الكتاب: رسالة في معنى المولى
المؤلف: الشيخ المفيد
الجزء:
الوفاة: ٤١٣
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: الشيخ مهدي نجف
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٤ - ١٩٩٣ م
المطبعة:
الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: طبعت بموافقة اللجنة الخاصة المشرفة على المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد

رسالة في
معنى المولى
تأليف
الإمام الشيخ المفيد
محمد بن محمد بن النعمان ابن المعلم
أبي عبد الله العكبري البغدادي
(336 - 413 ه‍)
تحقيق
الشيخ مهدي نجف
1

بسم الله الرحمن الرحيم
لكلمة " المولى " دور كبير في بحوث " الإمامة والخلافة " لورودها في واحد
من أهم ما استدل الشيعة به على إمامة أهل البيت عليهم السلام وكل حديث الغدير.
وأهمية حديث الغدير ينبع من التسالم على قبول وروده، وصحة روايته،
وتواتر نقله، بما لا مجال للبحث والجدل فيه من حيث الإسناد. فهو حديث
مجمع على نسبته إلى كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو قوله: " من
كنث مولاه فعلي مولاه ".
واستندت الشيعة منذ القدم إلى مدلوله المحتوي على كلمة " مولى " على
عقيدتها، وأشبع علماؤها ومتكلموها البحث والاستدلال على صحة ما
تعتقده، ومنهم الشيخ المفيد في كثير من كتبه، إلا أنه خصص للبحث عن هذه
الكلمة رسالتين:
إحداهما: أقسام المولى في اللسان:
بحث فيها لغويا، وسلك مسالك علمية متقنة لإثبات أن المعنى المراد في
الحديث هو الإمامة، وقد تحدثنا عنها في هذه النظرات.
3

الثانية: رسالة في معنى المولى، وهي هذه الرسالة التي نقدم لها، وقد
أملاها الشيخ على أثر نقاش حصل له مع متكلم معتزلي من جماعة (البهشمية)
المنسوبة إلى أبي هاشم الجنائي، حيث أنكر دلالة لفظ " المولى " على الإمامة،
لإنكاره كون الإمامة من معانيها أصلا لغة.
وقد رده الشيخ المفيد، بإثبات أن الإمامة من المعاني اللغوية للكلمة، بل
هي الأصل، والمعنى الموضوع له، والحقيقي للكلمة، بنفس الطريقة التي اتبعها
في الرسالة الأولى " أقسام المولى في اللسان ".
فاستشهد بأشعار كبار الشعراء من الصحابة وغيرهم، ممن يحتج بكلامهم
في معرفة اللغة ودلالاتها.
وأضاف هنا الاستدلال بالفهم اللغوي المعاصر، مستندا إلى اتصال هذا
الفهم إلى زمان الرسول صلى الله عليه وآله، وذلك حيث يروي الشيعة
بأجمعها عن أسلافها - وليس يمكن دفع أكثرهم عن الفصاحة - إلى أن ينتهي
إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وآله، أن الذي جعله الرسول لعلي عليه
السلام في يوم الغدير هو الإمامة، وأن الذي ضمنته لفظة " المولى " هو: الرئاسة.
ويمكن أن يعتبر هذا الاستدلال، تمشيا مع الرأي الذي يشكك في كفاية
الاستناد إلى الفهم المعاصر من ألفاظ اللغة، لاستناده إلى المعصوم عليه السلام، مع
بعد الزمان، وتقلب المفاهيم اللغوية على الدوام.
فإن اتصال هذا الفهم من عصرنا، إلى عصر الرسول صلى الله عليه وآله
يكفي دليلا على عدم تغير وضع الكلمة.
مع أن هذا الرأي باطل أساسا، لأنه يؤدي إلى سد باب اللغة وتعطل
النصوص، لعدم الدليل على اتصال كل معنى ومفسدة بديهية كهذه تكفي للرد
4

على تلك الشبهة.
مع أن أصالة عدم النقل تكفي للرد عليها كما هو موضح في محله.
وأضاف الشيخ المفيد في هذه الرسالة استدلالا آخر هو الاحتجاج بكلام
أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجماعهم على دلالة " المولى " على
الإمامة، فقال: " أهل بيت رسول الله عليهم السلام جميعا يدعون ذلك و
يصححونه، ويعتمدون عليه في إمامة أبيهم أمير المؤمنين عليه السلام، وليس
يمكن عاقلا دفع أحد منهم عن العلم بالعربية والاضطلاع باللغة، إذ كانوا أهلها،
وعنهم أخذ أكثرها.
ولقد كان أهل البيت عليهم السلام في طليعة الذين اهتموا، فبذلوا
" اهتماما عديم المثيل بواقعة الغدير، وحديثه ودلالته، ويومه، فاعتبروه شارة
الحق وميقاته، فكان الغدير من أقوى الأدلة على إمامة علي والأئمة من آل
محمد عليهم السلام، به يستدلون، وإليه يرشدون، يشيدون به باعتبار أنه من
أكبر الأعياد الإسلامية حيث تمت فيه نعمة الله، وكمل دينه، وأصبح الإسلام
دينا مرضيا.
وهم يتناقلون خبره، فكانت روايتهم لحديث الغدير من أضبط نصوصه
وأقوى طرقه، وأوثق أسانيده.
وأوضحوا معالم دلالته، بإيراد نصه الكامل، المحفوف بقرائن تبين
مراداته وتكشف أبعاد معانيه ". (1)

(1) أنظر تفصيل هذا البحث في مجلة " تراثنا " العدد (21) الخاص بيوم الغدير سنة 1410 بمناسبة
مرور (14) قرنا على ذكرى عيد الغدير الأغر: ص 10 و 60 - 80 من مقال: الغدير في حديث
العترة الطاهرة، وراجع الغدير للأميني (1 / 197 - 200).
5

ثم إن ذلك المناظر اعتمد على عدم ذكر بعض أهل اللغة لمعنى " الأولى
بالتصرف " في معاني " المولى ".
فرده الشيخ المفيد:
أولا، بأن انفراد بعض أهل اللغة بشئ لا يكفي دليلا على اللغة، إلا إذا
اتفق الكل على ذلك فيكون حجة.
وثانيا، عدم ذكر البعض للمعنى، لا يدل على انتقاء المعنى حتى عنده،
فأولئك لم يذكروا معنى " الأولى " ولكن لم ينفوه، ولم ينكروا على من أثبته،
بينما غيرهم من أصحاب اللغة والشعراء الفصحاء أثبتوه.
" ولا خلاف " كما قال الشيخ " بين أهل العلم: أن المثبت في هذا الباب
وأشكاله أولى من النافي " لأن من يعلم حجة على من لا يعلم.
ثم دخل الشيخ في نقاش حول حجية كلام الكميت في مثل هذا، وذكر
هنا نفس ما أورده في الرسالة الأولى حول ذلك، ومما قال:
وليس يجوز على الكميت مع جلالته في اللغة العربية - وضع عبارة على
معنى لم توضع عليه قط في اللغة، ولا استعملها قبله فيه أحد من أهل العربية،
.، لأنه لو جاز ذلك عليه جاز على غيره ممن هو مثله وفوقه ودونه، حتى تفسد
اللغة بأسرها، ولا يكون لنا طريق إلى معرفة لغة العرب على الحقيقة، وينغلق
الباب في ذلك.
وقال أيضا: وهذا هو الذي قدمناه من غلق باب اللغة، والحيلة من إفساد
الشريعة.
ثم عقد الشيخ فصولا:
6

