الكتاب: السقيفة
المؤلف: الشيخ محمد رضا المظفر
الجزء:
الوفاة: ١٣٨١
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: تقديم : الدكتور محمود المظفر
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: جمادي الثاني ١٤١٥
المطبعة: بهمن - قم
الناشر: مؤسسة أنصاريان
ردمك:
ملاحظات:

السقيفة
ويليه الهامش
1

السقيفة
العلامة المجدد
الشيخ محمد رضا المظفر
ويليه على هامش السقيفة
تقديم الدكتور محمود المظفر
3

بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الدكتور محمود المظفر
الأستاذ في كلية الفقه بالنجف الأشرف
يعد موضوع " السقيفة " الذي يدور البحث حوله في
هذا الكتاب: من أهم الموضوعات وأبعدها أثرا في تاريخنا
الإسلامي حيث تشابكت حوله آراء المؤرخين والباحثين
العقائديين، وامتد فيها الجدل واسعا بينهم.. باعتباره (فتنة)
وقى الله المسلمين شرها - على حد قول بعض
أطرافها - أو باعتباره (انقلابا) تطبيقا لما جاء في قوله تعالى:
" أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ".
ولذلك كان لهذا الموضوع الخطير الذي عالجه عمنا
الراحل (الرضا) قدس الله نفسه الزكية في كتابه الفريد
المذكور آثاره وصداه البعيد في حينه بحيث صار محورا للنقد
والتعليق ومثارا للمناظرات:
5

فقد صدر على أثره عن مطابع مصر كتاب " رد على
السقيفة " منسوبا إلى عبد الله الحضرمي.. تناول فيه بالرد
على كتاب (السقيفة) بشكل جانب فيه الموضوعية وأصول
البحث والمناظرة.
ثم صدر ردا عليه الكتاب الموسوم ب‍ (رد على السقيفة)
لمؤلفه السيد القزويني أحد أعلام البصرة الذي تولى فيه
بإسهاب مناقشة الرد المذكور ومعالجة موضوعاته المختلفة.
كما ظهر بعدئذ " كراس " بعنوان (على هامش السقيفة)
وهو الذي احتوى ما قدمه السيد عبد الله الملاح البحاثة
الموصلي إلى الشيخ المؤلف من أسئلة وملاحظات، وما توفر
عليه المؤلف من إجابات وإيضاحات لها.
لقد كان من رغبتنا أن نقوم بجمع الأصل والردود
المذكورة مع ما كتب من إيضاحات أو تعليقات رددتها بعض
الكراريس والمجلات في مجلد وضخم واحد، يعرض المشكلة
محررة بأقلام أطرافها.. بيد أن محاولة تستر مؤلف كتاب (رد
على السقيفة) وراء اسم عبد الله الحضرمي المذكور الذي
لا واقع له فيما ظهر لنا، الأمر الذي يتطلب استجازة صاحبه
الحقيقي في إعادة نشره، مضافا إلى أن المؤلف نور الله ضريحه
لم يشأ في حينه أن يعلق على واحد من تلك الردود أو
التعليقات خلا تلك الأسئلة والاستفسارات التي وجهها إليه
الأستاذ الملاح والتي آثرنا إلحاقها مع أجوبتها في آخر
الكتاب.
6

إن هذا ونحوه دعانا بالفعل إلى العدول عن تحقيق فكرة
المجمع هذه، مفضلين إعادة نشر الكتاب ملحوقا به الهامش
المذكور وحده لما احتواه هذا الهامش من أسئلة وأجوبة قد
تساعد كثيرا على توضيح وتعميق بعض مسائل الكتاب.
على أني لا أجد في هذا الحين أكثر ثمرة وعطاءا من
التوسع في نشر هذا الكتاب نفسه وتعميمه بين الفئات
المتطلعة إلى هذا النوع من الدراسات التحليلية والموضوعية
لذلك بوادر بإعطاء الإجازة لنشره هذه المرات العديدة التي
جاوزت السبع - بما فيها هذه الطبعة.. سواء ما نشر منه في
لغته الأصلية أو فيما ترجم إلى اللغات الأخرى من فارسية
وأوردية.
هدانا الله تعالى جميعا سواء السبيل وشد من أزرنا كأمة
إسلامية واحدة تسعى وراء الحقيقة.
النجف الأشرف
17 ربيع الأول 1400 ه‍.
محمود الشيخ محمد حسن المظفر
7

مقدمة
كان المجمع الثقافي الديني
لمنتدى النشر قد أشرف على نشر
الكتاب في طبعته الثانية، وقد
سجل هذه الكلمة القيمة التي
نعيد نشرها في هذه الطبعة معتزين
بها.
- 1 -
موضوع هذا البحث قديم جدا وقد سبق أن عالجته
عشرات الأقلام في مختلف العصور وكان مسرحا لكثير من
عواطف الكتاب تلاعبت فيه بأساليبها الخطابية التي لا يراد بها
غير تركيز عقيدة أصحابها من طريق اللف والدوران ولم يسلم
من آفاتها إلا القليل.
وعلى كثرة من كتب فيه في عصرنا الحاضر لم أجد - في
الغالب - من أخضعه للتطور فغير في مناهج البحث، وجدد
في طريقة الاستنتاج وبدل في أساليب العرض إلى ما يلائم
9

أذواق العصر فكانت حاجته كبيرة إلى من يعالجه معالجة موضوعية
مجردة من ناحية، ويأخذ بيده إلى حيث يرجى له من التطور
الذي تقتضيه مناهجنا العلمية الحديثة من ناحية أخرى.
واشتدت الحاجة قبل عدة من سنين حين كثر البحث في هذا
الموضوع كثرة تلفت إليها الأنظار وحين ازدحمت عليه العواطف
فأساءت استغلاله وتركته عرضة لأحداث ومشاكل اجتماعية يذكر
الكثير من القراء مدى مفعولها في هذه الأوساط وكان لا بد
لهذا الطغيان العاطفي من أحداث رد فعل في نفوس بعض
الباحثين المجردين ممن تهمهم رسالتهم العلمية قبل كل
شئ.
وكان سماحة شيخنا العلامة المظفر - مؤلف هذا الكتاب - في
طليعة أولئك الباحثين كما كان كتابه هذا نتيجة لرد الفعل
الذي أحدثه ذلك الطغيان.
- 2 -
أما الكتاب فقد وفق في عدة نواحي وفق في نظرته لبحثه
نضرة موضوعية خالصة لا يلمس فيها للمؤلف أية عاطفة ولا
يدرك فيها أي تحيز وإذا قدر له أن ينتهي في بحثه إلى حيث تنتهي
عقيدته المذهبية فليس ذلك إلا لأن منهجه العميق انتهى به
إلى هذه النهاية، ووفق في منهجه العلمي الدقيق القائم على
التماس ملابسات شتى ألقت كثيرا من الأضواء على هذه
الحادثة التاريخية بالإضافة إلى ما عرض من النصوص الواردة
فيها خاصة ناقدا لها جميعا نقدا دلاليا دقيقا مجليا مفاهيمها
10

على حسب ما يقتضيه الفن معتمدا في ذلك أصح الطرق
الموصلة إليها مختارا من الأحاديث ما اتفق عليه الثقات من
أئمة الحديث لدى الطائفتين المسلمتين، ووفق أخيرا في
أسلوبه في العرض وتنظيمه لبحثه تنظيما فنيا ينتهي بك إلى
نتائجه من أقرب الطرق وأيسرها ببيان رائع جذاب.
والحق أن الكتاب يعتبر مرحلة تطورية مهمة أوصل بها
المؤلف هذا البحث إلى عصره الذي يعيش فيه وهو من
الكتاب القلائل في هذا الموضوع التي أدت وظيفتها كاملة.
- 3 -
ولعل القارئ الكريم يود أن يعرف مدى أثر هذا
الكتاب في نفوس الباحثين والمعنيين بهذه الشؤون وكيف
استقبلوا بحوثه الحرة وإلى أي مدى كان إقبالهم عليه أو
إعراضهم عنه، والحقيقة أن الناس لم يتفقوا عليه بحال فقد
انقسموا حوله طائفتين رضيت عنه أولاهما وحمدت لمؤلفه
أسلوبه المجرد وأطرته إطراء عاطرا وخير من يمثلها من
الأعلام سيد هذا الفن في عصرنا الحاضر سماحة آية الله
العلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين مؤلف كتاب
المراجعات وغيره مما يعتبر فتحا في البحوث الكلامية التي
خضعت للمنهج العلمي في عصرنا الحاضر فقد كتب حفظه الله
إلى مؤلفه كتابا يعرب فيه عن رأيه فيه وفي مؤسسته التي
يرأسها، نذكره هنا بنصه اعتزازا بثقته بالكتاب وإكبارا لرأيه
11

بالمؤسسة التي احتضنها المؤلف واعتبر بحق، رائدها الأول
وحافظ سيرها وتوازنها منذ تأسيسها حتى اليوم وهذا نص
الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام على أمير المؤمنين وسيد الوصيين ورحمة الله
وبركاته
أيد الله شيخنا العلامة البحاثة المجاهد الشيخ محمد رضا
المظفر وأعز أقطاب مجمعه الثقافي الديني لمنتدى النشر وسلام
الله عليه وعليهم وحي الله منهم أرواحا طيبة طاهرة تصدع
بالحق في منتداه الكريم.
وبعد فقد أخذت هديتكم القيمة كتاب " السقيفة " بعين
الشكر ثم استشففت فيه أثر الجهد النبيل الجدير بالمؤسسة
العلمية الطالعة بما انتظمه من سلامة البحث وسمو التفكير
وحسن الأداء على وجه سد فراغا في المطبعة النجفية.
وكنا فيمن عقد الأمل " بالمنتدى " يوم تأسيسه وناط به
الرجاء أن يكون له الأثر المحمود في توجيه الناشئة الدينية
وبناء الجيل الطالع وتجديد ميراث النجف في بعث يلائم
التطور الحاضر ويماشيه في مداه الطويل ووسائله المنوعة وذلك
أني رأيت من قديم أن الهدى لا ينتشر إلا من حيث ينتشر
الضلال وعلى هذا رجوت أن تكون المطبعة وتنويع المنهج
12

الدراسي وإحياء العلوم الإسلامية المذخورة كل هذا من رسالة
منتداكم المرجو ولم تخلفوا الظن ولله الحمد فإن الذي يبلغنا
من أخباركم السارة وآثاركم النافعة يثلج الصدر وينعش
الأمل وليس شئ كأثركم الأخير هذا السفر الجليل داعيا إلى
الاطمئنان والاستبشار بمستقبل نير يضع النجف الأشرف في
مكانه الأسمى ومحله الأرفع والسلام عليكم ورحمة الله
عبد الحسين شرف الدين
ولهذا الكتاب الكريم نظائر من الكتب من أعلام
الباحثين الذين يألفون هذا النمط من التفكير تركنا
ذكرها الآن اكتفاء بهذه الرسالة الجليلة. أما الطائفة
الأخرى التي لم يبد أنها ارتاحت لهذا الأسلوب من البحث
واعتادت على مواجهة مثله بأعصاب متوترة توجهها العاطفة
حسبما تريد فخير من يمثلها مؤلف كتاب " رد على
السقيفة " وهذا الرد إذا استثنينا منه ما حشد فيه مؤلفه من
ألفاظ السباب الخارجة على آداب البحث والتي يفزع إليها
العاطفيون عادة إذا أعوزتهم الحجة لم يخلص لنا منه إلا
القليل.
وهذا القليل وضع في حضرته للنقد والجدل مقياسا لا
نتفق عليه معه بوجه وما أدري إلى أي حد يتفق معه
الآخرون من باحثي قومه عليه فهو يرى كما يبدو من مجمع
الكتاب - إن المقياس لديه في كل شئ يتعلق بالموضوع هو
13

ميوله الخاصة، فالأحاديث التي لا تتفق معها أحاديث
موضوعة وإن أجمع ثقات المحدثين من الطرفين على
تصحيح أسانيدها مع أن بعضها متواتر لا يشك بصدوره عن
النبي (ص) بحال، والأحاديث التي توافق هواه صحيحة وأن
حكم أرباب الجرح والتعديل من قومه بوضعها وشخصوا الواضع
وعينوه، ومداليل الأحاديث يجب أن تصرف عن ظواهرها إذا لم
تؤيده وإن خرج الكلام على الأصول الموضوعة في هذا الفن
إلى آخر ما هنالك مما لا يقتضي التعرض له في صدور هذا
الكتاب على أن هذا ليس غريبا على حضرته ما دام يواجه
التأريخ بهذه الذهنية، ولكن الغريب من مجلة مصرية تنطق
بلسان هيئة محترمة قرأ محرروها الرد ولم يقرؤا الأصل
فاستعاروا منه أسلوبه في الشتم ونحوا على الكتاب
وصاحبه باللوم والتقريع مع أن (التبين) كان أليق بهم
وبمكانتهم العلمية لئلا يصيبوا قوما بجهالة فيصبحوا على ما
فعلوا نادمين.
- 4 -
وعلى أي حال فأن لجنة المجمع الثقافي الديني
لمنتدى النشر لم تجد ما يصلح للرد على هذا وأمثاله أكثر من
السماح للناشر الفاضل الشيخ محمد كاظم الكتبي بإعادة
طبعته للمرة الثانية وتمكين القارئ الذي لم يقدر له الحصول
على نسخة منه من الاطلاع عليه تاركة للقراء وحدهم حق
الحكم له أو عليه، ولا يفوتنا أن نشكر الناشر على ما بذل في
14

نشره من جهد ونسأله تعالى أخيرا أن يلهمنا جميعا الصواب
والسداد
5 رمضان سنة 1372 ه‍
15

بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد على سوابغ آلائه. والصلاة والسلام على نبيه
وآله وصحبه النجباء.
- 1 -
تأثير العقيدة على المؤرخ
من أشق الفروض على المؤرخ أن نفض عن ردائه غبار
التعصب لنزعاته الشخصية من دينية أو قومية أو وطنية
ونحوها. بل لعله من شبه المستحيل أن ينزع من قلمه لحاء
عقائده وأهوائه. فإن النفس تلهم عقل صاحبها التصديق
بميولها وعواطفها، وكثيرا ما تقف سدا منيعا بين بصيص عقله
والحقيقة، وإن حاول أن يخرج من نفسيته التي ورثها ونشأ
عليها. ويتحلل فكره من أسرها وسجنها ليحلق في جو الحق
الطليق. وإذا رأيت طائرا أسعده الحظ فتحرر من سجنه
فالحقه إذا كنت حرا مثله، فستجد أن جناحه مثقل بغبار
16

السجن، وأرجله لا تزال متأثرة بالقيود، فيختلج في رفيفه
ويتثاقل في طيرانه، وقد يهوي أحيانا إلى الهوة غير مختار.
هذا من حاول أن يتحرر من شخصيته الاعتقادية
وتأثيرها عليه. أما من يؤرخ لأجل غذاء عقيدته، أو يؤلف
إرضاء نفسه أو محيطه، فاقرأه ألف سلام! وأرجو من الله
تعالى أن يوفقني لئلا أكونه.
وأظنني غير مبالغ إذا قلت: إن المؤرخين من السلف
على الأكثر - وأقول " على الأكثر " إذا أردت الاحتياط في
القول كانوا من النوع الثاني. بل حتى المؤرخين النوع الثاني.
بل حتى المؤرخين في عصرنا لا يخرجون عن هذه الطريقة على
الغالب. وإن تظاهروا بحرية الرأي وإنصاف الواقع والحق،
فظهر جليا - بالرغم على المؤرخ - نزعته على قلمه ويتماشى
تأريخه وتأليفه مع الروح التي يحملها، فيختار من الأحاديث
ما لا يفسد عليه رأيه، ولا يصدق إلا بما يجري على هواه.
فكم يكون الرجل عنده كذابا وضاعا، لأنه نقل ما لا يتفق
ومبادءه، وكم يكون ثقة صدوقا لأنه لم يرو إلا أحاديث تؤيد
طريقته.
- 2 -
اضطراب التاريخ
وهناك بلاء مني به التاريخ الإسلامي خاصة حماه
17

بالغموض والشك عن الباحثين المنصفين. ذلك كثرة ما لفقه
الوضاعون والدساسون في القرون الأولى من الهجرة، لا سيما
القرن الأول فأشاحوا بوجه الحقائق وقلبوها رأسا لعقب.
وليس أدل على ذلك من التناقص والاضطراب الموجود
في أكثر أحاديث الوقائع التاريخية، فضلا عن الأحكام
الشرعية، ما عدا الاختلاف في خصوصيات الحوادث
والأحكام مما يذهب بالاطمئنان إلى كل حديث. ولا أظن
ناظرا في التاريخ لا يصطدم بهذه الحقيقة المرة. ولا يمكن أن
يحمل كل ذلك على الغلط في النقل والغفلة في الرواية.
ولنعتبر بأهم حادثة يجب اتقانها عادة، مثل يوم وفاة
الرسول صلى الله عليه وآله، فإنك تعلم كيف وقع
الاختلاف في تعيين اليوم من الشهر بل في تعيين الشهر.
وهذا أمر شهده جميع المسلمين وهزهم هزا عنيفا فلا يمكن أن
يفرض فيه النسيان أو الغفلة. فماذا ننتظر بعد هذا من تاريخ
حروبه وأحواله، ومن نقل أقواله وأحاديثه لا سيما فيما يتعلق
بالشئون التي اختلف فيها المسلمون فتحاربوا عليها، أو
تشاتموا لأجلها فكفر بعضهم بعضا.
ولعل أسباب الوضع ثلاثة أشياء:
1 - حب تأييد النزاعات والعقائد، فيغري على الكذب
ولعل ذلك يخدعه بأن الرأي الذي يعتقده حقا يسوغ له
الوضع، ما دام الموضوع في اعتقاده هو أو شبيه به.
18

2 - حب الظهور والتفوق فقد كان للمحدث في العصور
الأولى المنزلة العظيمة بين العامة، وبالحديث كان التفاخر
والتقدم، ويمتاز من كان عنده من الحديث ما ليس عند
الناس، فأغرى ذلك ضعفاء العقول وعبدة الجاه وعبدة
الجاه، فاحتالوا للحديث من كل سبيل، حتى من طريق
الوضع والتزوير.
3 - ما بذله الأمويون وأشياعهم من كل غال ورخيص
للمحدثين على وضع ما يؤيد دستهم وملكهم وأهواءهم، ولا
سيما فيما يحط من كرامة آل البيت، وفيما يرفع من شأن
أعدائهم وخصومهم، فكثرت القالة يومئذ واتسع الخرق،
حتى طعن الإسلام طعنة نجلاء لم يبرأ منها إلى يوم الناس
هذا.
- 3 -
خطة الكتاب
فلذا وذاك أصبحت، وأنا كثير الشك والتحفظ في جملة
مما ينقله المؤرخون والمحدثون، وأقف حائرا عند كل حديث
يتعلق بالخلافات المذهبية خاصة.
فكيف بي، وأنا أقحمت نفسي في البحث عن أول
حادث في الإسلام نشب فيه الخلاف بعد الرسول وانشق فيه
المسلمون طائفتين ذلك حادث (السقيفة)!.
19

كيف بي، وقد وقفت بين نفس تطالبني بأن أرضيها في
عقيدتها، وبين تأريخ هذا حاله قد أحيط بالشكوك والشبهات
وقد كتب في الحادثة الطرفان، فشرفت طائفة وغربت أخرى.
ولكني أريد الآن أن أتحرر من عقيدتي وأتمرد على نفسي
فأقف حرا على نشز من الإنصاف والتروي، وأمسح عن عيني
غبار التعصب لأرى تلك الحقيقة الواحدة وهي واحدة في كل
شئ - فهل أراني أستطيع علاج ما بي؟ هذا ما أشكه في
نفسي وواجب علي ألا أثق بها، فما السبيل إذن؟ ثم ماذا
سأصنع في علاج الناحية الأخرى: ناحية التاريخ المظلم؟
- إنها لمزلة للقدم، ولها ما بعدها؟.
- دعني أرجع أدراجي؟.
- لكنه الهوى في النفس وعزيمة صحت من عهد المعمي من عهد ليس
بالقريب لا كشف لنفسي، أو لغيري - إذا جاء لي - ذلك اللغز
المعمى، ومن يستطيع أن يدافع ذلك من نفسه.
على أني أجد في بحثي سلوة ومتعة يلذ لي فيه أن المس
بعض الحقائق عن بصيرة ومتعة أخرى أن أسجله انتاجا باقيا
للناس.
وأيضا لما كنت أحاول - إن صدقتني المحاولة - أن أحيط
بأسرار الحادثة وفلسفتها ونتائجها، فلا يكون ما أكتبه تأريخا
مجردا جافا وأحدوثة خالية من ذوق، فإن ذلك يستحثني على
20

المضي في البحث ويشجعني على إخراجه للناس. وإن كان
فيه صعوبة أخرى قد تقحمتها وجب إلي عبؤها الثقيل.
وبعد التفكير والمحاولات مدة طويلة هديت إلى شئ
واحد بالأخير أرجو أن ابتعد بسببه عن تأثير العواطف ولعبها
بالعقول واقترب من الحق والصدق، هو أن أكثر من
مراجعاتي لمؤلفات من أخالفه في الرأي من ناحية مذهبية، بل
أجعلها هي المصدر في البحث وظني أن بهذا سيحصل
التفاعل من الجانبين: عقيدتي وهذه المصادر، لينتج ما قد
يسمونه (الوسط في الرأي) أو تكون الحقيقة قد اهتديت
إليها بهذه الحيلة، إن طاوعتني.
وقد أخذت على نفسي في هذا الكتاب أن أسجل
خلاصة مطالعاتي ومحاكماتي التاريخية، بعد أن سبرت كثيرا
من المصادر القديمة التي أشرت إليها آنفا، فإذا كنت أذكر
حديثا أو حادثا تأريخيا توافرت المصادر على ذكره وتوقيفه،
فإني لا أذكر معه تلك المصادر توفيرا على القارئ خشية إعناته
بدون جدوى، إلا بعض الأحاديث التي ينفرد بها مصدر أو
مصدران، فإني اضطر اضطرارا إلى ذكر المصدر في التعليقة
تنويرا لذهن القارئ غير المتتبع.
وكل جهدي أن أضع بين يدي القراء صورة مصغرة مما
اهتديت إليه من أفكار، أرجو أن تكون خالصة من تأثير
21

العواطف والنزعات حرة هي الحق كله أو قريبة من الحق،
وبالله التوفيق ومنه التسديد.
شهر رمضان 1353 هجرية
المؤلف
محمد رضا المظفر
22

بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
في عام 11 للهجرة يفعل الدهر فعلته الأولى، فيقلب
صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي المجيدة كتبت
بأحرف من النور الإلهي. كلها إيمان وصدق، جهاد
وتضحية، فخر وقوة، عز ومجد، عدل ورحمة، أخوة
وإنسانية.
يقلب الدهر هذه الصفحة الناصعة بالخيرات والفضائل،
بأفول ذلك النور المقدس من الأرض، فيستقبل بالمسلمين
صفحة من كتابه التكويني مشوشة الخط قال عنها الكتاب
التشريعي: (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم...).
لا شك عند من يعترف بالقرآن الكريم وحيا إلهيا لا ينطق صاحبه
عن الهوى، في أن هذا الحادث التاريخي العظيم بموت منقذ
الإنسانية، كان حدا فاصلا بين عهدين يختلفان كل
الاختلاف: ذاك إقبال بالنفس والنفيس على الحق تعالى، وهذا
انقلاب عنه على الأعقاب. إذن نحن الآن أمام أمر واقع:
مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم!
23

ولا بد أن يكون المسلمون (- كلهم؟ - لا أدري الآن) قد
انقلبوا على أعقابهم.
ولكن... بأي حادث كان مظهر هذا الانقلاب؟.
* * *
أعطني من نفسك - أيها القارئ - وفكر بحرية، والتمس لي
حادثا ذا بال وقع بعد وفاة صاحب الرسالة مباشرة، فنضح
برذاذه جميع المسلمين، فهل تجد غير حادث " السقيفة "؟ ما
أعظمه من حادث! وهل تدري أن الشيعة تفسر الآية الكريمة
به؟.
فإذا؟ ردنا الآن أن نبحث عن " السقيفة "، فإنما نبحث
عن أعم حدث في الإسلام، وأول حوادثه بعد الوفاة، له
علاقته الخاصة بالآية الكريمة، أتفسر به أم لا؟.
وعلى هذا الأساس قلت في المقدمة شرق فيها قوم وغرب
آخرون فدخلت العقائد والأهواء في سرد الحادثة، فكانت
ذات ألوان ووجوه يكد فيها الباحث، ويجهد مستهدف
الحقيقة.
* * *
وما علي لو أدعي قبل الدخول في بحث السقيفة أن الآية
الكريمة تفسر بحوادث الردة التي وقعت في خلافة أبي بكر.
24

ولكني لا اطمئن إلى هذا الاحتمال، ما دامت الآية تشعرنا بأن
الانقلاب يقع بعد موت النبي مباشرة، وما دامت هي خطابا
لجميع المسلمين، وأهل الردة - كيفما فرضناهم - هم أقل
القليل من المسلمين، بل في العدوة القصوى منهم.
وفوق ذلك نجد أن عمدة من نسميهم بأهل الردة هم
المتنبؤن وأشياعهم، كمسيلمة وأتباعه، وطليحة وأوليائه.
وهؤلاء كانوا في عهد النبي واستغلظ أمرهم بعده، ما عدا
سجاح التميمية، وما كان لها كبير شأن وقد اندمجت بمسيلمة.
أما الأسود العنسي فقد قتل في حياة الرسول ولازم أنصاره
طريقته بعده. وعلقمة بن علاثة ارتد في زمانه صلى الله عليه
وآله. ومثله أم رفل سلمى بنت مالك وتابعوها.
أفيصح أن نقول: إن هؤلاء انقلبوا على الأعقاب بعد
النبي، وكان الخطاب بالآية لهم؟ اللهم إن هذا يأبى
الإنصاف أن يصدق به، عند من كان له شئ من حرية
الرأي وصحة التفكير.
ومالك بن نويرة (1).
- مالك وادع سجاح (والموادعة. المتاركة والمسالمة على
ترك الحرب كما كان كعب القرضي موادعا لرسول الله).
وليست الموادعة من الردة في شئ وأكثر من ذلك إنما كانت

(1) وبه يضرب المثل المشهور: " فتى ولا كمالك ".
25

منه لمصلحة المسلمين، ليرد سجاح عن غزوهم في تلك
الأصقاع النائية عن مركز المسلمين. وكان الذي أراد.
وإن كانت تلك الموادعة ذنبا، فقد أظهر هو وقومه التوبة
بعد ذلك، كما صنع وكيع وسماعة، وهما وادعا سجاح
أيضا، وقبل المسلمون المحاربون توبتهما.
وهذا أبو بكر يدي مالكا إذ قتله خالد بن الوليد وخلا
بزوجته ليلة قتله، فهل تفسر بهذا آية الانقلاب؟.
ولا ذنب لمالك - إذ عد من أهل الردة - إلا أن قاتله بطل
المسلمين يومئذ وقائدهم. وحقيق عليهم أن يدافعوا عن فعلته
ويبرروا عمله. فليكن مالك مرتدا يستحق القتل! وما يهمنا
أن نشين مالكا بما يستحق وبما لا يستحق، ما دامت كرامة
خالد محفوظة مصونة من النقد!.
عمر بن الخطاب يريد أن يؤخذ خالد بقتله لمالك ونزوه
على زوجته وأبو بكر يعتذر عنه (أنه اجتهد فأخطأ). وما
الخطأ على المجتهدين بعزيز. وهذا من أوليات أبي بكر، إذ
يجعل الاجتهاد عذرا للمخالفة الصريحة للقانون الإسلامي.
وأبو بكر لم يقل لمتمم أخي مالك أنه ارتد فقتل بل قال
له: ما دعوته وما قتلته، لما قال له متمم من أبيات:
أدعوته بالله ثم قتلته * لو هو دعاك بذمة لم يغدر
26

نعم! التاريخ ينزه مالكا. وقضى الدفاع عن خالد أن
يحكم بعض الكتاب في هذا العصر بكفر مالك وارتداده!.
* * *
ومن هم أهل الردة غير هؤلاء؟.
- مانعوا الزكاة.
- مانعوا الزكاة؟. من هؤلاء بأسمائهم وقبائلهم! ليت
أحدا يرشدني إليهم! فقد وجدت التأريخ يجمجم في ذكرهم
فيحصر، ويروح ويغدو فلا يجد غير المتنبئين وأشياعهم. وأبو
بكر لما قال كلمته المشهورة: (لو منعوني عقالا لجاهدتهم
عليه)، فإنما قالها عندما جاء وفد طليحة المتنبئ المتقدم ذكره
يطلبون الموادعة على الصلاة وترك الزكاة، لا في قوم غير
المتنبئين.
وإذا كانوا - وربما كانت بعض القبائل المجهولة امتنعت
عن الزكاة - فهل العصيان بترك واجب، وهم يقيمون الصلاة
يكون كفرا وارتدادا؟ بأي مذهب وبأي دين؟ فليتأول
المتأولون ما شاؤوا.
ولم يعرف عنهم أنهم أنكروا وجوب الزكاة بقول، حتى
يكونوا من منكري ضروريات الدين الذين يعدون في
الكافرين المرتدين. وأكثر ما عرف عنهم إذا كان لهم من
منكري ضروريات الدين الذين يعدون في الكافرين المرتدين
27

وأكثر ما عرف عنهم إذا كان لهم وجود غير المتنبئين أنهم
امتنعوا عن أدائها.
وتغلق دعوى المدعي أن هؤلاء أنكروا بيعة أبي بكر التي
كانت عن غير مشورة من المسلمين كما صرح به عمر بن
الخطاب، فلم يعترفوا له بإمامة وولاية حتى يؤدوا له الزكاة.
ولعلهم كانوا يطالبون بخلافة من كان النص من النبي على
خلافته، فأهمل مطالبتهم التأريخ.
هذه احتمالات لا يفندها التأريخ والاعتبار، وادعتها
الشيعة فيهم، فما لنا بتكذيبها من برهان، فالأحسن لنا ألا
نعترف بوجودهم كما أهمل التأريخ أسماءهم وقبائلهم.
ومهما كان الأمر، فإن استطاع الكاتب أن يثبت
الانقلاب بأول حدث في الإسلام، فلا يهمه ماذا سيكون
شأن الحوادث اللاحقة، بل يستعين على تفسيرها بتفسير
الحادث الأول، وكفى!
وأجدني مضطرا قبل كل شئ إلى أن أقف مع القارئ
على ما صنعه النبي صلى الله عليه وآله، من حل للخلاف
بعده: إما في وصية باستخلاف أحد، أو في قاعدة مضبوطة
يرجعون إليها، أو أنه أهمل الأمر وتركهم وشأنهم، لأن هذا
البحث له علاقة قوية في موضوع بحثنا، يتوقف عليه تفسير
كثير من الحوادث.
28

إذن سنعقد الكتاب علي أربعة فصول:
الفصل الأول - في موقف النبي تجاه الخلافة
الفصل الثاني - في تدبيره لمنع الخلاف
الفصل الثالث - في بيعة السقيفة
الفصل الرابع - موقف علي بن أبي طالب.
29

الفصل الأول
موقف النبي تجاه الخلافة
31

1 - هل كان يعلم بأمر الخلافة؟
هل تجد من نفسك الميل إلى الاعتقاد بأن النبي صلى
الله عليه وآله كان لا يعلم بما سيجري بعده: من خلافات
وحوادث من أجل الخلافة؟ وهل تراه كان غافلا عما يجب في
هذا السبيل؟.
إذا كان لك هذا الميل فلا كلام لي معك، وأرجو
منك - يا قارئي العزيز علي - أن تلقي الكتاب عندئذ عنك
ولا تتعب نفسك بالاستمرار معي إلى آخر الحديث، لأني
افرض قارئي مسلما يؤمن بالنبي ورسالته، ويعرف من
تأريخه ما يكفيه في طرد هذا الوهم.
فإن من يمت إلى الإسلام بصلة العقيدة لا بد أن يثبت
عنده على الأقل أن صاحبه صرح في مقامات كثيرة بما
ستحدثه أمته من بعده فقد قال غير مرة: (ستفترق أمتي على
ثلاث وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار).
وأكثر من ذلك أنه لم يستثن من أصحابه إلا مثل همل
النعم، ثم هم يدخلون النار بارتدادهم بعده على أدبارهم
القهقري، أو يردون عليه الحوض فيختلجون بما أحدثوا
32

بعده. وفي بعض الأحاديث: (فيقال لي: إنهم لم يزالوا
مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) (1)
وأخبرهم أنهم يتبعون سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا
بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعوهم.
و (الخلافة) أمر كانت تحدثه به نفسه الشريفة، ويشير
إليها أنها ستكون ملكا عضوضا بعد الثلاثين سنة. وثبت أنه
قال: (هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم
من قريش). وقال: (من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة
جاهلية). وقال... وقال... إلى ما لا يحصى.
وسيرته والأحاديث عنه - وما أكثرها - تشهد شهادة قطعية
على ما كان من اختلاف أمته، وعلى أن الخلافة والإمامة من
أولى القضايا التي كانت نصب عينيه.
2 - هل وضع حلا للخلاف؟
إذن كان صلى الله عليه وآله عالما بأن الدهر
سيقلب لأمته صفحة مملؤة بالحوادث والفتن، والخلافات
والمحن، وأن لا بد لهم من خلافة وإمارة.

