الكتاب: الاحتجاج
المؤلف: الشيخ الطبرسي
الجزء: ١
الوفاة: ٥٤٨
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: تعليق وملاحظات: السيد محمد باقر الخرسان
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٨٦ - ١٩٦٦ م
المطبعة:
الناشر: دار النعمان للطباعة والنشر - النجف الأشرف
ردمك:
ملاحظات:

الإحتجاج
تأليف
أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي
تعليقات وملاحظات
السيد محمد باقر الخرسان
منشورات
تعريف الكتاب 1

طبع في مطابع
النعمان
النجف الأشرف
حسن الشيخ إبراهيم الكتبي
تلفون 977 المسكن 227 حي
1386 - 1966 م
تعريف الكتاب 2

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
بقلم: العلامة الجليل السيد محمد بحر العلوم
بين يدي القراء الكرام كتاب جليل، يعتبر من المصادر القيمة في موضوعه
ومؤلف هذا الكتاب هو:
أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، أبو منصور. وتكاد تجمع المصادر
على هذا القدر من اسمه ونسبه، إلا ابن شهرآشوب فقد ذكره على الوجه التالي
" أحمد بن أبي طالب " (1).
وحذا حذوه الشيخ المجلسي عند ذكره كتاب الاحتجاج، واعتقد أن الشيخ
يوسف البحراني حاول توجيه رأي ابن شهرآشوب بقوله: " وقد يعبر عنه بابن
أحمد بن أبي طالب الطبرسي، والظاهر أنه من باب الاختصار في النسب فلا
يتوهم التعدد " (2).
ولم تحدد لنا المصادر سنة ولادته، كما لم تحدد لنا سنة وفاته، غير أن الحجة
الثبت شيخنا المحقق آغا بزرك الطهراني يستنتج سنة وفاته من معاصريه وتلامذته
ويعده ممن أدركوا أوائل القرن السادس الهجري، بدليل أنه أستاذ رشيد الدين
محمد بن علي بن شهرآشوب الذي توفي سنة 588 ه‍ عن مائة سنة إلا عشر أشهر، فهو
من أهل الخامسة الذين أدركوا أوائل السادسة أيضا (3).
ويتجه لغير هذا الرأي كل من عمر رضا كحاله (4)، وإسماعيل باشا (5)

(1) معالم العلماء: 25
(2) كشكول البحراني: 301 - 1
(3) الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 281 - 1
(4) معجم المؤلفين 10 - 2
(5) إيضاح المكنون ذيل كشف الظنون: 31 - 1
المقدمة 3

ويعتقدان بأنه توفي في حدود سنة 620 ه‍.
ولقد روى مترجمنا عن جماعة، منهم أبو جعفر مهدي بن الحسن بن أبي
حرب الحسيني المرعشي (1).
وروى عنه رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب، الذي صرح بذلك في
كتابه (2) بقوله: " شيخي أحمد بن أبي طالب ".
وكان موضع اعتماد الشهيد في شرح الإرشاد، فكثير ما نقل فتاواه وأقواله (3)
وذكره أعلام المترجمين بكل ما يدل على مكانته العلمية، فقد أثنى عليه
السيد ابن طاووس، ووصفه الحر العاملي بأنه " عالم فقيه فاضل، محدث، ثقة "
وتحدث عنه الشيخ يوسف البحراني بقوله: " الفاضل، العالم، المعروف، كان من
أجل العلماء، ومشاهير الفضلاء " (4)
واعتبره الخونساري به: " من أجلاء أصحابنا
المتقدمين " (5)
وأورد ترجمته عمر رضا كحاله فوصفه بأنه: " فقيه مؤرخ " (6)
ومن هذه الفقرات المعدودة نستطيع أن نعرف مكانة مترجمنا العلمية
ومدى الثقة التي كان يتسم بها.
ودللت المصادر المترجمة له بأنه مؤلف قدير، له عدة كتب، فإلى جانب
كتاب (الاحتجاج) الذي نحن بصدده خلف الكتب التالية، وهي:
1 - الكافي في الفقه، أو (الكافي من فقه الشيعة).

(1) مهدي بن الحسن بن أبي الحرب المرعشي، عده المحقق الوحيد من أجلاء
الطائفة، ومن مشايخ الإجازة من مشايخ الطبرسي، وقد وصف بالعالم العابد العادل
الموثق، يروي عن الشيخ الصدوق أبي عبد الله جعفر بن محمد بن أحمد الدوريستي عن
أبيه عن الشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي. راجع (رجال
المامقاني: 261 - 3، وكشكول البحراني: 301 - 1)
(2) معالم العلماء: 25
(3) كشكول البحراني: 302 - 1، وأعيان الشيعة: 99 - 9
(4) كشكول البحراني: 301 - 302 - 1
(5)
روضات الجنات: 19 - 1
(6) معجم المؤلفين: 10 - 2
المقدمة 4

2 - تاريخ الأئمة عليهم السلام.
3 - فضل الزهراء عليها السلام.
وهذه الكتب وإن لم نعثر عليها فقد أورد ذكرها كل من ابن شهرآشوب
والشيخ عباس القمي، والسيد محسن الأمين العاملي، وعمر رضا كحاله،
وإسماعيل باشا (1).
4 - مفاخرة الطالبية.
وقد ذكر هذا الكتاب كل من ابن شهرآشوب. والسيد الأمين العاملي (2).
5 - كتاب الصلاة.
وانفرد بذكر هذا الكتاب ابن شهرآشوب (3).
6 - تاج المواليد.
وانفرد بذكر هذا الكتاب السيد محسن الأمين العاملي (4) وقال: " ينقل
عنه السيد النسابة أحمد بن محمد بن المهنا بن علي بن المهنا العبيدلي المعاصر للعلامة
الحلي في كتابه " تذكرة النسب " ولكن الشيخ أحمد بن أبي ظبية البحراني في
كتابه " عقد اللآل في مناقب النبي والآل " نسبه إلى أمين الإسلام أبي علي فضل
ابن الحسن الطبرسي صاحب التفسير، فقد وقع اشتباه في نسبة الكتاب المذكور
أما من العبيدلي، أو البحراني، وكونه من العبيدلي القريب من زمن المؤلف بعيد ".
ولقد وقع نظير هذا الاشتباه الذي يشير إليه المرحوم السيد الأمين، اشتباه
آخر في كتاب الاحتجاج نفسه.
فقد نسب بعض المؤلفين كتاب الاحتجاج إلى أبي علي الفضل بن الحسن
الطبرسي، صاحب تفسير مجمع البيان.

(1) راجع: معالم العلماء 25، والكنى والألقاب: 404 - 2، وأعيان الشيعة
100 - 9، ومعجم المؤلفين 10 - 2 وإيضاح المكنون: 213 - 1، 166 و 259 - 2
(2) معالم العلماء: 25، وأعيان الشيعة: 100 - 9
(3) معالم العلماء: 25
(4) أعيان الشيعة: 100 - 9
المقدمة 5

وفي صدد إثبات هذا الكتاب لأبي منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي قال
الشيخ يوسف البحراني: " ويظهر من كتاب المجلى لابن أبي جمهور الأحسائي
أن كتاب الاحتجاج للشيخ أبي الفضل الطبرسي. قال في أول البحار بعد نسبة
كتاب الاحتجاج لأحمد بن أبي طالب: وينسب هذا الكتاب إلى أبي علي الطبرسي
وهو خطأ، بل هو تأليف أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، كما
صرح به السيد ابن طاووس في كتاب كشف المحجة " (1).
وقال الخونساري: " وقد غلط صاحب الغوالي، والمحدث الأسترآبادي غلطا
فاحشا يبعد عن مثلهما غاية البعد في نسبة (كتاب الاحتجاج) إلى الشيخ أبي علي
الطبرسي صاحب التفسير، مع أن بينهما بونا بعيدا، وتصريح جمهور الأصحاب
وإسنادهم عنه وإليه على خلاف ذلك جدا " (2).
وقطع السيد الأمين بالاشتباه، وأضاف بأن صاحب رياض العلماء قال: قد
توهم بعضهم بأن الاحتجاج لصاحب مجمع البيان أبي علي الفضل الطبرسي، وهو
توهم فاسد " (3).
وأكد البحراني على صحة نسبة هذا الكتاب لأبي منصور أحمد بن علي
الطبرسي، ونقل عنه السيد الأمين عن اللؤلؤة قوله: " غلط جملة من متأخري
أصحابنا في نسبة كتاب الاحتجاج إلى أبي علي الطبرسي " (4).
وأدرج كل من الحجة الشيخ آغا بزرك الطهراني، وإسماعيل باشا، وعمر
رضا كحاله اسم هذا الكتاب في قائمة مؤلفات أبي منصور الطبرسي (5).
ولعل الاشتباه الذي نشأ مرجعه إلى اشتراكهما في لقب واحد، وعصر واحد
كما صرح بذلك الشيخ البحراني بقوله: " وإن كان عصرها متحدا، وهما شيخ

(1) الكشكول: 301 - 1
(2) روضات الجنات: 19 - 1
(3) أعيان الشيعة: 100 - 9
(4) الكشكول: 301 - 1 وأعيان الشيعة: 100 - 9
(5) الذريعة: 281 - 1 ومقدمة تفسير التبيان ه‍ - 1 ومعجم المؤلفين: 10 - 2
وإيضاح المكنون: 31 - 1
المقدمة 6

ابن شهرآشوب وأستاداه، وظني أن بينهما قرابة " (1).
وإذا كنا ونحن في صدد التفريق بين هاتين الشخصيتين لاشتراكهما في لقب واحد
فمن الجدير أن نذكر عددا من أعلام الشيعة يشتركون في هذه النسبة أيضا، وهم:
1 - أبو منصور، أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، والمعروف بصاحب
كتاب (الاحتجاج). وهو الذي نحن بصدد الحديث عنه.
2 - أبو علي، الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، صاحب (تفسير مجمع
البيان)، المتوفى سنة 548 ه‍.
3 - أبو نصر، الحسن بن الفضل بن الحسن، رضي الدين، صاحب كتاب
(مكارم الأخلاق وقد وصفته المصادر بأنه: كان فاضلا فقيها، محدثا جليلا.
4 - أبو الفضل، علي بن الحسن بن الفضل بن الحسن، صاحب كتاب
(مشكاة الأنوار) الذي ألفه تتميما لكتاب والده مكارم الأخلاق (2).
5 - أبو علي، محمد بن الفضل الطبرسي. هكذا ذكر الحر العاملي، ووصفه بأنه
" كان عالما صالحا عابدا، يروي ابن شهرآشوب عنه، عن تلامذة الشيخ الطوسي " (3).
6 - الشيخ حسن بن علي بن محمد علي بن الحسن الطبرسي، المعاصر
للخواجة نصير الدين الطوسي (4).
7 - الحاج ميرزا حسين بن العلامة محمد تقي النوري الطبرسي صاحب كتاب
(مستدرك الوسائل) المتوفى عام 1320.
وهناك عدد آخر ولكننا اخترنا المشهورين منهم.
والطبرسي: نسبة إلى طبرستان، وهي التي تعرف بمازندران، بل قد يقال:
طبرستان على جميع تلك البلاد، حتى يشمل استراباد، وجرجان، ونحوها،
وهي واقعة على طرف بحر الخزر، وتعرف ببحيرة طبرستان.

(1) الكشكول: 301 - 1، وأعيان الشيعة: 100 - 9
(2) راجع تراجم هؤلاء المذكورين في الكنى والألقاب 409 - 2
(3) أمل الآمل: مادة محمد
(4) أعيان الشيعة 98 - 9
المقدمة 7

وطبر: بالفارسية الفاس، وهي من كثرة اشتباك أشجارها لا يسلك فيها
الجيش إلا بعد أن يقطع بالطبر الأشجار من بين أيديهم.
وأستان: الناحية بالفارسي، فسميت طبرستان، أي ناحية الطبر.
ونقل عن صاحب تاريخ قم المعاصر لابن العميد: أن طبر معرب، وهي ناحية
معروفة بحوالي قم، وأن الطبرسي (أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي) وسائر
العلماء المعروفين قد كانوا أهل هذه الناحية (1).
والكتاب الذي نحن بصدده، يعتبر من المصادر المحترمة في بابه، ولعلنا
نستطيع من خلال الفقرات التي سنوردها - والتي تتضمن آراء الأعلام فيه - نلمس
مدى أهميته، ووزنه العلمي.
قال البحراني: " قال المجلسي في أول البحار إنه قال في الفصل الثاني: وكتاب
الاحتجاج وإن كان أكثر أخباره مراسيل لكنه من الكتب المعروفة، وقد أثنى
السيد ابن طاوس على الكتاب وقد أخذ عنه أكثر المتأخرين " (2).
وقال الخونساري: و " كتاب الاحتجاج معتبر معروف بين الطائفة، مشتمل
على كل ما اطلع عليه من احتجاجات النبي والأئمة، بل كثير من أصحابهم
الأمجاد مع جملة من الأشقياء المخالفين " (3).
وقال الشيخ آغا بزرك الطهراني: وفي الكتاب " احتجاجات النبي صلى الله عليه وآله
والأئمة عليهم السلام وبعض الصحابة، وبعض العلماء، وبعض الذرية الطاهرة، وأكثر
أحاديثه مراسيل إلا ما رواه عن تفسير العسكري عليه السلام، كما صرح به في أوله
بعد الخطبة، فهو من الكتب المعتبرة التي اعتمد عليها العلماء الأعلام: كالعلامة
المجلسي، والمحدث الحر، وأضرابهما " (4).
ومن خلال هذه الفقرات نستفيد بأن الكتاب بمجموعه موضع اعتماد الأعلام
والباحثين، بالرغم من أن أكثر أحاديثه مراسيل، إلا أن الثقة الكبيرة التي يتمتع

(1) كشكول البحراني 302 - 303 - 1 وأعيان الشيعة: 97 - 98 - 9
(2) الكشكول 301 - 1
(3) روضات الجنات: 19 - 1
(4) الذريعة: 281 - 1
المقدمة 8

بها مؤلف الكتاب، زرعت في نفوس المؤلفين الاعتماد عليه، والنقل عنه دون
تمحيص وتحقيق، وتدقيق في أسناد الأخبار والأحاديث.
أما البواعث التي دعت المؤلف لتأليف هذا الكتاب، فقد حدثنا الطبرسي
نفسه عنها، فقال:
" ثم إن الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب عدول جماعة من الأصحاب عن
طريق الحجاج جدا، وعن سبيل الجدال، وإن كان حقا وقولهم: " إن النبي صلى الله عليه وآله
والأئمة عليهم السلام لم يجادلوا قط، ولا استعملوه، ولا للشيعة فيه إجازة، بل نهوهم
عنه، وعابوه "، فرأيت عمل كتاب يحتوي على ذكر جمل من محاوراتهم في الفروع
والأصول مع أهل الخلاف، وذوي الفضول، وقد جادلوا فيها بالحق من الكلام،
وبلغوا غاية كل مرام، وأنهم عليهم السلام إنما نهوا عن ذلك الضعفاء والمساكين من أهل
القصور عن بيان الدين، دون المبرزين في الاحتجاج الغالبين لأهل اللجاج، فإنهم
كانوا مأمورين من قبلهم بمقاومة الخصوم، ومداولة الكلوم، فعلت بذلك منازلهم
وارتفعت درجاتهم وانتشرت فضائلهم " (1).
إذا فالمؤلف اندفع إلى تأليف هذا الكتاب بدافع العقيدة لينير للمتخبطين
بطريق الغواية، نور الهداية والخير، ويبسط ما وسعه المجال عن جميع ما يتعلق
بالنبي صلى الله عليه وآله وآل بيته عليهم السلام وأتباعهم، وليكشف لذوي اللجاج مدى المكانة
العالية، والمقام السامي، التي تتمتع بها هذه الصفوة.
أما منهج الطبرسي في تأليف كتابه الاحتجاج، فقد أوضحه لنا نفسه في
مقدمة كتابة المذكور " يقول:
" وأنا ابتدئ في صدر الكتاب بفصل ينطوي على ذكريات من القرآن التي
أمر الله تعالى بذلك أنبياءه بمحاجة ذوي العدوان، ويشتمل أيضا على عدة أخبار
في فضل الذابين عن دين الله القويم، وصراطه المستقيم بالحجج القاهرة، والبراهين
الباهرة، ثم نشرع في ذكر طرف من مجالات النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، وربما

(1) الاحتجاج: 4
المقدمة 9

يأتي في أثناء كلامهم كلام جماعة من الشيعة، حيث تقتضي الحال ذكره ولا
نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده إما لوجود الإجماع عليه أو موافقته
لما دلت العقول إليه، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف، إلا ما
أوردته عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال ليس في الاشتهار على حد ما سواه،
وإن كان مشتملا على مثل الذي قدمناه، فلأجل ذلك ذكرت إسناده في أول جزء
من ذلك دون غيره لأن جميع ما رويت عنه عليه السلام إنما رويته بإسناد واحد من
جملة الأخبار التي ذكرها عليه السلام في تفسيره " (1).
ولقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات في إيران والنجف، غير أن هذه الطبعة التي
بين أيدينا - وهي من نتاج مطبعة النعمان الغراء - قد تميزت عن سابقاتها بمميزات هامة.
أولا - من حيث التعليق والفهرسة:
فقد تصدى الأخ الفاضل السيد محمد باقر الخرسان لتحقيقها والتعليق عليها،
وترجمة الأعلام الواردة فيها، وشرح الكلمات اللغوية، ووضع فهارس لها بالإضافة
إلى تقسيمها جزئين. الأمر الذي دل على قابلية الأخ الخرسان في مضمار التحقيق
والتعليق، والجهد الذي صرفه في هذا الكتاب، والذي يبشر عن مستقبل زاهر يبعث بالأمل
والتقدير وإني أرجوا مخلصا له ذلك. ثانيا - من حيث الاخراج والطباعة:
وفي هذا المضمار أقدر للأخ الأديب حسن الشيخ إبراهيم صاحب مطبعة
النعمان اهتمامه الكبير في إخراج هذا الكتاب بهذه الحلة القشيبة، والطباعة الأنيقة
والتي يتجلى فيها كل مظاهر الخدمة الصادقة، والاخلاص العميق في إبراز هذه
الكتب بصورة تتناسب وهذا العصر الذي تقدمت فيه كل الأمور إلى الأحسن.
وفي الختام ادعوا الله عز وجل أن يوفق المعلق والناشر لخدمة الدين الإسلامي
ويأخذ بيدهما إلى ما يصبوان إليه من الجزاء الأوفر من محمد صلى الله عليه وآله وعلي وأنجاله
الغر الميامين الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا. وهو المسدد للصواب
النجف الأشرف في 18 / 12 / 1385 محمد السيد علي بحر العلوم

(1) الاحتجاج: 4
المقدمة 10

الإحتجاج
تأليف
أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب
الطبرسي
سنة 1385 هجرية سنة 1965 ميلادي
1

.....
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المتعالي عن صفات المخلوقين، المنزه عن نعوت الناعتين، المبرأ
مما لا يليق بوحدانيته، المرتفع عن الزوال والفناء بوجوب إلهيته، الذي استعبد
الخلائق بحمد ما تواتر عليهم من نعمائه، وترادف لديهم من حسن بلائه، وتتابع
من أياديه وعواطفه، وتفاقم من مواهبه وعوارفه، جم عن الاحصاء عددها،
وفاق عن الإحاطة بها مددها، وخرست ألسن الناطقين بالشكر عليها عن أداء ما
وجب من حقها لديها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة يثقل بها ميزان العارفين
وتبيض بها وجوههم يوم الدين، وأشهد أن محمدا عبده المصطفى ورسوله المجتبى
خاتم الرسل والأنبياء وسيد الخلائق كلهم والأصفياء، وأن وصيه علي بن أبي
طالب عليه السلام خير وصي وصي وخير إمام ولي، وأن عترته الطاهرة خير العترة الأئمة
الهادية الاثنا عشر أمناء الله في بلاده وحججه على عباده، بهم تمت علينا نعمته
وعلت كلمته، اختارهم للبرية إظهارا للطفه وحكمته وإنارة لأعلام عدله ورحمته
فانزاحت بهم علة العبيد، وزهق باطل كل مستكبر عنيد، بأن عصمهم من الذنوب
وبرأهم من العيوب حفظا منه للشرائع والأحكام، وسياسة لهم وهيبة لأهل المعاصي
والآثام، وزجرا عن التغاشم والتكالب، وردعا عن التظالم والتواثب، وتأديبا بهم
لأهل العتو والعدوان، ودفعا لما تدعو إليه دواعي الشيطان، ولم يهملهم سدى بلا
حجة فيهم معصوم إما ظاهر مشهور أو غائب مكتوم، لئلا يكون للناس على الله
حجة بعد الحجة، ولا يلتبس عليهم في دينه المحجة، ولم يجعل إليهم اختياره لعلمه
بأنهم لا يعلمون أسراره، ولأنه عز وجل متعال عن فعل شئ لا يجوز عليه مثل
تكليف ما لا يهتدي العباد إليه، وقد نزه نفسه عن أن يشرك به أحدا في الاختيار
3

حيث قال: " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " سبحان الله تعالى
عما يشركون.
ثم إن الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب عدول جماعة من الأصحاب عن
طريق الحجاج جدا وعن سبيل الجدال وإن كان حقا، وقولهم: " إن النبي صلى
الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام لم يجادلوا قط ولا استعملوه ولا للشيعة فيه إجازة بل
نهوهم عنه وعابوه "، فرأيت عمل كتاب يحتوي على ذكر جمل من محاوراتهم في
الفروع والأصول مع أهل الخلاف وذوي الفضول، قد جادلوا فيها بالحق من الكلام
وبلغوا غاية كل مرام، وأنهم عليهم السلام إنما نهوا عن ذلك الضعفاء والمساكين من أهل
القصور عن بيان الدين دون المبرزين في الاحتجاج الغالبين لأهل اللجاج، فإنهم
كانوا مأمورين من قبلهم بمقاومة الخصوم ومداولة الكلوم، فعلت بذلك منازلهم
وارتفعت درجاتهم وانتشرت فضائلهم. وأنا ابتدئ في صدر الكتاب بفصل ينطوي
على ذكر آيات من القرآن التي أمر الله تعالى بذلك أنبياءه بمحاجة ذوي العدوان
ويشتمل أيضا على عدة أخبار في فضل الذابين عن دين الله القويم وصراطه المستقيم
بالحجج القاهرة والبراهين الباهرة، ثم نشرع في ذكر طرف من مجادلات النبي
والأئمة عليه وعليهم السلام، وربما يأتي في أثناء كلامهم كلام جماعة من الشيعة
حيث تقتضي الحال ذكره، ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده إما
لوجود الإجماع عليه أو موافقته لما دلت العقول إليه أو لاشتهاره في السير والكتب
بين المخالف والمؤالف، إلا ما أوردته عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام، فإنه
ليس في الاشتهار على حد ما سواه وإن كان مشتملا على مثل الذي قدمناه،
فلأجل ذلك ذكرت إسناده في أول جزء من ذلك دون غيره، لأن جميع ما رويت
عنه عليه السلام إنما رويته بإسناد واحد من جملة الأخبار التي ذكرها عليه السلام في تفسيره.
والله المستعان فيما قصدناه وهو حسبي ونعم الوكيل.
4

فصل
" في ذكر طرف مما أمر الله في كتابه من الحجاج والجدال "
" بالتي هي أحسن وفضل أهله "
قال الله تبارك وتعالى في كتابه مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله: " وجادلهم
بالتي هي أحسن " (1).
وقال عز من قائل: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " (2)
وقال الله تعالى: " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم " الآية (3).
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام أيضا لما احتج علي على عبدة الكوكب
المعروف بالزهرة وعبدة الشمس والقمر جميعا بزوالها وانتقالها وطلوعها وأفولها
وعلى حدوثها وإثبات محدث لها وفاطر إياها: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت
السماوات والأرض وليكون من الموقنين " إلى قوله تعالى: " وتلك حجتنا آتيناها
إبراهيم على قومه " (4) وغير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالاحتجاج،
وسيأتي ذكر شرحها في مواضعها إنشاء الله تعالى.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " نحن المجادلون في دين الله
على لسان سبعين نبيا ".
وأما الأخبار في فضل العلماء فهي أكثر من أن تعد أو تحصى، لكنا
نذكر طرفا منها:
فمن ذلك ما حدثني به السيد العالم العابد أبو جعفر مهدي بن أبي حرب

(1) النحل: 125.
(2) العنكبوت: 46.
(3) البقرة: 258.
(4) الأنعام: 75 - 83.
5

الحسيني المرعشي (1) رضي الله عنه، قال حدثني الشيخ الصادق أبو عبد الله جعفر بن محمد
ابن أحمد الدوريستي (2) رحمة الله عليه، قال حدثني أبي محمد بن أحمد (3) قال حدثني
الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (4) رحمه الله، قال
حدثني أبو الحسن محمد بن القاسم المفسر الأسترآبادي (5)، قال حدثني أبو يعقوب
يوسف بن محمد بن زياد وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار (6) - وكانا من الشيعة

(1) السيد أبو جعفر مهدي بن أبي حرب الحسيني المرعشي عالم عابد، يروي
عنه الطبرسي صاحب الاحتجاج بحق روايته عن أبيه عن الصدوق محمد بن علي بن بابويه
ويروي هو عن جعفر بن محمد.. العيسى الدوريستي. أعيان الشيعة 48 / 121.
(2) أبو عبد الله جعفر بن محمد بن أحمد بن العباس الدوريستي الرازي من
أكابر علماء الإمامية، من بيت العلم والفضل، كثير الرواية، كان مشهورا في جميع
الفنون، معظما في الغاية عند نظام الملك الوزير. والدوريستى نسبة إلى دوريست قرية
من قرى الري يقال لها الآن (درشت) الكنى والألقاب 2 / 408.
(3) أبو جعفر محمد بن أحمد بن العباس العبسي الدوريستي من ولد حذيفة بن
اليمان العبسي الصحابي، يروي عن الصدوق ويروي عنه ولده جعفر بن محمد. أعيان
الشيعة 43 / 266.
(4) أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، شيخ الحفظة
رئيس المحدثين، ولد بدعاء مولانا صاحب الأمر عليه السلام، له نحو من ثلاثمائة مصنف
ورد بغداد سنة 355 وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن، مات بالري سنة 381
الكنى والألقاب 1 / 212.
(5) محمد بن القاسم الأسترآبادي المفسر، الراوي لتفسير الإمام العسكري عليه
السلام، شيخ ابن بابويه، روى عنه كثيرا في الفقيه والتوحيد وعيون أخبار الرضا عليه
السلام، وترضى عنه وترحم عليه شرح مشيخة الفقيه ص 100.
(6) أبو يعقوب يوسف بن محمد بن زياد وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار
قال الإمام العسكري عليه السلام لوالديهما: " خلفا على ولديكما لأفيدهما العلم الذي
يشرفهما الله تعالى به "، ومن هذا الكلام يظهر عظيم منزلتهما وثقتهما بعكس ما رماهما
بعضهم بالضعف لأن من علمه الإمام علما يشرفه الله تعالى به لا يعقل كونه غير عدل.
تنقيح المقال 2 / 305.
6

الإمامية - قالا حدثنا أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام، قال حدثني أبي
عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أشد من يتم اليتيم
الذي انقطع من أمه وأبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا
يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالما
بعلومنا، وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن
هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى (1).
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال: قال علي بن أبي
طالب عليه السلام: من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة
جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به (2) جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور
يضئ لجميع أهل العرصات، وحلة لا تقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها، ثم
ينادي مناد " يا عباد الله هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد، ألا فمن أخرجه
في الدنيا من حيرة جهله فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى
نزهة الجنان " فيخرج كل من كان علمه في الدنيا خيرا، أو فتح عن قلبه من
الجهل قفلا، أو أوضح له عن شبهة.
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام قال: قال الحسين
ابن علي (3) فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب (4) في رتبة
الجهل يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه

(1) الرفيق: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين. وفي بعض النسخ
" الرفيع الأعلى ".
(2) حبوناه: أعطيناه بلا عوض.
(3) في بعض النسخ " الحسن بن علي ".
(4) الناشب: الواقع فيما لا مخلص منه.
7

كفضل الشمس على السها.
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري قال: قال الحسين بن
علي عليهما السلام: من كفل لنا يتيما قطعته عنا محنتنا باستتارنا فواساه من علومنا التي
سقطت إليه حتى أرشده وهداه قال الله عز وجل: أيها العبد الكريم المواسي لأخيه
أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألف
ألف قصر وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعيم.
وبهذا الإسناد عنه عليه السلام قال: قال محمد بن علي الباقر عليهما السلام: العالم
كمن معه شمعة تضئ للناس، فكل من أبصر بشمعته دعا بخير، كذلك العالم معه
شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة، فكل من أضاءت له فخرج بها من حيرة أو نجا
بها من جهل فهو من عتقائه من النار، والله يعوضه عن ذلك لكل شعرة لمن أعتقه
ما هو أفضل له من الصدقة بمائة ألف قنطار (1) على الوجه الذي أمر الله عز وجل
به، بل تلك الصدقة وبال على صاحبها لكن يعطيه الله ما هو أفضل من مائة ألف
ركعة يصليها من بين يدي الكعبة.
وبهذا الإسناد عنه عليه السلام قال: قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام:
علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج
على ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته والنواصب، ألا فمن انتصب
لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة لأنه
يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم.
وعنه عليه السلام بالإسناد المتقدم قال: قال موسى بن جعفر عليهما السلام: فقيه
واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه

(1) القنطار: قيل هو ألف ومائتا أوقية، وقيل مائة وعشرون رطلا، وقيل هو
ملء مسك ثور ذهبا، وقيل ليس له وزن عند العرب، وفسر القنطار من الحسنات
في حديث مذكور في معاني الأخبار وغير بألف ومائتي أوقية، وأوقية أعظم من
جبل أحد.
8

أشد على إبليس من ألف (1) عابد لأن العابد همه ذات نفسه فقط وهذا همه مع
ذات نفسه ذوات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فلذلك هو أفضل
عند الله من ألف عابد وألف ألف عابدة.
وعنه عليه السلام قال: قال علي بن موسى الرضا عليهما السلام: يقال للعابد يوم
القيامة: " نعم الرجل كنت همتك ذات نفسك وكفيت مؤنتك فادخل الجنة ".
ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره وأنقذهم من أعدائهم ووفر عليهم نعم جنان
الله تعالى وحصل لهم رضوان الله تعالى، ويقال للفقيه: " يا أيها الكافل لأيتام آل
محمد الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لكل من أخذ عنك أو تعلم
منك "، فيقف فيدخل الجنة معه فئاما وفئاما وفئاما (2) - حتى قال عشرا - وهم الذين
أخذوا عنه علومه وأخذوا عمن أخذ عنه وعمن أخذ عمن أخذ عنه إلى يوم القيامة،
فانظروا كم صرف ما بين المنزلتين (3).
وعنه عليه السلام قال: قال محمد بن علي الجواد عليهما السلام: من تكفل بأيتام
آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم الأسارى في أيدي شياطينهم وفي
أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين
برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودلائل أئمتهم ليحفظوا عهد الله على العباد
بأفضل الموانع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على
السماء، وفضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء.
وعنه عليه السلام قال: قال علي بن محمد عليهما السلام: لولا من يبقى بعد غيبة
قائمكم عليه السلام من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله
والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي
أحد إلا ارتد عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما

(1) في بعض النسخ " ألف ألف عابد ".
(2) الفئام: الجماعة الكثيرة من الناس، وقد فسر في بعض الأحاديث بمائة ألف.
(3) الصرف: الفضل، يقال " لهذا صرف على هذا " أي فضل.
9

يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل.
وعنه عليه السلام قال: يأتي علماء شيعتنا القوامون بضعفاء محبينا وأهل ولايتنا
يوم القيامة والأنوار تسطع من تيجانهم، على رأس كل واحد منهم تاج بهاء قد
انبثت تلك الأنوار في عرصات القيامة ودورها مسيرة ثلاثمائة ألف سنة، فشعاع
تيجانهم ينبث فيها كلها فلا يبقى هناك يتيم قد كفلوه ومن ظلمة الجهل علموه
ومن حيرة التيه أخرجوه إلا تعلق بشعبة من أنوارهم، فرفعتهم إلى العلو حتى
تحاذي بهم فوق الجنان، ثم ينزلهم على منازلهم المعدة في جوار أستاديهم ومعلميهم
وبحضرة أئمتهم الذين كانوا إليهم يدعون، ولا يبقى ناصب من النواصب يصيبه
من شعاع تلك التيجان إلا عميت عينه وأصمت أذنه وأخرس لسانه وتحول عليه
أشد من لهب النيران، فيحملهم حتى يدفعهم إلى الزبانية فيدعونهم (1) إلى
سواء الجحيم.
وقال أيضا أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام: إن محبي آل محمد صلى الله
عليه وآله مساكين مواساتهم أفضل من مواساة مساكين الفقراء، وهم الذين سكنت
جوارحهم وضعفت قواهم من مقاتلة أعداء الله الذين يعيرونهم بدينهم ويسفهون
أحلامهم، ألا فمن قواهم بفقهه وعلمه حتى أزال مسكنتهم ثم يسلطهم على الأعداء
الظاهرين النواصب وعلى الأعداء الباطنين إبليس ومردته حتى يهزموهم عن دين
الله يذودوهم (2) عن أولياء آل رسول الله صلى الله عليه وآله حول الله تعالى تلك
المسكنة إلى شياطينهم فأعجزهم عن إضلالهم، قضى الله تعالى بذلك قضاءا حقا على
لسان رسول الله صلى الله عليه وآله.
وقال أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام: قال علي بن أبي
طالب عليه السلام من قوى مسكينا في دينه ضعيفا في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه (3)

(1) الدع: الدفع بعنف.
(2) الذود: الطرد والمنع.
(3) أفحمه: اسكته
10

لقنه الله تعالى يوم يدلى في قبره أن يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي،
والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني، فيقول الله: أدليت
بالحجة (1) فوجبت لك أعالي درجات الجنة، فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه
رياض الجنة.
وقال أبو محمد عليه السلام: قالت فاطمة عليها السلام وقد اختصم إليها امرأتان فتنازعتا
في شئ من أمر الدين إحداهما معاندة والأخرى مؤمنة ففتحت على المؤمنة حجتها
فاستظهرت على المعاندة ففرحت فرحا شديدا، فقالت فاطمة: إن فرح الملائكة
باستظهارك عليها أشد من فرحك، وإن حزن الشيطان ومردته بحزنها عنك أشد
من حزنها، وإن الله عز وجل قال للملائكة: أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه
المسكينة الأسيرة من الجنان ألف ألف ضعف مما كنت أعددت لها، واجعلوا هذه
سنة في كل من يفتح على أسير مسكين فيغلب معاندا مثل ألف ألف ما كان له معدا
من الجنان.
وقال أبو محمد عليه السلام: قال الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام وقد حمل إليه
رجل هدية فقال له: أيما أحب إليك أن أرد عليك بدلها عشرين ضعفا [عشرين
ضعفا عشرين ضعفا - يعني] (2) عشرين ألف درهم - أو أفتح لك بابا من العلم
تقهر فلانا الناصبي في قريتك تنقذ به ضعفاء أهل قريتك؟ أن أحسنت الاختيار
جمعت لك الأمرين، وإن أسأت الاختيار خيرتك لتأخذ أيهما شئت. فقال: يا بن
رسول الله فثوابي في قهري ذلك الناصب واستنقاذي لأولئك الضعفاء من يده
قدره عشرون ألف درهم؟ قال: بل أكثر من الدنيا عشرين ألف ألف مرة. قال:
يا بن رسول الله فكيف أختار الأدون بل أختار الأفضل، الكلمة التي أقهر بها
عدو الله وأذوده عن أوليائه. فقال الحسن بن علي عليهما السلام: قد أحسنت
الاختيار، وعلمه الكلمة وأعطاه عشرين ألف درهم، فذهب فأفحم الرجل، فاتصل

(1) أدلى بالحجة: أظهرها.
(2) هذه الزيادة ليست في بعض النسخ.
11

خبره به فقال له حين حضر معه: يا عبد الله ما ربح أحد مثل ربحك ولا اكتسب
أحد من الأوداء مثل ما اكتسبت مودة الله أولا ومودة محمد وعلي ثانيا ومودة
الطيبين من آلهما ثالثا ومودة ملائكة الله تعالى المقربين رابعا ومودة إخوانك
المؤمنين خامسا، واكتسبت بعدد كل مؤمن وكافر ما هو أفضل من الدنيا ألف
مرة، فهنيئا لك هنيئا.
وقال أبو محمد عليه السلام: قال جعفر بن محمد عليهما السلام: من كان همه
في كسر النواصب عن المساكين من شيعتنا الموالين حمية لنا أهل البيت يكسرهم
عنهم ويكشف عن مخازيهم ويبين عوارهم (1) ويفخم أمر محمد وآله جعل الله
تعالى همة أملاك الجنان في بناء قصوره ودوره، يستعمل بكل حرف من حروف
حججه على أعداء الله أكثر من عدد أهل الدنيا أملاكا، قوة كل واحد يفضل
عن حمل السماوات والأرضين، فكم من بناء وكم من نعمة وكم من قصور لا يعرف
قدرها إلا رب العالمين.
وقال أبو محمد عليه السلام: قال علي بن موسى الرضا عليهما السلام:
أفضل ما يقدمه العالم من محبينا وموالينا أمامه ليوم فقره وفاقته وذله ومسكنته
أن يغيث في الدنيا مسكينا من محبينا من يد ناصب عدو لله ولرسوله، يقوم من قبره
والملائكة صفوف من شفير قبره إلى موضع محله من جنان الله، فيحملونه على
أجنحتهم يقولون له: مرحبا طوباك طوباك (2) يا دافع الكلاب عن الأبرار ويا أيها
المتعصب للأئمة الأخيار.
وقال أبو محمد لبعض تلامذته - لما اجتمع إليه قوم من مواليه والمحبين
لآل محمد رسول الله بحضرته وقالوا: يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله إن لنا جارا من
النصاب يؤذينا ويحتج علينا في تفضيل الأول والثاني والثالث على أمير المؤمنين عليه السلام
ويورد علينا حججا لا ندري كيف الجواب عنها والخروج منها -: مر بهؤلاء إذا

(1) عوارهم: عيوبهم.
(2) طوباك: طوبى لك، وطوبى اسم للجنة، وقيل شجرة فيها.
12

كانوا مجتمعين يتكلمون فتستمع عليهم فسيستدعون منك الكلام فتكلم وافحم
صاحبهم واكسر عربه (1) وفل حده (2) ولا تبق له باقية، فذهب الرجل وحضر
الموضع وحضروا وكلم الرجل فأفحمه وصيره لا يدري في السماء هو أو في الأرض.
قالوا: ووقع علينا من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وعلى الرجل
والمتعصبين له من الغم والحزن مثل ما لحقنا من السرور. فلما رجعنا إلى الإمام
قال لنا: إن الذين في السماوات لحقهم من الفرح والطرب بكسر هذا العدو لله كان
أكثر مما كان بحضرتكم، والذي كان بحضرة إبليس وعتاة مردته من الشياطين
من الحزن والغم أشد مما كان بحضرتهم، ولقد صلى على هذا العبد الكاسر له
ملائكة السماء والحجب والعرش والكرسي، وقابلهما الله تعالى بالإجابة فأكرم إيابه
وعظم ثوابه، ولقد لعنت تلك الأملاك عدو الله المكسور وقابلها الله بالإجابة فشدد
حسابه وأطال عذابه.

(1) عربه: حدته، وفي بعض النسخ " عرنينه " وهو أول الأنف تحت
مجتمع الحاجبين.
(2) فل حده: مثل حد سيفه، وهو كناية عن كسر الشوكة.
13

فصل
" في ذكر طرف مما جاء عن النبي (ص) من الجدال والمحاجة والمناظرة "
" وما يجري مجرى ذلك مع من خالف الإسلام وغيرهم "
قال أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام: ذكر عند الصادق عليه السلام
الجدال في الدين وأن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام قد نهوا عنه، فقال
الصادق عليه السلام: لم ينه عنه مطلقا، ولكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أما
تسمعون الله يقول: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " (1) وقوله:
" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " (2)
فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين، والجدال بغير التي هي أحسن
محرم حرمه الله على شيعتنا، وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول: " وقالوا
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " (3) وقال الله تعالى: " تلك
أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " (3) فجعل الله علم الصدق والإيمان
بالبرهان، وهل يؤتي ببرهان إلا بالجدال بالتي هي أحسن.
قيل: يا بن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن وبالتي ليست بأحسن؟ قال: أما
الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجادل به مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد
نصبها الله ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد بذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد
ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة لأنك لا تدري كيف المخلص منه،
فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين، أما
المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف في يده حجة له

(1)
العنكبوت: 46.
(2) النحل: 125
(3) البقرة: 111.
14

على باطله، وأما الضعفاء منكم فتغم قلوبهم (1) لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل.
وأما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به من
جحد البعث بعد الموت وإحياءه له، فقال الله له حاكيا عنه: " وضرب لنا مثلا
ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم " فقال الله تعالى في الرد عليه: " قل
[يا محمد] يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. الذي جعل لكم من
الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون " (2) إلى آخر السورة، فأراد الله من
نبيه أن يجادل المبطل الذي قال: كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم؟
فقال الله تعالى: قل " يحييها الذي أنشأها أول مرة " أفيعجز من ابتدأ به لا من
شئ أن يعيده بعد أن يبلى بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته، ثم قال " الذي
جعل لكم من الشجر الأخضر نارا " أي إذا أكمن النار الحارة في الشجر الأخضر
الرطب ثم يستخرجها فعرفكم أنه على إعادة ما بلى أقدر، ثم قال " أوليس الذي
خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم " (3) أي
إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه
من إعادة البالي، فكيف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم والأصعب لديكم
ولم تجوزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي.
قال الصادق عليه السلام: فهو الجدال بالتي هي أحسن، لأن فيها قطع عذر الكافرين
وإزالة شبههم. وأما الجدال بغير التي هي أحسن فإن تجحد حقا لا يمكنك أن
تفرق بينه وبين باطل من تجادله، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق، فهذا
هو المحرم لأنك مثله جحد هو حقا وجحدت أنت حقا آخر.
وقال أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام: فقام إليه رجل آخر وقال: يا بن
رسول الله صلى الله عليه وآله أفجادل رسول الله؟ فقال الصادق عليه السلام: مهما ظننت برسول الله من شئ
فلا تظنن به مخالفة الله، أليس الله قد قال: " وجادلهم بالتي هي أحسن " و " قل يحييها
الذي أنشأها أول مرة " لمن ضرب الله مثلا، أفتظن أن رسول الله صلى الله عليه وآله خالف ما أمر

(1) تغم قلوبهم: تغطي قلوبهم.
(2) يس 78 - 80.
(3) يس: 81.
15

الله به فلم يجادل بما أمره الله به ولم يخبر عن أمر الله بما أمره أن يخبر به، ولقد
حدثني أبي الباقر عن جدي علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي سيد الشهداء
عن أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أنه اجتمع يوما عند رسول الله صلى الله عليه وآله أهل
خمسة أديان: اليهود، والنصارى، والدهرية، والثنوية، ومشركو العرب (1).
فقالت اليهود: نحن نقول عزير ابن الله، وقد جئناك يا محمد لننظر ما تقول
فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.
وقالت النصارى: نحن نقول إن المسيح ابن الله اتحد به، وقد جئناك لننظر
ما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.
وقالت الدهرية: نحن نقول إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة، وقد جئناك
لننظر فيما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن
خالفتنا خصمناك.
وقالت الثنوية: نحن نقول إن النور والظلمة هما المدبران. وقد جئناك
لننظر فيما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك، وإن خالفتنا خصمناك.
وقال مشركو العرب: نحن نقول إن أوثاننا آلهة، وقد جئناك لننظر
فيما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: آمنت بالله وحده لا شريك له وكفرت [بالجبت

(1) اليهود هم أتباع النبي موسى بن عمران عليه السلام وكتابهم المقدس هو
التوراة، والنصارى هم أتباع النبي عيسى بن مريم عليه السلام وكتابهم المقدس هو
الإنجيل، والدهرية هم الذين ينفون الرب والجنة والنار ويقولون وما يهلكنا إلا الدهر
وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت، والثنوية هم الذين يثبتون
مع القديم قديما غيره، قيل هم المجوس الذين يثبتون مبدأين مبدأ للخير ومبدأ للشر وهما النور
والظلمة ويقولون بنبوة إبراهيم الخليل عليه السلام، وقيل هم طائفة يقولون إن كل
مخلوق للخلق الأول. ومشركو العرب هم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم
ويعبدونها من دون الله تعالى ويعتقدون فيها أنها منشأ الخير والشر وواسطة بين العبد والرب.
16

والطاغوت و] (1) بكل معبود سواه.
ثم قال لهم: إن الله تعالى قد بعثني كافة للناس بشيرا ونذيرا وحجة على
العالمين، وسيرد كيد من يكيد دينه في نحره.
ثم قال لليهود: أجئتموني لأقبل قولكم بغير حجة؟ قالوا: لا. قال: فما
الذي دعاكم إلى القول بأن عزيرا ابن الله؟ قالوا: لأنه أحيى لبني إسرائيل التوراة
بعد ما ذهبت ولم يفعل بها هذا إلا لأنه ابنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فكيف صار عزير
ابن الله دون موسى وهو الذي جاء لهم بالتوراة ورؤي منه من المعجزات ما قد
علمتم. ولئن كان عزير بن الله لما ظهر من إكرامه بإحياء التوراة فلقد كان
موسى بالبنوة أولى وأحق، ولئن كان هذا المقدار من إكرامه لعزير يوجب له
أنه ابنه فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجل من البنوة، لأنكم إن
كنتم إنما تريدون بالبنوة الدلالة على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم من ولادة
الأمهات الأولاد بوطئ آبائهم لهن فقد كفرتم بالله وشبهتموه بخلقه وأوجبتم فيه
صفات المحدثين، فوجب عندكم أن يكون محدثا مخلوقا وأن يكون له خالق
صنعه وابتدعه.
قالوا: لسنا نعني هذا، فإن هذا كفر كما دللت لكنا نعني أنه ابنه على
معنى الكرامة وإن لم يكن هناك ولادة، كما قد يقول بعض علمائنا لمن يريد
إكرامه وإبانته بالمنزلة من غيره " يا بني " و " أنه ابني " لا على إثبات ولادته منه
لأنه قد يقول ذلك لمن هو أجنبي لا نسب له بينه وبينه، وكذلك لما فعل الله تعالى
بعزير ما فعل كان قد اتخذه ابنا على الكرامة لا على الولادة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فهذا ما قلته لكم إنه إن وجب على هذا الوجه أن يكون
عزير ابنه فإن هذه المنزلة بموسى أولى، وأن الله يفضح كل مبطل بإقراره ويقلب
عليه حجته، إن ما احتججتم به يؤديكم إلى ما هو أكثر مما ذكرته لكم، لأنكم
قلتم إن عظيما من عظمائكم قد يقول لأجنبي لا نسب بينه وبينه " يا بني " و " هذا

(1) الزيادة في بعض النسخ.
17

ابني " لا على طريق الولادة، فقد تجدون أيضا هذا العظيم لأجنبي آخر
" هذا أخي " ولآخر " هذا شيخي " و " أبي " ولآخر " هذا سيدي " و " يا سيدي "
على سبيل الإكرام، وإن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول، فإذا
يجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا له أو أبا أو سيدا لأنه قد زاده في الإكرام
مما لعزير، كما أن من زاد رجلا في الإكرام فقال له يا سيدي ويا شيخي ويا عمي
ويا رئيسي على طريق الإكرام، وأن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول،
أفيجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا أو عما أو رئيسا أو سيدا أو أميرا
لأنه قد زاده في الإكرام على من قال له يا شيخي أو يا سيدي أو يا عمي أو يا رئيسي
أو يا أميري؟
قال: فبهت القوم وتحيروا وقالوا: يا محمد أجلنا نتفكر فيما قد قلته لنا. فقال:
انظروا فيه بقلوب معتقدة للإنصاف يهدكم الله.
ثم أقبل على النصارى فقال لهم: وأنتم قلتم إن القديم عز وجل اتحد بالمسيح
ابنه، فما الذي أردتموه بهذا القول، أردتم أن القديم صار محدثا لوجود هذا المحدث
الذي هو عيسى، أو المحدث الذي هو عيسى صار قديما كوجود القديم الذي هو الله
أو معنى قولكم إنه اتحد به أنه اختصه بكرامة لم يكرم بها أحدا سواه، فإن أردتم
أن القديم صار محدثا فقد أبطلتم، لأن القديم محال أن ينقلب فيصير محدثا، وإن
أردتم أن المحدث صار قديما فقد أحلتم لأن المحدث أيضا محال أن يصير قديما،
وإن أردتم أنه اتحد به بأنه اختصه واصطفاه على سائر عباده فقد أقررتم بحدوث
عيسى وبحدوث المعنى الذي اتحد به من أجله، لأنه إذا كان عيسى محدثا وكان الله
اتحد به - بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده - فقد صار عيسى وذلك
المعنى محدثين، وهذا خلاف ما بدأتم تقولونه.
فقالت النصارى: يا محمد إن الله لما أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة
ما أظهر فقد اتخذه ولدا على جهة الكرامة.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي
18

ذكرتموه، ثم أعاد صلى الله عليه وآله ذلك كله، فسكتوا إلا رجلا واحدا منهم فقال له: يا محمد
أو لستم تقولون إن إبراهيم خليل الله؟ قال: قلنا ذلك. قال: فإذا قلتم ذلك
فلم منعتمونا من أن نقول إن عيسى ابن الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنهما لن يشتبها،
لأن قولنا إبراهيم خليل الله فإنما هو مشتق من الخلة والخلة إنما معناها الفقر
والفاقة، فقد كان خليلا إلى ربه فقيرا وإليه منقطعا وعن غيره متعففا معرضا مستغنيا،
وذلك لما أريد قذفه في النار فرمي به في المنجنيق فبعث الله جبرئيل فقال له:
أدرك عبدي، فجاء فلقيه في الهواء فقال له: كلفني ما بدا لك فقد بعثني الله لنصرتك.
فقال إبراهيم: حسبي الله ونعم الوكيل إني لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلا إليه،
فسماه خليله أي فقيره ومحتاجه والمنقطع إليه عمن سواه، وإذا جعل معنى ذلك
من الخلة وهو أنه قد تخلل معانيه ووقف على أسرار لم يقف عليها غيره كان الخليل
معناه العالم به وبأموره، ولا يوجب ذلك تشبيه الله بخلقه. ألا ترون أنه إذا لم ينقطع
إليه لم يكن خليله وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله، وأن من يلده الرجل وإن
أهانه وأقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده، لأن معنى الولادة قائم به.
ثم إن وجب لأنه قال لإبراهيم خليلي أن تقيسوا أنتم فتقولوا بأن عيسى ابنه
وجب أيضا كذلك أن تقولوا لموسى إنه ابنه، فإن الذي معه من المعجزات لم يكن
بدون ما كان مع عيسى، فقولوا إن موسى أيضا ابنه، وإن يجوز أن تقولوا على هذا
المعنى إنه شيخه وسيده وعمه ورئيسه وأميره كما قد ذكرته لليهود.
فقال بعضهم لبعض وفي الكتب المنزلة إن عيسى قال " أذهب إلى أبي وأبيكم "
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فإن كنتم بذلك الكتاب تعملون فإن فيه " أذهب إلى أبي وأبيكم "
فقولوا إن جميع الذين خاطبهم عيسى كانوا أبناء الله كما كان عيسى ابنه من الوجه
الذي كان عيسى ابنه، ثم إن ما في هذا الكتاب مبطل عليكم هذا الذي زعمتم أن
عيسى من وجهة الاختصاص كان ابنا له، لأنكم قلتم إنما قلنا إنه ابنه لأنه اختصه
بما لم يختص به غيره، وأنتم تعلمون أن الذي خص به عيسى لم يخص به هؤلاء
القوم الذين قال لهم عيسى " أذهب إلى أبي وأبيكم "، فبطل أن يكون الاختصاص
19

لعيسى، لأنه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى،
وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها، لأنه إذا قال " أذهب
إلى أبي وأبيكم " فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه، وما يدريكم لعله عنى
أذهب إلى آدم أو إلى نوح وأن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم وآدم أبي وأبيكم
وكذلك نوح، بل ما أراد غير هذا.
قال: فسكت النصارى وقالوا: ما رأينا كاليوم مجادلا ولا مخاصما مثلك
وسننظر في أمورنا.
ثم أقبل رسول الله على الدهرية فقال: وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول بأن
الأشياء لا بدو لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال؟ فقالوا: لأنا لا نحكم إلا بما نشاهد
ولم نجد للأشياء حدثا فحكمنا بأنها لم تزل، ولم نجد لها انقضاء وفناء فحكمنا
بأنها لا تزال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أفوجدتم لها قدما أم وجدتم لها بقاءا أبد الآبد.
فإن قلتم أنكم وجدتم ذلك أنهضتم لأنفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم
بلا نهاية ولا تزالون كذلك، ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذبكم العالمون
والذين يشاهدونكم.
قالوا: بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآبد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: فلم
صرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائما لأنكم لم تشاهدوا حدوثها، وانقضاؤها
أولى من تارك التميز لها مثلكم، فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع لأنه
لم يشاهد لها قدما ولا بقاءا أبد الآبد، أو لستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما
بعد الآخر؟ فقالوا: نعم. فقال: أترونهما لم يزالا ولا يزالان؟ فقالوا: نعم.
فقال: أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار؟ فقالوا: لا. فقال صلى الله عليه وآله فإذا منقطع
أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثاني جاريا بعده. قالوا: كذلك
هو. فقال: قد حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار لم تشاهدوهما فلا تنكروا
لله قدرته.
20

ثم قال صلى الله عليه وآله: أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناه أم غير متناه، فإن قلتم
إنه غير متناه فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوله، وإن قلتم متناه فقد كان ولا شئ
منهما. قالوا نعم. قال لهم: أقلتم إن العالم قديم غير محدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به
وبمعنى ما جحدتموه؟ قالوا: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: فهذا الذي تشاهدونه
من الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر لأنه لا قوام للبعض إلا بما يتصل به، كما
نرى البناء محتاجا بعض أجزائه إلى بعض وإلا لم يتسق ولم يستحكم وكذلك
سائر ما نرى.
وقال أيضا: فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوته وتمامه هو القديم
فأخبروني أن لو كان محدثا كيف كان يكون وماذا كانت تكون صفته؟ قال:
فبهتوا وعلموا أنهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلا وهي موجودة في هذا
الذي زعموا أنه قديم، فوجموا وقالوا: سننظر في أمرنا.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الثنوية الذين قالوا النور والظلمة هما المدبران
فقال: وأنتم فما الذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا؟ فقالوا: لأنا وجدنا العالم
صنفين خيرا وشرا، ووجدنا الخير ضدا للشر، فأنكرنا أن يكون فاعل واحد
يفعل الشئ وضده بل لكل واحد منهما فاعل، ألا ترى أن الثلج محال أن يسخن
كما أن النار محال أن تبرد، فأثبتنا لذلك صانعين قديمين ظلمة ونورا. فقال
لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: أفلستم قد وجدتم سوادا وبياضا وحمرة وصفرة وخضرة
وزرقة، وكل واحدة ضد لسائرها لاستحالة اجتماع مثلين منها في محل واحد
كما كان الحر والبرد ضدين لاستحالة اجتماعهما في محل واحد؟ قالوا: نعم قال
فهلا أثبتم بعدد كل لون صانعا قديما ليكون فاعل كل ضد من هذه الألوان غير
فاعل الضد الآخر؟ قال: فسكتوا.
ثم قال: فكيف اختلط النور والظلمة، وهذا من طبعه الصعود وهذه من
طبعها النزول، أرأيتم لو أن رجلا أخذ شرقا يمشي إليه والآخر غربا أكان
يجوز عندكم أن يلتقيا ما داما سائرين على وجههما؟ قالوا: لا. قال: فوجب
21

أن لا يختلط النور والظلمة لذهاب كل واحد منهما في غير جهة الآخر، فكيف
وجدتم حدث هذا العالم من امتزاج ما هو محال أن يمتزج بل هما مدبران
جميعا مخلوقان. فقالوا: سننظر في أمورنا.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على مشركي العرب فقال: وأنتم فلم عبدتم
الأصنام من دون الله؟ فقالوا: نتقرب بذلك إلى الله تعالى. فقال لهم: أو هي
سامعة مطيعة لربها عابدة له حتى تتقربوا بتعظيمها إلى الله؟ قالوا: لا. قال:
فأنتم الذين نحتموها بأيديكم؟ قالوا: نعم. قال: فلأن تعبدكم هي لو كان يجوز
منها العبادة أحرى من أن تعبدوها، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف
بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلفكم.
قال: فلما قال رسول الله صلى الله عليه وآله هذا القول اختلفوا فقال بعضهم: إن الله
قد حل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا
تلك الصور التي حل فيها ربنا، وقال آخرون منهم: إن هذه صور أقوام سلفوا
كانوا مطيعين لله قبلنا فمثلنا صورهم وعبدناها تعظيما لله، وقال آخرون منهم:
إن الله لما خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له [فسجدوه تقربا بالله] كنا نحن
أحق بالسجود لآدم [إلى الله] من الملائكة، ففاتنا ذلك فصورنا صورته فسجدنا
لها تقربا إلى الله كما تقربت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله تعالى، وكما أمرتم
بالسجود بزعمكم إلى جهة مكة ففعلتم ثم نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم
محاريب (1) سجدتم إليها وقصدتم الكعبة لا محاريبكم وقصدتم بالكعبة إلى الله
عز وجل لا إليها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أخطأتم الطريق وضللتم، أما أنتم - وهو صلى الله عليه وآله

(1) محاريب جمع محراب، ومحراب المسجد قيل سمي بذلك لأنه موضع محاربة
الشيطان والهوى، وقيل بل المحراب أصله في المسجد، وهو اسم خص به صدر المجلس
فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد. وكان هذا أصح قال تعالى: " يعملون
له ما يشاء من محاريب وتماثيل ".
22

يخاطب الذين قالوا إن الله يحل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة التي صورناها
فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا لتلك الصور التي حل فيها ربنا - فقد وصفتم
ربكم بصفة المخلوقات، أو يحل ربكم في شئ حتى يحيط به ذاك الشئ، فأي
فرق بينه إذا وبين سائر ما يحل فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه وخشونته وثقله
وخفته، ولم صار هذا المحلول فيه محدثا قديما دون أن يكون ذلك محدثا
وهذا قديما، وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال وهو عز وجل
كان لم يزل، وإذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه
بالزوال، وما وصفتموه بالزوال والحدوث فصفوه بالفناء، لأن ذلك أجمع من
صفات الحال والمحلول فيه، وجميع ذلك متغير الذات، فإن كان لم يتغير ذات
الباري تعالى بحلوله في شئ جاز أن لا يتغير بأن يتحرك ويسكن ويسود ويبيض
ويحمر ويصفر وتحله الصفات التي تتعاقب على الموصوف بها حتى يكون فيه جميع
صفات المحدثين ويكون محدثا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ثم قال رسول
الله صلى الله عليه وآله: فإذا بطل ما ظننتموه من أن الله يحل في شئ فقد فسد ما بنيتم عليه
قولكم. قال: فسكت القوم وقالوا: سننظر في أمورنا.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الفريق الثاني فقال: أخبرونا عنكم إذا عبدتم
صور من كان يعبد الله فسجدتم لها وصليتم فوضعتم الوجوه الكريمة على التراب
بالسجود لها فما الذي أبقيتم لرب العالمين، أما علمتم أن من حق من يلزم تعظيمه
وعبادته أن لا يساوي به عبده، أرأيتم ملكا أو عظيما إذا سويتموه بعبده في التعظيم
والخضوع والخشوع أيكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيم
الصغير؟ فقالوا: نعم. قال: أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظمون الله بتعظيم صور
عباده المطيعين له تزرون (1) على رب العالمين. قال: فسكت القوم بعد أن
قالوا: سننظر في أمرنا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله للفريق الثالث: لقد ضربتم لنا مثلا وشبهتمونا

(1) تزرون: تعيبون وتعاتبون.
23

بأنفسكم ولسنا سواء، وذلك إنا عباد الله مخلوقون مربوبون نأتمر له فيها أمرنا
وننزجر عما زجرنا ونعبده من حيث يريده منا، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه
ولم نتعد إلى غيره مما لم يأمرنا ولم يأذن لنا، لأنا لا ندري لعله إن أراد منا الأول
فهو يكره الثاني، وقد نهانا أن نتقدم بين يديه، فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه
إلى الكعبة أطعناه، ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان التي تكون
بها فأطعناه، ولم نخرج في شئ من ذلك من اتباع أمره، والله حيث أمر
بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره، فليس لكم أن تقيسوا
ذلك عليه لأنكم لا تدرون لعله يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به.
ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله أرأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوما بعينه
ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره، أو لكم أن تدخلوا دارا له أخرى مثلها
بغير أمره، أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه أو عبدا من عبيده أو دابة من دوابه
ألكم أن تأخذوا ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فإن لم تأخذوه ألكم أخذ آخر مثله؟
قالوا: لا لأنه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن في الأول. قال صلى الله عليه وآله: فأخبروني
الله أولى بأن لا يتقدم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين؟ قالوا: بل الله
أولى بأن لا يتصرف في ملكه بغير إذنه، قال: فلم فعلتم ومتى أمركم بالسجود
أن تسجدوا لهذه الصور؟ قال فقال القوم: سننظر في أمورنا وسكتوا.
وقال الصادق عليه السلام: فوالذي بعثه بالحق نبيا ما أتت على جماعتهم إلا ثلاثة
أيام حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فأسلموا، وكانوا خمسة وعشرين رجلا من كل
فرقة خمسة وقالوا: ما رأينا مثل حجتك يا محمد نشهد أنك رسول الله.
" احتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جماعة من المشركين "
وقال الصادق عليه السلام: قال أمير المؤمنين عليه السلام: أنزل الله " الحمد
لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم
24

يعدلون " (1) الآية. وكان في هذه الآية رد على ثلاثة أصناف منهم لما قال
" الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض " فكان ردا على الدهرية الذين قالوا:
إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة. ثم قال " وجعل الظلمات والنور " فكان ردا على
الثنوية الذين قالوا: إن النور والظلمة هما مدبران. ثم قال: " ثم الذين كفروا
بربهم يعدلون " فكان ردا على مشركي العرب الذين قالوا: إن أوثاننا آلهة.
ثم نزل الله " قل هو الله أحد " إلى آخرها، فكان ردا على من ادعى من دون
الله ضدا أو ندا.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: قولوا " إياك نعبد " أي نعبد واحدا
لا نقول كما قالت الدهرية إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة، ولا كما قالت
الثنوية إن النور والظلمة هما المدبران، ولا كما قال مشركو العرب إن أوثاننا
آلهة فلا نشرك بك شيئا ولا ندعو من دونك إلها كما يقول هؤلاء الكفار ولا
نقول كما قالت اليهود والنصارى إن لك ولدا تعاليت عن ذلك.
قال: فذلك قوله: " وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى "
وقالت طائفة غيرهم من هؤلاء الكفار ما قالوا، قال الله تعالى يا محمد " تلك أمانيهم "
التي يمنونها بلا حجة " قل هاتوا برهانكم " وحجتكم على دعواكم " إن كنتم
صادقين " كما أتى محمد ببراهينه التي سمعتموها. ثم قال " بلى من أسلم وجهه
لله " تعالى يعني كما فعل هؤلاء الذين آمنوا برسول الله لما سمعوا براهينه وحجته
" وهو محسن " في علمه " فله أجره " وثوابه " عند ربه " يوم فصل القضاء " ولا
ولا خوف عليهم " حين يخاف الكافرون مما يشاهدون من العقاب " ولا هم يحزنون " (2)
عند الموت لأن البشارة بالجنات تأتيهم.

(1) الأنعام: 1.
(2) البقرة: 111 - 112.
25

" احتجاج النبي صلى الله عليه وآله على جماعة من المشركين "
عن أبي محمد الحسن العسكري عليهما السلام أنه قال: قلت لأبي علي بن محمد عليه السلام
هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم؟ قال: بلى
مرارا كثيرة، منها ما حكى الله من قولهم: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام
ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك " إلى قوله " رجلا مسحورا " (1) وقالوا:
" لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " (2)
وقوله عز وجل:
" وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " إلى قوله " كتابا نقرؤه " (3)
ثم قيل له في آخر ذلك: لو كنت نبيا كموسى أنزلت علينا كسفا من السماء
ونزلت علينا الصاعقة في مسألتنا إليك لأن مسألتنا أشد من مسائل قوم موسى
لموسى عليه السلام.
قال: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان قاعدا ذات يوم بمكة بفناء الكعبة إذ
اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم الوليد بن المغيرة المخزومي وأبو البختري
ابن هشام وأبو جهل والعاص بن وائل السهمي وعبد الله بن أبي أمية المخزومي،
وكان معهم جمع ممن يليهم كثير ورسول الله صلى الله عليه وآله في نفر من أصحابه يقرأ عليهم
كتاب الله ويؤدي إليهم عن الله أمره ونهيه.
فقال المشركون بعضهم لبعض: لقد استفحل أمر محمد وعظم خطبه، فتعالوا
نبدأ بتقريعه وتبكيته وتوبيخه والاحتجاج عليه وإبطال ما جاء به ليهون خطبه
على أصحابه ويصغر قدره عندهم، فلعله ينزع عما هو فيه من غيه وباطله وتمرده
وطغيانه، فإن انتهى وإلا عاملناه بالسيف الباتر.
قال أبو جهل: فمن ذا الذي يلي كلامه ومجادلته؟ قال عبد الله بن أبي أمية

(1) الفرقان: 7 - 8
(2) الزخرف: 31.
(3) الإسراء: 90 - 93
26

المخزومي: أنا إلى ذلك، أفما ترضاني له قرنا حسيبا ومجادلا كفيا؟ قال أبو جهل
بلى، فأتوه بأجمعهم فابتدأ عبد الله بن أبي أمية المخزومي فقال: يا محمد لقد
ادعيت دعوى عظيمة وقلت مقالا هائلا، زعمت أنك رسول الله رب العالمين، وما
ينبغي لرب العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشر مثلنا تأكل
كما نأكل وتشرب كما نشرب وتمشي في الأسواق كما نمشي، فهذا ملك الروم
وهذا ملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير المال عظيم الحال له قصور ودور
وفساطيط وخيام وعبيد وخدام، ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده، ولو
كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده، بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان
إنما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا، ما أنت يا محمد إلا رجل مسحورا ولست بنبي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هل بقي من كلامك شئ؟ قال: بلى، لو أراد
الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجل من فيما بيننا أكثره مالا وأحسنه حالا، فهلا
أنزل هذا القرآن الذي تزعم أن الله أنزله عليك وابتعثك به رسولا على رجل من
القريتين عظيم أما الوليد بن المغيرة بمكة وأما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هل بقي من كلامك شئ يا عبد الله؟ فقال: بلى
لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا بمكة هذه، فإنها ذات أحجار وعروة
وجبال، تكسح أرضها (1) وتحفرها وتجرى فيها العيون، فإننا إلى ذلك محتاجون
أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتأكل منها وتطعمنا فتفجر الأنهار خلالها
خلال تلك النخيل والأعناب تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا (2)
فإنك قلت لنا " وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم " (3)
فلعلنا نقول ذلك.
ثم قال: أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، تأتي به وبهم وهم لنا مقابلون، أو

(1) نكسح أرضها: تقشرها من التراب.
(2) كسفا: قطعا قد ركب بعضها على بعض.
(3) الطور: 44. والمركوم: المتراكم الذي يجعل بعضه على بعض.
27

يكون لك بيت من زخرف تعطينا منه وتغنينا به فلعلنا نطغى، وأنك قلت لنا: " كلا
إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى " (1).
ثم قال: أو ترقى في السماء أي تصعد في السماء ولن نؤمن لرقيك أي لصعودك
حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه من الله العزيز الحكيم إلى عبد الله بن أبي أمية المخزومي
ومن معه بأن آمنوا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فإنه رسولي وصدقوه في
مقالة أنه من عندي، ثم لا أدري يا محمد إذا فعلت هذا كله أؤمن بك أو لا
أؤمن بك، بل لو رفعتنا إلى السماء وفتحت أبوابها وأدخلتناها لقلنا إنما سكرت
أبصارنا (2) وسحرتنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عبد الله أبقي شئ من كلامك؟ قال: يا محمد
أوليس فيما أوردته عليك كفاية وبلاغ، ما بقي شئ فقل ما بدا لك وافصح عن
نفسك إن كان لك حجة وأتنا بما سألناك به.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم أنت السامع لكل صوت والعالم بكل شئ تعلم
ما قاله عبادك، فأنزل الله عليه: يا محمد " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام "
إلى قوله " رجلا مسحورا " (3) ثم قال الله تعالى: " أنظر كيف ضربوا لك الأمثال
فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " (4) ثم قال: يا محمد " تبارك الذي أنشأ جعل لك
خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا " (5) وانزل
عليه: يا محمد " فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك " (6) الآية
وأنزل الله عليه: يا محمد " وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي
الأمر " إلى قوله " وللبسنا عليهم ما يلبسون " (7).

(1) العلق: 6 - 7
(2) سكرت أبصارنا: غطيت وغشيت عن النظر.
(3) الفرقان: 7 - 8.
(4) الإسراء: 48.
(5) الفرقان: 10.
(6) هود: 12.
(7) الأنعام: 8 - 9.
28

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عبد الله أما ذكرت من أني آكل الطعام
كما تأكلون وزعمت أنه لا يجوز لأجل هذا أن أكون لله رسولا فإنما الأمر لله
تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وهو محمود وليس لك ولا لأحد الاعتراض
عليه بلم وكيف، ألا ترى أن الله كيف أفقر بعضا وأغنى بعضا وأعز بعضا وأذل
بعضا وأصح بعضا وأسقم بعضا وشرف بعضا ووضع بعضا، وكلهم ممن يأكل الطعام،
ثم ليس للفقراء أن يقولوا " لم أفقرتنا وأغنيتهم " ولا للوضعاء أن يقولوا " لم
وضعتنا وشرفتهم " ولا للزمني (1) والضعفاء أن يقولوا " لم أزمنتنا وأضعفتنا
وصححتهم " ولا للأذلاء أن يقولوا " لم أذللتنا وأعززتهم " ولا لقباح الصور أن
يقولوا " لم قبحتنا وجملتهم " بل إن قالوا ذلك كانوا على ربهم رادين وله في
أحكامه منازعين وبه كافرين، ولكان جوابه لهم: أنا الملك الخافض الرافع
المغني المفقر المعز المذل المصحح المسقم وأنتم العبيد ليس لكم إلا التسليم لي
والانقياد لحكمي، فإن سلمتم كنتم عبادا مؤمنين وإن أبيتم كنتم بي كافرين
وبعقوباتي من الهالكين.
ثم أنزل الله عليه: يا محمد " قل إنما أنا بشر مثلكم " يعني آكل الطعام
" ويوحى إلي إنما إلهكم إله واحد " (2) يعني قل لهم أنا في البشرية مثلكم
ولكن ربي خصني بالنبوة دونكم كما يخص بعض البشر بالغنى والصحة والجمال
دون بعض من البشر، فلا تنكروا أن يخصني أيضا بالنبوة [دونكم].
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك " هذا ملك الروم وملك الفرس لا
يبعثان رسولا إلا كثير المال عظيم الحال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد
وخدام ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده " فإن الله له التدبير والحكم لا
يفعل على ظنك وحسبانك ولا باقتراحك بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو
محمود، يا عبد الله إنما بعث الله نبيه ليعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى ربهم ويكد (3)

(1) الزمنى: الذين ألم بهم المرض، المرضى.
(2) الكهف: 110.
(3) الكد: الالحاح والشدة في الطلب.
29

نفسه في ذلك آناء الليل ونهاره، فلو كان صاحب قصور يحتجب فيها وعبيد وخدم
يسترونه عن الناس أليس كانت الرسالة تضيع والأمور تتباطأ، أو ما ترى الملوك
إذا احتجوا كيف يجري الفساد والقبائح من حيث لا يعلمون به ولا يشعرون.
يا عبد الله إنما بعثني الله ولا مال لي ليعرفكم قدرته وقوته وأنه هو الناصر
لرسوله ولا تقدرون على قتله ولا منعه في رسالاته، فهذا بين في قدرته وفي عجزكم
وسوف يظفرني الله بكم فأسعكم قتلا وأسرا، ثم يظفرني الله ببلادكم ويستولي
عليها المؤمنون من دونكم ودون من يوافقكم على دينكم.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك لي: " لو كنت نبيا لكان معك ملك
صدقك ونشاهده، بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث ملكا لا بشرا
مثلنا " فالملك لا تشاهده حواسكم لأنه من جنس هذا الهواء لأعيان منه، ولو
شاهدتموه - بأن يزاد في قوى أبصاركم - لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر،
لأنه إنما كان يظهر لكم صورة البشر الذي ألفتموه لتفهموا عنه مقالته وتعرفوا
خطابه ومراده، فكيف كنتم تعلمون صدق الملك وأن ما يقوله حق، بل إنما
بعث الله بشرا وأظهر على يده المعجزات التي ليست في طبائع البشر الذين قد علمتم
ضمائر قلوبهم فتعلمون بعجزكم عما جاء به أنه معجزة وأن ذلك شهادة من الله
بالصدق له، ولو ظهر لكم ملك وظهر على يده ما [تعجزون عنه و] يعجز عنه
[جميع] البشر لم يكن في ذلك ما يدلكم أن ذلك ليس في طبائع سائر أجناسه
من الملائكة حتى يصير ذلك معجزا، ألا ترون أن الطيور التي تطير ليس ذلك منها
بمعجز لأن لها أجناسا يقع منها مثل طيرانها، ولو أن آدميا طار كطيرانها كان
ذلك معجزا، فإن الله عز وجل سهل عليكم الأمر وجعله بحيث تقوم عليكم حجته
وأنتم تقترحون عمل الصعب الذي لا حجة فيه.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك " ما أنت إلا رجل مسحور " فكيف
أكون كذلك وقد تعلمون أني في صحة التميز والعقل فوقكم، فهل جربتم علي
30

منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة خزية (1) أو زلة أو كذبة أو خيانة أو
خطأ من القول أو سفها من الرأي، أتظنون أن رجلا يعتصم طول هذه المدة بحول
نفسه وقوتها أو بحول الله وقوته، وذلك ما قال الله " انظر كيف ضربوا لك الأمثال
فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " إلى أن يثبتوا عليك عمى بحجة أكثر من دعاويهم
الباطلة التي تبين عليك تحصيل بطلانها.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك " لولا نزل هذا القرآن على رجل من
القريتين عظيم الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة [بن مسعود الثقفي] بالطائف "
فإن الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت ولا خطر له عنده كما له عندك
بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماء
وليس قسمة الله إليك بل الله هو القاسم للرحمات والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه
وليس هو عز وجل ممن يخاف أحد كما تخافه أنت لما له وحاله فعرفته بالنبوة
لذلك ولا ممن يطمع في أحد في ماله أو في حاله كما تطمع أنت فتخصه بالنبوة
لذلك، ولا ممن يحب أحدا محبة الهواء كما تحب أنت فتقدم من لا يستحق التقديم
وإنما معاملته بالعدل، فلا يؤثر إلا بالعدل لأفضل مراتب الدين وجلاله إلا الأفضل
في طاعته والأجد في خدمته، وكذلك لا يؤخر في مراتب الدين وجلاله إلا أشدهم
تباطأ عن طاعته، وإذا كان هذا صفته لم ينظر إلى مال ولا إلى حال بل هذا المال
والحال من تفضله، وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازب (2)، فلا يقال له
إذا تفضلت بالمال على عبد فلا بد أن تتفضل عليه بالنبوة أيضا لأنه ليس لأحد إكراهه
على خلاف مراده ولا إلزامه تفضلا لأنه تفضل قبله بنعمه.
ألا تري يا عبد الله كيف أغني واحدا وقبح صورته، وكيف حسن صورة
واحد وأفقره، وكيف شرف واحدا وأفقره، وكيف أغنى واحدا ووضعه. ثم
ليس لهذا الغني أن يقول " هلا أضيف إلى يساري جمال فلان " ولا للجميل أن

(1) وفي بعض النسخ " خربة " وهي العيب والعورة والذلة
(2) الضريبة: التي تؤخذ في الجزية ونحوها. واللازب: اللازم الشديد اللزوم.
31

يقول " هلا أضيف إلى جمالي مال فلان "، ولا للشريف أن يقول " هلا أضيف إلى
شرفي مال فلان " ولا للوضيع أن يقول " هلا أضيف إلى ضعتي شرف فلان "، ولكن
الحكم لله يقسم كيف يشاء ويفعل كما يشاء، وهو حكيم في أفعاله محمود في أعماله
وذلك قوله تعالى: " وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم "
قال الله تعالى " أهم يقسمون رحمة ربك " يا محمد " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في
الحياة الدنيا " (1) فأحوجنا بعضا إلى بعض، أحوج هذا إلى مال ذلك، وأحوج
ذلك إلى سلعة هذا وإلى خدمته. فترى أجل الملوك وأغنى الأغنياء محتاجا إلى
أفقر الفقراء في ضرب من الضروب: إما سلعة معه ليست معه، وإما خدمة يصلح
لها لا يتهيأ لذلك الملك أن يستغني إلا به، وإما باب من العلوم والحكم هو فقير
إلى أن يستفيدها من هذا الفقير، فهذا الفقير يحتاج إلى مال ذلك الملك الغني،
وذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته.
ثم ليس للملك أن يقول هلا اجتمع إلى مالي علم هذا الفقير، ولا للفقير
أن يقول هلا اجتمع على رأيي وعلمي وما أتصرف فيه من فنون الحكمة مال هذا
الملك الغني. ثم قال الله: " ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا
سخريا " ثم قال: يا محمد قل لهم " ورحمة ربك خير مما يجمعون " (2) أي ما
يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما قولك " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض
ينبوعا " إلى آخر قلته، فإنك قد اقترحت على محمد رسول الله أشياء: منها ما لو
جاءك به لم يكن برهانا لنبوته ورسول الله صلى الله عليه وآله يرتفع عن أن يغتنم جهل الجاهلين
ويحتج عليهم بما لا حجة فيه، ومنها ما لو جاءك به كان معه هلاكك، وإنما
يؤتى بالحجج والبراهين ليلزم عباد الله الإيمان بها لا ليهلكوا بها، فإنما اقترحت
هلاكك ورب العالمين أرحم بعباده وأعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كما تقترحون،
ومنها المحال الذي لا يصح ولا يجوز كونه ورسول رب العالمين يعرفك ذلك ويقطع

(1) الزخرف: 32.
(2) الزخرف: 32.
32

معاذيرك ويضيق عليك سبيل مخالفته، ويلجئك بحجج الله إلى تصديقه حتى لا
يكون لك عنه محيد ولا محيص، ومنها ما قد اعترفت على نفسك أنك فيه معاند
متمرد لا تقبل حجة ولا تصغي إلى برهان، ومن كان كذلك فدواؤه عذاب الله
النازل من سمائه أو في جحيمه أو بسيوف أوليائه.
فأما قولك يا عبد الله " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا بمكة
هذه فإنها ذات أحجار وصخور وجبال تكسح أرضها وتحفرها وتجري فيها العيون
فإننا إلى ذلك محتاجون " فإنك سألت هذا وأنت جاهل بدلائل الله. يا عبد الله
أرأيت لو فعلت هذا أكنت من أجل هذا نبيا؟ قال: لا. قال رسول الله: أرأيت
الطائف التي لك فيها بساتين أما كان هناك مواضع فاسدة صعبة أصلحتها وذللتها
وكسحتها وأجريت فيها عيونا استنبطتها؟ قال: بلى. قال: وهل لك في هذا
نظراء؟ قال: بلى. قال: فصرت أنت وهم بذلك أنبياء؟ قال: لا. قال:
فكذلك لا يصير هذا حجة لمحمد لو فعله على نبوته، فما هو إلا كقولك: لن
نؤمن لك حتى تقوم وتمشي على الأرض كما يمشي الناس أو حتى تأكل الطعام
كما يأكل الناس.
وأما قولك يا عبد الله " أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتأكل منها
وتطعمنا وتفجر الأنهار خلالها تفجيرا " أوليس لك ولأصحابك جنات من نخيل
وعنب بالطائف تأكلون وتطعمون منها وتفجرون الأنهار خلالها تفجيرا، أفصرتم
أنبياء بهذا؟ قال: لا. قال: فما بال اقتراحكم على رسول الله صلى الله عليه وآله أشياء لو
كانت كما تقترحون لما دلت على صدقه، بل لو تعاطاها لدل تعاطيها على كذبه
لأنه يحتج بما لا حجة فيه ويختدع الضعفاء عن عقولهم وأديانهم، ورسول رب
العالمين يجل ويرتفع عن هذا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عبد الله وأما قولك " أو تسقط السماء كما زعمت
علينا كسفا " فإنك قلت وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب
مركوم، فإن في سقوط السماء عليكم هلاككم وموتكم، فإنما تريد بهذا من
33

رسول الله صلى الله عليه وآله أن يهلكك ورسول رب العالمين أرحم من ذلك، لا يهلكك ولكنه
يقيم عليك حجج الله، وليس حجج الله لنبيه وحده على حسب اقتراح عباده،
لأن العباد جهال بما يجوز من الصلاح وما لا يجوز منه من الفساد، وقد يختلف
اقتراحهم ويتضاد حتى يستحيل وقوعه، والله عز وجل طبيبكم لا يجري تدبيره
على ما يلزم به المحال.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وهل رأيت يا عبد الله طبيبا كان دواؤه للمرضى
على حسب اقتراحهم، وإنما يفعل به ما يعلم صلاحه فيه أحبه العليل أو كرهه،
فأنتم المرضى والله طبيبكم، فإن انقدتم لدوائه شفاكم وإن تمردتم عليه أسقمكم.
وبعد فمتى رأيت يا عبد الله مدعي حق من قبل رجل أوجب عليه حاكم من
حكامهم فيما مضى بينة على دعواه على حسب اقتراح المدعى عليه، إذا ما
كان يثبت لأحد على أحد دعوى ولاحق، ولا كان بين ظالم ومظلوم ولا بين
صادق وكاذب فرق.
ثم قال رسول الله: يا عبد الله وأما قولك " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا
يقابلوننا ونعاينهم " فإن هذا من المحال الذي لا خفاء به، وأن ربنا عز وجل ليس
كالمخلوقين يجيء ويذهب ويتحرك ويقابل شيئا حتى يؤتى به، فقد سألتم
بهذا المحال، وإنما هذا الذي دعوت إليه صفة أصنامكم الضعيفة المنقوصة التي
لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم ولا تغني عنكم شيئا ولا عن أحد.
يا عبد الله أوليس لك ضياع وجنان بالطائف وعقار بمكة وقوام عليها؟
قال: بلى. قال أفتشاهد جميع أحوالها بنفسك أو بسفراء بينك وبين معامليك؟
قال: بسفراء. قال: أرأيت لو قال معاملوك وأكرتك (1) وخدمك لسفرائك لا
نصدقكم في هذه السفارة إلا أن تأتونا بعبد الله بن أبي أمية لنشاهده فنسمع ما
تقولون عنه شفاها، كنت تسوغهم هذا أو كان يجوز لهم عندك ذلك؟ قال: لا.
قال: فما الذي يجب على سفرائك أليس أن يأتوهم عنك بعلامة صحيحة تدلهم

(1) الأكرة: الأجراء والعمال.
34

على صدقهم يجب عليهم أن يصدقوهم؟ قال: بلى. قال: يا عبد الله أرأيت سفيرك
لو أنه لما سمع منهم هذا عاد إليك وقال لك قم معي فإنهم قد اقترحوا على
مجيئك معي أليس يكون هذا لك مخالفا وتقول له إنما أنت رسول لا مشير ولا آمر؟
قال: بلى. قال: فكيف صرت تقترح على رسول رب العالمين ما لا تسوغ لأكرتك
ومعامليك أن يقترحوه على رسولك إليهم، وكيف أردت من رسول رب العالمين
أن يستذم إلى ربه بأن يأمر عليه وينهى وأنت لا تسوغ مثل هذا على رسولك إلى
أكرتك وقوامك، هذه حجة قاطعة لإبطال جميع ما ذكرته في كل ما اقترحته
يا عبد الله.
وأما قولك يا عبد الله " أو يكون لك بيت من زخرف - وهو الذهب - " أما
بلغك أن لعظيم مصر بيوتا من زخرف؟ قال: بلى. قال: أفصار بذلك نبيا؟
قال: لا. قال: فكذلك لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وآله نبوة لو كان له بيوت، ومحمد
لا يغتنم جهلك بحجج الله.
وأما قولك يا عبد الله " أو ترقى في السماء " ثم قلت " ولن نؤمن لرقيك
حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " يا عبد الله الصعود إلى السماء أصعب من النزول عنها،
وإذا اعترفت على نفسك أنك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم النزول، ثم قلت
" حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه من بعد ذلك ثم لا أدري أؤمن بك أو لا أؤمن بك "
فأنت يا عبد الله مقر بأنك تعاند حجة الله عليك، فلا دواء لك إلا تأديبه لك على
يد أوليائه من البشر أو ملائكته الزبانية، وقد أنزل الله علي حكمة بالغة جامعة
لبطلان كل ما اقترحته فقال عز وجل: " قل " يا محمد " سبحان ربي هل كنت
إلا بشرا رسولا " (1) ما أبعد ربي عن أن يفعل الأشياء على ما يقترحه الجهال مما
يجوز ومما لا يجوز، وهل كنت إلا بشرا رسولا لا يلزمني إلا إقامة حجة الله التي
أعطاني، وليس لي أن آمر على ربي ولا أنهى ولا أشير فأكون كالرسول الذي
بعثه ملك إلى قوم من مخالفيه فرجع إليه يأمره أن يفعل بهم ما اقترحوه عليه.

(1) الإسراء: 93
35

فقال أبو جهل: يا محمد هاهنا واحدة ألست زعمت أن قوم موسى احترقوا
بالصاعقة لما سألوه أن يريهم الله جهرة؟ قال: بلى. قال: فلو كنت نبيا لاحترقنا
نحن أيضا، فقد سألنا أشد مما سأل قوم موسى، لأنهم كما زعمت قالوا " أرنا
الله جهرة " ونحن نقول: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا نعاينهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا جهل أما علمت قصة إبراهيم الخليل لما رفع
في الملكوت، وذلك قول ربي. " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض
وليكون من الموقنين " (1) قوي الله بصره لما رفعه دون السماء حتى أبصر
الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين، فرأى رجلا وامرأة على فاحشة فدعا عليهما بالهلاك
فهلكا، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك
فهلكا، ثم رأى آخرين فهم بالدعاء عليهما فأوحى الله إليه: يا إبراهيم اكفف دعوتك
عن عبادي وإمائي فإني أنا الغفور الرحيم الجبار الحليم لا يضرني ذنوب عبادي كما
لا تنفعني طاعتهم، ولست أسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك، فاكفف دعوتك عن عبادي
وإمائي فإنما أنت عبد نذير لا شريك في الملك ولا مهيمن علي ولا عبادي، وعبادي
معي بين خلال ثلاث: إما تابوا إلي فتبت عليهم وغفرت ذنوبهم وسترت عيوبهم، وإما
كففت عنهم عذابي لعلمي بأنه سيخرج من أصلابهم ذريات مؤمنون فارفق بالآباء
الكافرين وأتأني بالأمهات الكافرات وارفع عنهم عذابي ليخرج ذلك المؤمن من
أصلابهم فإذا تزايلوا حل بهم عذابي وحاق بهم بلائي، وإن لم يكن هذا ولا هذا
فإن الذي أعددته لهم من عذابي أعظم مما تريده بهم، فإن عذابي لعبادي على
حسب جلالي وكبريائي، يا إبراهيم خل بيني وبين عبادي فأنا أرحم بهم منك،
وخل بيني وبين عبادي فإني أنا الجبار الحليم العلام الحكيم أدبرهم بعلمي وأنفذ
فيهم قضائي وقدري.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا جهل إنما دفع عنك العذاب لعلمه بأنه
سيخرج من صلبك ذرية طيبة عكرمة ابنك، وسيلي من أمور المسلمين ما إن أطاع

(1) الأنعام: 75.
36

الله ورسوله فيه كان عند الله جليلا وإلا فالعذاب نازل عليك، وكذلك سائر
قريش السائلين لما سألوا من هذا إنما أمهلوا لأن الله علم أن بعضهم سيؤمن
بمحمد وينال به السعادة، فهو لا يقطعه عن تلك السعادة ولا يبخل بها عليه،
أو من يولد منه مؤمن فهو ينظر أباه لإيصال ابنه إلى السعادة، ولولا ذلك لنزل
العذاب بكافتكم. فانظر إلى السماء، فنظر فإذا أبوابها مفتحة وإذا النيران نازلة
منها مسامتة لرؤوس القوم (1) تدنو منهم حتى وجدوا حرها بين أكتافهم،
فارتعدت فرائص (2) أبي جهل والجماعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لاتروعنكم
فإن الله لا يهلككم بها وإنما أظهرها عبرة. ثم نظروا إلى السماء وإذا قد خرج
من ظهور الجماعة أنوار قابلتها ورفعتها ودفعتها حتى أعادتها في السماء كما جاءت منها،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن بعض هذه الأنوار أنوار من قد علم الله أنه سيسعده
بالإيمان بي منكم من بعد، وبعضها أنوار ذرية طيبة ستخرج من بعضكم ممن
لا يؤمن وهم يؤمنون.
وعن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: قيل لأمير المؤمنين يا أمير المؤمنين
هل كان لمحمد صلى الله عليه وآله آية مثل آية موسى في رفعه الجبل فوق رؤوس الممتنعين عن
قبول ما أمروا به؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أي والذي بعثه الله بالحق نبيا ما من
آية كانت لأحد من الأنبياء من لدن آدم إلى أن انتهى إلى محمد صلى الله عليه وآله
إلا وقد كان لمحمد مثلها أو أفضل منها، ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله نظير هذه
الآية إلى آيات آخر ظهرت له، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما أظهر
بمكة دعوته وأبان عن الله تعالى مراده رمته العرب عن قسي عداوتها بضروب
مكائدهم، ولقد قصدته يوما لأني كنت أول الناس إسلاما، بعث يوم الاثنين
وصليت معه يوم الثلاثاء، وبقيت معه أصلي سبع سنين حتى دخل نفر في الإسلام
وأيد الله تعالى دينه من بعد، فجاء قوم من المشركين فقالوا له: يا محمد تزعم

(1) مسامتة لرؤوس القوم: محاذية لرؤوسهم.
(2) الفرائص جمع الفريصة، وهي لحمة بين الثدي والكتف ترعد عند الفزع
37

أنك رسول رب العالمين، ثم إنك لا ترضى بذلك حتى تزعم أنك سيدهم وأفضلهم،
فلئن كنت نبيا فأتنا بآية كما تذكره من الأنبياء قبلك: مثل نوح الذي جاء
بالغرق ونجا في سفينته مع المؤمنين، وإبراهيم الذي ذكرت أن النار جعلت عليه
بردا وسلاما، وموسى الذي زعمت أن الجبل رفع فوق رؤوس أصحابه حتى انقادوا
لما دعاهم إليه صاغرين داخرين، وعيسى الذي كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون
في بيوتهم. وصار هؤلاء المشركين فرقا أربعة: هذه تقول أظهر لنا آية نوح،
وهذه تقول أظهر لنا آية موسى، وهذه تقول أظهر لنا آية إبراهيم، وهذه
تقول أظهر لنا آية عيسى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنما أنا نذير [وبشير] مبين أتيتكم بآية مبينة هذا القرآن
الذي تعجزون أنتم والأمم وسائر العرب عن معارضته وهو بلغتكم، فهو حجة
بينة عليكم، وما بعد ذلك فليس لي الاقتراح على ربي وما على الرسول إلا
البلاغ المبين إلى المقرين بحجة صدقه وآية حقه، وليس عليه أن يقترح بعد
قيام الحجة على ربه ما يقترحه عليه المقترحون الذين لا يعلمون هل الصلاح أو
الفساد فيما يقترحون.
فجاء جبرئيل فقال: يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول
لك: إني سأظهر لهم هذه الآيات وإنهم يكفرون بها إلا من أعصمه منهم،
ولكني أريهم ذلك زيادة في الإعذار والإيضاح لحججك، فقل لهؤلاء المقترحين
لآية نوح عليه السلام: امضوا إلى جبل أبي قبيس، فإذا بلغتم سفحه فسترون آية
نوح، فإذا غشيكم الهلاك فاعتصموا بهذا وبطفلين يكونان بين يديه. وقل للفريق
الثاني المقترحين لآية إبراهيم عليه السلام امضوا إلى حيث تريدون من ظاهر مكة،
فسترون آية إبراهيم في النار، فإذا غشيكم النار فسترون في الهواء امرأة قد
أرسلت طرف خمارها فتعلقوا به لتنجيكم من الهلكة وترد عنكم النار. وقل
للفريق الثالث [المقترحين لآية موسى: امضوا إلى ظل الكعبة] فسترون آية
موسى، وسينجيكم هناك عمي حمزة. وقل للفريق الرابع ورئيسهم أبو جهل:
38

وأنت يا أبا جهل فاثبت عندي ليتصل بك أخبار هؤلاء الفرق الثلاث، فإن الآية
التي اقترحتها تكون بحضرتي.
فقال أبو جهل للفرق الثلاث: قوموا فتفرقوا ليتبين لكم باطل قول محمد
صلى الله عليه وآله، فذهب الفريق الأول إلى جبل أبي قبيس والثاني إلى صحراء
ملساء والثالث إلى ظل الكعبة ورأوا ما وعدهم الله ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله مؤمنين،
وكلما رجع فريق منهم إليه وأخبروه بما شاهدوا ألزمه رسول الله صلى الله عليه وآله الإيمان بالله
فاستمهل أبو جهل إلى أن يجيء الفريق الآخر حسب ما أوردناه في الكتاب الموسوم
بمفاخر الفاطمية تركنا ذكره هاهنا طلبا للايجاز والاختصار.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: فلما جاءت الفرقة الثالثة وأخبروا بما شاهدوا
عيانا وهم مؤمنين بالله وبرسوله قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي جهل:
هذه الفرقة الثالثة قد جاءتك وأخبرتك بما شاهدت. فقال أبو جهل: لا أدري
أصدق هؤلاء أم كذبوا أم حقق لهم ذلك أم خيل إليهم، فإن رأيت أنا ما اقترحته
عليك من نحو آيات عيسى بن مريم فقد لزمني الإيمان بك وإلا فليس يلزمني
تصديق هؤلاء على كثرتهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا جهل فإن كان لا يلزمك تصديق
هؤلاء على كثرتهم وشدة تحصيلهم فكيف تصدق بمآثر آبائك وأجدادك ومساوئ
أسلاف أعدائك، وكيف تصدق على الصين والعراق والشام إذا حدثت عنها،
وهل المخبرون عن ذلك إلا دون هؤلاء المخبرين لك عن هذه الآيات مع سائر
من شاهدها معهم من الجمع الكثيف الذين لا يجتمعون على باطل يتخرصونه إلا إذا كان
بإزائهم من يكذبهم ويخبر بضد أخبارهم، ألا وكل فرقة محجوجون بما شاهدوا،
وأنت يا أبا جهل محجوج بما سمعت ممن شاهده.
ثم أخبره النبي صلى الله عليه وآله بما اقترح عليه من آيات عيسى من أكله لما أكل
وادخاره في بيته لما ادخر من دجاجة مشوية وإحياء الله تعالى إياها وإنطاقها بما
فعل بها أبو جهل وغير ذلك على ما جاء به في هذا الخبر، فلم يصدقه أبو جهل
39

في ذلك كله بل كان يكذبه وينكر جميع ما كان النبي صلى الله عليه وآله يخبره به من ذلك،
إلى أن قال النبي لأبي جهل: أما كفاك ما شاهدت أم تكون آمنا من عذاب الله.
قال أبو جهل: إني لأظن أن هذا تخييل وإيهام. فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله: فهل تفرق بين مشاهدتك لها وسماعك لكلامها - يعني الدجاجة المشوية
التي أنطقها الله له - وبين مشاهدتك لنفسك ولسائر قريش والعرب وسماعك
كلامهم؟ قال أبو جهل: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فما يدريك إذا أن جميع
ما تشاهد وتحس بحواسك تخييل. قال أبو جهل: ما هو تخييل. قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: ولا هذا تخييل، وإلا فكيف تصحح أنك ترى في العالم شيئا
أوثق منه - تمام الخبر.
" رسالة لأبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله لما هاجر إلى المدينة
والجواب عنها بالرواية عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام "
وهي أن قال: يا محمد إن الخيوط التي في رأسك هي التي ضيقت عليك مكة
ورمت بك إلى يثرب، وإنها لا تزال بك تنفرك وتحثك على ما يفسدك ويتلفك إلى
أن تفسدها على أهلها وتصليهم حر نار جهنم وتعديك طورك، وما أرى ذلك إلا
وسيؤول إلى أن تثور عليك قريش ثورة رجل واحد لقصد آثارك ودفع ضرك
وبلائك، فتلقاهم بسفهائك المغترين بك ويساعدك على ذلك من هو كافر بك
مبغض لك، فيلجئه إلى مساعدتك ومظافرتك خوفه لأن لا يهلك بهلاكك ويعطب
عياله بعطبك ويفتقر هو ومن يليه بفقرك وبفقر شيعتك، إذ يعتقدون أن أعداءك
إذا قهروك ودخلوا ديارهم عنوة لم يفرقوا بين من والاك وعاداك، واصطلموهم (1)
باصطلامهم لك وأتوا على عيالاتهم وأموالهم بالسبي والنهب كما يأتون على أموالك
وعيالك، وقد أعذر من أنذر وبالغ من أوضح.

(1) اصطلموهم: استأصلوهم.
40

وأديت هذه الرسالة إلى محمد وهو بظاهر المدينة بحضرة كافة أصحابه وعامة
الكفار من يهود بني إسرائيل، وهكذا أمر الرسول ليجبن المؤمنين ويغري
بالوثوب عليه سائر من هناك من الكافرين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للرسول: قد أطريت مقالتك واستكملت
رسالتك؟ قال: بلى. قال: فاسمع الجواب، إن أبا جهل بالمكاره والعطب
يتهددني ورب العالمين بالنصر والظفر يعدني، وخبر الله أصدق والقبول من الله
أحق، لن يضر محمدا من خذله أو يغضب عليه بعد أن ينصره الله ويتفضل بجوده
وكرمه عليه، قل له: يا أبا جهل إنك واصلتني بما ألقاه في خلدك الشيطان،
وأنا أجيبك بما ألقاه في خاطري الرحمن، إن الحرب بيننا وبينك كائنة إلى تسع
وعشرين يوما، وإن الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي، وستلقى أنت وشيبة وعتبة
والوليد وفلان وفلان - وذكر عددا من قريش - في قليب بدر مقتولين أقتل منكم
سبعين وآسر منكم سبعين وأحملهم على الفداء الثقيل.
ثم نادى جماعة من بحضرته من المؤمنين واليهود وسائر الاخلاط: ألا
تحبون أن أريكم [مصارع هؤلاء المذكورين و] مصرح كل واحد منهم [قالوا:
بلى. قال:] هلموا إلى بدر فإن هناك الملتقى والمحشر وهناك البلاء الأكبر
لأضع قدمي على مواضع مصارعهم، ثم ستجدونها لا تزيد ولا تنقص ولا تتغير ولا
تتقدم ولا تتأخر لحظة ولا قليلا ولا كثيرا فلم يخف ذلك على أحد منهم ولم يجبه
إلا علي بن أبي طالب عليه السلام وحده قال: نعم بسم الله. فقال الباقون: نحن نحتاج
إلى مركوب وآلات ونفقات ولا يمكننا الخروج إلى هناك وهو مسيرة أيام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لسائر اليهود: فأنتم ماذا تقولون؟
فقالوا: نحن نريد أن نستقر في بيوتنا ولا حاجة لنا في مشاهدة ما أنت في ادعائه
محيل (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا نصب لكم في المسير إلى هناك
اخطوا خطوة واحدة فإن الله يطوي الأرض لكم ويوصلكم في الخطوة الثانية إلى

(1) المحال من الكلام: ما عدل عن وجهه.
41

هناك. قال المسلمون: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله فلنشرف بهذه الآية،
وقال الكافرون والمنافقون: سوف نمتحن هذا الكذاب لينقطع عذر محمد ويصير
دعواه حجة عليه وفاضحة له في كذبه.
قال: فخطا القوم خطوة ثم الثانية فإذا هم عند بئر بدر، فتعجبوا فجاء
رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: اجعلوا البئر العلامة واذرعوا من عندها كذا
ذراع، فذرعوا فلما انتهوا إلى آخرها قال: هذا مصرع أبي جهل يجرحه فلان
الأنصاري ويجهز عليه عبد الله بن مسعود أضعف أصحابي.
ثم قال: اذرعوا من البئر من جانب آخر ثم من جانب آخر ثم من جانب
آخر كذا وكذا ذراعا وذراعا وذكر أعداد الأذرع مختلفة، فلما انتهى كل عدد
إلى آخره قال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا مصرع عتبة، وهذا مصرع
شيبة، وذاك مصرع الوليد، وسيقتل فلان وفلان إلى أن سمى سبعين منهم
بأسمائهم [وأسماء آبائهم]، وسيؤسر فلان وفلان إلى أن ذكر سبعين منهم
بأسمائهم وأسماء آبائهم وصفاتهم ونسب المنسوبين إلى أمهاتهم وآبائهم ونسب الموالي
منهم إلى مواليهم.
ثم قال صلى الله عليه وآله: أوقفتم على ما أخبرتكم به؟ قالوا: بلى. قال:
إن ذلك [من الله] لحق كائن بعد ثمانية وعشرين يوما في اليوم التاسع والعشرين
وعدا من الله مفعولا وقضاءا حتما لازما - تمام الخبر.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا معشر المسلمين واليهود اكتبوا
بما سمعتم. فقالوا: يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى. فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله: الكتابة أذكر لكم. فقالوا: يا رسول الله فأين الدواة
والكتف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ذلك للملائكة. ثم قال: يا
ملائكة ربي اكتبوا ما سمعتم من هذه القصة في الكتاب واجعلوا في كم كل واحد
منهم كتفا من ذلك.
ثم قال: يا معشر المسلمين تأملوا أكمامكم وما فيها واخرجوها واقرأوها،
42

فتأملوها وإذا في كم كل واحد منهم صحيفة قرأوها وإذا فيها ذكر ما قاله رسول
الله صلى الله عليه وآله في ذلك سواء لا يزيد ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر. فقال:
أغيضوها في أكمامكم تكن حجة عليكم وشرفا للمؤمنين منكم وحجة على أعدائكم
فكانت معهم، فلما كان يوم بدر جرت الأمور كلها ببدر كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله
لا يزيد ولا ينقص، قابلوها في كتبهم فوجدوها كما كتبها الملائكة لا تزيد ولا تنقص
ولا تتقدم ولا تتأخر، فقبل المسلمون ظاهرهم ووكلوا باطنهم إلى خالقهم.
" احتجاجه صلى الله عليه وآله وسلم على اليهود في جواز نسخ الشرائع
وفي غير ذلك "
قال أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام: لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة أمره
الله تعالى أن يتوجه نحو بيت المقدس في صلاته ويجعل الكعبة بينه وبينها إذا أمكن
وإذا لم يمكن استقبل بيت المقدس كيف كان، فكان رسول الله صلى الله عليه
وآله يفعل ذلك طول مقامه بها ثلاث عشرة سنة، فلما كان بالمدينة وكان متعبدا
باستقبال بيت المقدس استقبله وانحرف عن الكعبة سبعة عشر شهرا أو ستة عشر
شهرا، وجعل قوم من مردة اليهود يقولون: والله ما درى محمد كيف يصلي حتى
صار يتوجه إلى قبلتنا ويأخذ في صلاته بهدينا ونسكنا، فاشتد ذلك على رسول الله
صلى الله عليه وآله لما اتصل به عنهم وكره قبلتهم وأحب الكعبة فجاءه جبرئيل عليه السلام فقال له
رسول الله صلى الله عليه وآله: يا جبرئيل لوددت لو صرفني الله عن بيت المقدس إلى الكعبة
فقد تأذيت بما يتصل بي من قبل اليهود من قبلتهم. فقال جبرئيل عليه السلام: فاسأل
ربك أن يحولك إليها فإنه لا يردك عن طلبتك ولا يخيبك من بغيتك، فلما استتم؟؟
دعاءه صعد جبرئيل ثم عاد من ساعته فقال: اقرأ يا محمد " قد نرى تقلب وجهك
في السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم
فولوا وجوهكم شطره " (1) الآيات.