تحدث في الأول منها عن احتمال الجهل، أو العناد، أو التأول حسب
الاعتقاد، في أصحاب اللغة والشعراء المعتمد عليهم.
وقد دفعه الشيخ بأن هذا يؤدي إلى سد باب العلم باللغة، ويؤدي إلى
إهمالها، وقد كرر الشيخ هذا المعنى.
وفي الثاني: ذكر الشيخ شاهدا من كتاب " غريب اللغة " لأبي عبيدة
حيث فسر قوله تعالى " هي مولاكم " بقوله: أي أولى بكم، واستشهد بشعر
لبيد، فقال الشيخ: لولا أن أبا عبيدة لم يخطر بباله - عند تفسير هذه اللفظة بهذا -
ما للشيعة من التعلق في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، لما صرح به، ولكتمه
كسلفه وإخوانه، ومضى على سنتهم.
وفي الثالث: ذكر اعتراضا في الاستشهاد بكلام الكميت حاصله: أن من
المحتمل أن يكون الكميت إنما استفاد معنى الولاية لعلي عليه السلام من تسليم
الناص عليه بأسرة المؤمنين، لا من قوله صلى الله عليه وآله: " من كنت مولاه "
فلم يتم الاستدلال على أن " المولى " بمعنى " الأولى ".
فأجاب الشيخ عن ذلك:
أولا: إن هذا يدل على بطلان ما يزعمه العامة من أن أول من قال
بالوصية بالنص، هو ابن الراوندي، وأن الشيعة تبعته في دعوى النص.
وهذا الزعم يلتزم به العامة قاطبة، ويستغرون الجهال به، لا سيما
شيخهم أبو علي الجبائي، فإنه يعتمد عليه.
وثانيا: إن حديث التسليم على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمرة والولاية
إنما هي واردة في ذيل حديث الغدير، وإنها عقيب قوله صلى الله عليه وآله " من
7

كنت مولاه فعلي مولاه " أمر الأمة - حينئذ - أن تقر له بمعنى ما جعله له بلفظ
" المولى " فقال: سلموا عليه بإمرة المؤمنين.
فكان ذلك كشفا عن معنى لفظ " المولى، وتفسيرا له، وتأكيدا على
مقصوده منه.
وثالثا: إن حديث الغدير متواتر مذكور، والاستدلال به معروف مشهور،
وليست سائر الأدلة على الإمامة بمنزلته في الشهرة، فلا يمكن لشاعر مثل الكميت
أن يترك الاستناد إلى المعروف، ويستند إلى غيره، فإن هذا غير متعارف بل
لا يقدم عليه أحد، فضلا عن مثل الكميت في ذكائه ومعرفته.
وفي خلال الرسالة فوائد عديدة:
1 - منها: أن الراوندية من الفرق جعلوا التفضيل علامة للإمامة، واعتقدوا
إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من جهة فضله - فيما زعموا - على الكل، لا من
جهة النص.
3 - ومنها: الاعتماد على القرينة الحالية - الخارجية - في فهم معاني
الألفاظ، مثل ما صنعه في معرفة مراد الكميت، وأنه إنما استدل بحديث الغدير
دون غيره، لما ذكره من أن شاعرا نابها مثله لا يترك المشهور المعروف ويستدل
بغيره.
فليلاحظ.
والحمد لله ولي الحمد.
وكتب
السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
8

الصفحة الأولى من النسخة " أ "
9

الصفحة الأخيرة من النسخة " أ "
10

الصفحة الأولى من النسخة " ب "
11

الصفحة الثانية من النسخة " ب "
12

الصفحة الأولى من النسخة " ج "
13

الصفحة الأخيرة من النسخة " ج "
14

رسالة في
معني المولى
تأليف
الإمام الشيخ المفيد
محمد بن محمد بن النعمان ابن المعلم
أبي عبد الله العكبري البغدادي
(336 - 413 ه‍)
15

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ المفيد رضي الله عنه: أنكر رجل من البهشمية (1) - ضمنا
وإياه وجماعة من المعتزلة والمجبرة مجلس - أن يكون قول رسول الله صلى الله
عليه وآله: (من كنت مولاه فعلي مولاه) (2) يحتمل الإمامة، أو فرض
الطاعة والرئاسة.
وقال: غير معروف في اللغة، ولا معلوم عند أهلها، أن (المولى)
إمام، ولا مفترض الطاعة، ولا يعبر أحد منهم (3) عن الإمام ب‍ (المولى) ولا

(1) قال الشهرستاني في ملله 1: 73 " الجبائية والبهشمية أصحاب أبي علي محمد بن عبد
الوهاب الجبائي وابنه أبي هاشم عبد السلام، وهما من معتزلة البصرة، انفردا عن
أصحابهما بمسائل، وانفرد أحدهما عن صاحبه بمسائل ".
(2) لقد ذكر سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص: 30 عند الإشارة إلى هذا الحديث وبيان
طرقه المتواترة، قال: " كان معه صلى الله عليه وآله من الصحابة ومن الأعراب وممن
يسكن حول مكة والمدينة مائة وعشرون ألفا وهم الذين شهدوا معه حجة الوداع،
وسمعوا منه هذه المقالة ".
(3) في (ج) أحدهم.
16

عن المفترض الطاعة، إلا إذا كان فرض طاعته من جهة الملك.
وقال: إن أهل اللغة هم الأصل في هذا الباب، وإليهم يرجع في
صحته وفساده، وإذا ثبت عنهم ما ذكرناه في نفي معناكم في (مولى) من
لفظه، سقط تعلقكم.
فقلت له: ما أنكرت على من قال، لك إنك لم تزد على الدعوى في
جميع ما ذكرته شيئا، وأن اللغة وأهلها بخلاف وصفك من إقرارهم
بتضمن لفظة (مولى) الإمامة، وعلمهم بذلك وظهوره وانتشاره في
أشعارهم، وكثرته في استعمالهم.
فمن ذلك قول الأخطل (1) وهو يمدح عبد الملك بن مروان، 2) حيث

(1) غياث بن الصلت بن طارقة، ويقال: ابن سيحان بن عمرو بن الفدوكس بن عمرو
ابن مالك بن جشم من بني تغلب، أبو مالك، والأخطل لقب غلب عليه. كانت أمه
ليلى من قبيلة أياد النصرانية، عاش ومات نصرانيا، وكان الأخطل مسرفا في الشراب،
اشتهر في عهد بني أمية بالشام، وأكثر من مدح ملوكهم، فمدح معاوية بن أبي سفيان
ويزيد بن معاوية ومن بعدهم من خلفاء بني مروان، وهجا أعداءهم من العلويين وآل
الزبير، والأنصار الذين خاصموا بني مروان، مات سنة 90 هجرية، الأغاني 8: 320
- 380، دائرة المعارف الإسلامية 1: 515، الشعر والشعراء: 302، خزانة الأدب
(2) عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ولد عام 26
هجرية، وحكم الناس في شطر من البلاد الإسلامية أيام ابن الزبير بعهد من أبيه،
واستوثق الأمر إليه بعد مقتله.
قال الذهبي: أنى العدالة، وقد سفك الدماء وفعل الأفاعيل.
وقال ابن عائشة: أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره، فأطبقه وقال:
" هذا فراق بيني وبينك ". هلك عبد الملك سنة 86 هجرية. أنظر تاريخ الطبري 5:
610، وفيات الأعيان 2: 402، ميزان الاعتدال 2: 664.
17

