الكتاب: الفصول المختارة
المؤلف: الشريف المرتضى
الجزء:
الوفاة: ٤١٣
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: السيد نور الدين جعفريان الاصبهاني ، الشيخ يعقوب الجعفري ، الشيخ محسن الأحمدي
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٤ - ١٩٩٣ م
المطبعة:
الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: طبعت بموافقة اللجنة الخاصة المشرفة على المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد / سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد

الفصول المختارة
أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي
الشيخ المفيد
(336 - 413 ه‍)
تحقيق
السيد علي مير شريفي
دار المفيد
طباعة - نشر - توزيع
جميع الحقوق الطبع محفوظة
الطبعة الثانية
1414 هجرية 1993 ميلادية
طبعت بموافقة اللجنة الخاصة
المشرفة على المؤتمر العالمي
لألفية الشيخ المفيد
دار المفيد
للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت. لبنان. ص. ب 25 / 304
1

بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة الناشر
الحمد لله رب العالمين - والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وأصحابه
المنتجبين.
كان لانعقاد المؤتمر الألفي للشيخ المفيد في مدينة قم سنة 1413 ومشاركة
الوفود العالمية في ذلك المؤتمر، وما ألقي فيه من دراسات وبحوث - كان ذلك حافزا
للكثيرين إلى التنبه لإحياء آثار هذا العالم العظيم الذي كان له في تاريخ الثقافة
الإسلامية والفكر العربي ما كان، سواء في مدرسته الكبرى التي أقامها في بغداد، أو
في مجالسه العلمية التي كانت تنعقد في داره، أو في مؤلفاته التي تطرقت إلى أنواع
شتى من المعرفة، ما خلدها على مر العصور.
وقد كان من أهم ما تنبه إليه المفكرون والمحققون هو وجوب جمع تلك
المؤلفات في حلقات متتابعة يسهل على المتتبع الوصول إليها.
وقد كان ذلك فجمعت تلك المؤلفات والمصنفات في سلسلة مترابطة في
حلقاتها لتكون بين يدي القارئ سهلة المأخذ، يستفيد منها العالم والمتعلم،
والأستاذ والتلميذ، وتصبح موردا لكل ظامئ إلى العلم، صاد إلى الثقافة.
وقد رأت دارنا (دار المفيد) أن تقوم بطبع هذه المؤلفات في طبعة جديدة
عارضة لها على شداة الحقيقة العلمية الفكرية أينما وجدوا، وهو ما يراه القارئ بين
يديه فيما يلي، كتابا بعد كتاب.
وإننا لنرجو أن نكون بذلك قد أرضينا الله أولا، ثم أرضينا قراءنا الذين عودناهم
فيما مضى من أيامنا على أن نبذل لهم كل جديد.
سائلين من الله التوفيق والتسديد
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
دار المفيد
3

بسم الله الرحمن الرحيم
حول هذه الطبعة
بعد أن عزمنا على إعداد كتاب " الفصول المختارة " - وهو مختار إحدى
مصنفات الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه - للطبع والنشر علمنا بأن
حجة الإسلام والمسلمين السيد نور الدين جعفريان الإصبهاني وبعض
أعوانه قد سبقوا في ذلك حيث قابلوا الطبعة النجفية من الكتاب مع
نسختين مخطوطتين، فوضعوا جهودهم مشكورين - بناء على طلب المؤتمر -
في متناول أيدينا بكل رحابة صدر
ثم بعد ذلك قام حجة الإسلام والمسلمين الشيخ يعقوب الجعفري
بمقابلة الكتاب مع نسخة مخطوطة ثالثة وبذل جهدا حثيثا في تقويم نص
الكتاب.
4

وأخيرا قام حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محسن الأحمدي قبل
مراجعته النهائية للكتاب، بمقابلة أخيرة مع نسخ مخطوطة أخرى.
وهكذا وبعد هذه الجهود المضنية نضع الكتاب بين يدي القارئ
الكريم مع اعترافنا بأن هناك مجالا واسعا للعمل في هذا الكتاب، حيث إن
ضيق الوقت قد أجبرنا على الاسراع في إخراج الكتاب، برغم إحساسنا
بوجود الخلل في بعض النواحي كضبط الأعلام وتقويم بعض النصوص
الغامضة، والأبيات الشعرية فيه....
ونأمل أن يوفق الله تعالى العاملين في مجال إحياء التراث للمزيد من
التحقيق حول هذا الأثر الخالد (1).
مؤتمر ألفية الشيخ المفيد
5

الصفحة الأولى من النسخة 7820 من المكتبة الرضوية.
6

الصفحة الأخيرة من النسخة 7820 من المكتبة الرضوية.
7

الصفحة الأولى من النسخة 2538 من المكتبة ملك - طهران.
8

الصفحة الأخيرة من النسخة 2538 من المكتبة ملك - طهران.
9

الصفحة الأولى من النسخة 9882 من المكتبة الرضوية.
10

الصفحة الأخيرة من النسخة 9882 من المكتبة الرضوية.
11

الصفحة الأولى من النسخة 7819 من المكتبة الرضوية.
12

الصفحة الأخيرة من النسخة 7819 من المكتبة الرضوية.
13

الصفحة الأولى من النسخة 11864 من المكتبة الرضوية.
14

الصفحة الأخيرة من النسخة 11864 من المكتبة الرضوية.
15

الفصول المختارة
من العيون والمحاسن
تأليف:
السيد الشريف المرتضى
(355 - 436 ه‍)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المتوحد بالقدم، العام لجميع خلقه بالنعم، وصلى الله على سيدنا
محمد وآله معادن الدين والكرم، وسلم كثيرا.
سألت أيدك الله أن أجمع لك فصولا من كلام شيخنا ومولانا المفيد أبي
عبد الله محمد بن محمد بن النعمان في المجالس، ونكتا من كتابه المعروف
ب‍ (العيون والمحاسن) لتستريح إلى قراءته في سفرك، وتنشر ذكره في مستقرك
وبلدك، وقد أجبتك أيدك الله إلى ذلك إيثارا لوفاق مسرتك، ورغبة فيما عند الله
سبحانه بإجابتك، والله الكريم يوفقك برحمته لذلك، ويتفضل بحراستك إنه
قريب مجيب.
16

فصل
اتفق للشيخ المفيد أبي عبد الله أيده الله اجتماع مع القاضي أبي بكر أحمد بن
سيار في دار السلام بدار الشريف أبي عبد الله محمد بن محمد بن طاهر الموسوي
رحمه الله، وكان بالحضرة جمع كثير يزيد عددهم على مائة إنسان، وفيهم أشراف من
بني علي - عليه السلام - وبني العباس رحمة الله عليه، ومن وجوه الناس والتجار حضروا
في قضاء حق للشريف رحمه الله فجرى من جماعة من القوم خوض في ذكر النص
على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - وتكلم الشيخ أبو عبد الله أيده الله في
ذلك بكلام يسير على ما اقتضاه الحال فقال له القاضي أبو بكر أحمد بن سيار:
أخبرني ما النص في الحقيقة وما معنى هذه اللفظة؟
فقال له الشيخ أيده الله: النص هو الإظهار والإبانة من ذلك قولهم: فلان
قد نص قلوصه إذا أبانها بالسير وأبرزها من جملة الإبل ولذلك سمي المفرش
العالي منصة لأن الجالس عليه يبين بالظهور من الجماعة، فلما أظهره المفرش
سمي منصة على ما ذكرناه، ومن ذلك أيضا قولهم قد نص فلان مذهبه إذا أظهره
وأبانه ومنه قول امرء القيس:
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش * إذا هي نصته ولا بمعطل
يريد به إذا هي أظهرته وقد قيل إذا هي نصته والمعنى في هذا يرجع إلى
18

الإظهار فأما هذه اللفظة فإنها قد جعلت مستعملة في الشريعة على المعنى الذي
قدمت ومتى أردت حد المعنى منها قلت: حقيقة النص هو القول المنبئ عن
المقول فيه على سبيل الإظهار.
فقال القاضي: ما أحسن ما قلت ولقد أصبت فيما أوضحت وكشفت
فخبرني الآن إذا كان النبي (ص) قد نص على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
- عليه السلام - فقد أظهر فرض طاعته وإذا أظهره استحال أن يكون مخفيا، فما بالنا لا
نعلمه إن كان الأمر على ما ذكرت في حد النص وحقيقته؟
فقال الشيخ أيده الله: أما الإظهار من النبي (ص) فقد وقع ولم يك خافيا في
حال ظهوره، وكل من حضره فقد علمه ولم يرتب فيه ولا اشتبه عليه، فأما سؤالك
عن علة فقدك العلم به الآن وفي هذا الزمان، فإن كنت لا تعلمه على ما أخبرت به
عن نفسك فذلك لدخول الشبهة عليك في طريقه لعدولك عن وجه النظر في
الدليل المفضي بك إلى حقيقته، ولو تأملت الحجة فيه بعين الإنصاف لعلمته. ولو
كنت حاضرا في وقت إظهار النبي (ص) له لما أخللت بعلمه ولكن العلة في ذهابك
عن اليقين فيه ما وصفناه.
فقال. وهل يجوز أن يظهر النبي (ص) شيئا في زمانه فيخفى على من ينشأ بعد
وفاته حتى لا يعلمه إلا بنظر ثاقب واستدلال عليه؟
قال له الشيخ أيده الله تعالى: نعم يجوز ذلك، بل لا بد لمن غاب عن المقام
في علم ما كان فيه من النظر والاستدلال. وليس يجوز أن يقع له به علم الاضطرار
لأنه من جملة الغائبات غير أن الاستدلال في هذا الباب يختلف في الغموض
والظهور والصعوبة والسهولة على حسب الأسباب المعترضات في طرقه وربما عرى
طريق ذلك من سبب فيعلم بيسير من الاستدلال على وجه يشبه الاضطرار إلا أن
19

طريق النص حصل فيه من الشبهات للأسباب التي اعترضته ما تعذر معها العلم
به إلا بعد نظر ثاقب وطول زمان في الاستدلال.
فقال: فإذا كان الأمر على ما وصفت فما أنكرت أن يكون النبي (ص) قد نص
على نبي آخر معه في زمانه أو نبي يقوم من بعده مقامه وأظهر ذلك وشهره على حد
ما أظهر به إمامة أمير المؤمنين - طيه السلام - فذهب عنا علم ذلك كما ذهب عنا علم
النص بأسبابه.
فقال الشيخ أيده الله: أنكرت ذلك من قبل أن العلم حاصل لي ولك
ولكل مقر بالشرع ومنكر له، بكذب من ادعى ذلك على رسول الله (ص) ولو كان
ذلك حقا لما عم الجميع علم بطلانه وكذب مدعيه ومضيفه إلى النبي (ص) ولو
تعرى بعض العقلاء من سامعي الأخبار عن علم ذلك لاحتجت في إفساده إلى
تكلف دليل غير ما وصفت لكن الدليل الذي ذكرت يغنيني عن اعتماد غيره، فإن
كان النص على الإمامة نظيره فيجب أن يعم العلم ببطلانه جميع سامعي الأخبار
حتى لا يختلف في اعتقاد ذلك اثنان، وفي تنازع الأمة فيه واعتقاد جماعة صحته
والعلم به واعتقاد جماعة بطلانه، دليل على فرق ما بينه وبين ما عارضت به.
ثم قال الشيخ أيده الله: هلا أنصف القاضي من نفسه والتزم ما ألزمه
خصومه فيما شاركهم فيه من نفي ما تفردوا به ففصل بينه وبين خصومه في قوله
إن النبي (ص) قد نص على رجم الزاني وفعله، وموضع قطع السارق وفعله، وعلى
صفة الطهارة والصلاة وحدود الصوم والحج والزكاة وفعل ذلك، وبينه وكرره
وشهره. ثم التنازع موجود في ذلك وإنما يعلم الحق فيه وما عليه العمل من غيره،
بضرب من الاستدلال. بل في قوله: إن انشقاق القمر لرسول الله (ص) كان ظاهرا في
حياته ومشهورا في عصره وزمانه. وقد أنكر ذلك جماعة من المعتزلة وغيرهم من
20

