الكتاب: شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين
المؤلف: ابن ميثم البحراني
الجزء:
الوفاة: ٦٧٩
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: تصحيح وتعليق : مير جلال الدين الحسيني الأرموي المحدث
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

شرح العالم الرباني
كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني
قدس سره
على المائة كلمة
لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليه السلام
عني بطبعه ونشره وتصحيحه والتعليق عليه
مير جلال الدين الحسيني الأرموي
المحدث
منشورات
جماعة المدرسين في الحوزة العلمية
في قم المقدسة
تعريف الكتاب 1

مقدمة الناشر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
اما بعد
فهذه مقدمة مختصره تبحث عن ترجمة الشارع وكتابه الحاضر
قال العالم الخبير الخائض في تراجم العلماء والسادات السيد محمد
باقر الخوانساري (ره) في روضات الجنات
(ص 581 - 582 من النسخة المطبوعة):
الشيخ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني كان من العلماء الفضلاء المدققين
متكلما ماهرا له كتب منها شروح نهج البلاغة، كبير ومتوسط وصغير، وشرح المائة كلمة،
ورسالة في الإمامة، ورسالة في الكلام، ورسالة في العلم وغير ذلك، يروي عنه السيد
عبد الكريم بن أحمد بن طاووس وغيره، كذا في أمل الآمل.
وقال صاحب اللؤلؤة بعد عدة من جملة مشايخ العلامة
أعلى الله مقامه ومقامه:
اما الشيخ ميثم المذكور فإنه العلامة الفيلسوف المشهور.
وقال شيخنا العلامة الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني - عطر الله مرقده -
في رسالته المسماة بالسلافة البهية في الترجمة الميثمية:
هو الفيلسوف المحقق والحكيم المدقق قدوة المتكلمين وزبدة الفقهاء والمحدثين
كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني غواص بحر المعارف ومقتنص شوارد الحقائق
واللطائف، ضم إلى الإحاطة بالعلوم الشرعية واحراز قصبات السبق في العلوم الحكمية
مقدمة الناشر 2

والفنون العقلية ذوقا جيدا في العلوم الحقيقية والاسرار العرفانية كان ذا كرامات باهرة
ومآثر زاهرة ويكفيك دليلا على جلالة شانه وسطوع برهانه اتفاق كلمة أئمة الأعصار
وأساطين الفضلاء في جميع الأمصار على تسميته بالعالم الرباني وشهادتهم له بأنه لم يوجد
مثله في تحقيق الحقائق وتنقيح المباني، والحكيم الفيلسوف سلطان المحققين وأستاذ الحكماء
والمتكلمين نصير الملة والدين محمد الطوسي شهد له بالتبحر في الحكمة والكلام ونظم
غرر مدائحه في أبلغ نظام، وأستاذ البشر والعقل الحادي عشر سيد المحققين الشريف الجرجاني
على جلال قدره في أوائل فن البيان من شرح المفتاح قد نقل بعض تحقيقاته الأنيقة وتعليقاته
الرشيقة وعبر عنه ببعض مشايخنا ناظما نفسه في سلك تلامذته ومفتخرا بالانخراط في سلك
المستفيدين من حضرته المقتبسين من مشكاة فطرته، والسيد السند الفيلسوف الأوحد
مير صدر الدين محمد الشيرازي أكثر النقل عنه في حاشية شرح التجريد سيما في مباحث
الجواهر والاعراض والتقط فرائد التحقيقات التي أبدعها - عطر الله مرقده - في كتاب
المعراج السماوي وغيره من مؤلفاته لم تسمح بمثله الأعصار ما دار الفلك الدوار وفى
الحقيقة من اطلع على شرح نهج البلاغة الذي صنفه للصاحب خواجة عطا ملك الجويني
وهو عدة مجلدات شهد له بالتبريز في جميع الفنون الاسلامية والأدبية والحكمية
والاسرار العرفانية.
ومن مآثر طبعه اللطيف وخلقه الشريف على ما حكاه في مجالس المؤمنين
انه - عطر الله مرقده - في أوائل الحال كان معتكفا في زاوية العزلة والخمول مشتغلا
بتحقيق حقائق الفروع والأصول فكتب إليه فضلاء الحلة والعراق صحيفة تحتوي على عذله
وملامته على هذه الأخلاق وقالوا: العجب منك انك مع شدة مهارتك في جميع العلوم
والمعارف وحذاقتك في تحقيق الحقائق وابداع اللطائف قاطن في طلول الاعتزال، ومخيم
في زاوية الخمول الموجب لخمود نار الكمال، فكتب في جوابهم هذه الأبيات: طلبت فنون العلم أبغى بها العلى * فقصرني عما سموت به القل
مقدمة الناشر 3

تبن لي أن المحاسن كلها * فروع وأن المال فيها هو الأصل
فلما وصلت هذه الأبيات إليهم كتبوا إليه انك أخطأت في ذلك خطأ ظاهرا
وحكمك بأصالة المال عجب بل اقلب تصب، فكتب في جوابهم هذه الأبيات وهي لبعض
الشعراء المتقدمين:
قد قال قوم بغير علم * ما المرؤ الا بأكبريه
فقلت قول امرئ حكيم * ما المرؤ الا بدرهميه
من لم يكن درهم لديه * لم تلتفت عرسه إليه
ثم إنه عطر الله مرقده لما علم أن مجرد المراسلات والمكاتبات لا تنفع الغليل ولا تشفي
العليل توجه إلى العراق لزيارة الأئمة المعصومين عليهم السلام وإقامة الحجة على الطاعنين
ثم إنه بعد الوصول إلى تلك المشاهد العلية لبس ثيابا خشنة عتيقه وتزيى بهيئة رثة
بالاطراح والاحتقار خليقة ودخل بعض مدار س العراق المشحون بالعلماء والحذاق فسلم عليهم
فرد بعضهم عليه السلام بالاستثقال والانتقاع التام فجلس - عطر الله مرقده - في صف
النعال ولم يلتفت إليه أحد منهم ولم يقضوا واجب حقه وفى أثناء المباحثة وقعت بينهم
مسألة مشكلة دقيقة كلت منها أفهامهم وزلت فيها أقدامهم فأجاب - روح الله روحه
وتابع فتوحه - بتسعة أجوبة في غاية الجودة والدقة فقال له بعضهم بطريق السخرية
والتهكم: إخالك طالب علم؟! ثم بعد ذلك أحضر الطعام فلم يؤاكلوه - قدس سره -
بل أفردوه بشئ قليل على حدة واجتمعوا هم على المائدة فلما انقضى ذلك المجلس قام
- قدس سره - ثم إنه عاد في اليوم الثاني إليهم وقد لبس ملابس فاخرة بهية بأكمام
واسعة وعمامة كبيرة وهيئة رائعة فلما قرب وسلم عليهم قاموا له تعظيما واستقبلوه
تكريما وبالغوا في ملاطفته ومطايبته واجتهدوا في تكريمه وتوقيره وأجلسوه في صدر ذلك
المجلس المشحون بالأفاضل والمحققين والأكابر المدققين ولما شرعوا في المباحثة والمذاكرة
مقدمة الناشر 4

تكلم معهم بكلمات عليلة لاوجه لها عقلا ولا شرعا فقابلوا كلماته العليلة بالتحسين والتسليم
والاذعان على وجه التعظيم فلما حضرت مائدة الطعام بادروا معه بأنواع الأدب فألقى
الشيخ - قدس سره - كمه في ذلك الطعام مستعتبا على أولئك الاعلام وقال: كل يا كمي، فلما شاهدوا تلك الحالة العجيبة أخذوا في التعجب والاستغراب واستفسروه
- قدس سره - عن معنى ذلك الخطاب فأجاب - عطر الله مرقده - بأنكم إنما أتيتم
بهذه الأطعمة النفيسة لأجل أكمامي الواسعة لا لنفسي القدسية اللامعة والا فانا صاحبكم
بالأمس وما رأيت تكريما مع انى جئتكم بالأمس بهيئة الفقراء وسجية العلماء واليوم جئتكم
بلباس الجبارين وتكلمت بكلام الجاهلين فقد رجحتم الجهالة على العلم والغنى على الفقر
وأنا صاحب الأبيات التي في أصالة المال وفروعية الكمال التي أرسلتها إليكم وعرضتها عليكم
وقابلتموها بالتخطئة وزعمتم انعكاس القضية فاعترف الجماعة بالخطا في تخطئتهم
واعتذروا عما صدر منهم من التقصير في شانه قدس سره.
مصنفاته
وله من المصنفات البديعة والرسائل الجليلة ما لم يسمح بمثلها الزمان ولم يظفر
بنظيرها أحد من الأعيان، منها كتاب شرح نهج البلاغة وهو حقيق بان يكتب بالنور على
الأحداق لا بالحبر على الأوراق وهو عدة مجلدات، ومنها شرحه الصغير على نهج البلاغة
جيد مفيد جدا، رايته في حدود الحادية والثمانين بعد الألف، وكتاب الاستغاثة في بدع
الثلاثة، لم يعمل مثله، وكتاب شرح الإشارات إشارات أستاذه العالم قدوة الحكماء وامام
الفضلاء الشيخ السعيد الشيخ علي بن سليمان البحراني وهو في غاية المتانة والدقة على قواعد
الحكماء المتألهين وله كتاب القواعد في علم الكلام يعنى به كتابه المسمى بقواعد المرام
وعندنا منه نسخة قديمة وقد فرغ من تصنيفه في شهر ربيع الأول من سنة ست وسبعين
وستمائة، قال: وكتاب المعراج السماوي، وكتاب البحر الخضم ورسالة في الوحي
والالهام وسمعت من بعض الثقات ان له شرحا ثالثا على كتاب نهج البلاغة متوسطا.
مقدمة الناشر 5

وفاته
مات قدس سره سنة تسع وسبعين وستمائة ذكر ذلك الشيخ البهائي (ره) في المجلد
الثالث من الكشكول.
انتهى المقصود من نقل كلام الشيخ المتقدم ذكره.
أقول: ومن مصنفاته قدس سره كتاب شرح المائة كلمة، كان عندي فذهب
منى في بعض الوقائع التي جرت على، وله كما ذكره الشيخ الفاضل الشيخ علي بن محمد
بن حسن الشهيد الثاني في كتاب الدر المنثور كتاب النجاة في القيامة في تحقيق أمر
الإمامة قال قدس سره وقال الشيخ ميثم البحراني في كتاب نجاة القيامة في تحقيق أمر الإمامة
أن أهل اللغة لا يطلقون لفظ الأولى الا فيمن يملك تدبير الامر إلى آخر ما نقله. وله أيضا
كما ذكره بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين كتاب استقصاء النظر في امامة الأئمة الاثني عشر.
ثم إن ما ذكره شيخنا المذكور من نسبته كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة للشيخ
المشار إليه غلط قد تبع فيه بعض من تقدمه ولكن رجع عنه فيما وقفت عليه من كلامه
وبذلك صرح تلميذه العالم الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (ره) وإنما الكتاب المذكور
كما صرحا به لبعض قدماء الشيعة من أهل الكوفة وهو علي بن أحمد أبو القاسم الكوفي
والكتاب يسمى كتاب البدع المحدثة ذكره النجاشي في جملة كتبه ولكن اشتهر في ألسنة
الناس تسميته بالاسم الأول ونسبته للشيخ ميثم، ومن عرف سليقة الشيخ ميثم في التصنيف
ولهجته وأسلوبه في التأليف لا يخفى عليه ان الكتاب المذكور ليس جاريا على تلك اللهجة
ولا خارجا من تلك اللجة واما ما ذكرناه من شرحه الصغير فإنه قد كان عندي وذهب
فيما وقع على كتبي في بعض الوقائع وبقى عندي الشرح الكبير.
وذكر بعض العلماء في حواشيه على الخلاصة أن ميثم حيثما وجد فهو بكسر الميم الا
مقدمة الناشر 6

ميثم البحراني فإنه بفتح الميم. وقبر الشيخ المذكور الان في بلادنا البحرين في قرية هلتا من
إحدى القرى الثلاثة من الماحوز المتقدم ذكرها وقبر جده ميثم في قرية الدونج وقد قبر
شيخنا الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني صاحب الرسالة المذكورة في قربه لأنه من قرية
الدونج كما تقدم ذكر ذلك في صدر الإجازة عند ذكر ترجمته ونقل بعض أن قبره في
نواحي العراق، والأول أشهر.
تلامذته
ويروى عنه جملة من الأصحاب منهم السيد الاجل السيد عبد الكريم بن السيد أحمد
بن طاووس إلى أن قال ومنهم الشيخ سعيد الدين محمد بن جهم الأسدي الحلى انتهى كلام
صاحب لؤلؤه البحرين في حق هذا الرجل. وقد ذكره أيضا صاحب كتاب مجمع البحرين
في مادة مثم فقال: وميثم بن علي بن ميثم البحراني شيخ صدوق ثقة له تصانيف منها شرح
نهج البلاغة لم يعمل مثله، وله كتاب القواعد في أصول الدين، وله كتاب استقصاء النظر
في امامة الأئمة الاثني عشر لم يعمل مثله، وله كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة حسن
جدا، وله رسالة في آداب البحث وهو شيخ نصير الدين في الفقه وله مجلس عند المحقق
الشيخ نجم الدين (ره) ومباحثه وأقرا له بالفضل وشيخنا أبو السعادات رضوان الله عليهم
أجمعين انتهى. وقد عرفت بطلان نسبة كتاب الاستغاثة إليه (ره) من كلام صاحب اللؤلؤة
وهو عندنا من القطعيات الأولة لما بينا في ذيل ترجمة مصنف هذا الكتاب على الحقيقة
علي بن أحمد بن موسى الرضوي الموسوي فاليراجع. واما مجلس مباحثة الرجل مع مولانا
المحقق الحلى - فكأنه من جملة مجالسه المنيفة التي قد عرفتها من تقرير صاحب المجالس
ثم إن في توضيح الاشتباه نسبة الغلط إلى صاحب المجمع في اخذ هذه التسمية من
مادة " " مثم " " معللة باتفاق سائر أهل اللغة على ذكرها في مادة " وثم " دون " مثم " و " يثم " فياء ميثم منقلبة عن الواو لكسر ما قبلها ولو كان مفتوحا لقالوا: موثم، لا ميثم وفيه أيضا في ذيل ترجمة
مقدمة الناشر 7

ميثم التمار الذي هو من جملة حملة الاسرار: وهو بكسر الميم وسكون الياء وقال بعضهم بفتح
الميم ولعله سهو فظهر من كل ذلك أيضا ان تفصيل من نقل عن حاشيته على الخلاصة كلام
بلا دليل لا يصح على محضه التعويل نعم لم يزد صاحب القاموس في مادة " " وثم " " على قوله:
وميثم اسم، فسكت فيه عن ضبط هذه الصيغة اما تعويلا على معروفية كونها مكسورة
الميم أو من جهة احتمالها الحركتين وفيه أيضا من الإشارة إلى كونها غير ذات معنى اصلى
في لغة العرب ما لا يخفى وإن كان الظاهر عندنا انها اسم آلة من الوثم الذي هو بمعنى الدق
كما أن الميسم الذي هو بالسين المهملة مفعل من الوسم الذي هو بمعنى الكى ونحوه واصله من الواو أيضا بقرينة جمعه على مواسم كما أفيد ".
أقول: حيث كانت هذه الترجمة أجمع ترجمة للشارح (ره) اكتفى المحدث القمي الحاج
الشيخ عباس (ره) عند ذكره لهذا العالم في كتابه " " الكنى والألقاب " " بتلخيصها وقال (ص 419):
" " كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني العالم الرباني والفيلسوف المتبحر
المحقق والحكيم المتأله المدقق جامع المعقول والمنقول أستاذ الفضلاء الفحول صاحب
الشروح على نهج البلاغة، يروى عن المحقق نصير الدين الطوسي والشيخ كمال الدين
علي بن سليمان البحراني، ويروى عنه آية الله العلامة والسيد عبد الكريم بن طاوس. قيل:
ان الخواجة نصير الدين الطوسي تلمذ على كمال الدين ميثم في الفقه وتلمذ كمال الدين
على الخواجة في الحكمة، توفى سنه 679 (خعط) وقبره في هلتا من قرى ماحوز وحكى عن
بعض العلماء أن ميثم حيثما وجد فهو بكسر الميم إلا ميثم البحراني فإنه بفتح الميم والله تعالى
العالم وكتب الشيخ سليمان البحراني رسالة في أحواله سماها السلافة البهية ".
أما كتاب القواعد فقد طبع بهامش المنتخب للطريحي المطبوع في بمبئي سنة 1331.
كلمة
حول هذا الشرح
يؤخذ مما مر من كلمات العلماء عند الإشارة إلى اسم هذا الشرح والتعبير عنه ان
مقدمة الناشر 8

اسمه " شرح المائة كلمة " ولم أقف له على اسم غير ذلك لافى التراجم ولا في الشرح
الحاضر لكن السيد الجليل السيد اعجاز حسين النيسابوري الكنتوري - أعلى الله درجته -
قال في كشف الحجب والأستار عن أسامي الكتب والاسفار في حرف الشين ما نصه (ص 349 من النسخة المطبوعة):
" شرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام الموسوم بالمائة كلمة للشيخ كمال الدين
ميثم بن علي بن ميثم البحراني شارح نهج البلاغة اسمه منهاج العارفين ".
وقال في حرف الميم (ص 566):
" " منهاج العارفين في شرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام الموسوم بالمائة كلمة للشيخ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني شارح نهج البلاغة " ". فكأنه اسم تعيني لا تعييني بمعنى ان الشارح (ره) رحمه الله لم يسم شرحه هذا بهذا
الاسم لكن الشرح لما كان مشتملا على مطالب عالية ومباحث مهمة وفوائد كثيرة جمة
من المطالب العرفانية سمته الفضلاء المستفيدون منه بمنهاج العارفين. أما المؤلف له أعنى الوزير شهاب الدين مسعود بن كرشاسف الذي كتب الشارح
(ره) هذا الشرح لأجله وأتحفه إياه فلم أعرفه إذ لم أعثر على شئ فيما عندي من الكتب
يدلني على معرفة بحاله.
النسخ التي كانت عندي حين طبع الكتاب ورموزها.
كانت عندي أربع نسخ من هذا الشرح حين طبعه، ثلاث منها كانت لي وموجودة
في مكتبتي وواحدة منها كانت من كتب مكتبة جامعة طهران من الكتب التي أهداها
الأستاذ السيد محمد مشكاة إلى هذه المكتبة والنسخة مؤرخة هكذا " " فقد فرغت من
نسخته السادس من شهر جمادى الاخر (ى) من الهجرة النبوية في سنة ثلاث وثلاثمائة بعد
الف " ". وهي مثبتة ومضبوطة في المكتبة ومفهرسة (انظر فهرس المكتبة، المجلد الثاني تأليف
علي نقي المنزوي ص 285 - 286 تحت عنوان " منهاج العارفين " رقم 174. وكانت ت عندي بإجازة الأستاذ المشار إليه فنشكره شكرا جزيلا وجعلنا حرف الدال " د " رمزا لهذه النسخة.
مقدمة الناشر 9

اما النسخة التي جعلنا عليها مدار الطبع هي النسخة التي وضعنا صورة الصفحة
الأولى والأخيرة منها مع صورة ما على ظهرها بين يدي القارئين وكانت منتسخة بيد حسن
بن محمد بن علي مشرف العيثاني ومؤرخة بشهر ربيع الأول من سنة سبعين وثمانمئين
(أي ثمانمائة) فراجع صورة الصفحتين ان شئت وإنما جعلناها أساس الامر وبنينا عليها طبع
الكتاب لكونها أقدم النسخ المذكورة وأصحها وأتقنها كما يعرفه من هو أهل الفن من صور
الصفحات، وحرف الألف " ا " رمز لهذه النسخة وحرفا الباء " ب " والجيم " ج " رمز النسختين
الباقيتين ولا حاجة إلى ذكر خصائصها الا انه كما كانت نسخة الألف أعلى النسخ ونسخة
الدال أدناها كانت النسختان الباقيتان أعني نسختا " ب " و " ج " متوسطتين بينهما في
الجودة والرداءة.
حسن اتفاق
كتب إلى صديقي الفاضل الاجل ميرزا جعفر سلطان القرائي - دام بقاؤه -: مما يجرى مجرى الاتفاقات الحسنة ويصير من مصاديق قولهم: الأسماء تنزل من
السماء، هذه العبارة الفارسية " شرح ابن ميثم چاب سيد جلال الدين " فان مجموع
اعداد حروفها تاريخ طبع الكتاب.
والسلام على من اتبع الهدى. وكان تحرير ذلك
في الليلة السابعة والعشرين من المحرم الحرام سنة 1390 = 15 فروردين 1349
مير جلال الدين الحسيني الأرموي
المحدث
مقدمة الناشر 10

صوره ما على ظهر النسخة المشار إليها بحرف الألف " ا "
التي بنى عليها طبع الكتاب
صور النسخ المخطوطة 11

أول صفحة من النسخة المشار إليها بحرف الألف " ا "
التي أسس عليها طبع الكتاب
صور النسخ المخطوطة 12

اخر صفحة من النسخة المشار إليها بحرف الألف " ا "
التي عليها أساس طبع الكتاب
صور النسخ المخطوطة 13

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم يا ذا الجلال والاكرام يا حي يا قدوس يا سلام، يا مبدأ الجود ومنبعه وغاية
كل موجود ومرجعه، يا نور
الأنوار وعالم خفيات الاسرار، أحمدك على عواطف كرمك
وسوابغ نعمك، لا مجازاة (1) لفضلك (2) واحسانك بل خضوعا لعزتك وسلطانك، ولا استنكافا من تطولك وامتنانك بل استكانة لعظمتك وعلو شأنك، واخلي ذاتي
عن كل معبود بلا اله وأحليها بالا أنت وبما أنت أهله، وأتمم زينتها بشهادة أن محمدا
عبدك ورسولك، الجالي لصدء القلوب، الفاتح لخزائن الغيوب، المورى لقبس الهدى بعد أن
غشى ظلام الجهل أبصار العقول، الرافع لموضحات الاعلام بعد أن ضل الدليل وتاه
المدلول، اللهم وأسلك ان تتحفه شرائف، (3) صلواتك وتمنحه نوامي بركاتك،
وان تجعل لآله وخلفائه الراشدين من ذلك أجزل حظ وأوفاه وأوفر قسط وأنماه، وأسلك ان تنور قلبي بلوامع هدايتك وتلحظ وجودي بعين عنايتك، انك أنت الوهاب. اما بعد
فلما كان أكمل السعادات وأتمها وأشرف الدرجات وأهمها هو الوصول إلى
الواحد الحق والحصول في المقعد (4) الصدق حيث تنمحق ابصار البصائر في تلك المشارق (5)
وتحترق القلوب في تلك المحارق، وكان مولانا وامامنا سيد الوصيين أمير المؤمنين

(1) ب " " مجاراة " ".
(2) ب " " لتفضلك " ".
(3) ج د " بشرائف ف
(4) د " " مصعد " ".
(5) - سقط ورقتان من نسخة ج، والساقط من الكلمات يبتدأ من هنا.
(6) - ا د " المخارق "
1

ذو الآيات الجلية والكرامات العلية علي بن أبي طالب سلام الله عليه ممن تسنم من تلك
الدرجات أعلاها وفاز من تلك المقامات بأجلاها (1) وأسماها حتى ظهرت ينابيع الحكمة
على لسانه وسطع صبح الحق من أفق برهانه، فلاحت من وادى كماله اعلامه الزاهرة
ولوحت إلى شرف قوته القدسية آياته الباهرة حتى لقد كفرت فيه طائفة لما (2) رأت من
تلك الآيات (3) وزعمت أنه اله الأرض والسماوات، وفسقت الأخرى بمنابذته بغيا
عليه وحسدا، ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا (4)، وكان من جملة حكمه
البالغة وشموسه البازغة (5) مائه من الكلم جمعت لطائف الحكم، انتخبها من كلماته الإمام أبو
عثمان عمرو بن بحر الجاحظ عفى الله عنه وكان ممن استجمع فضيلتي العلم والأدب وحكم
بان كل كلمة منها تفي بألف من محاسن كلام العرب ولم يخصها من سائر حكمه (6) لمزيد
جلاله بل لضمها (7) الوجازة إلى الجزالة ثم اتفق اتصالي بمجلس الصاحب المعظم
ملك وزراء العالم العالم العادل ذي النفس القدسية والرياسة الانسية شهاب الدنيا
والدين مسعود بن كرشاسف ضاعف الله جلاله وادام اقباله فألفيته منخرطا في سلك
الروحانيات معرضا عن الأجسام والجسمانيات موليا بوجهه شطر القبلة الحقيقية متلقيا
بقوته العقلية اسرار المباحث اليقينية (8)، أحظى جلسائه لديه من نطق بحكم وأكرمهم عليه
من حاوره في علم، أحببت أن أتحف حضرته العلية بكشف أستار بعض (9) تلك الكلمات
ورموزها وابراز (10) ما ظهر لي من دفائنها وكنوزها، وشرعت في ذلك معتصما بالله وملتمسا للعذر ممن عثر لي على هفوة (11) واطلع منى على زلة فانى مع قصور استعدادي
عن درك هذا المقام أحوالي الحاضرة جارية على غير نظام، وعلى الله قصد السبيل
وهو حسبي ونعم الوكيل.

(1) - " بأجلها "
(2) - " يمكن قراءتها " لما " (بلام الجر وما الموصلة).
(3) - د: " الكرامات ".
(4) - ذيل آية 49 سورة الكهف.
(5) - في النسخ " الطالعة ".
(6) - د: " كلمة ".
(7) - د " إلا لتضمنها ".
(8) - د " النفسية ".
(9) - ب: " بعض أستار ".
(10) - د " واظهار ".
(11) - د " هبوة ".
2

وقد رتبت هذه الرسالة على ثلاثة أقسام،
القسم الأول في المبادي والمقدمات التي يجب تقديمها
في اثبات هذا المطلوب، وفيه فصول:
الفصل الأول
في النفس الحيوانية ولواحقها، وفيه أبحاث:
البحث الأول
في تحقيقها وبرهان وجودها بقول وجيز:
ان العناصر الأربعة قد يبلغ استعداد مزاجها في التمام إلى درجة أعلى من مزاج
المعدن والنبات كما علمت ذلك في موضع أليق به فيقبل حينئذ كمالا أشرف من كماله
وهو النفس الحيوانية، وحدها أنها كمال أول لجسم طبيعي آلى معد لقبول الحس
والحركة، والاحتراز بالطبيعي عن الصناعي، وبالأول (1) عن الكمال الثاني كالعلم وغيره
وبالآلي عن صور العناصر.
واما برهان وجودها فقالوا: ان العضو المفلوج فيه قوة نفسانية لان العناصر المتجاذبة إلى الانفكاك لا تجتمع الا لقاسر قبل الامتزاج وهو مغاير للمزاج وتوابعه
لتأخرها عنه وهو اما أن يكون قوة الحس والحركة وهو باطل لعدمها في (2) العضو
المفلوج، أو قوة التغذية وهو أيضا باطل لأنها قد تبطل مع بقاء الحيوانية ولان الغاذية
موجودة (3) للنبات فلو أعدت لقبول الحس والحركة لكان النبات مستعدا لهما، أو
مغايرا (4) لهذين القسمين وهو المطلوب، ولما كانت هذه النفس بعد ما يعمها من القوى (5)
النباتية تختص بقوتين، إحداهما مدركة والأخرى محركة وكانت بعد المدركات تنقسم إلى

(1) - د: " وبالكمال الأول ".
(2) - ب د: " من ".
(3) - د: " موجودية ".
(4) - د: " أو مغاير ".
(5) - في النسخ: " قوى ".
3

ظاهرة وباطنة وجب أن نبحث (1) عن ماهية الادراك وأقسام المدركات.
البحث الثاني
في ماهية الادراك
ادراك الشئ هو أن تكون حقيقته متمثلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك (2)
والمراد بتمثل الحقيقة عند المدرك حضور مثال الحقيقة في ذات المدرك ان لم يكن
ادراكه بتوسط آله، أوفى آلته إن كان الادراك بتوسط الآله: وبيان ذلك أن الحقائق
المدركة اما كليات أو جزئيات، اما الكليات فالمدرك العقل بذاته فقط من دون توسط
آله، واما الجزئيات وان أدركها العقل لكن لا بذاته بل بتوسط ادراكات جزئية لقوى
أخرى هي آله له (3) وهي المسماة بالحواس ولكل واحد منها أيضا آلة فحيث حصل
مثال الشئ المدرك في آلة الحس ولاقاه وشاهده فتلك المشاهدة هي الاحساس والادراك
والمثال الحاصل في آلة الحس هو المحسوس في الحقيقة واما تسمية الشئ الخارجي
الذي حصل مثاله في آلة الحس محسوسا فمجاز لكونه سببا لحصول هذا المثال وإنما
يكون سببا عند حصول نسبة وضعية بينه وبين آلة الحس بحيث لو لم يكن لم يحصل
الاحساس، واعتبر عدم (4) تلك النسبة إلى حس ابصارنا كالأجسام الغائبة فانا لعدم
تلك النسبة لا ندركها بحس البصر، وفى تحقيق ماهية الادراك وانه حضور مثال الحقيقة
في ذات المدرك أو في آلته أو أمر أعم مكن ذلك غموض يحتاج إلى بحث لا يحتمله موضعنا.
البحث الثالث في الحواس الظاهرة وهي خمس
فالأول حس اللمس
ورسمه انه قوة منبثة في جميع البشرة واللحم بها يدرك ما يماسه ويتصل به،

(1) - د: " وجب البحث ".
(2) - هذا التعريف مأخوذ من الإشارات بعين عبارته.
(3) - ب " آله للعقل له ".
(4) - د " عندهم ".
4

والغرض منه انه لما كان الحيوان الأرضي مركبا من العناصر الأربعة وصلاحه بصلاحها
وفساده بتغالبها وجب أن يكون له تلك القوة ليدرك بواسطتها المنافي فيحترز (1) عنه
والملائم فيطلبه ويقرب منه، والمحسوسات به الكيفيات الأربع (2) وهي الحرارة والبرودة
والرطوبة واليبوسة، وكذلك الصلابة واللين والخشونة والملامسة والثقل والخفة ومن
شرط هذا الادراك أن تكون كيفية الملموس مخالفه لكيفيته فيكون اما أبرد منه مثلا
أو أحر فإنها لو كانت مشابهة لكيفيته لم ينفعل الجلد منه البتة كصاحب الدق فإنه لا يدرك حرارة حماه لسخونة مزاج أعضائه.
الثاني - حسن الذوق، وهو قوة رتبت في العصبة المفروشة على سطح اللسان
التي هي من جملة الزوج الثالث من الأعصاب التي تنبت من الدماغ وتدرك الطعوم
من الاجرام المماسة بواسطة مخالطة تلك المطعومات للرطوبة العذبة (3) اللعابية التي
تحصل من الملعبة ووجب كون هذه الرطوبة خالية عن الطعم في ذاتها لتكون صالحة لهذه
التأدية والتوسط، ولو كان لها طعم في ذاتها أو مركبا من طعمها وطعم غيرها لاستحال
ادراك طعم الشئ وحده ولهذا لما عرض لها طعم المرارة في فم المرضى لم تكن مطعوماتهم
صادقة الطعوم بالنسبة إليهم ولهذا خلقت خالية عن الطعم وكانت لزجة لئلا يسرع إليها الجفاف
بسبب حرارة الحيوان.
الثالث - حس الشم وهو قوة رتبت في الزائدتين في (4) مقدم الدماغ
الشبيهتين (5) بحلمتي الثدي هما آلة الشم (6) مدركة للروائح بتوسط الهواء المنفعل (7) عن
ذي الرائحة اما بأن ينفصل من ذي الرائحة بخار مكيف بتلك الرائحة ويختلط بالهواء اما بان يستعد الهواء بمجاورة ذلك الشئ لقبول رائحة مثل رائحته فتفاض تلك الرائحة
من واهبها.
فاما ما يقال بان الرائحة تنفصل من ذي الرائحة فتدرك، غلط، إذ العرض

(1) ا: " ليحترز ".
(2) - د: " ويعرف منه المحسوسات به المتلقيات الأربع ".
(3) - د: " العذية ".
(4) - د " من ".
(5) - ا: " المشبهتين ".
(6) - ا: " آلة للشم ".
(7) - د: " المنفصل ".
5

لا ينتقل من جسم إلى جسم فإذا وصل ذلك الهواء إلى طرف الأنف تأدى (1) إلى تينك (2)
الزائدتين وانفعلتا عن تلك الرائحة وكيفياتها فأدركتها القوة المذكورة (3) فكان ذلك
شما وادراكا للرائحة.
الرابع - حسن السمع وهي قوة نافذة من (4) الدماغ إلى الاذن في عصبة نابتة
من الدماغ إلى الصماخ مبسوطة عليه ممدودة كمد الجلد على الطبل وهذه العصبة آلة تلك
القوة وهي مدركة للصوت بتوسط الهواء وهو هيئة تحصل في الهواء بسبب تموج يقع له
بحركة عنيفة اما من قرع بعنف (5) يحصل عن اصطكاك جسمين صلبين فينضغط الهواء
بينهما وينفلت (6) بشدة واما من قلع بقوة فيدخل الهواء بشدة بين الجسمين المنفصلين
ويحصل من هذين السببين (7) تموج الهواء على هيئة مستديرة كما ترى في (8) الدوائر
الحاصلة في الماء الراكد عند رمى حجر في وسطه فإنها أولا تكون صغيرة ثم تتسع
فتضعف قليلا قليلا إلى أن تنمحي فإذا انتهى هذا التموج إلى الهواء الذي في الاذن
حركه حركة مخصوصة على هيئة مخصوصة فتنفعل العصبة المفروشة على الصماخ من تلك
الحركة فيحصل هناك طنين فتلاقيه القوة المذكورة فيها وتدركه فيسمى هذا الادراك
سماعا، وقد يتفق (9) ان يتصل هذا التموج بجسم صلب فيصكه ويرتد عنه فينعطف
ثانيا ويتصل بهواء الاذن فتنفعل العصبة عنه فتدركه قوة السمع ويقع ذلك في الحمامات
والجبال والبيوت المجصصة ويسمى صدى.
الخامس - حسن البصر وهو قوة مرتبة في العصبتين المجوفتين النابتتين من الدماغ
إلى كل واحدة من العينين مدركة للصور المنطبعة في الرطوبة الجليدية بتوسط جسم
لطيف نوراني ينبعث من الدماغ ساريا في تينك العصبتين المجوفتين إلى العين يسمى
ذلك الجسم الروح الباصر (10) وهو آله تلك القوة وحاملها كما ستعرف إن شاء الله تعالى

(1) - ا: " فأدى ".
(2) في الأصل: " تلك ".
(3) - د: " المدركة ".
(4) - ا: " في ".
(5) - د: " عنيف ".
(6) - ب: " ينقلب " د: " ينقلب ".
(7) - د: " الشيئين ".
(8) - ب د: " من ".
(9) - د: " اتفق.
(10) - د: " الناظر ".
6

وهذا الرأي أعني ان الابصار بسبب انطباع صورة المرئي في الرطوبة الجليدية هو رأى
الحكيم أرسطو وعليه آراء متأخري الحكماء، وفى كيفية الابصار مذهب اخر وهو انه
إنما يكون بخروج شعاع من العين على شكل مخروط تتصل (1) قاعدته بسطح المرئي وزاويته
متصله بنقطة الناظر، وهو مذهب باطل، وعلى بطلانه براهين كثيرة ويكفيك منها ههنا
ان تعلم أنه لو كان كذلك لاختلف الرؤية عند هبوب الرياح وركودها لممانعة الهواء ولكان
ما تحت الممانعات (2) من ذوات الألوان أحق بأن يرى مما في الزجاجات الصافية لسهولة نفوذ
الشعاع هناك، والتاليان باطلان فالمقدم كذلك، وباقي البراهين مذكورة في المطولات.
ثم إن لهذا الانطباع الذي تأخذ عنه القوة شروطا سبعة أحدها سلامة
الحاسة من الآفات، الثاني عدم الحجاب بين الرائي والمرئي، الثالث حصول النسبة
الوضعية بينهما وهي المقابلة، الرابع كون المقابل ذا لون، الخامس ان لا يكون بينهما بعد
مفرط، السادس ان لا يكون بينهما قرب مفرط، السابع ان لا يكون جسم المرئي في غاية
الصغر، فإذا فرضنا تمام هذه الشروط فان آلة الحس حينئذ تصير مستعدة لحصول
ذلك المرئي فيها أي صورة مطابقة فيها صورة الشئ ومثاله الا ان بينهما فرقا وهو حصول
القوة المدركة هناك دون المرآة فادراك القوة لتلك الصورة المنطبعة يسمى ابصارا
، والاهم للحيوان من هذه الخمس هو الذوق واللمس واما ما عداهما فقد يتعرى عنها
بعض الحيوانات.
واعلم أن لهذه القوى حكمين عامين:
إحداهما - انها لا تزيد على الخمس وبرهانه ان الطبيعة لا تنتقل من درجة إلى
ما فوقها الابعد استكمال جميع تلك الدرجة فيها فلو كان في الامكان حس آخر لكان
حاصلا للانسان وحيث لم يحصل علمنا أنه ليس بممكن.
الثاني - النوم واليقظة وحقيقتهما أن الجرم اللطيف الحاصل للقوى النفسانية
المسمى روحا نفسانيا (3) كما ستعرفه إذا انصب في الحواس حصلت الادراكات

(1) - د: " تستطيل " (2) - ب: " تحجب المانعات ". 3) - ا: " انسانيا ".
7

الظاهرة وهو اليقظة وان لم ينصب إليها أو رجع عنها بعد انصبابه إليها تعطلت الحواس
الظاهرة فذلك التعطل هو النوم.
واعلم أن الرجوع بعد الانصباب (وعدم الانصباب) (1) قد يكون كل واحد منهما
طبيعيا وقد لا يكون، فالأول الرجوع الطبيعي وهو اما بالتبعية لغيره كما إذا رجع
الروح الحيواني الذي ستعرفه أيضا إلى الباطن لانضاج الغذاء فتبعها (2) الروح النفساني
أولا بالتبعية وهو كما إذا تحلل جوهر الروح في اليقظة فرجع إلى الباطن طلبا لبدل
ما يتحلل. الثاني الرجوع الغير الطبيعي وهو كما إذا أقبلت الطبيعة على تنضيج العلة
فيتبعها الروح النفساني. الثالث - عدم الانصباب الطبيعي وذلك أن يكون الروح في نفسه قليلا لا يفي بأن يبقى منه في الدماغ شئ ويخرج شئ منه إلى آلات القوى.
الرابع - عدم الانصباب الغير الطبيعي وذلك قد يكون لآفة تعرض للدماغ تنسد (3 معها مجاري الروح فلا يمكن نفوذه، وقد يكون لترطيب جوهر الروح فلا يقوى على البروز (4) كما كان في نوم السكري وقد يكون لأسباب أخرى.
البحث الرابع
في الحواس الباطنة وهي أيضا خمسة:
الأول - الحس المشترك ويسميه اليونانيون بنطاسيا وهو قوة مرتبة في الجزء
الأول من التجويف المقدم من الدماغ مما يلي الوجه فاما فعلها فادراك جميع المحسوسات
التي تدركها الحواس الظاهرة وذلك أن لهذه القوة خمس شعب فيها يسرى كل اثر
يظهر للحواس وينتهى إلى تلك القوة فتدركه واما برهان وجودها فمن وجهين،
أحدهما - لو لم يكن لنا هذه القوة لما أمكننا (5) ان نحكم بان هذا الأصفر هو هذا الحلو فان
القاضي على الشيئين لابد ان يحضره المقضى عليهما وليس هذا حكم العقل فان المحسوسات لا تدرك

(1) - ما بين القلابين سقط من نسخة ا.
(2) - ب: " فيتبعها ".
(3) - ا: " تفسد " د: " ينسد ".
(4) - ب " البروزي ".
(5) - ب: " لما أمكنا " (بتشديد النون).
8

الا بآلة جسمانية ولان البهائم الخالية عن (1) العقل لها هذا الحكم فان صورة العشب وطعمه
مدركان لها فإذا للمحسوسات الظاهرة اجتماع في قوة وراء العقل وإذ (2) ليس ولا واحد
من الحواس الظاهرة كذلك لاختصاص كل منها بمدرك خاص فلابد من قوة أخرى
باطنة وهو المطلوب.
الثاني - نرى القطر النازل خطا مستقيما مع أنه ليس في الخارج الا قطرات
متفاصلة فهو إذا في الشعور فيكون في قوة مدركة له وليست القوة الباصرة فان البصر
لا ينطبع فيه الشئ الا كما هو في الخارج، ولا النفس لأنها لا تدرك الجزئيات فلابد من قوة أخرى وهو المطلوب.
الثاني - الخيال وهو قوة مرتبة في الجزء الأخير من التجويف المقدم من الدماغ
واما فعلها فحفظ الصور المحسوسة بعد غيبتها عن الحس وبقائها فيها، واما برهان مغايرتها
فلان الحس مدرك وهذه القوة حافظة والحفظ غير الادراك والقبول فان الماء له قوة
قبول الاشكال لرطوبته وليس له قوة الحفظ لعدم اليبوسة، وليسا بقوة واحدة لاستحالة
ان يصدر عن القوة الواحدة اثران (3) فإذا الحفظ لقوة أخرى تجرى مجرى الخزانة لقوة
الحس المشترك يجتمع (4) فيها ما تقتنصه من صور المحسوسات بالحواس الظاهرة.
الثالث - الوهم وهو قوة مرتبة في اخر التجويف الأوسط من الدماغ، وفعلها
ادراك المعاني الجزئية الغير المحسوسة الموجودة في المحسوسات كادراك الشاة معنى في الذئب يوجب الهرب ومعنى في التيس (5) يوجب الطلب وهي في سائر الحيوان بمنزلة العقل
للانسان وقد تكون هذه القوة في بعض الحيوانات أشد وأقوى من بعض، والفرق بينهما
وبين مدرك الصور الجزئية ظاهر.
الرابع - الحافظة وتسمى الذاكرة باعتبار آخر وهي قوة مرتبة في التجويف

(1) - ب: " من ".
(2) - ب: " إذا "
(3) - ا: " أمران ".
(4) - ا: " لقوة الحس يجتمع ".
(5) في النسخ: " الطيس ".
9

الثالث من الدماغ فعلها حفظ هذه المعاني الجزئية التي يدركه الوهم، ونسبتها إلى الوهم
نسبة الخيال إلى الحس المشترك وكما أن هناك مبدء هو الحس المشترك وخازنا هو الخيال
فكذا هنا مبدء هو الوهم وخازن وهو الحافظة ومغايرته للوهم تعلمها من الفرق بين الحس
والخيال
الخامس - المتخيلة وهو قوة مودعة في مقدم التجويف الأوسط من الدماغ
عند الجسم المسمى بالدودة لشبهه بها، وفعلها الخاص بها تفتيش الخزانتين والتصرف
فيهما بتركيب بعض مودعاتهما مع بعض وتفصيل بعضها عن بعض فقد تركب بين
صورتين تدركهما من خزانة الصور كتركيب انسان برأس ثور ونحوه، وقد تركب الصور
بالمعاني والمعاني بمثلها، وقد يستعين العقل بها في ادراك المعقولات لأنها آلة الوهم الذي هو
آلة العقل وبها يكون اقتناص الحد (1) الأوسط وهي المحاكية للمدركات العقلية بالهيئات
المزاجية وتنتقل إلى الضد والشبه (2) فإذا تصرفت في الخزائن بإشارة العقل بواسطة الوهم
سميت بهذا الاعتبار مفكرة ومن دون استعمال العقل لها تسمى متخيلة، ولما كان فعل
هذه القوة تفتيش الخزانتين كان أليق المواضع بها وسط الدماغ لتكون (3) متوسطة لهما
قضاء من المدبر الحكيم عز سلطانه، وإنما عرفت مواضع هذه القوى باعتبارات ظنية
من فساد قوة مخصوصة منها عن آفة تعرض في موضع مخصوص من الدماغ والله ولى الهداية.
البحث الخامس
في القوى المحركة بالإرادة وهي مترتبة بعضها تنسب إليها
الحركة لأنها باعثة عليها (وبعضها) " 4 " لأنها فاعلة لها
اما القوى الباعثة فأبعدها عن الحركة هي القوى المدركة المذكورة وهي المتخيلة
والوهم في الحيوان والعقل العملي بتوسطهما في الانسان وتليها القوة النزوعية المسماة

(1) - ب: " وبها يكون اقتناص العقل وبها يكون الحد الأوسط ".
(2) - ا: " والتشبيه ".
(3) - اج: " فتكون ".
(4) - هذه الكلمة في نسخه ب فقط.
10

شوقا فإنها تبعث عن القوى المدركة اما إلى طلب بحسب ادراك الملائمة في الشئ اللذيذ
أو النافع سواء كان ادراكا مطابقا أو غير مطابق وتسمى شهوة واما إلى دفع ومقاومة
لادراك منافاة في الشئ المكروه أو الضاد وتسمى غضبا وتليها القوة المحركة الفاعلة وهي
قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات من شأنها تشنيج العضلات لجذب الأوتار والرباطات
وارخائها وتمديدها وهي المسماة بالقدرة وهي بالحقيقة المحركة وما عداها فيجرى مجرى
الامر الباعث بإشارته والله الموفق.
البحث السادس
في الأرواح الحاملة لهذه القوى
واعلم أن لكل واحدة من القوى المدركة والمحركة روحا يختص به هو الحامل له
تسمى روحا نفسانيا وتولده من (1) بطون الدماغ وينفذ في شظايا العصب إلى سائر البدن
ويقوم القوى النفسانية وينصب إلى آلاتها ويحفظها على حالها وتولده يكون من جسم
آخر يسمى روحا حيوانيا يتولد في القلب من بخار الدم الصافي اللطيف النقي ومن الهواء
الداخل للاستنشاق وكيفية تولد النفساني عنه ان الروح الحيواني يصعد من القلب إلى
الدماغ في العرقين الضاربين المعروفين بعرقي السبات (2) الصائرين إلى الدماغ وينفذان
إلى القحف إلى الموضع المعروف بقاعدة الدماغ وينقسمان هناك بضروب من القسم (3)
ويكثر ما يتفرع منهما (4) من العروق فيصير بعضها فوق بعض ويخالط بعضها بعضا ويلتوي (5)
بعضها على بعض ويشتبك حتى ينتسج من ذلك (6) نسيجة تشبه الشبكة ثم بعد انتساجها يصير
منها عرقان ضاربان شبيهان بالأولين ويصعدان إلى فوق هذا الموضع فيتفرقان (7) فيه فإذا
صعد الروح الحيواني من القلب وصار في هذه النسيجة وجال في عروقها ومكث طويلا

(1) - ب: " في ".
(2) - " كذا ".
(3) - ب: " القسمة ".
(4) - د: " منها ".
(5) - ا ج: " يستولى ".
(6) - الساقط من النسخة الثالثة كما أشرنا إليه في الصفحة الأولى كان إلى هنا.
(7) - ج د: " فيفرقان " ولعل الصحيح: " فيفترقان ".
11

نضج غاية النضج وصفا فتولد منه الروح النفساني ولذلك أعدت هذه الشبكة لانضاج
هذا الروح وتصييره روحا نفسانيا حتى استعدت به القوى المذكورة للادراك والتحرك
فسبحان ناظم الوجود أحكم الحاكمين.
الفصل الثاني
في النفس الانسانية والفلكية، وفيه أبحاث:
البحث الأول
في ماهيتهما (1) وبراهين وجودهما (2)
اما الماهية على ما يعم النفسين فقيل: انها جوهر غير المادة وغير موجود فيها
من شأنه ان يحرك الأجسام ويدرك الأشياء، فإذا أردنا تخصيصها بالفلك قلنا: بالفعل،
وإذا أردنا تخصيصه بالانسان قلنا: ويتهيأ لادراك الأشياء، فاحترزنا بالجوهر عن واجب
الوجود والاعراض التسعة وبقولنا، غير المادة وغير موجود فيها، عنها وعن سائر الأمور
المادية، وبقولنا: يتهيأ لادراك الأشياء، في الانسانية، عن الفلكية والعقول المجردة،
لان كمالاتها حاصلة لها بالفعل من حيث هي: وبقولنا: في الفلكية، عن
الانسانية، إذ كمالاتها في الأصل قوية وإنما يحصل لها بالفعل بعد تمام استعداداتها لها.
واما برهان وجود النفس الانسانية فمن وجهين:
الأول - لو كانت القوة العاقلة جسما أو جسمانيا لضعفت بضعف البدن لان القوى
الجسمانية في ذاتها وجميع كمالاتها إلى اعتدال مزاج الجسم فوجب ان يضعف بضعفه لكن
التالي باطل لان الفكر الكثير سبب لضعف الدماغ ولكمال النفس ولان القوة العاقلة
تقوى بعد الأربعين مع اخذ البدن في النقصان فوجب أن يكون المقدم باطلا.
الثاني - من طريق السمع قوله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا

(1) - د: " ماهيتها ".
(2) - ج د: " وجودها ".
12

بل احياء عند ربهم يرزقون (1) وقوله عليه السلام في بعض خطبه: حتى إذا حمل الميت
على نعشه رفرفت روحه فوق النعش وتقول: يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما
لعبت بي، وجه الاستدلال ان نقول: لا شئ من الانسان المقتول والمتكلم بميت بمقتضى
الآية والخبر وكل بدن وقوة فيه فميتة بالضرورة ينتج من الشكل الثاني لا شئ من
الانسان ببدن ولا قوة فيه بالضرورة وهو (2) المعنى بالجوهر المجرد وعلى هذا المطلوب
أدلة كثيرة عقلية ونقلية آثرنا تركها مراعاة للاختصار وهي مذكورة في المطولات.
واما برهان وجودها للفلك فقالوا: لاشك ان الفلك متحرك بالاستدارة
فحركته اما أن تكون طبيعية أو قسرية أو إرادية فالقسمان الأولان باطلان فتعين (3)
الثالث، وإنما قلنا: انها ليست طبيعية، لان كل وضع ونقطة متوجه إليها الحركة
بالطبع فهي مفارقة لها بالطبع فالمطلوب بالطبع مهروب عنه بالطبع هذا خلف، وإنما
قلنا: انها ليست قسرية، لان القسر هو ما يكون على خلاف الطبع وحيث لا طبع فلا
قسر (4) فبقي أن تكون إرادية فلها إذا ميل مستدير إرادي، وكل فاعل بالإرادة فلابد وأن يكون
له شعور بفعله فللأفلاك قوة على الادراك والفعل وهي النفس، والمشاؤن (5) على أن
تلك النفس جسمانية والشيخ على أن ما وراء ما أثبتوه للفلك من النفس نفس مجردة
حجته ان الحركة الفلكية إنما هي للتشبه بالعقول المجردة والتشبه بالشئ يستدعى
ادراكه والمدرك للمجرد مجرد فللفلك نفس مجردة منتقشة بالعلوم الكلية والجزئية على
الوجه الكلى نقشا فعليا وكذلك العقول المشبهة لها (6) وتحقيق هذه المقدمات وحل الشكوك
التي تتوجه عليها (7) غير لائق بموضعنا فليطلب من مظانه.

(1) - آية 169 سورة آل عمران.
(2) - ب د " وهي ".
(3) - ج د: " فبقي.
(4) - أب: " وحيث لا قسر فلا طبع ".
(5) في هامش نسخة ا: " المشاؤون أصحاب المعلم الأول ".
(6) - ب: " المتشبهة بها ".
(7) - كذا في النسخ والصحيح: إليها.
13

البحث الثاني
في قوى النفس الانسانية
واعلم أن النفس الانسانية لها قوتان، نظرية وعملية، وكل منهما تسمى عقلا
وإن كان العقل يطلق على درجات القوة النظرية وعلى معان أخرى بحسب اشتراك
الاسم كما تعلمه اما العملية فهي قوة محركة لبدن الانسان إلى الأفاعيل الجزئية على مقتضى
آراء بعضها جزئية محسوسة وبعضها كلية أولية أو جزئية (1) أو ذائعة أو ظنية تحكم بها
القوة النظرية من غير أن يختص حكمها بجزئي دون آخر والقوة العملية تستعين بالقوة
النظرية في ذلك إلى أن تنتهى إلى الرأي الجزئي الحاصل فتعمل بحسبه وتحصل مقاصدها
في طرفي المعاش والمعاد ولهذه القوة نسبة إلى القوة النزوعية وعنهما يتولد كثير من الأفاعيل
كالضحك والبكاء، ونسبة إلى الحواس الباطنة وهي استعمالها في استخراج الأمور المصلحية
والصناعات ونحوها ونسبة إلى القوة النظرية ومنهما (2) تحصل المقدمات المشهورة والعملية
هي التي يجب بمقتضى جبلتها ان يتسلط على القوى البدنية فتصرفها كما ينبغي فان اتفق
لها أن انفعلت عن تلك القوى كان ذلك موجبا للبعد عن حضرة رب العالمين كما سنبين
إن شاء الله تعالى.
واما النظرية فهي التي لأجلها يصح من النفس ادراك الأشياء على الوجه (3)
الصواب ولها في الاستكمال من الاستعداد مراتب ثلاثة ومثلت (4) في مبدئها بما (5) يكون
للطفل من قوة الكتابة، وفى وسطها بما (6) يكون للناشئ المستعد لتعلمها، وفى منتهاها
بما يكون للقادر عليها الذي لا يكتب وله أن يكتب متى شاء.
فالمرتبة الأولى للنفس من الاستعداد المناسبة للمثال المذكور تسمى عقلا هيولانيا
تشبيها لها بالهيولى الخالية في ذاتها عن جميع الصور المستعدة لقبولها وهذه المرتبة حاصلة لجميع
اشخاص الناس في مبادئ الفطرة وقد أشير إليها في التنزيل الإلهي وعبر عنها بالمشكاة في قوله تعالى:

(1) - ا: " أو الجزئية ".
(2) - ج د " منها ".
(3) - د: " وجه ".
(4) - ج د: " وتنقلب ".
(5) - " كما " ج د " مما ".
(6) - ج د " مما ".
14

الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، الآية (1)، ووجه المناسبة بين
المشكاة والعقل الهيولاني ان المشكاة مظلمة في ذاتها قابلة للنور لاعلى تساو لاختلاف
السطوح والثقب فيها فالعقل الهيولاني أشبهها (2) فأطلق اسمها عليه.
المرتبة الثانية وهي المناسبة للمثال المتوسط تسمى عقلا بالملكة وهو الاستعداد
الحاصل بعد حصول المعقولات الأولى التي هي العلوم الأولية فتتهيأ لادراك المعقولات الثانية
وهي العلوم المكتسبة والمثال المطابق لها من الآية الزجاجة، ووجه المناسبة كون الزجاجة في
نفسها شفافة قابلة للنور أتم قبول كما أن النفس في تلك المرتبة كذلك ومراتب الناس

(1) - صدر آية 35 سورة النور وذيلها: (المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب
درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيئ ولو لم تمسسه نار
نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شئ عليم).
فليعلم ان الشارح (ره) قد اخذ هذا المطلب من الإشارات ونص عبارة ابن سينا فيه هكذا:
" " إشارة - ومن قواها مالها بحسب حاجتها إلى تكميل جوهرها عقلا بالفعل عباره فأوليها قوة استعدادية
لها نحو المعقولات وقد يسميها قوم عقلا هيولانيا وهي المشكاة وتتلوها قوة أخرى تحصل
لها عند حصول المعقولات الأولى فيتهيأ بها لاكتساب الثواني اما بالفكرة وهي الشجرة
الزيتونة ان كانت ضعفي أو بالحدس فهي زيت أيضا ان كانت أقوى من ذلك فيسمى عقلا
بالملكة وهي الزجاجة والشريفة البالغة منها قوة قدسية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار
ثم يحصل لها بعد ذلك قوة وكمال اما الكمال فان يحصل لها المعقولات بالفعل مشاهدة
متمثلة في الذهن وهو نور على نور واما القوة فان يكون لها ان يحصل المعقول المكتسب
المفروغ منه كالمشاهد متى شاءت من غير افتقار إلى اكتساب وهو المصباح وهذا الكمال
يسمى عقلا مستفادا وهذه القوة تسمى عقلا بالفعل والذي يخرج من الملكة إلى الفعل التام
ومن الهيولاني أيضا إلى الملكة فهو العقل الفعال وهو النار " " ومن أراد التفصيل فيه فليطلبه
من شروح الإشارات.
فليعلم ان الشارح (ره) قد اخذ مطالب كثيرة من كتاب الشفاء الا انه قد غير عباراتها
في موارد وقد اكتفى بنقل عين العبارات ولم نشر إليها الا قليلا فمن أراد التطبيق فعليه
ان يطابقهما.
(2) - ج د: " يشبهها ".
15

في هذه القوة وفى تحصيل المكتسبة مختلفة فمنهم من حصلها بشوق ينبعث عن النفس
فتبعث على (1) الحركة الفكرية الشاقة (2) في طلب تلك العلوم وهؤلاء هم أصحاب الفكر،
ومثال الفكر من الآية الشجرة الزيتونة، ووجه المناسبة كونها مستعدة لان تصير قابلة
للنور بذاتها لكن بعد حركة شاقة ولان المفكرة ذات شعب وفنون كما أن الزيتونة ذات
شعب وغصون ومنهم من يظفر بها من غير حركة اما مع شوق أولا معه وهو من (3) أصحاب
الحدس، ومثاله، من الآية الزيت لكونه أقرب إلى الاشتعال من الزيتونة ومراتب صنفي (4)
الحدس كثيرة والشريفة (5) من تلك المراتب قوة قدسية وهي من الآية (6) " " يكاد زيتها
يضئ ولو لم تمسسه نار " " لأنها تكاد تعقل بالفعل ولو لم يكن لها مخرج من القوة إلى الفعل.
المرتبة الثالثة وهي المناسبة للمثال الأخير تسمى عقلا بالفعل وهو ما يكون عند القدرة
على استحضار المعقولات الثانية بالفعل متى شاءت النفس بعد الاكتساب بالفكر أو الحدس
والمثال لهذا الاستعداد من الآية المصباح لأنه ينير بذاته من غير حاجة له إلى اكتساب نور،
وحضور تلك المعقولات بالفعل للنفس تسمى عقلا مستفادا وهو من الآية " نور على نور " إذ
النفس نور والمعقولات الحاصلة لها نور آخر، واما النار التي منها اشتعال ذلك المصباح فالعقل
الفعال لان النفوس الانسانية وكمالاتها مستفادة منه فهذه مراتب القوة النظرية.
تنبيه - وإذ (7) ذكرنا الفكر والحدس فلابد من الفرق بينهما وذلك ببيان ماهيتهما،
فالفكر حركة للنفس بالآلة المسماة بالمفكرة (8) تبتدئ (9) من المطالب طالبة بها (10) مبادئ
تلك المطالب كالحدود الوسطى وما يشبهها إلى أن يجدها ثم يرجع منها إلى المطالب،
واما الحدس فهو الظفر حال الالتفات إلى المطالب بالحدود الوسطى دفعة تتمثل منها (11)
المطالب والحدود الوسطى معا في العقل من غير الحركتين المذكورتين سواء كان مع شوق
أو لا معه.

(1) - ب د: " فتنبعث على ".
(2) - د: " التامة ".
(3) - ا: " في ".
(4) - د: " صفوف ".
(5) - ب: " الشريفة البالغة " ج: " الرائعة البالغة " د: " السريعة البالغة ".
(6) - في النسخ: " من الآية التي ".
(7) - ج د: " تذكرة - وإذا ".
(8) - ب ج: " الفكرة ".
(9) - ا: " تبدئ ".
(10) - ا: " لها ".
(11) - ب ج: " فيها ".
16

البحث الثالث
في الكمالات العقلية الانسانية
لما كان للنفس الانسانية قوتان، قوة نظرية وقوة عملية كذلك وجب أن يكون
لكل واحدة من هاتين القوتين كمال يخصها، واستكمال النفس بتلك الكمالات
في القوتين يسمى حكمة، فرسم الحكمة إذا استكمال النفس الانسانية بتصور الأمور
والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الانسانية، وهي تنقسم إلى نظرية
وعملية، فالنظرية هي استكمال القوة النظرية في الادراكات التصورية والتصديقية
حتى تصير عقلا مستفادا، والعملية هي استكمال القوة العملية بتصور انه كيف يمكن
وينبغي أن يكون اكتساب الكمال بالملكة التامة على الافعال الفاضلة حتى يكون الانسان
قويما على الصراط المستقيم وكل واحدة منهما تنقسم إلى اقسام (1) ثلاثة:
اما اقسام الحكمة النظرية فهي هذه حكمة تتعلق بما في الحركة والتغير من حيث
هي في الحركة والتغير وهي الحكمة الطبيعية إذ كان البحث الطبيعي لاعن ذات الجسم
بل عن كونه متحركا وساكنا، وحكمة تتعلق بأمور من شأنها ان يجردها الذهن عن التغير
وإن كان وجودها مخالطا للتغير وتسمى حكمة رياضية، وحكمة تتعلق بما وجوده مستغن
عن مخالطة التغير فلا يخالطها أصلا وان خالطها فبالعرض لا ان ذاتها مفتقرة في تحقق
الوجود إليه وتسمى الفلسفة الأولى والفلسفة الإلهية وهي معرفة الاله من هذه وقد
يزاد ههنا قسم رابع وهو الحكمة الباحثة عن لواحق الوجود من حيث هو وجود مثل
الوحدة والكثرة والكلية والجزئية والعلية والمعلولية والكمال والنقصان وغيرها وقد
أدرجناها في الفلسفة الأولى وان أردنا افراز قلنا في القسم الثالث: وحكمة تتعلق بما وجوده
مستغن عن مخالطة التغير أصلا وهي الفلسفة الإلهية، وحكمة تتعلق بما وجوده مستغن عن

(1) - في النسخ: " باقسام ".
17

مخالطة التغير وقد يخالطها بالعرض من غير أن تكون ذاتها مفتقرة في تحقيق وجودها إليه
وهي الحكمة الكلية.
واما اقسام الحكمة العملية فهي هذه
حكمة خلقية وحكمة منزلية وحكمة سياسية وذلك لان كل عاقل فلابد وأن يكون
ذا غرض في فعله وذلك الغرض اما يكون مختصا به في نفسه وهو علم الأخلاق،
أو يكون مختصا به مع خواصه وأهل بيته وهو علم تدبير المنزل، واما أن يكون عائدا إلى
الانسان مع (1) عامة الخلق وهو علم السياسة وقد يزاد في هذه الأقسام رابع وهو غرض
الانسان بالنسبة إلى مدينته وتسمى حكمة مدنية وهو تعلم تدبير المدينة بكيفية (2) ضبطها
ورعاية مصالحها، وهذا علم لابد منه لان الانسان مدنى بالطبع فما لم يعرف كيفية بناء -
المدينة وترتيب أهلها على اختلاف درجاتهم لم يتم مقصوده وعلى القسمة الأولى فان هذا
القسم جزء من الحكمة السياسية. اما فائدة الحكمة الخلقية فهو ان يعلم الانسان الفضائل
وكيفية انقسامها (3) ليزكى (4) بها نفسه ويعلم الرذائل وكيفية ترتيبها ليطهر نفسه عنها،
وفائدة الحكمة المنزلية ان يعلم المشاركة التي ينبغي أن يكون بين أهل المنزل ممن يبتنى عليه
ويتم به لينتظم به المصلحة المنزلية، وفائدة الحكمة السياسية ان يعلم كيفية المشاركة التي (5)
فيما بين اشخاص الناس (6) ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء نوع الانسان.
البحث الرابع
في تفصيل وجيز لأصول الفضائل الخلقية
اعلم انا لما ذكرنا اقسام هذه الحكمة أردنا ان نشير إلى اقسام الفضائل والرذائل
الخلقية بتفصيل وجيز لتعلق غرضنا بذلك وقبله نقول: ان الخلق ملكة تصدر بها عن
النفس أفعال بسهولة من غير تقدم روية وتذكر وليس هو نفس القدرة لأنها بالنسبة

(1) - ا: " في ".
(2) - ج د " هو علم يعرف به كيفية ".
(3) - ج: " أقسامها ".
(4) - ا ب: " لتزكو ".
(5) - ب ج د " التي تقع ".
(6) - كلمه " الناس " ليست في ا.
18

إلى الطرفين (1) على سواء وليس الخلق كذلك، ولا نفس الفعل لان الفعل قد يكون تكليفيا
ثم إنه ليس شئ من الأخلاق بطبيعي في الأصل سواء كان فضيلة أو رذيلة وإنما الطبيعي
قبوله وإن كان ذلك القبول للفضيلة أو الرذيلة مختلفا (2) بالسرعة والبطؤ بحسب اختلاف
المزاج (3) في قوة الاستعداد وضعفه لاحدى الجنسين، بيان انه ليس بطبيعي انه لو كان
طبيعيا لما أمكن نقل الانسان عنه بالتأديب والتعويد وقد أمكن فوجب ان لا يكون طبيعيا،
اما الملازمة فظاهرة فان أهل العالم لو اجتمعوا عل تعويد الحجر بالحركة إلى فوق لما أمكن
ذلك بيان بطلان اللازم (4) ما يشاهد من انتقال بعض الخلق (5) عن بعض الأخلاق إلى بعض
ولولا ذلك الانتقال لما كان لوضع التأديب والشريعة التي هي سياسة الله في خلقة فائدة.
واما أصول الفضائل الخلقية (6)
فقد أجمع الحكماء على أنها ثلاثة وهي الحكمة والعفة والشجاعة بيان ذلك انك
قد علمت أن للانسان قوة عقلية وان له قوة بها يكون الغضب والاقدام على الأهوال
والتسلط والترفع وظهور الكرامات، وقوة بها تكون الشهوة وطلب الغذاء والنزاع إلى
الملاذ البدنية واللذات الحسية وقد علمت تباين هذه القوى من جهة ان بعضها إذا قوى
أضر بالآخر وربما أبطل أحدها فعل الاخر، وقد يقوى أحدهما ويضعف الاخر بحسب المزاج
والعادة والتأديب فالقوة العقلية بالنسبة إلى البدن كالملك بالنسبة إلى المدينة ولذلك
سميت ملكية وآلتها التي تستعملها من البدن (7) الدماغ، القوة الشهوية تسمى بهيمية وآلتها

(1) - ب: " الطريق ".
(2) - ا: " يختلف ".
(3) - ب ج " أصل الخراج ".
(4) - هذه الكلمة " في د فقط.
(5) - متحركا بالفتحة بضبط الفتحة صريحا في ا.
(6) - اعلم أن الشارح (ره)
قد اخذ ما يتعلق بالفضائل الخلقية من ههنا إلى أن ينتهى البحث عن هذا الموضوع من كتاب
طهارة الأعراق لابن مسكويه أعلى الله درجته الا ان الشارح (ره) تصرف فيه اما بتلخيص وهو
كثير واما بإضافة وهو قليل لكن المطلب هو ما ذكره ابن مسكويه حتى أن المطالب مأخوذة
غالبا بعين العبارة لكن بالتلخيص بمعنى انه أسقط بعضا من العبارة واكتفى ببعضها الاخر
في صورة إفادة المرام والا تصرف فيه بما يقتضيه المقام.
(7) - ما بين القلابين ليس في نسخ ا ج د.
19

التي تستعملها من البدن) الكبد، والقوة الغضبية تسمى سبعية وآلتها من البدن القلب وإذا
عرفت ذلك فاعلم أن اعداد الفضائل الخلقية المذكورة بحسب اعداد هذه القوى
وكذلك أضدادها التي هي رذائل
اما الحكمة الخلقية فهي من فضائل القوة العقلية وذلك انها ملكة تحصل للنفس
عن اعتدال حركتها بحيث يكون شوقها إلى المعارف الصحيحة تصدر عنها الافعال المتوسطة
بين أفعال الجربزة والغباوة، واما العفة فهي فضيلة القوة البهيمية وهي ملكة تحصل عن
اعتدال حركة هذه القوة بحسب (1) تصريف العقل العملي (و) بها تكون الافعال المتوسطة
بين (2) أفعال الحمود (3) والفجور، واما الشجاعة فهي فضيلة القوة السبعية وهي ملكة
تحصل عن (4) اعتدال هذه القوة السبعية بحسب تصرف (5) العقل فيما يقسطه لها وبها تصدر
الافعال المتوسطة بين أفعال الجبن والتهور، ثم إن هذه الفضائل الثلاث إذا نسب بعضها
إلى بعض حتى اعتدلت في الانسان حدث عنها ملكة رابعة هي تمام الفضائل الخلقية (و)
بها تكون الافعال المتوسطة بين الظلم والانظلام تسمى بالعدالة، ومن الناس من ظن أن
المراد من الحكمة ههنا هو الحكمة العملية التي تجعل قسيمة للنظرية وقد عرفت ما بينهما من
التباين من تصور حديهما. واعلم أن تحت كل واحدة من هذه الفضائل الأربع أنواعا من
الفضائل ونحن نذكرها.
اما الفضائل التي تحت الحكمة:
الأولى صفاء الذهن وهو قوة استعدادية للنفس نحو اكتساب الآراء. الثانية الفهم
وهو حسن (6) ذلك الاستعداد لتصور ما يرد عليها من غيرها والتفطن لكيفية لزومه عن المبادئ.
الثالثة الذكاء وهو شدة تلك القوة وسرعة انقداح النتائج للنفس. الرابعة الذكر وهو ثبات
ما يقتنصه العقل والوهم من التصورات والاحكام. الخامسة التعقل وهو موافقة بحث النفس

(1) - ب: " تحت ".
(2) - ا ب: " من ".
(3) - ا ج: " الجمود وكذا في شرح نهج البلاغة
راجع الفصل الثاني الذي عقده لبيان الفضائل النفسانية لأمير المؤمنين (ع) ".
(4) ا: " عند ".
(5) - في غير ا: " تعريف ".
(6) - ج د: " " حسن ".
20

عن الأشياء الموضوعة المطلوبة بقدر ما هي (1) عليه. السادسة سهولة التعلم وهي حدة في الفهم
بها يدرك الأمور النظرية.
الفضائل التي تحت العفة (2)
فالأولى الحياء وهو انحصار الروح خوف اتيان القبائح والحذر من الذم والسب
الصادق. الثانية الدعة وهي سكون النفس عند حركة الشهوات. الثالثة الصبر وهو مقاومة
النفس للهوى لئلا تنقاد لقبائح اللذات. الرابعة السخاء وهو التوسط في الاخذ والاعطاء
بانفاق المال فيما ينبغي بمقدار ما ينبغي وعلى الوجه الذي ينبغي وتحته فضائل سنذكرها إن شاء الله.
الخامسة الحرية وهي فضيلة للنفس بها يكتسب المال من وجهه ويعطى ما يجب في وجهه
ويمتنع (3) من اكتساب المال من غير وجهه. السادسة القناعة وهي التساهل في المآكل والمشارب
والزينة. السابعة الدماثة وهي حسن انقياد النفس للحمد وتسرعها للجميل. (4) الثامنة الانتظام
وهو حال للنفس يقودها إلى حسن تقدير الأمور وترتيبها على الوجه الذي ينبغي. التاسعة
الهدى وهو محبة تكميل النفس بالرتبة الحسنة. (5) العاشرة المسالمة وهي موادعة للنفس (6)
عن ملكة لا اضطراب فيها. الحادية عشر الوقار وهو ثبات النفس عند الحركات في تحصيل
المطالب. الثانية عشر الورع وهو لزوم الأعمال الجميلة محبة لتكميل النفس.
الفضائل التي تحت الشجاعة
الأولى كبر النفس وهو الاستهانة باليسار (7) والاقتدار على حمل الكرامة والهوان
واعداد النفس للأمور العظيمة مع تأهلها لها. الثانية عظم الهمة وهي فضيلة للنفس تحتمل
معها سعادة الجد وضدها حتى الشدائد التي تكون عند الموت ومقاومتها (8) وفى

(1) - ا: " تبنى عليه ".
(2) - هذا العنوان لم يذكر في نسخة ا بل عد فيها الفضائل بعدد ترتيبي بلا فصل.
(3) - ا ب: " يمنع ".
(4) - في طهارة الأعراق لابن مسكويه: " واما الأمانة
فهي حسن انقياد النفس لما يجمل وتسرعها إلى الجميل ".
(5) - في الطهارة: " بالزينة الحسنة "
(6) - في الطهارة: " موادعة تحصل للنفس ".
(7) - في الطهارة: " باليسير ".
(8) - ا: " ومفارقتها ".
21

الأهوال (1) الثالثة النجدة وهي ثقة النفس في المخاوف وعدم مخامرة الجزع لها. الرابعة الحلم وهو
فضيلة للنفس تكسبها (2) الطمأنينة فلا تكون شغبة ولا يحركها الغضب بسهولة وسرعة. الخامسة
الثبات وهو قوة للنفس تكسبها سكونا يعسر معه الحركة عند الخصومات في الحروب التي
يذب بها عن الحريم والشريعة لشدتها. السادسة عدم الطيش وهو نفس عسر تلك الحركة
لوجود ملكة ذلك السكون. السابعة الشهامة وهي الحرص على الأعمال العظيمة توقعا
للأحدوثة الجميلة. الثامنة احتمال الكد وهو قوة تستعمل آلات البدن بالتمرن وحسن العادة
في الأمور الحسنة (3)
الفضائل التي تحت السخاء:
فالأولى الكرم وهو انفاق المال الكثير بسهولة من النفس في الأمور الجليلة القدر الكثيرة
النفع كما ينبغي. الثانية الايثار وهو فضيلة للنفس بها يبذل الانسان (4) بعض حاجاته التي
تخصه لمن يستحقها. الثالثة النبل وهو سرور النفس بالافعال العظيمة وابتهاجها بلزوم هذه
السريرة (5) الرابعة المواساة وهو معاونة الأصدقاء والمستحقين ومشاركتهم في الأموال
والأقوات بالإرادة والاختيار. الخامسة السماحة وهي بذل بعض ما لا يجب بذله كذلك.
الفضائل التي تحت العدالة:
الأولى الصداقة وهي محبة صادقة يعتنى (6) معها بجميع أسباب الصاحب (7) وايثار
فعل الخيرات التي بها تكون المحبة. الثانية الألفة وهي اتفاق الآراء عن التواصل فينعقد
عندها التظافر على تدبير المعاش (8). الثالثة صلة الرحم وهي مشاركة ذوي اللحمة في

(1) - ج: " في الأحوال " (بلا واو أيضا قبل في). وعبارة طهارة الأعراق بعد: عند الموت:
" واما الثبات فهو فضيلة للنفس تقوى بها على احتمال الآلام ومقاومتها وفى الأهوال خاصة ".
(2) - في الطهارة: " تكسب بها ".
(3) - في الطهارة " الحسية ".
(4) - في الطهارة: " بها يكف الانسان عن ".
(5) - في الطهارة: " السيرة ".
(6) - في الطهارة: " يهتم ".
(7) - كذا في النسخ وفى الطهارة: " الصديق ".
(8) - في الطهارة: " تدبير العيش ".
22

الخيرات الدنياوية. الرابعة المكافأة وهي مقابلة الاحسان بمثلة أو بزيادة عليه. الخامسة
حسن الشركة وهي الاخذ والاعطاء في المعاملات على الاعتدال الموافق للجميع. السادسة
حسن القضاء وهي المجازاة بغير من ولا ندم. السابعة التردد وهو طلب مودات الأكفاء
وأهل الفضل بالاعمال التي تستدعى ذلك منهم. الثامنة العبادة وهي الخضوع لله وتعظيمه
وتمجيده واكرام أوليائه من الملائكة والنبيين والأئمة والصالحين، والعمل بمقتضى الشريعة
مكمل لهذه الأشياء وإذا عرفت هذه الأجناس وما تحتها من الفضائل فينبغي ان تعلم أن
كل جنس منها مقابل بجنس من الرذيلة. ومحتوش (1) برذيلتين هما طرفا الافراط والتفريط
وهو وسط لهما اما المقابلات فالجهل مقابل للحكمة، والشره مقابل للعفة، والجبن مقابل
للشجاعة، والجور مقابل للعدالة، والمراد ههنا تقابل التضاد.
واما الرذائل المحتوشة لهذه الأجناس فالحكمة (2) محتوشة برذيلتين إحداهما البله وهو
جانب التفريط منها ونعني به ههنا تعطيل القوة الفكرية واطراحها ويسمى الغباوة الثانية
السفة وهو طرف الافراط منها ونعني به استعمال تلك القوة فيما لا ينبغي وتسمى الجربزة،
واما العفة (3) فمحتوشة برذيلتين كذلك اما رذيلة التفريط فيسمى خمود (4) الشهوة ونعني
به سكون النفس عن اللذة الجميلة التي تحتاج إليها لمصالح البدن مما رخصت فيه الشريعة
أو العقل واما رذيلة الافراط فتسمى شرها ونعني به الانهماك في اللذات والخروج فيها إلى

(1) - هو اسم مفعول من: " احتوش القوم فلانا أي جعلوه في وسطهم ".
(2) - نص عبارة
طهارة الأعراق هكذا: " اما الحكمة فهي وسط بين السفه والبله واعنى بالسفه استعمال القوة
الفكرية فيما لا ينبغي وكما لا ينبغي وسماه القوم الجربزة واعنى بالبله تعطيل هذه القوة واطراحها
وليس ينبغي ان يفهم ان البله ههنا نقصان الخلقة بل ما ذكرته من تعطيل القوة الفكرية
بالإرادة ".
(3) - نص عبارة طهارة الأعراق هكذا: " واما العفة وسط بين رذيلتين
وهما الشره وخمود الشهوة وأعنى الشره الانهماك في اللذات والخروج فيها عما ينبغي وأعنى
بخمود الشهوة السكون عن الحركة تسلك نحو اللذة الجميلة التي يحتاج إليها البدن في ضروراته
وهي ما رخص فيها صاحب الشريعة والعقل ".
(4) - ا: " جمود " (بالجيم).
23

ما لا ينبغي، واما الشجاعة فرذيلة التفريط منهما الجبن وهو الخوف مما لا ينبغي ان يخاف
منه واما رذيلة الافراط فالتهور وهو الاقدام على مالا ينبغي ان يقدم عليه واما العدالة
فرذيلة التفريط منها الانظلام وهو الاستجابة والاستجداء (1) في المقتنيات لمن لا ينبغي وكما
لا ينبغي اما رذيلة الافراط فهو الظلم وهو التوصل إلى كثرة المقنيات من حيث لا ينبغي
كما لا ينبغي فهذه أطراف الرذائل والأوساط منها هي أجناس الفضائل، وإذا عرفت الرذائل
المحتوشة لهذه الأجناس أمكنك ان تعرف الرذائل المحتوشة لأنواعها والمقابلة لها أعني طرفي
الافراط والتفريط من نوع تلك الفضيلة التي هي الوسط وذلك بان تنظر إلى حد تلك
الفضيلة وتعتبر الزيادة عليه والنقصان عنه وقد عرفت انه هو الوسط الذي ينبغي فتعرف
ان الزيادة عليه والتجاوز لحده مما لا ينبغي وهو طرف الافراط وان النقصان عنه
والوقوف دونه مما لا ينبغي وهو طرف التفريط وهما رذيلتان بالنسبة إلى الفضيلة التي هي
وسط لهما وتارة تجد لتلك الأطراف أسماء بحسب اللغة وتارة لا تجد فهذه هي الإشارة إلى
أصول الفضائل والرذائل الخلقية وتعريف أقسامها.
تنبيه - اعلم أن مبدأ هذه العلوم أعني اقسام الحكمة النظرية والعملية مستفاد من
الشريعة الإلهية وذلك لان المقصود من بعثة الرسل إلى الخلق إنما هو ارشادهم إلى النهج (2)
الصواب والطريق الأصلح في اكتساب العلوم والأعمال ولما كانت مناهج الأعمال محصورة
في هذه الأقسام وجب أن تكون غاية بعثة الرسل تعريف مبادئ هذه العلوم وتعريف
كمالاتها وما تؤدى إليه على الوجه الكلى وضبط هذه الأوامر والنواهي بقوانين كلية لا تخص
زيدا دون عمر ولان ذلك مما يزول بزوال الاشخاص والمقصود بقاء ذلك الارشاد ويجب
على سائر الخلق تعلم تلك القوانين في الصور الشخصية والوقائع الجزئية وكذلك مبادئ

(1) - في الطهارة: " واما الانظلام فهو الاستحذاء والاستحانة في المقتنيات لمن لا ينبغي وكما
لا ينبغي ولذلك يكون ابدا للجائر أموال كثيرة لأنه يتوصل إليها من حيث لا يجب ووجوه
التوصل إليها كثيرة واما المنظلم فمقتنياته وأمواله يسيرة جدا لأنه يتركها من حيث يجب ". (إلى آخر ما فيه من التحقيق المفيد فمن اراده فليطلبه من هناك).
(2) - ج د: " نهج ".
24

العلوم النظرية هي مستفادة من أرباب الشرائع على سبيل التنبيه وإن كان تحصيل كمالها
بالقوة العقلية على سبيل الحجة ثم إن الكمالات الانسانية محصورة في هاتين (1) المرتبتين
من الكمال العقلي والعملي والتنزيل الإلهي ناطق بذلك قال الله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم
عليه السلام: رب هب لي حكما والحقني بالصالحين (2) فالحكم تكميل القوة النظرية،
والالحاق (3) بالصالحين تكميل القوة العملية، وقال خطابا لموسى (4) عليه السلام: فاستمع لما
يوحى انني انا الله لا اله الا انا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى (5) فالتوحيد كمال القوة النظرية
والعبادة كمال القوة العملية وقال حكاية عن عيسى عليه السلام: انى عبد الله آتاني الكتاب
وجعلني نبيا (6) فالاعتراف بكمال العبودية لله يستلزم كمال قوته النظرية بمعرفة الله وقال
بعده وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (7) إشارة إلى كمال القوة العملية وقال خطابا
مع محمد صلى الله عليه وآله: فاعلم أنه لا إله إلا الله (8) وذلك إشارة إلى كمال القوة النظرية
وقال بعده: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات (9) وهو إشارة إلى كمال القوة العملية
فقد تطبق لسان الوحي ولسان الحكمة على أن الكمال الانساني محصور في العلم والعمل
وبالله التوفيق.
الفصل الثالث
في أحوال النفس بعد المفارقة، وفيه أبحاث:
البحث الأول
في أن النفس باقية بعد خراب البدن
برهانه ان كل حادث بعدان لم يكن فلامكان حدوثه قابل لست (10) أعني الامكان