(1) صحيح مسلم 8: 107 وغيره.
33

فلا بد أن نفرض أنه قد وضع حلا مرضيا لهذا الأمر
يكون حدا للمنازعات وقاعدة يرجع إليها الناس، لتكون
حجة على المنافقين والمعاندين، وسلاحا للمؤمنين، ما دمنا
نعتقد أنه نبي مرسل جاء بشيرا ونذيرا للعالمين إلى يوم
يبعثون، فلم يكن دينه خاصا بعصره، ليترك أمته من بعده
سدى من غير راع أو طريقة يتبعونها، مع علمه بافتراق أمته
في ذلك.
ولا يصح من حاكم عادل أن يحكم بنجاة فرقة واحدة
على الصدفة من دون بيان وحجة تكون سببا لنجاتهم
باتباعها، وسببا لهلاك باقي الفرق بتركها.
لنفرض أن الحديث والتأريخ لم يسجلا لنا الحل الذي
نطمئن إليه، فهل يصح أن نصدقهما بهذا الاهمال، ونوافقهما
على أن النبي ترك أمته سدى، وفي فوضوية لا حد لها يختلفون
ويتضاربون؟، ثم يتقاتلون، وتراق آلاف آلاف الدماء
السلمة، ساكتا عن أعظم أمر مني به الإسلام والمسلمون،
مع أنه كان على علم به؟.
ولو كنا نصدقها مستسلمين لكذبنا عقولنا وتفكيرنا،
فإن الإسلام جاء رحمة لينقذ العالم الإسلامي من الهمجية
والجاهلية الأولى، فكيف يقر تلك المجازر البشرية في أقصى
حدودها، تلك المجازر التي لم يحدث التأريخ عن مثلها ولا
عن بعض منها في عصر الجاهليين.
34

فما علينا إلا أن نتهم التأريخ والحديث بالكتمان وتشويه
الحقيقة بقصد أو بغير قصد. ولئن لم يكن محمد نبيا مرسلا
يعلم عن وحي ويحكم بوحي فليكن - على الأقل - أعظم
سياسي في العالم كله لا أعظم منه، فكيف يخفى عليه مثل
هذا الأمر العظيم لصلاح الأمة بل العالم بأسره مدى الدهر،
أو يعلم به ولا يضع له حدا فاصلا؟.
وهل يرضى لنفسه عاقل يتولى شؤون بلده فضلا عن أمة، أن
يتركها تحت رحمة الأهواء واختلاف الآراء ولو لأمد محدود، وهو
قادر على إصلاحها أو التنويه عن إصلاحها، إلا أن يكون
مسلوبا من كل رحمة وإنسانية؟ حاشا نبينا الأكرم من جاء
رحمة للعالمين ومتمما لمكارم الأخلاق وخاتما للنبيين! وقد قال
الله تعالى على لسانه بعد حجة الوداع: (اليوم أكملت لكم
دينكم).
وقد وجدناه نفسه لا يترك حتى المدينة المنورة، إذا خرج
لحرب أو غزاة، من غير أمير يخلفه عليها، فكيف نصدق عنه
أنه أهمل أمر هذه الأمة العظيمة بعده إلى آخر الدهر، من
دون وضع قاعدة يرجعون إليها أو تعيين خلف بعده.
3 - إيكال الأمر إلى اختيار الأمة
لنختار الآن لحل هذه المشكلة أنه صلى الله عليه وآله
35

وسلم أو كل أمته إلى اختيارهم، أو إلى اختيار أهل الحل
والعقد منهم خاصة في تقرير شؤون الخلافة. فهل يصح هذا
الفرض للحل؟.
أما أنا - أيها القارئ - لا أستطيع أن اقتنع بأن هذا
الفرض يكون حلا مرضيا لهذه المشكلة، ولعلك أنت ترى
مع من يرى أن تعيين الرئيس بالانتخاب من أرقى
التشريعات الحديثة وقد سبق إليه الإسلام، فهذا من
مفاخره.
فوجب علينا أن نبحث هذه الناحية العلمية بدقة،
وأملي - كما هو مفروض - أنك تعطيني من نفسك النصف
وتفكر معي تفكيرا حرا، بعيدا عن تأثير العاطفة التي تقضي
علينا أن نتمسك بهذه المفخرة للإسلام.
ولا ينبغي لنا أن نحاول هذه المحاولة، فربما نلصق به ما
ليس له، ولعلها لا تثبت للبحث مفخرة يمتدح بها، فنكون قد
نقضنا غرضنا الذي نريده من إثبات الفضيلة للإسلام بالسبق
إلى هذا التشريع.
والذي أدعيه الآن أن إرجاع الأمة مدى الدهر إلى
اختيارها في تعيين الرئيس لها هو عين الفوضوية التي أردنا
التخلص منها في البحث السابق، وليس معناه إلا إلقاء الأمة
في أعظم هوة من الخلاف لا حد لها ولا قعر.
36

وسر ذلك أن الناس مختلفون متباينون، ليس بينهم اثنان
يتفقان في فكر أو عاطفة أو ذوق أو عادة أو عمل، حتى
التؤمين، إلا من التشابه القريب أو البعيد من غير اتفاق
حقيقي، كاختلافهم في أجسامهم وسحنات وجوههم،
وتشابههم في ذلك. بل الناس مختلفون في كل شئ من
دقائق أجسادهم وأخلاقهم ونفوسهم وعاداتهم فلم يتفق
لشخصين أن يتفقا تحقيقا حتى في بصمة الأصابع، حتى قيل
إن كل فرد من الإنسان نوع برأسه.
وعليه، فيستحيل أن تتفق أهل بلدة واحدة على حكم واحد أو
عمل واحد، فضلا عن أمة كبيرة كالأمة الإسلامية على توالي
الزمان. وبالأخص إذا كان الحكم مسرحا للعواطف
والأغراض الشخصية والتحيزات كالحكم في الزعامة العامة.
ومن هذا نستنتج أن الرأي العام الحقيقي غير موجود
أبدا، بل يستحيل وجوده لأية أمة في العالم، ومن خطل
الرأي أن يطلب الإنسان تكوين الرأي العام، وتوحيد اختيار
الأمة بأسرها لأمر من الأمور، على أن محاولة ذلك يستحيل
أن تسلم من منازعات دموية واضطرابات شديدة إذا كان
تكوينه يراد لأمر ذي شأن، إلا أن يكون هنا حاكم يفصل
بين المتنازعين بماله من القوة القاهرة لمخالفيه، كما هو موجود فعلا في
الانتخابات الجارية عند الأمم المتمدنة، فإن تحكيم الأكثرية
ذات القوة الطبيعة خير علاج على منازعاتهم في الأمور العامة.
37

وتحكيم الأكثرية في الحقيقة فرار من محاولة تكوين الرأي
العام الحقيقي، بل هو اعتراف باستحالته، ومع ذلك لم يسغن
غالبا الرجوع إلى الأكثرية ليكون لها الفصل عن ملطفات
ومؤثرات أخرى تنضم إلى قوته الطبيعية، أهمها سلطة
الحكومة والقانون العام القاضي بتحكيم الأكثرية الذي أصبح
بحكم التقليد لا مسيطرا على معتنقيه.
وبتوسيط أمثال هذه الأمور تمكن التسوية بين الأكثرية
على رأي متوسط، وإلا فالاتفاق الحقيقي على تفاصيل الأمور
يستحيل حتى في الأكثرية.
وهذا الرجوع إلى الأكثرية آخر ما توصل إليه الإنسان
بعد العجز عن تحصيل الاتفاق الحقيقي وبعد أن فشل البشر
على ممر تلك القرون الطويلة التي أنهكته بالتجارب القاسية،
فوجد ذلك خير ضمان للسلام في الأمم. وليس معنى ذلك
أن الأكثرية لا تخطأ، كيف والجماعات دائما تفكر بأحط فكرة
فيها، ومن مزاياها أنها خاضعة لسلطان العاطفة، فهي علاج
لفض المنازعات ليس إلا، لا لضمان تحصيل الرأي المصيب.
وبهذا البيان نخرج إلى فكرة أن تعيين الرئيس أو غيره
بالانتخاب الذي هو من أرقي التشريعات الحديثة معناه
الرجوع إلى الأكثرية دائما التي أصبحت من التقاليد المرعية
عند الناس في هذا العصر، وهذا لم يسبق إليه الإسلام، ومن
يدعي أن النبي صلى الله عليه وآله أوكل أمته إلى اختيارهم
38

في تقرير شؤون الخلافة لا يدعي أنه شرع قانون الأكثرية لأنه
ليس لهذه الدعوى شاهد في زبر الأولين، على أنه - كما
ذكرنا - لا يسلم من الخطأ، فلا يسوغ لنا أن ننسبه إلى من لا
ينطق إلا عن وحي ولا يريد إلا الحق.
وإذا ادعى أنه أوكل الأمر إلى اتفاق أمته واختيارهم
جميعا، فمن خطل الرأي، إلا إذا جوزنا عليه أن يطلب
المستحيل أو تعمد إيقاع أمته في منازعات دائمية تفضي إلى
إزهاق النفوس وإضعاف القوى المادية والأدبية، ثم إلى
ضعف كلمة الإسلام في الأرض.
فتلخص أن هذا التشريع أعني تشريع تعيين الإمام
بالانتخاب لا يصح لنا أن ننسبه إلى منقذ البشرية من الضلالة
إلى الهدى الذي لا ينطق إلا عن وحي، سواء فسرناه بالأكثرية
أو باتفاق الجميع.
* * *
ومهما حاولنا إصلاح هذا التشريع بتفسير الأمة بأهل
الحل والعقد منها خاصة، فلا أجد هذه المحاولة تسلم من
ذلك النقص البارز فإن أهل الحل والعقد وكبار الأمة هم
بؤرة الخلاف والنزاع. فإن الخاصة مع اختلاف نفوسهم وتباين
نزعاتهم كسائر الناس، لا ينفكون عن تحيزات فيهم أعظم منها
في غيرهم. ويندر أن يتجردوا من أهواء نفسية وأغراض
39

شخصية، تجعل كل فرد يشرئب إلى هذا المنصب الرفيع ما
هئ له ووجد مجالا لارتقائه، ولو عن غير قصد، بل عن
رغبة نفسية كامنة هي غريزية لا يفطن لها صاحبها أو لا يعدها
باطلا وخروجا عن محجة الصواب. بل حب النفس قد يحمله
على الاعتقاد بأن زعامته أصلح للأمة وأجدى، فيوحي الهوى
للنفس البرهان المقنع على صحة رأيه.
وللمعتقد أن يعتقد أن الخليفة أبا بكر تفطن إلى سوء
عواقب هذا الشريع، فأسرع إلى تعيين الخليفة من بعده،
بالرغم على جدة هذا التشريع الذي به كان خليفة، وعلى
تركزه في النفوس تتوقف صحة خلافته. كيف لا وقد شاهد
هو الموقف في بيعته يوم السقيفة، وكان أدق من سم الخياط،
مع غفلة الناس يومئذ عن الأمر، وانشغالهم بفاجعة نبيهم.
وهكذا حذا حذوه خليفته، فاخترع طريقة الشورى من
ستة أشخاص، وهي تبعد كل البعد عن قاعدة الرجوع إلى
اختيار أهل الحل والعقد، على أن وجدنا هؤلاء
- وهم ستة لا غير - لم يتفقوا على رأي واحد، فلعبت دورها
التحيزات والعواطف، فصغى رجل لضغنه، ومال الآخر
لصهره، على حد تعبير الإمام علي بن أبي طالب.
ولا شك لم يخف على الخليفة عمر استحالة حتى اتفاق
الجماعة الصغيرة، فحكم فيها الأكثرية، وعند التساوي
فالكفة الراجحة التي فيها عبد الرحمن بن عوف. ومع ذلك
40

حدد لهم الوقت بثلاثة أيام، وأعطى السلطة التنفيذية
لغيرهم، ليقهرهم على تنفيذ خطته.
لماذا كل هذه القيود التي وضعها، مع تهديدهم بالقتل
إن تأخروا عن الموعد ولم يبرموا العهد؟ لا شك أنها كانت
لقصد الابتعاد عن الخلاف والنزاع الطبيعي لمثل هذا الأمر.
إذا ألقى حبله على غاربه. وهنا وجدنا كيف أحكم عمر بن
الخطاب وضع هذه الخطة، اتقاء للخلاف والنزاع على الإمارة
الذي لا ينفك عادة عن إراقة الدماء، في وقت أراد ألا
يتحمل تبعة تعيين شخص الخليفة بعده، أو أنه في الأصح لم
يجد نفسه تميل كل الميل إلا لتعيين أحد الثلاثة الذين قد ماتوا
يومئذ، وهم أبو عبيدة بن الجراح، وسالم مولى أبي حذيفة،
ومعاذ بن جبل.
* * *
ولا أعجب أن يكون أبو بكر وعمر تفطنا إلى ما في
تشريع إلقاء الأمر على عاتق اختيار الأمة من فساد، وما
ينجم منه من جدال وجلاد. ولكن عجبي ممن يتسرع فينسب
ذلك التشريع إلى النبي الحكيم الذي لا يفعل إلا عن وحي
ولا يحكم إلا بوحي. ومع ذلك يدعي الإسلام وعرفان الرسول
العظيم.
ولو كان للخليفة عثمان كلمة تسمع ورأي يطاع يوم
41

حوصر وأيس من الحياة، لما تأخر عن تعيين من يخلفه قطعا.
ولكن الموقف كان أبعد من أن يتحكم عليه بمثل ذلك، وهو
محاط به ليخلع.
ومما يزيدنا اعتقادا بعقم هذا الحل لمشكلتنا الاجتماعية
الخطيرة، إنا لم نعرف خليفة تعين بهذه الطريقة إلا أبا بكر
وعلي بن أبي طالب، وأبو بكر كانت بيعته فتنة أو فلتة وقى
الله شرها على حد تعبير عمر عنها وهو نفسه الذي شيد
أركانها، ومع ذلك قال عنها: (فمن دعا إلى مثلها فهو الذي
لا بيعة له ولا لمن بايعه) (1).
أما علي عليه السلام، فبعد تمام البيعة له (الشرعية بنظر
أصحاب هذا الرأي) قد وجدنا كيف انتفض عليه نفس أهل
الحل والعقد، والإسلام بعد لم يرث والعهد قريب، وهؤلاء
المنتقضون هم جلة الصحابة. فكانت حرب الجمل فحرب
صفين اللتان أريقت بهما آلاف الدماء المحرمة هدرا،
وانتهكت فيهما حرمات الشريعة، وشلت بهما حركة الدين
الإسلامي.
ولم نعرف بعد ذلك خليفة تعين إلا بتعيين من قبله أو بحد
السيف، ولقد لعب السيف دورا قاسيا جعل العالم الإسلامي
يمخر في بحر من الدماء. ولم يجرئ الطامعين بالخلافة على

(1) كنز العمال - ج 3 - رقم 2326 وغيره.
42

خوض غمار الحروب إلا سن هذا القانون. قانون
الاختيار، فمهد السبيل لطلحة والزبير أن يشعلا نار حرب
الجمل، ومهد لمعاوية ما اجترم، ولابن الزبير تطاوله للخلافة
وهو القصير، وللعباسيين ثورتهم على الأمويين ولغيرهم ما
شئت أن تحدث والحديث ذو شجون.
إلى هنا أجد من نفسي القناعة والاطمئنان إلى القول
بفساد تشريع تعيين الإمام باختيار أهل الحل والعقد.
وهيهات أن يكون من النبي الحكيم مثل هذا التشريع.
وكيف يخفى عليه ضرر هذا التشريع، ولا يخفى على
عائشة أم المؤمنين يوم تقول لعمر على لسان ابنه عبد الله:
(لا تدع أمه محمد بلا راع. استخلف عليهم ولا تدعهم
بعدك هملا فإني أخشى عليهم الفتنة).
وما أدري لماذا لم يشر أحد على محمد عليه أفضل
التحيات أن يستخلف أو يبين على الأقل طريقة الاستخلاف
حتى لا يفتتنوا، كما أشارت عائشة على عمر؟ ولماذا لم يسأله
أحد عن هذا الأمر، وهم يسألونه عن الكبيرة والصغيرة
لماذا؟...؟
والمرجح أنه سئل فأجاب، ولكن التأريخ هو المتهم في
إهمال مثل هذه القضية. على أن تأريخ الشيعة لم يمهل مثل
هذا السؤال والجواب الصريح عليه.
43

4 - لا نص في قاعدة الاختيار
لنتنازل الآن جميع ما قلناه في البحث السابق من فساد
تشريع قاعدة الاختيار، ولكن ألا يجب علينا أن نسأل مدعي
صدور هذا التشريع من النبي عن الدليل عليه في كتاب أو
سنة.
وبودي أن يدلني أحد على قول الرسول في هذا الشأن،
فما سمعنا عنه أنه قال يوما: إن الاختيار في تعيين الإمام
لأهل الحل والعقد، أو أنه أمر الأمة باختيار الإمام
بعده، لا تصريحا ولا تلويحا. على أن الدواعي جد متوفرة
لنقل مثل هذا القول، والقوة والحول في صدر الإسلام إلى ما
بعده في يد من يرتئي هذا الرأي ويدافع عنه، فليس لأحد
أن يدعي أن هذا الأثر قد خفي علينا أو امتنع الرواة عن
نقله.
أجل! إلا أن الله تعالى قال في كتابه العزيز: (وربك
يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة).
إذن لم يثبت عن النبي قول وتصريح في هذا الأمر من
الاتكال على اختيار الأمة، بل قال تعالى: (ما كان لهم
44

الخيرة). فلنذهب الآن من طريق ثانية إلى إثبات صحة هذا
التشريع، فنقول:
" أليس النبي كان غير غافل عن أمر الخلافة! ولكنه
سكت عن الحل لمشكلتها بطريق النص على أحد من
أصحابه، فلا بد أنه أوكل ذلك إلى اختيار أمته، فيكون
سكوته إذن دليلا على هذا الايكال ".
وهذا يقرب من التفكير الصحيح لأول وهلة، إذا
استطعنا التصديق بسكوته عن النص، فلذلك لا يصح إلا
إذا ثبت لنا أن لا نص هناك، فوجب أن ننظر فيما تقوله أهل
السنة والشيعة من النص على أبي بكر أو علي بن أبي طالب.
وسيأتي في البحث (7) و (8).
ولكن لو فكرنا قليلا، فلا نرضى لمصلح عاقل
فضلا عن النبي الكريم أن يرمز لهذا الأمر العظيم الذي وقع
فيه أعظم خلاف في الأمة بمثل هذا الرمز الخفي. وما الذي
يلجئه إلى مثل هذا الدليل الصامت - إن صح هذا
التعبير - مع علمه بما سيقع بعده من انشقاق وخلاف تتسع
شقته هذا الاتساع، وتتخلله فتن وحروب أنهكت المسلمين
وأفسدت روحية الإسلام؟!.
أما كان الجدير - إذا لم يكن قد نص على أحد - أن
يصرح لأمته بإيكال الأمر إلى اختيارهم؟ ثم يحدده باختيار
أهل الحل والعقد منهم، أو يحدده بخصوص أهل المدينة أو
45

أهل عاصمة الخلافة، ثم يكتفي باختيار الواحد والاثنين
منهم (على ما يذهب إليه جماعة من علماء أهل السنة)، ثم
يذكر شروط الإمام حتى يعرفوا من يجب أن يختاروه!
أكل هذه الأمور والقيود نستقيها من هذا الدليل
الصامت ويكون هذا السكوت حجة على من يشكك في
واحد من هذه الشؤون فيستحق عقاب الخالق الجبار، ثم مع
ذلك يخرج عن ربقة الإسلام ويدخل في زمرة الكافرين؟!.
اللهم اشهد علي أني لا أستطيع أن أؤمن بصحة دليل
صامت يدل هذه الدلالة الواسعة على أعظم الشؤون العامة
التي يعم بلاؤها جميع الخلق في كل زمان ومكان، في وقت
الحاجة إلى دليل ناطق وحجة واضحة.
اللهم اشهد أني لا أستطيع أن أؤمن بذلك إلا إذا
فقدت حرية التفكير ومسكة العقل.
5 - اختلاف أمتي رحمة
وأخشى الآن أن أكون قد أخذت بقلمي النعرة المذهبية
في بحثي السابق، فبالغت في تشويه تلك الدعوى وخرجت
عن خطتي التي رسمتها لنفسي.
وهل تراني أخفف من وطأة تلك السورة، فأطمئن إلى
46

تعليل مقبول لذلك الصمت، بأن أقول: إن الرسول إنما ترك
بيان هذا الأمر ليوقع الخلاف بين أمته رحمة بهم لما روي
عنه: " اختلاف أمتي رحمة "؟.
ولكن هيهات! إن لم تؤول الكلمة بما يتفق ومبادئ
الإسلام (1) فإنها الكذب الصراح على داعية الوحدة ومقاتل
نزعات الجاهلية الأولى بسيف من الأخوة الإسلامية انتشل
العرب من هوة عميقة للتفرق والنزاع والنزال.
إن أكبر ظاهرة للإسلام بل من أعظم أعماله، تلك
الدعوة إلى الوحدة المطلقة بأوسع معانيها وتحطيم الفروق حتى
بين الشعوب والأمم المختلفة. ألا (إنما المؤمنون إخوة).

(1) هذه الكلمة مروية من طرق الطرفين. والوارد في تفسيرها عن آل
البيت غير ما يتخيل من ظاهرها ففي علل الشرايع: " أنه قيل
للإمام جعفر ابن محمد الصادق عليه السلام: إن قوما يروون أن
رسول الله قال: " اختلاف أمتي رحمة "، فقال: صدقوا، فقيل: إذا
كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب، قال: ليس حيث تذهب
وذهبوا إنما أراد قول الله عز وجل (فلولا نفر من كل فرقة
طائفة..) واختلاف أهل البلدان إلى نبيهم ثم من عنده إلى
بلادهم رحمة... " الخبر. ومثله في معاني الأخبار للصدوق، وفيه:
" إنما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين الله، إنما الدين
واحد ".
47

وليس هناك شئ في الإسلام غني عن البرهان بل عن
البيان مثل دعوته إلى الوحدة والعمل لها بكل الوسائل، ليكون
المؤمنون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. وقد تجلى
ذلك ظاهرا في كثير من الأحكام العملية: في وجوب الحج
وصلاة الجمعة والجماعة وحرمة الغيبة واللمز والغمز
والقذف... وما إلى ذلك مما لا يحصى، وبعد هذا أيمكننا أن
نجرأ فندعي أن الرسول يدعو إلى الخلاف! وأكثر من ذلك
يسعى إلى التفرقة، وأية تفرقة هي؟ إن هذا لبهتان عظيم
وزور مبين! اللهم إني استجير بك من شطحات القلم
والتفكير.
6 - الاجماع على قاعدة الاختيار
وهنا لا بد أن ننصف في القول فلا نجري الكلام على
عواهنه، فأني لم أعرف عن إخواننا أهل السنة أنهم فسروا
هذا الصمت المدعى بذلك التفسير إلا من قل. وعلى الأقل
أنهم لم يجعلوه وحده دليلا على إيكال أمر الخلافة لاختيار أهل
الحل والعقد، وإنما يستدلون بإجماع أهل الصدر الأول على
كفاية اختيار أهل الحل والعقد، بدليل بيعة أبي بكر يوم
السقيفة. وعندهم الاجماع حجة لما روي عنه عليه الصلاة
والسلام، " لا تجتمع أمتي على الخطأ " و " ولا تجتمع أمتي على
ضلال ".
48

ولكن الشيعة لا يعتبرون مثل هذا الاجماع. وإنما
يعتبرون الاجماع إذا كشف عن رضى إمام معصوم حيث
يكون داخلا في أحد المجمعين. وبيعة أبي بكر لم تقترن
بموافقة الإمام علي بن أبي طالب فلم يتم عندهم الاجماع
الذي يكون حجة.
ويذهبون إلى أكثر من ذلك، فيقولون إن الاجماع بكل
معانيه لم ينعقد على صحة بيعة أبي بكر، لمخالفة علي الذي
يدور معه الحق حيثما دار ومخالفة قومه بني هاشم وسعد بن
عبادة وابنه وجماعة من كبار الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد
وعمار والزبير وخالد بن سعيد وحذيفة اليمان وبريدة
وغيرهم. ولم يبايع من بايع منهم بعد ذلك إلا قهرا
واضطرارا حفظا لبيضة الإسلام وتوحيدا لكلمة المسلمين.
ولا يصح بحال أن يدعي أن هؤلاء ليسوا من أهل الحل
والعقد، وهم من تعرف. ويقول الشيعة أيضا: لم يتكرر بعد
ذلك تعيين الإمام باختيار أهل الحل والعقد، حتى نؤمن
بحصول الاجماع على صحة الاختيار في تعيينه، لأن كل
خليفة تعين إنما تعين بنص السابق عليه أو بحد السيف
والقوة، ما عدا علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو إمام
بالنص من النبي (ص) ولا شأن لاختيار الأمة في إمامته.
* * *
هكذا اختلف الطرفان، وأجدني الآن حائرا إزاء أدلة
49

الطرفين. وإذا أردت أن أعالج في بحثي حادث السقيفة فإنما
أعالجه من عدة نواح هذه أهمها، فهل أستطيع أن استنتج
الحكم الفاصل لإحدى الطائفتين؟ هذا ما قد يكشفه مستقبل
البحث، وكل آت قريب. ولا أتنبأ بالنتيجة قبل وقتها.
وكنت راغبا في بحثي هنا أن أحصل على نتيجة حاسمة
قبل الدخول في تفسير حوادث السقيفة، بل قبل الدخول في
البحث عن النص على الإمام بعد النبي في هذا الفصل،
ولكني هنا وجدت هذه المسائل متداخلة بعضها آخذ برقاب
بعض.
ومع ذلك أجد بإمكاني أن أضع تقريرا يقرب من التفكير
الصحيح مع الإعراض عما يقوله الطرفان في هذا الشأن،
مستعينا بما تقدم في الأبحاث السابقة، فهل تعيرني تفكيرك
لحظة
لاحظ أنك لا تشك - وأنا معك - أن النبي ما فاه ولا
ببنت شفة عن قاعدة انعقاد الإمامة باختيار أهل الحل
والعقد، مع أن الواجب يدعو للبيان الصريح، كما قلنا
آنفا، فلماذا سكت عن ذلك؟.
أكان إهمالا وتوريطا للمسلمين في الخلاف والنزاع، أو
أنه لم يشرع مثل هذا التشريع؟ والثاني هو الأقرب للصحة.
وعليه فما قيمة الاجماع - إن تم - مع علمنا بأن هذا الأمر ليس
من الدين ولم يشرعه الله على لسان نبيه، على أنا وجدنا في
50

أبحاثنا السالفة أن البرهان الصحيح يقودنا إلى الاعتراف
بفساد هذا التشريع، فنعلم بنتيجة أن النبي لم يشرعه لأمته،
فلا بد أن نتهم الاجماع المدعى بإحدى التهم المتقدمة.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، أنا لا أدري أن
هؤلاء الذين أقدموا على الاجتماع في السقيفة لعقد البيعة
بدون مشورة من جميع الموجودين في المدينة وغيرهم على أي
سناد استندوا وبأية حجة اجتمعوا
والمفروض أن لا حجة إلا الاجماع، وهو - على
فرضه - بعد لم ينعقد على صحة عملهم؟ فهذا العمل من
أساسه كان بغير حجة قائمة ولا بينة واضحة، ولذا قال عمر
لسعد بن عبادة: " اقتلوه قتله الله إنه صاحب فتنة ".
فلأي شئ استحق القتل ولم يكن يدعو إلا إلى نفسه
كما دعا غيره؟ ولماذا كان صاحب فتنة؟ - ليس إلا لأن دعوته
من غير حجة قائمة. وإذا كان قد ثبت من النبي صحة انقاد
الخلافة باختيار أهل الحل والعقد، ويكتفي بمثل القوم
الذين اجتمعوا في السقيفة يومئذ فلم يكن قد دعا سعد إلا
إلى ما هو مشروع لا يستحق عليه قتلا ولا غضبا.
أما النص المروي: " الأئمة من قريش " فلم يكن
معروفا عند المهاجرين يومئذ أو أنهم لم يريدوا أن يعرفوه،
ولذا لم يستدلوا له ذلك اليوم، بناء على ما هو الصحيح وإنما
51

استدل الخليفة أبو بكر بالقرابة من الرسول وأن العرب لا
تعرف هذا الأمر إلا بهذا الحي من قريش.
7 - النص على أبي بكر
لم نتوقف فيما مضى للاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم أو كل نصب الإمام إلى اختيار الأمة، أو أهل
الحل والعقد منهم خاصة... وهنا نبحث عما إذا كان قد
عين شخص الإمام بعده، فمن هو هذا الإمام؟
أصحيح أنه هو (أبو بكر)؟ يقطع الباحث أن الأحاديث
المروية في النص عليه موضوعة إذا كان يفهم منها النص
المدعى. وليس أدل على ذلك مما ثبت من تصريحاته نفسه،
ولا سيما عندما تمنى - قبيل موته - أن يسأل عن أشياء ثلاثة
ترك السؤال عنها، أحدها أمر الخلافة أنه فيمن حتى لا
ننازع أهله. ثم من تصريحات خليفته عمر ابن الخطاب لا
سيما عندما دنت منه الوفاة فصرح أن النبي لم يستخلف. ثم
من تصريحات عائشة " وهي المدافعة والمنفحة عن أبيها وقد
قامت بقسط وافر من تأييده وتثبيت خلافته " فنفت
الاستخلاف لما سئلت من كان رسول الله مستخلفا لو
استخلف (1).

(1) ومن الغريب اعتذار ابن حزم: " أن هذا الأثر خفي على عمر كما
52

ويكفينا لعدم الوثوق بهذا النص المدعى أن نطلع على
مجرى حادث السقيفة، ونعرف استدلال من استدل على
صحة بيعته بالإجماع. أولا تراه نفسه يوم السقيفة كيف قدم
للبيعة عمر وأبو عبيدة، فقال: " قد رضيت لكم أحد هذين
الرجلين ".
أتراه كان لا يعلم بالنص عليه، أو كان عالما به
ولكنه أعرض عنه؟ - لا شئ منهما يصح أن يقال.
ولا شئ أوضح من خطبته يومئذ إذ يقول فيها: " أن
العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش أوسط العرب دارا
ونسبا ".
بل لو كان نص عليه لما كانت العرب تعرف هذا الأمر
إلا لشخصه بنص صاحب الرسالة. وليس المقام مقام حياء
من الدعوة إلى نفسه.
وعندي لا شئ أوضح من وضع الأحاديث في النص

خفي عليه كثير من أمر رسول الله (ص) كالاستيذان وغيره، أو أنه
أراد استخلافا بعهد مكتوب، ونحن نقر أن استخلافه لم يكن
بعهد مكتوب. وأما الخبر في ذلك عن عائشة فكذلك أيضا... ".
ولئن خفي هذا الأمر على عمر وعائشة فعلى غيرهما أخفى وأخفى، على
أن جملة
إرادتها للعهد المكتوب فأبعد وأبعد.
53

عليه. وأجد أن الذي ألجأ إلى وضعها أن من وضعوها بعد
أن ضاقوا ذرعا بالاستدلال على خلافته بالإجماع، مما وجدوه
من مخالفة من خالف ممن لا يمكن إهمال شأنهم. وهذا هو
التعصب الذي يحمل صاحبه على الكذب والاختراع، فيقف
حجر عثرة دون وصول طالب الحقيقة إلى هدفه، ويجعل
النفس لا تثق بكل ما يرويه هذا المتعصب فيما يخص
معتقده، بل في كل شئ.
* * *
أما قضية تقديمه للصلاة فإن صحت (وهي صحيحة
بمعنى أنه صلى بالمسلمين)، فليس فيها أية إشارة إلى تعيينه
للخلافة، فضلا عن النص، لأن الإمامة في الصلاة ليست
بالأمر الخطير الشأن الذي لا يكون إلا لمن له الإمامة، ولا
سيما على مذهب أهل السنة، وكان ائتمام المسلمين بعضهم
ببعض مما اعتادوا عليه، وشاع يومئذ بينهم بترغيب النبي
فيه، فقد رود (1) أن أبا بكر صلى بالناس من دون إذن
النبي (ص) لما ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم.
ولا أعتقد بصحة ما يروى أن النبي هو الذي قدمه
للصلاة وأنه صلى أياما، لأن أبا بكر كان من جيش أسامة
من غير شك - وسيأتي - وقد نهي النبي عن التخلف عنه،

(1) راجع صحيح البخاري 1: 8.
54

وشدد في الاسراع بإنفاذه، فكيف يجتمع هذا مع تقديم
النبي له للصلاة مدة مرضه؟
نعم الثابت أنه صلى صلاة واحدة وهي صلاة الغدير يوم
الاثنين يوم وفاة النبي (ص)، وقبل أن يتمها خرج صاحب
الرسالة يتهادى بين رجلين ورجلاه تخطان الأرض من الوجع
فصلى بالناس صلاتهم وتأخر أبو بكر. فإن عائشة هي التي
روت أمر النبي بتقديمه لا غيرها، وأنها راجعته في ذلك حتى
قال لها غاضبا: " إنكن لأنتن صواحب يوسف " وهي
نفسها تروي خروجه في نفس تلك الصلاة (1). وكان
خروجه بهذه الحال إلى الصلاة يوم وفاته وهو يوم الاثنين.
ولو أن النبي كان قدمه للصلاة إشارة إلى خلافته،
فلماذا خرج بهذه الحال المؤلمة، وصلى بالناس صلاة
المضطرين جالسا؟
ولا معنى ما يقال: " أنه صلى أبو بكر بصلاة النبي
وصلى الناس بصلاة أبي بكر " فمن هو الإمام إذن؟ إن كان
أبا بكر فلم يكن قد صلى بصلاة النبي، وإن كان النبي فلم
تكن الناس قد صلت بصلاة أبي بكر، وتأويله - إن صح -
أن النبي جالسا فلا يرون شخصه وكان مريضا فلا يسمعون

(1) صحيح البخاري (1: 78 و 84 في حديثين). وصحيح مسلم في
باب استخلاف الإمام إذا عرض له من كتاب الصلاة.
55

صوته، فكانت الناس تعرف ركوعه وسجوده بصلاة أبي بكر
الذي كان بآرائه لما تأخر عن مقامه.
والأحاديث مضطربة في هذا الباب، مع أن أكثرها عن
عائشة أم المؤمنين واختلافها الجوهري في ستة أمور:
1 - (في علاقة عمر بالصلاة) فيذكر بعضهم أن النبي
قال: (مروا عمر) بعد مراجعة عائشة عن أبيها فأبى عمر
وتقدم أبو بكر وبعضها ذكر أنه ابتداء أمر عمر، فقال عمر
لبلال قل له أن أبا بكر على الباب. وحينئذ أمر أبا بكر.
وبعضها ذكر أنه أول من صلى عمر بغير إذن النبي فلما سمع
صوته قال: " يأبى الله ذلك والمؤمنون " وفي بعضها أنه أمر أبا
بكر أن يصلي نفس الصلاة التي صلاها عمر بالناس، وفي
بعضها صلى عمر وكان أبو بكر غائبا. وفي بعضها أن النبي
أمر أبا بكر وأبو بكر قال لعمر صل بالناس فامتنع.
2 - (في من أمره النبي ليأمر أبا بكر)، فبعضها تذكر
عائشة، وبعضها بلالا، وبعضها عبد الله بن زمعة.
3 - (فيمن راجعة في أمر أبي بكر)، فبعضها تذكر
عائشة وحدها راجعته ثلاث مرات أو أكثر، وبعضها تذكر
عائشة راجعته ثم خالت لحفصة فراجعته مرة أو مرتين، فلما
زجرها النبي قالت لعائشة: " ما كنت لأصيب منك
خيرا ".
56

4 - (في الصلاة المأمور بها)، فبعضها يخصها بصلاة
العصر وبعضها بصلاة العشاء، والثالث بصلاة الصبح.
5 - (في خروج النبي)، فبعضها تذكر أنه خرج
وصلى، وأخرى تقول أخرج رأسه من الستار والناس خلف
أبي بكر ثم ألقى الستار ولم يصل معهم.
6 - (في كيفية صلاة النبي بعد الخروج)، فيذكر
بعضها أنه ائتم بأبي بكر بعد أن دفع في ظهره ومنعه من
التأخر. وبعضها أن أبا بكر تأخر وائتم بالنبي. وبعضها أن
أبا بكر صلى بصلاة النبي والناس بصلاة أبي بكر. وبعضها
أن النبي ابتدأ بالقراءة من حيث انتهى أبو بكر.
7 - (في جلوس النبي إلى جنب أبي بكر) فبعضها تذكر
جلوسه إلى يساره، وبعضها إلى يمينه.
8 - (في مدة صلاة أبي بكر)، فبعضها تجعلها طيلة
مرض النبي، وأخرى تخصها بسبع عشر صلاة، وثالثة
بثلاثة أيام، ورابعة بستة، ويظهر من بعضها أنه صلى صلاة
واحدة.
9 - (في وقت خروج النبي إلى الصلاة)، فبعضها
صريحة في أنه خرج لنفس الصلاة التي أمر بها أبا بكر،
وبعضها صريحة في أنه خرج لصلاة الظهر بعد صلاة أبي بكر
أيما، وبعضها صريحة في خروجه لصلاة الصبح.
57

وهذه الاختلافات كما رأيت في جوهر الحادثة. ولم يظهر
من الأخبار تعدد أمر النبي له بالصلاة ولا تعدد خروجه.
وهذا كله يذهب بالاطمئنان بتصديقها في خصوصيات الحادثة
لا سيما فيما يتعلق بأمر النبي له، نعم يعلم منها شئ واحد
على الاجمال هو صلاة أبي بكر بالناس قبل خروج النبي.
ولعل أبا بكر كان مخدوعا في تبليغه أمر النبي، كما جاء
في الحديث أن عبد الله بن زمعة خدع عمر بن الخطاب فبلغه
أمر النبي له بالصلاة.
وأحسب أن أصل الواقعة أن النبي (ص) أمر الناس
بالصلاة لما تعذر عليه الخروج من دون أن يخص أحدا
بالتقديم، فتصرف متصرف، وتأول متأول. ولما بلغ ذلك
أسماع النبي التجأ أن يخرج يتهادى بين رجلين ورجلاه
تخطان الأرض من الوجع، فصلى بالناس جالسا صلاة
المضطرين، ليكشف للناس هذا التصرف الذي استبد به
عليه.
واستغرب توبيخه لعائشة لما راجعته عن أبيها إذ قال لها:
" إنكن لأنتن صواحب يوسف ". لماذا هذا التوبيخ
القارص؟ وأي شئ صنعته تستحق به هذا اللوم؟ ألا أنها
ضنت على أبيها بهذه الكرامة، فلئن لم تستحق المدح فعلى
الأقل لا تستحق مثل هذا التوبيخ.
ومن هنا يتطرق الشك أيضا في صحة تقديم النبي لأبي
58