أهل الملل والملحدة وزعموا أن ذلك من توليد أصحاب السير ومؤلفي المغازي
وناقلي الآثار وليس يمكنه أن يدعي على من خالف فيما ذكرناه علم الاضطرار
وإنما يعتمد على غلطهم في الاستدلال. فما يؤمنه أن يكون النبي (ص) قد نص على
نبي من بعده وإن عرى من العلم بذلك على سبيل الاضطرار؟ وبم يدفع أن يكون
قد حصلت له شبهات حالت بينه وبين العلم بذلك كما حصل لخصومه فيما
عددناه ووصفناه؟ وهذا ما لا فصل فيه.
فقال له: ليس يشبه أمر النص على أمير المؤمنين - عليه السلام - جميع ما ذكرت
لأن فرض النص عندك فرض عام وما وقع فيه الاختلاف فيما قدمت فإنها فروض
خاصة ولو كانت في العموم كهو لما وقع فيها الاختلاف.
فقال له الشيخ أدام الله عزه: فقد انتقض الآن جميع ما اعتمدته وبان فساده
واحتجت في الاعتماد إلى غيره وذلك أنك جعلت موجب العلم وسبب ارتفاع
الخلاف، ظهور الشئ في زمان ما واشتهاره بين الملأ ولم تضم إلى ذلك غيره ولا
شرطت فيه موصوفا سواه فلما نقضناه عليك ووضح لك دماره، عدلت إلى
التعلق بعموم الفرض وخصوصه. ولم يك هذا جاريا فيما سلف والزيادة في
الاعتلال انقطاع والانتقال من اعتماد إلى اعتماد أيضا انقطاع على أنه ما الذي
يؤمنك أن ينص على نبي يحفظ شرعه ويكون فرض العمل به خاصا في العبادة كما
كان الفرض فيما عددناه خاصا، فهل فيها من فصل يعقل؟ فلم يأت بشئ تجب
حكايته.
21

فصل
وذكرت بحضرة الشيخ أبي عبد الله أدام الله عزه ما ذكره أبو جعفر محمد بن
عبد الرحمن بن قبة الرازي رحمه الله في كتاب (الإنصاف) حيث ذكر أن شيخا من
المعتزلة أنكر أن تكون العرب تعرف المولى سيدا وإماما. قال: فأنشدته قول
الأخطل:
فما وجدت فيها قريش لأمرها * أعف وأولى من أبيك وأمجدا
وأورى بزنديه ولو كان غيره * غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا
فأصبحت مولاها من الناس كلهم * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
قال أبو جعف فأسكت الشيخ كأنما ألقم حجرا، وجعلت أستحسن
ذلك.
فقال لي الشيخ أبو عبد الله أدام الله عزه: قد قال لي أيضا شيخ من المعتزلة:
إن الذي تدعونه من النص الجلي على أمير المؤمنين - عليه السلام - شئ حادث ولم يك
معروفا عند متقدمي الشيعة ولا اعتمده أحد منهم في حجته وإنما بدأ به وادعاه
ابن الراوندي في كتابه في الإمامة وناضل عليه ولم يسبقه إليه أحد، ولو كان معروفا
فيما سلف لما أخل السيد إسماعيل بن محمد رحمه الله به في شعره ولا ترك ذكره في
نظمه مع إغراقه في ذكر فضائل أمير المؤمنين - عليه السلام - ومناقبه حتى تعلق بشاذ
الحديث وأورد من الفضائل ما لم نسمع به إلا منه، فما باله إن كنتم صادقين لم
يذكر النص الجلي ولا اعتمده في شئ من مقاله؟ وهو الأصل المعول عليه لو
ثبت.
22

فقلت له: قد ذهب عنك أيها الشيخ مواضع مقاله في ذلك لعدولك عن
العناية برواية شعر هذا الرجل ولو كنت ممن صرف همته إلى تصفح قصائده
لعرفت ما ذهب عليك من ذلك وأسكنتك المعرفة به عن الاعتماد على ما اعتمدته
من خلو شعره على ما وصفت في استدلالك بذلك، وقد قال السيد إسماعيل بن
محمد رحمه الله في قصيدته الرائية التي يقول في أولها:
الحمد لله حمدا كثيرا * ولي المحامد ربا غفورا
حتى انتهى إلى قوله:
وفيهم علي وصي النبي * بمحضرهم قد دعاه أميرا
وكان الخصيص به في الحياة * وصاهره واجتباه عشيرا
أفلا ترى أنه قد أخبر في نظمه أن رسول الله (ص) دعا عليا - عليه السلام - في حياته
بإمرة المؤمنين واحتج بذلك فيما ذكره من مناقبه - عليه السلام - فسكت الشيخ وكان
منصفا.
فصل
وحدثني الشيخ أبو عبد الله أيده الله قال أبو الحسن علي بن ميثم
أبا الهذيل العلاف فقال له: أليس تعلم أن إبليس ينهى عن الخير كله ويأمر بالشر
كله؟ فقال: نعم. قال: أفيجوز أن يأمر بالشر كله وهو لا يعرفه وينهى عن الخير
كله وهو لا يعرفه؟ قال: لا. فقال له أبو الحسن رحمه الله: قد ثبت أن إبليس يعلم
الشر كله والخير كله؟. قال أبو الهذيل: أجل. قال: فأخبرني عن إمامك الذي
تأتم به بعد الرسول (ص) هل يعلم الخير كله والشر كله؟ قال: لا. قال له: فإبليس
أعلم من إمامك إذن. فانقطع أبو الهذيل.
23

وقال أبو الحسن علي بن ميثم يوما آخر لأبي الهذيل. أخبرني عمن أقر على
نفسه بالكذب وشهادة الزور هل تجوز شهادته في ذلك المقام على آخرين؟ قال
أبو الهذيل: لا يجوز ذلك. قال له أبو الحسن: أفلست تعلم أن الأنصار ادعت
الإمرة لنفسها ثم أكذبت أنفسها في ذلك المقام وشهدت عليها بالزور ثم أقرت بها
لأبي بكر وشهدت بها له. فكيف تجوز شهادة قوم قد أكذبوا أنفسهم وشهدوا
عليها بالزور مع ما أخذنا رهنك به من القول في ذلك.
فقال لي الشيخ أيده الله: هذا كلام موجز في البيان والمعنى فيه على الايضاح
أنه إذا كان الدليل عند من خالفنا على إمامة أبي بكر إجماع المهاجرين عليه فيما
زعمه والأنصار وكان معترفا ببطلان شهادة الأنصار له من حيث أقرت على
أنفسها بباطل ما ادعته من استحقاق الإمامة، فقد صار وجود شهادتهم كعدمها
وحصل الشاهد بإمامة أبي بكر من بعض الأمة لا كلها، وبطل ما ادعوه من
الاجماع عليها. ولا خلاف بيننا وبين خصومنا أن إجماع بعض الأمة ليس بحجة
فيما ادعاه وإن الغلط جائز عليهم، وفي ذلك فساد الاستدلال على إمامة أبي بكر
بما ادعاه القوم وعدم البرهان عليها من جميع الوجوه.
فصل
وحدثني الشيخ أدام الله عزه قال. وحدث عن الحسين بن زيد (1)، قال:
حدثني مولاي، قال: كنت مع زيد بن علي - عليه السلام - بواسط فذكر قوم أبا بكر
وعمر وعليا - عليه السلام - فقدموا أبا بكر وعمر عليه، فلما قاموا قال لي زيد رحمه الله:
قد سمعت كلام هؤلاء وقد قلت أبياتا فادفعها إليهم وهي.

(1) - في نسخة من نسخ الرضوية: يزيد.
24

ومن شرف الأقوام يوما برأيه * فإن عليا شرفته المناقب
وقول رسول الله والحق قوله * وإن زعمت منهم أنوف كواذب
بأنك مني يا علي معالنا * كهارون من موسى أخ لي وصاحب
دعاه ببدر فاستجاب لأمره * وما زال في ذات الإله يضارب
فما زال يعلوهم بم وكأنه * شهاب تلقاه القوابس ثاقب
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه مرسلا، قال: سأل رجل زين العابدين علي بن
الحسين - عليه السلام، فقال له: يا بن رسول الله أخبرني بما ذا فضلتم الناس جميعا
وسدتموهم، فقال له - عليه السلام -: أنا أخبرك بذلك، اعلم أن الناس كلهم لا يخلون
من أن يكونوا أحد ثلاثة: إما رجل أسلم على يد جدنا رسول الله (ص) مولى لنا
ونحن ساداته وإلينا يرجع بالولاء، أو رجل قاتلناه فقتلناه فمضى إلى النار أو
رجل أخذنا منه الجزية عن يد وهو صاغر ولا رابع للقوم، فأي فضل لم نحزه
وشرف لم نحصله بذلك؟
فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه في إبطال إمامة أبي بكر من جهة الاجماع،
سأله المعروف بالكتبي فقال له: ما الدليل على فساد إمامة أبي بكر؟
فقال له: الأدلة على ذلك كثيرة، وأنا أذكر لك منها دليلا يقرب إلى فهمك،
وهو) أن الأمة مجمعه على أن الإمام لا يحتاج إلى إمام وقد أجمعت الأمة على أن أبا
بكر قال على المنبر: (وليتكم ولست بخيركم فإن استقمت فاتبعوني وإن اعوججت
فقوموني) فاعترف بحاجته إلى رعيته، وفقره إليهم في تدبيره ولا خلاف بين ذوي
العقول أن من احتاج إلى رعيته فهو إلى الإمام أحوج، وإذا ثبت حاجة أبي بكر إلى
25

الإمام بطلت إمامته بالاجماع المنعقد على أن الإمام لا يحتاج إلى إمام.
فلم يدر الكتبي بم يعترض وكان بالحضرة رجل من المعتزلة يعرف بعزرالة
فقال: ما أنكرت على من قال لك: إن الأمة أيضا مجمعة على أن القاضي لا يحتاج
إلى قاض، والأمير لا يحتاج إلى أمير فيجب على هذا الأصل أن توجب عصمة
الأمراء والقضاة أو تخرج عن الاجماع.
فقال له الشيخ أدام الله عزه: إن سكوت الأول أحسن من كلامك هذا! وما
كنت أظن أنه يذهب عليك الخطأ في هذا الفصل أو تحمل نفسك عليه مع العلم
يوهنه وذلك أنه لا إجماع فيما ذكرت بل الاجماع في ضده لأن الأمة متفقة على أن
القاضي الذي هو دون الإمام، يحتاج إلى قاض هو الإمام، والأمير من قبل الإمام
يحتاج إلى أمير هو الإمام وذلك مسقط ما تعلقت به. اللهم إلا أن تكون أشرت
بالأمير والقاضي إلى نفس الإمام فهو كما وصفت غير محتاج إلى قاض يتقدمه أو
أمير عليه، وإنما استغنى عن ذلك لعصمته وكماله فأين موضع إلزامك عافاك
الله؟. فلم يأت بشئ
فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه أيضا سأله رجل من المعتزلة يعرف بأبي عمرو
الشطوي، فقال له: أليس قد أجمعت الأمة على أن أبا بكر وعمر كان ظاهرهما
الإسلام؟ فقال له الشيخ: نعم قد أجمعوا على أنهما قد كانا على ظاهر الإسلام زمانا
فأما أن يكونوا مجمعين على أنهما كانا في سائر أحوالهما على ظاهر الإسلام فليس في
هذا إجماع للاتفاق على أنهما كانا على الشرك، ولوجود طائفة كثيرة العدد تقول:
26

إنهما كانا بعد إظهارهما الإسلام على ظاهر كفر بجحد النص. وأنه كان يظهر منهما
النفاق في حياة النبي (ص). فقال الشطوي: قد بطل ما أردت أن أورده على هذا
السؤال بما أوردت. وكنت أظن أنك تطلق القول على ما سألتك.
فقال له الشيخ أدام الله عزه: قد سمعت ما عندي، وقد علمت ما الذي
أردت فلم أمكنك منه، ولكني أنا أضطرك إلى الوقوع فيما ظننت أنك توقع
خصمك فيه، أليس الأمة مجمعة على أنه من اعترف بالشك في دين الله والريب في
نبوة رسول الله (ص) فقد اعترف بالكفر وأقر به على نفسه؟ فقال: بلى.
فقال له الشيخ أدام الله عزه: فإن الأمة مجمعة لا خلاف بينها على أن عمر بن
الخطاب قال: ما شككت منذ يوم أسلمت إلا يوم قاضي فيه رسول الله (ص) أهل
مكة، فإني جئت إليه فقلت له: يا رسول الله ألست بنبي؟ فقال: بلى، فقلت:
ألسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، فقلت: فعلى م تعطي هذه الدنية من نفسك؟ فقال: إنها
ليست بدنية ولكنها خير لك. فقلت له: أليس قد وعدتنا أن ندخل مكة؟ قال:
بلى. قلت: فما بالنا لا ندخلها؟ قال: أو عدتك أن تدخلها العام؟ قلت: لا، قال.
فسندخلها إن شاء الله تعالى. فاعترف بشكه في دين الله ونبوة رسول (ص) وذكر
مواضع شكوكه وبين عن جهاتها وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد حصل
الاجماع على كفره بعد إظهار الإيمان واعترافه بموجب ذلك على نفسه. ثم ادعى
خصومنا من الناصبة أنه تيقن بعد الشك ورجع إلى الإيمان بعد الكفر فأطرحنا
قولهم لعدم البرهان عليه واعتمدنا على الاجماع فيما ذكرناه.
فلم يأت بشئ أكثر من أن قال: ما كنت أظن أن أحدا يدعي الاجماع على
كفر عمر بن الخطاب حتى الآن.
فقال الشيخ أدام الله عزه: فالآن قد علمت ذلك وتحققته ولعمري إن هذا
مما لم يسبقني إلى استخراجه أحد فإن كان عندك شئ فأورده. فلم يأت بشئ.
27

فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: دخل ضرار بن عمرو الضبي على يحيى بن
خالد البرمكي فقال له: يا أبا عمرو هل لك في مناظرة رجل هو ركن الشيعة؟
فقال ضرار: هلم من شئت.
فبعث إلى هشام بن الحكم رحمه الله فأحضره فقال له: يا أبا محمد هذا ضرار
وهو من قد علمت في الكلام والخلاف لك فكلمه في الإمامة. فقال له: نعم.
ثم أقبل على ضرار، فقال: يا أبا عمرو خبرني على ما تجب الولاية والبراءة
أعلى الظاهر أم على الباطن؟ فقال ضرار: بل على الظاهر فإن الباطن لا يدرك إلا
بالوحي قال هشام: صدقت. فأخبرني الآن أي الرجلين كان أذب عن وجه رسول
الله (ص) بالسيف وأقتل لأعداء الله بين يديه وأكثر آثارا في الجهاد أعلي بن أبي طالب
أو أبو بكر؟ فقال: بل علي بن أبي طالب، ولكن أبا بكر كان أشد يقينا. فقال هشام.
هذا هو الباطن الذي قد تركنا الكلام فيه وقد اعترفت لعلي - عليه السلام - بظاهر عمله
من الولاية وأنه يستحق بها من الولاية ما لم يجب لأبي بكر فقال ضرار هذا هو
الظاهر نعم.
ثم قال له هشام: أفليس إذا كان الباطن مع الظاهر فهو الفضل الذي لا
يدفع؟ فقال له ضرار بلى فقال له هشام: ألست تعلم أن رسول الله (ص) قال لعلي:
أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ قال ضرار نعم. قال
هشام: أفيجوز أن يقول له هذا القول إلا وهو عنده في الباطن مؤمن؟ قال: لا.
قال هشام: فقد صح لعلي - عليه السلام - ظاهره وباطنه ولم يصح لصاحبك لا ظاهر
ولا باطن والحمد لله.
28

فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه أيضا قال: جاء ضرار إلى أبي الحسن علي بن
ميثم رحمه الله فقال له: يا أبا الحسن قد جئتك مناظرا. فقال له أبو الحسن: وفيم
تناظرني؟ فقال: في الإمامة فقال. ما جئتني والله مناظرا ولكنك جئت متحكما.
قال له ضرار: ومن أين لك ذلك؟ قال أبو الحسن. علي البيان عنه، أنت تعلم أن
المناظرة ربما انتهت إلى حد يغمض فيه الكلام فتتوجه الحجة على الخصم فيجهل
ذلك أو يعاند وإن لم يشعر بذلك أكثر مستمعيه بل كلهم. ولكني أدعوك إلى
منصفة من القول وهو أن تختار أحد الأمرين: إما أن تقبل قولي في صاحبي وأقبل
قولك في صاحبك فهذه واحدة. قال ضرار لا أفعل ذلك. قال له أبو الحسن: ولم
لا تفعله؟ قال: لأنني إذا قبلت قولك في صاحبك قلت لي إنه كان وصي
رسول الله (ص) وأفضل من خلفه وخليفته على قومه وسيد المسلمين فلا ينفعني بعد
أن قبلت ذلك منك أن صاحبي كان صديقا واختاره المسلمون إماما لأن الذي
قبلته منك يفسد هذا علي. قال له أبو الحسن: فاقبل قولي في صاحبك وأقبل
قولك في صاحبي، قال ضرار وهذا لا يمكن أيضا لأني إذا قبلت قولك في
صاحبي، قلت لي كان ضالا مضلا ظالما لآل محمد - عليهم السلام - قعد في غير مجلسه
ودفع الإمام عن حقه وكان في عصر النبي في منافقا، فلا ينفعني قبولك قولي فيه
أنه كان خيرا صالحا وصاحبا أمينا لأنه قد انتقض بقبولي قولك فيه، بعد ذلك أنه
كان ضالا مضلا. فقال له أبو الحسن رحمه الله. فإذا كنت لا تقبل قولك في
صاحبك ولا قولي فيه ولا قولك في صاحبي فما جئتني إلا متحكما ولم تأتني مباحثا
مناظرا.
29

فصل
ومن كلام الشيخ أيده الله أيضا. وحضر الشيخ أدام الله عزه مجلسا للنقيب
أبي الحسن العمري أدام الله عزه وكان بالحضرة جمع كثير، وفيه القاضي أبو محمد
العماني وأبو بكر بن الدقاق فتخاوضوا في ضروب من الحكايات فجرى ذكر
الحسد. فقال أبو بكر سئل الحسن البصري فقيل له: أيها الشيخ هل يكون في
أهل الإيمان حسد؟ فقال: سبحان الله أما علمتم ما جرى بين إخوة يوسف
ويوسف - عليه السلام -، أو ما قرأتم قصتهم في محكم القرآن، فكيف يجوز أن يخرج
الحسد عن الإيمان؟ فاستحسن هذه الحكاية أبو محمد العماني وهو معتزلي المذهب
والحاكي أيضا من المعتزلة.
فقال الشيخ أدام الله عزه لهم: إن نفس هذا الاستدلال الذي استحسنتموه
يوجب أن تكون كبائر الذنوب لا تخرج أيضا عن الإيمان وذلك أنه لا خلاف أن
ما صنعه إخوة يوسف - عليه السلام - بأخيهم من إلقائه في غيابة الجب وبيعه بالثمن
البخس وكذبهم على الذئب وما أوصلوه إلى قلب أبيهم نبي الله يعقوب - عليه السلام -
من الحزن كان كبيرا من الذنوب. وقد قص الله تعالى قصتهم وأخبر عن سؤالهم
أباهم الاستغفار عند توبتهم وندمهم، فإن كان الحسد لا يخرج عن الإيمان بما
حكي عن الحسن من الاستدلال فالكبير من الذنوب أيضا لا يخرج عن الإيمان
بذلك بعينه، وهذا نقض مذهب أهل الاعتزال فلم يرد أحد منهم جوابا.
30

فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه أيضا حضر في دار الشريف أبي عبد الله محمد
ابن محمد بن طاهر رحمه الله، وحضر رجل من المتفقهة يعرف بالورثاني وهو من
فقهائها فقال له الورثاني: أليس من مذهبك أن رسول الله (ص) كان معصوما من
الخطأ، مبرأ من الزلل مأمونا عليه من السهو والغلط، كاملا بنفسه غنيا عن رعيته؟
- فقال له الشيخ أيده الله: بلى كذلك كان (ص) قال له: فما تصنع في قول الله
جل جلاله * (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) * (1). أليس قد أمره الله
بالاستعانة بهم في الرأي وأفقره إليهم، فكيف يصح لك ما ادعيت مع ظاهر
القرآن وما فعله النبي (ص)؟
فقال له الشيخ أدام الله عزه: إن رسول الله (ص) يشاور أصحابه لفقر منه إلى
آرائهم ولحاجة دعته إلى مشورتهم من حيث ظننت وتوهمت بل لأمر آخر أنا أذكره
لك بعد الايضاح عما أخبرتك به، وذلك أنا قد علمنا أن رسول الله (ص) كان
معصوما من الكبائر والصغائر وإن خالفت أنت في عصمته من الصغائر وكان
أكمل الخلق باتفاق أهل الملة وأحسنهم رأيا وأوفرهم عقلا وأكملهم تدبيرا،
وكانت المواد بينه وبين الله سبحانه متصلة والملائكة تتواتر عليه بالتوفيق من الله
عز وجل والتهذيب والإنباء له عن المصالح، وإذا كان بهذه الصفات لم يصح أن
يدعوه داع إلى اقتباس الرأي من رعيته لأنه ليس أحد منهم إلا وهو دونه في سائر
ما عددناه، وإنما يستشير الحكيم غيره على طريق الاستفادة والاستعانة برأيه إذا
تيقن أنه أحسن رأيا منه وأجود تدبيرا وأكمل عقلا أو ظن ذلك، فأما إذا أحاط

(1) - آل عمران / 159.
31

علما بأنه دونه فيما وصفناه، لم يكن للاستعانة في تدبيره برأيه معنى لأن الكامل لا
يفتقر إلى الناقص فيما يحتاج فيه إلى الكمال، كما لا يفتقر العالم إلى الجاهل فيما
يحتاج فيه إلى العلم والآية بينة يدل متضمنها على ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى:
* (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) * فعلق وقوع الفعل بعزمه دون
رأيهم ومشورتهم، ولو كان إنما أمره بمشورتهم للاستعانة برأيهم لقال له: فإذا أشاروا
عليك فاعمل وإذا اجتمع رأيهم على شئ فامضه، فكان تعلق فعله بالمشورة دون
العزم الذي يختص، به فلقا جاء الذكر بما تلوناه سقط ما توهمته.
فأما وجه دعائهم إلى المشورة عليه (ص) فإن الله أمره أن يتألفهم بمشورتهم
ويعلمهم بما يصنعونه عند عزماتهم ليتأدبوا بآداب الله عز وجل فاستشارهم لذلك
لا للحاجة إلى آرائهم، على أن هاهنا وجها آخر بينا وهو أن الله سبحانه أعلمه أن
في أمته من يبتغي له الغوائل ويتربص به الدوائر ويسر خلافه ويبطن مقته
ويسعى في هدم أمره ويناقضه في دينه ولم يعرفه بأعيانهم ولا دله عليهم بأسمائهم،
فقال عز اسمه: * (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم
سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) * (1) وقال جل اسمه: * (وإذا ما أنزلت
سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم
بأنهم قوم لا يفقهون) * (2) وقال تبارك اسمه: * (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن
ترضوا منهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) * (3) وقال: * (ويحلفون بالله إنهم
لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون) * (4) وقال عز من قائل. * (وإذا رأيتهم

(1) - التوبة / 101.
(2) - التوبة / 127.
(3) - التوبة / 96.
(4) - التوبة / 56.
32

تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل
صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون) * (1) وقال جل جلاله:
* (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) * (2)،
* (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون) * (3).
ثم قال سبحانه بعد أن أنبأه عنهم في الجملة * (ولو نشاء لأريناكهم
فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم ي لحن القول) * (4) فدله عليهم بمقالهم وجعل
الطريق إلى معرفتهم ما يظهر من نفاقهم في لحن قولهم، ثم أمره بمشورتهم ليصل
بما يظهر منهم إلى علم باطنهم، فإن الناصح تبدو نصيحته في مشورته، والغاش
المنافق يظهر ذلك في مقاله، فاستشارهم (ص) لذلك، ولأن الله جل جلاله جعل
مشورتهم الطريق إلى معرفتهم.
ألا ترى أنهم لما أشاروا ببدر عليه (ص) في الأسرى فصدرت مشورتهم عن
نيات مشوبة في نصيحته كشف الله تعالى ذلك له وذمهم عليه وأبان عن إدغالهم
فيه، فقال جل وتعالى * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض
تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق
لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) * (5) فوجه التوبيخ إليهم والتعنيف على رأيهم
وأبان لرسوله (ص) عن حالهم فيعلم أن المشورة لهم لم تكن للفقر إلى آرائهم وإنما
كانت لما ذكرناه.