(1) - ا ب: " هذين ".
(2) - آية 83 سورة الشعراء.
(3) - ا: " والحقان " ب: " واللحاق "
(4) - ا ب: " مع موسى ".
(5) - ذيل آية 13 وتمام آية 14 سورة طه.
(6) - آية 30 سورة مريم.
(7) - آية 31 سورة مريم.
(8) - من آية 19 سورة محمد.
(9) - من آية 19 سورة محمد.
(10) - ج د: " لشئ ".
25

اللازم للماهية الحادث بل الاستعداد التام لقبول صورته كما تقرر في غير هذا الموضع فلو
صح العدم على النفس لوجب أن يكون لامكان عدمها محل وليس هو النفس لوجوب
بقاء القابل عند وجود المقبول واستحالة بقائها عند تحقق عدمها فلابد من محل آخر هو
المادة فلو طرأ عليها العدم لكانت في مادة وقد فرضت مجردة هذا خلف واما تقرير هذه
المقدمات وبيان كون النفوس متحدة بالنوع وحادثة وبيان بطلان التناسخ فمذكور
في المطولات.
البحث الثاني
في بيان ماهية السعادة والشقاوة
ونعني بالسعادة الحالة التي تحصل لذوي الخير والكمال من جهتهما بالشقاوة
الحالة التي تكون لذوي الشر والآفة من جهتهما واعلم أن المشهور ان السعادة هي اللذة
وان الشقاوة هي الألم ثم إن من لم يترق عن حيز البهائم من العوام اعتقدوا انها
المحسوسة بالحس الظاهر فقط (1) وربما ترقى بعضهم إلى أن اعتقد ان هناك لذة والما يدرك
بمدارك أخرى الا انهم ربما أنكروا ثبوتها في نفس الامر ونسبوها إلى خيالات غير حقيقية

(1) - أصل هذا البيان مأخوذ مما ذكره ابن سيناء في أول النمط الثامن من كتاب الإشارات
ونص عبارته: " وهم وتنبيه - انه قد يسبق إلى الأوهام العامية ان اللذات القوية المستعلية
هي الحسية وان ما عداها لذات ضعيفة وكلها خيالات غير حقيقية وقد يمكن ان ينبه من جملتهم
من له تميز ما فيقال له: أليس الذ ما يصفونه من هذا القبيل هو المنكوحات والمطعومات
وأمور يجرى مجراها وأنتم تعلمون ان المتمكن من غلبة ما ولو في أمر خسيس كالشطرنج والنرد
قد يعرض له مطعوم ومنكوح مع صحة جسمه في صحبة حشمه (إلى آخر ما قال فمن اراده فليطلبه
من هناك، وقال أيضا بعده بلا فاصلة) تذنيب - فلا ينبغي لنا ان نستمع إلى قول من يقول:
انا لو حصلنا على جنة لا نأكل فيها ولا نشرب فيها ولا ننكح فاية سعادة لنا؟! والذي يقول
هذا فيجب ان يبصر ويقال له: لعل الحال التي للملائكة وما فوقها ألذ وأبهج وأنعم من حال
الانعام بل كيف يمكن أن يكون لأحدهما إلى الاخر نسبة يعتد بها " ومن طلب التفصيل
فليراجع شروح الإشارات.
26

وربما استحقروها بالنسبة إلى الحسية وهم مقابلون على غلطهم بأمرين:
أحدهما - ان لذة الغلبة ولو في أمر خسيس كالشطرنج والنرد قد تؤثر على أتم
اللذات الحسية مع الحاجة إليها وكل ما يؤثر على غيره مع امكانه فهو أقوى فلذة الغلبة
في أحد الأمور الخسيسة أقوى وأتم من اللذات الحسية وكذلك ألم الانقهار عند التفطن
والاعتبار والمقدمة الأولى وجدانية والثانية أولية.
الثاني - حال الملك أتم وأطيب من حال البهيمة وهو ضروري مع أن الملك فاقد
اللذات الحسية فلو كانت اللذة هي الحسية فقط لكانت البهيمة أتم وأسعد من الملك
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن اللذة هي ادراك لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث
هو كذلك ولا شاغل ولا مضاد للمدرك (1) وشرح هذا الرسم اما الادراك فقد عرفته وإنما
قيدناه بالوصول (2) لان اللذة ليست ادراك اللذيذ بل ادراك وصول اللذيذ وحصوله
وإنما قلنا ما هو عند المدرك كمال وخير ولم نعتبر ما هو في نفس الامر كذلك لما ان الشئ قد
يكون كمالا وخيرا في نفس الامر والمدرك لا يعتقد كماليته وخيريته فلا يلتذ به وقد لا يكون
كذلك وهو يعتقد انه كذلك فيلتذ به فالمعتبر إذا ما يكون بالقياس إلى المدرك لاما في
نفس الامر وإنما كان ذلك الوصول كمالا وخيرا باعتبارين لان الشئ الذي من شأنه ان
يناسب المدرك ويليق به له اعتباران: أحدهما كون حصوله مخلصا من النقصان والقوة وبهذا

(1) - مأخوذ مما ذكره ابن سيناء في أوائل النمط الثامن من كتاب الإشارات بهذا العبارة: " تنبيه - ان اللذة هي ادراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك
والألم ادراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشر ".
(2) - يطابق العبارة ما ذكره المحقق
الطوسي (ره) ضمن شرح هذا التعريف ونص عبارته: " وإنما قال لوصول ما عند المدرك ولم يقل
لما هو عند المدرك لان اللذة ليست هي ادراك اللذيذ فقط بل هي ادراك حصول اللذيذ للملتذ
ووصوله إليه وإنما قال ما هو عند المدرك كمال وخير لان الشئ قد يكون كمالا وخيرا بالقياس
إلى شئ وهو لا يعتقد كماليته وخيريته فلا يلتذ به وقد لا يكون كذلك وهو يعتقد فيلتذ به فالمعتبر
كماليته وخيريته عند المدرك لافى نفس الامر " (إلى آخر ما قال فمن اراده فليطلبه من هناك).
27

الاعتبار كان كمالا والثاني كونه مؤثرا وبهذا الاعتبار كان خيرا وإنما قلنا: من حيث هو
كذلك، لان الشئ قد يكون كمالا وخيرا من جهة دون جهة واللذة بالشئ إنما يكون
من جهة كونه كمالا وخيرا فلذلك وجب ذكرها، وإنما قلنا: ولا شاغل لان اللذيذ قد يصل
ولا يلتذ به لوجود الشاغل كما في حق الممتلئ من الطعام جدا إذ لا يلتذ بما يحضره من طعام،
وقولنا: ولا مضار لان الذي قد يصل ولا يلتذ به لوجود ضده كما في عليل المعدة ومن
تغيرت عذوبة رطوبة ذوقه بغلبة المرارة فان الحلو يصل إليه فلا يلتذ به وإذا عرفت معنى
اللذة عرفت ان الألم ما يقابلها وهو ادراك لوصول ما هو عند المدرك آفة وشر من حيث
هو كذلك ولا شاغل ولا مضاد للمدرك وشرح هذا الرسم بين من الأول.
البحث الثالث
في اثبات اللذة العقلية للنفوس الانسانية
لاشك ان للجوهر العاقل منا كمالا (1) وهو ان يتمثل فيه جلية (2) الحق الأول
بقدر ما يستطيعه إذ تعقل الأول كما هو غير ممكن الا له (تعالى) ثم ما يتجلى له من صور
معلولاته المرتبة إلى آخر الوجود تمثلا يقينيا بريئا عن شائبة الظنون خالصا عن مخالطة
الأوهام على وجه لا يكون بين ذات العاقل وبين ما يتمثل فيها تمايز أصلا بل يصير عقلا

(1) - مأخوذ مما ذكره ابن سيناء في النمط الثامن من كتا ب الإشارات ونص عبارته: " تنبيه -
كل مستلذ به فهي سبب كمال يحصل للمدرك وهو بالقياس إليه خير ولا شك في أن الكمالات
وادراكاتها متفاوتة (إلى أن قال) وكمال الجوهر العاقل ان يتمثل فيه جلية الحق الأول قدر
ما يمكنه ان ينال منه ببهائه الذي يخصه ثم يتمثل فيه الوجود كله على ما هو عليه مجردا
عن الشوب مبتدءا فيه بعد الحق الأول بالجواهر العقلية العالية ثم الروحانية السماوية والاجرام
السماوية ثم بعد ذلك تمثلا لا يمايز الذات فهذا هو الكمال الذي يصير به الجوهر العقلي
بالفعل (إلى أن قال) فنسبة اللذة العقلية إلى الشهوانية نسبة جلية الأول وما يتلوه إلى نيل
كيفية الحلاوة (إلى آخر ما قال) ".
(2) - نذكر معنى الجلية عن قريب في موضع انسب
إن شاء الله تعالى.
28

مستفادا على الاطلاق ولا شك ان هذا الكمال خير بالقياس إليه ثم لاشك انه مدرك
لهذا الكمال والخير ولحصوله له فإذا هو ملتذ به وهي اللذة العقلية وأنت بعد المقايسة بين
هذه اللذة واللذة الحيوانية تجد العقلية أشرف من الحسية وأقوى في الكيفية وأكثر (1) في الكمية اما انها أشرف فلان المدرك بالعقل ذات الله تعالى وصفاته وملائكته
وكيفية وضع العالم الاعلى والأسفل والمدرك بالحسن سطوح الأجسام وعوارضها وإذا كانت
المدركات العقلية أكمل وأعلى كان الابتهاج بوصولها أشرف وأسنى، واما انها أقوى كيفية
فلان الادراك العقلي ينفذ في باطن الشئ ويميز بين الماهية واجزائها ولواحقها ويميز بين
الجزء الجنسي والفصلي ثم يعتبر ذلك التمييز في كل جزء جزء واما الحس فلا شعور له
الا بظاهر المحسوس، واما انها أكثر كمية فلان عدد الأمور المعقولة لا يكاد يتناهى وذلك أن
أجناس الموجودات وأنواعها والمناسبات الحاصلة بينها غير متناهية واما الحس فان
مدركاته محصورة في أجناس قليلة وان تكثرت فبالأشد والأضعف كالسوادين المختلفين
في الحلوكة وإذا كانت الكمالات العقلية أقوى وأكثر وادراكاتها أتم كانت اللذة التابعة
لها أشد لان فرقان ما بين اللذتين فرقان ما بين الكمال والادراكين فإذا اللذة العقلية أتم
وأشرف من الحسية بل لا نسبة بينهما، لا يقال: لو كانت المعقولات كمالات للنفس الانسانية
لوجب اشتياقها إلى حصولها ولتألمت بحصول أضدادها لكن التالي باطل فالمقدم باطل.
اما بيان الملازمة فلان كل قوة فإنها تشتاق إلى كمالاتها المستلزمة للذاتها وتتألم
بحصول أضدادها كالباصرة فإنها تشتاق إلى النور وتتألم بالظلمة، واما بطلان التالي
فظاهر لأنا نقول: الملازمة ممنوعة فان الاشتياق لا يجب الا بشرط عدم سبب عدمه لكن
سبب عدمه هنا موجود وهو ان النفوس ما دامت في هذا البدن فهي مشغولة بالمحسوسات
والعلائق الجسمانية فيمنعها ذلك عن الالتفات إلى المعقولات ويصرف وجوهها عن الاقبال
عليها وما لم يقبل عليها لم يحصل لها ذوق فإذا لا يكون لها إليها شوق واما أضدادها فلاستمرارها

(1) - ب: " أكبر ".
29

في الوجود وعدم تجددها أو اشتغال النفس بغيرها لم تكن مدركة لها فلم تتألم بحصولها.
البحث الرابع
في درجات السعداء والأشقياء
أحوال النفوس الانسانية في السعادة والشقاوة اما ان تعتبر في القوة النظرية بحسب
العقائد أو في القوة العملية بحسب الأعمال، وعلى التقديرين فالنفس اما أن تكون موصوفة
بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة أو بأضدادها وهي العقائد الباطلة والأخلاق المسترذلة
أو موصوفة بالاعتقادات الحقة والأخلاق الردية أو بالعكس أو خاليه عن أحدهما أو
عنهما معا فهذه تسعة أقسام: اما القسم الأول فالاعتقادات الحاصلة اما أن تكون برهانية أو لا تكون فإن كان
الأول فاعلي هذه الدرجة نفس شاهدت العالم المعقول وانتقشت بنقوش الجلايا (1)
القدسية وصارت عقلا مستفادا وبعد وقوفك على مراتب الاستعداد للانتقال إلى المعقولات
الثانية (2) تعرف تلك الدرجات وهؤلاء هم أولياء الله الأبرار وهم في الغرفات آمنون وإن كان
الثاني فهي درجة أصحاب التقليد ولهم عذاب يخصهم بسبب انهم علموا باكتساب
ما ان لهم كمالا ما فحصل لهم شوق بحسبه ولم يصلوا إلى ما اشتاقوا إليه من ذلك الكمال
لنقصان اكتسابهم النظري وقصورهم عن الوصول، وتفاوت ذلك العذاب بحسب تفاوت
ذلك الشوق وهو عذاب منقطع ويصلون عنه إلى سعادة تخصهم بحسب ادراكهم لما
تصوروه من الكمال.

(1) - قال ابن سينا في النمط السابع من الإشارات ما نصه: " " تذنيب - فيظهر لك من هذا
ان كل ما يعقل فإنه ذات موجودة يتقرر فيها الجلايا العقلية تقرر شئ في شئ " قال المحقق
الطوسي (ره) في شرحه على الإشارات ضمن شرح العبارة الثانية ما نصه " والجلية في اللغة وهو الخبر
اليقين وإنما عبر عن المعقولات بالجلايا لأنها الصور المطابقة لذوات تلك الصور بالقين. "
(2) - ا: " الثابتة ".
30

واما القسم الثاني وهو النفوس الموصوفة بالاعتقادات الباطلة والأخلاق الردية
فتلك الأمور اما أن تكون راسخة فان كانت راسخة فهي التي يدوم بها العذاب لان الجهل
المركب مضاد لليقين فإذا كان متمكنا من جوهر النفس اعتقدت حينئذ انه كمالها ورجت
الوصول إلى ما تمثل (1) فيها انه كمالها المسعد (2) وكانت لا محالة بعد الموت منقطعة بفقدان
مارجته فتصير معذبة بعدم الوجدان لما كانت راجية له فيدوم بدوام الجزم بصحة ذلك
وان كانت غير راسخة فلهم عذاب منقطع لكون الهيئات الحاصلة لهم بسبب الاشتغال بالمضاد
حالات غير متمكنة من تلك النفوس ولا مستحكمة فيها أو لأنها مستفادة من أحوال
وأمزجة فتزول بزوالها.
واما القسم الثالث وهي الموصوفة بالاعتقادات الحقة والأخلاق الردية فتلك
الاعتقادات ان كانت برهانية فالنفوس بها سعيدة الا ان تلك السعادة مكدرة بعذاب
يحصل من تلك الأخلاق الردية الا انه زائل بزوال تلك الأخلاق اما لأنها غير راسخة
أو لكونها مستفادة من الأمزجة فتزول بزوالها.
القسم الرابع - وهي النفوس الموصوفة بالاعتقادات الباطلة والملكات الفاضلة
وعذابها دائم ان كانت تلك الاعتقادات راسخة ومنقطع ان كانت غير راسخة والعلة ما سبق.
القسم الخامس - النفوس الخالية عن الاعتقادات الحقة والباطلة الموصوفة بالأخلاق
الفاضلة كنفوس كثير من البله، والذي عليه ظاهر نظر المحققين انها بعد المفارقة لا يكون لها
عذاب بسبب خلوها عن أسباب العذاب فإذا هي في سعة من رحمة الله وهذا مطابق للإشارة
النبوية: أكثر أهل الجنة البله، وإن كان ذلك ليس تمام المراد من الإشارة، ثم لا يجوز عندهم
ان يتعطل عن الادراك إذ لا تعطل (3) في الوجود ولا يمكن ان يدرك الا بآلة جسمانية فذهب
بعض الحكماء إلى جواز تعلقها باجرام أخرى فلكية (4) ضربا من التعلق لاعلى سبيل انها
نفوس لتلك الاجرام مدبرة لها فان ذلك غير ممكن بل قد تستعمل تلك الاجرام

(1) -: " يمثل ".
(2) - ا ج د: " المستعد ".
(3) - ب ج د: " معطل ".
(4) - ا: " ملكية ".
31

فتعدها (1) لامكان التخيل ثم تتخيل الصور التي كانت معتقدة عندها فان كانت إنما تتخيل
الخير شاهدت الخيرات الأخروية على حسب ما كانت تتخيله (2) والا فشاهدت العقاب والشر
وبعضهم جوز أن تكون الاجرام متولدة من الهواء والأدخنة ثم جوزوا بعد ذلك أن
يكون ذلك التعلق مفضيا (3) لاستعدادهم للكمال المسعد (4) وهذه المواضع غامضة وطريق
الجزم فيها صعب نسأل الله تعالى الهداية إلى سواء السبيل.
القسم السادس - النفوس الخالية عن الاعتقادات الموصوفة بالأخلاق الردية ولهم
بعد المفارقة عذاب بسبب شوقهم إلى ما فارقوه من اللذات الجسمانية وعدم تمكنهم منها،
ويتفاوت ذلك العذاب بحسب تفاوت ذلك الشوق وبحسب شدة تمكن الهيئات البدنية
من نفوسهم وضعفها وربما حكم ههنا بان ذلك الشوق ينقطع ويكون حكم هؤلاء بعده
حكم الذين قبلهم.
القسم السابع - النفوس الموصوفة بالاعتقادات الخالية عن الأخلاق كنفوس كثيرا
من الزهاد المنقطعين في رؤس الجبال وفى البراري فتلك الاعتقادات ان كانت برهانية فلهم سعادة تامة هي في التمام دون مرتبة أهل القسم الأول ان كانوا فاقدين للملكات الفاضلة
الخلقية المعدة للكمال الأتم، وان كانت تقليدية فحكمهم حكم المقلدين في القسم الأول ولعل
للأولين زيادة شرف بسبب الأخلاق الفاضلة.
القسم الثامن - النفوس الموصوفة بالاعتقادات الباطلة الخالية عن الأخلاق فتلك الاعتقادات ان كانت راسخة دام بها العذاب والعلة ما سبق، وان كانت غير راسخة دام بها
العذاب ريثما (5) يبقى ثم نقطع بانقطاعها، ولعل هذه النفوس بعد ذلك تلحق بنفوس البله
لعدم عرفانها بكمالاتها وعدم اشتياقها إليها.
القسم التاسع - النفوس الخالية عن الاعتقادات والأخلاق بالكلية وهي كالنفوس

(1) - ا يبعدها ".
(2) - ب ج د: " متخيلة ".
(3) - ج د: " مقتضيا ".
(4) - ب ج د: " المستعد ".
(5) - ج د: " زين ما " وهو قطعا مصحف: " ريث ما ".
32

الهيولانية التي للأطفال، وليس للحكماء فيها مذهب ظاهر الا ان الأليق بحال أصولهم ان - يلحقوها بالنفوس الساذجة كنفوس البله ويكون حكمها حكمها، والله أعلم.
الفصل الرابع
في الإشارة إلى بعض أحوال السالكين إلى الله تعالى
والواصلين من أبناء النوع الانساني
وفيه أبحاث:
البحث الأول
في بيان مسمى الزاهد والعابد والعارف
لما كان الكمال الذاتي للطالبين إنما هو شروق نور الحق في اسرارهم وكان الطالب
لأمر عند توفيقه للطلب لابد وان يعرض عما يعتقد انه يبعده عن المطلوب ثم يقبل
ويواظب على ما يعتقد انه يقربه إلى المطلوب ثم بعد ذلك يصل إلى المطلوب لاجرم لزم
طالب ذلك الكمال في ابتداء امره ان يعرض عما يشغله عن المطلوب (1) من متاع الدنيا
وطيباتها، وصاحب هذا الاعراض يختص (2) باسم الزاهد (3)، ثم يلزمه ان يواظب على ما
يعتقد انه مقرب إلى الحق من أفعال مخصوصة هي العبادات كالصيام والقيام وبهذا الاعتبار
يختص (4) باسم العابد، فإذا وجد الحق فأول درجات وجدانه هو المعرفة وحينئذ يختص (5)

(1) - ب ج د: " عن الطلب " (2) - ب ج د: " يخص " (3) - اعلم أن هذه التعريفات مأخوذة
من الشفاء لابن سينا (انظر أوائل النمط التاسع الذي في مقامات العارفين) ونص عبارته هناك هكذا:
(تنبيه - المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد، والمواظب على فعل
العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد، والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت
مستديما لشروق نور الحق في سره يخص باسم العارف، وقد يتركب بعض هذه مع بعض ".
4 و 5 - ب ج د: " يخص ".
33

باسم العارف، وقد يتركب بعض هذه الأحوال مع بعض تركبا ثنائيا وثلاثيا فالأول زاهد
عابد، زاهد عارف، عابد عارف، واما الثاني فتركب (1) واحد.
البحث الثاني
في أنه كيف يكون الزهد والعبادة مؤديين إلى المطلوب الذاتي
الزهد والعبادة من الأمور المتممة لأغراض المعنى المسمى بالرياضة فلنبين أولا معنى
الرياضة وكيفية تأديها (2) إلى المطلوب، اما الرياضة في اللغة فهي تمرين البهيمة على الحركات
التي ترتضيها (3) الرائض بحسب مقتضى اغراضه وتعويدها بها، ويستلزم ذلك منعها عن
الحركات التي لا ترتضيها، ولما كانت النفس الحيوانية التي هي مبدأ الادراكات والحركات
الحيوانية قد لا تكون مطيعة للنفس العاقلة بأصل جبلتها لاجرم كانت بمنزلة البهيمة التي
لم ترض، تقودها الشهوة تارة والغضب أخرى بحسب إثارة الوهم والمتخيلة لهما عما يتصورانه
إلى ما يلائمها فتتحرك حركات مختلفة حيوانية بحسب اختلاف تلك الدواعي فتستخدم
حينئذ القوة العاقلة في تحصيل اغراضها فتكون هي الامارة بالسوء، أما إذا قويت النفس
العاقلة على قهر تلك القوة ومنعها عن الحركات والافعال الباعثة للقوة الشهوية والغضبية
وطوعتها بحسب ما يقتضيه العقل العملي إلى أن تصير متأدبة في خدمتها مؤتمرة بأوامرها منتهية
عن مناهيها كانت العاقلة هي المطمئنة التي تصدر عنها الافعال المنتظمة وكانت باقي القوى
بأسرها مؤتمرة مستخدمة متسالمة (4 منقادة، ثم إن بين كون هاتين القوتين غالبة ومغلوبة
مطلقا حالة تكون القوة الحيوانية فيها متابعة لهواها خارجة عن طاعة القوة العاقلة ثم تفئ
إلى الحق وتلوم نفسها على ذلك الانهماك فتسمى لوامة، والى القوى الثلاث أشير في الكتاب
العزيز، ان النفس لامارة بالسوء (5) يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك (6) ولا أقسم

(1) - ب ج د: " فتركيب ".
(2) - ج ب: " تأديتها ".
(3) - ا: " ترضيها ".
(4) - ب: " مسالمة ج د: " سالمة ".
(5) - وسط آية 53 سورة يوسف.
(6) - آية 27 و 28 سورة الفجر.
34

بالنفس اللوامة (1) فإذا الرياضة ههنا نهى النفس عن هواها وأمرها بطاعة مولاها، واليهما
أشير في التنزيل الإلهي: واما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (2) واما متمماتها
فإنه لما كان الغرض الأصلي منها هو نيل الكمال الحقيقي، وكان ذلك النيل موقوفا على
حصول الاستعداد له، وكان ذلك الاستعداد مشروطا بزوال الموانع، وكانت الموانع داخلية
وخارجية كان ذلك الغرض مستلزما لأمور ثلاثة (3):
أحدها - إزالة ما عدا الحق الأول تعالى عن الوجهة المقصودة ازاحته عن سواء
السبيل وهي الموانع الخارجية.
الثاني - تطويع النفس الامارة للنفس المطمئنة لينجذب الخيال والوهم إلى
الجنبة (4) العالية مستتبعين لسائر القوى الحيوانية وهي الموانع الداخلية.
الثالث - اعداد النفس لان يتمثل فيها (5) الجلايا القدسية بسرعة.
ثم لما كان بهذه الأغراض متممات وأمور تعين عليها لاجرم كان الزهد الحقيقي مما يعين
على الغرض الأول، والعبادات الشرعية مما يعين على الغرض الثاني وذلك هو الغرض منها.

(1) - آية 2 سورة القيامة (2) - آية 40 سورة النازعات.
(3) - هذه الأمور مأخوذة من النمط
التاسع من كتاب الشفاء ونص عبارته هناك: " إشارة - ثم إنه ليحتاج إلى الرياضة، والرياضة
متوجهة إلى ثلاثة اغراض، الأول تنحية ما دون الحق عن متن الايثار، والثاني تطويع النفس
الامارة للنفس المطمئنة لتنجدب قوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للامر القدسي
منصرفة عن التوهمات المنصرفة للامر السفلى، والثالث تلطيف السر للتنبيه، والأول يعين عليه
الزهد الحقيقي، والثاني يعين عليه عدة أشياء، العبادة المشفوعة بالفكرة ثم الألحان المستخدمة
لقوى النفس الموقعة لما لحن به من الكلام موقع القبول من الأوهام، ثم نفس الكلام الواعظ
من قائل زكى بعبارة بليغة ونغمة رخيمة وسمت رشيد، واما الغرض الثالث فيعين عليه الفكر
اللطيف والعشق العفيف الذي يأمر فيه شمائل المعشوق ليس سلطان الشهوة " فلله در الشارح
قدس سره فإنه اعرض عن الإشارة إلى العشق ولو كان عفيفا فضلا عن الخوض فيه.
(4) ج د: " الجنة " (بتشديد النون).
(5) - ا " منها ".
35

بيان الأول ان الزهد الحقيقي (1) هو اعراض النفس عما يشغل سرها عن التوجه
إلى (2) القبلة الحقيقية وظاهر كونه معينا على الغرض الأول، واما كون المواظبة على العبادات
معينا على الغرض الثاني فظاهر أيضا لأنها رياضة ما لقوى العابد العارف المدركة والمحركة
لتجرها بالتعويد عن الجنبة السافلة إلى جناب (3) القدس (4) وكسر الهمة المتعلقة بما يضاد
الكمال الذاتي، وإنما اعتبرنا الزهد الحقيقي دون الظاهري لان الاعراض عن المشتهيات
البدنية إذا كان بحسب الظاهر فقط مع ميل القلب إليها لم ينتفع به لقوله صلى الله عليه وآله
ان الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم، نعم وإن كان لابد للسالك
في مبدء الامر من الزهد الظاهري لان الزهد الحقيقي مشروط به أولا وقد اتفق على أن:
الرياء قنطرة الاخلاص، واما العبادات فأجملها (5) ما كان مشفوعا بالفكر المناسب وفائدة
ذلك أن الغرض من العبادة تذكر المعبود الحق والمجردين (6) من الملائكة وذلك مما
لا يتأتى الا بالفكر فلا جرم وجوب كونها مشفوعة به، وإن كان لتلك الأغراض متممات اخر
ومعينات كالكلام الواعظ من قائل زكى معتقد فيه، والألحان المناسبة البريئة عن التعود
بمخالطة اللذات الخسيسة، وعن الايقاع في مجالس الأنذال واجتماعاتهم لقبيح ما يفعل، وغير
ذلك مما هو مذكور في مظانه فقد لاح لك حينئذ الغرض من الزهد والعبادة وكيفية
تأديهما إلى المطلوب الأصلي.

(1) - هذا المبحث مأخوذ من الشفاء (النمط التاسع) ونص عبارته: " تنبيه - الزهد عند غير العارف
معاملة ما كأنه يشترى بمتاع الدنيا متاع الآخرة، وعند العارف تنزه ما عما يشغل سره عن الحق
وتكبر على كل شئ غير الحق، والعبادة عند غير العارف معاملة ما كأنه يعمل في الدنيا لأجرة
يأخذها في الآخرة هي الأجر والثواب، وعند العارف رياضة ما لهمة وقوى نفسه المتوهمة والمتخيلة
لتجرها بالتعويد عن جناب الغرور إلى الحق فتصير مسالمة للسر الباطن (إلى آخر ما قال).
(2) - جميع النسخ " عن ".
(3) - ا ب: " الجناب ".
(4) - ب ج د: " المقدس ".
(5) - ب ج: " فاجلها ".
(6) - ا: " والمجرد ".
36

البحث الثالث
في غرض غير العارف من الزهد والعبادة وغرضه منهما ومن عرفانه
الزهد والعبادة عند غير العارف معاملتان، اما الزهد فلان مطلوب غير العارف منه
ان يشترى بمتاع الدنيا متاع الآخرة، واما العبادة فلان غرضه منها ان يأخذ الأجرة عليها
في الآخرة، واما غرض العارف منهما فقد سبق بيانه، اما من الزهد فالتفات القلب عن (1)
ما سوى الله لئلا يمنعه من الاستغراق في محبته، وترك أخس المطلوبين لأشرفهما واجب في
أوائل العقول، واما من العبادة فان تصير القوى البدنية مراضة تحت قياد (2) - النفس في توجهها
إلى مطلوبها الأصلي من الاستغراق في بحور الجلال لئلا يمنعها عن ذلك بالاشتغال بالأمور
المضادة له، واما غرضه من عرفانه فليس الا الحق لذاته لا غيره حتى العرفان فإنه أمر إضافي يقال بالنسبة إلى المعروف فهو مغاير للمعروف لا محالة، فلو كان غرض العارف نفس العرفان
لم يكن من مخلصي التوحيد لأنه قد أراد مع الحق غيره وهذه حال المتبجح بزينة في ذاته، فاما من
عرف الحق وغاب عن ذاته كما ستعرف فهو لا محالة غائب عن العرفان واجد للمعروف فقط،
وهو السابح لجة الوصول وهناك درجات التحلية بالأمور الوجودية التي هي النعوت الإلهية
وهي غير متناهية واليها أشير في الكتاب العزيز: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل
ان تنفذ كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا (3) والله ولى الخلاص وله منتهى الاخلاص.
البحث الرابع
في درجات حركات العارفين
فالأولى من تلك الدرجات الحركة التي تسمى في عرف أهل الطريقة
بالإرادة، وذلك أنه إذا حصل للانسان اعتقاد ان السعادة التامة بالاقبال على الله تعالى
وبالاعراض عما سواه كان ذلك الاعتقاد برهانيا أو تقليديا أو بحسب الجبلة، فإنه

(1) - في جميع النسخ " إلى ".
(2) - ج د: " مبادى ".
(3) - آية 109 سورة الكهف.
37

يحدث عن ذلك الاعتقاد إرادة التوجه إلى الله تعالى والفرار والبعد عما سواه، فمهما بقي
الانسان كذلك سمى مريدا، ثم إذا توغل في السلوك وبلغت به الإرادة والرياضة حدا ما (1)
ظهرت عليه أنوار الهية لذيذة تشبه البرق اللامع المختفى ويسميها أهل الطريقة بالأوقات
وكل واحد منها محفوف بوجدين، وجد إليه وهو الشوق المتقدم عليه، ووجد عليه وهو
التأسف على فواته وهو متأخر عنه، لان مفارقة تلك المعارفة (2) بعد حصولها يوجب
حنينا وأنينا شوقا (3) إلى ما فات، واليه أشار صاحب الوجد في قوله: شعر:
* إذا ما سقاني شربة من رضا به * ظمئت إلى ذاك المدام فلم اروى (4)
وقول الاخر (5):
فأبكي ان نأوا شوقا إليهم * وأبكي ان دنوا خوف الفراق
ثم إن هذه اللوامع تكون في مبدء الامر قليلة ثم لا تزال تكثر بحسب الامعان في الرياضة
والتوغل فيها وتزداد وتتفاوت أزمانها بحسب زيادة قوة استعداد النفس لها حتى تصير
تلك الأحوال ملكات فيظهر عليها في غير حال الارتياض وفى هذه الأحوال ربما عرضت
له تلك الغواشي وهو غافل عنها فتستفزه عن مجلسه (6) وتوجب له الهرب والقلق (7)
والاضطراب دفعة وذلك لكون النفس غير متأهبة لتلقيه كما نقل عن سيد المرسلين في
مبدء الوحي انه كان يضطرب ويقول: زملوني زملوني، وكما أشير إليه في الكتاب العزيز

(1) - مأخوذ من الشفاء (من النمط التاسع) ونص عبارته: " إشارة ثم إنه إذا بلغت به
الإرادة والرياضة حدا ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق عليه لذيذة كأنها بروق تومض
إليه ثم تخمد عنه وهو المسمى عندهم أوقاتا، وكل وقت يكتنفه وجدان، وجد إليه ووجد
عليه، ثم إنه ليكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في الارتياض، ثم إنه ليتوغل في ذلك حتى
يغشاه في غير الارتياض فكلما لمح شيئا عاج منه إلى جناب القدس يتذكر من امره أمرا
فغشيه غاش فيكاد يرى الحق في كل شئ " وله ذيل في إشاراته الآتية فمن اراده فليطلبه
من هناك.
(2) - ا: " العارفة " ج د: " المعارف ".
(3) - ب ج د: " تشوقا ".
(4) - كذا في النسخ.
(5) - هاتان الكلمتان والبيت الآتي لم يذكر شئ منها في نسخة ا.
(6) - ج: " محله ".
(7) - ج: " والقلقة ".
38

حكاية عن موسى عليه السلام: فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى
اقبل ولا تخف انك من الآمنين (1)، ثم إنه ليزداد تعويده بظهور تلك الغواشي إلى أن
تصير تلك الغواشي مألوفة له فتطمئن بها (2) نفسه ويسكن إليها قلبه وتسمى حينئذ في
عرفهم سكينة حتى تصير بعد أن كانت آثار البهجة باشراق تلك الأنوار في سره ظاهرة
عليه وعلامات الأسف والتلهف على فراقه كثيرة لديه بحيث يقل ذلك الظهور فيراه
جليسه حال الاتصال بجناب الحق حاضرا عنده في أوقات السفر مقيما معه وهو في الحالين
غائب مسافر ولا يزال يتدرج (3) في ذلك بحسب صفاء جوهره واستعداده بالملكة التامة
إلى أن يصير له ذلك متى شاء ثم يترقى في ذلك إلى أن يتوقف ذلك الامر على مشيته
بل يكون له بمطالعة كل شئ عبرة من غير قصد الاعتبار (4) بتلك المطالعة، فإذا عبر
مقام السلوك إلى النيل صار سره كمرآة (5) مجلوة حوذى (6) بها وجه الحق متسعا باشراقه

(1) - ذيل آية 31 سورة القصص.
(2) - ا: " لها ".
(3) - ج د: " يندرج ".
(4) - ج د: " الاعتقاد ".
(5) - ج " مراة ".
(6) - النسخ: " حوفى " أوما يشبهه وصححناها بقرينة
قول الشارح (ره) في شرح نهج البلاغة ضمن شرح قوله أمير المؤمنين (ع): " والله لابن أبي طالب
آنس بالموت من الطفل بثدي أمه ": " فان علمه بعواقب الأمور وأدبارها وتطلعه إلى نتائج
الحركات بعين بصيرته التي هي كمرآة صافية حوذي بها صور الأشياء في المرائي العالية
فارتسمت فيها كما هي " (ص 104 الطبعة الأولى) ونظيره قوله الاخر في وصف التالين للقرآن
حق تلاوته (ص 406 من الطبعة الأولى): " حتى صارت نفوسهم كمرائي مجلوة حوذى بها شطر
الحقائق الإلهية فتحلت وانتقشت بها " إلى غيرهما واصل التعبير مأخوذ من كلام ابن سيناء
(انظر كتاب الإشارات، النمط التاسع): " إشارة - فإذا عبر الرياضة إلى النيل صار سره مرآة مجلوة
محاذيا بها شطر الحق ودرت عليه اللذات العلى (إلى آخر كلامه) " وقد قال أيضا قبل ذلك
في كلام له: " وإذا أعرضت النفس عنه إلى ما يلي العالم الجسداني أو صورة أخرى انمحى
المتمثل الذي كان أولا كأن المرآة التي كانت يحاذي بها جانب القدس قد اعرض بها عنه
إلى جانب الحس أو إلى شئ آخر من الأمور القدسي " قال المحقق الطوسي (ره) في شرح العبارة
الثانية ما نصه: " إشارة إلى حاجة الذهول وسببه، وتمثل بالمرآة لأنها في الجسمانيات أشبه شئ
بالنفس المستفيضة عن المجردات ".
39

فيه مبتهجا بأعلى اللذات الا انه مع ذلك مبتهج بنفسه لما فيها من اثر الحق فله مع نظره
إلى الحق نظر آخر إلى نفسه فهو بعد واقف دون مقام الاخلاص فإذا غاب عن نفسه (1)
يلحظ الجناب المقدس (2) فقط وان لحظ نفسه فبالعرض من حيث هي لاحظة للحق لامن
حيث هي متزينة بزينة الحق فهناك يتحقق الوصول، وفى كلمات محققي أهل الطريقة (3):
ما رأينا شيئا الا ورأينا الله بعده، فلما ترقوا قالوا: ما رأينا شيئا الا ورأينا الله
فيه، فلما ترقوا قالوا: ما رأينا شيئا الا ورأينا الله قبله، فلما ترقوا قالوا:
ما رأينا شيئا سوى الله، والكلمة (4) الأولى إشارة إلى مقام الاعتبار مع قصده، والثانية
إشارة إلى مقام حصول تلك البروق غير متوقفة على مشيته، والثالثة إشارة إلى
مقام النيل مع ملاحظة النفس من حيث هي مبتهجة بزينة الحق فان الشبح الذي في
المرآة هو المرئي قبلها، والرابعة إشارة إلى مقام الفناء وهو ملاحظة الحق الأول مع الغيبة عن
النفس، وقد جمعوا أيضا مراتب السلوك ومقامات الوصول في كلمة أخرى فقالوا: السفر
سفران، سفر إلى الله، وسفر في الله، والأول إشارة إلى انتقالات النفس في مراتب السلوك، والثاني إشارة إلى انتقالها في درجات الوصول، والله ولى التوفيق.

(1) - عبارة ابن سيناء هكذا (في النمط التاسع من كتاب الإشارات): " ثم إنه ليغيب عن
نفسه فيلحظ جناب القدس فقط وان لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة لامن حيث هي بزينتها
وهناك يحق الوصول ".
(2) - ا: " القدس " والشارح قد يعبر في كتبه بتعبير " جناب القدس "
وقد يعبر بتعبير " الجناب المقدس ".
(3) - قال الشارح (ره) في شرح نهج البلاغة ضمن
ذكر معنى الظهور عند شرح قول أمير المؤمنين (ع): " وكل ظاهر غيره باطن " ما نصه (ص 180
من الطبعة الأولى): " كما أشار إليه بعض مجردي السالكين: ما رأينا شيئا (فساق الكلام
إلى آخره فقال) والأولى مرتبة الفكر والاستدلال عليه، والثانية مرتبة الحدس، والثالثة مرتبة
المستدلين به لا عليه، والرابعة مرتبة الفناء في ساحل عزته ".
(4) - في النسخ " والآية ".
40

البحث الخامس
في احكام العارفين واخلاقهم
اما الاحكام
فالأول - ان كل درجة قبل درجة الوصول فهي ناقصة بالقياس إليها وبيان ذلك
اما درجة الزهد فلانه اشتغال بغير الحق لان تحلية الذات عن المنجسات والعلائق البدنية
مشروط بالشعور بها والقصد إلى اعدامها (1) وذلك التفات إلى غير الحق وشغل به.
واما العبادة فلان العابد إذا اتكل على تطويع النفس الامارة للمطمئنة فذلك
عجز منه إذ لولا الخوف من الغير لم يحصل الاعتداد بطاعة والفرح بها، واما العرفان مع
ابتهاج النفس بزينة الحق والسعادة بالوصول إليه فهو تيه، لان الابتهاج بالنفس لقربها
من الحق والفرح بكونها واصلة إليه ابتهاج بغير الله وعشق بالذات لا حوال النفس، واما الاشتغال بالحق ورفض كل ما عداه وهو آخر مقامات السلوك إليه فهو الخلاص المطلق والاخلاص المحقق.
الثاني - اتفقت كلمة أهل العرفان على أن مقامات السالكين إلى الحق لا تخلو من
التفريق والجمع فيما سوى الحق تعالى ثم من الجمع فيه، اما التفريق فهو تخلية الذات
عما سوى الحق تعالى فلها مراتب أربع، فالأولى لابد ان يكلف السالكون إلى الحق
بالاعراض عما سواه من اللذات البدنية والشهوات الدنياوية ولن يزالوا في كلفة إلى أن
تستبعد نفوسهم أرذال الميول الحيوانية إليها وهي المرتبة الثانية، ثم يستعدون بالسعي
إلى أن يمحقوا (2) ما سوى الحق من قلوبهم ويشموا رائحة النفحات الإلهية ويتركوا
الالتفات بالكلية إلى اللذات الفانية وهي المرتبة الثالثة، ثم لا يزالون يستعدون بالانس
بالقديم (3) الاعلى والكأس الأوفى إلى أن يصير ما سوى الحق مستحقرا عندهم بالنسبة إلى
تلك اللذات الكاملة وهي المرتبة الرابعة، فهذه درجات التخلية وهي في لسان الحكماء

(1) - ج: " اعلامها ".
(2) - ا: " يمحق " ج: " يمحوا ".
(3) - ب " النديم ".
41

درجات الرياضة السلبية وفى لسان المجردين (1) من الصوفية درجات التخلق بنعوت
الجلال، واما الجمع فهو تحلية الذات بدرجات الرياضة الايجابية وذلك بان يصير
السالك رؤوفا رحيما جوادا كريما وتسمى هذه الحالة في لسان الشريعة التخلق باخلاق
الله، وفى لسان المجردين الترقي في مدارج الجلال، واما الجمع في الله فلن يخلص الا
بالوقوف عنده بحيث ينقطع نظر الواصل عن نفسه وابتهاجا بزينتها به وبه يتحقق الكمال التام.
واما الأخلاق فيجب أن يكون العارف شجاعا (2) وذلك أن الشجاعة فضيلة
مطلوبة بالذات، واما السبب المانع من الاقدام على الأهوال فخوف القتل الذي غايته
الموت والعارف بمعزل عن (3) تقية الموت، ويجب أن يكون عفيفا لان العفة ملكة مطلوبة
لذاتها، والمانع منها غلبة القوى البدنية على مقتضى طباعها وانقهار (4) النفس في قيادها
والعارف بمعزل عن ذلك إذ (5) كانت قواه البدنية مقهورة في يد قوته (6) العقلية، ويجب
أن يكون جوادا لان الجود فضيلة مطلوبة لذاتها، والمانع منها إنما هو حب المال والخوف
من الفقر، والعارف منزه عن حب الباطل الزائل وحاصل على الغنى الحقيقي الذي لا فقر
معه، ويجب أن يكون عدلا لان العدالة ملكة قد عرفت انها تحصل عن الحكمة والعفة
والشجاعة وهذه الفضائل الثلاث (7) حاصلة له، ويجب أن يكون صفاحا عن زلات
الخلق في حقه لأنه لا ينفعل عن شئ سوى الله فهو أشرف عن أن ينفعل عن زلة بشر (8)
والاشتغال بالانتقام مستلزم للانفعال، ويجب ان لا يكون حقودا لان اشتغال سره بالله
يزيل عنه كل ما عداه، ويجب أن يكون طلق الوجه وذلك أنه فرحان بالحق وبكل

(1) - ا: " المحررين ".
(2) - عبارة ابن سيناء هكذا (كتاب الإشارات، النمط السابع
الذي في مقامات العارفين): " تنبيه - العارف شجاع وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت،
وجواد كيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل، وصفاح وكيف لا ونفسه أكبر من أن تجرحها
زلة بشر، ونساء للأحقاد وكيف لا وذكره مشغول بالحق ".
(3) - ا ب: " من ".
(4) - ا: " انتهار ".
(5) - ا ج: " إذا ".
(6) - ا: " ترقوته ".
(7) - ب " الثلاثة ".
(8) - ا: " البشر " ج د: " شر ".
42

شئ يراه فإنه يرى فيه الحق فيدوم فرحه بدوام مطالعته لوجه الحق، ويجب أن يكون
لين الجناب (1) متواضعا للخلق بحيث يكون نظره إليهم على سواء في ذلك، لأنه
لا ينظر إلى ما سوى الله من حيث إنه هو حتى يكون هناك تفاوت بين الهويات بل إنما ينظر
إلى الكل من حيث تساوى نسبتهم إلى الله تعالى ويجد جماع (2) الفضائل النفسانية عند اقتصاصها
موجودة فيه ظاهرة بينة العلة، واليك الاعتبار والله الموفق.
الفصل الخامس
في بيان احكام أخرى للنفوس الكاملة والإشارة إلى أسبابها
وفيه بحثان:
البحث الأول (3)
في التمكن من الاخبار عن المغيبات وسببه
واجب عليك أيها الأخ إذا ذكر ان خليفة من خلفاء الله أو وليا من أوليائه
أخبر عن أمر سيكون مبشرا به أو منذرا مما لا تفي بدركه قوتك وأنت أنت قاصاب ان
لا تبادر إلى التكذيب بأمثال (4) ذلك فإنك عند اعتبارك مذاهب الطبيعة تجد إلى ذلك
سبيلا وله محملا ونحن نشير إلى سببه مجملا ومفصلا.
اما الأول فلان معرفة الأمور الغيبية في النوم ممكنة فوجب أن يكون في اليقظة
كذلك، بيان الأول ان الانسان كثيرا ما يرى في النوم شيئا ثم يقع اما صريح تلك
الرؤيا أو تعبيرها، وذلك يوضح ما قلناه للرائي، ومن لا يرزق ذلك في حال النوم علمه
بالتواتر من الخلق العظيم.

(1) - كذا ولعله " الجانب ".
(2) - ب " جملة " (3) - هذا المبحث مأخوذ من
أواخر الإشارات فمن أراد التطبيق فليراجعه.
(4) - ج د " بامكان ".
43

بيان الثاني ان ذلك لما صح في حال النوم لم يمكن (1) القطع على امتناعه حال
اليقظة فان الناس لو لم يجربوا ذلك في حال النوم لكان استبعادهم لوقوعه في النوم أشد
من استبعادهم له في اليقظة فإنه عند عدم التجربة لو قيل لانسان: ان جماعة من الأولياء
الكاملين اجتهدوا في تلويح مفكراتهم الصافية في تحصيل حكم غيبي فعجزوا ثم إن واحدا
منهم لما نام وصار كالميت عرف ذلك الحكم فلا بد ان يكذب بذلك ويستنكره لعدم
حصوله مع كمال الحركة وسلامة الحواس عن العطلة الا ان وقوع هذا الامر كثيرا مما
أزال الاستبعاد وصحح الصحة، واما الثاني فمبنى على مقدمتين:
فالأولى - انه قد ثبت في موضعه ان العقول والنفوس السماوية عالمة بالجزئيات،
اما العقول فعلى وجه كلى واما النفوس فعلى وجهه جزئي لان جميع الجزئيات تنتهى في
سلسلة الحاجة إلى العقول، والعلم بالعلة مستلزم للعلم بالمعلول، وكذلك ثبت ان للفلك
قوة جسمانية هي مدركة للجزئيات وثبت ان الحوادث العنصرية مستندة إلى الاتصالات
والحركات الفلكية وثبت ان المبدأ لتلك الحركات هي النفوس (2) الجسمانية وثبت ان
العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فيلزم من مجموع ذلك كون النفس الفلكية عالمة بجميع
جزئيات هذا العالم وما يحدث فيه، وكذلك ثبت ان للفلك مع هذه النفوس (3) الجسمانية
نفسا مجردة ليست علاقتها مع الجسم علاقة انطباع فتكون أيضا منتقشة بجميع الجزئيات
التي تحدث في هذا العالم فالعقول والنفوس الفلكية المجردة والجسمانية إذا منتقشة بها.
الثانية - ان النفوس الانسانية متمكنة من استفادة العلوم من تلك المبادى، وبيان
ذلك بتقديم مقدمات:
فالأولى - ان القوى الانسانية متجاذبة فالنفس عند اشتغالها بتدبير القوة الغضبية
غير متمكنة (4) الالتفات إلى القوة الشهوانية وبالعكس وإذا اشتغل الحس الباطن بالحس

(1) - ب: " لم يكن ".
(2) - ب ج: " النفس ".
(3) - ب ج د: " هذه النفس ".
(4) - ب: " غير ممكنة ".
44

الظاهر لم يتمكن العقل من استعمال الحس الباطن فلم يمكنه استخدام المفكرة (1) وأيضا
فإذا اشتغلت النفس بالافعال التي تخصها منعتها من إعانة القوى على أفعالها ولذلك
تجدها عند مساعدة القوى على فعل قوى تخصها تذهل عن فعلها الخاص بها فتتركه.
الثانية - انك علمت ماهية الحس المشترك فيما سبق وعلمت انه يرتسم (2) فيه
صور المحسوسات بالحواس الخمس (3) لان (4) هذه المحسوسات عند ارتسامها تصير
مشاهدة وان عدمت في الخارج وبينا ذلك بالقطرة النازلة خطا مستقيما.
الثالثة - قد يشاهد قوم من المرضى والممرورين صورا محسوسة ويحكمون بصحتها
ويصيحون خوفا منها فتلك الصور ليست بمعدومة لان المعدوم لا يشاهد، وإذ هي موجودة
فليست في الخارج والا لرآها سليم الحس، وإذ ليست في الخارج فليس ارتسامها في النفس
الناطقة إذ لا ترتسم فيها الصور الحسية ولأنها لا تدرك الجزئيات بذاتها فهي إذا في قوة
جسمانية وليست القوة الباصرة، لان المريض قد يكون أعمى أو بحيث لا يبصر فهي إذا في
قوة غيرها أدركت هذه الصور (5) في (6) الحس المشترك ولن (7) ترد عليه هذه الصور
من خارج فهي من داخل اما مما انخزن في الخيال فرأى في لوح الحس أو مما تركبه
المتخيلة وتخزنه في الخيال فيرتسم نقشه في الحس لأنهما بمنزله مرآتين متقابلتين، والسبب
ان النفس في حال المرض لاشتغالها بتدبير البدن ضعيفة عن تدبير المتخيلة فاستولت
المتخلية وقويت على التشبيح، لا يقال: لو كان كذلك لوجب في كل ما يتخيل ان ان يحس
إذ لا اختصاص لذلك بوقت دون وقت لأنا نقول: المانع من هذا الانتقاش دائما شاغلان،
حسي وهو اشتغال لوح الحس بما يرد عليه من الصور الخارجية فلا يتسع للانتقاش بنقش
آخر وعقلي أو وهمى وهو ان أحدهما عند اشتغال (8) المفكرة تصير المفكرة مستغرقة

(1) - ب: " الفكرة ".
(2) - ا: " رسم ".
(3) - ب: " الخسمة ".
(4) -: " وان ".
(5) - ا: " هذه هي ".
(6) - ج: " هي " د: " وهي ".
(7) - ا ب: " وان ".
(8) - ب ج د: " استعمال ".
45

لخدمته (1) فلا تتفرغ لفعلها الخاص بها فلم تتمكن من تركيب الصور وتشبيحها للحس
الا انه ربما عجز أحدهما عن ضبطها فحينئذ تستولى المحسوسة فتشاهدها (2).
الرابعة - النوم شاغل للحس الظاهر شغلا ظاهرا وقد يكون شاغلا للنفس أيضا
وذلك عند اشتغال الطبيعة بالهضم فان النفس تكون مظاهرة للقوة الهاضمة على ذلك ومعينة لها لما ثبت ان النفس عند اشتغالها بمهمها تقف سائر القوى عن أفعالها فلابد
من مظاهرة النفس لها والا لما تم الهضم، وإذا اشتغلت النفس بذلك بقيت المتخيلة
خاليه عن المدبر متمكنة من التلويح والتشبيح غير مضبوطة ولوح الحس خال مما يرد عليه
من الصور الخارجية لتعطل الحواس حالة النوم، وإذا تم الفاعل والقابل وجد الفعل
لا محالة فلا جرم صارت الصور مشاهدة في حال النوم.
الخامسة - النفس تقوى على عين ما أدركته وقد تضعف عن ضبط عينه فتنتقل إلى
شبهه ومحاكيه من وجه ثم من ذلك المحاكى إلى محاكى المحاكى إلى أن تصل إلى ما لا يناسب المدرك الأول
بوجه، وإنما يكون كذلك لاستيلاء المتخيلة وضعف النفس عن تصريفها كما ينبغي فإذا
قويت النفس جدا لم يكن اصلاحها للبدن عائقا لها عن اتصالها بمباديها وانتقاشها بما هناك
بل تكون وافية بالجانبين فلا يعوقها الالتفات إلى أحدهما عن الالتفات إلى الاخر فإذا
انضم إلى ذلك كونها مرتاضة كان تحفظها عن مضادات الرياضة وتصرفها فيما
يناسبها أتم.
وإذا عرفت هذه المقدمات فاعلم أن السبب في مشاهدة الصور في حال النوم
والمرض هو ان النفس إذا اتصلت بالعقول الفعالة انتقشت بأمور فركبت المتخيلة
صورا جزئية تناسب تلك المعقولات، ولوحت تلك الصور إلى الحس المشترك فصارت
مشاهدة وقد يعرض للمتخيلة ضعف اما لمرض أو لتحلل الروح الحامل اما عن كثرة
حركتها فتميل إلى الدعة فتقع للنفس فلتة منها فتتصل بالعالم العقلي فتنتقش بالجلايا
القدسية فتنزعج المتخيلة إلى تشبيح ذلك المعنى العقلي بصورة جزئية لأنها بسبب

(1) - ب ج د: " بخدمته ".
(2) - ا: " فتشاهده " ب ج د: " مشاهدة ".
46

الاستراحة زال عنها الكلال والملال ولان النفس تستعين بها في ضبط تلك الاسرار في
تلك الصور (1) الخيالية (2) وتحطها إلى الحس فتبقى مشاهدة، وإذا علمت في ذلك
حالة النوم لم يبعد إذا كانت النفس قوية الجوهر تتسع للجوانب المتنازعة (3) ان يقع لها
هذا الانفلات (4) في حال اليقضة فتتصل بالمبادئ فتقتنص أمورا قدسية فتركب المتخيلة
لها صورا تناسبها ثم تحطها إلى الحس المشترك فتكون محسوسة فتارة تكون ابصار صورة،
وتارة تكون سماع كلام وان لم يكن لتلك الأمور وجود خارجي الا ان تلك الآثار قد
تكون ضعيفة فلا تشتثبتها (5) المتخيلة كما ينبغي فتنمحي سريعا، وقد تكون أقوى من ذلك
فتحرك الخيال فينتقل بقوة إلى ماله تعلق بذلك المعنى من شبيه أو ضد لان الحكمة
الإلهية اقتضت أن يكون جبلة هذه القوة على هذا الوجه والا لم ينتفع بها في الانتقال
من الحاصل إلى المستحصل ولن يمنعها من الانتقال الا أحد (6) أمرين (7) اما استيلاء النفس
عليها وضبطها، واما قوة الصور المنتقشة فيها فإنه أيضا قد يرتسم فيها الصور ارتساما قويا
بينا فيمنعها جلاؤها لها (8) عن الانتقال منها إلى الغير، وما كان كذلك في يقظة أو نوم
سمى الهاما أو وحيا صريحا أو حلما لا يحتاج إلى تعبير، وما كان من القسم الثاني أعني ان
تبقى الصورة المنتقل إليها دون عين الأثر فإنه يحتاج الوحي إلى تأويل والحلم إلى تعبير.
تذنيب (9): قد عرفت ان النفس قد تعوقها عن الاتصال بمباديها قواها البدنية
فلذلك ما يحتاج بعض الناس إلى الاستعانة بأمور مكتسبة يعرض منها للحس حيرة وللخيال
وقفة تنفلت معها النفس لتلقى المغيبات كما حكى عن بعض الكهان من الترك انه كان
يستعين بحركة شديدة جدا لا يزال يلهث فيها حتى يكاد يغشى عليه فتلوح له أمور غيبية
والحفظة يتلقون ما ينطق به ليبنوا عليه آرائهم المصلحية وكمن يشغل ابصار الصبيان والنساء

(1) - ب ج د: " القشور ".
(2) - ب: " الخالية ".
(3) - ا: " المتنازع ".
(4) - ج د: " الالتفات ".
(5) - ج د: " فلا تثبتها ".
(6) - ب: " لاحد ".
(7) - ج د: " من أحد الامرين ".
(8) - ب: " جلاء حالها ".
(9) - مطالب التذنيب كلها من شفاء ابن سيناء، فراجع ان شئت.
47

وذوي القوى الضعيفة بأشياء شفافة ترعش الابصار برجرجتها وتدهشه بشفيفها كلطخ من
سواد براق في بيضة أو في باطن الابهام وكاستعانة بعض الكهنة بالرقص والتصفيق وبايهام
العزائم والتخويف بالجن (1) إذا استنطقوا غيرهم، وإن كان ما يستعمله الكهنة من ذلك
مما يختل به أمر القوى ويفسدها ويؤدى إلى تعطيلها ولذلك لم يكن التكهن محمودا من
العلماء والله ولى التوفيق (2).
البحث الثاني
في تمكن النفوس الانسانية من الاتيان بخوارق العادات
واجب على من أهله الله لاستشراق أنواره (3) إذا خصه بالقوة العاقلة التي هي
سر من اسراره ان لا يستبعد عمن ارتقى درجة العرفان التام ان تصدر منه أفعال لا يتمكن
غيره من الاتيان بمثلها، وذلك كالامساك عن الطعام المدة المديدة التي يعجز الاتيان بمثله
أبناء النوع وكالتحريك أو الحركة التي تخرج عن وسع مثله كما يشاهد من طوفانات
تقع باستدعائهم وزلازل أو استنزال عقوبات وخسف بقرى حق عليها القول واستشفاء
المرضى واستسقاء العطشى وخضوع عجم الحيوانات وغيرها فإنه عند الاعتبار يجد تلك
أمورا ممكنة من الطبيعة ونحن نشير إلى وجه امكانها، اما الامساك عن القوت
فتأمل امكانه بل وجوده فينا عند عروض عوارض غريبة لنا، اما بدنية كالأمراض

(1) - ا: " بالحق " ج د: " بالجزاء ".
(2) - ا: " والله الموفق ".
(3) - فليعلم ان الشارح
(ره) قد ذكر نظائر ما أورده هنا في مقدمة شرح نهج البلاغة في القاعدة الثالثة التي هي في
بيان ان عليا عليه السلام كان مستجمعا للفضائل الانسانية بحيث يمكن ان يقال هي بالنسبة
إلى المطالب المشتملة عليها هذه المباحث في حكم نسخة من هذا الكتاب، استفدنا في التصحيح
من تلك القاعدة الا انا لا نشير إلى موارد الاختلاف لان الإشارة إليها تستوعب وقتا كثيرا
ومجالا وسيعا لا يقتضيه المقام فمن أراد الوقوف عليها فليراجع الكتاب (ص 35 - 30).
48

الحادة (1) واما نفسانية كالخوف والغم، اما البدنية فان القوى الطبيعية (2) تشتغل بسببها
بهضم المواد الردية عن تحريك المواد المحمودة فتجد المواد المحمودة حينئذ محفوظة قليلة
التحلل غنية عن طلب البدل لما يتحلل فربما انقطع الغذاء عن صاحبها مدة لو انقطع
مثله عنه في غير حالته تلك عشر تلك المدة هلك، وهو مع ذلك محفوظ الحياة، واما
النفسانية فكما يعرض بعروض الخوف للخائف من سقوط الشهوة وفساد الهضم والعجز
عن الافعال الطبيعية التي كان متمكنا منها قبل الخوف لوقوف القوى الطبيعية عن أفعالها
بسبب اشتغال النفس بما أهمها عن الالتفات إلى تدبير البدن، وإذا عرفت امكان
الامساك الخارج عن الوسع بسبب العوارض الغريبة فاعلم أن السبب في تحققه في حق
العارف توجه النفس بالكلية إلى عالم القدس المستلزم لتشييع القوى البدنية لها وذلك أن
النفس المطمئنة إذا راضت القوى البدنية انجذبت القوى خلفها في مهماتها التي
تنزعج إليها، واشتداد ذلك الانجذاب بشدة ذلك الجذب فإذا اشتد الاشتغال عن الجهة
المولى عنها وقفت الافعال الطبيعية المتعلقة بالقوة النباتية فلم يكن من التحليل الأدون ما
كان في حال المرض وذلك لان المرض في بعض الصور مختص بما يقتضى الاحتياج إلى
الغذاء لتحلل رطوبات البدن بسبب عروض الحرارات الغريبة المسماة بسوء المزاج الحار (4)
له لان الغذاء إنما يكون لسد بدل ما تحلل من تلك الرطوبات وشدة الحاجة إلى الغذاء
إنما تكون بحسب كثرة التحليل وكقصور القوى البدنية بسبب المرض المضاد لها وإنما
الحاجة إلى حفظ تلك الرطوبات لحفظ تلك القوى إذ (3) كانت مادة الحرارة الغريزية
المقتضية (5) لتعادل الأركان الذي لا تقوم تلك الا معه وشدة الحاجة إلى ما يحفظ تلك

(1) - ج د: " الحارة ".
(2) مأخوذ مما ذكره ابن سيناء في أول النمط العاشر من
الإشارات ونص عبارته هكذا " تنبيه - تذكر ان القوى الطبيعية التي فينا إذا شغلت عن تحريك
المواد المحمودة بهضم المواد الردية انحفظت المواد المحمودة قليلة التحلل غنية عن البدل
فربما انقطع عن صاحبها الغذاء مدة طويلة لو انقطع مثله في غير حالته بل عشر مدته هلك وهو
مع ذلك محفوظ الحياة ".
(3) ا ج: " إذا ".
(4) - كذا ولعله: " الحاد "
(5) - " المفضية ".
49

القوى إنما هي بحسب شدة فتورها، واما العرفان فإنه مختص بأمر يوجب الاستغناء عن
الغذاء وهو سكون البدن عن اعراض القوى البدنية عن أفعالها جال مشايعتها للنفس
وانجذابها معها حال توجهها إلى الجناب المقدس وتطعمها بلذة معارفة الحق، واليه الإشارة
بقوله تعالى حكاية عن خليله عليه السلام: والذي هو يطعمني ويسقين (1) وبقول سيد
المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم: انى لست كأحدكم، أبيت عند ربى يطعمني ويسقيني. وإذا عرفت ذلك ظهران المرض وان اقتضى الامساك الخارق للعادة الا ان العرفان بذلك
الاقتضاء أولى، واما القدرة على الحركة التي تخرج عن وسع مثله فهي أيضا ممكنة وبيان -
سببها انك علمت أن مبدأ القوى البدنية هو الروح الحيواني فالعوارض الغريبة التي
تعرض للانسان تارة تقتضي انقباض الروح بحركته إلى داخل كالخوف والحزن، وذلك
يقتضى انحطاط القوة وسقوطها، وتارة تقتضي حركته إلى خارج كالغضب أو انبساطا
معتدلا كالفرح المطرب والانتشاء (2) المعتدل وذلك يقتضى ازدياد القوة ونشاطها وإذا

(1) - آية 79 سورة الشعراء.
(2) - ب: " الانتشاب " أقول: هذا المطلب مأخوذ من
كلام ابن سيناء في أوائل النمط العاشر من كتاب الإشارات ونص عبارته: " تنبيه - قد يكون
للانسان وهو على اعتدال من أحواله حد من المنة محصور المنتهى (إلى أن قال) وكما يعرض
له عند الانتشاء المعتدل وكما يعرض له عند الفرح المطرب فلا عجب لو عنت للعارف هزة
كما يعن عند الفرح فاولت القوة التي يعرض له سلاطة أو غشيته عزة كما يغشى عند المنافسة
فاشتعلت قواه حمية (إلى آخر ما قال) " قال المحقق الطوسي (ره) ضمن شرح العبارة ما نصه: " والانتشاء السكر (إلى أن قال) واعلم أن مبدأ القوى البدنية هو الروح الحيواني فالعوارض
المقتضية لانقباض الروح وحركته إلى داخل كالحزن والخوف يقتضى انحطاط القوة والمقتضية
لحركته إلى خارج كالغضب والمنافسة أو لانبساطه انبساطا غير مفرط كالفرح المطرب والانتشاء
المعتدل يقتضى ازديادها وإنما قيد الانتشاء بالاعتدال لان السكر المفرط يوهن القوة لاضراره
بالدماغ والأرواح الدماغية، ثم لما كان فرح العارف ببهجة الحق أعظم من فرح غيره بغيرها
وكانت الحالة التي تعرض له وتحركه اعتزازا بالحق أو حمية الهية أشد مما يكون لغيره كان
اقتداره على حركة لا يقدر غيره عليها أمرا ممكنا ومن ذلك يتعين معنى الكلام المنسوب إلى
علي (ع): والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن قلعته بقوة ربانية ".
50

عرفت ذلك فنقول: لما كان فرح العارف ببهجة الحق أتم وأعظم من فرح من عداه بما
عداها وكانت الغواشي التي تغشاه وتحركه اعتزازا بالحق أو حمية ربانية أعظم مما يعرض
لغيره لاجرم كان اقتداره على حركة غير مقدورة لغيره ممكنا وسنبين وقوعه إن شاء الله تعالى،
واما السبب في الأمور الباقية على الأصول السابقة هو انك علمت أن تعلق النفس
بالبدن ليس بانطباعها فيه إنما هو على وجه انها مدبرة له مع تجردها (1) ثم إن الهيئات
النفسانية قد تكون مبادئ لحدوث الحوادث وبيانه اما أولا فلأنك تشاهد انسانا يمشى
على جذع ممدود على الأرض ويتصرف عليه كيف يشاء (2) ولو عرض ذلك الجذع بعينه
على جدار عال أو موضع عال لوجدته عند المشي عليه راجفا متزلزلا يوعده (3) وهمه بالسقوط
مرة بعد أخرى لتصوره وانفعال بدنه عن وهمه حتى ربما سقط. واما ثانيا فلان الأمزجة
تتغير عن العوارض النفسانية كثيرا كالغضب وكالحزن والخوف والفرح وغير ذلك
وهو ضروري. واما ثالثا فلان توهم المرض أو الصحة قد يوجب ذلك وهو أيضا
ضروري، إذا عرفت هذا فنقول: ان الأمزجة قابلة لهذه الانفعالات عن هذه الأفعال
النفسانية فلا مانع إذا أن يكون لبعض النفوس خاصية لأجلها يتمكن من التصرف في
عنصر هذا العالم بحيث تكون نسبتها إلى كلية العناصر كنسبة أنفسنا إلى أبدانها (4) فيكون
لها حينئذ تأثير في اعدادات المواد العنصرية لان يفاض عليها صور الأمور الغربية التي
تخرج عن وسع مثلها فإذا انضمت إلى ذلك الرياضات فانكسرت سورة الشهوة والغضب
وبقيا (5) أسيرين في يد القوة العاقلة فلاشك انها حينئذ تكون أقوى على تلك الأفعال

(1) - مأخوذ من كلام ابن سيناء في أواخر النمط العاشر من الإشارات ونص عبارته: " تذكرة
وتنبيه - أليس قد بان لك ان النفس الناطقة ليست علاقتها مع البدن علاقة انطباع بل ضربا
من علائق اخر، وعلمت ان هيئة تمكن العقد منها وما يتبعه قد يتأدى إلى بدنها مع مباينتها
له بالجوهر حتى أن وهم الماشي على جذع معروض فوق فضاء يفعل في ازلاقه مالا يفعله
وهم مثله والجذع عل قرار (إلى اخر ما قال) ".
(2) - ب ج: " شاء ".
(3) - في النسخ: " يواعده ".
(4) - في شرح نهج البلاغة للشارح (ره): " أبداننا ".
(5) - في شرح نهج البلاغة: " وبقيتا أسيرتين ".
51

وتلك الخاصية اما بحسب المزاج الأصلي أو بحسب مزاج طار غير مكتسب أو بحسب
الكسب والاجتهاد في الرياضة وتصفية النفس، والذي يكون بحسب المزاج الأصلي فذو -
المعجزات من الأنبياء أو الكرامات من الأولياء، فان انضم إليها الاجتهاد في الرياضة بلغت
الغاية في ذلك الكمال، وقد يغلب على مزاج من له هذه الخاصية ان يستعملها في طرف -
الشر وفى الأمور الخبيثة (1) ولا يزكى نفسه كالساحر فيمنعه خبثه عن الترقي إلى درجة -
السابقين في الكمال فهذا القدر هو الذي أردنا من المقدمات وبالله التوفيق.
القسم الثاني في المقاصد، وفيه فصول:
الفصل الأول
في المباحث المتعلقة بالعقل والعلم والجهل والظن والنظر
وفيه اثنتان وعشرون كلمة:
الكلمة الأول قوله عليه السلام: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.
أقول: الغطاء في أصل اللغة هو ما يستر به الشئ ويغطى، واليقين في عرف العلماء
هو اعتقاد ان الشئ كذا مع اعتقاد انه لا يمكن ان لا يكون كذا، وهو أخص من العلم
الذي هو أخص من الاعتقاد الجازم المطابق الذي هو أخص من الاعتقاد المطابق الذي
هو أخص من مطلق الاعتقاد، واعلم أنه ليس المراد من لفظ الغطاء والمغطى والتغطية
ههنا هو ما يتعارفه افهام الخلق حال اطلاقه والا لم يبق للكلام فائدة بل لابد من مفهوم
آخر يحتاج إلى تفطن ما زائد على نباهة أهل الظاهر سواء كان اطلاق لفظ الغطاء على ذلك
المعنى وعلى غيره حقيقة اما بحسب الاشتراك اللفظي أو المعنوي على سبيل التواطى بان
يكون الغطاء حقيقة نوعية ذلك المعنى من جملة اشخاصها التي لا يخالف بعضها الا

(1) - ج د " الخسيسة ".
52

بالعدد (1) أو على سبيل التشكيك على معنى ان في افراد الغطاء ما هو أشد تغطية وأقوى
من غيره، أو مجازا على معنى ان الغطاء حقيقة عرفية في جسم ستر جسما مجازا في المعنى
الذي نريده فان البحث عن ذلك لفظي غير مهم. فاما بيان ذلك المعنى فقبل تقريره
نقول: انك قد علمت أن النفوس الانسانية في الكمال والنقصان على مراتب، وعرفت
ان أعلى تلك المراتب مرتبة نفوس قدسية استغرقت في محبة الله تعالى وابتهجت بمطالعة
أنوار كبريائه غاية الابتهاج، وهي درجة الأنبياء ومن يليهم من الأولياء الكاملين في قوتيهم
النظرية والعملية المشار إليها بقوله تعالى: السابقون السابقون * أولئك المقربون (2) ثم
عرفت ان ذلك الاستغراق مستلزم لاعراضهم عما سوى الحق تعالى من العوائق البدنية
واللذات الدنية اعراض استحقار لها واستهانة بها، بل اعراضا لا التفات معه إليها بوجه
وإذا عرفت ذلك فنقول: المراد من الغطاء المذكور في الخبر هو البدن والشوائب المادية
الحاصلة حال تعلق النفس به وكونها مدبرة له، اما وجه كونه غطاء فلان الإشارات
النبوية مشتملة على مواعيد ووعيدات بأنواع من الكرامات الأخروية وضروب من
العقوبات لا تفي بدركها القوة الانسانية الا لو قد نضت هذا البدن وتجردت إلى عالمها
فالنفس ما دامت ملابسة له فهي ملتحفة مغطاة بالشوائب العارضة والهيئات اللازمة لها
من ملابسته، فإذا فارقته وتجردت عنه أبصرت ما أعد لها بعد المفارقة من سعادة أو شقاوة
واليه أشير في التنزيل الإلهي: فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (3) وهذا الحكم
وإن كان عاما للنفوس الانسانية القدسية البالغة في الكمال إلى الحد
المذكور وان كانت في الظاهر ملتحفة بجلابيب الأبدان متغطية بأغطية الشوائب المادية
وكأنها (4) لما (5) رزقت من الاعراض عما سوى القبلة الحقيقية ومن التوجه والاقبال

(1) - ب: " بالعداد ".
(2) آية 10 و 11 سورة الواقعة.
(3) - ذيل آية 22 سورة ق.
(4) - ب ج: " فكأنها ".
(5) - يمكن قراءة الكلمة بكسر اللام وتخفيف الميم بناء على أنها مركبة من لام الجر وما الموصول.
53

عليها بالكلية فصار كل كمال لها بالقوة فعليا قد نضت تلك الأغطية وخلعت تلك
الأغشية وألقت تلك الجلابيب الحسية وخلصت إلى الحضرة القدسية متصلة بالملأ
الاعلى، مرتوية بالكأس الأوفى، مشاهدة لأمور تعجز عن ادراكها الأوهام وتكل عن
بيانها العبارات والافهام مبتهجة بما لاعين رأت ولا اذن سمعت صادرة عن كمالاتها الحاصلة
لها آثار هي المعجزات والكرامات حتى أنها لو فارقت أبدانها بالكلية لما زاد ذلك
الاستغراق وتلك المشاهدة على ما كان قبل المفارقة.
ثم لما كان ولى الله أمير المؤمنين علي عليه السلام متسنما لذروة ذلك المقام
رائيا ببصيرته الاسرار الإلهية مطلعا بقوته القدسية على الأطوار الورائية لاجرم صدق
في مقاله الكاشف عن كماله: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، ولم يكن ذلك منه دعوى
عرية عن البرهان بل دلت على صدقه اخباراته وانذاراته الصادقة ونجوم حكمه (1) الزاهرة (2)
وكشفت عن حقيقة مقاله آياته الباهرة وكراماته الظاهرة، وقد أشرنا لك إلى أسباب
التمكن من تلك الآيات وسنبين وقوعها منه ان شاء تعالى.
اللهم يا واهب الحياة ويا منتهى طلب الحاجات (3) أذقنا حلاوة العرفان، وملكنا ملكة
التجرد عن جلابيب هذه الأبدان، وأهلنا لاستشراق سنا خواطف أنوارك، واجعل
ذواتنا من أتم قوابل فيض أسرارك، وهيئ لنا من أمرنا رشدا (4).
الكلمة الثانية
قوله عليه السلام: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
أقول: النوم كما يقال بحسب الحقيقة على تعطل الحواس الظاهرة عن الادراك

(1) - ب: " حكمته ".
(2) - ج: " الظاهرة ".
(3) - كذا في النسخ ولا بأس به الا
ان العبارة وردت في الصحيفة السجادية، وهناك هكذا " اللهم يا منتهى مطلب الحاجات
(انظر أول الدعاء الثالث عشر وهو من دعائه في طلب الحوائج).
(4) - ذيل آية 10 من سورة الكهف.
54

للأسباب التي ذكرناها كذلك قد يقال مجازا على اشتغال النفس بالعلائق الجسمانية
ومتابعة القوى البدنية وغفلتها عن مبدئها المفارق وعدم التفاتها إليه وكذلك الانتباه
كما يقال حقيقة على استعمال الحواس الظاهرة للأسباب المذكورة كذلك يقال مجازا
على اقبال النفس على القبلة الحقيقة وانتقاشها بجلايا القدسية بيان وجه التجوز عن
النوم ان عدم انصباب النفس إلى الجناب القدسي حين اشتغالها بالعلائق الجسدانية
وتعطلها بسببه عن الانتقاش بصور المعقولات مشابه لعدم انصباب الروح النفساني إلى
الحواس الظاهرة وتعطلها بسبب ذلك عن الانتقاش بصور المحسوسات، بيان وجه التجوز
عن الانتباه هو ان الانتباه المحسوس لما كان عبارة عن انتقاش لوح الحس المشترك عن
المحسوسات بسبب استعمال (1) الحواس الظاهرة عن انصباب الروح النفساني إليها كذلك
الانتباه المعقول هو انتقاش لوح النفس بصور المعقولات عن مباديها بسبب التفاتها واقبالها
عليها، وإذا عرفت ذلك فاعلم أنه عليه السلام أشار بالموت إلى مفارقة الحياة، وبالنوم
والانتباه ههنا إلى المعنيين المجازيين، وأنت بعد وقوفك على وجه التجوز تستفتح (2)
بعين بصيرتك سر هذه الكلمة، ثم إن الناس نيام في مرقد الطبيعة لن ينتبهوا الا عند
مفارقته، ثم يلوح لك ان القضية مهملة في قوة الجزئية وان الحكم خاص بمن عدا
درجة السابقين فإنهم ابدا ايقاظ في صورة نيام قد هجروا مضاجع الطبائع فهم في لجة الوصول
سابحون، ثم للباقين في النوم درجات متفاوتة فأقربها إلى اليقظة نفس كان اشتغالها عن
الالتفات إلى الجناب المقدس بمجرد مصالح البدن ومتابعتها للقوى البدنية فيما لابد منه
في إقامة تدبيره وفى حاجته إلى ما يقود الضرورة إليه مما رخصت فيه الشريعة، هذا بعد أن
تكون متحلية بالمعرفة عن البرهان مراعية لشرائط الايمان، وأشدها فيه اغتمارا وابعدها
عن ساحة الرضوان دارا نفس ألقت زمامها إلى قواها البدنية وانهمكت في طاعتها،
فأعرضت بالكلية عن مباديها، ولم تستيقظها من رقدة الغافلين شدة استماع مناديها،

(1) - كذا في النسخ والصحيح: " اشتغال ".
(2) - ب: " تستليح " ج د: " تستنتج ".
55

فخوطبت تقريعا بألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر (1) ومنع (2) مناديها (3) من التكرير عليها
إذ (4) كان قد اعذر إليها، فذرهم في غمرتهم حتى حين * أيحسبون أنما نمدهم به من مال
وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (5) وما بينهما درجات بعضها فوق بعض، فإذا
فارقت النفوس مضاجعها أبصر كل منها بعين بصيرته ما كان قد أعد له وهيئ، فأبصر
الأولون بها العزة وجمالها، ولاحظوا جلال الحضرة القدسية وكمالها، وجوه يومئذ ناضره *
إلى ربها ناظرة (6) ووجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة (7) وشاهد الآخرون سلاسل
الهيئات البدنية واغلال الملكات الردية، وجوه يومئذ باسرة، تظن ان يفعل بها فاقرة (8)
ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة (9) وما بين الدرجتين بحسابه.
فانظر إلى هذه الألفاظ الخفيفة كيف انطوت على هذه الاسرار اللطيفة..! وأحسن
بهذه العبارات الوجيزة كيف استلزمت هذه التشبيهات العزيزة..! وكيف لا وقد قال
فيه النبي صلى الله عليه وآله: أعطيت جوامع الكلم، وأعطى على جوامع العلم، ولما نزلت
وتعيها اذن واعية (10) قال (ص): اللهم اجعلها اذن على، فقال (ع): والله ما نسيت بعدها
ابدا. وقال عليه السلام: علمني رسول الله (ص) من العلم الف باب فانفتح لي من كل باب
الف باب. وكان مصداق ذلك قوله صلى الله عليه وآله انا مدينة العلم وعلى بابها، فليت
شعري كم في الخزائن التي وراء تلك الأبواب من الكنوز والذخائر؟! وكم في بحور أولئك
عوامها من زواهر الجواهر؟! شعر
أشتاقكم حتى إذا نهض الهوى * بي نحوكم قعدت بي الأيام (1 1)

(1) - آية 1 و 2 سورة التكاثر.
(2) - ب "
وضع ".
(3) - ج: " مباديها ".
(4) - ا ب د: " إذا ".
(5) آية 54 و 55 و 56 سورة المؤمنين
(6) - آية 22 و 23 سورة القيامة.
(7) آية 38 و 39 سورة عبس.
(8) - آية 24 و 25 سورة القيامة.
(9) - آية 40 و 41 سورة عبس.
(10) - ذيل آية 12 سورة الحاقة وصدرها: لنجعلها لكم تذكرة، وسابقتها: انا لما طغا الماء
حملناكم في الجارية.
(11) - لم اعرف قائل البيت الا ان في هامش نسخة الألف بيتين هكذا: تمامه:
وكأنها مع قربكم مر الحيا * وكأنها مع بعدكم أعوام
ولقد وقفت بربعكم أشكو الجوى * فعليكم منى ومنه سلام "
56

يقولون لو واصلتنا سكن الهوى * بقلبك يا مجنون وانقطع الحزن
فها انا قد واصلتهم مثل قولهم * وما هدأ الأشواق والقلب ما سكن
الكلمة الثالثة
قوله عليه السلام: من عرف نفسه فقد عرف ربه.
أقول: المعرفة بحسب عرف العلماء يخص التصور دون التصديق وان قل الفرق
بينهما وبين العلم في وضع اللغة ثم ما أسهل ما يتأتى لك الاطلاع على معنى هذه المتصلة
بعد احاطتك بالأصول السابقة فإنك قد علمت أن للنفس الانسانية قوتين عالمة وعاملة
هما في مبدء الامر خاليتان عن الكمال، وعلمت ان العاملة هي التي تكون لها بحسب
حاجتها إلى تدبير البدن وتكميله، وان العالمة هي التي تكون لها بحسب تأثرها عن مباديها
وحاجتها إلى تكميل جوهرها عقلا بالفعل (1)، ثم اطلعت على مراتب استعدادات هذه القوة
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن المراد حينئذ من اطلع على نفسه فعرفها بكثرة عيوبها
ونقصاناتها وفقرها إلى كمالات خارجة عن ذاتها ليست لها من حيث هي هي بل يحتاج لها
إلى استعدادات مترتبة حتى يفاض عليها بحسب استحقاقها حالا بعد حال ثم علم كيفية
تنقل قوته العاقلة في المراتب المذكورة اما بحسب ذوق العرفان أو بحسب سوق (2) البرهان
فقد استلزم ذلك معرفته لربه بحسبهما استلزاما ضروريا لما ان العلم بالمعلول مستلزم للعلم
بعلته الا انه ينبغي ان يعلم أن معرفته بالكنه غير ممكنة الا له إذ كانت حقيقته بريئة
عن جهات التركيب العقلية والخارجية المستلزمة للامكان المستلزم للفقر والنقصان،
ومعرفة الشئ بكنهه إنما تحصل بالاطلاع على اجزاء ماهيته وابعاضها فالمطلع عليه إذا
لوازم (3) سلبية أو إضافية تلزم معقوليته وواجبيته لزوما عقليا وعند ذلك المقام تزاحم

(1) راجع ص 17 - 14.
(2) - ج د: " شوق " (بالشين المعجمة).
(3) - ج د: " لورام ".
57

اقدام العقول وغايتها الغرق في لجة ذلك الوصول.
فان قلت: لم لم يقل عليه السلام: من عرف ربه عرف نفسه، ومعلوم ان ترتيب
هذه المتصلة على هذا الوجه أولى فان استلزام مقدمها لتاليها يكون أقوى من استلزامه له
ان لو كانت (1) على الترتيب المذكور الان لأنه استدلال ببرهان لم، ولا شك ان برهان
لم أقوى من برهان ان، لما ان العلم بالعلة المعينة مستلزم للعلم بالمعلول المعين واما العلم
بالمعلول المعين فلا يدل الا على العلة المطلقة، اما المعينة فلا، لجواز تعليل المعلول النوعي
بعلتين فلا يتعين الشخصي (2) لاحديهما؟
قلت: لا شك فيما ذكرته من أن برهان لم أقوى والاستدلال به أولى الا انا
نقول: ان هذه الكلمة خرجت منه عليه السلام مخرج التأديب والحث على جماع مكارم -
الأخلاق واقتناء الفضائل، وذلك أن الانسان إذا عرف نفسه بكثرة عيوبها ونقصانها
وحاجتها إلى التكميل كان ذلك داعيا له على اصلاح قوتيه العملية والنظرية ثم إنه نبه
على وجوب معرفة النفس بعد ذكرها بأنها أقرب قريب إلى الانسان بحيث يحتاج في
معرفتها إلى طلب زائد هي وسيلة إلى الغاية المطلوبة للكل الواجبة على الاطلاق وهي معرفة -
الصانع وهذا شأن المؤدب الحاذق ان يعين مطلوبه أولا لمن (3) يؤدبه عليه ثم ينبهه على
حسنه ووجه وجوبه عليه وليس مقصوده الأول ههنا هو التنبيه على وجوب معرفة الله ولو أنه
قدم معرفة الله تعالى لفات الغرض المذكور من الكلمة، ولما بقي ذلك الذوق لها، ولما
كان ذلك حثا للانسان على الاطلاع على عيب نفسه، وأنت بعد مخض هذه الكلمة
في سقاء ذهنك وارسال الرائد الفكري في جميع مفهوماتها ستجمع لك زبدتها، والله ولى
هدايتنا، وبه حولنا وقوتنا، اللهم أهلنا لاستشراق نفحات عزتك، وملكنا ملكة الاتصال
بأرباب حضرتك، وانشر لنا جناح الفرح (4) بمطالعة كبريائك، ولمحات جمالك وبهائك، انك أنت الوهاب.

