الكتاب: الأمالي
المؤلف: السيد المرتضى
الجزء: ٤
الوفاة: ٤٣٦
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: تصحيح وتعليق : الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٢٥ - ١٩٠٧ م
المطبعة:
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
ردمك:
ملاحظات:

الجزء الرابع من كتاب
أمالي السيد المرتضى
(الشريف أبي القاسم علي بن الطاهر أبي أحمد الحسين المتوفى سنة 436 رضي الله عنه)
(في التفسير و الحديث والأدب)
(الطبعة الأولى)
(سنة 1325 ه‍ و 1907 م)
(على نفقة أحمد ناجي الجمالي ومحمد أمين الخانجي وأخيه)
(حقوق الطبع محفوظة)
صححه وضبط ألفاظه وعلق حواشيه
حضرة الفاضل الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي نزيل القاهرة حالا
منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
قم - إيران 1403 ه‍ ق
1

بسم الله الرحمن الرحيم
[تأويل خبر].. ان سأل سائل عن معنى ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم من قوله كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهود انه وينصرانه. الجواب
أما أبو عبيد القاسم بن سلام فإنه قال في تأويل هذا الخبر سألت محمد بن الحسن عن
تفسيره فقال كان هذا في أول الاسلام قبل أن تنزل الفرائض ويؤمر المسلمون بالجهاد
قال أبو عبيد كأنه يذهب إلى أنه لو كان يولد على الفطرة ثم مات قبل أن ينصره أبواه
ويهوداه ما ورثاه وكذلك لو ماتا قبله ما ورثهما لأنه مسلم وهما كافران وما كان أيضا
يجوز أن يسبي فلما نزلت الفرائض وجرت السنن بخلاف ذلك علم أنه يولد على دين
أبويه. قال أبو عبيد وأما عبد الله بن المبارك فإنه قال هذا بمنزلة الحديث الآخر الذي
يتضمن انه عليه الصلاة والسلام سئل عن أطفال المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين
يذهب إلى أنهم يولدون على ما يصيرون من اسلام أو كفر فمن كان في علمه انه يصير مسلما
فإنه يولد على الفطرة ومن كان في علمه انه يموت كافرا ولد على ذلك. قال أبو عبيد ومما
يشبه هذا الحديث حديثه الآخر أنه قال يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي جميعا
فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وجعلت ما أحللت لهم حراما. قال أبو عبيدة يريد
بذلك النحائر والسوائب وغير ذلك لما أحله الله تعالى فجعلوه حراما. وأما ابن قتيبة
فإنه قال وقد حكى ما ذكرناه عن أبي عبيد لست أرى ما حكاه أبو عبيد عن عبد الله
ابن المبارك ومحمد بن الحسن مقنعا لمن أراد أن يعرف معني الحديث لأنهما لم يزيدا على أن
ردا على من قال به من أهل القدر وتفسير محمد بن الحسن يدل على أن الحديث
منسوخ والمنسوخ لا يكون في الاخبار وإنما يكون في الأمر والنهى قال ولا يجوز أن
يراد به على تأويل ابن المبارك بعض المولودين دون بعض لان مخرجه مخرج العموم
2

. وقال ولا أرى معنى الحديث الا ما ذهب إليه حماد بن سلمة فإنه قال فيه هذا عندنا
حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم يريد حين مسج الله تعالى ظهر آدم فأخرج
منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فأراد عليه
الصلاة والسلام ان كل مولود يولد في العالم على ذلك العهد وعلى ذلك الاقرار الأول وهو
الفطرة. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه وهذا كله خبط وتخليط وبعد عن
الجواب الصحيح والصحيح في تأويله أن قوله عليه الصلاة والسلام يولد على الفطرة يحتمل
أمرين. أحدهما أن تكون الفطرة ههنا الدين وتكون على بمعنى اللام فكأنه عليه الصلاة
والسلام قال كل مولود يولد للدين ومن أجل الدين لان الله تعالى لم يخلق من يبلغ مبلغ
المكلفين إلا ليعبده فيتنفع بعبادته ويشهد بذلك قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا
ليعبدون) والدليل على أن على تقوم مقام اللام ما حكاه ابن السكيت عن أبي زيد عن
العرب انهم يقولون صف على كذا وكذا حتى أعرفه بمعنى صف لي ويقولون ما أغيظك
على يريدون ما أغيظك لي والعرب تقيم بعض الصفات مقام بعض فيقولون سقط الرجل
لوجهه يريدون على وجهه. وقال الطرماح
كان مخواها على ثفناتها * معرس خمس وقعت للجناجن (1)
وقال عنترة:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت * زوراء تنفر عن حياض الديلم
معناه شربت الناقة من ماء الدحرضين وهما مآن يقال لأحدهما وشيع والآخر دحرض فغلب
الأشهر وهو الدحرض وإنما ساغ أن يريد عليه الصلاة والسلام بالفطرة التي هو الخلقة

(1) - مخواها - تجافيها في يروكها - وثفناتها - جمع ثفنة بكسر الفاء وهي ركبتها
وما مس الأرض من كركرتها وسعدانتها وأصول أفخاذها - ومعرس خمس - موضع
تعريسها أي نزولها آخر الليل للاستراحة وخمس أي خمس من القطا - ووقعت - بركت -
والجناجن - عظام الصدر وقيل رؤس الأضلاع وقيل أطراف الأضلاع مما يلي قص
الصدر وعظم الصلب الواحد جنجن وجنجنة بكسرهما ويفتحان وقيل وأحدهما جنجون
3

في اللغة الدين من حيث كان هو المقصود بها وقد يجري على الشئ اسم ماله به هذا
الضرب من التعلق والاختصاص وعلى هذا يتأول قوله تعالى (فأقم وجهك للدين
حنيفا فطرة الله التي) الآية أراد دين الله الذي خلق الخلق له وقوله (لا تبديل لخلق
الله) المراد به ان ما خلق العباد له من العبادة والطاعة ليس مما يتغير ويختلف حتى يخلق
تعالى قوما للطاعة وآخرين للمعصية ويجوز أن يريد بذلك الأمر وإن كان ظاهره
الخبر فكأنه تعالى قال ولا تبدلوا ما خلقكم الله له من الدين والطاعة بأن تعصوا
وتخالفوا. والوجه الآخر في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام الفطرة أن يكون المراد
بها الخلقة وتكون لفظة على على ظاهرها لم يرد به غيرها ويكون المعنى كل مولود يولد على
الخلقة الدالة على وحدانيته تعالى وعبادته والايمان به لأنه عز وجل قد صور الخلق
وخلقهم على وجه يقتضى النظر فيه معرفته والايمان به وان لم ينظروا ولم يعرفوا فكأنه
قال كل مخلوق ومولود فهو يدل بخلقته وصورته على عبادة الله تعالى وان عدل بعضهم فصار
يهوديا أو نصرانيا وهذا الوجه يحتمله أيضا قوله تعالي (فطرة الله التي فطر الناس
عليها) وإذا ثبت ما ذكرناه في معنى الفطرة فقوله عليه الصلاة والسلام حتى
يكون أبواه يهودانه وينصرانه يحتمل وجهين أحدهما أن من كان يهوديا أو نصرانيا
ممن خلقته لعبادتي وديني فإنما جعله كذلك أبواه ومن جرا مجراهما ممن يوقع له الشبهة
ويقلده الضلال عن الدين وإنما خص عليه الصلاة والسلام الأبوين لان الأولاد في
الأكثر ينشؤون على مذهب آبائهم ويألفون أديانهم ونحلهم ويكون الغرض بالكلام تنزيه
الله عن ضلالة العباد وكفرهم وانه إنما خلقهم للايمان فصدهم عنه آباؤهم ومن يجري
مجراهم. والوجه الآخر أن يكون معنى يهودانه وينصر انه أي يلحقانه بأحكامهما لان أطفال
أهل الذمة قد ألحق الشرع أحكامهم بأحكامهم فكأنه قال عليه الصلاة والسلام لا تتوهموا
من حيث لحقت أحكام اليهود والنصارى أطفالهم انهم خلقوا لدينهم بل لم يخلقوا الا
للايمان والدين الصحيح لكن آباؤهم هم الذين أدخلوهم في أحكامهم وعبر عليه الصلاة
والسلام عن ادخالهم في احكامهم بقولهم يهودانه وينصرانه وهذا واضح. فأما جواب أبي
عبيد الله الذي حكاه عن محمد بن الحسن فانا إذا تمكنا من حمل الخبر على وجه نسلم
4

معه من النسخ لم نحتج إلى غيره وإنما توهم النسخ لاعتقاده ان خلقهم على الفطرة
يمنع من الحاقهم بحكم آبائهم وذلك غير ممتنع. وأما الجواب الذي حكاه عن ابن المبارك
ففاسد لان الله تعالى لا يجوز أن يخلق أحدا للكفر فكيف يخلقه له وهو يأمره بالايمان
ويريده منه ويعاقبه ويذمه على خلافه. فأما ما روى عنه عليه الصلاة والسلام وقد سئل
عن أطفال المشركين فقال الله اعلم بما كانوا عاملين فإنه يحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام
سئل عمن لم يبلغ من أطفال المشركين كيف صورته والى أي شئ تنتهي عاقبته فقال
عليه الصلاة والسلام الله أعلم بما كانوا يعملون فأراد أن ذلك مستور عنى ولو كانت المسألة
عمن اخترم طفلا لم يجز أن يكون الجواب ذلك وأما ابن قتيبة فإنه رد على أبى عبيد
من غير وجه يقتضى الرد واعتراض جواب ابن المبارك باعتبار العموم والخصوص وكيف ينبه
على فساده من هذه الجهة وقد اختار في تأويل الخبر ما يجري في الفساد والاختلال مجرى
تأويل ابن المبارك. فأما النسخ في الاخبار فجائز إذا تضمنت معنى الامر والنهى ويكون
ما دل على جواز النسخ في الامر دالا على جواز ذلك فيها وهذا مثل أن يقول عليه الصلاة
والسلام الصلاة واجبة عليكم ثم يقول بعد زمان ليست بواجبة فيستدل بالثاني على
نسخ الحكم الأول كما لو قال عليه الصلاة والسلام صلوا ثم قال لا تصلوا كان النهى الثاني
ناسخا للأول. فأما الجواب الذي ذكره ابن قتيبة فقد بينا فساده فيما تقدم من
الأمالي عند تأويلنا قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم)
وأفسدنا قول من اعتقد أنه مسح ظهر آدم عليه السلام واستخرج منه الذرية وأشهدها
على نفوسها وأخذ اقرارها بمعرفته بوجوه من الكلام ولا طائل في إعادة ذلك
(مجلس آخر 57)
[تأويل آية]. ان سأل سائل عن قوله تعالى (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها) الآية
5

إلى قوله تعالى (الا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) فقال ما معنى الاستثناء ههنا والمراد
الدوام والتأبيد ثم ما معنى التمثيل بمدة السماوات والأرض التي تفنى وتنقطع. الجواب
قلنا قد ذكر في هذه الآية وجوه. أولها أن تكون الا وإن كان ظاهرها الاستثناء
فالمراد بها الزيادة فكأنه تعالى قال (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء
ربك) من الزيادة لهم على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره لي عليك ألف دينار الا
الفين الذين أقرضتكهما وقت كذا وكذا فالألفان زيادة على الألف بغير شك لان
الكثير لا يستثنى من القليل وهذا الجواب يختاره الفراء وغيره من المفسرين. والوجه
الثاني أن يكون المعنى الا ما شاء ربك من كونهم قبل دخول الجنة والنار في الدنيا وفي
البرزخ الذي هو ما بين الحياة والموت وأحوال المحاسبة والعرض وغير ذلك لأنه تعالى
لو قال خالدين فيها أبدا ولم يستثن لنوهم متوهم انهم يكونون في الجنة والنار من لدن
نزول الآية أو من بعد انقطاع التكليف فصار للاستثناء وجه وفائدة معقولة. والوجه
الثالث أن تكون الا بمعنى الواو والتأويل فيها ما دامت السماوات والأرض وما شاء ربك
من الزيادة واستشهد على ذلك بقول الشاعر
وكل أخ مفارقة أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان (1)

(1) البيت من شواهد سيبويه والمغنى على أن إلا صفة لكل مع صحة جعلها أداة
استثناء ونصب الفرقدين على الاستثناء كما هو الشرط في وصفية إلا. قال ابن هشام في المغنى
والوصف هنا مخصص فان ما بعد الا مطابق لما قبلها لأن المعنى كل أخوين غير هذين
الكوكبين متفارقان وليست الا استثنائية والا لقال الا الفرقدين بالنصب لأنه بعد كلام
تام موجب كما هو الظاهر مع كونه لمستغرق وهو كل أخ كما نصب الشاعر في هذا البيت
وهو من أبيات مذكورة في مختار أشعار القبائل لأبي تمام صاحب الحماسة لأسعد
الذهلي وهو
وكل أخ مفارقة أخوه * لشحط الدار الا ابني شمام
وابنا شمام جبلان وهما بفتح الشين المعجمة وكسر الميم كحذام وقيل هما جبلان في دار
بنى تميم مما يلي دار عمرو بن كلاب وقيل شمام هو جبل وأبناء رأساه وعند ابن الحاجب
في البيت الشاهد شذوذ من ثلاثة أوجه أحدها انه اشترط في وقوع الاصفة تعذر الاستثناء
وهنا يصح لو نصبه وثانيها وصف المضاف والمشهور وصف المضاف إليه وثالثها الفصل بين
الصفة والموصوف بالخبر وهو قليل والبيت جاء في شعرين لصحابيين أحدهما عمرو بن
معد يكرب أنشده الجاحظ في البيان والتبيين له وكذا نسبه إليه المبرد في الكامل وصاحب
جمهرة الاشعار وغيرهم والثاني حضرمي بن عامر الأسدي وهو القائل
ألا عجبت عميرة أمس لما * رأت شيب الذؤابة قد علاني
تقول أري أبي قد شاب بعدى * وأقصر عن مطالبة الغواني
إلى أن قال
وذي فجع عزفت النفس عنه * حذار الشامتين وقد شجاني
أخي ثقة إذا ما الليل أفضى * إلى بمؤيد جلى كفاني
قطعت قرينتي عنه فأغنى * غناه فلن أراه ولن يراني
وكل قرينة قرنت بأخرى * ولو ضنت بها ستفرقان
وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك الا الفرقدان
فكان إجابتي إياه أبى * عطفت عليه خوار العنان
وهذا البيت الأخير يروي لعنترة بن شداد العبسي
6

معناه والفرقدان ويقول الآخر
وأري لها دارا بأغدرة السيد * ان لم يدرس لها رسم
إلا رمادا هامدا دفعت * عنه الرياح خوالد سحم
والمراد بالا ههنا الواو والا كان الكلام متناقضا. والوجه الرابع أن يكون
الاستثناء الأول متصلا بقوله تعالى (لهم فيها زفير وشهيق) وتقدير الكلام لهم في النار
زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين ولا يتعلق
الاستثناء بالخلود فان قيل فهبوا أن هذا أمكن في الاستثناء الأول كيف يمكن في الثاني
7

. قلنا يحمل الثاني على استثناء المكث في المحاسبة والموقف أو غير ذلك مما تقدم ذكره
. والوجه الخامس أن يكون الاستثناء غير مؤثر في النقصان من الخلود وإنما الغرض فيه انه
لو شاء أن يخرجهم وأن لا يخلدهم لفعل في أن التخليد إنما يكون بمشيئته وارادته كما يقول القائل
لغيره والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وهو لا ينوى الا ضربه ومعنا الاستثناء ههنا
أني لو شئت أن لا أضربك لفعلت وتمكنت غير أني مجمع على ضربك. والوجه السادس
أن يكون تعليق ذلك بالمشيئة على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج لان الله تعالى
لا يشاء الا تخليدهم علي ما حكم به ودل عليه ويجري ذلك مجري قول العرب والله
لأهجرنك الا أن يشيب الغراب ويبيض القار ومعنى ذلك أنى أهجرك أبدا من حيث
علق بشرط معلوم أنه لا يحصل وكذلك معني الآيتين والمراد بهما انهم خالدون أبدا
لان الله تعالى لا يشاء أن يقطع خلودهم. والوجه السابع أن يكون المراد بالذين شقوا
من أدخل النار من أهل الايمان الذين ضموا إلى ايمانهم وطاعتهم المعاصي فقال الله تعالى
انهم معاقبون في النار إلا ما شاء ربك من اخراجهم إلى الجنة وايصال ثواب طاعاتهم إليهم
. ويجوز أيضا أن يريد بأهل الشقاء ههنا جميع الداخلين إلى جنهم ثم استثنى تعالى
بقوله الا ما شاء ربك أهل الطاعات منهم ومن يستحق ثوابا لا بد انه يصل إليه فقال
تعالي الا ما شاء ربك من اخراج بعضهم وهم أهل الثواب وأما الذين سعدوا فإنما
استثنى تعالى من خلودهم أيضا لما ذكرناه لان من نقل من النار إلى الجنة وخلد فيها
لا بد من الاخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدم فكأنه تعالى قال إنهم خالدون
في الجنة ما دامت السماوات والأرض الا ما شاء ربك من الوقت الذي أدخلهم فيه النار
قبل أن ينقلهم إلى الجنة والذين شقوا على هذا الجواب هم الذين سعدوا وإنما أجرى
عليهم كل لفظ في الحال التي تليق بهم إذا أدخلوا النار وعوقبوا فيها من أهل الشقاء وإذا نقلوا
إلى الجنة من أهل الجنة والسعادة وقد ذهب إلى هذا الوجه جماعة من المفسرين كابن
عباس وقتادة والضحاك وغيرهم وروى بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن
عباس قال الذين شقوا ليس فيهم كافر وإنما هم قوم من أهل التوحيد يدخلون النار
بذنوبهم ثم يتفضل الله تعالى عليهم فيخرجهم من النار إلى الجنة فيكونون أشقياء في حال
8

سعداء في حال أخرى وأما تعليق الخلود بدوام السماوات والأرض فقد قيل فيه إن
ذلك لم يجعل شرطا في الدوام وإنما علق به على سبيل التبعيد وتأكيد الدوام لان للعرب
في مثل هذا عادة معروفة خاطبهم الله تعالى عليها لأنهم يقولون لا أفعل كذا ما لاح
كوكب وما أضاء الفجر وما اختلف الليل والنهار وما بل بحر صوفة وما تغنت حمامة
ونحو ذلك ومرادهم التأبيد والدوام ويجرى كل ما ذكرناه مجرى قولهم لا أفعل كذا
أبدا لأنهم يعتقدون في جميع ما ذكرناه انه لا يزول ولا يتغير وعباراتهم إنما يخرجونها
بحسب اعتقاداتهم لا بحسب ما عليه الشئ في نفسه ألا تري أن بعضهم لما اعتقدوا في
ا لأصنام أن العبادة تحق لها سموها
آلهة بحسب اعتقاداتهم وان لم تكن في الحقيقة كذلك
ومما يشهد لمذهبهم الذي حكيناه قول أبي الجويرية العبدي
ذهب الجود والجنيد جميعا * فعلي الجود والجنيد السلام
أصبحا ثاويين في قعر مرت * ما تغنت على الغصون الحمام
وقال الأعشى
ألست منتهيا عن نحت أثلتنا * ولست ضائرها ما أطت الإبل (1)
وقال الآخر
لا أفتأ الدهر أبكيهم بأربعة * ما اجترت النيب أو حنت إلى بلد
وقال زهير مبينا عن اعتقاده دوام الجبال وانها لا تفنى ولا تتغير
ألا لا أرى على الحوادث باقيا * ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا

(1) - النحت - البرى - والأثل - بالفتح شجر معروف قيل هو الطرفاء وقيل السمر
واحدته أثلة وجمعه أثلاث محركة وأثول بالضم - وأطت - من أطيط الإبل وهو نقيض
جلودها عند الحكة والنقيض بفتح النون وكسر القاف وفي آخره ضاد معجمة وهو
صوت اللسع والرحل والمفاصل والأضلاع
9

فهذا وجه وقيل أيضا في ذلك أنه أراد تعالي به الشرط وعنى بالآية دوام السماوات
والأرض المبدلتين لأنه تعالى قال (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) فأعلما
تعالى انهما تبدلان وقد يجوز أن يديمهما بعد التغيير أبدا بلا انقطاع وإنما المنقطع ه‍
دوام السماوات والأرض قبل التبديل والفناء ويمكن أيضا أن يكون المراد انهم خالدون
بمقدار مدة السماوات والأرض التي يعلم الله تعالى انقطاعها ثم يزيدها الله تعالى على ذلك
ويخلدهم ويؤيد مقامهم وهذا الوجه يليق بالأجوبة التي تتضمن أن الاستثناء أريد به
الزيادة على المقدار المقدم لا النقصان. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه وجدت
أبا القاسم الآمدي قد ظلم البحتري في تفسير بيت له مضاف إليه مع ظلمه له في أشياء
كثيرة تأولها على خلاف مراد البحتري وحكى قوله
كالبدر إلا أنها لا تجتلى * والشمس إلا أنها لا تغرب
ثم قال وهذا فيه سؤال لأنه لما قال - كالبدر الا أنها لا تجتلى - فالمعنى أن عيون الناس كلهم
ترى البدر وتجتليه وهي لا تراها العيون ولا تجتلى ثم قال - والشمس الا أنها لا تغرب - وإنما
قال لا تجتلى لأنها محجوبة فإذا كانت في حجاب فهي في غروب لان الشمس إذا غربت
إنما تدخل تحت حجاب فظاهر المعنى كالبدر الا أن العيون لا تراها والشمس الا أن
العيون لا تفقدها قال وهذا القول متناقض كما ترى قال وأظنه أراد انها وإن كانت في
حجاب فإنه لا يقال لها غربت تغرب كما لا يقال للشمس وإنما يقال لها إذا سافرت بعدت
وغربت إذا توجهت نحو الغرب وقد يقال للرجل أغرب عنا أي أبعد ولو استعار لها
اسم الغروب عن الأرض التي تكون فيها إذا ظعنت عنها إلي أرض أخري كان ذلك
حسنا جدا لا سيما وقد جعلها شمسا كما قال إبراهيم بن العباس الصولي
وزالت زوال الشمس عن مستقرها * فمن مخبري في أي أرض غروبها
قال وقد يجوز أن يقول قائل انه أراد لا تغرب تحت الأرض كما تغرب الشمس وهذه
معاذير ضيقة لأبي عبادة فإن لم يكن قد أخطأ فقد أساء. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه
وما المخطئ غير الآمدي ومراد البحتري بقوله أوضح من أن يذهب على متأمل
10

لأنه أراد بقوله - والشمس الا أنها لا تغرب - أي انها لا تصير حيث يتعذر رؤيتها ويمتنع
كما يتعذر رؤية الشمس على من غربت عن أفق بلده والمرأة وان احتجبت باختيارها
فان ذلك ليس بغروب كغروب الشمس لأنها إذا شاءت ظهرت وبرزت للعيون
والشمس إذا غربت فرؤيتها غير ممكنة ولهذا لا يصح أن يقال فيمن استظل بدار أو جدار
عن الشمس انها غربت عنه وإن كان غير رآه لها لان رؤيتها ممكنة بزوال ذلك المانع
وكذلك القول في احتجاب المرأة فلا تناقض في بيت البحتري على ما ظنه الآمدي. ولبعضهم
في هذا المعنى
قد قلت للبدر واستعبرت حين بدا * ما فيك يا بدر لي من وجهها خلف
تبدى لنا كلما شئنا محاسنها * وأنت تنقض أحيانا وتنكسف
فمعنى قوله - فأنت تنقض وتنكسف - جار مجرى غروب الشمس لأنه فضلها على البدر من
حيث كان بروزها لمبصرها موقوفا على اختيارها والبدر ينقض وينكسف على وجه
لا تمكن رؤيته كما فضلها البحتري بأنها لا تغرب حتى تصير رؤيتها مستحيلة والشمس
كذلك. وقد ظلم الآمدي البحتري في قوله
لا العذل يردعه ولا التعنيف * عن كرم يصده
قال الآمدي وهذا عندي من أهجى ما مدح به خليفة وأقبحه ومن ذا يعنف الخليفة
على الكرم أو يصده ان هذا بالهجو أولى منه بالمدح. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه
وللبحتري في هذا عذر من وجهين. أحدهما أن يكون الكلام خرج مخرج
التقدير فكأنه قال لو عنف وعذل لما صده ذلك عن الكرم وإن كان من حق العذل
والتعنيف أن يصد أو يحجز عن الشئ وهذا له نظائر في القرآن وفي كلام العرب
كثير مشهور وقد مضى فيما أمليناه شئ من ذلك. والوجه الآخر أن العذل والتعنيف
وان لم يتوجها إليه في نفسه فهما موجودان في الجملة على الاسراف في البذل والجود
بنفائس الأموال ولم يقل البحتري إن عذله يردعه أو تعنيفه يصده وإنما قال لا العذل
يردعه ولا التعنيف يصده فكأنه أخبر أن ما يسمعه من عدل العذال على الكرم
11

وتعنيفهم علي الجود وإن كان متوجها إلى غيره فهو غير صادله لقوة عزيمته وشدة بصيرته
. ومما خطأ الآمدي البحتري فيه وإن كان له فيه عذر صحيح لم يهتد إليه قوله
ذنب كما سحب الرداء يذب عن * عرف وعرف كالقناع المسبل
قال الآمدي وهذا خطأ من الوصف لان ذنب الفرس إذا مس الأرض كان عيبا فكيف
إذا سحبه وإنما الممدوح من الأذناب ما قرب من الأرض ولم يمسها كما قال امرؤ القيس
بضاف فويق الأرض ليس بأعزل (1)
قال وقد عيب امرؤ القيس بقوله
لها ذنب مثل ذيل العروس * تسد به فرجها من دبر
قال وما أرى العيب يلحق امرأ القيس لان العروس وإن كانت تسحب أذيالها وكان
ذنب الفرس إذا مس الأرض عيبا فليس بمنكر أن يشبه به الذنب وان لم يبلغ إلى أن يمس
الأرض لان الشئ إنما يشبه الشئ إذا قاربه أو دنا من معناه فإذا أشبهه في أكثر أحواله فقد
صح التشبيه ولاق به وامرؤ القيس لم يقصد أن يشبه طول الذنب بطول ذيل العروس فقط
وإنما أراد السبوغ والكثرة
والكثافة ألا ترى أنه قال - تسد به فرجها من دبر - وقد
يكون الذنب طويلا يكاد يمس الأرض ولا يكون كثيفا ولا يسد فرج الفرس فلما قال
تسد به فرجها علمنا أنه أراد الكثافة والسبوغ مع الطول فإذا أشبه الذنب الذيل من
هذه الجهة كان في الطول قريبا منه فالتشبيه صحيح وليس ذلك بموجب للعيب وإنما
العيب في قول البحتري * ذنب كما سحب الرداء * فأفصح بأن الفرس يسحب ذنبه. ومثل
قول امرئ القيس قو خداش بن زهير
لها ذنب مثل ذيل الهدى * إلي جؤجوء أيد الزافر
- والهدي - العروس التي تهدى إلى زوجها - والأيد - الشديد - والزافر - الصدر لأنها تزفر منه

(1) وصدره * كميت إذا استقبلته سد فرجه * الخ - والا عزل - من الخيل الذي يقع ذنبه
في جانب وهو عادة لا خلقة وهو عيب
12

قال فشبه الذنب الطويل السابغ بذيل الهدي وان لم يبلغ في الطول إلى أن يمس الأرض.
[قال الشريف] رضي الله عنه وللبحتري وجه في العذر يقرب من عذر امرئ القيس
في قوله مثل ذيل العروس غير أن الآمدي لم يفطن له وأول ما أقوله ان الشاعر لا يجب
أن يؤخذ عليه في كلامه التحقيق والتحديد فان ذلك متى اعتبر في الشعر بطل جميعه
وكلام القوم مبنى على التجوز والتوسع والإشارات الخفية والايماء على المعاني تارة من
بعد وتارة من قرب لأنهم لم يخاطبوا بشعرهم الفلاسفة وأصحاب المنطق وإنما خاطبوا
من يعرف أوضاعهم ويفهم أغراضهم وإنما أراد البحتري بقوله - ذنب كما سحب الرداء - المبالغة
في وصفه بالطول والسبوغ وأنه قد قارب أن ينسحب وكاد يمس الأرض ومن شأن العرب
أن تجري على الشئ الوصف الذي قد كان يستحقه وقد قرب منه القرب شديد فيقولون
قتل فلانا هوي فلانة ووله عقله وزال تمييزه وأخرج نفسه وكل ذلك لم يقع وإنما
أراد والمبالغة وإفادة المقاربة والمشارفة ولنظائر ذلك أكثر من أن تحصى ومن شأنهم
أيضا إذا أرادوا المبالغة التامة أن يستعملوا مثل هذا فيشبهون الكفل بالكثيب
وبالدعص وبالتل ويشبهون الخصر بوسط الزنبور وبمقدار حلقة الخاتم ويعدون هذا غاية
المدح وأحسن الوصف ونحن نعلم أنا لو رأينا من خصره مقدار وسط الزنبور وكفله
كالكثيب العظيم لاستبعدناه واستهبجنا صورته لنكارتها وقبحها وإنما أتوا بألفاظ المبالغة
صنعة وتأنقا لا لتحمل على ظواهرها تحديدا وتحقيقا بل ليفهم منها الغاية المحمودة والنهاية
المستحسنة ويترك ما وراء ذلك فإنا نفهم من قولهم خصرها كخصر الزنبور انه في غاية
الدقة المستحسنة في البشر ومن قولهم كفلها كالكثيب أنه في نهاية الوثارة المحمودة
المطلوبة لا أنه كالتل على التحقيق فهكذا لا ننكر أن يريد البحتري بقوله كما سحب الرداء
أنه في غاية الطول الممدوح المحمود لا انه ينجر في الأرض علي الحقيقة ووكلنا في تخليص
معناه وتفصيله إلى العادة الجارية لنظرائه من الشعراء في استعمال مثل اللفظ الذي
استعمله. قال بعضهم في ثقل العجيزه
تمشى فتثقلها روادفها * فكأنها تمشى إلى خلف
13

وقال المؤمل
من رأى مثل حبتي * تشبه البدر إذا بدا
تدخل اليوم ثم تدخل * أرادفها غدا
وقال ذو الرمة
ورمل كأوراك العذارى قطعته * وفد جللته المظلمات الحنادس (2)
وكل هذا الكلام لو حمل على ظاهره وحقيقته لكان الموصوف به في نهاية القبح لان
من يمشى إلى خلف ومن يدخل كفله بعده لا يكون مستحسنا. وقال بكر بن النطاح
فزعاء تسحب من قيام فزعها * وتغيب فيه وهو جثل أسحم
فكأنها فيه نهار ساطع * وكأنه ليل عليها مظلم
فوصف شعرها بأنه ينسحب مع قيامها ونحن نعلم أن طول الشعر وإن كان مستحسنا
فليس إلي هذا الحد وإنما أراد بقوله تسحب شعرها ما أراده البحتري بقوله كما سحب

(1) هذا البيت أورده ابن جنى في الخصائص في باب غلبة الفروع للأصول فقال
هذا فصل من العربية طريف تجده في معاني العرب كما تجده في معاني الاعراب ولا
تكاد تجد شيئا من ذلك إلا والغرض فيه المبالغة فمما جاء فيه ذلك للعرب قول ذي الرمة
ورمل كأوراك العذارى قطعته * إذا ألبسته المظلمات الحنادس
أفلا ترى ذا الرمة كيف جعل الأصل فرعا والفرع أصلا وذلك أن العادة والعرف
في نحو هذا ان تشبه أعجاز النساء بكثبان الانقاء إلى أن قال فغلب ذو الرمة العادة
والعرف في هذا فشبه كثبان الانقاء باعجاز النساء وهذا كأنه يخرج مخرج المبالغة أي قد
ثبت هذا الموضع وهذا المعنى لأعجاز النساء فصار كأنه الأصل فيه حتى شبه به كثبان
الانقاء إلى أن قال وآخر ما جاء به شاعرنا يعنى المتلبي
نحن ركب ملجن في زي ناس * فوق طير على شخوص الجمال
فجعل كونهم جنا أصلا وجعل كونهم ناسا فرعا وجعل كون مطاياه طيرا أصلا
وكونها جمالا فرعا فشبه الحقيقة بالمجاز في المعنى الذي منه أفاد المجاز من الحقيقة ما أفاد
14

الرداء من المبالغة في الوصف بالطول المحمود دون المذموم
(مجلس آخر 58)
[تأويل الآية]. ان سأل سائل عن قوله تعالى (أسمع بهم وأبصر (1) يوم يأتوننا)
الآية. فقال ما تأويل هذه الآية فإن كان المراد بها التعجب من قوة أسماعهم ونفاذ أبصارهم فكيف
يطابق ما خبر به عنهم في مواضع كثيرة من الكتاب بأنهم لا يبصرون ولا يسمعون
وان على أسماعهم وأبصارهم غشاوة وما معنى قوله تعالى (لكن الظالمون اليوم في
ضلال مبين) أي يوم هو اليوم المشار إليه وما المراد بالضلال المذكور. الجواب
قلنا أما قوله تعالي (أسمع بهم وأبصرهم) فهو على مذهب العرب في التعجب ويجرى
مجري قولهم ما أسمعهم وما أبصرهم والمراد بذلك الإخبار عن قوة علومهم بالله تعالي
في تلك الحال وانهم عارفون به على وجه الاعتراض للشبهة عليه وهذا يدل على أن أهل
الآخرة عارفون بالله تعالى ضرورة ولا تنافى بين هذه الآية وبين الآيات التي أخبر تعالى

(1) قوله اسمع بهم وأبصر أي بهم وحذف المتعجب منه هنا لدلالة بهم السابقة مع
كونه فاعلا لان لزومه الجر كساه صورة الفضلة خلافا للفارسي وجماعة فإنهم ذهبوا إلى
أنه لم يحذف ولكنه استتر في الفعل حين حذفت الباء كما في قولك زيد كفى به كاتبا
ورده ابن مالك بوجهين. أحدهما لزوم ابرازه حينئذ في التثنية والجمع. والثاني ان من
الضمائر ما لا يقبل الاستتار كنا من أكرم بنا فإن لم يدل عليه دليل لم يجز حذفه أما في
ما أفعله فلعروه إذ ذاك عن الفائدة فإنك لو قلت ما أحسن أو ما أجمل لم يكن كلا مالان
معناه ان شيئا صير الحسن واقعا على مجهول وهذا مما لا ينكر وجوده ولا يفيد التحدث
به وأما نحو افعل به فلا يحذف منه المتعجب لغير دليل لأنه فاعل وأما قول عروة بن الورد
فذلك ان يلق المنية يلقها * حميدا وان يستغن يوما فاجدر
فحذف المتعجب منه ولم يكن معطوفا على مثله فشاذ
15

عنهم فيها بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون وبأن على أبصارهم غشاوة لأن تلك الآيات تناولت
أحوال التكليف وهي الأحوال التي كان الكفار فيها ضلالا عن الدين جاهلين بالله تعالى
وصفاته وهذه الآية تتناول يوم القيامة وهو المعنى بقوله تعالى يوم يأتوننا و أحوال
القيامة لا بد فيها من المعرفة الضرورية وتجرى هذه الآية مجرى قوله تعالى (لقد كنت
في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). فأما قوله تعالى (لكن
الظالمون اليوم في ضلال مبين) فيحتمل أن يريد تعالى بقوله اليوم الدنيا وأحوال
التكليف ويكون الضلال المذكور إنما هو الذهاب عن الدين والعدول عن الطريق
فأراد تعالى انهم في الدنيا جاهلون وفي الآخرة عارفون بحيث لا تنفعهم المعرفة ويحتمل
أن يريد تعالي باليوم يوم القيامة ويعنى تعالى بالضلال المعدول عن طريق الجنة ودار
الثواب إلى دار العقاب فكأنه قال أسمع بهم وابصر يوم يأتوننا غير أنهم مع معرفتهم
هذه وعلمهم يصيرون في هذا اليوم إلي العقاب ويعدل بهم عن طريق الثواب وقد روي
معنى هذا التأويل عن جماعة من المفسرين فروي عن الحسن في قوله تعالى [أسمع
بهم وأبصر يوم يأتوننا] قال يقول تعالى هم يوم القيامة سمعاء بصراء لكن الظالمون في
الدنيا سمعاء وبصراء ولكنهم في ضلال عن الدين مبين. وقال قتادة وابن زيد
ذلك والله يوم القيامة سمعوا حين لم ينفعهم السمع وأبصروا حين لم ينفعهم البصر. وقال
أبو مسلم بن بحر في تأويل هذه الآية كلاما جيدا قال معنى أسمع بهم وأبصر ما أسمعهم
وأبصرهم وهذا على طريق المبالغة في الوصف يقول فهم يوم يأتوننا يوم القيامة سمعاء
بصراء أي عالمون وهم اليوم في دار الدنيا في ضلال مبين أي جهل واضح قال وهذه
الآية تدل على أن قوله (صم بكم عمى فهم لا يعقلون) ليس معناه الآفة في الأذن
والعين والجوارح بل هو انهم لا يسمعون عن قدرة ولا يتدبرون ما يسمعون ولا
يعتبرون بما يرون بل هم عن ذلك غافلون فقد نري أن الله تعالى جعل قوله تعالى
(لكن الظالمون اليوم في ضلال) مقابلا لقوله تعالى أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا أي
ما أسمعهم وما أبصرهم فأقام تعالى السمع والبصر مقام الهدى إذ جعله بإزاء الضلال
المبين. فأما أبو علي بن عبد الوهاب فإنه اختار في تأويل هذه الآية غير هذا الوجه
16

ونحن نحكي كلامه على وجهه قال وعنى بقوله اسمع بهم وابصر أي أسمعهم وأبصرهم
وبين لهم انهم إذا أتوا مع الناس إلى موضع الجزاء سيكونون في ضلال عن الجنة وعن
الثواب الذي يناله المؤمنون. والظالمون الذين ذكرهم الله تعالى هم هؤلاء توعدهم
بالعذاب في ذلك اليوم. ويجوز أيضا أن يكون عنى بقوله اسمع بهم وابصر اي اسمع
الناس بهؤلاء الأنبياء وأبصرهم بهم ليعرفوهم ويعرفوا خبرهم فيؤمنوا بهم ويقتدوا
بأعمالهم وأراد بقوله تعالى لكن الظالمون لكن من كفر بهم من الظالمين اليوم وهو
في يوم القيامة في ضلال عن الجنة وعن نيل الثواب مبين وهذا الموضع من جملة
المواضع التي استدركت على أبى على وينسب فيها إلى الزلل لأن الكلام وإن كان محتملا
لما ذكره بعض الاحتمال من بعد فان الأولى والأظهر في معنى ما تقدم ذكره من المبالغة
في وصفهم وقوله تعالى (لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) بعد ما تقدم لا يليق الا
بالمعنى الذي ذكرناه لا سيما إذا حمل اليوم على أن المراد به يوم القيامة على أن أبا على
جعل قوله تعالى لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين من صلة قوله تعالي أسمعهم
وأبصرهم وتأوله على أن المعنى به اعلمهم وأبصرهم بأنهم يوم القيامة في ضلال عن الجنة
والكلام يشهد بأن ذلك لا يكون من صلة الأول وأن قوله تعالى لكن استئناف لكلام
ثان وما يحتاج أبو علي إلى هذا بل لو قال على ما اختاره من التأويل أنه أراد تعالى
أسمعهم وأبصرهم يوم يأتوننا أي ذكرهم بأهواله وأعلمهم بما فيه ثم قال مستأنفا لكن
الظالمون اليوم في ضلال مبين لم يحتج إلى ذكره وكان هذا أشبه بالصواب.. فأما
الوجه الثاني الذي ذكره فباطل لان قوله تعالى أسمع بهم وأبصر إذا تعلق بالأنبياء
الذين ذكرهم الله تعالى بقي قوله عز وجل يوم يأتوننا بلا عامل ومحال أن يكون ظرف
لا عامل له فالأقرب والأولى أن يكون على الوجه الأول مفعولا.. ووجدت بعض من
اعتراض على أبى على يقول رادا عليه لو كان الامر على ما ذهب إليه أبو علي لوجب أن
يقول تعالى أسمعهم وأبصرهم بغير باء وهذا الرد غير صحيح لان الباء في مثل هذا الموضع
غير منكر زيادتها وذلك موجود كثير في القرآن
والشعر وغيره قال الله تعالى (اقرأ
باسم ربك الاعلى الذي. وعينا يشرب بها عباد الله. وهزي إليك بجذع النخلة
17

تلقون إليهم بالمودة وقال الأعشى
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا
وقال امرؤ القيس
هصرت بغصن ذي شماريخ ميال (1)
وأظن أبا على أنما شبهته بهذا الجواب لأنه وجد تاليا للآية لفظ أمر وهو قوله
تعالى (وأنذرهم يوم الحسرة) فحمل الأول على الثاني والكلام لا تشتبه معانيه من
حيث المجاورة بل الواجب أن يوضع كل منه حيث يقتضيه معناه.. [قال المرتضى] رضي الله عنه
وجدت جماعة من أهل الأدب يستبعدون ان يرتج على انسان في خطبة وكلام
قصد له فينبعث منه في تلك الحال كلام هو أحسن مما قصد إليه وأبلغ مما أرنج عليه
دونه ويقولون ان النسيان لا يكون إلا عن حيرة وضلالة فكيف تجتمع معهما البراعة
الثاقبة والبلاغة المأثورة مع حاجتهما إلى اجتماع الفكرة وحضور الذكر وينسبون جميع
ما يحكى من كلام مستحسن ولفظ مستعذب عمن حصر في خطبة أو في منطق إلى أنه
موضوع مصنوع وليس الذي استبعدوه وأنكروه ببعيد ولا منكر لان النسيان قد
يخص شيئا دون شئ ويتعلق بجهة دون جهة وهذا أمر متعارف فلا ينكر أن ينسى
الانسان شيئا قصده وعزم على الكلام فيه ويكون مع ذلك ذاكرا لغيره متكلما فيه
بأبلغ الكلام وأحسنه بل ربما كان الحصر والذهاب عن القصد يحميان القريحة ويوقدان
الفكرة فيبعثان على أحسن الكلام وأبرعه ليكون ذلك هربا
من العى وانتفاء من
اللكنة.. ومن أحسن ما روى من الكلام وأبرعه في حال الحصر والانقطاع عن
المقصود من الكلام ما أخبرنا به أبو عبيد الله محمد المرزباني قال حدثنا ابن دريد
قال حدثنا أبو حاتم قال المرزباني وأخبرنا ابن دريد مرة أخرى
وقال حدثنا السكن
ابن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي قالا صعد خالد بن عبد الله القسري

(1) وصدره * فلما تنازعنا الحديث وأسمحت * فمعنى - أسمحت - سهلت
ولانت - وهصرت بغصن - ثنيت غصنا والباء زائدة
18

يوما المنبر بالبصرة فأرتج عليه فقال أيها الناس إن الكلام وقال أبو حاتم إن هذا القول
يجى أحيانا ويذهب أحيانا فيتسبب عند مجيئه سببه ويعز عند عزوبه طلبه
وربما كوبر فأبى وعولج فأبطى وقال ابن الكلبي ربما طلب فأبى وعولج فقسا والتأني
لمجيئه أصوب من التعاطي لأبيه ثم نزل فما رؤى حصرا أبلغ منه وقال أبو حاتم والترك لأبيه
أفضل من التعاطي لمجيئه وتجاوزه عند تعذره أولى من طلبه عند تنكره وقد يختلج من
الجرئ جنانه ويرتج على البليغ لسانه ثم نزل.. وأخبرنا بهذا الخبر أبو عبيد الله المرزباني
على وجه آخر قال أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطي قال كان خالد بن عبد
الله القسري حين ولاه هشام بن عبد الملك يكثر الخطب والتباليغ فقدم واسط فصعد
المنبر فحاول الخطبة فارتج عليه فقال أيها الناس إن هذا الكلام يجئ أحيانا ويعزب
أحيانا فيعز عند عزوبه طلبه ويتسبب عند مجيئه سببه وربما كوبر فأبى وعوسر
فقسا والتأتي لمجيئه أسهل من التعاطي لأبيه وتركه عند تعذره أحمد من طلبه عند
تنكره وقد يرتج على اللسن لسانه ولا ينظره القول إذا اتسع ولا يتيسر إذا امتنع ومن
لم تمكن له الخطوة فخليق أن تعن له النبوة. (1) وأخبرنا المرزباني قال أخبرنا أبو
عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة قال حدثني أبو العباس المنصوري قال صعد أبو
العباس السفاح المنبر فأرتج عليه فقال أيها الناس إن اللسان بضعة من الانسان يكل إذا
كل وينفسح بانفساحه إذا فسح ونحن أمراء الكلام منا تفرعت فروعه وعلينا تهدلت
غصونه ألا وإنا لا نتكلم هذرا ولا نسكت إلا معتبرين ثم نزل فبلغ ذلك أبا جعفر فقال
لله هو لو خطب بمثل ما اعتذر لكان من أخطب الناس وهذا الكلام يروى لداود
ابن علي.. وبهذا الاسناد عن محمد بن الصباح عن فثم بن جعفر بن سليمان عن أبيه
قال أراد أبو العباس السفاح يوما أن يتكلم بأمر من الأمور بعد ما أفضت الخلافة إليه

(1) وروى ابن علي القالي قال حدثنا أبو بكر رحمه الله قال أخبرنا السكن بن
سعيد عن العباس بن هشام الكلبي قال صعد خالد بن عبد الله القسري يوما المنبر بالبصرة
ليخطب فارتج عليه فقال أيها الناس ان الكلام ليجئ أحيانا فيتسبب سببه ويعزب
أحيانا فيعز مطلبه فربما طولب فأبى وكوبر فعصي فالتأني لمجيئه أصوب من التعاطي لأبيه
19

وكان فيه حياء مفرط فأرتج عليه فقال داود بن علي بعد أن حمد الله وأنى عليه أيها
الناس إن أمير المؤمنين الذي قلده الله سياسة رعيته عقل من لسانه عندما تعهد من
بيانه ولكل مرتق بهر حتى تنفسه العادات فأبشروا بنعمة الله في صلاح دينكم ورغد
عيشكم.. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال
حدثني عبد الله بن إسحاق بن سلام قال صعد عثمان بن عفان رضي الله عنه المنبر فأرتج عليه
فقال أيها الناس سيجعل الله بعد عسر يسرا وبعد عى نطقا وإنكم إلى إمام فعال أحوج
منكم إلى إمام قوال.. وروى محمد بن يزيد النحوي هذا الكلام بعينه عن يزيد بن أبي
سفيان وقد خطب على بعض منابر الشام وإن عمرو بن العاص لما بلغه كلامه قال عن
مخرجاتي من الشام استحسانا لكلامه.. وروى محمد بن يزيد النحوي قال بلغني أن
رجلا صعد المنبر أيام يزيد وكان واليا على قوم فقال لهم أيها الناس إني إن لم أكن
فارسا طبا بهذا القرآن فإن معي من أشعار العرب ما أرجو أن يكون خلفا منه وما
أساء القائل أخو البراجم حيث قال
وما عاجلات الطير يذنين للفتى * رشادا ولا من ريثهن يخيب (1)
ورب أمور لا تضيرك ضيرة * وللقلب من مخشاتهن وجيب
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه * على نائبات الدهر حين تنوب

(1) يقول إذا لم تعجل له طير سانحة فليس ذلك بمبعد خيرا له عنه ولا إذا أبطأت
خاب فعاجلها لا يأتيه بخير وأجلها لا يدفع عنه إنما له ما قدر له.. والعرب تزجر على
السانح وتتبرك به وتكره البارح وتتشاءم به وبعضهم يعكس والسانح ما ولاك مياسره
فأمكنك رميه والبارح ما ولاك ميامنه فلا يمكنك رميه الا ان تنحرف له.. وعاجلات
الطير هي ان يخرج الانسان من منزله إذا أراد ان يزجر الطير فما مر به في أول ما يبصر
فهو عاجلات الطير وان أبطأت عنه وانتظرها فقد راثت أي أبطأت والأول عندهم محمود
والثاني مذموم يقول ليس النجح بان يعجل الطائر الطيران كما يقول الذين يزجرون
الطير ولا الخيبة في ابطائها وهذا رد علي مذهب الاعراب والأبيات لضابئ بن الحارث
20

وفى الشك تفريط وفى الحزم قوة * ويخطى الفتى في حدسه ويصيب
فقال رجل من كلب إن هذا المنبر لم ينصب للعشر بل ليحمد الله تعالى ويصلى
على النبي وآله عليهم الصلاة والسلام وللقرآن فقال أما لو أنشدتكم شعر رجل من كلب
لسركم فكتب إلى يزيد بذلك فعزله وقال قد كنت أراك جاهلا أحمق ولم أحسب أن الحمق
بلغ بك إلى هذا المبلغ فقال له أحمق مني من ولاني.. وكان يزيد بن المهلب ولى ثابت
قطنة بعض قرى خراسان فلما صعد المنبر حصر فنزل وهو يقول
فإلا أكن فيكم خطيبا فإنني * بسيفي إذا جد الوغى لخطيب
فقيل له لو قلت هذا على المنبر لكنت أخطب الناس فبلغ ذلك حاجب الفيل فقال
أبا العلاء لقد لاقيت معضلة * يوم العروبة من كرب وتحنيق
أما القرآن فلا تهدى لمحكمه * ولم تسدد من الدنيا بتوفيق
لما رمتك عيون الناس هبتهم * وكدت تشرق لما قمت بالريق
تلوى اللسان إذ رمت الكلام به * كما هوى زلق من جانب النيق (1)

(1) - وكان سبب هجو حاجب الفيل والفيل لقب لقبه به ثابت قطنة واسم أبيه
ذبيان المازني وقيل معدان وقيل إنه الملقب الفيل لأنه كان يروض فيلا للحجاج
ان حاجبا دخل على يزيد بن المهلب فلما مثل بين يديه أنشده
إليك امتطيت العيس تسعين ليلة * أرجي ندا كفيك يا بن المهلب
وأنت امرؤ جادت سماء يمينه * على كل حي بين شرق ومغرب
فجد لي بطرف أعوجى مشهر * سليم الشظي عبل القوائم سلهب
سبوح طموح الطرف يستن مرجم * أمر كامرار الرشاء المشذب
طوي الضمر منه البطن حتى كأنه * عقاب تدلت من شماريخ كبكب
تبادر جنح الليل فرخين أقويا * من الزاد من قفر من الأرض مجدب
فلما رأت صيدا تدلت كأنها * دلاء تهاوى مرقبا بعد مرقب
فشكت سواد القلب من ذئب قفرة * طويل القري عاري العظام معصب
وسابغة قد أتقن القين صنعها * وأسمر خطي طويل مجرب
وأبيض من ماء الحديد كأنه * شهاب متى يلق الضريبة يقضب
وقل لي إذا ما شئت في حومة الوغى * تقدم أو اركب حومة الموت اركب
فانى امرؤ من عصبة مازنية * نماني أب ضخم كريم المركب
فأمر له يزيد بدرع وسيف ورمح وفرس وقال له قد عرفت ما شرطت لنا علي نفسك
فقال أصلح الله الأمير حجتي بينة وهي قول الله عز وجل (والشعراء يتبعهم الغاوون
ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وانهم يقولون ما لا يفعلون) فقال ثابت قطنة ما أعجب
ما وفدت به من بلدك في تسعين ليلة مدحت الأمير بيتين وسألته حوائجك في عشرة
أبيات وختمت شعرك في بيت تفخر عليه فيه حتى إذا أعطاك ما أردت حدت عما شرطت
له على نفسك فأكذبتها حتى كأنك كنت تخدعه فقال له يزيده مه يا ثابت فانا لا نخدع ولكن
فتخادع وسوغه ما اعطاء وأمر له بألفي درهم ولج حاجب يهجو ثابتا
21

.. وروى أن بعض خلفاء بنى العباس وأظنه الرشيد صعد المنبر ليخطب فسقطت على
وجهه ذبابة فطردها فرجعت فحصر وأرتج عليه فقال أعوذ بالله السميع العليم يا أيها الناس
ضرب مثل فاستمعوا له الآية إلى قوله ضعف الطالب والمطلوب ثم نزل فاستحسن
ذلك منه.. ومما يشاكل هذه الحكاية ما حكاه عمرو بن بحر الجاحظ قال كان لنا
بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوار لم ير الناس حاكما قط ولا زمينا ولا ركينا
ولا وقورا ضبط من نفسه وملك من حركته مثل الذي ضبط وملك وكان يصلى
الغداة في منزله وهو قريب الدار من مسجده فيأتي مجلسه فيحتبى ولا يزال منتصبا
لا يتحرك له عضو ولا يلتفت ولا يحل حبوته ولا يحرك رجلا عن رجل ولا يعتمد على
على أحد شقيه حتى كأنه بناء مبنى أو صخرة منصوبة فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة
الظهر ثم يعود إلى مجلسه فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة العصر ثم يرجع إلى مجلسه
فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى المغرب ثم ربما عاد إلى مجلسه بل كثيرا ما يكون ذلك
إذا بقي عليه من قراءة العهد والشروط والوثائق ثم يصلى العشاء وينصرف لم يقم في
22

طول تلك الولاية مرة واحدة إلى الوضوء ولا احتاج إليه ولا شرب ماء ولا غيره من
الشراب وكذلك كان شأنه في طوال الأيام وفى قصارها وفى صيفها وشتائها وكان مع ذلك
لا يحرك يدا ولا يشير برأسه وليس إلا أن يتكلم ثم يوجز ويبلغ بالكلام اليسير المعاني
الكثيرة فبينما هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه وفى السماطين بين يديه إذ قسط
على أنفه ذباب فأطال السكوت والمكث ثم تحول إلى موق عينه فرام الصبر في سقوطه
على الموق وعلى عضته ونفاذ خرطومه كما رام الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن
يحرك أرنبته أو يغضى وجهه أو يذب بأصبعه فلما طال ذلك من الذباب وأوجعه
وأحرقه وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل عنه أطبق جفنه الاعلى على جفنة الأسفل
فلم ينهض فدعاه ذلك إلى أو والى بين الاطباق والفتح فتنحى ريثما سكن ثم عاد إلى
موقه ثانيا أشد من مرته الأولى فغمس خرطومه في مكان قد كان أوهاه قبل ذلك
وكان احتماله له أضعف وعجزه عن الصبر في الثانية أقوى فحرك أجفانه وزاد في شدة
الحركة في تتابع الفتح والاطباق فتنحى عنه بقدر ما سكنت حركته ثم عاد إلى موضعه
فما زال ملحا عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده فلم يجد بدا من أن يذب عن عينه بيده
ففعل وعيون القوم إليه يرمقونه كأنهم لا يرونه فتنحى عنه بمقدار مارد يده وسكنت
حركته ثم عاد إلى موضعه فألجأه إلى أن ذب عن وجهه بطرف كمه ثم ألجأه إلى أن
تابع بين ذلك وعلم أن ذلك كله بعين من حضر من أمنائه وجلسائه فلما نظروا إليه قال أشهد ان الذناب ألج من الخنفساء وأزهى من الغراب وأستغفر الله فما أكثر من
أعجبته نفسه فأراد الله تعالى أن يعرفه من ضعفه من ضعفه ما كان عنه مستورا وقد علمت انى
كنت عند الناس من أرصن الناس وقد غلبني وفضحني أضعف خلق الله ثم تلا قول الله
تعالى (ضعف الطالب والمطلوب)
(مجلس آخر 59)
[تأويل آية].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (وإذ نجينا كم من آل فرعون
23

يسومونكم سوم العذاب - إلى قوله تعالى - بلاء من ربكم عظيم) فقال ما تنكرون أن يكون
في هذا الآية دلالة على إضافة الافعال التي تظهر من العباد إلى الله تعالى من وجهين
.. أحدهما أنه قال تعالى بعدما تقدم ذكره من أفعالهم ومعاصيهم وفى ذلك بلاء من ربكم عظيم
فأضافها إلى نفسه.. والثاني أضاف تجاتهم من آل فرعون إليه فقال تعالى وإذ أنجيناكم
ومعلوم انهم هم الذين ساروا حتى نجوا فيجب أن يكون ذلك السير من فعله على الحقيقة
حتى تصح الإضافة حينئذ.. الجواب قلنا أما قوله تعالى وفي ذلكم فهو إشارة إلى
ما تقدم ذكره من انجائه لهم من المكروه والعذاب وقد قال قوم انه معطوف على ما
تقدم من قوله تعالى (يا بني إسرائيل إذ كوا نعمتي التي) الآية والبلاء ههنا الاحسان
والنعمة ولا شك في أن تخليصه لهم من ضروب المكاره التي عددها الله نعمة عليهم واحسان
إليهم والبلاء عند العرب قد يكون حسنا وقد يكون سيئا قال الله تعالى (وليبلي المؤمنين
منه بلاء حسنا) ويقول الناس في الرجل إذا أحسن القتال والثبات في الحرب قد أبلى
فلان ولفلان بلاء والبلوى أيضا قد يستعمل في الخبر والشر الا ان أكثر ما يستعملون
البلاء الممدود في الجميل والخير والبلوى المقصورة في السوء الشر فقال قوم أصل البلاء
في كلام العرب الاختبار والامتحان ثم يستعمل في الخير والشر لان الاختبار والامتحان
قد يكون في الخير والشر جميعا كما قال تعالى (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) يعنى
اختبرناهم وكما قال تعالى (ولنبلونكم بالخير فتنة) فالخير يسمى بلاء والشر
يسمى بلاء غير أن الا كثر في الشر أن يقال بلوته أبلوه بلا وفى الخير أبلوته أبليه إبلاء
وبلاء.. وقال زهير في البلاء الذي هو الخير
جزى الله بالاحسان ما فعلا بكم * وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
فجمع بين اللغتين لأنه أراد أنعم الله عليهما خير النعمة التي يختبر بها عباده وكيف يجوز
أن يضيف تعالى ما ذكره عن آل فرعون من ذبح الأبناء وغيره إلى نفسه وهو قد
ذمهم عليه و وبخهم وكيف ويكون ذلك من فعله وهو قد عد تخليصهم منه نعمة عليهم
وكان يجب على هذا أن يكون إنما نجاهم من فعله تعالى بفعله وهذا مستحيل لا يعقل
24