(1) - المنافقون / 4.
(2) - النساء / 142.
(3) - التوبة / 54.
(4) - محمد / 30.
(5) - الأنفال / 67 - 68.
33

فقال شيخ من القوم يعرف بالجراحي وكان حاضرا: يا سبحان الله أترى أن
أبا بكر وعمر كانا من أهل النفاق؟ كلا ما نظن أنك أيدك الله تطلق هذا وما رأينا
أن النبي (ص) استشار ببدر غيرهما، فإن كانا هما من المنافقين فهذا ما لا نصبر عليه
ولا نقوى على استماعه، وإن لم يكونا من جملة أهل النفاق فاعتمد على الوجه
الأول، وهو أن النبي (ص) أراد أن يتألفهم بالمشورة ويعلمهم كيف يصنعون في
أمورهم.
فقال له الشيخ أدام الله عزه: ليس هذا من الحجاج أيها الشيخ في شئ
وإنما هو استكبار واستعظام معدول به عن الحجة والبرهان ولم نذكر إنسانا بعينه
وإنما أتينا بمجمل من القول ففصله الشيخ وكان غنيا عن تفصيله.
فصاح الورثاني وأعلى صوته بالصياح يقول: الصحابة أجل قدرا من أن
يكونوا من أهل النفاق وسيما الصديق والفاروق، وأخذ في كلام نحو هذا من كلام
السوقة والعامة وأهل الشغب والفتن.
فقال له الشيخ أدام الله عزه: دع عنك الضجيج وتخلص مما أوردته عليك
من البرهان واحتل لنفسك وللقوم فقد بان الحق وزهق الباطل بأهون سعي
والحمد لله.
فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه وقد سأله بعض أصحابه فقال له: إن المعتزلة
والحشوية يدعون أن جلوس أبي بكر وعمر مع رسول الله (ص) في العريش كان
أفضل من جهاد أمير المؤمنين - عليه السلام - بالسيف لأنهما كانا مع النبي (ص) في
مستقره يدبران الأمر معه ولولا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه
34

فبأي شئ يدفع هذا؟
فقال له الشيخ أدام الله عزه: سبيل هذا القول أن يعكس وهذه القضية أن
تقلب وذلك أن النبي (ص) لو علم أنهما لو كانا في جملة المجاهدين بأنفسهما يبارزان
الأقران ويقتلان الأبطال ويحصل لهما جهاد يستحقان به الثواب، لما حال بينهما
وبين هذه المنزلة التي هي أجل وأشرف وأعلى وأسنى من القعود على كل حال
بنص الكتاب حيث يقول الله سبحانه: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير
أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين
بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله
المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) * (1).
فلما رأينا الرسول (ص) قد منعهما هذه الفضيلة وأجلسهما معه، علمنا أن
ذلك لعلمه بأنهما لو تعرضا للقتال أو عرضا له لأفسدا، إما بأن ينهزما، أو يوليا
الدبر كما صنعا في يوم أحد وخيبر وحنين، فكان يكون في ذلك عظيم الضرر على
المسلمين ولا يؤمن وقوع الوهن فيهم بهزيمة شيخين من جملتهم، أو كانا لفرط ما
يلحقهما من الخوف والجزع يصيران إلى أهل الشرك مستأمنين أو غير ذلك من
الفساد الذي يعلمه الله تعالى، ولعله لطف للأمة بأن أمر نبيه (ص) بحبسهما عن
القتال، فأما ما توهموه من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما، فقد ثبت أنه كان كاملا
وأنهما كانا ناقصين عن كماله، وكان معصوما وكانا غي معصومين، وكان مؤيدا
بالملائكة وكانا غير مؤيدين، وكان يوحى إليه وينزل القرآن عليه ولم يكونا كذلك،
فأي فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما لولا عمى القلوب وضعف الرأي وقلة
الدين.

(1) - النساء / 95.
35

والذي يكشف لك عن صحة ما ذكرناه آنفا في وجه إجلاسهما معه في
العريش، قول الله سبحانه: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم
الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل
والقرآن) * الآية (1)، فلا يخلو الرجلان من أن يكونا مؤمنين أو غير مؤمنين، فإن
كانا مؤمنين، فقد اشترى الله أنفسهما منهما بالجنة، على شرط القتال المؤدي إلى
القتل منهما لغيرهما أو قتل غيرهما لهما، ولو كانا كذلك لما حال النبي (ص) بينهما
وبين الوفاء بشرط الله عليهما من القتل، وفي منعهما من ذلك دليل على أنهما بغير
الصفة التي يعتقدها فيهما الجاهلون، فقد وضح بما بيناه أن العريش وبال عليهما
ودليل على نقصهما وأنه بالضد مما توهموه لهما والمنة لله.
فصل
وحدثني الشيخ أدام الله عزه فقال: لما حج الرشيد ونزل المدينة اجتمع إليه
بنو هاشم وبقايا المهاجرين والأنصار ووجوه الناس، وكان في القوم سيدنا أبو
الحسن موسى بن جعفر - عليهما السلام - فقال لهم الرشيد: قوموا إلى زيارة رسول الله.
قال: ثم نهض معتمدا على يد أبي الحسن موسى بن جعفر - عليهما السلام - حتى انتهى
إلى قبر رسول الله (ص) فوقف ثم قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك
يا بن عم - افتخارا على قبائل العرب الذين حضروا معه واستطالة عليهم
بالنسب - قال: فنزع أبو الحسن موسى - عليه السلام - يده من يده ثم تقدم فقال:
السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبة، قال: فتغير لون الرشيد ثم قال:
يا أبا الحسن إن هذا لهو الفخر الجسيم.

(1) - التوبة / 111.
36

فصل
وحدثني الشيخ أدام الله عزه أيضا قال: روي أنه لما سار المأمون إلى خراسان
وكان معه الرضا علي بن موسى - عليهما السلام -، فبينا هما يسيران إذ قال له المأمون: يا
أبا الحسن إني فكرت في شئ ففتح لي الفكر الصواب فيه، فكرت في أمرنا وأمركم
ونسبنا ونسبكم فوجدت الفضيلة فيه واحدة ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك
محمولا على الهوى والعصبية.
فقال له أبو الحسن الرضا - عليه السلام -: إن لهذا الكلام جوابا فإن شئت ذكرته
لك وإن شئت أمسكت، فقال له المأمون: إني لم أقله إلا لأعلم ما عندك فيه، قال
له الرضا - عليه السلام -: أنشدك الله يا أمير المؤمنين لو أن الله تعالى بعث نبيه محمدا (ص)
فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام فخطب إليك ابنتك أكنت تزوجه
إياها؟ فقال: يا سبحان الله وهل أحد يرغب عن رسول الله (ص)؟ فقال له الرضا
- عليه السلام -: أفتراه يحل له أن يخطب إلي، قال: فسكت المأمون هنيئة ثم قال: أنتم
والله أمس برسول الله (ص) رحما.
قال الشيخ أدام الله عزه: وإنما المعنى لهذا الكلام، أن ولد العباس يحلون
لرسول الله (ص) كما يحل له البعداء في النسب منه، وأن ولد أمير المؤمنين عليه السلام -
من فاطمة - عليها السلام - ومن أمامة بنت زينب ابنة رسول الله (ص) يحرمن عليه لأنهن
من ولده في الحقيقة فالولد ألصق بالوالد وأقرب وأحرز للفضل من ولد العم بلا
ارتياب بين أهل الدين، فكيف يصح مع ذلك أن يتساووا في الفضل بقرابة
الرسول (ص) فنبهه الرضا - عليه السلام - على هذا المعنى وأوضحه له.
37

فصل
وحدثني الشيخ أدام الله عزه أيضا قال: قال المأمون يوما للرضا - عليه السلام -:
أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين - عليه السلام - يدل عليها القرآن قال: فقال له
الرضا - عليه السلام -: فضيلته في المباهلة قال الله جل جلاله: * (فمن حاجك فيه من
بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا
وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) * (1) فدعا رسول الله (ص) الحسن
والحسين - عليهما السلام - فكانا ابنيه ودعا فاطمة - عليها السلام - فكانت في هذا الموضع
نساءه ودعا أمير المؤمنين - عليه السلام - فكان نفسه بحكم الله عز وجل، وقد ثبت أنه
ليس أحد من خلق الله سبحانه أجل من رسول الله (ص) وأفضل فوجب أن لا يكون
أحد أفضل من نفس رسول الله (ص) بحكم الله عز وجل.
قال: فقال له المأمون: أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا
رسول الله (ص) ابنيه خاصة وذكر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله (ص) ابنته
وحدها، فلم لا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة
دون غيره فلا يكون لأمير المؤمنين - عليه السلام - ما ذكرت من الفضل؟
قال: فقال له الرضا - عليه السلام -: ليس بصحيح ما ذكرت يا أمير المؤمنين
وذلك أن الداعي إنا يكون داعيا لغيره كما يكون الأمر آمرا لغيره ولا يصح أن
يكون داعيا لنفسه في الحقيقة كما لا يكون آمرا لها في الحقيقة، وإذا لم يدع
رسول الله (ص) رجلا في المباهلة إلا أمير المؤمنين - عليه السلام - فقد ثبت أنه نفسه التي
عناها الله تعالى في كتابه وجعل حكمه ذلك في تنزيله.
قال. فقال المأمون. إذا ورد الجواب سقط السؤال.

(1) - آل عمران / 61.
38

فصل
قال الشيخ أدام الله عزه: وإنني لأستحسن قول الفرزدق في كلمة التي
يمدح فيها علي بن الحسين - عليه السلام -، وإنه ليليق بما تقدم في هذه الفصول
ويجانسه حيث يقول وهو يعني زين العابدين - عليه السلام -:
يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
مشتقة من رسول الله نبعته * طابت عناصره والخيم والشيم
ينجاب نور الهدى عن نور غرته * كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم
يغضي حياء ويغضى من مهابته * فلا يكلم إلا حين يبتسم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله * بجده أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك من هذا بضائره * العرب تعرف من أنكرت والعجم
من معشر حبهم دين وبغضهم * كفر وقربهم منجى ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم * ويسترب به الاحسان والنعم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم * في كل فرض ومختوم به الكلم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم * ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذ ما أزمة أزمت * والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
لا يقبض العسر بسطا من أكفهم * سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
أي الخلايق ليست في رقابهم * لأولية هذا أوله نعم
ما قال لاقط إلا في تشهده * لولا التشهد كانت لاؤه نعم
من يعرف الله يعرف أولية ذا * فالدين من بيت هذا ناله الأمم
من جده دان فضل الأنبياء له * وفضل أمته دانت له الأمم
39

وفي مثله لعلي بن محمد العلوي الحماني رضي الله عنه:
بين الوصي وبين المصطفى نسب * تحتال فيه المعالي والمحاميد
كانا كشمس نهار في البروج كما * أدارها ثم إحكام وتجويد
كسيرها انتقلا من طاهر علم * إلى مطهرة أبائها صيد
تفرقا عند عبد الله واقترنا * بعد النبوة توفيق وتسديد
وذر ذو العرش ذرا طاب بينهما * فانبث نور له في الأرض تخليد
نور تفرع عند البعث فانشعبت * منه شعوب لها في الدين تمهيد
هم فتية كسيوف الهند طال بهم * على المطاول آباء مناجيد
قوم لماء المعالي في وجوههم * عند التكرم تصويب وتصعيد
يدعون أحمد إن عد الفخار أبا * والعود ينبت في أفنانه العود
والمنعمون إذا ما لم تكن نعم * والذائدون إذا قل المذاويد
أوفوا من المجد والعلياء في قلل * شم قواعدهن الفضل والجود
ما سود الناس إلا من تمكن في * أحشائه لهم ود وتسويد
بسط الأكف إذا شيمت مخايلهم * أسد اللقاء إذا صد الصناديد
يزهي المطاف إذا طافوا بكعبته * ويستنير لهم منها القواعيد
في كل يوم لهم بأس يعاش به * وللمكارم من أفعالهم عيد
محسدون ومن يعقد بحبهم * حبل المودة يضحى وهو محسود
لا ينكر الدهر إن ألوى بحقهم * فالدهر مذ كان مذموم ومحمود
ونظير هذا بيتان من قبله رحمه الله أيضا:
رأت بيعي على رغم الملاح * هو البيت المقابل للضراح
ووالدي المشار به إذا ما * دعا الداعي بحي على الفلاح
40

وفي مثل ذلك قول العباس بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن
أبي طالب - عليه السلام - محتجا بفضله على قريش التي هي أفضل الخلق جميعا:
وقالت قريش لنا مفخر * رفيع على الناس لا ينكر
فقد صدقوا لهم فضلهم * وبينهم رتب تقصر
وأدناهم رحما بالنبي * إذا فخروا فيه المفخر
بنا الفخر منكم على غيركم * فاقا علينا فلا تفخروا
ففضل النبي عليكم لنا * أقروا به بعد ما أنكروا
فإن طرتم بسوى مجدنا * فإن جناحكم الأقصر
ومما يدخل في جملة هذا النظم من نثر الكلام قول داود بن القاسم أبي
هاشم الجعفري رحمه الله وقد دخل على محمد بن عبد الله بن طاهر بعد قتل يحيى
ابن عمر المقتول بشاهي رحمه الله، فقال له: أيها الأمير إنا قد جئناك لنهنيك بأمر
لو كان رسول الله (ص) حيا لعزيناه به.
وفي مثله قول بعض الشيعة لرجل من الناصبة في محاورة له في فضل آل
محمد - عليهم السلام -: أرأيت لو أن الله بعث نبيه محمدا (ص) أين ترى كان يحط رحله
وثقله؟ فقال له الرجل الناصب: كان يحطه في أهله وولده فقال له المتشيع: فإني
قد حططت هو أي حيث يحط رسول الله (ص) رحله وثقله.
ومنه قول الكميت بن زيد رحمه الله تعالى:
ما أبالي إذا حفظت أبا * القاسم فيهم ملامة اللوام
ما أبالي ولن أبالي فيهم * أبدا رغم ساخطين رغام
فيهم شيعتي وقسمي من * الأمة حسبي من سائر الأقسام
41