(1) - ب: " ان كانت ".
(2) - ب الشخص ".
(3) - ب ج " ممن ".
(4) - " الفرج " بالجيم.
58

الكلمة الرابعة
قوله عليه السلام: ما هلك امرؤا عرف قدره (1).
أقول: الهلاك في اللغة هو السقوط، وهذه القضية سالبة كليه تقديرها: لا واحد
ممن عرف ربه بهالك، ينتج: لا واحد ممن عرف نفسه بهالك، اما الصغرى فقد مر
بيانها، واما الكبرى فبيانها انه لما كانت السعادة الأبدية والكمال المسعد (2) هو الاتصال
بالملأ الاعلى ومطالعة بهاء (3) الاسرار الإلهية والمثول بين يدي الواجب الأول، وكان
ذلك الكمال هو المستلزم للسلامة المطلوبة للخلق من الهوى في قعر جهنم وحافظا لزلل -
اقدام السالكين الواصلين من السقوط عن الصراط المستقيم إلى حضيض الجحيم لاجرم
صحت كبرى هذا القياس وصحت بصحتها نتيجته، وهذا المطلوب وان حصل لغير هذا
الصنف أعني أصحاب النوع الانساني فإنما يحصل لهم بحسب الباعث على الحركة المنبعثة
في تحصيل الحد الأوسط والتفطن للترتيب، واما حصوله لمثله عليه السلام (فلا) فان قوته
الشريفة البالغة غير مفتقرة فيه إلى شوق باعث على الحركة في تحصيل الأوسط بل تنساق
قوته القدسية إليه طبعا فيحصل المطلوب طبعا. شعر:
ذي المعالي فليعلون من تعالى * هكذا هكذا والا فلا لا
الكلمة الخامسة
قوله عليه السلام: رحم الله امرء عرف قدره ولم يتعد طوره.
أقول: قدر الانسان مقداره، وقيمته في كل وقت من فضيلة يكون عليها أو رذيلة
أو شرف أو خسة، أو كمال أو نقصان، وطوره حالته القولية أو الفعلية التي ينبغي ان

(1) - هو مذكور في نهج البلاغة هكذا: " هلك امرء لم يعرف قدره " (انظر ص 601
من شرح ابن ميثم من الطبعة الأولى).
(2) - ج د: " العد " د: " المعد ".
(3) - في النسخ: " بها ".
59

يكون عليها عند كونه في ذلك المقدار من الكمال أو النقصان، وتعداه تجاوزه إلى حالة
أخرى لا يليق بمقداره ذلك، وإذا عرفت هذا كان المقصود من هذه الكلمة استنزال
الرحمة بدعائه عليه السلام لعبد اطلع على مقداره في مدة حياته الدنيا مراعيا لموافقة طوره
وهو قوله أو فعله وبالجملة الحال التي يليق بمقداره لمقداره بحيث لا يتعداه إلى حالة وطور
يكون أليق بمقدار آخر غير مقداره، وذلك كان يكون مثلا من أهل الدناءة فيأخذ في الكبر
الفخر بالاباء وغير ذلك، أو يكون شريف العقل عالما فيعمل اعمال الملوك ويقتنى مقتنياتهم،
فان ذلك في الحقيقة جور وهو طرف الافراط من فضيلة العدالة وتجاوز منها إليه.
ويمكن ان تأول هذه الكلمة على وجه آخر
فنقول: ان قدر الانسان مقداره ومبلغه الذي ينبغي ان يصل إليه، وطوره حده
الذي ينبغي ان يقف عليه وتعداه تجاوزه، ثم المبلغ الذي ينبغي ان يطلب هو ما عرفت انه
الوسط الحقيقي من كل حركة إرادية خيرية وهو الفضيلة النفسانية التي تحدث عنه (1)
متسالمة (2) القوى البدنية بعضها لبعض، واستسلامها للقوة المميزة حتى لا يتغالب ولا -
يتحرك نحو مطلوباتها على حد (3) طباعها وهي الفضيلة المسماة بالعدالة وقد عرفتها وعرفت
انها تحدث عن اجتماع الفضائل الثلاث التي هي أمهات الفضائل، وهي الحكمة والعفة
والشجاعة وقد عرفت حدودها وأنواعها، وإذا عرفت ذلك فنقول: مقصود هذه الكلمة
إنما هو استنزال الرحمة الإلهية بدعائه عليه السلام لعبد عرف هذه الفضيلة المستلزمة
لحصول هذه الفضائل ثم وقف عندها فإنها طوره الذي ينبغي ان يقف عنده ولم -
يتجاوزها إلى طرف الافراط فيدخل في زمرة الجائرين (4) الملعونين بلسان الله: الا لعنة الله
على الظالمين (5).
فان قلت لو أراد ذلك لقال تماما لذلك: ولم يقصر عن طوره، إذ كان تحقق

(1) - ب: " عنها ".
(2) - في النسخ: " مسالمة ".
(3) - ا: " جد " ج: " حده ".
(4) د: " الجابرين " (بالباء الموحدة، من الجبر).
(5) - ذيل آية 18 سورة هود.
60

تلك الفضيلة لا يتم مع التقصير عنها والوقوف دونها والدخول في المهانة التي هي طرف
التفريط من تلك الفضيلة؟
قلت: انه لا حاجة به عليه السلام إلى ذكر هذا القيد إذ يكون تكريرا وقد تنزهت
ألفاظه الا عن الوجازة المستلزمة للجزالة، إذ المعنى الذي أردت واليه قصدت مذكور في
الكلام مدلول عليه بطريق الالتزام، وذلك أن استنزال الرحمة لمن يتجاوز هذه الفضيلة
يستلزم النهى عن تجاوزها، والنهى عن التجاوز مستلزم للامر بالوقوف عندها، وهو
مستلزم للامر بطلبها وعدم الوقوف دونها فلا جرم ذكر عليه السلام هذا القيد ولم يذكر
ذلك، والأول أظهر، والله ولى التوفيق.
الكلمة السادسة
قوله عليه السلام: قيمة كل امرء ما يحسنه (1).
أقول: القيمة يقال بحسب الحقيقة على ما يقوم مقام الشئ ويعوض عنه وهو الثمن
ويقال بحسب المجاز على الأمور التي تكتسبها النفس الانسانية من الهيئات كالعلوم والأخلاق
الفاضلة واضدادها، ووجه المجاز ان التفاوت كما أنه حاصل في قيمة الشئ بحسب
تفاوت جوهر المثمن في الجودة والرداءة والشرف والخسة، وبحسب تفاوت انظار أهل -
التقويم ورغبات الطالبين كذلك هو حاصل فيما يحسنه الانسان مما هو مكتسب له من
تلك الهيئات كالاعتقادات المختلفة، فمنها علوم موصولة إلى السعادة الأبدية، ومنها اعتقادات

(1) - شرحها الشارح (ره) في شرحه على نهج البلاغة هكذا (ص 590 من الطبعة الأولى):
" غرض هذه الكلمة الترغيب في أعلى ما يكتسب من الكمالات النفسانية والصناعات ونحوها،
وقيمة المرء مقداره في اعتبار المعتبرين ومحله في نفوسهم من استحقاق تعظيم وتبجيل، أو
احتقار وانتقاص، وظاهر ان ذلك تابع لما يحسنه المرء ويكتسبه من الكمالات المذكورة،
فأعلاهم قيمة وارفعهم منزلة في نفوس الناس أعظمهم كمالا، وأنقصهم درجة أخسهم فيما
هو عليه من حرفة أو صناعة، وذلك بحسب اعتبار عقول الناس للكمالات ولوازمها ".
61

مخلدة في الشقاوة السرمدية، وما بينهما درجات، وكذلك الحال في باقي الأمور المكتسبة
للانسان والطبيعية له. ثم إن ذلك التفاوت دل على أن الموصوف بأحد هذه الصفات
كيف هو مستلزم لتفاوت درجات الاستدلال على أحواله في ذاته وكمالها ونقصانها بحسب
تفاوتها في ذلك فلا جرم صدق عليه السلام ان " قيمة كل امرء ما يحسنه ".
واعلم أن في هذا الكلام مع اشتماله على الوجازة والصدق والبلاغة حثا على
اكتساب أشرف أنواع الثمن المذكور من الكمالات النظرية والعملية واقتناء المكارم،
وذلك أن العاقل إذا سمع هذا اللفظ واطلع على سره مع ما في نفسه من محبة أن يكون
أشرف أبناء نوعه فلابد وان يجتهد ويبالغ في طلب أقصى المراتب الشريفة فيكون ساعيا
في تحصيل القيمة الأوفى حتى إذا حصلت دلت على شرف ذاته وكمالها في نفسها كما تدل
القيمة على شرف ما هي قيمة له.
واعلم أنه يحتمل ههنا ان تفسر القيمة باعتبار الخلق بعضهم لبعض ويكون التقدير
ان اعتبار الناظرين ووزنهم للانسان في نفسه بميزان العقل لا بالنظر إلى ذاته من حيث هي ذاته
بل بالنظر إلى ما يحسنه، فيكون اعتبارهم لذاته تابعا لاعتبارهم الهيئات التي اكتسبها والأعمال
التي ارتكبها، ويكون رجحان ذاتها وشفافيتها وكمالها في انظارهم ونقصانها وشرفها
وخستها الذي هو قيمته في الحقيقة تابعا لشرف أحواله وافعاله وما يحسنه من الصناعات
الموجبة للتكميل والتنقيص، والاعتبار الأول أظهر، وبالله التوفيق.
الكلمة السابعة
قوله عليه السلام: الناس أبناء ما يحسنون.
أقول، معنى هذه الكلمة قريب من معنى التي قبلها وذلك لان (1) الابن كما
يطلق حقيقة على حيوان يتولد عن آخر من نوعه نطفته من حيث هو كذلك وينسب
إليه فيما يصدر عنه من الافعال ويشاهد منه من الأخلاق والأقوال وكثيرا ما تختلف تلك

(1) - ب ج د: " ان ".
62

النسبة بحسب اختلاف درجات أفعال ابائهم في الخير والشر وتفاوت أخلاقهم في الشرف
والخسة حتى لو كان الأب رجلا شريفا أو وضيعا ففعل الابن فعلا مناسبا لفعل أبيه أو
تكلم بكلام مناسب لكلامه قيل، فلان ابن أبيه، كذلك يطلق مجازا على من ينسب إلى أمر
شريف أو خسيس يكون عالما به وعاقلا له وذلك من باب الاستعارة والتشبيه حتى
إذا تكرر عنه ذلك الامر أو عرف منه فضيلة أو رذيلة نسب إليها وصار معروفا بها كما كان
يعرف بأنه ابن فلان وينسب (1) إليه وفى هذا الكلام أيضا ما في الأول من الحث على
طلب أشرف الرتب واعلى الدرجات الموصلة إلى السعادة الدنياوية والأخروية وتنبيه
للعاقل على ما عسى أن يكون غافلا عنه من أنه يجب ان لا يرضى بناقص الأعمال ودنيها
بل يواظب على طلب الأشرف من ذلك والأعلى حتى لا ينتسب الا إليه ولا ينتسب إلى
أب ساقط وضيع فيعلم حينئذ ان الفخر السنى والكمال البهى والشرف الأصيل والمنصب الجليل إنما هو بتخلية الذات عن المنجسات وتحليتها بأشرف الصفات لا بشرف القنيات (2) والنسبة إلى العظام الرفاة، شعر:
وما الفخر بالعظم الرميم وإنما * فخار الذي يبغي الفخار بنفسه
الكلمة الثامنة
قوله عليه السلام: المرء مخبوء تحت لسانه (3).
أقول: يقال: خبأت الشئ أخبأه خبئا إذا سترته وحفظته عن النظر، واللسان

(1) - ا: " نسب ".
(2) - ب: " القينات " (بتقديم الياء على النون) ج: " العنيات " (بالعين
المهملة) د: العينات " (بتقديم الياء على النون).
(3) - شرحها الشارح (ره) في شرحه
على نهج البلاغة بهذه العبارة (انظر ص 601 من الطبعة الأولى):
" أي حاله مستورة في عدم نطقه فحذف المضاف للعلم به، وتحت لسانه كناية عن سكوته
وذلك أن مقداره بمقدار عقله، ومقدار عقله يعرف من مقدار كلامه لدلالته عليه، فإذا تكلم
بكلام الحكماء ظهر كونه حكيما، أو بكلام السفهاء عرف كونه منهم، وما بين المرتبتين بالنسبة ".
63

يطلق حقيقة على اللحمة المخصوصة الموجودة في الفم ويقال مجازا على نفس العبارة كما
أشير إليه في التنزيل الإلهي: واختلاف ألسنتكم وألوانكم (1) والمعنيان محتملا الإرادة وتقدير -
الخبر: معرفة المرء مخبو تحت لسانه لان نفس حقيقة المرء لا يظهرها العبارة واعلم أنه
لما كان الانسان ليس عبارة عن مجرد هذا البدن المحسوس بل لابد في تحقق الانسان من
أمر اخر كما علمت قبل وكان لا ينفك ذلك الامر عن أن يكون موصوفا بصفة كمال
أو صفة نقصان وكان ذلك الجزء منه وما يصحبه من الصفات الكمالية والنقصانية
مستورا لا يطلع عليه (2) أحد من أبناء نوعه بشئ من الحواس، إذ كان غير محسوس بل لابد
في الاطلاع عليه بحسب العقل من دليل يوضح تحققه لاجرم صدق عليه انه مستور مخبوء.
ثم إن العناية الإلهية اقتضت أن يكون له قوة نطقية معربة عن تلك الصفات
بحسب الالتزام كاشفة لستر الجهل بها عن بصائر المبصرين وضمائر المختبرين فلا جرم صدق
ان المرء مخبوء " تحت " لسانه، والمقصود من جهة " تحت " إنما هي الجهة الوهمية لا المكانية
وإنما خصصها بجهة " تحت " لان العبارة التي هي المقصود من وضع اللسان لما كان
سببا يكشف لذلك الستر ويظهر معرفة المرء من خباء الجهل به إلى ظاهره بالانتقاش في
أذهان المختبرين وكان السبب أعلى من المسبب لاجرم كان المسبب الذي هو المعرفة
تحت سببه الذي هو اللسان المشار إليه.
وان حملنا اللسان على حقيقته كان أيضا حسنا فان هذه اللحمة المخصوصة
لها سببية في تلك المعرفة واظهارها فإنها محل العبارة فهي سبب معدلها وباقي التقرير
بحاله، وهذه نكتة لطيفة في باب الاستعارة وهي قطرة من بحر اسرار كلامه عليه السلام
فانظر إلى عناية الله كيف خصته بهذا القوة القديسة الشريفة البالغة تقريرا وبيانا لقوله
تعالى: يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا وما يذكر الا أولوا
الألباب (3).

(1) - من آية 22 سورة الروم.
(2) - ب ج: " عليها ".
(3) - آية 269 سورة البقرة.
64

الكلمة التاسعة
قولة عليه السلام: الشرف بالعقل والأدب لا بالحسب والنسب.
أقول: الشرف العلو في المرتبة، وما العقل فقد عرفت حقيقته وأقسامه ومراتبه،
واما الأدب فهو اصلاح القوة العملية بجماع مكارم الأخلاق، واما الحسب فهو الكفاية
من المال وما يجرى مجراه وإن كان قد يراد به ما يؤثر من المكارم أيضا ولكنه بهذا المعنى
يكون من اجزاء الشرف، والنسب الأصل.
واما بيان هذا الحكم انك قد علمت أن الكمال الذي يخص الانسان
على قسمين، وذلك لأنك علمت أن لنفسه قوتين، نظرية وعملية فلذلك كان كمال
إحداهما وهي النظرية تحصيل المعارف الحقيقية والعلوم اليقينية وكان كمال الأخرى
وهي العملية وغايتها نظم الأمور وترتيبها فإذا حصل للانسان الكمال في هاتين القوتين فقد
سعد السعادة التامة، اما كماله النظري فان يحصل لنفسه المعقولات الأولى التي هي
العلوم الأولية المعدة لتحصيل المعقولات الثانية وينتهى في الترقي إلى درجة العقل المستفاد
كما قررناه، واما كماله بحسب قوته العملية فهو الكمال الخلقي ومبدؤه من ترتيب قواه وافعاله الخاصة بها حتى لا تتغالب (1) وتتسالم فيه بحسب تمييز قوته النظرية مترتبة منظومة
كما ينبغي وينتهى إلى الترتيب المديني (2) الذي يترتب فيه الافعال والقوى بين الناس حتى
ينتظموا كذلك (3) الانتظام ويسعدوا سعادة مشتركة كما وقع ذلك في الشخص الواحد
فإذا الكمال الأول بمنزلة الجزء الصوري والكمال الثاني بمنزلة الجزء المادي ولا تمام لأحدهما
دون الاخر (4) فان بالعمل يتم العلم والمبدأ بلا تمام ضائع، والعلم مبدء للعمل والتمام بلا مبدء
ممتنع، وفى كلام علي عليه السلام: " العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل
فان اجابه والا ارتحل " وهو يحقق ما قلناه، فإذا بلغ الانسان إلى النهاية في هاتين المرتبتين

(1) - ا ج د: " حتى تتغالب ".
(2) - ج د: " الديني.
(3) - ج د " ذلك ".
(4) - ج د: " الا بالآخر ".
65

فقد فاز الفوز التام إذ (1) صار عالما صغيرا فتصور حقائق الموجودات وتمثلت في ذاته
ثم حصل على فضيلة العدالة بجميع اجزائها وأنواع اجزائها فحصل على الوسط الحقيقي
المعبر عنه في الرموز الإلهية بالصراط المستقيم فلم يفته من النعيم شئ إذا استعد بهذا
الكمال لجوار رب العالمين إذا عرفت ذلك فاعلم أنه عليه السلام عبر بالعقل عن الكمال
الأول وبالأدب عن الكمال الثاني، وينبغي ان يعلم (2) انه لا فخر ولا مباهاة الا بهذه
الفضائل فقط، واما الفخر الوهمي كافتخار من يفتخر بما جمع من مال أو بما سبق له من
الأسلاف لأنهم كانوا على شئ من أنواع الفضائل أو عليها كلها فليس بفخر، اما
بالمال فلان الشرف الحقيقي لا يعتبر الا بالكمال النفساني الباقي ابدا فالفخر والمباهاة
ليس الا به.
والمال ليس كذلك اما أولا فلانه ليس بفضيلة نفسانية فلا يكسب سعادة
أخروية بل ربما أكسب ضدها وإذا كان خارجا عن نفس الانسان كان المباهى به مباهيا
بأمر خارج عنه، ومن باهى بما هو خارج عنه فقد باهى بما لا يملكه. واما ثانيا فلانه غير
باق وكيف يبقى ما هو معرض للآفات والزوال في كل لحظة وليس صاحبه منه على ثقة
في وقت من الأوقات، وإذا كان كذلك فترى انه مما لا (3) يستحق ان يباهى (4) به
ويفخر واصدق الأمثال فيه قوله تعالى: واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين
من أعناب (إلى قوله) فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها
ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا (5) وقوله: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه
من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ
مقتدرا (6) وقد اشتمل القرآن والسنة النبوية لذلك (7) على أمثلة كثيرة.

(1) - ا: " إذا ".
(2) - ب د: " تعلم ".
(3) - كلمة " لا " ليست في أب.
(4) - د: " لا يباهى " فالكلمة في موضع من نسخة " د " زائدة ومن نسختي " أب " ساقطة.
(5) - إشارة إلى سبعة آيات في سورة الكهف (من آية 32 - 38).
(6) آية 45 من سورة الكهف.
(7) - ج د: " كذلك ".
66

واما الفخر بالنسب فغاية ما يدعيه المفتخر المتشرف به إذا كان صادقا ان آباءه
واسلافه كانوا قد جمعوا الفضائل وحصلوا على الكمالات التي بها الفخر والشرف لكن
انظر إليه لو حضر أسلافه وقالوا: الفضل الذي تدعيه فينا هو لنا دونك فنحن مستبدون
به فما الذي فيك منه مما ليس في غيرك؟ فإنك تجده حينئذ مفحما مسكتا خجلا
غير حاصل على شئ، واليه الإشارة بقوله عليه السلام: لا تأتوني بأنسابكم وائتوني بأعمالكم. وحكى عن مملوك كان لبعض الحكماء انه افتخر عليه بعض رؤساء زمانه فقال له
المملوك: ان افتخرت على بفرسك فالحسن والفراهة للفرس لا لك، وان افتخرت ببزتك (1) وآلاتك (2)، فالحسن لهما دونك، وان افتخرت بآبائك فالفضل كان لهم (3)
دونك، فإذا كانت المحاسن والفضائل كلها خارجة عنك وأنت منسلخ منها وقد
رددناها على أهلها بل لم تخرج عنهم حتى ترد إليهم (4) فأنت من!؟ (5) وحكى عن بعض
الحكماء انه دخل على بعض الأغنياء وكان يحتشد في الزينة (6) ويفتخر بكثرة ماله وآلاته
وحضرت الحكيم بصقة فتنخع بها والتفت في البيت يمينا وشمالا فوجد البيت كله مزينا
بالآلات المستحسنة فلم يجد لها موضعا فبصق في وجه صاحب البيت، فلما عوتب على
ذلك قال: نظرت إلى البيت وجميع ما فيه فلم أجد أقبح منه فبصقت عليه، وهذا يكون
استحقاق الخالين (7) من الفضائل النفسية المفتخرين بالأمور الخارجية الوهمية، شعر:
من كان مفتخرا بالمال والنسب * فإنما فخرنا بالعلم والأدب
لاخير في رجل حر بلا أدب * لاخير فيه ولو يمشى على الذهب
ولهذا السر صدق عليه السلام في مقاله الصادر عن كماله: الشرف بالعقل والأدب
لا بالحسب والنسب.

(1) - ج: " بنزلك " د: " بمنزلك ".
(2) -: " وبآلائك ".
(3) - ا ب: " فيهم ".
(4) - ب ج د: " عليهم ".
(5) - كذا في النسخ: وكان القياس ان يقال: من أنت؟ فكأنه كان اصطلاحا
خاصا مستعملا في مقام التحقير هكذا.
(6) - ج د: " يحتسد في الرتبة ".
(7) - ج د: " استخفاف الحالين "
67

الكلمة العاشرة
قوله عليه السلام: لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال.
أقول: المراد بالنظر ههنا الاعتبار العقلي لا النظر بالبصر فإنه غير لائق ههنا
وذلك أنه لما كان الفخر الأبدي والشرف السرمدي إنما هو بالتحلي بالكمالات العقلية والفضائل الخلقية بعد التخلي عن ادناس أضدادها ونزع اطمار مقابلاتها، وكان
ما يعد في العرف كمالا ونقصانا ويظن في الظاهر جمالا وقباحة (1) من حسن البزة
ونضارة الوجه وقبح منظرهما وما يعتبر من مشخصات الشخص اللازمة له في الوجود وما
يصحبها من عز وذل، وفقر وغنى، وشرف بيت وخسة، ورفعة أصل ودناءة، وغير
ذلك أمورا وهمية واحكاما خيالية صير إليها من متابعة النفس للقوة الشهوية وغفلتها
عن الكمال الحقيقي والنقصان البائر، وكانت العناية الإلهية قد اقتضت ان (2) القوة
النطقية معربة عما يحصل في ضمير الانسان ومفهمة لما في ذهنه مما لا يطلع عليه غيره
من الكمالات والنقصانات النفسانية المدلول عليها بالالتزام من مخاطباته، والمستنبطة
بالانتقالات الفكرية من أقواله ومحاوراته، لاجرم حق لذوي العقول ان يلاحظوا بنواظر
بصائرهم ما يقول القائل حين يقول، فيستدلوا (3) ينظم قوله وترتيب ألفاظه واستلزامها للحكم
النفسية والآداب الخلقية على كمال عقله، وبضد ذلك على نقصان عقله، ويكون ذلك سببا لفهم مقداره وادراك وزنه، وانه هل هو في حيز الملائكة المقربين، أو في مرابض البهائم، وبين ذلك، ولا ينظروا إلى من قال أي إلى الشخص من حيث إنه ذلك الشخص
والى الأمور المشخصة له والكمالات المزينة لذلك الشخص التي إنما تعد كمالا في
بادي الرأي فإذا اعتبرت حقيقتها كانت وبالا، والمنهى عنه ههنا هو النظر الأول إليها

(1) - ج د: " قباحا " وهو بالضم مصدر بمعنى القباحة.
(2) - " ان " ليست في ب ج
د، وكان الأولى أن تكون العبارة هكذا " أن تكون ".
(3) - ا ج د: " ويستدلوا ".
68

الحاكم بكونها من الكمالات التي ينبغي ان تقتنى فإنه يجب على العاقل ان لا ينظر (1) إلى
الشخص من حيث إنه موصوف بتلك الكمالات الوهمية ولا يعتبره ويلتفت (2) إليه (3)
من هذه الجهة، وكذلك لا يعتبره من حيث إنه ذو فقر ومسكنة أو في اطمار ورثاثة حال
أو انه ليس من الأصول الشريفة والاباء المعرقة (4) فيرفضه لذلك ويستنقصه فان المرء
بأصغريه، قلبه ولسانه، ولا يغرنك جل تحته دبر (5) فان ما يعد في الظاهر كمالا لو كان
هو الكمال الحقيقي لكان الأحق به والأولى سيد المرسلين والكامل من عباد الله ولما منح
البعداء عن واهب الكل من ذلك الكمال مثقال خردلة، والتاليان باطلان فالمقدم كذلك
اما الملازمة فلان العناية الإلهية جلت عن وضع الأشياء إلا في مواضعها، واما التاليان
فظاهر البطلان بل يعتبره (6) من أقواله المستلزمة لنقصانه أو كماله فيحكم عليه بأحدهما بعد
الاختبار فيكبره ويكرمه أو يحتقره ويهينه عن سهام بصيرة خرقت أستار غيبه ولمحت
اسرار لبه، والله تعالى هو الموفق.
الكلمة الحادية عشر
قوله عليه السلام: إذا تم العقل نقص الكلام (7) أقول: سر هذه الكلمة ظاهر مما سبق وذلك أن النفس كلما ازدادت علوا في

(1) - ا: " ان ينظر ".
(2) - ب: " يلفت ".
(3) - في النسخ " عليه " (4) - من
قولهم: أعرق فلان أي صار عريقا في الكرم.
(5) - ا: " وبر " ب " دبره " وفى كتب اللغة: دبر البعير كفرح فهو دبر أي صار ذا دبرة وهي بالتحريك قرحة الدابة والبعير ومنه المثل المعروف: هان على الأملس ما لاقى الدبر، والأنثى دبرة ودبراء.
(6) - ج تعتبره " (بصيغة الخطاب) وكذا في الافعال الآتية.
(7) نقل السيد الرضى (ره) هذه الكلمة في نهج البلاغة في باب الكلم القصار وشرحها ابن ميثم (ره) ضمن شرحه لذلك الكتاب هكذا (ص 588 من الطبعة الأولى): " تمام العقل يستلزم كمال قوته على ضبط القوى البدنية وتصريفها بمقتضى الآراء المحمودة الصالحة ووزن ما يبرز إلى الوجود الخارجي عنها من الأقوال والافعال بميزان الاعتبار، وفى ذلك من الكلفة والشرائط ما يستلزم نقصان الكلام بخلاف مالا يوزن ولا يعتبر من الأقوال.
69

مراتب الكمال كان ضبطها للقوة المتخيلة أشد فكان الكلام الصادر عنها أقل وجودا
إذ لا يصدر عنها حينئذ كلمة الا عن ترو وتثبت ومراجعة لعقلها في كيفية وضع تلك
الكلمة واستلاحة ما تؤول إليه وما يلزم عنها من المفهومات وتمييز احتمالاتها وحركة الفكر (1)
في استحضار السبب الموجب للكلام حتى تصير الكلمة الخارجة مهذبة مميزة محكمة
متقنة لا يكون منها حذر ولا يلحق بسببها ضرر، وإذا كانت كلمة تامة العقل موقوفة
الوجود على هذه الشروط الكثيرة والأسباب البعيدة فلابد وأن تكون أقلية الوجود
وتزداد أقلية وجودها بحسب زيادة درجات العقل إلى أن يصير السكوت في موضعه
والكلام في موضعه ملكة وخلقا للعاقل، وهذا بخلاف ناقص مراتب العقل فإنه كلما كان
عقله انقص كان خروج الكلام منه أكثر وأقبح، وذلك لقلة ضبط القوة العاقلة للمتخيلة
وعدم مراجعة العقل العملي للقوة النظرية في استنباط الآراء الصالحة والأقوال المصلحية
وذلك لنقصان درك القوة النظرية وبالجملة لأقلية الشروط الموجبة لقله الكلام،
والعلة كلما كانت ابسط كان صدور المعلول عنها أقرب وأسرع، وبالله التوفيق
الكلمة الثانية عشر
قوله عليه السلام: لا داء أعيا من الجهل.
أقول الداء المرض والاعيا (2) الذي لا دواء له كأن الأطباء عيوا عن دوائه،
والجهل قد يراد به عدم العلم عما من شأنه ان يعلم كالانسان، وقد يراد به الاعتقاد الجازم
الغير المطابق الحاصل من شبهة (3) الدليل، والمعنى الأول عدمي ويقابل العلم تقابل العدم

(1) - ب: " خ ل: الفعل ".
(2) - ا ب: " العياء ".
(3) - ج د: " شبه ".
70

والملكة ويسمى جهلا بسيطا والثاني وجودي ويقابل العلم تقابل التضاد ويسمى جهلا
مركبا، واطلاق لفظ الجهل بحسب الاشتراك اللفظي، واعلم أن الداء قد يكون بدنيا
وقد يكون نفسانيا وعلى الحالين فقد يكون ذا عياء وقد لا يكون، ثم النفس وان كانت
ذات ادواء كثيرة غير أن أشدها عياء وأقواها سببية للبعد عن الرحمة الإلهية هو داء
الجهل المركب خصوصا ما كان منه مضادا للعلم بالصانع تعالى وصفاته فإنه لا يرجى له
صلاح ولا يتوقع لصاحبه (1) فلاح، وهو المنبع (2) لأكثر الأمراض النفسانية وذلك انك
لما (3) عرفت ان الكمال الدائم والسعادة التامة للنفس إنما هو بحصول العلم بمباديها وتصور
الحضرة الإلهية كما هي بحسب الامكان فاعرف ان النقصان اللازم والشقاوة الثابتة
إنما هي بحصول الاعتقادات المضادة لذلك اليقين وتمكنها من جوهر النفس لعدم امكان
اجتماعهما، واما الجهل البسيط فيمكن علاجه إذا كان غير مناف للعلم الذي هو سبب
السعادة وكذلك سائر الأمراض النفسانية بعد أن تكون للنفس المسكة (4) التامة بمباديها
العالية فان أكثرها تكون اما حالات غير متمكنة من جوهر النفس أو هيئات مستفادة
من الأمزجة فتزول بزوالها، واما سائر الأمراض البدنية فإنه وإن كان فيها مالا يمكن علاجه
لكن تفاوت ما بين الموتين (5) بتفاوت ما بين المريضين (6) وتفاوت ما بين المريضين (7) بتفاوت
ما بين الغايتين من صحتهما وعافيتهما، وعرفت ان غاية عافية النفس هو تحصيل الكمال
الباقي وغاية صحة البدن في الغالب كمال فان فان بصحته للنفس كمالا ما يكون باقيا (و) كان
ذلك مشروطا بصحتها عن داء الجهل حتى لو كان متمكنا من جوهرها لكان كل
سعى بدني عليها وبالا ونقصانا وخيبة وخسرانا ولو كان أشكل مرض بدني حاصلا (8)
مع صحة النفس عن ذلك المرض لما ضرها ذلك في معادها إذ لا تخلو مع ذلك من استفادة
كمال ما، والوصول إلى سعادة تليق بها لو فقدت (9) بسبب ذلك المرض علما وكمالا ما

(1) -: " لعلاجه ".
(2) - في النسخ: " المنع ".
(3) - ب: " إذا "
(4) - ج د: " الملكة ".
(5) -: " الوجهين " د: " المرتبتين ".
(6) - ج د: " المرضين " في كلا الموردين.
(7) - ج د: " المرضين " في كلا الموردين.
(8) - كذا.
(9) - ب " فقد "
71

فقد تحقق ان داء الجهل أعيا كل داء، واما كان الداء من حيث هو غير ملائم للطبع
وكان الداء الذي هو الجهل أعيا الادواء وأعسرها برء وأكثرها مضرة على الانسان كان
في هذه الكلمة تنبيه له على أنه يجب عليه ان يجتهد في حسم أسباب هذا الداء في الابتداء
قبل استحكامه وتمكنه من جوهر نفسه ويبالغ في أن لا يعرض له فان الصحة قبل المرض
أنفع منها بعده، وطريق ذلك الحسم ان يلازم الأعمال الجميلة التي توجب كمال النفس
من أول زمانه ويتخير لنفسه أفضل الأطباء بحسب اجتهاده فإن لم يفعل واستعرض شيئا
من تلك الأسباب قبل تمكن الداء الذي تلك أسبابه وتنبه لطلب العلاج فليرض نفسه
بلجام الصبر وليلفتها بمقود الندم وليجرها بالتمرين والتعويد إلى أن ينقى لوح نفسه من
مقدمات ذلك المرض ثم ليغذها (1) بالعلوم اليقينية وملازمة الأعمال الجميلة فإنها
سترجع إلى الصحة التامة اللذيذة والسعادة الدائمة ويكون في غاية الغبطة والسرور ابدا
فقد صدق بحر العلم والفضائل: لا داء أعيا من الجهل.
الكلمة الثالثة عشر
قوله عليه السلام: لا مرض أضنى من قلة العقل.
وفى نسخة: اخفى من قلة العقل.
أقول: الضنى مخامرة المرض كلما ظن المريض انه برأ انتكس (2) واما العقل فقد
عرفته وهو مقول بحسب الاشتراك اللفظي على القوة التي بها يكون التمييز بين الأمور الحسنة
والقبيحة والسعي في مصالح البدن وتدبير المعاش وهي المسماة عقلا عمليا، وعلى القوة التي بها
يكون تكميل جوهر النفس (وهي المسماة) عقلا بالفعل، وعلى درجات استعداد هذه القوة
لتباين حدودها وحقائقها وقد أومأنا إلى ذلك غير مرة وإذا عرفت ذلك فنقول: قد تطلق

(1) - ب: " ليعدها ا: " ليبعدها ".
(2) - ب ج: " منكس " وفى اللغة: " انتكس المريض
عادته العلة بعد النقة ".
72

قلة العقل على النقصان الحاصل من جميع هذه المراتب لكن المقصود الظاهر والنقصان
البائر (1) المذموم بحسب العرف هو النقصان في العقل بالملكة أعني الاستعداد الذي يكون
لدرك المعقولات وفى العقل العملي أعني الاستعداد للتميز بين الأمور الحسنة والقبيحة، وإن كان
قد يكون النقصان ههنا تابعا للنقصان الأول وهذا التخصيص بحسب المفهوم من
هذه الكلمة والا فقد تطلق قلة العقل أيضا على عادم الغريزة وعلى العقل الهيولاني، والسبب
في ذلك هو اختلال أمر القوى النفسانية، اما لضعف الأرواح الحاملة لها وقلة كميتها
أو لسوء تركبها وامتزاجها وخروجه عن الاعتدال الذي تتمكن النفس من تصريف
القوى معه فيكون سبب عدم تمكن النفس من تصريف تلك القوى فيما يصلحها فيكون
بسببه قصور استعدادها لقصور آلتها، وقد يكون السبب في قلة تدبير أمر المعاش واصلاح
الدنيا ونقصان الاستعداد لذلك هو التفات النفس في غالب أحوالها إلى الوجهة الحقيقية
واصلاح أمر المعاد وقطع العلائق الجسمانية فيسمى صاحبها في العرف إبله ومغفلا أي
سليم الصدر قليل الاهتمام بشأن الدنيا غافل عن طلبها قليل العقل لكيفية اكتسابها وهم
الذين قال صلى الله عليه وآله فيهم: أكثر أهل الجنة البله، لكن هذا المعنى غير مراد
ههنا لان المرض ليس بمضن فضلا أن يكون أضنى من غيره إذا عرفت ذلك فنقول:
اما اطلاقه عليه السلام المرض على النقصان المذكور من استعداد النفس فاطلاق مجازى
لان المرض من الكيفيات المختصة ببدن الحيوان ووجه المناسبة ان الكيفية المسماة
بالمرض لما كانت مانعة من السعي في مصالح البدن وما يتعلق به وكان نقصان استعداد
النفس في المراتب المذكورة مانعا لها من قبول تمام الفيض الإلهي الذي من شرطه تمام
الاستعدادات لا جرم اطلق عليه السلام لفظ المرض عليه، وهي استعارة حسنه وانتقال
لطيف لا يصدر مثله الا عن مثل ذلك الذهن الصافي المتوقد. واما اثبات المطلوب
من هذه الكلمة وهو انه لا مرض أضنى من هذا المرض فيستدعى أولا بيان ان الضنى من

(1) - ب ج: " الباتر " د: " الباطن " وفى هامشه: " الباتر ".
73

يطلق على هذا المرض واطلاقه أيضا مجازى وذلك أن الضنى من عوارض الأمراض
البدنية وقد بينا وجه التجوز بلفظ المرض فكذلك يطلق عارض المرض البدني
على عارض هذا المرض لمكان المشابهة، وبيانها ان المرض البدني كما يشتد ويخامر
البدن حتى كلما ظن المريض انه برأ نكس (1) فكذلك للمذكور (2) في درجات
الاستعداد (3) مرض قد يشتد ويخامر نفسا قام بها حتى كلما ظنت انه قد كمل عقلها
وتم استعدادها فهي منتكسة (4) في ذلك المرض ناقصة العيار عند صحة الاعتبار.
واما انه أضنى من سائر الأمراض فلان خوف المرض وقوة ضرره تابع لشرف
الجزء المريض وخطره وكلما كان المرض أقرب إلى جزء شريف كان خوفه أكثر وخطره
أكبر وكان أشد وأضنى من غيره وعرفت ان النفس هي الجزء الأشرف من الانسان بل
هي تمام الانسان وان صحتها وكمالها هو المطلوب الأصلي من خلقها والسبب الغائي من
وجودها فاعرف ان مرضها أشد مرض وأضناه ونقصانها أرذل نقصان وأرداه، وتجد كل
مرض بالنسبة إليه صحة وكل ألم بالقياس إلى المه راحة.
واما على الرواية الثانية:
وهو انه اخفى الأمراض فلا شك فيه وخصوصا بالقياس إلى من لحقه وتعلق
به فان نقصان صاحب هذا المرض به هو الموجب لاعتقاده انه كامل فكل من كان
استعداده للفضل انقص كان اعتقاده الوهمي لكماله أقوى وازيد، شعر:
كدعواك (5) كل يدعى صحة العقل * ومن ذا الذي يدرى بما فيه من جهل؟!
وكل من كان استعداده للفضل أزيد كان اعترافه بالعجز عن الوصول أتم، والسبب
في ذلك محبة النفس للكمال من حيث هو وغفلة نفس الأول عن نقصانها فيعتقد ان
الكمال لها لازم، واطلاع الثاني على عيب نفسه وحاجتها إلى التكميل من نقصانها ومعرفتها

(1) - من قولهم: " نكس المريض مجهولا = عاوده المرض كأنه قلب إلى المرض ".
(2) ا: " فلذلك المذكور " (بالام بعد الفاء).
(3) - ج: " الاستعدادات
(4) - ا: " متنسكة " ب ج د: " منكسة ".
(5) - ا: " البيت مطلع قصيدة للمتنبي (انظر طبعة صادر ص 441).
74

بقدر ما هي محتاجة إليه من الكمال وشرفه وعزته، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب
لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب (1).
الكلمة الرابعة عشر
قوله عليه السلام: نعمة الجاهل كروضة في مزبلة.
أقول: النعمة في الأصل هي المال وقد كثر استعماله حتى قيل في كل كمال
يلحق الانسان انه نعمة اما بحسب الاشتراك اللفظي أو المعنوي والروضة مستنقع الماء
ومنبت الخضر، والمزبلة موضع الزبل ومرماه والمقصود الذاتي من هذه الكلمة بيان ان
الجاهل وان حصل على النعمة (2) الدنياوية بأجمعها فهي غير لائقة به وهو غير صالح لان
يكون محلا لها ومع ذلك فلابد ان تزول عنه وتقرير ذلك أن النعمة قد تكون نعمة
باقية وهي الكمال النفساني، وقد تكون نعمة فانية وهي الكمال البدني، وعلى التقديرين فقد
تحصلان معا للانسان الواحد وقد يخلو منهما وقد يحصل له إحداهما دون الأخرى والأول
آخذ بطرفي السعادتين، هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب، وان له عندنا لزلفى
وحسن مآب (3)، والثاني حاصل على خسران الصفقتين، خسر الدنيا والآخرة وذلك هو
الخسران المبين (4)، والثالث ان حصل على النعمة الباقية فهو في عيشة راضية في جنة عالية (5)،
وان اشتمل على النعمة الفانية فقط فأمه هاوية (6)، الذي جمع مالا وعدده * يحسب أن
ماله أخلده * كلا لينبذن في الحطمة (7)، والإشارة في هذه الكلمة إلى صاحب هذه النعمة.
واما تشبيهه عليه السلام لهذه النعمة بالروضة الكائنة في المزبلة فبيانه من وجهين:

(1) - آية 8 سورة آل عمران.
(2) - ا: " وان حصل له النعمة ".
(3) - آية 39
و 40 سورة ص.
(4) - ذيل آية 11 سورة الحج وصدرها: " ومن الناس من يعبد الله على
حرف فان اصابه خير اطمأن به وان اصابته فتنة انقلب على وجهه ".
(5) - آية 21 و 22 سورة الحاقة.
(6) - آية 9 سورة القارعة.
(7) - آية 2 و 3 و 4 سورة الهمزة.
75

أحدهما - ان المزبلة لا يبقى الماء فيها بل عن قليل تكون يبسا لا نداوة فيها فكذلك
الجاهل تكون نعمته معرضة (1) للزوال فهي ان لم تزل في حياته فلابد من زوالها بموتة.
الثاني - ان المزبلة لما كانت محل النجاسة كانت غير لائقة لاستنقاع الماء المنتفع
به فيها فكذلك الجاهل ذو المال لما كان غير واضع للأشياء مواضعها من حيث إنه جاهل
وغير مصرف لذلك المال كما ينبغي وفى الوجه الذي ينبغي لعدم العلم بالوجوه والمصارف
لاجرم كان غير لائق لان يكون محلا لها إذا كان غير منتفع بها بوجه.
ويحتمل وجها آخر
وذلك أن العادة في الروضة ان تعشب وتخضر بسبب استنقاع الماء فيها فربما تبقى
هذه الأعشاب وتلك الخضرة زمانا لجودة الأرض وحفظها للنداوة وإنما وزاد ما ينتفع به
الحيوان فإذا كانت الروضة في مزبلة لم تكن لائقة للانتفاع بخضرتها في مسرة وابتهاج
وغير ذلك ولم يكن للحيوان عليها اعتماد في مرعى فكذلك حال الانسان مع النعمة
الحاضرة إن كان عالما بمصارفها واضعا لها في مواضعها كان كروضة في ارض حرة (2)
ينتفع هو بها (فيدخر) في الدنيا والآخرة حمدا (3) جميلا وثوابا جزيلا وينتفع غيره بنضارة
خضرتها ونداوة (4) عشبتها (5)، وإن كان جاهلا غير واضع لها في مواضعها كان كالروضة
في مزبلة غير منتفع بها، وهذه الوجود محتملة لبيان هذا المثل وتلك الأمثال نضربها للناس
لعلهم يتفكرون (6). الكلمة الخامسة عشر
قوله عليه السلام: اغنى الغنى العقل.
أقول: الغنى قد يطلق ويراد به عدم الحاجة، وقد يطلق ويراد به حصول الأمور

(1) - كذا في جميع النسخ.
(2) - ب: " حر ".
(3) - ا: " حميدا ".
(4) - ب ج: " لذاذة.
(5) - ب ج: " عشبها ".
(6) - ذيل آية 21 سورة الحشر.
76

المحتاج إليها ويقابله الفقر بمعنين، وعلى التقديرين فإنه مقول بحسب التشكيك على
جزئياته إذ منه ما هو أشد ومنه ما هو أضعف، اما العقل فقد عرفت أقسامه ومراتبه
وحقائق تلك المراتب، وإذا كان كذلك فنقول: المراد من الكلمة بيان ان أشد درجات
الغنى العقل، المراد بالغنى حصول الأمور المحتاج إليها ههنا، فان أعظم الأمور المحتاج
إليها وأشرفها درجة في حصول الكمال بها هو العقل إذ كان سبب السعادتين وبه تنال
المقاصد الكلية وبه تحصل الكمالات الحقيقية دون ما يحتاج إليه من مال وغيره، ويمكن
ان يفسر الغنى أيضا ههنا بعدم الحاجة الا انا نحتاج (1) إلى زيادة اضمار إذ الاستعداد
المسمى عقلا ليس بعدم الحاجة بل مستلزم لعدم الحاجة إلى حصوله بعد حصوله فيصير
التقدير: أقوى درجات الغنى لازم عن حصول العقل، الا انه جعل المحمول ههنا نفس العقل
لما (2) ان حمل الملزوم مستلزم لحمل اللازم واعلم: انا لا نعني ان بمجرد حصول العقل
يحصل الغنى المطلق بل يحتاج إلى قيد آخر به يحصل ثمرة العقل المطلوبة من افاضته بالعناية
الأزلية وهو ان يعتنى باصلاح القوى البدنية وتطويعها للقوة العاقلة وتصريفها بحسب
أوامرها ونواهيها فإنك ان لم تفعل ذلك لم تخلص لذوقك حلاوة ثمرة عقلك من شوب
مرارات ثمرات طاعات تلك القوى، ولم تصف لك بها لذة عن كدورات لحقت من متابعة الهوى، والله ولى توفيقنا، وإياه نستعين على قهر الشياطين، وهو حسبنا (3). الكلمة السادسة عشر
قوله عليه السلام: أحمق الحمق الفقر (4).
أقول: الحمق نقصان العقل ويقال بحسب التشكيك على درجات النقصان فان

(1) - ا: " الا ان يحتاج " فلعله: " الا انه يحتاج ".
(2) - ب ج: " كما ".
(3) - ج:
" وهو حسبنا ونعم الوكيل ".
(4) - يقرب منه قوله (ع) الاخر: " وأكبر الفقر الحمق " وهو مما نقله الشريف الرضى (ره) في نهج البلاغة وشرحه ابن ميثم (ره) ضمن ما شرحه فمن اراده فلينظر شرح نهج البلاغة (ص 585 من الطبعة الأولى).
77

منها ما هو أشد، ومنها ما هو أضعف، والفقر يطلق ويراد به الحاجة إلى المال، ويطلق ويراد به
الحاجة إلى الفضائل النفسانية، والاستعداد الذي به يكون ادراك الأمور الكلية الأولية
وما فوقه من الدرجات وان كانت الحاجة أعم من ذلك، وقد يراد به عدم المحتاج إليه
في الوجهين، واعلم أن تقدير القضية على هذا الوجه: أشد درجات العقل نقصانا هو
الفقر فموضوع القضية قولنا: أشد درجات العقل نقصانا، ومحمولها: الفقر، والمراد بالفقر
ههنا الحاجة إلى الفضائل والاستعداد المذكور، وحينئذ يلوح لك صدق هذه القضية
فان أشد درجات نقصان العقل عدم الاستعداد المذكور المستلزم للخلو عن الفضائل
النفسانية، وقد يحمل الفقر ههنا على المعنى وهو الحاجة إلى المال أو عدمه الا ان
ذلك المعنى لا يحمل على أشد درجات نقصان العقل بأنه هو، فان الحاجة ليس نفس
نقصان العقل بل يحتاج إلى اضمار شئ آخر في ايضاح هذه القضية حتى يصير التقدير: أشد
درجات نقصان العقل لازم عن الفقر الا انه لما كان حمل الملزوم يستلزم حمل اللازم
اكتفى في الكلام مراعاة للوجازة بحمل الملزوم. واما علة هذا الحكم فلان العقلاء اتفقوا
على أن المال مهذب لصاحبه وموجب لزيادة العقل ومنشط 1) لاكتساب الملكات الفاضلة
عند استعماله في الوجوه التي ينبغي ولذلك قالت الحكماء: ان المال إنما جعل زيادة في
القوة (2) والرأي وضربوا لذلك الأمثال كالمثل المشهور في كتاب كليلة ودمنة في الباب
الثالث منه على لسان الجرذ الذي زعموا انه كان في بيت الناسك (3) وإذا كان كذلك علمت أن
الحاجة إلى المال المسمى فقرا عند تحققه في محل يستلزم خلو ذلك المحل عن تلك
الكمالات النفسانية مع ما يلزم الفقر من حيث هو فقر من عدم مقاومة النفس للهوى
وانقيادها لقبائح اللذات ومن ارتكاب الرذائل الردية كالحسد والمهانة وانقهار (4) النفس
وانفعالها فيما يطلب منها مما يوجب السقوط في مواقع (5) التهم والدخول فيما لا ينبغي المستلزم
كل ذلك نقصان العقل ورداءته، وحينئذ يتضح المعنى على هذا التقدير الا ان في هذا

(1) - ا د: " ينشط ".
(2) - ا: " للقوة ".
(3) - انظر باب الحمامة المطوقة.
(4) - ا " انتهار ".
(5) - في النسخ: " ومواقع ".
78

الوجه تعسفا ما، ومع ذلك فان لقائل ان يقول: ان الفقر بالمعنى المذكور وان أوجب
نقصانا للعقل الا انه لا يكون أشد نقصان، ويمكن ان يقال: ان الأشدية ههنا إضافية
أي ان الدرجة من النقصان التي يوجبها الفقر بالنسبة إلى ما هو أضعف منها، وفيه
ما فيه من التكلف.
الكلمة السابعة عشر
قوله عليه السلام: افقر الفقر الحمق (1).
أقول: قد عرفت ان الفقر يطلق على الحاجة المذكورة إلى طرفي المال والفضيلة
النفسانية وعلى عدم الأمور المحتاج إليها اطلاقا في كل معنى من هذه الثلاثة على جزئياته
بحسب التشكيك فان درجات الفقر متفاوتة بالشدة والضعف، وإذا عرفت ذلك
فنقول: المقصود من هذه الكلمة الحكم بان أشد درجات الفقر هو نقصان العقل وعلة
هذا الحكم انه لما كان بين درجة الفقر التي هي الحاجة إلى المال والتي هي الحاجة إلى
الفضائل النفسانية من التفاوت بالشدة والضعف ما يكاد يوجب الحكم بأنه لا نسبة
بينهما ولا اشتراك فلا جرم صح حمل الحمق على أشد الفقر حملا بأنه هو، إذ الحمق في الحقيقة
أشد فقر يفرض كما علمت، وهاتان الكلمتان آخذتان بمجامع الحسن لفظا ومعنى فانظر
أيها الأخ إلى هذا الإمام الفاضل سلام الله عليه كيف جمع في هاتين الكلمتين بين الوجازة
والجزالة، شعر:
وهل فيه عيب لمن عابه؟! * سوى انه رجل فاضل

(1) - أشرنا في ذيل الكلمة السابقة إلى ما في نهج البلاغة مما يقرب من ذلك فان
شئت فراجع شرح نهج البلاغة للشارح (ره) ص 585 من الطبعة الأولى.
79

الكلمة الثامنة عشر
قوله عليه السلام: الحكمة ضالة المؤمن (1).
أقول: قد عرفت اقسام الحكمة وحقائقها، والضالة ما ضاع من البهيمة للذكر
والأنثى، والايمان في اللغة التصديق، وفى عرف الشريعة عبارة عن التصديق بكل ما
علم مجئ الرسول به ضرورة وهو مذهب المحققين من المتكلمين كأبى الحسن الأشعري
واتباعه، (والمؤمن من اتصف بصفة التصديق) (2) ويقابله الكافر لمن لم يتحقق (3) فيه هذه
الكل وعليه رأى أبي حنيفة، وعند جمهور المعتزلة والسلف الصالحين رضي الله عنهم انه
اسم للمطيع. ولما كانت الطاعة عندهم (4) لا يتحقق الا باجزاء ثلاثة، التصديق بالقلب
لما جاء به الرسول، والاقرار باللسان، والعمل بالأركان، كان الايمان أيضا كذلك فالمؤمن
لا يستحق اطلاق هذا الاسم عندهم الا إذا تحققت فيه هذه الاجزاء الثلاثة فهي اجزاء
ماهية الايمان ويقابله الفاسق لمن أخل بشئ من هذه الاجزاء إذ يمتنعون من تسمية التارك
لاحدها مؤمنا لعدم ماهية الايمان منه، ويخصون اسم الكافر بتارك الكل أو (5) الجاحد ظاهرا (6)
وان عمل لان العمل مترتب على التصديق وعليه الإمام الشافعي رضي الله عنه (7) من الفقهاء
وإذا عرفت ذلك فاعلم أنه عليه السلام حكم بأنها ضالة المؤمن وشبهها بالضالة
من وجهين:
أحدهما - ان من شأن الضالة ان صاحبها ينشدها ويطلبها ويجتهد فيها بالجعل وغيره

(1) - نقلها الشريف الرضى (ره) في نهج البلاغة وقال الشارح ابن ميثم (ره) في شرحها (ص 590 من الطبعة الأولى): " استعار لفظ الضالة للحكمة بالنسبة إلى المؤمن باعتبار انها مطلوبة
الذي يبحث عنه وينشده كما ينشد الضالة صاحبها ".
(2) - كأن مثل العبارة سقطت من
هنا بقرينة ذكر الكافر بعده بعنوان المقابلة ولعله " والمؤمن من تحققت فيه هذه الصفة ".
(3) - ب: " يتحقق فيه ".
(4) - ب: " عنهم ".
(5) - ج د: " و ".
(6) - ب ج: " ظاهر ".
(7) - كلمة الترضى في ب فقط.
80

فكذلك طالب الحكمة يجتهد في طلبها بحسب البرهان ويبالغ في التفتيش عن كيفية المسالك
في طلبها ويلتمس معرفتها من أفواه الأستاذين من العلماء وأهل المعارف كما يلتمس صاحب
الضالة ضالته من أفواه المنشدين والعارفين بها وبمظانها فلا جرم كانت ضالة بالنسبة إليه.
الثاني - انه لما كان من شأن الضالة ان لا تنفك عن أحد وجهين، اما ان يجدها
طالبها ويفوز بمقاصده وخاصة إن كان متقربا بطلبها إلى من هو أعلى منه متوقعا على وجدانها
الحباء (1) والمنحة، واما ان لا يجدها فيبقى في الأسف والخوف والحرمان فكذلك الحكمة
لما كان من شأنها انه اما انه يجدها طالبها أوليس، فان وجدها فقد فاز بالمقاصد الكلية
وحصل على الأغراض الباقية، وان لم يجدها وهو متقرب بها إلى نيل رضا الله تعالى ومستعد
بها لقبول نعمه الباقية في جواره المقدس فقد حصل على الخيبة وضياع السعي وحرمان ما
الحكمة إلى نيله وسيلة فكانت بالحقيقة ضالة وأي ضالة.
واما تحصيص المؤمن بها فلان غير المؤمن اما غير المصدق واما العاصي، اما
غير المصدق فتكذيبه ينافي طلبه لان الجزء الأشرف من الحكمة هو معرفة الصانع والمكذب
بوجوده كيف يطلب معرفته؟! وكذلك عصيان العاصي حال عصيانه (2) مناف لطلبه
وهو ظاهر، فهذا هو المفهوم من هذه الكلمة، والله تعالى يجعل خاتمة سعينا في طلبها وجدانا
لها، ويرشدنا على منشديها، ويدلنا على معرفتها والعارفين (3) بها عن صدق، والمطلعين
على اسرارها بيقين وهو (4) الموفق.
الكلمة التاسعة عشر
قوله عليه السلام: المرء عدو ما جهله. (5) أقول: العداوة بغض صادق يهتم معه بجمع (6) الأسباب المؤذية للمبغوض ومحبة فعل

(1) - الحباء بالكسر بمعنى العطاء بالفتح.
(2) - " عصيانه " ليس في نسخة ا.
(3) - " معرفتها العارفين ".
(4) - ا: " والله ".
(5) - وفى معناه ما نقله الشريف الرضى (ره) في الباب الثالث من نهج البلاغة بهذه العبارة: " الناس أعداء ما جهلوا " وقال شارح هذا الكتاب الحاضر في شرح العبارة في شرح نهج البلاغة ما
نصه (ص 603 من الطبعة الأولى): " الجهل بالشئ مستلزم لعدم تصور منفعة العلم به فيحصل الجاهل من ذلك على
اعتقاد انه لا فائدة في تعلمه فيستلزم ذلك مجانبته له ثم يتأكد تلك المجانبة والبعد بكون
العلم أشرف فضيلة يفخر بها أهله على الجهال ويكون لهم بها الحكم عليهم وانتقاصهم وحطهم
عن درجة الاعتبار مع اعتقاد الجهال لكما لهم أيضا لذلك فيشتد لذلك مجانبتهم للعلم وأهله وعداوتهم لهذه الفضيلة ".
(6) ب ج: " بجميع ".
81

الشر الذي يمكن فعلة به، واما الجهل فقد عرفت أقسامه وحقائقها والمقصود اثبات
العداوة للجاهل مع ما يجهله بالمعنيين المذكورين للجهل وبيانه هو ان القوة الوهمية غير مدركة
للأمور المعقولة بل إنما تدرك المحسوسات وتوافق الحس وتتبعه في احكامه من (1) المحسوسات
حقه (2) ويصدقها العقل فيها ولمطابقتها العقل كانت الهندسيات وما يجرى مجراها سديدة
الوضوح لا يكاد فيها اختلاف في الآراء إذ (3) لا يعارض العقل في شئ منها واما المعقولات
الصرفة فهي منكرة لها ومكذبة بها لقصورها عن ادراكها، ولذلك كانت احكامها فيها
كاذبة يكذبها العقل فيها كحكمها بان كل موجود فلابد وان (4) يكون في جهة لما (5) ان
كل محسوس كذلك فكذب العقل ذلك بما ان بعض الموجودات ليس كذلك كالباري
تعالى (6) فإذا (7) عرفت ان هذه القوة لاحظ لها في ادراك المعقولات الصرفة وانها منكرة
لها ومائلة بمقتضى طبعها وفطرتها إلى الأمور المحسوسة فنقول: ان الجاهل بالشئ إن كان
جهله به بسيطا كان السبب في بغضه له ومقابلته بالانكار قصور قوته العاقلة عن ادراكه
ومطاوعتها للقوة الوهمية التي هي بمقتضى جبلتها منكرة له وغير قابلة للتصديق به الا في
صورة محسوس 8)، وإن كان مركبا كان السبب في ذلك البغض والنفار هو مساعدة القوة

(1) - ب ج د: " في ".
(2) - كذا في جميع النسخ.
(3) - ا: " و ".
(4) - ج د: " فلابد ان ".
(5) ا: " كما ".
(6). ب ج: " عز اسمه ".
(7) - ب ج: " وإذا ".
(8) - ج د: " محسوسة ".
82

العاقلة للقوة الوهمية على الانكار لقصورها عن الاطلاع على ذلك الامر مع زيادة أقوى
وهي تكيف النفس بالاعتقاد الثابت الجازم المضاد لحصول ذلك المعقول ولذلك كانت
عداوة من تلبس بظاهر الشريعة ممن يدعى التفقه والزهد وليس به للمحققين وأصحاب
الانظار الدقيقة وجمع العلوم الجليلة أشد وأقوى من عداوة العوام والخالين من العقائد المضادة
للعلم حتى ربما أطلقوا الفتيا بإباحة دمائهم وأوهموا الملوك بالأباطيل الصادرة عن عقائدهم
الفاسدة التي ربما كان أكثرها متأكدا بالحسد في الرتب الحاصلة عن ذلك العلم والكمال
انهم كفار يضلون الخلق ويفسدون في الأرض بغير الحق، وهؤلاء لا يرجى صلاحهم ولا -
ينتظر فلاحهم. واما الأولون فهم وان عادوا ما جهلوا وأبغضوا ما لم يتصوروه فإنهم ربما
انقادوا بالتعويد والممارسة وجذب المؤدب الحاذق بلطافته إلى سبيل الخير إذ (1) كان فطام
النفس عن رضاع لبان الوهم وإن كان صعبا لكنه ممكن بحسب التدريج والتعويد فقد لاح
لك سر قوله عليه السلام: المرء عدو ما جهله.
الكلمة العشرون
قوله عليه السلام: قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل وراء قلبه (2).
أقول: قد سبق ان المراد بالقلب في عرف أهل العرفان النفس ثم ليس المقصود

(1) - ا: " إذا ".
(2) - في الباب الثالث من نهج البلاغة وهو باب الكلم القصار (انظر شرح ابن ميثم (ره)
شارح هذه الكلمات على ذلك الكتاب ص 585 من الطبعة الأولى).
" وقال عليه السلام: لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه، قال السيد (ره):
وهذا من المعاني العجيبة الشريفة والمراد به ان العاقل لا يطلق لسانه الابعد مشاورة الروية
ومؤامرة الفكرة، والأحمق يسبق حذفات لسانه وفلتات كلامه على مراجعة فكره ومماحضة
رأيه فكأن لسان العاقل تابع لقلبه وكأن قلب الأحمق تابع للسانه.
وروى عنه هذا الكلام بلفظ آخر وهو:
قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه.
وأقول: انه استعار لفظ الوراء في الموضعين لما يعقل من تأخر لفظ العاقل عن رويته
ومن تأخر روية الأحمق وفكره فيما يقول عن بوادر مقاله من غير مراجعة لعقله والمعنى ما
أشار إليه السيد (ره) وعلى الرواية الأخرى فأراد ان ما يتصوره الأحمق هو في فيه اي
يبرز على لسانه من غير فكر واما نطق العاقل فمخزون في عقله لا يخرج الا عن روية صادقة،
ولفظ القلب في الأول مجاز فيما يبرز من تصوراته في ألفاظه ولفظ اللسان مجاز في ألفاظه الذهنية ".
83

ههنا ان القلب نفسه في الفم فإذا هو ما يقوم بالنفس من التصورات وجودها (1) في الفم
عبارة عن ظهورها في العبارة اللسانية الخارجة من الفم، وكذلك ليس المقصود من لسان
العاقل هو هذه اللحمة المخصوصة فانا لو قلنا: ان المراد بالقلب أيضا اللحمة المخصوصة لم يكن
اللسان وراء لها بل المقصود العبارة إذ يطلق عليها انها لسان أيضا كما يقال: اللسان الفارسي
مخالف للعربي، واليه الإشارة بقوله تعالى: واختلاف ألسنتكم وألوانكم (2) وليس المقصود هو هذا
الشكل اللحمي، ثم ليس المقصود من الوراء أيضا الجهة الحسية فان النفس لا جهة لها حتى
يتعين لها وراء، بل الجهة العقلية، ولا من النفس أيضا ذاتها بل تصوراتها الصادرة عن
الأفكار الصادقة، وحينئذ يصير تقدير الكلمة هكذا: الاسرار القائمة بنفس الأحمق وما ينبغي
منه ان لا يظهره موجود في فمه اي عبارته اللسانية، واما العاقل فعبارته بما (3) يتكلم
به تابع لتصوراته العقلية الصادرة عن الأفكار الصادقة.
واما السبب في تكلم الأحمق بالجزاف وبما لا ينبغي هو إما عدم الفكر في استنباط
الواجب فيما يجب ان يفعل من الأمور الانسانية أو رداءة تلك الأفكار لقصور استعداد

(1) - ج: " ووجودها ".
(2) - من آية 22 سورة الروم وتمامها: " ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف
ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لايات للعالمين ".
(3) - ا: " لما ج د: " مما ".
84

النفس عن الترتيب الصحيح فهي لقصورها غير مطلعة على قصورها بل معتقدة للكمال
ومع ذلك فإذا لم يتوقف تحريكها وفعلها على فكر ولا ترو كان كل ما يتصوره مبذولا
مذاعا (1) سواء كان مما يجوز ابداؤه أولا يجوز. واما العاقل فلما كانت أفعاله واستنباطه
للواجب موقوفا على الأفكار الصحيحة والنظر والتروي لاجرم كانت أقواله المعبر عنها
بلسانه تابعة لأفكار عقله فكان لسانه وراء قلبه، والله الموفق للصواب.
الكلمة الحادية والعشرون
قوله عليه السلام: ظن العاقل كهانة.
أقول: الظن هو الاعتقاد بأحد النقيضين فإن كان مطابقا للمعتقد كان ظنا صادقا
وان لم يطابقه كان كاذبا، وصدق هذا الاعتقاد وكذبه تابعان لصحة ترتيب الامارات و
فسادها وصدقها وكذبها، فان ترتيب الامارات الصادقة ترتيبا صحيحا على القانون الذي
يجب رعايته في صحة القياس استلزم ذلك الترتيب إفاضة الظن الصادق على الذهن وان
اختل قيد من تلك القيود لم يحصل أولم يحصل مطابقته للمعتقد وهو قابل للشدة والضعف
وتنتهى مراتبه في القوة إلى الجزم وفى الضعف إلى الشك، ويستعان في طلب قوته بكثرة
الامارات وجمعها والنظر فيها، وقد يحصل هذا الاعتقاد عن كثرة التخيلات بسبب اليبس
العارض لمزاج الروح الحامل للقوة المتخيلة فتخف حركتها بسبب ذلك ويقل ضبط
النفس لها لفساد آلتها ولكنه يكون ظنا كاذبا ولا عبرة به.
واما الكهانة فهي ضرب من الاطلاع على الأمور الغيبية وقد علمت كيفية السبب
في الاطلاع عليها غير أن الآثار الصادرة عن الكاهن ضعيفة قليلة بحسب ضعف استعداده
وقلته ولذلك لا تتمكن في الغالب من الاخبار بشئ من غير سؤال بل يحتاج إلى سؤال
باعث له على التلقي والاعداد لنفسه بالحركة وغيرها مما يدهش الحس ويحير الخيال
كما حكيناه عند بيان السبب فعندما يعتنى الوهم ويتوكل بذلك الطلب فكثيرا ما يعرض

(1) - ا: " مبددا لا مراعى ".
85

للكاهن اتصال ويكون لمح الغيب، تارة بضرب من الظن القوى، وأخرى بجنى خطاف (1)
أو هاتف لا يرى (2).
وإذ قد بان لك ان الكهانة ضرب من تلقى المغيبات
فنقول: ان ظن العاقل في أغلب أحواله يكون بحسب نظره في الامارات الصادقة
الكثيرة فتتعود نفسه بالاستعداد بذلك لسرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب، وقد يكون
العاقل ذا قوة قدسية فيكون استعداده أتم وأقوى فيكاد يخطئ، أولا يكون ظنه مطابقا،
".

(1) - إشارة إلى قوله تعالى: " الا من خطف الخطفة، الآية " (سورة الصافات، 10).
(2) - اعلم أن للشارح (ره) كلاما نفسيا في بيان معنى الكاهن والساحر ذكره في شرح
نهج البلاغة في شرح قول أمير المؤمنين (ع): " فإنها تدعوا إلى الكهانة " فمن اراده فليراجع الكتاب
(ص 195 - 194 من الطبعة الأولى).
فليعلم أيضا ان الشارح (ره) يشير بما قال هنا إلى ما ذكره ابن سيناء في إشارة من
إشارات أواخر الشفاء فلا بأس بذكر كلامه وهو قوله:
" إشارة - انه قد يستعين بعض الطبائع بأفعال يعرض منها للحس حيرة وللخيال وقفة
فتستعد القوة المتلقية للغيب تلقيا صالحا وقد وجه الوهم إلى غرض يعينه فيتخصص بذلك
قوله مثل ما يؤثر عن قوم من الأتراك انهم إذا فزعوا إلى كاهنهم في تقدمة معرفة فزع هو إلى شد
حثيث جدا فلا يزال يلهث فيه حتى يكاد يغشى عليه ثم ينطق بما يخيل إليه والمستمعة يضبطون ما ينطق
له ضبطا حتى نبهوا عليه تدبيرا ومثل ما يستنطق في هذا المعنى بتأمل شئ شفاف مرعش للبصر برجرجته
أو مدهش إياه بشفيفه، ومثل ما يشغل بتأمل لطخ من سواد براق، وبأشياء تترقرق وبأشياء تمور فان
جميع ذلك ما يشغل الحس بضرب من التحير، ومما يحرك الخيال تحركا محيرا كأنه اجبار لا طبع،
وفى حيرتهما احتيال فرصة الخلسة المذكورة، وأكثر ما يؤثر هذا ففي طباع من هو بطباعه إلى
الدهش أقرب وبقبول الأحاديث المختلطة أجدر كالبله من الصبيان، وربما أعان على ذلك
الاسهاب في كلام المختلط لمسيس الحس وكل ما فيه تحيير وتدهيش فإذا اشتد توكل الوهم
بذلك الطلب لم يلبث ان يعرض ذلك الاتصال فتارة يكون لمحان الغيب ضربا من ظن
قوى، وتارة يكون شبيها بخطاب من جنى أو هتاف من غائب، وتارة يكون مع تراء من شئ
للبصر مكافحة حتى يشاهد صورة الغيب مشاهدة
86

كما أن الكاهن يكاد ان لا يكون تلقيه للأمور الغيبية صادقا، ويختلف ذلك بحسب اختلاف
الاستعدادات في الظان والكاهن فأطلق عليه السلام لفظ الكهانة على ظن العاقل تجوزا
حسنا للمشاركة في أن كل واحد منهما يتلقى بقوة استعداده الإفاضة وان اختلفت أسباب
ذلك الاستعداد، والمقصود بيان شرف ظن العاقل بتشبيهه بالكهانة، وتسمى العرب مثل
هذا الظان ألمعيا، قال الشاعر (1):
الألمعي الذي يظن بك الظن......... كأن قد رأى وقد سمعا
والله ولى التوفيق.
الكلمة الثانية والعشرون
قوله عليه السلام: من نظر اعتبر.
أقول: هذه شرطية متصلة قد أثبت عليه السلام فيها ان الاعتبار لازم للنظر ولنبين
حقيقة النظر والاعتبار فنقول: النظر والفكر عبارة عن حركة النفس بالقوة الفكرية

(1) - يريد بالشاعر الأوس بن حجر فان البيت من قصيدة له يرثى بها فضالة بن كعب
ابن كلدة، أولها:
أيتها النفس أجملي جزعا * ان الذي تحذرين قد وقعا
(إلى أن قال)
ان الذي جمع السماحة * والنجدة والبر والتقى جمعا
الألمعي الذي يظن بك * الظن كأن قدر أي وقد سمعا
(إلى أن قال)
أودى فلا تنفع الإشاحة من * أمر لمن قد يحاول البدعا
والبيت مما استشهد به في المختصر والمطول لاثبات ان " الذي يظن بك، إلى آخره "
وصف كاشف عن معنى الألمعي فان معنى الألمعي ما يستفاد من الوصف المذكور.
87

متوجهة بها من المطالب مترددة في المعاني الحاضرة عندها طالبة مبادئ تلك المطالب
الموصلة إليها حتى يظفر بالحد الأوسط منها ويضعه (1) مع طرفي المطلوب أحد الأوضاع
المخصوصة التي يستلزم المطلوب فيرجع منها إليه وإن كان قد يطلق على غير هذا المعنى، واما
الاعتبار فهو مأخوذ من العبور وهو المجاوزة والتعدي من شئ إلى شئ، ولما كان السالك بالنظر
متجاوزا بقدم فكره المبادئ إلى المطالب لا جرم كان معتبرا وإذا عرفت ذلك لاح لك
حينئذ وجه الملازمة بين النظر والاعتبار وان من نظر النظر التام بشروطه الصحيحة
فلابد وان (2) يعتبر.
فان قلت: المراد من الاعتبار ليس هو العبور بل الاتعاظ والانزجار بدليل قوله تعالى:
وان لكم في الانعام لعبرة (3) وقوله تعالى: ان في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (4)؟
قلت: لا نسلم بل الاعتبار حقيقة فيما ذكرنا بدليل انه يقال: اعتبر فاتعظ
فتعليل (5) الاتعاظ بالاعتبار والناظر في كيفية خلقة الانعام وفى خلق السماوات والأرض
عابر بحركته الفكرية في ترتيب دليل من خلقها على وجود الصانع وحكمته إلى ذلك المطلوب
الا ان الاتعاظ لما كان من لوازم ذلك العبور حتى إذا تقررت في النفس حقائق الأشياء
وما يجب ان يقتنى فتطلبه وما ينبغي ان يترك فتجتنبه مما هو ضار لها في أمر معادها فحينئذ
تنزجر عن متابعة هواها فيما يوجب لها العذاب الأليم وذلك معنى اتعاظها، والى ذلك
أشير في التنزيل الإلهي: إنما يخشى الله من عباده العلماء (6) الذين لمحوا بلواحظ أفكارهم
عواقب الأمور ونتائج المقدمات فلازموا خشية الله تعالى وانزجروا عن متابعة الهوى لاجرم
اطلق في موضع آخر لفظ العبرة والاعتبار على الاتعاظ مجازا من باب اطلاق اسم الملزوم

(1) - ا: " تضعه ".
(2) ج: " فلا بدان ".
(3) - صدر آيتين وهما 66 سورة النحل و 21 سورة المؤمنين.
(4) - ذيل آيتين، 13 سورة آل عمران و 44 سورة النور.
(5) - ا ب د " فتعلل ".
(6) - من (وسط) آية 28 سوره الفاطر.
88

على لازمه وصار هذا المجاز لحسنه متداولا كثيرا ما يعتبر به عن الاتعاض لظهور معنى الاتعاظ
فربما التبس على من لم يفرق بين المعنيين انه حقيقة في الاتعاظ دون غيره والتحقيق
هو ما ذكرناه.
وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب النظر إذ (1) كان لا يحصل الاعتبار المؤدى إلى
نيل المطالب العلية والسعادة الأبدية المستلزم للانزجار عن النواهي المردية والاتعاظ (2)
عن المطارح الشقية، وما لا يتم الواجب الذاتي الا به كان أولى بوجوب الوجود والله
الموفق للصواب.

