - فضلا
عن نصوصه - أبلغ حجج الله تعالى، وأقوى أدلة أهل الحق
بحكم الضرورة الأولية من مذهب الإمامية، وصحاحهم في ذلك
متواترة من طريق العترة الطاهرة، ولذلك تراهم يضربون
بظواهر الصحاح المخالفة للقرآن عرض الجدار، ولا يأبهون بها
عملا بأوامر أئمتهم عليهم السلام.
وكان القرآن مجموعا أيام النبي صلى الله عليه وآله على ما هو عليه الآن
من الترتيب والتنسيق في آياته وسوره، وسائر كلماته وحروفه
بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير، ولا تبديل ولا تغيير
34

وصلاة الإمامية بمجردها دليل على ذلك، لأنهم يوجبون
بعد فاتحة الكتاب - في كل من الركعة الأولى والركعة
الثانية من الفرائض الخمس - سورة واحدة تامة غير الفاتحة
من سائر السور (1) ولا يجوز عندهم التبعيض فيها، ولا القرآن
بين سورتين على الأحوط، وفقههم صريح بذلك، فلولا أن
سور القرآن بأجمعها كانت زمن النبي صلى الله عليه وآله على ما هي الآن
عليه من الكيفية والكمية ما تسنى لهم هذا القول، ولا أمكن
أن يقوم لهم عليه دليل.
أجل إن القرآن عندنا كان مجموعا على عهد الوحي والنبوة
مؤلفا على ما هو عليه الآن، وقد عرضه الصحابة على النبي صلى الله عليه وآله
وتلوه عليه من أو له إلى آخره، وكان جبرائيل عليه السلام
يعارضه صلى الله عليه وآله بالقرآن في كل عام مرة، وقد عارضه به عام

(1) ولا يجوز في ضيق الوقت قراءة ما يفوت الوقت
بقراءته من السور الطوال، كما لا يجوز قراءة إحدى سور
العزائم الأربع لاستلزامها زيادة سجدة في الصلاة أو المخالفة
بترك سجود التلاوة، والأقوى اتحاد سورتي الضحى وألم نشرح
وكذا الفيل وقريش عندنا.
35

وفاته مرتين، وهذا كله من الأمور الضرورية لدى المحققين
من علماء الإمامية، ولا عبرة ببعض الجامدين منهم، كما لا عبرة
بالحشوية من أهل السنة القائلين بتحريف القرآن والعياذ بالله
فإنهم لا يفقهون، نعم لا تخلو كتب الشيعة وكتب السنة
من أحاديث ظاهرة بنقص القرآن، غير أنها مما لا وزن لها
عند الأعلام من علمائنا أجمع، لضعف سندها ومعارضتها بما
هو أقوى منها سندا، وأكثر عددا، وأوضح دلالة، على أنها
من أخبار الآحاد، وخبر الواحد إنما يكون حجة إذا اقتضى
عملا، وهذه لا تقتضي ذلك، فلا يرجع بها عن المعلوم المقطوع
به، فليضرب بظواهرها عرض الحائط، ولا سيما بعد معارضتها
لقوله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ومن عرف
النبي صلى الله عليه وآله في حكمته البالغة ونبوته الخاتمة، ونصحه لله
ولكتابه ولعباده، وعرف مبلغ نظره في العواقب، واحتياطه
على أمته في مستقبلها، ير أن من المحال عليه أن يترك القرآن
منثورا مبثوثا، حاشا هممه وعزائمه، وحكمه المعجزة من
ذلك، وقد كان القرآن زمن النبي صلى الله عليه وآله يطلق عليه الكتاب
قال الله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)
36

وهذا يشعر بأنه كان مجموعا ومكتوبا، فإن ألفاظ القرآن إذا
كانت محفوظة ولم تكن مكتوبة لا تسمى كتابا، وإنما تسمى
بذلك بعد الكتابة كما لا يخفى، وكيف كان فإن رأي المحققين
من علمائنا أن القرآن العظيم إنما هو ما بين الدفتين الموجود في
أيدي الناس، والباحثون من أهل السنة يعلمون منا ذلك،
والمنصفون منهم يصرحون به، وحسبك ممن صرح بهذا إمام
أهل البحث والتتبع الشيخ رحمة الله الهندي فإنه نقل كلام
كثير من عظماء علماء الإمامية في هذا الموضوع بعين ألفاظهم
فراجع ص 89 من النصف الثاني من سفره الجليل - إظهار
الحق - فإن هناك كلام المعروفين من متقدمي علماء الإمامية
ومتأخريهم منقولا عن كتبهم المشهورة المنشورة التي يمكنكم
بعد مراجعة إظهار الحق أن تراجعوها أيضا بأنفسكم لتزدادوا
بصيرة فيما نقول، وسترون هذا الشيخ الجليل بعد نقله كلام علماء
الشيعة حول هذا لموضوع قد علق عليه كلمة تبين كنه مذهبهم
فيه، حيث قال ما هذا لفظه: " فظهر أن المذهب المحقق
عند علماء الفرقة الإمامية الاثني عشرية أن القرآن الذي أنزله
الله على نبيه هو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس ليس
37

بأكثر من ذلك، وأنه كان مجموعا مؤلفا في عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله وحفظه ونقله ألوف من الصحابة، وجماعة من
الصحابة كعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وغيرهما
ختموا القرآن على النبي عدة ختمات، ويظهر القرآن ويشهر
بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر رضي الله عنه (قال)
: والشرذمة القليلة منهم التي قالت بوقوع التغيير فقولهم
مردود عندهم ولا اعتداد به فيما بينهم (قال): وبعض الأخبار
الضعيفة التي رويت في مذهبهم لا يرجع بمثلها عن المعلوم
المقطوع على صحته (قال): وهو حق لأن خبر الواحد إذا
اقتضى علما ولم يوجد في الأدلة القاطعة ما يدل عليه وجب
رده على ما صرح به ابن المطهر الحلي في كتابه المسمى بمبادئ
الوصول إلى علم الأصول وقد قال الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر
وإنا له لحافظون) (قال): ففي تفسير الصراط المستقيم الذي
هو تفسير معتبر عند علماء الشيعة أي إنا لحافظون له من
التحريف والتبديل والزيادة والنقصان " انتهى كلامه بعين
لفظه.
ونحن تعرضنا للبحث عن هذا الموضوع في الفصل 11 من
38

فصولنا المهمة وفاتنا ثمة النقل عن كتاب كشف الغطاء وهو
من أجل الكتب الفقهية المشهورة المنشورة لمؤلفه إمام المتبحرين
وعيلم علوم المتقدمين والمتأخرين شيخنا الأكبر الشيخ جعفر
رضي الله عنه فراجع منه كتاب القرآن تجده يقول في المبحث
السابع من مباحثه: لا زيادة في القرآن من سورة ولا آية من
بسملة وغيرها ولا كلمة ولا حرف، وجميع ما بين الدفتين مما
يتلى كلام الله بالضرورة من المذهب بل الدين وإجماع المسلمين
وأخبار النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الطاهرين عليهم السلام. وقال
في المبحث الثامن: لا ريب في أن القرآن محفوظ من النقصان
بحفظ الملك الديان كما دل عليه صريح الفرقان وإجماع العلماء
في جميع الأزمان (قال): ولا عبرة بالنادر وما ورد من أخبار
النقيصة تمنع البديهة من العمل بظاهرها، إلى آخر كلامه،
زاد الله في شرف مقامه.
هذا رأي علماء الشيعة في القرآن، من الصدر الأول إلى
الآن، أخذوه - وهو عين الصواب - عن أئمتهم - وعن
أعدال الكتاب - وقد شذ بعض الجامدين من الشيعة فقالوا
بنقصان القرآن، محتجين بظواهر بعض الأحاديث التي لم
39

يفقهوا معناها، وهي بين ضعيف ومرجل ومأول كما شذ من
قال بهذا القول من أهل السنة محتجين بما أخرجه البخاري (1)
وغيره عن عمر بن الخطاب إذ قال: إن الله بعث محمدا بالحق
وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل آية الرجم فقرأناها وعقلناها
ووعيناها. رجم رسول الله صلى الله عليه وآله ورجمنا بعده فأخشى
إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في
كتاب الله فيضل بترك فريضة أنزلها الله، إلى أن قال: ثم
إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم
فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو إن كفرا بكم أن
ترغبوا عن آبائكم الحديث، وهو صحيح عندهم صريح في
نقصان آية الرجم وآية الرغبة عن الآباء.
وأخرج مسلم (2) وغيره عن أبي الأسود عن أبيه قال:

(1) في باب رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت وهو في
كتاب الحدود والمحاربين من أهل الكفر والردة ص 119
من الجزء الرابع من صحيحه فراجع.
(2) في باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا من
كتاب الزكاة أول ص 386 من الجزء الأول من صحيحه.
40

بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه
ثلاث مئة رجل قد قرأوا القرآن فقال: أنتم خيار أهل
البصرة وقراؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم
كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا
نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت
منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا،
ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، وكنا نقرأ سورة كنا
نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها يا أيها
الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم
فتسألون عنها يوم القيامة. انتهى بلفظه. والحديث صحيح
عندهم صريح في نقصان سورتين طويلتين كما لا يخفى.
وأخرج الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى (فما
استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) من أوائل الجزء الخامس
من تفسيره الكبير بالإسناد إلى كل من أبي بن كعب،
وابن عباس، وسعيد بن جبير، والسدي، أنهم كانوا يقرأونها
فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن.
وأرسل الزمخشري في كشافه هذه القراءة عن ابن عباس
41

إرسال المسلمات، وذكر الرازي في تفسير الآية أنه روى عن
أبي بن كعب أنه كان يقرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى
فآتوهن أجورهن (قال): وهذا أيضا هو قراءة ابن عباس
(قال): والأئمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة (قال:
فكان ذلك إجماعا من الأمة على صحة هذه القراءة.
قلت: هذا كلامه بعين لفظه فراجعه في ص 201 من الجزء 3
من تفسيره الكبير، ونقل القاضي عياض عن المازري - كما في
أول باب نكاح المتعة من شرح صحيح مسلم للعلامة النووي -:
أن ابن مسعود قرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل، والسنن في
ذلك كثيرة وهي صحيحة صريحة في النقصان، وأخرج البخاري (1)
من طريقين عن الأعمش عن إبراهيم قال: قدم أصحاب عبد الله
- ابن مسعود - على أبي الدرداء - وهو في الشام - فطلبهم
فوجدهم فقال: أيكم يقرأ على قراءة عبد الله، قالوا: كلنا
قال: فأيكم يحفظ، فأشاروا إلى علقمة، قال كيف سمعته
يقرأ والليل إذا يغشى؟ قال علقمة: فقرأت والليل إذا يغشى

(1) في ص 143 من الجزء الثالث من صحيحه في تفسير سورة الليل
من كتاب تفسير القرآن فراجع.
42

والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى، قال اشهد أني سمعت النبي
صلى الله عليه وآله يقرأ هكذا، وهؤلاء يريدوني على أن أقرأ وما خلق
الذكر والأنثى، والله لا أتابعهم، ا ه‍.
وهذا حديث صحيح صريح في الزيادة لا في النقصان
والسنن في ذلك من طريق أهل السنة أكثر من أن تحصى في
هذه العجالة، أو تستقصى في هذا الاملاء، فما يقوله أهل السنة
في الجواب عنها هو بعينه الجواب عما هو في كتبنا.
وما أدري والله ما يقولون فيما نقله عنهم في هذا الباب
غير واحد من سلفهم الأعلام كالإمام أبي محمد بن حزم إذ
نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري في ص 207 من الجزء
الرابع من الفصل أنه كان يقول: إن القرآن المعجز إنما هو
الذي لم يفارق الله عز وجل قط، ولم يزل غير مخلوق ولا سمعناه
قط، ولا سمعه جبرائيل ولا محمد عليهما السلام قط، وإن
الذي نقرأ في المصاحف ونسمعه ليس معجزا بل مقدور على مثله،
إلى آخر ما نقله عن الإمام الأشعري وأصحابه - وهم جميع
أهل السنة - حتى قال في ص 211 ما هذا لفظه: وقالوا
كلهم إن القرآن لم ينزل به قط جبرائيل على قلب محمد عليه الصلاة
43

والسلام، وإنما نزل عليه بشئ آخر، هو العبارة عن كلام الله،
وإن القرآن ليس عندنا البتة إلا على هذا المجاز، وإن الذي
نرى في المصاحف ونسمع من القرآن ونقرأ في الصلاة ونحفظ
في الصدور ليس هو القرآن البتة، ولا شئ منه كلام الله
البتة، بل شئ آخر، وإن كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله
عز وجل، ثم استرسل في كلامه عن الأشاعرة حتى قال في
ص 212: ولقد أخبرني علي بن حمزة المراوي الصقلي أنه
رأى بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله، قال: فأكبرت
ذلك وقلت له: ويحك هكذا تصنع بالمصحف وفيه كلام الله
تعالى، فقال لي: ويلك والله ما فيه إلا السخام والسواد، وأما
كلام الله فلا - قال ابن حزم - وكتب إلي أبو المرحي بن
رزوار المصري أن بعض ثقات أهل مصر من طلاب السنن
أخبره أن رجلا من الأشعرية قال له مشافهة: على من يقول: إن
الله قال: قل هو الله أحد الله الصمد ألف لعنة، إلى آخر ما نقله عنهم
فراجعه من ص 204 إلى ص 226 من الجزء الرابع من الفصل.
ثم قل لي كيف تحتمل الأمة منكم هذا المحال،
وكيف تقوى لكم على حمل ما لا تقله الجبال، ثم يضعف
44

ذرعها ويضيق وسعها عن هدي آل محمد المتمثل في صحاح
شيعتهم بأجلى المظاهر - ما هكذا تورد يا سعد الإبل - عفا
الله عنك يا موسى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(المسألة الخامسة)
زعم أن الشيعة ترى حكومات الدول الإسلامية وقضاتها
وكل علمائها طواغيت، إلى آخر كلامه.
(فأقول): خلط الحابل بالنابل، والجائر بالعادل، كأنه
لا يدري أن الطواغيت من الحكومات وقضاتها عند الشيعة
إنما هم الظالمون الغاشمون المستحلون من آل محمد ما حرم الله
ورسوله، الباذلون كل ما لديهم من سطوة وجبروت في أن
يبيدوا العترة الطاهرة من جديد الأرض، وقد وازرهم على
هذا قضاة الرشوة، وعلماء التزلف المراؤون الدجالون فبلغوا
في تسويد صحائف الشيعة كل مبلغ، وألصقوا بهم كل عائبة،
إرجافا بهم وافتراء عليهم، وجرأة على الله تعالى، واستخفافا
بحرماته عز وجل، وتهجينا لمذهب أهل البيت، وتشويها
لوجه الحق، وتصحيحا لما كان يرتكبه الغاشمون من النهب
45

والسلب، والشتم والضرب، وتحريق البيوت، وتقطيع
النخيل، وقتل الرجال، واصطفاء الأموال، فأي جناح على
من اعتبر تلك الحكومة اليزيدية وقضاتها وعلماءها طواغيت؟
وهل في الخارج أو في الذهن مصاديق للطواغيت سوى أمثالهم؟.
أما غيرهم من حكومات الإسلام فإن من مذهب الشيعة
وجوب مؤازرتهم في أمر يتوقف عليه عز الإسلام ومنعته،
وحماية ثغوره وحفظ بيضته، ولا يجوز عندهم شق عصا المسلمين،
وتفريق جماعتهم بمخالفته، بل يجب على الأمة أن تعامل سلطانها
القائم بأمورها والحامي لثغورها معاملة الخلفاء بالحق، وإن
كان عبدا مجدع الأطراف، فتعطيه خراج الأرض ومقاسمتها
وزكاة الأنعام وغيرها، ولها أن تأخذ منه ذلك بالبيع والشراء
وسائر أسباب الانتقال، كالصلات والهبات ونحوها، ولا إشكال
في براءة ذمة المتقبل منه بدفع القبالة إليه، كما لو دفعها إلى
إمام الحق، هذا مذهبنا في الحكومات الإسلامية - كما فصلناه
في المراجعة 82 من مراجعاتنا - لكن موسى جار الله وأضرابه
يريدون إغراء الحكومات الإسلامية بالشيعة ضررا وبغيا
(وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من
قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون).
46

(المسألة السادسة)
قال: صرحت كتب الشيعة أن كل الفرق الإسلامية
كلها كافرة ملعونة خالدة في النار إلا الشيعة الخ.
(فأقول) نعوذ بالله من تكفير المسلمين، والله المستعان
على كل معتد أثيم، هماز مشاء بنميم، كيف يجوز على الشيعة
أن تكفر أهل الشهادتين والصلاة والصوم والزكاة والحج
والإيمان باليوم الآخر، وقد قال إمامهم أبو عبد الله جعفر
الصادق عليه السلام - في حديث سفيان بن الصمت -: الإسلام
هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن
محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج
البيت، وصيام شهر رمضان. ا ه‍.
وقال عليه السلام - في حديث سماعة -: الإسلام شهادة
أن لا إله إلا الله، والتصديق برسول الله صلى الله عليه وآله وبه حقنت
الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث. ا ه‍.
وقال الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام - في صحيح
حمران بن أعين -: والاسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو
47

الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها، وبه حقنت الدماء،
وعليه جرت المواريث وجاز النكاح، واجتمعوا على الصلاة
والزكاة، والصوم والحج، فخرجوا بذلك عن الكفر، وأضيفوا
إلى الإيمان. ا ه‍. ونصوص أئمتنا في هذا المعنى متواترة،
وعليه إجماع الشيعة. ولو فرض أن في بعض كتبهم المعتبرة
شيئا من تكفير مخاليفهم، فليس المراد من التكفير هنا معناه
الحقيقي، وإنما المراد إكبار المخالفة لأئمة أهل البيت، وتغليظها
نظير ما ثبت في الصحاح من تكفير التارك للصلاة، والمقاتل
للمسلم، والطاعن في النسب، والعبد الآبق، والنائحة على
الموتى. وكتب أهل السنة مشحونة بتكفير الشيعة، وتحقيرهم
ونبزهم بالرفض تارة، وبالخشبية مرة، وبالترابية أخرى،
وبغير ذلك من ألقاب الضعة، ولا تسل عن الإرجاف بهم،
والافتراء عليهم، وبهتهم بالأباطيل، وحسبك ما تجده في باب
الردة والتعزير من الفتاوى الحامدية من تنقيحها فإن هناك
ما لا تبرك الإبل عن مثله (1) فهل أنكر عليه في بهتانه منكر؟

(1) نقلناه بعين لفظه في الفصل 9 من فصولنا المهمة ثم زيفناه بما
لا رد عليه ولا ريب فيه وقد أشرنا في الفصل 10 والفصل 11 إلى يسير
مما نسبه المرجفون إلى الشيعة مع إثبات برأتهم منه فلا تفوتنكم تلك الفوائد
وجدير بكل بحاثة أن لا تفوته الفصول المهمة.
48

أو عذله عن ظلمه وعدوانه عاذل؟ فحتى م تصوبون على إخوانكم
- الصواعق المحرقة - وتنبزونهم بأهل البدع والزندقة، حتى
كان - منهاج السنة - سبابا و - نبراسها - كذابا، و - فجر
الإسلام - هو - الإسلام الصحيح - و - كرد - الشام هو
العربي الصريح، وأرباب القلم وأنصار السنة أضراب النصولي
في كتاب معاوية بن أبي سفيان، والحصاني صاحب العروبة
في الميزان، وموسى هذا الأرعن في مسائله، وابن عانة في
معاميه ومجاهله، يتحكمون بجهلهم فيستحلون من الشيعة
ما حرم الله عز وجل، بغيا منهم وجهلا.
والمسلمون بمنظر وبمسمع * لا منكر منهم ولا متفجع -
كأن الشيعة ليسوا بإخوانهم في الدين، ولا بأعوانهم على
من أراد بهم سوءا.
(فصل)
قال موسى جار الله في خاتمة هذه المسألة: يقول الإمام
- يعني الباقر أو الصادق - في أئمة المذاهب الأربعة من هذه
الأمة: لا تأتهم! ولا تسمع منهم! لعنهم الله ولعن مللهم المشركة!.
49

(فأقول): لا طريق لموسى جار الله وغيره في إثبات هذا
القول عن أئمتنا أبدا، ولو فرضنا ثبوته فما هو إلا دون ما قد
ثبت عن حجج أهل السنة، وأعلام سلفهم المعاصرين للأئمة
الأربعة كما يعلمه المتتبعون، وقد أخرج الخطيب في ترجمة
أبي حنيفة من الجزء 13 من تاريخ بغداد أحاديث كثيرة في
هذا الموضوع لعل موسى جار الله لم يقف عليها، فنحن الآن
نلفته إليها، وحسبه منها ما أخرجه بالإسناد إلى سفيان بن
سعيد الثوري، قال: سمعت حماد بن أبي سليمان يقول (1):
أبلغوا أبا حنيفة المشرك أني من دينه برئ إلى أن يتوب. ا ه‍.
ثم أخرج بالإسناد إلى حماد أيضا أنه رأى أبا حنيفة
مقبلا عليه، فقال: لا مرحبا ولا أهلا، ثم قال لأصحابه: إن
سلم فلا تردوا عليه، وإن جلس فلا توسعوا له، فلما جاء
أبو حنيفة أخذ حماد كفا من حصى فرمى به في وجه أبي حنيفة.
وأخرج الخطيب أيضا بالإسناد إلى أبي بكر محمد بن عبد الله
ابن صالح الأسدي الفقيه المالكي، قال: سمعت أبا بكر بن

(1) هذه ألفاظه تجدها في السطر الأول من ص 381 من الجزء
13 من تاريخ الخطيب.
50

أبي داود السجستاني يوما وهو يقول لأصحابه: ما تقولون
في مسألة اتفق عليها مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه،
والأوزاعي وأصحابه، والحسن بن صالح وأصحابه، وسفيان
الثوري وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه، فقالوا له:
يا أبا بكر لا تكون مسألة أصح من هذه، فقال (1): هؤلاء
كلهم اتفقوا على تضليل أبي حنيفة. ا ه‍. وأخرج أيضا (2)
بسنده إلى أبي العباس أحمد بن علي بن مسلم الأبار: أن القوم
الذين ردوا على أبي حنيفة، أيوب السجستاني، وجرير بن حازم،
وهمام بن يحيى، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأبو عوانة
وعبد الوارث وسوار العنبري القاضي، ويزيد بن زريع،
وعلي بن عاصم ومالك بن أنس، وجعفر بن محمد، وعمر بن
قيس، وأبو عبد الرحمن المقرئ، وسعيد بن عبد العزيز،
والأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، وأبو إسحاق الفزاري،
ويوسف بن أسباط، ومحمد بن جابر، وسفيان الثوري، وسفيان
ابن عيينة، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، وحفص