فصل
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه وكلامه قال الشيخ أدام الله عزه: قال أبو
الحسين الخياط: جاءني رجل من أصحاب الإمامة عن رئيس لهم زعم أنه أمره أن
يسألني عن قول النبي (ص) لأبي بكر * (لا تحزن:) * (1) أطاعة حزن أبي بكر أم
معصية؟ قال: فإن كان طاعة فقد نهاه عن الطاعة، وإن كان معصية فقد عصى
أبو بكر قال: فقلت له: دع الجواب اليوم ولكن ارجع إليه فاسأله عن قول الله عز
وجل لموسى - عليه السلام -: * (لا تخف) * (2) أيخلو خوف موسى - عليه السلام - من أن يكون
طاعة أو معصية؟ فإن يكن طاعة فقد نهاه عن الطاعة، وإن يكن معصية فقد
عصى موسى - عليه السلام -. قال: فمضى ثم عاد إلي فقلت له: رجعت إليه؟ قال
نعم، فقلت له: ما قال؟ قال: قال لي: لا تجلس إليه.
قال الشيخ أدام عزه: ولست أدري صحة هذه الحكاية ولا أبعد أن
يكون تخرصها الخياط، ولو كان صادقا في قوله إن رئيسا من الشيعة أنفذ يسأله
عن هذا السؤال لما قصر الرئيس عن إسقاط ما أورده من الاعتراض ويقوى في النفس
أن الخياط أراد التقبيح على أهل الإمامة في تخرص هذه الحكاية، غير أني أقول له
ولأصحابه: الفصل بين الأمرين واضح، وذلك أني لو خليت وظاهر قوله تعالى
لموسى - عليه السلام -: * (لا تخف) *، وقوله لنبيه (ص): * (ولا يحزنك قولهم) * (3) وما أشبه
هذا مما يوجه إلى الأنبياء لقطعت على أنه نهي لهم عن قبيح يستحق فاعله الذم

(1) - التوبة / 40.
2 - النمل / 10.
3 - يونس / 65.
42

عليه لأن في ظاهره حقيقة النهي من قوله: لا تفعل، كما أن في ظاهر خلافه ومقابله
في الكلام حقيقة الأمر إذا قال له: افعل لكني عدلت عن الظاهر، في مثل هذا
لدلالة عقلية أوجبت علي العدول عنه كما توجب الدلالة على المرور مع الظاهر
عند عدم الدليل الصارف عنه وهي ما ثبت من عصمة الأنبياء - عليهم السلام - التي
تنبئ عن اجتنابهم الآثام.
وإذا كان الاتفاق حاصلا على أن أبا بكر لم يكن معصوما كعصمة الأنبياء
وجب أن يجري كلام الله تعالى فيما ضمنه من قصته على ظاهر النهي وحقيقته
وقبح الحال التي كان عليها، فتوجه النهي إليه عن استدامتها، إذ لا صارف
يصرف عن ذلك من عصمة ولا خبر عن الله تعالى فيه ولا عن رسوله (ص)، فقد
بطل ما أورده الخياط وهو في الحقيقة رئيس المعتزلة وبان وهن اعتماده.
ويكشف عن صحة ما ذكرناه ما تقدم به مشايخنا رحمهم الله تعالى وهو أن
الله سبحانه لم ينزل السكينة قط على نبيه (ص) في موطن كان معه فيه أحد من أهل
الإيمان إلا عمهم في نزول السكينة وشملهم بها. بذلك جاء القرآن، قال الله عز
وجل: * (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم
الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى
المؤمنين) * (1) وقال في موضع آخر: * (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى
المؤمنين) * (2) ولما لم يكن مع النبي (ص) في الغار إلا أبو بكر أفرد الله عز وجل
نبيه بالسكينة (ص) دونه وخصه بها ولم يشركه معه وقال الله

(1) - ا لتوبة / 25.
2 - الفتح / 26.
43

عز وجل: * (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) * (1) فلو
كان الرجل مؤمنا لجرى مجرى المؤمنين في عموم السكينة لهم، ولولا أنه أحدث
بحزنه في الغار منكرا لأجله توجه النهي إليه عن استدامته، لما حرمه الله تعالى من
السكينة ما تفضل به على غيره من المؤمنين الذين كانوا مع رسول الله (ص) في
المواطن الأخرى على ما جاء في القرآن ونطق به محكم الذكر بالبيان، وهذا بين لمن
تأمله.
قال الشيخ أيده الله: وقد حير هذا الكلام جماعة من الناصبة وضيق
عليهم صدورهم فتشعبوا واختلفوا في الحيلة للتخلص منه فما اعتمد منهم أحد
إلا على ما يدل على ضعف عقله وسخف رأيه وضلاله عن الطريق، فقال قوم
منهم: إن السكينة إنما نزلت على أبي بكر واعتلوا في ذلك بأنه كان خائفا رعبا
ورسول الله (ص) كان آمنا مطمئنا وقالوا: والآمن غني عن السكينة وإنما يحتاج إليها
الخائف الوجل.
قال الشيخ أدام الله عزه: فيقال لهم: قد جنيتم بجهلكم على أنفسكم وطعنتم على
كتاب الله عز وجل بهذا الضيف الواهي من استدلالكم، وذلك أنه لو كان ما
اعتللتم به صحيحا لوجب أن لا تكون السكينة نزلت على رسول الله (ص) في يوم
بدر ولا في يوم حنين لأنه لم يكن (ص) في هذين الموطنين خائفا ولا رعبا ولا
جزعا بل كان آمنا مطمئنا متيقنا بكون الفتح له وأن الله عز وجل يظهره على الدين
كله ولو كره المشركون، وفيما نطق به القرآن من نزول السكينة عليه ما يدمر على
هذا الاعتلال.
فإن قلتم: إن النبي (ص) كان في هذين المقامين خائفا وإن لم يبد خوفه

(1) - التوبة / 40.
44

ولذلك نزلت السكينة عليه فيهما وحملتم أنفسكم على هذه الدعوى.
قلنا لكم: وهذه كانت قصته (ص) في الغار فبم تدفعون ذلك؟ فإن قلتم:
إنه (ص) قد كان محتاجا إلى السكينة في كل حال لينتفي عنه الخوف والجزع ولا
يتعلقان به في شئ من الأحوال، نقضتم ما سلف لكم من الاعتلال وشهدتم
ببطلان مقالكم الذي قدمناه. على أن نص التلاوة يدل على خلاف ما ذكرتموه،
وذلك أن الله سبحانه قال: * (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) * (1)
فأنبأ الله سبحانه خلقه أن الذي نزلت عليه السكينة هو المؤيد بالملائكة إذ كانت
الهاء التي في التأييد تدل على ما دلت عليه الهاء التي في نزول السكينة وكانت هاء
الكناية في مبتدأ قوله: * (إلا تنصروه فقد نصره الله) * (2) إلى قوله: * (وأيده بجنود لم
تروها) * عن مكنى واحد ولم يجز أن تكون عن اثنين غيرين كما لا يجوز أن يقول
القائل لقيت زيدا فكلمته وأكرمته فيكون الكلام لزيد بهاء الكناية وتكون الكرامة
لعمرو أو خالد أو بكر، وإذا كان المؤيد بالملائكة رسول الله (ص) باتفاق الأمة فقد
ثبت أن الذي نزلت عليه السكينة هو خاصة دون صاحبه، وهذا ما لا شبهة فيه.
وقال قوم منهم: إن السكينة وإن اختص بها النبي (ص) فليس يدل ذلك على
نقص الرجل لأن السكينة إنما يحتاج إليها الرئيس المتبوع دون التابع، فيقال لهم:
هذا أيضا رد على الله تعالى لأنه قد أنزلها على الأتباع المرؤوسين ببدر وحنين
وغيرهما من المقامات، فيجب على ما أصلتموه أن يكون الله سبحانه فعل بهم ما لم
تكن بهم الحاجة إليه، ولو فعل ذلك لكان عابثا تعالى الله عما يقول الظالمون
علوا كبيرا.
قال الشيخ: وهاهنا شبهة يمكن إيرادها هي أقوى مما تقدم غير أن القوم لم
يهتدوا إليها ولا أظن أنها خطرت ببال أحد منهم، وهي أن يقول قائل: قد وجدنا

(1) - 12 التوبة / 40.
45

الله سبحانه ذكر شيئين ثم عبر عن أحدهما بالكناية فكانت الكناية عنهما دون أن
تختص بأحدهما وهو مثل قوله سبحانه: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا
ينفقونها في سبيل الله) * (1) فأورد لفظ الكناية عن الفضة خاصة وإنما أرادهما جميعا
معا وقد قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف
وإنما أراد: نحن بما عندنا راضون وأنت راض بما عندك، فذكر أحد الأمرين
واستغنى عن الآخر، كذلك يقول سبحانه: * (فأنزل الله سكينته عليه) * ويريدهما
جميعا دون أحدهما.
والجواب عن هذا وبالله التوفيق: أن الاقتصار بالكناية على أحد الأمرين
دون عموم الجميع مجاز واستعارة استعمله أهل اللسان في مواضع مخصوصة وجاء
به القرآن في أماكن محصورة، وقد ثبت أن الاستعارة ليست بأصل يجري في الكلام
ولا يصح عليها القياس وليس يجوز لنا أن نعدل عن ظواهر القرآن وحقيقة الكلام
إلا بدليل يلجئ إلى ذلك - ولا دليل في قوله تعالى: * (فأنزل الله سكينته عليه) *
فيتعدى من أجله المكنى عنه إلى غيره.
وشئ آخر وهو أن العرب إنما تستعمل ذلك إذا كان المعنى فيه معروفا
والالتباس منه مرتفعا فتكتفي بلفظ الواحد عن الاثنين للاختصار مع الأمن من
وقوع الشبهة والارتياب، فأما إذا لم يكن الشئ معروفا وكان الالتباس عند إفراده
متوهما لم يستعمل ذلك ومن استعمله كان عندهم ملغزا معميا، ألا ترى أن الله

(1) - التوبة / 34 (1).
46

سبحانه لما قال: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) * علم
كل سامع للخطاب أنه أرادهما معا بما قدمه من كراهة كنزهما المانع من إنفاقهما
فلما عم الشيئين بذكر يتضمنهما في ظاهر المقال بما يدل على معنى ما أخره من
ذكر الإنفاق، اكتفى بذكر أحدهما للاختصار.
وكذلك قوله تعالى: * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) * (1) إنما اكتفى
بالكناية عن أحدهما في ذكرهما معا لما قدمه في ذكرهما من دليل ما تضمنته الكناية
فقال تعالى: * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) * فأوقع الرؤية على الشيئين جميعا
وجعلهما سببا للاشتغال بما وقعت عليه منهما عن ذكر الله عز وجل والصلاة،
وليس يجوز أن يقع الالتباس في أنه أراد أحدهما مع ما قدمه من الذكر إذ لو أراد
ذلك لخلا الكلام عن الفائدة المعقولة فكان العلم بذلك يجزي في الإشارة إليه.
وكذلك قوله تعالى. * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) * (2) لما تقدم ذكر الله على
التفصيل وذكر رسوله على البيان دل على أن الحق في الرضا لهما جميعا وإلا لم يكن
ذكرهما جميعا معا يفيد شيئا على الحد الذي قدمناه وكذلك قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف
لو لم يتقدمه قوله: نحن بما عندنا، لم يجز الاقتصار على الثاني لأنه لو حمل
الأول على إسقاط المضمر من قوله راضون لخلا الكلام عن الفائدة فلما كان سائر
ما ذكرناه معلوما عند من عقل الخطاب جاز الاقتصار فيه على أحد المذكورين
للإيجاز والاختصار