(1) - ب: " إذا ".
(2) - يشبه في بعض النسخ: " الايقاظ ".
89

الفصل الثاني
في المباحث المتعلقة بالأخلاق الرضية والردية
والآداب المتعلقة بها، وفيه اثنتان وثلاثون كلمة.
الكلمة الأولى
قوله عليه السلام: من عذب لسانه كثر إخوانه.
أقول: العذب الماء الطيب الخالص من الشوب ويقال بحسب المجاز على كل لذيذ
خالص من شائبة اذى، والمراد من اللسان ههنا الكلام كما سبقت الإشارة إليه لان جرم
اللسان لا ينسب إليه الطيب والعذوبة، والاخوان الأصدقاء والأعوان، والمقصود الصريح
ان من لانت كلمته للخلق وتمرن لسانه بالملاطفة الحسنة لهم بطيب الكلام والاستجابة منهم
وتواضع لهم فان طباعهم تميل إليه وتشتاق إلى مصاحبته ومخالطته فيكون ذلك سببا لكثرتهم
وهذه القضية من المجربات من أنواع القضايا الواجب قبولها: واما عله تلك الميول
الطبيعية فاعلم أن الشهوات والنفرات الطبيعية للحيوان تكون بحسب تصور الوهم أو (1)
العقل للأمور المؤذية الضارة أو (2) المريحة النافعة فان تصور الحيوان ان كذا موذ له فإنه
ينبعث بسبب ذلك التصور شوق طالب لدفع ذلك الضار اما بالمقاومة أو الهرب، وان
تصور ان ذلك نافع أو لذيذ فإنه ينبعث عن ذلك الادراك شوق طالب لادراك الملائمة
من ذلك النافع اللذيذ وقد أعلمناك ذلك كله وبينا كيفية تحريك القوى وبعث بعضها
لبعض على اختلاف طبقاتها، وإذا عرفت ذلك فاعلم أن التودد بالملاطفة الحسنة بطيب الكلام

(1) - ب ج: " و ".
(2) - ب ج: " و ".
90

وحلاوته ولينه قد يكون طبيعيا في الانسان وقد يكون تكليفيا (1) وعلى التقديرين فان ادراك
الخلق له من صاحبه داع لهم إلى محبته والميل إليه باعث لشوقهم الطالب لادراك الملائمة
فيما (2) يتوهم فيه أو يعقل من الأمور النافعة أو (3) اللذيذة فتنبعث (4) ارادتهم على السعي
في مصالحة (5) وطلب اخوته ومصادقته، وفى هذه الكلمة تنبيه على تحصيل هذا المعنى فإنه
سبب عظيم من الأسباب الداعية إلى الألفة المستلزمة للمحبة في الله التي هي مطلوبة من
من الشريعة بوضع كثير من السنن وبها تكون السعادة الدنياوية والأخروية فان أمر المعاش
لا يتم الا بمعاونة أو داء واخوان وأعوان ناصحين وذلك أمر ظاهر، وكذلك التودد سبب
للألفة، والألفة سبب للمحبة والمحبة سبب لاجتماع القلوب والأبدان، وهما سببان
لاستنزال الرحمة بالدعوات وانزال البركات كما يبين فيما بعد أن شاء الله تعالى، وبالجملة
فكلمة الأنبياء متطابقة على الامر بتحصيل المودة بهذه الطريق قال عليه السلام: من لانت
كلمته وجبت محبته، والتنزيل الإلهي ناطق به: وقولوا للناس حسنا (6)، وفى حق
الوالدين: وقل لهما قولا كريما (7) وقل لهم قولا ميسورا (8) وفى كلمات علي (ع): التودد نصف
العقل، وأشرف أنواع التودد ما كان عن عذوبة الكلام، والاستشهاد في ذلك كثير والله الموفق. الكلمة الثانية
قوله عليه السلام: من لان عوده كثفت أغصانه (9).
أقول: العود يطلق حقيقة على ساق الشجر وبحسب المجاز على ما يشابهه في أمر

(1) - ب: " تكلفا " ج: " تكلفيا " د: " تكليفا ".
(2) - ج د: " مما ".
(3) - ب ج: " و ".
(4) - ج د: " فتلتفت ".
(5) - كذا ولعله: " مصاحبته ".
(6) - من آية 83 سورة البقرة.
(7) - ذيل آية 23 سورة الإسراء.
(8) - ذيل آية 28 سورة الإسراء وصدرها: " واما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ".
(9) - قال الشارح (ره) في شرح نهج البلاغة في شرح تلك الفقرة ما نصه (انظر ص 607 من الطبعة أولى): " استعار لفظ العود للطبيعة وكنى بلينه عن التواضع، وكذلك استعار لفظ الأغصان للأعوان والاتباع وكنى بكثافتها عن اجتماعهم عليه وكثرته وقوته بهم، والمراد ان من
كانت له فضيلة التواضع ولين الجانب كثرت أعوانه واتباعه وقوى باجتماعهم عليه ".
91

ما، وقد أطلقه عليه السلام ههنا على الانسان، وكذلك اللين يقال بحسب الحقيقة على
ما قبل الانغماز حسا، فعبر به عن التواضع وكرم الأخلاق وطيبها، والكثافة تقال على
كثرة الاجزاء الحسية فعبر بها ههنا عن شدة الشوكة وكثرة الاخوان والأعوان، وهذه
القضية متصلة أيضا يحتاج في تحقيقها إلى بيان وجوه التجوزات المذكورة ثم إلى
بيان الملازمة بين تاليها ومقدمها، اما الأول فاما بالعود عن (1) الانسان فلان التجوز
يكفي فيه أدنى ملابسة وههنا وجوه من المشاركة في القوة النباتية والنامية وقوة التغذية
وفى النمو باستقامة وغيرها، والمشاركة في (بعض (2) هذه الأمور توجب المشابهة فظلا
عن كلها فكان ذلك التجوز اطلاقا حسنا لاحد الأنواع على نوع آخر للمشابهة بينهما وهو
استعارة حسنة. واما باللين عن التواضع وطيب الأخلاق فلان اللين كما أنه إذا حصل
في الجسم دل على وجود الرطوبة التي تقبل معها الانغماز من الغامز كذلك التواضع وطيب
الأخلاق إذا حصل في الشخص دل على رطوبة سره ولينه بالاستعداد للرحمة الإلهية
وقبوله للانغماز بانفعال طباعه واستجابته لمصادقة الأصدقاء، واكرام الخلطاء وتأهله
لفيض العناية الإلهية بالرغبة في تحصيل شريف الصفات وجميل الأحدوثات، وتصور (3)
اللذة والمنفعة في تحصيل الاخوان وتقوية الشوكة بهم، واما بالكثافة عن ازدحام الاخوان
فظاهر فإنه لا معنى للكثافة الا تراكم الاجزاء وازدحامها وهو ظاهر ههنا، و (4) هذا بيان
التجوز في المفردات.
اما بيانه في الملازمة والتركيب فلانه كما أن الشجرة إنما تكثف وتعظم وتكثر
أغصانه وتلتف بكثرة الأوراق عن الرطوبة الحاصلة المنمية (5) المستعدة للانبات كذلك

(1) - ا: " على ".
(2) - ما بين القوسين زدناها تصحيحا للعبارة.
(3) - ج: " بصور
اللذة ".
(4) - ب ج: ليست الواو فيهما.
(5) - ا ج د: " المتمنة " ب: " الممتنة " فالتصحيح نظري.
92

الانسان يشرف وتشتد شوكته وتكثر إخوانه وأعوانه وأحباؤه، الصادر كل ذلك عن
تواضعه ولين جانبه وكرم أخلاقه وطيبها في حقهم المعبر عنه في الكلمة بلين العود حتى
يتصلوا (1) به اتصال الأغصان ويعظم بهم عظم الشجرة بأغصانها الملتفة الكثيفة، واما
صحة الملازمة فأمر ظاهر معلوم بالتجربة والله ولى التوفيق.
الكلمة الثالثة
قوله عليه السلام: بشر مال البخيل بحادث أو وارث.
أقول: اطلاق البشارة ههنا مجاز من باب اطلاق أحد الضدين على الاخر والبخل
هو طرف التفريط من الرذيلتين اللتين هما طرفان للوسط الذي هو السخاء وقد عرفته،
واما سببه فحكم الوهم بان في بذل المال مضرة تلحقه فيكون ذلك سببا لحركة القوة
الشهوية إلى جمعه فتحرك بسببها الآلات إلى الجمع والتحصيل وقد يختلف بالشدة والضعف
بحسب اختلاف ذلك الادراك فيهما فمن النفس (من هو) مستعد بحسب أصل مزاجه
وجبلته لقوة هذا التوهم (2) الموجب لتحريك تلك القوة، ومنهم من يعرض له ذلك
بحسب حدوث استعداد قوته الوهمية لادراك سببه الوهمي، وههنا دقيقة وهي ان تخصيص
مال البخيل بهذه البشارة المجازية المستلزمة لانذاره لا يدل على أن مال الجواد ليس
كذلك فان أحد الامرين المبشرين بها لابد منه في المالين وقد عرفت ان تخصيص الشئ
بالذكر لا يدل على نفيه عما عداه، وقد ورد في كلامه عليه السلام بلفظ آخر ما يعم البخيل
وغيره فقال: لكل امرء في ماله شريكان، الحادث والوارث (3) لكن لابد من فائدة
يستلزمها هذا الحكم وهي الإهانة للبخيل إذ كان قد استعمل لفظ التعظيم في الإهانة كقوله

(1) - ا ج د: " حتى يتصلون ".
(2) ا: " الوهم ".
(3) - شرحه في نهج البلاغة
هكذا (ص 620 من الطبعة الأولى): " نفر عن ادخار المال بذكر الشريكين المكروهين " وهناك
بذل " الحادث ": " الحوادث ".
93

تعالى: ذق انك أنت العزيز الكريم (1) وتبكيته لعدم بذل المال في وجهه وتقريع له وتقرير
لما يكرهه ومواجهته بما ينفر طبعه أشد نفار بما لابد منه إذ (2) كانت مفارقة المال عليه أشد من
مفارقته على الجواد، ثم لو حمل الجواد على نفسه في أن هذه النذارة واردة عليهما لهون (3) عنده بعض
ما يجده من هذه المواجهة لما ان المصيبة إذا عمت هانت لاح له حينئذ الفرق بين الأصل
والفرع بما ان بذل المال عن الجواد يكسبه حمدا ومجدا أثيلا في العاجل ونعيما وثوابا جزيلا
في الاجل، وهو محروم من ذلك لعدم علة استحقاقه (4) فيه وربما كان ذلك سبب رشده
وسبب حرصه على التخلق بضد خلقه واعداد نفسه لاقتناء أسبابه إن كان قد قضى له
ذلك ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور (5).
الكملة الرابعة
قوله عليه السلام: الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم.
أقول: تقدير الخبر: الناس بأهل زمانهم، وإنما حذف المضاف للعلم به كما في قوله تعالى:
واسأل القرية، إذ لا مشابهة للناس مع ذات الزمان، ثم ليس المراد من مشابهتهم المشابهة
في الصور الجزئية أو الشخصية كما يقال: وجه فلان يشبه وجه فلان فإنهم بالاباء في ذلك
أشبه، بل المراد أنهم أشبه في أفعالهم وعاداتهم وأخلاقهم وحالاتهم العارضة الغالبة. ثم إنه
عليه السلام نبه بقوله " أشبه " على عدم نفى الشبه بالاباء بالكلية فإنهم وان كانوا يشبهون
الاباء الا انهم بأهل زمانهم أشبه.
واما السبب الغالب في ذل فاعلم أنه لما كان الغالب على الخلق الغفلة والجهل
البسيط وكانت النفوس الانسانية قد جبلت على محبة البدن وكثيرا ما تكون مطيعة
للقوى متبعة للهوى مواظبة على اقتناء الكمالات الوهمية ولم يكن لتلك القوى البدنية.

(1) - آية 49 سورة الدخان.
(2) - ب: " إذا ".
(3) - ب ج: " ليهون عنه "
(4) - آ: " لعدم استحقاقه ".
(5) - ذيل آية 40 سورة النور
94

كما علمت حظ في ادراك الأمور الكلية بل لا تدرك الا الأمور الحاضرة المحسوسة الجزئية
أو (1) المتعلقة بالمحسوس وكان الغالب ان وجود الأبناء وغالب حياتهم وتصرفاتهم في زمان
غير زمان الاباء لا جرم كانت نفوسهم أكثر انفعالا وأطوع لأخلاق زمانهم وعاداتهم وزيهم
وحالاتهم منها لعادات الاباء وحالاتهم لمكان المشاهدة للحال الحاضرة والمنادمة والاتصال
والمعاشرة والغفلة عن حال الاباء لأقلية معاشرتهم ومصاحبتهم لتقضيهم وأقلية وجودهم
في زمان وجود الأبناء حتى أن انسانا لو عاشر أبا صالحا وتأدب بآدابه وتخلق بأخلاقه ثم
فقده وعاشر من له ضد تلك الأخلاق فإنه ربما استنكرها في أول الصحبة ثم إن نفسه
بعد حين تنفعل عن تلك الأخلاق وتكتسبها لكثرة مشاهدتها وتكررها على قوى الحس
وعقلة (2) النفس بها وتحلل الأخلاق الأولى على التدريج فربما انسلخ بالكلية عن تلك
الأخلاق الصالحة إلى التكيف بضدها وبالعكس وكذلك لو كان لأبيه صنعة (3) مستحسنة
في وجوده أو لباس يليق بحاله من أهل زمانه وكذلك سائر العادات التي يعتادها ذلك
الأب ويتخلق بها ويليق بحاله في وقته ثم نشأ ولده في وقت آخر بين آخرين المنكرين للزي
الأول ومستحسنين لزي ثان وعادة قد اكتسبوها غير الأولى فإنه لا يتزيا الا بذلك
الزي ولا يغير تلك العادة ولا يتخلق بغير الأخلاق الحاضرة دون أخلاق آبائه
وعاداتهم، ولو فرضنا انه نشأ عليها وتزيا بها مدة وتكلف البقاء عليها فان طبعه لابد وان
يقوده إلى العادات والأخلاق الحاضرة اما كلها أو بعضها وليس ذلك الا لما قلناه من
من كثرة المشاهدة والاطلاع الحسى على الأمور الحاضرة التي عليها أهل زمانه وانفعال
النفس بها وغفلتها عن الاحتراز بمراجعة العقل في مراعاة أنفع تلك الأخلاق الماضية
والحاضرة في أمر المعاش والمعاد واكتسابه (4) واعتبار أضر تلك الادات والحالات فيهما

(1) - ج: " و ".
(2) - كأنه بضم العين المهملة وسكون القاف ويمكن أن يكون مقلوب
ومصحف " علقة " فيكون كالألفة بالشئ وزنا ومعنى وللعقلة أيضا هنا معنى مناسب لأنه
يقال: " لفلان عقلة يعقل بها الناس، وهي ما يعقل به كالقيد أو العقال.
(3) - ج: " صفه ".
(4) - في النسخ: " واقتنائه.
95

واجتنابه حتى لو كانت زمان مضى خلة حميدة تقود إلى الهدى وهي مستنكرة في
الزمان الحاضر لم يلتفت في ارتكابها (1) إلى انكار منكريها بل ارتكبها وواضب عليها،
ولو كان لأهل زمانة عادة أو حالة تقود إلى ردى تركها، وان كانت مستحسنة بينهم، والله ولى
الإعانة على الالتفات إلى ما يرضيه (2) وهو الموفق
الكلمة الخامسة
قوله عليه السلام: أكرم الحسب حسن الخلق (3).
أقول: قد عرفت ان الحسب يقال بحسب الاشتراك اللفظي على ما يعد من المآثر
وعلى الكفاية من المال وما يجراه مجراه. واما الخلق فقد عرفت حده وهو ينقسم إلى طبيعي
يقتضيه أصل المزاج كالضحك المفرط من أدنى معجب وكالحزن والغم من أدنى شئ
يعرض والى غير طبيعي يستفاد من التمرن (4) والتعود، وقد يكون مبدأه بالرؤية والفكر ثم
يستمر عليه مرة ومرة حتى يصير ملكة وخلقا وعلى التقديرين فاما أن تكون تلك الحال
داعية إلى أفعال الخير وايثار الجميل وهو الخلق الحسن، أو إلى عكسه وهو الخلق
السئ الردي
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه يحسن تأويل الكلمة على حسب مفهومي الحسب
اما على المفهوم الأول فاعلم أنه عليه السلام قد وصف حسن الخلق بأفضلية كرم ما
يعد من المكارم التي تؤثر عن الانسان، وبرهان صدقه انك علمت أن أصول الفضائل
الخلقية ثلاثة، الحكمة والعفة والشجاعة، ومجموعها العدالة، ثم إن الملكة التي للنفس
المسماة خلقا هي الأصل الذي تصدر عنه هذه الفضائل وأنواعها ولا شك ان الأصل أشرف

(1) - في النسخ: " لم يرتكب في التفاتها ".
(2) - ب ج د: " يرضينا ".
(3) - شرحها الشارح (ره) في شرحه على نهج البلاغة بقوله كلام له (ص 585 من الطبعة الأولى ": " رغب في حسن الخلق بكونه أكرم الحسب لكونه أشرف الكمالات الباقية "
(إلى آخر ما قال).
(4) - في النسخ: " البدن " ويمكن أن يكون " المرن " (بفتح الميم وكسر الراء) وهو العادة.
96

وأكرم (1) من الفرع، واما على المفهوم الثاني فهو ان حسن الخلق لما كان منبعا
لأصول الفضائل المذكورة كان أكرم كفاية تكون إذ (2) كان كفاية الجزء الباقي من
الانسان وكان المال كفاية للجزء (3) الحيواني الفاني منه، والباقيات الصالحات خير عند
ربك ثوابا وخير املا (4).
وفى هذه الكلمة تنبيه على مراعاة حسن الخلق إن كان موجودا، وعلى الاجتهاد في
اكتسابه إن كان مفقودا، إذ بينا انه قد يكون مكتسبا وان اكتسابه ممكن وذلك أنه
منشأ لجماع مكارم الأخلاق والفضائل التي هي سبب للسعادة الباقية، والله ولى الهداية.
الكلمة السادسة
قوله عليه السلام: لا ظفر مع البغى.
أقول: الظفر الفوز بالمطلوب بغلبة عدو وغيره، والبغي الظلم وحقيقته انه
ضرار غير مستحق للتوصل إلى كثرة المقتنيات من حيث لا ينبغي والمقصود ان من قهر
خصمه على سبيل ظلم لم يعد في الحقيقة ظافرا به، وإن كان قد يطلق ذلك بحسب العرف،
وذلك لان (5) الظفر الحقيقي إنما يكون بمطلوب مستحق فان المطلوب الغير المستحق
وان حصل للطالب الا انه في قوة المنتزع وكيف يكون ظفر وفى مقابلته الذم العاجل بألسنة الخلق أجمعين من بعد لسان الوحي: الا لعنة الله على الظالمين (6) مع أن ذلك قد
يكون مقربا لأجل الظلم لمقابلة بقائه ودفعه باجتماع همم الصالحين كما جاء في الأثر: الظالم
قصير العمر، مع النتيجة الكبرى والطامة العظمى وهو حرمان الرضوان لتحقق الوعيد
الصادق في حقه: والظالمين أعد لهم عذابا أليما (7) والظالمون مالهم من ولى ولا نصير (8)، إلى غير

(1) - ج د: " وأكمل ".
(2) ا: " أو ".
(3) - ج د: " الجزء ".
(4) - ذيل آية 46 سورة الكهف وصدرها: المال والبنون زينة الحياة الدنيا ".
(5) - ج د: " ان ".
(6) - ذيل آية 17 سورة هود.
(7) - ذيل آية 31 سورة الدهر وصدرها: " يدخل من يشاء
في رحمته " وهي آخر آية تلك السورة.
(8) ذيل آية 8 سورة الشورى.
97

ذلك مما اشتمل عليه التنزيل الإلهي والسنة النبوية فأي ظفر لمن القى زمام عقله بيد
شهوته، فقادته إلى حلول (1) دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار (2) وأي فوز لمن أخبر
أصدق القائلين بما يلقاه من عدم الولي والحميم؟! وتوعده (3) مالك يوم الدين بما أعد له
من العذاب الأليم؟! وتطابقت على خسرانه كلمة النبيين؟! وانطلقت (4) بلعنه (5) وتوبيخه
ألسنة اللاعنين؟! نعوذ بالله من سيئات العمل (6) وقبح الزلل وبه نستعين فقد علمت أن الباغي
لا يسمى ظافرا وان تصور بصورته، والظالم لا يعد فائزا وان اتسم بسمته، ولذلك قال
عليه السلام: ما ظفر من ظفر الإثم به، والغالب بالشر مغلوب، وذلك سر قوله عليه السلام:
لا ظفر مع البغى.
الكلمة السابعة
قوله عليه السلام: لا ثناء مع كبر (7)
أقول: الثناء الكلام الجميل، واما الكبر فهو العظمة والترفع على الخلق واستحقارهم
وهو لازم للظن الكاذب بالنفس في استحقاق رتبة هي غير مستحقة لها تكون (8)
لغيرها من غيران يكذب الانسان نفسه الامارة في ذلك لقهرها القوة العقلية والمقصود
ههنا انفي وقوع الكلام الجميل في حق المتكبرين وبان ان (9) الثناء مع الكبر مما لا يجتمعان
وصدق هذه القضية بين بعد تقديم ما سلف ونزيده تقريرا فنقول: ان بين الثناء الجميل
. الكبر منافاة تقرب من منافاة الضدين وذلك أن الكبر مستلزم لاستحقار الخلق بسبب

(1) - هذه اللفظة ليست في ا.
(2) - ذيل آية 28 وتمام آية 29 سورة إبراهيم وصدر
الآية الأولى: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم ".
(3) - ب ج: " يوعده "
د: " يوعدة " (بتشديد العين).
(4) - كذا في النسخ والمعنى أيضا صحيح ومع ذلك يمكن ان يوضع موضعها " ونطقت ".
(5) - ب: " بلعنته ".
(6) - ا ب: " العقل " ج " الخلق العقل " د: " الخلق " فالتصحيح قياسي.
(7) - د: " الكبر ".
(8) - ب: " لا تكون ".
(9) ب ج د: " وبيان ".
98

اعتقاد الانفراد بالمرتبة التي لا توجد للغير وذلك الاحتقار والاستصغار مستلزم لتنفير
طباع الخلق عمن صدر عنه، اما العقلاء فلاستحقارهم إياه وأنه لا مقدار لما يتكبر به
عندهم ولا اعتداد به لخساسة (1) أدبه وسوء خلقه ونزارة حظه من السعادة الباقية
واطلاعهم على عدم اطلاعه على عيب نفسه فهو وإن كان مستحقرا لهم غير ناظر إليهم
كبرا فهو في عيونهم أحقر ومن طباعهم أبعد، ومع ذلك كيف يتصور ثناؤهم عليه ومدحهم
له، واما الباقون من العوام وغيرهم فإنما تميل طباعهم إلى من يتواضع لهم ويقربهم إلى
نفسه بلين الكلمة والاحترام والشفقة وبذل النفع بالمال والجاه وغيره (2) سيما وكثير منهم
يعتقد لعجزه عن الاطلاع على نقصانه انه كامل في ذاته فلا يسلم ان لاحد عليه فضلا
البتة، ومعلوم ان المتكبر عليهم المستحقر لشأنهم المستصغر لهم لا يبذل لهم من نفسه ما ذكرنا (3)
وإذا (4) كان كذلك لم يتحقق منهم الميل إليه، فلم يتصور منهم الثناء عليه لعدم الموجب
له ولم يصدر منهم مدح له لفقد علة المدح فقد صدق عليه السلام في بيان هذا السلب
الكلى، الله ولى التوفيق.
الكلمة الثامنة
قوله عليه السلام: لا بر مع شح
أقول: البر ههنا الاحسان وإن كان قد يراد به أيضا الصدق على سبيل الاشتراك
اللفظي، والشح البخل مع زيادة حرص، وحده انه منع ما ينبغي بذله عن المستحق مع
شدة طلب الجمع، وإذا كان كذلك فاعلم أن المراد من " لابر " ان الاحسان مع الشح

(1) - ج د: " لكناسة ".
(2) - د: " وغيرهما ".
(3) - ب: " ذكرناه " (4) - ب: " وإذ ".
99

مما لا يجتمعان بيانه ان الاحسان بذل بعض ما لا يجب بذله، وبذل بعض ما لا يجب مع منع
ما يجب بذله متنافيا الاجتماع في محل عاقل، لان من منع بذل الواجب عن (1) مستحقه
كيف يتصور منه بذل ما ليس بواجب فقد تحققت صحة هذا السلب الكلى.
وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب ترك الشح إذا كان لا يمكن فعل الواجب
من البر الا به، وما لا يتم الواجب الا به كان واجبا: قد يكون الشح ملكة طبيعية
وحينئذ لا يمكن زوالها فيخرج عن الوسع فيخرج عن التكليف بتركة؟ - قلت: ان التجربة
شاهدة بامكان زواله لكن لا دفعة بل بالتعويد والتدريج ويؤيده قوله تعالى: ومن يوق شح نفسه
فأولئك هم المفلحون (2)، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل (3)
ذمهم على البخل والشح
وعلى الامر به، ولو كان لا يمكن زواله لما مكان متعلق الذم والعقاب، والله ولى التوفيق.
الكلمة التاسعة
قوله عليه السلام: لا اجتناب محرم مع حرص.
أقول: الحرص هو بذل الوسع في طلب الأمور التي يمكن تحصيلها وهو أمر
إضافي يختلف في استحقاق الحمد والذم به بحسب اختلاف الامر المطلوب في الشرف
والخسة فإن كان المطلوب أمرا شريفا كاقتناء (4) الأمور الباقية والكمالات المسعدة كان
الحرص عليه أمرا محمودا، وإن كان أمرا خسيسا كاكتساب الأمور الفانية واللذات
الوهمية المنقصة (5) كان حرصا مذموما، والحرص المشار إليه في هذه الكلمة هو الحرص على

(1) - ليست في ب.
(2) - ذيل آية 9 سورة الحشر و 16 سورة التغابن.
(3) صدر
آية 37 سورة النساء 24 سورة الحديد.
(4) ج د: " كاكتساب ".
(5) - ا: " النقيصة " ولكن قال الفيومي في المصباح المنير: " نقص من باب قتل ذهب منه شئ بعد تمامه ونقصته يتعدى ولا يتعدى هذه اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن في قوله ننقصها
من أطرافها، وغير منقوص، وفى لغة ضعيفه يتعدى بالهمزة والتضعيف ولم يأت في كلام فصيح ".
100

اقتناء الأمور الفانية من اقتناء الأموال وجمعها والازدياد بها من أي وجه كان وعلى أي
وجه كان أعني (1) ان لا يكون مراعيا فيها قانون العقل والحرية ويعلم مما سبق ان الحرص
المذموم مستلزم لطرف الافراط من طرفي فضيلة العفة إذ كان مستلزما للخروج في (2)
الطلب إلى مالا ينبغي وما لا يرخص في طلبه الشريعة ولا العقل فيكون المطلوب من (3)
محال الحرمة ومواضعها وإذا تحقق الحرص المذموم في الانسان فقد صدق عليه انه مواقع
للحرام لا محالة (4) فهو غير مجتنب لمحرم وبه يخرج عن العفة وبخروجه عنها يخرج عن العدالة
ويدخل في زمرة الفجار ولذلك كثيرا ما ذم عليه السلام أرباب التجارات فقال: التاجر
فاجر والفاجر في النار الامن أخذ وأعطى الحق، فقوله: التاجر فاجر إشارة إلى أن
التاجر لا يخلو في غالب الامر من الحرص المذموم فيخرج به عن ملكة العفة إلى طرف
الفجور، وقوله: " الامن أخذ الحق وأعطى الحق " أي الخالي عنه الملازم لفضيلة الحرية
التي هي نوع من أنواع العفة، ولما كان تعلم الاحكام الشريعة والتحلي بآداب
الشريعة كثيرا ما يصدر عن ذلك الحرص كان من الواجب ان يقدم الانسان على السعي
في التجارة العلم بتلك الاحكام ليتميز للمتجر ما ترخص الشريعة فيه من غيره، روى أنه
عليه السلام كان يدور في الأسواق ويقول معاشر الناس الفقه ثم المتجر، الفقه ثم
المتجر، والله للربا في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا. وقال عليه السلام:
من أتجر بغير علم ارتطم في الربا ثم ارتطم، والارتطام التوحل، وروى عن الصادق
عليه السلام أنه قال: من لم يتفقه في دينه ثم أتجر تورط في الشبهات، وكل ذلك
إشارة إلى أن تعلم الاحكام (5) الفقهية والآداب الشرعية مانع للخلق من الحرص المذموم
كاف (6) لهم عن الانهماك في الشهوات وذلك يستلزم امتناع اجتماع اجتناب المحارم مع
الحرص المذموم.

(1) - ا: " يعنى ".
(2) - ا: " عن ".
(3) - في النسخ: " هي ".
(4) في النسخ: " في محاله ".
(5) - ج د: " العلم بالأحكام ".
(6) - في النسخ مع تخفيف الكاف.
101

الكلمة العاشرة
قوله عليه السلام: لإراحة مع حسد (1)
أقول: الراحة السكون عن الحركات المتبعة حسية كانت أو عقلية، واما الحسد
فهو انبعاث القوة الشهوية إلى تمنى مال الغير أو الحالة التي هو عليها وزوالها عن ذلك
الغير وهو مستلزم لحركة القوة الغضبية ولثبات الغضب ودوامه وزيادته بحسب زيادة حال
الحسود التي يتعلق بها الحسد ولذلك قيل: الحاسد مغتاظ على من لاذنب له، وهو نوع
من أنواع الظلم والجور، وإذا تصورت حقيقة الراحة والحسد فاعلم أن المطلوب بيان
عدم اجتماعهما وذلك ظاهر حينئذ فان حركة شهوة الحاسد وفكره في كيفية حصول
الحالة المحسود فيها وفى كيفية زوالها عمن هي له المستلزمة (2) لحركة الات البدن في ذلك
مستلزم (3 لعدم الراحة والمستلزم لعدم الشئ غير مجامع لوجوده والا لزم اجتماع
النقيضين وهو محال
واعلم أن العقلاء (4) قد اتفقوا على أن الحسد مع أنه رذيلة عظيمة للنفس فهو
من الأسباب العظيمة لخراب العالم إذ كان الحاسد كثيرا ما تكون حركاته وسعيه في
هلاك أرباب الفضائل وأهل الشرف والأموال الذين يقوم بوجودهم عمارة الأرض إذ
لا يتعلق الحسد بغيرهم من أهل الخسة أو الفقر، ثم لا يقصر في سعيه ذاك دون ان تزول
تلك الحالة المحسود بها عن المحسود أو (5) يهلك هو في تلك الحركات الحسية الفعلية
والقولية (6) ولذلك قيل: حاسد النعمة لا يرضيه الا زوالها، وما دام الباعث للقوة (7)

(1) - د: " الحسد ".
(2) - ب ج د: " المستلزم ".
(3) - ا: " المستلزم ".
(4) - د: " العلماء ".
(5) - ا ج د: " و ".
(6) - ج: " والقوائية ".
(7) - ج د: " إلى القوة ".
102

الغضبية (1) قائما فهي قائمة متحركة ومحركة وأكثر ما تؤثر السعاية بين يدي الملوك لعلم
الساعي بقدرتهم على تنفيذ أغراضه ولاعتقاده انهم أقرب إلى قبول قوله من الغير لغلبة
القوى الشهوية والغضبية فيهم، وإنما كانت فيهم أقوى لتمرنهم عليها وأكثرية وقوعها
منهم لتمكنهم من اعطائها لمطلوباتها من المشتهيات والانتقامات فيصير جريانها منهم (2)
سريعا ويحصل لهم من ذلك ملكات ارسال القوى الشهوية والغضبية وتصير الغفلة عن
المصالح الكلية ملكة لهم أيضا، وكثيرا ما تؤثر السعاية معهم لذلك الا من لمحه (3) الله
بعين العناية منهم حتى راض نفسه بالآداب الشرعية وساسها بالتعويد بالفضائل الخلقية
فيراعى المصالح الكلية والتدبيرات المدنية فملك زمام شهوته وغضبه بكف عقله العملي
وصرفه بها فأولئك ما عليهم من سبيل (4) وقليل ما هم. إنما السبيل على الذين يظلمون
الناس ويبغون في الأرض بغير الحق (5) فيصير بغيهم سببا لخراب الأرض فيفسد الحرث
والنسل والله لا يجب الفساد (6).
فقد علمت أن الحسد من أعظم أسباب الخراب ولاح لك ان الحاسد وان أتعب
غيره فهو متعب لنفسه بتلك الحركات النفسانية والبدنية وتوابعها من اللوم والذم
العاجل والشقاوة التامة في الاجل وذلك مما يستلزم عدم الراحة المستلزم لعدم امكان
اجتماع الراحة والحسد وذلك تحقيق لهذا السلب الكلى، والله الموفق.

(1) - ا: " العملية ".
(2) - ب ج: " فيهم ".
(3) - ا: " منحه ".
(4) - ذيل آية 41 سورة الشورى.
(5) - صدر آية 42 سورة الشورى.
(6) - مأخوذ من قوله تعالى " وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد "
(وهي آية 205 من سورة البقرة).
103

الكلمة الحادية عشر
قوله عليه السلام: لا زيارة مع زعارة. أقول: الزعارة بتشديد الراء شكاسة (1) الخلق، والمراد بيان ان الزيارة لا تحصل
ولا تصدق مع شكاسة الأخلاق سواء كانت من طرفي المتزاورين أو من طرف أحدهما
فإذا هما أمران متضادان بيان ذلك أن الزيارة الصادقة إنما تكون بين المتؤانسين (2)
المتحابين وقد عرفت ان رأس أسباب الألفة والانس هو حسن الخلق الذي يحسن معه
المعاشرة فإذا كان محل الأخلاق الفاضلة مشغولا بأضدادها وهي الأخلاق الشكسة (3)
وهي سبب عظيم لتنفير (4) طباع الخلق الذي هو سبب التفرقة والتباين بينهم كان ذلك
سببا لقطع الزيارة وامتناعها منهم، وتحققت حينئذ ان الزيارة مع شكاسة الأخلاق
مما لا يجتمعان.
وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب ترك الزعارة لان الزيارة لما كانت مأمورا بها
لما انها سبب المحبة المطلوبة من الشريعة ومحرض (5) على القيام بها ومداومتها لتحصيل
الوداد وكان وجود الزيارة منافيا لوجود الزعارة كان وجوب الزيارة والامر بها مستلزما
للنهي عن ارتكاب الزعارة ولوجوب تركها، والله ولى التوفيق.
الكلمة الثانية عشر
قوله عليه السلام: لا مروة (6) لكذوب (7).
أقول: المروة فضيلة للنفس بها يكون الترفع والاحتشام عن مواقعة (8) القبيح

(1) - الشكاسة معنى الشراسة.
(2) لعله " المتونسين " لان " تآنس " (من باب التفاعل) لم أجده
في كتب اللغة.
(3) - ب د: " الشكيسة ".
(4) ج د: " لتنفر ".
(5) - ج د: " محرص " (بالصاد المهملة ".
(6) - أصلها: " مروءة (بالهمزة).
(7) - ج: " للكذوب ".
(8) - ج د: " موافقة ".
104

حذرا من الذم والسب الصادق، والكذب هو القول الغير المطابق لما عليه الامر في نفسه،
والكذوب هو متعود الكذب، والمقصود من هذه الكلمة بيان ان المروة والتعود للكذب
مما لا يجتمعان وبيانه ان الكذب لما كان من الرذائل المستقبحة إذ كان مضادا (1) لمصلحة
العالم ولأنه قد يوقع بالمكذوب عليه أمورا مكروهة لا يكون شاعرا بها فيكون ذلك
سببا منفرا للطباع وعلة لاستقباح (2) العرف والشرع وكان التعود به يكسب النفس
ملكة متمكنة من جوهرها بسببها يجترئ على التظاهر بلزوم القبيح وعدم التخفي بفعله
واحتمال المكافحة (3) بالذم والسب الصادق وعدم تصديق الخلق له في وجهه (4) ولذلك
قيل: ان الكذوب لا يصدق ومنه المثل السائر في العامة: من عرف بالصدق جاز
كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقة، قال أبو عبيد: ومما يحقق هذا المثل حكم الله في
الشهادة انها مردودة من أهل الفسوق، ولعلهم قد شهدوا بالحق، هذا مع ما يلزم ذلك
من جرأته على مقابلة النهى الشرعي وقلة مبالاته والوعيد فسمى وقحا وخسيسا لاجرم
كانت المروة منافية لذلك لان ملكة مواقعة القبيح والميل إليه مع الملكة الموجبة للاحتشام
والترفع مما لا يجتمعان، ولذلك قال بعض الحكماء: لو لم يترك العاقل الكذب الا للمروة
لقد كان حقيقا بذلك (5) فكيف وفيه المأثم والعار، وذلك يدل على أن المروة تسقط
مع الكذب فكيف مع تعوده.
واعلم أن المروة لما كانت من صفات الكمال الانساني مما يجب طلبه فكان
ذلك مستلزما للامر بترك مالا يجتمع معه وهو تعود الكذب وهذا مع ما اتفقت عليه كلمة
النبيين وتطابقت عليه مقالات الحكماء الراسخين من قبح الكذب وذمه ووجوب الردع

(1) - د: " مضارا ".
(2) - ا: " لاستقباع ".
(3) - ب: " المكافى ".
(4) - ب ج د: " وجه ".
(5) - ا: لذلك ".
105

عنه بالعقوبة (1) وانه مضاد لمصلحة العالم وسبب من الأسباب الموجبة لخرابه إذ كان
صاحبه قد ألقى زمام قوته العقلية إلى حكم شهوته وغضبه فصرفاه على مقتضى طباعهما
فتارة تميل به الشهوة فيهيج به الحرص أو الحسد فيحمله ذلك على القول الباطل في سلب
الأموال، وتارة يميل به الغضب فيهيج به شهوة الانتقام فيقوده ذلك على القول الباطل
الموجب لسفك الدم بين يدي الملوك وغيرهم وقد عرفت انه لا نظام للعالم الا بهما.
واما (2) الذم فقال عليه السلام: الكذب رأس (3) النفاق وذلك لخروج (4) الكاذب
عن الصدق الذي هو صنف من أصناف الورع كما يخرج المنافق من ربقة الايمان، واشتقاق
النفاق من قولهم: نفق اليربوع إذا خرج من حجره، وقال تعالى: ومن أظلم ممن افترى
على الله كذبا (5) فمن أظلم ممن كذب على الله (6) ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله
وجوههم مسودة (7) وبالجملة فذم الكذب في الكتب الإلهية والسنن الشرعية وبين أهل
العالم أكثر من أن يحصى، ولو لم يكن فيه الا ما ذكرناه لكان كافيا في قبحه فيكف وهو
من أعظم الأسباب لحرمان الخير الدائم والنعيم في الآخرة إذ كان من يتعود الكذب ملطخا
لنفسه بملكة تحدث عنه يحرم (8) معها صحة المنامات (9) وصدق الالهامات ويسود لوحها (10)
بتلك الملكة فتشتغل عن قبول الانتقاش بالحق والتحلي (11) بالجلايا القدسية والاستشراق
للأنوار العلوية فأعظم به سببا لخراب (12) الدارين...! وعلة لحرمان السعادتين..!
نعوذ بالله من سوء الاختيار ونستجيره من عذاب النار.

(1) - ا: " بالمعقولية " (2) - د: " اما ".
(3) - د: " أس ".
(4) - ا ج: " بخروج ".
(5) - صدر آية 21 و 93 سورة الأنعام و 62 سورة العنكبوت و 18 سورة هود.
(6) - صدر آية 32 سورة الزمر.
(7) صدر آية 60 سورة الزمر.
(8) - في النسخ: " تحرم ".
(9) - اج د: " المقامات ".
(10) - ا: " لوجهها ج: " أوجها " فلعل الصحيح: " مسودا لوجهه ".
(11) - ب: " بالتجلي ".
(12) - د: " لخسران ".
106

الكلمة الثالثة عشر
قوله عليه السلام: لا وفاء لملول (1).
أقول الوفاء فضيلة نفسانية بها يكون حسن اتمام الأمور المعاهد عليها والقيام بها
والمواظبة عليها وان اشتملت على احتمال كلفة ومشقة وتصدر (2) عن فضائل وهي كبر
النفس والشهامة والحياء فان الانسان إذا كان مقتدرا على حمل الكرامة والهوان مؤهلا
نفسه للأمور العظام حريصا عليها متوقعا (3) للأحدوثة الجميلة يحذر من الذم والسب
الصادق بمواقعة القبيح لابد وأن يكون وفيا، ويقابله الغدر مقابلة التضاد أو مقابلة العدم
والملكة، فيه تردد.
. واما الملال فهو انصراف النفس واعراضها عن اتمام ما هي بصدده من الافعال
وله أسباب:
أحدها - تلعب (4) الوهم بالقوة المتخيلة وتشويشه للفكر ومعارضته للعقل عند
التفات النفس إلى الأعمال وشروعها فيها بتحسين ملذ أو نافع آخر بالتخييل الكاذب
هو أشرف مما هي بصدد تحصيله فينحل (5) عزمها عن الحركة فيه أو بتهوين ذلك
الفعل (6) واعتقاد سهولته في كل وقت تتشوق (7) فيه الآمال أو غير ذلك فينصرف عنه
إلى البطالة فيتبعها القوى إلى التعطيل.
وثانيها - ضعف الآلة وعجزها عن الحركة أو ضعف القوى المحركة وكلالها
وعجزها عن التحريك فينصرف عنه طلبا للراحة كما يعرض عند الأفكار الكثيرة فتعتاد

(1) - " للملوك ".
(2) - ج د: " يصدر ".
(3) - ج د: " توقعا ".
(4) - ا: " تلعب " ج د: " باعث ".
(5) - د: فيختل ".
(6) - ب ج: " العقل ".
(7) - ب ج د: " فتشوق.
107

النفس الوقوف عن الأعمال ويصير ذلك ملكة لها إلى غير ذلك من الأسباب، والملول
هو من حصلت لنفسه ملكة ذلك الانصراف والالتفات وكثرته لكثرة عروض أسبابه،
وإذا عرفت ذلك عرفت ان فضيلة الوفاء لا توجد لنفس الملول لأنه إذا تكيف بهذه
الملكة لم يتمكن من اتمام أمر فضلا عن حسن القيام به والمواظبة عليه وكان داخلا في
زمرة الغادرين وكان ذلك موجبا لتنفر طباع الخلق عنه في المعاملات حتى أنه لو كان
صاحب حرفة أو سالكا لطريق (1) العلم لم يمكنه ان يتوصل بشئ من هذه الأسباب إلى
اصلاح معاش أو معاد بل كان أسوأ حالا من أصحاب البطالة لأنهم ربحوا الراحة عن
الحركات المتعبة في تعلم تلك الطرق (2) والصنائع.
وفى هذه الكلمة تنبيه للملول على وجوب معالجة نفسه والاجتهاد في حل عقدة
الملال بتحصيل أضداد أسبابه والتعويد لها والتمرن عليها ليمكن ان تحصل له ملكة
الوفاء التي هي من الفضائل العظيمة وهي محمودة بكل لسان ومستحسنة عند كل عاقل
ويعترف بها كل انسان وان قل حظه من الانسانية وتجدها موجودة في أصناف الخلق
كالروم والحبشة والنوبة وكثير من أجناس (3) العبيد (4).
وقابلها الغدر في جميع ما ذكرنا أعني انه مذموم بكل لسان ينفر السامع من
ذكره ويأنف منه كثير من أجناس العبيد. وشرف الشئ يبين من خساسة ضده وقد
أثنى الله تعالى على صاحب هذه الفضيلة في مواضع من كتابه قال تعالى: والذين يوفون
بعهد الله ولا ينقضون الميثاق (5) وقال: والموفون بعهدهم إذا عاهدوا (6) وقال تعالى في الامر
به: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها (7) وقد تمدح تعالى باثبات

(1) - ب ج د: " بطريق ".
(2) - كذا في النسخ وأظن أنه: " الحرف ".
(3) - ج د: " أصناف ".
(4) - ب: " كثير من العبيد ".
(5) - آية 20 سورة الرعد.
(6) - من آية 177 سورة البقرة.
(7) - صدر آية 91 سورة النحل.
108

أشديته وقال: ومن أوفى بعهده من الله (1) وبالجملة فهي من الصفات الكمالية والفضائل
النفسانية بحظ وافر، والله الموفق.
الكلمة الرابعة عشر
قوله عليه السلام: لا كرم أعز من التقى (2).
أقول: الكرم هو انفاق المال الكثير بسهولة من النفس في الأمور الجليلة القدر
الكثيرة النفع بمقدار ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي، وهي من أنواع فضيلة السخاء،
والتقى في اللغة الخوف، وفى العرف الخاص هو خوف النفس من التدنس بأدناس
الهيئات البدنية والتكيف بالملكات الردية ورفض المشتهيات البدنية وتباعدها وهربها
منها بمقاومة الشياطين وأبناء الجن الساكنين في القلل (3) وإلهامات المتشبثين (4) بأطراف
الفطن عن أن يلحق أعلى المقامات مقاومة بمقدار معتدل كما ينبغي موافق لرسم الشريعة
غير خارج عن الرسوم الموضوعة للرياضة الحقيقة وكيفيتها فان تعدى الكمال نقصان،
والعزة الجلال وعظمة الشأن وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الكرم كما يطلق حقيقة ويراد
به ما ذكرنا فكذلك قد يطلق مجازا ويراد به انفاق النفس وسمحها بالمشتهيات البدنية وقلة
الالتفات إلى اللذات الحسية التي يخاف من الاشتغال بها الالتفات عن القبلة الحقيقية
الموجب لسخط الله وما (5) اعتبرناه من القيود في حقيقة التقى " بسهولة منها وطيب " على

(1) - من آية 111 سورة التوبة.
(2) - قريب من ذلك قوله (ع) في باب الحكم من
نهج البلاغة: " ولا عز أعز من التقوى " وقال الشارح (ره) في شرحه (ص 624 من الطبعة الأولى):
" لان التقوى تستلزم جميع مكارم الأخلاق الجامعة لعز الدنيا فكان عزها
أكبر عزا من غيرها ".
(3) - ا: " في الفلك ".
(4) - ج د: " المتلثين ".
(5) - ا: " وقد ".
109

سبيل الاستعارة التي هي اجل أنواع المجاز، ووجه المشابهة ان الكريم كما يسمح بالمال
الكثير ويفارقه بسهولة من نفسه في تحصيل الأمور الجليلة القدر الكثيرة النفع بمقدار ما
ينبغي على الوجه الذي ينبغي كذلك المتقى من جهة انه متق يسمح باللذات
الحسية والمشتهيات البدنية بسهولة من نفسه في تحصيل الأمور الجليلة القدر الكثيرة النفع
وهي اللذات العالية والمشتهيات الباقية بمقدار ما ينبغي وعلى الوجه الذي ينبغي مما لا يخالف
الرسوم الشرعية والأوضاع الحقيقية ولهذه المشابهة الشريفة والملاحظة اللطيفة أطلق (ع)
عن التقى انه كرم.
وأما بيان انه أعز ما يطلق عليه اسم الكرم وهو المقصود من هذه الكلمة فلان
التقى قد سمح (1) بجميع اللذات المستحسنة الحسية وأعرض عنها فان تناول شيئا منها
فلا (يتناوله) لأنه ملذ بل مقوم للحياة حتى لو قامت حياته بغير ملذ لكان هو والملذ
على سواء بالنسبة إليه، والكريم وان سمح فبالمال الذي هو جزئي من جزئيات تلك
الملذات، وقد يكون ذلك البذل منه تحصيلا للذة فانية وشتان ما بين اللذتين وفرقان
ما بين الكرمين. شعر:
إذا ما ظمئت إلى ريقه * جعلت المدامة منه بديلا
وأين المدامة من ربقه * ولكن أعلل قلبا عليلا
فقد عرفت ان التقى أعز كرم وأجله وأعظم مسمياته شانا وارفعها مكانا وان
صاحبه هو المستفتح لاغلاق سبل الهدى إذا (2) أغلق عن نفسه أبواب مسالك الردى. اللهم
خذ بأزمة قلوبنا إلى إجابة داعيك حتى لا نلتفت (3) إلى غيرك ولا تجترئ (4) على هتك
أستار أبواب محارمك، فتزل قدم بعد ثبوتها ونذوق (5) السؤ بما صددنا عن سبيلك (6)

(1) - ج د: " يسمح ".
(2) - ب ج د: " إذ ".
(3) - ا ب: " تلتفت.
(4) - ج: " تجترئ ".
(5) - ا: " وتذوق ".
(6) - هي مأخوذة من آية 94 سورة النحل بتغيير
يسير ونص الآية: " ولا تتخدوا ايمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء
بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ".
110

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب (1).
الكلمة الخامسة عشر
قوله عليه السلام: لا معقل أحصن من الورع (2)
أقول المعقل والعقل الملجأ (3) والحرز، والحصن المكان الذي يحفظ فيه الشئ،
والورع في اللغة العفة، وفى عرف العلماء عبارة عن لزوم الأعمال الجميلة التي فيها كمال
النفس كما بيناه (4) قبل، وعرفت انه نوع من أنواع العفة وقد اطلق عليه السلام لفظ
المعقل (5) الذي هو حقيقة في الملجأ الجسماني على الورع مجازا من باب الاستعارة والتشبيه
ووجه المناسبة ان الملجأ كما يتحصن الشخص فيه من الأمور التي يخافها ويلجأ إليه من
عذاب أو هلاك يلحقه كذلك لزوم الأعمال الجميلة تلجأ إليها النفس وتتحصن بها في
الدار الأولى من الذم والعقاب العاجل وفى الدار الأخرى من العذاب بسعير (6) ملكات
الرذائل والهلاك الاجل، ولما كاد (7) لا يكون بين العذاب الأول والثاني نسبة لشدة التفاوت
بينهما في الشدة والضعف عرفت حينئذ التفاوت بين الحصنين والفرق بين الحرزين، وتحققت ان

(1) - آية 8 من سورة آل عمران.
(2) - قال الشارح (ره) في شرحه على نهج البلاغة
في شرح الفقرة (ص 624 من الطبعة الأولى):
" واستعار له لفظ المعقل باعتبار تحصن الانسان به من عذاب الله، ولما كان عبارة
عن لزوم الأعمال الجميلة فلا معقل أحصن منه ".
(3) - ج د: " المعقل الملجأ " ولعله
هو الصحيح.
(4) ب د: " بينا ".
(5) - ب ج: " العقل ".
(6) - ا ج د: " السعير ". ويمكن أن تكون العبارة هكذا: " من عذاب سعير ملكات الرذائل ".
(7) - ج د: " كان ".
111

اللاجئ إلى غير الورع غير لاج إلى مفزع ان ولا ناج من الفزع وانه ملحوق بالعقاب (1) مدرك باشد العذاب، وان المتحصن بحصن - الورع لاخوف عليه إذ لا ملجأ من الله الا إليه،
وحق للعاقل ان لا يلجا الا إلى حرز ينفعه و (2) حصن يمنعه والا لم يكن واضعا للشئ
موضعه فكان (3) ساقطا عن درجة العقلاء، والله الموفق.
الكلمة السادسة عشر
قوله عليه السلام: نفاق المرء ذلة.
أقول: قد عرفت حقيقة النفاق واشتقاقه من أي شئ، وأما الذلة فهي المهانة
وهي الانظلام والاستجابة لكل أحد وقد عرفت أيضا انها طرف التفريط من العدالة
والمقصود من هذه الكلمة بيان ان النفاق لازم من (4) الذلة وبيان ذلك أن المنافق
لما كان خارجا عن اعتقاد إلى اعتقاد (5) متنقلا (6) في أحوال لا يجوز التنقل (7) فيها دل
ذلك على انقهار نفسه لما يرد عليها من الأمور الخيالية واستجابتها للوساوس الشيطانية
ولكل ما يرد عليها من ذلك فيوجب ترديدها في العقائد المتضادة واتباعها لهذه تارة
ولهذه (8) تارة وذلك معنى المهانة والذلة لا جرم صدق ان نفاق المرء صادر عن ذله
وكذا المنافق يتحقق هذه الرذيلة في نفسه التي يخرج بها عن العدالة ويكون سببا
لحرمانه سلوك (9) سبيل الخير والانقياد لأسباب السعادة الباقية، ان المنافقين في الدرك
الأسفل من النار (10)

(1) - ب: " بالعتاب ".
(2) - د: " أو ".
(3) - ج د: " وكان ".
(4) - ا ج د: " عن ".
(5) - ب ج د: " اعتداد ".
(6) - ب: " منتقلا " ج د: " منتقل ".
(7) - ج د: " النقل ويقال: " تنقل من مكان إلى آخر تحول وقيل أكثر الانتقال ".
(8) - د: " ولذا ".
(9) - د: " عن سلوك ".
(10) - العبارة صدر آية 45 من سورة النساء وذيلها: " ولن تجد لهم نصيرا ".
112

وفى هذه الكلمة تجوز حسن في اطلاق اسم الذلة على سببها وهو من أقوى وجوه
المجاز وهي مستلزمة للتنبيه على وجوب حسم أصل هذه الرذيلة بالسعي والترفع (1) إلى
الحصول على العدالة التي هي الوسط ليسلم الانسان من دنس هذه الرذيلة وما يلزمها من النفاق
وغيره، وبالله (2) التوفيق.
الكلمة السابعة
عشر قوله عليه السلام: الجزع أتعب من الصبر.
أقول: الجزع ألم نفساني يعرض من تصور فقد محبوب أو فوت مطلوب، واما
الصبر فقد عرفت انه فضيلة للنفس بها يكون مقاومتها لهواها لئلا تنقاد إلى مقابح (3)
اللذات وقد عرفناها (4) فيما قبل بأنه مقاومة النفس لهواها، وهو تعريف للشئ ببعض
لوازمه الخاصة به إذا عرفت ذلك فاعلم أن المقصود من هذه القضية بيان ان الجزع
أشد تعبا على النفس من الصبر وأنت عند (5) أدنى تفطن ومراجعة لباطنك ترى ان ذلك
أمر وجداني ويزيدك (6) تنبيها على صحة ذلك النظر إلى غايتي الجزع والصبر فان الانسان
لو لم يقاوم هواه ليسلم من مطاوعته على تعود الجزع لم يزل في حزن دائم وجزع غير
منقض وشقاء (7) لا محيص عنه والم دائم لا أتعب من تحمله، وان هو استشعر العادة الجميلة
وهو ان يرضى بكل ما يجده حتى يحصل تلك العادة ملكة وخلقا ويكون مقاوما لهواه
لئلا يقوده إلى الحزن عل مالا يجدى الحزن عليه شيئا أكثر من التألم لم يزل مسرورا
مغبوطا فرحا، وكان نسبة ما يعانيه من تعب الصبر إلى تعب الجزع كالقطرة بالنسبة إلى
البحر ولو لم يكن التفاوت الا ان تعب الجزع في زيادة وتعب الصبر في نقصان (8) لكان

(1) - أب: " والرفع ".
(2) - ب: " من الله ".
(3) - ب ج د: " قبائح ".
(4) - ب د: " عرفناه " ج: " عرفنا " (بلا ضمير).
(5) - ج د: " بعد ".
(6) - ج د: " ونزيدك ".
(7) - ج د: " وتعب ".
(8) - ب: " النقصان ".
113

ذلك كافيا في تفاوت الشدة فيهما وفارقا في قوة التعب بينهما فان توهمت ان هذا
الاستشعار لا يتم أو لا ينتفع به فانظر إلى استشعارات الخلق في مطالبهم ومعايشهم تر عيانا
فرح المتعيشين بمعايشهم على تفاوتها وسرور المحترفين بحرفهم على تباينها، وتصفح ذلك في
كل طبقة منهم فإنه لا يخفى عليك فرح كل أحد منهم بما هو فيه، وليس ذلك الا لقوة
استشعار كل قوم بحسن طريقتهم ولزومهم لها بالعادة الطويلة، فإذا لزم طالب الفضيلة
مذهبه وقوى استشعاره وطالت عادته بذلك كان أولى بالسرور من هذه الطبقات الذين
يخبطون في الجهالات وأخفهم مؤنة وأقلهم تعبا وأحظاهم بالنعيم المقيم لأنه محق وهم
مبطلون، ومتيقن وهم ظانون، وهو ولى الله وهم أعداؤه، الا ان أولياء الله لاخوف عليهم
ولاهم يحزنون (1) وإذا تبنيت غاية الجازع والصابر فما أظنك بشاك في صحة هذه القضية
وصدقها، والله ولى الإعانة.
الكلمة الثامنة عشر
قوله عليه السلام: الذل مع الطمع.
أقول: قد عرفت ان الذل هو المهانة وهي انقهار النفس واستجابتها وانفعالها عن الأمور الصادرة (2) عليها، واما الطمع فهو قوة نزوع الشهوة إلى طلب شئ مع تصور
امكانه للطالب، واعلم أن الطمع قد يكون محمودا وقد يكون مذموما، فالمحمود هو
ما كان طمعا في تحصيل أمر باق مما يكون كمالا للنفس أو وسيلة إليه، وعليه يحمل
قوله عز وجل حكاية عن الخليل عليه السلام: والذي أطمع ان يغفر لي خطيئتي يوم
الدين (3) وأمثاله، والمذموم هو ما كان طمعا في تحصيل ما لا ينبغي من الاستكثار في المقتنيات

1 - اية 62 سورة يونس 2 - ج: " الصادة " والظاهر: عنها.
(3) - آية 82 سورة الشعراء.
114

الفانية وما لا يعود بنفع في أمر المعاد، والمراد ههنا هو الطمع بالمعنى الثاني، وإذا كان
كذلك فلابد وأن يكون الذل ملازما للطمع واللازم مع ملزومه في الوجود ثم السبب
في ذلك اللزوم ان قوتي الغضب والشهوة تتغالبان (1) فأي القوتين كان أغلب فلابد وأن تكون
النفس تابعة لها وحينئذ تنجذب القوة خلفها، فإذا فرضنا ان القوة الشهوية ثارت
بصاحبها وقويت في الطلب إلى حد لا ينبغي فلا بد وأن يكون العقل مأسورا في يدها، ويتبعها
سائر القوى فتنقهر معها قوته الغضبية وتسكن عن الحركة فيما يجب ان يتحرك فيه، وحينئذ
تكون المهانة المستلزمة لزوال الانفة والحمية.
وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب ترك رذيلة الطمع بترك متابعة القوة الشهوية
وقهرها، لان رذيلة الذل لما كانت مهروبا منها (2) مجتهدا في تحصيل ما يقابلها من الفضائل
التي فيها كمال النفس وكان ترك الطمع وسيلة إلى تحصيل تلك الفضائل وجب ذلك
الترك لوجوبها، والله ولى التوفيق.
الكلمة التاسعة عشر
قوله عليه السلام: الحرمان مع الحرص.
أقول: الحرمان منع العطية، وأما الحرص فقد سبق بيانه وهما لفظان مهملان
فالقضية مهملة، والمتيقن منها حكم جزئي وعند ذلك نقول: لما كانت الموهبات
والعطايا (3) قد تكون دنيوية وقد تكون أخروية، وكان الحرمان نسبة تستدعى حارما
ومحروما ومحروما منه (4) كان الحرمان صادقا على منع الموهبة الأخروية وعلى منع الموهبة
الدنيوية، غير أن الأليق بكلامه عليه السلام حمله على منع الموهبة الأخروية: وإذا (5) كان

(1) - ج: " متتابعتان ".
(2) - د: " عنها ".
(3) - ج د: " والعطيات ".
(4) - ب: " يستدعى محرما ومحروما منه " د: " محروما ومحروما منه ".
(5) - ب ج: " إذا " د: " أو ".
115

حرمانها لازما من لوازم الحرص المذموم لما عرفت ان المقبل بوجهه على الانهماك في طلب
حاضر اللذات منقاد بكف سلطان الشهوة إلى دنى المشتهيات، مشغول اللوح عن الانتقاش
بالآثار العلوية، غير مستعد لقبول الأنوار القدسية، ومن لم يستعد لأمر كان محروما منه
وهو سبب الحرمان وعلة فوت الاحسان من غير تقصير من الفاعل ولا نقصان، ما أصابك
من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك (1)، بمتابعة (2) هواها وعدم الاستعداد
لاحسان مولاها، واعتبر ما قلنا (في أنه) من لم يستعد لشئ كان محروما منه تجد الحريص
على اقتناء أبقى اللذات وهو الحرص المحمود مشغولا بأضداد ما اشتغل به المحروم الشقي
محروما (3) بعدم استعداده للملذ الدنى والكمال الوهمي البدني فيصدق حينئذ ان الحرمان
مع الحرص في المحرومين الحريصين من الطرفين.
وقد تصدق هذه القضية في المتعارف الظاهر
على وجه آخر
وهو ان الحرص في طلب العطايا والمنح الدنيوية قد يكون مستلزما لحرمان
الطالب، وإذا (4) قلنا إن القضية مهملة أمكن حملها أيضا على هذا المطلوب وبيانه ان
الحرص يستلزم اللجاج والالحاف (5) في السؤال مما ينفر طباع المطلوب منه لما انهما
لازمان للرذيلة المنفور منها طبعا ويولد السأم، والنفرة مستلزمة للبغض المنافى للميل إلى
العطاء، وحينئذ يصدق ان الحرص سبب الحرمان والمعلول مع علته في الوجود.
وأنت إذا سبح فكرك في بحر جواهر كلامه علمت أن ينابيع الحكم (6) منبعثة منه، وان
علوم كثير العلماء جداول تأخذ (7) عنه، شعر:
وإذا قضى في المشكلات ترادفت * حكم تريك الوحي كيف تنزلا

(1) - صدر آية 79 سورة النساء.
(2) - ا: " فمتابعة ".
(3) ليست في ا.
(4) ب: " وإذ ".
(5) - د: " والالحاح "، أقول: هما بمعنى واحد.
(6) - ا: " ان الحكمة ".
(7) - ج د: " تؤخذ ".
116

الكلمة العشرون
قوله عليه السلام: عبد الشهوة أذل من عبد الرق.
أقول: اثبات هذا الحكم ببيان أمرين:
أحدهما - ان المنقاد لشهوته ذليل أي مهين خاضع.
والثاني - ان مهانته واستجابته لشهوته أشد من مهانة عبد الرق واستجابته لسيده.
اما الأول فلا اشكال فيه إذ لا معنى لانقياده لشهوته وعبوديته لها الا خضوعه
وامتهانه في يدها، والضرورة حاكمة بان المنقاد للشئ والخاضع له ممتهن في يده
واما الثاني فواضح أيضا ويزيده (1) وضوحا ان خضوع عبدا لرق لمولاه وتذلله
له قد يكون عن كره وعدم شهوة بل بحسب الغلبة والقهر والخوف من الأذى وحينئذ
تكون الأعمال الصادرة عن ذلك كثيرا ما تكون سجعة (2) غير منظومة ولا تامة ومع ذلك
لا يخلو من مشاغبة ونفرة طبع يلحقه بحسب ملال يعرض له أو بحسب شرة في طبعه بحيث
لا يفي بضبطها السيد فلا يصدق معها الخضوع والامتهان والتذلل، واما خضوع المنقاد
لشهوته وامتهانها له فربما خرج به إلى حد لو قطع من جلده قطعة لم يحس بها حال انقياده
لها، واعتبر ذلك فيمن غلبته (3) شهوته وحكمت عليه بالوصول إلى امرأة مستحسنة ممانعة
له إلى غير ذلك من المشتهيات، فتجده بحسب خضوعه لشهوته وانقياده لها ممعنا في امتهان
نفسه في احكام ما يصدر عنه من الافعال واتقان (4)
ما يتحرك فيه من الأعمال من غير سأم (5)
ونفار ومن دون أنفة أو مراعاة حشمة وجاه، ولو كان ما يدعوه إليه الشهوة أقبح الأعمال
وأشنعها كبذل اللص نفسه وماله في تحصيل الات السرقة واصلاحها والخروج بها
متخفيا في ظلام الليل والأمكنة المخوفة والمواضع المخطرة التي يتيقن غيره فيها الهلاك

(1) - ج د: " نزيده ".
(2) كذا وفى نسخة ج د: " منتخبة " والظاهر: سمجة.
(3) - ج:
" غلبت عليه " د " غلب عليه ".
(4) - ج: " وانفال " د: وانفعال ".
(5) - ا: " تسأم ".
117

لو سلكها ومع ذلك فتجده غير خائف بالنسبة إلى حكم شهوته وطاعة هواه وغافلا عن
كل شئ سواه، وربما وقع في الأسر وأشفى على الهلاك مرة ومرة وقطعت يده أو رجله
فلا يبقى الا ريثما يبرأ قطعه ثم يعود إلى ما كان عليه حتى لو قطعت الات بدنه التي يتمكن
بها من السرقة لكان في خياله بحسب حكم شهوته انه لو كانت له آله يتوصل بها إلى صنعته
تلك لعاودها، كل ذلك طاعة لشهوته ومهانة وخضوعا في يدها بحيث يجزم الانسان
انه لو كلف عبد الرق الذي أحسن إليه المدة الطويلة بأقل تلك الأعمال وأيسرها أوفى
وقت لم تجر عادته بتكليفه فيه ولم يكن العبد مشتهيا لها لنفر طبعه منها ومانع (1) في عدم قبول
امره فيها، وإذا عرفت ذلك ظهر لك ان ذل (2) عبد الشهوة أقوى من ذل الرق بأضعاف
وان من ساوى بينهما فقد فقد الانصاف وكابر عقله، وذلك مفهوم مقصده العزيز وسر
لفظه الجزيل الوجيز، وفيه تنبيه على وجوب قهر الشهوة وكسرها إذا كانت داعية (3)
إلى اتباع الشيطان والعدول عن (4) طاعة الرحمن. وكان كثير ممن يدعى الشرف والفضل
ويزعم أنه كامل العقل ويسخط ويأنف ان ينسب إليه نقصان ورذيلة ويأبى ان يسلب عنه
كمال وفضيلة، فضلا عن أن يقال: هو رق لمولى منقادا في أسر الشيطان متهالكا في طاعته
وهو عن رشده غافل مذعنا ومشتغلا (5) بقبول (6) أوامر شهوته وهو لما يراد به جاهل، حتى
يتنبه بهذه الإشارة اللطيفة على أنه إذا كان أنفته وعزة نفسه ونفار طبعه من أن يقال:
انه رق لفلان العبد الصالح إنما كان لما في ذلك من الخضوع والامتهان ولما ينسب إليه
من النقصان فلم ارتكب من طاعة شهوته والانقياد لها ما يوجب له الامتهان التام الذي
هو أشد والنقصان اللازم الذي هو آكد، بل ما يعده (7) للعذاب الأليم بسبب زيغه عن
الصراط المستقيم وهل ذلك الا من جهله بالعواقب وقلة عقله لما يلزمه من المصائب

(1) - ب ج د: " وبالغ ".
(2) - ج د: " ذلة ".
(3) - في النسخ: " داعيا ".
(4) - د: " من ".
(5) - ب ج د: " منفعلا ".
(6) - في النسخ: " لقبول ".
(7) - ا ج: " بعده " (بالباء الموحدة).
118

فينبغي للعاقل كما يأنف ان يقال: انه عبد لمولى ان يأنف بالطريق الأولى من أن يقال:
هو رق الهوى فيتقهقر عن متابعة الشيطان ليخلص من (1) اسره، وينقاد لاثار الرحمن وينفعل
عن امره، ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا (2)
الكلمة الحادية والعشرون
قوله عليه السلام: الحاسد مغتاظ على من لاذنب له.
أقول: قد سبق بيان ماهية الحسد، واما الغيظ فظاهر والمقصود ههنا اثبات الغيظ
للحاسد في حال حسده على من لم يكن له ذنب معه وبيان ذلك انا لما ذكرنا ماهية
الحسد اعتبرنا في ماهيته حركة القوة الشهوية وانبعاثها ثم إن تلك الحركة مستلزمة
لحركة القوة الغضبية ودوام الغضب وثباته المسمى حقدا بدوام الامر المحسود به لتصور
الأذى الحاصل من حركة القوة الشهوية في تحصيل مالا يمكنها تحصيله من حال المحسود
وحينئذ يظهر لك المطلوب من هذه القضية وهو اثبات الغيظ الذي هو الغضب للحاسد
في حق المحسود. واما ان غيظ الحاسد يتحقق فيمن لاذنب له مع المحسود فظاهر، إذ قد
يتفق ذلك بمشاهدة الحاسد للمحسود على حاله معينة مرة واحدة، وقد يتفق الحسد
بحسب السماع فلا ذنب حينئذ الا ما هو فيه من النعمة والحالة المحسود بها كقوله (3):
تعد ذنوبي عند قوم كثيرة * ولا ذنب لي الا العلى والفواضل
وكقول الأمير علي بن مقرب في شكايته من قومه (4):

(1) - ج د: " ليتخلص عن ".
(2) ذيل آية 119 سورة النساء.
(3) - هو البيت
الخامس من قصيدة لأبي العلاء المعرى تشتمل على واحد وأربعين بيتا (انظر سقط الزند،
الجزء الأول، ص 110 من النسخة المطبوعة سنة 1286).
(4) - هو من قصيدة تشتمل
على اثنين وسبعين بيتا والبيت المذكور هو البيت العشرون من تلك القصيدة (انظر ص 372
من ديوان الأمير جمال الدين علي بن مقرب العيوني الشاعر الفحل المشهور وقد طبع ديوانه
هذا سنة 1383 بمصر بتحقيق وشرح لعبد الفتاح محمد الحلو) فليعلم ان هذا الديوان
طبع مرة أخرى قبل ذلك في بمبئي سنه 1310 الا ان فيه نقائص كثيرة فان طلبت البيت من
هذه الطبعة (انظر ص 381) وشرح البيت في هكذا " الحجى العقل، وبرع الرجل بضم الراء
وفتحها إذ افاق أصحابه في العلم وغيره " ومما يحقق ما ذكرناه من كون الطبعة الأولى ناقصة
ان القصيدة المشار إليها بأنها اثنان وسبعون بيتا في الطبعة الثانية لم يطبع في الطبعة الأولى
منها الا سبعة وخمسون بيتا من دون إشارة إلى أنها تشتمل على أكثر من ذلك والتفصيل
موكول إلى ملاحظة الطبعتين وقراءة مقدمة الطبعة الثانية.
119

ولا ذنب لي الا حجى وبراعة * ومجد وبيت في ربيعة عال
وفى هذه الكلمة تنبيه على قبح الحسد ورداءة التخلق به والتكيف بهذا الغضب
الخالي عن السبب إذ (1) كان الغضب الذي ينبغي يستدعى تقديم جريمة من المغضوب
عليه، اما الغضب الخالي عن السبب فمن باب وضع الأشياء في غير مواضعها وذلك خروج
عن مقتضى العقل ومفارقة للانسانية، وبالله التوفيق.
الكلمة الثانية والعشرون
قوله عليه السلام: منع الموجود سوء الظن بالمعبود.
أقول: منع الموجود إشارة إلى البخل وهو منع ما ينبغي اخراجه من المال على الوجه
الذي ينبغي بحسب القانون المراعى في استكمال فضيلة العفة، وامام سؤ الظن بالمعبود
فتصوره على الوجه الذي لا ينبغي ان يتصور عليه في ذاته أو في الحاق ذاته بصفات يجب
ان ينزه عنها، والمقصود من هذه الكلمة بيان ان من جملة أسباب منع الموجود وعدم صرفه
وفى جهة وبذله لمستحقه هو عدم تصور الخالق الرازق على الوجه الذي ينبغي وتصوره
كمالا ينبغي الا انه اطلق لفظ الملزوم وهو سوء الظن على لازمه وهو منع الموجود مجازا

(1) - ب ج د: " إذا ".
120

وبيان ذلك أن الوجه الذي ينبغي ان تعتقد هو ان صرف المال في وجوهه معد له
لاستحقاق أمثاله وان معبوده هو الجواد المطلق والكريم المطلق و (1) لا توقف لإفاضته
العالية على أمر فائت من جهته (2) ولا نقصان عارض لذاته بل على تمام استعداد القابل
لاحسانه واستكماله باستعمال العقل في وضع الأشياء مواضعها، فإذا هو عدم ذلك الاعتقاد
فقد استلزم ذلك عدم معرفته بالمعبود كما ينبغي، ومن لم يعرفه على الوجه الذي ينبغي
ان يعرفه عليه لم يخل (3) في تصوره له من تكيفه (4) بكيفيات غير لائقة بجوده ووصفه
بهيئات غير لاحقة لكمال وجوده من تشبيهه (5) بملوك (6) الدنيا وأصحاب الأموال الذين ينسب
إليهم الاعطاء والمنع والمفاخرة بجميع الأموال وكثرتها وادخارها، ويتضررون بانتقاصها
وعدمها، وان من صفات هؤلاء وجاري عاداتهم جمع الأموال التي هي قوام مناصبهم
وبها استقامة أمورهم ومنع كثير من المستحقين وعدم الالتفات من كثير منهم إلى الفقراء
والمساكين وكان هذا التشبيه سوء ظن به إذ (7) كان اعتقادا غير مطابق لما عليه الامر في
نفسه (8)، وكان مستلزما لمتابعة النفس الامارة بالسوء الحاكمة بان المال هو الكمال الذي
ينبغي ان يطلب ويقتنى، وانه ثمرة الأعمال التي يجب ان تجتنى، وان مطلق الانفاق داعية
للفقر وسبب للحاجة (9) إلى من للمال عنده حرمة ويجوز ان لا يعطى المستحق ولا يفيض
الكمال على المستعد له الناشئ كل ذلك من عدم معرفته كما ينبغي وتصوره على الوجه
الذي لا ينبغي وكان (10) ذلك سببا لمنع الموجودات الفانية وسدا لسبل الخيرات الباقية
وصدا عن الصعود إلى المقامات العالية، ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا (11) وماذا
عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر (12) بالتصورات المناسبة لمقتضى الأوامر الشرعية " وأنفقوا

(1) - الواو فقط في نسخة ا.
(2) - د: " من وجهه ".
(3) - ا ب: " ولم يخل " (بواو).
(4) - ج د: " تكفيه ".
(5) - ج د: " تشبهه ".
(6) - ب: " لملوك ".
(7) - ب: " إذا ".
(8) ا: " عليه الامر نفسه ".
(9) - ج د: " وسبب الحاجة ".
(10) - ج د: " فكان ". 11 و 12 - ذيل آية 38 وصدر آية 39 سورة النساء.
121

مما رزقهم الله (1) " على وفق تلك المناسبات العقلية " وكان الله بهم عليما " (2) مطلعا على
تفاوت درجاتهم ومراتب استحقاقاتهم فينزل بقدر ما يشاء (3) انه حكيم عليم (4).
وفى هذه الكلمة إشارة إلى وجوب السعي في تحصيل المعرفة الممكنة اللائقة بالمعبود
لتحصل بها السلامة عن رذيلة البخل الذي هو سبب الحرمان في الدارين، والله ولى التوفيق.
الكلمة الثالثة والعشرون
قوله عليه السلام: العداوة شغل القلب. أقول: قد عرفت معنى العداوة وانها رذيلة تقابل فضيلة الصداقة تقابل الضدين،
واما اثبات المطلوب من هذه الكلمة وهو انها شغل القلب مستلزمة للغضب الثابت وقد
عرفت ان الغضب حركة للنفس (5) يحدث منها حرارة دم القلب وغليانه شهوة للانتقام،
فإذا كان الغضب ثابتا دائما كان ذلك الغليان متجددا في كل وقت ولحظة وذلك شغل
عظيم للقلب ملفت عن سائر أشغاله الواجبة، وان شئت فاحمل ذلك بنظر آخر أدق من
هذا النظر على ما هو أدق من هذا المعنى وذلك انك قد علمت أن القلب قد يعبر به
في عرف العارفين عن القوة العاقلة التي هي محل العلوم الكلية ثم قد علمت أن العداوة وبغض
صادق يهتم معه بجمع (6) الأسباب المؤذية للمبغوض وإذا كان كذلك كان كون العداوة شغلا
للقلب ظاهرا لان اهتمام النفس بجمع أسباب الأذى للمغبوض وتحصيلها وفكرها في كيفية
التحصيل وفى كيفية الخلاص والسلامة من مماكرة (7) العدو وكيده والاحتراز عن ذلك
شغل شاغل لها وملفت عن توجهها إلى المقاصد الحقة التي يجب سعيها فيها، وإذا لاح

(1 و 2) - ذيل آية 39 سورة النساء.
(3) - مأخوذ من آية 27 سورة الشورى بإضافة
الفاء على أولها.
(4) - ذيل آية 139 سورة الأنعام.
(5) - ج د: " في النفس ".
(6) - في النسخ: " من جميع ".
(7) - ا ج د: " والسلامة مما كره ".
122

لك سر هذه الكلمة عرفت انه مستلزم للتنبيه على ترك هذا الشغل وذلك إنما يكون
بحسم سببه المذكور فإنه رذيلة يستلزم وجودها نفى فضيلة الصداقة الموجبة للاتحاد في
الواحد الحق (1) الموجب لسعادة الدارين.
الكلمة الرابعة والعشرون
قوله عليه السلام: لاحياء لحريص.
أقول قد علمت أن الحياء هو انحصار النفس خوف اتيان القبائح وحذرا من
الذم والسب الصادق، وان الحرص المذموم هو بذل الوسع في طلب الأمور الفانية
كاقتناء الأموال وجمعها والسعي في تحصيل اللذات الحاضرة الوهمية التي هي بالحقيقة
دفع آلام، وإذا تصورت هذين المعنيين لاح لك وجه المضادة بينهما إذ (2) كان باذل الوسع
في تحصيل ما ذكرنا (3) غير منفك عن (4) قحة وخشونة وجه يتمكن معها من المنازعات
والمخاصمات والمماحكات في البيع والشراء وغيرهما من التصرفات، وإذا كان كذلك
لم يتحقق في حقه حينئذ خوف اتيان القبائح ولم يكن عنده حذر من الذم، ولا مبالاة
بالشتم والسب، وذلك يستلزم عدم الحياء ونفيه (5) عن محل الحرص بالكلية، ولما كان
الحياء والحرص مما لا يجتمعان وعلمت ان الحياء فضيلة من الفضائل التي تحت العفة وان
العفة جزء عظيم من اجزاء العدالة التي يكون بها الانسان (6) كاملا في قوتيه (7) العملية
والنظرية وجب عليك أيها الأخ أن يكون بعدك من الحرص بعد حرصك على لزوم فضيلة الحياء والمحافظة عليها ان كانت موجودة فيك وان لم تكن فليكن حرصك على
غسل درن الحرص لتحصيلها، والله يوفقنا وإياك لما يزلف لديه، انه جواد كريم.

(1) - ب: " الحي ".
(2) - ب: " إذا ".
(3) - ب: " ذكرناه ".
(4) - ب ج د: " من ".
(5) - ج د: " وبعثه ".
(6) - ج: " النفس ".
(7) - ا ب ج: " قوته ".
123

الكلمة الخامسة والعشرون
قوله عليه السلام: البخل جامع لمساوئ العيوب (1). أقول: قد عرفت ماهية البخل، ومساوئ العيوب مقابحها وقبل بيان المقصود
نذكر درجات البخل وهي أربع، فالأولى منع ما ينبغي منه لمستحق هو غيره وهو أهون
درجاته. الثانية منع ما ينبغي منه لمستحق هو نفسه وهذه أشد من الأولى، لان منع نفسه
التي هي أكرم عليه من الغير أشد من منع الغير إذ كان لم يسع في تحصيل ذلك الممنوع
الا لنفسه. الثالثة منع ما ينبغي من غيره لمستحق غيره وهي أشد من الثانية، لان حبه لما
يتوهم انه يملكه أهون من منعه لما لا يملكه لامكان تصور انتفاعه بما يملكه دون مالا يملكه،
الرابعة منع ما ينبغي من غيره لمستحق هو نفسه وهذه أشد الدرجات وصاحبها أبعد الجماعة
عن الرشح للخير، لأن هذه الدرجة مستلزمة للثلاث الأول مع زيادة وهي انه منع أحق
مستحق عنده لابعد الأشياء عن ملكه، هذه (2) هي الدرجات، فاما أسبابها فاعلم أن السبب
اما في الدرجتين اللتين يمنع فيهما ماله عن (3) غيره وعن نفسه فأكثر ما يكون في الابتداء
خوف الفقر والحذر من الحاجة إلى من يمنع الرزق الصادر ذلك عن سوء الظن بالمعبود
كما عرفت قبل إلى أن (4) يصير ذلك بحسب التكرر والتعود ملكة وخلقا وحينئذ لا يبقى
له مع المنع مراعاة تلك الأسباب وخطورها بباله بل يصير ذلك المنع طبيعة،. واما في
الباقيتين اللتين يمنع فيهما مال غيره عن نفسه وعن غيره فلانه لما كان تكيف بالملكة الردية
المذكورة وتخلق (5) بها صار عند مشاهدة البذل من غيره يقدر بحكم وهمه انه واقع في ذلك
البذل وانه هو الفاعل له فيلحقه حينئذ من ذلك نفرة طبيعية (6) يحكم معها بقبح ذلك
البذل من فاعله ويحب منه ان لا يبذل ليكون موافقا لطبعه (7) ولا يزال يسمعه التوبيخ

(1) - لهذه الكلمة شرح للشارح (ره) في نهج البلاغة ونورده في آخر الكتاب إن شاء الله.
(2) - ج د: " فهذه ".
(3) - ا: " أعلى ". د: " من ".
(4) - قبل ان ".
(5) - ا: " تحلى ".
(6) - ج د " طبعية ".
(7) - ا: " لطبعه بطبعه ".
124

وينسبه إلى تجاوز قدره الذي يجب ان يقف عنده وما يشبه ذلك مما ينفر طبعه منه لكيلا -
يعود إلى ذلك البذل ولا يكثر منه وإذا عرفت ذلك فنقول: المراد من هذه الكلمة بيان
ان رذيلة البخل مستلزمة لمقابح (1) الرذائل وقد عرفت ان أجناس الرذائل أربعة، الجهل
والشره والجبن (2) والجور ونحن نبين ان هذه الأربعة لازمة لرذيلة البخل موجودة في
محلها اما الجهل ونعني به ههنا المركب فلأنك عرفت ان البخيل لا يخلو تصوره
لمعبوده من تكييفه (3) بكيفيات غير لائقة بجوده وغير لاحقه لكمال وجوده من تشبيهه (4)
بخلقه المنتفعين بوجود الأموال والمتضررين بفقدها وذلك اعتقاد غير مطابق لما عليه الامر
في نفسه وهو حقيقة الجهل المركب، واما الشره فقد عرفت انه غلبة الحرص على اقتناء
الملذات (5) البدنية والانهماك فيها والخروج في ذلك إلى مالا ينبغي.
ولا يخفى ان البخل مستلزم لغلبة الحرص في جمع (6) الملذات (7) المالية والانهماك فيها
والخروج إلى الحد المنهى عنه، واما الجبن فقد عرفت ان حقيقته الخوف مما لا ينبغي ان
يخاف منه ولا يخفى ان البخيل ابدا خائف من الفقر وجل من حدوث الحوادث في ماله
بحيث لا ينسب مثل ذلك الخوف إلى غيره وذلك خوف مما لا ينبغي ان يخاف منه لان
ما يحافظ عليه منه لاشك انه من الأمور الكائنة الفاسدة ومن خاف فيما (8) لابد من كونه
ورجا ان لا يفسد فقد خاف مما لا يجوز ان يخاف منه وهو عين الجبن، واما الجور فقد
عرفت ان حقيقته التوصل إلى كثرة المقتنيات من حيث لا ينبغي وكما لا ينبغي ويلزمه طلب -
الزيادة من النافع للنفس (9) وطلب النقصان منه للغير ولا يخفى ان البخل مستلزم لذلك
فان البخيل لغلبة حرصه وجهله ويجتهد في طلب الزيادة من اي الوجوه (10) كانت ويتوصل
إلى جمع الأموال من حيث لا ينبغي بحكم وهمه الكاذب ان ذلك مما ينبغي.

