الكتاب: رسالة حول خبر مارية
المؤلف: الشيخ المفيد
الجزء:
الوفاة: ٤١٣
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: الشيخ مهدي الصباحي
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٤ - ١٩٩٣ م
المطبعة:
الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: طبعت بموافقة اللجنة الخاصة المشرفة على المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد

رسالة حول
خبر مارية
تأليف
الإمام الشيخ المفيد
محمد بن النعمان ابن المعلم
أبي عبد الله العكبري البغدادي
(336 - 413)
تحقيق
الشيخ مهدي الصباحي
بسم الله الرحمن الرحيم
1

جهد أعداء الإسلام منذ البداية في الإساءة إليه، وتشويه سمعته عند
عامة الناس بشتى الأشكال، إن باتهام شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله
وسلم، بالسحر والكذب، وما إلى ذلك من الافتراء والفحش.
أو الإساءة إلى تعاليمه والمقدسات التي عظمها، بالسخرية والتزييف
والتكذيب.
لكنهم واجهوا في شخص الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
عملاقا، لا تمسه أوهام التهم، وصادقا لا يشوبه شبح الكذب، وأمينا، حكيما،
مدبرا، ذا خلق عظيم، تخضع له القلوب قبل الرقاب، وذا شخصية قوية رفيعة
القمة لا يرقى إليها طير أحلامهم، في السمو والشموخ والعظمة.
وواجهوا من تعاليمه، في قرانه وسنته، سدا منيعا من القيم والشيم و
الدروس، والمخططات الناجحة، والأهداف السامية، السريعة الأثر في النفوس،
لا تنفذ فيها سهام الحقد الجاهلي، والنعرة الطائفية، وكبر العنصرية، ولا تلوثها
الدعايات المغرضة.
ولما رأوا الأبواب تلك أمام بغيهم موصدة، في لجأوا إلى الشغب والتشويش
3

من خلال ما ومن يتصل به من المتعلقين والأطراف والأصحاب رجالا ونساءا،
وهم بشر، ممن لم يعتصموا بكل التعاليم إلى حد الكمال والعصمة والخلق
والأمانة والعفة، فبالإمكان اختراقهم، أو دفعهم على ما لا يليق، أو اتهامهم في
مجتمع ساذج جاهلي متخلف فلذلك، حاول أعداء الإسلام تلطيخ سمعة بعض
نسائه، حيث أن اتهامهن مثار لسقوط اعتبارهن عن الأعين فيمس صاحب البيت
من ذلك شئ، وهو غاية ما يبنيه الحقراء الحاقدون!
فوجدوا من بعض نسائه ضعفا في الالتزامات الخلقية تجاه الرسول نفسه،
أو تجاه أهل بيته، و سائر زوجاته، إلى حد المظاهرة عليه، وإفشاء بعض ما أسر
إليها، فعرفوا أن بالإمكان اختراقها وتحريك أحاسيسها وهي امرأة، وخاصة
تجاه ضرائرها.
وهذا ماس في قصة مارية القبطية، زوجة الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم، وأم ولده إبراهيم.
والقصة حدثت بالضبط عندما ولدت هذه السيدة الطيبة ابن رسول الله
إبراهيم.
وما أيسر أن تثار زوجة عاقر، ضد ضرتها التي ولدت ابنا!
وما أشد حقد زوجة تعتد بجمالها، وانتماءها القبلي، ضد ضرتها التي
هي أمة مهداة!
إنها نوافذ مهما حقرت أو كبرت، يمكن أن ينفذ أعداء النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، وهم شياطنة قريش أو أرذال بني تيم، وطغاة بني عدي،
لتسئ إلى كرامة الرسول، الذي سفه أحلامهم، وكسر كبرياءهم وغرورهم،
وأرغم أنوفهم! وأطلقهم عبيدا وقد كانوا سادة، لسادة كانوا لهم عبيدا.
4

إن عائشة هي التي أثارت التهمة ضد السيدة أم إبراهيم: مارية القبطية،
فقذفتها بأن ولدها ليس من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو من ابن
عمها جريج القبطي، الذي كان يخدمها، وكان كلام عائشة خطابا للنبي صلى
الله عليه وآله مباشرة!
فغصب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لعلي عليه السلام: خذ.
سيفك - يا علي - وامض إلى بيت مارية، فإن وجدت القبطي فاضرب عنقه!
وهكذا أغضبت عائشة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث أصبحت
ألعوبة بأيدي أعداء الإسلام، وهي في داخل بيت الرسول صلى الله عليه وآله.
ولذا أعلن الرسول غضبه، وأطلق هذا الأمر، ليعبر عن سخطه ودفاعه عن
شرف بيته.
ولكن أمير المؤمنين عليه السلام تلميذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
كان يعلم أن الأمر في مثل هذا الموقف، ليس إطلاقه مرادا، لأن التعاليم
الإسلامية تقيده، فلذلك راح يعلن هذه الحقيقة للسامعين فاستفسر ذلك من
النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وقال: إني تأمرني - يا رسول الله -
بالأمر، فأكون فيه كالسبيكة المحماة في ذات الوبر، فأمضي لأمرك في القبطي، أو
" يرى الشاهد ما لا يرى الغائب "
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بل " يرى الشاهد ما لا يرى
الغائب ".
فمضى أمير المؤمنين عليه السلام إلى بيت مارية القبطية، فوجد القبطي
فيه، فلما رأى السيف بيد أمير المؤمنين عليه السلام صعد إلى نخلة في الدار،
فهبت ريح كشفت عن ثوبه، فإذا هو ممسوح، ليس له ما للرجال!
5

