الكتاب: شجرة طوبى
المؤلف: الشيخ محمد مهدي الحائري
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٦٩
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الخامسة
سنة الطبع: محرم الحرام ١٣٨٥
المطبعة:
الناشر: منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها - النجف الأشرف
ردمك:
ملاحظات:

شجرة طوبى
تأليف
المحدث الجليل العلامة الكبير
الشيخ محمد مهدي الحائري
الطبعة الخامسة
وتمتاز على باقي الطبعات بالتصحيح والتدقيق
الجزء الأول
منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف ت (368)
محرم الحرام 1385 هجرية
1

بسم الله الرحمن الرحيم
المجلس الأول
(في الكافي، وأمالي الصدوق) عن جابر بن يزيد الجعفي، قال الباقر (ع): يا جابر
أيكتفي من ينتحل التشيع ان يقول بمحبتنا أهل البيت فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله
وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة والإنابة وكثرة
ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة
والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلا من خير
وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء. قال جابر: فقلت يا بن رسول الله ما نعرف اليوم أحدا
بهذه الأوصاف؟ فقال (ع) يا جابر: لا تذهبن بلك المذاهب حسب الرجل أن يقول أحب
عليا وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعالا فلو قال إني أحب رسول الله فرسول الله صلى الله عليه وسلم
خير من علي صلى الله عليهما وعلى آلهما وسلم ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته، ما نفعه
حبه شيئا، فاتقوا واعملوا لما عند الله ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله
عز وجل اتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر: فوالله ما يتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلا
بالطاعة وما معنا براءة من النار وما لنا على الله من حجة من كان لله مطيعا فهو لنا ولي ومن
كان لله عاصيا فهو لنا عدو وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع.
2

(وفي البحار) عن كتاب (صفات الشيعة) للصدوق رحمه الله بسند صحيح عن أبي
الحسن الرضا (ع) أنه قال: من عادى شيعتنا فقد عادانا ومن والا شيعتنا فقد والانا لأنهم
خلقوا من طينتنا من أحبهم فهو منا ومن أبغضهم فليس منا، شيعتنا ينظرون بنور الله
ويتقلبون في رحمة الله ويفوزون بكرامة الله، ما من أحد من شيعتنا يمرض إلا مرضنا
لمرضه ولا اغتم إلا اغتممنا لغمه ولا فرح إلا فرحنا لفرحه ولا يغيب عنا أحد من
شيعتنا أين كان من شرق الأرض وغربها ومن ترك من شيعتنا دينا فهو علينا ومن ترك
منهم مالا فهو لورثته، شيعتنا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويحجون البيت الحرام
ويصومون شهر رمضان ويوالون أهل البيت ويتبرأون من أعدائهم أولئك أهل الايمان
والتقى وأهل الورع والتقوى من رد عليهم فقد رد على الله ومن طعن عليهم فقد طعن على
الله لأنهم عباد الله حقا وأولياؤه صدقا والله أن أحدهم ليشفع في مثل ربيعة ومضر فيشفعه
الله فيهم بكرامته على الله.
(وفي البحار) عن الصدوق عن أبي عبد الله (ع): كان علي بن الحسين (ع)
قاعدا في بيته إذ قرع قوم عليه الباب فقال يا جارية أنظري من في الباب؟ فقالت قوم من
شيعتك فوثب عجلا حتى كاد يقع فلما فتح الباب ونظر إليهم رجع وقال كذبوا فأين
السمت في الوجوه أين أثر العبادة أين سيماء السجود إنما شيعتنا يعرفون بعبادتهم وشعثهم
قد قرحت منهم الآناف ودثرت الجباه والمساجد، خمص البطون ذبل الشفاة، قد هيجت
العبادة وجوههم وأخلق سهر الليالي، وقطع الهواجر جثثهم، المسبحون إذا سكت الناس
والمصلون إذا نام الناس والمحزونون إذا فرح الناس.
قال الصادق (ع): إن الله تبارك وتعالى اطلع على الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة
ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك
منا والينا.
وقال الصادق (ع): رحم الله شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا
يحزنون لحزننا ويفرحون لفرحنا.
وقال الباقر (ع): رحم الله شيعتنا لقد شاركونا بطون الحزن على مصائب جدي الحسين (ع) أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين (ع) دمعة حتى تسيل على خده بوأه
الله بهما في الجنة غرفا يسكنها أحقابا.
3

المجلس الثاني
بحبهم يدخل الجنان غدا * كل البرايا ويغفر الزلل
هم حجج الله والذين بهم * يقبل يوم التغابن العمل
شيعتهم يوم بعثهم معهم * في جنة الخلد حيث ما نزلوا
في حجرات غدت مقاصرها * بأهل بيت النبي تتصل
نعم: شيعتهم معهم في الجنة في الدرجات الرفيعة والمقامات العالية كما ورد في كثير
من اخبار الشيعة منها ما روي (في البحار) عن الحسن العسكري (ع) كتب لبعض شيعته
نحن كهف لمن التجأ إلينا، ونور لمن استضاء بنا وعصمة لمن اعتصم بنا من أحبنا كان معنا
في السنام الاعلى ومن انحرف عنا فإلى النار، ومن كثرة حبهم لشيعتهم لا يقبلون ولا
يرضون بان يفرق بينهم وبين شيعتهم فإذا قامت القيامة ليس لهم فكر وذكر إلا خلاص
شيعتهم، ولذا يأتي النداء يا فاطمة سلي حاجتك؟ فتقول: رب شيعتي فيقول الله غفرت
لهم فتقول رب شيعة شيعتي فيقول الله انطلقي فمن اعتصم بك فخذي بيده وأدخليه الجنة إلى
آخر الخبر الذي روي في البحار، ومن المعلوم أن حبهم لشيعتهم ومحبتهم أكثر من حب
الوالد لولده الصالح وهم بمنزلة أولادهم أيضا لأنهم خلقوا من طينتهم، ومن هذا الخبر يظهر
مقدار حبهم لنا ومقامات الشيعة عندهم وعند الله عز وجل.
(وفي جامع الأخبار وأمالي الصدوق) وعن أبي بصير عن الصادق (ع) قال: خرجت
انا وأبي محمد الباقر (ع) إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كنا بين القبر والمنبر فإذا نحن
بأناس من الشيعة فسلم عليهم أبي فردوا عليه السلام ثم التفت إليهم أبي (ع) وقال إني والله
لأحب ريحكم وأرواحكم فأعينوني على ذلك بورع واجتهاد واعلموا: أن ولايتنا لا تنال
إلا بالعمل والاجتهاد، من ائتم منكم بعبد فليعمل بعمله، أنتم شيعة الله وأنتم السابقون
الأولون والسابقون الآخرون والسابقون في الدنيا إلى ولايتنا والسابقون في الآخرة إلى
الجنة وقد ضمنا لكم الجنة بضمان الله وضمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما على درجات الجنة أحدا
أكثر أزواجا منكم فتنافسوا في فضائل الدرجات أنتم الطيبون ونسائكم الطيبات كل مؤمن
4

منكم صديق وكل مؤمنة منكم حوراء عيناء. ولقد قال أمير المؤمنين (ع) لقنبر: يا قنبر
ابشر وبشر واستبشر فلقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على أمته ساخط إلا الشيعة، ألا
وان لكل شئ عروة وعروة الاسلام الشيعة الا وان لكل شئ دعامة ودعامة الاسلام
الشيعة ألا وان لكل شئ شرفا وشرف الاسلام الشيعة ألا وان لكل شئ سيدا وسيد
المجالس مجالس الشيعة ألا وان لكل شئ إماما وامام الأرض ارض تسكنه الشيعة، والله
لولا ما في الأرض منكم لما أنعم الله على أهل خلافكم ولا أصابوا الطيبات مالهم في الدنيا
ومالهم في الآخرة من نصيب، كل ناصب وان تعبد واجتهد فمنسوب إلى هذه الآية (عاملة
ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني
من جوع) كل ناصب مجتهد فعلمه هباء شيعتنا ينظرون بنور الله ومن خالفهم يتقلب
بسخط الله والله ما من عبد من شيعتنا ينام إلا أصعد الله عز وجل بروحه إلى السماء فإن كان
قد أتى عليه أجله جعله في كنوز رحمته وفي رياض جنته وفي ظل عرشه وإن كان اجله
متأخرا عنه بعث به مع أمينه من الملائكة ليؤديه إلى جسده الذي خرج منه ليسكن فيه،
والله أن حجاجكم وعماركم لخاصة الله وان فقراءكم لأهل الغناء وان أغنيائكم لأهل القنوع
وان كلكم لأهل دعوة الله وأهل اجابته، ورب أشعث أغير ذي طمرين مدفع بالأبواب
لو أقسم بالله لأبره والحاصل أن لك أيها المحب والشيعة مقامات كريمة ودرجات رفيعة
فاعرف قدرك:
ومن مقاماتهم ما ورد (في جامع الأخبار) عن انس بن مالك قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تبارك وتعالى يبعث يوم القيامة عبادا يتهلل وجوههم نورا عن يمين العرش
وشماله وهم بمنزلة الأنبياء وليسوا بأنبياء وبمنزلة الشهداء وليسوا بالشهداء، فقام رجل،
قيل الأول - فقال انا منهم يا نبي الله؟ فقال لا ثم، قام الاخر - قيل هو الثاني - وقال
انا منهم يا رسول الله؟ قال لا، ثم وضع يده على رأس علي وقال: هذا وشيعته جعلنا
الله وإياكم منهم، ثم نقول أن للشيعة علايم قد ذكر في محله ونحن نذكر شيئا
منها تبصرة للمتبصرين وتنبيها للغافلين (وفي جامع الأخبار) خرج أمير المؤمنين (ع)
بالكوفة يوما فلقيه قوم وقالوا السلام عليك يا أمير المؤمنين فأنكرهم وقال لهم: من أنتم؟
قالوا نحن شيعتك يا أمير المؤمنين فقال لهم ما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة؟ قالوا يا أمير المؤمنين
وما سيماء الشيعة؟ قال (ع): صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من البكاء، ذيل
5

الشفاه من الظماء، وخمص البطون من الصيام، حدب الظهور من القيام، عليهم عبرة
الخاشعين، مطوية ظهورهم من السجود، طيبة أفواههم من الذكر، ومن لم يكن كذلك
ليسوا مني وانا منهم برئ.
(وفي جامع الأخبار) قال (ع) في خبر: اختبروا شيعتي بخصلتين فإن كانتا فيهم
فهم شيعتي، محافظتهم على أوقات الصلوات ومواساتهم مع إخوانهم المؤمنين بالمال وان
لم تكونا فيهم فاعزب ثم اعزب - اي امتحنوهم هاتين الخصلتين - مواساتهم للمؤمنين
ومحافظتهم لأوقات الصلوات ويمتحنون أيضا بشئ آخر وهو ما قال الصادق (ع) رحم
الله شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا يحزنون لحزننا ويفرحون لفرحنا
فأقول ساداتي وموالي ونحن لا نرى لكم يوم فرح وسرور وانبساط بل وأيامكم
مقرونة بالبكاء والعزاء وأعيادكم حزن ومصيبة وعناء، كما قال علي بن الحسين عليه السلام
ولقد نسب إليه هذه الأبيات:
نحن بنوا المصطفى ذووا غصص * يجرعها في الأنام كاظمنا
عظيمة في الأنام محنتنا * أولنا مبتلى وأخرنا
يفرح هذا الورى بعيدهم * ونحن أعيادنا مآتمنا
الناس في الامن والسرور ولا * يأمن طول الحياة خائفا
ولا سرور لهم إلا يوم خروج المهدي (ع) المدرك للثار والمنتقم من الأشرار:
يا مدرك الثار كم يطوي الزمان على * امكان ادراكه الأعوام والحججا
لا نوم حتى تعيد الشم عزمتكم * قاعا بها لا ترى أمتا ولا عوجا
6

المجلس الثالث
جمعت في صفاتك الأضداد * فلهذا ندت لك الأنداد
زاهد، حاكم، حليم، شجاع: * ناسك، فاتك، فقير، جواد
خلق يشبه النسيم من اللطف * وبأس يذوب منه الجلاد
شيم ما جمعن في بشر قط * ولا حاز مثلهن العباد
فلهذا تعمقت فيك أقوام * بأقوالهم فزانوا وزادوا
وعلت في صفات فضلك يس * وطه وآل يس وصاد
ظهرت منك للورى معجزات * فأقرت بفضلك الحساد
أن يكذب بها عداك فقد * كذب من قبل قوم لوط وعاد
أنت النبي والصنو وابن العم * والصهر والأخ المستجاد
لو رأى مثلك النبي لأخاه * وإلا فأخطأ الانتقاد
قال جلال الدين السيوطي في كتاب تاريخ الخلفاء روى الترمذي عن ابن عمر أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين أصحابه فجاء علي (ع) تدمع عيناه وقال يا رسول الله آخيت بين
أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا أبا الحسن أنت أخي في الدنيا
والآخرة وانا أخوك وأنت أخي فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول من اتخذ عليا أخا من أهل الأرض
واما من اتخذه أخاه من أهل السماء فعلى ما روى علي بن عيسى في كشف الغمة عن عبد الله
ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول من اتخذ علي بن أبي طالب أخا من أهل السماء
إسرافيل ثم ميكائيل ثم جبرائيل وأول من أحبه من أهل السماء حملة العرش ثم رضوان
خازن الجنان ثم ملك الموت وان ملك الموت يترحم على محبي علي بن أبي طالب كما يترحم
على الأنبياء فطوبى لمحبيك يا أمير المؤمنين ولشيعتك وشيعة المعصومين من أولادك ولقد
أحسن وأجاد الشاعر في قوله قيل للشافعي:
يا راكبا قف بالمحصب من منى * واهتف بقاعد جمعها والناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى * فيضا كملتطم الفرات الفائض
7

اعلمهم أن التشيع مذهبي * اني أقول به ولست برافضي
بان كان رفضا حب آل محمد * فليشهد الثقلان اني رافضي
ابشر ثم ابشر ثم ابشر أيها المحب لعلي (ع) والطاهرين من أولاده بما بشرك الله تعالى
على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وذلك ما روى في كتاب بشارة المصطفى عن سلمان الفارسي قال كنت
جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ اقبل علي بن أبي طالب (ع) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا
أبشرك يا علي؟ قال بلى يا رسول الله قال هذا حبيبي جبرائيل اخبرني عن الله عز وجل انه
قد اعطى محبيك وشيعتك سبع خصال الرفق عند الموت والانس عند الوحشة والنور عند
الظلمة والامن عند الفزع والبسط عند الميزان والجواز على الصراط ودخول الجنة قبل
سائر الناس من الأمم بثمانين عاما كيف وان الجنة تشتاق عليا وشيعته وهي مأمورة بأمر
علي وبيده مفاتيحها:
مولى له الجنة مأمورة * والنار من اجلاله تفزع
امام صدق وله شيعة * يرووا من الحوض ولم يمنعوا
بذاك جاء الوحي من ربنا * يا شيعة الحق فلا تجزعوا
هذا دخولهم في الجنة بثمانين عاما قبل سائر الناس واما كراماتهم من الله ومقاماتهم
عند الله في المحشر وفي الجنة ما لا تحصى منها ما روي في جامع الأخبار قال صلى الله عليه وآله وسلم يا علي
شيعتك يخرجون من قبورهم وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله علي بن أبي طالب
حجة الله فيؤتون بحلل خضراء من الجنة وأكاليل من الجنة وتيجان من الجنة ونجائب من
الجنة فيلبس كل واحد منهم حلة خضراء ويوضع على رأسه تاج الملك وإكليل ثم يركبون
النجائب وتطير النجائب بهم إلى الجنة لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا
يومكم الذي توعدون. وفيه أيضا قال صلى الله عليه وآله لا تستخفوا بفقراء شيعة علي وعترته
من بعده فان الرجل منهم ليشفع مثل ربيعة ومضر، وأخرى ما في كتاب سرور الشيعة عن
جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وآله إذا أقبل علي بن أبي
طالب (ع) فأدناه ومسح وجهه ببردة وقال صلى الله عليه وآله يا أبا الحسن ألا أبشرك بما
بشرني به جبرئيل قال بلى يا رسول الله قال إن في الجنة عينا يقال لها تسنيم يخرج منها
نهران لو أن سفن الدنيا فيها لجرت قصبها من اللؤلؤ والمرجان وحشيشها من الزعفران
على حافتيها كراسي من النور عليها أناس جلوس مكتوب على جباههم بالنور هؤلاء
8

المؤمنون وهؤلاء من محبي علي بن أبي طالب ويعطى لكل واحد منهم بعدد كل عرق في
بدنه مدينة في الجنة، والحاصل شيعة علي أكرم الناس في الجنة كما قال الحسين (ع) في رجزه
يوم عاشورا
وشيعتنا في الحشر أكرم شيعة * ومبغضنا يوم القيامة يخسر
فطوبى لعبد زارنا بعد موتنا * بجنة عدن صفوها لا يكدر
المجلس الرابع
في اللهوف قال رسول الله (ص) أيها الناس اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي
وأرومتي ومزاج مائي وثمرة فؤادي ومهجتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض الا واني لا
أسئلكم في ذلك الا ما امرني ربي أن أسئلكم عن المودة في القربى فاحذروا
أن تلقوني غدا على الحوض وقد آذيتم عترتي وقتلتم أهل بيتي وظلمتموهم ولا شك ان
مودة ذوي القربى واكرام العلويين والسادات من أقرب القربات والفوز بها أشرف مكارم
الدنيا ودرك فضائل الآخرة.
في الخصال قال رسول الله (ص) اني شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاؤوا
بذنوب أهل الدنيا رجل نصر ذريتي ورجل بذل ماله لذريتي عند المضيق ورجل سعى في
قضاء حوائج ذريتي إذا طردوا أو شردوا أو رجل أحب ذريتي باللسان والقلب، ذكر ابن
الجوزي وهو حنبلي المذهب في تذكرة الخواص أن عبد الله بن المبارك كان يحج سنة ويغزو
سنة ودام على ذلك خمسين سنة وخرج في بعض السنين للحج فرأى امرأة علوية على بعض
المنازل وهي تنظف بطة ميتة فتقدم إليها وقال لم تفعلين هذا؟ فقالت يا عبد الله لا تسئل عما
لا يعنيك قال فوقع من كلامها في خاطري شئ فألححت عليها في السؤال فقالت يا عبد الله
قد ألجئني أن اكشف سري إليك انا امرأة علوية ولي أربع بنات علويات يتامى مات
أبوهن من قريب وهذا اليوم الرابع ما اكلنا شيئا وقد حلت لنا الميتة فأخذت هذه البطة
أصلحها واحملها إلى بناتي ليأكلنها قال فقلت في نفسي ويحك يا بن المبارك أين أنت من
هذه الفرصة قلت افتحي ازارك فصببت الدنانير في طرب ازارها وهي مطرقة لا تلتفت قال
ومضيت إلى المنزل ونزع الله عن قلبي شهوة الحج في ذلك العام ثم تجهزت إلى بلادي
9

وأقمت حتى حج الناس وعادوا وخرجت التقي جيراني وأصحابي فجعلت من أقول له
قبل الله تعالى حجك وشكر سعيك يقول وأنت قد قبل الله حجك وشكر سعيك اننا
قد اجتمعنا بك في مكان كذا وكذا وأكثر الناس علي في هذا القول فبت متفكرا فرأيت
رسول الله صلى الله عليه وآله في منامي وهو يقول يا عبد الله أغثت ملهوفة من ولدي
فسئلت الله عز وجل أن يخلق على صورتك ملكا يحج عنك كل عام إلى يوم القيامة فان
شئت أن تحج وان شئت أن لا تحج هذا ثواب من ترك حجه وأغاث بنفقة حجه ملهوفة من بنات رسول الله صلى الله عليه وآله ليت شعري ما حال من سمع حنين الملهوفات من
بنات رسول الله وهم يستغيثون ويستجيرون فما أغاثهم وما أجارهم أحد بل سلبوا برودهم.
قال الصادق عليه السلام إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيها الخلائق انصتوا فان محمدا
صلى الله عليه وآله يكلمكم فتنصت الخلائق فيقوم النبي صلى الله عليه وآله ويقول يا معشر
الخلائق من كان له عندي يد أو منة أو معروف فليقم حتى أكافيه فيقولون فأي يد وأي
منة وأي معروف لنا بل اليد والمنة والمعروف لله ولرسوله على جميع الخلائق فيقول من
اوى أحدا من أهل بيتي أو برهم أو كساهم من عرى أو أشبعهم فليقم حتى أكافيه ويقوم
أناس قد فعلوا ذلك فيأتي النداء من عند الله عز وجل يا حبيبي يا محمد قد جعلت مكافأتهم
إليك فاسكنهم حيث شئت من الجنة فيسكنهم في الوسيلة حيث لا يحجبون عن محمد فعلى
هذا من اوى أحدا من ذرية نبيه صلى الله عليه وآله وأشبعه أو كساه اسكنه الله ورسوله
مع نبيه في الحنة وإذا كان على غير ملة الاسلام هداه الله وبصره حتى يوفى اجره ويؤيد
ما قلنا ما روي عن ابن الجوزي أيضا في تذكرة الخواص كان ببلخ رجل من العلويين
نازلا بها وله زوجة وبنات فتوفي العلوي واشتد الامر بالمرأة وضاقت عليهم المعيشة
فخرجت المرأة بالبنات إلى سمرقند خوفا من شماتة الأعداء.
كل المصائب قد تمر على الفتى * فتهون غير شماتة الأعداء
قالت المرأة واتفق وصولي في شدة البرد فأدخلت العلويات في المسجد ومضيت
لاحتال في القوت فرأيت الناس مجتمعين على شيخ فسئلت عنه فقالوا هذا شيخ البلد
فشرحت له الحال فقال الشيخ أقيمي البينة على انك علوية وبناتك علويات ولم يلتفت إلي
فأيست منه وعدت إلى المسجد فرأيت في طريقي شيخا جالسا على دكة وحوله جماعة فقلت
من هذا فقيل لي هذا ضامن البلد وهو مجوسي فقلت أمضي إليه فعسى أن يكون لنا عنده
10

فرج فجئت إليه وحدثته بحديثي وما حرى لي مع شيخ البلد فصاح بخادم له فخرج فقال قل
لسيدتك تلبس ثيابها وتخرج فمضى الخادم وما مضت إلا هنيئة إذ خرجت امرأة المجوسي
في غاية الجلالة ومعها جواريها فقال لها المجوسي اذهبي مع العلوية إلى المسجد الفلاني واحملي
بناتها إلى الدار فجائت معي إلى المسجد فحملت البنات فجئنا وقد أفرد لأنه مقاما في داره
وأدخلنا الحمام وكسانا أثوابا فاخرة وجائنا بألوان الطعام وبتنا بأطيب ليلة فلما كان
نصف الليل رأى شيخ البلد المسلم في منامه كان القيامة قد قامت واللواء على رأس محمد
صلى الله عليه وآله وإذا بقصر من الزمرد الأخضر فسئل شيخ البلد لمن هذا القصر فقيل له
لرجل مسلم موحد فقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فاعرض النبي عنه فقال له لم تعرض
عني وانا رجل مسلم قال صلى الله عليه وآله أقم البينة عندي انك مسلم فتحير الشيخ فقال
رسول الله: أنسيت قولك للعلوية وهذا القصر للشيخ الذي هي في داره فانتبه الرجل وهو
يلطم على رأسه ويبكي وبعث غلمانه في البلد وخرج بنفسه يدور على العلوية فأخبر انها في
دار المجوسي فجاء إليه وقال ألك علم بالعلوية؟ قال: هي عندي قال أريدها قال مالك إلى
ذلك من سبيل فقال هذا ألف دينار خذها وسلمهن إلي فقال لا والله ولا ماءة ألف دينار
فلما ألح عليه قال المجوسي أن المنام الذي رأيته أنت البارحة رأيته أنا أيضا والقصر الذي
رأيته أعد لي وأنت تفخر وتدل علي باسلامك والله ما نمت أنا ولا أحد في داري
حتى أسلمنا كلنا على يد العلوية وعادت بركتها علينا ورأيت رسول الله صلى الله عليه وآله
وهو يقول لي القصر لك ولأهلك لما فعلت مع العلوية وأنت من أهل الجنة، المجوسي لما
علم أن البنات بنات رسول الله أشفق عليهن وأكرمهن وأسكنهن في داره ويزيد مع علمه
بان السبايا بنات رسول الله والعيال كريمات رسول الله ما أشفق اللعين أسكنهن في دار
خربة لا يكنهم من حر ولا من برد حتى تقشرت وجوههم من حرارة الشمس.
أتبكي لسجن في دمشق وماله * من الشمس سقف فيه تاوي النوادب
فيخشمن بالأيدي وجوها تقشرت * من الشمس إذ مامن ظلال ولا سجف
ذكر أيضا في تذكرة الخواص عن ابن أبي الدنيا أن رجلا رأى رسول الله في منامه
يقول امض إلى فلان المجوسي وقل قد أجيبت الدعوة فامتنع الرجل من أداء الرسالة وكان
المجوسي في دنيا واسعة فنام الرجل فرأى رسول الله ثانيا يقول له ذلك فامتنع من أداء
الرسالة حتى رآه في الثالثة يقول صلى الله عليه وآله وسلم امض إلى فلان المجوسي وقل له قد أجيبت
11

الدعوة فأصبح الرجل وأتى المجوسي وقال له في الخلوة انا رسول من رسول الله إليك وهو
يقول لك قد أجيبت الدعوة فقال له المجوسي له أتعرفني وما أنا فيه من طريقتي وديني
قال الرجل نعم قال إني أنكرت دين الاسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وكنت على
ذلك إلى هذا الوقت لكن اشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده
ورسوله ثم دعى أهله وقال لهم كنت على ضلالة والآن ذا بصيرة وقد أسلمت
فاعلموا فمن أسلم فما بيده من مالي فهو له ومن أبي فلينزع يده عن مالي الذي عنده فاسلم
القوم وأهله وكان له ابنة قد زوجها من ابنه ففرق بينهما ثم التفت إلى الرجل وقال له
أتدري ما الدعوة قال: لا والله وأني أريد أن أسئلك الساعة فقال لما زوجت ابني صنعت
طعاما ودعوت أحبابا لي فأجابوا وكان إلى جانبنا قوم اشراف من العلويين فقراء لا مال
لهم وأمرت غلماني أن يبسطوا لي حصيرا في وسط الدار فبينما انا جالس في صحن الدار
سمعت صبية من العلويات تقول لامها يا أماه قد اذانا هذا المجوسي برائحة طعامه فلما سمعت
ذلك قمت من ساعتي وأرسلت إليهم بطعام كثير وكسوة ودنانير للجميع فلما نظروا إلى
ذلك اشتد فرحهم وسروا سرورا عظيما وقالت الصبية للباقيات والله ما نأكله حتى ندعوا
لهذا المجوسي فرفعوا أيديهن وقلن حشره الله مع جدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وامن
بعضهن فتلك من الدعوة التي أجيبت، هذا المجوسي أشفق على بنات رسول الله صلى الله عليه
وآله وأطعمهم من الجوع وهو كافر وما أشفق ابن مرجانة لعنه الله على بنات رسول الله
أدخلوهن عليه واللعين كان جالسا على سفرة طعامه فلما نظر الأطفال ووقع طرفهم على
الطعام جعلت أبدانهم ترجف من شدة الجوع واصفرت ألوانهم وتأذوا من استشمامهم رائحة
الطعام فما اعتنى بهم حتى فرغ من طعامه ثم أول ما صنع مد يده وأخذ برأس الحسين (ع).
المجلس الخامس
ومن كلام لأمير المؤمنين (ع) في ذكر الكوفة كأني بك يا كوفة تمدين مد الأديم
العكاظي تعركين بالنوازل وتركبين بالزلازل واني لاعلم انه ما أراد بك جبار سوء
إلا ابتلاء الله بشاغل ورماه بقاتل ولا يخفى أن الكوفة بلدة قد شرفها الله على كثير من
البلاد وقد جاء في فضلها عن أهل البيت شئ كثير منها ما قال علي (ع) نعمت المدرة
الكوفة يحشر من ظهرها سبعون ألفا وجوههم على صورة القمر وقال (ع): هذه مدينتنا
12

ومحلتنا ومقر شيعتنا وقال جعفر الصادق (ع): تربة نحبها وتحبنا اللهم ارم من رماها
وعاد من عاداها وقول علي (كأني بك يا كوفة تمدين مد الأديم العكاظي العكاظ على
ما روي اسم سوق للعرب بناحية مكة كانوا يجتمعون بها في كل سنة يقيمون شهرا
ويبيعون ويتفاخرون ويتناشدون شعرا قال أبو ذويب:
إذا بني القباب على عكاظ * وقام البيع واجتمع الألوف
فلما جاء الاسلام هدم ذلك السوق وأكثر ما كان يباع بها الأديم فنسب الأديم إليها
وقيل أديم العكاظي وقوله (ع) تمدين مد الأديم استعارة لما ينالها من العسف والتعب
والأذى والمشقة من جور فساق الأمة والفراعنة والظلمة مما هموا في تخريب دورهما
وبيوتها واحراق نخيلها وقتل أهلها ولكن الله تعالى ما جعل لهم إلى ذلك من سبيل ودفع
الله عنها شرهم ولذا قال (ع) واني لاعلم انه ما أراد بك جبار سوء الا ابتلاه الله بشاغل
وما ورماه بقاتل وفي جامع الأخبار عن أمير المؤمنين (ع): مكة حرم الله تعالى والمدينة
حرم رسول الله (ص) والكوفة حرمي لا يردها جبار مع يجور فيها إلا قصمه الله ومن
الذين أراد بها السوء فرماه الله بقاتل وابتلاه بشاغل وقصم ظهره وأهلكه زياد بن أبيه
لعنه الله كان يخطب على المنبر بالكوفة إذ رموه بالحصاء فغضب من ذلك وقطع أيدي
ثمانين من أهل الكوفة وهم أن يخرب دورهم ويحرق نخيلهم فجمعهم حتى ملاء بهم المسجد
وهو يريد أن يعرضهم على البراءة من علي (ع) وعلم أنه سيمتنعون فيحتج بذلك على
استيصالهم واخراب بلدهم قال عبد الرحمن بن السائب الأنصاري كنت مع نفر من قومي
والناس يومئذ في أمر عظيم فنمت ورأيت شيئا اقبل طويل العنق مثل عنق البعير فقلت
من أنت قال انا النقاد ذو الرقبة بعثت إلى صاحب هذا القصر فانتبهت فزعا وقلت لأصحابي
هل رأيتم ما رأيت قالوا لا فأخبرتهم بالخبر فعند ذلك خرج علينا خارج من القصر وقال
انصرفوا فان الأمير يقول لكم اني عنكم اليوم مشغول وإذا الطاعون قد ضربه وكان يقول
اني لأجد في النصف من جسدي حر النار ومات من يومه.
ومنهم الحجاج أراد أن يخرب الكوفة فولدت في بطنه الحيات واحترق دبره فمات
لعنه الله والحاصل أن الكوفة بلدة شريفة والاخبار في مدحها كثيرة واما شرافة مسجدها
فهي لا تعد ولا تحصى منها هذا الخبر الذي روى الصدوق في الأمالي بأسانيد ينتهي إلى
الأصبغ بن نباته قال بينما نحن ذات يوم حول أمير المؤمنين (ع) في مسجد الكوفة إذ قال
13

عليه السلام: يا أهل الكوفة لقد حباكم الله عز وجل بما لم يحب به أحدا ففضل مصلاكم
وهو بيت آدم ونوح وبيت إدريس ومصلى إبراهيم الخليل ومصلى أخي الخضر ومصلاي
وان مسجدكم هذا أحد الأربعة المساجد التي اختارها الله عز وجل لأهلها وكأني به يوم
القيامة في ثوبين أبيضين شبيه بالمحرم يشفع لأهله ولمن صلى فيه فلا ترد شفاعته ولا تذهب
الأيام حتى ينصب الحجر الأسود فيه وليأتين عليه زمان يكون مصلى المهدي من ولدي
ومصلى كل مؤمن ولا يبقى على الأرض مؤمن إلا كان به أو حن قلبه إليه فلا تهجروه
وتقربوا إلى الله عز وجل بالصلاة فيه فإن النافلة فيه تعدل بألف نافلة وعمرة مع
رسول الله (ص) والفريضة تعدل بألف فريضة وحجة مع رسول الله (ص) وأرغبوا إليه
في قضاء حوائجكم لو يعلم الناس ما فيه من البركة لاتوه من أقطار الأرض ولو حثوا على
الثلج في جامع الأخبار عن الصادق (ع) وان ميمنته لروضة من رياض الجنة وإن وسطه
لروضة من رياض الجنة وإن مؤخره لروضة من رياض الجنة وما من عبد صالح ولا نبي إلا
وقد صلى فيه حتى رسول الله (ص) لما أسرى به إلى السماء قال له جبرئيل أتدري أين أنت
يا رسول الله الساعة؟ أنت مقابل مسجد كوفان قال: أستأذن لي ربي حتى آتيه فاصلي
ركعتين فاستأذن الله فاذن له فنزل وصلى فيه ركعتين وفيه ينفخ في الصور واليه المحشر
ويحشر من جانبه سبعون ألفا يدخلون الجنة وروي في جامع الأخبار قال الصادق (ع) المسجد مسجد الكوفة صلى فيه الف نبي والف وصي ومنه فار التنور وفيه تجري السفينة
الجلوس فيه بغير عبادة وتلاوة وذكر لعبادة، والصلاة فيه تعدل بألف صلاة أقول ولو أنه
ورد في الخبر الجلوس فيه بغير العبادة عبادة ولكن ينبغي للعبد إذا حضر تلك البقعة
الشريعة وأقام فيه ولو بقدر ساعة أن يجتهد في العبادة والطاعة ولا سيما الأعمال الواردة
في ذلك المكان المركن والمسجد المعظم ويحبس نفسه عن الاشتغال بالملاهي وذكر الدنيا
والمناهي بل وهذا يقتضي في جميع المساجد وليس يختص بمسجد الكوفة ولكن فيه أولى
لان المساجد يحب احترامها على كل مسلم وتعظيمها على كل مؤمن كيف وهي منسوبة إلى
الله وتسمى به ببيت الله فيقتضي للعبد أن يعظم بيت ربه ويقتصر فيه بالعبادة ويمنع نفسه
عما نهى عنه في الشريعة بل ولا يدخلها بغير الطهارة.
روي في جامع الأخبار عن الصادق (ع) قال لا تدخلوا المساجد بعد الطهارة ومن
دخل مسجدا بغير الطهارة فالمسجد خصمه ومن نام في المسجد بغير عذر ابتلاه الله بداء
14

لا دواء له فيه أيضا قال (ع) يأتي في آخر الزمان أناس من أمتي يأتون المساجد يقعدون
فيه حلقا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة ثم انظر إلى ما قال
الله تعالى في بعض ما أوحى روي في خصائص الحسينية قال الله تعالى يا عبادي أن بيوتي
في الأرض المساجد وان زواري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي
فحق على المزور أن يكرم زائره.
قال المرحوم شيخنا التستري في خصائصه لا يخفى أن الله جل وعلا يجل عن المكان
والحول والمسكن والسكنى واتصاف بعض الأمكنة بكونه بيت الله إنما هو لشرافة خاصة
من حيث جعله محل عبادة الله أو كثرة العبادة أو لأمر بالتوجه إليه حين العبادة أو كونه
محاذيا لمحل العبادة أو لكونه صعب المنازل فيخلص فيه القصد إلى الله كما اجتمع ذلك في
مكة المعظمة وبعض ذلك في بيوت اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وهذا كلها بيت الله
الظاهري وإنما حقيقة البيت لله معنى هو ما في الحديث القدسي إذ قال جل وعلا لا يسعني
أرضي ولا يسعني سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن وقد أوحى الله تعالى إلى داود
يا داود فرغ لي بيتا أسكن فيه فقال إنك تجل عن المكان والمسكن فأوحى الله إليه يا داود
فرغ لي قلبك فكل قلب لم يكن فيه سوى محبة الله فهو بيت الله حقا فقلب المؤمن الكامل
بيت الله حقيقة لأنه خال عن التعلق بغيره فليس فيه فكر ولا ذكر ولا هم إلا الله وقد ينتهي
الامر إلى إنه لا يبصر إلا الله ولا يسمع إلا الله فهذا أحد معاني قوله تعالى في حديث
القدسي حتى أكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به وإذا تحقق ذلك وتأملت
حق التأمل ظهر لك أن بيت الله الحقيقي الأكبر هو قلب الحسين (ع) فإنه فرغه لله
تفريغا حقيقيا إذ لم يبق فيه علاقة لغير الله حتى العلاقة التي لا تنافي العلاقة مع الله وصار
خاليا عن غير الله وفارغا عن جميع ما سوى الله وصار بيت الله الحقيقي التحقيقي الذي
ليس فيه إلا الله فلله على الناس حج هذا البيت من استطاع إليه سبيلا ومن هذا يظهر لك
الحديث من زار الحسين (ع) في كربلا كان كمن زار الله في عرشه بأبي وأمي فقد أخلي قلبه
من التعلق بالسلطنة والرياسة والراحة ومن التعلق بالأولاد والعيال والاخوان والعشيرة
ومن التعلق بالسلطنة والرياسة والراحة ومن التعلق بالأولاد والعيال والاخوان والعشيرة
ومن التعلق بالسلطنة والوطن والديار والمسكن في هذه الأراضي والبلاد الموجودة لأنه لما علم أن
رضا الله في ذلك اختار لنفسه وآثر رضاء الله على رضا نفسه ولذا قال في خطبته حين
خروجه من مكة رضاء الله رضانا أهل البيت الخ.
15

المجلس السادس
في الاحتجاج عن عبد العظيم الحسني عن أبي إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا
عليه السلام يا بن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله أنه قال
(ص): إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا فقال (ع) لعن الله المحرفين
الكلم عن مواضعه والله ما قال رسول الله كذلك إنما قال أن الله تبارك وتعالى ينزل
ملكا إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير وليلة الجمعة في أول الليل فيأمره فينادي
هل من سائل فأعطيه هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له يا طالب الخير
اقبل ويا طالب الشر أقصر فلا يزال ينادي بهذا حتى يطلع الفجر فإذا طلع الفجر عاد إلى
محله من ملكوت السماء، وفي خبر الا عبد مؤمن يدعوني لاخرته ودنياه قبل طلوع الفجر
فأجيبه ألا عبد مؤمن يتوب إلي من ذنوبه قبل طلوع الفجر فأتوب عليه ألا عبد مؤمن قد
قترت عليه رزقه فيسئلني الزيادة في رزقه قبل طلوع الفجر فأزيده وأوسع عليه ألا عبد
مؤمن سقيم فيسئلني أن أشفيه قبل طلوع الفجر فأعافيه ألا عبد مؤمن مغموم محبوس
يسئلني أن أطلقه من حبسه وأفرج عنه قبل طلوع الفجر فأنتصر له وأخذ بظلامته قال
الصادق (ع) أن ليلة الجمعة مثل يومها فإن استطعت أن تحييها بالصلاة والدعاء فأفعل
فإن الله يضاعف فيها الحسنات ويمحو فيها السيئات وإن الله واسع كريم وإن الصدقة
في ليلة الجمعة بألف ويوم الجمعة بألف وليلة الجمعة يوم الجمعة في الفضل سواء ومن
مات ليلة الجمعة أعتق من النار وقال (ع) اجتنبوا المعاصي ليلة الجمعة فإن السيئة مضاعفة
والحسنة مضاعفة ومن ترك معصية الله ليلة الجمعة غفر الله له كل ما سلف فيه وقيل له
استأنف العمل ومن بارز الله ليلة الجمعة بمعصيته أخذه الله بكل ما عمل في عمره وضاعف
عليه العذاب بهذه المعصية فإذا كانت ليلة الجمعة ويوم الجمعة رفعت حيتان البحور رؤسها
ودواب البراري ثم نادت بصوت طلق ذلق ربنا لا تؤاخذنا ولا تعذبنا بذنوب الآدميين
من دعا لعشرة من إخوانه الموتى ليلة الجمعة أوجب الله له الجنة قال الرضا (ع): أن للجمعة
ليلتين ينبغي أن يقرأ في ليلة السبت مثل ما يقرأ في عشية الخميس ليلة الجمعة.
16

في المجلد السادس من البحار عن أبي يحيى الصنعاني عن الصادق (ع) قال يا أبا يحيى
إن لنا في ليالي الجمعة لشأنا من الشأن قلت له: جعلت فداك وما ذاك الشأن؟ قال (ع):
يؤذن أرواح الأنبياء الموتى وأرواح الأوصياء الموتى والوصي الذي بين ظهرانيكم يعرج
بها إلى السماء حتى توافي عرش ربها فتطوف أسبوعا وتصل عند قائمة من قوائم العرش
ركعتين ثم ترد إلى الأبدان التي كانت فيها فتصبح الأنبياء والأوصياء قد أعطوا سرورا
ويصبح الوصي الذي بين ظهرانيكم وقد زيد في علمه مثل جم الغفير عن الحسن بن علي (ع)
قال: رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل ركعة وساجدة حتى اتضح
عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم بأسمائهم وتكثر الدعاء لهم
ولا تدعو لنفسها بشئ فقلت يا أماه: لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت
يا بني الجار ثم الدار عن المتهجد والاختصاص عن جابر الجعفي قال: كنت ليلة من بعض
الليالي عن أبي جعفر (ع) فقرأت هذه الآية يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم
الجمعة الخ وساق الكلام إلى أن قال يا جابر لم سمي يوم الجمعة جمعة؟ قلت تخبرني جعلني الله
فداك فقال يا جابر سمى الله الجمعة جمعة لان الله جمع في ذلك اليوم الأولين والآخرين وجمع
ما خلق الله من الجن والإنس وكل شئ خلق ربنا والسماوات والأرضين والبحار والجنة
والنار وكل شئ خلق الله فأخذ الميثاق منهم له بالربوبية ولمحمد (ص) بالنبوة ولعلي (ع)
بالولاية، وفي ذلك اليوم قال الله للسماوات والأرض: أتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا
طائعين فسمي الله ذلك اليوم الجمعة لجمعه فيه الأولين والآخرين وما طلعت الشمس بيوم
أفضل من يوم الجمعة إذا كان يوم الجمعة نادت الطير الطير والوحش الوحش والسباع السباع
سلام عليكم هذا يوم صالح مر سلمان الفارسي بالمقابر يوم الجمعة فوقف ثم قال: السلام
عليكم يا أهل الجمع هل علمتم أن هذا اليوم يوم الجمعة ثم أنصرف فلما أن أخذ مضجعه
أتاه آت في منامه فقال له يا أبا عبد الله إنك أتيتنا فسلمت علينا فرددنا عليك السلام
فقلت لنا يا أهل الديار هل علمتم أن اليوم الجمعة وأنا لنعلم ما يقول الطير في يوم الجمعة
قال: يقول سبوح قدوس ربنا ورب الملائكة والروح سبقت رحمتك غضبك ما عرف
عظمتك من حلف باسمك كاذبا ويؤيده ما في الخبر إذا كان يوم الجمعة وأهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار عرف أهل الجنة يوم الجمعة وذلك أنه يزاد في نعيمهم وعرف أهل
النار يوم الجمعة وذلك أن كلهم يبطش بهم الزبانية، إذا كان حين يبعث الله العباد أتى بالأيام
17

يعرفها الخلائق بأسمائها وحليتها يقدمها يوم الجمعة له نور ساطع تتبعه سائر الأيام كأنه
عروس كريمة ذات وقار تهدى إلى ذي حلم وشأن، ثم يكون يوم الجمعة شاهدا لمن حافظ
وسارع إليه ثم يدخل المؤمنون على قدر سبقهم إلى الجنة قال (ع): إن ليلة الجمعة ويوم
الجمعة أربع وعشرون ساعة لله عز وجل في كل ساعة ستمائة الف عتيق من النار ومن مات
يوم الجمعة عارفا بحق أهل هذا البيت كتب الله له براءة من النار وبرائة من عذاب القبر
قال الصادق (ع): من مات بين زوال الشمس يوم الخميس إلى زوال الشمس من يوم الجمعة
أعاده الله من ضغطة القبر ورفع عنه عذاب القبر من مات يوم الجمعة وليلته مات شهيدا
وبعث آمنا قال رسول الله (ص): إن يوم الجمعة سيد الأيام يضاعف الله فيه الحسنات
ويمحو فيه السيئات ويرفع فيه الدرجات ويستجيب فيه الدعوات، ويكشف فيه الكربات
ويقضي فيه الحاجات العظام وهو يوم المزيد لله عز وجل فيه عتقاء وطلقاء من النار ما دعا
الله فيه أحدا من الناس وعرف حقه وحرمته إلا كان حتما على الله أن يجعله من عتقائه
وطلقائه من النار، وإن مات في يومه أو ليلته مات شهيدا، ويبعث أمنا وما استخف
أحد بحرمته وضيع حقه إلا كان حقا على الله عز وجل أن يصليه نار جهنم إلا أن يتوب
وفي خبر طويل لما سئل النبي (ص) عن الأيام قال (ص): سألتني عن يوم الجمعة فقال
نعم يا رسول الله قال (ص) تسمية الملائكة في السماء يوم المزيد، يوم الجمعة يوم خلق الله
فيه آدم، يوم الجمعة أسكن الله فيه آدم الجنة، يوم أسجد الله ملائكته لادم (ع) يوم
الجمعة جمع الله فيه لادم حواء، يوم الجمعة يوم غفر ذنب آدم، يوم الجمعة يوم قال الله
تعالى للنار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، يوم الجمعة يوم أستجيب فيه دعاء يعقوب
يوم الجمعة يوم كشف الله فيه البلاء عن أيوب، يوم الجمعة يوم فدى الله فيه إسماعيل
بذبح عظيم يوم الجمعة يوم خلق الله فيه السماوات والأرض وما بينهما، يوم الجمعة يوم
يتخوف فيه الهول وشدة القيامة والفزع الأكبر تقوم الساعة، يوم الجمعة بين الظهر
والعصر وما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا ولا بر ولا بحر
إلا وهن يشفعن من يوم الجمعة إلى أن تقوم فيه الساعة وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم
سأل الله شيئا إلا أعطاه. قال الشهيد الثاني وأختلف أهل العلم في هذه الساعة اختلافا
كثيرا وأصحها عندنا من بين فراغ الامام من الخطبة إلى أن يستوي الصفوف بالناس
وساعة أخرى من آخر النهار إلى غروب الشمس ومما وقع فيه انتقال نطفة رسول الله
18

صلى الله عليه وآله إلى رحم آمنة ليلة الجمعة وولادته ليلة الجمعة وميلاد علي (ع) يوم
الجمعة وشهادته ليلة الجمعة وميلاد الحجة (ع) فجر الجمعة وظهوره يوم الجمعة وفي خبر
كان العاشوراء يوم الجمعة الخ.
المجلس السابع
(في روضة الواعظين) تأليف الإمام الفاضل العالم الزاهد أبي علي محمد بن أحمد
النيسابوري إعلم أن أسماء العيد أربعة: يوم العيد بالفارسية جشن وقيل العيد كل يوم
مجمع واشتقاقه من عاد يعود كأنهم عادوا إليه وقيل سمي العيد عيدا للعود من الترح إلى
الفرح فهو يوم سرور الخلق كلهم الا ترى أن المسجونين في ذلك اليوم لا يطالبون
ولا يعاقبون ولا يصطادون الطيور والوحوش ولا ينفذ الصبيان إلى المكتب وقيل سمي
بذلك لان كل إنسان يعود إلى ما وعد الله في ذلك اليوم وقيل سمي بذلك لان الناس
يعودون فيه إلى الله بالتوبة والدعاء والرب يعود عليهم بالمغفرة والعطاء وقيل سمي
بذلك لعود الله تعالى على عباده المؤمنين بالفوائد الجميلة والعوائد الجزيلة والعائد هو
المعروف والصلة ويوم الزينة قال الله تعالى في سورة طه في قصة موسى (ع) قال موعدكم
يوم الزينة يعني يوم عيدهم لان الناس كانوا يجتمعون فيه من الآفاق ويوم الجزاء قال
النبي (ص) يقول الله لملائكته يوم العيد ما جزاء الأجير إذا عمل عمله فيقولون يا ربنا
جزائه أن توفى أجره فيقول أشهدوا ملائكتي إني غفرت لهم ويوم الدين كما قال الله تعالى
في سورة الأعراف الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا أي عيدهم ويقال هو إنهم كانوا
يفرطون أصنامهم في يوم عيدهم ويحلونها بأنواع الحلي فيعرهم الله بذلك والأعياد في
القرآن أربعة عيد كان لعيسى وقومه وهو قوله تعالى في سورة المائدة قال عيسى بن مريم
اللهم ربنا أنزل علينا مائة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك والثاني
أعياد الكفار قال الله تعالى في سورة الفرقان والذين لا يشهدون الزور قيل الزور الأعياد
والثالث عيد الفطر قال الله تعالى قد أفلح من تزكى أي تصدق بصدقة الفطر وذكر اسم
ربه فصلى يعني صلاة العيد والرابع عيد النحر قال الله تعالى إنا أعطيناك الكوثر فصل
19

لربك وانحر يعني صلاة العيد وأنحر يعني القربان وينبغي للمؤمن أن يحضر العيد معتبرا
لا ناظرا حتى لا يكون حاله كحال الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا فقد قيل إن الحكمة في
العيدين تذكير للقيامة وأهوالها وذلك إن أحوالها موافقة لأحوالها فإذا كانت ليلة العيد
فاذكر الليلة التي تكون صبيحتها يوم القيامة فإذا سمعت صوت الطبل والكؤوس والبوق
فأذكر نفخ الصور قال الله عز وجل في سورة الكهف ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا فإذا
خرجت من بيتك يوم العيد إلى المصلى فذكر يوم خروجك من الدنيا ويوم خروجك
من القبر إلى المحشر قال الله تعالى في سورة ق فاستمع يوم يناد المناد من مكان قريب وإذا
رأيت الناس متوجهين إلى المصلى مختلفين في أحوالهم فبعضهم يلبسون الثياب الفاخرة
وبعضهم يلبسون الخلقان وبعضهم الجدد فأذكر اختلافهم في الآخرة بعضهم يلبسون
الحلل وبعضهم يلبسون القطران وإذا رأيت اختلافهم في المشي قوم مشاة وقوم ركبان
فاذكر مشيك على الصراط قال النبي (ص) يرد الناس الصراط ثم يصدرون عنها بأعمالهم
فأولها كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم الكواكب في رحاه ثم كشد الرجل ثم
كمشيه واذكر أيضا يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا
أي عطشانا وقال رسول الله (ص) يحشر الناس على ثلاثة، ثلاث على الدواب وثلاث
ينسلون على أقدامهم نسلا وثلاث على وجوههم وإذا جلست في الظل وبعضهم جلوس وبعضهم
قيام فاذكر وقوفك في عرصات القيامة منتظرا للحساب وفصل القضاء قال الله تعالى في
سورة إبراهيم إنما نؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار مهطعين مقنعي رؤسهم لا يرتد
إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء قوم في الشمس قد ألجمهم العرق وقوم في ظل العرش وإذ
رأيت الألوية والرايات فاذكر ألوية القيامة لكل قوم لواء وإذا قمت إلى الصلاة واصطف
الناس فاذكر يوم العرض قال الله تعالى وعرضوا على ربك صفا وإذا صعد الامام على
المنبر وخطب الناس سكوت ينصتون فأذكر يوم يتقدم محمد (ص) للشفاعة والخلق
حيارى سكوت وإذ أخذ في الخطبة بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب فأذكر يوم
ينادي المنادي سعد فلان وشقي فلان وإذ رأيت الناس منصرفين طرقهم مختلفة فاذكر قوله
تعالى في شورة الروم ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون الآية فريق في الجنة وفريق في
السعير وقوله تعالى يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم الآية وإذا رأيت السؤال في
20

الطريق قد سدوا أيديهم ووجوههم إلى العباد وأثر الضر والمسكنة ظاهر عليهم فاذكروا قوله
تعالى في سورة الروم (ويوم تقوم الساعة يلبس المجرمون) فهذا مقابلة أحوال العيد بأحوال
القيامة وفيها عبرة لمن اعتبر وعظة لمن تذكر.
(في أمالي الصدوق) قال الصادق (ع): خطب أمير المؤمنين (ع) بالناس يوم الفطر
فقال: أن يومكم هذا يوم يثاب فيه المحسنون ويخسر فيه المسيئون وهو أشبه يوم بيوم
قيامتكم فاذكروا بخروجكم من منازلكم إلى مصلاكم، خروجكم من الأجداث إلى ربكم
واذكروا وقوفكم في مصلاكم وقوفكم بين يدي ربكم، واذكروا رجوعكم إلى منازلكم
مصيركم في الجنة أو النار، واعلموا عباد الله أن أدنى ما للصائمين والصائمات أن يناديهم
ملك في آخر يوم من شهر رمضان أبشروا عباد الله فقد غفر لكم ما سلف من ذنوبكم
فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون وإذا طلع هلال شوال نودي المؤمنون هلموا إلى
جوائزكم، قال أمير المؤمنين في بعض الأعياد، إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكر
قيامه وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو يوم عيد وأعظم يوم عصي الله فيه بل ولم يعصى الله
بمثل ذلك اليوم أبدا، ومع ذلك أخذوه يوم عيد وسرور يوم أدخلوا رأس الحسين (ع)
في دمشق والشام ومعه رؤوس أهل بيته وأصحابه وأدخلوا عياله وصبيانه وهم على أقتاب الجمال بغير وطاء:
كانت مآتم بالعراق نعدها * أموية بالشام من أعيادها
وما الدهر والأيام إلا مآتم * وهل ترك العاشور للناس من عيد
أيفرح قلب والفواطم حسرا * يقاد بها أسرى على قتب العود
المجلس الثامن
عن الصادق (ع) إنه ذكر الكوفة وقال: ستخلو الكوفة من المؤمنين ويأزر عنه
العلم كما تأزر الحية في حجرها ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها (قم) وتصير معدنا للعلم والفضل
فيفيض العلم منه إلى سائر البلدان في المشرق والمغرب فيتم حجة الله على الخلق حتى لا يبقى
أحد على وجه الأرض لم يبلغ إليه الدين والعلم ولا يبقى في الأرض مستضعف في الدين حتى
المخدرات في الحجال وذلك عند قرب ظهور قائمنا فيجعل الله قم وأهله قائمين مقام الحجة
21

ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها ولم يبق في الأرض حجة ثم ينظر القائم ويصير سببا
لنقمة الله وسخطه على العباد لان الله لا ينتقم من العباد إلا بعد إنكارهم الحجة، وسميت
البلدة بقم لان أهلها يجتمعون مع قائم آل محمد ويقولون معه ويستقيمون عليه وينصرونه
وفي سمي قم لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة المعراج رأى إبليس باركا بهذه البقعة
يريد أن يغوي شيعة علي ويمنعهم عن ولايته ومحبته ويحرضهم على الفجور فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قم يا ملعون فليس لك عليهم من سلطان ومن ذلك سميت بقم.
(روى الصدوق في العلل) عن الصادق (ع) عن أبيه عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لما أسري بي إلى السماء حملني جبرئيل على كتفه الأيمن فنظرت إلى بقعة بأرض الجبل حمراء
أحسن لونا من الزعفران وأطيب ريحا من المسك فإذا فيها شيخ على رأسه برنس،
فقلت لجبرئيل ما هذه البقعة الحمراء التي هي أحسن لونا من الزعفران وأطيب ريحا من
المسك؟ قال: بقعة شيعتك وشيعة وصيك علي بن أبي طالب (ع) فقلت من الشيخ
صاحب البرنس؟ قال إبليس، قلت فما يريد منهم؟ قال يريد أن يصدهم عن ولاية
أمير المؤمنين (ع) ويدعوهم إلى الفسق والفجور، فقلت يا جبرائيل إهو بنا إليهم فأهوى
بنا إليهم أسرع من البرق الخاطف فقلت يا ملعون فشارك أعدائهم في أموالهم وأولادهم
ونسائهم فإن شيعتي وشيعة علي ليس لك عليهم سلطان فسميت قم، وهي التي دفنت فيها
فاطمة وجعل الله تلك البقعة الشريفة مأمنا لعباده في آخر الزمان، ولذا قال الصادق (ع)
إذا عمت البلايا فالأمن في الكوفة ونواحيها من السواد وقم من الجبل ونعم الموضع قم
للخائف الطائف، وفي رواية إذا عمت البلدان الفتن فعليكم بقم وحواليها ونواحيها فإن
البلاء مدفوع عنها، وقال (ع) إذا فقد الامن عن البلاد وركبوا الناس على الخيول
واعتزلوا النساء والطيب فالهرب الهرب عن جوارهم، قلت جعلت فداك إلى أين؟ قال:
إلى الكوفة ونواحيها أو إلى قم وحواليها فإن البلاء مدفوع عنهما وليس المعلوم إلى - اي
مقدار يحسب حوالي قم - ومن هذه الرواية يظهر أن دائرته وسيعة، لان جماعة من أهل
الري دخلوا على أبي عبد الله الصادق (ع) وقالوا نحن أهل الري فقال (ع): مرحبا
بإخواننا من أهل قم، فقالوا نحن من أهل الري فأعاد الكلام قالوا ذلك مرارا وأجابهم
بمثل ما أجاب به أولا، فقال (ع) إن لله حرما وهو مكة وإن للرسول حرما وهو المدينة
وإن لأمير المؤمنين حرما وهو الكوفة وإن لنا حرما وهو بلدة قم وستدفن فيها امرأة
22

من أولادي تسمى (فاطمة) فمن زارها وجبت له الجنة - وهي المعروفة بمعصومة - بنت
موسى بن جعفر (ع)، وكيفية وفاتها كما تروى المشايخ من أهل قم إنه لما أخرج المأمون
علي بن موسى الرضا من المدينة إلى خراسان في سنة مائتين من الهجرة كانت أخته فاطمة
تبكي لفراقه حتى ضاقت عليها المدينة وخرجت تطلب أخاها في إحدى ومائتين فلما وصلت
إلى (ساوة) قرية من قرى قم مرضت فسألت كم بيني وبين قم؟ قالوا عشرة فراسخ
فأمرت خادمها فذهب بها إلى قم ولما وصل الخبر إلى آل سعد أن فاطمة بنت موسى بن
جعفر تنزل في بلدة قم اتفقوا وخرجوا وكل منهم يطلب نزولها في داره فخرج من بينهم
موسى بن خزرج وأخذ بزمام ناقتها وجرها إلى قم وأنزلها في داره فكانت فيها ستة عشر
يوما وهي مريضة ولم يزل يشتد مرضها حتى توفت وقضت نحبها فغسلوها وحنطوها
وكفنوها ودفنها موسى بن خزرج في أرض لها يقال لها بابلان وبنى على قبرها سقفا من
البواري إلى أن زينب بنت الجواد بنت عليها قبة، وفي رواية لما ذهبوا بها إلى بابلان
وأرادوا دفنها ووضعوها على سرداب حفروه لها فاختلف آل سعد بينهم فيمن يدخل
السرداب ويدفنها فيه فاتفقوا على خادم لهم شيخ كبير صالح يقال له قادر فلما بعثوا إليه
رأوا راكبين سريعين يأتيان من جانب الرملة فلما قربا من الجنازة نزلا وصليا عليها
ودخلا في السرداب وأخذا الجنازة فدفناها ثم خرجا وركبا وذهبا ولم يعلم أحد من هما
كما أن بني أسد لما أرادوا دفن الحسين (ع) وهم لا يعرفونه لان الجسد لا يعرف إلا بالرأس
أو اللباس والحسين (ع) قطيع الرأس وعار من اللباس فوقفوا متحيرين لا يدرون
ما يصنعون إذ أقبل راكب من جانب الكوفة ودموعه تجري على خديه فسلم عليهم ووقف
وقال ما تريدون ما وقوفكم الخ، ودفن في جانب فاطمة أم محمد بنت موسى بن محمد بن علي
الرضا ثم أختها ميمونة وبنوا عليها قبة، ومن القبور التي بقم قبر أبي جعفر موسى بن
محمد الجواد (ع) المعروف بموسى المبرقع لأنه كان مبرقعا دائما فورد بقم فأخرجه العرب
من قم ثم اعتذروا منه وأدخلوه وأكرموه واشتروا من أموالهم له دارا ومزارع وحسن
حاله واشترى من ماله أيضا قرى ومزارع فجاءت إليه أخواته زينب وأم محمد وميمونة
بنات الجواد (ع) ثم بريهية فدفن كلهن عند فاطمة، وتوفي موسى المبرقع ليلة الأربعاء
ثامن شهر ربيع الاخر من سنة ست وتسعين ومائتين ودفن في الموضع المعروف إنه
مدفون، ومنها قبر محمد بن موسى المبرقع ومنها قبر أبي علي بن أحمد بن موسى المبرقع
23

وقبور كثيرة من السادات الرضوية.
المجلس التاسع
شبيهك بدر الليل بل أنت أنور * وخدك ورد بل من الورد أزهر
فنصفك ياقوت وثلثك جوهر * وخمسك من مسك وسدسك عنبر
فما ولدت حواء مثلك آدما * ولا في جنان الخلد مثلك آخر
فيا زينة الدنيا ويا غاية المنى * فمن ذا الذي عن حسن وجهك يصبر
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رأيت في السماء الثانية ليلة المعراج رجلا صورته على صورة
القمر ليلة البدر فقلت لجبرئيل: من هذا؟ فقال هذا أخوك يوسف الصديق ولقد أعطاه
الله الجمال ما هو غير معهود للبشر، ومن الضياء، والبهاء ما تكسب عنه الشمس والقمر
وكان من صباحة وجهه ونضارة خده أن عشقته زليخا امرأة العزيز وتعلقت به لان
يواقعها وهو يقول: معاذ الله إنا من أهل بيت لا يزنون.
ولست من النساء ولست مني * ولا أتي الفجور إلى الممات
فلا يخطر بقلبك غير شئ * متى يسررك ما دام الحياة
وعشقته جميع المخدرات من بنات الاشراف لما رأينه وبعثن إليه يطلبن مواصلتها
وقيل ماتت في محبته ثلاثمائة وستون بكرا فعجز يوسف وأختار لنفسه السجن (وقال رب
السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) فأختار الله له ما ما أختار لنفسه فلما دخل في السجن
ونظر إليه المحبوسين رفعت أصواتهم تبارك الله أحسن الخالقين فأحبه كل أهل السجن
حتى إن السجان قال له اني أحبك فقال يوسف: ناشدتك بالله أن لا تحبني لأنه ما أحبني
أحد إلا وجدت من حبه إياي نوعا من البلاء ما أصابني ما أصابني إلا من الحب الذي أحبتني
خالتي فسرقتني وأحبني أبي فحسدني أخوتي وأرادوا قتلي حتى طرحوني في الجب وأحبتني
زليخا امرأة العزيز فحبستني، حكى أن من حب زليخا ليوسف إنها قصدت يوما فارتسم
من دمها على الأرض يوسف يوسف قال صاحب الكشاف ولا تعجب من هذا فإن عجائب
بحر المحبة كثيرة ومن حب زليخا أن بعثت إلى السجان لما حبس يوسف أن
24

أضرب يوسف حتى أسمع أنينه وصوته وكان السجان أيضا يحبه ولا يرضى بضربه فقال
ليوسف أن زليخا أمرتني بكذا وأنا أضرب على الأرض وأنت ترفع صوتك فجعل
السجان يضرب على الأرض وهو يصيح فبعثت زليخا لا تضربه فاني أردت أن أسمع
أنينه فسمعت، ومن حبها له أن كانت تبعث إليه بالطعام والشراب واللباس وترسل إليه
يا يوسف يا حبيبي لا تظن إنك معرب بل أنت مقرب، وكان يوسف في السجن في غاية
التكريم والتجليل، وكان مكرما عند المحبوسين لأنه يعطيهم ما يحتاجون إليه ويوسع
عليهم ان ضاق عليهم المكان ويعالج مريضهم ومع هذا لما طال المكث به في السجن شكى
إلى الله من طول الحبس وقال رب ما استحققت السجن فأوحى الله إليه أنت اخترت
السجن لنفسك وقلت رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ولو قلت السلامة والعافية
لعوفيت، شكى يوسف إلى الله طول الحبس مع إنه كان في غاية الراحة ونهاية السعة، ويوسف
أهل البيت موسى بن جعفر (ع) مع ما ضيقوا عليه غاية التضييق جعل يشكر ربه ويقول
اللهم أنك تعلم إنني كنت أسئلك أن تفرغني لعبادتك اللهم وقد فعلت فلك الحمد وسمع
منه هذه الكلمات في البصرة لما حبس عند عيسى بن جعفر بن المنصور فحبسه عيسى الخ.
ما الحبس إلا بيت كل مهانة * ومذلة ومكاره لا تنفذ
إن زارني فيه العدو فشامت * يبدي التوجع تارة ويفند
أو زارني فيه المحب فموضع * يذري الدموع بزفرة تتردد
يكفيك أن الحبس بيت لا يرى * أحد عليه من الخلائق يحسد
ولما طال مكث يوسف في السجن وشكى إلى الله نزل عليه جبرئيل وعلمه هذا الدعاء
ودعا بها حتى فرج الله عنه وهي اللهم أن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك فلن ترفع
لي إليك صوتا فاني أسئلك بك وأتوجه إليك بوجه آبائي الصالحين إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ويعقوب أن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا وأرزقني من حيث احتسب ومن
حيث لا أحتسب فخرج من السجن في اليوم الثالث من المحرم ولما خرج من السجن كتب
على باب السجن هذه منازل البلوى وقبور الاحياء وشماتة الأعداء ورحقة الأصدقاء مع
أن يوسف كان مكرما في الحبس فكيف بمن حبس وهو ذليل حقير مهين مستكين فالموت
أروح له من هذه الحياة لأنه يموت في كل ساعة ولا يموت فيستريح ولذا قال بعض الحكماء
من طول في الحبس أن في الحبل كان فيه عطبه وهلاكه قال الشاعر:
25

ألا أحد يدعو لأهل محلة * مقيمين في الدنيا وقد فارقوا الدنيا
كأنهم لم يعرفوا غير دارهم * ولم يعرفوا غير الشدائد والبلوى
كما كتب يوسف هذه منازل البلوى لان البلايا تجتمع فيه لا يذوق الانسان طعم
النوم ولا طعم الشرب ولا لذة الطعام ولم يزل حزينا كئيبا لا يدخل عليه أحد ولا
يخرج من عنده أحد فكأنه أدخل في القبور وهو حي ولذا كتب يوسف هذه قبور
الاحياء فللأحياء قبور وقبورهم الحبس وانشد عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر
ابن أبي طالب وهو في حبس الأمويين:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها * فلسنا من الأموات فيها ولا الاحياء
إذا دخل السجان يوما لحاجة * عجبا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالرؤيا وجل حديثنا * إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت كانت بطيئا مجيئها * وان قبحت لم تنتظر وأنت سعيا
وكان السبب في كتابة يوسف هذه الكلمات اطلاعه على أحوال المحبوسين والا هو
بنفسه في غاية الراحة والرخاء والنعمة لم يحبس على سبيل الغضب بل على سبيل المحبة ومن
اجل ذلك سمي سجنها سجن المحبة دخل السجن عزيزا ومكث فيه عزيزا وأخرج منه عزيزا
لان الملك لما أخرج يوسف من السجن أمر بتزيين مصر بأنواع الزينة وأرخيت الستور
على الحيطان وأرسلت الجواري مكشوفات الوجوه بمجامر عليها أنواع البخور وأرسل
المسلك باستقباله، وكان بين المصر والسجن أربعة فراسخ وبعث إليه الخلعة فقال يوسف
إني لا أخرج من السجن وفيه المحبوسون فأمر الملك باطلاق الجميع هذا خروج يوسف
من الحبس ويوسف أهل البيت موسى بن جعفر (ع) دخل في السجن مظلوما ومكث فيه
مظلوما وخرج منه مظلوما إذ دخل عليه أربعة من الحمالين وحملوا جنازته وأخرجوه
حتى وضعوه على الجسر ببغداد.
وبسجنه كم من أذى قد مسه * لا يستطيع له نبي مرسل
لا يوسف الصديق يحكيه وان * جل البلاء فخطب موسى أشكل
فليوسف عند الخروج تباشروا * وعليه تاج الملك وهو مكلل
وابن النبي له خروج مثله * لكنه ميت يلوح ويحمل
وقال الشيخ كاظم:
26

ولقد حكى الصديق يوسف إذ ثوى * للسجن محبوسا ببضع سنين
لكنما شتان بينهما فذا * قد عاش أزمانا عقيب سجون
وهو العزيز بمصره في رفعة * وقرير طرف بالهنا مقرون
وغريب بغداد ثوى في سجنه * ناء الديار يحل دار الهون
المجلس العاشر
قال الله تعالى: (الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة وتحمل أثقالكم إلى بلد لم
تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) من الله تعالى على عباده بخلق المراكب لهم ليحملوا عليها
أحمالهم وأثقالهم وتكون لهم زينة في دنياهم، وهي الخيل والبغال والحمير. الخيل جماعة
من الأفراس لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط، وقيل واحده خائل وهي مؤنثة والجمع
الخيولة، وقدم الخيل بالذكر على قسيميها لشرفها عليها ومزيتها عليها زينة وما ورد من
الاخبار في مدحها وحسن صفاتها قال رسول الله (ص): الخير معقود بنواصي الخيل قاله
لزيد الخيل زيد بن مهلهل من قبيلة طي أسلم على يديه سنة تسع هو وقبيلته، وكان يسمى
زيد الخيل قبلا لكثيرة حبه للخيل أو أضيف إليه لشجاعته وفروسيته، وكان رجلا طويلا
إذا ركب الخيل خطت رجلاه الأرض وكان كثير الخيل، ولما أسلم قال (ص): ما أسمك
قال زيد الخيل فقال صلى الله عليه وآله أنا أسميك زيد الخير ولم أغير معنى اسمك الخير كله في نواصي
الخيل، وخلق الله الخيل من ريح الجنوب كما قال أمير المؤمنين (ع): أوحى الله تعالى إلى
ريح الجنوب اني اخلق منك خلقا اجعله عزا لأوليائي ومذلة لأعدائي وجمالا لأهل طاعتي
فقالت الريح: اخلق يا رب منها قبضة فخلق فرسا ثم أوحى الله إليه جعلت الخير معقودا
بناصيتك وأيدتك على غيرك من الدواب وأعطفت عليك صاحبك، وجعلتك تطير بلا
جناح فأنت للطلب وأنت للهرب ولما خلق واستوت قوائمه على الأرض صهل فقال الله
عز وجل أذل بصهيلك المشركين واملاء منه آذانهم وأرعب به قلوبهم وأذل به أعناقهم
ولنعم ما قال الشاعر:
أحبوا الخيل واصطبروا عليها * فإن العز فيها والجمالا
27