(1) - الجمعة / 11.
2 - التوبة / 62.
47

وليس كذلك قوله تعالى: * (فأنزل الله سكينته عليه) * لأن الكلام يتم فيها
وينتظم في وقوع الكناية عن النبي (ص) خاصة دون الكائن معه في الغار، ولا يفتقر
إلى رد الهاء عليهما معا مع كونها في الحقيقة كناية عن واحد في الذكر وظاهر
اللسان، ولو أراد بها الجميع لحصل الالتباس والتعمية والألغاز لأنه كما يكون
التلبيس واقعا عند دليل الكلام على انتظامها للجميع متى أريد بها الواحدة مع
عدم الفائدة لو لم يرجع على الجميع، كذلك يكون التلبيس حاصلا إذا أريد بها
الجميع عند عدم الدليل الموجب لذلك وكمال الفائدة مع الاقتصار على الواحد
في ا لمراد.
ألا ترى أن قائلا لو قال: لقيت زيدا ومعه عمرو فخاطبت زيدا وناظرته،
وأراد بذلك مناظرة الجميع لكان ملغزا معميا لأنه لم يكن في كلامه ما يفتقر إلى
عموم الكناية عنهما، ولو جعل هذا نظيرا للآيات التي تقدمت لكان جاهلا بفرق
ما بينها وبينه مما شرحناه. فيعلم أنه لا نسبة بين الأمرين.
وشئ آخر وهو أن الله سبحانه وتعالى كنى بالهاء التالية للهاء التي في
السكينة عن النبي (ص) خاصة فلم يجز أن يكون أراد بالأولة غر النبي (ص) خاصة
لأنه لا يعقل في لسان القوم كناية عن مذكورين بلفظ الواحد وكناية تردفها على
النسق عن واحد من الاثنين. وليس لذلك نظير في القرآن ولا في الأشعار ولا في
شئ من الكلام فلما كانت الهاء في قوله تعالى: * (وأيده بجنود لم تروها) * كناية
عن النبي (ص) بالاتفاق، ثبت أن التي قبلها من قوله: * (فأنزل الله سكينته عليه) *
كناية عنه (ص) خاصة وبأن مفارقة ذلك لجميع ما تقدم ذكره من الآي والشعر
الذي استشهدوا به والله الموفق للصواب بمنه.
48

فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: سأل يحيى بن خالد البرمكي بحضرة
الرشيد، هشام بن الحكم رحمه الله، فقال له: أخبرني يا هشام عن الحق هل يكون
في جهتين مختلفتين؟ قال هشام: لا، قال. فخبرني عن نفسين اختصما في حكم في
الدين وتنازعا واختلفا هل يخلوان من أن يكونا محقين أو مبطلين أو يكون أحدهما
مبطلا والآخر محقا؟ فقال له هشام: لا يخلوان من ذلك وليس يجوز أن يكونا محقين
على ما قدمت من الجواب، قال له يحيى بن خالد: فخبرني عن علي - عليه السلام -
والعباس لما اختصما إلى أبي بكر في الميراث أيهما كان المحق من المبطل إذ كنت لا
تقول إنهما كانا محقين ولا مبطلين؟.
قال هشام. فنظرت فإذا إنني إن قلت بأن عليا - عليه السلام - كان مبطلا،
كفرت وخرجت عن مذهبي، وإن قلت إن العباس كان مبطلا ضرب الرشيد
عنقي ووردت علي مسألة لم أكن سئلت عنها قبل ذلك الوقت ولا أعددت لها
جوابا. فذكرت قول أبي عبد الله - عليه السلام - وهو يقول لي: يا هشام لا تزال مؤيدا
بروح القدس ما نصرتنا بلسانك. فعلمت أني لا أخذل وعن لي الجواب في الحال
فقلت له: لم يكن من أحدهما خطأ وكانا جميعا محقين ولهذا نظير قد نطق به القرآن
في قصة داود - عليه السلام - حيث يقول الله جل اسمه: (وهل أتاك نبأ الخصم إذ
تسوروا المحراب) إلى قوله: (خصمان بغى بعضنا على بعض) (1) فأي الملكين
كان مخطئا وأيهما كان مصيبا أم تقول إنهما كانا مخطئين فجوابك في ذلك جوابي
بعينه؟.
فقال يحيى: لست أقول إن الملكين أخطئا بل أقول إنهما أصابا، وذلك أنهما

(1) - ص / 21 - 22.
49

لم يختصما في الحقيقة ولا اختلفا في الحكم وإنما أظهرا ذلك لينبها داود - عليه السلام -
على الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه.
قال: فقلت له: كذلك علي - عليه السلام - والعباس لم يختلفا في الحكم ولا
اختصما في الحقيقة وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على غلطه
ويوقفاه على خطئه ويدلاه على ظلمه لهما في الميراث، ولم يكونا في ريب من أمرهما
وإنما كان ذلك منهما على حد ما كان من الملكين فلم يحر جوابا واستحسن ذلك
الرشيد.
فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه أيضا قال: أحب الرشيد أن يسمع كلام هشام
ابن الحكم مع الخوارج فأمره بإحضاره وإحضار عبد الله بن يزيد الأباضي وجلس
بحيث يسمع كلامهما ولا يرى القوم شخصه، وكان بالحضرة يحيى بن خالد. فقال
يحيى لعبد الله بن يزيد: سل أبا محمد - يعني هشاما - عن شئ. فقال هشام: إنه
لا مسألة للخوارج علينا. فقال عبد الله بن يزيد: وكيف ذلك؟ فقال هشام:
لأنكم قوم قد اجتمعتم معنا على ولاية رجل وتعديله والاقرار بإمامته وفضله ثم
فارقتمونا في عداوته والبراءة منه فنحن على اجتماعنا وشهادتكم لنا، وخلافكم
علينا غير قادح في مذهبنا، ودعواكم غير مقبولة علينا إذ الاختلاف لا يقابل
الاتفاق وشهادة الخصم لخصمه مقبولة وشهادته عليه مردودة.
فقال يحيى بن خالد: لقد قربت قطعه يا أبا محمد ولكن جاره شيئا فإن أمير
المؤمنين أطال الله بقاه يحب ذلك. قال: فقال هشام: أنا أفعل ذلك غير أن الكلام
ربما انتهى إلى حد يغمض ويدق على الأفهام فيعاند أحد الخصمين أو يشتبه
عليه، فإن أحب الإنصاف فليجعل بيني وبينه واسطة عدلا إن خرجت من
الطريق ردني إليه وإن جار في حكمه شهد عليه. فقال عبد الله بن يزيد: لقد دعا
50

أبو محمد إلى الإنصاف.
فقال هشام: فمن يكون هذا الواسطة وما يكون مذهبه أيكون من أصحابي
أو من أصحابك أو مخالفا للملة أو لنا جميعا؟ فقال عبد الله بن يزيد: اختر من
شئت فقد رضيت به. قال هشام: أما أنا فأرى أنه إن كان من أصحابي لم يؤمن
عليه العصبية لي وإن كان من أصحابك لم آمنه في الحكم علي، وإن كان مخالفا لنا
جميعا لم يكن مأمونا علي ولا عليك ولكن يكون رجلا من أصحابي ورجلا من
أصحابك لينظران فيما بيننا ويحكمان علينا بموجب الحق ومحض الحكم بالعدل.
فقال عبد الله بن يزيد: قد أنصفت يا أبا محمد وكنت أنتظر هذا منك، فأقبل
هشام على يحيى بن خالد فقال له: قد قطعته أيها الوزير ودمرت على مذاهبه كلها
بأهون سعي ولم يبق معه شئ واستغنيت عن مناظرته.
قال: فحرك الرشيد الستر فأصغى يحيى بن خالد فقال له: هذا متكلم
الشيعة وافق الرجل موافقة لم تتضمن مناظرة ثم ادعى عليه أنه قد قطعه وأفسد
عليه مذهبه فمره أن يبين عن صحة ما ادعاه على الرجل. فقال يحيى بن خالد
لهشام. إن أمير المؤمنين يأمرك أن تكشف عن صحة ما ادعيت على هذا الرجل.
قال: فقال هشام: إن هؤلاء القوم لم يزالوا معنا على ولاية أمير المؤمنين علي
ابن أبي طالب - عليه السلام - حتى كان من أمر الحكمين ما كان، فأكفروه بالتحكيم
وضللوه بذلك وهم الذين اضطروه إليه، والآن قد حكم هذا الشيخ وهو عماد
أصحابه مختارا غير مضطر رجلين مختلفين في مذهبهما أحدهما يكفره والآخر
يعدله، فإن كان مصيبا في ذلك فأمير المؤمنين - عليه السلام - أولى بالصواب منه، وإن
كان مخطئا كافرا فقد أراحنا من نفسه بشهادته بالكفر عليها، والنظر في كفره
وإيمانه أولى من النظر في إكفاره عليا - عليه السلام -، قال: فاستحسن ذلك الرشيد
وأمر بصلته وجائزته.
51

فصل
قال الشيخ أدام الله عزه: وهشام بن الحكم كان من أكبر أصحاب أبي
عبد الله جعفر بن محمد - عليه السلام -، وكان فقيها، وروى حديثا كثيرا وصحب أبا
عبد الله - عليه السلام - وبعده أبا الحسن موسى - عليه السلام -، وكان يكنى أبا محمد وأبا
الحكم، وكان مولى بني شيبان، وكان مقيما بالكوفة وبلغ من مرتبته وعلوه عند أبي
عبد الله جعفر بن محمد - عليه السلام - أنه دخل عليه بمنى وهو غلام أول ما اختط
عارضاه وفي مجلسه شيوخ الشيعة كحمران بن أعين وقيس الماصر ويونس بن
يعقوب وأبي جعفر الأحول وغيرهم فرفعه على جماعتهم وليس فيهم إلا من هو
أكبر سنا منه.
فلما رأى أبو عبد الله - عليه السلام - أن ذلك الفعل قد كبر على أصحابه قال:
هذا ناصرنا بقلبه ولسانه ويده، وقال له أبو عبد الله - عليه السلام - وقد سأله عن أسماء
الله تعالى واشتقاقها فأجابه ثم قال له: أفهمت يا هشام فهما تدفع به أعداءنا
الملحدين مع الله عز وجل؟ قال هشام: نعم، قال أبو عبد الله - عليه السلام -: نفعك
الله به وثبتك عليه. قال هشام: فوالله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي
هذا.
قال الشيخ أيده الله: وقد روى عن أبي عبد الله - عليه السلام - ثمانية رجال كل
واحد منهم يقال له هشام، فمنهم أبو محمد هشام بن الحكم مولى بني شيبان هذا،
ومنهم هشام بن سالم مولى بشر بن مروان، وكان من سبي الجوزجان، ومنهم هشام
الكندي الذي يروي عنه علي بن الحكم، ومنهم هشام المعروف بأبي عبد الله البزاز
ومنهم هشام الصيداني، ومنهم هشام الخياط، ومنهم هشام بن يزيد، ومنهم
هشام بن المثنى الكوفي.
52

فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه، قال له رجل من أصحاب الحديث ممن
يذهب إلى مذهب الكرابيسي: ما رأيت أجسر من الشيعة فيما يدعونه من المحال
وذلك أنهم زعموا أن قول الله سبحانه * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا) * (1) نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين مع ما في
ظاهر الآية من أنها نزلت في أزواج رسول الله. وذلك أنك إذا تأملت الآية من
أولها إلى آخرها وجدتها منتظمة لذكر الأزواج خاصة ولم نجد لمن ادعوها له ذكرا.
فقال له الشيخ أيده الله: أجسر الناس على ارتكاب الباطل وأبهتهم
وأشدهم إنكارا للحق وأجهلهم، من قام مقامك في هذا الاحتجاج ودفع ما عليه
الاجماع والاتفاق، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن الآية من القرآن قد يأتي أولها في
شئ وآخرها في غيره ووسطها في معنى وأولها في سواه وليس طريق الاتفاق في
معنى إحاطة وصف الكلام بالآي.
وقد نقل المخالف والموافق أن هذه الآية نزلت في بيت أم سلمة رضي الله
تعالى عنها ورسول الله في البيت ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام -
وقد جللهم بعباءة خيبرية وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي. فأنزل الله عز وجل: * (إنما
يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * فتلاها
رسول الله (ص) فقالت له أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله ألست من أهل
بيتك؟ فقال لها: إنك إلى خير ولم يقل إنك من أهل بيتي.
حتى روى أصحاب الحديث أن عمر سئل عن هذه الآية فقال: سلوا عنها