ولا يحصل على أنه يمكن ان يرد قوله ذلكم إلى ما حكاه عن آل فرعون من الافعال
القبيحة ويكون المعنى ان في تخليته بين هؤلاء بينكم وتركه منعهم من ايقاع هذه الأفعال
بكم بلاء من ربكم عظيم أي محنة واختيار لكم والوجه الأول أقوى وأولى وعليه
جماعة من المفسرين.. وروى أبو بكر الهذلي عن الحسن في قوله تعالى (في ذلكم
بلاء من ربكم عظيم) قال نعمة عظيمة إذا أنجاكم من ذلك وقد روى مثل ذلك عن
ابن عباس والسدي ومجاهد وغير هم.. فأما إضافة النجاة إليه وإن كانت واقعة بسير هم
وفعلهم فلو دل على ما ظنوه لوجب إذا قلنا إن الرسول عليه الصلاة والسلام أنقذنا من
الشرك أخرجنا من الضلالة إلى الهدى ونجانا من الكفر أن يكون فاعلا لأفعالنا و كذلك
قد يقول أحدنا لغيره أنا نجيتك من كذا وكذا واستنقذتك وخلصتك ولا يريد انه فعل
بنفسه فعله والمعنى في ذلك ظاهر لان ما وقع بتوفيق الله تعالى ودلالته وهدايته ومعونته
وألطافه قد يصح اضافته إليه فعلى هذا صحت إضافة النجاة إليه تعالى.. ويمكن أيضا
أن يكون مضيفا لها إليه تعالى من حيث ثبط عنهم الاعداد وشغلهم عن طلبهم وكل هذا
يرجع إلى المعونة فتارة تكون بأمر يرجع إليهم وتارة بأمر يرجع إلى أعدائهم.. فان
قيل كيف يصح أن يقول (وإذ أنجينا كم من آل فرعون) فيخاطب بذلك من لم يدرك
فرعون ولا نجا من شره... قلنا ذلك معروف مشهور في كلام العرب وله نظائر لان
العربي قد يقول مفتخرا على غير قتلنا كم يوم عكاظ وهزمنا كم وإنما يريد أن قومي
فعلوا ذلك بقومك... وقال الأخطل يهجو جرير بن عطية
ولقد سما لكم الهذيل فنالكم * بإراب حيث نقسم الانفالا
في فيلق يدعوا الأراقم لم تكن * فرسانه عزلا ولا أكفالا
ولم يلحق جرير الهذيل ولا أدرك اليوم الذي ذكره غير أنه لما كان يوم من أيام قوم
الأخطل على قوم جرير أضاف الخطاب إليه والى قومه فكذلك خطاب الله تعالى
بالآية إنما توجهت إلى أبناء من نجى من آل فرعون وأحلافهم والمعنى وإذ نجينا آباءكم
وأسلافكم والنعمة على السلف نعمة على الخلف... قال الشريف المرتضى رضى الله
(4 - المالي رابع)
25

عنه ومن أحسن الشعر في تعود الضيافة والانس بها والاستمرار عليها قول حاتم بن
عبد الله الطائي
إذا ما بخيل الناس هرت كلابه * وشق على الضيف الغرب عقورها
فإني جبان الكلب بيتي موطأ * جواد إذ ما النفس شح ضميرها
وإن كلابي مذ أقرب وعودت * قليل على من يعترينا هريرها
أراد بقوله - على من يعترينا هريرها - انها لا نهر جملة ولذلك نظائر كثيرة (1) ومثله
قوله تعالى (فقليلا ما يؤمنون) ومثل قوله فاني جبان الكلب معنا ولفظا قول الشاعر
وما يك في من عيب فإني * جبال الكلب مهزول الفصيل
وإنما أراد انى أوثر الضيف بالألبان ففصالي مها زيل... ومثل الفظ والمعنى قول أبى وجرة

(1) قوله ولذلك نظائر.. يريد ان قليلا وقليلة يردان للنفي وهما في ذلك تابعان
لقال وأقل يقال قل رجل يقول ذلك الا زيد بالضم وأقل رجل يقول ذلك الازيد معناهما
ما رجل يقوله الا هو فالقلة فيه للنفي المحض.. وقال ابن جنى لما ضارع المبتدأ حرف النفي
بقوا المبتدأ بلا خبر.. وقد عقد ابن مالك فصلا في التسهيل لهذه الكلمات ولصه فصل
قد يقوم ما يفعل أحد أقل ملازما للابتداء والإضافة إلى نكرة موصوفة بصفة مغنية
عن الخبر لازم كونها فعلا أو ظرفا وقد تجعل خبرا ولا بد مطابقة فاعلها للنكرة
المصاف إليها ويساري أقل المذكور قل رافعا مثل الجرور ويتصل بقل ما كافة عن
طلب الفاعل فيلزم في غير ضرورة مباشرتها الافعال وقد يراد بها حينئذ التقليل حقيقة
وقد يدل على النفي بقليل وقليلة فقوله ملازما للابتداء أي فلا تقول كان أقل رجل
يقول ذلك لأنه لما تاب مناب النفي كان له الصدر كالنفي وشمل قوله نكرة ما يقبل أل
كرجل وما لا يقبلها نحو أقل من يقول ذلك والجلمة الواقعة بعده هذه النكرة صفة لها
في موضع جر والخبر محذوف أي كائن وليست خبر لمطابقتها النكرة نحو أقل امرأة
تقول ذلك.
26

وآل الزبير بنو حرة * مروا بالسيوف الصدور الجنافا
يموتون والقتل من دأبهم
ويغشون يوم السيوف السيافا
وأجبن ما صافر كلبهم * وإن نذفته حصاة أضافا
يقول أدركوا بسيوفهم ثاراتهم فكأنهم شفوا وغر قلوبهم وأزالوا ما كان فيها من الأحقاد
ومعنى مرا - استخرجوا كما تمرى الناقة إذا أردت أن تحليها الندر - والجانف - المنائل.. ثم
قال وان مات بعضهم على فراشه فان أكثر هم يموت مقتولا لشجاعتهم واقدامهم فلذلك
قال والقتل من دأبهم وجعل كلبهم جبانا الكثرة من يغشاهم ويطهر قهم من النزل
والأضياف فقد ألفهم كلابهم وألست بهم فهي لا تنبحهم وقيل أيضا انها لا تهر عليهم لأنها
تصيب مما ينحر لهم ويشاركهم فيه.. ومعنى وان قذفته حصاة أضافا - أي أشفق وهذا
تأكيد لجبنه ويقال أضاف الرجل من الامر إذا أشفق منه... ومعنى أجبن من
صافر كلبهم قد تقدم ذكره في الأمالي.. ومثله في المعنى
يغشون حتى ما تهر كلابهم * لا يسألون عن السواد المقبل

(1) هذا البيت من قصيدة لحسان بن ثابت رضي الله عنه يمدح بها جبلة بن الأيهم
الغساني وقيل عمرو بن الحارث الأعرج ولكل من الروايتين قصة وعلى انه عمرو قيل إن
حسان لما قدم عليه اعتاص وصوله إليه ثم دخل عليه فوجد عنده التابعة الذبياني
وعلقمة الفحل فقال له عمرو يا بن الفريعة قد عرفت عيصك ونسبك في غسان فارجع
فانى باعث إليك بصلة سنية ولا أحتاج إلى الشعر فانى أخاف عليك هذين السبعين ان
يفضحاك وفضيحتك فضيحتي وأنت والله لا تحسن أن تقول
دقاق النعال طيب حجرتم * يحيون بالريحان يوم السباسب
فلما أنشده حسان لم يزل يزحل عن موضعه سرورا وهو يقول هذا وأبيك الشعر لا ما يعلاني
به منذ اليوم هذه والله والبتارة التي بترت المدائح هات له يا غلام ألف دينار مرجوحة وهي
التي في كل دينار منها عشرة دنانير ثم قال لك على في كل سنة مثلها... المطلع القصيدة
أسألت رسم الدار أم لم تسأل * بين الجوابى فالبضيع فحومل
ومنها لله در عصابة ناد متهم * دهرا بجلق في الزمان الأول
بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأول
27

وقال المرار بن المنقذ العدوي
أعرف الحق ولا أنكره * وكلابي أنس غير عقر
لا ترى كلبي إلا آنسا * إن اتى خابط ليل لم يهر
كثر الناس فما ينكرهم * من أسيف يبتغى الخير وحز
الأسيف العبد هنها... وقال آخر
إلى ماجد لا ينبح الكلب صنيفه * ولا يتأداه احتمال المغارم
معنى - يتأداه - يثقله وأراد أن يقول يتأوده فقلب.... وقال ابن هرمة
وإذا أتانا طارق متنور * بنحت فدلته على كلابي
وفرحن إذ أبصرنه فلقينه * يضربنه بشراشر الأذناب (1)
وإنما تفرح به لأنها قد تعودت إذا أنزلت الضيوف أن ينحر لهم فتصيب من قراهم ومثله له
ومستنبح تستكشط الريح ثوبه * ليسقط عنه وهو بالثوب معصم
عوى في سواد الليل بعد اعتسافه * لينبح كلب أو ليفزع نوم
فجاوبه مستسمع الصوف للقرى * لينبح كلب أو ليفزع نوم
فجاوبه مستسمع الصوت للقرى * له مع إتيان المهبين مطعم
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا * يكلمه من حبه وهو أعجم
أراد بقوله فجاوبه مستسمع الصوت - انه جاوبه كلب - والمهبون - الموقظون له ولأهله
وهم الأضياف وإنما كان له معهم مطعم لأنه ينحر لهم ما يصيب منه.. وأراد بقوله -

(1) شر شر الكلب إذا ضرب بذنبه حركه للالس
28

يكلمه من حبه وهو أعجم بصبصته وتحريكه ذنبه.... وأما قوله - ليفزع نوم - فإنما
أراد ليغيث نوم يقال فزعت لفلان إذا أغثته... ومعنى - عوي في سواد الليل - ان
العرب تزعم أن سائر الليل إذا أظلم عليه وأدلهم فلم يستبن محجة ولم يدر أين الحي وضع
وجهه على الأرض وعوى عواء الكلب ليسمع ذلك الصوت الكلاب إن كان الحي قريبا
منه فتجيبه الأبيات وهذا معنى قوله أيضا ومستنبح أي ينبح الكلاب...
وقال الفرزدق
وداع بلحن الكلب يدعو ودونه * من الليل سجفا ظلمه وغيومها
دعا وهو يرجو أن ينبه إذ دعا * فتى كابن ليلى حين غارت نجومها
ابن ليلى - يعنى أباه غالبا
بعثت له دهماء ليست بلقحة * تدر إذا ما هب نحسا عقمها
معنى - بعثت له دهماء - أي رفعتها على أثافيها ويعنى الدهماء القدر - والقحة - الناقة
وأراد أن قدره تدر إذا هب الريح عقيما لأمطر فيها
كأن المحال الغر مي حجراتها * عذاري بدت ألما أصيب حميمها
أراد أن قطع اللحم فيها لا نستتر بشئ منها كما لا نستتر العذارى اللواتي أصيب حميمهر
وظهرن حواسر
غضوبا كحيزوم النعامة أحمشت * بأجواز خشب زال عنها هشيمها
- الا جواز - الأوساط وأوسط الخشب أصلبه وأبقى نارا
محضرة لا يجعل الستر دونها * إذا المرضع العوجاء جال برميها
- البريم - الحقاب وإنما يجول من الهزل والجهد والطوى - العوجاء - التي - قد
اعوجت من الطوى... وقال الأخطل في الضيف
دعاني بصوت واحد فأجابه * مناد بلاد صوت وآخر صيت
ذكر ضيفا عوى بالليل والصدى من الجبل يجيبه فذلك معنى قوله - بصوت واحد -
29

وقوله - فأجابه مناد يعنى نارا رفعها له فرأى سناها فقصدها - والآخر الصيت -
الكلب لأنه أجاب دعواه... ومثله
وسارى ظلام مفقعل وهبوة * دعوت بضوء ساطع فاهتدى ليا
يعنى نارا رفعها ليقصده طراق الليل - والمفقعل - المنقبض من شدة البرد.. وأنشد محمد
ابن يزيد ومستنبح تهوى مساقط رأسه * إلى كل شخص فهو للصوت أصور
جيب إلى كلب الكرام مناخه * بغيض إلى الكوماء والكلب أبصر
دعته بغير اسم هلم إلى القرى * فأسرى يبوع الأرض شقراء تزهر (1)
معنى - أصور - مائل أراد أنه يميل رأسه إلى كل شخص يتخيل له يظنه إنسانا..

(1) الأبيات من قطعة في غاية الحسن أردنا الاتيان بها مرتبة وهي
ومستنبح تهوي مساقط رأسه * إلى كل شخص فهو للسمع أصور
يصفقه أنف من الريح بارد * ونكباء ليل من جمادي وصرصر
حبيب إلى كلب الكريم مناخه * بغيض إلى الكوماء والكلب أبصر
حضأت له ناري فابصر ضوءها * وما كان لولا حضأة النار يبصر
دعته بغير اسم هلم إلي القرى * فأسرى يبوع الأرض والنار تزهر
فلما أضاءت شخصه قلت مرحبا * هلم وللصالين بالنار أبشروا
فجاء ومحمود القري يستفزه * إليها وداعي الليل بالصبح يصفر
تأخرت حتى كدت لم تصطفى القرى * على أهله والحق لا يتأخر
وقمت بنصل السيف والبرك هاجد * بهازره والموت بالسيف ينظر
فأعضضته الطولي سناما وخيرها * بلاء وخير الخير ما يتخير
فأوفضن عنها وهي ترغو حشاشة * بذى نفسها والسيف عريان أحمر
فباتت رحاب جونة من لحامها * وفوها بما في جوفها يتغرغر
30

ومعنى - حبيب إلى كلب الكرام - المعنى الذي تقدم.. ومعنى - بغيض إلى الكوماء -
إلى الناقة لأنها تنحر له.. وقوله - دعته شقراء - بغير اسم يعنى نارا ضوءها فقصدها
فكأنها دعته.. وقال ابن هرمة وقد نزل به ضيف
فقلت لقيني ارفعاها وحرقا * لعل سنا ناري بآخر تهتف
وفى معنى قوله بغيض إلى الكوماء.. قول بعض الشعراء يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وأبيك خيرا إن إبل محمد * عزل تناوح أن تهب شمال
وإذا رأين لدى الفناء غريبة * ذرفت لهن من الدموع سجال
وترى لها زمن الشتاء على الثرى * رخما وما بحيا لهن فصال
أراد أبيك الخير فلما الألف واللام نصب - والعزل - التي لا سلاح معها وسلاح
الإبل سمنها وأولادها وإنما جعلوا ذلك كالسلاح لها من حيث كان صاحبها إذا رأى
سمنها وحسن حسانها ورأي أولادها تتبعها نفس بها على الأضياف فامتنع من نحرها فلما
كان ذلك صادا عن الذبح ومانعا منه جرى مجرى السلاح لها فكأنه يقول هذه الإبل
وإن كانت ذوات سلاح من حيث كانت سخيمة سمينة فهي كالعزل إذ كان سلاحها
لا يغنى عنها شيئا ولا يمنع من عقرها.. ومعنى - تناوح - تقابل بعضها بعضا أي هن
مدفآت بأسنتها وأوبارها لا تبالي بهبوب الشمال ولا يدخل بعضها في بعض من البرد.. وقوله
- وإذا رأين لدى الفناء غريبة - أي إذا نزل ضيف فعقل ناقته التي جاء عليها وفى الغريبة
علمن أنه سينحر بعضهن لا محالة فلذلك تذرف دموعهن.. وقوله - وترى لها زمن
الشتاء على الثرى رخما - فقد قيل فيه إنه أراد به أن يهب فصالهن فتبقى ألبانهن على
الأرض كهيئة الرخم.. وحكى عن ابن عباس أنه قال الرخم قطع العلق من الدم وعندي
أن المعنى غير هذين جميعا وإنما أراد أنها تنحر وتعقر فتسقط الرخم على موضع عقرها
وبقايا دمائها وأسلائها فهذا معنى قوله لا ما تقدم.. وقال آخر في معنى سلاح الإبل
يمدح بنى عوذ بن غالب من عبس
31

جزى الله منى غالبا خير ما جزى * إذا حدثان الدهر نابت نوائبه (1)
إذا أخذت بزل المخاض سلاحها * تجرد فيها متلف المال كاسبه
أراد أن سمنها وحسنها وتمامها لا يمنعه من عقرها للأضياف.. ومثله
إذا البقل في أصلاب شول ابن مسهر * نمى لم يزده البقل إلا تكرما
إذا أخذت شول البخيل رماحها * وحى برماح الشول حتى تحطما
وقوله - أخذت رماحها - من المعنى المتقدم.. وقال مسكين الدارمي
فقمت ولم تأخذ إلى رماحها * عشارى، ولم أرجب عراقبها عقرا
- أرجب - أكبر ذلك ولم يعظم على وسمى رجب رجبا من ذلك لأنه شهر معظم
.. وقالت ليلى الأخيلية
ولا تأخذ الكوم الجلاد سلاحها * لتوبة في قر الشتاء الصنابر
ومثله
لا أخون الصديق ما حفظ العهد * ولا تأخذ السلاح لقاحي
وقال النمر بن تولب
أزمان لم تأخذ إلى سلاحها * إبلي بجلتها ولا أبكارها
أبتزها ألبانها ولحومها * فأهين ذاك لضيفها ولجارها
وقال المضرس بن ربعي الأسدي
وما نلعن الأضياف إن نزلوا بنا * ولا يمنع الكوماء منا نصيرها

(1).. ويروى * جزي الله خيرا علبا من عشيرة الخ وبين البيتين بيتان وهما
فكم دافعوا من كربة قد تلاحت * على وموج قد علتني غواربه
إذا قلت عودوا عاد كل شمر دل * أشم من الفيتان جزل مواهبه
32

ومعنى - لا نلعنهم - أي لا نبعدهم واللعين البعيد - ونصيرها - ههنا ما يمنع من عقرها من
حسن وتمام وولد وما جرى ذلك المجرى والنصير والسلاح في المعنى واحد
(مجلس آخر 60)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا
إلا أن يشاء الله).. فقال ما تنكرون أن يكون ظاهر هذه الآية يقتضى أن يكون جميع
ما نفعله يشاؤه ويريده لأنه تعالى لم يخص شيئا من شئ وهذا بخلاف مذهبكم وليس لكم
أن تقولوا إنه خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام خاصة وهو لا يفعل إلا ما يشاء الله تعالى
لأنه قد يفعل المباح بلا خلاف ويفعل الصغائر عند أكثركم فلابد من أن يكون في
أفعاله تعالى ما لا يشاؤه عندكم ولأنه أيضا تأديب لنا كما أنه تعليم له عليه الصلاة والسلام ولذلك
يحسن منا أن نقول ذلك فيما يفعله.. الجواب قلنا تأويل هذه الآية مبنى على وجهين
.. أحدهما أن يجعل حرف الشرط الذي هو إن متعلقا بما يليه وبما هو متعلق به
في الظاهر من غير تقدير محذوف ويكون التقدير ولا تقولن إنك تفعل إلا ما يريد الله
تعالى وهذا الجواب ذكره الفراء وما رأيته إلا له ومن العجب تغلغله إلى مثل هذا مع
أنه لم يكن متظاهرا بالقول بالعدل وعلى هذا الجواب لا شبهة في الآية ولا سؤال للقوم
عليه وفى هذا الوجه ترجيح على غيره من حيث اتبعنا فيه الظاهر ولم نقدر محذوفا وعلى
كل جواب مطابق الظاهر ولم يبن على محذوف كان أولى.. والجواب الآخر أن نجعل
أن متعلقة بمحذوف ويكون التقدير ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول
إن يشاء الله لان من عاداتهم إضمار القول في مثل هذا الموضع واختصار الكلام إذا
طال وكان في الموجود منه دلالة على المفقود وعلى هذا الجواب يحتاج إلى الجواب عما
سئلنا عنه فنقول هذا تأديب من الله تعالى لعباده وتعليم لهم أن يعلقوا ما يخبرون به بهذه
اللفظة حتى يخرج من حد القطع ولا شبهة في أن ذلك مختص بالطاعات وأن الافعال
33

القبيحة خارجة عنه لان أحدا من المسلمين لا يستحسن أن يقول إني أزنى غدا إن
شاء الله أو أقتل مؤمنا وكلهم يمنع من ذلك أشد المنع فعلم سقوط شبهة من ظن أن الآية
عامة في جميع الأفعال.. وأما أبو علي محمد بن عبد الوهاب فإنه ذكر في تأويل هذه
الآية ما نحن ذاكروه بعينه قال إنما عنى بذلك أن من كان لم يعلم أنه يبقى إلى غد حيا فلا
يجوز أن يقول إني سأفعل غدا وكذا وكذا فيطلق الخبر بذلك وهو لا يدرى لعله سيموت
ولا يفعل ما أخبر به لان هذا الخبر إذا لم يوجد مخبره على ما أخبر به فهو كذب وإذا
كان المخبر لا يأمن أن لا يوجد مخبره لحدوث أمر من فعل الله نحو الموت أو العجز
أو بعض الأمراض أو لا يوجد ذلك بأن يبدو له في ذلك فلا يأمن من أن يكون خبره
كذبا في معلوم الله عز وجل وإذا لم يأمن ذلك لم يجز أن يخبر به ولا يسلم خبره هذا من
الكذب إلا بالاستثناء الذي ذكره الله تعالى فإذا قال إني صائر غدا إلى المسجد إن شاء
الله فاستثنى في مصيره بمشيئة الله تعالى أمن أن يكون خبره في هذا كذبا لان الله تعالى
إن شاء أن يلجئه إلى المصير إلى المسجد غدا ألجأ إلى ذلك وكان المصير منه لا محالة وإذا
كان ذلك على ما وصفنا لم يكن خبره هذا كذبا وإن لم يوجد منه المصير إلى المسجد لأنه لم
يوجد ما استثناه في ذلك من مشيئة الله تعالى.. قال وينبغي أن لا يستثنى مشيئة دون
مشيئة لأنه إن استثنى في ذلك مشيئة الله بمصيره إلى المسجد على وجه التعبد فهو أيضا
لا يأمن أن يكون خبره كذبا لان الانسان قد يترك كثيرا مما يشاؤه الله تعالى منه ويتعبده
به ولو كان استثناء مشيئة الله لان يبقيه ويقدره ويرفع عنه الموانع كان أيضا لا يأمن أن
يكون خبره كذبا لأنه قد يجوز أن لا يصير إلى المسجد مع تبقية الله تعالى له قادرا مختارا
فلا يأمن من الكذب في هذا الخبر دون أن يستثنى المشيئة العامة التي ذكرناها فإذا
دخلت هذه المشيئة في الاستثناء فقد أمن أن يكون خبره كذبا إذا كانت هذه المشيئة
متى وجدت وجب أن يدخل المسجد لا محالة قال وبمثل هذا الاستثناء يزول الحنث عمن
حلف فقال والله لأصيرن غدا إلى المسجد إن شاء الله تعالى لأنه ان استثنى على سبيل
ما بينا لم يجز أن يحنث في يمينه ولو خص استثناءه بمشيئة بعينها ثم كانت ولم يدخل معها إلى
المسجد حنث في يمينه.. وقال غير أبى على إن المشيئة المستثناة ههنا هي مشيئة المنع والحيلولة
34

فكأنه قال إن شاء الله يخليني ولا يمنعني وفى الناس من قال القصد بذلك أن يقف الكلام
على جهة القطع وإن لم يلزم به ما كان يلزم لولا الاستثناء ولا ينوى في ذلك الجاء ولا غيره
وهذا الوجه يحكى عن الحسن البصري.. واعلم إن للاستثناء الداخل على الكلام
وجوها مختلفة فقد يدخل على الايمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجرى مجراها
من الاخبار فإذا دخل ذلك اقتضى التوقيف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم
به وإزالته عن الوجه الذي وضع له ولذلك يصير ما تكلم به كأنه لا حكم له ولذلك يصح
على هذا الوجه أن يستثنى في الماضي فيقول قد دخلت الدار إن شاء الله ليخرج بهذا
الاستثناء من أن يكون كلامه خبرا قاطعا أو يلزمه حكم وإنما لم يصح دخوله في المعاصي
على هذا الوجه لان فيه إظهارا للانقطاع إلى الله تعالى والمعاصي لا يصح ذلك فيها وهذا
الوجه أحد ما يحتمله تأويل الآية وقد يدخل الاستثناء في الكلام فيراد به اللطف
والتسهيل.. وهذا الوجه يخص بالطاعات ولهذا الوجه جرى قول القائل لأقضين غدا
ما على من الدين ولاصلين غدا إن شاء الله مجرى أن يقول إني أفعل ذلك إن لطف الله
تعالى فيه وسهله فعلم أن المقصد واحد وأنه متى قصد الحالف فيه هذا الوجه لم يجب إذا لم
يقع منه هذا الفعل أن يكون حانثا وكاذبا لأنه إن لم يقع علمنا أنه لم يلطف له فيه لأنه لا لطف
له وليس لاحد أن يعترض هذا بأن يقول الطاعات لابد فيها من لطف وذلك لان فيها
ما لا لطف فيه جملة فارتفاع ما هذه سبيله يكشف عنه أنه لا لطف فيه وهذا الوجه لا يصح
أن يقال في الآية أنه يخص الطاعات والآية تتناول كلما لم يكن قبيحا بدلالة إجماع المسلمين
على حسن الاستثناء ما تضمنه في كل فعل لم يكن قبيحا وقد يدخل الاستثناء في الكلام
فيراد به التسهيل والاقدار والتخلية والبقاء على ما هي عليه من الأحوال وهذا هو المراد
به إذا دخل في المباحات وهذا الوجه يمكن في الآية إلا أنه يعترضه ما ذكره أبو علي مما
حكيناه من كلامه وقد يذكر استثناء المشيئة أيضا في الكلام وإن لم يرد به في شئ مما
تقدم بل يكون الغرض إظهار الانقطاع إلى الله تعالى من غير أن يقصد إلى شئ من
الوجوه المتقدمة وقد يكون هذا الاستثناء غير معتد به في كونه كاذبا أو صادقا لأنه في
الحكم كأنه قال لأفعلن كذا ان وصلت إلى مرادي مع انقطاعي إلى الله تعالى وإظهاري
35

الحاجة إليه وهذا الوجه أيضا مما يمكن في تأويل الآية.. ومتى تؤمل جملة ما ذكرناه
من الكلام عرف منه الجواب عن المسألة التي لا يزال يسأل عنها المخالفون من قولهم لو
كان الله تعالى إنما يريد العبادات من الافعال دون المعاصي لوجب إذا قال من لغيره
عليه دين طالبه به والله لأعطينك حقك غدا إن شاء الله أن يكون كاذبا أو حانثا إذا لم
يفعل لان الله تعالى قد شاء ذلك منه عندكم وإن كان لم يقع فكان يجب أن تلزمه الكفارة
وأن لا يؤثر هذا الاستثناء في يمينه ولا يخرجه عن كونه حانثا كما أنه لو قال والله لأعطينك
حقك غدا إن قدم زيد فقدم ولم يعطه يكون حانثا وفى إلزام هذا الحنث خروج عن
إجماع المسلمين فصار ما أوردناه جامعا لبيان تأويل الآية وللجواب عن هذه المسألة
ونظائرها من المسائل والحمد لله وحده.. [قال الشريف المرتضي] رضي الله عنه تأملت
ما اشتملت عليه تشبيهات الشعراء فوجدا أكثر ما شبهوا فيه الشئ بالشئ الواحد أو
الشيئين بالشيئين وقد تجاوزوا ذلك إلى تشبيه ثلاثة بثلاثة وأربعة بأربعة وهو قليل ولم
أجد من تجاوز هذا القدر إلا قطعة مرت بي لابن المعتز فإنها تضمنت تشبيه ستة أشياء
بستة أشياء.. فأما تشبيه الواحد بالواحد قول عنترة في وصف الذباب
هزجا يحك ذراعه بذراعه * قدح المكب على الزناد الأجذم (1)

(1) - الهزج - تراكب الصوت ومعني - يحك ذراعه بذراعه - يمر إحداهما على
الأخرى - والأجذم - بالمعجمتين صفة المكب وهو المقطوع اليد شبه الذباب إذا سن إحدى
ذراعيه بالأخرى بأجذم يقدح نارا بذراعيه وهذا من عجيب التشبيه يقال إنه لم يقل
أحد في معناه مثله وقد عده أرباب الأدب من التشبيهات العقم وهي التي لم يسبق إليها
ولا يقدر أحد عليها مشتق من الريح العقيم وهي التي لا تلقح شجرة ولا تنتج ثمرة وقد
شبه بعضهم من يفرك يديه ندامة بفعل الذباب وزاد اللطم فقل
فعل الأديب إذا خلا بهمومه * فعل الذباب يزن عند فراغه
فتراه يفرك راحتيه ندامة * منها ويتبعها بلطم دماغه
وتعرض حازم في مقصورته لتشبيه عنترة بقوله
ألقى ذراعا فوق أخرى وحكى * تكلف الأجذم في قطع السنا
كأنما النور الذي يفرعه * مقتدحا لزنده سقط ورى
فقصر عنه التقصير البين وأخل بذكر الاكباب والحك
36

أي الاسرع.. ومثله قول عدى بن الرقاع
تزجى أغن كأن إبرة روقه * قلم أصاب من الدواة مدادها
ومثله قول امرئ القيس
كأن عيون الوحش حول قبابنا * وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب (1)
وقوله
إذا ما الثريا في السماء تعرضت * تعرض أثناه الوشاح المفصل
ولذي الرمة

(1) الرواية المعلومة خبائنا بدل قبابنا والمعنى متقارب.. قال الأصمعي الظبي والبقرة إذا
كانا حيين فعيونهما كلها سود فإذا ماتا بدا بياضهما وإنما شبههما بالجزع وفيه سواد وبياض
بعد ما موتت والمراد كثرة الصيد يعنى مما أكلناه كثرت العيون عندنا وبه يتبين بطلان ما قيل إن
المراد انها قد أطالت مسايرتهم حتى ألفت الوحوش رحالهم وأخبيتهم.. وقوله - الجزع -
هو بفتح الجيم وتكسر الخرز اليماني الصيني فيه سواد وبياض تشبه به عيون الوحش
لكنه اتى بقوله لم يثقب ايغالا وتحقيقا للتشبيه لان الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه
بالعيون.. والبيت من قصيدته المشهورة التي قالها في معارضته لقصيدة علقمة الفحل ومطلعها
خليلي مرابي على أم جندب * نقضي لبانات الفؤاد المعذب
ومطلع قصيدة علقمة
ذهبت من الهجران في غير مذهب * ولم يك حقا كل هذا التجنب
وتحكيمهما لام جندب امرأة امرئ القيس وحكمها لعلقمة وطلاق امرئ القيس إياها
وتزويج علقمة لها كله مشهور فلا نطيل به
37

وردت اعتسافا والثريا كأنها * على قمة الرأس ابن ماء محلق
وهذا الباب أكثر من أن يحصى.. فأما تشبيه شيئين بشيئين فمثل قو امرئ القيس
يصف عقابا
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالي (1)
وقوله
وكشح لطيف كالجديل مخصر * وساق كأنبوب السقي المذلل
ولبشار
كأن مثار النقع فوق رؤسنا * وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (2)

(1) البيت من شواهد التلخيص والشاهد فيه التشبيه المكفوف وهو أن يؤتي على
طريق العطف أو غيره بالمشبهات أو لاثم بالمشبه بها فهنا شبه الرطب الطري من قلوب الطير
بالعناب واليابس العتيق منها بالحشف البالي إذ ليس لاجتماعهما هيئة مخصوصة يعتد بها
ويقصد تشبيهها ولذا قال الشيخ عبد القاهر انه إنما يتضمن الفضيلة من حيث اختصار
اللفظ وحسن الترتيب فيه لا إن للجمع فائدة في عين التشبيه.. والبيت من قصيدته
المشهورة التي مطلعها
الأعم صباحا أيها الطلل البالي * وهل يعمن من كان في العصر الخالي
(2) - النقع - الغبار.. ومعنى - تهاوى كواكبه - يتساقط بعضها في أثر بعض والأصل
تتهاوى فحذفت أحدي التاءين والبيت من شواهد البيان والشاهد فيه المركب الحسى في
التشبيه الذي طرفاه مركبان الحاصل من الهيئة الحاصلة من هوى أجرام مشرقة مستطيعة
متناسبة المقدار متفرقة في جوانب شئ مظلم فوجه التشبيه مركب كما ترى وكذا طرفاه
كما في أسرار البلاغة يروى انه قيل لبشار وقد أنشد هذا البيت ما قيل أحسن من هذا
التشبيه فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط ولا شئ منها فقال إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب
ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفر حسه وتذكو قرعيته وأنشدهم قوله
عميت جنينا والذكاء من العمى * فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاض ضياء العين للعلم رافدا * لقلب إذا ما ضيع الناس حصلا
وشعر كنور الروض لاءمت بينه * بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا
ويحكى أنه قال لم أزل منذ سمعت قول امرئ القيس في تشبيهه شيئين بشيئين في بيت
واحد حيث يقول
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالي
اعمل نفسي في تشبيه شيئين بشيئين حتى قلت كأن مثار النقع البيت وهو من قصيدة
يمدح بها ابن هبيرة وأولها
جفاوده فأزرأ ومل صاحبه * وأزري به أن لا يزال يعاتبه
ومنها إذا كنت في كل الأمور معاتبا * صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدا أوصل أخاك فإنه * مقارب ذنب مرة ومجانبه
وهي طويلة فوصله ابن هبيرة بعشرة آلاف درهم وكانت أول عطية سنية أعطيها بشار
بالشعر ورفعت من ذكره
38

ولآخر
كأن سمو النقع والبيض حوله * سماوة ليل أسفرت عن كواكب
وقول أبى نواس
كأن صغرى وكبرى من فقاقعها * حصباء در على أرض من الذهب (1)
ولآخر

(1) قوله كأن صغرى وكبرى الخ.. قد قيل إنه لحن لان اسم التفضيل إذا كان مجردا
من أل والإضافة يجب أن يكون مفردا مذكرا دائما فتأنيثه لحن كما في البيت المذكور
وقد اعتذروا عن هذا بأن أفعل العاري إذا كان مجردا عن معنى التفضيل جاز جمعه
فإذا جاز جمعه جاز تأنيثه.. والفقاقيع هي النفاخات التي تعلو الماء أو الخمر وقال يس المحفوظ
في البيت من فواقعها بالواو قلت وفي ديوانه فواقعها
39

إن الشمول هي التي * جمعت لأهل الود شملا
شبهتها وحبابها * بشقائق يحملن طلا
ولآخر
أبصرته والكأس بين فم * منه وبين أنامل خمس
فكأنها وكأن شاربها * قمر يقبل عارض الشمس
ولآخر
حتى إذا خليت في الكأس خلت بها * عقيقة جليت في قشر بلور
تعلى إذا مزجت في كأسها حببا * كأنه عرق في خد مخمور
وقال البحتري
شقائق يحملن الندى فكأنه * دموع التصابي في خدود الخرائد
وقال آخر
فكأن الربيع يجلو عروسا * وكأنا من قطرة في نثار
ولأبي العباس الناشئ
كأن الدموع على خدها * بقية طل علي جلنار
وقال ابن الرومي وأحسن
لو كنت يوم الفراق حاضرنا * وهن يطفئن غلة الوجد
لم تر إلا الدموع سافحة * تسفح من مقلة على خد
كأن تلك الدموع قطر ندى * يقطر من نرجس على ورد
وقال جران العود
أبيت كأن الليل أفنان سدرة * عليها سقيط من ندى الطل ينطف
40

أراقب لمحا من سهيل كأنه * إذا ما بدا في آخر الليل يطرف
ولابن المعتز
سقتني في ليل شبيه بثغرها * شبيهة خديها بغير رقيب
فأمسيت في ليلين بالشعر والدجى * وشمسين من خمر ووجه حبيب
وقال المتنبي
نشرت ثلاث ذوائب من شعرها * في ليلة فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها * فأرتني القمرين في وقت معا
فأما تشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء.. فمثل قول مانى الموسوس
نشرت غدائر شعرها لتظلني * خوف العيون من الوشاة الرمق
فكأنه وكأنها وكأنني * صبحان باتا تحت ليل مطبق
ولبعضهم
روض وزد خلاله نرجس * غض يحفان أقحوانا نضيرا
ذا يباهى لنا خدودا وذا يحكى * عيونا وذا يضاهى ثغورا
ولآخر في النرجس
مداهن تبر بين أوراق فضة * لها عمد مخروطة من زبرجد
وللبحتري في وصف ضمر المطايا ونحو لها
كالقسى المعطفات بل الأسهم * مبزية بل الأوتار

(1) البيت من شواهد التلخيص والشاهد فيه مراعاة النظير وسمى التناسب والتوافق
والائتلاف والمؤاخاة وهو جمع أمر وما يناسبه من الغاء التضاد لتخرج المطابقة فهو هنا
قصد المناسبة بالأسهم والأوتار لما تقدم من ذكر القسي وهذه المناسبة هنا معنوية لا لفظية
41

ولبعض الطالبيين
وأنا ابن معتلج البطاح إذا غدا * غيري وراح على متون ظواهر
يفتر عنى ركنها وحطيمها * كالجفن يفتح عن سواد الناظر
كجبالها شرفي ومثل سهولها * خلقي ومثل ظبائهن مجاوري
وأما تشبيه أربعة بأربعة.. فمثل قول امرئ القيس
له أيطلا ظبي وساقا نعامة * وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
ولآخر
كف تناول راحها بزجاجة * خضراء تقذف بالحباب وتزبد
فالكف عاج والحباب لآلي * والراح تبر والاناء زبرجد
ولبعضهم وقد أهدى إليه نرجس وأقحوان وشقائق وآس فكتب إلى المهدى
لله ما أظرف أخلاقك * يا بدر الكرم
أهديت ما ناسبتها * حسنا وظرفا وشيم
فما رأينا مهديا * قبلك في كل الأمم
أهدى العيون والثغور * والخدود واللمم
ولآخر

(1) - معتلج البطاح - بطن مكة يقول أنا من قريش البطاح إذا غدا غيري وراح
على متون ظواهرها.. وقريش ثلاثة أقسام قسم ينزل بطاح مكة وهم أشرفهم منهم بنو
هاشم وبنو أمية وغيرهم من سادات قريش وهم صميم قريش والقسم الثاني قريش
الظواهر وهم الذين لم تسعهم الأباطح وقسم ثالث ليسوا من أهل الظواهر ولا الأباطح
والكل قبائل
42

أفدى حبيبا له بدائع أو * صاف تعالت عن كل ما أصف
كالبدر يعلو والشمس تشرق والغزال * يعطو والغصن ينعطف
والمتنبي
بدت قمرا ومالت خوط بان * وفاحت عنبرا ورنت غزالا
ولآخر
سفرن بدورا وانتقبن أهلة * ومسن غصونا والتفتن جاذرا (1)
وأما تشبيه خمسة بخمسة.. فقول الواوا الدمشقي، وهو أبو الفرج
وأسبلت لؤلوء من نرجس وسقت * وردا وعضت على العناب بالبرد
وأما تشبيه ستة بستة فلم أجده إلا لابن المعتز في قوله
بذر وليل وغصن * وجه وشعر وقد
خمر ودر ووزد * ريق وثغر وخد
(مجلس آخر 61)
[تأويل آية]
.. إن سأل سائل عن قوله تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)
.. فقال كيف يجوز أن يأمرنا على سبيل العبادة بالدعاء بذلك وعندكم أن النسيان من فعله
تعالى فلا تكليف على الناسي في حال نسيانه وهذا يقتضى أحد أمرين إما أن يكون
النسيان من فعل العباد على ما يقوله كثير من الناس أو تكون متعبدين بمسئلته تعالى ما نعلم
أنه واقع حاصل لان مؤاخذة الناسي مأمونة منه تعالى والقول في الخطأ إذ أريد به ما وقع
سهوا أو من غير عمد يجرى هذا المجرى.. الجواب قلنا قد قيل في هذه الآية المراد

(1) وقبله
وملتفتات في النقاب كأنما * هززن سيوفا وانتضين خناجرا
43

تنسياننا تركنا قال أبو علي قطرب بن المستنير معنى النسيان ههنا الترك كما قال تعالى (ولقد
عهدنا إلى آدم من قبل فنسى) أي ترك ولولا ذلك لم يكن فعله معصية وكقوله تعالى
(نسوا الله فنسيهم) أي تركوا طاعته فتركهم من ثوابه ورحمته وقد يقول الرجل لصاحبه
لا تنسني من عطيتك أي لا تتركني منها وأنشد ابن عرفة
ولم أك عند الجود للجود قاليا * ولا كنت يوم الروع للطعن ناسيا
أي تاركا.. ومما يمكن أن يكون على ذلك شاهدا قوله تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون
أنفسكم) أي تتركون أنفسكم.. ويمكن في الآية وجه آخر على أن يحمل النسيان على
السهو وفقد المعلوم ويكون وجه الدعاء بذلك ما قد بيناه فيما تقدم من الأمالي من أنه
على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى وإظهار الفقر إلى مسئلته والاستعانة به وإن كان مأمونا
منه المؤاخذة بمثله ويجرى مجرى قوله تعالى في تعليمنا وتأديبنا (لا تحملنا ما لا طاقة لنا
به) ومجرى قوله تعالى (قل رب احكم بالحق. ولا تخزني يوم يبعثون) وقوله تعالى
حاكيا عن الملائكة (فاغفر للذين تابوا) الآية وهذا الوجه يمكن أيضا في قوله تعالى أو
أخطأنا إذا كان الخطأ ما وقع سهوا أو غير عمد فأما على ما يطابق الوجه الأول فقد يجوز
أن يريد تعالى بالخطأ ما يفعل من المعاصي بالتأويل السيئ وعن الجهل بأنها معاص لان
من قصد شيئا على اعتقاد أنه بصفة فوقع ما هو بخلاف معتقده يقال قد أخطأ فكأنه
أمرهم بأن يستغفروا مما تركوه متعمدين من غير سهو ولا تأويل ومما أقدموا عليه
مخطئين متأولين.. ويمكن أيضا أن يريد بأخطأنا ههنا أذنبنا أو فعلنا قبيحا وإن كنا له
متعمدين وبه عالمين لان جميع معاصينا لله تعالى قد توصف بأنها خطأ من حيث فارقت
الصواب وإن كان فاعلها متعمدا فكأنه تعالى أمرهم بأن يستغفروا مما تركوه من الواجبات
ومما فعلوه من المقبحات ليشتمل الكلام على جهتي الذنوب والله أعلم بمراده.. أخبرنا
أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرنا محمد بن العباس قال قال رجل يوما لأبي العباس محمد
ابن يزيد النحوي ما أعرف ضادية أحسن من ضادية أبى الشيص فقال له كم ضادية حسنة
لا تعرفها ثم أنشده لبشار
44

غمض الحديد بصاحبيك فغمضا * وبقيت تطلب في الحبالة منهضا
وكأن قلبي عند كل مصيبة * عظم تكرر صدعه فتهيضا
وأخ سلوت له فأذكره أخ * فمضى وتذكرك الحوادث ما مضى
فاشرب على تلف الأحبة إننا * جزر المنية ظاعنين وحفضا
ولقد جريت مع الصبا طلق الصبا * ثم ارعويت فلم أجد لي مركضا
وعلمت ما علم امرؤ في دهره * فأطعت عذالى وأعطيت الرضا
وصحوت من سكر وكنت موكلا * أرعى الحمامة والغراب الأبيضا
- الحمامة - المرآة - والغراب الأبيض - الشعر الشائب.. فيقول كنت كثيرا أتعهد
نفسي بالنظر في المرآة وترجيل الشعر.. وقوله - والغراب الأبيض - لان الشعر كان
غريبا أسود من حيث كان شابا ثم ابيض بالشيب
ما كل بارقة تجود بمائها * ولربما صدق الربيع فروضا
هكذا أنشده المبرد ويحيى بن علي وأنشده ابن الاعرابي
ما كل بارقة تجود بمائها * وكذاك صدق الربيع لروضا
قد ذقت ألفته وذقت فراقه * فوجدت ذا عسلا وذا جمر الغضا
يا ليت شعري فيم كان صدوده * أأسأت أم رعد السحاب وأومضا
وغير من ذكرنا يرويه - أم أجم الخلال فأحمضا -
ويلي عليه وويلتي من بينه * ما كان الا كالخضاب فقد نضا
سبحان من كتب الشقاء لذي الهوى * كان الذي قد كان حكما فإنقضا
قال المبرد وهي طويلة.. وذكر يوسف بن علي بن يحيى عن أبيه أن أبا نواس أخذ قوله
45

جريت مع الصبا طلق الجموح (1)
من قول بشار
ولقد جريت مع الصبا طلق الصبا
[قال الشريف المرتضى].. رضي الله عنه ولأبي تمام والبحتري على هذا الوزن
والقافية وحركة القافية قصيدتان إن لم يزيدا على ضادية بشار التي استحسنها المبرد لم
يقصرا عنها وأول قصيدة أبى تمام
أهلوك أضحوا شاخصا ومقوضا * ومزمما يصف النوى ومعرضا
إن يدج ليلك أنهم أموا اللوى * فبما إضاؤهم على ذات الأضا
بدلت من برق الثغور وبردها * برقا إذا ظعن الأحبة أومضا
يقول فيها
ما أنصف الشرخ الذي بعث الهوى * فقضى عليك بلوعة ثم انقضى
عندي من الأيام ما لو أنه * أضحى بشارب مرقد ما غمضا

(1) هو أول أبيات وتمامه * وهان على مأثور القبيح *
وبعده وجدت الذعارية الليالي * قران النغم بالوتر الفصيح
ومسمعة إذا ما شئت غنت * متى كان الخيام بذى طلوح
تمتع من شباب ليس يبقى * وصل بعري الغبوق عرى الصبوح
وخذها من معتقة كميت * تنزل درة الرجل الشحيح
تخيرها لكسرى رائدوه * لها حظان من طعم وريح
ألم ترني أبحت الراح عرضى * وعض مراشف الظبي المليح
واني عالم أن سوف تنأى * مسافة بين جثماني وروحي
وقال أبو العتاهية لقد جمع بين هذين البيتين يعني قوله جريت مع الصبا الخ وقوله
واني عالم الخ خلاعة ومجونا واحسانا وعظة وكان أبو العتاهية أنشدهما دون غيرهما
46

لا تطلبن الرزق بعد شماسه * فترومه سبعا إذا ما غيضا
ما عوض الصبر امرؤ إلا رأى * ما فاته دون الذي قد عوضا
يا أحمد بن أبي دؤاد دعوة * ذلت بذكرك لي وكانت ريضا
لما انتضيتك للخطوب كفيتها * والسيف لا يرضيك حتى ينتضى
قد كان صوح نبت كل قرارة * حتى تروح في نداك فروضا
أوردتني العد الخسيف وقذ أرى * أتبرض الثمد البكى تبرضا
وأما قصيدة البحتري فأولها
ترك السواد للابسيه وبيضا * ونضا من الستين عنه ما نضا
وسباه أغيد في تصرف لحظة * مرض أعل به القلوب وأمرضا
وكأنه وجد الصبا وجديدة * دينا دنا ميقاته أن يقتضى
أسيان أثرى من جوى وصبابة * وأساف من وصل الحسان وأنفضا (1)
كلف يكفكف عبرة مهراقة * أسفا على عهد الشباب وما انقضى
عدد تكامل للشباب مجيئه * وإذا مضى الشئ حان فقد مضي
يقول فيها
قعقعت للبخلاء أذعر جأشهم * ونذيره من فاضل أن ينتضى

(1) - الجوى - والحزن الصبابة والشوق - وأساف - ذهب غرامه مأخوذ من قولهم
أساف الرجل ذهب ماله والاسم السواف بالضم وقال أبو عمرو انه بالفتح ولم يقع ذلك
لغيره والصواب الأول لان فعال بالضم مطرد فيما يدل على الداء كالرعاف والزكام
- وانفض - خلا وهذا من عطف الشئ على مرادفه.. المعنى يستوى ان كثر غرامه
وأخلا منه
47

وكفاك من حنش الصريم تهددا * أن مد فضل لسانه أو نضنضا
وفيها
لا تنكرن من جار بيتك أن طوى * أطناب جانب بيته أو قوضا
فالأرض واسعة لنقلة راغب * عمن تنقل وده وتنقضا
لا تبتهل إغضاي إما كنت قد * أغضيت مشتملا على جمر الغضا
لست الذي إن عارضته ملمة * أصغى إلى حكم الزمان وفوضا
لا يستقر ني الطفيف ولا أرى * تبعا لبارق خلب إن أومضا
أنا من أحب تجاربا وكأنني * فيما أعاين منك ممن أبغضا
أغببت سيبك كي يجم وإنما * غمد الحسام المشرفي لينتضى
وسكت إلا أن أعرض قائلا * نزرا وصرح جهده من عرضا
.. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني يوسف بن يحيى بن علي عن أبيه قال من
مختار شعر بشار قوله في وصف الزمان
عتبت على الزمان وأي حي * من الاحياء أعتبه الزمان
وآمنة من الحدثان تزرى * على وليس من حدث أمان
وليس بزائل يرمى ويرمى * معان مرة أو مستعان
متى تأب الكرامة من كريم * فمالك عنده إلا الهوان
وله في نحوه
يا خليلي أصيبا أو ذرا * ليس كل البرق يهدى المطرا
لا تكونا كامرئ صاحبته * يترك العين ويبغى الأثرا
48

ذهب المعروف إلا ذكره * ربما أبكى الفتى ما ذكرا
وبقينا في زمان معضل * يشرب الصفو ويبقى الكدرا
قال وله
قد أدرك الحاجة ممنوعة * وتولع النفس بما لا تنال
والهم ما أمسكته في الحشا * داء وبعض الداء لا يستقال
فاحتمل الهم على عاتق * إن لم تساعفك العلندى الجلال
قال يحيى قوله - عاتق - يعنى الخمر وهذا مثل قوله
لما رأيت الحظ حظ الجاهل * ولم أر المغبون غير العاقل
رحلت عنسا من شراب بابل * فبت من عقلي على مراحل
[قال الشريف المرتضي] رضي الله عنه هذا الذي ذكره يحتمله البيت على استكراه
ويحتمل أيضا أن يريد بالعاتق العضو ويكون المعنى إن لم تجد من بحمل عنك همومك
ويقوم بأثقالك ويخفف عنك فتحمل ذلك أنت بنفسك واصبر عليه فكأنه يأمر نفسه
بالتجلد والتصبر على البأس وهذا البيت له نظائر كثيرة في الشعر.. وأخبرنا المرزباني
قال حدثنا علي بن هارون قال حدثني أبي قال من بارع شعر بشار قوله يصف جارية
مغنية قال على وما في الدنيا شئ لقديم ولا محدث من منثور ولا منظوم في صفة الغناء
واستحسانه مثل هذه الأبيات
ورائحة للعين فيها مخيلة * إذا برقت لم تسق بطن صعيد
من المستهلات الهموم على الفتى * خفا برقها في عصفر وعقود
حسدت عليها كل شئ يمسها * وما كنت لولا حبها بحسود
وأصفر مثل الزعفران شربته * على صوت صفراء الترائب رود
كأن أميرا جالسا في ثيابها * تؤمل رؤياه عيون وفود
49

من البيض لم تسرح على أهل ثلة * سواما ولم ترفع حداج قعود
تميت به ألبابنا وقلوبنا * مرارا وتحييهن بعد همود (1)
إذا أنطقت صحنا وصاح لنا الصدى * صياح جنود وجهت لجنود
ظللنا بذاك الديدن اليوم كله * كأنا من الفردوس تحت خلود
ولا بأس إلا أننا عند أهلنا * شهود وما ألبابنا بشهود
قال وأنشدني أبى له في وصف مغنية
لعمر أبى زوارها الصيد إنهم * لفي منظر منها وحسن سماع
تصلى لها آذاننا وعيوننا * إذا ما التقينا القلوب دواعي
وصفراء مثل الخيزرانة لم تعش * ببؤس ولم تركب مطية راعى
إذا أقلدت أطرافها زلزلت * قلوبا دعاها للوساوس داعى
كأنهم في جنة قد تلاحقت * محاسنها من روضة وبقاع
يروحون من تغريدها وحديثها * نشاوى وما تسقيهم بصواع
لعوب بالباب الرجال وإن دنت * أطيع التقى والغي غير مطاع
قال علي بن هارون - الصواع - المكيال يقول إذا غنت شربوا جزافا بلا كيل ولا
وزن من حسن ما يسمعون.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه هذا خطأ منه
وإنما أراد أنما غناؤها لفرط حسنه وشدة إطرابه ينسيان شرة الخمر وإن لم يكن هناك شرب

(1) قوله - تميت به ألبابنا وقلوبنا - إلى آخره ظاهر القاموس ان مضارع مات مثلث
وليس كذلك والضم إنما هو في الواوي كقال يقول والكسر إنما هو في اليائي كيبيع في
باع وهي لغة مرجوحة آثرها جماعة والفتح إنما هو في المكسور الماضي كعلم يعلم
ونظيره من المعتل خاف يخاف خوفا
50

بصواع وهذا يجرى مجرى قول الشاعر
ويوم ظللنا عند أم محلم * نشاوى ولم نشرب طلاء ولا خمرا
وما كان عندي أن أحد يتوهم في معنى هذا البيت ما ظنه هذا الرجل.. وأما قوله في
القطعة الأولى
وأصفر مثل الزعفران شربته
البيت فيحتمل وجوها ثلاثة أولها أن يكون أراد بصفرة ترائبها الكناية عن كثرة تطيبها
وتضمخها وأن ترائبها صفر لذلك كما قال الأعشى
بيضاء ضحوتها وصفراء * العشية كالعرار
- والعرار - بهار البر وإنما أراد أنها تتضمخ بالعشى بالطيب فيصفرها ومثله لذي الرمة
بيضاء في دعج كحلاء في برج * كأنها فضة قد مسها ذهب
وقيل في بيت قيس بن الخطيم
فرأيت مثل الشمس عند طلوعها * في الحسن أو كدنوها لغروب
صفراء أعجلها الشباب لداتها * موسومة بالحسن غير قطوب
أي انها سبقت أقرانها.. ومثله قول ابن الرقيات
لم تلتفت للداتها * فمضت على غلوائها (1)

(1) - البيت من جملة أبيات يقولها في أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان زوج
الوليد بن عبد الملك وهي
أصحوت عن أم البنين وذكرها وعنائها
وهجرتها هجر امرئ * لم يقل صفو صفائها
من خيفة الأعداء أن * يوهوا أديم صفائها
قرشية كالشمس أشرق * نورها ببهائها
زادت على البيض الحسان * بحسنها ونقائها
لما أسبكرت للشباب * وقنعت بردائها
لم تلتفت للداتها * ومضت على غلوائها
لولا هوي أم البنين * وحاجتي للقائها
قد قربت لي بغلة * محبوسة لنجائها
ومعنى - مضت على غلوائها - أي مضت على أول شبابها يقال فعل ذلك في غلواء شبابه أي في أوله
.. قال الأعشى
إلا كنا شرة الذي ضيعتم * كالغصن في غلوائه المتنبت
وقيل الغلواء سرعة الشباب وحقيقته من الغلو وهو الارتفاع والتحدد ويقال مضي
الرجل على غلوائه إذا ركب أمره وبلغ فيه غايته
51

وجهان.. أحدهما انه أراد انها تتطيب بالعنبر فتصفر لان الشمس تغيب صفراء الوجه
.. والآخر أراد المبالغة في الحسن لان الشمس أحسن ما تكون في وقتيها هذين
ومن ذلك قول قيس بن الخطيم
صفراء أعجلها الشباب لداتها
ومثله للأعشى
إذا جردت يوما حسبت خميصة * عليها وجريال النضير الدلا مصا
- الخميصة - ثوب ناعم لين ناعم شبه به نعومة جسمها - والنضير - الذهب - والجريال -
كل صبغ أحمر وإنما يعنى لون الطيب عليها - والدلامص - البراق فهذا وجه.. والوجه
الثاني أن يكون أراد بوصفها بالصفرة رقة لونها فعندهم أن المرأة إذا كانت صافية اللون
رقيقة ضرب لونها بالعشى إلى الصفرة.. قال علي بن مهدي الأصفهاني قال لي أبى قال
لي الجاحظ زعموا أن المرأة إذا كانت صافية اللون رقيقة يضرب لونها بالغداة إلى البياض
وبالعشي إلى الصفرة واحتج في ذلك بقول الراجز
قد علمت بيضاء صفراء الأصل
52