إذا ما الخيل ضيعها أناس * ربطناها وأشركنا العيالا
نقاسمها المعيشة كل يوم * ونكسوها البرادع والجلالا
ولما عرض الله الأشياء على آدم قال اختر ما شئت من خلق فأختار الخيل فقال الله
عز وجل اخترت عزك وعز أولادك خالدا ما خلدوا باقيا ما بقوا ولذا قال رسول الله (ص)
العز في نواصي الخيل والذي في أذناب البقر وأول من ركب الفرس وأول من ركب الخيل
قابيل لما قتل أخاه هابيل ركب فرسا وهرب من خوف أبيه آدم ومن ذلك اليوم استنفرت
الدواب من بني آدم لا سيما الفرس وما تمكن أحد من ركوبها إلى أيام إبراهيم الخليل ولما
رفع إبراهيم قواعد البيت مع ولده إسماعيل كما في الآية إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت
وإسماعيل وذلك في الخامس من ذي القعدة أوحى الله إليهما أني معطيكما كنزا ادخرته لكما
وهو الخيل ثم أوحى الله إلى إسماعيل أن أخرج وأدع بذلك الكنز فصعد على الجبل ودعى
الله عز وجل بدعاء علمه جبرئيل فلم تبق فرس بأرض العرب إلا أجابته وأمكنته من
نواصيها وتذللت له فركب إسماعيل على فرس منها ومن ذلك اليوم أنسوا بأولاد آدم ولذا
قال رسول الله (ص): أركبوا الفرس فإنها ميراث إسماعيل وسخرها الله له ولأبيه
إبراهيم، وكان إبراهيم يركبها كثيرا وكان يوما من الأيام راكبا فرسه ويمشي في البراري
والقفار وصل أرض كربلاء فعثرت فرسه وسقط وشج رأسه الخ الخبر، والخيل لها أسماء
كثيرة يقال لها الخيل لخيلائها في مشيها وكل من يركبها يستكبر ويورثه الخيلاء ويقال
لها الجواد لأنه يجود بنفسه عدوه ونجاة صاحبه ويقال لها الفرس لأنها تفترس
الأرض بسرعة مشيها أو لتفرسها لأنها في آخر درجة الحيوانية وأول درجة الانسانية
في الفراسة وهي أشبه حيوانا بالانسان في الكرم والشرف وعلو الهمة وقبول التعليم وكان
من فراسته لما وصل الحسين (ع) إلى كربلا وقف جواده ولم ينبعث خطوة حتى ركب ستة
أفراس وهي تحته لا تخطوه خطوة ومن فراسته لما دخل الحسين (ع) المشرعة واقحم الفرس
الفرات فلما أولغ الفرس رأسه ليشرب قال (ع): أنت عطشان وأنا عطشان والله لا ذقت
الماء حتى تشرب فلما سمع الفرس كلام الحسين (ع) شال رأسه ولم يشرب كأنه فهم الكلام
فقال الحسين أشرب فأنا أشرب فامتنع الفرس فمد الحسين (ع) يده فغرف غرفة من الماء، ومن
فراسته قال أبو مخنف: لما صرع الحسين (ع) جعل الفرس يحامي عنه ويثب على الفارس
فيخبطه عن سرجه الخ.
28

المجلس الحادي عشر
قال الله تبارك وتعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم، ولا
يخفى أن للانسان أسامي متعددة من حين تلج فيه الروح إلى أن يموت أولها الجنين وجمعها
أجنة كما في الآية الشريفة (وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم) وذلك حين ولج فيه الروح ويتحرك بإرادته ويتغذى في بطن أمه، ثم الوليد وذلك حين ولد ثم الرضيع وذلك في
أيام رضاعته ثم الفطيم ككريم هو الذي انتهت مدة رضاعه يقال فطمت الرضيع يعني
فصلته عن الرضاع، والرضيع على ما قال ابن إدريس من كان في الحولين وأن اغتذى
بالطعام لان المدة التي ينتهي إليه الرضاع حولين كاملين، والحول قيل هو السنة، وقيل
هو العام والعام لا يكون إلا شتاء وصيفا فعلى هذا يصير العامين ثمانية عشر شهرا ولذا
سئل سعد بن الرضا (ع) عن الصبي هل يرضع أكثر من سنتين فقال (ع): عامين قلت فإن
زاد على ذلك هل على أبويه شئ؟ قال الصادق (ع): الرضاع واحد وعشرون شهرا فما
نقص فهو جور على الصبي ويؤيده ما في الآية الشريفة وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وهذا
مما لا يخفى على البصير إنه لو كان غذاء الطف وأقوى وأحكم وأغذى من اللبن للطفل خلق
الله له ذلك، ولذا يلزم أن يهئ الرجل مرضعة إن فقدت أمه أو ماتت وبقي الطفل بلا
لبن وان كانت المرضعة يهودية أو نصرانية إن اضطر ولم يجد غيرها كما روى ابن مسكان
عن الجلبي قال: سئلت الباقر (ع) عن رجل دفع ولده إلى ظئر يهودية أو نصرانية
أو مجوسية ترضعه في بيتها أو في بيته قال (ع): ترضعه لك اليهودية والنصرانية وتمنعها
من شرب الخمر وما لا يحل مثل لحم الخنزير ولا يذهبن بولدك إلى بيوتهن، والزانية
لا ترضع ولدك فإنه لا يحل لك، والمجوسية لا ترضع لك ولدك إلا أن تضطر إليها ولا يجوز
للرجل أن يجبر امرأة على ارضاع الولد إلا أن تكون أم الولد يعني جاريته ولم تكن حرة
ومتى وجد الأب من يرضع الولد بأربعة دراهم وقالت الام: لا أرضعه إلا بخمسة
دراهم فإن للأب أن ينزعه منها كما قال الله تعالى (وأن تعاسرتم فترضع له أخرى إلا
أن الأصلح له والأرفق به أن يترك مع أمه لأنه قال (ع): ما من لبن يرضع به الصبي
29

أعظم بركة من لبن أمه وينبغي أن ترضعه من ثدييه لأنه كما قال الصادق (ع): لاحد
أزواجه وهي أم إسحاق وهي ترضع أحد أبنيها محمدا وإسحاق فقال (ع) يا أم إسحاق:
لا ترضعيه من ثدي واحد وأرضعيه من كليهما يكون أحدهما طعاما والاخر شرابا ومن
هذا يقرب من الأذهان ما رواه الناسخ من أن الحسين (ع) لما أقبل بالرضيع إلى الأعداء
وطلب منهم الماء كأنه توهم أن يقال أن الرضيع لا يحتاج إلى الماء وإنما طعامه وشرابه
هو اللبن فخاطبهم بهذه الكلمة يا قوم لقد جف اللبن في ثدي أمه، إن لم ترحموني فارحموا
هذا الطفل الخ. قال رسول الله (ص): أحبوا الصبيان وارحموهم وإذا وعدتموهم فوفوا
لهم فأنهم لا يرون إلا انكم ترزقونهم، وظهر من كلامه آخر المواساة بينهم في جميع
الأشياء نظر إلى رجل له ابنان يقبل أحدهما وترك الاخر فقال (ص) له: فهلا واسيت
بينهما وقال (ص): من كان عنده صبي فالتصاب له، والمراد إنه يلعب مع الصبي كما هو
المحبوب عنده وهذا دأبه إذا أدخل عليه الحسنان عليهم السلام قال جابر: رأيت الحسن
والحسين عليهم السلام على ظهر النبي (ص) وهما يقولان: حل حل والنبي (ص) يجشو لهما
ويقول نعم الجمل جملكما، ونعم الراكبان أنتما، وروي إنه لهما ذؤابتين مزردتين في وسط
الرأس قال ابن مسعود رأيت النبي (ص) يوما وهو أخذ بكتفي الحسن بكلتا يديه وقدماه
على قدم رسول الله (ص) ويقول: ترق ترق عين بقة فرقى الغلام حتى وضع قدميه على
صدر رسول الله (ص) ثم قال له: افتح فاك ثم قبله وقال اللهم أحبه ثم وضعه وأخذ
الحسين (ع) كذلك ويقول حزقة حزقة ترق علين بقة فرقى الغلام حتى وضع قدميه على
صدر رسول الله (ص) ففعل به ما فعل بالحسن، وكان يقول الولد ريحانة وريحانتاي من
الدنيا الحسن والحسين، وقال (ص): وان الله عز وجل ليرحم الرجل لشدة حبه لولده
وبر الرجل بولده بره بوالديه، وقال (ص): وان الله عز وجل ليرحم الرجل لشدة حبه لولده
وبر الرجل بولده بره بوالديه، وقال (ص): يلزم الوالدين من عقوق الولد يلزم الولد لهما
من العقوق وذلك إذا قعد عن القيام بحقوقهم ولهم حقوق جعلها الله على الوالدين. منها
تسميتهم بأسام محبوبة عند الله عز وجل وخيرها وأحبها أسامي محمد (ص) وأهل بيته
عليهم السلام وألقابهم وكناهم رجالا ونساء على أن ما فيها من الخيرات والبركات قال
الرضا (ع): لا يدخل الفقر بيتا فيه اسم محمد أو أحمد أو علي أو الحسن أو الحسين
أو جعفر أو طالب أو عبد الله أو فاطمة من النساء ومنها العقيقة في كتاب من لا يحضره
الفقيه قال الصادق (ع): العقيقة لازمة لمن كان غنيا ومن كان فقيرا إذا أيسر فعله فإن لم يقدر
30

فليس عليه شئ، وكل مولود مرتهن بعقيقته، وفيه أيضا عن موسى بن جعفر (ع) العقيقة
واجبة إذا ولد للرجل ولد.
وروي فيه ان يعق عن الذكر باثنتين وعن الأنثى بواحدة وما استعمل من ذلك فهو
جائز والأبوان لا يأكلان من العقيقة وليس ذلك بمحرم عليهم وإن اكلت منه الام لم
ترضعه وتطعم القابلة الرجل منها بالورك، فيه أيضا في رواية يعطي القابلة ربعها وان
شاء طبخها وقسم معها خبزا ومرقا وان شاء قسمها أعضاء ولا يعطيها إلا لأهل الولاية
وعق أبو طالب (ره) عن النبي (ص) يوم السابع فدعى إليها آل أبي طالب فقال: هذه
عقيقة احمد فقال لأي شئ سميته احمد لمحمدة أهل السماء والأرض له وفيه أيضا روي
عن عمير بن يزيد قال قلت لأبي عبد الله (ع): ما أدري أكان أبي عق عني أم لا فأمرني
فعققت عن نفسي وانا شيخ ويقال عند العقيقة بعد الاستعاذة التسمية اللهم منك ولك
ما وهبت وأنت أعطيت اللهم فتقبل منا على سنة نبيك اللهم (لك سفكت سفكت الدماء لا شريك
لك والحمد لله رب العالمين اللهم أخسأ عنا الشيطان الرجيم (يا قوم إني برئ مما تشركون
إني وجهت نفسي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما انا من المشركين إن
صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له بذلك أمرت وأنا من المسلمين)
اللهم منك ولك بسم الله والله أكبر اللهم تقبل من فلان بن فلان ويسمي المولود باسمه
ثم يذبح ومن حقوق الولد إذا كان ذكرا الختان في من لا يحضره عن الصادق ان اختنوا
أولادكم يوم السابع يطهروا وأن الأرض تضج إلى الله من بول الأغلف.
قال الراوي: قلت جعلني الله فداك ليس حجاما في بلدنا حذقا بذلك، ولا يختنونه
يوم السابع وعندنا حجام من اليهود فهل يجوز لليهود أن يختنوا أولاد المسلمين أم لا؟
فوقع (ع) يوم السابع فلا تخالفوا السنن إنشاء الله تعالى ويستحب إذا ولد المولود أن
يؤذن في أذنه اليمنى ويقام في اليسرى ويحنك بماء الفرات ساعة يولد ويحلق رأسه يوم
السابع ويوزن شعره بالذهب أو الفضة ويتصدق فيه أيضا قال (ع): حلق رأسه تطهيره
من شعر الرحم كما فعل رسول الله (ص) جميع ذلك بولديه الحسن والحسين لما ولدا. ومن
حقوقهم التعليم والتأديب فيه أيضا قال الصادق (ع): دع ابنك يلعب سبع سنين ويؤدب
سبع سنين والزمه بنفسك سبع سنين فإن أفلح وإلا إنه ممن لا خير فيه، ويلزم أن يشرء به
في حب أهل البيت (ع)، ويعلمه أساميهم وعددهم وأماتهم وفضائلهم ومناقبهم، كان
31

جابر بن عبد الله الأنصاري ينادي في سكك المدينة وهو يقول علي خير البشر فمن عاداه
فقد كفر يا معشر الأنصار أدبوا أولادكم على حب علي فمن أبى فانظروا في شأن أمه قال
الصادق (ع): من وجد برد حبنا على قلبه فليكثر الدعاء لامه فإنها لم تخن أباه، وكان
الصبي على عهد رسول الله (ص) إذا وقع الشك في نسبه عرضت عليه ولاية أمير المؤمنين
عليه السلام فان قبلها الحق نسبه بمن ينتهي إليه وان أنكرها نفي، ولأطفال شيعة علي
ومحبيه في الجنة مقامات كريمة ومواهب سنية قال أبو عبد الله (ع): إذا مات طفل من
أطفال المؤمنين نادى مناد في ملكوت السماء إلا إن فلان بن فلان قد مات والده
أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين دفع إليه يغذونه وإلا دفع إلى فاطمة (ع) تغذيه
حتى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته فتدفعه إليهم أقول ساعد الله قلب الزهراء
حين دفع إليها رضيع الحسين (ع) ورأته مذبوحا من الاذن إلى الاذن.
وفي رواية إن الله تبارك وتعالى يدفع إلى إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين يغذونهم
لشجرة في الجنة له اخلاف كاخلاف البقر في قصر من در فإذا كان يوم القيامة البسوا
وطيبوا واهدوا إلى آبائهم فهم ملوك الجنة مع آبائهم واما ثواب والديهم في مصيبتهم
في مسكن الفؤاد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مات ولد العبد قال الله تعالى: لملائكته أقبضتم
ولد عبدي فيقولون نعم فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم، فيقول ماذا قال عبدي
يقول: حمدك، واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد وفيه
أيضا عن زيد بن أسلم قال مات ولد لداود النبي (ع) حزن عليه حزنا شديدا فأوحى الله
تعالى إلى داود وما كان يعدل عندك هذا الولد قال يا رب كان يعدل ملاء الأرض ذهبا
قال الله تعالى: ولك عندي يوم القيامة ملاء الأرض ثوابا، وسئل الصادق (ع) عن
إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو كان بقي كان صديقا نبيا، وكان على منهاج أبيه
وقال (ع): مات إبراهيم وله ثمانية عشر شهرا فأتم الله رضاعه في الجنة ورضيع الحسين
له ستة أشهر فعلى هذا الخبر إن الله أتم رضاعه في الجنة كما في الخبر نودي من الهواء يا حسين
دعه فإن له مرضعا في الجنة.
32

المجلس الثاني عشر
قال الله عز من قائل: عبدي أطعني حتى أجعلك مثلي أقول للشئ: كن فيكون
تقول للشئ كن فيكون، وفي الخبر العبودية جوهرة كنهها الربوبية ولهذا ترى الأنبياء
والأولياء والحجج سيما أشرفهم وسيدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوصيائه عليهم السلام لما
أطاعوا الله عز وجل أطاعهم كل شئ حتى البهائم والحيوانات لان الله عرفها قدر أنبيائه
وأوليائه فتعرف مناقبهم ومصائبهم وشؤوناتهم وإذا عرضت حاجة تتوسل بهم إلى الله
تمتثل أوامرهم وعن الحارث الهمداني قال: كنا مع أمير المؤمنين بالكناسة إذ اقبل
أسد يهوى من البرية فتضعضعنا له وانتهى إلى أمير المؤمنين فطرح نفسه بين يديه خاضعا
ذليلا فقال له أمير المؤمنين ارجع ولا تدخلن دار هجرتي وبلغ عني ذلك جميع السباع فإذا
عصوا الله في وخلعوا طاعتي فقد حكمت فيهم قال الحارث: فلم تزل جميع السباع تتجافى عن الكوفة وحواليها إلى أن قبض علي (ع) وتقلدها زياد بن أبيه فلما دخلها سلطت السباع على الكوفة وحواليها حتى أفنت أكثر الناس، ومن توسلات السباع بأمير المؤمنين (ع)
أيضا روى الديلمي عن جماعة خرجوا بالليل مختفين إلى الغري لزيارته (ع) قالوا: فلما
وصلنا إلى القبر الشريف بعضنا يقرأ وبعضنا يصلي وبعضنا يزور فإذا نحن بأسد مقبل فقرب منا
قدر رمح فتباعدنا من القبر فجاء الأسد وجعل يمرغ ذراعيه على القبر وفيها جراح فلم يزل
يمرغها ساعة ثم مضى عن القبر ورجع، ومن هذا القبيل لا تعد ولا تحصى، وهذا من
البديهيات بان البهائم والسباع عارفة بشؤون آل محمد ومقامهم عند الله ويراعون حقوقهم
فيهم بل وفي شيعتهم ومحبيهم كما روي عن ابن الاعرابي أن سفينة مولى رسول الله (ص)
قال خرجت غازيا وركبت البحر فكسر المركب وغرق ما فيه وتعلق أنا بلوح
واقبل اللوح يرمي به موجة على جبل في البحر فإذا صعدت وظننت إني نجوت جائتني موجة
وألقتني في البحر ففعلت بي مرارا حتى جائتني موجة وألقتني على ساحل البحر فحمدت الله
على سلامتي وخلاصي من الغرق فبينما انا أمشي إذ أبصر بي أسد فأقبل نحوي يزئر وهم أن
يفترسني فرفعت يدي إلى السماء فقلت: اللهم إني عبدك ومولى نبيك نجيتني من الغرق
33

فتسلط علي السبع فألهمت أن قلت أيها السبع أنا سفينة مولى رسول الله أحفظ رسول الله
صلى الله عليه وآله في مولاه فوالله إنه لترك الزئير واقبل كالسنور وهو يمسح خده بهذه
الساق مرة وبهذه الساق أخرى وهو ينظر في وجهي مليا. ثم طأطأ ولو إلى أن اركب
فركبت ظهره فجعل يمشي فما كان بأسرع من أن هبط في جزيرة فإذا فيها من الشجر والاثمار
وعين عذبة من ماء فدهشت فوقف وأومى إلي ان انزل فنزلت فبقي واقفا حذاي ينظر
فأخذت من تلك الثمار فأكلت وشربت من ذلك الماء فرويت فعمدت إلى ورقة فجعلتها
إلى مئزر واتزرت بها وتلحفت بأخرى وجعلت ورقة شبيهة بالمزود فملأتها من تلك
الثمار وبللت الخرقة التي كانت معي لأعصرها إذا احتجت إلى الماء فأشربه.
فلما فرغت مما أردت اقبل إلى فطأطأ ظهره ثم أومي إلي أن أركب فلما ركبت أقبل
بي نحو البحر في غير الطريق الذي أقبلت منه فلما صرت على ساحل البحر إذا بمركب سار في
البحر فلوحت لهم فأجتمع أهل المركب يسبحون ويهللون لما رأوني راكبا على الأسد
فصاحوا يا فتى من أنت أجني أم أنسي؟ فقلت: أنا سفينة مولى رسول الله (ص) وهذا
الأسد رعى حق رسول الله (ص) في ففعل ما ترون فلما سمعوا ذكر رسول الله (ص)
حطوا الشراع وحملوا رجلين في قارب صغير فدفعوا إلي ثيابا فنزلت عن الأسد ولبست
الأثواب ووقف الأسد ناحية مطرقا ينظر ما أصنع فجاء إلي رجل وقال أركب ظهري
حتى أدخلك إلى القارب أيكون السبع أرعى لحق رسول الله من أمته فأقبلت على الأسد
فقلت جزاك الله خيرا عن رسول الله صلى الله عليه وآله فوالله لنظرت إلى دموعه تسيل
على خده، ما تحرك حتى دخلت القارب وأقبل يلتفت إلي ساعة بعد ساعة حتى غبنا عنه
وكانت فضة خادمة الزهراء تعلم هذه القصة وتحفظها حتى يوم عاشوراء وقد قتل الحسين (ع)
وأراد أهل الكوفة أن يطؤا الخيل صدره وظهره أقبلت فضة إلى سيدتها زينب قالت:
سيدتي إن سفينة كسر مركبه في البحر فخرج إلى جزيرة فإذا هو بأسد فقال يا أبا الحارث
أنا مولى رسول الله فهمهم بين يديه حتى أوقفه على الطريق سيدتي فكأني بأسد رابض
في قريتنا فدعيني أمضي إليه فأعلمه ما هم صنعوه غدا فقالت: اذهبي وأعلميه فمضت إليه
وقالت: يا أبا الحارث فرفع رأسه ثم قالت: أتدري ما يردون أن يعملوا غدا بأبي
عبد الله (ع)؟ يردون أن يوطئوا الخيل ظهره فمشى الأسد حتى وضع يده على جسد الحسين
وهو يقبله ويبكي فأقبلت الخيل فقام الأسد وزئر زئيرا كادت الأرواح أن تخرج من
34

أبدانهم، فقال لهم عمر بن سعد: فتنة لا تثيروها فانصرفوا واختلف أرباب المقاتل في
أن هذه المصيبة جرت على جسد الحسين أم لا؟ ويظهر من كلام الكليني إنه لم يتيسر لهم
قال المجلسي والمعتمد عندي إنه لم يتيسر لهم ذلك اعتمادا على خبر الكافي ويظهر من كلام
السيد انهم صنعوا ذلك كما قال في اللهوف ثم أن عمر بن سعد نادى من ينتدب للحسين الخ.
المجلس الثالث عشر
قال الله عز من قال: (وعلمناه منطق الطير) من الكرامات التي أكرم الله عز وجل
بها نبيه سليمان أن علمه منطق الطير وكان يعرف لسان الوحوش والطيور والبهائم والسباع
كان (ع) يعرف منطق الهدهد ويخبر سليمان بلسانه عن مواضع الماء تحت الأرض وأخبره
عن بلقيس بقوله: إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن
السبيل فهو لا يهتدون) وكان مكتوبا على جناحه بالسريانية آل محمد خير البرية ومسلم
عندنا أن نبينا صلى الله عليه وآله أعطي أكثر مما أعطي أنبياء الله المرسلين وكلما اعطى
نبينا (ص) فقد ورث عنه أئمتنا عليهم السلام منها العلم بمنطق الطيور قال محمد بن مسلم
سمعت أبا جعفر (ع) يقول يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا
لهو الفضل المبين قال أبو حمزة: كنت عند علي بن الحسين (ع) وعصافير على الحائط
أو على شجرة يصحن فقال يا أبا حمزة أتدري ما تقول العصافير؟ تقدس ربها وتسئله
قوت يومها ثم قال علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ. عن جابر بن يزيد الجعفي قال
خرجت مع أبي جعفر (ع) إلى الحج وانا زميله إذ اقبل ورشان فوقع على عضادتي محمله
فهدل وترنم فمددت يدي لاخذه فصاح علي (ع) وقال يا جابر مه فإنه استجار بنا فقلت
وما الذي شكى إليك؟ قال: شكى إلي إنه يفرخ في هذا الجبل منذ ثلاث سنين وإن حية
تأتيه فتأكل فراخه فسئلني أن ادعوا الله ليقتلها ففعلت، والمقصود أنهم ورثوا من
جدهم وأبيهم أمير المؤمنين (ع) جميع ذلك. عن سيد الشهداء (ع) قال: كنت مع أبي
أمير المؤمنين (ع) يوما على الصفا وإذا هو بدراج على وجه الأرض في صفا فوقف مولاي
35

بإزائه، وقال: السلام عليك أيها الدارج فأجابه وعليك السلام ورحمة الله وبركاته
يا أمير المؤمنين، فقال: أيها الدارج ما تصنع في هذا المكان؟ فقال: يا أمير المؤمنين
أنا في هذا المكان من أربعمائة عام أسبح الله وأقدسه وأحمده وأهلله وأكبره وأعبده
حق عبادته فقال (ع): إن هذا الصفا لا مطعم فيه، ولا مشرب فمن أين مطعمك ومشربك؟
فقال يا مولاي: وحق من بعث ابن عمك بالحق نبيا وجعلك وصيا إني كلما جعت دعوة
الله لشيعتك ومحبيك فأشبع وإذا عطشت دعوت الله على مبغضيك وظالميك ومنقصيك
فأروى وهذه أي الدراج إحدى الطيور التي تلعن مبغضي علي بن أبي طالب (ع)، ومن
الطيور التي تلعن مبغضي علي بن أبي طالب (ع) القنابر كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله
خلق خلقا ليسوا من ولد آدم يلعنون مبغضي علي بن أبي طالب. قال أنس: من هم
يا رسول الله؟ قال: هم القنابر ينادون في الأسحار على رؤس الأشجار الا لعنة الله على
مبغضي علي بن أبي طالب. (بسم الله الرحمن الرحيم) والسلام على عباده الذين اصطفى
ولا ينصر لعنها على مبغضي علي (ع) وأيضا تلعن قاتل الحسين، وأيضا من الطيور التي
تلعن قتلة الحسين عليه السلام الحمام الراعبية كما في الكامل عن داود بن فرقد قال: كنت
جالسا في بيت أبي عبد الله الصادق فنظرت إلى حمام الراعبي يقر يقر طويلا فنظر إلي
أبو عبد الله عليه السلام فقال يا داود أتدري ما يقول هذا الطير؟ قلت: لا والله جعلت
فداك قال يدعو على قتلة الحسين عليه السلام فاتخذوه في منازلكم أقول كأني ببنت
الحسين فاطمة الصغرى أيضا كانت تعلم وتعرف منطق الطير، وذلك لما رأت الغراب
ملطخا بالدم على جدار البيت جعلت تقول:
نعب الغراب فقلت من * ننعاه ويلك يا غراب
المجلس الرابع عشر
إني أرى رقم البلا في قرن رأسك قد نزل * وأراك تعثر دائما في كل يوم بالعلل
والشيب والعلل الكثيرة من علامات الاجل * فأعمل لنفسك أيها المغرور في وقت العمل
في الخبر الشيب رائد الموت ونذير الفناء ورسول المنية وقاطع الأمنية وأول
36

مراحل الآخرة ورائد الانتقال ومركوب للحمام وهو للجاهل نذير، وللعاقل بشير وهو
سمة الوقار، وشعار الأخيار نعم الشيب شعار للأخيار ولكنه عار على الفجار ونريهم
يتزينون بزي الشباب، وما بلغهم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير شبابكم من تزيا بزي كهولكم
وشر كهولكم من تزيا بزي شبابكم فعلى هذا الذي تزيا بزي الشبان فهو شر الناس لأنه
ينزل به الموت وهو يطلب اللهو واللعب والحال إن ينبغي أن يعد نفسه من الأموات
ويجيب الملك في ندائه في الخبر أن لله ملكا ينادي في كل يوم يا أبناء الستين عدوا أنفسكم
من الموتى ومعناه هو ما قال أمير المؤمنين ولقد نسب إليه:
إذا كانت الستون عمرك لم يكن * لدائك إلا أن تموت طبيب
وأن امرء قد عاش ستين حجة * إلى منهل من ورده لقريب
إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم * وخلفت في قرن وأنت غريب
يعني إذا بلغت الستين فلا تلتمس العلاج لدائك ولا الشفاء لمرضك وإنما دواء دائك
الموت وقد قرب منك ونزل بك نعم الشيب تحدث أمراضا للانسان وأسقاما لا يداويها
إلا الموت دخل شيخ من العرب على الحجاج: فسئله الحجاج كيف حالك في الاكل؟ قال:
إن أكلت ثقلت وأن تركت ضعفت. قال، وكيف نكاحك؟ قال: إذا بذلت عجزت وإذا
منعت شرهت. قال وكيف نومك؟ قال: أنام في المجمع واسهر في المضجع قال:
وكيف مشيك؟ قال: تعقلني الشعرة وتعثرني البعرة فتراه في هذا الحال الذي سرى الشيب
في تمام أعضائه قد حصلت له الأخلاق الذميمة كما أخبر بذلك الإمام الصادق المصدق يشيب ابن
آدم وتشيب فيه خصلتان: الحرص وطول الامل ولا سيما طائفة النسوان فترى المرأة
كلما زيد في عمرها زيدت في شهوتها فتراها قد شاب رأسها وهي في تحصيل الحلى والحلل
لتتزين بها وتطلب البعل لنفسها إذا لم سكن لها بعل كما قال شيخنا البهائي في الكشكول في
وجه تسمية برد العجوز أن عجوزا طلبت من أولادها أن يزوجوها، فشرطوا عليها أن
تبرز إلى الهواء سبع ليال ففعلت وماتت في السابعة، فالحاصل أن الشيب سعادة لبعض
ولبعض شقاوة اللهم اختم لنا بالسعادة ونجنا من سوء المنقلب، ومن الشقاوة أن ترى
الانسان قد شاب رأسه وأبيض شعره وهو لا يبالي في أن يعبد ربه أو يعصيه والحال
أن الله يستحي من عذابه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله تعالى، وعزتي وجلالي إني
لأستحي من عبدي، وأمتي يشيبان في الاسلام أن أعذبهما ثم بكى صلى الله عليه وآله وسلم فقيل مم بكاؤك؟
37

فقال: أبكي لمن استحى الله من عذابهم، ولا يستحون من عصيانه ويظهر من هذا الخبر
أن الشعر من الانسان إذا ابيضت في الاسلام لها قرب عظيم عند الله فنسأله بحرمة تلك
الشعرات التي نبتت في الاسلام وابيضت في الاسلام وخضبت بدم رأسه في الاسلام أن
يتوب علينا.
المجلس الخامس عشر
لو صيغ من فضة نفس على قدر * لعاد من فضله لما صفا الذهبا
ما للفتى حسب إلا إذ اكتملت * آدابه وحوى الآداب والحسبا
فأطلب فديتك علما واكتسب أدبا * تظفر يداك به واستجمل الطلبا
العبودية جوهرة كنهها الربوبية، ولا شك أن العبد إذا التزم بوظائف العبودية
لله عز وجل وأطاع الله حق الطاعة تحصل له مرتبة عظيمة، ومنزلة كريمة مما لا يصفه
الواصفون، ولا يحصي غايتها القائلون، وهو مقام الربوبية بمعنى إنه يفعل ما شاء وكيف
يشاء وحيثما شاء ولكن بإذن الله وإرادته التي يعلم العبد بها، والى هذا أشار بقوله
عبدي أطعني حتى أجعلك مثلي أو مثلي، وهذا مما لا يعد فيه إذا تأملنا وحققنا النظر
فيه وبرهان ذلك أن الحديدة المحمية تشبه بالنار لمجاورتها، ويفعل فعلها فلا تعجب من
نفس استشرقت واستنارت واستضاءت بنور الله فأطاعها الأكوان والأزمان والليل
والنهار، والشمس والقمر، والأرض والسماء، والانسان والحيوان، والملائكة والجان
يتصرف فيها بما يشاء ويأمر فيها بما يشاء وهي تعطيه في أوامره وهذا المختصر كاف في
إثبات ما نحن فيه من المدعى وشواهده كثيرة، وأما العبودية فهي مرتبة عظيمة لا يكاد
يتناولها كل أحد وحقيقة العبودية هي ما قال الصادق (ع) لعنوان البصري حين دخل
عليه فقال (ع): له ليس العلم بكثرة التعلم إنما هو نور يضعه الله في قلب من يريد أن
يهديه فإن أردت العلم فأطلب أولا في نفسك حقيقة العبودية وأطلب العلم باستعماله
واستفهم الله بفهمك قال عنوان البصري: قلت يا شريف فقال (ع): قل يا أبا عبد الله
قلت يا أبا عبد الله ما حقيقة العبودية؟ فقال: ثلاثة أشياء أن لا يرى العبد من نفسه
فيما خوله الله ملكا لان العبد لا يكون له ملكا بل يرى المال مال الله يضعه حيث أمر الله
38

ولا يدبر العبد لنفسه تدبيرا، وجعله اشتغاله فيما أمره الله تعالى، ونهى عنه ولا يدع
أيامه باطلا، وهذا أول درجة المتقين قلت يا أبا عبد الله: أوصني قال: أوصيك بتسعة
أشياء فإنها وصيتي لن ير الطريق إلى الله تعالى اسئل أن يوفقك لاستعماله ثلاثة منها
رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فأحفظها وإياك والتهاون بها
قال عنوان: ففرغت قلبي فقال (ع): أما اللواتي في الرياضة فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه
فإنه يورث الحمق والبله، ولا تأكل إلا عند الجوع فإذا أكلت فكل حلالا وسم الله تعالى
واذكر حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ملا ابن آدم وعاء شرا من بطنه وإن كان ولا بد فشلت لطعامه
وثلث لشرابه، وثلث لنفسه وأما اللواتي في الحلم فمن قال لك إن قت واحدة سمعت عشرا
فقلت: إن قلت عشرا لم تسمع مني واحدة، ومن شتمك فقل إن كنت صادقا فيما تقول
فأسئل الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذبا فأسأله أن يغفرها لك، ومن وعدك بالخيانة
فعده بالنصيحة والدعاء، وأما اللواتي في العلم فأسئل العلماء ما جهلت، وإياك أن تسألهم
تعنتا وتجربة بين المجمع لا تسأل تعنتا التعنت طلب العنت وهو الامر الشاق أي لا تسئل
لغير الوجه الذي ينبغي طلب العلم له كالمغالبة والمجادلة إياك أن تعمل بذلك شيئا وخذ
بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا وأهرب من الفتيا فرارك من الأسد والذئب
ولا تجعل رقبتك جسرا للناس قم يا عبد الله عني فقد نصحتك، ولا تفسد علي وردي
فإني رجل ضنين بنفسي والحمد لله رب العالمين يعني بخيل بنفسي بأن أدع أوقاتي
باطلا أو ظنين بالظن بمعني أتهم نفسي في العبودية له عز وجل. أقول والله لو لم تكن
له من العبودية إلا وقوفه ساعة واحدة بين يدي المنصور واللعين يخاطبه ويعاتبه لكفاه
في الطاعة والعبودية لله الخ.
المجلس السادس عشر
ومن أبناء أمير المؤمنين محمد بن الحنفية ويظهر من الاخبار إنه أكبر أولاد
أمير المؤمنين بعد الحسنين وأختيهما وأمه خولة بنت جعفر من حي بني حنيفة ورئيس
تلك الحي مالك بن نويرة وهم قتلوا وطردوا وشردوا مع أنهم على دين الاسلام وذلك
39

كما ورد في مناقب شاذان بن جبرئيل أن أبا بكر انفذ إليهم بقبض الزكاة فأنكروا خلافته
وقالوا: لا نسلم الزكاة إلا للنبي أو وصيه وتبين قد قبض وليس له وصي سوى علي بن أبي
طالب (ع) فان أمرنا أو بعث إلينا من يتسلمه منا فها نحن جميعا حاضرون وإلا فلا نعرف
أحدا سواه فسمع الرجل وبلغه الخبر وانفذ إليهم خالد بن الوليد وأمره بقتالهم وسبي نسائهم
ونهب أموالهم ففعل خالد بل واشتد عليهم وأوقع الوقيعة وقتل منهم خلقا كثيرا ونهب
أموالهم وحمل معه إلى المدينة أسرا من الرجال والنساء منهم خولة بنت جعفر الحنفية
لما دخلت في المسجد نادت أيها الناس ما فعل رسول الله قالوا: قبض قالت: اله بنية تقصد؟
قالوا: نعم وهذه حجرته التي فيها قبره فدخلت الحجرة ونادت السلام عليك يا محمد بن
عبد الله اشهد انك تسمع الكلام، وتقدر على الجواب وتعلم أنا سبينا بعد أن نشهد أن
لا إله إلا الله وانك رسول الله، وجلست ناحية فقام طلحة بن عبد الله والزبير بن العوام
وطرحا ثوبيهما عليها: فقالت معاشر ما لكم تصونون حلائلكم وتهتكون حلائل
الغير فقالا لها لمخالفتكم الله ورسوله حتى قلتم إنا نصلي، ولا نزكي أو نزكي ولا نصلي فقالت
لهما: والله ما قالها أحد من بني حنيفة وإنا لنضرب صبياننا على الصلاة من التسع وعلى
الصيام من السبع ونخرج الزكاة حيث بقي من الحول عشرة أيام ويوصى مريضنا بها لوصيه
والله يا قوم ما نكثنا، ولا غيرنا ولا بدلنا حتى تقتلوا رجالنا وتسبوا نسائنا ثم التفتت
إلى أبي بكر، وقالت يا فلان: إن كنت وليت بحق وعلي كان راضيا بخلافتك فلم لا ترسله
إلينا بقبض الزكاة وأمرنا لا نسلمها لك والله ما رضي بذلك ولا يرضى أبدا قتلت الرجال
ونهبت الأموال وقطعت الأرحام فلا تجتمع معك في الدنيا، ولا في الآخرة افعل ما أنت
فاعله، فضج الناس وقال الرجلان اللذان طرحا ثوبهما عليها لتغالين في ثمنك فقالت أقسمت
بالله ربي وبمحمد نبي أن لا يملكني إلا من يخبرني بما رأت أمي في منامها وهي حاملة بي
وما قالت لي بعد الولادة وما العلامة التي بيني وبينها؟ وإلا أن ملكني أحد منكم بقرت
بطني بيدي فتذهب نفسي وماله، ويكون بذلك مطالبا في القيامة فقالوا يا بنية أبدي
رؤياك التي رأت أمك حتى نعبرها لك فند ذلك دخل أمير المؤمنين في المسجد وسئل
ما هذه الرجفة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقالوا امرأة من بني حنيفة حرمت نفسها
على المسلمين، وقالت ثمني من يخبرني بالرؤيا التي رأت أمي في منامها فقال أمير المؤمنين (ع)
أخبروها تملكوها فقالوا بأجمعهم نحن لا نعلم الغيب فقال أبو بكر أخبرها يا أبا الحسن
40

فقال أخبرها واملكها؟ قالوا نعم فتقدم إليها وقال يا حنفية أخبرك وأملكك فقالت من
أنت الجري دون أصحابك؟ فقال انا علي بن أبي طالب فلما سمعت بذلك قامت وقالت
يا علي أما نصبك رسول الله صبيحة يوم الجمعة بغدير خم علما للناس؟ قال نعم قالت:
فوالله نحن من اجلك سبينا، ومن نحوك أوتينا ومن سبيلك أصبنا لان رجالنا قالوا
لا نسلم الصدقات من أموالنا ولا طاعة لأنفسنا إلى إلى الذي نصبه محمد فينا وفيكم علما
فقال أمير المؤمنين أن أجركم لغير ضايع فقال اخبرني يا أبا الحسن بقصتي قال ألم تحملك
حمل مشوم في زمان غير مبارك فلما كان بعد سبع شهور رأت أمك في منامها كأنها وقد
وضعتك وهي تقول لا تتشأمي بي فإني ولد مبارك انشو نشوا حسنا يملكني سيد يولد في وليا مباركا يكون
لبني حنيفة عزا فقالت صدقت يا أمير المؤمنين فقل وما العلامة التي بيني وبين أمي
فقال (ع) لما وضعتك أمك كتبت كلامك والرؤيا في لوح من النحاس وأودعته يمنة الباب
فلما كان بعد ثمان سنين عرضته عليك وقالت يا بنية إذا نزلت بساحتكم مصيبة من سافك
دمائكم وناهب أموالكم وسابي ذراريكم وسبيت فيمن يسبى فخذي هذا اللوح معك واجهدي
أن لا يملكك من الجماعة إلا من يخبرك بالرؤيا واللوح فقالت صدقت يا أمير المؤمنين
قل وأين اللوح الان فقال (ع) في عنقك فرفعت اللوح إليه فملكها ثم قالت يا معاشر الناس
نفسي كما أمرني أهلي فقال (ع): قد قبلتك زوجة أقول مع أن جميع الناس من الرجال
والنساء عبيد لعلي (ع) ولأولاده لم يرض علي (ع) بأن يقال لها عبدة لأنها كريمة قومها
أقول: يعز على أمير المؤمنين لو نظرت عيناه إلى فاطمة بنت الحسين (ع) أو بنت علي
عليه السلام حين قام الشامي وأشار إليها وقال يا أمير هب لي هذه الجارية:
41

المجلس السابع عشر
وكان للعباس بن عبد المطلب تسعة من الذكور وأكبرهم عبد الله وهو المعروف
بابن عباس، وكان رجلا عالما فقيها بليغا ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وقد كان النبي
صلى الله عليه وآله دعا له حين وضع له الماء للطهر فقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل
ومات في سنة مات فيه عبد الملك بن مروان في سنة ثمان وستين وله من العمر إحدى
وسبعون سنة، وكان قد ذهب بصره لبكائه على علي والحسن والحسين (ع) وكانت له
وفرة طويلة وهو الذي يقول: أن يأخذ الله مني عيني نورهما ففي لساني وقلبي منهما نور.
قلبي زكى وعقلي غير مدخل * وفي فمي صارم كالسيف مأثور
وبعد عبد الله عبيد الله بن العباس، في مروج الذهب ومات عبيد الله في أيام الوليد
ابن عبد الملك في سنة سبع وثمانين، وكان عبيد الله رجلا جوادا كريما.
روي أن سائلا قد وقف عليه وهو لا يعرفه، وقال: تصدق علي بما رزقك الله فأني نبئت أن عبيد الله بن العباس أعطى سائلا ألف درهم، واعتذر إليه. فقال: وأين
انا من عبيد الله؟ قال له أين أنت من عبيد الله في الحسب أو في كثرة المال؟ قال فيهما
جميعا ان الحسب في الرجل مروته، وحسن فعله فإذا فعلت ذلك كنت حسيبا فأعطاه
الفي درهم واعتذر إليه فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله فأنت خير منه، وان كنت
هو فأنت اليوم خير من أمسك فأعطاه أيضا فقال: لان كنت عبيد الله انك لاسمح
أهل دهرك، وما الا من رهط فيهم محمد رسول الله (ص) فأسئلك بالله أنت هو؟
قال: نعم قال والله ما أخطأت إلا باعتراض الشك بين جوانحي وإلا فهذه الصورة
الجميلة والهيئة المنيرة لا تكون إلا في نبي أو عترته، وذكر ان معاوية وصله بخمسمائة ألف درهم
ثم وجه له من يعترف له خبره فانصرف إليه فأعلمه إنه قسمها في إخوانه وعشيرته
وأصدقائه بالسوية وأبقى لنفسه مثل نصيب أحدهم، فقال معاوية إن ذلك ليسوءني
ويسرني واما الذي يسرني فإن عبد مناف والده واما الذي يسوئني فقرابته من أبي تراب
وكان عبيد الله ابن العباس واليا على مكة في زمان أمير المؤمنين (ع) فلما استوثق الامر لمعاوية ابن
42

أبي سفيان انفذ بسر بن أرطأة إلى الحجاز في طلب شيعة أمير المؤمنين (ع) فدخل بمكة
وطلب عبيد الله بن العباس أولا، فلم يقدر عليه لأنه اخفى نفسه فأخبر ان له ولدين صبيين
فبحث عنهما فوجدهما فأخذهما وأخرجهما من الموضع الذي كانا فيه، ولهما ذؤابتان فأمر
بذبحهما، فذبحا ومضى من ذلك سنين حتى دخل يوما عبيد الله بن العباس على معاوية
وعنده بسر بن أرطأة قاتل الصبيين قال عبيد الله أنت قاتل الصبيين؟ قال: نعم قال:
لوددت ان الأرض أنبتتني عندك يومئذ قال بسر أنبتتك الساعة فقال عبيد الله: الا سيف؟
قال بسر هاك سيفي فلما هوى عبيد الله ليأخذ السيف منه قبض معاوية، ومن حضر على
يد عبيد الله ثم التفت معاوية إلى بسر وقال: أخزاك الله قد كبرت وذهب عقلك تدفع
إلى رجل من بني هاشم سيفك وأنت قتلت ابنيه؟ أنت غافل عن قلوب بني هاشم والله
لو اخذ لابتدأ بك وثني بي قال عبيد الله: بل ابتدأت بك وثنيت به، وكان أمير المؤمنين
عليه السلام بالكوفة لما سمع قصة قتل الصبيين بكى بكاء شديدا ودعا على بسر، وقال:
اللهم أسلبه دينه وعقله فأستجيب دعاء أمير المؤمنين (ع) لان اللعين قد خرف وذهب عقله
حتى كان يتمرغ في خرئه ويلعب به، وربما كان يتناول منه ثم يقبل على من يراه ويقول:
انظروا كيف يطعماني أبناء عبيد الله، وربما شدت يداه إلى ورائه منعا من ذلك فيهوى
بنفخة ويتناول خرئه بفيه فيبادرون إلى منعه فيقول: أنتم تمنعونني وأبناء عبيد الله
عبد الرحمن وقثم يطعماني فلم يزل هكذا حتى هلك عليه لعنة الله، والناس أجمعين انظروا
إلى شقاوته وقساوته فرضنا ان أباهما كان مسيئا فما ذنب هذين الصغيرين حتى ذبحهما على
صغر سنهما، ساعد الله قلب أمهما، فلما بلغا ذلك كادت نفها تخرج وهي تلطم على خدها
وأنشأت هذه الأبيات:
ها من أحس بابني اللذين هما * كالدرتين تشظا عنهما الصدف
ها من أحس بابني اللذين هما * سمعي وعيني فقلبي اليوم يختطف
أضحت على ودجى طفلي مرهفة * مشحوذة وكذاك الظلم والسرف
من دل والهة عبراء مفجعة * على صبيين فانا إذ مضى السلف
هذه مصيبة ذكرتني مصيبة يتيمي مسلم بن عقيل.
43

المجلس الثامن عشر
لما فرغ أمير المؤمنين (ع) من غزوة الجمل ونزل بالكوفة في السادس من رجب
خطب فقال: الحمد لله الذي نصر وليه وخذل عدوه واعز الصادق المحق وأذل الناكث
المبطل ثم إنه (ع) وجه جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يدعوه إلى طاعته فلما وصل
جرير وبلغه الخبر توقف معاوية في ذلك وسكت ثم إنه بعد ذلك أمر باحضار أهل الشام
في المسجد وخطب فيهم خطبة، وقال أيها الناس قد علمتم إني خليفة عثمان وخليفة عمر
وقد قتل عثمان مظلوما وانا وليه وابن عمه وأولى الناس بطلب دمه فماذا رأيكم فقالوا نحن
طالبون بدمه فدعا معاوية عمر بن العاص على أن يطمعه بمصر ليعاونه على الامر وكان
عمرو يأمر بالحط والرحل مرارا، وكان له غلام اسمه وردان فأحضره فاستشاره في ذلك
فقال له وردان: تفكر أن الآخرة مع علي والدينا مع معاوية فأنشأ عمرو:
لا قاتل الله وردانا وفطنته * أبدى لعمري ما في الصدر وردان
فلما عزم عمرو على مصاحبة معاوية أنشأ ابنه:
ألا يا عمر وما أحرزت نصرا * ولا أنت الغداة إلى رشاد
أبعت الدين بالدنيا خسارا * وأنت بذلك من شر العباد؟
فكتب إلى أهل المدينة كتابا يقول فيه عثمان قتل مظلوما وعلي آوى قتلته فإن
دفعتم إلينا كففنا عنه وجعلنا هذا الامر شورى بين المسلمين، كما جعله عمر عند وفاته
فانهضوا رحمكم الله معنا إلى حرب علي. فأجابه أهل المدينة بهذه الأبيات:
معاوي أن الحق أبلج واضح * وليس كما ربصت أنت ولا عمرو
نصبت لنا اليوم ابن عفان خدعة * كما نصب الشيخان إذ زخرف الامر
رميتم عليا بالذي لم يضره * وليس له في ذاك نهي ولا أمر
وما ذنبه أن نال عثمان معشر * أتوه من الاحياء تجمعهم مصر؟
وكان عليا لازما قعر بيته * وهمته التسبيح والحمد والذكر
فما أنتما لا در در أبيكما * وذكر كما شورى وقد وضح الامر
44

فما أنتما والنصر منا وإنما * طليق أسارى ما تبوح بها الخمر
وكتب معاوية كتابا إلى أمير المؤمنين (ع) يذكر فيه من الأراجيف ما لا ينبغي
ذكره، فلما وصل الكتاب إلى أمير المؤمنين قرأه وقرئ على الناس فقالوا: نحن كلنا
قتلنا عثمان لأنا كنا منكرين لأفعاله، وساخطين على أعماله. فأجابه أمير المؤمنين: أما
بعد فأني رأيتك قد أكثرت في قتلة عثمان فأدخل فيما دخل فيه المسلمون من بيعتي، ثم
حاكم القوم إلى حملك وإياهم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وأما تلك التي تريدها فإنها
خدعة الصبي عن اللبن، ولعمري لان نظرت بعقلك دون هواك لعلمت أني من أبرء الناس
من دم عثمان، ولتعلمن أني كنت في عزلة إلا أن تتجنن فتجن ما بدا لك، وقد علمت أنك
من أبناء الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة. فلما وصل الكتاب إلى معاوية وقرأه تغير لونه
وكان قيس بن سعد حاضرا وأنشأ يقول:
ولست بناج من علي وصحبه * وان تك في جابلق لم تك ناجيا
فكتب إلى أمير المؤمنين (ع): ليت القيامة قد قامت فترى المحق من المبطل
فأجابه (ع): يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها، وجاء رجل من الشام إلى أمير المؤمنين
فسأله ما الخبر؟ فقال الرجل: ان أهل الشام يلعنون قاتل عثمان ويضعون قميص عثمان بينهم
وينظرون إليه ويبكون. فقال (ع): ما قميص عثمان بقميص يوسف، ولا بكاؤهم كبكاء
أولاد يعقوب.
وا عجباه ينظرون إلى قميص عثمان فيحزنون ويبكون، وينظرون إلى رأس الحسين
عليه السلام والأسارى من أهل بيت رسول الله وهم يظهرون الفرح والسرور والانبساط
ويضحكون:
رأس ابن بنت محمد ووصيه * للناظرين على قناة يرفع
والمسلمون بمسمع وبمنظر * لا منكر منهم ولا متفجع
رقت قلوبهم على قميص عثمان وما رقت قلوبهم على بنات رسول الله (ص) ولنعم
ما صنع بهم أمير تيمور وحقيق بالحمد والثناء ما فعله بهم ففي التواريخ إنه لما استقر
الملك للسلطان أمير تيمور، وشرق في البلاد وغرب، وخرب من ديار أهل العناد
ما خرب، ذكر ما صنعه أهل الشام بعترة نبيهم، ودخول عيال الحسين ونسائه على يزيد
وما فعل أهل الشام من اللهو والطرب، وشربهم الخمور، فجعل قلبه يتوقد نارا منهم
45

وغيظا وحنقا عليهم ثم ركب حتى دخل الشام فذلت له صعابهم، وخضعت لديه رقابهم
وانقاد له كبيرهم وصغيرهم، فلما دخلوا عليه وعاينوا منه سوء الخلق، وظهر لهم منه
امارة العداوة والبغضاء، أرادوا أن يتقربوا إليه بما يزيل ذلك عنهم فتقدم رئيسهم فقال:
يا أمير نريد أن نزوجك ابنة فلان، وهي ابنة حاوية للحسن والجمال، والعقل والكمال
وهي لا تليق إلا بك. فقبلها منهم بعدما بالغوا في حسنها وجمالها، ثم أمرهم ان يأخذوها
إلى الحمام، وأمرهم أن يزينوا الأسواق ويأخذوا باللهو واللعب والطرب، وأن يحضروا
أسباب العرس، فأخذوها إلى الحمام وأسباب العرس خلفها، فدعا الملك بخادمه وقال له:
خذ ناقة مهزولة غير موطئة ولا مرحولة، وامض بها إلى باب الحمام فإذا خرجت البنت
فأركبها على الناقة ودر بها في الشوارع والمشارع، ولا تدع أحدا يستر وجهها من النظار
فامتثل الخادم أمره ومضى بالناقة إلى الحمام ووقف بالباب في جمع من رؤسائهم وهم لا يشعرون
بذلك فلما نظروا إلى الخادم والناقة في يده قالوا: ما تريد أن تصنع بهذه الناقة؟ فأخبرهم بما
أمره الملك به وأنه فاعل ذلك، فلما سمعوا كلامه شق عليهم ذلك واستعظموا ذلك الفعل
الشنيع، فجعلوا ينظرون بعضهم إلى بعض، ثم رجعوا إلى الملك فقالوا: أصلح الله الأمير
ما الذي يريد أن يصنع خادمك؟ وما ندري أنه يكذب عليه أم يصدق؟ ولا ينبغي
لمثلك ان يكذب عليك. فقال: ويلكم وما الذي يزعمه خادمي؟ قالوا: كذا وكذا
قال: أمرته بذلك قالوا: كيف تأمره بمثل ذلك وهذا أمر لا يرضي الله ورسوله ولا كان
في الجاهلية ولا أحد فاعل مثل هذا الفعل؟ ثم اعولوا بالضجيج بين يديه. فقال: ويلكم
يا أهل الشام إن هذا العمل غير قبيح لديكم، وإنما هو عادتكم وسجيتكم، وقد فعلتم
ما فعلتم قبل هذا بعترة نبيكم. فقالوا: يا أمير هذه البنت من أشرف أهل الشام حسبا
ونسبا، وأعلاهم مرتبة وأعفهم ذيلا، وإنما هي ابنة ملكنا. فلما انتهى كلامهم إلى هنا
شق أمير تيمور جيبه وبكى حتى غشي عليه، فلما أفاق من الغشوة قال: يا ويلكم يا أتباع
يزيد وأولاد اتباعه، أعلموني واخبروني أي ملك أكرم من رسول الله؟ وأية بنت
أعف من بنات أمير المؤمنين؟ وهي في شوارعكم وأسواقكم، وأنتم ونساؤكم خرجتم
تتفرجون عليهن وأنتم تعلمون أنهن بنات رسول الله نبيكم، ويلكم أخبروني أما كان
الحسين حجة الله وابن حجته وقد رأيتم عياله سبايا على النياق من بلد إلى بلد؟:
فمن بلدة تهدى إلى شر بلدة * ومن ظالم تهدى إلى شر ظالم
46

المجلس التاسع عشر
في مسكن الفؤاد للشهيد قدس سره عن أبي قدامة الشامي قال: كنت أميرا على
الجيش في بعض الغزوات فدخلت بعض البلدان فدعوت الناس ورغبتهم في الجهاد وذكرت
فضل الشهادة وما لأهلها، ثم تفرق الناس وركبت فرسي ومضيت إلى منزلي، وإذا أنا
بامرأة من أحسن الناس تنادي: يا أبا قدامة. فمضيت ولم أجب. فقالت: ما هكذا
كان الصالحون: فوقفت، فجاءت ودفعت لي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية
فنظرت في الرقعة فإذا مكتوب فيها: يا أبا قدامة أنت دعوتنا إلى الجهاد، ورغبتنا في
الثواب، ولا قدرة لي على ذلك، فقطعت أحسن ما في وهما ضفيرتاي، وأنفذتهما إليك
لتجعلها قيد فرسك، لعل الله تعالى يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي، فلما كان
صبيحة يوم القتال فإذا غلام بين يدي الصفوف يقاتل حاسرا، فتقدمت إليه فقلت: يا فتى
غلام غر راجل ولا آمن أن تجول عليك الخيل فتطأك بأرجلها، فارجع عن موضعك هذا
فقال: يا أبا قدامة أتأمرني بالرجوع وقد قال الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا إذا
لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار) وقرأ الآية إلى آخرها، فحملته على هجين
كان معي فقال: يا أبا قدامة أقرضني ثلاثة أسهم. فقلت: هذا وقت قرض؟ فما زال
يلح علي حتى قلت بشرط من الله عليك بالشهادة أكون معك وفي شفاعتك. قال: نعم
فأعطيته ثلاثة أسهم فوضع سهما في قوسه ورمى به وقتل روميا، ثم رمى بالآخر وقتل روميا، ورمى بالثالثة فقتل به روميا. ثم قال: السلام عليك يا أبا قدامة سلام مودع
فجاءه سهم فوقع بين عينيه، فوضع رأسه على قربوس سرجه فتقدمت إليه وقلت: لا تنس
ما عاهدتني عليه. فقال: نعم ولكن لي إليك حاجة إذا دخلت المدينة فات والدتي وسلم
خرجي وأخبرها بشهادتي فهي التي أعطتك شعرها لتقيد به فرسك، وسلم لي عليها
فهي في العام الأول أصيبت بوالدي، وفي هذا العام بي. ثم مات الغلام فحفرت له حفيرة
ودفنته فلما همت بالانصراف عن قبره قذفته الأرض فالقته على ظهرها، فقال أصحابه:
غلام غر ولعله خرج بغير إذن أمه. فقلت: إن الأرض لتقبل من هو شر من هذا
47

فقمت وصليت ركعتين ودعوت الله فسمعت صوتا يقول: يا أبا قدامة أترك ولي الله
فما برحت حتى نزلت عليه الطيور فأكلته وتركت عظامه فدفنها. فلما أتيت المدينة ذهبت
إلى دار والدته، فلما قرعت الباب خرجت أخته إلى فلما رأتني عادت أمها وقالت:
يا أماه هذا أبو قدامة وليس معه أخي. وقد أصبنا في العام الأول بأبي، وفي هذا العام
بأخي. فخرجت أمه وقالت: أمعزيا أم مهنيا؟ فقلت: ما معنى هذا؟ فقالت: إن كان
مات ولدي فعزني، وإن كان قتل فهنني!! قلت: لا بل مات شهيدا. فقالت له. علامة
فهل رأيتها؟ قلت: نعم لم تقبله الأرض ونزلت الطيور فأكلته ومزقت لحمه وتركت
عظامه فدفنتها. فقالت. الحمد لله. فسلمت إليها الخرج ففتحته وأخرجت منه مسحا وغلا
من حديد، وقالت: إنه كان إذا جنه الليل لبس هذا المسح، وغل نفسه بهذا الغل، وناجى
مولاه ونادى في مناجاته. إلهي احشرني في حواصل الطيور، وكان هذا الشاب قد بلغه
قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حمزة لما وقف عليه يوم أحد قال صلى الله عليه وآله وسلم لولا إني أحذر نساء
نساء عبد المطلب لتركت عمي حمزة تأكله السباع والطيور، ويحشر يوم القيامة من بطون
السباع والطيور. فاستجاب الله دعاء الشاب.
وما أشبه هذا الشاب وحال أمه بالشاب الذي خرج يوم عاشوراء لنصرة الحسين
وأمه من خلفه، في الناسخ وهو ابن مسلم بن عوسجة.
المجلس العشرون
في التواريخ: إن كنية بهلول أبو ذهب، واسمه بهلول بن عمر، كان من أهل الكوفة
والمشهور أنه مجنون، ويظهر من الاخبار أنه تجنن وإلا فهو فاضل عالم عاقل إمامي المذهب
والسبب في تجننه أن هارون الرشيد أراد منه أن يتولى قضاوة بغداد فلما تجنن قال
الرشيد: ما جن ولكن فر بدينه، وأما لما روى من أن الخليفة لما سعى الناس إليه بأن
الصادق (ع) يريد الخروج على الخليفة استفتى العلماء في إباحة قتله (ع) فكل منهم أفتى له
إلا بهلول فإنه أتى إلى الامام وحكى له القصة فأمره باظهار الجنون، وكان يأوى إلى المقابر
وله كلمات حسنة وأشعار رائقة منها.
48

يا من تمتع بالدنيا وزينتها * ولا تنام عن اللذات عيناه
شغلت نفسك فيما ليس تدركه * تقول لله ماذا حين تلقاه
قال الرشيد لبهلول: أتحب أن تكون خليفة؟ قال: لا وذلك اني رأيت موت
ثلاث خلفاء ولم ير الخليفة موت بهلولين وفي الأثر أن رجلا من علماء المخالفين قال يوما
لبهلول: إنه ورد في الحديث الصحيح أن يوم القيامة توضع أعمال الأول والثاني في كفة
الميزان، وأعمال سائر الخلائق في كفة أخرى فترجح أعمال الشيخين على أعمال الخلائق
فقال بهلول: إن كان هذا الحديث صحيحا فالعيب في الميزان.
وفي بعض الكتب أن بهلول أتى إلى المسجد يوما وأبو حنيفة يقرر للناس علومه
فقال في جملة كلامه: أن جعفر بن محمد تكلم في مسائل ما يعجبني كلامه فيها الأولى يقول:
إن الله سبحانه موجود لكنه لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهل يكون موجود
لا يرى؟ ما هذه إلا تناقض.. الثانية إنه قال: إن الشيطان يعذب في النار مع أن الشيطان
خلق من النار فكيف يعذب الشئ بما خلق منه؟ الثالثة إنه يقول: ان أفعال العباد
مستندة إليهم مع أن الآيات دالة على أنه تعالى فاعل كل شئ. فلما سمعه بهلول أخذ مداة
وضرب بها رأسه وشجه، وصار الدم يسيل على وجهه ولحيته، فبادر إلى الخليفة يشكو
من بهلول، فلما أحضر بهلول وسئل عن السبب قال للخليفة: إن هذا الرجل غلط جعفر
ابن محمد (ع) في ثلاث مسائل: الأولى أن أبا حنيفة يزعم أن الافعال كلها لا فاعل لها إلا
الله فهذه الشجة من الله تعالى وما تقصيري؟ الثانية انه يقول: كل شئ موجود لا بد أن
يرى فهذا الوجع في رأسه موجود مع أنه لا يرى أحد. الثالثة انه مخلوق من التراب وهذه
المداة من التراب وهو يقول: إن الجنس لا يتعذب بجنسه فكيف يتألم من هذه المداة؟
فأعجب الخليفة كلامه وتخلص من شجة أبي حنيفة.
ولما انصرف الرشيد من الحج لقيه بهلول في الطريق فناداه ثلاثا بأعلى صوته:
يا هارون، يا هارون. فقال: من هذا؟ قيل. بهلول المجنون. فقال الرشيد. من أنا؟
قال أنت الذي لو ظلم أحد في المشرق وأنت في المغرب سألك الله عن ذلك يوم القيامة
فبكى الرشيد. وقال. هل لك من حاجة؟ قال. نعم أن تغفر لي ذنوبي وتدخلني الجنة.
فقال الرشيد. ليس هذا بيدي ولكن أقضي دينك. قال. الدين لا يقضى بالدين إذ
أموال الناس إليهم. قال. نأمر لك برزق يأتي إليك إلى أن تموت. قال. نحن عبدان لله
49

أيذكرك وينساني؟.
ودخل بهلول يوما على الرشيد وهو يدعو ويقول في دعائه: اللهم أن عبدك لا يخلو
من حالين إما منعم عليه بنعمة يجب الشكر عليها، أو مبتلى بمصيبة يجب الصبر عليها. فقال
بهلول: لو أن انسانا... وأولجه في استك، أهذه نعمة يجب الشكر عليها أم مصيبة
يجب الصبر لديها؟ فتحير هارون، ولم يرد جوابا.
قيل: أن بهلول أتى يوما إلى قصر هارون الرشيد فرأى المسند والمتكأ الذي هو مكان
هارون خاليا فجلس في مكانه لحظة، فرآه الخدم والحجاب فضربوه وسحبوه من مكان الخليفة
فلما خرج هارون من داخل قصره رأى بهلول جالسا يبكي فسأل الخدم فقالوا. جلس في
مكانك فضربناه وسحبناه. فزجرهم ونهرهم وقال له. لا تبك. فقال يا هارون ما أبكي على
حالي ولكن أبكي على حالك، أنا جلست في مكانك هذا اللحظة الواحدة فضربوني هذا
الضرب الشديد وأنت جالس طول عمرك فكيف يكون حالك غدا؟ يعني هذا
مكان ينبغي أن يجلس فيه من يعدل في الرعية وينصف في القضية ويقسم بالسوية، وأنت
لست بأهل.
نعم والله كان اللعين فاسقا فاجرا، ظالما سفاكا، فاتكا ولا سيما بالنسبة إلى
العلويين والسادات، ولقد قتل منهم ستين علويا في ليلة واحدة، وإذا ظفر بأحدهم
جعله في جوف أسطوانة ويبني عليه، وقد صنع بإمامنا موسى بن جعفر ما صنع حتى قتله
بالسم مظلوما مسموما شهيدا غريبا في الحبس الخ.
المجلس الحادي والعشرون
تنبأ رجل في زمن المتوكل فلما أحضر بين يديه قال. أنت نبي؟ قال. نعم. قال.
فما الدليل على صحة نبوتك؟ قال: القرآن العزيز يشهد نبوتي في قوله تعالى: إذا جاء نصر
الله والفتح. وانا اسمي نصر الله قال: فما معجزتك قال ائتوني بامرأة عاقرا انكحها تحبل
بولد يتكلم في الساعة ويؤمن بي. فقال المتوكل لوزيره الحسن بن عيسى: أعطه زوجتك
حتى نبصر كرامته. فقال الوزير: أما أنا فاشهد أنه نبي الله وإنما يعطي زوجته من لا يؤمن
50

به. فضحك المتوكل وأطلقه.
وأتي المأمون برجل ادعى النبوة فقال له ألك علامة؟ قال علامتي اني أعلم ما في نفسك
اني كاذب قال: صدقت. ثم أمر به إلى السجن فأقام فيه أياما ثم أخرجه فقال: هل أوحي
إليك بشئ؟ قال: لا قال: ولم؟ قال: لان الملائكة لا تدخل الحبوس. فضحك منه
وخلي سبيله.
وأتي بامرأة تنبأت في أيام المتوكل فقال لها: أنت نبية؟ قالت 6 نعم قال أتؤمنين
بمحمد؟ قالت: نعم قال فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لا نبي بعدي. قالت: فهل قال لا نبية بعدي.
(وفي زهر الربيع) تنبأ رجل في زمن المعتصم فلما أحضر قال إلى من بعثت؟ قال:
إليك. قال: أشهد انك لسفيه أحمق. قال: إنما يبعث إلى كل قوم مثلهم. فضحك المعتصم
وأمر له بشئ.
وتنبأ رجل في خلافة المأمون فقال له: ما أنت؟ قال نبي أنا، قال فما معجزتك؟
قال: سل ما شئت. وكان بين يديه فقال: هذا القفل فافتحه. فقال له: أصلحك
الله لم أقل لك إني حداد، قلت اني نبي فضحك المأمون واستتابه وأعطاه شيئا.
وادعى أيضا رجل في أيام المأمون إنه إبراهيم الخليل فقال له المأمون: إن معجزة
الخليل القاؤه في النار فنحن نلقيك في النار لنرى حالك. قال: فبرهان موسى هو انه ألقي
العصا فصارت ثعبانا. قال: هذه أصعب من الأولى، قال: فبرهان عيسى احياء الموتى
قال: مكانك قد وصلت، أنا أضرب رقبة القاضي يحيى بن أكثم وأحييه لكم الساعة
فقال يحيى. أما انا فأول من آمن وصدق. فضحك المأمون وأعطاه جائزة.
وأيضا كان في زمن المأمون رجل يدعي النبوة فقال. المأمون ليحيى بن أكثم. قم
نمضي إلى هذا المتنبي لعلنا نسمع نادرة. فلما دخل المأمون عليه جلس عن يمينه وجلس
يحيى بن أكثم عن شماله فقال له المأمون: أخبرنا عما ينزل عليك اليوم فقال. إن جبرويل
أتاني الساعة من السماء وقال لي. يدخل عليك رجلان يجلس أحدهما عن يمينك والاخر
عن شمالك. فالذي يجلس عن شمالك ألوط حلق الله وكان قد عرفهما. فقال المأمون. أشهد
أن قولك الحق.
(في المستطرف) أن رجلا ادعى النبوة فاتى به إلى بعض الخلفاء فقال له
ما معجزتك؟ قال. ما شئت قال. أريد بطيخا. قال. أمهلني ثلاثة أيام. قال.
51

لا أمهلك. فقال: أعطاك الله الانصاف، الله سبحانه وتعالى مع كمال قدرته يخلق البطيخ
في ثلاثة أشهر، وأنا ما تمهلني ثلاثة أيام. فضحك واستتابه.
وأيضا ادعى رجل النبوة في أيام الرشيد فلما مثل بين يديه قال له: ما الدليل على
نبوتك؟ قال: سل ما شئت قال: أريد أن تجعل هذه المماليك المرد ملحى. قال: كيف
يحل لي أن أغير هذه الاشكال الحسنة؟ وإنما أجعل أصحاب اللحي مردا في ساعة واحدة
فضحك الرشيد وعفا عنه.
وادعى في زمن رسول الله النبوة اثنان، أحدهما رجل وهو مسيلمة والآخرة امرأة
وهي سجاح، وورد في الاخبار: أن مسيلمة الكذاب أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم ثم ارتد
ورجع إلى اليمامة فأفسد بها، وادعى النبوة، وكتب إلى رسول الله (ص) من مسيلمة
رسول الله إلى محمد رسول الله (ص) أما بعد: فان الأرض لي ولك نصفان فلا
تعتد علينا، وكان أهل اليمامة يأتون مسيلمة بأولادهم ويقولون: إن محمدا يمسح يده
على رؤس صبياننا فكان كل من يمسح على رأسه يصير أقرع. واتاه أهل الابار يشكون
قلة مائها، وقالوا إن رسول المدينة يمج الماء من فيه في الابار ويدعو لها فيطفوا ماؤها
ففعل مسيلمة فيبست الابار. فقالوا: كيف إذا؟ قال: إن المعجزة خرق العادة فاما أن
يكون من هذا الطرف أو من ذلك الطرف. ومن مزخرفات مسيلمة: إن الذين يغسلون
ثيابهم ولا يجدون ما يلبسون أولئك هم المفلسون.
ولما انتشر مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلن مسيلمة بنبوته وتابعه أكثر أهل اليمامة فأرسل
إليه أبو بكر خالد بن الوليد في جيش كثير فحاصروه، وتفرد بقتله أبو دجانة وحشي
وكان وحشي يقول: قتلت خير خلق الله حمزة بن عبد المطلب، وقتلت شر خلق الله
مسيلمة. فكما أنه أفرح المؤمنين بقتل مسيلمة كذلك أحزن المؤمنين بقتل حمزة، ولا سيما
سيدنا رسول الله، حتى قيل. ما من يوم أشد على رسول الله من يوم قتل حمزة. ولما
وقف عليه يوم أحد اختنق بعبرته وبكى وقال. لك الحمد وأنت المستعان واليك المشتكى
ثم قال. لن أصاب بمثل حمزة أبدا، والله ما وقفت موقفا قط أغيظ علي من هذا المكان.
أقول: وقف بعد ذلك موقفا أغيظ على قلبه من ذلك الموقف فمتى ليلة الحادي عشر
من المحرم حين وقف على ولده الحسين فرآه وقد قطع الشمر رأسه، وقد قطع الجمال يديه
ورضت الخيل صدره.
52

أحسين هل وافاك جدلك زائرا * ورآك مقطوع الوتين معفرا؟
المجلس الثاني والعشرون
من جملة الألقاب المخصوصة بأمير المؤمنين (ع) (الساقي) لان منصب السقاية في
يوم القيامة مخصوصة به كما في زيارته. السلام على ميزان الأعمال ومقلب الأحوال وسيف
ذي الجلال، وساقي سلسبيل الزلال. وأيضا في زيارته الأخرى: الشديد البأس، العظيم
المراس، المكين الأساس، ساقي المؤمنين بالكاس، من حوض الرسول المكين الأمين
والاخبار في ذلك قد بلغت حد التواتر من رواة الشيعة والسنة، وورد في تفسير هذه
الآية الشريفة وسقاهم ربهم شرابا طهورا. يعني سيدهم علي بن أبي طالب، لان الرب
كثيرا يستعمل بمعنى السيد والمولى، والكوثر نهر أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنا
أعطيناك الكوثر) واختصه به وبعترته وشيعتهم ومحبيهم، وهو يجري من تحت العرش
وينصب فيه شعبتان من الجنة: إحداهما من تسنيم، والأخرى من معين، ماؤه أشد
بياضا من الثلج، وأحلى من العسل، وألين من الزبد وأزكى من العنبر، وأصفى من
الدمع، حصاه الدر والزبرجد والمرجان، ترابه المسك الأذفر، حشيشه الزعفران
قواعده تحت عرش الله، عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب، ونعم ما قال السيد
إسماعيل الجمري:
حوض له ما بين صنعاء إلى * أيلة والعرض له أوسع
ينصب فيه علم للهدى * والحوض من ماء له مترع
يفيض من رحمته كوثر * أبيض كالفضة أو أنصع
حصاه ياقوت ومرجانة * ولؤلؤ لم تجنه إصبع
بطحاؤه مسك وحافاته * يهتز منها مونق مربع
أخضر ما دون الورى ناظر * وفاقع أصفر أو أنصع
فيه أباريق وقد حانه * يذب عنها الرجل الأصلع
يذب عنها ابن أبي طالب * ذبا كجربي إبل شرع
53