(1) البقرة:
.
43

فقال اليهود عند ذلك: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأجابهم الله
أحسن جواب فقال " قل لله المشرق والمغرب " وهو يملكهما وتكليفه التحويل
إلى جانب كتحويله لكم إلى جانب آخر " يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " (1)
وهو أعلم بمصلحتهم وتؤديهم طاعتهم إلى جنات النعيم.
قال أبو محمد عليه السلام: وجاء قوم من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا:
يا محمد هذه القبلة بيت المقدس قد صليت إليها أربعة عشر سنة ثم تركتها الآن،
أفحقا كان ما كنت عليه فقد تركته إلى باطل فإن ما يخالف الحق باطل، أو باطلا
كان ذلك فقد كنت عليه طول هذه المدة فما يؤمننا أن تكون الآن على باطل؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: بل ذلك كان حقا وهذا حق، يقول الله " قل لله
المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " إذا عرف صلاحكم أيها العباد
في استقبالكم المشرق أمركم به، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب
أمركم به، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به، فلا تنكروا تدبير الله
في عباده وقصده إلى مصالحكم.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لقد تركتم العمل يوم السبت ثم عملتم بعده سائر
الأيام، ثم تركتموه في السبت ثم عملتم بعده، أفتركتم الحق إلى الباطل أو
الباطل إلى الحق أو الباطل إلى الباطل أو الحق إلى الحق؟ قولوا كيف شئتم فهو قول
محمد وجوابه لكم. قالوا: بل ترك العمل في السبت حق والعمل بعده حق. فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حق ثم قبلة الكعبة في
وقته حق.
فقالوا له: يا محمد أفبدا لربك فيما كان أمرك به بزعمك من الصلاة إلى بيت
المقدس حتى نقلك إلى الكعبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما بدا له عن ذلك فإنه العالم
بالعواقب والقادر على المصالح لا يستدرك على نفسه غلطا ولا يستحدث رأيا بخلاف
المتقدم جل عن ذلك، ولا يقع عليه أيضا مانع يمنعه من مرادة، وليس يبدو

(1) البقرة: 142.
44

إلا لمن كان هذا وصفه، وهو عز وجل يتعالى عن هذه الصفات علوا كبيرا.
ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: أيها اليهود أخبروني عن الله أليس يمرض ثم
يصح ويصح ثم يمرض أبدا له في ذلك، أليس يحيي ويميت أبدا له في كل واحد
من ذلك؟ قالوا: لا. قال: فكذلك الله تعبد نبيه محمدا بالصلاة إلى الكعبة
بعد أن كان تعبده بالصلاة إلى بيت المقدس وما بدا له في الأول.
ثم قال: أليس الله يأتي بالشتاء في أثر الصيف والصيف في أثر الشتاء، أبدا له
في كل واحد من ذلك؟ قالوا: لا. قل: فكذلك لم يبدله في القبلة.
قال: ثم قال أليس قد ألزمكم في الشتاء أن تحترزوا من البرد بالثياب
الغليظة، وألزمكم في الصيف أن تحترزوا من الحر، أفبدا له في الصيف حين
أمركم بخلاف ما كان أمركم به في الشتاء؟ قالوا: لا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فكذلكم الله تعبدكم في وقت لصلاح يعلمه بشئ
ثم تعبدكم في وقت آخر لصلاح يعلمه بشئ آخر فإذا أطعتم الله في الحالتين
استحققتم ثوابه، فأنزل الله تعالى " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه
الله إن الله واسع عليم " (1) يعني إذا توجهتم بأمره فثم الوجه الذي تقصدون
منه الله وتأملون ثوابه.
ثم قال رسول الله: يا عباد الله أنتم كالمرضى والله رب العالمين كالطبيب،
فصلاح المرضى فيما يعمله الطبيب ويدبره به لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه.
ألا فسلموا لله أمره تكونوا من الفائزين.
فقيل: يا بن رسول الله فلم أمر بالقبلة الأولى؟ فقال: لما قال الله تعالى
" وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " وهي بيت المقدس " إلا لنعلم من يتبع
الرسول ممن ينقلب على عقبيه " (2) إلا لنعلم ذلك منه وجودا بعد أن علمناه
سيوجد، وذلك إن هوى أهل مكة كان في الكعبة فأراد الله أن يبين متبعي محمد
ممن خالفه باتباع القبلة التي كرهها ومحمد يأمر بها، ولما كان هوى أهل المدينة

(1) البقرة: 115.
(2) البقرة: 143.
45

في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجه إلى الكعبة ليبين من يوافق محمدا فيما
يكرهه، فهو مصدقه وموافقه.
ثم قال: " وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " إن كان التوجه
إلى بيت المقدس في ذلك الوقت لكبيرة إلا على من يهدي الله، فعرف أن لله أن
يتعبد بخلاف ما يريده المرء ليبتلي طاعته في مخالفة هواه.
وقال أبو محمد عليه السلام: قال جابر بن عبد الله الأنصاري: سأل رسول الله صلى الله عليه وآله
عبد الله بن صوريا غلام يهودي أعور تزعم اليهود أنه أعلم يهودي بكتاب الله وعلوم
أنبيائه عن مسائل كثيرة يعنته فيها (1) فأجابه عنها رسول الله صلى الله عليه وآله بما لم يجد
إلى إنكار شئ منه سبيلا.
فقال له: يا محمد من يأتيك بهذه الأخبار عن الله؟ قال: جبرئيل. قال: لو كان
غيره يأتيك بها لآمنت بك ولكن جبرئيل عدونا من بين الملائكة، فلو كان
ميكائيل أو غيره سوى جبرئيل يأتيك لآمنت بك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لم أتخذتم جبرئيل عدوا؟ قال: لأنه ينزل البلاء
والشدة على بني إسرائيل، ودفع دانيال عن قتل بخت نصر (2) حتى قوى
أمره وأهلك بني إسرائيل، وكذلك كل بأس وشدة لا ينزلها إلا جبرئيل،
وميكائيل يأتينا بالرحمة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ويحك أجهلت أمر الله وما ذنب جبرئيل إلا أن
أطاع الله فيما يريده بكم؟ أرأيتم ملك الموت هل هو عدوكم وقد وكله الله
بقبض أرواح الخلق، أرأيتم الآباء والأمهات إذا أوجروا الأولاد (3) الدواء

(1) يعنته فيها: يطلب زلته ويشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه أداؤه
(2) بخت أصله بوخت وهو بمعنى ابن، نصر اسم صنم كان قد وجد عنده
ولم يعرف له أب فنسب إليه، وخرب بيت المقدس وقتل من اليهود مقتلة عظيمة عندما
أصبح ملكا.
(3) أوجره: جعل الوجور في فيه. والوجور: الدواء يجعل في وسط الفم.
46

الكريهة لمصالحهم أيجب أن يتخذهم أولادهم أعداء من أجل ذلك، لا ولكنكم
بالله جاهلون وعن حكمه غافلون. أشهد أن جبرئيل وميكائيل بأمر الله عاملان
وله مطيعان، وأنه لا يعادي أحدهما إلا من عادى الآخر، وأن من زعم أنه
يحب أحدهما ويبغض الآخر فقد كفر وكذب، وكذلك محمد رسول الله وعلي
أخوان كما أن جبرئيل وميكائيل إخوان فمن أحبهما فهو من أولياء الله ومن
أبغضهما فهو من أعداء الله، ومن أبغض أحدهما وزعم أنه يحب الآخر فقد كذب
وهما منه بريئان والله تعالى وملائكته وخيار خلقه منه برآء.
وقال أبو محمد عليه السلام: كان سبب نزول قوله تعالى: " قل من كان عدوا
لجبرئيل " الآيتين (1) ما كان من اليهود أعداء الله من قول سئ في جبرئيل وميكائيل،
ومن كان من أعداء الله النصاب من قول أسوأ منه في الله وفي جبرئيل وميكائيل
وسائر ملائكة الله، أما ما كان من النصاب فهو أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما كان لا يزال
يقول في علي عليه السلام الفضائل التي خصه الله عز وجل بها والشرف الذي نحله الله (2)
تعالى وكان في كل ذلك يقول أخبرني به جبرئيل عليه السلام عن الله، ويقول في
بعض ذلك جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ويفتخر جبرئيل على ميكائيل
في أنه عن يمين علي عليه السلام الذي هو أفضل من اليسار كما يفتخر نديم ملك عظيم
في الدنيا يجلسه الملك عن يمينه على النديم الآخر الذي يجلسه على يساره،
ويفتخران على إسرافيل الذي خلفه بالخدمة وملك الموت الذي أقامه بالخدمة،
وأن اليمين واليسار أشرف من ذلك، كافتخار حاشية الملك على زيادة قرب
محلهم من ملكهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في بعض أحاديثه: إن الملائكة أشرفها عند الله
أشدها لعلي بن أبي طالب عليه السلام حبا، وأنه قسم الملائكة فيما بينها والذي شرف

(1) البقرة: 97 - 98
(2) نحله الله: وهب له الله. وفي بعض النسخ " أهله الله " ومعناه: رآه
أهلا لذلك.
47

عليا على جميع الورى بعد محمد المصطفى. ويقول مرة: إن ملائكة السماوات
والحجب ليشتاقون إلى رؤية علي بن أبي طالب عليه السلام كما تشتاق الوالدة الشفيقة
إلى ولدها البار الشفيق آخر من بقي عليها بعد عشرة دفنتهم، فكان هؤلاء النصاب
يقولون: إلى متى يقول محمد جبرئيل وميكائيل والملائكة كل ذلك تفخيم لعلي
وتعظيم لشأنه، ويقول الله تعالى لعلي خاص من دون سائر الخلق برئنا من رب
ومن ملائكة ومن جبرئيل ومن ميكائيل هم لعلي بعد محمد مفضلون وبرئنا من رسل
الله الذين هم لعلي بعد محمد مفضلون.
وأما ما قاله اليهود فهو إن اليهود أعداء الله، لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله المدينة
أتوه بعبد الله بن صوريا فقال: يا محمد كيف نومك فإنا قد أخبرنا عن نوم النبي
صلى الله عليه وآله الذي يأتي في آخر الزمان؟ فقال: تنام عيني وقلبي يقظان.
قال: صدقت يا محمد.
ثم قال: فأخبرني يا محمد الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال النبي
صلى الله عليه وآله: أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأما اللحم والدم والشعر فمن
المرأة. قال: صدقت يا محمد.
ثم قال: يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه ليس فيه من شبه أخواله شئ ويشبه
أخواله ليس فيه من شبه أعمامه شئ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أيهما علا ماؤه
ماء صاحبه كان الشبه له. قال: صدقت يا محمد، فأخبرني عمن لا يولد له ومن يولد
له؟ فقال صلى الله عليه وآله: إذا مغرت النطفة لم يولد له - أي إذا حمرت وكدرت - فإذا
كانت صافية ولد له.
فقال: أخبرني عن ربك ما هو؟ فنزلت " قل هو الله أحد " إلى آخرها.
فقال ابن صوريا: صدقت خصلة بقيت لي إن قلتها آمنت بك واتبعتك: أي ملك
يأتيك بما تقوله عن الله؟ قال: جبرئيل. قال ابن صوريا: ذاك عدونا من بين
الملائكة ينزل بالقتل والشدة والحرب ورسولنا ميكائيل يأتي بالسرور والرخاء
فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك آمنا بك لأن ميكائيل كان مسدد ملكنا
48

وجبرئيل كان مهلك ملكنا، فهو عدونا لذلك.
فقال له سلمان الفارسي رضي الله عنه: وما بدء عداوته لكم؟ قال: نعم
يا سلمان عادانا مرارا كثيرة، وكان من أشد ذلك علينا أن الله أنزل على أنبيائه
أن بيت المقدس يخرب على يد رجل يقال (بخت نصر) وفي زمانه، وأخبرنا
بالحين الذي يخرب فيه، والله يحدث الأمر بعد الأمر فيمحو ما يشاء ويثبت،
فلما بلغنا ذلك الخبر الذي يكون فيه هلاك بيت المقدس بعث أوائلنا رجلا من
أقوياء بني إسرائيل وأفاضلهم نبيا كان يعد من أنبيائهم يقال له (دانيال) في طلب
بخت نصر، ليقتله فحمل معه وقر مال (1) لينفقه في ذلك، فلما انطلق في
طلبه لقيه ببابل غلاما ضعيفا مسكينا ليس له قوة ولا منعة، فأخذه صاحبنا
ليقتله فدفع عنه جبرائيل وقال لصاحبنا: إن كان ربكم هو الذي أمر بهلاككم فإن
الله لا يسلطك عليه وإن لم يكن هذا فعلى أي شئ تقتله، فصدقه صاحبنا وتركه
ورجع إلينا فأخبرنا بذلك، وقوى بخت نصر وملك وغزانا وخرب بيت المقدس
فلهذا نتخذه عدوا وميكائيل عدو لجبرئيل.
فقال سلمان: يا بن صوريا فبهذا العقل المسلوك به غير سبيله ظلمتم،
أرأيتم أوائلكم كيف بعثوا من يقتل بخت نصر وقد أخبر الله تعالى في كتبه على
ألسنة رسله أنه يملك ويخرب بيت المقدس أرادوا تكذيب أنبياء الله في إخبارهم أو اتهموهم
في أخبارهم أو صدقوهم في الخبر عن الله ومع ذلك أرادوا مغالبة الله، هل كان هؤلاء ومن
وجهوه إلا كفارا بالله، وآي عداوة يجوز أن يعتقد لجبرئيل وهو يصده عن
مغالبة الله عز وجل وينهى عن تكذيب خبر الله تعالى.
فقال ابن صوريا: قد كان الله تعالى أخبر بذلك على ألسن أنبيائه ولكنه
يمحو ما يشاء ويثبت. قال سلمان: فإذا لا تثقون بشئ مما في التوراة من الأخبار
عما مضى وما يستأنف فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت، وإذا لعل الله قد كان عزل
موسى وهارون عن النبوة وأبطلا في دعواهما لأن الله يمحو ما يشاء ويثبت، ولعل

(1) الوقر بكسر الواو: الحمل الثقيل.
49

كلما أخبراكم به عن الله أنه يكون لا يكون وما أخبراكم به أنه لا يكون لعله
يكون، وكذلك ما أخبراكم أنه لم يكن لعله كان، ولعل ما وعده من الثواب
يمحوه ولعل ما توعد به من العقاب يمحوه فإنه يمحو ما يشاء ويثبت. إنكم جهلتم
معنى يمحو الله ما يشاء ويثبت فلذلك أنتم بالله كافرون ولأخباره عن الغيوب مكذبون
وعن دين الله منسلخون.
ثم قال سلمان: فإني أشهد أنه من كان عدوا لجبرئيل فإنه عدو لميكائيل
وأنهما جميعا عدوان لمن عاداهما مسالمان لمن سالمهما، فأنزل الله تعالى عند
ذلك موافقا لقول سلمان: " قل من كان عدوا لجبريل " في مظاهرته لأولياء الله
على أعداء الله ونزوله بفضائل علي عليه السلام ولي الله من عند الله " فإنه نزله " فإن
جبرئيل نزل هذا القرآن " على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه " من سائر
كتب الله " وهدى " من الضلالة " وبشرى للمؤمنين " (1) بنبوة محمد وولاية
علي عليه السلام ومن بعده من الأئمة [الاثني عشر] بأنهم أولياء الله حقا إذا ماتوا
على موالاتهم لمحمد وعلي وآلهما الطيبين.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا سلمان إن الله صدق قيلك ووافق رأيك، وإن
جبرئيل عن الله تعالى يقول: يا محمد سلمان والمقداد أخوان متصافيان في ودادك
ووداد علي أخيك ووصيك وصفيك، وهما في أصحابك كجبرائيل وميكائيل في
الملائكة عدوان لمن أبغض أحدهما وليان لمن والى محمدا وعليا عدوان لمن عادى محمدا
وعليا وأولياء هما، ولو أحب أهل الأرض سلمان والمقداد كما تحبهما ملائكة
السماوات والحجب والكرسي والعرش لمحض ودادهما لمحمد وعلي وموالاتهما
لأوليائهما ومعاداتهما لأعدائهما لما عذب الله أحدا منهم بعذاب البتة.
وقال أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام: لما نزلت هذه الآية " ثم قست
قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة " (2) في حق اليهود والنواصب
فغلظ على اليهود ما وبخهم به رسول الله، فقال جماعة من رؤسائهم وذوي الألسن

(1) البقرة: 96.
(2) البقرة: 74.
50

والبيان منهم: يا محمد إنك تهجونا وتدعي على قلوبنا ما الله يعلم منها خلافه،
إن فيها خيرا كثيرا نصوم ونتصدق ونواسي الفقراء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنما الخير ما أريد به وجه الله وعمل على ما أمر الله
تعالى، وأما ما أريد به الرياء والسمعة ومعاندة رسول الله صلى الله عليه وآله وإظهار الغنى له
والتمالك والتشرف عليه فليس بخير بل هو الشر الخالص ووبال على صاحبه ويعذبه
الله به أشد العذاب.
فقالوا له: يا محمد أنت تقول هذا ونحن نقول بل ما نلفقه إلا لإبطال أمرك
ودفع رياستك ولتفريق أصحابك عنك وهو الجهاد الأعظم نأمل به من الله الثواب
الأجل العظيم، فأقل أحوالنا إنك تساوينا في الدعاوى فأي فضل لك علينا؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا إخوة اليهود إن الدعاوى يتساوى فيها المحقون
والمبطلون، ولكن حجج الله ودلائله تفرق بينهم فتكشف عن تمويه المبطلين
وتبين عن حقائق المحقين، ورسول الله محمد لا يغتم بجهلكم ولا يكلفكم التسليم له
بغير حجة، ولكن يقيم عليكم حجة الله التي لا يمكنكم دفاعها ولا تطيقون الامتناع
عن موجبها، ولو ذهب محمد ويريكم آية من عنده لشككتم وقلتم إنه متكلف
مصنوع محتال فيه معمول أو متواطئ عليه، وإذا اقترحتم أنتم فأراكم ما تقترحون
لم يكن لكم أن تقولوا معمول أو متواطأ عليه أو متأت بحيلة أو مقدمات، فما
الذي تقترحون فهذا رب العالمين قد وعدني أن يظهر لكم ما تقترحون ليقطع
معاذير الكافرين منكم ويزيد في بصائر المؤمنين منكم.
قالوا: قد أنصفتنا يا محمد فإن وفيت بما وعدت من نفسك من الإنصاف
فأنت أول راجع عن دعواك للنبوة وداخل في غمار الأمة ومسلم لحكم التوراة
لعجزك عما نقترحه عليك وظهور باطل دعواك فيما ترومه من حجتك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الصدق ينبئ عنكم لا الوعيد، اقترحوا ما
تقترحون ليقطع معاذيركم فيما تسألون. فقالوا له: يا محمد زعمت أنه ما في
قلوبنا شئ من مواساة الفقراء ومعاونة الضعفاء والنفقة في إبطال الباطل وإحقاق
51

الحق وأن الأحجار ألين من قلوبنا وأطوع لله منا، وهذه الجبال بحضرتنا فهلم
بنا إليها أو إلى بعضها فاستشهدها على تصديقك وتكذيبنا، فإن نطقت بتصديقك
فأنت المحق يلزمنا اتباعك وإن نطقت بتكذيبك أو صمتت فلم ترد جوابك فاعلم
بأنك المبطل في دعواك المعاند لهواك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم هلموا بنا إلى أيما جبل شئتم استشهدوه ليشهد
لي عليكم، فخرجوا إلى أوعر جبل رأوه فقالوا: يا محمد هذا الجبل فاستشهده.
فقال رسول الله للجبل: إني أسألك بجاه محمد وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم
خفف الله العرش على كواهل ثمانية من الملائكة بعد أن لم يقدروا على تحريكه
وهم خلق كثير لا يعرف عددهم غير الله عز وجل، وبحق محمد وآله الطيبين الذين
بذكر أسمائهم تاب الله على آدم وغفر خطيئته وأعاده إلى مرتبته، وبحق محمد
وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم وسؤال الله بهم رفع إدريس في الجنة مكانا
عليا لما شهدت لمحمد بما أودعك الله بتصديقه على هؤلاء اليهود في ذكر قساوة
قلوبهم وتكذيبهم في جحدهم لقول محمد رسول الله.
فتحرك الجبل وتزلزل وفاض عنه الماء ونادى: يا محمد أشهد أنك رسول رب
العالمين وسيد الخلق أجمعين، وأشهد أن قلوب هؤلاء اليهود كما وصفت أقسى
من الحجارة لا يخرج منها خير كما قد يخرج من الحجارة الماء سيلا أو تفجرا،
وأشهد أن هؤلاء كاذبون عليك فيما به يقرفونك من الفرية على رب العالمين.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وأسألك أيها الجبل أمرك الله بطاعتي فيما ألتمسه
منك بجاه محمد وآله الطيبين الذين بهم نجى الله نوحا من الكرب العظيم وبرد الله
النار على إبراهيم وجعلها عليه بردا وسلاما ومكنه في جوف النار على سرير وفراش
وثير لم ير تلك الطاغية مثله لأحد من ملوك الأرض أجمعين، وأنبت حواليه من
الأشجار الخضرة النظرة النزهة وعما حوله من أنواع التور مما لا يوجد إلا في فصول
أربعة من جميع السنة؟
قال الجبل: بلى أشهد لك يا محمد بذلك، وأشهد أنك لو اقترحت على
52

ربك أن يجعل رجال الدنيا قرودا وخنازير لفعل، أو يجعلهم ملائكة لفعل، أو يقلب
النيران جليدا أو الجليد نيرانا لفعل أو يهبط السماء إلى الأرض أو يرفع الأرض
إلى السماء لفعل، أو يصير أطراف المشارق والمغارب والوهاد كلها صرة كصرة
الكيس لفعل، وأنه قد جعل الأرض والسماء طوعك، والجبال والبحار تتصرف
بأمرك، وسائر ما خلق من الرياح والصواعق وجوارح الإنسان وأعضاء الحيوان
لك مطيعة وما أمرتها به من شئ ائتمرت.
فقالت اليهود: يا محمد علينا تلتبس وتشبه، قد أجلست مردة من أصحابك
خلف صخور من هذا الجبل فهم ينطقون بهذا الكلام ونحن لا ندري أنسمع من
الرجال أم من الجبل، لا يغتر بمثل هذا إلا ضعفاؤك الذين تبجبج في عقولهم (1)
فإن كنت صادقا فتنح عن موضعك هذا إلى ذلك القرار وأمر هذا الجبل أن ينقلع
من أصله فيسير إليك إلى هناك، فإذا حضرك ونحن نشاهده فأمره أن ينقطع
نصفين من ارتفاع سمكه ثم يرتفع السفلى من قطعيته فوق العليا وتنخفض العليا
تحت السفلى، فإذا تجعل أصل الجبل قلته وقلته أصله لنعلم أنه من الله، لا يتفق
مثله بمواطأة ولا بمعاونة مموهين متمردين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله - وأشار إلى حجر فيه قدر خمسة أرطال - فقال:
يا أيها الحجر تدحرج، فتدحرج ثم قال لمخاطبة: خذه وقربه من أذنك
فسيعيد عليك ما سمعت، فإن هذا جزء من ذلك الجبل، فأخذه الرجل فأدناه
إلى إذنه فنطق الحجر بمثل ما نطق به الجبل أولا من تصديق رسول الله صلى الله عليه وآله فيما
ذكره عن قلوب اليهود ومما غبر به (2) من أن نفقاتهم في دفع أمر محمد صلى الله عليه وآله
باطل ووبال عليهم.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله أسمعت هذا أخلف هذا الحجر أحد يكلمك
ويوهمك أن الحجر يكلمك؟ قال: فأتني بما اقترحت في الجبل فتباعد رسول الله

(1) تبجبج في عقولهم: تلعب فيها، يقال " بجبج الصبي " إذا لاعبه وسكنه
عند المناغاة.
(2) غبر به: مضى به وذهب.
53

صلى الله عليه وآله وسلم إلى فضاء واسع ثم نادى الجبل وقال: يا أيها الجبل بحق محمد وآله الطيبين
بجاههم ومسائلة عباد الله بهم أرسل الله على قوم عاد ريحا صرصرا عاتية لنزع
الناس كأنهم أعجاز نخل خاوية، وأمر جبرئيل أن يصيح صيحة هائلة في قوم صالح
حتى صاروا كهشيم المحتضر لما انفصلت من مكانك بإذن الله وجئت إلى حضرته
هذه - ووضع يده على الأرض بين يديه.
فتزلزل الجبل وصار كالفارع الهملاج (1) حتى دنى من إصبعه أصله
فلزق بها ووقف ونادى: ها أنا سامع لك مطيع يا رسول رب العالمين وإن رغمت
أنوف هؤلاء المعاندين مرني بأمرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن هؤلاء اقترحوا
على أن آمرك أن تنقلع من أصلك فتصير نصفين ثم ينحط أعلاك ويرتفع أسفلك
فتصير ذروتك أصلك وأصلك ذروتك. فقال الجبل: أتأمرني بذلك يا رسول رب
العالمين؟ قال: بلى فانقطع نصفين وانحط أعلاه إلى الأرض وارتفع أسفله فوق
أعلاه فصار فرعه أصله وأصله فرعه، ثم نادى الجبل: يا معاشر اليهود هذا
الذي ترون دون معجزات موسى الذين تزعمون أنكم به مؤمنون؟.
فنظر اليهود بعضهم إلى البعض، فقال بعضهم: ما عن هذا محيص، وقال
آخرون منهم: هذا رجل منجوت مؤتى له ما يريد - والمنجوت يتأتى له العجائب -
فلا يغرنك ما تشاهدون. فناداهم الجبل: يا أعداء الله قد أبطلتم بما تقولون
نبوة موسى، هلا قلتم لموسى إن قلب العصا ثعبانا وانفلاق البحر طرقا ووقوف
الجبل كالظلة فوقكم إنما تأتي لك لأنك مؤتى لك يأتيك جدك بالعجائب فلا
يغرنا ما نشاهده، فألقمتهم الجبال بمقالتها والصخور ولزمتهم حجة رب العالمين.
وعن معمر بن راشد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أتى يهودي إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله فقام بين يديه يحد النظر إليه، فقال: يا يهودي ما حاجتك؟
فقال: أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلمه الله عز وجل وأنزل عليه
التوراة والعصا وفلق له البحر وظله بالغمام؟

(1) الفارع: الصاعد المرتفع، والهملاج: السريع السير.
54

فقال له النبي صلى الله عليه وآله: إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه ولكني أقول: إن
آدم لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال " اللهم إني سألك بحق محمد وآل محمد
لما غفرت لي " فغفرها الله له، وإن نوحا لما ركب السفينة وخاف الغرق قال
" اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لم أنجيتني من الغرق " فأنجاه الله عز
وجل، وإن إبراهيم لما ألقي في النار قال " اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد
لما أمنتني " فجعلها بردا وسلاما، وأن موسى لما ألقى عصاه وأوجس في نفسه خيفة قال
" اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما آمنتني " قال الله تعالى، لا تخف إنك أنت الأعلى.
يا يهودي إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي ما نفعه إيمانه شيئا
ولا نفعته النبوة، يا يهودي ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى بن مريم عليه السلام
لنصرته فقدمه ويصلي خلفه.
وعن ابن عباس قال: خرج من المدينة أربعون رجلا من اليهود قالوا:
انطلقوا بنا إلى هذا الكاهن الكذاب حتى نوبخه في وجهه ونكذبه، فإنه يقول،
أنا رسول رب العالمين، وكيف يكون رسولا وآدم خير منه ونوح خير منه - وذكروا
الأنبياء عليهم السلام - فقال النبي صلى الله عليه وآله لعبد الله بن سلام: التوراة بيني وبينكم فرضيت اليهود
بالتوراة فقال اليهود: آدم خير منك لأن الله عز وجل خلقه بيده ونفخ فيه من روحه.
فقال النبي صلى الله عليه وآله: آدم النبي أبي وقد أعطيت أنا أفضل مما أعطي آدم.
قال اليهود: وما ذاك؟ قال: إن المنادي ينادي كل يوم خمس مرات " أشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " ولم يقل آدم رسول الله، ولواء الحمد
بيدي يوم القيامة وليس بيد آدم. فقال اليهود: صدقت يا محمد وهو مكتوب
في التوراة. قال: هذه واحدة.
قالت اليهود: موسى خير منك. قال النبي صلى الله عليه وآله ولم؟ قالوا: لأن الله
عز وجل كلمه بأربعة آلاف كلمة ولم يكلمك بشئ. فقال النبي صلى الله عليه وآله.
لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك. قالوا: وما ذاك؟ قال: هو قوله عز وجل
" سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي
55

باركنا حوله " (1) وحملت على جناح جبرائيل حتى انتهيت إلى السماء السابعة
فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، حتى تعلقت بساق العرش فنوديت
من ساق العرش " إني أنا الله لا إله إلا أنا السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار
المتكبر الرؤف الرحيم " ورأيته بقلبي وما رأيته بعيني، فهذا أفضل من ذلك
قالت اليهود: صدقت يا محمد وهو مكتوب في التوراة. قال رسول الله صلى الله عليه
وآله: هذه اثنتان.
قالوا: نوح أفضل منك. قال النبي صلى الله عليه وآله: ولم ذاك؟ قالوا: لأنه
ركب السفينة فجرت على الجودي. قال النبي صلى الله عليه وآله: لقد أعطيت أنا
أفضل من ذلك. قالوا: وما ذاك؟ قال: إن الله عز وجل أعطاني نهرا في السماء
مجرية من العرش وعليه ألف ألف قصر لبنة من ذهب ولبنة من فضة حشيشها الزعفران
ورضراضها (2) الدر والياقوت وأرضها المسك الأبيض، فذلك خير لي ولأمتي،
وذلك قوله تعالى " إنا أعطيناك الكوثر " (3) قالوا: صدقت يا محمد هو
مكتوب في التوراة وهذا خير من ذلك. قال النبي صلى الله عليه وآله هذه الثلاثة.
قالوا: إبراهيم خير منك. قال: ولم ذاك؟ قالوا: لأن الله اتخذه
خليلا. قال النبي صلى الله عليه وآله: إن كان إبراهيم خليله فأنا حبيبه محمد.
قالوا: ولم سميت محمدا؟ قال: سماني الله محمدا وشق اسمى من اسمه هو المحمود
وأنا محمد وأمتي الحامدون على كل حال. فقالت اليهود: صدقت يا محمد هذا
خير من ذلك. قال النبي صلى الله عليه وآله هذه أربعة.
قالت اليهود: عيسى خير منك. قال: ولم ذاك؟ قالوا: إن عيسى بن
مريم كان ذات يوم بعقبة بيت المقدس فجاءه الشياطين ليحملوه فأمر الله جبرائيل
أن اضرب بجناحك الأيمن وجوه الشياطين والقهم في النار، فضرب بأجنحته
وجوههم وألقاهم في النار. فقال رسول الله: لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك.

(1) الإسراء: 1.
(2) الرضراض: ما دق من الحصى.
(3) الكوثر: 1.
56

قالوا: وما هو؟ قال: أقبلت يوم بدر من قتال المشركين وأنا جائع شديد
الجوع، فلما وردت المدينة استقبلتني امرأة يهودية وعلى رأسها جفنة وفي الجفنة
جدي مشوي وفي كمها شئ من سكر فقالت: الحمد لله الذي منحك السلامة وأعطاك
النصر والظفر على الأعداء، وإني قد كنت نذرت لله نذرا إن أقبلت سالما غانما
من غزاة بدر لأذبحن هذا الجدي ولأشوينه ولأحملنه إليك لتأكله. فقال النبي
صلى الله عليه وآله: فنزلت عن بغلتي الشهباء فضربت بيدي إلى الجدي لآكله فاستنطق الله
الجدي فاستوى على أربع قوائم وقال: يا محمد لا تأكلني فإني مسموم. قالوا:
صدقت يا محمد هذا خير من ذلك. قال النبي صلى الله عليه وآله: هذه خمسة.
قالوا: بقيت واحدة ثم نقوم من عندك. قال: هاتوا. قالوا: سليمان
خير منك. قال: ولم ذاك؟ قالوا: لأن الله عز وجل سخر له الشياطين
والإنس والجن والطير والرياح والسباع. فقال النبي صلى الله عليه وآله: فقد سخر الله لي
البراق وهو خير من الدنيا بحذافيرها، وهي دابة من دواب الجنة وجهها مثل
وجه آدمي وحوافرها مثل حوافر الخيل وذنبها مثل ذنب البقر وفوق الحمار ودون
البغل، وسرجه من ياقوتة حمراء وركابه من درة بيضاء، مزمومة بألف زمام من
ذهب عليه جناحان مكللان بالدر والياقوت والزبرجد. مكتوب بين عينيه " لا إله
الله وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله ".
قالت اليهود: صدقت يا محمد وهو مكتوب في التوراة وهذا خير من ذلك.
يا محمد نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: لقد أقام
نوح في قومه ودعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ثم وصفهم الله عز وجل فقللهم فقال
" وما آمن معه إلا قليل " (1) ولقد تبعني في سنيي القليلة وعمري اليسير ما لم
تتبع نوحا في طول عمره وكبر سنة، وأن في الجنة عشرين ومائة صف أمتي منها
ثمانون صفا، وأن الله عز وجل جعل كتابي المهيمن على كتبهم الناسخ لها، ولقد
جئت بتحليل ما حرموا وبتحريم بعض ما أحلوا. من ذلك أن موسى جاء بتحريم

(1) هود: 40.
57

صيد الحيتان يوم السبت حتى أن الله تعالى قال من اعتدى منهم في صيدها يوم
السبت " كونوا قردة خاسئين " (1) فكانوا، ولقد جئت بتحليل صيدها حتى
صار صيدها حلالا. قال الله تعالى " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم " (2)
وجئت بتحليل الشحوم كلها وكنتم لا تأكلونها.
ثم إن الله عز وجل صلى علي في كتابه العزيز، قال الله عز وجل " إن الله
وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " (3)
ثم وصفني الله عزو جل بالرأفة والرحمة وذكر في كتابه " لقد جائكم رسول من
أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " (4) وأنزل الله
تعالى أن لا يكلموني حتى يتصدقوا بصدقة وما كان ذلك لنبي قط، قال الله عز
وجل " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " (5)
ثم وضعها عنهم بعد أن افترضها عليهم برحمته ومنه.
وعن ثوبان قال: إن يهوديا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد أسألك
فتخبرني، فركض ثوبان برجله وقال: قل يا رسول الله. فقال: لا أدعوه إلا بما
سماه أهله. فقال: أرأيت قوله عز وجل " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " (6)
أين الناس يومئذ؟ فقال: في الظلمة دون المحشر. فقال: فما أول ما يأكل أهل
الجنة إذا دخلوها؟ قال: كبد الحوت. قال: فما طعامهم على أثر ذلك؟ قال:
كبد الثور. قال: فما شرابهم على أثر ذلك؟ قال: السلسبيل. قال: صدقت أفلا
أسألك عن شئ لا يعلمه إلا نبي؟ قال: وما هو؟ قال: عن شبه الولد أباه وأمه.
قال: ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر دقيق، فإذا علا ماء الرجل ماء
المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله تعالى ومن تشبه أباه قبل ذلك يكون الشبه،
وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل خرج الولد أنثى بإذن الله عز وجل ومن تشبه أمه

(1) البقرة: 65.
(2) المائدة: 96.
(3) الأحزاب: 56.
(4) التوبة: 128.
(5) المجادلة: 12.
(6) إبراهيم: 48.
58

قبل ذلك يكون الشبه.
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله: والذي نفسي بيده ما كان عندي شئ مما سألتني عنه
حتى انبأنيه الله عز وجل في مجلسي هذا على لسان أخي جبرئيل.
ذكر ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وآله من الاحتجاج على المنافقين في طريق تبوك
وغير ذلك من كيدهم لرسول الله صلى الله عليه وآله على العقبة بالليل.
قال أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام: لقد رامت الفجرة ليلة العقبة قتل رسول
الله صلى الله عليه وآله على العقبة (1)، ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب عليه السلام
فما قدروا على مغالبة ربهم، حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله صلى الله عليه وآله في علي عليه السلام
لما فخم من أمره وعظم من شأنه: من ذلك أنه لما خرج النبي صلى الله عليه وآله من المدينة
وقد كان خلفه عليها وقال له: إن جبرئيل أتاني وقال لي: يا محمد إن العلي الأعلى
يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم علي أو تقيم أنت
ويخرج علي لا بد من ذلك، فإن عليا قد ندبته لإحدى اثنتين لا يعلم أحد كنه
جلال من أطاعني فيهما وعظيم ثوابه غيري، فلما خلفه أكثر المنافقون الطعن فيه
فقالوا: مله وسئمه وكره صحبته، فتبعه علي عليه السلام حتى لحقه وقد وجد غما شديدا
عما قالوا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما أشخصك يا علي عن مركزك؟ فقال:
بلغني عن الناس كذا وكذا. فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون
من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ فانصرف علي إلى موضعه فدبروا عليه أن يقتلوه
وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعا ثم غطوها
بخص رقاق ونثروا فوقها يسيرا من التراب بقدر ما غطوا به وجوه الخص، وكان

(1) عقبة بالتحريك: هو الجبل الطويل يعرض للطريق فيأخذ فيه، وهو
طويل صعب إلى صعود الجبل. والعقبة منزل في طريق مكة بعد واقصة وقبل القاع
لمن يريد مكة، وهو ماء لبني عكرمة من بكر بن وائل. مراصد الاطلاع 2 - 948.
59

ذلك على طريق علي الذي لا بد له من سلوكه ليقع هو ودابته في الحفيرة التي
قد عمقوها، وكان ما حوالي المحفور أرض ذات حجارة ودبروا على أنه إذا وقع مع
دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه.
فلما بلغ علي عليه السلام قرب المكان لوى فرسه عنقه وأطاله الله فبلغت
جحفلته (1) أذنيه وقال: يا أمير المؤمنين قد حفر لك هيهنا ودبر عليك الحتف
وأنت أعلم لا تمر فيه. فقال له علي عليه السلام: جزاك الله من ناصح خيرا كما تدبر
تدبيري وإن الله عز وجل لا يخليك من صنعه الجميل، وسار حتى شارف المكان
فوقف الفرس خوفا من المرور على المكان، فقال علي عليه السلام: سر بإذن الله سالما
سويا عجيبا شأنك بديعا أمرك، فتبادرت الدابة فإن الله عز وجل قد متن الأرض (2)
وصلبها [ولام (3) حفرها] كأنها لم تكن محفورة وجعلها كسائر الأرض،
فلما جاوزها علي عليه السلام لوى الفرس عنقه ووضع جحفلته على أذنه ثم قال: ما
أكرمك على رب العالمين أجازك على هذا المكان الخاوي (4). فقال أمير
المؤمنين عليه السلام: جازاك الله بهذه السلامة عن نصيحتك التي نصحتني بها.
ثم قلب وجه الدابة إلى ما يلي كفلها والقوم معه بعضهم أمامه وبعضهم خلفه
وقال، اكشفوا عن هذا المكان فكشفوا فإذا هو خاو لا يسير عليه أحد إلا وقع في
الحفرة، فأظهر القوم الفزع والتعجب مما رأوا منه، فقال علي عليه السلام للقوم: أتدرون
من عمل هذا؟ قالوا: لا ندري. قال عليه السلام: لكن فرسي هذا يدري، يا أيها الفرس
كيف هذا ومن دبر هذا؟ فقال الفرس: يا أمير المؤمنين عليه السلام إذا كان الله عز وجل
يبرم ما يروم جهال القوم نقضه أو كان ينقض ما يروم جهال الخلق إبرامه فالله

(1) الجحفلة لذي الحافر كالشفة للانسان.
(2) متن الأرض: صلب متنه وقواه.
(3) لام حفرها: جمع حفرها، كأن الحفيرة ملئت وأرجعت إلى ما كانت
عليه قبل ذلك.
(4) الخاوي: الخالي، القفر
60

هو الغالب والخلق هم المغلوبون، فعل هذا يا أمير المؤمنين فلان وفلان إلى أن ذكر
العشرة بمواطأة من أربعة وعشرين هم مع رسول الله صلى الله عليه وآله في طريقه ثم دبروا
رأيهم على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله على العقبة والله عز وجل من وراء حياطة
رسول الله وولي الله لا يغلبه الكافرون.
فأشار بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام بأن يكاتب رسول الله بذلك ويبعث
رسولا مسرعا، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إن رسول الله إلى محمد رسوله أسرع
وكتابه إليه أسبق، فلا يهمنكم هذا إليه، فلما قرب رسول الله صلى الله عليه وآله من العقبة التي
بإزائها فضائح المنافقين والكافرين نزل دون العقبة ثم جمعهم فقال لهم: هذا جبرئيل
الروح الأيمن يخبرني أن عليا دبر عليه كذا وكذا، فدفع الله عز وجل عنه من
ألطافه وعجائب معجزاته بكذا وكذا، ثم إنه صلب الأرض تحت حافر دابته وأرجل
أصحابه، ثم انقلب على ذلك الموضع علي وكشف عنه فرأيت الحفيرة، ثم إن الله
عز وجل لامها كما كانت لكرامته عليه، وأنه قيل له كاتب بهذا وارسل إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله فقال: رسول الله إلى رسول الله أسرع وكتابه إليه أسبق.
ثم لم يخبرهم رسول الله صلى الله عليه وآله بما قال علي عليه السلام على باب المدينة " إن مع
رسول الله منافقين سيكيدونه ويدفع الله عنه "، فلما سمع الأربعة والعشرون أصحاب
العقبة ما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله في أمر علي عليه السلام قال بعضهم لبعض: ما أمهر محمدا
بالمخرقة (1) وإن فيجا (2) مسرعا أتاه أو طيرا من المدينة من بعض أهله وقع
عليه أن عليا قتل بحيلة كذا وكذا وهو الذي واطأنا عليه أصحابنا،
فهو الآن لما بلغه كتم الخبر وقلبه إلى ضده يريد أن يسكن من معه لئلا يمدوا
أيديهم عليه، وهيهات والله ما لبث عليا بالمدينة إلا حينه ولا خرج محمدا إلى هيهنا
إلا حينه، وقد هلك علي وهو هيهنا هالك لا محالة، ولكن تعالوا حتى نذهب إليه
ونظهر له السرور بأمر علي ليكون أسكن لقلبه إلينا إلى أن نمضي فيه تدبيرنا،

(1) خرق الكذب: صنعه، ومعنى هذه الجملة: ما أمهر محمدا بصنع الكذب
ووضعه.
(2) الفيج: السريع السير الذي يأتي بالأخبار.
61

فحضروه وهنوه على سلامة علي من الورطة التي رامها أعداؤه.
ثم قالوا له: يا رسول الله أخبرنا عن علي عليه السلام أهو أفضل أم ملائكة الله
المقربون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: وهل شرفت الملائكة إلا بحبها لمحمد وعلي
وقبولها لولايتهما، وأنه لا أحد من محبي علي قد نظف قلبه من قذر الغش والدغل
ونجاسات الذنوب إلا كان أطهر وأفضل من الملائكة، وهل أمر الله الملائكة بالسجود
لآدم إلا لما كانوا قد وضعوه في نفوسهم أنه لا يصير في الدنيا خلق بعدهم إذا رفعوا
عنها إلا - وهم يعنون أنفسهم - أفضل منه في الدين فضلا وأعلم بالله وبدينه علما، فأراد الله
أن يعرفهم أنهم قد أخطأوا في ظنونهم واعتقاداتهم، فخلق آدم وعلمه الأسماء كلها
ثم عرضها عليهم فعجزوا عن معرفتها، فأمر آدم عليه السلام أن ينبأهم بها وعرفهم فضله
في العلم عليهم، ثم أخرج من صلب آدم ذريته منهم الأنبياء والرسل والخيار من
عباد الله أفضلهم محمد ثم آل محمد والخيار الفاضلين منهم أصحاب محمد وخيار أمة محمد
وعرف الملائكة بذلك أنهم أفضل من الملائكة إذا احتملوا ما حملوه من الأثقال
وقاسوا ما هم فيه بعرض يعرض من أعوان الشياطين ومجاهدة النفوس واحتمال
أذى ثقل العيال والاجتهاد في طلب الحلال ومعاناة مخاطرة الخوف من الأعداء من
لصوص مخوفين ومن سلاطين جورة قاهرين وصعوبة في المسالك في المضائق والمخاوف
والأجراع (1) والجبال والتلاع (2) لتحصيل أقوات الأنفس والعيال من الطيب
الحلال، فعرفهم الله عز وجل أن خيار المؤمنين يحتملون هذه البلايا ويتخلصون
منها ويحاربون الشياطين ويهزمونهم ويجاهدون أنفسهم بدفها عن شهواتها ويغلبونها
مع ما ركب فيهم من شهوات الفحولة وحب اللباس والطعام والعز والرئاسة والفخر
والخيلاء ومقاساة العناء والبلاء من إبليس وعفاريته وخواطرهم وإغوائهم واستهوائهم
ودفع ما يكابدونه من أليم الصبر على سماعهم الطعن من أعداء الله وسماع الملاهي

(1) الجرعة: رملة مستوية لا تنبت شيئا.
(2) التلاع: جمع التلعة، وهو ما علا من الأرض وما سفل، وفي بعض النسخ
" الطلاع " وهو جمع الطلع بكسر الطاء: المكان المشرف الذي يطلع منه.
62

والشتم لأولياء الله، ومع ما يقاسونه في أسفارهم لطلب أقواتهم والهرب من أعداء
دينهم، أو الطلب لمن يأملون معاملته من مخالفيهم في دينهم.
قال الله عز وجل: يا ملائكتي وأنتم من جميع ذلك بمعزل لا شهوات
الفحولة تزعجكم ولا شهوة الطعام تحفزكم (2) ولا خوف من أعداء دينكم
ودنياكم تنحب (2) في قلوبكم ولا لإبليس في ملكوت سماواتي وأرضي شغل على
إغواء ملائكتي الذين قد عصمتهم منهم، يا ملائكتي فمن أطاعني منهم وسلم دينه
من هذه الآفات والنكبات فقد احتمل في جنب محبتي ما لم تحتملوا واكتسب من
القربات إلى ما لم تكتسبوا.
فلما عرف الله ملائكته فضل خيار أمة محمد وشيعة علي وخلفائه عليهم السلام
واحتمالهم في جنب محبة ربهم ما لا تحتمله الملائكة أبان بني آدم الخيار المتقين
بالفضل عليهم، ثم قال: فلذلك فاسجدوا لآدم لما كان مشتملا على أنوار هذه
الخلائق الأفضلين، ولم يكن سجودهم لآدم إنما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه
لله عز وجل، وكان بذلك معظما له مبجلا، ولا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من
دون الله ويخضع له خضوعه لله ويعظم بالسجود له كتعظيمه لله، ولو أمرت أحدا
أن يسجد هكذا لغير الله لأمرت ضعفاء شيعتنا وسائر المكلفين من شيعتنا أن
يسجدوا لمن توسط في علوم علي وصي رسول الله ومحض وداد خير خلق الله علي بعد
محمد رسول الله واحتمل المكاره والبلايا في التصريح بإظهار حقوق الله ولم ينكر
على حقا أرقبه عليه (3) قد كان جهله أو غفله.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله عصى الله إبليس فهلك لما كان معصيته بالكبر على
آدم، وعصى آدم الله بأكل الشجرة فسلم ولم يهلك لما لم يقارن بمعصيته التكبر

(1) الحفز: الدفع من الخلف، والحفز بالرمح: الطعن به.
(2) النحب: السير السريع، وفي بعض النسخ " تنخب " ومعناه تجبن قلوبكم
وتجعلكم بلا فؤاد، يقال " رجل نخب " أي الجبان الذي لا فؤاد له.
(3) أرقبه عليه: انتظره منه.
63

على محمد وآله الطيبين، وذلك إن الله تعالى قال له: يا آدم عصاني فيك إبليس
وتكبر عليك فهلك ولو تواضع لك بأمري وعظم عز جلالي لأفلح كل الفلاح كما
أفلحت، وأنت عصيتني بأكل الشجرة وعظمتني بالتواضع لمحمد وآل محمد فتفلح كل الفلاح
وتزول عنك وصمة الزلة فادعني بمحمد وآله الطيبين لذلك، فدعا بهم فأفلح كل
الفلاح لما تمسك بعروتنا أهل البيت.
ثم إن رسول صلى الله عليه وآله أمر بالرحيل في أول نصف الليل الأخير، وأمر مناديه
فنادى: ألا لا يسبقن رسول الله صلى الله عليه وآله أحد إلى العقبة ولا يطأها حتى
يجاوزها رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة فينظر من يمر
بها ويخبر رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان رسول الله أمره أن يتشبه بحجر، فقال حذيفة
يا رسول الله إني أتبين الشر في وجوه القوم من رؤساء عسكرك، وإني أخاف إن قعدت في
أصل الجبل وجاء منهم من أخاف أن يتقدمك إلى هناك للتدبير عليك يحس بي
ويكشف عني فيعرفني ويعرف موضعي من نصيحتك فيتهمني ويخافني فيقتلني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنك إذا بلغت أصل العقبة فاقصد أكبر صخرة هناك
إلى جانب أصل العقبة وقل لها: إن رسول الله يأمرك أن تنفرجي لي حتى أدخل
جوفك ثم يأمرك أن تثقبي فيك ثقبة أبصر منها المارين وتدخل علي منها الروح
لئلا أكون من الهالكين، فإنها تصير إلى ما تقول لها بإذن الله رب العالمين.
فأدى حذيفة الرسالة ودخل جوف الصخرة وجاء الأربعة والعشرون على
جمالهم وبين أيديهم رجالتهم يقول بعضهم لبعض: من رأيتموه هنا كائنا من كان
فاقتلوه لأن لا يخبروا محمدا أنهم قد رأونا هيهنا فينكص محمد ولا يصعد هذه العقبة
إلا نهارا فيبطل تدبيرنا عليه، وسمعها حذيفة واستقصوا فلم يجدوا أحدا، وكان
الله قد ستر حذيفة بالحجر عنهم، فتفرقوا فبعضهم صعد على الجبل وعدل عن
الطريق المسلوك، وبعضهم وقف على سفح الجبل عن يمين وشمال وهم يقولون
الآن ترون حين محمد كيف أغراه بأن يمنع الناس عن صعود العقبة حتى يقطعها هو
لنخلوا به هيهنا فنمضي فيه تدبيرنا وأصحابه عنه بمعزل، وكل ذلك يوصله الله تعالى
64

من قريب أو بعيد إلى أذن حذيفة ويعيه حذيفة، فلما تمكن القوم على الجبل حيث
أرادوا كلمت الصخرة حذيفة وقالت له: انطلق الآن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره
بما رأيت وبما سمعت. قال حذيفة: كيف أخرج عنك وإن رآني القوم قتلوني
مخافة على أنفسهم من نميمتي عليهم؟ قالت الصخرة: إن الذي مكنك من جوفي
وأوصل إليك الروح من الثقبة التي أحدثها في هو الذي يوصلك إلى نبي الله وينقذك
من أعداء الله.
فنهض حذيفة ليخرج فانفرجت الصخرة بقدرة الله تعالى، فحوله الله طائرا
فطار في الهواء محلقا حتى انقض بين يدي رسول الله، ثم أعيد على صورته فأخبر
رسول الله صلى الله عليه وآله بما رأى وسمع، فقال رسول الله: أو عرفتهم بوجوههم؟ فقال:
يا رسول الله كانوا متلثمين وكنت أعرف أكثرهم بجمالهم، فلما فتشوا المواضع
فلم يجدوا أحدا أحدروا اللثام فرأيت وجوههم وعرفتهم بأعيانهم وأسمائهم فلان
وفلان وفلان حتى عد أربعة وعشرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا حذيفة إذا كان
الله يثبت محمدا لم يقدر هؤلاء ولا الخلق أجمعون أن يزيلوه، إن الله تعالى بالغ في
محمد أمره ولو كره الكافرون.
ثم قال: يا حذيفة فانهض بنا أنت وسلمان وعمار وتوكلوا على الله، فإذا
جزنا الثنية الصعبة فأذنوا للناس أن يتبعونا، فصعد رسول الله صلى الله عليه وآله وهو على ناقته
وحذيفة وسلمان أحدهما آخذ بخطام ناقته يقودها والآخر خلفها يسوقها، وعمار
إلى جانبها، والقوم على جمالهم ورجالتهم منبثون حوالي الثنية على تلك العقبات، وقد
جعل الذين فوق الطريق حجارة في دباب فدحرجوها من فوق لينفروا الناقة برسول
الله صلى الله عليه وآله ويقع به في المهوى الذي يهول الناظر إليه من بعده، فلما قربت الدباب
من ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله أذن الله لها فارتفعت ارتفاعا عظيما فجاوزت ناقة رسول
الله صلى الله عليه وآله ثم سقطت في جانب المهوى ولم يبق منها شئ إلا صار كذلك وناقة
رسول الله كأنها لا تحس بشئ من تلك القعقعات التي كانت للدباب.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعمار: اصعد إلى الجبل فاضرب بعصاك هذه وجوه
65

رواحلهم فارم بها، ففعل ذلك عمار فنفرت بهم رواحلهم وسقط بعضهم فانكسر
عضده ومنهم من انكسرت رجله ومنهم من انكسر جنبه واشتدت لذلك أوجاعهم،
فلما انجبرت واندملت بقيت عليهم آثار الكسر إلى أن ماتوا، ولذلك قال رسول
الله صلى الله عليه وآله في حذيفة وأمير المؤمنين عليه السلام: " إنهما أعلم الناس بالمنافقين " لقعوده
في أصل الجبل ومشاهدته من مر سابقا لرسول الله صلى الله عليه وآله.
وكفى الله رسوله أمر من قصد له، وعاد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة سالما
فكسى الله الذل والعار من كان قعد عنه، وألبس الخزي من كان دبر عليه وعلى
علي ما دفع الله عنه عليه السلام.
" احتجاج النبي (ص) يوم الغدير على الخلق كلهم وفي غيره من الأيام
بولاية علي بن أبي طالب (ع) ومن بعده من ولده من الأئمة المعصومين صلوات
الله عليهم أجمعين ".
حدثني السيد العالم العابد أبو جعفر مهدي ابن أبي حرب الحسيني المرعشي
رضي الله عنه (1) قال أخبرنا الشيخ أبو علي الحسن بن الشيخ السعيد أبي جعفر
محمد بن الحسن الطوسي (2) رضي الله عنه، قال أخبرني الشيخ السعيد الوالد أبو
جعفر (3) قدس الله روحه، قال أخبرني جماعة عن أبي محمد هارون بن موسى

(1) مضت ترجمته في هذا الكتاب ص 6.
(2) الشيخ أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي، كان عالما فاضلا فقيها محدثا
جليلا ثقة، له كتاب الأمالي وشرح النهاية، قرأ على والده جميع تصانيفه وإليه ينتهي
أكثر الإجازات عن الشيخ الطوسي تنقيح المقال 1 - 36
(3) شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ولد في شهر رمضان سنة
385 وقدم العراق سنة 408 وبقي في بغداد مدة ثم هاجر إلى النجف الأشرف وبقي
فيها حتى وفاته سنة 406، كان جهبذة من جهابذة الإسلام وعظيما من عظماء أمة
محمد " ص "، صنف في علوم عصره فكانت مصنفاته هي الأم والمراجع، ولم يجرؤ
على الافتاء بعده أحد من علماء الشيعة إلى سنين متمادية لقوته في الفقه واضطلاعه في
العلوم الإسلامية والكنى والألباب 2 / 357 - 359.
66

التلعكبري (1)، قال أخبرنا أبو علي محمد بن همام، (2) قال أخبرنا علي
السوري (3)، قال أخبرنا أبو محمد العلوي (4) من ولد الأفطس - وكان من عباد
الله الصالحين - قال حدثنا محمد بن موسى الهمداني (5)، قال حدثنا محمد بن خالد
الطيالسي (6)، قال حدثنا سيف بن عميرة (7) وصالح بن عقبة (8) جميعا

(1) أبو محمد هارون بن موسى الشيباني ثقة جليل القدر عظيم المنزلة واسع
الرواية عديم النظير وجه أصحابنا معتمد عليه لا يطعن عليه في شئ توفي سنة 385.
الكنى والألقاب 2 / 108
(2) أبو علي محمد بن أبي بكر همام بن سهيل الكاتب الإسكافي شيخ أصحابنا
ومتقدمهم، له منزلة عظيمة، كثير الحديث، ولد يوم الاثنين 6 ذي الحجة سنة 258
وتوفي يوم الخميس 19 جمادى الثانية سنة 336 رجال النجاشي ص 294.
(3) لم نقف على ترجمة له - فليراجع
(4) يحيى المكنى أبا محمد العلوي من بني زبارة علوي سيد متكلم فقيه من أهل
نيشابور له كتب كثيرة، منها كتاب في المسح على الرجلين في إبطال القياس وكتاب
في التوحيد. رجال النجاشي ص 345.
(5) محمد بن موسى بن عيسى أبو جعفر الهمداني السمان، ضعفه القميون بالغلو
له كتاب ما روي في أيام الأسبوع وكتاب الرد على الغلاة. رجال النجاشي ص 260
وأقول: كيف يقال في محمد هذا إنه غال مع العلم أن من مؤلفاته كتاب الرد على الغلاة - فلاحظ
(6) أبو عبد الله محمد بن خالد الطيالسي التميمي كان يسكن بالكوفة في صحراء
جرم، له كتاب نوادر، مات ليلة الأربعاء 27 جمادى الثانية سنة 259 وهو ابن 97
سنة. تنقيح المقال 3 / 114
(7) سيف بن عميرة النخعي عربي ثقة كوفي، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن
عليهما السلام له كتاب يرويه جماعات من أصحابنا. رجال النجاشي ص 143.
(8) صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ربيحة مولى رسول الله صلى الله
عليه وآله، قيل إنه روى عن أبي عبد الله عليه السلام، له كتاب يرويه جماعة منتهى
المقال ص 163.
67

عن قيس بن سمعان (1) عن علقمة بن محمد الحضرمي (2) عن أبي جعفر محمد
ابن علي عليه السلام أنه قال: حج رسول الله صلى الله عليه وآله من المدينة وقد بلغ جميع الشرايع
قومه غير الحج والولاية، فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال له: يا محمد إن الله جل اسمه
يقرئك السلام ويقول لك: إني لم أقبض نبيا من أنبيائي ولا رسولا من رسلي إلا
بعد إكمال ديني وتأكيد حجتي، وقد بقي عليك من ذاك فريضتان مما تحتاج
أن تبلغهما قومك: فريضة الحج، وفريضة الولاية والخلافة من بعدك، فإني لم
أخل أرضي من حجة ولن أخليها أبدا، فإن الله جل ثناؤه يأمرك أن تبلغ قومك
الحج وتحج ويحج معك من استطاع إليه سبيلا من أهل الحضر والأطراف
والأعراب وتعلمهم من معالم حجهم مثل ما علمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم
وتوقفهم من ذلك علي مثال الذي أوقفتهم عليه من جميع ما بلغتهم من الشرائع.
فنادي منادي رسول الله صلى الله عليه وآله في الناس: ألا إن رسول الله يريد الحج وأن
يعلمكم من ذلك مثل الذي علمكم من شرائع دينكم ويوقفكم من ذاك على ما
أوقفكم عليه من غيره، فخرج صلى الله عليه وآله وخرج معه الناس واصغوا إليه لينظروا ما
يصنع فيصنعوا مثله، فحج بهم وبلغ من حج مع رسول الله من أهل المدينة وأهل
الأطراف والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون على نحو عدد أصحاب موسى
السبعين ألف الذين أخذ عليهم بيعة هارون فنكثوا واتبعوا العجل والسامري، وكذلك
أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله البيعة لعلي بالخلافة على عدد أصحاب موسى فنكثوا البيعة
واتبعوا العجل والسامري سنة بسنة ومثلا بمثل، واتصلت التلبية ما بين مكة
والمدينة (3)

(1) لم تقف على ترجمته.
(2) علقمة بن محمد الحضرمي هو أخو عبد الله بن محمد الحضرمي. رجال
الكشي ص 354.
(3) ذكر العلامة الحجة الثبت الأميني في كتابه القيم " الغدير " حديث الغدير
بتفاصيله في الجزء الأول، وعد الراوين لحديث الغدير، فكانوا من الصحابة 110
شخصا، ومن التابعين 84 شخصا، ومن الرواة من العلماء ابتداءا من القرن الثاني
حتى القرن الرابع عشر 360 شخصا، وذكر من المؤلفين في حديث الغدير خصيصا 26
شخصا، انظر الجزء الأول من الكتاب ص 14 - 157.
68

فلما وقف بالموقف أتاه جبرئيل عليه السلام عن الله عز وجل فقال: يا محمد إن الله
عز وجل يقرئك السلام ويقول لك: إنه قد دنى أجلك ومدتك وأنا مستقدمك على
ما لا بد منه ولا عنه محيص، فاعهد عهدك وقدم وصيتك واعمد إلى ما عندك من
العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك والسلاح والتابوت وجميع ما عندك من آيات
الأنبياء، فسلمه إلى وصيك وخليفتك من بعدك حجتي البالغة على خلقي علي بن
أبي طالب عليه السلام، فأقمه للناس علما وجدد عهده وميثاقه وبيعته، وذكرهم ما
أخذت عليهم من بيعتي وميثاقي الذي واثقتهم وعهدي الذي عهدت إليهم من ولاية
وليي ومولاهم ومولى كل مؤمن ومؤمنة علي بن أبي طالب عليه السلام، فإني لم أقبض
نبيا من الأنبياء إلا من بعد إكمال ديني وحجتي وإتمام نعمتي بولاية أوليائي
ومعاداة أعدائي، وذلك كمال توحيدي وديني وإتمام نعمتي على خلقي باتباع
وليي وطاعته، وذلك أني لا أترك أرضي بغير ولي ولا قيم ليكون حجة لي على
خلقي، فاليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينا بولاية وليي ومولى كل مؤمن ومؤمنة علي عبدي ووصي نبي والخليفة من بعده
وحجتي البالغة على خلقي، مقرون طاعته بطاعة محمد نبيي ومقرون طاعته مع طاعة
محمد بطاعتي، من أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني، جعلته علما بيني وبين
خلقي، من عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا ومن أشرك بيعته كان مشركا
ومن لقيني بولايته دخل الجنة، ومن لقيني بعداوته دخل النار، فأقم يا محمد عليا
علما وخذ عليهم البيعة وجدد عهدي وميثاقي لهم الذي واثقتهم عليه، فإني قابضك
إلي ومستقدمك علي.
فخشى رسول الله صلى الله عليه وآله من قومه وأهل النفاق والشقاق أن يتفرقوا ويرجعوا
إلى جاهلية لما عرف من عداوتهم ولما ينطوي عليه أنفسهم لعلي من العداوة والبغضاء
69

وسأل جبرئيل أن يسأل ربه العصمة من الناس وانتظر أن يأتيه جبرئيل بالعصمة
من الناس عن الله جل اسمه، فأخر ذلك إلى أن بلغ مسجد الخيف (1)، فأتاه
جبرئيل عليه السلام في مسجد الخيف فأمره بأن يعهد عهده ويقيم عليا علما للناس
يهتدون به، ولم يأته بالعصمة من الله جل جلاله بالذي أراد حتى بلغ كراع
الغميم (2) بين مكة والمدينة، فأتاه جبرئيل وأمره بالذي أتاه فيه من قبل الله
ولم يأته بالعصمة، فقال: جبرئيل إني أخشى قومي أن يكذبوني ولا يقبلوا
قولي في علي عليه السلام [فسأل جبرئيل كما سأل بنزول آية العصمة فأخره ذلك]
فرحل فلما بلغ غدير خم (3) قبل الجحفة (4) بثلاثة أميال أتاه جبرئيل عليه السلام
على خمس ساعات مضت من النهار بالزجر والانتهار والعصمة من الناس فقال: يا محمد
إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من
ربك " في علي " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " (5).
وكان أوائلهم قريب من الجحفة، فأمر بأن يرد من تقدم منهم ويحبس تأخر

(1) الخيف هو المنحدر من غلظ الجبل قد ارتفع عن مسيل أتاه فليس شرفا
ولا حضيضا، وخيف منى هو الموضع الذي ينسب إليه مسجد الخيف. مراصد
الاطلاع 1 / 495.
(2) كراع الغميم: موضع بالحجاز بين مكة والمدينة أمام عسفان بثمانية أميال
وهذا الكراع جبل أسود في طرف الجرة يمتد إليه. مراصد الاطلاع 3 - 1153.
(3) غدير: ما غودر من ماء المطر في مستنقع صغير أو كبير غير أنه لا يبقى في
القيظ. وخم: قيل رجل، وقيل غيظة، وقيل موضع تصب فيه عين، وقيل بئر قريب
من المبثب حفرها مرة بن كعب، نسب إلى ذلك غدير خم، وهو بين مكة والمدينة، قيل
على ثلاثة أميال من الجحفة، وقيل على ميل، وهناك مسجد للنبي مراصد الاطلاع
1 - 482، 2 - 985.
(4) الجحفة: كانت قرية كبيرة ذات منبر على طريق مكة على أربع مراحل.
وكان اسمها مهيعة وسميت الجحفة لأن السيل جحفها، وبينها وبين البحر ستة أميال
مراصد الاطلاع 1 - 315. (5) المائدة: 67.
70

عنهم في ذلك المكان ليقيم عليا علماء للناس ويبلغهم ما أنزل الله تعالى في علي وأخبره
بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس، فأمر رسول الله عندما جاءته العصمة مناديا
ينادي في الناس بالصلاة جامعة ويرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر وتنحى عن
يمين الطريق إلى جنب مسجد الغدير أمره بذلك جبرئيل عن الله عز وجل، وكان
في الموضع سلمات (1) فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقم ما تحتهن (2) وينصب له
حجارة كهيئة المنبر ليشرف على الناس، فتراجع الناس واحتبس أواخرهم في ذلك
المكان لا يزالون، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله فوق تلك الأحجار ثم حمد الله تعالى
وأثنى عليه فقال:
الحمد لله الذي علا في توحده، ودنا في تفرده، وجل في سلطانه، وعظم في
أركانه، وأحاط بكل شئ علما وهو في مكانه، وقهر جميع الخلق بقدرته وبرهانه
مجيدا لم يزل محمودا لا يزال، بارئ المسموكات (3) وداحي المدحوات وجبار
الأرضين والسماوات، قدوس سبوح رب الملائكة والروح، متفضل على جميع من
برأه متطول على جميع من أنشأه، يلحظ كل عين والعيون لا تراه، كريم حليم
ذو أناة، قد وسع كل شئ رحمته ومن عليهم بنعمته، لا يعجل بانتقامه ولا
يبادر إليهم بما استحقوا من عذابه، قد فهم السرائر وعلم الضمائر، ولم تخف عليه
المكنونات، ولا اشتبهت عليه الخفيات، له الإحاطة بكل شئ والغلبة على كل
شئ والقوة في كل شئ والقدرة على كل شئ وليس مثله شئ، وهو منشئ الشئ
حين لا شئ، دائم قائم بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، جل عن أن تدركه
الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، لا يلحق أحد وصفه من معاينة، ولا يجد أحد كيف هو من سر وعلانية إلا بما دل عز وجل على نفسه.
وأشهد أنه الله الذي ملأ الدهر قدسه، والذي يغشى الأبد نوره، والذي ينفذ

(1) سلمات: أشجار.
(2) أي يكنس ما تحتهن.
(3) السمك السقف، أو من أعلى البيت إلى أسفله، والغاية من كل شئ،
والمقصود هنا السماوات وما فيها.
71

أمره بلا مشاورة مشير ولا معه شريك في تقدير ولا تفاوت في تدبير، صور ما أبدع
على غير مثال وخلق ما خلق بلا معونة من أحد ولا تكلف ولا احتيال، أنشأها
فكانت وبرأها فبانت، فهو الله الذي لا إله إلا هو المتقن الصنعة الحسن الصنيعة العدل
الذي لا يجور والإكرم الذي ترجع إليه الأمور.
وأشهد أنه الذي تواضع كل شئ لقدرته وخضع كل شئ لهيبته ملك
الأملاك ومفلك الأفلاك ومسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، يكور
الليل على النهار (1) ويكور النهار على الليل يطلبه حثيثا، قاسم كل جبار عنيد
ومهلك كل شيطان مريد، لم يكن معه ضد ولا ند، أحد صمد لم يلد ولم يولد
ولم يكن له كفوا أحد، إله واحد ورب ماجد يشاء فيمضي ويريد فيقضي ويعلم
فيحصي ويميت ويحيي ويفقر ويغني ويضحك ويبكي ويمنع ويعطي، له الملك وله
الحمد بيده الخير وهو على كل شئ قدير، يولج الليل في النهار ويولج النهار في
الليل لا إله إلا هو العزيز الغفار، مجيب الدعاء ومجزل العطاء، محصي الأنفاس ورب
الجنة والناس، لا يشكل عليه شئ ولا يضجره صراخ المستصرخين ولا يبرمه إلحاح
الملحين، العاصم للصالحين والموفق للمفلحين ومولى العالمين، الذي استحق من كل
من خلق أن يشكره ويحمده. أحمده على السراء والضراء والشدة والرخاء، وأؤمن
به وبملائكته وكتبه ورسله، أسمع أمره وأطيع وأبادر إلى كل ما يرضاه واستسلم
لقضائه رغبة في طاعته وخوفا من عقوبته، لأنه الله الذي لا يؤمن مكره ولا
يخاف جوره، وأقر له على نفسي بالعبودية وأشهد له بالربوبية وأؤدي ما أوحي
إلى حذرا من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعة (2) لا يدفعها عني أحد وإن عظمت
حيلته لا إله إلا هو، لأنه قد أعلمني أني إن لم أبلغ ما أنزل إلي فما بلغت رسالته

(1) كور الشئ: أدارته. ضم بعضه إلى بعض ككور العمامة، ويكور الليل
على النهار ويكور النهار على الليل: إشارة إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل
والنهار وازدياد هما.
(2) القارعة: الداهية والنكبة المهلكة.
72

وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة، وهو الله الكافي الكريم، فأوحي إلي: بسم
الله الرحمن الرحيم " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " في علي [يعني
في الخلافة لعلي بن أبي طالب عليه السلام] " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك
من الناس ".
(معاشر الناس) ما قصرت في تبليغ ما أنزل الله تعالى إلى، وأنا مبين لكم
سبب نزول هذه الآية: إن جبرئيل عليه السلام هبط إلي مرارا ثلاثا يأمرني عن السلام
ربي وهو السلام أن أقوم في هذا المشهد فأعلم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي
طالب عليه السلام أخي ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي، الذي محله مني محل هارون
من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وهو وليكم من بعد الله ورسوله، وقد أنزل الله تبارك
وتعالى على بذلك آية من كتابه " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين
يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " (1) وعلي بن أبي طالب عليه السلام
أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع يريد الله عز وجل في كل حال.
وسألت جبرئيل أن يستعفي لي عن تبليغ ذلك إليكم أيها الناس لعلمي بقلة
المتقين وكثرة المنافقين وإدغال (2) الآثمين وختل (3) المستهزئين بالإسلام
الذين وصفهم الله في كتابه بأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويحسبونه
هينا وهو عند الله عظيم، وكثرة إذا هم لي في غير مرة حتى سموني إذنا (4).
وزعموا أني كذلك لكثرة ملازمته إياي وإقبالي عليه، حتى أنزل الله عز وجل
في ذلك قرآنا " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن " على الذين
يزعمون أنه أذن " خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " الآية (5).
ولو شئت أن أسمي بأسمائهم لسميت وأن أومى إليهم بأعيانهم لأومأت وأن

(1) المائدة: 55.
(2) الأدغال: الخالفة والخيانة، وأدغل في الأمر: أدخل فيه ما يفسده.
(3) الختل: الخديعة.
(4) الأذن بضمتين: الرجل المستمع لما يقال له.
(5) التوبة: 61.
73

أدل عليهم لدللت، ولكني والله في أمورهم قد تكرمت، وكل ذلك لا يرضى الله
مني إلا أن أبلغ ما أنزل إلي، ثم تلى صلى الله عليه وآله " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من
ربك " في علي " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ".
فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم وليا وإماما مفترضا طاعته على
المهاجرين والأنصار وعلى التابعين لهم بإحسان، وعلى البادي والحاضر وعلى
الأعجمي والعربي والحر والمملوك والصغير والكبير وعلى الأبيض والأسود وعلى كل
موحد ماض حكمه جائز قوله نافذ أمره، ملعون من خالفه مرحوم من تبعه مؤمن
من صدقه، فقد غفر الله له ولمن سمع منه وأطاع له.
(معاشر الناس) إنه آخر مقام أقومه في هذا المشهد فاسمعوا وأطيعوا
وانقادوا لأمر ربكم، فإن الله عز وجل هو مولاكم وإلهكم ثم من دونه محمد صلى الله عليه وآله
وليكم القائم المخاطب لكم، ثم من بعدي علي وليكم وإمامكم بأمر ربكم، ثم
الإمامة في ذريتي من ولده إلى يوم تلقون الله ورسوله، لا حلال إلا ما أحله الله ولا
حرام إلا ما حرمه الله، عرفني الحلال والحرام وأنا أفضيت بما علمني ربي من كتابه
وحلاله وحرامه إليه.
(معاشر الناس) ما من علم إلا وقد أحصاه الله في، وكل علم علمت فقد
أحصيته في إمام المتقين، وما من علم إلا علمته عليا، وهو الإمام المبين.
(معاشر الناس) لا تضلوا عنه ولا تنفروا منه ولا تستكبروا [ولا تستنكفوا
خ ل] من ولايته، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به ويزهق الباطل وينهى عنه
ولا تأخذه في الله لومة لائم. ثم إنه أول من آمن بالله ورسوله، وهو الذي فدى
رسوله بنفسه وهو الذي كان مع رسول الله ولا أحد يعبد الله مع رسوله من
الرجال غيره.
(معاشر الناس) فضلوه فقد فضله الله، واقبلوه فقد نصبه الله.
(معاشر الناس) إنه إمام من الله ولن يتوب الله على أحد أنكر ولايته، ولن
يغفر الله له، حتما على الله أن يفعل ذلك بمن خالف أمره فيه وأن يعذبه عذابا
74

شديدا نكرا أبد الآباد ودهر الدهور، فاحذروا أن تخالفوه فتصلوا نارا وقودها
الناس والحجارة أعدت للكافرين.
(أيها الناس) بي والله بشر الأولون من النبيين والمرسلين، وأنا خاتم
الأنبياء والمرسلين والحجة على جميع المخلوقين من أهل السماوات والأرضين،
فمن شك في ذلك فهو كافر كفر الجاهلية الأولى، ومن شك في شئ من قولي هذا
فقد شك في الكل منه، والشاك في ذلك فله النار.
(معاشر الناس) حباني الله بهذه الفضيلة منا منه علي وإحسانا منه إلي، ولا
إله إلا هو، له الحمد مني أبد الآبدين ودهر الداهرين على كل حال.
(معاشر الناس) فضلوا عليا فإنه أفضل الناس بعدي من ذكر وأنثى، بنا
أنزل الله الرزق وبقي الخلق، ملعون ملعون مغضوب مغضوب من رد على قولي هذا ولم
يوافقه، ألا إن جبرئيل خبرني عن الله تعالى بذلك ويقول: " من عادى عليا ولم
يتوله فعليه لعنتي وغضبي " فلتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله أن تخالفوه
فتزل قدم بعد ثبوتها إن الله خبير بما تعملون.
(معاشر الناس) إنه جنب الله الذي ذكر في كتابه فقال تعالى: " إن تقول
نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله " (1).
(معاشر الناس) تدبروا القرآن وافهموا آياته وانظروا إلى محكماته ولا
تتبعوا متشابهه، فوالله لن يبين لكم زواجره ولا يوضح لكم تفسيره إلا الذي أنا
آخذ بيده ومصعده إلى - وشائل بعضده - ومعلمكم إن من كنت مولاه فهذا علي
مولاه، وهو علي بن أبي طالب عليه السلام أخي ووصيي، وموالاته من الله عز وجل
أنزلها على.
(معاشر الناس) إن عليا والطيبين من ولدي هم الثقل الأصغر، والقرآن
الثقل الأكبر، فكل واحد منبئ عن صاحبه وموافق له لن يفترقا حتى يردا على
الحوض، هم أمناء الله في خلقه وحكماؤه في أرضه، ألا وقد أديت، ألا وقد بلغت

(1) الزمر: 56.
75

ألا وقد أسمعت، ألا وقد أوضحت، ألا وإن الله عز وجل قال وأنا قلت عن الله
عز وجل، ألا إنه ليس أمير المؤمنين غير أخي هذا ولا تحل إمرة المؤمنين بعدي
لأحد غيره.
ثم ضرب بيده إلى عضده فرفعه، وكان منذ أول ما صعد رسول الله صلى الله عليه وآله شال
عليا حتى صارت رجله مع ركبة رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم قال:
(معاشر الناس) هذا علي أخي ووصيي وواعي علمي وخليفتي على أمتي
وعلى تفسير كتاب الله عز وجل والداعي إليه والعامل بما يرضاه والمحارب لأعدائه
والموالي على طاعته والناهي عن معصيته خليفة رسول الله وأمير المؤمنين والإمام
الهادي وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بأمر الله، أقول ما يبدل القول لدي
بأمر ربي، أقول: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه والعن من أنكره واغضب
على من جحد حقه، اللهم إنك أنزلت علي أن الإمامة بعدي لعلي وليك عند تبياني
ذلك ونصبي أيام بما أكملت لعبادك من دينهم وأتممت عليهم بنعمتك ورضيت لهم
الإسلام دينا، فقلت: " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة
من الخاسرين " (1) اللهم إني أشهدك وكفى بك شهيدا أني قد بلغت.
(معاشر الناس) إنما أكمل الله عز وجل دينكم بإمامته، فمن لم يأتم به
وبمن يقوم مقامه من ولدي من صلبه إلى يوم القيامة والعرض على الله عز وجل
فأولئك الذين حبطت أعمالهم وفي النار فيها خالدون، لا يخفف عنهم العذاب
ولاهم ينظرون.
(معاشر الناس) هذا علي أنصركم لي وأحقكم بي وأقربكم إلي وأعزكم
علي، والله عز وجل وأنا عنه راضيان، وما نزلت آية رضى إلا فيه، وما خاطب
الله الذين آمنوا إلا بدأ به، ولا نزلت آية مدح في القرآن إلا فيه، ولا شهد بالجنة
في هل أتى على الإنسان إلا له، ولا أنزلها في سواه، ولا مدح بها غيره.
(معاشر الناس) هو ناصر دين الله والمجادل عن رسول الله، وهو التقي

(1) آل عمران 85.
76

النقي الهادي المهدي، نبيكم خير نبي ووصيكم خير وصي وبنوه خير الأوصياء.
(معاشر الناس) ذرية كل نبي من صلبه وذريتي من صلب علي.
(معاشر الناس) إن إبليس أخرج آدم من الجنة بالحسد، فلا تحسدوه
فتحبط أعمالكم وتزل أقدامكم، فإن آدم أهبط إلى الأرض بخطيئة واحدة وهو
صفوة الله عز وجل وكيف بكم وأنتم أنتم ومنكم أعداء الله، ألا إنه لا يبغض عليا
إلا شقي ولا يتوالى عليا إلا تقي ولا يؤمن به إلا مؤمن مخلص، وفي علي والله
نزلت سورة العصر " بسم الله الرحمن الرحيم. والعصر إن الإنسان لفي خسر "
إلى آخرها.
(معاشر الناس) قد استشهدت الله وبلغتكم رسالتي، وما على الرسول إلا
البلاغ المبين.
(معاشر الناس) اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
(معاشر الناس) آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزل معه من قبل أن
نطمس وجوها فنردها على أدبارها.
(معاشر الناس) النور من الله عز وجل في مسلوك ثم في علي ثم في النسل منه
إلى القائم المهدي الذي يأخذ بحق الله وبكل حق هو لنا، لأن الله عز وجل قد
جعلنا حجة على المقصرين والمعاندين والمخالفين والخائنين والآثمين والظالمين من
جميع العالمين.
(معاشر الناس) أنذركم أني رسول الله قد خلت من قبلي الرسل أفإن مت
أو قتلت انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي
الله الشاكرين، ألا وإن عليا هو الموصوف بالصبر والشكر ثم من بعده ولدي
من صلبه.
(معاشر الناس) لا تمنوا على الله إسلامكم فيسخط عليكم ويصيبكم بعذاب
من عنده إنه لبالمرصاد.
77

(معاشر الناس) إنه سيكون من بعدي أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة
لا ينصرون.
(معاشر الناس) إن الله وأنا بريئان منهم.
(معاشر الناس) إنهم وأنصارهم وأتباعهم وأشياعهم في الدرك الأسفل من النار
ولبئس مثوى المتكبرين، ألا إنهم أصحاب الصحيفة فلينظر أحدكم في صحيفته.
قال: فذهب على الناس إلا شرذمة منهم أمر الصحيفة.
(معاشر الناس) إني أدعها إمامة ووراثة في عقبى إلى يوم القيامة، وقد بلغت
ما أمرت بتبليغه حجة على كل حاضر وغائب وعلى كل أحد ممن شهد أو لم
يشهد ولد أو لم يولد، فليبلغ الحاضر الغائب والوالد الولد إلى يوم القيامة، وسيجعلونها
ملكا واغتصابا، ألا لعن الله الغاصبين والمغتصبين، وعندها سنفرغ لكم أيها الثقلان
فيرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران.
(معاشر الناس) إن الله عز وجل لم يكن يذركم على ما أنتم عليه حتى يميز
الخبيث من الطيب، وما كان الله ليطلعكم على الغيب.
(معاشر الناس) إنه ما من قرية إلا والله مهلكها بتكذيبها، وكذلك يهلك
القرى وهي ظالمة كما ذكر الله تعالى، وهذا علي إمامكم ووليكم وهو مواعيد
الله والله يصدق ما وعده.
(معاشر الناس) قد ضل قبلكم أكثر الأولين، والله لقد أهلك الأولين وهو
مهلك الآخرين، قال الله تعالى: " ألم نهلك الأولين. ثم نتبعهم الآخرين.
كذلك نفعل بالمجرمين. ويل يومئذ للمكذبين " (1).
(معاشر الناس) إن الله قد أمرني ونهاني، وقد أمرت عليا ونهيته، فعلم
الأمر والنهي من ربه عز وجل، فاسمعوا لأمره تسلموا، وأطيعوه تهتدوا، وانتهوا
لنهيه ترشدوا، وصيروا إلى مراده ولا تتفرق بكم السبل عن سبيله.
(معاشر الناس) أنا صراط الله المستقيم الذي أمركم باتباعه ثم علي من

(1) المرسلات: 16 - 19.
78

بعدي ثم ولدي من صلبه أئمة يهدون إلى الحق وبه يعدلون، ثم قرأ " الحمد لله
رب العالمين " إلى آخرها وقال: في نزلت وفيهم نزلت ولهم عمت وإياهم خصت،
أولئك أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ألا إن حزب الله هم الغالبون،
ألا إن أعداء علي هم أهل الشقاق والنفاق والحادون وهم العادون وإخوان الشياطين
الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، ألا إن أولياءهم الذين ذكرهم
الله في كتابه فقال عز وجل " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من
حاد (1) الله ورسوله " (2) إلى آخر الآية، ألا إن أولياءهم الذين وصفهم الله
عز وجل فقال: " الذين آمنوا ولم يلبسوا (3) إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن
وهم مهتدون " (4) ألا إن أولياءهم الذين وصفهم الله عز وجل فقال الذين يدخلون
الجنة آمنين تتلقاهم الملائكة بالتسليم إن طبتم فادخلوها خالدين (5)، ألا إن
أولياءهم الذين قال لهم الله عز وجل: يدخلون الجنة بغير حساب (6)، ألا إن
أعداءهم يصلون سعيرا (7)، ألا إن أعداءهم الذين يسمعون لجهنم شهيقا وهي
تفور ولها زفير (8)، ألا إن أعداءهم الذين قال الله فيهم: " كلما دخلت أمة

(1) حاده بتضعيف الدال: خالفه ولم يطع أمره.
(2) المجادلة: 22.
(3) أي يستروا إيمانهم بظلم، فإن اللبس في الأصل بمعنى الستر.
(4) الأنعام 82
(5) هذا المضمون مأخوذ من قوله تعالى: " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة
زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها قال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين "
الزمر 73
(6) مأخوذ من قوله تعالى: " فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب "
غافر: 40
(7) مأخوذ من قوله تعالى: " فسوف يدعو ثبورا، ويصلى سعيرا " الانشقاق: 12
(8) إشارة إلى قوله تعالى: " إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا "
الفرقان: 12
79

لعنت أختها " (1) الآية، ألا إن أعداءهم الذين قال الله عز وجل: " كلما ألقي
فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير. قالوا بلى قد جائنا نذير فكذبنا وقلنا
ما نزل الله من شئ إن أنتم إلا في ضلال مبين " (2) ألا إن أولياءهم الذين
يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير.
(معاشر الناس) شتان ما بين السعير والجنة، عدونا من ذمه الله ولعنه وولينا
من مدحه الله وأحبه.
(معاشر الناس) ألا وإني منذر وعلي هاد.
(معاشر الناس) إني نبي وعلي وصي، ألا إن خاتم الأئمة منا القائم المهدي
ألا إنه الظاهر على الدين، ألا إنه المنتقم من الظالمين، ألا إنه فاتح الحصون وهادمها
ألا إنه قاتل كل قبيلة من أهل الشرك، ألا إنه مدرك بكل ثأر لأولياء الله، ألا
إنه الناصر لدين الله، ألا إنه الغراف (3) في بحر عميق، ألا إنه يسم (4)
كل ذي فضل بفضله وكل ذي جهل بجهله، ألا إنه خيرة الله ومختاره، ألا إنه
وارث كل علم والمحيط به، ألا إنه المخبر عن ربه عز وجل والمنبه بأمر إيمانه،
ألا إنه الرشيد السديد، ألا إنه المفوض إليه، ألا إنه قد بشر من سلف بين يديه،
ألا إنه الباقي حجة ولا حجة بعده ولاحق إلا معه ولا نور إلا عنده، ألا إنه لا غالب له ولا منصور عليه، ألا وإنه ولي الله في أرضه وحكمه في خلقه وأمينه في سره وعلانيته
(معاشر الناس) قد بينت لكم وأفهمتكم، وهذا علي يفهمكم بعدي، ألا
وإني عند انقضاء خطبتي أدعوكم إلى مصافقتي (5) على بيعته والإقرار به ثم
مصافقته بعدي، ألا وإني قد بايعت الله وعلي قد بايعني وأنا آخذكم بالبيعة له عن

(1) الأعراف: 38.
(2) الملك: 8 - 9.
(3) غرف الماء بيده: أخذه بها، وهذا إشارة إلى ما أخذه علي عليه السلام
من علوم النبي صلى الله عليه وآله الكثيرة التي هي كالبحر العميق الذي لم يصل الناس
إلى أعماقه.
(4) يسم الشئ: يجعل له علامة يعرف بها.
(5) صفق يده بالبيعة، وصفق على يده: ضرب يده على يده، والمصافقة المبايعة
80

الله عز وجل " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " (1) الآية.
(معاشر الناس) إن الحج والصفا والمروة والعمرة من شعائر الله " فمن حج
البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " (2) الآية.
(معاشر الناس) حجوا البيت، فما ورده أهل بيت لا استغنوا، ولا تخلفوا
عنه إلا افتقروا.
(معاشر الناس) ما وقف بالموقف مؤمن إلا غفر الله له ما سلف من ذنبه إلى
وقته ذلك فإذا انقضت حجته استؤنف عمله.
(معاشر الناس) الحجاج معانون (3) ونفقاتهم مخلفة، والله لا يضيع
أجر المحسنين.
(معاشر الناس) حجوا البيت بكمال الدين والتفقه، ولا تنصرفوا عن المشاهد
إلا بتوبة وإقلاع (4).
(معاشر الناس) أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة كما أمركم الله عز وجل، لئن
طال عليكم الأمد فقصرتم أو نسيتم فعلي وليكم ومبين لكم الذي نصبه الله عز وجل
بعدي، ومن خلفه الله مني وأنا منه يخبركم بما تسألون عنه ويبين لكم ما لا
تعلمون، ألا إن الحلال والحرام أكثر من أن أحصيهما وأعرفهما، فآمر بالحلال
وأنهى عن الحرام في مقام واحد، فأمرت أن آخذ البيعة منكم والصفقة لكم بقبول
ما جئت به عن الله عز وجل في علي أمير المؤمنين والأئمة من بعده الذين هم مني
ومنه، أئمة قائمة منهم المهدي إلى يوم القيامة الذي يقضي بالحق.
(معاشر الناس) وكل حلال دللتكم عليه أو حرام نهيتكم عنه فإني لم
أرجع عن ذلك ولم أبدل، ألا فاذكروا ذلك واحفظوه وتواصوا به ولا تبدلوه ولا

(1) الفتح: 10، ونكث العهد والبيع: نقضه ونبذه
(2) البقرة: 158
(3) معانون: مساعدون، ومخلفة: معوضة
(4) الاقلاع الترك، والمراد منه هنا ترك الذنوب
81

تغيروه، ألا وإني أجدد القول: ألا فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف
وانهوا عن المنكر، ألا وإن رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تنتهوا إلى
قولي وتبلغوه من لم يحضر وتأمروه بقبوله وتنهوه عن مخالفته، فإنه أمر من الله
عز وجل ومني، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر إلا مع إمام معصوم.
(معاشر الناس) القرآن يعرفكم أن الأئمة من بعده ولده، وعرفتكم أنه
مني وأنا منه، حيث يقول الله في كتابه " وجعلها كلمة باقية في عقبه " (1) وقلت
" لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما ".
(معاشر الناس) التقوى التقوى، احذروا الساعة كما قال الله عز وجل
" إن زلزلة الساعة شئ عظيم " (2) اذكروا الممات والحساب والموازين والمحاسبة
بين يدي رب العالمين والثواب والعقاب، فمن جاء بالحسنة أثيب عليها ومن جاء
بالسيئة فليس له في الجنان نصيب.
(معاشر الناس) أنكم أكثر من أن تصافقوني بكف واحدة، وقد أمرني
الله عز وجل أن آخذ من ألسنتكم الإقرار بما عقدت لعلي من إمرة المؤمنين ومن
جاء بعده من الأئمة مني ومنه على ما أعلمتكم أن ذريتي من صلبه، فقولوا بأجمعكم
" إنا سامعون مطيعون راضون منقادون لما بلغت عن ربنا وربك في أمر علي وأمر
ولده من صلبه من الأئمة، نبايعك على ذلك بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا على
ذلك نحيى ونموت ونبعث ولا نغير ولا نبدل ولا نشك ولا نرتاب ولا نرجع عن
عهد ولا ننقض الميثاق نطيع الله ونطيعك وعليا أمير المؤمنين وولده الأئمة الذين
ذكرتهم من ذريتك من صلبه بعد الحسن والحسين الذين قد عرفتكم مكانهما مني
ومحلهما عندي ومنزلتهما من ربي عز وجل " فقد أديت ذلك إليكم وأنهما سيدا
شباب أهل الجنة، وأنهما الإمامان بعد أبيهما علي وأنا أبوهما قبله، وقولوا
" أطعنا الله بذلك وإياك وعليا والحسن والحسين والأئمة الذين ذكرت عهدا وميثاقا
مأخوذا لأمير المؤمنين من قلوبنا وأنفسنا وألسنتنا ومصافقة أيدينا من أدركهما

(1) الزخرف: 28.
(2) الحج: 1.
82

بيده وأقر بهما بلسانه ولا نبتغي بذلك بدلا ولا نرى من أنفسنا عنه حولا أبدا،
أشهدنا الله وكفى بالله شهيدا وأنت علينا به شهيد، وكل من أطاع ممن ظهر واستتر
وملائكة الله وجنوده وعبيده والله أكبر من كل شهيد "
(معاشر الناس) ما تقولون فإن الله يعلم كل صوت وخافية كل نفس،
فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، ومن بايع فإنما يبايع الله يد الله
فوق أيديهم.
(معاشر الناس) فاتقوا الله وبايعوا عليا أمير المؤمنين والحسن والحسين
والأئمة كلمة طيبة باقية، يهلك الله من غدر ويرحم الله من وفى، ومن " نكث
فإنما ينكث على نفسه " الآية.
(معاشر الناس) قولوا الذي قلت لكم وسلموا على علي بإمرة المؤمنين،
وقولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، وقولوا " الحمد لله الذي هدانا
لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " الآية.
(معاشر الناس) إن فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام عند الله عز وجل،
وقد أنزلها في القرآن أكثر من أن أحصيها في مقام واحد، فمن أنبأكم بها
وعرفها فصدقوه.
(معاشر الناس) من يطع الله ورسوله وعليا والأئمة الذين ذكرتهم فقد فاز
فوزا عظيما.
(معاشر الناس) السابقون السابقون إلى مبايعته وموالاته والتسليم عليه بإمرة
المؤمنين، أولئك هم الفائزون في جنات النعيم.
(معاشر الناس) قولوا ما يرضى الله به عنكم من القول، " فإن تكفروا
أنتم ومن في الأرض جميعا فلن يضر الله شيئا " (1)، اللهم اغفر للمؤمنين واغضب
على الكافرين والحمد لله رب العالمين.
فناداه القوم: سمعنا وأطعنا على أمر الله وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا

(1) آل عمران: 144
83

وتداكوا (1) على رسول الله وعلى علي عليه السلام فصافقوا بأيديهم، فكان أول من
صافق رسول الله صلى الله عليه وآله الأول والثاني والثالث والرابع والخامس وباقي المهاجرين
والأنصار وباقي الناس على طبقاتهم وقدر منازلهم، إلى أن صليت المغرب والعتمة
في وقت واحد، ووصلوا البيعة والمصافقة ثلاثا ورسول الله يقول كلما بايع قوم:
الحمد لله الذي فضلنا على جميع العالمين. وصارت المصافقة سنة ورسما، وربما يستعملها
من ليس له حق فيها.
وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من هذه الخطبة رأى
الناس رجلا جميلا بها طيب الريح فقال: تالله ما رأيت محمدا كاليوم قط، ما أشد ما يؤكد
لابن عمه وأنه يعقد عقدا لا يحله إلا كافر بالله العظيم وبرسوله، ويل طويل لمن حل عقده.
قال: والتفت إليه عمر بن الخطاب حين سمع كلامه فأعجبته، هيئته ثم التفت
إلى النبي صلى الله عليه وآله وقال: أما سمعت ما قال هذا الرجل، قال كذا وكذا؟ فقال
النبي صلى الله عليه وآله: يا عمر أتدري من ذاك الرجل؟ قال: لا. قال: ذلك الروح الأمين
جبرئيل، فإياك أن تحله، فإنك إن فعلت فالله ورسوله وملائكته والمؤمنين
منك براء.
ذكر تعيين الأئمة الطاهرة بعد النبي صلى الله عليه وآله واحتجاج الله تعالى بمكانهم
على كافة الخلق.
روى أبو بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال: قال أبي محمد بن علي
لجابر بن عبد الله الأنصاري: إن لي إليك حاجة متى يخف عليك أن أخلو بك
فأسألك عنها؟ قل له جابر: في أي الأحوال أحببت، فخلا به أبي في بعض
الأوقات وقال له: يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة وما
أخبرتك به أمي أنه في ذلك اللوح مكتوب.

(1) تداكوا عليه: ازدحموا عليه
84

فقال جابر: أشهد بالله إني دخلت على أمك فاطمة صلوات الله عليها في حياة
رسول الله صلى الله عليه وآله فهنيتها بولادة الحسين عليه السلام ورأيت في يدها لوحا أخضر فظننت
أنه من زمرد، ورأيت فيه كتابا أبيض شبه نور الشمس، فقلت لها: بأمي وأبي
أنت يا بنت رسول الله ما هذا اللوح؟ فقالت: هذا اللوح أهداه الله تعالى إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابني وأسماء الأوصياء من ولدي، فأعطانيه
أبي ليسرني بذلك. قال جابر: فأعطتنيه أمك عليها السلام فقرأته واستنسخته.
قال له أبي: فهل لك يا جابر أن تعرضه علي؟ قال: نعم، فمشى معه أبي
حتى انتهى إلى منزل جابر فأخرج إلى أبي صحيفة من رق وقال: يا جابر أنظر
في كتابك لأقرأ عليك، فنظر جابر في نسخته وقرأ أبي فما خالف حرف حرفا.
قال جابر: فأشهد بالله أني هكذا رأيت في اللوح مكتوبا:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من الله العزيز العليم لمحمد نبيه ورسوله ونوره وسفيره وحجابه
ودليله، نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين.
عظم يا محمد أسمائي وأشكر نعمائي ولا تجحد آلائي، فإني أنا الله لا إله إلا
أنا قاصم الجبارين ومذل الظالمين وديان يوم الدين، لا إله إلا أنا من رجا غير فضلي
أو خاف غير عدلي عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، فإياي فاعبد وعلي
فتوكل، إني لم أبعث نبيا فأكملت أيامه وانقضت مدته إلا جعلت له وصيا، وإني
فضلتك على الأنبياء وفضلت وصيك على الأوصياء، وأكرمتك بشبليك بعده وسبطيك
الحسن والحسين فجعلت حسنا معدن علمي بعد انقضاء مدة أبيه، وجعلت حسينا
خازن علمي وأكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة، وهو أفضل من استشهد وأرفع
الشهداء درجة، وجعلت كلمتي التامة معه وحجتي البالغة عنده، بعترته أثيب
وأعاقب: أولهم علي سيد العابدين وزين أوليائي الماضين، وابنه شبيه جده المحمود
محمد الباقر لعلمي والمعدن لحكمتي، سيهلك المرتابون في جعفر الصادق الراد عليه
85

كالراد علي، حق القول مني لأكرمن مثوى جعفر ولأسرنه في أشياعه وأنصاره
وأوليائه، وانتجبت بعده موسى، وأتيح بعده فتنة عمياء حندس (1) إلا أن خيط
فرضي لا ينقطع وحجتي لا تخفى وأن أوليائي لا يشقون، ألا ومن جحد واحدا
منهم فقد جحد نعمتي ومن غير آية من كتابي فقد افترى علي، ويل للمفترين
الجاحدين عند انقضاء مدة عبدي موسى وحبيبي وخيرتي، ألا إن المكذب بالثامن
مكذب بكل أوليائي علي وليي وناصري ومن أضع عليه أعباء النبوة وأمنحه
بالاضطلاع بها يقتله عفريت مستكبر، يدفن بالمدينة التي بناها العبد الصالح إلى
جنب شر خلقي، حق القول مني لأقرن عينه بمحمد ابنه وخليفته من بعده ووارث
علمه، وهو معدن علمي وموضع سري وحجتي على خلقي، لا يؤمن به عبد إلا
جعلت الجنة مثواه وشفعته في سبعين من أهل بيته كلهم قد استوجب النار، واختم
بالسعادة لابنه علي وليي وناصري والشاهد في خلقي وأميني على وحيى، أخرج
منه الداعي إلى سبيلي والخازن لعلمي الحسن العسكري، ثم أكمل ديني بابنه محمد
رحمة للعالمين، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب، سيد أوليائي سيذل
أوليائي في زمانه وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم فيقتلون
ويحرقون ويكونون خائفين مرعوبين وجلين، تصبغ الأرض بدمائهم ويفشو الويل
والرنة في نسائهم، أولئك أوليائي حقا بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس وبهم اكشف
الزلازل وأرفع الآصار والأغلال، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك
هم المهتدون.
قال عبد الرحمن بن سالم (2) قال أبو بصير (3): لو لم تسمع في دهرك إلا

(1) الحندس: الليل المظلم، والظلمة الشديدة.
(2) عبد الرحمن بن سالم بن عبد الرحمن الأشل الكوفي العطار، وكان سالم بياع
المصاحف، وعبد الرحمن بن سالم أخو عبد الحميد بن سالم له كتاب. رجال النجاشي ص 177
(3) أبو بصير يحيى بن القسم الأسدي، مما أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح
عنه وعن جماعة آخر مذكورين في كتب التراجم وانقادوا إليهم بالفقه، توفي سنة
150 بعد أبي عبد الله الصادق عليه السلام. الكنى والألقاب 1 - 17.
86

هذا الحديث لكفاك، فصنه إلا عن أهله.
وعن علي بن أبي حمزة (1) عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السلام
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله حدثني جبرئيل عن رب العزة جل جلاله أنه قال، من
علم أن لا إله إلا أنا وحدي وأن محمد عبدي ورسولي وأن علي بن أبي طالب عليه السلام
وليي وخليفتي وأن الأئمة من ولده حججي أدخلته الجنة برحمتي، ونجيته من
النار بعفوي، وأبحت له جواري، فأوجبت له كرامتي، وأتممت عليه نعمتي
وجعلته من خاصتي وخالصتي. إن ناداني لبيته وإن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته
وإن سكت ابتدأته، وإن أساء رحمته، وإن فر مني دعوته، وإن رجع إلى
قبلته، وإن قرع بابي فتحته.
ومن لم يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي، أو شهد بذلك ولم يشهد أن محمدا عبدي
ورسولي، أو شهد بذلك ولم يشهد أن علي بن أبي طالب خليفتي، أو شهد بذلك
ولم يشهد أن الأئمة ولده حججي فقد جحد نعمتي وصغر عظمتي وكفر بآياتي
وكتبي، إن قصدني حجبته وإن سألني حرمته، وإن ناداني لم أسمع نداءه، وإن
دعاني لم أستجب دعاءه، وإن رجاني خيبته، وذلك جزاؤه مني وما أنا بظلام للعبيد
فقام جابر بن عبد الله الأنصاري فقال: يا رسول الله ومن الأئمة من ولد
علي بن أبي طالب؟ فقال: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ثم سيد العابدين
في زمانه علي بن الحسين، ثم الباقر محمد بن علي، وستدركه يا جابر فإذا أدركته
فاقرأه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد، ثم الكاظم موسى بن جعفر، ثم
الرضا علي بن موسى، ثم التقي الجواد محمد بن علي، ثم التقي علي بن محمد، ثم
الزكي الحسن بن علي، ثم ابنه القائم بالحق مهدي أمتي محمد بن الحسن صاحب

(1) علي بن أبي حمزة مولي الأنصار الكوفي، روى عن أبي عبد الله الصادق وأبي
الحسن موسى عليهما السلام، وصنف كتبا عدة منها كتاب جامع في أبواب الفقه.
رجال النجاشي ص 188.
87

الزمان - صلوات الله عليهم أجمعين - الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت
ظلما وجورا.
هؤلاء يا جابر خلفائي وأوصيائي وأولادي وعترتي، من أطاعهم فقد أطاعني
ومن عصاهم فقد عصاني، ومن أنكرهم أو أنكر واحدا منهم فقد أنكرني، بهم
يمسك الله عز وجل السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبهم يحفظ الله الأرض
أن تميد بأهلها.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام: يا علي لا يحبك
إلا من طابت ولادته، ولا يبغضك إلا من خبثت ولادته، ولا يواليك إلا مؤمن ولا
يعاديك إلا كافر.
فقام إليه عبد الله بن مسعود فقال: يا رسول الله فقد عرفنا علامة خبث الولادة
والكافر في حياتك ببغض علي وعداوته، فما علامة خبث الولادة والكافر بعدك
إذا أظهر الإسلام بلسانه وأخفى مكنون سريرته؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا بن مسعود إن علي بن أبي طالب عليه السلام إمامكم
بعدي وخليفتي عليكم، فإذا مضى فالحسن والحسين ابناي إمامكما بعده وخليفتي
عليكم، ثم تسعة من ولد الحسين واحد بعد واحد أئمتكم وخلفائي عليكم، تاسعهم
قائم أمتي يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، لا يحبهم إلا من طابت
ولادته ولا يبغضهم إلا من خبثت ولادته ولا يواليهم إلا مؤمن ولا يعاديهم إلا كافر
من أنكر واحدا منهم فقد أنكرني ومن أنكرني فقد أنكر الله عز وجل، ومن
جحد واحدا منهم فقد جحدني ومن جحدني فقد جحد الله عز وجل، لأن طاعتهم
طاعتي وطاعتي طاعة الله ومعصيتهم معصيتي ومعصيتي معصية الله. يا بن مسعود إياك
أن تجد في نفسك حرجا مما أقضي فتكفر، فوعزة ربي ما أنا متكلف ولا أنا
ناطق عن الهوى في علي والأئمة عليهم السلام من ولده.
ثم قال صلى الله عليه وآله وهو رافع يديه إلى السماء: اللهم وال من والى خلفائي وأئمة
أمتي من بعدي وعاد من عاداهم، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، ولا
88

تخل الأرض من قائم منهم بحجتك إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا يبطل
دينك وحجتك وبيناتك.
ثم قال صلى الله عليه وآله: يا بن مسعود قد جمعت لكم في مقامي هذا ما إن فارقتموه
هلكتم وإن تمسكتم به نجوتم. والسلام على من اتبع الهدى.
والأخبار في هذا المعنى متواترة لا تحصى كثرة ذكرنا طرفا منها جلاءا
للأبصار وشفاءا لما في الصدور وهدى لقوم ينصفون.
" ذكر طرف مما جرى بعد وفاة رسول الله (ص) من اللجاج والحجاج
في أمر الخلافة من قبل من استحقها ومن لم يستحق، والإشارة إلى شئ من
إنكار من أنكر على من تأمر على علي بن أبي طالب (ع) تأمره وكيد من كاده
من قبل ومن بعد ".
عن أبي المفضل محمد بن عبد الله الشيباني (1) بإسناده الصحيح عن رجال
ثقة أن النبي صلى الله عليه وآله خرج في مرضه الذي توفي فيه إلى الصلاة متوكئا على الفضل بن
عباس وغلام له يقال له ثوبان، وهي الصلاة التي أراد التخلف عنها لثقله ثم حمل
على نفسه وخرج، فلما صلى عاد إلى منزله فقال لغلامه: اجلس على الباب ولا
تحجب أحدا من الأنصار وتجلاه الغشي وجاءت الأنصار فأحدقوا بالباب وقالوا:
استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال: هو مغشي عليه وعنده نساؤه، فجعلوا
يبكون فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله البكاء فقال: من هؤلاء؟ قالوا: الأنصار. فقال
من هيهنا من أهل بيتي؟ قالوا: علي والعباس، فدعاهما وخرج متوكئا عليهما
فاستند إلى جذع من أساطين مسجده - وكان الجذع جريد نخل - فاجتمع الناس
وخطب فقال في كلامه:

(1) محمد بن عبد الله بن محمد بن عبيد الله بن بهلول الشيباني كان سافر في طلب الحديث
عمره، أصله كوفي، كان في أول عمره ثبتا ثم خلط منتهى المقال ص 280.
89

(معاشر الناس) إنه لم يمت نبي قط إلا خلف تركة، وقد خلفت فيكم
الثقلين كتاب الله وأهل بيتي، ألا فمن ضيعهم ضيعه الله، ألا وإن الأنصار كرشي
وعيبتي (1) التي آوي إليها، وإني أوصيكم بتقوى الله والإحسان إليهم، فاقبلوا
من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم.
ثم دعا أسامة بن زيد فقال: سر على بركة الله والنصر والعافية حيث أمرتك
بمن أمرتك عليه، وكان صلى الله عليه وآله قد أمره على جماعة من المهاجرين والأنصار فيهم
أبو بكر وعمر وجماعة من المهاجرين الأولين، وأمره أن يغير على مؤتة واد في
فلسطين (2).
فقال له أسامة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أتأذن لي في المقام أياما حتى
يشفيك الله، فإني متى خرجت وأنت على هذه الحالة خرجت وفي قلبي منك قرحة
فقال: انفذ يا أسامة لما أمرتك فإن القعود عن الجهاد لا يجب في حال من الأحوال
قال: فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله أن الناس طعنوا في عمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
بلغني أنكم طعنتم في عمل أسامة وفي عمل أبيه من قبل، وأيم الله إنه لخليق للإمارة
وإن أباه كان خليقا لها، وإنه وأباه من أحب الناس إلي فأوصيكم به خيرا، فلئن
قلتم في إمارته لقد قال قائلكم في إمارة أبيه.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله بيته، وخرج أسامة من يومه حتى عسكر على
رأس فرسخ من المدينة، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله: أن لا يتخلف عن أسامة
أحد ممن أمرته عليه، فلحق الناس به، وكان أول من سارع إليه أبو بكر وعمر

(1) الكرش: الجماعة من الناس، وعيال الرجل، وصغار أولاده. والعيبة: ما
يجعل فيه الثياب، وعيبة الرجل: موضع سره.
(2) مؤتة: قرية من قرى البلقان في حدود الشام، وقيل إنها من مشارف الشام
على اثني عشر ميلا من أذرح بها قبر جعفر بن أبي طالب وزيد بن أبي حارثة وعبد الله
ابن رواحة على كل قبر منها بناء منفرد، مراصد الاطلاع 3 - 1330.
90

وأبو عبيدة بن الجراح، فنزلوا في رقاق (1) واحد مع جملة أهل العسكر.
قال: وثقل رسول الله صلى الله عليه وآله، فجعل الناس ممن لم يكن في بعث أسامة
يدخلون عليه أرسالا (2) وسعد بن عبادة يومئذ شاك (3) وكان لا يدخل أحد
من الأنصار على النبي صلى الله عليه وآله إلا انصرف إلى سعد يعوده.
قال: وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وقت الضحى من يوم الاثنين بعد خروج أسامة
إلى معسكره بيومين، فرجع أهل العسكر والمدينة قد رجفت بأهلها، فأقبل
أبو بكر على ناقة حتى وقف على باب المسجد فقال: أيها الناس ما لكم تموجون (4)
إن كان محمد قد مات فرب محمد لم يمت " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل
أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا " (5)
قال ثم اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة وجاؤا به إلى سقيفة بني ساعدة (6)
فلما سمع بذلك عمر أخبر بذلك أبا بكر فمضيا مسرعين إلى السقيفة ومعهما أبو
عبيدة بن الجراح، وفي السقيفة خلق كثير من الأنصار وسعد بن عبادة بينهم مريض
فتنازعوا الأمر بينهم فآل الأمر إلى أن قال أبو بكر في آخر كلامه للأنصار:
إنما أدعوكم إلى أبي عبيدة بن الجراح أو عمر وكلاهما قد رضيت لهذا الأمر
وكلاهما أراهما له أهلا. فقال عمر وأبو عبيدة: ما ينبغي لنا أن نتقدمك يا أبا بكر
وأنت أقدمنا إسلاما وأنت صاحب الغار وثاني اثنين فأنت أحق بهذا الأمر وأولى به
فقال الأنصار: نحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم،
فنجعل منا أميرا ومنكم أميرا ونرضى به على أنه إن هلك اخترنا آخر من الأنصار

(1) الرقاق: الصحراء والأرض المستوية اللينة التراب تحته صلابة، وقيل التي
نضب عنها الماء، وقيل اللينة المتسعة.
(2) أي قطائع مجتمعين
(3) أي مريض.
(4) تموجون: تختلف أموركم وتضطربون
(5) آل عمران: 144.
(6) سقيفة بني ساعدة: بالمدينة، وهي ظلة كانوا يجلسون تحتها. مراصد
الاطلاع 2 - 721.
91

فقال أبو بكر بعد أن مدح المهاجرين: وأنتم يا معشر الأنصار ممن لا ينكر فضلهم
ولا نعمتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه وكهفا لرسوله وجعل
إليكم مهاجرته وفيكم محل أزواجه، فليس أحد من الناس بعد المهاجرين الأولين
بمنزلتكم، فهم الأمراء وأنتم الوزراء.
فقال الحباب بن المنذر الأنصاري: يا معشر الأنصار أمسكوا على أيديكم، فإنما
الناس في فيئكم وظلالكم، ولن يجترئ مجتر على خلافكم ولن يصدر الناس إلا
عن رأيكم. وأثني على الأنصار ثم قال: فإن أبى هؤلاء تأميركم عليهم فلسنا نرضى
بتأميرهم علينا ولا نقنع بدون أن يكون منا أمير ومنهم أمير.
فقام عمر بن الخطاب فقال: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد، إنه
لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع إلى تولي
أمرها من كانت النبوة فيهم وألو الأمر منهم، ولنا بذلك على من خالفنا الحجة
الظاهرة والسلطان البين، فيما ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل
بباطل أو متجانف بإثم (1) أو متورط في الهلكة محب للفتنة.
فقام الحباب بن المنذر ثانية فقال: يا معشر الأنصار أمسكوا على أيديكم
ولا تسمعوا مقال هذا الجاهل وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر وإن أبوا
أن يكون منا أمير ومنهم أمير فاجلوهم عن بلادكم وتولوا هذا الأمر عليهم، فأنتم
والله أحق به منهم، فقد دان بأسيافكم قبل هذا الوقت من لم يكن يدين بغيرها
وأنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب (2)، والله لئن أحد رد قولي لأحطمن
أنفه بالسيف.

(1) المدل: الذي يقيم الدليل على مدعاه، والمدل بباطل: الذي استدل بباطل
والمتجانف: المائل عن الحق.
(2) جذيل: تصغير جذل، وهو العود الذي ينصب للإبل الجربى لتحتك به
وهو تصغير، تعظيم، أي أنا ممن يستشفى برأيه كما تستشفي الإبل الجربى بالاحتكاك بهذا
العود وعذيق تصغير العذق: النخلة. والرجبة: أن تعمد النخلة الكريمة ببناء من
حجارة أو خشب إذا خيف عليها لطولها وكثرة حملها أن تقع، وقد يكون ترجيب
النخلة بأن يجعل حولها شوك لئلا يرقى إليها. وملخص المراد من هذا الكلام. إنني الذي
يؤخذ برأيه وهو ستر وحفظ لما يخاف عليه من المكاره والأضرار.
92

قال عمر بن الخطاب: فلما كان الحباب هو الذي يجيبني لم يكن لي معه
كلام، فإنه جرت بيني وبينه منازعة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله فنهاني رسول الله صلى الله عليه وآله
عن مهاترته (1) فحلفت أن لا أكلمه أبدا.
قال عمر لأبي عبيدة: تكلم. فقام أبو عبيدة بن الجراح وتكلم بكلام كثير
وذكر فيه فضائل الأنصار، وكان بشير بن سعد سيدا من سادات الأنصار لما رأى
اجتماع الأنصار على سعد بن عبادة لتأميره حسده وسعى في إفساد الأمر عليه
وتكلم في ذلك ورضي بتأمير قريش وحث الناس كلهم لا سيما الأنصار على الرضا،
بما يفعله المهاجرون.
فقال أبو بكر: هذا عمر وأبو عبيدة شيخان من قريش فبايعوا أيهما شئتم
فقال عمر وأبو عبيدة: ما نتولى هذا الأمر عليك امدد يدك نبايعك. فقال بشير بن
سعد: وأنا ثالثكما، وكان سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، فلما رأت
الأوس صنيع سيدها بشير وما ادعيت إليه الخزرج من تأمير سعد أكبوا على أبي بكر
بالبيعة وتكاثروا على ذلك وتزاحموا، فجعلوا يطأون سعدا من شدة الزحمة وهو
بينهم على فراشه مريض. فقال: قتلتموني، قال عمر: اقتلوا سعدا قتله الله،
فوثب قيس بن سعد فأخذ بلحية عمر وقال: والله يا بن صهاك الجبان في الحرب
والفرار الليث في الملأ والأمن لو حركت منه شعرة ما رجعت وفي وجهك واضحة (2) فقال أبو بكر مهلا يا عمر مهلا فإن الرفق أبلغ وأفضل. فقال سعد: يا بن
صهاك - وكانت جدة عمر - الحبشية أما والله لو أن لي قوة على النهوض لسمعتها مني في
سككها زئيرا أزعجك وأصحابك منها ولألحقنكما بقوم كنتما فيهم أذنابا أذلاء تابعين

(1) المهاترة مأخوذة من الهتر، وهو السقط في الكلام والخطأ فيه
(2) الواضحة: الأسنان التي تبدو عند الضحك
93

غير متبوعين لقد اجترأتما.
ثم قال للخزرج: احملوني من مكان الفتنة، فحملوه وأدخلوه منزله، فلما
كان بعد ذلك بعث إليه أبو بكر أن قد بايع الناس فبايع. فقال: لا والله حتى
أرميكم بكل سهم في كنانتي وأخضب منكم سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما أقلت
يدي فأقاتلكم بمن تبعني من أهل بيتي وعشيرتي، ثم وأيم الله لو اجتمع الجن
والإنس علي لما بايعتكما أيهما الغاصبان حتى أعرض على ربي وأعلم ما حسابي.
فلما جاءهم كلامه قال عمر: لا بد من بيعته. فقال بشير بن سعد: إنه قد
أبى ولج وليس بمبايع أو يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه الخزرج والأوس
فاتركوه فليس تركه بضائر، فقبلوا قوله وتركوا سعدا، فكان سعد لا يصلي
بصلاتهم ولا يقضي بقضائهم، ولو وجد أعوانا لصال بهم ولقاتلهم، فلم يزل كذلك
مدة ولاية أبي بكر حتى هلك أبو بكر، ثم ولى عمر وكان كذلك، فخشى سعد
غائلة عمر فخرج إلى الشام فمات بحوران (1) في ولاية عمر ولم يبايع أحدا.
وكان سبب موته أن رمي بسهم في الليل فقتله، وزعم أن الجن رموه، وقيل أيضا
إن محمد بن سلمة الأنصاري تولى ذلك بجعل جعل له عليه، وروي أنه تولى ذلك
المغيرة بن شعبة وقيل خالد بن الوليد.
قال وبايع جماعة الأنصار ومن حضر من غيرهم، وعلي بن أبي طالب مشغول
بجهاز رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما فرغ من ذلك وصلى على النبي صلى الله عليه وآله والناس يصلون
عليه من بايع أبا بكر ومن لم يبايع جلس في المسجد، فاجتمع عليه بنو هاشم
ومعهم الزبير بن العوام، واجتمعت بنو أمية إلى عثمان بن عفان وبنو زهرة إلى
عبد الرحمن بن عوف، فكانوا في المسجد كلهم مجتمعين إذ أقبل أبو بكر ومعه عمر
وأبو عبيدة بن الجراح فقالوا: ما لنا نراكم خلقا شتى قوموا فبايعوا أبا بكر فقد
بايعته الأنصار والناس، فقام عثمان وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما فبايعوا،

(1) حوران بالفتح: كورة واسعة من أعمال دمشق في القبلة ذات قرى كثيرة
ومزارع، قصبتها بصرى، ومنها أذرعات وزرع وغيرهما. مراصد الاطلاع 1 - 435
94

وانصرف علي وبنو هاشم إلى منزل علي عليه السلام ومعهم الزبير. قال: فذهب إليهم عمر في جماعة ممن بايع فيهم أسيد بن حصين وسلمة بن
سلامة فألفوهم مجتمعين، فقالوا لهم: بايعوا أبا بكر فقد بايعه الناس، فوثب الزبير
إلى سيفه فقال عمر: عليكم بالكلب العقور فاكفونا شره، فبادر سلمة بن سلامة
فانتزع السيف من يده فأخذه عمر فضرب به الأرض فكسره، وأحدقوا بمن كان
هناك من بني هاشم ومضوا بجماعتهم إلى أبي بكر، فلما حضروا قالوا: بايعوا أبا
بكر فقد بايعه الناس، وأيم الله لئن أبيتم ذلك لنحاكمنكم بالسيف.
فلما رأى ذلك بنو هاشم أقبل رجل رجل فجعل يبايع حتى لم يبق ممن
حضر إلا علي بن أبي طالب، فقالوا له بايع أبا بكر. فقال علي عليه السلام: أنا أحق
بهذا الأمر منه وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم
عليهم بالقرابة من الرسول وتأخذونه منا أهل البيت غصبا، ألستم زعمتم للأنصار
إنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله صلى الله عليه وآله فأعطوكم المقادة وسلموا
لكم الإمارة، وأنا احتج عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، أنا أولى برسول
الله حيا وميتا، وأنا وصيه ووزيره ومستودع سره وعلمه، وأنا الصديق الأكبر
والفاروق الأعظم أول من آمن به وصدقه، وأحسنكم بلاءا في جهاد المشركين
وأعرفكم بالكتاب والسنة وأفقهكم في الدين وأعلمكم بعواقب الأمور، واذر بكم
لسانا (1) وأثبتكم جنانا، فعلام تنازعونا هذا الأمر؟ أنصفونا إن كنتم تخافون
الله من أنفسكم، واعرفوا لنا الأمر مثل ما عرفته لكم الأنصار، وإلا فبوؤا بالظلم
والعدوان وأنتم تعلمون.
فقال عمر: يا علي أما لك بأهل بيتك أسوة؟ فقال علي عليه السلام: سلوهم عن
ذلك، فابتدر القوم الذين بايعوا من بني هاشم فقالوا: والله ما بيعتنا لكم بحجة
على علي، ومعاذ الله أن نقول إنا نوازيه في الهجرة وحسن الجهاد والمحل من
رسول الله صلى الله عليه وآله.

(1) الذرب ككتف؟؟: حديدة الإسكاف التي يقطع بها، وذرب اللسان: حديده.
95

فقال عمر: إنك لست متروكا حتى تبايع طوعا أو كرها. فقال علي عليه السلام
احلب حلبا لك شطره، اشدد له اليوم ليرد عليك غدا، إذا والله لا أقبل قولك ولا
أحفل بمقامك ولا أبايع. فقال أبو بكر: مهلا يا أبا الحسن ما نشك فيك ولا نكرهك
فقال أبو عبيدة إلى علي عليه السلام فقال: يا بن عم لسنا ندفع قرابتك ولا سابقتك
ولا علمك ولا نصرتك، ولكنك حدث السن - وكان لعلي عليه السلام يومئذ ثلاث وثلاثون
سنة - وأبو بكر شيخ من مشايخ قومك، وهو أحمل لثقل هذا الأمر، وقد مضى
الأمر بما فيه فسلم له، فإن عمرك الله يسلموا هذا الأمر إليك، ولا يختلف فيك
اثنان بعد هذا إلا وأنت به خليق وله حقيق، ولا تبعث الفتنة في أوان الفتنة فقد
عرفت ما في قلوب العرب وغيرهم عليك.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا معاشر المهاجرين والأنصار الله الله لا تنسوا عهد
نبيكم إليكم في أمري، ولا تخرجوا سلطان محمد من داره وقعر بيته إلى دوركم
وقعر بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن حقه ومقامه في الناس.
فوالله معاشر الجمع إن الله قضى وحكم ونبيه أعلم وأنتم تعلمون بأنا أهل
البيت أحق بهذا الأمر منكم، أما كان القارئ منكم لكتاب الله الفقيه في دين الله
المضطلع بأمر الرعية، والله إنه لفينا لا فيكم فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق
بعدا وتفسدوا قديمكم بشر من حديثكم.
فقال بشير بن سعد الأنصاري الذي وطأ الأرض لأبي بكر وقالت جماعة من
الأنصار: يا أبا الحسن لو كان هذا الأمر سمعته منك الأنصار قبل بيعتها لأبي بكر
ما اختلف فيك اثنان. فقال علي عليه السلام: يا هؤلاء كنت أدع رسول الله مسجى لا
أواريه وأخرج أنازع في سلطانه، والله ما خفت أحدا يسمو له وينازعنا أهل البيت
فيه ويستحل ما استحللتموه، ولا علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله ترك يوم غدير خم
لأحد حجة ولا لقائل مقالا، فأنشد الله رجلا سمع النبي يوم غدير خم يقول: " من
كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره
وخذل من خذله " أن يشهد الآن بما سمع.
96

قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر رجلا بدريا بذلك وكنت ممن سمع القول
من رسول الله صلى الله عليه وآله فكتمت الشهادة يومئذ، فدعا علي علي فذهب بصري.
قال: وكثر الكلام في هذا المعنى وارتفع الصوت وخشي عمر أن يصغي
الناس إلى قول علي عليه السلام، ففسح المجلس وقال: إن الله يقلب القلوب، ولا تزال
يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة، فانصرفوا يومهم ذلك.
وعن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام:
جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أنكر على أبي بكر فعله
وجلوسه مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: نعم كان الذي أنكر على أبي بكر اثنى
عشر رجلا من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص، وكان من بني أمية وسلمان
الفارسي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وبريدة الأسلمي ومن
الأنصار أبو الهشيم بن التيهان وسهل وعثمان ابنا حنيف وخزيمة بن ثابت ذو
الشهادتين وأبي بن كعب وأبو أيوب الأنصاري.
قال: فلما صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بينهم، فقال بعضهم لبعض: والله
لنأتينه ولننزلنه عن منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال آخرون منهم: والله لئن فعلتم
ذلك إذا أعنتم على أنفسكم فقد قال الله عز وجل: " ولا تلقوا بأيديكم إلى
التهلكة " (1) فانطلقوا بنا إلى أمير المؤمنين عليه السلام لنستشيره ونستطلع رأيه.
فانطلق القوم إلى أمير المؤمنين بأجمعهم فقالوا: يا أمير المؤمنين تركت حقا
أنت أحق به وأولى به من غيرك، لأنا سمعنا رسول الله يقول " علي مع الحق والحق
مع علي يميل مع الحق كيف ما مال " ولقد هممنا أن نصير إليه فننزله عن منبر رسول
الله صلى الله عليه وآله، فجئناك لنستشيرك ونستطلع رأيك فما تأمرنا؟
فقال أمير المؤمنين: وأيم الله لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلا حربا، ولكنكم
كالملح في الزاد وكالكحل في العين، وأيم الله لو فعلتم ذلك لأتيتموني شاهرين
بأسيافكم مستعدين للحرب والقتال وإذا لأتوني فقالوا لي بايع وإلا قتلناك، فلا بد

(1) البقرة: 195
97

لي من أدفع القوم عن نفسي، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله أوعز إلي قبل وفاته وقال
لي: " يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك من بعدي وتنقض فيك عهدي وإنك مني
بمنزلة هارون من موسى وإن الأمة من بعدي كهارون ومن اتبعه والسامري ومن
اتبعه " فقلت: يا رسول الله فما تعهد إلي إذا كان كذلك؟ فقال: إذا وجدت أعوانا
فبادر إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعوانا كف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي
مظلوما. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه ثم
آليت على نفسي يمينا أن لا أرتدي برداء إلا للصلاة حتى أجمع القرآن، ففعلت
ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين فدرت على أهل بدر وأهل السابقة
فناشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي فما أجابني منهم إلا أربعة رهط سلمان وعمار
وأبو ذر والمقداد، ولقد راودت في ذلك بقية أهل بيتي، فأبوا علي إلا السكوت
لما علموا من وغارة (1) صدور القوم وبغضهم لله ورسوله ولأهل بيت نبيه، فانطلقوا
بأجمعكم إلى الرجل فعرفوه ما سمعتم من قول نبيكم ليكون ذلك أوكد للحجة
وأبلغ للعذر وأبعد لهم من رسول الله صلى الله عليه وآله إذا وردوا عليه.
فسار القوم حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وآله وكان يوم الجمعة، فلما
صعد أبو بكر المنبر قال المهاجرون للأنصار: تقدموا وتكلموا فقال الأنصار
للمهاجرين: بل تكلموا وتقدموا أنتم، فإن الله عز وجل بدأ بكم في الكتاب إذ
قال الله عز وجل: " لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في
ساعة العسرة " (2).
قال أبان: قلت له يا بن رسول الله إن العامة لا تقرأ كما عندك. قال: وكيف
تقرأ؟ قال: قلت إنها تقرأ " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار " فقال ويلهم
فأي ذنب كان لرسول الله صلى الله عليه وآله حتى تاب الله عليه عنه، إنما تاب الله به على أمته
فأول من تكلم به خالد بن سعيد بن العاص ثم باقي المهاجرين ثم بعدهم الأنصار.