(1) - الأحزاب / 33.
53

عائشة. فقالت عائشة: إنها نزلت في بيت أختي أم سلمة فاسألوها عنها فإنها
أعلم بها مني. فلم يختلف أصحاب الحديث من الناصبة ولا أصحاب الحديث
من الشيعة في خصوصها فيمن عددناه، وحمل القرآن في التأويل على ما جاء به
الأثر أولى من حمله على الظن والترجيم.
مع أن الله سبحانه قد دل على صحة ذلك بمتضمن الآية حيث يقول جل
وعلا: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) * وإذهاب الرجس لا
يكون إلا بالعصمة من الذنوب لأن الذنوب من أرجس الرجس والخبر عن الإرادة
هنا إنما هو خبر عن وقوع الفعل خاصة دون الإرادة التي يكون بها لفظ الأمر أمرا
لا سيما على ما أذهب إليه في وصف القديم بالإرادة، وأفرق بين الخبر عن الإرادة
هاهنا والخبر عن الإرادة في قوله. * (يريد الله ليبين لكم) * (1) وقوله: * (يريد الله بكم
اليسر ولا يريد بكم العسر) * (2) إذ لو جرت مجرى واحدا لم يكن لتخصيص أهل
البيت بها معنى إذ الإرادة التي يقتضي الخبر والبيان يعم الخلق كلهم على وجهها
في التفسير ومعناها، فلما خص الله أهل البيت - عليهم السلام - بإرادة إذهاب الرجس
عنهم دل على ما وصفناه من وقوع إذهابه عنهم وذلك موجب للعصمة على ما
ذكرناه، وفي الاتفاق على ارتفاع العصمة عن الأزواج دليل على بطلان مقال من
زعم أنها فيهن.
مع أن من عرف شيئا من اللسان وأصله، لا يرتكب هذا القول ولا توهم
صحته وذلك أنه لا خلاف بين أهل العربية أن جمع المذكر بالميم وجمع المؤنث -
بالنون وأن الفصل بينهما بهاتين العلامتين، ولا يجوز في لغة القوم وضع علامة

(1) - النساء / 26.
(2) - البقرة / 185.
54

المؤنث على المذكر ولا وضع علامة المذكر على المؤنث ولا استعملوا ذلك في
حقيقة ولا مجاز ولما وجدنا الله سبحانه قد بدأ في هذه الآية بخطاب النساء فأورد
علامة جمعهن من النون في خطابهن فقال: * (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء
إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول) * إلى قوله: * (وأطعن الله ورسوله) * (1) ثم عدل
بالكلام عنهن بعد هذا الفصل إلى جمع المذكر فقال. * (إنما يربد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * فلما جاء بالميم وأسقط النون علمنا أنه لم
يتوجه هذا القول إلى المذكور الأول بما بيناه من أصل العربية وحقيقتها، ثم رجع
بعد ذلك إلى الأزواج، فقال: * (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن
الله كان لطيفا خبيرا) * (2).
فدل ذلك على إفراد من ذكرناه من آل محمد - عليهم السلام - بما علقه عليهم من
حكم الطهارة الموجبة للعصمة وجليل الفضيلة.
وليس يمكنكم معشر المخالفين أن تدعوا أنه كان في الأزواج مذكورا رجل
غير النساء وذكر ليس برجل فيصح التعلق منكم بتغليب المذكر على المؤنث إذا
كان في الجمع ذكر وإذا لم يمكن ادعاء ذلك وبطل أن يتوجه إلى الأزواج فلا غير
لهن توجهت إليه إلا من ذكرناه ممن جاء فيه الأثر على ما بيناه.

(1) - الأحزاب / 32.
(2) - الأحزاب / 34.
55

فصل
ومن كلامه أيضا في الدلالة على أن أمير المؤمنين - عليه السلام - لم يبايع أبا بكر،
قال الشيخ أدام الله عزه: قد أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين - عليه السلام - تأخر عن
بيعة أبي بكر فالمقلل يقول: كان تأخره ثلاثة أيام، ومنهم من يقول: تأخر حتى ماتت
فاطمة - عليها السلام - ثم بايع بعد موتها، ومنهم من يقول: تأخر أربعين يوما، ومنهم
من يقول: تأخر ستة أشهر والمحققون من أهل الإمامة يقولون: لم يبايع ساعة قط
فقد حصل الاجماع على تأخره عن البيعة ثم اختلفوا في بيعته بعد ذلك على ما
قدمنا به الشرح.
فمما يدل على أنه لم يبايع البتة أنه ليس يخلو تأخره من أن يكون هدى
وتركه ضلالا أو يكون ضلالا وتركه هدى وصوابا، أو يكون صوابا وتركه صوابا،
أو يكون خطأ وتركه خطأ، فلو كان التأخر ضلالا وباطلا، لكان أمير المؤمنين
- عليه السلام - قد ضل بعد النبي (ص) بترك الهدى الذي كان يجب المصير إليه وقد
أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين - عليه السلام - لم يقع منه ضلال بعد النبي (ص) ولا في
طول زمان أبي بكر وأيام عمر وعثمان وصدرا من أيامه حتى خالفت الخوارج عند
التحكيم وفارقت الأمة، وبطل أن يكون تأخره عن بيعة أبي بكر ضلالا.
وإن كان تأخره هدى وصوابا وتركه خطأ وضلالا فليس يجوز أن يعدل عن
الصواب إلى الخطأ ولا عن الهدى إلى الضلال لا سيما والاجماع واقع على أنه لم
يظهر منه ضلال في أيام الثلاثة الذين تقدموا عليه، ومحال أن يكون التأخر خطأ
وتركه خطأ للاجماع على بطلان ذلك أيضا ولما يوجبه القياس من فساد هذا المقال.
56

وليس يصح أن يكون صوابا وتركه صوابا لأن الحق لا يكون في جهتين
مختلفتين ولا على وصفين متضادين،. ولأن القوم المخالفين لنا في هذه المسألة
مجمعون على أنه لم يكن إشكال في جواز الاختيار وصحة إمامة أبي بكر
وإنما الناس بين قائلين قائل من الشيعة يقول: إن إمامة أبي بكر كانت
فاسدة فلا يصح القول بها أبدا. وقائل من الناصبة يقول: إنها كانت صحيحة ولم
يكن على أحد ريب في صوابها إذ جهة استحقاق الإمامة هو ظاهر العدالة
والنسب والعلم والقدرة على القيام بالأمور ولم تكن هذه الأمور تلتبس على أحد
في أبي بكر عندهم. وعلى ما يذهبون إليه فلا يصح مع ذلك أن يكون المتأخر عن
بيعته مصيبا أبدا لأنه لا يكون متأخرا لفقد الدليل بل لا يكون متأخرا لشبهة وإنما
يتأخر إذا ثبت أنه تأخر للعناد.
فثبت بما بيناه أن أمير المؤمنين - عليه السلام - لم يبايع أبا بكر على شئ من
الوجوه كما ذكرناه وقدمناه وقد كانت الناصبة غافلة عن هذا الاستخراج في
موافقتها على أن أمير المؤمنين - عليه السلام - تأخر عن البيعة وقتا ما، ولو فطنت له
لسبقت بالخلاف فيه عن الاجماع وما أبعد أنهم سيرتكبون ذلك إذا وقفوا على
هذا الكلام غير أن الاجماع السابق لمرتكب ذلك يحجه ويسقط قوله فيهون قصته
ولا يحتاج معه إلى الاكثار
57

فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: قال أبو الحسن علي بن ميثم رحمه الله
لرجل نصراني: لم علقت الصليب في عنقك؟ قال: لأنه شبيه الشئ الذي صلب
عليه عيسى - عليه السلام -. قال أبو الحسن: فكان عيسى - عليه السلام - يحب أن يمثل به؟
قال: لا. قال: فأخبرني عن عيسى - عليه السلام - أكان يركب الحمار ويمضي عليه في
حوائجه؟ قال: نعم. قال: أفكان يحب بقاء الحمار حتى يبلغ عليه حاجته؟ قال:
نعم، قال: فتركت ما كان يحب عيسى بقاه وما كان يركبه في حياته بمحبة منه
وعمدت إلى ما حمل عليه عيسى - عليه السلام - بالكره منه وركبه بالبغض له فعلقته في
عنقك، فقد كان ينبغي على هذا القياس أن تعتق الحمار في عنقك وتطرح
الصليب وإلا فقد تجاهلت!
فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: لما أراد رسول الله (ص) الاختفاء من قريش
والهرب منهم إلى الشعب لخوفه على نفسه، استشار أبا طالب رحمة الله عليه في
ذلك فأشار به عليه، ثم تقدم أبو طالب إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - أن يضطجع
على فراش رسول الله (ص) ليقيه بنفسه فأجابه إلى ذلك، فلما نامت العيون جاء أبو
طالب ومعه أمير المؤمنين - عليه السلام - فأقام رسول الله (ص) وأضجع أمير المؤمنين
- عليه السلام - مكانه فقال أمير المؤمنين - عليه السلام - يا أبتاه إني مقتول. فقال أبو طالب
58

رحمه الله:
إصبرن يا بني فالصبر أحجى * كل حي مصيره لشعوب
قد بذلناك والبلاء شديد * لفداء النجيب وابن النجيب
لفداء الأغر ذي الحسب * الثاقب والباع والفناء الرحيب
إن يصبك المنون فالنبل يبرى * فمصيب منها وغير مصيب
كل حي وإن تملى بعيش * آخذ من سهامها بنصيب
قال: فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -:
أتأمرني بالصبر في نصر أحمد * ووالله ما قلت الذي قلت جازعا
ولكنني أحببت إظهار نصرتي * وتعلم أني لم أزل لك طائعا
وسعيي لوجه الله في نصر أحمد * نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا
وقال أمير المؤمنين - عليه السلام - بعد ذلك:
وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى * ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله الخلق إذ مكروا به * فنجاه ذو الطول الكريم من المكر
وبات رسول الله بالشعب آمنا * وذلك في حفظ الإله وفي ستر
وبت أراعيهم وهم ينبؤنني * وقد صبرت نفسي على القتل والأسر
أردت به نصر الإله تبتلا * وأضمرته حتى أوسد في قبري
قال الشيخ أدام الله عزه: وأكثر الأخبار جاءت بمبيت أمير المؤمنين
- عليه السلام - على فراش رسول الله (ص) في ليلة مضي رسول الله (ص) إلى الغار وهذا الخبر
59

وجدته في ليلة مضيه إلى الشعب، ويمكن أن يكون قد بات - عليه السلام - مرتين على
فراش الرسول (ص) وفي مبيته - عليه السلام - حجج على أهل الخلاف من وجوه شتى:
أحدها في قولهم إن أمير المؤمنين آمن برسول الله (ص) وهو ابن خمس سنين أو
سبع سنين أو تسع سنين ليبطلوا بذلك فضيلة إيمانه ويقولوا إنه وقع منه على
سبيل التلقين دون المعرفة واليقين، إذ لو كانت سنه عند دعوة رسول الله (ص) على ما
ذكروا له، لم يكن أمره يلتبس عند مبيته على الفراش وتشبهه برسول الله (ص) حتى
يتوهم أنه هو فيرصدونه إلى وقت السحر لأن جسم الطفل لا يلتبس بجسم
الرجل الكامل، فلما التبس على قريش الأمر في ذلك حتى ظنوا أن عليا - عليه السلام -
رسول الله (ص) بائتا على حاله في مكانه، وكان هذا في أول الدعوة وابتدائها وعند
مضيه إلى الشعب، دل على أن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان عند إجابته للرسول (ص)
بالغا كاملا في صورة الرجال ومثلهم في الجسم ومقاربهم. وإن كانت الحجج على
صحة إيمانه وفضيلته وأنه لم يقع إلا بالمعرفة، لا يفتقر إلى ذكر هذا وإنما أوردناه
استظهارا.
ومنها أن الله سبحانه قص علينا في محكم كتابه قصة إسماعيل في تعبده
بالصبر على ذبح أبيه إبراهيم - عليه السلام - له ثم مدحه بذلك وعظمه وقال: * (إن هذا
لهو البلاء المبين) * (1) وقال رسول الله (ص) في افتخاره بآبائه: أنا ابن الذبيحين يعني
إسماعيل - عليه السلام - و عبد الله، ولعبد الله في الذبح قصة مشهورة يطول شرحها
يعرفها أهل السير وأن أباه عبد المطلب فداه بمائة ناقة حمراء.
وإذا كان ما أخبر الله تعالى به من محنة إسماعيل - عليه السلام - بالذبح يدل على
أجل فضيلة وأفخر منقبة، احتجنا أن ننظر في حال مبيت أمير المؤمنين - عليه السلام -