يقول:
فما وجدت فيها قريش لأمرها * أعف وأوفى من أبيك وأمجدا
فأورى بزنديه ولو كان غيره * غداة اختلاف الناس أكدى واصلدا
فأصبحت مولاها من الناس كلهم * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
فوصفه بأنه أصبح إمامها ورئيسها من بين كل الناس بلفظة
" مولاها ".
والأخطل من لا يطعن عليه في العربية، ولا يمكن تخطئته فيما علم
من جهة اللغة، كان أحد شعراء العرب وفصحائهم، والمبرزين في معرفة
العربية.
والكميت بن زيد (1)، وهو ممن استشهد بشعره في كتاب الله عز
وجل، وأجمع أهل العلم على فصاحته ومعرفته باللغة، ورئاسته في النظم،

(1) أبو المستهل، الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد من بني أسد، شاعر مقدم، فقيه،
خطيب، فارس، شجاع. عالم بلغات العرب، خبير بأيامها. من شعراء مضر
وألسنتها، ثقة في علمه، حتى احتج المفسرون في شعره. قال أبو عكرمة الضبي: لولا
شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان.
قال أبو الفرج: ولد أيام مقتل الإمام الحسين عليه السلام سنة ستين ومات سنة
ست وعشرين ومائة، وكان مبلغ، شعره حين مات خمسة آلاف ومائتين تسعة وثمانين
بيتا.
قال أبو عبيدة: لو لم يكن لبني أسد منقبة غير الكميت لكفاهم.
دعا له الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام بعد أن سمع منه أبياتا فقال:
" اللهم اغفر للكميت ما قدم وما أخر وما أسر وما أعلن، واعطه حتى يرضى ".
الأغاني 17: 41، والأعلام 6: 92.
18

وجلالته في العرب، حيث يقول في قصيدته المشهورة:
ويوم الدوح دوح غدير خم * أبان له الولاية لو أطيعا
ولكن الرجال تبايعوها * فلم أر مثلها خطرا مبيعا
فلم أبلغ به لعنا ولكن * أساء بذاك أولهم صنيعا
وأوجب له الإمامة بخبر الغدير، ووصفه بالرئاسة من جهة
" المولى ".
وليس يجوز على الكميت مع جلالته في اللغة والعربية وضع عبارة
على معنى لم يوضع عليه قط في اللغة، ولا استعملها قبله فيه أحد من أهل
العربية، ولا عرفتها شئ عنه (كذا) كما وصفت أحد منهم، لأنه لو جاز ذلك
عليه جاز على غيره ممن هو مثله، وفوقه، ودونه حتى يفسد اللغة بأسرها،
ولا يكون لنا طريق إلى معرفة لغة العرب على الحقيقة، وينغلق الباب في
ذلك.
ثم من تقدم هذين الرجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله، وفصحاء العرب الذين تحدوا بالقرآن، وكان علامة إعجازه عجزهم
عنه، وقد شهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول هذا الكلام في أمير
المؤمنين عليه السلام، ووصفه به، وفهموا معناه، واضطروا إلى قصده
فيه، لمشاهدتهم مخارج ألفاظه ومعاينتهم إشاراته، واضطرارهم بتحصيل
ذلك إلى مراده، كقيس بن سعد بن عبادة رحمه الله (1) حيث يقول في

(1) أبو عبد الملك، قيس بن سعد بن عبادة بن دليم من بني ساعدة بن كعب بن الخزرج،
دخل مصر في مستهل شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين واليا عليها من قبل الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام، ثم عزله عنها، فقدم قيس المدينة، ثم لحق بالإمام عليه السلام
في الكوفة، وكان على مقدمة جيش أمير المؤمنين عليه السلام يوم صفين، وكان على
شرطة الخميس، ولم يزل قيس بن سعد مع علي عليه السلام حتى استشهد عليه
السلام، فصار مع الإمام الحسن بن علي عليه السلام، فوجهه على مقدمته يريد
الشام، وبعد أن وقعت المعاهدة بين الإمام عليه السلام ومعاوية بن أبي سفيان رجع
قيس إلى المدينة، فلم يزل بها حتى توفي في آخر خلافة معاوية، أنظر الطبقات الكبرى
لابن سعد 6: 52، الولاة والكتاب والقضاة: 22 - 20.
19

قصيدته التي لا يشك أحد من أهل النقل فيها، والعلم بها من قوله كالعلم
بنصرته أمير المؤمنين عليه السلام وحربه أهل صفين والبصرة معه، وهي
التي أولها:
قلت لما بغى العدو علينا * حسبنا ربنا ونعم الوكيل
حسبنا ربنا الذي فتح البصرة * بالأمس والحديث طويل
حتى انتهى إلى قوله:
وعلي إمامنا وإمام * لسوانا أتى به التنزيل
يوم قال النبي: من كنت مولا * ه فهذا مولاه خطب جليل
إن ما قاله النبي على الأمة * حتم ما فيه قال وقيل
فيشهدها هكذا شهادة قاطعة بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام من
جهة خبر يوم الغدير، ويصرح بأن المقول فيه يوجب رئاسته على الكل،
وإمامته عليه. هذا مع صحبته رسول الله صلى الله عليه وآله، ورئاسته في
الأنصار ومشاهدته الحال كما قدمنا بدءا.
ثم حسان بن ثابت (1) وشعره المشهور في ذلك، وهو شاعر رسول الله

(1) أبو الوليد، حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي الأنصاري النجاري، كان حسان من فحول الشعراء، وأحد المعمرين المخضرمين،
عاش مائة وعشرين سنة، لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وآله مشهدا، وعمي قبيل
وفاته، مات في زمن معاوية بن أبي سفيان، كان مواليا بصفة خاصة لعثمان بن عفان،
وذلك أن عثمان عاش في بيت أخيه بالمدينة بعد الهجرة وجعل جريرة مقتل عثمان تسعى
حتى تقف بباب علي عليه السلام. الأغاني 4: 134، تهذيب التهذيب 2: 216،
دائرة المعارف الإسلامية 7: 375.
20

صلى الله عليه وآله المقدم في الفصاحة في الجاهلية والإسلام، وقد قال له
رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا
بلسانك) هذا مع رواية الشيعة بأجمعها عن أسلافها، إلى أن ينتهى إلى
عصر رسول الله صلى الله عليه وآله إن الذي جعله رسول الله صلى الله
عليه وآله لعلي عليه السلام في يوم الغدير هو الإمامة، فإن الذي ضمنه
لفظة " مولى " هو الرئاسة.
وفي جملتهم أهل بيت رسول الله عليهم السلام جميعا يدعون
ذلك، ويصححونه ويعتمدون عليه في إمامة أبيهم أمير المؤمنين عليه
السلام، وليس يمكن عاقلا دفع أحد منهم عن العلم بالعربية،
والاضطلاع (1) باللغة، إذ كانوا أهلها، وعنهم أخذ أكثرها، فلو لم يكن مع
أصحابنا غير النقل في هذا الباب لأغناهم عن الأشعار، واستشهاد أقوال
أعيانهم (2) من أهل اللغة، فكيف ومعهم جميع ذلك، وهذا يكشف عن
خطأ دعواك على أهل اللغة، واعتمادك على فساد قولنا من جهتهم.
فقال: جميع ما ذكرت لا دليل فيه على صحة ما ذهبت إليه، وذلك
أن ما بدأت فيه من شعر الأخطل فإن المكنى عنه ب‍ (الهاء) التي في