بكر، ويبدو أنه كان من أمرها وتدبيرها، فلذا وجهت إليها
هذه الكلمة اللاذعة، لا لمراجعة هناك. ولا شك أنها ترغب
لأبيها كل فضيلة وتلزه لزا. ولذا التجأت أن تعتذر عن
مراجعتها المستغربة منها التي ادعتها بأنها إنما كانت تحب أن
يصرف عن أبيها لأنها رأت أن الناس لا يحبون رجلا قام
مقام النبي أبدا وأنهم سيتشأمون به في كل حدث كان.
ألا تراها كيف بعثت إلى أبيها تدعوه لما بعث النبي إلى
علي يدعوه ليوصيه، وكذلك صنعت حفصة لأبيها، ولكن
النبي لما رآهم قد اجتمعوا أمرهم بالانصراف وقال: فإن
تلك لي حاجة أبعث إليكم " (1). وهذا قول من عنده ضجر
وغضب باطن.
والنتيجة: أنه ليس هناك ما يستحق أن يسمى نصا،
ولا إشارة إلى خلافة أبي بكر.
8 - النص على علي بن أبي طالب
إذن، أفصحيح ما تقوله الشيعة من النص على علي عليه
السلام؟ أيها القارئ! بودي أن تكون حياديا، فلا تنظر إلى
ما تقوله الشيعة عن هذا الرجل إلا بتقزز، حتى لا أكلفك

(1) الطبري " 3: 195 ".
59

بالرجوع إلى كتبهم وأخبارهم. وأنا معك الآن سأطرحها
جانبا وما يدرينا لعل حبهم وتعصبهم لصاحبهم يسوقانهم
إلى القول عنه بما لم يكن، كما ساق أهل السنة إلى رواية
النص على أبي بكر. فلنأخذ حذرنا من الآن.
و بعد هذا أترانا نحذر من مؤلفات أهل السنة
وصحاحهم في حق علي، وهم أن تعصبوا فعليه، لا له؟
كلا! فإن الكثير من محدثيهم يحذرون كل الحذر من رواة
مدحه وفضائله، فيقدح المؤلف منهم في الراوي الذي تشم
منه رائحة الميل إليه، ويرسلون الطعن في الحديث إرسالا
فيقولون: " وفي متنه غرابة شديدة "، وليس إلا لأنه لا يتفق
وعقيدته ويكفي في الثقة بالمحدث أن يكون ممن يميل عنه
كأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وعمران بن حطان وأمثالهم.
وقبل ذلك نجد سيوف بني أمية مسلولة على رؤس
الرواة لئلا ينسبوا فضيلة لهذا الذي ناصبوه العداء وسنوا سبه
على المنابر والمعابر. ونجدهم كيف كانوا يغدقون بالأعطيات
على الطاعنين فيه والمنحرفين عنه.
ولذا تراني أطمئن كل الاطمئنان - وأنت معي لا
شك - إلى كل حديث خلص من هذه العقبات، واستطاع أن
يطلع رأسه من بين الأحاديث ظافرا بالصحة والتأييد،
فسجلته كتب أهل السنة وصحاحهم في فضل علي والنص
على خلافته، ومع هذا فستجدني لا أعتمد إلا على بعض
60

الصحيح الثابت عند أهل الحديث منهم الذي بلغ حد التواتر
أو كالمتواتر.
والحق أن لعلي منزلة كبرى عند أخيه وابن عمه،
يغبطه عليهما كل مسلم بل حسدوه عليها، ولا ينكرها إلا
مكابر، حتى أن أم المؤمنين عائشة " على ما بينها وبين علي ما
هو معروف " قالت فيه: " ما رأيت رجلا أحب إلى رسول الله
منه ولا رأيت امرأة كانت أحب إليه من امرأته ".
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يمجد ويرحب بصهره
عند كل مناسبة من يوم ولد صهره قبل البعثة بعشر سنين إلى
يوم فاضت نفسه الزكية في حجره. وهذا مما لا يشك فيه
مسلم، وإنما الشأن فيما يدل على العهد إليه بالخلافة فلنقرأ
بعض الأحاديث الصحيحة المتواترة أو المشهورة، ولننظر ماذا
سنفهم منها:
1 - لما نزلت الآية الكريمة " وأنذر عشيرتك الأقربين " جمع
النبي (ص) من أهل بيته أربعين رجلا في قصة معروفة - وكان
ذلك في مبدأ البعثة - فعرض عليهم الإسلام وضمن لمن
يؤازره وينصره منهم الأخوة له والوراثة والوزارة والوصاية
والخلافة من بعده فأمسكوا كلهم إلا عليا، فقد أجابه وحده،
فأخذ برقبته، وقال: " إن هذا أخي ووصيي وخليفتي
فيكم - أو من بعدي على اختلاف الروايات - فاسمعوا له
وأطيعوا ". فقام القوم يضحك بعضهم إلى بعض استهزاء،
61

ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام.
يعنون ابنه (1).
2 - وفي غزوة الخندق لما برز علي إلى عمرو بن عبد
ود قال (ص) فيه: " برز الإيمان كله إلى الشرك كله ". وذلك
سنة 5 ه‍.
3 - وفي غزوة خيبر باهى به الذين تراجعوا بالراية فقال:
" أني دافع الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه
الله ورسوله كرار غير فرار " فتطاولوا لها، ولكنه دفعها
إلى علي، وذلك سنة 7 ه‍.
4 - ولما آخى بين المهاجرين قبل الهجرة وبين المهاجرين والأنصار
بعدها بخمسة أشهر، اصطفى عليا لنفسه فآخاه، وقال له: " أنت
مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ". ثم لم يزل يكرر
هذه الكلمة في مناسبات كثيرة، منها لما سد الأبواب الشارعة إلى
المسجد إلا باب علي، ومنها غزاة تبوك لما خله على المدينة سنة 9 ه‍.
وفي رواية ابن عباس زيادة " أنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت
خليفتي " (2)؟

(1) من الغريب ما صنعه الأستاذ محمد حسين هيكل. إذ يذكر هذه
الحادثة في كتابه " حياة محمد " في الطبعة الأولى ويهملها في الطبعات
الأخرى من غير تنبيه.
(2) وصححها الحاكم في المستدرك والذهبي في تلخيصه.
62

5 - وقال له: " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا
منافق ". وبعد ذلك كان يعرف المنافق ببغضه لعلي.
6 - وقال: " إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما
قاتلت على تنزيله ". وبعد أن نفى ذلك عن أبي بكر وعمر
قال: " ولكنه خاصف النعل " وكان علي يخصف نعل رسول
الله ساعة ئذ في الحجرة عند فاطمة.
7 - وكان عند النبي طاير طبخ له، فقال: " اللهم آتني
بأحب الناس إليك يأكل معي " فجاء علي فأكل معه.
8 - وقال: " أنا مدينة العلم وعلي بابها ".
9 - وقال: " أقضاكم علي ".
10 - وقال: " علي مع الحق والحق مع علي، لن يفترقا
حتى يراد علي الحوض ".
11 - وأثبت له غير مرة الوراثة والوصاية، وأوضح أنهما
وراثة ووصاية نبوة، فقال مرة: " لكل نبي وصي ووارث وإن
وصيي ووارثي علي بن أبي طالب " (1). وقال له علي مرة:

(1) راجع ميزان الاعتدال في ترجمة شريك. وقال عن رواية محمد بن
حميد الرازي ليس بثقة مع أنه قد وثقه أحمد بن حنبل وأبو القاسم
البغوي والطبري وابن معين وغيرهم. ونقل هذا الحديث عن
السيوطي في اللآلئ وعن الحاكم.
63

" ما أرث منك ". قال صلى الله عليه وآله: " ما ورث
الأنبياء من قبل كتاب ربهم وسنة نبيهم " (1).
12 - وقال سنة 8 ه‍: " إن عليا مني وأنا من علي لا
يؤدي عني إلا أنا وعلي ". 13 - وقال: " إن عليا مني وأنا من علي، وهو ولي كل
مؤمن بعدي ".
14 - وقال: " أنت ولي كل مؤمن بعدي ".
15 - وسد أبواب المسجد غير باب علي، فكان يدخل
المسجد جنبا، وهو طريقه ليس طريق غيره. قال عمر بن
الخطاب: " لقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاثا لئن تكن لي
واحدة منها أحب إلي من حمر النعم: زوجته فاطمة بنت
رسول الله، وسكناه المسجد مع رسول الله يحل له ما يحل
فيه، والراية يوم خيبر ". وكذلك روي عن ابن عمر. ولما
روجع النبي في فتح باب علي قال: " إنما أنا عبد مأمور ما
أمرت به فعلت إن أتبع إلا ما يوحى إلي ".
16 - ولما آخى النبي بين كل اثنين من المهاجرين، وذلك قبل
الهجرة اصطفاه لنفسه فآخاه وقال له فيما قال: " أنت أخي ووارثي.
أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ".
وكذلك صنع وقال لما آخى بين المهاجرين والأنصار،

(1) راجع كنز العمال (5: 41).
64

فاصطفاه لنفسه مع أن كلا منهما من المهاجرين وذلك بعد
الهجرة بخمسة أشهر. ولا يزال يدعوه أخي في مناسبات لا
تحصى.
17 - ويوم الغدير، بعد الرجوع من حجة الوداع سنة
10 ه‍ أمر بالصلاة، فصلاها بهجير، وقام خطيبا على مائة
ألف أو يزيدون، حيث تفترق قبائل العرب. وبعد أن نعى
نفسه إليهم ذكر الثقلين كتاب الله وعترته وأنهما لن يفترقا
ولن يضلوا بالتمسك بهما أبدا، أخذ بيد علي وقال:
أيها الناس ألست أولى منكم بأنفسكم؟
قالوا: بلى يا رسول الله! وكرر السؤال عليهم
وأجابوا.
ثم قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه (وفي أحاديث
كثيرة: من كنت مولاه فعلي وليه). اللهم وال من والاه وعاد
من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق
معه حيثما دار " فلقيه عمر بن الخطاب فقال له: هنيئا يا بن
أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن
ومؤمنة " (1) أو " أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن
ومؤمنة " (2).

(1) مسند أحمد (4: 281) وعن تفسير الثعلبي. وفي الصواعق المحرقة
في الشبهة 11 عن أبي بكر وعمر معا.
(2) تفسير الرازي في قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك ".
65

هذه هي الأحاديث التي أخذتاها من الصحيحة، اكتفاء
بهذا القليل عن كثير لا تسعه هذه الرسالة. أما الآيات فقد
قال ابن عباس: " نزلت في علي ثلاثمائة آية من كتاب الله
تعالى ". ولم يعرف من طريق أهل السنة إلا مائة. ونختار منها
ثلاث آيات:
1 - آية " إنما وليكم؟ ورسوله والذين آمنوا والذين
يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ". وقد نزلت
فيه إذ تصدق بخاتمه وهو راكع في الصلاة، فأثبت الولاية له
كولاية الله ورسوله على الناس. وهي مثل الأحاديث التي
جعلت له تلك الولاية الإلهية.
2 - آية التطهير، إذ جمع النبي (ص) عليا وزوجه
وابنيهما معه في كساء واحد، فنزلت الآية بإذهاب الرجس
عنهم وتطهيرهم. وهذه العصمة التي تشترط في الإمامة.
3 - آية المباهلة، إذ باهل بأهل بيته أولئكم، نصارى
نجران في قصة مشهورة، وجعل عليا بنص الآية نفسه.
ونحن لما اعتقدنا أن طريقة الاختيار لا يصح أن يقال إن
النبي عول عليها في تعيين الخليفة
من بعده، فمن
الضروري أن ينص على واحد من أصحابه، ولكن لم يكن
أبا بكر فمن هو إذن؟
ليس هناك شخص ورد فيه ما ورد في علي يصح أن
66

يكون نصا كهذه الأحاديث مع الآيات التي يؤيد بعضها
بعضا ويفسر بعضها بعضا: فقد نصت على أنه وارث النبي
وراثة نبوة، ووصيه، وأخوه، ونفسه، وولي المؤمنين بعده،
وأولى بهم من أنفسهم، ومنزلته منه منزلة هارون من موسى
عدا منزلة النبوة، وخليفته من بعده، ويدور معه الحق كيفما
دار لن يفترقا، وهو أقضى الأمة، وباب مدينة علمه، المطهر
من الرجس.
وهذه صفات لا تكون إلا لإمام معصوم وخليفة للنبي
يختاره الله ورسوله للأمة. وهل يمكن أن يكون شخص أولى
بالمؤمنين من أنفسهم ووليهم بعد النبي وهو سوقة كسائر
الناس تجب عليه طاعة غيره والسمع له؟ - هيهات!.
ولكن كل واحدة من هذه الكلمات التمس لها بعض
الباحثين في الإمامة تأويلا، احتفاظا بكرامة الصحابة واتقاء
من نسبة مخالفة نص النبي إليهم. ونحن نقول لهؤلاء
المؤلين إذا كنتم قد عرفتم حسن نوايا هؤلاء الصحابة،
وهم في الوقت نفسه مجتهدون على رأيكم فلا استغراب في
مخالفة الصريح من كلام النبي (ص) وليس الخطأ على
المجتهدين بعزيز. ثم إنا عرفنا عنهم عدم تعبدهم: بالنصوص
في كثير من الأمور التي تفوت الحصر، كتوقفهم في بعث جيش
أسامة وتأميره حتى أغضبوا النبي فقال ما قال وبالأخير امتنعوا
عن الخروج حتى قبض، وكاعتراض عمر على صلح
67

الحديبية، وكمنعه من إملاء الكتاب الذي قال عنه النبي لن
تضلوا بعده أبدا. وما إلى ذلك.
فنحن الآن بين أمرين إما أن نؤول هذه الأحاديث بما
يصح وبما لا يصح وأما أن نقول إن أولئك الصحابة قد تأولها
لأمر ما ولا شك أن الثاني أقرب إلى البحث العلمي
والتفكير الحر المستقيم، لأنا وجدناهم قد تأولوا في حياة
النبي النصوص الصريحة التي لا تقبل التأويل كما سمعت
بعضها. وهل لمن يحسن الظن بهم إلا أن يعتقد أنهم لم
يقصدوا مخالفة النبي عصيانا، وإنما كانوا يظنون المصلحة فيما
ينقدح لهم من رأي، وقد اعتادوا أن يشاورهم في الأمور
اتباعا لأمر الله تعالى " وشاورهم في الأمر " فانسوا التدخل حتى
في الشؤون العامة التي يأمر بها النبي ويعقدها.
ومن جهة ثانية نرى امتناع دخول التأويلات التي تسمعها
من الباحثين على بعض هذه الأحاديث، منها (حديث
الغدير) وهو آخر النصوص وآية (إنما وليكم
الله..) وحديث (ولي كل مؤمن بعدي). فقد أولوا المولى
والولي في كل ذلك بالناصر أو المحب.
وهذا بعيد كل البعد في حديث الغدير، لأن أهل اللغة
إن فسرت المولى والولي بالناصر والمحب فقد فسروها بمالك
التصرف. وهل تفهم معاني الألفاظ المشتركة إلا بقرائنها؟
والقرينة الحالية واللفظية صريحة في هذا المعنى الأخير:
68

فإن النبي قام خطيبا على مائة ألف أو يزيدون بحر الهجير،
وهل يصح عند العقل أن يقف هذا الموقف الخطير وهو يريد
أن يفهم الناس أن عليا ناصر للمؤمنين أو محب لهم؟ وأية
حكمة في بيان هذا الأمر الواضح فتسترعي هذا الاهتمام
من النبي الحكيم
وأيضا - وبعد أن ينعى نفسه ويذكر الثقلين - يأخذ بيد
علي ويرفعه إليه حتى يبين بياض إبطيهما. ويستنشدهم:
" ألست أولى منكم بأنفسكم ". فما هذه التوطئة؟ أكانت
كلاما مطروحا لا فائدة فيه أم أنها لتوضح ما سيفرغ عليها
فقال: " فمن كنت مولاه فعلي مولاه "؟
لا شك أنها قرينة لفظية صريحة في بيان أن عليا مثله
أولى من المؤمنين بأنفسهم. والمولى كما قلنا هو " مالك
التصرف " أو " الأولى بالشئ منه "، كما تقول: السيد مولى
العبد، أي مالك لتصرفه، أو أنه أولى بالتصرف في شؤونه
منه.
ولا حاجة إلى دعوى أن المولى بمعنى كلمة (الأولى)
فقط، حتى يعترض عليها المعترض فيقول: لا يصح أن يقال
" مولى منه " كما تقول " أولى منه ". بل أن معنى كلمة
" المولى " معنى مجموع هذه العبارة (الأولى بالشئ منه)
الذي يساوق معنى مالك التصرف.
ومنها - وهو أول النصوص - الحديث: " إن هذا أخي
69

ووصي وخليفتي فيكم - أو من بعدي - فاسمعوا له وأطيعوا ".
وهو حديث ثابت لا شك فيه، فهل تجد عبارة هي أصرح
من هذه العبارة للنص على الخليفة والإمام؟
ولو قرأنا نص أبي بكر على خليفته لم نر إلا عبارة " إني
أمرت عليكم عمر بن الخطاب ". وهذه لا تشبه تلك في
صراحتها ولا تقاس عليها في قياس، فأين صراحة الإمارة من
صراحة الخلافة؟ والإمارة تكون في الجيش وتكون في كل
شئ، والخلافة لفظ كان يجري على لسان النبي والمسلمين
ولا يراد منه إلا هذا المعنى فعندما تسمع قوله صلى الله عليه
وآله وسلم: " هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي
فيهم اثنى عشر خليفة كلهم من قريش " لا نشك في المراد
بكلمة (خليفة) كما لا نشك في كلمة قريش. فلماذا لا نفهم
من كلمة (خليفتي) هذا المعنى؟ وهل استعملها في يوم
من الأيام في معنى آخر؟
والفرق بين نص النبي ونص أبي بكر أن أبا بكر لم
يحدث بعده ما يأخذ بالأعناق إلى التأويل والتشكيك، لأنه قد
عمل به وانتهى كل شئ. أما نص النبي فقد بقي قولا في
صدور الرجال وصحائف الكتب ولم يعمل به، فسلبت
صراحته وأدخل عليه التأويل احتياطا في حمل الصحابة على
أحسن الأعمال. ولئن درئ الطعن عنهم فلا يجلون عن
الخطأ، وما هو بعزيز على مثلهم.
70

على إنا لا نريد أن ندخل في البحث عما يجب أن يقال
في عذر الأصحاب، وإنما الغرض أن نفهم مدى دلالة هذا
الحديث في نفسه قاطعين النظر عن كل ما صدر عن
الأصحاب، فلا نجد كلمة هي أوضح وأصرح من كلمة
(وصيي) وكلمة (خليفتي)، ثم تعقيبهما بالأمر بالسمع
والطاعة.
وينسق عليه حديث رقم (11): " لكل نبي وصي
ووارث وإن وصي ووارثي علي بن أبي طالب ". ويعلم من
هذا بصراحة أنها وصاية نبوة لا وصاية اعتيادية، ووراثة نبوة
على نسق الوصاية لا وراثة مال أو عقار، فإن عليا ابن عمه
وابن العم لا يرث مع البنت، ولا معنى لوراثة النبي لأنه نبي
غير أن يكون بمنزلته في الولاية العامة ووجوب السمع
والطاعة، أما العلم فكل المسلمين ورثوه منه فلا اختصاص
لعلي إلا أن يراد من العلم معنى آخر لا يشترك فيه الناس،
وهو الذي يكون من مختصات النبوة، فيكون على المقصود
أدل وأدل.
أما باقي الأحاديث فلو لم يكن كل واحد منها نصا على
إمامته، فعلى الأقل أنها بمجموعها مع ما تقدم من النصوص
تكون نصا على إمامته، فعلى الأقل أنها بمجموعها مع ما تقدم
من النصوص تكون نصا لا يقبل الاحتمال والتأويل، لا سيما
بعد أن بينا فساد القول بتشريع إيكال الأمر إلى اختيار الأمة
71

وقلنا إنه لا بد أن يكون واحد من الأصحاب قد نص على
خلافته النبي " ص ".
لا تزال هناك شبهة مستعصية على الباحثين، ولا يزال
يكررها الكتاب حتى يومنا هذا. وهي: إن هذه الأحاديث لو
كانت للنص على خلافته، كما تقوله الشيعة، فلماذا لم
يتمسك بها هو، ويحتج بها على القوم لو كانوا قد أخذوا
حقه؟ ولماذا لم يحتج بها أصحابه أو باقي المسلمين في اجتماع
السقيفة؟
والحق أنها شبهة قوية هي أقوى متمسك لإنكار النص،
بل ليس شئ غيرها يستحق أن يذكر في معارضة تلك
النصوص، فيلجأ إلى تأويلها وتفسيرها على غير وجهها.
والباحثون أجابوا عنها بعدة أمور يطول علينا استقصاؤها،
ولكن الذي يرضي نفسي وأدين به ربي أن أقرر ما يلي:
إن مولانا أمير المؤمنين لما انتهى الأمر بالناس إلى مبايعة
أبي بكر خليفة، فهو قد أمسى بين أمرين لا ثالث لهما: أما
أن يستسلم للأمر الواقع، فيترك كل مطالبة علنية صريحة
إبقاء لكلمة الإسلام. وأما أن يجاهد حتى يثبت حقه، وهو
نفسه قال: " وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر
على طخية عمياء ".
ولما اختار الأمر الأول وهو أعرف بما
اختار إذ يقول: " فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى " فلم
يبق وجه لمطلبته العلنية بالخلافة، وقد طوى عنها كشحا
72

وأسدل دونها ثوبا ولو أنه كان يعلن بالمطلبة فلا بد أن
يتبعها بالسعي إلى تنفيذها مهما أوتي من حول وقوة، وفي
ذلك تطويح بكلمة الإسلام وبنائه السامق وسيأتي تمام
البحث في الفصل الرابع. أما أصحابه فله تبع، وفي السقيفة
قال الأنصار كلهم أو بعضهم: " لا نبايع إلا عليا " ولكنها
كلمة ذهب في فضاء التاريخ منسية وقد عالجناها في غير
موضع من هذا الكتاب كما يأتي.
73

الفصل الثاني
تدبير النبي لمنع الخلاف
75

أ - بعث أسامة:
- 1 - مرض النبي صلى الله عليه وآله مرضه الذي انتقل
به إلى الرفيق الأعلى، فوجس منه خيفة الفراق، وهو يعلم أن
أمته على شفا جرف هار من بحر للفتن متلاطم والعرب
مغلوبة على أمرها تحرق الأرم عليه وعلى قومه وأهل بيته،
وتنتهز الفرص للوثوب لأخذ ثأرها وهو على حذر منهم،
والمنافقون بالمرصاد بين ظهراني المسلمين يقولون بألسنتهم ما
ليس في قلوبهم ويعدون من أصحابه وهو على المسلمين منهم
أحذر، وليس عهد دحرجة الدباب في العقبة ببعيد. وأكثر
من ذلك هذه الأخبار ترد بخروج الأسود العنسي ومسيلمة
يدعيان النبوة فتتكاثر أتباعهما.
ما أشد حال النبي وحزنه، وهو يستدبر أمة هذه حالها
وهي تستقبل الفتن كقطع الليل المظلم كما في الحديث. وقد
رأى مواقع الفتن خلال بيوت المدينة كمواقع القطر في حديث آخر (1).
ولكنه في هذا الموقف الدقيق مع ذلك يرمي بجيشه

(1) صحيح مسلم 8: 168 باب نزول الفتن.
76

اللجب إلى مكان سحيق، إذ يعقد اللواء بيده للشاب أسامة
بن زيد أميرا على الجيش بعد يوم واحد من ابتداء شكاته،
بعد أن كان أمرهم بالبعث قبل ابتداء مرضه. ثم يضم تحت
لوائه شيوخ المهاجرين والأنصار وجلتهم ووجوههم منهم أبو
بكر (1) وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة
وسعد بن أبي وقاص وأسيد بن حضير وبشير بن سعد
وغيرهم، ليحارب بهم أهل أبنى بناحية البلقاء من أرض
الشام أولئك قتلة أبي أسامة زيد من الروم.
ثم يشدد في الخروج ويلعن المتخلف منهم ويغضب ذلك
الغضب لتباطؤ القوم ولغطهم حول تأمير فتى يافع على

(1) صرح بدخول أبي بكر في البعث أكثر المؤرخين، منهم ابن سعد في
طبقاته: (4: 46) و (4: 136) وابن عساكر في التهذيب (2: 391)
و (3: 215) وصاحب كنز العمال (5: 312). وصاحب تاريخ
الخميس (2: 172) واليعقوبي في تاريخه (2: 93) وابن أبي الحديد
(2: 21) ومحمد حسين هيكل من المتأخرين في حياة محمد (467)
وغيرهم مما لا يحصى. ولم نجد تصريحا ولا تلويحا لأحد من
المؤرخين بخروجه من جيش أسامة. وإنما يكتفي بعضهم بقول
" وجوه المهاجرين " وما يؤدي هذا المعنى بدون تصريح باسم أحد،
ولكن بعضهم المؤلفين الجدليين حاول إنكار دخوله من غير حجة
ظاهرة.
77

شيوخ المسلمين، فيقول: " أن تطعنوا في إمارته فقد كنتم
تطعنون في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة
وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة ".
- 2 - لشد ما يعتلج العجب في نفوس المتفكرين من هذا
الحادث، فيعجب الإنسان.
" أولا " - أن تسند قيادة أعظم جيش إسلامي يومئذ، في
ذلك الظرف الدقيق الذي وصفناه، في مرض النبي، إلى
شاب يافع لم يتجاوز العشرين من سنيه (على جميع
التقادير)، وهو لم يجرب الحروب بعد وبالأصح لم تسند إليه
قيادة من هذا النوع ولا من نوع آخر. والجيش معبأ لجهاد
أقوى أعداء الإسلام في ذلك الموقع البعيد عن العاصمة
الإسلامية.
" ثانيا " - أن يؤمر هذا الفتى، مع ذلك، على شيوخ
المسلمين الذين فيهم قواد الحروب ورؤساء القبائل
وأصحاب النبي الذين يرون لأنفسهم مقاما أسمى ومنزلة
رفيعة. ويرشحون أنفسهم لمنصب هو أعظم كثيرا من منصب
قائدهم الصغير هذا.
" ثالثا " - أن يتباطأ المسلمون عن الالتحاق بهذا البعث
بالرغم على إصرار النبي وتشديده النكير على المتخلفين ولعنه
78

إياهم. ويكفي أن نعرف أن البعث وقع قبيل شكاته أو في
أولها وقد استدامت علته أربعة عشر يوما (على أوسط
التقادير). وفي كل هذه المدة الطويلة يثاقل القوم عن
الخروج. وقد عسكر قائدهم الفتى بالجرف، وهو عن المدينة
بفرسخ واحد (بعد أن عقد النبي له الراية بيده الشريفة)
ينتظر جيشه المتمرد أن يجتمع إليه، فتخلق الإشاعات عن
حال النبي فيرجع أسامة إلى المدينة برايته فيركزها على باب
النبي، ولكن الرسول في كل مرة يأمره بالعودة ويحث القوم
على الالتحاق به. ولكنه في اليوم الأخير يرجع مرتين في المرة
الأولى يأمره النبي بالسير قائلا: (اغد على بركة الله تعالى)
فيودعه ويخرج، وفي المرة الثانية يرجع ومعه عمر وأبو عبيدة
فيجد النبي يجود بنفسه، ثم يلتحق بالرفيق الأعلى.
فماذا دهى المسلمين حتى خالفوا الصريح من أمر
النبي هذه المدة الطويلة من غير حياء منه ولا خجل ولا
خوف من الله ورسوله وتوطنوا على غضبه ولعنهم جهارا،
أتراهم استضعفوا النبي وهو مريض شاك فتمردوا عليه، أم
ماذا؟
" رابعا " - أن ينكر هؤلاء المسلمون على نبيهم تأميره
لهذا الفتى، ثم لا يرتدعون إن نهاهم عن ذلك. وليس لهم
على كل حال حق هذا الانكار إذا كانوا حقا قد تغذوا بتعاليم
79

الإسلام وعرفوا أن النبي لا ينطق عن الهوى وما كان لهم
الخيرة.
(خامسا) - أن النبي قد علم بقرب أجله ويعلم أن
الفتن قد أقبلت كقطع الليل المظلم، فكيف يبعد جيشه وقوته
عن العاصمة ومركز الدعوة، بل كيف يخلي المدينة من شيوخ
المهاجرين والأنصار وزعمائهم وأهل الحل والعقد منهم.
فلا بد أن يكون كل ذلك لأمر ما عظيم، أكثر من هذه
الظواهر التي يتصورها الناس.
- 3 -
فهل نجد حلا لهذه المشاكل تطمئن إليه النفس الحرة،
بعد عرفاننا للنبي وعظمته وأنه لا يفعل ولا يقول إلا عن
وحي وسر إلهي.
- لم يصح عندنا تفسير لمشاكل هذا الحادث إلا بأن نقول
إنه " ص " أراد:
(أولا) - أن يهيئ المسلمين لقبول " قاعدة الكفاية " في
ولاية أمورهم، من ناحية، عملية، فليست الشهرة ولا تقدم
العمر هما الأساس لاستحقاق الإمارة والولاية، فإذا قال عن
أسامة مؤكدا جدارته بالقسم ولام التأكيد: " وأيم الله إن
كان لخليقا للإمارة - يعني زيدا - وإن ابنه لخليق للإمارة ".
80

وإذا علمنا أن علي بن أبي طالب هو المهيأ لولاية أمور
المسلمين بعد النبي - على الأقل - أن فرض إنه لم يكن هو
المنصوص عليه، أفلا يثبت لنا أن قضية أسامة كانت لقبول
الناس إمارة علي على صغر سنه يومئذ بالقياس إلى وجوه
المسلمين وكان إذ ذاك لا يتجاوز الثلاثين؟ وهذا ما يفسر به
المشكل الأول والثاني في هذا البعث.
و (ثانيا) - أن يبعد عن المدينة ساعة وفاته من يطمع في
الخلافة خشية أن يزيحوها عن صاحبها الذي نصبه لها في
الخلافة. وقد ثبت عنه إنه كان يتوجس خيفة على أهل بيته
ولا سيما على علي، فوصفهم بأنهم المظلومون من بعده. ولذا
نراه اوعب في هذا الجيش كل شخصية معروفة تتطاول إلى
الرئاسة، ولم يدخل فيه عليا ولا أحدا ممن يميل إليه الذين
كانوا له بعد ذلك شيعة ووافقوه على ترك البيعة لأبي بكر،
فلم يذكر واحد منهم في البعث، وهم ليسوا أولئك النكرات
الذين لا يذكرون.
وهذا ما يفسر تباطؤ القوم عن البعث وعرقلتهم له
بخلق الإشاعات في المعسكر عن وفاة الرسول، مع إصراره
" ص "؟ ذلك الاصرار العظيم. ولم يمكنهم أن يصرحوا بما في
نفوسهم، فاعتذروا بصغر قائدهم، وفي هذا كل معنى
التهجين لرأي النبي وعصيان أمره الصريح.
فكان الغرض إخلاء المدينة من المزاحمين لعلي ليتم الأمر
81

له، بعد أن اتضح للنبي أن التصريحات بخلافته لا تكفي
وحدها للعمل بها عندهم، كما امتنعوا عن السير تحت لواء
أسامة وهو لا يزال في قيد الحياة، فقدر أن القوم إذا ذهبوا في
بعثهم هذا يرجعون وقد تم كل شئ لخليفته المنصوب من
قبله، فليس يسعهم إلا أن ينضووا حينئذ تحت جماعة
المسلمين ورايتهم.
و (ثالثا) - أن يقلل من نزوع المتوثبين للخلافة، ليقيم
الحجة لهم وللناس بأن من يكون مأمورا طائعا لشاب يافع
ولا يصلح لإمارة غزوة مؤقتة كيف يصلح لذلك الأمر العظيم
وهو ولاية أمور جميع المسلمين العامة، وهي في مقام النبوة
وصاحبها أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
وزبدة المخض أن بعث أسامة لا يصح أن يفسر إلا بأنه
تدبير لإتمام أمر علي بن أبي طالب بمقتضى الظروف المحيطة
به من تقدم النص على علي وقرب أجل النبي " ص "؟ وعلمه
بأن هناك من لا يروق له ولاية ابن عمه، وبمقتضى الدلائل
الموجودة في الواقعة نفسها: من تأمير فتى يافع وتكديس وجوه
القوم وقوادهم في البعث وعدم دخول علي ومن يميل إليه
وامتناع جماعة من الالتحاق بالجيش وحث النبي على تنفيذه
وغضبه من اعتراضهم وتخلفهم، وهو في مرض الفراق
والظرف دقيق على المسلمين.
فهذا البعث في الوقت الذي كان تدبيرا لإخلاء المدينة
82

لعلي وحزبه كان حجة على المستصغرين لسنه ودليلا على عدم
صلاح غيره لهذا المنصب العظيم. فإذا كان الاخلاء لم يتم
لتمانع القوم وعرقلتهم للبعث فإن الحجة ثابتة مع الدهر.
ولا يصح للباحث أن يدعي إن السبب الحقيقي
لتخلف القوم هو ما تظاهروا به من عدم الرضى بإمارة
قائدهم الصغير، وإن تذرعوا به عذرا لإخفاء تلك الشنشنة
التي عرفها النبي من أخزم، لأنا نرى أن لو كان هذا هو
السبب الحقيقي، لما تنفذ البعث بعد أن تم أمر الخلافة الذي
به زال المانع الحقيقي، والمسلمون إلى النبي أطوع منهم إلى
أبي بكر لو كان يمنعهم صغر القائد. ولم يتأب عمر نفسه بعد
ذلك أن يخاطب أسامة بالأمير طيلة حياته اعترافا بإمارته.
أما الشفقة على النبي - إن لم تكن عذرا آخر تذرعوا
به - فلا يصح أن تكون سببا حقيقيا، إذ ينبغي أن يكونوا عليه
أشفق بالتحاقهم بالبعث، وقد غضب أشد الغضب من
تأخرهم على ما فيه من حال ومرض. ولئن ذهبوا يسألون عنه
الركبان كان أكثر برا بنبيهم من أن يعصوا أمره ويغضبوه
ذلك الغضب المؤلم له.
ولو أن القوم كانوا قد امتثلوا الأمر لأصابوا خيرا كثيرا
ولتبدل سير التأريخ ومجرى الحوادث تبدلا قد لا يحيط به حتى
الخيال " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات
من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون "
83

ولما وقع ما وقع بعد ذلك من خلاف بين المسلمين وتطاحن
وحروب دموية أنهكت قوى الإسلام وأضعفت روحية الدين
حتى انفصمت عرى الجامعة الإسلامية سريعا وانتهكت
حرمات الأحكام الدينية، فعاد الإسلام كما نشاهد اليوم غريبا
كما بدئ.
أي أمر عظيم وتدبير حازم صنعه النبي لسد باب كل
خلاف يحدث؟ " وكل أفعاله عظيمة " لو تم ما أراد. ولكن
لا أمر لمن لا يطاع.
ب - ائتوني بكتف ودواة:
قد شاهد النبي (ص) ما كان من أمر عرقلة بعث
أسامة، وهؤلاء القوم المتباطؤن لم ينفع معهم صعوده المنبر
عاصبا رأسه في أشد حال لا تقله رجلاه مما به من لغوب،
مشددا عليهم النكير على مقالتهم في حق أسامة وتخلفهم عن
البعث.
وهي أول حادثة من نوعها تمر على النبي في المدينة، لا
يطاع أمره ويتجاهل حكمه، ويتساهل في غضبه، ثم لا
يستطيع أن ينفذ هذا الأمر وهو مصر على تنفيذه إلى آخر يوم
من حياته إذ دخل عليه أسامة راجعا من الجرف فأمره بالسير
غاديا.
لا شك أن مثل هذا الحادث يدعو إلى تدبير آخر سريع
84

لإتمام الأمر لعلي، ومنه يتأكد للنبي جليا ما عليه القوم من
التواطؤ على عدم التقيد بالنص على علي. وهم إذا كانوا في حياته
لا يطيعون أمره في هذا السبيل فكيف إذن بعد وفاته. فلم يجد
بعد هذا خيرا من أن يكتب لهم كتابا فاصلا لا يضلون بعده
أبدا، لأنه سيكون أمرا ثابتا لا يقبل التأويل والنكران والتناسي،
لا كالكلام الذي لا يحفظ إلا في الصدور وهي لا تسلم من
دخل.
ما أعظمه من كتاب؟
أهم لا يضلون بعده أبدا؟
ما أعظمها من نعمة!
بالله أبالله أهكذا قال النبي؟
نعم! لما اشتد المرض به " يوم الخميس " وفي البيت
رجال منهم عمر بن الخطاب، قال (ص): " هلموا أكتب
لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا ".
فأية فرصة غالية هذه يجب أن يقتنصها الحاضرون لهم
ولجيلهم وللأجيال اللاحقة حتى الأبد؟ وأية نعمة كبرى هذه
لا تعادلها نعمة!... أما كان على المسلمين أن يستغلوها
أعظم غنيمة فيسرعوا إلى تلبية هذا الطلب ليخلد لهم الهدى
ما بقوا؟ فأي شئ كان يؤخرهم عن اقتناص هذه النعمة؟
أوليس عمر بن الخطاب حال دون هذا التدبير، فأوهى
85