إذا دنو منه لكي يشربوا * قيل لهم: تبا لكم فارجعوا
دونكم فالتمسوا منهلا * يرويكم أو مطعما يشبع
هذا لمن والى بني أحمد * ولم يكن غيرهم يتبع
فالفوز للشارب من حوضه * والويل والذل لمن يمنع
وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكوثر لعلي بن أبي طالب (ع)، فلما فرغ من توصيفه
ضرب يده على جنب علي (ع) وقال: يا أبا الحسن إن هذا النهر لي ولك ولمحبيك من
بعدي، ترد شيعتك على الحوض رواء مرويين، ويرد عليك أعداؤك ظمأ مقمحين
وتذود عنه من ليس من شيعتك، لم يشرب أحد منه فيظمأ، ولا يتوضأ أحد منه فيشعث
ولا يشربه إنسان أخفر ذمتي أي نقض عهدي، ولا من قتل أهل بيتي، وفي رواية
قال صلى الله عليه وآله وسلم. أنت الذائد عن حوضي يوم القيامة، وتذود عنه الرجال كما يذاد البعير الصادر
عن الماء، والحسين (ع) في احتجاجه على أهل الكوفة قال. بم تستعجلون دمي وأبي الذائد
عن الحوض؟ قال الحميري.
ألا أيها اللاحي علينا دع الخنا * فما أنت من تأنيبه بمصوب
أتلحى أمير الله بعد أمينه * وصاحب حوض شربه خير مشرب؟
وحافاته در ومسك ترابه * قد حاز ماء من لجين ومذهب
متى ما يرد مولاه يشرب وان يرد * عدو له يرجع بخزي ويضرب
قال أمير المؤمنين (ع). أنا مع رسول الله ومع عترتي على الحوض، فمن أرادنا
فليأخذ بقولنا، وليعمل عملنا، فان لكل أهل نجيبا ولنا نجيب، ولنا شفاعة، ولأهل
مودتنا شفاعة، فتنافسوا في لقائنا على الحوض، فوالذي فلق الحبة وبرئ النسمة
لأقعمن بيدي هاتين أعداءنا إذا وردته شيعتنا نذود عنه أعداءنا، ونسقي منه أحباءنا
وأولياءنا، ومن شرب منه شربة، لم يظمأ بعدها ابدا، وهل شرب منه أحد في الدنيا؟
نعم شبيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي الأكبر قال. يا أبه هذا جدي قد سقاني الخ.
أؤمل في حبه شربة * من الحوض تجمع أمنا وريا
إذا ما وردنا غدا حوضه * فأدنى السعيد وذاد الشقيا
متى يدن مولاه منه يقل: * رد الحوض أشرب هنيئا مريا
وان يدن منه عدو له * يذده على مكانا قصيا
54

وهل رأى الكوثر أحد بعينه في الدنيا؟ نعم في البحار عن عبد الله بن سنان قال:
سألت أبا عبد الله الصادق (ع) عن الكوثر فقال لي: تحب أن تراه؟ قلت. نعم جعلت
فداك. فأخذ بيدي وأخرجني إلى ظهر المدينة، ثم ضرب برجله فنظرت ليا نهر يجري
لا تدرك حافتيه إلا الموضع الذي نحن فيه قائم فكنت أنظر إلى لذلك النهر وفي جانبه ماء
أبيض من الثلج، ومن جانبه الاخر لبن أبيض من الثلج، وفي وسطه خمرا أحسن من
الياقوت، فما رأيت شيئا أحسن من تلك الخمر بين اللبن والماء، فقلت له: جعلت فداك
من أين يخرج هذا؟ فقال: هذه العيون التي ذكرها الله في كتابه أنهار في الجنة عين من
ماء وعين من لبن وعين من خمر تجري في هذا النهر، ورأيت حافيه عليها أشجار فيهن
حوريات معلقات برؤوسهن شجرات، ما رأيت شيئا أحسن منهن وبأيديهن أوان ما رأيت
آنية أحسن منها، فدنى (ع) من إحداهن، وأومى بيده إليها لتسقيه فنظرت إليها وقد
مالت لتغرف من النهر، فمال الشجر معها، فاغترفت وناولته وشرب، ثم أشار إليها
لتسقيني فمالت لتغرف فمالت الشجرة معها، ثم ناولته فناولني فشربت شرابا ما ألذ منه
وكانت رائحته رائحة المسك، فنظرت في الكأس فإذا فيه ثلاثة ألوان من الشراب، فقلت
له جعلت فداك ما رأيت اليوم قط، ولا كنت أرى فقال لي: هذا أقل ما أعده الله
لشيعتنا، إن المؤمن إذا توفي صارت روحه إلى هذا النهر، ورعت في رياضة، وشربت
من شرابه، وإن عدونا إذا توفي صارت روحه إلى وادي برهوت، فأخلدت في عذابه
وأطعمت من زقومه. وأسقيت من حميمه، فاستعيذوا بالله من ذلك الوادي.
هذا أقل ما أعد الله لأعداء آل محمد ومبغضيهم. لا سيما الذين ظلموهم وطردوهم
وقاتلوهم وأسروهم. وغصبوا حقوقهم. منهم معاوية بن أبي سفيان (لع) أتدري ما أعد
الله له من العذاب؟ في البحار قال الصادق (ع): كنت أسير مع أبي في طريق مكة ونحن
على ناقتين. فلما صرنا بوادي ضجنان خرج علينا رجل في عنقه سلسلة يسحبها ملك
فقال. يا بن رسول الله أسقني ماء سقاك الله. فتبعه رجل يجذب السلسلة وقال. يا بن
رسول الله لا تسقه لا سقاه الله. فالتفت إلي أبي (ع) فقال: يا جعفر عرفته؟ قلت:
لا. فقال. هذا معاوية (لع). أقول. وكأني بإمامنا الباقر (ع) لما نظر إليه ذكر أن
هذا اللعين هو الذي سقى عمه الحسن سما قتالا، فبقي في جوفه حتى قطع جميع أحشائه
خرج كبده قطعة قطعة الخ.
55

المجلس الثالث والعشرون
في مدينة المعاجز للمرحوم السيد هاشم البحراني قدس سره، عن الواقدي. كان
هارون الرشيد يقعد للعلماء في يوم عرفة، فقعد ذات يوم وحضره العلماء وهم سبعون رجلا
فيهم الشافعي، ومحمد بن الحسن، وأبو يوسف، قال الواقدي. فدخلت في آخر الناس
فقربني حتى أجلسني بين يديه، فالتفت الرشيد إلى الشافعي وقال. يا بن عمي كم تروي
في فضائل علي بن أبي طالب (ع)؟ فقال أربعماءة حديث أو أكثر. قال له. قل ولا تخف
قال. يبلغ خمسماءة وتزيد.
ثم قال لمحمد بن الحسن. كم تروي يا كوفي في فضائله؟ قال: ألف حديث أو أكثر
فأقبل على أبي يوسف، وقال له. كم تروي يا كوفي في فضائله أخبرني ولا تخش؟ قال.
يا أمير المؤمنين لولا الخوف لكانت روايتنا في فضائله أكثر من أن تحصى. قال. ممن
قال. منك ومن أموالك وأصحابك. قال. أنت آمن فتكلم وأخبرني كم فضيلة تروي
فيه؟ قال. خمسة عشر ألف خبر مسندا، وخمسة عشر الف حديثا مرسلا. قال
الواقدي. فأقبل علي وقال. ما تعرف في ذلك؟ قلت مثل مقالة أبي يوسف. قال الرشيد.
لكني أعرف له فضيلة رأيتها بعيني وسمعتها بأذني أجل من كل فضيلة تروونها أنتم
واني لتائب إلى الله تعالى مما كان مني في أمر الطالبية، ونسلهم فقلنا: وفق الله الأمير
وأصلحه إن رأيت أن تخبرنا بما عندك قال: وليت عاملي يوسف بن الحجاج بدمشق
وأمرته بالعدل في الرعية والانصاف في القضية، فاستعمل ما أمرته فرفع إليه أن الخطيب
الذي بدمشق كلما يخطب يشتم عليا وينقصه، فأحضره وسأله فأقر له، فقال: وما حملك
على هذا؟ قال الخطيب. لان عليا قتل آبائي وسبى الذراري، فلذلك لحق الحقد في قلبي
فقيده وغلله وحبسه، وكتب إلي فأمرته بحمله إلي، فلما مثل بين يدي زجرته وصحت
به، قلت أنت الشاتم لعلي بن أبي طالب؟ قال. نعم ولا أفارق ما أنا عليه. قلت.
لماذا؟ قال. لأنه قتل آبائي. قلت. ويلك إنما قتل من قتل وسبى ما سبى بأمر الله ورسوله
فدعوت بالسياط وأمرته بالضرب فجلده مائة سوط، فأكثر الصياح والاستغاثة وبال
56

في مكانه، ثم أمرت غلماني بأن ألقوه في بيت، وأغلقوا الباب عليه.
فلما كان الليل صليت العتمة وبقيت ساهرا أفكر في أمره، وقتله بأي نحو بالذبح
أو القطع أو الحرق أو بضرب السوط، حتى غلبني النوم فإذا انا بباب السماء قد انفتح
وإذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد هبط، وعليه خمسة حلل، ثم هبط علي وعليه ثلاث حلل، ثم هبط
الحسنان وعلى كل واحد حلتان، ثم نزل جبرئيل وعليه حلة واحدة، ومع جبرئيل كأس
كأصفى ما يكون من الماء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعطني الكاس. فأعطاه فنادى بأعلى
صوته. يا شيعة محمد وآله. فأجابه من حاشيتي وغلماني وأهل الدار أربعون نفسا أعرفهم
كلهم، وكان في الدار أكثر من خمسة آلاف إنسان فسقى أولئك النفر من الماء فصرفهم.
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: أين الدمشقي؟ فانفتح الباب وخرج الدمشقي فلما رآه علي (ع) أخذه
وقال يا رسول الله. هذا يظلمني ويشتمني من غير سبب. فقال: خله يا أبا الحسن، ثم
قبض النبي (ص) على زنده بيده وقال. أنت الشاتم لعلي بن أبي طالب. فقال: نعم
قال: اللهم امسخه وامخقه وانتقم منه. قال فتحول من ساعته كلبا ورد إلى البيت كما كان
وصعد النبي، ومن معه إلى السماء فانتبهت فزعا مرعوبا، وأمرت باخراجه فإذا هو كلب
فقلت كيف رأيت عقوبة ربك؟ فأومى برأسه كالمعتذر، وأمرت برده وها هو في
البيت، ثم نادى وأمر باخراجه، وقد أخذ الغلام باذنه فإذا أذناه كأذني الانسان
وفي صورة الكلب، فوقف بين أيدينا يلوك بلسانه، ويحرك شفتيه كالمعتذر. قال
الشافعي للرشيد: هذا مسخ، ولست آمن من أن يحل العذاب به فأمر باخراجه عنا
فأخرجه فرد إلى البيت، فما كان بأسرع من أن سمعنا وجبة وصيحة فإذا صاعقة قد سقطت
على سطح البيت فأحرقته وأحرقت البيت فصار رمادا، وعجل بروحه إلى نار جهنم.
قال الواقدي: فقلت للرشيد يا أمير المؤمنين. هذه معجزة عظيمة وعظت بها فاتق
الله في ذرية هذا الرجل. قال الرشيد: أنا تائب إلى الله تعالى مما كان مني، وأحسنت
توبتي لكن وأنى تنفع التوبة؟ وقد سم إمامنا موسى بن جعفر (ع) بعد أن حبسه مدة
طويلة من سجن إلى سجن الخ، وانى تنفعه التوبة من صنع بذراري علي وفاطمة ما صنع؟
حتى قتل منهم في ليلة واحدة ستين نفسا كما ذكر في محله، وشرد منهم في البلدان ما لا يحصى
ألا لعنة الله على القوم الظالمين.
57

المجلس الرابع والعشرون
في الناسخ والبحار حج الحسين (ع) في العام السابع والخمسين من الهجرة ومعه
عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس، وجماعة من بني هاشم، وشيعته ومواليه، فخطب
يوما بمني وقد حضر أكثر من ألف من الصحابة والتابعين فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال
اما بعد فان هذا الطاغية يعني معاوية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم
وبلغكم، وإني أريد ان أسألكم عن أشياء فان صدقت فصدقوني، وان كذبت فكذبوني
اسمعوا مقالتي واكتموا قولي ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم من آمنتموه، ووثقتم
به فادعوه إلى ما تعلمون، فاني أخاف ان يندرس هذا الحق ويذهب (والله متم نوره ولو
كره الكافرون) أنشدكم الله أتعلمون ان علي بن أبي طالب كان أخا رسول الله حين آخى
بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه وقال: أنت أخي وانا أخوك في الدنيا والآخرة؟ قالوا
اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون ان رسول الله اشترى مسجده ومنازله فابتناه ثم ابتنا
فيه عشرة منازل تسعة له وجعل عاشرها في وسطها لأبي ثم سد كل باب شارع إلى المسجد
غير بابه، ثم نهى الناس ان يناموا في المسجد غير أبي، وكان يجنب في المسجد ومنزله في
منزل رسول الله، فولد رسول الله فيه أولاده؟ قالوا: اللهم. نعم. قال: أفتعلمون ان
عمر بن الخطاب حرص على كوة قدر عينه يدعها من منزله إلى المسجد فأبى عليه ثم خطب
فقال: ان الله امرني ان ابني مسجدا طاهرا لا يسكنه غيري وغير أخي وابنيه؟ قالوا:
اللهم نعم قال: أنشدكم الله أتعلمون ان رسول الله (ص) نصبه يوم غدير خم فنادى له
بالولاية وقال فليبلغ الشاهد الغائب؟ قالوا اللهم نعم. قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله لما دعى
الأسقف من أهل نجران إلى المباهلة لم يأت إلا به وبصاحبته وابنيه؟ قالوا اللهم نعم. قال:
أنشدكم الله أتعلمون إنه دفع إليه اللواء في يوم خيبر ثم قال: لأدفعنه إلى رجل يحبه الله
58

ورسوله، ويحب الله ورسوله، كرار غير فرار يفتح الله على يديه؟ قالوا: اللهم نعم
قال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه بسورة براءة وقال: لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل
مني؟ قالوا اللهم نعم. قال أتعلمون أن رسول الله (ص) لم تنزل به شدة قط إلا قدمه لها
ثقة به، ولم يدعه باسمه قط إلا ويقول: يا أخي أو ادعوا لي أخي؟ قالوا: اللهم نعم
قال: أتعلمون أنه كان له من رسول الله كل يوم خلوة وكل ليلة دخلة إذا سئله أعطاه
وإذا سكت ابتداه؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أتعلمون أن رسول الله (ص) فضله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمة:
زوجتك خير أهل بيتي أقدمهم سلما، وأعظمهم حلما، وأكبرهم علما؟ قالوا: اللهم
نعم قال: أتعلمون أن رسول الله (ص) قال: أنا سيد ولد آدم، وأخي علي سيد العرب
وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة، والحسن والحسين ابناي سيدا شباب أهل الجنة؟ قالوا:
اللهم نعم. قال: أتعلمون أن رسول الله (ص) قال في آخر خطبة خطبها إني قد تركت
فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي فتمسكوا بهما لن تضلوا؟ قالوا: اللهم نعم، وما أشبه
كلامه في هذا المقام بما احتج به يوم عاشوراء على أهل الكوفة أو يوم السادس من المحرم
على ما روى السيد ابن طاووس الخ.
المجلس الخامس والعشرون
في مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني قدس سره: خطب أمير المؤمنين (ع)
بالكوفة وقال: ويح الفرخ فرخ آل محمد، وريحانته، وقرة عينه بني هذا الحسين من
ملك متمرد جبار، يملك بعد أبيه، فقام إليه الأحنف بن قيس التميمي، وقال: ما اسمه
يا أمير المؤمنين؟ قال: يزيد بن معاوية يؤمر على قتل الحسين عبيد الله بن زياد على
الجيش، ويرسله إلى حربه، وهو ينزل بالكوفة ولا يزال يرسل بالعساكر فتكون
وقعتهم بنهر كربلا في غربي الفرات، فكأني أنظر إلى مناخ ركابهم، ومحط رحالهم
وإحاطة جيوش أهل الكوفة بهم، وإعمال سيوفهم ورماحهم، وقسيهم في جسومهم
59

ودمائهم ولحومهم، وقتل الشيوخ والكهول والأطفال والشبان، وسبي أولادي
وذراري رسول الله، وحملهم على شر الاقتاب، فقام إليه الأشعث بن قيس (لع) وكان
مقاليا ومعاديا لأمير المؤمنين (ع) وقال: يا بن أبي طالب ما ادعى رسول الله (ص)
ما تدعيه من العلم من أين لك هذا الخبر؟ قال له أمير المؤمنين: ويلك يا أشعث ان ابنك
محمد والله من قوادهم، وشمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وعمرو بن الحجاج
وعمر بن حريث، كذلك، فأسرع الأشعث في قطع الكلام، وقال: يا بن أبي طالب
أفهمني ما تقول حتى أجيبك. فقال: ويلك هو ما سمعت. فقال اللعين: يا بن أبي طالب
ما يساوي كلامك عندي تمرتين. وولى وخرج من المسجد، وما عاد بعد ذلك، وقام
الناس ومدا أعناقهم إلى أمير المؤمنين ليأذن لهم في قتله، فقال لهم: مهلا يرحمكم الله
والله إني لاقدر على قتله منكم ولكن لا بد أن تحق كلمة العذاب على الكافرين.
ومضى الأشعث (لع) وتشاغل في بنيان داره بالكوفة، وبنى في داره مأذنة عالية
فكان إذا ارتفعت أصوات مؤذن أمير المؤمنين في جامع الكوفة صعد الأشعث مأذنته
فنادى نحو المسجد وهو يخاطب أمير المؤمنين بهذا الخطاب: يا رجل ما قلت ليس بحتم إنك
ساحر كذاب، ولا يلتفت إليه أمير المؤمنين (ع) حتى إذا اجتاز (ع) يوما بخطة الأشعث
في جماعة من أصحابه واللعين على ذروة بنيانه، فلما بصر بأمير المؤمنين أعرض بوجهه فقال
أمير المؤمنين: ويلك يا أشعث ما أعد الله لك من عنق النار؟ فقال له أصحابه
يا أمير المؤمنين وكيف عجلت له النار في الدنيا قبل الآخرة؟ قال (ع): لأنه كان لا يخاف
الله ويخاف النار فعذبه الله بالذي كان يخاف منه. فقالوا: يا أمير المؤمنين وأين يكون
عنق النار هذه؟ قال (ع): في هذه الدنيا والأشعث فيها ويسأل: بم صرت معذبا بهذه
النار؟ فيقول: بشكي في محمد، وبغضي لعلي بن أبي طالب، وكراهتي لبيعته وخلافته
وخلافي عليه، وخلعي بيعته، ومبايعتي للضب دونه فيتركونه ويتبرون منه، ومن شقاوته
ويكفيك أن اللعين هو بنفسه اشترك في دم أمير المؤمنين، وابنته جعدة سمت الحسن حتى
رمى كبده في الطشت قطعا قطعا، وابنه محمد بن الأشعث اشترك في قتل مسلم بن عقيل
وأعطاه الأمان حتى أخذه أسيرا ثم بعد ذلك شرك في قتل الحسين (ع) وخرج من الكوفة
في جيش عظيم الخ.
60

المجلس السادس والعشرون
واعلم أن الفصاحة والبلاغة تعتمد على أمرين: هما مفردات الألفاظ ومركباتها
أما المفردات فهي أن تكون سهلة غير وحشية ولا معقدة، وأما المركبات فحسن
المعنى وسرعة وصوله إلى الافهام، واشتماله على الصفات التي باعتبارها فضل بعض الكلام
على بعض، وتلك الصفات هي الصناعة التي سماها المتأخرون بالبديع، ولا شبهة ان
كلاهما موجودة في كلمات مولانا أمير المؤمنين (ع) ولا توجدان في كلمات غيره من الفصحاء
والبلغاء، وإن كان قد أعمل فيها فكره، وأجال فيها رويته، كيف وقد كان روحي له
الفداء سيد الفصحاء وإمام البلغاء، ولا شك في أنه أفصح من كل ناطق بلغة العرب من
الأولين والآخرين إلا ما كان من كلام الله سبحانه وكلام رسول الله (ص) وكفاك ما قال
السيد الرضي: كان أمير المؤمنين هو مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها
ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وحسبك أنه لم يدون لاحد من فصحاء
الصحابة العشر ولا نصف العشر مما دون له، وقال ابن أبي الحديد: وكان علي (ع) من
أبلغ الناس وأفصحهم للقول والكتابة، يضم اللفظة إلى أختها ألم تسمعوا قول شاعر
لشاعر وقد تفاخر گ وقال أحدهما: أنا اشعر منك لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول
البيت وابن عمه؟ ثم قال: ألا ترى ما في كلمات علي بن أبي طالب من أن كل لفظة منها
اخذت بعنق قرينتها، جاذبة إياها إلى نفسها دالة عليها بذاتها؟ منها ما قال (ع): هل من
مناص أو خلاص، أو معاذ أو ملاذ، أفرارا أو بحار؟ وقوله (ع): أين من جد
واجتهد، وجمع واحتشد، وبني وشيد، وفرش ومهد، وزخرف ونجد؟ فهل سمع
السامعون من الأولين والآخرين بمثل خطبه وكلامه؟ وقال أهل الدواوين: لولا كلام
علي بن أبي طالب وخطبه وبلاغته في منطقه ما أحسن أحد أن يكتب إلى أمير جند
ولا إلى رعيته، ويحق ما قال معاوية لمحفن النبطي لما قال له: جئتك من عند أعي الناس
قال معاوية: يا بن اللخناء العلي تقول هذا؟ وهل سن الفصاحة لقريش غيره؟ وبعض
البلغاء يسميه فصيح قريش نزل روحي له الفداء يوما من المنبر فقال له أصحابه:
61

يا أمير المؤمنين ما سمعنا أحدا قد أبلغ منك ولا أفصح ولا أعرب كلاما. فتبسم وقال
عليه السلام: ما يمنعني وأنا مولدي بمكة؟ ولم يزدهم على هاتين الكلمتين.
عن الرضا (ع) اجتمع أصحاب النبي (ص) فتذاكروا أي الحروف أدخل في الكلام
فاجتمعوا على أن الألف
ارتجالا: حمدت من عظمة منته، وسبغت نعمته وسبقت غضبه رحمته، وتمت كلمته
ونفذت مشيته، وبلغت حجته، وعدلت قضيته الخ ثم ارتحل إلى خطبة أخرى من غير
نقطة وأولها: الحمد لله أهل الحمد ومأواه، وله أوكد الحمد وأحلاه، وأطهر الحمد
وأسماه، وأكرم الحمد وأولاه إلى آخرها.
أقول: ان أهل الكوفة ملأت أسماعهم من صوت علي وفصاحته وبلاغته خمس
سنين، وبعد ذلك لم يستمعوا إلى تلك الفصاحة والبلاغة من أحد إلا من الحوراء زينب
عليها السلام حين خطبت الخطبة المعروفة حتى قال علي بن الحسين (ع): يا عمة اسكتي
ففي الباقي من الماضي اعتبار، وأنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفاهمة غير مفهمة، ان الحنين والبكاء لا يرد من قد أباده الدهر، فسكتت. قال بشير بن خذيم الأسدي:
ونظرت إلى زينب بنت علي (ع) ولم أر والله خفرة أنطق منها، كأنها تفرغ عن لسان
أمير المؤمنين (ع)، وقد أومأت إلى الناس ان اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكنت
الأجراس، ثم قالت: الحمد لله والصلاة على أبي محمد صلى الله عليه وآله الطيبين الأخيار
أما بعد: يا أهل الكوفة ويا أهل الختل والغدر الخ.
المجلس السابع والعشرون
في إكمال الدين للصدوق (ره) عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: لما بايع الناس
عمر بعد أبي بكر أتاه رجل شاب من اليهود وكان من علمائهم وأحبارهم، يروون انه
من ولد هارون أخي موسى، فقال يا أمير المؤمنين: أيكم اعلم بعلم نبيكم وبكتاب ربكم
حتى أسألكم عما أريد؟ قال: فأشار عمر إلى علي (ع) فقال: هذا فتحول الرجل إلى
أمير المؤمنين (ع) وقال: أنت كذلك؟ فقال: نعم سل عما تريد. فقال: إني أسألك
62

عن ثلاثة وواحدة! فقال له أمير المؤمنين (ع): لم لا تقول إني أسئلك عن سبع
قال: لا إنما أسألك عن ثلاثة، فان أصبت فيهن سألتك عن ثلاثة بعدها، فان أصبت
فيها سألتك عن الواحدة، وان أخطأت في الثلاثة الأولى لم أسألك عن شئ. فقال
أمير المؤمنين (ع): بالله الذي لا إله إلا هو لان أجبتك بالحق والصواب لتسلمن
ولتدعن اليهودية فحلف اليهودي وقال: ما جئتك إلا مرتدا أريد الاسلام.
فقال (ع): يا هاروني سل عما بدا لك تخبر قال: أخبرني عن أول شجرة نبتت على
وجه الأرض، وعن أول حجر وضع على وجه الأرض. فقال له أمير المؤمنين (ع): أما
سؤالك عن أول شجرة نبتت على وجه الأرض، فان اليهود يزعمون أنها الزيتونة
وكذبوا إنما هي النخلة، وهي العجوة هبط بها آدم (ع) معه من الجنة فغرسها، وأصل النخلة كله منها، واما قولك أول عين نبعت على وجه الأرض فان اليهود يزعمون أنها العين التي نبعت ببيت المقدس تحت الحجر وكذبوا، وإنما هي عين الحياة التي انتهى
فتاه موسى فتاه إليها فغسل فيها السمكة المالحة فحييت، وليس من ميت يصيب من ذلك الماء إلا
وحيي، وكان الخضر (ع) على مقدمة ذي القرنين يطلب عين الحياة فوجدها الخضر (ع)
وشرب منها ولم يجدها ذو القرنين.
وأما قولك أول حجر وضع على وجه الأرض فان اليهود يزعمون أنه الحجر الذي
ببيت المقدس يعني الصخرة فكذبوا إنما هو الحجر الأسود هبط به آدم من الجنة معه
فوضعه على الركن والناس يستلمونه، وكان أشد بياضا من الثلج في أسود من خطايا بني آدم
قال اليهودي صدقت، فأخبرني كم لهذه الأمة من إمام هدى هادين مهديين، لا يضرهم
خذلان من خذلهم؟ وأخبرني أين منزل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة؟ وأخبرني من معه من أمته
في الجنة؟ فقال (ع): أما قولك كم لهذه الأمة من إمام هدى: فان لهذه الأمة اثني عشر
إماما هادين مهديين لا يضرهم خذلان من خذلهم، وأما قولك أين منزل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في
الجنة ففي أفضلها وأشرفها، وهي جنة عدن في وسط الجنان، وأقربها من عرش
الرحمن جل جلاله، وأما قولك من معه في الجنة فهؤلاء الاثني عشر أئمة الهدى. قال الفتى:
صدق فوالله الذي لا إله إلا هو انه لمكتوب عندي باملاء موسى وخط هارون
أخبرني كم يعيش وصي محمد (ص) من بعده؟ وهل يموت موتا أو يقتل قتلا؟ قال (ع)
63

يا هاروني أنا وصي محمد (ص) وأعيش بعده ثلاثين سنة ثم ينبعث أشقاها أشقى من
عاقر ناقة ثمود فيضربني ضربة ها هنا في مفرقي فيخضب منه لحيتي ثم بكى (ع) بكاء
شديد فصرخ الفتى وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وانك
وصي رسول الله.
أقول: أقول لما تذكر (ع) انه يضرب على رأسه الشريف ضربة بكى بكاء شديدا ولكنه
لما وقعت الضربة على رأسه الشريف لم يتأوه. بل صبر واحتسب وقال بسم الله وبالله
وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله فزت ورب الكعبة. أيها الناس قتلني ابن اليهودية
قتلني عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله.
المجلس الثامن والعشرون
لما هاجر النبي (ص) إلى المدينة وبايعه أهلها كتب كتابا إلى علي (ع) وكان يومئذ
بمكة يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله وابن عبديه محمد رسول الله إلى علي
ابن أبي طالب. أما بعد يا علي ان كنت تسأل عن الأنصار فجزاهم الله عني خيرا
فلقد أتوني بمفاتيح دورهم. وبذلوا أنفسهم دوني. فإذا وصلك كتابي فاحمل إلي الفواطم
وهلم أنت معن، والسلام ثم طوى الكتاب وختمه بخاتمه الشريف وأعطاه إلى رجل من
أصحابه يقال له زيد بن حارثة، وقال له سر به ليلا واكمن نهارا مخافة أن تظفر بك قريش
فيمزقون الكتاب ويقتلونك. فسار زيد بالكتاب حتى قدم مكة فسأل عن دار علي بن
أبي طالب فأرشد إليها. فطرق الباب فخرج إليه علي (ع) وفتح له الباب، وقال: ما
وراءك؟ قال: كتاب. فأخذه وفضه وقرأه وعرف معناه ووضعه على عينيه، وقال:
السمع والطاعة لله ولرسوله. ثم ادخل الرجل إلى المنزل. وأحضر له الطعام والشراب
وبقي عنده. وبلغ الخبر إلى عمومته أنه (ع) يريد المسير إلى النبي (ص) ويريد حمل
الفواطم فقالوا: كيف ترون ونخاف أن قريشا يتبعونه ولربما يقتلونه؟ فقال بعض
أعمامه نكتب إلى خزاعة فيمدونه بالخيل والرجال حتى يوصلوه إلى يثرب. فبعثوا إلى
خزاعة فأقبلوا على خيولهم. وكان أمير المؤمنين (ع) خارجا يتمشى في طريق مكة، فلما
64

نظر علي (ع) إلى الخيل قال: ما بالكم وما الذي له جئتم؟ فقالوا: إن عمومتك أرسلوا
إلينا لنمدك بالخيل والرجال حتى نوصلك إلى يثرب. قال (ع): ارجعوا فوالله لئن دنى
منكم دان لأعقرن فرسه. فرجعوا على أعقابهم.
ثم إن أمير المؤمنين (ع) أقبل حتى صعد على الصفا، ونادى يا معاشر قريش إني
خارج غداة غد بالفواطم فمن أراد منكم أن يتبعني فليفعل. ثم نزل وصعد على المروة
وفعل مثل ذلك. فلما أصبح الصباح حمل الفواطم وسار قاصدا إلى المدينة فاجتمعت
قريش. وقالوا: هذا ابن أبي طالب قد خرج من بين أظهرنا وقد أورثنا الذل والعار
ثم دخلوا الكعبة وخروا سجدا للأصنام وسألوها النصر على علي (ع) وكان فيهم حنظلة
ابن أبي سفيان دخل إلى الأصنام. وخر ساجدا لها وسألها النصر على علي (ع) ثم خرج
ونادى: يا معاشر قريش هذا ابن أبي طالب خرج من بين أظهركم. وقد أورثكم. الذل
والعار وها انا آخذ عليه الطريق وممانعه فالتفت إليه أبو سفيان وقال: كذبت يا لكع
الرجال ما أنت بكفو له وما أنت بكفه إلا عصفور بيد صقر. أنسيت مبيته على فراش
ابن عمه؟ قال: لا بد لي من ذلك ولو دخل بيوتات يثرب لأخرجنه ولأقتلنه. ثم
نادى: يا معاشر قريش أسرجوا خيولكم والجموها. ففعلوا ذلك وخرجوا في طلب
أمير المؤمنين (ع).
وكان (ع) مر براعي إبل فقال له إذا سألك عني أحد فقل ها هو قريبا متوانيا
في مشيه فأقبلت قريش حتى مروا بذلك الراعي فقالوا له هل رأيت رجلا من صفته كذا
وكذا معه خمسة هوادج؟ قال: لعلكم تعنون علي بن أبي طالب (ع)؟ قالوا: بلى قال:
ها هو قريب منكم. وكان علي (ع) يسمع كلامهم فانقض عليهم، فلما رأوه قال بعضهم:
هذا سالك طريق. وقال بعضهم: هذا قاصد إليكم، فقال أبو جهل: اما الركبة فقرشية
وأما الشمائل فهاشمية، وأما القامة فمضرية، وما أحسبه إلا علي بن أبي طالب، وكان
أمير المؤمنين (ع) ملثما فأرخى لثامه، وقال: ها أنا ذا قد جئتكم ما تريدون؟ فتقدم
إليه أبو جهل وقال: يا بني نحن وأنتم من شجرة واحدة، ومن قطع بعض أنامله وجد
الألم في جميع مفاصله، يا بني دع الضغائن ولا تعرض بنفسك إلى الموت! قال له:
يا أبا جهل اما قولك نحن وأنتم من شجرة واحدة فنعم ولكن ميزنا الله عنكم بقوله عز
من قائل: (والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا).
65

وأما قولك ان ادع الضغائن هيهات لو أجمعت الجن والإنس لما قدروا على ذلك
ثم نظر علي (ع) إلى وجه فاطمة بنت رسول الله فرآها قد اصفر وجهها فحمل (ع) على
القوم، وقلب الميمنة على الميسرة وقتل منهم جماعة ورجعت الخيل يدق بعضهم بعضا
حتى دخل مكة أولهم الكعبة ثم رجع أمير المؤمنين (ع) وقال: يا فاطمة يا بضعة رسول الله
أيصفر وجهك وانا ابن عمك علي بن أبي طالب؟ فقالت: ما خبا من كنت وراء
ظهره.
هذا يوم نظر فيه على وجه فاطمة. وقد اصفر لونها فسكن روعتها فيا للعجب
كيف اخذه قرار حين عصروها بين الحائط والباب؟ ثم سار أمير المؤمنين (ع) بالفواطم
إلى المدينة وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل يوم يخرج خارج المدينة إلى مسجد قبا ينتظر قدوم
علي (ع) فخرج ذات يوم على عادته المستمرة وإذا براكب مقبل من ناحية مكة. فلما اقبل
قال له رسول الله (ص): هل رأيت رجلا صفته كذا وكذا؟ قال: لعلك تعني علي
بن أبي طالب؟ قال: ها هو قريب منك سيقدم في هذه الساعة. فوقف النبي (ص)
ينتظر قدومه فما كانت إلا هنيئة. وإذا به (ع) قد اقبل إليه مهرولا فلما نظر إليه
أمير المؤمنين (ع) نزل من على متن جواده. واستقبل رسول الله (ص) حتى اعتنقه وقبله
وجعل كل منهما يشم الاخر. وسر رسول الله (ص) سرورا عظيما وبلغ ذلك أهل المدينة
ففرحوا وخرجوا يستقبلون عليا (ع) والهاشميات والفاطميات.
هذا يوم دخل علي المدينة وخرج أهلها يستقبلونه. والهاشميات وهم في غاية السرور
ويوم آخر دخل علي بن الحسين المدينة ومعه الفواطم والهاشميات. وخرج أهل المدينة
الخ.
المجلس التاسع والعشرون
ومن علماء العامة الشيخ العالم الفاضل المؤرخ الكامل وحيد عصره وعزيز مصره
أبو المظفر يوسف بن قز أو غلي البغدادي. المعروف بسبط ابن الجوزي المتوفى سنة
ستمائة وأربع وخمسين. والمدفون في جبل قاسيون بدمشق. ومن تأليفاته تذكرة خواص
66

الأمة في معرفة الأئمة. وكان حنبلي المذهب ويرمى بالتشيع سئل عنه يوما وهو على
المنبر وتحته جماعة من مماليك الخليفة وخاصته وهم فريقان سنة وشيعة فقيل له: من أفضل
الخلق بعد رسول الله (ص) علي (ع) أو أبو بكر؟ فقال: أفضلهما بعده من كانت ابنته
تحته. فأوهم الحاضرين ولم يعرفوا مذهبه فقالوا: نسأله غير هذا. فقالوا: كم الخلفاء
بعد رسول الله؟ فصاح أربعة أربعة أربعة. إيماء إلى الأئمة الاثني عشر.
وروي في كتاب الصراط المستقيم ان ابن الجوزي قال يوما على منبره: سلوني قبل
ان تفقدوني فسألته امرأة عما روي أن عليا (ع) سار في ليلة إلى سلما فجهزه ورجع
فقال: روي ذلك. قالت فعثمان لم ثلاثة أيام منبوذ في المزابل وعلي (ع) حاضر قال:
نعم. قالت: فلقد لزم الخطأ لأحدهما فقال: ان كنت خرجت من بيتك بغير اذن
زوجك فعليك لعنة الله. فقالت: خرجت عائشة إلى حرب علي (ع) باذن النبي (ص) أو لا؟
فانقطع ولم يرد جوابا.
أقول: اتفق أهل العلم على أن قول سلوني قبل أن تفقدوني من خصائص
أمير المؤمنين (ع) وما قالها غيره إلا افتضح، ولما ورد قتادة من الشام إلى الكوفة قال:
يوما على المنبر إن علي بن أبي طالب قال في مسجدكم هذا: سلوني قبل أن تفقدوني
وأنا أقول مثل قوله أيضا. فقام إليه رجل فسأله عن النملة التي كلمت سليمان كانت ذكرا
أم أنثى؟ فافحم ولم يرد جوابا. وفي الأثر: أن مقاتل بن سليمان أسند ظهره يوما إلى
الكعبة.
وقال: سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عما دون العرش فأخبركم. فقال له رجل:
أو حج حجها آدم من حلق رأسه؟ قال: لا أدري، وقال له غيره، الذبابة أمعاؤها
في مقدمها أم في مؤخرها؟ فتحير، ومن المعلوم من تفوه بقول سلوني قبل أن
تفقدوني ينبغي ان يكون عالما بجميع الأشياء، حتى ولو سئل عما سئل أجاب، ولم يفحم
في الجواب، وليس إلا أمير المؤمنين (ع) الذي كان باب لمدينة علم النبي (ص).
وروى شيخنا البهائي أن أعرابيا سأل عليا (ع) فقال: رأيت كلبا وطئ شاة
فأولدها فما حكم ذلك في الحل؟ فقال (ع): اعتبره في الاكل فان أكل لحما فهو كلب، وان
رأيته يأكل علفا فهو شاة. فقال الاعرابي: رأيته يأكل هذا تارة ويأكل هذا تارة
فقال (ع): اعتبره في الشرب فان كرع فهو شاة، وان ولغ فهو كلب. فقال الاعرابي:
67

وجدته يلغ تارة ويكرع أخرى. فقال (ع): اعتبره في المشي مع الماشية فان تأخر عنها
فهو كلب، وان تقدم أو توسط فهو شاة. قال: وجدته مرة هكذا. قال (ع): اعتبره
في الجلوس فان برك فهو شاة وان أقعى فهو كلب قال: وجدته مرة هكذا ومرة هكذا
فقال (ع): اذبحه فإن كان له كرش فهو شاة، وإن كان له أمعاء فهو كلب. فبهت الاعرابي
من علم أمير المؤمنين (ع).
وعن الأصبغ بن نباتة قال بينما أمير المؤمنين يخطب وهو يقول سلوني قبل ان
تفقدوني فوالله لا تسألوني عن شئ مضى ولا عن شئ يكون إلا نبأتكم به. فقام إليه
سعد بن أبي وقاص فقال: يا أمير المؤمنين: كم في رأسي ولحيتي من شعرة فقال: اما
والله لقد سألتني عن مسألة حدثني خليلي رسول الله انك ستسألني عنها، وإن على كل
طاقة شعر في رأسك ملكا يلعنك، وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلا وفي أصلها
شيطان جالس يستفزك، وان في بيتك سخلا يقتل الحسين ابني، وآية ذلك مصدق
ما أخبرتك به، ولولا أن الذي سألت عنه يعشر برهانه لأخبرتك به، ولكن آية ذلك
ما أنبأتك به من لعنتك وسخلك الملعون، وكان سخله ابنه عمر بن سعد (لع) وفي ذلك
الوقت كان صغيرا، ويدرج بين يديه، وكان الزمان قد أمهله ورباه حتى ظهر ما أخبر به
الصادق المصدق وهو أول من خرج إلى قتال الحسين (ع) الخ.
المجلس الثلاثون
(فحملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وزعم بعض أهل التحقيق
نقلا عن أبي علي سينا وغيره إن أقل مدة الحمل بحسب نص القرآن وبحسب التجارب
الطبية ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا كما في قوله تعالى:
وحمله الخ. وقال عز شأنه: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) فإذا أسقطت
الحولين الكاملين وهي أربع وعشرون شهرا من الثلاثين بقي أقل مدة الحمل ستة أشهر
واما التجارب فقال قال جالينوس: اني كنت شديد التفحص عن مقادير أزمنة الحمل
فرأيت امرأة ولدت في المائة والأربع والثمانين ليلة، وهي ستة أشهر وأربعة أيام.
68

أقول: ثم اسمع قولا تضحك منه الثكلى. قال الصفدي: من مذهب الشافعي ان
أقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثرها أربع سنين، ومالك بن أنس فقيه أهل السنة حمل به
أكثر من ثلاث سنين، والحجاج بن يوسف ولد لأكثر من ثلاثين شهرا، والشافعي
حمل به أربع سنين، والحنفية يقولون للشافعية ما جسر امامكم يظهر إلى الوجود حتى توفي
إمامنا فيجيبون بل إمامكم ما ثبت لظهور إمامنا.
أقول: حكاية الشافعي هذه في نهاية الغرابة لأنهم رووا ان أباه سافر عن أمه وبعد
أربع سنين رجع إلى منزله فقارن رجوعه تولد ابنه الشافعي: وهذه الحالة العجيبة
ما حكيت عن أحد من الأنبياء وأوصيائهم، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين بل هي
خاصة اختص بها الشافعي.
وليت شعري كيف حكوا هذا عن إمام مذهبهم وبينوا له الحال في زمانه
حتى ذهبوا إلى هذا القول العجيب؟ أقول: وحيث لم يستنكفوا ولم يستقبحوا من نسبة القبيح
إلى أم بعض الخلفاء، والى خال المؤمنين معاوية، والى الشهيد بزعمهم طلحة ونحوهم
وفي مجمع البحرين: رباب من نساء أهل مكة من المشهورات بالزنا هي وسارة وحنتمة وممن
كن يتغنين بهجاء رسول الله فكان الأليق بحالهم أن لا يستقبحوا كون الشافعي ولد من
القبيح لأن الاعتبار عندهم بكونه في نفسه حسن الأخلاق عارفا بالعلم، وأما كونه طيب
الاعراق طاهر الولادة فغير لازم كما أنهم لم يستنكفوا ولم يستقبحوا من نسبة الابنة إلى
بعض الخلفاء. قال السيوطي في حاشيته المدونة على القاموس عند ترجمة لفظة الابنة: انها
كانت في خمسة نفر في زمن الجاهلية: أحدهم فلان وقد صنف استاذنا المحقق صاحب التفسير
الموسوم بنور الثقلين كتابا في أن هذه الحالة كانت مع الخلفاء الأمويين والعباسيين بأجمعهم
واستشهد بشواهد من الشعر والنثر على وجود تلك الصفة لكل واحد منهم. أقول:
ويؤيده قول الصادق (ع) ان لنا حقا ابتزه منا معادن الابن، وفيه إشارة إلى أن هذه
الفضيلة ابتدئت من الفلاني، وانتهت بانتهاء خلفاء بني العباس.
أقول: فإذا لا يبعد ممن كان خبيث الولادة، وبه غاية الفضيحة من أن يجتري على
الله ورسوله. ويظهر البدع، وينكر السنن، ويحرم حلال الله، ويحلل ما حرم الله
يقول مالك بن انس فقيه السنة في المنظومة:
وجايز (فيك) غلام أمرد * لا سيما للرجل المجرد
69

هذا إذا كان وحيدا في السفر * ولم تكن أنثى تفي عن الذكر
قال يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة: بم اقتديت في جواز المتعة؟ قال: بعمر بن
الخطاب. فقال: كيف هذا وعمر كان أشد الناس منعا لها؟ قال: لان الخبر الصحيح قد
أتى أنه صعد فقال: إن الله ورسوله أحلا لكم متعتين وانا أحرمهما عليكم وأعاقب
عليهما. فقبلنا شهادته، ولم نقبل تحريمه، وذكر صاحب كتاب إحقاق الحق أن السبب
في تحريمه انه أضاف أمير المؤمنين (ع) وأنامه في داره فلما أصبح قال له: يا علي ألست
قد قلت من كان في البلد لا ينبغي له أن يبيت عزبا؟ فقال (ع) أسأل أختك: وكان (ع)
قد تمتع بها في تلك الليلة، فمنع المتعة كما منع من حي على خير العمل حين قال: إن هذه
تدعوا الناس إلى ترك الجهاد حيث يزعمون أن الصلاة أفضل من سائر الأعمال، ولكن
الداعي الحقيقي غير هذا، وهو ما روي عن الصادق (ع) ان عمر سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أن خير العمل هو ولاية علي بن أبي طالب فموه على الناس في تركه حتى يترك.
روى صاحب زينة المجالس أن عمر بن الخطاب كان طويلا غير معتدل فاجتمع مع
أمير المؤمنين (ع) يوما في المسجد فأراد عمر الملاطفة والاستخفاف بعلي (ع) فأخذ نعل
أمير المؤمنين (ع) ووضعه في موضع عال من المسجد حتى لا تصل يده إليه فلما استشعر
عليه السلام منه ما فعل رفع أسطوانة من أساطين المسجد كان متكأ عليها ووضعها على
ثيابه، فلما أراد القيام لم يقدر، وبقي كالرجل في الوحل فقام (ع) وتناول نعله وأراد
الخروج من المسجد فصاح عمر واجتمع عليه الناس يضحكون منه، وهو يقوم ولا يقعد
فلما تم الاستهزاء به أتى (ع) ورفع الأسطوانة عن ثيابه حتى خلص، وانه أول من تسمى
باسم أمير المؤمنين لأنه علم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سماه أمير المؤمنين بأمر من الله فسمى
نفسه باسمه، وكان الناس يخاطبون أبا بكر بخليفة رسول الله فلما مضى لسبيله كانوا
يقولون لعمر يا خليفة يعني خليفة رسول الله فقال: ان هذا يطول عليكم وأنتم مؤمنون
وانا أميركم قولي يا أمير المؤمنين، وقد صنف ابن طاووس (ره) كتابا سماه بكشف
اليقين في تسمية علي بن أبي طالب بأمير المؤمنين واختصاصه بهذا الاسم كما قال الصادق (ع)
لبعض أصحابه.
في مدينة المعاجز دخل رجل من الشيعة على الصادق (ع) وقال: السلام عليك
يا أمير المؤمنين فقام على قدميه وقال: مه هذا الاسم لا يصلح إلا لأمير المؤمنين سماه الله
70

به ولم يسم به أحد غيره فمن رضي به إلا كان مريضا وان لم يكن به ابتلى به وهو قول الله
عز وجل أن يدعون من دونه إلا إناثا وان يدعون من دونه إلا شيطانا مريدا، قال
الراوي فيماذا يدعى قائمكم؟ قال يقال له: السلام عليك يا بقية الله السلام عليك يا بن
رسول الله، وهذا الاسم اسم اختاره الله لعلي بن أبي طالب قبل أن يولد وقبل أن
يخلق آدم (ع) كما في مدينة المعاجز دخل علي (ع) على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: السلام
عليك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وآله وسلم: وعليك السلام يا أمير المؤمنين علي أو أنت حي
يا رسول الله قال: نعم وانا حي يا علي أنت أمير من في الأرض، وأمير من في السماء
وأمير من مضى، وأمير من بقي فلا أمير قبلك، ولا أمير بعدك لأنه لا يجوز أن يتسمى
بهذا الاسم من لم يسمه الله تعالى به ثم قال: لو يعلم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين
ما أنكروا فضله سمي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ولما أسري
بي إلى السماء كنت من ربي كقاب قوسين أو أدنى فأوحى إلي ربي ما أوحى. ثم قال:
يا محمد أقرأ علي بن أبي طالب السلام، فما سميت بهذا الاسم أحدا قبله ولا أسمي
بهذا أحدا بعده، وفيه دخل رجل على أمير المؤمنين (ع) فقال: يا أبا الحسن إنك تدعي
أمير المؤمنين، ومن أمرك عليهم؟ فقال (ع): الله جل جلاله أمرني عليهم فجاء الرجل
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: يا رسول الله أيصدق على فيما يقول: ان الله أمره على
خلقه؟ فغضب النبي (ص) وقال: إن عليا أمير المؤمنين بولاية من الله عز وجل عقدها
له فوق عرشه، وأشهد على ذلك ملائكته، أن عليا خليفة الله وحجته، وانه لإمام المسلمين
، طاعته مقرونة بطاعة الله، ومعصيته مقرونة بمعصية الله، من جهله فقد جهلني
ومن عرفه فقد عرفني، ومن أنكر إمامته فقد أنكر نبوتي، ومن جحد أمرته فقد
جحد رسالتي، ومن رجع عن فضله فقد أبغضني، ومن قاتله فقد قاتلني، ومن سبقه،
فقد سبقني لأنه مني، علي خلق من طينتي وهو زوج ابنتي وأبو ولدي الحسن والحسين
وتسعة من ولد الحسين حجج الله على خلقه أعدائنا أعداء الله وأولياؤنا أولياء الله.
أقول: تبا وتعسا لهذا الزمان حيث صنع مع هذا الامام ما صنع حتى أجلسه في
قعر بيته بعد أن أضرم النار على باب داره وأخرجه للبيعة ملببا بثوبه الخ.
71

المجلس الواحد والثلاثون
في البحار وفي مناقب شاذان بن جبرئيل عن الأصبغ بن نباتة قال: كنت مع سليمان
الفارسي وهو أمير المدائن في زمان أمير المؤمنين (ع)، وقد مرض مرضه الذي توفي
فيه فلما اشتد به المرض قال يا أصبغ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لي: يا سلما يكلمك
ميت إذا دنت وفاتك وقد اشتهيت ان أدري هل دنت وفاتي. فقال الأصبغ: بماذا
تأمرني؟ قال آتيني بسرير واحملني عليه إلى المقبرة فقال: حبا وكرامة. ففعل ما أمره
حتى وضعوه بين القبور واستقبل القبلة: بوجهه ونادى: السلام عليكم يا أهل عرصة
البلا، السلام عليكم يا محتجبين عن الدنيا، السلام عليكم يا من جعلت المنايا لهم غذاء
السلام عليكم يا من جعلت الأرض عليهم غطاء، السلام عليكم يا من لقوا أعمالهم في دار
الدنيا، السلام عليكم يا منتظرين النفخة الأولى، سألتكم بالله العظيم والنبي الكريم إلا
أجابني منكم مجيب فأنا سلمان الفارسي مولى رسول الله (ص) فإذا هو بميت قد نطق من
من قبره، وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أهل الفناء، والمشتغلين بعرصة الدنيا
ها نحن لكلامك مستمعون ولجوابك مسرعون، فسل عما بدا لك يرحمك الله تعالى. قال
سلمان: أيها الناطق بعد الموت، المتكلم بعد حسرة الفوت، أمن أهل الجنة أنت أم من
أهل النار؟ فقال: يا سلمان أنا ممن أنعم الله تعالى عليه بعفوه وكرمه، وأدخله جنته
برحمته فقال له سلمان: يا عبد الله صف لي الموت كيف وجدته، وما عاينت منه؟ قال:
يا سلمان فوالله إن قرضا بالمقاريض ونشرا بالمناشير لاهون من نزعة من نزعات الموت
إعلم اني كنت في دار الدنيا ممن ألهمني الله الخير وأعمل به وأؤدي فرائضه وأتلوا كتابه
وأبر الوالدين، وأجتنب الكبائر والحرام، وأطلب الحلال خوفا من السؤال، فبينما
أنا في ألذ العيش والسرور إذ مرضت وبقيت في مرضي أياما حتى دنا موتي، أتاني عند
ذلك شخص عظيم الخلقة فظيع الهيئة فوقف لا إلى السماء صاعدا ولا إلى الأرض نازلا فأشار
إلى بصري فأعماه، والى سمعي فأصمه، وإلى لساني فأخرسه، فقلت له من أنت يا عبد الله؟
فقد أشغلتني عن أهلي وولدي فقال: أنا ملك الموت أتيتك لأقبض روحك، فقد
72

انقطعت مدتك وجاءت منيتك فجذب الروح من جسدي وليس من جذبة يجذبها إلا وهي
تقوم مقام كل شدة، حتى صارت الروح في صدري فأشار إلي بجذبة لو أشارها إلى الجبال
لذابت، فقبض روحي من عرنين أنفي فعلا من أهلي الصراخ والبكاء، وظهر خبري
إلى الجيران والأحباء، وليس من شئ يقال ويفعل إلا وأنا عالم به.
فلما اشتد صراخ القوم علي التفت ملك الموت إليهم بغيظ وقنوط، وقال: مم
بكاؤكم؟ فوالله ما ظلمناه فتصيحوا، ولا اعتدينا عليه فتبكوا، لقد انقطعت مدته، وفنى
رزقه، وصار إلى ربه الكريم نحن وأنتم عبيد رب واحد، يحكم فينا ما يشاء، وهو على
كل شئ قدير، فان صبرتم اجرتم، وان جزعتم أئمتم، كم لي من رجعة إليكم، آخذ
البنين والبنات والآباء والأمهات ثم انصرف عني والروح فوق رأسي تنظر إلي حتى جاء
الغاسل وجردني من أثوابي وأخذ تغسيلي، فنادته الروح يا عبد الله رفقا بالبدن
الضعيف، فوالله ما خرجت من عرق إلا انقطع، ولا عضو إلا انصدع فوالله لو سمع
الغاسل ذلك القول لما غسل ميتا ابدا. فلما فرغوا حملوني على السرير، والروح أمامي
حتى وضعوني على شفير القبر، فلما أنزلوني في قبري عاينت هولا عظيما.
يا سلمان لقد تمثل لي اني سقطت من السماء إلى الأرض في لحدي ثم شرج علي اللبن
وحثي التراث علي، ورجع المشيعون، فعند ذلك أخذت بالندم، وقلت يا ليتني كنت
من الراجعين لان أعمل صالحا. فجاوبني مجيب من جانب القبر (كلا انها كلمة هو قائلها
ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) فقلت له: من أنت يا هذا؟ قال: أنا ملك وكلني
الله عز وجل بجميع خلقه لأنبئهم بعد مماتهم ليكتبوا أعمالهم على أنفسهم بأيديهم.
ثم جذبني وأجلسني ورجعت الروح إلى جسدي، وقال: اكتب عملك. فقلت:
انا لا أحصيها فقال لي: اما سمعت قول ربك: أحصاه الله ونسوه اكتب فانا أملي
عليك. فقلت: أين البياض؟ فجذب جانبا من كفني فقال: هذه صحيفتك. فقلت: من
أين القلم؟ قال: سبابتك. فقلت أين المداد؟ قال: ريقك. ثم أملى علي ما فعلته في دار
الدنيا فلم تبق من أعمالي صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضرا
ولا يظلم ربك أحدا. ثم إنه أخذ الكتاب وختمه بخاتم وطوقه في عنقي فخيل لي أن
جبال الدنيا جميعا قد طوقوها في عنقي فقلت: تفعل هذا بي؟ قال: ألم تسمع قو ربك:
(وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ
73

كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) ثم انصرف عني فأتاني نكير ان بأعظم منظر
وأوحش صورة بأيديهما عمودان من الحديد لو اجتمع عليهما أهل الثقلين ما حركوهما
من ثقلهما فروعاني وأزعجاني وهدداني، وقبضا بلحيتي وأجلساني، وصاحا علي صيحة
لو سمعها أهل الأرض لماتوا جميعا، وكان من شأنهما ما كان.
فراقب الله أيها السائل من وقفة المسائل، وخف من هول المطلع وما قد
ذكرته لك، هذا ما لقيته وأنا من الصالحين. ثم انقطع كلامه فعند ذلك رمق سلمان بطرفه
إلى السماء وبكى، وقال: (يا من بيده ملكوت كل شئ واليه ترجعون) وهو يجير ولا يجار
عليه. بك آمنت. ولنبيك اتبعت. وبكتابك صدقت. وقد أتاني ما وعدتني. يا من
لا يخلف الميعاد اقبضني إلى رحمتك. وأنزلني دار كرامتك. فأنا أشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك. وإن محمدا عبده ورسوله. فلما أكمل شهادته قضى نحبه ولقي ربه. وذلك
سنة سبع وثلاثين. وعاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة.
قال الأصبغ بن نباتة: فبينما نحن كذلك إذ أتى رجل على بغلة شهباء متلثما فسلم
علينا فرددنا السلام عليه فقال: يا أصبغ جدوا في امره وأتيناه بماء. وكان معه حنوط
وكفن، فلم يزل يغسله بيده فلما فرغ حنطه وكفنه بيده وصلى عليه وصلينا معه ثم وضعه
في حفرته بيده فلما فرغ من دفنه وهم بالانصراف تعلقنا به وقلنا له من أنت فكشف لنا
عن وجهه فسطع النور من ثناياه كالبرق الخاطف فإذا هو أمير المؤمنين (ع) فقلت له:
يا أمير المؤمنين: كيف كان مجيئك ومن أعلمك بموت سلمان؟ قال: آخذ عليك عهد الله
وميثاقه أنك لا تحدث بهذا أحدا ما دمت حيا، فقلت يا أبا الحسن: أتموت وأنا حي؟
قال: نعم قلت. خذا ما تريد من العهد والميثاق فاني لا أحدث أحدا بهذا قبل موتك
قال يا أصبغ هذا عهد من رسول الله وانا صليت هذه الساعة بالمدينة وخرجت أريد المنزل
فلما وصلت منزلي ودخلت واضطجعت إذا اتاني آت في منامي، وقال لي يا علي إن سلمان
قد قضى نحبه فركبت بغلتي وأخذت ما يصلح للموتى فجعلت أسير وقرب الله لي البعيد حتى
وصلت كما ترى، فلما تم كلامه غاب عنهم فلم يدروا إلى السماء صعد، أم إلى الأرض نزل
فأتى المدينة والمنادي ينادي لصلاة المغرب فحضر علي عندهم في المسجد.
وعن زاذان خادم سلمان قال: جاء أمير المؤمنين (ع) ليغسل سلمان فرفع الشملة
عن وجهه فتبسم سلمان وهم أن يقعد فقال أمير المؤمنين (ع): عد إلى موتك فعاد، أقول:
74

يا أمير المؤمنين يعز علينا معشر المحبين بأن توافي سلمان من المدينة إلى المدائن وتغسله
بيدك وتحنطه وتكفنه وتدفنه، ويبقى ولدك الحسين طريحا جريحا ملقى على الرمضاء
بلا غسل ولا كفن ملقا ثلاثا الخ، ولقائل أن يقول: إن لم يحضره أمير المؤمنين (ع) فقد
حضره ولده السجاد زين العابدين لكن ما غسله، ولا كفنه، ولا حنطه بل اكتفى بدلا
عن ذلك ببارية حمل عليها جسد أبيه الحسين (ع) الخ.
المجلس الثاني والثلاثون
ومن يذق الدنيا فاني طعمتها * وسيق إلينا عذبها وعذابها
فلم أرها إلا غرورا وباطلا * كما لاح في أرض الفلاة سرابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة * عليها كلاب قد هممن اجتذابها
فان تجتنبها سلما لأهلها * وان تجتذبها نازعتك كلابها
أوحى الله تعالى إلى داود مثل الدنيا كمثل جيفة اجتمعت عليها الكلاب
يجرونها أفتحب أن تكون كلبا مثلهم فتجر معهم؟ يا داود، طيب الطعام ولين اللبس
والصيت بين الناس والآخرة الجنة لا تجتمع أبدا لان الجنة لا يدخلها إلا المخففون
وهؤلاء هم المثقلون قال صلى الله عليه وآله وسلم: ان بين أيدينا عقبة كؤدا لا يجاوزها إلا المخفون قال
أبو ذر: أنا منهم يا رسول الله قال: ألك قوت يوم وليلة؟ قال: لا. قال صلى الله عليه وآله وسلم: في أنت
منهم. وكان أبو ذر في مرتبة عظيمة من الزهد، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أراد
أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر، وقد اكتفى من الدنيا بقرصي شعير
يتغدى بأحدهما، ويتعشى بالآخر، وبشملتي صوف يتزر بأحدهما، ويرتدي بأخرى
بعث عثمان إليه بصرة على يد عبد له، وقال له: إن قبلها فأنت حر. فلم يقبلها فقال:
اقبلها فان فيها عتقي فقال: إن كان فيها عتقك فان فيها رقي، وأنا قد قطعت علائق الدنيا
لئلا أكون عبد لغير الله:
برزت من المنازل والقباب * فلم يعسر على أحد حجابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي * سماء الله أو قطع السحاب
75

وأنت إذا أردت دخول بيتي * دخلت مسلما من غير باب
لأني لم أجد مصراع باب * يكون من السحاب إلى التراب
قال الصادق (ع): ارسل عثمان إلى أبي ذر مائتي دينا على يد موليين له وقال لهما:
قولا له هذا من صلب مالي، ولا بثت إليك إلا من حلالي، فقال: لا حاجة لي فيها
فقالا: عافاك الله، والله ما نرى في بيتك قليلا ولا كثيرا مما تستمتع به. فقال: بلى تحت
هذا الإكاف الذي ترون رغيف من شعير قد أتى عليه أيام فما أصنع بهذه الدنانير، ولقد
أصبحت غنيا بولاية علي بن أبي طالب وعترته الطاهرين، المهديين الراضين، المرضيين
الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، وأنا لا حاجة لي عنده حتى ألقى الله عز وجل فيكون
هو الحاكم فيما بيني وبينه، ولقد أوردوا عليه من الصدمات واللطمات ما لا يطيقه اللسان
ولا البيان، ولقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما يرد عليه في قوله: ما أظلت الخضراء، ولا
أقلت الغبراء، على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث
وحده، وهو الهاتف بفضائل أمير المؤمنين (ع).
والسبب في كلام رسول الله كما ذكر الصدوق في علل الشرائع إن أبا ذر أتي يوما
إلى المسجد فقال: ما رأيت كما رأيت البارحة قال: رأيت رسول الله ببابه فخرج ليلا
وأخذ بيد علي بن أبي طالب، وقد خرجا إلى البقيع فما زلت أقفو اثرهما إلى أن أتيا
مقابر مكة، فعدل إلى قبر أبيه فصلى عنده ركعتين فإذا بالقبر قد انشق وإذا بعبد الله
جالس وهو يقول: أشهد ان لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فقال له: من
وليك يا أبة؟ قال: وما الولي يا بني؟ قال: هو هذا علي بن أبي طالب فقال: وأن
عليا ولي قال صلى الله عليه وآله وسلم: فارجع إلى روضتك. ثم عدل إلى قبر أمه فصنع كما صنع عند قبر
أبيه فإذا بالقبر قد انشق وخرجت أمه آمنة، وهي تقول أشهد أن لا إله إلا الله
وانك نبي الله ورسوله فقال لها: من وليك يا أماه؟ فقالت: ومن الولي يا بني؟ فقال:
هو هذا علي بن أبي طالب فقالت: وان عليا ولي. فقال: ارجعي إلى حفرتك
وروضتك. فكذبوا أبا ذر وقالوا يا رسول الله: كذب عليك اليوم أبو ذر وحكى عنك
كيت وكيت. فقال النبي (ص): ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة
أصدق من أبي ذر، يعيش وحده، ويبعث وحده، وظهر ما أخبر به رسول الله حين أخرج
أبو ذر من المدينة، وذلك كما قال في روضة الواعظين إن أبا ذر كان واليا بالشام فأمر عثمان
76

بحمله إلى المدينة على قتب بلا وطاء، وفخذاه تسيلان دما فلما دخل المدينة جرى بينه وبين
عثمان ما جرى، ثم نفاه من المدينة عن حرم الله وحرم رسوله، وأخرجه إلى الربذة
وأقام بها حتى مات فقرا وجوعا وضرا وصبرا.
ولما نزل بالربذة مات بها ولده فوقف على قبره، وقال رحمك الله يا بني لقد كنت
كريم الخلق بارا بالوالدين، وما علي في موتك من غضاضة، وما بي إلى غير الله من حاجة
وقد شغلني الاهتمام لك عن الاعتماد بك ثم قال: اللهم إنك فرضت عليه لي حقوقا فأني
قد وهبت له ما فرضت عليه من حقوقي، فهب له ما فرضت عليه من حقوقك فإنك أولى
بالحق والكرم مني هذا وقوف أبي ذر على قبر ولده وكلماته فيه، وأحرق من هذا
وقوف الحسين (ع) على رأس ولده علي الأكبر (ع) وكلماته الخ.
فلما حضرته الوفاة دخل عليه قوم من أهل الربذة يعودونه فقالوا له: ما تشتكي؟
قال: ذنوبي قالوا: فما تشتهي؟ قال رحمة الله قالوا: فهل لك بطبيب؟ قال: الطبيب
أمرضني. قال لامرأته: اذبحي شاة من غنمك واصنعيها فإذا نضجت فاقعدي على قارعة
الطريق فأول ركب ترينهم قولي يا عباد الله الصالحين هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد
قضى نحبه ولقي ربه، فأعينوني عليه فأجيبوه قال رسول الله (ص): أخبرني أني أموت
في أرض غربة، وأنه يلي غسلي ودفني والصلاة علي رجال من أمته صالحون.
عن محمد ابن علقمة قال: خرجت في رهط أريد الحج منهم مالك بن الحرث الأشتر
فلما قدمنا الربذة إذا بامرأة على قارعة الطريق تقول: يا عباد الله المسلمين، هذا أبو ذر
صاحب رسول الله قد هلك غريبا، ليس لي أحد يعينني عليه. قال: فاسترجعنا لعظم
المصيبة، ثم أقبلنا معها فجهزناه، وتنافسنا في كفنه، ثم قدمنا مالك بن الحرث الأشتر
فصلى بنا عليه ثم دفناه، وقام الأشتر على قبره وقال: اللهم إن هذا أبو ذر صاحب
رسولك، عبدك في العابدين، وجاهد فيك المشركين، لم يغير ولم يبدل، لكنه
رأى منكر فغيره بلسانه وقلبه، حتى حفي ونفي، وحرم واحتقر، ثم مات غريبا وحيدا
اللهم فاقصم من حرمه ونفاه من حرمك وحرم رسولك. فرفعنا أيدينا جميعا وقلنا آمين.
كان أبو ذر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد جفوة ونفوه وأخرجوه عن حرم
الله وحرم رسوله (ص) ولقد جفوة من هو أعز من أبي ذر ونفوه وأخرجوه عن حرم
الله وحرم رسول الله (ص)، وهو ريحانة رسول الله (ص) حيث جمع أهل بيته حوله
77

وقال: اللهم انا عترة نبيك محمد وقد أخرجنا وأزعجنا وطردنا عن حرم جدنا، وتعدت
علينا بنو أمية الخ. ونفوا أيضا عن حرم الله وحرم رسوله موسى بن جعفر، ونفوا
أيضا علي بن موسى الرضا، ونفوا أيضا محمد بن علي الجواد، ونفوا أيضا علي بن محمد الهادي:
مشردون نفوا عن عقر دارهم * كأنهم قد جنوا ما ليس يغتفر
المجلس الثالث والثلاثون
إذا كان يوم القيامة ينادي المنادي أين حواري محمد المصطفى؟ فيقوم سلمان
وأبو ذر، والمقداد، وعمار. ثم ينادي المنادي أين حواري علي بن أبي طالب؟ فيقوم
ميثم التمار، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن حمق الخزاعي، وأويس القرني وميثم (رض)
كان من خواص أصحاب أمير المؤمنين، ومن أصفيائهم، وقد حمله أمير المؤمنين (ع)
بقدر قابليته واستعداده علما، وقد كان يترشح منه، وقد أطلعه علي (ع) على علم كثير
وأسرار خفيه من أسرار الوصية، فكان ميثم يحدث ببعض ذلك، منها قال أبو خالد التمار
كنت مع ميثم بالفرات يوم الجمعة فهبت ريح وهو في سفينة من سفن الربان، قال: فخرج
ونظر إلى الريح فقال: شدوا سفينتكم إن هذا الريح عاصف، مات معاوية الساعة. فلما
كانت الجمعة القابلة قدم بريد من الشام فلقيته فاستخبرته وقلت يا عبد الله ما الخبر؟ قال:
الناس على أحسن حال توفي أمير المؤمنين وبايع الناس يزيد قلت: أي يوم توفي؟ قال:
يوم الجمعة، وكان ميثم لا يفارق عليا صباحا ومساءا ليلا ونهارا، ويحكى عنه بعض
ما رآه منه قال ميثم: أصحر بي مولاي أمير المؤمنين (ع) ليلة من الليالي وقد خرج من
الكوفة وانتهى إلى مسجد جعفي وتوجه إلى القبلة فصلى أربع ركعات فلما سلم وسبح بسط
كفيه وقال إلهي كيف أدعوك وقد عصيتك، وكيف لا أدعوك وقد عرفتك، وحبك
في قلبي مكين، مددت إليك يدا بالذنوب مملوءة، وعينا بالرجاء ممدودة... الدعاء طويل ثم
سجد وعفر، وقال العفو مائة مرة وقام وخرج واتبعته حتى خرج إلى الصحراء وخط
لي خطة وقال: إياك أن تجاوز هذه الخطة ومضى عني وكانت ليلة مدلهمة فقلت: يا نفسي
أسلمت مولاك وله أعداء كثيرون، أي عذر يكون لك عند الله وعند رسوله، والله
78

لأقفون أثره ولأعلمن خبره، وان كنت قد خالفت أمره وجعلت اتبع اثره فوجدته (ع)
مطلعا في البئر إلى نصفه يخاطب البئر، والبئر تخاطبه فحس بي والتفت (ع) وقال: من أنت؟
قلت: ميثم فقال يا ميثم ألم آمرك ان لا تتجاوز الخطة؟ قلت: يا مولاي خشيت عليك
من الأعداء فلم يصبر لذلك قلبي. فقال: أسمعت ما قلت شيئا؟ قلت يا مولاي
فقال يا ميثم:
وفي الصدر لبنات * إذا ضاق لها صدري
نكثت الأرض بالكف * وأبديت لها سري
فمهما تنبت الأرض * فذاك النبت من بذري
وكان ميثم (ره) من الزهاد وممن يبست عليهم جلودهم من العبادة والزهادة، وقيل:
كان أمير المؤمنين (ع) يخرج من الجامع بالكوفة فيجلس عند ميثم التمار فيحادثه، فقال
له ذات يوم: ألا أبشرك يا ميثم فقال: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: بأنك تموت مصلوبا
فقال يا مولاي: وأنا على فطرة الاسلام؟ قال بلى. وروي أنه قال له: كيف أنت يا ميثم
إذا دعاك دعي بني أمية عبيد الله بن زياد إلى البراءة مني فقلت يا أمير المؤمنين: والله
لا أبرء منك قال: إذا والله يقتلك ويصلبك. قلت: أصبر فذاك في الله قليل. فقال:
يا ميثم إذا تكون معي في درجتي. قال المفيد (ره): إن ميثم التمار كان عبدا لامرأة من
من بني أسد فاشتراه أمير المؤمنين (ع) منها فأعتقه فقال له: ما أسمك فقال: سالم. فقال:
أخبرني رسول الله (ص) أن اسمك الذي سماك به أبوك في العجم ميثم. قال: صدق
رسول الله وصدق أمير المؤمنين (ع) والله انه لاسمي قال (ع): ارجع إلى اسمك الذي
سماك به رسول الله (ص) ودع سالما فرجع إلى ميثم، واكتنى بأبي سالم وأخبره بشهادته
كما مر.
وحج ميثم في السنة التي قتل فيها فدخل على أم سلمة فقالت: من أنت؟ قال: أنا
ميثم. قالت: والله لربما سمعت رسول الله (ص) يذكرك في جوف الليل. فسألها عن
الحسين فقالت له: إن الحسين (ع) خرج إلى حائط له. قال أخبريه أنني قد أحببت السلام
عليه ونحن ملتقون عند رب العالمين. فدعت أم سلمة بطيب وطيبت لحيته وقالت له: أما
إنها ستخضب بالدم. فقدم الكوفة فأخذه عبيد الله بن زياد فادخل عليه فقيل له: هذا
كان من آثر الناس عند علي قال: ويحكم هذا الأعجمي؟ قيل له: نعم. قال له عبيد الله:
79