(1) في " ج " الاصطلاح.
(2) في " ج " أغيارهم.
21

" مولاها " هي الأمة، لأنه عنى بقوله: " فأصبحت مولاها " ناصر الأمة،
والذاب عنها بولايتك، هي دون أن يكون عنى الإمامة.
وكيف يكون مراده في هذا الباب الإمامة، و " الهاء " على ما قدمنا
كناية عن الأمة، ولو كان أراد ذلك لكان معنى كلامه فأصبحت إمام
الأمة، وهذا مما لا يتلفظ به عاقل.
فأما شعر الكميت الذي ذكر فيه (مولى). فإنه لا حجة فيه، من قبل
إنه خبر عن اعتقاده في معنى خبر الغدير، والعرب ليس يعصمها فصاحتها
من الغلط في الاعتقاد، وإنما كان يسوغ لك التعلق بالكميت لو ضمن
شعره الذي ذكر خبرا عن العرب، فأما وهو عن عقده كما شاء فليست فيه
حجة.
وكذلك أيضا ما ذكرته عن قيس إن صح، فهو خبر عن عقده دون
العرب كافة، وأهل الفصاحة عامة.
فأما حسان فقد كفينا التعلق به لشهرة مذهبه في أبي بكر وعمر
وعثمان مما ينفي ما يدعى عليه في القول بإمامة علي بعد رسول الله صلى
الله عليه وآله.
فأما ما ذكرت عن الشيعة فلسنا ندفع أكثرهم عن الفصاحة، ولكنا
ندفع جميعهم عن صحة عقد في معنى لفظة (مولى) إذا اعتقدوا فيها
الإمامة، وإذا كان الأمر على ذلك، فقد صح ما ذهبنا إليه في هذا الباب.
فقلت: ما أنكرت على من قال لك: إن ما تأولت به شعر الأخطل،
ورمت بالإلتجاء إليه إفساد تعلقنا به واضح البطلان، وذلك أن " الهاء "
إنما هي كناية عمن تقدم وصفه دون ما لم يتقدم، بل لم يجر ذكره البتة.
ألا ترى أنه قد بدأ بذكر قريش فقال:
فما وجدت فيها قريش لأمرها. إلى آخر كلامه.
22

ثم قال على النسق:
فأصبحت مولاها. من غير خلط للأمة بذكر قريش أو غيرها،
مما يصح أن يكنى ب " الهاء " عنه.
فكيف يمكن تأويلك على ما تأولت مع أنه لو كان على ما ذهبت
إليه، لخرج الكلام من حد المدح المخصص أو تناقض في اللفظ، ودل على
فساد الغرض، وذلك أن نصرة الأمة لم تكن مقصورة عليه دون غيره كما
ليست مقصورة على سائر الأئمة دون جماعة المسلمين، بل قصرها على
مذهبك يجب أن يكون على غير الإمام من العاقدين له، لأنها بعقدهم
يثبت، وباختيارهم يصح، مع كونهم من وراء الإمام، لتأديبه عند
الغلط، وتقويمه عند الاعوجاج والزلل.
فكان لا يبين منهم مما خصه به من المدح، بل يكون الخاص له
بذلك سفيها في قصده، جاهلا في غرضه مع استحالة قوله: " فأصبحت
مولاها " مبينا له ذلك بعد العقد دون ما قبله، وهو على ما ذهبت إليه عنى
أمرا قد كان حاصلا له لا محالة عند الخلق قبل العقد من النصرة التي يشترك
فيها جميع أهل الإسلام، وهذا باب يكشف عن صحة القول فيه تأمل
شعر المادح، ويستدل على أغراضه، ويعرف به حقيقة ما قلناه عند
الإنصاف دون ما تأولت.
فأما اعتذارك في شعر الكميت بذكر عقده، وجواز الغلط في
العقد، فإنه من أعجب شئ، وذلك أن عقده في معنى اللفظ لم يكن من
طريق العقول ولا القياس، فتجيز عليه الغلط فيه، وإنما كان من جهة
اللغة إذ كانت معاني الألفاظ لا يرجع أحد من أهل العقل في عبارتها
المستحقة لها إلى غير اللسان، فلو جاز أن يتوهم على الكميت أن يغلط في
اعتقاده معنى لفظ " المولى " حتى يجعله عند نفسه ما لم يجعله عربي قبله قط
23

مع جلالته في اللغة لجاز أن يتوهم على جرير (1) والأخطل، والفرزدق (2).
بل على من تقدمهم مثل امرئ القيس (3)، وزهير (4) ونحوهما من
شعراء الجاهلية وضع " رجل " و " فرس " و " حمار " على ما لم يضعه أحد من
العرب قبلهم عليه، بل لا ينكر أن يكون من تقدم هؤلاء أيضا قد فعلوا
ذلك ومثله، وهذا هو الذي قدمناه من غلق باب اللغة والحيلة من إفساد
الشريعة، وهو يكفي في إسقاط ما ذكرته عن القيس إذ كان شيئا

(1) جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر الكلبي اليربوعي من تميم، ولد باليمامة سنة
28 ومات بها سنة 110، قيل: 111 هجرية. وكان جرير أشعر أهل عصره، وكان
هجاء مرا، فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل. الأغاني 8: 89، خزانة الأدب
1: 36.
(2) همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي، أبو فراس، الشهير بالفرزدق شاعر من
النبلاء، من أهل البصرة، عظيم الأثرة في اللغة، كان يقال: لولا شعر الفرزدق لذهب
ثلث لغة العرب، ولولا شعره لذهب نصف أخبار الناس، له مهاجات مع الأخطل
وجرير، مات في بادية البصرة سنة 110 هجرية وقد قارب المئة. الأغاني 9: 224.
(3) امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية بن ثور وهو
من كندة، أبو الحارث وقيل: أبو وهب، اختلف في اسمه فقيل: حندج، وقيل:
مليكة، وقيل: عدي.
ويقال إن امرأ القيس هو أول من قصد القصائد، ووضع قواعد للشعر العربي، كما
كان أول من أنشأ القصائد التي يستوقف فيها الشاعر خليليه ليبكيا معه، وبذلك بعث
روحا جديدا في الشعر العربي الذي كان مقصورا على الرجز، أنظر الأغاني 9: 77،
دائرة المعارف الإسلامية 2: 622.
(4) زهير بن أبي سلمى، واسم أبي سلمى ربيعة بن رياح بن قرة بن الحارث بن مازن،
هو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء، قال جرير: شاعر أهل الجاهلية زهير.
الأغاني 10: 228.
24