فتركه أمير المؤمنين عليه السلام وعاد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
فأخبره الخبر، فسري عنه، وقال: الحمد لله الذي نزهنا أهل البيت مما رمتنا به
أشرار الناس من السوء.
فخاب الأشرار والشريرة التي أصبحت آلة في أيديهم فيما سعوا إليه من
تشويه سمعة النبي صلى الله عليه وآله، باستهداف زوجته السيدة مارية أم
إبراهيم.
وقد أثار هذا الحديث تساؤلات عديدة أوجبت لكثير من الناس:
1 - ففرقة من الغلاة الكفرة، المنتحلة للزيغ، قالوا: إن قول الإمام أمير المؤمنين
عليه السلام: " يرى الشاهد ما لا يرى الغائب " رمز إلى نفسه - الشاهد - وأن الأمر
له في الباطن، وإن النبي هو الغائب.
2 - قالت المعتزلة من العامة بجواز الخطأ في الأحكام على النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وزعموا: أن الأمر بقتل القبطي - مطلقا - كان خطأ، عرفه الإمام
أمير المؤمنين عليه السلام، فنبه الرسول بالاشتراط.
3 - الفرقة المنتسبة إلى موسى بن عمران القائلة، بأن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كان يشرع لهم بالنص تارة، وبالاختيار أخرى وأنه كان مفوضا إليه
القول بالأحكام بما شاء وكيف شاء!
4 - ذهب أصحاب الرأي والاستحسان من متفقهة العوام إلى أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم كان يحكم بالرأي ثم يرجع عنه، حسب ما يراه في
كل حال.
5 - والزنادقة جعلوا ذلك حجة في الطعن في النبوة.
ولكن لهذا الحوار، الذي وقع بين النبي وعلي عليه السلام، وجوه واضحة
6

في الحق، لا تخفى لمن وقف عليها من ذوي الإنصاف، وهي:
الأول: أن الأوامر الصادرة من العقلاء، إطلاقا وتقييدا، وإجمالا وبيانا،
تتبع معرفة المأمورين ومدى ذكائهم، ومقدار عقلهم وإدراكهم، فإن كان المأمور
متوسطا في الذكاء والعقل والمعرفة احتاج إلى تأكيد وزيادة بيان، وإن كان المأمور
دون ذلك في المعرفة والعقل والذكاء احتاج إلى الشرح والتفصيل والتوضيح
والإعادة والتكرار، وإن كان فائق الذكاء والمعرفة والعقل لم يحتج إلى شئ من
التأكيد ولا البيان، ويكتفى معه بالإجمال والإطلاق.
وكذلك، بحسب الثقة بالمأمور في طاعته، والسكون إلى سداده وضبطه،
يختلف أخذ الموقف منه بالتأكيد وعدمه.
قال الشيخ المفيد: وهذا بين، متفق عليه أهل النظر كافة، وجمهور العقلاء،
فلا حاجة بنا إلى تكلف دليل عليه.
وحاصله: أن معرفة الراوي ومداها، لها الأثر الواضح في تشكل النص
الذي يلقيه الإمام إليه للدلالة على قضية أو حكم.
ولذلك يكون الوقوف على مبلغ علم الراوي ومعرفته الفكرية والفقهية
لها الأثر في تبلور النصوص التي يرويها عن الإمام عليه السلام، وخاصة في
وضوحه وبيانه، أو إجماله، وكذلك في الخصوص والعموم، وما إلى ذلك.
وعلى هذا، فبما أن النبي صلى الله عليه وآله كان بصدد دفع التهمة عن
زوجته، لتنزيه العائلة المنتسبة إليه، وإنما استهدف القبطي لمجرد كونه محلا لتهمة
أولئك الأشرار، لا أن القبطي كان (مطلقا) مهدور الدم؟
فلذلك أطلق النبي صلى الله عليه وآله الأمر، وأوكل تقييده إلى علي
عليه السلام، ولو كان غير علي عليه السلام مأمورا بذلك لفصل له النبي صلى
7

الله عليه وآله وسلم ولم يترك الأمر مطلقا غير مبين التفصيل!.
ثم إن هذه العملية دليل على فضل علي عليه السلام، حيث أنه كان عالما
بتفاصيل الأحكام الشرعية، فأظهر الاشتراط، وأخبر به قبل أن يخبره النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، ليكشف بذلك عن فضله وعلمه.
وأعلن علي عليه السلام عن ذلك، بلسان السؤال عن النبي صلى الله عليه
وآله، لأنه أكثر توغلا في الأدب، ولئلا يسئ الأدب مع النبي صلى الله عليه
وآله.
ثم إن عليا عليه السلام لو لم يعلن عن هذا التفصيل، الذي أعلنه بلسان
السؤال، وكان يعمل طبقا لما عرفه من الحكم بالتفصيل، لو لم يفعل ذلك لاتهمه
المغرضون بمخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث لم ينفذ أمره بقتل
القبطي مطلقا.
فكان في إطلاق النبي صلى الله عليه وآله، وسؤال علي عليه السلام و
كشفه عما تضمنه الكلام من الأحكام والتي استنبطها الإمام عليه السلام من
الفوائد في فضلهما وعصمتهما ونطقهما بالحق، ما بيناه وأوضحناه.
الوجه الثاني في توجيه الحديث:
أن يكون القبطي مهدور الدم، لدخوله بيت النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بغير إذن، وعلى غير إخبار منه له.
ولم يكن الأمر كذلك لعلي عليه السلام، فلذلك سأل عن التفصيل.
الوجه الثالث: أن يكون حكم قتل القبطي مفوضا إلى النبي صلى الله
عليه وآله مطلقا، ففوضه إلى علي عليه السلام مشروطا.
وهذا يدل على مشاكلة الإمام عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله في
8