(1) ا ج د: " لقبائح ".
(2) - د: " والجبن والشره ".
(3) - ب د: " تكيفه!.
(4) - ب ج: " من تشبهه ".
(5) ج د: " اللذات ".
(6) - ب: " جميع ".
(7) - ج د: " اللذات ".
(8) - ج د: " مما ".
(9) - ب: " النفس " (بدون لام الجر).
(10) - الوجود "
125

وإذا ثبت (1) ان أصول الرذائل الأربعة لازمة للبخل موجودة في محله كان ما
يلزمها من الرذائل أيضا كذلك فتجد الكذب الذي هو رأس النفاق عارضا عن الشره
إذا كان الشره خارجا مما (2) يطلبه إلى مالا ينبغي على وجه لا ينبغي كالأكاذيب (3) والحيل
الباطلة وغيرها وكالجرأة (4) والتعود لسلب الأموال وسفك الدماء وهلاك الأنفس (5)
الناشئ من طبيعة الجور، وكالاعراض عما يجب فعلة من المحافظة على الحريم والذب
عنهم (6) والقصور فيما ينبغي القيام به من السياسات وتنفيذ الاحكام التي (7) يجب تنفيذها
المستلزم لعظم الهمة اللازم ذلك للجبن المذكور وكالنقصان البائر (8) اللازم للجهل إلى
غير ذلك من العيوب الفاحشة وبالجملة فإذا تأملت أصناف قبائح الرذائل ومساوئ العيوب
وجدتها منبعثة (9) عن هذه الأربع.
وينبغي ان يتنبه من هذه الكلمة على وجوب الهرب من هذه الرذيلة وغسل لوح -
النفس عن درنها ليسلم مما يلزم عنها من مقابح (10) الرذائل وما يصحبها من مساوى العيوب
فيترشح لاقتناء الباقيات الصالحات فعسى أن يكون من المفلحين (11) والله يدعو إلى دار السلام
ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم (12).
الكلمة السادسة والعشرون
قوله عليه السلام: كثرة الوفاق نفاق وكثرة الخلاف شقاق.
أقول: الوفاق الموافقة فيها يقال من الآراء ويختار من الافعال الصادرة عن الأغراض
والإرادات (13) التي قد تختلف، واما النفاق فقد سبق بيانه والخلاف المخالفة فيما يقال

(1) - ج د: " بينت ".
(2) - ا ج د: " فيما "
(3) - ج: " كالأكاذب ".
(4) - ب: " وكالجراءة ".
(5) - ب: " النفس ".
(6) - كذا في النسخ والظاهر أنه: " عنه ".
(7) - ب: " الذي ".
(8) - ا: " الثائر " ب " الباتر " ج د: " التأثر " فالتصحيح قياسي.
(9) - ا ب: " مستتبعة ".
(10) - ا: " قبائح ".
(11) - ذيل آية 67 سورة القصص.
(12) - آية 25 سورة يونس.
(13) - ج د: " والإرادة ".
126

من تلك الآراء والشقاق الافتراق من شق العصا، إذا قسمتها بنصفين، وههنا حكمان،
الأول ان كثرة الوفاق وليس المراد ان كثرة الموافقة هو نفس النفاق بل المراد انه
لازم له فأطلق اسم الملزوم على لازمية (1) كثرة الوفاق للنفاق مجازا إذ التقدير كثرة الوفاق
لازم من لوازم النفاق، واظهر من ذلك أنه حذف المضاف للعلم به وأقام المضاف إليه مقامه،
واما عله هذا الحكم فلان الآراء مختلفة اختلافا شديدا تكاد لا تتناهى (2) بحسب اختلاف
التصورات وجودة الحدس وضعفه واستقامة التخيل (3) واعوجاجه الصادر عن التفاوت
في الأمزجة حتى انك تجد لكثير (4) من الناس آراء يستبدون (5) بها لا تكاد تتصور (6)
موافقة أحد لهم فيها ثم إن كان لابد من الوفاق الصحيح الا ان ذلك لا يكون إلا في
الاحكام الضرورية أو البرهانية وهي مع أنها أقلية الوجود بالنسبة إلى الاحكام التي
تخفى أسبابها فتكاد تسلم من اختلاف الآراء فيها، أو (7) - لا يقع لها انكار أو تصور على وجه
آخر، وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الذي يكثر وفاقه في كل ما يقال أو يستشار فيه يستحيل
أو يكون في غاية البعد ان يقال: ان تلك الموافقات منه مطابقة اعتقاده الصادر عن النظر
في الامارات الصادقة وعن تخالف الأمور وان ذلك هو الذي أدى إليه اجتهاده بل الذي
ينبغي ان يعتقد ان ذلك إنما هو نفاق لخروجه (8) به عن الصدق في عدم مطابقة ظاهره
لباطنه وقد علمت أن النفاق ذلة (9) واستخذاء (10) نفس واستجابتها وانفعالها عن مقابلة -
المستشير والقائل وخاصة أن يكون معظما في ملكه أو علمه أو حال يوجب له الاحتشام
وهذا الحكم مستلزم للتنبيه على وجوب الحذر عن كثرة الوفاق فإنها من آثار رذيلة
المهانة والانظلام التي هي طرف التفريط من الشجاعة إذ تبين لك من هذا البحث

(1) - ب: " الزمية ".
(2) - ا ب: " يكاد لا يتناهى ".
(3) - ج د: " البخيل ".
(4) - ب ج د: للكثير ".
(5) - ا: " مستبدون ".
(6) - ا: " لا يكاد يتصور ".
(7) - ج د: " و ".
(8) - ا ج د: " بخروجه ".
(9) - ت ج د: " لذلة ".
(10) - ا: " واستجذاب ".
127

ترتيب البرهان على ذلك وصار الترتيب " كثرة الوفاق نفاق، والنفاق ذلة " فأنتج ان
كثرة الوفاق ذلة، اما المقدمة الأولى فبينة من بحثنا، واما الثانية فقد تقدم تقريرها
وتبين من بيانهما ان كثرة الوفاق من لوازم النفاق الذي هو من لوازم المهانة ولازم -
اللازم لازم ولن يتخلص عن ذلك الا بمعاجلة المعالجة (1) لغسل الباطن من رذيلة المهانة
لان معالجة هذه الأمراض تستدعى حسم أسبابها أولا بتعويد النفس وتطويعها بأضداد
تلك الأسباب، واما الحكم الثاني فهو ان كثرة الخلاف سبب للشقاق وملزوم له
واطلاق الشقاق على لازمية كثرة الخلاف مجاز، واما برهان هذا الحكم فلان الخلاف
بطبيعته مثير للقوة الغضبية المحركة إلى طلب الانتقام من المخالفين الموجب للعداوة
والبغضاء وتنافر الطباع وإذا كان أصل طبيعته فما ظنك بكثرته والخروج فيه إلى مالا ينبغي
وايراده فيما لا ينبغي وقد كنت عرفت ان طلب الانتقام مثير للعداوات (2) ومن لوازم العداوة
التباين ولافتراق فتعلم حينئذ ان كثرة الخلاف موجبة للشقاق لما ان علة العلة علة،
واعلم أن هذين الحكمين مستلزمان للتنبيه على وجوب لزوم الوسط بين طرفي الافراط
والتفريط الذي هو الشجاعة اما طرف الافراط فعلته (3) كثرة الخلاف فان ذلك
بالحقيقة صادر عن تهور واقدام على مالا ينبغي الاقدام عليه، واما طرف التفريط فهو
علة كثرة الوفاق التي هي المهانة فان الانسان بارتكاب الطرف الأول يحصل على الشقاق
والتباين الموجب للتباغض المنافى للمحبة والاتحاد في الله تعالى التي هي سبب لاستنزال (4)
رحمته وبركاته، وبارتكاب الطرف الثاني يحصل على الرذيلة المذكور وملزومها، وكلاهما
منهى عنهما، فينبغي للعاقل ان يثبت على الوسط ويثبت (5) بعرى عقله دون ان يجذبه هواه
إلى سلوك أحد الطرفين فيكون من الهالكين، والله ولى العصمة.

(1) - ا: " بالمعالجة العاجلة " ج د: " بمعالجة المعالجة ".
(2) - ج د: " للعداوة ".
(3) - ا ج د: " فعله ".
(4) - ا: " لاشتراك ".
(5) - في بعض النسخ بلا نقطة فيمكن ان يقرأ " يتشبث " (بالشين المعجمة)
128

الكلمة السابعة والعشرون
قوله عليه السلام: البغى سائق إلى الحين.
أقول: البغى الظلم، والحين ههنا بفتح الحاء الهلاك، والمراد ان الظلم من
الأسباب المعدة لبطلان حياة الظالم ومقرب لهلاكه، وأطلق عليه السلام الفظ السائق
على الظلم مجازا من باب الاستعارة، ووجه المشابهة ان السائق (1) كما يكون لسرعة الوصول
بسيره إلى المكان المقصود كذلك الظالم يكون ظلمه سببا لسرعة وصوله إلى أجله، واما
علة هذا الحكم فهو ان الظالم إنما ينتزع بظلمه من الخلق ما يكون هممهم معلقة بحفظه
واقتنائه ونفوسهم حريصة على بقائه في أيديهم وهو سبب لذتهم ومتعتهم (2) وما يتوهمون
انه ملك فيكون بذلك معرضا نفسه لاجتماع هممهم (3) في اذاه واجتهادهم في دفعه واهلاكه
اما باستعداء ظالم آخر أو عادل عليه واما بأيديهم واما بفزع نفوسهم إلى الله تعالى وتفريغ
خواطرهم واعدادها بالأدعية والابتهالات لان تفاض عليها إجابة الدعوات بانزال العقوبة
العاجلة له كما عرفت كيفية ذلك الاستنزال وامكانه، وحينئذ تكون حركة الظالم في ظلمه
سببا باعثا لحركة المظلوم في طلب الانتصار وأخذ الثار على أحد الوجوه المذكورة فكان (4)
ظلمه سببا قائدا له إلى حينه، ولما كان قرب الحين منفورا منه (5) طبعا للخلق وكان الظلم
سببا سائقا إليه وجب عليك أيها الأخ ان تنظر بعين بصيرتك ما استلزمته هذه اللفظة
من التنبيه على وجوب ترك الظلم سيما وقد علمت أنه من أعظم الرذائل وأقبحها، والله
يثبت أقدامنا في مزال الاقدام، ويطهر نفوسنا من ادناس الآثام، وانه ولى الانعام
وصاحب الأيادي الجسام.

(1) - كأن الشارح (ره) قرأ الكلمة " السابق " بالباء من مادة " س ب ق " والحال انه
معتل العين من ساق " س وق " كما هو ظاهر.
(2) - ب ج د: " ومنفعتهم ".
(3) - ب: " همهم ".
(4) - ا: " وكان ".
(5) - ب " عنه ".
129

الكلمة الثامنة والعشرون
قوله عليه السلام: أوحش الوحشة العجب.
أقول: الوحشة نفرة طبيعية تعرض للحيوان عن تصور الموذى، وتقابل الانس
تقابل الضدين، واما العجب فهو ظن كاذب بالنفس في استحقاق مرتبة هي غير
مستحقة لها، ولما كانت الوحشة مقولة بالتشكيك على ما تحتها، إذ (1) كان من الوحشة
ما هو أشد ومنها ما هو أضعف ظهر حينئذ أن تقدير القضية: " أشد درجات الوحشة وأبعدها
عن الانس العجب " واعلم أن العجب نفسه (2) ليس بوحشة فيعود التقدير إلى " ان أوحش
الوحشة مسبب عن العجب ولازم له " فأطلق لفظ العجب عليه مجازا كما سبق بيان مثله،
إذا عرفت فنقول: اما برهان سببية العجب للوحشة فلان المعجب بنفسه إذا
اعتقد ماله على غيره من الفضيلة فهو وان أكذب نفسه فيها في بعض الأحوال الا انه كثيرا ما
يبعثه (3) الالتذاذ بتصور تلك المرتبة ولوازمها وتخيل زينة نفسه بها وتميزها عن أغيارها (4)
بسببها على اكذابها (5) فيعبر (6) إلى حد التيه فيتيه ويتجبر على غيره ويستنقص أبناء نوعه
لتصور التفرد بالمرتبة التي لنفسه فكان ذلك سببا لتنفر (7) طباع الخلق عنه ووحشته
منه من وجهين:
أحدهما - انا بينا ان التواضع ولين الجانب واظهار النقص من الكمال لنفسه
تقريرا للتواضع وبسطا من طباع الاخوان مميل لطباعهم إليه وموجب للألفة الموجبة للانس
والمحبة فكان التيه والعجب وما يصحبهما من اضداد ما ذكرنا موجبين للنفرة الطبيعية
المستلزمة للتباين المستلزم للوحشة والانقطاع وعدم المحبة.

(1) - ب: " إذا ".
(2) - ا: " ان الانس وحده ".
(3) - في النسخ: " تشغله "
فالتصحيح نظري.
(4) ج د: " على اعتبارها ".
(5) - د: " على اكذبها ".
(6) - ج د: " فتصير ".
(7) - ا ب: " لتنفير ".
130

الثاني - ان الكمال من حيث هو كمال محبوب للنفس ومطلوب لها ثم إن الانسان
يكاد يخلو عن الحكم الوهمي في حق نفسه باستحقاق كمال مالا يكون لغيره أوان كان لكنه
يكون لاحاد الناس كانسان اطلع بصفاء سريرته وارشاد الله تعالى إياه على عيوب نفسه
فكسر غلو العجب عنها، وإذا كان كذلك فالمعجب إذا أعجب بنفسه وتاه على غيره لاعتقاد
المزية عليه لم يخل ذلك الغير من أن يكون له مثل ذلك الاعتقاد أو يكون مطلعا على قبحه
لعلمه بأنه عيب من العيوب الفاحشة وعلى التقديرين فان ذلك العجب موجب للنفار (1)
اما في حق الأول فلعدم تسليمه لما يعتقده هذا المكبر (2) لنفسه عليه من التفرد بالمزية
والكمال لان الكمال المعتقد هناك قد يكون عند المتكبر عليه أشد وأرسخ في اعتقاده، وعند
عدم التسليم والانكار للدعوى ممن أصر (3) عليه لابد وان يحصل الوحشة بينهما، واما في حق
الثاني فلاستنقاصه عقل المتكبر والمعجب واطراحه عن درجة الاعتبار وعدم تأهله في نظره
واعداده للمعاشرة والألفة والصداقة فهذه أسباب النفرة الطبيعية للخلق من المعجب بقي
علينا ان نبين ان الوحشة الصادرة عن العجب أشد درجات الوحشة وأبعدها عن الانس
وبيان ذلك أن أقوى ما يتصور من أسباب الوحشة قد يكون علاج ما يوجبه منها سهلا
ومعاناة حسمها هينا، فان من أعظمها وأقواها قتل الأحباء والأولاد وقطع بعض الأعضاء
أو الضرب المؤلم الممرض فقلما يكون مثل هذه الأسباب في القوة وايجابها للوحشة والقطيعة
ومع ذلك فان علاج مثل هذه الوحشة يكون سهلا اما ببذل الأموال الكثيرة أو بالرفق
واللين أو ببذل القصاص ويكون ذلك في أقصر مدة وأيسرها، واما العجب فان علاجه
وحسمه قد لا يمكن ان أمكن فإنه يكون غاية من (4) العسر وبيانه ان علاج ذلك متوقف
في الانسان على معرفة نفسه أولا (5) وهي درجة عظيمة قل الواقفون عليها وإذا أعرفها فينبغي
ان يعرفها بكثرة العيوب والنقصانات المعتورة لها وهذه درجة في غاية الصعوبة أيضا فان

(1) - ج د: " للعناد ".
(2) - ج: " التكبر " د " المتكبر ".
(3) - ج د: " نظر ".
(4) - ا: " في ".
(5) - ب ج: " أولى ".
131

احصاء العيوب النفسانية بالاطلاع عليها وكسر توهم النفس لكمالها عسر بالكلية ثم
إذا عرفها بكثرة العيوب (فينبغي) ان يعرف (1) ان الفضل مقسوم بين البشر وليس يكمل
منهم أحد الا بفضائل تجتمع له وكل من كانت فضيلته عند غيره فينبغي ان لا يعجب بنفسه
ولا يفتخر على غيره وكل هذه المراتب وان كانت ممكنة في نفس الامر الا انها في حق كثير
من الخلق غير ممكنة وفى حق الأكثر منهم عسرة التحقيق صعبة التناول، وإذا كان كذلك
الوحشة العارضة عن أسبابها دائمة قوية عسرة العلاج لعسر علاج أسبابها فكانت أقوى
وحشة وأشدها فان قوة المعلول مستفادة من قوة علته وحينئذ يتبين (2) لك سر قوله
" أوحش الوحشة العجب ".
وينبغي لك أيها الأخ ان تتنبه مما يسنح لك من سر هذه الكلمة على وجوب
ترك العجب والاجتهاد في حسمه إذ (3) كان سببا عظيما من أسباب الهلاك فرتب في ذهنك
دليلا هكذا: العجب سبب (4) من الأسباب المانعة من استعدادا النفس لكمالاتها المسعدة (5)
وكل ما كان كذلك كان واجب الترك ينتج (6) من الشكل الأول ان العجب واجب
الترك، اما المقدمة الأولى فجلية مما قررناه، واما الثانية فلان الكمال المسعد (7)
واجب الطلب والأسباب المانعة من الاستعدادات للطلب منافية له فكان تركها وسيله إلى
تحصيل الواجب وما لا يتم الواجب الا به وكان مقدورا للمكلف كان واجبا، وأنت بعد أن
علمت كيفية علاج حسمه عليم بما تصنع، والله ولى توفيقنا وبه هداية طريقنا.

(1) - كذا.
(2) - ا ج " تبين ".
(3) - ب ج د: " إذا ".
(4) - ج د: " سببا ".
(5) - ب: " المستعدة " ج د: " المعدة ".
(6) - ب ج: " لينتج " (بلام في أوله).
(7) - ب: " المستعد " ج د: " المعد ".
132

الكلمة التاسعة والعشرون
قوله عليه السلام: إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه
أقول: المقصود من هذه الكلمة الحث على الفضيلة التي تمسى عفوا وتسمى في عرف العلماء مسامحة وهي بالحقيقة ترك بعض ما يجب بالإرادة والاختيار ولا شك ان هذه
الفضيلة مستلزمة لكثير من الأخلاق الفاضلة كالسخاء والنبل والسماحة وكذلك هي
مستلزمة لفضائل أخرى من باب الشجاعة كالملكة المسماة بالحلم فان نفس صاحب العفو
تكون مطمئنة خالية عن الشغوبة بحيث لا يحركها الغضب بسهولة وكاحتمال الكد فان
استعمال النفس للعفو مرة ومرة يدل على أن لها قوة تستعمل بها الات البدن في الأمور
الحسنة (1) بالتمرين وحسن العادة إلى غير ذلك من الفضائل، وإنما علقه عليه السلام بالقدرة
لان ظهور فضيلة العفو للنفس إنما يتحقق بعد تحقق القدرة بحسب اعتقاد العافي انه متى
شاء العقوبة كان متمكنا منها سواء كان ذلك التمكن حاصلا في نفس الامر أوليس،
واما قبل ذلك الاعتقاد فلا يتحقق العفو إذ لم يكن في هذه تاركا لبعض ما هو واجب له
لعدم تحقق وجوب الانتقام، واما الامر له بجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه فلان القدرة
التي وهبها الله تعالى له نعمة عظيمة والشكر على النعمة واجب وان كانت هذه القضية ليست
بأولية بل من المشهورات المحمودة والتأديبات الصلاحية التي توافقت عليها الشرائع وتطابقت
عليها آراء الخلق في اصلاح معاشهم ومعادهم ومع ذلك فان للشكر وخاصة للمنعم
المطلق اثر عظيما إذ هو من الأسباب القوية في اعداد القوة العقلية بالمداومة عليه لقبول
اثار الرحمة وتأهلها لاستنزال (2) المطلوبات بالابتهالات وصالح الأدعية وإذا كان كذلك

(1) - ج د: " الحسية ".
(2) - ج د: " لاشتراك ".
133

فينبغي من العاقل إذا قدر على عدوه ان يعلم أن الشكر كما يكون معد للنفس لقبول الخيرات
المذكورة كذلك العفو فإنه مستلزم للفضائل التي ذكرناها وبها تحصل على الخيرات الدائمة
فلذلك أطلق عليه السلام لفظ الشكر عليه لمكان المناسبة فكما ان تلك الخيرات يجب ان
يجتهد في تحصيلها بالشكر الذي بينا كيفية حصولها عنه كذلك يجب ان يجتهد في تحصيل
الفضائل التي يستلزمها العفو بالمداومة عليه مرة ومرة حتى تظهر تلك الفضائل التي
تلزمها عن النفس، فان أقام العافي عفوه مقام شكر الله تعالى على اقداره على عدوه فنعم العوض،
وان جمع بينهما كان أجمع لطريق الخيرات وذلك هو المراد من قوله " فاجعل العفو عنه شكرا
للقدرة عليه " اي عوضا من الشكر فان حقيقة العفو ليست نفس الشكر، والله ولى التوفيق.
الكملة الثلاثون
قوله عليه السلام: البخيل مستعجل الفقر يعيش في الدنيا
عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.
أقول: قد عرفت حقيقة البخل وأقسام البخلاء وقد ذكر عليه السلام ههنا للبخيل
ثلاثة احكام
: الأول - انه مستعجل للفقر وبرهانه ان الاستعجال هو طلب الشئ الذي لابد من
وقوعه وذلك الطلب اما أن يكون طلبا إراديا ذاتيا، أو طلبا عوضيا عارضا بسبب
الأخلاق الردية، ولما كان الفقر لابد من وقوعه للبخيل بسبب انتقال ملكه إلى أحد شريكيه
كما قال عليه السلام: لكل امرئ في ماله شريكان، الوارث والحوادث (1) كانت غاية
ذلك عدم الانتفاع بالمال وعدم تصريفه فيما ينبغي من وجوهه، وكانت هذه الغاية حاصلة
في حق البخيل في مدة وجوده بحسب اقتضاء أخلاقه الردية لها لا جرم كان مستعجلا للفقر.

(1) - ا: " والحادث ".
134

الحكم الثاني - انه يعيش في الدنيا عيش الفقراء، وهذا الحكم أيضا ظاهر، فان
مقتضى رذيلة البخل التقتير وجمع المال وضبطه وذلك مستلزم لقلة (1) الانفاق المستلزمة (2)
لسوء المطاعم ورداءة العيش وقلته التي هي بالحقيقة صفات (3) عيش الفقراء فظاهر (4) ان
البخيل يعيش في الدنيا عيش الفقراء.
الحكم الثالث - انه في الآخرة يحاسب حساب الأغنياء، والحساب على (5) ما ورد به ظاهر
الشريعة ظاهر، والخلاف بين المتكلمين في كيفية ايقاعه مشهور، وفى نظر قوم آخرين
هو إحصاء الرذائل والفضائل اللاحقة للنفس من تعلقها بالأبدان وضبطها في اللوح المحفوظ
بقلم العلم الإلهي، ولما كانت الأغنياء هم الجامعين (6) للأموال والمدخرين (7) لما لا ينبغي ان
يدخر من الأمور الجسمانية وكان حسابهم أشد وأخطر لكثرة الملكات الردية اللاحقة لهم
بسبب ميلهم وعشقهم لمتاع الحياة الدنيا ورغبتها وكان البخيل أشدهم للجمع محبة ولمتاع -
الدنيا عشقا لاجرم كان محاسبا حساب الأغنياء.
وإذا عرفت ذلك لاح لك ان من مقاصد هذه الكلمة التنبيه على الحذر من
ارتكاب رذيلة البخل ووجه ذلك التنبيه ان مطلوب العاقل وغاية سعيه في الدنيا إنما هو
تحصيل السعادتين والبخل مستلزم لعدم حصول إحداهما (9) اما في الأولى فلان البخيل
يعيش فيها عيش الفقراء فهو فاقد لذتها وسعادتها، واما في الأخرى فلانه يحاسب فيها
حساب الأغنياء، ولما كان من لوازم حساب الأغنياء عدم خلوهم عن العذاب بسبب
ما تمكن (10) من جواهر نفوسهم من محبة متاع الدنيا وزينتها وبسبب تفريطهم وافراطهم
في وضع الأموال مواضعها لا جرم كان البخيل أكدهم استحقاقا لذلك وأشدهم استعدادا
لحصوله وبالله التوفيق.

(1) - ج د: " لعله ".
(2) - ج: " المستلزم ".
(3) - د: " صغار ".
(4) - ب: " وظاهر ".
(5) - " على " ليست في ا ب.
(6) - في النسخ: " الجامعون ".
(7) - في النسخ: " المدخرون ".
(8) - ب: " من الأموال ".
(9) - ا ب د: " أحدهما ".
(10) - ا ب: " يمكن ".
135

الكلمة الحادية والثلاثون
قوله عليه السلام: لسانك يقتضيك ما عودته (1)
أقول الاقتضاء ههنا طلب الشئ والميل إليه واللسان اللحمة المخصوصة وقيل
بيان المقصود نذكر الفائدة من وجوده فنقول: انك قد علمت في ما سبق ان الانسان
الواحد لا يمكنه ان يستقل باصطناع جميع ما يحتاج إليه بل لا بد من جمع عظيم ليعين بعضهم
بعضا حتى يتم لكل واحد منهم ما يحتاج إليه، ومن ضرورة هذا الاجتماع الحاجة إلى أن
يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره من الحاجات المطلوبة له، وذلك التعريف لابد
فيه من طريق فاقتضت العناية الإلهية وضع الآلة المخصوصة ووضع الألفاظ المركبة
من الأصوات والحروف المتولدة من حركات هذه اللحمة المخصوصة على أوضاع مخصوصة
فعرفت حينئذ وجه الحاجة الضرورية إلى وجودها وهو الاعراب عما في النفس من الأغراض.
وإذا عرفت ذلك فنقول: لما كانت الألفاظ إنما وضعت بإزاء ما يتصور من المعاني
الذهنية التصورية والتصديقية لتكون دالة على ما وجد منها هناك وكان الغالب ان تلك
التصورات والتصديقات التي تقصد النفس التعبير عنها صادرة عن ملكات اما فاضلة
كالهيئات والأخلاق الفاضلة والاعتقادات الحقة بحيث يقصد بالتعبير عنها اصلاح أمر
معاشي أو معادى أوردية كالراسخ من أضداد ما ذكرنا بحيث يقصد بالتعبير عنها مجرد الأذى
للغير وخبيث (2) الكلام وسخيفه والسب واللعن والغيبة وغير ذلك فإذا كانت صادرة عن
ملكات فلا شك انها تكون دائمة الحضور (3) في الذهن فيكون التعبير عنها أكثريا
في الألفاظ وبسبب كثرة التعبير عنها وتكررها في الوجود اللساني وتمرين اللسان بالعبارة

(1) - هذه الكلمة وشرحها لم تذكرا ههنا في نسختي ج د. 2 - ا: " وخبث ".
3 - ب: " الخطور "
136

الدالة عليها يصير للسان انفعال وتطويع لأوضاع تلك الألفاظ فيصير أسهل واخف فيه
من سائر الألفاظ ويصير له ميل طبيعي (1) بحسب ذلك التعويد والتطويع إلى تلك العبارة
وذلك هو الاقتضاء لما تعوده ان خيرا فخير وإن شرا فشر (2) وإن كان الاقتضاء الحقيقي
إنما هو اقتضاء النفس لتلك التصورات التصديقات الصادرة عن الملكة الحاصلة لها لكن
لما كان في هذه الكلمة قصد إلى التنبيه على قبح الكلام القبيح والنهى عن التخلق والميل
إلى مالا ينبغي ان يتكلم به وحسن الكلام الحسن النافع والامر بملازمة ما يحسن التكلم به
وينبغي، وكان هذا الحسن والقبح والامر والنهى مما رسخ في الاعتقادات وانطوت عليه
الضمائر الا انه ربما غفل عنه لسبب ما فيحتاج إلى تنبيه للسامع على ما عساه غلبه عليه هواه
فيتقهقر عن التكلم القبيح لاجرم ذكر اقتضاء اللسان لما تعود من الكلام دون غيره،
والله الموفق.
الكلمة الثانية والثلاثون
قوله عليه السلام: لا صحة مع النهم
أقول: النهم افراط الشهوة في الطعام وهو جزئي من جزيئات الشره إذ كان الشره
عبارة عن طرف الافراط من فضيلة القوة البهيمية وهي القوة الشهوية وقد عرفته، والصحة
العافية والمقصود الأصلي ههنا هو التنبيه على وجوب ترك رذيلة النهم وذلك ببيان ان
الصحة لا تجامعه والصحة من أعظم المطالب وأهمها ويجب ترك ما لا يجتمع معه فاما بيان ان
الصحة لا تجامع النهم فاعلم أن الأطباء قد اتفقوا على أن الامتلاء من الطعام إلى حد
يخرج عن الواجب في اصلاح البدن مولد لأمراض كثيرة مخوفة لا يخلو البدن عند الامتلاء
الكثير من أحدها ولنذكر منها عدة مما ذكروها أحدها الحميات المركبة لتعفن (3)

(1) - ب: " الميل الطبيعي ".
(2) - حديث نبوي معروف ضمنه كلامه.
(3) - ا:
" لتعفين ".
137

أكثر من خلط واحد. وثانيها بطلان الهضم عن كثره التخم. ثالثها الهيضة لفساد الطعام
لكثرته ورداءة كيفيته. ورابعها الغثيان والقئ من جملة أسبابه أيضا كثرة الغذاء. وخامسها
الفواق الامتلائي لكثرة الطعام وتوليده الفضلات الغليظة. وسادسها سد المنافذ للسبب المذكور.
وسابعها برد المعدة ورطوبتها للاستكثار من الطعام والشراب. وثامنها الربو وسببه خلط غليظ
متولد من الامتلاء لا حج في العروق الضوارب التي في الرية. وتاسعها عرق النساء خلط (2) غليظ
يحدث عن الامتلاء دموي أو بلغمي. وعاشرها صلابة المفاصل وتعقدها للخلط الغليظ
المنصب إليها (3) وعسر تحلله، وما ذكرناه بعض من كل الأمراض المتولدة عن الامتلاء
وادخال الطعام على الطعام فهذه وأمثالها وان خلا النهم عن أحدها لم يخل عن الاخر،
وان خلا منه في وقت يسير لم يخل من سببه القريب ويتبعه ذلك عن قريب، وحصوله أو
حصول سببه في البدن مرض، وكل ذلك مناف للصحة.
تنبيه - اعلم أنه يمكن أن يكون المقصود أيضا بالصحة صحة النفس من الأمراض
النفسانية التي تعرض بسبب النهم وذلك أن الحس والاستقراء دل على أن البطنة
تذهب الفطنة (4) لتلبد (5) الحواس عن كثرة الأبخرة المتصاعدة عن التخم وكذلك دل
على أنه يزيل الرقة ويورث القسوة وكل ذلك مما يسد على النفس باب الخير ويلطخها (6)
بسواد الهيئات البدنية فيحجبها عن الاستعداد لقبول الرحمة وذلك مرض عظيم يستحقر
بالنسبة إليه أعظم مرض بدني وهو مناف لصحة النفس فإذا النهم مناف لمطلق الصحة
مضاد لأنواع العافية.
فانظر أيها الأخ بعين الانصاف فإنك تجد من عداه بالنسبة إلى بحره جداول

(1) - ا: " الغشيان ".
(2) - ا: " بخلط " ب: " لخلط ".
(3) - ا: " لها ".
(4) - حديث منسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
(5) - ب: " لتبدل ".
(6) - ج: " يلطحها " (بتشديد الطاء) وفى كتب اللغة: " لطخه بالمداد وغيره = لوثه ولطخه بمعناه
شدد للمبالغة ".
138

وانهارا بل خفافيش برزت (1) نهارا، وهل يقايس بين البحر والوشل، وإذا تأملت اسرار
هذه الكلمة مع سائر كلامه هي هذه المعنى قد تحققت انه قد اطلع من علم الطب على ما
لم يطلع عليه غيره من حذاق الأطباء ولمح بصره أطوارا وراء عقول الحكماء اطلاعا لدنيا
من غير بحث واكتساب، أو اكباب (2) على مطالعة كتاب، شعر:
لو أن جالينوس في طبه * أدركه كان تلميذا

(1) - تزرق.
(2) - ج د: " واكتساب أولو الألباب ".
139

الفصل الثالث في المباحث المتعلقة بالآداب والمواعظ والحكم المصلحية
التي تطابقت عليها الشرائع الإلهية وصحتها البراهين الحكمية،
وفيه ست وأربعون كلمة:
الكلمة الأولى
قوله عليه السلام: أكرم النسب حسن الأدب.
أقول: النسب هو ما ينسب إليه الانسان من ابائه أو فرع لابائه أو فضيلة نفسانية
أو بدنية، واما الأدب فاشتقاقه من المأدب وهو دعاء الناس إلى اطعام والمراد به ههنا
ما فهمته من معنى الرياضة في القسم الأول وذلك انك قد عرفت ان القوة الحيوانية
في الانسان التي هي مبدأ الادراكات والأفاعيل الجزئية إذا (1) لم يكن لها ملكة الانقياد
لأوامر القوة العاقلة كانت بمنزلة بهيمة غير مؤدبة (2) تدعوها شهوتها تارة وغضبها أخرى
بحسب بعث المتخيلة والوهم لهما لما (3) يتذكر انه، وبحسب ما تؤديه الحواس الظاهرة إليهما
إلى (4) الأمور الملائمة لها فتتحرك حركات مختلفة حيوانية بحسب تلك الدواعي وتصير
حاكمة على القوة العاقلة في تحصيل مراداتها فتكون هي الامارة بالسوء والقوة العاقلة مؤتمرة
لها، أما إذا أدبتها القوة العاقلة بمنعها عن التخيلات والتوهمات والاحساسات والأفاعيل
الباعثة لقوة الشهوة والغضب إلى مالا ينبغي، وجبرتها على ما يقتضيه العقل العملي إلى أن تصير
متمرنة على طاعتها متأدبة في خدمتها منقادة لأوامرها سائرة تحت ظلال اعلامها فذلك
معنى حسن أدبها.

(1) - ب ج: " إذ ".
(2) - ج د: " غير مؤذية " (من الايذاء).
(3) - ب: " لها بما ".
(4) - ج د: " اي ".
140

وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الاباء والأصول الكريمة وإن كان الانسان يفتخر
بالانتساب إليها ولكن قد عرفت ذلك افتخار وهمى دال على محبة الدار الفانية مستلزم
للشرف بفضيلة أو فضائل غير حاصلة لمن يتشرف بها فيمن سلف ممن ينتسب إليه
لا يتعداه بل أكرم أصل ينتسب إليه الانسان الأدب إذا كان سبب الخير الدائم والموصل
إلى نيل السعادات الباقية، وبه يكون الرفعة والتعظيم الحقيقي، وإنما خص الكلمة بلفظ
الكرم دون شئ اخر لأنه ههنا في معرض بيان النسب والأصل، والعرب تخص الأصول
والاباء المنجبة (1) بالكرم فتقول فيمن صدرت عنه أفعال خيرية وكانت له سابقه أصل
في ذلك: انه ذو أصل كريم، وهذا فعل ابائه الكرام، فلأجل ذلك خصه عليه السلام
ههنا بلفظ الكرم دون الشرف والعز وغير ذلك من الألفاظ، وإنما خص الأدب دون
فضيلة العلم أو غيرها من الفضائل الجليلة لكونه إذا وقع كما ينبغي مستلزما لسائر الفضائل،
والانتساب إليه أشهر لكونه أقرب إلى طباع عامة الخلق، فقد عرفت ان أكرم درجات
النسب درجة حسن الأدب. والله تعالى هو الموفق لمتحلى بحليته، وهو المستعان.
الكلمة الثانية
قوله عليه السلام: بالبر يستعبد الحر
أقول: البر الاحسان واما الحر فقد عرفته والمراد به ههنا هو الخالص من وثاق
الرق ويستبعد اي يتخذ عبدا وذلك لتحقق معنى العبودية فيه عند الاحسان وهو الخضوع
والتذلل ولان الغاية المطلوبة من تسليم الثمن في شراء العبد إنما هو الانتفاع بخدمته
وتصريفاته (2) وكذلك من أسدى إلى حر معروفا قد يكون انتفاعه بسببه اما انتفاعا عاجلا (3)
كخدمته وتصرفاته والتامر عليه، واما آجليا وهو التقرب إلى الحق تعالى والامتثال

(1) - يقال: انجب الرجل = ولد ولدا نجيبا ".
(2) - ج د: " وتصرفاته ".
(3) - ج:
" عاجليا " وهو الأوفق بالمقام لكونه قرينة لكلمة " آجليا ".
141

لأوامر الشريعة وحثها على ذلك، وقد يكون أعم من الانتفاع كصدور (1) الاحسان من
العناية الإلهية على المستعدين.
واما سبب ذلك الانقياد وتحقق الاستعباد فلادراك النافع اللذينت وانبعاث القوة
الشهوية الطالبة لادراك الملائم من ذلك النافع وتصور ان ذلك الخضوع والتذلل
مما يؤكد تحققه أو توقع زيادة احسان أو يكون جزاء لذلك البر والاحسان أو أمر أعم
من ذلك كخضوع العارفين اطلاعا على عظمة الحق الأول وكبريائه وإنما خص الحر
ههنا بالذكر لان الحر الذي يأنف من الاسترقاق ويشمئز من نسبته إلى العبودية لاحد
إذا كان بالبر يستعبد الحر فغيره يكون أولى بذلك وذلك من باب الايجاز الجزيل، ويمكن
ان يحمل الحر ههنا على صاحب فضيلة الحرية حينئذ يحتمل تخصيصه بالذكر وجها اخر
وهو ان من اشتمل سره على فضيلة الحرية وأسدى إليه بر فإنه لا بد أن يعترف به ويلمح
ان ذلك البر غير مقابل منه بجزاء فيذل ويخضع وينفعل عنه بحيث يتحقق معنى العبودية
في حقه وذلك بخلاف من ليست فيه هذه الفضيلة إذ كان قد يأخذ المال من غير وجهه فلو
أسدى إليه معروف جاز ان لا يعترف له بجزاء فلا يكون منه خضوع ولا يتحقق في حقه
استعباد فيكون الحر بهذا المعنى أخص من الأول من وجه وأعم منه من وجه، اما انه
أخص، فلان الحر بالمعنى الأول قد يكون له فضيلة الحرية وقد لا يكون، واما انه أعم
فلان من له فضيلة الحرية قد يكون رقا وقد لا يكون.
وفى هذه الكلمة تنبيه على حسن البر وحث لأنه لما كان تعود (2) البر مما
يصرف عن محبة المال ويكسر حدة القوة الشهوية في طلبه واقتنائه ويستلزم (3) فضيلة الكرم وكثيرا (4) من الفضائل التي تحت ملكة العفة مع ما فيه من أنواع الخيرات كاستنزال الرحمة
والبركات (5) على صاحبه من اجتماع همم الخلق المبرورين وكان كثير أذهان أصحاب البر وأهل

(1) - ا: " لصدور ".
(2) - ا: " يعود ".
(3) - ب: " مستلزم ".
(4) - أب ج: " كثير ".
(5) - ج د: " البركة ".
142

الاحسان إنما تنفعل في ابتداء تعودهم للاسداء مثل الشكر والثناء وتذلل الخلق لهم وخضوعهم
وخدمتهم لاجرم نبه عليه السلام على حسنه بان ذكر سببيته لاستعباد الأحرار فإذا انفعل
البار عن ذلك تبين له عن قريب ما في البر من أنواع الخيرات التي يجب ان تقتنى وما حمل (1)
معروفه من الذ ثمرة تستطاب وتجتني، والله ولى التوفيق.
الكلمة الثالثة
قوله عليه السلام: الجزع عند البلاء تمام المحنة
أقول: قد عرفت ان الجزع ألم نفساني يعرض من تصور فقد المحبوب أو فوت -
المطلوب والبلاء ههنا الاختيار بالامر المكروه إلى الطبع وإن كان البلاء قد يكون بالخير
أيضا كما يقال أبلاه بلاء حسنا وكذلك المحنة الامتحان وهو الاختبار بالمكروه أيضا،
والمقصود من هذ الكلمة بيان ان من قدر له الاختبار بمكروه وقع عليه من القضاء
الإلهي فتألمت نفسه بسببه كان ذلك التالم ابتلاء ثانيا أعد نفسه لحصوله زيادة على
البلاء الأول الذي يجب دفعه عن نفسه ويريد ان لا يكون مقضيا عليه ولا مقدرا له وتماما
لمحنته، وهذه الكلمة مستلزمة للنهي عن الجزع إذ بين عليه السلام للجازع ان الذي
يهرب منه من البلاء قد جلب إلى نفسه مثله بجزعه.
ثم اعلم أن سبب الجزع هو الحرص على اقتناء اللذات الجسمانية والنزوع إلى
بقاء الشهوات البدنية والحسرة على ما يفقد ويفوت منها وإنما يجزع على المحبو ب من ذلك
من يظن أن ما يحصل له منها يجوز بقاؤه وثباته وان جميع ما يطلبه من مفقوداتها لابد وإن كان
يحصل في يده ويصير في ملكه وكل ذلك غفلة منه وغرور فإنه لو لاحظ الحق بعين
بصيرته والتفت إلى خالص سريرته واستعمل الانصاف مع نفسه لعلم (2) ان جميع ما في عالم
الكون والفساد غير ثابت ولا باق وان الثابت الباقي هو ما في العالم العلوي فلم يطمع في المحال

(1) - ب ج د: " حمل " (بلا تشديد للدال).
(2) - د: " يعلم ".
143

ولم يطلبه ومن قطع طمعه من شئ لم يحزن لفقده بل صرف سعيه إلى المطلوبات الصافية
واقتصر بهمته على اقتناص المحبوبات الباقية وأعرض عما ليس في طبيعته ان يثبت ويبقى
فإذا حصل له منها شئ بالعرض بادر إلى وضعه في مواضعه واقتصر منه على مقدار (1) لابد
منه في دفع الآلام المحصاة من الجوع والعرى وترك الاستكثار والتماس المباهاة به والافتخار
ولم يحدث نفسه بالمكاثرة بها (2) والتمني لأمثالها حتى إذا فارقته لم يأسف عليها فإنه متى
فعل ذلك آمن (3) فلم يجزع وفرح فلم يحزن وفاز بالسعادة الأخروية ونال الدرجات العلية،
ومن لم يتدبر الوصية ولم يعالج نفسه بما ذكرناه لم يزل في جزع دائم، إذ لا يعدم (4) في كل
وقت فوت مطلوب أو فقد محبوب إذ (5) كان ذلك من لوازم عالمنا عالم الكون والفساد،
ومن طمع من الكائن الفاسد ان لا يكون ولا يفسد فقد طمع في المحال ولم يزل خائبا، والخائب
ابدا محزون، والمحزون ابدا شقى ومن استغشى (6) العادة الجميلة وهو الرضا بما يجده
ولم يحزن لشئ يفوته لم يزل سعيدا مسرورا ورضوان الله أكبر، ذلك هو الفوز العظيم (7).
واعلم أن الجزع أمرا طبيعيا ولا ضروريا بل هو مما يخيله الانسان ويضعه
وضعا إذ لو كان طبيعيا لما انفك منه (8) لكنه قد ينفك منه ويعود إلى حال الغبطة والسرور
وهو أمر مشاهد كما رأينا (9) - كثيرا ممن فقد (10) الأولاد والأعزة والأصدقاء والأحبة فاشتد (11) جزعهم عليهم ثم لم يلبثوا ان عادوا إلى حال المسرة والغبطة والاعجاب والضحك وكذلك
ممن فقد المال والصنائع والمقتنيات المستحسنة رأيناهم بعد الجزع الشديد قد سلوا وعادوا
إلى حال السرور فالجزع إذا من العوارض الطارية الزائلة التي لا يختص بها شخص دون

(1) - د: " مقدار ما ".
(2) - ا: " لها ".
(3) - ب ج د: " امن " (بلا مد ").
(4) - ح د: " لا تقدم ".
(5) - ب: " إذا ".
(6) - ا: " استعشى " ج د: " استغنى ". يقال: " استغشى ثوبه بثوبه استغشاء = تغطي به " فهو بمعنى استشعر ويمكن أن يكون محرفا منه.
(7) - ذيل آية 72 سورة التوبة.
(8) - ج د: " عنه.
(9) - ا: " رأيت ".
(10) - ا: " يفقد ".
(11) - ا ج د: " واشتد ".
144

اخر فلا عذر للعاقل بعد اطلاعه على حقيقته وأسبابه وما ذكرناه من أحواله في معاودته
وارتكابه.
اللهم جللنا عافيتك، فان قدرت علينا بلاء فألهمنا صبرك، ولا تكشف عنا
سترك، وافض علينا رضوانك، وهئ لنا من أمرنا رشدا (1).
الكلمة الرابعة
قوله عليه السلام:
رحم الله امرء قال خيرا فغنم أو سكت فسلم.
أقول: الغنيمة الفئ، وقد استعمله عليه السلام ههنا في اكتساب المدح والثناء
والثواب وغيره من أنواع الخيرات، وإنما سمى القول خيرا لان كل وسيله إلى
الخير فهي (2) خير، وإن كان عرضيا بالنسبة إلى ما هي وسيلة إليه، ومقصوده عليه السلام
من هذه الكلمة استنزال الرحمة الإلهية بدعائه الموثوق بأنه لا يرد لعبد حبس لسانه وزمه
بزمام العقل عن التلفظ الا بالكلام الخيري وقد عرفت ان خير الكلام ما تعلق باصلاح
(معاد (3) أو تدبير معاش كما ينبغي وعلى الوجه الذي مراعاة القانون العدلي
وطلب الفضيلة التي سبق بيانها وهي فضيلة العدل فإنه إذا فعل ذلك كان الكلام خيرا
له عن السكوت إذ (4) كان يحصل (5) له بذلك غنيمة الدارين واكتساب السعادتين ثم
ادرج في ذلك الدعاء من لم يتمكن من قصد الكلام الخيري بل كان يعبر في كلامه عند

(1) - ذيل آية 10 سورة الكهف.
(2) - د: " فهو ".
(3) - أظن أن أصل
المطلب مأخوذ من قول أمير المؤمنين عليه السلام: " وليس للعاقل أن يكون شاخصا الا
في ثلاث، مرمة لمعاش أو خطوة في معاد أو لذة في غير محرم ".
(4) - ب: " إذا ".
(5) - ب ج د: " يحصل (بصيغة باب التفعيل) ".
145

ما يتكلم إلى الحد الذي هو رذيلة من القول الكاذب والسخيف والهذر والموذى وغير
ذلك مما لا يقتضى مصلحة ولا يصدر عن ترو وتثبت وإنما يصدر عن عدم رصانة -
العقل وقلة عقليته (1) لما ينبغي ان يوضح عليه الكلام من الوجوه المصلحية فسكت عن
الكلام إذ (2) كان محصلا بذلك السلامة في الدارين والسلامة إحدى (3) الغنيمتين اما
في الأولى فلان كثيرا ممن كان يدعى كمال العقل وينسب إلى تمام الفضل أشرقت على
نفوسهم شموس القدس فتبجحوا بزينة الحق في ذواتهم فأطلقوا القوى المحركة فباحوا (4)
بأسرارهم في ألفاظ ورموز نبت عنها افهام العوام واعتقدوا مخالفتها لظاهر الشريعة
فأصبحوا حصائد ألسنتهم وقتلى كلماتهم ولو لزموا السكوت ولم يهتكوا أستار تلك
الاسرار لما أصابهم ما أصابهم، وإذا كان حال أصحاب العقل والاسرار الإلهية كذلك فما
ظنك بالباقين من العوام ومن لم يؤدب بالآداب الشرعية ولم تلين (5) عريكته
التجارب الصلاحية فحق لأولئك وأمثالهم (6) ان لا يفوهوا بحرف واحد إذ كان
أكثر كلامهم يصدر عن غير روية وإن كان فعن روية فاسدة، واما في الأخرى فلان
الساكت عما ذكرناه من الكلام الساقط عن درجة الاعتبار سالم بسكوته عن اكتساب
الملكات الردية والهيئات المنقصة (7) بالتمرين على ذلك الكلام والتعود باجرائه (8)
والمحاورة (9) به خالص (10) عن التعذيب بها في الآخرة. وقد تطابقت كلمة النبيين و

(1) - كذا.
(2) - ب د: " إذا ".
(3) - ب ج د: " أحد ".
(4) - ج د: " فناجوا ". (- في النسخ: " لم تكن ".
(6) - في النسخ: " لذلك وأمثاله ".
(7) - قال الفيومي في المصباح المنير: " نقص نقصا من باب قتل ونقصانا
وانتقص ذهب منه شئ بعد تمامه، ونقصته يتعدى ولا يتعدى، هذه اللغة الفصيحة، وبها
جاء القران في قوله: ننقصها من أطرافها، وغير منقوص، وفى لغة ضعيفة يتعدى بالهمزة و
التضعيف ولم يأت في كلام فصيح، ويتعدى أيضا بنفسه إلى مفعولين فيقال نقصت زيدا حقه
وانتقصت مثله ".
(8) - ب د: " باجزائه ".
(9) - ج د: " والمجاور به ".
(10) - ج د: " خلص ".
146

توافقت كلمة الحكماء الراسخين على مدح السكوت حذرا من التكلم بما لا يجدى نفعا ولا -
يعود على قائله بخير وحثوا على لزومه وخاصة بين يدي الملوك والقادرين على الانتقام
فان في الكلام تغريرا (1) بالنفس الا ممن حصل على ملكة الكلام الخيري بيان ذلك
المدح من وجوه.
الأول - قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من وقى شر لقلقه وقبقبه وذبذبه
ضمنت له الجنة، وذلك يدل على أن للسان حصه في البعد عن الجنة بسبب ما تكسب (2)
النفس بتعويده بما لا ينبغي من ملكات السوء وقال عليه السلام: من صمت نجا.
الثاني - قال بعض الحكماء: الزم السكوت فان فيه سلامة، وتجنب الكلام
فان فيه ندامة.
الثالث - قال بعضهم: أفضل حلية العلماء السكوت.
الرابع - قال بعضهم: أنفع الأشياء للانسان ان لا يتكلم على نفسه وذلك حذر
من الكلام الموذي فيحتاج إلى التروي.
الخامس - قال بعض ملوك الروم: ما ندمت على ما لم أتكلم به قط، ولقد ندمت
على ما قلت كثيرا.
السادس - قال بعض حكماء العرب في هذا المعنى: من أكثر هجر (3) والمقصود
انه ربما خرج إلى الهجر.

(1) - ا ج: " تغزيرا " (بالغين المعجمة ثم الراء المعجمة) ب: " تقريرا (بالقاف والراء المهملة) د: " تعزيرا " (بالعين المهملة والزاء المنقوطة والراء المهملة أخيرا)
فالتصحيح قياسي يقال: غرزه بالإبرة ونحوها (كضرب غرزا) نخسه وغرز الإبرة (تغريزا)
في الشئ ادخلها فيه ".
(2) - ب: " تكتسب ".
(3) - كذا في النسخ وفى
كتب اللغة: هجر في منطقة واهجر هجرا واهجارا تكلم بالهذيان " وفى نهج البلاغة:
" من أكثر اهجر، ومن تفكر أبصر ". وهو من وصيته لابنة الحسن عليهما السلام (راجع
شرح نهج البلاغة ص 525 وص 527 من الطبعة الأولى).
147

السابع - قال أكثم بن صيفي: المكثار كحاطب الليل وذلك أنه ربما نهشته
الحية (1) أو لسبته (2) العقرب في احتطابه ليلا فكذلك المكثار ربما اصابه في اكثاره
بغض الناس.
الثامن - قال أكثم أيضا: الصمت يكسب أهل المحبة.
التاسع - قال لقمان الحكيم الصمت حكم وقليل فاعلة.
العاشر - قال بعض الحكماء:
فلئن ندمت على سكوتي مرة * فلقد ندمت على الكلام مرارا
وقال الآخر:
احفظ لسانك أيها الانسان * لا يلدغنك انه ثعبان
وقد استشهد الحكماء على أن كثره الكلام ليس بمطلوب من الحكمة الإلهية بان
الة السماع والابصار أكثر من الة الكلام فكان أقلي الطلب لذلك، والأحاديث و
الأمثال الموردة في ذلك كثيرة لكن ينبغي ان يعلم أن الكلام الخيري الخالي عن المضار
والمحتاج إليه عمن (3) عرف بمعرفة مواقع الكلام وحكم بحسن عقله (4) للأمور التي ينبغي
ان يتكلم فيها خير من السكوت فان غاية السكوت المحمود تطهير النفس عن نجاسات
الهيئات الردية وذلك خير عدمي عرضى وغاية الكلام الخيري اكتساب الهيئات الحاصلة
والملكات الشريفة وذلك كمال وجودي ذاتي والوجودي الذاتي أولى بالوجود من
العدمي العرضي، وكما علمت أن الكلام ينقسم إلى محمود ومذموم كذلك السكوت
ينقسم إلى ما هو خير والى ما هو شؤم، وان اللائمة (5) كما تقع بالمتكلم بما لا ينبغي كذلك
تتعلق بالساكت السكوت الذي لا ينبغي كما قال عليه السلام في موضع آخر (6): لا -

(1) - ب: " حية ".
(2) - ج د: " لسعته " وكلتا اللفظتين بمعنى وهو لدغته.
(3) - ا ب: " عن " ج د: " ممن ".
(4) - ا ب: " عقلته " ج: " عقليته د: " عقيلته ".
(5) - ا: " الملائمة " وفى كتب اللغة: " اللائمة بمعنى اللوم يقال:
استحق اللائمة اي اللوم والملامة ".
(6) - ا: " في مواضع اخر ".
148

خير في الصمت عن الحكم كما أنه لاخير في التكلم بالجهل غير أنهم أكثروا الحث على
لزوم السكوت وقلة الكلام لان خطر الكلام أقوى وأعظم ولذلك كان الذم للمكثار
الزم، فقد علمت استحقاق الغانم بكلامه الخيري والسالم بسكوته الذي ينبغي لاستنزال
الرحمة الرحمانية والعناية الربانية بدعائه المستجاب الذي ليس دونه حجاب، والله ولى
التوفيق.
الكلمة الخامسة
قوله عليه السلام: الاعتذار تذكير بالذنب.
أقول: الاعتذار طلب العذر من المجني عليه، والعذر محو اثر الجريمة من الذكر
ليتبين ان اعتقاد سبب ذلك الأثر (1) لم يكن مطابقا وهو مأخوذ من قولهم: اعتذرت
المنازل إذا درست، والذنب الجرم والمقصود بيان ان إعادة الاعتذار مستلزم لتذكير
المجني عليه بالذنب الصادر في حقه وتقرير هذا الحكم ان نقول: ان ترك الفعل أو
القول الذي يحتاج معه إلى الاعتذار واجب فإن كان ولابد فليكن الاجتهاد في الاعتذار
بخلوة من المعتذر إليه دون أن يكون هناك من لا يحتاج إليه في قبول الاعتذار من الشفعاء
والوسائط فان الاعتذار بين الخلق مما يشهر حال المعتذر بفعل القبيح المبنى على الستر ويفيد
انكسار الحياء وكشف قناعه على الوجه وخشونة الحدقة وقحة الملاقاة وضروب الشرور
ثم يجتهد المعتذر أن لا يزيد في الاعتذار على المرة الواحدة وكفى بها فان في المعاودة شرورا،
منها كثرة المطلعين من الخلق على ذلك القبيح الصادر المحتاج إلى طلب العذر، منها
تذكير الشاعرين بذلك الجرم من الاعتذار الأول ودوام التأذى من قبلهم للمعتذر،
ومنها وهو أصعبها تذكير المعتذر منه بالذنب الواقع في حقه وإثارة ضغنه (2) وأحقاده

(1) - ب: " الاثم ".
(2) - ج د: " صفته ".
149

على المعتذر، ولصعوبته خصه عليه السلام بالذكر، وفى هذه الكلمة تنبيه على التأدب
بترك إعادة الاعتذار لما بيناه من الأسباب وهو المقصود الذاتي من الكلمة وهو من
أشرف محاسن الكلام واجمع مكارم الآداب، والله ولى الهداية.
الكلمة السادسة
قوله عليه السلام: النصح بين الملا تقريع.
أقول: النصح والنصيحة تنبيه الانسان على ما عساه غافل عنه من المصالح في
أمر معاشه أو معاده، والتقريع شدة الضرب بالكلام وقوة اللائمة والتوبيخ، والمراد
في هذه الكلمة تأديب الناصح بالأدب اللائق باستجلاب الانس الموجب للمحبة و
الألفة الذي بينا وجوب تحصيله وذلك أن من آداب النصح اخذ المنصوح بالرفق
ولين الكلام وخفض الصوت وفى أخلي المواطن واسر (1) الأحوال والتعطف (2) إليه
بالكلمات البعيدة عن الامر الذي يتعلق بالنصيحة وبالتعريض دون التصريح فإنه أبلغ،
وبضرب (3) الأمثال فإنه أحسن من الكشف، وبالجملة ما يبسط النفس ويضع الانس
ويتدرج (4) في ذلك إلى أن ينتهى إلى المطلوب فيخاض (5) فيه، ولو كان التعريض و
ضرب الأمثال في مجلس والتصريح بالمطلوب في مجلس بعده فهو أصوب، وإذا عرفت
ذلك عرفت ان النصح بين الملا من جملة اضداد الرفق شديد الوقوع على ذهن المستمع
مثير لقوته الغضبية منفر لطبعه لما فيه من اطلاع الخلق عليه لما احتاج إلى نصيحة (6)
فيه وتقريع عليه وربما كان السبب في إثارة قوته الغضبية أعم مما ذكرنا (7) وذلك

(1) - ج د: " اليسر ".
(2) - ا: " وتعطف " ب " ويتلطف " (بصيغة المضارع
الغائب) ج د: " وبتلطف " (بباء الجر ولفظة المصدر).
(3) - ب د: " ويضرب "
(بصيغة المضارع الغائب).
(4) - ا: " وتدرج " ج: " ويدرج ".
(5) - كذا فلعله: " فيخوض ".
(6) - ج د: " نصحه: " ب " نصح ".
(7) - ب: " ذكرناه "
150

لاحتمال أن يكون الامر الذي يتعلق به النصيحة ليس مما يستخفى بفعله (1) فإذا نصح
صاحبه فيه ظاهرا ثارت قوته الغضبية لما (2) ان ضربه بالكلام الناصح يوجب له اعتقاد
ان الخلق ربما استنقصوا عقله واستصغروا رأيه في عدم الإصابة لذلك الامر وحاجته
فيه إلى الضرب بالكلام بينهم فينفر طبعه لذلك، ولهذا السر كانت هذه الكلمة مستلزمة
للتنبيه على النهى عن النصح على هذا الوجه المخصوص، والله ولى التوفيق.
الكلمة السابعة
قوله عليه السلام: الشفيع جناح الطالب. (3)
أقول: الشفيع هو الطالب لغيره كأنه يشفعه في قضاء حاجته بعد أن كان وترا،
واطلاق لفظ الجناح الذي يخص الطائر بحسب أصل اللغة على الشفيع مجاز حسن من
باب الاستعارة والتشبيه، ووجه المشابهة ان جناح الطائر لما كان وسيلة له إلى طلب
ما يحتاج إليه من المطالب والى الهرب عن كل مهروب (4) منه كذلك الشفيع وسيلة
للمستشفع إلى تحصيل الامر المطلوب له، والى الخلاص من الامر المهروب منه، وفى
هذه الكلمة تنبيه وحث للشفيع على السعي في الشفاعة فيما ينبغي وحث لطالب (5)
الحاجة على حفظ قلوب الاخوان (6) وادخارهم لوقت الحاجة إلى التوسل بهم في المطالب
اما الأول فلأنها أعني الشفاعة سبب من أسباب حصول المطلوب للطالب فيكون
للشفيع شركة في وجود هذا المطلوب كالجناح الذي هو آلة بها يحصل المطلوب، ولذلك

(1) - ا: " فعله ".
(2) - ا: " كما ".
(3) - قال الشارح في شرح
نهج البلاغة في شرح تلك الكلمة (ص 587): " استعار له لفظ الجناح باعتبار كونه وسيلة
له إلى مطلوبه كجناح الطائر ".
(4) - ب ج د: " المرهوب ".
(5) - ب ج د: " لصاحب ".
(6) - ج د: " الأعوان ".
151

كانت الشركة بينهما حاصلة في الجزاء لقوله (1) تعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له
نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئه يكن له كفل منها (2) وأيضا فان الشفاعة من
أسباب الألفة والمحبة وقضاء الحوائج والمهمات التي هي المطلوبة من كثرة الخلق و
اجتماعهم، فيكون تاركها كالكاسر لمقتضى العناية الإلهية والحكمة الربانية وذلك يدل
على أن السعي فيها من القربات والوسائل إلى الخالق المعبود جلت قدرته، واما الثاني
فظاهر، وبالله التوفيق.
الكلمة الثامنة
قوله عليه السلام: المسؤول حر حتى يعد (3).
أقول: قد عرفت معنى الحر والمراد به ههنا الخالص من وثاق الرق ويقابله
العبد، والمقصود ههنا ان المسؤول الخالص من الرق هو حر ما دام لا يعد بحاجة فإذا
وعد صار الوعد من جملة أسباب استعباده، وتقرير هذا الحكم ان الانسان الموصوف
بالحرية بالنسبة إلى الأمور المطلوبة منه له ثلاثة أحوال وذلك انها اما ان يبذلها أو
يمنعها رأسا أو يعد بها، وعلى الوجهين الأولين هو حر، وعلى الوجه الثالث هو عبد،
واطلاق العبودية عليه مجاز عن الموثوق بوثاق الرق ووجه المشابهة قد سبق بيانها في
قوله عليه السلام " بالبر يستعبد الحر " ونزيدها تقريرا فنقول: لما كان من صفات
العبد انه مطالب من السيد في كل وقت بما اشتغلت به ذمته من قضاء الواجب عليه
من الخدم والاشغال فكذلك باذل الوعد اطلق عليه انه عبد لتحقيق هذه الصفة فيه
وذلك أنه مطالب من السائل في كل وقت بما اشتغل ذمته به بقضاء الواجب عليه

(1) - ب: " كقوله ".
(2) صدر آية 85 سورة النساء.
(3) - هذه الكلمة موجودة
في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد وشرحت فيه مفصلا، واما شرح ابن ميثم فلم اظفر
بها فيه، فلعل الكلمة لم تكن موجودة في نسخته فلم يشرحها أو سقطت من النسخة المطبوعة.
152

بوعده من قضاء حق الاخوان من الحوائج والمهام فيبقى في رق الوعد إلى أن يخلق (1)
بقضائه الوثاق فيستحر حينئذ بلحوق العتاق، واما حريته في الوجهين الأولين
فلعدم تحقق الصفة المذكورة في حقه واعلم أن قضاء الامر المسؤول مع امكانه
أشرف من الوعد، اما بالنسبة إلى السائل فلان الانتظار موت احمر، واما بالنسبة إلى
المسؤول منه فلانه بذل في حقه على شرف قوته العقلية بملكة الحياء والسخاء وغيرهما
من الفضائل بخلاف الوعد فان الوعد بما يمكن انجازه يدل على مجاذبة القوة الشهوية
للعقل وقوتها عليه في ترديد الامر المسؤول بالقضاء والمنع، ثم الوعد أشرف وأولى
من المنع بالكلية فان الحرمان شؤم وسبب للمقاطعة والمباينة المضادة (2) لما هو مطلوب
من العناية الإلهية باجتماع الخلق وتكثرهم (3) مع ما يستلزم من ذهاب الحياء بتعويده
وقحة الوجه وخشونة الجانب، والوفاء أشرف من الخلف لاستلزامه عدم فضيلة
الحرية والوفاء والذم العاجل العارض من رذيلة البخل وما يصحبها من الرذائل،
وقد أطبق العقلاء على حسن قضاء الموعود والوفاء به وفى المثل: انجز حر ما وعد. وعن
عوف بن النعمان الشيباني أنه قال في الجاهلية: لان أموت عطشا أحب إلى من أن أكون
مخلاف الوعد. وفى المثل السائر: الوفاء من الله بمكان، وفى التنزيل الإلهي في مدح
إسماعيل عليه السلام (4): انه كان صادق الوعد، وعن عبد الله بن عمر انه وعد رجلا من
قريش ان يزوجه ابنته فلما حضرته الوفاة ارسل إليه فزوجه إياها فقال، كرهت ان
القى الله تعالى بثلث النفاق، وأراد الكذب لان الخلف في الحقيقة كذب، وذلك لان
النفاق في الدين مركب من ثلاثة اجزاء، أحدها الخروج من الايمان بالقلب، والثاني
الرياء بالاعمال من اعتقاد صحتها، والثالث الكذب وهو القول باللسان مع مطابقته للاعتقاد
وإذا لقوا الذين امنوا قالوا امنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا انا معكم إنما نحن
مستهزؤن (5) و: وإذ جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم انك

(1) - ب ج د: " يخلع " ومن معاني الخلق القد والمعنى واضح.
(2) - ج د:
" المضارة " (بالراء).
(3) - ا: " وبكثرتهم ".
(4) - من آية 44 سورة مريم.
(5) - آية 14 سورة البقرة.
153

لرسوله والله يشهد ان المنافقين لكاذبون (1) لعدم مطابقة أقوالهم اللسانية لما انطوت عليه
ضمائرهم من العقائد الفاسدة فالكذب حينئذ ثلث النفاق وهو أقوى الاجزاء فسادا لتعدى
ضرره الواقع منه إلى الغير دون الجزئين الباقيين وعلى ذلك يحمل قول النبي صلى الله
عليه وآله، الكذب رأس النفاق. وقد (2) تنبهت أيها الأخ مما ذكرنا على وجوب انجاز
المواعيد لتخلص به إلى الحرية من رق من وعدت فان هذا الرق أعظم وأقوى لتعلق
الذنب بالآخرة دون الرق الحقيقي واليك الاعتبار (3) والله ولى التوفيق.
الكلمة التاسعة
قوله عليه السلام: أكبر الأعداء أخفاهم مكيدة.
أقول: المكيدة فعيلة من الكيد وهو الاحتيال والخداع، والمقصود في (4) هذه
القضية بيان ان كل من كان من الأعداء اخفى كيدا وادق نظرا في الاحتيال كان أكبر
الأعداء أي أعلاهم درجة في العداوة وأولى بالتحفظ منه من سائر الأعداء، وبرهان
هذا الحكم انك فد عرفت ان العداوة بغض صادق يهتم معه بجمع الأسباب المؤذية
للمبغوض ومحبة أفعال الشرور التي يمكن فعلها به وإذا كان كذلك فنقول: كل من
كان أقدر على اخفاء الحيلة والخداع كان أقدر على تحصيل الأسباب المؤذية لعدوة و
كل من كان كذلك كان أعظم الأعداء وأكبرهم مكيدة ينتج ان كل من كان اخفى
حيلة كان أعظم الأعداء وأكبرهم، واما الصغرى فظاهر إذ كان المتجاهر بالحيلة في اذى
عدوه قلما يظفر به لاطلاع العدو على كل ذلك واحترازه منه، واما الكبرى فلانه
لا معنى لأكبر الأعداء الا من كان أقدر على النكاية والانتقام فقد صحت هذه القضية
بالبرهان.

(1) - آية 1 سورة المنافقين.
(2) - ب ج د: " فقد ".
(3) - ا: " الاعتذار ".
(4) - ا: " من ".
154

واعلم أن التحفظ وإن كان من كل الأعداء واجبا لما ان اتفاق الحكماء على أنه
لا ينبغي للعاقل ان يستصغر عدوا وان صغر فإنه من فعل ذلك اغتر ومن اغتر
لم يسلم لكن التحفظ من دقيق النظر في الحيلة والخداع أهم والعناية بشأنه أتم فإنه إن كان
بعيدا لم تؤمن عودته وان كن قريبا لم تؤمن وثبته، وان انكشف منك جانب
لم تأمن كرته وان كانت متحزما لم تأمن مكره وحيلته ومثل هذا العدو وان عد ذكيا الا
انه قد غير فضيلة الذكاء إلى جانب الافراط منها وهو الخبث وقد علمت أنه رذيلة
نفسانية وصاحب هذه الرذيلة يسمى داهيا ومتجربزا، وهذه الكلمة من التنبيهات
المصلحية على مراعاة تمييز أكبر الأعداء والتيقظ لأخفاهم حيلة والاحتراز من عداوته
والحيلة في كيفية دفعه ودفاعه وعليك في هذا المعنى بمطالعة الباب الرابع (1) من كتاب
كليلة ودمنة فتستفيد بتأمله فوائد جليلة، والله تعالى هو المنقذ من أعدائه وكفى به معينا
ينصر من يشاء وهو القوى العزيز.
الكلمة العاشرة
قوله عليه السلام: من طلب مالا يعنيه فاته ما يعنيه.
أقول: المقصود من هذه الكلمة الحث على الاشتغال بطلب الأمور التي بها يكون
صلاح المرء في نفسه باصلاح طرفي معاشه ومعاده اما في طرف المعاش فتحصيل الأمور
التي لابد منها في قوام البدن وبقاء النوع وما يلزمهما (2) وترك الفضول الزائدة التي
لا يعود إليها ضرورة واما في طرف المعاد فالسعي في تحصيل الكمالات العلمية (3) والفضائل
الخلقية التي هي وسيلة إلى نيل السعادة الأبدية والفوز بالنعيم السرمدي وإذا عرفت
ذلك فنقول: الأمور التي ذكرنا انه بجب على الانسان طلبها هي الأمور التي تعنيه اي

(1) - كأنه يريد به باب البوم والغربان لأنه الباب الرابع من أصل الكتاب، ولان البحث
فيه عن الحزم أكثر فيه من البحث عنه في سائر الأبواب.
(2) - ب ج د: " يلزمها ".
(3) - اد: " العملية " (بتقديم الميم على اللام).
155

التي يجب ان تدخل في عنايته بأحواله التي هي فضيلة بالنسبة إلى تلك الأمور
التي لا تعنيه إذ كانت خارجة عن حاجته زائدة على الأمور المكملة له فإذا فرض انه
اشتغل بالأمور التي لا تدخل في عنايته فقد اشتغل بما لا يعنيه وبذلك يفوته ما يعنيه إذ
كان قد اشغل (1) بها وقته الري يجب ان يستوعبه في تحصيل كماله الذي يعينه فان وقته
لو كان اضعاف ما يمكن ان يمتد فيه عمره لم يتسع لاستيفاء كماله القوى باخراجه إلى الفعل
فإذا اشتغل لما لا يعنيه فقد فوت على نفسه كمالا يعنيه في وقت أشغله لما لا يعنيه. واعلم أن
ذلك خروج عن (2) مقتضى العقل ووضع الأشياء في غير موضعها وهو عبور إلى
طرف الجور الذي هو طرف الافراط من العدالة وذلك هو الخسران المبين (3) قل هل
ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون
صنعا. (4)
الكلمة الحادية عشر
قوله عليه السلام: السامع للغيبة أحد المغتابين
أقول: الغيبة التحدث في عرض (5) الانسان حال غيبته بما ينفر طبعه من (6)
المواجهة به، والسامع المستمع لها عن رضى وايثار، فان السامع المطلق أعم من المستمع
فان السامع قد يكون سماعه بقصد ذاتي منه وقد لا يكون بل يكون عرضيا كسماع المار
وغيره، والمستمع أعم من المستمع عن رضى فان المستمع قد لا يكون راضيا بل ينتظر
سكوت المغتاب لجوابه أو لغرض أخر فإذا اطلاق لفظ السامع على المستمع على وجه

(1) - ا ب ج: " اشتغل ".
(2) - ب ج د: " من ".
(3) - ذيل آيتين من القرآن (11 سورة الحج و 15 سورة الزمر).
(4) - آية 103 و 104 سورة الكهف.
(5) - د: " اعراض ".
(6) - ج د: " عن ".
156

مخصوص مجاز من باب اطلاق العام على الخاص، والغيبة تنقسم إلى ما يكون بالكذب
والى ما يكون بالصدق، وعلى التقديرين فاما أن يكون بما لو فعله المغتاب لخرج به عن
ربقة الدين، أو لا يكون فهذه أربعة أقسام: الأول الغيبة الكاذبة بما يخرج به المغتاب عن
الدين، الثاني الغيبة الكاذبة بما لا يكون كذلك، والثالث الغيبة الصادقة بما لا يخرج به
عن الدين، الرابع الغيبة الصادقة بما يخرج به عنه، والثلاثة الأول مذمومة ملعون من
اشتغل بها، اما الأولان فلاشتمالهما على الكذب الموذي الموجب لتلطخ النفس بملكة
الكذب، واما الثالث فلكونه مع خلوه عن الفائدة اشتغالا بما لا يعنى ومستلزما لأذى
الغير المؤدى إلى التنافر (1) والتباين والتباغض المضاد لمطلوب الله تعالى كما بيناه. واما
القسم الرابع فهو وإن كان مذموما من جهة انه اشتغال بما لا يعنى لكثير من الخلق الا
ان الشريعة قد رخصت فيه لاشتماله في بعض الأحوال على نوع من المصلحة قال عليه -
السلام: لا غيبة لفاسق، ووجه تلك المصلحة ان الغالب في صاحب الفعل القبيح الذي
ينفر طبعه عن المواجهة به ان يبلغه (2) ما يقال من القبيح في حقه وما ينشر بين العالم من
مطوى سره الذي يستحى ويأنف من ابدائه واظهاره ويلحقه بسببه الذم والعار عاجلا
والحسرة والعقاب اجلا فيتقهقر بنفرته الطبيعية عن ارتكاب ذلك القبيح ويبدله
بضده المليح فيكون ذلك سببا داعيا له إلى الله تعالى، ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز
في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين (3) إذا (4) عرفت ذلك فاعلم أن
المقصود من هذه الكلمة بيان ان الأحكام المذكورة اللاحقة للمغتاب من الأقسام
الثلاثة الأول للغيبة كما انها لاحقة له فهي أيضا لاحقة للمستمع لها عن رضى ومساعدة،
إذ هما مشتركان في الرضا ومتكيفا الذهن بالتصورات المذمومة التي لا تنبغي وان اختلفا
في أن أحدهما قائل والاخر قابل لكن كل واحد منهما صاحب آلة اما أحدهما فذو لسان

(1) - ج د: " الموذي بالتنافر ".
(2) ا: " لعفله ".
(3) - آية 32 سورة
الأحقاف.
(4) ج د: " وإذ ".
157

يعبر عن نفس قد تنجست بتصور الكذب والعزم عليه واما الاخر فذو سمع تقبل عنه
النفس تلك الآثار عن ايثار وسوء اختيار فيألفها ويعتادها فيتمكن من جوهرها
سموم عقارب الباطل ولذلك قيل: السامع شريك القائل، فاسمع أيها الأخ من بحثنا
ما يجب ان تسمعه فعساك بعدها لا تسمع ما ينبغي ان لا تسمعه، والله ولى السرائر ويهدى
من يشاء إلى صراط مستقيم.
الكلمة الثانية عشر
قوله عليه السلام: الراحة مع اليأس.
أقول: الراحة لذة تحصل للنفس بالسكون عن الحركات المتعبة سواء كانت
تلك الحركات حسية أو عقلية، والياس من الشئ هو انقطاع الطمع منه لاعتقاد انه
لم يصر ممكن التحصيل بعد اعتقاد انه كان كذلك، والمقصود بيان ان الراحة لازمة
لليأس وذلك ظاهر فان الحركات النفسانية الموجهة للحركات البدنية إلى تحصيل
المطلوب إنما تكون قائمة ما دامت النفس متصورة لامكان تحصيله فإذا تبين لها ان
تحصيله غير ممكن فلا بد وان ينقطع حركة الطلب إلى تحصيله وتستبدل النفس من تعب
حركات الطلب لذلك الراحة اللازمة عن السكون من تلك الحركات، وفى هذه
الكلمة تنبيه على ترك الطلب والحرص فيما لا يكسب تحصيله نفعا ولا يعود على صاحبه
الا بالأذى والمكروه فيما يجب عليه اصلاحه من أمر معاده كالاستكثار من متاع الدنيا و
اقتناء الكمالات الوهمية لان الراحة لما كانت مطلوبة وهي لازمة عن ذلك الترك وجب
أن يكون ذلك الترك واجبا فان كل تلك الأمور سموم ان لم تجهز أعقبت (1)، والمثل

(1) - كأنه مثل أو كلام يجرى مجراه والمراد انه " أمور تعقب نتائج وخيمة ان لم تدفع
ولم تعالج بدفعها وقلعها وقمعها ".
158

المشهور من سيد المرسلين صلى الله عليه وآله في ذلك: وان مما ينبت الربيع لما يقتل
حبطا أو يلم (1) والمراد به ان ملذات الدنيا وزينتها وان كانت ذات زهرة وجمال فقد
تؤل بصاحبها إذا خرج في الاخذ منها إلى مالا ينبغي إلى سوء المغبة والشقاء الأشقى في
الآخرة كما أن اكلة الخضر من الماشية إذا لم تقتصد في مراعيها آل بها ذلك إلى أن تحبط
عنه بطونها اي تنتفخ فتهلك، والملمة النازلة من الامر فكما علمت فيما سبق ان الذل
مع الطمع فاعلم أن الراحة مع اليأس، والله الموفق.
الكلمة الثالثة عشر
قوله عليه السلام: من كثر مزاحه لم يخل من حقد عليه أو استخفاف به.
أقول. المزاح بضم الميم الدعابة وهو أمر إضافي، والحقد غضب ثابت لتقرر
صورة الموذي في الخيال مع عدم اعتقاد ان الانتقام في غاية السهولة أو في غاية الصعوبة
وفائدة قيد كونه ثابتا انه لو لم يكن كذلك لما كانت صورة الموذي متقررة في الخيال

(1) - قال ابن الأثير في النهاية " فيه: احبط الله عمله اي ابطله يقال: حبط عمله يحبط
وأهبطه غيره وهو من قولهم: حبطت الدابة حبطا بالتحريك إذا أصابت مرعى طيبا فأفرطت
في الاكل فتنتفخ فتموت ومنه الحديث: وان مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم وذلك أن
الربيع ينبت أحرار العشب فتستكثر منه الماشية ورواه بعضهم بالخاء المعجمة من التخبط
وهو الاضطراب ولهذا الحديث شرح يجيئ في موضعه فإنه حديث طويل فإنه لا يكاد يفهم إذا
فرق " وقال في " لم ": " وفى صفه الجنة: ولولا أنه شئ قضاه الله لالم ان يذهب بصره لما
يرى فيها اي يقرب، ومنه الحديث: ما يقتل حبطا أو يلم اي يقرب من القتل ".
159

فلا تشتاق النفس إلى الانتقام وفائدة عدم اعتقاد سهولته انه لو حصل اعتقاد السهولة
لكان كالحاصل فلا يشتد الشوق إلى تحصيله ولذلك لا يبقى الحقد مع الملوك، وفائدة
عدم اعتقاد صعوبته انه لو لو حصل ذلك الاعتقاد لكان كالمعتذر (1) فتقصر النفس عن
الشوق إلى حصوله ولذلك لا يبقى أحقد مع الفقراء، واما الاستخفاف والاحتقار
والاستهانة بالمنزلة والمقصود بيان ان من كثر مزاحه لم تخل حاله ممن يمازحه ويحاربه
من أحد حالين اما حقد عليه أو استحفاف منه وهذه قضية متصلة مقدمها قولنا: من
كثر مزاحه وتاليها اللازم لها قضية منفصلة مانعة الجمع والخلو وبيان ذلك أن
المتمازحين اما ان يكونا شريفين أو وضيعين أو أحدهما شريفا والاخر وضيعا أما الأول
فلان المزاج يزرع بينهما حقدا باقيا ولا يحصل مع ذلك استخفاف من أحدهما بالآخر
لاعتقاد كل واحد منهما شرف الاخر، واما الثاني فلان المزاح يوجب بينهما استخفافا
واستصغارا من كل واحد منهما لصاحبه ولا يتصور هناك حقد اما لان سلاطة كل
واحد منهما على الاخر وجرأته عليه واستخفافه به قام مقام انتقامه منه، أو لاعتقاد كل
واحد منهما ان الانتقام صعب، واما الثالث فلان المزاح يوجب بينهما أيضا الاستخفاف
دون الحقد، اما من الشريف فلاستصغاره أمر الضعيف وسهولة الانتقام منه فلا يبقى له
غضب في حقه، واما من الضعيف فلان استخفافه بالشريف وسلاطته عليه من جهة
بسطه لنفسه معه يجرى في حقه مجرى انتقامه منها أو انه لاعتقاده صعوبة الانتقام لا يبقى
له الحقد فثبت بما قررناه ان الحقد والاستخفاف لا يجتمعان ولا يرتفعان، واما بيان
الملازمة فلان كثيرا المزاح مستلزم لحركته تلك لثوران القوة الغضبية من الممزوح معه
وبثوران الغضب يكون أحد اللازمين المذكورين. فاعلم أن المزاح قد يكون محمودا وقد
يكون مذموما، والأول هو المزاح المعتدل المقدار الذي لا يخرج بصاحبه في الكمية و
الكيفية إلى ما لا ينبغي، والوقوف على المقدار المعتدل منه وإن كان صعبا لغلبة القوة الشهوية

(1) - ب ج: " كالمعتذر ".
160

عند انبعاثها في المزاج من أكثر الخلق وقلة مراجعة العقل بالتحديق إلى ما يجره ذلك الفعل
عن كثرته ولقلة الاطلاع من المزاج (1) على تفاوت الأمزجة في قبول ذلك الفعل وعدم
قبوله وسرعة انفعال طباعهم لسرعة تصور متخيلاتهم للموذى وبطؤه لكنه ممكن ومع
امكانه هو موجود وذلك ممن استكمل الفضائل العلمية والعملية وكانت قوته الشهوية
في أسر قوته العقلية وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ولا يقول الا حقا وكان
أمير المؤمنين عليه السلام كذلك، وذمه عليه السلام لكثرة المزاح في هذه الكلمة دليل على أنه
كان يقف منه على القدر المحمود، والسبب في كون القدر المعتدل منه محمودا هو انه من
الأسباب الباسطة للنفس الموجبة للانس الذي هو سبب الألفة التي هي سبب المحبة التي
بينا وجوبها فيما سبق وانها مطلوبة من العناية الإلهية وحينئذ يكون ذلك المقدار متعلقا
بالفضائل الخلقية وسببا من أسباب الاستكمال النفساني، واما المذموم منه فهو الذي
يبتدئ به صاحبه ولا يدرى أين (2) يقف منه فيخرج به عن أحد الاعتدال (3) إلى ما لا ينبغي
ولا يزال يزداد به في حق صاحبه حتى يثير قوته الغضبية ويقع أحد ما ذكرنا، وكل ذلك
موجب للوحشة الموجبة للمقاطعة والتباين المضاد للألفة والمحبة فيحصل ضد ما ذكرنا من أنه
مطلوب العناية الإلهية فواجب على من لا يعرف أين (4) يقف منه إذا ان يحذره ويتذكر
قول القائل: رب حقد قاده اللعب، وقول الاخر: لا تمازح الشريف فيحقد عليك
ولا الدنئ فيجترئ عليك، وقول الشاعر:
إياك إياك المزاح فإنه * إلى الشر دعاء وللشر جالب
والعجب الذي لا ينقضى ممن عاب أمير المؤمنين بالدعابة فقال: لولا أن فيه
دعابة؟! كيف يقبل منه ذلك فان هذا الانكار إن كان لأنه ارتكب القدر المعتدل منه
وقد عرفت انه أمر محمود كان ذلك انكارا مستلزما للنهي عن المعروف وهو غير جائز،
وإن كان ذلك لأنه ارتكب القدر الخارج منه إلى مالا ينبغي فترى انه عليه السلام كان

(1) - ا ج د: " المزاح ".
(2) -: " أو " د " انى ".
(3) - ا ب: " العدل ".
(4) - ج د: " انى ".
161

لا يعرف القدر الذي يجب الوقوف عنده من المزاح مع ما تواتر عنه مما يوضح انه كان
أكمل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله في قوتيه النظرية والعلمية وانه ينبوع العلوم
اليقينية والأخلاق الرضية الذي يستقى (1) من تياره فحول الاسلام من أكابر العلماء الراسخين
واشراف الزهاد العارفين كما هو مأثور عنه مشهور وفى أذهان الخلق مقرر مسطور، مع ما
صدر عنه في ذم المزاح المفرط في هذه الكلمة وغيرها وما نقل عنه عليه السلام من الرد على
العائب له بذلك وتكذيبه إياه وذلك قوله عليه السلام في ذكر عمرو بن العاص (2):
يزعم لأهل الشام ان في دعابة وانى امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس، لقد قال
باطلا ونطق اثما، اما وشر القول الكذب، انه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويسال
فيلحف، ويسأل فيبخل، ويخون العهد، ويقطع الال، فإذا كان عند الحرب فأي زاجر
وامر هو ما لم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته ان يمنح القرم
سبته، اما والله انى ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وانه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة،
وانه لم يبايع معاوية حتى شرط له ان يؤتيه أتية ويرضخ له على ترك الدين رضيخة.
ومن انصف من نفسه وقهرها عن متابعة الهوى وسلوك سبيل العناد علم أن هذه
الألفاظ لم تصدر عنه عليه السلام وهو مرتكب لما ينكره من ذلك. ويكفيك في معرفة فضل
المعيب نقصان العائب المذكور بما اشتهر عنه مما ذكره عليه السلام فيه من الأخلاق الردية
والافعال القبيحة فان من اجتمع فيه أن يكون كذوبا مخلافا للوعد بخيلا ملحفا (3) في السؤال
يخون العهد ويقطع الرحم ثم ينضاف إلى ذلك معجبا بنفسه لظنه الكاذب بنفسه في الحروب
وغيرها انها مستحقة لمرتبة من الكمال مع أنها ليست كذلك فيكون في ابتداء الحرب
في صورة أمر وزاجر ومشير مع أنه ليس لشئ من ذلك بأهل حتى إذا اخذت السيوف
مآخذها كان حينئذ مستشعرا لباس الخوف والجبن فرارا غير كرار وكان وجه خلاصه
من الهلاك باظهار رذيلة الخبث والخداع عن أردء وجه وأقبحه وهو كشف سوءته في رد

(1) - ا: " يستسقى ".
(2) - انظر شرح النهج لشارح الكلمات (ص 210 - 209).
(3) - ا: " ملحا " (من ألح بالحائين).
162

سيفه عليه السلام الذي لم يقتل به الا كافرا ومن هو في حكمه حتى صار ذلك مثلا
يضمن الاشعار والاخبار إلى يوم الدين قال: كما ردها يوما بسوأته عمرو، مع ما ظهر من نفاقه
وكفره ببيع دينه من معاوية. وإذ كان عائبه عليه السلام بهذا النقصان المستلزم لنهاية -
الخسران كفاك ذلك في معرفة حاله وكذب مقاله واستلزم ذلك فضل المعيب وشرفه
قال أبو الطيب:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص * فهي الشهادة لي بأنى فاضل
والعدو إذا اطلق عنان هواه في اذى من عاداه اجتهد في قلب الفضائل رذائل وتصوير
صحيح أفعاله بصورة الباطل وخاصة عداوة عن حسد مرشح (1) بحقد صار عن مشاجرات
ومجاهدات في الله وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين (2) وما يؤمن أكثرهم بالله الا
وهم مشركون (3).
الكلمة الرابعة عشر
قوله عليه السلام: كفى بالظفر شفيعا للمذنب.
أقول: قد عرفت معنى الظفر ومنه القدرة على العدو والفوز، ومقصود هذه الكلمة
الحث على التأدب عند الظفر بصاحب الجريمة بتشفيع الظفر فيه وترك اذاه وهو في الحقيقة
أعني ذلك التأدب عند التعود به يكون اثرا للملكة المسماة بالحلم ويصير ملكة تسمى
بالعفو، ثم إنه عليه السلام اطلق لفظ الشفيع على معنى الظفر مع تباين حقيقتهما فان الشفيع
كما علمت هو الشخص الذي يشفع المذنب في طلب الخلاص من جريمته بعد أن كان وترا،
والظفر معنى من المعاني فتعرف (4) إذا انه اطلاق مجازى من باب الاستعارة والتشبيه. وبيان
المناسبة ان الشفيع كما يكون غايته في التلطف والتماس الاعذار وتحمل (5) الامتنان ممن
إليه الشفاعة هو إزالة الأمور المتوهمة في المشفوع له من وهم المشفوع إليه وذاكرته أو

(1) - ب ج د: " موشح ".
(2) - ذيل آية 103 و 106 سورة يوسف.
(3) - ذيل آية 103 و 106 سورة يوسف.
(4) - ب ج د: " فيعرف ".
(5) - ب ج د: " ويحمل ".
163

إزالة بعضها وبالجملة ما تسكن معه القوة الغضبية عن الحركة والتحريك في اذى المذنب
والانتقام منه كذلك الظفر عند تحققه مزيل للحقد وكاسر للقوة الغضبية من الظافر عن
التحريك لشهوة الانتقام اما لان المحرك لذلك الشوق وهو الوهم قد زال منه تصور
الموذي أو لاعتقاد الظافر حالة ظفره قلة الأذى وعدم تأثيره في حقه وإذا لاحت هذه المشابهة
الحسنة (1) لاح ان ذلك التجوز من أحسن الاستعارات فكفى إذا بالظفر الذي في معنى
الشفيع شفيعا للمحتاج إلى الشفاعة في الصفح عن جريمته والتجاوز عن سيئته ومع ما ذكرنا
فيه من سر فائدة تشفيعه وهي انه يحصل بالتعويد به الملكة المسماة بالحلم (2) له فائدة أخرى
وهي ان تشفيع الظفر في الغالب موجب لانمحاء الحقد من جانب المظفور (3) به أيضا
فيكون العفو عنه وترك الانتقام منه سببا لاعتقاده ايصال (4) المنفعة من العافي إليه فيكون
ذلك سببا داعيا إلى الميل إلى جانب الظافر وموجبا لتبديل العداوة بالصداقة والوحشة
بالانس والفرقة بالألفة والبغض بالمحبة، وكل ذلك قد عرفت انه مطلوب للعناية الإلهية
باجتماع الخلق وتكثرهم في الوجود فكفى إذا بالظفر شافعا حافظا للأدب كاسرا للغضب
واقيا من العطب موجبا للألفة والحب الذي فيه رضا الرب، والله ولى التوفيق.
الكلمة الخامسة عشر
قوله عليه السلام: رب ساع فيما يضره (5). أقول: السعي قد يكون سعيا ذاتيا وقد يكون عرضيا، اما السعي الذاتي

(1) - ج د: " الحسية ".
(2) - ج د: " بالحكمة ".
(3) - د: " المظفر ".
(4) - د: " اتصال ".
(5) - هو مروى في نهج البلاغة في وصية أمير المؤمنين (ع) لابنه الحسن (ع)
وشرحه الشارح (ره) هناك بقوله (انظر ص 524 و 526 من الطبعة الأولى):
" نبهه بطريق التمثيل أيضا على التحرز في السعي والتثبت في ارتياد المصالح بقوله: رب ساع
فيما يضره، فالأصل هو الساعي، والفرع هو المخاطب، والعلة هي السعي، والحكم هو التضرر ".
164

فإنما يكون في تحصيل النافع لاعتقاد المنفعة المستلذ بها من جهته اما عاجلية كالسعي
في تحصيل المنافع الدنيوية المستلذ بها حسا، أو آجلية كالسعي في تحصيل اللذات الباقية
والخيرات الدائمة الموجبة لكمال النفس وسعادتها، واما العرضي فقد يكون نحو المنفعة وقد
يكون نحو المضرة، مثال الأول اما نحو المنفعة الحاضرة فكمن يحتفر بئرا فيقع على كنز، واما
نحو المنفعة الباقية فكمن يسعى في الأموال فيتفق له أستاذ مرشد إلى العلم بصير بمنهاجه فيهتدى
به إلى سواء السبيل. مثال الثاني اما نحو المضرة فكمن يحتفر بئرا فتنهشه حيه أو يكون
سببا لترديه فيه (1) واما نحو المضرة الآجلية فكمن يسعى في تحصيل العلم فيتفق له أستاذ
مضل جاهل فيكسبه الجهل بشبهه (2) فيبقى منكسا في الظلمات، وفى درج هذه الأقسام
اقسام أخرى بحسب اعتبارات اخر غيري ان ما ذكرناه كاف في بيان المطلوب، إذا عرفت
ذلك ظهر لك ان الساعي فيما يضره جزء من كل بالنسبة إلى مطلق السعاة الطالبين
للمطالب فلا جرم استعمل سلام الله عليه ههنا لفظ " رب " المقتضية للتقليل، وهذه الكلمة
مستلزمة لوجوب التيقظ والاحتراز في المساعى والاجتهاد في تمييز نافعها من مضرها ولزوم
القانون العدلي في تعرف كيفية السلوك للصراط المستقيم فان الباطل قد يكون بصورة
الحق بالنسبة إلى أوهام كثير من الخلق، والكذب في كثير من مخارجه وقد (3) يتشبه بالصدق،
والله ولى الهداية.
الكلمة السادسة عشر
قوله عليه السلام: روحوا القلوب فان القلب إذا أكره عمى.
أقول: المراد بالقلب النفس والاكراه الالزام لما يكره وروحوها اي ارددوها

(1) - كذا في النسخ والصحيح: " فيها " لان البئر مؤنثة قال الله تعالى: " وبئر معطلة ".
(2) - ا ج د: " بشبهه " (بلفظ المفرد لا بإضافة جمعه إلى ضمير الأستاذ كما في المتن ".
(3) كذا، وفى نسخة د: " قد " (بلا واو).
(4) - ج د: " عادته ".
165

عما هي عادية (1) فيه من قولهم: روح إبله إذا ردها وقت الرواح من السوم إلى المنزل، والعمى
ذهاب البصر من العينين معا وهذه الكلمة من التأديبات الصلاحية للسالكين في العلوم
والأعمال والمقصود بها ان القوى البدنية التي هي الات النفس في التوصل (4) - إلى مراداتها
المتعلقة بالبدن لاشك انا متناهية القوة فلا تقوى على الأعمال الغير المتناهية فإذا وجهتها
النفس في تحصيل المطالب فتحركت كثيرا فإنه حينئذ يحصل لها من الكلال والملال ما يوقف
النفس عن العمل لضعف آلاتها (3) وملالها وربما بقي فيها ميل ونزاع (4) وان ضعفت آلتها
وملت قوتها الفكرية الا انه إذا كان كذلك فينبغي ان الا تبالغ النفس في المعاطفة (5) على
ذلك الفعل بعينه فإنها ان فعلت ذلك خارت (6) قوتها الفكرية التي هي عينها التي تبصر
بها وجوه المطالب ووهت (7) فزال نورها وذلك معنى العمى ولم يمكنها فتح ذلك البصر
واستعادة ذلك النور الاعلى عسر لنفار الطبع عن المعاودة من تصور الوهم للموذي،
وعرفت من هذا ان اطلاق معنى العمى على ما ذكرناه استعارة حسنة للمشابهة البينة من
بحثنا فينبغي للساعي في تحصيل المطالب الفكرية ان لا يقهر نفسه و (لا) يلزمها السعي فيما
عجزت عن تحصيله بل يروحها كما يروح صاحب الإبل إبله لمراعاة مصالحها وحفظها من (8)
العمى بالاكراه كما يراعى ذو السائمة إبله ويحفظها من العطب فان النشاط فيما يصرفها إليه
ويسميها فيه بعد ذلك أتم والميل أصدق بحسب تجدد قوة القوى ونشاطها.
فان قلت: هذا التأويل يتوجه عليه شكان: الأول ان الترويح يستدعى مروحا
ومروحا والنفس لا تكون مروحة لنفسها فلما كانت هي المروح وجب أن يكون المروح
غيرها؟! الثاني ان الاكراه يستدعى مكرها ومكروها، والنفس لا يتصور أن تكون
مكرهة لنفسها؟!