واحدا.
فأما ما دفعت به حكايتنا عن حسان بمذهبه المشهور، فليس بشئ
يعتمد عليه، وذلك أنه لا يمتنع عندي وعندك، بل عند كل أهل العقل
أن يعتقد الإنسان مذهبا في وقت، ثم ينصرف عنه إلى غيره في وقت آخر،
ويظهر قولا في زمان، ثم يظهر ضده في زمان آخر، وهو قول حسان
المتضمن للشهادة على إمامة علي عليه السلام بخبر الغدير بعينه عند
القول، وذلك أن الرواية جاءت بأنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله
عندما سمع منه في أخيه أمير المؤمنين عليه السلام أن يقول شعرا، فأذن
له فقال ذلك الشعر، وليس بمنكر أن يؤثر الدنيا بعده، ويرغب عن
الآخرة فيمدح أعداءه ويذمه هو بعد أن مدحه.
وقد كان زياد بن مرجانة (1) بلا خلاف بين الأمة من شيعة أمير
المؤمنين عليه السلام، ومن أشد الناس حبا له وولاية في الظاهر، ثم آل
أمره إلى التشيع لعثمان والاغراق في مدحه، وذم أمير المؤمنين عليه السلام
والاغراق في سبه، فما ينكر أن يكون حال حسان كحاله، ولا يستحيل

(1) قال الذهبي: زياد بن أبيه، الأمير. لا تعرف له صحبة، مع أنه ولد عام الهجرة، قال
ابن حبان في الضعفاء " ظاهر أحواله المعصية، وقد أجمع أهل العلم على ترك الاحتجاج
بمن كان كذلك ". وقال ابن عساكر: لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم في عهد
أبي بكر، وولي العراق لمعاوية.
وكان زياد كاتبا للمغيرة بن شعبة، ثم لأبي موسى الأشعري أيام إمرته على البصرة،
ولاه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إمرة فارس ولما استشهد عليه السلام
امتنع زياد على معاوية، وتحصن في قلاع فارس، وألحقه معاوية بنسبه سنة 44 هجرية،
فقدم زياد عليه، فكان زياد عضده الأقوى. ميزان الاعتدال 2: 86، الأعلام 3:
53.
25

صحة هذا الشعر منه.
فأما قولك: إن الشيعة ليس يدفع فصاحة أكثرها، غير أن ما تدعيه
في لفظ " مولى " غلط منها من جهل العقد، فالكلام فيه كالكلام في باب
قيس والكميت حرفا بحرف.
مع أنك قد أغفلت موضع الاعتماد، وهو أنا اعتمدنا انتشارها عن
سلفها من أهل الفصاحة، وعن أهل بيت نبيها عليهم السلام خلفا عن
سلف، إلى أن ينتهي إلى من حضر منهم يوم الغدير، أنهم اعتقدوا إمامة
أمير المؤمنين عليه السلام بالقول، وفهموها منه، وعلموها يقينا بقصد
رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أفهامهم، وإشارته إليها عليهم، وليس
هذا مما يقع الغلط فيه قياسا ولا عقلا، بل إنما يقع إن وقع حسا وسماعا،
وهذا باطل لا محالة، فيعلم أنك لم تعلم مما قلناه شيئا البتة.
فقال صاحب المجلس حين انتهيت إلى هذا الموضع: وأن شيخنا -
أعزه الله - قد اعتمد أصلا صحيحا، وهو أن ما طريقه اللغة فسبيل
التوصل إليه سلوك طريقه دون التجاوز إلى غيره.
وقد رأينا جماعة ممن لا يختلف الناس في معرفتهم
باللغة، ولا يطعن عليهم في علمها، وقد صنفوا الكتب
المرجوع إليها من هذا الباب، كالخليل بن أحمد (1)،

(1) أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري قال السيرافي:
كان الغاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس فيه، وهو أول من استخرج
العروض، وحصر أشعار العرب بها، وعمل أول كتاب " العين " المعروف المشهور الذي
به يتهيأ ضبط اللغة.
وقال غيره: روى عن أيوب وعاصم الأحول وغيرهما، وأخذ عنه سيبويه والأصمعي
والنضر بن شميل، وكان خيرا متواضعا ذا زهد وعفاف.
توفى الخليل سنة خمس وسبعين ومائة، وقيل: سنة سبعين وقيل ستين وله أربع
وسبعون سنة، أنظر بغية الوعاة 1: 56.
26

وأبي زيد (1)، وفلان وفلان، ثم لم يذكروا في موضع
من كلامهم ولا تصنيفاتهم (2) إن (المولى) إمام، فعلم أن ما ذكره من دخول
الشبهة على الشيعة في معنى اللفظ صحيح، إذ لم يكونوا راجعين فيها إلى
أحد من عددناه، وهم أئمة اللغة.
فأما أمر الكميت فإنه يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون عبر عن الإمامة بلفظ (المولى) لاعتقاد الإمامة
بها، ولا يكون ذلك معروفا عند أهل اللسان.
والوجه الآخر: أن يكون اتقى الله في معنى الإمامة من لفظة
(مولى) يومى إلى أنه تعمد الكذب في ذلك على أهل اللغة فلم يتق الله
على القلب والصدر.
والوجه الآخر: أن يكون اعتقد أن ما جرى يوم الغدير يوجب له
التفضيل على الكل، والتفضيل علامة الإمامة على ما ذهب إليه جماعة
الراوندية (3) واعتقدوا إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من جهة فضله فيما

(1) سعيد بن أوس بن ثابت بن بشير بن قيس، أبو زيد الأنصاري، كان إماما نحويا،
صاحب تصانيف أدبية ولغوية وغلبت عليه اللغة، روى عن رؤبة بن العجاج، وعمرو
بن عبيد، وأبي عبيد القاسم بن سلام وطائفة.
مات سنة خمس عشر ومائتين، وقيل: أربع عشر، وقيل: ست عشرة عن ثلاث
وتسعين سنة بالبصرة. أنظر بغية الوعاة 1: 582.
(2) في " ج " مصنفاتهم.
(3) قال النوبختي في فرق الشيعة: 47 " الراوندية، وهم العباسية الخلص الذين قالوا:
الإمامة لعم النبي صلى الله عليه وآله العباس بن عبد المطلب رحمة الله عليه رسبت
على ولاية أسلافها الأولى سرا، وكرهوا أن يشهدوا على أسلافهم بالكفر، وهم مع ذلك
يتولون أبا مسلم ويعظمونه، وهم الذين غلوا في القول في العباس وولده. "
27

زعموا على الكل، لا من جهة النص.
فأما حسان، فما سمعنا منك قولا عنه فكنا نتأمله، وننظر معناه،
غير أنك أضفت إليه في الجملة مثل ما أضفت إلى الكميت، وهلم ما قال
حسان لكي ننظره كما نظرنا ما تقدم.
فقلت له: ما أنكرت على من قال لك: إن الذين وصفتهم بمعرفة
اللغة، وجعلتهم أئمة فيها، وأشرت إلى وجوب الرجوع إليهم فيما تعلق
بها، ليس هم (1) الحجة بانفرادهم دون غيرهم، ولا كل من عداهم من
أهل اللغة راجعا إليهم، بل لو قالوا قولا بأجمعهم، وخالفهم عليه مثلهم
في العدد أو دونهم، ممن قد اشتهر أيضا بمعرفة اللغة وإن لم يكن له مصنف
يأتي به، لوجب الترجيح عندك بين القولين، والنظر في المذهبين، حتى لو
أنهم أنكروا شيئا فجاء بصحته رجل من أهل البادية لشاع لمحبه، ولم
يمتنع بإنكارهم.
وإنما كان يسلم لك ما تعلقت به، لو كان من عددت وذكرت جميع
أهل اللغة المرجوع إليهم، كيف والذين عددت، إنما هم في جملة أهل
اللغة كالجزء الذي لا يتجزأ في أكثر العالم، فليس لك بهم تعلق مع أنك
لم تجد عنهم النكير على من جعل (المولى) إماما وبمعنى الإمام، ولم ترجع
في ذلك إلى شئ من كتبهم ومصنفاتهم، وإنما رجعت خلو الكتب
والمصنفات من تسطير ذلك، وليس خلوها منه دليلا على فساده، لا سيما
وقد بينا إثبات من لا يطعن عليه من أهل اللغة، إن الإمامة بلفظة (مولى)