منه عقدته المحكمة، فقال: " إن رسول الله قد غلبه
الوجع - أو ليهجر - وعندكم القرآن وحسبنا كتاب الله "!.
فاختلف الحضور وأكثروا اللغط والنقاش، منهم من يقول
قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول: ما
قال عمر.
فما ترى نبي الرحمة صانعا بعد هذا؟ أيكتب الكتاب
وهو في زعم بعضهم على حال مرض غالب " حاشا النبي
الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى "، فكيف
إذن يهتدون به ولا يضلون بعده أبدا، وقد وقع فيه الخلاف
من الآن، وطعن بتلك الطعنة النجلاء التي لا سبر لها ولا
غور. فلم يجد روحي فداه إلا أن ينهرهم وينبههم على
خطأهم فقال: " قوموا. ولا ينبغي عند نبي نزاع " لتبقي
هذه الحادثة حجة على مرور القرون.
حقا إنها لرزية من أعظم الرزايا سببت كل ضلال وقع
ويقع بعد النبي. وحق الابن عباس حبر الأمة أن يبكي عند
تذكرها حتى يخضب دمعه الحصباء ويقول: " إن الرزية كل
الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب لهم
ذلك الكتاب ".
وليفكر المفكر أي شئ كان يدعو عمر ليقول هذه المقالة
القارصة في حق النبي المختار، وما ضره لو كان يكتب هذا
86

الكتاب ليعصم الخلق عن الضلالة أبد الدهور وسجيس
الليالي؟
أكان لا يجب أن يبقي الخلق على هدى لا يضلون؟
أم كان يعتقد حقيقة أن النبي ليهجر. ولكن لا يعتقد
هذا الاعتقاد إلا من كان يجهل حقيقة النبي وما جاء به
القرآن من الآيات التي ندد بها على المشركين. وليس ذلك
عمر. وما باله لم يعتقد بهجر أبي بكر " وليس شأنه شأن
النبي " لما أوصى بالخلافة، وكان قد أغمي عليه أثناء تحرير
الاستخلاف، فأتم ذلك عثمان بالنص على عمر من دون
علم أبي بكر، خشية أن يدركه الموت قبل الوصية، فأمضى
ما كتبه عثمان لما استفاق.
أم ماذا؟
ليتني أستطيع أن أفهم غير أنه علم بما سيكتبه النبي من
النص على علي، وقد سبق للنبي أن عبر مثل هذا التعبير في
العترة يوم الغدير إذ ذكر الثقلين كتاب الله وعترته أهل بيته
ووصفهما بأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ثم قال:
" لن تضلوا إن اتبعتموها " (1) أو على المشهور " لن تضلوا ما
أن تمسكتم بهما أبدا " ففهم عمر من قوله: " لا تضلوا بعده
أبدا " ماذا سيريد أن يكتب الرسول. ويشهد لتنبه عمر

(1) مستدرك الحاكم (3: 106).
87

لذلك قوله: " حسبنا كتاب الله " إذ فهم أن غرض النبي أن
يقرن الثقلين أحدهما بالآخر فكأنه قال: يكفينا واحد منهما وهو
الكتاب ولا حاجة لنا بالآخر، وإلا فما كان معنى لقوله
حسبنا... وهو يدعي هجر النبي " ص ".
فكانت هذه المقالة من عمر والمقالة بمشهد النبي للحيلولة
دون الكتاب لعلي، إقداما جريئا جاء في وقته المناسب له قبل
أن تفوت الفرصة. ولا يشبهه أي موقف آخر منه
على كثرة مواقفه في إتمام البيعة لأبي بكر، كما سنرى في إنكاره
موت النبي وموقفه في السقيفة وبعدها فإنه هو الذي
شيد (1) بيعت؟ أبي بكر وكافح المخالفين. ولولاه لم يثبت لأبي بكر
أمر ولا قامت له قائمة: فقد كسر سيف الزبير، ودفع في
صدر مقداد، ووطأ سعد بن عبادة وقال: اقتلوه فإنه صاحب
فتنة، حطم أنف الحباب بن المنذر، وتوعد من لجأ إلى بيت
فاطمة عليها السلام وكان بيده عسيب نحل (2) بعد خروجهم
من السقيفة يدعو الناس إلى البيعة...
ولا يستطيع الباحث أن ينكر من عمر بن الخطاب تمالؤه
على علي بن أبي طالب ويقظته فيما يخص استخلافه. وكذلك
جماعته الذين شاهدنا منهم التعاضد والتكاتف في أكثر

(1) راجع شرح ابن أبي الحديد (1: 58).
(2) راجع كنز العمال (ج 3 رقم 2346 و 2363).
88

الحوادث كأبي بكر وأبي عبيدة وسالم مولى حذيفة ومعاذ بن
جبل وأضرابهم. وكذا علي نفسه ظاهر عليه جليا ميله عن
هؤلاء في جميع مواقفه معهم حتى أنه لم يبايع أبا بكر حتى
ماتت فاطمة فبايع مقهورا، ولم يدخل في حرب قط على عهد
الخلفاء الثلاثة، وهو هو ابن بجدتها وقطب رحاها. وكان
يتهم عمر إنه لم يشد أزر أبي بكر إلا ليجعلها له بعده فقال
له مرة: " احلب حلبا لك شطره اشدد له اليوم أمره ليرده
عليك غدا " (1) وقد صدقت فيه مقالته فاستخلف من قبل أبي
بكر.
وهل يخفى على أحد ما كان في القلوب من تنافر؟
ويكفي شاهدا أن نسمع المحاورة التي دارت بين عمر بن
الخطاب وابن عباس كما رواها ابن عباس (2).
عمر " لابن عباس ": أتدري ما منع قومكم منكم بعد
محمد؟
ابن عباس: " وهو يكره أن يجيبه " إن لم أكن أدري فأمير
المؤمنين يدريني.
-: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتبجحوا

(1) السياسة والإمامة: باب إمامة أبي بكر. وشرح النهج (2: 5).
(2) الطبري (5: 31) وابن الأثير (3: 31) وشرح النهج (2: 18).
89

على قومكم بجحا بجحا، فاختارت قريش لأنفسها
فأصابت ووفقت.
-: يا أمير المؤمنين إن تأذن لي في الكلام وتمط عني
الغضب تكلمت.
-: تلكم:
-: أما قولك: " اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت "
فلو أن قريشا اختارت لأنفسها حيث اختار الله
عز وجل لها لكان الصواب بيدها غير مردود ومحسود.
وأما قولك: " إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة "
فإن الله عز وجل وصف قوما بالكراهية فقال: " ذلك
بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ".
-: هيهات! والله يا ابن عباس قد كانت تبلغني
عنك أشياء كنت أكره أن أفرك عنها فتزيل منزلتك مني.
-: وما هي؟ فإن كانت حقا فما ينبغي أن تزيل منزلة منك
وإن كنت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.
- بلغني أنك تقول إنما صرفوها حسدا وظلما.
-: أما قولك: (ظلما) فقد تبين للجاهل والحليم. وأما قولك
(حسدا) فإن إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون.
-: هيهات! أبت - والله - قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدا
ما يحول وضغنا وغشا ما يزول.
90

-: مهلا! لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس
وطهرهم تطهيرا بالحسد والغش، فإن قلب رسول الله
من بني هاشم.
-: إليك عني؟
* * *
نقلنا هذه المحاورة بطولها لأنها تجلي كثيرا من الغوامض
في بحثنا، فهي تكشف لنا:
(أولا) - عما في نفوس الطرفين من نزوان بغضاء كامنة
يستطير شرارها. وهذا ما أردنا استكشافه الآن وسقنا لأجله
المحاورة.
و (ثانيا) - عن أن القوم كانوا قد تعمدوا منع الأمر عن
آل البيت، وأن منعهم كان عاطفيا كراهة اجتماع النبوة
والخلافة فيهم خشية تبجحهم، وقد فسر ابن عباس هذه
الخشية بالحسد وأنها من الظلم. واستشعر الألم الكامن من
تأكيد هذه الكلمة (بجحا بجحا).
و (ثالثا) - عن أن الإمامة إنما هي باختيار الله، وأن
الخلافة في آل البيت مما أنزله الله، وليست تابعة لاختيار
قريش وكراهتهم.
91

و (رابعا) - عن أن ظلمهم لآل البيت بأخذها منهم
مشهور يعرفه كل أحد.
وهذان الأمران الأخيران صرح بهما ابن عباس على شدة
تحفظه واتقائه غضب عمر الذي لم يسلم منه بالأخير. ولم يرد
عليه عمر الرد الذي يكذب هذا التصريح أكثر من الطعن
فيه وفي بني هاشم ثم الزجر له بقوله: " إليك عني ". وهذا
الزجر ينطق صريحا بالعجز عن الجواب، فختمت به
المحاورة.
والغرض من كل ذلك أن إقدام عمر الجرئ، على نسبة
الهجر إلى النبي المعصوم، وعلى دعوى أن كتاب الله وحده
كاف للناس بلا حاجة إلى شئ آخر على عكس تصريح
النبي، لا يستغرب منه ما دام القصد منع الأمر عن علي.
وقد اتضح أن بينهما ما لا يستطيع التأريخ نكرانه والتمويه
فيه.
وأما اعتذار بعض الناس عنه بأنه ظهر له أن الأمر ليس
للوجوب فهو اعتذار بارد لا يقره العلم. فمن أين ظهر
ذلك؟ أمن قول النبي " لا تضلوا بعده أبدا " - وهل هناك أمر
أعظم مصلحة في الحكم الشرعي تجعله للوجوب من هداية
الخلق أجمعين إلى أبد الدهور - أم من وقوع النزاع وغضب
النبي وزجرهم بالانصراف. وإذا كان قد فهم الاستحباب
فلماذا يرده بأشنع كلمة لا يواجه بمثلها الرجل العادي من
92

الناس لا سيما عند المرض، أعني كلمة الهجر والهذيان، مهما
لطفت العبارة بتحويلها إلى كلمة " قد غلبه الوجع ". ثم أي
معنى حينئذ لقوله: " حسبنا كتاب الله "، وهو رد على النبي
وتدخل في مصلحة الحكم وأساسه، وكان يغنيه أن يقول لا
يجب علينا امتثال الأمر.
* * *
والخلاصة إن الكتاب الذي أراد أن يكتبه النبي (ص)
من نفس وصفه له: " لا تضلوا بعده أبدا " ومن نفس رد
عمر " حسبنا كتاب الله " ومن قرائن الأحوال المحيطة بالقصة
بعد سبق توقف البعث عن الذهاب نعرف أن المقصود منه
النص على خليفته من بعده وهو علي بن أبي طالب، لا سيما
أن كل خلاف بين المسلمين وكل ضلال وقع ويقع في الأمة
هو ناشئ من الخلاف في أمر الخلافة فهو أس كل ضلالة.
ولو تركوا النبي يكتب التصريح بالخلافة من بعده لما كان
مجال للشك والخلاف إلا بالخروج رأسا عن الإسلام.
وليس بالبعيد أنه (ص) امتنع عن التصريح شفاها أو
كتبا بعد هذه القصة بالنص على خليفته لئلا يأخذ اللجاج
بالبعض إلى الخروج على الإسلام، فتكون المصيبة أعظم على
الإسلام والمسلمين وهذا ما حدا بعلي عليه السلام
إلى المجاراة والمماشاة، فلذا قال في خطبته الشقشقية: " فطفقت
أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء...
93

فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى...). وسيأتي في الفصل
الرابع الكلام عن موقفه مع الخلفاء تفصيلا.
94

الفصل الثالث
بيعة السقيفة
95

1 الدوافع لاجتماع السقيفة (1)
تصور الأنصار أنهم الذين آووا ونصروا يوم عز الناصر،
وأسلموا يوم قحط المسلمين، فبذلوا للإسلام نفوسهم
وأموالهم، فكانوا بحق " أنصارا " كما سماهم النبي صلى الله
عليه وآله، و " وحضنة الإسلام وأعضاد الملة " كما دعتهم
الزهراء عليها السلام في خطبتها الشهيرة عند مطالبتها
بالنحلة.
إذن، لا بد أن يروا لأنفسهم حقا في الإسلام لا يغمط
وسابقة ليست لغيرهم لا تنكر، ولهم في تشييده يد مشهورة
وذكر جميل.. وهذا ما يطمعهم في إمارة المسلمين كجزاء

(1) السقيفة: الصفة، والظلة، وهي شبه البهو الواسع الطويل السقف.
وكان لبني ساعدة بن كعب بن الخزرج - وهم حي من الأنصار
ومنهم سعد بن عبادة نقيبهم ورئيس خزرج - ظلة يجلسون تحتها
هي دار ندوتهم لفصل القضايا اشتهرت " بسقيفة بني ساعدة ".
اجتمع فيها الأنصار أوسهم وخزرجهم ليبايعوا سعد بن عبادة
خليفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله.
96

لتضحيتهم في سبيل الإسلام وكنتيجة لنجاحهم وتفوقهم على
العرب في النصرة والإيواء.
ومن جهة ثانية: إنهم كانوا قد وتروا قريشا والعرب،
وأية ترة هي؟ آووا ونصروا من سفه أحلامهم، وهم يحرقون
الأرم عليه ليقتلوه، فتمنع عن جبروتهم بأولئك المستضعفين في
نظر " أهل النواضح " وأكثر من ذلك أنهم قتلوا صناديدهم
وأسروا رجالهم وجعجعوا بهم حتى دانت بأسيافهم العرب.
فكانت الأنصار - والحال هذه - تتخوف هؤلاء الذين وتروهم
إذا خلصت إليهم الإمارة أن يأخذوهم بترتهم، وهم عندئذ
المغلوبون على أمرهم سوقة لا يملكون لأنفسهم قوة ولا دفاعا،
وكفاهم ما سمعوه من النبي (ص) مخاطبا لهم: " ستلقون بعدي
أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ". والمناظرة التي وقعت
يوم السقيفة كانت تشير إلى تخوفهم هذا، بل صرح
الحباب بن المنذر إذ يقول: " ولكنا نخاف أن يليها بعدكم من
قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم ". وقد صدقت فراسته فتولى
الأمر بنو أمية وكان ما كان منهم في وقفة (الحرة) المخزية التي
يندي منها جبين الشرف والإنسانية، ويبرأ منها الإسلام
وأهله.
وشئ ثالث هناك: إذا كان صاحب الأمر هو علي بن
أبي طالب، فلم يخف عليهم حسد العرب له وتمالؤها عليه،
97

وهي موتورة له أكثر من أي شخص آخر من المسلمين بعد
النبي، فلا تمكنه العرب - وقريش خاصة - من أمورهم. وليس
بعيدا عهد تأخر جيش أسامة والحيلولة دون كتاب النبي. ولا
بد أنهم علموا بمؤامرات هناك وتفكيرات أحسوها عيانا في
جماعة من الناس. فالأنصار - والحال هذه - قد لا يرون كبير
إثم في تطاولهم لمنصب الخلافة، ما دامت خارجة عن معدنها،
ولا يأمنون أن يتولاها من لا يحمدون مغبة أمره، ولا يجدون
غير؟ هم ممن يتطاولون لها أولى بها في نصرة وخدمة وتضحية،
ولعلهم لأجل هذا لما يئسوا من الأمر بعد محاولتهم الفاشلة
ورأوه: - خرج من أيديهم أيضا قال كلهم أو بعضهم:
" لا نبايع إلا عليا " (1) ولكن بعد خراب البصرة.
هذه أسباب قد تقنع النفوس الاعتيادية على تنفيذ
رغباتهم، وتحملها على الاعتقاد بصحة ما يوحي إليها
أهواؤها بقصد أو بغير قصد من جراء تأثير العاطفة، فتعمى
العين عن أوضح ما يقوم في في طريقها من نور للحق ودليل
على فساد إيحاء النفس بنزعاتها، وهذا ما يؤيده علم النفس.
وإذا نحن تفهمنا هذه الحقائق وتدبرناها جيدا استطعنا
أن نعرف السر في استباق الأنصار - بهذه العجالة - إلى عقد

(1) الطبري (3: 198) وابن الأثير (2: 157) وغيرهما.
98

اجتماعهم سرا في سقيفتهم، واستطعنا أن نعرف لماذا كان
سريا بلا مشورة للمهاجرين ولا باقي للمسلمين.
أجل! ما هو إلا لأنهم طلبوا الغرة من أصحاب الرسول
وأهل بيته، فانتهزوا فرصة انشغالهم بفادحهم العظيم
وبجهازهم نبيهم، ليحكموا البيعة لأحد نقبائهم وسيد
الخزرج، أو لأي شخص آخر منهم قبل أن يفرغ أهلها أو
طالبوها. وحينئذ ظنوا أن سيتم لهم كل شئ.
2 - نفسية الأنصار
حاولنا في البحث السابق أن نتشبث بما يرفع الأنصار
عن سوء النية والقصد، ولكنا نؤمن بأن ما قلنا عنهم لا
يخرج عن عده من الوساوس التي لا تبرر عمل المرء من
الناحية الدينية. على إنا نرجو أن يكونوا معذورين فيما عملوا
لئلا نخسر عددا وفيرا من الصحابة.
أما نفس عملهم - سواء كانوا بسوء نية أم لا - فلا يسعنا
أن نحكم بصحته، فنا مهما فرضنا الحقيقة من جهة النص
على الإمام فإن استبدادهم هذا وتسرعهم في عقد اجتماعهم
لنصب خليفة منهم لا يخرج عن عدة خيانة للإسلام وتفريطا في حقوق
المسلمين بلا مبرر، وفي وقت قد دهمت الإسلام فيه هذه الفاجعة
99

الدهيماء، والمسلمون كالمذهولين بمصابهم لا يعلمون ماذا سيلاقون
من العرب وأعداء الإسلام.
ولا نريد الآن نجلس في دست القضاء لنحكم لهم
أو عليهم، ولعل هناك من يرى صحة عملهم فلا نضايقه،
وإنما مهمتنا أن ندرس الأسباب التي دعتهم إلى عملهم هذا،
وأن ندرس نفسياتهم.
في البحث السابق رأينا أن خدمتهم للإسلام الممتازة هي
التي خيلت لهم الحق في الخلافة أو في سلطان المسلمين.
وهذا نعرفه من حجتهم على لسان المرشح منهم للخلافة
- سعد بن عبادة - في خطبته ذلك اليوم، ينضم إلى ذلك
تخوفهم من أن يخلص الأمر إلى من قتلوا أبناءهم وآباءهم
وإخوانهم، مع اعتقادهم بخروج الأمر عن أهله، ويدل على
هذا الأخير - كما تقدم - طلبهم مبايعة على بعد اليأس.
هذه الأسباب التي استطعنا عرفانها. وكل ذلك تقدم،
وفيها قبس نسير على ضوئه لمعرفة نفسياتهم.
فإنا نعرف من مجموعها إنهم في محاولتهم كانوا مدافعين
أكثر منهم مهاجمين، والدفاع دائما يكون عن الشعور بالضعف
والانخذال وهذا الشعور من أعظم الأدواء النفسية لمن أراد
الظفر في الحياة، إذ ينشأ منه الوهن في العزيمة والضعف في
100

الإرادة والاضطراب في الرأي والتدبير. وكل ذلك كان ظاهرا
على الأنصار في اجتماعهم بالسقيفة.
والشاهد على ذلك: انقسامهم على أنفسهم وانسحابهم
أمام خصومهم كما سترى، وأعظم من ذلك تنازلهم إلى
الشركة في الأمر من قبل أن ينازعهم منازع، أعني قبل مجئ
جماعة المهاجرين إليهم، إذ قال قائلهم: " فإنا نقول إذن - أي
عندما ينازعوننا - منا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا
أبدا "، فقال لهم سعد: " هذا أول الوهن ". والحق أنه أول
الوهن وآخره. ثم يستمر معهم هذا التنازل حتى مجئ
المهاجرين، فكرروا هذه الكلمة بالرغم على تنبيه سعد لهم
أنها من الوهن.
وهذا يكشف - أيضا - عن سماحة في نفوسهم ولين في
طباعهم، ويصدق ما قلناه إنهم مدافعون أكثر منهم مهاجمين،
فلم يطلبوا الإمارة ليملكوا مقدرات الأمة وشئونها بل ليدفعوا
ضرر من يخافون ضرره، فاكتفوا بالشركة التي يحصل بها
الغرض من الدفاع.
والإنصاف أن الأنصار لا ينكر ما هم عليه من استكانة
واستخذاء وقصر الرأي والتدبير، وضعف في العزائم، ولا
سيما أمام دهاء قريش وقوتها، وإن حاول بعضهم - وهو
الحباب بن المنذر - أن يستر هذا الضعف. إذ قال في خطابه
101

ذلك اليوم: " يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم
فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم ولن يجترئ مجترئ على
خلافكم ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم. وأنتم أهل العزة
والثروة... ". فاطرد خطبته على هذا الأسلوب زاعما أن
سيرفع من منعتهم وبأسهم ويسد خللهم، ونهاهم عن
الاختلاف وحذرهم عواقبه حتى قال: " فإن أبى هؤلاء فمنكم
أمير ومنهم أمير ". ولكنه - كما ترى - بينا هو محلق في السماء
رفعة وتعاظما ويملي إرادته قوة إذا به يهبط إلى الحضيض
ضعفا، إذ يقول: " فإن أبى هؤلاء.. " ونقول له: فإن أبى
هؤلاء الشركة أيضا فما أنتم صانعون؟ لا شك أن ذلك
الضعف الذي يملي عليه التنازل هو ذلك الضعف عينه موجود
أيضا سيملي عليه التنازل عن جميع الأمر، كما وقع.
وهذا من تنازل الخائر المغلوب على أمره وتدبيره. وكانت
عليه بذلك الحجة الظاهرة، فقال له عمر بن الخطاب:
" هيهات لا يجتمع اثنان في قرن " أو ما ينسق على هذا المعنى،
على أن الحباب هذا من أقوى من وجدنا يومئذ وأشجعهم
قلبا وأجرأهم لسانا، وأغلظهم على المهاجرين، لولا سعد بن
عبادة.
إلى هنا لعلنا لمسنا شيئا من نفسية الأنصار وأدركنا مقدار
الضعف في نفوسهم، والوهن في عزائمهم، والاضطراب في
102

تدبيرهم. كيف وقد تجلى ذلك في الحباب لسانهم المفوه
وخطيبهم المصقع ذلك اليوم، وهو أقوى شكيمة وأكثرهم
اعتدادا بنفسه وقومه، وكان يدعي بينهم " ذا الرأي ".
بقي علينا أن ندرك لماذا كل هذا الحذر من الحباب من
اختلافهم إذ يقول: " ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم
وينتقض عليكم أمركم "؟ - لا بد أنه كان يحس بشرارة الخلاف
تقدح، ويتوجس خيفة من الانتقاض وهذا ما سنبحث عنه في
الآتي.
3 - الأنصار حزبان
إذ قيل الأنصار أرادوا البيعة لسعد، فإنما هم الخزرج فقط
دون الأوس (1). وإذا كان الأوس اجتمعوا في السقيفة
مع الخزرج فإنما هو على ظاهر الحال، ولحس مشترك بالخوف
ممن قتلوا آباءهم وأبناءهم أن ينالوا الإمارة، وهم يبطنون في
نفس الوقت للخزرج كمين أحن تتغلغل في صدورهم، فإن
بين الحيين دماء مطلولة ما زال نضخها على سيوفهم وجروحا

(1) ولذا يقول المؤرخون عند ذكرهم لبيعة الأوس: " فانكسر على
الخزرج ما كانوا أجمعوا عليه ".
103

بالغة لإيلام صدعها ولا يرجى رأبها. وكان آخر أيام حروبهم
يوم (بعاث) المشهور وهو قبل الهجرة بست سنين، وهو
سبب إسلامهم - على ما قيل - إذ جاء أحد القبيلين بعد يوم
بعاث إلى مكة يستنجد قريشا على الفريق الثاني، فالتقوا
بالنبي (ص) وهداهم الله تعالى إلى الإسلام.
وكان رئيس الأوس يوم بعاث حضير الكتائب أبو
أسيد بن حضير هذا الذي أفسد الأمر على سعد وبايع أبا بكر
ومعه الأوس. وكان رئيس الخزرج عمر بن النعمان، أبو
النعمان صاحب راية المسلمين يوم أحد (1).
ولم يلطف الإسلام كثيرا من تنافسهم وتحاسدهم، وإن
أطفأ بينهم نار الحروب، فقد كانا يتصاولان تصاول الفحلين،
لا تصنع الأوس شيئا إلا قالت الخزرج نفاسة: لا يذهبون بهذا
فضلا علينا. فلا ينتهون حتى يوقعوا مثله. وكذلك إذا فعلت
الخزرج شيئا قالت الأوس مقالتهم وصنعت صنعهم (2).
ومن منافساتهم التي بلغت حد الافراط يوم استعذر
رسول الله من عبد الله بن أبي سلول المنافق الشهير وهو من
الخزرج فقال: " يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد

(1) راجع العقد الفريد (2: 250).
(2) الطبري (3: 7) وابن الأثير (2: 66).
104

بلغني عنه أذاه في أهلي. " إلى آخر ما قال، فقام سعد بن
معاذ رئيس الأوس فقال: " يا رسول الله أنا والله أعذرك منه
إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج
أمرتنا ففعلنا فيه أمرك " فترى سعدا كيف تجاهل الشخص
المعنى وتحفظ عند ذكر الخزرج مما يدل على شديد تنافسهم
فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج فقال لابن معاذ: " كذبت لعمر
الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من رهطك لما أحببت أن
يقتل " فقام أسيد بن حضير ابن عم سعد بن معاذ فقال لابن
عبادة: " كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن
المنافقين ". فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا
ورسول الله قائم على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا
وسكت (1).
هكذا هم الأوس والخزرج حزبان متنافسان متحاسدان
وإنما سعد بن عبادة بادئ بدء - يوم السقيفة - أراد أن
يستميل الأوس باسم الأنصار، وهم حزب واحد أمام حزب
المهاجرين وقريش، فقال - معرضا بخصومهم في خطبته على
الأنصار -: " يا معشر الأنصار أن لكم سابقة في الدين وفضيلة
ليست لقبيلة من العرب ". ويقصد المهاجرين. وهكذا مضى
في خطبته يضرب على هذا الوتر إلى أن أجابوه جميعا: " أن

(1) راجع البخاري (2: 6 و 3: 24).
105

وفقت في الرأي وأصبت في القول ولن نعدو ما أمرت،
نوليك هذا الأمر، فأنت لنا مقنع ولصالح المؤمنين رضى ".
ثم إنهم ترادوا الكلام فيما إذا أبت المهاجرين من قريش
بيعتهم، فقالت طائفة: " إذن نقول منا أمير ومنكم أمير ".
فقال سعد: " هذا أول الوهن " وقد سبقت الإشارة إليه. وفي
الحقيقة أنه أول الوهن وتنازل منهم عرفنا فيما سبق دلالته على
مبلغ ضعف إرادتهم أمام إرادة قريش حتى قبل مواجهتهم،
بل يدل أيضا على تخلخل صفوفهم ووجود خلاف كامن
كمون النار في الرماد، فلم يتأثروا بدعوة سعد، وأبطأوا عليه
حتى داهمهم المهاجرون، وهم إنما أسرعوا إلى عقد هذا
الاجتماع ليسبقوا الحوادث، وإلا فقد كانت الفرصة الكافية
لبيعته من قبل أن يعلم جماعة المهاجرون باجتماعهم فتكبسه
عليهم. لولا أنهم أضاعوها باختلافهم وتباطؤهم حتى مضى
الوقت. ومثل هذه الأمور - بعرف الساسة - لا تقبل الأناة
والإبطاء.
والحق أن الأوس كانوا غير مرتاحين لبيعة سعد، وهم
يتنافسون مع الخزرج في أتفه الأشياء وأدناها، وكأنهم كانوا
لا يريدون أن يبدأوها بالخلاف خشية أن يقال: " أوس
وخزرج "، وفي هذه الكلمة ما فيها من معان لا تتفق وروحية
الإسلام، فيبتعدون عنها ما استطاعوا على أن المجاملة محفوظة
106

بين الطرفين. ولذلك لما رأوا المجال للوثبة واسعا نقضوا أمر
سعد وما اجتمعت عليه الخزرج، وهذا عندما رأوا أن
الخلاف جاء من الخزرج أنفسهم بمقالة بشير بن سعد
الخزرجي، وستأتي، وباسراعه إلى بيعة أبي بكر، وقد كان
أول المبايعين. وأيضا رأوا أن الدعوة ضد سعد إنما جاءت
من قبل غيرهم وهم المهاجرون.
فظهرت منهم حسيكة الخلاف والتنافس، وقال بعضهم
لبعض وفيهم أسيد بن حضير زعيمهم: " لئن وليتموها سعدا
عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم
فيها نصيبا أبدا فقوموا فبايعوا أبا كبر " فقام أسيد فبايع ومعه
الأوس، وليسأل السائل هل جعل لهم نصيب فيها بمبايعتهم
لأبي بكر؟ ولكنه التنافس هو الذي أملى عليهم هذا القول
ومنافسة القرابة أبعد أثرا وأعظم مفعولا.
هذا ولا ينكر ما لأبي بكر من كبير أثر في استمالة الأوس
إلى جانب المهاجرين، فقد وقف موقفا مؤثرا وكان يعرف من
أين تؤكل الكتف فلم يفته ما كان يعلمه من التنافس بين
الحيين، حتى استغله لإنقاذ الموقف وبرع في هذا الاستغلال،
فقد قال في ذلك اليوم: " أن هذا الأمر إن تطاولت إليه
الخزرج لم تقصر عنه الأوس وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر
عنه الخزرج، وقد كانت بين الحيين قتلى لا تنسى وجراح لا
107

تداوى فإن نعق منكم ناعق جلس بين لحيي أسد يضغمه
المهاجري ويجرحه الأنصاري) (1).
فانظر إلى كلمة (لم تقصر) وما لها من بليغ أثر في
القلوب المتحاسدة وما بها من تحريض لأحد المتناظرين على
نظيره المتطاول.
نعم! إنها لتجعل لكل من الحيين الكفاية تجاه الحي
الآخر، فإن تطاول أحدهما - وهم الخزرج الآن - فحقيق
بالآخر أن يتطاول لها ككفتي ميزان، من غير فضيلة يختص
بها المتطاول. فلا تسل كيف اشرأبت أعناق الأوس لهذا
الأمر؟
وبعدها أنظر كيف ذكر الترات السابقة ونبش الدفائن.
وهذا ما يثير بالحفائظ ويوقظ الضغائن. وهنا راح يستدل على
خطأ تولي أحد الحيين لهذا الأمر، لأنه يقع بين خصمين
الدين: فرماهم بالمسكنة كما يقول ابن دأب عيسى بن زيد.
استطعنا في هذا البحث أن نلمس التنافس بين الأوس
والخزرج لنعرف مدى تأثيره على مجرى حادث السقيفة، كما
عرفنا أن أهل الدعوة - عند التحقيق - إنما هم الخزرج فقط،
ولم تشاركهم الأوس مشاركة جدية.