(1) كما في السطر الأول من ص 384 من الجزء 13 من تاريخ الخطيب
(2) في أواخر ص 369 من الجزء 13.
51

ابن غياث، وأبو بكر بن عياش، وشريك بن عبد الله،
ووكيع بن الجراح، ورقبة بن مصقلة، والفضل بن موسى،
وعيسى بن يونس، والحجاج بن أرطاة، ومالك بن مغول،
والقاسم بن حبيب وابن شبرمة. فهؤلاء خمسة وثلاثون إماما قد
اتفقوا على الرد عليه. وأخرج الخطيب أيضا (1) بالإسناد
إلى وكيع قال: اجتمع سفيان الثوري وشريك، والحسن بن
صالح، وابن أبي ليلى فبعثوا إلى أبي حنيفة فأتاهم، فقالوا له:
ما تقول في رجل قتل أباه، ونكح أمه، وشرب الخمر في
رأس أبيه، فقال: هو مؤمن، فقال له ابن أبي ليلى: لا قبلت لك
شهادة أبدا، وقال له سفيان الثوري: لا كلمتك أبدا، وقال
له شريك: لو كان لي من الأمر شئ لضربت عنقك، وقال له
الحسن بن صالح: وجهي من وجهك حرام أن أنظر إلى
وجهك أبدا. ا ه‍. وأخرج الخطيب أيضا (2) عن الإمام
مالك بن أنس قال: ما ولد في الإسلام مولود أضر على
أهل الإسلام من أبي حنيفة. الخ. وأخرج عنه أيضا (3)

(1) في أول ص 374 من الجزء المذكور.
(2) في ص 396 من الجزء المذكور
(3) في ص 396 أيضا.
52

قال: كانت فتنة أبي حنيفة أضر على هذه الأمة من فتنة
إبليس. الخ. وأخرج أيضا (1) عن عبد الرحمن بن مهدي
قال: ما أعلم في الإسلام فتنة بعد فتنة الدجال أعظم من رأي
أبي حنيفة. ثم أخرج عن سفيان قال: ما وضع في الإسلام
من الشر ما وضع أبو حنيفة إلا فلان لرجل صلب. ثم أخرج
عن شريك قال: لأن يكون في كل حي من الأحياء خمار
خير من أن يكون فيه رجل من أصحاب أبي حنيفة. ثم
أخرج عنه أيضا قال: لو أن في كل ربع من أرباع الكوفة
خمارا يبيع الخمر كان خيرا من أن يكون فيه من يقول بقول
أبي حنيفة. ثم أخرج عن حماد بن زيد قال: سمعت أيوب
وقد ذكر أبو حنيفة فقال: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم
ويأبى الله إلا أن يتم نوره. ثم أخرج عن سلام بن أبي مطيع
قال: كان أيوب قاعدا في المسجد الحرام فرآه أبو حنيفة فأقبل
نحوه، فلما رآه أيوب قد أقبل نحوه، قال لأصحابه: قوموا
لا يعرنا بجربه، قوموا فقاموا فتفرقوا. ثم أخرج عن سليمان
ابن حسان الحلبي قال: سمعت الأوزاعي ما لا أحصيه

(1) في ص 396 أيضا.
53

يقول (1): عمد أبو حنيفة إلى عرى الإسلام فنقضها عروة
عروة. ثم أخرج عن سلمة بن كلثوم وكان من العابدين،
قال: قال الأوزاعي لما مات أبو حنيفة: الحمد لله إن كان لينقض
الإسلام عروة عروة. ثم أخرج عن ابن مهدي قال: كنت
عند سفيان الثوري إذ جاء نعي أبي حنيفة فقال: الحمد لله الذي
أراح المسلمين منه، لقد كان ينقض عرى الإسلام عروة عروة،
ما ولد في الإسلام مولودا أشأم على الإسلام منه. ا ه‍. ثم استرسل
الخطيب في نقل هذا القول ونحوه عن كل من الأوزاعي،
والثوري، والإمام الشافعي، وحماد بن سلمة، وابن عون،
والبتي، وسوار، والإمام مالك، وأبي عوانة، وعبد الله
ابن المبارك، والنضر بن شميل، وقيس بن الربيع، وعبد الله
ابن إدريس، وأبي عاصم، والحميري، وعبد الرحمن بن مهدي،
وعمر بن قيس، وعمار بن زريق، وأبي بكر بن عياش،
والأسود بن سالم، وعلي بن عثام، ويزيد بن هارون،
والإمام أحمد بن حنبل، وخالد بن يزيد بن أبي مالك، وأبي
مسهر، وأبي الحسن النجاد، وابن أبي شيبة، وإبراهيم الحربي،

(1) كما في السطر الأول من ص 398 من الجزء 13.
54

وسريح بن يونس، وابن نمير، ويحيى بن سعيد القطان،
وغيرهم، ومن شاء أن يقف على كلام هؤلاء الأئمة الأثبات،
فليراجع باب ما قاله العلماء في ذم رأي أبي حنيفة والتحذير
منه ص 394 وما بعدها إلى ص 423 من الجزء 13 من تاريخ
الخطيب.
وقد أخرج بأسانيد متعددة، وطرق مختلفة عن كل من
شريك وسليمان بن فليح المدني، وقيس بن الربيع، وسفيان
الثوري، ويعقوب، ومؤمل بن إسماعيل، وسفيان بن عيينة،
ويحيى بن حمزة، وسعيد بن عبد العزيز، ويزيد بن زريع،
وعبد الله بن إدريس، وأسد بن موسى، وأحمد بن حنبل،
أنهم جميعا قالوا (1): إن أبا حنيفة قد استتيب من الكفر
والزندقة مرتين أو ثلاثا. وأخرج أيضا (2) عن أبي مسهر
قال: كان أبو حنيفة رأس المرجئة، ثم أخرج هذا ونحوه عن
كل من عبد الله بن يزيد، وابن المبارك، بل أخرج عن أبي يوسف
تلميذ أبي حنيفة قال: إن أبا حنيفة كان مرجئا جهميا حتى

(1) راجع قولهم بعين ألفاظهم في ص 381 وص 372 وص 373
من الجزء 13 تجد التفصيل
(2) في آخر ص 374 من الجزء 13.
55

مات على ذلك، فقيل له: فأين أنت منه؟ قال: إنما كان مدرسا
فما كان من قوله حسنا قبلناه، وما كان قبيحا تركناه، وكان
ابن أبي ليلى يتمثل بهذين البيتين (1):
إلى شنئان المرجئين ورأيهم * عمر بن ذر وابن قيس الماصر -
وعتيبة الدباب لا يرضى به * وأبي حنيفة شيخ سوء كافر -
وأخرج الخطيب عن أبي صالح الفراء (2) قال: سمعت
يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة على رسول الله أربع
مئة حديث أو أكثر، قال: وقال أبو حنيفة: لو أدركني
النبي وأدركته لأخذ بكثير من قولي، وهل الدين إلا الرأي
الحسن. وأخرج أيضا عن وكيع، قال: وجدنا أبا حنيفة
خالف مئتي حديث. وأخرج أيضا عن حماد بن سلمة من
طريقين، قال إن أبا حنيفة استقبل الآثار والسنن فردها برأيه.
ثم استرسل الخطيب في نقل هذا وأمثاله عن أبي حنيفة بالأساليب
المعتبرة، عن كل من أبي عوانة، وحماد بن سلمة، وحماد بن
زيد، ووكيع، والحجاج بن أرطاة، وسفيان بن عيينة،

(1) فيما أخرجه الخطيب بالإسناد إليه في ص 38 من الجزء 13.
(2) في ص 390
56

وغيرهم، وأخرج عن علي بن صالح البغوي، قال: أنشدني
أبو عبد الله محمد بن زيد الواسطي لأحمد بن المعدل.
إن كنت كاذبة بما حدثتني * فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر -
المائلين إلى القياس تعمدا * والراغبين عن التمسك بالخبر -
وأخرج الخطيب عن أبي إسحاق الفزاري (1) قال: كنت
آتي أبا حنيفة أسأله عن الشئ من أمر الغزو، فسألته عن
مسألة فأجاب فيها، فقلت له: إنه يروى فيها عن النبي كذا
وكذا، قال: دعنا من هذا، قال: وسألته يوما آخر عن
مسألة فأجاب فيها، فقلت له: إنه يروى فيها عن النبي كذا
وكذا، فقال: حك هذا بذنب خنزيرة! وعقد الخطيب
فصلا لما حكي عن أبي حنيفة من مستشنعات الألفاظ والأفعال
فليراجعه موسى جار الله في ص 386 وما بعدها إلى ص 394،
وإذا راجع ترجمة أبي حنيفة في ص 323، إلى ص 423 من
المجلد 13 من تاريخ بغداد هانت عليه الكلمة التي نقلها عن
الإمام عليه السلام.

(1) راجع صفحة 387
57

[فصل]
وقد تكلم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس بكلام فيه
جفاء وخشونة، قال بن عبد البر (1): كرهت ذكره وهو
مشهور عنه. (قال): وكان إبراهيم بن سعد يتكلم في مالك
ابن أنس أيضا (قال): وكان إبراهيم بن يحيى يدعو عليه (قال):
وتكلم في مالك أيضا - فيما ذكره الساجي في كتاب العلل -
عبد العزيز بن أبي سلمة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن
إسحاق وابن أبي يحيى وابن أبي زياد، وعابوا أشياء من
مذهبه (قال): وتكلم فيه غيرهم إلى أن قال: وتحامل عليه
الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شئ من رأيه حسدا
لموضع إمامته (2) قال: وعابه قوم في إنكار المسح على
الخفين في الحضر والسفر، وفي كلامه على علي وعثمان (3) وفي

(1) في باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض من كتابه (جامع
بيان العلم وفضله) فراجع آخر صفحة 201 من مختصره والتي بعدها تجد
كل ما نقلناه من كلامهم في الإمام مالك.
(2) أراد أن يعتذر عن مالك فطعن في الشافعي وفي بعض أصحاب
أبي حنيفة وكيف تجتمع العدالة مع التحامل على الإمام حسدا لموضع إمامته
(3) فإن مالكا كان يرى رأي الخوارج في الصهرين وهذا الرأي
ثابت عنه وهو من أشد الأمور التي نقموها عليه.
58

فتياه بإتيان النساء في الأعجاز، وفي قعوده عن مشاهدة الجماعة
في مسجد رسول الله، ونسبوه بذلك إلى ما لا يحسن ذكره ا ه‍.
قلت: وقد طعن محمد بن إسحاق في نسب مالك (1)
فكان بينهما من القدح والجرح ما لا يجمل ذكره وهو
مشهور عنهما.
وقد شك في الإمام الشافعي بعض الأعلام من معاصريه
وغيرهم، وصرح بعدم وثاقته، من لا يستطيع موسى جار الله
إلا الخضوع لعدالته، كابن معين وحسبك به إماما في الجرح
والتعديل، وتصريحه بهذا ثابت عنه من طرق صحيحة (2)
وما زال أهل المذاهب ينتقد بعضهم بعضا، ويزري بعضهم

(1) كما صرح به غير واحد من الأعلام كابن عبد البر في باب حكم
قول العلماء بعضهم في بعض من كتابه - جامع بيان العلم وفضله - فراجع
من مختصره ص 192 ومن وقف على ترجمة ابن إسحاق في ص 223 وما
بعدها من الجزء الأول من تاريخ بغداد وجد قدح كل من ابن إسحاق
ومالك في الآخر ووجد القدح في مالك من ابن أبي ذئب وابن أبي حازم
وعبد العزيز الماجشون وغيرهم ووجد أن جماعة من أهل العلم عابوا مالكا
بإطلاق لسانه في قوم معروفين بالصلاح والديانة والصدق والأمانة
(2) كما صرح به الإمام ابن عبد البر في كتابه - جامع بيان العلم
وفضله - فراجع من مختصره ص 201
59

على بعض، حتى قال الإمام جار الله الزمخشري:
إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به * وأكتمه كتمانه لي أسلم -
فإن حنفيا قلت، قالوا: بأنه * يبيح الطلا وهو الشراب المحرم -
وإن مالكيا قلت، قالوا: بأنني * أبيح لهم أكل الكلاب وهم هم -
وإن شافعيا قلت، قالوا: بأنني * أبيح نكاح البنت والبنت تحرم -
وإن حنبليا قلت، قالوا، بأنني * ثقيل حلولي بغيض مجسم -
الأبيات (1)
وقد علم المتتبعون ما كان في مرو على عهد السلطان محمود بن
سبكتكين، إذ جمع فقهاء الشافعية والحنفية، والتمس الكلام
في ترجيح أحد المذهبين على الآخر.
فكان ما كان مما لست أذكره * فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر (2)
وإذا طرق موسى جار الله باب قول العلماء بعضهم في
بعض من كتاب جامع بيان العلم وفضله للإمام ابن عبد البر

(1) راجعها في ترجمة الزمخشري المطبوعة في الجز الأخير من الكشاف.
(2) وإن سألت عنه فراجعه في ترجمة محمود بن سبكتكين من الجزء
الثاني من وفيات ابن خلكان تجده منقولا عن كتاب مغيث الخلق في اختيار
الأحق لمؤلفه إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني وقد راجعت أنا
بنفسي الصلاة المنقولة ثمة عن الإمام أبي حنيفة فوجدتها في فقه أصحابه بتمامها.
60

يجد فيه من أقوال الصحابة، وأئمة التابعين بعضهم في بعض،
ما ينهنه به عن وجده، ويصغر له قول إمامنا في أئمته، على
أن ذلك القول غير ثابت عن إمامنا عليه السلام، ولو ثبت
فإنما هو دون ما تلوناه من الأقوال وأهون مما لم نتله، فإنا
تركنا أكداسا كثيرة من مثل هذا الطويل العريض.
وقبل الفراغ من هذه المسألة لا بد أن نعلن أنا لم نقصد
إلى شئ من نشر هذه الصفحات، لولا ما اضطرنا هذا الرجل
إلى ذلك، فإن الإفاضة بالبحث قد تملك زمام القلم فلا يستطيع
الباحث له ردا، ولا سيما إذا كان البحث فقيرا للدفاع بمثل هذا
البيان، وعلى كل فإنا نكبر الأئمة الأربعة، ونحترم مذاهبهم
ونعرف قدرهم، ونستعظم أمرهم، ونقدر جهودهم وبلاءهم
رضي الله عنهم.
(المسألة السابعة)
تتعلق بالجهاد
قال: تعتقد الشيعة إن جهاد الأمم الإسلامية لم يكن
مشروعا وهو اليوم غير مشروع، إلى أن قال: الجهاد مع
61

غير الإمام المفترض طاعته حرام عند الشيعة مثل حرمة الميتة،
وحرمة الخنزير إلى آخر كلامه.
(والجواب): إن هذا الرجل في كل ما ينقله عن الشيعة
كراكب عمياء، في ليلة ظلماء، فإن الجهاد ينقسم من جهة
اختلاف متعلقاته خمسة أقسام.
أحدها الجهاد لحفظ بيضة الدين إذا أراد أعداء الله مسها
بسوء، وهموا بأن يجعلوا كلمتهم أعلا من كلمة الإيمان بالله،
وأن يكون الشرع باسمهم مناقضا لدين الله عز وجل.
ثانيها الجهاد لدفع العدو عن التسلط على دماء المسلمين بالسفك
وأعراضهم بالهتك.
ثالثها الجهاد للدفاع عن طائفة من المسلمين التقت مع طائفة
من الكفار فخيف من استيلائهم عليها.
رابعها الجهاد لدفعهم عن ثغور المسلمين وقراهم وارضهم
أو لإخراجهم منها بعد تسلطهم عليها بالجور، أو لجبر بيضة
المسلمين بعد كسرها، وإصلاحها بعد فسادها، والسعي في
إنقاذ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفرة بالله عز وجل.
ويجب الجهاد في هذه الأقسام الأربعة - بإجماع الشيعة -
62

وجوبا كفائيا على معنى أنه يجب على الجميع، إلى أن يقوم به
منهم من فيه الكفاية، فيسقط عن الباقين سقوطا مراعى باستمرار
القائم به، إلى أن يحصل الغرض المطلوب شرعا، وتختلف
الكفاية بحسب الحاجة، بسبب كثرة العدو وقلته، وضعفه
وقوته. ومن قتل في كل من هذه الأقسام الأربعة من المؤمنين
فهو من الشهداء السعداء، وله في الآخرة - مع الإخلاص في
النية - ما أعده الله للشهداء بين يدي خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله
من الدرجات الرفيعة، والمساكن الطيبة والحياة الدائمة
والرضوان الخالد، ويسقط عن الأحياء وجوب تغسيله وتحنيطه
وتكفينه، إذا لم يكن عاريا فيدفن في ثيابه ودمائه، ولا
ينزع عنه شئ سوى الفرو والجلد، وما كان بقاؤه عليه مضرا
في حال الوارث، هذا إذا قتل في المعركة، ولم يدركه المسلمون
وفيه رمق الحياة. ولا فرق في وجوب الجهاد في كل هذه
الأقسام الأربعة، بين حضور الإمام وغيبته، ووجود المجتهد
وعدم وجوده، فيجب على الحاضرين من المسلمين والغائبين
- إن لم يكونوا مرابطين في الثغور - أن ينفروا للجهاد
تاركين عيالهم وأشغالهم وسائر مهماتهم، ويجب على من كان
63

ذا مال أو جاه أو سلاح أو رأي أو تدبير أو حيلة أن يبذل
ما لديه من ذلك، وتجب في هذا المقام طاعة الرئيس الناهض
بهذه المهمة، العارف بتسريب العساكر وتدريب الحرب،
وإن لم يكن إماما، ولا نائبا خاصا، ولا مجتهدا - لتعذر
رياستهم في هذه الأيام - وله أن يأخذ من أموال المسلمين ما
يتوقف عليه الأمر، ويجب القيام بهذه الرئاسة على كل من له
الأهلية لها، وجوبا عينيا إذا انحصر الأمر فيه، وإلا كان
الوجوب عليه كفائيا، وفقه الإمامية، وحديثهم صريحان
بهذا كله (1)
الخامس من أقسام الجهاد، ابتداء الكفار بجهادهم في
سبيل دعوتهم إلى الإيمان بالله عز وجل، وغزوهم لأجل ذلك
في عقر ديارهم، وبحبوحة قرارهم، وهذا المقام عندنا من
خواص النبي صلى الله عليه وآله أو الإمام النائب عن رسول الله
نيابة صحيحة، أو المنصوب الخاص من أحدهما فلا يتولاه

(1) من أراد التفصيل فعليه بمباحث الجهاد من كتاب كشف الغطاء
لإمام الطائفة وشيخها الأكبر الشيخ جعفر وغيرها من الكتب الفقهية وهي
أكثر من أن تحصى.
64

المجتهدون النائبون عن الإمام أيام غيبته ولا غيرهم. وقد اختلط
الأمر على موسى جار الله فلم يعلم أن الممنوع من الجهاد عندنا
في هذه الأيام إنما هو القسم الخامس دون الأربعة فإنها واجبة،
بحكم الضرورة من الدين الإسلامي، والمذهب الإمامي،
وجوبا كفائيا كما سمعت.
والحرب قد بانت لها الحقائق * وظهرت من بعدها مصادق -
وشهدت يوم دارت رحاها العالمية، بأن علماء الإمامية،
كانوا في ساحتها من أرسخ المجاهدين قدما، وأعلاهم همما،
وأمضاهم عزيمة وأشدهم شكيمة، قد لبسوا يوم القرنة في العراق
للحرب لامتها وأدرعوا لها بدرعها، وكان في مقدمتهم الإمامان
المجاهدان الشيخ فتح الله المدعو شيخ الشريعة الأصفهاني،
والشريف الوحيد السيد محمد سعيد الحبوبي الحسيني، وهما
يومئذ من أجل مجتهدي الشيعة في العراق، ومن أكبر شيوخ
الإسلام على الإطلاق، وكان الشيخ قد أربى على الثمانين،
والسيد قد ذرف عليها، فلم يمنعهما ضعف الشيخوخة، ودقة
عظمها، ورقة جلدها، عن قيادة ذلك الجيش اللهام، المحتشد
من العلماء الأعلام، والفضلاء الكرام، والأبرار الأخيار
65

من أهل السوابق في نصرة الإسلام، وقد أبلوا في
الجهاد بلاء حسنا لم يكن له نظير، حتى جاءهم من العدو
ما لا قبل لهم به، فتحرفوا للقتال، وتحيزوا إلى فئتهم يستنفرونها
للكفاح، فكان ما كان من سقوط العثمانيين وانجلائهم عن
العراق، فقضى الشيخ والسيد نحبهما أسفا ولهفا، وماتا وجدا
وكمدا، فلحقا بالشهداء، وكانا من السعداء في دار البقاء،
رفع الله درجتهما كما شرف خاتمتهما.
(المسألة الثامنة)
تتعلق بحديث أئمة العامة وحاله عند أئمتنا
قال: ادعت كتب الشيعة أن الأئمة كانت تنكر كل
حديث يرويه إمام من أئمة العامة، وأن موسى بن جعفر قد
أنكر كل حديث رواه مالك إمام المذهب، إلى أن قال:
وكان الصادق يأمر بما فيه خلاف أهل السنة والجماعة الخ.
(الجواب): إن الشيعة ترى أن الكذب على أئمة أهل
البيت كالكذب على الله ورسوله، موبقة توجب دخول النار
وهو عندهم من مفطرات الصائم في شهر رمضان، وحديثهم
66

وفقههم صريحان بذلك، فثقاتهم لا يتهمون في النقل عن أئمتهم
أبدا، على أن فيهم من الورع والعبقرية ما يسمو بهم عن كل
دنية، وإذا كانت أئمة العترة الطاهرة تنكر حديث من ذكرهم
موسى جار الله فما ذنب الشيعة؟ وقد بلغه القدح في أئمته عن
كثير من سلفه الصالح (1) فلم يره شيئا نكرا، بل لعله يوسع
الجارحين عذرا، فلما بلغه بعض الشئ عن أئمة أهل البيت
مزق كل فروة، وجب كل ذروة.
والإمام الكاظم أعرف الناس بمالك، كانا في بلد واحد،
وعصر واحد، وقد انتهى إليه ميراث السنن عن جده رسول
الله صلى الله عليه وآله وتصافق الناس على علمه وورعه، وزهده وكظمه
الغيظ، وتجاوزه عمن أساء إليه، وانقطاعه إلى الله مخلصا له
في العبادة، ناصحا لعباده في الإرشاد والإفادة، فكان الواجب
أن يستغرب الناس من الإمام مالك عدم سماعه منه، فإن الموطأ
خلو من حديثه عليه السلام (2) وأغرب من هذا أن مالكا