(1) الوغر: الحقد والضغن والعداوة والتوقد من الغيض.
(2) التوبة: 117
98

وروى أنهم كانوا غيبا عن وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله فقدموا وقد تولى أبو بكر
وهم يومئذ أعلام مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال:
اتق الله يا أبا بكر فقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال ونحن محتوشوه (1) يوم بني
قريظة حين فتح الله له باب النصر وقد قتل علي بن أبي طالب عليه السلام يومئذ عدة من
صناديد رجالهم وأولي البأس والنجدة منهم: يا معاشر المهاجرين والأنصار إني موصيكم
بوصية فاحفظوها وموعدكم أمرا فاحفظوه، ألا إن علي بن أبي طالب أميركم
بعدي وخليفتي فيكم بذلك أوصاني ربي، ألا وإنكم إن لم تحفظوا فيه وصيتي
وتوازروه وتنصروه اختلفتم في أحكامكم واضطرب عليكم أمر دينكم ووليكم
أشراركم، ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون لأمري والعالمون لأمر أمتي من بعدي
اللهم من أطاعهم من أمتي وحفظ فيهم وصيتي فاحشرهم في زمرتي واجعل لهم نصيبا
من مرافقتي يدركون به نور الآخرة، اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي
فأحرمه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض.
فقال له عمر بن الخطاب: اسكت يا خالد فلست من أهل المشورة ولا ممن
يقتدى برأيه. فقال له خالد: بل اسكت أنت يا بن الخطاب فإنك تنطق على لسان
غيرك، وأيم الله لقد علمت قريش إنك من ألأمها حسبا وأدناها منصبا وأخسها
قدرا وأخملها ذكرا وأقلهم عناءا عن الله ورسوله، وإنك لجبان في الحروب بخيل
بالمال لئيم العنصر، مالك في قريش من فخر ولا في الحروب من ذكر، وإنك في
هذا الأمر بمنزلة الشيطان " إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك
إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء
الظالمين " (2) فأبلس (3) عمر وجلس خالد بن سعيد. ثم قام سلمان الفارسي
وقال " كرديد ونكرديد " أي فعلتم ولم تفعلوا، وقد كان امتنع من البيعة قبل

(1) احتوشوه واحتوشوا به: أحاطوا به.
(2) الحشر: 16 - 17
(3) أبلس: سكت على مضض أو خوف.
99

ذلك حتى وجئ (1) عنقه، فقال: يا أبا بكر إلى من تسند أمرك إذا نزل بك
ما لا تعرفه، وإلى من تفزع إذا سئلت عما لا تعلمه، وما عذرك في تقدمك على من
هو أعلم منك وأقرب إلى رسول الله وأعلم بتأويل كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ومن
قدمه النبي صلى الله عليه وآله في حياته وأوصاكم به عند وفاته، فنبذتم قوله وتناسيتم وصيته
وأخلفتم الوعد ونقضتم العهد وحللتم العقد الذي كان عقده عليكم من النفوذ تحت
راية أسامة بن زيد حذرا من مثل ما أتيتموه وتنبيها للأمة على عظيم ما احترمتموه
ومن مخالفة أمره فعن قليل يصفو لك الأمر وقد أثقلك الوزر ونقلت إلى قبرك
وحملت معك ما كسبت يداك، فلو راجعت الحق من قريب وتلافيت نفسك وتبت
إلى الله من عظيم ما اجترمت كان ذلك أقرب إلى نجاتك يوم تفرد في حفرتك
ويسلمك ذوو نصرتك، فقد سمعت كما سمعنا ورأيت كما رأينا، فلم يردعك
ذلك عما أنت متشبث به من هذا الأمر الذي لا عذر لك في تقلده ولاحظ للدين
ولا المسلمين في قيامك به، فالله الله في نفسك، فقد أعذر من أنذر ولا تكن كمن
أدبر واستكبر.
ثم قام أبو ذر الغفاري فقال: يا معشر قريش أصبتم قباحة وتركتم قرابة،
والله ليرتدن جماعة من العرب ولتشكن في هذا الدين، ولو جعلتم الأمر في أهل
بيت نبيكم ما اختلف عليكم سيفان، والله لقد صارت لمن غلب، ولتطمحن إليها عين
من ليس من أهلها، وليسفكن في طلبها دماء كثيرة - فكان كما قال أبو ذر - ثم
قال: لقد علمتم وعلم خياركم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال " الأمر بعدي لعلي ثم لابني
الحسن والحسين ثم للطاهرين من ذريتي " فأطرحتم قول نبيكم وتناسيتم ما عهد به
إليكم، فأطعتم الدنيا الفانية ونسيتم الآخرة الباقية التي لا يهرم شابها ولا يزول
نعيمها ولا يحزن أهلها ولا يموت سكانها بالحقير التافه الفاني الزائل، فكذلك
الأمم من قبلكم كفرت بعد أنبيائها ونكصت على أعقابها (2) وغيرت وبدلت

(1) وجئ عنقه: لوي وضرب.
(2) نكصت على أعقابها: رجعت إلى القهقري.
100

واختلفت، فساويتموهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، وعما قليل تذوقون
وبال أمركم وتجزون بما قدمت أيديكم. وما الله بظلام للعبيد.
ثم قام المقداد بن الأسود فقال: يا أبا بكر ارجع عن ظلمك، وتب إلى ربك
والزم بيتك، وابك على خطيئتك، وسلم الأمر لصاحبه الذي هو أولى به منك، فقد
علمت ما عقده رسول الله صلى الله عليه وآله في عنقك من بيعته، وألزمك من النفوذ تحت راية
أسامة بن زيد وهو مولاه، ونبه على بطلان وجوب هذا الأمر لك ولمن عضدك عليه
بضمه لكما إلى علم النفاق ومعدن الشنان والشقاق عمرو بن العاص الذي أنزل الله
فيه على نبيه صلى الله عليه وآله " إن شانئك هو الأبتر " (1) فلا اختلاف بين أهل العلم أنها
نزلت في عمرو، وهو كان أميرا عليكما وعلى سائر المنافقين في الوقت الذي أنفذه
رسول الله صلى الله عليه وآله في غزاة ذات السلاسل، وأن عمرا قلد كما حرس عسكره، فأين
الحرس إلى الخلافة، اتق الله وبادر بالاستقالة قبل فوتها، فإن ذلك أسلم لك في
حياتك وبعد وفاتك، ولا تركن إلى دنياك ولا تغرنك قريش وغيرها، فعن قليل
تضمحل عنك دنياك ثم تصير إلى ربك فيجزيك بعملك، وقد علمت وتيقنت أن علي
ابن أبي طالب عليه السلام هو صاحب الأمر بعد رسول الله، فسلمه إليه بما جعله الله له
فإنه أتم لسترك واخف لوزرك، فقد والله نصحت لك إن قبلت نصحي وإلى الله
ترجع الأمور.
ثم قام إليه بريدة الأسلمي فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا لقي الحق
من الباطل، يا أبا بكر أنسيت أم تناسيت وخدعت أم خدعتك نفسك أم سولت لك
الأباطيل، أو لم تذكر ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وآله من تسمية علي عليه السلام بإمرة
المؤمنين والنبي صلى الله عليه وآله بين أظهرنا، وقوله له في عدة أوقات " هذا علي أمير المؤمنين
وقاتل القاسطين "، اتق الله وتدارك نفسك قبل أن لا تدركها وانقذها مما يهلكها
واردد الأمر إلى من هو أحق به منك، ولا تتماد في اغتصابه، وراجع وأنت

(1) الكوثر: 3
101

تستطيع أن تراجع، فقد محضتك النصح ودللتك على طريق النجاة، فلا تكونن
ظهيرا للمجرين.
ثم قام عمار بن ياسر فقال: يا معاشر قريش ويا معاشر المسلمين إن كنتم
علمتم وإلا فاعلموا أن أهل بيت نبيكم أولى به وأحق بإرثه وأقوم بأمور الدين
وآمن على المؤمنين وأحفظ لملته وأنصح لأمته، فمروا صاحبكم فليرد الحق إلى
أهله قبل أن يضطرب حبلكم ويضعف أمركم ويظهر شتاتكم وتعظم الفتنة بكم
وتختلفون فيما بينكم ويطمع فيكم عدوكم، فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا
الأمر منكم، وعلي [أقرب منكم إلى نبيكم وهو] من بينهم وليكم بعهد الله ورسوله
وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سد النبي صلى الله عليه وآله أبوابكم التي كانت
إلى المسجد كلها غير بابه، وإيثاره إياه بكريمته فاطمة دون سائر من خطبها إليه
منكم، وقوله صلى الله عليه وآله " أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها "
وإنكم جميعا مضطرون فيما أشكل عليكم من أمور دينكم إليه وهو مستغن عن
كل أحد منكم إلى ما له من السوابق التي ليست لأفضلكم عند نفسه، فما بالكم
تحيدون عنه وتبتزون عليا حقه وتؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة بئس للظالمين
بدلا، أعطوه ما جعله الله له ولا تتولوا عنه مدبرين، ولا ترتدوا على أعقابكم
فتنقلبوا خاسرين.
ثم قام أبي بن كعب فقال: يا أبا بكر لا تجحد حقا جعله الله لغيرك، ولا
تكن أول من عصى رسول الله صلى الله عليه وآله في وصيه وصفيه وصدف عن أمره، أردد الحق
إلى أهله تسلم، ولا تتماد في غيك فتندم، وبادر الإنابة يخف وزرك، ولا تخصص
بهذا الأمر الذي لم يجعله الله لك نفسك فتلقى وبال عملك، فعن قليل تفارق ما أنت
فيه وتصير إلى ربك، فيسألك عما جنيت وما ربك بظلام للعبيد.
ثم قام خزيمة بن ثابت فقال: أيها الناس ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله
قبل شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري؟ قالوا: بلى. قال: فأشهد أني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول " أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل وهم الأئمة الذين
102

يقتدى بهم " وقد قلت ما علمت، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
ثم قام أبو الهشيم بن التيهان فقال: وأنا أشهد على نبينا صلى الله عليه وآله أنه أقام عليا
- يعني في يوم غدير خم - فقالت الأنصار: ما أقامه للخلافة، وقال بعضهم: ما أقامه
إلا ليعلم الناس أنه مولى من كان رسول الله صلى الله عليه وآله مولاه، وكثر الخوض في ذلك
فبعثنا رجالا منا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسألوه عن ذلك فقال: قولوا لهم علي ولي
المؤمنين بعدي وأنصح الناس لأمتي، وقد شهدت بما حضرني فمن شاء فليؤمن ومن
شاء فليكفر، إن يوم الفصل كان ميقاتا.
ثم قام سهل بن حنيف فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي محمد وآله ثم قال:
يا معاشر قريش اشهدوا علي أني أشهد على رسول الله وقد رأيته في هذا المكان
- يعني الروضة - وقد أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يقول: أيها الناس
هذا على إمامكم من بعدي ووصيي في حياتي وبعد وفاتي وقاضي ديني ومنجز
وعدي وأول من يصافحني على حوضي، فطوبى لمن اتبعه ونصره، والويل لمن
تخلف عنه وخذله.
وقام معه أخوه عثمان بن حنيف وقال: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أهل
بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم وقدموهم فهم الولاة من بعدي، فقام إليه رجل
فقال: يا رسول الله وأي أهل بيتك؟ فقال، علي والطاهرون من ولده. وقد بين صلى الله عليه وآله
فلا تكن يا أبا بكر أول كافر به، ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم
وأنتم تعلمون.
ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال، اتقوا الله عباد الله في أهل بيت نبيكم،
وارددوا إليهم حقهم الذي جعله الله لهم، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام
بعد مقام لنبينا صلى الله عليه وآله ومجلس بعد مجلس يقول: " أهل بيتي أئمتكم بعدي " ويؤمى
إلى علي ويقول " هذا أمير البررة وقاتل الكفرة مخذول من خذله منصور من نصره "
فتوبوا إلى الله من ظلمكم إياه إن الله تواب رحيم، ولا تتولوا عنه مدبرين ولا
تتولوا عنه معرضين.
103

قال الصادق عليه السلام: فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يحر جوابا، ثم
قال: وليتكم ولست بخيركم أقيلوني أقيلوني، فقال له عمر بن الخطاب: انزل
عنها يا لكع (1) إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لم أقمت نفسك هذا المقام؟ والله
لقد هممت أن أخلعك واجعلها في سالم مولي أبي حذيفة.
قال: فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد
رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل
فقال لهم: ما جلوسكم فقد طمع فيها والله بنو هاشم؟ وجاءهم سالم مولى أبي حذيفة
ومعه ألف رجل، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل، فما زال يجتمع إليهم رجل
رجل حتى اجتمع أربعة آلاف رجل، فخرجوا شاهرين بأسيافهم يقدمهم عمر بن
الخطاب حتى وقفوا بمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال عمر: والله يا أصحاب علي لئن
ذهب منكم رجل يتكلم بالذي تكلم بالأمس لنأخذن الذي فيه عيناه.
فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال، يا بن صهاك الحبشية أبأسيافكم
تهددوننا أم بجمعكم تفزعوننا، والله إن أسيافنا أحد من أسيافكم وأنا لأكثر منكم
وإن كنا قليلين لأن حجة الله فينا، والله لولا أني أعلم أن طاعة الله ورسوله وطاعة
إمامي أولى بي لشهرت سيفي وجاهدتكم في الله إلى أن أبلي عذري.
فقام أمير المؤمنين: اجلس يا خالد فقد عرف الله لك مقامك وشكر لك
سعيك، فجلس وقام إليه سلمان الفارسي فقال، الله أكبر الله أكبر سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله بهاتين الأذنين وإلا صمتا يقول " بينا أخي وابن عمي جالس في مسجدي
مع نفر من أصحابه إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار يريدون قتله وقتل
من معه، فلست أشك إلا وأنكم هم " فهم به عمر بن الخطاب فوثب إليه أمير
المؤمنين عليه السلام وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض ثم قال: يا بن صهاك الحبشية
لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله تقدم لأريتك أينا أضعف ناصرا وأقل عددا.
ثم التفت إلى أصحابه فقال: انصرفوا رحمكم الله، فوالله لا دخلت المسجد إلا

(1) للكع اللئيم والعبد والأحمق.
104

كما دخل أخواي موسى وهارون، إذ قال له أصحابه " فاذهب أنت وربك فقاتلا
إنا هيهنا قاعدون " (1) والله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله صلى الله عليه وآله أو لقضية أقضيها
فإنه لا يجوز بحجة أقامها رسول الله صلى الله عليه وآله أن يترك الناس في حيرة.
وعن عبد الله بن عبد الرحمن قال: ثم إن عمر احتزم بأزاره وجعل يطوف
بالمدينة وينادي: ألا إن أبا بكر قد بويع له فهلموا إلى البيعة، فينثال (2) الناس
يبايعون، فعرف أن جماعة في بيوت مستترون، فكان يقصدهم في جمع كثير
ويكبسهم ويحضرهم المسجد فيبايعون حتى إذا مضت أيام أقبل في جمع كثير إلى
منزل علي عليه السلام فطالبه بالخروج فأبى، فدعا عمر بحطب ونار وقال: والذي نفس
عمر بيده ليخرجن أو لأحرقنه على ما فيه. فقيل له: إن فاطمة بنت رسول الله وولد
رسول الله وآثار رسول الله صلى الله عليه وآله فيه، وأنكر الناس ذلك من قوله، فلما عرف
إنكارهم قال: ما بالكم أتروني فعلت ذلك إنما أردت التهويل، فراسلهم على أن
ليس إلى خروجي حيلة لأني في جمع كتاب الله الذي قد نبذتموه وألهتكم الدنيا
عنه، وقد حلفت أن لا أخرج من بيتي ولا أدع ردائي على عاتقي حتى أجمع القرآن.
قال وخرجت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله إليهم فوقفت خلف الباب ثم قالت:
لا عهد لي بقوم أسوء محضرا منكم، تركتم رسول الله صلى الله عليه وآله جنازة بين أيدينا وقطعتم
أمركم فيما بينكم ولم تؤمرونا ولم تروا لنا حقا، كأنكم لم تعلموا ما قال يوم
غدير خم، والله لقد عقد له يومئذ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرجاء، ولكنكم
قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيكم، والله حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة.
وفي رواية سليم بن قيس الهلالي (3) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه

(1) المائدة: 24.
(2) انثال الناس: انصبوا واجتمعوا.
(3) أبو صادق سليم بن قيس الهلالي، كان من أصحاب علي عليه السلام، وكان
هاربا من الحجاج لأنه طلبه ليقتله فجلا إلى أبان بن عياش، فآواه فلما حضرته الوفاة
قال لأبان " إن لك علي حقا وقد حضرتني الوفاة يا بن أخي إنه كان من أمر رسول
الله كيت وكيت " وأعطاه كتابا وهو كتاب سليم بن قيس الهلالي المشهور ورواه عنه
أبان بن عياش: الفهرست للطوسي 81.
105

قال: أتيت عليا عليه السلام وهو يغسل رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد كان أوصى أن لا يغسله
غير علي عليه السلام، وأخبر أنه لا يريد أن يقلب منه عضوا إلا قلب له، وقد قال أمير
المؤمنين عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله: من يعينني على غسلك يا رسول الله؟ قال جبرئيل.
فلما غسله وكفنه أدخلني وأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة وحسنا وحسينا عليهم السلام
فتقدم وصففنا خلفه فصلى عليه وعائشة في الحجرة لا تعلم قد أخذ جبرئيل ببصرها
ثم أدخل عشرة من المهاجرين وعشرة من الأنصار فيصلون ويخرجون، حتى لم
يبق من المهاجرين والأنصار إلا صلى عليه، وقلت لعلي عليه السلام حين يغسل رسول
الله صلى الله عليه وآله: إن القوم فعلوا كذا وكذا وإن أبا بكر الساعة لعلى منبر رسول الله صلى الله عليه وآله
وما يرضى الناس أن يبايعوا له بيد واحدة إنهم ليبايعون بيديه جميعا يمينا وشمالا.
فقال علي عليه السلام: يا سلمان فهل تدري من أول من يبايعه على منبر رسول
الله صلى الله عليه وآله؟ فقلت: لا إلا أني قد رأيته في ظلة بني ساعدة حين خصمت الأنصار،
وكان أول من بايعه بشير بن سعد ثم أبو عبيدة بن الجراح ثم عمر بن الخطاب ثم
سالم مولى أبي حذيفة [ومعاذ بن جبل].
قال: لست أسألك عن هذا، ولكن تدري من أول من بايعه حين صعد منبر
رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قلت: لا ولكني رأيت شيخا كبيرا متوكئا على عصاه بين عينيه
سجادة شديد التشمير وهو يبكي ويقول: الحمد لله الذي لم يمتني ولم يخرجني من
الدنيا حتى رأيتك في هذا المكان أبسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعه ثم نزل
فخرج من المسجد.
فقال لي علي عليه السلام: يا سلمان وهل تدري من هو؟ قلت: لا ولكني ساءتني
مقالته كأنه شامت بموت رسول الله صلى الله عليه وآله، قال علي إن ذلك إبليس لعنه الله،
أخبرني رسول الله أن إبليس ورؤساء أصحابه شهدوا نصب رسول الله صلى الله عليه وآله إياي
بغدير خم بأمر الله تعالى، فأخبرهم أن يبلغ الشاهد الغائب، فأتاه أبالسة ومردة
أصحابه فقالوا: إن هذه أمة مرحومة معصومة وما لنا ولا لك عليهم من سبيل، قد
106

علموا إمامهم ومفزعهم بعد نبيهم، فانطلق إبليس كئيبا حزينا، فأخبرني رسول
الله صلى الله عليه وآله أن لو قد قبض إن الناس سيبايعون أبا بكر في ظلة بني ساعدة بعد أن
تخاصمهم بحقك وحجتك، ثم يأتون المسجد فيكون أول من يبايعه على منبري
إبليس في صورة شيخ كبير مستبشر يقول كذا وكذا، ثم تجتمع شياطينه وأبالسته
فيخر ويكسع (1) ثم يقول كذا زعمتم أن ليس لي عليهم سبيل فكيف رأيتموني
صنعت بهم حين تركوا أمر من أمرهم الله بطاعته وأمرهم رسوله.
فقال سلمان: فلما كان الليل حمل علي فاطمة على حمار وأخذ بيد ابنيه
الحسن والحسين، فلم يدع أحدا من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار إلا
أتى منزله وذكر حقه ودعاه إلى نصرته، فما استجاب له من جميعهم إلا أربعة
وأربعون رجلا، فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رؤوسهم معهم سلاحهم وقد بايعوه
على الموت، فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة. قلت لسلمان: من الأربعة؟
قال: أنا وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام. ثم أتاهم من الليلة الثانية فناشدهم الله
فقالوا: نصحبك بكرة، فما منهم أحد وفى غيرنا، ثم الليلة الثالثة فما وفى أحد
غيرنا، فلما رأى علي عليه السلام عذرهم وقلة وفائهم لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه
ويجمعه، فلم يخرج حتى جمعه كله فكتبه على تنزيله والناسخ والمنسوخ، فبعث
إليه أبو بكر أن اخرج فبايع، فبعث إليه أني مشغول فقد آليت بيمين أن لا أرتدي
برداء إلا للصلوات حتى أؤلف القرآن وأجمعه، فجمعه في ثوب وختمه ثم خرج إلى
الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فنادى عليه السلام بأعلى صوته:
أيها الناس إني لم أزل منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله مشغولا بغسله ثم بالقرآن حتى
جمعته كله في هذا الثوب، فلم ينزل الله على نبيه آية من القرآن إلا وقد جمعتها
كلها في هذا الثواب، وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله صلى عليه وآله
وعلمني تأويلها.
فقالوا: لا حاجة لنا به عندنا مثله. ثم دخل بيته فقال عمر لأبي بكر: أرسل

(1) يكسع: يضرب دبره بيده أو بصدر قدمه.
107

إلى علي فليبايع فإنا لسنا في شئ حتى يبايع ولو قد بايع أمناه وغائلته. فأرسل
أبو بكر رسولا أن أجب خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله، فأتاه الرسول فأخبره بذلك، فقال
علي عليه السلام: ما أسرع ما كذبتم على رسول الله صلى الله عليه وآله، إنه ليعلم ويعلم الذين حوله
أن الله ورسوله لم يستخلفا غيري، فذهب الرسول فأخبره بما قاله فقال: اذهب فقل
أجب أمير المؤمنين أبا بكر، فأتاه فأخبره بذلك فقال علي عليه السلام: سبحان الله والله
ما طال العهد بالنبي مني وإنه ليعلم أن هذا الاسم لا يصلح إلا لي، وقد أمره
رسول الله صلى الله عليه وآله سابع سبعة فسلموا علي بإمرة المؤمنين، فاستفهمه هو وصاحبه
عمر من بين السبعة فقالا: أمر من الله ورسوله؟ فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم حقا
من الله ورسوله إنه أمير المؤمنين وسيد المسلمين وصاحب لواء الغر المحجلين، يقعده
الله يوم القيامة على الصراط فيدخل أولياءه الجنة وأعداءه النار.
قال: فانطلق الرسول إلى أبي بكر فأخبره بما قال، فكفوا عنه يومئذ، فلما
كان الليل حمل فاطمة عليها السلام على حمار ثم دعاها إلى نصرته فما استجاب له رجل غيرنا
أربعة، فإنا حلقنا رؤسنا وبذلنا نفوسنا ونصرتنا
وكان علي بن أبي طالب عليه السلام لما رأى خذلان الناس له وتركهم نصرته واجتماع
كلمة الناس مع أبي بكر وطاعتهم له وتعظيمهم له جلس في بيته، فقال عمر لأبي بكر:
ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع، فإنه لم يبق أحد إلا وقد بايع غيره وغير هؤلاء
الأربعة معه. وكان أبو بكر أرق الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غورا،
والآخر أفظهما وأغلظهما وأخشنهما وأجفاهما. فقال: من نرسل إليه؟ فقال عمر:
أرسل إليه قنفذا - وكان رجلا فظا غليظا جافيا من الطلقاء أحد بني تيم - فأرسله
وأرسل معه أعوانا، فانطلق فاستأذن فأبي علي عليه السلام أن يأذن له، فرجع أصحاب
قنفذ إلى أبي بكر وعمر وهما في المسجد والناس حولهما فقالوا: لم يأذن لنا. فقال
عمر: هو إن أذن لكم وإلا فادخلوا عليه بغير إذنه، فانطلقوا فاستأذنوا فقالت فاطمة عليها السلام
أحرج عليكم (1) أن تدخلوا بيتي بغير إذن، فرجعوا وثبت قنفذ فقالوا: إن فاطمة

(1) التحرج: التضيق وعدم الإذن والالجاء.
108

قالت كذا وكذا فحرجتنا أن ندخل عليها البيت بغير إذن منها، فغضب عمر وقال:
ما لنا وللنساء. ثم أمر أناسا حوله فحملوا حطبا وحمل معهم فجعلوه حول منزله
وفيه علي وفاطمة وابناهما عليهم السلام، ثم نادى عمر حتى أسمع عليا عليه السلام: والله لتخرجن
ولتبايعن خليفة رسول الله أو لأضرمن عليك بيتك نارا، ثم رجع فقعد إلى أبي بكر
وهو يخاف أن يخرج علي بسيفه لما قد عرف من بأسه وشدته. ثم قال لقنفذ: أن
خرج وإلا فاقتحم عليه، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم نارا.
فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن، وبادر علي إلى سيفه ليأخذه
فسبقوه إليه فتناول بعض سيوفهم فكثروا عليه فظبطوه وألقوا في عنقه حبلا أسود،
وحالت فاطمة عليها السلام بين زوجها وبينهم عند باب البيت فضربها قنقذ بالسوط على عضدها،
فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملوج (1) من ضرب قنفذ إياها، فأرسل
أبو بكر إلى قنفذ اضربها فالجأها إلى عضادة باب بيتها، فدفعها فكسر ضلعا من جنبها
وألقت جنينا من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة
صلوات الله عليها.
ثم انطلقوا بعلي عليه السلام ملببا بحبل حتى انتهوا به إلى أبي بكر وعمر قائم
بالسيف على رأسه وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وسالم والمغيرة بن شعبة
وأسيد بن حصين وبشير بن سعد وسائر الناس قعود حول أبي بكر عليهم السلاح
وهو يقول: أما والله لو وقع سيفي بيدي لعلمتم أنكم لن تصلوا إلي، هذا جزاء
مني وبالله لا ألوم نفسي في جهد ولو كنت في أربعين رجلا لفرقت جماعتكم، فلعن
الله قوما بايعوني ثم خذلوني، فانتهره عمر فقال: بايع. فقال: وإن لم أفعل؟
قال: إذا نقتلك ذلا وضعارا. قال: إذن تقتلون عبد الله وأخا رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال أبو بكر: أما عبد الله فنعم [كلنا عبيد الله] وأما أخو رسوله فلا نقر لك به.
قال عليه السلام: أتجحدون أن رسول الله صلى الله عليه وآله آخى بين نفسه وبيني، فأعادوا عليه ذلك
ثلاث مرات ثم أقبل علي عليه السلام فقال:

(1) الدملوج: حلي يلبس في المعصم.
109

يا معاشر المهاجرين والأنصار أنشدكم بالله أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم
غدير خم كذا وكذا، وفي غزاة تبوك كذا وكذا، فلم يدع شيئا قاله فيه عليه السلام
علانية للعامة إلا ذكره؟ فقالوا: اللهم نعم. فلما خاف أبو بكر أن ينصروه ويمنعوه
بادرهم فقال: كل ما قتله قد سمعناه بآذاننا ووعته قلوبنا، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول بعد هذا: إنا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا واختار لنا الآخرة على الدنيا،
وإن الله لم يكن لجيمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة.
فقال علي عليه السلام: أما أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله شهد هذا معك؟ قال
عمر: صدق خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله قد سمعنا منه هذا كما قال، وقال أبو عبيدة وسالم مولى
أبي حذيفة ومعاذ بن جبل: صدق قد سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال لهم: لشد ما وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة:
إن قتل الله محمدا أو أماته أن تزووا هذا الأمر عنا أهل البيت. فقال أبو بكر: وما
علمك بذلك اطلعناك عليها؟ قال علي يا زبير ويا سلمان وأنت يا مقداد أذكركم
بالله وبالاسلام أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله يقول ذلك إن فلانا وفلانا حتى عد هؤلاء
الخمسة قد كتبوا بينهم كتابا وتعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا؟ قالوا: اللهم نعم
قد سمعناه يقول ذلك لك، فقلت له بأبي أنت وأمي يا نبي الله فما تأمرني أن أفعل
إذا كان ذلك؟ فقال لك: إن وجدت عليهم أعوانا فجاهدهم ونابذهم، وإن لم تجد
أعوانا فبايعهم واحقن دمك.
فقال علي عليه السلام: أما والله لو أن أولئك الأربعين رجلا الذين بايعوني ووفوا
لجاهدتكم في الله ولله، لا أما والله لا ينالها أحد من عقبكم إلى يوم القيامة.
ثم نادى قبل أن يبايع: " يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني " (1)
ثم تناول يد أبي بكر فبايعه، فقيل للزبير بايع الآن، فأبى فوثب عليه عمر وخالد
ابن الوليد والمغيرة بن شعبة في أناس فانتزعوا سيفه من يده فضربوا به الأرض
حتى كسر، فقال الزبير وعمر على صدوه: يا بن صهاك أما والله لو أن سيفي في

(1) الأعراف: 15.
110

يدي لحدت عني، ثم بايع.
قال: سلمان: ثم أخذوني فوجأوا عنقي حتى تركوها مثل السلعة (1) ثم
فتلوا يدي، فبايعت مكرها، ثم بايع أبو ذر والمقداد مكرهين، وما من الأمة
أحد بايع مكرها غير علي وأربعتنا.
ولم يكن أحد منا أشد قولا من الزبير، فلما بايع قال: يا بن صهاك أما والله
لولا هؤلاء الطلقاء الذين أعانوك ما كنت لتقدم علي ومعي السيف لما قد علمت من
جبنك ولؤمك، ولكنك وجدت من تقوى بهم وتصول بهم، فغضب عمر فقال، أتذكر
صهاك؟ فقال الزبير: ومن صهاك وما يمنعني من ذلك، وإنما كانت صهاك أمة
حبشية لجدي عبد المطلب فزنا بها نفيل فولدت أباك الخطاب فوهبها عبد المطلب له
بعد ما ولدته، فإنه لعبد جدي فولد زنى، فأصلح بينهما أبو بكر وكف كل
منهما عن صاحبه.
فقال سليم: فقلت يا سلمان بايعت أبا بكر ولم تقل شيئا؟ قال: قد قلت بعد
ما بايعت: تبا لكم سائر الدهر، أو تدرون ماذا صنعتم بأناسكم، أصبتم وأخطأتم:
أصبتم سنة الأولين، وأخطأتم سنة نبيكم حتى أخرجتموها من معدنها وأهلها. فقال
لي عمر: أما إذا بايع صاحبك وبايعت فقل ما بدا لك وليقل ما بدا له.
قال: قلت فإني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن عليك وعلى
صاحبك الذي بايعته مثل ذنوب أمته إلى يوم القيامة ومثل عذابهم. وقال: قل ما
شئت أليس قد بايع ولم يقر الله عينك بأن يليها صاحبك. قال، قلت فإني أشهد أني
قرأت في بعض كتب الله المنزلة آية باسمك ونسبك وصفتك باب من أبواب جهنم.
قال: قل ما شئت أليس قد عزلها الله عن أهل البيت الذين قد اتخذتموهم أربابا.
قال: قلت فأشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول وقد سألته عن هذه الآية
" فيومئذ لا يعذب عذابه أحد. ولا يوثق وثاقه أحد " (2) فقال: إنك أنت هو.

(1) السلعة: خراج كهيئة الغدة.
(2) الفجر: 25 - 26.
111

فقال عمر اسكت: قال: قلت أسكت الله نأمتك (1) أيها العبد يا بن اللخناء (2).
فقال لي علي عليه السلام اسكت يا سلمان، فسكت فوالله لولا أنه أمرني بالسكوت لأخبرته
بكل شئ نزل فيه وفي صاحبه، فلما رأى ذلك عمر أنه قد سكت قال: إنك له مطيع
مسلم وإذا لم يقل أبو ذر والمقداد شيئا كما قال سلمان.
قال عمر: يا سلمان ألا تكف عنا كما كف صاحباك، فوالله ما أنت بأشد حبا
لأهل هذا البيت منهما ولا أشد تعظيما لهم ولحقهم، فقد كفا كما ترق وبايعا.
فقال أبو ذر أفتعيرنا يا عمر بحب آل محمد وتعظيمهم، لعن الله من أبغضهم وابتز عليهم
وظلمهم حقهم وحمل الناس على رقابهم ورد الناس على أدبارهم القهقري وقد
فعل ذلك بهم.
فقال عمر آمين فلعن الله من ظلمهم حقهم، لا والله ما لهم فيها حق وما هم
وعرض الناس في هذا الأمر إلا سواء. قال أبو ذر: فلم خاصمتم بحقهم وحجتهم؟
فقال علي عليه السلام: يا بن صهاك فليس لنا حق وهو لك ولابن آكلة الذباب.
فقال عمر: كف الآن يا أبا الحسن إذا بايعت، فإن العامة رضوا بصحابتي ولم يرضوا
بك فما ذنبي. قال علي عليه السلام لكن الله ورسوله لم يرضيا إلا بي فأبشر أنت وصاحبك
ومن اتبعكما وآزركما بسخط من الله وعذابه وخزيه، ويلك يا بن الخطاب أو تدري
مما خرجت وفيم دخلت وماذا جنيت على نفسك وعلى صاحبك، فقال أبو بكر:
يا عمر أما إذا بايع وأمنا شره وفتكه وغائلته فدعه يقول ما شاء.
فقال علي عليه السلام: لست بقائل غير شئ واحد، أذكركم بالله أيها الأربعة
- يعنيني والزبير وأبا ذر والمقداد - أسمعتم رسول الله يقول إن تابوتا من نار فيه
اثنا عشر رجلا ستة من الأولين وستة من الآخرين في جب في قعر جهنم في تابوت
مقفل على ذلك الجب صخرة إذا أراد الله أن يسعر نار جهنم كشف تلك الصخرة عن
ذلك الجب فاستعاذت جهنم من وهج ذلك الجب، فسألناه عنهم وأنتم شهود؟ فقال صلى الله عليه وآله:

(1) النأمة: الصوت، يقال " أسكت الله نأمته " أي نغمته وصوته.
(2) للخناء: المرأة المنتنة الفرج.
112

أما الأولون فابن آدم الذي قتل أخاه، وفرعون الفراعنة نمرود، والذي حاج
إبراهيم في ربه، ورجلان من بني إسرائيل بدلا كتابهم وغير أسنتهم، أما أحدهما
فهود اليهود والآخر نصر النصارى (1)، وإبليس سادسهم، والدجال في الآخرين،
وهؤلاء الخمسة أصحاب الصحيفة الذين تعاهدوا وتعاقدوا على عداوتك يا أخي والتظاهر
عليك بعدي هذا وهذا وهذا حتى عدهم وسماهم.
قال سلمان: فقلنا صدقت نشهد أنا سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله فقال عثمان:
يا أبا الحسن أما عندك وعند أصحابك هؤلاء في حديث؟ فقال: بلى قد سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يلعنك ثم لم يستغفر الله لك مذ لعنك فغضب عثمان فقال، ما لي
ولك أما تدعني على حالي على عهد رسول الله ولا بعده. فقال الزبير: نعم فأرغم
الله أنفك. فقال عثمان، فوالله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن الزبير يقتل
مرتدا عن الإسلام، قال سلمان: فقال لي علي عليه السلام فيما بيني وبينه صدق عثمان،
وذلك أنه يبايعني بعد قتل عثمان ثم ينكث بيعتي فيقتل مرتدا عن الإسلام.
قال سليم: ثم أقبل علي سلمان فقال، إن القوم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
إلا من عصمه الله بآل محمد، إن الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله بمنزلة هارون من موسى
ومن تبعه وبمنزلة العجل ومن تبعه، فعلي في سنة هارون وعتيق في سنة السامري،
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول " لتركبن أمتي سنة بني إسرائيل حذو القذة بالقذة
وحذو النعل بالنعل شبرا بشبر وذراعا بذراع وباعا بباع ".
وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال، لما استخرج أمير المؤمنين عليه السلام من منزله
خرجت فاطمة صلوات الله عليها خلفه فما بقيت امرأة هاشمية إلا خرجت معها حتى
انتهت قريبا من القبر فقالت لهم: خلوا عن ابن عمي فوالذي بعث محمدا أبي صلى الله عليه وآله
بالحق إن لم تخلوا عنه لأنشرن شعري ولأضعن قميص رسول الله صلى الله عليه وآله على رأسي
ولأصرخن إلى الله تبارك وتعالى، فما صالح بأكرم على الله من أبي ولا الناقة بأكرم

(1) يعني أحدهما غير دين موسى وحرف كتابه بعده، والآخر غير دين عيسى
وحرف كتابه بعده.
113

مني ولا الفصيل بأكرم على الله من ولدي. قال سلمان رضي الله عنه: كنت قريبا
منها، فرأيت والله أساس حيطان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله تقلعت من أسفلها حتى لو
أراد رجل أن ينفذ من تحتها لنفذ، فدنوت منها فقلت: يا سيدتي ومولاتي إن الله
تبارك وتعالى بعث أباك رحمة فلا تكوني نقمة، فرجعت ورجعت الحيطان حتى سطعت
الغبرة من أسفلها فدخلت في خياشيمنا.
وروي عن الباقر عليه السلام أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: اكتب إلى أسامة
ابن زيد يقدم عليك، فإن في قدومه قطع الشنيعة عنا. فكتب أبو بكر إليه:
" من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أسامة بن زيد. - أما بعد فانظر إذا
أتاك كتابي فاقبل إلي أنت ومن معك، فإن المسلمين قد اجتمعوا علي وولوني أمرهم
فلا تتخلفن فتعصي ويأتيك مني ما تكره والسلام ".
قال: فكتب أسامة إليه جواب كتابه " من أسامة بن زيد عامل رسول الله صلى الله عليه وآله
على غزوة الشام. أما بعد فقد أتاني منك كتاب ينقض أوله آخره، ذكرت في
أوله أنك خليفة رسول الله، وذكرت في آخره أن المسلمين قد اجتمعوا عليك فولوك
أمرهم ورضوك، فاعلم أني ومن معي من جماعة المسلمين والمهاجرين فلا والله ما
رضيناك ولا وليناك أمرنا، وانظر أن تدفع الحق إلى أهله وتخليهم وإياه فإنهم
أحق به منك، فقد علمت ما كان من قول رسول الله صلى الله عليه وآله في علي يوم الغدير، فما
طال العهد فتنسى، انظر مركزك ولا تخالف فتعصي الله ورسوله وتعصي من استخلفه
رسول الله صلى الله عليه وآله عليك وعلى صاحبك، ولم يعزلني حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله
وأنك وصاحبك رجعتما وعصيتما فأقمتما في المدينة بغير إذن ".
فأراد أبو بكر أن يخلعها من عنقه قال: فقال له عمر لا تفعل قميص قمصك
الله لا تخلعه فتندم ولكن ألح عليه بالكتب والرسائل ومر فلانا وفلانا أن يكتبوا
إلى أسامة أن لا يفرق جماعة المسلمين وأن يدخل معهم فيما صنعوا.
قال: فكتب إليه أبو بكر وكتب إليه الناس من المنافقين " أن ارض بما
اجتمعنا عليه وإياك أن تشتمل المسلمين فتنة من قبلك فإنهم حديثو عهد بالكفر ".
114

قال: فلما وردت الكتب على أسامة انصرف بمن معه حتى دخل المدينة،
فلما رأى اجتماع الخلق على أبي بكر انطلق إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال
له: ما هذا؟ قال له علي: هذا ما ترى. قال له أسامة: فهل بايعته؟ فقال: نعم
يا أسامة. فقال: طائعا أو كارها؟ فقال: لا بل كارها. قال: فانطلق أسامة فدخل
على أبي بكر وقال له، السلام عليك يا خليفة المسلمين. قال، فرد عليه أبو بكر
وقال، السلام عليك أيها الأمير.
وروي أن أبا قحافة كان بالطائف لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وبويع لأبي بكر،
فكتب ابنه إليه كتابا عنوانه " من خليفة رسول الله إلى أبي قحافة. أما بعد فإن
الناس قد تراضوا بي، فإني اليوم خليفة الله، فلو قدمت علينا كان أقر لعينك "
قال: فلما قرأ أبو قحافة الكتاب قال للرسول: ما منعكم من علي؟ قال:
هو حدث السن وقد أكثر القتل في قريش وغيرها وأبو بكر أسن منه. قال أبو
قحافة: إن كان الأمر في ذلك بالسن فأنا أحق من أبي بكر، لقد ظلموا عليا حقه
وقد بايع له النبي صلى الله عليه وآله وأمرنا ببيعته.
ثم كتب إليه " من أبي قحافة إلى ابنه أبي بكر. أما بعد فقد أتاني كتابك
فوجدته كتاب أحمق ينقض بعضه بعضا، مرة تقول خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله ومرة
تقول خليفة الله ومرة تقول تراضى بي الناس، وهو أمر ملتبس فلا تدخلن في أمر
يصعب عليك الخروج منه غدا ويكون عقباك منه إلى النار والندامة وملامة النفس
اللوامة لدى الحساب بيوم القيامة، فإن للأمور مداخل ومخارج وأنت تعرف من
هو أولى بها منك، فراقب الله كأنك تراه ولا تدعن صاحبها، فإن تركها اليوم
أخف عليك وأسلم لك ".
وعن عامر الشعبي عن عروة بن الزبير بن العوام قال، لما قال المنافقون إن
أبا بكر تقدم عليا وهو يقول أنا أولى بالمكان منه قام أبو بكر خطيبا فقال: صبرا
على من ليس يؤول إلى دين ولا يحتجب برعاية ولا يرعوي لولاية، أظهر الإيمان
ذلة وأسر النفاق غلة، هؤلاء عصبة الشيطان وجمع الطغيان يزعمون أني أقول إني
115

أفضل من علي، وكيف أقول ذلك وما لي سابقته ولا قرابته ولا خصوصيته، وحد
الله وأنا ملحده وعبده علي قبل أن أعبده ووالى الرسول وأنا عدوه، وسبقني بساعات
لو انقطعت لم ألحق شأوه ولم أقطع غباره، وأن علي بن أبي طالب فاز والله من
الله بمحبة ومن الرسول بقرابة ومن الإيمان برتبة، لو جهد الأولون والآخرون
إلا النبيين لم يبلغوا درجته ولم يسلكوا منهجه، بذل في الله مهجته ولابن عمه مودته
كاشف الكرب ودامغ الريب وقاطع السبب إلا سبب الرشاد وقامع الشرك ومظهر ما
تحت سويداء حبة النفاق، محنة لهذا العالم، لحق قبل أن يلاحق وبرز قبل أن
يسابق، جمع العلم والحلم والفهم فكان جميع الخيرات لقلبه كنوزا لا يدخر منها
مثقال ذرة إلا أنفقه في بابه، فمن ذا يؤمل أن ينال درجته وقد جعله الله ورسوله
للمؤمنين وليا وللنبي وصيا وللخلافة راعيا وبالإمامة قائما، أفيغتر الجاهل بمقام
قمته إذ أقامني وأطعته إذ أمرني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول " الحق مع علي وعلي
مع الحق، من أطاع عليا رشد ومن عصى عليا فسد، ومن أحبه سعد ومن أبغضه
شقي " والله لو لم يحب ابن أبي طالب إلا لأجل أنه لم يواقع الله محرما ولا عبد من
دونه صنما ولحاجة الناس إليه بعد نبيهم لكان في ذلك ما يجب، فكيف لأسباب
أقلها موجب وأهونها مرغب، للرحم الماسة بالرسول والعلم بالدقيق والجليل
والرضا بالصبر الجميل والمواساة في الكثير والقليل، وخلال لا يبلغ عدها ولا
يدرك مجدها ود المتمنون أن لو كانوا تراب أقدام ابن أبي طالب، أليس هو صاحب
لواء الحمد والساقي يوم الورود وجامع كل كرم وعالم كل علم والوسيلة إلى الله
وإلى رسوله.
وعن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن أبي رافع قال، إني لعند أبي بكر إذ
طلع علي والعباس يتدافعان ويختصمان في ميراث النبي صلى الله عليه وآله، فقال أبو بكر: يكفيكم
القصير الطويل - يعني بالقصير عليا وبالطويل العباس - فقال العباس: أنا عم النبي صلى الله عليه وآله
ووارثه، وقد حال علي بيني وبين تركته.
فقال أبو بكر: فأين كنت يا عباس حين جمع النبي صلى الله عليه وآله بني عبد المطلب
116

وأنت أحدهم فقال " أيكم يوازرني ويكون وصيي وخليفتي في أهلي ينجز عدتي
ويقضي ديني " فأحجمتم عنها إلا علي، فقال النبي صلى الله عليه وآله أنت كذلك؟
فقال العباس: فما أقعدك في مجلسك هذا تقدمته وتأمرت عليه؟ قال أبو
بكر: أعذروني يا بني عبد المطلب.
وروى رافع بن أبي رافع الطائي عن أبي بكر وقد صحبه في سفر قال، قلت
له: يا أبا بكر علمني شيئا ينفعني الله به. قال: قد كنت فاعلا ولو لم يسألني لا
تشرك بالله شيئا، وأقم الصلاة، وآت الزكاة، وصم شهر رمضان، وحج البيت واعتمر، ولا
تأمرن على اثنين من المسلمين. قال: قلت له أما ما أمرتني به من الإيمان والصلاة
والزكاة والصوم والحج والعمرة فأنا أفعله، وأما الإمارة فإني رأيت الناس لا يصيبون
هذا الشرف وهذا الغنى والعز والمنزلة عند رسول الله إلا بها. قال: إنك استنصحتني
فأجهدت نفسي لك.
فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله واستخلف أبو بكر جئته وقلت له: يا أبا بكر
ألم تنهني أن أتأمر على اثنين؟ قال بلى. قلت: فما بالك تأمرت على أمة محمد صلى الله عليه وآله
قال اختلف الناس وخفت عليهم الضلالة ودعوني فلم أجد من ذلك بدا.
وروى أن أبا بكر وعمر بعثا إلى خالد بن الوليد فواعداه وفارقاه على قتل
علي عليه السلام وضمن ذلك لهما، فسمعت ذلك الخبر أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر
في خدرها، فأرسلت خادمة لها، وقالت ترددي في دار علي وقولي له " الملأ يأتمرون
بك ليقتلوك " (1) ففعلت الجارية وسمعها علي عليه السلام، فقال رحمها الله قولي
لمولاتك فمن يقتل الناكثين والمارقين والقاسطين؟
ووقعت المواعدة لصلاة الفجر إذ كان أخفى، واختيرت للسدفة (2) والشبهة
[فإنهم كانوا يغسلون (3) بالصلاة حتى لا تعرف المرأة من الرجل] ولكن الله

(1) القصص: 20.
(2) السدفة: ظلمة فيها ضوء من أول النهار وآخره.
(3) الغلس: ظلمة آخر الليل، يغلسون بالصلاة: يصلون في الغلس
117

بالغ أمره، وكان أبو بكر قال لخالد بن الوليد: إذا انصرفت من صلاة الفجر
فاضرب عنق علي. فصلى إلى جنبه لأجل ذلك وأبو بكر في الصلاة يفكر في العواقب
فندم فجلس في صلاته حتى كادت الشمس تطلع يتعقب الآراء ويخاف الفتنة ولا
يأمن على نفسه. فقال قبل أن يسلم في صلاته: يا خالد لا تفعل ما أمرتك به - ثلاثا -
وفي رواية أخرى لا يفعلن خالد ما أمر به، فالتفت علي عليه السلام فإذا خالد مشتمل
على السيف إلى جانبه فقال: يا خالد ما الذي أمرك به؟ قال: بقتلك يا أمير المؤمنين
قال: أو كنت فاعلا؟ فقال، أي والله لولا أنه نهاني لوضعته في أكثرك (1) شعرا
فقال له علي عليه السلام: كذبت لا أم لك من يفعله أضيق حلقة است منك، أما والذي
فلق الحبة وبرئ النسمة لولا ما سبق به القضاء لعلمت أي الفريقين شر مكانا
واضعف جندا.
وفي رواية أخرى لأبي ذر رحمه الله أن أمير المؤمنين عليه السلام أخذ خالدا
بأصبعيه السبابة والوسطى في ذلك الوقت، فعصره عصرا فصاح خالد صيحة منكرة،
ففزع الناس وهمتهم أنفسهم وأحدث خالد في ثيابه وجعل يضرب برجليه الأرض
ولا يتكلم. فقال أبو بكر لعمر: هذه مشورتك المنكوسة، كأني كنت أنظر إلى
هذا وأحمد الله على سلامتنا، وكلما دنى أحد ليخلصه من يده لحظة تنحى عنه رعبا
فبعث أبو بكر وعمر إلى العباس فجاء وتشفع إليه وأقسم عليه فقال: بحق هذا القبر
ومن فيه وبحق ولديه وأمهما إلا تركته، ففعل ذلك وقبل العباس بين عينيه.

(1) يريد الرأس لأنه أكثر الأعضاء. شعرا.
118

" احتجاج أمير المؤمنين (ع) على أبي بكر وعمر لما منعا فاطمة الزهراء (ع)
فدك بالكتاب والسنة ".
عن حماد بن عثمان (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما بويع أبو بكر واستقام
له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك (2) من أخرج وكيل

(1) قال العلامة الحلي في خلاصته: حماد بن عثمان بن عمرو بن خالد الفزاري
مولاهم كوفي وكان يسكن عرزم فذهب إليها وأخوة عبد الله ثقتان رويا عن أبي عبد الله
عليه السلام وروي حماد عن أبي الحسن الرضا (ع) ومات حماد بالكوفة رحمه الله سنة
تسعين ومائة ذكرهما أبو العباس في كتابه. وسبقه بذكر حماد بن عثمان الناب مولى غني
وعده من أصحاب الكاظم والرضا عليهما السلام.
وعده الشيخ في رجاله تارة من أصحاب الصادق (ع) وأخرى من أصحاب
الكاظم (ع) وثالثة من أصحاب الرضا (ع) وسماه ذو الناب ولم يتعرض لذكر حماد
الفزاري. ولعله إنما لم يتعرض لذكره لاعتقاده باتحادهما فقد اعتقد ذلك بعض أصحاب
الرجال واستدلوا على ما ذهبوا إليه باتحاد سنة الوفاة واتحاد عشيرتيهما. ونقل المامقاني
بتفصيل أقوال الرجاليين فيهما وقال في تنقيح المقال أقول: " الأظهر اتحاد الرجلين
فإن غنيا حي من غطفان، وفزارة أبو قبيلة من غطفان " انتهى.
أقول: وهذا لا يكفي بل إن دليل التعدد ظاهر والاختلاف بينهما واضح بين
لاختلاف اسم الجد والأخوة فحماد ذو الناب هو: حماد بن عثمان بن زياد، والفزاري
هو: حماد بن عثمان بن عمرو بن خالد والأول أخواه حسين وجعفر، والثاني أخوه عبد الله
وعليه فيكون المراد هنا حمادا الفزاري لأنه يروي عن الصادق (ع) وذو الناب يروي
عن الكاظم والرضا فقط كما في الخلاصة.
راجع رجال الطوسي، رجال الكشي، رجال المامقاني، الخلاصة للعلامة. فهرست
الشيخ الطوسي، أعيان الشيعة، قاموس الرجال.
(2) " فدك ": قرية في الحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة وهي
أرض يهودية، كان يسكنها طائفة من اليهود حتى السنة السابعة حيث قذف الله بالرعب
في قلوب أهليها فصالحوا رسول الله صلى الله عليه وآله على النصف من فدك، وروى أنه صالحهم عليها كلها. فصارت ملكا لرسول الله صلى الله عليه وآله خاصة، لأنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب
ثم قدمها لابنته الزهراء (ع) وكانت بيدها في عهد أبيها وبعد وفاته صلى الله عليه وآله وكانت
وضعت عليها وكيلا عنها فانتزعها الخليفة الأول وطرد وكيلها ولما تولى عمر الخلافة
ردها إلى ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله فلما ولي عثمان بن عفان أقطعها مروان بن الحكم فلما
صار الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان ثلثها، وعمر بن عثمان ثلثا، ويزيد
ابنه ثلثها الآخر، فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت لمروان بن الحكم أيام ملكه ثم صفت
لعمر بن عبد العزيز بن مروان، فلما ولي الأمر ردها لولد فاطمة (ع)، ثم انتزعها يزيد
ابن عبد الملك من أولاد فاطمة وظلت في أيدي بني مروان حتى انقرضت دولتهم.
فلما تقلد الخلافة أبو العباس السفاح ردها على عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن
الحسن بن علي (ع) ثم قبضها أبو جعفر المنصور في خلافته من بني الحسن، وردها
المهدي بن المنصور على الفاطميين، ثم انتزعها موسى بن المهدي من أيديهم، ثم ردها
المأمون عليهم سنة مائتين وعشرة ولما بويع المتوكل انتزعها منهم وأقطعها عبد الله بن
عمر البازيار من أهل طبرستان. وردها المعتضد، وحازها المكتفي، وقيل إن المقتدر
ردها عليهم وكان فيها بضعة عشر نخلة غرسها رسول الله بيده. قال ابن أبي الحديد: -
في شرح النهج - وقلت لمتكلم من متكلمي الإمامية يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل.
وهل كانت فدك إلا نخلا يسيرا وعقارا ليس بذلك الخطير؟ فقال لي ليس الأمر كذلك
بل كانت جليلة جدا وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل وما قصد أبو
بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا أن لا يتقوى على بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة الخ
وقال أيضا: وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له:
أكانت فاطمة صادقة؟ قال نعم قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدكا وهي عنده صادقة فتبسم
ثم قال: كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته قال لو أعطاها اليوم فدكا
بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ولم يكن
يمكنه الاعتذار بشئ لأنه يكون قد سجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدعي
راجع: معجم البلدان لياقوت الحموي، أعيان الشيعة للسيد الأمين، فدك في
التاريخ للسيد الصدر، فتوح البلدان للبلاذري، شرح النهج لابن أبي الحديد.
119

فاطمة عليها السلام بنت رسول الله منها، فجاءت فاطمة الزهراء عليها السلام إلى أبي بكر ثم قالت
120

لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها
لي رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر الله تعالى؟
فقال: هاتي على ذلك بشهود. فجاءت بأم أيمن، فقالت له أم أيمن: لا
أشهد يا أبا بكر حتى احتج عليك بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله، أنشدك بالله ألست
تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال " أم أيمن امرأة من أهل الجنة (1) " فقال: بلى. قالت
" فأشهد: أن الله عز وجل أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله " وآت ذا القربى حقه " (2)

(1) أم أيمن: مولاة النبي صلى الله عليه وآله وحاضنته.. اسمها بركة بنت ثعلبة
ابن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان، مهاجرة جليلة هاجرت الهجرتين
إلى أرض الحبشة، وإلى المدينة، وشهدت حنينا واحدا وخيبرا وكانت في أحد تسقي الماء
وتداوي الجرحى. وكان النبي صلى الله عليه وآله يخاطبها يا أمه ويقول: " هي أمي بعد أمي " وكان
إذا نظر إليها يقول " هذه بقية أهل بيتي ".
قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: " روت عن النبي صلى الله عليه وآله وعنها أنس بن مالك
وحنش بن عبد الله الصنعاني وأبو يزيد المدني ".
وكنيت بابنها أيمن بن عبيد وهي أم أسامة بن زيد بن حارثة تزوجها زيد بعد
عبيد الحبشي.
قيل كانت لعبد الله بن عبد المطلب (ع) فصارت للنبي صلى الله عليه وآله ميراثا وقيل
أنها كانت لأمه صلى الله عليه وآله وروي أنها كانت لأخت خديجة فوهبتها للنبي صلى الله عليه وآله فلما
تزوج من خديجة (ع) أعتقها.
وفي الإصابة: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة
فليتزوج أم أيمن ".. وتوفيت في أوائل عهد عثمان وروى البخاري أنها توفيت بعد
النبي بخمسة أشهر.
راجع الإصابة، تهذيب التهذيب، أعلام النساء، طبقات ابن سعد، البخاري
قاموس الرجال، أعيان الشيعة.
(1) قال الطبرسي في مجمع البيان: " وأخبرنا السيد أبو الحمد مهدي بن نزار
الحسيني قراءة قال حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن الحسكاني قال حدثنا الحاكم الوالد أبو محمد
قال حدثنا عبد الله عن عمر بن عثمان ببغداد شفاها قال: أخبرني عمر بن الحسن بن
علي بن مالك قال: حدثنا جعفر بن محمد الأحمسي قال: حدثنا حسن بن حسين قال: حدثنا
أبو معمر سعيد بن خثيم وعلي بن القاسم الكندي ويحيى بن يعلى وعلي بن مسهر عن
فضل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزل قوله: (آت ذا
القربى حقه " أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة فدكا. قال عبد الرحمن بن صالح كتب
المأمون إلى عبد الله بن موسى يسأله عن قصة فدك فكتب عبد الله بهذا الحديث رواه
الفضل بن مرزوق عن عطية فرد المأمون فدكا إلى ولد فاطمة انتهى.
121

فجعل فدكا لها طعمة بأمر الله، فجاء علي عليه السلام فشهد: بمثل ذلك فكتب لها
كتابا ودفعه إليها، فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: إن فاطمة عليها السلام ادعت
في فدك، وشهدت لها أم أيمن وعلي عليه السلام، فكتبته لها، فأخذ عمر الكتاب من
فاطمة فتفل فيه ومزقه فخرجت فاطمة عليها السلام تبكي، فلما كان بعد ذلك جاء علي عليه السلام
إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر لم منعت
فاطمة ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وقد ملكته في حياة رسول الله (ص) فقال
أبو بكر: هذا فيئ للمسلمين، فإن أقامت شهودا أن رسول الله جعله لها وإلا فلا
حق لها فيه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله في
المسلمين. قال: لا. قال: فإن كان في يد المسلمين شئ يملكونه، ثم ادعيت أنا فيه
من تسأل البينة؟ قال: إياك أسأل البينة، قال: فما بال فاطمة سئلتها البينة على
ما في يديها؟ وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده، ولم تسئل المسلمين بينة
على ما ادعوها شهودا، كما سألتني على ما ادعيت عليهم؟ (1) فسكت أبو بكر
فقال عمر: يا علي دعنا من كلامك. فإنا لا نقوى على حجتك، فإن أتيت بشهود
عدول، وإلا فهو فيء للمسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام
يا أبا بكر تقرء كتاب الله؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قول الله عز وجل:
" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (2) فيمن

(1) إذ أنها عليها السلام كانت صاحبة اليد والمسلمون يمثلون دور المدعي.
(2) روى محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: عن عمر بن أبي سلمة ربيب رسول
الله صلى الله عليه وآله قال نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله " إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا - سورة الأحزاب آية: 33 " في بيت أم سلمة رضي
الله عنها فدعى النبي صلى الله عليه وآله فاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره ثم
قال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ". قالت أم سلمة وأنا
معهم يا رسول الله قال: " أنت على مكانك وأنت على خير ".
122

نزلت فينا أم في غيرنا؟ قال: بل فيكم، قال: فلو أن شهودا شهدوا على فاطمة
بنت رسول الله صلى الله عليه وآله بفاحشة ما كنت صانعا بها؟ قال كنت أقيم عليها الحد، كما
أقيمه على نساء المسلمين، قال: إذن كنت عند الله من الكافرين، قال: ولم قال: لأنك
رددت شهادة الله لها بالطهارة، وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم الله
وحكم رسوله، أن جعل لها فدكا قد قبضته في حياته، ثم قبلت شهادة أعرابي بائل
على عقبيه عليها، وأخذت منها فدكا، وزعمت أنه فيء للمسلمين، وقد قال رسول
الله " ص ": البينة على المدعي: واليمين على المدعى عليه " فرددت قول: رسول
الله " ص ": البينة على من أدعى، واليمين على من ادعي عليه، قال: فدمدم الناس
وأنكروا، ونظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: " صدق والله علي بن أبي طالب عليه السلام "
ورجع إلى منزله.
قال: ثم دخلت فاطمة المسجد، وطافت بقبر أبيها، وهي تقول:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها * واختل قومك فاشهدهم ولا تغب (1)
قد كان جبريل بالآيات يونسنا * فغاب عنا فكل الخير محتجب
وكنت بدرا ونورا يستضاء به * عليك ينزل من ذي العزة الكتب
تجهمتنا رجال واستخف بنا * إذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب

(1) في كشف الغمة " ثم التفتت إلى قبر أبيها متمثلة بقول هند ابنة أثانة:
قد كان بعدك أبناء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها * واختل قومك لما غبت وانقلبوا
123

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت * منا العيون بتهمال لها سكب
قال: فرجع أبو بكر وعمر إلى منزلهما، وبعث أبو بكر إلى عمر فدعاه
ثم قال: له أما رأيت مجلس علي منا في هذا اليوم؟ والله لئن قعد مقعدا آخر مثله
ليفسدن علينا أمرنا، فما الرأي؟ فقال عمر: الرأي أن تأمر بقتله، قال: فمن
يقتله؟ قال: " خالد بن الوليد " (1).

(1) خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي.
قال ابن حجر: - في الإصابة - " وشهد مع كفار قريش الحروب إلى غزوة
الحديبية، كما ثبت في الصحيح: أنه كان على خيل قريش طليعة، ثم أسلم في سنة سبع بعد
خيبر وقيل قبلها، ووهم من زعم أن أسلم سنة خمسة ".
وقال ابن الأثير - في أسد الغابة -: " ولا يصح لخالد مشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله
قبل فتح مكة. ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة بعثه إلى بني جذيمة من بني عامر بن لؤي
فقتل منهم من لم يجز قتله. فقال النبي صلى الله عليه وآله: " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ".
فأرسل مالا مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فودى القتلى وأعطاهم ثمن ما أخذ
منهم حتى ثمن ميلغة الكلب، وفضل معه فضلة من المال فقسمها فيهم فلما أخبر رسول
الله صلى الله عليه وآله بذلك استحسنه. "..
و (قال) فيه أيضا: " ثم إن أبا بكر أمره بعد رسول الله صلى الله عليه وآله على قتال
المرتدين منهم مسيلمة الحنفي في اليمامة، وله في قتالهم الأثر العظيم، و (منهم): مالك
ابن نويرة من بني يربوع من تميم وغيرهم إلا أن الناس اختلفوا في قتل مالك بن نويرة
فقيل: (إنه قتل مسلما) لظن ظنه خالد به، وكلام سمعه منه، وأنكر عليه أبو قتادة
وأقسم أنه لا يقاتل تحت رايته، وأنكر عليه ذلك عمر بن الخطاب.. ".
و (قال) في أسد الغابة أيضا: - في ترجمة مالك بن نويرة - " فلما فرغ خالد من
بني أسد وغطفان، سار إلى مالك وقدم البطاح فلم يجد به أحدا كان مالك قد فرقهم ونهاهم
عن الاجتماع فلما قدم خالد البطاح بث سرايا فأتى بمالك بن نويرة ونفر من قومه فاختلف
السرية فيهم، وكان فيهم أبو قتادة وكان فيمن شهد أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا فحبسهم
في ليلة باردة، وأمر خالد فنادى: أدفئوا أسراكم - وهي في لغة كنانة: القتل - فقتلوهم
فسمع خالد الواعية، فخرج وقد قتلوا، فتزوج خالد امرأته، فقال عمر لأبي بكر: سيف
خالد فيه رهق وأكثر عليه فقال أبو بكر: تأول فأخطأ ولا اشيم سيفا سله الله على
المشركين، وودي مالكا، وقدم خالد على أبي بكر، فقال له عمر: يا عدو الله قتلت امرأ
مسلما ثم نزوت على امرأته لأرجمنك ".
(قال): " وقيل إن المسلمين لما غشوا مالكا وأصحابه ليلا، أخذوا السلاح
فقالوا: نحن المسلمون، فقال أصحاب مالك: ونحن المسلمون، فقالوا لهم: ضعوا السلاح
فوضعوه وصلوا. وكان خالد يعتذر في قتله، أن مالكا قال: ما أخال صاحبكم إلا قال كذا فقال
أو ما تعده لك صاحبا؟ فقتله. فقدم متمم على أبي بكر، يطلب بدم أخيه وأن يرد
عليهم سبيهم فأمر أبو بكر برد السبي، وودي مالكا من بيت المال، فهذا جميعه ذكره
الطبري وغيره من الأئمة ويدل على أنه لم يرتد. " انتهى.
وجعله أبو بكر واليا من قبله على الشام فلما ولي عمر الخلافة عزله ومات فيها بحمص
في خلافة عمر.
راجع (الإصابة لابن حجر، أسد الغابة لابن الأثير، ابن أبي الحديد ج 4 من
شرح النهج، الإستيعاب).
124

فبعثوا إلى خالد فأتاهما، فقالا: نريد أن نحملك على أمر عظيم، قال:
احملاني على ما شئتما، ولو على قتل علي بن أبي طالب، قالا: فهو ذلك، قال
خالد: متى أقتله؟ قال أبو بكر: احضر المسجد وقم بجنبه في الصلاة، فإذا سلمت
فقم إليه واضرب عنقه، قال: نعم.
فسمعت أسماء بنت عميس (1) وكانت تحت أبي بكر. فقالت: لجاريتها

(1) أسماء بنت عميس الخثعمية: هي أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وأخت
لبابة زوج العباس بن عبد المطلب وأم الفضل وعبد الله.
هاجرت مع زوجها جعفر بن أبي طالب (ع) إلى الحبشة.
ذكر ابن الأثير في (أسد الغابة): " أن عمر بن الخطاب قال لها: نعم القوم
لولا أننا سبقناكم إلى الهجرة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله فقال: بل لكم هجرتان: إلى
أرض الحبشة وإلى المدينة " وأعقبت أسماء من جعفر بن أبي طالب الطيار
في الجنان (ع) ثمانية بنين. وهم
عبد الله، وعون، ومحمد الأكبر، ومحمد الأصغر، وعبد الله الأكبر، وعبد الله
الأصغر، وحميد، وحسين.
أما (محمد الأكبر) فقتل مع عمه أمير المؤمنين (ع) بصفين.
وأما (عون) و (محمد الأصغر) فقتلا مع ابن عمهما الحسين عليه السلام يوم الطف
وأما (عبد الله الأكبر) فهو أحد أجواد بني هاشم الأربعة وهم: (الحسن والحسين
وعبد الله بن العباس وهو الرابع " ع ").
ولم يبايع رسول الله صلى الله عليه وآله طفلا غير هؤلاء الأربعة.
ولد بأرض الحبشة. وله في الجود أخبار كثيرة حتى لقب بقطب السخاء، حضر
مع عمه صفين، وعقد له يوم الجمل على عشرة آلاف، وليس لجعفر عقب إلا منه.
فلما قتل جعفر بن أبي طالب (ع) تزوجها أبو بكر فأولدت له محمدا حبيب
على وربيب حجره وواليه على مصر، قتله معاوية بن أبي سفيان وللأمام (ع) عند
قتل محمد بن أبي بكر خطبة موجودة في النهج ولما مات أبو بكر، تزوجها أمير المؤمنين ع
فأولدت له يحيى بإجماع، واختلف في عون بن علي بن أبي طالب فقيل إنه منها.
وروي أنها كانت تحت حمزة بن عبد المطلب فأولدت له بنتا اسمها أمامة.
في كشف الغمة: (عن أسماء بنت عميس قالت: أوصتني فاطمة " ع " أن لا يغسلها
إلا أنا وعلي فغسلتها أنا وعلي (ع) راجع: الإصابة، أسد الغابة، أعلام النساء
ريحانة الأدب، شرح النهج لابن أبي الحديد، كشف الغمة للإربلي، أعيان الشيعة.
125

اذهبي إلى منزل علي وفاطمة عليهما السلام، واقرأيهما السلام، وقولي لعلي " إن الملأ
يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين " فجاءت فقال أمير المؤمنين عليه السلام
" قولي لها: إن الله يحول بينهم وبين ما يريدون ".
ثم قام وتهيأ للصلاة، وحضر المسجد، وصلى خلف أبي بكر، وخالد بن
الوليد يصلي بجنبه، ومعه السيف، فلما جلس أبو بكر في التشهد، ندم على ما قال
وخاف الفتنة، وعرف شدة علي وبأسه، فلم يزل متفكرا لا يجسر أن يسلم، حتى
ظن الناس أنه قد سهى.
126

ثم التفت إلى خالد، فقال: " يا خالد لا تفعلن ما أمرتك والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته ".
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا خالد ما الذي أمرك به؟ فقال أمرني بضرب
عنقك، قال: أو كنت فاعلا؟ قال: إي والله، لولا أنه قال لي لا تقتله قبل
التسليم لقتلتك.
قال: فأخذه علي عليه السلام فجلد به الأرض، فاجتمع الناس عليه، فقال عمر
يقتله ورب الكعبة، فقال الناس، يا أبا الحسن الله الله، بحق صاحب القبر، فخلى
عنه، ثم التفت إلى عمر، فأخذ بتلابيبه وقال: يا بن صهاك والله لولا عهد من
رسول الله، وكتاب من الله سبق، لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقل عددا ودخل منزله.
رسالة لأمير المؤمنين (ع) إلى أبي بكر لما بلغه عنه كلام بعد منع
الزهراء (ع) فدك.
شقوا متلاطمات أمواج الفتن بحيازيم سفن النجاة، وحطوا تيجان أهل
الفخر بجميع أهل الغدر، واستضاؤا بنور الأنوار، واقتسموا مواريث الطاهرات
الأبرار، واحتقبوا (1) ثقل الأوزار، بغصبهم نحلة النبي المختار، فكأني بكم تترددون
في العمى، كما يتردد البعير في الطاحونة أما والله لو أذن لي بما ليس لكم به علم
لحصدت رؤسكم عن أجسادكم كحب الحصيد، بقواضب من حديد، ولقلعت من
جماجم شجعانكم ما اقرح به اماقكم، وأوحش به محالكم، فإني - مذ عرفت - مردي
العساكر، ومفني الجحافل، ومبيد خضرائكم، ومخمل ضوضائكم، وجرار
الدوارين إذ أنتم في بيوتكم معتكفون، وإني لصاحبكم بالأمس، لعمر أبي وأمي
لن تحبوا أن يكون فينا الخلافة والنبوة، وأنتم تذكرون أحقاد بدر، وثارات
أحد، أما والله لو قلت ما سبق الله فيكم، لتداخلت أضلاعكم في أجوافكم،

(1) احتقبوا: حملوا على ظهورهم.
127

كتداخل أسنان دوارة الرحى، فإن نطقت يقولون حسدا، وإن سكت فيقال ابن
أبي طالب جزع من الموت، هيهات هيهات! الساعة يقال لي هذا؟! وأنا المميت
المائت، وخواض المنايا في جوف ليل حالك، حامل السيفين الثقيلين، والرمحين
الطويلين، ومنكس الرايات في غطامط الغمرات (1)، ومفرج الكربات عن وجه
خير البريات، ايهنوا فوالله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل إلى محالب أمه
هبلتكم الهوابل (2) لو بحت بما أنزل الله سبحانه في كتابه فيكم، لاضطربتم
اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة (3) ولخرجتم من بيوتكم هاربين، وعلى
وجوهكم هائمين، ولكني أهون وجدي حتى ألقى ربي، بيد جذاء صفراء من
لذاتكم، خلو من طحناتكم، فما مثل دنياكم عندي إلا كمثل غيم علا فاستعلا
ثم استغلظ فاستوى، ثم تمزق فانجلا، رويدا فعن قليل ينجلي لكم القسطل (4)
وتجنون ثمر فعلكم مرا، وتحصدون غرس أيديكم ذعافا ممقرا (5) وسما قاتلا
وكفى بالله حكيما، وبرسول الله خصيما، وبالقيامة موقفا، فلا ابعد الله فيها
سواكم، ولا اتعس فيها غيركم، والسلام على من اتبع الهدى.
فلما أن قرأ أبو بكر الكتاب رعب من ذلك رعبا شديدا، وقال: يا سبحان
الله ما أجرأه علي وأنكله عن غيري.
معاشر المهاجرين والأنصار تعلمون أني شاورتكم في ضياع فدك بعد رسول
الله صلى الله عليه وآله، فقلتم: إن الأنبياء لا يورثون، وإن هذه أموال يجب أن تضاف إلى

(1) غطامط: عظيم الأمواج والغمرات جمع غمرة وهي: الشدة وغمرة الشئ
شدته ومزدحمه
(2) هبلت فلانا أمه: ثكلته فهي هابل.
(3) الأرشية جمع رشاء: وهو حبل الدلو. والطوى السقاء الذي يجعلون
فيها الماء.
(4) القسطل: الغبار الساطع في الحرب.
(5) الذعاف: السم الذي يقتل من ساعته - والممقر: المر.
128

مال الفيئ، وتصرف في ثمن الكراع والسلاح، وأبواب الجهاد، ومصالح الثغور
فأمضينا رأيكم، ولم يمضه من يدعيه، وهو ذا يبرق وعيدا، ويرعد تهديدا،
إيلاء بحق محمد صلى الله عليه وآله أن يمضحها (1) دما ذعافا، والله لقد استقلت منها فلم أقل
واستعزلتها عن نفسي فلم أعزل، كل ذلك كراهية مني لابن أبي طالب، وهربا
من نزاعه، ما لي ولابن أبي طالب أهل نازعه أحد ففلج (2) عليه؟ فقال: له عمر أبيت
أن تقول إلا هكذا؟ فأنت ابن من لم يكن مقداما في الحروب ولا سخيا في الجدوب
سبحان الله ما أهلع (3) فؤادك، وأصغر نفسك، قد صفيت لك سجالا (4) لتشربها
فأبيت إلا أن تظمأ كظمائك، وأنخت لك رقاب العرب، وثبت لك الإشارة والتدبير
ولولا ذلك لكان ابن أبي طالب قد صير عظامك رميما، فأحمد الله على ما قد
وهب لك مني، واشكره على ذلك، فإنه من رقى منبر رسول الله صلى الله عليه وآله كان حقيقا
عليه أن يحدث لله شكرا، وهذا علي بن أبي طالب الصخرة الصماء التي لا ينفجر
ماءها إلا بعد كسرها، والحية الرقشاء التي لا تجيب إلا بالرقى، والشجرة المرة
التي لو طليت بالعسل لم تنبت إلا مرا، قتل سادات قريش فأبادهم، وألزم آخرهم
العار ففضحهم، فطب عن نفسك نفسا، ولا تغرنك صواعقه، ولا يهولنك رواعده
وبوارقه، فإني أسد بابه قبل أن يسد بابك، فقال له أبو بكر: ناشدتك الله يا عمر
لما أن تركتني من أغاليطك وتربيدك، فوالله لو هم ابن أبي طالب بقتلي وقتلك
لقتلنا بشماله دون يمينه، وما ينجينا منه إلا إحدى ثلاث خصال: إحداها: إنه وحيد
ولا ناصر له، والثانية إنه ينتهج فينا وصية رسول الله صلى الله عليه وآله، والثالثة: إنه ما من
هذه القبائل أحد إلا وهو يتخضمه (5) كتخضم الثنية الإبل أوان الربيع، فتعلم
لولا ذلك لرجع الأمر إليه وإن كنا له كارهين، أما إن هذه الدنيا أهون إليه من

(1) وفي نسخة يمضخها.
(2) فلج عليه: فاز.
(3) الهلع: الجبن عند اللقاء.
(4) السجال جمع سجل وهو: دلو عظيم فيه ماء.
(5) في بعض النسخ " يتهضمه كتهضم ".
129

لقاء أحدنا للموت، أنسيت له يوم أحد؟ وقد فررنا بأجمعنا، وصعدنا الجبل،
وقد أحاطت به ملوك القوم، وصناديدهم موقنين بقتله، لا يجد محيصا للخروج من
أوساطهم، فلما أن سدد عليه القوم رماحهم نكس نفسه عن دابته حتى جاوزه طعان
القوم، ثم قام قائما في ركابيه وقد طرق عن سرجه وهو يقول: " يا الله يا الله يا جبرئيل
يا جبرئيل يا محمد يا محمد النجاة النجاة " ثم عمد إلى رئيس القوم فضربه ضربة على أم
رأسه فبقي على فك واحد ولسان، ثم عمد إلى صاحب الراية العظمى فضربه ضربة
على جمجمته ففلقها، ومر السيف يهوي في جسده فبراه ودابته بنصفين: ولما أن
نظر القوم إلى ذلك انجفلوا من بين يديه، فجعل يمسحهم بسيفه مسحا حتى تركهم
جراثيم جمودا على تلعة من الأرض، يتمرغون في حسرات المنايا، يتجرعون
كؤوس الموت، قد اختطف أرواحهم بسيفه، ونحن نتوقع منه أكثر من ذلك،
ولم نكن نضبط من أنفسنا من مخافته حتى ابتدئت منك إليه التفاتة، وكان منه
إليك ما تعلم، ولولا أنه نزلت آية من كتاب الله لكنا من الهالكين، وهو قوله
تعالى ": ولقد عفا عنكم (1) " فاترك هذا الرجل ما تركك، ولا يغرنك قول
خالد أنه يقتله؟ فإنه لا يجسر على ذلك، ولو رام لكان أول مقتول بيده، فإنه
من ولد عبد مناف، إذا هاجوا هيبوا، وإذا غضبوا أدموا، ولا سيما علي بن أبي
طالب عليه السلام نابها الأكبر، وسنامها الأطول، وهامتها الأعظم، والسلام على من
اتبع الهدى.

(1) آل عمران / 152.
130

احتجاج فاطمة الزهراء (ع) على القوم لما منعوها فدك وقولها لهم عند
الوفاة في الإمامة.
روى عبد الله بن الحسن (1) بإسناده عن آبائه عليهم السلام: إنه لما أجمع (2)
أبو بكر وعمر على منع فاطمة عليها السلام فدكا وبلغها ذلك (3)..

(1) هو عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه
السلام. في عمدة الطالب وإنما سمي المحض لأن أباه الحسن بن الحسن عليه السلام وأمه
فاطمة بنت الحسين (ع) وكان يشبه برسول الله صلى الله عليه وآله.
وكان شيخ بني هاشم في زمانه، وقيل له: بما صرتم أفضل الناس، قال: لأن
الناس كلهم يتمنون أن يكونوا منا ولا نتمنى أن نكون من أحد. وقال أبو الفرح الأصفهاني
- في مقاتل الطالبيين - عند ذكر من قتل أيام أبي جعفر المنصور وكان أبو جعفر
المنصور قد طلب محمدا وإبراهيم فلم يقدر عليهما فحبس عبد الله بن الحسن وإخوته وجماعة
من أهل بيته بالمدينة ثم أحضرهم إلى الكوفة فحبسهم بها، فلما ظهر محمد قتل عدة منهم في
الحبس إلى أن قال وعبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام،
يكنى أبا محمد. إلى أن قال: وقتل عبد الله بن الحسن في محبسه بالهاشمية، وهو ابن خمس
وسبعين، سنة خمس وأربعين ومائة.
وفي معجم البلدان: والهاشمية أيضا مدينة بناها السفاح بالكوفة إلى أن قال
وبالهاشمية هذه حبس المنصور عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه ومن كان معه من أهل بيته.
(2) أجمع: أحكم النية والعزيمة.
(3) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: قال أبو بكر - يعني: الجوهري -
فحدثني محمد بن زكريا قال: حدثني حعفر بن محمد بن عمارة الكندي قال: حدثني أبي
عن الحسين بن صالح بن حي قال حدثني رجلان من بني هاشم عن زينب بنت علي بن
أبي طالب " ع ".
قال: وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه.
قال أبو بكر: وحدثني عثمان بن عمران العجيفي عن نائل بن نجيح بن عمير بن
شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي " ع ".
قال أبو بكر: وحدثني أحمد بن محمد بن زيد عن عبد الله بن محمد بن سليمان عن
أبيه عن عبد الله بن حسن بن حسن قالوا جميعا لما بلغ فاطمة.. الخ
131

لاثت خمارها (1) على رأسها، واشتملت بجلبابها (2)، وأقبلت في لمة (3)
من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها (4)، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله (5)
حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم (6) فنيطت
دونها ملاءة (7) فجلست ثم أنت أنة أجهش (8) القوم لها بالبكاء، فارتج
المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت
الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما
أمسكوا عادت في كلامها، فقالت عليها السلام:
الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم
نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها، جم عن الاحصاء عددها، ونأى
عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها
واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها، وأشهد أن لا إله إلا الله

(1) اللوث: الطي والجمع، ولاث العمامة شدها وربطها، ولانت خمارها
لفته والخمار بالكسر: المقنعة، سميت بذلك لأن الرأس يخمر بها أي يغطى.
(2) الاشتمال بالشئ جعله شاملا ومحيطا لنفسه - والجلباب: الرداء والإزار
(3) في لمة: أي جماعة وفي بعض النسخ في لميمة بصيغة التصغير أي في جماعة
قليلة والحفدة بالتحريك: الأعوان والخدم.
(4) أي أن أثوابها كانت طويلة تستر قدميها فكانت تطأها عند المشي وفي بعض
النسخ تجر أدراعها والمعنى واحد.
(5) الخرم بضم الخاء وسكون الراء الترك، والنقص، والعدول.
(6) الحشد: الجماعة.
(7) نيطت: علقت وناط الشئ علقه: والملاءة الإزار.
(8) أجهش القوم: تهيئوا.
132

وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار
في التفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام
كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شئ كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها
كونها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في
تصويرها، إلا تثبيتا لحكمته، وتنبيها على طاعته، وإظهارا لقدرته، تعبدا لبريته
وإعزازا لدعوته، ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، زيادة
لعباده من نقمته، وحياشة (1) لهم إلى جنته، وأشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله
اختاره قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ
الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة علما
من الله تعالى بما يلي الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بموقع الأمور
ابتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه، فرأى
الأمم فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها
فأنار الله بأبي محمد صلى الله عليه وآله ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها (2)، وجلى عن
الأبصار غممها (3)، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من
العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم. ثم قبضه الله إليه
قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار، فمحمد صلى الله عليه وآله من تعب هذه الدار في راحة،
قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى
الله على أبي نبيه، وأمينه، وخيرته من الخلق وصفيه، والسلام عليه ورحمة
الله وبركاته.
ثم التفتت إلى أهل المجلس وقالت: أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه، وحملة
دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغائه إلى الأمم، زعيم حق له فيكم، وعهد

(1) حاش الإبل: جمعها وساقها.
(2) بهمها: أي مبهماتها وهي المشكلات من الأمور.
(3) الغمم: جمع غمة وهي: المبهم والملتبس وفي بعض النسخ " عماها ".
133

قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم: كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور
الساطع، والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره،
مغتبطة به أشياعه، قائدا إلى الرضوان أتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال
حجج الله المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه
الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، فجعل الله
الإيمان: تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة: تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة:
تزكية للنفس، ونماء في الرزق، والصيام: تثبيتا للاخلاص، والحج: تشييدا
للدين، والعدل: تنسيقا للقلوب، وطاعتنا: نظاما للملة، وإمامتنا: أمانا للفرقة
والجهاد: عزا للإسلام، والصبر، معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف:
مصلحة للعامة، وبر الوالدين: وقاية من السخط، وصلة الأرحام: منساة في العمر (1)
ومنماة للعدد، والقصاص: حقنا للدماء، والوفاء بالنذر: تعريضا للمغفرة، وتوفية
المكائيل والموازين: تغييرا للبخس، والنهي عن شرب الخمر: تنزيها عن الرجس
واجتناب القذف: حجابا عن اللعنة، وترك السرقة: إيجابا بالعفة، وحرم الله الشرك
إخلاصا له بالربوبية، فاتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا
الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماء.
ثم قالت أيها الناس اعلموا: إني فاطمة وأبي محمد صلى الله عليه وآله أقول عودا وبدوا،
ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا (2) لقد جائكم رسول من
أنفسكم عزيز عليه ما عنتم (3) حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. فإن
تعزوه (4) وتعرفوه: تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم (5)

(1) منساة للعمر: مؤخرة.
(2) شططا: الشطط بالتحريك: هو البعد عن الحق ومجاوزة الحد في كل شئ.
(3) عنتم: أنكرتم وجحدتم.
(4) تعزوه: تنبوة
(5) سيأتي قول النبي لعلي أنت أخي وحديث المؤاخاة.
134

ولنعم المعزى إليه صلى الله عليه وآله وسلم، فبلغ الرسالة، صادعا بالنذارة (1)
مائلا عن مدرجة المشركين (2) ضاربا ثبجهم (3) آخذا بأكظامهم (4) داعيا
إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يجف الأصنام (5) وينكث الهام، حتى
انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه (6) وأسفر الحق عن
محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين (7) وطاح وشيظ النفاق (8)
وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص (9) في نفر من البيض
الخماص (10) وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب (11) ونهزة
الطامع (12) وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام (13) تشربون الطرق (14)

(1) صادعا: الصدع هو الإظهار: والنذارة بالكسر الإنذار وهو الإعلام
على وجه التخويف.
(2) المدرجة: هي المذهب والمسلك.
(3) ثبجهم: الثبج بالتحريك: وسط الشئ ومعظمه.
(4) أكظامهم: الكظم بالتحريك: مخرج النفس من الحلق.
(5) يجف الأصنام: في بعض النسخ " يكسر الأصنام " وفي بعضها " يجذ " أي يكسر.
(6) تفرى الليل عن صبحه: أي انشق حتى ظهر وجه الصباح.
(7) شقاشق الشياطين: الشقاشق: جمع شقشقة بالكسر وهي: شئ كالربة
يخرجها البعير من فيه إذا هاج.
(8) طاح: هلك. والوشيظ السفلة والرذل من الناس.
(9) كلمة الإخلاص: كلمة التوحيد.
(10) البيض الخماص: المرد بهم أهل البيت عليهم السلام. (11) مذقة الشارب: شربته.
(12) نهزة الطامع: بالضم - الفرصة أي محل نهزته.
(13) قبسة العجلان: مثل في الاستعجال. وموطئ الأقدام: مثل مشهور في
المغلوبية والمذلة.
(14) الطرق: بالفتح ماء السماء الذي تبول به الإبل وتبعر.
135

وتقتاتون القد (1) أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم،
فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وآله، وبعد أن مني ببهم (2)
الرجال وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها
الله، أو نجم قرن الشيطان (3) أو فغرت فاغرة من المشركين (4) قذف
أخاه في لهواتها (5) فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه (6) ويخمد لهبها
بسيفه، مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيدا في
أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا، كادحا، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في
رفاهية من العيش، وادعون (7) فاكهون (8) آمنون، تتربصون بنا
الدوائر (9) وتتوكفون الأخبار (10) وتنكصون عند النزال، وتفرون من
القتال، فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة
النفاق (11) وسمل جلباب الدين (12) ونطق كاظم الغاوين (13) ونبغ خامل

(1) القد: بكسر القاف وتشديد الدال - سير بقد من جلد غير مدبوغ.
(2) بهم الرجال: شجعانهم.
(3) نجم: ظهر، وقرن الشيطان أمته وتابعوه.
(4) فغرفاه: أي فتحه، والفاغرة من المشركين: الطائفة منهم.
(5) قذف: رمى، واللهوات بالتحريك: - جمع لهات -: وهي اللحمة في
أقصى شفة الفم.
(6) ينكفئ: يرجع، والأخمص ما لا يصيب الأرض من باطن القدم.
(7) وادعون: ساكنون (8) فاكهون: ناعمون
(9) الدوائر: صروف الزمان أي كنتم تنظرون نزول البلايا علينا.
(10) تتوقعون أخبار المصائب والفتن النازلة بنا.
(11) في بعض النسخ " حسيكة " وحسكة النفاق عداوته.
(12) وسمل جلباب الدين: سمل صار خلقا، والجلباب الإزار.
(13) الكظوم: السكوت.
136

الأقلين (1) وهدر فنيق المبطلين (2) فخطر في عرصاتكم (3) واطلع
الشيطان رأسه من مغرزة هاتفا بكم (4) فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللعزة
فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحشمكم فألفاكم غضابا (5)
فوسمتم غير إبلكم (6) ووردتم غير مشربكم (7) هذا والعهد قريب والكلم
رحيب (8)، والجرح لما يندمل (9) والرسول لما يقبر، ابتدارا، زعمتم خوف
الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين، فهيهات منكم، وكيف
بكم، وأني تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة
وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، وأوامره واضحة، وقد خلفتموه وراء ظهوركم
أرغبة عنه تريدون " * "؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا، ومن يبتع غير
الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، ثم لم تلبثوا إلا ريث أن
تسكن نفرتها (10) ويسلس قيادها (11) ثم أخذتم تورون وقدتها (12)
وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار الدين الجلي

* في بعض النسخ " تدبرون ".
(1) الخامل: من خفي ذكره وكان ساقطا لا نباهة له.
(2) الهدير: ترديد البعير صوته في حنجرته، والفنيق: الفحل المكرم من
الإبل الذي لا يركب ولا يهان.
(3) خطر البعير بذنبه إذا رفعه مرة بعد مرة وضرب به فخذيه.
(4) مغرزه: أي ما يختفى فيه تشبيها له بالقنفذ فإنه يطلع رأسه بعد زوال الخوف
(5) أي حملكم على الغضب فوجدكم مغضبين لغضبه.
(6) الوسم أثر الكي.
(7) الورود: حضور الماء للشرب.
(8) الكلم بالضم: الجرح، الرحب بالضم: السعة.
(9) أي لم يصلح بعد.
(10) نفرتها: نفرت الدابة جزعت وتباعدت.
(11) يسلس: يسهل.
(12) أي: لهبها.
137

وإهمال سنن النبي الصفي، تشربون حسوا في ارتغاء (1) وتمشون لأهله وولده
في الخمرة والضراء (2) ويصير " * " منكم على مثل حز المدى (3) ووخز
السنان في الحشاء، وأنتم الآن تزعمون: أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟! أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلى لكم
كالشمس الضاحية: أني ابنته.
أيها المسلمون أغلب على إرثي " * "؟ يا بن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك
ولا إرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء
ظهوركم؟ إذ يقول: " وورث سليمان داود " (4) وقال: فيما اقتص من خبر
يحيى بن زكريا إذ قال: " فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب (5) "
وقال: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله (6) " وقال: " يوصيكم
الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين (7) " وقال: إن ترك خيرا الوصية
للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين (8) وزعمتم: أن لا حظوة (9)
لي ولا إرث من أبي، ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم هل
تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم

* وفي بعض النسخ " يصير ".
" * " في بعض النسخ " إرثه ".
(1) الحسو: هو الشرب شيئا فشيئا، والارتغاء: هو شرب الرغوة وهي
اللبن المشوب بالماء وحسوا في ارتغاء: مثل يضرب لمن يظهر ويريد غيره.
(2) الخمر بالفتح: ما واراك من شجر وغيره، والضراء بالفتح: الشجر
الملتف بالوادي.
(3) الحز: القطع، والمدى، السكاكين.
(4) النمل: 16.
(5) مريم: 6.
(6) الأنفال: 75. (7) النساء: 11.
(8) البقرة 180. (9) الحظوة: المكانة.
138

أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ فدونكها مخطومة مرحولة (1)
تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة
يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من
يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم
ثم رمت بطرفها (*) نحو الأنصار فقالت: يا معشر النقيبة وأعضاد الملة (2)
وحضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي (3) والسنة عن ظلامتي (4)؟ أما كان
رسول الله صلى الله عليه وآله أبي يقول (المرء يحفظ في ولده)؟ سرعان ما أحدثتم، وعجلان
ذا إهالة (5) ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول، أتقولون مات
محمد صلى الله عليه وآله؟ فخطب جليل: استوسع وهنه واستنهر فتقه (6) وانفتق رتقه، واظلمت
الأرض لغيبته، وكسفت الشمس والقمر، وانتثرت النجوم لمصيبته، وأكدت (7)
الآمال، وخشعت الجبال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته، فتلك والله
النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، ولا بائقة (8) عاجلة، أعلن
بها كتاب الله جل ثناؤه، في أفنيتكم، وفي ممساكم، ومصبحكم، يهتف في
أفنيتكم هتافا، وصراخا، وتلاوة، وألحانا، ولقبله ماحل بأنبياء الله ورسله، حكم

* في بعض النسخ " رنت ".
(1) مخطومة: من الخطام بالكسر وهو: كل ما يدخل في أنف البعير ليقاد به
والرحل بالفتح: هو للناقة كالسرج للفرس.
(2) النقيبة: الفتية.
(3) الغميزة: - بفتح الغين المعجمة والزاي - ضعفة في العمل.
(4) السنة بالكسر: النوم الخفيف.
(5) إهالة: بكسر الهمزة الدسم. وسرعان ذا إهالة مثل يضرب لمن يخبر بكينونة
الشئ قبل وقته.
(6) وهنه الوهن: الخرق، واستنهر: اتسع.
(7) أكدت: قل خيرها.
(8) بائقة: داهية.
139

فصل، وقضاء حتم: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل
انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب علي عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " (1)
أيها بني قيلة (2) أأهضم تراث أبي؟ وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومنتدى (3)
ومجمع تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة
وعندكم السلاح والجنة (4) توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا
تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي
انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت، قاتلتم العرب، وتحملتم الكد
والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم " * " البهم، لا نبرح أو تبرحون (5) نأمركم
فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام، ودر حلب الأيام، وخضعت ثغرة
الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج،
واستوسق نظام الدين (6) فأنى حزتم بعد البيان؟ وأسررتم بعد الإعلان؟ ونكصتم
بعد الإقدام؟ وأشركتم بعد الإيمان؟ بؤسا لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم،
وهموا بإخراج الرسول، وهم بدؤوكم أول مرة، أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه
إن كنتم مؤمنين ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض (7) وأبعدتم من هو
أحق بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة (8) ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم
ما وعيتم، ودسعتم الذي تسوغتم (9) فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا

* وفي بعض النسخ " كالحتم ".
(1) آل عمران: 144.
(2) بنو قيله: قبيلتا الأنصار: الأوس والخزرج.
(3) المنتدى المجلس.
(4) الجنة بالضم: ما استترت به من السلاح.
(5) لا نبرح: لا نزال.
(6) استوسق: اجمتع.
(7) أخلدتم: ملتم. والخفض: السعة والخصب واللين.
(8) الدعة: الراحة والسكون.
(9) الدسع: القئ وتسوغ الشراب شربه بسهولة.
140

فإن الله لغني حميد. ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة التي
خامرتكم (1) والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس، ونفثة
الغيظ، وخور القناة (2) وبثة الصدر، وتقدمة الحجة، فدونكموها فاحتقبوها
دبرة (3) الظهر نقبة الخف (4) باقية العار، موسومة بغضب الجبار، وشنار
الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون
وسيعلم الذين ظلموا أي مقلب ينقلبون. وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد
فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون.
فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان. وقال: يا بنت رسول الله لقد كان
أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما، رؤوفا رحيما، وعلى الكافرين عذابا أليما، وعقابا
عظيما، إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، وأخا إلفك دون الأخلاء (5)
آثر على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم، لا يحبكم إلا سعيد، ولا يبغضكم
إلا شقي (6) بعيد فأنتم عترة رسول الله الطيبون، الخيرة المنتجبون، على الخير
أدلتنا، وإلى الجنة مسالكنا، وأنت يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء، صادقة في
قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، ولا مصدودة عن صدقك،

(1) الجذلة: ترك النصر، خامرتكم خالطتكم.
(2) الخور: الضعف، والقناة الرمح. والمراد من ضعف القناة هنا ضعف
النفس عن الصبر على الشدة.
(3) فاحتقبوها: أي احملوها على ظهوركم ودبر البعير أصابته الدبرة بالتحريك
وهي جراحة تحدث من الرحل.
(4) نقب خف البعير رق وتثقب.
(5) الألف: هو الأليف بمعنى المألوف والمراد به هنا الزوج لأنه إلف
الزوجة وفي بعض النسخ " ابن عمك ".
(6) في ذخائر العقبى: - لمحب الدين الطبري - قال: قال رسول الله " ص "
" لا يحبنا أهل البيت إلا مؤمن تقي، ولا يبغضنا إلا منافق شقي " أخرجه الملا.
141

والله ما عدوت رأي رسول الله، ولا عملت إلا بإذنه، والرائد لا يكذب أهله، وأني
أشهد الله وكفى به شهيدا، أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " نحن معاشر الأنبياء
لا نورث ذهبا ولا فضة ولا دارا ولا عقارا وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة
وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه " (1) وقد جعلنا
ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفار، ويجالدون
المردة الفجار، وذلك بإجماع من المسلمين، لم انفرد به وحدي، ولم استبد بما
كان الرأي عندي (2) وهذه حالي ومالي، هي لك وبين يديك، لا تزوى عنك،

(1) نقل الإمام المجاهد السيد عبد الحسين شرف الدين " قدس سره " في كتابه
الجليل " النص والاجتهاد " عن الأستاذ المصري المعاصر محمود أبو رية ما يلي "
" قال ": بقي أمر لا بد أن نقول فيه كلمة صريحة، ذلك هو موقف أبي بكر من
فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله " ص " وما فعل معها في ميراث أبيها، لأنا إذا
سلمنا بأن خبر الآحاد الظني يخصص الكتاب القطعي، وأنه قد ثبت أن النبي " ص " قد
قال: إنه لا يورث. وإنه لا تخصيص في عموم هذا الخبر، فإن أبا بكر كان يسعه أن
يعطي فاطمة رضي الله عنها بعض تركة أبيها " ص " كأن يخصها بفدك، وهذا من حقه
الذي ليس يعارضه فيه أحد، إذ يجوز للخليفة أن يخص من يشاء بما يشاء.
" قال ": وقد خص هو نفسه الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض
متروكات النبي " ص " على أن فدكا هذه التي منعها أبو بكر لم تلبث أن أقطعها الخليفة
عثمان لمروان، هذا كلامه بنصه.
ثم أعقب السيد " ره " قائلا:
ونقل ابن أبي الحديد عن بعض السلف كلاما مضمونه العتب على الخليفتين والعجب
منهما في مواقفهما مع الزهراء بعد أبيها " ص " قالوا في آخره:
" وقد كان الأجل أن يمنعهما التكرم عما ارتكباه من بنت رسول الله " ص " فضلا
عن الدين " فذيله ابن أبي الحديد بقوله:
" هذا الكلام لا جواب عنه " النص والاجتهاد ص 123 - 124
(2) خطر ببالي وأنا أفكر في قول الخليفة: " وذلك بإجماع المسلمين لم انفرد به "
وقوله في آخر الحديث الذي تفرد بنقله عن النبي " ص " " وما كان لنا من طعمة فلولي
الأمر أن يحكم فيه بحكمه " نعم خطر ببالي وأنا أفكر في هاتين الفقرتين وما إذا كانت فدك
من حق المسلمين حتى يؤخذ رأيهم فيه أم من حقه الخاص حتى يحكم فيه بحكمه كما جاء في
ذيل الحديث الذي استنكرته الصديقة الطاهرة " ع " واعتبرته كذبا وزورا وافتراء على
الرسول " ص " اعتلالا منهم لما أجمعوا على الغدر بذريته كما اعتبرته طعنا في عصمته " ص "
لو صدر ذلك منه. وأسمع ذلك كله في جوابها لأبي بكر: " سبحان الله، ما كان أبي رسول
الله " ص " عن كتاب الله صادفا، ولا لأحكامه مخالفا، بل كان يتبع أثره، ويقفوا
سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من
الغوائل في حياته " ثم إن كان من حقه الخاص فلماذا لم يعطها سيدة النساء وبنت سيد
الأنبياء إكراما لمقام أبيها " ص " وإذا كان من حق المسلمين لماذا لم يؤخذ رأيهم أولا
في إعطائه إياها.
نعم خطر ببالي وأنا أجيل الفكر في هذا وشبهه قول الشريف قتادة بن إدريس من
قصيدته العصماء في رثاء سيدة النساء " ع " والتي يقول في أولها:
ما لعيني غاب عنها كراها * وعراها من عبرة ما عراها
الدار نعمت فيها زمانا * ثم فارقتها فلا أغشاها
إلى أن يقول:
بل بكائي لمن خصها * الله تعالى بلطفه واجتباها
وحباها بالسيدين الجليلين * العظمين منه حين حباها
ولفكري في الصاحبين اللذين استحسنا ظلمها وما راعياها
منعا بعلها من الحل والعقد * وكان المنيب والأواها
والتي يقول فيها:
وأتت فاطم تطالب بالإرث * من المصطفى فما ورثاها
إلى أن قال - وهو محل الشاهد منها -:
أترى المسلمين كانوا يلومونهما * في العطاء لو أعطياها
كان تحت الخضراء بنت نبي * ناطق صادق أمين سواها
بنت من؟ أم من؟ حليلة من؟ *.... من سن ظلمها وأذاها
142

ولا ندخر دونك، وأنك وأنت سيدة أمة أبيك، والشجرة الطيبة لبنيك، لاندفع
143

مالك من فضلك، ولا يوضع في فرعك وأصلك، حكمك نافذ فيما ملكت يداي
فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك صلى الله عليه وآله
فقالت عليها السلام: سبحان الله ما كان أبي رسول الله صلى الله عليه وآله عن كتاب الله صادفا (1)
ولا لأحكامه مخالفا! بل كان يتبع أثره، ويقفو سوره، أفتجمعون إلى الغدر
اعتلالا عليه بالزور، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائل (2) في حياته
هذا كتاب الله حكما عدلا، وناطقا فصلا يقول: يرثني ويرث من آل يعقوب (3)
ويقول: وورث سليمان داود (4) وبين عز وجل فيما وزع من الأقساط، وشرع
من الفرائض والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح به علة
المبطلين، وأزال التظني والشبهات في الغابرين، كلا بل سولت لكم أنفسكم أمرا
فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.
فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله، وصدقت ابنته، أنت معدن الحكمة وموطن
الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة، لا أبعد صوابك، ولا أنكر خطابك
هؤلاء المسلمون بيني وبينك، قلدوني ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت
غير مكابر ولا مستبد، ولا مستأثر، وهم بذلك شهود.
فالتفتت فاطمة عليها السلام إلى الناس وقالت:
معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل (5) المغضية على الفعل القبيح
الخاسر أفلا تتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ كلا بل ران على قلوبكم
ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأولتم، وساء ما به
أشرتم، وشر ما منه اغتصبتم لتجدن والله محمله ثقيلا، وغبه وبيلا، إذا كشف لكم
الغطاء وبان بأورائه الضراء، وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر
هنالك المبطلون.

(1) صادفا معرضا.
(2) الغوائل: المهالك.
(3) سورة مريم: 6
(4) سورة النمل: 16
(5) في بعض النسخ " قبول الباطل ".
144

ثم عطفت على قبر النبي صلى الله عليه وآله وقالت:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها * واختل قومك فاشهدهم ولا تغب
وكل أهل له قربى ومنزلة * عند الإله على الأدنين مقترب
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم (1) * لما مضيت وحالت دونك الترب
تجهمتنا رجال واستخف بنا * لما فقدت وكل الأرض مغتصب
وكنت بدرا ونورا يستضاء به * عليك ينزل من ذي العزة الكتب
وكان جبريل بالآيات يونسنا * فقد فقدت وكل الخير محتجب
فليت قبلك كان الموت صادفنا * لما مضيت وحالت دونك الكثب (2)
ثم انكفأت عليها السلام، وأمير المؤمنين عليه السلام يتوقع رجوعها إليه، ويتطلع طلوعها
عليه، فلما استقرت بها الدار، قالت: لأمير المؤمنين عليه السلام:
يا بن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة
الأجدل (3) فخانك ريش الأعزل (4) هذا ابن أبي قحافة يبتزني نحلة أبي
وبلغة (5) ابني! لقد أجهد (6) في خصامي، وألفيته ألد في كلامي (7) حتى
حبستني قيلة نصرها والمهاجرة وصلها، وغضت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع
ولا مانع، خرجت كاظمة، وعدت راغمة، أضرعت خدك (8) يوم أضعت حدك

(1) النجوى: السر.
(2) الكثب - بضمتين -: جمع الكثيب وهو: الرمل.
(3) قوادم الطير: مقادم ريشه وهي عشرة - والأجدل: الصقر.
(4) الأعزل من الطير: ما لا يقدر على الطيران.
(5) يبتزني: يسلبني والبلغة ما يتبلغ به من العيش.
(6) في بعض النسخ " أجهر "
(7) ألفيته: وجدته، والألد: شديد الخصومة.
(8) ضرع: خضع وذل.
145

افترست الذئاب، وافترشت التراب، ما كففت قائلا، ولا أغنيت طائلا (1) ولا
خيار لي، ليتني مت قبل هنيئتي، ودون ذلتي عذيري الله منه عاديا (2) ومنك
حاميا، ويلاي في كل شارق! ويلاي في كل غارب! مات العمد، ووهن العضد (3)
شكواي إلى أبي! وعدواي (4) إلى ربي! اللهم إنك أشد منهم قوة وحولا، وأشد
بأسا وتنكيلا.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا ويل لك بل الويل لشانئك (5) ثم نهنهي
عن وجدك (6) يا ابنة الصفوة، وبقية النبوة، فما ونيت (7) عن ديني، ولا
أخطأت مقدوري (8) فإن كنت تريدين البلغة، فرزقك مضمون، وكفيلك
مأمون، وما أعد لك أضل مما قطع عنك، فاحتسبي الله.
فقالت: حسبي الله وأمسكت.
وقال سويد بن غفلة: (9) لما مرضت فاطمة سلام الله عليها، المرضة التي

(1) أي ما فعلت شيئا نافعا، وفي بعض النسخ (ولا أغنيت باطلا): أي كففته
(2) العذير بمعنى العاذر أي: الله قابل عذري، وعاديا، متجاوزا.
(3) الوهن: الضعف في العمل أو الأمر أو البدن.
(4) العدوي: طلبك إلى وال لينتقم لك من عدوك.
(5) الشانئ: المبغض
(6) أي كفي: عن حزنك وخففي من غضبك.
(7) ما كللت ولا ضعفت ولا عييت
(8) ما تركت ما دخل تحت قدرتي أي لست قادرا على الانتصاف لك لما
أوصاني به الرسول " ص ".
(9) قال العلامة في الخلاصة: سويد بن غفلة الجعفي قال البرقي: إنه من أولياء
أمير المؤمنين عليه السلام. انتهى
وفي أسد الغابة " أدرك الجاهلية كبيرا وأسلم في حياة رسول " ص " ولم يره، وأدى
صدقته إلى مصدق النبي " ص " ثم قدم المدينة فوصل يوم دفن النبي " ص " وكان مولده
عام الفيل وسكن الكوفة.. "
وفي تهذيب " أدرك الجاهلية وقد قيل إنه صلى مع النبي " ص " ولا يصح
وقدم المدينة حين نفضت الأيدي من دفن رسول الله " ص " وهذا أصح.. إلى أن
قال: قال ابن معين والعجلي: ثقة.. وقال أبو نعيم مات سنة ثمانين وقال أبو عبيد
القاسم بن سلام وغير واحد مات سنة إحدى وثمانين وقال عمرو بن علي وغيره مات سنة 88
146

توفيت فيها (1) دخلت عليها نساء المهاجرين والأنصار يعدنها، فقلن لها: كيف
أصبحت من علتك يا بنت رسول الله؟ فحمدت الله، وصلت على أبيها، ثم قالت:
أصبحت والله: عائفة لدنيا كن، قالية لرجالكن، لفظتهم بعد أن عجمتهم (2)
وسئمتهم بعد أن سبرتهم (3) فقبحا لفلول الحد، واللعب بعد الجد، وقرع الصفات
وصدع القناة، وختل الآراء (4) وزلل الأهواء، وبئس ما قدمت لهم أنفسهم:
أن سخط الله عليهم، وفي العذاب هم خالدون. لا جرم لقد قلدتهم ربقتها وحملتهم
اوقتها (5) وشننت عليهم غاراتها (6) فجدعا، وعقرا وبعدا، للقوم الظالمين.
ويحهم أنى زعزعوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح
الأمين، والطبين بأمور الدنيا (7) والدين؟! ألا ذلك هو الخسران المبين!
وما الذي نقموا من أبي الحسن عليه السلام؟! نقموا والله منه نكير سيفه، وقلة مبالاته

(1) قال ابن أبي الحديد في المجلد الرابع من شرحه على النهج " قال أبو بكر
وحدثنا محمد بن زكريا قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن المهلبي عن عبد الله بن حماد بن سليمان
عن أبيه عن عبد الله بن حسن بن حسن عن أمه فاطمة بنت الحسين " ع " قالت لما اشتد
بفاطمة بنت رسول الله " ص " الوجع وثقلت في علتها دخلت عليها.. الخ
(2) لفظتهم: رميت بهم وطرحتهم بعد أن عجمتهم: أي بعد أن اختبرتهم وامتحنتهم
(3) سئمتهم: مللتهم، وسبرتهم: جربتهم واختبرتهم واحدا واحدا.
(4) ختل الآراء: زيفها وخداعها
(5) اوقتها: ثقلها
(6) شننت الغارة عليهم: وجهتها عليهم من كل جهة
(7) الطبين: الفطن الحاذق العالم بكل شئ.
147

لحتفه، وشدة وطأته، ونكال (1) وقعته، وتنمره في ذات الله (2) وتالله لو مالوا
عن المحجة اللايحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة، لردهم إليها، وحملهم عليها
ولسار بهم سيرا سجحا (3) لا يكلم حشاشه (4) ولا يكل سائره (5) ولا
يمل راكبه، ولأوردهم منهلا نميرا، صافيا، رويا، تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه
ولأصدرهم بطانا، ونصح لهم سرا وإعلانا، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا
يحظى منها بنائل، غير ري الناهل، وشبعة الكافل، ولبان لهم: الزاهد من الراغب
والصادق من الكاذب، ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من
السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون، والذين ظلموا من
هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين! ألا هلم فاسمع؟! وما عشت
أراك الدهر عجبا! وإن تعجب فعجب قولهم!.. ليت شعري إلى أي أسناد استندوا؟!
وإلى أي عماد اعتمدوا؟! وبأية عروة تمسكوا؟! وعلى أية ذرية أقدموا واحتنكوا (6)
لبئس المولى ولبئس العشير، وبئس للظالمين بدلا، استبدلوا والله الذنابى بالقوادم (7)
والعجز بالكاهل (8) فرغما لمعاطس (9) قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ألا إنهم
هم المفسدون ولكن لا يشعرون. ويحهم أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من
لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون؟! أما لعمري لقد لقحت، فنظرة
ريثما تنتج، ثم احتلبوا ملاء القعب دما عبيطا (10) وزعافا مبيدا، هنالك يخسر
المبطلون، ويعرف البطالون غب (11) ما أسس الأولون، ثم طيبوا عن دنياكم

(1) النكال: ما نكلت به غيرك كائنا ما كان
(2) تنمر: عبس وغضب
(3) سجحا: سهلا
(4) كلمه: جرحه
(5) يكل: يتعب
(6) احتنكه: استولى عليه
(7) الذنابى: ذنب الطائر، وقوادمه: مقادم ريشه
(8) العجز: مؤخر الشئ، والكاهل: مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق
(9) المعطس: الأنف
(10) القعب: القدح، والدم العبيط: الخالص الطري
(11) الغب: المعاقبة؟؟
148

أنفسا، واطمأنوا للفتنة جاشا، وأبشروا بسيف صارم، وسطوة معتد غاشم، وبهرج
شامل، واستبداد من الظالمين: يدع فيئكم زهيدا، وجمعكم حصيدا، فيا حسرة
لكم! وأنى بكم وقد عميت عليكم! أنلزمكموها وأنتم لها كارهون.
قال سويد بن غفلة فأعادت النساء: قولها عليها السلام على رجالهن
فجاء إليها: قوم من المهاجرين والأنصار متعذرين، وقالوا: يا سيدة النساء، لو
كان أبو الحسن ذكر لنا هذا لأمر قبل أن يبرم العهد، ويحكم العقد، لما عدلنا
عنه إلى غيره، فقالت عليها السلام: إليكم عني فلا عذر بعد تعذير كم، ولا أمر بعد تقصيركم
احتجاج سلمان الفارسي رضي الله عنه (1) في خطبة خطبها بعد وفاة
رسول الله صلى الله عليه وآله على القوم لما تركوا أمير المؤمنين (ع) واختاروا غيره ونبذوا
العهد المأخوذ عليهم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: خطب الناس سلمان الفارسي

(1) أبو عبد الله سلمان الفارسي أو المحمدي ويلقب أيضا بسلمان الخير أصله
من رامهرمز وقيل من أصفهان من بلدة يقال لها: جى.
كان من أوصياء عيسى عليه السلام، وهذا هو السبب الذي جعل أمير المؤمنين
عليه السلام يحضر عنده بالمدائن حين حضرته الوفاة، ويتولى تغسيله بيده الشريفة، إذ
أن الوصي لا يغسله إلا وصي مثله.
هرب سلمان عليه السلام من فارس لأن أهلها كانوا يعبدون النار وصادف ذلك
سفر قافلة إلى الشام فذهب معها، ونزل بحمص وكان يجتمع بالقسس والرهبان ويجادلهم
في الدين برهة من الزمن.
ثم صحب جماعة من التجار وسار معهم قاصدا مكة المكرمة ليحظى بالتشرف بحضرة
النبي الأمي وصحبته، وكان سلمان عليه السلام يعلم أنه سيبعث من هناك لأنه كما مر كان
من أوصياء عيسى " ع ".
واعتدى عليه هؤلاء الذين سار بصحبتهم وأساءوا الصحبة فانتهبوا ما كان عنده
وأسروه ثم باعوه من يهودي في المدينة على أنه رق.
وبقي عند ذلك اليهودي إلى أن هاجر النبي " ص " إلى المدينة وكان سلمان " ع "
كاتب ذلك اليهودي على أن يدفع له مبلغا من المال ليحرره من الرق، فأعانه رسول
الله " ص " على ذلك فتحرر.
ولما زحف الجيش بقيادة أبي سفيان - لقتل النبي " ص " وأصحابه وهدم المدينة
على أهلها، في غزوة الأحزاب - أشار سلمان بحفر الخندق، فقال أبو سفيان لما رآه
هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها.
وكان إذا قيل له ابن من أنت؟ يقول أنا سلمان بن الإسلام، أنا من بني آدم.
وقد روى عن رسول الله " ص " من وجوه أنه قال: لو كان الدين في الثريا
لناله سلمان، وفي رواية أخرى لناله رجل من فارس
وروى عنه " ص " أنه قال: " إن الله يحب من أصحابي أربعة - فذكره منهم "
وقال " ص ": " ثلاثة تشتاق إليهم الحور العين: على، وسلمان، وعمار "
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله " ص ": " أنا سابق ولد آدم، وسلمان
سابق أهل فارس ".
وعنه أيضا: سمعت رسول الله " ص " يقول: " إن الجنة تشتاق إلى أربعة: على
وسلمان، وعمار، والمقداد ".
ودخل ذات يوم مجلس رسول الله " ص " فوجد وجهاء قريش فتخطاهم وجلس في
صدر المجلس، فغلى الدم في عروقهم، وقال له بعضهم: " من أنت حتى تتخطانا؟ " وقال
له آخر: " ما حسبك ونسبك؟! ".
قال سلمان أنا ابن الإسلام، كنت عبدا فأعتقني الله بمحمد " ص " ووضيعا
فرفعني بمحمد " ص " وفقيرا فأغناني بمحمد " ص " فهذا حسبي ونسبي.
فقال رسول الله " ص ": صدق سلمان، صدق سلمان، من أراد أن ينظر إلى رجل
نور الله قلبه بالإيمان، فلينظر إلى سلمان.
وتنافس المهاجرون والأنصار كل يقول: " سلمان منا " فقال رسول الله " ص "
" بل سلمان منا أهل البيت ".
وروى عن أبي الأسود الدؤلي قال: كنا عند على ذات يوم فقالوا: يا أمير
المؤمنين " ع " حدثنا عن سلمان ".
قال " ع ": من لكم بمثل لقمان الحكيم، ذلك امرؤ منا أهل البيت أدرك العلم الأول
والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، بحر لا ينزف.
ولي المدائن في عهد عمر بن الخطاب، وكان يسف الخوص وهو أمير عليها ويبيعه
ويأكل منه، ويقول: لا أحب أن آكل إلا من عمل يدي.
وتوفي في المدائن سنة 36، وقيل 37، وقيل بل 33.
ولما حضرته الوفاة بكى فقيل ما يبكيك؟ قال: عهد عهده إلينا رسول الله " ص "
قال: " ليكن بلاغ أحدكم كزاد الراكب " فلما مات نظروا في بيته فلم يجدوا إلا اكافا؟؟؟
ووطاء ومتاعا، قوم نحوا من عشرين درهما.
راجع صفة الصفوة ج 1 ص 210 تهذيب التهذيب ج 4 ص 137 أسد الغابة ج 2
ص 328 تنقيح المقال ج 2 ص 45 وكتاب نفس الرحمان في أخبار سلمان والمجلد الرابع
من ابن أبي الحديد وكتاب مع علماء النجف الأشرف.
149

رحمة الله عليه، بعد أن دفن النبي صلى الله عليه وآله بثلاثة أيام، فقال فيها:
150

ألا يا أيها الناس: اسمعوا عني حديثي، ثم أعقلوه عني، ألا وإني أوتيت
علما كثيرا، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضايل أمير المؤمنين عليه السلام، لقالت طائفة
منكم: هو مجنون، وقالت طائفة أخرى: اللهم اغفر لقاتل سلمان، ألا إن لكم
منايا، تتبعها بلايا، ألا وإن عند علي عليه السلام، علم المنايا، والبلايا، وميراث الوصايا
وفصل الخطاب، وأصل الأنساب، على منهاج هارون بن عمران من موسى عليهما السلام
إذ يقول له رسول الله صلى الله عليه وآله: أنت وصيي في أهل بيتي، وخليفتي في أمتي، وأنت
مني بمنزلة هارون من موسى، ولكنكم أخذتم سنة بني إسرائيل، فأخطأتم الحق
فأنتم تعلمون ولا تعلمون، أما والله لتركبن طبقا عن طبق، حذو النعل بالنعل
والقذة بالقذة أما والذي نفس سلمان بيده: لو وليتموها عليا لأكلتم من
151

فوقكم، ومن تحت أقدامكم، ولو دعوتم الطير لأجابتكم في جو السماء، ولو
دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم، ولما عال (1) ولي الله، ولا طاش لكم سهم من
فرائص الله (2) ولا اختلف اثنان في حكم الله، ولكن أبيتم فوليتموها غيره
فأبشروا بالبلايا، واقنطوا من الرخاء، وقد نابذتكم على سواء، فانقطعت العصمة
فيما بيني وبينكم من الولاء.
عليكم بآل محمد عليهم السلام، فإنهم القادة إلى الجنة، والدعاة إليها يوم القيامة.
عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية
وإمرة المؤمنين، مرارا جمة (3) مع نبينا، كل ذلك يأمرنا به، ويؤكده علينا
فما بال القوم؟ عرفوا فضله فحسدوه، وقد حسد هابيل قابيل فقتله، وكفارا قد
ارتدت أمة موسى بن عمران، فأمر هذه الأمة كأمر بني إسرائيل، فأين يذهب بكم
أيها الناس ويحكم ما لنا وأبو فلان وفلان؟! أجهلتم أم تجاهلتم؟ أم حسدتم
أم تحاسدتم؟ والله لترتدن كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف، يشهد
الشاهد على الناجي بالهلكة، ويشهد الشاهد على الكافر بالنجاة، ألا وإني أظهرت
أمري، وسلمت لنبيي، واتبعت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة عليا أمير المؤمنين عليه السلام
وسيد الوصيين، وقائد الغر المحجلين، وإمام الصديقين، والشهداء والصالحين.