أين ربك؟ قال بالمرصاد لكل ظالم وأنت أحد الظلمة. قال: إنك عجمتك لتبلغ الذي
تريد قال: أخبرني ما أخبرك صاحبك أني فاعل بك؟. قال: أخبرني أنك تصلبني وأنا
عاشر عشرة، وأنا أقصرهم خشبة، وأقربهم إلى المطهرة قال: لنخالفنه قال: كيف تخالفه
فوالله ما أخبرني إلا عن النبي (ص) عن جبرئيل عن الله تعالى فكيف تخالف هؤلاء؟ وقد
عرفت الموضع الذي أصلب عليه أين هو من الكوفة، وأنا أول خلق الله الجم في
الاسلام. فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيد الله فقال له ميثم: إنك تفلت وتخرج ثائرا
بدم الحسين فتقتل هذا الذي يقتلنا، فلما دعا عبيد الله بالمختار ليقتله طلع بريد بكتاب
يزيد إلى عبيد الله بتخلية سبيله فأمر بميثم أن يصلب، فلما نظر إلى النخلة قال: لك
خلقت ولي غذيت. فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمر بن حريث قال
عمرو كان والله يقول لي ميثم: إني مجاورك. فلما صلب أمر عمر وجاريته بكنس تحت
خشبته ورشه وتجميره، فجعل ميثم يحدث بفضائل بني هاشم فقيل لابن زياد: قد فضحكم
هذا العبد، فقال: ألجموه. فكان أول خلق الله ألجم في الاسلام. فلما كان اليوم الثالث
طعن بالحربة فكبر ثم انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دما ومات فاجتمع سبعة من
التمارين لدفن ميثم فجاؤوا إليه ليلا والحراسة يحرسونه، فأوقدوا نارا فحالت بينهم وبين
الحرس فاحتملوه بخشبة حتى انتهوا به إلى فيض من ماء في مراد فدفنوه فيه ورموا الخشبة
في مراد في الخراب، فلما أصبحوا بعث الخيل فلم تجد شيئا.
وممن ينتهي نسبه إلى ميثم أبو الحسن الميثمي علي بن شعيب بن ميثم التمار، وكان
من متكلمي علماء الإمامية في عصر المأمون والمعتصم، وله مناظرات مع الملاحدة ومع
المخالفين، وكان معاصرا لأبي الهذيل العلاف شيخ المعتزلة البصريين: حكى شيخنا المفيد
قال: سأل علي بن ميثم أبا الهذيل العلاف فقال له. ألست تعلم إبليس ينهي عن الخير
كله ويأمر بالشر كله؟ قال. بلى. فيجوز ان يأمر بالشر كله وهو لا يعرفه، وينهى
عن الخير كله، وهو لا يعرفه؟ قال. لا.
فقال له أبو الحسن. قد ثبت ان إبليس يعلم الشر كله، والخير كله. قال أبو الهذيل
اجل قال. فأخبرني عن إمامك الذي تأتم به بعد الرسول (ص) هلم يعلم الخير كله والشر
كله؟ قال. لا. قال له. فإبليس اعلم من إمامك. فانقطع أبو الهذيل. وكان قتل ميثم
قبل قدوم الحسين إلى العراق بعشرة أيام وبعد شهادة مسلم بأيام.
80

وفي منهج المقال مر ميثم على فرس له فاستقبله حبيب بن مظاهر الأسدي على فرس
له عند مجلس بني أسد فتحادثا حتى اختلفت أعناق فرسيهما ثم قال حبيب. فكأني بشيخ
أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق، قد صلب في حب أهل بيت نبيه، ويبقر
بطنه على الخشبة فقال ميثم. وإني لأعرف رجلا احمر له ظفيرتان يخرج لنصرة ابن بنت
نبيه فيقتل، ويجال برأسه في أزقة الكوفة. ثم افترقا فقال أهل المجلس. ما رأينا اكذب من
هذين. قال فلم يفترق أهل المجلس حتى اقبل رشيد الهجري فطلبهما فسأل أهل المجلس
عنهما فقالوا. افترقا وسمعناهما يقولان كذا. فقال رشيد الهجري. رحم الله ميثما نسي
ويزاد في عطاء الذي يجئ بالرأس مئة درهم ثم ادبر. فقال القوم. هذا والله
أكذبهم. فقال القوم. والله ما ذهبت الأيام والليالي حتى رأينا ميثما مصلوبا على باب
دار عمرو بن حريث، وجئ برأس حبيب بن مظاهر قد قتل مع الحسين ورأينا
كل ما قالوا..
المجلس الرابع والثلاثون
ومن حواري أمير المؤمنين عمرو بن حمق الخزاعي، هاجر إلى النبي (ص) بعد
الحديبية، وصحب النبي (ص) وحفظ عنه أحاديث، وإنه سقى النبي (ص) فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم
له وقال: اللهم متعه بشبابه فمرت عليه ثمانون سنة لا يرى في لحيته شعرة بيضاء وصار بعد
ذلك من شيعة علي (ع) وانه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (ع) وشهد معه
مشاهده كلها بجمل وصفين والنهروان، وانه كان من أمير المؤمنين (ع) بمنزلة سلمان من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي نفس المهموم عن الاختصاص لما جاء عمرو بن الحمق الكوفة إلى أمير المؤمنين
عليه السلام قال: والله ما جئتك لمال من الدنيا تعطنيها، ولا لالتماس سلطان ترفع به
ذكري إلا لأنك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعظم سهما للاسلام من المهاجرين والأنصار
والله لو كلفتني نقل الجبال الرواسي ونزح البحور الطوامي أبدا حتى يأتي علي يومي وفي
يدي سيفي أهز به عدوك وأقري به وليك، ويعلى به كعبك، ويفلح به حجتك
81

ما ظننت أني أديت من حقك كل الحق الذي يجب لك علي فقال أمير المؤمنين (ع) اللهم
نور قلبه، واهده إلى الصراط المستقيم، ليت أن في شيعتي مئة مثلك، وكان ممن أعان
حجر بن عدي، وكان من أصحابه فخاف زيادا فهرب من العراق إلى الموصل، واختفى في
غار في القرب منها، فأرسل العامل إلى الموصل ليأخذه من الغار الذي كان فيه فوجده ميتا
قد نهشته حية فمات، وقبره مشهور بظاهر الموصل وهو يزار وعليه مشهد كبير، وفي رواية أخرى لما أخذوا حجر بن عدي وأصحابه هرب عمر بن حمق إلى الموصل فاخذه
أسيرا في طريقه، وبعثوا به إلى عامل الموصل، وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، الذي
يعرف بابن أم الحكم، وهو ابن أخت معاوية فكتب خبره إلى معاوية، فكتب إليه معاوية
انه زعم أنه طعن عثمان تسع طعنات، وانه لا يتعدى عليه فاطعنه تسع طعنات كما طعن
عثمان. فاخرج فطعن تسع طعنات، فمات في الأولى منهم أو في الثانية. وبعث برأسه
إلى معاوية فكان رأسه أول رأس حمل في الاسلام على رأس رمح وأهدي إلى معاوية
وأعظم من ذلك حمل رأس الحسين (ع) إلى الشام على رأس رمح طويل إلى يزيد بن معاوية.
ومن كتاب مولانا الحسين (ع) إلى معاوية: أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفر لونه، بعد ما أمنته
وأعطيته من عهود الله وميثاقه، ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل ثم قتلته
جرأة على ربك، واستخفافا بذلك العهد، ويظهر من الخبر أن آمنة بنت الرشيد زوجة
عمرو بن الحمق كانت بالشام، ويحتمل أن عمرو بن الحمق لما هرب من الكوفة إلى الموصل
بعث بها إلى الشام، خوفا عليها من الأعداء أو أن زيادا لما لم يظفر بعمرو بن الحمق
أخذ زوجته أسيرة وبعث بها إلى معاوية. ولما جاؤوا برأسه إلى معاوية بعث به إلى امرأته
فوضع في حجرها فقالت: سترتموه عني طويلا وأهديتموه إلي قتيلا، فأهلا وسهلا من
هدية غير قالية ولا بمقلية، بلغ أيها الرسول عني معاوية ما أقول طلب لله بدمه، وعجل
له الويل من نقمه، فقد أتى أمرا فريا، وقتل بارا تقيا، فابلغ أيها الرسول معاوية
ما قلت. فبلغ الرسول ما قالت. فغضب معاوية فأحضرها في المجلس، فقال لها: أنت
القائلة ما قلت؟ قالت: نعم غير ناكلة عنه، ولا معتذرة منه قال لها أخرجي عن بلادي
قالت: أفعل فوالله ما هو لي بوطن ولا أحن فيها إلى سكن، ولقد طال بها سهري
واشتهر بها عبري، وكثر فيها ديني، من غير ما قرت به عيني. فقال عبد الله بن أبي
82

سرح (الكلب): يا أمير المؤمنين إنها منافقة فألحقها بزوجها. فنظرت إليه فقالت:
يا من بين لحييه كجثمان الضفدع، ألا قتلت من أنعمك خلعا وأصفاك بكناء، إنما
المارق المنافق من قال بغير صواب، واتخذ العباد كالأرباب، فأنزل كفره في الكتاب
فأومى معاوية إلى الحاجب فأخرجها فقالت: واعجبا من ابن هند يشير ببنانه، ويمنعني
نوافذ لسانه، أما والله لأبقرنه بكلام عتيد كنوافذ الحديد، أو ما انا بآمنة بنت الشريد
ومن المعلوم أن معاوية لم يبعث برأس هذا العبد الصالح إلى زوجته إلا ليحرق قلبها ويهيج
حزنها، ويظهر الشماتة بها ويسكن قلبه من الضغائن والأحقاد المكنونة التي قد امتلأ بها
صدره، وأشنع من فعل معاوية ما فعله يزيد إذ بعث برأس الحسين إلى يتيمته في تلك
الخربة في تلك الليلة التي رأت يتيمة الحسين أباها في المنام، قامت وقالت: عمتي أين والدي
فقد أتى من سفره فلماذا غاب عنا؟ فعرفن انها رأت أباها في المنام الخ.
وقصة تشرفه بالاسلام على ما روي في الكتب المعتبرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسل
سرية فقال لهم: إنكم تضلون ساعة كذا من الليل، فخذوا ذات اليسار فإنكم تمرون برجل
في شأنه فتسترشدونه، فيأبى أن يرشدكم حتى تصيبوا من طعامه فيذبح لكم كبشا فيطعمكم
ثم يقوم فيرشدكم فاقرؤه مني السلام. وأعلموه إني قد ظهرت بالمدينة. فمضوا فضلوا
الطريق فقال قائل منهم: ألم يقل لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تياسروا؟ ففعلوا ومروا بالرجل
الذي قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاسترشدوه، فقال لهم الرجل: لا أفعل حتى تصيبوا من
طعامي ففعلوا فأرشدهم الطريق ونسوا أن يقرؤه السلام من رسول الله (ص) فقال: لهم
الرجل وهو عمرو بن الحمق أظهر النبي (ص) بالمدينة؟ فقالوا: نعم فلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ولبث معه ما شاء الله ثم قال له رسول الله (ص): ارجع إلى الموضع الذي منه هاجرت
فإذا تولى أمير المؤمنين الكوفة فأته. فانصرف الرجل حتى إذا نزل أمير المؤمنين (ع)
الكوفة وافاه، وأقام معه بالكوفة، ثم أن عليا (ع) قال له: ألك دار؟ قال: نعم. قال
فبعها واجعلها في الأزد فاني غدا لو غبت لطلبت فمنعك الأزد حتى تخرج عن الكوفة
متوجها إلى حصن الموصل فتمر برجل مقعد فتقعد عنده ثم تستقيه فيسقيك ويسألك عن
شأنك فأخبره وادعه إلى الاسلام غ فإنه يسلم وامسح بيدك على وركيه فان الله تعالى
يمسح ما به، وينهض قائما فيتبعك وتمر برجل أعمى على ظهر الطريق فتستقيه، فيسقيك
ويسألك عن شأنك فأخبره وادعه إلى الاسلام فإنه يسلم وامسح بيدك على عينيه فان الله
83

عز وجل يعيده بصيرا فيتبعك، وهما يوريان بدنك في التراب، ثم تتبعك الخيل فإذا
صرت قريبا من الحصن في موضع كذا وكذا رهقتك الخيل فأنزل عن فرسك وفر إلى
الغار فإنه يشترك في دمك فسقة من الجن والإنس. ففعل ما قال له أمير المؤمنين (ع) قال:
فلما انتهى إلى الحصن قال للرجلان: اصعدا فانظرا هل تريان شيئا؟ قالا: نرى خيلا
مقبلة فنزل عن فرسه ودخل الغار وانفلت فرسه وذهب، فلما دخل الغار ضربه أسود
سالخ في فيه وجاءت الخيل فلما رأوا فرسه غائرة قالوا: هذا فرسه وهو قريب فطلبه الرجال
فأصابوه في الغار فكلما ضربوا أيديهم إلى شئ من جسمه ينفصل العضو فأخذوا رأسه
فاتوا به معاوية فنصب على رمح وهو أول رأس نصب في الاسلام على رأس رمح.
وفي رواية واراه زاهر مولاه والمولى في هذا المقام بمعنى التابع وهو على ما في مستدرك
الوسائل من أصحاب علي (ع) ولما هرب عمروا خرج زاهر منه فلما نزل عمرو بالوادي
ونهشته الحية في جوف الليل فأصبح منتفخا قال يا زاهر: تنح عني فان حبيبي رسول الله (ص)
قد أخبرني أنه سيشترك في دمي الجن والإنس، ولا بد لي ان اقتل فبينما هما كذلك إذا
رأيا نواصي الخيل في طلب عمرو فقال: يا زاهر تغيب فإذا قتلت فإنهم سوف يأخذون
رأسي، فإذا انصرفوا فاخرج إلى جسدي فواره، قال زاهر. لا بل أنثر نبلي ثم أرميهم
به، فإذا فنيت نبلي قتلت معك قال: لا بل تفعل ما سألتك به ينفعك الله به. فاختفى
زاهر، وأتى القوم فقتلوا عمر واحتزوا رأسه فحملوه، فلما انصرفوا خرج زاهر
فوارى جسده فوفق لمواراة عمرو ودفنه، ثم ساقته السعادة إلى أن رزق الشهادة في نصرة
الحسين (ع). وبقي حتى قتل مع الحسين (ع) والحجة عجل الله تعالى فرجه يسلم عليه في
زيارة الناحية، السلام على زاهر مولى عمرو بن الحمق الخزاعي.
وقول عمرو بن الحمق له: تفعل ما سألتك ينفعك الله به. إشارة إلى أنك ترزق
الشهادة في مقام أحسن من هذا المقام وهو طف كربلاء مع سيد الشهداء (ع) في نصرة ابن
بنت رسول الله (ص) نعم والله فكا أن الحسين (ع) سيد الشهداء فكذلك أصحابه سادات
الشهداء، وفي الخبر الشهيد معه كالشهيد مع الأنبياء مقبل غير مدبر (فطوبى لهم وحسن
مآب) الخ.
84

المجلس الخامس والثلاثون
قال ابن الأثير في كامل التواريخ قال الحسن البصري: أربع خصال في معاوية لو لم
نكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة، إنتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الامر منهم
من غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه بعده ابنه سكيرا خميرا
يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا، وقد قال رسول الله (ص): الولد
للفراش وللعاهر الحجر، وقتل حجر بن عدي وأصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر
وأصحابه وكان حجر من كبار أصحاب أمير المؤمنين (ع)، وكان من الابدال ويعرف بحجر
الخير، وكان معروفا بالزهد والعبادة.
وحكي أنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان يجاب الدعوة، وكان أهل
الكوفة يقولون: أول ذل دخل الكوفة قتل حجر ودعوة زياد للبراءة من علي (ع) وقتل
الحسين (ع)، ووقع قتل حجر في سنة إحدى وخمسين من الهجرة بسعاية زياد إلى معاوية
وكيفيته على ما أخرجناه خاليا عن الإطالة والحشو والزوائد أن المغيرة بن شعبة لما ولي
الكوفة كان يقوم على المنبر فيذم أمير المؤمنين (ع) وشيعته وينال منهم ويلعن قتلة عثمان
ويستغفر لعثمان ويزكيه فيقوم حجر بن عدي فيقول: (يا أيها الذين آمنوا كونوا
قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم، وإني أشهد من تذمون أحق بالفضل
ممن تطرءون، ومن تزكون أحق بالذم ممن تعيبون. فيقول له المغيرة: يا حجر ويحك
اكفف عن هذا واتق غضبة السلطان وسطوته فإنها كثيرا ما يقتل مثلك. ثم يكف عنه
فلم يزل كذلك إلى أن خطب المغيرة يوما على المنبر، وكان آخر أيامه فنال من علي (ع)
ولعنه ولعن شيعته فوثب حجر وفغر فغرة أسمع كل من في المسجد وخارجه، فقال: إنك
لا تدري أيها الانسان بمن تولع، وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين، وتقريظ
المجرمين ثم أهلك المغيرة، وذلك في سنة خمسين فجمعت الكوفة والبصرة لزياد بن أبيه
فدخلها ووجه إلى حجر فجاؤه وكان له قبل ذلك صديقا فقال: قد بلغني ما كنت تفعله
بالمغيرة فيحتمله منك، واني والله لا احتملك على مثل ذلك أبدا أرأيت ما كنت تعرفني
85

به من حب علي ووده فان الله قد سلخه من صدري فصيره بغضا وعداوة وما كنت
تعرفني به من بغض معاوية وعداوته فان الله قد سلخه من صدري وحوله حبا ومودة، إنك
ان تستقم تسم لك دنياك ودينك، وان تأخذ يمينا وشمالا تهلك نفسك وتشط عندي
دمك، إني لأحب التنكيل قبل التقدمة ولا آخذ بغير حجة، اللهم اشهد فقال حجر:
ان يرى الأمير مني إلا ما يحب، وقد نصح وأنا قابل النصيحة. ثم خرج من عنده فكان
حجر يتقيه ويهابه وكان زياد يدنيه ويكرمه والشيعة تختلف إلى حجر وتسمع.
وكان زياد يشتي بالبصرة ويصيف بالكوفة، ويستخلف على البصرة سمرة بن
جندب، وعلى الكوفة عمرو بن حريث، فقال: عمارة بن عقبة لزياد: إن الشيعة تختلف
إلى حجر وتسمع منه ولا أراه عند خروجك إلا أثار الفتنة. فدعاه زياد فحذره
وأنذره ووعده وخرج إلى البصرة، واستعمل عمرو بن حريث على الكوفة فجعلت الشيعة
تختلف إلى حجر ويجئ حجر حتى يجلس في المسجد، فيجتمع إليه الشيعة حتى يأخذوا
ثلث المسجد أو نصفه، وتطيف بهم النظارة ثم يمتلي المسجد ثم كثروا وكثر جمعهم
ولفظهم وعلت أصواتهم بذم معاوية ونقص زياد، وبلغ ذلك عمرو بن حريث فصعد
المنبر، واجتمع إليه اشراف أهل المصر فحثهم على الطاعة والجماعة، وحذرهم الخلاف
فوثب إليه جماعة من أصحاب حجر يكبرون ويشتمون حتى دنوا منه فحصبوه وشتموه حتى
نزل ودخل القصر وأغلق عليه بابه وكتب إلى زياد الخبر فلما قرأ الكتاب قال ما انا بشئ
ان لم أمنع الكوفة من حجر وادعه نكالا لمن بعده ويل أمك يا حجر.
ثم اقبل زياد حتى دخل الكوفة وأتى قصر الامارة وخرج وعليه قباء سندسي
ومطرف خز أخضر وحجر جالس في المسجد، وحوله أصحابه، فصعد زياد على المنبر
فخطب وحذر الناس، ثم أمر أشراف أهل الكوفة وقال ليقم كل امرئ منكم إلى الجماعة
التي حول حجر فليدع الرجل أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته حتى تقيموا
عنه كل ما استطعتم، ففعلوا وجعلوا يقيمون عنه أصحابه حتى تفرق أكثرهم فلما رأى
زياد خفة أصحابه قال لشداد بن الهيثم الهلالي أمير الشرطة: علي بحجر. فأتى به فأتاه شداد
وقال: يا حجر أجب الأمير. فقال أصحاب حجر: لا والله ولأنعمه عينا ولا نجيبه. فقال
شداد لأصحابه علي بغمد السيوف فاشتدوا إليها فأقبلوا بها وازدحموا عليه، وتكاثروا
وكان حجر شجاعا فارسا فوقع فيهم وأعانه عليهم عدد معدود من أصحابه منهم عمرو بن
86

حمق الخزاعي (ره)، وكان قد بالغ في دفع القوم عن حجر حتى ضرب رأس عمرو بعمود
فوقع إلى أن انتهوا بحجر إلى منزله، فلما رأى قلة من معه قال لأصحابه: انصرفوا فوالله
ما لكم طاقة بمن اجتمع عليكم من قومكم، وما أن أعرضكم للهلاك يعني ما أحب نجاة
نفسي وان احتقن دمي بسفك دمائكم وهتك أعراضكم على أني اعلم بأنه لا بد وأن يقع
هذا الامر، فلقد أخبرني الصادق المصدق الصديق الأكبر أمير المؤمنين (ع). وذلك
حين دخل حجر بن عدي على علي (ع) بعد أن ضربه ابن ملجم (لع) فقام إليه حجر بن
عدي وقال:
فيا أسفي على المولى التقي * أبي الأطهار حيدرة الزكي
فلما بصر به أمير المؤمنين (ع) وسمع شعره قال له: كيف لي بك إذا دعيت إلى
البراءة مني فما عساك أن تقول؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسيف إربا إربا
واضرم لي النار وألقيت فيها لأثرت ذلك على البراءة منك. فقال (ع): وفقت لكل
خير يا حجر جزاك الله خيرا عن أهل بيت نبيك، وظهر ما أخبر به أمير المؤمنين (ع)
لان زيادا لما بعث إليه فأتي به فقال له: يا عدو الله ما تقول في أبي تراب؟ قال: ما اعرف
أبا تراب قال: ما عرفك به قال ما اعرفه قال: أما تعرف علي بن أبي طالب؟ قال: بلى
قال: فذاك أبو تراب قال: كلا ذاك أبو الحسن والحسين. فقال له صاحب الشرطة: يقول
لك الأمير: هو أبو تراب وتقول أنت لا؟ قال وان كذب الأمير أتريد ان اكذب
وأشهد بالباطل كما شهد؟ قال له زياد: وهذا أيضا مع ذنبك علي بالعصا فأتي بها فقال
ما قولك؟ قال أحسن قول انا قائله في عبد من عباد الله المؤمنين. قال: اضربوا عاتقه في
العصي حتى يلصق بالأرض فضرب حتى لزم الأرض ثم قال: اقلعوا عنه ايه ما قولك في
علي؟ قال والله لو شرحتني بالمواس والمدى ما قلت إلا ما سمعت مني! قال: لتلعننه
أو لأضربن عنقك قال: إذا والله تضربها قبل ذلك فان أبيت إلا أن تضربها رضيت بالله
وشقيت أنت. قال ادفعوا في رقبته ثم قال: أوقروه وحيدا وألقوه في السجن.
والحاصل اخذوه وقيدوه وجد زياد في طلب أصحاب حجر وهم يهربون ويأخذ
منهم من قدر عليهم حتى جمع منهم أثني عشر رجلا في السجن، وبعث إلى رؤساء أهل
الكوفة واحضرهم، وقال لهم: أشهدوا على حجر وأصحابه بما رأيتموه فشهدوا وكتبوا
فشهد سبعون رجلا بهذه الكلمات:
87

بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما شهد به فلان الله رب العالمين شهد أن حجر بن عدي
خلع الطاعة، وفارق الجماعة، ولعن الخليفة، ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع
يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع أمير المؤمنين معاوية وكفر بالله كفرا شنيعا. قال زياد
على مثل هذه الشهادة فاشهدوا والله لأجهدن في قطع عنق الخائن الأحمق ثم حبس حجر
ابن عدي مع أصحابه عشر ليال حتى تمت الشهادة وكتب إلى معاوية كتابا يقول فيه:
لعبد الله معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين من زياد بن أبي سفيان.
أما بعد: فان الله قد أحسن عند أمير المؤمنين البلاء فأدله من عدوه وكفى مؤنة
من بغى عليه، إن طواغيت الترابية السبائية رأسهم حجر بن عدي خلعوا أمير المؤمنين
وفارقوا جماعة المسلمين ونصبوا لنا حربا فأطفأها الله عليهم، وأمكننا منهم، وقد
دعوت خيار أهل المصر واشرافهم وذوي النهى والدين فشهدوا عليهم بما رأوا، وعلموا
هذا. ثم أمر بحملهم إلى معاوية، وهم مغللون وقد اجتمع حولهم الناس وهم محزونون
باكون.
وروى إبراهيم بن الجنيد في كتاب الأولياء ان حجر بن عدي أصابته في طريقه
جنابة فقال للموكل به: اعطني شرابي أتطهر به، ولا تعطني غدا شيئا.
فقال: أخاف أن تموت عطشا فيقتلني معاوية قال: فدعى الله فانسكبت له سحابة
بالماء فأخذ منها الذي احتاج إليه فقال له أصحابه: ادع الله ان يخلصنا فقال: اللهم خر
لنا قال: فقتل هو وطائفة منهم بأمر معاوية، ومن أصحاب حجر قبيصة بن ضبيعة العبسي
منزله بحبانة عرزم، وهي منزل بالكوفة فلما بلغوه هناك فإذا بناته مشرفات للحرسة فقال:
ادنوني أوص أهلي وأسلي خاطرهم. فأدنوه، فلما رأينه بكين فسكت عنهن ساعة ثم قال:
اسكتن فقال: اتقين الله واصبرن فاني أرجو من ربي في وجهي هذا خيرا إحدى الحسنين
اما الشهادة فنعم السعادة، واما الانصراف إليكن في عافية فان الذي كان يرزقكن، ويكفيني
مؤنتكن هو الله تبارك وتعالى، وهو حي لا يموت، وأرجو أن لا يضيعكن، وان
يحفظني فيكن. ثم انصرف فجعل قومه يدعون له بالعافية فمضوا بهم حتى انتهوا بهم إلى
مرج عذراء وهم على أميال من دمشق فحبسوا به حتى مضى القاصد إلى معاوية، وبعث
الكتاب إليه فلما قرأه وعرف معناه وعرف خبر القوم قال لجلسائه: ما ترون في هؤلاء؟.
88

فقال يزيد بن أسد البجلي: أرى أن تفرقهم في قرى الشام فتكفيهم طواغيتها
فجاء رسول معاوية إلى حجر وأمر بتخلية ستة منهم بشفاعة بعض رؤساء الشام وبقي في السجن
ثمانية وكانوا في تلك الليلة ينظرون إلى حجر وأصحابه، فلما أصبحوا قال لهم أصحاب
معاوية: يا هؤلاء قد رأيناكم البارحة قد أطلتم الصلاة، وأحسنتم الدعاء، فأخبرونا ما قولكم
في عثمان؟ قالوا: هو أول من جار في الحكم وعمل بغير الحق.
فقالوا: أمير المؤمنين كان اعرف بكم وانا قد أمرنا ان نعرض عليكم البراءة من علي
واللعن له فان فعلتم هذا تركناكم، وان أبيتم قتلناكم وأمير المؤمنين يزعم أن دماءكم قد
حلت بشهادة أهل مصركم عليكم غير أنه عفى عن ذلك فابرؤا من هذا الرجل يخل سبيلكم
قالوا لسنا فاعلين. فأمروا بقيودهم فحلت، وأتى بأكفانهم واخذوا يقتلونهم قال لهم
حجر بن عدي دعوني أصلي ركعتين فاني والله ما توضأت قط إلا صليت قالوا له: صلي
فصلى ثم انصرف فقال: والله ما صليت صلاة اقصر منها، ولولا يروا أن ما بي جزع
من الموت لأطلت فيها ولأحببت أن استكثر منها. فمشى إليه لعين بالسيف فأرعدت
فرائصه فقال: كلا زعمت أنك لا تجزع من الموت فانا ندعك فابرء من صاحبك. فقال:
ما لي لا اجزع وانا أرى قبرا محفورا، وكفنا مشهورا، واني والله ان جزعت لا أقول
ما يسخط الرب. ثم قال لمن حضره من قومه: لا تطلقوا عني حديدا، ولا تغسلوا عني
دما، فاني لاق معاوية غدا على الجادة، وفي نفس الهموم للفاضل المعاصر الشيخ عباس
القمي دامت تأييداته نقل عن كتاب الفرق للشيخ أبي محمد الحسن بن موسى النوبختي قال في
تاريخ وفاة الإمام موسى بن جعفر (ع) ويقال في رواية أخرى: انه رأى الإمام موسى
ابن جعفر (ع) دفن بقيوده وانه أوصى بذلك.
ثم اقبلوا يقتلون أصحابه واحدا بعد واحد حتى قتلوا ستة، وبقي منهم رجلان:
عبد الرحمن بن حسان العنزي، وكريم بن عفيف الخثعمي قالا: ابعثوا بنا إلى معاوية
فانا نكلمه على ما يريد فنحن نقول في هذا الرجل مقالته فبعثوا بهما إلى معاوية فلما دخلا
عليه قال له الخثعمي: الله الله يا معاوية انك منقول من هذا الدار الزائلة إلى الدار الآخرة
الدائمة ومسؤول عما أردت بسفك دمائنا فقال معاوية: ما تقول في علي؟ فاجابه بجواب
وقام شمر بن عبد الله الخثعمي فاستوهبه فوهبه على أن يحبسه شهرا ثم لا يدخل الكوفة
ما دام معاوية سلطان، ثم اقبل عبد الرحمن بن حسان فقال له: يا أخا ربيعة ما تقول
89

في علي؟ قال: أشهد انه من الذاكرين الله كثيرا، والامرين بالمعروف، والناهين عن
المنكر، والعافين عن الناس، قال فما تقول في عثمان؟ قال: أول من فتح أبواب الظلم
وارتج أبواب الحق قال: قتلت نفسك قال: بل إياك قتلت فغضب معاوية من قوله
وبعث به إلى زياد، وقال إن هذا شر من بعثت به فعاقبه بالعقوبة التي هو أهلها واقتله
شر قتلة فلما قدموا به على زياد أمر اللعين بان ادفنوه حيا، وندم معاوية بعد قتله أي
(حجر بن عدي) وجعل يقول عند موته: يوم لي من ابن الأدبر طويل. أراد بابن
الأدبر حجرا فإنه ابن عدي الأدبر، وإنما سمي الابر لأنه ضرب بالسيف على أليتيه
وسمي الأدبر، وفي كتاب مولانا الحسين (ع) إلى معاوية: الست قاتل حجر بن عدي أخا
كندة، والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ولا يخافون
في الله لومة لائم؟ ثم قتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما كنت أعطيتهم الايمان المغلظة
والمواثيق المؤكدة. وحكي ان الربيع بن زياد الحارثي كان واليا على خراسان فلما سمع قتل
حجر وأصحابه تمنى موته ورفع يديه إلى الله وقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني
إليك عاجلا فمات بعده نعم في الخبر المؤمن كجسد واحد إذا اشتكى منه عضو اشتكت
الأعضاء كلها. المؤمن لا يرضى بان يرى أخاه المؤمن في نكبة أو مصيبة. وهو لا يقدر
أن يدفع عنه ولذا يطلب الموت من الله وهو أهون عليه من ذلك. هذا العبد الصالح يتمنى
الموت في قتل حجر بن عدي وأمير المؤمنين (ع) يتمنى الموت في فقد عمار يوم صفين حين
جلس عنده واخذ رأسه وتركه في حجره وعمار يجود بنفسه فلما رأى علي (ع) أنه قد
فارقت روحه الدنيا بكى وأنشأ يقول:
الا أيها الموت الذي هو قاصدي * أرحني فقد أفنيت كل خليل
أراك بصيرا بالذين أحبهم * كأنك تنحو نحوهم بدليل
نعم فقد الأحبة أصعب وأمر من الموت في مذاق الانسان الكامل وعند الأحباب
والأصدقاء والأخلاء ولا سيما إذا كان الفراق والتفرقة بينهما بالموت فليس شئ أمر منه
كما قال الشاعر:
يقولون إن الموت صعب على الفتى * مفارقة الأحباب والله أصعب
إذا فما حال الحسين (ع) يوم فقد اثنين وسبعين من أحبته وثمانية عشر رجلا من
أهل بيته وأفلاذ كبده بعدما كانوا معه قبل ساعة:
90

بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا * وخلفوا في سويد القلب نيرانا
المجلس السادس والثلاثون
قال في المجلد التاسع من البحار: رشيد بضم الراء الهجري نسبته إلى هجر بفتح أوله
وثانيه، مدينة هي قاعدة البحرين أي دار الخلافة، ومقام السلطنة أو ناحية البحرين كلها
كان أمير المؤمنين (ع) يسميه رشيد البلايا كان قد ألقى (ع) علم البلايا والمنايا ويقول:
فلان يموت بموتة كذا وكذا، وفلان يموت بقتلة كذا وكذا فيكون كما قال:
وري عن كتاب الاختصاص قال: لما طلب زياد أبا عبد الله رشيد الهجري اختفى
رشيد فجاء ذات يوم إلى أبي أراكة وهو من أصحاب أمير المؤمنين (ع) وعده البرقي من
خواص أصحابه مثل الأصبغ بن نباتة، ومالك الأشتر، وكميل بن زياد، وآل أبي أراكة
مشهورون في رجال الشيعة ورواة الأئمة عليهم السلام وكان أبو أراكة جالسا على بابه في
جماعة من أصحابه فدخل منزل أبي أراكة ففزع لذلك أبو أراكة وخاف فقام، ودخل
داره في اثره، وقال: ويحك قتلتني وأيتمت ولدي وأهلكتهم. قال: وما ذاك؟ قال:
أنت مطلوب وجئت حتى دخلت داري، وقد رآك من كان عندي. فقال: ما رآني أحد
منهم قال وستخرج أيضا فأخذه وشد كتافا ثم أدخله بيتا وأغلق عليه بابه ولم يكن هذا
عن استخفاف به بل كان من الخوف على نفسه فان زيادا كان شديدا في طلب رشيد وأمثاله
من شيعة أمير المؤمنين والتنكيل والتعذيب بهم وبمن أعانهم وأضافهم وأجارهم، وبعد
ذلك خرج إلى أصحابه فقال لهم: انه خيل إلي ان رجلا شيخا قد دخل داري آنفا قالوا:
ما رأينا أحدا فكرر ذلك عليهم كل ذلك يقولون: ما رأينا أحدا فسكت عنهم. ثم إنه
تخوف ان كيون قد رآه غيرهم فذهب إلى مجلس زياد ليتجسس هل يذكرونه فان هم أحسوا
بذلك اخبرهم عنده، وجعل يتكلم معه فبينما هو كذلك إذ اقبل رشيد الهجري على بغلة أبي أراكة
مقبلا نحو مجلس زياد فلما نظر إليه أبو أراكة تغير وجهه وأسقط ما في يده، وأيقن بالهلاك
والقتل من زياد لنفسه وأهله. فنزل رشيد عن البغلة وأقبل إلى زياد فسلم عليه فقام إليه
زياد فاعتنقه فقبله ثم أخذ يسأله كيف قدمت؟ وكيف خلفت؟ وكيف كنت في
91

مسيرك؟ وأخذ لحيته ثم مكث هنيئة ثم قام فذهب، فقال أبو أراكة لزياد: أصلح الله
الأمير من هذا الشيخ؟ قال: هذا أخ من إخواننا من أهل الشام وقدم علينا زائرا
فانصرف أبو أراكة إلى منزله فإذا رشيد بالبيت كما تركه فقال له أبو أراكة: أما إذا كان
عندك من العلم كما أرى فاصنع ما بدا لك واخل علينا كيف شئت؟.
وروى الشيخ الكشي عن أبي حيان البجلي عن قنوا بنت رشيد الهجري قال: قلت لها
أخبريني ما سمعت من أبيك؟ قالت: سمعت من أبي يقول: أخبرني مولاي أمير المؤمنين
عليه السلام فقال يا رشيد: كيف صبرك إذا أرسل إليك دعي بني أمية فقطع يديك
ورجليك ولسانك فقلت: يا أمير المؤمنين أدخر ذلك إلى الجنة. فقال يا رشيد: أنت
معي في الدنيا والآخرة. قالت: فوالله ما ذهبت الأيام حتى أرسل إليه عبيد الله بن زياد
الدعي فدعاه إلى البراءة من أمير المؤمنين (ع) فأبى أن يتبرأ منه فقال له الدعي: فأي
ميتة قال لك تموت؟ فقال له: أخبرني خليلي انك تدعوني إلى البراءة منه فلا أبرأ فتقطع
يدي ورجلي ولساني. فقال: والله لأكذبن قوله قال: فقدموه فقطع يديه ورجليه وترك
لسانه، فحملت أطراف يديه ورجليه: فقلت يا أبتاه هل تجد ألما أصابك؟ فقال: لا يا بنية
إلا كالزحام بين الناس فلما حملناه وأخرجناه من القصر اجتمع الناس حوله فقال:
ايتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم ما يكون إلى يوم الساعة. فأرسل إليه حجام حتى قطع
لسانه، فمات رحمه الله في ليلته.
وروي عن فضيل بن الزبير قال: خرج أمير المؤمنين (ع) بالكوفة يوما إلى البستان
البرني ومعه أصحابه فجلس تحت نخلة ثم أمر بنخلة فقطعت فأنزل منها رطب فوضع بين أيديهم
فقال رشيد الهجري: يا أمير المؤمنين (ع) ما أطيب هذا الرطب؟ فقال يا رشيد: اما
انك تصلب على جذعها قال رشيد: فكنت اختلف إليها طرفي النهار وأسقيها ومضى
أمير المؤمنين فجئتها يوما وقد قطع سعفها قلت: اقترب أجلي ثم جئت يوما فجاء العريف
فقال: أجب الأمير فاتيته فلما دخلت القصر فإذا الخشبة ملقاة ثم جئت يوما آخر فإذا
النصف قد جعل زرنوق يستسقى عليه الماء فقلت: ما كذبني خليلي فأتاني العريف فقال:
أجب الأمير فأتيته فلما دخلت القصر إذا الخشبة ملقاة وإذا فيها الزرنوق فجئت حتى ضربت
الزرنوق برجلي ثم أدخلت على عبيد الله بن زياد قال: هات من كذب صاحبك فقلت: والله
ما أنا بكاذب ولا هو، وقد أخبرني انك تقطع يدي ورجلي ولساني. فقال: إذا والله
92

نكذبه اقطعوا يديه ورجليه واخرجوه. فلما حمل إلى أهله أقبل يحدث الناس بالعظائم وهو
يقول: أيها الناس سلوني فان للقوم عندي طلبة لما يقضوها فدخل رجل على ابن زياد
فقال: ما صنعت قطعت يده ورجله وهو يحدث الناس بالعظائم ثم قال: ردوه وقد
انتهى إلى بابه فردوه فأمر بقطع يديه ورجليه ولسانه وأمر بصلبه. قلت: الزرنوق
بضم الزاء وسكون الراء المهملة تثنيته الزرنوقان وهما منارتان تبنيان على جانبي النهر
ويظهر من كلام شيخنا المفيد قدس سره ان زيادا لعنه الله قتل رشيد الهجري ونحن نذكر
الخبر بعينه.
روى شيخنا المفيد عن زياد ابن النصر الحارثي قال: كنت عند زياد إذ أتي برشيد
الهجري فقال له زياد: ما قال لك صاحبك يعني عليا إنا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي
ورجلي وتصلبونني، فقال زياد: اما والله لأكذبن حديثه خلوا سبيله فلما أراد أن
يخرج قال زياد: والله ما نجد له شيئا شرا مما قال له صاحبه اقطعوا يديه ورجليه واصلبوه
فقال رشيد: هيهات قد بقي لي عندكم شئ اخبرني به أمير المؤمنين (ع) فقال زياد:
اقطعوا لسانه: فقال رشيد الان والله جاء تصديق خبر أمير المؤمنين (ع) قال في نفس
المهموم: ومن السوانح العظيمة الواقعة في أوان قتل مسلم بن عقيل، قتل ميثم التمار ورشيد
الهجري. في البحار كان قتل ميثم (ره) قبل قدوم الحسين بن علي للعراق بعشرة أيام. وفي
التاسع من البحار وممن قتل من أصحاب أمير المؤمنين كميل بن زياد النخعي (ره) قتله الحجاج
لما ولي الحجاج طلب كميل بن زياد فهرب منه فحرم قوم عطاءهم فلما رأى كميل ذلك قال: انا
شيخ كبير وقد نفذ عمري، ولا ينبغي ان أحرم قومي عطاءهم فخرج فدفع بيده إلى الحجاج
فلما رآه قال له: لقد كنت أحب ان أجد عليك سبيلا فقال له كميل: لا تصرف علي أنيابك
ولا تهدم علي فوالله ما بقي من عمري إلا مثل كواهل الغبار فاقض ما أنت قاض فان
الموعد لله، وبعد القتل الحساب، لقد أخبرني أمير المؤمنين (ع) انك قاتلي فقال له
الحجاج: الحجة عليك إذا فقال له: ذاك إذا كان القضاء إليك؟ قال: بلى قد كنت فيمن
قتل عثمان بن عفان أضربوا عنقه فضرب عنقه.
وأيضا قال في التاسع: روى عامة أصحاب السير من طرق مختلفة ان الحجاج بن
يوسف الثقفي قال: ذات يوم أحب أن أصيب رجلا من أصحاب أبي تراب فأتقرب إلى
الله بدمه فقيل له: ما نعلم أحدا كان أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه فبعث في
93

طلبه فأتي به قال له أنت قنبر؟ قال نعم. قال مولى علي بن أبي طالب؟ قال: الله مولاي
وعلي بن أبي طالب ولي نعمتي قال أبرأ من دينه. قال: فإذا برئت من دينه أتدلني على
دين غيره أفضل منه. قال: اني قاتلك فاختر أي قتلة أحب إليك؟ قال: قد صيرت ذلك
إليك قال: ولم؟ قال لأنك لا تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها، وقد أخبرني أمير المؤمنين (ع)
ان ميتتي تكون ذبحا ظلما بغير حق. قال: فأمر به فذبح وكان قنبر عبدا لأمير المؤمنين (ع)
قتلوه ذبحا ولقد ذبح من كان هو أعز من قنبر وهو ابن أمير المؤمنين وفلذة كبده
الحسين (ع) كما قال الرضا (ع): يا بن شبيب ان كنت باكيا لشئ فابك الحسين بن علي
فإنه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معه ثمانية عشر رجلا من أهل بيته ما لهم في الأرض من شبيه
الخ...
المجلس السابع والثلاثون
ومن كلام لأمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة يقول لأصحابه: أما انه سيظهر عليكم
بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد فاقتلوه ولن
تقتلوه: الا وانه سيأمركم بسبي والبراءة مني أما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة
وأما البراءة فلا تبرؤا مني فأني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الايمان والهجرة. ببيان
رحب البلعوم، البلعوم: بضمتين بينهما سكون مجرى الطعام في الحلق، والجمع بلاعم
مندحق البطن واسعها برئ منه كعلم براءة تخلص وسلم، والبراءة هنا الانسلاخ من
مذهبه، قال ابن أبي الحديد: وكثير من الناس يذهب إلى أنه عني زيادا وكثير منهم
يقول: انه عنى الحجاج، وقال قوم: انه عنى المغيرة بن شعبة والأشبه عندي انه عنى
معاوية لأنه كان موصوفا بالنهم وكثرة الاكل؟ وكان بطينا يقعد بطنه إذا جلس على
فخذيه وكان معاوية جوادا بالمال والصلاة، وبخيلا على الطعام، وكان معاوية يأكل فيكثر
ثم يقول: ارفعوا فوالله ما شبعت ولكن تعبت ومللت، وتظاهرت الاخبار ان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا على معاوية لما بعث إليه يستدعيه فوجده يأكل ثم بعث إليه فوجده
يأكل فقال: اللهم لا تشبع له بطنا وقال الشاعر:
وصاحب لي بطنه لهاوية * كأن في أمعائه معاوية
94

انتهى أقول: معايبه كثيرة منها: أنه كان كبير الاست كثير الحدث قال رجل
لمعاوية ما أشبه استك باست أمك؟ قال: ذلك الذي أولجها بيت أبي سفيان.
قال ابن أبي الحديد: روى شيخنا أبو عبد الله البصري المتكلم عن نصر بن عاصم
الليثي عن أبيه قال: أتينا مسجد رسول الله والناس يقولون: نعوذ بالله من غضب الله
وغضب رسوله. فقلت: ما هذا؟ قالوا: معاوية قام الساعة فأخذ بيد أبي سفيان وخرجا
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعن الله التابع والمتبوع، رب يوم لامتي من معاوية ذي الأستاه
قالوا: يعني كبير العجز.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم لمعاوية: لتتخذن يا معاوية البدعة سنة، والقبيح حسنا أكلك كثير
وظلمك عظيم، وفي كامل البهائي أن معاوية كان يخطب. على المنبر يوم الجمعة فأحدث
واسمع فعجب الناس منه ومن وقاحته فقطع الخطبة، وقال: الحمد لله الذي خلق أبداننا
وجعل فيها رياحا وجعل خروجها للنفس راحة، فربما انفلتت في غير وقتها فلا جناح
على من جاء منه ذلك والسلام فقام صعصة وقال: ان الله خلق أبداننا وجعل فيها رياحا
وجعل خروجها للنفس راحة، ولكن جعل ارسالها في الكنيف راحة وعلى المنبر بدعة
وقباحة، ثم قال: قوموا يا أهل الشام فقد أحدث أميركم فلا صلاة له ولا لكم ثم
توجه نحو المدينة. قوله (ع) الا وانه سيأمركم بسبي قال ابن أبي الحديد: فنقول ان
معاوية أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسب علي (ع) والبراءة منه، وخطب بذلك
على منابر الاسلام وصار ذلك سنة في أيام بني أمية (لع) إلى أن قام عمر بن عبد العزيز
فأزاله، وقال قال الواقدي: ان معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن
واجتماع الناس عليه خطب وقال: أيها الناس ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي: انك ستلي
الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة فإن فيها الابدال، وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب
فلعنوه قال: وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ ان معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة
اللهم ان أبا تراب الحد في دينك وصد عن سبيلك فألعنه لعنا وبيلا وعذبه عذابا أليما
وكتب بذلك إلى الآفاق فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر إلى خلافة عمر بن عبد العزيز
قال إن قوما من بني أمية قالوا لمعاوية يا أمير المؤمنين انك قد بلغت أملك فلو كففت
عن لعن هذا الرجل فقال لا والله حتى يربوا عليه الصغير ويهرم عليه الكبير ولا يذكر له
فضلا.
95

وروى أهل السير ان الوليد بن عبد الملك في خلافته ذكر عليا فقال لعنه الله بالجر
كان لص بن لص فعجب الناس من لحنه فيما لا يلحن فيه أحد ومن نسبته عليا إلى
اللصوصية وقالوا ما ندري أيهما أعجب وكان الوليد لحانا وقال إن معاوية ما أكتفى
بسبه حتى وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي (ع)
تقتضي الطعن فيه والبراءة منه وجعل لهم جعلا يرغب في مثله فاختلفوا ما أرضاه منهم
أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومن التابعين عروة بن الزبير وهؤلاء
كلهم أعداء لعلي (ع) قال والمغيرة هو الذي ضربه على الحد في ولاية عثمان وعزله عن
الكوفة وكان اللعين يبغض عليا ويسبه.
روى الزهري عن عروة بن الزبير انه حدثتني عائشة قالت كنت عند
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبل العباس وعلي (ع) فقال صلى الله عليه وآله وسلم ان هذين يموتان على غير ملتي
أو قال ديني وعنه أيضا قال حدثتني عائشة قالت كنت عند النبي إذ اقبل العباس وعلي
فقال يا عائشة ان سرك ان تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين وقد طلعا
فنظرت فإذا العباس وعلي بن أبي طالب وأما عمرو بن العاص فروي عنه الحديث الذي
أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما مسندا متصلا بعمر بن العاص قال سمعت رسول الله
صلى اله عليه وآله يقول: ان آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما ولي الله وصالح المؤمنين.
قال: وأما أبو هريرة فروى عنه الحديث الذي معناه ان عليا خطب ابنة أبي جهل
في حياة رسول الله (ص) فأسخطه النبي (ص) على المنبر وقال لا ها الله لا تجتمع ابنة
ولي الله وابنة عدو الله أبو جهل ان فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها فإن كان علي
يريد أبة أبي جهل فليفارق ابنتي وليفعل ما يريد، ومن أحاديثه في قدح علي (ع) قال:
قدم أبو هريرة العراق مع معاوية جاء إلى مسجد الكوفة فلما كثر من استقبله من الناس
جثى على ركبتيه ثم ضرب على صلعته مرارا وقال يا أهل العراق أتزعمون اني اكذب
على الله وعلى رسوله واحرق نفسي بالنار لقد سمعت رسول الله يقول إن لكل نبي حرما
وان حرمي بالمدينة فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وأشهد
بالله ان عليا أحدث فيها أحداثا. فلما بلغ معاوية قوله اجازه وأكرمه وولاه أمارة المدينة
قال ابن أبي الحديد قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي فأما قول أبي هريرة ان عليا أحدث
في المدينة فحاش الله كان علي اتقى الله من ذلك ولقد نصر عثمان نصرا لو كان المحصور جعفر
96

ابن أبي طالب لم يبذل إلا مثله قال أبو جعفر وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير
مرضي الرواية ضربه عمر بالدرة وقال له قد أكثرت الرواية وكذبت على رسول الله.
وروي عن سفيان الثوري قال منصور بن إبراهيم التميمي: كانوا لا يأخذون عن
أبي هريرة إلا ما كان من ذكر جنة أو نار، والاخر قال دعني عن أبي هريرة انهم أي
أصحاب الحديث كانوا يتركون كثيرا من حديثه وروي عن علي (ع) أنه قال إن اكذب
الناس على رسول الله أبو هريرة وروت الرواة أن أبا هريرة كان يواكل الصبيان في الطريق
ويلعب معهم وكان يخطب وهو أمير المدينة فيقول الحمد لله الذي جعل الدين قياما
إلى رجل يمشي بين يديه وأمامه ضرب برجليه الأرض ويقول الطريق الطريق جاء الأمير
يعني نفسه قال ابن أبي الحديد: قد ذكر ابن قتيبة هذا كله في كتاب المعارف في ترجمة
أبي هريرة وقوله فيه حجة لأنه غير متهم عليه قال ابن أبي الحديد: قد ذكر ابن قتيبة هذا كله في كتاب المعارف في ترجمة
أبي هريرة وقوله فيه حجة لأنه غير متهم عليه قال ابن أبي الحديد: وقد صح ان بني أمية
منعوا من اظهار فضائل أمير المؤمنين وعاقبوا ذكر ذلك والراوي له حتى أن الرجل كان
إذا روى عنه (ع) حديثا لا يتعلق بفضله بل بشرايع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه فيقول
عن أبي زينب وقال أيضا قال أبو جعفر.
وقد روي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مئة ألف درهم حتى يروي أن هذه
الآية نزلت في علي بن أبي طالب ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله
على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل
(والله لا يحب الفساد) وان الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي (ومن الناس من
يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) فلم يقبل فبذل له مئتي ألف دينار فلم يقبل فبذل ثلاثة
مئة الف فلم يقبل، فبذل له أربعة مئة الف، وقال: فالأحاديث الواردة في فضله لو لم تكن
في الشهرة والاستفاضة وكثرة النقل إلى غاية بعيدة لانقطع نقلها للخوف والتقية من بني
مروان مع طول المدة وشدة العداوة، ولولا أن الله تعالى أودع في هذا الرجل سرا يعلمه
من يعلمه لم يرو في فضله حديث ولا رويت له منقبة الا ترى ان رئيس قرية لو سخط على
واحد من أهلها ومنع الناس أن يذكروه بخير أو صلاح لخمل ذكره، ونسي أسمه، وصار
وهو موجود معدوما وهو حي ميتا. هذه خلاصة ما ذكره شيخنا أبو جعفر في هذا
المعنى في كتاب التفضيل، ونعم ما قال في هذا المقام نظما السيد السند المرحوم سيد محمد
97

باقر الطباطبائي الحائري طاب رمسه الزكي في رسالته الردية على الآلوسي زاده:
وفي البخاري قتال المسلم * كفر ويحكى عن صحيح مسلم
ففي قتال المرتضى دلالة * في كفر أهل البغي والضلالة
وكيف لا نسب من يسب من * واخى بين المصطفى أبا الحسن
محللا بسبه بين * ويل لمن في كفره تأملا
وفتح باب الاجتهاد فيه * يفضي إلى ما لست ترتضيه
هذا وقد أذى عليا واستمر * ايذاؤه حتى هوى إلى سقر
فانظر إلى حديث من آذى علي * مما رواه أحمد بن حنبل
ففيه من آذى أخي عليا * يحشر يوم الملتقى ذميا
ونص من اذاه إذا أتى اشتهر * وقد كفى في لعنه هذا الخبر
فان من اذى نبيا استحق * لعن الاله وبه الذكر نطق
فحب من على الفراش اضطجعا * وحبه ضدان لا يجتمعا
فلا نحبه ورب الكعبة * كلا ولا نحب من أحبه
كيف وباللعن الكتاب بشره * فإنه من فرع تلك الثمرة
وهو اللعين بن اللعين وجرى * ذاك على لسان سيد الورى
وجاء في الصحيح انه دعا * عليه خير الناس ان لا يشبعا
وهو الذي دس إلى جعدة ان * تسم بالنقيع مولانا الحسن
وهو الذي قال على ما في الأثر * أني بالامر أحق من عمر
وعد بعض أربعين ألفا * قتلاه ظلما وعتوا صرفا
وكم له حديث خزي نسبا * ما لو شرحناه فضحنا الكتبا
ويحك هل ترى غدا ما يجدي * لابن حمامة أو ابن هند
وما روي فيه فكذب مفترى * وفعله الشنيع ينفي الخبرا
فهل يكون هاديا مهديا * من سب صهر المصطفى عليا
وهو بما أورده لمذهبه * كثعلب ستشهد في ذنبه
وليته أبدله بالوارد * عن النبي في حديث القائد
وليس في صلح الإمام الحسن * بأس فإنه لسر مكمن
98

كصلح جده نبي الرحمة * صلحا رأى فيه صلاح الأمة
وقد رأى بالأمس خير ناصح * صلح بني الأصفر للصالح
لقد آه وهو أحمى حام * وحافظ لبيضة الاسلام
لما ترائى مرض القلوب * من رؤساء الجند والحروب
فالمجتبى بايعه كرها كما * بايع خير منه تقدما
ولا ينافي كثرة الأصحاب * يومئذ عند أولى الألباب
فإنه أدرى بهم وأخبر * بحالهم وغدرهم لا ينكر
هم الأولى جفوا على المرضى * فضاق ذرعا بهم حتى قضا
كم بث فيهم من طرائق الحكم * وكم كساهم من مطارف النعم
وكم أراهم معجزات باهرة * فظلت الآراء فيها حائرة
ليخشعوا وما عسى ان تخشعا * قلوبهم تبت يداهم أجمعا
ولنعم ما قال السيد المرحوم السيد محمد باقر في هذا المقام:
الله من اجلاف كوفان الحفا * تالله لا عهد لهم ولا وفا
وما لهم في غدرهم من ثاني * كأنهم والغدر توأمان
هم أرسلوا رسائلا شتى إلى * ريحانة الرسول ان أقدم على
حتى إذا جاء إليهم عدلوا * وانقلبوا وانكروا ما أرسلوا
واستقبلوا وجه الامام السامي * بالسيف والرماح والسهام
فاستنطق الطف عن الذي جرى * منهم مع الحسين تسمع خبرا
وهدار كان الهدى وفوضا * أعمدة الدين وحير القضا
وضعضع العرش وافجع الأولى * تبوء السبع السماوات العلى
وفت قلب المصطفى وألبسا * صهر الرسول الطهر جلباب الأسى
وجدد الحزن على البتول * والمجتبى ريحانة الرسول
ما عذر طرف جامد لم ينهمل * وقرحة في القلب لما تندمل
مما جرى في كربلاء من الأولى * جفوا عليا والزكي المبتلى
99

المجلس الثامن والثلاثون
عن سليم بن قيس قال: قدم معاوية بن أبي سفيان حاجا في خلافته فاستقبله أهل
المدينة فنظر فإذا الذين استقبلوه ما منهم قرشي فلما نزل قال: ما فعلت الأنصار وما بالهم
لم يستقبلوني فقيل له فإنهم محتاجون ليس لهم دواب فقال معاوية: وأين نواضحهم؟ فقال
قيس بن سعد بن عبادة وكان سيد الأنصار وابن سيدها: أفنوها يوم بدر وأحد وما بعدهما
من مشاهد رسول الله حين ضربوك وأباك على الاسلام حتى ظهر أمر الله وأنتم كارهون
فسكت معاوية فقال قيس: أما أن رسول الله عهد إلينا إنا سنلقي بعده أثره قال: معاوية
فما أمركم به؟ قال: أمرنا أن نصبر حتى نلقاه قال فاصبروا حتى تلقوه ثم أن معاوية مر
بحلقة من قريش فلما رأوه قاموا غير عبد الله بن عباس فقال له: يا بن عباس ما منعك
من القيام كما قام أصحابك إلا لموجدة إني قاتلتكم بصفين، فلا تجد من ذلك يا بن عباس فإن
ابن عمي عثمان قتل مظلوما قال ابن عباس: فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما قال: ان عمر
قتله كافر، قال ابن عباس فمن قتل عثمان؟ قال قتله المسلمون قال: فذاك أدحض لحجتك
قال: فانا كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته فكف لسانك فقال، يا معاوية: أتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال لا قال: أتنهانا عن تأويله؟ قال نعم
قال: فتقرأ ولا تسأل عما عني الله به.
ثم قال: فأيهما أوجب علينا قرائته أو العمل به؟ قال: كيف العمل به ولا نعلم
ما عني الله قال سل عن ذلك ما يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك قال: إنما نزل
القرآن على أهل بيتي آل أب ي سفيان يا معاوية أتنهانا أن نعبد الله بالقرآن بما فيه من
حلال أو حرام فإن لم تسأل الأمة عن ذلك حتى تعلم تهلك وتختلف، قال أقرؤا القرآن
وتأولوه ولا ترووا شيئا مما أنزل الله فيكم وارووا ما سوى ذلك قال: فإن الله تعالى
يقول في القرآن: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره
الكافرون) قال: يا بن عباس أربع أي أرفق على نفسك وكف لسانك وان كنت لا بد فاعلا ليكن ذلك سرا لا يسمعه أحد منك علانية ثم رجع إلى بيته فبعث إليه بمئة ألف درهم
100

ونادى منادي معاوية إني برئت الذمة ممن روى حديثا في مناقب علي وفضل أهل بيته
وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة فأستعمل زياد بن أبيه، وضم
إليه العراقين الكوفة والبصرة فجعل يتتبع الشيعة وهو بهم عارف، يقتلهم تحت كل حجر
ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وصلبهم في جذوع النخل، وسمل أعينهم
وطردهم وشردهم حتى نفوا عن العراق فلم يبق بها أحد معروف مشهور فهم بين مقتول
أو مصلوب أو محبوس، أو طريد أو شريد، وكتب معاوية إلى جميع عماله في جميع
الأمصار أن لا تجيزوا لاحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة وانظروا من قبلكم من شيعة
عثمان ومحبيه ومحبي أهل بيته وأهل ولايته والذين يرون فضله ومناقبه فأدنوا مجالسهم
وقربوهم وأكرموهم واكتبوا بمن يروي من مناقبه باسمه واسم أبيه وقبيلته ففعلوا حتى
كثرت الرواية في عثمان وافتعلوها لما كان يبعث إليهم من الصلات والخلع والقطايع من
العرب، والموالي فكثرت ذلك في كل مصر، وتنافسوا في الأموال والدنيا فليس يجئ
أحد من مصر من الأمصار فيروي في عثمان منقبة أو فضيلة إلا كتب اسمه وقرب وأجيز
فلبثوا بذلك ما شاء الله ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر
فأدعوا الناس إلي الرواية في معاوية وفضله وسوابقه فإن ذلك أحب إلينا، وأقر لأعيننا
وادحض لحجة أهل البيت وأشد عليهم، فقرأ كل أمير وكل قاض كتابه على الناس فأخذ الناس في الروايات في فضائل معاوية على المنبر في كل كورة، وكل مسجد زورا والقوا
ذلك إلى معلمي الكتاتيب فعلموا ذلك صبيانهم كما يعلمونهم القرآن حتى علموه بناتهم
ونسائهم وحشمهم، فلبثوا في ذلك ما شاء الله وكتب زياد ابن أبيه إليه في حق الحضرميين
انهم على دين علي وعلى رأيه فكتب إليه معاوية: أقتل من كان على دين علي وعلى
رأيه فقتلهم ومثل بهم، وكتب معاوية إلى جميع البلدان أنظروا من قامت عليه البينة
إنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان، وكتب كتابا آخر انظروا من قبلكم من
شيعة علي واتهموه بحبه فاقتلوه، وان لم تقم عليه البينة فخذوهم على التهمة والظنة
والشبهة تحت كل حجر حتى لو كان الرجل تسقط منه كلمة ضربت عنقه حتى كان الرجل يرمي
بالزندقة والكفر، كان يكرم ويعظم ولا يتعرض به بمكروه، والرجل من الشيعة لا يأمن
على نفسه في بلد من البلدان لا سيما البصرة والكوفة حتى لو أن أحدا منهم أراد أن يلقي
سرا إلى من يثق به لأتاه في بيته فيخاف خادمه ومملوكه ولا يحدثه إلا بعد أن يأخذ عليه
101

الايمان المغلظة ليكتمن عليه ثم لا يزداد الامر إلا شدة حتى كثر وظهرت أحاديثهم الكاذبة
ونشأ عليها الصبيان يتعلمون ذلك، وكان أشد الناس في ذلك القراء المراؤون المتصنعون
الذين يظهرون الخشوع والورع فكذبوا وانتحلوا الأحاديث وأولدوها، فيحظون بذلك
عند الولاة والقضاة ويدنون مجالسهم ويصيبون بذلك الأموال، والقطايع والمنازل حتى
صارت أحاديثهم ورواياتهم عندهم حقا وصدقا، فروها وقبلوها وتعلموها وعلموها
وأحبوا عليها، وأبغضوا من ردها وأوشك فيها فاجتمعت على ذلك جماعتهم وصارت في
يد المتنسكين والمتدينين منهم الذين لا يستحلون الافتعال لمثلها فقبلوها مهم يرون إنها حق
ولو علموا بطلانها وتيقنوا إنها مفتعلة لأعرضوا عن روايتها، ولم يدينوا بها ولم
يبغضوا من خالفها فصار الحق في ذلك الزمان عندهم باطلا، والباطل حقا، والكذب
صدقا، والصدق كذبا.
فلما مات الحسن بن علي (ع) أزداد البلاء والفتنة فلم يبق لله ولي إلا خائف على
نفسه أو مقتول أو طريد أو شريد. فلما كان قبل موت معاوية بسنين حج الحسين بن
علي (ع) وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس معه، وقد جمع الحسين بن علي (ع) بني
هاشم رجالهم ونسائهم ومواليهم وشيعتهم، ومن حج منهم ومن لم يحج، ومن الأمصار
ممن يعرفونه وأهل بيته ثم لم يدع أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أبنائهم
والتابعين، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك إلا جمعهم فاجتمع إليهم بمنى
أكثر من الف رجل، والحسين بن علي (ع) في سرادقة عامتهم التابعون وأبناء الصحابة
فقام الحسين (ع) فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن هذا الطاغية قد
صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم، ورأيتم وشهدتم وبلغكم، واني أريد أن أسئلكم عن أشياء
فإن صدقت فصدقوني، وان كذبت فكذبوني أسمعوا مقالتي واكتموا قولي ثم ارجعوا
إلى أمصاركم وقبائلكم من أمنتموه ووثقتم به فأدعوهم إلى ما تعلمون، فأني أخاف أن
يندرس هذا الحق ويذهب (والله متم نوره ولو كره الكافرون) فما ترك الحسين شيئا
أنزل الله فيهم من القرآن إلا قاله وفسره، ولا شيئا قاله الرسول في أبيه وأمه وأهل بيته
إلا رواه وكل ذلك يقول الصحابة اللهم نعم قد سمعناه وشهدناه ويقول التابعون، اللهم
نعم قد حدثناه من تصدقه ونأتمنه حتى لم يترك شيئا إلا قاله ثم قال: أنشدكم بالله إلا رجعتم
وحدثتم به من تثقون به ثم نزل وتفرق الناس عن ذلك أوق ان الخطبة ذكرناها فيما تقدم
102

ولعمري ان الحسين (ع) بهذه الخطبة أحيا ذكر أبيه ومناقبه وفضائله وفضائل أهل بيته
بل وأحيا دين جده صلى الله عليه وآله وسلم مرة أحياه بلسانه وأخرى أحياه بسيفه وببذل ماله ودمه
ومهجته، وبسفك دمه ودم أصحابه وأهل بيته وسبي حريمه ونسائه على الاقتاب من بلد
إلى بلد، ومن دار إلى دار الخ.
المجلس التاسع والثلاثون
في المنتخب للشيخ الطريحي (قده) روى قتادة ان أروى بنت الحارث ابن عبد المطلب
دخلت على معاوية بن أبي سفيان وقد قدمت المدينة وهي عجوز كبيرة فلما رآها معاوية
قال: مرحبا بك يا خالة كيف كنت بعدي؟ قالت: كيف أنت يا بن أختي؟ لقد كفرت
النعمة وأسئت لابن عمك الصحبة وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك بلا بلاء كان
منك، ولا من آبائك في ديننا ولا سابقة كانت لكم بل كفرتم بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم
فأتعس الله منكم الجدود وأصغر منكم الخدود، ورد الحق إلى أهله فكانت كلمتنا هي العليا
ونبينا هو المنصور على من ناواه، فوثبت قريش علينا من بعده حسدا لنا وبغينا فكنا
بحمد الله ونعمته أهل بيتي فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان سيدنا فيكم
بعد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة هارون من موسى، وغايتنا الجنة، وغايتكم النار فقال لها عمرو بن
العاص، كفي أيتها العجوز الضالة وأقصري من قولك مع ذهاب عقلك إذ لا تجوز شهادتك
وحدك فقالت: وأنت يا بن الباغية تتكلم وأمك أشهر بغي بمكة وأقلهم أجرة وادعاك
خمسة من قريش فسئلت أمك عن ذلك فقالت: كان قد أتاها وواقعها فانظروا أشبههم به
فألحقوه به فغلب شبه العاص بن وائل جزار قريش ألأمهم مكرا وأنتنهم خبرا فلا ألومك
بغضنا.
قال مروان بن الحكم: كفى أيتها العجوز واقصدي لما جئت له قالت: وأنت
يا بن الزرقا تتكلم والله وأنت ببشير مولى ابن كلدة أشبه منك بالحكم بن عاص، وقد
رأيت الحكم سبط الشعر مديد القامة، وما بينكما قرابة إلا كقرابة الفرس الضامر من
الأتان المقرف فأسئل عما أخبرتك به أمك فإنها ستخبرك بذلك ثم التفتت إلى معاوية
103

فقالت: والله ما جرأ هؤلاء غيرك وان أمك القائلة في قتل حمزة:
نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات السعر
فاجابتها ابنة عمي:
خزيت في بدر وغير بدر * يا بنت وقاح عظيم الكفر
فالتفت معاوية إلى عمرو ومروان وقال: والله ما جرئها علي غيركما ولا أسمعني
والله هذا الكلام سواكما ثم قال: يا خالة اقصدي حاجتك ودعي أساطير النساء عنك
قالت تعطني الفي دينار والفي دينار والفي دينار قال: ما تصنعين بألفي دينار؟
أزوج بها فقراء بني الحارث بن عبد المطلب قال: هي كذلك فما تصنعين بألفي دينار؟
قالت أستعين با على شدة الزمان وزيارة بيت الله الحرام، قال: قد أمرت بها لك فما
تصنعين بألفي دينار؟ قالت أشتري بها عينا خرارة في أرض خوارة تكون لفقراء بني
الحارث بن عبد المطلب، قالت: هي لك يا خالة أما والله لو كان ابن عمك علي ما أمر لك
بها قالت تذكر عليا فض الله فاك وأجهد بلاك ثم علا نحيبها وبكائها وجعلت تقول:
ألا يا عين ويحك أسعدينا * ألا فابكي أمير المؤمنينا
رزينا خير من ركب المطايا * وجال بها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها * ومن قرأ المثاني والمنينا
إذا استقبلت وجه أبي حسين * رأيت البدر راق الناظرينا
الا أبلغ معاوية بن حرب * فلا قرت عيون الشامتينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا * بخير الخلق طرا أجمعينا
مضى بعد النبي فدته نفسي * أبو حسن وخير الصالحينا
كأن الناس إذ فقدوا عليا * نعام حل في بلد سنينا
فلا والله لا أنسى عليا * وحسن صلاته في الراكعينا
لقد علمت قريش حيث كانت * بأنك خيرها حسبا ودينا
فلا تفرح معاوية بن حرب * فإن بقية الخلفاء فينا
قال فبكى معاوية ثم قال: يا خالة لقد كان كما قلت وأفضل. أقول: فإذا كانت أروة
بنت الحارث بن عبد المطلب هكذا ترثي أمير المؤمنين (ع) وتبكي لفراقه فما حال بنات
أمير المؤمنين يوم نظروا إليه وإذا الدم سائل على وجهه ولحيته الكريمة الخ.
104

المجلس الأربعون
لما فرغ أمير المؤمنين (ع) من وقعة الجمل ورجع إلى الكوفة كتب إليه معاوية كتابا
يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله وابن عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى علي
ابن أبي طالب أما بعد فقد أتبعت ما يضرك وتركت ما ينفعك وخالفت كتاب الله وسنة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد انتهى إلى ما فعلت بحواريي رسول الله طلحة والزبير، وأم
المؤمنين عائشة فوالله لأرمينك بشهاب لا تطفيه المياه، ولا تزعزعه الرياح إذا وقع
وقب، وإذا وقب ثقب، وإذا ثقب نقب، وإذا نقب التهب فلا تغرنك الجيوش
واستعد للحرب فأني ملاقيك بجنود لا قبل لك بها والسلام. فلما وصل إليه (ع) الكتاب
وقرأه دعى بقلم ودواة وقرطاس، وكتب فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله وابن
عبده علي بن أبي طالب أخا رسول الله وابن عمه ووصيه، ومغسله ومكفنه، وقاضي
دينه وزوج أبنته البتول، وأبي سبطيه الحسن والحسين إلى معاوية بن أبي سفيان أما
بعد: فاني أفنيت قومك يوم بدر، وقتلت عمك وخالك، وجدك والسيف الذي قتلتهم
به معي يحمله ساعي د بثبات صدري وقوة من بدني ونصرة من ربي كما جعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
كفي فوالله ما اخترت على الله ربا، ولا على الاسلام دينا، ولا على محمد نبيا ولا على
السيف بدلا فبالغ من رأيك فاجتهد، ولا تقصر فقد استحوذ عليك الشيطان واستقر
بك الجهل والطغيان، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والسلام على من اتبع
الهدى وخشي عواقب الردى ثم طوى الكتاب وختمه ودعى برجل من أصحابه يقال له
الطرماح، وكان رجلا طويلا جسيما بليغا أديبا متكلما فصيحا لا يكل لسانه، ولا يمل
من الخطاب فعممه بعمامة فدعى بجمل بازل فائق أحمر فركبه، ووجهه إلى دمشق، وأمر
بتسوية رحله فقال له انطلق بكتابي هذا إلى معاوية ورد الجواب فأخذ الطرماح الكتاب
وكوره في عمامته وانطلق، وسار آناء الليل وأطراف النهار حتى دخل دمشق فوقف على
باب معاوية فقال له البواب: من تريد؟ قال أريد أولا أصحاب الأمير ثم الأمير قال
البواب: من تعني بأصحاب الأمير؟ قال: أريد حنتما وجرولا وشاجعا وقامحا فقال سمهم
105