(1) كما بيناه مفصلا في جواب المسألة السادسة فراجع من هذه الرسالة
ص 48 وما بعدها
(2) والإمام الشافعي كان أيضا معاصرا للكاظم فلم يرو عنه، ومسنده
كموطأ مالك خلو من حديثه عليه السلام.
67

كان لا يروي عن الإمام الصادق على ما قيل (1) حتى يضم إليه
أحد، والشيخان كلاهما لم يخرجا شيئا عن الكاظم، ولا عن
الرضا، ولا عن الجواد، ولا عن الهادي، ولا عن الزكي الحسن
العسكري (2) ولا عن الحسن بن الحسن، ولا عن الشهيد زيد بن
علي بن الحسين، ولا عن يحيى بن زيد، ولا عن النفس الزكية
محمد بن عبد الله الكامل بن الحسن الرضا بن الحسن السبط،
ولا عن أخيه إبراهيم بن عبد الله، ولا عن الحسين شهيد فخ،
ولا عن يحيى بن عبد الله بن الحسن، ولا عن عن أخيه إدريس
ابن عبد الله، ولا عن محمد بن جعفر الصادق، ولا عن محمد بن
إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن المعروف
بابن طباطبا، ولا عن أخيه القاسم الرسي، ولا عن محمد بن محمد بن
زيد بن علي، ولا عن محمد بن القاسم بن علي بن عمر الأشرف
ابن زين العابدين صاحب الطالقان المعاصر للبخاري، ولا عن
غيرهم من أعلام العترة الطاهرة، كعبد الله بن الحسن،

(1) راجع أحوال جعفر الصادق من ميزان الذهبي. أما البخاري
فلم يرو في صحيحه عن الصادق شيئا.
(2) وكان معاصرا للبخاري وقد توفي عليه السلام بعد وفاة البخاري
بأربع سنين.
68

وعلي بن جعفر العريضي، وأخويه إسماعيل بن جعفر وإسحاق
ابن جعفر، وغيرهما من ثقل رسول الله، وبقيته في أمته،
صلى الله عليه وآله، حتى أنهما لم يرويا شيئا من حديث سبطه الأكبر
وريحانته من الدنيا الإمام أبي محمد الحسن المجتبى سيد شباب
أهل الجنة.
نعم رووا أباطيل مختلقة افتراء على الإمام زين العابدين
وسيد الساجدين عن أبيه سيد الشهداء وخامس أصحاب الكساء
وأنا أتلو عليك ما أخرجه البخاري من ذلك، فأقول: أخرج
هذا الشيخ (1) عن الزهري من طريقين، قال: أخبرني علي
ابن حسين، أن حسين بن علي، أخبره أن علي بن أبي طالب،
قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله طرقه وفاطمة، فقال لهم:
ألا تصلون؟ فقال علي: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا
شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله حين
قال له ذلك ولم يرجع إليه شيئا، ثم سمعه وهو مدبر يضرب
فخذه، وهو يقول: وكان الإنسان أكثر شئ جدلا، وأخرج

(1) في باب قوله تعالى: وكان الإنسان أكثر شئ جدلا من أواخر
كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة قبل انتهائه بورقتين تقريبا فراجع ص 176
من الجزء الرابع من الصحيح.
69

الشيخ البخاري عن الزهري أيضا (1) قال: أخبرنا علي بن
حسين، أن حسين بن علي، أخبره أن عليا قال: كان لي
شارفان من نصيبي من المغنم يوم بدر، فلما أردت أن أبتني
بفاطمة (عليها السلام) واعدت رجلا صواغا من بني قينقاع
أن يرتحل معي فنأتي بأذخر فأردت أن أبيعهما من الصواغين
فنستعين بذلك على وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفي من
الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة
رجل من الأنصار، حتى جمعت ما جمعت، فإذا أنا بشارفي
قد أجبت أسنمتهما، وبقرت خواصرهما، وأخذ من أكبادهما،
فلم أملك عيني حين رأيت المنظر، قلت: من فعل هذا؟
قالوا: حمزة وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، عنده
قينة وأصحابه، فقالت القينة في غنائها: ألا يا حمز للشرف
النواء، فوثب حمزة إلى السيف فأجب أسنمتهما وبقر خواصرهما
وأخذ من أكبادهما، قال علي. فانطلقت حتى دخلت على النبي
صلى الله عليه وآله وعنده زيد بن حارثة، وعرف النبي الذي لقيت
فقال: مالك؟ فقلت: يا رسول الله ما رأيت كاليوم عدا حمزة

(1) في كتاب المغازي ص 8 من الجزء الثالث من صحيحه.
70

على ناقتي فأجب أسنمتهما وبقر خواصرهما، وها هو ذا في بيت
معه شرب، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وآله يمشي حتى جاء البيت
الذي فيه حمزة فطفق النبي يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل
محمرة عيناه، فنظر إلى النبي، ثم صعد النظر، فنظر إلى
ركبتيه، ثم صعد النظر، فنظر إلى وجهه، ثم قال حمزة:
وهل أنتم إلا عبيد لأبي الحديث.
قلت: هذا هو العلم الذي يؤثره البخاري عن علي بن
حسين عن حسين بن علي عن علي بن أبي طالب، وكأنه ما صح
لديه عنهم سوى أن أخا الرسول وبضعته الزهراء البتول كانا
ينامان عن الصلاة، وأن هارون هذه الأمة وأبا شبرها وشبيرها
ومشبرها كان أكثر شئ جدلا، وأن سيد الشهداء أسد الله
وأسد رسوله الذي خصه بسبعين تكبيرة عند الصلاة عليه كان
يشرب الخمر، ويأكل الميتة من يد القينة، ويقول الهجر
والكفر، نعوذ بالله من هذه الأضاليل، والله المستعان على
هذه الأباطيل، وقد استوفينا الكلام عليها في كتابنا - تحفة
المحدثين - بما لا مندوحة للباحثين المدققين عن الوقوف عليه،
وأني والله لأعجب من الشيخ البخاري يروي عن ألف ومئتين
71

من الخوارج (1) ويحتج بأكثر من مئة مجهول (2) ويعتمد
على كثيرين ممن سبق الطعن بهم (3) كعكرمة البربري
الخارجي، وإسماعيل بن أويس، وعاصم بن علي، وعمرو
ابن مرزوق، وأمثالهم ويصحح حديث المرجئة والقدرية،
ولا تأخذه لومة لائم في الاحتجاج بمروان بن الحكم، والمغيرة
ابن شعبة، ومعاوية الأموي، وعمرو بن العاص، وأمثالهم
ولا يخجل من الاحتجاج بعمران بن حطان داعية الخوارج
وزعيمهم، وهو القائل في شقيق عاقر الناقة أشقى الآخرين
ابن ملجم المرادي، وضربته لأخي النبي ووليه، ومن كان منه
بمنزلة هارون من موسى:
يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا -

(1) كما نص عليه سيدنا الإمام أبو محمد الحسن بن الهادي الصدر
الموسوي العاملي الكاظمي في كتابه نهاية الدراية وتصدى لذلك ابن حجر
صاحب المصالت وعبد الحق الدهلوي شارح مشكاة المصابيح وغيرهما من
أعلام أهل السنة.
(2) نص على ذلك ابن يسع في كتابه معرفة أصول الحديث وهو
من فحول علماء أهل السنة.
(3) نص على ذلك من أهل السنة ابن الصلاح في مقدمته المعروفة
بأصول الحديث.
72

إني لأذكره يوما فأحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا -
ثم يعرض عن سبط رسول الله الأكبر، وريحانته من
الدنيا الحسن بن علي إمام الأمة وسيد شباب أهل الجنة،
وعن الصادقين من أهل البيت، وهم أعدال الكتاب، وسفينة
النجاة وباب حطة وأمان هذه الأمة (1)
لكم ذخركم إن النبي وآله * وحزبهم ذخري إذا التمس الذخر -
وأما قول هذا الرجل: وكان الصادق يأمر بما فيه خلاف
أهل السنة والجماعة. فجوابه: إنه عليه السلام إذا استفتاه
من يعرفه بالعمل بهديه يفتيه بما عنده من ذلك، وإذا استفتاه
من يعرفه باتباع غيره أجابه بما جاء عنهم، وإذا سأله من
لا يعرفه، قال في الجواب: جاء عن فلان كذا، وعن فلان
كذا، فيذكر في الأثناء مذهب أهل البيت في المسألة. هذه
طريقته، وربما كانت طريقة غيره من أئمة أهل البيت، وقد
قال عليه السلام لمعاذ بن مسلم الهراء (2) " بلغني أنك تقعد في

(1) لنا هنا كلام لا يستغني عنه المدققون أودعناه في كتابنا تحفة المحدثين
(2) هو أبو مسلم النحوي الكوفي واضع علم الصرف كان من أصحاب
الصادق المبرزين في شيعته ذكره ابن خلكان فقال: قرأ عليه الكسائي
وروى عنه وحكيت عنه في القراءات حكايات كثيرة وصنف في النحو
كثيرا وكان يتشيع قلت: وقد ذكرنا أحواله على سبيل التفصيل في كتابنا
مختصر الكلام في مؤلفي الشيعة من صدر الإسلام.
73

الجامع فتفتي الناس، قال: نعم وأردت أن أسألك عن ذلك
قبل أن أخرج إني أقعد في المسجد فيجئ الرجل فيسألني عن
الشئ فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجئ
الرجل أعرفه بمودتكم وحبكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيئ الرجل
لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا،
وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك، فقال لي:
إصنع كذا فإني كذا أصنع. ا ه‍.
قلت: وحيث كان من سيرته عليه السلام هذا الصنع روى
الناس عنه في المسائل الخلافية أحكاما متعارضة، فالتبست بعد
ذلك على أوليائه فسألوه عنها، فكان مضمون جوابه: إن ما كان
منها موافقا للعامة فإنما قلته له كي يأخذوا بمذهبهم، وما كان
منه مخالفا لهم فإنما قلته بيانا للحقيقة كي يأخذ به المقتدون بنا.
وهذا كل ما عندنا من العمل بالأخبار المتعارضة الصحيحة
إذا لم يكن شئ منها مؤيدا بآية من كتاب الله عز وجل،
وفيه من احترام مذاهب المسلمين كافة ما لا يخفى على أولي
74

الألباب، لكن منينا بموسى جار الله وأضرابه ممن لا يفقهون،
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
لا أشك أن موسى جار الله رأى عمر بن قيس - وهو من
أعلام أهل السنة وأعيان التابعين - يقول (1): من أراد
الحق فليأت الكوفة فلينظر ما قال أبو حنيفة وأصحابه
فليخالفهم. ا ه‍. أو رأى عمار بن زريق - وهو من أعلام
التابعين وشيوخ أهل السنة أيضا - يأمر أبا الجواب فيقول له:
خالف أبا حنيفة فإنك تصب. ا ه‍. أو رأى عمار بن زريق
المذكور يقول: إذا سئلت عن شئ فلم يكن عندك شئ،
فانظر ما قال أبو حنيفة فخالفه، فإنك تصب. ا ه‍. أو رأى
ابن عمار يقول: إذا شككت في شئ فنظرت إلى ما قال
أبو حنيفة فخالفته، كان هو الحق فإن البركة في خلافه، أو
رأى غيرهم من أمثالهم، ينسجون في هذا القول على منوالهم،
فظن أن الصادق عليه السلام إنما يرمي إلى هذا الغرض (إن
يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس).

(1) فيما أخرجه عنه الخطيب في ترجمة أبي حنيفة ص 407 من المجلد
13 من تاريخ بغداد فراجعه وراجع هناك ما أخرجه عن عمار بن زريق
وابنه وغيرهما.
75

" المسألة التاسعة "
تتعلق بتنزيل بعض الآيات وتأويلها
قال: في كتب الشيعة أبواب في آيات نزلت في الأئمة
والشيعة، وآيات نزلت في كفر فلان وفلان، وكفر من
اتبعهما، والآيات تزيد على مئة، ثم سأل عن رأينا في تنزيلها
وفي تأويلها (1).
(فأقول): أما ما نزل في فضل الأئمة من أهل البيت
وشيعتهم فمسلم بحكم الضرورة من علم التفسير بالمأثور من السنن،
وبحكم ما ثبت في السنة المقدسة من أسباب النزول، وقد قال

(1) نحيله في الجواب على كتاب مجمع البيان في تفسير
القرآن للإمام الطبرسي الإمامي فكل ما ينقله عن الشيعة في
تنزيل الآيات وتأويلها حق، وقد طبع هذا السفر الجليل مرارا
في إيران، وطبع في مطبعة العرفان بصيدا، فشكر الله
للعارف جهوده في سبيل نشره وطوبى لمن أنعم الله عليه
بنسخة منه فإن فيه علوما جمة ولعمري إنه من أفضل
ما أخرجته أقلام هذه الأمة وقد نفذت نسخه وفي عزمه إعادة
طبعه بمعونة الله تعالى.
76

ابن عباس: نزل في علي (وحده) ثلاث مئة آية (1) وقال
غيره نزل فيهم ربع القرآن، ولا عجب فإنهما الثقلان لا يفترقان
ومن آثر التفصيل فعليه بكتاب غاية المرام المنتشر في بلاد
الإسلام (2) وحسبه المراجعة 12 من مراجعاتنا، ويكفيه
الفصل الأول من الباب 11 من الصواعق المحرقة لابن حجر،
ومن كان في قلبه مرض فعليه، بكلمتنا الغراء فإنها الشفاء
من كل داء.
وأما نزول شئ من القرآن في كفر فلان وفلان،
فإنه مما نبرأ إلى الله منه، والبلاء فيه إنما جاء من بعض غلاة المفوضة،
وربما كان في كتبهم فرآه هذا الرجل فيها فرمى البرئ بحجر
المسئ، شأن الجهال، بحقائق الأحوال، ومن تدبر آيات
المنافقين في الذكر الحكيم وجدها تعطفهم على الكفار تارة نحو قوله
تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) وتعطف الكفار

(1) أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس كما في الفصل 3
من الباب 9 من الصواعق المحرقة لابن حجر ص 76.
(2) ونسأل الله التوفيق لنشر كتابنا تنزيل الآيات
الباهرة في فضل العترة الطاهرة فإن فيه التفصيل.
77

عليهم تارة أخرى، نحو قوله عز اسمه (وعد الله المنافقين والمنافقات
نار جهنم خالدين فيها) (1) وهذا يشعر بتغايرهما، فالقرآن
إذن لا يكفر المنافقين مع ما كانوا عليه من الايذاء لرسول
الله، والسعي في إطفاء نور الله، وقد صدع بذمهم ولعنهم
ووعيدهم، ومع هذا كله فقد فتح لهم بابا (2) إلى رحمته
الواسعة إذ قال عز من قائل (ويعذب المنافقين إن شاء أو
يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما) (3).
" المسألة العاشرة "
في التقية
قال: ولكتب الشيعة في حيلة التقية غرام قد شفعها حبا الخ.
(فأقول): إن إخواننا من أهل السنة - أصلح الله شؤونهم - يستفظعون أمر التقية، وينددون بها، ويعدونها
وصمة في الشيعة، مع أن العمل بها عند الخوف على النفس أو

(1) هذه الآية والتي قبلها في سورة التوبة.
(2) هو باب التوبة التي دعاهم في هذه الآية إليها.
(3) هذه الآية في سورة الأحزاب.
78

العرض أو المال مما حكم بوجوبه الشرع والعقل، واتفقت عليه
كلمة أولي الألباب من المسلمين وغيرهم، فالتقية غير خاصة
بالشيعة وإن توهم ذلك بعض الجاهلين، وقد هبط بها الروح
الأمين، على قلب سيد النبيين والمرسلين صلى الله عليه وآله فتلا
عليه (1) (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين
ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة
ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) وتلا عليه مرة أخرى (2)
(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان
ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم
عذاب عظيم).
والصحاح الحاكمة بالتقية عند الاضطرار إليها متواترة،
ولا سيما من طريق العترة الطاهرة، وحسبك ما صح على شرط
الشيخين، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه (3)

(1) من سورة آل عمران.
(2) من سورة النحل.
(3) فيما أخرجه الحاكم في تفسير الآية من سورة النحل من
من صحيحه المستدرك ص 357 من جزئه الثاني وصرح بأنه
صحيح على شرط الشيخين وأورده الذهبي في تلخيصه مصرحا
بصحته على شرطهما أيضا.
79

قال: أخذ المشركون عمارا فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله
وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله ما تركت حتى نلت
منك، وذكرت آلهتهم بخير، قال صلى الله عليه وآله: كيف تجد قلبك
قال: مطمئن بالإيمان، قال صلى الله عليه وآله: إن عادوا فعد،
وصح على شرط الشيخين أيضا عن ابن عباس في تفسير قوله
تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) قال: التقاة التكلم
باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان، فلا يبسط يده فيقتل
الحديث (1).
قلت: هذا حكم الشرع كتابا وسنة، والعقل بمجرده
حاكم بهذا لو كانوا ينصفون.
وقد مني الشيعة بملوك الجور، وولاة الظلم، فكانوا
يسومونهم سوء العذاب يقطعون أيديهم وأرجلهم، ويصلبونهم
على جذوع النخل، ويسملون أعينهم، ويصطفون أموالهم،

(1) أخرجه الحاكم في تفسير الآية من سورة آل عمران
من مستدركه ص 291 من الجزء الثاني مصرحا بصحته على
شرط الشيخين، وأورده الذهبي في التلخيص مصرحا بصحته
على شرطهما أيضا.
80

كانت سياستهم الزمنية تقتضي هذه الجرائم، وكانوا يعولون
في ارتكابها على الظن والتهمة، وكان قضاتهم من علماء السوء
والتزلف، يتقربون إليهم بما يبيح لهم ما كانوا يرتكبون،
فاضطرت الشيعة وأئمة الشيعة عندها إلى التقية مخافة الاستئصال
جريا على قاعدة العقلاء والحكماء والأتقياء في مثل تلك الشدائد،
وكان عملهم هذا دليلا على عقلهم وحكمتهم وفقههم، وما كان
الله عز وجل ليمنعهم - والحال هذه - من التقية وهو القائل
تبارك اسمه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (وما جعل
عليكم في الدين من حرج) (يريد الله بكم اليسر ولا يريد
بكم العسر) (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) وقال رسول
الله صلى الله عليه وآله: بعثت بالحنيفية (1) السمحة السهلة. لكن أهل
البطر يعدون التقية من مساوي الشيعة - فويل للشجي من
الخلي - ولو ابتلوا بما ابتلي به الشيعة لأخلدوا إلى التقية،
وقبعوا فيها قبوع القنفذ، كما فعل أهل السنة إذ اتقوا شر
جنكيزخان وهولاكو حقنا لدمائهم، وما يصنع الضعيف العاقل

(1) قال ابن الأثير عند ذكر هذا الحديث في مادة حنف من النهاية
والحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم.
81

إذا ابتلي بالشديد الغاشم، ولما دعا المأمون إلى القول بخلق
القرآن أجابه كثير من أبرار أهل السنة إلى ذلك بألسنتهم،
وقلوبهم منعقدة على القول بقدمه، فأظهروا له خلاف ما يدينون
به تقية منه، كما يفعله المسلمون اليوم في الحجاز، حيث
لا يتظاهرون بالأقوال والأعمال التي لا تجوز شرعا في مذهب
الوهابية، كزيارة قبور الأولياء، وتقبيل الضريح النبوي
الأقدس، والتبرك به وكالاستغاثة بسيد الأنبياء، والتوسل
به إلى الله عز وجل في غفران الذنوب، وكشف الكروب،
فإن الحجاج وغيرهم من سنيين وشيعيين لا يتظاهرون بشئ
منها تقية من الفتنة وخوفا من الأذى، بل لا يتظاهرون بالأدعية
المستحبة عندهم في تلك المواقف الكريمة والمشاهد العظيمة،
عملا بالتقية. وذكر ابن خلدون في الفصل الذي عقده لعلم الفقه
من مقدمته الشهيرة مذاهب أهل السنة، وانتشار مذهب أبي
حنيفة في العراق، ومذهب مالك في الحجاز، ومذهب أحمد
في الشام وفي بغداد، ومذهب الشافعي في مصر، وهنا قال
ما هذا لفظه: ثم انقرض فقه أهل السنة من مصر بظهور دولة
الرافضة وتداول بها فقه أهل البيت، وتلاشى من سواهم،
82

إلى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضين على يد صلاح الدين
يوسف بن أيوب ورجع إليهم فقه الشافعي ا ه‍.
قلت: من تأمل بهذا علم أن أهل السنة في مصر أخذوا
بالتقية أيام الفاطميين أكثر مما أخذ بها الشيعة أيام معاوية ويزيد
وبني مروان والعباسيين والسلجوقيين والأيوبيين والعثمانيين
وغيرهم، وشتان بين خوف أهل مصر من الفاطميين، وخوف
الشيعة من تلك الدول، ولا سيما الدولة الأموية، فقد كان
ملوكها وعمالها وعلماؤها ورؤساؤها والعامة بأجمعها لا يتحملون
ولا يطيقون ذكر الشيعة، وكانت الكلمة متفقة على سحقهم
ومحقهم فلولا خلودهم إلى التقية ما بقيت منهم هذه البقية،
فأي مسلم أو غير مسلم يرتاب في جوازها لهم؟ ولا سيما بعد أن
صدع القرآن بها، ونص في آيتين محكمتين على إباحتها،
ومن يشك في ذلك بعد أن قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعمار:
إن عادوا فعد، وإذا جاز لعمار أن يعود إلى سب النبي تقية
فأي شئ بعد هذا لا تبيحه التقية؟. علي أن النفوس بفطرتها
مجبولة عليها في مقام الخوف، كما لا يخفى على كل ذي نفس ناطقة
وموسى جار الله ندد أولا بها ثم اعترف، فقال ما هذا
83