العصمة والكمال، ومساهمة في ولاية الأمر من تقرير الدين والأحكام بين
العباد.
وبعد: فإذا ثبت للحديث توجيه على أي من الوجوه المتقدة، بطلت
جميع الشبه المذكورة، التي أثارتها الفرق الضالة المزبورة لأن ما التزموه يكون
خارجا عن المحتوى المفهوم من النص، وإنما تصبح دعاوى فارغة، مجردة عن
الدليل، إذ أن النص إذا كان له تأويل عقلائي، ومعنى صحيح ومعقول عند
الحكماء، لم يكن للعدول عنه طريق، إلا التحكم بالأماني الخائبات.
والحمد لله على كل حال.
وكتب
السيد محمد رضا الحسيني
الجلالي
رسالة حول خبر مارية
9

نسخ الرسالة:
اعتمدت في تحقيق الكتاب على النسخ التالية حسب أسبقيتها في
التاريخ بالنسبة إلى عصر شيخنا المفيد - قدس سره الشريف -
1 - النسخة المحفوظة في مكتبة آية الله المرعشي العامة في قم، في
ضمن مجموعة رقم 243، عليها تملك محرم سنة 888 ه‍. وقد عرف في
فهرس المكتبة ب‍ " النص في علي عليه السلام " وهي صفحة من أولها،
وسقطت منها الصفحات الأخيرة.
ونرمز إلى هذه النسخة بحرف " ن ".
2 - النسخة المحفوظة في مكتبة آية الله المرعشي العامة في قم أيضا،
في ضمن مجموعة برقم 255، نسخها عبد الحميد بن محمد مقيم، خطيب
عبد العظيمي. تاريخ انتهاء النسخ في نهاية المجموعة: 17 ربيع الأول
ونرمز إلى هذه النسخة بحرف " ب ".
3 - النسخة المحفوظة في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي في طهران،
ضمن المجموعة المرقمة 8 من الكتب المهداة إلى المكتبة من قبل إمام
10

الجمعة الخوئي، من مخطوطات القرن الحادي عشر الهجري.
ونرمز إلى هذه النسخة بحرف " م ".
4 - النسخة المحفوظة في مكتبة آية الله المرعشي العامة في قم أيضا،
ضمن المجموعة المرقمة 78. من مخطوطات القرن الثالث - عشر الهجري.
ونرمز إلى هذه النسخة بحرف " ى ".
5 - النسخة المحفوظة في مكتبة آية الله الحكيم العامة في النجف،
ضمن مجموعة المرقمة 998 تاريخ الانتهاء من نسخها سنة 1334 الهجري
بخط الشيخ محمد بن الشيخ طاهر السماوي، فلمها موجود في المكتبة المركزية
لجامعة طهران برقم 3343.
ونرمز إلى هذه النسخة بحرف " س ".
6 - النسخة المطبوعة في النجف الأشرف ضمن رسائل المفيد عام
1370 ط. ق.
ونرمز إلى هذه النسخة بحرف " د ".
11

بسم الله الرحمن الرحيم
الملك الحق المبين
سألني - أطال الله بقاء السيد الشريف، الفاضل الجليل، وأدام الله
تأييده ونعمته وتوفيقه - رجل من المعتزلة عن الخبر المروي عن النبي - صلى الله
عليه وآله - في قصة (1) مارية القبطية - رحمها الله - وما كان من قذف (2) بعض
الأزواج (3) لها بابن عمها، وقول النبي - صلى الله عليه وآله - لأمير المؤمنين
علي بن أبي طالب - عليه السلام - خذ سيفك يا علي وامض. إلى بيت
مارية، فإن وجدت القبطي فيه فاضرب عنقه.
فقال له أمير المؤمنين - عليه السلام -: إنك تأمرني يا رسول الله
بالأمر، فأكون فيه كالسكة المحماة في ذات الوبر؟، فأمضي لأمرك في القبطي،
أو يرى الشاهد ما لا يرى الغائب؟
فقال له النبي - صلى الله عليه وآله -: بل يرى الشاهد ما لا يرى
الغائب.
(1) م و ب: قضية.
(2) ر. س: قول.
(3) كتب في هامش ى: وهي عائشة.
16

فمضى أمير المؤمنين - عليه السلام - إلى بيت مارية القبطية، فوجد
القبطي فيه، فلما رأى السيف بيد أمير المؤمنين - عليه السلام - صعد إلى
نخلة في الدار، فهبت ريح كشفت عنه ثوبه، فإذا هو ممسوح، ليس له ما
للرجال، فتركه أمير المؤمنين - عليه السلام - وعاد إلى النبي - صلى الله عليه
وآله - فأخبره الخبر، فسري عنه، وقال: الحمد لله الذي نزهنا أهل البيت عما
يرمينا به أشرار الناس من السوء (1).