(1) عال: افتقر.
(2) طاش إليهم: مال عن الهدف.
(3) جمة: كثيرة
152

احتجاج لأبي بن كعب (1) على القوم مثل ما احتج به سلمان رضي
الله عنه.
عن محمد ويحيى (2 - 3) ابني عبد الله بن الحسن عن أبيهما عن جدهما عن علي بن
أبي طالب عليه السلام قال، لما خطب أبو بكر قام إليه أبي بن كعب وكان يوم الجمعة
أول يوم من شهر رمضان وقال:

(1) أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن
مالك بن النجار.
عده الشيخ رحمه الله في رجاله بهذا العنوان من أصحاب رسول الله " ص " وقال
يكنى أبا المنذر شهد العقبة مع السبعين وكان يكتب الوحي آخى رسول الله " ص "
بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. شهد بدرا والعقبة وبايع لرسول الله " ص ".
ومثله بحذف اسم آبائه إلى كنيته ما في الخلاصة في قسم المعتمدين وكذا في رجال
ابن داود، وعن المجالس ما يظهر منه جلالته وإخلاصه لأهل البيت..
وقال العلامة الطباطبائي: إنه من الاثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر تقدمه
وجلوسه في مجلس رسول الله " ص " قال له، يا أبا بكر لا تجحد حقا جعله الله لغيرك،
ولا تكن أول من عصى رسول الله " ص " في وصيته، وأول من صدف عن أمره، ورد
الحق إلى أهله تسلم، ولا تتمادى في غيك تستندم، وبادر بالإنابة يخف وزنك، ولا تخصص
بهذا الأمر الذي لم يجعله الله لك نفسك فتلقى وبال عملك، فعن قليل تفارق ما أنت
فيه، وتصير إلى ربك فيسألك عما جئت وما ربك بظلام للعبيد، وعن تقريب بن حجر
متصلا بنسبه المذكور ما لفظه: الأنصاري الخزرجي، أبو المنذر سيد القراء، يكنى
أبا الطفيل، أيضا من فضلاء الصحابة، مات في زمن عمر فقال عمر: مات اليوم سيد
المسلمين، شهد العقبة مع السبعين. ج 1 ص 44 من رجال المامقاني.
(2) محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ذو النفس
الزكية، ويكنى أبا عبد الله، وقيل أبا القاسم.
ولد سنة (100) وقتل سنة (145).
بايعه المنصور مع جماعة من بني هاشم، فلما بويع لبني العباس اختفى محمد وإبراهيم
مدة خلافة العباس، فلما ملك المنصور وعلم أنهما على عزم الخروج عليه جد في طلبهما وقبض
على أبيهما كما مر ذلك في هامش ص 131.
وأتيا أباهما وهو في السجن فقالا له يقتل رجلان من آل محمد خير من أن يقتل
ثمانية، فقال لهما: إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين
ولما عزم محمد على الخروج، وأعد أخاه إبراهيم على الظهور في يوم واحد، وذهب محمد
إلى المدينة، وإبراهيم إلى البصرة، فاتفق أن إبراهيم مرض، فخرج أخوه بالمدينة وهو
مريض بالبصرة، ولما خلص من مرضه وظهر أتاه خبر أخيه أنه قتل وهو على المنبر فقال
سأبكيك بالبيض الصفاح وبالقنا * فإن بها ما يدرك الطالب الوترا
ولست كمن يبكي أخاه بعبرة * يعصرها من ماء مقلته عصرا
ولكن أروي النفس مني بغارة * تلهب في قطري كتابتها جمرا
وإنا أناس لا تفيض دموعنا * على هالك منا وإن قصم الظهرا
ولما بلغ المنصور خروج محمد بن عبد الله خلا ببعض أصحابه فقال له، ويحك!
قد ظهر محمد فماذا ترى؟ فقال: وأين ظهر؟ قال، بالمدينة، فقال: غلبت عليه ورب
الكعبة، وقال: وكيف؟! قال لأنه خرج بحيث لا مال ولا رجال، فعالجه بالحرب
فأرسل إليه عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن العباس في جيش كثيف، فحاربهم
محمد خارج المدينة وتفرق أصحابه عنه حتى بقي وحده فلما أحس بالخذلان دخل داره وأمر
بالتنور فسجر، ثم عمد إلى الدفتر الذي أثبت فيه أسماء الذين بايعوه فألقاه في التنور فاحترق
ثم خرج فقاتل حتى قتل بأحجار الزيت ومن هنا لقب بذي النفس الزكية لأنه
صدق عليه ما روي عن النبي " ص " أنه قال: " تقتل بأحجار الزيت من ولدي نفس
زكية ". راجع عمدة الطالب ص 89، ومقاتل الطالبيين ص 232.
ويحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب " ع ".
" صاحب الديلم " الشهيد، ويكنى أبا الحسن، وأمه قريبة بنت عبد الله.
كان مقدما في أهل بيته، بعيدا مما يعاب على مثله.
وقد روى الحديث وأكثر الرواية عن جعفر بن محمد (ع) وروى عن أبيه وعن
أخيه محمد راجع رجال ابن داود ص 139 مقاتل الطالبيين ص 337.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 2.
153

يا معشر المهاجرين الذين اتبعوا مرضات الله، وأثنى الله عليهم في القرآن
154

ويا معشر الأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان، وأثنى الله عليهم في القرآن، تناسيتم
أم نسيتم، أم بدلتم، أم غيرتم، أم خذلتم، أم عجزتم؟ ألستم تعلمون أن رسول
الله صلى الله عليه وآله قام فينا مقاما أقام في عليا فقال: " من كنت مولاه فهذا مولاه يعني عليا
ومن كنت نبيه فهذا أميره "؟ ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " يا علي أنت
مني بمنزلة هارون من موسى طاعتك واجبة على من بعدي كطاعتي في حياتي
غير أنه لا نبي بعدي "؟ ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " أوصيكم بأهل
بيتي خيرا فقدموهم ولا تقدموهم، وأمروهم ولا تأمروا عليهم "؟ ألستم تعلمون
أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال " أهل بيتي منار الهدى، والدالون على الله "؟ أو لستم
تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام: " أنت الهادي لمن ضل "؟ ألستم
تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال " علي المحيي لسنتي " ومعلم أمتي، والقائم بحجتي
وخير من أخلف من بعدي، وسيد أهل بيتي، وأحب الناس إلي طاعته كطاعتي
على أمتي "؟ ألستم تعلمون أنه لم يول على علي أحدا منكم وولاه في كل غيبته
عليكم؟ ألستم تعلمون أنه كان منزلهما في أسفارهما واحدا وارتحالهما واحد؟
ألستم تعلمون أنه قال: " إذا غبت فخلفت عليكم عليا فقد خلفت فيكم رجلا
كنفسي "؟ ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قبل موته قد جمعنا في بيت ابنته
فاطمة عليها السلام فقال لنا: إن الله أوحى إلى موسى بن عمران أن اتخذ أخا من أهلك
فأجعله نبيا، واجعل أهله لك ولدا، أطهرهم من الآفات، وأخلصهم من الريب
فاتخذ موسى هارون أخا، وولده أئمة لبني إسرائيل من بعده، الذين يحل لهم
في مساجدهم ما يحل لموسى، وأن الله تعالى أوحي إلي أن أتخذ عليا أخا، كما
أن موسى اتخذ هارون أخا، واتخذ ولده ولدا، فقد طهرتهم كما طهرت ولد
هارون، إلا أني قد ختمت بك النبيين فلا نبي بعدك " فهم الأئمة الهادية، أفما
تبصرون أفما تفهمون أفما تسمعون؟! ضربت عليكم الشبهات، فكان مثلكم
كمثل رجل في سفر فأصابه عطش شديد، حتى خشي أن يهلك، فلقي رجلا هاديا
في الطريق، فسأله عن الماء، فقال له: أمامك عينان: إحديهما مالحة، والأخرى
155

عذبة، فإن أصبت المالحة ضللت، وإن أصبت العذبة هديت ورويت، فهذا مثلكم
أيتها الأمة المهملة كما زعمتم، وأيم الله ما أهملتم، لقد نصب لكم علم، يحل لكم
الحلال، ويحرم عليكم الحرام، ولو أطعتموه ما اختلفتم، ولا تدابرتم، ولا تقاتلتم
ولا برئ بعضكم من بعض، فوالله إنكم بعده لناقضون عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنكم
على عترته لمختلفون، وإن سئل هذا عن غير ما يعلم أفتى برأيه، فقد أبعدتم،
وتخارستم وزعمتم أن الخلاف رحمة، هيهات أبى الكتاب ذلك عليكم، يقول الله
تعالى جده (1): " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جائتهم البينات
وأولئك لهم عذاب عظيم (2) " ثم أخبرنا باختلافكم، فقال سبحانه: " ولا يزالون
مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم (3) " أي: للرحمة وهم آل محمد، سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: يا علي أنت وشيعتك على الفطرة، والناس منها براء، فهلا
قبلتم من نبيكم كيف وهو خبركم بانتكاصتكم (4) عن وصيه علي بن أبي طالب
وأمينه، ووزيره، وأخيه، ووليه، دونكم أجمعين. وأطهركم قلبا، وأقدمكم سلما
وأعظمكم وعيا، من رسول الله صلى الله عليه وآله أعطاه تراثه، وأوصاه بعداته، فاستخلفه على
أمته، ووضع عنده سره، فهو وليه دونكم أجمعين، وأحق به منكم أكتعين (5)
سيد الوصيين، ووصي خاتم المرسلين، أفضل المتقين، وأطوع الأمة لرب العالمين
سلمتم عليه بإمرة المؤمنين، في حياة سيد النبيين، وخاتم المرسلين، فقد أعذر من
أنذر، وأدى النصيحة من وعظ وبصر من عمى، فقد سمعتم كما سمعنا، ورأيتم
كما رأينا، وشهدتم كما شهدنا.
فقام إليه عبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل
فقالوا يا أبي أصابك خبل؟ أم بك جنة؟ فقال: بل الخبل فيكم، والله كنت عند
رسول الله صلى الله عليه وآله يوما فألفيته يكلم رجلا أسمع كلامه ولا أرى شخصه، فقال فيما

(1) جده: عظمته.
(2) آل عمران 105.
(3) هود 118.
(4) أي برجوعكم القهقري.
(5) أكتعين: كلكم.
156

يخاطبه: ما أنصحه لك ولأمتك! وأعلمه بسنتك! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أفترى
أمتي تنقاد له من بعدي؟ قال: يا محمد يتبعه من أمتك أبرارها، ويخالف عليهم من
أمتك فجارها، وكذلك أوصياء النبيين من قبلك، يا محمد إن موسى بن عمران أوصى
إلى يوشع بن نون، وكان أعلم بني إسرائيل وأخوفهم لله، وأطوعهم له، فأمره الله
عز وجل أن يتخذه وصيا كما اتخذت عليا وصيا، وكما أمرت بذلك، فحسده
بنو إسرائيل، سبط موسى خاصة، فلعنوه، وشتموه، وعنفوه، ووضعوا له، فإن أخذت
أمتك سنن بني إسرائيل كذبوا وصيك، وجحدوا إمرته، وابتزوا خلافته وغالطوه
في علمه، فقلت: يا رسول الله من هذا؟ فقال رسول لله صلى الله عليه وآله: " هذا ملك من
ملائكة ربي عز وجل، ينبئني أن أمتي تتخلف على وصيي علي بن أبي طالب
صلوات الله عليه السلام، وإني أوصيك يا أبي بوصية، إن حفظتها لم تزل بخير
يا أبي عليك بعلي، فإنه الهادي المهدي، الناصح لأمتي، المحيي لسنتي، وهو
إمامكم بعدي، فمن رضي بذلك لقيني على ما فارقته عليه، يا أبي ومن غير أو
بدل لقيني ناكثا لبيعتي، عاصيا أمري، جاحدا لنبوتي، لا أشفع له عند ربي،
ولا أسقيه من حوضي " فقامت إليه رجال من الأنصار فقالوا: " اقعد رحمك الله
يا أبي، فقد أديت ما سمعت الذي معك ووفيت بعهدك ".
احتجاج أمير المؤمنين (ع) على أبي بكر لما كان يعتذر إليه من بيعة الناس
له ويظهر الانبساط له.
عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهم السلام، قال: لما كان من أمر أبي بكر
وبيعة الناس له وفعلهم بعلي، لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط ويرى منه الانقباض
فكبر ذلك على أبي بكر، وأحب لقائه واستخراج ما عنده والمعذرة إليه مما اجتمع
الناس عليه وتقليدهم إياه أمر الأمة وقلة رغبته في ذلك وزهده فيه.
أتاه في وقت غفلة وطلب منه الخلوة، فقال: يا أبا الحسن والله ما كان هذا
157

الأمر عن مواطاة مني ولا رغبة فيما وقعت عليه ولا حرص عليه ولا ثقة بنفسي فيما
تحتاج إليه الأمة ولا قوة لي بمال ولا كثرة لعشيرة ولا استيثار به دون غيري
فما لك تضمر علي ما لم استحقه منك وتظهر لي الكراهة لما صرت فيه وتنظر إلي
بعين الشنآن؟
قال: فقال أمير المؤمنين عليه السلام: فما حملك عليه إذ لم ترغب فيه ولا حرصت
عليه ولا أثقت بنفسك في القيام به؟!
قال: فقال أبو بكر: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله: " إن الله لا يجمع
أمتي على ضلال " ولما رأيت إجماعهم اتبعت قول النبي صلى الله عليه وآله، وأحلت أن يكون
إجماعهم على خلاف الهدى من ضلال، فأعطيتهم قود الإجابة، ولو علمت أن أحدا
يتخلف لامتنعت.
فقال علي عليه السلام: أما ما ذكرت من قول النبي صلى الله عليه وآله " إن الله لا يجمع أمتي
على ضلال " فكنت من الأمة أم لم أكن؟ قال: بلى. قال: وكذلك العصابة
الممتنعة عنك: من سلمان، وعمار، وأبي ذر، والمقداد، وابن عبادة، ومن معه
من الأنصار. قال: كل من الأمة قال علي عليه السلام: فكيف تحتج بحديث النبي
وأمثال هؤلاء قد تخلفوا عنك؟! وليس للأمة فيهم طعن ولا في صحبة الرسول
لصحبته منهم تقصير، قال: ما علمت بتخلفهم إلا بعد إبرام الأمر، وخفت
إن قعدت عن الأمر أن يرجع الناس مرتدين عن الدين، وكان ممارستهم إلي إن
أجبتهم أهون مؤنة على الدين وإبقاء له من ضرب الناس بعضهم ببعض فيرجعون
كفارا، وعلمت أنك لست بدوني في الإبقاء عليهم وعلى أديانهم.
فقال علي عليه السلام: أجل ولكن أخبرني عن الذي يستحق هذا الأمر بما يستحقه؟
فقال أبو بكر: بالنصيحة، والوفاء، ودفع المداهنة، وحسن السيرة،
وإظهار العدل، والعلم بالكتاب والسنة، وفصل الخطاب، مع الزهد في الدنيا، وقلة
الرغبة فيها، وانتصاف المظلوم من الظالم للقريب والبعيد، ثم سكت.
فقال علي عليه السلام: والسابقة، والقرابة.
158

فقال أبو بكر: والسابقة والقرابة.
فقال علي عليه السلام: أنشدك بالله يا أبا بكر أفي نفسك تجد هذه الخصال أو في
فقال أبو بكر: بل فيك يا أبا الحسن.
قال: فأنشدك بالله أنا المجيب لرسول الله صلى الله عليه وآله قبل ذكران المسلمين (1)
أم أنت؟ قال: بل أنت.
قال عليه السلام: فأنشدك بالله، أنا صاحب الأذان لأهل الموسم والجمع الأعظم
للأمة بسورة براءة (2) أم أنت؟ قال: بل أنت.

(1) في " ذخائر العقبى ": عن زيد بن أرقم قال:
" كان أول من أسلم علي بن أبي طالب ". وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
" على أول من أسلم بعد خديجة ".
وذكر الحجة الأميني في ج 3 من كتاب الغدير ص 219 مائة حديث من طرق
مختلفة، رواها أئمة الحديث وحفاظه، في أن عليا أول من أسلم.
وروى محب الدين الطبري في " ذخائر العقبى " عن عمر بن الخطاب قال: " كنت
أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة، إذ ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله منكب علي بن أبي طالب
فقال: " يا علي أنت أول المؤمنين إيمانا، وأنت أول المسلمين إسلاما، وأنت مني بمنزلة
هارون من موسى " وبعد أن نقل عدة روايات في الموضوع أعقبها بقوله:
وقد وردت أحاديث في أن أبا بكر أول من أسلم وهي محمولة على أنه أول من
أظهر إسلامه، وعلي (ع) أول من بدر إلى الإسلام. ذخائر العقبى ص 58
(2) عن أبي سعيد وأبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر على
الحج فلما بلغ ضجنان، سمع بغام ناقة علي، فعرفه فأتاه، فقال: ما شأنك؟ فقال:
خيرا، إن رسول الله صلى الله عليه وآله بعثني ببراءة.
فلما رجعا، انطلق أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله ما لي؟ قال:
خيرا أنت صاحبي في الغار، غير أنه لا يبلغ عني غيري أو رجل مني يعني عليا: أخرجه
أبو حاتم.
وفي رواية عنده من حديث جابر: إن أبا بكر قال له: أمير أم رسول؟ فقال:
بل رسول، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وآله ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج.
وفي رواية من حديث أحمد عن علي أن النبي صلى الله عليه وآله لما راجعه أبو بكر قال له:
" جبريل جائني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك "
عن ذخائر العقبى ص 96
وذكر الشيخ الأميني في ج 6 من الغدير ص 338 (73) مصدرا قدم لها بقوله:
" هذه الإثارة أخرجها كثير من أئمة الحديث وحفاظه بعدة طرق صحيحة يتأتى
التواتر بأقل منها، عند جمع من القوم، وإليك أمة ممن أخرجها،.. الخ
159

قال: فأنشدك بالله أنا وقيت رسول الله صلى الله عليه وآله بنفسي يوم الغار (1) أم أنت؟
قال: بل أنت.
قال فأنشدك بالله أنا المولى لك ولكل مسلم بحديث النبي صلى الله عليه وآله يوم الغدير (2) أم أنت؟ قال: بل أنت

(1) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما أراد الهجرة خلف علي بن أبي طالب (ع)
بمكة لقضاء ديونه ورد الودايع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار - وقد أحاط
المشركون بالدار - أن ينام على فراشه، وقال له: " اتشح ببردى الحضرمي الأخضر،
فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله تعالى، ففعل ذلك فأوحى الله إلى جبرئيل
وميكائيل (ع): إني آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما
يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختارا كلاهما الحياة، فأوحى الله عز وجل إليهما: أفلا كنتما
مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى الله عليه وآله فبات على فراشه، يفديه بنفسه
ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض، فاحفظاه من عدوه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأس
علي وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب يباهي
الله عز وجل به الملائكة؟! فأنزل الله عز وجل إلى رسوله وهو متوجه إلى المدينة في
شأن علي (ومن الناس من يشر نفسه ابتغاء مرضات الله) أسد الغابة ج 4 ص 95
(2) مر في ص 66 من هذا الكتاب حديث الغدير كما أشير في الهامش إلى ما ذكره
الحجة الأميني في الجزء الأول من (كتاب الغدير) من عدد رواته من الصحابة والتابعين
ومن أئمة الحديث وحفاظه والأساتذة وما استعرضه من أسماء من ألفوا فيه من الفريقين
كتبا مستقلة فبلغ عددهم (26) مؤلفا.
وبالمناسبة أحببنا ذكر ما نقلة صاحب ينابيع المودة في ص 26 منه إذ قال: حكى
العلامة علي بن موسى، وعلي بن محمد أبي المعالي الجويني الملقب بإمام الحرمين، أستاذ
أبي حامد الغزالي يتعجب ويقول: رأيت مجلدا في بغداد في يد صحاف فيه روايات خبر
غدير خم مكتوبا عليه المجلد الثامنة والعشرون من طرق قوله صلى الله عليه وآله من كنت مولاه
فعلي مولاه ويتلوه المجلدة التاسعة والعشرون. انتهى.
وفي واقعة الغدير هذه يقول حسان بن ثابت - بعد أن استأذن النبي صلى الله عليه وآله
فأذن له -:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم واسمع بالنبي مناديا
وقد جاء جبرئيل عن أمر ربه * بأنك معصوم فلا تك وانيا
وبلغهم ما أنزل الله ربهم * إليك ولا تخش هناك الأعاديا
فقام به إذ ذاك رافع كفه * بكف على معلن الصوت عاليا
فقال: فمن مولاكم ووليكم؟ * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولن تجدن فينالك اليوم عاصيا
فقال له: قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا
(فمن كنت مولاه فهذا وليه) * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا: اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا
فيا رب أنصر ناصريه لنصرهم * إمام هدى كالبدر يجلو الدياجيا
ويقول - مشيرا إليها - قيس بن سعد بن عبادة:
وعلي إمامنا وإمام * لسوانا أتى به التنزيل
يوم قال النبي: من كنت * مولاه فهذا خطب جليل
إنما قاله النبي على الأمة * حتم ما فيه قال وقيل
160

قال فأنشدك بالله ألي الولاية من الله مع رسوله في آية الزكاة بالخاتم (1)

(1) عن أنس بن مالك: أن سائلا أتى المسجد وهو يقول: (من يقرض الملي
الوفي) وعلي عليه السلام راكع، يقول بيده خلفه للسائل أي اخلع الخاتم من يدي
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عمر وجبت. قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما وجبت
قال وجبت له الجنة والله وما خلعه من يده حتى خلعه الله من كل ذنب ومن كل خطيئة
قال: فما خرج أحد من المسجد حتى نزل جبرئيل بقوله عز وجل: (إنما وليكم الله
ورسوله والذين آمنوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).
ذكر الأميني في ج 3 من الغدير ص (156 - 162) 66 طريقا ممن رواه من
الحفاظ والثقاة من الرواة.
ولحسان بن ثابت:
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي * وكل بطئ في الهدى ومسارع
أيذهب مدحي والمحبين ضايعا * وما المدح في ذات الإله بضائع
فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكع * فدتك نفوس القوم يا خير راكع
بخاتمك الميمون يا خير سيد * ويا خير شار ثم يا خير بايع
فأنزل فيك الله خير ولاية * وبينها في محكمات الشرايع
161

أم لك؟ قال: بل لك.
قال فأنشدك بالله ألي الوزارة مع رسول الله صلى الله عليه وآله والمثل من هارون من
موسى (1) أم لك؟ قال: بل لك.

(1) إن قول النبي " ص " لعلي أنت مني بمنزلة هارون من موسى قد تكرر
منه " ص " في مناسبات شتى، ففي حديث تبوك عندما مع علي " ع " يا رسول الله تخلفني
في النساء والصبيان؟! قال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه
لا نبي بعدي. الصواعق المحرقة ص 119.
وحين آخى النبي " ص " بين أصحابه. فقال على " ع " آخيت بين أصحابك ولم
تؤاخ بيني وبين أحد فقال: والذي بعثني بالحق نبيا ما أخرتك إلا لنفسي فأنت مني
بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ينابيع المودة ص 56.
وعن عبد الله بن عباس: سمعت عمر وعنده جماعة فتذاكروا السابقين إلى الإسلام
فقال عمر: أما علي فسمعت رسول الله " ص " يقول فيه ثلاث خصال، لوددت أن
تكون لي واحدة منهن، وكانت أحب إلى مما طلعت عليه الشمس، كنت أنا وأبو عبيدة
وأبو بكر وجماعة من أصحابه: إذ ضرب " ص " على منكب علي رضي الله عنه فقال له
يا علي أنت أول المؤمنين إيمانا، وأول المسلمين إسلاما، وأنت مني بمنزلة هارون
من موسى.
شرح النهج لابن أبي الحديد ج 3 ص 258
وعن سعد بن أبي وقاص: إن النبي " ص " قال لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون
من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " أخرجه البخاري ومسلم. ذخائر العقبى ص 63.
وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله " ص " يقول:
" اللهم إني أقول كما قال أخي موسى واجعل لي وزيرا من أهلي أخي عليا اشدد به أزري
وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا " أخرجه أحمد
في المناقب ذخائر العقبى ص 63 إلى غير ذلك من المواطن المتعددة.
162

قال فأنشدك بالله أبي برز رسول الله صلى الله عليه وآله وباهلي وولدي في مباهلة المشركين
أم بك وبأهلك وولدك (1)؟ قال: بل بكم.
قال فأنشدك بالله ألي ولأهلي وولدي آية التطهير من الرجس أم لك ولأهل

(1) وقد رويت هذه القصة على وجوه عن جماعة من التابعين وأخرج الحاكم
وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال: قدم على النبي " ص " العاقب
والسيد، فدعاهما إلى الإسلام، فقالا أسلمنا يا محمد فقال كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما
يمنعكما من الإسلام قالا فهات؟! قال حب الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير
قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على الغد فغدا رسول الله " ص " وأخذ
بيد على وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه وأقرا له، فقال:
والذي بعثني بالحق لو فعلا، لا مطر الوادي عليهما نارا. قال جابر فيهم نزلت: " تعالوا
ندع أبنائنا " الآية. قال جابر: " أنفسنا وأنفسكم " رسول الله " ص " وعلي و " أبنائنا "
الحسن والحسين، و " نسائنا " فاطمة ورواه أيضا الحاكم من وجه آخر عن جابر
وصححه. وأخرج مسلم. والترمذي. وابن منذر. والحاكم. والبيهقي. عن سعد بن
أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية " قل تعالوا " دعا رسول الله " ص " عليا وفاطمة
وحسنا وحسينا فقال: " اللهم هؤلاء أهلي ".
عن الفتح القدير للشوكاني في تفسير قوله تعالى: (تعالوا ندع)
163

بيتك (1)؟ قال: بل لك ولأهل بيتك.
قال فأنشدك بالله أنا صاحب دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وأهلي وولدي يوم الكساء
" اللهم هؤلاء أهلي إليك لا إلى النار (2) " أم أنت؟ قال: بل أنت وأهلك وولدك
قال فأنشدك بالله أنا صاحب آية " يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره

(1) أخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت في خمسة: النبي صلى الله عليه وآله وعلي
وفاطمة. والحسن. والحسين.
وأخرجه ابن جرير مرفوعا بلفظ: أنزلت هذه الآية في خمسة: في وفي علي والحسن
والحسين وفاطمة. وأخرجه الطبراني أيضا.
عن الصواعق المحرقة " لابن حجر ": ص 141
وفي ينابيع المودة ص " 107 ": حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا محمد بن سليمان
الإصبهاني عن يحيى بن عبيد عن عطا عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي " ص " قال: نزلت
" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " في بيت أم سلمة، فدعى
النبي " ص " عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فجللهم بكساء، ثم قال: " اللهم هؤلاء أهل
بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " قالت أم سلمة. " وأنا معهم يا نبي الله؟ "
قال: " أنت على مكانك وأنت إلى خير ".
وفي ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري ص 22: عن أنس بن مالك أن رسول
الله " ص " كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر ويقول: " الصلاة
يا أهل بيتي - إنما يريد الله - الآية ". أخرجه أحمد
وعن أبي الحمراء قال صحبت رسول الله " ص " تسعة أشهر فكأن إذا أصبح أتى
على باب على وفاطمة وهو يقول: " يرحمكم الله - إنما يريد الله - الآية ". أخرجه
عبد بن حميد.
(2) عن أم سلمة قالت: بينما رسول الله " ص " في بيته يوما إذ قالت الخادم:
" إن عليا وفاطمة بالسدة " قالت: فقال لي: " قومي فتنحي عن أهل بيتي، قالت
فقمت فتنحيت في البيت قريبا، فدخل على وفاطمة ومعهما الحسن والحسين وهما صبيان
صغيران، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره وقبلهما واعتنق بإحدى يديه عليا وفاطمة
بالأخرى، وقبل فاطمة وقبل عليا، فأغدق عليهم خميصة سوداء، ثم قال: " اللهم
إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي " قالت: قلت وأنا يا رسول الله عليك، قال
وأنت. أخرجه أحمد، وخرج الدولابي معناه مختصرا.
عن ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري ص 21 - 22
164

مستطيرا (1) أم أنت؟ قال: بل أنت.

(1) ينابيع المودة ص 93 قال:
أيضا الحمويني أخرجه عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: (يوفون بالنذر
ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)
قال: مرض الحسن والحسين رضي الله عنهما فعادهما جدهما صلى الله عليه وآله وعادهما بعض
الصحابة، فقالوا: (يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك) فقال علي رضي الله عنه: إن
برأ ولداي مما بهما، صمت لله ثلاثة أيام شكرا لله، وقالت فاطمة رضي الله عنها مثل
ذلك، وقالت جارية يقال لها فضة مثل ذلك، وقال الصبيان نحن نصوم ثلاثة أيام فألبسهما
الله العافية:، وليس عندهم قليل ولا كثير، فانطلق علي رضي الله عنه إلى رجل من اليهود
يقال له: (شمعون بن حابا) فقال له: (هل تؤتيني جزة من صوف تغزلها لك بنت
محمد صلى الله عليه وآله بثلاثة أصواع من شعير) قال: نعم فأعطاه، ثم قامت فاطمة رضي الله
عنها إلى صاع فطحنته واختبزت منة خمسة أقراص لكل واحد منهم قرص وصلى علي رضي
الله عنه مع النبي صلى الله عليه وآله المغرب، ثم أتى فوضع الطعام بين يديه، إذ أتاهم مسكين
فوقف بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد " ص " أنا مسكين أطعموني شيئا
فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح. وفي الليلة الثانية
أتاهم يتيم فقال: أطعموني فأعطوه الطعام، وفي الليلة الثانية أتاهم أسير فقال: أطعموني
فأعطوه ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم
الرابع وقد قضوا نذرهم، أخذ علي بيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين رضي الله
عنهم، وأقبل نحوهم رسول الله صلى الله عليه وآله وهما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع، فلما
أبصرهم صلى الله عليه وآله انطلق إلى ابنته فاطمة رضي الله عنها فانطلقوا إليها وهي في محرابها تصلي
وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع، وغارت عيناها - فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: (وا غوثاه أهل بيت محمد يموتون جوعا) فهبط جبرئيل عليه السلام فأقرأه: (هل
أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) إلى آخر السورة وهذا الخبر مذكور
في تفسير البيضاوي، وروح البيان، والمسامرة.
أقول: وذكر الحجة الأميني في ج 3 من الغدير ص 107 - 111 من رواة هذا الحديث
(34) طريقا فراجع.
165

قال فأنشدك بالله أنت الذي ردت عليه الشمس لوقت صلاته فصلاها ثم توارت
أم أنا (1)؟ قال: بل أنت.
قال فأنشدك بالله أنت الفتى نودي من السماء " لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى

(1) جاء في ينابيع المودة ص 137 - 138.
وفي كتاب الإرشاد أن أم سلمة وأسماء بنت عميس وجابر بن عبد الله وأبا سعيد
الخدري وغيرهم من جماعة الصحابة (رض) قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان في المنزل
فلما تغشاه الوحي توسد فخذ على فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس، وصلى علي صلاة
العصر بالايماء، فلما أفاق النبي صلى الله عليه وآله قال: (اللهم أردد الشمس لعلي فردت عليه الشمس
حتى صارت في السماء وقت العصر، فصلى علي العصر، ثم غربت.
فأنشأ حسان بن ثابت:
يا قوم من مثل على وقد * ردت عليه الشمس من غائب
أخو رسول الله وصهره * والأخ لا يعدل بالصاحب
قال الحجة الأميني: في ج 3 من الغدير ص (127):
إن حديث رد الشمس أخرجه جمع من الحفاظ الأثبات، بأسانيد جمة، صحح جمع
من مهرة الفن بعضها، وحكم آخرون بحسن آخر، وشدد جمع منهم النكير على من غمز
فيه وضعفه، وهم الأبناء الأربعة حملة الروح الأموية الخبيثة ألا وهم: ابن حزم. ابن
الجوزي. ابن تيمية. ابن كثير. وجاء آخرون من الأعلام وقد عظم عليهم الخطب
بإنكار هذه المأثرة النبوية، والمكرمة العلوية الثابتة فأفردوها بالتأليف وجمعوا فيه
طرقها وأسانيدها. وعد منهم (9) ثم قال: ولا يسعنا ذكر تلكم المتون وتلكم الطرق
والأسانيد إذ يحتاج إلى تأليف ضخم يخص به غير أنا نذكر نماذج ممن أخرجه من الحفاظ
والأعلام بين من ذكره من غير غمز فيه، وبين من تكلم حوله وصححه، وفيها مقنع وكفاية
وعد من ذلك (19)
سندا فراجع.
166

إلا علي " (1) أم أنا؟ قال: بل أنت.
قال فأنشدك بالله أنت الذي حباك رسول الله صلى الله عليه وآله برايته يوم خيبر، ففتح
الله له أم أنا (2)؟ قال: بل أنت.
قال فأنشدك بالله أنت الذي نفست عن رسول الله وعن المسلمين بقتل عمرو بن

(1) وذلك في غزوة (أحد) ذكر الطبري في ج 3 ص 17 عن عبيد الله بن
أبي رافع قال: لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الألوية أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله
جماعة من مشركي قريش فقال لعلي: (احمل عليهم) فحمل عليهم ففرق جمعهم، وقتل
عمرو بن عبد الله الجمحي قال: ثم أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله جماعة من مشركي قريش
فقال لعلي: إحمل عليهم، فحمل عليهم، ففرق جماعتهم، وقتل شيبة بن مالك أحد بني
عامر بن لؤي، فقال جبريل: يا رسول الله إن هذا للمواسات فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
إنه مني وأنا منه فقال جبريل: وأنا منكما: قال: فسمعوا صوتا:
لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي
وأخرج ابن هشام في سيرته ج 3 ص 52 عن ابن أبي نجيح قال: نادى مناد
من السماء
لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي
قال حسان بن ثابت:
جبريل نادى معلنا * والنقع ليس بمنجلي
والمسلمون قد أحدقوا * حول النبي المرسل
لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي
(2) عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لأعطين غدا الراية رجلا
يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله يفتح الله على يديه قال فبات الناس يدوكون ليلتهم
أيهم يعطى. فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله كلهم يرجو أن يعطاها
فقال صلى الله عليه وآله: أين علي بن أبي طالب فقالوا يشتكي عينيه يا رسول الله صلى الله عليه وآله قال:
فأرسلوا إليه. فلما جاء بصق صلى الله عليه وآله في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع
وأعطاه الراية فقال على: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: انفذ على رسلك
حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه،
فوالله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم. أخرجه
البخاري ومسلم. ذخائر العقبى
167

عبد ود أم أنا (1)؟ قال: بل أنت.
قال فأنشدك بالله أنت الذي ائتمنك رسول الله صلى الله عليه وآله على رسالته إلى الجن (2)
فأجابت أم أنا؟ قال: بل أنت.

(1) وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم
أحد، فلما كان يوم الخندق، خرج معلما ليرى مكانه وقف هو وخيله قال من يبارز،
فبرز له علي بن أبي طالب فقال له: يا عمرو إنك قد كنت عاهدت الله أن لا يدعوك
رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه، قال له: أجل. قال له علي: فإني
أدعوك إلى الله وإلي رسوله وإلى الإسلام قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإني أدعوك
إلى النزال فقال له: لم يا بن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك. قال له علي: ولكني
والله أحب أن أقتلك فحمى عمرو عند ذلك، فأقحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم
أقبل على علي فتنازلا وتجاولا فقتله علي رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: وقال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه في ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب محمد بصوابي
فصدرت حين تركته متجدلا * كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو أنني * كنت المقطر بزنى أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه * ونبيه يا معشر الأحزاب
(2) ج 6 بحار الأنوار ص 315.
عيون المعجزات من كتاب الأنوار مسندا عن سلمان قال: كان النبي " ص " ذات
يوم جالسا بالأبطح وعنده جماعة من أصحابه وهو مقبل علينا بالحديث، إذ نظرنا إلى
زوبعة قد ارتفعت فأثارت الغبار، وما زالت تدنو والغبار يعلو إلى أن وقفت بحذاء
النبي " ص " ثم برز منها شخص كان فيها، ثم قال: يا رسول الله " ص " إني وافد قوم
وقد استجرنا بك فأجرنا، وابعث معي من قبلك من يشرف على قومنا فإن بعضهم قد
بغى علينا، ليحكم بيننا وبينهم بحكم الله وكتابه، وخذ على العهود
والمواثيق المؤكدة أن أرده إليك في غداة غد سالما إلا أن تحدث علي حادثة
من عند الله، فقال النبي " ص ": من أنت ومن قومك.؟ قال: أنا عطرفة بن شمراخ
أحد بني نجاح، وأنا وجماعة من أهلي كنا نسترق السمع فلما منعنا من ذلك آمنا
ولما بعثك الله نبيا آمنا بك، على ما علمته وقد صدقناك وقد خالفنا بعض القوم، وأقاموا
على ما كانوا عليه فوقع بيننا وبينهم الخلاف، وهم أكثر منا عددا وقوة، وقد غلبوا
على الماء والمرعى، وأضروا بنا وبدوا بنا، فابعث معي من يحكم بيننا بالحق، فقال له
النبي " ص ": فاكشف لنا عن وجهك حتى نراك على هيئتك التي أنت عليها، قال:
فكشف لنا عن صورته فنظرنا فإذا شخص عليه شعر كثير، وإذا رأسه طويل، طويل
العينين، عيناه في طول رأسه، صغير الحدقتين، وله أسنان كأنها أسنان السباع، ثم
أن النبي " ص " أخذ عليه العهد والميثاق على أن يرد عليه في غد من يبعث به معه، فلما
فرغ من ذلك التفت إلى أبي بكر فقال: سر مع أخينا عطرفة وانظر إلى ما هم عليه،
واحكم بينهم بالحق، فقال: يا رسول الله وأين هم؟ قال: هم تحت الأرض، فقال أبو بكر
وكيف أطيق النزول تحت الأرض؟ وكيف أحكم بينهم ولا أحسن كلامهم؟ ثم التفت
إلى عمر بن الخطاب فقال له مثل قوله لأبي بكر، فأجاب مثل جواب أبي بكر. ثم أقبل
على عثمان وقال له مثل قولهما فأجابه كجوابهما. ثم استدعى عليا وقال له: يا علي سر مع
أخينا عطرفة، وتشرف على قومه، وتنظر إلى ما هم عليه وتحكم بينهم بالحق فقام
أمير المؤمنين مع عطرفة وقد تقلد سيفه، قال سلمان: فتبعتهما إلى أن صارا إلى الوادي
فلما توسطاه نظر إلى أمير المؤمنين " ع " وقال قد شكر الله تعالى سعيك يا أبا عبد الله
فارجع، فوقفت أنظر إليهما، فانشقت الأرض ودخلا فيها ورجعت، وتداخلني من
الحسرة ما الله أعلم به كل ذلك إشفاقا على أمير المؤمنين وأصبح النبي " ص " وصلى
بالناس الغداة وجاء وجلس على الصفا وما زال يحدث أصحابه، إلى أن وجبت صلاة
العصر وأكثر القوم والكلام، وأظهروا اليأس من أمير المؤمنين " ع " فصلى النبي " ص "
صلاة العصر وجاء وجلس على الصفا، وأظهر الفكر في أمير المؤمنين " ع " وظهرت شماتة
المنافقين بأمير المؤمنين " ع " وكادت الشمس تغرب، فتيقن القوم أنه قد هلك وإذا قد
انشق الصفا، وطلع أمير المؤمنين " ع " منه، وسيفه يقطر دما، ومعه عطرفة، فقام إليه
النبي وقبل بين عينيه وجبينه، وقال له: ما الذي حبسك عني إلى هذا الوقت؟ فقال
عليه السلام: صرت إلى جن كثير قد بغوا على عطرفة وقومه من المنافقين، فدعوتهم
إلى ثلاث خصال فأبوا علي، وذلك إني دعوتهم إلى الإيمان بالله تعالى والإقرار بنبوته
ورسالتك فأبوا، فدعوتهم إلى أداء الجزية فأبوا، فسألتهم أن يصالحوا عطرفة وقومه
فيكون بعض المرعى لعطرفة وقومه وكذلك الماء فأبوا ذلك كله، فوضعت سيفي فيهم
وقتلت منهم ثمانين ألفا، فلما نظروا إلى ما حل بهم طلبوا الأمان والصلح ثم آمنوا
وزال الخلاف بينهم، وما زلت معهم إلى الساعة. فقال عطرفة يا رسول الله جزاك الله
وأمير المؤمنين عنا خيرا.
168

قال فأنشدك بالله أنا الذي طهره الله من السفاح من لدن آدم إلى أبيه بقول رسول
169

الله صلى الله عليه وآله: " خرجت أنا وأنت من نكاح لا من سفاح (1) من لدن آدم إلى

(1) ينابيع المودة ص 16 قال: "
وفي " الشفاء وروي عن علي كرم الله وجهه عنه " ص " في قوله تعالى: لقد جائكم
رسول من أنفسكم - قال: نسبا وصهرا وحسبا، ليس في آبائي من لدن آدم " ع "
سفاح كلنا بنكاح ".
وفي كنز العمال ج 6 ص 100 الحديث 1494.
عن النبي " ص " قال في حديث له رواه البيهقي في الدلائل عن أنس: " وخرجت
من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي، فإنا خيركم نسبا
وخيركم أنا "
والحديث 1495.
منه أيضا عن عائشة عنه صلى الله عليه وآله.
(خرجت من نكاح غير سفاح).
والحديث 1497 عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وآله: (خرجت من لدن آدم من نكاح
غير سفاح).
والحديث 1498 في ص 101 منه عن علي (ع): (خرجت من نكاح ولم أخرج
من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من سفاح الجاهلية شئ).
وفي ص 16 من ينابيع المودة:
(وفي جمع الفوائد رفعه: خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى
أن ولدني أبي وأمي. للأوسط..)
ابن عباس رفعه: ما ولدني في سفاح الجاهلية شئ وما ولدني إلا نكاح كنكاح
الإسلام. للكبير.
170

عبد المطلب " أم أنت؟ قال: بل أنت.
قال فأنشدك بالله أنا الذي اختارني رسول الله وزوجني ابنته فاطمة عليها السلام،
وقال: " الله زوجك إياها في السماء (1) " أم أنت؟ قال: بل أنت.
قال فأنشدك بالله أنا والد الحسن والحسين سبطيه وريحانتيه إذ يقول: " هما
سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما (2) " أم أنت؟ قال: بل أنت.

(1) ينابيع المودة ص 175 عن أنس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله فغشيه
الوحي فلما أفاق قال: يا أنس أتدري بما جائني به جبرئيل من عند صاحب العرش
عز وجل، قلت: بأبي وأمي بما جائك جبرائيل؟ قال: قال جبرائيل: إن الله يأمرك
أن تزوج فاطمة بعلي، فانطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير ونفرا من
الأنصار، قال. فانطلقت فدعوتهم فلما أن أخذوا مقاعدهم قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
الحمد لله المحمود: بنعمته. وذكر الخطبة المشتملة على التزويج وفي آخرها: فجمع الله
شملهما، وأطاب نسلهما، وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة، ومعادن الحكمة، وأمن الأمة
ثم حضر على وكان غائبا، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: يا علي إن الله أمرني أن
أزوجك فاطمة (ع) وإني قد زوجتكها على أربعمائة مثقال فضة، فقال على قد رضيتها
يا رسول الله صلى الله عليه وآله ثم إن عليا خر لله ساجدا شكرا، فلما رفع رأسه قال له رسول
الله صلى الله عليه وآله: بارك الله لكما، وبارك فيكما، وأسعد جدكما، وأخرج منكما الكثير الطيب
قال أنس: والله لقد أخرج الله منهما الكثير الطيب. أخرجه أبو علي الحسن بن
شاذان فيما نقله عنه الحافظ جمال الدين الزرندي في نظم درر السمطين وقد أورده المحب
الطبري في ذخائره وأخرجه أبو الخير القزويني الحاكمي، انتهى.
(2) ابن ماجة عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله " ص ": الحسن والحسين
سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما.
(وفي الإصابة) مالك بن الحويرث الليثي قال: قال رسول الله " ص ": الحسن
والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما.
ينابيع المودة ص 166
وأخرج ابن عساكر عن علي، وعن ابن عمر. -
وابن ماجة والحاكم. عن ابن عمر. -
والطبراني عن قرة، وعن مالك بن الحويرث. -
والحاكم عن ابن مسعود. -:
أن النبي " ص " قال: ابناي هذان الحسن، والحسين، سيدا شباب أهل الجنة
وأبوهما خير منهما.
الصواعق المحرقة ص 189
171

قال فأنشدك بالله أخوك المزين بالجناحين يطير في الجنة مع الملائكة أم
أخي (1)؟ قال: بل أخوك.

(1) هو جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، كنيته
أبو عبد الله، ابن عم الرسول، وأخو علي بن أبي طالب لأبويه، أسلم قديما بعد إسلام
أخيه علي بن أبي طالب بقليل.
هاجر الهجرتين إلى أرض الحبشة - في الهجرة الثانية، مع زوجته أسماء بنت عميس -
فأسلم النجاشي ومن تبعه على يديه، وأقام جعفر عنده: ثم هاجر منها إلى المدينة فقدم
والنبي " ص " بخيبر. -
فقال النبي " ص ": ما أدري بأيهما أنا أفرح بقدوم جعفر أم بفتح خيبر.
وكان أشبه الناس برسول الله خلقا وخلقا وقال له النبي " ص ": " اشبهت
خلقي وخلقي ".
مر أبو طالب " ع " فرأى النبي " ص " وعليا " ع " يصليان، وعلي عن يمينه
فقال لجعفر: صل جناح ابن عمك وصل عن يساره.
استشهد بمؤتة من أرض الشام مقبلا غير مدبر مجاهدا للروم في حياة النبي " ص "
سنة ثمان في جمادى الأولى.
عن ابن عمر قال: وجد فيما أقبل من بدن جعفر ما بين منكبيه تسعين ضربة ما
بين طعنة برمح وضربة بسيف.
وعن أنس بن مالك: أن النبي " ص " نعى جعفرا وزيدا نعاهما قبل أن يجيء
خبرهما نعاهما وعيناه تذرفان.
وكان أسن من على بعشرة سنين، فاستوفى أربعين سنة وزاد عليها.
ودخل رسول الله " ص " لما أتاه نعي جعفر " ع " على امرأته أسماء بنت عميس " ع "
فعزاها فيه، ودخلت فاطمة " ع " وهي تبكي وتقول: واعماه. فقال رسول الله " ص "
" على مثل جعفر فالتبك البواكي " ودخله هم شديد حتى أتاه جبرئيل، فأخبره أن الله قد
جعل لجعفر جناحين مضرجين بالدم يطير بهما مع الملائكة.
وقال " ص ": رأيت جعفرا يطير في الجنة مع الملائكة.
وعن ابن عمر: أنه " ص " كان إذا سلم على عبد الله بن جعفر قال: السلام عليك
يا بن ذي الجناحين.
راجع: الإصابة ج 1 ص 239 - 240، صفة الصفوة ج 1 ص 205 - 209
أسد الغابة ج 2 ص 286 - 289.
172

قال فأنشدك بالله أنا ضمنت دين رسول الله وناديت في المواسم بإنجاز موعده
أم أنت (1)؟ قال: بل أنت.
قال فأنشدك بالله أنا الذي دعاه رسول الله صلى الله عليه وآله والطير عنده يريد أكله
يقول: " اللهم ايتني بأحب خلقك إلي وإليك بعدي يأكل معي من هذا الطير " (2)
فلم يأته غيري أم أنت؟ قال: بل أنت.

(1) ينابيع المودة ص 105:
" وفي مسند أحمد بسنده عن عباد بن عبد الله الأسدي عن علي " رض " قال: لما
نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين. جمع النبي " ص " أهل بيته، فاجتمع ثلاثون نفرا
فأكلوا وشربوا ثلاثا، ثم قال لهم: من يضمن عني ديني ومواعيدي يكون معي في الجنة
ويكون خليفتي في أهلي، فقال علي: أنا يا رسول الله " ص ".
أيضا الثعلبي ذكر هذا الحديث في تفسير هذه الآية.
(2) عن أنس بن مالك: أهدي لرسول الله " ص " طير فقال: " اللهم ائتني
برجل يحبه الله ويحبه رسوله ". قال أنس: فأتى علي فقرع الباب، فقلت: إن رسول
الله " ص " مشغول، وكنت أحب أن يكون رجلا من الأنصار، ثم إن عليا فعل مثل
ذلك، أتى الثالثة فقال رسول الله " ص ": ادخله فقد عنيته.
وفي مسند أحمد بن حنبل بسنده عن سفينة مولى النبي " ص " قال: أهدت امرأة
من الأنصار طيرين مشويين بين رغيفين فقال النبي " ص ": " اللهم ايتني بأحب خلقك
إليك وإلى رسولك، فجاء علي فأكل معه من الطيرين حتى كفينا.
أسد الغابة ج 4 ص 30
وفي المستدرك ج 3 ص 130 - 131
عن أنس بن مالك أيضا قال: كنت أخدم رسول الله " ص " فقدم لرسول
الله " ص " فرخ مشوي فقال: " اللهم ايتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا
الطير " قال: فقلت اللهم اجعله رجلا من الأنصار، فجاء علي رضي الله عنه فقلت: إن
رسول الله " ص " على حاجة، ثم جاء فقلت: إن رسول الله " ص " على حاجة ثم
جاء فقال رسول الله " ص " افتح فدخل فقال رسول الله " ص " ما حبسك يا علي؟
فقال: إن هذه آخر ثلاث كرات يردني أنس، يزعم أنك على حاجة، فقال: ما حملك
على ما صنعت. فقلت يا رسول الله سمعت دعائك فأحببت أن يكون رجلا من قومي
فقال رسول الله " ص " إن الرجل قد يحب قومه. ثم قال: هذا حديث صحيح على
شرط الشيخين ولم يخرجاه.
173

قال فأنشدك بالله أنا الذي بشرني رسول الله صلى الله عليه وآله بقتال الناكثين، والقاسطين
والمارقين، على تأويل القرآن (1) أم أنت؟ قال: بل أنت.

(1) في ج 2 من الرياض النضرة ص 320:
وعن ابن مسعود أن رسول الله " ص " أتى منزل أم سلمة فجاء على فقال رسول
الله " ص ": يا أم سلمة هذا قاتل القاسطين. والناكثين، والمارقين، من بعدي.
وفي ج 6 من كنز العمال ص 155 الحديث 2585:
إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. قيل أبو بكر وعمر؟
قال: لا ولكنه خاصف النعل - يعني عليا.
وفي مستدرك الحاكم ج 3 ص 122:
عن أبي سعيد قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله فانقطعت نعله فتخلف على يخصفها
فمشى قليلا فقال: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. فاستشرف
لهما القوم وفيهم أبو بكر وعمر، قال أبو بكر: أنا هو؟ قال: لا قال عمر: أنا هو؟
قال: لا. ولكن خاصف النعل - يعني عليا - فأتيناه فبشرناه، فلم يرفع به رأسه، كأنه
قد كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين
ولم يخرجاه.
وفيه الص 139 - 140 عن الأصبغ بن نباتة عن أبي أيوب الأنصاري (رض)
قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول لعلي بن أبي طالب تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين
بالطرقات والنهروانات وبالشعفات قال أبو أيوب: قلت يا رسول الله مع من نقاتل
هؤلاء الأقوام؟ قال: مع علي بن أبي طالب.
174

قال فأنشدك بالله أنا الذي دل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله بعلم القضاء وفصل
الخطاب بقوله: " على أقضاكم " أم أنت (1)؟ قال بل أنت.

(1) الإستيعاب ج 2 ص 461
وروي عن النبي " ص " أنه قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأته
من بابه -
وقال " ص " في أصحابه: أقضاهم علي بن أبي طالب -
وقال عمر بن الخطاب: على أقضانا وأبي أقرؤنا وإنا لنترك أشياء من قراءة أبي
وأيضا مرفوعا عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس
لهما أبو حسن، وقال في المجنونة التي أمر برجمها، وفي التي وضعت لستة أشهر فأراد
عمر رجمها فقال له على: أن الله تعالى يقول: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا الحديث.
وقال له: إن الله رفع القلم عن المجنون الحديث. فكان عمر يقول: لولا على لهلك عمر
وأيضا ص 462 مرفوعا عن زر بن حبيش
قال: جلس رجلان يتغديان مع أحدهما خمسة أرغفة ومع الآخر ثلاثة أرغفة فلما
وضعا الغذاء بين أيديهما مر بهما رجل فسلم فقالا: أجلس للغداء فجلس وأكل معهما
واستوفوا في أكلهم الأرغفة الثمانية فقام الرجل وطرح إليهما ثمانية دراهم وقال: خذا
هذا عوضا مما أكلت لكما ونلته من طعامكما فنزعا وقال صاحب الخمسة الأرغفة لي خمسة
دراهم ولك ثلاث فقال صاحب الثلاثة الأرغفة لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا
نصفين وارتفعا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقصا عليه قصتهما
فقال لصاحب الثلاثة الأرغفة قد عرض عليك صاحبك ما عرض وخبزه أكثر من
خبزك فارض بثلاثته فقال: لا والله لا رضيت منه إلا بمر الحق. فقال علي رضي الله
عنه: " ليس لك في مر الحق إلا درهم واحد وله سبعة فقال الرجل: سبحان الله يا أمير
المؤمنين هو يعرض على ثلاثة فلم أرض، وأشرت علي بأخذها فلم أرض. وتقول لي الآن
إنه لا يجب في مر الحق إلا درهم واحد، فقال له علي: " عرض عليك صاحبك الثلاثة
صلحا فقلت لم أرض إلا بمر الحق، ولا يجب لك بمر الحق إلا واحد " فقال الرجل:
فعرفني بالوجه في مر الحق حتى أقبله. فقال علي رضي الله عنه: أليس للثمانية الأرغفة أربعة
وعشرون ثلثا، أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس ولا يعلم الأكثر منكم أكلا ولا الأقل،
فتحملون في أكلكم على السواء قال: بلى. قال فأكلت أنت ثمانية أثلاث وإنما لك تسعة
أثلاث، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث وله خمسة عشر ثلثا أكل منها ثمانية ويبقى له سبعة
وأكل لك واحدة من نسعة فلك واحد بواحدك، وله سبعة بسبعته. فقال له الرجل
رضيت الآن.
175

قال فأنشدك بالله أنا الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه بالسلام عليه بالإمرة
في حياته أم أنت (1)؟ قال: بل أنت.

(1) في ص 125 من كتاب (اليقين في إمرة أمير المؤمنين " ع ") قال:
فيما نذكره من كتاب الرسالة الموضحة تأليف المظفر بن جعفر بن الحسين..
وهو ممن يروي عنه محمد بن جرير الطبري ننقل ذلك من خط مصنفه من الخزانة العتيقة
بالنظامية ببغداد فقال ما هذا لفظه: (وعنه قال: حدثنا محمد بن همام عن علي بن العباس
ومحمد بن الحسين بن حفص قالا: حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا يحيى بن سالم
عن صباح بن يحيى عن العلا بن المسيب عن أبي داود عن بريدة الأسلمي قال: كنا نسلم
على علي بن أبي طالب (ع) بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله بإمرة المؤمنين نقول: (السلام
عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته) ويرد علينا.
وفي ج 9 من بحار الأنوار ص 246 عن بريدة وعن يحيى بن سالم قالا: أمرنا
النبي صلى الله عليه وآله أن نسلم على علي بإمرة المؤمنين.
وفيه أيضا عن الرضا عن آبائه عليهم السلام عن الحسين بن علي عليهما السلام
قال: (قال لي بريدة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله أن نسلم على أبيك بإمرة المؤمنين)
وفيه أيضا عن عمرو بن حصيب أخي بريدة بن حصيب قال:
بينا أخي بريدة عند النبي صلى الله عليه وآله إذ دخل أبو بكر فسلم على رسول الله فقال له:
انطلق فسلم على أمير المؤمنين، فقال: يا رسول الله ومن أمير المؤمنين؟ قال: علي بن
أبي طالب (ع) قال: عن أمر الله وأمر رسوله. قال: نعم. ثم دخل عمر فسلم فقال
انطلق فسلم على أمير المؤمنين فقال يا رسول الله ومن أمير المؤمنين؟ قال صلى الله عليه وآله: على
ابن أبي طالب (ع) قال عن أمر الله ورسوله قال: نعم.
176

قال فأنشدك بالله أنا الذي شهدت آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وآله ووليت غسله ودفنه
أم أنت (1)؟ قال: بل أنت.

(1) في ذخائر العقبى ص 72 والرياض النضرة ج 2 ص 237.
عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله - لما حضرته الوفاة - (ادعو لي حبيبي)
فدعوا له أبا بكر. فنظر إليه ثم وضع رأسه فقال: (ادعو لي حبيبي) فدعوا له عمر
فلما نظر إليه وضع رأسه ثم قال: (ادعو لي حبيبي) فدعوا له عليا رضي الله عنه فلما
رآه أدخله معه الثوب الذي كان عليه فلم يزل يحتضنه حتى قبض صلى الله عليه وآله - أخرجه الرازي
وفيهما أيضا وفي ج 3 من المستدرك عن أم سلمة (رض) قالت: والذي أحلف
به إن كان علي أقرب الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وآله عدنا رسول الله صلى الله عليه وآله غداة
بعد غداة يقول: (جاء على - مرارا -؟) وأظنه كان بعثه في حاجة فجاء بعد
فظننت أن له حاجة فخرجنا من البيت وقعدنا عند الباب فكنت من أدناهم إلى الباب
فأكب عليه على فجعل يساره ويناجيه ثم قبض صلى الله عليه وآله يومه ذلك فكان من أقرب
الناس به عهدا. أخرجه الإمام أحمد.
وفي ج 3 من المستدرك ص 111 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
لعلي أربع خصال ليست لأحد، هو أول عربي وعجمي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله
وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف، وهو الذي صبر معه يوم المهراس، وهو الذي
غسله وأدخله قبره.
177

قال فأنشدك بالله أنت الذي سبقت له القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله أم أنا (1)؟
قال: بل أنت.
قال فأنشدك بالله أنت الذي حباك الله بالدينار عند حاجته إليه وباعك
جبرئيل وأضفت محمدا فأطعمت ولده أم أنا (2) قال: فبكى أبو بكر قال: بل أنت.

(1) عن الشعبي: إن أبا بكر نظر إلى علي بن أبي طالب فقال: من سره أن
ينظر إلى أقرب الناس قرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وأعظمهم عنه غنا، وأحظهم عنده
منزلة، فلينظر وأشار إلى علي بن أبي طالب. خرجه ابن السمان.
الرياض النضرة ج 2 ص 215
(2) أخرج الخوارزمي الحنفي في ص 224 من مناقبه، عن أبي هارون العبدي
عن أبي سعيد قال: انقض على وفاطمة، فقالت له فاطمة ليس في الرحل شئ فخرج علي
يبتغي، قال: فوجد دينارا فعرفه فلم يجد له طالبا، ولم يصب شيئا، ورجع، فقالت
له فاطمة، ما صنعت؟ قال ما أصبت شيئا إلا أني وجدت دينارا فعرفت حتى سئمت
فلم أجد له طالبا باغيا، فقالت: هل لك في خير هل لك في أن نقترضه فنتعشى به، فإذا
جاء صاحبه أعطيته دينارا، فإنما هو دينار مكان دينار، فقال علي (ع) أفعل فأخذ
الدينار وأخذ وعاءا ثم خرج إلى السوق فإذا رجل عنده طعام يبيعه، فقال علي (ع)
كيف تبيع من طعامك هذا؟ قال: كذا وكذا بدينار، فناوله علي (ع) الدينار ثم
فتح وعاء، وذهب ليقوم رد عليه الدينار وقال لتأخذنه والله، فأخذه ورجع إلى فاطمة
فحدثها حديثه، فقالت فاطمة (ع) هذا رجل عرف حقنا وقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وآله
فأكلوه حتى أنفذوه ولم يصيبوا ميسرة، فقالت له فاطمة " ع ": هل لك في خير
تستقرضه فنتعشى به مثل قولها الأول؟ قال: أفعل. فخرج إلى السوق فإذا صاحبه
فقال له مثل قوله الأول، وفعل الرجل مثل فعله الأول، فرجع فأخبر فاطمة " ع "
فدعت له مثل دعائها الأول، فأكلوا حتى أنفذوا فلما كان الثالثة، قالت له فاطمة إن
رد عليك الدينار فلا تقبله، فذهب علي عليه السلام فوجده فلما كان له. ذهب يرده
عليه، فقال له على " ع " والله لا آخذه فسكت عنه -
قال أبو هارون: فقمت فانصرفت من عنده فمررت برجل من الأنصار له صحبة
يطين بيته، فسلمت عليه، فرد علي وسايلني، فقال ما حدثكم اليوم أبو سعيد؟ فقلت
حدثنا بكذا وكذا؟! فقال الأنصاري: من كان الذي اشترى منه علي " ع "! فقلت
لا أعلم! قال: كتمكم أبو سعيد؟! قلت: ومن كان البايع؟ قال: لما ذهب على " ع "
إلى رسول الله " ص " قال له: يا علي تخبرني أو أخبرك؟! قال أخبرني يا رسول الله
قال صاحب الطعام جبرئيل، والله لولا تحلف لوجدته ما دام الدينار في يدك.
178

قال فأنشدك بالله أنت الذي جعلك رسول الله صلى الله عليه وآله على كتفه في طرح
صنم الكعبة وكسره حتى لو شئت أن أنال أفق السماء لنلتها أم أنا (1)؟ قال بل أنت

(1) في ج 2 من الرياض النضرة ص 265 - 266 عن علي قال:
انطلقت أنا والنبي " ص " حتى أتينا للكعبة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: اجلس
وصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به فرأى مني ضعفا فنزل، وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وآله
وقال: اصعد على منكبي فصعدت على منكبيه، قال: فنهض. قال فتخيل إلي أن لو
شئت لنلت أفق السماء حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفراء ونحاس فجعلت أزاوله
عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه حتى إذا استمكنت منه. قال لي رسول
الله صلى الله عليه وآله: اقذف به فقذفت به فتكسر كما تتكسر القوارير ثم نزلت، فانطلقت أنا
ورسول الله صلى الله عليه وآله نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس.
أخرجه أحمد. وصاحب الصفوة. وأخرجه الحاكمي وقال: - بعد قوله: فصعدت على
الكعبة - فقال لي: ألق صنمهم الأكبر وكان من نحاس موتد بأوتاد من حديد إلى
الأرض فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: عالجه فلم أزال أعالجه حتى استمكنت منه. فقال:
اقذفه فقذفته. ثم ذكر باقي الحديث وزاد فما صعد حتى الساعة. انتهى.
وإلى هذه المكرمة الجليلة يشير الإمام الشافعي بقوله:
قيل لي قل في علي مدحا * ذكره يخمد نارا موصدة
قلت لا أقدم في مدح أمره * ضل ذو اللب إلى أن عبده
والنبي المصطفى قال لنا * ليلة المعراج لما صعده
وضع الله بظهري يده * فأحس القلب مما برده
وعلي واضع إقدامه * في محل وضع الله يده
179

قال: فأنشدك بالله أنت الذي قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله: " أنت صاحب لواي
في الدنيا والآخرة (1) " أم أنا؟ قال: بل أنت.
قال فأنشدك الله أنت الذي أمرك رسول الله صلى الله عليه وآله بفتح بابه في مسجده عندما
أمر بسد أبواب جميع أهل بيته وأصحابه وأحل لك فيه ما أحل الله له أم أنا (2)
قال: بل أنت.

(1) في ذخائر العقبى ص 75 عن علي قال:
كسرت يد على " رض " يوم أحد فسقط اللواء من يده فقال رسول الله " ص "
ضعوه في يده اليسرى فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة. أخرجه ابن الحضرمي.
وعن مالك بن دينار سألت سعيد بن جبير وإخوانه من القراء: من كان حامل
راية رسول لله " ص "؟ قالوا: كان حاملها على " رض ". أخرجه أحمد في المناقب.
وفي الرياض النضرة ج 2 ص 267 عن جابر قالوا:
يا رسول الله من يحمل رأيتك يوم القيامة؟ قال: من عسى أن يحملها يوم القيامة
إلا من كان يحملها في الدنيا! علي بن أبي طالب. أخرجه نظام الملك في أماليه.
وفي ص 75 من ذخائر العقبى عن مخدوع الذهلي،
أن النبي " ص " قال لعلي: أما علمت يا علي أني أول من يدعى به يوم القيامة
فأقوم عن يمين العرش في ظله، فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة ثم يدعى بالنبيين
بعضهم على أثر بعض، فيقومون سماطين عن يمين العرش، ويكسون حللا خضراء من
حلل الجنة ألا وإني أخبرك يا علي: أن أمتي أول الأمم يحاسبون يوم القيامة ثم
ابشر أنك أول من يدعى بك لقرابتك مني، وميزتك ومنزلتك عندي فيدفع إليك لوائي
وهو: " لواء الحمد " تسير به بين السماطين، آدم وجميع خلق الله تعالى مستظلون بظل
لوائي يوم القيامة، فتسير باللواء، الحسن عن يمينك، والحسين عن يسارك، حتى
تقف بيني وبين إبراهيم في ظل العرش، نعم الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك
يا علي، أبشر يا علي إنك تكسى إذا كسيت، وتدعى إذا دعيت، وتحيى إذا حييت.
أخرجه أحمد في المناقب.
(2) في ج 3 ص 125 من مستدرك الحاكم، وفي كنز العمال ج 6 ص 152 الحديث
2465 عن زيد بن أرقم قال:
كانت لنفر من أصحاب رسول الله " ص " أبواب شارعة في المسجد، فقال يوما
سدوا هذه الأبواب إلا باب علي قال: فتكلم في ذلك ناس فقام رسول الله " ص " فحمد
الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب على فقال
فيه قائلكم، والله ما سددت شيئا ولا فتحته ولكن أمرت بشئ فاتبعته. ثم قال، هذا
حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه
وفي الرياض النضرة ج 2 ص 253 - 254 عن أبي هريرة قال:
قال عمر، ثلاث خصال لعلي لأن يكون لي خصلة منهن أحب إلى من أن يكون لي
حمر النعم: تزويجه فاطمة بنت النبي " ص " وسكناه في المسجد مع رسول الله " ص "
والراية يوم خيبر. أخرجه ابن السمان في الموافقة.
وعن أبي سعيد عنه قال: قال رسول الله " ص ": يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في
هذا المسجد غيري وغيرك.
وأيضا عن ابن عمر قال: لقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لأن يكون لي
واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم: زوجه رسول الله " ص " ابنته وولدت له، وسد
الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر. أخرجه أحمد.
وفي كنز العمال ص 159 ح 6 الحديث 2670.
عن أم سلمة لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد إلا أنا وعلي والحديث 2671
عن أبي سعيد: يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيرك.
180

قال فأنشدك بالله أنت الذي قدمت بين يدي نجوى رسول الله صلى الله عليه وآله صدقة (1)

(1) الرياض النضرة ج 2 ص 265 عن علي عليه السلام:
أنه قال: آية في كتاب الله عز وجل لم يعمل بها أحد بعدي: آية النجوى.
كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم، فلما أردت أن أناجي رسول الله " ص " قدمت
درهما، فنسختها الآية الأخرى (أأشفقتم - الآية) أخرجه ابن الجوزي في أسباب النزول
قال الحافظ محمد بن أحمد بن جزي الكلبي في كتاب التسهيل لعلوم التنزيل ص 105
ج 4:
روي أنه كان له دينارا فصرفه بعشرة دراهم وناجاه عشر مرات تصدق في كل مرة
منها بدرهم وقيل بصدق في كل مرة بدينار. الخ.
وفي تفسير القرطبي ج 17 ص 302 قال.
وقد روي عن مجاهد: إن أول من تصدق في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وناجى الرسول صلى الله عليه وآله. روي أنه تصدق بخاتم. وذكر القشيري وقيره عن علي بن أبي
طالب أنه قال: في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي:
(يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) كان لي دينار
فبعته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى
(أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات). كذلك قال ابن عباس: نسخها الله
بالآية التي بعدها.
وقال ابن عمر: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت
أحب إلى من حمر النعم، تزويجه فاطمة، واعطائه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.
181

فناجيته إذ عاتب الله قوما فقال: " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجويكم صدقات (1) "
أم أنا قال: بل أنت.
قال فأنشدك بالله أنت قال رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة: " زوجتك أول الناس
إيمانا، وأرجحهم إسلاما في كلام له " أم أنا (2) قال: بل أنت.

(1) المجادلة، 13
(2) كنز العمال ج 6 ص 153 الحديث 2543 عن أبي هريرة وعن ابن عباس:
أما ترضين أني زوجتك أول المسلمين إسلاما، وأعلمهم علما، فإنك سيدة نساء
أمتي كما سادت مريم قومها، أما ترضين يا فاطمة أن الله اطلع على أهل الأرض فاختار
منهم رجلين فجعل أحدهما أباك والآخر بعلك.
وأيضا الحديث 2542 عن معقل بن يسار:
أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما.
والحديث 2544 عن بريدة:
زوجتك خير أهلي أعلمهم علما، وأفضلهم حلما، وأولهم سلما.
والحديث 2545 عن أبي إسحاق:
لقد زوجتكه وإنه لأول أصحابي سلما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما.
وفي ينابيع المودة ص 80 - 81.
موفق بن أحمد بسنده عن أبي أيوب الأنصاري قال: إن فاطمة رضي الله عنها
أتت في مرض أبيها صلى الله عليه وآله وبكت فقال: يا فاطمة إن لكرامة الله إياك زوجك من هو
أقدمهم سلما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما، إن الله عز وجل اطلع إلى أهل الأرض
اطلاعة فاختارني منهم فبعثني نبيا مرسلا، ثم اطلع اطلاعة فاختار منهم بعلك، فأوحى
إلي أن أزوجه إياك واتخذه وصيا.
182

قال فأنشدك بالله يا أبا بكر أنت الذي سلمت عليه ملائكة سبع سماوات
يوم القليب (1) أم أنا؟ قال: بل أنت.
قال: فلم يزل يورد مناقبه التي جعل الله له ورسوله دونه، ودون غيره،
ويقول له أبو بكر: بل أنت.
قال: فبهذا وشبهه تستحق القيام بأمور أمة محمد، فما الذي غرك عن الله وعن

(1) في ص 28 من تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي:
قال أحمد في الفضائل -: حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، حدثنا إسحاق
ابن إبراهيم النهشلي، حدثنا سعيد بن الصلت، حدثنا أبو الجارود الرحبي عن أبي إسحاق
الهمداني عن الحرث عن علي قال: لما كانت ليلة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من يستقي
لنا من الماء؟ فأحجم الناس، قال: فقمت فاحتضنت قربة، ثم أتيت قليبا بعيد القعر
مظلما، فانحدرت فيه فأوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، تأهبوا لنصرة
محمد صلى الله عليه وآله وحزبه، فهبطوا من السماء لهم دوي يذهل من يسمعه، فلما حاذوا القليب -
وقفوا وسلموا علي من عند آخرهم، إكراما، وتبجيلا وتعظيما وذكره أرباب المغازي
وفي ذخائر العقبى ص 68 - 69
قال: لما كان ليلة يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من يستقي لنا من الماء؟
فأحجم الناس، فقام علي فاحتضن قربة فأتى بئرا بعيدة القعر مظلمة، فانحدر فيها
فأوحى الله عز وجل إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، تأهبوا لنصر محمد صلى الله عليه وآله وحزبه
فهبطوا من المساء لهم لغط يذهل من سمعه، فلما حاذوا بالبئر سلموا عليه من عند آخرهم
إكراما وتبجيلا.
183

رسوله ودينه وأنت خلو مما يحتاج إليه أهل دينه.
قال: فبكى أبو بكر وقال: صدقت يا أبا الحسن انظرني قيام يومي فأدبر
ما أنا فيه وما سمعت منك.
فقال علي عليه السلام: لك ذلك يا أبا بكر.
فرجع من عنده وطابت نفسه (1) يومه ولم يأذن لأحد إلى الليل، وعمر
يتردد في الناس لما بلغه من خلوته بعلي، فبات في ليلته فرأى في منامه كأن رسول
الله صلى الله عليه وآله تمثل له في مجلسه فقام إليه أبو بكر يسلم عليه فولى عنه وجهه فصار
مقابل وجهه فسلم عليه فولى وجهه عنه، فقال أبو بكر: يا رسول الله أمرت بأمر
لم أفعله؟ فقال: أرد عليك السلام وقد عاديت من والاه الله ورسوله؟ رد الحق إلى
أهله. فقلت: من أهله؟ قال: من عاتبك عليه علي، قلت: فقد رددته عليه يا رسول
الله ثم لم يره.
فأصبح وبكر (2) إلى علي عليه السلام وقال ابسط يدك يا أبا الحسن أبايعك وأخبره
بما قد رأى، قال: فبسط علي يده فمسح عليها أبو بكر وبايعه وسلم إليه وقال
له: أخرج إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبرهم بما رأيت من ليلتي وما جرى بيني
وبينك، وأخرج نفسي من هذا الأمر وأسلمه إليك، قال: فقال علي عليه السلام: نعم.
فخرج من عنده متغيرا لونه عاتبا نفسه، فصادفه عمر وهو في طلبه، فقال له
ما لك يا خليفة رسول الله؟ فأخبره بما كان وما رأى وما جرى بينه وبين علي،
فقال: أنشدك بالله يا خليفة رسول الله والاغترار بسحر بني هاشم والثقة بهم
فليس هذا بأول سحر منهم، فما زال به حتى رده عن رأيه وصرفه عن عزمه ورغبه
فيما هو، بالثبات عليه، والقيام به.
قال: فأتى علي المسجد على الميعاد فلم ير فيه منهم أحدا فأحس بشئ

(1) طاب عن الشئ نفسا: تركه وفارقه.
(2) بكر: أتاه بكرة وسبق إليه في أول أحواله.
184

منهم، فقعد إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله قال: فمر به عمر، فقال: يا علي دون ما تريد خرط
القتاد (1) فعلم عليه السلام بالأمر ورجع إلى بيته.
احتجاج سلمان الفارسي على عمر بن الخطاب في جواب كتاب كتبه
إليه حين كان عامله على المداين بعد حذيفة بن اليمان (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
من سلمان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله إلى عمر بن الخطاب.

(1) القتاد: شجر صلب له شوك كالإبر. وخرط القتاد: هو انتزاع قشره أو
شوكه باليد يقال: (من دون ذلك خرط القتاد) أي إنه لا ينال إلا بمشقة عظيمة.
(2) أبو عبد الله، حذيفة بن اليمان، واسم اليمان: حسل، أو حسيل وإنما
سمي باليمان لأنه: أصاب دما فهرب إلى المدينة فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه
اليمان لكونه حالف اليمانية.
كان رحمه الله من كبار صحابة النبي " ص " هاجر إليه، فخيره النبي صلى الله عليه وآله بين الهجرة
والنصرة، فاختار النصرة. وكان يقول: خيرني رسول الله " ص " بين الهجرة والنصرة
فاخترت النصرة. وشهد مع النبي " ص " أحدا وقتل أبوه بها.
وهو صاحب سر رسول الله " ص " في المنافقين. أعلمه بهم رسول الله " ص "
وقد قيل إن عمر بن الخطاب كان إذا مات ميت يسأل عن حذيفة فإن حضر الصلاة عليه
صلى عليه عمر، وإن لم يحضر الصلاة، لم يحضر عمر.
وفي الصحيحين: أن أبا الدرداء قال لعلقمة: أليس فيكم صاحب السر الذي لا
يعلمه غيره؟ يعني حذيفة.
وروى مسلم عن عبد الله بن يزيد الخطمي عن حذيفة قال:
لقد حدثني رسول الله " ص " ما كان وما يكون حتى تقوم الساعة.
وسأل يوما: أي الفتن أشد قال أن يعرض عليك الخير والشر لا تدري
أيهما تركب.
وقال أبو إدريس الخولاني: سمعت حذيفة يقول: كان الناس يسألون رسول
الله " ص " عن الخير وكنت أسأله عن الشر إخافة أن يدركني.
وعداده في الأنصار وهو أحد الأركان الأربعة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام
وممن صلى على سيدة النساء فاطمة، وحضر تشييعها.
روي عن زرارة عن أبي جعفر عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام قال:
ضاقت الأرض بسبعة، بهم ترزقون، وبهم تنصرون، وبهم تمطرون. منهم سلمان
الفارسي. والمقداد. وأبو ذر. وعمار. وحذيفة رحمهم الله بعالي وكان علي عليه السلام
يقول: وأنا إمامهم.
استعمله عمر على المدائن، فلم يزل بها حتى مات بعد مقتل عثمان وبيعة أمير
المؤمنين عليه السلام بأربعين يوما سنة " 36 ".
راجع: رجال الشيخ الطوسي ص 16، جامع الرواة ج 1 ص 182 رجال
الكشي ص 27 أسد الغابة ج 1 ص 299، الإصابة ج 1 ص 316، صفة الصفوة ج 1
ص 249 تهذيب التهذيب ج 2 ص 219.
185

أما بعد: فإنه أتاني منك كتاب يا عمر، تؤنبني (1) وتعيرني، وتذكر
فيه: أنك بعثتني أميرا على أهل المدائن، وأمرتني أن أقص أثر حذيفة (2)
واستقصي أيام أعماله وسيره، ثم أعلمك قبيحها، وقد نهاني الله عن ذلك يا عمر في
محكم كتابه حيث قال: " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض
الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه
ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم " (3) وما كنت لأعصي الله في أثر
حذيفة وأطيعك.
وأما ما ذكرت: أني أقبلت على سف الخوص (4) وأكل الشعير، فما
هما مما يعير به مؤمن ويؤنب عليه، وأيم الله يا عمر لأكل الشعير وسف الخوص،

(1) أنبه: عنفه ولامه.
(2) قص أثره: تتبعه شيئا فشيئا.
(3) الحجرات: 12.
(4) سف الخوص: نسجه.
186

والاستغناء به عن رفيع المطعم والمشرب، وعن غصب مؤمن حقه وادعاء ما ليس
له بحق، أفضل وأحب إلى الله عز وجل وأقرب للتقوى، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله
إذا أصاب الشعير أكل وفرح به ولم يسخطه.
وأما ما ذكرت: من إعطائي فإني قدمته ليوم فاقتي وحاجتي، ورب العزة
يا عمر، ما أبالي إذا جاز طعامي لهواتي وانساغ (1) في حلقي، لباب البر ومخ
المعزة كان أو خشارة الشعير (2).
وأما قولك: إني ضعفت سلطان الله ووهنته، وأذللت نفسي وامتهنتها (3)
حتى جهل أهل المدائن إمارتي، واتخذوني جسرا يمشون فوقي، ويحملون علي
ثقل حمولتهم (4) وزعمت أن ذلك مما يوهن سلطان الله ويذله.
فاعلم: أن التذلل في طاعة الله أحب إلى من التعزز في معصيته، وقد علمت
أن رسول الله صلى الله عليه وآله يتألف الناس (5) ويتقرب منهم ويتقربون منه في نبوته
وسلطانه، حتى كأنه بعضهم في الدنو منهم، وقد كان يأكل الجشب (6) ويلبس
الخشن، وكان الناس عنده قرشيهم، وعربيهم، وأبيضهم، وأسودهم، سواء في الدين
وأشهد أني سمعته يقول: " من ولي سبعة من المسلمين بعدي ثم لم يعدل فيهم لقي
الله وهو عليه غضبان " فليتني يا عمر أسلم من عمارة المدائن (7) مع ما ذكرت إني

(1) انساغ: مر في حلقه.
(2) الخشارة: ما لا لب له من الشعير.
(3) أي وضعتها موضع الإهانة.
(4) كل ما له قدر، ووزن فهو: ثقل. والحمولة بالفتح: الإبل التي تطيق أن
يحمل عليها.
(5) التألف المدارات والاستيناس.
(6) الجشب بفتح الجيم وسكون الشين: الغليظ الخشن.
(7) العمارة: بالفتح: الحي العظيم. والمدائن هي: مدينة كسرى وقبل هي عدة
مدن متقاربة، تقع على سبع فراسخ من بغداد، وهي دار مملكة الفرس، وأول من
نزلها أنو شيروان، وبها إيوانه، ولم تزل آثاره باقية حتى يومنا هذا، وبها قبرا سلمان
وحذيفة وهما مشيدان ويعرف المكان باسم: " سلمان باك ".
187

أذللت نفسي وامتهنتها، فكيف يا عمر حال من ولي الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وإني
سمعت الله يقول: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض
ولا فسادا والعاقبة للمتقين (1) ".
إعلم: أني لم أتوجه أسوسهم وأقيم حدود الله فيهم إلا بإرشاد دليل عالم
فنهجت فيهم بنهجه، وسرت فيهم بسيرته (2).
واعلم: أن الله تبارك وتعالى لو أراد بهذه الأمة خيرا أو أراد بهم رشدا
لو لي عليهم أعلمهم وأفضلهم، ولو كانت هذه الأمة من الله خائفين، ولقول نبي الله
متبعين، وبالحق عاملين، ما سموك أمير المؤمنين، فاقض ما أنت قاض، إنما تقضي
هذه الحياة الدنيا، ولا تغتر بطول عفو الله عنك وتمديده بذلك من تعجيل عقوبته
وأعلم: أنك سيدركك عواقب ظلمك في دنياك وآخرتك، وسوف تسأل
عما قدمت وأخرت، والحمد لله وحده.
احتجاج أمير المؤمنين (ع) على القوم لما مات عمر بن الخطاب وقد جعل
الخلافة شورى بينهم (3).

(1) القصص: 38
(2) يريد عليا عليه السلام.
(3) في ج 2 من شرح النهج لابن أبي الحديد ص 61 قال:
ونحن نذكر في هذا الموضع ما استفاض في الروايات من مناشدته أصحاب الشورى
وتعديده فضائله وخصائصه التي بأن بها منهم ومن غيرهم، قد روى الناس ذلك
فأكثروا.. إلى أن قال: -
في كلام قد ذكره أهل السيرة وقد أوردنا بعضه فيما تقدم ثم قال لهم: أنشدكم
الله أفيكم أحد آخى رسول الله " ص " بينه وبين نفسه حيث آخى بين بعض المسلمين
وبعض غيري؟ فقالوا: لا. فقال أفيكم أحد قال له رسول الله " ص ": من كنت
مولاه فهذا مولاة غيري؟ فقالوا: لا. قال: أفيكم أحد قال له رسول الله " ص " أنت -
مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي غيري؟ قالوا: لا. قال: أفيكم من
أوتمن على سورة براءة وقال له رسول الله " ص ": إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل
مني غيري؟ قالوا: لا. قال: ألا تعلمون أن أصحاب رسول الله " ص " فروا عنه في
مأقط الحرب في غير موطن وما فررت قط. قالوا بلى. قال ألا تعلمون أني أول
الناس إسلاما، قالوا: بلى. قال: فأينا أقرب إلى رسول الله نسبا. قالوا: أنت.
فقطع عليه عبد الرحمن بن عوف.. الخ
وفي الصواعق المحرقة ص 24 -:
وأخرج الدارقطني: أن عليا قال للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم كلاما
طويلا من جملته: أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله " ص " يا علي أنت قسيم
الجنة والنار يوم القيامة غيري؟ قالوا: اللهم لا.
وفي ج 2 من لسان الميزان ص 156 - 157 عن ابن أبي الطفيل قال:
كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات، فسمعت عليا يقول: " بايع
الناس لأبي بكر، وأنا والله أولى بالأمر منه وأحق به، فسمعت وأطعت، مخافة أن
يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض. ثم بايع الناس عمر وأنا والله أولى
بالأمر منه، فسمعت وأطعت، مخافة أن يضرب بعضهم رقاب بعض، ثم أنتم تريدون
أن تبايعوا عثمان.. إلى أن قال: وأيم الله لو أشاء أن أتكلم فثم لا يستطيع عربيهم
ولا عجميهم رده: نشدتكم بالله أفيكم من آخى رسول الله " ص " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله أفيكم أحد له مثل عمي حمزة؟ قالوا: اللهم لا قال نشدتكم بالله أفيكم
أحد له أخ مثل أخي جعفر ذي الجناحين يطير بهما في الجنة؟ قالوا: لا. قال أفيكم
أحد له مثل سبطي الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة؟ قالوا: لا. قال: أفيكم
أحد له زوجة مثل زوجتي، قالوا: لا. قال: أفيكم أحد كان أقتل لمشركي قريش عند
كل شديدة تنزل برسول الله " ص " مني قالوا: لا.
وفي مناقب الخوارزمي ص 217 -:
أخبرني الشيخ الإمام شهاب الدين أفضل الحفاظ أبو النجيب سعد بن عبد الله بن
الحسن الهمداني المعروف بالمروزي فيما كتب إلي من همدان، أخبرني الحافظ أبو علي
الحسن بن أحمد بن الحسين فيما أذن لي في الرواية عنه أخبرني الشيخ الأديب أبو يعلى
عبد الرزاق بن عمر بن إبراهيم الطهراني سنة 473، أخبرني الإمام الحافظ طراز المحدثين
أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الإصبهاني وقال الشيخ الإمام شهاب الدين أبو نجيب
سعد بن عبد الله الهمداني. وأخبرني بهذا الحديث عاليا الإمام الحافظ سليمان بن إبراهيم
الإصبهاني في كتابه إلى من إصبهان سنة 488 عن أبي بكر أحمد بن موسى بن مروديه،
حدثني سليمان بن محمد بن أحمد، حدثني يعلى بن سعد الرازي، حدثني محمد بن حميد، حدثني
زافر بن سليمان بن الحرث بن محمد عن أبي الطفيل عامر بن وائلة قال: كنت على الباب
يوم الشورى مع علي وسمعته يقول: لأحتجن بما لا يستطيع عربيكم ولا عجميكم تغيير
ذلك ثم قال: أنشدكم الله أيها النفر جميعا أفيكم أحد وحد الله قبلي؟ قالوا: لا. قال
فأنشدكم الله هل منكم أحد له مثل جعفر الطيار في الجنة مع الملائكة؟ قالوا: اللهم لا. قال
أنشدكم الله هل فيكم أحد له عم كعمي حمزة أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء غيري؟
قالوا: اللهم لا. قال: أنشدكم الله هل فيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت محمد
سيدة نساء أهل الجنة غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد له سبطان
مثل سبطي الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال:
فأنشدكم بالله هل فيكم أحد ناجى رسول " ص " مرات قدم بين يدي نجواه صدقة قبلي؟
قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول " ص " من كنت مولاه
فعلي مولاة اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره ليبلغ الشاهد النائب
غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله " ص " اللهم
ائتني بأحب خلقك إليك وإلي وأشدهم لك حبا ولي حبا يأكل معي من هذا الطير فأتاه
وأكل معه غيري؟ قالوا. اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول
الله " ص " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله لا يرجع حتى
يفتح الله على يده إذ رجع غيري منهزما غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم الله هل
فيكم أحد قال فيه رسول الله " ص " لو فد بني ربيعة لتؤمنن أو لأبعثن إليكم رجلا نفسه
كنفسي وطاعته كطاعتي ومعصيته كمعصيتي يقتلكم بالسيف غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال فأنشدكم الله هل فيكم أحد قال رسول الله " ص " كذب من زعم أنه يحبني ويبغض
هذا غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد سلم عليه في ساعة واحدة
ثلاثة آلاف ملك من الملائكة منهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل حيث جئت بالماء إلى
رسول الله من القليب غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم الله هل فيكم أحد قال له
جبرئيل: هذه هي المواساة فقال له رسول الله " ص " إنه مني وأنا منه وقال جبرئيل
وأنا منكما غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم الله هل فيكم أحد نودي من السماء
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي غيري؟ قالوا: اللهم لا قال: فأنشدكم الله هل
فيكم أحد يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين على لسان النبي " ص " غيري؟ قالوا:
اللهم لا. قال فأنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله " ص " قاتلت على تنزيل
القرآن وتقاتل على تأويل القرآن غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال فأنشدكم الله هل فيكم
أحد ردت عليه الشمس حتى صلى العصر في وقتها غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال فأنشدكم
بالله هل فيكم أحد أمره رسول الله أن يأخذ براءة من أبي بكر فقال أبو بكر: يا رسول
الله " ص " نزل في شئ فقال: إنه لا يؤدي عني إلا علي غيري؟ قالوا اللهم لا. قال
فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله " ص " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا
كافر غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله أتعلمون أنه أمر بسد أبوابكم وفتح
بابي فقلتم في ذلك فقال رسول الله " ص ": ما سددت أبوابكم ولا فتحت بابه بل الله
سد أبوابكم وفتح بابه غيري؟ قالوا: اللهم نعم. قال فأنشدكم بالله أتعلمون أنه ناجاني
يوم الطائف دون الناس فأطال ذلك فقلتم ناجاه دوننا فقال: ما أنا انتجيته بل الله انتجاه
غيري؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله " ص " قال: الحق
مع علي وعلي مع الحق يدور الحق مع علي كيف ما دار؟ قالوا: اللهم نعم. قال فأنشدكم
بالله أتعلمون أن رسول الله " ص " قال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل
بيتي لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض قالوا: اللهم نعم
قال: فأنشدكم الله هل فيكم أحد وقى رسول الله من المشركين بنفسه واضطجع في مضجعه
غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال فأنشدكم الله هل فيكم أحد بارز عمرو بن عبد ود العامري
حيث دعاكم إلى البراز غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحدا نزل
الله فيه آية التطهير حيث قال: " إنما يريد. الخ " غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال:
فأنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله " ص " أنت سيد العرب غيري؟ قالوا:
اللهم لا. قال: فأنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله " ص ": ما سألت الله شيئا
إلا سألت لك غيري؟ قالوا: اللهم لا.
وارتفعت الأصوات بينهم فسمعت عليا عليه السلام يقول: بايع الناس أبا بكر
وأنا والله أولى بالأمر وأحق به منه، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا
يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف. ثم بايع أبو بكر لعمر وأنا والله أحق بالأمر منه
فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا. ثم أنتم تريدون أن تبايعوا لعثمان الخ.
188

روى عمرو بن شمر (1) عن جابر الجعفي (2) عن أبي جعفر محمد بن
علي الباقر عليه وعلى آبائه السلام.

(1) عمرو بن شمر: قال العلامة الحلي في خلاصته عمرو بن شمر بالشين المعجمة
والراء أخيرا: أبو عبد الله الجعفي كوفي.
روي عن أبي عبد الله " ع " وعن جابر وهو ضعيف جدا، زيد أحاديث في كتب
جابر بن يزيد الجعفي، ينسب إليه بعضها، فالأمر ملتبس، فلا أعتمد على شئ مما يرويه
وعده الشيخ الطوسي في أصحاب الباقر والصادق " ع ".
وقال في " الفهرست ": عمرو بن شمر، له كتاب، رويناه بالأسناد عن حميد
عن إبراهيم بن سليمان الخزاز أبي إسحاق عنه.
وفي رجال النجاشي: عمرو بن شمر، أبو عبد الله الجعفي عربي، روى عن أبي
عبد الله ضعيف جدا زيد أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب بعضها إليه والأمر ملتبس
(2) في خلاصة العلامة: جابر بن يزيد. روى الكشي فيه: مدحا وبعض الذم
والطريقان ضعيفان ذكرناهما في الكتاب الكبير. -
وقال السيد علي بن أحمد العقيقي العلوي: روى عن أبي عمار بن أبان عن الحسين
ابن أبي العلا: أن الصادق " ع " ترحم عليه وقال: إنه كان يصدق علينا. وقال ابن عقدة
روى أحمد بن محمد بن البراء الصايغ عن أحمد بن الفضل بن حنان بن سدير عن زياد بن
أبي الجلال، أن الصادق " ع " ترحم على جابر وقال: إنه كان يصدق علينا، ولعن
المغيرة وقال: إنه كان يكذب علينا. وقال ابن الغضايري، إن جابر بن يزيد الجعفي
الكوفي ثقة في نفسه، ولكن جل من روى عنه ضعيف، فممن أكثر عنه من الضعفاء
عمرو بن شمر الجعفي ومفضل بن صالح والسكوني ومنخل بن جميل الأسدي..
وأرى الترك لما روى هؤلاء عنه والوقف في الباقي إلا ما خرج شاهدا.
وقال النجاشي: جابر بن يزيد الجعفي لقي أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام ومات
في أيامه سنة ثمان وعشرين ومائة، وروى عنه جماعة غمز فيهم وضعفوا منهم عمرو بن
شمر، ومفضل بن صالح، ومنخل بن جميل، ويوسف بن يعقوب، وكان نفسه مختلطا،
وكان شيخنا محمد بن محمد بن النعمان ينشدنا أشعارا كثيرة في معناه تدل على الاختلاط ليس
هذا موضعا لذكرها والأقوى عندي التوقف فيما يرويه هؤلاء كما قاله الشيخ الغضائري " ره "
وفي أصحاب الإمام الباقر " ع " من رجال الشيخ الطوسي " ره " جابر بن يزيد بن
الحرث بن عبد يغوث الجعفي. توفي سنة ثمان وعشرين ومائة على ما ذكر ابن حنبل،
وقال ابن معين: مات سنة اثنين وثلاثين ومائة، وقال القتيبي هو من الأزد -
وفي أصحاب الإمام الصادق " ع " جابر بن يزيد أبو عبد الله الجعفي تابعي. أسند
عنه روى عنهما عليهما السلام.
192

قال: إن عمر بن الخطاب لما حضرته الوفاة وأجمع على الشورى، بعث إلى
ستة نفر من قريش: إلى علي بن أبي طالب، وإلى عثمان بن عفان، وإلى زبير بن
العوام، وإلى طلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص
وأمرهم أن يدخلوا إلى بيت ولا يخرجوا منه حتى يبايعوا لأحدهم، فإن اجتمع
أربعة على واحد وأبى واحد أن يبايعهم قتل، وإن امتنع اثنان وبايع ثلاثة قتلا
فأجمع رأيهم على عثمان.
فلما رأى أمير المؤمنين عليه السلام ما هم القوم به من البيعة لعثمان قام فيهم ليتخذ
عليهم الحجة قال عليه السلام لهم:
اسمعوا مني كلامي فإن يك ما أقول حقا فاقبلوا وإن يك باطلا فأنكروا
ثم قال: أنشدكم بالله الذي يعلم صدقكم إن صدقتم ويعلم كذبكم إن
كذبتم هل فيكم أحد صلى القبلتين كلتيهما (1) غيري قالوا: لا.

(1) القبلة الأولى هي: بيت المقدس وكان قبلة المسلمين حتى بعد الهجرة ب‍ " 16 "
أو " 17 " شهرا فلما نزل قوله تعالى: " ولقد نعلم تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة
ترضاها.. الخ " توجه النبي " ص " لي القبلة الثانية " شطر المسجد الحرام " وهي
قبلة إبراهيم " ع ".
193

قال: نشدتكم بالله هل فيكم من بايع البيعتين كلتيهما الفتح وبيعة الرضوان
غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخوه المزين بالجناحين في الجنة غيري؟
قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد عمه سيد الشهداء غيري؟ (1) قالوا: لا

(1) هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. أمه هالة بنت أهيب بن
عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة. وهي ابنة عم آمنة بنت وهب أم النبي " ص " رضيع
رسول الله " ص " أرضعتهما ثويبة امرأة أبي لهب.
وكان أسن من رسول الله " ص " بسنتين. كنيته أبو عمارة، وقيل أبو يعلى.
آخى رسول الله " ص " بينه وبين زيد بن حارثة.
أسلم في السنة الثانية من المبعث قال محمد بن كعب القرظي: قال أبو جهل في
رسول الله فبلغ ذلك حمزة فدخل المسجد مغضبا فضرب رأس أبي جهل بالقوس ضربة
أوضحته وأسلم حمزة فعز به رسول الله " ص " والمسلمون.
وهاجر إلى المدينة وأول لواء عقده رسول الله " ص " حين قدم المدينة لحمزة،
وشهد بدرا وأبلى فيها بلاءا عظيما مشهورا، وشهد أحدا وقتل بها ومثل به المشركون
وبقرت هند بطن حمزة سلام الله عليه فأخرجت كبده، فجعلت تلوكها فلما شهده
النبي " ص " اشتد وجده عليه، وروى أنه " ص " وقف عليه وقد مثل به فلم ير منظرا
كان أوجع لقلبه منه، فقال: رحمك الله أي عم فلقد كنت وصولا للرحم، فعولا
للخيرات. وروى عن جابر قال لما رأى رسول الله " ص " حمزة قتيلا بكى فلما رأى
ما مثل به شهق.
ولما عاد " ص " إلى المدينة سمع النوح على قتلى الأنصار قال: لكن حمزة لا بواكي
له فسمع الأنصار فأمروا نساءهم أن يندبن حمزة قبل قتلاهم. ففعلن ذلك. قال الواقدي
فلم يزلن يبدأن بالندب لحمزة.
وقال " ص ": كل نادبة كاذبة إلا نادبة حمزة وقال. سيد الشهداء حمزة بن
عبد المطلب.
وقال: والذي نفسي بيده أنه لمكتوب عند الله سبحانه وتعالى في السماء السابعة
حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله.
وكان مقتله للنصف من شوال من سنة ثلاث وكان عمره سبعا وخمسين سنة.
وصل النبي على حمزة ثم لم يؤت بقتيل إلا وصلى عليه معه حتى صلى عليه " 72 " صلاة
194

قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد زوجته سيدة نساء العالمين غيري؟
قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد ابناه ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وهما
سيدا شباب أهل الجنة غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد عرف الناسخ من المنسوخ (1) غيري؟
قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيرا
غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد عاين حبرائيل في مثال دحية الكلبي
غيري (2)؟ قالوا: لا.

(1) أخرج ابن سعد وغيره عن أبي الطفيل قال: قال علي: سلوني عن كتاب
الله فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم جبل.
وأخرج ابن سعد أيضا عن ابن عباس عنه " ع " قال: والله ما نزلت آية إلا وقد
علمت فيم نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت. إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا ناطقا
الصواعق المحرقة ص 125 - 126
(2) في ج 9 من بحار الأنوار ص 549 عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله
عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: دخل على " ع " على رسول الله " ص "
في مرضه وقد أغمي عليه، ورأسه في حجر جبرئيل، وجبرئيل في صورة دحية الكلبي
فلما دخل علي " ع " قال جبرئيل: دونك رأس ابن عمك فأنت أحق به مني، لأن الله
يقول في كتابه: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " فجلس علي (ع)
وأخذ رأس رسول الله صلى الله عليه وآله فوضعه في حجره. فلم يزل رأس رسول الله في حجره
حتى غابت الشمس، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله أفاق فرفع رأسه فنظر إلى علي (ع) فقال
يا علي أين جبرئيل فقال يار سول الله ما رأيت إلا دحية الكلبي، دفع إلي رأسك، قال
يا علي: دونك رأس ابن عمك فأنت أحق به مني.. الخ.
195

قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أدى الزكاة وهو راكع غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد مسح رسول الله صلى الله عليه وآله عينيه وأعطاه الراية
يوم خيبر فلم يجد حرا ولا بردا غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد نصبه رسول الله صلى الله عليه وآله يوم غدير خم
بأمر الله تعالى فقال: " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من
عاداه (1) غيري " قالوا: لا.

(1) في ج 2 من الرياض النضرة ص 224 - 225:
عن عمر بن الخطاب وقد جائه أعرابيان يختصمان فقال لعلي: اقض بينهما
يا أبا الحسن فقضى علي بينهما. فقال أحدهما: هذا يقضي بيننا؟ فوثب إليه عمر
وأخذ بتلبيبه وقال: ويحك ما تدري من هذا! هذا مولاي ومولى كل مؤمن ومن لم
يكن مولاه فليس بمؤمن.
وعن زيد بن أرقم قال: استنشد علي الناس فقال: أنشد الله رجلا سمع النبي صلى الله عليه وآله
يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، فقام ستة
عشر رجلا فشهدوا.
وعن زياد بن أبي زياد قال: سمعت علي بن أبي طالب ينشد الناس فقال،
أنشد الله رجلا مسلما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول، يوم غدير خم ما قال، فقام اثنا
عشر رجلا بدريا فشهدوا.
وعن رباح بن الحارث قال، جاء رهط إلى علي بالرحبة فقالوا: (السلام عليك
يا مولانا). قال وكيف أكون مولاكم وأنتم عرب؟ قالوا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول - يوم غدير خم -، من كنت مولاه فعلي مولاه. قال رباح، فلما مضوا تبعتهم
فسألت من هؤلاء؟ قالوا، نفر من الأنصار - فيهم أبو أيوب الأنصاري - خرجه أحمد
196

قال نشدتكم بالله هل فيكم أحد هو أخو رسول الله في الحضر ورفيقه في
السفر غيري؟ قالوا لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد بارز عمرو بن عبد ود يوم الخندق وقتله
غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " أنت مني بمنزلة
هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " غيري؟ قالوا: لا.
قال نشدتكم بالله هل فيكم أحد سماه الله في عشر آيات من القرآن مؤمنا
غيري (1)؟ قالوا: لا.

(1) أخرج موفق بن أحمد عن مجاهد وعكرمة وهما عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما أنزل الله في القرآن آية يقول فيها: (يا أيها
الذين آمنوا) إلا وعلي رئيسها وأميرها.
وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن الأعمش عن أصحاب ابن عباس رضي الله
عنه قال.
ما أنزل الله (يا أيها الذين آمنوا) إلا وعلي أميرها وشريفها، ولقد عاتب الله
أصحاب محمد صلى الله عليه وآله في غير مكان، وما ذكر عليا إلا بخير.
ينابيع المودة ص 125 - 126
والآيات العشرة هي:
أولا - قوله تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) السجدة - 18
ذكر الطبري في ج 21 ص 62 من تفسيره عن عطاء بن يسار قال، نزلت
بالمدينة في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط، كان بين الوليد وعلي
كلام فقال الوليد أنا أبسط منك لسانا، وأحد منك سنانا، وأرد منك للكتيبة.
فقال على: اسكت فإنك فاسق فأنزل الله فيهما: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون
قال: لا والله ما استووا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة.
ثانيا: قوله تعالى: " يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " الأنفال: 64
قال المجلسي " ره " في الجزء التاسع من البحار ص 94 روى أبو نعيم بإسناده عن
جعفر بن محمد عن أبيه قال: نزلت في علي بن أبي طالب " ع " وقال العلامة قدس الله
روحه: روى الجمهور: أنها نزلت في علي.
ثالثا: قوله تعالى: " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله
واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين،
التوبة: 19
ذكر الطبري في تفسيره ج 10 ص 59 مسندا عن أبي صخر قال: سمعت محمد بن
أبي كعب القرظي يقول: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار، وعباس بن عبد المطلب
وعلي بن أبي طالب، فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، لو أشاء بت فيه.
وقال عباس: أنا صاحب السقاية، والقائم، ولو أشاء بت في المسجد. وقال
على: ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب
الجهاد فأنزل الله أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام. الآية،
رابعا: قوله تعالى: " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا
وعملوا الصالحات " الجائية: 21.
روى سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ص 11 عن ابن عباس: نزلت في علي
يوم بدر، فالذين اجترحوا السيئات: عتبة، وشيبة، والوليد بن المغيرة. والذين آمنوا
وعملوا الصالحات: علي عليه السلام.
خامسا: قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا "
مريم: 96.
في ص 10 من تذكرة الخواص: قال ابن عباس: هذا الود جعله الله لعلي في قلوب
المؤمنين. وقد روى أبو إسحاق الثعلبي: هذا المعنى مسندا في تفسيره إلى البراء بن عازب
قال: قال رسول الله " ص " لعلي: قل اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في صدور
المؤمنين مودة فأنزل الله: هذه الآية.
سادسا: قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية "
البينة: 7
ذكر ابن حجر في الصواعق ص 195: عن ابن عباس: إن هذه الآية لما نزلت
قال صلى الله عليه وآله لعلي: هو أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة، راضين
مرضيين، ويأتي عدوك غضابا مقمحين. قال: ومن عدوي؟ قال: من تبرأ منك ولعنك
سابعا: قوله تعالى: " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات " سورة العصر.
في ج 6 من تفسير الدر المنثور ص 392: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس
في قوله: والعصر إن الإنسان لفي خسر - يعني، أبا جهل بن هشام. إلا الذين آمنوا
وعملوا الصالحات. ذكر: عليا وسلمان.
ثامنا: قوله تعالى: " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى
نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ". الأحزاب 23.
في الصواعق ص 122: وسئل وهو على المنبر بالكوفة عن قوله تعالى: " رجال
صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " فقال
اللهم غفرا هذه الآية نزلت في، وفي عمي حمزة، وفي عمي عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب
فأما عبيدة: فقضى نحبه شهيدا يوم بدر، وحمزة، قضى نحبه شهيدا يوم أحد، وأما أنا
فانتظر أشقاها، يخضب هذه من هذه - وأشار بيده إلى لحيته ورأسه عهد عهدا لي حبيبي
أبو القاسم " ص ".
تاسعا: قوله تعالى: " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين " الأنفال: 62
في ينابيع المودة ص 94: أبو نعيم الحافظ بسنده عن أبي هريرة. أيضا عن أبي
صالح عن ابن عباس. أيضا عن جعفر الصادق " ع " في قوله تعالى، " هو الذي أيدك
بنصره وبالمؤمنين " قالوا، نزلت في علي. وأن رسول الله " ص " قال، رأيت مكتوبا
على العرش، " لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد عبدي ورسولي أيدته ونصرته بعلي
ابن أبي طالب.
عاشرا - قوله تعالى " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ". المائدة، 55.
راجع هامش ص 161 من هذا الكتاب.
197

قال نشدتكم بالله هل فيكم أحد ناول رسول الله صلى الله عليه وآله قبضة من التراب
فرمى بها في وجوه الكفار فانهزموا غيري؟ قالوا: لا.
198

قال نشدتكم بالله هل فيكم أحد وقفت الملائكة معه يوم أحد حتى ذهب
199

الناس غيري قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قضى دين رسول الله صلى الله عليه وآله غيري؟ قالوا لا
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد شهد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله غيري؟ قالوا: لا
قال نشدتكم بالله هل فيكم أحد غسل رسول الله وكفنه ولحده غيري؟
قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد ورث سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله ورايته وخاتمه
غيري؟ قالوا لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله طلاق نسائه بيده
غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد حمله رسول الله صلى الله عليه وآله على ظهره حتى كسر
الأصنام على باب الكعبة غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد نودي باسمه من السماء يوم بدر " لا سيف
إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم الله هل فيكم أحد أكل مع رسول الله صلى الله عليه وآله من الطائر المشوي
الذي أهدي إليه غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " أنت صاحب
رايتي في الدنيا وصاحب لوائي في الآخرة " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قدم بين يدي نجواه صدقة غيري؟ قالوا: لا
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد خصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله غيري
قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " أنا أخوك وأنت
أخي " غيري؟ قالوا: لا.
200

قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " أنت أحب الخلق
إلي وأقولهم بالحق غيري؟ " قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد وجد رسول الله صلى الله عليه وآله جايعا فاستقى مائة
دلو بمائة تمرة وجاء بالتمرة فأطعمه رسول الله غيري وهو جائع؟ قالوا: لا
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد سلم عليه جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في
ثلاثة آلاف من الملائكة يوم بدر غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد غمض عين رسول الله صلى الله عليه وآله غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد وحد الله قبلي غيري؟ قالوا: لا.
قال نشدتكم بالله هل فيكم أحد كان أول داخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وآخر
خارج من عنده غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد مشى مع رسول الله صلى الله عليه وآله فمر على حديقة
فقلت ما أحسن هذه الحديقة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله " وحديقتك في الجنة أحسن من
هذه " حتى مررت على ثلاث حدائق كل ذلك يقول رسول الله " حديقتك في الجنة
أحسن من هذه " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " أنت أول من آمن
بي وصدقني وأول من يرد علي الحوض يوم القيامة ". غيري (1)؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخذ رسول الله رسول الله صلى الله عليه وآله بيده ويد امرأته وابنيه
حين أراد أن يباهل نصارى أهل نجران غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " أول طالع يطلع
عليكم من هذا الباب يا أنس فإنه أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وأولى الناس

(1) الإستيعاب ص 457 ج 2 قال، وروى عن سلمان أنه قال:
أول هذه الأمة ورودا على نبيها صلى الله عليه وآله الحوض أولها إسلاما علي بن أبي
طالب رضي الله عنه وقد روي هذا الحديث مرفوعا عن سلمان عن النبي " ص " أنه قال
أول هذه الأمة ورودا علي الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب.
201

بالناس (1) فقال أنس: اللهم اجعله رجلا من من الأنصار، فكنت أنا الطالع فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: لأنس ما أنت بأول رجل أحب قومه " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية " إنما وليكم الله
ورسوله والذين آمنوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " غيري
قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أنزل الله فيه وفي ولده " إن الأبرار يشربون
من كأس كان مزاجها كافورا " (2) إلى آخر السورة غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أنزل الله فيه " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة
المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخرة وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند
الله (3) " غيري؟ قالوا: لا.
قال نشدتكم بالله هل فيكم أحد علمه رسول الله صلى الله عليه وآله ألف كلمة كل
كلمة مفتاح ألف كلمة (4) غيري؟ قالوا: لا
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد ناجاه رسول الله يوم الطائف فقال أبو بكر
وعمر " يا رسول الله ناجيت عليا دوننا " فقال لهما النبي صلى الله عليه وآله: " ما أنا ناجيته بل

(1) حلية الأولياء ج 1 ص 63 عن أنس قال: قال رسول الله " ص " يا أنس
اسكب لي وضوءا؟ ثم قام فصلى ركعتين، ثم قال: يا أنس أول من يدخل عليك من هذا
الباب أمير المؤمنين، وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين، وخاتم الوصيين. قال أنس
قلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمته إذ جاء على فقال: من هذا يا أنس؟
فقلت: على فقام مستبشرا فاعتنقه، ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه، ويمسح عرق
على بوجهه. قال علي: يا رسول الله لقد رأيتك صنعت شيئا ما صنعت بي من قبل.
قال: وما يمنعني - وأنت تؤدي عني وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي
(2) الدهر: 5.
(3) راجع هامش ص 198
(4) ينابيع المودة ص 76 وفي المناقب عن الأصبغ بن نباتة قال كنت مع
أمير المؤمنين " ع " فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني أحبك في الله قال: إن رسول
الله ص " حدثني ألف حديث وكل حديث مفتاح ألف باب.. الخ ".
202

الله أمرني بذلك " (1) غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد سقاه رسول الله صلى الله عليه وآله من المهراس غيري
قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " أنت أقرب
الخلق مني يوم القيامة يدخل بشفاعتك الجنة أكثر من عدد ربيعة ومضر " غيري؟
قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " يا علي أنت
تكسى حين أكسى " (2) غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " أنت وشيعتك
الفائزون يوم القيامة " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " كذب من زعم أنه يحبني
ويبغض هذا " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " من أحب
شطراتي هذه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله - فقيل له وما شطراتك - قال
علي، والحسن، والحسين، وفاطمة " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " أنت خير البشر
بعد النبيين " (3) غيري؟ قالوا: لا.

(1) الرياض النضرة ج 2 ص 265 عن جابر قال:
دعا النبي " ص " عليا يوم الطائف فانتجاه فقال الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمه
فقال " ص ": ما انتجيته ولكن الله انتجاه. أخرجه الترمذي.
(2) الرياض النضرة ج 2 ص 267:
وأخرج المخلص الذهبي عن أبي سعيد: أن النبي " ص " كسى نفرا من أصحابه،
ولم يكس عليا، فكأنه رأى في وجه علي فقال: يا علي أما ترضى أنك تكسى إذا كسيت،
وتعطى إذا أعطيت.
(3) كنز العمال ج 6 ص 159 عن جابر: على خير البشر من أبى فقد كفر.
203

قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " أنت الفاروق
تفرق بين الحق والباطل " (1) غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله قل فيكم أحد قال له رسول الله " أنت أفضل الخلايق
عملا يوم القيامة بعد النبيين " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله كساه عليه وعلى
زوجته وعلى ابنيه ثم قال " اللهم أنا وأهل بيتي إليك لا إلى النار " غيري؟ قالوا لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد كان يبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله الطعام وهو
في الغار ويخبره بالأخبار غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " أنت أخي
ووزيري وصاحبي من أهلي " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله " أنت أقدمهم سلما
وأفضلهم علما وأكثرهم حلما " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قتل مرحبا اليهودي فارس اليهود مبارزة
غيري؟ (2) قالوا: لا.

(1) في ذخائر العقبى: عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله " ص " يقول لعلي
" أنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب الدين "
(2) مر في ص 167 قصة إعطاء الراية لعلي عليه السلام في غزوة خيبر. -
وفي هذه الواقعة نفسها خرج مرحب ملك خيبر يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر إني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلتهب
فأجابه علي عليه السلام مرتجزا أيضا:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة * ضرغام آجام وليث قسورة
ثم ضرب مرحبا فشقه نصفين، وفتح باب خيبر وقلعها ثم مشى بها مائة ذراع ورمى
بها أربعين ذراعا وكانت لضخامتها قد وكل بها أربعون بطلا من شجعان اليهود، يقول
ابن أبي الحديد في عينيته:
يا قالع الباب الذي عن هزه * عجزت أكف أربعون وأربع
204

قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد عرض عليه النبي صلى الله عليه وآله الإسلام فقال له
" انظرني حتى القى والدي " فقال له النبي صلى الله عليه وآله " فإنها أمانة عندك " فقلت فإن
كانت أمانة عندي فقد أسلمت غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد احتمل باب خيبر حين فتحها فمشى به
مائة ذراع، ثم عالجه بعده أربعين رجلا فلم يطيقوه غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا
إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة فكنت أنا الذي قدم الصدقة "
غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " من سب عليا
فقد سبني ومن سبني فقد سب الله (1) " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " منزلي مواجه
منزلك في الجنة " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " قاتل الله من
قاتلك وعادى الله من عاداك " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد اضطجع على فراش رسول لله صلى الله عليه وآله حين

(1) مستدرك الحاكم ج 3 ص 121 مسندا عن بكير بن عثمان البجلي قال:
سمعت أبا إسحاق التميمي يقول: سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول: حججت وأنا
غلام فمررت بالمدينة وإذا الناس عنق واحد فاتبعتهم، فدخلوا على " أم سلمة " زوج
النبي " ص " فسمعتها تقول: " يا شبيب بن ربعي " فأجابها رجل جلف جاف:
لبيك يا أمتاه، قالت " يسب رسول الله " في ناديكم؟! " قال: " وأنى
ذلك؟! " قالت: " فعلي بن أبي طالب (ع) " قال: (إنا لنقول أشياء نريد عرض
الدنيا) قالت: فإني سمعت رسول الله (ع) يقول: (من سب عليا فقد سبني ومن
سبني فقد سب الله تعالى).
205

أراد أن يسير إلى المدينة ووقاه بنفسه من المشركين حين أرادوا قتله غيري؟ قالوا: لا
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " أنت أولى الناس
بأمتي بعدي " (1) غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " أنت يوم القيامة
عن يمين العرش والله يكسوك ثوبين: أحدها أخضر والآخر وردي " غيري؟
قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد صلى قبل الناس بسبع سنين وأشهر (2)
غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى عليه وآله " أنا يوم القيامة آخذ
بحجزة ربي والحجزة النور وأنت آخذ بحجزتي وأهل بيتي آخذ بحجزتك "
غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " أنت كنفسي
وحبك حبي وبغضك بغضي " (3) غيري؟ قالوا: لا.