لفظه: نعم التقية في سبيل حفظ حياته وشرفه، وفي حفظ
ماله وفي حماية حق من حقوقه واجبة على كل أحد إماما كان
أو غيره.
قلت: تعالوا وانظروا بمن ابتلاني، كأن الشيعة وأئمتهم
يأخذون بالتقية حيث لا خوف على حياتهم، ولا على شرفهم،
ولا على مالهم، ولا على شئ من حقوقهم، الحمد لله الذي
عافانا مما ابتلى به هذا الرجل من الحمق، ولو شاء لفعل.
وأحمق من كلمته هذه تسوره على مقام الأئمة من آل محمد
إذ يقول: أما التقية بالعبادة بأن يعمل الإمام عملا لم يقصد
به وجه الله، وإنما أتاه وهما خوفا من سلطان جائر، والتقية
بالتبليغ بأن يسند الإمام إلى الشارع حكما لم يكن من الشارع،
فإن مثل هذه التقية لا تقع أبدا أصلا من إمام له دين، ويمتنع
صدورها من إمام معصوم، وحمل رواية الإمام وعبادة الإمام
على التقية طعن على عصمته، وطعن على دينه، إلى آخر هذيانه
في طغيانه، وكأنه وجد مما تؤاخذ عليه أئمة العترة في عملهم
بالتقية أمرين.
أحدهما أنهم كانوا يعملون أعمالا لا يقصدون بها وجه الله
84

وإنما يعملونها خوفا من الجائر.
والجواب: إن هذا خطأ واضح، فإنهم عليهم السلام
كانوا يقصدون وجه الله في كل ما يعملون، وأخذهم بالتقية
كان من أفضل أعمالهم التي قصدوا بها وجه الله، لأنها السبب
الوحيد في حياتهم وحياة شيعتهم، وبها كان إحياء أمرهم،
وانتشار دعوتهم، ولو قلنا لحضرة هذا - الفيلسوف - دلنا
على مورد من أعمالهم التي لم يقصد بها وجه الله لأحرجنا موقفه.
الثاني أنهم كانوا يسندون إلى الشارع على سبيل التقية
أحكاما لم تكن صادرة منه على مذهبهم ومعتقدهم، وهذا
مما لا تبيحه التقية لأمام له دين.
والجواب: إن هذا كسابقه خطأ واضح، فإن أئمة أهل
البيت أعدال الكتاب، وبهم يعرف الصواب، وكانوا ذوي
مذهب تلقوه عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان من
مذهبهم أن التقية تبيح بالمسائل الخلافية أن يفتوا أهل الخلاف
لهم بما جاء عن أئمتهم، ويفتوا شيعتهم بما يرونه الحق في مذهبهم،
فتعارض النقل عنهم بسبب ذلك، لكن العلماء من أوليائهم،
العارفين بأسرارهم، محصوا تلك الأحكام المأثورة عنهم في
85

الأخبار المتعارضة، فعرفوا ما كان منها لمخالفيهم فصرحوا
بحمله على التقية، وما كان منها لأوليائهم فتعبدوا به.
أما ما اقترحه موسى جار الله على أئمة أهل البيت من
السكوت عن الفتوى في مقام التقية ففي غير محله، لأن الله
عز وجل أخذ على أمثالهم أن يصدعوا بأحكامه، ويبينوا
للناس ما اختلفوا فيه من شرائعه، وقد فعلوا ذلك ببيانها
لأوليائهم على ما يقتضيه مذهبهم، واضطروا إلى بيانها لمن
سألهم عنها من مخالفيهم على ما تقتضيه مذاهب المخالفين لهم،
ولو لم يؤثر عنهم الثاني لحلت بهم اللاواء، ونزل بهم البلاء،
وإذا أباحت التقية لعمار ما أباحته من سب رسول الله وذكر
الأوثان بخير كما سمعت، فبالأحرى أن تبيح للإمام إفتاء
مخالفيه بما تقتضيه مذاهبهم، وأي مانع من هذا يا مسلمون؟.
قال موسى جار الله: وعلي أمير المؤمنين عليه وعلى أولاده
السلام كان يحافظ على الصلوات، ويراعي الأوقات، ويحضر
الجماعات، ويصلي المكتوبات، ويصلي صلاة الجمعة مقتديا خلف
الأول والثاني والثالث كان يقصد بها وجه الله فقط، ولم يكن
يصلي صلاة إلا تقربا وتقوى وأداء الخ.
86

قلت: حاشا أمير المؤمنين أن يصلي إلا تقربا لله وأداء
لما أمره الله به، وصلاته خلفهم ما كانت إلا لله خالصة لوجهه
الكريم، وقد اقتدينا به عليه السلام فتقربنا إلى الله عز وجل
بالصلاة خلف كثير من أئمة جماعة أهل السنة، مخلصين في تلك
الصلوات لله تعالى، وهذا جائز في مذهب أهل البيت، ويثاب
المصلي منا خلف الإمام السني كما يثاب بالصلاة خلف الشيعي،
والخبير بمذهبنا يعلم أنا نشترط العدالة في إمام الجماعة إذا كان
شيعيا، فلا يجوز الإئتمام بالفاسق من الشيعة ولا بمجهول الحال،
أما السني فقد يجوز الإئتمام به مطلقا.
" المسألة الحادية عشرة "
قال: في كتب الشيعة إن عليا أمير المؤمنين طلق فلانة
ثم نقل خبرين آخرين من هذا القبيل
(فأقول): هذه الأخبار وأمثالها لا أثر لها عندنا علما
ولا عملا، فهي غير معتبرة الإجماع، ويوشك أن يكون هذا
الرجل وجدها في حديث المفوضة، فإن البلاء فيها وفي أمثالها
إنما جاء منهم، لكن النواصب أبوا إلا أن يحملونا من أوزار
الغالية ما يشاؤون أو يشاء ورعهم في النقل كما بيناه في فصولنا
87

المهمة (1) والله المستعان على ما يصفون.
" المسألة الثانية عشرة "
تتعلق بعول الفرائض وهو نقصان التركة عن ذوي
السهام كأختين وزوج، فإن للأختين الثلثين، وللزوج
النصف (2).
وقد التبس الأمر فيها على الخليفة الثاني إذ لم يدر أيهم قدم الله
فيها ليقدمه، وأيهم أخر ليؤخره، فقضى بتوزيع النقص على
الجميع بنسبة سهامهم، وهذا غاية ما يتحراه من العدل مع التباس

1 - لا مندوحة هنا لكل بحاثة عن مراجعة الفصل 10 من الفصول
المهمة ومراجعة ما علقناه على ص 32 عند ذكر الفطحية في الفصل 6
من الطبعة الثانية
2 - سمي هذا القسم عولا إما من الميل ومنه قوله تعالى (ذلك أدنى ألا
تعولوا) وسميت الفريضة عايلة على أهلها بميلها بالجور عليهم
بنقصان سهامهم، أو من عال الرجل إذا كثر عياله لكثرة
السهام فيها، أو من عال إذا غلب لغلبة أهل السهام بالنقص،
أو من عالت الناقة ذنبها إذا رفعته لارتفاع الفرائض على
أصلها بزيادة السهام
88

الأمر عليه، لكن علماء أهل البيت ولا سيما الاثنا عشر من
أئمتهم، عرفوا المقدم عند الله فقدموه، وعرفوا المؤخر فأخروه
- وأهل البيت أدرى بالذي فيه - قال الباقر عليه السلام:
كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إن الذي أحصى رمل
عالج ليعلم أن السهام لا تعول على ستة (1) لو يبصرون وجهها
وكان ابن عباس يقول: من شاء باهلته عند الحجر الأسود
إن الله لم يذكر في كتابه نصفين وثلثا، وقال أيضا: سبحان
الله العظيم أترون أن الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في

(1) كان الناس على عهده عليه السلام يفرضون كل شئ
ستة أجزاء كل جزء سدس كما يفرض اليوم في عرفنا أربعة
وعشرين قيراطا وعليه فيكون مراده عليه السلام أنكم لو
تبصرون وجوه السهام إذا تعارضت لم تتجاوز السهام عن الستة
وحيث أنكم لم تبصروا طرقها فقد تجاوزت عن الستة إذ
أنكم تزيدون على الستة بقدر الناقص مثلا إذا اجتمع أبوان
وبنتان وزوج فللأبوين اثنان من الستة وللبنتين أربعة منها
فتمت الستة فتزيدون على الستة واحدا ونصفا للزوج فتتجاوز
السهام من الستة إلى سبع ونصف وهذا ممتنع ولا يجوز على
الله أن يفرضه أبدا.
89

مال نصفا ونصفا وثلثا؟ هذان النصفان قد ذهبا بالمال، فأين
موضع الثلث؟ فقيل له: يا أبا العباس فمن أول من أعال
الفرائض؟ فقال: لما التفت الفرائض عند عمر ودفع بعضها
بعضا، قال: والله ما أدري أيكم قدم الله، وأيكم أخر، وما
أجد شيئا هو أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص،
قال ابن عباس: وأيم الله لو قدمتم من قدم الله، وأخرتم
من أخر الله، ما عالت الفريضة، فقيل له: أيها قدم الله وأيها
أخر؟ فقال: كل فريضة لم يهبطها الله إلا إلى فريضة فهذا
ما قدم الله، وأما ما أخر فكل فريضة إذا زالت عن فرضها
لم يكن لها إلا ما بقي، فتلك التي أخر (قال): فأما التي
قدم فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى
الربع لا يزيله عنه شئ، ومثله الزوجة والأم. " قال ":
وأما التي أخر ففريضة البنات والأخوات لها النصف والثلثان
فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لهن إلا ما بقي،
" قال ": فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر، بدئ بما قدم
فأعطي حقه كاملا، فإن بقي شئ كان لما أخر، الحديث أورده
شيخنا الشهيد الثاني في الروضة قال: وإنما ذكرناه مع طوله
90

لاشتماله على أمور مهمة.
قلت: وأخرج الحاكم في كتاب الفرائض صفحة 340
من الجزء الرابع من المستدرك عن ابن عباس، أنه قال:
أول من أعال الفرائض عمر، وأيم الله لو قدم من قدم الله
وأخر من أخر الله، ما عالت فريضة، فقيل له: وأيها قدم
الله وأيها أخر؟ فقال: كل فريضة لم يهبطها الله عز وجل
عن فريضة إلا إلى فريضة فهذا ما قدم الله عز وجل، وكل فريضة
إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي، فتلك التي أخر الله
عز وجل كالزوج والزوجة والأم، والذي أخر كالأخوات والبنات
فإذا اجتمع من قدم الله عز وجل ومن أخر بدئ بمن قدم فأعطي
حقه كاملا، فإن بقي شئ كان لمن أخر، الحديث. قال
الحاكم بعد إيراده: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه،
قلت: والذهبي لم يتعقبه إذا أورده في التلخيص إذعانا بصحته،
وقد اجمع أهل البيت على مفاده، وأخبارهم بذلك متضافرة،
لكن موسى جار الله ممن لا يأبه بذلك، إذ يقول: وكتب
الشيعة وإن ردت القول بالعول وأنكرت على الأمة (1)

(1) الشيعة نصف الأمة فلا وجه لهذه النعرة.
91

إعالة الفرائض إلا أنها لم تنج من إشكال ابن عباس والإمام الباقر:
إن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في مال نصفا وثلثين ولا نصفا
ونصفا وثلثا مثلا فإن إدخال النقص في المؤخر أخذ بقسم كبير
من العول، ولا يدفع أصل الإشكال إلى آخر كلامه الملحق بالهذيان
وكيف يكون إدخال النقص على المؤخر عند الله عولا يا مسلمون؟
أترون هذا الرجل يرى أن من مصاديق العول تقديم الوارث
شرعا على غير الوارث شرعا؟ وإذا فالعول مما لا بد منه ولا
مناص عنه أبدا، ولو كان هذا الرجل من أولي الألباب لعلم
أن من أخره الله في الإرث لا حق له مع وجود من قدمه الله
عليه في ذلك، وحيث لا معارضة بينهما فلا إشكال، وإلى هذا
أشار ابن عباس بقوله رضي الله عنه: أترون الذي أحصى رمل
عالج عددا جعل في مال نصفا ونصفا وثلثا الخ. يعني أنه إنما
فرض هذه الفرائض حيث لا تتعارض، ومحال عليه أن
يفرضها مع التعارض، والخليفة الثاني يعلم ذلك لكنه لم يعرف
أيهم قدم الله ليقدمه، وأيهم أخر ليؤخره، فلما التبس الأمر
عليه قضى بتوزيع النقص على الجميع بنسبة سهامهم كما صرح به
فيما سمعته من كلامه، وقوله: والله ما أدري أيكم قدم الله
92

وأيكم أخر؟ نص صريح بأن الله قدم في سورة التعارض بعضهم،
وأخر بعضا، وكفى بهذا دليلا على عدم المعارضة فيما فرضه الله
تعالى وحجة على أن الله عز وجل لم يجعل في مال نصفا ونصفا
وثلثا، وأنه إنما جعل هذه الفرائض لأربابها حيث لا تتعارض،
أما مع التعارض فيقدم منهم ما قدمه الله ويؤخر من أخره
عز وجل، وحيث التبس المقدم والمؤخر على الخليفة اضطر إلى
العول، إذ وجده أقرب المجازات إلى حقيقة العدل المتعذرة عليه.
ولموسى جار الله هنا من الغلط والشطط ما يعرفه كل
من وقف على كلامه، وذلك حيث نقض على الباقر وابن
عباس في امرأة ماتت عن زوج وأم وأختين، قال:
فالزوج فرضه بتسمية القرآن النصف، والأختان لهما بتسمية
القرآن الثلثان (1) والأم لها في حكم القرآن الثلث أو

(1) لا حق في هذه الصورة للأختين أصلا لأن مراتب
الإرث بالنسب عند أهل البيت وشيعتهم ثلاث، المرتبة الأولى
الآباء والأمهات دون آبائهم وأمهاتهم، والأبناء والبنات وإن
نزلوا على ما هو مفصل في محله، المرتبة الثانية الأخوة والأخوات
والأجداد والجدات وأولاد الأخوة والأخوات على ما هو مبين
في مظانه، المرتبة الثالثة الأعمام والعمات والأخوال والخالات
فلا يرث أحد من المرتبة التالية مع وجود أحد من المرتبة
السابقة (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)
هذا مذهب الأئمة من العترة الطاهرة وعليه إجماع الشيعة فالأختان
من أهل المرتبة الثانية فلا ترثان مع وجود الأم لأنها من المرتبة
الأولى نعم للزوج في الصورة المذكورة نصف ما تركت زوجته
والباقي لأمها فرضا وردا ولا محل للعول هنا أصلا
93

السدس (قال) والسهام في تسمية القرآن الكريم زائدة،
والنقص في جميع السهام وهو العول العادل (1) أو في سهم
المؤخر فقط، وهو العول الجائر (2) ضروري اقتسمته

(1) كيف يكون عادلا وقد تساوى فيه المقدم عند الله
والمؤخر عند الله عز وجل.
(2) لا عول هنا أصلا لأن النقص في صورة التعارض إنما
يلحق الذي أخره الله تعالى فلم يجعل له حقا أصلا لكن هذا
الرجل يأبى إلا أن يكون الله عز وجل قد جعل في المال
نصفا لشخص وثلثين لشخصين وثلثا لشخص رابع ذهولا منه
تعالى عن زيادة هذه السهام على أصل المال وأن إدخال النقص
على الجميع بالنسبة إصلاح لهذا الغلط تعالى الله عما يقول
الظالمون علوا كبيرا.
94

الأمة والشيعة (1) (قال): والذي قسم المال وسمى السهام
هو الذي أحصى رمل عالج، بل وجميع ذرات جميع الكائنات (2)
(قال): ويغلب على ظني أن القول: بأن لا عول عند الشيعة
قول ظاهري قيل ببادئ الرأي عند بيان الاختلاف ردا
لمذهب الأمة (3) فإن العول هو النقص (4) فإن كان النقص
في جميع السهام بنسبة متناسبة فهو العول العادل أخذت به
الأمة، وقد حافظت على نصوص الكتاب (5) وإن كان النقص

(1) ترى هذا الرجل يأبى أن تكون الشيعة من الأمة فأين دعواه
بأن ضالته المنشودة في هذه المسائل إنما هي الوحدة الإسلامية
(2) الذي أحصى جميع ذرات الكائنات لا يخفى عليه أن
المال لا يكون فيه نصف ونصف وثلثان فكيف يفرضها
متعارضة يا مسكين
(3) هكذا الفلسفة وإلا فلا
(4) بل هو الجور بنص أهل اللغة يقال: عال في الحكم
يعول عولا إذا جار فيه ومال عن الحق فهو عائل أي جائر
ومنه قول بعض العرب - له شاهد من نفسه غير عائل -
وأحكام الله لا جور فيها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(5) لا يكون العول عادلا إلا إذا كان الأكوس عريض
اللحية، وحاشا كتاب الله أن يأمر بالعول وكيف يكون
الآخذ به محافظا على نصوص الكتاب إلا محافظة الجاهل
بمفادها الأعمى عن مرادها.
95

في سهم المؤخر فقط فهو العول الجائر، أخذت به الشيعة (1)
وخالفت به نصوص الكتاب، " قال ": والإشكال الذي تحير
فيه ابن عباس وانتحله الإمام الباقر ثابت رأس (2) " قال ":
ولا أريد اليوم كما أراد ابن عباس في يومه أن أبتهل أو أباهل
في المسألة أحدا، وإنما أريد أن تعلموني مما علمتم في إزالة
الإشكال رشدا، هذا كلامه فأقول له متمثلا:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني * أو كنت أجهل ما أقول عذلتكا -
لكن جهلت مقالتي فعذلتني * وعلمت أنك جاهل فعذرتكا -

(1) هذا المسكين لا يفهم معنى المؤخر والمقدم وإلا فكيف
يجعل النقص في سهم المؤخر عولا، ولعل ما ذكرناه آنفا
لا يكفي لفهمه فنقول له عوادا على بدء: يا هذا إن تأخير
من أخره الله في الإرث عمن قدمه الله عليه لا يكون عولا
أبدا، أترى لو مات رجل وله أولاد وأولاد أولاد فقدمنا
الأولاد على أولادهم مثلا أيكون هذا عولا؟ كلا بل لو كان
تقديم المقدم عولا جائرا كما يقول هذا المسكين لكان
اختصاصه بميراث أبيه دوننا عولا - فالرجل ممن لا يكادون
يفقهون قولا.
(2) عرفت أنه لا إشكال أصلا وحاشا ابن
عباس من التحير. وما ظلمه موسى جار الله ولا ظلم الباقر
بتسوره على مقامهما بالبهتان " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون "
96

[فصل]
قال هذا المسكين: أعجبني دين الشيعة في تحريم كل شراب
يسكر كثيره، قليله حرام، حتى أن المضطر لا يشرب الخمر
ساعة الاضطرار، إلى أن قال: ولم يعجبني فتواهم في جزئيات
مسائل الربا، ووجدت ما طالعته من كتب الشيعة مقصرة
في بيان مسائل الربا الخ.
" فأقول ": دين الشيعة إنما هو الإسلام الذي بعث الله به
خاتم الرسل وسيد الأنام، محمدا عليه وآله الصلاة والسلام،
فلا معنى لقول هذا الرجل: أعجبني دين الشيعة (كبرت كلمة
تخرج من أفواههم). وقد صدق فيما نقله عن الشيعة من تحريم
كل شراب يسكر، غير أنه أخطأ فيما نقله عنهم من حكم المضطر،
إذ يجوز عندهم تناول المحرم عند خوف التلف بدون تناوله،
أو حدوث المرض أو زيادته، أو الضعف المؤدي إلى التخلف
عن الرفقة مع ظهور أمارة العطب علي تقدير التخلف، أو غير
ذلك من سائر مصاديق الاضطرار، والظاهر عدم الفرق في
هذا الحكم بين الخمر وغيرها من المحرمات، كالميتة والدم ولحم
97

الخنزير، وإن كان في هذا غير الخمر موضع وفاق، أما فيها
فمحل خلاف، والظاهر جواز استعمالها عند الاضطرار لعموم
الآية (1) الدالة على جواز تناول المضطر، والأخبار المانعة من
استعمالها مطلقا محمولة على تناولها لطلب الصحة لا لطلب السلامة
من التلف، نعم يجب تقدير الضرورة بقدرها في الخمر وغيرها
من المحرمات، ولو قام غير الخمر مقامها قدم عليها، وإن
كان محرما لإطلاق النهي الكثير عنها، والتفصيل في هذا كله
موكول إلى مظانه (2) من فقه الإمامية.
أما قول هذا الرجل: لم يعجبني فتواهم في جزئيات مسائل
الربا، ووجدت ما طالعته من كتب الشيعة مقصرة في بيان
مسائل الربا الخ.
(فأقول) في جوابه:

(1) هي قوله تعالى في سورة البقرة: إنما حرم عليكم الميتة
والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ
ولا عاد فلا إثم عليه. ومثلها آيتا سورة الأنعام.
(2) فليراجعه طلابه في باب الأطعمة والأشربة من
الكتب الفقهية.
98

والبدر تستصغر الأبصار رؤيته *
والذنب للطرف ليس الذنب للقمر -
ومن راجع فقه الإمامية وحديثهم، وجدهما لا يغادران
صغيرة ولا كبيرة من مسائل الربا إلا أحصياها، وأنا أحيل
الباحثين عن ذلك على مباحث الربا من باب التجارة من كتاب
شرائع الإسلام وشروحه، كجواهر الكلام، وهداية الأنام،
ومسالك الأفهام، وغيرها كقواعد العلامة، وشروحها مفتاح
الكرامة، وجامع المقاصد، وغير ذلك من الألوف المؤلفة
المنتشرة في بلاد الإسلام، وحسبه من كتب الحديث،
وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة.
(المسألة الثالثة عشرة)
تتعلق في البداء والمتعة والبراءة والمسح على
الخفين فهنا أربعة مباحث
" المبحث الأول " في البداء وقد زعم النواصب إنا نقول:
بأن الله عز وجل قد يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الأمر بخلاف
ما اعتقد، وهذا إفك منهم وبهتان، وظلم لآل محمد وعدوان،
99

وحاشا أهل البيت وأولياءهم أن يقولوا بهذا الضلال المبين
المستحيل على الله عز وجل، فإن علم الله تعالى عين ذاته عندهم،
فكيف يمكن دخول التغيير والتبديل فيه لو كان النواصب
ينصفون؟ وحاصل ما تقوله الشيعة هنا: إن الله عز وجل قد
ينقص من الرزق وقد يزيد فيه، وكذا الأجل والصحة
والمرض والسعادة والشقاء، والمحن والمصائب والإيمان والكفر
وسائر الأشياء كما يقتضيه قوله تعالى (يمحو الله ما يشاء ويثبت
وعنده أم الكتاب).
وهذا مذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود (1) وأبي
وائل وقتادة (2) وقد رواه جابر عن رسول الله
وكان كثير من السلف الصالح يدعون ويتضرعون إلى الله
تعالى أن يجعلهم سعداء لا أشقياء، وقد تواتر ذلك عن أئمتنا