(1) نقل السيد المرتضى - قدس سره الشريف - في أماليه - ج 1 / 77 - هذا الخبر هكذا: روى
محمد بن الحنفية - رحمة الله عليه - عن أبيه أمير المؤمنين - عليه السلام - قال: كان قد كثر
على مارية القبطية أم إبراهيم في ابن عم لها قبطي كان يزورها، ويختلف إليها، فقال لي
النبي - صلى الله عليه وآله -: " خذ هذا السيف وانطلق، فإن وجدته عندها فاقتله ".
قلت: يا رسول الله، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة، أمضي لما أمرتني، أم
الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال لي النبي - صلى الله عليه وآله -: " بل الشاهد يرى
ما لا يرى الغائب ". فأقبلت متوشحا بالسيف، فوجدته عندها، فاخترطت السيف، فلما
أقبلت نحوه عرف أني أريده، فأتى نخلة فرقى إليها، ثم رمى بنفسه على قفاه، وشغر
برجليه، فإذا إنه أجب امسح، ما له كما للرجال، قليل ولا كثير، قال: فغمدت السيف
ورجعت إلى النبي - صلى الله عليه وآله - فأخبرته: فقال: الحمد لله الذي يصرف عنا أهل
البيت ".
وذكر قصة مارية القبطية علي بن إبراهيم القمي في تفسيره ذيل الآية الشريفة: إن الذين
جاؤوا بالإفك... " من سورة النور - ج 2 / 99 - حدثنا محمد بن جعفر، قال حدثنا محمد
ابن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضال، قال حدثنا عبد الله (محمد - خ ل) بن بكير،
عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر - عليه السلام - يقول: مات إبراهيم بن رسول الله -
صلى الله عليه وآله - حزن عليه حزنا شديدا، فقالت عائشة ما الذي يحزنك عليه، فما هو
إلا ابن جريح، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - عليا وأمره بقتله....
وذكر - أيضا - علي بن إبراهيم القمي ذيل الآية الشريفة: (يا أيها الذين آمنوا إن جائكم
فاسق بنبأ....) - ج 2 / 318 - فإنها نزلت في مارية القبطية أم إبراهيم - عليه السلام -
وكان سبب ذلك أن عائشة قالت لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إن إبراهيم ليس
هو منك وإنما هو من جريح القبطي، فإنه يدخل إليها في كل يوم،....
17

والحديث مشهور وتفصيله عند أهل العلم مذكور.
فقال السائل: هذا الخبر عندكم ثابت، صحيح؟.
قلت: أجل، هو خبر مسلم، يصطلح على ثبوته الجميع.
فقال: خبرني إذن (1) ما وجه إطلاق النبي (2) - صلى الله عليه وآله -
الأمر بقتل نفس على التهمة، من غير يقين (3) لما يوجب ذلك منها؟
وما وجه اشتراط (4) علي - عليه السلام - الرأي عند المشاهدة، وسؤاله
عن امتثال الأمر على كل حال، أو على بعض الأحوال؟
وهل لاختلاف الحال في هذين المعنيين عندك وجه تذكره ببرهان (5)؟
فقلت له: قد تعلق بمضمون هذا الخبر طوائف من الناس، كل
طائفة تبني (6) مذهبا لها، تأسيسه على الفساد:
فمنهم: الغلاة، المنتحلة للزيغ، زعمت أن أمير المؤمنين - عليه
السلام - رمز بذكر: " الشاهد الغائب "، وعنى بمقاله: أنه مشاهد جميع
الأشياء، وأن الأمر له في الباطن والتدبير، دون النبي - صلى الله عليه وآله -.
ومنهم: العامة والمعتزلة، المجوزة على النبي - صلى الله عليه وآله -
الخطأ في الأحكام، زعموا أن إطلاق الأمر منه بقتل القبطي كان غلطا، عرفه
أمير المؤمنين - عليه السلام - فنبهه بالاشتراط عليه، فلما سمع النبي - صلى
الله عليه وآله - منه، رجع (7) إلى الصواب.

(1) ط: إذا عن البيان، ى: الآن.
(2) من هنا إلى آخر الرسالة ساقط من نسخة ن.
(3) و: تعيين.
(4) ى و س: اشتراط، م و ب: استشراطه.
(5) د: وجه وبرهان تذكره.
(6) ى: يبنى عليه.
(7) ى: رجع عنه.
18

ومنهم: الفرقة المنتسبة إلى موسى بن عمران (1)، القائلة بأن النبي -

(1) هكذا في جميع النسخ، ولم نظفر على عنوانه في الكتب الرجالية ولا الكتب التاريخية، ولا
في أصحاب الفرق الإسلامية من المفوضة، من قبل زمن شيخنا المفيد إلى عمره.
ولكن تعرض السيد المرتضى علم الهدى في " الذريعة إلى أصول الشريعة، ج
2 / 658 " - في القول في أنه لا يجوز أن يفوض الله - تعالى - إلى النبي - صلى الله عليه وآله -
أو العالم أن يحكم في الشرعيات بما شاء، إذا علم أنه لا يختار إلا الصواب - إلى رجل مسمى
ب‍ " مويس بن عمران " وقال: أنه قال: لا فرق بين أن ينص الله على الحكم وبين أن يعلم
أنه لا يختار إلا ما هو المصلحة، فيفوض ذلك إلى اختياره.
ثم قال في ص 667: وقد تعلق مويس في نصرة قوله بأشياء: أولها قوله - تعالى - في كل
الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " فأضاف التحريم إليه.
وثانيها: ما روي من أنه - عليه السلام - لما نهى عن التعرض لنبت مكة، قال له العباس:
" إلا الأذخر يا رسول الله " فقال عليه السلام: - " إلا الإذخر " وهذا يدل على إضافة الحكم
إلى رأيه. وثالثها: ما روي من قوله - عليه السلام -: " عفوت لكم عن الخيل والرقيق " فأضاف
- عليه السلام - العفو إلى نفسه دون الوحي.
وقال في موضع آخر عند البحث عن دفع احتمال. مدخلية اختيار المكلف في تعيين
الواجب: فإن قالوا: ليس يمتنع أن يكون اختيار المكلف له علما على وجوبه وتعينه، قلنا
هذا يؤدي إلى مذهب مويس بن عمران.... انتهى.
وذكر فيروزآبادي - المتوفى سنة 817 - في القاموس - ج 2 / 252 - 253، ط مصر -:
مويس - كأويس - ابن عمران، متكلم.
فعلى هذا يمكن أن يكون موسى بن عمران تصحيف مويس بن عمران.
وأيضا ذكر شيخنا الطوسي - قدس سره. الشريف - في كتاب تمهيد الأصول في علم
الكلام ص 368 عند البحث عن عدم جواز اختيار الأمة الإمام إذا علم أنه - تعالى - أنه
لا يقع اختيار الأمة إلا على المعصوم، قال فإن ارتكبوا جواز ذلك كما ارتكب موسى بن
عمران. قيل لهم...
ثم ذكر المصحح في ذيل " موسى " اختلاف النسخ: في النسخة المحفوظة في المكتبة
" آستان قدس " مشهد: " مؤنس " بدل " موسى "، وفي النسختين المحفوظتين في المكتبة
المركزية بجامعة طهران: " مويس " بدل " موسى "، وكان أساس التصحيح هذه النسخ
الثلاثة، فعلى هذا لم أدر من أين ذكر المصحح في المتن " موسى " بدل " مويس " أو
" مؤنس "؟!.
19