وزعم أن بيت ذي الرمة الذي أنشدناه من هذا المعنى وكذلك بيت الأعشى الذي
أنشدناه والأبيات محتملة للامرين فأما البيت الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا فهو قول الشاعر
وقد خنقتها عبرة فدموعها * على خدها حمر وفى نحرها صفر
فإنها لا تكون صفرا في نحرها إلا لأجل الطيب.. فأما قوله - على خدها حمر - فإنما
أراد أنها تنصبغ بلون خدها.. والوجه الثالث أن تكون المرأة كانت صفراء على
الحقيقة فإن بشارا كثيرا ما يشبب بامرأة صفراء كقوله
أصفراء لا أنسى هواك ولا ودى * ولا ما مضى بيني وبينك من عهد
لقد كان ما بيني زمانا وبينها * كما كان بين المسك والعنبر الورد
أي كما كان بين طيب المسك والعنبر وكقوله
أصفراء كان الود منك مباحا * ليالي كان الهجر منك مزاحا
وكان جواري الحي إذ كنت فيهم * قباحا فلما غبت صرن ملاحا
وقد روى - ملاحا فلما غبت صرن قباحا - وقوله قباحا فلما غبت يشبه قول السيد بن
محمد الحميري
وإذا حضرن مع الملاح بمجلس * أبصرتهن وما قبحن قباحا
فأما قوله - من البيض لم تسرح سواما - فإنه لا يكون مناقضا لقوله صفراء وإن أراد بالصفرة
لونها لان البياض ههنا ليس بعبارة عن اللون وإنما هو عبارة عن نقاء العرض وسلامته
من الأدناس والعرب لا تكاد تستعمل البياض إلا في هذا المعنى دون اللون لان البياض
عندهم البرص ويقولون في الأبيض الأحمر ومنه قول الشاعر
جاءت به بيضاء تحمله * من عبد شمس صلتة الخد
ومثله بيض الوجوه.. فأما قول بشار في القطعة الثانية - وصفراء مثل الخيزرانة - فإنه يحتمل
ما تقدم من الوجوه، وإن كان اللون الحقيقي خص بقوله كالخيزرانة لان الخيزران يضرب
إلى الصفرة ويحتمل أيضا أن يريد بصفراء غير اللون الثابت ويكون قوله كالخيزرانة
53

أنها مثلها في التثني والتعطف.. ولقد أحسن جران العود في قوله في المعنى الذي تقدم
كأن سبيكة صفراء صبت * عليها ثم ليث بها الإزار
برود العارضين كأن فاها * بعيد النوم مسك مستثار
(مجلس آخر 62)
[تأويل آية]..
ان سأل سائل عن قوله تعالى (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم
يعمهون).. فقال كيف أضاف الاستهزاء إليه تعالى وهو مما لا يجوز في الحقيقة عليه وكيف
خبر بأنه يمدهم في الطغيان والعمه وذلك بخلاف مذهبكم.. الجواب قلنا في قوله تعالى
(الله يستهزئ بهم) وجوه.. أولها أن يكون معنى الاستهزاء الذي أضافه تعالى إلى نفسه
تجهيله لهم وتخطئنه إياهم في إقامتهم على الكفر وإصرارهم على الضلال وسمى الله تعالى
ذلك استهزاء مجازا واتساعا كما يقول القائل إن فلانا ليستهزأ به منذ اليوم إذا فعل فعلا
عابه الناس به وخطؤوه فأقيم عيب الناس على ذلك الفعل وازراؤهم على فاعله مقام
الاستهزاء به وإنما أقيم مقامه لتقارب ما بينهما في المعنى لان الاستهزاء الحقيقي هو ما يقصد
به إلى عيب المستهزأ به والإزراء عليه وإذا تضمنت التخطئة والتجهيل والتبكيت هذا
المعنى جاز أن يجرى اسم الاستهزاء عليه ويشهد بذلك قوله تعالى (وقد نزل عليكم في
الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها) ونحن نعلم أن الآيات لا يصح
عليها الاستهزاء ولا السخرية في الحقيقة وإنما المعنى إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويزري
عليها والعرب قد تقيم الشئ مقام ما قاربه في معناه فتجرى عليه اسمه.. قال الشاعر
كم من أناس في نعيم عمروا * في ذرى ملك تعالى فبسق
سكت الدهر زمانا عنهم * ثم أبكاهم دما حين نطق
والسكوت والنطق على الحقيقة لا يجوزان على الدهر وإنما شبه تركه الحال على ما هي
عليه بالسكوت وشبه تغييره لها بالنطق وأنشد الفراء
54

إن دهرا يلف شملي بجمل * لزمان يهم بالاحسان
ومثل ذلك في الاستعارة لتقارب المعنى
سألتني عن أناس هلكوا * شرب الدهر عليهم وأكل
وإنما أراد بالاكل والشرب الافساد لهم والتغيير لأحوالهم.. ومثله
يقر بعيني أن أرى باب دارها * وإن كان باب الدار يحسبني جلدا
.. والجواب الثاني أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه تعالى أن يستدرجهم ويهلكهم
من حيث لا يعلمون ولا يشعرون.. ويروى عن ابن عباس أنه قال في معنى استدراجه
إياهم إنهم كانوا كلما أحدثوا خطيئة جدد لهم نعمة وإنما سمى هذا الفعل استهزاء من حيث
غيب تعالى عنهم من الاستدراج إلى الهلاك غير ما أظهر لهم من النعم كما أن المستهزئ
منا المخادع لغيره يضمر أمرا ويظهر غيره.. فإن قيل على هذا الجواب فالمسألة قائمة
وأي وجه لان يستدرجهم بالنعمة إلى الهلاك.. قلنا ليس الهلاك ههنا هو الكفر وما أشبهه
من المعاصي التي يستحق بها العقاب وإنما استدرجهم إلى الضرر والعقاب الذي استحقوه
بما تقدم من كفرهم ولله تعالى أن يعاقب المستحق بما شاء أي وقت شاء فكأنه تعالى
قال كفروا وبدلوا نعمة الله وعاندوا رسله لم يغير نعمه عليهم في الدنيا بل أبقاها لتكون
متى نزعها عنهم وأبدلهم بها نقما تكون الحسرة منهم أعظم والضرر عليهم أكثر.. فان قيل
فهذا يؤدى إلى تجويز أن يكون بعض ما ظاهرها ظاهر النعمة على الكفار مما لا يستحق
الله به الشكر عليهم.. قلنا ليس يمتنع هذا فيمن استحق العقاب وإنما المنكر أن تكون
النعم المبتدأة بهذه الصفة على ما يلزم مخالفينا ألا ترى أن الحياة وما جرى مجراها من
حفظ التركيب والصحة لا يعد على أهل النار نعمة وإن كان على أهل الجنة نعمة من
حيث كان الغرض فيه إيصال العقاب إليهم.. والجواب الثالث أن يكون معنى استهزائه
تعالى بهم أن جعل لهم بما أظهروا من موافقة أهل الايمان ظاهر أحكامهم من نظره
ومناكحة ومواريثه وموافقة وغير ذلك من الاحكام وإن كان تعالى معدا لهم في الآخرة
أليم العقاب لما أبطنوه من النفاق واستهزؤا به من الكفر فكأنه تعالى قال إن كنتم أيها
55

المفقون بما تظهرونه للمؤمنين من المتابعة والموافقة وتبطنونه من النفاق وتطلعون
عليه شياطينكم إذا خلوتم بهم تظنون أنكم مستهزؤن فالله تعالى هو المستهزئ بكم من
حيث جعل لكم أحكام المؤمنين ظاهرا حتى ظننتم أن لكم ما لهم ثم ميز تعالى بينكم
في الآخرة ودار الجزاء من حيث أناب المخلصين الذين يوافق ظواهرهم بواطنهم
وعاقب المنافقين وهذا الجواب يقرب معناه من الجواب الثاني وإن كان بينهما خلاف من
بعض الوجوه.. والجواب الرابع أن يكون معنى ذلك أن الله هو الذي يرد استهزاء كم
ومكركم عليكم وأن ضرر ما فعلتموه لم يتعدكم ولم يحط بسواكم ونظير ذلك قول القائل
إن فلانا أراد أن يخدعني فخدعته وقصد إلى أن يمكر بي فمكرت به والمعنى أن ضرر
خداعه ومكره عائد إليه ولم يضرني به.. والجواب الخامس أن يكون المعنى أنه يجاز بهم
على استهزائهم فسما الجزاء على الذنب باسم الذنب والعرب تسمى الجزاء على الفعل باسمه
قال الله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وقال (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه)
الآية وقال (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) والمبتدأ ليس بعقوبة.. وقال الشاعر
إلا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا (1)
ومن شأن العرب أن تسمى الشئ باسم ما يقاربه ويصاحبه ويشتد اختصاصه به وتعلقه
به إذا انكشف المعنى وأمن الابهام وربما غلبوا أيضا اسم أحد الشيئين على الآخر لقوة
التعلق بينهما وشدة الاختصاص فيهم فمثال الأول قولهم للبعير الذي يحمل المزادة راوية
وللمزادة المحمولة على البعير رواية فسموا البعير باسم ما يحمل عليه.. قال الشاعر
مشى الروايا بالمزاد الأثقل
أراد الروايا الإبل ومن ذلك قولهم صرعته الكأس فاستلبت عقله.. قال الشاعر
وما زالت الكاس تغتالنا * وتذهب بالأول فالأول
والكأس هي ظرف الشراب والفعل الذي أضافوه إليها إنما هو مضاف إلى الشراب الذي
يحل فيها لان العرب لا تقول الكأس إلا بما فيه من الشراب فكان الاناء الفارغ لا يسمى

(1) - البيت من معلقة عمرو بن كلثوم
56

كأسا وعلى هذا القول يكون إضافة اختلاس العقل والتصريع وما جرى مجرى ذلك
إلى الكأس على وجه الحقيقة لان الكأس على هذا القول اسم للإناء وماحل فيه من
الشراب.. ومثال الوجه الثاني ذكرناه عنهم من التغليب تغليبهم اسم القمر على الشمس
قال الشاعر
أخذنا بأفاق السماء عليكم * لنا قمراها والنجوم الطوالع
أراد لنا شمسها وقمرها فغلب.. ومنه قول الآخر
فقولا لأهل المكتين تحاشدوا * وسيروا إلى آطام يثرب والنخل
أراد - بمكتين - مكة والمدينة (1) وقال الآخر
فبصرة الأزد منا والعراق لنا * والموصلان ومنا مصر والحرم
أراد - بالموصلين - الموصل والجزيرة.. وقال الآخر
نحن سبينا أمكم مقربا * يوم صبحنا الحيرتين المنون
أراد - الحيرة والكوفة - وقال آخر
إذا اجتمع العمران عمرو بن عامر * وبدر بن عمرو خلت ذبيان جوعا (2)

(1) ويقال القريتان لمكة والطائف وفسر به قوله تعالى (لولا نزل هذا القرآن
على رجل من القريتين عظيم) ويقال أيضا الحرمان لمكة والمدينة والحيرتان للبصرة والكوفة
(2) قوله - إذا اجتمع العمران - الخ هما عمرو بن جابر بن هلال بن عقيل بن سمى
ابن مازن بن فزارة وبدر بن عمرو بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة
وهما روقا فزارة.. والبيتان لفراد بن حنش الصاردىي من بني الصارد بن مرة.. قلت
ومن هذا النوع قولهم سيرة العمر بن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقيل هما عمر بن
الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما وهذا غلط قال معاذ الهراء لقد قيل سيرة
العمرين قبل خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال سيبويه أما قولهم أعطيكم
سنة العمرين فإنما أدخلوا الألف واللام عليهما وهما نكرة وكأنهما جعلا من أمة كل
واحد منهما عمر وإختصا كما اختص النجم بهذا الاسم فصار بمنزلة النسرين إذا كنت
تعنى النجمين وبمنزلة الغريين المشهورين بالكوفة اه‍
57

وألقوا مقاليد الأمور إليهما * جميعا وكانوا كارهين وطوعا
أراد - بالعمرين - رجلين يقال لأحدهما عمرو وللآخر بدر وقد فسره الشاعر في البيت
.. ومثله
جزاني الزهدمان جزاء سوء * وكنت المرء يجزى بالكرامة (1)
أراد - بالزهدمين - رجلين يقال لأحدهما زهدم وللآخر كردم فغلب وكل الذي ذكرناه
يقوى هذا الجواب من جواز تسمية الجزاء على الذنب باسمه وتغليبه عليه للمقاربة
والاختصاص التام بين الذنب والجزاء عليه.. والجواب السادس ما روى عن ابن عباس
أنه قال يفتح لهم وهم في النار باب من الجنة فيقبلون إليه مسرعين حتى إذا انتهوا إليه
سد عليهم فيضحك المؤمنون منهم إذا رأوا الأبواب قد أغلقت عليهم ولذلك قال تعالى
(فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون).. فإن قيل فأي فائدة
في هذا الوجه وما وجه الحكمة فيه.. قلنا وجه الحكمة فيه ظاهر لان ذلك أغلظ في
نفوسهم وأعظم في مكروهم وهو ضرب من العقاب الذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة

(1) وبعده
وقد دافعت قد علمت معد * بنى قرظ وعمهما قدامه
ركبت بهم طريق الحق حتى * أتيتهم بها مائة ظلامة
والأبيات لقيس بن زهير والزهدمان هما زهدم وكردم أبنا حزن العبسيان.. ومعنى جزائهما
لقيس بن زهير انهما يوم شعب جبلة لما أنهزم حاجب بن زرارة تبعاه فجعلا يطردانه
ويقولون له استأسر فيقول من أنتما فيقولان الزهدمان فيقول لا أستأسر لموليين فاستأسر
لمالك ذي الرقيبة فاستغاثا بقيس بن زهير فنازع ذا الرقيبة فحكموا حاجبا فقال أما من
ردني عن قصدي فالزهدمان واما الذي استأسرت له فمالك فحكموني في نفسي فحكموه
فقال أما مالك فله ألف ناقة وللزهدمين مائه ثم وقعت بين قيس والزهدمين مغاضبة
فقال الأبيات
58

لان من طمع في النجاة والخلاص من المكروه واشتد حرصه على ذلك ثم حيل بينه
وبين الفرج ورد إلى المكروه يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب ما لا طريق للطمع
عليه.. فإن قيل فعلى هذا الجواب ما الفعل الذي هو الاستهزاء.. قلنا في ترداده لهم من
باب إلى آخر على سبيل التعذيب معنى الاستهزاء من حيث كان إظهار لما المراد خلافه وإن
لم يكن من معنى الاستهزاء ما يقتضى قبحه من اللهو واللعب وما جرى مجرى ذلك..
والجواب السابع أن يكون ما وقع منه تعالى ليس باستهزاء على الحقيقة لكنه سماه بذلك
ليزدوج اللفظ ويخف على اللسان وللعرب في ذلك عادة معروفة في كلامها والشواهد
عليه مذكورة مشهورة وهذه الوجوه التي ذكرناها في الآية يمكن أن تذكر في قوله
تعالى (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وفى قوله (إن المنافقين يخادعون الله
وهو خادعهم) فليتأمل ذلك.. وأما قوله تعالى (ويمدهم في طغيانهم يعمهون)
فيحتمل وجهين.. أحدهما أن يريد أنى أملى لهم في العمر وأمهلهم ليؤمنوا ويطيعوا وهم
مع ذلك مستمسكون بطغيانهم وعمهم.. والوجه الآخر أن يريد بيمدهم أن يتركهم من فوائده
ومنحه التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم ويمنعها من الكافرين عقابا كشرحه لصدورهم وتنويره
لقلوبهم وكل هذا واضح بحمد الله.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه وإني
لأستحسن لبعض الاعراب قوله
خليلي هل يشفي من الشوق والجوى * يد وذرى الأوطان لابل يشوقها
ويزداد في قرب إليها صبابة * ويبعد من فرط اشتياق طريقها
وما ينفع الحران ذا اللوح أن يرى * حياض القرى مملوءة لا يذوقها
ولآخر في تذكر الأوطان والحنين إليها
ألا قل لدار بين أكثبة الحمى * وذات الغضا جادت عليك الهواضب
أجدك لا آتيك إلا تقلبت * دموع أضاعت ما حفظت سواكب
ديار تناسمت الهواء بجوها * وطاوعنى فيها الهوى والحبائب
59

ليالي لا الهجران محتكم بها * على وصل من أهوى ولا الظن كاذب
وأنشد أبو نصر صاحب الأصمعي لأعرابي
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بأكناف نجد وهي خضر متونها
وهل أشربن الدهر من ماء مزنة * بحرة ليلى حيث فاض معينها
بلاد بها كنا نحل فأصبحت * خلاء وترعاها مع الأدم عينها
تفيأت فيها بالشباب وبالصبي * تميل بما أهوى على غصونها وأنشد الأصمعي لصدقة بن نافع الغنوي
ألا ليت شعري هل تحنن ناقتي * ببيضاء نجد حيث كان مسيرها
فتلك بلاد حبب الله أهلها * إلي وإن لم يعط نصفا أميرها
بلاد بها أنصبت راحلة الصبي * ولانت لنا أيامها وشهورها
فقدنا بها الهم المكدر شربه * ودار علينا بالنعيم سرورها
وأنشد أبو محلم لسوار بن المضرب
سقى الله اليمامة من بلاد * نوافحها كأزواح الغواني
وجو زاهر للريح فيه * نسيم لا يروع الترب واني
بها سقت الشباب إلى مشيب * يقبح عندنا حسن الزمان
وأنشد إبراهيم بن إسحاق الموصلي
إلا يا حبذا جنات سلمى * وجاد رياضها جون السحاب
خلعت بها العذار ونلت فيها * مناي بطاعة أو باغتصاب
أسوم بباطلي طلبات لهوى * ويعذرني بها عصر الشباب
60

فكل هؤلاء على ما ترى قد أفصحوا بأن سبب حنينهم إلى الأوطان ما لبسوه فيها من
ثياب الشباب واستظلوه من ظله وأنضوه من رواحله وأنه كان يعذرهم ويحسن قبائحهم
فعلى أي شئ يغلوا الناس في قول ابن الرومي
وحبب أوطان الرجال إليهم * مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم * عهود الصبا فيها فحنوا لذالكا
ويزعمون أنه سبق إلى ما لم يسبق إليه وكشف عن هذا المعنى مستورا ووسم غفلا وقوله
وإن كان جيد المعنى سليم اللفظ فلم يزد فيه على من تقدم ولا أبدع بل اتبع ولكن الجيد
إذا ورد ممن يعهد منه الردئ كثر استحسانه وزاد استطرافه.. ولقد أحسن البحتري
في قوله في هذا المعنى
فسقى الغضى والنازلية وإن هم * شبوه بين جوانح وقلوب (1)
وقصار أيام به سرقت لنا * حسناتها من كاشح ورقيب
خضر تساقطها الصبا فكأنها * ورق يساقطه اهتزاز قضيب
كانت فنون بطالة فتقطعت * عن هجر غايته ووصل مشيب
وأحسن في قوله
سقى الله أخلافا من الدهر رطبة * سقتنا الجوى إذ أبرق الحزن أبرق
ليال سرقناها من الدهر بعد ما * أضاء باصباح من الشيب مفرق

(1) - الغضا - شجر معروف واحدته غضاة وأرض غضيانة كثيرته.. وفي البيت استخدام
فإنه أراد بأحد الضميرين الراجعين إلى الغضا وهو المجرور في الساكنيه المكان وهو
أرض لبنى كلاب وواد بنجد وبالآخر وهو المنصوب في شبوه النار أي أوقدوا في جوانحه
نار الغضا يعنى نار الهوى التي تشبه نار الغضا وخص الغضا دون غيره لان جمره بطئ
الانطفاء وفى بعض الروايات وضلوعي بدل وقلوب وهي غلط
61

تداويت من ليلى بليلى فما اشتفى * بماء الربي من بات بالريق يشرق
ولأبي تمام في هذا المعنى ما لا يقصر عن إحسان وهو
سلام ترجف الأحشاء منه * على الحسن ابن وهب والعراق
على البلد الحبيب إلى غورا * ونجدا والأخ العذب المذاق
ليالي نحن في وسنات عيش * كأن الدهر عنا في وثاق
وأيام له ولنا لدان * غفينا من حواشيها الرفاق (1)
كأن العهد عن عفر لدينا * وإن كان التلاقي عن تلاق
(مجلس آخر 63)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو)
الآية.. فقال كيف خاطب آدم وحواء عليهما السلام بخطاب الجمع وهما اثنان وكيف
نسب بينهما العداوة وأي عداوة كانت بينهما.. الجواب قلنا قد ذكر في هذه الآية
وجوه.. أولها أن يكون الخطاب متوجها إلى آدم وحواء وذريتهما لان الوالدين
يدلان على الذرية ويتعلق بهما ويقوى ذلك قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم وإسماعيل
عليهما السلام (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك).. وثانيها أن يكون
الخطاب لآدم وحواء عليهما السلام ولإبليس اللعين وأن يكون الجميع مشتركين في
الامر بالهبوط وليس لاحد أن يستبعد هذا الجواب من حيث لم يتقدم لإبليس ذكر
في قوله تعالى (يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة) لأنه وإن لم يخاطب بذلك فقد جرى
ذكره في قوله تعالى (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) فجائز أن يعود

(1) وفي نسخة غنينا في حواشيها الرقاق وفي ديوانه عربنا من حواشيها الرقاق
62

الخطاب على الجميع.. وثالثها أن يكون الخطاب متوجها إلى آدم وحواء عليهما السلام
والحية التي كانت معهما على ما روى عن كثير من المفسرين ففي هذا الوجه بعد من قبل
أن خطاب من لا يفهم الخطاب لا يحسن فلابد من أن يكون قبيحا اللهم إلا أن يقال إنه
لم يكن هناك قول في الحقيقة ولا خطاب وإنما كنى تعالى عن إهباطه لهم بالقول كما
يقول أحدنا قلت فلقيت الأمير وقلت فضربت زيدا وإنما يخبر عن الفعل دون القول
وهذا خلاف الظاهر وإن كان مستعملا وفى هذا الوجه بعد من وجه آخر وهو أن لم
يتقدم للحية ذكر في نص القرآن والكناية عن غير مذكور لا تحسن إلا بحيث لا يقع
لبس ولا يسبق وهم إلى تعلق الكناية بغير مكنى عنه حتى يكون ذكره كترك ذكره
في البيان عن المعنى المقصود مثل قوله تعالى (حتى توارت بالحجاب.. وكل من عليها
فان) ومثل قول الشاعر
أماوى ما يغنى الثراء عن الفتى * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (1)
فأما بحيث لا يكون الحال على هذا فالكناية عن غير مذكور قبيحة.. ورابعها أن يكون
الخطاب يخص آدم وحواء عليهما السلام وخاطب الاثنين بالجمع على عادة العرب في ذلك

(1) - قوله - إذا حشرجت - الخ فاعل حشرجت ضمير يعود على النفس ولم يتقدم
ذكرها وذلك جائز لعلم المعنى من السياق ومثله قوله تعالى (كلا إذا بلغت التراقي) فان
النفس لم يتقدم لها ذكر ولكن المعنى واضح.. والبيت من قصيدة لحاتم الطائي يخاطب
امرأته ماوية ومطلعها
أماوي قد طال التجنب والهجر * وقد عذرتني في طلابكم الهجر
أماوى ان المال غاد ورائح * ويبقى من المال الأحاديث والذكر
ومنها أماوى إن يصبح صداي بقفرة * من الأرض لا ماء لدي ولا خمر
ترى ان ما أنفقت لم يك ضائري * وان يدي مما بخلت به صفر
أماوى انى رب واحد أمه * أخذت فلا قتل عليه ولا أسر
رقد علم الأقوام لو أن حاتما * أراد ثراء المال كان له وفر
63

لان التثنية أول الجمع قال الله تعالى (إذا نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين)
أراد تعالى وكنا لحكم داود وسليما عليهما السلام وكان بعض أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتأول قوله تعالى (فإن كان له إخوة) على معنى فإن كان له أخوان.. قال الراعي
أخليد إن أباك ضاف وساده * همان باتا جنبة ودخيلا
أي داخلا في القلب
طرقا فتلك هما همى أقريهما * قلصا لواقح كالقسى وحولا
فعبر بالهماهم وهي بمعنى الهموم وهما اثنان.. فإن قيل فما معنى الهبوط الذي أمروا به.. قلنا
أكثر المفسرين على أن الهبوط هو النزول من السماء إلى الأرض وليس في ظاهر
القرآن ما يوجب ذلك لان الهبوط كما يكون النزول من علو إلى سفل فقد يراد به الحلول
في المكان والنزول به قال الله تعالى (اهبطوا مصر فان لكم ما سألتم) ويقول القائل
من العرب هبطنا بلد كذا وكذا يريد حللنا.. قال زهير
ما زلت أزمقهم حتى إذا هبطت * أيدي الركاب بهم من راكس فلقا
فقد يجوز على هذا أن يريد تعالى بالهبوط الخروج من المكان وحلول غيره ويحتمل
أيضا أن يريد بالهبوط غير معنى المسافة بل الانحطاط من منزلة إلى دونها كما يقولون قد
هبط عن منزلته ونزل عن مكانه إذا كان على رتبة فانحط إلى دونها.. فإن قيل فما معنى
قوله (بعضكم لبعض عدو).. قلنا أما عداوة إبليس لآدم وذريته فمعروفة مشهورة
وأما عداوة آدم عليه السلام والمؤمنين من ذريته لإبليس فهي واجبة لما يجب على المؤمنين
من معاداة الكفار أي المارقين عن طاعة الله تعالى المستحقين لمقته وعداوته وعداوة
الحية على الوجه الذي تضمن إدخالها في الخطاب لبنى آدم معروفة ولذلك يحذرهم منها
ويجنبهم فأما على الوجه الذي يتضمن أن الخطاب اختص آدم وحواء دون غيرهما فيجب
أن يحمل قوله تعالى (بعضكم لبعض عدو) على أن المراد به الذرية كأنه قال تعالى
(اهبطوا) وقد علمت من حال ذريتكم أن بعضكم يعادى بعضا وعلق الخطاب بهما
64

للاختصاص بين الذرية وبين أصلها.. فإن قيل أليس ظاهر القرآن إهبطوا يقتضى الامر
بالمعاداة كما أنه أمر بالهبوط وهذا يوجب أن يكون تعالى أمرا بالقبيح على وجه لان
معاداة إبليس لآدم عليه السلام قبيحة ومعاداة الكفار من ذريته للمؤمنين منهم كذلك
.. قلنا ليس يقتضى الظاهر ما ظننتموه وإنما يقتضى أنه أمرهم بالهبوط في حال عداوة بعضهم
بعضا فالامر مختص بالهبوط والعداوة تجرى مجرى الحال وهذا له نظائر كثيرة في كلام
العرب ويجرى مجرى هذه الآية في أن المراد بها الحال قوله (إنما يريد الله ليعذبهم بها
في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهو كافرون) وليس معنى ذلك أنه أراد كفرهم كما أراد
تعذيبهم وإزهاق نفوسهم بل أراد أن تزهق أنفسهم في حال كفرهم وكذلك القول في
الامر بالهبوط وهذا بين.. [قال الشريف] المرتضى رضي الله عنه ومن مستحسن
تمدح السادات الكرام قول الشاعر
ويل أم قوم غدوا عنكم لطيتهم * لا يكتنون غداة العل والنهل
صدأ السرابيل لا توكي مقانبهم * عجر البطون ولا تطوى على الفضل
قوله - ويل أم قوم - من الزجر المحمود الذي لا يقصد به الشر مثل قولهم قاتل الله فلانا
ما أشجعه وأبرحه ما أسمحه.. وقد قيل في قول جميل
رمى الله في عيني بثينة بالقذى * وفى الغر من أنيابها بالقوادح (1)

(1) قوله - رمى الله في عيني بثينة بالقذى - الخ.. قيل معناه سبحان الله ما أحسن
عينيها ومن ذلك قولهم قاتل الله فلانا ما أشجعه - وأنياب القوم - ساداتهم أي رمي الله
الفساد والهلاك في سادات قومها لأنهم حالوا بينها وبين زيارتي واستحسن بعضهم أن يقال أراد
بالعينين رقيبيها وبالغر من أنيابها كرام ذويها وعشرتها والمعنى أفناهم الله وأراهم المنكرات
فهو في الظاهر يشتمها وفي النية يشتم من يتأذى به فيها ويقال هم أنياب الخلافة للمدافعين
عنها.. وقيل أراد بلغها الله أقصى غايات العمر حتى تبطل عواملها وحواسها فالدعاء على
هذا لها لا عليها.. وقوله - بالقذى - الباء زائدة والقذي كل ما وقع في العينين من
شئ يؤذيها كالتراب والعود ونحوهما.. وقوله - وفي الغر - الخ معطوف علي قوله في
عيني وهو جمع أغر وغراء أراد رمي الله في أنيابها الحسان النقية البياض القوادح فالباء
زائدة أيضا وأنياب جمع ناب وهي السن - والقوادح - جمع قادح وهو السواد الذي
يظهر في الأسنان فالأسنان تتأكل منه.. ويدفع في صدر ما تقدم ما روى أن جميلا لقى
بثينة بعد تهاجر بينهما طالت مدته فتعاتبا طويلا فقالت له ويحك يا جميل أتزعم انك تهواني
وأنت الذي تقول رمي الله في عيني بثينة بالقذى البيت فأطرق طويلا يبكي ثم قال
ألا ليتني أعمى أصم تقودني * بثينة لا يخفى على كلامها
وروى أيضا ان كثيرا قال وقفت على جماعة يفيضون في وفي جميل أينا أصدق عشقا
ولم يكونوا يعرفوني ففضلوا جميلا فقلت لهم ظلمتم كثيرا كيف يكون جميل أصدق منه
وحين أتاه من بثينة ما يكره قال رمى الله في عيني بثينة بالقذى البيت وكثير حين أتاه
من عزة ما يكره قال
هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزة من أعراضنا ما استحلت
فما انصرفوا الا على تفضيلي وهذا يدل على أن جميلا دعا عليها حقيقة اه‍
65

إنه أراد هذا المعنى بعينه وقيل إنه دعا لها بالهرم وعلو السن لان الكبير يكثر
قذى عينيه
وتتهتم أسنانه.. وقيل إنه أراد بعينيها رقيبيها وبغر أنيابها سادات قومها ووجوههم والأول
أشبه بطريقة القوم وإن كان القول محتملا للكل.. فأما قوله - لا يكتنون غداة العل
والنهل - فأراد أنهم ليسوا برعاة يسقون الإبل بل لهم من يخدمهم ويكفيهم ويرعى إبلهم
وإنما يكتنى ويرتجز على الدلو السقاة والرعاة فيه وجه آخر قيل إنهم يسامحون شريبهم
ويؤثرونه بالسقي قبل أموالهم ولا يضنون عليه ولا يكتنون وهذا من الكرم والتفضل
لا من الضعف.. وقيل أيضا بل عنى أنهم أعزاء ذوو منعة إذا وردت إبلهم ماء أفرج
الناس لها عنه لأنها قد عرفت فليس يحتاج أربابها إلى الإكتناء والتعريف وقال قوم
في قوله يكتنون إنه أراد كنت يده تكنن إذا خشنت من العمل فيقول ليسوا أهل
مهنة فتكنن أيديهم فتخشن من العمل بل لهم عبيد يكفونهم ذلك.. وقوله - صدأ
66

السرابيل - فإنما أراد بهم طول حملهم للسلاح ولبسهم له - والمقانب - هي الأوعية التي
يكون فيها الزاد فكأنه يقول إذا سافروا لم يشدوا الأوعية على ما فيها وأطعموا أهل الرفقة
وهذه كناية عن الاطعام وبذل الزاد مليحة - وعجز البطون - من صفات المناقب أراد
أنها لا توكى عجر البطون ولا تطوى على فضل الزاد.. ولبعض شعراء بنى أسد وأحسن
غاية الاحسان
رأت صرمة لا بنى عبيد تمنعت * من الحق لم توزل بحق إفالها
فقالت ألا تغذو فصالك هكذا * فقلت أبت ضيفانها وعيالها
فما حلبت إلا الثلاثة والثنى * ولا قيلت إلا قريبا مقالها
حدابير من كل العيال كأنها * أناضى شقر حل عنها جلالها
شكى هذا الشاعر من امرأته وحكى عنها أنها رأت إبلا لجيرانها لم تعط في حمالة ولم تعقر
في حق ولم تحلب لضيف ولا جار فهي سمان.. وقوله - لم توزل إفالها - فالأفال الصغار
وتوزل من الأزل وهو الضيق في العيش والشدة فيقول فصال هؤلاء سمان لم تلق بؤسا
لان ألبان أمهاتها موفورة عليها.. وحكى عن امرأته أنها تقول أغذ أنت فصالك هكذا
فقال لها تأبى ذلك الحقوق وعيالها وهم الجيران والضيفان ثم أخبر أنه لم يلتفت إلى لومها
وأن الإبل ما حلبت بعد مقالتها إلا مرتين أو ثلاث ولا قيلت من القائلة إلا بقرب البيوت
حتى نحرها ووهبها - والحدابير - المهازيل وإنما يعنى فصاله وهزالها من أجل أنها لا تسقى
الألبان وتعقر أمهاتها - وأناضى - جمع نضو فشبه فصاله من هزالها بانضاء خيل شقر.. وقوله - حدابير من كل العيال - فيه معنى حسن لأنه أراد أنها من بين جميع العيال
مهازيل وهذا تأكيد لان سبب هزالها هو الايثار بألبانها واختصت بالهزال من بين كل
العيال والعيال ههنا هم الجيران والضيفان وإنما جعلهم عيالا لان كرمه وجوده قد ألزمه
مودتهم فصاروا كأخص عياله.. ومثل ذلك قول الشاعر
تعيرني الحظلان أم محلم * فقلت لها لم تقذفيني بدائيا
67

فإني رأيت الصامرين متاعهم * يذم ويفنى فارضخي من وعائيا (1)
فلم تجديني في المعيشة عاجزا * ولا حصر ما خبا شديدا وكائيا
- الحظلان - الممسكون البخلاء والحظل الامساك - وأم محلم - امرأته.. ومعنى قوله
تعيرني الحظلان أي بالحظلان تقول مالك لا تكون مثل هؤلاء الذين يحفظون أموالهم
- والصامرون - أيضا البخلاء فقال لها رأيت البخلاء يضنون بما عندهم وهو يفنى
ويبقى الذم فارضخي من وعائي وهذا مثل أي أعطى الناس مما عندي وهو من قولك
وضخ له بشئ من عطيته - والحصرم - الممسك تقول العرب حصرم قوسك أي شدد
وترها.. وقوله - فلم تجديني في المعيشة عاجزا - أي أنا صاحب غارات أفيد واستفيد
وأتلف وأخلف فلا تخافي الفقر.. وقال مسكين الدارمي
أصبحت عاذلتي معتلة * قرما أم هي وحمى للصخب
أصبحت تتفل في شحم الذرى * وتظن اللوم درا ينتهب
لا تلمها إنها من نسوة * ملحها موضوعة فوق الركب
يقول إنها تكثر لومى وكأنها قرمة إلى اللوم كقرم الانسان إلى اللحم وهي وحمى تشتهى
الصخب - والوحم - شدة شهوة الطعام عند الحمل - وشحم الذرى - الاسنمة وأراد
تتفل فيها أنها تعوذ أبلى لتزينها في عيني ولتعظم قدرها فلا أهب منها ولا أنحر ثم أخبر
أن أصلها من الزنج - والملح - الشحم وشحم الزنج (2) يكون على أوراكهم.. وأكفالهم
وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد

(1) قوله - فاني رأيت الصامرين - الخ الصامرون الباخلون أراد الصامرين بمناعهم
.. وروى يموت بدل يذم أي يموتون وهذا من إعادة ضمير المفرد على الجمع.. وقال
يعقوب الحظلان مشي الغضبان
(2) قوله - وشحم الزنج - الخ هذا تفسير الأصمعي.. وقال أبو عمرو الشيباني
ملحها موضوعة فوق الركب * أي انها بخيلة تضع ملحها فوق ركبتيها فهي تأمرني بذلك
.. وقال غيرهما من اللغويين.. قوله ملحها موضوعة فوق الركب أي انها سريعة
الغضب يقال للسريع الغضب ملحه فوق ركبتيه وكذا غضبه على طرف أنفه
68

أيا ابنة عبد الله وابنة مالك * ويا ابنة ذي البردين والفرس النهد (1)
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له * أكيلا فإني لست آكله وحدي
قصيا كريما أو قريبا فإنني * أخاف مذمات الأحاديث من بعدى (2)

(1) - غنى بذي البردين عامر بن أحيمر بن بهدلة وإنما لقب ذا البردين لان وفود
العرب اجتمعت عند المنذر بن ماء السماء فاخرج بردى محرق وقال ليقم أعز العرب
قبيلة فاليلبسهما فقام عامر المذكور فأتزر بأحدهما وتردى بالآخر فقال له النعمان أنت
أعز العرب قبيلة قال العز والعدد في معد ثم في نزار ثم في مضر ثم في خندف ثم في تميم
ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدلة فمن أنكر هذا في العرب فلينافرني فسكت
الناس فقال النعمان هذه عشيرتك فكيف أنت كما تزعم في نفسك وأهل بيتك فقال أنا
أبو عشرة وعم عشرة وخال عشرة وأما أنا في نفسي فهذا شاهدي ثم وضع قدمه في
الأرض وقال من أزالها عن مكانها فله مائة من الإبل.. وقوله - والفرس - النهد
ويروي الورد والورد هو بين الكميت والأشقر.. والمراد بابنة عبد الله نفوسة بنت
زيد الفوارس الضبي وكان قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه تزوجها فأتته في الليلة
الثانية من بنائه بها بطعام فقال أين أكيلى فلم تعلم ما يقول حتى قال الأبيات فأرسلت جارية
لها تطلب له أكيلا - الأكيل - المؤاكل كالنديم المنادم والشريب المشارب والجليس
المجالس ولا يطلق الا على من تكرر منه ذلك لا من وقع ذلك منه مرة وإنما نكره ولم
يقل أكيلى لأنه عرف بمؤاكلته عدة فأراد واحدا منهم قاله التبريزي والمرزوقي
(2) قوله - قصيا كريما - الخ روى بدلهما.. أخا طارقا أو جار بيت
فلنني.. الخ.. وقوله أخا بدل من أكيلا - والمذمة - بالفتح الذم وروى بعد
هذا البيت بيتان وهما
وكيف يسيغ المرء زادا وجاره * خفيف المعابادى الخصاصة والجهد
وللموت خير من زيارة باخل * يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
.. وقيل إن هذه الأبيات لحاتم الطائي والصحيح انها لقيس بن عاصم كما تقدم
69

وإني لعبد الضيف ما دام نازلا * وما في صفاتي غير هاشيم العبد
قال أبو العباس استثنى الكرم من القصى البعيد ولم يستثنه في القريب لان أهله جميعا
عنده كرام وأراد بقوله - عبد الضيف - أنه يخدم الضيف هو بنفسه لا يرضى له بخدمة
عبده.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه ويشبه ذلك قول المقنع الكندي
وإني لعبد الضيف ما دام نازلا * وما لي سواها خلة تشبه العبدا (1)

(1) - أول القطعة التي منها هذا البيت.
يعاتبني في الدين قومي وإنما * ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
ألم ير قومي كيف أوسر مرة * وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهدا
فما زادني إلا سناء ورفعة * وما زادني فضل الغنى منهم بعدا
أسد به ما قد أخلوا وضيعوا * ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا
وفي جفنة ما يغلق الباب دونها * مكللة لحما مدفقة ثردا
وفي فرس نهد عتيق جعلته * حجبا لبيتي ثم أخدمته عبدا
وان الذي بيني وبين بني أبي * وبين بني عمي لمختلف جدا
أراهم إلى نصري بظاء وإن هم * دعوني إلى نصر أتيتهم شدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم * وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وان ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم * وان هم هووا غيبي هويت لهم رشدا
وان ترجروا طيرا بنحس تمر بي * زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم * وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي ان تتابع لي غنى * وان قل مالي لا أكلفهم رفدا
واني لعبد الضيف ما دام نازلا * وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
70

وإنما اشترط في كونه عبدا للضيف في البيت الأول والثاني ثواءه ونزوله مؤثرا له ليعلم
أن الخدمة لم تكن لضعة وصغر قدر بل إنما يوجبه الكرم من حق الأضياف وانه
يخرج عن أن يكون مخدوما بخروجه من أن يكون ضيفا ولو قال وإني لعبد الضيف
ولم يشرط لم يحصل هذا المعنى الجليل
(مجلس آخر 64)
[تأويل آية].. إن سأل سائل فقال بم تدفعون من خالفكم في الاستطاعة وزعم
أن المكلف يؤمر بما لا يقدر عليه ولا يستطيعه إذا تعلق بقوله تعالى (أنظر كيف
ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) وان الظاهر من هذه الآية يوجب
أنهم غير مستطيعين للامر الذي هم غير فاعلين له وأن القدرة مع الفعل وإذا تعلق بقوله
تعالى في قصة موسى عليه السلام (إنك لن تستطيع معي صبرا) وأنه نفى كونه قادرا على
الصبر في حال هو فيها غير صابر وهذا يوجب أن القدرة مع الفعل وبقوله تعالى
(ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون).. الجواب يقال له أول ما نقوله ان
المخالف لنا في هذا الباب في الاستطاعة لا يصح له فيه التعلق بالسمع لان مذهبه لا يسلم معه
صحة السمع ولا يتمكن مع المقام عليه من معرفة السمع بأدلته وإنما قلنا ذلك لان من جوز
تكليف الله تعالى الكافر الايمان وهو لا يقدر عليه لا يمكنه العلم نفى القبائح عن الله عز
وجل وإذا لم يمكنه ذلك فلابد من أن يلزمه تجويز القبائح في أفعاله تعالى وأخباره
ولا يأمن أن يرسل كذابا وأن يخبر وهو بالكذب تعالى عن ذلك فالسمع إن كان كلامه
قدح في حجته تجويز الكذب عليه وإن كان كلام رسوله عليه السلام قدح فيه ما يلزمه
من تجويز تصديق الكذاب وإنما طرق ذلك تجويز بعض القبائح عليه وليس لهم أن
يقولوا إن أمره تعالى الكافر بالايمان وإن لم يقدر عليه يحسن من حيث أتى الكافر
71

فيه من قبل نفسه لأنه تشاغل بالكفر وترك الايمان وإنما كان يبطل تعلقنا بالسمع لو
أضفنا ذلك إليه على وجه يقبح وذلك لانما قالوه إذا لم يؤثر في كون ما ذكرناه
تكليفا لما لا يطاق لم يؤثر في نفى ما ألزمناه عنهم ولأنه يلزم على ذلك أن يفعل الكذب
وسائر القبائح وتكون حسنة منه بأن يفعلها من وجه لا يقبح منه وليس قولهم إنا لم
نضفه إليه من وجه يقبح بشئ يعتمد بل يجرى مجرى قول من جوز عليه تعالى
الكذب ويكون الكذب منه تعالى حسنا ويدعى مع ذلك صحة معرفة السمع بأن يقول
إنني لم أضف إليه تعالى قبيحا فيلزمني إفساد طريقة السمع فلما كان من ذكرناه لا عذر له
في هذا الكلام لم يكن للمخالف في الاستطاعة عذر بمثله.. ونعود إلى تأويل الآي
أما قوله تعالى (انظر كيف ضربوا) الآية فليس فيه ذكر للشئ الذي يقدرون عليه
وبيان له وإنما كان يصح ما قالوه لو بين تعالى أنهم لا يستطيعون سبيلا إلى أمر معين فأما
إذا لم يكن ذلك كذلك فلا متعلق لهم.. فان قيل فقد ذكر تعالى من قبل ضلالهم
فيجب أن يكون المراد بقوله (فلا يستطيعون سبيلا) إلى مفارقة الضلال.. قلنا إنه تعالى
كما ذكر الضلال فقد ذكر ضرب المثل فيجوز أن يريد أنهم لا يستطيعون سبيلا
إلى تحقيق ما ضربوه من الأمثال إذ ذلك غير مقدور على الحقيقة ولا مستطاع والظاهر أن
هذا الوجه أولى لأنه عز وجل حكى أنهم ضربوا له الأمثال وجعل ضلالهم وأنهم
لا يستطيعون السبيل متعلقا بما تقدم ذكره وظاهر ذلك يوجب رجوع الامرين جميعا
إليه وأنهم ضلوا بضرب المثل وأنهم لا يستطيعون سبيلا إلى تحقيق ما ضربوه من المثل على
أنه تعالى أخبرنا بأنهم ضلوا وظاهر ذلك الاخبار عن ماضي فعلهم فإن كان قوله تعالى
(فلا يستطيعون سبيلا) يرجع إليه فيجب أن يدل على أنهم لا يقدرون على ترك
الماضي وهذا مما لا تخالف فيه وليس فيه ما نأباه من أنهم لا يقدرون في المستقبل أو في الحال
على مفارقة الضلال والخروج عنه وتعذر تركه بعد مضيه فإذا لم يكن للآية ظاهر فلم
صاروا بأن يحملوا نفى الاستطاعة على أمر كلفوه بأولى منا إذا حملنا ذلك على أمر لم
يكلفوه أو على أنه أراد الاستثقال والخبر عن عظم المشقة عليهم ولو جرت عادة أهل
اللغة بأن يقولوا لمن يستثقل شيئا إنه لا يستطيعه ولا يقدر عليه ولا يتمكن منه ألا ترى
72

أنهم يقولون إن فلانا لا يستطيع أن يكلم فلانا ولا ينظر إليه وما أشبه ذلك وإنما غرضهم
الاستثقال وشدة الكلفة والمشقة.. فإن قيل فإذا كان الظاهر للآية يشهد بمذهب
المخالف فما المراد بها عندكم.. قلنا قد ذكر أبو علي أن المراد أنهم لا يستطيعون إلى بيان
تكذيبه سبيلا لأنهم ضربوا الأمثال ظنا منهم بأن ذلك يبين كذبه فأخبر تعالى أن ذلك
غير مستطاع لأنه تكذيب صادق وإبطال حق مما لا يتعلق به قدرة ولا تتناوله استطاعة
وقد ذكر أبو هاشم أن المراد بالآية أنهم لأجل ضلالهم بضرب الأمثال وكفرهم
لا يستطيعون سبيلا إلى الخير الذي هو النجاة من العقاب والوصول إلى الثواب.
وليس يمكن على هذا أن يقال كيف لا يستطيعون سبيلا إلي الخير والهدى وهم عندكم
قادرون على الايمان والتوبة ومتى فعلوا ذلك استحقوا الثواب لان المراد أنهم مع التمسك
بالضلال والمقام على الكفر لا سبيل لهم إلى خير وهدى وإنما يكون لهم سبيل إلى ذلك
بان يفارقوا ما هم عليه.. وقد يمكن أيضا في معنى الآية ما تقدم ذكره من أن المراد
بنفي الاستطاعة عنهم أنهم مستثقلون للايمان وقد يخبر عمن استثقل شيئا بأنه لا يستطيعه
على ما تقدم ذكره.. فأما قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام (إنك لن تستطيع
معي صبرا) فظاهره يقتضى أنك لا تستطيع ذلك في المستقبل ولا يدل على أنه غير
مستطيع للصبر في الحال وأن يفعله في الثاني وقد يجوز أن يخرج في المستقبل من أن
يستطيع ما هو في الحال مستطيع له غير أن الآية
تقتضي خلاف ذلك لأنه قد صبر على
المسألة أوقاتا ولم يصبر عنها في جميع الأحوال فلم ينتف الاستطاعة للصبر عنه في جميع
الأوقات المستقبلة على أن المراد بذلك واضح وأنه خبر عن استثقال الصبر عن المسألة
عما لا يعرف ولا يقف عليه لان مثل ذلك يصعب على النفس ولهذا يجد أحدنا إذا وجد
بين يديه ما ينكره ويستبعده تنازعه نفسه إلى المسألة عنه والبحث عن حقيقة ويثقل
عليه الكف عن الفحص عن أمره فلما حدث من صاحب موسى عليه السلام ما يستنكر
ظاهره استثقل الصبر عن المسألة عن ذلك ويشهد بهذا الوجه قوله تعالى (وكيف
تصبر على ما لم تحط به خبرا) فبين تعالى أن العلة في قلة صبره ما ذكرناه دون غيره ولو
كان على ما ظنوه لوجب أن يقول وكيف تصبر وأنت غير مطيق للصبر.. فأما قوله
73

تعالى (ما كانوا يستطيعون السمع) فلا تعلق لهم بظاهره لان السمع ليس بمعنى فيكون
مقدورا لان الادراك على المذهب الصحيح ليس بمعنى ولو ثبت أنه معنى على ما يقوله
أبو علي لكان أيضا غير مقدور للعبد من حيث اختص تعالى بالقدرة عليه هذا ان أريد
السمع الادراك وإن أريد به نفس الحاسة فهي أيضا غير مقدورة للعباد لان الجواهر
وما تختص به الحواس من البنية والمعاني لا يصح بها الادراك فإنه مما ينفرد به القديم تعالى
في القدرة عليه فالظاهر لا حجة لهم فيه.. فان قالوا فلعل المراد بالسمع كونهم سامعين
كأنه تعالى نفى عنهم استطاعة أن يسمعوا.. قلنا: هذا خلاف الظاهر ولو ثبت أن المراد
ذلك لحملنا نفى الاستطاعة على ما تقدم ذكره من الاستثقال وشدة المشقة كما يقول القائل
فلان لا يستطيع أن يراني ولا يقدر على أن يكلمني وما أشبه ذلك وهذا بين لمن تأمله
[تأويل خبر].. إن سأل سائل فقال ما تأويل ما رواه بشار عن معاوية بن الحكم
قال قلت يا رسول الله كانت لي جارية ترعي غنما لي قبل أحد فذهب الذئب بشاة من غنمها
وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون لكني غضبت فصككتها صكة قال فعظم ذلك
على النبي صلى الله عليه وسلم قال قلت يا رسول الله أفلا أعتقها قال ائتني بها فأتيته بها
فقال عليه الصلاة والسلام أين الله قالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول الله فقال
عليه الصلاة والسلام أعتقها فإنها مؤمنة.. الجواب أما قوله - أنا رجل من بني آدم آسف
كما يأسفون - فمعناه أغضب كما يغضبون.. قال محمد بن الحبيب وأنشد للراعي
فما لحقتني العيس حتى وجدتني * أسيفا على حاديهم المتجرد
والأسف أيضا الحزن.. قال ابن الاعرابي الأسف الحزن والغضب قال كعب
في كل يوم أرى فيه منيته * تكاد يسقط منى منة أسفا
وقوله - ولكني غضبت فصككتها - أراد لطمتها يقال صك جبهته إذا لطمها بيده قال الله
تعالى (فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها).. وقال بشر بن أبي خازم يصف حمار
وحش وأتانا
فيصك محجره إذا ما سافها * وجبينه بحوافر لم تنكب
74

- سافها - إذا شمها.. وقولها - في السماء - فالسماء هي الارتفاع والعلو فمعنى ذلك أنه
تعالى عال في قدرته وعزيز في سلطانه لا يبلغ ولا يدرك ويقال سما فلان يسموا سموا
إذا ارتفع شأنه علا أمره وقال تعالى (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض)
الآية فأخبر تعالى بقدرته وسلطانه وعلو شأنه ونفاذ أمر... وقد قبل في قوله تعالى
(أأمنتم من في السماء) غير هذا وأن المرادء أمنتم من في السماء أي أمره وآياته وقدرته
ورزقه وما جرى مجرى ذلك.. وقال أمية بن أبي الصلت شاهدا لما تقدم
وأشهد أن الله لا شئ فوقه * عليا وأمسى ذكره متعاليا
وقال سليمان بن يزيد العدوي
لك الحمد يا ذا الطول والملك والغنى * تعاليت محمودا كريما وجازيا
علوت على قرب بعز وقدرة * وكنت قريبا في دنوك عاليا
والسماء أيضا سقف البيت ومنه قوله تعالى (من كان يظن أن لن ينصره الله) الآية
وقال ابن الاعرابي يقال لا على البيت سماء البيت وسماواته وسراته وصهوته والسماء أيضا
المطر قال الله تعالى (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) ومنه الحديث الذي رواه أبو
هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل عليه الصلاة والسلام يده فيها
فالت أصابعه بللا فقال ما هذا يا صاحب البر قال أصابته السماء يا رسول الله قال صلى الله عليه
وسلم أو لا جعلته فوق الطعام يراه الناس من غش فليس منا.. وقال مثقب العبدي
فلما أتاني والسماء تبله * فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا
ويقال أيضا لظهر الفرس سماء كما يقال في لحوافره أرض.. ولبعضهم في فرس
وأحمر كالدينار أما سماؤه * فخصب وأما أرضه فمحول (1)
وإنما أراد أنه سمين الاعلى عريان القوائم ممشوقها وكل معاني السماء التي تتصرف وتتوع

(1) - البيت لطفيل الغنوي.. وقال الراغب كل سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء
وبالإضافة إلى ما فوقها فارض الا السماء الدنيا فإنها سماء بلا أرض
75

ترجع إلى معنى الارتفاع والعلو والسمو وإن اختلفت المواضع التي أجريت هذه اللفضة
فيها وأولى المعاني بالخبر الذي سئلنا عنه ما تقدم من معنى العزة وعلو الشأن والسلطان
وما عدا ذلك من المعاني لا يليق به تعالى وأن العلو بالمسافة لا يجوز على القديم تعالى الذي
ليس بجسم ولا جوهر ولا حال فيهما ولان الخبر والآية التي تضمنت أيضا ذكر السماء
خرجت مخرج المدح ولا مدح في العلو بالمسافة وإنما التمدح بالعلو في الشأن والسلطان
ونفاذ الامر ولهذا لا تجد أحدا من العرب مدح غيره في شعر أو نثر بمثل هذه اللفظة
وأراد بها علو المسافة بل لا يريد إلا ما ذكرناه من معنى العلو في الشأن وإنما يظن في هذه
المواضع خلاف هذا من لا فطنة عنده ولا بصيرة له
(مجلس آخر 65)
[تأويل آية].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) الآية.. الجواب قلنا أما التنور فقد ذكر في معناه وجوه.. أولها أنه تعالى أراد
بالتنور وجه الأرض وأن الماء نبع وظهر على وجه الأرض وفار هذا قول عكرمة وقال
بن عباس رضي الله عنهما مثله والعرب تسمى وجه الأرض تنورا.. وثانيها أن يكون
المراد أن الماء نبع من أعالي الأرض وفار من الأماكن المرتفعة منها وهذا قول قتادة
وروى عنه في قوله تعالى (وفار التنور) قال ذكر لنا أنه أرفع الأرض وأشرفها..
وثالثها أن يكون المراد بفار التنور أي برز النور وظهر الضوء وتكاثف حرارة دخول
النهار وتقتضي الليل وهذا القول يروى عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.. ورابعها
أن يكون المراد بالتنور الذي يختبز فيه على الحقيقة وأنه تنور كان لآدم عليه السلام
أبي البشر وقال قوم إن التنور كان في دار نوح عليه السلام بعين وردة من أرض الشام
.. وقال آخرون بل كان التنور في ناحية الكوفة والذي روى عنه أن التنور هو تنور
الخبز الحقيقي ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم.. وخامسها أن يكون معنى ذلك
اشتد غضب الله تعالى عليهم وحل وقوع نقمته بهم وذكر تعالى التنور مثلا لحضور
76

العذاب كما تقول العرب قد فارت قدر القوم إذا اشتد الحرب وعظم الخطب والوطيس
هو التنور وتقول العرب أيضا قد حمى الوطيس إذا اشتد بالقوم حربهم.. قال الشاعر
تفور علينا قدرهم فنديمها * ونفثؤها عنا إذا حميها غلا (1)
أراد - بقدرهم - حربهم ومعنى - نديمها - نسكنها ومن ذلك الحديث المروى عنه عليه
الصلاة والسلام أنه نهى عن البول في الماء الدائم يعنى الساكن ويقال قد دوم الطائر في
الهواء إذا بسط جناحيه وسكنهما ولم يخفق بهما - ونفثؤها - معناه نسكنها يقال فثأت
غضبه عنى وفثأت الحار بالبارد إذا كسرته به.. وسادسها أن يكون التنور الباب الذي
يجتمع فيه ماء السفينة فجعل فوران الماء منه والسفينة على الأرض علما على ما أنذر به من
اهلاك قومه وهذا القول يروي عن الحسن وأولى الأقوال بالصواب قول من حمل
الكلام على التنور الحقيقي لأنه الحقيقة وما سواه مجاز ولان الروايات الظاهرة تشهد له
وأضعفها وأبعدها من شهادة الأثر قول من حمل ذلك على شدة الغضب واحتداد الامر
تمثيلا وتشبيها لان حمل الكلام على الحقيقة التي تعضدها الرواية أولى من حمله على المجاز
والتوسع مع فقد الرواية وأي المعاني أريد بالتنور فان الله تعالى جعل فوران الماء علما
لنبيه عليه السلام وانه يدل على نزول العذاب بقومه لينجو بنفسه وبالمؤمنين.. فأما قوله
تعالى (من كل زوجين اثنين) فقد قيل إن المراد به إحمل من كل ذكر وأثني اثنين وإنه
يقال لكل واحد من الذكر والأنثى زوج.. وقال آخرون الزوجان ههنا الضربان وقال
آخرون الزوج اللون وإن كل ضرب يسمى زوجا واستشهدوا ببيت الأعشى
في كل زوج من الديباج يلبسه * أبو قدامة محبورا بذاك معا
ومعنى (من سبق عليه القول) أي من أخبر الله تعالى بعذابه وحلول الهلاك به والله أعلم بمراده
[تأويل خبر].. إن سأل سائل عن الخبر الذي يرويه شريك عن عمار الذهبي عن أبي
صالح الحنفي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم

(1) البيت للنابغة الجعدي أبي ليلى رضي الله عنه وبعده
بطعن كتشهاق الجحاش شهيقه * وضرب له ما كان من ساعد خلا
77

في المنام وأنا أشكو إليه ما لقيت من الأود واللدد.. الجواب يقال له أما - الأود - فهو
الميل تقول العرب لأقيمن ميلك وحنفك وأودك وذراك وضلعك وصعرك وصدغك
وظلعك بالظاء وصعوك وصدعك كل هذا المعنى واحد.. وقال ثعلب الأود إذا كان من
الانسان في كلامه ورأيه فهو عوج وإذا كان في الشئ المنتصب مثل عصا وما أشبهها فهو
عوج وهذا قول الناس كلهم إلا أبا عمرو الشيباني فإنه قال العوج بالكسر الاسم والعوج
بالفتح المصدر وقال ثعلب كأنه مصدر عوج يعوج عوجا ويقال عصا معوجة وعود
معوج وليس في كلامهم معوج.. وأما - اللدد - فقيل هو الخصومات وقال ثعلب يقال
رجل ألد وقوم لد إذا كانوا شديدي الخصومة ومنه قول الله تعالى (وهو ألد
الخصام).. وقال الأموي اللدد الاعوجاج والالد في الخصومة الذي ليس بمستقيم
أي هو أعوج الخصومة يميل فلا يقوى عليه ولا يتمكن منه ومن ذلك قولهم لد الصبي
وإنما يلد في شق فيه وليس يلد مستقيما فهو يرجع إلى معنى الميل والاعوجاج وقال فسر
لنا الحكم بن ظهير فقال ألد الخصام أي أعوج الخصام وأنشد أبو السمح لابن مقبل
لقد طال عن دهماء لدى وعذرتي * وكتمانها أكنى بأم فلان
جعلت لجهال الرجال مخاضة * ولو شئت قد بينتها بلساني
- اللدد - الجدال والخصومة.. وقال أبو عمرو الألد الذي لا يقبل الحق ويطلب الظلم
وقوله - مخاضة - يقول إنهم يخوضون في شعري ويطلبون معانيه فلا يقفون عليها
.. وأنشد أبو السمح
لا تفتر الكذب القبيح فإنه * للمرء معتبة وباب ملام
واصدق بقولك حين تنطق إنه * للصدق فضل فوق كل كلام
وإذا صدقت على الرجال خصمتهم * والصدق مقطعة على الظلام
وإذا رماك غشوم قوم فارمه * باللد مشتغر المدى غشام
78

لا تعرضن على العدو وسيلة * واحذر عدوك عند كل مقام
واعلم بأنه قد ليس يوما نافعا * عند الليم وسائل الأرحام
ما لم يخفك ويلق عندك جانبا * خشنا وتصبحه بكأس سمام
وإذا حللت بمأزق فأكرم به * حتى تفرج حلبة الظلام
فاصبر على كرب البلاء فإنه * ليس البلاء على الفتى بلزام
واعلم بأنك ميت ومحدث * عما فعلت معاشر الأقوام
معنى قوله - مشتغر المدى - أي بعيد المدى.. ومعنى قوله - لا تعرضن على العدو
وسيلة - أي لا تقاربه ولا تصانعه ولا يكن بينك وبينه إلا صدق العداوة.. وأنشد أيضا
شاهدا لما تقدم
يا وهب أشبه باطلى وجدى * أشبهت أخلاقي فأشبه مجدي
* وجد لي عند الخصوم اللد.. [قال الشريف المرتضي] رضي الله عنه ومن أحسن ما وصف به الثغر قول فضالة
ابن وكيع البكري
تبسم عن حم اللثات كأنها * حصى برد أو أقحوان كثيب
إذا ارتفعت عن مرقد علمت به * من اليانع القورى فرع قضيب
قضيب نجاه الركب أيام عرفوا * لها من ذرى ما للنبات خضيب
يعنى من يانع الأراك.. ومعنى نجاه أي قطعه ومثله استنجاه أيضا وما للنبات -
أي ناعمة وحسنه يقال عشب مال وماد سواء أي مياد ناعم.. ومعنى - أيام عرفوا -
أي اجتنوه من عرفات وذكر أنه خضيب بالطيب الذي بيديها لادمانها لاستعماله.. وقال
الأخطل يصف ثغرا
79

شتيتا يرتوى الظمآن منه * إذا الجوزاء أحجبت الضبابا (1)
- الشتيت - هو المتفرق المفلج الذي ليس بمتراكب.. ومعنى قوله - إذا الجوزاء
أحجبت الضبابا - فيه وجهان.. أحدهما أنه أراد سقوط الجوزاء وذلك في شدة البرد
وطول الليل إذا انجحرت الضباب من البرد وتغيرت الأفواه لطول ليل الشتاء يقول
فثغرها حينئذ عذب غير متغير.. والوجه الثاني أنه أراد عند طلوع الجوزاء في شدة
الحر إذا انجحرت الضباب من شدة الحر والقيظ فالظلمآن حينئذ أشد عطشا وأحر غلة
فريقها يرويه ويبرد غلته.. وقال آخر
فويل بها لمن تكون ضجيعه * إذا ما الثريا ذبذبت كل كوكب
قوله - فويل بها - من الزجر المحمود مثل قولهم ويل أمه ما أشجعه فكأنه يقول نعم
الضجيع هي عند السحر إذا تحادرت النجوم للمغيب كما قال ذو الرمة

(1) - وفي رواية شنيبا بدل شنيبا والروايتان متقاربتا المعنى فان الشنيب كثير
الشنب وهو ماء ورقه وبرد وعذوبة في الأسنان وقيل حد فيها أو هو نقط بيض فيها
أو حدة الأنياب كالغرب تراها كالمنشار.. والشتيت المفلج والبيت من قصيدة يمدح
بها عبد الله بن سعيد بن العاص ومطلعها
ألم تعرض فتسأل آل لهو * وأروى والمدلة والربابا
بأيام خوال صالحات * ولذات تذكرني الشبابا
نزلت بهن فاستذكيت نارا * قليلا ثم أسرعن الذهابا
وكن إذا بدون بقبل صيف * ضربن بجانب الجفر القبابا
نواعم لم يقظن بجد مقل * ولم يقذفن عن حفض غرابا
- الجد - البئر - ومقل - أرض - والحفض - البعير يحمل متاع القوم إذا انتقلوا..
وقوله لم يقذفن عن حفض غرابا أي لم يعالجن أنفسهن وكأنه وصفهن بالخفر والستر
ومنها
ونفس المرء ترصدها المنايا * وتحذر صولة حتى يصابا
إذا مرت به ألقت عليه * أحد سلاحها ظفرا ونابا
80

وأيدي الثريا جنح في المغارب
وقال الآخر
نعم شعار الفتى إذا برد الليل سحيرا وقفقف الصرد (1)
وإنما يعنى أنها في ذلك الوقت الذي تتغير فيه الأفواه طيبة الريق عذبته.. أو أنشد أبو العباس
ثعلب لام الهيثم
وعارض كجانب العراق * أنبت براقا من البراق
يذاق مثل العسل المذاق
قال أبو العباس في هذا قولان.. أحدهما أنها وصفت ثغرا - وعارضاه - جانباه - والعراق -
ما يثنى ثم يخرز كعراق القربة فأخبرت أنه ليس فيه اعوجاج ولا تراكب ولا نقص
.. وقولها - أنبت براقا من البراق - أي ما تنبته الأرض إذا مطرت من النور.. قال
المبرد والقول الأول عندنا أصح لذكرها العسل.. وأنشد أحمد بن يحيى لتأبط شرا
وشعب كشك الثوب شكس طريقة * مجامع ضوجيه نطاف مخاصر
تعسفته بالليل لم يهدني له * دليل ولم يحسن له النعت خابر (2)
قال يعنى - بالشعب - فم جارية - كشك الثوب - يعنى كف الثوب إذا خاطه الخياط
- والشكس - الضيق يصفها بصغر الفم وحسنه ورقة الشفتين - وضوجاه - جانباه
وضوج الوادي جانبه - والمخاضر - البادرة من الخصر ويعنى - بالنطاف - الريق
.. وقوله - لم يهدني له دليل - أي لم يصل إليه غيري كما قال جرير
ألا رب يوم قد شربت بمشرب * شفا الغيم لم يشرب به أحد قبلي

(1) - وبعده.. زينها الله في الفؤاد كما زين في عين والد ولد
(2) وفسر ابن سيدة هذين البيتين بما نصه.. قال فإنه عنى بالشعب ههنا الفم وجعله
كشك الثوب لاصطفاف نبته وتناسق بعضه في اثر بعض كالخياطة في الثوب وجعل جانبي
الفم ضوجين
81

- الغيم - والغين العطش وإنما يعنى ريق جارية.. قال أبو العباس وقال آخرون بل يعنى
شعبا من الشعاب مخنوقا ضيقا سلكه وحده قال أبو العباس إنما كنى بالشعب عن فم جارية ثم
أخذ في وصف الشعب ليكون الامر أشد التباسا.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله
عنه والأشبه أراد أن يكون شعبا حقيقيا لان تأبط شرا لصا وصافا للأهوال التي يمضى
بها ويعاينها في تلصصه وكان كثيرا ما يصف تدليه من الجبال وتخلصه من المضايق وقطعه
المفاوز وأشباه ذلك والقطعة التي فيها البيتان كأنها تشهد بأن الوصف لشعب لا لفم جارية
لأنه يقول بعد قوله كشك الثوب
لدن مطلع الشعرى قليل أنيسه * كأن الطخا في جانبيه معاجر
به من نجاء الدلو بيض أقرها * خبار لصم الصخر فيه قراقر
وقررن حتى كن للماء منتهى * وغادرهن السيل فيما يغادر
به نطف زرق قليل ترابها * جلا الماء عن أرجائها فهو حائر
.. وهذه الأوصاف كلها لا تليق إلا بالشعب دون غيره وتأول ذلك على الفم تأول بعيد
وقد أحسن كثير في قوله يصف ثغرا
ويوم الخيل قد سفرت وكفت * رداء العصب عن رتل براد
وعن نجلاء تدمع في بياض * إذا دمعت وتنظر في سواد
وعن متكاوس في العقص جثل * أثيث النبت ذي غدر جعاد (1)

(1) - العصب - ضرب من البرود اليمنية - والرتل - بالفتح حسن التنضيد مستو النبات
وقيل مفلج وربما قالوا رجل رتل الأسنان مثل تعب إذا كان مفلجها - وبراد - كغراب بارد
.. وقوله - عن متكاوس - المتكاوس هنا شعر رأسها أي كثيف مأخوذ من تكاوس
النبت وهو التفافة وسقوط بعضه على بعض - وجثل - كثير ملتف أيضا.. والبيت من
قصيدة مشهورة له يتغزل بها في غاضرة جارية أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان
ثم رثي فيها صاحبه خندق الأسدي وخندق هذا هو الذي أدخل كثيرا في مذهب
الخشبية وأول القصيدة
شجا أظعان غاضرة الغوادي * بغير مثيبة غرضا فؤادي
أغاضر لو شهدت غداة بنتم * حنو المرضعات على وسادي
أويت لعاشق لم تشكميه * نوافذه تلذع بالزناد *
ويوم الخيل.. الأبيات الثلاثة
وغاضرة الغداة وان نأتنا * وأصبح دونها قطر البلاد
أحب ظعينة وبنات نفسي * إليها لو بللن بها صوادي
ومن دون الذي أملت ودا * ولو طالبتها خرط القتاد
وقال الناصحون تحل منها * ببذل قبل شميتها الجماد
وقد وعدتك لو أقبلت ودا * فلج بك التدلل في تعادي
فأسررت الندامة يوم نادى * برد جمال غاضرة المنادي
تمادى البعد دونهم فأمست * دموع العين لج بها التمادي
لقد منع الرقاد فبت ليلي * تجافيني الهموم عن الوساد
عداني أن أزورك غير بغض * مقامك بين مصفحة شداد
واني قائل ان لم أزره * سقت ديم السواري والغوادي
محل أخي بني أسد قنونا * فما والى إلى برك الغماد
مقيم بالمجازة من قنونا * وأهلك بالأجيفر والثماد
فلا تبعد فكل فتى سيأتي * عليه الموت يطرق أو يغادي
وكل ذخيرة لا بد يوما * ولو بقيت تصير إلى نفاد
فلو فوديت من حدث المنايا * وقيتك بالطريف وبالتلاد
82

وقال أبو تمام في هذا المعنى
وعلى العيس خرد يتبسمن * عن الأشنب الشتيت البراد
83

كان شوك السيال حسنا فأضحى * دونه للفراق شوك القتاد (1)
وقال البحتري

(1) - البيتان من قصيدة يمدح بها أبا عبد الله أحمد بن أبي دؤاد ومطلعها
سعدت غربة النوى بسعاد * فهي طوع الاتهام والانجاد
* فارقتنا فللمدامع أنواء * سوار على الخدود غوادي
كل يوم يسفحن دمعا طريفا * يمترى مزنه بشوق تلاد
واقع بالخدود والحر منه * واقع بالقلوب والأكباد
وعلى العيس البيتين.. وخمسة أبيات تقدمت ثم قال
يا أبا عبد الله أوريت زندا * في يدي كان دائم الأصلاد
أنت جبت الظلام عن سنن الآمال إذ ضل كل هاد وحادي
فكأن المغذ فيها مقيم * وكأن الساري عليهن غادى
وضياء الآمال أفتح في الطرف وفي القلب من ضياء البلاد
ومنها بعد ما أصلت الوشاة سيوفا * قطعت في وهي غير حداد
من أحاديث حين دوختها بالرأي * كانت ضعيفة الاسناد
فنفى عنك زخرف القول سمع * لم يكن فرصة لغير السداد
ضرب الحلم والوقار عليه * دون عور الكلام بالاسداد
وحوان أبت عليها المعالي * ان تسمى مطية الأحقاد
ولعمري ان لو أصخت لاقدمت بحتفي صينية الحساد *
حمل العبء كاهل لك أمسى * لخطوب الزمان بالمرصاد
عاتق معتق من الهون الا * من مقاساة مغرم أو نجاد
للحمالات والحمائل فيه * كلحوب الموارد الاعداد
ملينك الأحساب أي حياة * وحيا أزمة وحية وادى *
لو تراخت يداك عنها فواقا * أكلتها الأيام أكل الجراد
أنت ناضلت دونها بعطايا * عائدات على العفاة بوادي
* فإذا هلهل النوال أتتنا * ذات نيرين مطبقات الأيادي
كل شئ غث إذا عاد والمعروف غث ما كان غير معاد
كادت المكرمات تنهد لولا * انها أيدت بحي إياد *
عندهم فرجة اللهيف وتصديق ظنون الرواد والوراد
باحاظي الجدود لا بل بوشك الجد لابل بسؤدد الأجداد
وكأن الأعناق يوم الوغى أو * لي بأسيافهم من الأغماد
فإذا ضلت السيوف غداة الروع * كانت هواديا للهوادي
قد بثثتم غرس المودة والشحناء في قلب كل قار وبادى
أبغضوا عزكم وودوا نداكم * فقراكم من بغضة وودادي
لاعدمتم غريب مجد ربقتم * في عراه نوافر الأضداد
84

وأرتنا خدا يراح له الورد * ويشتمه جنى التفاح
وشنيبا يغض من لؤلؤ النظم ويزري على شتيت الأقاحي
فأضاءت تحت الدجنة للشر * أأشفقتم وكادت تضئ للمصباح (1)

(1) والأبيات من قصيدة يقولها في أبى مسلم البصري ومطلعها
هين ما يقول فيك اللاحى * بعد إطفاء غلتي والتياحي
كنت أشكو شكوى المصرخ فالآن ألاقى النوي بدمع صراح
هل إلى ذي تجنب من سبيل * أم على ذي صبابة من جناح
فسقى جانب المناظر فالقصر * هزيم المجلجل السحاح
حين جاءت فوت الرياح فقلنا * أي شمس تجئ فوت الرياح
هزمنا شرخ الشباب فجالت * فوق خصر كثير جول الوشاح
وأرتنا خدا يراح له الورد * و يشتمه جنى التفاح *
وشتيتا يغض من لؤلؤ النظم ويزري على شتيت الأقاحي
فأضاءت تحت الدجنة للشر * أأشفقتم وكادت تضئ للمصباح
وأشارت على الغناء بالحاظ * مراض من التصابي صحاح
فطربنا لهن قبل المثاني * وسكرنا منهن قبل الراح
قد تدير الجفون من عدم الا * لباب ما لا يدور في الاقداح
يا أبا مسلم تلفت إلي الشر * ق وأشرف للبارق اللماح
مستطيرا يقوم في جانب الليل على عرضه مقام الصباح
ومنيفا يريك منبج نصا * وهي خضراء من جميع النواحي
ورياضا بين العبيدي فالقصر فاعلي سمعان فالمستراح
عرصات قد أبرحت حرق الشوق إليهن أيما ابراح
فإذا شئت فارفع العيس ينحتن بحر الوجيف تحت القداح
لتعين السحاب ثم على إسقاء * أرض غرب الفرات براح
لا تتم السقيا بساحة قوم * لم يبيتوا في نائل وسماح
ولعمري لئن دعيتك للجود * لقدما لبيتني بالنجاح
خلق كالغمام ليس له بر * ق سوى بشر وجهك الوضاح
ارتياحا للطالبين وبذ * لا للمعالي للباذل المرتاح
أي جديك لم يفت وهو ثان * من مساعيه السن المداح
وكلا جانبيك سبط الخوافي * حين تسموا أثبت ريش الجناح
شرف بين مسلم مسلم الجو * د وعبد العزيز والصباح
85

وقال أيضا
سفرت كما سفر الربيع الطلق عن * ورد يرقرقه الضحى مصقول
وتبسمت عن لؤلؤ في رصفه * برد يرد حشاشة المتبول
وقد جمع كلما وصف به الثغر في قوله
كأنما تبسم عن لؤلؤ * منضد أو برد أو أقاح
86

(مجلس آخر 66)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة
عند الله) إلي آخر الآية.. فقال ما أنكرتم أن تكون هذه الآية دالة على أنه جعل
الكافر كافرا لأنه أخبر بأنه جعل منهم من عبد الطاغوت كما جعل القردة والخنازير
وليس يجعله كافرا إلا بأن يخلق كفره.. الجواب يقال له قبل أن يتكلم في تأويل الآية
بما تحتمله من المعاني كيف يجوز أن يخبرنا تعالى بأنه يجعلهم كفارا وخلق كفرهم والكلام
خرج مخرج الذم لهم والتوبيخ على كفرهم والمبالغة في الإزراء عليهم وأي مدخل
لكونه خالقا لكفرهم في باب ذمهم وأي نسبة بينه وبينهم وبين ذلك بل لا شئ أبلغ في
عذرهم وبراءتهم من أن يكون خالقا لما ذمهم من أجله وهذا يقتضى أن يكون الكلام
متناقضا مستحيل المعنى ونحن نعلم أن أحدا إذا أراد ذم غيره وتوبيخه وتهجينه بمثل هذا
الضرب من الكلام إنما يقول ألا أخبركم بشر الناس وأحقهم بالذم واللوم من فعل
كذا وصنع كذا وكان على كذا وكذا فيعدد من الأحوال والافعال قبائحها ولا بجوز
أن يدخل في جملتها ما ليس بقبيح ولا ما هو من فعل الذام أو من جهته حتى يقول في
جملة ذلك ومن شاغل بالصنعة الفلانية التي أسلمها إليه وحمله عليها وإن عقلا يقبل هذه
الشبهة لعقل ضعيف سخيف.. فان قيل أليس قد ذمهم في الكلام بأن جعل منهم القردة
والخنازير ولاصنع لهم في ذلك فكذلك يجوز أن يذمهم ويجعلهم عابدين للطاغوت وإن
كان من فعله.. قلنا إنما جعلهم قردة وخنازير عقوبة لهم على أفعالهم وباستحقاقهم فجرى
ذلك مجرى أفعالهم كما ذمهم بأن لعنهم وغضب عليهم من حيث استحقوا ذلك منه تعالى
بأفعالهم وعبادتهم للطاغوت فإن كان هو خلقها فلا وجه لذمهم بها لان ذلك مما لا يستحقونه
بفعل متقدم كاللعن والمسخ.. ثم نعود إلى تأويل الآية فنقول لا ظاهر للآية يقتضى
ما ظنوه وأكثر ما تضمنته الاخبار بأنه جعل وخلق من يعبد الطاغوت كما جعل منهم
القردة والخنازير ولا شبهة في أنه تعالى هو خالق الكافر وأنه لا خالق له سواه غير أن
ذلك لا يوجب أنه خلق كفره وجعله كافرا وليس لهم أن يقولوا كما نستفيد من قوله
87

تعالى جعل منهم القردة والخنازير أنه جعل ما به كانوا كذلك هكذا نستفيد من قوله
جعل منهم من عبد الطاغوت أنه خلق ما به كان عابدا للطاغوت وذلك إنما استفدنا
ما ذكروه من الأول لان الدليل قد دل على أنما به يكون القرد قردا والخنزير خنزيرا
لا يكون إلا من فعله تعالى وليس ما به يكون الكافر كافرا مقصورا على فعله تعالى بل
قد دل الدليل على أنه يتعالى عن فعل ذلك وخلقه فافترق الأمران.. وفى الآية وجه
آخر وهو أن لا يكون قوله تعالى وعبد الطاغوت معطوفا على القردة والخنازير بل
معطوفا على من لعنه الله وغضب عليه وتقدير الكلام من لعنه الله ومن غضب عليه
ومن عبد الطاغوت ومن جعل الله منهم القردة والخنازير وهذا هو الواجب لان عبد
فعل والفعل لا يعطف على الاسم فلو عطفناه على القردة والخنازير لكنا قد عطفنا فعلا
على اسم فالأولى عطفه على ما تقدم من الافعال.. وقال قوم يجوز أن يعطف عبد الطاغوت
على الهاء والميم في منهم فكأنه تعالى جعل منهم ومن عبد الطاغوت القردة والخنازير
وقد يحذف من في الكلام قال الشاعر
أمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه وينصره سواء (1)
أراد ومن يمدحه وينصره.. فإن قيل فهبوا هذا التأويل ساغ في قراءة من قرأ بالفتح
أين أنتم عن قراءة من قرأ وعبد بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت ومن
قرأ عبد الطاغوت بضم العين والباء ومن قرأ وعبد الطاغوت بضم العين والتشديد

(1) قوله - فمن يهجو رسول الله منكم - الخ قيل إن فيه ثلاثة عشر مرفوعا.. فمنها
قوله فمن يهجو فيها ثلاث مرفوعات المبتدأ والفعل المضارع والضمير المستكن.. ومنها
المبتدأ المقدر في قوله ويمدحه والمعنى ومن يمدحه فيكون هنا على حسب المثال الأول
ثلاث مرفوعات أيضا.. ومنها المرفوعان في قوله وينصره أحدهما الفعل المضارع والثاني
الضمير المستكن فيه ومنها المرفوعات الأربعة في قوله سواء اثنان من حيث إنه في مقام
الخبرين للمبتدأين واثنان آخران من حيث إن في كل واحد ضميرا راجعا إلى المبتدأ
والباقي المبتدأ المحذوف المعطوف على قوله من في الأول في قوله فمن يهجو أي ومن
يمدحه ومن ينصره
88

ومن قرأ وعباد الطاغوت.. قلنا المختار من هذه القراءة عند أهل العربية كلهم القراءة
بالفتح وعليها جميع القراء السبعة إلا حمزة فإنه قرأ عبد بفتح العين وضم الباء وباقي
القراءات شاذة غير مأخوذ بها.. قال أبو إسحاق الزجاج في كتابه في معاني القرآن عبد
الطاغوت نسق على من لعنه الله قال وقد قرئت عبد الطاغوت والذي أختاره وعبد
الطاغوت.. وروى عن ابن مسعود رحمه الله وعبدوا الطاغوت فهذا يقوى وعبد
الطاغوت قال ومن قرأ وعبد الطاغوت بضم الباء وخض الطاغوت فإنه عند بعض
أهل العربية ليس بالوجه من جهتين إحدهما أن عبد على وزن فعل وليس هذا من أمثلة
الجمع لأنهم فسروه بخدم الطاغوت والثاني أن يكون محمولا على وجعل منهم عبد الطاغوت
ثم خرج إلى من قرأ عبد وجها فقال إن الاسم بنى على فعل كما يقال رجل حذر أي
مبالغ في الحذر فتأويل عبد أنه بلغ الغاية في طاعة الشيطان وهذا كلام الزجاج..
وقال أبو علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي محتجا لقراءة حمزة ليس عبد لفظ جمع
ألا ترى أنه ليس في أبنية الجموع شئ على هذا البناء ولكنه واحد يراد به الكثرة ألا
ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الافراد ومعناه الجمع كقوله
تعالى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) وكذلك قوله وعبد الطاغوت جاء على فعل
فان هذا البناء يراد به الكثرة والمبالغة وذلك نحو يقظ وندس فهذا كله تقديره أنه قد
ذهب في عبادة الشيطان والتذلل له كل مذهب قال وجاء على هذا لان عبد في الأصل
صفة وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء واستعمالهم إياه استعمالها لا يزيل عنه كونه صفة
ألا ترى أن الأبرق والأبطح وإن كانا قد استعملا استعمال الأسماء حتى كسرا أهل النحو
عندهم من التكسير في قولهم في أبارق وأباطح فلم يزل عنه حكم الصفة يدلك على ذلك
تركهم صرفه كتركهم صرف أحمر ولم يجعلوا ذلك كأفكل وأيدع فكذلك عبد فإن كان
قد استعمل استعمال الأسماء فلم يخرجه ذلك عن أن يكون صفة وإذا لم يخرج عن أن
يكون صفة لم يمتنع أن يبنى بناء الصفات على فعل وهذا كلام مفيد في الاحتجاج لحمزة
فإذا صحت قراءة حمزة وعادلت قراءة الباقين المختارة وصح أيضا سائر ما روى من القراءات
التي حكاها السائل كان الوجه الأول الذي ذكرناه في الآية يزيل الشبهة فيها.. ويمكن
89

في الآية وجه آخر على جميع القراءات المختلفة في عبد الطاغوت وهو أن يكون المراد
أن يجعل منهم عبد الطاغوت أي نسبه إليهم وشهد عليه بكونه من جملتهم ويجعل في مواضع
قد تكون بمعنى الخلق والفعل كقوله (وجعل الظلمات والنور) وكقوله تعالى
(وجعل لكم من الجبال أكنانا) وهي ههنا تتعدى إلى مفعول واحد وقد تكون أيضا
بمعنى التسمية والشهادة كقوله تعالى (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا)
وكقول القائل جعلت البصرة بغداد وجعلتني كافرا وجعلت حسنى قبيحا وما أشبه
ذلك فهي ههنا تتعدى إلى مفعولين ولجعل مواضع أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها فكأنه
تعالى نسب عبد الطاغوت إليهم وشهد أنهم من جملتهم.. فإن قيل لو كانت جعل ههنا
على ما ذكرتم لوجب أن يكون متعدية إلى مفعولين لأنها إذا لم تتعد إلا إلى مفعول واحد
فلا معنى لها إلا الخلق.. قلنا هذا غلط من متوهمه لان جعل ههنا متعدية إلى مفعولين
وقوله تعالى منهم يقول مقام المفعول الثاني عند جميع أهل العربية لان كل جملة تقع في
موضع خبر المبتدا فهي تحسن أن تقع في موضع المفعول الثاني كجعلت وظننت وما
أشبههما.. وقال الشاعر
أبا الأراجيز يا بن اللوم توعدني * وفى الأراجيز خلت اللؤم والخور (1)

(1) - الأراجيز - جمع أرجوزة بمعنى الرجز وهو اسم بحر من بحور الشعر ولكن
أراد بها القصائد المرجزة الجارية على هذا البحر.. وقوله - توعدني - من الايعاد لا من
الوعد - واللؤم - بضم اللام وسكون الهمزة وهو أن يجتمع في الانسان الشح ومهانة النفس
ودناءة الآباء فهو من أذم ما يهجى به وقد بالغ يجعل المهجو ابنا له إشارة إلى أن ذلك
غريزة فيه.. وأما اللوم بفتح اللام وسكون الواو فهو العذل يقال لامه على كذا لو ما ولومة
فهو ملوم.. وقوله - الخور - بفتح الخاء المعجمة وفتح الواو أيضا وفي آخره راء وهو
الضعف يقال رجل خوار ورمح خوار وأرض خوارة يقول انك راجز لا تحسن القصائد
والتصرف في أنواع الشعر فجعل ذلك دلالة على لؤم طبعه وضعفه.. فقوله أبا الأراجيز
الهمزة للتوبيخ والانكار والباء تتعلق بقوله توعدني وقوله يا بن اللؤم منادى مضاف
منصوب معترض بينهما وقوله اللؤم مرفوع بالابتداء والخور عطف عليه وخبره قوله
في الأراجيز وقوله خلت بينهم اعتراض ولو نصبهما علي المفعولية لجاز وكان الظرف
حينئذ في محل النصب مفعولا ثانيا وخلت بمعنى علمت.. والبيت للعين المنقري واسمه
منازل بن زمعة من بني منقر بن عبيد بن الحارث بن تميم يهجو به رؤبة بن العجاج كذا
قال بعضهم.. وقال النحاس يهجو العجاج وقال أبو الحجاج وبيت اللعين من كلمة رويها
لام وقبله
اني أنا ابن جلا ان كنت تعرفني * يا رؤب والحية الصماء في الجبل
ما في الدواوين في رجلي من عقل * عند الرهان ولا أكوى من العقل
أبا لا راجيز يا بن اللؤم توعدني * وفى الأراجيز خلت اللؤم والفشل
هكذا رواه الجاحظ في كتاب الحيوان على أن الاقواء في البيت الثالث وأثبت الأبيات
الثلاثة في كتاب الوحشي وليس فيها إقواء لأنه روى فيها وفي الأراجيز رأس القول والفشل
90

وقد فسر هذا على وجهين أحدهما على الغاء خلت من حيث توسطت الكلام فيكون
في الأراجيز على هذا في موضع رفع بأنه خبر المبتدا. والوجه الثاني (1) على إعمال خلت

(1) قوله - والوجه الثاني على أعمال خلت فيكون في الأراجيز في موضع نصب - الخ
لم نر هذا التوجيه لغيره ونص سيبويه في كتابه ومن قال عبد الله ضربته نصب فقال عبد
الله أظنه ذاهبا وتقول أظن عمرا منطلقا وبكرا أظنه خارجا كما قلت ضربت زيدا وعمرا
كلمته وان شئت رفعت على الرفع في هذا فان ألغيت قلت عبد الله أظن ذاهب وهذا
إخال أخوك وفيها أرى أبوك وكلما أردت الالغاء فالتأخير أقوى وكل عربي جيد قال
الشاعر وهو اللعين * أبا الأراجيز يا بن اللؤم الخ * أنشده يونس مرفوعا وإنما كان التأخير
أقوي لأنه إنما يجئ بالشك بعد ما يمضى كلامه على اليقين أو بعد ما يبتدئ وهو يريد
اليقين ثم يدركه الشك.. وقال في التوضيح فصل لهذه الأفعال ثلاثة أحكام أحدها
الأعمال وهو الأصل وهو واقع في الجميع والثاني الالغاء وهو ابطال العمل لفظا ومحلا
لضعف العامل بتوسطه أو تأخره كزيد ظننت قائم وزيد قائم ظننت.. قال منازل بن
ربيعه.. أبا الأراجيز الخ.. قال يس قوله خلت اللؤم والخور قال المصنف في الحواشي قال
أبو الفتح فيما نقل عنه عبد المنعم الوجه الرفع لان الواو ليست للعطف لاختلاف الجملتين
طلبا وخبرا والعطف نظير التثنية وواو الحال تطلب الابتداء فالظرف خبر واللؤم مبتدأ
ولا يمنع النصب على أن يقدر مبتدأ
91

فيكون في الأراجيز في موضع نصب من حيث وقع موقع المفعول الثاني وهذا بين لمن
تدبره.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه.. أنشد ثعلب ابن الاعرابي
أما وأبى للصبر في كل موطن * أقر لعيني من غنى رهن ذلتي
ويروى - من عنى رهن ذلتي
وإني لاختار الظما في مواطن * على بارد عذب وأعيا بغلتي
وأستر ذنب الدهر حتى كأنه * صديق ولا أغتابه عند زلتي
ولست كمن كان ابن أمي مقترا * فلما أفاد المال عاد ابن علة
فدابرته حتى انقضى الود بيننا * ولم أتمطق من نداه ببلة
وكنت له عند الملمات عدة * أسد بمالي عنده كل خلة
[قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه الأولى في هذه القطعة إطلاقها - الخلة -
الحاجة والخلة أيضا الخصلة والخلة بالضم المودة والخلة أيضا بالضم من كان خلوا من
المرعى والخلة بالكسر ما يخرج من الأسنان بالخلال والخليل الحبيب من المودة والمحبة
والخليل أيضا الفقير وكلا الوجهين قد ذكر في قوله تعالى (واتخذ الله إبراهيم خليلا)
ومنه حديث ابن مسعود تعلموا القرآن فإنه لا يدرى أحدكم متى يختل إليه.. قال أبو العباس
ثعلب يكون من شيئين أحدهما من الخلة التي هي الحاجة أي متى يحتاج إليه ويكون من
الخلة وهي الثبات الخلود ويكون معناه متى تشتهى ما عنده يشبهه بالإبل لأنها ترعى الخلة
فإذا ملتها عدلوا بها إلى الحمض فإذا ملت الحمض اشتهت الخلة ومن أمثالهم جاؤوا مخلين
فلاقوا حمضا أي جاؤوا مشتهين لقتالنا فلاقوا ما كرهوا والخلة أيضا بنت المخاض والذكر
الخل ويقال جسم خل إذا كان مهزولا.. قال الشاعر
92

فاسقنيها يا سواد ابن عمرو * إن جسمي بعد خالي لخل (1)

(1) - فاسقنيها - الخ البيت من قصيدة مشهورة من مختار أشعار القبائل لأبي تمام
قيل إنها للشنفري يرثي خاله تأبط شرا وذلك غلط لان تأبط شرا ليس خالا له ولان
الشنفري مات قبله وقيل إنها لابن أخت تأبط شرا يرثيه وقيل إنها من أوضاع
خلف الأحمر وأولها
ان بالشعب الذي دون سلع * لقتيلا دمه ما يطل *
* قذف العبء على وولي * أنا بالعبء له مستقل *
ووراء الثار منه ابن أخت * مصع عقدته ما تحل *
مطرق يرشح سما كما * أطرق أفعي ينفث السم صل
خبر ما نابنا مصمئل * جل حتى دق فيه الاجل
بزنى الدهر وكان غشوما * بأبي جاره ما يذل *
شامس في القر حتى إذا ما * ذكت الشعرى فبرد وظل
يابس الجنبين من غير بؤس * وندى الكفين شهم مدل
ظاعن بالحزم حتى إذا ما * حل حل الحزم حيث يحل
غيث مزن غامر حيث يجدي * وإذا يسطو فليث أبل
مسبل في الحي أحوى رفل * وإذا يغزو فسمع أزل
وله طعمان أري وشري * وكلا الطعمين قد زاق كل
يركب الهول وحيدا ولا يصحبه * الا اليماني الأفل
وفتو هجروا ثم أسروا * ليلهم حتى إذا أنجاب حلوا
كل ماض قد تردي بماض * كسنا البرق إذا ما يسل
فادركنا الثأر منهم ولما * ينج ملحيين الا الأقل
فاختسوا أنفاس ثوم فلما * هوموا رعتهم فاشمعلوا
فلئن فلت هذيل شباه * لبما كان هذيلا يفل
وبما أبركها في مناخ * جعجع ينقب فيه الاظل
وبما صبحها في ذراها * منه بعد القتل نهب وشل
صليت منى هذيل بخرق * لا يمل الشر حتى يملوا
ينهل الصعدة حتى إذا ما * نهلت كان لها منه عل
حلت الخمر وكانت حراما * وبلأي ما ألمت تحل *
فاسقنيها يا سواد بن عمرو * ان جسمي بعد خالي لخل
تضحك الضبع لقتلى هذيل * وتري الذئب لها يستهل
وعتاق الطير تمشى بطانا * تتخطاهم فما تستقل *
93

ويقال فصيل مخلول إذا شد لسانه حتى لا يرضع ويقال خللته فهو خليل ومخلول ومثله
أجررته.. قال الشاعر
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم * نطقت ولكن الرماح أجرت (1)

(1) قوله - فلو أن قومي - الخ يقول لو صبروا وطعنوا برماحهم أعدائهم لامكنني
مدحهم ولكن فرارهم صيرني كالمشقوق اللسان لانى ان مدحتهم بما لم يفعلوا كذبت ورد
على يقال أجررت الفصيل إذا شققت لسانه لئلا يرضع أمه.. قال أبو القاسم الزجاجي في
أماليه الوسطي أخبرنا ابن شقير قال حضرت المبرد وقد سأله رجل عن معنى قول الشاعر
- فلو أن قومي أنطفتني رماحهم - البيت فقال هذا كقول الآخر
وقافية قيلت فلم أستطع لها * دفاعا إذا لم تضربوا بالمناصل
فادفع عن حق بحق ولم يكن * ليدفع عنكم قالة الحق باطلى
قال أبو القاسم معنى هذا ان الفصيل إذا لهج بالرضاع جعلوا في أنفه خلالة محدودة فإذا
جاء يرضع أمه نخسته تلك الخلالة فمنعته من الرضاع فان كف والا أجروه والاجرار
أن يشق لسان الفصيل أو يقطع طرفه فيمتنع حينئذ من الرضاع ضرورة فقال قائل
البيت الأول ان قومي لم يقاتلوا فانا مجر عن مدحهم كما يجر الفصيل عن الرضاع ففسره
أبو العباس بالبيتين اللذين مضيا وللاجرار موضع آخر وهو أن يطعن الفارس الفارس
فيمكن الرمح فيه ثم يتركه منهزما يجر الرمح فذلك قاتل لا محالة ومنه قول الشاعر
وآخر منهم أجررت رمحي * وفي البجلي معبلة وقيع
وقوله ونقى بأفضل ما لنا أحسابنا * ونجر في الهيجا الرماح وندعى
قوله - وندعى - أي ننتسب في الحرب كما ينتسب الشجاع في الحرب فيقول أنا فلان بن
فلان.. والبيت من أبيات لعمرو بن معدى كرب الزبيدي رضي الله عنه وأولها
ولما رأيت الخيل زورا كأنها * جداول زرع أرسلت فاسبطرت
فجاشت إلى النفس أول مرة * فردت على مكروهها فاستقرت
على م تقول الرمح يثقل عاتقي * إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
لحا الله جرما كلما ذر شارق * وجوه كلاب هارشت فاز بأرت
فلم تغن جرم نهدها إذ تلاقيا * ولكن جرما في اللقاء ابذعرت
ظللت كأني للرماح دريئة * أقاتل عن أبناء جرم وفرت
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم * نطقت ولكن الرماح أجرت
وسبب هذه الأبيات ان جرما ونهدا وهما قبيلتان من قضاعة كانتا من بني الحارث بن
كعب فقتلت جرم رجلا من أشراف بني الحارث فارتحلت عنهم وتحولت في بني زبيد
فخرجت بنو الحارث يطلبون بدم أخيهم فالتقوا في عمرو جرما لنهد وتعبي هو وقومه
لبنى الحارث ففرت جرم واعتلت بأنها كرهت دماء نهد فهزمت يومئذ بنو زبيد فقال
عمرو هذه الأبيات يلومها ثم غزاهم بعد فانتصف منهم
94

أي لم يعملوا في الحرب شيئا فكنت أفتخر بهم وقوله
أقر لعيني من غنى رهن ذلتي
يقول أختار الصيانة مع الفقر أحب إلى من الغنى مع الذل ومثله
إذا كان باب الذل من جانب الغنى * سموت إلى العلياء من جانب الفقر
صبرت وكان الصبر منى سجية * وحسبك أن الله أثنى على الصبر
.. وقوله - وأستر ذنب الدهر حتى كأنه صديق - أراد أنى لا أشكو ما يمسني به الدهر
95

من خصاصة بل أستر ذلك وأظهر التجمل حتى لا أسوء الصديق وأسر العدو وهذا المعنى
أراد بقوله - ولا أغتابه عند زلتي - وقوله - فلما أفاد المال عاد ابن علة - والعرب تقول
هم بنو أعيان إذا كان أبوهم واحدا وأمهم واحدة فإذا كان أبوهم واحدا وأمهاتهم شتى
قيل أولاد علات ومنه الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الأنبياء أولاد
علات أي أمهاتهم شتى وأبوهم واحد وكنى الشاعر بذلك عن التباعد والتقاطع
والتقالي لان الأكثر من بنى العلات ما ذكرناه.. وقوله - ودابرته - أي قاطعته
.. وقوله - ولم أتمطق من نداه ببلة - فالتمطق يكون بالشفتين والتلمظ يكون باللسان وكنى
بذلك عن أنه لم يصب من خيره شيئا فصان نفسه عنه
(مجلس آخر 67)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (الذي جعل لكم الأرض فراشا)
إلى قوله (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون).. فقال ما الذي أثبت لهم العلم به وكيف
يطابق وصفهم بالعلم ههنا لوصفهم بالجهل في قوله تعالى (قل أفغير الله تأمروني أعبد
أيها الجاهلون).. الجواب قلنا هذه الآية معناها متعلق بما قبلها لأنه تعالى أمرهم
بعبادته والاعتراف بنعمته ثم عدد عليهم صنوف النعم التي ليست إلا من جهته ليستدلوا
بذلك على وجوب عبادته وإن العبادة إنما تجب لأجل النعم المخصوصة فقال جل من
قائل (يا أيها الناس اعبدو ربكم الذي خلقكم) إلى آخر الآية ونبه في آخرها على
وجوب توحيده والاخلاص له وأن لا يشرك به شيئا بقوله تعالى (فلا تجعلوا لله أندادا
وأنتم تعلمون) ومعنى قوله تعالى (جعل لكم الأرض فراشا) أي يمكن أن تستقروا عليها
وتفرشوها وتتصرفوا فيها وذلك لا يمكن إلا بأن تكون مبسوطة ساكنة دائمة السكون
وقد استدل أبو علي بذلك وبقوله تعالى (وجعل لكم الأرض بساطا) على بطلان
ما تقوله له المنجمون من أن الأرض كرية الشكل وهذا القدر لا يدرك لأنه يكفي في النعمة
علينا أن يكون فيها بسائط ومواضع مسطوحة يمكن التصرف عليها وليس يجب أن يكون
96

جميعها كذلك ومعلوم ضرورة أن جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا وإن كان مواضع
التصرف منها بهذه الصفة والمنجمون لا يدفعون أن يكون في الأرض بسائط وسطوح
يتصرف عليها ويستقر فيها وإنما يذهبون إلى أن بجملتها شكل الكرة وليس له أن يقول
قوله تعالى (وجعل لكم الأرض فراشا) يقتضى الإشارة إلى جميع الأرض وجملتها
لا إلى مواضع منها لان ذلك تدفعه الضرورة من حيث أنا نعلم بالمشاهدة أن فيها ما ليس
ببساط ولا فراش ولا شبهة في أن جعله تعالى السماء على ما هي عليه من الصفة مما له تعلق
بمنافعنا ومصالحنا وكذلك إنزاله تعالى منها الماء الذي هو المطر الذي تظهر به الثمرات
فننتفع بنيلها والاغتذاء بها.. فأما قوله تعالى (فلا تجعلوا الله أندادا) فإن الند هو المثل (1)
والعدل.. قال حسان بن ثابت
أتهجوا ولست له بند * فشركما لخير كما الفداء (2)

(1) قوله - فان الند هو المثل والعدل - قلت يكون الند للضد أيضا وفسر الناس قول
الله عز وجل (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) علي جهتين.. قال الكلبي عن أبي
صالح عن ابن عباس معناه فلا تجعلوا لله أعدالا فالاعدال جمع عدل والعدل المثل
وقال أبو العباس عن الأثرم عن أبي عبيدة (فلا تجعلوا لله أندادا) أضدادا ويقال
فلا ندي ونديدي نديدتى فالثلاث اللغات بمعنى واحد وإنما دخلت الهاء في نديدة
للمبالغة كما قالوا رجل علامة ونسابة وجاءني كريمة القوم يراد به البالغ في الكرم المشبه
بالداهية ويقال في تثنية الند ندان وفى جمعه أنداد ومن العرب من لا يثنيه ولا يجمعه ولا
يؤنثه فيقول الرجلان ندى والرجال ندي والمرأة ندي والنساء ندى
(2) البيت من قصيدته المشهورة التي يقال أنه قال بعضها في الجاهلية وبعضها في
الاسلام.. ومطلعها
عفت ذات الأصابع فالجواء * إلى عذراء منزلها خلاء
ديار من بنى الحسحاس قفر * تعفيها الروامس والسماء
وكانت لا يزال بها أنيس * خلال مروجها نعم وشاء
لشعثاء التي قد تيمته * فليس لقلبه منها شفاء
كأن سبيئة من بيت رأس * يكون مزاجها عسل وماء
* نوليها الملامة إن ألمنا * إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشر بها فتتركنا ملوكا * وأسدا ما ينهنهنا اللقاء *
عدمنا خيلنا ان لم تروها * تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مصيغات * على أكتافها الأسل الظماء
فاما تعرضوا عنا إئتمرنا * وكان الفتح وانكشف الغطاء
والا فاصبروا لجلاد يوم * يعز الله فيه من يشاء
وجبريل رسول الله فينا * وروح القدس ليس له كفاء
وقال الله قد يسرت جندا * هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد * سباء أو قتال أو هجاء *
ونحكم بالقوافي من هجانا * ونضرب حين تختلط الدماء
ألا أبلغ أبا سفيان عني * مغلغة فقد برح الخفاء
بأن سيوفنا تركتك عبدا * وعبد الدار سادتها الإماء
97

وأما قوله تعالى (وأنتم تعلمون) فيحتمل وجوها.. أولها أن يريد أنكم تعلمون
أن الأنداد التي هي الأصنام وما جرى مجراها التي تعبدونها من دون الله تعالى لم تنعم عليكم بهذه النعم التي عددها ولا بأمثالها وأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تعتقدون أن
الأصنام خلقت السماء والأرض من دون الله ولا معه تعالى فالوصف لهم ههنا بالعلم
إنما هو لتأكد الحجة عليهم ويصح لزومها لهم لأنهم من العلم بما ذكرناه ويكونون أضيق
عذرا.. والوجه الثاني أن يكون المراد بقوله تعالى (وأنتم تعلمون) أي تعقلون
وتميزون وتعلمون ما تقولون وتفعلون وتأتون وتذرون لان من كان بهذه الصفة فقد استوفى
شروط التكليف ولزمته الحجة وضاق عذره في التخلف عن النظر وإصابة الحق ونظير
ذلك قوله تعالى (إنما يتذكر أولو الألباب.. وإنما يخشى الله من عباده العلماء)
.. والوجه الثالث ما قاله بعض المفسرين كمجاهد وغيره أن المراد بذلك أهل الكتابين
98

التوارة والإنجيل خاصة ومعنى تعلمون أي أنكم تعلمون أنه إله واحد في التوارة
والإنجيل فعلى الوجهين الأولين لا تنافى بين هذه الآية وبين قوله تعالى (قل أفغير
الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) لان علمهم تعلق بشئ وجهلهم تعلق بغيره وعلى
الوجه الثالث إذا جعلت الآية التي سألنا عنها مختصة بأهل الكتاب أمكن أن تجعل الآية
التي وصفوا فيها بالجهل تتناول غير هؤلاء ممن لم يكن ذا كتاب يجد فيه التوحيد وكل هذا
واضح بحمد الله.. [قال الشريف المرتضي] رضي الله عنه ومما يفسر من الشعر تفاسير
مختلفة والقول محتمل للكل قول امرئ القيس
وقد أغتدى ومعي القانصان * وكل بمربأة مقتفر
فيدركنا فغم داجن * سميع بصير طلوب نكر
ألص الضروس حبى الضلوع * تبوع أريب نشيط أشر
فأنشب أظفاره في النساء * فقلت هبلت ألا تنتصر
فكر إليه بمبراته * كما خل ظهر اللسان المجر
فظل يرنح في غيطل * كما يستدير الحمار النعر (1)
.. قال ابن السكيت - القانصان - الصائدان - والمربأة - الموضع المرتفع ير بأفيه - والمقتفر -

(1) وروى سميع بصير - في البيت - الثالث بدل تبوع أريب وتمام الأبيات
وأركب في الروع خيفانة * كا وجهها سعف منتشر
لها حافر مثل قعب الوليد * ركب فيه وظيف عجر
وساقان كعباهما أصمعا * ن لحم حماتيهما منبتر
لها عجز كصفاة المسيل * أبرز عنها حجاف مضر
لها متلتان خظاتا كما * أكب على ساعديه النمر
وسالفة كسحوق اللبا * ن أضرم فيها الغوي السعر
لها عذر كقرون النساء * ء ركبن في يوم ربح وصر
لها جبهة كسراة المجن حذقه الصانع المقتدر
لها منخر كوجار الضباع * فمنه تريح إذا تنبهر *
لها ثنن كخوافي العقاب * سود يفين إذا تزبئر *
وعين لها حدرة بدرة * شقت مآقيهما من أخر
إذا أقبلت قلت دباءة * من الخضر مغموسة في الغدر
وان أدبرت قلت أثفية * ململمة ليس فيها أثر *
وان أعرضت قلت سرعوفة * لها ذنب خلفها مسبطر
وللسوط فيها مجال كما * تنزل ذو برد منهمر *
وتعدو كعدو نجاة الظباء * أخطأها الحاذف المقتدر
لها وثبات كصوب السحاب * فواد خطا؟؟ وواد مطر
99

الذي يقتفر آثار الوحش ويتبعها.. وقال غيره - القانصان - البازي والصقر - والفغم -
الكلب الحريص على الصيد يقال ما أشد فغمه أي ما أشد حرصه.. قال الأعشى
يأم ديار بنى عامر * وأنت بآل عقيل فغم
أي مولع والداجن - الذي يألف الصيد - والسميع - الذي إذا سمع حسا لم يفته
- والبصير - الذي إذا رأى شيئا من بعد لم يكذبه بصره - والتبوع - الذي إذا تبع
الصيد أدركه ولم يعجز عن لحوقه - والنكر - المنكر الحاذق بالصيد - ويروى نكر
بالضم.. وقال ابن السكيت وغيره في قوله - فانشب أظفاره في النساء - أي أنشب
الكلب أظفاره في نسا الثور والنسا عرق في الفخذ معروف - فقلت هبلت - أي فقلت للثور
هبلت - ألا تنتصر - من الكلب قالوا وهذا تهكم منه بالثور واستهزاء به والأصل في
التهكم الوقوع على الشئ يقال تهكم البيت إذا وقع بعضه على بعض.. ومعنى - فكر إليه
بمبراته -.. قال ابن السكيت وغيره معناه فكر الثور إلى الكلب بمبراته أي بقرنه
.. ومعنى - كما خل ظهر اللسان المجر - أي طعنه كما يجر الرجل لسان الفصيل وهو
أن يقطع طرف لسانه أو يشقه حتى لا يقدر على الشرب من خلف أمه وذلك إذا كبر
100

واستغنى عن الشرب.. ومعنى - فظل يرنح في غيطل - أي ظل الكلب يرنح أي يميل
ويميد كالسكران - والغيطل - الشجر الملتف ويكون أيضا الجلبة والصياح.. وقوله -
كما يستدير الحمار النعر - والنعر الذي يدخل في رأسه ذباب أزرق أو أخضر (1) فيطمح
برأسه وينزو فشبه الكلب في اضطرابه ونزوه بالحمار النعر.. قال ابن مقبل
ترى النعرات الزرق تحت لبانه * أحاد ومثنى أصعقتها صواهله
وقال أحمد بن عبيد - القانصان - الفرس وصاحبه والحجة أن الفرس تسمى قانصا.. قول
عدى بن زيد
يقنصك الخيل ويصطادك الطير ولا يبلغ لهو القنيص
أي لا يمنع منه قال وقوله - فأنشب أظفاره في النساء - معناه فأنشب الكلب أظفاره في نساء
الثور فقلت لصاحب الفرس أو لغلامي الممسك للفرس هبلت ألا تدنو إلى الثور فتطعنه
فقد أمسكه عليك الكلب قال ومحال أن يكون امرؤ القيس أغرى الثور بقتل كلبه
لان امرأ القيس يفخر بالصيد ويصفه في أكثر شعره بأنه مرزوق منه مظفر كقوله
إذا ما خرجنا قال ولدان أهلنا * تعالوا إلى أن يأتنا الصيد نحطب
وكقوله

(1) قوله - ذباب أخضر وأزرق - الخ قال ابن سيدة النعرة ذبابة تسقط على الدواب
فتؤذيها حمار نعر وحكى سيبويه نعر إلى أخواته من اللغات التي تطرد فيما كان ثانيه حرفا
من حروف الحلق تقدمت له نظائر قال أبو حنيفة هو ذباب أربد ومنه أخضر والجمع نعر
قال ولا يضير هذا النعر الا الحمير فإنه يأتي الحمار فيدخل في منخره فيربض ويعلك
بجحفلته الأرض وان سمعت الحمير بطنينه ربضت ودسسن أنوفهن في الأرض حذاره
وإذا اعتري الحمار قيل حمار نعر.. وقال مرة قد تعرض النعر للخيل وأنشد أبو علي في
تصديق ذلك لابن مقبل يصف فرسا
تري النعرات الخضر تحت كبانه * أحاد ومثنى أصعقتها صواهله
101

مطعم للصيد ليس له * غيره كسب على كبر
فمحال على هذا أن يغرى الثور بقتل كلبه.. قال وتأويل - ألا تنتصر - ألا تدنو من الثور
والدليل على أن تنتصر بمعنى تدنو قول الراعي
وأفرعن في وادى جلاميد بعدما * علا البيد سافي القيظة المتناصر
أي المتداني.. وقال مضرس بن ربعي بن أبي الفقعسي
فإنك لا تعطى امرأ حظ غيره * ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره
أي دان منه.. ومعنى - ألص الضروس - أي بعض أسنانه تلتصق ببعض - وحبي
الضلوع - أي مشرف الضلوع عاليها ويروى حنى الضلوع بالنون أي منحنيها ويقال ان
الضلوع إذا تقوست كان أوسع لجوفه وأقوى له ويروى أيضا خفى الضلوع أي ضلوعه
خفية داخلة في جنبه.. ومعنى - فظل يرنح في غيطل - فظل الثور يرنح في غيطل لما طعنه صاحب
الفرس وقد يجوز أيضا أن يكون ترنح الثور لظفر الكلب به ولأنه أنشب أظفاره فيه
وكل ذلك محتمل.. ومما يحتمل أيضا على وجوه مختلفة قول امرئ القيس
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها * لما نسجتها من جنوب وشمال (1)

(1) - توضح - كثيب أبيض من كثبان حمر بالدهناء قرب اليمامة عن نصر..
وقيل توضح من قرى قرقرى باليمامة وهي زروع ليس لها نخل.. وقال العسكري سئل
شيخ قديم عن مياه العرب فقيل له هل وجدت توضح التي ذكرها امرؤ القيس فقال أما
والله لقد جئت في ليلة مظلمة فوقفت على فم طويها فلم توجد إلى اليوم - والمقراة - بالكسر
ثم السكون وهو في اللغة شبه حوض ضخم يقرأ فيه من البئر أي يحبي إليه وجمعها المقاري
والمقارى أيضا الجفان التي تقرى فيها الأضياف.. قال ياقوت والمقراة وتوضح في قول
امرئ القيس قريتان من نواحي اليمامة.. وقال السكري في شرحه لبيت امرئ القيس
الدخول وحومل وتوضح والمقراة مواضع بين امرة وأسود العين والبيت من معلقته
المشهورة ومطلعها
قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل
102

قال قوم معناه لم يدرس رسمها لنسج هاتين الريحين فقط بل لتتابع الرياح والأمطار
والدليل على ذلك قوله في البيت الأخير
فهل عند رسم دارس من معول (1)
وقال آخرون ومعنى لم يعف رسمها لم يدرس فالرسم على هذا القول باق غير دارس.. ومعنى
قوله في البيت الأخير - رسم دارس - أي فهل عند رسم يندرس في المستقبل وإن كان
الساعة موجودا غير دارس.. وقال آخرون في معنى قوله لم يعف مثل الوجه الثاني أي
أنه لم يدرس أثرها لما نسجتها بل هي بواق ثوابت فنحن نحزن لها ونجزع عند رؤيتها
ولو عفت وأمحت لاسترحنا وهذا مثل قول ابن أحمر
ألا ليت المنازل فد بلينا * فلا يبكين ذا حزن شجينا
ومثل قول الآخر
ليت الديار التي تبقى لتحزننا * كانت تبين إذا ما أهلها بانوا
وليس قوله فهل عند رسم دارس من معول نقضا لهذا إنما هو كقولك درس كتابك