(1) كنز العمال ج 6 ص 155 الحديث 2579 عن وهب بن حمزة:
لا تقل هذا فهو أولى الناس بكم بعدي - يعني عليا.
(2) الرياض النضرة ج 2 ص 209 عن رافع قال:
صلى النبي صلى الله عليه وآله يوم الاثنين، وصلت خديجة آخر يوم الاثنين، وصلى يوم
الثلاثاء من الغد قبل أن يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله أحد سبع سنين وأشهر.
وعنه قال: صليت قبل أن تصلي الناس بسبع سنين.
وعنه: أنه كان يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله صلى الله عليه وآله، أنا الصديق
الأكبر، ولقد صليت قبل الناس بسبع سنين. خرجهن الخلعي.
(3) الإستيعاب ج 2 ص 464 عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله لوفد ثقيف حين جاءه: لنسلمن أو لأبعثن رجلا مني أو
قال مثل نفسي فليضربن أعناقكم، وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم. قال عمر:
فوالله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ، وجعلت انصب صدري له رجاء أن يقول: هو هذا
قال: فالتفت إلى علي رضي الله عنه، فأخذ بيده، ثم قال: هو هذا.
206

قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " ولايتك كولايتي
عهد عهده إلي ربي وأمرني أن أبلغكموه " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " اللهم اجعله لي
عونا وعضدا وناصرا " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " المال يعسوب
الظلمة وأنت يعسوب المؤمنين " (1) غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " لأبعثن إليكم
رجلا امتحن الله قلبه للإيمان " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أطعمه رسول الله صلى الله عليه وآله رمانة وقال " هذه
من رمان الجنة لا ينبغي أن يأكل منه إلا نبي أو وصي نبي " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " ما سألت ربي
شيئا إلا أعطانيه ولم أسأل ربي شيئا إلا سألت لك مثله " (2) غيري قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " أنت أقومهم
بأمر الله وأوفاهم بعهد الله وأعلمهم بالقضية وأقسمهم بالسوية وأعظمهم عند الله
مزية " غيري، قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " فضلك على هذه
الأمة كفضل الشمس على القمر وكفضل القمر على النجوم " غيري؟ قالوا: لا.

(1) كنز العمال ج 2 ص 153 الحديث 2536:
على يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين.
(2) كنز العمال ج 6 ص 159 الحديث 2667
قم يا علي فقد برئت. ما سألت الله شيئا إلا سألت لك مثله، إلا أنه قيل لي:
لا نبوة بعدك.
207

قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " يدخل الله وليك
الجنة وعدوك النار " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " الناس من أشجار شتى
وأنا وأنت من شجرة واحدة " (1) غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله " أنا سيد ولد آدم وأنت
سيد العرب والعجم ولا فخر " (1) غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد رضي الله عنه في الآيتين من القرآن غيري
قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " موعدك
موعدي وموعد شيعتك عند الحوض إذا خافت الأمم ووضعت الموازين " غيري؟
قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " اللهم إني أحبه
فأحبه اللهم إني استودعكه " غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " أنت تحاج
الناس فتحججهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأقام الحدود، والقسم بالسوية " غيري؟ قالوا: لا.

(1) كنز العمال ج 6 ص 154 الحديث 2561 عن جابر:
أنا وعلي من شجرة واحدة والناس من أشجار شتى. والحديث 2562 عنه: يا علي
الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة.
(2) الصواعق المحرقة ص 120:
روى البيهقي: أنه ظهر علي من البعد فقال صلى الله عليه وآله: هذا سيد العرب. فقالت
عائشة: ألست سيد العرب؟ فقال: أنا سيد العالمين، وهو سيد العرب. -
ورواه الحاكم في صحيحه عن ابن عباس بلفظ أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب
وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه.
208

قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بيده يوم بدر،
فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه وهو يقول: " ألا إن هذا ابن عمي ووزيري
فوازروه وناصحوه فإنه وليكم " غيري؟ قالوا لا.
قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية " ويؤثرون على
أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " (1)
غيري؟ قالوا: لا.
قال: نشدتكم بالله فهل فيكم أحد كان جبرئيل أحد ضيفانه غيري؟ قالوا: لا
قال: فهل فيكم أحد أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله حنوطا من حنوط الجنة ثم
أقسمه أثلاثا ثلثا لي تحنطني به، وثلثا لابنتي. وثلثا لك، غيري؟ قالوا: لا.
قال: فهل فيكم أحد كان إذا دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله حياه وأدناه
ورحب به وتهلل له وجهه غيري؟ قالوا: لا
قال فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " أنا أفتخر بك يوم القيامة إذا
افتخرت الأنبياء بأوصيائها " غيري؟ قالوا: لا.
قال: فهل فيكم أحد سرحه رسول الله صلى الله عليه وآله بسورة براءة إلى المشركين
من أهل مكة غيري؟ قالوا: لا.
قال: فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله " إني لأرحمك من ضغائن في
صدور أقوام عليك لا يظهرونها حتى يفقدوني فإذا فقدوني خالفوا فيها " غيري؟
قالوا: لا.
قال: فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " أدى الله عن أمانتك أدى الله
عن ذمتك " غيري؟ قالوا: لا.
قال: فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " أنت قسيم النار تخرج منها
من زكى وتذر فيها كل كافر " (2) غيري؟ قالوا: لا.

(1) هل أتى.
(2) ينابيع المودة ص 84 قال:
أخرج ابن المغازلي الشافعي بسنده عن ابن مسعود قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا علي إنك قسيم الجنة والنار، أنت تقرع باب الجنة
وتدخلها أحبائك بغير حساب.
209

قال: فهل فيكم أحد فتح حصن خيبر وسبا بنت مرحب فأداها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
غيري؟ قالوا: لا.
قال: فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " ترد علي الحوض أنت
وشيعتك رواء مرويين مبيضة وجوههم، ويرد علي عدوك ظماء مظمئين مقتحمين (1)
مسودة وجوههم " غيري؟ قالوا: لا.
قال: لهم أمير المؤمنين عليه السلام أما إذا أقررتم على أنفسكم، واستبان لكم
ذلك من قول نبيكم، فعليكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأنهاكم عن سخطه
ولا تعصوا أمره، وردوا الحق إلى أهله، واتبعوا سنة نبيكم، فإنكم إن خالفتم خالفتم
الله فادفعوها إلى من هو أهله وهي له.
قال: فتغامزوا فيها بينهم وتشاوروا وقالوا: " قد عرفنا فضله، وعلمنا أنه
أحق الناس بها، ولكنه رجل لا يفضل أحدا على أحد، فإن وليتموها إياه جعلكم
وجميع الناس فيها شرعا سواء، ولكن ولوها عثمان فإنه يهوى الذي تهوون "
فدفعوها إليه.
* * *
احتجاجه (ع) على جماعة كثيرة من المهاجرين والأنصار لما تذاكروا
فضلهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله من النص عليه وغيره من القول الجميل (2).
روي عن سليم بن قيس الهلالي أنه قال: " رأيت عليا عليه السلام في مسجد

(1) راجع هامش ص 199 في تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات أولئك هم خير البرية). وفي بعض النسخ " ظماء مفحمين "
(2) قال الأميني - في ج 1 ص 163 من الغدير -:
روى شيخ الإسلام أبو إسحاق إبراهيم بن سعد الدين ابن حمويه بأسناده في فرائد
السمطين في السمط الأول في الباب الثامن والخمسين، عن التابعي الكبير سليم بن قيس
الهلالي قال: رأيت عليا وساق الرواية.. ثم قال: هذا لفظ الحمويني وفي كتاب
سليم بن قيس نفسه اختلاف يسير وزيادات.
210

رسول الله صلى الله عليه وآله، في خلافة عثمان وجماعة يتحدثون ويتذاكرون العلم، فذكروا
قريشا وفضلها وسوابقها وهجرتها، وما قال فيها رسول الله صلى الله عليه وآله من الفضل، مثل
قوله: " الأئمة من قريش " وقوله: " الناس تبع لقريش وقريش أئمة العرب "
وقوله: " لا تسبقوا (1) قريشا " وقوله: " إن للقريشي مثل قوة رجلين من
غيرهم " وقوله: " من أبغض قريشا أبغضه الله " وقوله: " من أراد هوان قريش
أهانه الله "، وذكروا الأنصار وفضلها وسوابقها ونصرتها، وما أثنى الله عليهم في
كتابه، وما قال فيهم رسول الله من الفضل مثل قوله: " الأنصار كرشي وعيبتي "
ومثل قوله: " من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله " ومثل
قوله صلى الله عليه وآله: " لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله وبرسوله " وقوله: " لو سلك
الناس شعبا لسلكت شعب الأنصار " وذكروا ما قال: في سعد بن معاذ في جنازته
وأن العرش اهتز لموته، وقوله صلى الله عليه وآله: لما جيئ إليه بمناديل من اليمن فأعجب
الناس بها، فقال: " لمناديل سعد في الجنة أحسن منها " والذي غسلته الملائكة،
والذي حمته الدبر، فلم يدعوا شيئا من فضلهم، حتى قال كل حي منها: " منا
فلان وفلان " وقالت قريش: " منا رسول الله، ومنا حمزة، ومنا جعفر، ومنا عبيدة
ابن الحارث، وزيد بن حارثة، ومنا أبو بكر، وعمر، وسعد وأبو عبيدة، وسالم
وابن عوف، فلم يدعوا من الحيين أحدا من أهل السابقة إلا سموه، وفي الحلقة
أكثر من مائتي رجل، فيهم علي بن أبي طالب عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص،
وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وعمار، والمقداد، وأبو ذر، وهاشم بن
عتبة، وابن عمر، والحسن، والحسين عليهما السلام، وابن عباس، ومحمد بن أبي بكر، وعبد الله

(1) وفي نسخة (لا تسبوا).
211

ابن جعفر، ومن الأنصار أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو أيوب الأنصاري
وأبو هيثم بن التيهان، ومحمد بن سلمة، وقيس بن سعد بن عبادة، وجابر بن عبد الله
وأنس بن مالك، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن أبي أوفى، وأبو ليلى ومعه ابنه،
وعبد الرحمن قاعد بجنبه غلام أمرد الوجه مديد القامة، فجاء أبو الحسن البصري
ومعه ابنه الحسن غلام أمرد صبيح الوجه معتدل القامة، قال: فجعلت أنظر إليه وإلى
عبد الرحمن بن أبي ليلى فلا أدري أيهما أجمل، غير أن الحسن أعظمها وأطولهما
وأكثر القوم في الحديث، وذلك من بكرة إلى حين الزوال، وعثمان في داره
لا يعلم بشئ مما هم فيه.
وعلي بن أبي طالب لا ينطق هو ولا أحد من أهل بيته.
فأقبل القوم عليه فقالوا: يا أبا الحسن ما يمنعك أن تتكلم؟
فقال عليه السلام لهم، ما من الحيين أحد إلا وقد ذكر فضلا، وقال حقا، فأنا
أسألكم يا معشر قريش والأنصار، بمن أعطاكم الله هذا الفضل؟ أبأنفسكم
وعشائركم وأهل بيوتاتكم أم بغيركم؟
قالوا: بل أعطانا الله ومن به علينا بمحمد وعشيرته، لا بأنفسنا وعشائرنا ولا
بأهل بيوتنا.
قال: صدقتم، يا معشر قريش والأنصار أتعلمون الذي نلتم به من خير الدنيا
والآخرة منا أهل البيت خاصة دون غيرهم؟ فإن ابن عمي رسول الله قال: " إني
وأهل بيتي كنا نورا بين يدي الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق الله آدم بأربعة عشر
ألف سنة، فلما خلق الله آدم وضع ذلك النور في صلبه وأهبطه إلى الأرض، ثم حمله
في السفينة في صلب نوح عليه السلام، ثم قذف به في النار في صلب إبراهيم عليه السلام، ثم لم
يزل الله عز وجل ينقلنا من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، ومن الأرحام
الطاهرة إلى الأصلاب الكريمة، من الآباء والأمهات، لم يلتق واحد منهم على
سفاح قط ".
فقال أهل السابقة، وأهل بدر، وأهل أحد: نعم قد سمعنا ذلك من رسول الله
212

ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون أني أول الأمة إيمانا بالله وبرسوله؟ قالوا:
اللهم نعم.
قال: فأنشدكم بالله أتعلمون أن الله عز وجل فضل في كتابه السابق على
المسبوق في غير آية. وأني لم يسبقني إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وآله أحد من
هذه الأمة؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم بالله أتعلمون حيث نزلت " والسابقون الأولون من المهاجرين
والأنصار (1) " " والسابقون السابقون أولئك المقربون (2) " وسأل عنها
رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: " أنزله الله عز وجل في الأنبياء وأوصيائهم فأنا أفضل أنبياء
الله ورسله وعلي بن أبي طالب عليه السلام وصيي أفضل الأوصياء " قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم بالله أتعلمون حيث نزلت " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (3) " وحيث نزلت: " إنما وليكم الله ورسوله
والذين آمنوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (4) " وحيث
نزلت: " ولم يتخد من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة (5) " قال الناس:
" يا رسول الله أخاصة في بعض المؤمنين أم عامة لجميعهم؟ " فأمر الله عز وجل نبيه
أن يعلمهم ولاة أمرهم، وأن يفسر لهم من الولاية ما فسر لهم من صلاتهم، وزكاتهم
وصومهم، وحجهم، فنصبني للناس علما بغدير خم.
ثم خطب فقال: " أيها الناس إن الله أرسلني برسالة ضاق بها صدري فظننت
أن الناس مكذبي فأوعدني لأبلغنها أو ليعذبني ".
ثم أمر فنودي بالصلاة جامعة، ثم خطب فقال:
" أيها الناس أتعلمون أن الله عز وجل مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى
بهم من أنفسهم " بلى يا رسول الله. قال: قم يا علي، فقمت فقال: " من كنت

(1) التوبة: 100
(2) الواقعة: 10
(3) النساء: 59
(4) راجع هامش ص 161
(5) التوبة: 16
213

مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ". -
فقام سلمان فقال: " يا رسول الله والاه كماذا؟ " فقال: " والاه كولائي،
فمن كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه " فأنزل الله عز وجل: " اليوم
أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا (1) " فكبر
رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: " الله أكبر على تمام نبوتي، وتمام دين الله، ولاية
علي بعدي ". -
فقام أبو بكر وعمر فقالا: " يا رسول الله هؤلاء الآيات خاصة في علي؟ "
قال صلى الله عليه وآله: " بلى فيه، وفي أوصيائي إلى يوم القيامة ".
قالا: " يا رسول الله بينهم لنا ".
قال: أخي، ووزيري، ووارثي، ووصيي، وخليفتي، في أمتي، وولي كل
مؤمن بعدي، ثم ابني الحسن والحسين، ثم تسعة من ولد الحسين واحد بعد واحد
القرآن معهم وهم مع القرآن، لا يفارقونه ولا يفارقهم، حتى يردوا علي الحوض
فقالوا كلهم: " اللهم نعم، قد سمعنا ذلك وشهدنا كما قلت سواء " وقال
بعضهم: " قد حفظنا جل ما قلت ولم نحفظ كله وهؤلاء الذين حفظوا أخيارنا
وأفاضلنا ".
فقال علي عليه السلام: " صدقتم ليس كل الناس يستوي في الحفظ ".
أنشدكم بالله من حفظ ذلك من رسول الله لما قام وأخبر به.
فقام زيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأبو ذر، والمقداد، وعمار، فقالوا
" نشهد لقد حفظنا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وهو قائم على المنبر وأنت إلى جنبه وهو
يقول: أيها الناس أمرني الله أن انصب لكم إمامكم والقائم فيكم بعدي ووصيي
وخليفتي، والذي فرض على المؤمنين في كتابه طاعته، وقرنه بطاعته وطاعتي،
وأمركم بولايته، وأني راجعت ربي خشية طعن أهل النفاق وتكذيبهم، فأوعدني

(1) المائدة: 3
214

لأبلغنها أو ليعذبني، أيها الناس إن الله أمركم في كتابه بالصلاة. فقد بينتها لكم
والزكاة، والصوم، والحج. فقد بينتها لكم وفسرتها، وأمركم بالولاية وإني
أشهدكم أنها لهذا خاصة، ووضع يده على يد علي بن أبي طالب، ثم لأبنيه من
بعده، ثم للأوصياء من بعدهم، ومن ولدهم عليه السلام، لا يفارقون القرآن، ولا
يفارقهم القرآن، حتى يردوا علي الحوض، أيها الناس قد بينت لكم مفزعكم (1)
بعدي، وإمامكم، ودليلكم، وهاديكم، وهو: أخي علي بن أبي طالب، وهو
فيكم بمنزلتي فيكم، فقلدوه دينكم، وأطيعوه في جميع أموركم، فإن عنده
جميع ما علمني الله عز وجل من علمه وحكمته، فاسألوه وتعلموا منه ومن أوصيائه
بعده، ولا تعلموهم، ولا تتقدموهم، ولا تخلفوا عنهم، فإنهم مع الحق والحق معهم
لا يزايلهم (2) " ثم جلسوا.
قال سليم: ثم قال علي عليه السلام:
أيها الناس أتعلمون أن الله عز وجل أنزل في كتابه: " إنما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " فجمعني وفاطمة وابنيه حسنا وحسينا
ثم ألقى علينا كساء فدكيا وقال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي ولحمي، يؤلمني ما
يؤلمهم، ويجرحني ما يجرحهم، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " فقالت أم
سلمة: وأنا يا رسول الله فقال: " أنت إلى خير، إنما نزلت في، وفي أخي علي،
وفي ابنتي فاطمة، وفي ابني، وفي تسعة من ولد الحسين خاصة، وليس معنا
أحد غيرنا ".
فقالوا كلهم: " نشهد أن أم سلمة حدثتنا بذلك، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وآله
فحدثنا كما حدثتنا به أم سلمة ".
قال علي عليه السلام: أنشدكم بالله أتعلمون أن الله أنزل " يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (3) " فقال سلمان: " يا رسول الله عامة هذه الآية

(1) المفزع: الملجأ.
(2) زايله: فارقه.
(3) التوبة: 119.
215

أم خاصة؟ " فقال: " أما المأمورون فعامة المؤمنين أمروا بذلك، وأما الصادقون
خاصة لأخي علي وأوصيائي بعده إلى يوم القيامة ". فقالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم بالله أتعلمون أني قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله في غزاة تبوك: لم
تخلفني فقال: " إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، وأنت مني بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه لا نبي بعدي " قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم بالله أتعلمون أن الله عز وجل أنزل في سورة الحج: " يا أيها
الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير. لعلكم تفلحون (1) "
إلى آخر السورة، فقام سلمان فقال: " يا رسول الله من هؤلاء الذين أنت عليهم
شهيد، وهم شهداء على الناس، الذين اجتباهم، ولم يجعل عليهم في الدين من حرج
ملة أبيكم إبراهيم " قال: عني بذلك ثلاثة عشر رجلا خاصة دون هذه الأمة "
فقال سلمان: " بينهم لنا يا رسول الله " فقال: " أنا، وأخي علي، وأحد عشر من
ولدي " قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قام خطيبا ولم يخطب بعد
ذلك. فقال: " يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين (2) كتاب الله، وعترتي أهل

(1) الحج 77.
(2) قال السيد شرف الدين: - في المراجعات - ص 51 في المراجعة " 8 "!
والصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين متواترة، وطرقها عن بضع وعشرين
صحابيا متضافرة وقد صدع بها رسول الله " ص " في مواقف له شتى: تارة يوم غدير
خم كما سمعت، وتارة يوم عرفة في حجة الوداع، وتارة بعد انصرافه من الطائف، ومرة
على منبره في المدينة، وأخرى في حجرته المباركة في مرضه، والحجرة غاصة بأصحابه
إذ قال: " أيها الناس يوشك أن أقبض قبضا سريعا فينطلق بي، وقد قدمت إليكم القول
معذرة إليكم ألا إني مخلف فيكم كتاب الله عز وجل، وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد
علي فرفعها فقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض "
الحديث وقد اعترف بذلك جماعة من أعلام الجمهور، حتى قال ابن حجر - إذ أورد
حديث الثقلين -: " ثم اعلم أن لحديث التمسك بهما طرقا كثيرة وردت عن نيف
وعشرين صحابيا " " قال " ومر له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك
الطرق أنه قال ذلك: بحجة الوداع بعرفه، وفي أخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه، وقد
امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنه قال
ذلك لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف كما مر " " قال " " ولا تنافي إذ لا مانع من
أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة "
إلى آخر كلامه انتهى ما أردنا نقله من كتاب المراجعات. وتجد ما نقله السيد " قدس سره "
من كلام ابن حجر في ص 75 و 89 من صواعقه.
216

بيتي، فتمسكوا بهما، لا تضلوا، فإن اللطيف الخبير أخبرني وعهد إلي أنهما لن
يفترقا حتى يردا علي الحوض " فقام عمر بن الخطاب - وهو شبه المغضب - فقال:
يا رسول الله أكل أهل بيتك؟ " قال: لا ولكن أوصيائي منهم، أولهم أخي،
ووزيري، وخليفتي في أمتي، وولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي، هو أولهم، ثم ابني
الحسن، ثم ابني الحسين، ثم تسعة من ولد الحسين، واحد بعد واحد حتى يردوا
علي الحوض، شهداء لله في أرضه، وحججه على خلقه، وخزان علمه، ومعادن
حكمته، من أطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله ".
فقالوا كلهم: " نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ذلك ".
ثم تمادى بعلي عليه السلام السؤال والمناشدة، فما ترك شيئا إلا ناشدهم الله فيه
وسألهم عنه، حتى أتى علي على أكثر مناقبه، وما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله كل
ذلك يصدقونه ويشهدون أنه حق.
ثم قال حين فرغ: " اللهم اشهد عليهم " وقالوا: " اللهم اشهد إنا لم نقل إلا
ما سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله، وما حدثنا من نثق به من هؤلاء وغيرهم أنهم
سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وآله ".
قال: أتقرون بأن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " من زعم أنه يحبني ويبغض عليا
فقد كذب وليس يحبني " ووضع يده على رأسي فقال له قائل: " كيف ذلك
217

يا رسول الله؟ " قال: " لأنه مني وأنا منه، ومن أحبه فقد أحبني، ومن أحبني فقد
أحب الله، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله " قال نحو عشرين
رجلا من أفاضل الحيين: اللهم نعم. وسكت بقيتهم.
فقال: للسكوت ما لكم سكتم؟ قالوا: " هؤلاء الذين شهدوا عندنا ثقات في
قولهم، وفضلهم، وسابقتهم " فقال: اللهم اشهد عليهم.
فقال طلحة بن عبد الله: وكان يقال له: " داهية قريش " فكيف نصنع بما
ادعى أبو بكر وأصحابه الذين صدقوه، وشهدوا على مقالته يوم أتوه بك بعتل (1)
وفي عنقك حبل، فقالوا لك: " بايع " فاحتججت بما احتججت به، فصدقوك جميعا
ثم ادعى أنه سمع رسول الله يقول: أبى الله أن يجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة
فصدقه بذلك عمر، وأبو عبيدة، وسالم، ومعاذ. ثم قال طلحة: كل الذي قلت
وادعيت واحتججت به من السابقة والفضل حق نقر به ونعرفه، وأما الخلافة فقد
شهد أولئك الأربعة بما سمعت.
فقام علي عليه السلام عند ذلك، وغضب من مقالته، فأخرج شيئا قد كان يكتمه
وفسر شيئا قال له عمر يوم مات لم يدر ما عنى به، فأقبل على طلحة - والناس
يسمعون - فقال:
أما والله يا طلحة ما صحيفة ألقى الله بها يوم القيامة أحب إلي من صحيفة
الأربعة الذين تعاهدوا على الوفاء بها في الكعبة إن قتل الله محمدا أو توفاه أن يتوازروا
دون علي ويتظاهروا فلا تصل إلي الخلافة ".
والدليل والله على باطل ما شهدوا، وما قلت يا طلحة: قول نبي الله يوم غدير
خم: " من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه ".
فكيف أكون أولى بهم من أنفسهم وهم أمراء علي وحكام؟
وقول رسول الله صلى الله عليه وآله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة " فلو
كان مع النبوة غيرها لاستثناه رسول الله صلى الله عليه وآله.

(1) العتل: الجذب العنيف تقول عتلت الرجل إذ أجذبته جذبا عنيفا.
218

وقوله: " إني تركت فيكم أمرين كتاب الله وعترتي لن تضلوا ما إن
تمسكتم بهما لا تقدموهم، ولا تخلفوا عنهم، ولا تعلموهم، فإنهم أعلم منكم أفينبغي
أن لا يكون الخليفة على الأمة إلا أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه؟! وقد قال الله
عز وجل: " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي
فما لكم كيف تحكمون (1) "؟! وقال تعالى: " إن الله اصطفاه عليكم وزاده
بسطة في العلم والجسم (2) " وقال: " ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من
علم (3) " وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " ما ولت أمة قط أمرها رجلا وفيهم من هو
أعلم منه، إلا لم يزل يذهب أمرهم سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا " فما الولاية
غير الإمارة؟
والدليل على كذبهم وباطلهم وفجورهم، أنهم سلموا علي بأمرة المؤمنين
بأمر رسول الله.
ومن الحجة عليهم وعليك خاصة، وعلى هذا معك، يعني: الزبير، وعلى
الأمة، وعلى سعد ابن أبي وقاص، وابن عوف، وخليفتكم هذا القائم، يعني عثمان
فإنا معشر الشورى أحياء كلنا، أن جعلني عمر بن الخطاب في الشورى إن كان
قد صدق هو وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وآله، أجعلنا في الشورى في الخلافة أم في
غيرها؟ فإن زعمتم أنه جعلها شورى في غير الإمارة، فليس لعثمان إمارة وإنما
أمرنا أن نتشاور في غيرها، وإن كانت الشورى فيها، فلم أدخلني فيكم، فهلا
أخرجني؟ وقد قال: أن رسول الله صلى الله عليه وآله أخرج أهل بيته من الخلافة وأخبر أنه
ليس لهم فيها نصيب، ولم قال عمر حين دعانا رجلا رجلا. -
فقال علي عليه السلام: لعبد الله ابنه، وها هو ذا، أنشدك بالله عبد الله بن عمر
ما قال لك حين خرجت؟

(1) يونس: 35
(2) البقرة 247
(3) الأحقاف: 4
219

قال: أما إذ ناشدتني بالله فإنه قال: إن يتبعوا أصلع قريش يحملهم على
المحجة البيضاء، وأقامهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم.
قال: يا بن عمر فما قلت له عند ذلك؟
قال: قلت له: فما يمنعك أن تستخلفه؟
قال: وما رد عليك؟
قال: رد علي شيئا أكتمه.
قال علي: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله خبرني به في حياته، ثم أخبرني به ليلة
مات أبوك في منامي، ومن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله مناما فقد رآه. قال: فما أخبرك به؟
قال عليه السلام: فأنشدك بالله يا بن عمر لئن أخبرتك به لتصدقن؟ قال: إذن
سكت. قال: فإنه قال لك حين قلت له: فما يمنعك أن تستخلفه؟ قال: الصحيفة
التي كتبناها بيننا، والعهد في الكعبة، فسكت ابن عمر.
فقال أسألك بحق رسولك لم سكت عني؟
قال سليم فرأيت ابن عمر في ذلك المجلس خنقته العبرة وعيناه تسيلان.
وأقبل أمير المؤمنين عليه السلام على طلحة، والزبير، وابن عوف، وسعد، فقال:
لئن كان أولئك الخمسة أو الأربعة كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله ما يحل لكم ولايتهم
وإن كانوا صدقوا ماحل لكم أيها الخمسة أو الأربعة أن تدخلوني معكم في الشورى
لأن إدخالكم إياي فيها خلاف على رسول الله صلى الله عليه وآله ورد عليه.
ثم أقبل على الناس فقال: أخبروني عن منزلتي فيكم وما تعرفوني به أصادق
أنا فيكم أم كاذب؟ قالوا: صدوق لا والله ما علمناك كذبت قط في الجاهلية ولا
الإسلام قال: فوالله الذي أكرمنا أهل البيت بالنبوة، وجعل منا محمدا وأكرمنا
بعده بأن جعلنا أئمة للمؤمنين، لا يبلغ عنه غيرنا، ولا تصلح الإمامة والخلافة إلا
فينا، ولم يجعل لأحد من الناس فيها معنا أهل البيت نصيبا ولا حقا، أما رسول
الله صلى الله عليه وآله خاتم النبيين ليس بعده نبي ولا رسول، ختم برسول الله الأنبياء إلى يوم
القيامة، وجعلنا من بعد محمد خلفاء في أرضه وشهداء على خلقه فرض طاعتنا في كتابه
220

وقرننا بنفسه ونبيه، في غير آية من القرآن، فالله عز وجل جعل محمدا نبيا، وجعلنا
خلفاء من بعده في كتابه المنزل، ثم أن الله عز وجل أمر نبيه أن يبلغ ذلك أمته
فبلغهم كما أمره الله، فأيكما أحق بمجلس رسول الله صلى الله عليه وآله ومكانه؟ وقد سمعتم
رسول الله صلى الله عليه وآله حين بعثني ببراءة فقال: " لا يبلغ عني إلا رجل مني ".
أنشدتكم بالله أسمعتم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قالوا: " اللهم نعم، نشهد
أنا سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله حين بعثك ببراءة ".
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يصلح لصاحبكم أن يبلغ عنه صحيفة (1)
أربع أصابع، ولن يصلح أن يكون المبلغ عنه غيري، فأيهما أحق بمجلسه ومكانه
الذي سمي بخاصة، إنه من رسول الله صلى الله عليه وآله ومن حضر مجلسه من الأمة؟
فقال طلحة: قد سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله، ففسر لنا كيف لا يصلح
لأحد أن يبلغ عن رسول الله غيرك؟ وقد قال - لنا ولسائر الناس -: " ليبلغ الشاهد
الغائب " فقال - بعرفة في حجة الوداع -: " نصر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها
ثم بلغها غيره، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه،
ثلاث لا يحل عليهن قلب امرء مسلم أخلص العمل لله عز وجل: السمع، والطاعة
والمناصحة لولاة الأمر ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم ". وقال:
في غير موطن - " ليبلغ الشاهد الغائب ".
فقال علي عليه السلام: إن الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم غدير خم، ويوم عرفة
في حجة الوداع، في آخر خطبة خطبها حين قال: " إني قد تركت فيكم أمرين
لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما، كتاب الله، وأهل بيتي، فإن اللطيف الخبير قد
عهد إلي أنهما لا يفترقان حتى يردا علي الحوض، كهاتين ولا أقول كهاتين - فأشار إلى
سبابته وإبهامه، لأن أحدهما قدام الآخر - فتمسكوا بهما لن تضلوا ولا تزالوا، ولا
تقدموهم، ولا تخلفوا عنهم، ولا تعلموهم، فإنهم أعلم منكم " إنما أمر الله العامة
جميعا أن يبلغوا من لقوا من العامة إيجاب طاعة الأئمة من آل محمد عليهم السلام وإيجاب

(1) يريد الصحيفة التي كتبت بها سورة براءة.
221

حقهم، ولم يقل ذلك في شئ من الأشياء غير ذلك، وإنما أمر العامة أن يبلغوا
العامة حجة من لا يبلغ عن رسول الله جميع ما بعثه الله به غيرهم، ألا ترى يا طلحة
أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي - وأنتم تسمعون -: " يا أخي إنه لا يقضي عني ديني
ولا يبرئ ذمتي غيرك، تبرئ ذمتي، وتؤدي ديني وغراماتي، وتقاتل على سنتي "
فلما ولي أبو بكر قضى عن رسول الله صلى الله عليه وآله عداته ودينه، فاتبعتموه جميعا، فقضيت
دينه وعداته، وقد أخبرهم أنه لا يقضي عنه دينه وعداته غيري، ولم يكن ما أعطاهم
أبو بكر قضاء لدينه وعداته، وإنما كان الذي قضى من الدين والعدة هو الذي
أبرءه منه، وإنما بلغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله جميع ما جاء به من عند الله من بعد الأئمة
الذين فرض الله في الكتاب طاعتهم، وأمر بولايتهم، الذين من أطاعهم فقد أطاع
الله، ومن عصاهم فقد عصى الله.
فقال طلحة: " فرجت عني، ما كنت أدري ما عنى بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله
حتى فسرته لي، فجزاك الله يا أبا الحسن عن جميع أمة محمد الجنة، يا أبا الحسن
شيئا أريد أن أسألك عنه، رأيتك خرجت بثوب مختوم، فقلت: أيها الناس إني
لم أزل مشتغلا برسول الله بغسله، وكفنه، ودفنه، ثم اشتغلت بكتاب الله حتى
جمعته، فهذا كتاب الله عندي مجموعا لم يسقط حتى حرف واحد، ولم أر ذلك
الذي كتبت وألفت، وقد رأيت عمر بعث إليك أن ابعث به إلي فأبيت أن تفعل
فدعا عمر الناس فإذا شهد رجلان على آية كتبها، وإن لم يشهد عليها غير رجل
واحد أرجأها (1) فلم يكتب، فقال عمر: وأنا أسمع إنه قد قتل يوم اليمامة قوم
كانوا يقرؤون قرآنا لا يقرأه غيرهم، فقد ذهب وقد جاءت شاة إلى صحيفة وكتاب
يكتبون فأكلتها وذهب ما فيها والكاتب يومئذ عثمان، وسمعت عمر وأصحابه الذين
ألفوا ما كتبوا على عهد عمر وعلى عهد عثمان يقولون: إن الأحزاب كانت تعدل
سورة البقرة، وإن النور ستون ومائة آية، والحجر تسعون ومائة آية، فما هذا؟
وما يمنعك يرحمك الله أن تخرج كتاب الله إلى الناس، وقد عهد عثمان حين أخذ

(1) أرجأها: أخرها.
222

ما ألف عمر فجمع له الكتاب، وحمل الناس على قراءة واحدة، فمزق مصحف
أبي بن كعب، وابن مسعود، وأحرقهما بالنار؟
فقال له علي عليه السلام، يا طلحة إن كل آية أنزلها الله جل وعلا على محمد عندي
بإملاء رسول الله وخط يدي، وتأويل كل آية أنزلها الله على محمد وكل حرام
وحلال أو حد أو حكم أو شئ تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة مكتوب بإملاء
رسول الله صلى الله عليه وآله وخط يدي، حتى أرش الخدش (1).
قال طلحة: كل شئ من صغير وكبير أو خاص أو عام كان أو يكون إلى
يوم القيامة فهو عندك مكتوب؟
قال: نعم وسوى ذلك، إن رسول الله صلى الله عليه وآله أسر إلي في مرضه مفتاح ألف باب
من العلم يفتح من كل باب ألف باب، ولو أن الأمة منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله
اتبعوني وأطاعوني لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، يا طلحة ألست قد شهدت
رسول الله صلى الله عليه وآله حين دعا بالكتف ليكتب فيه ما لا تضل أمته، فقال صاحبك إن
نبي الله يهجر (2)، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وتركها؟ فقال، بلى قد شهدته.

(1) الأرش: الدية.
(2) في شرح النهج لابن أبي الحديد ص 20 من الج 2 مسندا عن علي بن عبد الله
بن العباس عن أبيه قال: -
لما حضرت رسول الله " ص " الوفاة - وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب -
قال رسول الله " ص ": " إئتوني بكتاب وصحيفة، أكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي "
فقال عمر: كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول الله " ص ". ثم قال: عندنا
القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف من في البيت واختصموا فمن قائل يقول: " القول
ما قال رسول الله " ص " ومن قائل يقول: " القول ما قال عمر " فلما أكثروا اللغط
واللغو والاختلاف، غضب رسول الله " ص " فقال: " قوموا إنه لا ينبغي لنبي أن
يختلف عنده هكذا " فقاموا. فمات رسول الله " ص " في ذلك اليوم، -
فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية: ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله " ص "
قال ابن أبي الحديد قلت: هذا الحديث قد خرجه الشيخان: محمد بن إسماعيل البخاري
ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحيهما، واتفق المحدثون كافة على روايته.
223

قال: فإنكم لما خرجتم أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بالذي أراد يكتب
ويشهد عليه العامة، فأخبره جبرئيل أن الله قد قضى على أمتك الاختلاف والفرقة
ثم دعا بصحيفة فأملى علي ما أراد أن يكتب في الكتف، وأشهد على ذلك ثلاثة
رهط: سلمان، وأبا ذر، والمقداد. وسمى من يكون من أئمة الهدى الذين أمر
الله بطاعتهم إلى يوم القيامة (1) فسماني أولهم، ثم ابني هذا وأشار بيده إلى الحسن
والحسين. ثم تسعة من ولد ابني الحسين، كذلك كان يا أبا ذر ويا مقداد؟ فقاما ثم
قالا: نشهد بذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال طلحة: والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " ما أقلت الغبراء ولا
أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق ولا أبر عند الله من أبي ذر " وأنا أشهد أنهما لم
يشهدا إلا بالحق، ولأنت عندي أصدق وأبر منهما.
ثم أقبل علي عليه السلام فقال: اتق الله يا طلحة وأنت يا زبير، وأنت يا سعد،
وأنت يا بن عوف. اتقوا الله وآثروا رضاه، واختاروا ما عنده، ولا تخافوا في الله لومة لائم.

(1) ينابيع المودة ص 440 قال:
وفي فرائد السمطين بسنده عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قدم يهودي يقال له: " الأعتل " فقال: يا محمد أسألك عن أشياء تلجلج في صدري
منذ حين، فإن أجبتني عنها أسلمت على يديك، قال: " سل يا أبا عمارة " فقال: يا محمد
صف لي ربك.. إلى أن قال: صدقت فأخبرني عن وصيك من هو؟ فما من نبي إلا
وله وصي، وإن نبينا موسى بن عمران أوصى يوشع بن نون. فقال: " إن وصي علي بن
أبي طالب وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين ". قال:
يا محمد فسمهم لي قال: " إذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى على فابنه محمد، فإذا مضى
محمد فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه علي، فإذا مضى
على فابنه محمد، فإذا مضى محمد فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن
فابنه الحجة محمد المهدي فهؤلاء اثنى عشر " الخ.
224

ثم قال طلحة: لا أراك يا أبا الحسن أجبتني عما سألتك عنه من أمر القرآن
إلا تظهره للناس؟
قال: يا طلحة عمدا كففت عن جوابك، فأخبرني عما كتب عمر وعثمان
أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن؟ قال طلحة: بل قرآن كله.
قال: إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار، ودخلتم الجنة، فإن فيه حجتنا
وبيان حقنا، وفرض طاعتنا.
قال طلحة حسبي أما إذا كان قرآن فحسبي. ثم قال طلحة: فأخبرني عما
في يدك من القرآن وتأويله، وعلم الحلال والحرام، إلى من تدفعه ومن صاحبه
بعدك؟ قال: إن الذي أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله أن أدفعه إليه وصبي وأولي الناس
بعدي بالناس ابني الحسن، ثم يدفعه ابني الحسن إلى ابني الحسين، ثم يصير إلى واحد بعد
واحد من ولد الحسين حتى يرد آخرهم حوضه، هم مع القرآن لا يفارقونه والقرآن
معهم لا يفارقهم، أما إن معاوية وابنه سيليان بعد عثمان، ثم يليها سبعة من ولد
الحكم بن أبي العاص، واحد بعد وأحد، تكملة اثنا عشر أمام ضلالة، وهم الذين
رأى رسول الله صلى الله عليه وآله على منبره: يردون الأمة على أدبارهم القهقري (1) عشرة
منهم من بني أمية ورجلان أسسا ذلك لهم وعليهما مثل جميع أوزار هذه الأمة إلى
يوم القيامة.
وفي رواية أبي ذر الغفاري (2) أنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله جمع

(1) تفسير الطبري ج 15 ص 73 والقرطبي ج 10 ص 283 من طريق سهل
ابن سعد قال:
رأى رسول الله " ص " بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك، فما
استجمع ضاحكا حتى مات. وأنزل الله تعالى: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة
للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا. الأسراء: 60
(2) أبو ذر الغفاري. واسمه. جندب - بالجيم المضمومة والنون الساكنة والدال
غير المعجمة المفتوحة. والباء المنقطة تحتها نقطة - بن جنادة - بالجيم المضمومة والنون
والدال بعد الألف غير المعجمة - وقيل جندب بن السكن وقيل بريد بن جنادة.
عن عبد الله بن الصامت قال: قال لي أبو ذر: " يا بن أخي صليت قبل الإسلام
بأربع سنين " قلت له من كنت تعبد؟ قال: (إله السماء) قلت فأين كانت قبلتك قال:
(حيث وجهني الله عز وجل).
وهو رابع من أسلم من الرجال فأول من أسلم علي بن أبي طالب، ثم أخوه جعفر
الطيار، ثم زيد بن حارثة، وكان أبو ذر رحمه الله رابعهم.
وأمره رسول الله صلى الله عليه وآله بالرجوع إلى أهله وقال له: (انطلق إلى بلادك حتى
يظهر أمرنا) فرجع إليها حتى ظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وآله فهاجر إلى المدينة وآخى
النبي صلى الله عليه وآله بينه وبين المنذر بن عمرو في المؤاخاة الثانية، وهي مؤاخاة الأنصار مع
المهاجرين بعد الهجرة بثمانية أشهر، ثم شهد مشاهد رسول الله صلى الله عليه وآله.
وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء على ذي لهجة
أصدق من أبي ذر يعيش وحده، ويموت وحده، ويحشره وحده، ويدخل الجنة وحده.
وقال: صلى الله عليه وآله أبو ذر في أمتي شبيه عيسى بن مريم في زهده وورعه.
وقال أمير المؤمنين (ع) وعى أبو ذر علما عجز الناس عنه، ثم أولى عليه فلم
يخرج شيئا.
وعن أبي عبد الله (ع): دخل أبو ذر على رسول الله صلى الله عليه وآله ومعه جبرئيل
فقال جبرئيل: من هذا يا رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: أبو ذر. قال أبو ذر أما إنه في
السماء أعرف منه في الأرض، سل عن كلمات يقولهن إذا أصبح. قال: فقال يا أبا ذر
كلمات تقولهن إذا أصبحت فما هن؟ قال يا رسول الله (اللهم إني أسألك الإيمان بك
والتصديق بنبيك، والعافية من جميع البلايا، والشكر على العافية، والغنى عن شرار الناس)
وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله لم يرتد أبو ذر، وامتنع عن البيعة لأبي بكر. وأنكر
عليه قيامه مقام النبي صلى الله عليه وآله وغصبه للخلافة، وهو أحد الأركان الأربعة وهم: سلمان
والمقداد، وحذيفة، وأبو ذر، وممن حضر تشييع فاطمة، ولزم عليا عليه السلام وجاهر
بذكر مناقب أهل البيت، ومثالب أعدائهم، وصبر على المشقة والعناء.
وما كانت تأخذه في الله لومة لائم. وكان يقول: أوصاني خليلي بست:
حب المساكين، وأن أنظر إلى من هو فوقي، وأن أقول الحق وإن كان مرا،
وأن لا تأخذني في الله لومة لائم.
وقال له فتى من قريش مرة: أما نهاك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فقال: أرقيب
أنت على؟ فوالذي نفسي بيده لو وضعتم الصمامة هيهنا، ثم ظننت إني منفذ كلمة سمعتها
من رسول الله صلى الله عليه وآله قبل أن تحتزوا لأنفذتها.
وبينا هو واقف مع رسول الله صلى الله عليه وآله يوما إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: (يا أبا ذر
أنت رجل صالح وسيصيبك بلاء بعدي) قال أبو ذر: في الله؟ قال: (في الله) فقال
أبو ذر: مرحبا بأمر الله.
ولما قام ثالث القوم نافجا حضنيه - كما قال أمير المؤمنين (ع) - بين نثيله ومعتلفه
وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع. كان من الطبيعي أن يشتد
نكير أبي ذر على الدولة الأموية، والسلالة الخبيثة، والشجرة الملعونة.
فأرسل إليه عثمان " 200 " دينار بيد موليين له وقال لهما انطلقا إلى أبي ذر وقولا
له: إن عثمان يقرئك السلام ويقول لك: هذه " 200 " دينار فاستعن بها على ما نابك.
فقال أبو ذر: هل أعطى أحدا من المسلمين مثل ما أعطاني؟ قالا: لا. فردها عليه.
ودخل يوما على عثمان، وكانوا يقتسمون مال عبد الرحمن بن عوف وكان عنده
كعب فقال عثمان لكعب: ما تقول فيمن جمع هذا المال فكان يتصدق منه، ويعطي في
السبل ويفعل ويفعل. قال كعب: إني لأرجو له خيرا، فغضب أبو ذر ورفع العصا
على كعب وقال: " يا بن اليهودية أنت تعلمنا معالم ديننا، وما يدريك ليودن صاحب هذا
المال يوم القيامة لو كانت عقارب تلسع السويداء من قلبه ".
ولما اشتد إنكاره على عثمان نفاه إلى الشام، فواصل النكير على عثمان ومعاوية،
وكان يقول: والله إني لأرى حقا يطمى، وباطلا يحيى، وصادقا مكذبا، وإثرة بغير
تقى، وصالحا مستأثرا عليه.
فكتب معاوية بذلك إلى عثمان فكتب إليه أن احمل أبا ذر على باب صعبة، وقتب
ثم ابعث من ينجش به نجشا عنيفا حتى يدخل به على.
ثم نفاه عثمان إلى الربذة وشيعه عند خروجه إلى الربذة أمير المؤمنين، والحسن،
والحسين عليهم السلام ومات رحمه الله في الربذة سنة " 32 " وصلى عليه ابن مسعود.
خلاصة العلامة ص 36، رجال، الكشي ص 27 تهذيب التهذيب ج 12 ص 90 حلية
الأولياء ج 1 ص 156، صفة الصفوة ج 1 ص 238 وج 1 م رجال المامقاني، رجال
الشيخ الطوسي ص 13 - 36.
225

علي عليه السلام القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم لما قد أوصاه
226

بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحة فتحها فضائح
227

القوم، فوثب عمر وقال: يا علي اردده فلا حاجة لنا فيه، فأخذه عليه السلام وانصرف
ثم أحضروا زيد بن ثابت - وكان قاريا للقرآن - فقال له عمر: إن عليا جاء
بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار، وقد رأينا أن نؤلف القرآن ونسقط منه
ما كان فيه فضيحة وهتك للمهاجرين والأنصار، فأجابه زيد إلى ذلك، ثم قال: فإن
أنا فرغت من القرآن على ما سألتم وأظهر علي القرآن الذي ألفه أليس قد بطل
كل ما عملتم؟ قال عمر: فما الحيلة؟ قال زيد: أنتم أعلم بالحيلة، فقال عمر:
ما حيلته دون أن نقتله ونستريح منه، فدبر في قتله على يد خالد بن الوليد فلم
يقدر على ذلك، وقد مضى شرح ذلك.
فلما استخلف عمر سأل عليا عليه السلام أن يدفع إليهم القرآن فيحرفوه فيما
بينهم، فقال: يا أبا الحسن إن جئت بالقرآن الذي كنت قد جئت به إلى أبي بكر
حتى نجتمع عليه، فقال عليه السلام: هيهات ليس إلى ذلك سبيل، إنما جئت به إلى أبي بكر
لتقوم الحجة عليكم، ولا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا ما
جئتنا به أن القرآن الذي عندي لا يمسه إلا المطهرون والأوصياء من ولدي، قال عمر:
فهل لإظهاره وقت معلوم. فقال عليه السلام: نعم إذا قام القائم من ولدي، يظهره ويجمل
الناس عليه، فتجري السنة به صلوات الله عليه (1).
وقال سليم بن قيس: بينا أنا وحبش بن معمر بمكة إذ قام أبو ذر وأخذ

(1) ذكر المجلسي في بحار الأنوار ج 8 ص 462 بعد نقل هذه الرواية عن
الاحتجاج ما يلي:
أقول روى الصدوق " ره " مختصرا من هذا الاحتجاج عن أبيه وابن الوليد معا
عن سعد عن ابن يزيد عن حماد بن عيسى عن أذينة عن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس
228

بحلقة الباب ثم نادى بأعلا صوته في الموسم: " أيها الناس من عرفني فقد عرفني،
ومن جهلني فأنا جندب بن جنادة، أنا أبو ذر أيها الناس إني قد سمعت نبيكم
يقول: " إن مثل أهل بيتي في أمتي كمثل سفينة نوح في قومه، من ركبها نجى
ومن تركها غرق، ومثل باب حطة في بني إسرائيل " أيها الناس إني سمعت نبيكم
يقول: " إني تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما، كتاب الله
وأهل بيتي إلى آخر الحديث " فلما قدم إلى المدينة بعث إليه عثمان وقال له: " ما
حملك على ما قمت به في الموسم " قال: عهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وأمرني به
فقال من يشهد بذلك، فقام علي والمقداد فشهدا، ثم انصرفوا يمشون ثلاثتهم
فقال عثمان: " إن هذا وصاحبيه يحسبون أنهم في شئ ".
وروي: أن يوما من الأيام قال عثمان بن عفان لعلي بن أبي طالب عليه السلام:
" إن تربصت بي فقد تربصت بمن هو خير مني ومنك " قال علي عليه السلام: ومن هو خير
مني، قال: أبو بكر وعمر. فقال علي عليه السلام: كذبت أنا خير منك ومنهما عبدت
الله قبلكم وعبدته بعدكم.
قال سليم بن قيس: حدثني سلمان والمقداد، وحدثنيه بعد ذلك أبو ذر، ثم
سمعته من علي بن أبي طالب عليه السلام، قالوا: إن رجلا فاخر علي بن أبي طالب عليه السلام
فقال رسول الله لما سمع به لعلي بن أبي طالب: فاخر العرب وأنت أكرمهم ابن
عما، وأكرمهم صهرا، وأكرمهم زوجة، وأكرمهم ولدا، وأكرمهم أخا، وأكرمهم
عما، وأعظمهم حلما، وأكثرهم علما، وأقدمهم سلما، وأعظمهم غنا بنفسك ومالك،
وأقرأهم بكتاب الله، وأعلمهم بسنتي، وأشجعهم لقاء، وأجودهم كفا، وأزهدهم
في الدنيا، وأشدهم اجتهادا، وأحسنهم خلقا، وأصدقهم لسانا، وأحبهم إلى الله
وإلي، وستبقى بعدي ثلاثين سنة تعبد الله وتصبر على ظلم قريش لك، ثم تجاهدهم
في سبيل الله إذا وجدت أعوانا، فتقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت معي على
تنزيله، ثم تقتل شهيدا تخضب لحيتك من دم رأسك، قاتلك يعدل عاقر الناقة في
البغض إلى الله والبعد منه.
229

قال سليم بن قيس: جلست إلى سلمان وأبي ذر والمقداد فجاء رجل من أهل
الكوفة فجلس إليهم مسترشدا، فقال له سلمان: " عليك بكتاب الله فالزمه، وعلي
ابن أبي طالب فإنه مع القرآن لا يفارقه، فأنا أشهد أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول: " إن عليا يدور مع الحق حيث دار، وإن عليا هو الصديق والفاروق يفرق
بين الحق والباطل " قال: فما بال القوم يسمون أبا بكر الصديق وعمر الفاروق
قال: نحلهما الناس اسم غيرهما كما نحلوهما خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله، وإمرة المؤمنين.
لقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وأمرهما معنا فسلمنا جميعا على علي بأمرة المؤمنين.
وروى القاسم بن معاوية (1) قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: هؤلاء يروون
حديثا في معراجهم أنه لما أسري برسول الله رأى على العرش مكتوبا لا إله إلا الله،
محمد رسول الله أبو بكر الصديق، فقال: " سبحان الله غير وأكل شئ حتى هذا "
قلت: نعم. قال: " إن الله عز وجل لما خلق العرش كتب عليه لا إله إلا الله،
محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله عز وجل الماء كتب في مجراه:
لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله عز وجل الكرسي
كتب على قوائمه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله
عز وجل اللوح كتب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما
خلق الله إسرافيل كتب على جبهته: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين
ولما خلق الله جبرئيل كتب على جناحيه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي
أمير المؤمنين، ولما خلق الله عز وجل السماوات كتب في أكتافها: لا إله إلا الله
محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله عز وجل الأرضين كتب في
أطباقها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما خلق الله عز وجل

(1) لم أعثر في كتب الرجال على صاحب هذا الاسم ولعله القاسم بن بريد بن
معاوية العجلي عده الشيخ الطوسي في أصحاب الصادق والكاظم عليهما السلام وفي خلاصة
العلامة: القاسم بن بريد - بالباء المنقطة تحتها نقطة مضمومة - ابن معاوية العجلي ثقة
روى عن أبي عبد الله " ع ".
230

الجبال كتب في رؤسها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين، ولما
خلق الله عز وجل الشمس كتب عليها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين
ولما خلق الله عز وجل القمر كتب عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي
أمير المؤمنين، وهو السواد الذي ترونه في القمر فإذا قال أحدكم لا إله إلا الله، محمد
رسول الله فليقل علي أمير المؤمنين عليه السلام
وعن عبد الله بن الصامت (1) قال: رأيت أبا ذر آخذا بحلقة باب الكعبة مقبلا
بوجهه للناس وهو يقول:
أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فسأنبئه باسمي أنا جندب
ابن السكن بن عبد الله أنا أبو ذر الغفاري أنا رابع أربعة ممن أسلم مع رسول
الله صلى الله عليه وآله سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: وذكر الحديث بطوله إلى قوله، ألا أيتها
الأمة المتحيرة بعد نبيها، لو قدمتم من قدمه الله وأخرتم من أخره الله، وجعلتم
الولاية حيث جعلها الله، لما عال ولي الله، ولما ضاع فرض من فرائض الله، ولا
اختلف اثنان في حكم من أحكام الله، إلا كان علم ذلك عند أهل بيت نبيكم،
فذوقوا وبال ما كسبتم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وروى عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: إن العلم الذي هبط به آدم من الجنة
وما فضلت به النبيون عليهم السلام في عترة نبيكم، فأين يتاه بكم؟
قال سليم بن قيس: سأل رجل علي بن أبي طالب عليه السلام فقال - وأنا أسمع -
أخبرني بأفضل منقبة لك، قال: ما أنزل الله في كتابه؟ قال: وما أنزل لله فيك

(1) عبد الله بن الصامت، ابن أخي أبي ذر عنونه ابن داود في الباب الأول
كذلك، ونسب إلى الشيخ " ره " في رجاله عده من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام
مضيفا إلى ما في العنوان قوله: ممن أقام بالبصرة وكان شيعيا انتهى. ولكني لم أقف على
ذلك في رجال الشيخ " ره "، وعندي نسخ عديدة مصححة، ليس من ذلك في شئ منها
أثر وإنما الموجود فيها: عبادة بن صامت آخر ما نسبه في رجال الشيخ " ره " فهو
سهو من قلمه الشريف. رجال المامقاني ج 2 ص 189
231

قال " أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه (1) " أنا الشاهد من رسول
الله صلى الله عليه وآله وقوله: " ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني
وبينكم ومن عنده علم الكتاب (2) " إياي عنى بمن عنده علم الكتاب فلم يدع
شيئا أنزله الله فيه إلا ذكره، مثل قوله: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " وقوله: " أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم (3) " وغير ذلك، قال قلت: فأخبرني بأفضل منقبة

(1) هود: 17
الحمويني في فرائد السمطين أخرج بسنده عن ابن عباس وبسنده عن زاده وهما
عن علي كرم الله وجهه قال: إن رسول الله " ص " كان على بينة من ربه وأنا التالي
الشاهد منه. -
أيضا ابن المغازلي أخرج بسنده عن عباد بن عبد الله قال: سمعت عليا كرم الله
وجهه يقول في خطبته - ما نزلت آية من كتاب الله إلا وقد علمت متى أنزلت، فيمن
أنزلت، وما من قريش رجل إلا وقد نزلت فيه آية من كتاب الله عز وجل تسوقه إلى
جنة أو نار قال رجل: يا أمير المؤمنين فما نزلت فيك؟ قال: أما تقرأ " أفمن كان على
بينة من ربه ويتلوه شاهد منه الآية فرسول الله على بينة من ربه وأنا التالي الشاهد منه
ينابيع المودة ص 99
(2) الرعد: 43.
عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال:
سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن هذه الآية: (الذي عنده علم من الكتاب) قال:
(ذاك وزير أخي سليمان بن داود (ع). وسألته عن قول الله عز وجل: (قل كفى
بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) قال: ذاك أخي علي بن أبي طالب.
ينابيع المودة ص 103
(3) النساء: 59.
في ص 114 من ينابيع المودة قال:
في المناقب في تفسير مجاهد: إن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين (ع) حين خلفه
رسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى حين
قال موسى: أخلفني في قومي وأصلح.
232

لك من رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال نصبه إياي يوم غدير خم فقال لي بالولاية بأمر الله
عز وجل. وقوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وسافرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله
ليس له خادم غيري، وكان له لحاف ليس له لحاف غيره، ومعه عائشة وكان
رسول الله ينام بيني وبين عائشة ليس علينا ثلاثتنا لحاف غيره، فإذا قام إلى صلاة
الليل يخط بيده اللحاف من وسطه بيني وبين عائشة حتى يمس اللحاف الفراش الذي
تحتنا، فأخذتني الحمى ليلة فأسهرتني فسهر رسول الله صلى الله عليه وآله لسهري، فبات ليلته
بيني وبين مصلاه يصلي ما قدر له، ثم يأتيني يسألني وينظر إلي فلم يزل ذلك دأبه
حتى أصبح فلما صلى بأصحابه الغداة قال: " اللهم اشف عليا وعافه فإنه، أسهرني
الليلة مما به " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: - بمسمع من أصحابه -: " أبشر يا علي "
قلت: بشرك الله بخير يا رسول الله وجعلني فداك، قال: " إني لم أسأل الله الليلة شيئا
إلا أعطانيه، ولم أسأله لنفسي شيئا إلا سألت لك مثله، وإني دعوت الله عز وجل
أن يؤاخي بيني وبينك ففعل، وسألته أن يجعلك ولي كل مؤمن ومؤمنة ففعل
وسألته أن يجمع عليك أمتي بعدي فأبى علي " فقال رجلان أحدهما لصاحبه:
" أرأيت ما سأل؟ فوالله لصاع من تمر خير مما سأل: ولو كان سأل ربه أن ينزل
عليه ملكا يعينه على عدوه، أو ينزل عليه كنزا ينفقه وأصحابه فإن بهم حاجة
كان خيرا مما سأل، وما دعا عليا قط إلى خير إلا استجاب له.
* * *
احتجاجه (ع) على الناكثين بيعته في خطبة خطبها حين نكثوها.
فقال: إن الله ذا الجلال والإكرام لما خلق الخلق واختار خيرة من خلقه
واصطفى صفوة من عباده، وأرسل رسولا منهم، وأنزل عليه كتابه، وشرع له دينه
233

وفرض فرائضه، فكانت الجملة قول الله عز وجل ذكره حيث أمر فقال: " أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " فهو لنا أهل البيت خاصة دون غيرنا،
فانقلبتم على أعقابكم، وارتددتم ونقضتم الأمر، ونكثتم العهد، ولم تضروا الله
شيئا، وقد أمركم الله أن تردوا الأمر إلى الله وإلى رسوله وإلى أولي الأمر منكم
المستنبطين للعلم، فأقررتم ثم جحدتم، وقد قال الله لكم: " أوفوا بعهدي أوف
بعهدكم وإياي فارهبون (1) " إن أهل الكتاب والحكمة والأيمان آل إبراهيم عليه السلام
بينه الله لهم فحسدوا، فأنزل الله جل ذكره: " أم يحسدون الناس على ما آتاهم
الله من فضله، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (2) "
" فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا (3) " فنحن آل إبراهيم
فقد حسدنا آبائنا، وأول من حسد آدم الذي خلقه الله عز وجل بيده
ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، واصطفاه على
العالمين، فحسده الشيطان فكان من الغاوين، ثم حسد قابيل هابيل فقتله فكان من
الخاسرين، ونوح حسده قومه فقالوا: " ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون
ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون (4) " ولله
الخيرة يختار من يشاء ويختص برحمته من يشاء ويؤتي الحكمة والعلم من
يشاء ثم حسدوا نبينا محمدا صلى الله عليه وآله، ألا ونحن أهل البيت الذين أذهب الله عنهم
الرجس، ونحن المحسودون كما حسد آبائنا، قال الله عز وجل: " إن
أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي (5) " وقال: " وأولوا الأرحام
بعضهم أولى ببعض في كتاب الله (6) " فنحن أولى الناس بإبراهيم، ونحن ورثناه
ونحن أولوا الأرحام الذين ورثنا الكعبة، ونحن آل إبراهيم، أفترغبون عن ملة

(1) البقرة: 40
(2) النساء: 54
(3) النساء: 55
(4) المؤمنون: 33 - 34
(5) آل عمران 68
(6) الأحزاب: 6
234

إبراهيم؟ وقد قال الله تعالى: " ومن تبعني فإنه مني (1) " يا قوم أدعوكم إلى الله
وإلى رسوله، وإلى كتابه، وإلى ولي أمره، وإلى وصيه ووارثه من بعده، فاستجيبوا
لنا، واتبعوا آل إبراهيم، واقتدوا بنا، فإن ذلك لنا آل إبراهيم فرضا واجبا
والأفئدة من الناس تهوي إلينا، وذلك دعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: " فاجعل أفئدة
من الناس تهوي إليهم (2) " فهل نقمتم منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل علينا، ولا
تتفرقوا فتضلوا، والله شهيد عليكم، قد أنذرتكم، ودعوتكم، وأرشدتكم، ثم
أنتم وما تختارون.
* * *
احتجاج أمير المؤمنين (ع) على الزبير بن العوام وطلحة بن عبد الله لما
أزمعا على الخروج عليه والحجة في أنهما خرجا من الدنيا غير تائبين من نكث
البيعة.
روي عن ابن عباس رحمه الله أنه قال: كنت قاعدا عند علي عليه السلام حين دخل
عليه طلحة والزبير فاستأذناه في العمرة فأبى أن يأذن لهما، وقال: قد اعتمرتما
فأعادا عليه الكلام فأذن لهما، ثم التفت إلي فقال: والله ما يريدان العمرة، وإنما
يريدان الغدرة قلت له فلا تأذن لهما فردهما، ثم قال لهما: والله ما تريدان العمرة
وما تريدان إلا نكثا لبيعتكما، وفرقة لأمتكما، فحلفا له فأذن لهما، ثم التفت إلي
فقال: والله ما يريدان العمرة قلت: فلم أذنت لهما؟ قال، حلفا لي بالله، قال:
فخرجا إلى مكة فدخلا على عائشة فلم يزالا بها حتى أخرجاها.
وروي أنه عليه السلام قال عند توجههما إلى مكة للاجتماع مع عايشة للتأليب
عليه بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه:
أما بعد فإن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وآله للناس كافة، وجعله رحمة للعالمين

(1) إبراهيم: 36
(2) إبراهيم: 37
235

فصدع بما أمر به (1) وبلغ رسالات ربه، فلم به الصدع (2) ورتق به الفتق (3)
وأمن به السبل (4) وحقن به الدماء (5) وألف بين ذوي الأحن (6) والعداوة
والوغر في الصدور، والضغائن الراسخة في القلوب، ثم قبضه الله إليه حميدا لم
يقصر في الغاية التي إليها أدى الرسالة، ولا بلغ شيئا كان في التقصير عنه عند الفقد
وكان من بعده ما كان من التنازع في الأمرة، وتولى أبو بكر، وبعده عمر، ثم
عثمان، فلما كان من أمره ما كان أتيتموني فقلتم: " بايعنا " فقلت: " لا أفعل "
فقلتم: " بلى " فقلت: " لا " وقبضت يدي فبسطتموها، ونازعتكم فجذبتموها،
وتداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتى ظننت أنكم قاتلي
وأن بعضكم قاتل بعض، فبسطت يدي فبايعتموني مختارين، وبايعني في أولكم
طلحة والزبير طائعين غير مكرهين، ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة، والله يعلم
أنهما أرادا الغدرة، فجددت عليهما العهد في الطاعة، وأن لا يبغيا للأمة الغوائل،
فعاهداني، ثم لم يفيا لي، ونكثا بيعتي، ونقضا عهدي، فعجبا من انقيادهما لأبي بكر
وعمر، وخلافهما لي ولست بدون أحد الرجلين، ولو شئت أن أقول لقلت:
" اللهم اغضب عليهما بما صنعا وظفرني بهما ".
وقال: عليه السلام في أثناء كلام آخر.
وهذا طلحة والزبير ليسا من أهل النبوة، ولا من ذرية الرسول، حين رأيا
أن قد رد علينا حقنا، بعد أعصر فلم يصبرا حولا كاملا، ولا شهرا كاملا، حتى
وثبا علي، دأب الماضين قبلهما، ليذهبا بحقي ويفرقا جماعة المسلمين عني، ثم
دعا عليهما.

(1) صدع بالأمر: أبانه وأظهره
(2) الصدع: الكسر.
(3) الرتق: ضد الفتق وهو: الالتيام.
(4) السبل: الطرق.
(5) حقنت دمه: خلاف هدرته، كأنك جمعته في صاحبه.
(6) الأحن: الضغائن.
236

وعن سليم بن قيس الهلالي قال: لما التقى أمير المؤمنين عليه السلام أهل البصرة يوم
الجمل. نادى الزبير يا أبا عبد الله أخرج إلي: فخرج الزبير ومعه طلحة. فقال لهما
والله إنكما لتعلمان وأولوا العلم من آل محمد وعائشة بنت أبي بكر: أن كل أصحاب
الجمل ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله، وقد خاب من افترى.
قالا كيف نكون ملعونين ونحن أصحاب بدر وأهل الجنة؟!
فقال عليه السلام: لو علمت أنكم من أهل الجنة لما استحللت قتالكم، فقال له
الزبير: أما سمعت حديث سعيد بن عمرو بن نفيل وهو يروي: أنه سمع من رسول
الله صلى الله عليه وآله يقول: " عشرة من قريش في الجنة "؟ قال علي عليه السلام: سمعته يحدث
بذلك عثمان في خلافته، فقال الزبير أفترا كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال له
علي عليه السلام: " لست أخبرك بشئ حتى تسميهم " قال الزبير: أبو بكر، وعمر،
وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو
عبيدة بن الجراح، وسعيد بن عمرو بن نفيل. فقال له علي عليه السلام: " عددت تسعة
فمن العاشر؟ " قال له: أنت قال علي عليه السلام: قد أقررت أني من أهل الجنة، وأما
ما ادعيت لنفسك وأصحابك فإنا به من الجاحدين الكافرين، قال له، أفتراه
كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال عليه السلام: ما أراه كذب، ولكنه والله اليقين. فقال
علي عليه السلام: والله إن بعض من سميته لفي تابوت في شعب في جب في أسفل درك من
جهنم، على ذلك الجب صخرة إذا أراد الله أن يسعر جهنم رفع تلك الصخرة،
سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وإلا أظفرك الله بي وسفك دمي على يديك، وإلا أظفرني
الله عليك وعلى أصحابك وسفك دمائكم على يدي وعجل أرواحكم إلى النار، فرجع
الزبير إلى أصحابه وهو يبكي.
وروي نصر بن مزاحم (1) أن أمير المؤمنين عليه السلام حين وقع القتال وقتل
طلحة، تقدم على بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله الشهباء بين الصفين، فدعا الزبير فدنى إليه حتى

(1) نصر بن مزاحم المنقري العطار، أبو الفضل كوفي مستقيم الطريقة صالح
الأمر، غير أنه يروي عن الضعفاء، كتبه حسان كما في خلاصة العلامة
237

اختلف أعناق دابتيهما، فقال: يا زبير أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول
إنك ستقاتل عليا وأنت له ظالم؟ قال: نعم. قال: فلم جئت؟ قال: جئت لأصلح
بين الناس فأدبر الزبير وهو يقول:
ترك الأمور التي تخشى عواقبها * لله أجمل في الدنيا وفي الدين
أتى علي بأمر كنت أعرفه * قد كان عمر أبيك الخير مذحين
فقلت حسبك من عذل أبا حسن * بعض الذي قلت هذا اليوم يكفيني
فاخترت عارا على نار مؤججة * أنى يقوم لها خلق من الطين
نبئت طلحة وسط النقع منجدلا * مأوى الضيوف ومأوى كل مسكين
قد كنت أنصر أحيانا وينصرني * في النائبات ويرمي من يراميني
حتى ابتلينا بأمر ضاق مصدره * فأصبح اليوم ما يعنيه يعنيني
قال: وأقبل الزبير على عائشة، فقال: يا أمه ما لي في هذا بصيرة، وإني
منصرف. فقالت عائشة: يا أبا عبد الله أفررت من سيوف ابن أبي طالب؟ فقال،
إنها والله طوال حداد، تحملها فتية أنجاد (1)، ثم خرج راجعا فمر بوادي
السباع وفيه الأحنف بن قيس قد اعتزل من بني تميم، أخبر الأحنف بانصرافه
فقال: ما أصنع به إن كان الزبير ألقى بين غارتين من المسلمين وقتل أحدهما
بالآخر ثم هو يريد اللحاق بأهله. فسمعه ابن جرموز فخرج هو ورجلان معه
- وقد كان لحق بالزبير رجل من كليب ومعه غلامه - فلما أشرف ابن جرموز
وصاحباه على الزبير، فحرك الرجلان رواحلهما، وخلفا الزبير وحده، فقال لهما
الزبير: ما لكما هم ثلاثة ونحن ثلاثة، فلما أقبل ابن جرموز قال له الزبير: إليك
عني فقال ابن جرموز: يا أبا عبد الله إني جئتك لأسألك عن أمور الناس. قال:
تركت الناس يضرب بعضهم وجوه بعضهم بالسيف. قال ابن جرموز: أخبرني عن
أشياء أسألك عنها. قال: هات قال: أخبرني عن خذلك عثمان، وعن بيعتك عليا
وعن نقضك بيعته، وعن إخراجك عائشة، وعن صلاتك خلف ابنك، وعن هذا

(1) أنجاد: أشداء شجعان.
238

الحرب التي جنيتها، وعن لحوقك بأهلك. فقال: أما خذلي عثمان فأمر قدم الله
فيه الخطية، وأخر فيه التوبة، وأما بيعتي عليا، فلم أجد منها بدا، إذ بايعه
المهاجرون والأنصار. وأما نقضي بيعته، فإنما بايعته بيدي دون قلبي. وأما
إخراجي أم المؤمنين، فأردنا أمرا وأراد الله أمرا غيره. وأما صلاتي خلف ابني
فإن خالته قدمته فتنحى ابن جرموز عنه. وقال: قتلني الله إن لم أقتلك.
وروي أنه جيئ إلى أمير المؤمنين برأس الزبير وسيفه، فتناول سيفه وقال:
طالما والله جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله ولكن الحين، ومصارع السوء
وروي أنه عليه السلام لما مر على طلحة من بين القتلى قال اقعدوه فأقعد فقال: إنه كانت
لك سابقة من رسول الله، لكن الشيطان دخل في منخريك فأوردك النار.
وروي أنه مر عليه فقال: هذا ناكث بيعتي، والمنشئ للفتنة في الأمة
والمجلب علي الداعي إلى قتلي وقتل عترتي، أجلسوا طلحة: فأجلس. فقال أمير
المؤمنين: يا طلحة بن عبيد الله قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل وجدت ما
وعدك ربك حقا؟ ثم قال: أضجعوا طلحة! وسار فقال له بعض من كان معه:
يا أمير المؤمنين أتكلم طلحة بعد قتله؟ فقال أما والله سمع كلامي كما سمع أهل القليب
كلام رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر. وهكذا فعل عليه السلام بكعب بن شور القاضي، لما
مر به قتيلا، وقال: هذا الذي خرج علينا في عنقه مصحف، يزعم أنه ناصر أمه (1)
يدعو الناس إلى ما فيه، وهو لا يعلم ما فيه، ثم استفتح وخاب كل جبار عنيد أما
إنه دعا الله أن يقتلني فقتله الله.
وروي أن مروان بن الحكم هو الذي قتل طلحة بسهم رماه به.
وروي أيضا أن مروان بن الحكم يوم الجمل كان يرمي بسهامه في العسكرين
معا، ويقول: من أصبت منهما فهو فتح، لقلة دينه، وتهمته للجميع، وقيل: إن
اسم الجمل الذي ركبته يوم الجمل عائشة " عسكر " من ولد إبليس اللعين ورؤي
منه ذلك اليوم كل عجيب، لأنه كلما أبتر منه قائمة من قوائمه ثبت على أخرى

(1) أي ناصر عائشة.
239

حتى نادى أمير المؤمنين عليه السلام: اقتلوا الجمل فإنه شيطان، وتولى محمد بن أبي بكر
وعمار بن ياسر رحمة الله عليهما عقره بعد طول دمائه.
وروى الواقدي (1) إن عمار بن ياسر رحمة الله عليه، لما دخل على عائشة
فقال كيف رأيت ضرب نبيك على الحق؟ فقالت: استبصرت من أجل أنك غلبت
فقال عمار: أنا أشد استبصارا من ذلك. والله لو ضربتمونا حتى تبلغونا سعيفات
هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنكم على الباطل. فقالت عائشة: هكذا يخيل إليك
يا عمار. أذهبت دينك لابن أبي طالب.
وروي عن الباقر عليه السلام أنه قال: لما كان يوم الجمل وقد رشق هودج عائشة
بالنبل قال أمير المؤمنين عليه السلام: والله ما أراني إلا مطلقها فأنشد الله رجلا سمع
من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي " لما قام فشهد؟
فقال: فقام ثلاثة عشر رجلا فيهم بدريان فشهدوا: أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول علي بن أبي طالب عليه السلام: " يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي " قال: فبكت
عائشة عند ذلك حتى سمعوا بكاءها فقال علي عليه السلام: لقد أنبأني رسول الله صلى الله عليه وآله
بنبأ فقال: إن الله تعالى يمدك يا علي يوم الجمل بخمسة آلاف من الملائكة
مسومين.

(1) أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد المدني كان إماما عالما له التصانيف، والمغازي
وفتوح الأمصار، وله كتاب الردة وغير ذلك. تولى القضاء بشرقي بغداد وولاه المأمون
القضاء بعسكر المهدي، وهي المحلة المعروفة بالرصافة بالجانب الشرقي من بغداد عمرها
المنصور لولده المهدي فنسب إليه. -
قال ابن النديم: إن الواقدي كان يتشيع، حسن المذهب، يلزم التقية وهو الذي
روى: أن عليا " ع " كان من معجزات النبي " ص " كالعصا لموسى " ع " وإحياء
الموتى لعيسى بن مريم. -
ولد سنة " 130 " وتوفي سنة " 207 " وصلى عليه محمد بن سماعة، ودفن بمقابر خيزران
عن الكنى والألقاب للقمي ج 3 ص 230 - 233
240

وروي عن ابن عباس (1) قال لأمير المؤمنين عليه السلام حين أبت عائشة الرجوع
دعها في البصرة ولا ترحلها فقال علي عليه السلام: أنها لا تألوا شرا، ولكني أردها
إلى بيتها.
وروى محمد بن إسحاق (2) أن عائشة لما وصلت إلى المدينة راجعة من البصرة
لم تزل تحرض الناس على أمير المؤمنين، وكتبت إلى معاوية وأهل الشام، مع
الأسود بن البختري، تحرضهم عليه عليه السلام.
وروي أن عمرو بن العاص قال لعائشة: لوددت أنك قتلت يوم الجمل فقالت
ولم لا أبا لك؟ قال: كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجنة، ونجعلك أكثر للتشنيع
على علي عليه السلام.
* * *
احتجاج أم سلمة (رض) (3) زوجة رسول الله على عائشة في الإنكار
عليها بخروجها على علي أمير المؤمنين (ع).

(1) عبد الله بن العباس من أصحاب رسول الله " ص " كان محبا لعلي " ع "
وتلميذه، حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين " ع " أشهر من أن يخفى، وقد ذكر
الكشي أحاديث تتضمن قدحا فيه، وهو أجل من ذلك، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير
وأجبنا عليها رضي الله تعالى عنه. خلاصة العلامة ص 102
(2) محمد بن إسحاق أخو يزيد شعر - بالشين المعجمة والعين المهملة والراء -
روى الكشي عن حمدويه عن الحسن بن موسى قال: حدثني يزيد بن إسحاق شعر:
أن محمدا أخاه كان يقول بحياة الكاظم " ع " فدعا له الرضا عليه السلام حتى قال بالحق
خلاصة العلامة ص 151
(3) أم المؤمنين أم سلمة: بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله عمر بن مخزوم
القرشية المخزومية، وأمها عاتكة بنت عبد المطلب زوج النبي " ص " واسمها هند، وكان
أبوها يعرف بزاد الركب، من المهاجرات إلى الحبشة، وإلى المدينة.
وكانت مستودعة لبعض الوصايا وميراث النبوة وكان عندها البساط الذي سار به
أمير المؤمنين إلى أصحاب الكهف. ولما سار أمير المؤمنين " ع " إلى الكوفة أستودعها
كتبه والوصية، فلما رجع الحسن " ع " دفعتها إليه. ولما توجه الحسين " ع " إلى العراق
أستودعها كتبه والوصية وأوصاها أن تدفعها إلى علي بن الحسين ففعلت.
وفي الدر النظيم للشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي قال بعد خطبة لفاطمة " ع "
وكلام أبي بكر فقالت أم سلمة رضي الله عنها، حيث سمعت ما جرى لفاطمة " ع " المثل
فاطمة بنت رسول الله " ص " يقال هذا القول؟!
هي والله الحوراء بين الإنس، والنفس للنفس، ربيت في حجور الأتقياء،
وتناولتها أيدي الملائكة، ونمت في حجور الطاهرات، ونشأت خير نشأ، وربيت خير
مربى، أتزعمون أن رسول الله " ص " حرم عليها ميراثه ولم يعلمها، وقد قال الله تعالى
" وانذر عشيرتك الأقربين " أفأنذرها وخالفت متطلبه وهي خيرة النسوان، وأم سادة
الشبان، وعديلة ابنة عمران، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان يشفق عليها من
الحر والقر، ويوسدها يمينه، ويلحفها بشماله، رويدا ورسول الله " ص " بمرأى
منكم! وعلى الله تردون واها لكم فسوف تعلمون! قال: فحرمت أم سلمة عطاها
تلك السنة.
نعم وفي بيتها نزلت آية التطهير.
وهي آخر من مات من نساء النبي " ص " ماتت في زمن يزيد سنة " 63 "
راجع أسد الغابة ج 5 ص 588 سفينة البحار ج 1 ص 642 - 643.
241

روى الشعبي (1) عن عبد الرحمن بن مسعود العبدي (2) قال كنت بمكة
مع عبد الله بن الزبير وطلحة والزبير فأرسلا عبد الله بن الزبير فقالا له: إن عثمان

(1) الشعبي - بفتح الأول وسكون الثاني - أبو عمر عامر بن شراحيل الكوفي،
ينسب إلى شعب بطن من همدان. يعد من كبار التابعين وجلتهم، وكان فقيها شاعرا.
روى عن خمسين ومائة من أصحاب رسول الله " ص " كذا عن السمعاني. مات فجأة
بالكوفة سنة 104 ويظهر من ابن خلكان أن الشعبي كان قاضيا على الكوفة.
الكنى والألقاب ج 2 ص 327 - 328
(2) صحابي مجهول.
242

قتل مظلوما، وإنا نخاف أمر أمة محمد صلى الله عليه وآله أن يختل، فإن رأت عائشة أن تخرج
معنا لعل الله أن يرتق بها فتقا ويشعب بها صدعا.
فخرجنا نمشي حتى انتهينا إليها فدخل عبد الله بن الزبير في سترها وجلست
على الباب فأبلغها ما أرسلا به إليها فقالت: سبحان الله ما أمرت بالخروج، وما
تحضرني من أمهات المؤمنين إلا أم سلمة فإن خرجت، خرجت معها.
فرجع إليهما فبلغهما ذلك فقالا: ارجع إليها فلتأتها فهي أثقل عليها منا،
فرجع إليها فبلغها، فأقبلت حتى دخلت على أم سلمة فقالت: أم سلمة مرحبا
بعائشة، والله ما كنت لي بزوارة فما بدا لك؟ قالت: قدم طلحة والزبير فخبرا أن
أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوما. فصرخت أم سلمة صرخة أسمعت من في الدار
فقالت يا عائشة بالأمس أنت تشهدين عليه بالكفر، وهو اليوم أمير المؤمنين قتل
مظلوما! فما تريدين؟ قالت: تخرجين معنا فعل الله أن يصلح بخروجنا أمر
أمة محمد صلى الله عليه وآله قالت: يا عائشة تخرجين وقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله ما سمعنا؟!
نشدتك بالله يا عائشة الذي يعلم صدقك إن صدقت أتذكرين يوما كان
نوبتك من رسول الله صلى الله عليه وآله، فصنعت حريرة في بيتي فأتيته بها وهو صلى الله عليه وآله يقول:
والله لا يذهب الليالي والأيام حتى تتنابح كلاب ماء بالعراق يقال له: " الحوأب "
امرأة من نسائي في فئة باغية، فسقط الإناء من يدي، فرفع رأسه إلي وقال: ما
بالك يا أم سلمة؟ فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله ألا يسقط الإناء من يدي وأنت تقول
ما تقول ما يؤمنني أن أكون هي أنا؟! فضحكت أنت فالتفت إليك فقال صلى الله عليه وآله مما
تضحكين يا حميراء الساقين؟ إني أحسبك هيه.
ونشدتك بالله يا عائشة أتذكرين ليلة أسري بنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله من
مكان كذا وكذا وهو بيني وبين علي بن أبي طالب عليه السلام يحدثنا، فأدخلت جملك
فحال بينه وبين علي فرفع مقرعة كانت معه يضرب بها وجه جملك قال: أما والله
ما يومه منك بواحدة، أما إنه لا يبغضه إلا منافق كذاب؟ وأنشدك بالله أتذكرين
مرض رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قبض فيه فأتاه أبوك يعوده ومعه عمر. وقد كان علي
243

ابن أبي طالب عليه السلام يتعاهد ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله ونعله وخفه ويصلح ما وهي منها
فدخل قبل ذلك فأخذ نعل رسول الله وهي حضرمية فهو يخصفها خلف البيت،
فاستأذنا عليه فأذن لهما، فقالا: يا رسول الله كيف أصبحت؟ قال أصبحت أحمد
الله، قالا: لا بد من الموت، قال: أجل لا بد من الموت، قالا: يا رسول الله فهل
استخلفت أحدا قال: ما خليفتي فيكم إلا خاصف النعل فخرجا فمرا على علي بن
أبي طالب عليه السلام وهو يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله، كل ذلك تعرفينه يا عائشة
وتشهدين عليه، ثم قالت أم سلمة يا عائشة أنا أخرج على علي بعد الذي سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وآله؟! فرجعت عائشة إلى منزلها فقالت يا بن الزبير أبلغهما أني لست
بخارجة من بعد الذي سمعت من أم سلمة، فرجع فبلغهما قال: فما انتصف الليل
حتى سمعت رغاء إبلهما ترتحل فارتحلت معهما.
وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال دخلت أم سلمة بنت أبي أمية على عائشة لما
أزمعت الخروج إلى البصرة فحمدت الله وصلت على النبي صلى الله عليه وآله ثم قالت: يا هذه إنك
سدة بين رسول الله وبين أمته، وحجابه عليك مضروب وعلى حرمته، وقد جمع
القرآن ذيلك فلا تندحيه (1) وضم ظفرك فلا تنشريه، وشد عقيرتك فلا تصحريها (2)
إن الله من وراء هذه الأمة وقد علم رسول الله مكانك لو أراد أن يعهد إليك فعل
بل نهى عن الفرطة في البلاد (3) إن عمود الدين لن يثاب بالنساء إن مال (4)
ولا يرأب بهن إن انصدع (5)، جمال النساء غض الأطراف، وضم الذيول والأعطاف
وما كنت قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه وآله عارضك في بعض هذه الفلوات وأنت ناصة
قعودا من منهل إلى منهل، ومنزل إلى منزل، ولغير الله مهواك، وعلى رسول الله

(1) أي لا توسعيه وتنشريه.
(2) العقيرة: الصوت. وصحر الحمار: نهق.
(3) الفرطة: بالضم الخروج والتقدم يقال: (فلان ذو فرطة في البلاد) أي
أسفار كثيرة.
(4) ثاب: رجع بعد ذهابه.
(5) رأب الصدع: أصلحه.
244

تردين، وقد هتكت عنك سجافه، ونكثت عهده، وبالله أحلف أن لو سرت مسيرك
ثم قيل لي ادخلي الفردوس لاستحييت من رسول الله أن ألقاه هاتكة حجابا ضربه
علي فاتقي الله، واجعليه حصنا، وقاعة الستر منزلا، حتى تلقيه. إن أطوع ما
تكونين لربك ما قصرت عنه، وأنصح ما تكونين لله ما لزمته، وأنصر ما تكونين
للدين ما قعدت عنه، وبالله أحلف لو حدثتك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله
لنهشتني نهش الرقشاء المطرقة (1). فقالت لها عائشة ما أعرفني بموعظتك،
وأقبلني نصحك، ليس مسيري على ما تظنين، ما أنا بالمغترة، ولنعم المطلع
تطلعت فيه، فرقت بين فئتين متشاجرتين، فإن أقعد ففي غير حرج، وإن أخرج
ففي ما لا غنى بي عنه من الازدياد في الأجرة، قال الصادق عليه السلام فلما كان من
ندمها أخذت أم سلمة تقول:
لو كان معتصما من زلة أحد * كانت لعائشة الرتبى على الناس
من زوجة لرسول الله فاضلة * وذكر آي من القرآن مدراس
وحكمة لم تكن إلا لها جسها * في الصدر يذهب عنها كل وسواس
يستنزع الله من قوم عقولهم * حتى يمر الذي يقضي على الرأس
ويرحم الله أم المؤمنين لقد * تبدلت لي إيحاشا بإيناس
فقالت لها عائشة: شتمتني يا أخت. فقالت أم سلمة: ولكن الفتنة إذا
أقبلت غضت عيني البصير، وإذا أدبرت أبصرها العاقل والجاهل.
* * *

(1) الرقشاء: من الحياة المنقطة بسواد وبياض. وفي المثل " نهشني نهش
الرقشاء المطرق ".
245

احتجاج أمير المؤمنين (ع) بعد دخوله البصرة بأيام على من قال من
أصحابه إنه ما قسم الفيئ فينا بالسوية ولا عدل في الرعية وغير ذلك من
المسائل التي سئل عنها في خطبة خطبها.
روى يحيى بن (1) عبد الله بن الحسن عن أبيه عبد الله بن الحسن قال
كان أمير المؤمنين عليه السلام يخطب بالبصرة بعد دخوله بأيام فقام إليه رجل فقال:
يا أمير المؤمنين أخبرني من أهل الجماعة، ومن أهل الفرقة، ومن أهل البدعة
ومن أهل السنة؟
فقال: ويحك أما إذا سألتني فافهم عني ولا عليك أن تسئل عنها أحدا بعدي
أما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلوا، وذلك الحق عن أمر الله تعالى وعن
أمر رسوله، وأهل الفرقة المخالفون لي ولمن اتبعني وإن كثروا، وأما أهل السنة
فالمتمسكون بما سنه الله لهم ورسوله وإن قلوا، وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر
الله ولكتابه ولرسوله، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا، وقد مضى منهم
الفوج الأول وبقيت أفواج، وعلى الله قبضها واستيصالها عن جدد الأرض.
فقام إليه عمار فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس يذكرون الفيئ ويزعمون
أن من قاتلنا فهو وماله وولده فيئ لنا.
فقام إليه رجل من بكر بن وائل، يدعى عباد بن قيس، وكان ذا عارضة
ولسان شديد. فقال: يا أمير المؤمنين والله ما قسمت بالسوية، ولا عدلت بالرعية.
فقال: ولم ويحك؟!
قال لأنك قسمت ما في العسكر وتركت الأموال والنساء والذرية.
فقال: أيها الناس من كانت به جراحة فليداوها بالسمن.
فقال عباد: جئنا نطلب غنائمنا فجاءنا بالترهات فقال له أمير المؤمنين عليه السلام
إن كنت كاذبا فلا أماتك الله حتى يدركك غلام ثقيف، قيل: ومن غلام ثقيف؟

(1) راجع هامش ص 154.
246

فقال: رجل لا يدع لله حرمة إلا انتهكها فقيل أفيموت أو يقتل؟ فقال: يقصمه
قاصم الجبارين بموت فاحش يحترق منه دبره لكثرة ما يجري من بطنه، يا أخا
بكر أنت امرء ضعيف الرأي، أو ما علمت أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير، وأن
الأموال كانت لهم قبل الفرقة، وتزوجوا على رشدة، وولدوا على فطرة، وإنما
لكم ما حوى عسكركم، وما كان في دورهم فهو ميراث. فإن عدا أحد منهم أخذناه
بذنبه، وإن كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره، يا أخا بكر لقد حكمت فيهم بحكم
رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل مكة، فقسم ما حوى العسكر، ولم يتعرض لما سوى ذلك
وإنما اتبعت أثره حذو النعل بالنعل، يا أخا بكر أما علمت أن دار الحرب يحل
ما فيها، وأن دار الهجرة يحرم ما فيها إلا بالحق، فمهلا مهلا رحمكم الله فإن لم
تصدقوني وأكثرتم علي - وذلك إنه تكلم في هذا غير واحد - فأيكم يأخذ عائشة
بسهمه؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين أصبت وأخطأنا، وعلمت وجهلنا، فنحن نستغفر
الله تعالى، ونادى الناس من كل جانب: أصبت يا أمير المؤمنين، أصاب الله بك
الرشاد، والسداد، فقام عباد فقال:
أيها الناس إنكم والله لو اتبعتموه وأطعتموه لن يضل بكم عن منهل نبيكم
حتى قيس شعرة، وكيف لا يكون ذلك وقد استودعه رسول الله صلى الله عليه وآله علم المنايا
والقضايا وفصل الخطاب على منهاج هارون وقال له: أنت مني بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه لا نبي بعدي فضلا خصه الله به وإكراما منه لنبيه صلى الله عليه وآله حيث أعطاه
ما لم يعط أحدا من خلقه.
ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام: انظروا رحمكم الله ما تؤمرون فامضوا له، فإن
العالم أعلم بما يأتي به من الجاهل الخسيس الأخس، فإني حاملكم إنشاء الله إن أطعتموني
على سبيل النجاة، وإن كان فيه مشقة شديدة، ومرارة عديدة. والدنيا حلوة
الحلاوة لمن اغتر بها من الشقاوة والندامة عما قليل. ثم إني أخبركم أن جيلا من
بني إسرائيل أمرهم نبيهم أن لا يشربوا من النهر فلجوا في ترك أمره فشربوا منه
إلا قليل منهم، فكونوا رحمكم الله من أولئك الذين أطاعوا نبيهم ولم يعصوا ربهم
247

وأما عائشة فأدركها رأي النساء، ولها بعد ذلك حرمتها الأولى والحساب على الله
يعفو عمن يشاء، ويعذب من يشاء.
عن الأصبغ بن نباتة (1) قال: كنت واقفا مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم
الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال يا أمير المؤمنين كبر القوم وكبرنا،
وهلل القوم وهللنا، وصلى القوم وصلينا، فعلى ما تقاتلهم؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام
على ما أنزل الله جل ذكره في كتابه. فقال: يا أمير المؤمنين ليس كل ما أنزل
الله في كتابه أعلمه فعلمنيه. فقال علي عليه السلام: ما أنزل الله في سورة البقرة. فقال
يا أمير المؤمنين ليس كل ما أنزل الله في سورة البقرة أعلمه فعلمنيه. فقال علي عليه السلام

(1) الأصبغ بن نباتة - بضم النون - المجاشعي الحنظلي كان من خاصة أمير المؤمنين
ومن ذخائره وقد بايعه على الموت.
وكان من ثقاته " ع " روى أنه دعا يوما كاتبه عبيد الله بن أبي رافع فقال، أدخل
عشرة من ثقاتي! فقال: سمهم يا أمير المؤمنين فسماه في أولهم
وكان رحمه الله من فرسان أهل العراق، وكان يوم صفين على شرطة الخميس،
وقال لأمير المؤمنين " ع ": قدمني في البقية من الناس فإنك لا تفقد لي اليوم صبرا
ولا نصرا، قال عليه السلام: " تقدم باسم الله والبركة " وأخذ رايته وسيفه، فمضى
بالراية مرتجزا فرجع وقد خضب سيفه ورمحه دما، وكان إذا لقى القوم لا يغمد سيفه
وكان شيخا ناسكا عابدا، قال: كنت أركع عند باب أمير المؤمنين " ع " وأنا
أدعو الله عز وجل إذ خرج أمير المؤمنين " ع " فقال: " يا أصبغ! " قلت: " لبيك "
قال: " أي شئ كنت تصنع؟ " قلت: " ركعت وأنا أدعو الله " قال: " أفلا أعلمك
دعاءا سمعته من رسول الله " ص "؟ " قلت بلى. قال: قل: " الحمد لله على ما كان والحمد
لله على كل حال " ثم ضرب بيده اليمنى على منكبي الأيسر وقال: " يا أصبغ لئن ثبتت
قدمك، وتمت ولايتك، وانبسطت يدك، فالله أرحم بك من نفسك
روى عن أمير المؤمنين عليه السلام عهده للأشتر ووصيته لمحمد بن الحنفية، وعمر بعد
أمير المؤمنين عليه السلام ومات مشكورا.
رجال الطوسي ص 34، رجال العلامة ص 24، سفينة البحار ج 2 ص 7، 8، 10
248

هذه الآية: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم
درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل
الذين من بعدهم من بعدما جائتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم
من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (1) " فنحن الذين آمنا
وهم الذين كفروا. فقال الرجل: كفر القوم ورب الكعبة. ثم حمل فقاتل حتى
قتل رحمه الله.
عن المبارك بن فضالة عن رجل ذكره قال أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام
بعد الجمل، فقال: يا أمير المؤمنين رأيت في هذه الواقعة أمرا هالني من روح قد
بانت وجثة قد زالت، ونفس قد فأتت، لا أعرف فيهم مشركا بالله تعالى، فالله
الله مما يجللني من هذا إن يك شرا فهذا نتلقى بالتوبة، وإن يك خيرا ازددنا منه
أخبرني عن أمرك هذا الذي أنت عليه، أفتنة عرضت لك فأنت تنفع الناس بسيفك (2)
أم شئ خصك به رسول الله؟.
فقال عليه السلام: إذن أخبرك، إذن أنبئك، إذن أحدثك، إن ناسا من المشركين
أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وأسلموا، ثم قالوا لأبي بكر: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وآله
حتى نأتي قومنا فنأخذ أموالنا ثم نرجع. فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وآله
فاستأذن لهم، فقال، عمر: يا رسول الله أنرجع من الإسلام إلى الكفر؟ فقال: وما
علمك يا عمران ينطلقوا فيأتوا بمثلهم معهم من قومهم، ثم إنهم أتوا أبا بكر في العام
المقبل فسألوه أن يستأذن لهم على النبي فاستأذن لهم، وعنده عمر فقال: مثل قوله
فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: والله ما أراكم تنتهون حتى يبعث الله عليكم رجلا
من قريش يدعوكم إلى الله فتختلفون عنه اختلاف الغنم الشرود، فقال له أبو بكر
فداك أبي وأمي يا رسول الله أنا هو؟ قال: لا. قال عمر: فمن هو يا رسول الله؟ فأومى
إلي وأنا أخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: " هو خاصف النعل عندكما، ابن

(1) البقرة: 253.
(2) أي تأخذهم بطرف سيفك من بعيد.
249

عمي، وأخي، وصاحبي، ومبرئ ذمتي، والمؤدي عني ديني، وعداتي، والمبلغ عني
رسالاتي، ومعلم الناس من بعدي، ومبينهم من تأويل القرآن ما لا يعلمون " فقال
الرجل: اكتفي منك بهذا يا أمير المؤمنين ما بقيت. فكان ذلك الرجل أشد أصحاب
علي عليه السلام فيما بعد على من خالفه.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال لما فرغ علي عليه السلام من قتال أهل البصرة
وضع قتبا على قتب (1) ثم صعد عليه فخطب، فحمد الله وأثنى عليه فقال:
يا أهل البصرة، يا أهل المؤتفكة (2) يا أهل الداء العضال (3)، أتباع
البهيمة (4)، يا جند المرأة (5) رغا فأجبتم (6) وعقر فهربتم، ماءكم زعاق (7)
ودينكم نفاق، وأخلاقكم دقاق. ثم نزل يمشي بعد فراغه من خطبته فمشينا معه
فمر بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال: يا حسن أسبغ الوضوء. فقال: يا أمير المؤمنين
لقد قتلت بالأمس أناسا يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده
ورسوله، يصلون الخمس، ويسبغون الوضوء. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قد كان
ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا. فقال: والله لأصدقنك يا أمير المؤمنين لقد
خرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت علي سلاحي وأنا لا أشك في أن
التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر، فلما انتهيت إلى موضع من الخريبة
ناداني مناد: " يا حسن إلى أين أرجع فإن القاتل والمقتول في النار " فرجعت ذعرا

(1) القتب - بالتحريك - رحل البعير.
(2) المؤتفكة: المنقلبة قال تعالى - في قرى قوم لوط التي انقلبت بأهلها -:
والمؤتفكة أهوى، وفي الحديث البصرة إحدى المؤتفكات.
(3) الداء العضال - بعين مضمومة -: المرض الصعب الشديد الذي يعجز عنه
الطبيب.
(4) يريد: الجمل الذي ركبته عائشة.
(5) يريد: عائشة.
(6) رغا فأجبتم أي الجمل رغا والرغاء - كغراب -: صوت ذوات الخف وقد
رغا البعير يرغو رغاءا إذا ضج ورغت الناقة صوتت فهي راغية.
(7) الزعاق - كغراب -: الماء المر الغليظ الذي لا يطاق شربه.
250

وجلست في بيتي، فلما كان في اليوم الثاني لم أشك أن التخلف عن أم المؤمنين
عائشة هو الكفر، فتحنطت، وصببت علي سلاحي وخرجت أريد القتات، حتى أنهيت
إلى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي: " يا حسن إلى أين مرة بعد أخرى
فإن القاتل والمقتول في النار " قال علي عليه السلام: صدقك أفتدري من ذلك المنادي؟
قال: لا. قال عليه السلام: ذلك أخوك إبليس، وصدقك أن القاتل والمقتول منهم (1)
في النار، فقال الحسن البصري الآن عرفت يا أمير المؤمنين أن القوم هلكى.
وعن أبي يحيى الواسطي (2) قال: لما افتتح أمير المؤمنين عليه السلام اجتمع
الناس عليه وفيهم الحسن البصري ومعه الألواح، فكان كلما لفظ أمير المؤمنين عليه السلام
بكلمة كتبها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام - بأعلى صوته - ما تصنع؟ فقال نكتب
آثاركم لنحدث بها بعدكم، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أما أن لكل قوم سامري
وهذا سامري هذه الأمة، أما إنه لا يقول لا مساس ولكن يقول لا قتال.
* * *
احتجاجه (ع) على قومه في الحث على المسير إلى الشام لقتال معاوية
وفيما أخذ عليهم من العهد والميثاق بالطاعة له حال بيعتهم إياه.
روي أنه عليه السلام لما عزم على المسير إلى الشام لقتال معاوية قال - بعد حمد
الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله -: اتقوا الله عباد الله وأطيعوه، وأطيعوا
إمامكم، فإن الرعية الصالحة تنجو بالإمام العادل، ألا وإن الرعية الفاجرة تهلك
بالإمام الفاجر، وقد أصبح معاوية غاصبا لما في يديه من حقي، ناكثا لبيعتي،

(1) أي القاتل والمقتول من أصحاب الجمل في النار
(2) أبو يحيى الواسطي واسمه سهيل بن زياد الواسطي له كتاب.
لقى أبا محمد العسكري أمه بنت محمد بن نعمان أبي جعفر الأحول الملقب بمؤمن
الطاق المتكلم المشهور.
رجال الشيخ ص 476 رجال النجاشي ص 137
251

طاغيا في دين الله عز وجل، وقد علمتم أيها المسلمون ما فعل الناس بالأمس،
فجئتموني راغبين إلي في أمركم، حتى استخرجتموني من منزلي لتبايعوني،
فالتويت عليكم لأبلو (1) ما عندكم فراددتموني القول مرارا وراددتكم، وتداككتم
علي تداك الإبل الهيم على حياضها حرصا على بيعتي، حتى خفت أن يقتل بعضكم
بعضا، فلما رأيت ذلك منكم رويت في أمركم وأمري، وقلت إن أنا لم أجبهم إلى
القيام بأمرهم لم يصيبوا أحدا منهم يقوم فيهم مقامي ويعدل فيهم عدلي، وقلت والله
لا ليتهم وهم يعلمون حقي وفضلي أحب إلي من أن يلوني وهم لا يعرفون حقي
وفضلي، فبسطت لكم يدي فبايعتموني يا معشر المسلمين، وفيكم المهاجرون
والأنصار، والتابعون بإحسان، فأخذت عليكم عهد بيعتي، وواجب صفقتي، عهد
الله وميثاقه، وأشد ما أخذ على النبيين من عهد وميثاق، لتقرن لي، ولتسمعن
لأمري، ولتطيعوني، وتناصحوني، وتقاتلون معي كل باغ علي أو مارق إن
مرق، فأنعمتم لي بذلك جميعا، وأخذت عليكم عهد الله وميثاقه، وذمة الله وذمة
رسوله، فأجبتموني إلى ذلك جميعا، وأشهدت الله عليكم، وأشهدت بعضكم على
بعض، فقمت فيكم بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، فالعجب من معاوية بن أبي
سفيان ينازعني الخلافة، ويجحد لي الإمامة، ويزعم أنه أحق بها مني، جرأة منه
على الله وعلى رسول الله صلى لله عليه وآله، بغير حق له فيها ولا حجة، ولم يبايعه المهاجرون
ولا سلم له الأنصار والمسلمون.
يا معشر المهاجرين والأنصار وجماعة من سمع كلامي، أما أوجبتم لي على
أنفسكم الطاعة، أما بايعتموني على الرغبة، أما أخذت عليكم العهد بالقبول لقولي؟
أما بيعتي لكم يومئذ أوكد من بيعة أبي بكر وعمر، فما بال من خالفني لم ينقض
عليهما حتى مضيا ونقض علي ولم يف لي؟! أما يجب عليكم نصحي ويلزمكم
أمري؟ أما تعلمون أن بيعتي يلزم الشاهد منكم والغائب؟ فما بال معاية وأصحابه
طاغون في بيعتي؟ ولم لم يفوا لي وأنا في قرابتي وسابقتي وصهري أولى بالأمر ممن

(1) أي لأختبر ما عندكم.
252

تقدمني؟ أما سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الغدير في ولايتي وموالاتي؟
فاتقوا الله أيها المسلمون وتحاثوا على جهاد معاوية القاسط الناكث، وأصحابه
القاسطين الناكثين، اسمعوا ما اتلوا عليكم من كتاب الله المنزل، على نبيه المرسل
لتتعظوا، فإنه والله أبلغ عظة لكم، فانتفعوا بموعظة الله، وازدجروا عن معاصي
الله، فقد وعظكم الله بغيركم فقال لنبيه صلى الله عليه وآله: " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل
من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم
أن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا قالوا وما لنا لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا
من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين (1) "
وقال لهم نبيهم: " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا
ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده
بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم (2) " أيها الناس
إن لكم في هذه الآيات عبرة، لتعلموا أن الله جعل الخلافة والأمرة من بعد
الأنبياء في أعقابهم، وأنه فضل طالوت وقدمه على الجماعة باصطفائه إياه، وزيادة
بسطه في العلم والجسم، فهل تجدون أن الله اصطفى بني أمية على بني هاشم، وزاد
معاوية علي بسطة في العلم والجسم.
واتقوا الله عباد الله وجاهدوا في سبيله قبل أن ينالكم سخطه بعصيانكم له
قال الله سبحانه: " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن
مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما
كانوا يعملون إنما المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم
وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (3) " وقال سبحانه: " يا أيها الذين
آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون
في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذبوبكم

(1) البقرة: 246
(2) البقرة: 247
(3) المائدة: 78
253

ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز
العظيم (1) ".
اتقوا الله عباد الله وتحاثوا على الجهاد مع إمامكم فلو كان لي منكم عصابة
بعدد أهل بدر إذا أمرتهم أطاعوني وإذا استنهضتهم نهضوا معي لاستغنيت بهم عن
كثير منكم، وأسرعت النهوض إلى حرب معاوية وأصحابه فإنه الجهاد المفروض.
ومن كلامه عليه السلام يجري مجرى الاحتجاج مشتملا على التوبيخ لأصحابه
على تثاقلهم عن قتال معاوية والتفنيد متضمنا اللوم والوعيد.
أيها الناس إني استنفرتكم لجهاد هؤلاء فلم تنفروا (2) وأسمعتكم فلم
تجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا، شهودا بالغيب (3) اتلوا عليكم الحكمة
فتعرضون عنها، وأعظكم بالموعظة البالغة فتنفرون عنها، كأنكم حمر مستنفرة
فرت من قسورة، وأحثكم على جهاد أهل الجور فما آتي على آخر قولي حتى
أراكم متفرقين أيادي سبا، ترجعون إلى مجالسكم تتربعون حلقا، تضربون الأمثال
وتنشدون الأشعار، وتجسسون الأخبار، حتى إذا تفرقتم تسألون عن الأخبار جهلا
من غير علم، وغفلة من غير ورع، وتتبعا من غير خوف، ونسيتم الحرب والاستعداد
لها، فأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، شغلتموها بالأعاليل والأضاليل، فالعجب
كل العجب، وكيف لا أعجب من اجتماع قوم على باطلهم، وتخاذلكم عن حقكم
يا أهل الكوفة أنتم كأم مخالد حملت فأملصت (4) فمات قيمها وطال
أيمها (5) وورثها أبعدها، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إن من ورائكم الأغبر
الأدبر جهنم الدنيا لا تبقي ولا تذر، ومن بعده النهاش الفراس، الجموع المنوع
ثم ليتوارثنكم من بني أمية عدة ما الآخر منهم بارق بكم من الأول، ما خلا

(1) الصف: 10
(2) النفر الخروج إلى الغزو وأصله الفزع.
(3) الشهود: الحضور.
(4) أملصت المرأة: أسقطت.
(5) الأيم: التي مات زوجها.
254

واحد (1) بلاء قضاه الله على هذه الأمة لا محالة كائن، يقتلون أخياركم،
ويستعبدون أرذالكم، ويستخرجون كنوزكم وذخايركم في جوف حجالكم، نقمة
بما صنعتم من أموركم، وصلاح أنفسكم ودينكم.
يا أهل الكوفة أخبركم بما يكون قبل أن يكون، لتكونوا منه على حذر
ولتنذروا به اتعظ واعتبر، كأني بكم تقولون: إن عليا يكذب، كما قالت
قريش لنبيها صلى الله عليه وآله وسيدها نبي الرحمة، " محمد بن عبد الله " فيا ويلكم فعلى من
أكذب أعلى الله فأنا أول من عبده ووحده؟! أم على رسوله فأنا أول من آمن به
وصدقه ونصره؟! كلا ولكنها لهجة خدعة! كنتم عنها أغنياء، والذي فلق الحبة
وبرئ النسمة لتعلمن نبأها بعد حين، وذلك إذا صيركم إليها جهلكم، ولا ينفعكم
عندها علمكم، فقبحا لكم يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال، وعقول
ربات الحجال (2)، أما والله أيها الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة
أهوائهم (3) ما أعز الله نصر من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم (4)
ولا قرت عين من آواكم، كلامكم يوهن الصم الصلاب (5) وفعلكم يطمع فيكم
عدوكم المرتاب، ويحكم أي دار بعد داركم تمتعون ومع أي إمام بعدي تقاتلون
المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، أصبحت لا أطمع
في نصرتكم، ولا أصدقكم قولكم، فرق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من هو
خيرا لي منكم، وأعقبكم بي من هو شرا لكم مني، إمامكم يطيع الله وأنتم تعصونه

(1) هو عمر بن عبد العزيز.
(2) الحجال - جمع حجلة - وهي: الغرفة وربات الحجال النساء.
(3) الأهواء - جمع هوى - وهو ما تميل إليه النفس محمودا كان أو مذموما ثم
غلب في الاستعمال على غير المحمود.
(4) قاساكم: قهركم.
(5) الصم - جمع أصم - وهو من الحجارة: الصلب المصمت. والصلاب - جمع
صليب وهو: الشديد.
255

وإمام أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه، والله لوددت أن معاوية صارفني بكم صرف
الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني واحدا منهم، والله لوددت أني
لم أعرفكم، ولم تعرفوني، فإنها معرفة جرت ندما لقد ورثتم صدري غيظا،
وأفسدتم علي أمري بالخذلان والعصيان، حتى لقد قالت قريش إن عليا رجل
شجاع لكن لا علم له بالحروب، لله درهم هل كان فيهم أحد أطول لها مراسا مني
وأشد بها مقاساة (1) لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ثم هاأنا ذا قد ذرفت
على الستين، لكن لا أمر لمن لا يطاع، أما والله لوددت أن ربي قد أخرجني من
بين أظهركم إلى رضوانه، وإن المنية لترصدني فما يمنع أشقاها أن يخضبها؟ - وترك
يده على رأسه ولحيته - عهدا عهده إلي النبي الأمي وقد خاب من افترى، ونجا
من اتقى وصدق بالحسنى.
يا أهل الكوفة قد دعوتكم إلى جهاد هؤلاء ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت
لكم اغزوهم فإنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم (2) وتخاذلتم
وثقل عليكم قولي، واستصعب عليكم أمري، واتخذتموه ورائكم ظهريا، حتى
شنت عليكم الغارات، وظهرت فيكم الفواحش والمنكرات، تمسيكم وتصبحكم،
كما فعل بأهل المثلات من قبلكم، حيث أخبر الله عز وجل عن الجبابرة العتاة
الطغاة، المستصعفين الغوات، في قوله تعالى: " يذبحون أبنائكم ويستحيون نسائكم
وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (3) " أما والذي فلق الحبة وبرئ النسمة لقد
حل بكم الذي توعدون.
عاتبتكم يا أهل الكوفة بمواعظ القرآن فلم أنتفع بكم، وأدبتكم بالدرة فلم
تستقيموا لي، وعاقبتكم بالسوط الذي يقام به الحدود فلم ترعووا، ولقد علمت أن

(1) أي: أطول ممارسة وأشد معالجة.
(2) أي أحال كل منكم الأمر إلى صاحبه ووكله إليه ولم يتوله أحد منكم.
(3) البقرة: 49.
256

الذي يصلحكم هو السيف، وما كنت متحريا صلاحكم بفساد نفسي (1) ولكن
سيسلط عليك سلطان صعب، لا يوقر كبيركم، ولا يرحم صغيركم، ولا يكرم
عالمكم، ولا يقسم الفيئ بالسوية بينكم، وليضربنكم، وليذلنكم، وليجرنكم في
المغازي، وليقطعن سبلكم، وليجمعنكم على بابه، حتى يأكل قويكم ضعيفكم
ثم لا يبعد الله من ظلم، ولقل ما أدبر شئ فأقبل، وإني لأظنكم على فترة،
وما علي إلا النصح لكم.
يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث واثنتين (2) صم ذووا أسماع، وبكم ذووا
ألسن، وعمي ذووا أبصار، لا إخوان صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء.
اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني (3) اللهم لا ترض عنهم
أميرا ولا ترضهم عن أمير، وأمث قلوبهم كما يماث الملح (4) بالماء أما والله لو
أجد بدا (5) من كلامكم ومراسلتكم ما فعلت، ولقد عاتبتكم في رشدكم
حتى لقد سئمت الحياة، كل ذلك تراجعون بالهزء من القول، فرارا من الحق،
وإلحادا إلى الباطل الذي لا يعز الله بأهله الدين، وإني لأعلم أنكم لا تزيدونني غير
تخسير، كلما أمرتكم بجهاد عدوكم اثاقلتم إلى الأرض وسألتموني التأخير، وفاع
ذي الدين المطول، (6) إن قلت لكم في القيظ سيروا، قلتم الحر شديد، وإن
قلت لكم في البرد سيروا، قلتم القر شديد (7) كل ذلك فرارا عن الحرب، إذا
كنتم عن الحر والبرد تعجزون، فأنتم عن حرارة السيف أعجز، فإنا لله وإنا إليه
راجعون.