صلى الله عليه وآله - كان يشرع (1) بالنص تارة، وبالاختيار (2) أخرى. وأنه
كان مفوضا إليه القول في الأحكام بما شاء وكيف شاء.
ومنهم:؟ أصحاب الرأي والاستحسان من متفقهة العوام - الذاهبين
إلى أن النبي صلى الله عليه وآله - كان يحكم بالرأي ثم يرجع عنه، ويقول
بالاستحسان ثم يتعقبه بالخلاف لما (3)، حسب ما يراه في كل حال.
ومنهم: مخالفوا الملة، من الزنادقة وأهل الذمة، فإنهم جعلوا ذلك
حجة لهم فيما طعنوا به في نبوته - صلى الله عليه وآله.
فصل
وقد ذهب جميع من ذكرناه عن الصواب في مضمون الخبر، وأسسوا
قولهم فيه على مبنى (4) ظاهر الفساد.
ولأمر النبي صلى الله عليه وآله - بقتل القبطي واشتراط أمير المؤمنين
- عليه السلام - الرأي فيه واستفهامه عن المراد، وجوه واضحة في الحق،
لائحة لمن وقف عليها من ذوي الإنصاف - أنا أذكرها على التفصيل، لتعلم
أيها السائل بها ما التمست علمه، وتبطل بها شبهة أهل الضلال، إن شاء
الله.
فأول ذلك: أن أمر الحكماء في الاطلاق والتقييد، والاجمال والتفصيل
بحسب معرفة المأمور، وحكمته وذكائه والاختصار (5)، فإن كان في الوسط منه

(1) م، ب، ى و ط: يسرع.
(2) م، ب وس: بالأخبار.
(3) م، ب وى: بخلافه.
(4) ليس في م، س، ى وب.
(5) س: الاقتصاد، ى: الاحتضار.
20

احتاج إلى تأكيد وزيادة بيان (1). وإن كان دون ذلك احتيج معه إلى الشرح
والتفصيل والإعادة للمقام والتكرار، حالا بعد حال.
وبحسب الثقة به في الطاعة أيضا، والسكون إلى سداده يختلف ما
ذكرناه.
فهذا بين يتفق عليه كافة أهل النظر وجمهور العقلاء، فلا حاجة بنا
إلى تكليف دليل عليه، لما (2) وصفعناه.
فإذا كان الأمر فيه على ما قدمناه لم ينكر أن يكون النبي - صلى الله
عليه وآله - أطلق الأمر بقتل القبطي - وإن كان الشرط لازما - لعلمه بأن أمير
المؤمنين - عليه السلام - يعرف ذلك ولا يحتاج فيه إلى ذكره له في نفس
الكلام.
ولو كان غير أمير المؤمنين - عليه السلام - المأمور - ممن لا يؤمن عليه
فهل (3) الشرط والتعليق (4) بمطلق الأمر بالإقدام، على غير الصواب - يقيد
له (5) الكلام، بجعل (6) الشرط فيه ظاهرا، ولم يجد عنه محيصا.
ولترك النبي صلى الله عليه وآله - التقييد في الأمر فائدة في الإبانة عن
فضل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الجماعة، بإظهار الاشتراط فيه
والاستخبار عن المراد، لتعلم الجماعة أنه قد عرف من باطن الحال ما كشفها
لهم بالسؤال.

(1) م، ب وى: البيان.
(2) و: كما.
(3) س و ط: فوصل، ب: فهم - خ ل، لعل كلها تصحيف والصحيح: " فوت الشرط " أو
" إهمال الشرط ".
(4) ب، م، س وى: التعلق.
(5) م وى: يفيد له. س ود: يقيد به.
(6) ب، م، وى: ثم جعل.
21