بأسمائهم قال: هم أبو الأعور السلمي، ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص وأبو هريرة
الدوسي فقال: هم بباب الخضراء يتنزهون في بستان هناك فانطلق حتى أشرف على باب
البستان فإذا هم قيام ببابه فلما رأوه تعجبوا من طول قامته فقال بعضهم لبعض: قد جائنا
أعرابي طويل القامة، عظيم الهامة تعالوا حتى نستهزء به، فأقبلوا وسلموا عليه، وقالوا:
يا أعرابي هل عندك خبر من السماء؟ قال: نعم قالوا: أخبرنا ما هو قال الطرماح ان الله
قوي في ملكه، جبار في قدرته، عالم بسرائر خلقه، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وملك الموت في الهواء وسيف علي بن أبي طالب في القفاء، واستعدوا
لما ينزل عليكم من البلاء يا أهل الشقاق والنفاق فقالوا له: من أين أقبلت؟ فقال لهم: من
عند حر تقي نقي زكي مؤمن رضي مرضي، فقالوا: من تريد؟ قال: أريد هذا الشقي الدعي
الوزي المنافق الردي الذي تزعمون أنه أميركم، فعلموا أنه رسول من أمير أمير المؤمنين (ع)
إلى معاوية فقالوا: ما تريد منه؟ فقال: أريد الدخول عليه فقالوا: هو مشغول عنك
قال: لهم بماذا مشغول عني بخط مخطوط، أو بشرط مشروط، أو بوعد موعود
فقالوا: لا ولكن يشاور أصحابه كيف يلقى علي بن أبي طالب في حربه وبما يلقاه؟ قال
الطرماح: فسحقا له وبعدا له ولأصحابه وما هذه صفة من يتولى أمور المسلمين، وإنما هذه
صفة فرعون وهامان لما تشاوروا في قتل موسى بن عمران فعند ذلك كتب عمرو بن العاص
إلى معاوية كتابا يقول فيه:
أما بعد: فقد ورد علينا أعرابي من العراق يزعم أنه رسول أمير المؤمنين علي
ابن أبي طالب وهو ذو لسان فصيح وكلام مليح، طلق ذلق يتكلم ولا يكل، ويطيل
ولا يمل فأحذر من لسانه واستعد لجوابه كلاما بليغا ولا تكن عنه غافلا ساهيا والسلام
فأناخ الطرماح ناقته وعلقها وجلس معهم ينتظر الجواب، فلما بلغ معاوية الكتاب وقرأه
أمر أن يضرب دونه ثلاثة أستار وجعل عند كل ستر الف بطل عليهم الدروع والجواشن
وبأيديهم أعمدة الحديد، وكان أكثر لباس جيوشه السواد ثم أمر ابنه يزيد أن
يضرب المصاف على باب داره قريبا من الأستار، ويجلس عندها فجلس معاوية على سريره
وأرخى الستور عليه وأمر بدخول الطرماح فقام معهم ودخل مارا على الستور والمصاف
والابطال يحدقون من حول الأستار وعليهم ثياب سود، قال: لا إله إلا الله من هؤلاء
106

القوم كأنهم زبانية مالك في ضيق المسالك فلما دنى من يزيد وكان على وجهه أثر ضربة إذا
تكلم كان جهير الصوت وهو جالس فلم يسلم عليه وقال: من هذا الغيشوم الميشوم والمشؤم
ابن المشؤم الواسع الحلقوم طويل الخرطوم؟ فقال الواقف: يا أعرابي هذا ابن الأمير
يزيد فقال: ومن يزيد لا أراد الله مراده ولا بلغه مراده، ومن أبوه؟ كانا قدما غائصين
في بحر الجلافة واليوم استويا على سرير الخلافة فسمع ذلك يزيد فاستشاط غيظا وغظبا.
وهم ان يضربه أو يقتله ثم خاف أن يحدث أمرا دون اذن أبيه فكظم غيظه واخبأ
ناره فسلم عليه، وقال له: مرحبا بك يا أعرابي ان أمير المؤمنين يسلم عليك ويقرئك
السلام فقال الطرماح: سلامه معي من الكوفة قال يزيد: ما شئت قل فقد أمرني بقضاء
حاجتك. قال: حاجتي إليه ان يقوم من مقامه حتى يجلس من هو أولى منه بهذا الامر
قال: ثم ماذا تريد؟ قال: أريد الدخول عليه فأمر يزيد برفع الحجاب وأدخله على معاوية
فلما دخل عليه الطرماح وهو منتعل قال له: اخلع نعليك فالتفت يمينا وشمالا فقال: هذا
وادي المقدس فاخلع نعلي فنظر وإذا معاوية قاعد على سريره.
فقال له: السلام عليك أيها الملك العاصي فقال عمرو بن العاص: ويحك يا أعرابي
لم لا تسلم على أمير المؤمنين؟ فقال: ثكلتك أمك نحن المؤمنون فمن أمره علينا بالخلافة
والله لا أعرف أمير المؤمنين غير سيدي علي بن أبي طالب فقال معاوية: ما معك
يا أعرابي؟ قال: كتاب مختوم من امام معصوم قال: ناولينه قال: أكره ان أطأ بساطك
فقال: ناوله وزيري هذا وأشار إلى عمرو بن العاص فقال هيهات ظلم الأمير
وخان الوزير فقال ناوله ولدي يزيد فقال: ما فرحنا بإبليس فكيف نفرح بأولاده؟ فقال
ناوله مملوكي وأشار إلى غلام له قائم على رأسه فقال: مملوك اشتريته من غير حل
وتستعمله في غير حق، وان امامي أوصاني ان لا أسلمه إلا بيدك فقال: ويحك يا أعرابي
فما الحيلة في أخذ الكتاب منك؟ قال الحيلة ان تقوم من مقامك صاغرا حقيرا وتأخذه
مني بيدك، وترجع إلى مكانك لأنه كتاب رجل كريم، وسيد عظيم وحر حليم، وهو
بالمؤمنين رؤوف رحيم فلما سمع وثب من مكانه وأخذ منه الكتاب مغضبا، ورجع إلى
مكانه وفضه وقرأه وفهم معناه.
ثم قال يا اعرابي كيف خلفت علي بن أبي طالب؟ قال: خلفته يحمد الله كالبدر
الطالع حواليه أصحابه كالنجوم الزواهر إذا أمرهم ابتدروا إليه، وإذا نهاهم عن شر انتهوا
107

ولم يتجاسروا عليه، وهو قوي في بأسه، شديد في تجلده بطل شجاع، سيد سميدع ان لقي
جيشا هزمه وأرداه، وان لقي قرنا سلبه وأفناه، وان لقي عدوا قتله وأخزاه، وان لقي
حصنا هدمه، وان وافى جبلا قلعه، وهو لا يغفل عن ذكر الله طرفة عين فقال معاوية:
كيف خلفت الحسن والحسين؟ قال خلفتهما شابين، تقيين نقيين زكيين، عفيفين
صحيحين، سيدين، طيبين، فاضلين، عالمين، عاقلين، مصلحين في الدينا والآخرة فقال:
لله درك يا أعرابي ما حسن ثنائك لصاحبك وما أظن عنده أحدا من أصحابه أفصح منك.
قال: لو بلغت باب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لوجدت الأدباء الفصحاء
البلغاء الفقهاء النجباء الأتقياء الأصفياء، ولرأيت رجالا سيماهم في وجوههم من أثر
السجود حتى إذا استعرت نار الوغى قذفوا أنفسهم في تلك الشعل لابسين القلوب على
مدارعهم، قائمين ليلهم صائمين نهارهم لا تأخذهم في الله ولا في ولي الله علي لومة لائم فإذا
أنت يا معاوية رأيتهم على هذه الحالة غرقت في بحر عميق لا تنجو من لجته يا ضعيف اليقين
فدنى عمرو بن العاص إلى معاوية وقال: ان العرب أصحاب لقمة فلو أمرت لهذا الاعرابي
بشئ من المال تقطع به لسانه كان أجل فقال معاوية: يا اعرابي ما تقول في الجائزة
تأخذها مني؟ فقال: اني أريد أن أقبض روحك من جسدك فكيف لا آخذ مالك من
يدك فأمر له بعشرة آلاف دينا وقال أتحب ان أزيدك؟ قال: زد فإنك لا تعطيه من مال
أبيك وان الله ولي من يزيد.
قال: أعطوه عشرين ألفا: اجعلها وترا فان الله هو الوتر ويحب الوتر فأبطأ
الروس ساعة فقال الطرماح: تستهزئني به على فراشك؟ فقال: لماذا يا أعرابي؟ قال:
انك أمرت لي بجائزة لا أراها ولا تراها فأمرك بمنزلة الريح التي تهب من قلل الجبال
فأمر معاوية بأن يسرع في ابرازها فأتوا بها ووضعوها بين يديه فقال عمرو بن العاص:
يا أعرابي كيف ترى جائزة أمير المؤمنين؟ فقال: هذا مال المسلمين من خزانة رب العالمين
أخذه عبد من عباد الله الصالحين: قال له معاوية: يا طرماح لو كان علي ما أعطاك فلسا
واحدا قال: لا والله كيف له ان يعطيني مال المسلمين وهو يخشى عقوبة ربه ولا يعمل
إلا بما أمر الله والمال الذي أمرت لي به ليس هو من مالك ولا من مال أبيك أبي سفيان
ولا من مال جدك صخر ولا جدتك عصارة الخمر إنما هو من بعض مال المسلمين أخذت
منهم بغير حق وأعطيتني إياه فإن سيدي عليا أولى به منك يدفعه إلى مستحقيه فقال
108

معاوية: ثكلتك أمك يا يا طرماح أخذت مني الجائزة ولم تحسن صنعي معك وتقابلني
بمثل هذا الجواب فقال: طوبى لأمي حيث ولدت مؤمنا مثلي ولم تلد منافقا مثلك فالتفت
معاوية إلى كاتبه: أكتب جواب صاحبه لقد ضيق علي نفسي وأظلم علي الدنيا ومالي
طاقة ولقد أعجزنا من الحيلة فيه فأخذ الكاتب القرطاس وكتب فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله وابن عبديه معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي
طالب أما بعد فأني قادم عليك بجنود من الشام مقدمه بالكوفة ومؤخره بساحل البحر
ولأرمينك بألف جمل من خردل تحت كل خردل الف مقاتل فان أطفأت نائرة الحرب
والفتنة وسلمت إلينا قتلة عثمان وإلا فلا تقل غال ابن أبي سفيان وطفى ولا يغرنك شجاعة
أهل العراق واتفاقهم فان مثلهم كمثل الحمار الناهق يميلون مع كل ناعق والسلام.
فلما نظر الطرماح إلى ما خرج من تحت قلم الكاتب ضحك حتى استلقى على قفاه
وقال سبحان الله يا معاوية أخبرني أيكما أكذب أنت بادعائك أم كاتبك فيما كتب؟
لو اجتمع أهل الشرق والغرب من الجن والإنس لم يقدروا ان يصلوا مقدار ذلك به، فقال
معاوية: والله لقد كتب بغير اذني فقال الطرماح: ان كنت لم تأمره فقد استضعفك
وان كنت أمرته فقد استفضحك ثم قال: أظنك تهدد البط بالشط وأنشأ:
فدع الوعيد فما وعيدك ضائري * اطنين أجنحة الذباب يضير
والله ان لأمير المؤمنين (ع) لديكا على الصوت عظيم المنقار يلتقط الجيش بخيشومه
ويصرفه إلى قانصته، ويحطه إلى حوصلته فقال: من هو؟ فقال هو والله مالك الأشتر
النخعي فطار عقل معاوية من وصف مالك الأشتر فقال لكاتبه: اكتب ولا تطل
الكلام فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب
أما بعد: فأني قادم إليك بجنود أهل الشام وانداء اليمن لقتالك وحربك أو تدفع إلينا من
قتل عثمان فإن سلمت إلينا سالمناك، وان أبيت حاربناك، وأنت أعرف برأيك والسلام
ثم طوى الكتاب وختمه بخاتمه ودفعه إلى الطرماح فأخذ الكتاب وحمل المال
وخرج من عنده وركب جمله وسار، في مجمع النورين لما خرج الطرماح، وأتى ليركب
ناقته وقد امتلأ معاوية غيظا وحنقا أشار إلى غلمانه ان يستخفوا ويستهزؤا به فقالوا:
يا أعرابي هذه الناقة لنا ولها فصيل وقد اشتد رغاؤه في فقد أمه، وما نرى إلا انك سرقتها
منه فأخذوا يجرونه إلى القاضي وأقاموا البينة على دعواهم، وحكم القاضي بان الناقة لهم
109

وخرجوا وخرج الطرماح حزينا مهينا حقيرا تارة يفكر في أنهم اتهموه بالسرقة
واستخفوا به، وأخرى يفكر كيف يقطع سفره راجلا فانكسر قلبه ودمعت عينه وتوجه
بقلبه إلى أمير المؤمنين (ع) واستغاث به، وجعل يكرر من قول عليا مظهر العجائب
فلما أتو ليستلموا الناقة وإذا به قد تحول جملا.
فقال أنتم أقمتم البينة بان هذه ناقة وهي لكم ولي شاهدان عدلان بان هذا جمل وليس
ناقة، فمد يديه وأخذ بخصاوي الجمل. فقال: انظروا إلى الشاهدين فتحيروا وتعجبوا
من ذلك وضحك معاوية وجميع من حضر، فالتفت معاوية إلى أصحابه، وقال لو أعطيت
جميع ما أملك لرجل منكم ما كان يؤدي على عشر ما أدى هذا الرجل عن صاحبه فوالله لقد
أظلم الدنيا بعيني فقال له عمرو بن العاص: أتدري لماذا يا معاوية؟ لأنا تركنا الحق
وراء ظهورنا إذ يدعونا علي بن أبي طالب بين المهاجرين والأنصار فتركناه واتبعناك
وكل منا يتكلم على قدر صاحبه، فما عسى أن نقول فيك فما عسى أن يقول هذا الرجل في
علي فهمها قال: فعلي أزيد مما يقول: فلو ان لك من للنبي صلى الله عليه وآله وسلم منزلة كمنزلة ابن عمه وكنت
على الحق لأدينا أضعافا مضاعفة فقاله له معاوية رض الله فاك فوالله ان كلامك أشد
علي من كلام الاعرابي وهذا مما لا شك فيه بأن معاوية أعرف من غيره بمكان علي (ع)
من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومقامه عنده وماله من الفضائل والفواضل والسوابق والمناقب ولكن أقامه على
العناد واللجاج والشحناء والبغضاء أمران: الأول عدم إيمانه بالله وبرسوله، والاخر
حب الدنيا والمال والرياسة والسلطنة، وناهيك فيما قلنا من أنه متى ذكر عليا (ع) أو سمع
مناقبه أقر وأعترف بذلك بل وربما كان يبكي ويقول: هيهات عقمت النساء ان يلدن بمثل
علي بن أبي طالب وكثيرا ما كان يذكر أمير المؤمنين (ع) وأوصافه ويبكي حتى تخضب
لحيته بدموعه: دخل ضرار بن ضمرة على معاوية بعد ارتحال أمير المؤمنين (ع).
فقال معاوية: يا ضرار صف لي عليا قال: أو تعفيني قال: لا أعفيك قال: كان
والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا ويتفجر العلم من جوانبه
وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل ووحشته
كان والله عزيز العبرة طويل الفكرة يقلب كفه ويخاطب نفسه ويناجي ربه يعجبه من
اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، كان والله فينا كأحدنا يدنينا إذا اتيناه، ويجيبنا
110

إذا سألناه وكنا مع دنوه منا، وقربنا منه لا نكاد نكلمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا إليه
لعظمته فان تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم يعظم أهل الدين، ويحب المساكين لا يطمع
القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه
وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وهو قائم في محرابه، قابض بيده على لحيته
يتململ كتململ السليم، ويبكي بكاء الحزين فكأني الان وهو يقول يا دنيا يا دنيا أبي
تعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ هيهات هيهات لا حان حينك غري غيري لا حاجة لي فيك قد
طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها فعمرك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير آه آه من قلة
الزاد وبعد السفر، ووحشة الطريق، وعظيم المورد فوكفت دموع معاوية على لحيته
فنشفها بكمه، واختنق القوم بالبكاء.
ثم قال: كان والله أبو الحسن كذلك فكيف كان حبك إياه يا ضرار قال: كحب
أم موسى لولدها موسى واعتذر إلى الله من التقصير قال: وكيف صبرك عنه يا ضرار؟ قال:
صبر من ذبح ولدها على صدرها فهي لا ترقى عبرتها ولا تسكن حرارتها. ثم قام وخرج
وهو باك فقال معاوية لأصحابه. أما انكم لو فقدتموني لما كان فيكم من يثني علي مثل هذا
الثناء قال بعض الحاضرين: الصاحب على قدر الصاحب أقول: ان معاوية لما سئله عن
صبره في فقد أمير المؤمنين (ع) قال: كصبر من ذبح ولدها على صدرها فهي لا ترقى عبرتها
ولا تسكن حرارتها، وهذا من أشد المصائب لا يتصور فوقها مصيبة بان يذبح الولد على
صدر أمه وأمه تنظر إليه، ولا تلام إذا متت عند ذلك ساعد الله قلب ليلى قيل إنها
جلست يوم الحادي عشر من المحرم وأخذت رأس ولدها وضمته إلى صدرها إذ اقبل إليها
منقذين بن مرة العبدي لعنه الله، وصنع ما صنع حتى غشي عليها الخ.
المجلس الواحد والأربعون
قال الله عز من قائل: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها
ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها في كل حين بأذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم
يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) وقال
111

تعالى: والشجرة الملعونة في القرآن وتخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا لا يخفى أن الشجرة
الطيبة هي محمد وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم، والشجرة الملعونة هي أمية وأولاده.
ومعلوم أن الشجرة الرديئة لا تثمر إلا ثمرة رديئة، وهذه الشجرة الملعونة بنو أمية
مقابل الشجرة الطيبة محمد وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم، ولكل نور ظلمة، ولكل موسى فرعون
ولم يزالوا يسعون في قطع تلك الشجرة الطيبة فيا لله من ظلم هؤلاء واجترائهم على الله
ولا سيما يزيد بن معاوية كان شر الخلائق من الأولين والآخرين لأنه صاحب طرب
وجوارح وكلاب وقرود وفهود، ومنادمة على الشراب والمغنين.
وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، واظهر الناس شرب
الشراب وكان ليزيد قرد يكنى بأبي قيس يحضره مجلس منادمته، ويطرح له متكأ وكان
قردا خبيثا، وكان يحمله على أتان وحشية قد ربضت وذلت له بسرج ولجام، والبس
القرد قباء من الحرير ووضع على رأسه قلنسوة ذات ألوان بشقائق، وعلى الأتان سرج
من الحرير الأحمر منقوش ملمع، فإذا كان يوم الحلبة خرج القرد وركب الأتان ويساق
الخيل في العدو حتى يأخذ القصبة، ويرجع قبل الخيول والفرسان.
ولما شاع فسقه وفجوره وشربه ولهوه وما ظهر من قتل الحسين ابن بنت رسول الله
خلع أهل المدينة بيعته، وأخرجوا عامله وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان من المدينة
وذلك بإشارة عبد الله بن الزبير لأنه خرج بمكة ودعى الناس إلى مبايعته، وأظهر شنايع
يزيد وفساد أفعاله، ولما بلغ ذلك يزيد غضب غضبا شديدا وسرح إلى المدينة جيشا عظيما
عليهم مسلم بن عقبة وأمره بقتل أهل المدينة حتى يقروا بالعبودية ليزيد. ثم توجه إلى
مكة لاخذ ابن الزبير وقتله لأنه خرج بمكة ويدعو الناس إلى نفسه، وادعى الإمامة فبلغ ذلك يزيد وكتب كتابا إلى ابن الزبير يقول:
ادع إلهك في السماء فأنني * أدعو عليك رجال عك واشعرا
كيف النجاة انا خبيب منهم * فاختل لنفسك قبل أتي العسكرا
ولما انتهى الجيش إلى الموضع المعروف بالحرة قرب المدينة خرج إليهم أهل المدينة
في عسكر عظيم عليهم عبد الله بن مطيع العدوي وعبد الله ابن حنظلة غسيل الملائكة
الأنصاري، وكانت وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من الناس وبنو هاشم وسائر قريش
والأنصار وغيرهم.
112

فمن قتل من آل أبي طالب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وجعفر بن محمد بن
علي بن أبي طالب الحنفية ومن بني هاشم من غير آل أبي طالب ثلاثة وبضع وتسعون
رجلا من سائر قريش، ومن سائر الناس لا تعد ولا تحصى. ثم دخل المدينة وخرب
بيوت بني هاشم ونهب المدينة، وأخاف أهلها واخد منهم البيعة على أنهم عبيد ليزيد
وسمى المدينة نتنة، وخرج علي بن الحسين حتى لاذ بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعو لنفسه
فأمر مسلم بن عقبة باحضار علي بن الحسين وهو مغتاظ عليه ويتبرأ منه ومن آبائه فلما رآه
وقد دخل ارتعد مسلم وقام له واقعده إلى جانبه وقال له: سلني حوائجك فلم يسأله في أحد
ممن قدم إليه بالسيف إلا شفعه فيه. ثم خرج من عنده فقيل لزين العابدين: رأيناك
تحرك شفتيك فما الذي قلت؟ قال (ع): قلت: اللهم رب المساواة السبع وما أظللن
والأرضين السبع وما أقللن رب العرش العظيم رب محمد وآله الطاهرين أعوذ بك من شره
وادرأ بك في أسئلك ان تؤتيني خيره وان تكفيني شره.
وقيل لمسلم بن عقبة: تسب هذا الغلام وسلفه فلما اتى إليك رفعت منزلته فقال:
ما كان ذلك مني لقد ملاء قلبي رعبا، ولما فرغ من المدينة وخرج منها مسلم بن عقبة في
جيشه يريد مكة لمقاتلة ابن الزبير وأهل مكة، وذلك في سنة أربع وستين فلما انتهى إلى
الموضع المعروف بقديد مات مسلم بن عقبة، وتولى الجيش الحصين بن نمير (لع) فسار
حتى أتى مكة وأحاط بها.
فلما رأى عبد الله بن الزبير ذلك وكثرة الجيش وقلة أعوانه لاذ بالبيت الحرام
واظهر الزهد في الدنيا والعبادة مع الحرص على الخلافة وقال: إنما بطني شبر فما عسى ان
يسع ذلك من الدنيا وانا العائذ بالبيت والمستجير بالرب وفيه يقول الشاعر:
تخير من لاقيت انك عائذ * وتكثر قتلا بين زمزم والركن
وسمى نفسه العائذ بالبيت ونصب الحصين بن نمير فيمن معه من أهل الشام المجانيق
والعرادات على مكة والمسجد من الجبال والفجاج وابن الزبير في المسجد ومن معه المختار
بن أبي عبيدة داخلا في جملته منقادا بإمامته على شرائط شرطها عليه لا يخالفه رأيا
ولا يعصي له أمرا فتواردت أحجار المجانيق والعرادات على البيت ورموا مع الأحجار
بالنار والنفط وغير ذلك من المحرقات، وانهدمت الكعبة، واحترقت البنية ففي ذلك
يقول الشاعر:
113

ابن نمير بئس ما تولى * قد أخرق المقام والمصلى
ووقعت صاعقة من السماء فاحرق من أصحاب المجانيق أحد عشر رجلا، وقيل:
أكثر من ذلك وهو يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الأول قبل وفاة يزيد بأحد
عشر يوما فيا لله من طغات بني أمية، ومن شقاوتهم واجترائهم على الله حيث ما
اكتفوا برمي الأحجار، والنبال إلى بيت الله الحرام حتى أضرموا فيه النار وأحرقوه
وليس هذا ببعيد من قوم احرقوا خيم ابن رسول الله، وسلبوا عياله ففي اليوم الرابع
عشر من شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين من الهجرة، هلك يزيد بن معاوية فعند
ذلك اشتد أمر ابن الزبير بمكة، وكثر جمعه ونفذت كلمته، وبايعه جم غفير وممن بايعه
المختار وكان يومئذ بمكة وداخلا في أحفاد عبد الله بن الزبير فقال المختار يوما لابن الزبير:
اني لأعرف قوما لو أتاهم رجل له رفق وعلم بما يأتي لاستخرج لك منهم جندا تغلب أنت
بهم بني أمية قال: من هم؟ قال: شيعة علي (ع) بالكوفة قال: كن أنت ذلك الرجل
فبعثه إلى الكوفة فنزل المختار ناحية من الكوفة، وجعل يظهر البكاء على الحسين وشيعته
ويظهر الحنين والجزع لهم، ويحث على اخذ الثار لهم والمطالبة بدمائهم، فمالت الشيعة
إليه وانضافوا إلى جملته وسار المختار إلى قصر الامارة، فاخرج عبد الله بن مطيع الذي
نصبه ابن الزبير واليا على الكوفة وابتنى لنفسه دارا واخذ بستانا أنفق عليه أموالا
عظيمة أخرجها من بيت المال، وفرق الأموال على الناس تفرقة واسعة وكتب إلى ابن
الزبير يعمله انه إنما خرج ابن مطيع لعجزه عن القيام بها فكتب إليه ان يحتسب به بما
أنفق من بيت المال، فأبى ابن الزبير ذلك عليه فخلع المختار طاعته وجحد بيعته، وكتب
المختار كتابا إلى علي بن الحسين (ع) يريد ان يبايع ويقول بإمامته ويظهر دعوته وانفذ
إليه مالا كثيرا فأبى زين العابدين (ع) ان يقبل ذلك منه، أو يجيبه عن كتابه فلما
يئس المختار من زين العابدين كتب إلى عمه محمد بن الحنفية يريده على مثل ذلك فأشار عليه
زين العابدين أن لا يجيبه إلى شئ من ذلك، فان الذي يحمل على ذلك طلب الرياسة والملك
فأتى ابن الحنفية عبد الله ابن عباس فأخبره بذلك، فقال: لا تجيبه إلى ذلك فإنك لا تدري
ما أنت عليه من أمر ابن الزبير، فأطاع وسكت.
واشتد أمر المختار بالكوفة وكثر رجاله ومال الناس إليه، ومنهم من يخاطبه
بإمامة محمد بن الحنفية، ومنهم من يرفعه عن هذا ويخاطبه بأن الملك يأتيه بالوحي
114

ويخبره بالغيب وكان من شأنه ما كان، فلما سمع ابن الزبير ذلك غضب غضبا شديدا
وكان محمد بن الحنفية بمكة يريد الحج فأحضره بن الزبير وأشار عليه بالبيعة فأبى محمد بن
الحنفية فحصره بن الزبير، ومن كان بمكة من بني هاشم في الشعب وحبسهم في ذلك المكان
وجمع لهم حطبا عظيما لو وقعت فيه شرارة من نار لم يسلم من الموت أحد فبلغ ذلك المختار
فنادى في أهل الكوفة أيها الناس قد حبس امامكم فأدركوه فجمع أربعة آلاف رجل
وأرسلهم مع أبي عبد الله الجدلي إلى مكة لحرب ابن الزبير وتخليص ابن الحنفية، فجلس ابن
الزبير يوما وقال بايعتني الناس ما عدا هذا الغلام يعني محمد بن الحنفية الموعد بيني وبينه إلى أن
تغرب الشمس ثم أضرم داره عليه فدخل ابن عباس على ابن الحنفية، وقال يا ابن العم اني لا
أمنه عليك فبايعه قال: سيمنعه عني حجاب قوي، فجعل ابن عباس ينظر إلى الشمس ويفكر
في كلام ابن الحنفية، وقد كادت الشمس ان تغرب إذ وافتهم خيل أهل الكوفة مع أبي عبد الله
الجدلي، فما شعر بن الزبير إلا والرايات تخفق على رأسه فجاؤوا إلى بني هاشم فأخرجوهم
من الشعب وقالوا لابن الحنفية: أئذن لي فأبى، وقال: لا تقتلوا إلا من قاتلكم وخرج
ابن الحنفية إلى أيلة جبل بين مكة والمدينة فأقام بها سنين حتى مات فاختلفت الكيسانية
وسموا بهذا الاسم لانتسابهم إلى المختار لان اسمه الكيسان، ولقبه المختار، وكنيته
أبو عمرة وهو الذي شيع هذا المذهب بين الناس فمنهم من قطع بموته، ومنهم من زعم أنه
لم يمت وإنه حي في جبال رضوى، وكان كثير الشاعر كيسانيا ويقول: ان محمد بن
الحنفية هو المهدي الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا ويقول:
ألا ان الأئمة من قريش * ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بينه * هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبر * وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا تراه العين حتى * يقود الخيل يتبعها اللواء
يغيب ولا يرى فيهم زمانا * برضوى عندهم عسل وماء
ومن دخل في مذهب الكيسانية إسماعيل الحميري ويعتقد امامة محمد بن الحنفية
ويقول: إنما غاب وسيظهر وله أبيات في ذلك منها:
ألا قل للوصي فدتك نفسي * أطلت بذلك الجبل المقاما
وعادوا فيك أهل الأرض طرا * مغيبك عنه سبعين عاما
115

وما ذاق ابن خولة طعم موت * ولا وارت له أرض عظاما
لقد أمسى بمردف شعب رضوى * تراجعه الملائكة الكلاما
ولم يزل على هذه العقيدة حتى بصره الصادق وذلك أن في مجلس الصادق (ع) ذكر
السيد إسماعيل الحميري فقال (ع): السيد كافر فبلغه ذلك فجاء عنده وقال: انا كافر مع شدة
حبي لكم ومعاداتي لعدوكم قال (ع): وما ينفعك وانه كافر بحجة الدهر وحجة الزمان
ثم أدخله بيده وادخله بيتا فإذا البيت قبر فصلى ركعتين ثم ضرب بيده القبر فانشق وخرج
شخص ينفض التراب عن رأسه ولحيته فقال له الصادق: من أنت قال: انا محمد بن علي
المسمى بابن الحنفية.
قال: فمن قال: جعفر بن محمد حجة الدهر والزمان فتاب السيد من ساعته على يد
الإمام (ع): وسأله الدعاء وأنشأ الأبيات التي ذكرها آنفا، وكان يقول: قد ضللت
زمانا ولكن من الله علي بالصادق جعفر بن محمد (ع) فأنقذني من النار وهداني إلى سواء
الصراط فسألته عن الغيبة وصحة كونها وبمن يقع؟ فقال (ع) ستقع بالسادس من ولدي
وهو الثاني عشر من الأئمة الهداة أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وآخرهم القائم
بالحق بقية الله في الأرض، وصاحب الزمان والله لو بقي في غيبته ما بقي نوح في قومه
لم يخرج من الدنيا حتى يخرج ويملا الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، قال
السيد: فلما سمعت ذلك من الصادق (ع) تبت إلى الله تعالى على يده وقلت: قصيدة منها
هذه الأبيات:
تجعفرت باسم الله والله أكبر * وأيقنت ان الله يعفو ويغفر
ودنت بدين غير ما كنت دينا * به ونهاني سيد الناس جعفر
فقلت فهبني قد تهودت برهة * وإلا فديني دين من يتنصر
فأتى إلى الرحمن من ذاك تائب * وأني قد أسلمت والله أكبر
ولست بغال ما حييت وراجع * إلى ما عليه كنت أخفي وأظهر
وكان السيد من محبي أهل البيت، ومن خواص شيعتهم وله أبيات كثيرة في مدح
أهل البيت وكان الصادق (ع) كثيرا يحبه، ولما توفي ترحم عليه بل وبعث إليه بكفن
وسدر وكافور، قيل له يا بن رسول الله إنه كان يشرب الخمر، ويؤمن بالرجعة فقال (ع):
حدثني أبي عن جدي ان محبي آل محمد لا يموتون إلا تائبين وقد تاب.
116

وروى الحسين بن أبي الحرب قال: دخلت على السيد في مرضه فوجدته يساق به
وعنده جماعة من العثمانية من خزانة، وكان السيد جميل الوجه رحب الجبهة حسن الصورة
فبدت في وجهه نكتة سوداء مثل النقطة ثم لم تزل تزيد حتى طبقت وجهه فاغتمت الشيعة
وظهر السرور من النواصب فقال السيد: هكذا يفعل بأوليائكم يا أمير المؤمنين إذ بدت
لمعة بيضاء لم تزل تزيد، وتنموا حتى أبيض وجهه، وكأنه القمر ليلة البدر وافتر السيد
ضاحكا وأنشأ يقول:
كذب الزاعمون ان عليا * لا ينجي محبه من هنات
قد وربي دخلت جنة عدن * وعفاني الاله عن سيئات
فأبشر واليوم أولياء علي * وتولوا عليا حتى الممات
ثم من بعده تولوا بنيه * واحدا بعد واحد بالصفات
ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حقا حقا
وأشهد أن عليا أمير المؤمنين حقا حقا ثم اغمض عينيه فكأنما كانت روحه ربانية طفيت
فانتشر هذا الخبر في الناس فشهدوا جنازته لما علموا حسن حاله فكأن المعاصي والكبائر
أظلم وجهه واسود لونه، ولما بدت عليه لمعة من نور الولاية ذهبت بتلك السواد. أقول
فإذا كان نور الولاية والمحبة لعلي وأولاده المعصومين يذهب بظلمة المعاصي، وسواد
العارضي فليس بعجب ان يزيل ذلك النور السواد الذاتي من ذلك الحبشي الذي ولد في
حب علي وأولاده، وعاش في حبهم وقتل في حبهم وبذل مهجته دونهم كما في قصة جون
مولى أبي ذر ولا سيما إذا دعا الامام له بقوله: اللهم بيض وجهه، وطيب ريحه واحشره
مع الأبرار.
المجلس الثاني والأربعون
أول من تقلد الخلافة من بني أمية عثمان بن عفان، ثم معاوية بن أبي سفيان وكانت
مدته عشرون سنة كاملة وبعده يزيد بن معاوية، ومدته ثلاث سنين وثمانية أشهر إلا ثمان
ليالي، ومات بحوارين من أرض دمشق وفي ذلك يقول الشاعر:
117

يا أيها القبر بحوارينا * ضممت شر الناس أجمعينا
وكان ابن ثلاث وثلاثين سنة، وبعده معاوية بن يزيد بن معاوية، وفي مروج
الذهب وكان مدة أيامه أربعين يوما إلى أن مات وكان يكنى بأبي يزيد، وكني حين ولي
الخلافة بأبي ليلى وكانت هذه الكنية للمستضعفين من العرب وفيه يقول الشاعر:
اني أرى فتنة هاجت مراجلها * الملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
ولما حضرته الوفاة اجتمعت إليه بنو أمية فقالوا له: أعهد إلي ما رأيت من أهل
بيتك فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافكم فكيف أتقلد وزرها تنتحلون أنتم حلاوتها
وأتعجل مرارتها، اللهم إني برئ منها، متخل عنها، اللهم إني لا أجد نفرا كاهل
الشورى فأجعلها إليهم ينصبون من يرونه أهلا لها فقالت أمه: ليته انك خرقة حيضة
ولم اسمع هذا الكلام فقال لها: وليتني خرقة حيضة ولم أتقلد هذا الامر أتفوز بنو أمية
بحلاوتها وأبوء بوزرها ومنعها أهلها كلا أني لبرئ منها فمات وهو ابن اثنتين وعشرين
سنة، ودفن بدمشق واختلف في سبب وفاته فقيل: انه مات حتف انفه، وقيل سقي
شربة مسمومة، وقيل: انه طعن وقبض من ذلك وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان
ليكون الامر له بعد، فلما كبر الثانية طعن وسقط ميتا قبل تمام الصلاة فقدم عثمان بن
عتبة بن أبي سفيان وصلى عليه: وزال الامر عن آل أبي سفيان فلم يكن فيهم من يرومها
ولا يرتجى أحد منهم لها فعند ذلك قام عبد الله بن الزبير ودعى الناس إلى نفسه ومبايعته
بمكة، وكان مروان بن الحكم لما نظر إلى اطباق الناس وهم على مبايعة ابن الزبير، وأجابتهم
له أراد ان يلحق بابن الزبير ويبايعه فمنعه عبيد الله بن زياد وقال: انك شيخ بني عبد مناف
فلا تعجل، ثم دخل عليه عمرو بن سعيد بن العاص فقال لمروان: هل لك فيما أقول فهو
خير لي ولك قال مروان: وما هو؟ قال: ادعوا الناس إليك وأخذها لك على أن تكون
لي من بعدك فقال مروان: لا بعد خالد بن يزيد بن معاوية فرضي عمرو بن سعيد فدعي
النساء إلى بيعة مروان فأجابوا.
قال المسعودي في مروج الذهب: وبويع مروان وتمت بيعته، وكان مروان أول
من أخذها بالسيف كرها بغير رضا من عصبة الناس بل لخوف، وكان مروان يلقب
بخيط باطل ويكنى أبا عبد الملك ففيه قال الشاعر:
لحا الله قوما أمروا خيط باطل * على الناس يعطي ما يشاء ويمنع
118

ومدة خلافته تسعة أشهر وأيام قلائل ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة وكان رجلا
قصير أحمر وأختلف في سبب وفاته. ومنهم رأى أن فاختة أم خالد بن يزيد بن
معاوية هي التي قتلته، وذلك أن مروان حين أخذ لنفسه البيعة، ولخالد بن يزيد بعده
ثم لعمرو بن سعيد بعد خالد، ثم بدا له فجعل الخلافة لولده عبد الملك ثم ابنه عبد العزيز
فلما سمع خالد بن يزيد غضب ودخل عليه فكلمه وأغلظ فغضب من ذلك مروان، وقال
أتكلمني يا ابن الرطبة، وكان قد تزوج مروان بأم خالد بن يزيد يعني الفاختة بنت أبي
هاشم بن عتبة ليذل خالد بذلك ويضع منه، فدخل خالد مغضبا على أمه فقبح لها تزوجها
بمروان وشكى إليها ما نزل به منه فقالت فاختة: يا بني لا يعيبك بعدها فلما دخل مروان
عليها ونام عندها قامت، ووضعت وسادة على حلقه، وقعدت مع جواريها فوقها حتى
مات، ومنهم من رأى أن فاختة أعدت له لبنا مسموما فلما دخل عليها ناولته إياه فشرب
فلما استقر في جوفه وقع يجود بنفسه، وأمسك لسانه وخرس فحضره عبد الملك وغيره
من ولده. فجعل يشير إلى أم خالد يخبرهم إنها قتله وأم خالد جالسة تبكي وتقول: بأبي
أنت وأمي حتى عند النزاع لم تشتغل عني إنه يوصيكم بي فلم يزل كذلك حتى هلك، وكان
له عشرون أخا وثمان أخوات، وله من الولد أحد عشر وثلاث بنات، وقد خلف يزيد
ابن معاوية من الولد أكثر مما خلف مروان لأنه خلف أربعة عشر ولدا، ومن البنات
أربعة فأين صاروا مع كثيرة توالدهم وتناسلهم حتى لا يبقى منهم أسم ولا رسم. بل كان
لم يكن شيئا مذكورا ولكن أنظر أيها المحب إلى نبيك حيث لم يبق منه إلا بنت واحدة
فكيف ملا الله من ذريتها الأرض حتى لم يخل منهم مكان:
كان نسل النبي بنتا فأضحى * مثل بنت الربيع عما البسيطا
مع كثرة ما قتلوا وذبحوا وصلبوا ونهبوا وطردوا من بلد خوفا على أنفسهم
من بني أمية وبني العباس لان هاتين الفرقتين كانتا يجدون ويحرصون على قتلهم وإطفاء
نورهم لا أعلم بأية عين ينظرون إلى رسول الله، وبأي لسان يجيبون النبي إذا سألهم عن
ذريته وعترته؟ ماذا يقولون الخ.
119

المجلس الثالث والأربعون
في اللهوف والبحار قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه سيرد علي في يوم القيامة ثلاث رايات من
هذه الأمة: الأولى راية سوداء مظلمة قد فزعت منها الملائكة فتقف علي فأقول لهم: من
أنتم فينسون ذكري ويقولون نحن أهل التوحيد من العرب فأقول لهم أنا أحمد نبي العرب
والعجم فيقولون: نحن من أمتك فأقول: كيف خلفتموني من بعدي في أهل بيتي
وعترتي وكتاب ربي فيقولون: أما الكتاب فضيعناه وأما العترة فحرصنا على أن نبيدهم عن
جديد الأرض فلما أسمع منهم ذلك أعرض عنهم وجهي فيصدر دون عطاشا مسودة
وجوههم ما لهم خذلهم الله ضيعوا الكتاب وخالفوا الحق، وعطلوا السنن وعاندوا
العترة، وآذوهم وسفكوا دمائهم كل ذلك حرصا على الدنيا، وحبا منهم للرياسة والسلطنة
كخلفاء بني أمية وبني العباس وغيرهم حتى من كان قريبا من رسول الله بالقرابة
القريبة، منهم عبد الله بن الزبير بن عمة رسول الله وهي صفية بنت عبد المطلب خرج
يطلب الخلافة ويدعو الناس إلى مبايعته وذلك في زمان يزيد بن معاوية (لع) وبعد شهادة
الحسين عليه السلام بسنة وبعث إليه يزيد مرتين بجيش عظيم فلم يقدروا عليه حتى هلك يزيد
وجلس ابنه معاوية بن يزيد على سرير الملك، ومات بعد أربعين يوما فعند ذلك أشتد
أمر ابن الزبير واستقام له الامر وبعث عماله إلى نواحي البلاد لاخذ البيعة له منهم أخوة
مصعب بن الزبير وله ثلاث أخوة عمرو بن الزبير كان مخالفا لأخيه في الرأي
حتى تقلد أمر الجيش من قبل بني أمية وخرج لمحاربة أخيه إلى مكة ووقع بينهم حروب
عظيمة حتى انكسر جيشه وفر جمعه وظفر به أخوه عبد الله بن الزبير فأمر به عبد الله
نزعوا أثوابه على باب مسجد الحرام وجلده حتى مات وكان مصعب موافقا له في الرأي
وهو صاحب حسن وجمال وهيبة وكمال وفيه يقول الشاعر:
إنما مصعب شهاب من الله * تجلت عن وجهه الظلماء
وله أربعة أزواج: منها سكينة بنت الحسين (ع) فبعثه إلى العراق فنزل البصرة أولا
120

ودعاهم إلى البيعة فبايعوا توجه إلى الكوفة فأعترضه جيش المختار بن أبي عبيدة وأبي
المختار دخوله وجرت بينهم حروب عظيمة فقاتلوا قتالا شديدا حتى أنهزم جيش المختار
ودخل مصعب الكوفة وقتل من أهل الكوفة سبعة آلاف رجل كل هؤلاء طالبون بدم
الحسين، وسماهم مصعب الحسينية ثم تتبع الشيعة بالكوفة وغيرها وقتلهم، وضيق الامر
على أهل الكوفة، وظفر بالمختار وقتله واجتز رأسه، وقطع أعضائه وجلس في قصر الامارة
ووضع رأس المختار بين يديه، وذلك في سنة سبع وستين من الهجرة ثم أتى بحرم المختار
فدعاهن إلى البراءة منه، والدخول في طاعة أخيه عبد الله بن الزبير ففعلن إلا حرمتين له
أحديهما بنت سمرة بن جندب الفرازي: والثانية ابنة النعمان بن بشير الأنصاري، وقالتا:
كيف نتبرأ من رجل يقول: ربي الله كان صائم نهاره وقائم ليله قد بذل دمه لله ولرسوله
في طلب قتلة ابن بنت رسول الله وأهله وشيعته فأمكنه الله منهم حتى شفى النفوس
فكتب مصعب إلى عبد الله يخبره بخبرهما فكتب إليه ان رجعتا عما إليه وتبرئتا منه فخل
سبيلهما، وإلا فأقتلهما فعرضهما مصعب على السيف فرجعت بنت سمرة ولعنته وتبرئت
منه، وقالت لو دعوتني إلى الكفر مع السيف لكفرت أشهد أن المختار كافر وأبت ابنة
النعمان بن بشير وقالت شهادة أرزقها لم أتركها كلا أنها موتة ثم الجنة والقدوم على
رسول الله وأهل بيته، والله لا يكون أتي مع ابن هند فأتبعه واترك بن أبي طالب اللهم
أشهد اني متبعة لنبيك وابن بنته وأهل بيته وشيعته ثم قدمها مصعب فقتلت صبرا
ففي ذاك يقول الشاعر:
إنما أعجب الأعاجيب عندي * قتل بيضاء حرة عطبول
قتلوها ظلما على غير جرم * ان لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا * وعلى الغانيات جر الذيول
ولا يخفى ان الرجل الغيور لا يتعرض لاحد من النساء، ولا يؤاخذها بكلامها
وان أخشنت في كلامها فكيف بأن يقتلها، ولذا لما قالت الحوراء زينب ما قالت في مجلس
عبيد الله بن زياد (لع) وغضب اللعين وهم بها قام عمرو بن حريث: وقال يا أمير المؤمنين
انها امرأة لا تؤاخذ بشئ من منطقها فكف اللعين عنها مع تلك الشقاوة فيا للعجب
من رجل صنع صنعا لم يصنعه ابن مرجانة وهو قتل حرة مسلمة لأنها لم تبايع وقتلها
صبرا، وقد نهى رسول الله ان يقتل أحد صبرا وهو ان يمسك المقتول بحيث لا يقدر
121

على الحركة، ولم يزل يضرب ويطعن ويرمى حتى يموت وكان الله قد شاء ان هذه المرأة
الصالحة تتأسى بالحسين (ع) لأنه أيضا قتل صبرا كما قال زين العابدين (ع) في خطبته
بالكوفة: انا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا، والحاصل لما صفي لمصعب العراق
واخذ البيعة من أهلها لأخيه خرج إلى الشام لحرب عبد الملك وانفاذ أمره في أهله، وسار
حتى وصل بباحميرا ففي ذلك يقول الشاعر:
أبيت يا مصعب الأسيرا * في كل يوم لك بباحميرا
وبعث إليه عبد الملك بعساكر مصر والجزيرة والشام، والتقوا بمسكن قرية من
أرض العراق وعلى مقدمة جيش عبد الملك الحجاج بن يوسف الثقفي وعلى جيش مصعب
إبراهيم بن الأشتر النخعي، فكاتب عبد الملك رؤساء أهل العراق الذين كانوا بعسكر
مصعب وغيرهم وهو يمنيهم ويرغبهم ويرهبهم، فلما تلاقوا العسكران أخذوا يقاتلون
حتى غشيهم المساء فأشرف إبراهيم بن الأشتر على الفتح فذكر أهل العراق الذين كانوا
معه ما كتب إليهم عبد الملك من الوعد والوعيد، فأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي إبراهيم
وليس معه إلا عدد يسير، فدارت به الرجال وازدحم إليه أهل الشام حتى أثخنوه بالجراح
وسقط عن جواده، وقطعوا رأسه وأتي بجسد إبراهيم بين يدي عبد الملك. ثم اخذ
الجسد مولى الحصين بن نمير وجمع حطبا وأحرقه بالنار.
فلما قتل إبراهيم بقي مصعب وحيدا وتفرق عنه جميع ما كان معه إلا سعد واحد
منهم عيسى ابنه فقال له: يا بني أركب وأنج بنفسك والحق بمكة بعمك وأخبره بما
صنع بي أهل العراق ودعني فأني مقتول فقال له: لا والله لا تتحدث بنا قريش أني
فررت عنك فقال له: أما إذا أبيت فتقدم امامي حتى أحتسبك فتقدم عيسى وقاتل حتى
قتل، وخر إلى الأرض وبقي مصعب بلا ناصر، وجاء محمد بن مروان إلى أخيه عبد الملك
وسأله ان يؤمن مصعبا، فاستشار عبد الملك من حضره فقال علي بن عبد الله بن عباس:
لا تؤمنه، وقال خالد بن يزيد بن معاوية: بل أمنه وارتفع الكلام بين علي وخالد حتى
تسابا فأمر عبد الملك أخاه أن يمضي إلى مصعب ويؤمنه، فمضى محمد بن مروان إلى مصعب
وقال: أمنك أمير المؤمنين على نفسك ومالك وكل ما أحدثت وأن تنزل أي البلاد شئت
فبينما هو يكلمه إذ أقبل رجل من أهل من أهل الشام إلى عيسى بن مصعب ليجتز رأسه فقام إليه
مصعب من قفاه حتى قتله، فأقبل إليه عبد الله بن ظبيان وكان أولا في جيش مصعب
122

وصاحب الراية، وحمل على مصعب فاختلفا ضربتين وسبق ضربة مصعب إلى رأسه وكان
مصعب قد أثخن بالجراح فضربه عبد الله بضربة فقتله واجتز رأسه وأتى به عبد الملك.
فلما رأى سجد عبد الملك وكان ذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشر خلت من جمادي
الأولى سنة اثنين وسبعين ثم أمر عبد الملك بمصعب وابنه فدفنا بدير الجاثليق
لما قتلا أمر عبد الملك بدفنهما سود الله وجوه قوم قتلوا ابن بنت رسول الله وتركوه
عريانا صريعا على الأرض، ودعي عبد الملك أهل العراق إلى البيعة وبايعوه ثم جاء
عبد الملك حتى دخل الكوفة وجلس في قصر الامارة وبين يديه رأس مصعب، وعن مسلم
النخعي قال: كنت جالسا فرأى عبد الملك مني اضطرابا فسألني فقلت: يا أمير المؤمنين
دخلت هذه الدار فرأيت رأس الحسين بين يدي ابن زياد في هذا الموضع، ثم دخلت
بعد ذلك فرأيت رأس ابن زياد بيدي يدي المختار ثم دخلت فرأيت رأس المختار بين يدي
مصعب، ودخلت وهذا رأس مصعب بين يديك فوقاك الله يا أمير المؤمنين فأمر عبد الملك
بهدم الطاق وتخريب القصر، ولكن شتان ما بين رأس الحسين ورؤس هؤلاء ما أعظمه
شأنا وأشرفه قدرا وهو رأس كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يضمه إلى صدره، ويضعه على عاتقه ويقبله
في جبهته وفي فمه وثناياه الخ.
ولما قتل مصعب في حرب عبد الملك وأتصل خبره بأخيه عبد الله بن الزبير بمكة أسرف
في البكاء وصعد المنبر وجبينه يرشح عرقا فقال: الحمد لله مالك الدنيا والآخرة يؤتي من يشاء
وينزع الملك عمن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شئ قدير
إلا إنه لن يذل الله من كان الحق معه، ولن يعز من كان أولياء الشيطان حزبه، أتانا خبر
من العراق أحزننا وأفرحنا قتل مصعب فأما الذي أحزننا من ذلك فإن فراق الحميم لدغة
يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يحتسب بعد ذلك إلى كريم الصبر وجزيل العزاء، وأما الذي
أفرحنا فإن القتل له شهادة ويجعل الله له ولنا في ذلك الخيرة أما والله إنا لا نموت كميتة
آل أبي سفيان، وإنما نموت قصعا بالرماح وقتلا تحت ظلال السيوف، إلا وان الدنيا
عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه ولا يتبدل ملكه، فإن تقبل الدنيا علي
لاخذها أخذ الأشطر البطر، وان تدبر عني لا أبكي عليها بكاء الحزين المهين فنزل عن
المنبر، فبعد ما قتل مصعب بعث عبد الملك بجيش عظيم وعليه الحجاج بن يوسف الثقفي
لحرب بن الزبير بمكة، فأتى الحجاج الطائف وأقام بها شهورا ثم زحف إلى مكة وحاصر
123

عبد الله بن الزبير، وكتب إلى عبد الملك أني قد ظفرت بأبي قبيس فلما ورد كتاب
الحجاج عبد الملك فرح وكبر فكبر من في داره، اتصل التكبير بمن في جامع دمشق فكبروا
واتصل ذلك بأهل السوق ثم سألوا عن الخبر فقيل لهم: ان الحجاج حاصر ابن الزبير
بمكة وظفر بأبي قبيس فقال: لا نرضى حتى يحمله إلينا مكبلا على رأسه برنس على جمل
يمر بنا في الأسواق الترابي الملعون، وكان حصار الحجاج لابن الزبير بمكة هلال ذي القعدة
سنة اثنتين وسبعين، ومدة حصاره خمسين ليلة، ومنع ابن الزبير الحجاج ان يدخلوا
مكة ويطيفوا بالبيت ونحر ابن الزبير ولم يخرج بعرفة، ودخل ابن الزبير على أمه
أسماء بنت أبي بكر الصديق، وقد بلغت مئة سنة لم يقلع لها سن ولا أبيض لها شعر، وما
زال عندها عقل فقال يا أماه: كيف تجدين ابنك؟ قالت: اني لشاكية يا بني قال:
يا أماه ان في الموت راحة قالت: لعلك تمنيه لي وأنا لا أحب أن أموت حتى أرى أحد
طرفيك أما قتلت فأحتسبك، وأما ظفرت فقرت عيني بك، وأوصى عبد الله إليها بما
يحتاج من أمره وأمر نسائه، وكان عروة بن الزبير على رأي عبد الملك، وكتب
عبد الملك إلى الحجاج يأمره بتعاهد عروة وان لا يسوقه في نفسه وماله فخرج عروة إلى
الحجاج، ورجع إلى أخيه وقال: يا أخي هؤلاء يعطونك الأمان من قبل عبد الملك
وان تنزل أي البلاد شئت فأبي عبد الله قبول ذلك، وقالت له أمه أسماء: يا بني لا تقبل
خطة تخاف على نفسك منها مخافة القتل مت كريما، وإياك أن تؤسر وتعطي بيديك فقال
لها: يا أماه اني أخاف ان يمثل بي بعد القتل فقالت: يا بني وهل تتألم الشاة من السلخ
بعد الذبح ودخلوا على ابن الزبير في المسجد وقت الصلاة ونظر إلى طائفة منهم قد أقبلوا
نحوه فقال لأصحابه: من هؤلاء؟ قالوا: أهل مصر، قال قتلة عثمان أمير المؤمنين وركب
الكعبة فحمل عليهم وتكاثر عليه الرجال من أهل الشام ومصر فلم يزل يضرب فيهم حتى
أخرجهم عن المسجد ثم رجع إلى أصحابه عند البيت فقال لهم: ألقوا أغماد السيوف
وليصن كل منكم سيفه كما يصون وجهه، لا ينكسر سيف أحدكم فيقعد كما تقعد المرأة، ولا
يسأل منكم رجل أين عبد الله؟ من يسأل عني فأني في الرعيل الأول ثم أنشأ:
يا رب ان جنود الشام قد كثروا * وهتكوا من حجاب البيت أستارا
يا رب اني ضعيف الركن مضطهد * فأبعث إلي جنوا منك أنصار
124

وازدحموا عليه الوفاد من كل باب فحمل عليهم فشدخ بالحجارة فانصرع وأكب
عليه موليان له وأحدهما يقول: العبد يحمي ربه ويحتمي حتى قتلوا جميعا وتفرق من كان
معه من أصحابه وأمر به الحجاج فصلب بمكة، وكان مقتله يوم الثلاثاء لأربع عشر ليلة
خلت من جمادي الأولى سنة ثلاث وسبعين وكلمت أسماء أم عبد الله الحجاج في دفنه فأبى
عليها وقد ظهر ما أخبر به الصادق المصدق أمير المؤمنين (ع)، وهذا من كرامات
علي (ع) لأنه أخبر عن قتل ابن الزبير بمكة واستحلاله حرمة البيت كما في الخبر لما عزم
الحسين (ع) على الخروج من مكة جائه عبد الله بن الزبير، وتكلم معه بما تكلم وأجابه
الحسين (ع) بما أجاب حتى قال عبد الله ابن الزبير: يا بن رسول الله قد حضر الحج أو تدعه
وتأتي العراق؟ فقال (ع): يا بن الزبير لان أدفن بشاطئ الفرات أحب إلي من أن أدفن
بفناء الكعبة ان أبي حدثني ان بها كبشا يستحل حرمتها فما أحب أن أكون ذلك الكبش
يعني بذلك ابن الزبير، فخرج ابن الزبير من عند الحسين فمر عبد الله بن العباس بابن الزبير
وقال له: قرت عينك يا بن الزبير هذا حسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز لان ابن
الزبير قد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين (ع) بمكة وهو أثقل خلق الله
عليه، فلم يكن شئ يؤتي به أحب إليه من شخوص الحسين عن مكة، ولما خرج الحسين
فرح ابن الزبير وسر بذلك سرورا عظيما وقرت عينه والحال إنه لم يبق بمكة إلا من حزن
لمسيره بل وقد دمعت بيت الله الحرام لفقده كما قال الشاعر:
لقد دمعت عيون البيت حزنا * لفقد منى القلوب العارفينا
المجلس الرابع والأربعون
في مروج الذهب وكان الحجاج بن يوسف بن عقيل الثقفي من عمال عبد الملك وهو
الذي فتح مكة، واستولى على ابن الزبير وقتله فولاه عبد الملك على مكة والمدينة وقام فيهما
ثلاث سنين، وكان بشر بن مروان أخو عبد الملك واليا على العراق.
فلما هلك بشر لم ير عبد الملك أحدا للعراق إلا الحجاج لأنه كان ذا رأي وعقل
125

وكفاية وكان طلقا ذلقا نطقا لا يبلغه أحد في شيطنته فولاه على العراق وبعثه إليهم
فلما توجه نحو العراق وبلغ ذلك أهل الكوفة قام الغضبان القبعثري الشيباني، وكان من
فصحاء العرب ومعاريفهم بالمسجد الجامع بالكوفة خطيبا فحمد الله وأثنى عليه. ثم
قال: يا أهل الكوفة أن عبد الملك قد ولى عليكم من لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن
مسيئكم، الظلوم الغشوم الحجاج، ألا وأن لكم من عبد الملك منزلة بما كان منكم من خذلان
مصعب وقتله، فاعترضوا هذا الخبيث في الطريق فأقتلوه فإن ذلك لا يعد منكم خلعا فإنه متى
يعلوكم على متن منبركم وصدر سريركم وقاعة قصركم ثم قتلتموه عد خلعا فأطيعوني وتغدوا
به قبل أن يتعشى بكم فقال له أهل الكوفة: جننت يا غضبان بن ننتظر سيرته فإن رأينا
منكرا غيرناه قال: ستعلمون فلما قدم الحجاج الكوفة بلغه أهل الكوفة مقالة الغضبان وأمر
به وقال: الست صاحب الكلمة الخبيثة تغدوا بالحجاج قبل أن يتعشى بكم؟ قال: أصلح
الله الأمير ما نفعت من قالها ولا ضرت من قيلت فيه، قال لاقطعن يديك ورجليك من
خلاف ولأصلبنك، قال لا أرى الأمير أصلحه الله يفعل ذلك فأمر به فقيد وحبس
وكان من شأن الحجاج ما كان حتى بنى الحجاج خضراء واسط فلما أستتم بناؤها جلس في
صحنها وقال: كيف ترون قبتي هذه؟ قالوا: ما بني لخلق قبلك مثلها قال: فإن فيها مع
ذلك عيبا فهل فيكم من يخبرني به قالوا والله ما نرى بها عيبا فأمر بإحضار الغضبان فأتى به
يوسف في قيوده، فلما دخل عليه قال له الحجاج: أراك يا غضبان سمينا قال: أيها الأمير
القد والرقعة ومن يكن ضيف الأمير يسمن قال: فكيف ترى قبتي هذه؟ قال: أرى قبة
ما بني لاحد مثلها إلا أن بها عيبا فإن أمنني الأمير أخبرته بها قال: قل فلك الأمان قال:
بنيت في غير بلدك لغير ولدك لا تتمتع به ولا تنعم فما لا يتمتع فيه من طيب ولا لذة
قال اللعين: ردوه فإنه صاحب الكلمة الخبيثة قال: أصلح الله الأمير أن الحديد قد أكل
لحمي وبرى عظمي قال: احملوه فلما استقل به الرجال قال: الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا
له مقرنين قال: أنزلوه فلما أستوى على الأرض قال: اللهم أنزلني منزلا مباركا وأنت
خير المنزلين قال: جروه فلما جروه قال (بسم الله مجريها ومرسيها أن ربي لغفور رحيم)
قال: أطلقوا عنه، وكان اللعين الحجاج شديد العداوة لأمير المؤمنين (ع) وهو أن عبد الله بن هاني وهو
رجل من أدحى من اليمن وكان شريفا في قومه، وقد شهد مع الحجاج مشاهده كلها وشهد
126

معه في تحريق البيت وكان من أنصاره وشيعته فقال له الحجاج يوما: يا بن هاني أنا
ما كافأناك حقك بعد ولك علينا حق عظيم وأنا اليوم مكافئك فأرسل اللعين إلى أسماء بنت
خارجة وهو من فزارة فأحضره وقال: زوج أبنتك من عبد الله بن هاني فقال: لا ولا
كرامة له علينا ولا بكفؤنا فدعى الحجاج جلاوزته وقال: اضربوه بالسياط فلما رأى
ذلك قال زوجته ابنتي فزوجه، ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني رئيس اليمامة ان زوج
عبد الله بن هاني أبنتك قال: والله ما أزوجه ولا كرامة له علي ومن أد فصاح الحجاج
بالسياف أن أضرب عنقه، فلما رأى سعيد بن قيس ذلك قال: أمهلني أيها الأمير
فأشاور أهلي فشاورهم فقالوا: زوجه لا يقتلك هذا الفاسق فزوجه فقال الحجاج لعبد الله
ابن هاني: يا عبد الله قد زوجتك بنت سيد فزارة وابنة سيد همدان، وعظيم كهلان وما
قبيلة أدد هنا لك فقال عبد الله: لا تقل ذلك أصلح الله الأمير فإن لنا مناقب ما هي لاحد
من العرب قال وما هذه المناقب؟ قال: الأول ما سب أمير المؤمنين عثمان في ناد لنا قط
قال هذه منقبة والله، وقال: شهد منا مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلا في
حرب علي، وما شهد مع أبو تراب منا إلا رجل واحد كان والله ما علمناه أمرء سوء
قال الحجاج: وهذه والله منقبة، قال: وما منا رجل زوج أبنته بأبي تراب ولا تولاه
قال: وهذه والله منقبة، قال وما منا رجل علم من أبيه انه شتم أبي تراب ولعنه إلا وفعل
وقال: أنا أزيد أبنيه الحسن والحسين وأمهما فاطمة قال: وهذه والله منقبة قال: وما منا
امرأة إلا ونذرت أن قتل الحسين ان تنحر عشر جزائر لها وفعلت.
قال: وهذه منقبة لقد تأسين ببني أمية عليهم لعائن الله لأنهم نذروا ان قتل
الحسين (ع) وسلم من خرجه إليه من أهل الشام، وصارت الخلافة في آل أبي سفيان أن
يتخذوا ذلك اليوم عيدا لهم يصومون شكرا لله، ونذر بعضهم أن يبنوا مساجدا شكرا
لقتل الحسين (ع)، وفي مروج الذهب وكان الحجاج شديد العداوة لعلي بن أبي طالب
وشيعته ومحبيه بحيث إذا أطلع أحد من شيعته لا يستقر حتى يقتله.
وروي أيضا في مروج الذهب ان الحجاج بن يوسف الثقفي (لع) أمه القارعة ولدته
مشوها لا دبر له وأبى أن يقبل ثدي أمه ولا غيرها فأعياهم فتصور الشيطان لهم في صورة
الحرث بن كلدة فقال: أذبحوا له تيسا أسود والعقوه بدمه وأطلوا به وجهه ثلاثة أيام
فإنه يقبل الثدي ففعلوا فقبل الثدي فكان لا يصبر عن سفك الدماء، ويقول: أكبر اللذات
127

عندي سفك الدماء، ولقد قتل من الناس مئة الف وعشرين ألفا سوى من قتل في الحروب
ولما مات وجد في سجنه ثلاث وثلاثين ألفا ما يجب على أحد قتل ولا قطع ولا صلب
وان سجنه كان حائطا لا سقف فيه فإذا آوى المسجونون إلى الجدران يستظلون من الشمس
رمتهم الحرسة بالحجارة، وكان يطعمهم خبز الشعير مخلوطا بالملح والرماد، وكان لا يلبث
الرجل في سجنه حتى يسود ويصير كالزنجي حتى أن غلاما حبس فيه فجائت إليه أمه بعد
أيام لتعلم ما حاله فلما تقدم إليها أنكرته وقالت: ليس هذا أبني هذا زنجي فقال الغلام:
لا والله يا أماه أنا ابنك أنت فلانة وأنا فلان فلما عرفته شهقت وماتت ومدة استيلائه
على الناس عشرين سنة وآخر من قتل سعيد بن جبير فوقعت الاكلة في بطنه وأخذ الطبيب
لحما شده في خيط وأمره بابتلاعه ثم استخرجه من بطنه، وإذا قد لصق به دود كثير
فعلم إنه غير ناج، وقيل: ان اللعين أمر برمي الكعبة ونصب المنجنيق فجائت صاعقة
وأحرقت المنجنيق فتقاعد أصحابه عن الرمي فقال اللعين: لا عليكم من ذلك فإن هذا يدل
على أن فعلكم مقبول.
وفي مدينة المعاجز روى علي بن بابويه القمي في كتاب الأربعين بأسانيد معتبرة
عن الحسن البصري قال: دخلت على الحجاج فقال اللعين: يا حسن ما تقول في أبي تراب
علي بن أبي طالب؟ قلت: في أي حالاته؟ قال: من أهل الجنة أم من أهل النار؟ قلت:
ما دخلت الجنة فأعرف أهلها ولا دخلت النار فأعرف أهلها وأني لأرجو أن يكون من
أهل الجنة لأنه أول الناس بالله ورسوله إيمانا وزوج بنت رسول الله وأبو الحسن
والحسين، وبلاؤه في الاسلام مع رسول الله ونصره لرسول الله، وما انزل الله تعالى فيه
من الآيات قال: ويحك يا حسن انه قتل المسلمين يوم الجمل ويوم صفين وقد قال الله تعالى:
(ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) ثم قال: هو من أهل النار وكان أنس
ابن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا فقام أنس مغضبا وقال: يا حجاج ألجأتني
وأغضبتني أشهد اني قائم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد مكث رسول الله ثلاثة أيام لم يطعم
اتاه جبرائيل بطير مشوي يخرج منها الدخان على خبزة بيضاء فقال: يا محمد ربك يقرأك
السلام وهذه تحفة من الله إليك فكلها فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم رفع رأسه فقال:
اللهم أيتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر إذ أقبل علي بن أبي طالب
فضرب الباب فخرجت إليه فقال لي أستأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: ان رسول الله
128

مشغول عنك فجاء ثانيا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو ويقول: اللهم إيتني بأحب خلقك إليك
فقلت رسول الله مشغول عنك فجاء ثالثا ورفع صوته وقال: جئت ثلاث مرات وأنت
تقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشغول عنك ولا تأذن لي فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله صوته وقال:
يا أنس من بالباب فقلت: هذا علي بن أبي طالب قال أدخله يا أنس فلما دخل نظر
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه قال: اللهم والي حتى قالها ثلاثا يعني يا رب كما إنه أحب خلقك
إليك كذلك أحب خلقك إلي، ثم قام وقبله بين عينيه وقال: يا علي أين كنت يا قرة عيني
فأني قد دعوت الله ربي ثلاثا أن يأتيني بأحب خلقه إلي يأكل معي من هذا الطائر قال:
يا رسول الله قد جئت ثلاث مرات فحجبني أنس فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا أنس
لم حجبت علي قلت: يا رسول الله لم أحجبه لهوانه علي ولكني أحببت أن يكون رجلا
من قومي فأذهب بعزها وشرفها إلى يوم القيامة فقال: لست بأول رجل أحب قومه
قال الحجاج (لع): أنت رجل قد خرفت وذهب عقلك، وان ضربت عنقك على ما سبق
منك قال الناس: ضرب خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن أخرج عني وإياك أن تحدث بهذا
الحديث من يومك هذا فقال أنس: والله لأحدثن ما دمت حيا وما كتمته فأني قد شهدته
فقال الحجاج: أخرجوه عني فإنه قد خرف وذهب عقله أقول: ان الحجاج مع تلك
القساوة والشقاوة التي قد بلغ قتلاه مئة وعشرين الف رجل وأراق دماءهم وأخذ منهم
نفوسهم لم يرض بأن يقتل أنس بن مالك لانتسابه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه خادم
رسول الله وأقسى قلبا وأشقى من هذا الشقي عبيد الله بن زياد (لع) إذ قتل الحسين
وهو فلذة كبد رسول الله وقتل شيعته وأخوته وأهل بيته شر قتلة ثم كتب بان يدوسوا
الحسين بحوافر خيولهم، ولم يبق منهم إلا ابن واحد وهو إمامنا السجاد وكان مريضا
وما رق قلبه عليه حتى أراد قتله وسفك دمه أيضا ونادى بجلاوزته أخرجوه وأضربوا
عنقه فسمعت عمته زينب فتعلقت به وقالت: ويلك يا بن زياد انك لم تبق منا أحدا
حسبك من دمائنا والله لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه.
لا والد لي ولا عم ألوذ به * ولا أخ لي يبقى أرجوه ذو رحم
أخي ذبيح ورحلي قد أبيح وبي * ضاق الفسيح وأطفالي بغير حمى
129

المجلس الخامس والأربعون
ومن كلام لأمير المؤمنين (ع) قال لمروان بن الحكم بالبصرة: قالوا: أخذ مروان
أسيرا يوم الجمل فأستشفع الحسن والحسين عليهما السلام فكلماه فيه فخلى سبيله فقالا له:
يبايعك يا أمير المؤمنين فقال (ع): أو لم يبايعني قبل قتل عثمان لا حاجة لي في بيعته إنها
كف يهودية لو بايعني بكفه لغدر بسبته أما ان له امرة كلعقة الكلب انفه وهو
أبو الأكبش الأربعة ستلقى الأمة منه ومن ولده يوما أحمر، قوله لغدر بسبته السبت
بالفتح الاست كنى بها عن الغدر الخفي لأنها مما يحرص الانسان على اخفائه، وربما
كان في ذلك إشارة إلى ما كانت تفعله العرب إذا أرادت أن تستخف بعهد أو تغدر بعقد
من أنهم كانوا يحبقون عند ذكره استهزاء، وقوله (ع): ان له امرة كعلقة الكلب إشارة
إلى سرعة انقضائه وقصر مدته، وكانت تسعة أشهر كالزمن الذي يتخلل لعقة الكلب انفه
وقوله (ع): وهو أبو الأكبش، الأكبش جمع كبش وهو سيد القوم ورئيسهم، وقيل:
المراد بالأكبش بني عبد الملك بن مروان وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام قالوا: ولم
يتول الخلافة أربعة أخوة سوى هؤلاء وقد قدمنا ذكر مروان وقصر مدته ونأخذ الان
بذكر ابنه عبد الملك أبو الأكبش.
وفي مروج الذهب للمسعودي وبويع عبد الملك بن مروان ليلة الأحد غرة شهر
رمضان من سنة خمس وستين، وكان منذ بويع إلى أن توفي أحد وعشرين سنة وشهرا
ونصفا، ومدة عمره ست وستون سنة وله حروب عظيمة أولهن حرب ابن الزبير
بعث إليه الحجاج بن يوسف بجيش إلى مكة فلم يزل يترصد خبره حتى قتل ابن الزبير، وبلغ
ذلك عبد الملك ففرح أشد الفرح. ثم كتب إلى الحجاج يأمره بأخذ البيعة من أهلها فبايعه
أهل مكة والمدينة وصفي له الحجاز وتوابعه وانقاد الناس طرا له، حج عبد الملك شكرا لما
أعطى ذلك، فلما دخل المدينة قام الناس بالعطاء قيل خرجت بدرة مكتوب عليها: هذه
من الصدقة فأبى أهل المدينة من قبولها وقالوا: إنما كان عطاؤنا من الفئ فقال عبد الملك
وهو على المنبر: يا معشر قريش مثلنا ومثلكم كمثل أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين
130