(1) - ج د: " عادته ".
(2) - ب: " في توصل ".
(3) - ب ج د: " آلتها ".
(4) - ب ج د: " ميل ولها نزاع ".
(5) - ب ج د: " المواظبة ".
(6) - ا ج د: " حارت ".
(7) - ا: " ورهت " (بالراء المهملة في فاء الفعل).
(8) - ا: " عن ".
166

قلت: الجواب عن الأول ان المروح للنفس هو النفس من جهة عقليتها (1)
للمصلحة في ذلك والمروح هو أيضا باعتبار ضعف آلتها حال ضعفها والى مثل ذلك
أشير في التنزيل الإلهي: يا أيها الذين امنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا (2)، فان المعطى للنفس
الوقاية هو النفس من جهة كونها عاقلة لمصالحها وما يجب ان تفعل، ولاخذ للوقاية هو
هي أيضا من حيث كونها قادرة متمكنة مما فيه مصلحتها وذلك غير متناف. وعن الثاني
ان المكره للنفس هو هي من جهة عقليتها لما ينبغي ان يفعل وغلطها في ذلك فالمكره على
ذلك السعي هو هي أيضا من جهة كونها قادرة على التصرف.
فائدة - لو حملنا القلوب على القوى المفكرة باعتبار والمتخيلة باعتبار وحملنا المروح لها
على النفس الناطقة وحملنا المكره عليها والمكره على تلك القوى وحملنا على عدم انتفاع
النفس بها وعدم رؤيتها لوجوه المطالب بواسطتها لكلالها وملالها حتى كان ذلك صالحا
لان يكون هو المراد أو قريبا منه، والله ولى التوفيق.
الكلمة السابعة عشر
قوله عليه السلام: الأدب صورة العقل.
أقول: قد عرفت معنى الأدب ومعنى الفعل، واما الصورة فتطلق ويراد بها في الظاهر
ما يشاهد من الشكل والهيئة وتسمى صورة شخصية وتطلق في عرف قوم ويراد بها الجوهر
الحال في المحل المقوم لما يحله (3) ويتحصل متحيزا باقترانه به وتسمى صورة طبيعية
وتسمى محله مادة ويسمى المركب منه ومن محله جسما طبيعيا، وتارة يراد به ما يقع
به اختلاف أنواع الجسم بعد اشتراكها في الصورة الجسمية العامة وتسمى تلك صورة
نوعية، وقد اطلق عليه السلام ههنا لفظ الصورة على الأدب مجازا، والأشبه ان ذلك المجاز

(1) - عقليها ".
(2) - صدر آية 6 سورة التحريم.
(3) - ا: " يحله فيه ".
167

عما سميناه صورة شخصية ووجهه المناسبة بينهما ان الصورة الشخصية لما كانت سببا يعرف
به كل شخص شخصا (1) ويميز الرائي بها (2) بعض الاشخاص عن بعض ويستثبتها خياله كذلك
الأدب هو سبب يوضح أمر صاحبه ويستبدل بوجوده فيه على وجود استعداده للنفحات
الإلهية الذي هو عقله، وبتفاوته يستدل على تفاوت العقول ومغايرة بعضها لبعض كما
يستدل بتفاوت الصور في حسنها وقباحتها على اختلاف الاشخاص وتغايرها. وإذا لاح وجه
التجوز الحسن ونظرت إلى المعنى المجازى المستحسن فقد أشرفت من (3) مصدرها (4) على بحر
لا يعام وأدركت صورة غاية لا ترام، وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب لزوم قانون الأدب
الكاشف عن وجود معنى العقل والمقرر له، والله يختص برحمته من يشاء (5) وهو الموفق.
الكلمة الثامنة عشر
قوله عليه السلام: اليأس حر والرجاء عبد.
أقول: الرجاء توقع حصول المطلوب، واليأس عدم الرجاء عما من شأنه أن يكون
راجيا ثم نقول: ليس المقصود ان اليأس نفسه له صفه الحرية ولا الرجاء له صفه العبودية
بالحقيقة بل الراجي والآئس فإذا اطلاق هذين اللفظين على معنى اليأس والرجاء بحسب
المجاز من باب اطلاق اسم المتعلق على المتعلق والمقصود بيان ان الراجي لأمر ما اما من الله
تعالى أو من أحد من أبناء النوع لا يزال ما دامت نفسه منتظرة لذلك المرجو خاضعا
للمرجو منه متذللا له، ذابا عنه ساعيا في مصالحه مجتهدا في ارضائه بكل أنواع الرضا
ويظهر الملق والتودد، ويحتمل (6) المشاق في المساعى من الذم وغيره حتى تجده في رجائه
من عالم الخفيات والسرائر امرءا يبتهل ويدعو ويكثر زيارة المساجد ومواضع القرب

(1) - أب: " كل شخص شخص ".
(2) - أب: " لها ".
(3) - ا: " في ".
(4) - ج د: " مصادرها ".
(5) - مأخوذ من القرآن المجيد من آية 105 سورة البقرة.
(6) - ا: " تحمل ".
168

ويوجب على نفس المنذورات في خلاص ما يرجوه ووصوله إليه ولا معنى للعبودية الا ذلك
فان الخضوع والتذلل ههنا أتم ما يكون أن يكون، واما بيان ان الآئس حر، فظاهر،
إذ منقطع الرجاء من الشئ متخلص العنق من وثاق التذلل والخضوع للمرجو منه، وإن كان
اطلاق لفظ الحر والعبد على الراجي والآئس مجازيا بالنسبة إلى من وضعا له.
وههنا نظر اخر - وذلك أن الحر يقال على ذي الفضيلة النفسانية التي بها يكسب
المال من وجهه، ويعطى ما يجب في وجهه، ويمنع من اكتساب المال من غير وجهه، ويقابله
العبد لمن له ضد تلك الفضيلة من الرذائل (1) ومعلوم ان الأول إنما كان قادرا على التصرف
المذكور بحسب قهر النفس الامارة بالسوء وتطويعها للنفس المطمئنة وانقيادها في أسرها،
وان الثاني إنما لم يقدر على ذلك لغلبة النفس الامارة على النفس المطمئنة وجذبها لها
إلى المشتهيات الدنية واللذات البدنية فإذا كان كذلك لاح لك حينئذ ان الراجي لأمر
فان لما كانت قوته الشهوية قائدة لعقله إلى الطمع فيما لا ينبغي ان يطمع في وتوقع ما لا ينبغي
ان يتوقع ولا يجوزان يشغل النفس بطلبه لاجرم كان عبدا لتحقق معنى العبودية فيه وهي
الرذيلة الصادرة عن متابعة الشهوة، وان الآئس لما كان منقطع الرجاء وزائل الطمع في هذه
الأشياء دل ذلك على قهر قوته العاقلة لهواه ومتى كان كذلك كانت نفسه متحصلة لتلك
الفضيلة المسماة بالحرية فلا جرم كان حرا، والاعتبار الأول أظهر وأشهر والثاني أدق عند
النظر، والله ولى التوفيق.
الكلمة التاسعة عشر
قوله عليه السلام: من لانت أسافله صلبت أعاليه.
أقول: المراد بالأسافل السبة (2) والأليتان، واللين الخنث وهو الاسترخاء

(1) - د: " من الرذيلة ".
(2) - السبه (بضم السين وتشديد الباء) الاست.
169

والتكسر (1) لا مطلقا فان مطلق استرخاء ما ذكرنا لا يلزمه صلابة الأعالي بل على وجه
خاص وهو أن يكون ذلك عن مباشرة الرجال والاتيان في ذلك المحل للشهوة العارضة
الداعية الاتيان فيه ويسمى صاحب هذا الفعل مخنثا لكون الاسترخاء من لوازم ذلك
الفعل إذ كان صاحب هذه الشهوة كثيرا ما يميل إلى طباع النساء وخاصه في البلدان الحارة
الرطبة فاطلاق الخنث على هذه الشهوة اطلاق اسم اللازم على ملزومه. واما الأعالي
فالوجه واللسان والعين، وليس المراد صلابتها عدم قبول الانغماز فان قبولها للانغماز
ظاهر بل المراد القحة والخشونة المتعارفة التي تصدر عن عدم الحياء كما ستعرفه في الكلمة
التي بعد هذه الكلمة. واما السبب في تحريك هذه الشهوة فهو قوة تخيل (2) اللذة
في هذا الفعل الباعثة لتحريك الشهوة بقوة وكثرة الأسباب المادية (3) للشهوة وقوتها
في بعض الأمزجة. ثم قد يكون الاستعداد لهذا الانفعال والتخيل لازما لوجود الشخص
من أصل مادته فتراه من حيث الصبا (4) وقبل تمام الشهوة منخنث (5) الكلام يتعانى (6) لين
كلمات النساء وكثيرا ما يرجى (7) لمثل هذا فلاح، وقد يكون ذلك الاستعداد عارضا اما
عن عادة لذلك الفعل حدث ابتداؤها عن اجبار أو عن اختيار فتكون الحركة عن ذلك
الاستعداد إلى ذلك الفعل والمبادرة إليه سريعة.
واما بيان لزوم التالي للمقدم فهو ان ذلك الفعل لما كان أقبح ما يرتكبه الانسان
في العرف وبين أهل العالم وكان التظاهر به مستلزما لاطفاء نور ملكة الحياء من وجه الفاعل
المستلزم لغلظ الوجه وقحة الحدقة لا جرم كانت صلابة الأعالي لازمة للين الأسافل كما
سنزيده تقريرا في الكلمة التي تأتى بعدها. وقد عرفت ان هذه الكلمة مستلزمة للتنبيه على
قبح ارتكاب هذا الفعل لقبح ما يلزمه من الرذائل التي يجب اجتنابها وتطهير النفس عنها،
والله يطهر سرائرنا عن ملكات السوء انه ولى كل نعمة، وبه التوفيق والعصمة.

(1) - ا: " والتكسير " ج د: " والتليين ".
(2) - ا: " تخييل ".
(3) - ا: " المادة ".
(4) - ب ج د: " الصبي ".
(5) - د: " متخنث ".
(6) - كذا في النسخ ولعل الصحيح: " يتعاطى ".
(7) - ب ج د: " لا يرجى ".
170

الكلمة العشرون
قوله عليه السلام: من طعن في عجانة قل حياؤه وبذا (1) لسانه.
أقول: المراد من هذه الكلمة قريب مما قبلها فعبر عليه السلام بالطعن الذي هو
في الأصل عبارة عن الضرب بالرمح وكل محدد مستقيم مما هو في حكمه عن الضرب
بالقضيب مجازا ووجه المشابهة ظاهر وفيه يقول بعض (أهل) الخلاعة:
يا أيها الناس من كانت له فرس * فليركبن عليها نومة الناس
وليشددن بسرج لا حزام له * وليطعنن برمح لين الرأس
والعجان اسم لاخر القضيب مما يلي السبة وعبر به عليه السلام عن السبه مجازا
اطلاق اسم المجاور على ما يجاوره، والبذاءة الكلام الفاحش، وإنما خصص (ع) العجان
بالذكر دون جوانب السبة لملاحظة لطيفة وذلك أن سبب وقوع لذة المفعول فيه بذلك
الفعل إنما هو محاكة قضيب الفاعل لأصل قضيب المنفعل وهو اعجانه المستلزمة لثوران الشهوة
والموجبة للانزال دون سائر الجوانب فلذلك خصه عليه السلام بالذكر دونها، واما بيان -
الملازمة بين جزئي هذه الشرطية فلان السبة لما كانت اخس مكان وأقبحه من الانسان
وكانت طبيعة الخلق مجبولة على سترها إذ كانت جبلة الانسان مبنية على ستر القبيح وكل
ما عدا بين الخلق نقصانا ورذيلة، واظهار الجميل والمسارعة إلى التكميل بكل (2) ما يعد
كمالا وفضيلة، فإذا فرضت انسانا اتصف بهذا الفعل لعروض أسبابه فإذا ثارت (3) قوته
الشهوية إلى ارتكابه فان عقله حينئذ يكون مقهورا في شهوته فينساق (4) في قيادها إلى قبول
ما هو مشهور القبح (5) بين الخلق وما كان نافرا منه بأصل جبلته من العار والشناعة القبيحة

(1) - ا: " بذ " (بتشديد الذال) ولعله مصحف: " بذأ " بهمز الاخر.
(2) - ج د: " فكل ".
(3) - د: " تأدت ".
(4) - ج د: " فيساق "
(5) - كذا والظاهر أنه: " مشهور بالقبح ".
171

والسب الصادق والذم الفاحش بين الخلق ويأنس ولا يبقى له انكار ولاله منه نفار بل ربما
تزيى بزي النساء اللاتي هن (1) محل الوطي بأصل الطبيعة، واستحسن ذلك والفه،
وإذا كان كذلك لم تنحصر نفسه خشية من الذم وحذرا من اتيان القبيح أشنعه واشتهاره
به عن رضى ومحبة، وحينئذ تحصلت له وقاحة الوجه والعين واللسان لامتداد الروح
النفساني عند المواجهة بالقبيح ولا يزال ذلك يتزايد بحسب التعويد وطول المواجهة حتى
لا يبقى له استشعار خوف من (2) ذم، والا انفعال عن مواجهة بشتم، فقد ظهر لك لزوم قلة
الحياء للاتيان المخصوص في المحل المذكور، واما البذاءة فلازمة لقلة الحياء، ولما كانت
هذه الرذائل والظلام (3) العارض من عدم هذه الفضائل مهروبا منها وكان ذلك الفعل
هو السبب في لزومها كانت هذه الكلمة مشتملة على التنبيه للحذر من قربه والبعد عنه
ما أمكن، والله المستعان.
الكلمة الحادية والعشرون
قوله عليه السلام: السعيد من وعظ بغيره.
أقول: السعادة في اللغة هي اليمن والمراد بها ههنا حصول الانسان على الكمال الذاتي
له، والاتعاظ الانزجار عما يبعد عن الحضرة الإلهية وينافى الكمال المطلوب، واعلم أن
هذه القضية في تقرير متصلة وهي: من وعظ بغيره فقد سعد، وبيان الملازمة انا بينا ان العلل
العالية الفياضة بالخيرات ليس في جانبها نقصان ولا ينسب إليها تقصير وحرمان بل الأصل
في عدم حصول الكمال وتأخره هو نقصان المستعد في ذاته أو (4) عدم استعداده لمطلوباته
حتى إذا تم استعداد النفس لأمر يوجب فيضه من علته التامة وإذا كان كذلك فاعلم أن
الاتعاظ هو انزجار النفس عن متابعة قواها البدنية التي هي شياطينها (5) حتى لا ترد

(1) - في النسخ: " الذين هم ".
(2) - ا: " من خوف ".
(3) - ا: " والكلام ".
(4) - ج د: " و ".
(5) - ب: " شياطينهم ".
172

موارد (1) الهلكات ولا تتدنس برذائل الملكات ولزومها لقانون العدل الذي هو (2) وسط بين طرفي الافراط والتفريط فيما يقودها إليه تلك القوى وتمنيها من أباطيل المنى فإذا فرضنا
انها انزجرت مثل ذلك الانزجار عن نظرها بعين البصيرة إلى حطام هذه الدار فلا شك
ولا شبهة انها قد حصلت على الاستعداد المستلزم لنيل السعادة الباقية، واستشعرت لباس
الامن سموم عقارب اللذات الفانية، واما ان ذلك الاتعاظ من الغير فلان كل
موجود ممكن لا ينفك عن دليل واضح على الحكمة الإلهية وبرهان شاهد على كمال
العناية الربانية
ففي كل شئ له ايه * تدل على أنه واحد
فإذا اطلعت النفس على اثر رحمة الله أو اثر سخطه لاح لها ان المطلوب ليس هو ما يميل
قواها البدنية إليه وليس المراد ما تقبل بوجهها عليه فتتقهقر حينئذ عن طاعتها المردية وتنزجر
عن متابعتها المؤذية إلى القانون العدلي ولا شك ان لزوم ذلك القانون معد لقبول
السعادات الأبدية.
وقد وردت هذه الكلمة برواية أخرى وهي:
السعيد من اعتبر بغيره. وتقديرها على هذه الرواية: من اعتبر بغيره، فان فسرنا
الاعتبار بالاتعاظ لم يكن بين الروايتين مغايرة إلا في اللفظ، وان فسرناه بالمجاوزة
والتعدي كما سبق احتجنا في بيان اللازم للملزوم وهو ثبوت السعادة للمعتبر إلى وسط هو
الاتعاظ، اما المقدمة الأولى فلان المعتبر إذا نظر إلى وفق الامر الإلهي: قل انظروا ماذا
في السماوات والأرض (3) فاعتبروا يا أولى الابصار (4) فاستوفى شرائط النظر كان ذلك النظر
مستلزما للمجاوزة إلى المطلوب استلزام الكل لجزئه (5) فإذا حصل المطلوب على وجهه كان

(1) - ا: " مراد ".
(2) - ا: " لقانون العدل هو ".
(3) - صدر آية 101 سورة يونس.
(4) - ذيل آية 2 سورة الحشر.
(5) - ج: " الكلى الجزئية ".
173

ذلك سببا لكمال القوة العاقلة يتمكن معه من قهر قواها البدنية وجذبها لها إلى المسالمة
والمساعدة على تحصيل المطلوبات الحقيقية. واما الكبرى فبيانها ما سبق في الرواية الأولى
وبتقدير صحة الرواية تكون هذه الكلمة صالحة الدخول في القسم الأول وفيها تنبيه على
وجوب الاتعاظ فان السعادة لما كانت هي المطلوب (1) بالذات وكان الاتعاظ وسيلة
إليها لاجرم كان واجبا، والله ولى التوفيق.
الكلمة الثانية والعشرون
قوله عليه السلام: رب امل خائب.
أقول: الامل هو الرجاء، والخيبة عدم حصول المطلوب بعد السعي فيه، والمقصود
من هذه الكلمة التنبيه على وضع الآمال مواضعها كما ينبغي وعلى الوجه الذي ينبغي فان
فيها ما هو خائب وان وجهه الامل مذلا (2) فيه نفسه وقد علمت أن أعظم السعي خيبة
ما كان سعيا واملا للأمور الفانية التي تفنى لذتها وتبقى حسرتها فنح أيها الأخ شهوتك
جانبا وحدق بعين بصيرتك إلى أين تضع أملك فإنك ستراه إن شاء الله. واما تصديره
عليه السلام للكلمة برب المقتضية للتقليل فلان الامل لما كان في الغالب إنما يوجه الآمال
إلى الأمور الممكنة في حقه والتي يكون متأهلا لها إذ ما لا يتصور امكانه في حقه ولا تأهله
له لا يكون املا له وإذا كان في الأغلب مستعدا لما يأمله كان ظافرا بحصوله بحسب تأهله
له سواء كان ذلك الامل بالنسبة إلى الله تعالى أو إلى أحد من أبناء النوع، اما بالنسبة
إلى الله تعالى فواجب عند تأهل الامل لمطلوبه ان يظفره به ويفيضه عليه لما ان الجواد
المطلق لا توقف (2) فيه الاعلى تمام القابل في قابليته، واما بالنسبة إلى أبناء النوع وان كانت
أسباب الخيبة من القابل والمقبول منه كثيرة ولكن الأغلب عند الاجتهاد من الامل وتأهيل

(1) - كذا (2) - أب: " ومد ".
(3) - أب: " توفق " ج د: " يوقف ".
174

نفسه لذلك المأمول يقع ذلك المأمول ولذلك قيل (1) من اجتهد وجد وجد، والتوصل
إلى الأمور الممكنة في الأغلب ممكن وإن كان على عسر، وحصولها وإن كان على بعد جائز،
وإذا كان كذلك كان خيبة الآملين أقلية الوجود بالنسبة إلى ظفرهم بمطلوباتهم، واما
أسباب تلك الخيبة فأمور جزئية وأسباب قضائية لا تضبطها قوى البشر وان عد الامل
في أنظارهم مستحقا والمأمول منه في العرف والعادة جوادا فلذلك صدر القضية برب
المفصحة عن الاخبار بأقلية خيبة الآملين، ربنا لا تجبهنا (2) بخيبة امالنا، ولا تفضحنا
بسوء أعمالنا، وأفض علينا رياح رحمتك، وأذقنا برد عفوك وحلاوة مناجاتك، انك
أنت الوهاب.
الكلمة الثالثة والعشرون
قوله عليه السلام: رب طمع كاذب.
أقول: قد عرفت ماهية الطمع، واما الكذب فقد يطلق على مالا يطابق من اخبار (3)
القائل اعتقاده وعلى ما لا يطابق من الاعتقاد (4) معتقده فيقال: ظن كاذب ووهم كاذب،
ولما كان الطمع مستلزما في بعض الصور ظن حصول الشئ المطموع فيه اطلق عليه انه
كذب اطلاقا لاسم (5) اللازم على ملزومه والمقصود ههنا بيان أقلية الطمع الكاذب بحسب
المطابقة والحث على وضع الأطماع مواضعها بحسب الالتزام وهو المقصود الذاتي، بيان
الأول ان الطمع في الغالب إنما يتوجه نحو أمر ممكن ممن يؤهل نفسه لتناوله وكان اعتقاد
حصوله تارة يكون علما وتارة يكون ظنا وتارة يكون وهما، وكان الاعتقاد العلمي
لا كذب فيه وكان الأغلب في الظن ان (6) لا كذب فيه وكان الوهم أيضا قد يطابق لا جرم

(1) - ا ب " ولذلك ما قيل ".
(2) - ج د: " لا تخيبنا " يقال: " جبهه بالمكروه إذا استقبله به "
ب ".
(3) - ج د: " أفعال ".
(4) - كذا.
(5) - ب: " اطلاق الاسم ".
(6) - ب ج د: " انه ".
175

كان عدم مطابقة الطمع الصادر (1) عن تلك الاعتقادات وكذبه أقلي الكون فلذلك
صدر عليه السلام القضية برب. بيان الثاني ان الكلمة مستلزمة للتنبيه على قبح الطمع
في الأمور الفانية إذ كان طلبها مع ما يؤدى إليه من أمر المعاد مشتملا على كذب اعتقاد حصولها
بحيث يكون السعي في ذلك المطموع فيه ضائعا لا يعود الا بالضرر فينبغي أن يكون
الطامع في مجرى مواقع (2) طمعه العائد عليه بالنفع على تثبت، والله الموفق.
الكلمة الرابعة والعشرون
قوله عليه السلام: رب رجاء يؤدى إلى الحرمان.
أقول: الحرمان مصدر قولك حرمت فلانا العطية إذا منعته إياها بالكلية،
والمقصود ههنا بيان ان الرجاء الذي هو سبب في العادة لحصول المطلوب قد يتفق أن يكون
سببا لحرمانه وبيان ذلك أن الرجاء اما أن يكون من الله تعالى أو من أحد من أبناء النوع
وعلى التقديرين فقد يكون سببا للحرمان اما من الله تعالى فصورته رجاء محصل لوقر أو
أوقار (3) من المال غلبه الحرص والشرة وساقه (4) امل الزيادة فيه إلى السفر به في البحار
والقفار وكان في القضاء الإلهي تلفه وحرمان صاحبه بالكلية وإن كان ذلك غير مقصود
بالذات للعناية الإلهية، واما من أبناء النوع فصورته ان يقصد الراجي إلى بعض المثرين
رجاء رفده فيغلبه الحرص والطمع على طلب ما لا يمكن أو التماس ما ينفر الطبع من التماسه
فيكون ذلك مثيرا للقوة الغضبية وسببا لمنعه بالكلية بحيث انه لو اقتصر على ما هو دون
ذلك واسهل منه لاعطى إياه ولما كان ممنوعا، ولما كانت هذه الأحوال أقلية الوجود
بالنسبة إلى الرجاء المؤدى إلى حصول المطالب وبلوغ الأمور المرجوة لاجرم صدر القضية
برب. وفى هذه الكلمة أيضا تنبيه على وجوب وضع الرجاء موضعه كما ينبغي وعلى الوجه

(1) - ب: " الصادرة ".
(2) - ب ج د: " تحرى مواضع " (3) -
ا: " لوترا وأوتار " ج د:
لوفدا وفار ".
(4) - ا: " سامه ".
176

الذي ينبغي ليحصل عن ذلك ملكه الحرية، ولان الرجاء الخارج عن مجراه الطبيعي
مستلزم للحرمان المنفور منه طبعا، والله ولى التوفيق.
الكلمة الخامسة والعشرون
قوله عليه السلام: رب أرباح (1) تؤدى إلى الخسران.
أقول: الربح الزيادة الحاصلة من التصرف في قدر مخرج من المال للتجارة يسمى
برأس المال ويقابله الخسران وهو النقصان الحاصل بسبب التجارة في ذلك القدر المخرج
والمراد ان بعض الأرباح سبب للخسران وهذا المطلوب يثبت (2) تصوره. واعلم أن
لفظ الربح وإن كان حقيقة (3) فيما ذكرنا فقد يطلق مجازا على تحصيل المعارف والعلوم
الحقيقية والحصول على الكمالات النفسانية، ورأس مال هذه التجارة هي المعقولات
الأولى والثانية بحسب تصرف التاجر وهو العقل فيها واستخراج الأرباح التي هي النتائج
من المقدمات. والحجج والحقائق من الحدود والرسوم، ووجه المشابهة بينهما هو ان لكل
واحد منهما زيادة حاصلة عن أصله بالتصرف فيه، وكذلك لفظ الخسران كما كان
حقيقة في النقصان الحاصل في رأس المال كذلك يطلق مجازا على ما يحصل من الخلل في

(1) - هذه الكلمة في جميع النسخ الموجودة عندي " أرباح " بصيغة كما يلاحظ في
المتن وما ذكره الشارح (ره) في شرحها أيضا يؤيد كون الكلمة هكذا الا ان الكلمة في كتاب
" مطلوب كل طالب في شرح كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) " نقلت بلفظ المفرد على
وزن صباح، ومقابلتها لما سبقها من قوله (ع): " رب رجاء " تؤيد كون الكلمة كذلك وكذا كونها
مجرورة برب، قال الطريحي (ره) في مجمع البحرين: " والربح بالتحريك اسم ما ربحه الانسان
وكذلك الرباح بالفتح " وصرح بمثل كلامه سائر علماء اللغة فالأولى كون الكلمة " رباح ".
(2) - ا ب: " ثبت ".
(3) - ج د: " حقيقته " (بإضافته إلى ضميره).
177

ترتيب الحدود والبراهين التي هي رأس المال المجازى. وإذا عرفت ذلك فنقول: قد
يكون الربح الوهمي وهو المتعلق بالمال سببا للخسران بالمعنى المجازى أيضا ولست أعنى
بالسبب ههنا العلة الموجبة فان أحد المتقابلين لا يكون علة للاخر، إذ لا واحد منهما بمجامع
للاخر وكل واحد من العلة والمعلول مجامع للاخر بل المقصود انه سبب عرضى معد
والعلة لها شئ آخر.
مثال سببية الربح الظاهري للخسران الظاهري ما شوهد بالحس ان رجلا سافر
إلى الهند بسبعة عشر دينارا ولم يزل يتردد ففي مدة يسيرة بلغت تلك الأرباح سبعة عشر
ألفا، ثم عزم على القرار فنازعته نفسه الامارة بالسوء الخروج وغلبه الحرص على طلب
الزيادة فخرج فلم يلبث ان (1) هاج البحر على سفينته فغرقت وخرج عريانا لا يقدر على شئ
مما كسب فكانت تلك الأرباح مهيجة لحرصه على الطلب والسعي والازدياد فكان
سببا معدا لحصول الحركات التي معها وقع ذلك الخسران، وأمثال ذلك كثيرة.
ومثال سببية الربح الظاهري للخسران الأخروي هو ان المشتغل بتحصيل أرباح -
التجارات المالية وقد أضنى (2) بدنه وأفنى عمره في الاسفار والمعاملات وتاقت (3) نفسه
وانخرطت في سلك هواها وتدنس لوحها بالملكات الردية فحصلت على اضداد الربح
المجازى الذي لا يجامعه فكانت تلك الأرباح الوهمية أسبابا معدة لنفس حاجب هذه
التجارة لان يتصف بأضداد الربح المجازى فكانت أسبابا مؤدية إلى الخسران.
ثم لما كانت تأديتها (4) إلى الخسران أقلية الوجود بالنسبة إلى تأديتها إلى الأرباح الوهمية
والحقيقية أو إلى السلامة من الخسران الكلى المردي في حضيض جهنم لاجرم صدرت
هذه الكلمة أيضا برب. فينبغي للعاقل ان يميز الأرباح المودية إلى الخسران من غيرها ليسلم

(1) - ج د: " فلم يلبث الا ان ".
(2) - ب: " أنضى " يقال: " أنضى بعيره انضاء = هزله
بكثرة السير " ويقال ": " أضناه المرض اضناء = اثقله ".
(3) - أب: " وانافت " ج د: " واتاقت ".
(4) - ب ج د: " كان تأديتها ".
178

باجتنابها عن السقوط في مهاوى الصغار وحلول دار البوار سلامة تستبتع غنيمة عظيمة
وتستلزم مسرة مقيمة، فان لها وجودا وإن كان أقليا، وعلى الله قصد السبيل في أربح
التجارات وأزكاها وانفعها وأنماها، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الكلمة السادسة والعشرون
قوله عليه السلام: في كل اكلة غصة، ومع كل جرعة شرقة.
أقول: الاكلة الواحدة من الاكل والغصة بفتح العين المرة الواحدة من قولك
" غص فلان بالماء = امتلأ حلقه منه فلم يجزه (1) واما بالضم فهي الشجا، والجرعة من
الماء وكل مائع شرب المقدار الذي يجذبه القوة (2) الجاذبة منه دفعة دفعة، والشرق الألم
العارض عند الشرب من نفوذ الماء في غير المجرى الطبيعي من الحلق. والمقصود من هذه
الكلمة بيان ان اللذات الدنياوية غير خالصة من شوب الآلام، وغير صافية من كدورات
الشرور، وان ما يعد فيها خيرا ولذة هو عند التحقيق خلاص من ألم وراحة من تعب،
ثم هو ليس بخلاص دائم ولا براحة مستمرة بل مستعقبة للألم وملحوقة بالنصب فكنى
عليه السلام بالأكلة والجرعة عن اللذات (3) الدنياوية لاستلزامها اللذة وكنى بالغصة
والشرقة عن الألم لاستلزامهما إياه فكان ذلك اطلاقا لاسم الملزوم على لازمه في الموضعين
وهو مجاز حسن وإنما خص هذين النوعين بالذكر من سائر الأنواع المستلزمة للذة
والألم لما ان الأكل والشرب أكثرها وقوعا في الوجود، وفى هذه الكلمة تنبيه لك أيها
الأخ على (4) حال هذه اللذات الحاضرة فإنها مشوبة بالآلام موسخة بالآثام فانظر وفقك
الله بعين بصيرتك وجه المناسبة بينها وبين اللذات الباقية الصافية وان كنت لا تطلع منها

(1) - ا: " فلم يحزه " ب د: " فلم يخره ".
(2) - ا: " النفس ".
(3) - ا: من اللذة ".
(4) - ب: " عن ".
179

ما دمت في عالمك هذا الا على قدر مغطى (1) بقشور الخيال محفوف من اللذات
الحاضرة بأمثال، تجد بينهما فرقانا (2) شديدا وأمد بعيدا ولو جردت عقلك عن
خيالك وأمكن لك ذلك لما وجدت بينهما مقايسة ولفقدت يبنهما المناسبة، والله تعالى
هو الحاكم بالسعادة ومن عنده حسن الوفادة.
الكلمة السابعة والعشرون والثامنة والعشرون
قوله عليه السلام: إذا حلت (3) المقادير ضلت التدابير.
(و) إذا حل القدر بطل الحذر.
أقول: المقادير جمع مقدور وهو الامر المقدر من الله، والضلال الضياع والهلاك،
والتدابير جمع تدبير وهو إجالة الفكر في ايقاع الافعال على الوجوه التي هي أنفع وأوفق
بحال الانسان ونحتاج ههنا إلى تفسير القدر ولما كان معلقا بالقضاء احتجنا إلى تفسيرهما
معا فنقول:
قالت الحكماء: لما كان جميع صور الموجودات كلياتها وجزئياتها التي هي بلا نهاية
حاصلة من حيث هي منقوشة في العالم العقلي بابداع الحق الأول تعالى إياها، وكان ابداع
الأمور المادية منها ممتنعا إذ المادة غير مستعدة لقبول صورتين منها فضلا عن قبول مالا نهاية
له وكانت العناية الإلهية قد اقتضت تكميل المادة بابداع تلك الصور فيها واخراج ما فيها من
قبول تلك الصور من القوة إلى الفعل قدر بلطيف حكمته زمانا غير متناه من الطرفين يخرج
فيه (4) تلك الأمور إلى الفعل (5) واحدا بعد آخر (6) فتصير تلك الصور في جميع ذلك
الزمان موجودة في موادها والمادة كامله بها، وإذا عرفت ذلك فاعلم أن القضاء اسم
لوجود جميع الموجودات في العالم العقلي مجملة على سبيل الابداع، والقدر عبارة عن وجودها

(1) - ا: " ما يغطى ".
(2) - ج د: " فرقا ".
(3) - ا: " حصلت ".
(4) - ا: " مخرج " (بدلا من الكلمتين).
(5) - ج: " العقل ".
(6) - د: " بعد واحد آخر ".
180

في موادها الخارجية مفصلة واحدا بعد آخر. واليهما الإشارة في التنزيل الإلهي: وان من
شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم (1) وإذا كان كذلك،
فنقول: المقصود من هذه الكلمة ان المقادير وهي وجود الموجودات المادية إذا
حلت اي حدثت وقامت بالمادة بالفعل وكانت أمورا مكروهة إلى طباع الانسان ككون (2)
الأمور المضادة للحياة في موادها أو كون أمور أخرى يتضرر بها ويتأذى بوقوعها فان
تقديراته وإجالة فكره بقوته العملية في كيفية التوقي والسلامة من ذلك التأذى بحسب
توهمه انه مالك لأموره قادر (3) على تسليم أحواله من الآفات ومقتدر على التوقي
بالحذر، والتدابير حينئذ تكون ضائعة باطلة غير منتفع بها إذ كان حكمه بالقدرة على
التوقي حكميا وهميا (5) حتى لو راجع عقله لعلم ان المقادير أمور غيبية ولها أطوار وراء -
العقول لا يحصن منها تدبير ولا يطلع على وجه الخلاص منها وان اطلع على مثل ما يعتاد
معه دفع ذلك المكروه فيما مضى من الأوقات لقصور القوة الانسانية عن ادراك تفاصيل
أسباب وقوع الامر المكروه وعرفت من ذلك معنى بطلان الحذر عند وقوعها فان الحذر
هو التحرز والتحفظ من وقوع الأمور المكروهة بحسب إجالة الفكر العملي أيضا في الحيلة
والخلاص من وقوعها بالانسان وقد عرفت ان ذلك غير نافع عند حلول القدر فهو باطل.
تنبيه - ولا يحملنك هذا البحث على الانهماك في المعاصي ولا استكثار من الأمور
الموبقة في...... (6) فإذا نوقشت على ذلك أحلته على القضاء والقدر وزعمت (7) انك
بذلك متخلص من العقاب فإنك حينئذ تكون من الغالطين غلطا تكون به من الهالكين
بل ينبغي ان تقبل بكليتك على قبول الأوامر والنواهي الشرعية والعمل بمقتضاها وتعلم

(1) - آية 21 سورة الحجر.
(2) - ا: " لكون ".
(3) - ب ج د: " وقادر ".
(4) - ب: " أمواله " (بالميم في أول مفرده على أن يكون جمع مال لا كما في المتن من كونها جمع حال (بالحاء المهملة).
(5) - في النسخ: " حكم وهمى ".
(6) - هنا بياض بقدر كلمتين في ثلاث نسخ (ا ج د) واما نسخه ب فليس فيها كلمة " في " والبياض.
(7) - ا: " فزعمت ".
181

ان موجدك قد أعطاك قدرة وعقلا وأمرك بفعل هو ممكن في نفسه وبالنسبة إلى ذهنك
هو ممكن أيضا لك فالتكليف وارد عليك بحسب ذلك لا بحسب ما في علمه وان عقاب
الانسان على خطيئة وهي الحركات التي لا تنبغي (1) منه المنسوبة إليه ظاهرا وفى اعتقاده
الجازم بالقدرة عليها فيم يعد (2) جوهر نفسه لتمكن الملكات الردية منها ورسوخها فيها أمر
لازم جوهرها وهي نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة (3) وكذلك ما يتبعها من دوام
التعذيب بها (4) وأنت بالنظر إلى نفسك معتقد جازم بأنك قادر على تدبير الخلاص من
تلك الهيئات الردية بالسعي في اكتساب أضدادها، وعلى ان لا تعرض لنفسك بالكلية.
واما نسبتك ذلك إلى القدر فذلك ليس من تكليفك (5) على أن الشرور الواقعة بك
ليس إليها (6) قصد ذاتي بالفضائل من حيث إنه لا يمكن بز (7) الخير الموجود فيك منها
والا لما كنت أنت أنت. فان خطر ببالك ما يقال: ان العقاب على الأمور الواجبة ظلم
وقبيح يجب تنزيه الله تعالى عنه فاعلم أن حديث الظلم وقبحه والعدل وحسنه آراء محمودة
سبب شهرتها وحدنها (8) من جمهور الخلق اشتمالها على مصالحهم وانتظام أمورهم دون أن تكون
بديهية (9) فإذا بناء احكام الله تعالى عليها غير لازم ولا مستقيم.

(1) - ا: " لا تنتفى " ج د: " لا تبتغى ".
(2) - اج د: " بعد ".
(3) - آيتان من
القرآن الكريم (6 و 7) سورة الهمزة) أتى بهما في كلامه.
(4) - ا: " لها.
(5) - ا: " منه تكفيك ".
(6) - ج د: " انها ".
(7) - ج د: " بر ".
(8) - ب: " وحدثها " ج د: " ووجدتها ".
(9) - هذا كلام عجيب جدا، وصدوره من مثله أعجب
182

الكلمة التاسعة والعشرون
قوله عليه السلام: ليس العجب ممن هلك كيف هلك
إنما العجب ممن نجا كيف نجا (1)
أقول: يشير في هذه الكلمة إلى أنه لا ينبغي ان يتعجب من كيفية هلاك من هلك
في الآخرة بأسباب الهلاك بل ينبغي ان يتعجب من كيفية نجاة الناجين والعلة في هذا
الحكم انه لما كان الانسان ذا قوى ثلاثة بحسبها (2) تصدر عنه الأفعال الاختيارية وتصير
بسببها هالكا أو (3) مالكا وهي القوة الناطقة والشهوية والغضبية وكان الغالب على الناس
في أكثر الأحوال الانحراف عن الأحوال التي ينبغي ان كونوا عليها وهي مطلوبة منهم

(1) - هذه الكلمة نقلت عن غيره عليه السلام أيضا لكن باختلاف في اللفظ، فمنه ما نقله
المحدث الكاشاني المولى محسن الفيض (ره) في آخر رسالته الصغيرة الموسومة بمقالة ضياء -
القلب وقد طبعت ضمن رسائله ما نصه (ص 185):
" وروى عن الحسن البصري أنه قال: ليس العجب ممن نجا كيف نجا، إنما العجب
ممن هلك كيف هلك، مع كثرة الدلالات ووفور البينات، وفى أمالي الصدوق (ره)
باسناده قال: كان الصادق (ع) كثيرا ما يقول:
علم المحجة واضح لمريده * وأرى القلوب عن المحجة في عمى
ولقد عجبت لهالك ونجاته * موجودة ولقد عجبت لمن نجا
وقال المجلسي (ره) بعد نقل البيتين عن أمالي الصدوق مسندا في المجلد الأول من البحار
(ص 117 من طبعة امين الضرب): " بيان - العجب من الهلاك لكثرة بواعث الهداية ووضوح
المحجة، والعجب من النجاة لندورها وكثرة الهالكين وكل أمر نادر مما يتعجب منه "
وأوردهما أيضا في المجلد الحادي عشر في ترجمه الصادق (ع) نقلا عن مناقب ابن شهرآشوب
(انظر ص 111 من طبعة امين الضرب (فليعلم ان الكلام الأول المنسوب إلى الحسن البصري
قد نسب إلى مولينا أبى محمد الحسن المجتبى عليه السلام على ما رأيت في بعض الكتب فمن
أراد التحقيق فليراجع مظانه من مجلدات ناسخ التواريخ.
(2) - ا: " بحقيقتها.
(3) - أب " و ".
183

باللسان النبوي وذلك الانحراف بسبب طاعة قوتي الشهوة والغضب والانهماك فيما تميلان
إليه بمقتضى طباعهما (1) وتجران القوة العاقلة إليه من مطلوباتهما وذلك مما يصرف عن
التوجه إلى القبلة الحقيقية ويمنع من التعلق بعصم النجاة فلا جرم كان التعجب من
كيفية هلاك الهالكين تعجبا في غير موضعه لان أسباب الهلاك غالبة في الخلق أكثرية -
الوجود، وأكثرية وجود المعلول تابع لأكثرية وجود أسبابه.
ولما عرفت ان درجات السعادة غير متناهية فاعلم أن درجات الهلاك والشقاوة
(أيضا) غير متناهية ولسنا نعنى باهلاك الهلاك السرمدي فأن ذلك مختص بالانحراف على
وجه مخصوص أعني ان يوجب ذلك الانحراف والميل ملكات ردية تلزم جوهر النفس
فيدوم به العذاب بل نعنى به ما هو أعم من ذلك حتى يكون الهلاك المنقطع داخلا فيه
ويكون أكثر وجودا من النجاة، وما كان أكثريا ومعتادا لا ينبغي ان يتعجب منه، وكان
التعجب من كيفية نجاة الناجين تعجبا في موضعه لا يستنكر (2) لقلة أسباب النجاة وضعف
وجودها من الخلق.
وفى هذه الكلمة ايماء إلى وجوب الاحتفاظ (3) والاخذ بالحزم في تحصيل أسباب
النجاة والاجتهاد فيها فإنها لا تدرك بالمنى ولا تحصل بالهوينا، واليك الاعتبار، والله تعالى
ولى اعدادك لما هو أهله، وهو الموفق.
الكلمة الثلاثون
قوله عليه السلام: الاحسان يقطع اللسان.
أقول: لفظ القطع يقال حقيقة على تفريق اتصال الجسم بالآلة القطاعة
كالسكين وغيرها، وقد استعمله عليه السلام ههنا مجازا في منع الكلام القبيح الخارج

(1) - ج د: " طباعهم ".
(2) - ا ب: " لا يستكثر ".
(3) - ب ج د: " الاحتياط ".
184

عن (1) لسان الذام الاحسان لا يفعل ذلك التفريق في اللسان بل يكون بسببه منع
اللسان من الحركة بما لا ينبغي، ووجه المناسبة انه كما أنه الغاية من قطع اللسان بالآلة
القطاعة ترك الكلام فكذلك في الغاية من اسكاته بالعطية، وهذا من محاسن الاستعارة.
واما علة هذا الحكم فنقول الاحسان قسمان، ذاتي وعرضى، فالذاتي هو الذي
يصدر عن الأخيار الفضلاء وذلك أن سيرهم محمودة محبوبة فهم محبوبون لذواتهم وأفعالهم
مسرورون بأنفسهم مسرور بهم غيرهم، وكل أحد يجب ان يواصلهم ويصادقهم، فهم
أصدقاء أنفسهم والناس أصدقاؤهم، ومن هذه سيرته فتجده يحسن إلى الناس بقصد وغير
قصد إذ كانت أفعاله محبوبة لذيذة والمحبوب اللذيذ مختار ومطلوب، وإذا كان كذلك
فلابد وان يكثر المقبلون عليه والمحتفون به، ومن كانت هذه حاله برئ ان (2) يصل إليه
ذم أو يلحقه لوم بل تكون الألسنة مقطوعة عنه بل هي دائما رطبة بالثناء عليه متحركة
بشكره فضلا أن تكون ذامة له وهذا هو الاحسان الذي يبقى ولا ينقطع، ويزيد ولا ينقص،
ويكون به الاخوة الصادقة والمحبة المطلقة. واما العرضي فهو الذي ليس بخلقي ولا معتاد
لصاحبه ولا شك انه منقطع والمحبة العارضة عنه محبة عرضية مقيد دوامها بدوامه
باقية ريثما هو باق وفيها زيادة ونقصان من طرفي المحسن والمحسن إليه، فان محبة المحسن
تكون أشد من محبة المحسن إليه: واعتبر ذلك في المقرض والمستقرض تجد المقرض أشد
محبة للمستقرض منه للمقرض وربما كان داعيا له بالبقاء وسبوغ النعمة والكفاية وإن كان
كل ذلك ليصل إلى حقه وليعود إليه ماله لا لمحبة خالصة، واما المقرض فليس له
هذه الهمة ولا ذلك الدعاء ولكن يكون شهوته إلى الاحسان ومحبته له أشد من محبة
المحسن. وإذا عرفت ذلك فمثل هذا الاحسان وإن كان قاطعا للسان الا ان قطعه ليس
بدائم ولا مستمر بل هو موقوف على دوام الاحسان، وقد يتفق لمثل هذا المحسن ان
لا تنقطع عنه الألسنة عند وقوف الخلق واطلاعهم على أن ذلك الاحسان عرضى.

(1) - ج د: " من ".
(2) - أب: " برئ انه " د: " من أن ".
185

واعلم أن الأول وإن كان هو المقصود الذاتي من الكلمة الا ان الثاني أيضا مراد،
إذ يصدق عليه انه قاطع اللسان أيضا. ثم اعلم أن الاحسان كما يقطع اللسان فهو موجب
للألفة والمحبة كما عرفت التي هي سبب لتحصيل السعادتين، وعلة لاستحقاق المنزلين،
وموجبة لمحبة الخالق والحصول في جواره المقدس كما أشير إليه في التنزيل الإلهي: والله
يحب المحسنين (1) وان الله لمع المحسنين (2) وبه يستعبد الأحرار كما يقطع السنة الأشرار،
قال الشاعر (3):
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم * فطالما استعبد الانسان احسان
وينبغي للعاقل ان يلزم محاب الله فإنه يكون محبوبا لله، وأن يكون من الكائنين مع
الله، وان يختار لنفسه ما اختاره الله لنفسه من التسمية محسنا، فمن كان مع الله فقد حصل في
جواره، ومن كان محبوبا لله فقد فاز بجميع مقاصده، ومن تخلق بأخلاق الله فقد استحق
الخلود في دار البقاء وكل ميسر لما خلق له (4).
الكلمة الحادية والثلاثون
قوله عليه السلام: احذروا نفار النعم فما كل شارد بمردود.
أقول: اسناد النفار والشرود حقيقة في النعم وقد استعملها عليه السلام ههنا
مجازا في النعم ووجه المشابهة انهما يستلزمان المفارقة في الموضعين، والمقصود من هذه
الكلمة التحذير من مفارقة النعم وهي الكمالات الخيرية بمفارقة أسبابها، والتنبيه بالسالبة
الجزئية وهي قوله: فما كل شارد بمردود، على أن النعم بعد مفارقتها قد لا تعود إليكم فان

(1) - في مواضع من القرآن منها ذيل آية 134 سورة آل عمران.
(2) - ذيل آخر آية
من سورة العنكبوت وهي (آية 69).
(3) - يريد به أبا الفتح البستي فان الشعر من نونيته
المشهورة.
(4) - هو وارد في حديث نبوي معروف.
186

الإبل الشاردة كما يجوز ان الا ترد فالواجب حينئذ ان يكونوا من نفارها على حذر ويتقوا
ما في ذلك من عظيم خطر.
فان قلت: النعم أمور موهوبة من واهبها فاسترجاعها جائز فضبطها وحفظها غير
ممكن فلا يدخل في التكليف فان كثيرا من الخلق يحافظون على أموالهم ويجتهدون في
ضبطها ولا يزيدها ذلك إلا نفارا؟ -
قلت: ليس المقصود من التحذير من نفارها والامر بحفظها هو حفظها بالجمع
والضبط بل لعل المقصود من حفظها (حفظها) بالتفريق فان الانسان إذا فرق منها
ما ينبغي ان يفرق على الوجه الذي ينبغي ان ينفق واكد ذلك السداد وأيد (1) ذلك
الاستعداد بالشكر والثناء على واهب تلك النعم بما هو أهله مراعيا (2) في ذلك قانون
العدل كان لذلك أثر (3) عظيم في اعداد النفس لقبول العناية الإلهية ببقاء تلك النعم
ودوام تلك الإفاضة، وإذا لم يفعل المنعم عليه شيئا من ذلك وخالف مقتضى العدل فيها
لم يلبث ان تنفر نفار الناقة الشرود التي يوشك ان لا تعود.
فان قلت: أليس قد قام البرهان على أن خلاف معلوم الله تعالى محال، وإذا كان
كذلك فنقول: إن كان في علم الله تعالى ان تلك النعم تنفر أو لا تنفر فلابد وأن تكون
كذلك، فما الفائدة في التحذير؟ وهل ذلك إلا جار مجرى قولك للزمن: لا تطر (4)؟! وإن كان
في علمه عكس ذلك فلابد وأن يكون، فلا يتحقق الحذر أيضا؟ -
قلت: هذا كلام (5) حق الا ان ما علم الله وقوعه أو عدم وقوعه قد يكون مشروطا
وقد لا يكون، فما كان مشروطا من ذلك فيستحيل ان يوجد من دون شرطه وان صدق
انه يعلم وقوعه لكن مطلقا بل بشروطه وأسبابه، فعلى هذا جاز أن يكون التوقي والحذر
من نفار النعم شرطا لبقائها فلهذا الجواز كان مأمورا بالحذر. بقي علينا ان يقال: انكم

(1) - ا: " ابد " (بالباء الموحدة).
(2) - ا: " فراعى ".
(3) - أب: " أمر ".
(4) - ا: " لا تطير ".
(5) - ب د: " الكلام ".
187

اعترفتم بأن المشروط لا يجب أن يكون هو كل النعم مع أنكم أوجبتم الحذر عند كل
نعمه؟ - فنقول: لما كان العبد غير مستقل وغير مطلع على أسباب الكائنات وشروطها
وكانت غير محصورة ولا متناهية في حق الجليل (1) من الخلق فضلا عن جملتهم حتى يمكن
ان يوقف (2) عليها وعلى أسبابها المفصلة لاجرم وجب ان يحذر الحذر المطلق لئلا يتوقى فيما
ليس من شرطة التوقي والحذر ويتركهما في موضع هو في الحقيقة مشروط بذلك، فإنه
إذا حذر في كل نعمة مفارقتها فزع (3) إلى حفظها بالمواظبة على أسباب الحفظ التي أشرنا
إليها جملة فتلك المواظبة وان لم تكن شرطا لاستثبات تلك النعمة فهي معدة لضروب
أخرى من النعم، وان كانت شرطا فقد صادف محله، والله ولى التوفيق.
الكلمة الثانية والثلاثون
قوله عليه السلام:
إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر.
أقول: أطراف النعم أو أوائلها، وأقصاها أو اخرها، والمقصود من هذه الكلمة التنبيه على
استدامة النعم الموهوبة بدوام الشكر وبيانه أنك عرفت أن دوام الشكر عن نية صادقة وتحريك
اللسان بالذكر عن اعتقادات صافية يستمريان (4) مزيد النعم كما يستمري الحالب الدر من الضرع
لما ان دوام الشكر وما في معناه من الابتهالات والتضرعات والتعود بها أسباب معدة للنفس لدوام
إفاضات (5) أنواع الخيرات، وإذا كان وجوده سببا لوجود النعم وبقائها واتصال أواخرها بأوائلها
كان عدمه أو قلته سببا عرضيا يكون معه نفارها قلة ثباتها وانقطاع تواترها واتساقها،

(1) - كذا في النسخ ولعل الصحيح: " الجل " أو " القليل " (2) - ا ب: " يوقفوا ".
(3) - ب ج: " فرع " (بالراء المهملة).
(4) - ج د: " يستمري ".
(5) - ج د: " إضافات ".
188

لا لقصور من مفيضها، فإنه برئ عن النقصان أجود الأجودين، فيضه تام وكرمة عام
بل لا نسبة لجود إلى جوده ولا اضافه لكرم عبد إلى كرمه بل لعدم امكان القابل لتقصيره
في السعي إلى تحصيل أسباب ذلك الامكان كالتضرع والدعاء والشكر والثناء، واما
نسبة التنفير إليهم فلأنهم بقلة شكرهم سبب للنفار بوجه عرضى كما علمت فلا جرم
نسبه إليهم.
واعلم أنه يتوجه ههنا أيضا ان نورد الشك المذكور في الكلمة التي قبلها وهو
ان ما علم الله تعالى وقوعه أو عدم وقوعه كان معلومه واجبا فلا فائدة حينئذ في الشكر والثناء
لأنك (1) قد عرفت وجه الجواب هناك وهو ان الثناء والشكر جاز أن يكون مشروطا
في الدوام والاتصال كما قررناه وقد علمت أن الشكر كيف هو سبب لاستنزال (2) المنن
الإلهية وعلة لاتصالها ودوامها واليه الإشارة بقوله تعالى: لئن شكرتم لأزيدنكم (3) والى
سببية انقطاعه وقلته لانقطاع النعم واستحقاق العذاب لتدنس النفس بالاشتغال بأضداده
والاعراض عنه أشار بقوله: ولئن كفرتم ان عذابي لشديد (4) وقال تعالى: ومن شكر فإنما
يشكر لنفسه (5) اي ان منفعة الشكر عائدة على نفسه من الاستعداد للإفاضات الخيرية
واشكروا لله ان كنتم إياه تعبدون (6) فالشكر من تمام العبادة التي بها تكون النفس طاهرة
مستحقة لرضوان الله، ومن الله الهداية إلى طلب ما يرضيه، انه ولى التوفيق
الكلمة الثالثة والثلاثون
قوله عليه السلام: أكثر مصارع العقول تحت بروق الأطماع.
أقول: يقال: صرع فلان فلانا إذا غلبه ورمى به إلى، الأرض والمصارع جمع

(1) - في النسخ: " الا انك ".
(2) - ب: سبب استنزال ".
(3) - من آية 7 سورة إبراهيم.
(4) - ذيل آية 7 سورة إبراهيم.
(5) - من آية 12 سورة لقمان وكذا من آية 40 سورة النمل.
(6) - ذيل آية 172 سورة البقرة.
189

مصرع وهو موضع الفعل، ومصارع العقول مواضع أغلاطها، وبروق الأطماع هو تصور
امكان حصول الأمور التي يتوهم الانتقاع بها فيقع الميل إلى تحصيلها والمقصود ههنا
تنبيه الانسان على وجوب التثبت عندما تلوح له المطامع حتى لا يميل فيها ولا يتضرع الا
لما ينبغي منها على الوجه الذي ينبغي ونبه عليه السلام على ذلك بأن أكثر أغلاط العقول
منشؤها ومبدؤها (1) ونزوع القوة الشهوية نحو المشتهيات بحسب اعتقاد حصولها.
وههنا تجوز ان حسنان في التركيب والاسناد، أحدهما اسناد المصارع إلى العقول
التي هي في الحقيقة للأجسام وعبر به عن انخداعها وغلطها ووقوع حركتها على غير قانون
صحيح ووجه المناسبة في هذا المجاز ان العقول إذا لم تثبت على الصراط المستقيم
ولم تلزم قانون العدل المأمور بلزومه بلسان الحق بل مالت بها الشهوة تارة والغضب تارة
ولعبت به القوة الوهمية فأزالت أقدامها عن حاق (2) الوسط إلى طرف (3) الرذيلة التي
هي أرض ونار بالنسبة إلى سماء فضيلة العدل وجنتها فلا جرم صدق عليها انها مصروعة
وان لها مصارع.
والثاني نسبة البروق إلى الأطماع واسنادها إليها.
واعلم أن البرق في الأصل هو اشتعال اللامع المشاهد من السحاب ولنعين حقيقته
لينكشف بها وجه المجاز، فنقول: ان الدخان المرتفع من الأرض جسم لطيف من مائية
وأرضية عملت فيها الحرارة والحركة المازجة عملا قويا فقرب لذلك مزاجه من الدهنية
فهو لا محالة يشتعل بأدنى سبب مشعل فكيف بالحركة الشديدة فإذا اشتعلت تلك المادة
من شدة المحاكة عند تمزيق السحاب كان ذلك الاشتعال هو البرق وإذا عرفت ذلك
وقد عرفت ان الطمع هو نزوع القوة الشهوية إلى تحصيل المشتهيات بحسب التصور
للمنفعة واللذة واعتقاد حصولها وكانت التصورات لا تفاض على النفس الا بعد

(1) - ب ج د: " منشأها ومبدأها ".
(2) - ا: " خان " ب: " خاف " د: " حاف " (بالحاء المهملة).
(3) - وكذا ولعل الصحيح: " طرفي ".
190

تهيئتها واستعدادها لقبولها من الفاعل عزت قدرته جرى ذلك الاستعداد وقبول النفس
به (1) لاشراق تلك التصورات عن مشرقها مجرى استعداد تلك المواد وقبولها بحسبه
للاشراق بذلك الاشتعال فكما ان ذلك الاشتعال والاشراق المخصوص من السحاب
سبب محرك لشهوات الخلق وأطماعهم إلى نزول المطر كذلك اشراق تلك التصورات
ويروقها في سر الطامع مبدؤ محرك لقوته الشهوية إلى المشتهيات فلأجل هذه المشابهة صح
اسناد البروق إلى الأطماع.
واما برهان هذه القضية فظاهر بعد احاطتك بالأصول السابقة وذلك انك
عرفت ان سبب وقوع النفس وتورطها في الرذائل المستلزمة للنقصان هو انحراف إحدى
القوتين أعني الشهوية والغضبية ومتابعة العقل لها وميلها به إلى مقتضى طباعها من طرفي
الافراط والتفريط مما هو المعنى بمصارعه. وههنا دقيقة وهي (2) انه عليه السلام خصص
المصارع بجهة
تحت دون سائر الجهات وذلك من أوضح (3) الدلائل على اطلاعه على
نكت الاسرار ومعرفته التامة بنظم الكلام ووجوه المجازات المستحسنة.
إنما خصصها بتلك الجهة لاحد وجهين:
أحدهما - ان مصارع العقول من مسببات (4) بروق الأطماع والمسبب أدون من
السبب والسبب والسبب أعلى والمسبب تحت بالنسبة إليه وليست الجهة الجهة الحسية بل
الجهة العقلية.
الثاني - ان بروق الأطماع لما كانت علامات للطامع على حصول المنفعة واللذة
حتى لزم عن ذلك أن انصرع عقله كانت بروق الأطماع دلالا ت (5) على مصارع العقول
ولا شك ان الدليل أظهر من المدلول واعلى في الذهن واسبق وجودا منه فينبغي أن تكون
مصارع العقول التي هي المدلول تحت بالنسبة إلى دليلها، والله ولى الهداية والتوفيق.

(1) - كذا ولعل الصحيح: " له " (2) - أب: " هو ".
(3) - ا: " أفصح ".
(4) - ا: " حنيات ".
(5) - ج: " دالة ".
191

الكلمة الرابعة والثلاثون
قوله عليه السلام: من أبدى صفحته للخلق (1) هلك.
أقول: صفحه الشئ جانبه وأبدى اي، أظهر، والهلاك في الأصل السقوط
وكل ساقط عن حالة (2) هي في نفس الامر كمال وخير فهو هالك واعلم أن لهذه
الكلمة في كلامه عليه السلام تتمة توضح معناها وهي: من أبدى صفحته للخلق (3) هلك
عند جهلة الناس، وحينئذ يلوح لك ان المقصود من جود نفسه لمقابلة الجهال من
الخلق الذين لا يعرفون قدر نفوسهم وما هي عليه من رذيلة الجهل والنقصان اللازم لها
وزحمهم (4) بجانبه في اظهار الحق ونصرته وشهر سيف العصبية (5) عليهم فيه وحملهم على
ركوب طريق (6) العدل من غير أن يشوب تلك الخشونة بلين ويخلط تلك الصعوبة
بهون هلك فيما بينهم فلم يلتفتوا إليه وضاع فلم يقبلوا عليه لجهلهم (7) بقدر الحق وعدم
اطلاعهم على المقاصد التي ينبغي ان تسلك وتعودهم بارتكاب أضدادها ذلك بل نفروا
منه وأبغضوه وعادوه لمخالفة (8) أكثر الخلق (9) الذي ألزمهم به لاغراضهم الفاسدة وربما
أدى ذلك إلى قتله وإفنائه أو اجتلاب (10)
أنواع الأذى عليه بسبب قوة الأذى الحاصل
لهم من تطعم (11) مرارات الحق وضعفه بالنسبة إلى اشخاص الجهال ونفارتهم (12) في قبول
الحق وعدم قبوله. وهذه الكلمة من أظهر الدلائل على أنه عليه السلام كان أعرف الناس بوجوه
التدبير وأحسنهم إيالة وانه كان مقتدرا على اصلاح الدارين متسع القوة للجمع بين الأطراف

(1) - ج د: " للحق ".
(2) - أب: " عن حاله " (بالإضافة إلى الضمير).
(3) - د: " للحق ".
(4) - ج د: " رحمهم ".
(5) - ج د: " الغضبية ".
(6) - أب: " الطريق ".
(7) - بجهلهم ".
(8) - ج د: " لمخارقة ".
(9) - ا ج د: " الحق ".
(10) - ب ج د: " واختلاف ".
(11) - ب: " طعم ".
(12) - ب ج د ل: " وتفاوتهم ".
192

المتجاذبة إذ كان معلما بهذه الكلمة انه كيف ينبغي ان يستعمل الانسان اظهار الحق فإنه
لما ثبت ان الكاتم للحق الغير العامل به بالكلية مع تمكنة من استعماله في بعض موارده
أو في كلها هالك فكذلك ينبغي ان يعلم أن المجاهر بالحق بالكلية والمقابل له أباطيل
الجهال وأغراضهم الفاسدة هالك، فلم تبق السلامة الا في مزج الاظهار بالاخفاء وخلط -
المجاهرة بالرفق وضرب الخشونة باللين والترخيص (1) لهم بالسكوت عنهم عند شوب الحق
بالباطل مرة والعزم عليهم والقيام في وجوههم في نصرة الحق مرة بحسب ملاحظة العقل (2)
للمصالح الجزئية المتعلقة بشخص شخص ووقت وقت، والله ولى التوفيق.
الكلمة الخامسة والثلاثون
قوله عليه السلام: إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة.
أقول: الاملاق الفقر والحاجة، والمتاجرة المعاملة في التجارة والمقصود في هذه
الكلمة الحث على العبادة المخصوصة التي هي الصدقة عند الاحتياج بما يمكن فان للصدقة
ولو بشق تمره حظا عظيم النفع في الدارين وبها تحصل الأعواض التي لا تقابل بالشكر
ولا يحصيها العد والحصر.
اما في الأولى (3) فلان المملق المحتاج إلى التيسير من العيش يكون في الغالب
شره النفس محافظا على ما يحصل في يده لشدة حاجته إليه وخوفه ان لا يقدر على مثله فإذا
فرضنا انه يتصدق به أو ببعضه (4) مع ما به من الحاجة إليه دل ذلك منه على اشتماله على
ملكة العفة التي عرفت ان بها يكون استعداد النفس لاستجابة ثمرات الأدعية وقبول -
ابتهالاتها في المطلوبات الممكنة. وأيضا فان النفوس إلى مثل صاحب هذه الصدقة كثيرة -
الانجذاب، والميول الطبيعية إليه متداعية وخاصة إذا عرف بذلك واشتهر به فكثيرا ما

(1) - اج: " الترخص ".
(2) - ب: " الحق ".
(3) - ب: " الأول ".
(4) - ج د: " يصدق به أو ينفق ".
193

يكون ذلك أيضا سببا لادرار الأرزاق عليه وعلة لدفع (1) الصلات (2) والمنح إليه، وقد
علمت أن من تاجر الله لم يخسر.
واما في الأخرى فلان صاحب هذه الصدقة مع ما فرضنا (3) من حاجته إليها إذا
بذلها كان ذلك دليلا على معرفته بأنه لا متاجرة أربح من متاجرة الله وذلك مستلزم
لمعرفته بالله ومع ذلك فقد استعدت نفسه بسبب قهرها للقوة الشهوية وضبطها لها عن
الضنة بما بذله مع حاجته إليه ومقاومتها وكسرها عن الشره (4) في المشتهيات لقبول أنوار
عظيمة ونعم جسيمة لا يقاومها شكر، واليه الإشارة بقوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا
مما تحبون (5) وقوله تعالى: ان تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور
حليم (6) وقوله تعالى: وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (7) وأمثال
هذه الإشارات كثيرة في القرآن والسنة، ومع ذلك فان فيها من تحصيل الانس الموجب
للمحبة بين الخلق المطلوبة منهم بالعناية الإلهية لتحصيل السعادتين واستكمال درجة الفوز
ما لا يخفى، والله الموفق.
الكلمة السادسة والثلاثون
قوله عليه السلام: من جرى في عنان أمله عثر بأجله.
أقول: أراد بالجري في عنان الامل تطويل الآمال المستلزمة لقلة الالتفات
إلى القبلة الحقيقية والمطالب العلية، والعثور بالأجل الوقوع في الوقت الذي علم الله تعالى
فيه مفارقة النفس للبدن (8) وهي الضرورة المسماة بالموت، فأسند عليه السلام العنان إلى

(1) - ب: " لرفع ".
(2) - ا: " الضلات " (بالضاد المعجمة).
(3) - ب: " فرضناه ".
(4) - ب: " الشرة ".
(5) - صدر آية 92 سورة آل عمران.
(6) - آية 17 سورة التغابن.
(7) - ذيل آية 60 سورة الأنفال.
(8) - ب ج د: " البدن ".
194

الامل تشبيها له بالفارس المطلق عنان فرسه، والعثور إلى الاجل تشبيها له بما يعثر به الانسان
من حجر أو خشب، وكل هذه تجوزات حسنة في الاسناد لطيفة المشابهة، فان حركة القوة
الشهوية إلى المشتهيات (1) لاعتقاد حصولها تشبه جرى الفرس، وكون النفس هي المستعملة
لتلك (2) القوة والمصرفة (3) لها يشبه الركوب للفرس، الا ان هذه القوة فرس
عقلية، وقدرة النفس على ضبط تلك القوة مع عدم ضبطها مشبه لاطلاق عنان الفرس
ونسبه الجرى إليه نسبة صادقة فان الفارس تنسب إليه الحركة والجرى وان كانت نسبة
عرضية والحركة الذاتية للفرس كذلك الجاري في عنان امله تنسب إليه الحركة الا
انها لقوته الشهوية بالذات ولقوته العقلية بالعرض، وكون الجاري في عنان الامل واقعا
في الضرورة المذكورة التي لا بد منها يشبه وقوف (4) رجل (5) الجاري في حجر أو خشب
يقع بسببه المسمى ذلك عثارا إذ (6) كانا معا مستلزمان لأذى من يقع فيه، وبعد معرفتك
بهذه التجوزات وحسن وجوهها تجد المعنى من هذه الكلمة ظاهرا.
واما تخصيص هذا الحكم الذي هو غاية كل انسان بل كل حيوان بمن جرى
في عنان امله دون غيره ممن يستقصر الآمال ويستصغر الدنيا فليس لأجل ان من استقصر
الامل خارج عن هذا الحكم بل لتنبيه مطيل الامل الغافل بسبب ذلك عما يراد به وما هو
مطلوب من وجوده وايقاظه من رقدة الغافلين على أن المطلوب منه ليس ما يخوض فيه
بالجري في (7) التماس أمثاله فان ذلك لابد من زواله والعثور بضرورة الموت اللازمة
للحيوان فينبغي ان يجرى الامل على القانون العدلي المطلوب بلسان التنزيل الإلهي والسنن
النبوية ويجعل الحظ الأوفر من الالتفات لما وراءه من تحصيل السعادات الباقية والخيرات
الدائمة، والله يؤتى كل ذي استعداد من الفضل أتمه، وهو الموفق.

(1) - ج: " إلى المسترعيات " د: " النزعيات " فلعل النسختين: " المستدعيات " أو " الرغبات ".
(2) - ا: " بتلك ".
(3) - ج د: " المفرقة " (بلا واو أيضا).
(4) - كذا ولعل الصحيح: " وقوع ".
(5) - كذا.
(6) - ا: ان " ج د: " إذا ".
(7) - ا: " من ".
195

الكلمة السابعة والثلاثون
قوله عليه السلام: لا تتكل على المنى فإنها بضائع النوكى.
أقول: المنى جمع منية وهو الشئ المتمني كقوله: ان سعدى لمنية المتمني، والبضائع
جمع بضاعة وهي البعض من المال تبعثه (1) للتجارة، والنوكي جمع أنوك وهو الأحمق،
والمقصود من هذه الكلمة النهى عن اشتغال النفس بتمني الأماني فان ذلك الاشتغال
قد يعرض ولا يزال يتزايد حتى يكسب النفس ملكة الوسواس والالتفات عن الانتقاش بنور
الحق وسواد لوح الخيال عن قبول المنامات الصافية والالهامات الخالصة. ثم إنه عليه السلام
نبه على قبح ذلك بان ذلك بضائع الحمقى لتنفر نفوس العقلاء عن اقتناء هذه البضاعة
واتخاذها في تجاراتهم إذ كان العاقل لا يرضى لنفسه تصرفات الأحمق وحركاته.
واما اطلاقه عليه السلام البضاعة على المنى فاستعارة حسنة فان ناقصي العقول
الذين ليس لهم ملكة الانتقال إلى المعقولات الثانية الناقصين في استعدادهم لاصلاح معاشهم
ومعادهم في أكثر الأحوال طالبون (2) لمتخيلاتهم الغائبة أو الغير الممكنة الحصول متمنون
لها عن تخيلاتهم القاصرة عن ضبط القوة الصادرة عنها قواهم العقلية اما لضعفها وقوة
سلطان الوهم عليها أو لاختلال تلك القوى وقلة صلوحها لتدبير العقل وتصريفه فكأنها
حينئذ بضائع لهم ينتظرونها فكما يتوقع التاجر وصول البضاعة التي بعث به للتجارة
ومكاسبها كذلك تجد هؤلاء متوقعين متمنين لما يتخيلونه من ضروب اللذات وأنواع
المشتهيات ويقطعون بذلك أزمانا حتى ربما صدتهم تلك الأماني عن اشغال مهمة لهم
فضلا عما يعنيهم من أمر الدين وما يجب عليهم من الأمور المقربة إلى الله تعالى فينبغي للعاقل
إذا عرف سر هذه البضاعة وما تؤدى إليه من الخسران ان يعرض عنها إلى استنصاع (3)

(1) - ج د: " ينبعثه ".
(2) - ا: " الطالبون ".
(3) - ا: " استبصاع " ج: " اصطناع ". د: " اصطباع.
196

فكره في استفادة الجواهر العقلية وارباح النفائس النفسية (1) فان ذلك هو التجارة الرابحة
ويهرب من متابعة شيطانه في تحسين البضائع المذكورة له فان من كان تلك بضاعته لم يصبح
ليله الا وهو في أسر الشيطان وصفقة الخسران، ولم تزل عين بصيرته عن ادراك الحقائق
خاسرة، ويد عقله عن تناول فواكه الجنة قاصرة، يا ويلتا ليتني لم اتخذ فلانا خليلا *
لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا (2)، والله ولى العصمة.
الكلمة الثامنة والثلاثون
قوله عليه السلام: لا شرف أعلى من الاسلام.
أقول: الشرف العلو، والاسلام في اللغة الانقياد، وفى الشريعة الانقياد بحسب
الأوامر والنواهي الشرعية وتلقيها بالقبول والطاعة والعمل بمقتضاها بحسب الجهد
والطاقة، وقد عرفت ان الغاية القصوى منه إنما هو الوصول إلى الواحد الحق والحصول
في المقعد الصدق، وان ذلك الوصول والحصول موقوف على جلاء مرائي الناقصين من
درن (3) الباطل حتى تصفو وجوه ألواحهم وتستعد لقبول الانتقاش بالجلايا وعرفت ان
ذلك الجلاء والصفاء لن يحصل الا بزوال المانع منه وذلك المانع اما خارجي واما
داخلي، اما الخارجي فهو تنحية ما سوى الحق الأول عن سواء السبيل، وحذفه عن درجة
الاعتبار، وتنزيه السر عن الاشتغال به عن الحق، وذلك هو الزهد الحقيقي، واما الداخلي
فهو تطويع النفس الامارة بالسوء للنفس المطمئنة لتزول دواعي الشيطان إلى خيبة (4)
الخسران ويخلص سر الانسان لقبول الرضوان وقد عرفت كيفية ذلك التطويع وأسبابه
وغايته، والجامع الاجمالي لإزالة الموانع قوله تعالى: وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس

(1) - ج د: " النفيسة ".
(2) - آية 28 و 29 سورة الفرقان.
(3) - ا ج: " دون ".
(4) - أب: " جنبة ".
197

عن الهوى (1) فخوفه ما عداه، ونهيه لنفسه قهره لقواه، حتى إذا تخلى عن هذه الموانع
لبه تجلى (2) حينئذ بنور قدس الحق قلبه.
لا يقال: لا نسلم أن هذا هو الاسلام فانا نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه
وآله كان يحكم باسلام من أظهر الشهادتين وعمل بالأركان وان لم يكن له شئ مما ذكرتم فان
واحدا من الاجلاف الجافين (3) من الاعراب الذين (4) يقدمون ويظهرون الاسلام لا يتصور (5) شيئا مما ذكرتموه. وأيضا فلو كان الاسلام هو الذي ذكرتموه لما كان في الخلق مسلم الا
افرادهم وذلك باطل بالاتفاق لأنا نقول: الاسلام له معنيان ظاهري وحقيقي والذي
ذكرناه وبحثناه إنما هو الحقيقي والذي ذكرته هو الاسلام الظاهري ولا شك فيه وفى
تسمية صاحبه مسلما الا ان قول الاسلام عليهما بحسب الاشتراك اللفظي لتباين المعنيين
فصاحب الاسلام الظاهري وان سمى مسلما الا ان اسلامه غير منتفع به وليس اسلامه ذاك
هو الذي لاشرف أعلى منه قال صلى الله عليه آله: ان الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم
ولكن ينظر إلى قلوبكم، الا انه لما كان مظنة أن يكون وسيلة الاسلام الحقيقي وطريقا
إليه وجب اتخاذه (6) والمشاركة بين صاحبه وبين المسلم الحقيقي في الاسم والحكم، قال
(ص): الرياء قنطرة الاخلاص. وقال (ص): من رتع حول الحمى أوشك ان يقع فيه،
فلا منافاة إذا بين القولين.
وإذ عرفت ذلك ظهر لك ان شرف الاسلام أكمل أنواع الشرف فان الشرف
الحقيقي للانسان إنما هو كمال جوهر نفسه وصيرورته عقلا مستفادا الذي هو الاسلام الحق
لا الكمال الوهمي من مال أو جاه أو انتساب إلى كرم أصل فإنك قد عرفت ان الفخر
والشرف بأمثال ذلك مما لا ينبغي ان يعتد به لفقد الكمال في المفتخر والمتشرف وخلوه
منه وذلك سر قوله عليه السلام: لا شرف أعلى من الاسلام، والله ولى التوفيق.