(1) قوله - فهل عند رسم دارس - الخ صدره.. وإن شفائي عبرة مهراقة.. ومعنى
- من معول - من مبكي وقيل من مستغاث وقيل من محمل ومعتمد وقيل في قوله
* فهل عند رسم دارس من معول * مذهبان أحدهما انه مصدر عولت عليه أن اتكلت
فلما قال إن شفائي عبرة مهراقة صار كأنه قال إنما راحتي في البكاء فما معنى اتكالي في
شفاء غليلي في رسم دارس لا غناء عنده عنى فسبيلي أن أقبل على بكائي ولا أعول في برد
غليلي على ما لاغناء عنده وأدخل الفاء في قوله فهل عند لتربط آخر الكلام بأوله فكأنه
قال إذا كان شفائي إنما هو في فيض دمعي فسبيلي أن لا أعول على رسم دارس في دفع
حزني وينبغي أن آخذ في البكاء الذي هو سبب الشفاء وللذهب الآخر أن يكون معول
مصدر عولت بمعنى أعولت أي بكيت فيكون معناه فهل عند رسم دارس من إعوال
وبكاء وعلى أي الامرين حملت المعول فدخول الفاء على هل حسن جميل
103

أي ذهب بعضه وبقى بعض.. وقال أبو بكر العبدي معناه لم يعف رسمها من قلبي
وهو دارس من الموضع فلم يتناول قوله ولم يعف رسمها ما تناوله قوله فهل عند رسم دارس
من جميع وجوهه فيتناقض الكلام.. وقال آخرون أراد بقوله لم يعف أي لم يدرس ثم
أكذب نفسه بقوله فهل عند رسم دارس من معول كما قال زهير
قف بالديار التي لم يعفها القدم * بلى وغيرها الأرواح والديم (1)
وكما قال آخر
فلا تبعدن يا خير عمرو بن مالك * بلى إن من زار القبور ليبعدا
أراد ليبعدن فأبدل الألف من النون الخفيفة وهذا وجه ضعيف وبيت زهير لا يجب
فيه ما توهم من المناقضة والتكذيب لأنه يمكن أن يحمل على ما ذكرناه من أحد الوجوه
المتقدمة من أنه أراد رسمها لم يعف ولم يبطل كله وإن كان قد غيرته الديم والأرواح

(1) البيت مطلع قصيدة يمدح بها هرم بن سنان وهي إحدى حولياته وبعده
لا الدار غيرها بعدي الأنيس وما * بالدار لو كلمت ذا حاجة صمم
دار لاسماء بالغمرين ماثلة * كالوحي ليس بها من أهلها أرم
وقد أراها حديثا غير مقوية * السر منها فوادي الجفر فالهدم
فلا لكان إلى وادي الغمار فلا * شرقي سلمى فلا فيد فلا رهم
شطت بهم قرقرى برك بأيمنهم * والعاريات وعن أيسارهم خيم
عوم السفين فلما حال دونهم * فند القريات فلعتكان فالكرم
كأن عيني وقد سال السليل بهم * وعبرة ما هم لو أنهم أمم *
غرب على بكرة أو لؤلؤ قلق * في السلك خان به رباته النظم
عهدي بهم يوم باب القريتين وقد * زال الهماليج بالفرسان فاللجم
فاستبدلت بعدنا دارا يمانية * ترعى الخريف فأدنى دارها ظلم
ان البخيل ملوم حيث كان ول * - كن الجواد على علاته هرم
القائد الخيل منكوبا دوابرها * منها الشنون ومنها الزاهق الزهم
104

بعضه وأثرت في بعض فأما البيت الثاني فلا حجة في حمله لأنه لم يتضمن إثباتا ونفيا
وإنما دعا له بان لا يبعد ثم رجع إلى قوله بلى إنه ليبعد من زار القبور وما يدعى به غير
واجب عليه ولا ثابت فيكف به في البيت الثاني.. وقد يمكن في البيت وجه آخر وهو
أن يكون معنى لم يعف رسمها أي لم يزد فيكثر فيظهر حتى يعرفه المترسم ويتنبه المتأمل
بل هو خاف غير لائح ولا ظاهر ثم قال من بعد فهل عند رسم دارس من معول فلم
يتناقض الأول لأنه قد أثبت الدروس له في كلا الموضعين ولا شبهة في أن عفا من حروف
الأضداد التي تستعمل تارة في الدروس وتارة في الزيادة والكثرة قال الله تعالى (حتى
عفوا) أي كثروا قد عفا الشعر أي كثر وقال الشاعر
ولكنا نعض السيف منها * بأسوق عافيات اللحم كوم
أراد كثيرات اللحم يقال قد عفا وبر البعير إذا زاد ويقال أعفيت الشعر وعفوته إذا
كثرته وزدت فيه وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تحفى الشوارب وتعفى اللحي
أي توفر وهذا الوجه عندي أشبه مما تقدم
(مجلس آخر 68)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ
سوء وما كانت أمك بغيا) الآية فقال من هارون الذي نسبت مريم عليها السلام إلى أنها
أخته.. ومعلوم أنها لم تكن أختا لهارون أخي موسى عليهما السلام وما معنى (من
كان في المهد صبيا) ولفظة كان تدل على ما مضى من الزمان وعيسى عليه السلام في حال
قولهم ذلك كان في المهد.. الجواب قلنا أما هارون الذي نسبت إليه مريم عليها السلام فقد
قيل فيه أقوال منها أن هارون المذكور في الآية كان رجلا فاسقا مشهورا بالعهر والشر
وفساد الطريقة فلما أنكروا ما جاءت به من الولد وظنوا بها ما هي مبرأة منه نسبوها إلى
هذا الرجل تشبيها وتمثيلا وكان تقدير الكلام يا شبيهة هارون في فسقه وقبح فعله وهذا
القول يروى عن سعيد بن جبير.. ومنها أن هارون هذا كان أخاها لأبيها دون أمها
105

وقيل إنه كان أخاها لأبيها وأمها وكان رجلا معروفا بالصلاح وحسن الطريقة والعبادة
والتأله.. وقيل إنه لم يكن أخاها على الحقيقة بل كان رجلا صالحا من قومها وإنه لما
مات شيع جنازته أربعون ألف رجل كلهم يسمون هارون من بني إسرائيل فلما أنكروا
ما ظهر من أمرها قالوا لها يا أخت هارون أي بالشبهة بالصلاح ما كان هذا معروفا منك
ولا كان والدك ممن يفعل القبيح ولا يتطرق عليه الريب.. وعلى قول من قال إنه
كان أخاها يكون معنى قولهم إنك من أهل بيت الصلاح والسداد لان أباك لم يكن امرأ
سوء ولا كانت أمك بغيا وأنت مع ذلك أخت هارون المعروف بالصلاح والسداد والعفة
فكيف أتيت بما لا يشبه نسبك ولا يعرف من مثلك.. ويقوى هذا القول ما رواه المغيرة بن
شعبة.. قال لما أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران قال لي أهلها أليس
نبيكم يزعم أن هارون أخو موسى وقد علم الله تعالى ما كان بين موسى وعيسى من
النبيين فلم أدر ما أورد عليهم حتى رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك
فقال لي فهلا قلت إنهم كانوا يدعون بأنبيائهم والصالحين قبلهم.. ومنها أن يكون معنى
يا أخت هارون يامن هي من نسل هارون أخي موسى كما يقال للرجل يا أخا تميم ويا أخا
بنى فلان.. وذكر مقاتل بن سليمان في قوله تعالى يا أخت هارون قال روى عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال هارون الذي ذكروه هو هارون أخو موسى عليهما السلام
.. قال مقاتل تأويل يا أخت هارون يا من هي من نسل هارون كما قال تعالى (وإلى عاد
أخاهم هودا.. وإلى ثمود أخاهم صالحا) يعنى بأخيهم أنه من نسلهم وجنسهم وكل
قول من هذه الأقوال قد اختاره قوم من المفسرين.. فأما قوله تعالى (من كان في
المهد صبيا) فهو كلام مبنى على الشرط والجزاء مقصود به إليهما والمعنى من يكن في
المهد صبيا فكيف نكلمه ووضع في ظاهر اللفظ الماضي موضع المستقبل لان الشارط
لا يشرط إلا فيما يستقبل فيقول القائل إن زرتني زرتك يريد إن تزرني أزرك قال الله
تعالى (إن شاء جعل لك خيرا) يعنى إن يشاء يجعل وقال قطرب معنى كان ههنا معنى
صار فكأن المعنى وكيف نلكم من صار في المهد صبيا ويشهد بذلك قول زهير
أجزت إليه حرة أرحبية * وقد كان لون الليل مثل الأرندج
106

وقال غيره كان ههنا بمعنى خلق ووجد كما قالت العرب كان الحر وكان البرد أي وجدا
وحدثا.. وقال قوم لفظة كان وإن أريد بها الماضي فقد يراد بها الحال والاستقبال
كقوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) أي أنتم كذلك وكذلك قوله تعالى
(هل كنت إلا بشرا رسولا) وقول الله تعالى (وكان الله عليما حكيما) وإن كان قد
قيل في هذه الآية الأخيرة غير هذا.. قيل إن القوم شاهدوا من آثار علمه وحكمته تعالى
ما شاهدوا فأخبرهم تعالى أنه لم يزل عليما حكيما أي فلا تظنوا انه استفاد علما وحكمة
لم يكن عليهما.. ومما يقوى مذهب من وضع لفظة الماضي في موضع الحال والاستقبال
قوله تعالى (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم) وقوله تعالى (ونادى أصحاب الجنة
أصحاب النار) وقولهم في الدعاء غفر الله لك وأطال بقاك وما جرى مجرى ذلك
ومعنى الكل يفعل الله ذلك بك الا أنه لما أمن اللبس وضع لفظ الماضي في موضع
المستقبل قال الشاعر
فأدركت من قد كان قبلي ولم أدع * لمن كان بعدى في الفضائل مقعدا
أراد لمن يكون بعدى.. ومما جعلوا فيه المستقبل في موضع الماضي قول الصلتان العبدي
يرثى المغيرة بن المهلب
قل للقوافل والغزاة إذا غزوا * والباكرين وللمجد الرائح (1)
إن الشجاعة والسماحة ضمنا * قبرا بمرو على الطريق الواضح (2)

(1) قوله - قل للقوافل - الخ القوافل جمع قافلة وهي الرفقة الراجعة من سفرها
إلى وطنها - والغزاة - جمع غاز - والباكرين - جمع باكر يقال بكر بكورا من باب قعد
أسرع في الذهاب من أول النهار - وأجد - في الامر اجتهد - والرائح - الراجع
(2) قوله - ان الشجاعة والسماحة - الخ هذا مقول القول.. وروى أيضا ان
السماحة والمروءة - والسماحة - الجود والعطاء - المروءة - آداب نفسانية تحمل مراعاتها
الانسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات يقال مرؤ الانسان وهو مري
كقرب فهو قريب أي ذو مروءة.. قال الجوهري وقد تشدد فيقل مروة - وضمنا -
بالبناء للمفعول متعد لمفعولين.. أحدهما نائب الفاعل وهو ضمير التثنية.. والثاني
قبرا وهو مقلوب لأنه يقال ضمنت الشئ كذا أي جعلته محتويا عليه وفي القلب هنا
نكتة كأنهما لكثرتهما لا يسعهما القبر فهما اشتملا على القبر وأحاطا بجوانبه - ومرو -
هنا مرو الشاهجان لا مرو الروذ وكلاهما في إقليم خراسان.. قال ابن خلكان ومن
سراة أولاد المهلب أبو فراس المغيرة وكان أبوه يقدمه في قتال الخوارج وله معهم وقائع
مشهورة أبان فيها عن نجدة وصرامة وكان مع أبيه في خراسان واستنابه بمرو الشاهجان
وتوفى في حياة أبيه سنة اثنين وثمانين في رجب وهذا البيت استشهد به النحويون على
أنه أعاد الضمير إلى المؤنثين بضمير المذكرين وكان القياس أن يقول ضمنتا وعده ابن
عصفور من قبيل الضرورة
107

فإذا مررت بقبره فأعقر به * كوم المطي وكل طرف سابح (1)
وأنضح جوانب قبره بدمائها * فلقد يكون أخادم وذبائح (2)

(1) قوله - فإذا مررت بقبره - الخ - عقر البعير بالسيف من باب ضرب إذا
ضرب قوائمه به لا يطلق العقر في غير القوائم وربما قيل عقره إذا نحره كذا في المصباح -
والكوم - بالضم جمع كوماء بالفتح والمد وهي الناقة السمينة للطى - ويروى - بدله؟؟ الجلاد
بكسر الجيم جمع جلدة بفتحها وهي أدسم الإبل لبنا - والطرف - بالكسر الأصيل من
الخيل - والسابح - بالموحدة من سبح الفرس إذا جرى يقال فرس سابح إذا جرى بقوة
[2] قوله - وأنضح جوانب قبره - النضح بالحاء المهملة الرش القليل وبالخاء المعجمة
البل يقال نضخ ثوبه إذا بله فهو أبلغ من الأول.. واختلف في سبب عقرهم الإبل
على القبور فقال قوم إنما كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت على ما كان يعقره من الإبل
في حياته وينحره للأضياف واحتجوا بقول الشاعر وأنضح جوانب قبره الخ.. وقال
قوم إنما كانوا يفعلون ذلك إعظاما للميت كما كانوا يذبحون للأصنام وقيل إنما كانوا يفعلونه
لان الإبل كانت تأكل عظام الموتى إذا بليت فكأنهم كانوا يتأرون لهم فيها وقيل إن
الإبل أنفس أموالهم فكانوا يريدون بذلك انها قد هانت عليهم لعظم المصيبة.. والبيت
يستشهد به النحويون على أن المضارع وهو يكون مؤول بالماضي أي ولقد كان لأنه في
مرثية ميت وهو إخبار عن شئ وقع ومضى لا إخبار عما سيقع لأنه غير ممكن.. قال ابن
الشجري في أماليه قال أبو الفتح عثمان بن جنى قال لي أبو علي سألت يوما أبا بكر بن
السراج عن الافعال فقال يقع بعضها موقع بعض فقال كان ينبغي للأفعال كلها أن تكون
مثالا واحدا لأنها لمعنى واحد ولكن خولف بين صيغها لاختلاف أحوال الزمان
فإذا اقترن بالفعل ما يدل عليه من لفظ أو حال جاز وقوع بعضها موقع بعض.. قال
أبو الفتح وهذا الكلام من أبى بكر عال سديد.. وهذه الأبيات الصحيح انها لزياد
الأعجم يرثى بها المغيرة بن المهلب وقيل المغيرة بن أبي صفرة أخا المهلب وهي من قصيدة
أولها قل للقوافل الخ الأبيات الأربعة وبعدها
وأظهر ببزته وعقد لوائه * واهتف بدعوة مصلتين شرامح
آب الجنود معقلا أو قافلا * وأقام رهن حفيرة وضرائح
وأرى المكارم يوم زيل بنعشه * زالت بفضل فواضل ومدائح
رجفت لمصرعه البلاد وأصبحت * منا القلوب لذاك غير ضحائح
ألآن لما كنت أكمل من مشى * وافترنا بك عن شباة القارح
وتكاملت فيك المروءة كلها * وأعنت ذلك بالفعال الصالح
فكفي لنا حزنا ببيت حله * إحدي المنون فليس عنه ببارح
فعفت منابره وحط سروجه * عن كل طامحة وطرف طامح
وإذا يناح على امرئ فتعلمي * ان المغرية فوق نوح النائح
تبكى المغيرة خيلنا ورماحنا * والباكيات برنة وتصايح
مات المغيرة بعد طول تعرض * للموت بين أسنة وصفائح
والقتل ليس إلي القتال ولا أرى * سببا يؤخر للشفيق الناصح
* لله در منية فاتت به * فلقد أراه يرد غرب الجامح
ولقد أراه مجنبا أفراسه * يغشى الأسنة فوق نهد قارح
في جحفل لجب ترى أبطاله * منه تعضل بالفضاء الفاسخ
يقص الحزونة والسهولة إذ غدى * بزهاء أرعن مثل ليل جانح
ولقد أراه مقدما أفراسه * يدنى مراجح في الوغى لمراجح
فتيان عادية لدي مرسى الوغى * سنوا بسنة معلمين جحاجح
لبسوا السوابغ في الحروب كأنها * غدر تحيز في بطون أباطح
وإذا الضراب عن الطعان بدا لهم * ضربوا بمرهفة الصدور جوارح
لو عند ذلك قارعته منية * قرع الحواء وضم سرح السارح
كنت الغياث لأرضنا فتركتنا * فاليوم نصبر للزمان الكالح
فانع المغيرة للمغيرة إذ غدت * شعواء مشعرة لنبح النابح
صفان مختلفان حين تلاقيا * آبوا بوجه مطلق أو ناكح
ومدجج كره الكماة نزاله * شاكي السلاح مسايف أو رامح
قد زار كبش كتيبة بكتيبة * يؤدي لكوكبها برأس طامح
غيرن دون نسائه وبناته * حامي الحقيقة للحروب مكاوح
سبقت يداك له بعاجل طعنة * شهقت لمنفذها أصول جوانح
والخيل تضبح بالكماة وقد جرت * فوق النحور دماؤها بسرائح
يا لهفتا يا لهفتا لك كلما * خيف المغير على المدر الماسخ
تشفى بحلمك لابن عمك جهله * وتذب عنه كفاح كل مكافح
وإذا يصول بك ابن عمك لم يصل * بمواكل وكل غداة تجالح
صل يموت سليمه قبل الرقي * ومخاتل لعدوه بتصافح
وإذا الأمور على الرجال تشابهت * وتنوزعت بمغالق ومفاتح
فتل السحيل بمبرم ذي مرة * دون الرجال بفضل عقل راجح
وأرى الصعالك للمغيرة أصبحت * تبكي على طلق اليدين مسامح
كان الربيع لهم إذا انتجعوا الندى * وخبت لوامع كل برق لامح
كان المهلب بالمغيرة كالذي * ألقى الدلاء إلى قليب المائح
فأصاب جمة ما استقى فسقى له * في حوضه بنوازع ومواتح
أيام لو يحتل وسط مفازة * فاضت معاطشها بشرب سائح
إن المهلب لن يزال لها فتى * يمرى قوادم كل حرب لاقح
* بالمقربات لواقحا آطالها * تجتاب سهل سباسب وصحاصح
متلببا تهفو الكتائب حوله * ملح المنون من النضيح الراشح
ملك أغر متوج يسمو له * طرف الصديق بغض طرف الكاشح
رفاع ألوية الحروب إلى العدى * بسعود طير سانح وبوارح
108

معناه فلقد كان
109

[تأويل خبر].. إن سأل سائل فقال كيف يطابق ما روى عن النبي صلى عليه
وسلم أنه قال لا عدوى ولا طيرة ولا هامة وأنه قيل له عليه الصلاة والسلام إن
النقبة تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل فقال عليه الصلاة والسلام فمن أعدى
الأول لما روى عنه عليه الصلاة والسلام من قوله لا يوردن ذو عاهة على مصح وقوله
110

فر من الأجذم فرارك من الأسد.. وأن رجلا مجذوما أتاه ليبايعه بيعة الاسلام
فأرسل إليه بالبيعة وأمره بالانصراف ولم يأذن عليه الصلاة والسلام.. وروى عنه
عليه الصلاة والسلام أنه قال الشؤم في المرأة والدار والدابة وظواهر هذه الأخبار
متناقضة متنافية فبينوا وجه الجمع بينها.. الجواب قلنا إن ابن قتيبة قد سأل نفسه
عن اختلاف هذه الأخبار وأجاب عن ذلك بما نذكره على وجهه ونذكر ما عندنا
فيه فإنه خلط وأتى بما ليس بمرضى.. قال إن لكل من هذه الأخبار معنى وموضعا
فإذا وضع موضعه زال الاختلاف قال وللعدوي معنيان.. أحدهما عدوي الجذام فإن
المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم في الحال مجالسيه ومواكليه وكذلك المرأة تكون تحت
المجذوم فتضاجعه في شعار واحد فيوصل إليها الأذى وربما جذمت وكذلك ولده
ينزعون في الكثير إليه وكذلك من كان به سل ودق والأطباء تأمر بأن لا يجالس
المسلول والمجذوم ولا يريدون بذلك معنى العدوي وإنما يريدون بذلك تغير الرائحة وأنها
قد يسقم في الحال اشتمامها والأطباء أبعد الناس من الايمان بيمن أو شؤم.. وكذلك
111

النقبة تكون بالبعير وهو جرب رطب فإذا خالط الإبل وحاكها وصل إليها بالماء الذي
يسيل منه وتجرب بمائه فهذا هو المعنى الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يوردن ذو عاهة على
مصح قال وقد ذهب قوم إلى أنه أراد عليه الصلاة والسلام بذلك
أن لا يظن أن الذي نال إبله من ذوات العاهة فيأثم قال وليس هذا عندي وجه لأنا
نجد الذي خبرتك به عيانا.. قال وأما الجنس الآخر من العدوي فهو الطاعون ينزل
ببلد فيخرج منه خوفا من الطاعون.. وحكى عن الأصمعي عن بعض البصريين أنه
هرب من الطاعون فركب حمارا ومضي بأهله نحو سفوان فسمع حاديا يحدو خلفه فيقول
لن يسبق الله على حمار * ولا على ذي ميعة مطار
أو يأتي الحتف على مقدار * قد يصبح الله أمام الساري
.. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالبلد الذي أنتم فيه فلا تخرجوا منه
وقال عليه الصلاة والسلام أيضا إذا كان ببلد فلا تدخلوه يريد بقوله عليه الصلاة والسلام
لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله تعالى ينجيكم ويريد
بقوله عليه الصلاة والسلام إذا كان ببلد فلا تدخلوه إن مقامكم بالموضع الذي لا طاعون فيه
أسكن لأنفسكم وأطيب لعيشكم قال ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم والدار فينال الرجل
مكروها أو جائحة فيقول أعدتني بشؤمها قال فهذا هو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام
لا عدوى.. فأما الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
الشؤم في المرأة والدار والدابة فإن هذا يتوهم فيه الغلط على أبي هريرة وأنه سمع من النبي
صلى الله عليه وسلم شيئا فلم يعه.. وروى ابن قتيبة خبرا ورفعه إلى أبى حسان
الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا إن أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة فطارت شفقا فقالت كذب والذي أنزل
القرآن على أبى القاسم من حدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قال عليه
الصلاة والسلام كان أهل الجاهية يقولون إن الطيرة في المرأة والدار والدابة ثم قرأت (ما أصاب
من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم) الآية.. وروى خبرا يرفعه إلى أنس بن مالك قال جاء
112

رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا وكثر
بها أموالنا ثم تحولنا منها إلى أخرى فقلت فيها أموالنا وقل عددنا فقال عليه الصلاة
والسلام ذروها فهي ذميمة قال ابن قتيبة وهذا ليس ينقض الحديث الأول وإنما أمرهم
بالتحول منها لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقال ظلها واستيحاش لما نالهم فيها وأمرهم
عليه الصلاة والسلام بالتحول منها وقد جعل الله في غرائز الناس وتركيبهم استثقال
ما ينالهم السوء فيه وإن كان لا سبب له في ذلك وحب من جرى على يده الخير لهم وإن
لم يردهم به وبغض من جرى على يده الشر لهم وإن لم يردهم به.. [قال الشريف
المرتضى] رضي الله عنه ما وجدنا ابن قتيبة عمل شيئا أكثر من أنه لما أعجزه تأويل
الاخبار التي سأل نفسه عنها والمطابقة بينها وبين قوله عليه الصلاة والسلام لا عدوى
ولا طيرة ادعى الخصوص فيما ظاهره العموم وخص العدوي بشئ دون آخر وكلاهما
سواء فيه وأورد تأويلا يدفعه نص قوله عليه الصلاة والسلام لأنه عليه الصلاة والسلام
لما سئل عن النقبة تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل قال عليه الصلاة والسلام
فما أعدى الأول تكذيبا بعدوى هذه النقبة وتأثيرها فاطرح ابن قتيبة ذلك وزعم أن
الجرب يعدى ويؤثر في المخالط والمؤاكل وعول في ذلك على قول الأطباء وترك قول
الرسول عليه الصلاة والسلام.. ومن ظريف أمره أنه قال إن الأطباء ينهون عن
مجالسة المسلول والمجذوم ولا يريدون بذلك معنى العدوي وإنما يريدون تغير الرائحة
وأنها تسقم من أدمن اشتمامها وهذا غلط منه لان الأطباء إنما تنهى عن ذلك خوفا من
العدوي وسبب العدوي عندهم هو اشتمام الرائحة وانفصال أجزاء من السقيم إلى الصحيح
وليس إذا كان غير هذا عدوي عند قوم ما يوجب أن لا يكون هذا أيضا عدوى.. ولما
حكى عن غيره تأويلا صحيحا في قوله عليه الصلاة والسلام لا بوردن ذو عامة على مصح
ادعى أن العيان يدفع وأي عيان معه ونحن نجد كثيرا ممن يخالط الجربي فلا يجرب ونجد
إبلا صحاحا تخالط ذوات العاهات فلا يصيبها شئ من أدوائها فكأنه إنما يدعى أن
العيان يدفع قول النبي صلى الله عليه وسلم فما أعدى الأول.. والوجه عندنا في قول
النبي عليه الصلاة والسلام لا يوردن ذو عاهة على مصح أنه عليه الصلاة والسلام إنما نهى
113

عن ذلك وإن لم يكن مؤثرا على الحقيقة لان فاعله كالمدخل الضرر على غيره لان من
اعتقد أن ذلك يعدى ويؤثر فأورد على إبله فلابد من أن يلحقه لما تقدم من اعتقاده
ضرر وغم ولابد من أن يذم من عامله بذلك فكأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن أذى
الناس والتعرض لذمهم وقد يجوز أيضا فيه ما حكاه ابن قتيبة عن غيره مما لم يرتضه من
أنهم متى ظنوا ذلك أثموا فنهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض لما يؤثم.. ولو نقل
ابن قتيبة ما قاله عليه الصلاة والسلام في الطاعون إذا كان ببلد فلا تدخلوه وأمره لمن
شكى إليه بالتحول عنها إلى ههنا لكان قد أصاب لأنه حمل ذلك على أن تجنب البلد
أسكن للنفس وأطيب للعيش وكذلك الدار فهذا يمكن في قوله عليه الصلاة والسلام
لا يوردن ذو عاهة على مصح بعينه.. فأما قوله عليه الصلاة والسلام فر من المجذوم
فرارك من الأسد فليس فيه أن ذلك لأجل العدوي وقد يمكن أن يكون لأجل نتن
ريحه واستقذاره ونفور النفس منه وأن ذلك ربما دعى إلى تعييره والإزراء عليه وامتناعه
عليه الصلاة والسلام من إدخال المجذوم عليه ليبايعه
يجوز أن يكون الغرض فيه
غير العدوي بل بعض الأسباب المانعة التي ذكرنا بعضها.. وأما حديث الطاعون
والقول فيه على ما قاله وقد كان سبيله لما عول في عدوى الجذام والجرب على قول
الأطباء إن يرجع أيضا إلى أقوالهم في الطاعون لأنهم يزعمون أن الطاعون الذي
يعرض من تغير الأهوية وما جرى مجراها يعدى كعدوى الجرب والجذام والعيان الذي ادعاه ليس هو أكثر من وجوده من يجرب أن يجذم لمخالطة من كان بهذه الصفة
وهذا العيان موجود في الطاعون فإنا نرى عمومه لمن يسكن البلد الذي يكون فيه ويطرأ
إليه.. فأما الخبر الذي يتضمن أن الشؤم في المرأة والدار والدابة فالذي ذكره من
الرواية في معناه يزيل الشبهة به على أنه لو لم يكن ههنا رواية في تأويله جاز أن يحمل على
أن الذي يتطير به المتطيرون ويدعون الشؤم فيه هو المرأة والدار والدابة ولا يكون
ذلك إثباتا للطيرة والشؤم في هذه الأشياء بل على طريق الاخبار بأن الطيرة الثابتة
إنما هي فيها لقوة أمرها عند أصحاب الطيرة.. وما ذكره بعد ذلك في الدار وأمره
عليه الصلاة والسلام بانتقاله عنها تأويل قريب وقد كان يجب أن يهتدى إليه مما تقدم
114

وما التوفيق إلا من عند الله العزيز الحكيم
(مجلس آخر 69)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن تأويل قوله تعالى (ما كان لبشر أن يكلمه
الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) الآية.. فقال أوليس ظاهر هذا الكلام يقتضى جواز
الحجاب عليه تعالى وأنتم تمنعون من ذلك.. الجواب قلنا ليس في الآية أكثر من
ذكر الحجاب وليس فيها أنه حجاب له تعالى ولمحل كلامه أو لمن يكلمه وإذا لم يكن
في الظاهر شئ من ذلك جاز صرف الحجاب إلى غيره عز وجل مما يجوز أن يكون
محجوبا فقد يجوز إن يريد تعالى بقوله أو من وراء حجاب أنه يفعل كلاما في جسم
محتجب عن المتكلم غير معلوم له على سبيل التفصيل فيسمع المخاطب الكلام ولا يعرف
محله على طريق التفصيل فيقال على هذا هو متكلم من وراء حجاب.. وروى عن
مجاهد في قوله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا) قال هو داود عليه
السلام أوحى في صدره فزبر الزبور أو من وراء حجاب وهو موسى عليه السلام أو
ترسل رسولا وهو جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم.. فأما أبو علي الجبائي
فإنه ذكر أن المراد بالآية (وما كان لبشر أن يكلمه الله) إلا مثل ما يكلم به عباده من
الامر بطاعته والنهى لهم عن معاصيه وتنبيهه إياهم على ذلك من جهة الخاطر أو المنام
أو ما أشبه ذلك على سبيل الوحي.. قال وإنما سمي الله ذلك وحيا لأنه خاطر وتنبيه
وليس هو كلاما لهم على سبيل الافصاح كما يفصح الرجل منا لصاحبه إذا خاطبه والوحي
في اللغة إنما هو ما جرى مجرى الايماء والتنبيه على شئ من غير أن يفصح به فهذا هو
معنى ما ذكره الله تعالى في الآية.. قال وعنى بقوله (أو من وراء حجاب) أي
يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه إلا من يريد أن يكلمه به نحو كلامه لموسى عليه
السلام لأنه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا موسى وحده في كلامه إياه أولا فأما كلامه
إياه في المرة الثانية فإنه إنما أسمع ذلك موسى عليه السلام والسبعين الذين كانوا معه
115

وحجبه عن جميع الخلق سواهم فهذا هو معنى قوله عز وجل (أو من وراء حجاب)
لان الكلام هو الذي كان محجوبا عن الناس.. وقد يقال أنه تعالى حجب عنهم موضع
الكلام الذي أقام الكلام فيه فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه لان الكلام عرض
لا يقوم إلا في جسم ولا يجوز أن يكون أراد تعالى بقوله (أو من وراء حجاب) أن
الله تعالى كان (من وراء حجاب) يكلم عباده لان الحجاب لا يجوز إلا على الأجسام
المحدودة.. قال وعنى بقوله (أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء) إرساله ملائكة
بكتبه وكلامه إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ليبلغوا عنه ذلك عباده على سبيل إنزاله
القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وإنزاله سائر الكتب على أنبيائه عليه الصلاة
والسلام فهذا ضرب من الكلام الذي يكلم الله تعالى عباده ويأمرهم فيه بطاعته وينهاهم
عن معاصيه من غير أن يكلمهم على سبيل ما كلم به موسى عليه السلام وهذا الكلام
هو خلاف الوحي الذي ذكره الله تعالى في أول الآية لأنه قد أفصح تعالى لهم في
هذا الكلام بما أمرهم به ونهاهم عنه والوحي الذي ذكره تعالى في أول الآية إنما هو
تنبيه وخاطر وليس إفصاح وهذا الذي ذكره أبو علي أيضا سديد والكلام محتمل لما
ذكره.. ويمكن في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد بالحجاب البعد والخفاء ونفى
الظهور وقد تستعمل العرب لفظ الحجاب فيما ذكرناه يقول أحدهم لغيره إذا استبعد
فهمه واستبطأ فطنته بيني وبينك حجاب وتقول للامر الذي تستبعده وتستصعب طريقه
بيني وبين هذا الامر حجاب وموانع وسواتر وما جرى مجرى ذلك فيكون معنى الآية
أنه تعالى لم يكلم البشر إلا وحيا بأن يخطر في قلوبهم أو بأن ينصب لهم أدلة تدلهم على
ما يريده أو يكرهه منهم فيكون من حيث نصبه للدلالة على ذلك والارشاد إليه مخاطبا
ومكلما للعباد بما يدل عليه وجعل تعالى هذا الخطاب من وراء حجاب من حيث لم
يكن مسموعا كما يسمع الخاطر وقول الرسول ولا ظاهرا معلوما لكل من أدركه كما
أن أقوال الرسل المؤدين عنه تعالى من الملائكة بهذه الصفة فصار الحجاب هناك كناية
عن الخفاء وغيره مما يدل عليه الدلالة وليس لاحد أن يقول إن الذي يدل عليه الأجسام
هو من صفاته تعالى وأحواله ومراده ولا يقال أنه تعالى متكلم لذاته وذلك أن غير ممتنع
116

على سبيل التجوز أن يقال إنه تعالى فيما يدل عليه الدليل الذي نصبه الله تعالى ليدل
على مرارة ويرشد إليه إنه مكلم لنا ومخاطب ولهذا لا يمتنع المسلمون من أن يقولوا إنه
تعالى خاطبنا بما دلت عليه الأدلة العقلية وأمرنا بعبادته واجتناب ما كرهه منا وفعل
ما أراده وهكذا يقولون فيمن فعل فعلا يدل على أمر من الأمور قد خاطبنا فلان بما
فعل من كذا بكذا وكذا وقال لنا وأمرنا وزجرنا وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يجرونها
على الكلام الحقيقي وهذا الاستعمال أكثر وأظهر من أن نورد أمثاله ونظائره
[قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه ومن مستحسن ما قيل في الذئب قول أسماء بن
خارجة بن حصن الفزاري
ولقد ألم بنا لنقريه * بادي الشقاء محارف الكسب
يدعو الغنا أن نال علقته * من مطعم غبا إلى غب
وطوى ثميلته وألحقها * بالصلب بعد لدونة الصلب
يا ضل سعيك ما صنعت بها * جمعت من شب إلى دب
لو كنت ذالب تعيش به * لفعلت فعل المرء ذي اللب
وجمعت صالح ما احترفت وما * جمعت من نهب إلى نهب
وأظنه شغبا تدل به * فلقد منيت بغاية الشغب
إذ كان غير مناصل تعصى بها * مشحوذة وركائب الركب
فاغمد إلى أهل الوقير فما * يخشاك غير مقرمص الذرب
أحسبتنا ممن تطيف به * فاختر بها للأمن والخصب
وبغير معرفة ولا سبب * أنى وشعبك ليس من شعبي
لما رأى أن ليس نافعه * جد تهاون صادق الإرب
117

وألح إلحاحا لحاجته * شكوى الضرير ومزجر الكلب
بادي التكلح يشتكى سغبا * وأنا ابن قاتل شدة السغب
فرأيت أن قد نلته بأذى * من بعد مثلبة ومن سب
ورأيت حقا أن أضيفه * إذا أم سلمى واتقى حربي
فوقفت معتاما أزاولها * بمهند ذي رونق عضب
فعرضته في ساق أسمنها * فاحتاد بين الحاذ والكعب
فتركتها لعياله جزرا * عمدا وعلق رحلها صحبي
ذكر ذئبا طرقه ليلا.. وقوله - محارف الكسب - مثل ضربه أي لا يبقى له نشب إلا
شئ يكتسبه.. وقوله - يدعوا الغنا أن نال علقته - أي إن وجد ما يتعلق به من مطعم
- غبا إلى غب - أي من يومين فذلك عنده الغنا - والثميلة ما يبقى في البطن من طعام
أو علف.. ومعنى طوى ثميلته ذهب بها وأراد أنه لم يبق في بطنه ما يمسكه - واللدونة -
اللين فأراد أنه ألحق بقية طعامه بصلبه بعد أن لان ما صلب منها ثم أقبل على الذئب
كالعاذل له فقال ما صنعت بما جمعت من شب إلى دب وهذان اسمان للشباب والهرم
لا يفردان ولا يلفظ بهما إلا هكذا.. والمعنى فيهما هو مذ كنت شابا إلى أن دببت على
العصا ثم قال له لو كنت ذالب لجمعت ما تصيبه.. ومعنى - احترفت - اكتسبت.. ومعنى -
من نهب إلى نهب - أي من عدوتك على الغنم إلى العدوة الأخرى.. ثم قال إن كان
تعرضك شغبا علينا فقد منيت بغاية الشغب أي اننا ننافرك ونقاتلك وليس ههنا ما تغير
عليه وإنما معنا - مناصل - أي سيوف مشحوذة وركائبنا التي نمتطيها فاعمد إلى أهل الوقير
- والوقير - القطيع من الغنم ولا يسمى وقيرا إلا إذا كان فيه حمار يقول فعليك بمواضع
الغنم فإنما يخشاك الراعي - المقرمص - الذي يتخذ القرموصة وأصله المكان الضيق وهو
ههنا حفيرة يحتفرها الراعي في الرمل في شدة الحر للشاة الكريمة الصفية حتى إذا بركت
كان ضرعها في القرموصة.. ومعنى - شعبك ليس من شعبى - أي لست من جنسي ولا
118

شكلي - والإرب - الخديعة عند الحاجة - وشكوى - الضرير الذي قد مسه الضر -
ومزجر الكلب - أي هو منا قريب المكان بقدر مزجر الكلب إذا زجرته أي إذا
خسأته لدى جناية - والسغب - الجوع.. وأراد بقوله - وأنا ابن قاتل شدة السغب -
أي أنا ابن من كان يقرى ويطعم.. ثم رجع فقال رأيت بعد ما سببته وغضضته بالأذى
والعدم أن أضيفه وأقريه لأنه ضيف وإن كان دنيئا فوقفت أنظر في ركائبى وأختار
أسمنها والإعتيام الاختيار وأزاولها ألابسها - والحاذان - حد الفخذين اللذين يليان
الذئب وخبر أن رحل المطية الذي عقرها علقه بعض أصحابه على مطية أخرى.. وقال
النجاشي يذكر ذئبا
وماء كلون الغسل قد عادا آجنا * قليل به الأصوات في بلد محل (1)
وجدت عليه الذئب يعوى كأنه * خليع خلا من كل مال ومن أهل (2)
فقلت له يا ذئب هل لك في فتى * يواسى بلا من عليك ولا بخل (3)
فقال هداك الله للرشد إنما * دعوت لما لم يأته سبع قبلي (4)

(1) قوله - وماء كلون الغسل - الخ الواو في وماء وأورب والغسل بكسر الغين
المعجمة ما يغسل به الرأس من سدر وخطمى ونحو ذلك.. يريد أن ذلك الماء كان متغير
اللون من طول المكث مخضرا ومصفرا ونحوهما - والآجن - بالمد وكسر الجيم الماء المتغير
الطعم واللون.. وقوله - قليل به الأصوات - يريد انه قفر لا حيوان فيه - والبلد -
الأرض والمكان - والمحل - الجدب وهو انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ
(2) قوله - كأنه خليع - الخليع الذي خلعه أهله لجناياته وتبرؤا منه
[3] قوله - فقلت له يا ذئب هل لك - الخ يقول هل لك في أخ يعنى نفسه يواسيك
من طعامه بغير من ولا بخل
[4] قوله - فقال هداك الله - أي فقال له الذئب قد دعوتي إلى شئ لم يفعله السباع
قبلي من مؤاكلة بني آدم وهذا لا يمكنني فعله ولست بأتيه ولا أستطيعه ولكن إن كان
في مائك الذي معك لنسل عما تحتاج إليه فاسقني منه وهذا الكلام وضعه النجاشي على
لسان الذئب كأنه اعتقد فيه انه لو كان ممن يعقل أو يتكلم لقال هذا القول وأشار بهذا
إلى تعسفه للفلوات التي لا ماء فيها فيهتدى الذئب إلى مظانه فيها لاعتياده لها
119

فلست بآتيه ولا أستطيعه * ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل (1)
فقلت عليك الحوض إني تركته * وفى صغوه فضل القلوص من السجل (2)
فطرب يستعوى ذئابا كثيرة * وعذت وكل من هواه على شغل
وروى أن الفرزدق نزل بالغرييين فعراه بأعلى ناره ذئب فأبصره مقعيا يصئ ومع الفرزدق
مسلوخة فرمي إليه بيد فاكلها فرمى إليه بما بقي فأكله فلما شبع ولى عنه فقال
وليلة بتنا بالغريين ضافنا * على الزاد موشى الذراعين أطلس
تلمسنا حتى أتانا ولم يزل * لدن فطمته أمه يتلمس
فلو أنه إذا جاءنا كان دانيا * لألبسته لو أنه كان يلبس
ولكن تنحا جنبة بعد ما دنا * فكان كقاب القوس أو هو أنفس

(1) قوله - فلست بأتيه - الخ البيت يستشهد به النحويون على أن حذف النون من
لكن لالتقاء الساكنين ضرورة تشبيها بالتنوين أو بحرف المد واللين من حيث كانت
ساكنة وفيها غنة وهي فضل صوت في الحرف كما أن حرف المد واللين ساكن والمد فضل
صوت وكذا أورده سيبويه في باب ضرورة الشعر من أول كتابه قال الأعلم حذف النون
لالتقاء الساكنين ضرورة لإقامة الوزن وكان وجه الكلام أن يكسر لالتقاء الساكنين
شبهها في الحذف بحرف المد واللين إذا سكنت وسكن ما بعدها نحو يغزو والعدو ويقضي
الحق ويخشى الله
(2) قوله - فقلت عليك الحوض - الخ عليك اسم فعل بمعنى الزم والحوض مفعوله
- والصغو - بفتح الصاد المهملة وكسرها وسكون الغين المعجمة الجانب المائل - والسجل -
بفتح السين المهملة وسكون الجيم الدلو العظيمة - وطرب - في صوته بالتشديد رجعه ومده
120

فقاسمته نصفين بيني وبينه * بقية زادي والركائب نعس
وكان ابن ليلى إذ قرى الذئب زاده * على طارق الظلماء لا يتعبس ولابن عنقاء الفزاري واسمه قيس بن نجره وقيل نجرة بالضم الأبيات المشهورة في الذئب وهي
وأعوج من آل الصريح كأنه * بذى الشبت سيد آخر الليل جائع
بغى كسبه أطراف ليل كأنه * وليس به ضلع من الخمس ظالع
فلما أتاه الرزق من كل وجهة * جنوب الملا واياسته المطامع
طوى نفسه طي الحرير كأنه * حوى حية في ربوة فهو هاجع
فلما أصابت متنه الشمس حكه * بأعصل في أنيابه السم ناقع
وفكك لحييه فلما تعاديا * صأى ثم أقعى والبلاد بلاقع
وهم بأمر ثم أزمع غيره * وإن ضاق رزق مرة فهو واسع
وعارض أطراف الصبا فكأنه * رجاع غدير هزه الريح رائع
ولآخر في الذئب
فقلت تعلم أنني غير نائم * إلى مستقل بالحباية أنيبا
بعيد المطاف لا يفيد على الغنا * ولا يأتلى ما اسطاع إلا تكسبا
معنى - أنيب - غليظ الناب - لا أنام إليه - أي لا أثق به من ذلك استنمت إلى فلان
إذا اطمأننت إليه.. ومعنى - لا يفيد على الغنا - أي لا يلتمس مطعما وهو شبعان
.. ولحميد بن ثور في الذئب
فظل يراعى الجيش حتى تغيبت * خباش وحالت دونهن الاجارع
إذا ما غدا يوما رأيت غياية * من الطير ينظرن الذي هو صانع (1)

(1) قوله - رأيت غياية - الخ.. الغياية بفتح الغين المعجمة وبيائين آخر الحروف مخففتين وهي كل شئ أظل الانسان فوق رأسه مثل السحابة والغبرة والظلمة ونحو ذلك
121

خفيف المعا إلا مصيرا يبله * دم الجوف أو سؤر من الحوض ناقع
هو البعل الداني من الناس كالذي * له صحبة وهو العدو المنازع
ينام بإحدى مقلتيه ويتقى * بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع (1)

(1) قوله - ينام بإحدى مقلتيه - الخ ينام خبر مبتدأ محذوف أي هو ينام والباء
في بإحدى يتعلق به.. وقوله يتقى عطف على قوله ينام وباخرى يتعلق به والمنايا مفعول
يتقى ويروى ويتقى بأخرى الأعادي.. وقوله فهو مبتدأ وقوله يقظان خبره وهاجع
خبر بعد خبر ويروى يقظان نائم لكنه يخالف أبيات القصيدة فالمعنى هو حذر أو هو
هاجع بين اليقظة والهجوع.. والأبيات من قصيدة أولها
إذا نال من بهم النخيلة غرة * على غفلة فيما يري وهو طالع
تلوم ولو كان ابنها أفرحت به * إذا هب أرواح الشتاء الزعازع
فقامت تعشى ساعة ما تطيقها * من الدهر قامتها الكلاب الظوالع
رأته فشكت وهو أطحل مائل * إلى الأرض مثنى إليه الأكارع
طوي البطن الا من مصير يبله * دم الجوف أو سؤر من الحوض ناقع
ترى طرفيه يعسلان كلاهما * كما اهتز عود الشيحة المتتابع
إذا خاف جورا من عدو رمت به * قصائبه والجانب المتواسع
وان بات وحشا ليلة لم يضق بها * ذراعا ولم يصبح بها وهو خاشع
ويسرى لساعات من الليل قرة * يهاب السرى فيها المخاض النوازع
وان حددت أرض عليه فإنه * بعزة أخرى طيب النفس قانع
ينام بإحدى مقنتيه ويتقى * بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
إذا قام ألقى بوعه قدر طوله * ومدد منه صلبه وهو تابع
* وفكك لحيه فلما تعاديا * صأى ثم أقعي والبلاد بلاقع
إذا ما غدي يوما رأيت غياية * من الطير ينظرن الذي هو صانع
هكذا أورد بعض الرواة هذه القصيدة وبعضها مدرج في قصيدة ابن عنقاء الفزاوي
وابن عنقاء متأخر عن حميد بن ثور رضي الله عنه
122

وصف ذئبا يتبع الجيش طمعا في أن يتخلف رجل يثب عليه لأنه من بين السباع
لا يرغب في القتلى ولا يكاد يأكل الا ما فرسه - وخباش - اسم هضبة (1).. وقال بعضهم
وليس بمعروف أن خباش اسم من أسماء الشمس وأخبر أن الطير تتبعه لتصيب مما يقتل
- والمصير - المعا (2) - والبعل - الدهش
(مجلس آخر 70)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه
ربه) إلى قوله (وأنا أول المؤمنين).. وقال ما تنكرون من أن تكون هذه الآية دالة
على جواز الرؤية عليه جل وعلا لأنها لو لم تجز لم يسألها موسى عليه السلام كما لا يجوز
أن يسأل اتخاذ الصاحبة والولد ولو كانت الرؤية أيضا مستحيلة لم يعلقها بأمر يصح
إن يقع وهو استقرار الجبل وإذا علمنا صحة استقرار الجبل في موضعه فوجب أن
تكون الروية أيضا صحيحة في حكم ما علقت به.. وقوله تعالى (فلما تجلى ربه للجبل)
يقتضى جواز الحجاب عليه تعالى لان التجلي هو الظهور وهما لا يكونان إلا بعد
الاحتجاب والاستتار.. الجواب قلنا أول ما نقوله إنه ليس في مسألة الشئ دلالة على
صحة وقوعه ولا جوازه لان السائل قد يسأل عن الصحيح والمحال مع العلم وفقد العلم

(1) قوله - وخباش اسم هضبة وليس بمعروف ان خباش اسم من أسماء الشمس
.. قلت لم نقف على أحد هذين التفسيرين لغيره وذكر ياقوت في المعجم ان حباشة بالحاء
المهملة سوق من أسواق العرب في الجاهلية وفيه أيضا في باب الخاء المعجمة خباش تخل
لبنى يشكر باليمامة
(2) قوله - والمصير المعا - ووزنه فعيل والجمع مصران مثل رغيف ورغفان
والمصارين جمع الجمع وميمه أصلية.. وقال بعضهم مصير إنما هو مفعل من صار إليه
الطعام وإنما قالوا مصران كما قالوا في مسيل الماء مسلان شبهوا مفعلا بفعيل.. وقوله - ناقع -
بالنون من نقع الماء العطش نقوعا أي سكنه
123

والاغراض مختلفة فلا دلالة في ظاهر مسألة الرؤية على جوازها ولأصحابنا عن
هذه المسألة أجوبة..
منها وهو الأولى والأقوى أن يكون موسى عليه السلام لم يسأل
الرؤية لنفسه وإنما سألها لقومه فقد روى أنهم طلبوا ذلك منه والتمسوه فأجابهم بأنها
لا تجوز عليه تعالى فلم يقنعوا بجوابه وآثروا أن يرد الجواب من قبل ربه تعالى فوعدهم
ذلك وغلب في ظنه أن الجواب إذ ورد من جهته جل عز وجل كان أحسم للشبهة وأبلغ
في دفعها عنهم فاختار السبعين الذين حضروا الميقات ليكون سؤاله بمحضر منهم فيعرفوا
ما يرد من الجواب فسأل وأجيب بما يدل على أن الرؤية لا تجوز عليه تعالى ويقوى هذا
الجوا أأشفقتم أشياء.. منها قوله تعالى (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء)
الآية.. ومنها قوله تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) الآية
.. ومنها قوله تعالى (فلما أخذتهم الرجفة قال رب) الآية لان إضافة ذلك إلى السفهاء
تدل على أنه كان بسببهم ومن أجلهم ولأنهم سألوا ما لا يجوز عليه تعالى.. ومنها ذكر
الجهرة في الرؤية وهي لا تليق إلا برؤية البصر دون العلم وهذا يقوى أن الطلب لم يكن
للعلم الضروري على ما سنذكره في الجواب الثاني.. ومنها قوله (أنظر إليك) لأنا إذا
حملنا الآية على طلب الرؤية لقومه أمكن إن يحمل قوله (أنظر إليك) على حقيقته وإذا حملت
الآية على طلب العلم الضروري احتيج إلى حذف في الكلام ويصير تقديره أرني أنظر
إلى الآيات التي عندها أعرفك ضرورة.. ويمكن في هذا الوجه الأخير خاصة أن يقال
إذا كان المذهب الصحيح عندكم هو أن النظر في الحقيقة غير الرؤية فكيف يكون قوله
تعالى أنظر إليك حقيقة في جواب من حمل الآية على طلب الرؤية لقومه.. فإن قلتم لا يمتنع
أن يكونوا التمسوا الرؤية التي يكون معها النظر والتحديق إلى الجهة فسأل عليه الصلاة
والسلام على حسب ما طلبوا.. قيل لكم هذا ينقض فرقكم في هذا الجواب بين
سؤال الرؤية وبين سؤال جميع ما يستحيل عليه من الصاحبة والولد وما يقتضى الجسمية
بأن تقولوا الشك في الرؤية لا يمنع من معرفة السمع والشك في جميع ما ذكر يمنع من
ذلك لأن الشك الذي لا يمنع من معرفة صحة السمع إنما هو في الرؤية التي لا يكون معها
نظر فلا يقتضى التشبيه.. فان قلتم الذي يمنع من معرفة السمع إنما يحمل ذكر النظر
124

فيه على أن المراد به نفس الرؤية على سبيل المجاز لان من عادة العرب أن يسموا الشئ
باسم الطريق إليه وما قاربه وداناه.. قلنا فكأنكم عدلتم من مجاز إلى مجاز فلا قوة
في هذا الوجه والوجوه التي ذكرناها في تقوية هذا الجواب المتقدمة أولى وليس لاحد
أن يقول لو كان عليه الصلاة والسلام إنما سأل الرؤية لقومه لم يضف السؤال إلى نفسه
فيقول أرني أنظر إليك ولا كان الجواب مختصا به وهو قوله تعالى (لن تراني) وذلك
لأنه غير ممتنع وقوع الإضافة على هذا الوجه مع أن المسألة كانت من أجل الغير إذ
كانت هناك دلالة تؤمن من اللبس وتزيل الشبهة.. فلهذا يقول أحدنا إذا شفع في
حاجة غيره للمشفوع إليه أسئلك أن تفعل بي كذا وكذا وتجيبني إلى كذا وكذا ويحسن
أن يقول المشفوع إليه قد أجبتك وشفعتك وما جرى مجرى ذلك وإنما حسن هذا لان
للسائل في المسألة اغراضا وإن رجعت إلى الغير فتحققه بها وتكلفه كتكلفه إذا اختصه
ولم يبعده.. فإن قيل كيف يجوز منه عليه الصلاة والسلام مع علمه باستحالة الرؤية
عليه تعالى أن يسأل فيها لقومه ولئن جاز ذلك ليجوزن أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل
عليه تعالى من كونه جسما وما أشبهه متى شكوا فيه.. قلنا إنما صح ما ذكرناه في الرؤية
ولم يصح فيما سألت عنه لان مع الشك في جواز الرؤية التي لا يقتضى كونه جسما يمكن
معرفة السمع وأنه تعالى حكيم صادق في أخباره فيصح أن يعرفوا بالجواب الوارد من
جهته تعالى استحالة ما شكوا في صحته وجوازه ومع الشك في كونه جسما لا يصح معرفة
السمع فلا يقع بجوابه انتفاع ولا علم.. وقد قال بعض من تكلم في هذه الآية قد كان
جائزا أن يسأل موسى عليه السلام لقومه ما يعلم استحالته عليه وإن كانت دلالة السمع
لا تثبت قبل معرفته متى كان المعلوم أن في ذلك صلاحا للمكلفين في الدين وإن ورود
الجواب يكون لطفا لهم في النظر في الأدلة وإصابة الحق منها غير أن من أجاب بذلك
شرط أن يتبين في مسألة علمه باستحالة ما سأل عنه وأن غرضه في السؤال ورود الجواب
ليكون لطفا.. والجواب الثاني في الآية أن يكون موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن
يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة التي تضطره إلى المعرفة فتزول عنه
الدواعي والشكوك والشبهات ويستغنى عن الاستدلال فتخف المحنة عليه بذلك كما سأل
125

إبراهيم عليه السلام ربه تعالى أن يريه كيف يحيى الموتى طلبا للتخفيف عليه بذلك وإن
كان قد عرف ذلك قبل أن يراه والسؤال إن وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية تفيد العلم
كما تفيد الادراك بالبصر وذلك أظهر من أن يستدل عليه أو يستشهد به فقال له جل
وعز (لن تراني) أي لن تعلمني على هذا الوجه الذي التمسته منى ثم أكد تعالى ذلك
بأن أظهر في الجبل من آياته وعجائبه ما دل به على أن إظهار ما تقوم به المعرفة الضرورية
في الدنيا مع التكليف وبيانه لا يجوز وأن الحكمة تمنع منه.. والوجه الأول أولى لما
ذكرناه من الوجوه ولأنه لا يخلو موسى عليه السلام من أن يكون شاكا في أن المعرفة
ضرورية لا تصح حصولها في الدنيا أو عالما بذلك
فإن كان شاكا فهذا مما لا يجوز على النبي
صلى الله عليه وسلم لأن الشك فيما يرجع إلى أصول الديانات وقواعد التكليف لا يجوز
عليهم سلام الله عليهم لا سيما وقد يجوز أن يعلم ذلك على الحقيقة بعض أمتهم فيزيد عليهم
في المعرفة وهذا أبلغ في التنفير عنهم من كل شئ يمنع منه فيهم وإن كان عالما فلا وجه
لسؤاله إلا أن يقال إنه سال لقومه فيعود إلى معنى الجواب الأول.. والجواب الثالث
في الآية ما حكى عن بعض من تكلم في هذه الآية من أهل التوحيد وهو أن قال يجوز
أن يكون موسى عليه السلام في وقت مسئلته ذلك كان شاكا في جواز الرؤية على الله
تعالى فسأل ذلك ليعلم هل يجوز عليه أم لا قال وليس شكه في ذلك بمانع من أن يعرف
الله تعالى بصفاته بل يجرى مجرى شكه في جواز الرؤية على بعض ما لا يرى من الاعراض
في أنه غير مخل بما يحتاج إليه في معرفته تعالى.. قال ولا يمتنع أن يكون غلطه في
ذلك ذنبا صغيرا وتكون التوبة الواقعة منه لأجل ذلك وهذا الجواب يبعد من قبل أن
الشك في جواز الرؤية التي لا تقتضي تشبيها وإن كان لا يمنع من معرفته تعالى بصفاته فإن
الشك في ذلك لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام من حيث يجوز من بعض من بعثوا
إليه أن يعرف ذلك على الحقيقة فيكون النبي صلى الله عليه وسلم شاكا فيه وغيره عارفا
به مع رجوعه إلى المعرفة بالله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه وهذا أقوى في
التنفير وأزيد على كل ما وجب أن يجنبه الأنبياء عليهم السلام.. فإن قيل فعن أي شئ
كانت توبة موسى عليه السلام على الجوابين المتقدمين.. قلنا أما من ذهب إلى أن
126