فنزلا في ظل شجرة فلما دنا الرواح خرجت إليهما من تحت الصفاة حية تحمل
دينارا فألقته إليهما فقالا: ان هذا لمن الكنز فأقاما ثلاثة أيام كل يوم تخرج إليهما دينارا
فقال أحدهما لصاحبه: إلى متى ننتظر هذه الحية إلا نقتلها ونحفر هذا الكنز فنأخذه فنهاه
أخوه وقال: ما ندري لعلك تتعب ولا تدرك المال فأبى عليه وأخذ فأسا معه ورصد
الحية حتى خرجت فضربها فلم تقتلها فثارت الحية فقتلته ورجعت إلى جحرها فقام
أخوه ودفنه وأقام حتى إذا كان الغد خرجت الحية معصوبة رأسها ليس معها شئ فقال
لها: يا هذه اني والله ما رضيت ما أصابك ولقد نهيت أخي عن ذلك فهل لك أن يجعل الله
بيننا ان لا تضريني ولا أضرك وترجعين إلى ما كنت عليه؟ قالت الحية: لا. قال: ولم
ذلك؟ قالت: أني لاعلم ان نفسك لا تطيب لي أبدا وأنت ترى قبر أخيك ونفسي
لا تطيب لك أبدا وانا أذكر هذه الشجة ثم أنشدت هذا البيت فقالت:
أرى قبرا تراه مقابلي * وضربة فاس فوق رأسي فاغره
فيا معشر قريش وليكم عمر بن الخطاب فكان فظا غليظا مضيقا عليكم فسمعتم له
وأطعتم: ثم وليكم عثمان فكان سهلا فعدوتم عليه وقتلتموه، وبعثنا عليكم يوم الحرة
فقتلناكم فنحن نعلم يا معشر قريش انكم لا تحبوننا أبدا وأنتم تذكرون يوم الحرة
لا نحبكم أبدا ونحن نذكر يوم الحرة، وكان عبد الملك صاحب التدبير والكفاية، وشديد
الفكرة والمداهنة، وكثير المزاح والبشاشة، ويجب الشعر والفخر والمدح تاقت نفسه إلى
محادثة الرجال والاشراف وأخيار الناس، وكثيرا يمازح الرجال قيل أهدي إليه يوما
أترجة مكللة بالدر والياقوت فأعجبته وعنده جماعة من خاصته وأهل خلوته فقال لرجل من
جلسائه اسمه خالد: اغمز منها ترسا وأراد ان يمتحن صلابته فقام فغمزه فضرط
فاستضحك عبد الملك فضحك جلساؤه فقال: كم دية الضرطة فقال بعضهم: أربعمائة درهم
وقطيفة فأمر له بذلك فانشأ رجل من القوم:
أيضرط خالد من غمز ترس * ويحبوه الأمير بها بدورا
فيا لك من ضرطة جلبت غناه * ويا لك ضرطة أغنت فقيرا
يود الناس لو ضرطوا فنالوا * من المال الذي اعطى عشيرا
ولو نعلم بأن الضرط يغني * ضرطنا أصلح الله الأميرا
فضحك عبد الملك وقال: أعطوه أربعة آلاف فلا حاجة لنا في ضراطه. كان روح
131

ابن زنباع مزاحا لطيفا وهو جليس عبد الملك ونديمه فرأى من عبد الملك اعراضا
وجفوة فقال لابنه الوليد: أما ترى ما أنا فيه من أمير المؤمنين باعراضه عني بوجهه حتى
لقد فغرت السباع بأفواهها نحوي وأهوت بمخاليبها إلى وجهي فقال له الوليد: احتل له
في حديث تضحكه به كما احتال مرزبان نديم سابور بن شابور ملك فارس قال روح: وما
كان من خبره مع الملك؟ قال الوليد: كان المرزبان هذا نديم سابور فظهرت له من سابور
جفوة فلما علم ذلك تعلم نباح الكلب وعي الذئاب، ونهيق الحمار، وزقاء الديوك، وشحيح
البغال، وصهيل الخيل ونحو ذلك ثم توصل إلى موضع يقرب من مجلس خلوته وفراشه
يعني سابور وأخفى اثره فلما خلا الملك نبح مرزبان نباح الكلب فلم يشك الملك إنه كلب
فقال الملك: ما هذا؟ فعوى عي الذئاب فنزل الملك عن سريره فنهق نهيق الحمار فمضى
الملك هاربا ومضى الغلمان يتبعون الصوت فكلما دنوا منه ترك ذلك الصوت واحدث صوتا
آخر من أصوات البهائم فاجتمعوا عليه واخرجوه وإذا هو مرزبان فضحك الملك ضحكا شديدا وقال له: ويلك ما حملك على هذا؟ قال: ان الله مسخني كلبا وحمارا وكل حيوان
لما غضبت علي، فأمر الملك بالخلع عليه ورده إلى مرتبته فقال: روح للوليد إذا اطمأن
المجلس بأمير المؤمنين فاسألني عن عبد الله بن عمر هل كان يمزح أو يسمع مزاحا قال
الوليد: افعل ذلك، وكان ابن عمر صاحب سلامة لا يمزح ولا يعرف له شئ من المزاح
فتقدم الوليد وسبق بالدخول فتبعه روح فلما اطمأن المجلس بهما وجلس عبد الملك على
سريره قال الوليد لروح: يا أبا زرعة هل كان ابن عمر يمزح أو يسمع المزاح؟ قال روح:
حدثني ابن عتيق ان امرأته عاتكة بنت عبد الرحمن المخزومية هجته فقالت:
ذهب الاله بما نعيش به * وقمرت عيشك إيما قمر
أنفقت مالك غير محتشم * في كل زانية في خمر
وكان ابن عتيق صاحب غزل وفكاهة فاخذ هذين البيتين في رقعة وخرج فإذا هو
بابن عمر فقال: يا عبد الرحمن انظر في هذه الرقعة واشر علي برأيك فيها فلما قرأها عبد الله
استرجع وقال: الرأي ان تعفو وتصفح قال: والله يا أبا عبد الرحمن لان لقيته بمكان
لأنيكنه نيكا جيدا فأربد عبد الله لونه وأخذته الرعدة وقال: مالك غضب الله عليك قال:
ما هو إلا ما قلت لك فافترقا فلما كان بعد أيام لقيه عبد الله فأعرض عنه فقال ابن أبي عتيق:
يا أبا عبد الرحمن إني لقيت صاحب البيتين ونكته نيكا جيدا فصعق عبد الله فلما رأى ابن
132

أبي عتيق ما حل به دنا منه وقال في إذنه: إنها امرأتي فقبله ما بين عينيه وضحك وقال:
أحسنت فزدها فضحك عبد الملك حتى فحص برجليه وقال له: قاتلك الله يا روح ما أحسن
حديثك ومد يده إليه فقام إليه روح وأكب عليه وقبل أطرافه وقال: يا أمير المؤمنين
الذنب فأعتذر أم الملالة فأصبر؟ قال: لا ذاك ولا ذاك ثم حسن حاله وتوفي عبد الملك يوم
السبت الرابع عشر من شوال سنة ست وثمانين ولما أشرف على الموت جمع أولاده وقال:
أوصيكم بتقوى الله فإنها عصمة باقية وجنة واقية فالتقوى خير زاد وأفضل في المعاد
وهي أحسن كهف، وليعطف الكبير على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير مع
سلامة الصدور، والاخذ بجميل الأمور وإياكم والبغي والتحاسد فيهما هلك الملوك
الماضون، وذوو العز المكين ثم جعل يقول: يا دنيا ان طويلك لقصير، وإن كثيرك
لقليل، وإن كان منك لفي غرور، ودخل عليه ابنه الوليد وهو يجود بنفسه فبكى الوليد
وقال: كيف أصبح أمير المؤمنين فالتفت إليه بهذا المصرع (ومشتغل عنا يريد بنا الردى)
ثم التفت إلى نسائه بهذا المصرع (ومستعبرات والعيون سواجع) وأيضا أنشأ هذا البيت:
كم عائد رجلا وليس يعوده * إلا لينظر هل يراه يموت
يعني تحضرون عندي وتعودونني ولكن ليس فيكم من يعودني ويحضر عندي إلا
وهو ينتظر موتي ويترقب منيتي، كل لأجل مناه ومراده هذا لاخذ الميراث، والاخر
ليقوم بأمر الخلافة والسلطنة، والاخر لجري أموره على وفق مرامه، وهذا من أشد
المصائب على المحتضر إذ ينظر إلى عائديه، ويراهم إنهم يترقبون موته لأجل مرامهم
هلموا لنبكي على ذاك المحتضر الذي سقط عن ظهر جواده إلى الأرض متشحطا بدمه
وجراحاته تشخب دما وهو يجود بنفسه وقد أحاط به ألوف من أهل الكوفة، وكل منهم
يترقب شهادته لينال بمرامه ومراده ومراماتهم كثيرة منها ان يأخذوا رأسه ويذهبوا
به وينالوا بالجائزة. منها ان يلبسوه ويأخذوا أثوابه. منها: ان ينهبوا فسطاطه ويسبوا
عياله وقد احتوشه القوم من كل مكان أحدهم ينادي ويلكم ما تنظرون به اقتلوه ثكلتكم
أمهاتكم، والاخر يقول: اذبحوا الرجل وأريحوه، وهو بينهم يتلظى عطشا، ويطلب
جرعة من الماء.
133

المجلس السادس والأربعون
في مروج الذهب: وبويع الوليد بن عبد الملك بن مروان في اليوم الذي هلك فيه
عبد الملك صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لم أر مثلها مصيبة: ولا مثلها نعمة فقدت
الخليفة وتقلدت الخلافة فإنا لله وإنا إليه راجعون على المصيبة، والحمد لله رب العالمين على
النعمة، ثم دعى الناس إلى بيعته فبايعوا، ولم يختلف عليه أحد، فكانت مدة ولايته تسع
سنين وثمانية أشهر وليلتين، وهلك وهو ابن ثلاث وأربعون سنة، وكان يكنى بأبي العباس
وله أربعة عشر ذكورا، وكان نقش خاتمه يا ولد إنك ميت، وعدل بالخلافة عن ولده
بعده، اتباعا لوصية عبد الملك، وكان الوليد جبارا عنيدا ظلوما غشوما وهو الذي أمر
ببناء المسجد الجامع بدمشق ومسجد رسول الله بالمدينة وأنفق عليهما أموالا، ولما ابتدأ
ببناء الجامع في دمشق وجد في حائط المسجد لوح من حجارة فيه كتابة باليونانية فعرض
على جماعة من أهل الكتاب فلم يقدروا على قراءته فوجه به إلى وهب بن منبه فقال: هذا
مكتوب في أيام سليمان بن داود (ع) فقرأه فإذا فيه.
بسم الله الرحمن الرحيم يا بن آدم لو عاينت ما بقي من يسير أجلك لزهدت فيما بقي من
طول أملك وقصرت عن رغبتك وحيلتك وإنما تلقي ندامتك إذا زلت بك قدمك واسلك
أهلك وانصرف عنك الحبيب وودعك القريب. ثم صرت تدعى فلا تجيب فلا أنت إلى
أهلك عائد، ولا في عملك زائد فاغتنم الحياة قبل الموت، والقوة قبل الفوت وقبل أن
يؤخذ منك بالكظم، ويحال بينك وبين العمل، فبنى المسجد واهدم الكنيسة التي كانت
فيه، وكان اللعين مع تلك الشقاوة شديد العداوة على الكفر حتى إنه صعد يوما على المنبر
فسمع صوت الناقوس قال: ما هذا؟ قيل: البيعة فأمر بهدمها وتولى بعض ذلك بيده
فتتابع الناس بهدمها حتى أهدموها عن آخرها فكتب إليه ملك الروم إن هذه البيعة قد
أقروها من كان قبلك فإن كانوا أصابوا فقد أخطأت، وان تكن أصبت فقد أخطأوا فقال:
من يجيبه؟ فقال الفرزدق: أكتب إليه (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا أتينا حكما وعلما) وهذه الآية
134

تخبر بحكمين مختلفين في زمن داود وسليمان وقضى الله بصحتهما وهي هذه (إن الله قضى على
أهل المزارع ان يحفظوا بساتينهم ومزارعهم عن الأغنام والمواشي بالنهار، فإذا عجمت
غنم بالنهار على زرع وأفسدته فليس على صاحب الغنم شئ، وحكم على أهل الأغنام أن
يرعوا أغنامهم بالليل فإذا هجمت الأغنام بالليل على زرع وأفسدتها فعلى صاحب الغنم
ان يدفع الغنم إلى صاحب الزرع جريمة لتلك الخسارة التي وردت على صاحب الزرع فهجمت
ليلة اغنام على بستان فيها الكرم والعنب، وأفسدتها فجاؤوا إلى داود ليحكم بينهم فحولهم
داود إلى ابنه سليمان فحكم سليمان على صاحب الأغنام ان يدفع منافع الأغنام في تلك السنة
إلى صاحب البستان من اللبن والدهن والشعر والوبر، فعلم داود ما حكم به سليمان وأعترض
عليه فقال سليمان: إن منافع هذه السنة قد انتفت من صاحب البستان فالأشجار باقية على
حالها فحكمت على صاحب الغنم ان يدفع منافع عنه في هذه السنة إلى صاحب الزرع تداركا
لما فاته من منافع هذه السنة فأوحى الله إلى داود بصحة ما حكم به سليمان وصحة ما حكم به
الأنبياء قبله.
فحاصل جواب الوليد لسلطان الروم ان ما صنعت من هذم الكنيسة وتخريبها
وفعل من قبلي الخلفاء بإثباتها واستقرارها حكم واحد، وكلنا على الصواب فإنهم رأوا
ان يقروها وانا رأيت أن أهدمها.
انتقلت الخلافة بعد الوليد بن عبد الملك إلى أخيه سليمان بن عبد الملك، وبايع
الناس له يوم هلك فيه الوليد وهو يوم السبت للنصف من جمادى الأخيرة سنة ست وتسعين ولما افضى الامر إليه صعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله وخطب خطبة
طويلة ودعى الناس إلى نفسه ثم نزل واذن للناس اذنا عاما فدخلوا عليه وجعلوا يبايعونه
وكانت مدة خلافته سنتين وستة أشهر وخمس ليال، وهلك في عشرين من صفر سنة تسع
وتسعين وهو ابن تسع وثلاثين، وكان يلبس ثياب الرقاق وثياب الوشي وفي أيامه عمل
الوشي الجيد باليمن، والكوفة والإسكندرية، ولبس الناس جميعا الوشي اي اللباس
المنقوش جبابا وأردية وسراويل وعمائم وقلانس، وكان لا يدخل عليه رجل من أهل
بيته إلا في الوشي، وكذلك عماله وأصحابه ومن في داره حتى الطباخ فإنه كان يدخل عليه
وفي صدره وشي، وعلى رأسه طويلة وشي وأمر أن يكفن في الوشي، وكان سليمان
صاحب أكل كثير ومقدار شبعه في كل يوم مئة رطل بالعراقي، وربما أتاه الطباخون
135

بالسفافيد التي فيها الدجاج المشوية، وعليه الوشي، فلحرصه على الاكل يدخل يده في كمه
حتى يقبض على الدجاجة وهي حارة فيفصلها، قال الأصمعي: ذكرت لهارون الرشيد
حرص سليمان وتناوله الفراريخ بكمه من السفافيد فقال: قاتلك الله فما أعلمك باخبارهم إنه
عرضت علي جباب بني أمية فنظرت إلى جباب سليمان وإذا كل جبة منها في كمها أثر دهن
فلم ادر ما ذلك حتى حدثتني بالحديث ثم قال: علي بجباب سليمان فأتي بها فنظرنا فإذا
تلك الآثار فيها ظاهرة فكساني منها جبة، فكان الأصمعي ربما يخرج أحيانا فيها فيقول:
هذه جبة سليمان التي كساني بها الرشيد، وذكر ان سليمان خرج من الحمام ذات يوم، وقد
اشتد جوعه فاستعجل الطعام ولم يكن فرغ منه فأمر ان يقدم ما لحق من الشواء فقدم إليه
عشرون خروفا فأكل أجوافها كلها مع أربعين رقاقة ثم قرب بعد ذلك الطعام فأكل مع
ندمائه كان لم يأكل شيئا، وكان يتخذ سلال الحلوى ويجعل ذلك حول مرقده فكان إذا قام
من نومه يمد يده فلا تقع يده إلا على سلة من السلال، ويأكلها عن آخرها، ولبس سليمان في
يوم الجمعة لباسا جديدا، وتعطر ودعا بصندوق فيه العمائم وبيده مرآة، ولم يزل يعمم
بعمامة ثم يعرض عنها، ويعمم بأخرى حتى رضي بواحدة وأرخى سدولها وأخذ بيده
مخصرة، وخرج وجلس على المنبر ناظرا في عظمته وخطب خطبة فأعجبته نفسه فلم يزل
يقول: انا الملك الشاب السيد المهاب الكريم الوهاب، ثم نزل ودخل قصره فتمثلت له
جارية من جواريه فقال لها: كيف رأيت وترين أمير المؤمنين؟ قالت: أراه مني النفس
وقرة لولا ما قال الشاعر: قال وما قال؟ قالت: قال:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى * غير أن لا بقاء للانسان
أنت من لا يرينا منك شئ * علم الله غير إنك فاني
فبكى سليمان من هذا القول وكان يومه ذلك باكيا ثم دعا الجارية وقال: ما دعاك
إلى ما قلت لأمير المؤمنين قالت: والله ما قلت هذا الكلام، ولا رأيت أمير المؤمنين
اليوم ولا دخلت عليه فعظم ذلك على سليمان ودعا بقية جواريه فصدقتها في قولها، فرع
سليمان ولم ينتفع بنفسه، ولم يمكث بعد ذلك إلا مدة قليلة فقال يوما لأبي حازم الأعرج
وهو من العلماء: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وأخربتم
آخرتكم، فأنتم النقلة من العمران إلى الخراب قال: فأخبرني كيف القدوم على الله؟ قال:
أما المحسن فكالغائب يأتي أهله مسرورا، وأما المسئ فكالعبد الآبق يأتي مولاه محزونا
136

قال: فأي الأعمال أفضل؟ قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم قال: فأي القول
أعدل؟ قال: كلمة حق عند من تخاف وترجوه قال: فأي الناس أعقل؟ قال: من عمل
بطاعة الله قال: فأي الناس أجهل؟ قال: من باع آخرته بدنياه قال: عظني وأوجز
يا أمير المؤمنين قال نزه ربك وعظمه أن يراك حيث ما نهاك عنه، أو يفقدك من حيث أمرك
به فبكا سليمان بكاء شديدا فقال بعض جلسائه لأبي حازم: ويحك أسرفت على أمير المؤمنين؟
فقال: اسكت فإن الله عز وجل أخذ الميثاق على العلماء لينبهوا الناس، ولا يكتمونه ثم
خرج فلما صار إلى منزله بعث سليمان له بمال فرده، وقال للرسول قل له: والله يا أمير المؤمنين
ما أرضاه لك فكيف أرضاه لنفسي؟ وقال يوما سليمان لعمر بن عبد العزيز وقد أعجبه
سلطانه: كيف ترى ما نحن فيه؟ قال: سرور لولا أنه غرور، وحياة لولا أنه موت
وملك لولا أنه هلك، وحسن لولا أنه حزن، ونعيم لولا إنه عذاب أليم فبكى سليمان
نعم ولقد أحسن وأجاد فالدنيا التي تحرص عليها هذا شأنها فالمغرور، ومن زعم بأنها
حسن وهو حزن، ويحدث نفسه بأنها نعيم وهو عذاب اليم، ولو زالت الغفلة لسمعت
من الدنيا هذه المقالة:
هي الدنيا تقول لمن عليها * حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم حسن ابتسامي * فقولي مضحك والفعل مبكي
فالعاقل الكيس من يزجر نفسه ويدع زينتها وزخارفها، ويحرز نفسه عنها
ويذكرها بما قال الشاعر:
دع الدنيا وزينتها لوغد * وجانبها إذا كنت الرشيدا
أترجوا الخير من دنيا أهانت * حسين السبط واختارت يزيدا
المجلس السابع والأربعون
واستخلف بعد سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز بن مروان في يوم الجمعة
العشرين من صفر سنة تسع وتسعين وهو اليوم الذي مات فيه سليمان، وكان مدة خلافته
137

سنتين وخمسة أشهر، وقبض وهو ابن تسع وثلاثين سنة، ولقد توفي يوم الجمعة لخمس
بقين من رجب ولم يكن خلافته بعهد تقدم بل بوصية أوصى بها سليمان، وذلك إن سليمان
لما حضرته الوفاة كتب وصيته، وأشهد على ذلك جماعة من الاشراف، وقال: إذا أنا مت
فأذنوا بالصلاة جامعة ثم اقرأوا هذا الكتاب فلما هلك ودفن نودي في الناس بالصلاة
جامعة فأجتمع الناس، وحضر بنو مروان ثم خطب الخطيب وقال: أيها الناس أرضيتم
في الخلافة بمن سماه أمير المؤمنين سليمان في وصيته؟ قالوا: بلى فقرأ الوصية، وإذا فيها
اسم عمر بن عبد العزيز، ومن بعده يزيد بن عبد الملك فقال مكحول وهو من الاشراف:
ونادى أين عمر بن عبد العزيز وكان في أواخر الناس؟ فلما سمع باسمه أسترجع ثلاثا فأتاه
قوم وأخذوا بيده وعضديه فأقاموه وذهبوا به إلى المنبر فصعد وجلس على المرقاة الثانية.
فأول من بايعه يزيد بن عبد الملك ثم بايعه الناس أجمعون لأنه كان في نهاية التواضع
والصلاح والسداد، وقد رضى به الناس فأول ما صنع عمر بن عبد العزيز ترك
اللعن على أمير المؤمنين (ع) من قنوت الصلاة، وجعل مكانه (ربنا أغفر لنا ولاخواننا
الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) ثم
رفع أعمال من كان قبله من بني أمية من أعمال سوء وصرفهم عن أعمالهم واستعمل أصلح
من قدر عليه ويراقبهم حتى لا يعملوا بسوء في الرعية، وبلغه من بعض أعماله شيئا فكتب
إليه يا فلان قد كثر شاكوك، وقل شاكروك فإما عدلت، وأما اعتزلت والسلام
وكثيرا يراعي العدالة في الرعية حتى كان قبل خلافته يلبس حلة بألف دينار فلما أتته
الخلافة يشتري قميصا بعشرة دراهم، ويلبس ذلك ومع ذلك يخاف على نفسه حتى قال يوما
لبعض جلسائه: أسرك ما وليت أم أساءك؟ قال: سرني للناس وسائني لك قال: إني
أخاف أن أكون أو بقيت نفسي قال: ما أحسن حالك إن كنت تخاف إني أخاف أن
لا تخاف. خرج يوما في أصحابه فمر بالمقبرة فقال لهم: قفوا حتى أتي قبور الأحبة فأسلم
عليها فلما توسطها وقف وسلم وتكلم وأنصرف إلى أصحابه فقال: ألا تسألوني ماذا قلت
لهم وما قالوا؟ فقالوا: وماذا قلت يا أمير المؤمنين، وما قيل لك؟ قال: مررت بقبور
الأحبة فسلمت فلم يردوا جوابي، ودعوتهم فلم يجيبوا فبينما أنا كذلك إذ نوديت يا عمر
أتعرفني؟ أنا من الذين غيرت محاسن وجوههم، ومزقت الأكفان عن جلودهم
وقطعت أيديهم، وبانت أكفهم من سواعدهم ثم بكى حتى كادت نفسه تخرج وكان عمر
138

ابن عبد العزيز كثير المحبة لبني هاشم وأولاد أمير المؤمنين ويكرمهم بكرامات، كتب
إلى عامله بالمدينة ان قسم في ولد علي بن أبي طالب عشرة آلاف دينار، فكتب إليه إن
عليا قد ولد له في عدة قبائل من قريش وغيرها ففي أي ولده؟ فكتب إليه لو كتبت إليك
في شاة تذبحها لكتبت إلى سوداء أم بيضاء إذا أتاك كتابي فأقسم في أولاده علي من فاطمة
رضوان عليهم عشرة آلاف دينار فطالما غدرت حقوقهم وقد بلغ أوصافه ومحاسنه
المغرب والمشرق حتى روي إنه بعث وفدا إلى ملك الروم في أمر من مصالح المسلمين، فلما
دخلوا عليه إذا هو جالس على سرير ملكه والتاج على رأسه والناس على مراتبهم بين يديه
فابلغوا ما قصدوا له فلقاهم بجميل وأجابهم بأحسن جواب وانصرفوا عنه في ذلك اليوم
فلما كان في غداة غد أتاهم رسول الملك فدخلوا عليه فإذا الملك قد نزل عن سريره ووضع
التاج عن رأسه، وقد تغيرت صفاته التي شاهدوه عليها كأنه في مصيبة فقال الملك: هل
تدرون لماذا دعوتكم؟ قالوا: لا قال: جائني كتاب إن سلطانكم الرجال الصالح ملك العرب
عمر بن عبد العزيز قد مات فبكوا هؤلاء فقال الملك: لا تبكوا له بل وأبكوا لأنفسكم
ولما بدا لكم فإنه خرج إلى خير مما خلف قد كان يخاف أن يدع طاعة الله فلم يكن الله ليجمع
مخافة الدنيا والآخرة، لقد بلغني من بره وفضله وصدقه ما لو كان أحد بعد عيسى
يحيى الموتى لظننت إنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره ظاهرا وباطنا فلا أجد
أمره مع ربه إلا واحدا، بل باطنه أشد من خلوته بطاعته لمولاه، ولم أعجب لهذا الراهب
الذي ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعته لكني عجبت من هذا الذي صارت الدنيا
تحت قدمه فزهد فيها حتى صار مثل الراهب، إن أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلا
قليلا نعم ما أحسن وأجاد ذلك الملك كما رأينا وسمعنا وجربنا بأن أهل الخير غالبا قصيرة
أعمارهم، وقريبة آجالهم بخلاف الأشرار والفجار، فأنهم يمكثون في الأرض حتى ينالهم
آمالهم، ويؤذوا الناس بأفعالهم ولكن الفضل وقصب السبق للأخيار والأبرار لأنه
وان كانت قصيرة أعمارهم وقريبة آجالهم، ولكن إذا ماتوا لم يغيبوا عن أعين الناس
فمتى ذكروا ذكروا بالخير، ويحمدوا بحسن أفعالهم ويترحموا على مآثرهم الجميلة فهم كما
قال (ع) أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب مشهودة، فكأنهم حي في الدنيا
وشواهدها كثيرة، أنظروا إلى هذا الرجل المذكور يعني عمر بن عبد العزيز فتراه في مقام
المقايسة مع نظرائه من الخلفاء الأمويين فتجده أحسنهم حالا ومذاكرة، فإن خلفاء بني
139

أمية كلهم هلكوا ولم يبق لهم خير ولا أثر، ولا يذكرون إلا باللعن والسب والشتم
بل ونبش أبو العباس السفاح قبورهم وأحرق كل وجد منهم في القبر كلا أو جزءا
وأما عمر بن عبد العزيز لم يزل يذكر بخير لحسن أفعاله ويقال: إنه أحسن إلى ذراري
رسول الله، وإنه رفع ومنع السب عن أمير المؤمنين (ع) فمن أجل ذلك اسمه ورسه باق
وقبره معلوم بدير سمعان، ويؤتى إليه ويعظمه القريب والبعيد، لكن أين معاوية وأين
قبره؟ وأين يزيد ابنه وجروه وأين مروان وإشباههم من الخلفاء الأمويين والعباسيين
الذين صنعوا بعترة نبيهم ما صنعوا من القتل والحرق، والسلب والتشريد في البلدان
ما لهم فما اعتذارهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبأية عين ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال
إمامنا السجاد في خطبته بالكوفة الخ: ومن كلام عمر بن عبد العزيز روى ابن خلكان في
تاريخه قال عمر بن عبد العزيز: لو كنت من قتلة الحسين وغفر الله لي وأدخلني الجنة لما
دخلتها حياء من رسول الله.
المجلس الثامن والأربعون
وملك يزيد بن عبد الملك بعد عمر بن عبد العزيز على حسب ما أوصى به سليمان بن
عبد الملك يكنى أبا خالد وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية.
وفي مروج الذهب: وبويع يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومئة ومدة
ولايته أربع سنين وشهرا ويومين، ومات في يوم الخميس لثلاث بقين من شعبان وهو
ابن سبع وثلاثين سنة، وكان عمر بن عبد العزيز في عهده يعظمه ويرغبه على الآداب
والخيرات، ويوصيه بالعدالة في الرعية والمراقبة لله تعالى في الأمورات، وكان مما أوصى
إليه إنه قال له يوما: يا بن عبد الملك إذا أمكنتك القدرة من ظلم العباد فاذكر قدرة الله
عليك بما تأتي عليهم فأعلم إنك لا تأتي عليهم أمرا كان زائلا عنهم باقيا عليك، وان
الله يأخذ للمظلوم من الظالم، ومهما ظلمت من أحد فلا تظلمن من لا ينتصر عليك إلا بالله
ولما مات عمر بن عبد العزيز وجلس يزيد على سرير الملك أخذ في اللهو واللعب والفسق
والفجور، وكان همه الشراب والغناء والطرب والمجالسة مع الجواري، وكانت له جارية
140

مغنية يقال لها سلامة القس لسهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري فغلب عليه حب تلك
الجارية فاشتراها بثلاثة آلاف دينار فأعجب بها وغلبت عليه، وله جارية أخرى تسمى بحبابة
اشترتها له جدته ووهبتها له، ويجلس على الشراب وهما عن يمينه ويساره تغنيان له فيطرب
طربا شديدا حتى يقول: أريد أن أطير في السماء فقالت له حبابة يوما عند قوله: أريد
أن أطير يا مولاي فعلى من تدع هذه الأمة، واشتغل بذلك واحتجب عن الناس حتى
ظهر الجور والفساد واقتدى به أعماله، فعذله أخوه مسلمة بن عبد الملك وقال: إنما مات
عمر بن عبد العزيز بالأمس وكان من عدله ما قد علمت فينبغي ان تظهر للناس العدل
وترفض هذا اللهو فقد اقتدى بك أعمالك في أفعالك وسيرتك، فارتدع أياما ثم عاد على
ما كان عليه بحيلة من الجاريتين، واعتلت حبابة فأقام يزيد عليها لا يظهر للناس ثم ماتت
فأقامها لا يدفنها أياما جزعا عليها، ويقبلها ويترشفها حتى جيفت، فقيل له: إن الناس
يتحدثون بجزعك وان الخلافة تجل عن ذلك، فدفنها ثم نبشها من قبرها ثم دفنها، وأقام
على قبرها ينوح عليها بقوله:
فان تسل عنك النفس أو تدع الهوى * فباليأس تسلو النفس لا بالتجلد
ثم أقام بعدها قليلا ومات (لع) فطار بقوله إلى عذاب الله.
روي إنه قال لحبابة: غنيني فامتنعت فقال لها: غنيني بحياتي فتغنت فأعجبته وطرب
طربا شديدا فقال لها: ممن هذا؟ قالت: يا أمير المؤمنين أخذتها من الأحول المكي وهو
أخذها من فلان بن فلان بن أبي لهب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أبو لهب يجيد الغناء
فكتب يزيد إلى عامله بمكة إذا أتاك كتابي هذا فأدفع إلي فلان بن فلان بن أبي لهب ألف دينار
لنفقة طريقه، وأحمله على ما شاء من دواب البريد، وأرسله إلي ففعل، فلما قدم
الرجل ودخل عليه وقال غني فغناه فأجاد وأحسن وقال أعده فأعاده فأجاد وأحسن فقال
له: ممن أخذت هذا الغناء؟ فقال: يا أمير المؤمنين أخذته عن أبي وأبي أخذه عن أبيه
أبي لهب، فقال: لو لم ترث إلا هذا الصوت من أبي لهب لكان أبو لهب قد ورثكم خيرا
كثيرا فقال: يا أمير المؤمنين ان أبا لهب مات كافرا مؤذيا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اعلم
ما تقول ولكني دخلتني له رقة إذ كان مجيدا للغناء، ووصله وكساه ورده إلى بلده مكرما.
فكان هذا اللعين قد ورث القبائح من سمية يزيد بن معاوية لان اللعين قد بلغ في
اللهو والشراب والغناء ما لم يبلغه أحد، كان يجلس مجالس الشراب ويشرب مع ندمائه ويغني:
141

دع المسجد للعباد تسكنها * وقف على دكة الخمار وأسقينا
ما قال ربك ويل للذي شربوا * بل قال ربك ويل للمصلينا
سبحان الله هؤلاء يدعون إنهم خلفاء رسول الله، ويزعمون بأنهم أمراء بين
المسلمين والمؤمنين هي مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيتها في الاسلام ولقد أحسن وأجاد:
فيا ذلة الاسلام من بعد عزة * إذا كان وال المسلمين يزيد
والمصيبة كل المصيبة ان هذا اللعين مع هذه الشنايع والقبائح يجلس على سرير الملك
ورأس إمامنا الحسين (ع) بين يديه الخ.
المجلس التاسع والأربعون
وبويع هشام بن عبد الملك بعد يزيد بن عبد الملك، فكانت ولايته تسع عشر سنة وسبعة
أشهر، ومات لست خلون من شهر ربيع الاخر سنة عشرين ومئة، وكان هشام فظا غليظا
خشنا خسيسا وبخيلا بعطاء الأموال، وكان يعمر الأرض ويستجيد الخيل وأقام الحلبة
فأجتمع له فيها أربعة آلاف فرس، وأصطنع الرجال وقوى الثغور، واتخذ القنوات
والبروك في طريق مكة ولم ير زمانا أشد وأصعب من زمانه، وكان هشام أحول العينين
حتى إنه عرض عليه الجند يوما فمر به رجل من الجند وهو على فرس نفور فقال هشام:
مالك ان تربط فرسا نفورا؟ فقال الرجل: لا والرحمن الرحيم يا أمير المؤمنين ما هو
بنفور ولكنه أبصر حولتك فظن إنها غزوان البيطار، وكان غزوان رجلا نصرانيا
ببلاد حمص وهو أحول فقال له هشام: تنح فعليك لعنة الله وعلى فرسك.
ومن بخله روى رجلا أهدى إليه طائرين فأعجب بها فقال له الرجل: جائزتي
يا أمير المؤمنين قال: وما جائزة طائرين؟ قال: ما شئت قال خذ أحدهما فقصد الرجل لأحسنهما
فأخذه فقال له هشام: وتختارهما أيضا قال: نعم والله اختار قال: دعه فأمر له بدريهمات
ودخل هشام بستانا له ومعه ندماؤه فطافوا به، وفيه من كل الثمرات وجعلوا يأكلون
ويقولون: بارك الله لأمير المؤمنين قال: كيف يبارك لي فيه وأنتم تأكلونه ثم قال:
أدعو القيم فدعى له فقال هشام: يا فلان اقلع أشجار البستان وأغرس فيه زيتونا حتى
142

لا يأكل منه أحد شيئا، وكتب إليه ابنه سليمان ان بغلتي عجزت فان رأى أمير المؤمنين
أن يأمر لي بدابة وكتب إليه أن أمير المؤمنين قد فهم كتابك وما ذكرت من ضعف
دابتك وأظن أن ذلك من قلة تعاهدك لعلفها أو ضياع العلف فقم عليها بنفسك، ولعل
أمير المؤمنين رأى رأيه في حملاتك.
وفي أيامه استشهد زيد بن علي بن الحسين (ع) في سنة إحدى وعشرين ومئة وقد
شاور زيد أخاه أبا جعفر الباقر (ع) فأشار إليه بأن لا يركن إلى أهل الكوفة إذا كانوا
أهل غدر ومكر، وقال له: بها قتل جدك علي (ع)، وبها طعن عمك الحسن (ع) وبها
قتل أبوك الحسين (ع) وفيها وفي أعمالها شتمنا أهل البيت، فأبى زيد إلا الخروج والمطالبة
بدم جده الحسين فقال له الباقر: يا أخي أخاف عليك أن تكون غدا المصلوب بكناسة
الكوفة وودعه وخرج زيد إلى الشام حتى دخل على هشام بالرصافة فلما دخل المجلس لم ير
موضعا يجلس فيه لكثرة الناس فجلس حيث انتهى به المجلس فالتفت إليه هشام وقال:
يا زيد أنت الذي تنازعك نفسك بالخلافة، وأنت أنب أمة؟ قال زيد: يا هشام ان
الأمهات لا يقعدن الرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمة لام إسحاق فلم يمنعه
ان بعثه الله نبيا، وجعله أبا نبينا فأخرج من صلبه خير البشر محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفتقول لي هذا
وأنا ابن فاطمة وعلي؟ فخرج زيد من عند هشام وقصد الكوفة.
فلما دخل الكوفة بايعه أهل الكوفة وخرجوا معه وهم الاشراف والقراء، فبلغ
ذلك هشام فبعث إليه بجيش عظيم عليهم يوسف بن عمر الثقفي فلما تلاقيا وقامت الحرب
انهزم أهل الكوفة وبقي زيد في جماعة يسيرة فقاتلهم أشد القتال، وجال القتال بين
الفريقين فراح زيد مثخنا بالجراح وقد أصابه سهم في جبهته ودخل رحله فجاؤوا بحجام
لينزع السهم من جبهته فلما استخرج النصل مات زيد من ساعته فغسلوه وكفنوه ودفنوه
في ساقية، وجعلوا على قبره التراب والحشيش وأجروا الماء على قبره وكان الحجام حاضرا
فعرف الموضع فلما أصبح مضى إلى يوسف وأخبره بموضع قبر زيد فأخرجه من القبر
وقطعوا رأسه، وبعث يوسف الثقفي برأسه إلى هشام فكتب هشام إلى يوسف ان أصلبه
عريانا فصلبه كذلك ثم كتب هشام باحراقه وذروه في الرياح.
وفي رواية ان زيدا كان خمسين شهرا مصلوبا عريانا حتى عشعشت الفاختة في جوفه
فلم ير أحد عورته سترا من الله. فلما كان في أيامه الوليد بن يزيد بن عبد الملك وظهر
143

ابنه يحيى بن زيد بخراسان كتب الوليد إلى عامله بالكوفة وهو يوسف بن عمر أن أحرق
زيدا مع خشبته ففعل ذلك ودقه وأذرى في الرياح على شاطئ الفرات.
وفي المقاتل كتب إليه فإذا أتاك كتابي هذا فأنزل عجل أهل العراق فأحرقه فانسفه
في اليم نسفا والسلام. فأنزله من الجذع فأحرقه بالنار ثم جعله في قواصر ثم حمله في
سفينة ثم ذراه في الفرات، فلقد رأوا عقوبة ذلك في الدنيا قبل الآخرة لان أبي العباس
السفاح لما ظهر بعث عبد الله بن العباس لنبش قبور بني أمية قال عمرو بن هاني. فانتهينا
إلى قبر هشام فاستخرجناه صحيحا ما فقدنا منه إلا خشمة أنفه فضربه عبد الله بن علي
ثمانين سوطا ثم أحرقه بالنار ثم استخرجنا سليمان بن عبد الملك فلم نجد منه إلا صلبه
وأضلاعه ورأسه فأحرقناه وفعلنا ذلك بغيره من بني أمية. ثم انتهينا إلى دمشق
فاستخرجنا الوليد بن عبد الملك فما وجدنا في قبره قليلا ولا كثيرا واحتفرنا
عبد الملك فما وجدنا إلا وشؤون رأسه ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فما وجدناه فيه بل
كان محترقا في لحده وصار رمادا، ثم أتبعنا قبور بني أمية فأحرقنا ما جدنا فيه منهم وكان
مقتل زيد (ره) يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر صفر سنة عشرين ومئة من الهجرة، وكان
عمره يوم قتل اثنين وأربعين سنة فلما قتل زيد سر بقتله المنافقون وحزن له المؤمنون
ورثاه بعض من محبيه:
ألا يا عين لا ترقي وجودي * بدمعك ليس ذا حين الجمود
غداة ابن النبي أبو حسين * صليب بالكناسة فوق عود
يظل على عمودهم ويمسي * بنفسي أعظم فوق العمود
تعدى الكافر الجبار فيه * فأحرقه من القبر اللحيد
فظلوا ينبشون أبا حسين * خضيبا بينهم بدم جسيد
فكم من والد لأبي حسين * من الشهداء أو عم شهيد
وكيف تضن بالعبرات عيني * وتطمع بعد زيد بالهجود
وأما الحكم بن الصلت (لع) فإنه فرح بقتله وعمل يوم قتله عيدا وأنشد يقول:
صلبا لكم زيدا على جذع نخلة * ولم نر مهديا على الجذع يصلب
وقسم بعثمان عليا سفاهة * وعثمان خير من علي وأطيب
قال: فبلغ الصادق فاغتم منه غما شديدا ورفع يده إلى السماء وهما ترتعشان من شدة
144

عزمه وقال: اللهم إن كان عبدك الحكم كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك يأكله قال: فأرسله
بنو أمية إلى الكوفة فافترسه الأسد لا رحمه الله فوصل خبره إلى الصادق (ع) فخر لله ساجدا
لسرعة إجابة دعائه، وقال: الحمد لله الذي أنجز وعده وأهلك عدوه، وسيعلم الذين ظلموا
أي منقلب ينقلبون أقول: قد سر المنافقون وفرحوا بقتل زيد بن علي بن الحسين وعملوا
يوم قتله عيدا، وليس هذا ببعيد من قوم فرحوا بقتل جده الحسين وأخذوا يوم قتله
عيدا وصاموا شكرا لله بقتله وعيدوا لعنهم الله يوما أخر وهو أمر على المسلمين
والاسلام، وهو يوم ادخلوا نسائه وصبيانه بدمشق الشام وهن على أقتاب الجمال بغير
وطاء ولا حجاب وخرج أهل الشام الخ.
المجلس الخمسون
في المجلد العاشر من بحار الأنوار، روى عن أبي حمزة الثمالي قال: كنت أزور
علي بن الحسين (ع) في كل سنة مرة في وقت الحج فأتيت إلى سيدي ومولاي علي بن
الحسين وهو في داره في مدينة الرسول فاستأذنت عليه بالدخول فأذن لي فدخلت فوجدته
جالسا وإذا على فخذه صبي صغير وهو مشغوف به، ويقبله ويحنو عليه فقام الصبي يمشي فعثر
على عتبة الدار فأنشج رأسه فوثب الامام إليه مهرولا وقد أحزنه فجعل ينشف دمه بخرقة
وهو يقول: يا بني أعيذك بالله أن تكون المصلوب في الكناس فقلت له يا مولاي فداك
أبي وأمي وأي كناس؟ قال (ع): يصلب أبني هذا في موضع يقال له الكناس من أعمال
الكوفة فقلت: يا مولاي أو يكون ذلك؟ قال: والله سيكون ذلك، والذي بعث محمدا
بالحق نبيا لان عشت بعدي ترين هذا الغلام في ناحية من نواحي الكوفة وهو مقتول
مسحوب، ثم يدفن وينبش ويصلب في الكناسة، ثم ينزل بعد زمان طويل فيحرق
ويذرى في الهواء: فقلت جعلت فداك وما اسم هذا الغلام؟ فقال: هذا ابني زيد وهو مع ذلك
يحدثني ويبكي، ثم قال لي: أتحب أن أحدثك بحديث ابني هذا؟ قت: بلى قال بينما أنا
ليلة ساجد في محرابي إذ ذهب بي النوم فرأيت كأني في الجنة وكان رسول الله وعليا والحسن
والحسين وفاطمة كلهم مجتمعون، وقد زوجوني بحورية فواقعتها واغتسلت عند سدرة
145

المنتهى، وإذا أنا بهاتف يقول لي أتحب أن أبشرك بولد أسمه زيد فاستيقظت من نومي
وقمت وصليت صلاة الفجر وإذا أنا بطارق يطرق الباب فخرجت إليه وإذا معه جارية وهي
مخمرة بخمار فقلت له ما حاجتك؟ فقال: أريد علي بن الحسين (ع) فقلت: أنا هو فقال:
أنا رسول المختار إليك وهو يقرؤك السلام ويقول: قد وقعت هذه الجارية بأيدينا
فاشتريناها بستمئة دينار وقد وهبتها لك، وهذه أيضا ستمئة دينار أخرى واستعن بها
على زمانك فدفع إلي المال ومعه كتاب فقبضت الكتاب والمال والجارية فقلت لها:
ما اسمك؟ قال: أسمي حورية فقلت: صدق الله ورسوله هذا تأويل رؤياي من قبل قد
جعلها ربي حقا فدخلت بها تلك الليلة فإذا هي بغاية الصلاح فعلقت مني هذا الغلام فلما
وضعته سميته زيدا، وستري ما قلت لك قال أبو حمزة الثمالي: فوالله لقد رأيت زيدا
مقتولا ثم سحب ثم دفن ثم نشر ثم صلب، ولم يزل مصلوبا زمانا طويلا حتى عشعشت
الفاختة في جوفه ثم أحرق ودق وذرى في الهواء رحة الله عليه وكان زيد يبكي من خشية
الله حتى تختلط دموعه بدمه، نعم كان أبوه علي بن الحسين يبكي حتى يختلط دموعه بدمه
تارة من خشية الله وأخرى لمصاب أبيه الحسين (ع) ويقول: قتل ابن رسول الله عطشانا
وأعتقد كثير من الناس فيه الإمامة، وكان سبب اعتقادهم ذلك منه لخروجه بالسيف
يدعو بالرضى من آل محمد فظنوه يريد بذلك لنفسه ولم يكن يريدها لمعرفته باستحقاق من
قبله وكان سبب خروجه للطلب بدم جده الحسين.
وفي كتاب (در النظيم) تأليف جمال الدين يوسف بن حاتم الفقيه الشامي العاملي
ذكر ان زيدا دخل الكوفة وأقام بها مدة ثم خرج يريد الحجاز، فلما بلغ عذيب الهجانات
لحقته الشيعة وقالوا: أين تخرج ومعك مئة الف سيف من أهل الكوفة وأهل البصرة
وأهل خراسان والجبال، ننشدك الله إلا رجعت ولا تمض فأثبت فقال: لست آمنكم وغدركم
لفعلكم بجدي الحسين (ع) وغدركم بعمي الحسن قالوا: لن نفعل وأنفسنا دون نفسك
فلم يزالوا به حتى رجع معهم إلى الكوفة فأقبلت الشيعة تختلف إليه يبايعونه حتى أحصى
ديوانه خمسة عشر الف رجل من أهل الكوفة خاصة سوى غيرهم ومن غيرهم خمس وستون
ألفا حتى بلغ ثمانون ألفا، وأقام بالكوفة ثلاثة عشر شهرا، وكانت بيعته التي يبايع الناس
عليها إنه يبدأ فيقول: أيها الناس إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، والى جهاد
الظالمين والدفع عن المستضعفين، وقسم الفئ بين أهله ورد المظالم، ونصرتنا أهل البيت
146

على من نصب لنا الحرب أتبايعون على هذا فإذا قالوا: نعم وضع يد الرجل على يده
ويقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله لتفين ببيعتي ولتقاتلن عدونا
ولتنصحن لنا في السر والعلانية فإذا قال: نعم مسح يده على يده ثم يقول: اللهم أشهد
قال: فلبث بضع عشر شهرا يدعوا ويبايع، وخرج يوم الأربعاء غرة صفر سنة اثنتين
وعشرين ومئة، وعلى العراقيين يوسف بن عمر بن أبي عقيل الثقفي من قبل هشام بن
عبد الملك فخرج زيد على أصحابه وهو على برذون أشهب في قباء أبيض تحته درع وبين
يديه مصحف منشور ما أشبه برازه ببراز جده الحسين (ع) لأنه برز إلى القوم وأخذ
المصحف ونشره وجعله على رأسه، ونادى بيني وبينكم كتاب الله وجدي رسول الله يا قوم
بم تستحلون دمي الخ، وقال: سلوني فوالله ما تسألوني عن حلال وحرام ومتشابه وناسخ
ومنسوخ وأمثال وقصص إلا نبأتكم به، والله ما وقف هذا الموقف أحد إلا وأنا أعلم
أهل بيتي بما يحتاج إليه هذه الأمة، ولما خفقت راياته رفع يديه إلى السماء.
ثم قال: الحمد لله الذي أكمل لي ديني والله ما يسرني اني لقيت محمدا ولم أمر أمته
بالمعروف ولم أنههم عن المنكر والله ما أبالي إذا أقمت كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إنه
أججت لي نار ثم قذفت فيها ثم صرت بعد ذلك إلى رحمة الله، والله لا ينصرني أحد إلا
كان في الرفيق الاعلى مع محمد صلى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام والله
ما كذبت كذبة منذ عرفت يميني عن شمالي، ولا انتكحت محرما منذ عرفت إن الله
يؤاخذني عليه هلموا فسلوني قال: ثم سار حتى انتهى إلى الكناسة فحمل على جماعة من أهل
الشام كانوا بها ثم سار إلى الجبانة ويوسف ابن عمر مع أصحابه على التل فشد الجمع الذي
معه على زيد وأصحابه.
قال أبو معمر: فرأيت زيدا قد شد عليهم كأنه الليث حتى قتلنا منهم أكثر من
الفي رجل ما بين الحيرة والكوفة وتفرقنا فرقتين فلما كان يوم الخميس فارقنا جماعة من
أصحابنا فتبعناهم وقتلنا منهم أكثر من مائتي رجل فلما جن عليه الليل، وكانت ليلة الجمعة
كثر فينا الجراح واستبان فينا القتل، وجعل زيد يدعو وقال: اللهم هؤلاء يقاتلون
عدوك وعدو رسولك ودينك الذي ارتضيته لعبادك فأجزهم أفضل ما جزيت أحدا من عبادك المؤمنين، ثم قال لنا: أحيوا ليلتكم هذه بقراءة القرآن والدعاء، والتهجد والتضرع إلى الله والله أعلم إنه لا أمسى على الأرض عصابة أنصح لله ولرسوله وللاسلام
147

منكم ففعلوا ذلك كما إن الحسين (ع) وأصحابه أحيوا ليلة العاشر من المحرم بالصلاة والدعاء
وتلاوة القرآن، باتوا ولهم دوي كدوي النحل ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد الخ.
قال أبو معمر: فلما أصبحنا حمل علينا أهل الشام وهم ثلاثة صفوف فحملنا عليهم
ففضضناهم وهزمناهم وجعل يقول لئن متم أو قتلتم لالى الله تحشرون وأنشأ يقول:
فذل الحياة وذل الممات * وكلا أراه طعاما وبيلا
فإن كان لابد من واحد * فسيري إلى الموت سيرا جميلا
في (مقاتل الطالبيين) قال سعيد بن خثيم وكنا مع زيد في خمسمائة وأهل الشام اثني
عشر ألفا، وكان بايع زيدا أكثر من اثني عشر ألفا فغدروا به إذ فصل رجل من أهل
الشام من كلب على فر دافع فلم يزل يشتم شتما لفاطمة عليها السلام بنت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل زيد يبكي حتى ابتلت لحيته، وجعل يقول: أما أحد يغضب
لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما أحد يغضب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اما أحد يغضب
لله قال: ثم تحول الشامي على فرسه، وركب بغلة قال: وكان الناس فرقتين نظارة ومقاتلة قال سعيد: فجئت إلى مولى لي فأخذت منه مشملا كان معه ثم استترت من خلف النظارة
حتى إذا صرت ورائه ضربت عنقه، وانا متمكن منه بالمشمل فوقع رأسه بين يدي
ثم رميت جيفته عن السراج، وشد أصحابه علي حتى كادوا يرهقوني فحمل أصحاب زيد
عليهم، واستنقذوني فركبت بغلته فأتيت زيدا فجعل يقبلني بين عيني ويقول: والله
أدركت ثارنا أدركت شرف الدنيا والآخرة وذخرهما اذهب بالبغلة فهي هبة لك قال:
وجعلت خيل أهل الشام لا تثبت لخيل زيد وسألوا يوسف بن عمران يبعث الرماة فبعث
إليهم النجارية وكانوا رماة فجعلوا يرمونهم بالسهام حتى ضعف أصحاب زيد فأصاب زيد
ثلاثة عشر سهما فبينما هو كذلك إذ رمي بسهم في جبهته اليسرى فخالط دماغه حتى سرج
من قفاه كما إن جده الحسين (ع) رمي بسهم في قلبه الشريف فأخرجه من قفاه.
قال زيد: الشهادة في الله الذي رزقنيها قال أبو عمر: فحملناه على حمار إلى بيت
امرأة همدانية فقال: وهو في كرب الموت ادعوا إلي ابني يحيى فدعوناه له فلما دخل عليه
جمع قميصه في كفه، وجعل يمسح ذلك الكرب عن وجهه، وقال: أبشر يا بن رسول الله
تقدم على رسول الله وعلي والحسن والحسن والحسين (ع) وخديجة وفاطمة، وهم عنك راضون
قال: صدقت يا بني فما في نفسك؟ قال: إن أجاهد القوم والله إلا أن لا أجد أحدا يعينني
148

قال: نعم يا بني جاهدوهم فوالله إنك على الحق، وإنهم لعلى الباطل وإن قتلاك في الجند
وقتلاهم في النار قال سلمة بن ثابت: وجاؤا إليه بطبيب يقال له سفيان: فانتزع النصل من
جبينه وأنا أنظر إليه فما انتزعه حتى قضى نحبه فقال أصحابه: أين ندفنه فقال بعضهم:
نلبسه درعين ثم نلقيه في الماء، وقال بعضهم: لا بل نحز رأسه ثم نطرحه بين القتلى فقال
ابنه يحيى: لا والله لا يأكل السباع لحم أبي فقال بعضهم: ندفنه بالعباسية فأشرت
عليهم أن ينطلقوا إلى موضع قد احتقر، فيدفن فيه ويجروا على قبره الماء فأخذوا برأيي
فانطلقنا به ودفناه، وأجرينا عليه الماء ومعنا سندي فذهب إلى الحكم بن الصلت من
الغد، وأخبره وبعث إلى ذلك الموضع واستخرجه وحز رأسه وسرح به إلى يوسف بن
عمر وأمر بجثته فصلبت بالكناسة.
في (مقاتل الطالبين) قال نصر بن قابوس: فنظرت إليه حين أقبل به على جمل قد
شد بالحبال وعليه قميص أصفر هروي فألقي من البعير على باب القصر فخر كأنه جبل
فأمر به فصلب بالكناسة وصلب معه جماعة. عن سماعة بن موسى الطحان قال: رأيت
زيد ابن علي مصلوبا بالكناسة عريانا فما رأى أحد له عورة استرسل جلد من بطنه من
قدامه ومن خلفه حتى ستر عورته، في شرح القصيدة نسجت العنكبوت على عورته من يومه
قال جرير بن حازم: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وهو متساند إلى جذع زيد بن علي وهو
مصلوب، وهو يقول للناس: أهكذا تفعلون بولدي؟ أقول: يعز على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يوم يرى ابنه زيدا مصلوبا بلا رأس ويوم يرى حسينا مطروحا بلا رأس والخيول
تجول على صدره الشريف.
وفي شرح القصيدة لما قتل زيد بعثوا برأسه إلى المدينة ونصب عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
يوما وليلة كما في الخبر وبعثوا برأس الحسين إلى المدينة ودفن عند أمه فاطمة، ولما قتل
زيد بن علي بن الحسين ودفن رجع ابنه يحيى بن زيد وأقام بجبانة السبيع وتفرق الناس عنه
فلم يبق معه إلا عشرة نفر. قال سلمة بن ثابت: فقلت له أين تريد؟ قال: أريد النهرين
فقلت له: إن كنت تريد النهرين فقاتل هاهنا حتى تقتل قال: أريد نهري كربلاء فقلت
له: فالنجاة قبل الصبح قال: فخرجنا معه فلما جاوزنا الأبيات سمعنا الاذان فخرجنا
مسرعين فكلما استقبلني قوم استطعمتهم فيطعمونني الأرغفة فأطعمه إياه وأصحابي حتى
أتينا نينوى فزار جده الحسين (ع) وبكى عنده قال سلمة: مضيت وخليته وكان آخر
149

عهدي به، وخرج يحيى إلى المدائن وهي إذ ذاك طريق الناس إلى خراسان، وبلغ ذلك
يوسف بن عمر فسرح في طلبه فخرج يحيى من المدائن حتى أتى الري ثم خرج من الري حتى
أتى سرخس وأقام بها ستة أشهر، وأتاه أناس من المحكمة يسألونه أن يخرجوا معه
ويقاتلون بني أمية. فعزم على ذلك لما رأى من نفاذ رأيهم فنهاه بعض من صحبه وقالوا له:
كيف تقاتل بقوم تريد أن تستنصر بهم على عدوك وهم يبرؤون من علي وأهل بيته فلم
يطمأن إليهم غير إنه قال لهم جميلا، ثم خرج من سرخس فنزل بلخ على الجريش بن
عبد الرحمن الشيباني فلم يزل عنده حتى هلك هشام بن عبد الملك (لع) وولي الوليد بن يزيد
ابن عبد الملك في اليوم الذي هلك فيه هشام وكانت ولايته سنة وشهرين واثنين وعشرين
يوما، وقتل (لع) وهو ابن أربعين سنة في يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الأخيرة
وكان أبوه يزيد بن عبد الملك أراد أن يعهد إليه فلاستصغاره لسنة عهد إلى أخيه هشام ثم
إلى الوليد من بعده، وكان الوليد (لع) صاحب شراب وغناء ولهو وطرب، وله الندماء
والجلساء والمغنون، ولا يفارق من إحدى الثلاث أما الشراب، وأما القمار وأما الغناء
وجاءه وفد من العرب فوافوا إلى باب داره فدخلوا الحجاب للاستيذان فرأوه في مجلس
الشراب فقالوا: يا أمير المؤمنين إن الخلافة تجل عن هذه الأحوال قال اسقوهم عن
آخرهم فأبوا فقال: اجعلوا القوارير في أفواههم وهم يسقونه اضطرارا حتى خروا
سكرا.
وذكر الديمري في (حياة الحيوان) إن الوليد بن يزيد بن عبد الملك من شرار خلفاء
بني أمية ولم يكن في بني أمية أكثر إدمانا للشراب والسماع ولا أشد تهتكا واستخفافا
بأمر الأمة من الوليد بن يزيد وقد جاء في الحديث ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له
الوليد هو أشر من فرعون فتأولوه به يقال إنه واقع جارية له وهو سكران وجاءه
المؤذنون يؤذنونه بالصلاة فحلف أن لا يصلي بالناس إلا هي فلبست ثيابه وتعممت
بعمامته وتنكرت وصلت بالمسلمين وهي جنب سكرى، ويقال: إنه اصطنع بركة من خمر
وكان إذا طرب القى نفسه فيها وشرب منها حتى يتبين النقص في أطرافها.
وحكى الماوردي إنه تفال يوما بالمصحف فخرج له قوله تعالى: (واستفتحوا
وخاب كل جبار عنيد) فمزق المصحف، وفي خبر رماه بسهم وأنشأ يقول اللعين:
أتوعد كل جبار عنيد * فها أنا ذاك جبار عنيد
150

إذا ما جئت ربك يوم حشر * فقل يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث إلا أياما يسيرة حتى قتل شر قتلة وطيف برأسه في دمشق على رأس رمح
ثم صلب رأسه على قصره ثم على اعلا سور بلده، وقيل خلعه أهل دمشق وبايعوا ابن
عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك فقال يزيد: من أحضر رأس الوليد فله مئة ألف درهم
فحصره أصحاب يزيد فهم أصحاب الوليد بالقتال، فنهاهم عن ذلك فتفرقوا عنه وانفلوا من
حوله ثم دخلوا عليه في قصره فقال: يوم كيوم عثمان، فقيل له: ولا سواء فقطعوا رأسه.
والحاصل لما ولي الوليد كتب يوسف بن عمر عامل العراقين إلى نصر بن سيار وهو
عامل على خراسان يأمره بأخذ يحيى بن زيد أشد الاخذ فكتب نصر بن سيار إلى عامل
بلخ أن يأخذ يحيى ويرسله في الحديد، فأحضر الوالي جريش بن عبد الرحمن الذي كان
يحيى نازلا في منزله فضربه ستمائة سوط وقال: والله لأرهقن نفسك أو تأتيني بيحيى فقال
الجريش وقال للوالي: لا تقتل أبي أنا آتيك بيحيى فوجه معه جماعة فدلهم
عليه وهو ببيت في جوف بين فأخذوه ومن معه وسلمه إليه وبعث به الوالي إلى نصر بن
سيار والي خراسان، فحبسه عنده وقيده وجعله في سلسلة، وكتب إلى يوسف بن عمر
وأخبره بخبره، فكتب يوسف بن عمر إلى الوليد يعلمه ذلك، فكتب إليه يأمره أن
يؤمنه ويخلي سبيله وأصحابه، فكتب يوسف بذلك إلى نصر بن سيار فدعى نصر
بيحيى وفك سلسلته، وأمري بتقوى الله وحذره من الفتنة، فقال له يحيى: وهل في أمة
محمد فتنة أعظم مما أنتم فيه من سفك الدماء وأخذ ما لستم بأهله؟ فلم يجبه لما أطلق يحيى
وفك حديده صار جماعة من مياسير الشيعة إلى الحداد الذي فك قيوده من رجله.
فسألوا أن يبيعهم إياه وتنافسوا في قيمة الحديد وتزايدوا حتى بلغ عشرين ألف درهم
فخاف الحداد أن يشيع خبره فيؤخذ منه المال، فقال لهم: أجمعوا ثمنه بينكم فرضوا
بذلك وأعطوه المال فقطعه قطعة قطعة، وقسمه بينهم فاتخذوا منه فصوصا للخواتيم
يتبركون به، ثم أن نصر بن سيار أمر ليحيى بألفي درهم وبغلين وتقدم إليه أن يلحق
بالوالي فعلم يحيى إنها مكيدة أبى أن يأتي الوليد فخرج إلى سرخس ثم إلى بيهق وهي أقصى
عمل خراسان وقد اجتمع له سبعون رجلا من الشيعة وبايعوه، فبلغ ذلك نصر بن سيار
فكتب إلى عامل سرخس طوس أن يأخذوه ويحاربوه فتجهزوا لمحاربته وصاروا في زهاء
151

عشرة آلاف فارس وخرجوا إليه وخرج يحيى وما معه إلا سبعين فارسا فقاتلهم يحيى
فهزمهم واستباح عسكرهم وأصاب منهم دوابا كثيرة، ثم أقبل يحيى حتى مر بهرات ثم
نزل بأرض الجوزجان فسرح إليه نصر بن سيار سلم بن أحور في ثمانية آلاف فارس من
أهل الشام وغيرهم فلحقوه بقرية يقال لها أرغوى وعبأ سلم (لع) أصحابه يمنة ويسرة فاقتتلوا
ثلاثة أيام ولياليها أشد القتال حيت قتل أصحاب يحيى كلهم وأتت يحيى نشابة في جبهته رماه
رجل من موالي عنزة يقال له: عيسى فوجده سورة بن محمد قتيلا فاحتز رأسه، وأخذ العنزي
الذي قتله وسلبه وقميصه وسلب إسحاق بن حوية (لع) قميص جده الحسين (ع) فوجد في
القميص مئة وبضع عشر ما بين ضربة وطعنة، ورمية فبقيا بعد ذلك يعني اللعينان العنزي
وسورة بن محمد حتى أدركهما أبو مسلم فقطع أيديهما وأرجلهما وصلبهما، وصلب يحيى
على باب مدينة الجوزجان وهي معرب كوزكان في وقت قتله وبعث برأسه إلى نصر بن سيار
ثم إلى الوليد، وكان مقتله سنة خمس وعشرين ومئة فلم يزل مصلوبا حتى إذا جاءت
المسودة يعني بنو العباس وسموا بالمسودة لأنهم كانوا يلبسون السواد فأنزلوه وكفنوه
وحنطوه ثم دفنوه، وأراد أبو مسلم أن يتبع قتلة يحيى فقيل له: عليك بالديوان فوضعه
بين يديه، وكان إذا مر به اسم ممن أعان على قتل يحيى قتله حتى لم يدع أحدا قدر عليه ممن
شهد قتله إلا قتله إن كان حيا، ومن كان ميتا خلفه في أهله سوءا، وفي شرح القصيدة أمر
أبو مسلم بإقامة العزاء على يحيى ببلخ ومرو سبعة أيام، وسود أهل خراسان ثيابهم فصار
شعار بني العباس وكل من ولد في تلك السنة من أولاد الأعيان سمي يحيى وأهل الشام
أيضا ناحوا على الحسين سبعة أيام مع أهل البيت فأمر يزيد فأخليت لهن الحجر والبيوت
في دمشق ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلا ولبسن السواد على الحسين (ع) ندبوه على ما نقل
سبعة أيام، وقتل يحيى يوم الجمعة وقت العصر كما إن أباه زيدا قتل يوم الجمعة، وفي خبر
الحسين (ع) أيضا قتل يوم الجمعة وقت العصر وبعث برأس يحيى إلى الوليد، وبعث اللعين
برأسه إلى المدينة فجعل في حجر أمه ريطة فنظرت إليه، وقالت شردتموه عني طويلا
وأهديتموه إلي قتيلا صلوات الله عليه وعلى آبائه بكرة وأصيلا ساعد الله قلبها، ولا أعلم
هذا أعظم أم ما رأت ليلى أم علي الأكبر لأنها كلما رفعت رأسها رأت رأس ولدها
على رأس رمح طويل فلما قتل عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس مروان بن محمد بن
مروان بعث برأسه حتى وضع في حجر أمه وقال: هذا بيحيى بن زيد يعني هذه المصيبة
152

بتلك المصيبة، وقتل يحيى وله من العمر ثمانية عشر سنة وكانت أمه تندبه ليلا ونهارا
وقتل علي الأكبر وهو ابن ثمانية عشر سنة وأمه تندبه ليلا ونهارا.
كم غدرة لكم في الدين واضحة * وكم دم لرسول الله عندكم
المجلس الحادي والخمسون
قال الله تبارك وتعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كما آمن بالله
واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله) والسبب في نزول هذه الآية
الشريفة كما في (مجمع البيان) عن بريدة قال: بينا شيبة والعباس يتفاخران إذ مر بهما علي
ابن أبي طالب (ع) فقال بماذا تتفاخران؟ فقال العباس لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت
أحد وهو سقاية الحاج وقال شيبة: أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد وهو عمارة المسجد
الحرام فقال علي (ع) استحييت لكما فقد أوتيت في صغري ما لم تؤتيا فقالا: وما ذاك وما
أوتيت يا علي؟ قال ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله ورسوله فقام العباس
مغضبا يجر ذيله حتى دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال أما ترى إلى ما استقبلني به علي (ع)
فقال النبي (ص): ادعوا عليا فدعي له قال. وما حملك على ما استقبلت به عمك فقال
يا رسول الله صدعته بالحق فإن شاء فليغضب، وان شاء فليرض، فنزل جبرئيل وقال
يا محمد: إن ربك يقرأك السلام ويقول: أتل عليهم (أجعلتم سقاية الحاج) وتقديره
أجعلتم سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد حتى تكون مقابلة الشخص بالشخص أو تقديره
أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كايمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في
سبيل الله فإنه لا مساواة بين الامرين عند الله في الفضل والثواب، وللبرسي:
أهل النهي عجزوا عن وصف حيدرة * والعارفون بمعنى حبه تاهوا
إن أدعه بشرا، فالعقل يمنعني * وأختشي الله في قولي هو الله
وقال الخليعي:
سارت بأنوار علمك السير * وحدثت عن جلالك السور
والواصفون المحدثون غلوا * وبالغوا في علاك واعتذروا
153

فقال العباس ثلاثا: إنا رضينا، والعباس بن عبد المطلب عم النبي وجد
الخلفاء العباسيين وكنيته أبو الفضل، وأمه نثيلة كانت جارية لفاطمة بنت عمرو المخزومي
أم عبد الله أبي النبي وأبي طالب والزبير فأخذها عبد المطلب وأولدها العباس فقال الزبير
لعبد المطلب: هذه الجارية ورثناها من أمنا وابنك هذا عبد لنا فصدقه عبد المطلب
واستدعى من الزبير بأن لا يشير إلى العباس بهذا الاسم يعني إنه عبد لهم، ولا يذكره
بسوء بل هو كسائر أخوته فقال: أجبتك على أن لا يتصدر ابنك هذا في مجلس ولا يضرب
معنا بسهم، ولا يشرك معنا في أموالنا بنصيب، وكتب عليه كتابا وأشهد عليه شهودا
وهذا معنى قول أبي فراس حيث يخاطب بني العباس بقوله:
لا يطغين بني العباس ملكهم * بنوا على مواليهم وان رغموا
أتفخرون عليهم لا أبا لكم * حتى كأن رسول الله جدكم
يعني لا يدع بني العباس ملكهم إلى الكفر بالله وتجاوز الحد في الاستعلاء والتمرد
والتكبر على ساداتهم وهم بنو علي لأنهم عبيد لبني علي (ع) والملك ملك بني علي
والعبد وما يملك لمولاه والسيد سيد وان ضهده الظلم، والعبد عبد وان ظفرت يده بالحكم.
إنما الدنيا عواري والعواري مستردة * شدة بعد رخاء ورخاء بعد شدة
يا بني العباس جحودكم ومستعبدكم ومستعجب افتخاركم على بني علي سيد الأوصياء
كأنكم أنتم أحفاد سيد الأنبياء، وأولاد سيدة النساء وافتخاركم عليهم من قبيل إفتخار
الأرض على السماء والسهى على الشمس والدجى على الصبح كما يقول الشاعر:
فوا عجبا كم يدعي الفضل ناقص * ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل
إذا وصف الطائي بالبخل مادر * وعير قسا بالسفاهة بأقل
وقال السهى للشمس أنت خفية * وقال الدجى للصبح لونك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة * فأخرت الشهب الحصى والجنادل
فيا موت زران الحياة ذميمة * ويا نفس جدي ان دهرك هازل
بيان مادر شخص لئيم سقى أبله فبقي في الحوض قليل ماء فتغوط فيه ومد الحوض
به لئلا يشربه أحد، وهذا يعير حاتم الطائي بالبخل وبأقل رجل أحمق غبي اشترى ظبيا
بإحدى عشر درهما فسئل عن شرائه ففتح كفيه وخرج لسانه يشير إلى ثمنه فانفلت
الظبي وانهزم، وكان فيه درهم فأسقطه بغدير يريد يخوضه وفاته الجميع فضرب به المثل
154