(1) - آية 40 سورة النازعات.
(2) - أب: " تحلى " (بالحاء المهملة).
(3) - د: " والجافين ".
(4) - أب د: " حين ".
(5) - في جميع النسخ: " لا يتصورون ".
(6) - اتحاده " (بالحاء والدال المهملتين).
198

الكلمة التاسعة والثلاثون
قوله عليه السلام: لا شفيع انجح من التوبة.
أقول: عرفت معنى الشفيع، والنجاح الظفر وقد يراد به الصواب من قولهم:
رأى نجيح اي صواب، والتوبة الاقلاع عن الذنب ويعتبر في تحققها ثلاثة قيود،
أولها - ترك الفعل في الحال، والثاني - الندم على الماضي من الافعال. والثالث - العزم
على الترك في الاستقبال، وقد استعمل عليه السلام لفظ الشفيع على المعنى المسمى بالتوبة مجازا
من باب الاستعارة، ووجه المناسبة ان الشفيع كما يقصد ليكون وسيلة إلى استسماح (1) الجريمة
كذلك التوبة عن المعصية يقصد ليكون وسيلة إلى سقوط الجريمة وعدم لحوق العقاب عليها
ويكاد حسن هذا التشبيه يلحق هذا المجاز بالحقيقة حتى تكون التوبة من جملة أشخاص الشفعاء
التي اطلق (2) عليها لفظ الشفيع بحسب الوضع والمقصود ان التوبة اظفر شفيع بقضاء المطلوب
من كل شافع وذلك باطباق العلماء على أنها لا ترد، اما المعتزلة فيوجبون اثرها على الله،
واما الحكماء فيوجبون اثرها من الله، وإذا حقق مذهب أبي الحسن الأشعري رجع إلى
المذهب الثاني وان قال اثرها بفضل (3) من الله إذ (4) كان استقصاء مذهبه يعود إلى أن
ذلك التفضل فيض العناية الإلهية للرحمة على نفس استعدت بالتوبة للقبول وذلك في
الحقيقة واجب من الله.
واعلم أن من جزالة هذا اللفظ مع وجازته انك مخير في حمل لفظ النجح فيه
على اي معانيه الثلاثة (5) شئت (6)، اما الأول فقد عرفته. اما بمعنى السرعة فلانه

(1) - د: " استماح ".
(2) - يطلق ".
(3) - كذا في ب ج د، وأما نسخة ا فالعبارة فيها هكذا اثرها من الله ".
(4) - ب: " إذا ".
(5) - ب: " الثلاث ".
(6) - في النسخ: " سبب ".
199

لا وسيلة إلى حصول الشفاعة أسرع من التوبة إذ كانت النعمة المفاضة على العبد المذنب
من ربه غير موقوفة الا على قبوله واستعداده بتحققها. واما بمعنى الصواب فلانه
لا شفيع أصوب في قبول الرحمة من
واهبها من التوبة إذ كان التوسل بغيرها من بذل مال
أو نفس في مجاهدة ظاهرة أو غير ذلك مع الاصرار على المعصية وعدم التوبة منها غير نافع
ولا مخلص من العذاب الحاصل بسببها فالتوسل بها إذا أصوب رأى يراه صاحب الجريمة
وقد أكثر الله تعالى في تنزيله من الحث عليها والامر بها ومن وعد التائب وحمده إذ كانت
التوبة سببا عظيما من أسباب السعادة الأبدية وبها النجاة من أغلال الهيئات المردية فقال
عز ذكره: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا (1) بترك محقق وندم صادق
وعزم جاز عسى ربكم ان يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار (2)
إرجاء واطماعا من غير جزم ايقاعا للذة الدغدغة النفسانية الحاصلة من الرجاء كيلا -
ييأسوا من رحمته فينهمكوا في المعاصي بجرأة (3) وبقاء للخوف الناشئ من الوعيد عليها
بالاشفاق فيتقهقروا عنها بسرعة، وقال تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة
ثم يتوبون من قريب (4) قبل ان يتمكن من جواهر نفوسهم عقارب أبدانها فلا يبقى لها
قبول اثر دواء طبيب الأطباء ولا يرجى لها برء ولا شفاء، وليست التوبة للذين يعلمون
السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الان ولا الذين يموتون وهم كفارا،
الآية (5).
وفى هذه الكلمة تنبيه باعث على المبادرة إلى التوبة إذ كان الجاني إنما يجتهد في
انجح وسيلة لاستسماح جريمته وتنجيز أظفر شفيع لاستغفار خطيئته ويبالغ في أحسن الاعذار
لمحو سيئته وقد ثبت ان التوبة أعظم شفيع وأنجحه وأسرعه وانفعه فيما ان بقي كان مهلكا

(1) صدر آية 8 سورة التحريم.
(2) - من بقيه آية 8 سورة التحريم.
(3) ب: " بجراءة.
(4) - صدر آية 17 سورة النساء وذيلها: " فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله حكيما عليما ".
(5) - آية 18 سورة النساء.
200

شر هلاك فيجب على صاحب الجريمة عن يحرص عليها ولا يقصر في المبادرة إليها ويستغنم (1) فرصة المهل ولا يسوف في الامل فيقع في خطر فوات العمل بحلول الاجل فيكون وجوده
عدما له وشرا وحياته موتا وضرا، والله ولى التوفيق للصواب.
الكلمة الأربعون
قوله عليه السلام: لا لباس أجمل من العافية.
أقول: اللباس بكسر اللام ما يلبس من ثوب وغيره محسوسا كان أو معقولا إذ
يقال: لبس فلان الامر الفلاني وتلبس به إذا دخل فيه، والجمال الحسن والبهاء، والعافية
السلامة من كل مكروه من قولهم: أعفي من كذا وعوفي منه إذا لم يصب به والمقصود
بيان أفضلية الجمال الحاصل من لباس العافية على غيره من أنواع الجمال وهذه القضية
ضرورية وجدانية فان كل عاقل يجد من نفسه ان ملائمة الكمال الحاصل من التجمل
بثوب أو غيره من أنواع الجواهر لطبعه مستحقر في جانب لذته بحصول العافية عن (2)
حمى يوم و (3) التجمل بلبسها فضلا عما هو أفضل من ذلك كالعافية من الذم أو استحقاق
العقاب أو غير ذلك.
فان توهم متوهم وقال (4) عن وهمه: التفاوت في الجمال إنما هو بحسب التفاوت
في الخيرية واللذة ونحن نجد ان اللذة بجمع الأموال وغلبة الرجال والمباضعة أتم من
اللذة بالعافية التي نحن فيها؟ -
فجوابه من وجهين
اما لأول - فلان كل ما زعمت أنه لذيذ فلذته بالحقيقة عافيته من بلاء الألم

(1) - كذا ولم أجد استعماله في كتب اللغة فلعله: " يغتنم ".
(2) - ا: " من ".
(3) - ب: " أو ".
(4) ج د: " متوهم مال ".
201

الحاصل من فقد ذلك اللذيذ وراحته بالنسبة إلى التعب الحاصل من طلبه
واما ثانيا فلان من شرط الالتذاذ حصول اللذيذ مع الشعور بوجه الالتذاذ لكن
الشعور غير حاصل لذي العافية بالكمال الذي هو العافية فان استمرار المحسوسات
واستقرارها يذهل النفس عن ادراكها فان أردت التنبه لشرف هذا الكمال فانظر إلى
طويل المرض عند الرجوع إلى الحالة الطبيعية وحدوث العافية عليه بسرعة غير خفية
التدريج كيف يجد اللذة التامة الصادقة بل ربما حصل اللذيذ فكره كما يكره بعض
المرضى الحلو فضلا عن أن لا يكون إليه باعث شوق ولا يقدح ذلك في كونه لذيذا لأنه
ليس بكمال بالنسبة إلى ذلك المريض في حاله تلك إذ ليس بشاعر به بالحس من حيث
هو كمال وخير وذلك يبين صحة ما قلناه، وفى دعوات الأئمة رضوان الله عليهم: اللهم إني
أسالك العافية وتمام العافية، والشكر على العافية يا ولي العافية، اللهم إني أسالك عافية
الدنيا من البلاء وعافية الآخرة من الشقاء، فقد ظهران العافية أجمل لباس وأحسن شعار
أفيض على الناس، والله ولى التوفيق.
الكلمة الحادية والأربعون
قوله عليه السلام: لا صواب مع ترك المشورة.
أقول: الصواب الإصابة في الأمور التي تفعل، والمشورة طلب الرأي المحمود من
الأوداء والنصحاء وغيرهم في ترجيح أحد الأمور المحتملة في ذهن المستشير أو تأكيدها
وبيان ان المصلحة في أيها تكون؟ واما علة هذا السبب الكلى فمن وجهين،
الأول - ان الانسان لما كان بحيث لا يمكن استقلاله وحده بأمور معاشه ومعاده لحاجته
الضرورية إلى ما لابد منه من غذاء ولباس ومسكن وغير ذلك وكانت هذه الأمور كلها أمورا
202

صناعية لا يمكن ان يقوم بها صانع واحد الا في مدة لا يمكن ان يبقى بدونها أو يتعسر
ان أمكن بل لابد من جماعة يتشاركون ويتعاونون على تحصيل تلك المنافع ويتعارضون
ويتعاوضون وكان هذا التعاون لا يتم الا ان بان يكون بينهم انس طبيعي قضاء للعناية
الإلهية بهذا العالم ومنه اشتق اسم الانسان في اللغة فواجب على الانسان إذا ان يكتسبه
مع أبناء الجنس ويحرص عليه بالجهد والطاقة ولأنه أيضا مبدأ المحبة الواجبة التي هي
سبب السعادتين إذ كان كل شخص يرى كماله عند الاخر فلولا ذلك لم يتم السعادة بينهم
فيكون كل انسان بمنزلة عضو من أعضاء البدن وقوام الانسان بتمام بدنه، وإنما وضعت
الشريعة والعادة الجميلة اتخاذ (1) الدعوات والاجتماع في المأدبات (2) لتحصيل هذا
الانس بل لعل الشريعة إنما حثت الناس على الاجتماع في المساجد وفضلت صلاة
الجماعة على الصلاة المنفردة ليحصل لهم هذا الانس بالفعل إذ كان حاصلا فيهم بالقوة،
ثم يتأكد فيهم بالاعتقادات الصحيحة الجامعة لهم وينبهك على أن مطلوب صاحب
الشريعة صلى الله عليه وآله ذلك أنه أوجب على أهل المدينة كلهم ان يجتمعوا في كل
أسبوع يوما معينا في مسجد يسعهم ليجتمع أيضا شمل المحال والسكك كما اجتمع أهل
الدور والمنازل في كل يوم، ثم أوجب ان يجتمعوا في كل سنة مرتين في مصلى بارزين
مصحرين ليجمعهم المكان ويتزاوروا ويتجدد الانس بين كافتهم ويشملهم المحبة الناظمة
لهم. ثم أوجب بعد ذلك أن يجتمعوا من البلدان في العمر كله مرة واحدة في الموضع
المقدس بمكة ولم يعين من العمر وقتا مخصوصا ليتسع لهم الزمان فيجتمع أهل المدن
البعيدة كما اجتمع أهل المدينة والواحدة ويصير (3) حالهم في الانس والمحبة وشمول الخير
وإفاضة الرحمة والسعادة بحسب انفعالات نفوسهم واستعدادها الصادرة عن ذلك الاجتماع
على غاية من الكمال لا يحصل لهم بدونه وكان هذا الانس لا يتم الا بالحديث المستطاب

(1) - ب: " اتحاد " (بالحاء والدال المهملتين) ج د: " ايجاد " (بالجيم والدال " ولعله: " الإجابة ".
(2) - ا: " الماديات " ج د: " المناديات " لكن المأدبة جمعها المعروف " المآدب ".
(3) - ا: " تصير ".
203

بالمشاورة في الأمور والاطلاع على بعض الاسرار التي لا تضر إذاعتها ليتم بذلك أنس
المستشار وتسكن نفسه ان لو كان لها نفار وتنبسط ولا تنقبض قال عز من قائل تأديبا لنبيه
بالأدب الجميل: وشاورهم في الامر (1) ولتوسع (2) المفاكهة (3) المحبوبة والمزاح المستعذب
الذي يقدره العقل حتى لا يتجاوز إلى الاسراف فيها فيسمى ذلك الاسراف مجونا وفسقا
وخلاعة وشبهها من أسماء الذم، ولا يقصر فيه فيسمى ذلك القصور فدامة (4) وعبوسا
وشكاسة وما أشبهها من طرف التفريط المذموم بل يتوسط بينهما فيسمى ذلك المتوسط
ظريفا معاشرا هشا بشا، وإذا عرفت ان المشورة من اجل أسباب تحصيل الانس المطلوب
من الخلق عرفت انها مطلوبة.
ثم إنه عليه السلام نبه على وجوب اتخاذها والمواظبة عليها بأنه لا صواب في
فعل يفعل بدونها لما ان تصرفات الخلق اما أقوال أو أفعال، وإذا كان الجميع موقوفا
على المشورة بأمره وإشارته فلابد وان يستجيبوا عند دعائه لهم إليها فتارك المشورة إذا
مخطئ إذ ضيع سببا عظيما من أسباب الفضائل التي يجب طلبها، والمخطئ غير مصيب
فتارك المشورة غير مصيب وان تصور بصورة المصيب.
الثاني - ان تارك المشورة في أموره غير مصيب في أغلب أفعاله ومقاصده فهو إذا أخطأ
كان ملوما ولعله يكون مأثوما، إذ كان المستشار العاقل كثيرا ما يكون مطلعا على وجوه من مصالح
ذلك الفعل المستشار فيه اما بحسب تجربته أو بحسب قوة عقله وجودة حدسه بحيث لا يكون مثل ذلك
الاطلاع حاصلا للمستشير والسبب الأكثري في الغلط ان الوهم الانساني في غالب الأحوال
وأكثرها لابد وان يحكم بترجيح أحد طرفي الامر المتردد فيه المطلوب فيه الاستشارة بغتة (5) قبل مراجعة
العقل وإنما كان الصواب في الطرف الآخر عند الفكر والتحديق فإذا (6) فعل بين (7) له بعد ذلك

(1) - من آية 159 سورة آل عمران.
(2) - ب ج د: " ولتوضح ".
(3) - ا: " المكافهة "
(4) - يقال: " فدم الرجل فدامة وفدومة كان فدما وهو العيى عن الكلام في ثقل ورخاوة وقلة
فهم وفطنة ".
(5) - ا: " بعثه " ج د: " بعينه ".
(6) - ج د: " وإذا ".
(7) - ب ج د: " تبين ".
204

عن قريب أو بعيد خطاؤه وانه قد ضيع حزما واتبع هواه، ولو فرض ان مطلوبه حصل
لم يعد أيضا في عرف العقلاء مصيبا، إذ كان كالسالك لطريق كثيرة المخاوف غير عالم
بمراحلها ومنازلها وغير مطلع على آفاتها ومخاوفها فهو لا يدرى على ما يقدم فإذا وصل إلى
غايته من ذلك السلوك سالما فان أحدا من العقلاء لا يقول: انه مصيب بل يطبقون على
ذمه وتوبيخه ويعدونه متهورا مغرورا بنفسه (1) مضيعا لها، وذلك بخلاف حال المواظب
على المشورة فإنه يعد في عرف العقلاء مصيبا وان لم يحصل مطلوبه، إذ كان كالسالك
لسبيل يعلم أحوالها وانها آمنه فيتفق له عند سلوكه لها لص اتفاقا فان أحدا من العقلاء
لا يقول: انه مخطئ (2) في سلوكه لها.
وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب الاستشارة فان كلمة العقلاء قد تطابقت على
ذم تاركها ومدح طالبها، وان الأول مخطئ وان أصاب، وان الثاني مصيب وان خاب،
واتفقوا على أنه يجب على كل ذي حزم (3) مراجعة من هو فوقه أو دونه في المنزلة فان الفضل
لن يكمل (4) لاحد ولن يختص به أحد وان الرأي الفرد لا يكتفى به في الأمور الخاصة
ولا ينتفع به في الأمور العامة، واتفقوا على مدح الرأي الصائب وتفضيل صاحبه ووجوب
الاستعانة به في الأمور وذلك لشدة عقليته (5) لها وحسن استنباطه للرأي فيما ينبغي ان
يفعل من الأمور المصلحية وفى هذا المعنى يقول أبو الطيب المتنبي، شعر:
الرأي قبل شجاعة الشجعان * هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة * بلغت من العياء كل مكان
ومن أمثال العرب في مدح الرأي قوله عليه السلام: رأى الشيخ خير من مشهد

(1) - يقال: " غرر بنفسه = عرضها للهلكة.
(2) - ا: " محظ ".
(3) - ب ج د:
" على ذي الحزم ".
(4) ج: " لم يكمل " د: " لا يكمل ".
(5) - ج د: " عقليه ".
205

الغلام (1) وفى مدح ذي الحزم والتجربة والآراء الصائبة قولهم: قد حلب فلان الدهر
أشطره (2) اي قد اختبر الدهر شطرين من خير وشر، ومنها قولهم في نعت الحازم أيضا: إذا
تولى عقدا أحكمه (3) قال الشاعر:
وما عليك ان أكون أزرقا * إذا تولى عقد شئ أوثقا
والأمثال والشعر في هذا المعنى كثير، والله ولى التوفيق.

(1) - قال الميداني في مجمع الأمثال (ص 254 من طبعة إيران): " رأى الشيخ خير من
مشهد الغلام، قاله أمير المؤمنين علي عليه السلام في بعض حروبه ". قال الرضى (ره) في
باب الحكم من نهج البلاغة " وقال عليه السلام: رأى الشيخ أحب إلى من جلد الغلام،
ويروى من مشهد الغلام " وقال شارح الكلمات (ابن ميثم) رحمه الله في شرحه (ص 590
من الطبعة الأولى من شرح نهج البلاغة): " جلده قوته وقد مر ان الرأي مقدم على القوة
والشجاعة لأصالة منفعته، وإنما خص الرأي بالشيخ والجلد لان كلا منهما مظنة
ما خصه به فان الشيخوخة مظنة الرأي الصحيح لكثرة تجارب الشيخ وممارساته للأمور،
والغلام مظنة القوة والجلد، وعلى الرواية الأخرى فمشهد حضوره والمعنى ظاهر ".
وقال ابن أبي الحديد في شرحه (ج 4، ص 280 من طبعة مصر):
إنما قال كذلك الان الشيخ كثير التجربة فيبلغ من العدو برأيه ما لا يبلغ بشجاعته
الغلام الحدث غير المجرب لأنه يغرر بنفسه فيهلك ويهلك أصحابه، ولا ريب ان الرأي مقدم
على الشجاعة ولذلك قال أبو الطيب: الرأي (فذكر البيتين الذين ذكرهما الشارح مع ثلاثة
أبيات اخر من القصيدة وخاض في نقل غير ذلك أيضا فمن اراده فليطلبه من هناك).
(2) - قال الميداني في مجمع الأمثال (ص 178 من طبعة إيران):
" حلب الدهر أشطره، هذا مستعار من حلب أشطر الناقة، وذلك إذا حلب خلفين من
أخلافهما ثم يحلبها الثانية خلفين أيضا، ونصب أشطره على البدل (اي) أشطر الدهر والمعنى
انه اختبر الدهر شطرى خيره وشره فعرف ما فيه، يضرب فيمن جرب الدهر ".
(3) - قال الميداني في مجمع الأمثال (ص 26 من طبعة إيران):
" يضرب لمن يوصف بالحزم والجد في الأمور ".
206

الكلمة الثانية الأربعون
قوله على السلام: لا محبة مع مراء.
أقول: المراء والمماراة المجادلة، والمقصود من (1) هذه الكلمة بيان ان المماراة
ومجاذبة القول مع لأصدقاء وأهل المودات مما لا يجامع محبتهم وأنسهم للممارى (2) بل يقتلعه (3)
اقتلاعا وتقرير ذلك انا بينا فيما سبق ان المحبة سبب للألفة (4) والانس الذي يحتاج
الخلق إليه في اصلاح معاشهم، وبينا (5) انه سبب للسعادتين واتفق الحكماء
وأرباب العقول على أن المرء مع هؤلاء يقلع (6) المودة من أصلها وذلك انها سبب
الاختلاف، والاختلاف سبب التباين المضاد للألفة التي حثت عليها الشريعة القويمة
واتفقت على وجوبها كلمة النبيين، ومن الناس مؤثر المراء ويزعم أنه يشحذ الأذهان
ويثير الشكوك ويفيد (7) رياضة النفس في ميدان الكلام فهو يتعمد (8) ذلك في المحافل
ومجالس أهل النظر ويخرج في كلامه إلى ألفاظ العامة ليزيد في خجل صديقه ويظهر
انقطاعه وانقهاره (9) في يده ولو فعل ذلك في الخلوة لكان أهون لكنه يفعله حيث يعتقد
الحاضرون انه أدق نظرا وأدق حجة وأغزر عملا، وهذا الرأي غير لائق الا بأهل البغى
وجبابرة أهل الأموال إذ كان من عادتهم ان يستحقر بعضهم بعضا ولا ينفك أحدهم
يصغر صاحبه، ويزري عليه، وينقص مروته، ويبحث عن عيوبه ويتتبع عثراته، ويبالغ
كل منهم فيما يقدر عليه من مساءة صاحبه حتى يؤدى ذلك إلى العداوة البالغة التي يكون

(1) - ا د: " في ".
(2) - ب: " للتماري ".
(3) - د: " تقلعه ".
(4) - ب: " سبب الألفة ".
(5) - ا: " وقلنا ".
(6) - ب: " قلع ".
(7) - ج د: ويقيد ".
(8) - ا: " يعهد " فهو مضارع من: " عهد الشئ إذا حفظه وراعاه حالا بعد حال ".
(9) - ا: " انتهاره " (من ن ه‍ ر).
207

فيها سعاية بعضهم ببعض وإزالة نعمته فيسوق ذلك إلى سفك الدماء وأنواع الشرور،
وإذا كان كذلك فيكف يثبت المحبة مع المراء أو ترجى معه الفة أو استجلاب انس؟!
وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب ترك المماراة لما انها مستلزمة لعدم ما وجوده
مطلوب بلسان الشريعة فقد لاح لك سره الصادر عن المعالم (1) التامة المزينة بحلي الآداب
ومحاسنها، والله ولى التوفيق.
الكلمة الثالثة والأربعون
قوله عليه السلام: لا سؤدد مع انتقام.
أقول السؤدد من السيادة، والانتقام والاخذ بالعذاب لتقدم جريمة من
المأخوذ عن حركة القوة الغضبية كما سبق بيانه وهو قد يكون محمودا وقد يكون مذموما
اما المحمود فما صدر موافقا لرسم الشريعة في السياسات تدبير المدن، واما المذموم
فهو الذي يخرج إلى طرف الافراط من ذلك وهو المقصود في (2) هذه الكلمة بالذات
المنافى للسؤدد، والسبب في مضادته له ان الانتقام مثير للقوى الغضبية ممن ينتقم منه
وحامل له على (3) طلب المقاومة والدفع والمغالبة أنفة وحمية، أو على الهرب والترك وكل
ذلك مستلزم لتنفر (4) الطباع وبعدها عن التألف، والسؤدد إنما يحصل بالتواضع
وخفض الجناح للتابعين ولين الكلمة واستجلاب طباعهم بأنواع التلطفات والمباسطات
والتكرم والتجاوز عن بعض إساءتهم والصفح عن بعض جرائمهم ليحصل الانس والمحبة

(1) - ج د: " العالم ". أقول: كأن الجملة قد سقط منها شئ.
(2) - ج د: " من ".
(3) - ب: " عن ".
(4) - ا: " لتنفير ".
208

الطبيعية التي هي سبب الألفة والانقياد وذلك ما أدب (1) الله تعالى نبيه بالآداب الصلاحية
فقال عز من قائل: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (2) ولو كنت فظا غليظ
القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر (3) كل ذلك
طلب للانس واستجلاب للمحبة وحسن الألفة، واما الانقياد فتابع لحصول الألفة لأنهم
بعدها إذا لمحوا كماله الخالين عنه وتمامه الفارغين منه انقادوا تحت أوامره بقلوب صافية
وسلموا أنفسهم إليه بنيات صادقة الا من لم يؤثر التودد في أدمة (4) قلبة ولم يجد التلطف
سبيلا إلى خالص لبه لتقدم حقد وضغينة أو غيرها من الأسباب القدرية، وإذ كان
كذلك فحيث حصل ما يضاد ما ذكرنا من الأسباب التي يجب بها أو معها السؤدد لزم
ان لا تكون تلك الأسباب حاصلة وبانتفائها ينتفى السؤدد الذي هو معلولها.
واعلم أن الانتقام بالمعنى الأول وان حصلت منه للطباع نفرة وكان مثيرا للقوة
الغضبية لكنه لما كان ذلك موافقا لرسم الشريعة والتأديبات الصلاحية وقد تطابقت
عليه المقالات النبوية وكانت أذهان الخلق تمرنت عليه بحسب تعويد الشرائع وانغرس
فيها وجوبه حتى انقادت نفوسهم وأذعنت للاعتراف به وكان ذلك لا يصدر الا بحسب
جناية متعارفة القبح (5) بيتهم لم يكن ذلك منافيا للسؤدد بل كان من متمماته وواجباته، إذ كان
سببا عظيما من أسباب بقاء النوع الانساني فلو حصلت بسببه نفرة من المنتقم منه أو ممن
يتعلق به ممن عليه الاحتشام وحب (6) الحياة عن (7) الانقياد للعقوبات الشرعية لكن
ذلك أمرا جزئيا غير ملتفت إليه ولا قادح في سيادة المنتقم إذ كانت شوكة القوى الغضبية
من الخلق مقهورة بسيف الشريعة قد تقاصرت وتحاشت عن مقابلة أمر سماوي لمعاضدة (8)

(1) - ج د: " ولذلك أدب ".
(2) - آية 215 سورة الشعراء.
(3) - وسط آية 159
سورة آل عمران.
(4) - ا: " أدبه " ج د: " اذمة ".
(5) - ا: " الشح ".
(6) - ج د: " وجب ".
(7) - ب ج د: " على ".
(8) - ا: " لمعاضد ".
209

شيطان (1) مثلها وألقت زمامها إلى القوى العقلية في الانقياد لما ينبغي على الوجه الذي ينبغي.
وفى هذه الكلمة تنبيه لطالب السؤدد على أنه ينبغي ان يترك ما ينافيه وهو الانتقام
الخارج إلى حد الرذيلة والا لكان مناقضا لسعيه، وكاسر لما هو طالب لتقويمه، وذلك
نهاية الجهالة، والله الموفق.
الكلمة الرابعة والأربعون
قوله عليه السلام: لا شرف مع سوء الأدب.
أقول: قد عرفت ان حسن الأدب يعود إلى معنى الرياضة المعتدلة للقوى البدنية
وقد بينا كيفيتها فاعرف من ذلك أن سوء الأدب وهو سوق تلك القوى على حد
طباعها وانهماكها في مطلوباتها الطبيعية لها على قانون وهمى دون أن يكون على وفق
القانون العدلي المرسوم من الشريعة والحكمة وكما علمت أن الشرف الحقيقي إنما هو
باجتماع أجزاء الكمال من العقل واجتماع مكارم الأخلاق والآداب المستحسنة حتى تتحصل
ماهيته المطلوبة عنها فاعرف ان عدمه بفواتها أو بفوات أحدها (2) إذا كان اجتماع الاجزاء
هو المحقق للماهية المركبة وكان عدم الجزء الواحد كافيا في عدمها فإذا فرضنا اشتمال (3)
الانسان على سوء الأدب المقابل لكماله وحسنه فبالضرورة لم يشتمل على ما يقابله من الأدب
الجميل (4) وإذا كان خاليا عن ذلك الجزء من الكمال لم يتحقق ماهية الكمال فلم يتحقق
ماهية الشرف لعدم علته وقد ظهر (5) لك في هذه الكلمة (سر تنبيهه) (6) لطالبي الشرف
والمجتهدين في تحصيل الكمال الانساني على وجوب الرياضة وتأديب القوى النزوعية

(1) ب: " الشيطان ".
(2) - ب: " أحدهما ".
(3) - ا: " استكمال ".
(4) ب: " الجهل ".
(5) - ب: " أظهر ".
(6) - في النسخ " تنبيها " فالصحيح نظري.
210

وردعها عما تميل إليه بطباعها وقهرها بيد القوة العاقلة وتصريفها على قانون العدل إذ كان
الشرف وسوء الأدب مما لا يجتمعان، والله ولى المن والاحسان
الكلمة الخامسة والأربعون
قوله عليه السلام:
ما اضمر أحدكم شيئا الا أظهره الله في فلتات لسانه
وصفحات وجهه.
أقول الاضمار كتمان السر وغيره في الضمير وهو الذهن والعقل، والفلتات جمع
فلته وهي وقوع الامر بغته من غير اختيار ولا ترو وتدبر، وصفحات الوجه جوانبه
والمقصود ههنا بيان ان الاعتقادات التي يضمرها الانسان ويحافظ عليها ويراعى سترها
عن اطلاع الغير عليها لمصالح متصورة ومقاصد اختيارية سواء كانت نافعة أو ضاره
فإنها وان بولغ في مراعاة حفظها واجتهد في عدم اطلاع الغير عليها لا بد وان تظهر، ثم إنه
عليه السلام نبه على سببين من أسباب الظهور وحكم بأنه لابد وان تظهر بأحدهما
مع تلك المحافظة:
أحدهما - فلتات اللسان وذلك أن النفس وإن كان لها عناية بحفظ ذلك لكنها
قد تنصرف إلى مهم (1) آخر فتنفعل حينئذ عن ملاحظة وجه المصلحة في كتمانه وسبب
وجوب ستره فتنفلت (2) المتخيلة من أسر العقل العملي فتلوحه وتبعث الشهوة إلى التكلم (3)
به من غير أن يكون للنفس شعور بشعورها به، وذلك معنى كونه فلتة، وقد يصدر الكلام
فلتة على وجه آخر وذلك أن يتلفظ المضمر بكلام يكون مستلزما للايماء أو التنبيه على

(1) - ج د: " تتصرف إلى فهم ".
(2) - ج د: " فنلتفت ". 3 - ج د: " المتكلم ".
211

ذلك المعنى المضمر والمتكلم غافل عن ذلك الايماء وغير عالم بكيفية التنبيه من ذلك
الكلام على مضمره والسامع ذو حدس قوى فيقع له الاطلاع على ذلك المضمر مع شدة
الاعتناء بستره.
الثاني - صفحات الوجه وذلك إشارة إلى القرائن والامارات المستلزمة لاظهار
المكتوم كما يدل تقطيب الوجه والعبوس والاعراض عن الشئ من معتاد البشاشة على
بغض (1) ذلك الشئ، وانبساط الوجه والفرح به والاقبال عليه على محبته، وكما تدل
الصفرة العارضة للوجه حال نزول الامر المخوف على اضمار الوجل، والحمرة العارضة
عند نزول أسبابها كمشافهة من يتستر من فعل القبيح على حال فعله ومواجهته به على الخجل،
وكدلالة عرق الوجه وغض الطرف على الحياء، وكدلالة الملاحظة بالبصر على وجه مخصوص على العداوة، وعلى كثير من الأمور النفسانية وأمثال ذلك من القرائن التي تكاد
لا تتناهى، فهذه الأمور وأمثالها وان اجتهد في اخفائها فلابد وان تلوح من السببين
المذكورين.
وفى هذه الكلمة تنبيه للعاقل على أنه لا ينبغي ان يضمر من الأمور الا ما لو اطلع
عليه منه لما كان مستقبحا في العرف ولما نفر طبعه من المواجهة به فإنه ان اضمر أمرا
يستقبحه الخلق ويستنكر فيما بينهم لو اطلعوا عليه ولابد من الاطلاع عليه للأسباب
المذكورة لم يسلم (2) من الافتضاح وكان وقته مشغولا بالقبيح اما في مدة اضماره وستره
فبالمحافظة عليه واشتغال النفس به عن السعي في مصالحها الكلية الذاتية، واما بعد
ظهوره فبمعاناة الخلاص من عاره والتألم من المواجهة به والندم والتأسف على ايقاع (3)
ما استلزم اظهار ذلك والجزع الذي لا يجدى نفعا ولا يعود بطائل، وكل ذلك منهى

(1) - في النسخ " بعض " بالعين المهملة فالتصحيح نظري. (2 - أب: " ولم يسلم ".
(3) - ا: " اتباع ".
212

عنه لأنه اشتغال الانسان بما لا يعنيه، واما نسبة ذلك الاظهار إلى الله تعالى فظاهر من
قولنا: انه مفيض الكل وعلة العلل، والله ولى الصواب.
الكلمة السادسة والأربعون
قوله عليه السلام: اللهم اغفر لنا رمزات الألحاظ،
وسقطات الألفاظ، وهفوات اللسان، وسهوات الجنان.
أقول: الرمزات جمع رمزة وهي الإشارة، والألحاظ جمع لحظ وهي النظر الخفيف
وسقطة القول الخطيئة فيه وجمعه سقطات وسقاط، والهفوة الزلة، والسهو الغفلة
وهي التفات النفس عن الشئ حال اشتغالها بشئ آخر، والجنان القلب مأخوذ من
الاجتنان وهو الاختفاء، ولما كانت هذه الأمور الأربعة في الظاهر وبالنسبه إلى من
لا يعلم وجه وقوعها ذنوبا وجرائم يذم فاعلها ويعد خارجا عن مقتضى القانون العدلي (1)
لاجرم كان طالبا لغفرها وهو سترها.
بيان الأول اما ان الإشارات بالألحاظ قد تكون ذنوبا فذلك كل رمز يكون
وسيلة إلى ارتكاب جريمة فإنه يكون جريمة، ومثاله ما يفعله من يطلب منه ظالم تعريف
انسان ليقصده بالظلم فيكره المطلوب منه التصريح بذلك بلسانه خوف الشنعة والسب
الصادق والمقصود بالظلم حاضر فيرمز بلحظه إليه فينبه الظالم عليه، وكمن يرمز بلحظه
تنبيها للغافل عن بعض المعاصي عليها حتى يكون ذلك سببا لركوبها، وكل ما كان وسيلة
إلى ارتكاب جريمة فهو جريمة، والدال على الشر كفاعله، ودلالة الألحاظ كصريح الألفاظ.

(1) - ب: " العدل ".
213

واما سقطات الألفاظ وهو الخطأ فيه والتكلم بردية وساقطة وبما لا ينبغي وظاهر
انه جريمة، إذ لا معنى للجريمة الا ما اكتسبه الانسان من الافعال مخالفا للقانون العدلي
الذي هو غاية الشرائع من التكاليف البشرية.
واما هفوات اللسان وهي زلله فظاهر انه جريمة أيضا وهو علة لسقطات الألفاظ
فان بهفوات اللسان قد يقع الردى من القول (1).
واما سهوات الجنان فقد عرفت ان المقصود بالقلب النفس الا ان القلب لما
كان المتعلق الأول للنفس أطلق اسمه عليها مجازا اطلاقا لاسم المتعلق على المتعلق ولأنه
الظاهر المتعارف بين الخلق من لب (2) الانسان لخفاء تصور النفس على أكثر الناس.
وسهواته غفلات النفس عن مطالعة الخزانة التي فيها الامر المغفول عنه اما معنى أو
صورة لاشتغالها بمهم آخر أو (3) بمعارضة الوهم لها حال التفاتها إلى ذلك مع بقائه في تلك
الخزانة، وهذا القدر هو الفارق بين السهو والنسيان فان النسيان يشترط فيه مع ذهول
النفس عن الامر انمحاؤه (4) من الخزانة بالكلية وهذه السهوات هي من أسباب الهفوات
التي هي من أسباب السقطات والرمزات، وأسباب الجرائم في العرف الظاهر جرائم
وإذا كانت جرائم مستقبحة تعاب على من وقعت منه لاجرم كان طالبا لسترها ملتمسا
لغفرها ومعدا نفسه بالابتهال الصادق للعصمة منها.
بقي سؤلان
أحدهما - ان يقال: ان سهوات الجنان غير مؤاخذ بها، إذ لا يدخل في التكليف
فلم يطلب غفرانها ويلتمس سترها؟!

(1) - ج: 2 فان هفوات اللسان قد يقع فيها الردى من القول ".
(2) - كذا.
(3) - ب ج: " و ".
(4) - النسخ: " المخاوة ".
214

الثاني - ان الشيعة أثبتت له عليه السلام العصمة عن المعاصي، سهوها وعمدها
من حين الولادة وما بعدها، وطلبه للغفران لنفسه دليل جواز صدور المعاصي عنه وهو
مبطل لقولهم؟!
والجواب عن الأول ان صدور هذه عن الانسان لما كان معدودا في العرف
جرائم ومعايب منفرة للطباع مستلزمة للذم ممن لا يعلم كيفية وقوعها هل هو عن سهو
أو عمد لاجرم جاز طلب سترها وغفرها واعداد النفس بالابتهالات والدعوات لتقوى
وتشرف وتتعالى بذلك الاستعداد عن حيز السهوات الموجبة للهفوات والسقطات فلا يقع
منها بل ينستر في ستر العدم الأصلي، ولا يلزم من ذلك أن يكون مكلفا بها.
وعن الثاني من وجهين:
الأول - ان الدعاء ههنا والتماس المغفرة مشروط بوقوع هذه الأشياء (1) منه فكأنه
قال عليه السلام: اللهم ان وقع منى كذا وكذا فاغفر لي، وهذا كلام صادق لكنك قد
علمت في علم المنطق انه لا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد من جزئيها بل
ولا يلزم جواز وقوعه فإنك لو قلت إن كانت الأرض محيطة بالسماء كانت أعظم من
السماء كان ذلك لزوما صادقا مع استحالة كل واحد من الجزئين فنحن نمنع وقوع
المعاصي منه وان صدق هذا الكلام، وطلب المغفرة كما يكون لصدور الذنب كذلك
يكون للتذلل والخضوع والانقطاع إلى الله والاعتراف بالتقصير عن أداء حقوقه
ومجازاة نعمه.
الثاني - ان للشيعة ان يقولوا: لما ثبتت عصمته بالبرهان وكان قوله عليه السلام:
" لنا " ضميرا عاما يتناول بظاهره كل مؤمن ومسلم معه ممن يجوز صدور هذه الأمور منه

(1) - ج: " الأسباب ".
215

كان ذلك العموم مخصوصا بالدليل العقلي الدال على عصمته عليه السلام ويبقى عاما
في الباقين، وإضافة ذلك إلى نفسه وادخاله لها في جملة أولئك اعتراف بالعبودية
وخضوع لله تعالى واظهار للحاجة إلى لطيف عنايته وإفاضة ستره ووقايته وتمام تلك
النعمة عليه، وذلك من جميل الأخلاق وكمال العرفان، ونجد الأدعية الصادرة عن الأنبياء
عليهم السلام مشحونة بطلب المغفرة والاعتراف بالذنوب والمعاصي مع الاتفاق على
عصمتهم وذلك محمول على ما قلناه، والله ولى التوفيق وبه الحول والقوة.
216

القسم الثالث
في اللواحق والتتمات وفيه فصلان
الفصل الأول
في بيان ان عليا عليه السلام كن مستجمعا لجميع الفضائل الانسانية
وفيه بحثان:
البحث الأول في بيان كماله بحسب القوى النظرية
قد علمت أن كمال القوة النظرية إنما هو باستكمال الحكمة النظرية وهي كما
علمت استعداد النفس الانسانية بتصور المعارف الحقيقية والتصديق بالحقائق النظرية
بقدر الطاقة البشرية ولا شك ان هذه الدرجة كانت ثابته له عليه السلام على أتم
ما يمكن فان ادراكه (ع) لهذه الأشياء ادراك بحسب قوته الحدسية القدسية وادراك كثير
الحكماء لها ادراك فكرى محتاج إلى كلفة ومشقة يستلزم أغلاطا عظيمة لا يخلو عنها الا
آحاد الحكماء: فأين أحدهما من الاخر؟! وبيان ذلك ببيان انه عليه السلام كان سيد
العارفين بعد سيد المرسلين صلى الله عليه وآله، وقبله نبين انه كان أستاذ العالمين.
فههنا إذا مقامان:
المقام الأول - انه كان أستاذ البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وبيانه انا
بحثنا العلوم بأسرها فوجدنا أعظمها وأعمها العلم الإلهي وقد رأينا في خطبه عليه السلام من
أسرار التوحيد والنبوات والقضاء والقدر وأحوال المعاد ما لم يأت في كلام أحد من أكابر -
العلماء وأساطين الحكمة، ثم وجدنا جميع فرق الاسلام تنتهى في علومهم إليه، أما
217

المتكلمون فإما معتزلة، وانتسابهم إليه ظاهر، وذلك أن المباحث المتعلقة بأصول الفقه
والمسائل الفقهية وكثير من ظواهر الشريعة موافقة لأصول المعتزلة وقواعدهم في اثبات
الحسن والقبح العقليين في أفعاله تعالى وبنائهم على ذلك استحالة التكليف بالمحال وغير
ذلك مما هو مسطور في كتبهم وأكثر أصول المعتزلة مأخوذ من ظواهر كلامه عليه السلام
في التوحيد والعدل وان كانت لها أسرار أخرى، واما أشعرية ومعلوم ان أستاذهم
أبو الحسن الأشعري وهو تلميذ أبى على الجبائي وهو منتسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام
الا ان أبا الحسن تنبهه لما وراء أذهان المعتزلة وطالع كتب الحكمة فخالف أستاذه في مواضع
تعلمها (1) من مذهبه وعبر عنها بعبارات توافق ظاهر الشريعة وزعم بذلك انه عند (2)
المتكلمين وليس معهم الا اسمه. واما الشيعة فانتسابهم إليه ظاهر، واما الخوارج وان
كانوا على غاية من البعد عنه الا انهم ينتسبون إلى مشايخهم وهم كانوا تلامذة علي عليه
السلام. وأما المفسرون فرئيسهم ابن عباس رضي الله عنه وقد كان تلميذا لعلى
عليه السلام. وأما الفقهاء فأكابرهم كانوا يأخذون عنه الاحكام وتذكر ما قال عمر غير
مرة حيث يقع في المسائل المشكلة فيفرج عنه: لولا على لهلك عمر، وكونه أفضل الأمة
في ذلك ظاهر ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أقضاكم على، والأقضى لابد
وأن يكون أفقه واعلم بقواعد الفقه وأصوله. وقال عليه السلام: لو كسرت (3) لي الوسادة
لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم،
وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والله ما من آية نزلت في بر أو بحر أو سهل أو جبل ولا سماء
ولا أرض ولا ليل ولا نهار الا أنا أعلم فيمن نزلت وفى أي شئ نزلت، وذلك يدل على
كمال علمه بالأحكام وعدم نظير له في ذلك. واما الفصحاء فمعلوم ان جميع من ينسب
إلى الفصاحة بعده يملأون أوعية أذهانهم من ألفاظه ويضمنونها (4) كلماتهم وخطبهم ليكون

(1) - ا: " يعلمها " (من دون نقطه) فيمكن ان يقرأ " يعلمها ".
(2) - كذا ولعله كان: " من ".
(3) - المشهور فيه: " ثنيت ".
(4) - ا: " يضمونها ".
218

منها (1) بمنزلة درر (2) العقود، والامر في ذلك ظاهر، واما النحويون فأول واضع
للنحو هو أبو الأسود الدؤلي، وكان ذلك بارشاده عليه السلام له إلى ذلك وكان بدؤ -
ذلك أن أبا الأسود سمع رجلا يقرأ: ان الله برئ من المشركين ورسوله (بالكسر)
فأنكر ذلك وقال: نعوذ بالله من الحور بعد الكور اي من نقصان الايمان بعد زيادته وراجع
في ذلك أمير المؤمنين عليه السلام وقال له: نحوت ان أضع للعرب ميزانا يقومون به لسانهم
فقال عليه السلام: انح نحوه، وارشده إلى كيفية ذلك الوضع وعلمه إياه. واما علماء
الصوفية وأرباب العرفان فنسبتهم إليه في تصفية الباطن وكيفية السلوك إلى الحق الأول
ظاهره الانتهاء إليه. وأما علماء الشجاعة والممارسون للأسلحة والحروب فهم أيضا
منتسبون إليه في ذلك فثبت بما قررنا انه عليه السلام كان أستاذ الخلق وهاديهم إلى الحق
وذلك وان دل على كماله في قوته النظرية فهو دال أيضا على كمال قوته العملية.
المقام الثاني انه عليه السلام كان سيد العارفين بعد رسول الله صلى الله عليه آله
وذلك ببيان انه كان قد تسنم درجة الوصول وتحقيق ذلك انك علمت في الأصول
المتقدمة ان الوصول إنما يحق (3) إذا غاب العارف عن نفسه فلحظ جناب الحق من حيث إنه
هو فقط وان لحظ نفسه من حيث هي لاحظه لامن حيث هي متزينة بزينة الحق ثم إنه
قد وجد في كلامه واشاراته ما يستلزم حصول هذه المرتبة وذلك من وجوه:
الأول - قوله عليه السلام: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، وقد عرفت ان ذلك
إشارة إلى أن كل كمال نفساني متعلق بالقوة النظرية قد (4) حصل له بالفعل وذلك
يستلزم تحقق الوصول التام الذي ليس في قوة الأولياء زيادة عليه.
الثاني - قوله عليه السلام مناجيا لربه: إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك ولا رغبه
في ثوابك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك، وهذا الكلام يدل على أنه عليه السلام

(1) - ا: " فيها ".
(2) - ج: " در ".
(3) - د: " يتحقق ".
(4) - ب ج: " فقد ".
219

قد حذف كل ما سوى الحق تعالى عن درجة الاعتبار ولم يلحظ معه غيره وذلك هو
الوصول التام.
الثالث - لما سأله ذعلب اليماني: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ - فقال عليه
السلام: أفأعبد ما لا أرى؟! قال: وكيف تراه؟ - قال: لا تراه العيون بمشاهدة العيان ولكن
تدركه القلوب بحقائق الايمان، وقد عرفت ان القلوب في عرفهم عبارة عن النفوس
الانسانية، وادراكها نيلها ووصولها إلى ساحة عزته، وذلك يدل على أنه عليه السلام
كان من الواصلين.
الرابع - انه عليه السلام وصف موضعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وكيفية
تربيته وارشاده وتعليمه له في آخر خطبته المسماة بالقاصعة، قال عليه السلام مخاطبا للقوم:
وقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره
وانا وليد ويضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه وكان
يمضغ الشئ ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به
من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم
ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل اثر أمه، يرفع لي في كل يوم علما من أخلاقه
ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يحاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري ولم يجمع
بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة
وأشم ريح النبوة ولقد سمعت رنه الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله
فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ - فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته انك تسمع
ما أسمع وترى ما أرى، الا انك لست بنبي وانك لوزير (1) وانك لعلى خير.
والاستدلال بهذا الكلام من وجوه:
الأول - انه لا نزاع في أنه عليه السلام كان في أصل الخلقة في غاية الذكاء

(1) - كذا في النسخ ولكن في نهج البلاغة: ولكنك وزير ".
220

والاستعداد لكمال العلوم وفى غاية الحرص، ولا نزاع ان محمدا صلى الله عليه وآله كان
أفضل الفضلاء وأعلم العلماء فإذا اتفق لمثل هذا التلميذ الكامل ان يصحب مثل
هذا الأستاذ الفاضل ويكونان في غاية الحرص، التلميذ في التعلم والأستاذ في التعليم
وكان قد سبق له ن اتصل بخدمته من زمان صغره إلى آخر عمره كما أشار إليه وعلى الوجه
الذي أشار إليه فان العقل يضطر إلى الحكم بان ذلك التلميذ يبلغ مبلغا عظيما في الكمال،
ويصل الغاية القصوى من العلم.
الثاني - قوله عليه السلام: أرى نور الوحي - إلى قوله - قد أيس من عبادته، وذلك أنه
عليه السلام رأى بعين بصيرته الصور الإلهية أمثال الأنوار البهية كما عرفت من انزعاج
المتخيلة إلى تلك الصور المقتنصة للعقل وتشبيحها وحطها إلى الحس المشترك بصور خيالية
وكذلك انحط إلى حسه النفحات الربانية في مثال ريح محسوسة في غاية الذكاء ونهاية
اللذة كريح المسك الأذفر وإن كان فرقان (1) ما بينهما فرقان ما بين الشامين والمشمومين
وكذلك سمع رنه الوهم حال قهر العقل له وانزعاجه خلفه واستتباعه إياه حال انفلاته
إلى التوجه نحو القبلة الحقيقية واقتناص الصور القدسية (3) وحقيقة ذلك الرنان ان العقل
متصور (4) في تلك الحال ما وقع للوهم من انجذابه إلى خلاف مقتضى طبعة فتصور المتخيلة
حينئذ وتشبه ما أدركه العقل من أحواله معه بصوره شخص شرير بعيد عن قبول الخير
قهر على المتابعة فيه فتألم (5) فصاح (6) فتحطه في تلك الصورة وما يصحبها من الأمثال
المحسوسة إلى الحس المشترك فيدرك هناك الصوت (7) المسمى بالرنان وذلك يدل على
وصوله واتصاله بأرباب حظيرة القدس وقرب مزلته من تناول صور الوحي وان صدق
انه دون درجة النبوة.

(1) - ب: " فرقا ".
(2) - ب ج: " انقلابه.
(3) - ب ج د: " المقدسة.
(4) - ج: " يتصور ".
(5) - ب: " فيألم " ج " فتألم ".
(6) - ب: " وضاح " ج: " فصاح ".
(7) - ب: " الصورة ".
221

الثالث - قول النبي صلى الله عليه وآله (1) انك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى
الا انك لست بنبي، ولا اشكال ان النبي (ص) كان له اتصال بالحق تعالى والوصول
التام الذي وصفناه وكان ذلك الاتصال حاصلا لعلى وإن كان دون درجة النبوة،
فان للاتصال بالجناب المقدس درجات لا تتناهى، ولذلك قال: انك لست بنبي.
الرابع - قوله عليه السلام يصف السالكين الواصلين (2):

(1) - هو من أواخر الخطبة القاصعة المروية في نهج البلاغة كما صرح به الشارح (ره).
(2) - قال
الشارح (ره) في شرح هذا الكلام الشريف المروى في نهج البلاغة (ص 403 من الطبعة الأولى):
أقول: هذا الفصل من اجل كلام له (ع) في وصف السالك المحقق إلى الله وفى كيفية
سلوكه المحقق وأفضل أموره فأشار باحياء عقله إلى صرف همته في تحصيل الكمالات العقلية
من العلوم والأخلاق وأحيا عقله النظري والعملي بها بعد الرياضة بالزهد والعبادة وأشار بإماتة
نفسه إلى قهر نفسه الامارة بالسوء وتفريغها بالعبادة للنفس المطمئنة بحيث لا يكون لها تصرف
على حد طباعها الا بارسال العقل وباعثه فكانت في حكم الميت عن الشهوات والميول الطبيعية
الذي لا تصرف له من نفسه. وقوله (ع): حتى دق جليله اي حتى انتهت به اماتته لنفسه
الشهوية إلى أن دق جليله وكنى (ع) بجليله عن بدنه فإنه أعظم ما يرى منه، ولطف غليظه
إشارة إلى لطف بدنه أيضا ويحتمل ان يشير به إلى لطف قواه النفسانية بتلك الرياسة وكسر
الشهوة فان اعطاء القوة الشهوية مقتضى طباعها من الانهماك في المأكل والمشارب مما يثقل
البدن ويكدر الحواس ولذلك قيل: البطنة تذهب الفطنة وتورث القسوة والغلظة، فإذا اقتصرت
على حد العقل بها لطفت الحواس عن قلة الأبخرة المتولدة عن التملي بالطعام والشراب
ولطف الملطف ذلك ما غلظ من جوهر النفس بالهيئات البدنية المكتسبة من متابعة النفس
الامارة بالسوء كلف المرآة بالصقال حتى يصير ذلك اللطف مسببا لاتصالها بعالمها واستشرافها
لأنوار من الملا الاعلى. وقوله (ع) وبرق له لامع كثير البرق أشار (ع) باللامع إلى
ما يعرض للسالك عند بلوغ الإرادة بالرياضة به حدا ما من الخلسات إلى الجناب الاعلى فيظهر
له أنوار الهية شبيهة بالبرق في سرعة لمعانه واختفائه وتلك اللوامع مسماة عند أهل الطريقة
بالوقت وكل وقت فإنه محفوف بوجد إليه قبله ووجد عليه بعده لأنه لما ذاق تلك اللذة ثم فارقها
حصل فيه حنين وانين إلى ما فات منها ثم إن هذه اللوامع في مبدأ الامر تعرض له قليلا
فإذا أمعن في الارتياض كثرت فأشار باللامع إلى نفس ذلك النور وبكثرة برقة إلى كثرة عروضه
بعد الامعان في الرياضة ويحتمل أن يكون قد استعار لفظ اللامع للعقل الفعال ولمعان ظهوره
للعقل الانساني، وكثرة بروقه إشارة إلى كثرة فيضان تلك الأنوار الشبيهة بالبروق عنه عند
الامعان في الرياضة وقوله (ع): فأبان له الطريق اي ظهر له بسبب ذلك أن الطريق
الحق إلى الله هي ما هو عليه من الرياضة وسلك به السبيل اي كان سببا لسلوكه في سبيل الله
إليه وقوله (ع) وتدافعته الأبواب اي أبواب الرياضة اي أبواب الجنة اي تطويع النفس
الامارة والزهد الحقيقي والأسباب الموصلة إليهما كالعبادات وترك الدنيا فان كل تلك أبواب
يصير منها السالك حتى ينتهى إلى باب السلامة وهو الباب الذي إذا دخله السالك تيقن فيه
السلامة من الانحراف عن سلوك سبيل الله بمعرفته ان تلك هي الطريق وذلك الباب هو الوقت
الذي أشرنا إليه وهو أول منزل من منازل الجنة العقلية، وقوله (ع): وثبتت رجلاه
بطمأنينة بدنه في قرار الامن والراحة فهي قرار الامن متعلق بثبتت وهو إشارة إلى الطور
الثاني للسالك ما دام في مرتبة الوقت فإنه يعرض لبدنه عند لمعان تلك البروق شدة اضطراب
وقلقه يحس بها خلسة لان النفس إذا فاجأها أمر عظيم اضطربت وتقلقلت فإذا كثرت الغواشي
ألفتها بحيث لا تنزعج عنها ولا تضطرب لورودها عليها البدن بل تسكن وتطمئن لثبوت قدم
عقله في درجة أعلى من درجات الجنة التي هي قرار الامن والراحة من عذاب الله. وقوله (ع) بما
استعمل قلبه وارضى ربه تعالى فالجار والمجرور متعلق بثبتت أيضا اي وثبتت رجلاه بسبب
استعمال قلبه ونفسه في طاعة الله وارضائه بذلك الاستعمال وبالله التوفيق ".
222

قد أحيا عقله وأمات نفسه حتى دق جليله ولطف غليظه وبرق له لامع كثير
البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل وتدافعت به الأبواب إلى باب السلامة ودار -
الإقامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الامن والراحة بما استعمل قلبه وارضى ربه.
ومن تأمل لطائف هذه الكمات واستلاح بمرآة سره أسرار هذه الرمزات علم أنه
عليه السلام كان من سادات العارفين ورؤساء الواصلين والمراد ان العارف قد أحيا
عقله باستعمال مادة الحياة التي هي العلوم والسعي في تحصيلها، وأمات نفسه الأمارة بالسوء
223

بتطويعها للقوة العاقلة كما عرفت أسباب التطويع وكيفيته، حتى دق جليله اي صغر جسمه
ونحف من تحمل أعباء الرياضة والقيام بها، ولطف ما كان غليظا كثيفا من هيئاته البدنية
الردية فصارت نفسه مرآة مجلوة فبرق فيها بارق العزة وهو الوقت في عرف أرباب
العرفان كما عرفته، وكونه كثيرا إشارة إلى ما ذكرنا من أن تلك اللوامع لا تزال تزداد
وتكثر إلى أن تغشاه في غير حال الارتياض. وقوله: فأبان له الطريق وسلك به السبيل،
اي انه اهتدى لمعارج القدس بتلك البروق بعد أن كان غير مهتد لها، وسلك به السبيل
الأقصد بعد أن كان في أسر متخيلته في حال ارتياضة تسوقه في سبل مختلفة بحسب اختلاف
محاكاتها للأمور الوهمية قبل الاطلاع باشراق تلك اللوامع على السبيل الواضح ولذلك
قال: وتدافعت به الأبواب اي الأبواب المتخيلة انها هي المسالك الصحيحة قبل الاشراف
على باب السلامة المؤدى إلى دار المقامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه إشارة إلى انقلاب -
وقته سكينة ولا تستفزه غواشيه في قرار الامن عن الوجدين المحفوف بهم الوقت، وعن روع -
استفزاز تلك الغواشي والراحة من مجاذبة النفس الامارة إذ صارت في أسر النفس
المطمئنة مقهورة تأتمر بأوامرها وتنزجر بنواهيها، بما استعمل قلبه وأرضى ربه بامتثال
أمر ربه في الأعمال المتقدمة في درجات السلوك.
وهذه اللطائف مما يوضح انه عليه السلام كان مطلعا اطلاعا حقيقيا على هذه
المقامات واقفا (1) على أعلى درجاتها واصلا إلى منتهاها وغايتها.
الخامس - انك ستعرف في الفصل الثاني إن شاء الله تمكنه عليه السلام من
الاطلاع على المغيبات والقدرة على الاتيان بخوارق العادات، ومعلوم ان ذلك من
خواص الواصلين.
البحث الثاني
في بيان كماله عليه السلام في القوة العملية
قد عرفت ان كمال القوة العملية إنما هو بكمال الحكمة العملية وهي استكمال

(1) - ب: " واقعا ".
224

النفس بكمال الملكة التامة على الافعال الفاضلة حتى يكون الانسان ثابتا على الصراط
المستقيم متجنبا لطرفي الافراط والتفريط في جميع أفعاله، ثم علمت أن أصول الفضائل
الخلقية ثلاثة.
الأول - الحكمة الخلقية وهي الملكة التي تصدر عنها (1) الافعال المتوسطة بين
الجربزة والغباوة اللذان هما طرفا الافراط والتفريط، ولما ثبت انه عليه السلام كان من
رؤساء الواصلين وجب أن يكون مستلزما لهذه الفضيلة إذ هي من صفات العارفين، وان
لا يكون وافقا دونها على حد الغباوة والا لما كان واصلا، وان لا يكون متجاوزا لها إلى
طرف الجربزة لان الخبث يمنع صاحبه عن الترقي إلى درجه الكمال ويأبى طبعه الا الشر.
الثاني العفة
وقد علمت أنها الملكة الصادرة عن اعتدال حركة القوة الشهوية بحسب تصريف
العقل العملي لها على قانون العدل.
ونبين ان هذه الملكة كانت ثابته له عليه السلام من وجوه:
الأول - انه كان أزهد الخلق في الدنيا وفيما عدا القبلة الحقيقية وأقدر على حذف
الشواغل الملفتة (2) عن لقاء الله وكل من كان كذلك كان أملك لهواه من غيره اما
المقدمة الأولى فمعلومة بالتواتر عن أحواله وصفاته وأما الثانية فضرورية أيضا.
الثاني - قوله عليه السلام مخاطبا لربه (3): ما عبدتك رهبة من عقابك ولا رغبة
في ثوابك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك. وقد عرفت ان ذلك كما يستلزم
اثبات الوصول في حقه فكذلك هو مستلزم لاثبات هذه الملكة له لان كل من قدر على
حذف ما سوى الحق الأول وتنحيته (4) عن القصد فلابد وأن يكون زمام شهوته بيد عقله.

(1) - النسخ: " عنه ".
(2) - كذا والشارح (ره) كثيرا في شرح نهج البلاغة أيضا
لكني لم أجده في اللغة.
(3) - من الأحاديث المسلمة الواردة في الكتب المعتبرة المعروفة.
(4) - ب: " يتجنبه " ج د: " تجنبه ".
225

الثالث - قوله عليه السلام في رواية ضرار بن ضمرة الضبابي لمعاوية وقد سأله عن
أمير المؤمنين (ع) قال (1) لقد رايته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في
محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم ويبكى بكاء الحزين ويقول:

(1) - قال ابن ميثم (ره) في شرح نهج البلاغة في شرح هذه العبارة ما نصه (ص 588):
أقول: كان هذا الرجل من أصحابه (ع) فدخل على معاوية بعد موته (ع) فقال:
صف لي عليا فقال: أو تعفيني عن ذلك فقال: والله لتفعلن فتكلم بهذا الفصل فبكى معاوية
حتى اخضلت لحيته والضباب بطن من فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، والسدول جمع
سدل وهو ما أسبل على الهودج، والتململ التقلقل من الألم والهم، والسليم الملسوع
والوله أشد الحزن وقد نظر عليه السلام إلى الدنيا بصورة امرأة تزينت وتعرضت لوصوله
إليها مع كونها مكروهة إليه فخاطبها بهذا الخطاب، واليك من أسماء الافعال اي تنحى،
وعنى متعلق له بما فيه من معنى الفعل، واستفهامه عن تعرضها به وتشوقها إليه استفهام
انكار لذلك منها واستحقار لها واستبعاد لموافقته إياها على ما تريد، ولا حان حينك اي
لأقرب وقتك اي وقت انخداعي لك وغرورك لي. وقوله (ع): هيهات اي لابعد ما تطلبين
منى ثم أمرها بغرور غيره وهو كناية عن انه لا طمع له في ذلك منه الا انه أراد منها غرور
غيره وهذا كمن يقول لمن يخدعه وقد اطلع على ذلك منه: اخدع غيري، اي ان خداعك
لا يدخل على. ثم خاطبها خطاب الزوجة المكرهة منافرا لها فأخبرها بعدم حاجته إليها،
ثم أنشأ طلاقها ثلاثا، لتحصل البينونة بها مؤكدا لذلك بقوله: لا رجعة لي فيها، وهو
كناية عن غاية كراهيتها، واكد طلاقها لميله (ع) إلى ضرتها التي هي مظنة الحسن والبهاء.
ثم أشار إلى المعايب التي لأجلها كرهها وطلقها وهي قصر العيش اي مدة الحياة فيها
ويسير الخطر اي قلة قدرها ومحلها في نظره ثم حقارة ما يؤمل منها، وثم تأوه من
أمور، أحدها - قلة الزاد في السفر إلى الله تعالى قد علمت أنه التقوى والأعمال الصالحة وهكذا شأن العارفين في استحقار أعمالهم. الثاني - طول الطريق إلى الله ولا شئ في الاعتبار
أطول مما لا يتناهى. الثالث - بعد السفر وذلك لبعد غايته وعدم تناهيها. الرابع - عظم المورد
وأول منازله الموت ثم البرزخ ثم موقف القيامة الكبرى والله المستعان. وروى: " وخشونة
المضجع "، وهو القبر ".
وقال ابن أبي الحديد في شرحه ضمن ما قال: (ج 4 من طبعة مصر ص 276):
" والتململ والتملل أيضا عدم الاستقرار من المرض كأنه على ملة وهي الرماد الحار
وتشوفت ويروى بالقاف (يريد انه بالفاء وفى رواية أخرى بالقاف). وقوله: لا حان حينك، دعاء
عليها لا حضر وقتك كما تقول: لا كنت فاما ضرار بن ضمره فان الرياشي روى خبره ونقلته
انا من كتاب عبد الله بن إسماعيل بن أحمد الحلبي في التذييل على نهج البلاغة
قال: دخل ضرار على معاوية وكان ضرار من صحابة علي عليه السلام فقال له معاوية: يا ضرار
صف لي عليا قال أو تعفيني؟ - قال: لا أعفيك، قال ما أصف منه وكان والله شديد القوى بعيد -
المدى يتفجر العلم من انحائه والحكمة من ارجائه، حسن المعاشرة سهل المباشرة، خشن المأكل
قصير الملبس، غزيز العبرة طويل الفكرة، يقلب كفيه ويخاطب نفسه، وكان فينا، يجيبنا إذا
سألنا ويبتدئنا إذا سكتنا، ونحن مع تقريبه لنا أشد ما يكون صاحب لصاحب هيبة لا نبتدئه
الكلام لعظمته، يحب المساكين ويقرب أهل الدين وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وتمام
الكلام مذكور في الكتاب.
وذكر عمر بن عبد العزيز في كتاب الاستيعاب هذا الخبر فقا ل:
حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا يحيى بن مالك بن عائذ قال: حدثنا أبو الحسن محمد
بن محمد بن مقلة البغدادي بمصر وحدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا العكلي عن الحرمازي
عن رجل من همدان قال قال معاوية لضرار الضبابي: يا ضرار صف لي عليا قال: اعفني
يا أمير المؤمنين قال: لتصنفه قال: اما إذ لابد من وصفه، كان والله بعيد المدى شديد القوى،
يقول فصلا ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من
الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل ووحشته، غزير العبرة طويل الفكرة، يعجبه من الباس ما قصر
ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استفتيناه، ونحن والله
مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع
القوى في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى
الليل سدوله وغارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكى بكاء الحزين
ويقول: يا دنيا غرى غيري، أبى تعرضت أم إلى تشوفت؟ هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا
لا رجعة فيها فعمرك قصير وخطرك حقير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق، فبكى
معاوية وقال:
رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ - قال: حزن من ذبح
ولدها في حجرها ".
226

يا دنيا يا دنيا إليك عنى، أبى تعرضت أم إلى تشوقت (1) لا حان حينك هيهات غرى
غيري لا حاجة لي فيك قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعيشك قصير وخطرك يسير واملك
حقير فآه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظم المورد.
وهذا صريح موضح لاثبات ملكة العفة له وقمع الشهوة بالكلية والمراد ههنا بالسفر
السفر في الله الا السفر إلى الله كما عرفت الفرق بينهما.

(1) - قرئ بالقاف والفاء فمن أراد التحقيق فليراجع شروح نهج البلاغة.
227

الرابع - قوله عليه السلام في صفة المخلص من عباد الله (1) فهو من معادن دينه
وأوتاد أرضه، قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله ان نفى الهوى عن نفسه، يصف الحق
ويعمل به، ولا يدع للخير غاية الا أمها ولا مظنة الا قصدها قد أمكن الكتاب من زمامه
فهو قائدة وامامه يحل حيث ثقله وينزل حيث كان منزله.
ومن أنصف من نفسه علم أن هذا الكلام لا يصدر عنه وهو مرتكب بخلافه وذلك
يستلزم اثبات الملكة المذكورة له.
الخامس - قال ابن عباس رضي الله عنه (2) دخل على أمير المؤمنين عليه السلام
بذى قار وهو يخصف نعله فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ - فقلت: لا قيمه لها، قال: والله
لهى أحب إلى من أمرتكم الا ان أقيم حقا أو ادفع باطلا.

(1) - من أراد شرحه فليراجع ج 2 من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ص 226 من طبعة
مصر وص 214 - 216 من شرح ابن ميثم من الطبعة الأولى في سنه 1276.
(2) - من أراد ان يقف
على شرح هذا الكلام فليراجع شرح نهج البلاغة لشارح هذه الكلمات (ابن ميثم - رحمه الله -) انظر
ص 149 من الطبعة الأولى وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ص 176 من ج 1 من طبعة مصر)
228

وذلك يستلزم اعراضه عن المطلوبات الفانية الا إذا كانت تؤدى إلى الخيرات
الباقية وهو عين العفة.
السادس - دعاء النبي صلى الله عليه وآله له: اللهم أدر الحق مع علي حيث
دار (1): ومن كان الحق ملازما لطبيعة حركاته استحال ان يلزمها باطل لاستحالة ان يلزم
الطبيعة الواحدة لازمان متقابلان أو مختلفان فاستحال أن يكون متبعا للهوى البتة وهو
معنى العفة وهذا القدر قطرة من بحر التنبيهات على لزوم هذه الملكة له، وبالجملة فالخوض
في اثبات هذه الملكة له يشبه الاستدلال في موضع الضرورة.
الثالث - الشجاعة
وثبوتها له عليه السلام معلوم بالضرورة حتى صار يضرب مبالغة في حق
الرجل الشجاع وإذا عرفت عن هذه الأصول الثلاثة ثابتة له أتم ما يمكن، وثبت
أنها مستلزمة لفضيلة العدالة علمت ثبوت العدالة له أكمل مما هي لسائر الخلق ويؤيده
قول الرسول صلى الله عليه آله: أقضاكم على (2)، والقضاء محتاج إلى العدل ومشروط به.
واما أنواع هذه الفضائل فأنت عند الانصاف واعتبار درجته وتصفح كلماته
وأقوال الرسول صلى الله وآله في حقه سيما قوله: اللهم أدر الحق مع علي حيث
، دار تجده مستكملا لها عالما بكيفية أقسامها مزكيا نفسه بها ويراها (3) وجوه حركاته
وتصرفاته لأنها الحق، وتجده خاليا من أنواع الرذائل المحتوشة لها لعدم امكان اجتماع

(1) - من أراد ان يقف على شئ من طرق هذا الحديث فليراجع غاية المرام للسيد هاشم
البحراني (ره) فان الباب الخامس والأربعين من ذلك الكتاب في نقل قول النبي (ص): على
مع الحق والحق مع علي، وقوله (ص): اللهم ادر الحق معه حيث دار وفيه، أربعة عشر حديثا
من طرق العامة، والباب السادس والأربعين من الكتاب في نقل أحاديث الخاصة في ذلك (انظر
ص 540 - 536).
(2) - من الأحاديث المتواترة بين الفريقين.
(3) - ب: " وتراها "
وعلى هذه النسخة لا يستقيم الكلام الا بوجود كلمة " في " قبل لفظة " وجوه ".
229

الأضداد ولولا كراهة التطويل لا وضحنا ان كل نوع من أنواع الفضائل ثابت له على
أكمل الوجوه
. واما القسم الثاني والثالث من اقسام الحكمة
وهما الحكمة المنزلية والسياسية
فقد علمت أن فائدتهما ان يعلم الانسان وجه المشاركة التي ينبغي أن يكون بين
اشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان ونظام مصالح المنزل والمدنية وقد كان عليه السلام
في ذلك العلم سباق غايات وصاحب آيات ويكفيك في معرفة ذلك منه اما على سبيل
الجملة فلان الشريعة المصطفوية متضمنة لهاتين الحكمتين على أتم الوجوه وأكملها بحيث
ترجع أكابر الحكماء إليها في تعلمها، ومعلوم ان أمير المؤمنين عليه السلام كان متمسكا
بها ومقررا لها وباسطا لأسرارها الكلية ومفصلا لإشاراتها الجميلة ولم يغير منها حرفا
ولم يقصر فيها عن غاية وذلك مستلزم ثبوتهما له على أكمل وجه وأتمه اما على سبيل -
التفصيل فعليك في معرفة ذلك أنه كان أكمل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
في هذا العلم بمطالعة عهوده إلى عماله وولاته وأمرائه وقضاته من كتاب نهج البلاغة وخصوصا
العهد الذي كتبه للأشتر النخعي فان فيه لطائف من تدبير أمر المدن ونظام أحوالها لا تهتدى
لحسنها وإذا تأملته لم تجد عليه مزيدا في هذا الباب، هذا مع ما تواتر من رجوع المتقدمين
له المعترف بحسن تدبيرهم وإيالتهم إلى استشارته في أمورهم وتعرف كيفية تدبير العساكر
والحروب والمصالح الكلية والجزئية والفيئ إلى احكامه من الأخبار الكثيرة.
من ذلك قوله عليه السلام لما استشاره عمر في الخروج من المسلمين إلى غزو الروم (1):

(1) - نقله الشريف الرضى - رضي الله عنه - في باب الخطب من نهج البلاغة وصدره بهذه
العبارة " ومن كلام له عليه السلام وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم بنفسه "
(انظر ج 2 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد من طبعة مصر، ص 389).
230

وقد توكل الله لأهل هذا الدين باعزاز الحوزة، وستر العورة، والذي نصرهم وهم
قليل لا ينتصرون، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون، حي لا يموت، انك متى تسر إلى هذا
العدو بنفسك فتلقهم فتنكب لا يكن للمسلمين كانفة دون أقصى بالأدهم ليس بعدك مرجع
يرجعون إليه فابعث عليهم (1) رجلا محربا (2) وتحفز (3) معه أهل البلاء والنصيحة فان
أظهر الله فذاك ما تحب وان تكن الأخرى كنت ردء للناس ومثابة للمسلمين (4).

(1) - في نهج البلاغة: " إليهم ".
(2) - قال شارح الكلمات ابن ميثم (ره) في شرحه لنهج البلاغة (ص 267 من
الطبعة الأولى): " والمجرب بكسر الميم الرجل صاحب حروب " وقال ابن أبي الحديد في شرحه:
" رجل محرب اي صاحب حروب " لكن قال ابن الأثير في النهاية: " وفى حديث على
- رضي الله عنه - فابعث رجلا محرابا اي معروفا بالحرب عارفا بها والميم مكسورة وهو
من أبنية المبالغة كالمعطاء، ومنه حديث ابن عباس قال في علي رضي الله عنهما: ما رأيت
محرابا مثله " وقال الفيروزآبادي في القاموس: " ورجل حرب ومحرب ومحراب شديد
الحرب شجاع " وقال الزبيدي في شرحه ما نصه: " (ورجل حرب) كعدل (ومحرب)
بكسر الميم (والمحراب) اي (شديد الحرب شجاع) وقيل: محرب ومحراب صاحب حرب،
وفى حديث على - كرم الله وجهه - فابعث عليهم رجلا محربا اي معروفا بالحرب عارفا بها
والميم مكسورة وهو من أبنية المبالغة كالمعطاء من العطاء، وفى حديث ابن عباس قال في علي
: ما رأيت محربا مثله، ورجل محرب محارب لعدوه ".
(3) - قال ابن أبي الحديد في شرحه: " حفزت الرجل واحفزه = دفعته من خلفه وسقته سوقا
شديدا " وقال ابن ميثم في شرحه: " حفز كذا اي دفعه وحفزه ضمه إلى غيره ".
(4) - قال ابن أبي الحديد في شرحه:
" فان قلت " فما بال رسول الله (ص) كان يشاهد الحروب بنفسه ويباشرها بشخصه؟ -
قلت: ان رسول الله (ص) كان موعودا بالنصر وآمنا على نفسه بالوعد الإلهي
في قوله: والله يعصمك من الناس، وليس عمر كذلك. فان قلت: فما بال أمير المؤمنين (ع)
شهد حرب الجمل وصفين والنهروان بنفسه فهلا بعث أميرا محربا وأقام بالمدينة ردء
ومثابة؟ - قلت عن هذا جوابان، أحدهما - انه (ع) كان عالما من جهة النبي (ص)
انه لا يقتل في هذه الحروب، ويشهد لذلك الخبر المتفق عليه بين الناس كافه: تقاتل بعدى
الناكثين والقاسطين والمارقين. وثانيهما - يجوزان يكون غلب على ظنه ان غيره لا يقوم مقامه
في حرب هذه الفرق الخارجة عليه ولم يجد أميرا محربا من أهل البلاء والنصيحة لأنه (ع)
هكذا قال لعمر واعتبر هذه القيود والشروط فمن كان من أصحابه (ع) محربا لم يكن
من أهل النصيحة له، ومن كان من أهل النصيحة له لم يكن محربا فدعته الضرورة إلى مباشرة
الحرب بنفسه ".
أقول: قد عمل أمير المؤمنين (ع) هذا العمل في غير حرب الجمل وصفين والنهروان
ويكشف عن ذلك ما نقله السيد الرضى (رض) في نهج البلاغة (ج 2 شرح ابن أبي الحديد ص 259 من طبعة مصر) بهذه العبارة " ومن كلام له عليه السلام وقد جمع الناس وحضهم على
الجهاد فسكتوا مليا فقال (ع) ما بالكم أمخرسون أنتم؟! فقال قوم منهم: يا أمير المؤمنين ان سرت
سرنا معك، فقال (ع): ما بالكم لا سددتم لرشد ولا هديتم لقصد أفي مثل هذا ينبغي ان اخرج
وإنما يخرج في مثل هذا رجل ممن أرضاه من شجعانكم وذوي بأسكم ولا ينبغي لي ان ادع
الجند والمصر وبيت المال (إلى أن قال) وإنما انا قطب الرحى تدور على وانا بمكاني فإذا
فارقته استحار مدارها واضطربت ثفالها (إلى آخر ما قال) ".
231

فانظر إلى هذا الرأي الصائب بعين بصيرتك تجده كافلا لمحاسن تدابير الرياسات
مقتضيا لنظام الحركات المدنية كاشفا لمصالح الملك مستلزما لكونه عليه السلام أفضل
المتقدمين في هذا الشأن.
ومنها قوله عليه السلام (1): والله لقد علمت (2) تبليغ الرسالات، واتمام العدات،
وتمام الكلمات، وعندنا أهل البيت أبواب الحكم وضياء الامر.
ولا شك ان من علم تبليغ الرسالات وأدائها وكانت عنده أبواب الحكمة كان
أولى الخلق بتدبير أحوال الخلق وأقدرهم على نظم أمورهم (3).