المسألة كانت لقومه فإنه يقول إنما تاب لأنه أقدم على أن سأل على لسان قومه ما لم يؤذن
له فيه وليس للأنبياء ذلك لأنه لا يؤمن أن يكون الصلاح في المنع منه فيكون ترك إجابتهم
إليه منفرا عنهم ومن ذهب إلى أنه سأل المعرفة الضرورية يقول إنه تاب من حيث سأل
معرفة لا يقتضيها التكليف وعلى جميع الأحوال تكون التوبة من ذنب صغير لا يستحق
عليه العقاب ولا الذم والأولى أن يقال في توبته عليه الصلاة والسلام انه ليس في الآية
ما يقتضى أن تكون التوبة وقعت من المسألة أو من أمر يرجع إليها وقد يجوز أن يكون
ذلك منه إما لذنب صغير تقدم تلك الحال أو تقدم النبوة فلا يرجع إلى سؤال الله تعالى الرؤيا
أو ما أظهره من التوبة على سبيل الرجوع إلى الله تعالى وإظهار الانقطاع إليه والتقرب
منه وإن لم يكن هناك ذنب صغير وقد يجوز أيضا أن يكون الغرض في ذلك مضافا إلى
إلى ما قلناه تعليما وتوقيفا على ما نستعمله وندعوه به عند الشدائد ونزول الأهوال وتنبيه
القوم المخطئين خاصة على التوبة مما التمسوه من الرؤية المستحيلة عليه تعالى فإن الأنبياء
عليهم السلام وإن لم يقع منهم القبيح عندنا فقد يقع من غيرهم ويحتاج من رفع ذلك
عنه إلى التوبة من الاستقالة.. فأما قوله تعالى (فلما تجلى ربه للجبل) فإن التجلي
ههنا هو التعريف والاعلام والاظهار لما يقتضى المعرفة كقولهم هذا كلام جلى أي
واضح ظاهر وكقول الشاعر
تجلى لنا بالمشرفية والقنا * وقد كان عن وقع الأسنة نائيا
أراد أن تدبيره دل عليه حتى علم أنه المدبر له وإن كان نائيا وقع الأسنة فأقام ما أظهره
من دلالة فعله على مقام مشاهدته وعبر عنه بأنه تجلى منه.. وفى قوله تعالى للجبل
وجهان.. أحدهما أن يكون المراد لأهل الجبل ومن كان عند الجبل فحذف كما قال
تعالى (واسأل القرية.. وما بكت عليهم السماء والأرض) وقد علمنا أنه بما أظهره
من الآيات إنما دل من كان عند الجبل على أن رؤيته تعالى غير جائزة.. والوجه الآخر
أن يكون المعنى للجبل أي بالجبل فأقام اللام مقام الباء كما قال تعالى (آمنتم له قبل أن
آذن لكم) أي به وكما يقول أخذتك لجرمك أي بجرمك ولما كانت الآية الدالة على
منع ما سئل فيه إنما حلت الجبل وظهرت فيه جاز أن يضاف التجلي إليه وقد استدل
127

بهذه الآية كثير من العلماء الموحدين على أنه تعالى لا يرى بالابصار من حيث نفي الرؤية
نفيا عاما بقوله تعالى (لن تراني) ثم أكد ذلك بأن علق الرؤية باستقرار الجبل الذي
علمنا أنه لم يستقر وهذه طريقة للعرب معروفة في تبعيد الشئ لأنهم يعلقونه بما يعلم
أنه لا يكون كقولهم لا كلمتك ما أضاء الفجر وطلعت الشمس وكقول الشاعر
إذا شاب الغراب رجوت أهلي * وصار القير كاللبن الحليب
.. ومما يجرى هذا المجرى قوله تعالى (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط)
وليس لاحد أن يقول إذا علق الرؤية باستقرار الجبل وكان ذلك في مقدوره تعالى
فيجب أن تكون الرؤية معلقة به أيضا في مقدوره تعالى بأنه لو كان الغرض بذلك التبعيد
لعلقه بأمر يستحيل كما علق دخولهم الجنة بأمر يستحيل من ولوج الجمل في سم الخياط
وذلك أن تشبيه الشئ بغيره لا يجب أن يكون من جميع الوجوه ولما علق وقوع الرؤية
باستقرار الجبل وقد علم أنه لا يستقر علم نفى الرؤية وما عدا ذلك من كون الرؤية
مستحيلة وغير مقدورة واستقرار الجبل بخلافها يخرج عن ما هو الغرض في التشبيه
على أنه إنما علق تعالى جواز الرؤية باستقرار الجبل في تلك الحال التي جعله فيها دكا
وذلك محال لما فيه من اجتماع الضدين فجرى مجرى جواز الرؤية في الاستحالة وليس
يجب في كل ما علق بغيره أن يجرى مجراه في سائر وجوهه حتى إذا كان أحدهما مع انتفائه
مستحيلا كان الآخر بمثابته مستحيلا لان تعليق دخول الكفار الجنة إنما علق بولوج
الجمل في سم الخياط ودخول الكفار الجنة لم يكن مستحيلا بل معلوم أن الأول في
المقدور وإن كان لا يحسن والثاني ليس فيه المقدور وهذه الجملة كافية في تأويل هذه الآية
وبيان ما فيها والحمد لله وحده
[قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه وإني لأستجيد قول أبى العاص بن خزام
ابن عبد الله بن قتادة المازني
وكم من صاحب قد بان عنى * رميت بفقده وهو الحبيب
فلم أبد الذي تحنو ضلوعي * عليه وإنني لأنا الكثيب
128

مخافة أن يراني مستكينا * عدو أو يشابهه قريب
فيشمت كاشح ويظن أنى * جزوع عند نائبة تنوب
فبعدك شدت الأعداء طرفا * إلى ورابنى دهر مريب
معنى - شدت الأعداء طرفا - أي نظرت إلى نظرا شديدا فظهر الغضب من عيونها
وأنكرت الزمان وكل أهلي * وهرتني لغيبتك الكليب
يقال كلب وكليب مثل عبد وعبيد
وكنت تقطع الابصار دوني * وإن وغرت من الغيظ القلوب
ويمنعنى من الأعداء أنى * وإن رغموا لمخشى مهيب
فلم أر مثل يومك كان يوما * بدت فيه النجوم فما تغيب
وليل ما أنام به طويل * كأني للنجوم به رقيب
وما يك جائيا لابد منه * إليك فسوف تجلبه الجلوب
(مجلس آخر 71)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها)
إلى قوله (تعقلون) فقال كيف ذكر تعالى هذا بعد ذكر البقرة والامر بذبحها وقد
كان ينبغي أن يتقدمه لأنه إنما أمر الله تعالى بذبح البقرة لينكشف أمر القاتل فكيف
أخر تعالى ذكر السبب عن المسبب وبنى الكلام بناء يقتضى أنه كان بعده ولم قال تعالى
(وإذ قتلتم نفسا) والرواية وردت بأن القاتل كان واحدا فكيف يجوز أن يخاطب الجماعة
بالقتل والقاتل بينها واحد وإلى أي شئ وقعت الإشارة بقوله تعالى (كذلك يحيى الله
الموتى).. الجواب قيل له أما قوله تعالى (وإذ قتلتم نفسا) ففيه وجهان.. أولهما أن
تكون هذه الآية وإن تأخرت فهي مقدمة في المعنى على الآية التي ذكرت فيها البقرة
ويكون التأويل وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فسألتم موسى عليه السلام فقال لكم إن الله
129

يأمركم أن تذبحوا بقرة فأخر المقدم وقدم المؤخر.. ومثل هذا في القرآن وكلام العرب كثير
.. ومثله (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما).. وقال الشاعر
إن الفرزدق صخرة عادية * طالت فليس تنالها الاوعالا (1)
أراد طالت الأوعال فليس تنالها.. ومثله
طاف الخيال وأين منك لما ما * فارجع لزورك بالسلام سلاما
أراد طاف الخيال لماما وأينه هو منك.. والوجه الثاني أن يكون وجه تأخير قوله تعالى
(وإذ قتلتم نفسا) أنه معلق بما هو متأخر في الحقيقة وواقع بعد ذبح البقرة وهو قوله

(1) قوله - طالت فليس تنالها الاوعالا - أي طالت الأوعال بمعني فاقتها في الطول
يقال طال فلان فهو طويل وفعله على وزن فعل بضم العين لمجيئ الوصف منه على فعيل
وهو لازم.. وأما قولهم إن بشرا قد طلع اليمن ورحبكم الدخول فإنهما ضمنا معنى
بلغ اليمن ووسعكم الدخول وأما طاله ففعل بالفتح ولا يكون بالضم لان فعل لا يتعدى
كما تقدم والبيت من هذا النوع قال سيبويه إنما صحت الواو في طويل لأنه لم يجئ
على الفعل لأنك لو بنيته على الفعل قلت طائل وإنما هو كفعيل يعنى به مفعول
وقد جاء على الأصل فاعتل فعله نحو مخيوط فهذا أجدر.. قال وإنما صحت الواو في
طوال لصحتها في الواحد فطوال من طويل كحوار من حاورت والبيت لسبيح بن رياح
الزنجي ويقال رباح بن سبيح قاله حين غضب لما قال جرير في الفرزدق
لا تطلبن خؤولة من تغلب * فالزنج أكرم منهم أخوالا
فقال سبيح أو رياح
الزنج لو لاقيتهم في صفهم * لاقيت ثم جحاجحا أبطالا
ما بال كلب بنى كليب سبنا * أن لم يوازن حاجبا وعقالا
* ان الفرزدق صخرة عادية الخ * وبعض الرواة ينسبه للأخطل ويدخله في قصيدته
التي يهجو بها جريرا ومطلعها
كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا
وذلك غلط
130

البقرة إنما هو بعد الذبح فكأنه تعالى قال (فذبحوها وما كادوا يفعلون) لأنكم (قتلتم
نفسا فادارأتم فيها) فأمرناكم بأن تضربوه ببعضها لينكشف أمره فأما إخراج الخطاب
تعالى (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى) لان الامر بضرب المقتول ببعض
مخرج ما يتوجه إلى الجميع مع أن القاتل واحد فعلى عادة العرب في خطاب الأبناء
بخطاب الآباء والأجداد وخطاب العشيرة بما يكون من أحدها فيقول أحدهم فعلت
بنو تميم كذا وقتل بنو فلان فلانا وإن كان القاتل والفاعل واحدا من بين الجماعة
ومنه قراءة من قرأ (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) بتقديم المفعولين على
الفاعلين وهو اختيار الكسائي وأبى العباس ثعلب فيقتل بعضهم ويقتلون وهو أبلغ في
وصفهم وأمدح لهم إذا قاتلوا وقتلوا بعد أن يقتل بعضهم كان ذلك أدل على شجاعتهم
وقلة جزعهم وحسن صبرهم.. وقد قيل إنه كان القاتلان اثنين قتلا ابن عم لهما فإن
الخطاب جرى عليهما بلفظ الجمع كما قال تعالى (وكنا لحكمهم شاهدين يريد
داود وسليمان عليهما السلام والوجه الأول أولى وأقوى بشهادة الاستعمال الظاهر له
ولان أكثر أهل العلم أجمعوا على أن القاتل كان واحدا.. ومعنى (فادارأتم) فتدارأتم
أي تدافعتم وألقى بعضكم القتل على بعض يقال دارأت فلانا إذا دافعته وداريته إذا
لا ينته ودريته ختلته ويقال أدرأ القوم إذا تدافعوا والهاء في قوله فادارأتم فيها تعود
إلى النفس.. وقيل إنها تعود على القتلة أي اختلفتم في القتلة لان قتلتم تدل على
المصدر والقتلة من المصادر تدل عليها الافعال ورجوع الهاء إلى النفس أولى وأشبه
بالظاهر.. فأما قوله تعالى (كذلك يحيى الله الموتى) فالإشارة وقعت به إلى قيام المقتول
عند ضربه ببعض أعضاء البقرة لأنه روى أنه قام حيا وأوداجه تشخب دما فقال قتلني
فلان ونبه الله تعالى بهذا الكلام وبذكر هذه القصة على جواز ما أنكره مشركو
قريش واستبعدوه من البعث وقيام الأموات لأنهم قالوا إذا كنا عظاما ورفاتا الآية
فأخبرهم الله تعالى بان الذي أنكروه واستبعدوه هين عليه غير متعذر في اتساع قدرته
وكان مما ضرب تعالى لهم من الأمثال ونبههم عليه من الأدلة ذكر المقتول الذي ضرب
ببعض البقرة فقام حيا وأراد تعالى أنني إذا كنت قد أحييت هذا المقتول بعد خروجه
عن الحياة ويأس قومه من عوده وانطواء خبر كيفية قتله عنهم ورددته حيا مخاطبا
131

باسم قاتله فكذلك فاعلموا أن إحياء جميع الأموات عند البعث لا يعجزنى ولا يتعذر
على وهذا بين لمن تأمله.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه ومن الشعر المشهور
بالجودة في ذم الدنيا والتذكير بمصائبها قول نهشل بن جرى يرثى أخاه مالكا
ذكرت أخي المخول بعد يأس * فهاج على ذكراه اشتياقي
فلا أنسى أخي ما دمت حيا * وإخواني بأقربة العتاق
يجرون الفصال على الندامى * بروق الحزن من كنفي إباق
ويغلون السباء إذا أتوه * بضمر الخيل والشول الخفاق
إذا اتصلوا وقالوا يا آل غوث * وراحوا في المحبرة الرقاق
أجابك كل أزوع شمرى * رخى البال منطلق الخناق
أناس صالحون نشأت فيهم * فآدوا بعد إلف واتساق
مضوا لسبيلهم ولبثت عنهم * ولكن لا محالة من لحاق
كذا الألف الذي أدلجن عنه * فجن ولا يتوق إلى متاق
أرى الدنيا ونحن نعيث فيها * مولية تهيأ لانطلاق
أعاذل قد بقيت بقاء قيس * وما حي على الدنيا بباقي
كأن الشيب والاحداث تجرى * إلى نفس الفتى فرسا سباق
فإما الشيب يدركه وإما * يلاقى حتفه فيما يلاقى
فإن تك لمتى بالشيب أمست * شميط اللون واضحة المساق
فقد أغدو بداجية أرائي * بها المتطلعات من الرواق
إلي كأنهن ظباء قفر * برهبي أو بباعجتى فتاق (1)

(1) - رهبي - بفتح أوله وسكون ثانيه وبعد الهاء باء موحدة خبراء في الصمان في ديار بنى تميم
132

يرامقن الخبال بغير وصل * وليس حبال وصلى بالرماق
وعهد الغانيات كعهد قين * وفت عنه الجعائل مستداق
كجلب السوء يعجب من رآه * ولا يشفى الحوائم من لماق
فلا يبعد مصابي في الموامى * وإشراف العلاية وانصفاق
وغبراء القتام جلوت عنى * بعجلى الطرف سالمة المآق
وقد طوفت في الآفاق حتى * سئمت النص بالقلص العتاق
وكم قاسيت من سنة جماد * تعض اللحم ما دون العراق
إذا أفنيتها بدلت أخرى * أعد شهورها عد الأواقى
وأفنتنى الشهور وليس تفنى * وتعداد الأهلة والمحاق
وما سبق الحوادث ليث غاب * يجر لعرسه جزر الرفاق
ولا بطل تعادى الخيل منه * فرار الطير من برد يعاق
وأحسن حارثه بن بدر الغداني في قوله
يا بكر ما راح من قوم ولا ابتكروا * إلا وللموت في آثارهم حادي
يا كعب ما طلعت شمس ولا غربت * إلا تقرب آجالا لميعاد
ولأبي العتاهية في هذا المعنى
إذا انقطعت عنى من العيش مدتي * فإن بكاء الباكيات قليل
سيعرض عن ذكرى وتنسى مودتي * ويحدث بعدى للخليل خليل
أجلك قوم حين صرت إلى الغنا * وكل غنى في العيون جليل
133

وليس الغنا إلا غنى زين الفتى * عشية يقرى أو غداة ينيل
ولم يفتقر يوما وإن كان معدا * جواد ولم يستغن قط بخيل
إذا مالت الدنيا إلى المرء رغبت * إليه ومال الناس حيث يميل
أرى علل الدنيا على كثيرة * وصاحبها حتى الممات عليل
وإني وإن أصبحت بالموت موقنا * فلى أمل دون اليقين طويل
وقد أحسن البحتري في قوله في هذا المعنى
أخي متى خاصمت نفسك فاحتشد * لها ومتى حدثت نفسك فاصدق
أرى علل الأشياء شتى ولا أرى التجمع إلا علة للتفرق
أرى العيش ظلا توشك نقله * فكس في ابتغاء العيش كيسك أومق
أرى الدهر غولا للنفوس وإنما * يقى الله في بعض المواطن من يقى
فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى * وعرج على الباقي فسائله لم بقي
ولم أر كالدنيا خليلة صاحب * محب متى تحسن بعينيه تطلق
تراها عنايا وهي صنعة واحد * فتحسبها صنعا لطيف وأخرق
.. وقد قيل إن السبب في خروج البحتري عن بغداد في آخر أيامه كان هذه الأبيات
لان بعض أعدائه شنع عليه بأنه ثنوى من حيث قال - فتحسبها صنعا لطيف وأخرق -
وكانت العامة حينئذ غالبة على البلد فخاف على نفسه فقال لابنه أبى الغوث قم يا بني حتى
نطفي عنا هذه الثائرة بخرجة نلم فيها ببلدنا ونعود فخرج ولم يعد.. وأحسن
أيضا غاية الاحسان في قوله
أغشى الخطوب فإما جئن مأربتي * فيما أسير أو أحكمن تأديبي
134

إن تلتمس تمر أخلاف الخطوب وإن * تلبث مع الدهر تسمع بالأعاجيب (1)

(1) الأبيات من قصيدة يمدح بها أحمد بن محمد الطائي ومطلعها
أتاركي أنت أم مغرى بتعذيبي * ولائمي في الهوي إن كان يزرى بي
عمر الغوائي لقد بين من كثب * هضيمة في محب غير محبوب
إذا مددنا إلى أعراضه سببا * وقين من كرهه الشبان بالشيب
أمفلت بك من زهد المهاهرب * من مرهق ببوادي الشيب مقروب
يحنو به من أعاليه على أود * حنوا الثقاف جرى فوق الأنابيب
أم هل مع الحب حلم لا تسفهه * صبابة أو عزاء غير مغلوب
قضيت من طلبي للغانيات وقد * شأونني حاجة في نفس يعقوب
لم أر كالنفر الاغفال سائمة * من الحبلق لم تحفظ من الذيب
وأربد القطر يلقاك السراب به * بعد التربض مبيض الجلابيب
أغشي الخطوب.. البيتان وبعدهما ومنها إلى أبى جعفر خاضت ركائبنا * خطار كل مهول الخرق مرهوب
ننوط آمالنا منه على ملك * مردد في صريح المجد منسوب
محتضر الباب اما آذن النقرى * أو فائت لعيون الوفد محجوب
ومنها خلائق كسوار المزن موفية * على البلاد بتصبيح وتأويب
ينهضن بالثقل لا يعطى النهوض به * أعناق مجفرة الهوج الهراجيب
في كل أرض وقوم من سحائبه * أسكوب عارفة من بعد أسكوب
كم بث في حاضر النهرين من نفل * ملقى على حاضر النهرين مصبوب
يملا أفواه مداحيه من حسب على السماكين والنسرين مسحوب
تلقى إليه المعالي قصد أوجهها * كالبيت يقصد أما بالمحاريب
معطي من المجد مزدادا برغبته * يجرى علي سنن منه وأسلوب
كالعين منهومة بالحسن تتبعه * والأنف يتبع أعلى منتهى الطيب
ما انفك منتضيا سيفي قرى ووغى * على الكواهل تدمي والعراقيب
قد سرني بر عجل من عداوته * بعد الذي اختبطت من سخطه الموب
ساروا مع الناس حيث الناس أزفلة * في جوده بين مرؤوس ومربوب
ولو تناهت بنو شيبان عنه إذا * لم يجشموا وقع ذي حدين مذروب
ما زادها النفر عنه غير تعرية * وبعدها من رضاه غير تتبيب
135

وفى قوله
متى تستزد فضلا من العمر تغترف * بسجليك من شهد الخطوب وصابها
تشد بنا الدنيا بأخفض سعيها * وغول الأفاعي لمه من لعابها
يسر بعمران الديار مضلل * وعمرانها مستأنف من خرابها
ولم أرتض الدنيا أو ان مجيئها * وكيف ارتضائيها أوان ذهابها
أقول لمكذوب عن الدهر زاغ عن * تخير آراء الحجى وانتخابها
سيزديك أو يثويك أنك محلس * إلي شقة يبكيك بعد مآبها
وهل أنت في مرموسة طال أخذها * من الأرض إلا حفنة من ترابها (1)

(1) الأبيات من قصيدة يمدح بها صاعدا ومطلعها
معاد من الأيام تعذيبنا بها * وابعادها بالألف بعد اقترابها
وما تملأ الآفاق من فيض غبرة * وليس الهوى البادي لفيض إنسكابها
غوى رأى نفس لا ترى أن وجدها * بتلك الغواني شقة من عذابها
وحظك من ليلي ولاحظ عندها * سوى صدها من غادة واجتنابها
يفاوت من تأليف شعبى وشعبها * تناهى شبابي وابتداء شبابها
هي الشمس الا ان أن شمسا تكشفت * لمبصرها وانها في ثيابها
136

.. وجدت الآمدي يروى هذا البيت أنك محبس بالباء.. وتفسير ذلك أن المعنى أنك
موقوف إلى أن تصير إلى هذا من قولك أحبست فرسا في سبيل الله وأحبست داري
أي وقفتها والرواية المشهورة أنك محلس باللام (1).. والمعنى أنك متهىء للرحيل
ومتخذ حلسا يوضع تحت الرحل وهذا أشبه بالمعنى الذي قصده البحتري وأولى بأن
يختاره مع دقة طبعه وسلامة ألفاظه
(مجلس آخر 72)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (هو الذي خلقكم من نفس
واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) إلى قوله (تعالى الله عما يشركون).. فقال أليس
ظاهر هذه الآية يقتضى جواز الشرك بالله على الأنبياء عليهم السلام لأنه لم يتقدم إلا
ذكر آدم وحواء عليهما السلام فيجب أن يكون قوله تعالى (جعلا له شركاء فيما آتاهما)
يرجع إليهما.. الجواب قلنا كما أن ذكر آدم وحواء عليهما السلام قد تقدم فقد تقدم
أيضا ذكر غيرهما في قوله تعالى (هو الذي خلقكم) ومعلوم أن المراد بذلك جميع
ولد آدم عليه السلام في قوله (فلما آتاهما صالحا) وأراد بالصلاح الاستواء في
الأعضاء والمعنى فلما آتاهما ولدا صالحا والمراد بهذا الجنس دون الواحد وإن كان
اللفظ لفظ وحدة والمعنى فلما آتاهما جنسا من الأولاد صالحين.. وإذا كان الامر
على ما ذكرناه جاز أن يرجع قوله تعالى (جعلا له شركاء) إلى ولدهما وقد تقدم
ذكرهم.. فإن قيل إنما وجب رده إلى آدم وحواء عليهما السلام لأجل التثنية في
الكلام ولم يتقدم ذكر اثنين إلا ذكرهما عليهما السلام.. قلنا إن جعل هذا ترجيحا
في رجوعه إليهما جاز أيضا إن يجعل قوله تعالى في آخر الآية (تعالى الله غما يشركون)

(1) - قلت والبيت في ديوان شعره
سيرديك أو يثويك أنك مخلس * إلي شقة يبليك بعد مآبها
137

وجها مقربا لرجوع الكلام إلى جملة الأولاد ويجوز أيضا أن يكون أشار في التثنية إلى
الذكور والإناث من ولد آدم عليه السلام وإلى جنسين منهم فحسنت التثنية لذلك على
أنه إذا تقدم في الكلام أمران ثم تلاهما حكم من الاحكام وعلى بالدليل استحالة تعلقه
بأحد الامرين وجب رده إلى الآخر.. وإذا علمنا أن آدم عليه السلام لا يجوز عليه
الشرك لم يجز عود الكلام إليه فوجب عوده إلى المذكورين من ولد آدم عليه السلام
.. وذكر أبو علي الجبائي في هذا ما نحن نورده على وجهه.. قال إنما عنى بهذا أن
الله تعالى خلق بني آدم من نفس واحدة لان الاضمار في قوله تعالى خلقكم إنما عنى به
بني آدم عليه السلام والنفس الواحدة التي خلقهم منها هي آدم لأنه خلق حواء من آدم
ويقال إنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاعه ويقال من طينته فرجعوا جميعا إلى أنهم
خلقوا من آدم عليه السلام.. وبين ذلك بقوله تعالى (وخلق منها زوجها) لأنه
عنى به أنه خلق من هذا النفس زوجها وزوجها هو حواء عليهما السلام.. وعنى بقوله
تعالى (فلما تغشاها حملت حملا خفيفا) وحملها هو حبلها منه في ابتداء الحمل لأنه في
ذلك الوقت خفيف عليها.. ومعنى قوله تعالى (فمرت به) أن مرورها بهذا الحمل
في ذل الوقت وتصرفها به كان عليها سهلا لخفته فلما كبر الولد في بطنها ثقل ذلك عليها
فهو معنى قوله تعالى (أثقلت دعوا الله) فثقل عليها عند ذلك المشئ والحركة
.. وعنى بقوله تعالى (دعوا الله ربهما) أنهما دعوا عند كبر الولد في بطنها فقالا لئن
آتيتنا يا رب نسلا صالحا لنكونن من الشاكرين لنعمتك علينا لأنهما أراد أن يكون لهما
أولاد نؤنسهما في الموضع الذي كانا فيه لأنهما كانا فردين مستوحشين إذا غاب أحدهما
بقي الآخر مستوحشا بلا مؤنس فلما آتاهما نسلا صالحا معافى وهم الأولاد الذين كانوا
يولدون لهما لان حواء عليها السلام كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى فقال إنها ولدت
في خمسمائة بطن ألف ولد.. وعنى بقوله تعالى (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما
آتاهما) أي أن هذا النسل الصالح الذي هم ذكر وأنثى جعلا له شركاء فيما آتاهما
من نعمة وأضاف بعد تلك النعم إلى الذين اتخذوهم آلهة مع الله تعالى من الأصنام
والأوثان ولم يعن بقوله تعالى جعلا آدم وحواء عليهما السلام لان آدم لا يجوز عليه
138

الشرك لأنه نبي من أنبيائه ولو جاز الشرك والكفر على الأنبياء لما جاز أن يثق أحدنا
بما يؤديه النبي عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى عز وجل لان من جاز عليه الكفر
جاز عليه الكذب ومن جاز عليه الكذب لم يؤخذ بأخباره فصح بهذا أن الاضمار في
قوله تعالى (جعلا له شركاء) إنما يعنى به النسل وإنما ذكر ذلك على سبيل التثنية
لأنهم كانوا ذكروا وأنثى فلما كانوا صنفين جاز أن يجعل تعالى اخبار عنهما كالاخبار
عن الاثنين إذ كانا صنفين.. وقد دل على صحة تأويلنا هذا قوله تعالى في آخر الآية
(تعالى الله عما يشركون) فبين عز وجل أن الذين جعلوا لله شركاء هم جماء
فلهذا جعل إضمارهم إضمار الجماعة فقال تعالى يشركون مضى كلام أبى على.. وقد
قيل في قوله تعالى (فلما آتاهما صالحا) مضافا إلى الوجه المتقدم الذي هو أنه أراد
بالصلاح الاستواء في الخلقة والاعتدال في الأعضاء وجه آخر وهو أنه لو أراد الصلاح
في الدين لكان الكلام أيضا مستقيما لان الصالح في الدين قد يجوز أن يكفر بعد صلاحه
فيكون في حال صالحا وفى آخري مشركا وهذا لا يتنافى.. وقد استشهد في جواز
الانتقال من خطاب إلى غيره ومن كناية من مذكور إلى مذكور سواه ليصح ما قلناه
من الانتقال من الكناية عن آدم عليه السلام وحواء عليها السلام إلى ولدهما بقوله
تعالى (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله) فانصرف عن مخاطبة
الرسول إلى مخاطبة المرسل إليهم ثم قال (وتعزروه وتوقروه) يعنى الرسول عليه
الصلاة والسلام ثم قال (وتسبحوه) وهو يعنى مرسل الرسول فالكلام واحد
متصل بعضه ببعض والخطاب منتقل من واحد إلى غيره ويقول الهذلي
يا لهف نفسي كان جدة خالد * وبياض وجهك للتراب الأعفر
ولم يقل وبياض وجهه.. وقال كثير
أسيئي بناء أو أحسني لا ملومة * لدينا ولا مقلية إن تقلت (1)

(1) قوله - أسيئ بنا أو أحسني - أورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى
(أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم) على تساوى الانفاقين في عدم القبول كما
ساوى كثير بين الاحسان والإساءة في عدم اللوم والنكتة في مثل ذلك اظهار نفى
تفاوت الحال بتفاوت فعل المخاطب كأنه يأمرها بذلك لتحقيق أنه على العهد - ومقلية -
بمعنى مبغضة من القلى وهو البغض.. والبيت من قصيدته المشهورة.. روي أن
عبد الملك سأله عن أعجب خبر له مع عزة فقال يا أمير المؤمنين حججت سنة وحج زوج
عزة معها ولم يعلم أحدنا بصاحبه فلما كنا ببعض الطريق أمرها زوجها بابتياع سمن
تصلح به طعاما لرفقته فجعلت تدور الخيام خيمة خيمة حتى دخلت إلى وهي لا تعلم أنها
خيمتي وكنت أبرى سهما فلما رأيتها جعلت أبري لحمي وأنظر إليها حتى بريت ذراعي
وأنا لا أعلم به والدم يجرى فلما علمت ذلك دخلت إلي فأمسكت يدي وجعلت تمسح
الدم بثوبها وكان عندي نحى سمن فحلفت لتأخذه فأخذته وجاء زوجها فلما رأى الدم
سألها عن خبره فكاتمته حتى حلف عليها لتصدقنه فصدقته فضربها وحلف عليها لتشتمني
في وجهي فوقفت على وقالت لي وهي تبكى يا بن الزانية ومطلع القصيدة
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا * قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
ومساترابا كان قد مس جلدها * وبيتا وظلا حيث باتت وظلت
ولا تيأسا أن يمحو الله عنكما * ذنوبا إذا صليتما حيث صلت
وما كنت أدري قبل عزة ما البكي * ولا موجعات القلب حتى تولت
وقد حلفت جهدا بما نحرت له * قريش غداة المأزمين وصلت
أناديك ما حج الحجيج وكبرت * بفيفا غزال رفقة وأهلت
وكانت لقطع العهد بيني وبينها * كناذرة نذرا فأوفت وحلت
فقلت لها يا عز كل مصيبة * إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
ولم يلق انسان من الحب ميعة * لغم ولا عمياء الا تجلت *
كأني أنادي صخرة حين أعرضت * من الصم لو تمشي بها العصم زلت
صفوحا فما تلقاك الا بخيلة * فمن مل منها ذلك الوصل ملت
أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها * وحلت تلاعا لم تكن قبل حلت
فليت قلوصي عند عزة قيدت * بحبل ضعيف غر منها فضلت
وغودر في الحي المقيمين رحلها * وكان لها باغ سواي فبلت
وكنت كذى رجلين رجل صحيحة * ورجل رمى فيها الزمان فشلت
وكنت كذات الظلع لما تحاملت * على ظلعها بعد العثار استقلت
أريد الثواء عندها وأظنها * إذا ما أطلنا عندها المكث ملت
فما أنصفت أما النساء فبغضت * إلينا وأما بالنوال فضنت *
يكلفها الغيران شتمى وما بها * هو اني ولكن للمليك إستذلت
هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزة من أعراضنا ما استحلت
ووالله ما قاربت الا تباعدت * بصرم ولا أكثرت الا أقلت
فان تكن العتبي فأهلا ومرحبا * وحقت لها العتبي لدينا وقلت
وان تكن الأخرى فان وراءنا * مناوح لو تسرى بها العيس كلت
خليلي ان الحاجبية لمحت * قلوصيكما وناقتي قد أكلت
فلا يبعدن وصل لعزة أصبحت * بعاقبة أسبابه قد تولت *
أسيئ بنا أو أحسني لا ملومة * لدينا ولا مقلية ان ثقلت *
ولكن أميلي واذكري من مودة * لناخلة كانت لديك فضلت
واني وان صدت لمثن وصادق * عليها بما كانت إلينا أزلت
فما أنا بالداعي لعزة بالجوى * ولا شامت ان نعل عزة زلت
فلا يحسب الواشون ان صبابتي * بعزة كانت غمرة فتجلت
فأصبحت قد أبللت من دنف بها * كما أدنفت هيماء ثم استبلت
ووالله ثم الله ما حل قبلها * ولا بعدها من خلة حيث حلت
وما مر من يوم على كيومها * وان عظمت أيام أخرى وجلت
فأضحت بأعلى شاهق من فؤاده * فلا القلب يسلاها والا العين ملت
فيا عجبا للقلب كيف اعترافه * وللنفس لما وطنت كيف ذلت
واني وتهيامي بعزة بعدما * تخليت عما بيننا وتخلت *
لكا لمرتجى ظل الغمامة كلما * تبوأ منها للمقيل اضمحلت
كأني وإياها سحابة ممحل * رجاها فلما جاوزته استهلت
فان سأل الواشون فيما هجرتها * فقل نفس حر سليت فتسلت
139

فخاطب ثم ترك الخطاب.. وقال آخر
فدى لك يا فتى وجميع أهلي * وما لي إنه منه أتاني
140

ولم يقل منك أتاني.. ووجدت أبا مسلم محمد بن بحر يحمل هذه الآية على أن الخطاب
في جميعها غير متعلق بحواء وآدم عليهما والسلام ويجعل الهاء في تغشاها والكناية في دعوا
141

الله ربهما وآتاهما صالحا راجعتين إلى من أشرك ولم يتعلق بآدم وحواء عليهما السلام
من الخطاب إلا قوله (خلقكم من نفس واحدة) لان الإشارة في قوله (خلقكم
من نفس واحدة) إلى الخلق عامة.. وكذلك قوله تعالى (وجعل منها زوجها)
.. ثم خص منها بعضهم كما قال تعالى (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم
في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) فخاطب الجماعة بالتسيير في البر والبحر ثم خص
راكب البحر بقوله تعالى (وجرين بهم بريح طيبة) كذلك هذه الآية أخبرت عن
جملة أمر البشر فأنهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها آدم وحواء عليهما السلام
.. ثم دعى الذكر اي الذي سأل الله تعالى ما سأل فلما أعطاه إياه ادعى الشركاء في
عطيته.. وقل جائز أن يكون عنى بقوله هو الذي خلقكم من نفس واحدة المشركين
خصوصا إذ كان كل بني آدم مخلوقا من نفس واحدة.. ويجوز أن يكون المعنى
في قوله تعالى (خلقكم من نفس واحدة) خلق كل واحد منكم من نفس واحدة
وهذا يجئ كثيرا في القرآن وفى كلام العرب قال الله تعالى (والذين يرمون المحصنات
ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) والمعنى فاجلدوا كل واحد ثمانين جلدة
وقال (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها) فلكل نفس زوج
وهو منها أي من جنسها فلما تغشي كل نفس زوجها حملت حملا خفيفا وهو ماء الفحل
فمرت به أي مارت والمور التردد والمراد تردد هذا الماء في رحم هذه الحامل فلما أثقلت
142

أي ثقل حملها أي بمصير ذلك الماء لحما ودما وعظما دعوا الله أي الرجل والمرأة لما
استبان حمل المرأة فقالا لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما أي أعطاهما
ما سألا من الولد الصالح نسبا ذلك إلى شركاء معه فتعالى الله عما يشركون.. وقال قوم معنى
جعلا له شركاء أي طلبا من الله أمثالا للولد الصالح فشركا بين الطلبتين وتكون الهاء في
قوله تعالى له راجعة إلى الصالح لا إلى الله تعالى ويجرى مجرى قول القائل طلبت منى
درهما فلما أعطيتك أشركته بآخر أي طلبت آخر مضافا إليه وعلى هذا الوجه لا يمتنع
أن يكون قوله تعالى جعلا والخطاب كله متوجها إلى آدم وحواء عليهما السلام
(مجلس آخر 73)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم
وما تعملون).. فقال أليس ظاهر هذا القول يقتضى أنه خالق لا عمال العباد لان ما ههنا بمعنى
الذي فكأنه قال خلقكم وخلق أعمالكم.. الجواب قلنا قد حمل أهل الحق هذه الآية
على أن المراد بقوله تعالى وما تعملون أي وما تعملون فيه من الحجارة والخشب وغيرهما
مما كانوا يتخذونه أصناما ويعبدونها.. قالوا وغير منكر أن يريد بقوله تعالى وما تعلمون ذلك
كما أنه قد أراد ما ذكرناه بقوله تعالى وتعبدون ما تنحتون لأنه لم يرد أنكم تعبدون
نحتكم الذي هو فعلكم بل أراد ما تفعلون فيه النحت وكما قال تعالى في عصى موسى عليه
السلام تلقف ما يأفكون تلقف ما صنعوا وإنما أراد تعالى أن العصى تلقف الحبال التي
أظهروا سحرهم فيها وهي التي حلتها صنعتهم وإفكهم فقال تعالى ما صنعوا وما يأفكون
وأراد تعالى ما صنعوا فيه وما يأفكون فيه ومثله قوله تعالى (يعملون له ما يشاء من محاريب)
وإنما أراد المعمول فيه دون العمل وهذا الاستعمال أيضا سائغ شائع لأنهم يقولون هذا
الباب عمل النجار وفى الخلخال هذا عمل الصائغ وإن كانت الأجسام التي أشير إليها ليست
أعمالا لهم وإنما عملوا فيها فحسن إجراء هذه العبارة.. فإن قيل كل الذي ذكرتموه وإن
استعمل فعلى وجه المجاز والاتساع لان العمل في الحقيقة لا يجرى إلا على فعل الفاعل
143

دون ما يفعل فيه وإن استعير في بعض المواضع.. قلنا ليس نسلم لكم أن الاستعمال الذي
ذكرناه على سبيل المجاز بل نقول هو المفهوم الذي لا يستفاد سواه لان القائل إذا قال هذا الثوب
عمل فلان لم يفهم منه إلا أنه عمل فيه وما رأينا أحدا قط يقول في الثوب بدلا من قوله
هذا من عمل فلان هذا مماحله عمل فلان فالأول أولى بأن يكون حقيقة وليس ينكر
أن يكون الأصل في الحقيقة ما ذكروه ثم انتقل ذلك بعرف الاستعمال إلى ما ذكرناه
وصار أخص به ومما لا يستفاد من الكلام سواه كما انتقلت ألفاظ كثيرة على هذا الحد
والاعتبار في المفهوم من الألفاظ إلا ما يستقر عليه استعمالها دون ما كانت عليه في الأصل
فوجب أن يكون المفهوم.. والظاهر من الآية ما ذكرناه
على أنا لو سلمنا أن ذلك مجاز
لوجب المصير إليه من وجوه.. منها ما يشهد به ظاهر الآية ويقتضيه ولا يسوغ سواه
.. ومنها ما تقتضيه الأدلة القاطعة الخارجة عن الآية.. فمن ذلك أنه تعالى أخرج
الكلام مخرج التهجين لهم والتوبيخ لأفعالهم والإزراء على مذاهبهم.. فقال (أتعبدون
ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) ومتى لم يكن قوله تعالى (وما تعملون) المراد
به ما يعملون فيه ليصير تقدير الكلام أتعبدون الأصنام التي تنحتونها والله خلقكم وخلق
هذه الأصنام التي تفعلون بها التخطيط والتصوير لم يكن للكلام معنى ولا مدخل في
باب التوبيخ ويصير على ما يذكره المخالف كأنه قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم
وخلق عبادتكم فأي وجه للتقريع وهذا إلى أن يكون عذرا أقرب من يكون لوما
وتوبيخا إذا خلق عبادتهم للأصنام فأي وجه للوهم عليها وتقريعهم بها على أن قوله تعالى
(خلقكم وما تعملون) بعد قوله تعالى (أتعبدون ما تنحتون) إنما خرج مخرج التعليل
للمنع من عبادة غيره فلا أن يكون متعلقا بما تقدم من قوله (أتعبدون ما تنحتون)
ومؤثرا في المنع من عبادة غيره فلو أفاد غير قوله ما تعملون نفس العمل الذي هو النحت
دون المعمول فيه لكان له فائدة في الكلام لان القوم لم يكونوا يعبدون النحت وإنما
كانوا يعبدون محل النحت ولأنه كان لاحظ في الكلام للمنع من عبادة الأصنام فكذلك
لو حمل قوله تعالى ما تعملون من أعمال أخر ليست نحتهم ولا هي ما عملوا فيه لكان أظهر
في باب اللغو والعبث والبعد عن التعلق بما تقدم فلم يبق إلا أنه أراد تعالى به خلقكم
144

وما تعملون فيه النحت فكيف تعبدون مخلوقا مثلكم.. فإن قيل لهم زعمتم أنه لو كان
الامر على ما ذكرناه لم يكن للقول الثاني حظ في باب المنع من عبادة الأصنام وما تنكرون
أن يكون لما ذكرناه وجه في المنع من ذلك وإن كان ما ذكرتموه أيضا لو أريد لكان وجها
وهو أن من خلقنا وخلق الافعال فينا لا يكون إلا الا له القديم الذي يحق له العبادة وغير
القديم تعالى كما يستحيل أن يخلقنا يستحيل أن يخلق فينا الافعال على الوجه الذي يخلقها
القديم عليه تعالى فصار لما ذكرناه تأثير.. قلنا معلوم أن الثاني إذا كان كالتعليل للأول
والمؤثر في المنع من العبادة فلان يتضمن أنكم مخلوقون وما تعبدونه أولى من أن
ينصرف إلى ما ذكرتموه مما لا يقتضى أكثر من خلقهم دون خلق ما عبدوه فإنه لا شئ
أدل على المنع من عبادة الأصنام من كونها مخلوقة كما أن عابدها مخلوق ويشهد لما ذكرناه
أيضا قوله تعالى في موضع آخر (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون
لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون) فاحتج تعالى عليهم في المنع من عبادة الآلهة دونه
بأنها مخلوقة لا تخلق شيئا ولا تدفع عن أنفسها ضرا ولا عنهم وهذا واضح على أنه لو
ساوى ما ذكروه ما ذكرناه في التعلق بالأول لم يسغ حمله على ما ادعوه لان فيه عذرا
لهم في الفعل الذي عنفوا وقرعوا من أجله وقبيح أن يوبخهم بما يعذرهم ويذمهم مما
يبرئهم على ما تقدم على أنا لا نسلم أن من يفعل أفعال العباد ويخلقها يستحق العبادة لان من
جملة أفعالهم القبائح ومن فعل القبائح لا يكون إلها ولا تحق له العبادة فخرج ما ذكروه
من أن يكون مؤثرا بانفراده في العبادة على أن إضافة العمل إليهم لقوله تعالى يبطل
تأويلهم هذه الآية لأنه لو كان تعالى خالقا لهما لم يكن عملا لهم لان العمل إنما يكون لمن
يحدثه ويوجده فكيف يكون عملا لهم والله خلقهم وهذه مناقضة فثبت بهذا أن الظاهر
شاهد لنا أيضا على أن قوله تعالى (وما تعملون) يقتضى الاستقبال وكل فعل لم يوجده
فهو معدوم ومحال أن يقول تعالى إني خالق للمعدوم.. فإن قالوا اللفظ وإن كان
للاستقبال فالمراد به الماضي كأنه تعالى قال والله خلقكم وما عملتم.. قلنا هذا
عدول منكم عن الظاهر الذي ادعيتم أنكم متمسكون به وليس أنتم بأن تعدلوا عنه
بأولى منا بل نحن أحق لأنا نعدل عنه بدلالة وأنتم تعدلون بغير حجة.. فإن قيل فأنتم
145

أيضا تعدلون عن هذا الظاهر بعينه على تأويلكم وتحملون لفظ الاستقبال على لفظ
الماضي.. قلنا لا نحتاج نحن في تأويلنا إلى ذلك لأنا إذا حملنا قوله تعالى (وما تعلمون)
على الأصنام المعمول فيها.. ومعلوم أن الأصنام موجودة قبل عملهم فيها فجاز أن يقول
تعالى إني خلقتها ولا يجوز أن يقول أنى خلقت ما سيقع من العمل في المستقبل على أنه
تعالى لو أراد بذلك أعمالهم لا ما عملوا فيه على ما ادعوه لم يكن في الظاهر حجة على ما
يريدون لان الخلق هو التقدير والتدبير وليس يمتنع في اللغة أن يكون الخالق خالقا
لفعل غيره إذا قدره ودبره ألا ترى أنهم يقولون خلقت الأديم وإن لم الأديم فعلا
لمن يقول ذلك فيه ويكون معنى خلقه لافعال العباد أنه مقدر لها ومعرف لنا مقاديرها
ومراتبها وما به نستحق عليها من الجزاء وليس يمتنع أن يقال إنه خالق للأعمال على هذا
المعنى إذا ارتفع الابهام وفهم المراد فهذا كله تقتضيه الآية ولو لم يكن في الآية شئ مما
ذكرناه مما يوجب العدول عن حمل قوله تعالى (وما تعملون) على خلق نفس
الأعمال لوجب أن نعدل بها عن ذلك ونحملها على ما ذكرناه بالأدلة العقلية الدالة على
أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأعمالنا وإن تصرفنا محدث منا ولا فاعل له سوانا وكل
هذا واضح والحمد لله تعالى والمنة.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه وإني
لأستحسن لبعض نساء بنى أسد قولها
ألم ترنا غبنا ماؤنا * زمانا فظلنا نكد البئارا
فلما عدا الماء أوطانه * وجف الثماد فصارت حرارا
وضجت إلى ربها في السماء * رؤس العصاة تناجى السرارا
وفتحت الأرض أفواهها * عجيج الجمال وردن الجفارا
لبسنا لدى عطن ليلة * على اليأس أثيابنا والخمارا
وقلنا أعيروا الندى حقه * وسيروا الحفاظ وموتوا حرارا
146

فإن الندى لعسى مرة * يرد إلى أهله ما استعارا
فبتنا نوطن أحشاءنا * أضاء لنا عارض فاستطارا
وأقبل يزحف زحف الكسير * سياق الرعاء البطاء العشارا
تغني وتضحك حافاته * خلال النعام وتبكى مرارا
كأنا تضيء لنا حرة * تشد إزارا وتلقى إزارا
فلما خشينا بأن لا نجئ * وأن لا يكون فرارا فرارا
أشار إليه أمروا فوقه * هلم فأم إلى ما أشارا
وأنشد أبو هفان لولادة الهرمية
لولا اتقاء الله قمت بمفخر * لا يبلغ الثقلان فيه مقامي
بأبوة في الجاهلية سادة * بذوا العلا إمراء في الاسلام
جادوا فسادوا مانعين أذاهم * لنداهم فضل على الأقوام
قذ أنجبوا في السؤددين وأنجبوا * بنجابة الأخوال والأعمام
قوم إذا سكتوا تكلم مجدهم * عنهم فأخرس دون كل كلام
وقالت امرأة من بنى سعد بن بكر
أيا أخوى الملزمى ملامة * أعند كما بالله من مثل ما بيا
سألتكما بالله إلا جعلتما * مكان الأذى واللوم أن تأوياليا
أيا أمتا حب الهلالي قاتلي * شطون النوى يحتل عرضا يمانيا
أشم كغصن البان جعد مرجل * شغفت به لو كان شيئا مدانيا
فإن لم أوسد ساعدى بعد هجعة * غلاما هلاليا فشلت بنانيا
147

ثكلت أبى إن كنت ذقت كريقه * سلافا ولا ماء الغمامة غاديا
ألم كثيرا لمة ثم شمرت * به خلة يطلبن برقا يمانيا
ولصاحبة الهلالية أيضا
وإني لاهوى القصد ثم يردني * عن القصد ميلاة الهوى فأميل
فما وجد مسجون بصنعاء موثق * بساقيه من حبس الأمير كبول
وما ليل مولى مسلم بجريرة * له بعد ما نام العيون عويل
بأكثر منى لوعة يوم راعني * فريق حبيب ما إليه سبيل
ولعمرة بنت (1) العجلان أخت عمرو ذي الكلب بن عجلان الكاهلي ترثي أخاها عمرا
وقد كان في بعض غزواته نائما فوثب إليه نمران فأكلاه فوجدت قبيلة فهم سلاحه
فادعت قتله هي
سألت بعمر أخي صحبه * فأفظعني حين ردوا السؤالا (2)
وقالوا أتيح له نائما * أعر السباع عليه أحالا (3)

(1) قوله - ولعمرة بنت العجلان الخ.. قلت نسبها غيره لأخته جنوب.. وقوله
فوثب إليه نمران فأكلاه.. قال صاحب زهر الآداب قال عمر بن شبة كان عمرو هذا
يغزو فهما فيصيب منهم فوضعوا له رصدا على الماء فأخذوه فقتلوه ثم مروا بأخته جنوب
فقالوا طلبنا أخاك فقالت لئن طلبتموه لتجدنه منيعا ولئن وصفتموه لتجدنه مريعا ولئن
دعوتموه لتجدنه سريعا والله لئن سلبتموه لا تجدون ثنيته دامية ولا حجزته حامية ولرب
ثدي منكم قد افترشه ونهب قد احتوشه وضب قد احترشه.. ثم قالت هذه الأبيات انتهي
(2) قولها - سألت بعمرو - الباء بمعنى عن وأخي عطف بيان - وصحبه - مفعول
سألت وهو مضاف إلى ضمير عمرو وصحب جمع صاحب - وأفظعنى - هدني قبحه
وشدته.. يقال أفظع الامر افظاعا وفظع فظاعة إذا جاوز الحد في القبح
(3) قولها - أتيح له الخ - أتيح مجهول أتاح الله له بالمثناة والحاء المهملة بمعنى
قضى وقدر والهاء في له لعمرو - ونائما حال منها - وأعر السباع - نائب فاعل أتيح وهو من
العرارة بالعين والراء المهملتين وهو سوء الخلق - وأحال - بالحاء المهملة.. قال السكري
أي ركب عليه فقتله وأكله
148

أتيح له نمرا أجبل * فنالا لعمرك منه منالا (1)
فأقسمت يا عمروا لو نبهاك * إذا نبها منك أمرا عضالا (2)
إذا نبها ليث عريسة * مفيتا مفيدا نفوسا ومالا (2)
هزبرا فروسا لأعدائه * هصورا إذا لقى القرن صالا (4)
هما مع تصرف ريب المنون * من الأرض ركنا ثبيتا أمالا (5)

(1) قولها - أتيح له نمرا أجبل - أي قدر له ونمرا مثني نمر مضاف إلى أجبل
جمع جبل وتصحفت هذه الكلمة على العيني فقال قولها نمرا جيئل - أي نمران من
جيئل أي سبعان من جيئل والنمر السبع والجيئل بفتح الجيم وسكون الياء وفتح الهمزة
وهو الضبع هذا كلامه وهو تحريف قطعا
(2) قولها - فأقسمت يا عمرو الخ - هذا التفات من الغيبة إلى الحضور وضمير
المثنى في نبهاك للنمرين.. وروى - داء عضالا - أي شديدا أعيا الأطباء
(3) قولها - ليث عريسة - قال الجوهري العريس والعريسة مأوى الأسد
- والمفيد - معناه معطى الفائدة كذا ورد بالمعنيين - ومفيت - بالفاء.. قال السكري أي
مهلك النفوس والمال وتصحفت هذه الكلمة على العيني فرواها بالقاف.. وقال مقيتا
أي مقتدرا كالذي يعطى كل رجل قوته.. ويقال المقيت الحافظ للشئ والشاهد له
والنفوس يرجع إلى المقيت والمال يرجع إلى المفيد هذا كلامه
(4) وقولها - هزبرا فروسا الخ - الهزبر الأسد الضخم الشديد - الفروس -
الكثير الافتراس للمصيد - وهصورا - من الهصر وهو الجذب والاخذ بقوة -
والقرن - بالكسر كفؤك في الشجاعة أو عام - وصال على قرنه سطا
(5) قولها - هما مع تصرف ريب المنون الخ - ريب المنون حوادث الدهر.. قال
السكري ثبيت ثابت.. وروي غيره بدله شديدا
149

هما يوم حم له يومه * وقال أخوفهم بطلا وقالا (1)
وقالوا قتلناه في غارة * بآية ما إن ورثتا النبالا (2)
فهلا ومن قبل ريب المنون * فقد كان رجلا وكنتم رجالا
وقد علمت فهم يوم اللقاء * بأنهم لك كانوا نفالا
كأنهم لم يحسوا به * فيخلوا النساء له والحجالا (3)
ولم ينزلوا بمحول السنين * به فيكونوا عليه عيالا
وقد علم الضيف والمجتدون * إذا اغبر أفق وهبت شمالا (4)

(1) قولها - هما يوم حم له يومه - الخ.. قال السكري هما تعنى النمرين - وحم -
قضى وقدر - وفال - بالفاء أي أخطأ رجل فائل الرأي وفيل أي ضعيف الرأي - وفهم -
قبيلة ولهذا منعه الصرف كذا قال عبد القادر.. والبيت لا يخفى أنه مكسور وهو
ساقط من العيني
(2) قولها - وقالوا قتلناه - روى نحن بدل قالوا.. قال السكري تهزأ بهم - والآية -
العلامة - والنبال - السهام - ورجل - قال السكري هو الرجل يقال رجل ورجل أي
بسكون الجيم وضمها.. وروى غيره فذا يدل رجلا - والفذ - بالفاء والذال المعجمة هو
الفرد - والنفال - الغنائم جمع نفل بفتحتين وهي الغنيمة
(3) وقولها - كأنهم لم يحسوا به - الخ من حسست بالخبر من باب تعب أي علمته
وشعرت به - ويخلوا - من أخليته أي جعلته خاليا - والحجال - جمع حجلة بالتحريك
وهو بيت يزين بالثياب والأسرة والستور
(4) قولها - وقد علم الضيف والمجتدون - الخ المجتدون - هم الطالبون الجدا وهي
العطية.. وروي المرملون بدل قولها المجتدون - المرملون - من أرمل القوم إذا نفد
زادهم وفاعل هبت ضمير الريح وان لم يجر لها ذكر لفهمها من قولها إذا اغبر أفق فان
اغبراره إنما يكون في الشتاء لكثرة الأمطار واختلاف الرياح - والشمال - بالفتح ويكسر
ربح تهب من ناحية القطب وهو حال وإنما خصت هذا الوقت بالذكر لأنه وقت تقل
فيه الأرزاق وتنقطع السبل ويثقل فيه الضيف فالجود فيه غاية لا تدرك
150

وخلت عن أولادها المرضعات * ولم تر عين لمزن بلالا (1)
بأنك كنت الربيع المغيث * لمن يعتريك وكنت الثمالا (2)

(1) قولها - وخلت عن أولادها المرضعات الخ.. قال أبو حنيفة إنما خلت
أولادها من الاعواز لم يجدن قوتا واغبرار الأفق من الجدب وأراد هبت الربح شمالا وهي
تضمر وان لم تذكر لكثرة ما تذكر انتهي - والمزن - السحاب - والبلال - بالكسر البلل
(2) قولها - بأنك كنت الربيع - الخ الربيع هنا ربيع الزمان.. قال ابن قتيبة في باب
ما يضعه الناس غير موضعه وهو أول كتابه أدب الكاتب ومن ذلك الربيع يذهب الناس
إلي أنه الفصل الذي يتبع الشتاء ويأتي فيه الورد والنور ولا يعرفون الربيع غيره
والعرب تختلف في ذلك فمنهم من يجعل الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو
الخريف وفصل الشتاء بعده ثم فصل الصيف بعد الشتاء وهو الوقت الذي تدعوه
العامة الربيع ثم فصل القيظ الذي بعده وهو الذي تدعوه العامة الصيف ومن العرب
من يسمى الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف الربيع الأول.. ويسمى الفصل
الذي يتلو الشتاء ويأتي فيه الكمأة والنور الربيع الثاني وكلهم مجمعون على أن الخريف
هو الربيع اه‍.. قال شارحه ابن السيد مذهب العامة في الربيع هو مذهب المتقدمين
لأنهم كانوا يجعلون حلول الشمس برأس الحمل أول الزمان وشبابه وأما العرب فإنهم
جعلوا حلول الشمس برأس الميزان أول فصول السنة الأربعة وسموه الربيع.. وأما
حلول الشمس برأس الحمل فكان منهم من يجعله ربيعا ثانيا فيكون في السنة على مذهبهم
ربيعان وكان منهم من لا يجعله ربيعا ثانيا فيكون في السنة على مذهبهم ربيع واحد وأما
الربيعان من الشهور فلا خلاف بينهم انهما اثنان ربيع الأول وربيع الآخر انتهى
- والغيث - المطر والكلأ ينبت بماء السماء والمراد به هذا لوصفه بالمريع وهو الخطيب بفتح
الميم وضمها في القاموس مرع الوادي مثلثة الراء مراعة أكلا كأمرع - والثمال - بكسر
المثلثة.. قال الدينوري هو الذخر وقال غيره هو الغياث - والمغيث - من الإغاثة - ومن
يعتريك - أي من يقصدك.. وروى
بأنك ربيع وغيث مرئ * وأنك هناك تكون الثمالا
والبيت يستشهد به النحويون في باب أن المخففة من الثقيلة وهو من الضرورة لان اسم
ان المخففة شرطه أن يكون ضميرا محذوفا.. قال ابن هشام وربما ثبت وانشد البيت
وهو مختص بالضرورة علي الأصح وشرط خبرها أن يكون جملة ولا يجوز افراده الا
إذا ذكر الاسم فيجوز الأمران وقد اجتمعا في البيت.. وقال في التصريح ان البيت
ضرورة من وجهين عند ابن الحاجب كونه غير ضمير الشأن وكونه مذكورا وعند
ابن مالك من وجه واحد وهو كونه مذكورا اه‍.. قلت وروى عن ابن مالك أنه
قال إذا أمكن جعل الضمير المحذوف ضمير حاضر أو غائب غير الشأن فهو أولي..
وعن أبي حيان أنه قال لا يلزم أن يكون ضمير الشأن كما زعم بعض أصحابنا بل إذا أمكن
تقديره بغيره قدر
151