1 - نقله عنهما فخر الدين الرازي في تفسير هذه الآية من
سورة الرعد ص 210 من الجزء الخامس من تفسيره الكبير،
ونقل ثمة حديث جابر الذي أشرنا إليه.
2 - نقله عنهما وعن عمر وابن مسعود إمام المفسرين في معنى
الآية من مجمع البيان ص 298 من مجلده الثالث طبع العرفان
100

في أدعيتهم المأثورة، وورد في السنن الكثيرة أن الصدقة
على وجهها، وبر الوالدين، واصطناع المعروف، يحول
الشقاء سعادة، ويزيد في العمر (1) وصح عن ابن عباس أنه
قال: لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله يمحو بالدعاء
ما يشاء من القدر (2).
هذا هو البداء الذي تقول به الشيعة تجوزوا في إطلاق
البداء عليه بعلاقة المشابهة، لأن الله عز وجل أجرى كثيرا من
الأشياء التي ذكرناها على خلاف ما كان يظنه الناس فأوقعها
مخالفة لما تقتضيه الأمارات والدلائل، وكان مآل الأمور فيها
مناقضا لأوائلها، والله عز وجل هو العالم بمصيرها ومصير
الأشياء كلها، وعلمه بهذا كله قديم أزلي، لكن لما كان

1 - أخرجه ابن أبي شيبة من حديث علي كما في ص 251
من الجزء الأول من كنز العمال، وأخرجه أيضا ابن مردويه
كما في آخر الصفحة المذكورة من الكنز.
2 - أخرجه الحاكم في تفسير سورة الرعد من المستدرك في
أول ص 350 من جزئه الثاني، وأخرجه الذهبي في تلخيصه
مصرحين بصحته
101

تقديره لمصير الأمور فيها يخالف تقديره لأوائلها، كان تقدير
المصير أمرا يشبه البداء، فاستعار له بعض سلفنا الصالح هذا
اللفظ مجازا، وكأن الحكمة قد اقتضت يومئذ هذا التجوز،
وبهذا رد بعض أئمتنا قول اليهود: إن الله قدر في الأزل
مقتضيات الأشياء، وفرغ الله من كل عمل إذ جرت الأشياء
على مقتضياته، قال عليه السلام: بأن لله عز وجل في كل
يوم قضاء مجددا بحسب مصالح العباد لم يكن ظاهرا لهم،
وما بدا لله في شئ إلا كان في علمه الأزلي.
فالنزاع في هذه المسألة بيننا وبين أهل السنة لفظي، لأن
ما ينكرونه من البداء الذي لا يجوز على الله عز وجل تبرأ
الشيعة منه، وممن يقول به براءتها من الشرك بالله ومن
المشركين، وما يقوله الشيعة من البداء بالمعنى الذي ذكرناه
يقول به عامة المسلمين، وهو مذهب عمر بن الخطاب وغيره
كما سمعت، وبه جاء التنزيل (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده
أم الكتاب) (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم
هو في شأن) أي كل وقت وحين يحدث أمورا ويجدد أحوالا
من إهلاك وإنجاء وحرمان وإعطاء، وغير ذلك كما روي عن
102

رسول الله صلى الله عليه وآله وقد قيل له: ما ذلك الشأن؟ فقال:
من شأنه سبحانه وتعالى أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما
ويضع آخرين.
هذا هو الذي تقول به الشيعة وتسميه بداء، وغير الشيعة
يقولون به، لكنهم لا يسمونه بداء، فالنزاع في الحقيقة إنما
هو في تسميته بهذا الاسم وعدم تسميته به. ولو عرف غير
الشيعة أن الشيعة إنما تطلق عليه هذا الاسم مجازا لا حقيقة
لتبين حينئذ لهم أن لا نزاع بيننا وبينهم حتى في اللفظ لأن
باب المجاز واسع عند العرب إلى الغاية، ومع هذا كله فإن
أصر غيرنا على هذا النزاع اللفظي وأبى التجوز بإطلاق البداء
على ما قلناه، فنحن نازلون على حكمه فليبدل لفظ البداء بما
يشاء (وليتق الله ربه) في أخيه المؤمن " ولا يبخس منه شيئا "
" ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين
بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ".
" المبحث الثاني " في المتعة أعني متعة النساء، والكلام
هنا يقع في خمسة أمور.
الأمر الأول في تحرير محل النزاع فيها فنقول: محل النزاع
103

بين الشيعة والسنة هنا إنما هو في أن تزوجك المرأة الحرة
الكاملة المسلمة أو الكتابية نفسها، حيث لا يكون لك مانع
في دين الإسلام عن نكاحها، من نسب أو سبب أو رضاع
أو إحصان أو عدة أو غير ذلك من الموانع الشرعية ككونها
معقودا عليها لأبيك، أو كونها أختا لزوجتك مثلا، أو نحو
ذلك، تزوجك هذه نفسها بمهر مسمى إلى أجل مسمى بعد
نكاح جامع لشرائط الصحة الشرعية، فتقول لك - بعد تبادل
الرضا والاتفاق بينكما -: زوجتك أو أنكحتك أو متعتك
نفسي بمهر قدره كذا يوما أو يومين أو شهرا أو شهرين أو سنة
أو سنتين مثلا، أو تذكر مدة معينة على الضبط فتقول - أنت
لها على الفور -: قبلت. وتجوز الوكالة في هذا العقد كغيره
من العقود، وبتمامه تكون زوجة لك، وأنت تكون زوجا لها
إلى منتهى الأجل المسمى في العقد، وبمجرد انتهائه تبين من
غير طلاق كالإجارة، وللزوج فراقها قبل انتهائه بهبة المدة
المعينة لا بالطلاق، عملا بالنصوص الخاصة الحاكمة بذلك،
ويجب عليها مع الدخول وعدم بلوغها سن اليأس أن تعتد
بعد هبة المدة أو انقضائها بقرأين، إذا كانت ممن تحيض، وإلا
104

فبخمس وأربعين يوما كالأمة، عملا بالأدلة الخاصة أيضا، فإذا
وهبها المدة أو انقضت قبل أن يمسها فما له عليها من عدة،
كالمطلقة قبل المس، ولا عدة على من بلغت سن الياس كالمطلقة
أيضا، وأولات الأحمال في المتعة أجلهن أن يضعن حملهن
كالمطلقات، أما عدة المتوفى عنها زوجها في نكاح المتعة فهي
عدة المتوفى عنها زوجها في النكاح الدائم مطلقا (1).
وولد المتعة ذكرا كان أو أنثى يلحق - كغيره من الأبناء -
بأبيه، ولا يدعى إلا له، ادعوهم لآبائهم، وله من الإرث
ما أوصانا به الله سبحانه حيث يقول (يوصيكم الله في أولادكم
للذكر مثل حظ الأنثيين) ولا فرق بين ولديك المولود أحدهما
منها والآخر من النكاح المألوف بين عامة المسلمين، وجميع
العمومات الشرعية الواردة في الأبناء والآباء والأمهات شاملة

(1) يعني سواء كانت مدخولا بها أو لا، وسواء كانت يائسا أو لا،
وسواء كانت حبلى أو لا إذ على غير الحبلى أن تعتد بأربعة أشهر
وعشر، حتى إذا لو كانت يائسا وغير مدخول بها، وعلى الحبلى أن
تعتد بأبعد الأجلين من مضي المدة المذكورة ووضع الحمل،
فزوجة المتعة في عدة الوفاة كالزوجة في النكاح الدائم لا فرق
بينهما.
105

لأبناء المتعة وآبائهم وأمهاتهم، وكذا القول في العمومات
الواردة في الأخوة والأخوات وأبنائهما، والأعمام والعمات،
والأخوال والخالات وأبنائهم (وأولو الأرحام بعضهم أولى
ببعض في كتاب الله) مطلقا. نعم نكاح المتعة لا يوجب توارثا بين
الزوجين نفسهما، ولا ليلة ولا نفقة للمتمتع بها، وللزوج أن
يعزل عنها عملا بالأدلة الخاصة المخصصة للعمومات الواردة في
أحكام الزوجات.
هذه هي متعة النساء التي فهم الإمامية من الكتاب والسنة
دوام إباحتها، وأهل المذاهب الأربعة يعترفون بأن الله تعالى
شرعها في دين الإسلام، لكنهم يعتقدون نسخها وتحريمها،
وليس عندنا متعة نساء غيرها بحكم الضرورة من مذهبنا المدون
في الألوف من مصنفات علمائنا المنتشرة في أكثر بلاد الإسلام
" الأمر الثاني " في أصل مشروعية المتعة، يجب أن يعلم أن
هذا القدر ثابت بإجماع المسلمين، وبالكتاب الحكيم، وبالسنة
المقدسة.
أما الإجماع فلأن أهل القبلة كافة، متفقون على أن الله
تعالى شرع متعة النساء في دين الإسلام، بحيث لا ريب في
106

ذلك لأحد من أهل المذاهب الإسلامية على اختلافهم في
المشارب والآراء، بل لعل هذا ملحق - عند أهل العلم -
بالضروريات الثابتة عن سيد النبيين صلى الله عليه وآله فلا ينكره أحد
من المسلمين مطلقا.
وأما الكتاب فقوله تعالى في - سورة النساء - (فما
استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) حتى أن كلا من أبي بن
كعب، وابن عباس، وسعيد بن جبير، والسدي، وغيرهم
كانوا يقرأونها (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) أخرج
ذلك عنهم الإمام الطبري في تفسير الآية من أوائل الجزء
الخامس من تفسيره الكبير، ورواه عنهم وعن ابن مسعود
جماعة كثيرون من أثبات الأمة وحفظتها (1) لا يسعنا

(1) حتى أرسل الزمخشري في كشافه هذه القراءة عن ابن
عباس إرسال المسلمات، والرازي ذكر في تفسير الآية أنه
روى عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ فما استمتعتم به منهن إلى
أجل مسمى فآتوهن أجورهن (قال): وهذا أيضا هو قراءة
ابن عباس (قال): والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة
" قال ": فكان ذلك إجماعا من الأمة على صحة هذه القراءة
قلت: هذا كلامه بلفظه فراجعه في ص 201 من
الجزء 3 من تفسيره الكبير. ونقل القاضي عياض عن المازري
- كما في أول باب نكاح المتعة من شرح صحيح مسلم للنووي -
أن ابن مسعود قرأ " فما استمتعتم به منهن إلى أجل " والأخبار
في ذلك كثيرة.
107

استقصاؤهم، وصرح عمران بن حصين الصحابي بنزول هذه
الآية في المتعة، وأنها لم تنسخ حتى قال رجل برأيه ما شاء (1)
ونص على نزول الآية في المتعة مجاهد أيضا فيما أخرجه عنه
الطبري في تفسيره الكبير (2) ويشهد لنزول الآية في متعة
النساء أن الله سبحانه قد أبان في أوائل السورة حكم النكاح
الدائم بقوله عز من قائل " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى
وثلاث ورباع " إلى أن قال " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة "
فلو كانت هذه الآية في بيان الدائم أيضا للزم التكرار في
سورة واحدة، أما إذا كانت لبيان المتعة فإنها تكون لبيان
معنى جديد، وأولو الألباب ممن تدبروا القرآن الحكيم

(1) ستقف على كلام عمران في الأمر السادس من الأمور
المتعلقة بالمتعة.
(2) راجع الصفحة 9 من جزئه الخامس.
108

يعلمون أن سورة النساء قد اشتملت على بيان الأنكحة
الإسلامية كلها، فالدائم وملك اليمين تبينا بقوله تعالى " فانكحوا
ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم إلا
تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " ونكاح الإماء مبين
بقوله تعالى " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات
المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم
بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن
أجورهن بالمعروف " إلى آخر ما شرع من أحكامهن، والمتعة
مبينة بآيتها " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة "
وأما السنة فنصوصها في مشروعية المتعة متواترة، ولا سيما
من طريق العترة الطاهرة، وقد أخرج الشيخان في أصل
مشروعيتها أحاديث في صحيحيهما كثيرة، عن كل من سلمة
ابن الأكوع، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وابن
عباس، وسبرة بن معبد، وأبي ذر الغفاري، وعمران بن
حصين، والأكوع بن عبد الله الأسلمي. وأخرجها أحمد بن
حنبل في مسنده من حديث هؤلاء كلهم، ومن حديث عمر،
وحديث ابنه عبد الله. وأخرج مسلم في باب نكاح المتعة من
109

كتاب النكاح من الجزء الأول من صحيحه عن جابر بن عبد
الله، وسلمة بن الأكوع، قالا: خرج علينا منادي رسول الله
صلى الله عليه وآله فقال: إن رسول الله أذن لكم أن تستمتعوا يعني
متعة النساء انتهى بلفظه، والصحاح في هذا المعنى أكثر من
أن تستقصى في هذا الاملاء.
" الأمر الثالث " في دوام حلها، وهو مذهب أئمتنا الاثني
عشر وأوليائهم عليهم السلام، وحسبك حجة لهم ما قد سمعته
من إجماع أهل القبلة على أن الله شرعها في دينه القويم، وأذن
في الإذن بها منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يثبت نسخها عن
الله تعالى، ولا عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انقطع الوحي باختيار
الله تعالى لنبيه دار كرامته، بل ثبت عدم نسخها بحكم صحاحنا
المتواترة عن أئمة العترة الطاهرة، فراجعها في مظانها من
حديث الشيعة، على أن في صحاح أهل السنة ما تتم به الحجة،
وإليك لمعة منها بعين ألفاظهم.
أخرج مسلم في باب نكاح المتعة من صحيحه (1) عن عطاء
قال: قدم جابر بن عبد الله معتمرا فجئناه في منزله، فسأله

(1) في ص 535 من جزئه الأول.
110

القوم عن أشياء، ثم ذكروا المتعة فقال: نعم استمتعنا على
عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وعمر ا ه‍. وأخرج مسلم
في الباب المذكور أيضا عن أبي الزبير، قال: سمعت جابر
ابن عبد الله يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق
الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر، حتى نهى عنه
عمر في شأن عمرو بن حريث ا ه‍. وأخرج في الباب المذكور
أيضا عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه
آت، فقال: إن ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين
- متعة الحج ومتعة النساء - فقال جابر: فعلناهما مع رسول
الله صلى الله عليه وآله ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما (1) والأخبار في هذا
لا تستقصى، ويعجبني قول بعضهم:
إن التمتع سنة مشروعة * صدع الكتاب بها وسنة أحمد -
وروى المخالف أن ذلك قد جرى * زمن النبي وبعد فقد محمد -
ثم استمر الأمر في تحليلها * إذ صح ذلك بالحديث المسند -
عن جابر وعن ابن مسعود وفي * نص ابن عباس كريم المولد -
حتى نهى رجل بغير دلالة * عنها فكدر صفو ذاك المورد -

(1) أوردنا أحاديث جابر هذه في ص 58 من فصولنا المهمة وتكلمنا
فيها بما يجدر بالباحثين أن يقفوا عليه.
111

" الأمر الرابع " فيما زعموه من نسخها، وقد أمعنا النظر
في الأحاديث التي تشبثوا بها، فإذا هي أحاديث ملفقة وضعها
المتأخرون عن زمن الصحابة تصحيحا لرأي من حرمها، وقد
استقصيناها في رسالتنا الموسومة بالنجعة في أحكام المتعة،
فأثبتنا من طريق خصومنا تضعيف تلك الأحاديث، وإن
أخرجها البخاري ومسلم، ونقلنا كلمات البعض من أئمتهم في
الجرح والتعديل الدالة على ذلك، على أن تلك الأحاديث الملفقة
تناقض صحاحنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة، بل
تناقض ما سمعته وما ستسمعه من صحاحهم الدالة على عدم
نسخها، بل تناقض نفسها بنفسها كما فصلناه في النجعة تفصيلا،
وقد سمعت نص جابر على أن التحريم والنهي إنما كان من عمر
في بادرة ابن حريث، وستسمع كلام عمران بن حصين، وعبد الله
بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأمير
المؤمنين، فتراه صريحا بأن التحريم لم يكن بناسخ شرعي،
وإنما كان بنهي عمر، ومحال أن يكون هناك ناسخ يجهلونه،
وهم من علمت منزلتهم من رسول الله، وملازمتهم إياه، وحرصهم
على أخذ العلم منه، على أنه لو كان ثمة ناسخ لنبههم إليه بعض
112

المطلعين عليه، وحيث لم يعارضهم أحد فيما كانوا ينسبونه من
التحريم إلى عمر علمنا أنهم أجمع معترفون بذلك مقرون بأن
لا ناسخ من الله تعالى، ولا من رسوله
على أن عمر نفسه لم يدع النسخ كما ستسمعه من كلامه
الصريح في إسناد التحريم والنهي إلي نفسه، ولو كان هناك
ناسخ من الله أو من رسوله لأسند التحريم إلى الله تعالى أو
إلى الرسول فإن ذلك أبلغ في الزجر، وأولى بالذكر.
(فصل)
ومن غريب الأمور دعوى بعضهم النسخ بقوله تعالى
(والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم) بزعم أنها ليست بزوجة ولا ملك يمين، قالوا أما كونها
ليست بملك يمين فمسلم، وأما كونها ليست بزوجة فلأنها لا نفقة
لها ولا إرث ولا ليلة.
والجواب: إنها زوجة شرعية بعقد نكاح شرعي، أما عدم
النفقة والإرث والليلة فإنما هو لأدلة خاصة تخصص العمومات
الواردة في أحكام الزوجات كما بيناه في الأمر الأول، على
113

أن هذه الآية مكية نزلت قبل الهجرة بالاتفاق، فلا يمكن أن
تكون ناسخة لإباحة المتعة المشروعة في المدينة بعد الهجرة
الإجماع. ومن عجيب أمر هؤلاء المتكلفين أن يقولوا بأن
آية المؤمنون ناسخة لمتعة النساء إذ ليست بزوجة ولا ملك يمين،
فإذا قلنا لهم ولم لا تكون ناسخة لنكاح الإماء المملوكات لغير
الناكح، وهن لسن بزوجات للنكاح ولا بملك له، قالوا حينئذ
إن آية المؤمنون مكية، ونكاح الإماء المذكورات إنما شرع
بقوله تعالى - في سورة النساء وهي مدنية - (فمن لم يستطع
منكم طولا أن ينكح المحصنات فمن ما ملكت أيمانكم) الآية،
والمكي لا يكون ناسخا للمدني لوجوب تقدم المنسوخ على
الناسخ، يقولون هذا القول وينسون أن المتعة إنما شرعت
في المدينة، وأن آيتها في سورة النساء أيضا، وهي قوله عز
من قائل: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) وقد منينا
بقوم لا يتدبرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
" الأمر الخامس " في يسير من السنن الدالة على أن
التحريم إنما كان تأولا من الخليفة الثاني. أخرج مسلم في باب
المتعة بالحج والعمرة من صحيحه (1) بالإسناد إلى أبي نضرة قال:

(1) في ص 467 من جزئه الأول.
114

كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها،
فذكرت ذلك لجابر، فقال: على يدي دار الحديث تمتعنا مع
رسول الله صلى الله عليه وآله فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله
ما شاء بما شاء، فأتموا الحج والعمرة وأبتوا نكاح هذه النساء،
فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده (1) من حديث عمر بالإسناد
إلى أبي نضرة، قال: قلت لجابر بن عبد الله إن ابن الزبير ينهى
عن المتعة، وإن ابن عباس يأمر بها، فقال لي: على يدي
جرى الحديث، تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومع أبي بكر
فلما ولي عمر خطب الناس فقال: إن القرآن هو القرآن، وإن
رسول الله هو الرسول، وإنهما كانتا متعتان على عهد رسول
الله أحدهما متعة الحج والأخرى متعة النساء ا ه‍. وهذا كما
ترى صريح فصيح، ولا تنس ما أوردناه في الأمر الثالث من
حديث جابر فإنه صريح فصيح أيضا.
وقد استفاض قول الخليفة الثاني وهو على المنبر: متعتان
كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، متعة الحج،

(1) ص 52 من الجزء الأول.
115

ومتعة النساء حتى نقل الرازي هذا القول عنه محتجا به على تحريم
متعة النساء، فراجع تفسير آيتها من تفسيره الكبير. والذي
نقله متكلم الأشاعرة، وحكيم أهل السنة الإمام القوشجي في
أواخر مبحث الإمامة من شرح التجريد: أن الخليفة الثاني
قال وهو على المنبر: أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول
الله وأنا أنهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن، متعة النساء،
ومتعة الحج، وحي على خير العمل، ثم اعتذر بأن هذا إنما
كان منه عن تأول واجتهاد.
قلت: والأخبار في هذا مما يضيق عنه وسع هذه الرسالة،
وقد استمتع في أيام عمر، ربيعة بن أمية ابن خلف القرشي
أخو صفوان فيما أخرجه مالك - في باب نكاح المتعة من
موطئه - عن عروة بن الزبير، قال: إن خولة بنت حكيم
السلمية دخلت على عمر فقالت: إن ربيعة بن أمية استمتع
بامرأة فحملت منه، فخرج عمر يجر رداءه فقال: هذه المتعة
ولو كنت تقدمت فيها لرجمت ا ه‍، أي لو كنت تقدمت في
تحريمها والانذار برجم فاعلها قبل هذا لرجمت، إذ كان
هذا القول منه قبل نهيه عنها، نص على ذلك ابن عبد البر كما في
شرح الزرقاني لهذا الحديث من موطأ مالك، ولا يخفى أن هذا
116

الكلام منه ظاهر في أن التصرف في حكمها إنما هو منه لا من
سواه، وخطبته تلك على المنبر نص صريح بذلك (1)
" الأمر السادس " في الإشارة إلى من تسنى لهم أن
يبيحوا ببعض ما في نفوسهم من استنكار تحريمها وهم كثيرون،
فمنهم أمير المؤمنين علي عليه السلام فيما أخرجه الإمامان الثعلبي
والطبري عند بلوغهما إلى آية المتعة من تفسيريهما الكبيرين،
حيث أخرجه بالإسناد إلى علي قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة
ما زنى إلا شقي، وهذا متواتر عنه من طريق أبنائه الميامين (2)
ومنهم عبد الله بن العباس إذ قال: ما كانت المتعة إلا

(1) وقد قال العسكري - فيما نقله عن السيوطي في أحوال
عمر من كتابه تاريخ الخلفاء -: هو أول من سمي أمير
المؤمنين، وأول من كتب التاريخ من الهجرة، وأول من اتخذ
بيت المال، وأول من سن قيام شهر رمضان - بالتراويح -
وأول من عس بالليل، وأول من عاقب على الهجاء، وأول
من ضرب في الخمر ثمانين، وأول من حرم المتعة الخ والذين
صرحوا بهذا من أثبات الأمة لا تحيط بهم هذه العجالة.
2 - وقد نقله الرازي في ص 200 من الجزء 3 من تفسيره
117

رحمة رحم الله بها أمة محمد صلى الله عليه وآله لولا نهيه - يعني عمر -
عنها ما أحتاج إلى الزنى إلا شقي ا ه‍. أي إلا قليل من الناس
كما فسرها ابن الأثير في مادة شفى من النهاية، وكان ابن
عباس يجاهر بإباحتها، وله في ذلك مع ابن الزبير - حتى في
أيام إمارته - نوادر يطول المقام بذكرها (1) وحسبك منها
ما أخرجه مسلم عن أبي نضرة وقد سمعته في الأمر الثالث وفي
الأمر الخامس فراجع.
ومنهم جابر بن عبد الله الأنصاري وقد سمعت حديثه في
الأمر الثالث وفي الأمر الخامس فراجع.
ومنهم عبد الله بن عمر كما هو ثابت عنه، أخرج الإمام
أحمد في ص 95 من الجزء الثالث من مسنده من حديث
عبد الله بن عمر قال: سأل رجل ابن عمر عن متعة النساء
فقال: والله ما كنا على عهد رسول الله زانين ولا مسافحين

(1) ألفتك إلى ما أورده منها علامة المعتزلة في ص 489
من المجلد 4 من شرح نهج البلاغة حيث ترجم ابن الزبير أثناء
شرحه لقول أمير المؤمنين ما زال الزبير منا أهل البيت حتى
نشأ ابنه المشوم.
118

ثم قال: والله لقد سمعت رسول الله يقول: ليكونن قبل
يوم القيامة المسيح الدجال، وكذابون ثلاثون أو أكثر،
وسئل مرة أخرى (1) عن متعة النساء فقال: هي حلال،
فقيل له: إن أباك نهى عنها، فقال: أرأيت إن كان أبي نهى عنها
وصنعها رسول الله أنترك السنة ونتبع قول أبي؟ ا ه‍.
ومنهم عبد الله بن مسعود كما هو معلوم عنه، وقد أخرج
البخاري ومسلم في صحيحيهما واللفظ للأول (2) عن عبد الله
- بن مسعود - قال: كنا نغزو مع رسول الله وليس لنا
شئ، فقلنا: إلا نستخصي فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا إن
ننكح المرأة بالثوب، ثم قرأ علينا (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا
طيبات ما أحل لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) ا ه‍
قلت: لا يخفى أن استشهاده بالآية دليل على إباحتها كما صرح به
شراح الصحيحين.