ولأمير المؤمنين - عليه السلام - به فضيلة من جهة (1) أخرى:
وهي رفع الشبهة عمن لا بصيرة له بحق النبي صلى الله عليه وآله -
ومنزلته من الله في غلطه، وإقدامه على قتل من هو برئ محقون الدم عند الله،
ليبين له مراده في الاشتراط، ويعلمه أنه - وإن أطلق الأمر - فإنما قصد به
ما ظهر فيه بالبيان. ولو كان النبي - صلى الله عليه وآله - اشترط في الكلام
ما كان فيه في الجواب لم (2) يبن لأمير المؤمنين - عليه السلام - الفضل الذي
أبانه (3) الاشتراط والاستفهام.
ولو ترك أمير المؤمنين - عليه السلام - الاشتراط والاستفهام وعمل على
علم بالباطن وكف عن قتل القبطي لمشاهدته الحال، لم يبن (4) من فضل
رسول الله - صلى الله عليه وآله - للكافة ما أبانه الاستفهام، ولظن كثير من
الناس أنه - عليه السلام - أخطأ في الأمر المطلق بقتل الرجل، وإن عليا
أصاب في خلافه الظاهر بشاهد الحال، وكان في إطلاق النبي صلى الله
عليه وآله - الأمر لعلي - عليه السلام -، واستفهام أمير المؤمنين - عليه السلام
- له عن المراد وكشفه لذلك ما استنبطه من الكلام، من الفوائد في فضلهما
وعصمتهما ونطقهما عن الله - عز وجل - ما بيناه عنه (5) وأوضحناه، ولم يبق
لمخالف الحق طريق معه إلى إثبات شئ من الشبه التي تعلق بها فيما حكيناه.
ووجه آخر: وهو أنه قد كان جايزا من الله تعالى أن يأمر نبيه - صلوات
الله عليه - بقتل القبطي على جميع الأحوال، لدخوله بيت النبي - صلى الله
عليه وآله - بغير إذنه له في ذلك، وعلى غير اختيار منه له ورأي، فاستفهمه

(1) " من جهة "، ليس في م، س، ى وب.
(2) و: ثم لم، ب: ثم.
(3) " الفضل الذي أبانه " ليس في: م، س و ط.
(4) ط: لم يبين.
(5) ب، ى، س وم: ما بينا عنه.
22

أمير المؤمنين - عليه السلام - لهذه الحال، فأخبره بما عرف الحكم فيه وأنه غير
مباح دمه على كل حال.
ويجوز ويمكن أن يكون الحكم فيه مفوضا إليه (1) - عليه السلام - فلما
استفهمه أمير المؤمنين - عليه السلام - بان له حال التفويض إليه. فقال: إن
شاهدته بريئا، فلك فيه الرأي، الآن اقتضت الحال التي تشاهدها منه قتله
أو العفو عنه فذلك إليك (2)] (3)، وقد فوضت ما فوض إلي إليك، فاعمل فيه
بما تراه.
وهذا - أيضا - مما دل الله - تعالى - به الأنام على مشاكلة أمير المؤمنين
لنبيه - صلوات الله عليهما - في العصمة والكمال، ومشابهته (4) له في تدبير الدين
والحكم في العباد.
ولو لم يقع الاطلاق في الأمر والاشتراط من أمير المؤمنين - عليه السلام
- لما عرف ذلك، حسب ما بيناه. والله الموفق للصواب.
فقال السائل: هذا قد فهمته، وهو كلام واضح البيان في معناه، فما
القول في نقض شبه من قدمت ذكره في الضلال؟
فقلت له: ثبوته على الوجه الذي أوضحت، كافي في إبطال جميع تلك
الشبهات، إذ يهي دعاوى مجردة من بيان، لجا أصحابها في التعلق بها إلى
الاضطرار إليها، لعدم الحجة بما ذكرناه لهم (5) فيها على زعمهم وتوهمهم الفاسد
وظنهم المحال.

(1) أي إلى أمر المؤمنين - عليه السلام -.
(2) س: إليه.
(3) ما بين المعقوفين ليس في ط.
(4) م، ى، ط وب: مساهمته.
(5) ليس في ى، س، م وب.
23

فإذا ثبت لمضمون (1) الخبر من الأوجه الصحيحة ما أثبتناه، وكان في
الامكان على ما ذكرناه، لم يكن للعدول (2) عنه طريق إلا التحكم (3) بالأماني
الخائبات، والحمد لله.
فقال السائل: هو كذلك، ولا ينبغي للعاقل أن يظلم نفسه بمكابرة
الحق واللجاج. وبالله التوفيق وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله
الطاهرين.

(1) س، م وب: بمضمون، ط: مضمون.
(2) ى، م وب: العدل.
(3) س: للتحكيم بالآمال. م وب: المتحكم بالآمالي.
24

قال العلامة السيد جعفر مرتضى في كتاب حديث الإفك:
قضية مارية بين الأخذ والرد
مع الأجواء لقضية مارية.
دور عمر في قضية مارية: تبرئة أو اتهاما.
براءة مارية..
كلام السيد المرتضى.
أما نحن فنقول:
25

مع الأجواء الطبيعية لقضية مارية
وهكذا.. فقد رأينا أن النصوص عند جميع المسلمين تكاد تكون.. متفقة
على صورة قضية الإفك على مارية... ورأينا أيضا: أن ما رواه الحاكم في
مستدركه، والسيوطي عن ابن. مردويه غير ذلك مما تقدم يقرب لنا: أن
عائشة قد غارت من مارية، ونفت شبه إبراهيم بأبيه (ص). رغم إصرار
النبي (ص) على خلافها ورغم أنه كان أشبه الخلق به كما في الرواية الآتية
عن الطبراني.. مما يعني: إنها تؤكد على نفيه. منه، وحصول خيانة من
مارية فيه.. وكان الحامل لمما على ذلك هو غيرتها الشديدة، حسب اعتراف
عائشة نفسها..
ومما يجعلنا نطمئن إلى صحة ذلك الحوار، وأن عائشة قد حاولت أن تلقي
شبهة على طهارة مارية هو ما قالته عائشة نفسها عن حالتها مع مارية:
"... ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك أنها
كانت جميلة جعدة. وأعجب: بها رسول الله (ص) إلى أن قالت:
وفرغنا لها فجزعت، فحولها رسول الله (ص) إلى العالية، فكان يختلف
إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا. ثم رزقها الله الولد وحرمناه (1).. ".
وعن أبي جعفر: "... وكانت ثقلت على نساء النبي (ص)، وغرن
عليها، ولا مثل عائشة " (2).