(1) " ج " تتم.
28

واستشهدنا بأشعارهم التي هي أشهر عنهم من أن يجحد لو أمكن إنكارها
ولا خلاف بين أهل العلم أن المثبت في هذا الباب وإشكاله أولى من
النافي.
فأما ما قسمته (1) من أمر الكميت، فإن القسم الأول منه قد أتينا
عليه بما لم نسمع له جوابا.
والثاني: قد مضى أيضا ما هو إسقاط له، وهو أنه إن جاز أن يتوهم
على الكميت وهو أحد من استشهد بشعره في كتاب الله عز وجل، وفاق
في النظم شعر أهل عصره، وبلغ في الفصاحة الرتبة التي لم يخف على أحد
من أهل الأدب أن يكون حملته العصبية والعناد على أن يتقي الله تعالى على ما
وصفت بالقلب، ويستعمل عبارة لم يستعملها أحد قبله، ويضع لفظا على
غير معناه، حتى يسيره في الشعر، ويظهر التدين به، لم يأمن أن يكون كثير
من فصحاء الجاهلية الذين لم يعتقدوا الإيمان فيحجزهم عن الكذب دون
أن يكونوا كالكميت في الديانة، قد وضعوا أكثر (2) هذه الألفاظ الذي
نضعها نحن على المعاني الآن، ولم يكن لها قبل، بل كانت على غيرها،
ومعهودة في سواها لعصبية على طائفة منهم لغرض من الأغراض، أو محبة
الابداع، ليعرفوا بالخلاف أو عنادا لبعض منهم، أو لسبب من الأسباب
فاتقوا الله تعالى في ذلك على حسب اتقاء الكميت في لفظة (مولى) ويكونوا
به أخلق وفعلهم له أجدر، وهو عليهم ومنهم أجوز، وهذا هدم للأصل
بأسره، وإفساد اللغة جميعا، وتشكيك فيها جملة، وهو باب الالحاد.
فأما الوجه الثالث: فإنه تأويل فاسد بين الإحالة، وذلك أنه لو كان

(1) في " ج " ما يسميه.
(2) في " ج " أكثرهم.
29

كما وصفت جعلت إماما باعتقاد الفضل لا بالقول، لعلق ما يعنيه به من
الولاية على الجميع والرئاسة بذكر الفضل بعينه دون القول الذي لم يوجبه
البتة وإنما كان على ما زعمت عنده كاشفا عن رتبة بها يستحق ذلك
الوصف، أو كان إذ ذكر القول لا يقتصر عليه في باب الرئاسة دون ما
يوجبه من الفضل، بل يضم أحدهما إلى الآخر.
فلما أفرد القول نفسه، دل على أنه لم يرد إيجاب الإمامة بغيره، كيف
وهو مع هذا يعدد في جميع قصائده المشهورة في مدائح بني هاشم فضله،
الذي بان به من الكل شيئا بعد شئ، وخصلة بعد خصلة، ولا يوجب
له الإمامة عند ذكر شئ فيه بلفظه، حتى إذا انتهى إلى يوم الغدير بعينه.
فالإمامة بنفس القول الواقع فيه دون ما سواه، فهل يخفى هذا
الباب (1) على أحد، أو يمكن تأويله مع ما وصفنا إلا عند إمكان تأويل
جميع أقوال الشعراء على غير أغراضهم، وصرفها بأسرها عن مراداتهم.
وأما استشراحك إياي شعر حسان، فإني لم أنصرف عنه إلى
الاجمال (2) إلا لعلمي بشهرته عندكم واستفاضته، فكان اقتصاري على ما
مضى من نظيره في الشهرة من الشعر يغني عن ذكره معينا.
فأما إذا رمتم شرحه، فهو قوله عند نصب رسول الله صلى الله عليه
وآله عليا عليه السلام في يوم الغدير بعد استئذانه في قول الشعر والإذن له
في ذلك على ما جاء في الأخبار (3).

(1) ليس في نسخة " ج ".
(2) في " ج " الاجمال. وفي غيرها: الاكمال.
(3) المناقب لأخطب خوارزم: 80، وفرائد السمطين 1: 61، ومقتل الحسين عليه السلام
للخوارزمي: 47، وأرجح المطالب: 567.
30

يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالرسول مناديا
فقال: فمن مولاكم ووليكم * فقالوا، ولم يبدوا هناك التعاديا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا
فقال له: قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا
وهذا صريح في الاقرار منه بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام، من
جهة القول الكائن في يوم الغدير، من رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي
عليه السلام، لا يمكن تأويله، ولا يسوغ صرفه إلى غير حقيقته.
فقال صاحب المجلس: هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله في
يوم الغدير: " قم يا علي فإنني رضيتك للعالم إماما " كما قال حسان فيما
أضفته [إليه؟ فإن كان قال ذلك فقد سقطت الخصومة، ولا حاجة بك إلى
التعلق] (9) بلفظة (مولى) مع احتمالها.
وإن كان إنما قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه) على ما تقدم القول
فيه فهذا القول الذي حكيته عن حسان كذب لا محالة، والكذب سبيلنا
جميعا أن نطرحه.
فقلت له: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وإن لم يكن قال هذا
القول مفصلا، حتى حسب تفصيل حسان له، فقد أتى بمعناه بأخصر
لفظ وأفهمه، فافتقر حسان في شرحه إلى ما حكيناه عنه من القول، وليس
كل حكاية تضمنت غير (2) لفظ المحكي وإن أفادت المعنى مطرحة ولا

(1) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة " ج ".
(2) في " ب " عين.
31

مستدلا بها على كذب الحاكي، ولا غلطه.
ولو كان ما اعتمدت عليه اعتمادا لاستحال حكاية العربي
بالفارسي، والفارسي بالنبطي، والعبراني بالسرياني، وبطلت جميع
الحكايات المنظومة إذ كان ما حكى بها غير منظوم، وهذا يوجب أن لا يكون
أحد من الشعراء المتقدمين ولا المتأخرين صدق في حكاية قضية مضت،
وحكمة نقلت، وذكر كرم وجد، وفعل عجيب وقع، إلا إذا حكوه بألفاظه
الجلية عينا، وذكروه على ترتيب التعبير سواء، وهذا ما لا نذهب إليه، ولا
أحد من أهل النظر فنشتغل في الإطناب فيه.
فعاد صاحبي المتكلم أولا فقال: إن الذي أتيت به من شعر
الأخطل فإنه وإن لم يكن أراد بقوله: " فأصبحت مولاها " الخلافة على ما
قلت، وأراد قريشا على ما وصفت، فليسن أيضا فيه دلالة على ما ذهبت
إليه، وذلك أنه أراد ب‍ " مولى " أي ناصر قريش، ومن يجب أن ينصره
قريش، والكميت فقد قلنا إنه لا يستحيل أن يكون اعتقد فضل أمير
المؤمنين عليه السلام على الكل بما جرى يوم الغدير، فأوجب له الإمامة به
لا من جهة القول.
فراسله الكلام صاحب المجلس ها هنا فقال: ويمكن أن يكون
غلط وإن كان من أهل اللغة، وإن امرء القيس مع جلالته في معنى
صاحبه قد غلطه جماعة في شئ ذكره عنه لم أحفظه في وقت أتياني هذه
المسألة، وهو نفسه - أعني الكميت - قد غلط في قوله:
أبرق وأرعد يا يزيد * فما وعيدك لي بضائر (1)
فلم ينكر غلطه في لفظة " مولى " وإن كان على الصفة التي هو عليها