(1) أي متطلبا صلاحكم بفساد ديني.
(2) منيت به: امتحنت واختبرت به.
(3) سئمه: مله.
(4) يماث الملح: يذوب.
(5) لم تجد لك بدا من كذا أي: مخلصا منه.
(6) المطول: الكثير المطل وهو: تأخير أداء الدين بلا عذر.
(7) القر بالضم - البرد.
257

يا أهل الكوفة قد أتاني الصريح يخبرني أن ابن عمر قد نزل الأنبار (1)
على أهلها ليلا في أربعة آلاف، فأغار عليهم كما يغار على الروم والخزر، فقتل
بها عاملي ابن حسان، وقتل معه رجالا صالحين، ذوي فضل وعبادة ونجدة، بوأ الله
لهم جنات النعيم، وأنه أباحها، ولقد بلغني أن العصبة من أهل الشام (2) كانوا
يدخلون على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فيه تكون سترها، ويأخذون القناع
من رأسها، والخرص من أذنها، والأوضاح من يديها ورجليها وعضديها، والخلخال
والميزر عن سوقها، فما تمتنع إلا بالاسترجاع والنداء: " يا للمسلمين! " فلا يغيثها
مغيث، ولا ينصرها ناصر، فلو أن مؤمنا مات دون هذا ما كان عندي ملوما، بل
كان عندي بارا محسنا، واعجبا كل العجب من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم،
وفشلكم عن حقكم، قد صرتم غرضا يرمى (3) ولا ترمون، وتغزون ولا تغزون
ويعصى الله وترضون، فتربت أيديكم يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها، كلما
اجتمعت من جانب تفرقت من جانب.
* * *
احتجاجه (ع) على معاوية في جواب كتاب كتب إليه في غيره من المواضع
وهو من أحسن الحجاج وأصوبها *.
أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمدا صلى الله عليه وآله لدينه،
وتأييده إياه بمن أيده من أصحابه، فلقد خبأ (4) لنا الدهر منك عجبا إذ طفقت (5)

(1) الأنبار: بلدة على الشاطئ الشرقي للفرات ويقابلها على الجانب الغربي هيت
(2) العصبة - بضم العين -: جماعة من الرجال نحو العشرة وقيل من العشرة
إلى الأربعين.
(3) الغرض - بالتحريك -: الهدف الذي يرمى إليه.
* تجد هذا الكتاب في ج 3 ص 34 من نهج البلاغة.
(4) خبأه: ستره وأخفاه.
(5) طفق: جعل.
258

تخبرنا ببلاء الله عندنا، ونعمته علينا في نبينا، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى
هجر (1)، أو داعي مسدده إلى النضال (2) وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان
وفلان (3) فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم يلحقك ثلمه، وما
أنت والفاضل والمفضول، والسايس والمسوس، وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز
بين المهاجرين الأولين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم، هيهات لقد حن قدح
ليس منها (4) وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها. ألا تربع أيها الإنسان على
ظلعك وتعرف قصور ذرعك (5)، وتتأخر حيث أخرك القدر فما عليك غلبة
المغلوب، ولا لك ظفر الظافر، فإنك لذهاب في التيه، رواغ عن القصد (6) ألا
ترى - غير مخبر لك لكن بنعمة الله أحدث -: إن قوما استشهدوا في سبيل
الله من المهاجرين ولكل فضل، حتى إذا استشهد شهيدنا قيل: " سيد الشهداء "
وخصه رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه (7)، أو لا ترى أن قوما
قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل، حتى إذا فعل بواحدنا كما فعل بواحدهم

(1) مثل يضرب لمن يحمل الشئ إلى معدنه لينتفع به فيه وهجر معروفة
بكثرة التمر.
(2) المناضلة المرامات يقال: ناضله إذا راماه، ومسدده: الذي يعلمه الرمي
وهو مثل يضرب لمن يتعالم على معلمه ومثله قوله:
أعلمه الرماية كل يوم * فلما اشتد ساعده رماني
(3) يريد أبا بكر وعمر.
(4) القدح: السهم وهذا المثل يضرب لمن يفتخر بشئ ليس فيه.
(5) أربع: توقف وانتظر يقال: " أربع على نفسك أو على ظلعك " أي:
توقف ولا تستعجل والظلع العيب. أي أنت ضعيف فانته عما لا تطيقه ويقصر عنه باعك
(6) أي حائد عن القصد.
(7) هو حمزة بن عبد المطلب عم الرسول " ص " وقد مر ذكره في هامش
ص 194 فراجعه.
259

قيل: " الطيار في الجنة وذو الجناحين " (1) ولولا ما نهى الله عن تزكية المرأ
نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجها آذان السامعين
فدع عنك من مالت به الرمية (2) فأنا صنايع ربنا، والناس بعد صنايع لنا (3)
لم يمنعنا قديم عزنا، ولا عادى طولنا (4) على قومك أن خلطناكم بأنفسنا،

(1) هو جعفر بن أبي طالب " ع " وقد مر ذكره في هامش ص 172 من
هذا الكتاب.
(2) الرمية: الصيد وهو مثل يضرب لمن اعوج غرضه فمال عن الاستقامة لطلبه
والمراد هنا بمن مالت به الرمية الأول والثاني.
(3) قال العلامة المجلسي في ج 8 ص 536 من بحار الأنوار:
قوله عليه السلام: " فأنا صنايع ربنا " هذا كلام مشتمل على أسرار عجيبة من
غرائب شأنهم التي تعجز عنها العقول، ولنتكلم على ما يمكننا إظهاره والخوض فيه فنقول
صنيعة الملك: من يصطنعه ويرفع قدره، ومنه قوله تعالى: " اصطنعتك لنفسي "
أي اخترتك وأخذتك صنيعتي، لتنصرف عن إرادتي ومحبتي.
فالمعنى: أنه ليس لأحد من البشر علينا نعمة، بل الله تعالى أنعم علينا، فليس
بيننا وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنايعنا فنحن الوسائط بينهم وبين الله سبحانه.
ويحتمل أن يريد بالناس بعض الناس أي المختار من الناس، نصطنعه ونرفع قدره.
وفي ج 3 من شرح النهج لابن أبي الحديد ص 451 قال:
هذا كلام عظيم عال على الكلام، ومعناه عال على المعاني، وصنيعة الملك من يصطنعه
الملك ويرفع قدره، يقول: ليس لأحد من البشر علينا نعمة بل الله تعالى هو الذي أنعم
علينا، فليس بيننا وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنائعنا فنحن الواسطة بينهم وبين
الله تعالى، وهذا مقام جليل ظاهره ما سمعت وباطنه أنهم عبيد الله، وأن الناس
عبيدهم.
وقال محمد بن عبده في ص 36 من ج 3: من نهج البلاغة
آل النبي: أسراء إحسان الله عليهم والناس أسراء فضلهم بعد ذلك.
(4) الطول: الفضل. قال العلامة المجلسي في ص 536 من ج 8 من بحار الأنوار
" أقول: قد ظهر لك مما سبق أن بني أمية لم يكن لهم نسب صحيح ليشاركوا في الحسب
آباءه عليه السلام مع أن قديم عزهم لم ينحصر في النسب بل أنوارهم " ع " أول المخلوقات
ومن بدو خلق أنوارهم إلى خلق أجسادهم وظهور آثارهم كانوا معروفين بالعز والشرف
والكمالات، في الأرضين والسماوات، يخبر بفضلهم كل سلف خلفا، ورفع الله ذكرهم
في كل أمة عزا وشرفا.
260

فنكحنا وأنكحنا، فعل الأكفاء، ولستم هناك وأنى يكون ذلك كذلك ومنا النبي
ومنكم المكذب (1) ومنا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف (2) ومنا سيدا شباب
أهل الجنة ومنكم صبية النار (3) ومنا خير نساء العالمين، ومنكم حمالة الحطب (4)
في كثير مما لنا عليكم فإسلامنا ما قد سمع، وجاهليتكم لا تدفع (5) وكتاب
الله يجمع لنا ما شذ عنا، وهو قوله تعالى: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
في كتاب الله " وقوله تعالى: " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي
والذين آمنوا والله ولي المؤمنين " فنحن مرة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة.
ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه وآله فلجوا عليهم

(1) المكذب: أبو سفيان كان المكذب لرسول الله وعدوه المجلب عليه وقيل المراد
به أبو جهل.
(2) أسد الله حمزة. وأسد الأحلاف قيل هو: أسد بن عبد العزى، وقيل
عتبة بن ربيعة، وقيل أبو سفيان لأنه حزب الأحزاب، وحالفهم على قتال النبي " ص "
في غزوة الخندق.
(3) وصبية النار: إشارة إلى الكلمة التي قالها النبي " ص " لعقبة بن أبي معيط
حين قتله يوم بدر وقال - كالمستعطف له صلى لله عليه وآله -: " من للصبية يا محمد "
قال: " النار ".
(4) حمالة الحطب: أم جميل بنت حرب بن أمية امرأة أبي لهب.
(5) لا تدفع أي: لا تنكر وفي بعض النسخ " وجاهليتنا " وحينئذ يكون المعنى
شرفنا وفضلنا في الجاهلية لا ينكره أحد.
261

فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم (1).
وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلهم بغيت، فإن يكن ذلك
كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك.
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وقلت: إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمر الله
لقد أردت أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة (2)
في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه، ولا مرتابا في يقينه، وهذه حجتي
إلى غيرك قصدها، ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها.
ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه
فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتلته، أم من بذل له نصرته فاستقعده واستكفه؟
أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى عليه قدره؟ كلا والله لقد
علم الله المعوقين منكم والقائلين لأخوانهم هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلا، وما
كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثا، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي
له، فرب ملوم لا ذنب له، وقد يستفيد الظنة المتنصح، وما أردت إلا الإصلاح ما
استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وذكرت أنه ليس لي ولا لأصحابي عندك إلا السيف، ولقد أضحكت بعد
استعبار، متى ألفيت بنو عبد المطلب عن الأعداء ناكلين (3) وبالسيوف مخوفين
فألبث قليلا يلحق الهيجاء (4) حمل، فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد

(1) وذلك إن المهاجرين احتجوا يوم السقيفة بأنهم شجرة الرسول ففلجوا
- أي: ظفروا بهم - وظفر المهاجرين بهذه الحجة ظفر لأمير المؤمنين على معاوية وإلا
فالأنصار على حقهم من دعوى الخلافة وفي كلا الحالين ليس لمعاوية فيها من نصيب.
(2) الغضاضة: النقص.
(3) ناكلين: متأخرين.
(4) لبث: - بتشديد الباء -: فعل أمر من " ليث " إذا استزاد لبثه - أي:
مكثه، والهيجاء: الحرب، وحمل - بالتحريك -: هو حمل بن بدر، رجل من قشير
أغير على إبله في الجاهلية فاستنقذها وقال: -
لبث قليلا يلحق الهيجا حمل * لا بأس بالموت إذا الموت نزل
فصار مثلا يضرب للتهديد بالحرب.
262

وأنا مرقل (1) نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان،
شديد زحامهم، ساطع قتامهم (2) متسربلين سرابيل الموت (3) أحب اللقاء إليهم
لقاء ربهم، وقد صحبتهم ذرية بدرية، وسيوف هاشمية، قد عرفت مواقع نصالها (4)
في أخيك، وخالك، وجدك (5) وأهلك، وما هي من الظالمين ببعيد
وكتب أيضا عليه السلام (6) - إلى معاوية -:
أما بعد فإنا كنا نحن وأنت على ما ذكرت من الألفة والجماعة، ففرق
بيننا وبينكم بالأمس إنا آمنا وكفرتم، واليوم إنا استقمنا وفتنتم، وما أسلم مسلمكم
إلا كرها (7) وبعد أن كان أنف الإسلام كله لرسول الله حزبا (8).
وذكرت إني قتلت طلحة والزبير، وشردت بعايشة، ونزلت بين المصرين (9)
وذلك أمر غبت عنه، فلا الجناية عليك، ولا العذر فيه إليك، وذكرت أنك زائري
في المهاجرين والأنصار، وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك (10) فإن كان فيك

(1) مرقل: مسرع والجحفل: الجيش العظيم.
(2) الساطع، المنتشر. والقتام - بالفتح -: الغبار.
(3) السربال: اللباس أي: لابسين لباس الموت كأنهم في أكفانهم.
(4) النصال: السهام.
(5) أخوه: حنظلة، وخاله: الوليد بن عتبة، وجده: عتبة بن ربيعة وهو جده لأمه
(6) تجد هذا الكتاب في ص 134 من ج 3 من نهج البلاغة.
(7) وذلك إن أبا سفيان لم يسلم حتى قبل فتح مكة وإنما دخل الإسلام خوف القتل
(8) أنف الإسلام: إشراف العرب الذين دخلوا فيه قبل الفتح.
(9) المصران: الكوفة والبصرة.
(10) أخوه: عمرو بن أبي سفيان، أسر يوم بدر.
263

عجل فاسترفه (1) فإني إن أزرك فذلك جدير أن يكون الله عز وجل إنما بعثني
للنقمة منك، وإن تزرني فكما قال أخو بني أسد.
مستقبلين رياح الصيف تضربهم * بحاصب بين أغوار وأنجاد
وعندي السيف الذي أعضضته بجدك وخالك وأخيك في مقام واحد (2)،
وإنك والله ما علمت الأغلف القلب المقارب (3) للعقل، والأولى أن يقال لك:
إنك رقيت سلما أطلعك مطلع سوء عليك لا لك، لأنك نشدت غير ضالتك (4)
ورعيت غير سائمتك (5) وطلبت أمرا لست من أهله، ولا في معدنه، فما أبعد
قولك من فعلك! وقريب ما اشبهت من أعمام وأخوال حملتهم الشقاوة وتمني
الباطل، على الجحود بمحمد صلى الله عليه وآله، فصرعوا بمصارعهم حيث عملت لم يدفعوا
عظيما، ولم يمنعوا حريما، بوقع سيوف ما خلا منها الوغى، فلم يماشها الهوينا (6)
وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه الناس (7) ثم حاكم القوم إلي
أحملك وإياهم على كتاب الله.

(1) أي استح ولا تستعجل وفي بعض النسخ " فاسترقه " بالقاف فيكون
المعنى فاخفه ولا تظهره.
(2) أعضضته: جعلته يعضه والمراد ضربته به وهؤلاء قتلهم أمير المؤمنين " ع "
يوم بدر.
(3) أي: أنت الذي أعرفه، والأغلف القلب: الذي لا يدرك كأن قلبه في
غلاف لا تنفذ إليه المعاني، ومقارب العقل ناقصه ضعيفه، كأنه يكاد يكون عاقلا وليس به
(4) الضالة: ما فقدته من مال وغيره، ونشدت طلبت، وهذا مثل يضرب لمن
يطلب حقا ليس له.
(5) السائمة: الماشية من الحيوان.
(6) الوغى: الحرب. أي إن تلك السيوف باقية لم تخل منها الحروب ولم
ترافقها المساهلة.
(7) أي البيعة له عليه السلام.
264

وأما تلك التي تريد (1) فإنها خدعة الصبي عن اللبن في أول الفصال،
والسلام لأهله.
وكتب عليه السلام إلى معاوية وفي كتاب آخر (2).
فسبحان الله ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة، والحيرة المتبعة (3)، مع
تضييع الحقايق، واطراح الوثايق، التي هي لله طلبة، وعلى عباده حجة، فأما
إكثارك الحجاج في عثمان وقتلته، فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك
وخذلته حيث كان النصر له والسلام.
وروى أبو عبيدة (4) قال: كتب معاوية إلى أمير المؤمنين عليه السلام إن لي
فضائل كثيرة، كان أبي سيدا في الجاهلية، وصرت ملكا في الإسلام، وأنا صهر
رسول الله صلى الله عليه وآله، وخال المؤمنين، وكاتب الوحي.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أبالفضائل يبغي علي ابن آكلة الأكباد؟ (5)
أكتب إليه يا غلام:

(1) أي الذي تريده من إبقائك واليا في الشام.
(2) تجد هذا الكتاب في ج 3 من نهج البلاغة ص 69.
(3) وفي نسخة: " والحيرة المتعبة "
(4) أبو عبيدة معمر - كجعفر - البصري النحوي اللغوي كان متبحرا في علم
اللغة وأيام العرب وأخبارها ويحكى أنه يقول ما التقى فرسان في جاهلية وإسلام إلا عرفتهما
وعرفت فارسهما، وهو أول من صنف غريب الحديث.
وفي مروج الذهب وفي سنة 211 مات أبو عبيدة العمري معمر بن المثنى كان يرى
رأي الخوارج، وبلغ نحوا من مئة سنة ولم يحضر جنازته أحد من الناس بالمصلى حتى
اكترى لها من يحملها، وله مصنفات حسان في أيام العرب وغيرها منها كتاب المثالب الخ
عن الكنى والألقاب ج 1 ص 14
(5) آكلة الأكباد هند أم معاوية وهي التي أخرجت كبد حمزة وجعلت تلوكها
كما مر ص 194.
265

محمد النبي أخي وصنوي * وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يمسي ويضحى * يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي * مسوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها * فأيكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طرا * غلاما ما بلغت أوان حلمي
وصليت الصلاة وكنت طفلا * مقرا بالنبي في بطن أمي
وأوجب لي ولايته عليكم * رسول الله يوم غدير خم
فويل ثم ويل ثم ويل * لمن يلقى الإله غدا بظلمي (1)
أنا الرجل الذي لا تنكروه * ليوم كريهة أو يوم سلم
فقال معاوية: أخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي
طالب عليه السلام.
وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: لما قتل عمار بن ياسر (2) ارتعدت

(1) وفي بعض النسخ: " لمن يرد القيامة وهو خصمي ".
(2) عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة المذحجي ثم العنسي، أبو اليقظان
حليف بني مخزوم " وأمه سمية وهي أول من استشهد في سبيل الله طعنها أبو جهل في
قلبها فاستشهدت. وهو وأبوه وأمه من السابقين الأولين إلى الإسلام.
كان من المستضعفين، وعذب في الله عذابا شديدا. أحرقه المشركون بالنار فكان
رسول الله " ص " يمر به ويمر يده على رأسه ويقول: " يا نار كوني بردا وسلاما على
عمار، كما كنت على إبراهيم " ع " ".
عن عثمان بن عفان قال: أقبلت أنا ورسول الله " ص " أخذ بيدي نتماشى في البطحاء
حتى أتينا على أبي عمار وعمار وأمه وهم يعذبون، فقال ياسر: " الدهر هكذا! ".
فقال له النبي " ص ": " اصبر اللهم اغفر لآل ياسر، قال وقد فعلت ". وروي أن رسول
" ص " مر بعمار وأهله وهم يعذبون في الله فقال: " أبشروا آل عمار فإن موعدكم الجنة ".
قال الطبرسي في قوله تعالى: " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " إنها نزلت في
جماعة أكرهوا وهم عمار وياسر أبوه وأمه سمية وصهيب وبلال وخباب عذبوا وقتل
أبو عمار وأمه فأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه، ثم أخبر بذلك رسول الله " ص "
فقال قوم: " كفر عمار " فقال " ص ": " كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه
واختلط الإيمان بلحمه ودمه ".
وجاء عمار إلى رسول الله " ص " وهو يبكي فقال " ص ": " ما وراك؟ " قال
يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول الله " ص "
يمسح عينيه ويقول: " إن عادوا لك فعد لهم فنزلت الآية.
وشهد بدرا ولم يشهدها ابن مؤمنين غيره وشهد أحدا والمشاهد كلها مع رسول الله " ص "
وقال له رسول الله " ص ": " أبشر يا أبا اليقظان فإنك أخو علي في ديانته ومن
أفاضل أهل ولايته ومن المقتولين في محبته تقتلك الفئة الباغية وآخر زادك من الدنيا
ضياح من لبن ".
وعن علي " ع " قال: جاء عمار يستأذن على النبي " ص " فقال: " ائذنوا له مرحبا
بالطيب المطيب ". وقال علي عليه السلام فيه: ذاك امرأ حرم الله لحمه ودمه على النار
وأن تمس شيئا منهما.
وكان رحمه الله من كبار الفقهاء، وكان طويل الصمت طويل الحزن والكآبة،
وكان عامة كلامه عائذا بالله من فتنة.
وقال له رسول الله " ص ": يا عمار ستكون بعدي فتنة فإذا كان كذلك فاتبع
عليا " ع " وحزبه فإنه مع الحق والحق معه، يا عمار إنك ستقاتل مع علي صنفين الناكثين
والقاسطين ثم تقتلك " الفئة الباغية " قلت يا رسول الله أليس ذلك على رضا الله ورضاك
قال: نعم على رضا الله ورضاي، ويكون آخر زادك شربة من لبن تشربه، فلما كان
يوم صفين خرج عمار بن ياسر إلى أمير المؤمنين " ع " فقال له يا أخا رسول الله " ص "
أتأذن لي في القتال؟ قال: مهلا رحمك الله، فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام، فأجابه
بمثله، فأعاده ثالثا فبكى أمير المؤمنين " ع " فنظر إليه عمار فقال: يا أمير المؤمنين إنه
اليوم الذي وصف لي رسول الله " ص "؟ فنزل أمير المؤمنين عن بغلته وعانق عمارا
وودعه، ثم قال: يا أبا اليقظان جزاك الله عن الله وعن نبيك خيرا فنعم الأخ كنت
ونعم الصاحب كنت، ثم بكى وبكى عمار ثم برز إلى القتال فقاتل حتى قتل رحمه الله
فأتاه أمير المؤمنين " ع " وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون إن امرءا لم يدخل عليه مصيبة
من قتل عمار فما هو في الإسلام من شئ ثم صلى عليه ثم قال:
ألا أيها الموت الذي ليس تاركي * أرحني فقد أفنيت كل خليل
أراك بصيرا بالذين أحبهم * كأنك تمضي نحوهم بدليل
وفي خبر أنه أتي يومئذ بلبن فضحك ثم قال: قال لي رسول الله " ص ": آخر
شراب تشربه من الدنيا مذقة من لبن حتى تموت وقال: والله لو ضربونا حتى بلغونا
سعفات هجر لعلمت أننا على الحق وأنهم على الباطل. ثم قتل رضي الله عنه قتله أبو
العادية " لع " واحتز رأسه أبو الجوى السكسكي وكان عمره (ره) يوم قتل (94) سنة
راجع صفة الصفوة ج 1 ص 175 أسد الغابة ج 4 ص 43 سفينة البحار ج 2 ص 275
266

فرائص خلق كثير، وقالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " عمار تقتله الفئة الباغية "
267

فدخل عمرو على معاوية وقال يا أمير المؤمنين قد هاج الناس واضطربوا، قال: لماذا
قال: قتل عمار فقال: قتل عمار فماذا؟ قال: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " تقتله
الفئة الباغية " فقال معاوية: دحضت في قولك أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي بن أبي
طالب عليه السلام لما ألقاه بين رماحنا، فاتصل ذلك بعلي بن أبي طالب عليه السلام قال: فإذا
رسول الله صلى الله عليه وآله هو الذي قتل حمزة لما ألقاه بين رماح المشركين.
وكتب عليه السلام (1) إلى عمرو بن العاص في أثناء كتاب:
فإنك جعلت دينك تبعا لدنيا امرء ظاهر غيه، مهتوك ستره، يشين الكريم
بمجلسه، ويسفه الحليم بخلطته، فاتبعت أثره، وطلبت فضله اتباع الكلب للضرغام (2)
يلوذ إلى مخالبه، وينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته، فأذهبت دنياك وآخرتك
ولو أخذت بالحق أدركت ما طلبت، فإن يمكني الله منك ومن ابن أبي سفيان
أخبرتكما بما قدمتما (3) فإن نعجز أو تبقيا فما أمامكما شر لكما والسلام.
وقال عليه السلام - في عمرو جوابا عما قال فيه -: عجبا لابن النابغة (4) يزعم

(1) تجد هذا الكتاب في ج 3 من نهج البلاغة ص 71.
(2) الضرغام: الأسد.
(3) وفي بعض النسخ: " أجزكما ".
(4) نبغ الشئ: ظهر وإنما سميت أم عمرو: (النابغة) لشهرتها بالفجور
وتظاهرها به.
268

لأهل الشام أن في دعابة (1) وأني امرء تلعابة (2) أعانس (3) وأمارس (4)
لقد قال باطلا ونطق آثما، أما وشر القول الكذب، إنه يقول فيكذب ويعد فيخلف
ويسأل فيحلف، ويسأل فينجل ويخون العهد، ويقطع الإل (5) فإذا كان عند
الحرب فأي زاجر وآمر هو ما لم تأخذ السيوف ما أخذها، فإذا كان ذلك كان
أكبر مكيدته أن يمنح القوم أسته (6) أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت
وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة، وإنه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن
يؤتيه على البيعة آية (7) ويرضخ له على ترك الدين رضيخة (8).
* * *
وكتب محمد بن أبي بكر (9) إلى معاوية احتجاجا عليه
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن أبي بكر، إلى الغاوي معاوية بن صخر، سلام الله على أهل
طاعة الله ممن هو أهل دين الله وأهل ولاية الله.

(1) الدعابة - بالضم -: المزاح.
(2) تلعابة - بالكسر -: أي كثير اللعب
(3) العفاس - بالكسر - اللعب. وفي بعض النسخ (أعارس) من أعرس
الرجل إذا دخل بامرأته.
(4) الممارسة: المزاولة والملاعبة.
(5) الإل: - بالكسر - العهد والقرابة
(6) الأست: العجز أو حلقة الدبر، أشار عليه السلام إلى ما ذكر أرباب
السير وصار مضربا للأمثال من كشفه سوئته شاخرا برجليه حين لقيه أمير المؤمنين
عليه السلام في بعض أيام صفين، وقد اختلطت السيوف، واشتد نار الحرب فانصرف
عنه أمير المؤمنين (ع).
(7) أي العطية.
(8) الرضخ: العطاء القليل
(9) محمد بن أبي بكر بن أبي قحافة. وأمه أسماء بنت عميس مر لها ذكر في
هامش ص 125 ولد بالبيداء في حجة الوداع.
روي أن أبا بكر خرج في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله في غزاة فرأت أسماء بنت
عميس وهي تحته كان أبا بكر متخضب بالحناء رأسه ولحيته، وعليه ثياب بيض، فجاءت
إلى عائشة فأخبرتها، فبكت عائشة وقالت: إن صدقت رؤياك فقد قتل أبو بكر إن خضابه
الدم وأن ثيابه أكفانه، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وهي كذلك فقال: ما أبكاها؟ فذكروا
الرؤيا. فقال: ليس كما عبرت عائشة ولكن يرجع أبو بكر، فتحمل منه أسماء بغلام
تسميه محمدا يجعله الله تعالى غيظا على الكافرين والمنافقين.
قال ابن أبي الحديد: ونشوه في حجر أمير المؤمنين عليه السلام وأنه لم يكن يعرف
أبا غير على، حتى قال أمير المؤمنين عليه السلام: محمد ابني من صلب أبي بكر، وكان
يكنى (أبا القاسم) وكان من نساك قريش، وكان ممن أعان في يوم الدار، ومن ولده
(القاسم بن محمد) فقيه أهل الحجاز وفاضلها، ومن ولد القاسم (عبد الرحمن) من فضلاء
قريش ويكنى (أبا محمد) ومن ولد القاسم أيضا أم فروة تزوجها الإمام الباقر أبو جعفر
محمد بن علي (ع).
وكان من حواري أمير المؤمنين عليه السلام، وخواصه واحد المحامدة التي تأبى
أن يعصى الله.
وروي عن حمزة بن محمد الطيار قال: ذكرنا محمد بن أبي بكر عند أبي عبد الله (ع)
فقال أبو عبد الله (ع): رحمه الله وصلى عليه، قال لأمير المؤمنين (ع) - يوما من
الأيام -: أبسط يدك أبايعك، فقال: أو ما فعلت؟ قال: بلى، فبسط يده فقال:
أشهد أنك إمام مفترض طاعتك وأن أبي في النار. فقال أبو عبد الله عليه السلام: كان
النجابة من أمه أسماء بنت عميس رحمة الله عليها لا من قبل أبيه. وعن زرارة بن أعين
عن أبي جعفر (ع): أن محمد بن أبي بكر بايع عليا عليه السلام على البراءة من أبيه.
وعن شعيب عن أبي عبد الله (ع) قال: سمعته يقول: ما من أهل بيت إلا ومنهم
نجيب من أنفسهم، وانجب النجباء من أهل (بيت سوء) محمد بن أبي بكر.
وينسب إليه قوله:
يا أبانا قد وجدنا ما صلح * خاب من أنت أبوه وافتضح
إنما أنقذني منك الذي * أنقذ الدر من الماء الملح
يا بني الزهراء أنتم عدتي * وبكم في الحشر ميزاني رجح
وإذا صح ولائي فيكم * لا أبالي أي كلب قد نبح
وقتل بمصر قتله معاوية بن خديج - وكان فيها واليا من قبل أمير المؤمنين (ع) -
ثم وضعه في جوف حمار ميت وأحرقه.
ولما بلغ أمير المؤمنين عليه السلام قتل محمد بن أبي بكر حزن لذلك حزنا شديدا
حتى ظهر ذلك عليه وتبين في وجهه، وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه إلى أن قال: ألا
وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمة الله عليه وعند الله نحتسبه..
وقيل له (ع) قد جزعت على محمد جزع شديدا يا أمير المؤمنين فقال: وما يمنعني
أنه كان لي ربيبا وكان لبني أخا، وكنت له والدا، أعده ولدا.
ولما سمعت أمه أسماء بقتله كظمت غيظها حتى شخبت ثدياها دما.
وكان استشهاد سنة (37) هجرية.
سفينة البحار ج 1 ص 312، رجال الكشي ص 60، خلاصة العلامة ص 138،
النجوم الزاهرة ج 1 ص 110.
269

أما بعد فإن الله بجلاله وسلطانه خلق خلقا بلا عبث منه، ولا ضعف به، في
270

قوة، ولكنه خلقهم عبيدا فمنهم شقي وسعيد، وغوي ورشيد، ثم اختارهم على
علم منه، واصطفى وانتخب منهم محمدا صلى الله عليه وآله واصطفاه لرسالته، وائتمنه على وحيه
فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فكان أول من أجاب وأناب،
وأسلم وسلم، أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام فصدقه بالغيب المكتوم وآثره
على كل حميم، ووقاه من كل مكروه، وواساه بنفسه في كل خوف، وقد رأيتك
تساويه وأنت أنت وهو هو المبرز والسابق في كل خير، وأنت اللعين ابن اللعين
لم تزل أنت وأبوك تبغضان وتبغيان في دين الله الغوائل، وتجتهدان على إطفاء نور
الله، تجمعان الجموع على ذلك، وتبذلان فيه الأموال، وتخالفان عليه القبائل،
على ذلك مات أبوك، وعليه خلفته أنت، فكيف لك الويل تعدل عن علي وهو وارث
علم رسول الله ووصيه، وأول الناس له اتباعا وآخرهم به عهدا؟! وأنت عدوه
وابن عدوه، فتمتع بباطلك ما استطعت، وتبدد بابن العاص في غوايتك، فكأن
أجلك قد انقضى، وكيدك قد وهي، ثم تستبين لك لمن تكون العاقبة العليا، والسلام
على من اتبع الهدى.
271

فأجابه معاوية هذا إلى الزارئ (1) على أبيه محمد بن أبي بكر، سلام على
أهل طاعة الله، أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه
مع كلام ألفته ورصفته (2) لرأيك فيه، وذكرت حق علي وقديم سوابقه وقرابته
من رسول الله صلى الله عليه وآله ونصرته ومواساته إياه في كل خوف وهول، وتفضيلك عليا
وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك، فالحمد لله الذي صرف ذلك عنك وجعله لغيرك
وقد كنا وأبوك معنا في زمن نبينا صلى الله عليه وآله نرى حق علي عليه السلام لازما لنا، وسبقه مبرزا
علينا، فلما اختار الله لنبيه ما عنده وأتم له ما وعده، قبضه الله إليه، وكان أبوك
وفاروقه أول من ابتزه (3) وخالفه على ذلك، واتفقا ثم دعواه على أنفسهما،
فأبطأ عليهما، فهما به الهموم، وأرادا به العظيم، فبايع وسلم لأمرهما، لا يشركانه
في أمرهما، ولا يطلعانه على سرهما، حتى قضى الله من أمرهما ما قضى، ثم قام
بعدهما ثالثهما يهدي بهداهما، ويسير بسيرتهما، فعبته أنت وأصحابك حتى طمع
فيه الأقاصي من أهل المعاصي حتى بلغتما منه مناكما، وكان أبوك مهد مهاده
فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله، وإن يك جورا فأبوك سنه، ونحن شركائه
وبهداه اقتدينا، ولولا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا عليا ولسلمنا له، ولكنا
رأينا أباك فعل ذلك فأخذنا بمثاله، فعب أباك أو دعه، والسلام على من تاب وأناب.
* * *
احتجاجه (ع) على الخوارج * لما حملوه على التحكم ثم أنكروا عليه
ذلك ونقموا عليه أشياء فأجابهم (ع) عن ذلك بالحجة وبين لهم أن الخطأ من
قبلهم بل وإليهم يعود.

(1) زرى عليه عمله: عابه عليه.
(2) رصف الحجارة: ضم بعضها إلى بعض.
(3) ابتز منه الشئ: استلبه قهرا.
* قال الشهرستاني - في الملل والنحل -:
الخوارج: كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا
سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين
بإحسان، والأئمة في كل زمان. " قال " اعلم: أن أول من خرج على أمير المؤمنين على
ابن أبي طالب (ع) جماعة ممن كان معه في حرب صفين، وأشدهم خروجا عليه ومروقا
من الدين (الأشعث بن قيس) و (مسعود بن فدكي التميمي) و (زيد بن حصين الطائي)
حين قالوا: (القوم يدعوننا إلى كتاب الله وأنت تدعونا إلى السيف) حتى قال: أنا
أعلم بما في كتاب الله انفروا إلى بقية الأحزاب انفروا إلى من يقول: كذب الله
ورسوله وأنتم تقولون: صدق الله ورسوله قالوا: لترجعن الأشتر عن قتال المسلمين وإلا
لنفعلن بك كما فعلنا بعثمان فاضطر إلى رد الأشتر بعد أن هزم الجمع وولوا مدبرين، وما
بقي منهم إلا شرذمة قليلة فيهم حشاشة قوة، فامتثل الأشتر أمره، وكان من أمر الحكمين
أن الخوارج حملوه على التحكم أولا، وكان يريد أن يبعث عبد الله بن عباس فما رضي
الخوارج بذلك وقالوا: هو منك، فحملوه على بعث أبي موسى الأشعري - على أن
يحكما بكتاب الله تعالى - فجرى الأمر على خلاف ما رضي به فلما لم يرض بذلك خرجت
الخوارج عليه وقالوا: لم حكمت الرجال؟ ولا حكم إلا الله.
272

روي أن رجلا من أصحابه قام إليه فقال: إنك نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا
بها، فما ندري أي الأمرين أرشد، فصفق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى ثم قال:
هذا جزاء من ترك العقدة (1)، أما والله لو أني حين أمرتكم بما أمرتكم به
حملتكم على المكروه الذي جعل الله فيه خيرا كثيرا (2) فإن استقمتم هديتكم
وإن اعوججتم قومتكم، وإن أبيتم تداركتكم (3) لكانت الوثقى، ولكن بمن
وإلى من (4) أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي؟! كناقش الشوكة بالشوكة،

(1) العقدة: الرأي والحزم أي هذا جزاؤكم حين تركتم الرأي الحازم الذي
أمرتكم به فوقعتم في الحيرة والشك من جراء عنادكم واتباعكم أهوائكم.
(2) المكروه: الحرب إشارة إلى قوله تعالى: (فعسى أن تكرهوا شيئا
ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)
(3) يريد (ع) بالاعوجاج: العصيان وبالتقويم الإرشاد فإن أبيتم ولم تسمعوا
النصيحة تداركتكم بالاستنجاد بغيركم وأخذتكم بالقوة والقهر.
(4) هذا هو الطريق ولكن ممن استعين في هذا الأمر، وإلى من أرجع.
273

وهو يعلم أن ضلعها معها (1). اللهم قد ملت أطباء الداء الدوي (2) وكلت
النزعة بأشطان الركى (3).
فقال عليه السلام (4) وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة
بعد كلام طويل:
ألم تقولوا - عند رفعهم المصاحف حيلة، وغيلة، (5) ومكرا، وخديعة -:
إخواننا، وأهل دعوتنا. استقالونا، واستراحوا إلى كتاب الله سبحانه، فالرأي
القبول منهم، والتنفيس عنهم، (6) فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان، وباطنه عدوان
وأوله رحمة، وآخره ندامة، فأقيموا على شأنكم، والزموا طريقتكم، وعضوا
على الجهاد بنواجذكم (7) ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق (8)، إن أجيب أضل وإن
ترك ذل، فلقد كنا مع رسول الله وإن القتل ليدور بين الآباء والأبناء، والإخوان
والقرابات، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا إيمانا، ومضيا على الحق، وتسليما
للأمر، وصبرا على مضض الجراح (9) ولكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام

(1) نقش الشوكة إذا استخرجها من جسمه ومنه سمي (المناقش) الذي ينقض به.
والضلع - بالتحريك - الميل والطبع -
يريد (ع) أن طباع بعضهم تشبه طباع بعضهم الآخر وميولهم متماثلة كما تميل
الشوكة لمثلها وهذا مثل للعرب: (لا تنقش الشوكة بالشوكة فإن ضلعها معها) أي إذا
استخرجت الشوكة بمثلها فسوف تنكسر في رجلك كما انكسرت الأولى.
(2) الداء الدوى: الشديد.
(3) النزعة: جمع نازع وهو: الذي يستقي الماء، والشطن هو: الحبل، والركى
جمع ركية وهي: البئر.
(4) تجد هذا الكلام له عليه السلام في نهج البلاغة ج 2 ص 2.
(5) الغيلة بالكسر - الخديعة.
(6) نفس عنه: فرج عنه.
(7) النواجذ من الأسنان - بالذال المعجمة -: الضواحك وهي: التي تبدوا عند الضحك
(8) النعيق: صوت الراعي بغنمه يريد (ع) لا تتبعوا كل داع إلى ضلالة.
(9) المضض: وجع المصيبة.
274

على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج (1) والشبهة والتأويل، فإذا طعمنا في
خصلة يلم الله بها شعثنا، ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا، رغبنا فيها وأمسكنا عما سواها
وقال عليه السلام - في التحكيم (2) -:
إنا لم نحكم الرجال (3) وإنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط
مسطور بين الدفتين، لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال
ولما أن دعانا القوم إلى أن يحكم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب
الله عز وجل وقد قال الله سبحانه: " وإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول
إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر (4) " فرده إلى الله أن نحكم بكتابه، ورده
إلى الرسول أن نأخذ بسنته، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق الناس به
وإذا حكم بسنة رسوله فنحن أولادهم به (5)، وأما قولكم لم جعلت بينك وبينهم
أجلا في التحكيم؟ فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل (6) ويتثبت العالم (7) ولعل الله
أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة ولا تؤخذ بإكظامها (8) فتعجل عن تبين

(1) الزيغ: الميل عن الحق.
(2) تجد هذا الكلام في ج 2 ص 7 من نهج البلاغة.
(3) هذا رد على قولهم - بعد أن حملوه على التحكيم -: " لم حكمت الرجال لا
حكم إلا لله " فردهم " ع " بهذا القول لأن القوم إنما دعوه لتحكيم القرآن، لا لتحكيم
الرجلين وحيث إن القرآن صامت يحتاج إلى ترجمان اضطر " ع " إلى تحكيم الرجال والقرآن
في الواقع هو الحكم وقد اشترط على الحكمين أن يحكما بكتاب الله وسنة رسوله، فلما خالفا
الشرط بطل تحكيمهما ولم يلزمه اتباع قولهما.
(4) الآية 59 - النساء. -
حين دعاه القوم لتحكيم القرآن لم يكن " ع " ليتخلف حتى ينطبق عليه قوله تعالى
(وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم وهم معرضون).
(5) أي: أحق بكتاب الله وأولى برسوله صلى الله عليه وآله.
(6) أي ليظهر له وجه الحق. (7) أي يطمئن قلبه بدفع الشبهة.
(8) الأكظام جمع كظم - بالتحريك - وهو: مخرج النفس من الحلق.
275

الحق وتنقاد لأول الغي (1)؟
وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام أرسل عبد الله بن العباس إلى الخوارج وكان
بمرأى منهم ومسمع قالوا له في الجواب:
إنا نقمنا يا بن عباس على صاحبك خصالا كلها مكفرة، موبقة، تدعوا إلى النار
أما " أولها " فإنه محي اسمه من إمرة المؤمنين (2) ثم كتب بينه وبين معاوية
فإذا لم يكن أمير المؤمنين ونحن المؤمنون لسنا نرضى بأن يكون أميرنا.
وأما " الثانية " فإنه شك في نفسه حين قال للحكمين: " انظروا فإن كان
معاوية أحق بها فاثبتاه، وإن كنت أولى بها فأثبتاني " فإذا هو شك في نفسه ولم
يدر أهو المحق أم معاوية، فنحن فيه أشد شكا.
و " الثالثة " إنه جعل الحكم إلى غيره وقد كان عندنا أحكم الناس.
و " الرابعة " إنه حكم الرجال في دين الله ولم يكن ذلك إليه.
و " الخامسة ": إنه قسم بيننا الكراع والسلاح يوم البصرة ومنعنا النساء والذرية
و " السادسة " إنه كان وصيا فضيع الوصية.
قال ابن عباس: قد سمعت يا أمير المؤمنين مقالة القوم، وأنت أحق بجوابهم
فقال: نعم.
ثم قال: يا بن عباس قل لهم ألستم ترضون بحكم الله وحكم رسوله؟
قالوا: نعم.

(1) أي حين عرضت لهم الشبهة من رفع المصاحف.
(2) حين أمر أمير المؤمنين (ع) كاتبه أن يكتب: (إن هذا ما تقاضى عليه
أمير المؤمنين (ع) علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان) قال عمرو بن العاص
(اكتب اسمه واسم أبيه ولا تسميه بإمرة المؤمنين فإنما هو أمير هؤلاء وليس هو بأميرنا)
ولما أصروا على ذلك قال أمير المؤمنين: الله أكبر سنة بسنة ومثل بمثل وذكر قول
النبي صلى الله عليه وآله له يوم الحديبية: لك مثلها ثم أمر فكتبوا. " هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي
طالب بن عبد المطلب..
276

قال: ابدأ على ما بدأتم به (1) في بدئ الأمر.
ثم قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله الوحي، والقضايا، والشروط، والأمان
يوم صالح أبا سفيان، وسهيل بن عمرو فكتبت:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله أبا سفيان صخر بن حرب، وسهيل بن عمرو
فقال سهيل: لا نعرف الرحمن الرحيم، ولا نقر أنك رسول الله، ولكنا
نحسب ذلك شرفا لك أن تقدم اسمك على أسمائنا وإن كنا أسن منك وأبي أسن
من أبيك.
فأمرني رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: اكتب - مكان بسم الله الرحمن الرحيم -:
" باسمك اللهم " فمحوت ذلك وكتبت: " باسمك اللهم " ومحوت " رسول الله "
وكتبت " محمد بن عبد الله " فقال لي " إنك تدعى إلى مثلها فتجيب وأنت مكره (2) "
وهكذا كتبت بيني وبين معاوية وعمرو بن العاص: " هذا ما اصطلح عليه
أمير المؤمنين ومعاوية وعمرو بن العاص " فقالا: لقد ظلمناك بأن أقررنا بأنك
أمير المؤمنين وقاتلناك، ولكن اكتب: علي بن أبي طالب " فمحوت كما محي
رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن أبيتم ذلك فقد جحدتم، فقالوا: هذه لك خرجت منها.
قال: وأما قولكم " إني شككت في نفسي حيث قلت للحكمين: انظرا فإن
كان معاوية أحق بها مني فاثبتاه " فإن ذلك لم يكن شكا مني، ولكن أنصفت
في القول، قال الله تعالى: " وأنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (3) "

(1) أي ابدأ في الرد على إشكالاتكم مما بدأتم به في عرضها حسب التسلسل، أو
أبدأ معكم بتحكيم القرآن كما بدأتم في أول الأمر.
(2) جاء في قصة الحديبية أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:
" يا علي إنك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة والذي بعثني بالحق نبيا لتجيبن
أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد ".
(3) 24 - سبأ.
277

ولم يكن ذلك شكا وقد علم الله أن نبيه على الحق، قالوا: وهذه لك.
قال: وأما قولكم: " إني جعلت الحكم إلى غيري وقد كنت عندكم أحكم
الناس " فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله قد جعل الحكم إلى سعد يوم بني قريظة وقد كان
من أحكم الناس وقد قال الله تعالى: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (1) "
فتأسيت برسول الله صل الله عليه وآله، قالوا: وهذه لك بحجتنا.
قال: وأما قولكم: " إني حكمت في دين الله الرجال " فما حكمت الرجال
وإنما حكمت كلام ربي، الذي جعله الله حكما بين أهله، وقد حكم الله الرجال
في طائر فقال: " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا
عدل منكم (2) " فدماء المسلمين أعظم من دم طائر قالوا: وهذه لك بحجتنا.
قال: وأما قولكم: " إني قسمت يوم البصرة لما ظفرني الله بأصحاب الجمل
الكراع والسلاح ومنعتكم النساء والذرية " فإني مننت على أهل البصرة كما من
رسول الله على أهل مكة، فإن عدوا علينا أخذناهم بذنوبهم، ولم نأخذ صغيرا بكبير
فأيكم كان يأخذ عائشة في سهمه؟ قالوا: وهذه لك بحجتنا.
قال: وأما قولكم: " إني كنت وصيا فضيعت الوصية فأنتم كفرتم وقدمتم
علي، وأزلتم الأمر عني، وليس على الأوصياء الدعاء إلى أنفسهم، إنما يبعث الله
الأنبياء عليهم السلام فيدعون إلى أنفسهم، وأما الوصي فمدلول عليه مستغن عن الدعاء إلى
نفسه، وذلك لمن آمن بالله ورسوله، ولقد قال الله جل ذكره: " ولله على الناس
حج البيت من استطاع إليه سبيلا (3) " فلو ترك الناس الحج لم يكن البيت ليكفر
بتركهم إياه، ولكن كانوا يكفرون بتركهم، لأن الله تعالى قد نصبه لهم علما
وكذلك نصبني علما حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " يا علي أنت مني بمنزلة هارون
من موسى وأنت مني بمنزلة الكعبة تؤتى ولا تأتي " فقالوا: وهذه لك بحجتنا.

(1) الأحزاب - 21.
(2) المائدة - 95.
(3) آل عمران - 97.
278

فاذعنوا فرجع بعضهم وبقي منهم أربعة آلاف لم يرجعوا ممن كانوا قعدوا
عنه فقاتلهم وقتلهم.
* * *
احتجاجه (ع) في الاعتذار من قعوده عن قتال من تأمر عليه من الأولين
وقيامه إلى قتال من بغي عليه من الناكثين والقاسطين والمارقين.
روي أن أمير المؤمنين عليه السلام كان جالسا في بعض مجالسه بعد رجوعه من
نهروان (1) فجرى الكلام حتى قيل له: لم لا حاربت أبا بكر وعمر كما حاربت
طلحة والزبير ومعاوية؟
فقال علي عليه السلام إني كنت لم أزل مظلوما مستأثرا على حقي (2) فقام إليه
الأشعث بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين لم لم تضرب بسيفك، ولم تطلب بحقك؟
فقال: يا أشعث قد قلت قولا فاسمع الجواب وعه، واستشعر الحجة، إن لي أسوة
بستة من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
أولهم نوح حيث قال: " رب إني مغلوب فانتصر (3) " فإن قال قائل: إنه
قال هذا لغير خوف فقد كفر، وإلا فالوصي أعذر.
وثانيهم لوط حيث قال: " لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد (4) "
فإن قال قائل: إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر، وإلا فالوصي أعذر.
وثالثهم إبراهيم خليل الله حيث قال: " واعتزلكم وما تدعون من دون الله (5) "

(1) النهروان: وهي ثلاث نهروانات، أعلى وأوسط وأسفل، وهو: كورة
واسعة أسفل من بغداد من شرقي تامرا، منحدرا إلى واسط، فيها عدة بلاد متوسطة
منها اسكاف وجرجرايا، والصافية، وديرقنى وغير ذلك.
مراصد الاطلاع ج 3 ص 1407
(2) استأثر بالشئ على الغير: استبد به وخص به نفسه.
(3) القمر: - 10
(4) هود: - 80
(5) مريم: - 48
279

فإن قال قائل: إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر، وإلا فالوصي أعذر.
ورابعهم موسى عليه السلام حيث قال: " ففررت منكم لما خفتكم (1) " فإن قال
قائل: إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر، وإلا فالوصي أعذر.
وخامسهم أخوه هارون حيث قال: " يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا
يقتلونني (2) " فإن قال قائل: إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر، وإلا فالوصي أعذر
وسادسهم أخي محمد خير البشر صلى الله عليه وآله حيث ذهب إلى الغار ونومني على فراشه
فإن قال قائل: إنه ذهب إلى الغار لغير خوف فقد كفر، وإلا فالوصي أعذر.
فقام إليه الناس بأجمعهم فقالوا: يا أمير المؤمنين قد علمنا أن القول قولك
ونحن المذنبون التائبون، وقد عذرك الله.
وعن إسحاق بن موسى (3) أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد
عن آبائه عليهم السلام قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام خطبة بالكوفة فلما كان في آخر
كلامه قال: ألا وإني لأولى الناس بالناس وما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله
فقام إليه أشعث بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين لم تخطبنا خطبة منذ قدمت
العراق إلا وقلت: " والله إني لأولى الناس بالناس فما زلت مظلوما منذ قبض رسول
الله " ولما ولي تيم (4) وعدي (5) إلا ضربت بسيفك دون ظلامتك؟
فقال أمير المؤمنين: يا بن الخمارة قد قلت قولا فاسمع مني والله ما منعني
من ذلك إلا عهد أخي رسول الله صلى الله عليه وآله أخبرني وقال لي: " يا أبا الحسن إن الأمة
ستغدر بك وتنقض عهدي، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى " فقلت يا رسول الله
فما تعهد إلي إذا كان ذلك كذلك، فقال: " إن وجدت أعوانا فبادر إليهم وجاهدهم

(1) الشعراء: - 21
(2) الأعراف: - 150
(3) إسحاق بن موسى: عده الشيخ في أصحاب الإمام الرضا " ع " وكان يلقب
بالأمين كما في عمدة الطالب وتوفي سنة " 240 " كما في منتهى الآمال للشيخ عباس القمي.
(4) تيم: في قريش رهط أبي بكر وهو تيم بن مرة.
(5) عدي: قبيلة من قريش وهم رهط عمر بن الخطاب.
280

وإن لم تجد أعوانا فكف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوما " فلما توفي
رسول الله صلى الله عليه وآله اشتغلت بدفنه والفراغ من شأنه ثم آليت يمينا (1) أني لا أرتدي
إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ففعلت، ثم أخذته وجئت به فأعرضته عليهم قالوا:
لا حاجة لنا به، ثم أخذت بيد فاطمة، وابني الحسن والحسين، ثم درت على أهل
بدر، وأهل السابقة، فأنشدتهم حقي، ودعوتهم إلى نصرتي، فما أجابني منهم إلا
أربعة رهط: سلمان، وعمار والمقداد، وأبو ذر، وذهب من كنت أعتضد بهم على
دين الله من أهل بيتي، وبقيت بين حفيرين قريبي العهد بجاهلية عقيل والعباس.
فقال له الأشعث: كذلك كان عثمان لما لم يجد أعوانا كف يده حتى قتل.
فقال له أمير المؤمنين: يا بن الخمارة ليس كما قست، إن عثمان جلس في غير
مجلسه، وارتدى بغير ردائه، صارع الحق، فصرعه ألحق، والذي بعث محمدا بالحق
لو وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رهط لجاهدتهم في الله إلى أن أبلي عذري ثم قال:
أيها الناس إن الأشعث لا يزن عند الله جناح بعوضة، وإنه أقل في دين الله
من عفطة عنز (2).
وروى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس قال: كنت
عند أمير المؤمنين بالرحبة (3) فذكرت الخلافة وتقدم من تقدم عليه

(1) آليت: أقسمت.
(2) العفطة من الشاة: كالعطس من الإنسان.
(3) تجد هذه الخطبة في ج 1 من نهج البلاغة ص 25 وهي الخطبة المعروفة
ب‍ " الشقشقية " لقوله " ع " في جواب ابن عباس: " هيهات هيهات تلك شقشقة هدرت
ثم قرت " وتعرف أيضا " بالمقمصة " لقوله عليه السلام: " أما والله لقد تقمصها ابن
أبي قحافة " تسمية للشئ بأشهر ألفاظه كما هو الحال في أسماء سور القرآن الكريم كسورة
آل عمران، والرحمن، والواقعة، ويس وغيرها.
وهذه الخطبة الجليلة في حسن أسلوبها، وبديع نظمها، وفصاحة ألفاظها، دليل
لا يقبل التردد، ولا يتطرق إليه الشك في كونها صادرة عن مركز الثقل الإلهي، ومعدن
الوصاية والإمامة، فهي حقا كما قيل: " فوق كلام المخلوق دون كلام الخالق "
وقد رواها الشيخ المفيد في الإرشاد ص 137 وقال ابن أبي الحديد في شرحه على
النهج ص 69 ج 1: حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة " 603 "
قال: قرأت على الشيخ أبي محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة.
إلى أن قال: فقلت له: أتقول إنها منحولة؟ فقال: لا والله، وإني لأعلم: صدورها
منه كما أعلم: أنك " مصدق " قال: فقلت له: إن كثيرا من الناس يقولون: إنها من
كلام الرضي رحمة الله تعالى فقال: أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب؟
قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا
الكلام في " خل ولا خمر "
ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي
بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، وأعرف من هو من العلماء وأهل
الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد ولد الرضي قلت: وقد وجدت أنا كثيرا من هذه
الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة
المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة، ووجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر
ابن قبة أحد متكلمي الإمامية، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب " الإنصاف "
وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى، ومات في ذلك
العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجودا.
281

فتنفس الصعداء (1) ثم قال:
أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة (2) وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب

(1) تنفس الصعداء - بضم الصاد وفتح المهملتين -: المدفوع من التنفس يصعده
المتلهف الحزين.
(2) ابن أبي قحافة أبو بكر واسمه عبد الله وفي الجاهلية عتيق واسم أبيه عثمان
والضمير في تقمصها عائد إلى الخلافة وإنما لم يذكرها للعلم بها وتقمصها جعلها مشتملة
عليه كالقميص كناية عن تلبسه بها.
282

من الرحى (1) ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلى الطير، فسدلت ودونها ثوبا (2)
وطويت عنها كشحا (3) وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية
عمياء (4)، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى
ربه (5)، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى (6)، فصبرت وفي العين قذى،

(1) قطب الرحا مسمارها الذي عليه تدور فكما أن الرحى لا تدور إلا على القطب
وبغيره لا يستقيم لها دوران، فكذلك الخلافة محله منها محل القطب من الرحى: لا تستقيم
حركتها ولا تأخذ استقامتها بغيره وهو وحده القادر على تدبير شؤونها وإدارتها حسب
المصلحة العامة ووفق الخطة الإلهية الحكيمة.
(2) سدلت: أرخيت. كناية عن إعراضه عنها، واحتجابه عن طلبها.
(3) الكشح: ما بين الخاصرة والجنب. أنزل الخلافة منزلة المأكول الذي منع
نفسه عنه، فلم يشتمل عليه كشحه.
(4) طفقت: جعلت، وأخذت، وشرعت، وأرتأي أفكر طلبا للرأي الصائب
وصال: حمل نفسه على الأمر بقوة. والطخية: قطعة من الغيم.
أي: جعلت أدير الفكر وأجيله في أمر الخلافة، وأردده في طرفي نقيض إما أن
أشهر السيف وأصول على الغاصبين للخلافة، والمعتدين على حقي، أو أترك وأصبر، وفي
كلا الحالين خطر فإما القيام والثورة فبيد مقطوعة من غير ناصر ولا معين، وإما الثاني
فلما يؤول إليه الحال: من اختلاط الأمور، وعدم انتظام الحياة، والتمييز بين الحق
والباطل، فكما أن الظلمة والعمى لا يهتدي معهما للتمييز بين الأشياء، فكذلك اضطراب
الهيئة الاجتماعية، وتشابك المشاكل وازدحامها لا يهتدي معه لوجه الحق.
(5) الهرم: شدة كبر السن. والكدح: سعي المجهود
وتلك الشدة، وذلك الاضطراب، وهاتيك الأحوال المظلمة وطول مدتها أدت إلى
أن: يهرم فيها الكبير، ويشيب الصغير، ويتعب المؤمن في تمييز الحقائق وتمحيصها
وما يبذله من جهد في سبيل الدفاع عن الحق حتى يلقى ربه.
(6) هاتا: هذه وأحجى أقرب للحجى وهو العقل.
فرأيت الصبر على هذه الحال وترك المقاومة أقرب للعقل، وألصق بنظام الإسلام
وأحفظ لبيضته سيما وهو بعد غض لم ترسخ له قدم في نفوس أتباعه، والثورة في هذه
الحال ربما تؤدي إلى خلاف الغرض، وتعكس النتيجة، وتكون سببا للردة، والرجوع
عن الدين، فترك المقاومة أحجى وأضمن لسلامة الإسلام، وتحمل الشر الحادث من
جراء ذلك أهون.
283

وفي الحلق شجا (1) أرى تراثي نهبا (2) حتى إذا مضى الأول لسبيله فأدلى
بها إلى عمر من بعده، فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد
وفاته (3)، لشد ما تشطرا ضرعيها (4)، ثم تمثل بقول الأعشى (5)،
شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر
فصيرها في ناحية خشناء يجفو مسها، ويغلظ كلمها (6)،

(1) القذى: الرمد. والشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه.
أي صبرت ولكن على مضض كما يصبر الأرمد وهو يحس بوجع العين، وكما يصبر
من غص بشئ فهو يكابد الخنق.
(2) يريد بتراثه: الخلافة.
(3) أدلى بها: ألقى بها إليه. والإقالة: فك العهد والاستقالة: طلب ذلك.
أشار بقوله عليه السلام: " يستقيلها " إلى قول أبي بكر: أقيلوني لست بخيركم "
(4) شد الأمر: صعب وعظم. وتشطرا: اقتسما. والضرع: للحيوانات
مثل الثدي للمرأة.
(5) هو أعشى قيس واسمه ميمون بن جندل من بني قيس من قصيدة أولها:
علقم ما أنت إلى عامر * الناقص الأوتار والواتر
(6) الكلم: الجرح.
كني عن طباع عمر بن الخطاب " بالناحية الخشناء " لأنه كان يوصف بالجفاوة
وسرعة الغضب، وغلظ الكلام، حتى روي أنه أمر أن يؤتى بامرأة لحال اقتضت ذلك
- وكانت حاملا - فلما دخلت عليه أجهزت جنينا لما شاهدته من غلظ طبيعة أبي حفص
وظهور القوة الغضبية على قسمات وجهه وشدته في الكلام، وذلك ما أراده أمير المؤمنين
من قوله " في ناحية خشناء " ثم إنه عليه السلام وصف تلك الطبيعة بوصفين:
أحدهما: غلظ المواجهة بالكلام وقد قيل: جرح اللسان أشد من وخز السنان.
وثانيهما: جفاوة المس المانعة من ميل الطباع إليه.
284

ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها (1)، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها
خرم، وإن أسلس لها تقحم (2)، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس، وتلون
واعتراض (3)، فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة! حتى إذا مضى لسبيله،

(1) عثر: إذا أصابت رجله حجر أو نحوه.
فيه إشارة إلى ما كان عليه عمر بن الخطاب من التسرع في إصدار الأحكام غير
الصائبة كأمره برجم المرأة الحامل وطلاق الحائض، وغيرها من الأمور التي كانت
تدعوه للاعتذار بعد أن يتبين له الخطأ بإرشاد أمير المؤمنين عليه السلام، وقد تكرر قوله:
" لولا على لهلك عمر " و (لا كنت لمعضلة ليس لها أبو الحسن) و (لا عشت لمعضلة
لا تكون لها يا أبا الحسن).
(2) الصعبة من الإبل: الغير المذللة. وأشنق لها بالزمام: إذا جذبه إلى نفسه
وهو راكب ليمسكها عن الحركة العنيفة. والخرم الشق. وأسلس لها: أرخى لها. وتقحم في
الأمر: ألقى نفسه فيه بقوة. فصاحبها أي: صاحب تلك الطباع الخشنة مثله - وهو
يتولى شؤون الرعية وتدبير أمورهم - كمثل راكب الناقة الصعبة التي لم تذلل، فهو بين
خطرين أن جذبها إليه شق أنفها، وإن أرخى لها القياد ألقت به في المهالك والناقة الصعبة
هي الرعية لأنها لم تألفه وتنفر من طباعه فلا تسقيم له بحال. أو يكون المراد بالناقة
الصعبة هو صاحب تلك الطباع، وحينئذ يكون المقصود من قوله (ع) إن أشنق لها
خرم، وإن أسلس لها تقحم إن الذي يريد إصلاح صاحب تلك الطباع واقع بين خطرين
فإن أنكر عليه وقع الانشقاق والاختلاف بينهما، وإن تكره وشأنه أدى به الأمر
إلى الإخلال بالواجب.
ووجه ثالث يمكن أن يكون المقصود بالناقة الخلافة فإذا استرجعها بالقوة شق عصا
المسلمين وأوقع الخلاف في صفوفهم مما يؤدي بالنتيجة إلى الردة. وإن تركها وسكت
عنها، سارت في غير اتجاهها فهو منها بين خطرين.
(3) مني الناس: ابتلوا. والخبط الحركة على غير استقامة، والشماس - بكسر
الشين - كثرة النفار والاضطراب. والتلون: اختلاف الأحوال. والاعتراض ضرب
من التلون وأصله المشي في عرض الطريق.
285

فجعلها شور في جماعة زعم أني أحدهم (1) فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب
في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكنني أسففت إذ أسفوا،
وطرت إذ طاروا (2)، فصبرت على طول المحنة، وانقضاء المدة، فمال رجل منهم
لضغنه، وصغى الآخر لصهره، مع هن وهن (3)

(1) خلاصة حديث الشورى: إن عمر بن الخطاب لما طعنه أبو لؤلؤة وأيقن
بالموت دعا وجوه الصحابة، وعرض عليهم موضوع الخلافة، وأشير فيما أشير عليه بابنه
عبد الله فقال: لا لا يليها رجلان من ولد الخطاب حسب عمر ما حمل، حسب عمر ما
احتقب، لا أتحملها حيا وميتا، ثم قال: إن رسول الله مات وهو راض عن هذه الستة
(على، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف)
فأما سعد فلا يمنعني منه إلا عنفه وفضاضته، وأما من عبد الرحمن فلأنه قارون هذه الأمة
وأما من طلحة فتكبره ونخوته، وأما من الزبير فشحه، ولقد رأيته بالبقيع يقاتل على
صاع من شعير، ولا يصلح لهذا الأمر إلا رجل واسع الصدر وأما من عثمان فحبه لقومه
وعصبيته لهم، وأما من علي فحرصه على هذا الأمر ودعابة فيه. ثم قال: يصلي صهيب بالناس
ثلاثة أيام، وتخلوا الستة نفر في البيت ثلاثة أيام ليتفقوا على رجل منهم، فإن استقام
أمر خمسة وأبى رجل فاقتلوه، وإن استقر أمر ثلاثة وأبى ثلاثة فكونوا مع الثلاثة الذين
فيهم عبد الرحمن بن عوف.
(2) أسف الطائر: إذا دنى من الأرض في طيرانه.
(3) صغا: مال. والضغن: الحقد. والهن: على وزن أخ كناية عن شئ قبيح
الذي مال لحقده هو: سعد بن أبي وقاص. والذي مال لصهره عبد الرحمن بن عوف
حيث مال إلى عثمان لمصاهرة بينهما.
وروى الشيخ المفيد في الإرشاد عن جيش الكناني قال: لما صفق عبد الرحمن على
يد عثمان بالبيعة في يوم الدار قال له أمير المؤمنين " ع ": حركك الصهر وبعثك على ما
صنعت، والله ما أملت منه إلا ما أمل صاحبك من صاحبه، دق الله بينكما عطر منشم
وعطر منشم هو عطر صعب الدق والمراد به هنا الموت. وهكذا كان فقد بلغ الحال
في الخلاف بينهما أن أعلن عثمان تحريم مجالسة عبد الرحمن، ووجوب نبذه، وابرأ الذمة
ممن يكلمه أو يعاطيه معاطاة أي مواطن يتمتع بحقوقه الاجتماعية.
286

إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه (1)، وقام معه بنو أبيه
يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع (2)، إلى أن انتكث عليه فتله، وكبت
به بطنته، وأجهز عليه عمله (3)، فما راعني إلا والناس رسل إلي كعرف الضبع،
ينثالون علي من كل جانب (4)، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي (5)،
مجتمعين حولي كربيضة الغنم (6)،

(1) النفج: النفخ. والنثل: الروث والمعتلف: موضع الاعتلاف.
(2) الخضم: الأكل بجميع الفم وقيل المضغ بأقصى الأضراس.
قال ابن أبي الحديد - في شرحه على النهج ج 1 ص 66 -:
وصحت فيه فراسة عمر بن الخطاب، إذ قد أوطأ بني أمية رقاب الناس، وأولاهم الولايات
وأقطعهم القطايع، وافتتحت أرمينيا في أيامه، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان إلى أن
قال: وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف درهم وأعاد الحكم بن
أبي العاص بعد أن سيره رسول الله " ص " ثم لم يرده أبو بكر ولا عمر، وأعطاه مائة
ألف درهم، وتصدق رسول الله " ص " بموضع سوق بالمدينة يعرف " بنهروز " على
المسلمين، فاقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم، وأقطع مروان فدكا وقد
كانت فاطمة طلبتها بعد وفاة أبيها رسول الله تارة بالميراث، وتارة بالنحلة فدفعت عنها
إلى آخر ما ذكره ابن أبي الحديد فليراجع وعمل الحجة الأميني في ج 9 من كتاب الغدير
قائمة بمصروفاته على قومه وذويه فلتراجع أيضا.
(3) انتكث: انتقض. والفتل: برم الحبل. وكبا الفرس: أسقط لوجهه.
والبطنة: شدة الامتلاء من الطعام. وأجهز - على المريض -: قتله وأسرع.
(4) الروع الخلد والذهن وأراعني: أفزعني، وانثال - الشئ - إذا وقع يتلو بعضه بعضا
(5) العطاف: الرداء، وعطفا الرجل: جانباه من لدن رأسه إلى وركيه. أي
شق قميصه من جانبيه من شدة الازدحام عليه.
(6) ربيضة الغنم: المجتمعة برعاتها.
287

فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وفسق آخرون (1)، كأنهم
لم يسمعوا الله سبحانه وتعالى يقول: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون
علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين (2) " بلى والله لقد سمعوها ووعوها،
ولكن حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها (3).
أما والذي فلق الحبة وبرئ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة
بوجود الناصر، وما أخذ الله على أولياء الأمر: أن لا يقروا على كظة ظالم، ولا
سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم
دنياكم عندي أهون من عفطة عنز.
قال: فقام إليه رجل من أهل السواد فناوله كتابا فقطع كلامه، فأقبل
ينظر إليه فرغ من قرائته، قال ابن عباس: قلت له: يا أمير المؤمنين لو
أطردت مقالتك من حيث أفضيتها.
قال: يا بن عباس هيهات هيهات تلك شقشقة هدرت ثم قرت.
قال ابن عباس: فما أسفت على شئ ولا تفجعت كتفجعي على ما فاتني من
كلام أمير المؤمنين عليه السلام.
وأمثال هذه الأخبار من كلام أمير المؤمنين عليه السلام كثيرة، أوردنا طرفا
منها للإيجاز والاختصار.
ومما يوضح ما أثبتناه ما روي عن أم سلمة زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله أنها قالت:
كنا عند رسول الله تسع نسوة، وكانت ليلتي ويومي من رسول الله صلى الله عليه وآله
فأتيت الباب فقلت أدخل يا رسول الله صلى عليه وآله؟ فقال: لا.

(1) مروق السهم: خروجه من الرمية.
المراد بالناكثين للبيعة هم: طلحة والزبير بايعوا ثم نكثوا البيعة. والمارقين هم:
الخوارج والقاسطين أصحاب معاوية.
(2) القصص: 83
(3) الزبرج - بكسر الزاء والراء -: الزينة.
288

قالت: فكبوت كبوة شديدة، مخافة أن يكون ردني من سخط أو نزل
في شئ من السماء، ثم لم ألبث أن أتيت الباب ثانية فقلت أدخل يا رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال: لا. فكبوت كبوة أشد من الأولى.
ثم لم ألبث أن أتيت الباب ثالثة فقلت: أدخل يا رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال
ادخلي يا أم سلمة، فدخلت وعلي جاث بين يديه وهو يقول: فداك أبي وأمي
يا رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان كذا وكذا فما تأمرني فقال: آمرك بالصبر، ثم أعاد
عليه القول ثانية، فأمره بالصبر، ثم أعاد عليه القول ثالثة فأمره بالصبر، ثم
أعاد عليه القول رابعة فقال له: يا علي يا أخي إذا كان ذلك منهم فسل سيفك وضعه
على عاتقك، واضرب به قدما حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم.
ثم التفت إلي وقال: ما هذه الكآبة يا أم سلمة، قلت: للذي كان من ردك
إياي يا رسول الله، فقال لي والله ما رددتك إلا لشئ خبرت من الله ورسوله، لكن
أتيتيني وجبرئيل يخبرني بالأحداث التي تكون من بعدي، وأمرني أن أوصي
بذلك عليا، يا أم سلمة اسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب عليه السلام وزيري
في الدنيا، ووزيري في الآخرة، يا أم سلمة اسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي
طالب، وصيي، وخليفتي من بعدي، وقاضي عداتي، والذائد عن حوضي، اسمعي
واشهدي، هذا علي بن أبي طالب، سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر
المحجلين، قاتل الناكثين والمارقين والقاسطين، قلت: يا رسول الله من الناكثون
قال: الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون بالبصرة قلت: من القاسطون؟ قال: معاوية
وأصحابه من أهل الشام قلت: من المارقون؟ قال: أصحاب نهروان.
وروي أن أمير المؤمنين (ع) قال في أثناء خطبة خطبها بعد فتح البصرة بأيام:
حاكيا عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله. يا علي إنك باق بعدي، ومبتلى بأمتي
ومخاصم بين يدي الله، فأعدد للخصومة جوابا، فقلت: بأبي وأمي أنت بين لي ما
هذه الفتنة التي ابتلى بها؟ وعلى ما أجاهد بعدك؟ فقال: لي إنك ستقاتل بعدي
289

الناكثة، والقاسطة، والمارقة، وحلاهم وسماهم رجلا رجلا، وتجاهد من أمتي
كل من خالف القرآن وسنتي، ممن يعمل في الدين بالرأي، ولا رأي في الدين
إنما هو أمر الرب ونهيه، فقلت: يا رسول الله فأرشدني إلى الفلح عند الخصومة يوم
القيامة، فقال: نعم. إذا كان ذلك كذلك فاقتصر على الهدى، إذا قومك عطفوا
الهدى على الهوى، وعطفوا القرآن على الرأي، فتأولوه برأيهم بتتبع الحجج من
القرآن لمشتهيات الأشياء الطارية عند الطمأنينة إلى الدنيا، فاعطف أنت الرأي على
القرآن، وإذا قومك حرفوا الكلمة عند مواضعه عند الأهوال الساهية، والأمراء
الطامحة، والقادة الناكثة، والفرقة القاسطة، والأخرى المارقة أهل الإفك المردي
والهوى المطغي، والشبهة الخالفة، فلا تنكلن عن فضل العاقبة، فإن العاقبة للمتقين.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزلت: " يا أيها النبي جاهد الكفار
والمنافقين الخ (1) " قال النبي صلى الله عليه وآله: لأجاهدن العمالقة، يعني الكفار والمنافقين
فأتاه جبرئيل فقال: أنت أو علي عليه السلام.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري: (2) قال: إني كنت لأدناهم من رسول

(1) التوبة - 73.
(2) جابر بن عبد الله من أصحاب رسول الله " ص " شهد بدرا وأدرك الإمام
محمد الباقر عليه السلام، وبلغه سلام رسول الله " ص "، وكان من السابقين الذين رجعوا
إلى أمير المؤمنين عليه السلام وممن انقطع لأهل البيت.
روي عن أبي عبد الله " ع " أنه قال: إن جابر بن عبد الله كان آخر من بقي من
أصحاب رسول الله " ص "، وكان رجلا منقطعا إلينا أهل البيت، وكان يقعد في مسجد
رسول الله " ص " وهو معتم بعمامة سوداء، وكان ينادي يا باقر العلم، يا باقر العلم وكان
أهل المدينة يقولون: جابر يهجر فكان يقول لا والله لا أهجر ولكني سمعت رسول
الله " ص " يقول: " إنك ستدرك رجلا من أهل بيتي، اسمه اسمي، وشمائله شمائلي،
يبقر العلم بقرا " فذاك الذي دعاني إلى ما أقول.
رجال العلامة ص 34 رجال الكشي ص 42 - 45
290

الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع بمنى فقال: لأعرفنكم ترجعون بعدي كفارا يضرب
بعضكم رقاب بعض، وأيم الله لو فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم، ثم
التفت إلى خلفه، فقال، أو علي، أو علي، أو علي، ثلاث مرات، فرأينا على أثر
ذلك أن جبرئيل عليه السلام غمزه، فأنزل الله تعالى على أثر ذلك: " فإما تذهبن بك
فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدنا هم فإنا عليهم مقتدرون (1) ".
وعن ابن عباس: أن عليا عليه السلام كان يقول - في حياة رسول الله - إن الله
يقول: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على
أعقابكم (2) " والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله والله، لئن مات أو قتل
لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، لأني أخوه وابن عمه، ووارثه، فمن
أحق به مني.
وعن أحمد بن همام (3) قال: أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي بكر،
فقلت: يا عبادة أكان الناس على تفضيل أبي بكر قبل أن يستخلف، فقال: يا أبا
ثعلبة إذا سكتنا عنكم فاسكتوا، ولا تبحثونا، فوالله لعلي بن أبي طالب كان أحق
بالخلافة من أبي بكر، كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله أحق بالنبوة من أبي جهل،
قال: وأزيدكم إنا كنا ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وآله فجاء علي عليه السلام، وأبو بكر
وعمر إلى باب رسول الله صلى الله عليه وآله، فدخل أبو بكر، ثم دخل عمر، ثم دخل علي عليه السلام
على أثرهما، فكأنما سفي على وجه رسول الله الرماد، ثم قال: يا علي أيتقدمانك
هذان، وقد أمرك الله عليهما، فقال أبو بكر: نسيت يا رسول الله، وقال عمر:
سهوت يا رسول الله، فقال رسول: ما نسيتما ولا سهوتما، وكأني بكما قد سلبتماه
ملكه، وتحاربتما عليه، وأعانكما على ذلك أعداء الله، وأعداء رسوله، وكأني
بكما قد تركتما المهاجرين والأنصار يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف على الدنيا
ولكأني بأهل بيتي وهم المقهورون المشتتون في أقطارها، وذلك لأمر قد قضي،

(1) الزخرف - 41.
(2) آل عمران - 144
(3) لم أعثر على ترجمته في كتب الرجال.
291

ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وآله حتى سالت دموعه، ثم قال: يا علي الصبر الصبر حتى
ينزل الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإن لك من الأجر في كل
يوم ما لا يحصيه كاتباك، فإذا أمكنك الأمر: فالسيف السيف، القتل القتل، حتى
يفيئوا إلى أمر الله، وأمر رسوله، فإنك على الحق ومن ناواك على الباطل، وكذلك
ذريتك من بعدك إلى يوم القيامة.
وعن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السلام قال: كنت
أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله في المسجد بعد أن صلى الفجر، ثم نهض ونهضت معه، وكان
رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أراد أن يتجه إلى موضع أعلمني بذلك، وكان إذا أبطأ في
ذلك الموضع صرت إليه لأعرف خبره، لأنه لا يتصابر قلبي على فراقه ساعة واحدة
فقال لي: أنا متجه إلى بيت عائشة، فمضى صلى الله عليه وآله ومضيت إلى بيت فاطمة الزهراء عليها السلام
فلم أزل مع الحسن والحسين فأنا وهي مسروران بهما، ثم إني نهضت وسرت إلى
باب عائشة، فطرقت الباب فقالت: من هذا؟ فقلت لها: أنا علي فقالت: إن النبي
راقد، فانصرفت، ثم قلت: النبي راقد وعائشة في الدار، فرجعت وطرقت الباب
فقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت لها: أنا علي فقالت: إن النبي صلى الله عليه وآله على حاجة
فانثنيت مستحييا من دق الباب، ووجدت في صدري ما لا أستطيع عليه صبرا، فرجعت
مسرعا فدققت الباب دقا عنيفا، فقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت: أنا علي فسمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: يا عائشة افتحي له الباب، ففتحت ودخلت، فقال لي:
أقعد يا أبا الحسن أحدثك بما أنا فيه، أو تحدثني بإبطائك عني، فقلت يا رسول
الله حدثني فإن حديثك أحسن، فقال: يا أبا الحسن كنت في أمر كتمته من ألم
الجوع، فلما دخلت بيت عائشة، وأطلت القعود ليس عندها شئ تأتي به، فمددت
يدي وسألت الله القريب المجيب، فهبط علي حبيبي جبرئيل عليه السلام ومعه هذا الطير
ووضع إصبعه على طائر بين يديه، فقال: إن الله عز وجل أوحى إلي: أن آخذ
هذا الطير وهو أطيب طعام في الجنة فآتيك به يا محمد، فحمدت الله عز وجل كثيرا،
وعرج جبرئيل فرفعت يدي إلى السماء فقلت: " اللهم يسر عبدا يحبك ويحبني
292

يأكل معي من هذا الطير " فمكثت مليا فلم أر أحدا يطرق الباب، فرفعت يدي
ثم قلت: " اللهم يسر عبدا يحبك ويحبني وتحبه وأحبه يأكل معي من هذا الطير "
فسمعت طرق الباب وارتفاع صوتك، فقلت لعائشة: أدخلي عليا فدخلت، فلم
أزل حامدا لله حتى بلغت إلي إذ كنت تحب الله وتحبني ويحبك الله وأحبك،
فكل يا علي، فلما أكلت أنا والنبي الطائر، قال لي: يا علي حدثني فقلت: يا رسول
الله لم أزل منذ فارقتك أنا وفاطمة والحسن والحسين مسرورين جميعا، ثم نهضت
أريدك فجئت فطرقت الباب فقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت: أنا علي فقالت:
إن النبي راقد، فانصرفت، فلما أن صرت إلى بعض الطريق الذي سلكته رجعت.
فقلت: النبي صلى الله عليه وآله راقد وعائشة في الدار لا يكون هذا، فجئت فطرقت الباب فقالت:
لي من هذا؟ فقلت لها: أنا علي فقالت: إن النبي صلى الله عليه وآله على حاجة فانصرفت
مستحييا، فلما انتهيت إلى الموضع الذي رجعت منه أول مرة، وجدت في قلبي ما
لا أستطيع عليه صبرا وقلت: النبي صلى الله عليه وآله على حاجة وعائشة في الدار، فرجعت
فدققت الباب الدق الذي سمعته، فسمعتك يا رسول الله وأنت تقول لها: ادخلي عليا
فقال النبي: صلى الله عليه وآله أبى الله إلا أن يكون الأمر هكذا، يا حميراء ما حملك على
هذا؟ قالت: يا رسول الله اشتهيت أن يكون أبي يأكل من هذا الطير فقال لها:
ما هو بأول ضغن بينك وبين علي، وقد وقفت لعلي - إن شاء الله - لتقاتلنه.
فقالت: يا رسول الله وتكون النساء يقاتلن الرجال؟
فقال لها: يا عائشة إنك لتقاتلين عليا، ويصحبك ويدعوك إلى هذا نفر من
أهل بيتي وأصحابي، (1) فيحملونك عليه، وليكونن في قتالك له أمر يتحدث به
الأولون والآخرون، وعلامة ذلك أنك تركبين الشيطان، ثم تبتلين قبل أن
تبلغي إلى الموضع الذي يقصد بك إليه، فتنبح عليك كلاب الحوأب، فتسألين

(1) يريد بأهل بيته المعنى العام لأهل بيت الرجل أي: أقاربه والمقصود هنا
هو: الزبير بن العوام، وليس المقصود من أهل البيت المعنى الخاص المقصور على الخمسة
من أصحاب الكساء، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا
293

الرجوع فتشهد عندك قسامة أربعين رجلا: ما هي كلاب الحوأب، فتنصرفين إلى
بلد أهله أنصارك، (1) وهو أبعد بلاد على الأرض من السماء، وأقربها إلى الماء
ولترجعن وأنت صاغرة بالغة ما تريدين، ويكون هذا الذي يردك مع من يثق به
من أصحابه، وإنه لك خير منك له، ولينذرنك بما يكون الفراق بيني وبينك في
الآخرة، وكل من فرق علي بيني وبينه بعد وفاتي ففراقه جائز.
فقالت يا رسول الله ليتني مت قبل أن يكون ما تعدني.
فقال لها: هيهات هيهات! والذي نفسي بيده ليكونن ما قلت، حق كأني أراه
ثم قال لي: قم يا علي فقد وجبت صلاة الظهر، حتى آمر بلالا بالأذان
فأذن بلال وأقام وصلى وصليت معه ولم يزل في المسجد.
احتجاجه عليه السلام فيما يتعلق بتوحيد الله وتنزيهه عما لا يليق به من
صفات المصنوعين من الجبر والتشبيه والرؤية والمجيئ والذهاب والتغيير
والزوال والانتقال من حال إلى حال في أثناء خطبه ومجاري كلامه ومخاطباته
ومحاوراته.
الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعمه العادون، ولا يؤدي
حقه المجتهدون (2)

(1) وفي نسخة " فتصيرين " بدل تنصرفين.
(2) الحمد هو: الثناء على الجميل من نعمة وغيرها. والبلوغ هو الوصول أو
المشارفة. والمدحة: فعلة من المدح وهي: " الهيئة " كالجلسة للجالس، والركبة للراكب
والاحصاء: إنها العدد والإحاطة بالمعدود والمجتهد: من اجتهد في الأمر إذا بذل وسعه
وطاقته في طلبه.
في الجملة الأولى إشارة: إلى العجز عن القيام بالثناء عليه سبحانه كما يستحقه وكما
هو أهله، وهي في معنى قول النبي " ص ": " لا أحصي ثناءا عليك أنت كما أثنيت على نفسك "
وفي الجملة الثانية: اعتراف بالقصور عن القدرة على حصر أنعم الله على تعددها
وكثرتها بحيث لا يحيط بها حصر الإنسان، وهذه الجملة مقتبسة من قوله تعالى: " وإن
تعدوا نعمة الله لا تحصوها ".
وفي الثالثة: اعتراف بالعجز عن أداء شكر المنعم، وأداء حقه اللازم على العباد
مهما بذلوا من جهد، فكل حركة وسكون يصدران من الإنسان مستندان إلى وجوده تعالى
وهي نعمة منه تعالى على عباده ولذا جاء في الأثر: أن موسى " ع " سأل ربه قائلا: " يا رب
كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكر إلا بنعمة ثانية من نعمك " فأوحى الله تعالى
إليه: " إذا عرفت هذا فقد شكرتني ".
294

الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، (1) الذي ليس لصفته حد محدود
ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، (2) فطر الخلايق بقدرته،
ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه، (3) أول الدين معرفته،

(1) الهمم - جمع الهمة - وهي: العزم والجزم الثابت الذي لا يعتريه فتور.
والنيل: الإصابة. والفطن - جمع فطنة بالكسر - وهي: الحذق وجودة استعداد
الذهن لتصور ما يرد عليه.
بعد الهمم علوها وتعلقها بالأمور. العالية أي: إن الهمم وإن علت وبعدت لا يمكن
أن تدركه مهما حلقت في سماء المدارك العالية، كما أن الفطن الغائصة في بحار الأفكار هي
الأخرى لا تصل إلى كنه حقيقته.
(2) حد الشئ: منتهاه والنعت: الصفة والأجل: المدة المضروبة للشئ. أي ليس
لصفاته الذاتية من القدرة: والاختيار، والعلم، والحياة، حد معين ينتهي إليه ويقف
عنده كما هو الحال في الموجودات الممكنة فإنها جميعا لها حد تنقطع إليه وتقف عنده، كما
أنها لا تنعت بنعوت موجودة أي: زائدة متغيرة، فعلمه مثلا لا ينعت: بالزيادة والنقصان
- كما هو الحال بالنسبة لنا - وقدرته لا توصف بالقوة والضعف بل هو منزه عن كل
هذه النعوت وصفاته عين ذاته، كما أنها أزلية فليس لها وقت معدود، وأبدية فليس
لها أجل ممدود.
(3) فطر: خلق. والنشر: البسط. ووتد - بالتخفيف والتشديد - ثبت.
والميدان - بفتح الميم والياء - الحركة.
أي: سكن الأرض بعد اضطرابها وهي من قوله تعالى: " وجعلنا الجبال أوتادا "
وقوله: " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ".
295

وكمال معرفته التصديق به، وكمال تصديقه توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له
وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، (1) لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف،
وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه
فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، (2) ومن أشار إليه فقد حده
ومن حده فقد عده، ومن قال: " فيم؟ " فقد ضمنه، ومن قال: " على م؟ " فقد
أخلي منه، (3) كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شئ لا بمزايلة
فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من حلقه، متوحد إذ لا

(1) أول الدين معرفته أي: إن معرفته سبحانه أساس الطاعة والعبادة، فما لم
- يعرف لا يمكن أن يطاع، ولا تتم معرفته، ما لم يذعن العبد ويحكم: بوجوب وجوده
ولا يذعن ويحكم بوجوب وجوده، ما لم يؤمن ويحكم له بالوحدانية، وأنه لا شريك له
في ذاته، لأن الواجب لا يتعدد، ثم إن كمال هذا التوحيد يكون بالاخلاص له، وهو: إما جعله خاليا عن النقائص وسلب الجسمية والعرضية وأمثالها عنه، أو الإخلاص له
بالعمل وكمال هذا الإخلاص هو: نفي الصفات الزائدة عنه تعالى فصفاته تعالى عين ذاته
- علمه، وقدرته، وإرادته، وحياته، وسمعه، وبصره، كلها موجودة بوجود ذاته
الأحدية، وذاته جامعة ومستوعبة لها وهي عينها، وليست هي على كثرتها وتعدد معانيها
وتغاير مفهوماتها زائدة على الذات خارجة عنها.
(2) أي: من وصف الله سبحانه بصفة زائدة على ذاته خارجة عنها، " فقد
قرنه " بغيره في الوجود ومن " قرنه " بغيره فقد صيره ثانيا لقد يمين يصدق عليهما:
" واجب الوجود " وحينئذ يكون قد " جزأه " لأن كل واحد من القديمين جزء لذلك
الواجب، و " من جزأه " فقد " جهله " إذ جعله في عداد الممكنات، ولم يعرف الوجود
الواجب فهو لا يتعدد ولا يتجزأ كما هو ثابت في علم الكلام.
(3) ضمنه: جعله محتويا عليه وأخلي منه: جعله خاليا منه.
" ومن أشار إليه " سواء بالإشارة العقلية كأن يجعل له حدا منطقيا مركبا من
جنس وفصل، أو بالإشارة الحسية " فقد حده " وذلك أن كل مشار إليه لا بد أن يكون
في جهة ما، وكل ما هو في جهة فلا بد من أطراف وأقطار هي حدوده وينتهي عندها
و " من " فعل ذلك و " حده " " فقد عده " في عداد الممكنات. ومن قال " فيم " هو
فقد جعله ضمن شئ ومن قال " على م " هو فقد جعله مستعل على شئ وغير مستعل
على غير وحينئذ يكون قد " أخلي منه " ذلك الغير
296

سكن يستأنس به، ولا يستوحش لفقده (1) أنشأ الخلق إنشاءا: وابتدأه ابتداءا
بلا روية أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب
فيها، أحال الأشياء لأوقاتها، ولائم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها

(1) حدث الشئ: تجدد وجوده. والمزايلة: المفارقة. والسكن بفتحتين -:
ما يسكن إليه من أهل ومال.
هذه الفقرات كل منها مركبة من قضيتين، إحداهما موجبة، والأخرى سالبة،
والفرق بين الفقرتين الأوليتين " كائن لا عن حدث " و " موجود لا عن عدم " إذ
يبدو أن معناهما واحد في نفيهما تجدد الوجود، هو: أن الفقرة الأولى تنفي تجدد الحدوث
الزماني يعني أنه كائن منذ الأزل، والثانية تنفي التجدد الذاتي وتثبت وجوب وجوده
" مع كل شئ لا بمقارنة " كما أنه " غير كل شئ " ولكن " لا بمزايلة " ومفارقة،
فالمقارنة والمفارقة من الصفات الجسمانية وذاته المقدسة منزهة عن الجسمانيات فهو مع
كل شئ بمعنى أنه عالم بكل شئ محيط به، شاهد عليه، غير غائب عنه، ولكن هذه المعية
وتلك الغيرية ليست كما هي بالنسبة لنا من المقارنة والمفارقة التي هي من خصائص
الجسمية ولوازمها، وذاته المجردة لا تشبه شيئا من ذوات الموجودات الممكنة فهو " فاعل "
ولكن " لا بمعنى الحركات والآلة " ومن صيق الألفاظ نعبر عن صفاته القدسية بهذه
الألفاظ المتعارفة بيننا، والتي نطلقها عليه كما نطلقها على سائر الممكنات، تعالى الله عن
ذلك علوا كبيرا، " بصير " منذ الأزل (إذ لا منظور إليه من خلقه) (متوحد) في
سلطانه وملكوته (إذ لا سكن يستأنس به) و (لا) أنيس (يستوحش لفقده) فالوحشة
والأنس من لوازم الطبيعة الحيوانية، وهو منزه عنها.
297

أشباحها، عالما بها قبل ابتدائها، محيطا بحدودها وانتهائها، عارفا بقرائنها وأحنائها (1)
وقال عليه السلام في خطبة أخرى: (2)
أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفته توحيده، ونظام توحيده نفي الصفات
عنه، جل أن تحله الصفات بشهادة العقول: إن كل من حلته الصفات فهو مصنوع
وشهادة العقول: أنه جل جلاله صانع ليس بمصنوع، بصنع الله يستدل عليه، وبالعقول
يعتقد معرفته، وبالفكر تثبت حجته، جعل الخلق دليلا عليه، فكشف به ربوبيته،
هو الواحد الفرد في أزليته، لا شريك له في إلهيته، ولا ند له في ربوبيته،
بمضادته بين الأشياء المتضادة علم أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأمور المقترنة

(1) نشأ الشئ: حدث وتجدد. والابتداء: بمعنى الإنشاء والروية: الفكر
والتدبر، وأجال به: إذا أداره والتجربة: الاختبار. والهمامة: التردد. وأحال
الأشياء: صرفها وحولها ولائم: أصلح والغريزة: الطبيعة. والأشباح: الإشخاص
والإحاطة: الاستدارة والشمول والأحناء - جمع الحنوة -: الجانب والناحية.
(أنشأ الخلق إنشاءا) من غير مادة (وابتدأهم ابتداءا) من دون مثال سبق (بلا روية
أجالها) ولا فكر أداره (ولا تجربة استفادها) ولا خبرة اكتسبها من قبل (ولا
أحدثها) كالحركة الحادثة لنا إذا أردنا فعل شئ ما (ولا همامة نفس اضطرب فيها)
كما تتردد نفوسنا وتضطرب فكل هذه الأمور من لوازم الجسمية تقدست ذاته عنها (أحال
الأشياء) ونقلها وصرفها حسب مقتضيات الحكمة والمصلحة (لأوقاتها) للقضاء والقدر
وأصلح و (لائم بين) ما كان من عالم الغيب، كالأرواح المجردة، وما كان من عالم الشهود
كالأجسام المركبة، وغير ذلك من (مختلفاتها) كتوفيقه بين سائر العناصر (وغرز)
للأشياء (غرائزها) ثم خص كل جنس أو نوع بغرائزه الخاصة به (وألزمها أشباحها)
وأشخاصها (عالما بها قبل ابتدائها) كما هو عالم بها بعد إيجادها من غير فرق بين الحالين
(محيطا بحدودها وانتهائها) شاملا بقدرته وعلمه جميع أطرافها.
(2) إرشاد الشيخ المفيد " قده " أبو الحسن الهذلي عن الزهري وعيسى بن زيد
عن صالح بن كيسان عن أمير المؤمنين " ع " قال - في الحث على معرفة الله -: أول
عبادة الله معرفته.. الخ.
298

علم أن لا قرين له.
وقال عليه السلام في خطبة أخرى:
دليله آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه
وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة، إنه رب خالق غير مربوب مخلوق،
كل ما تصور فهو بخلافه.
ثم قال - بعد ذلك -:
ليس بآله من عرف بنفسه هو الدال بالدليل عليه، والمؤدي بالمعرفة إليه.
وقال عليه السلام في خطبة أخرى: (1).
لا يشمل بحد، ولا يحسب بعد، وإنما تحد الأدوات أنفسها، وتشير الآلات
إلى نظائرها، منعتها منذ القدمة، وحمتها قد الأزلية، وجنبتها لولا التكملة، بها
تجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون (2) لا تجري عليه الحركة

(1) تجد هذه الخطبة الجليلة - التي هي حقا من معجزات أمير المؤمنين " ع "
ولو لم تكن له معجزة سواها لكفى، كما لو لم يكن لرسول الله " ص " معجزة سوا أمير
المؤمنين " ع " لكفى - في ج 2 ص 142 من نهج البلاغة قال السيد الرضي " قدس سره "
" وتجمع هذه الخطبة من أصول العلوم ما لا تجمعه خطبة " وأولها كما هي مثبتة في النهج:
ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه، ولا
صمده من أشار إليه وتوهمه، كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول
فاعل لا باضطراب آلة، مقدور لا بجول فكرة، غني لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات
ولا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره
المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له، وبمقارنته
بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة، والجمود بالبلل
والحرور بالصرد، مؤلف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرب بين متباعداتها
مفرق بين متدانياتها، لا يشمل بحد.. الخ.
(2) " لا يشمل بحد " من الحدود المنطقية، المركبة من الجنس والفصل، وذاته
خالية من التركيب أو من الحدود والأبعاد الهندسية التي هي من لوازم الأجسام.
وذاته تعالى ليست بجسم.
" ولا يحسب بعد " لعدم المماثل له وواجب الوجود لا يتعدد كما هو ثابت في محله
كما أن صفاته عين ذاته غير زائدة عليها فلا تدخل تحت العدد، ولا بداية لوجوده حتى
يقال: كان منذ كذا وكذا " وإنما تحد الأدوات أنفسها " لتركبها من جنس وفصل،
ولكونها من الأجسام فتشملها الحدود والأبعاد الهندسية.
" وتشير الآلات إلى نظائرها " فتدخل تحت العدد وقد " منعتها - إطلاق لفظة:
منذ عليها - القدمة " في قولنا وجدت هذه الآلات والأدوات منذ كذا، ومتى كان للشئ
ابتداء فهو غير قديم.
" وحمتها - إطلاق لفظه قد عليها - الأزلية " في قولنا قد وجدت هذه الآلات
والأدوات منذ كذا لأن قد تفيد تقريب الزمان الماضي من الحال، ومتى تعين زمن
وجود الشئ انتفت أزليته.
(وجنبتها - إطلاق كلمة: لولا عليها - التكملة) في قولنا: ما أحسن هذه الآلات
والأدوات لولا أن فيها كذا لدلالتها على امتناع كمال الشئ لوجود نقص فيه.
ويمكن أن يكون المعنى: أن قدمه وأزليته وكماله منعت من إطلاق لفظة: (منذ
وقد، ولولا) على ذاته المقدسة، لدلالتها على الحدوث والابتداء والنقص.
(بها) بتلك الآلات والأدوات ببديع صنعها، بإتقانها، بحكمة تدبيرها (تجلى
صانعها للعقول) التي هي طبعا بعض تلك الآلات لدلالة الأثر على المؤثر (وامتنع) بدليل
تجرده وتنزهه عن المادة والجسمية واللون والجهة التي هي من لوازم المرئيات (عن
نظر العيون).
299

والسكون، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، ويعود إليه ما هو أبداه، ويحدث
فيه ما هو أحدثه، إذا لتفاوتت ذلته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه،
ولكان له وراء إذا وجد له إمام، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، وإذا لقامت
آية المصنوع فيه، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، (1) وخرج بسلطان

(1) الحركة سواء كانت بمعناها الفلسفي الذي هو: (الخروج من القوة إلى
الفعل) أو بمعناها الفيزيائي الذي هو: (الانتقال من مكان إلى آخر) فهي تتقوم
بالتدرج والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى آخر وتخلع صورة وتلبس أخرى
وتصل إلى جزء وتنفصل عن سابقه وهكذا، ويقابلها السكون الذي هو: (التوقف
والخمود فيما يقبل الحركة) والحركة والسكون كلاهما من الحوادث المستندة في وجودها
إلى علة، وحيث ثبت أن لا موجد إلا الله ولا خالق سواه فيكون هو الذي خلقهما وأجراهما
على نفسه، وأحدثهما في ذاته، ولاستحالة أن يكون مخلوقه جزء ذاته، نفى أمير المؤمنين
عليه السلام ذلك في صورة استفهام إنكاري في قوله، (وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟؟
ويعود إليه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه؟!) ثم إنه عليه السلام شرع في
إقامة الأدلة على استحالة هذه النسبة فقال:
1 - (إذا لتفاوتت ذاته) أي: تغيرت، لأنها تكون متحركة تارة وساكنة
أخرى فالحركة والسكون من الحوادث المتغيرة، فيكون محلا للحوادث، وذلك من لوازم
الإمكان، فيكون واجب الوجود ممكن الوجود، وهو مستحيل.
2 - (ولتجزأ كنهه) لأن الحركة والسكون من لوازم الأجسام والأجسام مركبة
فيلزم حقيقته التركيب وهو باطل.
3 - (ولامتنع من الأزل معناه) لأن الحركة والسكون من لوازم الأجسام الحادثة
والحادث لا يكون أزليا.
4 - (ولكان له وراء إذ وجد له إمام) إذ لو جرت عليه الحركة لكان له إمام
يتحرك نحوه وحينئذ يلزم أن يكون له وراء لأنهما أمران إضافيان لا ينفك أحدهما عن
الآخر وحينئذ يكون له وجهان وكل ذي وجهين منقسم وكل منقسم ممكن.
5 - (ولالتمس النمام إذ لزمه النقصان) إذ هو في حركته يتوجه نحو غاية إما
لجلب نفع أو لدفع ضرر، وذلك كمال مطلوب له لنقصان لازم لذاته وذلك يستلزم
الإمكان فهو باطل.
وإذا لقامت آية المصنوع فيه وثبت إمكانه وحدوثه وتحول دليلا يستدل بوجوده
على خالقه.
300

الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره، (1) الذي لا يحول، ولا يزول،

(1) أي خرج بسلطان امتناعه التجردي، وعدم شموله بحد، ودخوله تحت العدد
وامتناعه عن نظر العيون، وعدم جريان الحركة والسكون عليه خرج بهذا السلطان من
أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من الممكنات.
301

ولا يجوز عليه الأفول، (1) لم يلد فيكون مولودا، ولم يولد فيصير محدودا (2)
جل عن اتخاذ الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء، لا تناله الأوهام فتقدره، ولا تتوهمه
الفطن فتصوره، ولا تدركه الحواس فتحسه، ولا تلمسه الأيدي فتمسه، ولا يتغير
بحال، ولا يتبدل بالأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء والظلام،
ولا يوصف بشئ من الأجزاء، ولا الجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض
ولا بالغيرية والأبعاض، ولا يقال له حد ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أن
الأشياء تحويه، فتقله أو تهويه، ولا أن شيئا يحمله فيميله أو يعدله، (3) ليس في
الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج، يخبر لا بلسان ولهوات، ويسمع لا بخروق
وأدوات، يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفظ، ويريد ولا يضمر، يحب ويرضى
من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة، ويقول - لما أراد كونه -: " كن
فيكون " لا بصوت يقرع، ولا نداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه
ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا، (4) ولا يقال

(1) لا يحول: لا يتغير. والأفول: الغيبة.
(2) الولادة تحصل بانفصال شئ عن آخر من جنسه ونوعه، فالوالد والولد
يشتركان في النوع والصنف والعوارض، ولا يكون هذا الانفصال والتجزي إلا بواسطة
المادة القابلة للتجزأة، وإذا كان كذلك فهو متولد من مادة وصورة. ويحتمل أن يكون
المراد بالمولود المخلوق، فيكون المعنى لم يلد فيثبت كونه جسما مخلوقا. وعلى كلا التقديرين
سواء كان مولودا من مادة وصورة، أو كان جسما مخلوقا، فإنه يكون محدودا بالحدود
المنطقية، والأبعاد الهندسية.
(3) لا تناله الأوهام فنقدره بمقدار وكم، وشكل وكيف، والفطنة سرعة للفهم
ولا تتوهمه الفطن فتصوره بصور خيالية أو عقلية، ولا تدركه الحواس بنحو المباشرة
ولا تلمسه وتحسه الأيدي بنحو المماسة، ولا يتغير أبدا، ولا يوصف بالغيرية والأبعاض
فصفاته لا يغاير بعضها بعضا، وليس هو بذي مكان يحويه، فيرتفع بارتفاعه وينخفض
بانخفاضه، كما أنه غير محمول على شئ، فيميله إلى جانب، أو يعدله على ظهر من غير ميل
(4) يحفظ عباده ويحرسهم، ولا يتحرز ولا يخاف ويبغض ويغضب ولا
يستلزم بغضه وغضبه مشقة وانزعاجا، كما هو الحال بالنسبة لنا مما يستلزمانه فينا من
فوران دم القلب واضطرابه، يقول - لما أراد كونه - كن فيكون وليس المراد بالقول
هو التكلم الحقيقي حتى يكون له صوت يقرع الآذان فيسمع وإنما كلامه سبحانه هو
نفس فعله، وخلقه للأشياء وتصويرها ينشؤه ويمثله لجبرئيل في اللوح وليس هو بقديم
ولو كان قديما لكان إلها ثانيا.
302

له: " كان بعد أن لم يكن " فتجري عليه صفات المحدثات، ولا يكون بينه وبينها
فصل، ولا له عليها فضل، فيستوي الصانع والمصنوع، ويتكافأ المبتدع والبديع (1)
خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره (2) ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه
أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار (3) وأقامها بغير
قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصنها من الأود والاعوجاج، ومنعها من التهافت
والانفراج (4) أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها، وخد أوديتها (5)
فلم يهن ما بناه، ولا ضعف ما قواه، هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، والباطن لها
بعلمه ومعرفته، والعالي على كل شئ منها بجلالته وعزته، لا يعجزه شئ منها
طلبه، ولا يمتنع عليه فيغلبه، ولا يفوته السريع منها فيسبقه، ولا يحتاج إلى ذي
مال فيرزقه، خضعت الأشياء له، وظلت مستكينة لعظمته (6) لا تستطيع الهرب
من سلطانه إلى غيره، فتمتنع من نفعه وضره، ولا كفؤ له فيكافئه (7) ولا نظير
له فيساويه، هو المفني لها بعد وجودها، حتى يصير موجودها كمفقودها، وليس
فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها، وكيف! ولو اجتمع

(1) في بعض النسخ. (الصفات المحدثات).
(2) خلا: أي مضى.
(3) أرساها: أثبتها على غير قرار.
(4) الأود - بالتحريك - الاعوجاج. والتهافت. التساقط قطعة قطعة.
(5) الأسداد - جمع السد - بمعنى الجبل أو الحاجز. وبالضم بمعنى السحاب
الأسود. وخد: بمعنى شق
(6) الاستكانة: الخضوع.
(7) أي: يساويه في جوب الوجود
303

جميع حيوانها: من طيرها، وبهائمها، وما كان من مراحها، وسائمها، وأصناف
أشباحها، وأجناسها، ومتلبدة أممها وأكياسها (1) على إحداث بعوضة ما قدرت
على إحداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها ولتحيرت عقولها في علم ذلك
وتاهت، وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة حسيرة (2) عارفة بأنها مقهورة
مقرة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها، وأنه يعود سبحانه بعد فناء
الدنيا وحده لا شئ معه، كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها، لا وقت
ولا مكان، ولا حين ولا زمان، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات، وزالت السنون
والساعات، فلا شئ إلا الواحد القهار، الذي إليه مصير جميع الأمور، بلا قدرة
منها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع منها كان فنائها، ولو قدرت على الامتناع
لدام بقائها، لم يتكاده صنع شئ منها إذا صنعه، ولم يؤده منها خلق ما براه
وخلقه، ولم يكونها لتشديد سلطان، ولا لخوف من زوال ونقصان، ولا للاستعانة
بها على ند مكاثر، ولا للاحتراز بها من ضد مساور (3) ولا للإزدياد بها في ملكه
ولا لمكاثرة شريك في شركته، ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها، ثم
هو يفنيها بعد تكوينها لا لسأم دخل عليه من تصريفها وتدبيرها، ولا لراحة واصلة
إليه، ولا لثقل شئ منها عليه، لا يمله طول بقائها فيدعوه إلى نزعة إفنائها، لكنه
سبحانه دبرها بلطفه، وأمسكها بأمره، وأتقنها بقدرته، ثم يعيدها بعد الفناء
من غير حاجة منه إليها، ولا استعانة بشئ منها عليها، ولا لانصراف من حال
وحشة إلى حال استيناس، ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس، ولا من
فقر ولا حاجة إلى غنى وكثرة، ولا من ذل وضعة إلى عز وقدرة.

(1) المتلبدة: ذو البلادة ضد الأكياس.
(2) الخاسئ: الذليل الصاغر. والحسير: الكال المعيى.
(3) لم يتكاده: لم يشق عليه. لم يؤده: لم يثقله. الند: المثل. المكاثرة المغالبة
بالكثرة. المساورة: المواثبة.
304

ومن خطبة له عليه السلام: (1)
الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد (2) ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر
ولا تحجبه السواتر، الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده
وباشتباههم على أن لا شبه له، الذي صدق في ميعاده، وارتفع عن ظلم عباده،
وقام بالقسط في خلقه، وعدل عليهم في حكمه، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته
وبما وسمها به من العجز على قدرته، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه،
واحد لا بعدد، ودائم لا بأمد، وقائم لا بعمد، تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة (3)
وتشهد له المرائي لا بمحاضرة (4) لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها، وبها
امتنع منها، وإليها حاكمها (5) ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما
ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا، بل كبر شانا، وعظم سلطانا.
ومنها في الاستدلال عليه تعالى بعجيب خلقه من أصناف الحيوان وغيرها:
ولو فكروا في عظيم القرة، وجسيم النعمة، لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب
الحريق، ولكن القلوب عليلة، والأبصار مدخولة، أفلا ينظرون إلى صغير ما خلق
كيف أحكم خلقه، وأتقن تركيبه، وفلق له السمع والبصر، وسوى له العظم والبشر
انظروا إلى النملة في صغرة جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر،
ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على أرضها، وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى
جحرها، وتعدها في مستقرها، تجمع في حرها لبردها، وفي ورودها لصدورها،
مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنان، ولا يحرمها الديان، ولو في

(1) ج 2 ص 137 من نهج البلاغة.
(2) المراد بالشواهد: الحواس
(3) أي: لا بطريق المشاعر والأحاسيس.
(4) أي: المرئيات تشهد له بالوجود من غير أن يكون محسوسا معها.
(5) أي: لم تحط به العقول بل بها تجلى وظهر وثبت وجوده لها وبالنظر
والتعقل علمنا أنه ممتنع من أن تدركه العقول وجعل العقول السقيمة المدعية بالإحاطة به
تعالى خصمه، ثم حاكمها إلى العقول السليمة فحكمت عليها.
305

الصفاء اليابس، والحجر الجامس، ولو فكرت في مجاري أكلها، وفي علوها وسفلها
وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من
خلقتها عجبا، ولقيت من وصفها تعبا، فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبناها
على دعائمها، ولم يشركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه على خلقها قادر، ولو ضربت
في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطر
النحلة، لدقيق تفصيل كل شئ، وغامض اختلاف كل حي، وما الجليل واللطيف
والثقيل والخفيف، والقوي والضعيف في خلقه إلا سواء، كذلك السماء والهواء،
والريح والماء، فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر، والماء والحجر،
واختلاف هذا الليل والنهار، وتفجر هذه البحار والأنهار، وكثرة هذه الجبال
وطول هذه القلال، وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات، فالويل لمن أنكر
المقدر، أو جحد المدبر، وزعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع، ولا لاختلاف صورهم
صانع، لم يلجؤا إلى حجة فيما ادعوا، ولا تحقيق فيما أوعوا، وهل يكون بناء
من غير بأن، أو جناية من غير جان، وإن شئت قلت في الجرادة: إذ خلق لها
عينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين، وجعل لها السمع الخفي، وفتح
لها الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، ونابين بهما تقرض، ومنجلين بهما تقبض
ترهبها الزراع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبها ولو أجمعوا بجمعهم، حتى ترد
الحرث من نزواتها، وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكون إصبعا مستدقة،
فتبارك الله الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها، ويعفر له خدا
ووجها، ويلقي بالطاعة له سلما وضعفا، ويعطي له القياد رهبة وخوفا، والطير
مسخرة لأمره، أحصى عدد الريش منها والنفس، وأرسى قوائمها على الندى واليبس
قدر أقواتها وأحصى أجناسها، فهذا غراب، وهذا عقاب، وهذا حمام، وهذا نعام
دعا كل طائر باسمه، وكفل له برزقه، وأنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها،
وعدد قسمها، قبل الأرض بعد جفوفها، وأخرج نبتها بعد جدوبها.
306

وروي أنه وفد وفد من بلاد الروم إلى المدينة على عهد أبي بكر وفيهم
راهب من رهبان النصارى فأتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ومعه بختي موقر
ذهبا وفضة وكان أبو بكر حاضرا وعنده جماعة من المهاجرين والأنصار.
فدخل عليهم، وحياهم، ورحب بهم، وتصفح وجوههم، ثم قال:
أيكم خليفة رسول الله وأمين دينكم؟
فأومي إلى أبي بكر فأقبل إليه بوجهه ثم قال
أيها الشيخ ما اسمك؟ قال، عتيق. قال ثم ماذا؟ قال: صديق. قال: ثم
ماذا؟ قال: لا أعرف لنفسي اسما غيره فقال: لست بصاحبي فقال له: وما حاجتك؟
قال: أنا من بلاد الروم جئت منها ببختي موقر ذهبا وفضة، لأسأل أمين هذه الأمة
من مسألة إن أجابني عنها أسلمت، وبما أمرني أطعت، وهذا المال بينكم فرقت
وإن عجز عنها رجعت إلى الوراء بما معي ولم أسلم، فقال له أبو بكر: سل عما بدا لك.
فقال الراهب: والله لا أفتح الكلام ما لم تؤمني من سطوتك وسطوة أصحابك
فقال أبو بكر: أنت آمن، وليس عليك بأس، قل ما شئت.
فقال الراهب: أخبرني عن شئ: ليس لله، ولا من عند الله، ولا يعلمه الله.
فارتعش أبو بكر ولم يحر جوابا، فلما كان بعد هنيئة قال - لبعض أصحابه -:
ائتني بأبي حفص عمر. فجاء به فجلس عنده ثم قال:
أيها الراهب سله. فأقبل بوجهه إلى عمر وقال له مثل ما قال لأبي بكر
فما يحر جوابا
ثم أتى بعثمان، فجرا بين الراهب وعثمان مثل ما جرى بينه وبين أبي بكر
وعمر فلم يحر جوابا.
فقال الراهب: أشياخ كرام، ذووا فجاج لإسلام. ثم نهض ليخرج.
فقال أبو بكر: يا عدو الله لولا العهد لخضبت الأرض بدمك.
فقام سلمان الفارسي رضي الله عنه، أتى علي بن أبي طالب عليه السلام وهو
307

جالس في صحن داره مع الحسن والحسين عليهما السلام، وقص عليه القصة.
فقام علي عليه السلام وخرج ومعه الحسن الحسين عليهما السلام حتى أتى المسجد، فلما
رأى القوم عليا عليه السلام، كبروا الله، وحمدوا الله، وقاموا إليه أجمعهم، فدخل
علي عليه السلام وجلس فقال أبو بكر: أيها الراهب سله فإنه صاحبك وبغيتك، فأقبل
الراهب بوجهه إلى علي عليه السلام ثم قال:
يا فتى ما اسمك؟
قال: اسمي عند اليهود " إليا " وعند النصارى " إيليا " وعند والدي " علي "
وعند أمي " حيدرة "
قال: ما محلك من نبيكم؟
قال: أخي وصهري وابن عمي لحا.
قال: الراهب: أنت حاصبي ورب عيسى، أخبرني عن شئ ليس لله، ولا
من عند الله، ولا يعلمه الله.
قال: عليه السلام على الخبير سقطت:
أما قولك " ما ليس لله ": فإن الله تعالى أحد ليس له صاحبة ولا ولد.
وأما قولك " ولا من عند الله ": فليس من عند الله ظلم لأحد.
وأما قولك " لا يعلمه الله ": فإن الله لا يعلم له شريكا في الملك.
فقام الراهب، وقطع زناره، وأخذ رأسه وقبل ما بين عينيه، وقال: " أشهد
أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وأشهد أنك أنت الخليفة وأمين هذه الأمة،
ومعدن الدين والحكمة، ومنبع عين الحجة، لقد قرأت اسمك في التوراة إليا، وفي
الإنجيل إيليا، وفي القرآن عليا، وفي الكتب السابقة حيدرة، ووجدتك بعد النبي
وصيا، وللإمارة وليا، وأنت أحق بهذا المجلس من غيرك، فخبرني ما شأنك
وشأن القوم؟ " فأجابه بشئ فقام الراهب وسلم المال إليه بأجمعه، فما برح علي عليه السلام
مكانه حتى فرقه في مساكين أهل المدينة، ومحاويجهم، وانصرف الراهب إلى
قومه مسلما.
308

وروي أنه اتصل بأمير المؤمنين عليه السلام أن قوما من أصحابه خاضوا في التعديل
والتجريح فخرج حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال،
أيها الناس إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه، أراد أن يكونوا على آداب
رفيعة، وأخلاق شريفة، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأن يعرفهم: ما لهم،
وما عليهم، والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي، والأمر والنهي لا يجتمعان إلا
بالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلا بالترغيب والوعيد لا يكون إلا بالترهيب
والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم، وتلذ أعينهم، والترهيب لا يكون إلا
بضد ذلك، ثم خلقهم في داره وأراهم طرفا من اللذات، ليستدلوا به على ما ورائهم
من اللذات الخالصة التي لا يشوبها ألم، ألا وهي الجنة، وأراهم طرفا من الآلام
ليستدلوا به على ما ورائهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذة، ألا وهي النار
فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطا بمحنها، وسرورها ممزوجا بكدرها وهمومها
قيل: فحدث الجاحظ (1) بهذا الحديث، فقال: هو جماع الكلام الذي دونه
الناس في كتبهم، وتحاوره بينهم.
قيل: ثم سمع أبو علي الجبائي (2) بذلك، فقال صدق الجاحظ هذا ما لا
يحتمله الزيادة والنقصان.

(1) الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الليثي البصري اللغوي النحوي
كان من غلمان النظام، وكان مائلا إلى النصب والعثمانية، وله كتب منها: " العثمانية "
التي نقض عليها أبو جعفر الإسكافي، والشيخ المفيد، والسيد أحمد بن طاووس، وطال
عمره وأصابه الفالج في آخر عمره ومات في البصرة سنة 255.
الكنى والألقاب ج 2 ص 121
(2) الجبائي: أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان
مولى عثمان بن عفان " ويطلق " على ابنه أبي هاشم عبد السلام بن محمد ويقال لهما: الجبائيان
وكلاهما من رؤساء المعتزلة، ولهما مقالات على مذهب الاعتزال، والكتب الكلامية
مشحونة بمذاهبهما واعتقاد هما، توفي أبو علي الجبائي سنة 303.
الكنى والألقاب ج 2 ص 126
309

وروي عن علي بن محمد العسكري عليهما السلام - في رسالته إلى أهل الأهواز
في نفي الجبر والتفويض (1) -: أنه قال:
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنه سأله رجل بعد انصرافه من الشام فقال:
يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أبقضاء وقدر؟
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: نعم يا شيخ ما علوتم تلعة (2) ولا هبطتم بطن
واد إلا بقضاء من عند الله وقدر.
فقال الرجل: عند الله أحتسب عنائي، والله ما أرى لي من الأجر شيئا.
فقال علي عليه السلام: بلى فقد عظم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم ذاهبون،
وعلى منصرفكم وأنتم منقلبون، ولم يكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين، ولا
إليه مضطرين.
فقال الرجل: وكيف لا نكون مضطرين والقضاء والقدر ساقانا، وعنهما
كان مسيرنا؟!
فقال أمير المؤمنين عليه السلام لعلك أردت قضاءا لازما، وقدرا حتما ولو كان كذلك لبطل
الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من الله والنهي، وما كانت تأتي من
الله لائمة لمذنب، ولا محمدة لمحسن، ولا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب،

(1) تتلخص عقيدتنا نحن الشيعة الإمامية الاثني عشرية في " القضاء والقدر "
بما يلي: لما كان الله سبحانه وتعالى مفيض الوجود ومعطية، فالأفعال الصادرة منا
تكون داخلة تحت سلطانه، ومن جملة مقدوراته، ومن ناحية كونها صادرة منا ونحن
أسبابها الطبيعية فهي داخلة تحت قدرتنا واختيارنا، وهو لم يجبرنا عليها، بل أعطانا
للقدرة والاختيار في أفعالنا ولذا فهو حين يعاقبنا على المعاصي لا يكون ظالما لنا. ولا
فوض خلقها إلينا حتى تخرج عن سلطانه وخلاصة الكلام إننا نقول بالطريق الوسط في
القول بين القولين كما علمنا أئمتنا عليهم السلام وكما قال إمامنا الصادق عليه السلام:
" لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ".
(2) التلعة: ما علا من الأرض.
310

ولا المذنب أولى بعقوبة الذنب من المحسن، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان، وجنود
الشيطان، وخصماء الرحمن، وشهداء الزور والبهتان، وأهل العمى والطغيان (1) هم قدرية
هذه الأمة ومجوسها، إن الله تعالى أمر تخييرا، وكلف يسيرا، ولم يعص مغلوبا، ولم يطع
مكرها، ولم يرسل الرسل هزلا، ولم ينزل القرآن عبثا، ولم يخلق السماوات
والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار
ثم تلى عليهم: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " (2) قال: فنهض الرجل
مسرورا وهو يقول:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته * يوم النشور من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا * جزاك ربك عنا فيه إحسانا
وليس معذرة في فعل فاحشة * قد كنت راكبها فسقا وعصيانا
كلا ولا قائلا ناهيه أوقعه * فيه عبدت إذا يا قوم شيطانا
ولا أحب ولا شاء الفسوق ولا * قتل الولي له ظلما وعدوانا
أنى يحب وقد صحت عزيمته * على الذي قال أعلن ذاك إعلانا
وروي أن رجلا قال: فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟ قال:
الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية، والمعونة
على القربة إليه، والخذلان لمن عصاه، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، كل
ذلك قضاء الله في أفعالنا، وقدره لأعمالنا، وأما غير ذلك فلا تظنه فإن الظن له
محبط للأعمال.
فقال الرجل: فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك.
وروي أنه سئل عن القضاء والقدر فقال:
لا تقولوا: وكلهم الله عليه أنفسهم فتوهنوه، ولا تقولوا أجبرهم على المعاصي
فتظلموه، ولكن قولوا: الخير بتوفيق الله، والشر بخذلان الله، وكل سابق
في علم الله.