(1) طبقات ابن سعد 8 ص 153، والإصابة ج 4 ص 405 ووفاء الوفاء للسمهودي
ج 3 ص 826، ولتراجع البداية والنهاية ج 3 ص 303، 304.
(2) طبقات ابن سعد ج 1 ص 86، والسير الحلبية ج 3 ص 309.
26

ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي عن موقف عائشة حين موت إبراهيم (ع)
"... ثم مات إبراهيم، فأبطنت شماتة وإن أظهرت كآبة...) (1).
وبعد كل ما تقدم.. فإننا نعرف أن أم المؤمنين قد ساهمت في إثارة
الشكوك والشبهات حول مارية. وولدها إبراهيم.
ولعلنا نستطيع أن نفهم أيضا من رواية السيوطي عن ابن مردويه: أن
حفصة أيضا قد شاركت في تأليب رأي النبي (ص) ضد مارية.. وأن
النبي (ص) قد حرم مارية على نفسه بعد المحاورة التي جرت بينه وبين
عائشة... وبعد جزعهما، وعتاب حفصة له في شأنها..
ويفهم أيضا من رواية الحاكم أن تكثير النساء، على مارية كان بعد
المحاورة المشار إليها بين النبي (ص) وعائشة..
وكل ذلك يجعلنا نطمئن إلى أن سبب تحريم مارية هو.، ذكرهن الشبهات
حولها.. لا مجرد أنه وطأها في بيت حفصة أو عائشة.. ولا سيما بملاحظة:
أن آيات التحريم، في سورة التحريم تدل على أن مما ارتكبوه كان أمرا عظيما
جدا، لا مجرد قول حفصة: يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي،
فإن هذا كلام طبيعي وليس فيه أي إسائة أدب، أو خروج عن الجادة
أصلا.. ولا يستحق هذا التأنيب العظيم الوارد في الآيات.. وعلى هذا..
فإن الظاهر هو أن آيات تحريم مارية في سورة التحريم قد نزلت في قضية
الشبهات حول مارية حينما حرمها النبي (ص) على نفسه لذلك، وأما،
آية الإفك فنزلت في الإفك عليها أيضا.

(1) شرح النهج للمعتزلي ج 9 ص 195.
27

دور عمر في قضية مارية تبرئة أو اتهاما،
ولقد احتمل بعض العلماء: أن عمر أيضا قد شارك في إثارة الشبهات
حول مارية بالإضافة إلى حفصة وعائشة... ومستنده في ذلك ما رواه
الطبراني وغيره: في رواية تضمنت أن عمر هو الذي برأ مارية وأنه لما
رجع إلى الرسول، قال له الرسول (ص): " ألا أخبرك يا عمر: إن
جبرئيل أتاني فأخبرني: أن الله عز وجل، قد برأ مارية وقريبها مما وقع
في نفسي، وبشرني: أن في بطنها. مني غلاما، وأنه أشبه الخلق بي، وأمرني
أن أسميه إبراهيم... " (1) فقد احتمل، المظفر استنادا إلى هذه الرواية
أن لعمر بن الخطاب شأنا في اتهام مارية. وإلا.. فلماذا يخصه الرسول
(ص) بهذه المقالة (2).
ولكننا بدورنا نقول: إن هذه الرواية محل إشكال. لأن الروايات
متضافرة على أن براءة، مارية كانت على يد علي عليه السلام... وهذه تقول:
بل كانت على يد عمر.
وأجاب العسقلاني ذلك باحتمال: أن يكون رسول الله (ص) قد
أرسل عمر أولا "، فأبطأ في العود، لأنه لما رآه. ممسوحا اطمأن وتشاغل

(1) دلائل الصدق ج 3 قسم 2 ص 26 عن كنز العمال ج 6 ص 118، والرواية
موجودة في مجمع الزوائد ج 9 ص 162، والسيرة الحلبية ج 3 ص 312، والإصابة
ج 3 ص 335 عن ابن عبد الحكم 3 في فتوح مصر...
(2) دلائل الصدق ج 3 قسم 2 ص 26.
28

ببعض الأمر فأرسل (ص) عليا بعده، ورجع علي فبشره (ص)
بالبراءة ثم جاء عمر بعده فبشره بها (1)...
ولكن هذا التوجيه منه يحتاج إلى إثبات وعلى الأقل إلى شواهد تؤيده...
كما أن تلكؤ عمر في إخباره النبي (ص)، حتى يذهب علي ويكشف
الأمر مرة ثانية. ويرجع، بعيد عن التصرف الطبيعي في مناسبات حادة
كهذه.
وعليه... وبملاحظة التشابه بين هذه الرواية، وبين ما يرد عن علي
عليه السلام: بملاحظة: أن تبرئة علي لها مجمع عليها: ولا شك فيها..
فنحن نرى أن عمر لم يذهب إلى مأمور، ولا شارك في تبرئه مارية..
فيبقى قولهم: إن النبي (ص) قال له: ألا أخبرك يا عمر الخ.. فهو
إن صح فهو ابتداء كلام معه، وحينئذ فيحتاج ما ذكره المظفر إلى الجواب.
براءة مارية
لقد مر علينا آنفا: أن الرسول (ص) يخبر عمر بن الخطاب بأن
جبرئيل قد أخبره أن الله قد برأ مارية.. وقد يمكن أن يفهم من ذلك: أن
هذا يؤيد كون آيات الإفك قد نزلت في شأن مارية.. وأن الله تعالى قد برأها
بواسطتها.. وإلا فما معنى تبرئة الله تعالى لها فيما سوى ذلك.. إذ أن
براءتها قد ثبتت على يد علي عليه السلام.. فتبرئة الله تعالى لها: لا بد وأن
تكون بنحو آخر، غير ما فعله علي عليه اللام... وليس إلا نزول آيات
الإفك في شأنها..