في العي يقال (هو أعيا من بأقل).
وهذا يعير قس بن ساعدة الأيادي الذي كان وحيد عصره وفريد دهره في العلم
والحكمة والعقل والدراية بالحمق والسفاهة وافتخار بني العباس علي بني علي من قبيل
افتخار هؤلاء على هؤلاء وللعباس عم النبي من الأولاد تسعة ذكور، وثلاث إناث:
عبد الله وعبيد الله والفضل وقثم ومعبد وعبد الرحمن وتمام وكثير والحرث وأم حبيب
وآمنة وصفية، وبنو العباس ينتهون إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أولهم
أبو العباس السفاح عبد الله، وآخرهم المستعصم ابن المنتصر وعددهم سبع وثلاثون خليفة
ومدة خلافتهم خمسمائة وأربع وعشرون سنة، وتاريخ انقراضهم بالفارسية خون
قال الشاعر:
بنو العباس دولتهم دعتهم بالتقى خونوا * فخانوا عترة يبكي لهم بالدم يسن
فلما إنها انقرضت أتى تاريخها خون
وفي البحار: هبط جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه قباء أسود ومنطقة فيها
خنجر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرئيل ما هذا الذي أنت فيه؟ فقال: زي بني عمك العباس
يا محمد ويل لولدك من ولد عمك العباس قال رسول الله للعباس: ويل لولدي من ولدك
فقال العباس: يا رسول الله أفأختصي قال: إنه أمر قد قضى أي لا ينفع الخصي فما مضت
الأيام والليالي حتى انتهى الملك إليهم ولعبوا بالملك لعب الصبيان بالمداح جلسوا على
سرير الملك وهم عبيد لأولاد علي (ع) وفاطمة وأجلسوهم في قعر بيوتهم وهم سادات
وموالي، بل لعبت بالملك نسائهم وخدمهم كما قال أبو فراس:
بنو علي رعايا في ديارهم * والامر تملكه النسوان والخدم
يعني بنو علي الذين هم أولوا الامر يلزمون البيوت كالرعية خوفا من الأعداء
والذين هم رعايا بني علي يحظون بالملك ويفوضونه إلى خدمهم والنساء.
وذكر أهل التواريخ: ان خيزران أم الهادي رابع الخلفاء كانت تدخل نفسها في
أمور الملك والمال، وكان الامرأة والأعيان يمضون إليها كل يوم، وكان الهادي لا يجاوز
من كلامها، وغلب على المقتدر الخليفة الثامن عشر من العباسين أمر النساء والخدم حتى
إن جارية لامة تدعى بمثل القهرمانة، كانت تجلس للمظالم وتحضرها القضاة والشهود
والفقهاء في دار العدل، وتحكم، وذكر أصحاب التواريخ ان المعتضد السادس عشر منهم ولى
155

مولاه بدرا بلاد فارس، ومونس الخادم في خلافة المقتدر ولي الأمر والنهي حتى إنه
قتل الموفق أبا المعتضد، وكان المقتدر يراجع النساء والخدم وأموره تجري على مقتضى
آرائهم قال الشاعر:
إذا كان الناس عند عجوزهم * فلابد أن يلقون كل ثبور
وهذه من شأن الزمان أن أولي الأمر الذين فرض الله طاعتهم على من سواهم
يجلسون في قعر بيوتهم مظلومين مقهورين مغضوبين مهضومين، والذين هم رعايا وعبيد
لهم يتولون الامر والسلطنة والرياسة ويفوضونه إلى جواريهم وخدمهم ونسائهم:
ما خلت إن الدهر من عاداته * تروي الكلاب به ويضمى الضيغم
هذا من هوان الدينا على الله سميت الدنيا بالدنيا لأنها أدنى من كل شئ لو كانت
الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما أعطى هؤلاء شربة ماء فكيف بالسلطنة والرياسة.
والحاصل صنعوا بآل علي ما صنعوا من القتل والصلب والنهب والتشريد في البلدان
بل ونبش قبورهم كما لا يخفى على البصير واليه أشار بقوله أبو فراس:
لبئس ما لقيت منهم وأن بليت * بجانب الطف تلك الأعظم الرمم
يعني يا بني العباس وإن أفنى التراب بساحل البحر ومما يلي الفرات عظام أبي
تراب وأولاده لم تصلوا إليهم بالبطش، فقد صادفت من عداوتكم وهي في القبور ضرا
وشدة بالنبش.
أول قبر سعوا في خرابه ونبشه قبر أمير المؤمنين. في (فرحة الغري) عن إسماعيل
ابن عيسى العباسي قال: رجعنا يوم الجمعة من الصلاة من مسجد الكوفة مع عمي داود
ابن علي بن عبد الله بن العباس فلما كان قبل منازلنا وقبل منازله، وقد خلا الطريق قال
لنا: أين كنتم قبل إن تغرب الشمس سيرا إلي؟ قال: فصرنا إليه آخر النهار فقال
صيحوا بفلان وفلان من الفعلة فصحنا فجاؤوا ومعهم آلة البنائين والجصاصين فصاح
بغلامه اسمه جمل شديد القوة عظيم البأس، فقال أركبوا في وقتكم هذا وأمضوا إلى الغري
إلى هذا القبر الذي افتتن به الناس، ويقولون إنه قبر علي بن أبي طالب، وتجيئوني بما
فيه فمضينا إلى الغري فقلنا، دونكم وما أمر به فحفر الحفارون وهم يقولون لا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم ونحن من ناحية حتى نزلوا خمسة أذرع فبلغوا إلى الصلابة فلم
يقدروا على نقره فقالوا: بلغنا إلى موضع صلب لا نقوى على نقره، فأنزلوا الحبشي
156

فأخذ المنقار فضرب ضربة سمعنا لها طنينا شديدا في البر، وضرب ثانية فسمعنا طنينا أشد
من ذلك ثم ضرب ثالثة فسمعنا أشد مما تقدم ثم صاح الغلام صيحة فقمنا وأشرفنا عليه
وهم يستغيث فشدوه وأخرجوه بالحبل فإذا على يده من أطراف أصابعه إلى مرفقه دم
فسألناه فلم يقدر على الجواب فحملناه على البغل، ورجعنا إلى الكوفة ولم يزل لحمه ينثر عن
عضده وجسمه وسائر شقه الأيمن حتى انتهينا إلى عمي، فحدثناه بالصورة فالتفت إلى
القبلة فتاب ومات الغلام من ساعته ثم وجه عمي من طم الموضع وعمل الصندوق عليه
(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) نبشوا أيضا
قبر الحسين (ع) وخربوا بنيانه ولم يزل المتوكل منذ عشرين سنة يأمر بذلك كما سيأتي
وكان اللعين شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته بحيث لو سمع أحدا يتولى
عليا (ع) أهله يأمر بأخذ ماله والهدم وكان يستهزئ بعلي (ع)، ويستحربه ومن جملة
ندمائه عبادة المخنث وهو يتمثل له مثال علي (ع) وكان يشد بطنه تحت ثيابه مخدة
ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص بين يديه والمغنيون يغنون قد أقبل الأصلع البطين
خليفة المسلمين واللعين يشرب ويضحك ففعل ذلك يوما وكان المنتصر حاضرا فأوما إلى
عبادة يتهدده فسكت خوفا منه فقال المتوكل: ما حالك؟ فقام وأخبره فقال المنتصر:
يا أمير المؤمنين إن الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه هو ابن عمك وشيخ أهل
بيتك، وبه فخرك فكل لحمه أنت ما شئت ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه.
فقال اللعين للمغنين، غنوا جميعا:
غار الفتى لابن عمه * رأس الفتى في حر أمه
فهذا أحد الأسباب التي أستحل بها المنتصر قتل المتوكل.
وكان اللعين شديد الوطأة على آل أبي طالب، وشديد الغيظ والحقد عليهم
واستعمل على المدينة ومكة عمرو ابن الفرج الرجحي وتقدم إليه بالإسائة إلى آل أبي طالب
ومنع الناس من برهم، ولا يبلغه أحدا بره أحدا منهم بشئ، وان قل إلا أذاقه عقوبته
واشتد الفقر والفاقة بآل علي (ع): والعلويات حتى لم يبق لهن إلا قميص واحد يكون
بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ثم ينزعنه ويجلسن إلى مغازلهن
عواري حواسر إلى أن قتل المتوكل، فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم، ووجه بمال
وفرقه فيهم وهذا اللعين أمر بخراب قبر الحسين ومحو أثره وأرسل إبراهيم الديزج وكان
157

يهوديا وقد أسلم بعثه إلى قبر الحسين مع جماعة من اليهود وأمر بكرب قبره واخراب كل
ما حوله فمضى لذلك وخرب ما حوله وهدم البناء وما كرب ما حوله نحو مائي جريب حتى
صار كالخندق، وخلعوا الصندوق الذي كان حوالي القبر وأحرق بني أمية قتلى الحسين
وأحرقوا خيامه، وبنو العباس نبشوا قبره وأحرقوا ضريحه:
تالله إن كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فلقد أتاه بنو أمية بمثله * هذا لعمري قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبعوه رميما
قال الشاعر:
ليس الرشيد رشيدا في سياسته * كلا وليس ابنه المأمون مأمونا
هذا الموسى وهذا للرضا وبنو * العباس للآل ما انفكوا يكيدونا
قتلا وحبسا وتشريدا وغائلة * سما وسبا بلا ذنب وتهجينا
المجلس الثاني والخمسون
لما بنى المنصور الأبنية في بغداد جعل يطلب العلويين طلبا شديدا ويجعل من
ظفر منهم في الأسطوانة المبنية من الجص والاجر، وكان اللعين من أعظم الناس سطوة
وأشدهم هيبة لا يقاس بأحد.
قال في الكشكول للبهائي: إن أبا أيوب المرزباني كان وزير المنصور، وكان إذا
دخل على المنصور يصفر لونه ويرعد، فإذا خرج يرجه له لونه فقيل له إنا نراك مع
كثرة دخولك على أمير المؤمنين وأنسه بك متغير إذا دخلت عليه فقال: مثلي ومثلكم مثل
بازي وديك تناظرا فقال البازي للديك: ما أعرف أقل منك وفاء لأصحابك قال: وكيف؟
قال: تؤخذ بيضة فيضنك أهلك، وتخرج على أيديهم فيطعمونك بأيديهم حتى إذا كبرت
صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت من هنا إلى هنا وصحت، وان علوت على حائط دار
كنت فيها سنين طرت منها وصرت إلى غيرها، واما أنا فأؤخذ من الجبال وقد كبر سني
فتخاط عيني وأطعم الشئ اليسير وأساهر فأمنع من النوم، وأنسى اليوم واليومين ثم
158

اطلق على الصيد وحدي فأطير إليه وآخذ وأجئ به إلى صاحبي فقال له الديك: ذهبت
منك الحجة أما لو رأيت بازيين في سفود على النار ما عدت إليهم وأنا في كل وقت أرى
السفافيد مملؤة ديوكا فلأنك حليما عند غضب غيرك وأنكم لو عرفتم من المنصور ما أعرفه
لكنتم أسوأ حالا مني عند طلبه لكم.
والمنصور ثاني خلفاء بني العباس ويسمى الدوانيقي لأنه لما حفر الخندق بالكوفة
قسط على كل منهم دانق فضد وأخذه وصرفه في حفر الخندق والدانق سدس الدرهم وعاش
ثلاث وستون سنة ومدة خلافته اثنان وعشرون سنة، وكان اللعين فاتكا سفاكا فاسقا
زنديقا عظيم العداوة وشديد القساوة بالنسبة إلى الذرية الطاهرة العلوية، وبعث اللعين
رياح بن عثمان المري أميرا على المدينة وأمره بأخذ العلويين من أولاد الحسن فأخذهم
وقيدهم وغللهم وحبسهم وهم ثلاثة عشر هاشميا من الشيخ والشباب وأكبرهم وأسنهم
وأعظمهم عبد الله المحض ابن الحسن المثنى وله ابنان محمد وإبراهيم وهما كانا بين الناس
معظمان وتمد إليهما الأعناق، ويشار إليهما بالبنان وكان عبد الله المحض يدعو الناس إلى
مبايعة ابنه محمد ويقول: قد علمت أن ابني هذا هو المهدي فهلموا فلنبايعه، فاجتمعوا
للبيعة وفيهم جماعة من بني هاشم وبني العباس وفيهم أبو العباس السفاح وأخوه
أبو جعفر المنصور، وأحضروا جعفر الصادق (ع) وأظهروا له أمر البيعة فقال (ع):
لا تفعلوا فان هذا الامر لم يأت بعد ثم قال (ع) لعبد الله المحض، والله لا ندعك وأنت
شيخنا ونبايع ابنك فغضب عبد الله وقال: لقد علمت خلاف ما تقول ولكن يحملك
على هذا الحسد لابني فقال (ع): ما والله يحملني ذلك إنها يعني الخلافة والله ما هي لك
ولا لابنك، ولكن هذا أو أخوته وأبناؤهم دونكم وضرب بيده على ظهر أبي العباس
السفاح وكان كما قال (ع): لان الامر انتهى إلى بني العباس أولهم السفاح ثم المنصور
وصنعوا ما صنعوا.
ولما أمر المنصور بأخذ بني الحسن وأخذوا غاب محمد وإبراهيم أبناء عبد الله المحض
وسيأتي بيان حالهم، وأخذ أبوهما أسيرا مع بني الحسن فحج المنصور، ولما أنصرف نزل
بالربذة وأمر باشخاص بني الحسن وسار بهم رياح إلى الربذة ومعهم محمد الديباج بن
عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان وهذا أي محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان
إنما أخذ مع بني الحسن ولم يكن منهم لأنه أخو عبد الله المحض من أمه وأمهما فاطمة
159

بنت الحسين (ع) وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان بفاطمة بنت الحسين بعد ما توفي
الحسن المثنى فأولدها محمدا، ولأنه كان ذا رأي وعقل وتدبير، وكان معظما بين الناس
ويرجى فيه أمر الخلافة، وكان صبيح المنظر كأنه خلق من فضة، وسمي بالديباج
لحسن صورته، وجعلت القيود والاغلال في أرجلهم وأعناقهم وجعلهم في محامل بغير
وطاء، ولما خرج بهم من المدينة وقف جعفر الصادق (ع) من رواء ستر ينظر إليهم
وهو يبكي ودموعه تجري عليه لحيته وهو يدعو الله تعالى فلما وصلوا إلى الربذة ادخلوا
محمد الديباج على المنصور، وكان المنصور قبل ان ينتهي أمر الخلافة إلى بني العباس أشار
إلى بني هاشم وبني العباس بالبيعة لمحمد الديباج، وقال: لأي شئ تخدعون أنفسكم والله
لقد علمتم ما الناس إلى أحد أطوع أعناقا ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى يعني محمد
ابن عبد الله الديباج، قالوا: قد والله صدقت إن هذا لهو الذي تعلم فبايعوا جميعا محمد
الديباج ومسحوا على يده وأخلوا عليه قميص وازار رقيق، فلما وقف بين يديه قال له:
يا ديوث قال الديباج: سبحان الله لقد عرفتني بغير ذلك صغيرا وكبيرا قال: فممن حملت
أبنتك رقية وكانت تحت إبراهيم بن عبد الله المحض، وقد أعطيتني الايمان إلا تغشني
ولا تمالي علي عدوا أنت ترى أبنتك حاملا وزوجها غائب، فأنت بين أن تكون خانثا
أو ديوثا، وأيم الله إني لأهم برجمها. قال الديباج: أما إيماني فهي علي أن كنت دخلت لك في أمر غش، وأما ما رميت به هذه الجارية فإن الله تعالى قد أكرمها بولادة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياها، وعلمت إن حين ظهر حملها ان زوجها ألم بها على حين غفلة منا
وجرى بينهما ما جرى من الكلام حتى اغتاظ المنصور من كلامه وأمر بشق ثيابه وأزراره
ثم أمر به فضرب مئة وخمسين سوطا، فبلغت منه كل مبلغ والمنصور يفتري عليه فأصاب
السوط وجهه فقال: ويحك أكفف عن وجهي فإن له حرمة برسول الله، فأغرى
المنصور فقال للجلاد: الرأس الرأس فضرب على رأسه نحوا من ثلاثين سوطا، وأصاب
إحدى عينيه سوط فسالت ثم أخرج كأنه زنجي من الضرب، وكان أحسن الناس صورة
فلما أخرج قال له بعض من معه: إلا أطرح عليك ردائي؟ قال: بل جزيت خيرا والله
لسق أزاري أشق علي من الضرب، ثم أمر المنصور بمحمد الديباج فقتل وأرسل برأسه
إلى خراسان وأرسل معه من يحلف إنه رأس محمد بن عبد الله الديباج فلما قتل محمد الديباج
قال أخوه عبد الله المحض: إنا لله وإنا إليه راجعون إنا كنا لنأمن به في سلطانهم يعني
160

كنا نرجوا أن نكون آمنين في دولة بني العباس.
ثم إن المنصور اخذ بني الحسن وسار بهم إلى بغداد فمر بهم على بغلة وهم في القيود
فناداه عبد الله بن الحسن المثنى يا أبا جعفر ما هكذا فعلنا بأسراكم يوم بدر، ثم إن
المنصور أودعهم بقصر أبي هبيرة شرقي الكوفة، وأحضر المنصور محمد بن إبراهيم بن
الحسن بن الحسين (ع) وكان أحسن الناس صورة فقال له: أنت الديباج الأصغر؟ قال:
نعم، قال لأقتلنك قتلة لم أقتل بها أحدا ثم أمر فبني عليه أسطوانة وهو حي فمات
وأبوه إبراهيم بن الحسن المثنى كان ينظر إلى ولده وهم يبنوا عليه، وهذا من أشد المصائب
ومن ذلك كان إبراهيم أول من مات منهم ثم مات عبد الله بن الحسن المثنى المحض ثم علي
ابن الحسن المثلث، ثم أمر ببقاياهم فقتلوا وقيل: أمر بهم فسقوا السم ولنعم
ما قال دعبل:
أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي * نجوم سماوات بأرض فلات
قبور بكوفان وأخرى بطيبة * وأخرى بفخ نالها صلوات
قبور بأرض الجوزجان محلها * واخرها بباخمرا لدى الغربات
المجلس الثالث والخمسون
وممن حبس ومات أو قتل في هذا الحبس علي بن الحسن المثلث ابن الحسن المثنى:
ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، ولما حبسوا بني الحسن لم يكن علي بن الحسن فيهم
فلما كان من الغد بعد الصبح إذ أقبل رجل متلفف فقال له رياح مرحبا بك ما حاجتك؟
قال جئتك لتحبسني مع قومي فإذا هو علي بن الحسن المثلث فحبسه معهم ويعرف بعلي
الخير وكان عابدا زاهدا وله كرامات، قال في المقاتل: كان يصلى يوما في طريق مكة فدخلت
حية في سراويله وخرجت من جيبه، ودهش الناس وصاحوا عليه، وهو لم يضطرب ولم
يلتفت إليها وكان مشغولا بصلاته، وكان آل الحسن في الحبس لم يعرفوا أوقات الصلاة
إلا بتلاوة قرآنه، ولقد توفي وهو ساجد، وكان يقول في الحبس: اللهم إن كان هذا من
سخط عنك علينا فاشدد حتى ترضى، وكانت دعواته مستجابة فقال له آل الحسن: أدع
161

الله لنا ينجينا من حبس المنصور فقال: لنا درجات عند الله لا ننالها إلا بالصبر على
هذه البلية أو أعظمها، والمنصور درجات في النار لا ينالها إلا بما أجرى علينا من هذا
الظلم أو أعظمه، فالصبر أجمل ويوشك إن نموت ونستريح، فإن أبيتم إلا الخلاص
وانحطاط الاجر عنكم فها أنا ادعوا الله لكم، فقالوا بل نصبر فصبروا بالبلاء وقتلوا
بعد ثلاثة أيام وماتوا في الحبس، وكان ذلك في اليوم الثالث والعشرين من المحرم سنة
مائة وأربعين من الهجرة، وكان علي بن الحسين يومئذ ابن خمس وأربعين سنة
والطباطبائية من السادات على قول ينتهون إليه لأنه كان يسمى بطباطبا.
وقال النراقي في الخزائن: سمي بطباطبا لأنه كان يحرف طوبى بطباطبا أو أهدي إليه
لباس فقيل له نجعله لك قميصا أو قباء فقال طباطبا - يعني قباقا - كان مثل سبيكة الذهب
كلما أوقد عليه نارا أزداد خلاصا، وهو كلما أشتد عليه البلاء أزداد صبرا وسرورا
وممن قتل أو مات في حبس المنصور عبد الله بن المحض وسمي بالمحض لان أباه الحسن المثنى
ابن الحسن بن أمير المؤمنين وأمه فاطمة بنت الحسين وهو أول من اجتمعت عليه ولادة
الحسن والحسين، وكان يقول أنا أقرب الناس من رسول الله ولدني رسول الله مرتين
وكان يشبه رسول الله، وكان شيخ بني هاشم في زمانه. وقيل له بما صرتم أفضل الناس؟
قال: لان كلهم يتمنون أن يكونوا منا، ولا نتمنا أن نكون من أحد، وكان قويا سخيا
ومات في الحبس وهو ابن خمس وسبعين سنة وله إبنان محمد وإبراهيم، وكلاهما خرجا على
المنصور وقتلا.
وأما محمد كان يلقب بالنفس الزكية وهذا هو المقتول بأحجار الزيت، وهو
موضع داخل المدينة، ويقال له المهدي لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المهدي من ولدي اسمه
اسمي واسم أبيه اسم أبي، وتطلعت إليه بنو هاشم وعظموه ويكنى أبا عبد الله وقيل
أبا القاسم، وكا جم الفضائل كثير المناقب وكان تمتاما وبين كتفيه خال أسود كالبيضة
وكان شديد السمرة سمينا شجاعا كثير الصلاة والصوم، شديد القوة، وكان المنصور قد
بايع له ولأخيه مع جماعة من بني هاشم.
فلما بويع لبني العباس اختفى محمد وإبراهيم مدة خلافة السفاح، ولما عزم محمد على
الظهور وعد أخاه إبراهيم أن يخرجا في يوم واحد وذهب محمد إلى المدينة وإبراهيم إلى
البصرة فأتفق إن إبراهيم مرض فخرج محمد بالمدينة، ولما بلغ المنصور خروج محمد وقد
162

استولى على مكة واليمن وقد بويع له كثير من الأمصار وقد خلا ببعض أصحابه وقال له:
ويحك إن محمدا قد ظهر فماذا ترى؟ فقال له وأين ظهر؟ قال: بالمدينة قال: له غلبت
ورب الكعبة لأنه خرج بحيث لا مال ولا رجال ولا زرع ولا ضرع، فعاجله بالحرب
فأرسل المنصور إليه ابن أخيه عيسى بن موسى في جيش كثيف فحاربهم محمد خارج المدينة
وتفرق أصحاب محمد عنه حتى بقي وحده، فلما أحس الخذلان دخل داره وأمر بالتنور
فسجر، ثم عمد إلى الدفتر الذي أثبت فيه أسماء الذين بايعوه فألقاه في التنور فأحترق ثم
خرج فقاتل حتى قتل.
وكان قتل محمد يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من شهر رمضان سنة 145 ودفن
بالبقيع، وإنه خرج غضبا لله وبعث عيسى برأسه إلى المنصور واللعين بعث الرأس إلى
أبيه عبد الله المحض وسائر أقاربه في الحبس ولما رأى عبد الله رأس ولده قال: يرحمك
الله لقد قتلوك صواما قواما وأنشد يقول:
فتى كان يدنيه من السيف دينه * ويكفيه سوءات الأمور اجتنابها
ولا أعلم هذا أصعب بأن يرى الولد رأس ولده أم ير الولد رأس والده ساعد الله
قلبيهما كلاهما صعب، نظر علي بن الحسين إلى رأس والده الخ، ولما برأ إبراهيم من مرضه
وكان بالبصرة وهو على المنبر يخطب إذ بلغه قتل أخيه محمد وقال:
سأبكيك بالبيض الصفاح وبالقنا * فإن بها ما يدرك الطالب الوترا
ولست كمن يبكي أخاه بعبرة * يعصرها من ماء مقلته عصرا
ولكن أروي النفس مني بغارة * تلهب في قصري كتاتيبها جمرا
وإنا أناس لا تفيض دموعنا * على هالك منا وان قصم الظهرا
وكان إبراهيم يكنى أبا الحسن، وهو من كبار العلماء في فنون كثيرة، وكان قد
تلقب بأمير المؤمنين وعظم شأنه وأحب الناس ولايته وارتضوا سيرته، وكان شديد
القوة بحيث يأخذ بذنب البعير فلا يقدر على الحركة، فيحكى إنه كان واقفا مع أخيه محمد
وأبيه عبد الله المحض معهما إبل لهم تورد، وفيها ناقة شرود لا تملك فأقبلت مع الإبل
ترد فقال محمد لإبراهيم وهو ملتف في شملة أن رددتها فلك كذا وكذا، فوثب إبراهيم
فقبض على ذنبها فشردت وتبعها إبراهيم ممسكا بذنبها حتى غابا عن أعينهم فقال عبد الله
لابنه محمد: بئس ما صنعت عرضت أخاك للتلف فما كانت ساعة أقبل إبراهيم ملتفا بشملته
163

فقال له محمد: ألم أقل لك إنك لا تقدر على ردها؟ فاخرج ذنب الناقة وقال: أما تعذر
من جاء بهذا؟
وفي سنة مائة وخمس وأربعين ظهر إبراهيم ليلة الاثنين غرة شهر رمضان وبايعه
من أهل البصرة نحو أربعة آلاف فلما بلغ المنصور خروجه خاف ورحل واشتد خوفه
ونزل بالكوفة ليأمن غائلة الشيعة بها، ووجد إبراهيم في الخزانة بالبصرة ستمائة ألف دينار
فأنفقها في عسكره وبعث سرية إلى الأهواز وأخرى إلى فارس وأخرى إلى واسط
فجهز المنصور لحربه خمسة آلاف فاقتتلوا أياما وبقي المنصور لا يقر ولا ينام، وقيل: إن
عسكر إبراهيم بلغ مائة الف فلو هجم على الكوفة لاستولى على الامر ولظفر بالمنصور
وقال: أخشى إن هجمنا إن تستباح الصغار والنساء وكان بباخمرا على يومين من الكوفة
فاقتحم القتال واستظهر أصحاب إبراهيم وانهزم مقدم جيش المنصور، ونادى إبراهيم
لا يتبعن أحد منهزما ولما اتصل الخبر بالمنصور بأن عسكره قد انهزم اضطرب اضطرابا
شديدا وهيأ النجائب ليهرب إلى الري وجعل يقول: فأين قول صادقهم أين لعب الغلمان
والصبيان، واشتد قلقه وبعث إليه الجيوش كالجراد المنتشر مع عيسى بن موسى لما رجع
من المدينة من حرب محمد أخي إبراهيم فلم يزل القتال بينهم حتى قتل من أصحاب إبراهيم
جمع كثير، وانهزم الباقون فبقي إبراهيم وحده وهو يقاتل القوم، وقد غلب عليه حرارة
الشمس فكشف عن درعه فجاءه سهم في لبته فأنزلوه وهو يقول: الحمد لله وكان أمر الله قدرا
مقدورا أردنا أمرا وأراد الله سبحانه وتعالى غيره، وجاءه سهم آخر فوقع في حلقه
فقضى نحبه ثم قطعوا رأسه وبعثوا به المنصور فخر المنصور ساجدا، فوضع الرأس في
طشت بين يديه والحسن بن زيد السبط كان حاضرا فخنقته العبرة، والتفت إليه
المنصور وقال: أتعرف رأس من هذا؟ فقال: نعم وأنشأ:
فتى كان تحميه من الظيم نفسه * وينجيه من دار الهوان اجتنابها
فقال المنصور: صدقت ولكن أراد رأسي فكان رأسه أهون علي، ما أشبه كلامه
بكلام يزيد (لع) لما وضع رأس الحسين في الطشت بين يديه قال لعلي بن الحسين: أراد
أبوك وجدك أن يكونا أميرين، والحمد لله الذي قتلهما وسفك دمائهما، فقال (ع): لم
تزل النبوة والامارة لابائي وأجدادي من قبل أن تولد إلى آخر ما قال.
وكان قتل محمد وإبراهيم في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 145 وعاش إبراهيم
164

ثمانية وأربعين سنة، ودفن بباخمرا على مسافة يومين من الكوفة وبينهما وبين الكوفة ستة
عشر فرسخا وفي تلك السنة توفي الحسن المثلث ابن الحسن الزكي في حبس المنصور.
المجلس الرابع والخمسون
وممن خرج من بني الحسن وقتل: الحسين بن علي المثلث ابن الحسن
المثنى ابن الحسن السبط، وأمه زينب بنت عبد الله بن الحسن المثنى وهو صاحب فخ
والحسين كان رجلا جليلا عظيما عالما فاضلا كريما سخيا جم الفضائل عظيم المناقب.
في (مقاتل الطالبيين) قال الحسن بن هذيل: بعت للحسين بن علي صاحب فخ حائطا
بأربعين ألف دينار فنشرها على بابه فما دخل إليه أهله منها حبة كان يعطيني منها كفا كفا
فأذهب به إلى فقراء أهل المدينة وقال أيضا: الحسن بن هذيل قال لي: الحسين بن علي
اقترض لي أربعة آلاف درهم فذهبت إلى صديق لي فأعطاني الفين، وقال لي: إذا كان
غدا تعالى حتى أعطيك الفين فخرجت فوضعتها تحت حصير كان يصلي عليه فلما كان من الغداة
أخذت الألفين الآخرين ثم جئت لمكان الذي وضعته تحت حصيره فلم أجده فقلت له:
يا بن رسول الله ما فعلت بالألفين قال: لا تسأل عنها فأعذر فقال تبعني رجل أصفر من
أهل المدينة فقلت: ألك حاجة؟ فقال: لا ولكني أحب أن أصل جناحك فأعطيته إياه
أما إني أحسبني ما أجرت على ذلك لأني لم أجد لها حسنا، وقال الله تعالى (لن تنالوا البر
حتى تنفقوا مما تحبون) قال إسماعيل بن إبراهيم الواسطي: جاء رجل إلى الحسين فسأله فلم
يكن عنده شئ فأقعده وبعث إلى أهل داره وقال: أخرجوا ثيابي ليغسلوها فلما اجتمعت
قال للرجل: خذ هذه الأثواب، وعن الحسن بن هذيل قال: كنت أصحب الحسين بن علي
صاحب فخ فقدم إلى بغداد فباع ضيعة له بتسعة آلاف دينار فخرجنا ونزلنا سوق أسد
فبسط لنا على باب الخان، فأتى رجل معه سلة فيه طعام فقال له: مر الغلام يأخذ مني
هذه السلة فقال له: ومن أنت؟ قال: أنا أصنع الطعام الطيب.
فإذا نزل هذه القرية رجل من أهل المودة أهديته إليه قال: يا غلام خذ السلة منه
وقال للرجل: عد إلينا لتأخذ سلتك، قال: قم أقبل علينا رجل عليه ثياب رثة، وقال
165

أعطوني مما رزقكم الله فقال لي الحسين ادفع إليه السلة، وقال له: خذ ما فيها ورد الاناء
ثم أقبل علي، وقال: إذا أردت السلة إلى السائل أدفع إليه خمسين دينارا، وإذا جاء صاحب
السلة فأدفع إليه مئة دينار فقلت: جعلت فداك أنت بعت عينا لتقضي دينا عليك فسألك
سائل فأعطيته طعاما هو مقتنع له فلم ترض حتى أمرت له بخمسين دينار فقال: يا حسن
إن لنا رب يعرف الحساب إذا جاء السائل فأدفع إليه مئة دينار، وإذا جاء صاحب السلة
فأدفع إليه مئة دينار.
والذي نفسي بيده إني لأخاف أن لا يقبل مني لان الذهب والفضة والتراب عندي
بمنزلة واحدة، وقد قتل الحسين بن علي صابح فخ بفخ، والفخ بئر قريبة من مكة على
فرسخ ولقد نزل رسول الله بفخ وصلى ركعتين وبكى وبكت صحابته، وقال: نزل علي
جبرئيل وقال يا محمد: إن رجلا من ولدك يقتل في هذا المكان واجر الشهيد معه اجر
الشهيدين، ونزل الصادق في رواحه إلى الحج من المحمل بفخ وتوضأ وصلى ثم ركب فقيل
له هذا من الحج قال: لا ولكن يقتل ها هنا رجل من أهل بيتي في عصابة تسبق أرواحهم
أجسادهم الجنة، وأخبر أيضا الإمام موسى بن جعفر بشهادته لما خرج قال له: يا بن العم
إنك مقتول فأجد الضراب فإن القوم فساق يظهرون إيمانا، ويسرون شركا وإنا لله
وإنا إليه راجعون أحتسبكم عند الله من عصبة، ولقد قتل في يوم التروية ثامن من
ذي الحجة ستمائة نفر من السادات وآل أبي طالب ومواليهم، والى هؤلاء أشار دعبل
بقوله: (وأخرى بفخ نالها صلوات) وكان ذلك في خلافة الهادي رابع خلفاء بني العباس.
قال الإمام محمد بن علي الجواد: وما وقعت وقعة بعد وقعة الطف أعظم علينا من
محاربة فخ، ولما قتل الحسين بن علي صاحب فخ سمعت نياح الجن عليه من أول الليل إلى
الصباح على مياه غطفان، والسبب في خروجه إن الهادي ولي على المدينة رجلا من ولد
عمر بن الخطاب اسمه عمر بن العزيز بن عبد الله بن عمر فضيق على السادات والهاشميين
وآل أبي طالب ومواليهم، وكان يؤذيهم بكل ما يستطيع حتى جرى الامر بأن ضرب
الحسن بن محمد بن عبد الله المحض أحد سادات بني الحسن مائتي سوطا لأمر، وضرب
رجلين من خواصه ثم جعل الحبال في أعناقهم، وطيف بهم في المدينة مكشفي الظهور
ليفضحهم وأشاع في الناس بأنه وجدهم على شراب فجاء الحسين بن علي صاحب فخ إلى
العمري وقال له قد ضربتهم ولم يكن لك إن تضربهم فلم تطوف بهم فأمر العمري بهم
166

فردهم وحبسهم، ثم ضمن له الحسين وكفل له فأخرجهم من الحبس فغاب الحسن بن محمد
فبلغ ذلك العمري فغضب وأحضر الحسين بن علي صاحب فخ ويحيى بن عبد الله بن الحسن
فأغلظ لهما وتهددهما وقال لتأتياني به، أو لأحبسنكما فإن له ثلاثة أيام لم يحضر العرض
وكان اللعين يطلب بني هاشم في كل يوم بالعرض عليه ليقف على أحوالهم وشؤونهم قال:
فتضاحك الحسين في وجه العمري وقال: أنت مغضب يا أبا حفص؟ فقال له العمري:
أتهزء بي وتخاطبني بكنيتي فقال له: قد كان أبو بكر وعمر هما خير منك يخاطبان بالكنى
فلا ينكران ذلك وأنت تكره الكنية وتريد المخاطبة بالولاية فقال له آخر: قولك أشر
من أوله فإنما أدخلتك إلي لتفاخرني وتؤذيني ثم حلف العمري إنه لا يخلي سبيله أو يجيئه
بالحسن بن محمد في باقي يومه وليلته، وإنه إن لم يجئ به ليضربن الحسين الف سوط وحلف
إن وقعت عينه على الحسن بن محمد ليقتلنه من ساعته فخرج الحسين من عنده ووجه إلى
الحسن بن محمد، وقال: يا بن عمي قد بلغك ما كان بيني وبين هذا الفاسق فأمض حيث
أحببت فقال الحسن: لا والله يا بن عمي بل أجئ معك الساعة حتى أضع يدي في يده
فقل الحسين: لا والله ما كان الله ليطلع علي وانا جاء، والى محمد صلى الله عليه وآله سلم وهو خصيمي
وحجيجي في أمرك لعل الله إن يقينا شره.
ثم وجه الحسين إلى بني هاشم فاجتمعوا ستة وعشرون رجلا من ولد علي وعشرة
نفر من الحاج ونفر من الموالي فلما أذن المؤذن بالصبح دخلوا المسجد وصعد عبد الله بن
الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال للمؤذن: أذن بحي على خير
العلم، فلما نظر المؤذن إلى السيف في يده اذن بها وسمعه العمري فأحس بالشر ودهش
وركب بغلته وهرب من المدينة، فصلى الحسين بالناس الصبح ودعى بالشهود العدول
الذي كان العمري أشهدهم عليه بأن يأتي الحسن إليه فقال للشهود: هذا الحسن قد جئت به
فهاتوا العمري وإلا والله خرجت من يميني ومما علي.
ثم خطب الحسين بعد صلاته فحمد الله وأثنى عليه وقال: أنا ابن رسول الله على
منبر رسول الله، وفي حرم رسول الله أدعو إلى سنة رسول الله، أيها الناس: أتطالبون
آثار رسول الله في الحجر والعود؟ تمسحون بذلك وتضيعون بضعة منه، فأتاه الناس
وبايعوه على كتاب الله تعالى وسنة نبيه، والرضا من آل محمد فبلغ ذلك حماد البربري
وكان على مسلحة السلطان بالمدينة في السلاح، ومعه مائتين من الجند وجاء العمري ومعه
167

أناس كثيرون حتى وافوا باب المجلس فأراد حماد أن ينزل فبدره يحيى بن عبد الله بن الحسن
وفي يده السيف، فضربه على جبينه وعليه البيضة والقلنسوة فقطع ذلك كله وأطار مخ
رأسه، وسقط عن دابته وحمل على أصحابه فتفرقوا وانهزموا، وأقام الحسين بن علي
وأصحابه يتجهزون بالمدينة أحد عشر يوما وفرق ما كان في بيت المال وهي سبعون ألفا
على الناس، وكان يقول لهم: أبايعكم على كتاب الله وسنة نبيه وعلى أن يطاع الله ولا يعصى
وأدعوكم إلى الرضا من آل محمد وعلى أن نعمل بينكم بكتاب الله وسنة نبيه، والعدل في
الرعية والقسمة بالسوية وعلى ان تقيموا معنا وتجاهدوا عدونا فإن نحن وفيناكم وفيتم
لنا، وان نحن لم نف لكم فلا بيعة لنا عليكم ثم خرج الحسين وأصحابه لست بقين من
ذي القعدة إلى مكة وأستخلف على المدينة رجل من خزاعة، وبلغ ذلك إلى الخليفة الهادي
وكان قد حج في تلك السنة رجال من أهل بيت الخليفة، منهم سليمان بن أبي جعفر عم
الهادي ومحمد بن سليمان والعباس بن محمد وموسى وإسماعيل أبناء عيسى الدوانيقي ومبارك
التركي ومبارك هذا قاتل مع الحسين بالمدينة أشد القتال إلى منتصف النهار ثم أنهزم
وقيل إن مباركا أرسل إلى الحسين يقول له: والله لان أسقط من السماء فتخطفني الطير
أيسر علي من أن أشوكك بشوكة أو أقطع من رأسك شعرة فبيتني فإني منهزم عنك فوجه
إليه الحسين قوما فلما دنوا صاحوا وكبروا فانهزم التركي هو وأصحابه.
ثم أمر الخليفة فرجع وعاد في جيشه والتحق بهؤلاء وهم قد ساروا بجماعة وسلاحهم
من البصرة لخوف الطريق، فكتب الهادي إليهم بتولية الحرب، فلما قرب الحسين
وأصحابه من مكة وصاروا (بفخ وبلدح) تلقياهم الجيش من المسودة - يعني بني العباس -
فالتقوا يوم التروية وقت صلاة الصبح. فعرض العباس بن محمد علي الحسين الأمان
والعفو والصلة فأبى ذلك أشد الاباء.
قال الراوي: لما ان لقي الحسين المسودة أقعد رجلا على جمله، معه سيف يلوح
والحسين بن علي يملي عليه حرفا حرفا يقول ناد فنادى يا معشر المسودة هذا الحسين بن
رسول الله، وابن عمه يدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله فأمر موسى بن عيسى تبعية
العسكر فصار محمد بن سليمان في الميمنة وموسى في الميسرة وسليمان بن أبي جعفر والعباس
ابن محمد في القلب، وكان أول من بدأهم موسى فحملوا عليه فاستطرد لهم شيئا حتى
انحدروا في الوادي، وحمل عليهم محمد بن سليمان من خلفهم فطحنهم طحنة واحدة حتى
168

قتل أكثر أصحاب الحسين، وبقي الحسين في عدد يسير وجعل يقاتل أشد القتال حتى
أثخن بالجراح.
قال الراوي: رأيت الحسين بن علي صاحب فخ وقد دفن شيئا ظننت إنه شئ له
قدر فلما كان من أمره ما كان نظرنا فإذا هو قطعة من جانب وجهه قد قطع وفنه.
أقول هذا الحسين قد دفن قطعة من وجهه والحسين (ع) دفن يوم عاشوراء قطعة
من كبده وهو عبد الله الرضيع إلخ ثم عاد عليهم وكان حماد التركي ممن حضر الواقعة فقال
للقوم أروني حسينا فأروه إياه فرماه بسهم فقتله فوهب له محمد بن سليمان مئة ألف درهم
ومئة ثوب.
قال أبو القرن الجمال: إن موسى بن عيسى داني وقال لي: أحضر جمالك فجئته بمئة
جمل ذكر فختم أعناقها وقال: لا أفقد منها وبرة وإلا ضربت عنقك، ثم تهيأ للسير إلى
الحسين صاحب فخ فسار حتى أتينا بستان بني عامر فنظر فقال لي: أذهب إلى عسكر
الحسين حتى تراه، وتخبرني بكل ما رأيت فمضيت فدرت فما رأيت خللا ولا فللا، ولا
رأيت إلا مصليا أو مبتهلا أو ناظرا في مصحف أو معد للسلاح قال فجئته فقلت: ما أظن
القوم إلا منصورين فقال: وكيف ذلك يا بن الفاعلة؟ فأخبرته فضرب يدا على يد وبكى
حتى ظننته إنه سينصرف، وقال هم والله أكرم خلق الله وأحق بما في أيدينا منا، ولكن
الملك عقيم، لو أن صاحب القبر - يعني النبي (ص) - نازعنا الملك لضربنا خيشومه بالسيف
يا غلام أضرب بطبلك. ثم سار إليهم فوالله ما انثنى عن قتلهم.
فلما قتلوهم قطعوا رؤسهم وجاء الجند بالرؤس إلى موسى والعباس وسليمان وبينهم
رأس الحسين وبجبهته ضربة طولا وعلى قفاه ضربة أخرى، وكانوا قد نادوا بالأمان
فجاء الحسن بن محمد بن عبد الله بن أبي الوقت فوقف خلف محمد بن سليمان والعباس بن
محمد فأخذه موسى بن عيسى وعبد الله بن العباس بن محمد فقتلاه فغضب سليمان غضبا شديدا.
فلما أحضروا الرؤس إلى هؤلاء وكانت مئة رأس ونيفا وعندهم جماعة من ولد
الحسن والحسين منهم موسى بن جعفر، فلما نظر موسى بن جعفر إلى رأس الحسين بكى
فقيل له هذا رأس الحسين قال نعم إنا لله وإنا إليه راجعون مضى والله مسلما صالحا
صواما أمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ما كان في أهل بيته مثله، ولما بلغ العمري وهو
بالمدينة قتل الحسين بن علي عمد إلى داره، ودور أهله فأحرقها وقبض أموالهم ونخيلهم
169

وجعلها في الصوافي المقبوضة، وأحرق العمري دار الحسين ودور بني هاشم ولعمري
أقتدى بمن وقف على باب دار علي وفاطمة وأضرم النار في الباب وأراد أن يحرق عليا
وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم بالنار الخ. ثم حمل الرؤس والأسارى إلى
الهادي أمر بقتل بعضهم وغضب على موسى بن عيسى كيف قتل الحسين بن محمد وقبض
أمواله ولم تزل بيده حتى مات، ولما وضع رأس الحسين بن علي بين يدي الهادي غضب
على الذين جاءوا برأس الحسين وقال: كأنكم قد جئتم برأس طاغوت من الطواغيت إن
أقل ما أجزيكم به أحرمكم عن جوائزكم ولم يعط لاحد شيئا فرجعوا خائبين خاسرين، كما
إن زجر بن قيس (لع) لما جاء برأس الحسين (ع) إلى يزيد بن معاوية ويرجوا نائلة فلم يعطه
شيئا فليراجع محله، وقيل في رثاء الحسين بن علي صاحب فخ:
ألا يا عين أبكي بدمع منك منهتن * فقد رأيت الذي لاقى بنو حسن
صرعى بفخ تجر الريح فوقهم * أذيالها وغوادي دلج المزن
حتى عفت أعظم لو كان شاهدها * محمد ذب عنها ثم لم تهن
ماذا تقولون والماضون قبلهم * على العداوة والبغضاء والإحن
لا الناس من مضر حاموا * ولا ربيعة والاحياء من يمن
ماذا يقولون إذ قال النبي لهم * ماذا صنعتم بنا في سالف الزمن
يا ويحهم كيف لم يرعوا له حرما * ماذا صنعتم بنا في سالف الزمن
قيل: كان المنصور (لع) أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس وآل أبي طالب
وكان قبل ذلك أمرهم واحد، وكان اللعين يبغضهم ويعاندهم كثيرا، ولقد قتل من ذرية
فاطمة ألفا ويزيدون، وبني على ستين علويا في ليلة واحدة فظفر ذات يوم بغلام من آل
أبي طالب ومن ذرية العلوية الفاطمية الهاشمية، وكان حسن الوجه عليه شعر أسود وفي
وجهه خال من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) فسلمه إلى البناء الذي كان يبني له
وأمره أن يجعله ويبني عليه فدخلته رقة عليه ورحمة له فترك في الأسطوانة فرجة يدخل
منها الريح والنسيم، وقال للغلام: لا بأس عليك فإني سأمضي وأعود وأخرجك من
جوف هذه الأسطوانة إذا جن الليل، فلما جن الليل جاء البناء في ظلمته، وأخرج ذلك
العلوي من جوف تلك الأسطوانة وقال: أتق الله في دمي ودم الفعلة الذين هم معي وغيب
170

نفسك فأني إنما خرجتك في ظلمة هذه الليلة من جوف هذه الأسطوانة لأني خفت إن
تركتك في جوفها أن يكون جدك رسول الله يوم القيامة خصمي بين يدي الله عز وجل
ثم أخذ شعره بآلة الجصاصين وقال له غيب شخصك وانج بنفسك ولا ترجع إلى أمك قال
الغلام: فإن كان هذا فعرف أمي إني قد نجوت وهربت لتطيب نفسها ويقل جزعها
وبكائها وإن لم أكن أعود إليها، فهرب الغلام ولا يدري أين يقصد من أرض الله ولا
أي بلد يقع، قال ذلك البناء وقد كان الغلام عرفني مكان أمه وأعطاني العلامة فانتهيت
إليها في الموضع الذي كان دلني عليه فسمعت دويا كدوي النحل من البكاء فعلمت إنها أمه
فدنوت منها وعرفتها خبر ابنها وأعطيتها شعره فلما بصرت بالشعر صرخت ووقعت
مغشيا عليها. هذا البناء خاف أن يكون رسول الله خصمه وما خاف اللعين الحارث أن
يكون رسول الله خصمه يوم القيامة لما ظفر اللعين بابني مسلم بن عقيل الخ.
المجلس الخامس والخمسون
في بعض الكتب لما أشتد غضب الرشيد جعل يقطع الأيدي من أولاد فاطمة
ويسمل في الأعين وبنى في الأسطوانات حتى شردهم في البلدان ومن جملتهم القاسم ابن الإمام
موسى بن جعفر أخذ جانب الشرق لعلمه إن هناك جده أمير المؤمنين جعل يتمشى على
شاطئ الفرات وإذا هو ببنتين تلعبان في التراب، أحديهما تقول للأخرى لا وحق
الأمير صاحب بيعة يوم الغدير ما كان الامر كذا وكذا، وتعتذر من الأخرى فلما رأى
عذوبة منطقها قال لها من: تعنين بهذا الكلام قالت: أعني الضارب بالسيفين والطاعن
بالرمحين أبا الحسن والحسين علي بن أبي طالب (ع) قال لها: يا بنية هل لك أن ترشديني
إلى رئيس هذا الحي؟ قالت: نعم إن أبي كبيرهم فمشت ومشي القاسم خلفها حتى أتت إلى
بيتهم، فبقي القاسم ثلاثة أيام بعز واحترام، فلما كان اليوم الرابع دنى القاسم من الشيخ
وقال له: يا شيخ أنا سمعت ممن سمع من رسول الله أن الضيف ثلاثة وما زاد على ذلك
يأكل صدقة وأني أكره أن آكل الصدقة وأني أريد أن تختار لي عملا أشتغل فيه لئلا
يكون ما آكله صدقة فقال الشيخ: أختر لك عملا فقال له القاسم: اجعلني أسقي الماء في
171

مجلسك فبقي القاسم على هذا إلى إن كانت ذات ليلد خرج الشيخ في نصف الليل في قضاء
حاجة له فرأى القاسم صافا قدميه ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد فعظم في نفسه وجعل
الله محبة القاسم في قلب الشيخ فلما أصبح الصباح جمع عشيرته وقال لهم: أريد أن أزوج
ابنتي من هذا العبد الصالح فما تقولون؟ قالوا نعم ما رأيت فزوجه من أبنته فبقي القاسم
عندهم مدة من الزمان حتى رزقه الله منها ابنة وصار لها من العمر ثلاث سنين ومرض
القاسم مرضا شديدا حتى دنى أجله وتصرمت أيامه جلس الشيخ عند رأسه يسأله عن نسبه
وقال: ولدي لعلك هاشمي قال له: نعم أنا بن الإمام موسى بن جعفر (ع) جعل الشيخ
يلطم على رأسه وهو يقول: وا حيائي من أبيك موسى بن جعفر قال له: لا بأس عليك
يا عم إنك أكرمتني وإنك معنا في الجنة يا عم فإذا أنا مت فغسلني وحنطني وكفني
وأفني، وإذا صار وقت الموسم حج أنت وابنتك وابنتي هذه فإذا فرغت من مناسك
الحج أجعل طريقك على المدينة فإذا أتيت المدينة أنزل ابنتي على بابها فستدرج وتمشي
فامش أنت وزوجتي خلفها حتى تقف على باب دار عالية فتلك الدار دارنا فتدخل البيت
وليس فيها إلا نساء وكلهن أرامل. ثم قضى نحبه فغسله وحنطه وكفنه ودفنه، فلما صار
وقت الحج حج هو وأبنته وابنة القاسم فلما قضوا مناسكهم جعلوا طريقهم على المدينة فلما
وصلوا إلى المدينة أنزلوا البنت عند بابها على الأرض فجعلت تدرج والشيخ يمشي خلفها
إلى أن وصلت إلى باب الدار فدخلت فبقي الشيخ وأبنته واقفين خلف الباب وخرجن
النساء إليها واجتمعن حولها وقلن من تكونين؟ وابنة من؟ فلما قلن لها النساء: ابنة
من تكونين؟ فلم تجبهم إلا بالبكاء والنحيب فعند ذلك خرجت أم القاسم فلما نظرت إلى
شمائلها جعلت تبكي وتنادي وا ولداه وا قاسماه والله هذه يتيمة ولدي القاسم فقلن لها من
أين تعرفينها إنها ابنة القاسم قالت: نظرت إلى شمائلها لأنها تشبه شمائل ولدي القاسم ثم
أخبرتهم البنت بوقوف جدها وأمها على الباب وقيل: إنها مرضت لما علمت بموت ولدها
فلم تمكث إلا ثلاثة أيام حتى ماتت تسمع بموت ولدها تمرض وتقضي نحبها فما حال ليلى
لما نظرت إلى ولدها وهو مشقوق الرأس الخ.
أقول: إن قبر القاسم بن الكاظم (ع) مشهور على ستة فراسخ من الحلة وتستحب
زيارته وسمعت من بعض العلماء خبرا عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) إنه قال: من
لم يتمكن من أن يزورني فليزر قبر أخي القاسم بأرض الحلة، ولكني ما عثرت بهذا الخبر
172

ويقربه على فرسخين قبر حمزة أبو يعلى من أولاد العباس بن علي (ع) ثقة جليل القدر
نبيل الشأن، والكرامات المشاهدة من قبره أكثر من أن تحصى وأوفر من أن تستقصى
وان هذا الشبل من ذاك الأسد وهذه الثمرة من تلك الشجرة، وقبره الشريف مشهور على
خمسة فراسخ من الحلة وتطلب منه الحوائج.
وكان السيد الجليل السيد مهدي القزويني صاحب الكرامات والتصانيف الكثيرة
بالحلة لا يزور قبر الحمزة لأنه كان يعرف بحمزة بن الإمام موسى بن جعفر (ع) والسيد
يعلم إن حمزة بن الإمام (ع) دفن بري قبره قريبا من قبر الشاه عبد العظيم، ومن ذلك
كان لا يزوره، وكان السيد يتوفق في بعض الأوقات للتشرف بحضور الحجة عجل الله تعالى
فرجه فقال له الإمام (ع): ذات يوم لم لا تزور قبر الحمزة رب شهرة لا أصل لها ليس
هذا حمزة بن الإمام موسى بن جعفر (ع) بل هو بو يعلى الحمزة بن الحسين بن حمزة
ابن علي بن القاسم بن عبد الله بن العباس بن أمير المؤمنين (ع) أحد العلماء، وأهل
الإجازة. ثم أعلم إن للعباس بن علي ابنين فضل وعبيد الله وعقبة من عبيد الله وأولاد
العباس وأحفاده كلهم كانوا ذا شأن عظيم ومقام كريم من الجلالة والعظمة، والعلم والحلم
والزهد والسخاوة، والشجاعة والخطابة والشعر والسجاحة والناس يستفيدون من
علومهم وكمالاتهم، وعطاياهم ثم أقول: إن المرحوم السيد سيد مهدي القزويني نور الله
ضريحه ذكر قبورا كثيرة من قبور الأنبياء والصحابة والعلماء وأولاد الأئمة عليهم السلام
واستحباب زيارتهم في كتابه المسمى بفلك النجاة وانا اقتصر بذكر بعض أولاد الأئمة (ع)
المدفونين في العراق الغير المعهودة زيارتهم عند العموم بل مطلقا حتى كاد أن تخفى قبورهم
وتعفى آثارهم، ومن أراد الاستقصاء فليراجع هناك وغيره من الكتب المعتبرة فمنهم
عونا ومعينا أولاد علي (ع) مما يلي الكرخ من بغداد مما يقرب من البلدة الشريفة
الكاظمية وقد أصيبوا جريحا في النهروان، ومنهم القاسم بن الحسن السبط (ع) وهو
القاسم الأكبر غير شهيد الطف المدفون في العتيكيات المسمى الان بالمسيب القريب من
الفرات، وقد أصيب جريحا في النهروان وهو الان مشهور يقال له أبو جاسم، وتظهر
منه كرامات عديدة ومنهم عمران بن علي (ع) في بابل، وقد أصيب جريحا في النهروان
ومنهم القاسم بن العباس بن الكاظم (ع) المدفون في شوشى من قرى الكوفة مما يقرب
من ذي الكفل، ومنهم السيد أحمد بن موسى بن جعفر (ع) الملقب بالحارث، وقبره
173

مشهور في المزيدية من نواحي شرقي الحلة، ومنهم زيد بن علي بن الحسين (ع) في موضع
صلبه، وحرقه من كناسة الكوفة على تلعة مما يقرب من ذي الكفل وهو مشهور ومنهم
إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى في حيرة الكوفة مما يلي يمين طريق النجف بين الخندق
والمسجد الأعظم آه أخي على عترة الهادي فشتتهم الخ.
المجلس السادس والخمسون
وينبغي لكل من يتقرب إلى الله تعالى بحب خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله
عليه وآله وعترته الطيبة الطاهرة سلام الله عليهم أجمعين أن لا يترك زيارتهم وحضور
مشاهدهم الشريفة والتوسل والاستشفاع بهم في مهماته والجد والاجتهاد في تعظيمهم
إذ هو تعظيم لشعائر الله وتعمير قبورهم حتى لا تندرس ولا تعفى ولا يمد الأعداء أيديهم
الجائرة إلى محو آثارهم آه آه آه الأسف كل الأسف على قبور أئمتنا وسادتنا في البقيع
وغير البقيع قد مضى عليها سنين وهي مهدومة كاد أن تخفى علائمها، وتمحى آثارها
فأسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الاسلام في هذا العصر الميشوم من هذه الطائفة الوهابية
وأنظر إلى ما صدر منهم في الطائف ومكة المشرفة، والمدينة المعظمة أما في الطائف لقد
تواترت الاخبار حتى إن الملك السعود ووزيره أقروا واعترفوا بأن النجديين قد
أعطوا أهل الطائف الأمان ثم نهبوا البلدة وقتلوهم بالرصاص، وشنعوا غاية الشناعة فكم
قتلوا من السادات والعلماء وكم سفكوا من دماء الرجال والنساء والصبيان والأطفال وكم
حزوا من أعناقهم من أعناق كريمة قطعت بالسيوف وكم من نفوس عزيزة شربت
الحتوف فكم هتكوا من حرمة وارتكبوا من الفحش مع بعض نساء أهل الطائف وجعلوهن
عراة، وكم عذبوا أناسا لاخراج الكنوز والذخائر إلى أن حبسوهم ثلاثة أيام في بستان
علي باشا بلا طعام ثم أعطوا لهؤلاء البؤساء كل مئة نفس كيس دقيق، وكم مثلوا بالقتلى
وأرسلوا الباقين إلى مكة حفاة عراة وأمراء الطائف اليوم في مكة فقراء والمخدرات اللواتي
لم تكن ترى وجوههن يشتغلن في حوائج البيوت من الطبخ والغسل وسائر الخدمات بحالة
174

تفتت الأكباد وجعلوا أعزة أهلها أذلة وأوقعوا أكرامها في ذلة، وهدموا في الطائف
قبة ترجمان القرآن الكريم إمام المفسرين عبد الله بن العباس عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكفروا
المسلمين، وجعلوا أموالهم غنيمة هذا كله والملك ابن السعود يظهر البراءة من هذه الفظائع
ويتمثل بقصة خالد بن الوليد مع إنه أخذ خمس الغنائم ومنهوبات المسلمين.
فالقياس الصحيح بالقصة يقتضي أن يصنع الملك بالمسلمين الذين عليهم
جنوده وقواده مثل ما صنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أدائه رسوم الجنايات، والتعويض لهم بما
أخذ منهم، فإن لكل مؤمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما
سمع بما صنع خالد تبرأ جهارا، ورفع يديه نحو السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك من
صنع خالد قالها ثلاث مرات ثم أرسل عليا (ع) لتدارك ما أتلفه خالد على الرهط، وجنى
عليهم ثم إنهم لما بلغوا مكة المشرفة هدموا المساجد المعظمة كمسجد الجن، ومسجد الكوثر
ومسجد أبي قبيس، ومسجد جبل النور، ومسجد الكبش، والقباب المتبركة
كقبة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبي طالب، وقبة جده عبد المطلب، وقبة زوجته خديجة الطاهرة
أم المؤمنين، وأمه آمنة بنت وهب، ولو أغمضنا النظر عما لهم من الفضائل لكفى في
حرمة إهانتهم كونهم من قريش. فقد روى الإمام أحمد بن حنبل الذي تدعي الوهابية
إنهم على مذهبه في كتابه المسند قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أهان قريشا أهانه الله وهم
عند الهدم يرتجزون ويضربون الطبل، ويغنون بالقوافي، ويستهزؤن بالقبور التي
هدموها، وهدموا قبة مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: هذا الموضع الذي ولدت في تلك المرأة
ذلك المولود يريدون آمنة (ره) والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: عندما هدموا قبر خديجة طالما
عبدت الناس نفسك فالآن قومي وامنعينا، وبعد تخريبها أساؤا إليها وأطلقوا
الرصاص على قبرها، وينادي بعضهم هاك يا خديجة وقال ابن السعود لأهل مكة: أطلعوا
للقبب واهدموها، وأطرحوا الأصنام وارموها حتى لا يكون لكم معبود غير الله
وأهدموا مولد سيدتنا فاطمة عليها السلام فتلك أفعال قد ظهرت منهم في حرم الله أقلقت
المسلمين وأجزعتهم فلم يلبثوا حتى دخلوا مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحرم النبي، وبلغت
المسلمين من أيديهم حادثة أخرى أنستهم الحوادث الأولى وهي هدم القباب والمشاهد التي
كانت في البقيع لائمتنا الهداة البررة عليهم السلام وساداتنا العترة الطاهرة الذين (أذهب
الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) وأن ذلك منهم انكار لمودة ذي القربى التي هي من
175

الضروريات الثابتة بالكتاب والسنة لقوله تعالى: (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة
في القربى) فأقدمت جماعة من الاعراب على تخريب قبور أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أقدمت السابقة منهم على قتلهم عليهم السلام فتركوا جميعا وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أهل بيته
وراء ظهورهم. هذا مع إن في الهدم بعد البناء من هتك احترام الميت ما لا يخفى كيف
والحال اتفقت المذاهب على إن المشي على قبر مؤمن والاتكاء والجلوس عليه هتك لحرمته
وأذية لصاحبه وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا متكئا على قبر فقال (ص): لا تؤذ صاحب
القبر فما بالهم يضربون على القبور المعاول فأي إيذاء أشد من هذا على صاحب القبر
والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا ثم
كم أطلقت الرصاصات على قبر النبي (ص) وكم من ضربات الرصاص على قبة النبي (ص) ثم
منعوا الناس عن قول يا رسول الله، ويضربونهم وجعلوا ينادون غيرهم بلفظ يا مشرك
ويا كافر ويرمون من قال: يا محمد ويا رسول الله بالكفر والشرك، ومنعوا الناس من
الترحيم والتسليم على رسول الله (ص) في أوقاتها ومنعوا عن مسح قبر النبي (ص) للتبرك
والالتصاق به والتوجه إليه حال الدعاء ومن المقامات الشريفة التي هدموها بالمدينة مسجد
سيدنا حمزة (ع) ومرقده، ومن البقاع المقدسة قبر سيدتنا فاطمة عليها السلام وقد صرح
غير واحد من علماء أهل السنة بكون قبرها عليها السلام بالبقيع.
المجلس السابع والخمسون
ملك ملوك الخافقين تحوطه * زمرا كأملاك السماء جنودا
قد طبق الدنيا سوابغ أنعم * كانت لأثقال الندى إقليدا
وأباد آساد العرين ببأسه * وبعزمه أقتاد الملوك الصيدا
تزهو بنظرته البلاد نظارة * ويعود فيه الدهر أنظر عودا
تعنو له الرسل وتنشر * الموتى الرمام معاندا وودودا
في كتاب روضة الواعظين لأبي علي أحمد بن علي الفتال النيسابوري قدس سره عن
الصادق (ع) يملك القائم سبع سنين تطول له الأيام والليالي حتى تكون السنة من سنينه
176

مقدار عشر سنين من سنينكم، فتكون سنو ملكه سبعين سنة من سنيكم هذه، فقيل له:
يا بن رسول الله فكيف تطول السنون قال يأمر الله الفلك باللبوث وقلة الحركة فتطول
الأيام لذلك قيل له يا بن رسول الله يقولون إن الفلك أن تغير فسد قال ذلك قول الزنادقة
فإما المسلمون فلا سبيل لهم إلى ذلك وقد شق الله القمر لنبيه (ص) ورد الشمس من قبله
ليوشع بن نون وأخبر بطول يوم القيامة وقال كالف سنة مما تعدون وهذا يؤيد ما قاله
الدربندي (ره) من إن يوم عاشوراء طال حتى بلغ سبعين ساعة الخ.
وإذا آن قيامه مطر الناس في جمادى الآخرة وعشرة أيام من رجب مطرا لم ير
الخلائق مثله فأنبت الله به لحوم الأموات من المؤمنين وأبدانهم من قبورهم، وكأني أنظر
إليهم من قبل جهينة ينفضون شعورهم من التراب، ثم يختم ذلك بأربع وعشرين مطرة
يتل فتحيى به الأرض من بعد موتها، ويعرف بركاتها ويزول بعد ذلك كل عاهة عن
معتقدي الحق من شيعة المهدي، فيعرفون عند ذلك ظهوره بمكة فيتوجهون نحوه لنصرته
تطوى لهم الأرض، وذلك قوله عز وجل: (أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا) قال (ع):
إنها نزلت في المفتقدين من أصحاب الحجة ليلا فيصبحون بمكة، وبعضهم يسير في السحاب
نهارا فقيل له: وأيهم أفضل وأعظم إيمانا؟ قال (ع) الذي يسير في السحاب نهارا
وكأني به قائما بين الركن والمقام ويسند ظهره إلى الحرم ويمد يده فترى بيضاء من غير
سوء فيقول: هذه يد الله وأمر الله وعين الله فيكون أول من يقبل يده جبرئيل ويبايعه
ثم يضع رجلا على بيت الحرام ورجلا على بيت المقدس وينادي بصوت طلق ذلق تسمعه
عربي يسمعه من في المساواة والأرضين يا معشر الخلائق هذا مهدي آل محمد (ص)
ويسميه بأسم جده رسول الله ويكنيه وينسبه إلى أبيه الحسن العسكري (ع) بايعوه
ولا تخالفوا أمره فتبايعه الملائكة أولا ثم نجباء الجن ثم النقاء يقول المرحوم
السيد صالح القزويني قدس سره.
أعظم به ملكا أعدت في السماء * لقيامه زمر الملائكة عيدا
يدعو به الروح الأمين فيسمع * الصم الدعاء ويصدع الجلودا
ظهر الإمام الحق والعلم الذي * لعلاه خر العالمون سجودا
والأرض يملؤها رشادا بعد ما * ملئت فسادا أجرعا ومهودا
177

وأعد أنصارا ليوم ظهوره * أنصار بدر عدة وعديدا
ثم ينشر رايته عمودا من عمد عرش الله وسائرها من نصر الله جل جلاله لا يهوى
بها إلى أحد إلا أهلكه الله عز وجل يأتيه بها جبرئيل فإذا نشرها انحط عليه ستة عشر
الف ملك وثلاثماءة وثلاثة عشر ملكا كلهم ينتظرون القائم أربعة آلاف منهم كانوا مع
نوح في السفينة، وأربعة آلاف مع إبراهيم حين القي في النار، وأربعة آلاف كانوا مع
عيسى حين رفع إلى السماء، وثلاثماءة وثلاثة عشر في يوم بدر مع رسول الله وأربعة
آلاف الذين هبطوا يريدون القتال مع الحسين (ع) فوجدوه قد قتل فهم عند قبره شعث
غبر يبكون عند قبره، وينتظرون الحجة ويكونون من أنصاره وشعارهم: يا لثارات
الحسين قال الصادق (ع): ما يخرج القائم إلا في أولي قوة، وما يكون أولوا القوة أقل
من عشرة آلاف وإذا خرج من مكة ينادي مناديه ألا لا يحملن أحد طعاما ولا شرابا
وحمل معه حجر موسى بن عمران وهو وقر بعير فلا ينزل منزلا إلا انفجرت منه عيون، فمن
كان جائعا شبع، ومن كان ظمآنا روى، ورويت دوابهم حتى ينزلوا بالكوفة فيخرج
منها بضعة عشر الف يدعون التبرئة منه، ويقولون: ارجع من حيث جئت فلا حاجة لنا
في بني فاطمة. فيضع فيهم السيف حتى يأتي على آخرهم فيقتل كل منافق مرتاب، ويقتل
مقاتليه ثم ينزل النجف.
قال الصادق (ع): كأني أنظر القائم على ظهر النجف ركب فرسا أدهم أبلق بين
عينيه شمراخ ويبني في ظهر الكوفة مسجدا له الف باب، ويتصل بيوت الكوفة بنهر
كربلاء وبالحيرة حتى يخرج الرجل يوم الجمعة على بغلة صفراء يريد الجمعة فلا يدركها ويأمر من
يحفر من ظهر مشهد الحسين نهرا يجري إلى الغري حتى ينزل الماء في النجف ويعمل عليها
القناطر والارحاء فكأني بالعجوز على رأسها مكتل فيه بر تأتي تلك الارحاء فتطحنه
بلا كرى، ويفرق جنوده وعماله في البلاد فلا يبقى أهل بلدة إلا وهم يظنون إنه معهم في
بلادهم، ويضع يده على رؤس العباد فجمع بها عقولهم، وكلت بها أحلامهم ولم يقم
أحد بين يديه إلا عرفه صالح هو أم طالح.
وفيه آية المتوسمين وهي السبيل المستقيم وإن الله ينزع الخوف من قلوب شيعته
ويسكنه قلوب أعدائه، فواحدهم أمضى من سنان، وأجرى من ليث يطعن عدوه برمحه
ويضربه بسيفه ويدوسه بقدمه، وحد الله للشيعة في أسماعهم وأبصارهم حتى يكون بينهم
178

وبين القائم بريد كلمهم، ويسمعون، وينظرون إليه وهو في مكانه، وارتفع الجور في
أيامه، وآمنت به السبل حتى تمشي المرأة ما بين العراق والشام لا تضع قدميها إلا على الثبات
وعلى رأسها زينتها لا يهيجها سبع ولا تخافه، وأخرجت الأرض بركانها ورد كل حق
إلى أهله ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الاسلام واعترفوا بالايمان (وله أسلم من في السماوات
والأرض طوعا وكرها) يعني لا يحتاج إلى بينة يلهمه الله فيحكم بعلمه، ويقتل الشيخ الزاني
ويقاتل مانع الزكاة، ويورث الأخ أخاه في الأظلة، وحكم في الناس بحكم داود، ولم يبق على وجه الأرض مسجد له شرف إلا هدمها، ووسع الطريق الأعظم، وكسر كل جناح خارج في
الطريق، وأبطل الكنف والميازيب إلى الطرقات، ولا يترك بدعة إلا أزالها، ولا سنة
إلا أقامها، ويفتح القسطنطينية والصين وجبال الديلم، وأشرقت الأرض بنوره فأستغني
العباد عن ضوء الشمس فذهبت الظلمة، ويعمر الرجل في ملكه حتى يولد له الف ذكر
لا يولد فيهم أنثى، وتظهر الأرض كنوزها حتى يراه الناس على وجهها، ويطلب الرجل
منكم من يصله بماله ويأخذ زكاته لا يجد أحدا يقبل منه ذلك استغناء من الناس بما رزقهم
الله من فضله، وجاء إبليس حتى يجثو على ركبتيه ويقول: يا ويلاه من هذا اليوم فيؤخذ
بناصيته، ويضرب عنقه فذلك يوم الوقت المعلوم قال الباقر (ع): يصلي القائم (ع) بين
الركن والمقام فينصرف ومعه وزيره فيقول: يا أيها الناس إنا نستنصر الله على من ظلمنا
وسلب حقنا من يحاجنا في الله فإنا أولى بالله، ومن يحاجنا في آدم فإنا أولى الناس بآدم
إلى أن يقول: أيها الناس إنا قد ظلمنا وطردنا، وبغي علينا وأخرجنا من ديارنا
وأموالنا، وأهالينا، وقهرنا إنا نستنصر الله اليوم كل مسلم.
المجلس الثامن والخمسون
روى الصدوق في الأمالي عن علي بن الحسين قال: خرج رسول الله (ص) وصلى
الفجر ثم قال: معاشر الناس أيكم ينهض إلى ثلاثة نفر قد آلو باللات ليقتلوني وقد
كذبوا ورب الكعبة؟ قال: فأحجم الناس وما تكلم أحد فقال: ما أحسب علي بن
أبي طالب فيكم فقام إليه عامر بن قتادة فقال: إنه وعك هذه الليلة ولم يخرج يصلي
179