(1) في بعض النسخ " أهل الغي والطغيان ".
(2) الإسراء - 23.
311

وروى أهل السير: أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال:
يا أمير المؤمنين خبرني عن الله أرأيته حين عبدته؟
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: لم أك بالذي أعبد من لم أره.
فقال له: كيف رأيته يا أمير المؤمنين؟
فقال له: يا ويلك لم تره العيون بمشاهدة العيان، لكن رأته العقول بحقايق
الإيمان، معروف بالدلالات، منعوت بالعلامات، لا يقاس بالناس، ولا يدرك بالحواس
فانصرف الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وروي أن بعض الأحبار جاء إلى أبي بكر فقال له:
أنت خليفة نبي هذه الأمة؟
فقال: نعم.
قال: فإنا نجد في التوراة أن خلفاء الأنبياء أعلم أممهم، فخبرني عن الله
أين هو أفي السماء أم في الأرض؟
فقال له أبو بكر: في السماء على العرش.
قال اليهودي: فأرى الأرض خالية منه، وأراه - على هذا القول - في
مكان دون مكان.
فقال أبو بكر: هذا كلام الزنادقة أعزب عني (1) وإلا قتلتك.
فولى الرجل متعجبا يستهزئ بالإسلام، فاستقبله أمير المؤمنين عليه السلام فقال
له: يا يهودي قد عرفت ما سألت عنه، وما أجبت به، وإنا نقول:
إن الله عز وجل أين الأين فلا أين له، وجل عن أن يحويه مكان، وهو في
كل مكان، بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علما بها، (2) ولا يخلق شئ من تدبيره
تعالى، وإني مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدق ما ذكرته لك، فإن
عرفته أتؤمن به؟ قال اليهودي: نعم. قال:

(1) عزب: غاب وخفي فهو " عازب ".
(2) وفي بعض النسخ: " بما فيها ".
312

ألستم تجدون في بعض كتبكم: أن موسى بن عمران كان ذات يوم جالسا
إذ جاءه ملك من المشرق، فقال له: من أين جئت؟ فقال: من عند الله. وجاءه
ملك آخر من المغرب فقال له: من أين جئت؟ فقال: من عند الله. ثم جاءه ملك
فقال: من أين جئت؟ فقال: قد جئتك من السماء السابعة من عند الله عز وجل.
وجاء ملك آخر قال: قد جئتك من الأرض السابعة السفلى من عند الله عز وجل
فقال موسى عليه السلام: سبحان من لا يخلو منه مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب من
مكان، فقال اليهودي: أشهد أن هذا هو الحق المبين، وأنك أحق بمقام نبيك
ممن استولى عليه.
وروى الشعبي: أنه سمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلا يقول: " والذي احتجب
بسبع طباق " فعلاه بالدرة ثم قال له:
يا ويلك إن الله أجل من أن يحتجب عن شئ، أو يحتجب عنه شئ، سبحان
الذي لا يحويه مكان، ولا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء، فقال الرجل:
فأكفر عن يميني يا أمير المؤمنين؟.
قال: لم تحلف بالله فيلزمك كفارة، فإنما حلفت بغيره.
وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:
جاء حبر من الأحبار إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين متى
كان ربك؟
فقال له: ثكلتك أمك ومتى لم يكن حتى يقال: متى كان؟! كان ربي
قبل القبل بلا قبل، وبعد البعد بلا بعد، ولا غاية ولا منتهى لغايته انقطعت الغايات
عنه فهو منتهى كل غاية.
فقال: يا أمير المؤمنين أفنبي أنت؟ فقال: ويلك إنما أنا عبد من عبيد محمد.
* * *
313

احتجاجه (ع) على اليهود من أحبارهم ممن قرأ الصحف والكتب في
معجزات النبي صلى الله عليه وآله وكثير من فضائله.
روي عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن الحسين بن علي عليهما السلام
قال: إن يهوديا من يهود الشام وأحبارهم كان قد قرأ التوراة والإنجيل والزبور
وصحف الأنبياء عليهم السلام وعرف دلائلهم، جاء إلى مجلس فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
وفيهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو سعيد الجهني.
فقال: يا أمة محمد ما تركتم لنبي درجة، ولا لمرسل فضيلة، إلا أنحلتموها
نبيكم، فهل تجيبوني عما أسألكم عنه؟ فكاع القوم عنه (1).
فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: نعم ما أعطى الله نبيا درجة، ولا مرسلا
فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد صلى الله عليه وآله وزاد محمدا على الأنبياء أضعافا مضاعفة.
فقال له اليهودي: فهل أنت مجيبي؟
قال له: نعم سأذكر لك اليوم من فضائل رسول الله صلى الله عليه وآله ما يقر الله به
عين المؤمنين، ويكون فيه إزالة لشك الشاكين في فضائله صلى الله عليه وآله، إنه كان إذا ذكر
لنفسه فضيلة قال: " ولا فخر " وأنا أذكر لك فضائله غير مزر بالأنبياء، ولا منتقص
لهم، ولكن شكرا لله على ما أعطى محمدا صلى الله عليه وآله مثل ما أعطاهم، وما زاده الله وما
فضله عليهم.
قال له اليهودي: إني أسألك فأعد له جوابا.
قال له علي عليه السلام: هات.
قال اليهودي: هذا آدم عليه السلام أسجد الله له ملائكته، فهل فعل لمحمد شيئا من هذا؟
فقال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، أسجد الله لآدم ملائكته فإن سجودهم
له لم يكن سجود طاعة، وإنهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل، ولكن اعترافا
بالفضيلة، ورحمة من الله له، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله

(1) كاع القوم عنه: هابوه وجبنوا.
314

عز وجل صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها، وتعبد المؤمنين بالصلاة عليه
فهذه زيادة له يا يهودي.
قال له اليهودي: فإن آدم عليه السلام تاب الله عليه بعد خطيئته؟
قاله له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد نزل فيه ما هو أكبر من هذا من
غير ذنب أتى، قال الله عز وجل: " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " (1)
إن محمدا غير مواف يوم القيامة بوزر، ولا مطلوب فيها بذنب.
قال اليهودي: فإن هذا إدريس رفعه الله عز وجل مكانا عليا، وأطعمه من
تحف الجنة بعد وفاته؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من هذا
إن الله جل ثناؤه قال فيه: " ورفعنا لك ذكرك " (2) فكفى بهذا من الله رفعة،
ولئن أطعم إدريس من تحف الجنة بعد وفاته، فإن محمدا أطعم في الدنيا في حياته: بينما
يتضور جوعا فأتاه جبرئيل عليه السلام بجام من الجنة فيه تحفة، فهلل الجام وهللت التحفة
في يده، وسبحا، وكبرا، وحمدا، فناولها أهل بيته، ففعلت الجام مثل ذلك،
فهم أن يناولها بعض أصحابه فتناولها جبرئيل عليه السلام وقال له: كلها فإنها تحفة من
الجنة أتحفك الله بها، وأنها لا تصلح إلا لنبي أو وصي نبي، فأكل منها صلى الله عليه وآله
وأكلنا معه، وإني لأجد حلاوتها ساعتي هذه.
قال اليهودي: فهذا نوح عليه السلام صبر في ذات الله تعالى، وأعذر قومه إذ كذب؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله صبر في ذات الله عز وجل
فأعذر قومه إذ كذب، وشرد، وحصب بالحصا، وعلاه أبو لهب بسلا ناقة وشاة،
فأوحي الله تبارك وتعالى إلى جابيل ملك الجبال، أن شق الجبال وانته إلى أمر
محمد فأتاه فقال: إني أمرت لك بالطاعة فإن أمرت أن أطبق عليهم الجبال فأهلكتهم
بها، قال صلى الله عليه وآله: " إنما بعثت رحمة رب أهد أمتي فإنهم لا يعلمون " ويحك
يا يهودي إن نوحا لما شاهد غرق قومه رق عليهم رقة القرابة، وأظهر عليهم شفقة

(1) الفتح - 2.
(2) الشرح - 4.
315

فقال: " رب إن ابني من أهلي (1) " فقال الله تعالى: " إنه ليس من أهلك إنه
عمل غير صالح (2) " أراد جل ذكره أن يسليه بذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله لما غلبت عليه
من قومه المعاندة شهر عليهم سيف النقمة، ولم تدركه فيهم رقة القرابة، ولم ينظر
إليهم بعين رحمة.
فقال اليهودي: فإن نوحا دعا ربه، فهطلت السماء بماء منهمر؟
قال له عليه السلام: لقد كان كذلك، وكانت دعوته دعوة غضب، ومحمد صلى الله عليه وآله
هطلت له السماء بماء منهمر رحمة، وذلك أنه صلى الله عليه وآله لما هاجر إلى المدينة أتاه
أهلها في يوم جمعة فقالوا له: يا رسول الله صلى الله عليه وآله احتبس القطر، واصفر العود،
وتهافت الورق، فرفع يده المباركة حتى رأي بياض إبطه، وما ترى في السماء
سحابة، فما برح حتى سقاهم الله حتى أن الشاب المعجب بشبابه لهمته نفسه في
الرجوع إلى منزله فما يقدر على ذلك من شدة السيل، فدام أسبوعا، فأتوه في الجمعة
الثانية فقالوا: يا رسول الله تهدمت الجدر، واحتبس الركب والسفر، فضحك صلى الله عليه وآله
وقال: هذه سرعة ملالة ابن آدم، ثم قال: " اللهم حوالينا ولا علينا اللهم في أصول
الشيح ومراتع البقع " (3) فرأي حوالي المدينة المطر يقطر قطرا، وما يقع
بالمدينة قطرة، لكرامته صلى الله عليه وآله عز وجل.
قال له اليهودي: فإن هذا هود قد انتصر الله من أعدائه بالريح، فهل
فعل لمحمد صلى الله عليه وآله شيئا من هذا؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من هذا
إن الله عز وجل قد انتصر له من أعدائه بالريح يوم الخندق، إذ أرسل عليهم ريحا
تذروا الحصى، وجنودا لم يروها، فزاد الله تعالى محمدا صلى الله عليه وآله بثمانية ألف ملك،
وفضله على هود، بأن ريح عاد ريح سخط، وريح محمد ريح رحمة، قال الله تعالى:

(1) هود - 45.
(2) هود - 46.
(3) الشيح نبات أنواعه كثيرة، كله طيب الرائحة. والمراتع جمع مرتع وهو
موضع الرتع أي: الخصب والبقع جمع بقعة: القطعة من الأرض.
316

" يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جائكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا
وجنودا لم تروها (1) "
قال له اليهودي: فهذا صالح أخرج الله له ناقة جعلها لقومه عبرة؟
قال علي عليه السلام لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من ذلك،
إن ناقة صالح لم تكلم صالحا، ولم تناطقه ولم تشهد له بالنبوة، ومحمد صلى الله عليه وآله بينما
نحن معه في بعض غزواته إذا هو ببعير قد دنا، ثم رغا فأنطقه الله عز وجل فقال:
" يا رسول الله فلانا استعملني حتى كبرت، ويريد نحري، فأنا أستعيذ بك منه "
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله إلى صاحبه فاستوهبه منه، فوهبه له وخلاه، ولقد كنا معه
فإذا نحن بأعرابي معه ناقة له يسوقها، وقد استسلم للقطع لما زور عليه من الشهود
فنطقت الناقة فقالت: " يا رسول الله إن فلأنا مني برئ، وإن الشهود يشهدون
عليه بالزور، وإن سارقي فلان اليهودي ".
قال له اليهودي: فإن هذا إبراهيم قد تيقظ بالاعتبار على معرفة الله تعالى
وأحاطت دلالته بعلم الإيمان؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك وأعطي محمدا أفضل منه، وتيقظ إبراهيم
وهو ابن خمسة عشر سنة ومحمد ابن سبع سنين، قدم تجار من النصارى فنزلوا
بتجارتهم بين الصفا والمروة، فنظر إليه بعضهم فعرفه بصفته ورفعته، وخبر مبعثه
وآياته، فقالوا: يا غلام ما اسمك؟ قال: محمد قالوا: ما اسم أبيك؟ قال: عبد الله
قالوا: ما اسم هذه؟ وأشاروا بأيديهم إلى الأرض قال: الأرض قالوا، وما اسم
هذه؟ وأشاروا بأيديهم إلى السماء قال: السماء قالوا: فمن ربهما؟ قال: الله. ثم
انتهرهم وقال: أتشككوني في الله عز وجل؟! ويحك يا يهودي لقد تيقظ بالاعتبار
على معرفة الله عز وجل مع كفر قومه إذ هو بينهم: يستقسمون بالأزلام، ويعبدون
الأوثان، وهو يقول: لا إله إلا الله.
قال له اليهودي: فإن إبراهيم عليه السلام حجب عن نمرود بحجب ثلاث؟

(1) التوبة - 26.
317

قال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله حجب عمن أراد قتله بحجب
خمس، فثلاثة بثلاثة واثنان فضل، قال الله عز وجل - وهو يصف أمر محمد صلى الله عليه وآله -:
" وجعلنا من بين أيديهم سدا " فهذا الحجاب الأول " ومن خلفهم سدا " فهذا الحجاب
الثاني " فأغشيناهم فهم لا يبصرون (1) " فهذا الحجاب الثالث ثم قال: " إذا قرأت
القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا (2) " فهذا
الحجاب الرابع ثم قال: " فهي إلى الأذقان فهم مقمحون " فهذه حجب خمس.
قال له اليهودي: فإن هذا إبراهيم قد بهت الذي كفر ببرهان نبوته؟
قال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أتاه مكذب بالبعث بعد الموت
وهو: أبي بن خلف الجمعي معه عظم نخر ففركه ثم قال: يا محمد " من يحيي العظام
وهي رميم (3) "؟ فأنطق الله محمدا بمحكم آياته، وبهته ببرهان نبوته، فقال:
" يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (4) " فانصرف مبهوتا.
قال له اليهودي: فهذا إبراهيم جذ أصنام (5) قومه غضبا لله عز وجل؟
قال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله قد نكس عن الكعبة ثلاثمائة
وستين صنما، ونفاها عن جزيرة العرب، وأذل من عبدها بالسيف.
قال له اليهودي: فإن إبراهيم قد أضجع ولده وتله للجبين (6)؟
فقال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ولقد أعطي إبراهيم بعد الاضطجاع
الفداء، ومحمد أصيب بأفجع منه فجيعة إنه وقف على عمه حمزة أسد الله، وأسد رسوله
وناصر دينه، وقد فرق بين روحه وجسده، فلم يبن عليه حرقة، ولم يفض عليه
عبرة، ولم ينظر إلى موضعه من قلبه وقلوب أهل بيته ليرضي الله عز وجل بصبره
ويستسلم لأمره في جميع الفعال، وقال صلى الله عليه وآله: لولا أن تحزن صفية لتركته حتى

(1) يس - 9.
(2) الإسراء - 45.
(3) يس - 78.
(4) يس - 79.
(5) جذ أصنامهم: استأصلها إشارة إلى قوله تعالى " فجعلهم جذاذا " أي فتانا مستأصلين
(6) تله: إشارة إلى قوله تعالى: وتله للجبين أي: صرعه وهو كقولهم كبه لوجهه.
318

يحشر من بطون السباع، وحواصل الطير، ولولا أن يكون سنة بعدي لفعلت ذلك.
قال له اليهودي: فإن إبراهيم عليه السلام قد أسلمه قومه إلى الحريق فصبر فجعل
الله عز وجل عليه النار بردا وسلاما (1) فهل فعل بمحمد شيئا من ذلك؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله لما نزل بخيبر سمته الخيبرية
فصير الله السم في جوفه بردا وسلاما إلى منتهى أجله، فالسم يحرق إذا استقر في
الجوف كما أن النار تحرق، فهذا من قدرته لا تنكره.
قال له اليهودي: فإن هذا يعقوب عليه السلام أعظم في الخير نصيبه إذ جعل الأسباط
من سلالة صلبه، ومريم بنت عمران من بناته؟
قال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعظم في الخير نصيبا إذ جعل
فاطمة سيدة نساء العالمين من بناته، والحسن والحسين من حفدته.
قال له اليهودي: فإن يعقوب عليه السلام قد صبر عليه فراق ولده حتى كاد
يحرض (2) من الحزن.
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، حزن يعقوب حزنا بعده تلاق، ومحمد صلى الله عليه وآله
قبض ولده إبراهيم عليه السلام قرة عينه في حياته منه، فخصه بالاختيار، ليعظم له الادخار
فقال صلى الله عليه وآله: يحزن النفس، ويجزع القلب، وأنا عليك يا إبراهيم لمحزونون،
ولا نقول ما يسخط الرب، في كل ذلك يؤثر الرضا عن الله عز وجل، والاستسلام
له في جميع الفعال.
قال له اليهودي: فإن هذا يوسف قاسى مرارة الفرقة، وحبس في السجن
توقيا للمعصية، والقي في الجب وحيدا؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله قاسى مرارة الغربة، وفراق
الأهل والأولاد والمال، مهاجرا من حرم الله تعالى وأمنه، فلما رأى الله عز وجل
كآبته واستشعاره والحزن، أراه تبارك اسمه رؤيا توازي رؤيا يوسف في تأويلها

(1) إشارة إلى قوله تعالى: " وقلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وآل إبراهيم "
(2) يحرض: يهلك.
319

وأبان للعالمين صدق تحقيقها، فقال: " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن
المسجد الحرام إنشاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين لا تخافون (1) " ولئن
كان يوسف عليه السلام حبس في السجن، فلقد حبس رسول الله نفسه في الشعب ثلاث
سنين، وقطع منه أقاربه وذووا الرحم والجأوه إلى أضيق المضيق، ولقد كادهم الله عز
ذكره له كيدا مستبينا، إذ بعث أضعف خلقه فأكل عهدهم الذي كتبوه بينهم في
قطيعة رحمه، ولئن كان يوسف ألقي في الجب، فلقد حبس محمد نفسه مخافة عدوه
في الغار حتى قال لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، ومدحه إليه بذلك في كتابه.
فقال له اليهودي: فهذا موسى بن عمران آتاه الله عز وجل التوراة التي
فيها حكمه؟
قال له علي عليه السلام: فلقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل منه
أعطي محمد البقرة وسورة المائدة بالإنجيل، وطواسين وطه ونصف المفصل والحواميم
بالتوراة، وأعطي نصف المفصل والتسابيح بالزبور، وأعطي سورة بني إسرائيل
وبرائة بصحف إبراهيم وموسى عليهما السلام، وزاد الله عز وجل محمدا السبع الطوال (2)
وفاتحة الكتاب (3) وهي السبع المثاني والقرآن العظيم وأعطي الكتاب والحكمة.
قال له اليهودي: فإن موسى ناجاه الله على طور سيناء؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ولقد أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وآله عند
سدرة المنتهى، فمقامه في السماء محمود، وعند منتهى العرش مذكور.
قال اليهودي: فلقد ألقى الله على موسى بن عمران محبة منه؟
قال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، وقد أعطي محمد صلى الله عليه وآله ما هو أفضل من
هذا، لقد ألقى الله محبة منه فمن هذا الذي يشركه في هذا الاسم إذ تم من الله به

(1) الفتح - 27.
(2) السبع الطوال من البقرة إلى الأعراف والسابعة سورة يونس، أو " الأنفال
وبراءة " لأنهما سورة واحدة عند بعض.
(3) هي سورة الحمد.
320

الشهادة فلا تتم الشهادة إلا أن يقال: " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول
الله " ينادى به على المنابر فلا يرفع صوت بذكر الله إلا رفع بذكر محمد صلى الله عليه وآله معه.
قال له اليهودي: فلقد أوحى الله إلى أم موسى لفضل منزلة موسى عليه السلام عند الله
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ولقد لطف الله جل ثناؤه لأم محمد صلى الله عليه وآله
بأن أوصل إليها اسمه، حتى قالت: أشهد والعالمون: أن محمدا رسول الله منتظر
وشهد الملائكة على الأنبياء أنهم أثبتوه في الأسفار، وبلطف من الله ساقه إليها، وأوصل
إليها اسمه لفضل منزلته عنده، حتى رأت في المنام أنه قيل لها: إن ما في بطنك
سيد، فإذا ولدته فسميه محمدا، فاشتق الله له اسما من أسمائه، فالله المحمود وهذا محمد
قال له اليهودي: فإن هذا موسى بن عمران قد أرسله الله إلى فرعون وأراه
الآية الكبرى؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد أرسل إلى فراعنة شتى، مثل أبي
جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة، وأبي البختري، والنضر بن الحرث،
وأبي بن خلف، ومنبه ونبيه ابني الحجاج، وإلى الخمسة المستهزئين: الوليد بن
المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد يغوث الزهري،
والأسود بن المطلب، والحرث بن أبي الطلالة، فأراهم الآيات في الآفاق وفي
أنفسهم حتى يتبين لهم أنه ألحق.
قال له اليهودي: لقد انتقم الله عز وجل لموسى من فرعون؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ولقد انتقم الله جل اسمه لمحمد صلى الله عليه وآله
من الفراعنة، فأما المستهزؤون فقال الله: " إنا كفيناك المستهزئين " (1) فقتل الله
خمستهم كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد، فأما الوليد بن المغيرة:
فمر بنبل لرجل من جزاعة قد راشه (2) ووضعه في الطريق فأصابه شظية (3) منه

(1) الحجر - 95.
(2) راش السهم: الزق عليه الريش.
(3) الشظية: الفلقة من العصا ونحوها.
321

فانقطع أكحله (1) حتى أدماه، فمات وهو يقول: " قتلني رب محمد " وأما العاص
ابن الوائل السهمي: فإنه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده (2) تحته حجر،
فسقط فتقطع قطعة قطعة، فمات وهو يقول: (قتلي رب محمد) وأما الأسود بن عبد
يغوث: فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة، فاستظل بشجرة، فأتاه جبرئيل فأخذ
رأسه فنطح به الشجرة، فقال لغلامه: امنع هذا عني فقال: ما أرى أحدا يصنع
شيئا إلا نفسك، فقتله وهو يقول: " قتلني رب محمد " وأما الأسود بن الحرث: فإن
النبي صلى الله عليه وآله دعا عليه أن يعمي الله بصره، وأن يثكله ولده، فلما كان في ذلك اليوم
خرج حتى صار إلى موضع أتاه جبرئيل بورقة خضراء فضرب بها وجهه فعمي،
فبقي حتى أثكله الله ولده، وأما الحرث بن أبي الطلالة: فإنه خرج من بيته في
السموم فتحول حبشيا، فرجع إلى أهله فقال: أنا الحرث، فغضبوا عليه فقتلوه
وهو يقول: " قتلني رب محمد ".
وروي أن الأسود بن الحرث أكل حوتا مالحا فأصابه غلبة العطش، فلم يزل
يشرب الماء حتى انشق بطنه، فمات وهو يقول: " قتلني رب محمد " (3) كل ذلك في
ساعة واحدة، وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا له: يا محمد ننتظر
بك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك وإلا قتلناك، فدخل النبي صلى الله عليه وآله منزله فأغلق
عليه بابه مغتما لقولهم، فأتاه جبرئيل عن الله من ساعته فقال: يا محمد السلام يقرأ
عليك السلام وهو يقول لك: " اصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " (4) يعني
أظهر أمرك لأهل مكة، وادعهم إلى الإيمان، قال، يا جبرئيل كيف أصنع بالمستهزئين
وما أوعدوني؟ قال له: " إنا كفيناك المستهزئين " قال: يا جبرئيل كانوا الساعة
بين يدي قال: كفيتهم، وأظهر أمره عند ذلك، وأما بقية الفراعنة: قتلوا يوم

(1) الأكحل: عرق في اليد يفصد.
(2) تدهده: تدحرج.
(3) الظاهر أن هذا الكلام للمؤلف رحمه الله أدخله في الخبر.
(4) الحجر - 94.
322

بدر بالسيف، (1) فهزم الله الجميع وولوا الدبر.
قال له اليهودي: فإن هذا موسى بن عمران قد أعطي العصا فكان تحول ثعبانا؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله ما هو أفضل من هذا،
إن رجلا كان يطالب أبا جهل بدين ثمن جزور قد اشتراه، فاشتغل عنه وجلس
يشرب، فطلبه الرجل فلم يقدر عليه، فقال له بعض المستهزئين: من تطلب؟
فقال: عمرو بن هشام - يعني أبا جهل - لي عليه دين، قال، فأدلك على من
يستخرج منه الحقوق؟ قال: نعم. فدله على النبي صلى الله عليه وآله وكان أبو جهل يقول:
ليت لمحمد إلي حاجة فأسخر به وأرده، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد
بلغني أن بينك وبين عمرو بن هشام حسن صداقة، وأنا أستشفع بك إليه، فقام معه
رسول الله صلى الله عليه وآله فأتى بابه، فقال له، قم يا أبا جهل فأد إلى الرجل حقه، وإنما
كناه بأبي جهل ذلك اليوم، فقام مسرعا حتى أدى إليه حقه، فلما رجع إلى مجلسه
قال له بعض أصحابه: فعلت ذلك فرقا من محمد (2) قال: ويحكم أعذروني، إنه
لما أقبل رأيت عن يمينه رجالا معهم (3) حراب تتلألأ، وعن يساره ثعبانين تصطك
أسنانهما، وتلمع النيران من أبصارهما، لو امتنعت لم آمن أن يبعجوا بالحراب
بطني (4) وتقضمني الثعبانان، هذا أكبر مما أعطي موسى، وزاد الله محمدا ثعبانا

(1) روي عن ابن مسعود قال:
كنا مع النبي " ص " فصلى في ظل الكعبة، وناس من قريش وأبو جهل نحروا
جزورا في ناحية مكة، فبعثوا وجاءوا بسلاه فطرحوه بين كتفيه، فجاءت فاطمة عليها
السلام فطرحته عنه، فلما انصرف قال:
" اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بأبي جهل، وبعتبة، وشيبة، ووليد بن
عتبة، وأمية بن خلف، وبعقبة بن أبي معيط " قال عبد الله ولقد رأيتهم قتلى في قليب بدر
(2) فرقا: فزعا.
(3) في بعض النسخ: " بأيديهم ".
(4) يبعجوا - بفتح العين - يشقوا.
323

وثمانية أملاك معهم الحراب، ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله يؤذي قريشا بالدعاء، فقام
يوما فسفه أحلامهم، وعاب دينهم، وشتم أصنامهم، وضلل آبائهم، فاغتموا من ذلك
غما شديدا، فقال أبو جهل: والله للموت خير لنا من الحياة، فليس فيكم معاشر
قريش أحد يقتل محمدا فيقتل به، قالوا: لا. قال، فأنا أقتله فإن شائت بنو عبد المطلب
قتلوني به، وإلا تركوني، قال: إنك إن فعلت ذلك اصطنعت إلى أهل الوادي
معروفا لا تزال تذكر به، قال: إنه كثير السجود حول الكعبة فإذا جاء وسجد
أخذت حجرا فشدخته (1) به فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله فطاف بالبيت أسبوعا، ثم صلى
وأطال السجود، فأخذ أبو جهل حجرا فأتاه من قبل رأسه، فلما أن قرب منه أقبل
فحل قبل رسول الله صلى الله عليه وآله فاغرا فاه نحوه، فلما أن رآه أبو جهل فزع منه
وارتعدت يده، وطرح الحجر فشدخ رجله، فرجع مدمى، متغير اللون، يفيض
عرقا، فقال له أصحابه: ما رأيناك كاليوم؟! قال: ويحكم أعذروني، فإنه أقبل
من عنده فحل فاغرا فاه فكاد يبتلعني، فرميت بالحجر فشدخت رجلي،
قال اليهودي: فإن موسى قد أعطي اليد البيضاء، فهل فعل بمحمد شيئا من ذلك؟
قال له علي عليه السلام، لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه أعطي ما هو أفضل من
هذا، إن نورا كان يضئ عن يمينه حيثما جلس، وعن يساره حيثما جلس، وكان
يراه الناس كلهم.
قال له اليهودي: فإن موسى عليه السلام قد ضرب له طريق في البحر، فهل فعل
بمحمد شئ من هذا؟
فقال له علي عليه السلام، لقد كان كذلك، ومحمد أعطي ما هو أفضل هذا،
خرجنا معه إلى حنين فإذا نحن بواد يشخب، فقدرناه فإذا هو أربعة عشر قامة،
فقالوا: يا رسول الله العدو من ورائنا والوادي أمامنا، كما قال أصحاب موسى:
" إنا لمدركون " فنزل رسول الله ثم قال: " اللهم إنك جعلت لكل مرسل دلالة،
فأرني قدرتك " وركب صلوات الله عليه، فعبرت الخيل لا تندى حوافرها، والإبل

(1) الشدخ: كسر الشئ الأجوف.
324

لا تندى أخفافها، فرجعنا فكان فتحنا.
قال له اليهودي: فإن موسى عليه السلام قد أعطي الحجر فانبجست منه اثنتي عشرة عينا
قال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله لما نزل الحديبية وحاصره
أهل مكة، قد أعطي ما هو أفضل من ذلك، وذلك: إن أصحابه شكوا إليه الظمأ
وأصابهم ذلك حتى التقت خواصر الخيل، فذكروا له صلى الله عليه وآله، فدعا بركوة يمانية
ثم نصب يده المباركة فيها، فتفجرت من بين أصابعه عيون الماء، فصدرنا وصدرت
الخيل رواء، وملأنا كل مزادة وسقاء، ولقد كنا معه بالحديبية فإذا ثم قليب
جافة، فأخرج صلى الله عليه وآله سهما من كنانته فناوله البراء بن عازب وقال له! اذهب بهذا
السهم إلى تلك القليب الجافة فاغرسه فيها، ففعل ذلك فتفجرت اثنتا عشرة عينا من
تحت السهم، ولقد كان يوم الميضاة عبرة وعلامة للمنكرين لنبوته، كحجر
موسى حيث دعا بالميضاة فنصب يده فيها ففاضت الماء وارتفع، حتى توضأ منه
ثمانية آلاف رجل فشربوا حاجتهم، وسقوا دوابهم، وحملوا ما أرادوا.
قال اليهودي: فإن موسى عليه السلام أعطي المن والسلوى فهل أعطي لمحمد نظير هذا
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من
هذا، أن الله عز وجل أحل له الغنائم ولأمته، ولم تحل الغنائم لأحد غيره قبله،
فهذا أفضل من المن والسلوى، ثم زاده أن جعل النية له ولأمته بلا عمل عملا صالحا
ولم يجعل لأحد من الأمم ذلك قبله، فإذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له
حسنة فإن عملها كتبت له عشر.
قال له اليهودي: إن موسى عليه السلام قد ضلل عليه الغمام؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، وقد فعل ذلك بموسى في التيه، وأعطي
محمد صلى الله عليه وآله أفضل من هذا، إن الغمامة كانت تظله من يوم ولد إلى يوم قبض في
حضره وأسفاره، فهذا أفضل مما أعطي موسى.
قال له اليهودي: فهذا داود عليه السلام قد لين الله له الحديد، فعمل منه الدروع؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله قد أعطي ما هو أفضل
325

من هذا، إنه لين الله له الصم الصخور الصلاب وجعلها غارا، (1) ولقد غارت الصخرة
تحت يده ببيت المقدس لينة حتى صارت كهيئة العجين، (2) وقد رأينا ذلك
والتمسناه تحت رايته.
قال له اليهودي: هذا داود بكى على خطيئته حتى سارت الجبل معه لخوفه
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من
هذا، إنه كان إذا قام إلى الصلاة سمع لصدره وجوفه أريز كأريز المرجل على
الأثافي من شدة البكاء، (3) وقد آمنه الله عز وجل من عقابه، فأراد أن يتخشع
لربه ببكائه فيكون إماما لمن اقتدى به، ولقد قام صلى الله عليه وآله عشر سنين على أطراف
أصابعه حتى تورمت قدماه واصفر وجهه، يقوم الليل أجمع، حتى عوتب في ذلك
فقال الله عز وجل: " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " (4) بل لتسعد به، ولقد
كان يبكي حتى يغشى عليه، فقيل له: يا رسول الله أليس الله غفر لك ما تقدم من
ذنبك وما تأخر؟ قال: بلى أفلا أكون عبدا شكورا؟ ولئن سارت الجبال وسبحت
معه لقد عمل بمحمد صلى الله عليه وآله ما هو أفضل من هذا: إذ كنا معه على جبل حراء إذ
تحرك الجبل فقال له: " قر فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق شهيد " فقر الجبل
مطيعا لأمره ومنتهيا إلى طاعته، ولقد مررنا معه بجبل وإذا الدموع تخرج من
بعضه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: " ما يبكيك يا جبل؟ فقال: يا رسول الله كان المسيح
مر بي وهو يخوف الناس من نار وقودها الناس والحجارة، وأنا أخاف أن أكون
من تلك الحجارة، قال له: " لا تخف تلك الحجارة الكبريت " فقر الجبل وسكن
وهدأ وأجاب لقوله صلى الله عليه وآله.

(1) يظهر من هذا الكلام أن الغار أحدث لرسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكن من قبل.
(2) وذلك ليلة المعراج.
(3) الأريز: هو أن يجيش جوفه ويغلي بالبكاء. والمرجل - كمنبر -: القدر.
والأثافي: الأحجار التي يوضع عليها القدر.
(4) طه - 1.
326

قال له اليهودي: فإن هذا سليمان أعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده؟
فقال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من هذا
إنه هبط إليه ملك لم يهبط إلى الأرض قبله، وهو: ميكائيل فقال له: يا محمد عش
ملكا منعما وهذه مفاتيح خزائن الأرض معك، ويسير معك جبالها ذهبا وفضة،
ولا ينقص لك مما ادخر لك في الآخرة شئ، فأومى إلى جبرئيل - وكان خليله
من الملائكة - فأشار عليه، أن تواضع فقال له: بل أعيش نبيا عبدا آكل يوما
ولا آكل يومين، والحق بإخواني من الأنبياء فزاده الله تبارك وتعالى الكوثر،
وأعطاه الشفاعة، وذلك أعظم من ملك الدنيا من أولها إلى آخرها سبعين مرة،
ووعده المقام المحمود، فإذا كان يوم القيامة أقعده الله عز وجل على العرش، فهذا
أفضل مما أعطي سليمان.
قال له اليهودي: فإن هذا سليمان قد سخرت له الرياح، فسارت به في
بلاده غدوها شهر ورواحها شهر؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من
هذا: إنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، وعرج به
في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام، في أقل من ثلث ليلة، حتى انتهى
إلى ساق العرش، فدنى بالعلم فتدلى من الجنة رفرف أخضر، وغشى النور بصره
فرأى عظمة ربه عز وجل بفؤاده، ولم يرها بعينه، فكان كقاب قوسين بينه وبينها
أو أدنى، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، وكان فيما أوحى إليه: الآية التي في
سورة البقرة قوله: " لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو
تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير " (1)
وكانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم عليه السلام إلى أن بعث الله تبارك
وتعالى محمدا، وعرضت على الأمم فأبوا أن يقبلوها من ثقلها، وقبلها رسول الله وعرضها
على أمته فقبلوها، فلما رأى الله تبارك وتعالى منهم القبول علم أنهم لا يطيقونها،

(1) البقرة - 284.
327

فلما أن سار إلى ساق العرش كرر عليه الكلام ليفهمه، فقال: " آمن الرسول بما
أنزل إليه من ربه - فأجاب صلى الله عليه وآله مجيبا عنه وعن أمته - والمؤمنون كل آمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله " (1) فقال جل ذكره لهم
الجنة والمغفرة على أن فعلوا ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وآله: أما إذا فعلت ذلك بنا، فغفرانك
ربنا وإليك المصير، يعني المرجع في الآخرة، قال: فأجابه الله عز وجل قد فعلت
ذلك بك وبأمتك، ثم قال عز وجل: أما إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها
وقد عرضتها على الأمم فأبوا أن يقبلوها وقبلتها أمتك حق علي أن أرفعها عن أمتك
وقال: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت - من خير - وعليها ما اكتسبت " (2)
من شر فقال النبي صلى الله عليه وآله - لما سمع ذلك -: أما إذا فعلت ذلك بي وبأمتي فزدني
قال: سل، قال: " ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا " (3) قال الله عز وجل لست
أؤاخذ أمتك بالنسيان والخطأ لكرامتك علي، وكانت الأمم السالفة إذا نسوا ما
ذكروا به فتحت عليهم أبواب العذاب، وقد دفعت ذلك عن أمتك وكانت الأمم
السالفة إذا أخطأوا أخذوا بالخطأ وعوقبوا عليه، وقد رفعت ذلك عن أمتك لكرامتك
علي، فقال صلى الله عليه وآله: " اللهم إذا أعطيتني ذلك فزدني " قال الله تبارك وتعالى له:
سل، قال: " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " (4)
يعني بالأصر: الشدائد التي كانت على من كان من قبلنا، فأجابه الله عز وجل إلى
ذلك، وقال تبارك اسمه: قد رفعت عن أمتك الآصار التي كانت على الأمم السالفة
كنت لا أقبل صلاتهم إلا في بقاع معلومة من الأرض اخترتها لهم وإن بعدت، وقد
جعلت الأرض كلها لأمتك مسجدا وطهورا، فهذه من الآصار التي كانت على الأمم
قبلك فرفعتها عن أمتك، وكانت الأمم السالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوه
من أجسادهم، وقد جعلت الماء لأمتك طهورا، فهذا من الآصار التي كانت عليهم
فرفعتها عن أمتك، وكانت الأمم السالفة تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيت
المقدس، فمن قبلت ذلك منه أرسلت عليه نارا فأكلته فرجع مسرورا، ومن لم

(1) البقرة - 85.
(2، 3، 4) البقرة - 286.
328

أقبل منه ذلك رجع مثبورا (1) وقد جعلت قربان أمتك في بطون فقرائها ومساكينها
فمن قبلت ذلك منه أضعفت ذلك له أضعافا مضاعفة، ومن لم أقبل ذلك منه رفعت
عنه عقوبات الدنيا، وقد رفعت ذلك عن أمتك وهي من الآصار التي كانت على
الأمم من كان من قبلك، وكانت الأمم السالفة صلواتها مفروضة عليها في ظلم الليل
وأنصاف النهار، وهي من الشدائد التي كانت عليهم، فرفعتها عن أمتك وفرضت
صلاتهم في أطراف الليل والنهار، وفي أوقات نشاطهم، وكانت الأمم السالفة قد فرضت
عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتا وهي من الآصار التي كانت عليهم، فرفعتها
عن أمتك وجعلتها خمسا في خمسة أوقات، وهي إحدى وخمسون ركعة، وجعلت
لهم أجر خمسين صلاة، وكانت الأمم السالفة حسنتهم بحسنة وسيئتهم بسيئة وهي من
الآصار التي كانت عليهم، فرفعتها عن أمتك وجعلت الحسنة بعشرة والسيئة بواحدة
وكانت الأمم السالفة إذا نوى أحدهم حسنة فلم يعملها لم تكتب له، وإن عملها
كتبت له حسنة، وأن أمتك إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، وإن
عملها كتبت له عشرة، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك، وكانت
الأمم السالفة إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت عليه
سيئة، وأن أمتك إذا هم أحدهم بسيئة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، وهذه من
الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك، وكانت الأمم السالفة إذا أذنبوا
كتبت ذنوبهم على أبوابهم، وجعلت توبتهم من الذنوب: إن حرمت عليهم بعد
التوبة أحب الطعام إليهم، وقد رفعت ذلك عن أمتك وجعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهم
وجعلت عليهم ستورا كثيفة، وقبلت توبتهم بلا عقوبة، ولا أعاقبهم بأن أحرم
عليهم أحب الطعام إليهم، وكانت الأمم السالفة يتوب أحدهم إلى الله من الذنب
الواحد مائة سنة، أو ثمانين سنة، أو خمسين سنة، ثم لا أقبل توبته دون أن أعاقبه
في الدنيا بعقوبة، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك، وإن
الرجل من أمتك ليذنب عشرين سنة، أو ثلاثين سنة، أو أربعين سنة، أو مائة سنة

(1) المثبور: الخائب
329

ثم يتوب ويندم طرفة عين فاغفر ذلك كله، فقال النبي صلى الله عليه وآله: إذا أعطيتني ذلك
كله فزدني قال: سل، قال: " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " (1) قال تبارك
اسمه: قد فعلت ذلك بأمتك، وقد رفعت عنهم عظم بلايا الأمم، وذلك حكمي في
جميع الأمم: أن لا أكلف خلقا فوق طاقتهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله: " واعف عنا
واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا " (2) قال الله عز وجل: قد فعلت ذلك بتائبي أمتك
ثم قال صلى الله عليه وآله: " فانصرنا على القوم الكافرين " (3) قال الله جل اسمه: إن أمتك
في الأرض كالشامة البيضاء في الثور الأسود، هم القادرون، وهم القاهرون، يستخدمون
ولا يستخدمون، لكرامتك علي، وحق علي أن أظهر دينك على الأديان، حتى
لا يبقى في شرق الأرض وغربها دين إلا دينك، ويؤدون إلى أهل دينك الجزية.
قال اليهودي: فإن هذا سليمان سخرت له الشياطين، يعملون له ما يشاء:
من محاريب، وتماثيل؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ولقد أعطي محمد صلى الله عليه وآله أفضل من هذا
إن الشياطين سخرت لسليمان وهي مقيمة على كفرها، ولقد سخرت لنبوة
محمد صلى الله عليه وآله الشياطين بالإيمان، فأقبل إليه من الجنة التسعة من أشرافهم، واحد من
جن نصيبين، والثمان من بني عمرو بن عامر من الأحجة (4) منهم شضاه، ومضاه (5)
والهملكان، والمرزبان، والمازمان، ونضاه، وهاضب، وهضب، وعمرو، وهم الذين
يقول الله تبارك اسمه فيهم: " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " (6)
وهم التسعة، فأقبل إليه الجن والنبي صلى الله عليه وآله ببطن النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كما
ظننتم أن لن يبعث الله أحدا، ولقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفا منهم فبايعوه على:

(1، 2، 3) البقرة - 286.
(4) الأحجة - جمع حجيج - أي الذين يقيمون الحج. وفي بعض النسخ:
" الأجنحة " أي: الرؤساء.
(5) وفي بعض النسخ: " شضاة ومضاة ".
(6) الأحقاف - 29.
330

الصوم، والصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، ونصح المسلمين، واعتذروا بأنهم
قالوا على الله شططا، وهذا أفضل مما أعطي سليمان، فسبحان من سخرها لنبوة
محمد صلى الله عليه وآله بعد أن كانت تتمرد، وتزعم أن لله ولد، ولقد شمل مبعثه من الجن
والإنس ما لا يحصى.
قال له اليهودي: هذا يحيى بن زكريا عليه السلام يقال: إنه أوتي الحكم صبيا،
والحلم، والفهم، وإنه كان يبكي من غير ذنب، وكان يواصل الصوم؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من
هذا: إن يحيى بن زكريا كان في عصر لا أوثان فيه ولا جاهلية، ومحمد صلى الله عليه وآله
أوتي الحكم والفهم صبيا بين عبدة الأوثان، وحزب الشيطان، فلم يرغب لهم في
صنم قط، ولم ينشط لأعيادهم، ولم ير منه كذب قط، وكان أمينا، صدوقا،
حليما، وكان يواصل الصوم الأسبوع والأقل والأكثر فيقال له في ذلك فيقول:
إني لست كأحدهم، إني أظل عند ربي، فيطعمني، ويسقيني، وكان يبكي صلى الله عليه وآله
حتى تبتل مصلاه خشية من الله عز وجل من غير جرم.
قال له اليهودي فإن هذا عيسى بن مريم يزعمون أنه: تكلم في المهد صبيا؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله سقط من بطن أمه واضعا
يده اليسرى على الأرض، ورافعا يده اليمنى إلى السماء، يحرك شفتيه بالتوحيد
وبدا من فيه نور رأى أهل مكة منه: قصور بصرى من الشام وما يليها، والقصور
الحمر من أرض اليمن وما يليها، والقصور البيض من اسطخر وما يليها، ولقد
أضائت الدنيا ليلة ولد النبي صلى الله عليه وآله حتى فزعت الجن والإنس والشياطين، وقالوا
حدث في الأرض حدث، ولقد رأي الملائكة ليلة ولد تصعد، وتنزل، وتسبح،
وتقدس، وتضطرب النجوم وتتساقط، علامة لميلاده، ولقد هم إبليس بالظعن في
السماء لما رأى من الأعاجيب في تلك الليلة، وكان له مقعد في السماء الثالثة،
والشياطين يسترقون السمع، فلما رأوا العجائب أرادوا أن يسترقوا السمع، فإذا هم
331

قد حجبوا من السماوات كلها، ورموا بالشهب، دلالة (1) لنبوته صلى الله عليه وآله.
قال له اليهودي: فإن عيسى عليه السلام يزعمون أنه قد أبرأ الأكمه والأبرص
بإذن الله؟
فقال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من
ذلك: أبرأ ذا العاهة من عاهته، بينما هو جالس صلى الله عليه وآله إذ سأل عن رجل من أصحابه
فقالوا: يا رسول الله إنه قد صار من البلاء كهيئة الفرخ الذي لا ريش عليه،
فأتاه صلى الله عليه وآله فإذا هو كهيئة الفرخ من شدة البلاء، فقال له: قد كنت تدعو في صحتك
دعاء؟ قال: نعم كنت أقول: " يا رب أيما عقوبة أنت معاقبي بها في الآخرة
فعجلها لي في الدنيا " فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ألا قلت: " اللهم آتنا في الدنيا حسنة
وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " فقالها الرجل فكأنما نشط من عقال، وقام
صحيحا وخرج معنا، ولقد أتاه رجل من جهينة أجذم يتقطع من الجذام فشكا
إليه صلى الله عليه وآله، فأخذ قدحا من ماء فتفل عليه، ثم قال: امسح به جسدك ففعل فبرأ
حتى لم يوجد عليه شئ، ولقد أتي النبي بأعرابي أبرص فتفل صلى الله عليه وآله من فيه عليه فما
قام من عنده إلا صحيحا، ولئن زعمت أن عيسى أبرأ ذا العاهات من عاهاتهم، فإن
محمدا صلى الله عليه وآله بينما هو في أصحابه إذ هو بامرأة فقالت: يا رسول الله إن ابني قد
أشرف على حياض الموت كلما أتيته بطعام وقع عليه التثاؤب، فقام النبي صلى الله عليه وآله
وقمنا معه فلما أتيناه قال له: جانب يا عدو الله ولي الله، فأنا رسول الله، فجانبه
الشيطان فقام صحيحا وهو معنا في عسكرنا، ولئن زعمت أن عيسى أبرأ العميان،
فإن محمدا قد فعل ما هو أكبر من ذلك: إن قتادة بن ربيع كان رجلا صحيحا،
فلما أن كان يوم أحد أصابته طعنة في عينه فبدرت حدقته، (2) فأخذها بيده ثم
أتى بها إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إن امرأتي الآن تبغضني، فأخذها
رسول الله من يده ثم وضعها مكانها فلم تكن تعرف إلا بفضل حسنها وفضل ضوئها

(1) في بعض النسخ: " جلالة ".
(2) الحدقة: سواد العين الأعظم.
332

على العين الأخرى، ولقد جرح عبد الله بن عبيد (1) وبانت يده يوم حنين، فجاء
إلى النبي صلى الله عليه وآله فمسح عليه يده فلم تكن تعرف من اليد الأخرى، ولقد أصاب محمد
ابن مسلم يوم كعب بن أشرف مثل ذلك في عينه ويده، فمسحه رسول الله صلى الله عليه وآله
فلم تستبينا، ولقد أصاب عبد الله بن أنيس مثل ذلك في عينه، فمسحها فما عرفت
من الأخرى، فهذه كلها دلالة لنبوته صلى الله عليه وآله.
قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون: أنه أحيى الموتى بإذن الله؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد سبحت في يده تسع حصيات
تسمع نغماتها في جمودها، ولا روح فيها لتمام حجة نبوته، ولقد كلمه الموتى من
بعد موتهم، واستغاثوه مما خافوا تبعته، ولقد صلى بأصحابه ذات يوم فقال: ما
هاهنا من بني النجار أحد وصاحبهم محتبس على باب الجنة بثلاثة دراهم لفلان
اليهودي، وكان شهيدا، ولئن زعمت أن عيسى كلم الموتى فلقد كان لمحمد
ما هو أعجب من هذا: إن النبي لما نزل بالطايف وحاصر أهلها، بعثوا إليه بشاة
مسلوخة مطلية بسم، فنطق الذراع منها فقالت: يا رسول الله لا تأكلني فإني مسمومة
فلو كلمته البهيمة وهي حية لكانت من أعظم حجج الله على المنكرين لنبوته، فكيف
وقد كلمته من بعد ذبح وسلخ وشي (2)! ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يدعو
بالشجرة فتجيبه، وتكلمه البهيمة، وتكلمه السباع، وتشهد له بالنبوة، وتحذرهم
عصيانه، فهذا أكثر مما أعطي عيسى عليه السلام.
قال له اليهودي: إن عيسى يزعمون أنه أنبأ قومه بما يأكلون وما يدخرون
في بيوتهم؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد كان له أكثر من هذا: إن
عيسى أنبأ قومه بما كان من وراء الحايط ومحمد أنبأ عن مؤتة (3) وهو عنها غائب ووصف

(1) في بعض النسخ: " بن عتيك ".
(2) أي: من بعدك ما صار مشويا مطبوخا.
(3) مؤتة - بضم الميم وسكون الهمزة وفتح التاء - اسم موضع قتل فيه جعفر
ابن أبي طالب (ع) والنبي " ص " في المدينة فأخبر أصحابه بقتله وهو من على المنبر
وقد مر ذكره في هامش ص 172.
333

حربهم ومن استشهد منهم وبينة وبينهم مسيرة شهر، وكان يأتيه الرجل يريد أن
يسأله عن شئ فيقول صلى الله عليه وآله: تقول أو أقول: فيقول: بل قل يا رسول الله فيقول:
جئتني في كذا وكذا حتى يفرغ من حاجته، ولقد كان صلى الله عليه وآله يخبر أهل مكة
بأسرارهم بمكة حتى لا يترك من أسرارهم شيئا، منها: ما كان بين صفوان بن أمية
وبين عمير بن وهب، إذ أتاه عمير فقال: جئت في فكاك ابني فقال له: كذبت بل
قلت لصفوان بن أمية وقد اجتمعتم في الحطيم وذكرتم قتلى بدر وقلتم: والله للموت
أهون علينا من البقاء مع ما صنع محمد بنا، وهل حياة بعد أهل القليب، فقلت
أنت: لولا عيالي، ودين علي لأرحتك من محمد، فقال صفوان: علي أن أقضي
دينك، وأن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما يصيبهن من خير أو شر، فقلت أنت:
فاكتمها علي وجهزني حتى أذهب فأقتله، فجئت لقتلي، فقال: صدقت يا رسول الله فأنا
أشهد: أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأشباه هذا مما لا يحصى.
قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون: أنه خلق من الطين كهيئة الطير فنفخ
فيه فكان طيرا بإذن الله؟
فقال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله قد فعل ما هو شبيه لهذا
إذ أخذ يوم حنين حجرا فسمعنا للحجر تسبيحا وتقديسا، ثم قال للحجر: انفلق
فانفلق ثلاث فلق، يسمع لكل فلقة منها تسبيحا لا يسمع للأخرى، ولقد بعث
إلى شجرة يوم البطحاء فأجابته، ولكل غصن منها تسبيح وتهليل وتقديس، ثم قال
لها: انشقي، فانشقت نصفين، ثم قال لها: التزقي، فالتزقت، ثم قال لها: اشهدي
لي بالنبوة فشهدت، ثم قال لها ارجعي إلى مكانك بالتسبيح والتهليل والتقديس
ففعلت، وكان موضعها حيث الجزارين بمكة.
قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون أنه كان سياحا؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد كانت سياحته في الجهاد، واستنفر
334

في عشر سنين ما لا يحصى من حاضر وباد، وأفنى فئاما من العرب (1) من منعوت
بالسيف لا يدارى بالكلام (2) ولا ينام إلا عن دم، ولا يسافر إلا وهو متجهز
لقتال عدوه.
قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون: أنه كان زاهدا؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، محمد صلى الله عليه وآله أزهد الأنبياء عليهم السلام: كان
له ثلاثة عشر زوجة سوى من يطيف به من الإماء، ما رفعت له مائدة قط وعليها
طعام، ولا أكل خبز برقط، ولا شبع من خبز شعير ثلاث ليال متواليات قط،
توفي رسول الله صلى الله عليه وآله ودرعه مرهونة عند يهودي بأربعة دراهم، ما ترك صفراء
ولا بيضاء مع ما وطئ له من البلاد، (3) ومكن له من غنائم العباد، ولقد كان
يقسم في اليوم الواحد الثلثمائة ألف وأربعمائة ألف ويأتيه السائل بالعشي فيقول:
والذي بعث محمدا بالحق ما أمسى في آل محمد صاع من شعير، ولا صاع من بر، ولا
درهم، ولا دينار.
قال له اليهودي: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد أنه
ما أعطى الله نبيا درجة ولا مرسلا فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد صلى الله عليه وآله، وزاد محمدا
على الأنبياء أضعاف درجات.
فقال ابن عباس لعلي بن أبي طالب عليه السلام: أشهد يا أبا الحسن إنك من
الراسخين في العلم.
فقال ويحك وما لي لا أقول ما قلت في نفس من استعظمه الله عز وجل في
عظمته فقال: " وإنك لعلى خلق عظيم " (4).

(1) الفئام - بالكسر مهموزا -: الجماعة الكثيرة وقد فسر في بعض الأخبار
بمائة ألف.
(2) في بعض النسخ: " لا يبالي ".
(3) وطئ له: مهد وذلل ويسر.
(4) القلم - 4.
335

احتجاجه (ع) على بعض اليهود وغيره في أنواع شتى من العلوم (1).
عن صالح عن عقبة (2) عن الصادق عليه السلام قال: لما هلك أبو بكر واستخلف
عمر، خرج عمر إلى المسجد فقعد، فدخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني
رجل من اليهود، وأنا علامتهم، قد أردت أن أسئلك عن مسائل إن أخبرتني بها أسلمت
قال: وما هي؟ قال: ثلاث، وثلاث وواحدة، فإن شئت سئلتك، وإن كان في
القوم أحد أعلم منك فارشدني، قال: عليك بذاك الشاب يعني علي بن أبي طالب عليه السلام
فأتى عليا عليه السلام فسأل فقال له: قلت: ثلاثا وثلاثا وواحدة ألا قلت سبعا؟ قال
إني إذا لجاهل، إن لم تجبني في الثلاث اكتفيت. قال: فإن أجبتك تسلم؟
قال: نعم.
قال: سل.
قال: أسألك عن أول حجر وضع على وجه الأرض، وأول عين نبعت، وأول
شجرة نبتت؟
قال: يا يهودي أنتم تقولون: أول حجر وضع على وجه الأرض الحجر الذي
في بيت المقدس، وكذبتم، هو: " الحجر الأسود " الذي نزل مع آدم عليه السلام من الجنة
قال: صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى عليه السلام.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: وأما العين فأنتم تقولون، إن أول عين نبعت على

(1) في ج 4 من بحار الأنوار ص 94 عن عيون أخبار الرضا والخصال للصدوق
أبي عن سعد عن ابن أبي الخطاب عن الحكم بن مسكين الثقفي عن صالح بن عقبة عن جعفر
ابن محمد " ص " قال: لما هلك أبو بكر.. الخ ثم قال قال الصدوق في الخصال وقد
أخرجت هذا الحديث من طرق في كتاب: " الأوايل ". أيضا عن كمال الدين وتمام
النعمة: أبي وابن الوليد معا عن سعد مثله.
(2) صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان مولى رسول الله " ص " عده الشيخ في
أصحاب الصادق والكاظم عليهما السلام وذكره العلامة في القسم الثاني من الخلاصة.
336

وجه الأرض: العين التي ببيت المقدس، وكذبتم وهي: " عين الحياة " التي غسل
فيها النون موسى، وهي العين التي شرب منها الخضر، وليس يشرب منها أحد إلا حي.
قال: صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى.
قال علي عليه السلام وأما الشجرة فأنتم تقولون، إن أول شجرة نبتت على وجه
الأرض الزيتون وكذبتم، وهي: " العجوة " نزل بها آدم عليه السلام من الجنة.
قال: صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى عليهما السلام.
قال: والثلاث الأخرى كم لهذه الأمة من إمام هدى لا يضرهم من خذلهم؟
قال، اثني عشر إماما.
قال: صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى.
قال: وأين يسكن نبيكم من الجنة؟
قال: أعلاها درجة، وأشرفها مكانا: في جنات عدن.
قال: صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى.
قال، فمن ينزل معه في منزله؟
قال: اثني عشر إماما.
قال: صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى.
قال: قد بقيت السابعة.
قال، كم يعيش وصيه بعده؟ قال ثلاثين سنة.
قال: ثم هو يموت أو يقتل؟
قال: يضرب على قرنه فتخضب لحيته.
قال: صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى ثم أسلم وحسن إسلامه.
وعن أصبغ بن نباته قال: كنت جالسا عند أمير المؤمنين عليه السلام فجاء ابن
الكوا (1) فقال:

(1) ابن الكواء اسمه عبد الله، وهو خارجي ملعون، قرأ خلف أمير المؤمنين
عليه السلام جهرا: " ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن
عملك ولتكونن من الخاسرين " وكان علي عليه السلام يؤم الناس وهو يجهر بالقراءة،
فسكت عليه السلام حتى سكت ابن الكواء، ثم عاد في قراءته فعاد حتى فعل ذلك ثلاثا
فلما كان في الثالثة قرأ أمير المؤمنين عليه السلام: " فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك
الذين لا يوقنون ".
337

يا أمير المؤمنين من البيوت في قول الله عز وجل: " وليس البر بأن تأتوا
البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها (1) "؟
قال علي عليه السلام نحن البيوت التي أمر الله بها أن تؤتى من أبوابها، نحن
باب الله وبيوته التي يؤتى منه، فمن تابعنا وأقر بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها
ومن خالفنا وفضل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها
فقال: يا أمير المؤمنين وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم؟
فقال علي عليه السلام: نحن أصحاب الأعراف: نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن
الأعراف يوم القيامة بين الجنة والنار، ولا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه،
ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه، وذلك بأن الله عز وجل لو شاء عرف
للناس نفسه حتى يعرفوه وحده ويأتوه من بابه، ولكنه جعلنا أبوابه وصراطه وبابه
الذي يؤتى منه، فقال - فيمن عدل عن ولايتنا وفضل علينا غيرنا -: " فإنهم عن
الصراط لناكبون " (2).
وعن الأصبغ بن نباتة أيضا قال أتى ابن الكوا أمير المؤمنين فقال:
والله إن في كتاب الله آية اشتدت على قلبي، ولقد شككت في ديني.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ثكلتك أمك وعدمتك، ما هي؟
قال: قول الله تبارك وتعالى: " والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه " (3)
فما هذا الصف؟ وما هذه الطيور؟ وما هذه الصلاة؟ وما هذا التسبيح؟
فقال علي عليه السلام: ويحك يا بن الكوا إن الله خلق الملائكة على صور شتى
ألا وإن لله ملكا في صورة ديك، أبح، أشهب، براثنه في الأرضين السفلى، وعرفه

(1) البقرة - 189.
(2) المؤمنون - 74.
(3) النور - 41.
338

مثني تحت عرش الرحمن، له جناح بالمشرق من نار، وجناح بالمغرب من ثلج
فإذا حضر وقت كل صلاة قام على براثنه، ثم رفع عنقه من تحت العرش، ثم
صفق بجناحيه كما تصفق الديكة في منازلكم، فلا الذي من نار يذيب الثلج، ولا
الذي من الثلج يطفئ النار، ثم ينادي: " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد النبيين، وأن وصيه خير الوصيين، سبوح،
قدوس، رب الملائكة والروح " قال: فتصفق الديكة بأجنحتها في منازلكم بنحو
من قوله، وهو قول الله تعالى: " كل قد علم صلاته وتسبيحه " من الديكة في الأرض
وعن الأصبغ بن نباتة أيضا قال: سأل ابن الكوا أمير المؤمنين عليه السلام فقال:
أخبرني عن بصير بالليل وبصير بالنهار؟ وعن أعمى بالليل وأعمى بالنهار؟
وعن أعمى بالليل بصير بالنهار؟ وعن أعمى بالنهار بصير بالليل؟
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ويلك سل عما يعنيك، ولا تسأل عما لا يعنيك
ويلك أما بصير بالليل وبصير بالنهار فهو: رجل آمن بالرسل والأوصياء
الذين مضوا، وبالكتب والنبيين، وآمن بالله ونبيه محمد صلى الله عليه وآله، وأقر لي بالولاية
فأبصر في ليله ونهاره.
وأما أعمى بالليل أعمى بالنهار فرجل: جحد الأنبياء والأوصياء، والكتب
التي مضت، وأدرك النبي فلم يؤمن به، ولم يقر بولايتي، فجحد الله عز وجل
ونبيه صلى الله عليه وآله فعمي بالليل وعمي بالنهار.
وأم بصير بالليل أعمى بالنهار فرجل: آمن بالأنبياء والكتب، وجحد
النبي صلى الله عليه وآله وأنكرني حقي، فأبصر بالليل وعمي بالنهار.
وأما أعمى بالليل وبصير بالنهار فرجل: جحد الأنبياء الذين مضوا، والأوصياء
والكتب، وأدرك محمدا صلى الله عليه وآله، فآمن بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وآله، وآمن بإمامتي وقبل
ولايتي، فعمي بالليل وأبصر بالنهار.
ويلك يا بن الكوا، فنحن بنو أبي طالب بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه.
قال الأصبغ فلما نزل أمير المؤمنين عليه السلام من المنبر تبعته فقلت: يا سيدي
339

يا أمير المؤمنين قويت قلبي بما بينت
فقال لي: يا أصبغ من شك في ولايتي فقد شك في إيمانه، ومن أقر بولايتي
فقد أقر بولاية الله عز وجل، ولايتي متصلة: بولاية الله كهاتين - وجمع بين
إصبعيه - يا أصبغ من أقر بولايتي فقد فاز، ومن أنكر ولايتي فقد خاب وخسر،
وهوى في النار، ومن دخل في النار لبث فيها أحقابا.
وعن الأصبغ أيضا قال: قام ابن الكوا إلى علي بن أبي طالب عليه السلام وهو
على المنبر فقال:
يا أمير المؤمنين أخبرني عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا؟ وأخبرني عن
قرنيه أمن ذهب كان أم من فضة؟
فقال: لم يكن نبيا، ولا ملكا، ولم يكن قرناه من ذهب ولا فضة، ولكنه
كان عبدا أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصح الله له، وإنما سمي " ذا القرنين "
لأنه دعا قومه إلى الله عز وجل فضربوه على قرنه، فغاب عنهم حينا ثم عاد إليهم
فضرب على قرنه الآخرة وفيكم مثله (1).
عن الصادق (2) عن آبائه عليهم السلام أن أمير المؤمنين كان ذات يوم جالسا في

(1) يعني بذلك نفسه سلام الله عليه، فقد ضربه عمرو بن عبد ود الضربة الأولى
والضربة الثانية هي ضرية ابن ملجم لعنه الله، التي كانت شهادته عليه السلام فيها.
(2) ذكر هذا الحديث العلامة المجلسي في ج 9 من بحار الأنوار ص 15 وذكر
له مصدرين هما: الاحتجاج وهو الكتاب الذي بين يديك، والثاني أمالي ابن الشيخ بهذا
السند: عن الحسين بن عبيد الله عن هارون بن موسى عن محمد بن همام عن علي بن الحسين
الهمداني عن محمد بن البرقي عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام
عن آبائه عليهم السلام.. الخ.
وذكره الإمام شمس الدين أبي علي فخار بن معد الموسوي في كتابه الجليل: " الحجة
على الذاهب إلى تكفير أبي طالب فقال:
وبالإسناد عن الشيخ أبي الفتح الكراجكي - رحمه الله - قال: حدثنا الشيخ الفقيه
أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان القمي - رضي الله عنه - قال: حدثني
القاضي أبو الحسين محمد بن عثمان بن عبد الله النصيبي في داره، قال: حدثنا جعفر بن محمد
العلوي، قال: حدثنا عبيد الله أحمد، قال: حدثنا محمد ين زياد، قال حدثنا مفضل بن
عمر عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام.. الخ.
وذكره الحجة الأميني في ج 7 ص 387 من كتاب الغدير وذكر له عدة مصادر فراجع
340

الرحبة، والناس حوله مجتمعون، فقام إليه رجل فقال:
يا أمير المؤمنين أنت بالمكان الذي أنزلك الله به وأبوك معذب في النار؟
فقال له علي بن أبي طالب: مه فض الله فاك، والذي بعث محمدا بالحق نبيا
لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه الله فيهم، أبي معذب في النار
وابنه قسيم الجنة والنار؟! والذي بعث محمدا بالحق نبيا إن نور أبي يوم القيامة
ليطفئ أنوار الخلايق كلهم إلا خمسة أنوار: نور محمد صلى الله عليه وآله، ونوري، ونور
الحسن، ونور الحسين، ونور تسعة من ولد الحسين، فإن نوره من نورنا خلقه الله
تعالى قبل أن يخلق آدم عليه السلام بألفي عام (1).
* * *

(1) شيخ البطحاء، ورئيس مكة، وشيخ قريش، أبو طالب بن عبد المطلب
ابن هاشم بن عبد مناف، عم الرسول وكافله، وأبو الأئمة سلام الله عليهم أجمعين.
اسمه الشريف عبد مناف، وقيل: " عمران " وقيل اسمه: " كنيته " والأول
أصح لقول عبد المطلب وهو يوصيه برسول الله " ص " بعده:
أوصيك يا عبد مناف بعدي * بواحد بعد أبيه فرد
وقوله أيضا:
وصيت من كنيته بطالب * عبد مناف وهو ذو تجارب
بابن الحبيب الأكرم الأقارب * بابن الذي قد غاب غير آيب
وأمه فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم، وهي أم عبد الله والد النبي
وأم الزبير بن عبد المطلب وقد انقرض.
وأولد أبو طالب أربعة بنين: طالبا، وعقيلا، وجعفرا، وعليا أمير المؤمنين
عليه السلام، وكان كل واحد منهم أكبر من الآخر بعشر سنين، وأمهم جميعا فاطمة
بنت أسد بن هاشم، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي.
كان أبو طالب عليه السلام: شيخا، وسيما، جسيما، عليه بهاء الملوك، ووقار
الحكماء، وكانت قريش تسميه: " الشيخ "، وكانوا يهابونه، ويخافون سطوته، وكانوا
يتجنبون أذية رسول الله " ص " في أيامه، فلما توفي سلام الله عليه، اجترأوا عليه
واضطر إلى الهجرة؟؟ من وطنه مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
قيل لأكثم بن صيفي حكيم العرب ممن تعلمت الحكمة والرياسة، والحلم والسيادة؟
قال: من حليف الحلم والأدب، سيد العجم والعرب، أبو طالب بن عبد المطلب.
وجرى ذات يوم كلام خشن بين معاوية بن أبي سفيان وصعصعة وابن الكواء،
فقال معاوية: لولا إني أرجع إلى قول أبي طالب لقتلتكم وهو:
قابلت جهلهم حلما ومغفرة * والعفو عن قدرة ضرب من الكرم
وكان سلام الله عليه مستودعا للوصايا فدفعها إلى رسول الله " ص "، وهو الذي
كفله وحماه من قريش ودافع عنه.
روى عن فاطمة بنت أسد: أنه لما ظهر أمارة وفاة عبد المطلب قال لأولاده: من
يكفل محمدا؟ قالوا: هو أكيس منا، فقل له يختار لنفسه، فقال عبد المطلب: يا محمد
جدك على جناح السفر إلى القيامة، أي عمومتك وعماتك تريد أن يكفلك؟ فنظر في
وجوههم ثم زحف إلى عند أبي طالب، فقال له عبد المطلب: يا أبا طالب إني قد عرفت
ديانتك وأمانتك، فكن له كما كنت له.
وروي: أنه قال له: يا بني قد علمت شدة حبي لمحمد ووجدي به، أنظر كيف
تحفظني فيه، قال أبو طالب: يا أبه لا توصني بمحمد فإنه ابني وابن أخي، فلما توفي
عبد المطلب، كان أبو طالب يؤثره؟؟ بالنفقة والكسوة على نفسه، وعلى جميع أهله.
فلما بعث النبي " ص " وصدع بالأمر امتثالا لقوله تعالى: " فاصدع بما تؤمر "
ونزل قوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " أجمعت قريش على خلافه
فحدب عليه أبو طالب عليه السلام ومنعه وقال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد بالتراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة * وأبشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح * فلقد صدقت وكنت قبل أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه * من خير أديان البرية دينا
وروى عن زين العابدين عليه السلام: أنه اجتمعت قريش إلى أبي طالب ورسول
الله " ص " عنده فقالوا: نسألك من ابن أخيك النصف. قال: وما النصف منه؟ قالوا:
يكف عنا ونكف عنه، فلا يكلمنا ولا نكلمه، ولا يقاتلنا ولا نقاتله، إلا أن هذه
الدعوة قد باعدت بين القلوب، وزرعت الشحناء، وأنبتت البغضاء. فقال: يا بن أخي
أسمعت؟ قال: يا عم لو أنصفني بنوا عمي لأجابوا دعوتي، وقبلوا نصيحتي، إن الله
تعالى أمرني أن ادعوا إلى دينه الحنيفية ملة إبراهيم، فمن أجابني فله عند الله: الرضوان
والخلود في الجنان، ومن عصاني قاتلته حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فقالوا:
قل له يكف عن شتم آلهتنا فلا يذكرها بسوء، فنزل: " قل أفغير الله تأمروني أعبد "
قالوا: إن كان صادقا فليخبرنا من يؤمن منا، ومن يكفر، فإن وجدناه صادقا آمنا به
فنزل: وما كان الله ليذر المؤمنين " قالوا: والله لنشتمنك وإلهك فنزل: " وانطلق
الملأ منهم " قالوا: قل له: فليعبد ما نعبد، ونعبد ما يعبد، فنزلت سورة الكافرين.
فقالوا: قل له أرسله الله إلينا خاصة، أم إلى الناس كافة؟ قال بل إلى الناس أرسلت كافة:
إلى الأبيض والأسود، ومن على رؤس الجبال، ومن في لجج البحار، ولأدعون ألسنة
فارس والروم، يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " فتجبرت قريش واستكبرت
وقالت: والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا، ولقلعت الكعبة حجرا
حجرا، فنزلت: " وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا " وقوله تعالى: " ألم
تر كيف فعل ربك " فقال المطعم بن عدي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك،
وجهدوا على أن يتخلصوا مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا.
فقال أبو طالب: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت على خذلاني، ومظاهرة
القوم على، فاصنع ما بدا لك، فوثب كل قبيلة على ما فيها من المسلمين يعذبونهم،
ويفتنونهم عن دينهم، ويستهزؤون بالنبي " ص " ومنع الله رسوله بعمه أبي طلب منهم
وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا تصنع ما تصنع في بني هاشم، فدعاهم إلى ما هو عليه
من منع رسول الله " ص " والقيام دونه إلا أبا لهب.
وله في الدفاع عن رسول الله " ص " مواقف شهيرة وشعر رواه الفريقان، نذكر
فيما يلي نموذجا منها:
منها: ما روى من أن أبا جهل بن هشام جاء إلى رسول الله " ص " وهو ساجد
وبيده حجر يريد أن يرميه به، فلما رفع يده لصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد، فقال
أبو طالب: أفيقوا بني غالب وانتهوا * عن الغي من بعض ذا المنطق
وإلا فإني إذن خائف * بوائق في داركم تلتقي
تكون لغيركم عبرة * ورب المغارب والمشرق
كما نال من لان من قبلكم * ثمود وعاد وماذا بقي
غداة أتاهم بها صرصر * وناقة ذي العرش قد تستقي
فحل عليهم بها سخطه * من الله في ضربة الأزرق
غداة يعض بعرقوبها * حساما من الهند ذا رونق
وأعجب من ذاك في أمركم * عجائب في الحجر الملصق
بكف الذي قام من خبثه * إلى الصابر الصادق المتقي
فأثبته الله في كفه * على رغمه الجائر الأحمق
أحيمق مخزومكم إذ غوى * لغى الغواة ولم يصدق
ومنها: ما روى عن ابن عباس، أن النبي " ص " دخل الكعبة، وافتتح الصلاة
فقال أبو جهل: من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعرى،
وتناول فرثا ودما وألقى ذلك عليه " ص " فجاء أبو طالب - وقد سل سيفه - فلما
رأوه جعلوا ينهضون فقال: والله لئن قام أحد جللته بسيفي، ثم قال: يا بن أخي من
الفاعل بك؟ قال: هذا عبد الله فأخذ أبو طالب فرثا ودما وألقى ذلك عليه.
ومنها قوله عليه السلام يخاطب الرسول " ص " مسكنا جأشه طالبا منه إظهار دعوته
لا يمنعنك من حق تقوم به * أيد تصول ولا سلق بأصوات
فإن كفك كفي إن مليت بهم * ودون نفسك نفسي في الملمات
ومنها قوله يؤنب قريشا ويحذرهم الحرب:
ألا من لهم آخر الليل معتم * طواني وأخرى النجم لما تقحم
طواني قد نامت عيون كثيرة * وسامر أخرى ساهر لم ينوم
لأحلام قوم قد أرادوا محمدا * بظلم ومن لا يتقي البغي يظلم
سعوا سفها واقتادهم سوء أمرهم * على خائل من أمرهم غير محكم
رجاء أمور لم ينالوا انتظامها * ولو حشدوا في كل بدو وموسم
يرجون منه خطة دون نيلها * ضراب وطعن بالوشيج المقوم
يرجون أن نسخي بقتل محمد * ولم تختضب سمر العوالي من الدم
كذبتم وبيت الله حتى تفلقوا * جماجم تلقى بالحطيم وزمزم
وتقطع أرحام وتنسى حليلة * حليلا ويغشى محرم بعد محرم
هم الأسد أسد الزأرتين إذا غدت * على حنق لم تخش أعلام معلم
فيا لبني فهر أفيقوا ولم تقم * نوائح قتلى تدعى بالتندم
على ما مضى من بغيكم وعقوقكم * وإتيانكم في أمركم كل مأثم
وظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى * وأمر أتى من عند ذي العرش قيم
فلا تحسبونا مسلميه ومثله * إذا كان في قوم فليس بمسلم
فهذي معاذير وتقدمة لكم * لئلا تكون الحرب قيل التقدم
ومنها: لما رأى المشركون موقف أبي طالب عليه السلام من نصرة الرسول وسمعوا
341



أقواله، اجتمعوا بينهم وقالوا ننافي بني هاشم، ونكتب صحيفة ونودعها الكعبة: أن
لا نبايعهم، ولا نشاريهم، ولا نحدثهم، ولا نستحدثهم ولا نجتمع معهم في مجمع،
ولا نقضي لهم حاجة، ولا نقتضيها منهم، ولا نقتبس منهم نارا حتى يسلموا إلينا محمدا
ويخلوا بيننا وبينه، أو ينتهي عن تسفيه آبائنا، وتضليل آلهتنا، وأجمع كفار
مكة على ذلك.
فلما بلغ ذلك أبا طالب عليه السلام قال، يخبرهم باستمراره على مناصرة الرسول
ومؤازرته له، ويحذرهم الحرب، وينهاهم عن متابعة السفهاء:
ألا أبلغا عني على ذات بينها * لؤيا وخصا من لؤي بني كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة * ولا حيف فيمن خصه الله بالحب
وأن الذي لفقتم في كتابكم * يكون لكم يوما كراغية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب
ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب
وتستجلبوا حربا عوانا وربما * أمر على من ذاقه حلب الحرب
فلسنا وبيت الله نسلم أحمدا * لعزاء من عض الزمان ولا حرب
ولما تبن منا ومنكم سوالف * وأيد أبيدت بالمهندة الشهب
بمعترك ضنك ترى كسر القنا * به والضباع العرج تعكف كالسرب
كأن مجال الخيل في حجراته * وغمغمة الأبطال معركة الحرب
أليس أبونا هاشم شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
ومنها: أنه كان إذا نامت العيون وأخذ النبي " ص " ممضجعه، جاءه فانهضه واضجع
عليا مكانه فقال له علي عليه السلام - ذات ليلة -: يا أبتاه إني مقتول، فقال أبو طالب
إصبرن يا بني فالصبر أحجى * كل حي مصيره لشعوب
قد بلوناك والبلاء شديد * لفداء النجيب وابن النجيب
لفداء الأعز ذي الحسب الثاقب * والباع والفناء الرحيب
إن تصبك المنون بالنبل تترى * مصيب منها وغير مصيب
كل حي وإن تطاول عمرا * آخذ من سهامها بنصيب
فقال علي عليه السلام:
أتأمرني بالصبر في نصر أحمد * ووالله ما قلت الذي قلت جازعا
ولكنني أحببت أن ترى نصرتي * وتعلم أني لم أزل لك طائعا
وسعيي لوجه الله في نصر أحمد * نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا
هذا نزر يسير من مواقف أبي طالب " ع " ومؤازرته الرسول " ص " ومقاومته
للمشركين، وله كثير من أمثالها في دفاعه عن محمد، وعن دين محمد، وعن قرآن محمد
وعن اتباع محمد، فهلا يأخذك العجب بعد اطلاعك على هذا وشبهه من أقوال أبي طالب
وأفعاله، ألا تستغرب بعد هذا لو سمعت بعصابة أثرت فيها الروح الأموية الخبيثة،
فدفعها خبث عنصرها، ورداءة نشأتها، وجرها الحقد إلى القول بأن أبا طالب " ع "
مات كافرا!! وإن تعجب فعجب قولهم: أبو طالب يموت كافرا؟!!
أبو طالب الذي يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد * من خير أديان البرية دينا
يموت كافرا؟!!
أبو طالب الذي يقول، ليعلم خيار الناس أن محمدا * وزير لموسى والمسيح بن مريم
أتانا بهدى مثل ما أتيا به * فكل بأمر الله يهدي ويعصم
يا لله ويا للعجب قائل هذا يموت كافرا!!
أبو طاب الذي يقول:
ألا تعلموا أنا وجدنا محمدا * رسولا كموسى خط في أول الكتب
ويقول مخاطبا رسول الله " ص ":
أنت النبي محمد * قرم أغر مسود
ويقول:
قل لمن كان من كنانة في العز * وأهل الندى وأهل المعالي
قد أتاكم من المليك رسول * فاقبلوه بصالح الأعمال
ويقول:
فخير بني هاشم أحمد * رسول الإله على فترة
وهو الذي يقول:
لقد أكرم الله النبي محمدا * فأكرم خلق الله في الناس أحمد
وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد
ويقول:
إن ابن آمنة النبي محمدا * عندي بمنزلة من الأولاد
ويقول:
صدق ابن آمنة النبي محمد * فتميزوا غيظا به وتقطعوا
إن ابن آمنة النبي محمد * سيقوم بالحق الجلي ويصدق
أبو طالب الذي يقول:
يا شاهد الله علي فاشهد * آمنت بالواحد رب أحمد
من ظل في الدين فإني مهتدي
كل هذا وأبو طالب مات كافرا!!
إذا كان الإيمان بالتوحيد والإقرار بنبوة محمد لا تكفي في إيمان الرجل، ويكون
معتقدها والمقر بها كافرا، فما هو الإسلام إذن؟!
إذا كان الذب عن الرسول والاعتراف بنبوته كفرا فما هو الإسلام؟ طبعا يقول
لسان حال تلك العصابة في الجواب:
الإيمان أن تتمكن في نفسك مبادئ أبي سفيان، وتؤمن بالذي يحلف به أبو
سفيان وتقول كما قال: " ما من جنة ولا نار "
أبو طالب مات كافرا، وأبو سفيان مات مسلما.
هكذا يقولون كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا!
ويقولون الذين كفروا هؤلاء أهدي من الذين آمنوا سبيلا!
وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا.
أبو سفيان الذي حزب الأحزاب ضد النبي " ص " والذي ما قامت راية كفر
لحرب رسول الله " ص " إلا وهو قائدها وناعقها، والذي لم يزل يعلن الحرب والعداء
لمحمد، ودين محمد، وإله محمد، وكتاب محمد، حتى فتح مكة فدخل الإسلام عليه رغم
أنفه، ولم يدخل في قلبه، وأظهر الإسلام وأبطن الكفر، على العكس مما كان عليه
أبو طالب تماما.
أبو سفيان الذي أصر على محو اسم محمد رسول الله يوم صلح الحديبية يموت مسلما
وأبو طالب الذي يعترف برسالة محمد ويقول: هو رسول كموسى وعيسى يموت كافرا!
أبو سفيان الذي يقول - حين انتهت إليهم الخلافة بمحضر من عثمان -:
يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، والذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار
يموت مسلما، والذي يعترف بالبعث والنشور يموت كافرا!
روي عن ابن عباس قال: والله ما كان أبو سفيان إلا منافقا، ولقد كنا في
محفل فيه أبو سفيان وقد كف بصره، وفينا علي عليه السلام، فأذن المؤذن فلما قال:
أشهد أن محمدا رسول الله " ص "، قال: هاهنا من يحتشم؟ قال واحد من القوم: لا. فقال:
لله در أخي هاشم انظروا أين وضع اسمه، فقال على " ع ": أسخن الله عينك يا أبا سفيان
الله فعل ذلك بقوله عز من قائل: " ورفعنا لك ذكرك " فقال أبو سفيان: أسخن الله
عين من قال: ليس هاهنا من يحتشم.
والعجيب أنهم يقولون عنه إنه مات مسلما، وأبو طالب مات كافرا،،
لعنوا بما قالوا، نحن أعلم بما يقولون، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فاصبر
على ما يقولون.
وأكثر من هذا عجبا، وأبعد منه غرابة، ما لفقته تلك العصابة، وافترته على
الرسول من أنه " ص " - وحاشاه - قال عنه إنه في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه،
وإنه منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه.
ولا أدري وليتني أبدا لا أدري لماذا يستحق أبو طالب هذا العذاب؟
أ لأنه دافع عن رسول الله " ص " أم هو الحقد، والبغض لابن أبي طالب الذي
لعنته بالشام سبعين عاما * لعن الله كهلها وفتاها
ثم هل تريد أن أزيدك وأزودك من أمثال هذه الأضاليل والأباطيل، فأذكر لك
ما رواه الزهري عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: كنت عند رسول الله " ص "
إذ أقبل العباس وعلي فقال: يا عائشة إن هذين يموتان على غير ملتي، أو قال: ديني.
وفي أخرى بنفس السند عنها أيضا قالت كنت عند النبي فقال: يا عائشة إن سرك
أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا، فنظرت فإذا العباس
وعلي بن أبي طالب.
أسمعت هذا وبعد فهلا ترفع يدك إلى الدعاء وتقول معي:
" اللهم ادخلني النار التي يقطن فيها علي بن أبي طالب، واجعلني في الضحضاح
الذي فيه أبو طالب، ولا تدخلني الجنة التي يدخل فيها أبو سفيان، ومعاوية بن أبي سفيان،
ويزيد بن معاوية فسلام على تلك النار، ولعنة الله على هذه الجنة ".
ولولا أبو طالب وابنه * لما مثل الدين شخصا فقاما
فذاك بمكة آوى وحامى * وذاك بيثرب خاض الحماما
فلله ذا فاتحا للهدى * ولله ذا للمعالي ختاما
توفي سلام الله عليه في " 26 " رجب في آخر السنة العاشرة من مبعث النبي " ص "
ورثاه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله:
أبا طالب عصمة المستجير * وغيث المحول ونور الظلم
لقد هد فقدك أهل الحفاظ * فصلى عليك ولي النعم
ولقاك ربك رضوانه * فقد كنت للطهر من خير عم
341

احتجاجه (ع) على من قال بزوال الأدواء بمداوات الأطباء دون الله
سبحانه وعلى من قال بأحكام النجوم من المنجمين وغيرهم من الكهنة والسحرة.
وبالإسناد المقدم ذكره عن أبي محمد العسكري عن علي بن الحسن زين
العابدين عليهم السلام أنه قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام قاعدا ذات يوم، فأقبل إليه رجل
من اليونانيين المدعين للفلسفة والطب، فقال له:
342

يا أبا الحسن بلغني خبر صاحبك وأن به جنونا، وجئت لأعالجه فلحقته قد
343

مضى لسبيله، وفاتني ما أردت من ذلك، وقد قيل لي إنك ابن عمه وصهره وأرى
344

بك صفارا قد علاك، وساقين دقيقين، ولما أراهما تقلانك، فأما الصفار فعندي دوائه
345

وأما الساقان الدقيقان فلا حيلة لي لتغليظهما، والوجه أن ترفق بنفسك في المشي
346

تقلله ولا تكثره، وفيما تحمله على ظهرك وتحتضنه بصدرك، أن تقللهما ولا تكثرهما
347

فإن ساقيك دقيقان لا يؤمن عند حمل ثقيل انقصافهما، وأما الصفار فدوائه عندي
348

وهو هذا، وأخرج دوائه وقال:
349

هذا لا يؤذيك، ولا يخيسك (1) ولكنه تلزمك حمية من اللحم أربعين صباحا
ثم يزيل صفارك.
فقال له علي بن أبي طالب عليه السلام: قد ذكرت نفع هذا الدواء لصفاري فهل
تعرف شيئا يزيد فيه ويضره؟ فقال الرجل: بلى حبة من هذا - وأشار إلى دواء معه -
وقال: إن تناوله إنسان وبه صفار أماته من ساعته، وإن كان لا صفار به صار به
صفار حتى يموت في يومه.
فقال علي عليه السلام فأرني هذا الضار، فأعطاه إياه.
فقال له: كم قدر هذا؟ قال: قدره مثقالين سم ناقع، قدر كل حبة منه يقتل رجلا.

(1) أي لا ينقصك كناية عن عدم النفع.
350

فتناوله علي عليه السلام فقمحه (1) وعرق عرقا خفيفا، وجعل الرجل يرتعد
ويقول في نفسه: الآن أؤخذ بابن أبي طالب، ويقال: قتلته ولا يقبل مني قولي
إنه هو الجاني على نفسه.
فتبسم علي بن أبي طالب عليه السلام وقال: يا عبد الله أصح ما كنت بدنا الآن
لم يضرني ما زعمت أنه سم.
ثم قال: فغمض عينيك، فغمض، ثم قال: افتح عينيك ففتح، ونظر إلى وجه
علي بن أبي طالب عليه السلام، فإذا هو أبيض أحمر مشرب حمرة، فارتعد الرجل لما رآه.
وتبسم علي عليه السلام وقال: أين الصفار الذي زعمت أنه بي.
فقال: والله لكأنك لست من رأيت، قبل كنت مضارا، فإنك الآن مورد.
فقال علي عليه السلام: فزال عني الصفار الذي تزعم أنه قاتلي.
وأما ساقاي هاتان ومد رجليه وكشف عن ساقيه، فإنك زعمت أني أحتاج
إلى أن أرفق ببدني في حمل ما أحمل عليه، لئلا ينقصف الساقان، (2) وأنا أريك
أن طب الله عز وجل على خلاف طبك، وضرب بيده إلى أسطوانة خشب عظيمة،
على رأسها سطح مجلسه الذي هو فيه، وفوقه حجرتان، أحدهما فوق الأخرى
وحركها فاحتملها، فارتفع السطح والحيطان وفوقهما الغرفتان، فغشي على اليوناني.
فقال علي عليه السلام: صبوا عليه ماء فصبوا عليه ماء فأفاق وهو يقول: والله
ما رأيت كاليوم عجبا.
فقال له علي عليه السلام: هذه قوة الساقين الدقيقين واحتمالهما أفي طبك
هذا يا يوناني؟
فقال اليوناني أمثلك كان محمدا؟
فقال علي عليه السلام: وهل علمي إلا من علمه، وعقلي إلا من عقله، وقوتي إلا من
قوته، ولقد أتاه ثقفي وكان أطب العرب، فقال له:

(1) قمحت السويق - بالكسر - إذا سففته.
أي: تنكسر
351

إن كان بك جنون داويتك؟
فقال له محمد صلى الله عليه وآله: أتحب أن أريك آية تعلم بها غناي من طبك وحاجتك
إلى طبي؟
قال: نعم.
قال: أي آية تريد؟
قال: تدعو ذلك العذق وأشار إلى نخلة سحوق فدعاه، فانقلع أصلها من
الأرض وهي تخد الأرض خدا حتى وقفت بين يديه.
فقال له: أكفاك؟
قال: لا.
قال: فتريد ماذا؟
قال تأمرها أن ترجع إلى حيث جاءت منه، وتستقر في مقرها الذي
انقلعت منه.
فأمرها، فرجعت واستقرت في مقرها.
فقال اليوناني لأمير المؤمنين عليه السلام: هذا الذي تذكره عن محمد صلى الله عليه وآله غائب
عني، وأنا أريد أن اقتصر منك على أقل من ذلك، أتباعد عنك فادعني وأنا لا
أختار الإجابة، فإن جئت بي إليك فهي آية.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنما يكون آية لك وحدك، لأنك تعلم من نفسك
أنك لم ترده، وأني أزلت اختيارك من غير أن باشرت مني شيئا، أو ممن أمرته
بأن يباشرك، أو ممن قصد إلى اختيارك وإن لم آمره، إلا ما يكون من قدرة الله
القاهرة، وأنت يا يوناني يمكنك أن تدعي ويمكن غيرك أن يقول: إني واطأتك
على ذلك، فاقترح أن كنت مقترحا ما هو آية لجميع العالمين.
قال له اليوناني: إن جعلت الاقتراح إلي فأنا اقترح: أن تفصل أجزاء
تلك النخلة، وتفرقها وتباعد ما بينها، ثم تجمعها وتعيدها كما كانت:
فقال علي عليه السلام هذه آية وأنت رسولي إليها - يعني إلى النخلة - فقل لها:
352

إن وصي محمد رسول الله يأمر أجزائك: أن تتفرق وتتباعد.
فذهب فقال لها: ذلك، فتفاصلت، وتهافتت، وتنثرت، وتصاغرت أجزائها
حتى لم ير لها عين ولا أثر، حتى كأن لم تكن هناك نخلة قط.
فارتعدت فرائص اليوناني وقال: يا وصي محمد رسول الله قد أعطيتني اقتراحي
الأول، فاعطني الآخر، فأمرها أن تجتمع وتعود كما كانت، فقال: أنت رسولي
إليها فعد فقل لها: يا أجزاء النخلة إن وصي محمد رسول الله يأمرك أن تجتمعي كما
كنت وأن تعودي.
فنادى اليوناني فقال ذلك، فارتفعت في الهواء كهيئة الهباء المنثور، ثم
جعلت تجتمع جزو جزو منها، حتى تصور لها القضبان، والأوراق، وأصول السعف
وشماريخ الأعذاق، ثم تألفت، وتجمعت، وتركبت، واستطالت، وعرضت، واستقر
أصلها في مقرها، وتمكن عليها ساقها، وتركب على الساق قضبانها، وعلى القضبان
أوراقها، وفي أمكنتها أعذاقها، وكانت في الابتداء شماريخها متجردة لبعدها من
أوان الرطب، والبسر، والخلال.
فقال اليوناني: وأخرى أحب أن تخرج شماريخها أخلالها، وتقلبها من
خضرة إلى صفرة وحمرة، وترطيب وبلوغ، لتأكل وتطعمني ومن حضرك منها.
فقال علي عليه السلام أنت رسولي إليها بذلك، فمرها به.
فقال لها اليوناني: ما أمره أمير المؤمنين عليه السلام فأخلت، وأبسرت، واصفرت
واحمرت، وترطبت، وثقلت أعذاقها برطبها.
فقال اليوناني: وآخرها أحبها أن تقرب من بين يديي أعذاقها، أو تطول
يدي لتنالها، وأحب شئ إلي: أن تنزل إلي إحديهما، وتطول يدي إلى الأخرى
التي هي أختها.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: مد اليد التي تريد أن تنالها وقل: يا مقرب البعيد
قرب يدي منها، واقبض الأخرى التي تريد أن ينزل العذق إليها وقل: يا مسهل
العسير سهل لي تناول ما يبعد عني منها ففعل ذلك فقاله، فطالت يمناه فوصلت إلى
353

العذق، وانحطت الأعذاق الأخر فسقطت على الأرض وقد طالت عراجينها.
ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنك إن أكلت منها ولم تؤمن بمن أظهر لك
من عجائبها، عجل الله عز وجل إليك من العقوبة التي يبتليك بها ما يعتبر به
عقلاء خلقه وجهالها.
فقال اليوناني: إني إن كفرت بعد ما رأيت فقد بالغت في العناد، وتناهيت
في التعرض للهلاك، أشهد أنك من خاصة الله، صادق في جميع أقاويلك عن الله
فأمرني بما تشاء أطعك.
قال علي عليه السلام: آمرك أن: تقر لله بالوحدانية، وتشهد له بالجود والحكمة
وتنزهه عن العبث والفساد، وعن ظلم الإماء والعباد، وتشهد أن محمدا الذي أنا وصيه
سيد الأنام، وأفضل رتبة في دار السلام، وتشهد أن عليا الذي أراك ما أراك، وأولاك
من النعم ما أولاك، خير خلق الله بعد محمد رسول الله، وأحق خلق الله بمقام محمد صلى الله عليه وآله
بعده، وبالقيام بشرايعه وأحكامه، وتشهد أن أوليائه أولياء الله، وأعدائه أعداء
الله، وأن المؤمنين المشاركين لك فيما كلفتك، المساعدين لك على ما أمرتك
به خيرة أمة محمد صلى الله عليه وآله، وصفوة شيعة علي.
وآمرك: أن تواسي إخوانك المطابقين لك على تصديق محمد صلى الله عليه وآله وتصديقي
والانقياد له ولي، مما رزقك الله وفضلك على من فضلك به منهم، تسد فاقتهم،
وتجبر كسرهم وخلتهم، ومن كان منهم في درجتك في الإيمان ساويته من مالك
بنفسك، ومن كان منهم فاضلا عليك في دينك آثرته بما لك على نفسك، حتى يعلم
الله منك أن دينه آثر عنك من مالك، وأن أوليائه أكرم عليك من أهلك وعيالك
وآمرك: أن تصون دينك، وعلمنا الذي أودعناك وأسرارنا التي حملناك
ولا تبد علومنا لمن يقابلها بالعناد، ويقابلك من أهلها بالشتم، واللعن، والتناول
من العرض والبدن، ولا تفش سرنا إلى من يشنع علينا، وعند الجاهلين بأحوالنا
ولا تعرض أوليائنا لبوادر الجهال.
وآمرك: أن تستعمل التقية في دينك، فإن الله عز وجل يقول: " لا يتخذ
354

المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ
إلا أن تتقوا منهم تقاة " (1) وقد أذنت لك في تفضيل أعدائنا إن لجأك الخوف إليه
وفي إظهار البراءة منا إن حملك الوجل عليه، وفي ترك الصلاة المكتوبات إن خشيت
على حشاشتك (2) الآفات والعاهات، فإن تفضيلك أعدائنا علينا عند خوفك لا ينفعهم
ولا يضرنا، وأن إظهارك برائتك منا عند تقيتك لا يقدح فينا ولا ينقصنا، ولأن
تبرأت منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي
بها قوامها، وما لها الذي به قيامها، وجاهها الذي به تماسكها، وتصون من عرف
بذلك وعرفت به من أوليائنا وإخواننا من بعد ذلك بشهور وسنين إلى أن يفرج الله
تلك الكربة، وتزول به تلك الغمة فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك، وتنقطع
به عن عمل الدين وصلاح إخوانك المؤمنين، وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي
أمرتك بها، فإنك شائط بدمك ودم إخوانك، معرض لنعمتك ونعمهم على الزوال
مذل لك ولهم في أيدي أعداء دين الله، وقد آمرك الله بإعزازهم، فإنك إن
خالفت وصيتي كان ضررك على نفسك وإخوانك أشد من ضرر المناصب لنا، الكافر بنا
وعن سعيد بن جبير (3) قال: استقبل أمير المؤمنين عليه السلام دهقان من دهاقين
الفرس فقال له - بعد التهنية -:

(1) آل عمران - 28.
(2) الحشاشة: بقية الروح في المريض.
(3) سعيد بن جبير - بالجيم المضمومة - بن هشام الأسدي الوالبي مولى بني والبة
أصله الكوفة نزل مكة تابعي.
عده الشيخ الطوسي في أصحاب الإمام زين العابدين " ع " والعلامة في القسم الأول
من خلاصته، روى عن أبي عبد الله " ع " أنه قال: إن سعيد بن جبير كان يأتم بعلي بن
الحسين " ع " وكان علي " ع " يثني عليه، وما كان سبب قتل الحجاج له إلا على هذا الأمر
وكان مستقيما، وذكر أنه لما دخل على الحجاج بن يوسف قال له: أنت شقي بن كسير
قال: أمي كانت أعرف باسمي سمتني: " سعيد بن جبير "، قال: ما تقول في أبي بكر
وعمر هما في الجنة أو في النار؟ قال: لو دخلت الجنة فنظرت إلى أهلها لعلمت من فيها، ولو
دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت من فيها، قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست
عليهم بوكيل، قال: أيهم أحب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي، قال: فأيهم أرضى للخالق
قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم، قال: أبيت أن تصدقني قال: بل لم أحب
أن أكذبك.
وكان ثقة مشهورا بالفقه والزهد والعبادة وعلم التفسير وكان أخذ العلم عن ابن
عباس، وكان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول. أليس فيكم ابن أم الدهماء؟
يعني: سعيد بن جبير، وكان يسمى جهبذ العلماء " بالكسر - أي: النقاد الخبير " وكان
يقرأ القرآن في ركعتين، قيل: وما من أحد على الأرض إلا وهو محتاج إلى علمه. قتله
الحجاج سنة " 95 " وهو ابن " 49 " سنة ولم يبق بعده الحجاج إلا " 15 " ليلة، ولم
يقتل أحدا بعده لدعائه عليه حين قتله: " اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي ".
رجال الطوسي ص 90 العلامة ص 79 الكشي ص 110 تهذيب التهذيب ج 4 ص 11
سفينة البحار ج 1 ص 621.
355

يا أمير المؤمنين تناحست النجوم الطالعات، وتناحست السعود بالنحوس،
وإذا كان مثل هذا اليوم وجب على الحكيم الاختفاء، ويومك هذا يوم صعب، قد
اتصلت فيه كوكبان، وانقدح من برجك النيران، وليس لك الحرب بمكان،
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ويحك يا دهقان المنبئ بآثار، والمحذر من الأقدار،
ما قصة صاحب الميزان، وقصة صاحب السرطان، وكم المطالع من الأسد والساعات
في المحركات، وكم بين السراري والذراري؟
قال: سأنظر وأومئ بيده إلى كمه، وأخرج منه أصطرلابا ينظر فيه.
فتبسم علي عليه السلام وقال: أتدري ما حدث البارحة؟ وقع بيت بالصين، وانفرج
برج ماجين، وسقط سور سرنديب، وانهزم بطرق الروم بأرمينية، وفقد ديان
اليهود بابلة، وهاج النمل بوادي النمل، وهلك ملك إفريقية، أكنت عالما بهذا؟
قال: لا يا أمير المؤمنين.
فقال: البارحة سعد سبعون ألف عالم، وولد في كل عالم سبعون ألفا،
356

والليلة يموت مثلهم، وهذا منهم - وأومى بيده إلى سعد بن مسعدة الحارثي لعنه
الله وكان جاسوسا للخوارج في عسكر أمير المؤمنين عليه السلام - فظن الملعون: أنه
يقول: خذوه، فأخذ بنفسه فمات، فخر الدهقان ساجدا.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ألم أروك من عين التوفيق؟
قال: بلى يا أمير المؤمنين.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أنا وأصحابي لا شرقيون ولا غربيون، نحن ناشئة
القطب وأعلام الفلك، أما قولك انقدح من برجلك النيران، فكان الواجب عليك
أن تحكم لي به إلا علي، أما نوره وضياؤه فعندي، وأما حريقه ولهبه فذاهب
عني، وهذه مسألة عميقة احسبها إن كنت حاسبا.
وروي أنه عليه السلام لما أراد المسير إلى الخوارج قال له بعض أصحابه: إن سرت
في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم.
فقال عليه السلام: أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه
السوء، وتخوف الساعة التي من سار فيها حاق به الضر، فمن صدقك بهذا فقد
كذب القرآن، واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه، وينبغي
في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه، لأنك بزعمك أنت هديته إلى
الساعة التي نال فيها النفع وأمن الضر.
أيها الناس إياكم وتعلم النجوم، إلا ما يهتدى به في بر أو بحر، فإنه يدعو
إلى الكهانة، المنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر
في النار، سيروا على اسم الله وهونه، ومضى فظفر بمراده صلوات الله عليه.
* * *
357

احتجاجه (ع) على زنديق جاء مستدلا عليه بأي من القرآن متشابهة،
تحتاج إلى التأويل، على أنها تقتضي التناقض والاختلاف فيه، وعلى أمثاله
في أشياء أخرى.
جاء بعض الزنادقة إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام وقال له: لولا ما في القرآن
من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم.
فقال له عليه السلام: وما هو؟
قال: قوله تعالى: " نسوا الله فنسيهم " (1) وقوله: " فاليوم ننساهم كما
نسوا لقاء يومهم هذا " (2) وقوله: " وما كان ربك نسيا " (3) وقوله: " يقوم
الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا " (4)
وقوله: " والله ربنا ما كنا مشركين " (5) وقوله تعالى: " يوم القيامة يكفر
بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا " (6) وقوله: " إن ذلك لحق تخاصم أهل
النار " (7) وقوله: " لا تختصموا لدي " (8) وقوله: " اليوم نختم على أفواههم
وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " (9) وقوله تعالى: " وجوه
يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " (10) وقوله: " لا تدركه الأبصار وهو يدرك
الأبصار " (11) وقوله: " ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى " (12) وقوله:
" لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا الآيتين " (13) وقوله:

(1) التوبة - 97.
(2) الأعراف - 51.
(3) مريم - 64.
(4) النبأ - 38.
(5) الأنعام - 23.
(6) العنكبوت - 25.
(7) ص - 64.
(8) ق - 28.
(9) يس - 65.
(10) القيامة - 22.
(11) الأنعام - 103.
(12) النجم - 14.
(13) النبأ - 38.
358

" ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا " (1) وقوله: " كلا إنهم يومئذ
لمحجوبون " (2) وقوله: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك " (3)
وقوله: " بل هم بلقاء ربهم كافرون " (4) وقوله: " فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى
يوم يلقونه " (5) وقوله: " فمن كان يرجو لقاء ربه " (6) وقوله: " ورأى
المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها " (7) وقوله: " ونضع الموازين القسط
ليوم القيامة " (8) وقوله: " فمن ثقلت موازينه، ومن خفت موازينه " (9).
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: فأما قوله تعالى: " نسوا الله فنسيهم " إنما
يعني نسوا الله في دار الدنيا لم يعملوا بطاعته، فنسيهم في الآخرة أي: لم يجعل
لهم من ثوابه شيئا، فصاروا منسيين من الخير، وكذلك تفسير قوله عز وجل:
" فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا " يعني بالنسيان: أنه لم يثيبهم كما
يثيب أوليائه، والذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسوله
وخافوه بالغيب.
وأما قوله: " وما كان ربك نسيا " فإن ربنا تبارك وتعالى علوا كبيرا ليس
بالذي ينسى، ولا يغفل، بل هو الحفيظ العليم، وقد تقول العرب: نسينا فلان
فلا يذكرنا: أي إنه لا يأمر لهم بخير، ولا يذكرهم به.
قال علي عليه السلام وأما قوله عز وجل: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا
يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا " وقوله: " والله ربنا ما كنا مشركين "
وقوله عز وجل " يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا " وقوله
عز وجل يوم القيامة " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " وقوله: " لا تختصموا

(1) الشورى - 51.
(2) المطففين - 15.
(3) الأنعام - 158.
(4) السجدة - 10.
(5) التوبة - 77.
(6) الكهف - 110.
(7) الكهف - 53.
(8) الأنبياء -.
(9) المؤمنون - 102 و 103.
359

لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد " وقوله: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم
وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " فإن ذلك في مواطن غير واحد من مواطن
ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، المراد: يكفر أهل المعاصي بعضهم
ببعض، ويلعن بعضهم بعضا، والكفر في هذه الآية: " البراءة " يقول: فيبرأ
بعضهم من بعض، ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان: " إني كفرت بما
أشركتمون من قبل " وقول إبراهيم خليل الرحمن: " كفرنا بكم " يعني
تبرأنا منكم.
ثم يجتمعون في مواطن أخر يبكون فيها، فلو أن تلك الأصوات فيها بدت
لأهل الدنيا لا زالت جميع الخلق عن معايشهم، وانصدعت قلوبهم إلا ما شاء الله ولا
يزالون يبكون حتى يستنفدوا الدموع، ويفضوا إلى الدماء.
ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه، فيقولون: " والله ربنا ما كنا
مشركين " وهؤلاء خاصة هم: المقرون في دار الدنيا بالتوحيد، فلا ينفعهم إيمانهم
بالله لمخالفتهم رسله، وشكهم فيما أتوا به عن ربهم، ونقضهم عهودهم في أوصيائهم
واستبدا لهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكذبهم الله فيما انتحلوه من الإيمان
بقوله: " انظر كيف كذبوا على أنفسهم " فيختم الله على أفواههم، ويستنطق
الأيدي والأرجل والجلود، فتشهد بكل معصية كانت منهم، ثم يرفع عن ألسنتهم
الختم فيقولون لجلودهم: لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ.
ثم يجتمعون في موطن آخر فيفر بعضهم من بعض لهول ما يشاهدونه من
صعوبة الأمر، وعظم البلاء فذلك قوله عز وجل: " يوم يفر المرء من أخيه وأمه
وأبيه وصاحبته وبنيه الآية ".
ثم يجتمعون في موطن آخر يستنطق فيه أولياء الله وأصفياؤه، فلا يتكلم
أحد إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، فيقام الرسل فيسألون عن تأدية الرسالة
التي حملوها إلى أممهم، وتسأل الأمم فتجحد كما قال الله تعالى: " فلنسألن الذين
أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " فيقولون: " ما جائنا من بشير ولا نذير " فتشهد
360

الرسل رسول الله صلى الله عليه وآله فيشهد بصدق الرسل، وتكذيب من جحدها من الأمم،
فيقول - لكل أمة منهم -: " بلى قد جائكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير "
أي: مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرسل إليكم رسالاتهم، كذلك
قال الله - لنبيه -: " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء
شهيدا فلا يستطيعون رد شهادته، خوفا من أن يختم الله على أفواههم، وأن تشهد
عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون، ويشهد على منافقي قومه، وأمته، وكفارهم
بإلحادهم، وعنادهم، ونقضهم عهده، وتغييرهم سنته، واعتدائهم على أهل بيته،
وانقلابهم على أعقابهم، وارتدادهم على أدبارهم، واحتذائهم في ذلك سنة من
تقدمهم من الأمم الظالمة، الخائنة لأنبيائها، فيقولون بأجمعهم: " ربنا غلبت علينا
شقوتنا وكنا قوما ظالمين ".
ثم يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمد صلى الله عليه وآله وهو: " المقام المحمود "
فيثني على الله بما لم يثن عليه أحد قبله، ثم يثني على الملائكة كلهم، فلا يبقى
ملك إلا أثنى عليه محمد، ثم يثني على الأنبياء بما لم يثن عليه أحد قبله، ثم يثني
على كل مؤمن ومؤمنة، يبدأ بالصديقين والشهداء، ثم الصالحين، فيحمده أهل
السماوات وأهل الأرضين، فذلك قوله تعالى: " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا "
فطوبى لمن كان له في ذلك المكان حظ ونصيب، وويل لمن لم يكن له في ذلك
المقام حظ ولا نصيب.
ثم يجتمعون في موطن آخر ويزال بعضهم عن بعض، وهذا كله قبل الحساب فإذا أخذ في الحساب شغل كل إنسان بما لديه، نسأل الله بركة ذلك اليوم.
قال علي عليه السلام وأما قوله: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " ذلك في
موضع ينتهي فيه أولياء الله عز وجل، بعدما يفرغ من الحساب، إلى نهر يسمى:
" نهر الحيوان " فيغتسلون منه، ويشربون من آخر فتبيض وجوههم، فيذهب عنهم
كل أذى وقذى ووعث، ثم يؤمرون بدخول الجنة، فمن هذا المقام ينظرون إلى
ربهم كيف يثيبهم، ومنهم يدخلون الجنة فذلك قول الله عز وجل - في تسليم
361

الملائكة عليهم -: " سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " فعند ذلك قوله تعالى:
أثيبوا بدخول الجنة والنظر إلى ما وعدهم الله عز وجل، فلذلك قوله تعالى:
" إلى ربها ناظرة " والناظرة في بعض اللغة هي: المنتظرة ألم تسمع إلى قوله تعالى:
" فناظرة بم يرجع المرسلون " أي: منتظرة بم يرجع المرسلون؟ وأما قوله:
" ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى " يعني: محمدا كان عند سدرة المنتهى
حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عز وجل، وقوله - في آخر الآية -: " ما
زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى " وأي جبرئيل في صورته
مرتين: هذه مرة، ومرة أخرى، وذلك إن خلق جبرئيل خلق عظيم، فهو من
الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم، ولا صفتهم إلا الله رب العالمين
قال علي عليه السلام وأما قوله: " ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من
وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء " كذلك قال الله تعالى قد كان
الرسول يوحي إليه رسل من السماء فتبلغ رسل السماء إلى الأرض وقد كان الكلام
بين رسل أهل الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السماء وقد
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " يا جبرئيل هل رأيت ربك؟ " فقال جبرئيل: " إن ربي
لا يرى ".
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " من أين تأخذ الوحي؟ " قال: " آخذه من إسرافيل "
قال: " ومن أين يأخذه إسرافيل؟ " قال: " يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين "
قال: " ومن أين يأخذه ذلك الملك؟ " قال: " يقذف في قلبه قذفا ".
فهذا وحي، وهو كلام الله عز وجل، وكلام ليس بنحو واحد، منه:
ما كلم الله به الرسل، ومنه ما قذف في قلوبهم، ومنه رؤيا يراها الرسل، ومنه
وحي وتنزيل يتلى ويقرأ فهو كلام الله عز وجل.
قال علي عليه السلام وأما قوله: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " فإنما يعني
به يوم القيامة عن ثواب ربهم لمحجوبون. وقوله تعالى: " هل ينظرون إلا أن
تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك " يخبر محمدا عن المشركين
362

المنافقين، الذين لم يستجيبوا لله ولرسوله، فقال: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم
الملائكة " وحيث لم يستجيبوا لله ولرسوله، أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات
ربك يعني بذلك: العذاب، يأتيهم في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى، فهذا
خبر يخبر به النبي صلى الله عليه وآله عنهم، ثم قال: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا
إيمانها لم تكن آمنت من قبل الآية " يعني: لم تكن آمنت من قبل أن تأتي
هذه الآية، وهذه الآية هي: طلوع الشمس من مغربها، وقال - في آية أخرى -:
" فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " يعني: أرسل عليهم عذابا، وكذلك إتيانه
بنيانهم حيث قال: " فأتى بنيانهم من القواعد " يعني: أرسل عليهم العذاب.
قال علي عليه السلام: وأما قوله عز وجل: " بل هم بلقاء ربهم كافرون " وقوله
" الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم " وقوله: " إلى يوم يلقونه " وقوله: " فمن كان
يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا " يعني: البعث، فسماه الله لقاء، كذلك قوله
" من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت " يعني: من كان يؤمن أنه مبعوث
فإن وعد الله لآت: من الثواب، والعقاب، فاللقاء هاهنا ليس بالرؤية، واللقاء
هو: البعث، وكذلك: " تحيتهم يوم يلقونه سلام " يعني: أنه لا يزول الإيمان عن
قلوبهم يوم يبعثون.
قال علي عليه السلام: وأما قوله عز وجل: " ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم
مواقعوها " يعني: تيقنوا أنهم يدخلونها، وكذلك قوله: " إني ظننت أني ملاق
حسابيه " وأما قوله عز وجل - للمنافقين -: " ويظنون بالله الظنونا " فهو: ظن
شك وليس ظن يقين، والظن ظنان: ظن شك، وظن يقين، فما كان من أمر المعاد
من الظن فهو ظن يقين، وما كان من أمر الدنيا فهو ظن شك.
قال علي عليه السلام: وأما قوله عز وجل: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة
فلا تظلم نفس شيئا " فهو: ميزان العدل، يؤخذ به الخلايق يوم القيامة، بدين
الله تبارك وتعالى، الخلايق بعضهم من بعض، ويجزيهم بأعمالهم، ويقتص للمظلوم
من الظالم، ومعنى قوله: " فمن ثقلت موازينه، ومن خفت موازينه " فهو: قلة
363

الحساب وكثرته، والناس يومئذ على طبقات ومنازل، فمنهم: من يحاسب حسابا
يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا، ومنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب، لأنهم
لم يتلبسوا من أمر الدنيا، وإنما الحساب هناك على من تلبس بها هاهنا، ومنهم
من يحاسب على النقير والقطمير ويصير إلى عذاب السعير، ومنهم أئمة الكفر وقادة
الضلالة، فأولئك لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا، ولا يعبؤ بهم بأمره ونهيه يوم القيامة
وهم في جهنم خالدون، وتلفح وجوههم النار، وهم فيها كالحون.
ومن سؤال هذا الزنديق أن قال أجد الله يقول: " قل يتوفاكم ملك الموت
الذي وكل بكم (1) ".
ومن موضع آخر يقول: " والله يتوفى الأنفس حين موتها " (2) " والذين
تتوفاهم الملائكة طيبين " (3) " وما أشبه ذلك فمرة يجعل الفعل لنفسه، ومرة لملك
الموت، ومرة للملائكة.
وأجده يقول: " ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه " (4)
ويقول، " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " (5) أعلم في الآية
الأولى: أن الأعمال الصالحة لا تكفر، وأعلم في الثانية، أن الإيمان والأعمال
الصالحات لا تنفع إلا بعد الاهتداء.
واجده يقول: " واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا " (6) فكيف يسأل
الحي من الأموات قبل البعث والنشور.
واجده يقول: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن
يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا " (7) فما هذه الأمانة
ومن هذا الإنسان؟ وليس من صفته العزيز العليم التلبيس على عباده.
واجده قد شهر هفوات أنبيائه بقوله: " وعصى آدم ربه فغوى " (8)

(1) السجدة - 11.
(2) الزمر - 42.
(3) النحل - 32.
(4) الأنبياء - 94.
(5) طه - 82.
(6) الزخرف - 45.
(7) الأحزاب - 72.
(8) طه 121.
364

وبتكذيبه نوحا لما قال: " إن ابني من أهلي " (1) بقوله: " إنه ليس من أهلك " (2)
وبوصفه إبراهيم بأنه: عبد كوكبا مرة، ومرة قمرا، ومرة شمسا، وبقوله في يوسف:
" ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " (3) وبتهجينه موسى حيث
قال: " رب أرني أنظر إليك قال لن تراني الآية " (4) وببعثه على داود جبرئيل
وميكائيل حيث تسور المحراب، وبحبسه يونس في بطن الحوت حيث ذهب مغضبا
وأظهر خطأ الأنبياء وزللهم، ووارى اسم من اغتر وفتن خلقا وضل وأضل، وكنى
عن أسمائهم في قوله: " ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع
الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ
جائني " (5) فمن هذا الظالم الذي لم يذكر من اسمه ما ذكر من أسماء الأنبياء؟
واجده يقول: " وجاء ربك والملك صفا صفا " (6) " وهل ينظرون إلا أن
يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك " (7) " ولقد جئتمونا فرادى " (8) فمرة
يجيئهم، ومرة يجيئونه
واجده: يخبر أنه يتلو نبيه شاهد منه، وكان الذي تلاه عبد الأصنام برهة
من دهره.
واجده يقول: " ولتسألن يومئذ عن النعيم " (9) فما هذا النعيم الذي يسأل
العباد عنه؟
وأجده يقول: " بقية الله خير لكم " (10) ما هذه البقية؟
وأجده يقول: " يا حسرتي على فرطت في جنب الله " وأينما تولوا فثم
وجه الله " (11) " وكل شئ هالك إلا وجهه " (12) " وأصحاب اليمين ما أصحاب

(1) هود - 45.
(2) هود - 46.
(3) يوسف - 24.
(4) الأعراف - 143.
(5) الفرقان - 27.
(6) الفجر - 22.
(7) الأنعام - 158.
(8) الأنعام - 94.
(9) التكاثر - 8.
(10) هود - 86.
(11) البقرة - 115.
(12) القصص - 28.
365

اليمين " (1) وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال " (2) ما معنى: الجنب، والوجه
واليمين، والشمال، فإن الأمر في ذلك ملتبس جدا؟
واجده يقول: " الرحمن على العرش استوى " (3) ويقول: " أأمنتم من في
السماء " (4) " وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " (5) " وهو معكم أينما
كنتم " (6) " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " (7) " وما يكون من نجوى
ثلاثة إلا هو رابعهم الآية " (8)
واجده يقول: " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم
من النساء " (9) وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء، ولا كل النساء أيتام
فما معنى ذلك؟
واجده يقول: " وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " (10) فكيف
يظلم الله ومن هؤلاء الظلمة؟
وأجده يقول: " إنما أعظكم بواحدة " (11) فما هذه الواحدة؟
وأجده يقول: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " (12) وقد أرى مخالفي
الإسلام معتكفين على باطلهم، غير مقلعين عنه، وأرى غيرهم من أهل الفساد مختلفين
في مذاهبهم، يلعن بعضهم بعضا، فأي موضع للرحمة العامة لهم المشتملة عليهم؟
واجده قد بين فضل نبيه على سائر الأنبياء، ثم خاطبه في أضعاف ما أثنى
عليه في الكتاب من الازراء عليه، وانتقاص محله، وغير ذلك من تهجينه وتأنيبه،
ما لم يخاطب أحدا من الأنبياء، مثل قوله: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا
تكونن من الجاهلين " (13) وقوله: " لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم

(1) الواقعة - 27.
(2) الواقعة - 41.
(3) طه - 5
(4) الملك - 16.
(5) الزخرف - 84.
(6) الحديد - 4.
(7) ق - 16.
(8) المجادلة - 7.
(9) النساء - 3.
(10) الأعراف - 160.
(11) سبأ - 46.
(12) الأنبياء - 107.
(13) الأنعام - 35.
366