(1) البيان والتبيين (3: 181).
108

فلنترك الأنصار الآن مجتمعين في السقيفة يتبارون الخطب
ويتحمسون لجهادهم وتضحيتهم، و سعد بن عبادة قد ترأس
حفلهم يخطبهم ويقول في آخر خطبته: " استبدوا بالأمر دون
الناس فإنه لكم دون الناس ". ولنذهب ميممين المهاجرين
وباقي المسلمين حول دار النبي في المسجد، لنراهم ماذا هم
صانعون!
4 هل مات النبي محمد...؟
نعم! كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد
خرج في آخر فجر من حياته إلى الصلاة، فصلى بالمسلمين
الغداة. وكان هذا آخر عهدهم برؤية تلك الطلعة المحبوبة
وذلك النور الإلهي.
ولم تزل شمس السماء إلا وقد آذنت شمس الأرض
بالمغيب من أفقها إلى أفق الحق الدائم، وها هو ذا النبي
مسجى بين أهله ينتدبون فيه حظهم، والباب مغلق دون
الناس.
أنه يوم...! وأي يوم هو على أهل المدينة والمسلمين!.
فقدوا...؟ وأية نعمة فقدوا..؟
فقدوا الرحمة والإنسانية. فقدوا الأخلاق الإلهية. فقدوا
109

حياتهم وعزهم ومجدهم. فقدوا طريق الحق اللاحب وصراط
الله المستقيم ونوره المشرق بآياته الباهرة..!
فقدوا نبيهم العظيم وأباهم الكريم..!
فأعظم بيومه يوما! وأعظم به فقيدا!
أنه يوم كان للمسلمين مضرب المثل فإذا بالغوا في يوم
مصيبة قالوا: " أنه كيوم مات فيه رسول الله ".
وما تنتظر من المسلمين ساعة يسمعون الواعية والباب
مغلق على من فيه، إلا أن يهرعوا فيجتمعوا في مسجدهم
والطرقات، نكسا أبصارهم مطأطئي رؤسهم. ولم تبق عين
لم تدمع، ولا قلب لم يجزع، ولا نفس لم يتقطع.
وما ينتظرون هم..؟
- لا شك ليس هناك ما يدعوهم إلى تكذيب النعاة. وإذ
علموا آنئذ أن مجرى حياتهم قد تبدل راحوا - ولا
شك - يتطلعون إلى ما يظهر لهم على مسرح العالم الإسلامي
من حوادث ومفاجآت، فتطيش لذلك عقولهم، ويقوى
حسهم بمستقبل هذا الدين الجديد الذي أخذ بأطراف
الجزيرة، والمنافقون يتحينون به الفرص، فتنهد عزائمهم،
ويستشرفون - على الأكثر - على خليفة النبي الذي سيقود
الأمة لينقذ الموقف، فيضربون أخماسا في أسداس.
كل هذه الأفكار وأكثر منها - بغير شك - كانت تمر على
110

رؤس ذلك الجمع الحاشد الطائش اللب الحائر الفكر،
الذي يحوم حول دار النبوة والوحي، يرقب منها - على
عادته - أن تبعث له بما يطمن خاطره ويهدئ روعه ويعرفه
مستقبل أمره، حتى أصبح الناس كالغنم المطيرة في الليلة
الشاتية (كما في الحديث).
ولكن.. ولكن عمر بن الخطاب صاحب رسول الله
ذلك الرجل الحديدي أبى على الناس تصديقهم بموت نبيهم،
إذ طلع صارخا مهددا " وقد قطع عليهم تفكيرهم
وهواجسهم " وراح يهتف بهم: " ما مات رسول الله ولا
يموت حتى يظهر دينه على الدين كله. وليرجعن فليقطعن
أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته. لا أسمع رجلا يقول
مات رسول الله إلا ضربته بسيفي ".
أتراك " لو خلوت بنفسك وأنت هادئ الأفكار " تقتنع
بوحي هذه الفكرة من هذا الذي لا يقعقع له بالشنان، وأنت
لا تدري لماذا رسول الله يقطع أيدي وأرجل من أرجف
بموته، أو بالأصح من قال بموته؟ ولأي ذنب يستحق الضرب
بالسيف هذا القائل؟ ومن أين علم أن رسول الله لا يموت حتى يظهر
دينه على الدين كله؟ وما هذا الرجوع؟ أرجوع بعد الموت أو بعد
غيبة " كغيبة موسى بن عمران كما يدعيها عمر بن الخطاب في بعض
الحديث " ولكنها أية غيبة هذه وهو مسجى بين أهله لا حراك فيه؟
إلا أني أعتقد أنك لو كنت ممن ضمه هذا الاجتماع
111

لذهبت بتياره ولتأثرت بهذا القول إلى أبعد حد كسائر من
معك ما دام الاجتماع بتلك الحال التي وصفناها، والخطيب
هو عمر بن الخطاب، وقد جاء بتلك الدعوة الثائرة، في
صرامة إرادة ورأي بلغا أقصى درجات الصرامة، وقد
استعمل المغريات الخلابة للجماعات: فمن أمل بحياة
الرسول وبإظهار دينه على الدين كله - إلى توعيد بقطع رسول
الله أيدي وأرجل المرجفين بموته، وتهديد منه (أعني عمر)
بقتل من يقول مات رسول الله.
إنهما الخوف والأمل إذا اجتمعا مع هذا الرأي القاطع
والإرادة الصارمة لهما التأثير العظيم الذي لا يوصف على
أفكار الجماعة الاجتماعية وأي تخدير بهما لأعصاب
المجتمعين. ومن وراء ذلك أن شأن المحبين يتعللون في موت
حبيبهم إذا نعي بالأوهام ولا يرضون لأنفسهم التصديق بموته
لا سيما مثل فقيدهم هذا العظيم الذي يجوز عليه ما لا يجوز
على البشر.
ولا شك أن مميزات الجماعة المقصودة لعلماء الاجتماع
كانت متوفرة في الاجتماع الفجائي المضطرب الأفكار المتأثر
بهذا الحدث العظيم المتحفز للحوادث المجهولة والمفاجآت
المنتظرة. ومن البديهي أن الاجتماع الذي يتألف على هذا
النحو تتكون منه روح واحدة مشتركة حساسة تتغلب على
نفسيات أفراده الشخصية، وتكون هذه الروح خاضعة
112

لمؤثرات لا حكم لها غالبا على روحية الفرد لو كان خارج
الاجتماع. وأهم خواص هذه الروح أنها تكون عرضة
للتقلبات والانقلابات الفجائية ويبطل فيها حكم العقل
وسلطانه ويقوى سلطان المحاكاة والتقليد الأعمى. ولذلك لا
تفكر الجماعات إلا بأحط فكرة فيها، وتقبل أيضا كل فكرة
تعرض عليها إذا اقترنت بالمؤثرات الخلابة وإن خرجت عن
حدود المعقول. ومن أقوى المؤثرات شخصية الخطيب
وصرامة رأيه.
فلا نستغرب قناعة المسلمين يومئذ برأي عمر بقدر ما
نستغرب منه نفسه هذا الرأي وإن لم ينقل لنا
صريحا قبولهم له، كما لم ينقل في الوقت نفسه اعتراض أحد
عليه سوى أبي بكر وقد جاء متأخرا. وإذا أبيت فعلى الأقل
شككهم في موت النبي وألهاهم عن التفكير فيما يجب أن
يكون بعده وفيما سيحدث من حوادث منتظرة،
لأنهم - لا شك - التفوا حوله عجبين مستغربين وهو مستمر
يبرق ويرعد مهددا حتى (أزبد شدقاه).
ولكلمة (الارجاف) هنا التأثير البليغ في إقلاع أفكار
الجماعات عن الدعوى التي يدعونها لأنها من الألفاظ الخلابة
التي تتضمن التهجين الشنيع للدعوى والاشمئزاز منها إلى
أبعد حد، إذ تشعر هنا أن مدعيها من المنافقين الذي لهم
غرض مع النبي والإسلام، فقال: "... ممن أرجف بموته "
113

ولم يقل ممن ادعى أو قال. وهذا كاف للتأثير على الجماعات
وتكوين الشعور بكراهية دعواها.
ويشهد لتأثير كلامه على سامعيه التجاء أبي بكر لما جاء من
السنح (1) أن يكشف عن وجه النبي ليتحقق موته، ثم يخرج
إلى الناس مفندا مزاعم عمر، وعمر مستمر يحلف أنه لم
يمت. وطلب إليه أن يجلس - فلم يجلس - ثلاث مرات، فقال
له: " أيها الحالف على رسلك ".. ثم قام خطيبا في ناحية
أخرى وقد اجتمع حوله الناس فتشهد وقال - وعمر مستمر
وقد تركه الناس -:
" من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان
يعبد الله فإن الله حي لا يموت... ". ثم تلا هذه الآية
الكريمة: " أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم... ".
و (شاهد ثان): أن الناس لما سمعوا كلام أبي بكر
أصبحوا كأنما أخرجوا من مأزق أو أطلقوا من عقال، فإنهم
تلقوا الآية وكلهم وراحوا يلهجون بها " فما تسمع بشرا من
الناس إلا يتلوها ". أما عمر فقد صعق إلى الأرض وصدق

(1) وهو يبعد عن المسجد بميل واحد " وفي الرواية عن عائشة " وكذا في
معجم البلدان ولعله اعتمد على هذه الرواية. ولكن السنح هو
عالية من عوالي المدينة وأدنى العوالي - بتقدير نفس المعجم - يبعد
أربعة أميال أو ثلاثة.
114

حينئذ بموت النبي بعد أن تحقق إن الآية من القرآن، كما
يقول.
* * *
لله أبوك يا بن الخطاب! ما أدهشني بك، وأنت أنت، إذ
تقف ذلك الموقف الرهيب حالفا مهددا، لتنكر أمرا واضحا،
ألم يعلمك الإسلام حقيقة محمد فتنكر أنه يموت؟ ثم تسمي
مدعي موته (مرجفا)؟
- لا؟
- لا؟ ولكنك تحاول أن تقنع الناس أنه غاب موسى بن
عمران، فيرجع ليقطع الأيدي والأرجل. إلا أنه - بالله
عليك - أية غيبة هذه؟
وأنت أعجب وأعجب حين تسرع مصدقا وتنقاد طائعا
لقول قاله أبو بكر لا يكذبك ولا يصدقك، بعد ذلك التوعيد
والتهديد. أو لست أنت كنت تعترف أنه يموت بعد أن يظهر
دينه على الدين كله؟ فأي دليل كان في الآية ناقض قولك
فأقنعك حتى صعقت إلى الأرض. والآية لا تدل على أنه
يموت يوم مات!...؟
وأعجب من ذلك وقوفك بعد يوم معتذرا فتقول: " فإني
قلت بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي وما وجدتها في
كتاب الله ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله. ولكن كنت
115

أرجو أن يعيش رسول الله فيدبرنا ويكون آخرنا موتا " (1).
فأين هذا الرجاء الفاتر من تلك الصرخة المعلنة وذلك الحلف
والتهديد وطعن القائل بموته بالإرجاف؟ وأين هذا الاعتذار
الهادئ من تلك الدعوى الثائرة؟
إن لك لسرا عظيما!
يبدو لي أن عمر كان أبعد من أن يظهر بهذه السهولة
لقارئي هذه الحادثة. ومن البعيد جدا وفوق البعد أن يعتقد
مثله أن النبي لا يموت يوم مات، وهو الذي قال في
مرضه - كما سبق - بكل رباطة جأش: " إن النبي قد غلبه
الوجع... حسبنا كتاب الله ". فأي معنى تراه
لقوله " حسبنا " لرد الكتاب الذي أراده النبي لأمته بعد موته،
لو لم يكن معتقدا أنه سيموت وأن كتاب الله يغني عن أي
شئ آخر يريد أن يقرنه النبي به
وهل تراه قال ما قال دهشة بالمصيبة؟ فما باله لم يعتذر
بذلك بعد يوم وقد سمعت اعتذاره! بل ما باله لم يزد دهشة

(1) اقتبسنا مجموع هذه العبارة من كنز العمال (3: 129 و 4: 53) ومن
تاريخي الطبري وابن الأثير والبخاري (4: 152) والسيرة الدخلانية
(2: 347) ولفظ (كنت أرجو أن يعيش...) في الصحيح
والسيرة. والمروي في هذه الكتب وغيرها بألفاظ متقاربة جدا
وتختلف بما لا يضر بالمعنى.
116

لما تحقق أنه قد مات! هيهات أن يكون قد دهش فيخفي
عليه موت النبي وهو هو من نعرف.
وبعض الناس قد جهلوا عمر بهذا وأبعدوا، فقالوا: من
يجهل مثل هذا الأمر الواضح المعلوم بالاضطرار جدير بألا
يكون إماما راعيا للأمة...
والتجأ بعضهم الآخر أن يعتذر عنه بأن ذلك من فرط
دهشته.
وفيما عندي أن الطرفين لم يعرفاه حق عرفانه ولم يصلا
إلى غوره وتدبيره في هذا الحادث المدهش. فإن من يعتقد أن
النبي قد غاب فيحلف لا يقنعه مثل حجة أبي بكر فيرتدع.
ومن خبل بالمصيبة فهو عند اليقين بها أدهش وأدهش.
* * *
ويكفي المتدبر في مجموع نقاط هذه الحادثة أن يفهم هذا
الذي لا يختل بالحرش، فيعرف أن وراء الأكمة ما وراءها،
ولا يضعه حيث وضعه الناس.
ألا تعتقد معي إنه كان يخشى أن يحدث القوم ما
لا يريد، وقد اشرأبت الأعناق - بطبيعة الحال - إلى من
سيخلف النبي، وهذه ساعة طائشة، وأبو بكر بالسنح
غائب، وهو خدنه وساعده، وهما أينما كانا هما. ولعلهما
117

وحدهما وقد تفاهما في هذا الأمر... فأراد أن يصرف القوم
عما هم فيه، ويحول تفكيرهم إلى ناحية أخرى، إن لم يجعلهم
يعتقدون غياب النبي. حتى لا يحدثوا بيعة لأحد من الناس
قبل وصول صاحبه. وليس هناك من تحوم حوله الأفكار إلا
عليا للنص عليه كما نعتقد أو لأنه أولى الناس، ما شئت فقل
" حتى كان عامة المهاجرين وجل الأنصار لا يشكون أن عليا
هو صاحب الأمر بعد رسول الله " (1).
وكانوا يلاحظون في علي بن أبي طالب صغر
سنه (2) وحسد العرب وقريش خاصة إياه، وتمالؤها عليه،
ولا تعصب الدماء التي أراقها الإسلام إلا به، لأنه الأمثل،
في عشيرة الرسول على عادة العرب وبسيفه قتل أكثر
أبطالهم. ويلاحظون " رابعا " كراهة قريش لاجتماع النبوة
والخلافة في بني هاشم فيبجحون على قومهم بجحا بجحا كما
يراه عمر فيما سبق في الفصل الثاني من محاورته مع ابن
عباس. ويلاحظون " خامسا " أنه سيحملهم إذا ولي الأمر
على الحق الأبلج والمحجة البيضاء وإن كرهوا " على حد تعبير
عمر نفسه "، والحق مر في الأذواق.
ويظهر أن عمر كان بطل المعارضة في إمارة علي كما

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد (2: 8).
(2) راجع الإمامة والسياسة.
118

شاهدنا موقفه في قصة الكتاب الذي أراد أن يكتبه النبي وفي
مواقفه التي أشرنا إليها في الفصل الثاني، فلا نعجب إذا رأيناه
يقف هذا الموقف ليلهي الناس عما يخشاه من استباق أحد
إلى بيعة علي قبل مجئ أبي بكر.
أما إنه هل كان يدري كيف سيخرج من هذا المأزق
الذي أدخل نفسه فيه فأغلب الظن أنه غامر بنفسه ليقف
الناس عند حدهم. وعلى صاحبه إذا جاء أن يدبر الأمر
حينئذ.
وأقوى الشواهد على هذا التعليل ما قلناه من سرعة
قناعته بقول صاحبه أبي بكر، وهو لا يمس دعواه تكذيبا...
وليس إلا أن جاء أبو بكر ووقف خطيبا والتف حوله الناس
وهو يعلم من أبو بكر فقد انتهت مهمته وانقلب الدور، ولم
يبق إلا أن يخرج من موقفه الحرج بلباقة، لئلا يحسوا بهذا
التدبير فينتقض الغرض، فصعق إلى الأرض كأنما تحقق
موت النبي من جديد مظهرا القناعة بقول صاحبه. ثم لم
يلبث أن راح يشتد معه لعملهما كأنما نشط من عقال ولم يقل
ما قال، ولم يظهر ما أظهر من الدهشة والاضطراب، حتى
رمي بالخبل وهو عنه بعيد، فقد ذهب بعد ذلك إلى السقيفة
مع أبي بكر حينما علما باجتماع الأنصار السري ووقفا ذلك
الموقف العجيب. وسنحدثك:
119

5 - وصول النبأ باجتماع الأنصار
لم يهدنا التأريخ إلى أن أبا بكر وعمر أي شئ صنعا
مباشرة بعد حادثة إنكار موت النبي واجتماعهما، وأين كانا
قبل ذهابهما إلى السقيفة فهل دخلا إلى دار النبي معا والباب
مغلق دون الناس، أو أنهما وقفا على الباب، أو أن أبا بكر
وحده دخل الدار؟ كل واحد من هذه الاحتمالات يستشعر
فيه حديث. وجائر وقوعها جميعا.
ولكن مثلهما جدير به ألا يبارح دار النبي (ص) في مثل
هذه الساعة، وإذا كان شئ يحدث فإنما يحدث ها هنا،
ومحوره؟ ذا المشغول بجهاز النبي (علي بن أبي طالب)، ومن
كان يتهم أن الأنصار تستبد بهذا الأمر على آل البيت
والمهاجرين وتطمع فيه دونهم فتبادر إلى اجتماعها معرضة
عن لهم شأن لا ينكر في هذا الأمر.
وأغلب الظن أنه لم يطل الزمن على وصولهما إلى الدار
حتى جاء اثنان من الأوس مسرعين إلى دار النبي،
وهما (1) معن بن عدي وعويم بن ساعدة، وكان بينهما وبين

(1) ذكر ذلك في العقد الفريد (3: 63) وفي الجزء الثاني من شرح
النهج ولم نر غيرهما يصرح باسم الشخص المخبر. ولكن عمر بن
120

سعد الخزرجي المرشح للخلافة موجدة قديمة، فأخذ معن بيد
عمر بن الخطاب، ولكن عمر مشغول بأعظم أمر، فلم يشأ
أن يصغي إليه، لولا أن يبدو على معن الاهتمام إذ يقول له:
(لا بد من قيام)، فأسر إليه باجتماع الأنصار ففزع أشد
الفزع، وهو الآخر يصنع بأبي بكر ما صنع معن معه، فيسر
إلى أبي بكر بالأمر، وهو يفزع أيضا أشد الفزع. فذهبا
يتقاودان مسرعين إلى حيث مجتمع الأنصار، وتبعهما أبو
عبيدة بن الجراح، فتماشوا إلى الأنصار ثلاثتهم (1).
أما علي وأما من في الدار وفي غير الدار من بني هاشم
وباقي المهاجرين والمسلمين، فلم يعلموا بكل الذي حدث
وبما عزم عليه أبو بكر وعمر.
ولماذا؟ - ألم تكن هذه الفتنة التي فزعا لها أشد الفزع تعم

الخطاب نفسه يحدثنا أنه صادفها في ذهابهم إلى السقيفة، فأشار
عليهم بالرجوع ليقضوا أمرهم بينهم. وأحسب أن عمر أراد أن
يحفظ لهما هذه اليد، فيكتم عليهما غايتهما هذه على قومهما دفاعا
عنهما، لأن الأنصار اجتمعت بعد بيعة أبي بكر في محفل فدعوهما
وعيروهما بانطلاقهما إلى المهاجرين وأكبوا فعلهما فخطبا فردت عليهما
الأنصار وأغلظوا وفحشوا عليهما وكل منهما قال شعرا: (راجع
شرح النهج 2: 11 نقلا عن كتاب الموفقيات للزبير بن بكار).
(1) الطبري (3: 208)
121

جميع المسلمين بخيرها وشرها وأخص ما تخص عليا ثم بني
هاشم؟ أوليس من الجدير بهما أن يوقفاهم على جلية الأمر
ليشاركوهما على إطفاء نار الفتنة الذي دعاهما إلى الذهاب إلى
مجتمع الأنصار مسرعين؟ ثم لماذا يخص عمر أبا بكر دون
الناس ثم أبا عبيدة؟
ليس من السهل الإحاطة بأسرار ذلك التكتم وهذا
التخصيص، وهو موضوع بكر لم يقرع بابه الباحثون. ولكنا
إذا علمنا أن الجماعة كانوا يلاحظون في علي تلك الأمور التي
ذكرناها في البحث السابق فيحذرون أن يستبق إلى بيعته
مستبق، نجد منفذا إلى خبايا هذا التكتم ونطمئن إلى أنهم
رأوا الأصلح لهم أن يتداركوا الأمر بأنفسهم من دون أن
يشيع الخبر وحينئذ يستطيعون أن يهيمنوا على الوضع ولا يقع
ما يحذرون، إذ يكبسون على الأنصار اجتماعهم السري في
جو هادئ ممن يتحمس لعلي. وهذا التخصيص من عمر
يشجعنا على أن ندرك التفاهم السري بينه وبين أبي بكر بل
بينهما وبين أبي عبيدة في هذا الشأن بل بينهم وبين سالم مولى
أبي حذيفة. ولذلك وجدنا عمر بن الخطاب يأسف عند
الموت ألا يكون واحد من هذين " أبي عبيدة وسالم " حيا حتى
يجعل الخلافة فيه من بعده، مع أن سالما ليس من قريش.
وإذا كانوا لم يلاحظوا في علي ما قلناه، فمن هو أجدر
منه بالإخبار بهذا الأمر ومن أجدر من قومه بني هاشم، وعلي
122

ليس ذلك الرجل الذي يستهان بشأنه ويستصغر قدره حتى لا
يستشار ولا يخبر بمثل هذا الأمر الخطير، وهو أن لم يكن
منصوصا عليه بالخلافة فإن مؤاخاة النبي له مرتين دون
سائر الخلق وجعله منه بمنزلة هارون من موسى وهو أحب
الناس إليه ومولى كل من كان مولاه وولي كل مؤمن بعده
ووارثه ووصيه ويدور الحق معه كيفما دار... كل هذا وغيره
ما شئت أن تحدث يجعل له المنزلة الأولى في هذا الشأن
ليستشار على الأقل.
ولئن كان مشغولا عنهم بجهاز النبي (ص) فجدير بأن
يكون على خبر من ذلك ليكون ردا لهم عند حدوث ما
يكره، وهم مقدمون على أمر عظيم، وعلي من لا ينكر في
شجاعته وبطولته وإيمانه وتفانيه في سبيل نصرة الإسلام.
ولكنه بالرغم من ذلك كله لم يعلم بالحادث إلا بعد أن سمع
التكبير من المسجد عاليا، وقد فرغوا من اجتماع السقيفة
وجاءوا بأبي بكر يبايعونه البيعة العامة.
ولست في تعليلي هذا أدعي الإحاطة بأسرار هذا التكتم
وإنما ذكرت ما يبدو لي عند البحث مقتنعا أنه أهم أسراره
وعسى أن يكون هناك من يستطيع أن يشبع الموضع بحثا،
فيزيدنا علما على علم أو يكشف لنا إنا على جهل.
123

6 - تأثير دخول المهاجرين في اجتماع الأنصار
لنجئ الآن مع أبي بكر وعمر وأبي عبيدة إلى السقيفة،
فنرى الأنصار مجتمعين يتداولون الحديث، وسعد بن عبادة
بينهم مزمل وجع يخطب فيهم وقد ترأس حفلهم مرشحا
للخلافة. ولا نشك أن الأنصار الآن في لغط وحماس، قد
أخذت الأنانية والفخر بأطرافهم معدين للوثبة عدتها، يريدون
في اجتماعهم السري هذا أن يقبضوا على ناصية هذا الأمر
العظيم، وليس أمامهم من يطاولهم.
وإذ يدخل عليهم وجوه المهاجرين فجأة لا بد أن يسقط
ما في أيديهم بافتضاح أمرهم قبل إبرامه، وبتخوفهم من
خروجه من أيديهم بعد ما قالوا وصنعوا. ولا بد أن يرتبكوا
لذلك ويقوى فيهم شعور الخذلان. وقد عرفنا نفسياتهم التي
يتغلب عليها الضعف، فيتغير عليهم مجرى الحادثة. وهنا
ينقلب الدور فيتهيئون لمواجهة هذا الحادث الجديد بما
يقتضيه: فمن كان يبغض الإمارة لسعد وجد الفرصة قد
حانت للانتقاض عليه، وبالعكس أصحابه الذين يوادونه لا بد
أن ينقلبوا مدافعين. وهذا أول تبدل في حالهم وانخذال في
اجتماعهم.
وبعد دخول جماعة المهاجرين هذا الاجتماع وسؤالهم عن
124

هذا المزمل من هو؟ وما شأنه؟ نرى عمر يذهب ليبتدئ
المنطق، وقد زور في نفسه مقالة في الطريق ليقولها بين يدي
أبي بكر، وكان يخشى جد أبي بكر أو حدته، وكان ذا جد كما
يقول هو. ومن الواضح أن الموقف دقيق جدا يدعو إلى كثير
من اللين واللباقة رعاية لهذه العواطف الثائرة المتحفزة،
ولكن أبا بكر يمنع عمر من ابتداء الكلام، وكأنه هو أيضا
يرقب شدته وغلظته المعرفتين فيه فانطلق يتكلم، وما شئ
كان زوره عمر إلا أتى به أو بأحسن منه على ما يحدثنا عمر
نفسه.
ولقد كان أبو بكر يحسن المعرفة بما يتطلب هذا الوضع
من الرفق والسياسة، أولا ترى لما كادوا أن يطأوا سعدا قال
قائل: قتلتم سعدا.. فقال عمر وهو مغضب: " اقتلوا
سعدا قتله الله إنه صاحب فتنة " فالتفت إليه أبو بكر قائلا:
" مهلا يا عمر! الرفق هنا أبلغ ".
ولا أعتقد مع ذلك أن عمر كان يجهل ضرورة الموقف،
ولكني أخاله - وقد تمت البيعة لأبي بكر - لم يجد حاجة لكثير
من هذا اللين والمداراة، وقد أخذ بموافقة الأنصار إلا القليل،
وتحقق فشل سعد وانخذاله. فهو إذن يعرف موضعي اللين
والشدة. ولعله - وهو رجل الساعة بعد أبي بكر - أراد أن
يظهر بالغلظة لينطق أبا بكر بكلمة اللين.
125

7 - تأثير خطب أبي بكر على المجتمعين
من المتيقن أن الرجال الذين سادوا الأمم والجماعات
فأحسنوا سيادتهم هم من أبرع الناس في علم الاجتماع وهم
لا يشعرون. وإنما جبلوا على معرفة فطرية تشحذها التجارب
التي تخلق في النفس الملكة على تطبيق النظريات عند الحاجة.
وأبو بكر وعمر هما من أولئك الناس الذين عرفوا خواص
نفسية الجماعات وكيف يمكن التأثير عليها في الوقت المناسب
كما دلت الحوادث المتكررة على ذلك.
ولا شك أن مميزات الجماعة المقصودة لعلماء الاجتماع
كانت متوفرة أيضا هنا أتم من توفرها في اجتماع المسجد غب
موت النبي الذي أشرنا إليه سابقا: فقد كان الاجتماع
حافلا التجأ فيه سعد بن عبادة أن ينيب عنه ابنه أو بعض بني
عمه في إلقاء كلامه، فيرفع به صوته ليسمع المجتمعين. وقد
اجتمعوا لغرض واحد حساس أعني تأمير من يخلف ذلك
النبي العظيم، ليكون على رأس هذه الأمة الكبيرة القوية
المستجدة، وهم على ما هم عليه من الحال التي وصفناها من
التوثب والشعور بالاستحقاق والتكتم.
وأظنك عرفت في البحث الأسبق إن الاجتماع الذي
يتألف على هذا النحو كيف يطلع فيه قرن العاطفة ويأرز
126

رأس العقل والتفكير في المجتمعين فيصبح عرضة للتقلبات
والانقلابات الفجائية ويقوى فيه سلطان المحاكاة والتقليد
الأعمى. بل تظهر عليه الأعراض المتناقضة، فبينا تجده قد
يقوم بأعمال وحشية جبارة تدل على شجاعة أفراده البالغة
حدها تجده مرة أخرى يجبن من الصفير. وبينا تراه يأتي
بأعمال صبيانية مضحكة تراه تارة أخرى يحكم التدبير
والتنظيم. وما ذلك كله إلا من سجية المحاكاة الموجودة في
كل إنسان فتسود على المجتمع عندما يبطل حكم العقل
وحينئذ يكون تابعا مسخرا لكل من يحسن تسخيره بالمؤثرات
التي تهيمن على العاطفة كالمنوم تنويما مغناطيسيا.
ونحن إذا فهمنا جيدا هذه البديهيات عن روحية
الجماعات، ولاحظنا توفر شروط الجماعة الاجتماعية في
جماعة السقيفة، نفهم معنى تلك الأساليب التي اتبعها أبو بكر
وصاحبه - كما سترى - للتأثير على المجتمعين يومئذ ونفهم سر
تأثر جماعة الأنصار وانقلابهم الفجائي على أنفسهم، فأخذ أبو
بكر وعمر الأمر من أيديهم باختيارهم. على أنهما في جنب قوة
الأنصار واعتزازهم بجمعهم تلك الساعة لا يعدان شيئا،
وليس من المهاجرين معهما إلا أبو عبيدة بن الجراح كما سبق
وسالم مولى أبي حذيفة على رواية. فاسمع الآن إلى الأساليب
التي قلنا عنها:
لقد رأينا سابقا كيف حرش أبو بكر بين الأنصار، وأثار
127

عواطف الأوس على الخزرج. وقد صادف منهم نفوسا متهيئة
الوثبة على سعد. حتى استمالهم إلى جانبه وهم يشعرون أو
لا يشعرون. في حين أنهم يعلمون أن الأمر إذا كان للأنصار
وأن تولاه رئيس الخزرج فهو إلى حيازتهم أقرب وإلى سلطانهم
أدنى. ولكن للعاطفة هنا سلطانها القاهر على النفس لا يقف
في وجهها أي سور محكم من المنطق والتفكير.
ولنفحص الآن " خطبته " التي واجههم بها في أول
الملاقاة وقال عنها عمر: " ما شئ كان زورته في الطريق إلا
أتى به أو بأحسن منه " فإنه ذكر فيها أولا ما للمهاجرين من
فضل وسابقة في الإسلام بأنهم أول من عبد الله في الأرض
وآمن بالله وبالرسول وأنهم أولياؤه وعشيرته وأحق أناس بهذا
الأمر " أي الخلافة " من بعده. وأن العرب لا تدين إلا لهذا
الحي من قريش، وأنهم لا ينازعهم في ذلك إلا ظالم...! ثم
خاطب الأنصار فلم يغمط حقهم وسابقهم وجهادهم،
لكن... لكن من غير استحقاق لهذا الأمر، وإذا استحقوا
شيئا فإنما هي " الوزارة ".. ولغيرهم... " الإمارة "،
فقال: -
(... وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلكم في
الدين ولا سابقتكم العظيمة في الإسلام. رضيكم الله أنصارا
لدينه ولرسوله وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه
128

وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم،
فنحن الأمراء وأنتم الوزراء) (1).
وفي هذا البيان الشئ المدهش من إطفاء نار عواطفهم
المتأججة ضد المهاجرين، وإشباع نهمة نفوسهم الفخورة
المتطاولة بفضلهم، وجهادهم ونصرتهم، وتقريبها إلى
المهاجرين للاعتراف بفضلهم عليهم، لأنه ليس أقوى على
تخدير أعصاب الجماعة الهائجة من الذهاب مع تيار روحهم
المندفعين بها، فأعطى لهم ما يسألون بلسان حالهم من
الاعتراف بالفضل والجهاد وكل فخر يشعرون به متطاولين.
حقا لقد صدق وصدقوا، فإن لهم الفضل الذي لا
ينكر، ولكنهم أخطأوا بزعمهم أن لهم بذلك حق الإمارة،
وهنا نجد أبا بكر يريد أن يحولهم عن هذا الزعم، فيحذر أن
يخدش عواطفهم بما ينقص منزلتهم ويحط من مقامهم، فعدل
عن التصريح بكلمة الخطأ أو ما ينسق عليها من معناها، واتبع
أسلوبا آخر من البيان وأنه لمن السحر المأثور فلم يزد على
كلمة: " فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم فنحن
الأمراء وأنتم والوزراء ". وفيها تنبيه على خطأهم من طرف
خفي من دون التجاء إلى الكلمة التي بها تجرح عواطفهم
وتثير الحزازات مع الثناء عليهم في نفس الوقت ثم إثبات
الوزارة لهم.

(1) الطبري (3: 208).
129

وإذا أردت التدقيق في هذه الكلمة ترى الشئ
الأعجب: فهو الآن يريد أن يفضل المهاجرين الأولين
" الأولين بالخصوص! " عليهم، ليثبت لهم استحقاق
الخلافة، ولو كان وضعهما في طرفين وفضل المهاجرين لأثار
ذلك بحفيظتهم وحرش بين خصمين متطاولين من القديم،
فعدل عن منطوق مقصوده والتاف إليهم من طريق تفضيل
الأنصار أنفسهم على الناس وألقى في الطريق كلمة " بعد
المهاجرين الأولين "، فتظاهر أنه يريد أن يقول: ليس أحد
بمنزلة الأنصار. وأن مقصوده ليس غير، وإنما استثنى
المهاجرين كأمر ثابت مقرر لا يتطرق إليه الشك وليس محلا
للنقاش لا لأنه المقصود في البيان.
؟؟ نا إذ تهدأ تلك النفوس الجامحة في الجماعة راضية بما
قيل لها وفق شعورها تتفكك أوصالها وترجع من حيث
جاءت كأنما حصل لها كل ما تصبو إليه. وهذا من انحطاط
نفسية الجماعات، فلا تشعر بالنتيجة التي يراد أخذها منها
وإن خالفت تفكيرها عند التأمل، لأن عادة الجماعة في
الأفكار أن تقبلها جملة أو تردها جملة، ولا طاقة لها على
التأمل والتفكيك بين الأفكار ولا صبر لها على التمييز.
مضافا إلى أن الوعد بجعلهم الوزراء لا يفتاتون بمشورة ولا
تقضي الأمراء دونهم الأمور يطمن من رغباتهم وأطماعهم،
ويذهب بخوفهم من الاستبداد عليهم وأخذ الثأر منهم،
130

ويسدل على ما حاولوه ستارا كثيفا من النسيان. وبعبارة
أصح، يأخذ أثره الوقتي وتلهو الجماعة عن صدق الوفاء ولا
تحتاج إلى التدليل عليه، ولا يكلف قائله إلا الوعد وبهرجة
الكلام.
وهناك كلمتان أخريان في تلك العبارة التي حللناها لا
يفوتنا أن نتعرف إليهما وإلى ما فيهما من معنى أخاذ
الأولى - كلمة (الأولين) - فأبعدهم بها عن شعور
الخصومة الموجودة للمهاجرين عامة. والمهاجرون والأنصار
حزبان متطاولان وقد كان تنافسهما أمرا واضحا للعيان في
زمن الرسول وبعده حتى قال لهم النبي يوما: " ما بال دعوى
أهل الجاهلية "، وذلك عندما قال الأنصاري: " يا
للأنصار! " وقال المهاجري: " يا للمهاجرين - " فأقبل جمع
من الجيشين وشهروا السلاح حتى كاد أن تكون فتنة عظيمة،
في قصة مشهورة (1) - فتجد أبا بكر بتخصيص المهاجرين
بالأولين كيف اتقى شعور الأنصار بخصومتهم لعامة
المهاجرين، وهم لا ينكرون ما للأولين من فضل وقد سبقوهم إلى
الإسلام وعبادة الرحمن على أنه بهذا التخصيص قرب نفسه
وصاحبيه إلى هذا الأمر.
الثانية: كلمة (عندنا) - فانظر إلى ما فيها من قوة

(1) راجع البخاري (2: 165 و 3: 126).
131

سحرية إذ رفع بها عن مقام القرن المنازع للأنصار،
وأخرجها عن الحزبين: الأنصار والمهاجرين، ونصب نفسه بها
كحكم بينهما يفضل هذا على ذاك ثم يختار لهم ما فيه
الصلاح. وهذا له الأثر البليغ في إخماد نار عاطفة التعصب
عليه، ويعطيه أيضا منزلة في نفوسهم هي أعلى وأرفع تجعل
له نفوذ الحكم المستشار والزعيم للفريقين وعلى العكس فيما لو
نصب نفسه مزاحما لهم مطالبا بحق يعود له ولحزبه. وشأن
الجماهير أنها لا تنتظر الدليل على الدعاوي البراقة المبهرجة.
لأن التصوير ولو بالألفاظ له الحكم الفصل على نفسياتها.
فارجع الآن إلى تلك العبارة ودققها! وهي جعجعة
تسحن الجماعات من غير طحن، وإلا فمن المقصود بضمير
(عندنا) يتكلم عنه أبو بكر غير جماعة المهاجرين وهو منهم،
وعلى تقديره فمن الذي خوله أن يمثل المهاجرين
بشخصه؟... ولكنه جرد من نفسه " ومعه غيره " حكما
مفضلا، عنده المهاجرون أفضل من الأنصار وليس بمنزلة
الأنصار أحد بعدهم.
فلا نعجب بعد عرفاننا هذه الأساليب التي لها القوة
السحرية على الجماعات أن يأخذ أبو بكر بناصية الحال،
ويستهوي المجتمعين لينظروا إليه بقلوبهم لا بعقولهم،
فيصرفهم كيف يريد. فانتظر نتيجة تأثيره عليهم.
132

8 - نقاش المهاجرين والأنصار
قرأنا في الفصل السابق خطبة أبي بكر وما فيها من
الأساليب فلنر مدى تأثيرها على المجتمعين وكيف كانت
النتيجة؟:
لم يرد عليه إلا الحباب بن المنذر في كلامه المتقدم في
البحث رقم (2) وقد رأيناه لم يأت بشئ وكان أول منخذل
أمام المهاجرين وإن ظهر بالقوة التي تلاشت في آخر كلامه كما
شرحناه، ففتح على نفسه باب الحجة الظاهرة إذ قال:
" فمنكم أمير ومنهم أمير "، على أنه ظهر جليا بمظهر
المتعصب المغالب، فاستهل كلامه بقوله: " املكوا عليكم
أمركم... " وهذا مردود عليه معكوس الأثر، وسيأتي.
وهنا. جاء دور عمر بن الخطاب
فقال: " هيهات!
لا يجتمع اثنان في قرن. والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم
ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من
كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم. ولنا بذلك من أبى من
العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين. من ذا ينازعنا سلطان
محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو
متجانف لا ثم أو متورط في هلكة ".
فتجد كلام عمر هذا - وإن كان هادئا - لا يبلغ كلام أبي
133

بكر، إذ ظهر بمظهر الخصم المدعي بحق الإمارة. وكأن أبا
بكر فسح له المجال لأن يكون هو المدعي العام عن
المهاجرين بعد أن نصب نفسه كحكم للمتنازعين. كما نلاحظ
أيضا أنه لم يشر إلى قضية النص على قريش أو على خصوص
واحد منهم، وإنما القضية قضية رضى العرب وإبائها وأن
المهاجرين أولياء محمد وعشيرته. ولذا قال علي عليه السلام
بعد ذلك: " احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ".
فقام الحباب بعد عمر فقال: " يا معشر الأنصار املكوا
عليكم أمركم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا
بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه
فاجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم
- والله - أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين
من دان ممن لم يكن يدين. أنا جذيلها المحكك وعذيقها
المرجب. أنا شبل في عرينة الأسد. أما والله لو شئتم لنعيدنها
جذعة. والله لا يرد أحد على ما أقول إلا حطمت أنفه
بالسيف ".
وهذه عصبية جاهلية وسوء قصد ظاهر. فقال له عمر:
" إذا يقتلك الله " فانتحى به الناحية الدينية إذ نسب القتل
إلى الله تعالى ولم يقل يقتلك الناس. وهذا أسلوب من الرد فيه
التهديد والتنديد على تلك دعوى الجاهلية منه. فقال
الحباب: " بل إياك يقتل ".
134

وهذه مهاترة يلتجأ إليها ضعف الحجة وشدة الغضب،
فترى الحباب في كل ذلك كان قلق الوضين يرسل من غير
سدد، وتتضوع من فمه رائحة نفسه، ولا يعرف أن يسر
حسوا في ارتغاء. فاقتحم في الميدان بجنان الفارس المدله
المدل بقوته ونفسه، ومن سيفه ولسانه تنطف دعوى الجاهلية
الأولى البشعة في الإسلام، تأباها عليه الصبغة الدينية
المصطبغ بها المجتمع يومئذ، وهو في الدرجة الأولى متأثر
بالإسلام وتعاليمه، وللشعور الديني المكان الأول في تأثر
الجماعات الدينية وانفعالاتها، فما لم يستخدم هذا الشعور لا
يرجى أن يحدث في الجماعة التعصب الذي يجعل الإنسان
يرى سعادته في التضحية بنفسه وبكل عزيز فداء للمقصد
الذي يوجه إليه.
فالحباب إن تولى الدفاع عن سعد وقومه نصرة لهم فهو
الذي أفسد عليهم أمرهم أكثر من أي شخص آخر من
حيث يظن الصلاح وبدلا من أن يقود المجتمعين للغرض
الذي اجتمعوا لأجله قد خسرهم وأعطى القيادة - من حيث
لا يشعر - لغيره الذي عرف كيف تؤكل الكتف في
استمالتهم واستعمال نفوذه فيهم. وكان أول ظهور هذه
الخسارة قيام ابن عمه بشير بن سعد الخزرجي، فنقض على
الخزرج ما أجمعوا عليه فقال:
" يا معشر الأنصار إنا والله لئن كنا أولى فضيلة في جهاد
135

المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا إلا رضى ربنا.
نبينا والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس
بذلك ولا نبتغي من الدنيا عرضا فإن الله ولي المنة علينا
بذلك. ألا إن محمدا من قريش وقومه أحق به وأولى. وأيم
الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا فاتقوا الله ولا
تخالفوهم ولا تنازعوهم ".
أنظر إلى الشعور الديني كيف أخذ بأطراف كرم هذا
الرجل، متأثرا بدعوة أبي بكر وصاحبه، خارجا على قومه بل
على نفسه، وكان بعد ذلك أول مبايع من القوم. ولا أعتقد أن
ذلك كله عن نفاسة لسعد كما رماه به الحباب لما مد يده
للبيعة فناداه: " يا بشير بن سعد عققت عقاق! ما أحوجك
إلى ما صنعت؟ أنفست على ابن عمك الإمارة! ". فقال
بشير: " لا والله ولكن كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله
لهم ".
بل اعتقد أنه كان صادقا بعض الصدق أو كله فيما ادعاه
عن نفسه فإن سير الحادثة كما وصفناه يدل دلالة واضحة على
تأثر الجماعة بكلام أبي بكر وانقيادها إلى دعوته ولا سيما بعد
ما صدر من الحباب ما يبعد النفوس عن دعوة قومه. نعم!
وإنما كان مبدأ ظهور ذلك التأثير في بشير بن سعد، فيصح أن
نجعله ممثلا لشعور قومه تلك الساعة.
136

9 - المهاجرون يربحون الموقف
إن الحقيقة هي التي وصفناها لك. إن القوم قد تكهربوا
بدعوة المهاجرين وتهيئوا لبيعة واحد منهم بالرغم من وجود
التنافس بين الحزبين كما أشرنا إليه وصرح به أبو بكر في
خطبته التي تقدمت في البحث (3) إذ قال: " فقد جلس بين
لحي أسد يقضمه المهاجري ويجرحه الأنصاري " وزاد في
تهيئهم هذا منافسة الأوس للخزرج وحسدهم لسعد. وطبيعي
أن تنافس القريب أكثر أثرا من منافسة البعيد مهما كانت.
ولذلك نرى أبا بكر لما سمع مقالة بشير لم يتأخر عن
تقرير النتيجة من هذا النقاش، فلا بد أنه علم بانقلاب
الجمع تأثرا بدعوتهم كيف وهو قد هيمن عليهم ونومهم تنويما
مغناطيسيا، فيعرف كيف سخره وقاده فقدم للبيعة أحد
الرجلين اللذين معه: عمر بن الخطاب وأبي عبيدة الجراح،
وقال: " قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فأيهما شئتم
فبايعوا ".
وقد جرى في هذا الكلام هنا على نفس تلك الطريقة
التي سلكها في خطبته المتقدمة في البحث (7) من ترفعه عن
مقام المعارضة، وتجريده من نفسه حكما للحزبين يختار لهما ما
هو الصالح باجتهاده، فاختار لهم أحد هذين الرجلين.
ولكن الجمهور كما قلنا ضعيف الرأي والاختيار،
137

لا يعرف أن يختار ولا يعرف أن يعين ما يختار، ويبقى في مثل
هذا الحال منتظرا إشارة من سخرة ونومه التنويم المغناطيسي
أو لأي شخص آخر يفاجئه بإرادة قوية حازمة، فلو أن أحدا
من الحاضرين قام فبايع أحدا منهما عمر أو أبا عبيدة لبويع
وانتهى كل شئ. ولو أن أبا بكر عين واحدا لما تأخروا عن
بيعته، ولكن هذا الترديد بين الرجلين يظهر أنه كان مقصودا
تمهيدا لإرجاع الأمر إليه، ولعله عن تفاهم سابق واتفاق بين
الثلاثة ليتعاقبوا هذا الأمر. ولذلك تمنى عمر عند الموت أن
يكون أبو عبيدة حيا ليعهد إليه.
أما هما فقد أبيا عليه وقال عمر: " لا والله لا نتولى
الأمر عليك ابسط يدك نبايعك! " قال هذا القول ولم يترك
فرصة تستغل للرد والحجاج، فحقق القول بالعمل، وأقدم
بإرادة جازمة لا تعرف التردد يتطلبها الموقف الدقيق، فذهب
ليبايع أبا بكر، ولم يتمنع أبو بكر فمد يده، ولكن بشير بن
سعد هذا الذي تقدمت خطبته سابق عمر بن الخطاب إليها
فوضع يده بين يديهما مبايعا، كأنما أراد بذلك أن يحرز الفضيلة في السبق
أو ليبرهن على إخلاصه للمهاجرين، بل هذا من اندفاعات الجمهور
المدهشة بنتيجة انفعالهم بالمؤثرات التي تطرأ عليهم.
وهو من أبلغ الشواهد على ما قلنا من تكهرب نفوس
جمهور السقيفة بتلك المؤثرات التي استعملها أبو بكر بتلك
138

الحذاقة واللباقة، فإن لبعض الألفاظ والجمل سلطانا لا يضعفه
العقل ولا يؤثر فيه الدليل. ألفاظ وجمل يفوه بها الخطيب
خاشعا أمام الجمهور، فلا تكاد تخرج من فيه حتى تعلو
الوجوه هيبتها وتعنو القلوب لها احتراما كأن فيها قوة إلهية أو
موجة سحرية، فتثير تارة في النفوس أشد الصواعق من
الغضب، وتسكنها تارة إذا جاشت فتمزق أشلاءها وتقودها
إلى حيث يريد المتكلم راضية قانعة (1).
ويظهر أن عمر أيضا أدرك حقيقة الموقف وكيف قد
ربحه المهاجرون فلم يبق إلا أن يصدر أحدهم الحكم
الفاصل في تعيين من يبايع منهم، فأقدم على بيعة أبي بكر
- كما رأيناه - غير متردد ولا متخوف ولا مستشير، ومد يده
مسرعا. وإلا فإن الأمر أعظم من أن يتم بهذه السرعة
والسهولة التي كانت: بإقدام شخص واحد يعقد البيعة
لشخص آخر الظاهر ظهور الشمس أنه صاحبه المنحاز إليه في
وقت هو أحد ثلاثة أو أربعة من الحزب المعارض لقوم في
عقر دارهم معتزين بقوتهم يريدون أن يملكوا أعظم سلطان
لأعظم أمة، وهو لم يأخذ رأيهم وتصديقهم على ما أراد (2).

(1) راجع كتاب " روح الاجتماع " المعرب لغستاف لبون ص 113.
(2) على أنه قال بعد ذلك في خلافته: " فمن بايع أميرا من غير مشورة
المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذي بايعه تغرة يقتلا " راجع كنز
العمال الجزء الثالث رقم الحديث 2323.
139

وإنما أقدم كأن الأمر لا يدور إلا بينه وبين أبي بكر كأمر ثابت
لا شك فيه. وهذه مغامرة خطيرة لها ما بعدها، ولم تكن منه
إلا لأنه أدرك نضج القوم وتهيئهم لبيعة أحد المهاجرين.
ولذلك لم نجد معارضة من القوم، بل الأوس ذهبت
جميعها مسرعة للبيعة من غير تردد ولا تلكؤ يقدمها أسيد بن
حضير بعد أن قالت ما قالت كما تقدم في البحث (3). ثم
تبعهم جميع الأنصار ما عدا سعدا ومن كان شديد التعصب
له كابنه قيس والحباب. ولا شك أن للعدوى أثرها الفعال في
الجماعات فتسري سريان النار في الهشيم، أو تيار الكهرباء
في سلكه، فقد وجدنا كيف كان هلعهم في تزاحمهم على
البيعة وتسابقهم إليها، كأنما تفوت دونها الفرصة، فأقبلوا من
كل جانب يبايعون أبا بكر، حتى ازدحموا على سعد بن عبادة
السيد المطاع في الخزرج بل الأنصار كلهم، هذا الزعيم الذي
كان قبل ساعة مرشحا للبيعة خليفة للنبي وأميرا على جميع
المسلمين، وكادوا يطأونه فيقتلونه وهو مزمل وجع، فحمل إلى
داره صفر اليدين.
وهذا ألطف شئ في تناقض أفعال الجمهور وعدم ثباته
وتطرفه في أعماله وآرائه وشدة نزقه، فإنه لا يعرف الحلم
والصبر ولا قمع النفس عن الاسترسال في نزعاتها، ولا
المحافظة على الآداب العامة المصطلح عليها، وهو مع ذلك
كثير النسيان لأحواله السابقة.
140

أما الحباب - ولا ينبغي أن ننساه - لما رأى إقبال الناس
على البيعة انتضى سيفه، فحامله عمر فضرب يده، فندر
السيف، فأخذ منه. فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا
من البيعة، ولكن من المعلوم أنه لم يصنع شيئا ولم يستطيع رد
جماح أي شخص من قومه حتى تمت البيعة مرغما، وصدق
فيه وفي قومه المثل المشهور " رب ساع لقاعد ". وليتني أراه
في تلك الساعة كيف كان حاله فتزبد شدقاه ويتميز غيظا
ويعض على أنامله وقد ملكت حواسه سورة الغضب، وماذا
كان يقول لقومه ولنفسه بعد ذلك الذي مضى منه من
التهديد والوعيد ثم ذهب هباء وخار ضعفا؟ لا شك أنه لو
كان من أبناء هذه المدينة الحديثة متشبعا بعاداتها، لكان - هو
على مثل هذه الحال - ضحية الانتحار ليتخلص من شنارها
ويستر عارها.
10 - النتيجة
نستنتج من سير الحادثة إن طريقة بيعة أبي بكر لم تكن
طريقة اختيار بالمعنى الصحيح (1) ويحقق معنى أنها كانت
" فلتة " وقى الله شرها على حد تعبير عمر بن الخطاب.

(1) فنصدق كلمة الأستاذ محمد فريد أبي حديد في مقاله " نظرة في نظام
بيعة الخلفاء " المنشور في مجلة الرسالة المصرية العدد 10.
141

وقد رأينا السرعة التي جرت بالحادث لم تبق مجالا
للمفكر أن يشحذ فكره ولا للمعارض أن يقيم حجته،
فكانت مفاجأة في مفاجأة. مع أن العاطفة العدائية عند
الأوس المهيجة من أبي بكر كان لها الأثر الفعال في تقريب
النتيجة، وساعدها بل أشعل أوارها إن المجتمعين انطبعت
فيهم أوصاف الجماعة الاجتماعية، مما يذهب عنهم صحة
الاختيار والحكم.
فلا بدع إذا لم يثق الباحث المفكر باختيار جماعة
السقيفة، ولا يغتر به دليلا على صحة هذه الطريقة من البيعة
في الإسلام. وقد أشرنا في الفصل الأول إلى أن عمر نفسه
قال عنها: " فمن دعا إلى مثلها فهو الذي لا بيعة له ولا لمن
بايعه ".
ولا غرابة أيضا إذا لم يدافع أحد عن النص على علي بن
أبي طالب، وقد اندفع المجتمعون بتيار جارف لا يقف في
سبيله شئ، ونحن نعرف رأي المهيمنين على الاجتماع في
علي، وهم يبتعدون أن يتم له شئ من ذلك. أفتراهم
يدعون إليه في هذا المجتمع الذي أسس على الإعراض عن
النص فيه. وإذا قال بعد ذلك بعض الأنصار أو كلهم " لا
نبايع إلا عليا " كما سبق فقد قلنا إن ذلك بعد خراب البصرة،
فإن هذا الجمهور أصبح لا يملك اختياره وتفكيره وشعوره
بواجبه الديني لما قلناه من تكهربه بتيار تلك القوة السحرية
142

قوة الاجتماع التي تجعل أعماله أعمالا لا شعورية، على أن
أساس الاجتماع ارتكز على طمع الأنصار من جهة تخوفهم
من جهة أخرى " على ما شرحناه فيما تقدم ". وهذان لم
يتركاهم يفكرون في واجبهم الديني فبعد أن أفحموا وغلبوا
واندفعوا مع الغالبين، وتلك هي فطرة البشر.
ويشهد على ما نحسه من الضعف الديني في تلك
الأحكام العاجلة والقرارات الخاطفة في اجتماع السقيفة، إنه
مما تقرر في تلك النهزة أمران عامان:
1 - إن الأنصار لا حق لهم في هذا الأمر.
2 - إنهم الوزراء لمن كانت له الإمارة.
مع أن الأول شك فيه أبو بكر نفسه بعد ذلك إذ تمنى
فيما تمنى لو سأل النبي عنه، والثاني هذا المنصب المزعوم
- وزارة الخليفة - لم يعط لأحد منهم لا في عهد أبي بكر ولا
بعده، بل هذا المنصب لم يحدث لأحد إلا في عهد
العباسيين.
وبهذه النتيجة التي حصلنا عليها من سير حوادث السقيفة
وملابساتها يسهل علينا أن نفسر بها الآية الكريمة " أفإن مات
أو قتل انقلبتم... ". فإن الاجتماع كان - على كل حال -
انقلابا على الأعقاب حتى لو لم نؤمن بالنص من قبل النبي
صلى الله عليه وآله على من سيكون خليفة من بعده،
لأن الاجتماع كما قلنا من أصله كان افتياتا على المسلمين ولم
143

يكن مستندا إلى قاعدة إسلامية أو تصريح من الرسول.
وكذلك ما قرره الاجتماع لم يكن إلا قرارا خاطفا تحكمت فيه
العواطف في المبدأ والمنتهى، وليس فيه مجال الرجوع إلى
النص. وإلى هنا نستطيع أن نرجع إلى ما قلناه في التمهيد أنه
كيف تفسر الآية بحوادث السقيفة وأرجو من القارئ أن
يرجع من جديد إلى بحث السقيفة ليأخذ بأطراف الموضوع
على ضوء هذه النتيجة.
ومن نفس الحادثة نستطيع أيضا أن نؤيد النص على
الإمام علي عليه السلام، لأن ما ورد فيه من تلك النصوص
لو لم تكن لتعيينه خليفة وكانت لمجرد الثناء وبيان فضله ولم
يكن الاجتماع لاستغلال الفرصة لمخالفة النص وكان اجتماعا
طبيعيا شرعيا - لو لم يكن كل ذلك لوجب أن يكون هذا
الرجل الذي هو من النبي بمنزلة هارون من موسى في مقدمة
المجتمعين وعلى رأسهم ومعه أهل بيته ولما كان ينعقد
الاجتماع ولا يقرر فيه شئ من دون مشورته وموافقته ولكن
- كما سبق - كل ذلك لم يقع. بل الحادثة من مبدأها إلى
منتهاها أخذت على أن تقع على غفلة منه ومن بني هاشم إلى
آخر لحظة منها وأهمل شأنهم وكأنهم لم يكونوا من المسلمين أو
لم يكونوا من الحاضرين إلا بعد أن تم كل شئ.
144

الفصل الرابع
علي مع الخلفاء
145

1 - الافتيات على الإمام
لا يشك التأريخ إن عليا عليه السلام - كما قدمنا - لم
يكن على علم من اجتماع الأنصار في سقيفتهم، حتى بعد
ذهاب الثلاثة من حزب المهاجرين متكتمين، وهم أبو بكر
وعمر إذ ذهبا يتقاودان - على حد تعبير الطبري في تاريخه -
وتبعهما أبو عبيدة. بل لم يعلم الإمام بما تم في السقيفة إلا
بعد خروجهم إلى المسجد في ضجيجهم " وفي مقدمتهم
عمر بن الخطاب وبيده عسيب نخل وهو محتجز يحث الناس
على البيعة "، فبلغه تكبيرهم، وهو مشغول - لا يزال - في
جهاز النبي. ولم يخرج إليهم إلا في اليوم الثاني.
وأول شئ يبدو دليلا على افتيات القوم عليه بالمشهورة،
وهم يشعرون بأنهم في مقام الخصومية له أنهم لم يخبروه
بحادث اجتماع الأنصار عندما أسر عمر إلى أبي بكر وهو في
بيت الرسول بالخبر، وهما أيضا لم يخبرا أحدا غير أبي عبيدة
الذي تبعهما وحده حيث الاجتماع السري، مع أن مثل
الإمام أولى الناس بتدارك هذا الموقف الدقيق إن كان في
اجتماع الأنصار خطر على الإسلام أو فتنة، والأمور جارية
على ظواهرها الطبيعية بين الإمام وبين هذه الجماعة. ثم
الأغرب أنهم لم يدعوه للمشاورة بل حتى للبيعة قبل أن يتم
كل شئ ينتظر لبيعة أبي بكر. ولا ينتهي التساؤل عما إذا
146

ينبغي أن يرسلوا إليه من يخبره بالأمر على الأقل! أما كانوا
على حسن نية معه أو ثقة بموافقته لهم ورضاه؟
نعم! لقد وجدناهم قد قضوا أمرهم بينهم، ودعوا
الناس إلى البيعة أشتاتا ومجتمعين، مستشعرين الكفاح
والخصومة بل الخوف أمام حزب علي. ولذا انتهزوا فرصة
انشغاله وانشغال أصحابه وبني هاشم بجهاز سيدهم. ويشهد
لهذا قول الطبري في تاريخه: " وجاءت أسلم فبايعت فقوي
بهم جانب أبي بكر وبايعه الناس "، تأمل كلمة (فقوي بهم
جانب أبي بكر)، لتفهم أن هناك جانبين متخاصمين يقوي
أحدهما ويضعف الآخر، وليس المراد بالجانب الآخر الأنصار
لأنهم قد بايعوا في السقيفة ولم يبق إلا سعد بن عبادة وابنه،
وليس له كبير اهتمام وقد أهملت بيعته حسب إشارة بعض
أبناء عمه.
أما علي فقد قلنا إنه جاءه الخبر عفوا لما سمع تكبير
القوم في المسجد وهو حول النبي مشغول بجهازه. ولما بلغته
حجتهم على الأنصار لم يكتم نقدها، فقال كما في نهج
البلاغة: " احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ".
2 - رأيه في بيعة السقيفة
قلنا في آخر الفصل الأول إنه لماذا لم يطالب الإمام
147

صراحة بالنص عليه بالخلافة، وهنا نقول: إنه مع ذلك لم
يكتم رأيه في بيعة السقيفة، فإن التأريخ لا يشك، عند من
ينظر إليه نظرة فحص وتمحيص، أنه كان ناقما على ما أسرعوا
إليه من بيعة أبي بكر، وكان يعدها غضبا لحقه، فلم يلاق
الحادث إلا بالاستغراب والاستنكار كما يبدو من كلمته السابقة
التي قرأتها أخيرا، ومن كلمات كثيرة منبثة في نهج البلاغة
وغيره وأهمها الخطبة الشقشقية. وأقل ما يقال في إنكاره
تخلفه عن البيعة حتى ماتت فاطمة الزهراء عليها السلام.
على أن من الظلم نقول: إن الإمام تخلف عن البيعة،
وهو صاحب الأمر الذي يجب أن يؤتى إليه، وإنما الحق أن
نقول: إن الناس هم الذين تخلفوا عنه.
وأول إعلان له عن رأيه كان عند خروجه في اليوم الثاني
من السقيفة بعد البيعة العامة - كما في مروج الذهب - فقال
لأبي بكر: " أفسدت علينا أمرنا ولم تستشر ولم ترع لنا حقا ".
وهذا القول صرخة في وجه الاستئثار عليه، وتصريح بعدم
الرضى بما تم، وليس علي ممن يداجي أو يخاتل ولا ممن تأخذه
في الله لومة لائم. ولذلك هم كانوا يفرون من التحرش به
قبل تمام البيعة خوف إعلان خصومتهم، فنرى أبا بكر في
جواب كلامه السابق يعترف له ويقول: " بلى! ولكن خشيت
الفتنة ".
ويسكت التأريخ عن ذكر جواب الإمام، أفتراه اقتنع
148

بكلمة أبي بكر أو أغضى عن جوابها أو التأريخ أهمل
الجواب. ولكن عليا نفسه يقول من خطبة له عن هذه
الحادثة: " فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب كأنه لا
يدري ما يجيبني به ".
ولئن فرض إنه سكت هذه المرة فإنه لم يترك الدعوة إلى
نفسه واستنكار حادث السقيفة، وإن بايع بعد ذلك فلم يبايع
عن طيبة خاطر واطمئنان إلى الوضع، وهو الذي يقول
بالصراحة في الشقشقية: " فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق
شجى أرى تراثي نهبا ".
ثم التأريخ يحدثنا إنه لم يبايع إلا بعد أن صرفت عنه
وجوه الناس بموت فاطمة الزهراء. وكم تذمر وتظلم من دفعه
عن حقه مثل قوله من كلام له في النهج: " فوالله ما زلت
مدفوعا عن حقي مستأثرا علي منذ قبض نبيه صلى الله عليه
وآله وسلم حتى يوم الناس هذا " ويشير بهذا اليوم إلى عصره
في خلافته
* * *
هذا هو الصريح الواضح من رأي الإمام في بيعة
السقيفة وما وقع بعدها. ويكفي النظر في الشقشقية وحدها،
غير أن التأريخ قد يحاول أن يكتم هذه الصراحة، لأنه لا
ينكر على كل حال أن عليا مع الحق والحق مع علي، فلا
149

يمكنه أن يتهمه بالحيدة عن طريق الحق إذا اعترف بهذا الرأي
منه، وهو - أعني التأريخ - يريد أن يصحح ما وقع يوم
السقيفة الذي لا يصح من دون رضى صاحب الحق
وموافقته، فيركن إلى المداورة.
ولكن في الحقيقة لا بد أن تتم على نفسها، فإنه جاء في
صحيحي البخاري ومسلم عدا كتب التأريخ والسير ما
لا يخرج عن هذا القول: " إن وجوه الناس كانت إليه وفاطمة
باقية فلما ماتت انصرفت وجوه الناس عنه وخرج من بيته
فبايع أبا بكر وكانت مدة بقائها بعد أبيها ستة أشهر ".
وجاء ما هو أصرح من كل ذلك في جوابه لكتاب
لمعاوية، إذ يتهمه معاوية بالبغي على الخلفاء والإبطاء عنهم
وكراهية أمرهم، فيقول الإمام منكرا لبعض التهم ومعترفا
بالبعض الآخر: " فأما البغي فمعاذ الله أن يكون وأما الابطاء
والكراهية لأمرهم فلست اعتذر إلى الناس في ذلك) (1).
3 - الموقف الدقيق
يظهر للمتتبع أن الإمام كان يرى - عطفا على رأيه
السابق - وجوب مناهضة القوم حتى يأخذ حقه منهم.

(1) راجع شرح النهج (3: 409).
150

ويستشعر ذلك من سيرته معهم ومن كثير من أقواله التي منها
قوله في الشقشقية عن حربه لأهل الجمل ومعاوية: " أما
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام
الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا
على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها
ولسقيت آخرها بكأس أولها ".
فانظر إلى موقع كلمته: " لسقيت آخرها بكأس أولها "،
فإنه يريد أن يقول: إن زهدي بالدنيا يدعو إلى أن أترك
حقي في المرة الأخيرة كما تركته في المرة الأولى، ولكن الفرق
كبير بين الحالين: ففي الأولى لم تقم علي الحجة في القتال
لفقدان الناصر دون هذه المرة، فلا يسعني أن أعرض عنها
هذه المرة وأسقيها بالكأس الذي سقيت به أولها يوم طويت
عنها كشحا وصبرت على القذى.
وأصرح من ذلك ما كان يقوله: " لو وجدت أربعين ذوي
عزم منهم لناهضت القوم " وهذا ما عده معاوية من ذنوبه،
وذلك فيما كتب إليه من قوله: " فمهما نسيت فلا أنسى قولك
لأبي سفيان لما حركك وهيجك لو وجدت أربعين ذوي عزم
منهم لناهضت القوم، فما يوم المسلمين منك بواحد "، ولم
ينكر أمير المؤمنين عليه السلام هذا القول في جوابه على هذا
الكتاب.
وفي التاريخ مقتطفات تؤيد ذلك، كما في تأريخ
151

اليعقوبي: إن أصحابه الذين كانوا يجتمعون إليه طالبوه
بمناهضة القوم وتعهدوا بالنصرة، وكأنهم ظنوا أن قد بلغوا
العدد المطلوب " 40 ذوي عزم " فقال لهم: اغدوا على هذا
محلقي الرؤس، وهو إنما يريد أن يريهم أنهم لم يبلغوا المنزلة
التي تقام بها الحجة، فلم يعد عليه إلا ثلاثة نفر.
وإذا كان هذا رأيه في المناهضة للقوم يبلغ - يا سبحان
الله - هذه الشدة والصرامة فماذا تراه صانعا؟ لنتركه الآن
يحدثنا هو عن نفسه وموقفه الدقيق، إذ يقول من الشقشقية:
" وطفت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية
عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن
حتى يلقى ربه ". ثم يبين لنا كيف أن يده جذاء من خطبة
ثانية. " نظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فظننت بهم
على ا ت؟؟ ".
فهو إذن بين أمرين لا ثالث لهما: إما المغامرة بما عنده
من أهل بيته، وإما الرضوخ للأمر الواقع، أما الحالة الأولى
ففيها خطر على الإسلام لا يتدارك فإنه إذا قتل هو وآل بيته
ارتفع الثقل الثاني من الأرض " عترة الرسول " وافترق عن
عديله القرآن الكريم وهناك الضلالة التي لا هداية معها،
وقد قال النبي: " لا تضلوا ما أن تمسكتم بهما أبدا " أو " لن
يفترقا حتى يردا علي الحوض " وأما الحالة الثانية فإن في
الصبر على هضم حقوقه إضاعة لوصية النبي، وتعطيل لنصبه
إياه إماما وخليفة من بعده.
152

فأي الأمرين هو أولى بالرعاية لحفظ بيضة الإسلام؟
وأنى لنا أن نتحكم في ترجيح أحد الأمرين، ونعرف
الإمام واجبه في هذا الأمر؟!
وما بالنا نذهب بعيدا، فإنا نعرف ما صنع الإمام، إنه
استسلم للقوم وبايع كما بايع الناس بالأخير، وقد قرر الرأي
الأخير بعد أن طفق يرتئي بين أن يصول بيد جذاء أو يصبر
على طخية عمياء عندما قال: " فرأيت الصبر على هاتا
أحجى " فسدل دونها حينئذ ثوبا وطوى عنها كشحا.
على أنه لا يضيع وجه الرأي على الناظر في هذا الأمر
ليعرف كيف كان الصبر أحجى، لأنه لو نهض في وجه القوم
مع قلة الناصر وحسد العرب له وترات قريش عنده، لكان
المغلوب على أمره، وعندئذ يصبح نسيا منسيا، ولربما لا
يحفظه التأريخ إلا باغيا بغى على الدين كأولئك أصحاب
الردة، فقتل " بسيف الإسلام " وأضيع مع ذلك النص على
خلافته. وقد رأيناه مع بقائه حيا وانتهاء الأمر إليه بعد ذلك
كيف غمط حقه وأعلن سبه وبقي الشك فيه إلى يوم الناس
هذا!
وقد أشار إلى ذلك في كلامه لعمه العباس وأبي سفيان لما
طلبا بيعته، إذ قال لهما: " أفلح من نهض بجناح أو استسلم
فأراح... ثم قال: ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع
بغير أرضه "
153

حقا، لا ينهض في هذا الموقف إلا من لا يبالي إلا بالحرص
على الملك ومطاولة الناس مهما كانت النتائج على الدين
والصالح العام، وأمير المؤمنين أحرص على الإسلام من أن
يغرر به لأمر يقول عنه: " إنه ماء آجن ولقمة يغص بها
آكلها ". ولا يساوي عنده نعله التي لا تسوى درهما، إلا إذا
كان يقيم حقا أو يدحض باطلا. ولذلك، ينصح الناس في
كلامه الذي أشرنا إليه مع العباس وأبي سفيان، وهما يحثانه
على قبول البيعة، فيقول: " شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة
وعرجوا عن طريق المناظرة، وضعوا عن تيجان المفاخرة ".
وكأنه في كلامه هذا يحس منهما إذ دعواه لهذا الأمر الآنفة
من الخضوع لأخي تيم، و (تيم) على حد تعبير أبي سفيان أقل
حي في قريش، فهما ينظران إلى الأمر من ناحيته القبلية،
والعصبية الجاهلية. أما فقهه هو فكما قال من كتاب له في
جواب معاوية في خصوص هذا الأمر: " وما على المسلم من
غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه "، وهو
غير فقههما فإن العباس مشى إليه أبو بكر وجماعة ليلا، لما
عرفوا موقفه، فأطمع في الخلافة له ولولده، بعد نقاش انتهى
بالإعراض عن النزاع. وأما أبو سفيان فقد نقل ابن أبي
الحديد (1: 30) وغيره أن عمر كلم أبا بكر فقال إن أبا
سفيان قد قدم وإنا لا نأمن شره، فدفع له ما في يده فتركه،
وكان أبو سفيان قد بعث قبل وفاة النبي على الصدقات.
154

ثم لنفترض ثانيا أنه ما كان ليقتل لو ناهض القوم ولكن
مع ذلك فالصبر على ترك حقه كان أحجى وأجدر لأن
منازعتهم كانت - لا شك - تجر إلى الفتنة وتبعث على الفرقة،
والإسلام بعد لم يتغلغل في نفوس العرب ولم يضرب جرانه
في الجزيرة، وقد اشرأبت الأعناق للانتقاض عليه.
فهو إذ وطن نفسه على ما هو أمر من طعم العلقم كما
يقول بالتنازل عن حقه، كان يخاف ويخشى، ولكن لا على
الحياة - وهو هو ابن أبي طالب في شجاعته واستهانته بالحياة،
الذي كان يقول: والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت
عنها - بل كان خوفه على الدين من التصدع وعلى جامعته من
التفرق، فسالم إبقاء لكلمة الإسلام واتقاء للخلاف والشقاق
في صفوف المسلمين فيرتدوا جميعا على أعقابهم، والمفروض
ليس عنده القوة الكافية لا ظهار كلمة الحق وإقامة السلطان.
وهو يشير إلى هذا الخوف فيما يقول في هذا الصدد من
خطبته في النهج: " ما شككت في الحق مذ رأيته. لم يوجس
موسى عليه السلام خيفة على نفسه. أشفق من غلبة الجهال
ودول الضلال. اليوم توافقنا على سبيل الحق والباطل من وثق
بماء لم يظمأ ". فهو في هذه الكلمة يتأسى بموسى عليه السلام
إذ رموه بالخيفة ولكن فرقا بين الخوف على الحياة والخوف من
غلبة الباطل: وهذا أفضل تفسير لقوله تعالى: " فأوجس في
نفسه خيفة " وفيه تبرئة لنبي الله من الوهن والشك وما أدق
155

معنى كلمة " من وثق بماء لم يظمأ " بعد تقديم قوله: " ما
شككت في الحق مذ رأيته " وقد رأى الحق وهو ابن عشر
سنين!.
ويوضح لنا ذلك جوابه المشهور لأبي سفيان لما جاءه
مستفزا على أبي بكر وهو يقول: " فوالله لئن شئت لأملؤها
خيلا ورجلا " وأنت تعرف ما قال له الإمام أنه قال: " أنك
والله ما أردت بهذا إلا الفتنة وأنك والله طالما بغيب للإسلام
شرا لا حاجة لنا في نصيحتك " ما أعظم هذه الصرامة
والصراحة منه لمن يريد أن يبذل نفسه وقومه في ظاهر الحال
ناصرا ومعينا على خصومه وهو يشكو فقد الناصر. نعم أن
الدين الذي بذل له مهجته كان عنده فوق جميع الاعتبارات،
وإن استهان به غيره، وقد رأينا أبا سفيان كيف أسرع في
الرجوع عن وعده ووعيده لما تركوا له ما في يده. وأمير
المؤمنين قد صرح بغرضه هذا بعد ذلك في جوابه الذي
أشرنا إليه عن كتاب معاوية كما في النهج والعقد الفريد إذ
قال عن إبائه على أبي سفيان: " حتى كنت أنا الذي أبيت
لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإسلام ".
4 - سلوكه مع الخلفاء
أما وقد تركنا الإمام يغضي عن حقه ويقرر بالأخير خطة
156

الصبر على ما فيها من قذى وشجى فماذا تراه يتخذ من خطة
في سياسته وسلوكه مع الخلفاء: أيستسلم فيسرع إلى بيعتهم
كسائر الناس ويعمل لهم كما يعمل باق المسلمين أم يسلك
بقدر ما تسمح به الضرورة وتقتضيه المصلحة للدين؟
قد أبى بعض المؤرخين من القدماء والمحدثين إلا أن
يصور الإمام مسالما إلى أبعد حدود المسالمة، فيسرع إلى البيعة
عن طيبة خاطر ورضى بمن نصب لها، ولكن البحث
الصحيح يأبى علينا أن نسلم بهذا التسرع في النقل أو
الحكم: فقد ثبت تأريخيا أن عليا لم يبايع أبا بكر إلا بعد
موت فاطمة بضعة الرسول، وفي تقدير ابن الأثير في تاريخه
والبخاري ومسلم في صحيحهما وغيرهم أنه ستة أشهر، وفي
كل هذه المدة هو جليس بيته لم يشترك في جماعة ولا جمعة ولا
أمر ولا نهي ولم يسمع له صوت في حروب الردة وغيرها.
وأكثر من ذلك كان يطرق أبواب الأنصار وأهل السوابق ليلا
حاملا معه فاطمة والحسنين يدعوهم إلى نفسه ويذكرهم عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا ما جعله معاوية من
ذنوبه في كتابه السابق الذكر، ثم إنه كان يقرعهم بالحجة
وينير لهم طريق المحجة ذلك قوله المتقدم: " فلما قرعته
بالحجة ".
وهل يظن الظان أنه كان يحاول في هذا العمل أن
يتحولوا في البيعة وأن يتركوا ما أبرموه وهو الذي أسدل دونها
157

ثوبا وطوى عنها كشحا ورأى الصبر على ذلك أحجى وهو
الذي يدعوه العباس وأبو سفيان إلى البيعة فيأبى؟ إن هذا
الإباء وذاك الصبر لا يجتمعان مع تلكم المحاولة والدعوة إلى
نفسه ما لم يكن يرمي الإمام من وراء ذلك إلى غرض أسمى
مما يظن، إنه كان يقيم الحجة في عمله على أولئك الناس
ويفهمهم خطأهم فيما ارتكبوا وتنكبهم عن الحق فيما أسرعوا
وإلى ذلك يشير فيما قال: " اللهم أنت تعلم أنه لم يكن الذي
كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شئ من فضول
الطعام ولكن لنرد المعالم في دينك ونظر الصلاح في
بلادك ".
ويؤخذ من طيات التأريخ أنه لم تأخذه هوادة في الدعاية
والدعوة إلى مبدئه إظهارا لحقه وإقامة للحجة على سواه، فلا
ينكر التأريخ اجتماع أصحابه عنده طيلة أيام انعزاله، فيعتبره
الطرف الآخر كمؤامرة يحاول إبطالها خشية توسعها، فيرسل
من يفرق القوم المجتمعين فيجتمعون. ولا ينكر التأريخ أيضا
تطوافه على الأنصار وأهل السوابق كما قدمنا. ولا ينكر عدم
اشتراكه في جمعة ولا جماعة، وهو أحرص على الشعائر الدينية
والواجبات الإلهية من أن يجرأ مجترئ على اتهامه بالمسامحة
فيها.
وهذه المقاطعة وما إليها إعلان صريح برأيه فيما عليه
القوم ولذا نرى الخليفة أبا بكر يتذمر من موقف الإمام
158