(1) - هو صدر كلام له (ع) نقله السيد الرضى (ره) في نهج البلاغة (انظر شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد ص 260 من المجلد الثاني من طبعة مصر).
(2) - قال ابن أبي الحديد: " رواها قوم: لقد علمت، بالتخفيف وفتح العين، والرواية
الأولى أحسن ".
(3) - قال ابن ميثم (ره) في شرحه لنهج البلاغة في شرح هذا الكلام ما نصه (ص 284
من الطبعة الأولى): " أقول: صدر الفصل بذكر فضيلته وهي علمه بكيفية تبليغ الرسالات
وأدائها، وعلمه باتمام الله تعالى ما وعد به المتقين في دار القرار فتمام وعده ان لا خلف فيه،
وتمام اخباره ان لا كذب فيها، وتمام أوامره ونواهيه اشتمالها على المصالح الخالصة
والغالبة وهكذا ينبغي أن يكون أوصياء الأنبياء وخلفائهم في ارض الله وعباده ثم اردف
ذلك بالإشارة إلى فضل أهل البيت عاما وأراد بضياء الامر أنوار العلوم التي يبتنى
عليها الأمور والأعمال الدينية والدنيوية وما ينبغي ان يهتدى الناس به في حركاتهم من
قوانين الشريعة وما يستقيم به نظام الامر من قوانين السياسات وتدبير المدن والمنازل ونحوهما
إذ كان كل أمر شرع فيه على غير ضياء من الله ورسوله أو أحد أهل بيته وخلفائه الراشدين
فهو محل التيه والزيغ عن سبيل الله ".
فمن أراد باقي الكلام وشرحه فليراجع شرح نهج البلاغة.
232

ومنها قوله عليه السلام على علم تدبير الحروب:
فقدموا الدارع، واخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف
عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنه أمور للأسنة، وغضوا الابصار، فإنه أربط
للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات، فإنه أطرد للفشل، ورأيتكم فلا تميلوها،
ولا تخلوها، ولا تجعلوها الا بأيدي شجعانكم والمانعين الدمار منكم، فان الصابرين على نزول -
الحقائق هم الذين يحفون براياتهم ويكتنفونها حفافيها ووراءها وامامها لا يتأخرون عنها
فيسلموها، ولا يتقدمون عليها فيفردوها.
وهو مذكور في كتاب نهج البلاغة (1).
وكذلك قوله عليه السلام في هذا المعنى في بعض أيام صفين (2):

(1) - هو مذكور في نهج البلاغة في باب الخطب فان أردت شرحه فراجع شرح ابن أبي الحديد
(ج 2 ص 266 من طبعة مصر) أو شرح شارح تلك الكلمات ابن ميثم (ره) على نهج البلاغة
(ص 286 من الطبعة الأولى).
(2) - هو أيضا مذكور في نهج البلاغة (انظر شرح
ابن ميثم (ره) ص 182 من الطبعة الأولى) وان أردت ان تراجع شرح ابن أبي الحديد فراجع
ج 1 ص 476 من طبعة مصر.
233

معاشر المسلمين استشعروا الخشية، وتجلببوا الكينة، وعضوا على النواجذ، فإنه
أنبى للسيوف عن الهام، وأكملوا اللامة، وقلقلوا السيوف في أغمادها، والحظوا الخزر،
واطعنوا الشزر، ونافحوا بالظبى، وصلوا السيوف بالخطى.
وعند تأمل هذه الكلمات تجده عليه السلام قد أحاط بعلم تدبير الحرب وانتظام
أمور الجند.
واما رجوعهم إلى احكامه الصائبة وتنبيهاته عليه السلام لهم على الأغلاط
العظيمة ففي مواضع كثيرة يطول بتفصيلها الكلام ويخرج عن الغرض كقضية (1) المجهضة (2)

(1) - ب ج: " كقصة ".
(2) - ج: " المجهصة " (بالصاد المهملة) وهي تصحيف قطعا،
قال الطريحي (ره) في مجمع البحرين: " الجهاض بالكسر اسم من: أجهضت الناقة والمراة
ولدها اجهاضا = أسقطته ناقص الخلق، ومنه المجهض = المسقطة للحمل، والولد مجهض
بفتح الهاء وجهيض " فكأنها إشارة إلى ما نقله الآثار وحملة الاخبار ضمن قضاياه
الغريبة، قال العلامة المجلسي (ره) في تاسع البحار في " باب قضاياه صلوات الله عليه
وما هدى قومه (ع) إليه مما أشكل عليهم من مصالحهم " نقلا عن مناقب ابن شهرآشوب
(ص 479 من طبعة امين الضرب):
" أبو القاسم الكوفي والقاضي النعمان في كتابيهما: عمر بن حماد باسناده عن عبادة بن
الثابت قال: قدم قوم من الشام حجاجا فأصابوا أدحى نعامة فيه خمس بيضات فشووهن وأكلوهن
ثم قالوا: ما أرانا الا وقد أخطانا والصيد أصبنا ونحن محرمون، فأتوا المدينة وقصوا على عمر
القصة فقال: انظروا إلى قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فاسألوهم عن ذلك
ليحكموا فيه فسألوا جماعة من الصحابة فاختلفوا في حكم ذلك فقال عمر: إذا اختلفتم
فههنا رجل كنا أمرنا إذا اختلفنا في شئ فيحكم فيه فأرسل إلى امرأة يقال لها
عطية فاستعار منها اتانا فركبها وانطلق بالقوم معه حتى اتى عليا وهو بينبع، فخرج إليه على
فتلقاه ثم قال له: هلا أرسلت إلينا، فنأتيك؟ - فقال عمر: الحكم يوتى في بيته فقص عليه
القوم فقال علي (ع) لعمر: مرهم فليعمدوا إلى خمس قلائص من الإبل فليطرقوها للفحل
فإذا أنتجت أهدوا ما نتج منها جزاء عما أصابوا، فقال عمر: يا أبا الحسن ان الناقة قد
تجهيض؟ - فقال على: وكذلك البيضة قد تمرق، فقال عمر: فلهذا أمرنا ان نسألك
بيان - قال الجوهري: مدحي النعامة موضع بيضها وادحيها موضعها الذي تفرخ
فيه وهو أفعول من: دحوت: لأنها تدحوه برجلها ثم تبيض فيه، وأجهضت الناقة اي أسقطت،
ومرقت البيضة اي فسدت، وقال الميداني في مجمع الأمثال وشارح اللباب
وغيرهما: في المثل السائر: في بيته يؤتى الحكم، هذا ما زعمت العرب عن ألسن
البهائم قال: ان الأرنب التقطت تمرة فاختلسها الثعلب فأكلها وانطلقا يختصمان إلى الضب
فقالت الأرنب: يا أبا الحسل فقال، سميعا دعوت، قالت: اتيناك لنختصم إليك، قال: عادلا
حكمتما، قالت، في بيته يؤتى الحكم، قالت: وجدت تمرة:، قالت: حلوة فكليها، قالت:
فاختلسها الثعلب قال لنفسه بغى الخير قالت: فلطمته: قال: بحقك أخذت، قالت: فلطمني
قال: حرا تنتصر، قالت: فاقض بيننا، قال حدث حدثين امرأة فان أبت فأربعة، فذهبت
أقواله كلها أمثالا، انتهى ".
234

وقضية المرأة زنت وهي حامل (1) فأمر عمر برجمها، وقضية المرأة التي ولدت لستة أشهر
فأمر عمر أيضا برجمها حتى نبه عليه السلام على أن ذلك أقل مدة الحمل بقوله تعالى:
وحمله وفصاله ثلاثون شهرا، وقد علم أن مدة الفصال سنتان فقال عمر في هذا المواضع:

(1) - هذه القضية في كتب معتبرة كثيرة راجع لبعض طرقه تاسع البحار (ص 483 من طبعة امين الضرب) فان أردت ملاحظة عدة من طرقها راجع تمام " باب قضاياه صلوات الله عليه
وما هدى قومه إليه مما أشكل من مصالحهم " ص 475 - 499 من المجلد المذكور.
وإنما نشير إلى موضع من موارد نقلها
قال العلامة المجلسي (ره) في تاسع البحار في " باب قضاياه (ع) وما هدى قومه إليه
مما أشكل عليهم " (ص 479 من طبعة امين الضرب): " قب (اي مناقب ابن شهرآشوب) وكان
الهيثم في جيش فلما جاء جاءت امرأته بعد قدومه بستة أشهر بولد، فأنكر ذلك منها وجاء به عمر
وقص عليه فأمر برجمها فأدركها علي (ع) من قبل ان ترجم ثم قال لعمر: أربع على نفسك انها صدقت
ان الله تعالى يقول: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا، وقال: والوالدات يرضعن أولادهن حولين
كاملين فالحمل والرضاع ثلاثون شهرا، فقال عمر: لولا على لهلك عمر، وخلى سبيلها وألحق
الولد بالرجل.
شرح ذلك أقل الحمل أربعون يوما وهو زمن انعقاد النطفة وأقله لخروج الولد حيا
سته أشهر، وذلك لان النطفة تبقى في الرحم أربعين يوما، ثم تصير علقة أربعين يوما، ثم تصير
مضغة أربعين يوما، ثم تتصور في أربعين يوما، وتلجها الروح في عشرين يوما، فذلك سته أشهر
فيكون الفطام في أربعة وعشرين شهرا، فيكون الحمل في سته أشهر ".
235

لولا على لهلك عمر، وبلفظ آخر لا عشت لمشكلة لا تكون لها يا أبا الحسن (1).
وجزئيات هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه مقنع لمن سلك طريق السداد وتنحى
عن (سبيل العناد)، والله ولى التوفيق والعصمة.

(1) - قال العلامة المجلسي (ره) في تاسع البحار في باب قضاياه بعد نقل حديث
فيه " فقال عمر: معضلة وليس له الا أبو الحسن " (ص 495 من طبعة امين الضرب) ما نصه:
" بيان - قال الجزري في النهاية: العضل المنع والشدة يقال: أعضل بي الامر
إذا ضاقت عليك فيه الحيل ومنه حديث عمر: أعوذ بالله من كل معضلة ليس لها أبو حسن،
وروى معضلة (اي بتشديد الضاد) أراد المسألة الصعبة أو الخطبة الضيقة المخارج من الاعضال
والتعضيل ويريد بأبي الحسن على ابن أبي طالب (ع) انتهى ".
أقول: يشبه كلام ابن الأثير من جهة نجم الأئمة الرضى (ره)
في شرح الكافية لابن الحاجب
وذلك أنه قال في مبحث لا التي لنفى الجنس ما نصه (ص 111 من طبعة تبريز سنة
1374: " وعلم أنه قد يؤول العلم المشتهر ببعض الخلال بنكرة فينتصب وينزع منه لام
التعريف إن كان فيه نحو: لا حسن، في الحسن البصري، وكذا لا صعق في الصعق، أو مما أضيف إليه نحو لا امرء قيس ولا ابن زبير، ولا يجوز هذه المعاملة في لفظي عبد الله وعبد الرحمن
إذ الله والرحمن لا يطلقان على غيره تعالى حتى يقدر تنكيرهما قال: لا هيثم الليلة للمطي، وقال
أرى الحاجات عند أبي حبيب * نكدن ولا أمية في البلاد
ولتأويله بالمنكر وجهان اما ان يقدر مضاف هو مثل فلا يتعرف بالإضافة لتوغله في الابهام
وإنما يجعل في صورة النكرة بنزع اللام وإن كان المنفى في الحقيقة هو المضاف المذكور
الذي لا يتعرف بالإضافة إلى اي معرف كان لرعاية اللفظ واصلاحه ومن ثم قال الأخفش:
على هذا التأويل يمتنع وصفه لأنه في صورة النكرة فيمتنع وصفه وهو معرفة في الحقيقة
فلا يوصف بنكرة.
واما ان يجعل العلم لاشتهاره بتلك الخلة كأنه اسم جنس موضوع لإفادة ذلك
المعنى لان معنى قضية: ولا أبا حسن لها، لا فيصل لها إذ هو عليه السلام كان فيصلا
للحكومات على ما قال النبي (ص) أقضاكم على، فصار اسمه كالجنس المفيد لمعنى الفصل
والقطع كلفظ الفيصل، وعلى هذا يمكن وصفه بالمنكر وهذا كما قالوا: لكل فرعون موسى،
اي لكل جبار قهار، فيصرف فرعون وموسى لتنكيرهما بالمعنى المذكور
وجوز الفراء اجراء المعرفة مجرى النكرة بأحد التأويلين في الضمير واسم الإشارة
أيضا نحو: لا إياه ههنا أو: لا هذا وهو بعيد غير مسموع ".
وإنما نقلناه هنا بطوله لكثرة فائدته ولمناسبته للمقام.
236

الفصل الثاني
في بيان اطلاعه عليه السلام على المغيبات وتمكنه
من خوارق العادات، وفيه بحثان:
البحث الأول - في اطلاعه على الأمور الغيبية ولنورد منها في هذا البحث
عشرة احكام:
الحكم الأول - ما حكم بوقوعه في حق عبيد الله بن زياد من قوله عليه السلام: اما
انه سيظهر عليكم بعدى رجل (1) رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب

(1) - قال شارح الكلمات ابن ميثم (ره) في شرحه على نهج البلاغة في شرح هذا
الكلام (183 من الطبعة الأولى):
" واختلف في مراده بالرجل فقال أكثر الشارحين: المراد معاوية لأنه كان بطينا
كثير الاكل: روى أنه كان يأكل فيمل فيقول: ارفعوا: فوالله ما شبعت ولكن مللت
وتعبث، وكان ذلك داء أصابه بدعاء الرسول (صلعم) روى أنه بعث إليه مرة فوجده يأكل،
فبعث إليه ثانية فوجده كذلك فقال: اللهم لا تشبع بطنه ولبعضهم في وصف آخر:
وصاحب لي بطنه كالهاوية * كأن في أحشائه معاوية
وقيل هو زياد بن أبي سفيان وهو زياد ابن أبيه، وقيل هو الحجاج، وقيل: المغيرة
بن شعبة (فخاض في الشرح فمن اراده فليراجع هناك) ".
وقال ابن أبي الحديد في شرحه (ج 1 من طبعة مصر ص 355):
" وكثير من الناس يذهب إلى أنه عليه السلام عنى زيادا، وكثير منهم يقول: انه عنى
الحجاج، وقال قوم: انه عنى المغيرة بن شعبة والأشبه عندي انه معاوية لأنه كان موصوفا
بالنهم وكثرة الاكل وكان بطينا يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه (إلى آخر ما قال).
أقول: فيما ذكره الشارحان المشار إليهما في شرح الكلام مطالب نفيسة ولولا أن
الخوض في نقلهما يفضى إلى اطناب لا يناسبه المقام لنقلت ما ذكراه (فان شئت، فراجع).
237

مالا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه، الا وانه سيأمركم بسبي والبراءة منى، فاما السب فسبوني
(فإنه لي زكاة ولكم نجاة) واما البراءة فلا تبرؤا منى، فانى ولدت على الفطرة وسبقت
إلى الاسلام والهجرة.
وكان ذلك الحكم صادقا كما هو المشهور من قصته.
الحكم الثاني - لما قتل عليه السلام الخوارج وقيل له هلك القوم بأجمعهم،
فقال (1) كلا والله انهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، كأنما نجم منهم قرن
قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلابين.
وكان من الخوارج ما كان كما قال.

(1) - نقله الشريف الرضى (ره) في باب الخطب من نهج البلاغة (راجع شرح ابن
ميثم ص 147 من الطبعة الأولى، وشرح ابن أبي الحديد طبعة مصر ج 1 ص 427).
238

الحكم الثالث - قوله عليه السلام (1): فتن كقطع الليل المظلم لا تقوم لها قائمة،
ولا ترد لها راية، تأتيكم مزمومة مرحولة، يحفزها قائدها، ويجهدها راكبها، أهلها قوم
أذلة عند المتكبرين، في الأرض مجهولون، وفى السماء معروفون، فويل لك يا بصرة
عند ذلك من جيش من نقم الله لا رهج له ولا حسن وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر
والجوع الأغبر.

(1) - هو أيضا مروى في باب الخطب من نهج البلاغة قال ابن ميثم (ره) في شرحه
(ص 254 من الطبعة الأولى):
أقول: يحفزها يدفعها من خلف، والكلب الشر، والأذلة جمع ذيل، والرهج
الغبار، والحس الصوت الخفي وقد نبه عليه السلام في هذا الفصل على ما سيقع بعده من
الفتن ويخص منها فتنة صاحب الزنج بالبصرة وشبه تلك الفتن بقطع الليل المظلم
ووجه الشبه ظاهر ولا تقوم لها قائمة اي لا يمكن مقابلتها بما يقومها ويدفعها وإنما
انث لكون القائمة في مقابلة الفتنة وقيل: لا تثبت لها قائمة فرس، واستعار لفظ الزمام
والرحل والحفز والقائد والراكب وجهده لها ملاحظة لشبهها بالناقة وكنى
بالزمام والرحل عن تمام اعداد الفتنة وتعنيتها كما أن كمال الناقة للركوب أن تكون
مزمومة مرحولة، وبقائدها عن أعوانها، وبراكبها عن منشئها المتبوع فيها، وبحفزها
وجهدها عن سرعتهم فيها، وأهلها إشارة إلى الزنج وظاهر شدة كلبهم وقلة سلبهم إذ
لم يكونوا أصحاب حرب وعدة وخيل كما يعرف ذلك من قصتهم المشهورة وكما سنذكر طرفا
منها فيما يستقبل من كلامه في فصل آخر وقد وصف مقاتليهم في الله بكونهم اذله عند المتكبرين
وكونهم مجهولين في الأرض اي ليسوا من أبناء الدنيا المشهورين بنعيمها، وكونهم معروفين
في السماء هو إشارة إلى كونهم من أهل العلم والايمان يعرفهم ربهم بطاعتهم وتعرفهم ملائكتهم
بعبادة ربهم.
ثم اردف ذلك بأخبار البصرة مخاطبا لها والخطاب لأهلها بما سيقع بها من فتنة الزنج
وظاهر انه لم يكن لهم غبار ولا أصوات إذ لم يكونوا أهل خيل ولا قعقعة لجم فإذا لا رهج لهم
ولاحس وظاهر كونهم من نقم الله للعصاة وان عمت الفتنة إذ قلما تخص العقوبة النازلة بقوم
بعضهم كما قال تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وقوله (ع): سيبتلى
أهلك بالموت الأحمر والجوع الأغبر، قيل فالموت الأحمر إشارة إلى قتلهم بالسيف
من قبل الزنج أو من قبل غيرهم ووصفه بالحمرة كناية عن شدته وذلك أن أشد الموت
ما كان بسفك الدم أقول: وقد فسره (ع) بهلاكهم من قبل الغرق كما نحكيه عنه وهو
أيضا في غاية الشدة لاستلزامه زهوق الروح (وكذلك وصف الأغبر لان أشد الجوع ما
اغبر معه الوجه وغير السحنة الصافية لقلة مادة الغذاء أو رداءته فلذلك سمى اغبر وقيل:
لأنه يلصق بالغبراء وهي الأرض.
وقد أشار عليه السلام إلى هذه الفتنة في فصل من خطبة خطب بها عند فراغه من
حرب البصرة وفتحها وهي خطبة طويلة حكينا منها فصولا تتعلق بالملاحم من ذلك فصل
يتضمن حال غرق البصرة فعند فراغه من ذلك الفصل قام إليه (إلى آخر ما ذكره، وهو طويل
لا يسعه المقام فمن اراده فيطلبه من هناك) ".
239

وكان من أحوال البصرة وموت أهلها بالطاعون وغير ذلك ما كان كما هو مشهور
من قصصها وذلك يدل على اطلاعه عليه السلام على ما لم يكن قبل كونه.
الحكم الرابع - قوله عليه السلام: ولو تعلمون ما أعلم مما طوى عنكم غيبه إذا
لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أعمالكم (1) وتلتدمون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم

(1) - قال الشريف الرضى (ره) بعد نقله في باب الخطب من نهج البلاغة (انظر
شرح نهج البلاغة لابن ميثم ص 280 من الطبعة الأولى):
" أقول: الوذحة الخنفساء وهذا القول يومى به إلى الحجاج وله مع الوذحة حديث
ليس هذا موضع ذكره " قال ابن ميثم في شرحه: " الصعدات جمع صعيد وهو وجه الأرض،
واللدم والالتدام ضرب الوجه ونحوه،. ورأي ميمون مبارك وقدما بضم القاف والدال
اي تقدموا ولم ينثنوا، والوجيف ضرب من السير فيه قوة والوذحة كما قيل: انها كنيه
للخنفساء، ولم ينقل ذلك في المشهور من كتب اللغة وإنما المشهور انها القطعة من
بعر الشاة تنعقد على أصواف أذنابها وتتعلق بها وهذا الفصل من خطبة له بالكوفة يستنهض
فيها أصحابه إلى حرب الشام ويتبرم من تقاعدهم عن صوته.
(إلى أن قال)
ثم بين لهم بعض ما سيلحقهم من الفتن العظيمة مما طوى عنهم غيبه، وهي فتنة الحجاج
بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن عامر بن معتب بن مليك بن كعب بن الاخلاف قوم من ثقيف
(إلى أن قال) ثم قال: ايه أبا وذحة وكلمة ايه اسم من أسماء فعل الامر يستدعى به الحديث
المعهود من الغير ان سكنت، وان نونت كانت لاستدعاء قول أو فعل ما، وقيل: التسكين
للوقف والتنوين للدرج. وأما تلقيبه (ع) له بأبي وذحة فروى في سبب ذلك أنه كان
يوما يصلى على سجادة له فدبت إليه خنفساء فقال: نحوها عنى فإنها وذحة من وذح الشيطان.
وروى أنه قال: قاتل الله قوما يزعمون أن هذه من خلق الله فقيل له: مما هي؟ - فقال:
من وذح إبليس وكأنه شبهها بالوذحة المتعلقة بذنب الشاة في حجمها أو شكلها فاستعار لها
لفظها، ونسبته لها إلى إبليس لاستقذاره إياها واستكراهه لصورتها، أو لأنها تشوشه
في الصلاة وروى أبو علي بن مسكويه: انه نحاها بقصبة وقال: لعنك الله وذحة من
وذح الشيطان ونقل بعض الشارحين ودجة (بالدال والجيم) وكنى ذلك عن كونه
سفاكا للدماء قطاعا للأوداج وفيه بعد ".
قال ابن أبي الحديد فيما قال في شرحه (ج 2، ص 257 من طبعة مصر):
" قال الرضى - رحمه الله - والوذحة الخنفساء ولم أسمع هذا من شيخ من أهل الأدب
ولا وجدته في كتاب من كتب اللغة ولا ادرى من أين نقل الرضى رحمه الله ذلك؟!
ثم إن المفسرين بعد الرضى - رحمه الله - قالوا في قصة هذه الخنفساء وجوها
منها - ان الحجاج رأى خنفساء تدب إلى مصلاه فطردها، فعادت ثم طردها، فعادت
فأخذها بيده وحذف بها فقرصته قرصا ورمت يده ورما كان فيه حتفه، قالوا: وذلك لان
الله تعالى قتله بأهون مخلوقاته كما قتل نمرود بن كنعان بالبقة التي دخلت في أنفه فكان
فيها هلاكه.
ومنها - ان الحجاج كان إذا رأى خنفساء تدب قريبة منه يأمر غلمانه بابعادها ويقول:
هذه وذحة من وذح الشيطان تشبيها لها بالبعرة، قالوا: وكان مغرى بهذا القول والوذح
ما يتعلق بأذناب الشاة من أبعارها فيجف.
ومنها - ان الحجاج قال وقد رأى خنفساوات مجتمعات: واعجبا لمن يقول: ان الله
خلق هذه، قيل فمن خلقها أيها الأمير؟ - قال: الشيطان، ان ربكم لأعظم شأنا ان يخلق
هذه الوذح قالوا: فجمعها على فعل كبدنة وبدن، فنقل قوله هذه إلى الفقهاء في عصره فأكفروه.
ومنها - ان الحجاج كان مثفارا وكان يمسك الخنفساء حيه ليشفى بحركتها في الموضع حكاكة، قالوا: ولا يكون صاحب هذه الداء الا شانئا مبغضا لأهل البيت،
قالوا: ولسنا نقول: كل مبغض فيه هذا الداء وإنما قلنا: كل من فيه هذا الداء
فهو مبغض، قالوا: وقد روى أبو عمر الزاهد ولم يكن من رجال الشيعة في أماليه
وأحاديثه عن السياري عن أبي خزيمة الكاتب قال: ما فتشنا أحدا فيه هذا الداء الا وجدناه
ناصبيا، قال أبو عمر: وأخبرني العطا في من رجاله قالوا: سئل جعفر بن محمد عليه السلام
عن هذا الصنف من الناس فقال: رحم منكوسة تؤتى ولا تأتى، وما كانت هذه الخصلة في
ولى الله تعالى قط ولا تكون ابدا وإنما تكون في الكفار والفساق والناصب للطاهرين وكان
أبو جهل عمر بن هشام المخزومي من القوم وكان أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وآله
قالوا: ولذلك قال له عتبة بن ربيعة يوم بدر: يا مصفرا استه.
فهذا مجموع ما ذكره المفسرون وما سمعته من أفواه الناس في هذا الموضع.
ويغلب على ظني انه (ع) أراد معنى اخر، وذلك أن عادة العرب ان تكنى
الانسان إذا أرادت تعظيمه بما هو مظنة التعظيم كقولهم: أبو الهول: أبو المقداد، وأبو المغوار،
فإذا أرادت تحقيره والغض منه كنته بما يستحقر ويستهان به كقولهم في كنية يزيد بن معاوية
أبو زنة، يعنون القرد، وكقولهم في كنية سعيد بن حفص البخاري المحدث، أبو الفار، وكقولهم
للطفيلي: أبو لقمة، وكقولهم لعبد الملك: أو الذبان، لبخره، وكقول ابن بسام لبعض الرؤساء:
فأنت لعمري أبو جعفر * ولكننا نحذف الفاء منه
وقال أيضا:
لئيم درن الثوب * نظيف القعب والقدر
أبو النتن أبو الدفر * أبو البعر أبو الجعر
فلما كان أمير المؤمنين عليه السلام يعلم من حال الحجاج نجاسته بالمعاصي
والذنوب التي لو شوهدت بالبصر لكانت بمنزلة الملتصق بشعر الشاء كناه أبو وذحة ويمكن
أيضا ان يكنيه بذلك لدمامته في نفسه وحقارة منظره وتشويه خلقته فإنه كان قصيرا دميما
نحيفا أخفش العينين معوج الساقين قصير الساعدين مجدور الوجه أصلع الرأس فكناه بأحقر -
الأشياء وهو البعرة.
وقد روى قوم هذه اللفظة بصيغة أخرى فقالوا ايه أبا ودجة، قالوا:
هي واحدة لأوداج، كناه بذلك لأنه كان قتالا يقطع الأوداج بالسيف، ورواه قوم أبا وحرة
وهي دويبة تشبه الحرباء قصيرة الظهر شبهه بها.
وهذا وما قبله ضعيف، وما ذكرناه نحن أقرب إلى الصواب ".
240

لا حارس لها ولا خالف عليها، ولهمت كل امرئ منكم نفسه لا يلفت إلى غيرها ولكنكم
نسيتم ما ذكرتم، وأمنتم ما حذرتم، فتاه عنكم رأيكم، وتشتت عليكم امركم، ولوددت ان
الله فرق بيني وبينكم وألحقني بمن هو أحق بي منكم، قوم والله ميامين الرأي، مراجيح -
الحلم، مقاويل بالحق، متاريك للبغي، مضوا قدما على الطريقة، وأوجفوا على المحجة،
فظفروا بالعقبى الدائمة، والكرامة الباردة، اما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيال
241

الميال يأكل خضرتكم، ويذهب شحمتكم، ايه أبا وذحة.
والمراد ههنا فتنة الحجاج، والوذحة الخنفساء، وسبب نسبته إليها انه كان جالسا
يوما على سجادة له فإذا خنفساء قد أقبلت تدب إليه فقال: نحوا هذه فإنها وذحة من
وذح الشيطان.
قال أهل اللغة: الوذحة ما تعلق بأصواف الضان من بعرها وبولها، وهذا الحكم غيبي.
الحكم الخامس - قوله عليه السلام للأحنف وهو مما كان يخبر به عن الملاحم
بالبصرة: يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا قعقعة لجم، ولا
242

حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام، ويل لسككهم العامرة
والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك
الذين لا يندب قتيلهم، ولا يفقد غائبهم (1).

(1) - قال ابن ميثم (ره) في شرحه على نهج البلاغة في شرح هذا الكلام
ضمن ما قال (ص 290 من الطبعة الأولى):
" والضمير في قوله (ع): كأني به لصاحب الزنج واسمع علي بن محمد علوي النسب،
والجيش المشار إليه هم الزنج، وواقعتهم بالبصرة مشهورة، واخبارهم وبيان أحوالهم وتفصيل
واقعتهم يشتمل عليها كتاب منفرد في نحو من عشرين كراسة فليطلب علمها من هناك.
واما وصف ذلك الجيش بالأوصاف المذكورة فلان الزنج لم يكونوا أهل -
خيل ولا جند من قبل حتى يكون بالأوصاف المشار إليها، واثارتهم التراب بأقدامهم كناية
عن كونهم حفاة في الأغلب مشققي الاقدام فهي من اعتياد الحفاء ومباشرة الأرض كالخشب
ونحوه فكانت مظنة إثارة التراب عوضا عن حوافر الخيل، ووجه شبهها بأقدام النعام
ان أقدامهم في الأغلب قصار عراض منتشرة الصدور ومفرقات الأصابع فهي من عرضها لا يتبين
لها طول فأشبهت اقدام النعام في بعض تلك الأوصاف.
ثم أخبر بالويل لمحال البصرة ودورها المزوقة من أولئك واستعار
لدورها لفظ الأجنحة وأراد بها القطانيات التي تعمل من الأخشاب والبواري بارزة عن السقوف
كالوقاية للمشارف والحيطان عن آثار الأمطار وهي أشبه الأشياء في هيئتها وصورة وضعها
بأجنحة كبار الطير كالنسور، وكذلك استعار لفظ خراطيم الفيلة للميازيب التي تعمل من
الخوص على شكل خرطوم الفيل وتطلى بالقار يكون نحوا من خمسة أذرع وازيد تدلى
من السطوح حفظا للحيطان اذى السيل أيضا وهي أشبه الأشياء في صورتها بخراطيم الفيلة.
واما وصفه (ع) لهم بأنه لا يندب قتيلهم ولا يفقد غائبهم، قال بعض الشارحين:
ذلك وصف لهم بشدة البأس والحرص على الحرب والقتال وانهم لا يبالون بالموت
ولا يأسفون على من فقد منهم، وأقول: والأشبه ان ذلك لكونهم لا أصول لهم ولا أهل
لأكثرهم من أم أو أخت أو غير ذلك ممن عادته ان ينوح ويندب قتيله ويفتقد غائبه لكون
أكثرهم غرباء في البصرة ممن قتل منهم لا يكون له منهم من يندبه، ومن غاب لا يكون له من يفقده ".
أقول: لهذا الكلام الشريف ذيل قد نقله السيد (ره) في نهج البلاغة وهو:
" انا كأب الدنيا لوجهها، وقادرها بقدرها، وناظرها بعينها ".
ومن أراد شرحه فليطلبه من الشروح.
ثم اعلم أن ابن أبي الحديد شرح الكلام بما لا مزيد عليه وأظن أن ابن ميثم (ره) أشار
بكلامه " وبيان اخبارهم يشتمل عليها كتاب منفرد في نحو من عشرين كراسة " إلى ما ذكر
ابن أبي الحديد في شرحه فمن أراد التفصيل فليراجع ذلك الشرح (ج 2 ص 310 - 361 من
طبعة مصر).
243

والإشارة في هذا الكلام إلى صاحب الزنج وهو علي بن محمد العلوي ويكنى بالبرقعي
244

لأنه كان يمشى متبرقعا وكان مولده بالري من قرية يقال هلا ورزنين (1) وكان قد خرج
فاضلا بارعا، ذهب إلى البصرة ودعا الزنج إلى نفسه وقرر مع كل واحد منهم ان يقتل
سيده ويزوجه بمولاته، فأطاعوه بأجمعهم على ذلك وفعلوا ما فعلوا، وقصتهم
مشهورة، وذلك مستلزم لاطلاعه على ما لم يكن.
الحكم السادس - قوله عليه السلام (2):
كأني به وقد نعق بالشام وفحص براياته في ضواحي كوفان فعطف إليها عطف

(1) - قال ياقوت في معجم البلدان: " وزرنين من أعيان قرى الري كالمدينة ".
(2) - لهذا الكلام ذيل نقله السيد (ره) بهذه العبارة (انظر شرح ابن ميثم (ره) ص 299
من الطبعة الأول): " واعلموا ان الشيطان إنما يسنى لكم طرقه لتتبعوا عقبه "
وقال ابن ميثم (ره) في شرح الكلام هناك: " وقد أخبر في هذا الفصل انه سيظهر
رجل بهذه الصفات قال بعض الشارحين: هو عبد الملك بن مروان وذلك لأنه ظهر بالشام حين
جعله أبوه الخليفة من بعده وسار لقتال مصعب بن الزبير إلى الكوفة بعد أن قتل مصعب المختار
بن أبي عبيدة الثقفي فالتقوا بأرض مسكن بكسر الكاف من نواحي الكوفة ثم قتل مصعبا ودخل
الكوفة فبايعه أهلها، وبعث الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن الزبير بمكة فقتله وهدم الكعبة
وذلك سنه ثلاث وسبعين من الهجرة وقتل خلقا عظيما من العرب في وقائع عبد الرحمن بن
الأشعث ورمى الناس بالحجاج بن يوسف. "
أقول: يريد بذلك ابن أبي الحديد فراجع شرحه لنهج البلاغة ان شئت (ج 2،
ص 408 من طبعة مصر) وفى شرح ابن ميثم أيضا لطائف في شرح الكلام فان أردتها
فراجع هنا.
245

الضروس وفرش الأرض بالرؤوس، قد فغرت فاغرته وثقلت في الأرض وطأته، بعيد الجولة
عظيم الصولة، والله ليشردنكم في أطراف الأرض حتى لا يبقى منكم إلا قليل كالكحل
في العين، فلا تزالون كذلك حتى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها فالزموا السنن
القائمة والآثار البينة والعهد القريب الذي عليه باقي النبوة.
وهذا الحكم إشارة إلى بعض من يخرج في آخر الزمان كالسفياني وغيره
الحكم السابع - من خطبة له عليه السلام (1):
فعند ذلك الا يبقى بيت مدر ولا وبر الا وأدخله الظلمة ترحة، وأولجوا فيه نقمة،
فيومئذ لا يبقى لهم في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر، أصفيتم بالامر غير أهله، وأوردتموه
غير مورده، وسينتقم الله ممن ظلم مأكلا بمأكل ومشربا بمشرب من مطاعم العلقم،
ومشارب الصبر والمقر، ولباس شعار الخوف، ودثار السيف، وإنما مطايا الخطيئات
وزوامل الآثام، فأقسم ثم أقسم لتنخمنها أمية من بعدى كما تلفظ النخامة، ثم لا تذوقها
ولا تطعم بطعمها أبدا ماكر الجديدان.
وهذا الحكم إشارة إلى ما كان من بنى أمية بعده.
الحكم الثامن - وأشار فيه إلى وصف الأتراك وما يكون في دولتهم (2):
كأني أراهم قوما كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون السرق والديباج، ويعتقبون
الخيل العتاق، ويكون هناك استحرار قتل حتى يمشى المجروح على المقتول، ويكون المفلت
أقل من المأسور، فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب،
فضحك عليه السلام وقال للرجل وكان كلبيا: يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب وإنما هو تعلم من

(1) - ان شئت شرحه فانظر ص 328 من الطبعة الأولى من شرح نهج البلاغة لابن ميثم،
أو شرح ابن أبي الحديد، ج 2 ص 466 من طبعة مصر.
(2) - انظر ص 291 من الطبعة الأولى من شرح نهج البلاغة لابن ميثم، ص 361 من
ج 2 من شرح ابن أبي الحديد من طبعة مصر.
246

ذي علم، وأنما علم الغيب علم الساعة، وما عدده الله سبحانه بقوله: ان الله عنده علم
الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام (الآية) فيعلم ما في الأرحام من ذكر أو أنثى،
وقبيح أو جميل، وسخي أو بخيل، وشقي أو سعيد، ومن يكون للنار حطبا أوفى الجنان
للنبيين مرافقا، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد الا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله
نبيه - صلى الله عليه وآله - فعلمنيه ودعا لي بان يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي.
واعلم أنه عليه السلام قصد بذلك اقناع المتكلم بهذا الكلام مع صدقه ومطابقته
لما أردناه، فان معنى تعليم النبي (ص) له عليه السلام لهذه العلوم هو اعداده لنفسه على طول
الصحبة وتعليمه له كيفية السلوك وأسباب تطويع النفس الامارة للنفس المطمئنة من
أنواع الرياضات حتى استعدت نفسه للانتقاش بالأمور الغيبية والاخبار بها، وأكد
ذلك الاعداد بدعائه عليه السلام الصادر عن نفسه القدسية المتصرفة في عالم الكون والفساد
وذلك مقرر لما أردناه.
الحكم التاسع - ما روى عنه عليه السلام (1): من أنه لما قاتل أبو بكر مسيلمة وأسرت

(1) - قال المجلسي (ره) في المجلد التاسع من البحار في باب أحوال أولاد
أمير المؤمنين علي (ع) وأزواجه (ص 618 - 619 من طبعة امين الضرب ما نصه): " يج (اي
الخرائج والجرائح للقطب الراوندي) عن دعبل الخزاعي قال: حدثني الرضا عن أبيه عن جده
عليهم السلام قال: كنت عند أبي الباقر إذ دخل عليه جماعة من الشيعة وفيهم جابر بن يزيد
فقالوا: هل رضى أبوك على بامامة الأول والثاني؟ - قال: اللهم، لا قالوا: فلم نكح من
سبيهم خولة الحنفية إذا لم يرض بإمامتهم؟ - فقال الباقر: امض يا جابر بن يزيد إلى منزل -
جابر بن عبد الله الأنصاري فقل له: ان محمد بن علي يدعوك، قال جابر بن زيد فأتيت منزله
وطرقت عليه الباب فناداني جابر بن عبد الله الأنصاري من داخل الدار: اصبر يا جابر بن يزيد،
قلت في نفسي من أين علم جابر الأنصاري انى جابر بن يزيد ولا يعرف الدلائل الا الأئمة من آل -
محمد عليهم السلام والله لأسألنه إذا خرج إلى، فلما خرج قلت له: من أين علمت انى جابر
وانا على الباب وأنت داخل الدار؟ - قال: خبرني مولاي الباقر (ع) البارحة انك تسأله عن
الحنفية في هذا اليوم وانا ابعثه إليك يا جابر بكرة غد وادعوك فقلت: صدقت، قال: سربنا
فسرنا جميعا حتى اتينا المسجد فلما بصر مولاي الباقر (ع) بنا ونظر إلينا قال للجماعة: قوموا
إلى الشيخ فاسألوه حتى ينبئكم بما سمع ورأي: فقالوا يا جابر هل راض امامك علي بن أبي -
طالب (ع) بامامة من تقدم؟ - قال: اللهم، لا قالوا: فلم نكح من سبيهم إذا لم يرض
بإمامتهم؟ - قال جابر: آه آه لقد ظننت أنى أموت ولا اسأل عن هذا إذ سألتموني فاسمعوا وعوا.
حضرت السبي وقد أدخلت الحنفية فيمن ادخل فلما نظرت إلى جمع الناس عدلت إلى
تربة رسول الله (ص) فرنت رنة وزفرت زفرة وأعلنت بالبكاء والنحيب ثم نادت: السلام عليك
يا رسول الله وعلى أهل بيتك من بعدك، هؤلاء أمتك سبتنا سبى النوب والديلم، والله ما كان
لنا إليهم من ذنب الا الميل إلى أهل بيتك فجعلت الحسنة سيئة والسيئة حسنة فسبينا،
ثم انعطفت إلى الناس وقالت: لم سبيتمونا وقد أقررنا بشهادة ان لا إله إلا الله وأن محمدا
(ص) رسول الله؟ - قالوا: منعتمونا الزكاة، قال: هب ان الرجال منعوكم فما بال -
النسوان؟ - فسكت المتكلم كأنما ألقم حجرا.
ثم ذهب إليها طلحة وخالد يرميان في التزويج إليها ثوبين فقالت: لست بعريانة
فتكسواني، قيل إنهما يريدان ان يتزايدا عليك فأيهما زاد على صاحبه اخذك من السبي، قالت: هيهات والله لا يكون ذلك ابدا ولا يملكني ولا يكون لي ببعل الامن يخبرني بالكلام
الذي قلته ساعة خرجت من بطن أمي، فسكت الناس ينظر بعضهم إلى بعض وورد عليهم من
ذلك الكلام ما أبهر عقولهم وأخرس ألسنتهم وبقى القوم في دهشة من أمرها، فقال أبو بكر:
مالكم ينظر بعضكم إلى بعض؟ - قال الزبير: لقولها الذي سمعت، قال أبو بكر: ما هذا الامر
الذي أحصر أفهامكم، انها جارية من سادات قومها ولم يكن لها عادة بما لقيت ورأت، فلاشك
انها داخلها الفزع وتقول مالا تحصيل له، فقالت رميت بكلامك غير مرمى، والله ما داخلني
فزع ولا جزع ووالله ما قلت، الا حقا ولا نطقت الا فصلا ولابد أن يكون كذلك، وحق صاحب
هذه البينة ما كذبت، ثم سكتت وأخذ طلحة وخالد ثوبيهما وهي قد جلست ناحية من القوم.
فدخل على ابن أبي طالب عليه السلام فذكروا له حالها فقال: هي صادقة فيما
قالت وكان حالتها وقصتها كيت وكيت في حال ولادتها وقال: ان كل ما
تكلمت به في حال خروجها من بطن أمها هو كذا وكذا ذلك مكتوب على لوح معها،
فرمت باللوح إليهم لما سمعت كلامه (ع) فقرؤوها على ما حكى على ابن أبي طالب (ع) لا يزيد
حرفا ولا ينقص قال: فقال أبو بكر: خذها يا أبا الحسن بارك الله لك فيها.
فوثب سلمان فقال: والله ما لاحد ههنا منة على أمير المؤمنين بل لله المنة ولرسوله
ولأمير المؤمنين، والله ما اخذها الا بمعجزه الباهر وعلمه القاهر وفضله الذي يعجز عنه كل ذي فضل
ثم قال المقداد: ما بال أقوام قد أوضح الله لهم الطريق للهداية فتركوه واخذوا طريق -
العمى وما من قوم الا وتبين لهم فيه دلائل أمير المؤمنين، وقال أبو ذر: واعجبا لمن يعاند
الحق وما من وقت الا وينظر إلى بيانه أيها الناس قد تبين لكم فضل أهل الفضل ثم قال:
يا فلان اتمن على أهل الحق بحقهم وهم بما في يديك أحق وأولى..؟ - وقال عمار:
أناشدكم بالله اما سلمنا على أمير المؤمنين على ابن أبي طالب في حياة رسول الله (ص) بإمرة المؤمنين
، فزجره عمر عن الكلام فقام أبو بكر فبعث علي (ع) خولة إلى بيت أسماء بنت -
عميس وقال لها: خذي هذه المرأة وأكرمي مثواها، فلم تزل خولة عند أسماء بنت عميس
إلى أن قدم أخوها فتزوجها على ابن أبي طالب عليه السلام.
فكان الدليل على علم أمير المؤمنين وفساد ما يورده القوم من سبيهم وانه (ع)
تزوجها نكاحا فقالت الجماعة:
يا جابر أنقذك الله من حر النار كما أنقذتنا من حرارة الشك ".
وقال أيضا العلامة المجلسي (ره) في تاسع البحار
في باب معجزات كلامه من اخباره بالغائبات (ص 582 من طبعة امين الضرب):
يج - روى أنه لما قعد أبو بكر بالامر بعث خالد بن الوليد إلى بنى حنيفة ليأخذ زكوات
أموالهم فقالوا لخالد: ان رسول الله (ص) كان يبعث كل سنة رجلا يأخذ صدقاتنا من الأغنياء
من جملتنا ويفرقها في فقرائنا فافعل أنت كذلك، فانصرف خالد إلى المدينة فقال لأبي بكر:
انهم منعونا من الزكاة فبعث معه عسكرا فرجع خالد وأتى بنى حنيفة وقتل رئيسهم وأخذ
زوجته ووطئها في الحال وسبى نسوانهم ورجع بهن إلى المدينة وكان ذلك الرئيس صديقا
لعمر في الجاهلية فقال عمر لأبي بكر: اقتل خالد به بعد أن تجلده الحد لما فعل بامرأته فقال
له أبو بكر: ان خالدا ناصرنا تغافل وأدخل السبايا في المسجد وفيهن خولة فجاءت
إلى قبر رسول الله (ص) والتجأت به وبكت وقالت: يا رسول الله (ص) أشكو إليك أفعال هؤلاء القوم، سبونا من غير ذنب ونحن مسلمون ثم قالت: أيها الناس لم سببتمونا ونحن نشهد ان
لا إله إلا الله وان محمد (ص) رسول الله؟ - فقال أبو بكر: منعتم الزكاة فقالت: الامر ليس
على ما زعمت إنما كان كذا وكذا، وهب الرجال منعوكم فما بال النسوان المسلمات يسبين..!؟
واختار كل رجل منهم واحدة من السبايا وجاء طلحة وخالد بن عنان ورميا بثوبين إلى خولة
فأراد كل واحد منهما ان يأخذها من السبي قالت: لا يكون هذا ابدا.
ولا يملكني الا من خبرني بالكلام الذي قلته ساعة ولدت، قال أبو بكر: قد فزعت من
القوم وكانت لم تر مثل ذلك قبله فتكلم بما لا تحصيل له فقالت: والله انى صادقة إذ جاء
على ابن أبي طالب فوقف ونظر إليهم واليها وقال (ع): اصبروا حتى أسالها عن حالها
ثم ناداها يا خولة اسمعي الكلام ثم قال: لما كانت أمك حاملا بك وضربها الطلق
واشتد بها الامر نادت: اللهم سلمني من هذا المولود فسبقت تلك الدعوة بالنجاة فلما وضعتك
ناديت من تحتها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله (ص)، عما قليل سيملكني سيد سيكون له
منى ولد، فكتبت أمك ذلك الكلام في لوح نحاس فدفنته في الموضع الذي سقطت فيه، فلما
كانت الليلة التي قبضت أمك فيها وصت إليك بذلك فلما كان وقت سبيكم لم يكن لك
همة الا أخذ اللوح فأخذتيه وشددتيه على عضدك الأيمن هاتي اللوح فأنا صاحب ذلك
اللوح وأنا أمير المؤمنين وأنا أبو ذلك الغلام الميمون واسمه محمد، قال: فرأيناها وقد
استقبلت القبلة وقالت: اللهم أنت المتفضل المنان أوزعني ان اشكر نعمتك التي أنعمت
على ولم تعطها لاحد الا وأتممتها عليه، اللهم بصاحب هذه التربة والناطق المنبئ بما هو
كائن الا أتممت فضلك على، ثم أخرجت اللوح ورمت به إليه، وأخذه أبو بكر وقرأه عثمان فإنه
كان أجود القوم قراءة، وما ازداد ما في اللوح على ما قال علي (ع) وما نقص، فقال أبو بكر:
خذها يا أبا الحسن، فبعث بها علي (ع) إلى بيت أسماء بنت عميس فلما دخل أخوها تزوج بها
وعلق بمحمد وولدته ".
أقول: نقل السيد هاشم البحراني - قدس سره - هذه القضية في مدينة المعاجز من كتاب
سير الصحابة بطريقين آخرين واختلاف في بعض خصوصياتها مع ما نقل هنا، فمن أراد ان يلاحظها
بذلكما الطريقين فليراجع كتاب مدينة المعاجز ص 129 - 128 (من النسخة المطبوعة).
247

الحنفية وجيئ بها إلى المدينة فلما وقفت بين يدي أبى بكر دنا إليها طلحة والزبير فوضعا
عليها ثوبين، فنفرت من ذلك وقالت: ولست بعريانة فقيل لها: انهما يتزايدان فيك
ويأخذك أحدهما من حقه، فقالت: لا يكون ذلك ولن يملكني الا من يخبرني بما قلته حين
ولادتي، فنظر بعض القوم إلى بعض متعجبين من قولها، فقال بعضهم: إنما ذلك من دهشها
وفزعها، فقالت: والله ما داخلني فزع ولا جزع وما قلت الا حقا ثم جلست ناحية، فلما
حضر أمير المؤمنين علي عليه السلام وقف ثم ناداها: يا خولة، فقالت، لبيك ووثبت فقال:
248

لما كانت أمك حاملا بك وضربها الطلق واشتد عليها الامر دعت الله وقالت: اللهم
سلمني من هذا المولود سالما كان أو هالكا فسبقت الدعوة بالنجاة فناديت من
تحتها: لا إله إلا الله يا أماه لم تدعين على؟ - وعما قليل سيملكني سيد يكون لي منه ولد
249

فكتبت أمك ذلك في لوح نحاس فدفنته في الموضع الذي فيه سقطت، فما
حضرت أمك الوفاة أوصت إليك بذلك فلما كان وقت سبيك أخذت ذلك اللوح
وشددته على عضدك الأيمن، هاتي اللوح فأنا صاحبه وأبو ذلك الغلام الميمون، واسمه محمد، فأخرجته فأخذه أبو بكر ودفعه إلى عثمان، فقرأه على الناس فبكت طائفة واهتز آخرون
250

فلم يخالف مما قال حرفا، وقالوا عن رأس: صدق رسول الله إذ قال: أنا مدينة العلم وعلى
بابها، وعندها قال أبو بكر رضي الله عنه: خذها يا أبا الحسن بارك الله لك فيها.
وهذا من عجيب اطلاع نفسه القدسية على المغيبات.
الحكم العاشر - روى أن رجلا جاء إليه عليه السلام وهو على المنبر وقال:
يا أمير المؤمنين انى مررت بوادي القرى فرأيت خالد بن عرفطة قد مات به فاستغفر له فقال
251

عليه السلام له: انه لم يمت وانه لن يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب بن حماد (1) فقام إليه رجل من تحت المنبر وقال: يا أمير المؤمنين والله انى لك شيعه وانى
محب لك، فقال له: من أنت؟ - فقال: انا حبيب بن حماد فقال: إياك ان تحملها

(1) - قال العلامة المجلسي (ره) في تاسع البحار في باب معجزات كلامه من
اخباره بالغائبات وعمله باللغات (ص 585 من طبعة امين الضرب):
" ومستفيض في أهل العلم عن الأعمش وابن محبوب عن الثمالي والسبيعي كلهم
عن سويد بن غفلة وقد ذكره أبو الفرج الأصفهاني في أخبار الحسن انه قيل لأمير المؤمنين (ع)
ان خالد بن عرفطة قد مات فقال (ع): انه لم يمت ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب
لوائه حبيب بن جماز (الحديث كما في المتن) ".
وقال ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة في شرح كلام لأمير المؤمنين
عليه السلام يجرى مجرى الخطبة (ج 1 من طبعة مصر ص 208):
" هذا كلام قاله عليه السلام لما تفرس في قوم من عسكره انهم يتهمونه فيما يخبرهم
به عن النبي صلى الله عليه وآله من اخبار الملاحم والغائبات وقد شك منهم جماعة في أقواله
ومنهم من واجهه بالشك والتهمة وروى ابن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن زكريا
بن يحيى العطار عن فضيل عن محمد بن علي قال لما قال عليه السلام: سلوني قبل ان تفقدوني
فوالله لا تسألون عن فئة تضل مائه وتهدى مائه الا أنبأتكم بناعقها وساعقها، قام إليه رجل
فقال: أخبرني بما في راسي ولحيتي من طاقة شعر، فقال له عليه السلام: والله لقد حدثني
خليلي ان على كل طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك، وان على كل طاقة شعر من لحيتك شيطانا
يغويك، وان في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وكان ابنه قاتل الحسين
عليه السلام يومئذ طفلا يحبو وهو سنان بن انس النخعي.
وروى الحسن بن محبوب عن ثابت الثمالي عن سويد بن غفلة ان عليا عليه السلام خطب
ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال: يا أمير المؤمنين انى مررت بوادي القرى فوجدت
خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له فقال عليه السلام انه لم يمت (فذكر الحديث إلى آخره وذكر
نظائر له فان شئت فراجع هناك) ".
252

ولتحملنها وتدخل بها من هذا الباب، وأوما بيده إلى باب الفيل، فلما كان وقت ظهور
الحسين بن علي وبعث ابن زياد عمر بن سعد إليه جعل خالد بن عرفطة على مقدمته وحبيب
بن حماد صاحب رايته فسار بها حتى دخل المسجد من باب الفيل.
والاخبار المروية في هذا الباب كثيرة (1) وفيما ذكرناه كفاية في التنبيه على المطلوب.

(1) - قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة في شرح خطبة من فقراتها
" فاسألوني قبل ان تفقدوني فوالذي نفسي بيده الا تسألونني عن شئ فيما بينكم وبين الساعة
ولا عن فئه تهدى مائة وتضل مائة الا أنبأكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط
رحالها ومن يقتل من أهلها قتلا ومن يموت منهم موتا " (ج 2 من طبعة مصر ص 175 - 176):
" واعلم أنه (ع) قد أقسم في هذا الفصل بالله الذي نفسه بيده انهم لا يسألونه عن أمر يحدث
بينهم وبين القيامة الا أخبرهم به وانه ما صح من طائفة من الناس يهتدى بها مائة وتضل بها
مائة الا وهو مخبر لهم ان سألوه برعاتها وقائدها وسائقها ومواضع نزول ركابها وخيولها ومن يقتل
منها قتلا ومن يموت منها موتا وهذه الدعوى ليست منه عليه السلام ادعاء الربوبية
ولا ادعاء النبوة ولكنه كان يقول: ان رسول الله (ص) أخبره بذلك ولقد
امتحنا أخباره فوجدناها موافقا فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة
كأخباره عن الضربة التي يضرب في رأسه فتخضب لحيته، واخباره عن قتل الحسين ابنه
عليهما السلام، وما قاله في كربلا حيث مربها، واخباره بملك معاوية الامر من بعده، واخباره
عن الحجاج، وعن يوسف بن عمر، وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان وما قدمه إلى أصحابه
من اخباره بقتل من يقتل منهم وصلب من يصلب، وأخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين
واخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لما شخص عليه السلام إلى البصرة لحرب أهلها،
واخباره عن عبد الله بن الزبير وقوله فيه: خب ضب يروم أمرا ولا يدركه، ينصب حبال الدين
لاصطياد الدنيا وهو بعد مصلوب قريش، وكاخباره عن هلاك البصرة بالغرق وهلاكها تارة
أخرى بالزنج وهو الذي صحفه قوم فقالوا: بالريح، وكاخباره عن ظهور الرايات السود من
خراسان، وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببنى رزيق بتقديم المهملة وهم آل مصعب
الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية،
وكاخباره عن الأئمة الذين ظهروا من ولده بطبرستان كالناصر والداعي وغيرهما في قوله
عليه السلام: وان لآل محمد بالطالقان لكنزا سيظهره الله إذا شاء، دعاؤه حق يقوم بإذن الله
فيدعو إلى دين الله، وكاخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة، وقوله، انه يقتل عند أحجار -
الزيت، وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباخمرى يقتل بعد أن يظهر ويقهر بعد أن يقهر
وقوله فيه أيضا: يأتيه سهم غرب يكون فيه منيته فيا بؤسا للرامي شلت يده ووهن عضده،
وكاخباره عن قتلى و ج وقوله فيهم: هم خير أهل الأرض، وكاخباره عن المملكة العلوية
بالغرب وتصريحه بذكر كتامة، وهم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلم، وكقوله وهو يشير
إلى أبى عبد الله المهدى وهو أولهم ثم يظهر صاحب القيروان الغض النض ذو النسب المحض
المنتخب من سلالة ذي البداء المسجى بالرداء وكان عبيد الله المهدى ابيض مترفا مشربا
بحمرة رخص البدن تار الأطراف، وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد عليهما السلام وهو المسجى
بالرداء لان أباه أبا عبد الله جعفرا سجاه بردائه لما مات وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه
ليعلموا موته وتزول عنهم الشبهة في أمره، وكاخباره عن بنى بويه: وقوله فيهم: ويخرج
من ديلمان بنو الصياد إشارة إليهم وكان أبوهم صياد السمك يصيد منه بيده ما يتقوت هو
وعياله بثمنه فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكا ثلاثة ونشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال
بملكهم، وكقوله عليه السلام فيهم: يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء ويخلعوا الخلفاء
فقال له قائل: فكم مدتهم يا أمير المؤمنين؟ - فقال: مائه أو تزيد قليلا، وكقوله فيهم:
والمترف بن الأجذم يقتله ابن عمه على دجلة وهو إشارة إلى عز الدولة بختيار بن معز الدولة
أبى الحسين وكان معز الدولة أقطع اليد قطعت يده النكوص في الحرب وكان ابنه عز الدولة
بختيار مترفا صاحب لهو وطرب وقتله عضد الدولة فناخسرو ابن عمه بقصر الجص على دجلة
في الحرب وسلبه ملكه، فأما خلعهم للخلفاء فان معز الدولة خلع المستكفى ورتب عوضه
المطيع، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع ورتب عوضه القادر، وكانت مدة
ملكهم كما أخبر به عليه السلام، وكاخباره عليه السلام لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى
عن انتقال الامر إلى أولاده فان علي بن عبد الله لما ولد أخرجه أبوه عبد الله إلى علي عليه السلام
فأخذه وتفل في فيه وحنكه بتمرة قد لاكها ودفعه إليه وقال: خذ إليك أبا الاملاك، هكذا
الرواية الصحيحة وهي التي ذكرها أبو العباس المبرد في كتابه الكامل وليست الرواية التي
يذكر فيها العدد بصحيحة ولا منقولة من كتاب معتمد عليه.
وكم له من الاخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى مما لو أردنا استقصاء لكسرنا
له كراريس كثيرة وكتب السير تشتمل عليها مشروحة.
فان قلت: لماذا غلا الناس في أمير المؤمنين عليه السلام فادعوا فيه الإلهية لاخباره
عن الغيوب التي شاهدوا صدقها عيانا ولم يغلوا في رسول الله صلى الله عليه وآله فيدعوا له
الإلهية واخباره عن الغيوب الصادقة قد سمعوها وعلموها يقينا وهو كان أولى بذلك لأنه الأصل
المتبوع، ومعجزاته أعظم واخباره عن العيوب أكثر؟ قلت: ان الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وشاهدوا معجزاته وسمعوا اخباره
عن الغيوب الصادقة عيانا كانوا أشد آراء وأعظم أحلاما وأوفر عقولا من تلك الطائفة
الضعيفة العقول السخيفة الأحلام الذين رأوا أمير المؤمنين عليه السلام في آخر أيامه كعبد الله
بن سبأ وأصحابه فإنهم كانوا من ركاكة البصائر وضعفها على حال مشهورة فلا عجب عن مثلهم
ان تستخفهم المعجزات فيعتقدوا في صاحبها ان الجوهر الإلهي قد حله لاعتقادهم انه لا يصح
من البشر هذا الا بالحلول ".
أقول: لكلامه ذيل فمن اراده فليطلبه من هناك، ونقله العلامة المجلسي (ره) مع
زيادة على ما نقلناه في تاسع البحار في باب معجزات كلامه من اخباره بالغائبات (ص 593 -
594 من طبعة امين الضرب) فإذا كان الامر كذلك فالخوض في نقل هذه المعجزات من
قبيل تحصيل الحاصل وتوضيح الواضح فالأولى الاكتفاء بالإشارة ولا سيما في أمثال هذه
الكتب المختصرة كما اكتفى بها الشارح قدس الله سره.
253

البحث الثاني
في بيان تمكنه عليه السلام من الافعال الخارقة للعادة
ولنذكر منها عشر آيات
الآية الأولى - روى عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال: خرج
أمير المؤمنين عليه السلام بالناس يريد صفين وعبر الفرات وكان غربي الجبل بصفين إذ
254

حضرت صلاة المغرب فأمر فنزلوا ثم توضأ وأذن فلما فرغ من الاذان انفلق الجبل عن
هامة بيضاء ووجه أبيض فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته مرحبا
بوصى خاتم النبيين العالم المؤمن الفاضل الفائق ميزان الصديقين وسيد الوصيين فقال:
عليك السلام يا أخي شمعون وصى روح الله، قال: فتحدثا مليا ثم ودعه شمعون والتأم
الجبل، فلما خرج عليه السلام إلى القتال سأله عمار وابن عباس والأشتر وهاشم بن عتبه المرقال
وأبو أيوب الأنصاري وقيس بن سعد وعمرو بن الحمق وعبادة بن الصامت عن الرجل فأخبرهم
255

انه شمعون وكانوا سمعوا كلامه فازدادوا متانة في الدين واستبصارا (1).
وذلك يدل على أن لنفسه القدسية ملكة التصرف في هذا العالم العنصري.
الآية الثانية - قال الحارث (2): كنا وقوفا عند أمير المؤمنين عليه السلام إذ أقبل
أسد يهوى إليه فتضعضعنا من خوفه فقال على: مه، واقبل الأسد حتى قام بين يديه فوضع
يده على جبهته وقال: ارجع بإذن الله ولا تدخل دار الهجرة بعد اليوم، وبلغ ذلك السباع
عنى، فرجع وغاب عن أعيننا.
الآية الثالثة - قال جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: ان مالك بن الحارث الأشتر
- رحمه الله - قال: حدثتني نفسي انى أشد أم أمير المؤمنين عليه السلام؟ فحرك دابته إلى

(1) - هو مذكور في كتب كثيرة منها كتاب مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني
- قدس سره - (انظر المعجز السادس والخمسين من معاجز أمير المؤمنين ص 37 - 36).
(2) - هذه المعجزة أيضا مذكورة بطرق كثيرة في كتب عديدة منها ما في مدينة المعاجز
(انظر المعجز أيضا مذكورة السابع والسبعين الذي في تسليم الأسد عليه ص 44).
256

ذي الكلاع الحميري واستلبه ورمى به إلى فوق وتلقاه بسيفه فقده بنصفين ثم قال لي:
يا اشتر انا أم أنت؟ - فقلت: بل أنت يا أمير المؤمنين.
وهذا الخبر كما يدل على هذا المطلوب باستلاب الحميري وما فعل به كذلك
يدل على المطلوب الذي قبله من جهة انه بكت مالكا بما تصوره دون ان ينطق به.
الآية الرابعة - روى عبد الله بن أحمد بن حنبل عن مشايخه عن جابر ان النبي صلى الله
عليه وآله دفع الراية إلى علي بن أبي طالب في يوم خيبر بعد أن دعا له ببرء عينيه من الرمد
فبرئ لوقته ثم سار وجعل يسرع السير وأصحابه يقولون له: يا أمير المؤمنين الرفق الرفق،
حتى انتهى إلى باب الحصن وكان من صخرة واحدة فاقتلعه وألقاه على الأرض.
وفى خبر: انه دحا به أذرعا ثم اجتمع عليه سبعون رجلا وكان جهدهم ان أعادوه
إلى مكانه وروى عنه أنه قال: عالجت باب خيبر (1) وجعلته مجنا لي وقاتلت القوم فلما
أخزاهم الله وضعت الباب على حصنهم طريقا ثم رميت به في خندقهم فقال له رجل: لقد
حملت منه ثقلا فقال: ما كان الا مثل جنتي التي في يدي في غير ذلك المقام.
فانظر أيها المعتبر هل تجد ذلك الفعل صادرا عن قوة بدنية؟! فإنه لو كان
كذلك لقدر عليه من هو أقوى صورة منه ولذلك قال عليه السلام: والله ما قلعت باب
خيبر بقوة جسمانية ولكن قلعته بقوة ربانية، وللشعراء في هذه الآية أشعار كثيرة (2)
لم نذكرها كراهة التطويل.
الآية الخامسة - نقل عمار الحضرمي (3) عن زادان بن أبي عمر ان رجلا حدث

(1) - راجع لملاحظة هذه المعجزة وقائع غزوة خيبر في البحار أو مناقب ابن شهرآشوب
أوما يضاهيهما.
(2) - منها قول ابن أبي الحديد في عينيته المعروفة:
" يا قالع الباب الذي عن هزه * عجزت اكف أربعون وأربع "
(3) - قال السيد هاشم (ره) في مدينة المعاجز في الباب الأول عند تعداد معاجز أمير المؤمنين علي (ع) ما نصه - ص 139): " الثاني والتسعون وثلاثمائة الذي أعمى بدعائه لما اكذبه،
ثاقب المناقب عن عمار الحضرمي عن زادان أبى عمير ان رجلا حدث عليا صلوات الله عليه
فقال: ما أراك الا كذبتني فقال: لم افعل فقال: ادعو الله عليك ان كنت كذبتني قال: ادع،
فدعا عليه فما برح حتى أعمى الله عينيه ".
257

عليا بحديث فقال له: ما أراك الا كذبتني فقال: لم افعل، فقال: ادعو الله عليك ان كنت
كذبتني؟ - فقال: ادع، فدعا، فما برح مكانه حتى عمى.
وذلك يدل على أن نفسه متمكنة من استنزال العقوبات العاجلة.
الآية السادسة - قال عباد بن عبد الله الأسدي: سمعت عليا عليه السلام يقول
وهو في الرحبة.
انا عبد الله وأخو رسول الله ولا يقولها بعد الا كاذب قال: فقام رجل من غطفان
فقال: انا أقول كما قال هذا الكاذب: انا عبد الله وأخو رسول الله، فإذا هو في صورة كلب (1).
وهذا يدل على تصرف نفسه في هيولي العناصر بالاعداد لخلع صورة ولبس أخرى.
الآية السابعة - قال الحسين بن عبد الرحمن التمار (2): انصرفت عن مجلس بعض

(1) - انظر لملاحظة نظائره مدينة المعاجز، ص 50 و 141 - 139.
(2) - قال السيد هاشم البحراني - رحمه الله - في مدينة المعاجز في الباب الأول الذي
في ذكر معاجز أمير المؤمنين (ع) ما نصه (ص 110): " الثالث والتسعون ومائتان تسكين الزلزلة
على عهد عمر بن الخطاب - شرف الدين النجفي في تأويل الآيات الباهرة عن أبي الحسن محمد
بن جمهور العمى قال: حدثني الحسن بن عبد الرحيم التمار قال: انصرفت من مجلس بعض
الفقهاء فمررت على سليمان الشاذكوني (فذكر الحديث باختلاف يسير لا يضر أصل الواقعة
ثم قال) وروى هذا الحديث صاحب ثاقب المناقب ".
أقول: وذكر في مدينة المعاجز نظائر لها فمن أرادها فليراجع ص 110 و 111 وص 134.
ونقل المجلسي (ره) في تاسع البحار في أواخر باب ما ظهر من معجزاته هذه المعجزة
عن كنز الفوائد للكراجي (ره) فان شئت فراجع.
258

الفقهاء فمررت بسليم الشاذكوني فقال لي: من أين أقبلت؟ - فقلت: من مجلس فلان العالم
قال: فما قوله؟ - قلت: شئ من كرامات على، قال: والله لأحدثنك بعظيمة سمعتها من
قرشي عن قرشي عن قرشي قال: رجفت قبور البقيع على عهد عمر بن الخطاب فضج
أهل المدينة من ذلك فخرج عمر ومعه أهل المدينة إلى المصلى يدعون الله تعالى لتسكن
تلك الرجفة فما زالت تزيد في كل يوم إلى أن تعدى ذلك إلى حيطان المدينة فقال عمر:
انطلقوا بنا إلى أبى الحسن على ابن أبي طالب، فمضوا إليه ودخلوا عليه فأخبروه الخبر، فقال على
بمائة من أصحاب رسول الله فاختار عليه السلام من المائة عشرة فجعلهم خلفه وجعل التسعين
خلفهم ودعا سلمان وأبا ذر والمقداد وعمارا فجعلهم امامه وخرج بهم ولم يبق بالمدينة بنت
عاتق الا خرجت إلى البقيع حتى إذا توسطه ضرب الأرض برجله وقال: مالك؟!
مالك؟! مالك؟! ثلاثا، فسكنت الرجفة فقال عليه السلام: صدق حبيبي رسول الله
صلى الله عليه وآله ولقد أنبأني بهذا الخبر وبهذا اليوم وباجتماع الناس له.
الآية الثامنة - على التمار (1) قال: كان علي عليه السلام يوما في مسجد الكوفة

(1) - قال السيد هاشم البحراني - رضي الله عنه - في باب معجزات أمير المؤمنين (ع) من
كتاب مدينة المعاجز ما نصه (ص 71): " الثامن والسبعون ومائة تحويل حصى المسجد جواهر
واعادتها حصى - الراوندي في الخرائج قال روى عن عمر بن يزيد عن الثمالي ان عليا (ع)
كان قاعدا في مسجد الكوفة وحوله أصحابه فقال له أحد أصحابه: انى لا عجب من هذه الدنيا
التي في أيدي هؤلاء القوم وليست عندكم؟! فقال: أترى انا نريد الدنيا فلا نعطاها ثم قبض
قبضة من حصى المسجد وفتح كفه علينا فإذا هي الجواهر تلمع وتزهر فقال: ما هذه؟ -
فنظرنا فقلنا: أجود الجواهر فقال: لو أردنا الدنيا لكانت لنا ولكن لا نريدها ثم رمى بالجواهر
من كفه فعادت كما كانت حصى: ورواه الصفار في بصائر الدرجات عن عمر بن علي
بن عمر بن يزيد عن علي بن النعمان عن بعض من حدثه عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه انه كان
مع أصحابه في مسجد الكوفة وذكر الحديث بعينه. ورواه المفيد في الإختصاص عن
عمر بن علي بن عمر بن يزيد عن علي بن التمار عمن حدثة عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه
انه كان مع بعض أصحابه في مسجد الكوفة فقال له رجل، وذكر الحديث بعينه ".
أقول: قد ذكر حديث البصائر بعد ذلك وجعله المعجز الرابع عشر ومائتين وقال
بعده: قلت قد مر هذا الحديث وما شاكله فيما تقدم ".
259

فقال له رجل: بابى أنت وأمي يا أمير المؤمنين انى لا تعجب من هذه الدنيا التي في أيدي
من يبغضه الله وليست عندكم؟! فقال له: أترى انا نريد الدنيا ولا نعطاها؟! ثم قبض
قبضة من الحصى فإذا هي جوهر، فقال ما هذا؟ - فقال الرجل: انه من أثمن الجواهر
وأنفسها، فقال: لو أردنا لكان ثم رمى بالحصى فعاد كما كان.
الآية التاسعة - الحسن العلوي قال (1): اتانا أمير المؤمنين عليه السلام وكنت
يومئذ غلاما يافعا فدخل منزله (في حدث طويل) ثم خرج وتبعه الناس فلما صار إلى

(1) - نقله السيد هاشم البحراني (ره) في مدينة المعاجز هكذا (ص 85):
" الثالث عشر ومائتان اخراجه الدنانير من الأرض - محمد بن الحسن الصفار قال:
حدثني علي بن إبراهيم الجعفري قال: حدثني أبو علي العباسي عن محمد بن سليمان الحذاء
البصري قال: لما افتتح أمير المؤمنين (ع) البصرة فقال: من يدلنا على دار ربيع بن حكيم
قال له الحسن البصري: انا يا أمير المؤمنين قال: وكنت يومئذ غلاما قد أيفعت
ثم خرج واتبعه الناس فلما ان صار الجبانة نزل واكتنفه الناس فخط بسوطه خطة فأخرج
دينارا حتى اخرج ثلاثة دنانير فقلبها في يده حتى أبصرها الناس ثم ردها وغرسها بإبهامه
فقال ليليك بعدى أمسئ أو محسن ثم ركب بغلة رسول الله صلى الله على وآله وانصرف
إلى منزله.
واخذنا الغلام واردنا الموضع فحفرنا حتى بلغنا الرسخ فلم نصب شيئا فقيل للحسن:
يا با سعيد ما نرى ذلك من أمير المؤمنين؟ - فقال: اما انا فلا أرى ان كنوز الأرض تسير الا لمثله.
ورواه المفيد في الإختصاص عن محمد بن سليمان الحذاء البصري عن رجل عن الحسن
بن أبي الحسن البصري وذكر الحديث بتغيير في بعض الألفاظ الا انه لا يغير المعنى المذكور هنا ".
260

الجبانة نزل واكتنفه الناس فخط بسوطه خطا فأخرج منه دينارا ثم خط خطا آخر
فأخرج منه دينارا ثم فعل ذلك ثالثة حتى اخرج ثلاثة دنانير فأخذها وقلبها في يده حتى
ابصرها الناس ثم ردها وغرزها بإبهامه ثم قال: ليليك بعدى محسن أو مسئ ثم ركب
بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وانصرف إلى منزله.
فأخذنا الفلاح وصرنا إلى الموضع فاحتفر حتى بلغ الرسغ (1) فلم يصب شيئا فقيل
للحسن: ما ترى؟ - فقال: اما انا فلا أرى ان كنوز الأرض تظهر الا لمثله.
الآية العاشرة - أبو مهاجر زيد بن رواحة العبدي قال: دخلت مسجد الكوفة فإذا
رجل قد أكب عليه الناس وهو يحدثهم وهم يسمعون ويكتبون عنه، فسألت عنه فقيل:
هو رجل شهد مع أمير المؤمنين البصرة وصفين والنهروان وهو ذو شرف وعقل فدنوت
منه فإذا هو يحدث عن علي ويقول: سمعت ورأيت فصبرت حتى انفض عنه أكثر الناس
وقلت له: أنا رجل من أهل البصرة خرجت لطلب العلم وأحببت ان اسمع منك شيئا
أحدث به عنك فأخذ ذم أهل (البصرة) وتوبيخهم على ما كان منهم فقلت: أيها
الشيخ لقد عممت أهل البصرة وقد كان فيهم البر والفاجر والسعيد والشقي، قال: صدقت
فمن أنت؟ - فقلت: أنا رجل من عبد القيس فقال: مرحبا بك ثم نهض بي إلى منزله
فأحسن ضيافتي وقال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: قيدوا العلم بالكتابة وقام
فأخرج صحيفة ففتحها وقرأ على:

(1) - أب: " الوسع " د: " الرسع ".
(2) - اعلم يا أخي انى راجعت بعض مظان نقل الحديث ولم أجده وليس لي الان وقت وحال
للمراجعة لرمد قد عرض لبصري ووجع حدث في عيني وقد آلمني فعلى هذا لم أتمكن من استقصاء
جميع مظان ذكر الحديث حتى اظفر به وأشير إلى موضعه هناك فمن أراد موضعه فليخض
مظانه وهي جميع كتب المناقب والسير والمعجزات وأظن أنه مأخوذ من شرح ابن أبي الحديد
فعليك بالفحص والبحث عنه حتى تظفر به إن شاء الله تعالى.
261

حدثني ربيعة بن سالم الهمذاني قال: لما كان اليوم الذي قتل فيه عمار بن ياسر
رحمه الله وكان ابتداؤنا من صفين حربا وطعنا فوقفت وأشرفت على الناس وقد تزحزحوا
عن مقاماتهم يتكفؤن تكفؤ السفينة بأهلها فمن بين متقدم لقتال ومتأخر عن (1) كلال،
والامر في غاية العسر والناس في نهاية الحال من العطش وقد أخذ العدو الماء ووطئ (2) الموارد وقد مدت الخيل أعناقها ولجمها وعضت (3) على الشكائم وقهقرت (4) على أكفالها
وتداعى الناس بآبائهم، واعتزوا إلى أنسابهم، والنساء على المطايا خلال الصفوف يحرضن (5)
الرجال على القتال والناس قد عاينوا الثواب واستيقنوا المآب فعند ذلك اتكأت على
رمحي وقلبت وجهي وأرجعت (6) طرفي إلى السماء وقلت في نفسي: يا رب هذا أخو نبيك
ووصيه، وأحب الخلق إليه وأنصرهم له، وأعلمهم بالدين وأهداهم للحق المبين، وقد
ترى ما ترى: ولك (7) الخلق والامر تصيب برحمتك من تشاء (8) وقد ضعفت عن حمل
ذلك فأبح (9) اللهم لي ما تثبت به قلبي وتذهب به نزع الشيطان (10) الرجيم قال ربيعة:
فلم أستتم الدعاء وإذا انا بمقرعة بين كتفي، فالتفت فإذا أنا بأمير المؤمنين عليه السلام وهو

(1) - ب د: " من ".
(2) - ا ج د: " حط " فكأن كلمة المتن من " وطئ كعلم)
ارض العدو اي دخلها ".
(3) - ج: " غطت " (بالغين المعجمة وتشديد الطاء المهملة) د: " عطت "
(بالعين المهملة وتشديد الطاء المهملة).
(4) - أب: " قهقر " ج د: " تقهقرت " وقهقر وتقهقهر
بمعنى، يقال: " قهقر الرجل وتقهقر = رجع إلى خلف، الرجل يقهقر في مشيته وذلك إذا
تراجع على قفاه ".
(5) - ا: " عرض " ب: " يحرض " ج د: " يخوض ".
(6) - ج د: رجعت " وهما بمعنى، من قولهم: " رجع (كضرب) إليه رجعا ومرجعا (بفتح الجيم وكسرها) صرفه ورده، لازم متعد) ومن معاني أرجعه أيضا رده وصرفه.
(7) - ا: " فلله " ب: " ولله ".
(8) - أب: يصيب برحمته من يشاء ".
(9) - كأنه من قولهم: " أباحه سرا فباح به بوحا أي أبثه إياه فلم يكتمه ".
(10) - نزغ الشيطان وساوسه ونخسه في القلب بما يسول للانسان
من المعاصي من قولهم: " نزغه الشيطان إلى المعاصي اي حثه وأغراه ".
262

على بغلة رسول الله وبيده عنزة رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لي: يا ربيعة لشد (1) ما
جزعت، إنما الناس رائح ومقيم، فالرائح من تحت هذا اللواء إلى جنة المأوى والى
سدرة المنتهى عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للمتقين، والمقيم (2) بين اثنتين،
اما نعمة مقبلة أو فتنة مضلة، يا ربيعة حي على معرفة ما سألت ربك ومن يفرى الأرض
فريا، فاتبعته حتى خرج عن المعسكر وجازه (3) بمقدار ميل أو نحوه وثنى برجله عن البغلة
فنزل وخر على الأرض في الدعاء يقلب (4) كفيه ظهرا وبطنا، فما رد يده حتى نشأت
سحابة كأنها هقل (5) نعام حتى أظلتنا، فما عدا ظلها (6) مر كبينا (7) ثم هطلت بشئ
كأفواه القرب حتى شرب فرسى من تحت حافره وملأت مزادتي فارتويت وروى فرسى،
ثم عاد فركب بغلته وأدنى أي العسكر فتركني وانغمس في الناس.
وهذه الآية أيضا كما تدل على قدرته على استنزال البركات بدعائه الذي
لا حجاب دونه كذلك تدل على اطلاعه على المغيبات إذ أخبر ربيعة بما في نفسه
ووبخه عليه.
واعلم أن ما ذكرناه من هذه الآثار قطرة من بحار ما يورد في هذا الباب، وفيه كفاية
للناظرين بعين الانصاف.
ولنا في اثبات هذا المطلوب بهذه الاخبار طريقان:
أحدهما (8) - ان جماعة ادعوا ان هذه الأخبار كل واحد واحد منها معلوم بالتواتر

(1) - ا: " أشد ".
(2) - اخذ واقتباس من آيتين، أحدها آية 21 سورة الحديد
وثانيتهما آية 133 سورة آل عمران.
(3) - ا: " حازه " وكلمة المتن من قولهم: " جاز الموضع
يجوزه اي خلفه (بتشديد اللام) وتركه خلفه وقطعه ".
(4) - ا: " فقلب ".
(5) - ا: " مقل " (بالميم بدل الهاء أول الكلمة) والهقل بالكسر الفتى من النعام وقيل: الهقل الظليم مطلقا ولا اختصاص له بالفتى.
(6) - ا: " فما عدا ظلنا ".
(7) - ب: " مركبتنا " د: مركبنا ".
(8) - ا: " إحداهما ".
263

ثم قالوا: ليس للخصم ان يقول: لو كان ذلك متواترا لوجب أن يكون ضروريا عند كافة
الخلق لما ان هذه الوقائع من الوقائع الكبار التي تتوفر الدواعي على نقالها ولما اختصصتم
بالعلم به دون غيركم لان لنا ان نجيب عن ذلك بان شرط التواتر ان لا يكون قد سبق إلى
اعتقاد السامع له شبهة تقليد نفى موجب الخبر المنقول فإنه لو سبق إلى اعتقاده ذلك
لم يعتقد صحته لعدم امكان اعتقاد صحة الخبر مع اعتقاد صحة ما ينافيه فلعل الخصم لرسوخ
نقائض هذه الأخبار في ذهنه لا يعتقد صحتها.
الطريق الثاني وهو (1) الأقرب إلى الانصاف ان هذه الأخبار غير متواترة لفظا لكنا
نقول: انها متواترة تواترا معنويا بمعنى انا نعلم بالضرورة عند سماع هذه الأخبار الكثيرة
المختلفة الطرق مع اتفاقها على اثبات هذين النوعين من الكرامات له علما جمليا انها
بأجمعها لا تكون كاذبة بل لابد من صدق شئ منها وايها صدق ففيه تمام الغرض من
اثبات هذه المطالب.
ثم اعلم أنه لا يمكنك أيها الملاحظ لجلال الله المتحري سلوك الصراط المستقيم
ان تستنكر بصريح عقلك شيئا من ذلك بعد أن أعلمناك امكانه من مذاهب الطبيعة
وأشرنا لك إلى (2) أسبابه الكلية في القسم الأول ولعل في قوتك امكان هذه الأمور أو
شئ منها لو قد اخذ التوفيق بزمام عقلك فأيقظك من رقدة (3) الطبيعة فاطلعت على
خيانة أعدائك الذين هم في صورة أصدقاءك وغاشيك الذين هم في زي نصحائك
فقهرتهم (4) حتى انقادوا خلفك إلى بساط الكرامة وحلول (5) دار المقامة فانى أحسبك
حينئذ تعلم جلية ما اشتبه الان (6) خبره وحقيقة ما انطمس عن عينيك اثره.

(1) - أب: " وهي ".
(2) - ا: " ان ".
(3) - ب ج: " مرقد ".
(4) - ا: " فنهرتهم ".
(5) - ا: " حلوا ".
(6) - د: " الال ".
264

والله تعالى يوفقنا وإياك لما يحبه ويرضاه بمنة وجوده وما توفيقي الا بالله عليه
توكلت واليه أنيب وهو حسبي ونعم الوكيل، والحمد لله حق حمده وصلى الله على أشرف -
خلقه وآله وجنده وأصحابه أجمعين.
(صورة ما في آخر النسخة التي أسس عليها أساس الطبع)
وتم الكتاب بعوم الملك الوهاب القوى الغلاب ليلة السبت عشية الخامسة من
شهر ربيع ا (لا) ول سنة سبعين وثمانمئين من هجرة سيد المرسلين على يد العبد الفقير المحتاج
إلى ربه القدير في التجاوز عن سيئاته وغفران هفواته والعون على قضاء حاجاته حسن بن
محمد بن علي بن مشرف العيناثي - أصلح الله داريه ووفقه للخير وأعانه عليه - انه جواد
كريم، خدمة للشيخ التقى والشهاب المضي الذي تسنم من الفضائل أعلى باب وتلبس
من التقى والعفة أحسن جلباب الشيخ شمس الملة والدين محمد بن... لا زالت أيامه
لامعة بالاقبال ولياليه مقمرة لا يغادرها.... بمحمد وآله خير آل.
نجز طبع الكتاب بعون الله الملك الوهاب
لثلاث ليال بقين من المحرم الحرام من سنة 1390 الهجرة النبوية
موافقا لتاريخ 15 / 1 / 1349 ه‍ ش.
265