(1) كما نقله العلامة في نهج الصدق والشهيد الثاني في
روضته البهية عن صحيح الترمذي.
(2) في الصفحة الثانية أو الثالثة من كتاب النكاح فراجع
119

ومنهم عمران بن حصين فيما صح عنه، وقد نقل الرازي (1)
عنه أنه قال: أنزل الله في المتعة آية وما نسخها بآية أخرى،
وأمرنا رسول الله بالمتعة وما نهانا عنها، ثم قال رجل برأيه
ما شاء " قال الرازي " يريد عمر ا ه‍. وأخرج البخاري في
صحيحه عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب
الله، ففعلناها مع رسول الله، ولم ينزل قرآن يحرمها، ولم
ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء. وأخرج أحمد (2)
في مسنده من طريق عمران القصير عن أبي رجاء عن عمران
ابن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله تبارك وتعالى
وعملنا بها مع رسول الله فلم تنزل آية تنسخها ولم ينه عنها
النبي حتى مات صلى الله عليه وآله وسلم.
وأمر المأمون أيام خلافته فنودي بتحليل المتعة، فدخل

(1) أثناء بحثه عن حكم متعة النساء في تفسير آيتها من
تفسيره الكبير.
(2) في ص 436 من جزئه الرابع وأخرج أيضا مثله في
ص 438 من الجزء الرابع من طريق حميد عن الحسن عن عمران
120

عليه محمد بن منصور وأبو العيناء، فوجداه يستاك ويقول (1)
متغيظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله وعلى عهد أبي
بكر وأنا أنهى عنهما (قال): ومن أنت يا جعل حتى تنهى
عما فعله رسول الله وأبو بكر فأراد محمد بن منصور أن يكلمه
فأومأ إليه أبو العيناء، وقال: رجل يقول في عمر بن الخطاب
ما يقول نكلمه نحن؟ فلم يكلماه، ودخل عليه يحيى بن
أكثم فخلا به وخوفه من الفتنة، وذكر له: إن الناس يرونه
قد أحدث في الإسلام - بهذا النداء - حدثا عظيما يسئ
الخاصة (2) ويثير العامة إذ لا فرق عندهم بين النداء بإباحة
المتعة، والنداء بإباحة الزنا، ولم يزل به حتى صرف عزيمته،

(1) فيما نقله ابن خلكان في ترجمة يحيى بن أكثم من
وفيات الأعيان لكنه لم ينقل حديث يحيى مع المأمون على
وجهه والثابت ما نقلناه.
(2) يدل على ذلك قول أبي حنيفة وقد قيل له مالك
لا تروي عن عطاء؟ فقال لأني رأيته يفتي بالمتعة روى ذلك عنه
ابن عبد البر في باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض من
كتابه - جامع بيان العلم - فراجع من مختصره ص 196.
121

إشفاقا على ملكه ونفسه.
وممن أباح المتعة وعملها من أعلام الأمة عبد الملك بن عبد
العزيز بن جريح أبو خالد المكي المولود سنة ثمانين، والمتوفى
سنة تسع وأربعين ومئة، وقد ترجمه ابن خلكان في وفياته،
وابن سعد في طبقاته (1) وهو ممن احتجوا به في الصحاح (2)
وترجمه الذهبي في ميزاته فذكر أنه تزوج نحوا من تسعين امرأة
نكاح المتعة، وأنه كان يرى الرخصة في ذلك (قال): وكان
فقيه أهل مكة في زمانه.
- (المبحث الثالث) - في البراءة، وقد أجمع المسلمون
كافة على البراءة من أعداء الله، وتصافقوا جميعا على وجوبها،
وحض الكتاب والسنة عليها بما لا مزيد عليه، وحسبك من
آيات الذكر الحكيم قوله عز وعلا - في سورة الممتحنة -
(قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا
لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم

(1) راجع ص 361 من جزئها الخامس.
(2) وترجمه ابن القيسراني في ص 314 من كتابه الجمع بين رجال صحيحي
البخاري ومسلم.
122

وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله
وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لاستغفرن لك) إلى أن قال
عز اسمه عودا على بدء لتأكيد وجوب البراءة (لقد كان لكم
فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول
فإن الله هو الغني الحميد) وقال سبحانه وتعالى - في سورة
براءة - " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة
وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) ثم مدحه الله
عز وجل بسبب براءته من أبيه فقال " إن إبراهيم لأواه حليم "
هذه هي البراءة، وهذا هو التكليف بها، وهذه هي ملة إبراهيم
التي هدى الله عز وجل إليها نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وأمره بأن
يدعو أهل الأرض إليها فقال تبارك اسمه (1) (قل إنني
هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا)
فهل يريد موسى جار الله مع هذا كله أن نتولى أعداء الله،
والله تعالى يقول " يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله
عليهم " إلى آخر سورة الممتحنة، أم يريد أن نودهم والله تعالى
يقول " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من

(1) في سورة الأنعام
123

حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو
عشيرتهم " إلى آخر سورة المجادلة
وقد أجمعت الأمة بقضها وقضيضها على وجوب البغض
في الله، كما أجمعت على وجوب الحب في الله، والتفصيل في
مظانه من كتب الفريقين (1) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله
أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وعن عيسى
عليه السلام: تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا
إلى الله بالتباعد منهم، والتمسوا رضا الله بسخطهم الحديث (2)
ولعل موسى جار الله ينكر علينا البراءة من يزيد بن معاوية
صاحب القرود والفهود والخمور والفجور، وقاتل العترة

(1) حسبك من كتب الشيعة في هذا الموضوع كتاب جامع
السعادات المنتشر، ومن كتب أهل السنة إحياء العلوم فراجع
منه بيان البغض في الله ص 143 من جزئه الثاني والتي بعدها
وإن شئت المزيد فعليك بصفحة 454 من المجلد الرابع من شرح
نهج البلاغة الحديدي فتدبر الرد هناك على أبي المعالي الجويني
(2) هذا الحديث والذي قبله أوردهما الغزالي في
ص 137 من الجزء الثاني من الإحياء، وأورد هناك أحاديث
من هذا القبيل جمة.
124

الطاهرة، ومبيح المدينة المنورة، وينقم منا البغض لكل
من كان على شاكلة يزيد، ويريد منا أن نعد يزيد وأباه من
خلفاء رسول الله الذين بشر بهم في قوله صلى الله عليه وآله: إن هذا الأمر
لا ينقضي حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، كما
احتمله القاضي عياض وتبعه في ذلك من تأخر عنه من علماء
الجمهور، بل استحسنه شيخ الإسلام ابن حجر في شرح صحيح
البخاري، وأطال الكلام في استحسانه، وجعل الخامس من
الاثني عشر معاوية، والسادس يزيد، والثاني عشر جعله
الوليد بن يزيد بن عبد الملك ذلك المتهتك بعهره وخمره وفجوره
وسائر أموره، وقد أورد السيوطي في أوائل كتابه - تاريخ
الخلفاء - كلام ابن حجر في هذا الموضوع فليراجعه (1) من
أراد أن يعرف سرائر موسى جار الله تجاه آل محمد صلى الله عليه وآله
وتجاه أعدائهم وليعجب، وقد ذكرنا في فصولنا المهمة يزيد بن
معاوية فأشرنا إلى شئ من بوائقه (2) وبوائق أبيه، فليراجعها

(1) في الفصل الذي عقده لبيان الأئمة من قريش، والفصل
الذي بعده في ص 4 والتي بعدها من تاريخ الخلفاء.
(2) في الفصل 8 ص 115 وما بعدها إلى ص 118 من
الفصول المهمة من الطبعة الثانية فليراجعها الباحثون ولا يغفلوا
عما علقناه ثمة من الفوائد الجمة.
125

موسى جار الله ليعلم أنا لا يسعنا إلا البراءة منهما ومن أمثالهما
إلا أن نخالف الله عز وجل فيما افترضه تعالى في محكم فرقانه،
وصدع به النبي في قدسي سنته صلى الله عليه وآله نعوذ بالله، وبه
نستجير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
" المبحث الرابع " في المسح على الخفين في الوضوء عوضا
عن غسل الرجلين أو مسحهما فيه، وقد اختلف الأئمة في ذلك
فأجازه قوم ومنعه آخرون، وتواتر القول بالمنع عن كل من
أئمتنا الاثني عشر وتبعهم على ذلك شيعتهم الإمامية الإجماع
قولا واحدا لعدم وجود ما يدل على الجواز من الأدلة المعتبرة
شرعا عندهم، والأخبار الظاهرة بكفاية المسح على الخفين
غير ثابتة من طريقهم مطلقا، وما على المسلم من غضاضة إذا
أخذ بالأصل العملي عند عدم قيام الدليل على ما يخالفه، لكن
موسى جار الله وأمثاله من المنددين المفندين ينكرون على
الشيعة عدم المسح على الخفين، ولا ينكرون على أنفسهم عدم
المسح على القدمين المنصوص عليه بقوله تعالى (يا أيها الذين
آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق
وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) الآية (1)

(1) في سورة المائدة.
126

قال بعض الأعلام من أثبات أهل السنة وفقهائهم على المذهب
الحنفي (1) أثناء تفسيره لهذه الآية ما هذا لفظه: قرئ في
السبعة بالنصب والجر، والمشهور أن النصب بالعطف على
وجوهكم والجر على الجوار (قال): والصحيح أن الأرجل
معطوفة على الرؤوس في القراءتين ونصبها على المحل وجرها
على اللفظ، (قال): وذلك لامتناع العطف على المنصوب
للفصل بين العاطف والمعطوف عليه بجملة أجنبية، والأصل
أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلا عن الجملة (قال): ولم يسمع في
الفصيح نحو ضربت زيدا ومررت بعمر وبكرا بعطف بكرا
على زيدا (قال): وأما الجر على الجوار فإنما يكون على قلة
في النعت كقول بعضهم: هذا جحر ضب خرب بجر خرب
أو في التأكيد كقول الشاعر:
يا صاح بلغ ذوي الحاجات كلهم * أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب -
بجر كلهم على ما حكاه الفراء (قال) وأما في عطف النسق

(1) هو الإمام الكبير الشيخ إبراهيم الحلبي الحنفي
صاحب حلبي كبير وهو من الكتب المنشورة المشهورة.
127

فلا يكون، لأن العاطف يمنع المجاورة، هذا نص كلامه (1)
وكفى به حجة على وجوب مسح الأرجل دون غسلها في
الوضوء، وقد اعترف في الكشاف بعطف الأرجل على
الرؤوس الممسوحة، ومع ذلك فقد تفلسف في عطفها فلسفة
لا تليق بإمام مثله (2) وما أظن أحدا من المفسرين يعطف
الأرجل على المغسول، ورحم الله السيد الطباطبائي بحر
العلوم إذ يقول:
إن الوضوء غسلتان عندنا * ومسحتان والكتاب معنا -
فالغسل للوجه ولليدين * والمسح للرأس وللرجلين -
وسبقه إلى ذلك حبر الأمة وابن عم نبيها عبد الله بن العباس
إذ قال (3): الوضوء غسلتان ومسحتان، وقال (4) في

(1) فراجعه في آخر ص 15 والتي بعدها من كتابه الشهير المعروف
مجلي كبير واسمه غنية المتملي في شرح منية المصلي في الفقه الحنفي.
(2) إذ قال: والأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب
الماء عليها فكانت مظنة للاسراف المذموم المنهي عنه فعطفت على الممسوح
لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها!!! قلت
ليت شعري من أخبره بذلك.
(3) كما في ص 103 من الجزء الخامس من كنز العمال وهذا هو الحديث 2211.
(4) كما في ص 103 من الجزء الخامس من الكنز وهو الحديث 2213.
128

مقام آخر: افترض الله غسلتين ومسحتين، ألا ترى أنه ذكر
التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين، وقال (1)
في مقام ثالث: يأبى الناس إلا الغسل ونجد في كتاب الله المسح
وعن الشعبي قال (2): أما جبريل فقد نزل بالمسح على القدمين
وعنه أيضا قال (3) نزل القرآن بالمسح الحديث، وعن ابن
عباس أنه حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله فمسح على رجليه،
وأخرج الطبراني (4) عن عباد بن تميم عن أبيه قال: رأيت
رسول الله صلى الله عليه وآله يتوضأ ويمسح على رجليه، أما ما روي
عن سادة أهل البيت في ذلك فأكثر من أن يحصى، فمن ذلك
ما رواه الحسين بن سعيد الأهوازي، عن فضالة، عن حماد

(1) أخرجه ابن ماجة في سننه وأبو داود والترمذي والنسائي في
صحاحهم وسعيد بن منصور في سننه ورواه ابن أبي شيبة وغيره من الأثبات
وهو موجود في ص 103 من الجزء الخامس من الكنز أيضا.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرحمن بن حميد وابن جرير وهو
الحديث 2222 في ص 104 من الجزء 5 من الكنز
(3) فيما أخرجه عبد الرحمن بن حميد والنحاس في تاريخه وهو الحديث
2223 في ص 104 من الجزء 5 من الكنز.
(4) كما في أواخر ص 19 من كتاب المسح
على الجوربين للشيخ محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي.
129

ابن عثمان، عن غالب ابن هذيل، قال: سألت أبا جعفر
(الباقر) عليه السلام عن المسح على الرجلين، فقال: هو الذي
نزل به جبرائيل، وعن أحمد بن محمد قال: سألت أبا الحسن
موسى بن جعفر عليهما السلام عن المسح على القدمين كيف
هو؟ فوضع بكفه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين،
والأخبار في هذا متواترة عن سائر الأئمة من العترة الطاهرة
فنصوص الثقلين صريحة بوجوب المسح على القدمين وبها أخذ
الإمامية، أما المسح على النعلين ونحوهما، فلا دليل عليه من
طريقهم. والأخبار التي يعتمد عليها غيرهم ليست بثابتة
عندهم، ولذا تراهم لا يمسحون على الخفين عوضا عن الرجلين،
ولا على العمامة عوضا عن الرأس لأصالة عدم الجواز.
لكن هذا المسكين يرى ذلك منا شيئا نكرا، وله في
الإنكار علينا بهذه المسألة، وبكل من البداء والمتعة والبراءة
تعصب تجاوز فيه كل حد.
قال: كتب الشيعة إذا تعصبت على المسألة فهي تجازف
في الكلام تتجاوز الحدود في التشدد (1) مثل ما رويت في

(1) كأن الكتب التي يرتضيها موسى جار الله لا تتجاوز الحدود
أبدا حتى في قولها بأن الله تعالى خلق الكفر في نفوس الكافرين والفسق
والظلم على أيدي الفاسقين والظالمين! وحتى في نفيهم الحسن والقبح العقليين
فيما يستقل به العقل وفي بعض ما يجوزونه على الله عز وجل وعلى أنبيائه
وأوصيائهم وحتى في قولهم بثبوت الخلافة شرعا لمعاوية ويزيد وبني مروان
وأضرابهم وحتى في احتجاجهم بأمثال ابن هند وابن النابغة وابن الزرقاء
وابن شعبة ونجدة وعكرمة وابن حطان وحتى في مسحهم على الخفين
دون الرجلين ونكاح البنت - بنت الزنى - وقولهم بأن حكم الله في الواقع
دائر مدار حكم القضاة الشرعيين فإذا حكم القاضي لزيد المزور بزوجة عمرو
الشرعية حلت للمحكوم له ظاهرا وواقعا وحرمت على زوجها الشرعي
ظاهرا وواقعا إلى غير ذلك مما لو استقصيناه لأخرجنا منه كتابا ضخما
130

البداء والمتعة والبراءة، وتحريم المسح على الخفين (1) وكان
الباقر والصادق يبالغان في المتعة ويقولان: من لم يستحل
متعتنا فليس منا (2) ويجعلها علماء الشيعة شارة أهل البيت
وشعار الأئمة (قال) وللأمة في المتعة كلام، وأنا أرى أن
المتعة كانت من بقايا الأنكحة الجاهلية (3) ويمكن أنها قد
وقعت من بعض الناس في صدر الإسلام (4) ويمكن أن

(1) فصلنا لك القول في هذه الأمور الأربعة تفصيلا فراجعها لتعرف
أينا المجازف.
(2) لما كانت المتعة من أحكام الله التي صودرت بعد رسول
الله كان على أوصيائه أن يهتموا بحفظها كما فعلوا.
(3) هذا الرأي يخالف رأي الأمة جمعاء كما هو الظاهر من كلامه فإذا يجب أن يعد من
مكتشفاته ويجب على الأمة إعطاؤه الامتياز فيه.
(4) بل وقعت من الصحابة أيام النبي وأبي بكر وشطرا من أيام عمر حتى نهى عنها في شأن
ابن حريث كما سمعته في مبحث المتعة.
131

الشارع قد أقرها في بعض الأحوال من باب ما نزل فيها إلا
ما قد سلف (1) كانت أمرا تاريخيا لا حكما شرعيا بإذن من
الشارع (2) وإن ادعى مدعي أن المتعة كانت حلالا بإذن
الشارع فلتكن (3) نقول لا بأس فيها ولا كلام لنا اليوم
في ردها (4) وإنما كلامي الآن في أن المتعة هل ثبتت في
القرآن أو لا (5) كتب الشيعة تدعي أن المتعة نزل فيها قول
الله جل جلاله: " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن

(1) سمعت في مبحث المتعة أن منادي النبي أذن بالإذن
بها فلا يؤبه بهذا الكلام البارد.
(2) هكذا تكون الفلسفة وإلا فلا.
(3) تشيع شطره إذ قال: فلتكن، ومتى كانت
فحلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم
القيامة.
(4) ردها بغير ناسخ من كتاب أو سنة جزاف وكلام هذا الرجل جفاء.
(5) سمعت في مبحث المتعة ثبوتها بكل من القرآن
والسنة والإجماع وهب أنها لم تثبت بالقرآن فإن أكثر الأحكام
ثبتت في السنة " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا "
132

فريضة " وأرى (1) أن أدب البيان يأبى، وعربية هذه الجملة
المعجزة تأبى أن تكون هذه الجملة الكريمة قد نزلت فيها،
لأن تركيب هذه الجملة يفسد، ونظم هذه الآية الكريمة يختل
لو قلنا إنها نزلت في متعة النكاح، هذا كلامه بعين لفظه أوردناه
على طوله تبيانا لمكانته في العربية، ونجوعا لأدلته القوية،
فإن التحكم والمصادرة والدعاوى الفارغة، والعبائر الباردة
هي البراهين القاطعة، والحجج الساطعة عنده، والحمد لله الذي
عافانا مما ابتلى به غيرنا، ولو شاء لفعل - راجع ما علقناه
على كلامه -
" المسألة الرابعة عشرة "
تتعلق بإرث علي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال هذا الرجل: 14 حديث عرض النبي إرثه لعمه سيدنا
العباس وابن عمه علي أمير المؤمنين في الوافي عن الكافي (1)

(1) هذا الرأي أيضا من مكتشفات هذا الفيلسوف
التي اكتشفها في القرن الرابع عشر أو في القرن العشرين كما
يقولون، فعلى الأمة أن تخضع لإعطائه الامتياز به.
133