معك أفتأذن لي أن أخبره؟ فقال النبي (ص): شأنك إليه فأخبره فخرج
أمير المؤمنين (ع) كأنه نشط من عقال وعليه أزال وقد عقد طرفيه وعلى رقبته فقال:
يا رسول الله ما هذا الخبر؟ قال: هذا رسول ربي يخبرني عن ثلاثة نفر قد نهضوا إلى
قتلي، وقد كذبوا ورب الكعبة فقال علي (ع): يا رسول الله إنا لهم سرية وحدي
هو ذا ألبس على ثيابي. فقال رسول الله (ص) بل هذه ثيابي، وهذا درعي وهذا
سيفي فدرعه وعممه وقلده وأركبه فرسه، وخرج أمير المؤمنين (ع) فمكث ثلاثة أيام
لا يأتيه جبرئيل بخبره ولا خبر من الأرض، وأقبلت فاطمة عليها السلام بالحسن
والحسين عليهما السلام على وركيها تقول: أوشك أن يؤتم هذان الغلامان فأسبل
النبي (ص) عينه يبكي ثم قال: معاشر الناس من يأتيني بخبر علي (ع) أبشره بالجنة
وافترق الناس في الطلب العظيم ما رأوا النبي (ص) وخرج العواتق، فأقبل عامر بن
قتادة يبشر بعلي (ع) وهبط جبرئيل على النبي (ص) وأخبره بما كان فيه، وأقبل علي
أمير المؤمنين (ع) معه أسيرين ورأس وثالثة أبعرة وثلاث أفراس، فقال النبي (ص):
تحب أن أخبرك بما كنت فيه يا أبا الحسن؟ فقال المنافقون هو منذ ساعته قد أخذه
المخاض وهو الساعة يريد أن يحدثه. فقال النبي (ص): بل تحدث أنت يا أبا الحسن
لتكون شهيدا على القوم قال: نعم يا رسول الله لما صرت في الوادي رأيت هؤلاء ركبانا
على الأباعر فنادوني من أنت؟ فقلت: أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله فقالوا:
ما نعرف لله من رسول سواء علينا وقعنا عليك أو على محمد (ص)، وشد على هذا
المقتول، ودارت بيني وبينه ضربات، وهبت ريح حمراء سمعت صوتك فيها يا رسول الله
وأنت تقول: قد قطعت لك جريان درعه فأضرب حبل عاتقه فضربته فلم أخفه ولم أصبه
ثم هبت ريح صفراء سمعت صوتك فيها يا رسول الله وأنت تقول: قد قلبت لك الدرع
عن فخذه فأضرب فخذه فضربته ووكزته وقطعت رأسه ورميت به، وقال لي هذان
الرجلان بلغنا إن محمدا رفيق شفيق رحيم فاحملنا إليه، ولا تجعل علينا وصاحبنا كان يعد
بألف فارس. فقال النبي (ص): يا علي أما الصوت الأول الذي صك مسامعك فصوت
جبرئيل وأما الاخر فصوت ميكائيل قدم إلى أحد الرجلين فقال: قل لا إله إلا الله
وأشهد إني رسول الله فقال: لنقل جبل أبي قبيس أحب إلي من أن أقول هذه الكلمة قال:
يا علي أخرجه وأضرب عنقه، ثم قال: قدم الاخر فقال: قل لا إله إلا الله واشهد اني
180

رسول الله قال: ألحقني بصاحبي قال: يا علي أخرجه وأضرب عنقه فأخرجه وقام
أمير المؤمنين (ع) ليضرب عنقه فهبط جبرئيل على النبي (ص) وقال: يا محمد إن ربك
يقرأك السلام ويقول: لا تقتله فإنه حسن الخلق سخي في قومه، فقال النبي (ص): يا علي
إمسك فإنه هذا رسول ربي عز وجل يخبرني إنه حسن الخلق وسخي في قومه، فقال
المشرك تحت السيف: هذا رسول ربك يخبرك؟ قال: نعم قال والله ما ملكت درهما مع
أخ لي قط ولا قطبت وجهي في الحرب وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله (ص)
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا ممن جره حسن خلقه وسخائه إلى جنات النعيم الحمد لله رب
العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين.
ويظهر من هذا الخبر إن من أتصف بالسخاء وحسن الخلق فهو مكرم عند الله
ولا سيما إذا أنظم إليهما ما سواهما من الأخلاق الحسنة فهناك يكون أكرم الخلق وأعزهم
عليه فيا لله عليكم أفمن كان أكرم للخلق وأعزهم على الله وأجمع الناس لخصال الخير
وأسخى البرية من الإنس والجن، أفهل يجوز أن يقتل ويذبح عطشانا، ويجرد ويسلب
عريانا، ويرض ويداس عدوانا، ويقطع كفيه شيطان؟ إلا لعنة الله على الظالمين.
المجلس التاسع والخمسون
روى الصدوق في الأمالي قال الراوي: وجدت في بعض كتب الله عز وجل إن
ذي القرنين لما فرغ من عمل السد انطلق على وجهه فبينما هو يسير، وجنوده إذ مر على
شيخ يصلي فوقف عليه بجنوده حتى أنصرف من صلاته فقال له ذو القرنين: كيف لم
يرعك ما حضر من جنودي؟ قال: كنت أناجي من هو أكثر جنودا منك، وأعز
سلطانا وأشد قوة، ولو صرفت وجهي إليك لم أدرك حاجتي قبله. فقال له ذو القرنين:
هل لك في أن تنطلق معي فأواسيك بنفسي وأستعين بك على بعض أمري؟ قال: نعم
أن ضمنت لي أربع خصال نعيما لا يزول، وصحة لا سقم فيها، وشبابا لا هرم فيه
وحياة لا موت فيها. فقال له ذو القرنين: وأي مخلوق يقدر على هذه الخصال؟ فقال
الشيخ: فأني مع من يقدر عليها ويملكها وإياك ثم مر برجل عالم فقال لذي القرنين:
181

أخبرني عن شيئين منذ خلقهما الله قائمين، وعن شيئين جاريين وشيئين مختلفين، وشيئين
متباغضين، فقال له ذو القرنين: أما الشيئان القائمان فالسماوات والأرضون، وأما
الشيئان الجاريان فالشمس والقمر، وأما الشيئان المختلفان فالليل والنهار، وأما الشيئان
المتباغضان فالموت والحياة. فقال: أنطلق فأنت عالم فأنطلق ذو القرنين يسير في البلاد
حتى مر بشيخ يقلب جماجم الموتى فوقف عليه بجنوده فقال له: أخبرني أيها الشيخ لأي
شئ تقلب الجماجم؟ قال: لأعرف الشريف من الوضيع، والغني من الفقير، فما عرفت
وإني لأقلبها منذ عشرين سنة فانطلق ذو القرنين وتركه، وقال: ما عنيت بهذا أحدا غيري
فبينما هو يسير إذ وقع على الأمة العالمة من قوم موسى الذين يهدون بالحق وبه يعدلون
فلما رآهم قال لهم: أيها القوم أخبروني بخبركم فإني قدرت الأرض شرقها وغربها، وبرها
وبحرها، وسهلها وجبلها، ونورها وظلمتها، فلم ألق مثلكم، فأخبروني ما بال قبور
موتاكم على أبواب بيوتكم؟ قالوا: فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت، ولا يخرج ذكره من
قلوبنا قال: فما بالكم ليس بينكم حاكم؟ قالوا: لا نختصم قال: فما بالكم ليس فيكم
ملوك قالوا: لا نتكاثر قال: فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون؟ قالوا: من قبل إنا
متواسون متراحمون قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من قبل الفة قلوبنا
وصلاح ذات بيننا قال: فما بالكم لا تستبون، ولا تقتلون؟ قالوا: من قبل إنا غلبنا
طبايعنا بالعزم، وسبينا أنفسنا بالحلم قال: فما بالكم كلمتكم واحدة، وطريقتكم مستقيمة؟
قالوا: من قبل إنا لا نتكاذب ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضا. قال: فأخبروني
لم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا: من قبل إنا نقسم بالسوية. قال فما بالكم ليس فيكم
فظ ولا غليظ؟ قالوا: من قبل الذل والتواضع، قال: فلم جعلكم الله عز وجل أطول
الناس أعمارا؟ قالوا: من قبل إنا نتعاطى الحق، ونحكم بالعدل قال: فما بالكم
لا تقحطون؟ قالوا: من قبل إنا لا نغفل عن الاستغفار قال: فما بالكم لا تحزنون؟
قالوا: من قبل إنا وطنا أنفسنا على البلاء فعزينا أنفسنا. قال: فما بالكم لا تصيبكم
الآفات؟ قالوا: من قبل إنا لا نتوكل على غير الله عز وجل ولا نستمطر بالانواء
والنجوم، قال: فحدثوني أيها القوم هكذا وجدتم آبائكم يفعلون؟ قالوا: وجدنا آبائنا
يرحمون مسكينهم، ويواسون فقيرهم ويعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم
182

ويستغفرون لمسيئهم، ويصلون أرحامهم، ويؤدون أمانتهم، ويصدقون ولا يكذبون
فأصلح الله لهم بذلك أمرهم، فأقام عندهم ذو القرنين حتى قبض، وكان له خمسمائة عام.
وعن الأصبغ بن نباتة قال: قام ابن الكوا إلى علي (ع) وهو على المنبر فقال
يا أمير المؤمنين: أخبرني عن ذي القرنين نبيا كان أم ملكا؟ وأخبرني عن قرنيه من
ذهب كان أم من فضة؟ فقال (ع) له: لم يكن نبيا ولا ملكا، ولم يكن قرناه من ذهب ولا
من فضة ولكنه كان عبدا أحب الله وأحبه الله، ونصح لله فنصحه الله وإنما سمي
ذي القرنين لأنه دعا قومه إلى الله عز وجل فضربوه على قرنه فغاب عنهم حينا ثم عاد إليهم
فضرب على قرنه الاخر، وفيكم مثله يعني به نفسه، ويؤيده ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
يا علي أنت أمتي وأنت هاديها، وأنت صاحب حوضي، وأنت ساقيه، وأنت
يا علي ذو قرنيها يحتمل وجهين: الأول إنه عمر فيهم قرنين: والثاني
إنه ضرب على رأسه الشريف مرتين مرة في الأحزاب يوم الخندق بضربة عمرو بن عبد
ود والأخرى صبيحة ليلة التاسع من شهر رمضان:
والمرتضى أردوه في محرابه * بيمين أشقى العالمين وألعن
المجلس الستون
روى الصدوق (ره) في الأمالي بأسانيد معتبرة قال الراوي: حملت متاعا من
البصرة إلى مصر فقدمتها فبينما أنا في بعض الطريق إذ أنا بشيخ طويل شديد الأدمة أصلع
أبيض الرأس واللحية، عليه طمران: أحدهما أبيض، والاخر أسود فقلت: من هذا؟
قالوا: هذا بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذت أواحي وأتيته فسلمت عليه ثم قلت له:
السلام عليك أيها الشيخ فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته قلت. رحمك الله
حدثني بما سمعت من رسول الله (ص) قال: وما يدريك من أنا؟ فقلت: أنت بلال
مؤذن رسول الله (ص) قال: فبكى وبكيت حتى أجتمع الناس علينا ونحن نبكي قال ثم
قال لي: يا غلام من أي البلاد أنت؟ قلت: من أهل العراق فقال لي: بخ بخ فمكث
ساعة ثم قال: أكتب يا أخا أهل العراق بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله (ص)
183

يقول: المؤذنون أمناء المؤمنين على صلواتهم وصومهم ولحومهم ودمائهم لا يسألون
الله عز وجل شيئا إلا أعطاهم، ولا يشفعون في شئ إلا شفعوا. قلت: زدني رحمك الله
قال: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله (ص) يقول: من أذن أربعين
عاما محتسبا بعثه الله يوم القيامة وله عمل أربعين صديقا عملا مبرورا مقبولا متقبلا
قلت زدني رحمك الله قال: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله (ص)
يقول: من أذن عشرين عاما بعثه الله عز وجل يوم القيامة وله من النور مثل نور سماء
الدنيا والآخرة. قلت زدني رحمك الله قال: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم سمعت
رسول الله (ص) يقول: من أذن عشر سنين أسكنه الله عز وجل مع إبراهيم في قبته
أو في درجته. قلت: زدني رحمك الله قال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم سمعت
رسول الله (ص) يقول: من أذن سنة واحدة بعثه الله عز وجل وقد غفر ذنوبه كلها
بالغة ما بلغت، ولو كانت مثل زنة جبل أحد. قلت زدني رحمك الله قال: نعم فأحفظ
وأعمل وأحتسب سمعت رسول الله (ص) يقول: من أذن في سبيل الله صلاة واحدة
إيمانا واحتسابا وتقربا إلى الله عز وجل غفر الله له ما سلف من ذنوبه ومن عليه
بالعصمة فيما بقي من عمره، وجمع بينه وبين الشهداء في الجنة. قلت: رحمك الله حدثني
بأحسن ما سمعت قال: ويحك يا غلام قطعت أنياط قلبي، وبكى وبكيت حتى إني والله
لرحمته ثم قال: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله (ص) يقول: إذا كان
يوم القيامة وجمع الله الناس في صعيد واحد بعث الله عز وجل إلى المؤذنين بملائكة من
نور معهم ألوية وأعلام من نور يقودون نجائب أزمتها زبرجد اخضر، وحقائبها من
المسك الأذفر، ويركبها المؤذنون فيقومون عليها قياما تقودهم الملائكة ينادون بأعلى
أصواتهم بالاذان. ثم بكا بكاء شديدا حتى انتحبت وبكيت فلما سكت قلت مم بكاؤك؟
قال: ويحك ذكرتني أشياء سمعت حبيبي وصفيي (ص) يقول: والذي بعثني بالحق
نبيا إنهم ليمرون على الخلق قياما على النجائب فيقولون: الله أكبر الله أكبر فإذا
قالوا ذلك سمعت لامتي ضجيجا فسأله أسامة بن زيد عن ذلك الضجيج ما هو؟ قال:
الضجيج التسبيح والتحميد والتهليل فإذا قالوا: أشهد إن لا إله إلا الله قالت أمتي إياه
كنا نعبد في الدنيا. فيقال: صدقتم فإذا قالوا اشهد إن محمدا رسول الله قالت أمتي:
هذا الذي أتى بنا برسالة ربنا جل جلاله آمنا به ولم نره. فيقال لهم: صدقتم هو
184

الذي أدى إليكم الرسالة من ربكم وكنتم به مؤمنين.
فحقيق علي أن يجمع بينكم وبين نبيكم فينتهي بهم إلى منازل لهم، وفيها ملا عين
رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم نظر إلي فقال لي: إن استطعت ولا
قوة إلا بالله أن تموت إلا مؤذنا فأفعل فقلت: رحمك الله تفضل علي وأخبرني فاني فقير
محتاج وأدلي ما سمعت من رسول الله فإنك قد رأيته ولم أره، وصف لي كيف وصف
لك رسول الله (ص) بناء الجنة قال: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله (ص)
يقول: إن سور الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، ولبنة من ياقوت، وملاطها
المسلك الأذفر، وشرفها الياقوت الأحمر، والأخضر، والأصفر. قلت: فما أبوابها؟
قال: أبوابها مختلفة باب الرحمة من ياقوتة حمراء قلت: فما حلقته قال: ويحك كف عني
فقد كلفتني شططا قلت: ما أنا بكاف عنك حتى تؤدي إلي ما سمعت من رسول الله (ص)
في ذلك قال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم أما باب الصبر فباب صغير وله صراع واحد
من ياقوتة حمراء ولا حلق له، وأما باب الشكر فإنه من قوتة بيضاء لها مصراعان مسيرة
ما بينهما خمسمائة عام له ضجيج، وحنين يقول: اللهم جئني بأهلي قلت: هل تتكلم الباب؟
قال: نعم ينطقه ذو الجلالة والاكرام.
وأما باب البلاء قلت أليس باب البلاء هو باب الصبر؟ قال: قلت: فما البلاء؟ قال
المصائب والاسقام والأمراض والجذام، وهو باب من ياقوتة صفراء في مصراع واحد
ما أقل من يدخل منه قلت: رحمك الله زدني وتفضل علي فأني فقير قال: يا غلام لقد
كلفتني والله شططا، أما الباب الأعظم فيدخل منه العباد الصالحون وهم أهل الزهد والورع
والراغبون إلى الله عز وجل المستأنسون به. قلت: رحمك الله فإذا دخلوا الجنة ماذا
يصنعون؟ قال: يسيرون على نهرين في مصاف في سفن من الياقوت مجاذيفها اللؤلؤ، فيها
ملائكة من نور عليهم ثياب خضر شديدة خضرتها قلت: رحمك
الله هل يكون من النور أخضر؟ قال: إن الثياب هي خضر ولكن فيها نور من نور
رب العالمين جل جلاله يسيرون على حافتي ذلك النهر قلت فما أسم هذا النهر؟ قلت: هل في
وسطها غير هذا؟ قال: نعم جنة عدن وهي في وسط الجنان فأما جنة عدن فسورها
من ياقوت أحمر، وحصاؤها اللؤلؤ قلت: فهل فيها غيرها؟ قال: نعم جنة الفردوس قلت
وكيف سورها؟ قال: ويحك كف عني حيرت علي قلبي قلت: بل أنت الفاعل بي ذلك
185

ما أنا بكاف عنك حتى تتم لي الصفة وتخبرني عن سورها، قال: سورها نور فقلت:
والغرف التي هي فيها؟ قال: هي من نور رب العالمين. قلت: زدني رحمك الله قال:
ويحك إلى هذا انتهى إلي نبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوبى لك إن أنت وصلت إلى بعض هذه
الصفة، وطوبى لمن يؤمن بهذا. قلت: يرحمك الله أنا والله من المؤمنين بهذا قال: ويحك
إنه من يؤمن أو يصدق بهذا الحق والمنهاج لم يرغب في الدنيا ولا في زهرتها، وحاسب
نفسه قلت: أنا مؤمن بهذا قال: صدقت ولكن قارب وسدد ولا تيأس وأعمل ولا تفرط
وأرج وأحذر ثم بكى وشهق ثلاث شهقات، فظننا إنه قد مات ثم قال: فداكم أبي وأمي
لو رآكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقرت عينه حين تسألون عن هذه الصفة، ثم قال: النجا النجا، الوحا
الوحا، الرحيل الرحيل، العمل العمل، وإياكم والتفريط ثم قال:
ويحكم اجعلوني في حل مما فرطت فقلت له: أنت في حل مما فرطت جزاك الله الجنة كما أديت
وفعلت الذي يجب عليك، ثم ودعني وقال لي أتق الله وأد إلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما أديت
إليك فقلت: أفعل إن شاء الله قال: استودع الله دينك وأمانتك وزودك التقوى وأعانك
على طاعته بمشيئته وسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بناء الجنة قال (ص) لبنة من ذهب، ولبنة من
فضة، وملاطها المسك الأذفر، وترابها الزعفران، وحصاءها اللؤلؤ والياقوت من
دخلها تنعم، ولا ييأس أبدا ويخلد، ولا يموت أبدا، ويعيش ولا تبلى ثيابه
ولا شبابه أبدا.
روى في جامع الأخبار قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن في الجنة شجرة من أعلاها يخرج حلل ومن
أسفلها خيول بلق ذوات أجنحة مسرجة ملجمة بالدر والياقوت لا تروث ولا تبول
يركب عليها أولياء الله فتطير بهم حيث شاؤوا، فيراهم أهل النار فيقولون: يا رب بما بلغ
عبادك هذه الدرجة؟ فيقول الله لهم: كانوا يصومون وأنتم تفطرون، وكانوا ينفقون
وأنتم تبخلون، وكانوا يجاهدون وأنتم تجبنون، وكانوا يصلون وأنتم نائمون، وفيه
قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن في الجنة سوقا ما فيها شراء ولا بيع إلا الصور من الرجال والنساء من
أشتهي صورة دخل فيها، وإن فيها مجموع حور العين يرفعن أصواتهن بصوت لم يسمع
الخلائق بمثله نحن السائمات فلا نيأس أبدا، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا، ونحن الطاعمات فلا نجوع أبدا، ونحن
الخالدات فلا نموت أبدا، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا، ونحن المقيمات فلا نظعن
أبدا، فطوبى لمن كنا له وكان لنا، نحن خيرات حسان أزواجنا أقوام كرام.
186

وقال (ص): إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى ما في الجنة دار ولا قصر ولا حجرة
ولا بيت إلا وفيه غصن من تلك الشجرة، وأن أصلها في داري. وقال يوما آخر:
وأصلها في دار علي بن أبي طالب، فقام عمر: وقال يا رسول الله أوليس حدثتنا عن
هذا وقلت أصلها في داري ثم حدثت وتقول أصلها في دار علي (ع)؟ فرفع النبي
رأسه وقال: يا عمر أوما علمت إن داري ودار علي واحد، وحجري وحجر علي
واحد، وبيتي وبيت علي واحد، ودرجتي ودرجة علي واحد، وستري وستر
علي واحد.
وقال (ص): لما أسرى بي إلى السماء أخذ جبرئيل بيدي وأقعدني على درنوك من
درانيك الجنة ثم ناولني سفر جلة فبينا أنا أقلبها إذ انفلقت فخرجت منها حوراء
لم أر أحسن منها في الجنة، فقالت: السلام عليك يا رسول الله. فقلت: من أنت؟
فقالت: أنا الراضية المرضية خلقني الجبار من ثلاثة أشياء: السفلى من مسك، ووسطي
من كافور، وأعلاي من عنبر، وعجيني من ماء الحيوان، فقال لي الجبار: كوني فكنت
خلقني الله لأخيك وابن عمك علي بن أبي طالب.
وفي البحار قال (ص): لما أسري بي أخذ جبرئيل بيدي فأدخلني الجنة وأنا مسرور
فإذا أنا بشجرة من نور مكللة بالنور في أصلها ملكان يطويان الحلي والحلل إلى يوم
القيامة، ثم تقدمت أمامي فإذا أنا بتفاح لم أر تفاحا هو أعظم منه، فأخذت واحدة
ففلقتها فخرجت علي حوراء كان أجفانها مقاديم أجنحة النسور فقلت: لمن أنت فبكت
وقالت: لابنك المظلوم المقتول ظلما الحسين بن علي بن أبي طالب.
وفي زيارة الناحية المقدسة وأقيمت لك المآتم في أعلا عليين، ولطمت عليك الحور
العين، وبكت السماء وسكانها والجنان وخزانها والهضاب وأقطارها والبحار وحيتانها
ومكة وبنيانها والجنان وولدانها، والبيت والمقام والمشعر الحرام، والحل والحرام.
187

المجلس الواحد والستون
روى الصدوق في الأمالي عن الأصبغ بن نباتة قال: لما جلس علي (ع) في الخلافة
وبايعه الناس خرج إلى المسجد متعمما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابسا بردة رسول الله
متنعلا نعل رسول الله، متقلدا سيف رسول الله فصعد المنبر فجلس عليه متكئا ثم شبك
بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه ثم قال يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني هذا سفط
العلم هذا لعاب رسول الله، هذا ما زقني رسول الله زقا، سلوني فإن عندي علم الأولين
والآخرين، أما لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم
حتى تنطق التوراة فتقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأفتيت
أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الإنجيل فيقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل
الله في، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول صدق علي ما كذب، لقد
أفتاكم بما أنزل الله في وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهارا فهل فيكم أحد يعلم ما أنزل فيه
ولولا آية في كتاب الله عز وجل لأخبرتكم بما كان وبما يكون وما هو كائن إلى يوم
القيامة وهي هذه الآية (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) ثم قال (ع)
سلوني قبل أن تفقدوني فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل أنزلت
أو في نهار مكيها ومدنيها، وسفريها وحضريها، وناسخها ومنسوخها، محكمها ومتشابهها
وتأويلها وتنزيلها، لأخبرتكم فقام إليه رجل يقال له ذعلب وكا ذرب اللسان بليغا في
الخطب، شجاع القلب فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة لأخجلنه اليوم لكم في
مسألتي إياه فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن
بالذي أعبد ربا لم أره. قال: فكيف رأيته صفه لنا؟ قال: ويلك لم تره العيون بمشاهدة
الابصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان، ويلك يا ذعلب إن ربي لا يوصف بالبعد
ولا بالحركة ولا بالسكون، ولا بقيام قيام انتصاب، ولا بجيئة ولا بذهاب، لطيف
اللطافة لا يوصف باللطف عظيم العظمة لا يوصف بالعظيم، كبير الكبرياء لا يوصف
بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظة، رؤوف بالرحمة لا يوصف بالرقة، مؤمن
لا بعبادة، مدرك لا ببصر، قائل لا بلفظ، هو في الأشياء لا علي ممازجة، خارج منها
على غير مباينة، فوق كل شئ ولا يقال شئ فوقه، إمام كل شئ، ولا يقال له إمام
188

داخل في الأشياء لا كشئ في شئ، داخل وخارج منها لا كشئ من شئ خارج فخر
ذعلب مغشيا عليه ثم قال: تالله ما سمعت بمثل هذا الجواب والله لا عدت إلى مثلها ثم
قال (ع): سلوني قبل أن تفقدوني فقام إليه الأشعث بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين كيف
تؤخذ من المجوس الجزية ولم ينزل عليهم كتاب ولم يبعث عليهم نبي؟ فقال (ع) بلى يا أشعث
قد أنزل الله عليهم كتابا وبعث إليهم نبيا، وكان لهم ملك سكر ذات ليلة فدعا بابنته إلى
فراشه فأرتكبها، فلما أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا إلى بابه فقالوا: أيها الملك دنست علينا
ديننا فأهلكته فأخرج نطهرك ونقم عليك الحد. فقال: اجتمعوا وأسمعوا كلامي
فإن يكن لي مخرجا مما ارتكبت وإلا فشأنكم فاجتمعوا فقال لهم: هل علمتم إن الله عز
وجل لم يخلق خلقا أكرم من أبينا آدم وأمنا حواء؟ قالوا: صدقت أيها الملك. قال:
أفليس قد زوج بنيه من بناته وبناته من بنيه؟ قالوا: صدقت هذا هو الدين فتعاقدوا على
ذلك فمحى الله ما في صدورهم من العلم، ورفع عنهم الكتاب فهم الكفرة يدخلون النار
بلا حساب، والمنافقين أشد حالا منهم. فقال الأشعث: والله ما سمعت بمثل هذا
الجواب والله لا عدت إلى مثلها أبدا ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني فقام إليه رجل من
أقصى المسجد متوكيا على عكازه فلم يزل يتخطى الناس حتى دنا منه فقال: يا أمير المؤمنين
دلني على عمل إذا أنا عملته نجاني الله من النار. فقال (ع) له: أسمع بهذا ثم أفهم ثم
استيقن قامت الدنيا بثلاثة: بعالم ناطق مستعمل لعلمه، وبغني لا يبخل بماله على أهل
دين الله عز وجل، وبفقير صابر، فإذا كتم العالم علمه، وبخل الغني، ولم يصبر الفقير
فعنده الويل والثبور، وعندها يعرف العارفون الله إن الدار قد رجعت إلى بدءها أي
الكفر بعد الايمان أيها السائل فلا تغترن بكثرة المساجد، وجماعة أقوام أجسادهم
مجتمعة وقلوبهم شتى، أيها الناس. الناس ثلاثة: زاهد، وراغب، وصابر، فأما الزاهد فلا
يفرح بشئ من الدنيا إذا أتاه، ولا يحزن على شئ منها فاته، وأما الصابر فيتمناها بقلبه فإن
أدرك منها شيئا صرف عنها نفسه لما يعلم من سوء عاقبتها، وأما الراغب فلا يبالي من
حل أصابها أم من حرام قال: يا أمير المؤمنين فما علامة المؤمن في ذلك الزمان؟ قال:
ينظر إلى ما أوجب الله عليه من حق فيتولاه وينظر إلى ما خالفه فيتبرء منه وإن كان
حبيبا قريبا قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين ثم غاب الرجل فلم نره وطلبه الناس فم
يجدوه فتبسم علي (ع) على المنبر ثم قال: ما لكم هذا أخي الخضر (ع) ثم قال (ع):
189

سلوني قبل أن تفقدوني. فلم يقم إليه أحد فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم
قال للحسن: يا حسن قم فأصعد المنبر فتكلم بكلام لا يجهلك قريش من بعدي فيقولون:
إن الحسن لا يحسن شيئا قال الحسن (ع): يا أبة كيف أصعد وأتكلم وأنت في الناس
تسمع وترى؟ قال له: بأبي وأمي أروى نفسي عنك وأسمع وأرى ولا تراني، فصعد
الحسن (ع) المنبر فحمد الله بمحامد بليغة شريفة وصلى على النبي وآله صلاة موجزة ثم قال:
أيها الناس سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها. ثم نزل
فوثب إليه علي (ع) فتحمله وضمه إلى صدره. ثم قال للحسين: يا بني قم فأصعد فتكلم
بكلام لا يجهلك قريش من بعدي فيقولون: إن الحسين بن علي لا يبصر شيئا. وليكن
كلامك تبعا كلام أخيك فصعد الحسين (ع) فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم
صلاة موجزة ثم قال: معاشر الناس سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: إن عليا مدينة
بعدي فمن دخلها نجى، ومن تخلف عنها هلك. فوثب إليه علي (ع) فضمه إلى صدره
وقبله ثم قال: معاشر الناس أشهدوا أنهما فرخا رسول الله ووديعته التي استودعنيها
وثم أنا أستودعكموها، معاشر الناس ورسول الله سائلكم عنها.
ليت شعري ما صنعوا بوديعتي رسول الله وأمير المؤمنين عليهما السلام يعز عليهما
لو نظرت عيناهما إليهما، أما الحسن فقد قضى نحبه مسموما ورمى كبده مقطعا في الطشت
وأما الحسين فقد قضى نحبه مقتولا مذبوحا بقي على الأرض مرملا بدمه وطافوا برأسه
في البلدان:
يا أيها النبأ العظيم إليك في * ابنيك مني أعظك الانباء
إن الذين تسرعا يقيانك * الأرماح في صفين للهيجاء
فأخذت في عضديهما تثنيهما * عما أمامك من عظيم بلاء
ذا قاذف كبدا له قطعا وذا * في كربلاء مقطع الأعضاء
المجلس الثاني والستون
في الأمالي عن زين العابدين (ع) قال: بينا أمير المؤمنين (ع) ذات يوم جالس
مع أصحابه يعبيهم للحرب إذ أتاه شيخ على شحبة السفر فقال: أين أمير المؤمنين (ع)؟
190

فقيل: هو ذا فسلم ثم قال: يا أمير المؤمنين إني أتيتك من ناحية الشام وأنا شيخ كبير
قد سمعت فيك من الفضل ما لا يحصى، وأني أظنك ستغتال فعلمني مما علمك الله. قال:
نعم يا شيخ من اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كانت الدنيا همته اشتدت حسرته عند
فراقها، ومن غده شر يوميه فمحروم، ومن لم يبال بما رزئ من آخرته إذا أسلمت له
دنياه فهو هالك، ومن لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى، ومن كان في نقص
فالموت خير له، يا شيخ إن الدنيا خضرة حلوة ولها أهل، وإن الآخرة لها أهل عزفت
أنفسهم عن مفاخرة أهل الدنيا لا يتنافسون في الدنيا ولا يفرحون بغضارتها
ولا يحزنون لبؤسها يا شيخ من خاف البيات قل لومه، وما أسرع الليالي والأيام في عمر
العبد، فأخزن لسانك، وعد كلامك، يقل كلامك إلا بخير، يا شيخ أرض للناس
ما ترضى لنفسك، وآت إلى الناس ما تحب أن يؤتى إليك.
ثم أقبل على أصحابه فقال: أيها الناس أما ترون إلى أهل الدنيا يمسون ويصبحون
على أحوال شتى فبين صريع يتلوى وبين عابد ومعود، وآخر بنفسه يجود وآخر
لا يرجى وآخر مسجى، وطالب الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه
وعلى أثر الماضي يصير الباقي. فقال له زيد بن صوحان العبدي: يا أمير المؤمنين أي
سلطان أغلب وأقوى؟ قال: الهوى قال فأي ذل أذل قال الحرص على الدنيا قال:
فأي فقر أشد؟ قال: الكفر بعد الايمان قال: فأي دعوة أضل؟ قال الداعي بما
لا يكون قال: فأي عمل أفضل؟ قال التقوى. قال: فأي عمل انجح؟ قال: طلب
ما عند الله. قال: فأي صاحب شر؟ قال: المزين لك معصية الله. قال: فأي الخلق
أشقى؟ قال من باع دينه بدنيا غيره. قال: فأي الخلق أقوى؟ قال الحليم. قال: فأي
الخلق أشح؟ قال. من أخذ من المال من غير حله فجعله في غير حقه. قال: فأي الناس أكيس؟
قال من أبصر رشده من غيه فمال إلى رشده. قال. فمن أحلم الناس؟ قال. الذي لا يغضب
قال: فأي الناس أثبت رأيا؟ قال: من لم يغره الناس من نفسه ولم تغره الدنيا بتشوقها
قال فأي الخلق أحمق؟ قال: المغتر بالدنيا وهو يرى بما فيها من تقلب أحوالها قال:
فأي الناس أشد حسرة قال الذي حرم الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين قال: فأي
الخلق أعيى؟ قال: الذي عمل لغير الله يطلب بعمله الثواب من عند الله عز وجل، قال:
فأي القنوع أفضل؟ قال القانع بما أعطاه الله. قال: فأي المصائب أشد؟ قال: المصيبة
191

بالدين قال: فأي الأعمال أحب إلى الله عز وجل قال: انتظار الفرج قال: فأي الكلام
أفضل عند الله عز وجل؟ قال: كثرة ذكره والتضرع إليه ودعاؤه قال: فأي القول
أصدق؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله قال: فأي الأعمال أعظم عند الله عز وجل؟ قال:
التسليم والورع قال. فأي الناس أكرم؟ قال. من صدق في المواطن ثم أقبل (ع) على
الشيخ فقال. يا شيخ إن الله عز وجل خلق خلقا ضيق الدنيا عليهم نظرا لهم فزهدهم فيها
وفي حطامها فرغبوا في دار السلام الذي دعاهم إليه، وصبروا على المكروه، واشتاقوا إلى
ما عند الله من الكرامة، وبذلوا أنفسهم ابتغاء رضوان الله، وكانت خاتمة أعمالهم
الشهادة فلقوا الله وهو عنهم راض، وعلموا إن الموت سبيل من مضى ومن بقي، فتزودوا
لاخرتهم غير الذهب والفضة ولبسوا الخشن وصبروا على القوت، وقدموا الفضل
وأحبوا في الله عز وجل أولئك المصابيح وأهل النعيم والسلام.
فقال الشيخ. فأين أذهب وأدع الجنة وأنا أراها وأرى أهلها معك يا أمير المؤمنين
أمدني بقوة أتقوى بها على عدوك فأعطاه أمير المؤمنين (ع) سلاحا وحمله فكان في
الحرب بين يدي أمير المؤمنين (ع) يضرب قدما وأمير المؤمنين (ع) يعجب مما يصنع، فلما
أشتد الحرب أقدم فرسه حتى قتل (ره) وأتبعه رجل من أصحاب أمير المؤمنين (ع)
فوجده صريعا ووجد دابته، ووجد سيفه في ذراعه، فلما أنقضت الحرب أتى
أمير المؤمنين (ع) بدابته وسلاحه وصلى أمير المؤمنين (ع) عليه.
وقال: هذا والله السعيد حقا فترحموا على أخيكم. أقول: هكذا يكون المؤمن يؤثر
دينه على دنياه وموته على حياته في سبيل الله وينصر الحق وإن قتل وسفك دمه طلبا
لمرضاة الله ووصولا لما عند الله كما قال هذا السعيد لأمير المؤمنين (ع) سيدي فأين أذهب
وادع الجنة وأنا أراها وأرى أهلها معك كما إن أصحاب الحسين (ع) لما قال لهم
الحسين (ع) ليلة العاشر بعد ما خطب فيهم وأخبرهم بقتله إني: غدا اقتل، وتقتلون
كلكم معي قالوا: الحمد لله الذي شرفنا بالقتل معك أفلا ترضى ان نكون معك
وفي درجتك:
نصروا ابن بنت نبيهم طوبى لهم * نالوا بنصرته مراتب سامية
192

المجلس الثالث والستون
في الأمالي جاء جبرئيل إلى رسول الله (ص) بدابة دون بغل وفوق الحمار رجلاها
أطول من يديها خطوها مد البصر فلما أراد النبي أن يركب امتنعت فقال جبرئيل: إنه
محمد فتواضعت حتى لصقت بالأرض قال: فركب فكلما هبطت ارتفعت يداها وقصرت
رجلاها، وإذا صعدت ارتفعت رجلاها وقصرت يداها فمرت به في ظلمة الليل على عير
محملة، فنفرت العير من دفيف البراق فنادى رجل في آخر العير غلاما له في أول العير
يا فلان إن الإبل قد نفرت وإن فلانة ألقت حملها وانكسرت يدها فكانت العير لأبي
سفيان قال: ثم مضى حتى إذا كان ببطن البلقاء قال يا جبرئيل: قد عطشت فتناول جبرئيل
قصعة فيها ماء فتناوله فشرب ثم مضى فمر على قوم معلقين بعراقيبهم بكلاليب من نار
فقال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين أغناهم الله بالحلال فيتبعون الحرام قال:
ثم مر على قوم تخاط جلودهم بمخايط من نار فقال: ما هؤلاء يا جبرئيل فقال: هؤلاء
الذين يأخذون عذرة النساء بغير حل ثم مضى فمر على رجل يرفع حزمة من حطب كلما لم
يستطع أن يرفعها زاد عليها فقال: من هذا يا جبرئيل قال: هذا صاحب الدين يريد أن
يقضي فإذا لم يستطع زاد عليه.
وعثرنا على رواية أخرى في البحار فأحببنا ايرادها قال (ص): مررت بقوم بين
أيديهم موائد فيها لحم طيب ولحم خبيث وهم يأكلون لحم الخبيث فسألت جبرئيل عنهم
فقال: هؤلاء يغضون أبصارهم عن الحلال، ويأكلون الحرام، ومررت بقوم لهم مشافر
كمشافر الإبل يقرض اللحم من جنوبهم ويلقى في أفواههم فسألت جبرئيل فقال هؤلاء
الفتانون والنمامون الهمازون واللمازون (ويل لكل همزة لمزة) ومررت بقوم يرضخ
رؤسهم بالصخرة فسألت عنهم فقال: هؤلاء الذين ناموا عن صلاة العشاء، ومررت بقوم
تقذف النار من أفواههم وتخرج من دبرهم فسألت جبرئيل عنهم فقال: هم الذين
يأكلون أموال اليتامى إنما يأكلون في بطونهم نارا، ومررت بقوم لم يقدروا على القيام
من عظم بطنهم ويقولون ربنا متى تقم الساعة فسألت عنهم فقال: هؤلاء أكلة الربوا
193

ومررت بنساء معلقات بثديهم فسألت عنهن فقال: هم اللواتي يورثن أموال أزواجهن
أولاد غيرهم، ومررت بقوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم فسألت عنهم فقال: هؤلاء
الذين يغتابون الناس، ورأيت ملكين يناديان اللهم عجل لكل منفق خلفا، ولكل ممسك
تلفا، ورأيت ملكا نصفه من النار، ونصفه من الثلج وهو ينادي اللهم يا مؤلف بين
الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين فقال جبرئيل: هذا أنصح ملائكة الله لأهل
الأرض من عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع منذ خلق، رجعنا إلى رواية الصدوق (ره)
ثم مضى حتى إذا كان بالجبل الشرقي من بيت المقدس وجد ريحا حارة وسمع صوتا قال:
ما هذه الريح يا جبرئيل وهذا الصوت التي أسمع قال: هذه جهنم فقال النبي: أعوذ بالله
من جهنم ثم وجد ريحا عن يمينه طيبة وسمع صوتا قال: ما هذه الريح التي أجدها وهذا
الصوت الذي أسمع فقال: هذه الجنة فقال: أسأل الله الجنة فقال: ثم مضى حتى انتهى
إلى باب مدينة بيت المقدس وفيها هرقل، وكانت أبواب المدينة تغلق كل ليلة ويؤتى
بالمفاتيح وتوضع عند رأسه، فلما كانت الليلة أمتنع الباب أن تنغلق فأخبروه فقال
ضاعفوا عليها من الحرس.
قال: فجاء رسول الله فدخل بيت المقدس فجاءه جبرئيل إلى الصخرة فرفعها فأخرج من
تحتها ثلاثة أقداح قدحا من لبن وقدحا من عسل وقدحا من خمر فناوله قدح من اللبن فشرب
ثم ناوله قدح العسل فشرب ثم ناوله قدح الخمر فقال: قد رويت يا جبرئيل قال: أما
إنك لو شربته ضلت أمتك وتفرقت عنك قال: ثم أمر رسول الله (ص) في مسجد بيت
المقدس بسبعين نبيا قال: وهبط مع جبرئيل ملك لم يطأ الأرض قط معه مفاتيح خزائن
الأرض فقال يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول: هذه مفاتيح خزائن الأرض فإن شئت
فكن نبيا ملكا فأشار إليه جبرئيل أن تواضع يا محمد فقال: بل أكون نبيا عبدا ثم صعد
إلى السماء فلما انتهى إلى باب السماء أستفتح جبرئيل فقالوا: من هذا؟ قال: محمد.
قالوا: نعم المجئ جاء فدخل على ملا من الملائكة إلا وسلوا عليه ودعوا له
وشيعوه، فمر على شيخ قاعد تحت شجرة وحوله أطفال فقال رسول الله: من هذا الشيخ
يا جبرئيل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم قال فما هؤلاء الأطفال حوله قال: هؤلاء أطفال
المؤمنين حوله يغذوهم ثم مضى فمر على شيخ قاعد على كرسي إذا نظر عن يمينه ضحك
وفرح، وإذا نظر عن يساره حزن وبكى فقال: من هذا يا جبرئيل؟ قال: أبوك آدم إذا
194

رأى من يدخل الجنة من ذريته ضحك وفرح، وإذا رأى من يدخل النار من ذريته
حزن وبكى ثم مضى فمر على ملك قاعد على كرسي فسلم عليه فلم ير منه البشر ما رأى من
الملائكة فقال: يا جبرئيل ما مررت بأحد من الملائكة إلا رأيت منه ما أحب إلا هذا فمن
هذا الملك؟ قال: هذا مالك خازن النار أما إنه قد كان من أحسن الملائكة بشرا وأطلقهم
وجها فلما جعل خازن النار اطلع فيها اطلاعه فرأى ما أعد الله فيها لأهلها فلم يضحك
بعد ذلك ثم مضى حتى انتهى حيث انتهى، فرضت عليه الصلاة خمسون صلاة قال: فأقبل
فمر على موسى (ع) فقال يا محمد كم فرض على أمتك؟ قال: خمسون صلاة قال: ارجع
إلى ربك فسأله أن يخفف عن أمتك قال: فرجع ثم مر على موسى فقال: كم فرض على
أمتك؟ قال: كذا وكذا قال: فإن أمتك أضعف الأمم ارجع ربك فسأله أن يخفف
عن أمتك فأني كنت في بني إسرائيل فلم يكونوا يطيقون إلا دون هذا فلم يزل يرجع إلى
ربه عز وجل حتى جعلها خمس صلاة قال: ثم مر على موسى فقال: كم فرض على أمتك؟
قال: خمس صلاة قال: ارجع إلى ربك فأسأله أن يخفف عن أمتك قال: قد أستحيت من
ربي مما ارجع إليه ثم مضى فمر على إبراهيم خليل الرحمن فناداه من خلفه فقال: يا محمد اقرأ
أمتك عني السلام وأخبرهم إن الجنة مائها عذب، وتربتها طيبة فيها قيعان بيض غرسها
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله فأمر الله
فليكثروا من غرسها، وفي كتاب نزهة المجالس تأليف شيخ عبد الرحمن الصفوري
الشافعي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما أسري بي مررت بملك جالس على
سرير من نور إحدى رجليه في المشرق والأخرى في المغرب والدنيا كلها بين عينيه وبين
يديه لوح فقلت: يا جبرئيل من هذا قال: عزرائيل، تقدم فسلم عليه فسلمت فقال:
وعليك السلام يا أحمد ما فعل ابن عمك علي بن أبي طالب فقلت. هل تعرف ابن عمي
عليا قال. وكيف لا اعرفه وقد وكلني ربي بقبض أرواح الخلائق ما خلا روحك وروح
ابن عمك.
وقال (ص): لما أسري بي إلى السماء ما رأيت أحدا من الملائكة إلا وهو يسألني
عن علي بن أبي طالب ويقول لي: يا محمد كيف خلفت علي بن أبي طالب، وإذا رجعت
إلى الأرض فأقرأ عليا عني السلام وأعلمه بأنه قد طال شوقنا إليه.
عن النبي (ص) قال: فلما أسري بي إلى السماء فبلغت السماء الخامسة نظرت إلى صورة
195

علي (ع) فقلت: حبيبي جبرئيل ما هذه الصورة فقال جبرئيل: يا محمد اشتاقت الملائكة ان
ينظروا إلى صورة علي (ع) فقالوا: ربنا ان بني آدم في دنياهم يتمتعون غدوة وعشيا
بالنظر إلى علي بن أبي طالب حبيب حبيبك محمد (ص) وخليفته ووصيه وأمينه فمتعنا
بصورته بقدر ما تمتع أهل الدنيا فصور لهم صورته من نور قدسه عز وجل فعلي بين
أيديهم ليلا ونهارا يزورونه، وينظرون إليه غدوة وعشيا قال الأعمش: سمعت جعفر
ابن محمد (ص) يقول: فلما ضربه ابن ملجم (لع) على رأسه صارت تلك الضربة في صورته
التي في السماء، فالملائكة ينظرون إليه غدوة وعشيا ويلعنون قاتله ابن ملجم، فلما قتل
الحسين بن علي هبطت الملائكة وحملته حتى أوقفته مع صورة علي في السماء الخامسة فكلما
هبطت الملائكة من السماوات العلا وصعدت ملائكة سماء الدنيا وما فوقها إلى السماء الخامسة
لزيارة صورة علي والنظر إليه نظروا إلى الحسين متشحطا بدمه لعنوا يزيد وابن زياد
وقاتلي الحسين ابن علي إلى يوم القيامة.
المجلس الرابع والستون
في البحار عن الزهري قال: كنت عند علي بن الحسين (ع) فجائه رجل من أصحابه
فقال له علي بن الحسين (ع): ما خبرك أيها الرجل: فقال الرجل: خبري يا بن رسول الله
إني أصبحت وعلي أربع مائة دينار دين لا قضاء عندي لها ولي عيال ثقال ليس لي
ما أعود عليهم به قال: فبكى علي بن الحسين (ع) بكاء شديدا فقلت له: ما يبكيك؟ يا بن
رسول الله؟ فقال: وهل يعد البكاء إلا للمصائب والمحن الكبار قالوا: كذلك يا بن
رسول الله قال: فأية محنة ومصيبة أعظم على حر مؤمن من أن يرى بأخيه المؤمن خلة
فلا يمكنه سدها ويشاهده على فاقة فلا يطيق رفعها قال. فتفرقوا عن مجلسهم ذلك فقال
بعض المخالفين وهو يطعن على علي بن الحسين. عجبا لهؤلاء يدعون مرة إن السماء
والأرض وكل شئ يطيعهم وأن الله لا يردهم عن شئ من طلباتهم، ثم يعترفون أخرى
بالعجز عن اصلاح خواص إخوانهم فاتصل ذلك بالرجل صاحب القصة فجاء إلى علي بن
الحسين (ع) فقال له يا بن رسول الله بلغني عن فلان كذا وكذا وكان ذلك أغلظ علي من
196

محنتي فقال علي بن الحسين (ع). فقد أذن الله في فرجك يا فلانة احملي سحوري وفطوري
فحملت قرصتين فقال علي بن الحسين (ع) لرجل: خذها فليس عندنا غيرها فإن الله
يكشف عنك بهما وينيلك خيرا فأخذهما الرجل ودخل السوق لا يدري ما يصنع بهما
ويتفكر في نقل دينه وسوء حاله وحال عياله، ويوسوس إليه الشيطان أين موقع هاتين من
حاجتك فمر بسماك قد بارت عليه سمكته قد أراحت فقال له سمكتك هذه بائرة عليك
واحدى قرصتي هاتين بائرة علي فهل لك أن تعطيني سمكتك البائرة وتأخذ قرصتي هذه
البائرة؟ فقال: نعم فأعطاه السمكة وأخذ القرصة، فمر برجل معه ملح قليل مزهود فيه
فقال هل لك أن تعطيني ملحك المزهود فيه؟ قال: نعم ففعل ذلك فجاء الرجل بالسمكة
والملح فقال: أصلح هذا بهذا فلما شق بطن السمكة وجد فيه لؤلؤتين فاخرتين فحمد الله
عليهما فبينما هو في سروره ذلك إذ قرع بابه فخرج ينظر من بالباب فإذا صاحب السمكة
وصاحب الملح قد جائا يقول: كل واحد منهما له يا عبد الله جهدنا أن يأكل واحد من
عيالنا هذا القرص فلم تعمل فيه أسناننا، وما نظنك إلا وقد تناهيت في سوء الحال قد
رددنا إليك هذا الخبر وطيبنا لك ما أخذته فأخذ القرصين منهما.
فلما استقر بعد انصرافهما عنه قرع بابه فإذا رسول علي بن الحسين (ع) فدخل
فقال: إنه يقول لك إن الله قد أتاك بالفرج فأردد إلينا طعامنا فإنه لا يأكله غيرنا وباع
الرجل اللؤلؤتين بمال عظيم قضى منه دينه وحسنت بعد ذلك حاله فقال بعض المخالفين
ما أشد هذا التفاوت بينا علي بن الحسين (ع) لا يقدر أن يسد منه فاقة إذا أغناه هذا الغناء
العظيم كيف يكون هذا، وكيف يعجز عن سد الفاقة من يقدر على هذا الغناء العظيم فقال
علي بن الحسين (ع): هكذا قالت قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. كيف يمض إلى بيت المقدس
ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء من مكة ويرجع إليها في ليلة واحدة من لا يقدر أن يبلغ
من مكة إلى المدينة إلا في أثني عشر يوما وذلك حين هاجر منها. ثم قال علي بن الحسين
جهلوا والله أمر أوليائه معه إن المراتب الرفيعة لا تنال إلا بالتسليم لله جل ثناؤه
وترك الاقتراح عليه والرضا بما يدبرهم به إن أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبرا
لم يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم الله عز وجل عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم
لكنهم مع ذلك لا يريدون منه إلا ما يريده لهم نعم هكذا كانوا عليهم السلام مع إن الله
جازاهم على صبرهم على المكاره والمحن، ونجح طلباتهم لا يطلبون من الله إلا ما يريده عباد
197

مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون كما قال الحسين (ع) رضى الله رضانا أهل
البيت فصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين، علم زين العابدين (ع) بأن شاء الله أن
يحملوه على بعير أضلع، ويضعوا الجامعة في عنقه أسيرا ذليلا من بلد إلى بلد رضي وسلم
الامر إلى الله بأبي وأمي كان يبكي ويقول. أقاد ذليلا الخ.
المجلس الخامس والستون
في الأمالي عن أبي سعيد الخدري قال: أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب
فقال. يا علي إذا دخلت العروس بيتك فأخلع خفها حين تجلس وأغسل رجليها وصب
الماء من باب دارك فإنك إذا فعلت ذلك أخرج الله من دارك سبعين الف لون من الفقر
وادخل فيه سبعين الف لون من البركة، وأنزل عليك سبعين رحمة وقرف على رأس
العروس حتى تنال بركتها كل زاوية في بيتك، وتأمن العروس من الجنون والجذام
والبرص أن يصيبها ما دامت في تلك الدار، وامنع العروس في اسبوعها من الألبان
والخل والكزبرة والتفاح الحامض من هذه الأشياء الأربعة، فقال علي (ع):
يا رسول الله ولأي شئ أمنعها من هذه الأشياء الأربعة قال: لان الرحم تعقم وتبرد
من هذه الأربعة عن الولد، والحصير في ناحية البيت خير من امرأة لا تلد فقال (ع):
يا رسول الله فما بال الخل تمنع منه قال إذا حاضت على الخل لم تطهر أبدا طهرا بتمام
والكزبرة تثير الحيض في بطنها وتشتد عليها الولادة، والتفاح الحامض يقطع حيضها
فيصير داء عليها ثم قال يا علي: لا تجامع امرأتك في أول الشهر ووسطه وآخره فإن
الجنون والجذام والخبل يسرع إليها والى ولدها يا علي لا تجامع امرأتك بعد الظهر فإنه
إن قضى بينكما ولد في ذلك الوقت يكون أحول العين، والشيطان يفرح بالحول في الانسان
يا علي لا تتكلم عند الجماع فإنه إن قضى بينكما ولد لا يؤمن أن يكون أخرس
ولانظرن أحدكم إلى فرج امرأته وليغض بصره عند الجماع فإن النظر إلى الفرج يورث
العمى في الولد، يا علي لا تجامع امرأتك بشهوة امرأة غيرك فأني أخشى إن قضى بينكما
ولد أن يكون مخنثا مؤنثا مخبلا، يا علي من كان جنبا في الفراش مع امرأته فلا يقرأ القرآن
198

فأني أخشى أن ينزل عليهما نار من السماء فتحرقهما، يا علي لا تجامع امرأتك إلا ومعك
خرقة ومع امرأتك خرقة، ولا تمسحا بخرقة واحدة فتقع الشهوة فإن ذلك يعقب العداوة
بينكما ثم يردكما إلى الفرقة والطلاق، يا علي لا تجامع امرأتك من قيام فإن ذلك من فعل
الخير، وان قضى بينكما ولد كان يوالا في الفراش كالخير البوالة في كل مكان، يا علي
لا تجامع امرأتك في ليلة الفطر فإنه إن قضى بينكما ولد لم يكن ذلك الولد إلا كثير الشر
يا علي لا تجامع امرأتك في ليلة الأضحى فإنه أن قضى بينكما ولد يكون له ست أصابع
يا علي لا تجامع امرأتك تحت شجرة مثمرة فإنه إن قضى بينكما ولد يكون له ست أصابع
عريفا، يا علي لا تجامع أهلك في وجه الشمس وتلألؤها إلا أن يرخا ستر فيستركما فإنه
إن قضى بينكما ولد لا يزال في بؤس وفقر حتى يموت، يا علي لا تجامع أهلك بين الأذان والإقامة
فإنه إن قضى بينكما ولد يكون حريصا على اهراق الدماء، يا علي إذا حملت امرأتك فلا
تجامعها إلا وأنت على وضوء فإنه إن قضى بينكما ولد يكون أعمى القلب بخيل اليد، يا علي
لا تجامع أهلك في النصف من شعبان فإنه إن قضى بينكما ولد يكون مشوما ذا شامة في
وجهه، يا علي لا تجامع أهلك في آخر درجة من الشهر إذا بقي منه يومان فإنه إن قضى
بينكما ولد يكون عشارا أو عوانا للظالم، ويكون هلاك فئات من الناس على يديه، يا علي
لا تجامع أهلك على سقوف البنيان فإنه إن قضى بينكما ولد يكون منافقا مرائيا مبتدعا
يا علي وإذا خرجت في سفر فلا تجامع أهلك تلك الليلة فإنه إن قضى بينكما ولد ينفق ماله
في غير حق، وقرأ رسول الله (ص) (إن المبذرين كانوا أخوان الشياطين) يا علي
لا تجامع امرأتك إذا خرجت إلى سفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن فإنه إن قضى بينكما ولد
يكون عونا لكل ظالم عليك يا علي عليك بالجماع ليلة الاثنين فإنه إن قضى بينكما ولد
يكون حافظا للكتاب، راضيا بما قسم الله عز وجل، يا علي إن جامعت أهلك في ليلة
الثلاثاء يقضى بينكما ولد فإنه يكون حاكما من الحكام، أو عالما من العلماء، وان جامعت
يوم الخميس عند زوال الشمس عند كبد السماء فقضى بينكما ولد فان الشيطان لا يقربه حتى
يشيب ويكون فيهما ويرزقه الله السلامة في الدين والدنيا، يا علي فان جامعتها ليلة الجمعة
199

وكان بينكما ولد فإنه يكون خطيبا قوالا مفوها، وان جامعتها يوم الجمعة بعد العصر فقضى
بينكما ولد فإنه يكون معروفا مشهورا عالما، وأن جامعتها في ليلة الجمعة بعد صلاة العشاء
الآخرة فإنه يرجى أن يكون لكما ولد من الابدال إنشاء الله يا علي لا تجامع أهلك في
أول ساعة من الليل فإنه إن قضى بينكما ولد لا يؤمن أن يكون ساحرا مؤثرا للدنيا على
الآخرة، يا علي أحفظ وصيتي هذه كما حفظتها عن جبرئيل (ع).
قوله (ص): يرجى أن يكون لكما ولد من الابدال في المجمع الابدال قوم من
الصالحين لا تخلو الدنيا منهم إذا مات واحد أبدل الله مكانه آخر، وفي القاموس الابدال
قوم يقيم الله بهم الأرض وهم سبعون: أربعون بالشام: وثلاثون بغيرها لا يموت
أحدهم إلا قام مقامه آخر من ساير الناس، وممن انعقدت نطفته ليلة الجمعة سيدنا
رسول الله (ص) وولد أيضا ليلة الجمعة وعلي (ع) أيضا انعقدت نطفته ليلة الجمعة
وميلاده يوم الجمعة، وشهادته ليلة الجمعة، والحسين (ع) ولد ليلة الجمعة وقبض يوم الجمعة
يوم العاشر من المحرم.
المجلس السادس والستون
روى الصدوق في الأمالي قال: قال رسول الله (ص): كان من زهد يحيى ابن
زكريا (ع) إنه أتى بيت المقدس فنظر إلى المجتهدين من الأحبار والرهبان عليهم مدارع الشعر
وبرانس الصوف وإذا هم قد خرقوا تراقيهم وسلكوا في السلاسل وشدوها إلى سواري
المسجد، فما نظر إلى ذلك أتى أمه فقال: يا أماه أنسجي لي مدرعة من شعر وبرنسا من
صوف حتى أتى بيت المقدس فأعبد الله مع الأحبار والرهبان فقالت أمه: حتى يأتي نبي
الله أوامره في ذلك فلما دخل زكريا (ع) وأخبرته بمقالة يحيى فقال له زكريا: يا بني
ما يدعوك إلى هذا وإنما أنت صبي صغير فقال: يا أبة أما رأيت من هو أصغر سنا مني
فقد ذاق الموت؟ قال: بلى ثم قال (ع) لامه: انسجي له مدرعة من شعر وبرنسا من صوف
ففعلت فتدرع المدرعة على بدنه، ووضع البرنس على رأسه ثم أتى بيت المقدس فأقبل
يعبد الله عز وجل مع الأحبار حتى أكلت المدرعة لحمه، فنظر ذات يوم إلى ما قد حل
200

من جسمه فبكى فأوحى الله عز وجل إليه يا يحيى أتبكي مما قد نحل من جسمك، وعزتي
وجلالي لو أطلعت إلى النار اطلاعة لتدرعت مدرعة الحديد فضلا عن المنسوج فبكى يحيى
حتى أكلت الدموع لحم خديه وبدا للناظرين أضراسه فبلغ ذلك أمه فدخلت عليه وأقبل
زكريا واجتمع مع الأحبار والرهبان فأخبروه بذهاب لحم خديه فقال: ما شعرت
بذلك فقال زكريا: يا بني ما يدعوك إلى هذا إنما سألت ربي إن يهبك لي لتقر بك عيني
قال: أنت أمرتني بذلك يا أبة قال متى وذلك يا بني قال: الست القائل إن بين الجنة والنار
لعقبة لا يجوزها إلا الباكون من خشية الله قال: بلى فجد وأجتهد وشأنك غير شأني فقام
يحيى فنفض مدرعته فأخذته أمه فقالت: أتأذن لي يا بني إن أتخذ لك قطعتي لبود
تواريان أضراسك، وينشفان دموعك فقال لها شأنك فاتخذت له قطعتي لبود تواريان
أضراسه تنشفان دموعه فبكى حتى ابتلتا من دموع عينيه فحسر عن ذراعيه ثم أخذها فعصرها
فتحدر الدموع من بين أصابعه فنظر زكريا إلى ابنه والى دموع عينيه فرفع رأسه إلى السماء
فقال: اللهم إن هذا ابني وهذه دموع عينيه وأنت أرحم الراحمين، وكان زكريا (ع)
إذا أراد أن يعظ بني إسرائيل يلتفت يمينا وشمالا فإن رأى يحيى لم يذكر جنة ولا نارا
فجلس ذات يوم يعظ بني إسرائيل، وأقبل يحيى قد لف رأسه بعبائة فجلس في غمار الناس
والتفت زكريا يمينا وشمالا فلم ير يحيى فأنشأ يقول: حدثني حبيبي جبرئيل عن الله تبارك
وتعالى إن في جهنم جبلا يقال له السكران في أصل ذلك الجبل وادي يقال له الغضبان
لغضب الرحمن تبارك وتعالى في ذلك الوادي جب قامته مائة عام في ذلك الجب توابيت
من نار، في تلك التوابيت صناديق من نار، وثياب من نار، وسلاسل من نار وأغلال
من نار فرفع يحيى (ع) رأسه فقال: وا غفلتاه من السكران ثم أقبل هائما على وجهه فقام
زكريا من مجلسه فدخل على أم يحيى فقال لها: يا أم يحيى قومي فاطلبي يحيى فأني قد تخوفت
أن لا تريه إلا وقد ذاق الموت فقامت فخرجت في طلبه حتى مرت بفتيان بني إسرائيل
فقالوا لها: يا أم يحيى أين تريدين؟ قالت: أريد أن أطلب ولدي ذكرت النار بين يديه
فهام على وجهه فمضت أم يحيى والفتية معها حتى مرت براعي غنم فقالت له: يا راعي هل
رأيت شابا من صفته كذا وكذا فقال لها: لعلك تطلبين يحيى بن زكريا؟ قالت: نعم
ذاك ولدي ذكرت النار بين يديه فهام على وجهه قال: إني تركته الساعة على عقبة ثنية
كذا وكذا ناقعا قدميه في الماء رافعا بصره إلى السماء يقول: وعزتك يا مولاي لا ذقت
201

بارد الشراب حتى أنظر إلى منزلتي منك، وأقبلت أمه، فلما رأته أم يحيى دنت منه
فأخذت برأسه فوضعته بين ثدييها وهي ناشده بالله أن ينطلق معها إلى المنزل فأنطلق معها
حتى أتى المنزل فقالت له أم يحيى: هل لك أن تخلع مدرعة الشعر وتلبس مدرعة الصوف
فإنه الين ففعل وطبخ له عدس فأكل واستوفي فنام فذهب به النوم فلم يقم لصلاته فنودي
في منامه يا يحيى بن زكريا أردت دار خيرا من داري وجوارا خيرا من جواري
فأستيقظ فقام فقال: يا رب أقلني عثرتي إلهي فبعزتك لا استظل بظل سوى بيت المقدس
وقال لامه: ناوليني مدرعة الشعر فقد علمت انكما ستورداني المهالك فتقدمت أمه فدفعت
إليه المدرعة وتعلقت به فقال لها زكريا: يا أم يحيى دعيه فان ولدي قد كشف له عن قناع
قلبه ولن ينتفع بالعيش، فقام يحيى فلبس مدرعته ووضع البرنس على رأسه ثم أتى بيت
المقدس فجعل يعبد الله عز وجل مع الأحبار حتى كان من أمره ما كان يعني قضى نحبه
شهيدا قتيلا مظلوما.
وكان يحيى شبيها بالحسين (ع) كما ورد في الخبر قال الصادق (ع): زوروا الحسين (ع)
ولا تجفوه فإنه سيد شباب أهل الجنة وشبيه بيحيى بن زكريا، وليهما بكت السماء
والأرض ولما زار الحسين (ع) جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أشهد إنك مضيت على
ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا (ع).
المجلس السابع والستون
في الأمالي دخل معاذ بن جبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باكيا فسلم فرد عليه ثم قال:
ما يبكيك يا معاذ فقال: يا رسول الله إن بالباب شابا طري الجسد، نقي اللون، حسن
الصورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك فقال النبي (ص):
ادخل على الشاب يا معاذ فأدخله عليه فسم على فرد (ص) ثم قال: ما يبكيك يا شاب
قال كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوبا إن أخذني الله عز وجل ببعضها أدخلني نار جهنم
ولا أراني إلا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبدا فقال رسول الله (ص): هل أشركت
202

بالله شيئا قال: أعوذ بالله إن بربي شيئا قال: أقتلت النفس التي حرم الله قال:
لا فقال النبي (ص) يغفر الله لك ذنوبك وان كانت مثل الجبال الرواسي قال الشاب: فإنها
أعظم من الجبال الرواسي فقال النبي (ص): يغفر الله لك ذنوبك وأن كانت مثل
الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق قال: فإنها أعظم من
الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق. فقال النبي (ص):
يغفر الله لك ذنوبك وأن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسي، قال:
فإنها أعظم من ذلك قال: فنظر النبي (ص) كهيئة الغضبان ثم قال: ويحك يا شاب ذنوبك
أعظم أم ربك فخر الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان الله ربي ما شئ أعظم من ربي
ربي أعظم يا نبي الله من كل عظيم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فهل يغفر الذنب العظيم إلا الرب العظيم؟
قال الشاب: لا والله يا رسول الله ثم سكت الشاب فقال النبط صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك يا شاب
إلا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك قال: بل أخبرك إني كنت أنبش القبور سبع سنين
أحرج الأموات وأنزع الأكفان فماتت جارية من بعض بنات الأنصار، فلما حملت إلى
قبرها ودفنت وأنصرف عنها أهلها وجن عليهم الليل أتيت قبرها فنبشتها ثم استخرجتها
ونزعت ما كان عليها من أكفانها، وتركتها متجردة على شفير قبرها ومضيت منصرفا
فأتاني الشيطان فأقبل يزينها إلي ويقول: أما ترى بطنها وبياضها؟ أما ترى وركيها فم
يزل يقول لي هذا حتى رجعت إليها ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها فإذا
أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب ويل لك من ديان يوم الدين يوم يقفني وإياك كما
تركتني عريانة في عساكر الموتى ونزعتني من حفرتي، وسلبتني أكفاني وتركتني أقوم
جنبة إلى حسابي فويل لشبابك من النار فما أظن أني أشم ريح الجنة أبدا فما تر إلي
يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تنح عني يا فاسق اني أخاف أن أحترق بنارك فما
أقربك من النار ثم لم يزل صلى الله عليه وآله وسلم يقول ويشير إليه حتى أمعن من بين يديه، فذهب فأتى
المدينة فتزود منها ثم أتى بعض جبالها فتعبد فيها ولبس مسحا وغل يديه جميعا إلى عنقه
ونادى يا رب هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول يا رب أنت الذي تعرفني، وأزال مني
ما تعلم سيدي، يا رب اني أصبحت من النادمين وأتيت نبيك تائبا فطردني وزادني خوفا
فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيب رجائي، سيدي ولا تبطل دعائي ولا
تؤيسني من رحمتك فلم يزل يقول ذلك أربعين يوما وليلة تبكي له السباع والوحوش، فلما تمت له
203

أربعون يوما وليلة رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم ما فعلت في حاجتي إن كنت استجبت
دعائي، وغفرت خطيئتي فاوح إلى نبيك وأن لم تستجب لي دعائي ولم تغفر لي خطيئتي،
وأردت عقوبتي فعجل بنار تحرقني أو عقوبة في الدنيا تهلكني، وخلصني من فضيحة يوم
القيامة فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (والذين إذا فعلوا فاحشة) يعني الزنا أو
ظلوا أنفسهم يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزنا وهو نبش القبور وأخذ الأكفان،
ذكروا الله واستغفروا لذنوبهم يقول خافوا الله فعجلوا التوبة، ومن يغفر الذنوب إلا الله.
يقول عز وجل: أتاك عبدي يا محمد تائبا فطردته فأين يذهب، والى من يقصد ومن
يسأل أن يغفر له ذنبا غيري ثم قال عز وجل: (ولم يصروا على ما فعلوه وهم يعون)
يقول: لم يقيموا على الزنا ونبش القبور وأخذ الأكفان (أولئك جزائهم مغفرة من
ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) فلما نزلت هذه
الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج وهو يتلوها ويتبسم فقال لأصحابه: من يدلني على ذلك
الشاب التائب فقال معاذ: يا رسول الله بلغنا إنه في موضع كذا وكذا فمضى
رسول الله صلى الله عليه وآله بأصحابه حتى انتهوا إلى ذلك الجبل فصعدوا إليه يطلبون الشاب فإذا هم
بالشاب قائم بين صخرتين مغلولة يداه إلى عنقه، وقد اسود وجهه وتساقطت أشفار عينيه
من البكاء وهو يقول: سيدي قد أحسنت خلقي وأحسنت صورتي، فليت شعري ماذا
تريد بي أفي النار تحرقني أو في جوارك تسكنني اللهم إنك قد أكثرت الاحسان إلي
وأنعمت علي.
فليت شعري ماذا يكون آخر أمري إلى الجنة تزفني أم إلى النار تسوقني؟ اللهم إن
خطيئتي أعظم من السماوات والأرض، ومن كرسيك الواسع وعرشك العظيم فليت
شعري تغفر خطيئتي أم تفضحني بها يوم القيامة فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ويحثو
التراب على رأسه، وقد أحاطت به السباع وصفت فوقه الطير وهم يبكون لبكائه، فدنا
رسول الله فأطلق يديه من عنقه ونفض التراب عن رأسه، وقال: يا بهلول أبشر فإنك
عتيق الله من النار ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول: ثم
تلا عليه ما أنزل الله عز وجل فيه وبشره بالجنة. ذكرت قصة نباش آخر، وذلك كما في
الأمالي كان في بني إسرائيل رجل ينبش القبور فمرض جار له فخاف الموت فبعث إلى
النباش وأحضره، وقال: كيف كان جواري لك؟ قال: أحسن جوار قال: فإن لي إليك
204

حاجة؟: قضيت حاجتك فأخرج إليه كفنين فقال: أحب أن تأخذ أحبهما إليك، وإذا
دفنت فلا تنبش قبري ولا تأخذ كفني فامتنع النباش من ذلك وأبى أن يأخذه فقال له
الرجل: أحب أن تأخذه فلم يزل يلح عليه حتى أخذ أحبهما إليه ومات الرجل فلما دفن قال
النباش: هذا قد دفن فما علمه بأني تركت كفنه أو أخذته لآخذنه فأتى قبره فنبشه فسمع
صائحا يقول: ويصيح به لا تغفل ففزع النباش من ذلك فتركه وترك ما كان عليه وقال
لولده: أي أب كنت لكم؟ قالوا: نعم الأب كنت لنا قال: فإن لي إليكم حاجة قالوا
قل ما شئت فانا سنصير إليه إنشاء الله قال: أحب إن مت ان تأخذوني فتحرقوني
بالنار فإذا صرت رمادا فدقوني ثم تعمدوا بي ريحا عاصفا فذروا نصفي في البر ونصفي في
البحر، قالوا: نفعل فلما مات فعل به ولده ما أوصاهم به فلما ذروه قال الله جل جلاله للبر:
أجمع ما فيك وقال للبحر: أجمع ما فيك فإذا الرجل قائم بين يدي الله جل جلاله فقال الله
عز وجل: ما حملك على ما أوصيت به ولدك أن يفعلوه بك قال: حملني على ذلك وعزتك
خوفك فقال الله جل جلاله: فأني سأرضي خصومك وقد أمنت خوفك وغفرت لك
نعم من خاف الله في الدنيا آمنه الله يوم الفزع الأكبر من المخاوف كما قال مولانا الحسين
لما قيل له ما أعظم خوفك من ربك قال: لا يأمن القيامة إلا من خاف الله في الدنيا
في الارشاد قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي بين خوفين
أو آمنين إذا خافني في الدنيا آمنته في الآخرة، وإذا آمنتني في الدنيا
أخفته في الآخرة طوبى للخائفين من الله في الدنيا والآمنين منه
في الآخرة منهم الحسين بن علي (ع) الذي كان يصلي بالليل
الف ركعة، ويحيي لياليه بالعبادة والذكر وتلاوة
القرآن والدعاء والاستغفار، وآخر ليلة أحياها
ليلة العاشر من المحرم لما هجم
القوم استمهل منهم إلى
آخر المصيبة
205

تم بعون الله تعالى
الجزء الأول
ويليه الجزء الثاني
206