شيئا قليلا " (1) " إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا
نصيرا " (2) وقوله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن
تخشاه " (3) وقوله: " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " (4) وقال: " ما فرطنا في
الكتاب من شئ " " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " (5) فإذا كانت الأشياء تحصى
في الإمام وهو وصي النبي فالنبي أولى أن يكون بعيدا من الصفة التي قال فيها: وما
أدري ما يفعل بي ولا بكم، وهذه كلها صفات مختلفة، وأحوال متناقضة، وأمور
مشكلة، فإن يكن الرسول والكتاب حقا فقد قلت لشكي في ذلك، وإن كانا
باطلين فما علي من بأس.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، تبارك
وتعالى، هو الحي الدائم، القائم على كل نفس بما كسبت، هات أيضا ما شككت فيه
قال: حسبي ما ذكرت يا أمير المؤمنين.
قال: سأنبئك بتأويل ما سألت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه
أنيب، وعليه فليتوكل المتوكلون.
فأما قوله: الله يتوفى الأنفس حين موتها، وقوله يتوفاكم ملك الموت،
وتوفته رسلنا، والذين تتوفاهم الملائكة طيبين، والذين تتوفاهم الملائكة ظالمي
أنفسهم، فهو تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن يتولى ذلك بنفسه، وفعل رسله
وملائكته فعله، لأنهم بأمره يعملون، فاصطفى جل ذكره من الملائكة رسلا وسفرة
بينه وبين خلقه، وهم الذين قال الله فيهم: الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس
فمن كان من أهل الطاعة تولت قبض روحه ملائكة الرحمة، ومن كان من أهل
المعصية تولت قبض روحه ملائكة النقمة، ولملك الموت أعوان من ملائكة الرحمة
والنقمة، يصدرون عن أمره، وفعلهم فعله، وكل ما يأتون منسوب إليه، وإذا كان
فعلهم فعل ملك الموت، وفعل ملك الموت فعل الله، لأنه يتوفى الأنفس على يد من

(1) الإسراء - 74.
(2) الإسراء - 75.
(3) الأحزاب - 37.
(4) الأحقاف - 9.
(5) يس - 12.
367

يشاء، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب على يد من يشاء، وإن فعل أمنائه فعله،
كما قال: وما تشاؤن إلا أن يشاء الله.
وأما قوله: ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه، وقوله
وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، فإن ذلك كله لا يغني إلا مع
الاهتداء، وليس كل من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقا بالنجاة مما هلك به
الغواة، ولو كان ذلك كذلك لنجت اليهود مع اعترافها، بالتوحيد، وإقرارها بالله
ونجى ساير المقرين بالوحدانية، من إبليس فمن دونه في الكفر، وقد بين الله
ذلك بقوله الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون
وبقوله: الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وللإيمان حالات ومنازل
يطول شرحها، ومن ذلك: أن الإيمان قد يكون على وجهين: إيمان بالقلب،
وإيمان باللسان، كما كان إيمان المنافقين على عهد رسول الله، لما قهرهم بالسيف
وشملهم الخوف فإنهم آمنوا بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، فالإيمان بالقلب هو
التسليم للرب، ومن سلم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره، كما استكبر إبليس
عن السجود لآدم، واستكبر أكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم، فلم ينفعهم التوحيد
كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل، فإنه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف
عام، ولم يرد بها غير زخرف الدنيا، والتمكين من النظرة، فلذلك لا تنفع الصلاة
والصدقة إلا مع الاهتداء إلى سبيل النجاة، وطرق الحق، وقد قطع الله عذر عباده
بتبيين آياته، وإرسال رسله، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولم يخل
أرضه من عالم بما يحتاج إليه الخليقة، ومتعلم على سبيل النجاة، أولئك هم
الأقلون عددا، وقد بين الله ذلك في أمم الأنبياء وجعلهم مثلا لمن تأخر، مثل
قوله - في قوم نوح -: وما آمن معه إلا قليل، وقوله - فيمن آمن من أمة
موسى -: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، وقوله - في حواري
عيسى حيث قال لسائر بني إسرائيل -: من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار
الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون، يعني: بأنهم مسلمون لأهل الفضل فضلهم
368

ولا يستكبرون عن أمر ربهم، فما أجابه منهم إلا الحواريون، وقد جعل الله للعلم
أهلا، وفرض على العباد طاعتهم بقوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم، وبقوله: ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين
يستنبطونه منهم، وبقوله: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وبقوله: وما يعلم تأويله
إلا الله والراسخون في العلم، وأتوا البيوت من أبوابها، والبيوت هي: بيوت العلم
الذي استودعته الأنبياء، وأبوابها أوصيائهم، فكل من عمل من أعمال الخير فجرى
على غير أيدي أهل الاصطفاء، وعهودهم، وشرائعهم، وسننهم، ومعالم دينهم،
مردود وغير مقبول، وأهله بمحل كفر، وإن شملتهم صفة الإيمان، ألم تسمع إلى
قوله تعالى: وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون
الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون، فمن لم يهتد من أهل الإيمان
إلى سبيل النجاة لم يغن عنه إيمانه بالله مع دفع حق أوليائه، وهبط عمله، وهو في
الآخرة من الخاسرين، وكذلك قال الله سبحانه: فلم يك ينفعهم أيمانهم لما
رأوا بأسنا، وهذا كثير في كتاب الله عز وجل، والهداية هي: الولاية كما قال
الله عز وجل: ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون،
والذين آمنوا في هذا الموضع هم: المؤتمنون على الخلائق من الحجج، والأوصياء
في عصر بعد عصر، وليس كل من أقر أيضا من أهل القبلة بالشهادتين كان مؤمنا
إن المنافقين كانوا يشهدون: أن لا إلا إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويدفعون عهد
رسول الله بما عهد به: من دين الله، وعزائمه، وبراهين نبوته، إلى وصيه ويضمرون
من الكراهة لذلك، والنقض لما أبرمه منه عند إمكان الأمر لهم، فيما قد بينه الله
لنبيه بقوله: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمونك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون
في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " وبقوله: " وما محمد إلا رسول قد خلت
من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " ومثل قوله: " لتركبن
طبقا عن طبق " أي: لتسلكن سبيل من كان قبلكم من الأمم: في الغدر بالأوصياء
بعد الأنبياء، وهذا كثير في كتاب الله عز وجل، وقد شق على النبي ما يؤول إليه
369

عاقبة أمرهم، واطلاع الله إياه على بوارهم، فأوحى الله عز وجل إليه، " فلا تذهب
نفسك عليهم حسرات " " ولا تأس على القوم الكافرين "
وأما قوله: " واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا " فهذا من براهين نبينا التي
آتاه الله إياها، وأوجب به الحجة على سائر خلقه، لأنه لما ختم به الأنبياء، وجعله
الله رسولا إلى جميع الأمم، وسائر الملل، خصه الله بالارتقاء إلى السماء عند المعراج
وجمع له يومئذ الأنبياء، فعلم منهم ما أرسلوا به وحملوه من: عزائم الله وآياته
وبراهينه، وأقروا أجمعون بفضله، وفضل الأوصياء والحجج في الأرض من بعده
وفضل شيعة وصيه من المؤمنين والمؤمنات، الذين سلموا لأهل الفضل فضلهم، ولم
يستكبروا عن أمرهم، وعرف من أطاعهم وعصاهم من أممهم، وسائر من مضى
ومن غبر، أو تقدم أو تأخر.
وأما هفوات الأنبياء عليهم السلام وما بينه الله في كتابه، ووقوع الكناية من أسماء
من اجترم أعظم مما اجترمته الأنبياء، ممن شهد الكتاب بظلمهم، فإن ذلك من
أدل الدلائل على: حكمة الله عز وجل الباهرة، وقدرته القاهرة، وعزته الظاهرة
لأنه علم: أن براهين الأنبياء تكبر في صدور أممهم، وأن منهم من يتخذ بعضهم
إلها، كالذي كان من النصارى في ابن مريم، فذكرها دلالة على تخلفهم عن الكمال
الذي تفرد به عز وجل، ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى حيث قال فيه وفي أمه:
" كانا يأكلان الطعام " يعني: أن من أكل الطعام كان له ثقل: ومن كان له ثقل
فهو بعيد مما ادعته النصارى لابن مريم، ولم يكن عن أسماء الأنبياء تبجرا وتعزرا (1)
بل تعريفا لأهل الاستبصار.
إن الكناية عن أسماء أصحاب الجرائر العظيمة من المنافقين في القرآن ليست
من فعله تعالى، وإنها من فعل المغيرين والمبدلين، الذين جعلوا القرآن عضين
واعتاضوا الدنيا من الدين، وقد بين الله تعالى قصص المغيرين بقوله: " الذين
يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا " وبقوله

(1) البجر: العيب. والتعزير: اللوم والتأديب.
370

" وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب " وبقوله: " إذ يبيتون ما لا يرضى من
القول " بعد فقد الرسول مما يقيمون به أود باطلهم (1) حسب ما فعلته اليهود
والنصارى بعد فقد موسى وعيسى من: تغيير التوراة والإنجيل، وتحريف الكلم عن
مواضعه، وبقوله: " يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره
ولو كره المشركون " يعني: أنهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله الله ليلبسوا على الخليقة
فأعمى الله قلوبهم حتى تركوا فيه ما دل على ما أحدثوه فيه، وبين عن إفكهم، وتلبيسهم
وكتمان ما عملوه منه، ولذلك قال لهم: لم تلبسون الحق بالباطل، وضرب مثلهم
بقوله: " فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " فالزبد
في هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن، فهو يضمحل، ويبطل
ويتلاشى عند التحصيل، والذي ينفع الناس منه: فالتنزيل الحقيقي الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، والقلوب تقبله، والأرض في هذا الموضع فهي:
محل العلم وقراره.
وليس يسوغ مع عموم التقية التصريح بأسماء المبدلين، ولا الزيادة في آياته
على ما أثبتوه من تلقائهم في الكتاب، لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل
والكفر، والملل المنحرفة عن قبلتنا، وإبطال هذا العلم الظاهر الذي قد استكان
له الموافق والمخالف بوقوع الاصطلاح على الايتمار لهم، والرضا بهم، ولأن أهل
الباطل في القديم والحديث أكثر عدا من أهل الحق، فلأن الصبر على ولاة الأمر
مفروض لقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله: " فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل "
وإيجابه مثل ذلك على أوليائه، وأهل طاعته، بقوله: " لقد كان لكم في رسول
الله أسوة حسنة " فحسبك من الجواب عن هذا الموضع ما سمعت، فإن شريعة
التقية تخطر التصريح بأكثر منه.
وأما قوله: وجاء ربك والملك صفا صفا، وقوله: " ولقد جئتمونا فرادى "
وقوله: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض

(1) الأود: الاعوجاج.
371

آيات ربك " فذلك كله حق، وليست جيئته جل ذكره كجيئة خلقه، فإنه
رب كل شئ.
ومن كتاب الله عز وجل يكون تأويله على غير تنزيله، ولا يشبه تأويله
بكلام البشر، ولا فعل البشر وسأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إنشاء الله تعالى وهو
حكاية الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام حيث قال: " إني ذاهب إلى ربي " فذهابه
إلى ربه توجهه إليه في عبادته واجتهاده، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله، وقال:
" وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج " وقال: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد "
فإنزاله ذلك: خلقه إياه.
وكذلك قوله: " إن كان للرحمن ولد فإنا أول العابدين " أي: الجاحدين
والتأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره.
ومعنى قوله: " فهل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي
بعض آيات ربك " فإنما خاطب نبينا محمدا صلى الله عليه وآله هل ينتظر المنافقون والمشركون
إلا أن تأتيهم الملائكة فيعاينونهم، أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يعني
بذلك: أمر ربك، والآيات هي: العذاب في دار الدنيا، كما عذب الأمم السالفة،
والقرون الخالية، وقال: " أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " يعني
بذلك: ما يهلك من القرون فسماه إتيانا، وقال: " قاتلهم الله أنى يؤفكون " أي
لعنهم الله أنى يؤفكون، فسمى اللعنة قتالا، وكذلك قال: " قتل الإنسان ما أكفره "
أي: لعن الإنسان، وقال: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت
ولكن الله رمى " فسمى فعل النبي صلى الله عليه وآله فعلا له، ألا ترى تأويله على غير تنزيله
ومثل قوله: " بل هم بلقاء ربهم كافرون " فسمى البعث: لقاء، وكذلك قوله:
" الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم " أي: يوقنون أنهم مبعوثون، ومثله قوله: " ألا
يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم " أي: ليس يوقنون أنهم مبعوثون، واللقاء
عند المؤمن: البعث، وعند الكافر: المعاينة والنظر.
وقد يكون بعض ظن الكافر يقينا، وذلك قوله: " ورأى المجرمون النار
372

فظنوا أنهم مواقعوها " أي: تيقنوا أنهم مواقعوها، وأما قوله في المنافقين: " ويظنون
بالله الظنونا " فليس ذلك بيقين ولكنه شك، فاللفظ واحد في الظاهر، ومخالف
في الباطن، وكذلك قوله: " الرحمن على العرش استوى " يعني: استوى تدبيره
وعلا أمره، وقوله، " وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " وقوله: " هو
معكم أينما كنتم " وقوله: " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم " فإنما أراد
بذلك استيلاء أمنائه بالقدرة التي ركبها فيهم على جميع خلقه، وأن فعله فعلهم.
فافهم عني ما أقول لك، فإني إنما أزيدك في الشرح لا ثلج في صدرك
وصدر من لعله بعد اليوم يشك في مثل ما شككت فيه، فلا يجد مجيبا عما يسأل
عنه، لعموم الطغيان، والافتنان، واضطرار أهل العلم بتأويل الكتاب، إلى الاكتتام
والاحتجاب، خيفة أهل الظلم والبغي.
أما إنه سيأتي على الناس زمان يكون الحق فيه مستورا، والباطل ظاهرا
مشهورا، وذلك إذا كان أولى الناس به أعدائهم له، واقترب الوعد الحق، وعظم
الإلحاد، وظهر الفساد، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، ونحلهم
الكفار أسماء الأشرار، فيكون جهد المؤمن أن يحفظ مهجته من أقرب الناس إليه
ثم يتيح الله الفرج لأوليائه، ويظهر صاحب الأمر على أعدائه.
وأما قوله: " ويتلوه شاهد منه " فذلك حجة الله أقامها على خلقه، وعرفهم
أنه لا يستحق مجلس النبي إلا من يقوم مقامه، ولا يتلوه إلا من يكون في الطهارة
مثله، لئلا يتسع لمن ماسه حس الكفر في وقت من الأوقات انتحال الاستحقاق
بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله، وليضيق العذر على من يعينه على إثمه وظلمه، إذ كان
الله قد خطر على من ماسه الكفر تقلد ما فوضه إلى أنبيائه وأوليائه، بقوله لإبراهيم:
" لا ينال عهدي الظالمين " أي: المشركين، لأنه سمى الظلم شركا بقوله: " إن الشرك
لظلم عظيم " فلما علم إبراهيم عليه السلام أن عهد الله تبارك وتعالى اسمه بالإمامة لا
ينال عبدة الأصنام، قال: " فاجنبني وبني أن نعبد الأصنام "
واعلم أن من آثر المنافقين على الصادقين، والكفار على الأبرار، فقد افترى
373

إثما عظيما، إذا كان قد بين في كتابه الفرق بين المحق والمبطل، والطاهر والنجس
والمؤمن والكافر، وأنه لا يتلوا النبي عند فقده إلا من حل محله صدقا، وعدلا،
وطهارة، وفضلا.
وأما الأمانة التي ذكرتها فهي: الأمانة التي لا تجب ولا تجوز أن تكون
إلا في الأنبياء وأوصيائهم، لأن الله تبارك وتعالى ائتمنهم على خلقه، وجعلهم حججا
في أرضه والسامري ومن أجمع معه وأعانه من الكفار على عبادة العجل عند غيبة
موسى ما تم انتحال محل موسى من الطغام، والاحتمال لتلك الأمانة التي لا ينبغي
إلا لطاهر من الرجس، فاحتمل وزرها ووزر من سلك سبيله من الظالمين وأعوانهم
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله: ومن استن سنة حق كان له: أجرها وأجر من عمل بها
إلى يوم القيامة، ولهذا القول من النبي صلى الله عليه وآله شاهد من كتاب الله، وهو: قول الله
عز وجل في قصة قابيل قاتل أخيه: " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها
فكأنما أحيى الناس جميعا " والإحياء في هذا الموضع تأويل في الباطن ليس
كظاهره، وهو من هداها، لأن الهداية هي: حياة الأبد، ومن سماه الله حيا لم
يمت أبدا، إنما ينقله من دار محنة إلى دار راحة ومنحة.
وأما ما كان من الخطاب بالانفراد مرة، وبالجمع مرة، من صفة الباري
جل ذكره، فإن الله تبارك وتعالى اسمه، على ما وصف به نفسه بالانفراد
والوحدانية، هو: النور الأزلي القديم الذي ليس كمثله شئ، لا يتغير، ويحكم
ما يشاء ويختار، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا ما خلق زاد في ملكه وعزه
ولا نقص منه ما لم يخلقه، وإنما أراد بالخلق إظهار قدرته، وإبداء سلطانه، وتبيين
براهين حكمته، فخلق ما شاء كما شاء، وأجري فعل بعض الأشياء على أيدي
من اصطفى من أمنائه، وكان فعلهم فعله، وأمرهم أمره، كما قال: " ومن
يطع الرسول فقد أطاع الله " وجعل السماء والأرض وعاء لمن يشاء من خلقه، ليميز
الخبيث من الطيب، مع سابق علمه بالفريقين من أهلها، وليجعل ذلك مثالا
374

لأوليائه وأمنائه، وعرف الخليقة فضل منزلة أوليائه، وفرض عليهم من طاعتهم مثل
الذي فرضه منه لنفسه، وألزمهم الحجة بأن خاطبهم خطابا يدل على انفراده وتوحده
وبأن له أولياء تجري أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله، فهم: " العباد المكرمون لا
يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " " هو الذي (1) أيدهم بروح منه " وعرف
الخلق اقتدارهم على علم الغيب بقوله: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا
من ارتضى من رسول " وهم: النعيم الذي يسأل العباد عنه، لأن الله تبارك وتعالى
أنعم بهم على من اتبعهم من أوليائهم.
قال السائل: من هؤلاء الحجج؟
قال: هم رسول الله، ومن حل محله من أصفياء الله الذين قرنهم الله بنفسه
ورسوله، وفرض على العباد من طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها لنفسه، وهم
ولاة الأمر الذين قال الله فيهم: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم "
وقال فيهم: " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم "
قال السائل: ما ذاك الأمر؟
قال علي عليه السلام: الذي به تنزل الملائكة في الليلة التي يفرق فيها كل أمر
حكيم، من: خلق، ورزق، وأجل، وعمل، وعمر، وحياة وموت، وعلم غيب
السماوات والأرض، والمعجزات التي لا تنبغي إلا لله وأصفيائه والسفرة بينه وبين
خلقه، وهم وجه الله الذي قال: فأينما تولوا فثم وجه الله " هم بقية الله يعني
المهدي يأتي عند انقضاء هذه النظرة، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما
وجورا، ومن آياته: الغيبة والاكتتام، عند عموم الطغيان، وحلول الانتقام، ولو
كان هذا الأمر الذي عرفتك بأنه للنبي دون غيره، لكان الخطاب يدل على فعل
ماض، غير دائم ولا مستقبل، ولقال: " نزلت الملائكة " " وفرق كل أمر حكيم "
ولم يقل: " تنزل الملائكة " ويفرق كل أمر حكيم " وقد زاد جل ذكره في
التبيان، وإثبات الحجة، بقوله - في أصفيائه وأوليائه عليهم السلام -: " أن تقول نفس

(1) في بعض النسخ: " وهم الذين ".
375

يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله " تعريفا للخليقة قربهم، ألا ترى أنك تقول:
" فلان إلى جنب فلان " إذا أردت أن تصف قربه منه.
وإنما جعل الله تبارك وتعالى في كتابه هذه الرموز التي لا يعلمها غيره، وغير
أنبيائه وحججه في أرضه، لعلمه بما يحدثه في كتابه المبدلون، من: إسقاط أسماء
حججه منه، وتلبيسهم ذلك على الأمة ليعينوهم على باطلهم، فأثبت به الرموز،
وأعمى قلوبهم وأبصارهم، لما عليهم في تركها وترك غيرها، من الخطاب الدال على
ما أحدثوه فيه، وجعل أهل الكتاب المقيمين به، والعالمين بظاهره وباطنه من:
شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي: يظهر
مثل هذا العلم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت، وجعل أعدائها، أهل الشجرة الملعونة
الذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم، فأبي الله إلا أن يتم نوره، ولو علم المنافقون
لعنهم الله: ما عليهم من ترك هذه الآيات التي بينت لك تأويلها، لأسقطوها مع
ما أسقطوا منه، ولكن الله تبارك اسمه ماض حكمه بإيجاب الحجة على خلقه،
كما قال الله تعالى، " فلله الحجة البالغة " أغشى أبصارهم، وجعل على قلوبهم
أكنة عن تأمل ذلك، فتركوه بحاله، وحجبوا عن تأكيد الملتبس بإبطاله،
فالسعداء ينهون عليه، والأشقياء يعمون عنه، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
ثم إن الله جل ذكره لسعة رحمته، ورأفته بخلقه، وعلمه بما يحدثه المبدلون
من تغيير كتابه، قسم كلامه ثلاثة أقسام، فجعل قسما منه: يعرفه العالم والجاهل
وقسما: لا يعرفه إلا من صفى ذهنه، ولطف حسه، وصح تميزه، ممن شرح الله
صدره للإسلام، وقسما: لا يعرفه إلا الله، وأمناؤه، والراسخون في العلم، وإنما فعل
الله ذلك لئلا يدعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله من علم
الكتاب ما لم يجعل الله لهم، وليقودهم الاضطرار إلى الايتمار لمن ولاه أمرهم
فاستكبروا عن طاعته، تعزرا (1) وافتراء على الله عز وجل، واغترارا بكثرة
من ظاهرهم، وعاونهم، وعاند الله عز وجل ورسوله.

(1) أي: تمنعا وتمردا.
376

فأما ما علمه الجاهل والعالم، فمن فضل رسول الله في كتاب الله، فهو قول
الله عز وجل: " من يطع الرسول فقد أطاع الله " وقوله: " إن الله وملائكته يصلون
على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " ولهذه الآية ظاهر وباطن
فالظاهر قوله: " صلوا عليه " والباطن قوله: " وسلموا تسليما " أي سلموا لمن
وصاه واستخلفه، وفضله عليكم، وما عهد به إليه تسليما، وهذا مما أخبرتك: أنه
لا يعلم تأويله إلا من لطف حسه، وصفى ذهنه، وصح تمييزه، وكذلك قوله:
" سلام على آل يس " لأن الله سمى به النبي صلى الله عليه وآله حيث قال: " يس والقرآن
الحكيم * إنك لمن المرسلين " لعلمه بأنهم يسقطون قول الله: سلام على آل محمد
كما أسقطوا غيره، وما زال رسول الله صلى الله عليه وآله يتألفهم، ويقربهم، ويجلسهم عن
يمينه وشماله، حتى أذن الله عز وجل في إبعادهم بقوله: " واهجرهم هجرا جميلا "
وبقوله، " فما للذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين * أيطمع
كل امرء منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا إنا خلقناهم مما يعلمون " وكذلك قول
الله عز وجل: " يوم ندعو كل أناس بإمامهم " ولم يسم بأسمائهم. وأسماء
آبائهم وأمهاتهم.
وأما قوله: " كل شئ هالك إلا وجهه " فإنما أنزلت كل شئ هالك إلا
دينه، لأنه من المحال أن يهلك منه كل شئ ويبقى الوجه، هو أجل وأكرم وأعظم
من ذلك، إنما يهلك من ليس منه، ألا ترى أنه قال: " كل من عليها فان ويبقى
وجه ربك ذو الجلال والإكرام " ففصل بين خلقه ووجهه.
وأما ظهورك على تناكر قوله: " فإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا
ما طاب لكم من النساء " وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء. ولا كل النساء
أيتام، فهو: مما قدمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن، وبين القول في
اليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن وهذا وما
أشبهه مما ظهرت حوادث المنافقين فيه لأهل النظر والتأمل، ووجد المعطلون وأهل
الملل المخالفة للإسلام مساغا إلى القدح في القرآن، ولو شرحت لك كلما أسقط
377

وحرف وبدل مما يجري هذا المجري لطال، وظهر ما تخطر التقية إظهاره من
مناقب الأولياء، ومثالب الأعداء (1).

(1) في ج 1 ص 15 من تفسير مجمع البيان للطبرسي قال:
ومن ذلك: الكلام في زيادة القرآن ونقصانه، فإنه لا يليق بالتفسير، فأما الزيادة
فيه فمجمع على بطلانه، وأما النقصان منه، فقد روى جماعة من أصحابنا، وقوم من
حشوية العامة: أن في القرآن تغييرا ونقصانا، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه
وهو الذي نصره المرتضى " قدس الله روحه " واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء، في
جواب المسائل الطرابلسيات، وذكر في مواضع: أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم:
بالبلدان، والحوادث الكبار، ولوقايع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب
المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته. وبلغت إلى حد
لم يبلغه فيما ذكرناه، لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام
الدينية.. إلى أن قال: وذكر أيضا رضي الله عنه: إن القرآن كان على عهد رسول
الله " ص " مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك: بأن القرآن كان
يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له،
وأنه: كان يعرض على النبي " ص " ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن
مسعود، وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي " ص " عدة ختمات، وكل
ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا، مرتبا، غير مبتور، ولا مبثوث، وذكر
أن من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك
مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها
عن المعلوم المقطوع على صحته.
وقال الإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في كتاب " أصل الشيعة وأصولها "
وأن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للاعجاز
والتحدي، ولتعليم الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام، وأنه لا نقص فيه، ولا
تحريف، ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم، ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق
المسلمين: إلى وجود نقص فيه، أو تحريف، فهو مخطئ، يرده نص الكتاب العظيم
" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم، الظاهرة
في نقصه أو تحريفه، ضعيفة شاذة، وأخبار آحاد، لا تفيد علما ولا عملا، فإما أن
تأول بنحو من الاعتبار أو يضرب بها عرض الجدار.
378

وأما قوله: " وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " فهو تبارك اسمه
أجل وأعظم من أن يظلم، ولكن قرن أمناءه على خلقه بنفسه، وعرف الخليقة
جلالة قدرهم عنده، وأن ظلمهم ظلمه، بقوله، " وما ظلمونا " ببغضهم أولياءنا
ومعونة أعدائهم عليهم " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " إذ حرموها الجنة، وأوجبوا
عليها خلود النار.
وأما قوله: " إنما أعظكم بواحدة " فإن الله جل ذكره نزل عزائم الشرائع
وآيات الفرائض، في أوقات مختلفة، كما خلق السماوات والأرض في ستة أيام،
ولو شاء لخلقها في أقل من لمح البصر، ولكنه جعل الأناة والمداراة أمثالا لأمنائه
وإيجابا للحجة على خلقه، فكان أول ما قيدهم به: الإقرار بالوحدانية والربوبية
والشهادة بأن لا إله إلا الله، فلما أقروا بذلك تلاه بالاقرار لنبيه صلى الله عليه وآله بالنبوة
والشهادة له بالرسالة، فلما انقادوا ذلك فرض عليهم الصلاة، ثم الصوم، ثم الحج
ثم الجهاد، ثم الزكاة، ثم الصدقات، وما يجري مجراها من مال الفيئ، فقال
المنافقون: هل بقي لربك علينا بعد الذي فرضه شئ آخر يفترضه. فتذكره
لتسكن أنفسنا إلى أنه لم يبق غيره، فأنزل الله في ذلك: " قل إنما أعظكم بواحدة "
يعني: الولاية، وأنزل، " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون " وليس بين الأمة خلاف أنه لم يؤت الزكاة يومئذ
أحد وهو راكع غير رجل، ولو ذكر اسمه في الكتاب لأسقط مع ما أسقط من
معناها المحرفون فيبلغ إليك وإلى أمثالك، وعند ذلك قال الله: " اليوم أكملت
لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ".
وأما قوله للنبي: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " وأنك ترى أهل الملل
المخالفة للإيمان ومن يجري مجراهم من الكفار مقيمين على كفرهم إلى هذه الغاية
379

وأنه لو كان رحمة عليهم لاهتدوا جميعا ونجوا من عذاب السعير، فإن الله تبارك
وتعالى إنما عنى بذلك: أنه جعله سببا لأنظار أهل هذه الدار لأن الأنبياء قبله بعثوا
بالتصريح لا بالتعريض، وكان النبي صلى الله عليه وآله منهم إذا صدع بأمر الله وأجابه قومه
سلموا وسلم أهل دارهم من سائر الخليقة، وإن خالفوه هلكوا وهلك أهل دارهم
بالآفة التي كان نبيهم يتوعدهم بها، ويخوفهم حلولها ونزولها بساحتهم، من:
خسف، أو قذف، أو رجف، أو زلزلة، أو غير ذلك من أصناف العذاب
التي هلكت بها الأمم الخالية.
وأن الله علم من نبينا صلى الله عليه وآله ومن الحجج في الأرض: الصبر على ما لم يطق
من تقدمهم من الأنبياء الصبر على مثله، فبعثه، فبعثه الله بالتعريض لا بالتصريح، وأثبت
حجة الله تعريضا لا تصريحا بقوله - في وصيه -: " من كنت مولاه فهذا مولاه ".
و " هو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " وليس من خليقة
النبي ولا من النبوة أن يقول قولا لا معنى له، فلزم الأمة أن تعلم: أنه لما كانت
النبوة والأخوة موجودتين في خلقة هارون، ومعدومتين فيمن جعله النبي صلى الله عليه وآله
بمنزلته أنه قد استخلفه على أمته كما استخلف موسى هارون، حيث قال له:
" أخلفني في قومي " ولو قال لهم: لا تقلدوا الإمامة إلا فلانا بعينه وإلا نزل بكم
العذاب، لأتاهم العذاب وزال باب الإنظار والإمهال.
وبما أمر بسد باب الجميع وترك بابه، ثم قال: ما سددت ولا تركت ولكني
أمرت فأطعت، فقالوا سددت بابنا وتركت لأحدثنا سنا.
فأما ما ذكروه من حداثة سنه، فإن الله لم يستصغر يوشع بن نون حيث
أمر موسى أن يعهد بالوصية إليه، وهو في سن ابن سبع سنين، ولا استصغر يحيى
وعيسى لما استودعهما عزائمه وبراهين حكمته، وإنما جعل ذلك جل ذكره لعلمه
بعاقبة الأمور، وأن وصيه لا يرجع بعده ضالا ولا كافرا.
وبأن عمد النبي صلى الله عليه وآله إلى سورة براءة، فدفعها إلى من علم أن الأمة تؤثره
على وصيه، وأمره بقرائتها على أهل مكة، فلما ولى من بين يديه أتبعه بوصيه
380

وأمر بارتجاعها منه، والنفوذ إلى مكة ليقرأها على أهلها، وقال: " إن الله جل
جلاله أوحى إلي أن لا يؤدي عني إلا رجل مني " دلالة منه على خيانة من علم أن
الأمة اختارته على وصيه.
ثم شفع ذلك بضم الرجل الذي ارتجع سورة براءة منه، ومن يوازره في تقدم
المحل عند الأمة، إلى علم النفاق " عمرو بن العاص " في غزاة ذات السلاسل، ولاهما
عمرو: حرس عسكره.
وختم أمرهما بأن: ضمهما عند وفاته إلى مولاه أسامة بن زيد، وأمرهما
بطاعته، والتصريف بين أمره ونهيه، وكان آخر ما عهد به في أمر أمته قوله:
" أنفذوا جيش أسامة " يكرر ذلك على أسماعهم، إيجابا للحجة عليهم في إيثار
المنافقين على الصادقين.
ولو عددت كلما كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله في إظهار معائب المستولين
على تراثه لطال، وأن السابق منهم إلى تقلد ما ليس له بأهل قام هاتفا على المنبر
لعجزه عن القيام بأمر الأمة، ومستقيلا (1) مما قلدوه لقصور معرفته على تأويل
ما كان يسأل عنه، وجهله بما يأتي ويذر.
ثم أقام على ظلمه، ولم يرض باحتقاب عظيم الوزر في ذلك حتى عقد الأمر
من بعده لغيره، فأتى التالي بتسفيه رأيه، والقدح والطعن على أحكامه، ورفع
السيف عمن كان صاحبه وضعه عليه، ورد النساء اللاتي كان سباهن إلى أزواجهن
وبعضهن حوامل، (2) وقوله: " قد نهيته عن قتال أهل القبلة فقال لي: إنك
لحدب على أهل الكفر وكان هو في ظلمه لهم أولى باسم الكفر منهم ".
ولم يزل يخطئه، ويظهر الأرزاء عليه، ويقول على المنبر: " كانت بيعة
أبي بكر فلتة، وقى الله شرها، فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه " وكان يقول: قبل

(1) إشارة إلى قول أبي بكر " أقيلوني فلست بخيركم ".
(2) راجع قصة مالك بن نويرة في ترجمة خالد بن الوليد في هامش ص 124 من
هذا الكتاب.
381

ذلك قولا ظاهرا ليته حسنة من حسناته، ويود أنه كان شعرة في صدره، وغير
ذلك من القول المتناقض المؤكد لحجج الدافعين لدين الإسلام.
وأتى من أمر الشورى وتأكيده بها: عقد الظلم والإلحاد، والغي والفساد،
حتى تقرر على إرادته ما لم يخف - على ذي لب موضع ضرره -.
ولم تطق الأمة الصبر على ما أظهره الثالث من سوء الفعل، فعاجلته بالقتل
فاتسع بما جنوه من ذلك لمن وافقهم على ظلمهم وكفرهم ونفاقهم: محاولة مثل
ما أتوه من الاستيلاء على أمر الأمة.
كل ذلك لتتم النظرة التي أوحاها الله تعالى لعدوه إبليس، إلى أن يبلغ الكتاب
أجله، ويحق القول على الكافرين، ويقترب الوعد الحق، الذي بينه في كتابه
بقوله: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لنستخلفنهم في الأرض كما
استخلف الذين من قبلهم " (1) وذلك: إذا لم يبق من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن
إلا رسمه، وغاب صاحب الأمر بإيضاح الغدر له في ذلك، لاشتمال الفتنة على القلوب
حتى يكون أقرب الناس إليه أشدهم عدواة له.
وعند ذلك يؤيده الله بجنود لم تروها، ويظهر دين نبيه صلى الله عليه وآله - على يديه -
على الدين كله ولو كره المشركون.
وأما ما ذكرته من الخطاب الدال على تهجين النبي صلى الله عليه وآله، والأرزاء به،
والتأنيب له، مع ما أظهره الله تعالى في كتابه من تفضيله إياه على سائر أنبيائه
فإن الله عز وجل جعل لكل نبي عدوا من المشركين، كما قال في كتابه، وبحسب
جلالة منزلة نبينا صلى الله عليه وآله عند ربه، كذلك عظم محنته لعدوه الذي عاد منه في شقاقه
ونفاقه كل أذى ومشقة لدفع نبوته، وتكذيبه إياه، وسعيه في مكارهه، وقصده
لنقض كل ما أبرمه، واجتهاده ومن مالأه على كفره، وعناده، ونفاقه، وإلحاده
في إبطال دعواه، وتغيير ملته، ومخالفته سنته، ولم ير شيئا أبلغ في تمام كيده
من تنفيرهم من موالاة وصيه، وإيحاشهم منه، وصدهم عنه، وإغرائهم بعداوته،

النور: 55.
382

والقصد لتغيير الكتاب الذي جاء به، وإسقاط ما فيه من فضل ذوي الفضل، وكفر
ذوي الكفر، منه وممن وافقه على ظلمه، وبغيه، وشركه، ولقد علم الله ذلك
منهم فقال: " إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا " وقال: " يريدون أن
يبدلوا كلام الله " ولقد أحضروا الكتاب كملا مشتملا على التأويل، والتنزيل.
والمحكم، والمتشابه، والناسخ، والمنسوخ، لم يسقط منه: حرف ألف ولا لام،
فلما وقفوا على ما بينه الله من: أسماء أهل الحق والباطل، وأن ذلك إن أظهر
نقص ما عهدوه قالوا: لا حاجة لنا فيه، نحن مستغنون عنه بما عندنا، وكذلك
قال: " فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ".
دفعهم الاضطرار بورود المسائل عليهم عما لا يعلمون تأويله، إلى جمعه،
وتأليفه، وتضمينه من تلقائهم ما يقيمون به دعائم كفرهم، فصرخ مناديهم: من
كان عنده شئ من القرآن فليأتنا به، ووكلوا تأليفه ونظمه إلى بعض من وافقهم
على معادات أولياء الله، فألفه على اختيارهم، وما يدل للمتأمل له على اختلال
تمييزهم، وافترائهم، وتركوا منه ما قدروا أنه لهم، وهو عليهم، وزادوا فيه ما
ظهر تناكره وتنافره، وعلم الله أن ذلك يظهر ويبين، فقال، " ذلك مبلغهم من
العلم " وانكشف لأهل الاستبصار عوارهم، وافترائهم.
والذي بدا في الكتاب من الازراء على النبي صلى الله عليه وآله من فرقة الملحدين ولذلك
قال: " ويقولون منكرا من القول وزورا " ويذكر جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وآله ما
يحدثه عدوه في كتابه من بعده بقوله: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي
إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته "
يعني: أنه ما من نبي تمنى مفارقة ما يعاينه من نفاق قومه، وعقوقهم، والانتقال
عنهم إلى دار الإقامة، إلا ألقى الشيطان المعرض لعداوته عند فقده في الكتاب الذي
أنزل عليه، ذمه، والقدح فيه، والطعن عليه، فينسخ الله ذلك من قلوب المؤمنين
فلا تقبله، ولا تصغي إليه غير قلوب المنافقين، والجاهلين، ويحكم الله آياته بأن:
يحمي أوليائه من الضلال والعدوان، ومشايعة أهل الكفر والطغيان، الذين لم يرض
383

الله أن يجعلهم كالأنعام حتى قال: " بل هم أضل سبيلا ".
فافهم هذا واعلمه، واعمل به، واعلم أنك ما قد تركت مما يجب عليك
السؤال عنه أكثر مما سألت عنه، وأني قد اقتصرت على تفسير يسير من كثير لعدم
حملة العلم، وقلة الراغبين في التماسه، وفي دون ما بينت لك بلاغ لذوي الألباب.
قال السائل: حسبي ما سمعت يا أمير المؤمنين، شكرا لله لك على استنقاذي
من عماية الشرك، وطخية الإفك، وأجزل على ذلك مثوبتك، إنه على كل شئ
قدير، وصلى الله أولا وآخرا على أنوار الهدايات، وأعلام البريات، محمد وآله
أصحاب الدلالات الواضحات، وسلم تسليما كثيرا.
عن الأصبغ بن نباتة قال: لما بويع أمير المؤمنين عليه السلام، خرج إلى المسجد
متعمما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وآله، لابسا بردته، منتعلا بنعل رسول الله، ومتقلدا
بسيف رسول الله صلى الله عليه وآله، فصعد المنبر، فجلس متمكنا، ثم شبك بين أصابعه فوضعها
أسفل بطنه، ثم قال:
يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني: وهذا سفط العلم، هذا لعاب
رسول الله صلى الله عليه وآله، هذا ما زقني رسول الله زقا زقا، سلوني فإن عندي علم
الأولين والآخرين.
أما والله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم
وأهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل الزبور بزبورهم، وأهل القرآن بقرآنهم، حتى
ينطق كل كتاب من كتب الله فيقول: " صدق علي لقد أفتاكم بما أنزل الله في "
وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهارا فهل فيكم أحد يعلم: ما أنزل الله فيه، ولولا
آية في كتاب الله لأخبرتكم: بما كان، وما يكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة
وهي هذه الآية: " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " (1).
ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرئ النسمة، لو
سألتموني عن: آية آية في ليل نزلت أم في نهار نزلت، مكيها ومدنيها، سفريها

(1) الرعد - 93.
384

وحضريها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها لأنبأتكم.
فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟
فأجابه بما تقدم ذكرنا إياه (1).
قال: فسلوني قبل أن تفقدوني.
فقام إليه رجل من أقصي المجلس فقال: يا أمير المؤمنين دلني على عمل
ينجيني الله به من النار، ويدخلني الجنة!
قال: اسمع، ثم افهم، ثم استيقن، قامت الدنيا بثلاث: بعالم ناطق مستعمل
لعلمه، وبغني لا يبخل بماله على أهل دين الله، وبفقير صابر.
فإذا كتم العالم علمه، وبخل الغني بماله، ولم يصبر الفقير على فقره،
فعندها الويل والثبور، وكادت الأرض أن ترجع إلى الكفر بعد الإيمان.
أيها السائل لا تغترن بكثرة المساجد، وجماعة أقوام أجسادهم مجتمعة
وقلوبهم متفرقة، فإنما الناس ثلاث: زاهد، وراغب، وصابر.
أما الزاهد فلا يفرح بالدنيا إذا أتته، ولا يحزن عليها إذا فاتته.
وأما الصابر فيتمناها بقلبه، فإن أدرك منها شيئا صرف عنها نفسه لعلمه
بسوء العاقبة.
وأما الراغب فلا يبالي من حل أصابها أم من حرام.
ثم قال: يا أمير المؤمنين فما علامة المؤمن في ذلك الزمان؟
قال ينظر إلى ولي الله فيتولاه، وإلي عدو الله فيتبرأ منه وإن كان حميما قريبا.
قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين ثم غاب فلم ير.
فقال: هذا أخي الخضر عليه السلام تمام الخبر.
وعن الأصبغ بن نباتة قال: خطبنا أمير المؤمنين عليه السلام على منبر الكوفة
فحمد الله وأثني عليه، ثم قال:

(1) مر جوابه عليه السلام لسائل سأله السؤال نفسه فقال: " لم
أك بالذي أعبد من لم أره.. الخ " فراجعه.
385

أيها الناس سلوني فإن بين جوانحي علما جما.
فقام إليه ابن الكوا فقال: يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا؟
قال: الرياح.
قال: فما الحاملات وقرا؟
قال: السحاب.
قال: فما الجاريات يسرا؟
قال: السفن.
قال: فما المقسمات أمرا.
قال: الملائكة.
قال: يا أمير المؤمنين وجدت كتاب الله ينقض بعضه بعضا.
قال: ثكلتك أمك يا بن الكوا كتاب الله يصدق بعضه بعضا، ولا ينقض بعضه
بعضا، فسل عما بدا لك.
قال: يا أمير المؤمنين سمعته يقول: " رب المشارق والمغارب " وقال في آية
أخرى: " رب المشرقين ورب المغربين " وقال في آية أخرى: " رب المشرق والمغرب ".
قال: ثكلتك أمك يا بن الكوا، هذا المشرق وهذا المغرب، وأما قوله: رب
المشرقين ورب المغربين، فإن مشرق الشتاء على حدة، ومشرق الصيف على حدة
أما تعرف ذلك من قرب الشمس وبعدها؟ وأما قوله: رب المشارق والمغارب، فإن
لها ثلاثمائة وستين برجا، تطلع كل يوم من برج، وتغيب في آخر، فلا تعود إليه
إلا من قابل في ذلك اليوم.
قال: يا أمير المؤمنين كم بين موضع قدمك إلى عرش ربك؟
قال: ثكلتك أمك يا بن الكوا سل متعلما، ولا تسأل متعنتا، من موضع
قدمي إلى عرش ربي أن يقول قائل مخلصا: " لا إله إلا الله ".
قال: يا أمير المؤمنين فما ثواب من قال: لا إله إلا الله؟
قال: من قال لا إله إلا الله مخلصا طمست ذنوبه، كما يطمس الحرف
386

الأسود من الرق الأبيض، فإن قال ثانية لا إله إلا الله مخلصا خرقت أبواب
السماوات وصفوف الملائكة حتى يقول الملائكة بعضها لبعض: اخشعوا لعظمة الله
فإذا قال ثالثة لا إله إلا الله مخلصا، تنته دون العرش، فيقول الجليل: " اسكني
فوعزتي وجلالي لأغفرن لقائلك بما كان فيه " ثم تلا هذه الآية: " إليه يصعد
الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " يعني إذا كان عمله صالحا ارتفع قوله وكلامه.
قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن قوس قزح.
قال: ثكلتك أمك لا تقل: قوس قزح فإن قزحا اسم شيطان، ولكن قل:
قوس الله، إذا بدت يبدو الخصب والريف.
قال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن المجرة التي تكون في السماء.
قال: هي شرج في السماء، وأمان لأهل الأرض من الغرق، ومنه غرق الله
قوم نوح بماء منهمر
قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن المحو الذي يكون في القمر.
قال: عليه السلام: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، رجل أعمى يسأل عن مسألة
عمياء، أما سمعت الله تعالى يقول: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل
وجعلنا آية النهار مبصرة " (1).
قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: عن أي أصحاب رسول الله تسألني؟
قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن أبي ذر الغفاري.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء
على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ".
قال: يا أمير المؤمنين فأخبرني عن سلمان الفارسي.
قال: بخ بخ سلمان منا أهل البيت، ومن لكم بمثل لقمان الحكيم، علم علم
الأول والآخر.

(1) الإسراء - 12.
387

قال يا أمير المؤمنين أخبرني عن حذيفة بن اليماني.
قال: ذاك امرء علم أسماء المنافقين، أن تسألوه عن حدود الله تجدوه بها عالما.
قال: يا أمير المؤمنين فأخبرني عن عمار بن ياسر.
قال: ذاك امرء حرم الله لحمه ودمه على النار أن تمس شيئا منها.
قال: يا أمير المؤمنين فأخبرني عن نفسك.
قال: كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتدئت.
قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن قول الله عز وجل: " قل هل ننبئكم
بالأخسرين أعمالا " الآية.
قال: كفرة أهل الكتاب، اليهود والنصارى، وقد كانوا على الحق فابتدعوا
في أديانهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ثم نزل عن المنبر وضرب بيده على منكب ابن الكوا.
ثم قال: يا بن الكوا وما أهل النهروان منهم ببعيد.
فقال: يا أمير المؤمنين ما أريد غيرك، ولا أسأل سواك.
قال: فرأينا ابن الكوا يوم النهروان فقيل له: ثكلتك أمك، بالأمس
تسأل أمير المؤمنين عما سألته، وأنت اليوم تقاتله فرأينا رجلا حمل عليه فطعنه فقتله
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن علي عليه السلام قال: سلوني عن
كتاب الله عز وجل، فوالله ما نزلت آية من كتاب الله في ليل ونهار، ولا مسير
ولا مقام، إلا وقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله، وعلمني تأويلها.
فقام إليه ابن الكوا فقال: يا أمير المؤمنين فما كان ينزل عليه وأنت غائب عنه؟
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله ما كان ينزل عليه من القرآن وأنا غائب عنه حتى
أقدم عليه، فيقرأنيه ويقول لي: يا علي أنزل الله علي بعدك كذا وكذا، وتأويله
كذا وكذا فيعلمني تنزيله وتأويله.
وجاء في الآثار: أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يخطب فقال في خطبته: سلوني
قبل أن تفقدوني، فوالله لا تسألوني عن فتنة تضل مائة وتهدي مائة إلا أنبأتكم
388

بناعقها، وسائقها إلى يوم القيامة.
فقام إليه رجل (1) فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني كم في رأسي ولحيتي
من طاقة شعر.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والله لقد حدثني خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله بما سألت
عنه، وإن على كل طاقة شعر في رأسك ملكا يلعنك، وعلى كل طاقة شعر في
لحيتك شيطانا يستفزك، وإن في بيتك لسخلا يقتل ابن رسول الله، ذلك مصداق ما
أخبرتك به ولولا أن الذي سألت يعسر برهانه لأخبرتك به، ولكن آية ذلك ما
نبأتك به من لعنك، وسخلك الملعون، وكان ابنه في ذلك الوقت صبيا صغيرا يحبو
فلما كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان تولي قتله، وكان الأمر كما قال أمير المؤمنين
عليه السلام.
* * *
احتجاجه (ع) على من قال بالرأي في الشرع والاختلاف في الفتوى وأن
يتعرض للحكم بين الناس من ليس لذلك بأهل وذكر الوجه لاختلاف من أختلف
في الدين والرواية عن رسول الله (ص).
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: ترد على أحدهم القضية في حكم من
الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف
قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آرائهم جميعا،
وإلههم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف
فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه، أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه
أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى، أم أنزل الله سبحانه دينا
تاما فقصر الرسول صلى الله عليه وآله عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول: " ما فرطنا في
الكتاب من شئ " (2) " وفيه تبيان كل شئ " وذكر أن الكتاب يصدق بعضه

(1) هو الأشعث بن قيس لعنه الله.
(2) الأنعام - 38.
389

بعضا، وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا " وأن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفني عجائبه، ولا
تنقي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به.
وروي أنه عليه السلام قال: إن أبغض الخلايق إلى الله تعالى رجلان:
رجل وكله الله إلى نفسه، فهو جائر عن قصد السبيل، سائر بغير علم ولا
دليل، مشعوف بكلام بدعة، (1) ودعاء ضلالة، فهو: فتنة لمن افتتن به،
ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمال
خطايا غيره، رهن بخطيئته.
ورجل قمش جهلا، فوضع في جهال الأمة، غار في أغباش الفتنة، قد لهج
منها بالصوم والصلاة، عمي في عقد الهدنة، سماه الله: عاريا منسلخا، وسماه أشباه
الناس: عالما وليس به، ولما يغن في العلم يوما، سالما بكر فاستكثر من جمع
ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن، وأكثر من غير طائل
جلس بين الناس مفتيا، قاضيا، ضامنا لتلخيص ما التبس على غيره، إن خالف
من سبقه: لم يأمن من نقض حكمه من يأتي من بعده، كفعله بمن كان قبله
فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشوا رثا من رأيه، ثم قطع به فهو من
لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت، خباط جهالات، وركاب عشوات، ومفتاح
شبهات، فهو لا يدري أصاب الحق أم أخطأ، إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ،
وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، فهو من رأيه في مثل نسج غزل العنكبوت
الذي إذا مرت به النار لم يعلم بها، لم يعض على العلم بضرس قاطع، فيغنم بذري
الروايات إذراء الريح الهشيم، لأملي والله بإصدار ما ورد عليه، لا يحسب العلم في
شئ مما أنكره، ولا يرى أن من وراء ما ذهب فيه مذهب ناطق ما بلغ منه مذهبا
لغيره، وإن قاس شيئا بشئ لم يكذب رأيه، كيلا يقال له: لا يعلم شيئا، وإن
خالف قاضيا سبقه لم يؤمن فضيحته حين خالفه، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما

(1) المشعوف: المجنون الوله.
390

يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعج منه المواريث، إلى الله
أشكو معشرا يعيشون جهالا، ويموتون ضلالا، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، وتولول
منه الفتيا، وتبكي منه المواريث، ويحلل بقضائه الفرج الحرام، ويحرم بقضائه
الفرج الحلال، ويأخذ المال من أهله فيدفعه إلى غير أهله.
وروي أنه صلوات الله عليه قال - بعد ذلك -:
أيها الناس عليكم بالطاعة والمعرفة بمن لا تعتذرون بجهالته، فإن العلم الذي
هبط به آدم وجميع ما فضلت به النبيون إلى خاتم النبيين في عترة نبيكم محمد صلى الله عليه وآله
فأنى يتاه بكم؟! بل أين تذهبون؟! يا من نسخ من أصلاب أصحاب السفينة!
هذه مثلها فيكم فاركبوها، فكما نجى في هاتيك من نجى فكذلك ينجو في هذه
من دخلها، أنا رهين بذلك قسما حقا وما أنا من المتكلفين، والويل لمن تخلف
ثم الويل لمن تخلف، أما بلغكم ما قال فيكم نبيكم حيث يقول - في حجة الوداع -:
" إني تارك فيكم الثقلين، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل
بيتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما "
ألا هذا عذب فرات فاشربوا منه، وهذا ملح أجاج فاجتنبوا.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال - لرأس اليهود -: على كم افترقتم؟
فقال على كذا وكذا فرقة.
فقال علي عليه السلام: كذبت ثم أقبل على الناس فقال:
والله لو ثنيت لي الوسادة: لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل
الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل القرآن بقرآنهم.
افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، سبعون منها في النار وواحدة
ناجية في الجنة، وهي: التي اتبعت يوشع بن نون وصي موسى عليه السلام.
وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة، إحدى وسبعون فرقة في النار
وواحدة بالجنة، وهي: التي اتبعت شمعون الصفا وصي عيسى عليه السلام.
وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون فرقة في النار
391

وواحدة في الجنة، وهي التي اتبعت وصي محمد صلى الله عليه وآله، وضرب بيده على صدره ثم قال:
ثلاثة عشر فرقة من الثلاث وسبعين فرقة كلها تنتحل مودتي، وحبي، واحدة
منها في الجنة، وهي: النمط الأوسط واثنتا عشرة في النار.
عن مسعدة بن صدقة، (1) عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: خطب أمير المؤمنين
عليه السلام فقال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " كيف أنتم إذا لبستم الفتنة، ينشؤ فيها
الوليد، ويهرم فيها الكبير، ويجري الناس عليها حتى يتخذونها سنة، فإذا غير
منها شئ قيل أتى الناس بمنكر، غيرت السنة، ثم تشتد البلية، وتنشؤ فيها الذرية
وتدقهم الفتن كما تدق النار الحطب، وكما تدق الرحا بثقالها، يتفقه الناس لغير
الدين، ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة ".
ثم أقبل أمير المؤمنين عليه السلام ومعه ناس من أهل بيته، وخاص من شيعته،
فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله ثم قال:
لقد عمل الولاة قبلي بأمور عظيمة خالفوا فيها رسول الله متعمدين لذلك،
ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها التي كانت عليها على عهد
رسول الله لتفرق عني جندي، حتى أبقى وحدي إلا قليلا من شيعتي، الذين
عرفوا فضلي وإمامتي من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، أرأيتم لو أمرت بمقام
إبراهيم عليه السلام فرددته إلى المكان الذي وضعه فيه رسول الله، ورددت فدك إلى ورثة
فاطمة سلام الله عليها، ورددت صاع رسول الله ومده إلى ما كان، وأمضيت إلى
قطايع كان رسول الله صلى الله عليه وآله أقطعها للناس سنين، ورددت دار جعفر بن أبي طالب
إلى ورثته، وهدمتها وأخرجتها من المسجد، ورددت الخمس إلى أهله، ورددت
قضاء كل من قضى بجور، ورددت سبي ذراري بني تغلب، ورددت ما قسم من أرض

(1) مستعدة بن صدقة: عده الشيخ الطوسي رحمه الله تعالى من أصحاب الباقر
والصادق عليهما السلام، وذكره العلامة في القسم الثاني من خلاصته ص 260 فقال:
مسعدة بن صدقة: قال الشيخ رحمه الله: إنه عامي، وقال الكشي إنه بتري.
392

خيبر، ومحوت ديوان العطاء، وأعطيت كما كان يعطي رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم
أجعلها دولة بين الأغنياء.
والله لقد أمرت الناس: أن لا يجمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، فنادى
بعض أهل عسكري ممن يقاتل وسيفه معي: " أنعى الإسلام وأهله غيرت سنة عمر "
ونهى أن يصلى في شهر رمضان في جماعة، حتى خفت أن يثور في ناحية عسكري
على ما لقيت، ولقيت هذه الأمة من أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار.
وأعظم من ذلك سهم ذوي القربى، الذي قال الله تبارك وتعالى فيه " واعلموا
أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل " (1) وذلك لنا خاصة إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا
يوم الفرقان، نحن والله عنى بذوي القربى، الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه، ولم
يجعل لنا في الصدقة نصيبا، أكرم الله سبحانه وتعالى نبيه وأكرمنا أن يطعمنا
أوساخ أيدي الناس.
فقال له رجل: إني سمعت من سلمان، وأبي ذر، والمقداد، أشياء في
تفسير القرآن والرواية عن النبي صلى الله عليه وآله، وسمعت منك تصديق ما سمعت منهم،
ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة في تفسير القرآن والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله
وأنتم تخالفونهم، وتزعمون أن ذلك باطل، فترى الناس يكذبون متعمدين على
النبي صلى الله عليه وآله، ويفسرون القرآن بآرائهم؟
قال: فأقبل علي عليه السلام عليه فقال له: سألت فافهم الجواب: إن في أيدي
الناس حقا وباطلا، وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا، وخاصا وعاما، ومحكما
ومتشابها، وحفظا ووهما، وقد كذب على رسول الله وهو حي، حتى قام
خطيبا فقال:
" أيها الناس قد كثرت علي الكذابة، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ
مقعده من النار ".

(1) الأنفال - 41
393

وإنما أتاك بالحديث: أربعة رجال ليس لهم خامس.
رجل منافق: مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثم، ولا يتحرج،
يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدا، فلو علم الناس: أنه منافق، كاذب، لم يقبلوا
منه، ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا: " صاحب رسول الله، رآه وسمع منه،
ولقف عنه " فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله تعالى عن المنافقين بما أخبرك،
ووصفهم بما وصفهم به لك، ثم بقوا بعده صلى الله عليه وآله فتقربوا إلى أئمة الضلالة، والدعاة
إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكاما على رقاب الناس
وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا، إلا من عصم الله تعالى، فهذا
أحد الأربعة.
ورجل: سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه، ولم
يتعمد كذبا فهو في يديه، يرويه، ويعمل به، ويقول: إنما سمعت من رسول
الله صلى الله عليه وآله، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه، لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه
كذلك لرفضه.
ورجل ثالث: سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا يأمر به، ثم نهى عنه، وهو
لا يعلم، أو سمعه نهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ، ولم يحفظ
الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ
لرفضوه، وآخر لم يكذب على الله، ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفا لله
تعالى، وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وآله، ولم يهم به بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء
به على ما سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ
المنسوخ وجنب عنه، وعرف الخاص والعام فوضع كل شئ موضعه، وعرف
المتشابه والمحكم.
وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله الكلام له وجهان: فكلام خاص، وكلام
عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله تعالى به، ولا ما عنى به رسول الله صلى الله عليه وآله
فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه، ولا ما قصد به، وما خرج من
394

أجله، وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يسأله ويستفهمه، حتى أن كانوا
ليحبون أن يجيء الأعرابي أو الطاري فيسأله صلى الله عليه وآله حتى يسمعوا كلامه، وكان
لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألته عنه، وحفظته، فهذه وجوه ما عليه الناس في
اختلافهم، وعللهم في رواياتهم.
وعن يحيى الحضرمي (1) قال سمعت عليا عليه السلام يقول:
كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وآله وهو نائم ورأسه في حجري.
قيل لي: ما الدجال؟
فاستيقظ النبي صلى الله عليه وآله محمر وجهه، فقال: فيما أنتم؟
فقلت له: يا رسول الله سألوني عن الدجال.
فقال: لغير الدجال أنا أخوف عليكم من الدجال، الأئمة الضالون المضلون
يسفكون دماء عترتي، أنا حرب لمن حاربهم، وسلم لمن سالمهم.
* * *
جواب مسائل الخضر (ع) للحسن بن علي بن أبي طالب (ع) بحضرة
أبيه (ع).
عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري (2) عن أبي جعفر بن محمد بن علي
الثاني عليهم السلام قال:

(1) يحيى الحضرمي من أصحاب أمير المؤمنين " ع " كان هو وابنه عبد الله من
شرطة الخميس نقل أن أمير المؤمنين " ع " قال لعبد الله بن يحيى الحضرمي - يوم الجمل -
أبشر يا بن يحيى: فإنك وأباك من شرطة الخميس حقا، لقد أخبرني رسول الله " ص "
باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس، والله سماكم في السماء: " شرطة الخميس " على
لسان نبيه " ص ".
(2) أبو هاشم الجعفري: داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن
أبي طالب رضي الله تعالى عنهم البغدادي وكان ثقة، جليل القدر، عظيم المنزلة عند
الأئمة عليهم السلام، وقد شاهد منهم: الرضا، والجواد، والهادي، والعسكري
وصاحب الأمر صلوات الله عليهم أجمعين، وكان منقطعا إليهم، وقد روى عنهم
كلهم، وله أخبار ومسائل، وله شعر جيد فيهم " ع " منه قوله في أبي الحسن الهادي " ع "
وقد اعتل:
مادت الأرض بي وأدت فؤادي * واعترتني موارد العرواء
حين قيل الإمام نضو عليل * قلت نفسي فدته كل الفداء
مرض الدين لاعتلالك واعتل * وغارت له نجوم السماء
عجبا أن منيت بالداء والسقم * وأنت الإمام حسم الداء
أنت آسى الأدواء في الدين والدنيا * ومحيى الأموات والأحياء
وكان مقدما عند السلطان، وكان ورعا، زاهدا، ناسكا، عالما، عاملا، ولم
يكن أحد في آل أبي طالب " ع " مثله في زمانه في علو النسب، وذكر السيد ابن طاووس
رحمه الله: أنه من وكلاء الناحية الذين لا تختلف الشيعة فيهم، توفي في ج 1 سنة " 261 "
عن الكنى والألقاب للقمي ج 1
395

أقبل أمير المؤمنين ذات يوم ومعه الحسن بن علي عليهما السلام، وسلمان الفارسي " ره "
وأمير المؤمنين عليه السلام متكئ على يد سلمان، فدخل المسجد الحرام فجلس، فأقبل
رجل حسن الهيئة واللباس فسلم على أمير المؤمنين عليه السلام، فرد عليه السلام فجلس
ثم قال:
يا أمير المؤمنين أسألك عن ثلاث مسائل، إن أخبرتني بهن علمت أن القوم
ركبوا من أمرك ما أفضى إليهم أنهم ليسوا بمأمونين في دنياهم ولا في آخرتهم.
وإن يكن الأخرى علمت أنك وهم شرع سواء.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: سلني عما بدا لك.
فقال: أخبرني، عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه، وعن الرجل كيف
يذكر وينسى، وعن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام والأخوال؟
فالتفت أمير المؤمنين عليه السلام إلى أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام فقال: يا أبا
محمد أجبه فقال عليه السلام:
396

أما ما سألت عنه من أمر الإنسان إذا نام أين تذهب روحه، فإن: روحه
متعلقة بالريح، والريح متعلقة بالهواء إلى وقت ما يتحرك صاحبها لليقظة، فإن
أذن الله برد تلك الروح على صاحبها، جذبت تلك الروح الريح، وجذبت تلك
الريح الهواء، فرجعت فسكنت في بدن صاحبها، وإن لم يأذن الله عز وجل برد
تلك الروح على صاحبها، جذبت الهواء الريح، فجذبت الريح الروح، فلم ترد
على صاحبها إلى وقت ما يبعث.
وأما ما ذكرت من أمر الذكر والنسيان فإن: قلب الرجل في حق، وعلى
الحق طبق، فإن صلى الرجل عند ذلك على محمد وآل محمد صلاة تامة، انكشف ذلك
الطبق عن ذلك الحق، فأضاء القلب، وذكر الرجل ما كان نسي، وإن لم يصل
على محمد وآل محمد، أو نقص من الصلاة عليهم، انطبق ذلك الطبق على ذلك الحق،
فأظلم القلب، ونسي الرجل ما كان ذكره.
وأما ما ذكرت من أمر المولود الذي يشبه أعمامه وأخواله فإن: الرجل إذا
أتى أهله فجامعها بقلب ساكن، وعروق هادئة، وبدن غير مضطرب، فأسكنت
تلك النطفة جوف الرحم خرج الولد يشبه أبه وأمه، وإن هو أتاها بقلب غير ساكن
وعروق غير هادية، وبدن مضطرب، اضطربت النطفة فوقعت في حال اضطرابها
على بعض العروق: فإن وقعت على عرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه،
وإن وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه الولد أخواله.
فقال الرجل أشهد أن لا إله إلا الله، ولم أزل أشهد بها، وأشهد أن محمدا
رسول الله، ولم أزل أشهد بذلك، وأشهد أنك وصي رسول الله القائم بحجته - وأشار
إلى أمير المؤمنين عليه السلام - ولم أزل أشهد بها، وأشهد أنك وصيه والقائم بحجته
- وأشار إلى الحسن عليه السلام - وأشهد أن الحسين بن علي وصي أبيك والقائم بحجته
بعدك، وأشهد على علي بن الحسين أنه القائم بأمر الحسين بعده، وأشهد على محمد
ابن علي عليه السلام أنه القائم بأمر علي بن الحسين بعده، وأشهد على جعفر بن محمد أنه
القائم بأمر محمد بن علي بعده، وأشهد على موسى بن جعفر أنه القائم بأمر جعفر بن
397

محمد بعده، وأشهد على علي بن موسى الرضا بأنه القائم بأمر موسى بن جعفر بعده
وأشهد على محمد بن علي أنه القائم بأمر علي بن موسى، وأشهد على علي بن محمد أنه
القائم بأمر محمد بن علي، وأشهد على الحسن بن علي أنه القائم بأمر علي بن محمد،
وأشهد على رجل من ولد الحسن بن علي لا يكنى ولا يسمى حتى يظهر أمره فيملأ
الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة
الله وبركاته.
ثم قام فمضى. فقال أمير المؤمنين للحسن: يا أبا محمد اتبعه فانظر أين يقصد.
فخرج في أثره فقال: فما كان إلا أن وضع رجله خارج المسجد فما
دريت أين أخذ من أرض الله، فرجعت إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأعلمته.
فقال عليه السلام: يا أبا محمد أتعرفه؟
قلت، الله ورسوله وأمير المؤمنين أعلم.
قال: هو الخضر عليه السلام.
* * *
جوابه عن مسائل جاءت من الروم ثم من الشام الجاري مجرى الاحتجاج
بحضرة أبيه عليهما السلام.
روى محمد بن قيس (1) عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال:
بينا أمير المؤمنين في الرحبة والناس عليه متراكمون، فمن بين مستفتي،
ومن بين مستعدي، إذ قام إليه رجل فقال:
السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، من أنت؟
قال: أنا رجل من رعيتك وأهل بلادك.

(1) قال العلامة في القسم الأول من خلاصته: محمد بن قيس أبو نصير - بالنون -
الأسدي من أصحاب الصادق عليه السلام ثقة ثقة.
398

فقال له: ما أنت برعيتي وأهل بلادي، ولو سلمت علي يوما واحدا
ما خفيت علي.
فقال: الأمان يا أمير المؤمنين.
فقال: هل أحدثت منذ دخلت مصري هذا؟
قال: لا.
قال: فلعلك من رجال الحرب؟
قال: نعم.
قال: إذا وضعت الحرب أوزارها فلا بأس.
قال: أنا رجل بعثني إليك معاوية متغفلا لك، أسألك عن شئ بعث به ابن
الأصفر إليه. وقال له: إن كنت أحق بهذا الأمر والخليفة بعد محمد فأجبني عما
أسألك، فإنك إن فعلت ذلك اتبعتك، وبعثت إليك بالجائزة، فلم يكن عنده جواب
وقد أقلقه فبعثني إليك لأسألك عنها.
فقال: أمير المؤمنين عليه السلام: قاتل الله ابن آكلة الأكباد، وما أضله وأعماه
ومن معه، حكم الله بيني وبين هذه الأمة، قطعوا رحمي، وأضاعوا أيامي، ودفعوا
حقي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي، يا قنبر علي بالحسن،
والحسين، ومحمد، فاحضروا.
فقال: يا شامي هذان ابنا رسول الله، وهذا ابني، فاسأل أيهم أحببت.
فقال: اسأل ذا الوفرة يعني: الحسن عليه السلام
فقال له الحسن عليه السلام: سلني عما بدا لك.
فقال الشامي: كم بين الحق والباطل؟ وكم بين السماء والأرض؟ وكم بين
المشرق والمغرب؟ وما قوس قزح؟ وما العين التي تأوي إليها أرواح المشركين
وما العين التي تأوي إليها أرواح المؤمنين؟ وما المؤنث؟ وما عشرة أشياء بعضها
أشد من بعض؟
فقال الحسن عليه السلام: بين الحق والباطل أربع أصابع، فما رأيته بعينك فهو
399

الحق، وقد تسمع بأذنيك باطلا كثيرا.
فقام الشامي: صدقت.
قال: وبين السماء والأرض دعوة المظلوم، ومد البصر، فمن قال لك غير
هذا فكذبه.
قال: صدقت يا بن رسول الله.
قال: وبين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس، تنظر إليها حين تطلع من
مشرقها، وتنظر إليها حين تغيب في مغربها.
قال: صدقت. فما قوس قزح؟
قال: ويحك لا تقل قوس قزح فإن قزح اسم الشيطان، وهو قوس الله،
وهذه علامة الخصب، وأمان لأهل الأرض من الغرق.
وأما العين التي تأوي إليها أرواح المشركين فهي عين يقال لها: " برهوت "
وأما العين التي تأوي إليها أرواح المؤمنين فهي عين يقال لها: " سلمى ".
وأما المؤنث فهو الذي لا يدرى أذكر أم أنثى فإنه: ينتظر به فإن كان
ذكرا احتلم، وإن كان أنثى حاضت، وبدا ثديها، وإلا قيل له: " بل على الحايط "
فإن أصاب بوله الحايط فهو ذكر، وإن انتكص بوله كما ينتكص بول البعير
فهي امرأة.
وأما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض فأشد شئ خلقه الله الحجر، وأشد
من الحجر الحديد يقطع به الحجر، وأشد من الحديد النار تذيب الحديد، وأشد
من النار الماء يطفي النار، وأشد من الماء السحاب يحمل الماء، وأشد من السحاب
الريح تحمل السحاب، وأشد من الريح الملك الذي يرسلها، وأشد من الملك ملك
الموت الذي يميت الملك، وأشد من ملك الموت الموت الذي يميت ملك الموت،
وأشد من الموت أمر الله الذي يميت الموت.
فقال الشامي: أشهد أنك ابن رسول الله حقا، وأن عليا أولى بالأمر من معاوية
ثم كتب هذه الجوابات وذهب بها إلى معاوية، فبعثها إلى ابن الأصفر.
400

فكتب إليه ابن الأصفر: يا معاوية لم تكلمني بغير كلامك، وتجيبني بغير
جوابك، أقسم بالمسيح ما هذا جوابك، وما هو إلا من معدن النبوة، وموضع
الرسالة، وأما أنت فلو سألتني درهما ما أعطيتك.
* * *
احتجاج الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام على جماعة من المنكرين
لفضله وفضل أبيه من قبل بحضرة معاوية.
روي عن الشعبي وأبي مخنف (1) ويزيد بن أبي حبيب المصري (2) أنهم

(1) أبو مخنف: لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الأزدي شيخ أصحاب
الأخبار بالكوفة، ووجههم، كما عن النجاشي، وتوفي سنة " 157 " يروي عن الصادق
عليه السلام، ويروي عنه هشام الكلبي، وجده مخنف بن سليم صحابي، شهد الجمل في
أصحاب على " ع " حاملا راية الأزد، فاستشهد في تلك الواقعة سنة " 36 " وكان أبو
مخنف من أعاظم مؤرخي الشيعة، ومع اشتهار تشيعه اعتمد عليه علماء السنة في النقل
عنه كالطبري وابن الأثير، وغيرهما، وليعلم أن لأبي مخنف كتبا كثيرة في التاريخ
والسير منها: كتاب " مقتل الحسين " الذي نقل عنه أعاظم العلماء المتقدمين واعتمدوا
عليه، ولكن الأسف أنه فقد ولا يوجد منه نسخة، وأما المقتل الذي بأيدينا وينسب
إليه، فليس له، بل ولا لأحد من المؤرخين المعتمدين ومن أراد تصديق ذلك فليقابل
ما في هذا المقتل وما نقله الطبري وغيره عنه حتى يعلم ذلك، وقد بينت ذلك في: " نفس
المهموم " في طرماح بن عدي والله العالم.
الكنى والألقاب ج 1 ص 148 للشيخ عباس القمي
(2) يزيد بن أبي حبيب: واسمه سويد الأزدي مولاهم أبو رجاء المصري وقيل
غير ذلك في ولائه قال ابن سعد: كان مفتي أهل مصر في زمانه وكان أول من أظهر
العلم في مصر والكلام في الحلال والحرام، وقال الليث: يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا
وذكره ابن حيان في الثقاة، وقال ابن سعد كان ثقة كثير الحديث مات سنة " 128 "
وقال غيره بلغ زيادة على " 75 " سنة.
عن تهذيب التهذيب ج 11 ص 318 باختصار
401

قالوا: لم يكن في الإسلام يوم في مشاجرة قوم اجتمعوا في محفل، أكثر ضجيجا
ولا أعلى كلاما ولا أشد مبالغة في قول، من يوم اجتمع فيه عند معاوية بن أبي
سفيان عمرو بن عثمان بن عفان، وعمرو بن العاص، وعتبة بن أبي سفيان، والوليد
ابن عقبة بن أبي معيط، والمغيرة بن أبي شعبة، وقد تواطؤا على أمر واحد.
فقال عمرو بن العاص: لمعاوية ألا تبعث إلى الحسن بن علي فتحضره، فقد
أحيى سنة أبيه، وخفقت النعال خلفه، أمر فأطيع، وقال فصدق، وهذان يرفعان به
إلى ما هو أعظم منهما، فلو بعثت إليه فقصرنا به وبأبيه، وسببناه وسببنا أباه،
وصغرنا بقدره وقدر أبيه، وقعدنا لذلك حتى صدق لك فيه، فقال لهم معاوية: إني
أخاف أن يقلدكم قلايد يبقى عليكم عارها، حتى يدخلكم قبوركم، والله ما
رأيته قط إلا كرهت جنابه، وهبت عتابه، وإني إن بعثت إليه لأنصفنه منكم.
قال عمرو بن العاص: أتخاف أن يتسامى باطله على حقنا، ومرضه على صحتنا
قال: لا قال: فابعث إذا إليه.
فقال عتبة: هذا رأي لا أعرفه، والله ما تستطيعون أن تلقوه بأكثر ولا
أعظم مما في أنفسكم عليه، ولا يلقاكم بأعظم مما في نفسه عليكم، وإنه لأهل
بيت خصم جدل، فبعثوا إلى الحسن فلما أتاه الرسول قال له: يدعوك معاوية.
قال: ومن عنده؟
قال الرسول: عنده فلان وفلان، وسمى كلا منهم باسمه.
فقال الحسن عليه السلام: ما لهم خر عليهم السقف من فوقهم، وأتاهم العذاب من
حيث لا يشعرون.
ثم قال: يا جارية أبلغيني ثيابي.
ثم قال: " اللهم إني أدرأ بك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم، وأستعين
بك عليهم، فاكفنيهم بما شئت، وأنى شئت، من حولك وقوتك، يا أرحم الراحمين "
وقال للرسول: هذا كلام الفرج، فلما أتى معاوية رحب به، وحياه وصافحه.
فقال الحسن عليه السلام: إن الذي حييت به سلامة، والمصافحة أمن.
402

فقال معاوية: أجل إن هؤلاء بعثوا إليك وعصوني ليقروك: أن عثمان
قتل مظلوما، وأن أباك قتله، فاسمع منهم، ثم أجبهم بمثل ما يكلمونك، فلا
يمنعك مكاني من جوابهم.
فقال الحسن: فسبحان الله البيت بيتك والإذن فيه إليك! والله لئن أجبتهم
إلى ما أرادوا إني لأستحيي لك من الفحش، وإن كانوا غلبوك على ما تريد، إني
لأستحيي لك من الضعف، فبأيهما تقر، ومن أيهما تعتذر، وأما إني لو علمت
بمكانهم واجتماعهم، لجئت بعدتهم من بني هاشم مع أني مع وحدتي هم أوحش
مني من جمعهم، فإن الله عز وجل لوليي اليوم وفيما بعد اليوم، فمرهم فليقولوا
فأسمع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فتكلم عمرو بن عثمان بن عفان فقال: ما سمعت كاليوم أن بقي من بني
عبد المطلب على وجه الأرض من أحد بعد قتل الخليفة عثمان بن عفان، وكان
ابن أختهم، والفاضل في الإسلام منزلة، والخاص برسول الله إثرة، فبئس كرامة
الله حتى سفكوا دمه اعتداء، وطلبا للفتنة، وحسدا، ونفاسة، وطلب ما ليسوا
بأهلين لذلك، مع سوابقه ومنزلته من الله، ومن رسوله، ومن الإسلام، فيا ذلاه
أن يكون حسن وساير بني عبد المطلب قتلة عثمان، أحياء يمشون على مناكب
الأرض وعثمان بدمه مضرج، مع أن لنا فيكم تسعة عشر دما بقتلي بني أمية ببدر
ثم تكلم عمرو بن العاص: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أي ابن أبي
تراب بعثنا إليك لنقررك أن أباك سم أبا بكر الصديق، واشترك في قتل عمر الفاروق
وقتل عثمان ذي النورين مظلوما، وادعى ما ليس له حق، ووقع فيه، وذكر
الفتنة، وعيره بشأنها؟
ثم قال: أنكم يا بني عبد المطلب لم يكن الله ليطيعكم الملك فتركبون فيه
ما لا يحل لكم، ثم أنت يا حسن تحدث نفسك بأنك كائن أمير المؤمنين وليس عندك
عقل ذلك، ولا رأيه، وكيف وقد سلبته، وتركت أحمق في قريش، وذلك لسوء
عمل أبيك، وإنما دعوناك لنسبك وأباك.
403

ثم إنك لا تستطيع أن تعيب علينا، ولا أن تكذبنا به، فإن كنت تري أنا
كذبناك في شئ، وتقولنا عليك بالباطل، وادعينا عليك خلاف الحق فتكلم، وإلا
فاعلم أنك وأباك من شر خلق الله، فأما أبوك فقد كفانا الله قتله وتفرد به، وأما
أنت فإنك في أيدينا نتخير فيك، والله أن لو قتلناك ما كان في قتلك إثم عند الله،
ولا عيب عند الناس
ثم تكلم عتبة بن أبي سفيان، فكان أول ما ابتدأ به أن قال:
يا حسن إن أباك كان شر قريش لقريش، أقطعه لأرحامها، وأسفكه لدمائها
وإنك لمن قتلة عثمان، وإن في ألحق أن نقتلك به، وإن عليك القود في كتاب الله
عز وجل، وإنا قاتلوك به، وأما أبوك فقد تفرد الله بقتله فكفانا أمره، وأما
رجاؤك الخلافة فلست فيها، لا في قدحة زندك، ولا في رجحة ميزانك.
ثم تكلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط بنحو من كلام أصحابه فقال:
يا معشر بني هاشم كنتم أول من دب بعيب عثمان وجمع الناس عليه، حتى
قتلتموه حرصا على الملك، وقطيعة للرحم، واستهلاك الأمة، وسفك دمائها،
حرصا على الملك، وطلبا للدنيا الخبيثة، وحبا لها، وكان عثمان خالكم، فنعم
الخال كان لكم، وكان صهركم، فكان نعم الصهر لكم، قد كنتم أول من حسده
وطعن عليه، ثم وليتم قتله، فكيف رأيتم صنع الله بكم.
ثم تكلم المغيرة بن شعبة: فكان كلامه وقوله كله وقوعا في علي عليه السلام
ثم قال:
يا حسن إن عثمان قتل مظلوما فلن لم يكن لأبيك في دلك عذر برئ، ولا
اعتذر مذنب، غير أنا يا حسن قد ظننا لأبيك في ضمه قتلة عثمان، وإيوائه لهم،
وذبه عنهم، أنه بقتله راض، وكان والله طويل السيف واللسان، يقتل الحي ويعيب
الميت، وبنو أمية خير لبني هاشم من بني هاشم لبني أمية، ومعاوية خير لك يا حسن
منك لمعاوية، وقد كان أبوك ناصب رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته وأجلب عليه قبل
موته، وأراد؟؟ قتله، فعلم ذلك من أمره رسول الله صلى الله عليه وآله ثم كره أن يبايع أبا بكر
404

حتى أتي به قودا، ثم دس عليه فسقاه سما فقتله، ثم نازع عمر حتى هم أن يضرب
رقبته، فعمد في قتله، ثم طعن على عثمان حتى قتله، كل هؤلاء قد شرك في دمهم
فأي منزلة له من الله يا حسن: وقد جعل الله السلطان لولي المقتول في كتابه المنزل
فمعاوية ولي المقتول بغير حق، فكان من الحق لو قتلناك وأخاك، والله ما دم علي
بأخطر من دم عثمان، وما كان الله ليجمع فيكم فيكم يا بني عبد المطلب الملك والنبوة.
ثم سكت فتكلم أبو محمد الحسن بن علي عليهما السلام فقال:
الحمد لله الذي هدى أولكم بأولنا، وآخركم بآخرنا، وصلى الله على
جدي محمد النبي وآله وسلم.
اسمعوا مني مقالتي وأعيروني فهمكم وبك أبدء يا معاوية: إنه لعمر الله
يا أزرق ما شتمني غيرك وما هؤلاء شتموني، ولا سبني غيرك وما هؤلاء سبوني
ولكن شتمتني، وسببتني، فحشا منك، وسوء رأي، وبغيا، وعدوانا، وحسدا
علينا، وعداوة لمحمد صلى الله عليه وآله، قديما وحديثا، وأنه والله لو كنت أنا وهؤلاء يا أزرق
مشاورين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وحولنا المهاجرون والأنصار ما قدروا أن
يتكلموا به، ولا استقبلوني بما استقبلوني به.
فاسمعوا مني أيها الملأ المجتمعون المتعاونون علي، ولا تكتموا حقا
علمتوه، ولا تصدقوا بباطل إن نطقت به، وسأبدأ بك يا معاوية ولا أقول فيك
إلا دون ما فيك.
أنشدكم بالله هل تعلمون أن الرجل الذي شتمتموه صلى القبلتين كلتيهما
وأنت تراهما جميعا وأنت في ضلالة تعبد اللات والعزى، وبايع البيعتين كلتيهما
بيعة الرضوان وبيعة الفتح، وأنت يا معاوية بالأولى كافر، وبالأخرى ناكث.
ثم قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أن ما أقول حقا، أنه لقيكم مع رسول
الله صلى الله عليه وآله يوم بدر ومعه راية النبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين، ومعك يا معاوية راية المشركين
وأنت تعبد اللات والعزى، وترى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله فرضا واجبا، ولقيكم
يوم أحد ومعه راية النبي، ومعك يا معاوية راية المشركين، ولقيكم يوم الأحزاب
405

ومعه راية رسول الله صلى الله عليه وآله، ومعك يا معاوية راية المشركين، كل ذلك يفلج الله
حجته، ويحق دعوته، ويصدق أحدوثته، وينصر رايته، وكل ذلك رسول الله
يرى عنه راضيا في المواطن كلها ساخطا عليك.
ثم أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله حاصر بني قريضة وبني
النظير، ثم بعث عمر بن الخطاب ومعه راية المهاجرين، وسعد بن معاذ ومعه
راية الأنصار
فأما سعد بن معاذ فجرح وحمل جريحا، وأما عمر فرجع هاربا وهو يجبن
ويجبن أصحابه ويجبنه أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " لأعطين الراية غدا رجلا
يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، ثم لا يرجع حتى يفتح
الله عليه يديه " فتعرض لها أبو بكر وعمر، وغيرهما من المهاجرين والأنصار وعلي
يومئذ أرمد شديد الرمد، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله فتفل في عينيه فبرأ من رمده،
وأعطاه الراية فمضى ولم يثن حتى فتح الله عليه بمنه وطوله، وأنت يومئذ بمكة
عدو لله ولرسوله. فهل يستوي بين رجل نصح لله ولرسوله، ورجل عادى الله ورسوله
ثم أقسم بالله ما أسلم قلبك بعد، ولكن اللسان خائف فهو يتكلم بما ليس
في القلب.
أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله استخلفه على المدينة في غزاة
تبوك ولا سخط ذلك ولا كراهة، وتكلم فيه المنافقون فقال: لا تخلفني يا رسول الله
فإني لم أتخلف عنك في غزوة قط، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أنت وصيي وخليفتي في
أهلي بمنزلة هارون من موسى ثم أخذ بيد علي عليه السلام فقال: أيها الناس من تولاني
فقد تولى الله، ومن تولى عليا فقد تولاني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع
عليا فقد أطاعني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أحب عليا فقد أحبني.
ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في حجة الوداع: أيها
الناس إني قد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده: كتاب الله وعترتي أهل بيتي فأحلوا
حلاله، وحرموا حرامه، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا
406

بما أنزل الله من الكتاب، وأحبوا أهل بيتي وعترتي، ووالوا من والاهم، وانصروهم
على من عاداهم، وأنهما لن يزالا فيكم حتى يردا علي الحوض يوم القيامة.
ثم دعا وهو على المنبر عليا فاجتذبه بيده فقال: اللهم وال من والاه، وعاد
من عاداه، اللهم من عادى عليا فلا تجعل له في الأرض مقعدا، ولا في السماء
مصعدا، واجعله في أسفل درك من النار؟
وأنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له: أنت الذائد عن حوضي
يوم القيامة تذود عنه كما يذود أحدكم الغريبة من وسط إبله؟
أنشدكم بالله أتعلمون أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه الذي توفي
فيه فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال علي:
ما يبكيك يا رسول الله؟
فقال: يبكيني أني أعلم: أن لك في قلوب رجال من أمتي ضغائن، لا يبدونها
لك حتى أتولى عنك؟
أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله حين حضرته الوفاة واجتمع عليه
أهل بيته قال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي وعترتي، اللهم وال من ولاهم وعاد من
عاداهم " وقال: " إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من دخل فيها نجى،
ومن تخلف عنها غرق؟
وأنشدكم بالله أتعلمون: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله قد سلموا عليه بالولاية
في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وحياته؟
أنشدكم بالله أتعلمون أن عليا أول من حرم الشهوات كلها على نفسه من
أصحاب رسول الله، فأنزل الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات
ما أحل لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا
الله الذي أنتم به مؤمنون " (1) وكان عندهم علم المنايا، وعلم القضايا، وفصل
الكتاب، ورسوخ العلم، ومنزل القرآن، وكان رهط لا نعلمهم يتممون عشرة،

(1) 87 - 88 - المائدة
407

نبأهم الله أنهم مؤمنون، وأنتم في رهط قريب من عدة أولئك لعنوا على لسان
رسول الله صلى الله عليه وآله، فأشهد لكم وأشهد عليكم: أنكم لعناء الله على لسان نبيه كلكم
وأنشدكم بالله هل تعلمون: أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث إليك لتكتب له لبني
خزيمة حين أصابهم خالد بن الوليد فانصرف إليه الرسول فقال: " هو يأكل "
فأعاد الرسول إليك ثلاث مرات كل ذلك ينصرف الرسول إليه ويقول " هو يأكل "
فقال رسول الله " اللهم لا تشبع بطنه " فهي والله في نهمتك، وأكلك إلى يوم القيامة
ثم قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أن ما أقول حقا إنك يا معاوية كنت
تسوق بأبيك على جمل أحمر يقوده أخوك هذا القاعد، وهذا: يوم الأحزاب،
فلعن رسول الله القائد والراكب والسائق، فكان: أبوك الراكب، وأنت يا أزرق
السائق، وأخوك هذا القاعد القائد؟
أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله لعن أبا سفيان في سبعة مواطن
أولهن: حين خرج من مكة إلى المدينة وأبو سفيان جاء من الشام، فوقع
فيه أبو سفيان فسبه، وأوعده، وهم أن يبطش به، ثم صرفه الله عز وجل عنه.
والثانية: يوم العير حيث طردها أبو سفيان ليحرزها من رسول الله.
والثالثة: يوم أحد قال رسول الله: الله مولانا ولا مولى لكم، وقال أبو سفيان
لنا العزى ولا عزى لكم، فلعنه الله، وملائكته، ورسله، والمؤمنون أجمعون.
والرابعة يوم حنين: يوم جاء أبو سفيان يجمع قريش وهوازن، وجاء عينية
بغطفان واليهود، فردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا، هذا: قول الله عز وجل أنزل
في سورتين في كلتيهما يسمي أبا سفيان وأصحابه كفارا، وأنت يا معاوية يومئذ
مشرك على رأي أبيك بمكة، وعلي يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى رأيه ودينه.
والخامسة: قول الله عز وجل: " والهدي معكوفا أن يبلغ محله " (1)
وصددت أنت وأبوك ومشركو قريش رسول الله، فلعنه الله لعنة شملته وذريته
إلى يوم القيامة.

(1) الفتح - 25
408

والسادسة: يوم الأحزاب يوم جاء أبو سفيان بجمع قريش، وجاء عينية بن
حصين بن بدر بغطفان، فلعن رسول الله القادة والأتباع، والساقة إلى يوم القيامة.
فقيل: يا رسول الله أما في الأتباع مؤمن؟
قال: لا تعيب اللعنة مؤمنا من الأتباع، أما القادة فليس فيهم مؤمن، ولا
مجيب، ولا ناج.
والسابعة: يوم الثنية، يوم شد على رسول الله صلى الله عليه وآله اثنا عشر رجلا، سبعة
منهم من بني أمية، وخمسة من سائر قريش، فلعن الله تبارك وتعالى ورسول الله
من حل الثنية غير النبي صلى الله عليه وآله وسائقه وقائده.
ثم أنشدكم بالله هل تعلمون أن أبا سفيان دخل على عثمان حين بويع في
مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فقال:
يا بن أخي هل علينا من عين؟
فقال: لا.
فقال أبو سفيان: تداولوا الخلافة يا فتيان بني أمية فوالذي نفس أبي سفيان
بيده، ما من جنة ولا نار.
وأنشدكم بالله أتعلمون أن أبا سفيان أخذ بيد الحسين حين بويع عثمان
وقال: يا بن أخي أخرج معي إلى بقيع الغرقد، فخرج حتى إذا توسط القبور
اجتره فصاح بأعلى صوته:
يا أهل القبور! الذي كنتم تقاتلونا عليه صار بأيدينا وأنتم رميم.
فقال الحسين بن علي عليه السلام: قبح الله شيبتك، وقبح وجهك، ثم نتر يده
وتركة، فلو لا النعمان بن بشير أخذ بيده ورده إلى المدينة لهلك.
فهذا لك يا معاوية فهل تستطيع أن ترد علينا شيئا.
ومن لعنتك يا معاوية إن أباك أبا سفيان كان يهم أن يسلم، فبعثت إليه بشعر
معروف مروي في قريش وغيرهم، تنهاه عن الإسلام وتصده.
ومنها أن عمر بن الخطاب ولاك الشام فخنت به، وولاك عثمان فتربصت به
409

ريب المنون، ثم أعظم من ذلك جرأتك على الله ورسوله: أنك قاتلت عليا عليه السلام
وقد عرفته وعرفت سوابقه، وفضله وعلمه على أمر هو أولى به منك، ومن غيرك
عند الله وعند الناس، ولأذيته بل أوطأت الناس عشوة، وأرقت دماء خلق من خلق
الله بخدعك وكيدك وتمويهك، فعل من لا يؤمن بالمعاد، ولا يخشى العقاب، فلما
بلغ الكتاب أجله صرت إلى شر مثوى، وعلي إلى خير منقلب، والله لك بالمرصاد.
فهذا لك يا معاوية خاصة، وما أمسكت عنه من مساويك وعيوبك فقد
كرهت به التطويل.
وأما أنت يا عمرو بن عثمان فلم تكن للجواب حقيقا بحمقك، أن تتبع هذه
الأمور فإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة: استمسكي فإني أريد أن أنزل
عنك، فقالت لها النخلة: ما شعرت بوقوعك، فكيف يشق علي نزولك. وإني
والله ما شعرت أنك تجسر أن تعادي لي فيشق علي ذلك، وإني لمجيبك في الذي
قلت: إن سبك عليا عليه السلام أينقص في حسبه، أو يباعده من رسول الله، أو بسوء
بلائه في الإسلام، أو بجور في حكم أو رغبة في الدنيا؟ فإن قلت واحدة منها
فقد كذبت.
وأما قولك: إن لكم فينا تسعة عشر دما بقتلى مشركي بني أمية ببدر، فإن
الله ورسوله قتلهم، ولعمري لتقتلن من بني هاشم تسعة عشر وثلاثة بعد تسعة عشر
ثم يقتل من نبي أمية تسعة عشر وتسعة عشر في موطن واحد سوى ما قتل من بني أمية
لا يحصي عددهم إلا الله، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إذا بلغ ولد الوزغ ثلاثين
رجلا: أخذوا مال الله بينهم دولا، وعباده خولا، وكتابه دغلا، فإذا بلغوا ثلاثمائة
وعشر حقت اللعنة عليهم ولهم، فإذا بلغوا أربعمائة وخمسة وسبعين كان هلاكهم
أسرع من لوك تمرة، فأقبل الحكم بن أبي العاص وهم في ذلك الذكر والكلام
فقال رسول الله: أخفضوا أصواتكم فإن الوزغ يسمع، وذلك حين رآهم رسول
الله صلى الله عليه وآله ومن يملك بعده منهم أمر هذه الأمة - يعني في المنام - فساءه ذلك وشق
عليه، فأنزل الله عز وجل في كتابه، " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة
410

للناس والشجرة الملعونة في القرآن " (1) يعني: بني أمية، وأنزل أيضا " ليلة
القدر خير من ألف شهر " فأشهد لكم، وأشهد عليكم، ما سلطانكم بعد قتل علي إلا
ألف شهر التي أجلها الله عز وجل في كتابه.
وأما أنت يا عمرو بن العاص الشاني اللعين الأبتر، فإنما أنت كلب أول
أمرك، أن أمك بغية، وأنك ولدت على فراش مشترك، فتحاكمت فيك رجال قريش منهم أبو سفيان بن الحرب، والوليد بن المغيرة، وعثمان بن الحرث،
والنضر بن الحرث بن كلدة، والعاص بن وايل، كلهم يزعم أنك ابنه، فغلبهم عليك
من بين قريش ألأمهم حسبا، وأخبثهم منصبا، وأعظمهم بغية، ثم قمت خطيبا
وقلت: أنا شاني محمد، وقال العاص بن وايل: إن محمدا رجل أبتر لا ولد له، فلو
قد مات انقطع ذكره، فأنزل الله تبارك وتعالى: " إن شانئك هو الأبتر " وكانت
أمك تمشي إلى عبد قيس تطلب البغية، تأتيهم في دورهم ورجالهم وبطون أوديتهم
ثم كنت في كل مشهد يشهده رسول الله من عدوه أشدهم له عداوة، وأشدهم له
تكذيبا ثم كنت في أصحاب السفينة: الذين أتوا النجاشي والمهجر الخارج إلى الحبشة
في الإشاطة بدم جعفر بن أبي طالب وساير المهاجرين إلى النجاشي، فحاق المكر
السئ بك، وجعل جدك الأسفل، وأبطل أمنيتك، وخيب سعيك، وأكذب
أحدوثتك، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.
وأما قولك في عثمان، فأنت يا قليل الحياء والدين الهبت عليه نارا، ثم
هربت إلى فلسطين تتربص به الدوائر، فلما أتاك خبر قتله حبست نفسك على
معاوية، فبعته دينك يا خبيث بدنيا غيرك، ولسنا نلومك على بغضنا، ولم نعاتبك
على حبنا، وأنت عدو لبني هاشم في الجاهلية والإسلام، وقد هجوت رسول الله صلى الله عليه وآله
بسبعين بيتا من شعر، فقال رسول الله: " اللهم إني لا أحسن الشعر، ولا ينبغي لي أن أقوله
فالعن عمرو بن العاص بكل بيت ألف لعنة " ثم أنت يا عمرو المؤثر دنياك على دينك
أهديت إلى النجاشي الهدايا، ورحلت إليه رحلتك الثانية، ولم تنهك الأولى عن

(1) يراجع المرشد
411

الثانية، كل ذلك ترجع مغلوبا، حسيرا، تريد بذلك هذاك جعفر وأصحابه،
فلما أخطأك ما رجوت وأملت أحلت على صاحبك عمارة بن الوليد.
وأما أنت يا وليد بن عقبة فوالله ما ألومك أن تبغض عليا وقد جلدك في الخمر
ثمانين جلدة، وقتل أباك صبرا بيده يوم بدر، أم كيف تسبه وقد سماه الله مؤمنا
في عشرة آيات من القرآن، وسماك فاسقا، وهو قول الله عز وجل: " أفمن كان
مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون " (1) وقوله: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا
أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " (2) وما أنت وذكر قريش
وإنما أنت ابن علج من أهل صفورية اسمه: " ذكوان " وأما زعمك أنا قتلنا عثمان
فوالله ما استطاع طلحة، والزبير، وعائشة، أن يقولوا ذلك لعلي بن أبي طالب
فكيف تقوله أنت، ولو سألت أمك من أبوك إذ تركت ذكوان فألصقتك بعقبة بن
أبي معيط، اكتسبت بذلك عند نفسها سناء ورفعة، مع ما أعد الله لك ولأبيك
ولأمك من العار والخزي في الدنيا والآخرة، وما الله بظلام للعبيد.
ثم أنت يا وليد والله أكبر في الميلاد ممن تدعى له، فكيف تسب عليا ولو
اشتغلت بنفسك لتثبت نسبك إلى أبيك لا إلى من تدعى له، ولقد قالت لذلك أمك
" يا بني أبوك والله ألأم وأخبث من عقبة ".
وأما أنت يا عتبة بن أبي سفيان: فوالله ما أنت بحصيف فأجاوبك، ولا عاقل
فأعاقبك، وما عندك خير يرجى، وما كنت ولو سببت عليا لأعير به عليك، لأنك
عندي لست بكفو لعبد علي بن أبي طالب فأرد عليك، وأعاتبك، ولكن الله عز
وجل لك ولأبيك وأمك وأخيك لبالمرصاد، فأنت ذرية آبائك الذين ذكرهم الله
في القرآن فقال: " عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية * تسقى من عين آنية *
- إلى قوله - من جوع " (3).
وأما وعيدك إياي أن تقتلني، فهلا قتلت الذي وجدته على فراشك مع

(1) السجدة - 18
(2) الحجرات - 6
(3) الغاشية - 3 - 6
412

حليلتك، وقد غلبك على فرجها وشركك في ولدها حتى الصق بك ولدا ليس لك
ويلا لك لو شغلت نفسك بطلب ثارك منه كنت جديرا، ولذلك حريا، إذ تسومني
القتل وتوعدني به، ولا ألومك أن تسب عليا وقد قتل أخاك مبارزة، واشترك
هو وحمزة بن عبد المطلب في قتل جدك حتى أصلاهما الله على أيديهما نار جهنم
وأذاقهما العذاب الأليم، ونفى عمك بأمر رسول الله.
وأما رجائي الخلافة، فلعمر الله إن رجوتها فإن لي فيها لملتمسا، وما أنت
بنظير أخيك، ولا بخليفة أبيك، لأن أخاك أكثر تمردا على الله، وأشد طلبا
لإهراقه دماء المسلمين، وطلب ما ليس له بأهل، يخادع الناس ويمكرهم، ويمكر
الله والله خير الماكرين.
وأما قولك: " إن عليا كان شر قريش لقريش " فوالله ما حقر مرحوما
ولا قتل مظلوما.
وأما أنت يا مغيرة بن شعبة! فإنك لله عدو، ولكتابه نابذ، ولنبيه مكذب
وأنت الزاني وقد وجب عليك الرجم، وشهد عليك العدول البررة الأتقياء، فأخر
رجمك، ودفع الحق بالأباطيل، والصدق بالأغاليط (1) وذلك لما أعد الله لك

(1) أشار الإمام عليه السلام في كلامه هذا إلى ما اشتهر وفاضت به السير
والتواريخ صراحة أو تلميحا، من أن المغيرة بن شعبة زنا بأم جميل حين كان واليا على
البصرة من قبل عمر بن الخطاب، وكتبوا بذلك إلى الخليفة، فكتب إليه وإلى الشهود
جميعا أن يحضروا عنده، فلما قدموا صفهم، ودعا أبا بكرة، فأثبت الشهادة وقال:
إنه رآه يدخل كما يدخل الميل في المكحلة و (قال): لكأني أنظر إلى أثر الجدري بفخذ
المرأة، ثم دعا نافعا وشبل بن معبد فشهدا بمثل ما شهد به أبو بكرة ثم دعا زيادا وهو
الشاهد الرابع وقال له: " إني لأرى وجه رجل ما كان الله يخزي رجلا من المهاجرين
بشهادته، أو قال: " أما أني أرى رجلا أرجو أن لا يرجم رجل من أصحاب رسول الله
على يده ولا يخزى بشهادته " يوحي بذلك إلى زياد بالعدول عن الشهادة ليدرأ الحد عن
المغيرة، فقال شبل بن معبد ثالث الشهود: أفتجلد شهود الحق، وتبطل الحد أحب
إليك يا عمر؟! فقال عمر - لزياد -: ما تقول؟ فقال: قد رأيت منظرا قبيحا، ونفسا
عاليا ولقد رأيته بين فخذي المرأة ولا أدري هل كان خالطها أم لا؟ فقال عمر: الله
أكبر فقال: المغيرة: الله أكبر، الحمد لرب الفلق، والله لقد كنت علمت أني سأخرج
عنها سالما. فقال له عمر: اسكت فوالله لقد رأوك بمكان سوء، فقبح الله مكانا رأوك
فيه، وأمر بجلد الشهود الثلاثة. فقال نافع: أنت والله يا عمر جلدتنا ظلما، أنت رددت
صاحبنا أن يشهد بمثل شهادتنا، أعلمته هواك فاتبعه، ولو كان تقيا لكان رضى الله
والحق عنده آثر من رضاك فلما جلد أبا بكرة قام وقال: أشهد لقد زنى المغيرة، فأراد
عمر أن يجلده ثانيا فقال: أمير المؤمنين علي عليه السلام: إن جلدته رجمت صاحبك.
413

من العذاب الأليم، والخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى، وأنت
الذي ضربت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أدميتها وألقت ما في بطنها، استدلالا
منك لرسول الله صلى الله عليه وآله ومخالفة منك لأمره، وانتهاكا لحرمته وقد قال لها رسول
الله صلى الله عليه وآله: " يا فاطمة أنت سيدة نساء أهل الجنة " والله مصيرك إلى النار، وجاعل
وبال ما نطقت به عليك، فبأي الثلاثة سببت عليا، أنقصا في نسبه، أم بعدا من
رسول الله، أم سوء بلاء في الإسلام، أم جورا في حكم، أم رغبة في الدنيا؟! إن
قلت بها فقد كذبت وكذبك الناس، أتزعم أن عليا عليه السلام قتل عثمان مظلوما؟!
فعلي والله أتقى وأنقى من لائمه في ذلك، ولعمري لئن كان علي قتل عثمان مظلوما
فوالله ما أنت من ذلك في شئ، فما نصرته حيا ولا تعصبت له ميتا، وما زالت
الطائف دارك تتبع البغايا، وتحيي أمر الجاهلية، وتميت الإسلام، حتى كان ما
كان في أمس.
وأما اعتراضك في بني هاشم وبني أمية فهو ادعاءك إلى معاوية.
وأما قولك في شأن الإمارة وقول أصحابك في الملك الذي ملكتموه، فقد
ملك فرعون مصر أربعمائة سنة، وموسى وهارون نبيان مرسلان عليهما السلام يلقيان ما
يلقيان من الأذى، وهو ملك الله يعطيه البر والفاجر، وقال الله: " وإن أدري لعله
فتنة لكم ومتاع إلى حين " وقال: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا
فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ".
414

ثم قام الحسن فنفض ثيابه وهو يقول: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون
للخبيثات " هم والله يا معاوية: أنت وأصحابك هؤلاء وشيعتك، " والطيبون للطيبات
- أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم " ثم: علي بن أبي طالب عليه السلام
وأصحابه وشيعته.
ثم خرج وهو يقول لمعاوية: ذق وبال ما كسبت يداك وما جنت، ما قد
أعد الله لك ولهم من الخزي في الحياة الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.
فقال معاوية لأصحابه: وأنتم فذوقوا وبال ما جنيتم.
فقال الوليد بن عقبة: والله ما ذقنا إلا كما ذقت، ولا اجترأ إلا عليك.
فقال معاوية: ألم أقل لكم إنكم لن تنتقصوا من الرجل فهلا أطعتموني أول
مرة فانتصرتم من الرجل إذ فضحكم، فوالله ما قام حتى أظلم علي البيت، وهممت
أن أسطو به فليس فيكم خير اليوم ولا بعد اليوم.
قال: وسمع مروان بن الحكم بما لقي معاوية وأصحابه المذكورون من
الحسن بن علي عليهما السلام، فأتاهم فوجدهم عند معاوية في البيت فسألهم:
ما الذي بلغني عن الحسن وزعله؟
قالوا: قد كان كذلك.
فقال لهم مروان: أفلا أحضرتموني ذلك. فوالله لأسبنه ولأسبن أباه وأهل
البيت سبا تتغنى به الإماء والعبيد.
فقال معاوية والقوم: لم يفتك شئ وهم يعلمون من مروان بذو لسان وفحش
فقال مروان: فأرسل إليه يا معاوية فأرسل معاوية إلى الحسن بن علي.
فلما جاء الرسول قال له الحسن عليه السلام ما يريد هذا الطاغية مني؟ والله إن
أعاد الكلام لأوقرن مسامعه ما يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة، فأقبل
الحسن فلما جائهم وجدهم بالمجلس على حالتهم التي تركهم فيها، غير أن مروان
قد حضر معهم في هذا الوقت، فمشى الحسن عليه السلام حتى جلس على السرير مع
معاوية وعمرو بن العاص.
415

ثم قال الحسن لمعاوية: لم أرسلت إلي؟
قال: لست أنا أرسلت إليك ولكن مروان الذي أرسل إليك.
فقال مروان: أنت يا حسن السباب لرجال قريش؟
فقال له الحسن: وما الذي أردت؟
فقال مروان: والله لأسبنك وأباك وأهل بيتك سبا تتغنى به الإماء والعبيد.
فقال الحسن عليه السلام: أما أنت يا مروان فلست أنا سببتك ولا سببت أباك، ولكن
الله عز وجل لعنك ولعن أباك، وأهل بيتك، وذريتك، وما خرج من صلب أبيك
إلى يوم القيامة، على لسان نبيه محمد والله يا مروان ما تنكر أنت ولا أحد ممن
حضر هذه اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وآله لك ولأبيك من قبلك، وما زادك الله يا مروان
بما خوفك إلا طغيانا كبيرا، وصدق الله وصدق رسوله يقول الله تبارك وتعالى:
" والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " وأنت
يا مروان وذريتك الشجرة الملعونة في القرآن، وذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله عن جبرئيل
عن الله عز وجل.
فوثب معاوية فوضع يده على فم الحسن وقال: يا أبا محمد ما كنت فحاشا
ولا طياشا، فنفض الحسن عليه السلام ثوبه، وقام فخرج، فتفرق القوم عن المجلس
بغيظ، وحزن، وسواد الوجوه في الدنيا والآخرة.
* * *
مفاخرة الحسن بن علي صلوات الله عليهما على معاوية ومروان بن الحكم
والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وعتبة بن أبي سفيان.
قيل: وفد الحسن بن علي عليهما السلام على معاوية فحضر مجلسه، وإذا عنده
هؤلاء القوم، ففخر كل رجل منهم على بني هاشم، ووضعوا منهم، وذكروا أشياء
ساءت الحسن بن علي وبلغت منه.
فقال الحسن بن علي عليه السلام: أنا شعبة من خير الشعب، وآبائي أكرم
العرب، لنا الفخر والنسب، والسماحة عند الحسب ونحن من خير شجرة، أنبتت
416

فروعا نامية، وأثمارا زاكية، وأبدانا قائمة، فيها أصل الإسلام، وعلم النبوة،
فعلونا حين شمخ بنا الفخر، واستطلنا حين امتنع بنا العز، ونحن بحور زاخرة
لا تنزف، وجبال شامخة لا تقهر.
فقال مروان بن الحكم: مدحت نفسك، وشمخت بأنفك، هيهات هيهات
يا حسن، نحن والله الملوك السادة، والأعزة القادة، لا تبجحن فليس لك عز مثل
عزنا، ولا فخر كفخرنا، ثم أنشأ يقول:
شفينا أنفسا طابت وقورا * فنالت عزها فيمن يلينا
فابنا بالغنيمة حيث ابنا * وابنا بالملوك مقرنينا
ثم تكلم مغيرة بن شعبة فقال: نصحت لأبيك فلم يقبل النصح، ولولا كراهية
قطع القرابة لكنت في جملة أهل الشام، فكان يعلم أبوك أني أصدر الوارد عن
مناهلها، بزعارة قيس، وحلم ثقيف، وتجاربها للأمور على القبائل.
فتكلم الحسن عليه السلام فقال: يا مروان أجبنا، وخورا، وضعفا، وعجزا، زعم
أني مدحت نفسي، وأنا ابن رسول الله، وشمخت بأنفي وأنا سيد شباب أهل الجنة
وإنما يبذخ ويتكبر ويلك من يريد رفع نفسه، ويتبجح من يريد الاستطالة، فأما
نحن فأهل بيت الرحمة، ومعدن الكرامة، وموضع الخيرة، وكنز الإيمان، ورمح
الإسلام، وسيف الدين، ألا تصمت ثكلتك أمك قبل أن أرميك بالهوائل، وأسمك
بميسم تستغني به عن اسمك، فأما إيابك بالنهاب والملوك أفي اليوم الذي وليت
فيه مهزوما، وانخجرت مذعورا، فكانت غنيمتك هزيمتك، وغدرك بطلحة حين
غدرت به فقتلته، قبحا لك ما أغلظ جلدة وجهك.
فنكس مروان رأسه، وبقي مغيرة مبهوتا، فالتفت إليه الحسن عليه السلام فقال:
أعور ثقيف ما أنت من قريش فأفاخرك، أجهلتني يا ويحك؟! أنا ابن
خيرة الإماء، وسيدة النساء، غذانا رسول الله صلى الله عليه وآله بعلم الله تبارك وتعالى، فعلمنا
تأويل القرآن، ومشكلات الأحكام، لنا العزة العليا، والفخر والسناء، وأنت من
قوم لم يثبت هم في الجاهلية نسب، ولا لهم في الإسلام نصيب، عبد آبق، ما له
417

والافتخار عند مصادمة الليوث، ومجاحشة الأقران، نحن السادة، ونحن المذاويد
القادة، نحمي الذمار، وننفي عن ساحتنا العار، وأنا ابن نجيبات الأبكار، ثم
أشرت زعمت إلى خير وصي خير الأنبياء، وكان هو بعجزك أبصر، وبجورك أعلم
وكنت للرد عليك منه أهلا لو عزك في صدرك، وبدو الغدر في عينك، هيهات لم
يكن ليتخذ المضلين عضدا، وزعمك أنك لو كنت بصفين بزعارة قيس، وحلم
ثقيف، فبماذا ثكلتك أمك؟ أبعجزك عند المقامات، وفرارك عند المجاحشات؟
أما والله لو التفت عليك من أمير المؤمنين الأجاشع، لعلمت أنه لا يمنعه
منك الموانع، ولقامت عليك المرنات الهوالع.
وأما زعارة قيس: فما أنت وقيسا؟ إنما أنت عبد آبق فثقف فسمي ثقيفا،
فاحتل لنفسك من غيرها، فلست من رجالها، أنت بمعالجة الشرك وموالج الزرائب
أعرف منك بالحروب.
فأما الحلم فأي الحلم عند العبيد القيون؟ ثم تمنيت لقاء أمير المؤمنين عليه السلام فذاك
من قد عرفت: أسد باسل، وسم قاتل، لا تقاومه الأبالسة، عند الطعن والمخالسة
فكيف ترومه الضبعان، وتناله الجعلان، بمشيتها القهقري.
وأما وصلتك: فمنكورة، وقربتك فمجهولة، وما رحمك منه إلا كبنات
الماء من خشفان الظباء، بل أنت أبعد منه نسبا.
فوثب المغيرة والحسن يقول لمعاوية: اعذرنا من بني أمية إن تجاوزنا
بعد مناطقة القيون، ومفاخرة العبيد.
فقال معاوية: ارجع يا مغيرة، هؤلاء بنو عبد مناف، لا تقاومهم الصناديد،
ولا تفاخرهم المذاويد.
ثم أقسم على الحسن عليه السلام بالسكوت فسكت.
وروي أن عمرو بن العاص قال لمعاوية: ابعث إلى الحسن بن علي فمره أن
يصعد المنبر ويخطب الناس، فلعله أن يحصر فيكون ذلك مما نعيره به في كل
محفل، فبعث إليه معاوية فأصعده المنبر، وقد جمع له الناس، ورؤساء أهل الشام
418

فحمد الله الحسن صلوات الله عليه وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس من عرفني فأنا الذي يعرف، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن
علي بن أبي طالب، ابن عم نبي الله، أول المسلمين إسلاما، وأمي فاطمة بنت
رسول الله صلى الله عليه وآله، وجدي محمد بن عبد الله نبي الرحمة، أنا ابن البشير، أنا ابن
النذير، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن من بعث رحمة للعالمين، أنا ابن من بعث
إلى الجن والإنس أجمعين، فقطع عليه معاوية فقال، يا أبا محمد خلنا من هذا وحدثنا
في نعت الرطب أراد بذلك تخجيله.
فقال الحسن عليه السلام: نعم التمر الريح تنفخه، والحر ينضجه، والليل
يبرده ويطيبه.
ثم أقبل الحسن عليه السلام: فرجع في كلامه الأول فقال: أنا ابن مستجاب الدعوة
أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من ينفض عن رأسه التراب، أنا ابن من
يقرع باب الجنة فيفتح له فيدخلها، أنا ابن من قاتل معه الملائكة، وأحل له المغنم
ونصر بالرعب من مسيرة شهر فأكثر، في هذا النوع من الكلام، ولم يزل به حتى
اظلمت الدنيا على معاوية، وعرف الحسن من لم يكن عرفه من أهل الشام وغيرهم
ثم نزل فقال له معاوية: أما إنك يا حسن قد كنت ترجو أن تكون خليفة، ولست
هناك، فقال الحسن عليه السلام: أما الخليفة فمن سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله، وعمل
بطاعة الله عز وجل، وليس الخليفة من سار بالجور، وعطل السنن، واتخذ الدنيا
أما وأبا، وعباد الله خولا، وماله دولا، ولكن ذلك أمر ملك أصاب ملكا فتمتع
منه قليلا، وكان قد انقطع عنه، فأتخم لذته وبقيت عليه تبعته، وكان كما قال
الله تبارك وتعالى: " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " " متعناهم سنين ثم
جاءهم ما كانوا يوعدون " " وما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " وأومى بيده إلى
معاوية، ثم قام فانصرف. فقال معاوية لعمرو: والله ما أردت إلا شيني حين أمرتني
بما أمرتني، والله ما كان يرى أهل الشام أن أحدا مثلي في حسب ولا غيره، حتى
قال الحسن عليه السلام ما قال، قال عمرو: وهذا شئ لا يستطاع دفنه، ولا تغييره،
419

لشهرته في الناس، واتضاحه، فسكت معاوية
وروى الشعبي أن معاوية قدم المدينة فقام خطيبا فقال: أين علي بن أبي طالب؟
فقام الحسن بن علي فخطب وحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
إنه لم يبعث نبي إلا جعل له وصي من أهل بيته، ولم يكن نبي إلا وله عدو
من المجرمين، وإن عليا عليه السلام كان وصي رسول الله من بعده، وأنا ابن علي،
وأنت ابن صخر، وجدك حرب، وجدي رسول الله، وأمك هند وأمي فاطمة،
وجدتي خديجة وجدتك نثيله، فلعن الله ألأمنا حسبا، وأقدمنا كفرا، وأخملنا
ذكرا، وأشدنا نفاقا، فقال عامة أهل المجلس: آمين. فنزل معاوية فقطع خطبته
وروي أنه لما قدم معاوية الكوفة قيل له: إن الحسن بن علي مرتفع في
أنفس الناس فلو أمرته أن يقوم دون مقامك على المنبر فتدركه الحداثة والعي فيسقط
من أنفس الناس وأعينهم، فأبى عليهم وأبو عليه إلا أن يأمره بذلك فأمره، فقام
دون مقامه في المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد أيها الناس فإنكم لو طلبتم ما بين كذا وكذا لتجدوا رجلا جده نبي
لم تجدوا غيري وغير أخي، وإنا أعطينا صفقتنا هذا الطاغية - وأشار بيده إلى أعلى المنبر
إلى معاوية - وهو في مقام رسول الله صلى الله عليه وآله من المنبر ورأينا حقن دماء المسلمين
أفضل من إهراقها، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، وأشار بيده إلى معاوية.
فقال له معاوية: ما أردت بقولك هذا؟
فقال: ما أردت به إلا ما أراد الله عز وجل، فقام معاوية فخطب خطبة عيية
فاحشة، فسب فيها أمير المؤمنين عليه الصلاة السلام، فقام إليه الحسن بن علي عليهما السلام
فقال له - وهو على المنبر -: ويلك يا بن آكلة الأكباد أو أنت تسب أمير
المؤمنين عليه السلام وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من سب عليا فقد سبني، ومن
سبني فقد سب الله، ومن سب الله أدخله الله نار جهنم خالدا فيها مخلدا وله عذاب مقيم "؟
ثم انحدر الحسن عليه السلام عن المنبر ودخل داره، ولم يصل هناك بعد ذلك أبدا
تم الجزء الأول من كتاب الاحتجاج بحمد الله ومنه ويتلوه بمن الله وعونه الجزء الثاني.
420