133 - دعا النبي صلى الله عليه وآله عمه العباس وعليا قبيل وفاته فقال
لعمه العباس: تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته؟
فرد عليه العباس، وقال: شيخ كثير العيال قليل المال،
فقال النبي: سأعطيها من يأخذها بحقها. وقال: يا علي أتنجز
عدات محمد وتقضي دينه وتأخذ تراثه؟ الحديث (قال هذا
الرجل): هذا الحديث حديث مهم جليل لم أره في كتب
الأحاديث غير كتب الشيعة عددته إذ رأيته كنزا غنيا
يستخرج منه أصول في أبواب الفقه، إلى آخر ما قاله مستخفا
بهذا الحديث مستهزئا به متهكما، وقد أرجف فأجحف وظن
أنه إرث المال فرده بأن ابن العم لا يرث مع وجود البنت
أو العم، وأنه لا معنى لعرض الإرث، فإن تركة الميت تنتقل
بموته إلى ورثته، سواء أحب أو كره، وسواء كره الورثة
أم أحبوا (قال): وسيدنا العباس كان غنيا، وكان اعقل
وأرفع من أن يرد عرض النبي الخ.
(والجواب): إن ما ذكره من شأن الإرث فإنما هو
شأن التراث المالي، أما وراثة العلم والحكمة والملك، فإنها
من رحمة الله التي يختص بها من يشاء من أنبيائه وأوصيائهم
134

عليهم السلام. وقوله: بأنه لم ير الحديث في كتب غير الشيعة
دليل على قصور باعه، إذ صح أن عليا كان يقول (1) في حياة
رسول الله: والله إني لأخوه ووليه، وابن عمه، ووارث
علمه، فمن أحق به مني، وقد قيل له مرة (2): كيف ورثت
ابن عمك دون عمك، فقال: جمع رسول الله بني عبد المطلب
وهم رهط كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق فصنع لهم مدا
من طعام فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو كأنه لم
يمس، فقال صلى الله عليه وآله: يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة

(1) هذا القول ثابت عن علي بعين لفظه وقد أخرجه
الحاكم في مناقبه عليه السلام ص 126 من الجزء 3 من المستدرك
بالسند الصحيح على شرط الشيخين واعترف الذهبي بذلك حيث
أورده في التلخيص
(2) فيما أخرجه الضياء المقدسي في المختارة وابن جرير في
تهذيب الآثار والنسائي في ص 18 من الخصائص العلوية،
ونقله ابن أبي الحديد عن تاريخ الطبري في أواخر شرح الخطبة
القاصعة ص 255 من المجلد 3 من شرح النهج وهذا الحديث
هو الحديث 6155 في ص 408 من الجزء 6 من كنز العمال
ودونك ص 159 من مسند الإمام أحمد تجد الحديث بالمعنى.
135

وإلى الناس عامة، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي، وصاحبي
ووارثي، فلم يقم إليه أحد، فقمت إليه وكنت من أصغر
القوم، فقال لي: أجلس، ثم قال ثلاث مرات، كل ذلك
أقوم إليه، فيقول لي: أجلس، حتى كان في الثالثة ضرب
بيده على يدي، فلذلك ورثت ابن عمي دون عمي. وهذا
الحديث مستفيض في كتب أهل السنة، وفيه من عرض النبي
إرثه على أسرته ما أنكره هذا الرجل على كتب الشيعة كما
لا يخفى. وسئل قثم بن العباس - فيما أخرجه الحاكم وصححه
في مستدركه (1) وأورده الذهبي في تلخيصه جاز ما بصحته -
فقيل له: كيف ورث علي رسول الله دونكم؟ فقال: لأنه
كان أولنا به لحوقا، وأشدنا به لزوقا.
قلت: لا يخفى إن تساؤل الناس عن السبب في حصر هذا
التراث بعلي دون غيره، دليل على علمهم بهذه التخصة، وإنها
كانت عندهم من المسلمات، وإنما كانوا يتساءلون عن أسبابها،

(1) ص 125 من جزئه الثالث وأخرجه ابن أبي شيبة في
مسنده وهو الحديث 6084 في ص 400 من الجزء 6 من كنز
العمال.
136

حتى سألوا عليا تارة، وقثما أخرى، فأجابهم بما سمعت مما تصل
إليه مدارك أولئك السائلين، وإلا فالجواب الحقيقي: إن
الله عز وجل اطلع إلى أهل الأرض فاختار منهم محمدا فجعله
نبيا، ثم اطلع ثانية فاختار عليا فأوحى إلى نبيه أن يتخذه
وارثا ووصيا، كما دلت عليه السنن الصحيحة (1) قال الحاكم (2)
بعد أن أخرج عن قثم ما سمعت: حدثني قاضي القضاة أبو الحسن
محمد بن صالح الهاشمي، قال: سمعت أبا عمر القاضي يقول: سمعت
إسماعيل بن إسحاق القاضي، وقد ذكر له قول قثم هذا
فقال: إنما يرث الوارث بالنسب أو بالولاء، ولا خلاف بين
أهل العلماء في أن ابن العم لا يرث مع العم، فقد ظهر بهذا
الإجماع أن عليا ورث العلم من النبي دونهم. هذا كلامه بعين
لفظه، فليراجعه موسى جار الله ليعرف خطأه إذ قال: لم
أره في كتب الأحاديث غير كتب الشيعة، وحسبه حديث
الدار يوم الإنذار (2)

(1) والتفصيل في المراجعة 68 من مراجعاتنا وما علقناه
عليها.
(2) في ص 125 من الجزء 3 من المستدرك.
(3) وقد أوردناه في المراجعة 20 من مراجعاتنا فليقف
عليه وعلى ما علقناه ثمة كل بحاثة مدقق.
137

وحديث بريدة (1) عن رسول الله إذ قال صلى الله عليه وآله:
لكل نبي وصي ووارث، وأن وصيي ووارثي علي بن
أبي طالب، وحديث ابن أبي أو في في المؤاخاة، وفيه قول
النبي صلى الله عليه وآله لعلي: وأنت أخي ووارثي، قال علي: وما أرث
منك؟ قال، صلى الله عليه وآله: ما ورث الأنبياء من قبلي، كتاب
ربهم وسنة نبيهم، الحديث (2) ومثله حديث سلمان عن
رسول الله، إذ قال صلى الله عليه وآله (3): إن وصيي، وموضع سري
وخير من أترك بعدي، ينجز عدتي، ويقضي ديني، علي بن
أبي طالب. إلى ما لا يحصى ولا يمكن أن يستقصى في هذه
العجالة (4) مما ينقلب هذا الرجل به خاسئا وهو حسير.

(1) أوردناه في المراجعة 68 من المراجعات فراجعه
وراجع ما علقناه ثمة عليه.
(2) أوردناه في المراجعة 32 فراجعه ولا تغفل عما نقلناه
عليه.
(3) فيما أخرجه الطبراني في الكبير كما في ص 154
من الجزء 6 من كنز العمال وص 203 من هامش الجزء 5 من
مسند أحمد وهذا الحديث أوردناه في المراجعة 68
(4) وحسبك ما أوردناه في كتاب المراجعات.
138

أما قوله: بأن العباس كان غنيا، وكان اعقل وأرفع من أن
يرد عرض النبي بخلا أو غفلة عن عظيم الشرف، إلى آخر
ما قاله عن أبي الفضل فصحيح، وحاشاه من أن يرده إلا ليري الناس
اعترافه - على جلالة قدره وعظم شأنه - بحق علي وتقديمه
إياه - مع كونه صنو أبيه وبقية أهله - على نفسه، وبهذا ارتفع
قدر أبي الفضل عند الله ورسوله، وعظمت منزلته في نفوس
أولي الألباب، ورحم الله من عرف حده فوقف عنده.
وأما ما نقله هذا المرجف عن كتب الشيعة في شأن أم العباس
فشئ لا نعلمه وكتب الشيعة الإمامية تنزه العباس وأمه،
وتقدس أباه شيبة الحمد عن كل وصمة، فإنهم عليهم السلام لم
تنجسهم الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسهم من مدلهمات ثيابها،
وأبو الفضل العباس كان من أفضل الناس عليه السلام.
" المسألة الخامسة عشرة "
فلسفة أشترعها دستورا مكرما! لتوحيد كلمة الإسلام اليوم.
قال: كل يعلم وكلنا نعلم أن البيوت الأموية والهاشمية
والعباسية كانت بينها تراث وثارات وعداوات قديمة وحديثة
139

لم تكن إلا خصائص بدوية عربية قد كانت، وضرت الإسلام
ثم زالت بزوال أهلها، ووقعت بها فقط في تاريخ الإسلام
أمور منكرة لم تقع في غيره، وليس فيها إثم ولا أثر لأهل
الإسلام، ولا لأهل السنة. إلى آخر كلامه، ثم استرسل في
أمور تاريخية كابر فيها صحاح التاريخ، وصادر فيها قواطع
الأدلة (1) وتفلسف فلسفته المعلومة فأملى على الشيعة إرادته
السنية في توحيد الكلمة. وإنما أعرضنا عن بيانها إذ لم يأت
بشئ غير إبداء رأيه وإظهار ما في نفسه من المضمرات للشيعة،
وإيقاد نار الفتنة بين المسلمين بالإفك والبهتان، والظلم والعدوان
وهو مع ذلك يزعم أنه يعبد الطريق الوحيد إلى توحيد
كلمة الإسلام.
أوردها سعد وسعد مشتمل * ما هكذا تورد يا سعد الإبل -
إن الطريق الوحيد إلى الوحدة الإسلامية بين طوائف
المسلمين، إنما هو تحرير مذاهبهم، والاكتفاء من الجميع
بالمحافظة على الشهادتين، والإيمان باليوم الآخر، وأقام الصلاة،

1 - إن شئت أن تعرف كنه مصادرته ومكابرته فعليك
بالمراجعة 80 والمراجعة 82 من مراجعاتنا وما علقناه عليهما
140

وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم الشهر، والتعبد بالكتاب
والسنة هذا هو الطريق الوحيد إلى توحيد كلمة الإسلام
اليوم، كما أوضحناه في المراجعة 8 من مراجعاتنا المصرية.
" المسألة السادسة عشرة "
فيمن يدين بولاية الجور، وفيمن يدين بولاية العدل
والمروي عن أئمة أهل البيت إن لا ولاية لأئمة الجور الذين قال
الله تعالى في أمثالهم (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) وإن الولاية
إنما هي لأئمة العدل الذين عناهم الله تعالى بقوله (يهدون بالحق
وبه يعدلون) والمأثور عنهم عليهم السلام، إن من دان بولاية
إمام جائر فعقد قلبه على ولايته، كان كمن عناهم الله تعالى
بقوله (1) سبحانه (ومن يتولهم منكم فإنه منهم أن الله لا يهدي
القوم الظالمين) وقوله تعالى (2) (ومن يتولهم فأولئك هم
الظالمون) أما من دان بولاية إمام عادل فعقد قلبه على ذلك
فهو ممن عناهم الله تعالى بقوله (3) (ومن يتول الله ورسوله

1 - في سورة المائدة.
2 - في سورة الممتحنة.
3 - في سورة المائدة.
141

والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) هذا مضمون
ما روي في هذه المسألة عن أئمة أهل البيت، وفيه من الفوائد
ما لا يجحده جاحد، وحسبك أن يوجد روح النهضة في الرعايا
إلى موازرة العدل ومقاومة الجور، لكن موسى جار الله
ينكر على أئمة أهل البيت هذه التعاليم ويعدها من السنن السيئة.
قال: يقول الباقر: إن الله قال: لأعذبن كل رعية في الإسلام
دانت بولاية إمام جائر، وإن كانت الرعية في أعمالها برة
تقية (1) ولأعفون عن كل رعية في الإسلام دانت بولاية إمام

1 - الرعية إذا تدينت بولاية إمام جائر يحكم بغير ما أنزل
الله فتتعبد بحكمه لا ينفعها عملها إذ تكون ممن عناهم الله تعالى
بقوله " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا "
وقد أجمعت الأمة على اشتراط الإيمان في قبول الأعمال - إنما
يتقبل الله من المتقين - بل أجمعت على اشتراطه في صحة
العمل كما يدل عليه قوله تعالى في سورة الإسراء (ومن
أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان
سعيهم مشكورا).
142

عادل من الله وإن كانت الرعية ظالمة مسيئة (1) (قال موسى
جار الله): ما الفائدة من أمثال هذه الكلمات (2) وفي أي
أي كتاب يقول الله هذه الكلمات (3) هذا كلامه فراجع
ما علقناه عليه، وهذا أدبه مع باقر علوم العترة التي هي بمنزلة
الكتاب، ومثلها مثل سفينة نوح، وباب حطة، وهي أمان
الأمة من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة كانت من حزب إبليس
- وكفى -.

(1) لأنها تكون بسبب تدينها بولاية الإمام العادل مصداقا
لقوله تعالى " خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب
عليهم " فيكون قول الإمام هنا نظير أما أخرجه البخاري
في صحيحه عن أبي ذر من بشارة رسول الله صلى الله عليه وآله، بالجنة
لكل موحد وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر.
(2) عرفت أنها تنفخ روح النهضة المباركة في الرعايا إلى
موازرة العدل وأهله ومكافحة الجور وأهله.
(3) إن صحت هذه الكلمات عن الإمام فهي من الأحاديث
القدسية التي رواها عن الله عز وجل بواسطة جده " ص "
فسلم لقوم شأنهم في حديثهم * روى جدنا عن جبرئيل عن الباري -
143

" المسألة السابعة عشرة "
تتعلق بالنسئ
قال: ما النسئ الذي هو زيادة في الكفر، الذي قال
الله تعالى فيه (إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين
كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله)
(قال): وهل كان له عند العرب قبل الإسلام نظام يدور عليه
حساب السنين.
(فأقول): النسئ مصدر كالنذير والنكير معناه التأخير،
والمراد منه هنا تأخير الأشهر الحرم وغيرها من الأشهر القمرية عما
رتبها الله سبحانه عليه، فإن العرب علموا أنهم لو رتبوا حسابهم
على السنة القمرية فإنه يقع حجهم تارة في الصيف، وتارة
في الشتاء، وكان يشق عليهم الأسفار، ولم ينتفعوا بها في
المرابحات والتجارات، لأن سائر الناس من سائر البلاد ما كانوا
يحضرون إلا في الأوقات اللائقة الموافقة فعلموا أن بناء الأمر
على رعاية السنة القمرية يخل بمصالح الدنيا، فتركوا ذلك واعتبروا
السنة الشمسية، ولما كانت السنة الشمسية زائدة عن السنة
144

القمرية بمقدار معين احتاجوا إلى الكبيسة، وحصل لهم بسبب
تلك الكبيسة أمران.
أحدهما: إنهم كانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهرا
بسبب اجتماع تلك الزيادات.
والثاني: إنه كان ينتقل الحج من بعض الشهور القمرية
إلى غيره، فكان الحج يقع في بعض السنين في ذي الحجة،
وبعده في المحرم، وبعده في صفر، وهكذا في الدور، حتى
ينتهي بعد مدة مخصوصة مرة أخرى إلى ذي الحجة، فحصل
بسبب الكبيسة هذان الأمران الزيادة في عدة الشهور،
وتأخير الحرمة الحاصلة لشهر إلى شهر آخر. هذا كله مما أفاده
الإمام فخر الدين الرازي (1) قال: والحاصل إن بناء
العبادات على السنة القمرية يخل بمصالح الدنيا، وبناءها على
السنة الشمسية يفيد رعاية مصالح الدنيا، والله تعالى أمرهم
من وقت إبراهيم وإسماعيل ببناء الأمر على رعاية السنة القمرية،
فهم تركوا أمر الله في رعاية السنة القمرية، واعتبروا السنة

(1) في معنى الآية من تفسيره الكبير ص 434 من جزئه
الرابع في تفسير سورة التوبة.
145

الشمسية رعاية لمصالح الدنيا، وأوقعوا الحج في شهر آخر سوى
الأشهر الحرم، فلهذا السبب عاب الله عليهم وجعله سببا لزيادة
كفرهم وإنما كان ذلك سببا لزيادة الكفر، لأن الله تعالى أمرهم
بإيقاع الحج في الأشهر الحرم، ثم إنهم بسبب هذه الكبيسة
أوقعوه في غير هذه الأشهر، وذكروا لاتباعهم أن هذا الذي
عملناه هو الواجب، وأن إيقاعه في الشهور القمرية غير واجب
فكان هذا إنكارا منهم لحكم الله مع العلم به، وتمردا عن طاعته
وذلك يوجب الكفر بإجماع المسلمين، فثبت أن عمله في
ذلك النسئ يوجب زيادة في الكفر (قال الرازي): وأما
الحساب الذي به يعرف مقادير الزيادات الحاصلة بسبب تلك
الكبائس فمذكور في الزيجات (قال): وأما المفسرون فإنهم
ذكروا في سبب هذا التأخير وجها آخر (1) فقالوا إن
العرب كانت تحرم الشهور الأربعة، وكان ذلك شريعة ثابتة
من زمن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكانت العرب
أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر
متوالية لا يغزون فيها، وقالوا: إن توالت ثلاثة أشهر حرم

(1) الوجهان وجيهان ولا منافاة بينهما.
146

لا نصيب فيها شيئا لنهلكن، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى
صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم (قال): قال الواحدي
وأكثر العلماء على أن هذا التأخير ما كان يختص بشهر واحد،
بل كان ذلك حاصلا في كل الشهور (قال الرازي) هذا هو
الصحيح على ما قررناه (قال): واتفقوا أنه عليه الصلاة والسلام
لما أراد أن يحج حجة الوداع عاد الحج إلى شهر ذي الحجة في
نفس الأمر، فقال عليه السلام. ألا إن الزمان قد استدار
كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا.
أراد أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها، هذا كلام الرازي
نقلناه على طوله لما فيه من الفوائد، ولا منافاة بينه وبين ما قاله
غيره من المفسرين كما لا يخفى.
(تنبيه)
إن من أحاط علما بما نقلناه عن العرب من ترتيب حسابهم
في نسيئهم على السنة الشمسية دون القمرية يعلم الوجه في
اتخاذ الأئمة الشهور الرومية في حساب تلك السنين، ولا يعجب
منهم كما عجب موسى جار الله إذ يقول: ذكر الوافي في الكتاب
الخامس في ص 45 أن حساب الشهور كان عند الأئمة روميا
147

(ثم قال): ما وجه اتخاذ الأئمة حساب الروم وشهورهم
وسنيهم، وحساب العرب وتاريخ الهجرة كان عربيا ا ه‍.
ولعل هذا الرجل يراجع ما نقلناه عن الرازي ليعلم الوجه
في ذلك.
(المسألة الثامنة عشرة)
تتعلق في حج النبي صلى الله عليه وآله
قال المغرور موسى جار الله: حج النبي صلى الله عليه وآله بعد
الهجرة حجة واحدة، ويقول الإمام الباقر والإمام الصادق
قد حج النبي بمكة مع قومه حجات عشرين حجة، فهل كان
يحضر في موسم الحج مع الناس؟
(فأقول): من أنت يا هذا لتنكر على سادة آل محمد
أقوالهم، وتنتقد أفعالهم، ألا تربع على ضلعك، وتتأخر
حيث أخرك القدر، إن الباقر والصادق أعرف الناس بهدي
جدهما، وأعلم الناس بسنته، والقول قولهم على رغم كل
خارج عليهم، أو ناصب لهم كائنا من كان، سلمنا أنه صلى الله عليه وآله
ما حج بعد الهجرة إلا حجة واحدة - هي حجة الوداع -
148

فمن أخبرك يا مسكين بأنه لم يحج قبلها مع قومه، وهو في
مكة لتنكر على الإمامين قولهما بذلك، وما يدريك لعله حج
وهو بمكة عشرين حجة أو أكثر، وقد كانت مدة إقامته فيها
ثلاثا وخمسين سنة، وما أحمق هذا الرجل إذ يقول: وهل كان
يحضر في مواسم الحج مع الناس؟ وكيف يحج مع قومه ولا
يكون حاضرا معهم؟ وما المانع من حضوره؟ نعوذ بالله
من الخرف.
(المسألة التاسعة عشرة)
تتعلق بموسم الحج في السنة التاسعة للهجرة
قال هذا الرجل: حج أبو بكر وعلي أمير المؤمنين مع
الناس في السنة التاسعة (قال): وتقول كتب الشيعة إن
حج التاسعة كان في ذي القعدة في دور النسئ وكيف يصح
ذلك، والكتاب سماه بيوم الحج الأكبر.
(فأقول): ليس هذا القول مختصا بكتب الشيعة،
ومن ألم بكتب التفسير علم ذلك، فراجع منها تفسير قوله
تعالى - في سورة التوبة - " إن عدة الشهور عند الله اثنا
149

عشر شهرا " يتضح لك الأمر قال الزمخشري في تفسيرها من
الكشاف - بعد أن ذكر خطبة النبي التي أبطل بها النسئ في
حجة الوداع - ما هذا لفظه: وقد وافقت حجة الوداع ذا
الحجة، وكانت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة
وقال مجاهد (1) كان المشركون يحجون في كل شهر
عامين فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين،
ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور، حتى وافقت
الحجة التي قبل حجة الوداع في ذي القعدة، ثم حج النبي في
العام القابل حجة الوداع فوافقت في ذي الحجة، فذلك حين
قال النبي صلى الله عليه وآله وذكر في خطبته: ألا إن الزمان قد استدار
كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر
شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة
والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان " قال " أراد
عليه السلام أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها، وعاد
الحج إلى ذي الحجة وبطل النسئ. ا ه‍.
أما تسمية الموسم من السنة التاسعة بالحج الأكبر فلا يدل

(1) كما في مجمع البيان
150

على وقوعه في ذي الحجة بأي معنى كان من المعاني التي ذكرها
المفسرون للحج الأكبر، فحجة موسى جار الله داحضة، نعم
قد يقال كيف يوقع أمير المؤمنين وأبو بكر الحج في غير ذي
الحجة، والجواب: إن هذا نظير استقبالهم بيت المقدس
أولا، ثم نسخ باستقبال القبلة.
(المسألة العشرون)
تتعلق بحفظ القرآن العظيم وقراءته
قال عفا الله عنه: لم أر بين علماء الشيعة، ولا بين أولاد
الشيعة لا في العراق، ولا في إيران من يحفظ القرآن، ولا
من يقيمه بعض الإقامة بلسانه، ولا من يعرف وجوه القرآن
اللغوية والأدائية " قال " ما السبب في ذلك، إلى آخر ما شط
به قلمه، فضل ضلالا مبينا.
" والجواب " إني على بعد الدار عن العراق أعرف فيها
إمام القراء والحفاظ السيد حسين ابن السيد علي رضا الحسيني
الهندي المدراسي المولود والمتوطن في مشهد الكاظميين عليهما
السلام، فإن له في حفظ القرآن وتجويد قراءته مكانة الإمام
151