فعرض فيه من خطبة: " يستعينون بالضعفة ويستنصرون
بالنساء كأم طحال أحب أهلها إليها البغي إلا أني لو أشاء أن
أقول لقلت ولو قلت لبحت. إني ساكت ما تركت ". وفي هذا
تخوف مما يظن أنه سيقع وتهديد بإذاعة أمر مكتوم. ما
أدري - ولا أظن أحد يدري اليوم - أي شئ هذا الأمر الذي
يهدد الخليفة بإفشائه، والظنون تذهب ولا تقف على شئ
معين!
وزبدة المخض: إنا نفهم من كل ذلك أن خطة الإمام
في حياة فاطمة كانت المقاطعة والدعوة إلى مبدئه وأن يقعد
حجزة الضنين - على تعبير فاطمة نفسها - معتزا بوجودها،
وقد جاهدت معه في هذا المضمار جهادا له الأثر فيما بعد في
تركيز مقام الإمام في ذهنية المجتمع الإسلامي. ولا ننسى
خطبتها البليغة التي يرن صداها إلى اليوم.
ولذا نراه بعد وفاتها يبدل خطته، فبايع، ويبايع معه
أهل بيته وأصحابه، ويدخل فيما يدخل فيه القوم. ولكن إلى
حد محدود بقدر ما تحكم به الضرورة الدينية للاحتفاظ بالجامعة
الإسلامية.
لنسمعه يحدثنا هو عن تبديل خطته في كتابه إلى أهل
مصر: " فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت
عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله،
159

فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما
تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم.. ".
ولم تكن نصرته للإسلام وأهل إلا بسكوته عن حقه
ومتابعته للقوم، ونصيحته لهم في مواقع النصح، وإلا فلم
يشترك معهم في طعنة رمح ولا ضربة سيف في جميع المواقف
إلى يوم بويع بالخلافة.
وماذا يظن الظان في من جاهد وجالد في سبيل الإسلام
عشرين عاما، وفي كل هذه المدة كان سيفه يقطر من دماء
المشركين، ولم تثر حرب إلا وهو ابن بجدتها، وحامل لوائها،
ومقطر أبطالها والمقذوف في لهواتها؟ ماذا يظن الظان فيه عندما
يجلس جلس البيت عن هذا الدين الذي قام بسيفه، وقد
تألبت العرب عليه واشرأبت أعناق النفاق؟ والجهاد فرض
من فروض الإسلام، أكان ذلك زهدا في الجهاد وتواكلا عن
الواجب، أم ماذا؟ أهناك غير ما نقول من رأيه في المقاطعة
إلا ما تدعو إليها ضرورة المحافظة على الجامعة.
وقد يقول القائل: إن الخلفاء هم الذين لم يدعوه إلى
الدخول معهم في الحروب والاشتراك في الحكم لمصلحة
يرونها، وما كان يجب عليه أن يقدم نفسه متبرعا، كما لم يدع
إلى ذلك جميع الهاشميين، ولم يسمع أن هاشميا اشترك قائدا
في حرب أو حكم في عهد الخلفاء الثلاثة. ويشهد لذلك
160

المحاورة (1) بين الخليفة عمر بن الخطاب وابن عباس حينما
يدعوه إلى العمل في حمص، فيقل لابن عباس: " وفي نفسي
شئ لم أره منك وأعياني ذلك " ثم يصرح بذلك الشئ:
" إني خشيت أن يأتي علي الذي هو آت وأنت في عملك
فتقول: هلم إلينا ولا هلم إليكم دون غيركم أني رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل الناس وترككم ".
فيقول ابن عباس: فلم نراه فعل ذلك؟
فقال عمر: والله ما أدري أضن بكم عن العمل، فأهل
ذلك أنتم، أم أخشى أن تبايعوا بمنزلتكم منه، فيقع العقاب
ولا بد من عتاب؟
وعندئذ يمتنع ابن عباس عن قبول العمل ويقول: إن
أعمل لك وفي نفسك ما فيها لم أبرح قذى في عينيك.
أليست هذه المحاورة شاهدة على أن الخلفاء هم الذين
كانوا يمتنعون عن استعمال بني هاشم خوف أن يستغلوا
مناصبهم للدعوة إلى أنفسهم؟
وللمجيب أن يجيب، فيقول: إن امتناع الخلفاء عن
استعمال علي وبني هاشم - إن صح - فهو دليل آخر على
سيرة الإمام معهم، واستعماله خطة يخشون معها أن يأخذ
وقومه ناصية الأمر إن تولوا عملا من الأعمال. على إنا لا

(1) راجع مروج الذهب (1: 427).
161

نعدم شاهدا على أن عليا هو الذي كان يمتنع عن قبول
أعمالهم، فلنستمع إلى الحديث الذي جرى بين الخليفتين
عمر وعثمان.
يشير عثمان على عمر: " ابعث رجلا - أي لحرب فارس -
له تجربة بالحرب ومضر بها.
عمر: من هو؟
عثمان: علي بن أبي طالب!
عمر: فالقه وكلمه وذاكره ذلك، فهل تراه مسرعا إليه؟
فيخرج عثمان. ويلقى عليا، فيذاكره فيأبى علي ذلك
ويكرهه ".
تأمل استفهام عمر وشكه في قبول علي، ثم امتناع علي
وكراهته للأمر! وما نستنتج من ذلك؟
من هذا وأمثاله نعرف ماذا كان علي عليه السلام يتبع في
سيرته مع القوم، وما كان يجري عليه في معاملته معهم، حتى
كان يخفت صوته في جميع الحروب والمواقف، وكأنه ليس من
المسلمين أوليس موجودا بينهم، وهو منهم في الرعيل الأول،
اللهم إلا صوته إذا استشير ونبراس علمه إذا استفتي، حتى
اشتهر عن عمر كلمته " لولا علي لهلك عمر " أو " لا كنت
لمعضلة ليس لها أبو الحسن ".
162

وتتبع استشاراته وأحكامه في كثير من الوقائع يخرج بنا
إلى موضوع آخر يحتاج إلى كتاب آخر
انتهى
29 جمادى الأولى 1368 ه‍.
163

على هامش
السقيفة
165

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
بقلم محمد جواد الغبان
تفرض علي الأبوة أن أذهب بين حين وآخر إلى ناحية
(الشنافية) لزيارة سيدي الوالد سماحة الشيخ عبد الكاظم الغبان
الذي يشغل مركز العالم الديني هناك.
وقبل بضعة أشهر سافرت إلى (الشنافية) فترامى إلى
سمعي من عامة أهل المدينة مديح وافر وثناء جزيل على مدير
جديد في ناحيتهم هو الأستاذ السيد عبد الله الملاح الذي تم
نقله إلى تلك الناحية قريبا.
وما كان إلا أن اجتمعت بهذا المدير الجديد وتتابعت
الاجتماعات بيني وبينه حتى رأيت نفسي منجذبا إليه ومتخذا
منه صديقا حميما وأخا كريما لأنني وجدت فيه رجلا متمسكا
بالصفات الحميدة والأخلاق الكريمة بالإضافة إلى كونه قويا
في إدارته نزيها في أحكامه ومعاملاته.
167

ومما لفت نظري من الأخ الأستاذ الملاح أن هوايته
المفضلة هي العكوف على العلم والأدب والثقافة فهو لا يمضي
أوقات فراغه إلا بالمطالعة أو البحث والنقاش، وهو في بحثه
ونقاشه يمتاز بحرية الرأي وطلب الحقيقة من دون تعصب.
ولقد دارت بيني وبينه عدة مباحثات ومناقشات دينية
وعلمية وأدبية كان في مقدمتها موضوع (الإمامة) الذي هو
نقطة الخلاف بين (السنة والشيعة)، وكنا في بحثنا ومناقشتنا
في هذا الموضوع متجردين عن كل عاطفة وتعصب ذميم
فوصلنا إلى نتائج حسنة جدا.
وقد أرشدت الأستاذ - تتمة لما دار بيننا من المناقشات -
إلى مطالعة كتاب (السقيفة) الذي كتبه أستاذنا سماحة
العلامة الشيخ محمد رضا المظفر (عميد منتدى النشر)..
ذلك الكتاب القيم الذي نفدت طبعته الأولى وأعيد طبعه مرة
أخرى لأنه الكتاب الوحيد الذي درس موضوع الخلافة
الدقيق دراسة مستفيضة على ضوء المنطق المتجرد عن العواطف
والمغالطات.
وحين رجعت إلى النجف أرسلت نسخة من كتاب
(السقيفة) إلى الأستاذ الملاح، وبعد بضعة أيام وصلتني منه
رسالة يسجل فيها إعجابه بالكتاب وبراعة عرضه وقوة حجته
مع إكباره لمؤلفه الكريم، وقد سرد في رسالته المذكورة عدة
ملاحظات اعترضته أثناء مطالعته للسقيفة فطلب مني أن
168

أعرضها على الأستاذ المؤلف ليتفضل بالإجابة عنها، فما كان
مني إلا أن عرضت الرسالة على أستاذنا العميد بعد أن أعطيته لمحة
خاطفة عن صديقي الأستاذ الملاح فأبدى الأستاذ المظفر استعداده
للجواب عن تلك الملاحظات وتفضل فأفرغ نفسه - على كثرة أشغاله
ومسؤولياته - لكتابة كراس خاص ضمنه أجوبته عنها.
هذا وقد رأيت بملاحظات الأستاذ الملاح وأجوبة أستاذنا
(العميد) عنها موضوعا رائعا طريفا أهم مميزاته طلب الحقيقة
وكشف الواقع عن طريق الدراسة الصحيحة التي يوحيها
العقل والمنطق السليم، فوجدت نفسي مدفوعا إلى تمثيلها
لعالم الطبع والنشر - بعد موافقة الطرفين طبعا - خدمة للحقيقة وعرضا
لنماذج من البحث النزيه المتجرد عن الانجراف مع العواطف، لعل
إخواننا المسلمين جميعا - من سنة وشيعة - يسيرون على منوال هذا
الكلام البرئ والمنطق السليم فيجتمع الشمل وتتوحد الصفوف.
وإذا كانوا يرون اجتماع الكلمة ضربا من المستحيل فلا أقل من أن
يتركوا التطاحن الذي مزق صفوف الطرفين وأوهى قوى الإسلام
الذي يتمثل بكلا الفريقين.
وها أنا ذا الآن أنشر في هذا الكراس نص رسالة الأستاذ
الملاح التي تتضمن ملاحظاته مع نص جواب (العميد) عنها.
وما أدري عسى الأستاذ الملاح تخطر في ذهنه ملاحظات
أخرى بعد ذلك. وإنني أعد القارئ الكريم بعرضها على
أستاذنا العميد عندما أتلقاها لعلنا نظفر بنشر كراسة ثانية في
169

هذا الموضوع إكمالا للفائدة المتوخاة والله تعالى من وراء
القصد.
النجف الأشرف 2 رجب 1373 ه‍ محمد جواد الغبان.
170

نص رسالة الأستاذ عبد الله الملاح حول كتاب
السقيفة
أخي الكريم الأستاذ محمد جواد الغبان لا حرمت أخوته
تحية وشوقا
دعني أشكر لك قبل كل شئ هذه الأخوة الصادقة
وحسن ظنك بي فأنا اعتقد أنني لا أستحق منك كل هذا
الاطراء إنما هي نفسك النبيلة تريك الناس في صورة نفسك.
لوددت أني أحقق ظنك في والله المسؤول أن يلهمنا الصواب
ويهدينا إلى أحسن الأخلاق أنه لا يهدي لأحسنها إلا هو.
أشكر لك أيها الأخ الكريم هديتك الممتعة كتاب
السقيفة فقد أمضيت بقراءته وقتا سعيدا وكنت أود أن أدون
لكم رأي حوله بعد انتهائي من قراءته ولكن حال دون ذلك
ذهابي إلى بغداد.
كتاب السقيفة كتاب ممتع جدا يدل على سعة علم مؤلفه
الفاضل وتمكنه من الأسلوب العلمي العصري ولو التزم بما
جاء في المقدمة لكان خير كتاب أخرج للناس ولكنه آثر
إرضاء عقيدته فلم يلتزم بما أوجبه على نفسه أولا من الجهاد
التام، وكنت أود أن اطلع على كتاب (رد على السقيفة)
لأطلع على المآخذ التي أخذها على المؤلف. وسأورد باختصار
171

كل ما عن لي عند مطالعة الكتاب، ولعل بعض ما أورده لا
يخرج عن حدود السؤال الذي لا أحسن الإجابة عنه فإذا
كان عندك أو عند المؤلف جواب شاف له فأرجو التفضل
بعدم حرماني من فائدته.
1 - يرى المؤلف استبعاد سكوت النبي عن أمر الخلافة
وتوكيل ذلك إلى اختيار الأمة. لما في ذلك من توقع حدوث
الاختلاف كما حصل فعلا وأنا أسأل فأين النص الصريح إذن
على تعيين أحد بالذات؟
ستقول دون شك: أفليس في حديث الغدير كفاية؟
إن حديث الغدير لم يؤمن بصحته كل الناس من
المسلمين، وبعض من آمن بصحته فسره على غير تفسير
الشيعة مستفيدا من دلالة كلمة المولى على معاني مختلفة، وأنا
شخصيا أرى تفسير كلمة المولى بغير التفسير الذي فسرته
الشيعة في حديث الغدير تمحل وسخف.
ولكن في نفسي شئ كثير من الحديث فإن البخاري
ومسلم لم يرويا الحديث وفي سنده من طعن فيه، ولكنني لا
أهتم لذلك فإن كتب الشيعة ترويه بسند صحيح وهم ليسوا
أقل حرصا على دينهم من السنة، ولكني سأطرح النقل هنا
وأعتمد على العقل فقط.
يقول القرآن: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي
يوحى ".
172

ويعتقد السنة والشيعة أن جميع ما صح عن النبي يجب
الأخذ به باعتباره وحيا من الله ولكننا نرى أن النبي أمر بكتابة
القرآن علما منه بأن كل ما اعتمد في حفظه على الذاكرة
اعتوره النسيان أو التحريف بزيادة أو نقصان ولم نسمع أنه
أمر أحدا بكتابة الحديث فإذا كان الحديث وحيا من الله
كالقرآن فلماذا لم يكن قرآنا؟ وأي فرق بين وحي الحديث
ووحي القرآن؟
إن عدم تدوين الحديث أدى إلى الاختلاف الذي نراه
الآن فليس من حديث صح عند السنة إلا وجد فيه الشيعة
مجالا للطعن والعكس صحيح أفيمكن أن يبنى دين موحد
على حديث يصدقه أناس ويكذبه آخرون، ولكن الفرق
الإسلامية كلها متفقة على أن القرآن الذي بين أيديها صورة
صحيحة للوحي المنزل على رسول الله ولا عبرة ببعض
الأقوال المنسوبة إلى أناس زعموا أن القرآن قد حذف منه كل
ما كان فيه مدح لآل البيت.
أريد أن أخلص من هذه المقدمة إلى القول بأن أمر
الخلافة وهي من الأهمية بحيث صورها مؤلف السقيفة الفاضل
لا يعقل أن يترك أمرها إلى حديث كحديث الغدير لا تكاد
الصحابة تسمعه حتى ينساه أكثرهم ويذهب في تأويله
الآخرون مذاهب مختلفة، أفما كان ينبغي والأمر بهذه الأهمية
أن ينزل فيها قرآنا. صحيح " أن الله لا يسأل عما يفعل وهم
173

يسألون " ولكن منطق الحوادث يدلنا على أن أمرا كهذا - لا
سيما إذا أخذنا عقيدة اللطف الإلهي بنظر الاعتبار - لم يكن
ينبغي أن يسكت عنه القرآن وقد نزل في أشياء أقل أهمية من
هذا بكثير، أما الآيات التي أوردها المؤلف " إنما وليكم الله
ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
وهم راكعون " فلا أظن أن من له أقل إلمام بأسلوب القرآن
يرى قصر الذين آمنوا على علي (رض) فإن الله لم يشر إلى
واحد بلفظ الجمع وقد خاطب النبي بقوله: " إنك ميت وإنهم
ميتون ". وبقوله: " وإنك لعلى خلق عظيم ". وقال: " إذ يقول
لصاحبه... الخ " ثم شئ آخر لا بد من الإشارة إليه وهو
لو صح أن النبي جعل عليا عليه السلام نفسه حقيقة في آية
المباهلة كيف جاز له تزويجه من ابنته.
2 - إذا صح أن النبي (ص) قد نص على الأئمة الاثني
عشر بعد أن فقد ابنه إبراهيم وحزن عليه حزنا شديدا ترتب
على ذلك اتهام النبي بأنه إنما قام بالدعوة لحصر الملك
والخلافة في نفسه وفي أحفاده من بعده وهو ما يناقض الآية
القرآنية " قل لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الله ".
3 - حديث الغدير وقع بعد منصرف النبي من حجة الوداع
ووفاته (ص) في أواخر صفر أو أوائل ربيع الأول من نفس
السنة فيكون بين سماع الحديث والوفاة نحو شهرين وهي
مدة قصيرة فإذا كان عدد الذين سمعوا حديث الغدير سبعين
174

ألفا يزيدون أو ينقصون قليلا فلا بد أن يكون الأنصار الذين
اجتمعوا في السقيفة من جملة من سمع الحديث وهم لم يكونوا
ممن أنامهم عمر مغناطيسيا بنفيه الموت عن رسول الله لأنهم
ساعة الاحتضار كانوا مجتمعين في السقيفة كما يدل على ذلك
مجئ معن بن عدي وعويم بن ساعدة إلى عمر وأبي بكر في
دار النبي (ص) ولم يكن بين الأنصار وبين علي عليه السلام
ترات فإذا كانت قريش لم تشأ أن تجمع لبني هاشم بين النبوة
والخلافة وإذا كان علي عليه السلام قد وتر أكثرهم فإن
الأنصار لم يكونوا يريدون غير رضا رسول الله فما بالهم ولم
يمض على سماعهم حديث الغدير غير أيام قليلة لا يقوم
واحد منهم - وقد تنازعوا أمر الخلافة ورشحوا لها مرشحيها -
يذكرهم بالحديث وبأن أمر الخلافة قد فرغ منها وقد عين
رسول الله لها بأمر ربه عليا.
أما ما أورده المؤلف الفاضل من تطاول الأنصار للخلافة
بعد تيقنهم من انصرافها عن مستحقها علي عليه السلام لما
يعلمونه من حسد العرب له وقريش خاصة فلا يمكن أن
يقبله العقل لأن استحالة نصب علي للخلافة للأسباب
المذكورة إذا كانت لم تغب عن فطنة الأنصار فقد كان الأولى
أن لا تغيب عن فطنة رسول الله وهو المؤيد بالوحي فلا يأمر
أمته بأمر يعلم سلفا أنهم لا يطيعونه فيه فيعرضهم بذلك إلى
غضب الله وتذهب جهوده طيلة حياته في هدايتهم سدى.
175

أما قول أحد الأنصار: " لا نبايع إلا عليا " فلا يخرج عن
كونه ترشيحا لعلي من قبل أحد المسلمين ولا ينكر أحد أهلية
علي عليه السلام لهذا الترشيح إذ أن الرجل لم يحتج بحديث
الغدير أو آية قرآنية دالة على وجوب نصب علي.
4 - استدل المؤلف الفاضل بتأمير أسامة بن زيد وتخلف
وجوه المهاجرين وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة عن اللحاق
بجيشه على الرغم من تشديد النبي عليهم في الخروج - على
رغبة الرسول في إبعاد من يطمع في الخلافة عن المدينة وفي
تهيئة المسلمين لقبول (قاعدة الكفاية).
إن رسول الله (ص) لم تكن تأخذه في الحق لومة لائم
وهذا التدبير أشبه بتدبير الضعفاء منه بتدبير الأنبياء فمن كان
يدري النبي - وقد تمت البيعة لعلي - في غياب جيش أسامة
ووجوه المهاجرين والأنصار - إن القائد وجيشه وقد علموا بوفاة
النبي وبالغاية التي أرسلوا من أجلها في ذلك الظرف الحرج
وبنفاذ المؤامرة في تعيين علي للخلافة، من كان يدريه أنهم لا
يولون الخلافة من يريدون وليس في عنقهم بيعة لأحد ثم
يحتلون المدينة بالقوة ويعود التدبير الذي ظنه المؤلف الفاضل
حكيما شرا على المسلمين جميعا فإن من يخالف أمر النبي وهو في المدينة لا
يعجزه أن يخالفه وهو في جيش يؤيده في رأيه.
إن حياة الرسول (ص) كلها تدل على أنه لم يكن يرهب
القوة في سبيل نشر الدعوة وتبليغ أوامر الله فقد كان في مكة
176

وحيدا وفي قريش أمثال عمر وأبي لهب وأبي جهل فلم يمنعه
ذلك من تسفيه أحلامهم والكفر بآلهتهم وفعل كل ما من شأنه
استجلاب غضبهم فإذا كان الله قد أمره بقوله: " يا أيها
الرسول بلغ ما أنزل إليك من أمر ربك وإن لم تفعل فما
بلغت رسالته " بتعيين علي للخلافة فلا عمر ولا غيره كان
يمكن أن يحول بين رسول الله وتنفيذ أمر الله وما كان يمكن
أن يترك النبي تنفيذ هذا الأمر الذي فيه صلاح الدين وبقاؤه
إلى أحاديث تحمل معاني مختلفة وتدابير يذهب في تأويلها كل
واحد مذهبا فأمر الخلافة كما تعتقدون من أسس الدين فكان
يجب - وقد علم النبي بدنو أجله - وعلم كذلك لما ينتظر أمته
من فتن كقطع الليل المظلم ورأى مواقع الفتن خلال بيوت
المدينة كمواقع القطر - يجب وقد علم كل ذلك أن يأخذ
البيعة لعلي في حياته ويتخذ من التدابير ما يحول بين أمته
وبين الفتن وهو قد بعث رحمة للعالمين وإلا فليس نبي أضيع
جهدا منه فقد أذهب حياته في هدى أمة ما لبثت أن أخذت
طريقها من بعده إلى النار.
5 - حديث (هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده
أبدا). لا شك في وضعه أبدا على الرغم من رواية أئمة
الحديث له إذ لا يخلو أن يكون ما أراد النبي كتابته حديثا أو
قرآنا وقد ظل النبي ثلاثا وعشرين سنة يتحدث ويوحي إليه
بالقرآن فلم نره أمر بكتابة شئ من الحديث أما القرآن فلم
يكن النبي يقول " هلموا أكتب لكم " بل كان يخبرهم بنزول
177

الوحي عليه ويأمر كتبة الوحي بتدوين ما نزل عليه فإذا كان
ما أراد يكتبه قرآنا فلماذا لم يدع كتبة الوحي ليضيفوه إلى
القرآن أو لماذا لم يتله على الحاضرين على أنه قرآن كما كان
يفعل فيحفظه عنه الصحابة كما كانوا يحفظون عنه القرآن فلا
يتأتى لأحد الشك فيه ولم يكن لعمر حق منع الوحي من
النزول ولم ينكر أحد جواز نزول الوحي على النبي في مرضه.
أما إذا كان حديثا فمتى يا ترى أمر النبي بكتابة الحديث وما
الحاجة إلى كتابة هذا الكتاب إذا كان كل ما فيه هو التأكيد
على إمامة علي عليه السلام؟ ألم يسبق أن نص النبي على إمامته
يوم الغدير ومن نسي حديث الغدير أو أنكره على قرب العهد
به فهو لما في الكتاب المزمع كتابته أشد نسيانا ونكرانا.
ثم من هو عمر هذا الذي يأمر وينهي ولا يستطيع أحد
مخالفته حتى رسول الله يمنعه عمر من أن يرشد المسلمين إلى
أهم أمر من أمور الدين بعد التوحيد.
لقد كان عند رسول الله (ص) علي وعبد الله بن العباس
وغيرهما من وجوه بني هاشم ولم يزد عمر على أن رأى رأيا
حين قال: " إن الرجل قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله ".
فلو كان الأمر من الأهمية بحيث كان ابن عباس يبكي حتى
يبل الحصباء كلما ذكر ذلك لكان وجب أن يأمر رسول الله
بإخراج عمر من عنده ويصر على إملاء ما أراد إملاءه
بمحضر ممن يثق بأمانتهم ولو كان الأمر متعلقا بأمر جوهري من
178

أمور الدين لما جاز لرسول الله أن يعدل عن تبيانه لمجرد
اعتراض عمر وإلا لترتب على ذلك أن النبي (ص) كتم كثيرا
مما كان يريد تبليغه خشية عمر وغيره ولا أظن أن مؤمنا يقول
بذلك.
6 - إن ما نسب إلى الإمام علي عليه السلام بعد تمام
البيعة لأبي بكر يدل دلالة صريحة على عدم ثبوت حديث
الغدير آنذاك فإن قول الإمام: " احتجوا بالشجرة وأضاعوا
الثمرة ". وقوله لأبي بكر: " أفسدت علينا أمرنا ولم تستشر ولم
ترع لنا حقا " لا يدل إلا على أنه كان يرى نفسه أحق بالخلافة
من أبي بكر وليس ذلك بعجيب، فعلي من عرفه المسلمون
ربيب رسول الله وزوج الزهراء وأبو الحسنين وأتقى الناس لله
فلا غرو إذا رأى نفسه أحق بالخلافة من غيره ولكن اعتقاد الأحقية في
الخلافة شئ وعد استخلاف غيره اغتصابا لحقه ومروقا من الدين
شئ آخر فإننا لا زلنا نرى ترأس المفضول على الأفضل في جميع الأزمان
والسلطة كالرزق حظوظ وحتى في أيامنا ليس انتخاب نائب عن منطقة
- على فرض حرية الانتخاب - دليلا على أن المنتخب هو خير أهل
المنطقة.
ثم ما معنى انصراف وجوه الناس عنه بعد موت الزهراء
عليها السلام فإذا كان من قد اجتمع إليه قبل موت الزهراء
إنما اجتمع لأنه آمن بحديث الغدير واعتقد أن البيعة لغيره
ضلال لما جاز أن يتغير بموت الزهراء وإلا لثبت أن اجتماعه
179

إلى علي عليه السلام لم يكن من أجله هو ولا إيمانا بوجوب
إمامته بل إكراما للزهراء فلما دعاها ربها إلى جواره انتفى
السبب الذي كان يربطه بعلي.
ثم أنظر رحمك الله إلى قول الإمام: " فنظرت فإذا ليس
لي معين إلا أهل بيتي فظننت بهم على الموت ". كيف يعقل
أن أمة قال الله فيها: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون
بالمعروف وتنهون عن المنكر " تعلم من أمر دينها إن عليا أمامها
لا يجوز العدول عنه إلى غيره ولا يتم الإيمان إلا بإمامته لا
يبقى فيهم من ينهي عن المنكر وأي منكر أعظم من مخالفة
صريح أمر النبي والعدول بالخلافة إلى غير مستحقيها حتى لم
يبق منهم من يؤيد عليا غير أهل بيته وليتني أعلم فيم باع كل
هؤلاء الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه مرارا وتكرارا
دينهم، أمن أجل سواد عيني أبي بكر وعمر فقط أو يكون
بغض علي قد بلغ بهم حدا هون عليهم دخول النار؟
7 - ألا ترى تناقضا بين قولي الإمام: " لو وجدت أربعين
ذوي عزم منهم لناهضت القوم "، وبين قوله: " فأمسكت يدي
حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى
محق دين محمد فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله إن أرى
فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به علي أعظم من فوت
ولايتكم ".
فهو عليه السلام يود مرة لو يجد أربعين ذوي عزم
180

ليناهض بهم القوم ومرة يرى وجوب نصرهم ويحشرهم مع
أهل الإسلام، أو تراه لو وجد أربعين ذوي عزم ثم ناهض
بهم القوم أما كان ذلك هدما للإسلام أو ثلما له، إذ من كان
يضمن النصر له فالأمة مجمعة على أن جيش يزيد كان مبطلا
وكان جيش الحسين محقا ومع ذلك جاء الباطل وزهق الحق.
وإذا صح أن مالكا بن نويرة قد رفض بيعة أبي بكر لأنه لم يرى
البيعة إلا لعلي أما تكون الحجة قد قامت بوجود الناصر فلا
شك أن مالكا كان من ذوي العزم الذين كان الإمام يود
وجودهم.
ثم كيف يتفق قوله: " فخشيت إن لم أنصر الإسلام
وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما "، مع ما ذهب إليه المؤلف
الفاضل من تقاعسه عن نصرة الخلفاء وعدم التعاون معهم
إلا بمقدار، فإن كل معاونة باليد أو باللسان نصر للإسلام
وأهله وأي تباطؤ عن ذلك ثلم له.
فلو علم الإمام عليه السلام أن الإسلام يعز بالعمل
الفلاني أو القول الفلاني ثم أحجم عن الفعل أو القول لكان
خاذلا للإسلام ولأهله.
ولم أر في عيوب الناس عيبا *
كعيب القادرين على التمام
لذلك فأنا أشك في صحة نسبة الأقوال المذكورة للإمام
فأبو الحسن أجل في نفسي من ذلك ليس هو دون خالد بن الوليد حين
181

قال وقد عزله عمر عن إمرة الجيش: " لم أكن أحارب من أجل عمر " فلم
يكن الإسلام ملكا لأبي بكر وعمر أو غيرهما حتى يتباطأ أبو الحسن عن
نصرتهما.
أما عدم ورود ذكره في الحروب التي جرت على عهد
الخليفتين الأولين فلا يدل ذلك على عدم تعاونه معهما تعاونا
صادقا تاما في كل ناحية من نواحي العمل وإلا فأين الحروب
التي اشترك فيها عمر وعثمان وطلحة الزبير في زمن أبي بكر
وهل يدل عدم ذكر أسمائهم على عدم معاونتهم له معاونة
صادقة.
وبعد فهذه ملاحظات عابرة أحببت أن أدونها تزجية
للوقت وقد يكون لها أجوبة مقنعة أنا أجهلها.
وأرجو أن تتهيأ لي فرصة الاجتماع بالمؤلف الفاضل
الذي أرجو أن تبلغه إعجابي وتحياتي فنتوسع فيما أجملته هنا.
واسلم لمحبك
عبد الله الملاح
الشنافية 3 ربيع الثاني 1373
182

نص رسالة الشيخ المظفر ردا على
رسالة الأستاذ الملاح
إلى حضرة الأخ الفاضل عبد الله الملاح المحترم
أهدي تحياتي العاطرة
اطلعني الأخ قرة العين (الغبان) على رسالتكم إليه المؤرخة 3 ربيع
الثاني 1373 فقرأت فيها الأدب الجم والتواضع المستحب والرغبة في
الركون إلى الإنصاف في القول. وهذا ما كنت أتوقعه بعد إن كان قد
عرفك إلى (الجواد) من قبل.
ولأجل أن لا تفوتني فرصة التعرف إليك فضلت أن أحرر بنفسي
الجواب عن رسالتك وسامحني إذا تأخرت أياما اقتضتها طبيعة أشغالنا
هذه الأيام.
وقبل كل حديث أحببت أن أذكر للأخ إن كل بحث وسؤال يمكن
أن يعقب ويجاب عنه إذا استعمل الأسلوب الخطابي بمهارة، عندما
تكون العاطفة تأخذ أثرها في الجدل، غير أني أرجو من الله تعالى أن
يعصمني ويعصمك من أن تطلع رأسها خلال هذه الأبحاث التي يجب
أن يتبع فيها الحق للحق.
وعلى ذكر العاطفة فإنك رعاك الله - بعد ما تفضلت من الثناء
العاطر على كتاب السقيفة وصاحبه بما يعبر عن سمو نفسك.
183

وأخلاقك - قلت: " ولكنه آثر إرضاء عقيدته فلم يلتزم بما أوجبه على
نفسه أولا من الحياد التام ". صحيح إني لم يظهر على بحثي ال " خير الحياد
التام بل ولا الحياد الناقص، ويجب أن اعترف بذلك، ولكن ما حيلتي
إذا كان منطق البحث هو الذي ساقني إلى ذلك، فلم أشأ أن
أغالط القارئ أو أخادعه فيما توصلت إليه من رأي. ولو كان البحث
قد ساقني إلى الانحراف عن هنا الطريق لما عدوته. وحينئذ اتبع
مسلكا آخر في أسلوب التأليف أو نشره. والله المطلع على السرائر هو
الشاهد إذا كان ما أمليته بدافع العاطفة ولو بنحو لا شعوري. ولا
ابرئ نفسي - كما قلت في مقدمة السقيفة - إن النفس لأمارة بالسوء إلا
ما عصم الله.
ولا أطيل المقدمة، فأقول ما عندي باختصار في الأبحاث التي
أثرتها
البحث الأول
1 - إنك شككت في صحة حديث الغدير، لأن البخاري ومسلما
لم يروياه في كتابيهما. وإني لملتجئ أن أصارحك أنه لا يضر هذا
الحديث المستفيض بل المتواتر أنهما لم يروياه بشخصهما، لا سيما بعد أن
استدركه عليهما الحاكم في المستدرك (3: 109) و (4: 381) وأكثر
من ذلك صححه على شرطهما وكذلك في كنز العمال (6: 390).
ثم هل تدري - يا أخي - كم ترك البخاري ومسلم من أحاديث
184

صحيحة على شرطهما استدركت عليهما؟ ويكفي أن تراجع مستدرك
الحاكم. والله أعلم لماذا تركا هذا الحديث ونحوه! وأرجو ألا تذهب
بك الثقة بصحيحي البخاري ومسلم هذا المذهب، حتى تجعل عدم
روايتهما لحديث سببا في الطعن بذلك الحديث. فقد رابني منهما ما
يريب كل منصف طالب للحق، فإنهما لم يرويا أبدا ولا حديثا واحدا
عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، ولئن لم يكن إماما فعلى
الأقل هو أوثق وأجل وأعلم فقهاء عصره؟ بل لم يرويا عن أبنائه الأئمة
كلهم. وما أقل ما روياه عن آبائه حتى عن علي أمير المؤمنين عليه السلام
وهو من تعرف.
هذا كله في وقت قد أكثرا من الرواية عن جماعة كثيرة هم محل
الريب بل الطعن فضلا عن المجهولين. ولو وسع الوقت وهذه الرسالة
العابرة لذكرت لك العشرات من هؤلاء الرواة. ولا محيص من أن
أذكر لك جماعة منهم على سبيل المثال لتعرف أني على حق فيما قلت ولك
علي أن لا أنقل إلا من علماء ورجال أهل السنة لتطمئن إلى قولهم:
فمن هؤلاء الرواة (أحمد بن عيسى المصري) فقد ذكر ابن حجر
في تهذيب التهذيب والذهبي في ميزان الاعتدال: إن ابن معين حلف
عن أحمد هذا أنه كذاب. ونقل في التهذيب عن أبي زرعة أنه أنكر على
مسلم روايته عن أحمد هذا في الصحيح قال: " هؤلاء قوم - يعني مسلما
ونحوه - أرادوا التقدم قبل أوانه فعملوا شيئا يتشرفون به " وقال:
" يروي - يعني مسلما - عن أحمد في الصحيح ما رأيت أهل مصر
يشكون في أنه... " وأشار إلى لسانه يعني أنه يقول الكذب.
185

و (منهم) إسماعيل بن عبد الله بن أويس، فقد نقل في هذين
الكتابين المتقدمين أعني التهذيب والميزان: " إن ابن معين قال عنه:
لا يساوي فلسين. وقال أيضا: هو وأبوه يسرقان الحديث " ونقلا غير
هذا من الطعون الشديدة فيه.
و (منهم) عبد الله بن صالح المصري طعن فيه في التهذيب والميزان
نقلا عن ثقات العلماء بأنه يكذب وليس بشئ وليس بثقة، وقال في
الميزان: " روى عنه البخاري في الصحيح ولكنه يدلسه فيقول عبد الله
ولا ينسبه " فانظر واعجب.
و (منهم) عمران بن حطان السدوسي الخارجي المعروف، وقد
روى عنه البخاري وقد أكثر علماء الرجال من الطعن فيه، وهو المادح
لابن ملجم بقوله المشهور:
يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
و (منهم) عنبسة بن خالد الذي كان على خراج مصر وكان يعلق
النساء بالثدي، فقال عنه يحيى بن كثير كما في التهذيب والميزان: " إنما
يحدث عنه مجنون أو أحمق لم يكن موضعا للكتابة عنه ".
و (منهم) محمد بن سعيد الكذاب المشهور الذي صلبه أبو جعفر
على الزندقة قال في الميزان: " روى عنه ابن عجلان والثوري ومروان
الفزاري وأبو معاوية والمحاربي وآخرون، وقد غيروا اسمه على وجوه
سترا له وتدليسا لضعفه " إلى أن قال أحد العلماء: " قلبوا اسمه على مائة
186