وخرق تجاوزت مجهولة * بوجناء حرف تشكى الكلالا (1)
فكنت النهار به شمسه * وكنت دجى الليل فيه الهلالا
وخيل سمت لك فرسانها * فولوا ولم يستقلوا قبالا
وكل قبيل وإن لم تكن * أردتهم، منك باتوا وجالا (2)

(1) قولها - وخرق - الواو فيه واو رب وهو بفتح الخاء المعجمة الفلاة الواسعة
تنخرق فيها الرياح وهو مجرور رب المضمرة أو الواو المعوضة منها - ومجهوله - الذي لا يسلك
- والوجناء - بالجيم الناقة الشديدة - والحرف - الضامرة الصلبة - وتشكى - مضارع أصله
تتشكى بتاءين - والكلال - الاعياء
(2) قولها - وكل قبيل وان لم تكن الخ.. روى كم بدل كل والقبيل هنا جمع قبيلة
- والوجل - جمع وجل بفتح فكسر وهو الخائف من الوجل بفتحتين وهو الخوف
152

(مجلس آخر 74)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (ولا ينفعكم نصحي إن أردت
أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم) (1).. فقال أوليس ظاهر

(1) قوله - تعالى (ولا ينفعكم نصحي ان أردت أن أنصح لكم) الآية.. في هذه
الآية خلاف فمن النحويين من جعل الشرط الثاني معترضا بين الشرط الأول وجوابه
المقدر ومنهم من قال ليست من هذا الباب.. قالوا وحجتنا على ذلك انا نقدر
جواب الشرط الأول تاليا له مدلولا عليه بما تقدم عليه وجواب الثاني كذلك مدلولا
عليه بالشرط الأول وجوابه المتقدمين عليه فيكون التقدير ان أردت أن أنصح لكم فلا
ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم
نصحي.. واعلم أن الشرط إذا دخل على شرط فتارة يكون بعطف وتارة يكون بغيره
فإذا كان بعطف فأطلق ابن مالك ان الجواب لأولهما لسبقه وفصل غيره فقال إن كان
العطف بالواو فالجواب لهما لان الواو للجمع نحو ان تأتني وان تحسن إلى أحسن إليك
وإن كان العطف بأو فالجواب لأحدهما لان أو لاحد الشيئين نحو ان جاء زيد أو إن
جاءت هند فأكرمه أو فأكرمها وإن كان العطف بالفاء فالجواب للثاني والثاني وجوابه
جواب للأول وإن كان بغير عطف فالجواب لأولهما والشرط الثاني مقيد للأول
كتقييده بحال واقعة موقعه كقوله
ان تستغيثوا بنا ان تذعروا تجدوا * منا معا قل عز زانها كرم
فتجدوا جواب بان تستغيثوا وان تذعروا بالبناء للمفعول مقيد للأول على معنى ان
تستغيثوا بنا مذعورين تجدوا.. ومن فروع المسألة وهي اعتراض شرط في شرط
ما إذا قال لامرأته ان أكلت إن شربت فأنت طالق فلا تطلق على الأصح الا إذا شربت
ثم أكلت لان التقدير عليه ان شربت فان أكلت فأنت طالق فالثاني أول والأول ثان
وعلى مقابله لا تطلق الا إذا أكلت ثم شربت لان التقدير عليه ان أكلت فان شربت
فأنت طالق فالأول أول والثاني ثان.. واعلم أن تصحيح الأول هو على مذهب
لشافعية والحنفية ووجهه ابن الحاجب بأنه لا يصح أن يكون الجواب للشرطين معا
والا توارد معمولان على معمول واحد ولا لغيرهما والا لزم ذكر ما لا دخل له في ربط
الجزاء وترك ماله دخل ولا للثاني لأنه يلزم حينئذ أن يكون الثاني وجوابه جوابا للأول
فتجب الفاء ولا فاء وحذفها شاذ أو ضرورة فتعين أن يكون جوابا للأول والأول وجوابه
دليل جواب الثاني.. قال الدمامينى ومذهب مالك الطلاق سواء أتت بالشرطين مرتبين
كما هما في اللفظ أو عكست الترتيب.. قال وبعض أصحابنا يوجه ذلك بأنه على حذف
واو العطف كما في قول الشاعر
كيف أصبحت كيف أمسيت مما * يغرس الود في فؤاد اللبيب
.. ثم قال والا أدرى وجه اشتراط أهل المذهبين يعنى مذهبي الشافعية والمالكية في
وقوع الطلاق فعلها لمجموع الامرين مع أنه يمكن أن يكون جواب الأول محذوفا
لدلالة جواب الثاني ولا محذور في حذف الجواب بل هو أسهل من تقديرهم لما فيه
من الحذف والفصل بين الشرط الأول وجوابه بالشرط الثاني
153

هذه الآية يقتضى أن نصح النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفع الكفار الذين أراد الله تعالى
بهم الكفر والغواية وهذا بخلاف مذهبكم.. قلنا ليس في ظاهر الآية ما يقتضيه خلاف
مذهبنا لأنه تعالى انه لم يقل إنه فعل الغواية وأرادها وإنما أخبر أن نصح النبي عليه
الصلاة والسلام لا ينفع إن كان الله يريد غوايتهم ووقوع الإرادة لذلك أو جواز وقوعها
لا دلالة عليه في الظاهر على أن الغواية ههنا الخيبة وحرمان الثواب ويشهد بصحة
ما ذكرناه في هذه اللفظة قول الشاعر
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغى لائما (1)

(1) البيت - من قصيدة للمرقش الأصغر واسمه ربيعة بن سفيان والمرقش الأكبر
عمه وهو عم طرفة بن العبد وهذه القصيدة يقولها في قصة جرت له مع معشوقته
فاطمة بنت المنذر ووليدتها بنت العجلان ومطلعها
ألا يا سلمي لا صبر لي عنك فاطما * ولا أبدا ما دام وصلك دائما
رمتك ابنة البكري عن فرع ضالة * وهن بنا خوص يخلن نعائما
تراءت لنا يوم الرحيل بوارد * وعذب الثنايا لم يكن متراكما
سقاه حبى المزن من متهلل * من الشمس رواه ربابا سواجما
أرتك بذات الضال منها معاصما * وخذا أسيلا كالوذيلة ناعما
صحا قلبه عنها على أن ذكرة * إذا خطرت دارت به الأرض قائما
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن * خرجن سراعا واقتعدن المقائما
تحملن من جو الوريعة بعد ما * تعالى النهار واجتزعن الصرائما
تحلين يا قوتا وشذرا وصيغة * وجزعا ظفاريا ودرا توائما
سلكن القرى والجزع تحدى جمالهم * ووركن قوا واجتزعن المخارما
ألا حبذا وجها ترينا بياضه * ومنسدلات كالمثاني فواحما
واني لأستحيي فطيمة جائعا * خميصا وأستحي فطيمة طاعما
وانى لأستحييك والخرق بيننا * مخافة أن تلقي أخالي صارما
واني وان كلت قلوصي لراجم * بها وبنفسي يا فطيم المراجما
ألا يا سلمى بالكوكب الطلق فاطما * وان لم يكن صرف النوى متلائما
ألا يا أسلمي ثم اسملى إن حاجتي * إليك فردي من نوالك فاطما
أفاطم لو أن النساء ببلدة * وأنت بأخرى لأتبعتك هائما
متى ما يشأذوا الود يصرم خليله * ويعبد عليه لا محالة ظالما
وآلي جناب حلفة فأطعته * فنفسك ول اللوم ان كنت لائما
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
ألم تر أن المرء يجذم كفه * ويجشم من لوم الصديق المجاشما
أمن حلم أصبحت تنكت واجما * وقد تعتري الأحلام من كان نائما
154

فكأنه تعالى قال إن كان الله يريد أن يعاقبكم بسوء أعمالكم وكفركم ويحرمكم ثوابه
فليس ينفعكم نصحي ما دمتم مقيمين على ما أنتم عليه إلا أن تطيعوا وتتوبوا وقد سمى
الله تعالى العقاب غيا.. فقال تعالى (فسوف يلقون غيا) وما قبل هذه الآية يشهد
155

بما ذكرناه وأن القوم استعجلوا عقاب الله تعالى (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت
جدالنا) إلى قوله (ولا ينفعكم نصحي) فأخبر أن نصحه لا ينفع من يريد الله تعالى أن ينزل
به العذاب ولا يغنى عنه شيئا.. وقال جعفر بن حرب إن الآية تتعلق بأنه كان في قوم
نوح عليه السلام طائفة تقول بالجبر فنبههم الله تعالى بهذا القول على فساد مذهبهم وقال
لهم على طريق الانكار والتجعب من قولهم إن كان القول كما تقولون من أن الله يفعل
فيكم الكفر والفساد فما ينفعكم نصحي فلا تطلبوا منى نصحا وأنتم على ذلك لا تنتفعون
به وهذا جيد.. وروى عن الحسن البصري في هذه الآية وجه صالح وهو أنه قال
المعنى فيها إن الله يريد أن يعذبكم فليس ينفعكم نصحي عند نزول العذاب بكم وإن قبلتموه
وآمنتم به لان من حكم الله تعالى أن لا يقبل الايمان عند نزول العذاب وهذا كله واضح
في زوال الشبهة بالآية.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه ومن مستحسن ما قيل
في صفة المصلوب قول أبى تمام في قصيدة يمدح بها المعتصم ويذكر قتل الأفشين
وحرقه وصلبه
ما زال سر الكفر بين ضلوعه * حتى اصطلى سر الزناد الوارى
نارا يساور جسمه من حرها * لهب كما عصفرت شق إزار
طارت لها شعل يهدم لفحها * أركانه هدما بغير غبار
فصلن منه كل مجمع مفصل * وفعلن فاقرة بكل فقار
مشبوبة رفعت لأعظم مشرك * ما كان يرفع ضوءها للساري
صلى لها حيا وكان وقودها * ميتا ويدخلها مع الكفار
وكذاك أهل النار في الدنيا هم * يوم القيامة جل أهل النار
يا مشهدا صدرت بفرحته إلى * أمصارها القصوى بنو الأمصار
رمقوا أعالي جذعه فكأنما * رمقوا الهلال عشية الافطار
156

واستنشقوا منه قتارا نشره * من عنبر دفر ومسك داري
وتحدثوا عن هلكه كحديث من * بالبدو عن متتابع الأمطار
قد كان بوأه الخليفة جانبا * من قلبه حرما على الاقدار
فسقاه ماء الخفض غير مصرد * وأنامه في الامن غير غرار
ولقد شفى الأحشاء من ترحائها * أن صار بابك جار مازيار
ثانيه في كبد السماء ولم يكن * كاثنين ثان إذ هما في الغار (1)
فكأنما انتبذا لكيما يطويا * عن باطس خبرا من الاخبار
سود اللباس كأنما نسجت لهم * أيدي السموم مدارعا من قار
بكروا وأسروا في متون ضوامر * فبدت لهم من مربط النجار
لا يبرحون ومن رآهم خالهم * أبدا علي سفر من الاسفار
كادوا النبوة والهدى فتقطعت * أعناقهم في ذلك المضمار

(1) قوله - ولم يكن كاثنين ثان الخ.. قد غلط بعض الفضلاء أبا تمام في هذا التركيب
قال لأنه إنما يقال ثاني اثنين وثالث ثلاثة ورابع أربعة ولا يقال اثنين ثان ولا ثلاثة
ثالث ولا أربعة رابع.. وأجاب بعضهم بأن في الكلام تقديما وتأخيرا وتقليبا للتركيب
وتغييرا وهو ان التقدير ولم يكن كإثنين إذا هما في الغار ثان والمراد انه لم يكن كهذه القضية
قضية أخري.. وقال بعضهم إن ثانيه خبر ثان لصار ولكن جعل من قبعل اعط
القوس باريها في ترك النصب إذ هو خبر لمبتدأ محذوف ولم يكن بمعنى لم يصر لقرينة
سياق ان صار وثان اسمه وتنوينه عوض عن الضمير المضاف إليه وكاثنين خبره وفيه
مضاف محذوف والمال ولم يصر ثانيه كثاني اثنين إذ هما في الغار لأنهما تجاورا في العلو
لا في الغور والغرض ان يصف مصلوبه بالارتفاع لكن في الصلب وهو من التهكم المليح
157

وله يذكر صلب بابك
لما قضى رمضان منه قضاءه * شالت به الأيام في شوال
ما زال مغلول العزيمة سادرا * حتى غدا في القيد والأغلال
مستبسلا للموت طوقا من دم * لما استبان فظاظة الخلخال
أهدى لمتن الجذع متنيه كذا * من عاف متن الأسمر العسال
لا كعب أسفل موضعا من كعبه * مع أنه من كل كعب عال
سام كأن العز يجذب ضبعه * وسموه من ذلة وسفال
متفرغ أبدا وليس بفارغ * من لا سبيل له إلى الاشغال
[قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه.. ومن عجيب الأمور أن أبا العباس أحمد
بن عبد الله بن عمار ينشد هذه الأبيات المفرطة في الحسن في جملة مقابح أبى تمام وما
خرجه بزعمه من سقطه وغلطه ويقول في عقبها ولم نسمع في شعر وصف فيه مصلوب
بأغث من هذا الوصف وأين كان عن مثل إبراهيم بن المهدى يصف صلب بابك في
قصيدة يمدح بها المعتصم
ما زال يعنف بالنعمى فنفرها * عنه الغموط ووافته الأراصيد
حتى على حيث لا ينحط مجتمعا * كما علا أبدا ما أورق العود
يا بقعة ضربت فيها علاوته * وعنقه وذوت أغصانه الميد
بوركت أرضا وأوطانا مباركة * ما عنك في الأرض للتقديس تعميد
لو تقدر الأرض حجتك البلاد فلا * يبقى على الأرض إلا حج جلمود
لم يبك إبليس إلا حين أبصره * في زيه وهو فوق الفيل مصفود
كناقة النحر تزهى تحت زينتها * وحد شفرتها للنحر محدود
158

ما كان أحسن قول الناس يومئذ * أيوم بابك هذا أم هو العيد
صيرت جثته جيدا لباسقة * جرداء والرأس منه ما له جيد
فآض يلعب هوج العاصفات به * على الطريق صليبا طرفه عود
كأنه شلو كبش والهواء له
تنور شاوية والجذع سفود
.. وكان لا ينبغي أن يطعن على أبيات أبى تمام من يستجيد هذه الأبيات ويفرط في
تقريظها وليت من جهل شيئا عدل عن الخوض فيه والكلام عليه فكان ذلك أستر
عليه وأولى به وأبيات أبى تمام في نهاية القوة وجودة المعاني والألفاظ وسلامة السبك
واطراد النسج.. وأبيات ابن المهدى مضطربة الألفاظ مختلفة النسج متفاوتة الكلام
وما فيها شئ يجوز أن يوضع اليد عليه إلا قوله
حتى علا حيث لا ينحط مجتمعا * كما علا أبدا ما أورق العود
وبعد البيت الأخير وإن كان بارد الألفاظ فقد أحسن مسلم بن الوليد في قوله
ما زال يعنف بالنعمى ويغمطها * حتى استقل به عود على عود
نصبته حيث ترتاب الظنون به * ويحسد الطير فيه أضبع البيد
وللبحتري في هذا المعنى من قصيدة يمدح بها أبا سعيد أولها
لادمنة بلوى خبت ولا طلل * يرد قولا على ذي لوعة يسل
إن عز دمعك في آي الرسوم فلم * يصب عليها فعندي أدمع بلل
هل أنت يوما معيرى نظرة فترى * في رمل يبرين عيرا سيرها رمل
حثوا النوى بحداة ما لها وطن * غير النوى وجمال ما لها عقل
يقول فيها
أمسى يرد حريق الشمس جانبه * عن بابك وهي في الباقين تشتعل
159

بجملة البرد من أقصى الثغور إلى * أدنى العراق سراعا بثها عجل
بسر من راء منكوسا تجاذبه * أيدي الشمال فضولا كلها فضل
تفاوتوا بين مرفوع ومنخفض * على مراتب ما قالوا وما فعلوا
رد الهجير لحاهم بعد شعلتها * سودا فعادوا شبابا بعد ما إكتهلوا
سما له حابل الآساد في لمه * من المنايا فأمسى وهو محتبل
حالي الذراعين والساقين لو صدقت * له المنى لتمني أنها عطل
من تحت مطبق أرض الشام في نفر * أسرى يودون ودا أنهم قتلوا
غابوا عن الأرض أنأي غيبة وهم * فيها فلا فصل إلا الكتب والرسل
وله في هذا المعنى
ما زلت تقرع باب بابك بالقنى * وتزوره في غارة شعواء
حتى أخذت بنصل سيفك عنوة * منه الذي أعيى على الامراء
أخليت منه الند وهي قراره * ونصبته علما بسامراء
لم يبق فيه خوف بأسك مطمعا * للطير في عود ولا إبداء
فتراه مطردا على أعواده
مثل اطراد كواكب الجوزاء
مستشرفا للشمس منتصبا لها * في أخريات الجذع كالحرباء
160

(مجلس آخر 75)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (شهر رمضان الذي انزل فيه
القرآن)
الآية.. فقال كيف أخبر تعالى بأنه أنزل فيه القرآن وقد أنزله في غيره من
الشهور على ما جاءت به الرواية.. والظاهر يقتضى أنه أنزل الجميع فيه... وما المعنى
في قوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وهل أراد الإقامة والحضور الذين هما
ضد الغيبة أو أراد المشاهدة والإدراك.. الجواب أما قوله تعالى (أنزل فيه القرآن)
فقد قال قوم المراد به أنه تعالى أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان
ثم فرق انزاله على نبيه عليه الصلاة والسلام بحسب ما تدعوا الحاجة إليه.. وقال
آخرون المراد بقوله تعالى (أنزل فيه القرآن) أنه أنزل في فرضه وإيجاب صومه على
الخلق القرآن فيكون فيه بمعنى في فرضه كما يقول القائل أنزل الله في الزكاة كذا وكذا
يريد في فرضها وأنزل الله في الخمر كذا وكذا يريد في تحريمها.. وهذا الجواب إنما
هرب متكلفه من شئ وظن أنه قد اعتصم بجوابه عنه وهو بعد ثابت على ما كان عليه
لان قوله تعالى القرآن إذا كان يقتضى ظاهره إنزال جميع القرآن فيجب على هذا
الجواب أن يكون قد أنزل في فرض الصيام جميع القرآن ونحن نعلم أن قليلا من القرآن
يخص إيجاب الصوم لشهر رمضان وأن أكثره خال من ذلك.. فإن قيل المراد بذلك أنه
أنزل في فرضه شيئا من القرآن وبعضا منه.. قيل فهلا اقتصر على هذا وحمل الكلام
على أنه تعالى أنزل شئ من القرآن في شهر رمضان ولم يحتج إلى أن يجعل لفظة في بمعنى
في فرضه وإيجاب صومه.. والجواب الصحيح أن قوله تعالى القرآن في هذا الموضع
لا يفيد العموم والاستغراق وإنما يفيد الجنس من غير معنى الاستغراق فكأنه قال تعالى
(شهر رمضان الذي أنزل فيه)
هذا الجنس من الكلام فأي شئ نزل منه في الشهر
فقد طابق الظاهر وليس لاحد أن يقول إن الألف واللام ههنا لا يكونان إلا للعموم
والاستغراق لأنا لو سلمنا أن الألف واللام صيغة العموم والصورة المعينة لاستغراق
الجنس لم يجب أن يكون ههنا بهذا الصفة لأن هذه اللفظة قد تستعمل في مواضع كثيرة
161

من الكلام ولا يراد بها أكثر من الإشارة إلى الجنس والطبقة من غير استغراق وعموم
حتى يكون حمل كلام المتكلم
بها على خصوص أو عموم كالمناقض لغرضه والمنافي لمراده
ألا ترى أن القائل إذا قال فلان يأكل اللحم ويشرب الخمر وضرب الأمير اليوم اللصوص
وخاطب الجند لم يفهم من كلامه إلا محض الجنس والطبقة من غير خصوص ولا عموم
حتى لو قيل له فلان يأكل جميع اللحم ويشرب جميع الخمر أو بعضها لكان جوابه إنني
لم أرد عموما ولا خصوصا وإنما أريد أنه يأكل هذا الجنس من الطعام ويشرب هذا
الجنس من الشراب فمن فهم من كلامي العموم أو الخصوص فهو بعيد من فهم مرادي
.. وأرى كثيرا من الناس يغلطون في هذا الموضع فيظنون أن الإشارة إلى الجنس
من غير إرادة العموم والاستغراق ليست مفهومة حتى يحملوا قول من قال أردت الجنس
في كل موضع وهذا بعيد ممن يظنه لأنه كما أن العموم والخصوص مفهومان في بعض
بهذه الألفاظ فكذلك الإشارة إلى الجنس والطبقة من غير إرادة عموم ولا خصوص
مفهومة مميزة وقد ذكرنا أمثلة ذلك.. فأما قوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)
فأكثر المفسرين حملوه على أن المراد بمن شهد منكم الشهر من كان مقيما في بلد غير
مسافر وأبو علي حمله على أن المراد به فمن أدرك الشهر وشاهده وبلغ إليه وهو متكامل
الشروط فليصمه ذهب في معنى شهد إلى معنى الادراك والمشاهدة.. وقد طعن قوم
على تأويل أبى على وقالوا ليس يحتمل الكلام إلا الوجه الأول وليس الامر على ما ظنوه
لان الكلام يحتمل الوجهين معا فإن كان للقول الأول ترجيح ومزية على الثاني من
حيث يحتاج في الثاني من الاضمار إلى أكثر مما يحتاج إليه في الأول لان قول الأول
لا يحتاج إلى إضمار الإقامة وارتفاع السفر لان قوله تعالى شهد يقتضى الإقامة وإنما يحتاج
إلى إضمار باقي الشروط من الامكان والبلوغ وغير ذلك.. وفى القول الثاني يحتاج مع
كل ما أضمرناه في القول الأول إلى إضمار الإقامة ويكون التقدير فمن شهد الشهر وهو
مقيم مطيق بالغ إلى سائر الشروط فمن هذا الوجه كان الأول أقوى وليس لاحد أن
يقول أن شهد بنفسه من غير محذوف لا يدل على إقامة وذلك أن الظاهر من قولهم في
اللغة فلان شاهد إذا أطلق ولم يضف أفاد الإقامة في البلد وهو عندهم ضد الغائب
162

والمسافر وإن كانوا ربما أضافوا فقالوا شاهد لكذا وشهد فلان كذا ولا يريدون
هذا المعنى ففي إطلاق شهد دلالة على الإقامة من غير تقدير محذوف وهذه جملة كافية
بحمد الله.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه وجدت أبا العباس بن عمار يعيب
على أبى تمام في قوله لما استحر الوداع المحض وانصرمت * أواخر الصبر ولي كاظما وجما
رأيت أحسن مرئى وأقبحه * مستجمعين لي التوديع والعنما (1)
قال أبو العباس وهذا قد ذم مثله على شاعر متقدم وهو أن جمع بين كلمتين إحداهما
لا تناسب الأخرى وهو قول الكميت
وقد رأينا بها حورا منعمة * رودا تكامل فيها الدل والشنب

(1) الأبيات من قصيدة له يمدح بها إسحاق بن إبراهيم المصعبي ومطلعها
أصغى إلى البين مغترا فلا جرما * إن النوي أسأرت في عقله لمما
أصمني سرهم أيام فرقتهم * هل كنت تعرف سرا يورث الصمما
نأوا فظلت لو شك البين مقلته * تندي نجيعا ويندي جسمه سقما
أظله البين حتى أنه رجل * لو مات من شغله بالبين ما علما
أما وقد كتمتهن الخدور ضحي * فأبعد الله دمعا بعدها أكتتما
لما استحر الوداع البيتين.. ومنها
لم يطغ قوم وان كانوا ذوي رحم * إلا رأى السيف أدنى منهم رحما
مشت قلوب أناس في صدورهم * لما رأوك تمشى نحوهم قدما
أمطرتهم عزمات لو رميت بها * يوم الكريهة ركن الدهر لانهدما
إذا هم نكصوا كانت لهم عقلا * وان هم جمحوا كانت لهم لجما
حتى انتهكت بحد السيف أنفسهم * جزاء ما انتهكوا من قبلك الحرما
زالت جبال شروري من كتائبهم * خوفا وما زلت اقداما ولاقدما
لما محضت الأماني التي احتلبوا * عادت هموما وكانت قبلهم همما
163

.. فقيل له أخطأت وباعدت بقولك - الدل والشنب - ألا قلت كقول ذي الرمة
بيضاء في شفتيها حوة لعس * وفى اللثات وفى أنيابها شنب (1)
قال فقال الطائي * مستجمعين لي التوديع والعنما
فجعل المنظر القبيح للتوديع والتوديع لا يستقبح وإنما يستقبح عاقبته وهي الفراق
وجعل المنظر الحسن أصابعه عند الإشارة وشبهه بالعنم ولم يذكر الأنامل المختضبة
قال وإنما سمع قول المجنون
ويبدى الحصى منها إذا قذفت به * من البرد أطراف البنان المخضب (2)

(1) قوله - بيضاء يروي لمياء في شفتيها الخ - ولمياء فعلاء من اللمى وهو سمرة
في باطن الشفة وهو مستحسن يقال امرأة لمياء وظل المى كثيف أسود.. وقوله -
حوة - بضم الحاء المهملة وتشديد الواو وهي أيضا حمرة في الشفتين تضرب إلى
السواد.. وقوله - لعس - بفتح اللام والعين المهملة وفى آخره سين مهملة وهو أيضا
سمرة في باطن الشفة يقال امرأة لعساء.. وقوله - وفى اللثات - بكسر اللام وتخفيف
الثاء المثلثة جمع لثة وهي معروفة.. وقوله - شنب - بفتح الشين المعجمة والنون..
قال الأصمعي الشنب برد وعذوبة في الأسنان ويقال هو تحديد الأسنان ودقتها والبيت يستشهد به النحويون على أن لعسا بدل غلط من حوة وهو حجة على المبرد حيث يدعي
أنه لا يوجد في كلام العرب بدل الغلط لا في النظم ولا في النثر وإنما يقع في لفظ الغلاط..
وأجاب بعضهم عن هذا بأن قوله لعس مصدر وصفت به الحوة تقديره حوة لعساء كما
يقال حكم عدل وقول فصل أي عادل وفاصل ويقال ان في البيت تقديما وتأخيرا التقدير
لمياء في شفتيها حوة وفى اللثات لعس وفي أنيابها شنب.. والبيت من قصيدته المشهورة التي أولها
ما بال عينك منها الماء ينسكب * كأنه من كلى مفرية سرب
وقد استنشده هشام بن عبد الملك فأنشده إياها فأمر بسحبه لأنه كان بعينه رمص
(2) قوله - ويبدى الحصي منها الخ.. وقبله
ولم أر ليلى غير موقف ساعة * بخيف منى ترمي جمار المحصب
وبعده.. ألا ان ما ترمين يا أم مالك * صدى أينما تذهب به الريح يذهب
164

قال وهذا الأصل استعاره الناس من بعد.. قال الشاعر
النشر مسك والوجوه دنا * نير وأطراف الأكف عنم (1)

(1) قوله - النشر مسك الخ.. البيت من قصيدة للمرقش الأكبر وتقدمت منها
أبيات.. ومنها
* يهلك والد ويخلف مولود * وكل ذي أب يتيم
والوالدات يستفدن غنى * ثم على المقدار من تعقم
ما ذنبنا في أن غزا ملك * من آل جفنة حازم مرغم
مقابل بين العواتك والغلف * لا نكس ولا توأم
حارب واستعوى قراضبة * ليس لهم مما يحاز نعم *
بيض مصاليت وجوههم * ليست مياه بحارهم بعمم
فانقض مثل الصقر يقدمه * جيش كغلان الشريف لهم
إن يغضبوا يغضب لذاك كما * ينسل من خرشائه الأرقم
فنحن أخوالك عمرك والخال * له معاظم وحرم *
لسنا كأقوام مطاعمهم * كسب الخنا ونهكة المحرم
إن يخصبوا يغيوا بخصبهم * أو يجدبوا فهم به ألام
عام ترى الطير دواخل في * بيوتهم معهم ترتم *
ويخرج الدخان من خلل الستر كلون الكودن الأصحم
حتى إذا ما الأرض زينها النبت * وجن روضها وأكم
ذاقوا ندامة فلو أكلوا الخطبان * لم يوجد له علقم
لكننا قوم أهاب بنا * في قومنا عفافة وكرم
أموالنا نقى النفوس بها * من كل ما يدنى إليه الذم
لا يبعد الله التلبب والغارات * إذ قال الخميس نعم
والعدو بين المجلسين إذا * ولى العشى وقد تنادى العم
يأتي الشباب الأقورين ولا * تغبط أخاك أن يقال حكم
165

وقال وأغرب أبو نواس في قوله
تبكى فتذرى الدر من طرفها * وتلطم الورد بعناب
قال فلم يحسن هذا العلج أن يستعير شيئا من محاسن القائلين.. [قال الشريف المرتضي]
رضي الله عنه وهذا غلط من ابن عمار وسفه على أبى تمام لان الكميت جمع بين شيئين
متباعدين وهما الدل وهو الشكل والحلاوة وحسن الهيئة والشنب وهو برد الأسنان
فيطلق عليه بذلك بعض العيب وأبو تمام جمع بين شيئين غير متفرقين لان التوديع إنما
أشار به إلى ما أشارت إليه بأصبغها من وداعه عند الفراق وشبه مع ذلك أصابعها بالعنم
والعنم نبت أغصانه غضة دقاق شبه الأصابع.. وقيل إن العنم واحدته عنمة وهي العصابة
الصغيرة البيضاء وهي أشبه شئ بالأصابع البيضاء الغضة وهذا حكاه صاحب كتاب العين
.. وقيل إن العنم نبت له نور أحمر تشبه به الأصابع المخضوبة فوجه حسن قوله التوديع
والعنم أن التوديع كان بالأصابع التي تشبه العنم فجمع بينهما بذلك ولا حاجة به إلى ذكر
الأنامل المخضبة على ما ظن أبو العباس بل ذكر المشبه به أحسن وأفصح من أن يقول
التوديع والأنامل التي تشبه العنم.. فأما قوله إن التوديع لا يستقبح وإنما يستقبح
عاقبته فخطأ ومطالبة الشاعر بما لا يطالب بمثله الشعراء لان التوديع إذا كان منذرا بالفراق
وبعد الدار وغيبة المحبوب لا محالة إنه مكروه مستقبح.. وقوله مستقبح عاقبته صحيح
إلا أن ما يعقبه ويثمره لما كان عند حضوره متيقنا مذكورا عاد الاكراه والاستقباح إليه
ونحن نعلم أن الناس يتكرهون ويستقبحون تناول الأشياء الملذة من الأغذية وغيرها إذا
علموا ما في عواقبها من المكروه فان من قدم إليه طعام مسموم وأعلم بذلك يتكرهه
ويستقبح تناوله لما يتوقعه من سوء عاقبته وإن كان ملذا في الحال ولم تزل الشعراء
تذكر كراهتها للوداع وهربها منه لما يتصور فيه من ألم الفرقة وغصص الوحشة وهذا
166

معروف مشهور.. وقد قال فيه أبو تمام
أآلفة النحيب كم افتراق * أظل فكان داعية اجتماع
وليست فرحة الأوبات إلا * لموقوف على ترح الوداع
فجعل للوداع ترحا يقابل فرج الإياب وهذا صحيح.. فأما قول جرير
أتنسى إذ تودعنا سليمى * بفرع بشامة سقى البشام (1)
وإنه دعا للبشام وهو شجر بالسقي لأنها ودعته عنده فسر بتوديعها.. وقول الشاعر
من يكن يكره الوداع فإني * أشتهيه لموضع التسليم
إن فيه اعتناقة لوداع * وانتظار اعتناقة لقدوم
فمن شأن الشعراء أن يتصرفوا في المعاني بحسب أغراضهم وقصودهم إذا رأى أحدهم

(1) قوله - أتنسي الخ.. هو من قصيدة طويلة يذم فيها تغلب ويهجو الأخطل
.. وأولها قوله
متى كان الخيام بذى طلوح * سقيت الغيث أيتها الخيام
ومنها بنفسي من تجنبه عزيز * على ومن زيارته لمام
ومن أمسى وأصبح لا أراه * ويطرقني إذا هجع النيام
ومنها عوي الشعراء بعضهم لبعض * على فقد أصابهم انتقام
كأنهم الثعالب حين تلقى * هزبرا في العرين له إنتحام
إذا أقلعت صاعقة عليهم * رأوا أخري تحرق فاستهاموا
فمصطلم المسامع أو خصى * وآخر عظم هامته حطام
إذا شاؤوا مددت لهم حضارا * وتقريبا مخالطه عذام
ومنها قضى لي أن أصلى خندفى * وعضب في عواقبه السمام
إذا ما خندف زحرت وقيس * فان جبال عزى لا ترام
هم حدبوا على ومكنوني * بأفيح لا يزال به المقام
167

مدح شئ قصد إلى أحسن أوصافه فذكرها وأشار بها حتى كأنه لا وصف له الا ذلك
الوصف الحسن وإذا أراد ذمه قصد إلى أقبح أحواله فذكرها حتى كأنه لا شئ فيه غير
ذلك وكل مصيب بحسب قصده ولهذا ترى أحدهم يقصد إلى مدح الشيب فيذكر
ما فيه من قار وخشوع وأن العمر منه أطول وما أشبه ذلك ويقصد إلى ذمه فيصف
ما فيه من الادناء إلى الاجل وأنه أخمل الألوان وأبغضها إلى النساء وما أشبه ذلك وهذه
سبيلهم في كل شئ وصفوه ولمدحهم موضعه ولذمهم موضعه فمن ذم الوداع لما فيه من
الانذار بالفراق وبعد الدار قد ذهب مذهبا صحيحا كما إن من مدحه لما فيه من القرب
من المحبوب والسرور بالنظر إليه وإن كان يسيرا قد ذهب أيضا مذهبا صحيحا.. ومن
غلط ابن عمار القبيح قوله بعد أن أنشد شعر المجنون وهذا هو الأصل ثم استعاره
الناس من بعد.. فقال الشاعر
النشر مسك والوجوه دنا * نير وأطراف الأكف عنم
وهذا الشعر للمرقش الأكبر وهو والمرقش الأصغر كانا جميعا على عهد ربيعة وشهدا
حرب بكر بن وائل فكيف يكون قول المرقش الأكبر بعد قول المجنون لولا الغفلة
(مجلس آخر 76)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (وإذا آتينا موسى الكتاب
والفرقان) الآية.. فقال كيف يكون ذلك والفرقان هو القرآن ولم يؤت موسى
القرآن وإنما اختص به محمد عليه الصلاة والسلام.. الجواب قلنا قد ذكر في ذلك وجوه
.. أولها أن يكون الفرقان بمعنى الكتاب المتقدم ذكره وهو التوراة ولا يكون اسما
ههنا للقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ويحسن نسقه على الكتاب لمخالفته للفظه
كما قال تعالى (الكتاب والحكمة) وإن كانت الحكمة مما يتضمنها الكتاب وكتب
الله تعالى كلها فرقان تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام.. ويستشهد على هذا
168

الوجه بقول طرفة
فما لي أراني وابن عمى مالكا * متى أدن منه ينأ عنى ويبعد
فنسق يبعد على ينأ وهو بعينه وحسن ذلك اختلاف اللفظين.. وقال عدى بن زيد
وقدمت الأديم لراهشيه * وألفا قولها كذبا ومينا
والمين الكذب.. وثانيها أن يراد بالفرقان الفرق بين الحلال والحرام والفرق بين
موسى عليه السلام وأصحابه المؤمنين وبين فرعون وأصحابه الكافرين لان الله تعالى قد
فرق بينهم في أمور كثيرة منها أنه نجى هؤلاء وغرق أولئك.. وثالثها أن يكون الكتاب
عبارة عن التوراة والإنجيل والفرقان انفراق البحر الذي أوتيه موسى عليه السلام
.. ورابعها أن يكون الفرقان القرآن المنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام ويكون المعنى في ذلك
وآتينا موسى التوارة والتصديق والايمان بالفرقان الذي هو القرآن لان موسى عليه
السلام كان مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ومبشرا ببعثته وساغ حذف
التوراة والايمان والتصديق وما جرى مجراه وإقامة الفرقان مقامه كما ساغ في قوله تعالى
(واسأل القرية) وهو يريد أهل القرية.. وخامسها أن يكون المراد الفرقان ويكون
تقدير الكلام (وإذ آتينا موسى الكتاب) الذي هو التوراة وآتينا محمد صلى الله عليه
وسلم الفرقان فحذف ما يقتضيه الكلام كما حذف الشاعر في قوله
تراه كأن الله يجدع أنفه * وعينيه إن مولاه كان له وفر (1)

(1) قوله - تراه كأن الله يجدع أنفه الخ - يجدع أنفه - أي يقطعه - والمولى - هنا
المراد به الجار أو الصاحب - وكان - يروي بدله وثاب بالمثلثة أي رجع من بعد
ذهابه - والوفر - بفتح الواو وسكون الفاء وفي آخره راء مهملة وهو المال الكثير..
ويروى دثر وهو بالمعنى الأول وهذا في ذم شخص حاسد يحسد جاره إذا رجع من سفره
بمال كثير فيصير من شدة حسده كأن الله يجدع أنفه ويقلع عينيه.. والبيت يستشهد به
النحاة على حذف العامل المعطوف وابقاء معموله إذ التقدير ويفقأ عينيه كما في قوله تعالى
(والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم) أي واعتقدوا الايمان والبيت للزبرقان بن بدر
رضي الله عنه ونسبه الجاحظ لخالد بن الصليقان وقبله
ومولي كمولى الزبرقان دميته * كما دملت ساق يهاض بها كسر
إذا ما أحالت والجبائر فوقها * مضى الحول لا برء مبين ولا جبر
البيت.. وبعده ترى الشر قد أفنى دوائر وجهه * كضب الكدى أفنى براثنه الحفر
169

أراد ويفقأ عينيه لان الجدع لا يكون بالعين واكتفى بجدع عن يفقأ.. وقال الشاعر
تسمع للأحشاء منه لغطا * ولليدين حشأة وبددا
أي وترى لليدين لان الحشأة والبدد لا يسمعان وإنما يريان.. وقال الآخر
علفتها تبنا وماءا باردا * حتى شتت همالة عيناها (1)
أراد وسقيتها ماء باردا فدل علفت على سقيت.. وقال الآخر
يا ليت بعلك قد غدا * متقلدا سيفا ورمحا
أراد حاملا رمحا.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه وجدت أبا بكر بن الأنباري
يقول إن الاستشهاد بهذه الأبيات لا يجوز على هذا الوجه لان الأبيات اكتفى فيها بذكر
فعل عن ذكر فعل غيره والآية اكتفى فيها باسم دون اسم.. والامر وإن كان على ما قاله

(1) قوله - علفتها تبنا الخ.. هذا الرجز يستشهد به النحاة في باب المفعول معه
ويقولون ان الماء معطوف على التبن فلا يصح أن الواو في قوله وماء للمعية والمصاحبة
لانعدام معنى المصاحبة ولا يشارك قوله وماء فيما قبله فتعين أن ينصب بفعل مضمر يدل
عليه سياق الكلام وهو أن يقال التقدير علفتها تبنا وسقيتها ماء.. وقال ابن عصفور
انهم ذهبوا إلى أن الاسم الذي بعد الواو معطوف على الاسم الذي قبلها ويكون العامل
في الاسم الذي قبل الواو قد ضمن في ذلك معنى يتسلط على الاسمين فيضمن علفتها
معنى أطعمتها لأنه إذا علفها فقد أطعمها فكأنه قال أطعمتها تبنا وماء ويقال أطعمته ماء
.. قال الله تعالى (ومن لم يطعمه فإنه منى).. وروى
لما حططت الرحل عنها واردا * علفتها تبنا وماء باردا
ورواية الأصل أشهر ولا يعرف قائله ونسبه بعضهم لذي الرمة وليس في ديوانه
170

في الاسم والفعل فإن موضع الاستشهاد صحيح لان الاكتفاء في الأبيات بفعل عن فعل
إنما حسن من حيث دل الكلام على المحذوف والمضمر واقتضاه فحذف تعويلا على أن
المراد مفهوم غير ملتبس ولا مشتبه وهذا المعنى قائم في الآية وإن كان المحذوف اسما لان
اللبس قد زال والشبهة قد أمنت في المراد بها بهذا الحذف فحسن لان الفرقان إذا كان أسماء
للقرآن وكان من المعلوم أن القرآن إنما أنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام دون موسى عليه
السلام استغنى عن أن يقال وآتينا محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن كما استغنى الشاعر أن
يقول ويفقأ عينيه وترى لليدين حشأة وبددا وما شاكل ذلك.. إلا أنه يمكن أن يقال
فيما استشهد به في جميع الأبيات مما لا يمكن أن يقال مثله في الآية وهو أن يقال إنه
محذوف ولا تقدير لفعل مضمر بل الكلام في كل بيت منها محمول على المعنى ومعطوف
عليه لأنه لما قال - تراه كأن الله يجدع أنفه - وكان معنى الجدع هو الافساد للعضو والتشويه
به عطف على المعنى فقال وعينيه فكأنه قال كأن الله يجدع أنفه أي يفسده ويشوهه ثم
قال وعينيه وكذلك لما كان السامع للغط الأحشاء عالما به عطف على المعنى فقال
ولليدين حشأة وبددا أي أنه يعلم هذا وذاك معا وكذلك لما كان في قوله علفت معنى
غذيت عطف عليه الماء لأنه مما يغتذى به وكذلك لما كان المتقلد للسيف حاملا له (1) جاز

(1) قوله - لما كان المتقلد للسيف حاملا له الخ.. عبارة بعض العلماء لان التقلد نوع
من الحمل قال ولأجل هذا الذي ذكرناه من حكم العطف بالواو قلنا في قوله تعالى
(وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) في قراءة من خفض الأرجل إذ الأرجل
تغسل والرؤس تمسح ولم يوجب عطفها على الرؤس أن تكون ممسوحة كمسح الرؤس
لان العرب تستعمل المسح على معنيين أحدهما النضح والآخر الغسل حتى روى
أبو زيد تمسحت للصلاة أي توضأت.. وقال الراجز * أشليت عنزي ومسحت قعبي *
أراد انه غسله ليحلب فيه فلما كان المسح نوعين أوجبنا لكل عضو ما يليق به إذ كانت
واو العطف كما قلنا إنما توجب الاشتراك في نوع الفعل وجنسه لا في كميته ولا في كيفيته
فالنضح والمسح جميعهما جنس الطهارة كما جمع تقلد السيف وحمل الرمح جنس التأهب
للحرب والتسلح
171

أن يعطف عليه الرمح المحمول وهذا أولى في الطعن على الاستشهاد بهذه الأبيات مما
ذكره ابن الأنباري.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه أخبرنا أبو الحسن
علي بن محمد الكاتب قال أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى
المنجم قال أخبرنا أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري عن الهيثم بن عدي قال لما دخل
خالد بن صفوان الأهيمي على هشام بن عبد الملك وذلك بعد عزله خالد بن عبد الله
القسري قال فألفيته جالسا على كرسي في بركة ماؤها إلى الكعبين فدعا لي بكرسي فجلست
عليه فقال يا خالد رب خالد جلس مجلسك كان الوط بقلبي وأحب إلى فقلت يا أمير
المؤمنين إن حلمك لا يضيق عنه فلو صفحت عن جرمه فقال يا خالد إن خالدا أدل فأمل
وأوجف فأجحف ولم يدع لراجع مرجعا ولا لعودة موضعا ثم قال ألا أخبرك
عنه يا بن صفوان قلت نعم قال إنه ما بدأني بسؤال حاجة مذ قدم العراق حتى أكون أنا الذي
أبدأه بها قال خالد فذاك أحرى أن ترجع إليه.. فقال متمثلا
إذا انصرفت نفسي عن الشئ لم تكد * إليه بوجه آخر الدهر تقبل
ثم قال حاجتك يا بن صفوان قلت تزيدني في عطائي عشرة دنانير فأطرق ثم قال ولم وفيم
العبادة أحدثتها فنعينك عليها أم لبلاء حسن أبليته عند أمير المؤمنين أم لماذا يا بن صفوان
إذا يكثر السؤال ولا يحتمل ذلك بيت المال قال فقلت يا أمير المؤمنين وفقك الله وسددك
أنت والله كما قال أخو خزاعة
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه * قرابة قربى أو صديق توافقه
منعت وبعض المنع حزم وقوة * ولم يفتلتك المال إلا حقائقه
فلما قدم خالد البصرة قيل له ما الذي حملك على تزيين الامساك له قال أحببت أن يمنع
غيري كما منعني فيكثر من يلومه.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه وكان
خالد مشهورا بالبلاغة وحسن العبارة.. وبالاسناد المتقدم عن المدائني قال قال حفص
ابن معاوية بن عمرو بن العلاء قلت لخالد يا أبا صفوان أنى لا كره أن تموت وأنت من
أيسر أهل البصرة فلا يبكيك إلا الإماء قال فابغني امرأة قلت صفها لي أطلبها لك قال بكرا
172

كثيب أو ثيبا كبكر لا ضرعا صغيرة ولا مسنة كبيرة لم تقرأ فتجبن ولم تغن فتمجن قد
نشأت في نعمة وأدركتها خصاصة فأد بها الغنى وأذلها الفقر حسبي من جمالها أن تكون
قمحة من بعيد مليحة من قريب وحسبي من حسنها أن تكون واسطة قومها ترضى منى
بالسنة إن عشت أكرمتها وإن مت ورثتها لا ترفع رأسها إلى السماء نظرا ولا تضعه إلى
إلى الأرض سقوطا فقلت يا أبا صفوان إن الناس في طلب هذه مذ زمان طويل فما
يقدرون عليها.. وكان يقول إن المرأة لو خف محملها وقلت مؤنتها ما ترك اللئام فيها
للكرام بيتة ليلة ولكن ثقل محملها وعظمت مؤنتها فاجتباها الكرام وحاد عنها اللئام..
وكان خالد من أشح الناس وأبخلهم كان إذا أخذ جائزة أو غيرها قال للدرهم أما والله
لطالما أغرت في البلاد وأنجدت والله لأطيلن ضجعتك ولأديمن صرعتك.. قال وسأله
رجل من بنى تميم فأعطاه دانقا فقال يا سبحان الله أتعطي مثلي دانقا فقال له لو أعطاك
كل رجل من بنى تميم مثل ما أعطيتك لرحت بمال عظيم.. وسأله رجل فأعطاه درهما
فاستقله فقال يا أحمق أما علمت أن الدرهم عشر العشرة والعشرة عشر المائة والمائة عشر
الألف والألف عشر دية المسلم.. وكان يقول والله ما تطيب نفسي بانفاق درهم إلا
درهما قرعت به باب الجنة أو درهما اشتريت به موزا.. وقال لان يكون لي ابن يحب
الخمر أحب إلى من أن يكون لي ابن يحب اللحم لأنه متى طلب اللحم وجده والخمر يفقده
أحيانا.. وكان يقول من كان ماله كفافا فليس بغنى ولا فقير لان النائبة إذا نزلت به
أجحفت بكفافه ومن كان ماله دون الكفاف فهو فقير ومن كان ماله فوق الكفاف
فهو غنى.. وكان يقول لان يكون لأحدكم جار يخاف ان ينقب عليه بيته خير من أن
يكون له جار من التجار لا يشاء أن يعطيه مالا ويكتب به عليه صكا إلا فعل
(مجلس آخر 77)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم
لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون).. فقال كيف يخبر تعالى أنهم لا يكذبون
173

نبيه عليه الصلاة والسلام ومعلوم منهم إظهار التكذيب والعدول عن الاستجابة
والتصديق وكيف ينفى عنهم التكذيب ثم يقول إنهم بآيات الله يجحدون وهل الجحد
بآيات الله الا تكذيب نبيه عليه الصلاة والسلام.. الجواب قلنا قد ذكر في هذه
الآية وجوه.. أولها أن يكون إنما نفى تكذيبهم بقلوبهم تدينا واعتقادا وإن كانوا
مظهرين بأفواههم التكذيب لأنا نعلم أنه كان في المخالفين له عليه الصلاة والسلام من يعلم
صدقه ولا ينكر بقلبه حقه وهو مع ذلك معاند فيظهر بخلاف ما يبطن.. وقال تعالى
(وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون).. ومما يشهد لهذه الوجه من طريق
الرواية ما رواه سلام بن مسكين عن أبي يزيد المدني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقى أبا جهل فصافحه أبو جهل فقيل له يا أبا الحكم أتصافح هذا الصابئ فقال
والله إني لاعلم أنه نبي ولكن متى كنا تبعا لبنى عبد مناف فأنزل الله الآية..
وفى خبر آخر أن الأخنس بن شريق خلا بأبي جهل فقال له يا أبا الحكم أخبرني عن
محمد صلى الله عليه وسلم أصداق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيري وغيرك
يسمع كلامنا فقال له أبو جهل ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ولكن
إذا ذهب بنو قصى باللوى والحجابة والسقاية والندوة والنبوة ماذا يكون لسائر قريش
.. وعلى الوجه الأول يكون معنى فإنهم لا يكذبونك أي لا يفعلون ذلك بحجة ولا
يتمكنون من إبطال ما جئت به ببرهان وإنما يقتصرون على الدعوى الباطلة وهذا في
الاستعمال معروف لان القائل يقول فلان لا يستطيع أن يكذبني ولا يدفع قولي وإنما
يريد أنه لا يتمكن من إقامة دليل على كذبه ومن حجة على دفع قوله وإن كان يتمكن من
التكذيب بلسانه وقلبه فيصير ما يقع من التكذيب من غير حجة ولا برهان غير معتد به
.. وروى عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قرأ هذه الآية بالتخفيف فإنهم
لا يكذبونك على أن المراد بها أنهم لا يأتون بحق هو أحق من حقك.. وقال محمد بن
كعب القرظي معناها لا يبطلون ما في يديك وكل ذلك يقوي هذا الوجه وسنبين أن معنى
هذه اللفظة مشددة ترجع إلى معناها مخففة.. والوجه الثاني أن يكون معنى الآية
أنهم لا يصدقونك ولا يلفونك متقولا كما يقولون قاتلته فما أجبنته أي لم أجده جبانا
174

وحادثته فما أكذبته أي لم ألفه كاذبا.. وقال الأعشى
أثوى وقصر ليلة ليزودا * فمضى وأخلف من قتيلة موعدا
أي صادف منها خلف المواعيد.. ومثله قولهم أصممت القوم إذا صادفتهم صما وأخليت
الموضع إذا صادفته خاليا.. وقال الشاعر
أبيت مع الحداث ليلى فلم أبن * فأخليت فاستجمعت عند خلائيا
أي أصبت مكانا خاليا.. ومثله لهميان بن أبي قحافة
ليسن أنيابا له لوامجا * أوسعن من أشداقه المضارجا
يعنى - بأوسعن - أصبن منابت واسعة فنبتن فيها.. وقال عمرو بن براقة
تحالف أقوام على ليسنموا * وجروا على الحرب إذ أنا سانم (1)

(1) قوله - إذ أنا سانم - الرواية المشهورة سالم بدل سانم.. والبيت من قصيدة يقولها
عمرو بن براق أو براقة المذكور وكان أغار عليه رجل من مراد فأخذ خيله وابله فذهب
بها فاتي عمرو سلمى وكانت بنت سيدهم وعن رأيها كانوا يصدرون فأخبرها ان حريما
المرادي أغار على إبله وخيله فقالت الخفو والوميض والشفق كالأحريض والقلة
والحضيض إن حريما لمنيع الحيز سيد مزيز ذو معقل حربز غير أنى أرى الجمة ستظفر
منه بعثرة بطيئة الجبرة فاغر ولا تنكع فاغار عمرو واستاق كل شئ له فاتى حريم بعد ذلك
يطلب إلى عمرو أن يرد عليه بعض ما أخذ منه فامتنع ورجع حريم انتهى.. وروي
من غير هذا الوجه ان الذي أغار عليه حريم الهمداني وان عمرا أنى امرأة كان يتحدث
إليها يقال لها سلمي فأخبرها بالقصة وانه يريد الغارة عليه فقال له ويحك لا تعرض لتلفات
حريم فانى أخافه عليك فخالفها وأغار عليه وهذا القول الأخير أصوب ومطع القصيدة
تقول سليمى لا تعرض لتلفة * وليلك عن ليل الصعاليك نائم
وكيف ينام الليل من حل ماله * حسام كلون الملح أبيض صارم
غموض إذا عض الكريهة لم يدع * لها طمعا طوع اليمين ملازم
ألم تعلمي أن الصعاليك نومهم * قليل إذا نام الخلي المسالم
إذا الليل أدجى واكفهر ظلامه * وصاح من الافراط بوم جواثم
ومال بأصحاب الكرى غالباته * فاني على أمر الغواية حازم
كذبتم وبيت الله لا تأخذونها * مراغمة ما دام للسيف قائم
تحالف أقوام على ليسلموا * وجروا على الحرب إذ أنا سالم
أفا اليوم أدعى للهوادة بعدما * أجيل علي الحي المذاكى الصلادم
فان حريما إذ رجا أن أردها * ويذهب مالي يابنة القيل حالم
متى تجمع القلب الذكي وصارما * وأنفا حميا تجتنبك المظالم
متى تطلب المل الممنع بالقنا * تعش ماجدا أو تخترمك المخارم
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم * فهل أنا في ذايال همدان ظالم
فلا صلح حتى تقدع الخيل بالقنا * وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم
ولا أمن حتى تغشم الحرب جهرة * عبيدة يوما والحروب غواشم
أمستبطئ عمرو بن نعمان غارتي * وما يشبه اليقظان من هو نائم
إذا جر مولانا علينا جريرة * صبرنا لها إنا كرام دعائم
* وننصر مولانا ونعلم أنه * كما الناس مجروم عليه وجارم
175

يقال - أسمن - بنو فلان إذا رعت إبلهم فصادفوا فيها سمنا.. وقال أبو النجم * يقلن
للرائد أعشبت انزل أي أصبت مكانا معشبا.. وقال ذو الرمة
تريك بياض لبتها ووجها * كقرن الشمس أفتق ثم زالا (1)

(1) - أفتق قرن الشمس - أصاب فتقا من السحاب فبدا منه.. والبيت من قصيدة
يمدح بها بلال بن أبي بردة وبعده
أصاب خصاصة فبدا كليلا * كلا وأنغل جانبه انغلالا
ومنها بني لك أهل بيتك يا بن قيس * وأنت تزيدهم شرفا جلالا
مكارم ليس يحصيهن مدح * ولا كذبا أقول ولا انتحالا
أبو موسى فحسبك نعم جدا * وشيخ الركب خالك نعم خالا
كأن الناس حين تمر حتى * عواتق لم تكن تدع الحجالا
قياما ينظرون إلى بلال * رفاق الحج أبصرت الهلالا
فقد رفع الا له بكل أفق * لضوئك يا بلال سنا طوالا
كضوء الشمس ليس به خفاء * وأعطيت المهابة والجمالا
ومنها سمعت الناس ينتجعون غيثا * فقلت لصيدح انتجعي بلالا
176

أي وجد فتقا من السحاب وليس لاحد أن يجعل هذا الوجه مختصا بالقراءة بالتخفيف
دون التشديد لان في الوجهين معا يمكن هذا الجواب لان أفعلت وفعلت يجوزان في
هذا الموضع وأفعلت هو الأصل ثم شدد تأكيدا وإفادة لمعنى التكرار وهذا مثل أكرمت
وكرمت وأعظمت وعظمت وأوصيت ووصيت وأبلغت وبلغت وهو كثير.. وقال
الله تعالى (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) إلا أن التخفيف أشبه بهذا الوجه لان
استعمال هذه اللفظة مخففة في هذا المعنى أكثر.. والوجه الثالث ما حكى الكسائي من
قوله إن المراد انهم لا ينسبونك إلى الكذب فيما أتيت به لأنه كان أمينا صادقا لم يجربوا
عليه كذبا وإنما كانوا يدفعون ما أتى به ويدعون أنه في نفسه كذب وفى الناس من
يقوى هذا الوجه وأن القوم كانوا يكذبون ما أتى به وإن كانوا يصدقونه في نفسه بقوله
تعالى (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) وبقوله تعالى (وكذب به قومك وهو
الحق) ولم يقل وكذبك قومك وكان الكسائي يقرأ فإنهم لا يكذبونك بالتخفيف ونافع
من بين سائر السبعة والباقون بالتشديد ويزعم أن بين أكذبه وكذبه فرقا وأن معنى
أكذب الرجل أنه جاء بكذب ومعنى كذبته أنه كذاب في حديثه وهذا غلط وليس
بين فعلت وأفعلت في هذه الكلمة فرق من طريق المعنى أكثر مما ذكرناه من أن
التشديد يقتضى التكرار والتأكيد ومع هذا لا يجوز أن يصدقوه في نفسه ويكذبوا بما
أتى به لان من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان يستشهد بصحة ما أتى به وصدقه
وأنه الدين القيم والحق الذي لا يجوز العدول عنه وكيف يجوز أن يكون صادقا في خبره
177