(1) حكاه ابن منظور في لسان العرب 10: 14.
32

في اللغة.
فقال المتكلم أولا: الأمر كما وصفه سيدنا - أدام الله عزه - يعني
صاحب المجلس - ويمكن أيضا ما قلناه.
وتكلم رجل منهم من آخر المجلس فقال: وكيف وهم يدعون -
يعني أصحابنا - أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في ذلك لعلي عليه
السلام: " أنت أمير المؤمنين " فلا يستحيل أن يكون الكميت عمل على
هذا فقال ما قال في شعره من جهته، ولم يقله من جهة لفظة " مولى ".
وتكلم قوم من جنبات المجلس، واختلط كلامهم، فسكتهم، ثم
أقبلت على صاحبي المتكلم الأول مهما: ما (أنكرت على من) (1) قال لك:
إن ما لجأت (2) إليه أيضا في هذه النوبة مع تسليم أن " الهاء " كناية عن
قريش من أن " المولى " هو الناصر، وإنما أراد نصرته لقريش، ونصرتهم له
يسقط من قبل إن نصرة قريش لم يتجدد وجوبها عليه بالعقد له بالإمامة،
بل هي لازمة (نصرتهم له (3)) قد تقدم وجوبها عليهم قبل العقد له من جهة
السنة والكتاب والاجماع على وجوب نصرة المسلم للمسلم: والمتدين أخاه
في الدين.
فلم يك يحتاج في وجوبها إلى طلب كرم أبيه وفضله كما زعم الشاعر
في طلب قريش ذلك حيث يقول ما ذكره:
فما وجدت فيها قريش لأمرها * أعف وأوفى من أبيك وأمجدا
وأورى بزنديه ولو كان غيره * غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا

(1) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة " ج ".
(2) في " ج " ما لحق.
(3) في " ج " نصرتهم.
33

تجدد حال بعد أن لم تكن
فأصبحت مولاها من الناس كلهم * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا (1)
ولولا أن الأمر على ما قلناه دون ما قلت، ما كان وجوب نصرته لهم
ونصرتهم له مما يوجب تهنئته وحمده دون سائر الناس الناصرين
والمنصورين، اللهم إلا أن يكون نصرة إمامة، وسلطان رئاسته، فيعود
الأمر إلى ما قلناه وقد قدمت أن تأمل الشعر بعين الإنصاف يؤكد قولنا،
ويبطل ما خالفه دون النظر والاحتجاج وقد بان ذلك والحمد لله.
ثم أقبلت على صاحب المجلس فقلت: ما قاله سيدنا - أدام الله
عزه - في غلط امرئ القيس عند من غلطه والكميت في بيته من الشعر
الذي طعن فيه فقد رضينا به شاهدا وذلك أن الذي غلطهما من منتحلي
اللغة شذ بتغليطهما من سائر أهلها وتفرد في الحكم بما لم يوافقه عليه أحد
من رؤساء علمائها وصار في ذلك فردا من بيتها ومسنا في الشذوذ من
جملتها ولم يكن كذلك إلا لرئاستهما في المعرفة وتقديمها في الصناعة
وكونها قدوة لمن نشأ بعدهما.
وإذا كان كذلك فواجب أن تكون هذه الحال حال من غلط من
عددناه في لفظة " مولى " وما عبر بها وهذا يؤكد ما قلناه ويزيده بيانا
ويسقط ما خالفه وضاده في معناه على أن البيت الذي حكى عن
الأصمعي (2) الطعن فيه على الكميت - رحمة الله عليه - بخلاف بيته

(1) أبيات من قصيدة قالها الأخطل في مدح عبد الملك بن مروان.
(2) أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الأصمعي صاحب
اللغة والنحو والغريب سمع شعبة بن الحجاج والحمادين ومسعر بن كدام وغيرهم
وروى عنه ابن أخيه عبد الرحمن بن عبد الله، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو حاتم
السجستاني وغيرهم. كان من أهل البصرة، وقدم بغداد في أيام هارون الرشيد، ومات
سنة 210 هجرية، أنظر تاريخ بغداد 10: 410، انباه الرواة 2: 197.
34

المتضمن النص على أمير المؤمنين عليه السلام بخبر الغدير في الحكم
وذلك أنه إنما ساغ لمن طعن فيه الطعن لتفرده دون متقدم متبوع، ولا قرين
مماثل مذكور، مع ما في ظاهر اللغة المشهورة في خلافه، وإن كانت له فيه
حجج يعتمد عليها ودلائل يلجأ في جوازه إليها.
وما تأوله من خبر الغدير وصرح به فيه، فقد سبقه إليه من يعتمد في
باب القول عليه ممن عددناه من أهل الفصاحة من الصحابة وأهل البيت
عليهم السلام، وحكموا فيه بمثل ما حكم، وطابقه عليه وسائر أهل
عصره من الشيعة، ومن (نشأ بعده) (1) من أهل الفصاحة، فلم يك
عروضا لذلك، ولا نظيرا له من وجه من الوجوه.
ثم شرعت في إفساد ما تعلق به الرجل الذي حكيت اعتراضه
بالخبر الوارد في يوم الغدير في السلام على علي بإمرة المؤمنين، فامتنعوا من
استماعه.
وقال صاحبي المتكلم: الكلام معي لونه، وليس يجب أن تكلم
كل من كلمك، فيذهب الزمان، وفروا من الكلام عليه كل الفرار، ثم
شرع في كلام أورده لم أحفظ فيه زيادة على ما تكلم بعدم موافقته على
معاني ما أسقطته به مما تقدم من كلامي، وانقضى المجلس وانصرفنا.

(1) في " ج " يشاهده.
35

" فصل "
إعلم أرشدك الله: أن نفس ما اعتمدوا عليه في دفعنا عن معنى
لفظة " مولى " يفسد عليهم بالذي راموا به فساد دليلنا في صحته من
الشعر والرواية بعينه، وذلك أنه يقال لهم: إذا كنتم قد تركتم حال من
ذكرناه من أهل الفصاحة، وجعلنا اعتمادنا ثلاثة منازل:
أحدها: الجهل والغلط.
والثاني: العصبية والعناد.
والثالث: التأويل المتعلق بالاعتقاد.
فما أنكرتم أن تكون هذه الثلاثة المنازل حال من دعوتمونا إلى
الرجوع إليه وإلى كتبه ومصنفاته، وزعمتم أنهم العماد في هذا الباب، إذ
لم يكونوا معصومين من ذلك، ولا مبرأين منه، ولا علم عليهم في دفع
جوازه منهم، بل كانت أحوالهم داعية إليه، وأسبابهم مقربة منه،
ودواعيهم موقعة فيه، لأنه قد فصلت لهم الرئاسة لا شك من جهة من
كان يدفع نص النبي صلى الله عليه وآله على أمير المؤمنين عليه السلام
بالإمامة، ويتدين بذلك، ويلبث (1) عليه معاقب، وقد علم كل عاقل تأثير
الرغبة والرهبة في الحق وستره، والباطل وقسره، وهذا ما لا يجدون فيه
فصلا.