(1) الإصابة ج 3 ص 335.
29

هذا... ويبدو أن الشك في شأن مارية قد استمر إلى حين وفاة ولده
إبراهيم، وأنه قد كان ثمة من يصر على الاتهام ولو بإخفاء لها ولعلها عائشة
التي يقول عنها المعتزلي: أنها أظهرت كآبة، وأبطنت شماتة.. كان يهمها
هذا الأمر.. ولذا نجد النبي (ص) حتى حين. موت ولده إبراهيم يؤكده.
على أن إبراهيم هو ولده فقد روى في صحيح مسلم: "... لما توفي
إبراهيم قال رسول الله (ص): إن إبراهيم ابني وأنه مات في الثدي،
وأن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة.. " (1). فليس لقوله (ص):
" إن إبراهيم ابني "، أي معنى إلا أنه أراد أن يقوم بمحاولة أخيرة. لدفع
كيد الآفكين، وشك الشاكين..
كلام السيد المرتضى
وأشكل السيد المرتضى على الرواية الأخيرة من روايات الإفك على
مارية: بأنه كيف جاز لرسول الله (ص) الأمر بقتل رجل على التهمة بغير
بينة، ولا ما يجري مجراها؟
وأجاب: بأن من الجائز أن يكون القبطي معاهدا، وأن النبي كان قد
نهاه عن الدخول، إلى مارية فخالف وأقام على ذلك. وهذا نقض للعهد،
وناقض العهد من أهل الكفر مؤذن بالمحاربة. والمؤذن بها مستحق للقتل.
وإنما جاز منه (ص) أن يخير بين قتله والكف عنه وتفويض ذلك إلى
علي (ع). لأن قتله لم يكن من الحدود والحقوق، التي لا يجوز العفو عنها؟

(1) صحيح مسلم ط مشكول ج 7 ص 77، وفتح الباري ج 3 ص 140، وتاريخ
الخميس ج 2 ص 146.
30

لأن ناقض، العهد إذا قدر عليه الإمام قبل التوبة له أن يقتله، وله أن يعفو عنه..
وأشكل أيضا: بأنه كيف جاز لأمير المؤمنين (ع) الكف عن القتل،
ومن أي جهة آثره لما وجده أجب؟ وأي تأثير لكونه أجب فيما استحق به
القتل، وهو نقض العهد؟!..
وأجاب: بأنه كان له (ع) أن يقتله مطلقا: حتى مع كونه أجب، ولكنه (ع)
آثر العفو عنه، من أجل إزالة التهمة والشك الواقعين في أمر مارية، ولأنه
أشفق من أن يقتله، فيتحقق الظن، ويلحق بذلك العار (1)
أما نحن فنقول:
إن الجواب عن الإشكال الأول.. محل تأمل فقد صرحوا بأن مأبورا
قد أسلم في المدينة.. إلا أن يقال: أنه أسلم بعد قضية مارية. ولكن: من
القريب جدا: أن النبي لم يكن أمره بالقتل على الحقيقة، وإنما كان ذلك مقدمة
لإظهار البراءة الواقعية لمارية، فأراد علي أن يثبت - من قصد النبي هذا فسأله
بما يدل عليه وأجابه النبي بذلك أيضا.. ولعل هذا الاحتمال.. أولى مما
ذكره السيد المرتضى: لأن ما ذكره السيد يحتاج إلى إثبات المعاهد المأبور
.. ولا مثبت.. أما هذا فهو موافق للسنة الجارية في أمور مثل هذه يحتاج
فيها إلى الكشف واليقين ورفع التهمة ولا سيما وأن الآيات - آيات الإفك -
إنما تدل على البراءة الشرعية. فتحتاج إلى ما يدل على البراءة الواقعية أيضا.
ويؤكد هذه البراءة الواقعية: أن مأبورا - كما يقولون - كان أخا لمارية،
وكان شيخا كبيرا (2).

(1) راجع أمالي السيد المرتضى ص 77 - 79.
(2) طبقات ابن سعد ج 8 ص 153. والإصابة ج 4 ص 405 و ج 3 ص 334.
31

وقال النووي في مقام الجواب عن الإشكال المتقدم: " ويل: لعله
كان منافقا، ومستحقا للقتل بطريق آخر وجعل هذا محركا لقتله بنفاقه
وغيره، لا بالزنا.. وكف عنه علي رضي الله عنه اعتمادا على أن القتل
بالزنا. وقد علم انتفاء الزنا.. (1) ".
ولكن قد فات النووي: أن الزاني لا يستحق القتل أيضا. وإنما الجلد
أو الرجم.. إلا أن يقال: إن من يعتدي على حرمات النبي (ص) حكمه ذلك..
وخلاصة الأمر: أن إثبات نفاقه أيضا يحتاج إلى مثبت.. وليس..
فلم يبق. إلا ما أجبنا به نحن، فإنه هو الأنسب والأظهر..
32