اسم وزيادة قد جمعها في كتاب " ثم قال في الميزان: " قد أخرج عنه
البخاري في مواضع وظنه جماعة ".
ومنهم) هشام بن عمار خطيب دمشق ومحدثها وعالمها قيل عنه:
إنه حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها، وقيل عنه غير ذلك.
ومنهم... ومنهم... وما أدري ماذا أحصي لك من رواة
الصحيحين على هذه الشاكلة. قيل لمسلم - كما في التهذيب والميزان
بترجمة سويد بن سعيد الهروي -: " كيف استجزت الرواية عن
سويد "؟ فقال: " ومن أين آتي بنسخة حفص بن ميسرة! ". بالله عليك
أيصلح هذا عذرا في الرواية عن الضعفاء ممن اشترط على نفسه أنه لا
يروي إلا عن ثقة مأمون، وعند جعفر بن محمد الصادق وأبنائه وآبائه
من العلم والحديث ما طبق الخافقين وما يغنيه عن أمثال سويد
وحفص؟ أفلا يساوي أهل البيت عنده أمثال أولئكم الضعفاء
المطعون في صدقهم؟. بالله عليك أيأخذ الإنسان المؤمن الموقن دينه
من هؤلاء الرواة وأمثالهم ويوثقهم ثم يترك آل البيت! أي عذر يتخذه
الإنسان يلاقي به ربه يوم الحساب إذا كان ممن يعتقد بالله وبيوم الجزاء
ويريد مخلصا أن يخلص إلى الحق الصريح إلا إذا أراد أن يخادع نفسه أو
يداهن في دينه؟
2 - وأما قولك: " إن في سند الحديث من طعن فيه " فأظن يكفينا
مراجعة الجزء الأول من كتاب الغدير لنعرف أن الطعن مهلهل لا سيما
بعد أن نعرف أن الحديث ليس له سندا واحد يبقى مجال معه للطعن،
بل هو مستفيض إن لم يكن متواترا، على أنه قد روى بسند صحيح على
187

شرط الشيخين مسلم والبخاري كما نقلت لك عن مستدرك الحاكم
وكنز العمال.
3 - وأما حديثكم عن تدوين الحديث عامة كالقرآن، فأن صريح
القول فيه عندي الذي أدين به ربي ولا أغالط نفسي إنه ثبت من طرق
الطرفين الصحيحة (1) التي لا ريب فيها أن نبينا الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم قال: " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما
أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا. ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي
الحوض ".
فقد قرن الهداية (أبدا) بالتمسك بهما معا لا بالتمسك بواحد منهما
فكل حديث لا يرجع إلى الثقل الثاني لا أجد مجالا للتمسك به إلا
إذا كنت لا أفهم الكلام العربي المبين أو أغالط نفسي.
دقق النظر - يا أخي - في هذا الحديث الجليل تجد ما يدهشك في
مبناه ومعناه، فما أبعد المرمى في قوله: " لن تضلوا بعدي أبدا " ولكن
بشرط إذا تمسكنا بهما (بهما) لا بواحد منهما فقط. وما أوضح المعنى في
قوله: " لن يفترقا " فمن فرق بينهما أيجد الهداية يا ترى؟
وعلى هذا نستطيع أن نتنبه لماذا لم يأمر (ص) بتدوين الحديث
كالقرآن فقد كفاه أنه (ترك) لنا الثقل الثاني الذي هو عدل القرآن

(1) ومسلم قد رواه في صحيحة في فضائل علي من عدة طرق إذا كنت
لا تصدق إلا بمسلم والبخاري.
أما البخاري فلم يروه ولكن الحاكم استدركه عليه (3: 109).
188

الكريم حسب تعبيره وأمر بالتمسك به مقرونا بالتمسك بالثقل الأول
(القرآن)، فهو الذي كفل لنا دين النبي وقوانينه من وقوع الضلال
فيها أبدا (أبدا) ما إن تمسكنا به مع القرآن، وهو الذي يبين لنا كل ما
أجمل في القرآن وما نزل من أحكام وما جاء من قوانين لا (الحديث).
ولا يبقى بعد هذا مجال لمن قال أو يقول: " حسبنا كتاب الله " فإنه
لو كان (حسبنا) وفيه الكفاية لما قرنه النبي بعدله الثقل الثاني. أليس
كذلك يا قرة عيني؟
وأستطيع أن أخلص من هذا الكلام إلى موافقتك (موافقتك
أنت) أنه لا يصح الاعتماد على (الحديث) لأنه ليس بعدل للقرآن وإلا
لو كان الحديث المعمول به عند الناس طريقا إلى إثبات الوحي الإلهي
لكان النبي يأمر - كما قلت - بتدوينه كما أمر بتدوين القرآن. بل أزيدك
بأنه لم يقرن (ص) الحديث بالقرآن ولم تأت بذلك رواية معتبرة ولا آية،
بل أكثر من ذلك قد أخبر عن كثرة الكذابين عليه بعده وحذرنا منهم،
ولم يرو عنه أنه شجع على الحديث عنه.
وهنا أعيد كلامك السديد فأقول معك: " أفيمكن أن يبني دين
موحد على الحديث يصدقه أناس ويكذبه آخرون ". إذن فليسقط
(الحديث) من اعتبارنا جملة، ولكنا إنما نستدل به لنتخذه حجة على من
يراه حجة عنده من باب إلزام الخصم بما يعترف به، فإن تنازل الخصم
عن حجية الحديث وأنكره جملة، قلنا له: بماذا تثبت تفاصيل الأحكام
وخصوصياتها فإن القرآن فيه المجمل والمبين والمتشابه والمحكم والعام
والخاص والناسخ والمنسوخ وليس فيه تفاصيل الأحكام
189

وخصوصياتها، فهذه الصلاة - مثلا - من أين تعرف أوقاتها وفرائضها
وركعاتها وأجزائها وشرائطها ومقدماتها وما يتصل بها من أحكام لا
تحصى؟
فهل ترجع إلى اعتبار الحديث مرة أخرى؟
- أم تلتجئ عندئذ إلى الاعتراف بالثقل الذي أرجعنا إليه
النبي (ص) مع القرآن.
- أم ماذا؟
4 - قولك سدد الله قولك: " لا يعقل أن يترك أمرها أي الخلافة
إلى حديث كحديث الغدير " فيا قرة العين ليس الأمر منحصرا
بحديث الغدير حتى يتم استغرابك فكم هي الأحاديث والآيات كما
قرأت بعضها في السقيفة وهي يؤيد بعضها بعضا ويفسر بعضها بعضا
إذا كان الواحد منها لا يكفيك.
أما وصفك لحديث الغدير بأنه (لا تكاد الصحابة تسمعه حتى
ينساه أكثرهم ويذهب في تأويله الآخرون مذاهب مختلفة) فإني أجلك
من هذا الكلام فإنه ما على النبي من ضير أن تنسى حديثه الصحابة أو
تتأوله، بل ترك أمر الخلافة إلى الصريح الفصيح من الكلام وبلغهم
وإذا كانوا نسوه فالعيب فيهم لا في الحديث، على أنا لا بد أن نقول:
إنهم تناسوه لا نسوه، ومن أين علمنا بأنهم نسوه.
وأما الذين ذهبوا المذاهب المختلفة في تأويله فأولئك قوم من
المتأخرين وليس هم من الصحابة كما يشعر به قولك وذلك لما ضاقوا
190

ذرعا في الطعن في سنده فاضطروا لتأويله بالتأويلات التي تعرفها.
5 - وأما آية " إنما وليكم الله... " فصحيح ما قلت فيها - على ما
أعتقد - إنه لم يعهد التعبير في الكتاب العزيز عن المفرد بالجمع.
وأزيدك أنه لو كان المراد التعبير بالجمع عن المفرد لقال: " الذين
أقاموا.. وآتوا.. ". والتعبير المضارع (يقيمون.. ويأتون..)
دليل على أن المقصود بها قاعدة كلية. وبتعبير منطقي - تعرفه إذا كنت
درست علم المنطق - إن هذه قضية حقيقة معناها إن كل من فرض فيه
إنه وقع منه هذا العمل أو يقع فهو ولي للمؤمنين ولاية كولاية الله
ورسوله، لا قضية شخصية مشار بها إلى شخص أو أشخاص
مخصوصين موجودين في الخارج، وإلا لوجب أن يقول بصيغة الماضي
أقاموا وآتوا.
وعليه فالمقصود بالآية الكريمة إن كل مؤمن يقيم الصلاة ويؤتي
الزكاة وهو في حال ركوعه فهو له هذه الولاية العامة التي هي كولاية الله
ورسوله. وعلى هذا تكون الآية كبرى كلية لا يتألف منها وحدها
القياس المنطقي ولا تنتج شيئا إلا إذا عرفنا الصغرى لها، ولا يمكن
الاستدلال بها وحدها مجردة بدون ضم الصغرى لها، وليس منطوقها
إلا كمنطوق القوانين العامة مثل أن يقول القانون (كل من يحمل
الشهادة الحقوقية له الحق أن يعين حاكما) فإن هذا القانون لا ينفعنا في
معرفة الأشخاص الذين يحملون الشهادة بل لا بد من الخارج أن
نعرفهم بأشخاصهم لنعطي لهم هذا الحق.
وبهذه المقدمة نخلص إلى معرفة وجه الاستدلال بالآية على ولاية
191

علي، وذلك بضميمة الصغرى أي بضميمة معرفة نزولها، وقد ثبت
أنها نزلت في علي عندما تصدق بخاتمه وهو في حال ركوعه، فتشخصت
هذه القاعدة الكلية فيه باعتبار إنها نزلت فيه. ولم يعهد من غيره من
الصحابة من آتى الزكاة وهو راكع لا قبله ولا بعده، فانحصر هذا الكلي
في فرد واحد بحكم نزول الآية فيه.
وأما الحكمة في التعبير بهذه القاعدة الكلية فلبيان إن عليا
بالاستحقاق نال هذه المنزلة من الولاية لصدور هذا العمل منه الذي
يعطي له هذا الحق، والمفروض إنه لم يقع من غيره فتنحصر فيه هذه
الولاية من دون باقي الصحابة.
6 - أما آية (المباهلة) فأظن أن ما ذكرته عنها ستتراجع عنه عندما
تعيد التأمل فيه فإنه قول غريب منك مع ذكائك وفطنتك، لأنه واضح
ليس المقصود من أنه نفسه أنه هو هو على وجه تبطل الاثنينية حتى يترتب
عليه أنه لا يجوز أن يتزوج علي ببنت محمد (ص) باعتبار أنها تكون ابنته
أيضا، فإن هذا لا يتوهمه عاقل ولا يتوقف عليه الاستدلال، فإن محمدا
محمد وعليا علي هما شخصان اثنان أحدهما ابن عم الآخر وأحدهما ولد
قبل الآخر ومات قبله، ولكل منهما مميزاته الشخصية التي تختلف عن
مميزات شخصية الآخر، بل المقصود أنه نفسه تنزيلا أي أنه كنفسه
وذلك مبالغة في تقاربهما واتحادهما في كثير من الأحكام المنزلة. وذلك
يشبه قول الشاعر في مبالغته عن اتحاده مع حبيبه.
أنا من أهوى ومن أهوى أنا * نحن روحان حللنا بدنا
192

فإذا أبصرتني أبصرته * وإذا أبصرته أبصرتنا
في البحث الثاني
قلت: " إذا صح أن النبي (ص) قد نص على الأئمة الاثني
عشر بعد أن فقد ابنه إبراهيم " لا يا أخي لم يدع أحد أن النص على
الأئمة كان بعد فقد إبراهيم ولم يصح فيه حديث، فمن أين جئت
بهذا. ولا بأس أن ألفت نظرك إلى أن هناك آية قرآنية أخرى نظير التي
ذكرتها وهي قوله تعالى: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى "
فماذا تقول فيها (1)؟
وهلا تدري أن النبي لما نزلت هذه الآية (وأنذر عشيرتك
الأقربين) جمع عشيرته واستنصرهم وجعل لناصره أن يكون أخاه
ووصيه ووارثه وخليفته من بعده وكان علي صبيا فأجابه دونهم فقال في
حقه: " إن هذا أخي ووصي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا "
فخرجوا يتضاحكون من تأميره هذا الغلام على شيوخ قومه وفيهم

(1) وما ذكرت أنها آية فلا وجود لها بنصها، وإنما بمضمونها آيات نزلت
في نوح وهود وصالح وشعيب ولوط عليهم السلام. والنازلة على
لسان نبينا إنما هي آية القربى وآية أخرى في سبأ 47 (قل ما
سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله) وهما يفسر
193

أبوه. بالله عليك كم سبقت هذه الواقعة في الزمن مولد إبراهيم. وتأمل
في صبي لم يبلغ الحلم يقال له هذا القول من نبي لا يقول إلا عن وحي.
أهذا جد أم هزل؟. تأمل في هذا وحكم وجدانك واعرضه على
إنصافك وأوله ما شئت أن تأوله فإنك لا محالة ستجد هذا الصبي أكبر
من أن يقاس إلى الناس وقد أمر من يومه ذاك في مبدأ البعثة، ثم فكر في
قول من يقول إنه لا قيمة لإسلامه يومئذ وهو لم يبلغ الحلم كم يبلغ من
درجة الإنصاف وقول العدل وقوة الحجة.
في البحث الثالث
1 - ذكرت أن الأنصار ساعة الاحتضار كانوا مجتمعين في السقيفة
وجعلت دليلك مجئ معن وعويم إلى دار النبي لأخبار أبي بكر وعمر.
ولكن الدعوى منك غريبة لا شاهد لها من التأريخ، والدليل أغرب،
لأنه في ساعة الاحتضار كان أبو بكر في السنح وما جاء إلى المدينة إلى بعد
أن بلغه وفاة النبي فجاء إلى دار النبي فكشف عن وجهه صلى الله عليه
وآله وسلم على ما ذكره بعض المؤرخين ثم ذهب إلى المسجد حيث وجد
عمرا يخطب الناس بأن النبي لم يمت، ومن المسجد بعد أن هدأت سورة
عمر ذهبوا إلى دار النبي ولا بد أن الأنصار حينئذ انسلوا إلى سقيفتهم.
2 - استغربت من الأنصار أن يتنكروا للنص على علي، ولكن

إحداهما الأخرى، ويدلان على أنه (ص) سأل أجرا هو المودة في
القربى، ولكنه للمسلمين أي نفعه لهم.
194

اعتقد يا عزيزي لو أنك رجعت إلى ما ذكرته في السقيفة عن دوافعهم
على تنكيرهم لكان لك مقنعا كافيا.
وأما قولك: " فقد كان الأولى أن لا تغيب عن فطنة رسول الله وهو
المؤيد بالوحي فلا يأمر بأمر أمته يعلم سلفا بأنهم لا يطيعونه فيه
فيعرضهم بذلك إلى غضب الله... " فإني أقول كيف يغيب عن
فطنتك قوله تعالى: " فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين ". وقوله: " إن
أنت إلا نذير ". وقوله: " ولا تذهب نفسك عليهم
حسرات... " وأمثال ذلك في القرآن كثير. وفي الحقيقة أن الرسول
عليه أن يبلغ الأمر الإلهي وليس عليه أن لا يطيعه الناس. ولا يصح أن
يتنازل عنه لمجرد أنه يعلم سلفا أنهم لا يطيعونه، وإلا لوجب أن يترك
كثيرا من الأحكام أو كلها لأنه يعلم سلفا أنهم - كلهم أو بعضهم لا
فرق - لا يطيعونه. ومن المواقع التي يعلم سلفا أنهم لا يطيعونه فيها
ومع ذلك بلغها قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول
فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " فإنه أجمع المفسرون وأهل الحديث
أنه لم يعمل بهذا الحكم إلا علي عليه السلام (1).
يا عزيزي إن الله تعالى يقول: " وما أكثر الناس ولو حرصت
بمؤمنين " ثم يقول عن المؤمنين بالخصوص: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا
وهم مشركون " فإذا كان تعالى يعلم سلفا ورسوله يعلم سلفا أن الناس
أكثرهم لا يؤمنون وأن يؤمنون أكثرهم في إيمانهم مشركون، فيكون
- على قولك - إرسال الرسل وتبليغ الأحكام للناس من قبلهم تعريضا

(1) هذا الحديث مما ترك روايته البخاري ومسلم أيضا واستدركه عليهما
195

لا كثر الناس وأكثر المؤمنين منهم إلى غضب الله وتذهب جهود الرسل
في هدايتهم سدى.
أهذا هو المنطق يا قرة عيني؟ أيترك الله دينه وأحكامه لسواد عيون
الناس لأنه يعلم سلفا أنهم يعصونه؟ لا يا أخي إن الحق يجب أن يبين
والحكم يجب أن يوضح سواء أطاع الناس أم عصوا وما على الرسول إلا
البلاغ
في البحث الرابع
قلت عن بعث أسامة: " إن رسول الله (ص) لم تكن تأخذه في
الحق لومة لائم وهذا التدبير أشبه بتدبير الضعفاء ". وأقول: نحن بعد
أن تثبت عندنا النصوص على علي فإنا نعرف كيف لم تكن تأخذه في
الحق لومة لائم، فقد بين وأوضح وكرر وأكد، ولكنه بعد أن اتضح
لديه إن كل هذه التأكيدات والبيانات ستخالف على كل حال وإن هناك
جماعة سوف لا تطيع الأمر في علي فأراد أن يبعدهم عن المدينة بهذه
الطريقة. وليس هذا من تدبير الضعفاء بل من التدبير الحكيم بعد أن
نعرف ملابسات الواقعة كما أوضحناها في كتاب السقيفة.
نعم نتصوره من تدبير الضعفاء إذا نحن أنكرنا تلك النصوص
على علي وتصريحات النبي في حقه وأنكرنا إن المسلمين يوم

(1) الحاكم على شرطهما (2: 482) مع الاجماع على نقله فلماذا تركه
الشيخان؟
196

الغدير سلموا عليه بأمرة المؤمنين. نعم إذا أنكرنا تلك النصوص جملة
وتصورنا أن النبي أراد البيعة لابن عمه سرا فدبر ذلك التدبير الخفي
لإبعاد خصومه فلا نتصور النبي حينئذ - وحاشاه - إلا جبانا ضعيفا
يريد أن يخاتل المسلمين في ابن عمه. ولكن - يا أخي - كل هذا التدبير
إنما يكون مقبولا حكيما إذا كان قد وقع بعد ما أعلن أمر ابن عمه فلم
تنفع معهم كل تلك التوصيات وعلم إصرارهم على المخالفة فأرسل
هذا البعث، وإن لم ينفذوه فقد أقام به الحجة البالغة عليهم، وإلا
فلماذا خالفوا أمره فيه ولماذا تباطؤا واعترضوا على تأمير أسامة؟ وقد
بسطنا كل ذلك في كتاب السقيفة.
ولا يشك التاريخ في وقوع البعث ولا في تأخر المبعوثين عن تنفيذه
ولا في تألم النبي منهم وغضبه عليهم وإصراره عليه مرة أخرى. ولا
يصح تفسير ذلك بغير ما ذكرنا إلا إذا كنا ننكر النصوص على علي جملة،
فهذا أمر آخر ولا كلام لنا مع هذا المنكر فإن مثله لا يستطيع أن؟ تسيغ
هذا التفسير قطعا.
أما تقديرك أن جيش أسامة هذا لو رجع بعد أن يفتح وقد وجد
الأمر قد تم لعلي قد ينتقض فيحارب من في المدينة، فهذا احتمال من
الجائز أن يقع وأن لا يقع، ولكن لو وقع منهم فإنهم يكونون كأهل الردة
الخارجين على إمام زمانهم يحاربون وتكون الحجة عليهم لا سيما مع
سبق النصوص وبيعتهم لعلي يوم الغدير ولم يبق مجال للتأويل أو تجاهل
النص على علي بعد تمام البيعة له.
في البحث الخامس
إنك تشك في صحة حديث الكتاب الذي أراد النبي أن
197

يكتبه. وأنا أقول لا مجال لهذا الشك بعد ثبوته برواية أهل الحديث
والتاريخ والتفسير. ولا بد من التسليم به بعد إن كان متواتر النقل
أوفي حكم المتواتر. وأما ما ذكرت من سبب الطعن فيه ففيه كثير
من فضول القول فيما يتعلق باحتمال أنه كان قرآنا فإنه ليس مجال
لهذا الاحتمال ولا يتصوره أحد بل هو كتاب أراد أن يسجله
للمسلمين لئلا يضلوا بعده فأبوا لأنفسهم هذه النعمة. وكونه
باردة لم يسبق لها مثيل منه (ص) فهو صحيح ولكن لا يوجب ذلك
إنكارا للحديث وهل تعجب من النبي أن يصنع شيئا لم يسبق له
نظير لا سيما وأنها بادرة تقع في أخريات أيامه قصد بها أن يفارق أمته
عن شئ يسد عليهم باب الخلاف والضلال. إن النبي أعظم من
أن تستكثر عليه مثل هذه البادرة.
وأما قولك: " ثم من هو عمر هذا الذي يأمر وينهي ولا
يستطيع أحد مخالفته " فهذا صحيح ولكن عمر لم يمنعه بقوة سيف
أو سيطرة على المسلمين أو على النبي وإنما منعه لأنه ألقى شبهة تثير
الخلاف مدى الدهر وهي أن النبي كان يهجر أو غلبه الوجع ما
شئت فعبر، وأقل الناس يستطيع أن يصنع ذلك لا سيما إذا وجد
أعوانا وأنصارا وبالفعل قد وجد عمر أولئك الأعوان إذ رأينا
المسلمين الحاضرين قد اختلفوا على فرقتين، فبطل مفعول الكتاب
الذي كان المقصود منه أن لا يضلوا بعده أبدا كيف وقد صار هو
نفسه موضوعا للنزاع والجدال والنبي حاضر بينهم وأمام عينيه حتى
أغضبوه وقال: " " قوموا عني ولا ينبغي عند نبي نزاع ". ولا يريد
النبي أن ينفذ مثل هذا بقوة السيف أو العشيرة فإن طبيعة الموضوع
تأبى ذلك لأن هذا يزيد في الخلاف ويعقده.
198

نعم صحيح قولك: " ولم يزد عمر على أن رأى رأيا حين قال:
إن الرجل قد غلبه الوجع... " ولكن هذا الرأي لا بد أن يحول
دون تنفيذ الكتاب لأن طبيعة الموضوع تقتضي أن يحول هذا الرأي
دونه كما قلنا، فنعرف السر في عدوله (ص) عن تنفيذ الكتاب ونعرف
كيف جاز له العدول عنه.
وما أدري أي أمر جوهري أعظم من كتاب يؤمن الناس من
الضلال أبدا، وهل المقصود من الدين شئ فوق هذا، حتى تقول
أنت " ولو كان الأمر متعلقا بأمر جوهري من أمور الدين. "
وبذلك البيان تعرف يا أخي مدى قولك بالأخير " وإلا لترتب
على ذلك أن النبي (ص) كتم كثيرا مما كان يريد تبليغه خشية عمر
وغيره ولا أظن مؤمنا يقول بذلك " فإني أكرر القول بأن النبي إنما عدل
عنه - لا خشية من عمر وغيره - ولكن الشبهة التي أثارها وتقبلها
بعض الحاضرين بالفعل فاختلفوا بحضوره لا تبقى مجالا
للكتاب، لأنه - بالعكس - سيكون سببا للضلال والخلاف أبد
الدهور بعد إن كان المقصود منه تأمين البشر من الضلال، فلا بد
أن يعدل عنه روحي فداه، ولا ينفع معه التدبير بإخراج عمر ولا
أي تدبير آخر حتى بقتله كما تقول، لأن الشبهة قد وقعت رضوا أم
أبوا، وكل قول وفعل حينئذ من النبي بعد هذا يكون موضعا لهذه
الشبهة بأنه من الهجر وغلبة الوجع. وحق لابن عباس وغير ابن
عباس بعد هذا أن يبكي ويبكي بل حق له أن تتفطر كبده ألما
لفوات هذه النعمة الكبرى التي لا تعادلها نعمة، مهما كان مقصود
199

النبي من ذلك البيان الذي لا يضلون بعده أبدا سواء كان هو
النص على علي أو علي أي شئ آخر.
ونحن رجحنا أن يكون المقصود هو النص على علي للدلائل
والإشارات التي ذكرناها في كتاب السقيفة ومن جملتها قول عمر:
" حسبنا كتاب الله " الذي هو صريح في أن ما يريد أن يبينه النبي هو
عدل للقرآن، ويسرع إلى أذهاننا حينئذ حديث الثقلين وأنه هو
المستهدف في البيان والمنع منه.
ثم إنك تسأل عن الحاجة إلى الكتاب بعد نص الغدير وغيره،
فإن الحاجة إليه ما كان يستشعره النبي من عزم جماعة على تجاهل
تلك النصوص كما وقع فعلا. وأما قولك: " ومن نسي حديث
الغدير وأنكره على قرب العهد به فهو لما في الكتاب المزمع كتابته
أشد نسيانا ونكرانا " فإني لم أستطع فهمه ولم أعرف فيه وجه كون
الكتاب أشد نسيانا، فإن ما هو مكتوب أثبت مما ينقل على الأفواه
وكيف يتطرق إليه النسيان أو النكران وهو حجة ثابتة مكتوبة، على
أنه لو وقع يكون أقرب عهدا إلى الناس من حديث الغدير لو كان
بعد العهد هو السبب في النسيان أو النكران كما أردت أن تقول.
في البحث السادس
1 - قلت: " إن ما نسب إلى الإمام... يدل دلالة صريحة
على عدم ثبوت حديث الغدير " وأنا أستميحك عذرا إذا قلت لك:
إن كلامك هذا غير فني فإن ما ذكرته من قولي الإمام: " احتجوا
200

بالشجرة... " و " أفسدت علينا... " لا معنى لأن يقال فيه أنه
يدل دلالة صريحة على نفي الحديث، لأنه لا دلالة لفظية فيه على
ذلك، وأقصى ما يمكن ادعاؤه أنهما يدلان بالدلالة العقلية على نفيه
باعتبار أنه ترك الاستدلال بحديث الغدير في موقع كان الأولى أن
يستدل به، فعدوله عند دليل على عدم ثبوته وإلا لاستدل به.
وهذه الدلالة لا تسمى دلالة صريحة.
ونحن ننكر عليك حتى هذه الدلالة العقلية لأنه لم يكن في
موقع الاستدلال بحديث الغدير حتى يكون تركه دليلا على عدم
ثبوته في القول الأول، لأنه جاء احتجاجا على من احتج باستحقاق
الخلافة بالقرابة من الرسول فقال لهم: إذا كان ذلك سببا
للاستحقاق فمن كان أكثر قرابة وأقرب فهو أولى بالاستحقاق.
والتشبيه بالشجرة والثمرة من التشبيهات البديعة في الباب فإنه
لبيان أولوية الاستحقاق للأقرب لأنه هو الثمرة التي هي أولى من
أصل الشجرة بالاستفادة منها بل الثمرة هي الغاية المقصودة من
الشجرة. وليس هذا موردا لذكر النص لأنه من باب النقض على
المستدل بحجته.
وأما القول الثاني فعلى تقدير صحة نقله فإن قوله: لم ترع لنا
حقا " كلام عام يجوز أن يراد به النص ويجوز أن يراد مطلق الحق
الذي صورته في كلامك. وهذا التصوير الذي ذكرته وأطنبت فيه
ليس في كلام الإمام دلالة عليه وإنما هو من اجتهاد الكاتب حينما
تخيل أن الإمام لا نص عليه فلا بد أن تكون احتجاجاته وشكواه
ناشئة من اعتقاده بالأحقية.
201

2 -؟ تحدثت عن قصة انصراف الناس عنه بعد موت فاطمة
فإنه كلام غريب فإنه لا ربط له بقصة النص وإنما تلك القصة
ترتبط بقصة التجاء الإمام إلى مسالمة القوم بعد الانصراف عنه.
3 - تقارن بين قول الإمام: " فنظرت فإذا ليس لي معين... "
وبين آية " كنتم خير أمة... " لتستدل من الآية على تكذيب نسبة
هذا القول إليه. وأزيدك إنك بهذا الاستدلال تستطيع أن تكذب
كثير من الأحاديث النبوية مثل أحاديث الحوض ونحوها الدالة على
ارتداد أصحابه بعده وتبدلهم ورجوعهم القهقري والمروية في
الصحاح.
غير أني أحيلك على كتب التفسير لمعرفة مدى دلالة هذه
الآية. وما علينا من كتب التفسير! لننظر بأنفسنا إلى مدى دلالة
هذه الآية على المقصود:
إن دلالتها تكمن في كلمة (كنتم) فإن كانت على ظاهرها من
دلالتها على الماضي المنقطع بمعنى إنهم كانوا فيما مضى خير أمة ثم لم
يستمر ذلك لهم فلا ينافيها أن تكون الأمة قد انقلبت بعد الرسول
على الأعقاب لأنه قال: كنتم خير أمة، ولم يقل أنتم خير أمة أبد
الدهر.
ولكن بعض المفسرين أول معنى (كنتم) فقال: إنها
للماضي الاستمراري مثل قوله تعالى: " وكان الله غفورا
رحيما " وأنا شخصيا كذلك أفهم هذا المعنى من الآية، غير
أن الذي يشكل علينا إن المسلمين لم يكونوا في جميع عهودهم
على ما تصف الآية الكريمة يأمرون بالمعروف وينهون عن
202

المنكر لا سيما في مثل عهودهم الحاضرة التي لم يبق فيها من
المعروف حتى رسمه فضلا عن أن يكون كلهم من الآمرين
بالمعروف الناهين عن المنكر. هذا هو الواقع المرير الذي لا
سبيل لنا من إنكاره والمكابرة فيه فكيف نتصور انطباق الآية
على عهودنا وأمثالها.
وعليه فليس الإشكال يخص الأمة الإسلامية في أول
عهودها بعد النبي بل في جميع عهودها الغابرة والحاضرة
فكيف نستطيع التوفيق بين واقع أمتنا المحزن وبين دلالة الآية
على امتداح هذه الأمة وتفضيلها على سائر الأمم لأنها تأمر
بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ كيف التوفيق يا ترى؟
والذي يخطر في بالي من الجواب على ذلك أحد أمرين
(الأول) وهو الأرجح عندي أن الآية قد تقدمتها آيات
أخر ذكرت وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن
هذا التشريع كما يبدو منها أنه من مختصات المسلمين
المخاطبين بهذا الوجوب على أن يتولى بعضهم هذا الأمر ثم
ذكرت نهي المؤمنين عن أن يتفرقوا ويختلفوا من بعد أن
جاءتهم البينات فتبيض وجوه بعض وتسود وجوه آخرين ثم
قال: " كنتم خير أمة... " لبيان أنه لما كانوا خير الأمم لا
ينبغي أن يختلفوا وسر أنهم خير الأمم لأنه قد شرع لهم الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وليس المقصود الأخبار عن أنهم
كلهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا سيما أن المخاطب
203

بالوجوب بعض المسلمين على نحو الوجوب الكفائي (ولتكن
منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف...).
(الثاني) إن المراد أنكم تأمرون بالمعروف من حيث
مجموعكم ولو بامتثال البعض وإن كان ذلك البعض قليلا
باعتبار أن ذلك البعض من الأمة يعمل باسمها كأنه يقول:
إنكم خير الأمم لأن فيكم من يأمر بالمعروف وليس كذلك
باقي الأمم. وهذا كما نقول مثلا إن الأمة الانكليزية احتلت
العراق، وليس المراد أن جميع الأمة احتلته بل بعض جيوشها
وذلك باعتبار أن ذلك البعض منها وكان عمله باسمها.
في البحث السابع
1 - تسأل عما إذا كان تناقض بين قول الإمام: " لو
وجدت أربعين ذوي عزم.. " وبين قوله: " فأمسكت يدي
حتى رأيت راجعة الناس... " فإني لم أعرف وجها للتناقض
بين القولين فإن الإمام في الأول يقول: لو وجدت الأربعين
على هذه الصفة لناهضت القوم، ومعنى ذلك أنه لم يجد
الأربعين فلم يناهضهم يعني أنه سالمهم، ثم صرح في الثاني
بأنه أمسك يده عن نصرتهم غير أنه لما رأى راجعة الناس
عن الإسلام فرأى أن المصيبة في ذلك أعظم من مصيبة فوت
الولاية فالتجأ أن ينصر الإسلام لأجل ذلك، لا نصرة للأمراء
ولا لكونهم عنده أهلا للنصرة كما هو مدلول كلامه. وأنت
204

ترى أن أحد الكلامين يتصل بالآخر ويكون متمما له، فأين
التناقض؟
أما إنه لو ناهض القوم بالأربعين عندما يجدهم فإنك
تحتمل أن تدور عليه الدائرة كالحسين فهذا تكهن لم يعترف به
الإمام وهو من ظاهر كلامه كان جازما بأن الأربعين على هذه
الصفة لو وجدهم لكانوا كافين له في النصرة على خصومه.
أما أنه يكون ذلك ثلما للإسلام لو انتصر عليهم، فمن أين
نفهمه إذا فرضنا أنه انتصر على غاصبي حقه من الخلافة التي
هي بنص النبي وبها حينئذ قوام الإسلام لا هدمه إلا إذا كنا
لا نعترف بالنص فهذا أمر آخر.
وأما كفاية نصرة مالك بن نويرة فعلى تقديره فهو واحد
من ذوي العزم إذا كان هو حقيقة من ذوي العزم الذين
يشترطهم الإمام فيكف تفرض أن الحجة قد قامت عليه
بمالك وحده على أنه كونه يعترف بحقه شئ وكونه من ذوي
العزم شئ آخر.
وأما سؤالك عن اتفاق قوله عليه السلام: " فخشيت
إن لم أنصر الإسلام وأهله إن أرى فيه ثلما أو هدما " مع ما
ذهبت إليه من تقاعس الإمام عن نصرة الخلفاء إلا بمقدار
الضرورة فإنه واضح الاتفاق لأن الإمام في صدر كلامه ذكر
أنه أمسك يده ولكن ضرورة حفظ بيضة الإسلام دعته إلى
النصرة. وهذا صريح بأن الضرورة هي التي دعته إلى ذلك
205

والضرورات تقدر بقدرها لا أن النصرة ابتدائية بدافع نفسي
ليناقض ما قلته عنه، بل هذا الكلام مما يؤيد قولي ويؤكده
وهو يدل على أن العمل الذي يعلم أنه يضر بالإسلام يتركه
ويعمل ما يرى عمله ضرورة إسلامية، فكيف كان قوله هذا
يدل على أنه يحجم عن الفعل أو القول الذي يكون خذلانا
للإسلام كما رغبت أنت أن تقوله وتتصوره عن هذه الكلمة.
نعم إن الإمام أعظم وأجل أن يتقاعس عن عمل يراه
واجبا لنصرة الإسلام، ومن أين يدل كلامه المنقول أو كلامي
المسطور على خلاف ذلك فإذا تباطأ أبو الحسن فإنما تباطأ عن
شئ يكون فيه نصرة لأبي بكر وعمر ولم يتباطأ عما تدعوه
الضرورة الإسلامية إلى فعله، وإنما لم يشترك في الحروب لأنه
حينئذ يكون مأمورا لهم وهذا ما كان يتحاشاه بل يتحاشونه
معه. وما ذكرته في السقيفة عن ذلك ففيه الكفاية.
وأما قياسه في الاشتراك في الحروب بعمر وعثمان وطلحة
وأمثالهم فقياس مع الفارق البعيد، لو كان هناك قياس،
وأبو الحسن من تعرف في حروبه أيام النبي وأيام خلافته ولم
يشترك قبله ولا بعده من الخلفاء بنفسه في الحروب، فكيف
يقاس غيره به وكيف لا يستغرب عدم اشتراكه في الحروب
أيام الخلفاء قبله وكيف لا يدل ذلك على عدم تعاونه معهم
معاونة صادقة؟
هذا ما أردت أن أقوله - يا قرة العين - في جوابات
206

أسئلتك واعذرني إذا كنت قد رمزت لك رمزا في كثير من الأبحاث
اقتصادا في الوقت واستعجالا في الإجابة للشواغل التي دهمتني في
خلال تسجيل هذه الرسالة فعاقتني عن الاسراع إلى إتمامها في
الوقت المناسب.
وتقبل التحيات من المخلص
محمد رضا المظفر
207