وإن كان الذي أتى به فاسدا بل إن كان صادقا فالذي أتى به حق صحيح وإن كان الذي
أتى به فاسدا فلابد من أن يكون في شئ من ذلك وهو تأويل من لا يتحقق المعاني..
والوجه الرابع أن يكون المعنى في قوله تعالى فإنهم لا يكذبونك أن تكذيبك راجع
إلى وعائد على ولست المختص به لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن كذبه فهو في
في الحقيقة مكذب لله تعالى وراد عليه وهذا كما يقول أحدنا لرسوله امض في كذا فمن
كذبك فقد كذبني ومن دفعك فقد دفعني وذلك من الله على سبيل التسلية لنبيه عليه
الصلاة والسلام والتعظيم والتغليظ لتكذيبه.. والوجه الخامس أن يريد فإنهم
لا يكذبونك في الامر الذي يوافق فيه تكذيبهم وإن كذبوك في غيره.. ويمكن في
الآية وجه سادس وهو أن يريد تعالى أن جميعهم لا يكذبونك وإن كذبك بعضهم فهم
الظالمون الذين ذكروا في آخر الآية بأنهم يجحدون بآيات الله وإنما سلى نبيه عليه
الصلاة والسلام بهذا القول وعزاه فلا ينكر أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام لما استوحش
من تكذيبهم له وتلقيهم إياه بالرد عليه وظن أنه لا متبع له عليه الصلاة والسلام منهم ولا
ناصر لدينه فيهم أخبره الله تعالى بان البعض وان كذبك فان فيهم من يصدقك ويتبعك
وينتفع بارشادك وهدايتك وكل هذا واضح والمنة لله.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه
من جيد الشعر قول مطرود بن كعب الخزاعي
يا أيها الرجل المحول رحله * ألا نزلت بآل عبد مناف (1)
هبلتك أمك لو نزلت عليهم * ضمنوك من جوع ومن إقراف

(1) قوله - يا أيها الرجل الخ.. روى عن المطلب بن أبي وداعة عن جده قال
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضى الله تعالى عنه عند باب بني شيبة فمر
رجل وهو يقول
يا أيها الرجل المحول رحله * ألا نزلت بآل عبد الدار
هبلتك أمك لو تزلت برحلهم * منعوك من عدم ومن إقنار
.. قال فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أبى بكر فقال هكذا قال الشاعر قال
لا والذي بعثك بالحق لكنه قال
يا أيها الرجل المحول رحله * ألا نزلت بآل عبد مناف
الخ كما في الأصل.. قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هكذا سمعت
الرواة ينشدونه
178

الآخذون العهد من آفاقها * والراحلون لرحلة الإيلاف
والمطعمون إذا الرياح تناوحت * ورجال مكة مسنتون عجاف
والمفضلون إذا المحول ترادفت * والقائلون هلم للأضياف
والخالطون غنيهم بفقيرهم * حتى يكون فقيرهم كالكافي
كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمح خالصة لعبد مناف (1)
.. أما قوله - والراحلون لرحلة الإيلاف - فكان هاشم صاحب إيلاف قريش الرحلتين
وأول من سنهما فألف والرحلتين (2) في الشتاء إلى اليمن والحبشة والعراق وفى الصيف
إلى الشام.. وفى ذلك يقول ابن الزبعرى

(1) وقوله - فالمح خالصة لعبد مناف - المح والمحة صفرة البيض.. قال ابن سيدة
إنما يريدون فص البيضة لان المح جوهر والصفرة عرض ولا يعبرون بالعرض عن
الجوهر اللهم الا أن تكون العرب سمت مح البيضة صفرة قال وهذا ما لا أعرفه وإن كانت
العامة قد أولعت بذلك وقوله - خالصة - روي أيضا خالصها وخالصه ولا إشكال في
الروايتين الأخيرتين.. قال ابن بري من قال خالصة بالتاء فهو في الأصل مصدر كالعافية
(2) قوله - تألف الرحلتين - الخ كان هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل إخوة
وأكبرهم عبد شمس وأصغرهم المطلب والثلاثة السابقون لأب وأم ونوفل أخوهم
لأبيهم وهم أول من أخذ لقريش العصم فانتشروا من الحرم أخذ لهم هاشم حبلا من
ملوك الشام الروم وغسان وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الأكبر فاختلفوا
بذلك السبب إلى أرض الحبشة واخذ لهم نوفل حبلا من الأكاسرة فاختلفوا بذلك
السبب إلى اليمن فجبر الله بهم قريشا فسموا المجبرين واختلف في قائل هذه الأبيات فقيل
هي لمطرود ين كعب الخزاعي وقيل لابن الزبعرى وهذا أصح ولم نر من فرقها
غير السيد المرتضى وسبب قول ابن الزبعرى لها فيما قيل إن الناس أصبحوا يوما بمكة
وعلى باب الندوة مكتوب
ألهى قصيا عن المجد الأساطير * ورشوة مثل ما ترشى السفاسير
وأكلها اللحم بحتا لا خليط به * وقولها رحلت عير أتت عير
فأنكر الناس ذلك وقالوا ما قالها الا ابن الزبعرى وأجمع على ذلك رأيهم فمشوا إلي بني
سهم وكان مما تنكر قريش وتعاتب عليه أن يهجو بعضها بعضا فقالوا لبنى سهم ادفعوه
إلينا نحكم فيه بحكمنا قالوا وما الحكم فيه قالوا قطع لسانه قالوا فشأنكم واعلموا والله
انه لا يهجونا رجل منكم الا فعلنا به مثل ذلك والزبير بن عبد المطلب يومئذ غائب نحو
اليمن فانجت بنو قصي بينهم فقالوا لا نأمن الزبير إذا بلغه ما قال ابن الزبعري أن يقول
شيئا فيؤتي إليه مثل ما نأتى إلى هذا وكانوا أهل تناصف فاجمعوا على تخليته فخلوه وقيل
إنهم أسلموه إليهم فضربوه وحلقوا شعره وربطوه إلى صخرة بالحجون فاستغاث قومه
فلم يغيثوه فجعل يمدح قصيا ويسترضيهم فاطلقه بنو عبد مناف منهم وأكرموه فمدحهم
بهذا الشعر
179

عمر العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف
وهو الذي سن الرحيل لقومه * رحل الشتاء ورحلة الأضياف
.. فأما قوله - مسنتون - فهم الذين أصابتهم السنة المجدبة الشديدة.. وقوله -
والخالطون غنيهم بفقيرهم - من أحسن الكلام وأخصره إنما أراد أنهم يفضلون على الفقير
حتى يعود غنيا ذا ثروة.. ولأحمد بن يوسف أبيات على هذا الوزن يمزح بها مع ولد
سعيد بن مسلم الباهلي وكان لهم صديقا
أبناء سعد إنكم من معشر * لا يعرفون كرامة الأضياف
قوم لباهلة بن يعصر إن هم * نسبوا حسبتهم لعبد مناف
قرنوا الغداء إلى العشاء وقربوا * زادا العمر أبيك ليس بكافي
وكأنني لما حططت إليهم * رحلي نزلت بأبرق العزاف
180

بينا كذلك إذ أتى كبراؤهم * يلحون في التبذير والاسراف
أراد - قرنوا الغداء إلى العشاء - من بخلهم واختصارهم في المطعم.. ويقال إن هذا الشعر
حفظ وصار من أكثر ما يسبون به ويسب قومهم ولرب مزح جر جدا وعثرة
الشعر لا تستقال والشعر يسير بحسب جودته.. ولقد أحسن دعبل بن علي في قوله
نعونى ولما ينعني غير شامت * وغير عدو قد أصيبت مقاتله
يقولون إن ذاق الردى مات شعره * وهيهات عمر الشعر طالت طوائله
سأقضى ببيت يحمد الناس أمره * ويكثر من أهل الرواية حامله
يموت ردى الشعر من قبل ربه * وجيده يبقى وإن مات قائله
.. ولآخر في هذا المعنى (1)

(1) قوله - ولآخر في هذا المعنى.. لأبيات من قصيدة لدعبل أيضا ومطلعها
إذا غزونا فمغزانا بأنقرة * وأهل سلمي بسيف البحر من جرت
هيهات هيهات بين المنزلين لقد * أنضيت شوقي وقد طولت ملتفتي
أحببت أهلي ولم أظلم بحبهم * قالوا تعصبت جهلا قول ذي بهت
لهم لساني بتقريظي وممتدحي * نعم وقلبي وما تحويه مقدرتي
دعني أصل رحمي إن كنت قاطعها * لابد للرحم الدنيا من الصلة
فاحفظ عشيرتك الادنين إن لهم * حقا يفرق بين الزوج والمرت
قومي بنو حمير والأزد إخوتهم * وآل كندة والاحياء من علت
ثبت الحلوم فان سلت حفائظهم * سلوا السيوف فأردوا كل ذي عنت
نفسي تنافسني في كل مكرمة * إلى المعالي ولو خالفتها أبت
وكم زحمت طريق الموت معترضا * بالسيف ضيقا فاداني إلى السعة
قال العواذل أودى المال قلت لهم * ما بين أجر وفخر لي ومحمدة
أفسدت مالك قلت المال يفسدني * إذا بخلت به والجود مصلحتي
لا تعرضن بمزح لامرئ طبن * ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فرب قافية بالمزح قاتلة * مشؤمة لم يرد إنماؤها نمت
رد السلى مستتما بعد قطعته * كرد قافية من بعد ما مضت
إني إذا قلت بيتا مات قائله * ومن يقال له والبيت لم يمت
181

لا تعرضن بمزح لامرئ فطن * ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فرب قافية بالمزح جارية * مشؤمة لم يرد إنماؤها نمت
إني إذا قلت بيتا مات قائله * ومن يقال له والبيت لم يمت
(مجلس آخر 78)
[تأويل آية أخرى].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (ثم لم تكن فتنتهم إلا
أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) الآية.. وعن قوله تعالى (ولو ترى إذ وقفوا
على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب) الآية.. فقال كيف يقع من أهل الآخرة نفى
الشرك عن أنفسهم والقسم بالله تعالى عليه وهم كاذبون في ذلك مع أنهم عندكم في تلك الحال
لا يقع منهم شئ من القبيح لمعرفتهم بالله تعالى ضرورة ولأنهم ملجؤون هناك إلى ترك جميع
القبائح وكيف قال من بعد (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) فشهد عليهم
بالكذب ثم علقه بما لا يصح فيه معنى الكذب وهو التمني لأنهم تمنوا ولم يخبروا..
الجواب قلنا أول ما نقوله إنه ليس في ظاهر الآية ما يقتضى أن قولهم (ما كنا مشركين)
إنما وقع في الآخرة دون الدنيا وإذا لم يكن ذلك في الظاهر جاز أن يكون الاخبار
يتناول حال الدنيا وسقطت المسألة وليس لاحد أن يتعلق في وقوع ذلك في الآخرة
بقوله تعالى قبل الآية (ويوم محشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين
كنتم تزعمون) وأنه عقب ذلك بقوله تعالى (ثم لم تكن فتنتهم) فيجب أن يكون
الجميع مختصا بحال الآخرة لأنه لا يمنع أن يكون الآية تتناول ما يجرى في الآخرة ثم
182

تتلوها آية تتناول ما يجرى في الدنيا لان مطابقة كل آية لما قبلها في مثل هذا غير واجبة
.. وقوله تعالى (ثم لم تكن فتنتهم) لا تدل أيضا على أن ذلك يكون واقعا بعد ما خبر
تعالى عنه في الآية الأولى فكأنه تعالى قال على هذا الوجه إنا محشرهم في الآخرة ونقول
أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم ما كان فتنتهم وسبب ضلالهم في الدنيا إلا قولهم
(والله ربنا ما كنا مشركين).. وقد قيل في الآية على تسليم أن هذا القول يقع
منهم في الآخرة إن المراد به أنا ما كنا عند نفوسنا وفى اعتقادنا مشركين بل كنا نعتقد
أنا على الحق والهدى.. وقوله تعالى من بعد (أنظر كيف كذبوا على أنفسهم) لم
يرد هذا الخبر الذي وقع منهم في الآخرة بل إنهم كذبوا على أنفسم في دار الدنيا
باخبارهم أنهم مصيبون محقون غير مشركين وليس في الظاهر إلا أنهم كذبوا على أنفسهم
من غير تخصيص بوقت فلم يحمل على آخرة دون دنيا ولو كان للآية ظاهر يقتضى وقوع
ذلك في الآخرة لحملناه على الدنيا بدلالة أن أهل الآخرة لا يجوز أن يكذبوا لأنهم ملجؤون
إلى ترك القبيح.. فأما قوله تعالى حاكيا عنهم (يا ليتنا نرد).. وقوله تعالى (فإنهم
لكاذبون) فمن الناس من حمل الكلام كله على وجه لنمنى فصرف قوله تعالى وإنهم
كاذبون إلى غير الامر الذي تمنوه لان الثمني لا يصح فيه معنى الصدق والكذب لأنهما إنما
يدخلان في الاخبار المحضة لان قول القائل ليت الله رزقني وكذا وليت فلانا أعطاني
مالا أفعل به كذا وكذا لا يكون كذبا ولا صدقا وقع ما تمناه أولم يقع فيجوز على هذا
أن يكون قوله تعالى (وإنهم لكاذبون) مصروفا إلى حال الدنيا كأنه تعالى قال وهم
كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم في الدنيا من الإضافة واعتقاد الحق أو يريد أنهم
كاذبون أن خبروا عن أنفسهم أنهم متى ردوا آمنوا ولم يكذبوا وإن كان ما كان مما حكى عنهم
من التمني ليس بخبر وقد يجوز أن يحمل قوله تعالى (وإنهم لكاذبون) على غير الكذب
الحقيقي بل يكون المراد والمعنى انهم تمنوا ما لا سبيل إليه فكذب أملهم وتمنيهم وهذا
مشهور في الكلام لأنهم يقولون لمن تمنى ما لا يدرك كذب أملك وأكدى رجاؤك وما
جرى مجرى ذلك.. وقال الشاعر
كذبتم وبيت الله لا تأخذونها * مراغمة ما دام للسيف قائم
183

.. وقال آخر
كذبتم وبيت الله لا تنكحونها * بنى شاب قرناها تصر وتحلب
ولم يرد الكذب في الأقوال بل في التمني والأمل.. وليس لاحد أن يقول كيف يجوز
من أهل الآخرة مع أن معارفهم ضرورية وأنهم عارفون ان الرجوع لا سبيل إليه أن
يتمنوه وذلك أنه غير ممتنع أن يتمنى المتمني ما يعلم أنه لا يحصل ولا يقع ولهذا يتعلق التمني
بما لا يكون وبما قد كان ولقوة اختصاص التمني بما يعلم أنه لا يكون غلط قوم فجعلوا إرادة
ما علم المريد أنه لا يكون تمنيا فهذا الذي ذكرناه وجه في تأويل الآية.. وفى الناس من
جعل بعض الكلام تمنيا وبعضه إخبارا وعلق تكذيبهم بالخبر دون ليتنا فكان تقدير
الآية يا ليتنا نرد وهذا هو التمني ثم قال من بعده فإنا لا نكذب بآيات ربنا ونكون من
المؤمنين فأخبروا بما علم الله تعالى أنهم فيه كاذبون وإن لم يعلموا من أنفسهم مثل ذلك
فلهذا كذبهم تعالى وكل هذا واضح بحمد الله.. أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال
حدثني أحمد بن عبد الله وعبد الله بن يحيى العسكريان قالا حدثنا الحسن بن عليل
العنبري قال حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله العبدي قال حدثنا أبو مسعر رجل منا
من بنى غنم بن عبد القيس قال، منصور بن سلمة النميري على البرامكة وهو شيخ
كبير وكان مروان بن أبي حفصة صديقا لي على أنى كنت أبغضه وأمقته في الله فشكا
إلى وقال دخل علينا اليوم رجل أظنه شاميا وقد تقدمته البرامكة في الذكر عند الرشيد
فأذن له الرشيد فدخل فسلم وأجاد فأذن له الرشيد فجلس قال فأوجست منه خوفا فقلت
يا نفس أنا حجازي نجدى شافهت العرب وشافهتنى وهذا شامي أفتراه أشعر منى قال
فجعلت أرقو نفسي إلى أن استنشده هارون فإذا هو والله أفصح الناس فدخلني له حسد
فأنشده قصيدة تمنيت أنها لي وأن على غرما فقلت له ما هي قال أحفظ منها أبياتا وهي
أمير المؤمنين إليك خضنا * غمار الموت من بلد شطير
بخوص كالأهلة خافقات * حملن على السرى وعلى الهجير
حملن إليك آمالا عظاما * ومثل الصبح والبدر المنير
184

وقد وقف المديح بمنتهاه * وغايته وصار إلى المصير
إلى من لا يشير إلى سواه * إذا ذكر الندى كف المشير
قال مروان فوددت أنه قد أخذ جائزتي وسكت وعجبت من تخلصه إلى تلك القوافي ثم
ذكر ولد أمير المؤمنين علي عليه السلام فأحسن التخلص.. ورأيت هارون يعجب
بذلك فقال
يدلك في رقاب بنى على * ومن ليس بالمن اليسير
فإن شكروا فقد أنعمت فيهم * وإلا فالندامة للكفور (1)
مننت على ابن عبد الله يحيى * وكان من الحتوف على شفير
وقد سخطت لسخطتك المنايا * عليه فهي خاتمة النشور
ولو كافأت ما اجترحت يداه * دلفت له بقاصمة الظهور
ولكن جل حلمك فاجتباه * على الهفوات عفو من قدير
فعاد كأنه لم يجن ذنبا * وقد كان اجتنى حسك الصدور
وإنك حين تبلغه أذاة * وإن ظلموا لمحترق الضمير
وإن الرشيد قال لما سمع هذا البيت هذا والله معنى كان في نفسي وأدخله بيت المال وحكمه
فيه.. عدنا إلى الخبر قال مروان وكان هارون يتبسم ويكاد يضحك للطف ما سمع ثم
أرمأ إلى أن أنشد فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها

(1) وزيد فيها وإن قالوا بنو بنت فحق * وردوا ما يناسب للذكور
وما لبنى بنات من تراث * مع الأعمام في ورق الزبور
ومنها بني حسن ورهط بنى حسين * عليكم بالسداد من الأمور
فقد ذقتم قراع بني أبيكم * غداة الروع بالبيض الذكور
185

خلوا الطريق لمعشر عاداتهم * حطم المناكب كل يوم زحام (1)
حتى أتيت على آخرها فوالله ما عاج ذلك الرجل يعنى النميري بشعري ولاحفل به.. ثم
وأنشده منصور يومئذ
إن لهارون إمام الهدى * كنزين من أجر ومن بر
يريش ما تبرى الليالي ولا * تريش أيديهن ما يبرى
كأنما البدر على رحله * ترميك منه مقلتا صقر
وأنشده أيضا
ولمن أضاع لقد عهدتك حافظا * لوصية العباس بالأخوال
.. قال مروان وأخلق به أن يغلبني وأن يعلو على عنده فإني ما رأيت أحسن من تخلصه
إلى ذكر الطالبين.. وأخبرنا المرزباني قال حدثنا أبو عبد الله الحكيمي قال حدثني
يموت بن المزرع قال حدثني أبو عثمان الجاحظ قال كان منصور النميري ينافق الرشيد
ويذكر هارون في شعره ويريه أنه من وجوه شيعته وباطنه ومراده بذلك علي بن أبي
طالب عليه السلام لقول النبي عليه الصلاة والسلام أنت منى بمنزلة هارون من موسى
إذ وشى به عنده بعض أعدائه وهو العتابي فقال يا أمير المؤمنين هو الله الذي يقول
متى يشفيك دمعك من همول * ويبرد ما بقلبك من غليل
وأنشده أيضا
شاء من الناس راتع هامل * يعللون النفوس بالباطل
ومنصور يصرح في هذه القصيدة بالعجائب فوجه الرشيد برجل من فزارة وأمره أن
يضرب عنق منصور حيث تقع عينه عليه فقدم الرجل ورأس عين من بعد موت منصور
بأيام قلائل.. قال المرزباني ويصدق قول الجاحظ أن النميري كان يذكر هارون في

(1).. وبعده وارضوا بما قسم الاله لكم * ودعوا وراثة كل أصيد حام
أني يكون وليس ذاك بكأن * لبنى البنات وراثة الأعمام
186

شعره وهو يعنى به أمير المؤمنين عليا عليه السلام ما أنشدناه محمد بن الحسن بن دريد النمري
آل رسول خيار الناس كلهم * وخير آل رسول الله هارون
رضيت حكمك لا أبغى به بدلا * لان حكمك بالتوفيق مقرون
.. وروى أن أبا عتيمة الشيعي لما أوقع بأهل ديار ربيعة أوفدت ربيعة وفدا إلى الرشيد
فيهم منصور النميري فلما صاروا بباب الرشيد أمرهم باختيار من يدخل عليه منهم
فاختاروا عددا بعد عدد إلى أن اختاروا رجلين أحدهما النميري ليدخلا ويسألا حوائجهما
وكان النميري مؤدبا لم يسمع منه شعر قط قبل ذلك ولاعرف به فلما مثل هو وصاحبه
بين يدي الرشيد قال لهما قولا ما تريدان فأنشد النميري
ما تنقضى حسرة منى ولاجزع
قال له الرشيد قل حاجتك وعد عن هذا.. فقال
إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع
وأنشده القصيدة حتى أتى إلى قوله
ركب من النمر عاذوا بابن عمهم * من هاشم إذ ألج الأزلم الجذع
متوا إليك بقربي أنت تعرفها * لهم بها في سنام المجد مطلع
إن المكارم والمعروف أودية * أحلك الله منها حيث تنتجع
إذا رفعت امرأ فالله رافعه * ومن وضعت من الأقوام متضع
نفسي فداؤك والابطال معلمة * يوم الوغى والمنايا بينهم قرع
حتى أتى إلى آخرها فقال له ويحك ما حاجتك فقال يا أمير المؤمنين أخربت الديار وأخذت
الأموال وهتك الحرم فقال اكتبوا له بكل ما يريد وأمر له بثلاثين ألف درهم واحتبسه
عنده وشخص أصحابه بالكتب ولم يزل عنده يقول الشعر فيه حتى استأذنه في الانصراف
فأذن له ثم اتصل بالرشيد قوله
187

شاء من الناس راتع هامل * يعللون النفوس بالباطل
تقتل ذرية النبي وترجون خلود الجنان للقاتل
ما الشك عندي في كفر قاتله * لكنني قد أشك في الخاذل
فامتعض الرشيد وأنفذ من يقتله فوجده في بعض الروايات ميتا وفى أخرى عليلا لما به
فسئل الرسول أن لا يأثم به وأن ينتظر موته ففعل ولم يبرح حتى توفي فعاد بخبر موته.. وللنميري
لو كنت أخشى معادى حق خشيته * لم تسم عيني إلى الدنيا ولم تنم
لكنني عن طلاب الدين محتبل * والعلم مثل الغنى والجهل كالعدم
يحاولون دخولي في سوادهم * لقد أطافوا بصدع غير ملتئم
ما يغلبون النصارى واليهود على * حب القلوب ولا العباد للصنم
(مجلس آخر 79)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت)
.. فقال كيف يصح أن يسئل من لاذنب له ولا عقل فأي فائدة في سؤالها عن ذلك وما
وجه الحكمة فيه وما الموؤودة ومن أي شئ اشتقاق هذه اللفظة.. الجواب قلنا أما معنى
سئلت ففيه وجهان.. أحدهما أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها وسئل
عن قتله لها وبأي ذنب كان على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة فالقتلة ههنا هم
المسؤولون على الحقيقة لا المقتولة وإنما المقتولة مسؤول عنها ويجرى هذا مجرى قولهم
سألت حقي أي طالبت به ومثله قوله تعالى (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) أي
مطالبا به مسؤولا عنه.. والوجه الآخر أن يكون السؤال توجه إليها على الحقيقة على
سبيل التوبيخ له والتقريع له والتنبيه له على أنه لا حجة له في قتلها ويجرى هذا
مجرى قوله تعالى لعيسى عليه السلام
(أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون
188

الله) على طريق التوبيخ لقومه وإقامة الحجة عليهم.. فإن قيل على هذا الوجه كيف
يخاطب ويسأل من لاعقل له ولافهم.. فالجواب أن في الناس من زعم أن الغرض
بهذا القول إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه وإدخال الغم عليه في ذلك الوقت على سبيل
العقاب لم يمتنع أن يقع وإن لم يكن من الموؤودة فهم له لان الخطاب وإن علق عليها وتوجه
إليها فالغرض في الحقيقة به غيرها قالوا وهذا يجرى مجرى من ضرب ظالم طفلا من ولده
فأقبل على ولده يقول له ضربت ما ذنبك وبأي شئ استحل هذا منك فغرضه تبكيت
الظالم لاخطاب الطفل والأولى أن يقال في هذا إن الأطفال وإن كانوا من جهة العقول
لا بجب في وصولهم إلى الأغراض المستحقة أن يكونوا كاملى العقول كما يجب مثل ذلك
في الوصول إلى الثواب فإن الخبر متظاهرا والأمة متفقة على أنهم في الآخرة وعند
دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات وأفضل الأحوال وإن عقولهم تكون كاملة
فعلى هذا يحسن توجه الخطاب إلى الموؤودة لأنها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب
وتعقله وإن كان الغرض منه التبكيت للقائل وإقامة الحجة عليه.. وقد روى عن أمير
المؤمنين عليه السلام وابن عباس ويحيى بن يعمر ومجاهد ومسلم بن صبيح وأبى الضحى
ومروان وأبى صالح وجابر بن يزيد أنهم قرؤا سئلت بفتح السين والهمزة واسكان التاء
بأي ذنب قتلت. وروى باسكان اللام وضم التاء الثانية على أن الموؤودة موصوفة
بالسؤال والقول بأي ذنب قتلت.. وروى القطيعي عن مسلم والأعمش عن حفص عن
عاصم قتلت بكسر التاء الثانية وفى سئلت مثل قراءة الجمهور بضم السين.. وروى عن أبي
جعفر المدني قتلت بالتشديد وإسكان التاء الثانية.. وروى عن بعضهم وإذا
الموؤودة سئلت بفتح الميم والواو فأما من قرأ سئلت بفتح السين فيمكن فيه الوجهان
اللذان ذكرناهما من أن الله تعالى أكملها في تلك الحال وأقدرها على النطق.. والوجه
الثالث أن يكون معنى سئلت أي سألها وطولب بحقها وانتصف لها من ظالمها فكأنها هي
السائلة تجوزا واتساعا ومن قرأ بفتح السين وضم التاء الثانية من قتلت فعلى أنها هي
المخاطبة بذلك ويجوز في هذا الوجه أيضا قتلت باسكان التاء الأخيرة كقراءة الجماعة لأنه
اختاره عنها كما يقال سئل زيد بأي ذنب ضرب وبأي ذنب ضربت وقال يقوى هذه
189

القراءة في سئلت ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله يجئ المقتول يوم
القيامة وأوداجه تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك متعلقا بقتله يقول يا رب
سل هذا فيم قتلني فأما القراءة المأثورة عن حفص عن عاصم في ضم التاء الأخيرة من
قتلت وبضم السين سئلت فمعناها (وإذا الموؤودة سئلت) ما تبغي فقالت (بأي ذنب
قتلت) فأضمر ما سئلت عنه وأضمر قولها وقد تضمر العرب مثل هذا لدلالة الخطاب
عليه وارتفاع الاشكال عنه مثل قوله تعالى (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت
وإسماعيل ربنا تقبل منا) أي ويقولان ربنا ونظائره في القرآن كثيرة جدا.. فاما
قراءة من قرأ بالتشديد فالمراد به تكرار الفعل بالموؤدة ههنا وإن كان لفظها لفظ واحد
فالمراد به الجنس واردة التكرار جائزة.. فأما من قرأ (الموؤودة بفتح الميم والواو فعلى أن
المراد الرحم والقرابة وأنه يسأل عن سبب قطعها وتضييعها.. قال الله تعالى (فهل
عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض) الآية.. فأما الموؤودة فهي المقتولة صغيرة
وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات بأن يدفنوهن أحياء وهو قوله تعالى (أيمسكه على
هون أم يدسه في التراب).. وقوله تعالى (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم)
ويقال إنهم كانوا يفعلون ذلك لامرين.. أحدهما أنهم كانوا يقولون إن الإناث بنات الله فالحقوا
البنات بالله فهو أحق بها منا والامر الآخر أنهم كانوا يقتلونهن خشية الاملاق قال الله تعالى
(ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) الآية.. [قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه
ووجدت أبا علي الجبائي وغيره يقول إنما قيل لها موؤدة لأنها ثقلت بالتراب الذي طرح
عليها حتى ماتت وفى هذا بعض النظر لأنهم يقولون من الموؤودة وأديئد وأدا والفاعل
وائد والفاعلة وائدة ومن الثقل يقولون آدنى الشئ يؤدني إذا أثقلني أودا.. وروي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن العزل فقال ذاك الوأد الخفي وقد روى عن
جماعة من الصحابة كراهية ذلك فقال قوم في الخبر الذي ذكرناه انه منسوخ بما روى
عنه عليه الصلاة والسلام أنه قيل له اليهود يقولون في العزل هو الموؤودة الصغرى
فقال عليه الصلاة كذبت اليهود لو أراد الله أن يخلقه لم يستطع أن يصرفه وقد
يجوز أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام ذاك الوأد الخفي على طريق التأكيد الترغيب
190

في طلب النسل وكراهية العزل لا على أنه محظور محرم.. وصعصعة بن ناجية بن عقال
جد الفرزدق بن غالب وكان ممن فدى الموؤدات في الجاهلية ونهى عن قتلهن وقيل إنه
أحيا ألف موؤدة وقيل دون ذلك.. وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله
ومنا الذي منع الوائدات * وأحيا الوئيد فلم توءد
وفي قوله
ومنا الذي أحيا الوئيد وغالب * وعمرو ومنا حاجب والأقارع
.. وفى ذلك يقول أيضا
أنا ابن عقال وابن ليلى وغالب * وفكاك أغلال الأسير المكفر
- ليلى - أم غالب - وعقال - هو محمد بن سفيان بن مجاشع - وفكاك الأغلال - ناجية بن
عقال - والمكفر - هو الذي كفر وكبل بالحديد
وكان لنا شيخان ذو القبر منهما * وشيخ أجار الناس من كل مقبر
- ذو القبر - غالب وكان يستجار بقبره والذي أجار الناس من القبر وأحيى الوئيدة صعصعة
على حين لاتحيى البنات وإذ هم * عكوف على الأصنام حول المدور
أنا ابن الذي رد المنية فضله * وما حسب دافعت عنه بمعور
أبى أحد الغيثين صعصعة الذي * متى تخلف الجوزاء والنجم يمطر
أجار بنات الوائدين ومن يجر * على القبر يعلم أنه غير مخفر
وفارق ليل من نساء أتت به * يعالج ريحا ليلها غير مقمر
- فارق - يعنى امرأة ماخضا شبهها بالفارق من الإبل وهي الناقة التي يضربها المخاض
فتفارق الإبل وتمضى على وجهها حتى تضع
فقالت أجر لي ما ولدت فإنني * أتيتك من هزل الحمولة مقتر
رأى الأرض منها راحة فرمى بها * إلى جدد منها وفى شر محفر
191

فقال لها نامى فأنت بذمتي * لبنتك جار من أبيها القتور
- القتور - السيئ الخلق.. قال وأخبرنا المرزباني قال أخبرني محمد بن يحى الصولي قال
حدثنا محمد بن زكريا الغلابي عن العباس بن بكار الضبي عن أبي بكر الهذلي.. قال
الصولي وحدثني القاسم بن إسماعيل عن أبي عثمان المازني عن أبي عبيدة بطرف منه
قال وفد صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني
تميم وكان صعصعة منع الوأد في الجاهلية فلم يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك فجاء الاسلام
وقد فدا في بعض الروايات أربعمائة موؤدة وفى أخرى ثلاثمائة فقال للنبي صلى الله عليه
وسلم بأبي أنت وأمي أوصني فقال أوصيك بأمك وأبيك وأختك وأخيك وأدانيك
أدانيك فقال زدني فقال عليه الصلاة والسلام إحفظ ما بين لحييك ورجليك ثم قال
عليه الصلاة والسلام ما شئ بلغني عنك فعلته فقال يا رسول الله رأيت الناس يموجون
على غير وجه ولم أدر أين الصواب غير أنى علمت أنهم ليسوا عليه فرأيتهم يئدون بناتهم
فعرفت أن ربهم عز وجل لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم ففديت ما قدرت عليه.. وفى رواية
أخرى إن صعصعة لما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع قوله تعالى (فمن يعمل
مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) قال حسبي ما أبالي أن لا أسمع
من القرآن غير هذا.. ويقال إنه اجتمع جرير والفرزدق يوما عند سليمان بن عبد
الملك فافتخرا فقال الفرزدق أنا ابن محيى الموتى فقال له سليمان أنت ابن محيى الموتى
فقال إن جدي أحيا الموؤودة وقد قال الله تعالى (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس
جميعا) وقد أحيي جدي اثنتين وتسعين موؤدة فتبسم سليمان وقال إنك مع شعرك لفقيه
[تأويل خبر].. إن سأل سائل عن معنى الخبر الذي يروى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يصلى الرجل وهو زناء.. الجواب قلنا الزناء هو
الحاقن الذي قد ضاق ذرعا ببوله يقال أزنأ الرجل ببوله فهو يزنيه إزناء.. قال الأخطل
فإذا دفعت إلى زناء قعرها * غبراء مظلمة من الاحفار (1)

(1) البيت من قصيدة يمدح بها عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان وكان عبد الله هذا محمقا
وأول القصيدة
صدع الخليط فشاقني أجواري * ونأوك بعد تقارب ومزار
وكأنما أنا شارب جادت له * بصرى بصافية الأديم عقار
صرف تواترت الأعاجم جفنها * وحماه حائط عوسج بجدار
من مسبل درجت إليه عيونه * وسقاه عازب جدول مرار
حتى إذا ما أنضجته شمسه * وأنا فليس عصاره كعصار
وتقصدت من غير هش عوده * بال وليس بحصرم أبكار
وتجردت بعد الهجير وضرحت * صهباء تبدأ شربها بقتار
وجدا برملة يوم شرق أهلها * للغور أو لشقائق المذكار
وكأن ظعن الحي حائش قرية * دانى الجناية موانع الأثمار
وإذا تكشفت الخدور بدا لنا * بقر كوانس في ظلال مغار
وإذا اطلعن من الخدور لحاجة * سدوا الخصاص بأوجه أحرار
ولقد حلفت برب موسى جاهدا * والبيت ذي الحرمات والأستار
وبكل مهتبل عليه مسوحه * دون السماء مسبح جار
لاحبرن لابن الخليفة مدحة * ولاقذفن بها إلي الأمصار
قرم تمهل في أمية لم يكن * فيها بذى أبن ولاخوار
نبتت قناتك منهم في أسرة * بيض الوجوه مصالت أخيار
جهراء للمعروف حين تراهم * حلماء غير تنابل أشرار
قوم إذا بسط الاله ربيعهم * دارت رحاه بمسبل درار
وإذا أريد بهم عقوبة فاجر * مطرت صواعقهم عليه بنار
قوم هم نالوا التمام وأزحفت * عنه مذارع آخرين قصار
وأبوك صاحب يوم أذرح إذ أبى الحكمان غير تهايب وضرار
لما تبعثت الضغائن بينهم * أفضى وسار بجحفل جرار
وأهل إذ غنظ العدو بفيلق * تحت الاشاء عريضة الآثار
حتى رأوه بجنب مسكن معلما * والخيل جاذية على الأقتار
ومنها تسموا العيون إلى عزيز بابه * معطي المهابة نافع ضرار
وتري عليه إذ العيون شزرنه * سيما الحليم وهيبة الجبار
ولقد أناجي النفس لما شفها * خوف الجنان ورهبة الأقتار
بأبي سليمان الذي لولا يد * منه علقت بظهر أحدب عار
وإذا دفعت إلى زناء بابها * غبراء مظلمة من الاجفار
لولا فواضله غداة لقيته * بالجد شاب مسايحي وعذارى
من معشر حنقين لولا أنتم * يا بن الخليفة ما شددت إزاري
والشافعون مغيبون وجوههم * رزموا المقالة ناكسوا الابصار
192

يعنى ضيق القبر.. ويقال لا تأت فلانا فان منزله زناء فيجوز أن يكون ضيقا ويجوز أن يكون
عسر المرتقي وكلاهما يؤل إلى المعنى ويقال موضع زناء إذا كان ضيقا صبعا.. ومن
193

ذلك قول أبى زبيد يصف أسدا
أبن عرسية عنابها أشب * ودون غايته مستورد شرع
شأسي الهبوط زناء الحاميين متى * تنشع بوادره يحدث لها فزع (1)

(1) البيتان من قصيدته التي أولها
من مبلغ قومنا النائين إذ شحطوا * أن الفؤاد إليهم شيق ولع
حمال أثقال أهل الود آونة * أعطيهم الجهد منى بله ما أسع
يروي أن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه قال له يوما يا أخا تبع المسيح أسمعنا
بعض قولك فقد أنبئت انك تجيد وكان أبو زبيد الطائي هذا نصرانيا فأنشده القصيدة
ووصف الأسد فقال عثمان رضي الله عنه تالله تفتؤ تذكر الأسد ما حييت والله اني
لاحسبك جبانا هرابا قال كلا يا أمير المؤمنين ولكني رأيت منه منظرا وشهدت منه مشهدا
لا يبرح ذكره يتجدد ويتردد في قلبي ومعذور أنا غير ملوم فقال له عثمان رضي الله عنه واني
كان ذلك قال خرجت في صيابة أشراف من أبناء قبائل العرب ذوي هيئة وشارة حسنة ترمى
بنا المهارى باكسائها ونحن نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام فاخروط بنا
السير في حمارة القيظ حتى إذا عصبت الأفواه وذبلت الشفاه وشالت المياه وأذكت
الجوزاء المعزاء وذاب الصيخد وصر الجندب وأضاف العصفور الضب في وكره وجاوره
في جحره قال قائل أيها الركب غوروا بنا في دوح هذا الوادي وإذا واد قد بدى لنا
كثير الدغل دائم الغلل أشجاره مغنه وأطياره مرنه فحططنا رحالنا بأصول دوحات
كنهبلات فأصبنا من فضلات الزاد وأتبعناها الماء البارد فانا لنصف حر يومنا ومماطلته
إذ صر أقصي الخيل أذنيه وفحص الأرض بيديه فوالله ما لبث أن جال ثم حمحم فبال
ثم فعل فعله الفرس الذي يليه واحدا فواحدا فتضعضعت الخيل وتكعكعت الإبل
وتقهقرت البغال فمن نافر بشكاله وناهض بعقاله فعلمنا أنا قد أتينا وانه السبع ففزع
كل واحد منا إلى سيفه فاستله من جربانه ثم وقفنا زردقا أرسالا وأقبل أبو الحارث
من أجمته يتظالع في مشيته كأنه مجنوب أو في هجار لصدره نحيط ولبلا عمه غطيط
ولطرفه وميض ولأرساغه نقيض كأنما يخبط هشيما أو يطأ صريما وإذا هامة كالمجن وخد
كالمسن وعينان سجروان كأنهما سراجان يتقدان وقصرة ربلة ولهذمة رهلة وكتد
مغبط وزور مفرط وساعد مجدول وعضد مفتول وكف شثنة البراثن إلى مخالب
كالمحاجن فضرب بيديه فأرهج وكشر فافرج عن أنياب كالمعاول مصقولة غير مفلولة
وفم أشدق كالغار الاخرق ثم تمطي فأسرع بيديه وحفز وركيه برجليه حتى صار ظله
مثليه ثم اقعي فاقشعر ثم مثل فاكفهر ثم تجهم فازبأر فلاوذو بيته في السماء ما اتقيناه
الاباخ لنا من فزاره كان ضخم الجزاره فوقصه ثم نفضه نفضة فقضقض متنيه فجعل يلغ
في دمه فذمرت أصحابي فبعد لأي ما استقدموا فهجهجنا به فكر مقشعرا بزبره كأن به
194

يعنى - بزناء الحاميين - أنه ضيق جانبي الوادي.. وقوله - متى تنشع بواردة - أي يضيق
بجماعة ممن يرده وإنما يحدث لها فزع من الأسد - والشاس - الغليظ يقال مكان شأس إذا كان
غليظا ومن ذلك قولهم زنأ فلان في الجبل إذا كابد الصعود فيه وهو يزنأ في الجبل.. وروى أبن دريد أن قيس بن عاصم المنقري أخذ صبيا له يرقصه وأم ذلك الصبي منفوسة وهي
195

بنت زيد الفوارس بن ضرار الضبي فجعل قيس يقوله له
أشبه أبا أمك أو أشبه عمل * ولا تكونن كهلوف وكل
تريد عملي (1) - الوكل - الجبان - والهلوف - الهرم المسن وهو أيضا الكبير اللحية
وإنما أراد به ههنا الأول
* وأرق إلى الخيرات زنأ في الجبل *
فأخذته أمه وجعلت ترقصه.. وتقول
أشبه أخي أو أشبهن أباكا * أما أبى فلن تنال ذاكا
* تقصير عن مناله يداكا *
(هامش) * شمما حوليا فاختلج رجلا أعجر ذا حوايا فنفضه نفضة تزايلت منها مفاصله ثم همهم فقرقر
ثم زفر فبربر ثم زأر فجرجر ثم لحظ فوالله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه عن شماله
ويمينه فأرعشت الأيدي واصطكت الأرجل وأطت الأضلاع وارتجت الاسماع وشخصت
العيون وتحققت الظنون وانخزلت المتون فقال له عثمان رضي الله عنه أسكت قطع الله لسانك
فقد أرعبت قلوب المسلمين
(1) قوله - يريد عملي.. قال في اللسان وعمل اسم رجل وأنشد الرجز.. وفي
نوادر أبى زيد وزعموا أن قيس بن عاصم أخذ ابنه حكيما وأمه منفوسة بنت زيد الفوارس
الضبي فرقصه وقال
أشبه أبا أمك أو أشبه عمل * ولا تكونن كهلوف وكل
يبيت في مقعده قد انجدل * وأرق إلى الخيرات زنأ في الجبل
أبو حاتم وأبو عثمان - عمل - وهو اسم رجل فأخذته منفوسة منه.. ثم قالت
أشبه أخي أو اشبهن أباكا * أما أبي فلن تنال ذاكا
* تقصر أن تناله يداكا *
ويروي تقصر عن تناله كذا أنشده أبو زيد
196

(مجلس آخر 80)
[تأويل آية]..
إن سأل سائل عن قوله تعالى (وهديناه النجدين) إلي آخر
السورة.. فقال ما تأويل هذه الآية وما مغنى ما تضمنته.. الجواب قلنا أما ابتداء
الآية فتذكير بنعم الله تعالى عليهم وما أزاح به علتهم في تكاليفهم وما تفضل به عليهم من
الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم ويدفعون بها المضار عنهم لان الحاجة إلى أكثر
المنافع الدينية والدنيوية ماسة فالحاجة إلى العينين للرؤية واللسان للنطق والشفتين لحبس
الطعام والشراب وامساكهما في الفم والنطق أيضا.. فأما - النجد - في لغة العرب فهو
الموضع المرتفع من الأرض والغور الهابط منها وإنما سمى الموضع المرتفع من أرض
العرب نجدا لارتفاعه.. واختلف أهل التأويل في المراد بالنجدين فذهب قوم إلى
أن المراد بهما طريقا الخير والشر وهذا الوجه روى عن علي بن أبي طالب عليه السلام
وابن مسعود والحسن وجماعة من المفسرين.. وروى أنه قيل لأمير المؤمنين علي عليه
السلام إن أناسا يقولون في قوله (وهديناه النجدين) إنهما انثديان فقال عليه السلام
لا إنهما الخير والشر.. وروى عن الحسن أنه قال بلغني أن رسول لله صلى الله عليه
وسلم قال أيها الناس إنهما نجدان نجد الخير ونجد الشر فما جعل نجد الشر أحب إليكم من
نجد الخير.. وروى عن قوم آخرين أن المراد بالنجدين ثديا الام.. فإن قيل كيف
يكون طريق الشر مرتفعا كطريق الخير ومعلوم أنه لاشرف ولا رفعة في الشر قلنا.. قلنا
يجوز أن يكون إنما سماه نجدا لظهوره وبروزه لمن كلف اجتنابه ومعلوم أن الطريقتين
جميعا بأديان ظاهران ويجوز أيضا أن يكون سمى طريق الشر نجدا من حيث يحصل
في اجتناب سلوكه والعدول عنه الشرف والرفعة كما يحصل مثل ذلك في سلوك طريق
الخير لان الثواب الحاصل في اجتناب طريق الشر كالثواب في سلوك طريق الخير..
وقال قوم إنما أراد بالنجدين إنا بصرناه وعرفناه ماله وعليه وهديناه إلى الطريق استحقاق
الثواب وثنى النجدين على طريق عادة العرب في تثنية الامرين إذا اتفقا في بعض الوجوه
وأجرى لفظة أحدهما على الآخر كما قيل في الشمس والقمر والقمران.. قال الفرزدق
197

* لنا قمراها والنجوم الطوالع (1)
ولذلك نظائر كثيرة.. فأما قوله تعالى (فلا اقتحم العقبة) ففيه وجهان.. أحدهما
أن يكون فلا بمعنى الجحد وبمنزلة لم أي فلم يقتحم العقبة وأكثر ما يستعمل هذا الوجه
بتكرير لفظ لا كما قال سبحانه (فلا صدق ولا صلى) أي لم يصدق ولم يصل.. وكما
قال الحطيئة
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها * إن أنعموا لا كدروها ولا كدوا (2)

(1) صدره.. أخذنا بآفاق السماء عليكم
(2) البيت من قصيدة يمدح بها آل شماس بن لأي ومطلعها
ألا طرقتنا بعد ما هجعت هند * وقد سرن خمسا واتلاب بنا نجد
ألا حبذا هند وأرض بها هند * وهند أتى من دونها التأي والبعد
وهند أتى من دونها ذو غوارب * يقمص بالبوصي معروف ورد
وان التي نكبتها عن معاشر * على غضاب أن صددت كما صدوا
أتت آل شماس بن لأي وإنما * أتاهم بها الأحلام والحسب العد
فان الشقي من تعادي صدورهم * وذو الجد من لانوا إليه ومن ودوا
يسوسون أحلاما بعيدا أناتها * وان غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم * من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا * وان عاهدوا أوفوا وان عقد وأشدوا
فإن كانت النعمى عليهم جزوا بها * وان أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وان قال مولاهم على جل حادث * من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا
وان غاب عن لأي بغيض كفتهم * نواشئ لم تطرز شواربهم بعد
وكيف ولم أعلمهم خذلوكم * على معظم وإن أديمكم قدوا
مطاعين في الهيجا مكاشيف للدجى * بنى لهم آباؤهم وبنى الجد
فمن مبلغ أبناء سعد فقد سعي * إلى السورة العليا لهم حازم جلد
رأي مجد أقوام أضيع فحثهم * على مجدهم لما رأى أنه الجهد
وتعذلني أبناء سعد عليهم * وما قلت الا بالذي علمت سعد
198

وقل ما يستعمل هذا المعنى من غير تكرير لفظ لأنهم يقولون لاجئتنى ولا زرتنى يريدون
ما جئتني وان قالوا لاجئتنى صلح إلا أن في هذه الآية ما ينوب مناب التكرار ويغنى عنه
وهو قوله تعالى (ثم كان من الذين آمنوا) فكأنه قال فلا اقتحم العقبة ولا آمن فمعنى
التكرار حاصل.. والوجه الآخر أن يكون لا جارية مجرى الدعاء كقولك لا نجا ولا سلم
ونحو ذلك.. وقال قوم (فلا اقتحم العقبة أي فهلا اقتحم العقبة أو أفلا اقتحم العقبة قالوا
ويدل على ذلك قوله تعالى (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر) ولو كان أراد النفي
لم يتصل الكلام وهذا الوجه ضعيف جدا لان قوله تعالى فلا خال من لفظ الاستفهام
وقبح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع.. وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله
ثم قالوا تحبها قلت بهرا * عدد الرمل والحصى والتراب (1)

(1) قوله - ثم قالوا تحبها - الخ.. البيت يستشهد به النحويون على حذف همز الاستفهام
والأصل أتحبها وقوله - بهرا - أي عجبا وجزم به ابن مالك في شرح التسهيل وأورد
البيت شاهدا على نصبه بعامل لازم الاضمار.. وقيل التقدير أحبها حبا بهرني بهرا أي
غلبني غلبة وأورد الزبير بن بكار البيت بلفظ قلت ضعفي عدد الرمل الخ.. وقال
ابن الاعرابي في نوادره المبهور المكروب وأنشد البيت وقيل معناه جهرا لا أكاتم من
قولهم القمر الباهر أي الظاهر ضوؤه وقيل معناه تبا كأنه قال بتا لهم لما أنكروا عليه
حبها لان قوله تحبها على الانكار.. والبيت من قصيدة له يقولها في معشوقته الثريا بنت
عبد الله بن الحارث لما صرمته ومطلعها
قال لي صاحبي ليعلم مابي * أتحب القتول أخت الرباب
قلت وجدي بها كوجدك بالعذب * إذا ما منعت برد الشراب
أزهقت أم نوفل إذ دعتها * مهجتي ما لقاتلي من مثاب
حين قالت لها أجبي فقالت * من دعاني قلت أبو الخطاب
فأجابت عند الدعاء كما لبى * رجال يرجون حسن الثواب
أبرزوها مثل المهاة تهادي * بين خمس كواعب أتراب
فتبدت حتى إذا جن قلبي * حال دوني ولائد بالثياب
وهي مكنونة تحير منها * في أديم الخدين ماء الشباب
ومنها سلبتني مجاجة المسك عقلي * فسلوها ماذا أحل اغتصابي
199

فأما الترجيح بأن الكلام لو أريد به النفي لم يتصل وقد ثبت أنه متصل مع أن المراد به النفي
لان قوله تعالى (ثم كان من الذين آمنوا) معطوف على قوله فلا اقتحم العقبة ثم كان من
الذين آمنوا فالمعنى أنه ما اقتحم العقبة ولا آمن على ما بينا.. فأما المراد بالعقبة فاختلف
فيه فقال قوم هي عقبة ملساء في جهنم واقتحامها فك رقبة.. وروى عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال أمامكم عقبة كؤود لا يجوزها المثقلون وأنا أريد أن أتخفف لتلك
العقبة.. وروى عن ابن عباس أنه قال هي عقبة كؤود في جهنم وروى أيضا أنه قال
العقبة هي النار نفسها فعلى الوجه الأول يكون التفسير للعقبة بقوله فك رقبة على معنى
ما يؤدى إلى اقتحام هذه العقبة ويكون سببا لجوازها والنجاة منها لان فك رقبة وما
أتى بعد ذلك ليس هو النار نفسها ولا موضعا.. وقال آخرون بل العقبة ما ورد مفسرا
لها من فك الرقبة والاطعام في يوم المسغبة وإنما سمى ذلك عقبة لصعوبته على النفوس
ومشقته عليها وليس يليق بهذا الوجه الجواب الذي ذكرناه في معنى قوله (فلا اقتحم
العقبة) وأنه على وجه الدعاء لان الدعاء لا يحسن إلا بالمستحق له ولا يجوز أن تدعي
على أحد بأن لا يقع منه ما كلف وقوعه وفك الرقبة والاطعام المذكور من الطاعات
فكيف يدعى على أحد بأن لا يقع منه فهذا الوجه يطابق أن يكون العقبة هي النار نفسها
أو عقبة فيها.. وقد اختلف الناس في قوله فك رقبة فقرأ علي عليه السلام ومجاهد
وأهل مكة والحسن وأبو رجاء العطاردي وأبو عمرو بن العلاء والكسائي فك رقبة
بفتح الكاف ونصب الرقبة وقرأوا أو أطعم على الفعل دون الاسم وقرأ أهل المدينة وأهل
الشام وعاصم وحمزة ويحيى بن وثاب ويعقوب الحضرمي فك بضم الكاف وخفض رقبة
واطعام على المصدر وتنوين الميم وضمها.. فمن قرأ على الاسم ذهب إلى أن جواب الاسم
200

بالاسم أكثر في الكلام وأحسن من جوابه بالفعل ألا تري أن المعنى ما أدراك ما اقتحام
العقبة هو فك رقبة وإطعام ذلك أحسن من أن يقال هو فك رقبة أو أطعم ومال الفراء
إلى القراءة بلفظ الفعل ورجحها بقوله تعالى (ثم كان من الذين آمنوا) لأنه فعل
فالأولى أن يتبع فعلا وليس يمتنع أن نفس اقتحام العقبة وإن كان اسما فهو فعل يدل
على الاسم مثل قول القائل ما أدراك ما زيد يقول مفسرا يصنع الخير ويفعل المعروف
وما أشبه ذلك فيأتي بالافعال - والسغب - الجوع وإنما أراد أنه يطعم في يوم ذي مجاعة
لان الاطعام فيه أفضل وأكرم.. فأما - مقربة - فمعناه يتيما ذا قربى من قرابة النسب والرحم
وهذا حض على تقديم ذي النسب والقربى المحتاجين على الأجانب في الافضال - والمسكين -
الفقير الشديد الفقر - والمتربة - مفعلة من التراب أي هو لاصق بالأرض من ضره وحاجته
ويجرى مجرى قولهم في الفقير مدقع وهو مأخوذ من الدقع وهو الأرض التي لا شئ
فيها.. وقال قوم ذا متربة أي ذا عيال والمرحمة مفعلة من الرحمة وقيل إنه من الرحم وقد
يمكن في مقربة أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى بل من القرب الذي هو من
الخاصرة فكأن المعنى أنه يطعم من خاصرته ولصقت من شدة الجوع والضر وهذا أعم في
المعنى من الأول وأشبه بقوله تعالى (ذا متربة) لان كل ذلك مبالغة في وصفه بالضر
وليس من المبالغة في الوصف بالضر أن يكون قريب النسب والله أعلم بمراده.. [قال
الشريف المرتضى] رضي الله عنه ومن طريف المدح ومليحه قول الشاعر
وكأنه من وفده عند القرا * لولا مقام المادح المتكلم
وكأنه أخذ الندا بثيابه * لولا مقالته أطب للمؤدم
ويقارب ذلك قول محمد بن خارجة في المعنى
سهل الفناء إذا حللت ببابه * طلق اليدين مؤدب الخدام
وإذا رأيت صديقه وشقيقه * لم تذر أيهما أخو الأرحام (1)

(1) وقبلهما نعم الفتي فجعت به اخوانه يوم البقيع حوادث الأيام
والأبيات نسبها أبو تمام في مختار شعر القبائل لمحمد بن بشير الخارجي
201

ومثله لأبي الهدى
نزلت على آل المهلب شاتيا * غريبا عن الأوطان في زمن المحل
فما زال بي إكرامهم وافتقادهم * وإنعامهم حتى حسبتهم أهلي
ولأثالة بن القراعى يمدح عقبة بن سنان الحارثي
ألم ترني شكرت أبا سعيد * بنعماء وقد كفر الموالي
ولم أكفر سحائبه اللواتي * مطرن على واهية العزالى
فمن يك كافرا نعماه يوما * فإني شاكر أخرى الليالي
فتى لم تطلع الشعرى بأفق * ولم تعرض ليمن أو شمال
على ند له إن عد مجد * ومكرمة وإتلاف لمال
وأصبر في الحوادث إن ألمت * وأسعي للمحامد والمعالي
فتى عم البرية بالعطايا * فقد صاروا له أدنى العيال
.. فأما قول جرير
لم أقض من صحبة زيد أربى * فتى إذا أغضبته لم يغضب
موكل العين بحفظ الغيب * أقصى الفريقين له كالأقرب
فإنه لم يرد أن الضعيف السبب في المودة كالقوى السبب وإنما أراد أنه يرعى من غيب
الرفيق البعيد الغائب حقه ما يرعاه من حق الشاهد الحاضر وأنه يستوى عنده لكرمه
وحسن حفاظه من بعدت داره وقربت منازله وهذا بخلاف ما عليه أكثر الناس من
مراعاة الحاضر القريب وإهمال حق البعيد.. هذا آخر مجلس أملاه الشريف المرتضى
علم الهدي ذو المجدين أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي رضي الله عنه ثم تشاغل
بأمور الحج
(تم الكتاب والحمد لله أولا وآخرا)
202