في ذلك، لا ينازعه فيها من الخاصة والعامة أحد، ونعم
القارئان أخواه المتخرجان في ذلك على يده السيد موسى
والسيد كاظم، وحال شيعة العراق في حفظ القرآن وقراءته
حال السنيين فيها لا يقلون عنهم، أما شيعة إيران فحالهم
كحال السنيين من أهل البلاد الأعجمية (1) وعندنا في جبل
عامل قراء وحفاظ لا يقلون عن قراء غيرنا ولا عن حفاظهم
ولو شئنا لذكرنا منهم عدة وافرة، نعم لا يشق للمصريين
- في هذا الشأن - غبار ولا يلحقهم فيه لاحق، فلهم السبق
في هذه الفضيلة من حيث أنهم مصريون، لا من حيث أنهم
سنيون، وإلا فالشيعة والسنة سيان في سائر البلدان، ولعل
السر في عدم اشتهار الشيعة في هذه الفضيلة رأيهم في ألحان
الغناء فإنها حرام عندهم مطلقا، بل هي في القرآن أشد حرمة
منها في غيره، فيا حضرة الأخ موسى جار الله الفاضل، هذا
هو السبب الوحيد لا ما ذكرتموه، هداكم الله إذ جعلتموه من
آثار انتظار الشيعة مصحف علي الذي غاب بيد قائم آل محمد
بغيبته، إلى آخر إرجافكم بالمؤمنين، وبهتكم إياهم بالقول بنقصان

1 - أمثال موسى جار الله.
152

القرآن العظيم، وقد بينا لكم في المسألة الرابعة رأي الشيعة
في القرآن الحكيم، ووفينا المقام حقه من كل النواحي (1)
فلا حاجة بنا إلى الإعادة، " وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا
بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على
الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله
فليتوكل المتوكلون " (2).
(خاتمة)
إن أولي الألباب ليعلمون بالضرورة انقطاع الشيعة
الإمامية خلفا عن سلف في أصول الدين وفروعه إلى أئمة العترة
الطاهرة، فرأيهم تبعا لرأيهم في الفروع والأصول، وسائر
ما يؤخذ من الكتاب والسنة أو يتعلق بهما من جميع العلوم (3)
فكتبهم مستودع علوم آل محمد (4) وقد استخف بها موسى
جار الله فقشها (5) بعيبه، ورماها بحجره " يريدون أن

(1) راجع من هذه الرسالة ص 34 وما بعدها إلى منتهى
ص 44.
(2) في سورة إبراهيم.
(3) حسبك في إيضاح ذلك المراجعة 110 من مراجعاتنا
(4) كما بيناه في المراجعة 14 والمراجعة 110 من مراجعاتنا
(5) أي لطخها.
153

يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره " ألا يربع
هذا المسكين على هفواته، ألا يلهو بمساويه وفرطاته.
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال: جاء
ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فقال له: أجب ربك،
قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع
الملك إلى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد
الموت ففقأ عيني؟ قال: فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع
إلى عبدي، فقل: الحياة تريد فإن كنت تريد الحياة فضع يدك
على متن ثور فما توارت بيدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة
الحديث (1)

(1) أوردناه بلفظ مسلم وقد أخرجه - عن أبي هريرة
بطرق كثيرة - في باب فضائل موسى من كتاب الفضائل من
صحيحه صفحة 309 من جزئه الثاني، وأخرجه البخاري في
باب وفاة موسى من كتاب بدء الخلق بعد حديث الخضر
بأقل من صفحتين من صحيحه فراجع صفحة 163 من جزئه
الثاني، وأخرجه أيضا في باب من أحب الدفن في الأرض
المقدسة من أبواب الجنائز من صحيحه فراجع صفحة 158 من
جزئه الأول، وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة في صفحة
315 من جزئه الثاني وفيه أن ملك الموت كان يأتي الناس
عيانا قال فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه الحديث - وأخرجه
ابن جرير الطبري من حديث أبي هريرة أيضا وذلك حيث
ذكر وفاة موسى في الجزء الأول من تاريخه ولفظه عنده أن
ملك الموت كان يأتي الناس عيانا حتى أتى موسى فلطمه ففقأ
عينه وفي آخره أن ملك الموت جاء إلى الناس خفيا بعد موت
موسى!!.
154

وأنت ترى ما فيه مما لا يجوز على الله تعالى، ولا على
أنبيائه، ولا على ملائكته، أيليق بالحق تبارك وتعالى أن
يصطفي من عباده من يبطش على الغضب بطش الجبارين؟
ويوقع بأسه في ملائكة الله المقربين؟ ويعمل عمل المتمردين؟
ويكره الموت كراهة الجاهلين؟ وكيف يجوز ذلك على موسى
وقد اختاره الله لرسالته؟ وائتمنه على وحيه؟ وآثره بمناجاته؟
وجعله من سادة رسله؟ وكيف يكره الموت هذا الكره مع
شرف مقامه؟ ورغبته في القرب من الله تعالى والفوز بلقائه
وما ذنب ملك الموت عليه السلام؟ وإنما هو رسول الله إليه،
155

وبما استحق الضرب والمثلة فيه بقلع عينه؟ وما جاء إلا عن
الله، وما قال له سوى أجب ربك، أيجوز على أولي العزم
من الرسل إهانة الكروبيين من الملائكة حين يبلغونهم رسالات
الله وأوامره عز وجل؟ تعالى الله وتعالت أنبياؤه وملائكته
عن ذلك علوا كبيرا، ونحن لم برئنا من أصحاب الرس،
وفرعون موسى، وأبي جهل، وأمثالهم، ولعناهم بكرة
وأصيلا، أليس ذلك لأنهم آذوا رسل الله حين جاؤوهم
بأوامره؟ فكيف نجوز مثل فعلهم على أنبياء الله وصفوته من
عباده؟ حاشا لله. إن هذا لبهتان عظيم، ثم إن من المعلوم
أن قوة البشر بأسرهم، بل قوة جميع الحيوانات منذ خلقها الله
تعالى إلى يوم القيامة، لا تثبت إمام قوة ملك الموت فكيف
- والحال هذه - تمكن موسى عليه السلام من الوقيعة فيه؟
وهلا دفعه الملك عن نفسه مع قدرته على إزهاق روحه وكونه
مأمورا من الله تعالى بذلك؟ ومتى كان للملك عين يجوز أن
تفقأ؟ ولا تنس تضييع حق الملك وذهاب عينه ولطمته هدرا
إذ لم يؤمر الملك من الله بأن يقتص من موسى صاحب التوراة
التي كتب الله فيها (إن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف
156

بالأنف والإذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص)
ولم يعاتب الله موسى على فعله هذا، بل أكرمه إذ خيره بسببه
بين الموت والحياة سنين كثيرة بقدر ما تواريه يده من شعر
الثور، وما أدري والله ما الحكمة في ذكر شعر الثور بالخصوص؟!!
وأخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة
أيضا: قال: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم
إلى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده،
فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر
- أي ذو فتق - قال: فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على
حجر ففر الحجر بثوبه! فجمع موسى بأثره يقول: ثوبي حجر
ثوبي حجر، حتى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى، فقالوا:
والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر بعد حتى نظر إليه فأخذ
موسى ثوبه، فطفق بالحجر ضربا فوالله إن بالحجر ندبا (1)
ستة أو سبعة الحديث (2) وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن

(1) الندب بوزن جمل أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد.
(2) أوردناه بلفظ مسلم إذ أخرجه عن أبي هريرة بطرق
كثيرة فراجع باب فضائل موسى صفحة 308 من الجزء الثاني
من صحيحه، وأخرجه البخاري في الباب الذي هو بعد حديث
الخضر من صحيحه صفحة 162 من جزئه الثاني، وأخرجه
الإمام أحمد من حديث أبي هريرة من طرق كثيرة فراجع
ص 315 من الجزء الثاني من مسنده.
157

هذه الواقعة هي التي أشار الله إليها بقوله عز من قائل " يا أيها
الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا
وكان عند الله وجيها " ا ه‍.
وأنت ترى ما في هذا الحديث من المحال الممتنع عقلا،
فإنه لا يجوز تشهير كليم الله بإبداء سوأته على رؤوس الأشهاد
من قومه، لأن ذلك ينقصه ويسقط من مقامه، ولا سيما إذا
رأوه يشتد عاريا ينادي الحجر - وهو لا يسمع ولا يبصر -:
ثوبي حجر، ثوبي حجر، ثم يقف عليه وهو عاري أمام الناس
فيضربه والناس تنظر إليه وإلى عورته! وأي أثر لضرب
الجماد؟! وأي ذنب للحجر؟! وهذه الحركة لو صحت فإنما
هي من فعل الله تعالى، فكيف يغضب منها كليم الله فيعاقب
الحجر عليها؟! أترى أبا هريرة كان يظن أن موسى يجهل كون
الحركة ضد طبيعة الحجر؟ وأنه إنما حركه الله عز وجل لأمر
158

يريده. ثم إن هرب الحجر بثياب موسى عليه السلام لا يبيح
له إبداء عورته، إذ كان في إمكانه أن يبقى في مكانه حتى
يؤتى بثيابه، أو بساتر آخر كما يفعله كل ذي وقار، أو
احتشام إذا ابتلي بمثل هذه القصة. على أن هرب الحجر من
المعجزات وخوارق العادات التي لا تكون إلا في مقام التحدي،
كمقام حنين الجذع، وانتقال الشجرة في مكة لرسول الله
صلى الله عليه وآله، ومن المعلوم أن مقام موسى عليه السلام حين
كان يغتسل لم يكن مقام تحدي وتعجيز، ومحال عادة أن
يقع فيه شئ من المعجزات كما هو مقرر في محله، ولا سيما إذا
ترتب على هذه المعجزة فضيحة نبي بإبداء سوأته للملأ من قومه
على وجه يستخف به كل من رآه أو سمع به، وأما براءته من
الأدرة فليست من الأمور المهمة التي تبيح هتكه، وتقدم على
تشهيره، وتصدر بسببها الآيات، على أنه يمكن الحكم ببراءته
منها باطلاع نسائه عليه وإخبارهن عنه، ولو فرض ابتلاؤه
بالأدرة فأي بأس عليه بذلك؟ وقد أصيب شعيب عليه السلام
ببصره، وأيوب عليه السلام بجسمه، وأنبياء الله كافة تمرضوا
وماتوا، ولا يجب انتفاء مثل هذه الأمور عن أنبياء الله ورسله
159

ومن ذا الذي قال: إن بني إسرائيل كانوا يظنون أن في
موسى أدرة؟ وهل نقل هذا عنهم إلا في هذا الحديث
- المحترم -؟ وأما الواقعة التي أشار الله إليها بقوله تعالى في
سورة الأحزاب (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا
موسى فبرأه الله مما قالوا) فالمروي عن علي وابن عباس أنها
قضية اتهامهم إياه بقتل هارون وهو الذي اختاره الجبائي،
وقيل هي قضية المومسة التي أغراها قارون بقذف موسى
عليه السلام بنفسها فأنطقها الله بالحق، وقيل آذوه من حيث
نسبوه إلى السحر والكذب والجنون بعد ما رأوا الآيات.
والعجب من مسلم يذكر هذا الحديث والذي قبله في فضائل
موسى من صحيحه؟ وما أدري أي فضيلة بضرب ملائكة الله
المقربين عند إرادتهم إنفاذ ما أمرهم الله به؟ وأي فضيلة بإبداء
السوأة للناظرين؟ إن كليم الله ونجيه لأكبر من هذا، وحسبه
ما صدع به الذكر الحكيم، والفرقان العظيم من خصائصه
عليه السلام.
وأخرج الشيخان فيما جاء في السهو من صحيحهما، عن
أبي هريرة أيضا قال: صلى النبي إحدى صلاة العشي، وأكثر
160

ظني العصر ركعتين، ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد
فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه،
وخرج سرعان الناس، فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل
يدعوه النبي ذو اليدين (1) فقال: أنسيت أم قصرت؟ فقال
لم أنس ولم تقصر، قال: بلى قد نسيت فصلى ركعتين، ثم
سلم ثم كبر فسجد الحديث (2) وفيه كيفية سجود السهو.
وأنت ترى ما فيه من الوجوه الحاكمة بامتناعه:
أحدها إن مثل هذا السهو الفاحش لا يكون ممن فرغ
للصلاة شيئا من قلبه، أو أقبل عليها بشئ من لبه، وإنما

(1) كذا في صحيح البخاري والصحيح ذا اليدين.
(2) نقلناه بلفظ البخاري في باب من يكبر في سجدتي
السهو، وأخرجه أيضا في كل من البابين المذكورين قبله بلا
فصل فراجع أبواب ما جاء في السهو صفحة 145 من الجزء
الأول من صحيحه، وأخرجه أيضا في مواضع أخر كثيرة
يعرفها المتتبعون - أما مسلم فقد أخرجه في باب السهو من
الصلاة والسجود له بطرق عديدة فراجع صفحة 215 من الجزء
الأول من صحيحه.
161

يكون من الساهين عن صلاتهم، اللاهين عن مناجاتهم، وحاشا
أنبياء الله من أحوال الغافلين، وتقدسوا عن أقوال الجاهلين،
فإن أنبياء الله عز وجل، ولا سيما سيدهم وخاتمهم أفضل مما
يظنون، على أنه لم يبلغنا مثل هذا السهو عن أحد، ولا أظن
وقوعه إلا ممن يمثل حال القائل:
أصلي فما أدري إذا ما ذكرتها * اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا -
وأما وسيد النبيين، وتقلبه في الساجدين، إن مثل هذا
السهو لو صدر مني لاستولى علي الحياء وأخذني الخجل واستخف
المؤتمون بي وبعبادتي، ومثل هذا لا يجوز على أنبياء الله أبدا.
الثاني إن الحديث قد اشتمل على أن النبي صلى الله عليه وآله قال:
لم أنس ولم تقصر، فكيف يمكن أن يكون قد نسي بعد
هذا؟ ولو فرضنا عدم وجوب عصمته عن مثل هذا السهو،
فإن عصمته عن المكابرة والتسرع بالأقوال المخالفة للواقع مما
لا بد منه عند جميع المسلمين.
الثالث إن أبا هريرة قد اضطرب في هذا الحديث وتعارضت
أقواله، فتارة يقول: صلى بنا إحدى صلاتي العشي، إما الظهر
وإما العصر - على سبيل الشك - وأخرى يقول: صلى لنا
162

صلاة العصر - على سبيل القطع بأنها العصر - وثالثة يقول:
بينا أنا أصلي مع رسول الله صلاة الظهر - على سبيل القطع
بأنها الظهر - وهذه الروايات كلها ثابتة في صحيحي البخاري
ومسلم كليهما، وقد ارتبك فيها شارحو الصحيحين ارتباكا
دعاهم إلى التعسف والتكلف، كما تكلفوا وتعسفوا في الرد
على الزهري إذ جزم بأن ذا اليدين وذا الشمالين واحد لا اثنان
كما أوضحناه في كتابنا - تحفة المحدثين -.
الرابع إن ما اشتمل هذا الحديث عليه من قيام النبي عن
مصلاه ووضع يده على الخشبة، وخروج سرعان الناس من
المسجد وقولهم أقصرت الصلاة، وقول ذو اليدين أنسيت أم
قصرت، وقول النبي: لم أنس ولم تقصر، فقال له: بلى قد
نسيت، وقول النبي لأصحابه: أحق ما يقول؟ قالوا: نعم
وغير ذلك مما نقله أبو هريرة (1) لمما يمحو صورة الصلاة بتاتا،

(1) فإن من جملة ما نقله في رواية أخرى أنه (صلى الله عليه وآله)
دخل الحجرة ثم خرج ورجع الناس، وفي رواية أنه سألهم
فقال أحق ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، وكل هذه الروايات
في الصحاح وغيرها فراجع.
163

والمعلوم من الشريعة المقدسة يقينا بطلان الصلاة بكل ماح
لصورتها، فلا يمكن مع هذا بناؤه صلى الله عليه وآله على الركعتين
الأوليتين لأنه يناقض الحكم المقطوع بثبوته عنه صلى الله عليه وآله
فتأمل.
الخامس ذا اليدين المذكور في الحديث إنما هو ذو الشمالين (1)
ابن عبد عمرو حليف بني زهرة، وقد استشهد في بدر، نص
على ذلك إمام بني زهرة، وأعرف الناس بحلفائهم محمد بن
مسلم الزهري كما في الإستيعاب والإصابة وشروح الصحيحين
كافة، وهو الذي صرح به الثوري في إحدى الروايتين عنه،
وأبو حنيفة حين تركوا العمل بهذا الحديث، وأفتوا بخلاف
مفاده - كما في أواخر باب السهو والسجود له من شرح النووي
لصحيح مسلم (2) - وحسبك ما رواه النسائي مما يدل على أن
ذا اليدين وذا الشمالين واحد، وإليك لفظه قال - كما في ص
267 من الجزء الثالث من إرشاد القسطلاني: فقال له ذو

(1) اسمه عمير ويقال عمرو كذا في الإصابة.
(2) في صفحة 235 من الجزء الرابع من الشرح وهو
مطبوع في هامش إرشاد القسطلاني وتحفة زكريا الأنصاري.
164

الشمالين ابن عبد عمرو: أنقصت الصلاة أم نسيت؟ فقال النبي
صلى الله عليه وآله: ما يقول ذو اليدين، فصرح بأن ذا الشمالين هو
ذو اليدين، ومثله بل أصرح منه ما أخرجه أحمد من حديث
أبي هريرة في ص 271 من الجزء الثاني من مسنده، عن أبي
سلمة بن عبد الرحمن، وأبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة،
كليهما عن أبي هريرة قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله الظهر
أو العصر فسلم في ركعتين، فقال له ذو الشمالين بن عبد عمرو
(قال) وكان حليفا لبني زهرة: أخففت الصلاة أم نسيت؟
فقال النبي صلى الله عليه وآله: ما يقول ذو اليدين، قالوا: صدق.
الحديث، وأخرج أبو موسى من طريق جعفر المستغفري -
كما في ترجمة عبد عمرو بن نضلة من الإصابة - بالإسناد إلى محمد
ابن كثير عن الأوزاعي، عن الزهري، عن كل من سعيد بن
المسيب، وأبي سلمة، وعبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة،
قال: سلم رسول الله صلى الله عليه وآله في الركعتين، فقام ابن عبد
عمرو (1) بن نضلة رجل من خزاعة حليف لبني زهرة، فقال:

(1) كذا في الإصابة وقد عرفت أنه قد قال إن اسم ذي الشمالين
عبد عمرو.
165

أقصرت الصلاة أم نسيت؟ الحديث، وفيه قول النبي
صلى الله عليه وآله: أصدق ذو الشمالين، فهذه الأحاديث كلها صريحة
في أن ذا اليدين المذكور في حديث أبي هريرة إنما هو ذو
الشمالين بن عبد عمرو حليف بني زهرة، ولا ريب في أن ذا
الشمالين المذكور قتل يوم بدر، قبل أن يسلم أبو هريرة بأكثر
من خمس سنين، وأن قاتله أسامة الجشمي، نص على ذلك
ابن عبد البر، وسائر أهل الأخبار، فكيف يمكن أن يجتمع
مع أبي هريرة في الصلاة خلف النبي يا أولي الألباب؟!.
وقد اعتذر بعضهم بأن الصحابي قد يروي ما لا يحضره
بأن يسمعه من النبي صلى الله عليه وآله أو من صحابي آخر، فموت ذي
اليدين قبل إسلام أبي هريرة لا يمنع من روايته لهذا الحديث.
وأنت تعلم أن هذا الاعتذار غلط لأن دعوى الحضور من أبي
هريرة محفوظة من رواية ثقاتهم وحفاظهم، وحسبك ما أخرجه
البخاري فيما جاء في السهو من صحيحه (1) عن آدم بن شعبة،

(1) راجع الباب الثالث من أبواب ما جاء في السهو وهو
باب إذا سلم في ركعتين أو في ثلاث فسجد سجدتين مثل
سجود الصلاة أو أطول ص 145 من جزئه الأول.
166

عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال:
صلى بنا النبي صلى الله عليه وآله الظهر أو العصر، وساق حديث ذي
اليدين. وأخرج مسلم في باب السهو في الصلاة والسجود له
من صحيحه (1) عن محمد بن سيرين، قال: سمعت أبا هريرة
يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله إحدى صلاتي العشي أما
الظهر وأما العصر وساق الحديث، وقد ارتبك الإمام الطحاوي
في هذه الأحاديث لبنائه على صحتها مع جزمه بما جزم به
الإمام الزهري من أن ذا اليدين إنما هو ذو الشمالين حليف
بني زهرة المستشهد في بدر قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من
خمس سنين، فلا يمكن اجتماعهما في الصلاة أبدا، لذلك اضطر
إلى التأويل فحمل - كما في ص 266 من الجزء الثالث من
إرشاد الساري للقسطلاني - قول أبي هريرة في هذه الأحاديث
صلى بنا على المجاز، وأن المراد صلى بالمسلمين.
والجواب: إنه قد ثبت عن أبي هريرة النص الصريح
بحضوره على وجه لا يقبل التأويل أبدا، وحسبك ما أخرجه
مسلم في باب السهو في الصلاة والسجود له من صحيحه (2)

(1) ص 215 من جزئه الأول
(2) ص 216 من جزئه الأول.
167

عن أبي هريرة، قال: بينا إنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله
صلاة الظهر سلم في الركعتين وساق الحديث، فهل يتأتى
التجوز فيه، كلا بل " الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا
لنهتدي لولا أن هدانا الله ".
وصلى الله على خاتم رسله، وأهدى سبله محمد وآله الهداة
الميامين وسلم تسليما كثيرا.
تمت (والحمد لله) هذه الرسالة في مدينة صور من جبل
عامل سلخ ربيع الأول سنة 1354 بيد مؤلفها الأقل الأحقر
عبد الحسين بن يوسف بن الجواد بن إسماعيل بن محمد بن محمد
ابن إبراهيم (شرف الدين) بن زين العابدين بن علي نور الدين
بن نور الدين علي بن الحسين آل أبي الحسن الموسوي (1) العاملي
عامله الله بالفضل والحسنى وختم له ولموسى جار الله ولجميع
المؤمنين والمؤمنات بما هو أحمد في العقبى والله المسؤول أن
يجمع كلمتنا على الهدى أنه السميع لمن دعا تبارك الله ربنا وتعالى.

(1) نسبة إلى جده الإمام موسى الكاظم على ما هو المصطلح عليه عند النسابين
تمت التعليقة والحمد لله رب العالمين بيد مؤلفها الأقل الأحقر عبد الحسين
شرف الدين الموسوي غفر الله ذنوبه وستر عيوبه وكان الفراغ من وضعها
عند الفراغ من طبعها سابع ذي القعدة سنة 1355 في مدينة صيدا ولله الحمد
168