(1) في " ج " وثبتت.
36

" فصل "
وقد كنت ذكرت بعد انصرافي من المجلس شيئا من كتاب غريب
القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى (1)، يبطل دعواهم التي اعتمدوها،
وتغلطهم فيها، ذاكرت بها بعضهم بعد ذلك، وهو أن أبا عبيدة وظاهر
أمره ومذهبه المشهور الخلاف على الشيعة، والمضادة لهم، قال في كتاب
غريب القرآن، في تفسير قوله عز وجل، في سورة الحديد: (هي
مولاكم) أي أولى بكم، قال لبيد (2):
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه * مولى المخافة خلفها وأمامها
هذا لفظه بعينه، في كتابه بعينه، لا زيادة فيه ولا نقصان منه، ولولا
أن أبا عبيدة لم يخطر بباله عند تفسير هذه اللفظة بهذا التفسير ما للشيعة
من التعلق في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام ما صرح به ولكتمه كسلفه
وإخوانه ومضى على سنتهم، والله ولي الحمد في إتمام نوره ولو كره
المشركون.

(1) أبو عبيدة، معمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري النحوي، ولد في البصرة سنة
110 هجرية، كان من أئمة العلم بالأدب واللغة، قال الجاحظ: لم يكن في الأرض
أعلم بجميع العلوم منه، له نحو 200 مؤلف، مات بالبصرة أيضا سنة 209 هجرية
وقيل غير ذلك، أنظر تاريخ بغداد 13: 252.
(2) لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العامري، أبو عقيل، من الشعراء
المخضرمين، أدرك الإسلام، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله في وفد بني كلاب
فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم، ثم قدم لبيد الكوفة ومات بها في زمن معاوية بن أبي
سفيان، وهو ابن مائة وسبع وخمسين سنة، أنظر الشعر والشعراء: 148.
37

" فصل "
ويقال لمن اعترض (1) فقال: ما أنكرتم أن يكون الكميت بن زيد
رحمة الله عليه إنما عنى بقوله:
ويوم الدوح دوح غدير خم * أبان له الولاية لو أطيعا
ما جاء في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر الناس في ذلك
اليوم بالسلام على علي بإمرة المؤمنين، فتوهمه صحيحا يعمل عليه، ولم يعن
قوله: " من كنت مولاه فعلي مولاه " لأنه كان من أهل الفصاحة، ولم يك
يجهل مثل هذا، فبطل ما تعلقتم به.
أول ما في هذا الباب أنه لو كان على ما وصفت، لكان من أدل
دليل على تكذيب أصحابك جميعا، أو بطلان دعواهم على الشيعة أنه لم يك
أحد منهم فيما مضى يدعي الإمامة لأمير المؤمنين عليه السلام من جهة
القول الصريح، حتى قذفه إليه ابن الراوندي وافتعله ورتبه، فتعلقوا به،
وأحدثوا الاحتجاج والذب عنه، وهذا إسقاط لكافتهم، وطعن لا شبهة
فيه على سائر شيوخهم ممن تأخر وكان في عصر ابن الراوندي وبعده،
كأنهم بأجمعهم يدعون ذلك ويقولون به، ويستغرون (2) الجهال، لا سيما
وشيخهم الأجل أبو علي اعتماده عليه، وهذا مما لا به نفس الذي قدمت
حكاية الاعتراض عنه، ولا أحد منهم كافة الآن.

(1) في " ج " اعرض.
(2) في " ج " ويشعرون.
38

" فصل "
ثم يقال له: إن الروايات التي جاءت بأن رسول الله صلى الله عليه
وآله أمر الأمة أن تسلم في يوم الغدير على أمير المؤمنين عليه السلام بإمرة
المؤمنين، إنما جاءت بأنه لما قرر الأمة على فرض طاعته، ثم قال عقيب
ذلك " فمن كنت مولاه فعلي مولاه " واستوفى الكلام فيه أمر الأمة حينئذ
أن تقر له بمعنى ما جعله له بلفظة " مولى " فقال لهم: سلموا عليه بإمرة
المؤمنين، كان أمره عليه السلام إياهم بذلك كشفا عن معنى اللفظ،
وجاريا مجرى التفسير، وأخذا بالإقرار بالمعلوم، وتأكيد المقصود، وهذا
موضح عن صحة ما قلناه نحن في لفظة " مولى " له.
وشئ آخر: هو أن المقام إذا وجد فيه شيئان أجمع على أحدهما،
واختلف في الآخر، وكتم التعلق به في مدح إن كان ما وقع فيها مدحا، أو
ذما إن كان ذما ونظم المتعلق به شعرا، أو تكلم فيه نثرا، فمحال أن يقصد
إلى المختلف منه دون المتفق عليه، والمكتوم دون المشهور، إلا أن يكون في
غاية الجهل والعناد والنقص.
وليس يتوهم بالكميت رحمه الله هذه المنازل وإن كان يطعن عليه في
الغلط من جهة الرأي والقياس، وما يقع من العقلاء الألباب بالشبهات.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه، وكان قوله عليه السلام: " من كنت
مولاه فعلي مولاه " مجمعا على أنه كان في يوم الغدير وظاهر ذلك عام في
الكل، حتى لا يذكر الغدير إلا ويراد بذكره مقدمة القول، ولا يقال القول
إلا وسائر مستمعيه ذاكرون به المقام، ولم يك ما اختصت به الشيعة من
قوله عليه السلام في ذلك اليوم: سلموا على علي بإمرة المؤمنين يجري هذا
39

المجرى، بل كان على ما تقدم وصفه من المختلف فيه، المجحود المختص
بطائفة دون أخرى، دل ذلك على أنه لم يرده الكميت، وقد أجمل التعلق
بالغدير ويومه، ولم يفصل ما فيه.
وشئ آخر وهو: أن الشيعة لم تقتصر في ادعاء النص على يوم الغدير
بدون غيره، بل قد روته في يوم الدار عند دعوة بني هاشم، ووافقها على
ذلك جمهور أصحاب الحديث من العامة وغيرهم، وفي أماكن شتى،
ومقامات أخر، فكيف يصح أن يكون أراد ذلك الكميت، فلم يعلقه بيوم
الدار، مع استفاضته في الطائفتين ولا بغيره مما عددناه، وعلقه بيوم
الغدير، وهو يرى الشيعة كلها تعتمد من يوم الغدير في الإمامة على لفظة
" مولى " للاجماع خاصة، دون ما كان بعدها مما رووه وأقلوا من الاحتجاج
به لموضع الخلاف، وهذا ما لا يتوهم أحد، وبالله نستعين، وصلى الله على
سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
40