(1) - الصافات / 106.
60

على الفراش وهل يقارب ذلك أو يساويه فوجدناه يزيد في الظاهر عليه، وذلك أن
إبراهيم - عليه السلام - قال لابنه إسماعيل - عليه السلام -: * (إني أرى في المنام أني أذبحك
فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) * (1)
فاستسلم لهذه المحنة مع علمه بإشفاق الوالد على الولد ورأفته به ورحمته له وأن
هذا الفعل لا يكاد يقع من الوالد بولده بل لم يقع فيما سلف ولم يتوهم فيما
يستقبل، وكان هذا أمرا يقوى في ظن إسماعيل أن المقال مع أبيه خرج مخرج
الامتحان له في الطاعة دون تحقق العزم على إيقاع الفعل فيزول كثير من الخوف
معه وترجى السلامة عنده.
وأمير المؤمنين - عليه السلام - دعاه أبو طالب رحمه الله إلى المبيت على فراش
النبي (ص) وفدائه بنفسه وليس له من الطاعة عليه ما للأنبياء - عليهم السلام - على البشر،
ولم يأمره بذلك عن وحي من الله تعالى كما أمر إبراهيم - عليه السلام - ابنه وأسند أمره إلى
الوحي، ومع علم أمير المؤمنين - عليه السلام - أن قريشا أغلظ الناس على رسول
الله (ص) وأقساهم قلبا وما يعرفه كل عاقل من الفرق بين الاستسلام للعدو
المناصب والمبغض المعاند الذي يريد أن يشفي نفسه ولا يبلغ الغاية في
شفائها إلا بنهاية التنكيل وغاية الأذى بضروب الآلام، وبين الاستسلام للولي
المحب والوالد المشفق الذي يغلب في الظن أن إشفاقه يحول بينه وبين إيقاع
الضرر بولده، إما مع طاعة الله تعالى بالمسألة والمراجعة أو بارتكاب المعصية
ممن يجوز عليه ارتكاب المعاصي أو بحمل ذلك منه على ما قدمناه من
الاختبار والتورية في الكلام " ليصح له مطلوبه من الامتحان.
وإذا كانت محنة أمير المؤمنين - عليه السلام - أعظم من محنة إسماعيل

(1) - الصافات / 102.
61

- عليه السلام - بما كشفناه ثبت أن الفضل الذي حصل به لأمير المؤمنين - عليه السلام -
يرجح على كل فضيلة حصلت لأحد من الصحابة وأهل البيت - عليهم السلام - وبطل
قول من رام المفاضلة بينه وبين أبي بكر من العامة والمعتزلة الناصبة له - عليه السلام -
إذ قد حصل له - عليه السلام - فضل يزيد على الفضل الحاصل للأنبياء.
ولعل قائلا يقول عند سماع هذا: كيف يسوغ لكم ما ادعيتموه في هذه
المحنة وتعظيمها على محنة إسماعيل - عليه السلام - وذلك نبي وهذا عندكم وصي
نبي وليس يجوز أن يكون من ليس بنبي أفضل من أحد الأنبياء - عليهم السلام -.
فإنه يقال لهم: ليس في تفضيلنا هذه المحنة على محنة إسماعيل - عليه السلام -
تفضيل لأمير المؤمنين - عليه السلام - على أحد الأنبياء - عليهم السلام -، وذلك أن عليا
- عليه السلام - وإن حصل له فضل لم يجزه نبي فيما مضى، فإن الذي حازته الأنبياء من
الفضل الذي لم يحصل منه شئ لأمير المؤمنين - عليه السلام - يوجب فضلهم عليه
ويمنع من المساواة بينه وبينهم أو تفضيله عليهم كما بيناه، وبعد فإن الحجة إذا
قامت على فضل أمير المؤمنين - عليه السلام - على نبي من الأنبياء ولاح على ذلك
البرهان، وجب علينا القول به وترك الخلاف فيه ولم يوحشنا منه خلاف العامة
الجهلاء.
وليس في تفضيل سيد الوصيين وإمام المتقين وأخي رسول رب العالمين
سيد المرسلين ونفسه بحكم التنزيل وناصره في الدين وأبي ذريته الأئمة الراشدين
الميامين على بعض الأنبياء المتقدمين، أمر يحيله العقل ولا يمنع منه السنة ولا يرده
القياس ولا يبطله الاجماع إذ عليه جمهور شيعته، وقد نقلوا ذلك عن الأئمة من
ذريته - عليهم السلام - وإذا لم يكن فيه إلا خلاف الناصبة والمستضعفين ممن يتولاه لم
يمنع من القول به.
62

فإن قال قائل: إن محنة إسماعيل - عليه السلام - أجل قدرا من محنة أمير المؤمنين
- عليه السلام - وذلك أن أمير المؤمنين - عليه السلام - قد كان عالما بأن قريش إنما تريد غيره
وليس غرضها قتله وإنما قصدها لرسول الله (ص) دونه فكان على ثقة من السلامة
وإسماعيل - عليه السلام - كان متحققا لحلول الذبح به من حيث امتثل الأمر الذي نزل
الوحي به فشتان بين الأمرين.
قيل له: إن أمير المؤمنين - عليه السلام - وإن كان قد كان عالما بأن قريشا إنما
قصدت رسول الله (ص) دونه، فقد كان يعلم بظاهر الحال وما يوجب غالبا الظن
من العادة الجارية شدة غيظ قريش على من فوت غرضهم في مطلوبهم ومن حال
بينهم وبين مرادهم من عدوهم ومن لبس عليهم الأمر حتى ضلت حيلتهم
وخابت آمالهم من أنهم يعاملونه بأضعاف ما كان في أنفسهم أن يعاملوا صاحبه
لتزايد حقنهم وحقدهم واعتراء الغضب لهم، فكان الخوف منه عند هذه الحال
أشد من خوف الرسول (ص)، واليأس من رجوعهم عن إيقاع الضرر به أقوى من
يأس النبي (ص).
وهذا هو المعروف الذي لا يختلف فيه اثنان لأنه قد كان يجوز منهم عند
ظفرهم بالنبي (ص) أن تلين قلوبهم له ويتعطفوا للنسب والرحم التي بينهم وبينه
ويلحقهم من الرقة عليه ما يلحق الظافر بالمظفور به فيبرد قلوبهم ويقل غيظهم
وتسكن نفوسهم، وإذا فقدوا المأمول من الظفر به وعرفوا وجه الحيلة عليهم في
فوتهم غرضهم وعلموا الله بعلي - عليه السلام - تم ذلك، ازدادت الدواعي لهم إلى
الإضرار به وتوفرت عليه وكانت البلية أعظم على ما شرحناه.
على أن إسماعيل - عليه السلام - قد كان يعلم أن قتل الوالد لولده لم يجر به عادة
من الأنبياء والصالحين ولا وردت به فيما مضى عبادة فكان يقوى في نفسه أنه على
63

ما قدمناه من الاختبار ولو لم يقع له ذلك لجوز نسخه لغرض توجيه الحكمة أو
كان يجوز أن يكون في باطن الكلام خلاف ما في ظاهره أو يكون تفسير المنام بضد
حقيقته، أو يحول الله عز وجل بين أبيه وبين مراده بالاخترام أو شغل يعوقه عنه.
ولا محالة أنه قد خطر بباله ما فعله الله من فدائه وإعفائه عن الذبح ولو لم يخطر
ذلك لكان مجوزا عنده، إذ لو لم يجز في عقله لما وقع من الحكيم سبحانه وعلى أنه
متى تيقن الفعل تيقنه من مشفق رحيم. وإذا تيقنه أمير المؤمنين - عليه السلام - تيقنه
من عدو قاس حقود، فكان الفصل بين الأمرين لا خفاء به عند ذوي العقول.
فإن قال قائل منهم في الجواب الأول: إذا كنتم فضلتم عليا على إسماعيل
في محنة الاستسلام للقتل ولم يمنع ذلك من فضل إسماعيل - عليه السلام - عليه في أمور
توجب التفاوت بينه وبينه في الفضل فما أنكرتم أن يكون علي أفضل من أبي بكر
بهذه الحال ولا يمنع ذلك من فضل أبي بكر عليه في طاعات أخر.
قيل له: الفصل بين الأمرين واضح، وذلك أنا إنما فضلنا
إسماعيل - عليه السلام - على أمير المؤمنين - عليه السلام - مع اختصاصه بهذه الفضيلة منه،
لإحاطة العلم منا بفضل النبوة لإسماعيل - عليه السلام - الذي لم يحصل لأمير المؤمنين
- عليه السلام - مثله ولا حصل له معنى يوازيه ولفضيلة الوحي بنزول الملائكة وغير ذلك، فلو
كان لأبي بكر فضل يوازي هذه الفضيلة أو يزيد عليها لوجب أن يكون معروفا،
فلما وجدنا أبا بكر عريا من فضيلة المبيت على الفراش وعريا من فضيلة الجهاد
ووجدنا كل فضل تدعيه أصحابه له قد شاركه فيه أمير المؤمنين - عليه السلام - وزاد
عليه في معناه، بطل مقال من أوجب الشك في حاله على ما ذكرناه.
ولو جاز ذلك لقائل يقترحه بغير برهان، لجاز لآخر أن يوجب الشك في
فضل بعض أمة النبي (ص) على كثير من الأنبياء - عليهم السلام - وإن لم يظهر منهم فعل
64

يقارب النبوة ويعتمد في ذلك على المبهم من القول والشك في البواطن دون
الظواهر والموجود من الأعمال، ولوجب أن لا يقطع على فضل أحد على غيره في
الظاهر، لأنا لا نأمن أن يكون مع المفضول في الظاهر أعمال باطنة توفي في الفضل
على ما عرفناه، وفي ذلك أنه يجب على من خالفنا أن لا يأمن أن يكون قد كان في
بعض الأعراب أو غيرهم ممن صحب النبي (ص) وقتا ما من يزيد في فضله عند الله على
أبي بكر وعمر وعثمان، وهذا نقض مذاهبهم بأسرها وهو لازم لهم على ما أوردوه
من السؤال.
فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه مرسلا عن علي بن عاصم عن عطاء بن السائب
عن ميسرة أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - مر برحبة القصارين
بالكوفة فسمع رجلا يقول: لا والذي احتجب بسبع طباق، قال: فعلاه بالدرة
وقال له: ويلك إن الله لا يحجبه شئ عن شئ، فقال الرجل. فأكفر عن يميني يا
أمير المؤمنين؟ فقال: لا، إنك حلفت بغير الله تعالى.
قال الشيخ أدام الله عزه: وفي هذا الحديث حجة على المشبهة، وحجة على
مذهبي في المعرفة والإرجاء وقولي في ذبائح أهل الكتاب، فاقا المشبهة فإنها زعمت
أن الله تعالى في السماء دون الأرض وأنه محتجب عن خلقه بالسماوات السبع، وفي
دليل العقل على أن الذي يحويه مكان ويستره حجاب لا يكون إلا جسما أو
جوهرا والجسم محدث والبرهان قائم على قدم الله سبحانه، ما يمنع من التشبيه
ويفسده. وقول الله سبحانه: * (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) * (1) وقول

(1) - الشورى / 11.
65

أمير المؤمنين - عليه السلام - بصريحه يفسد ذلك أيضا على ما تقدم به الشرح.
وأما قولي في المعرفة فإنني أقول: إنه ليس يصح أن يعرف الله تعالى من وجه
ويجهل من وجه وإنما يصح ذلك في المحسوسات فتعرف بالحس وتجهل حقائقها
لتعلق العلم بها بالاستنباط.
وأما مذهبي في الإرجاء فإنني أقول: لا طاعة مع كافر لأنه لا يعرف ربه
وإذا لم يعرفه لم تصح منه طاعة إذ الفعل إنما يكون طاعة بقصد الفاعل به إلى
المطاع، وإذا كان جاهلا بالمطاع لم يصح منه توجيه الفعل إليه، وفي قول أمير
المؤمنين - عليه السلام - للحالف لا كفارة عليك لأنك لم تحلف بالله دليل على صحة ما
ذهبت إليه وبطلان قول من خالفني في هذا الباب من الفرق كلما. وأصحابي
خاصة الذين يثبتون للكافر طاعات يزعمون أن الله يثيبه عليها في الدنيا.
وأما قولي في ذبائح أهل الكتاب فإنني أحرمها لقول الله تعالى ذكره: * (ولا
تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم
ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) * (1) وإذا ثبت أن اليهودي لا يعرف الله
سبحانه لاعتقاده أن الله عز وجل أبد شرع موسى - عليه السلام - وأكذب محمدا (ص)
وكفره بمرسل محمد (ص) واعتقاده أن الذي أرسله الشيطان دون الرحمن، وكذلك
النصراني لا يعرف الله لأنه يعتقد أن الله جل اسمه ثالث ثلاثة وأنه ثلاثة أقانيم
جوهر واحد وأن المسيح ابنه اتحد به، وكفرهم بمن أرسل محمدا - (ص) واعتقادهم أنه
جاء من قبل الشيطان مع أن أكثر اليهود مشبهة مجبرة يزعمون أن إلههم شيخ كبير
أبيض الرأس واللحية ويعتمدون في ذلك على ما زعموا أنهم وجدوه في بعض
كتب الأنبياء أنه قال: صعدت إلى عتيق الأيام (الأنام ن خ) فوجدته جالسا على

(1) - الأنعام / 121.
66

كرسي وحوله الملائكة فرأيته أبيض الرأس واللحية.
، وإذا ثبت أن القوم لا يعرفون الله تعالى، ثبت أن الذي يظهر منهم من
التسمية ليس يتوجه إلى الله تعالى وأن جهلهم بالله تعالى يوجه الاسم إلى ما
يعتقدونه إلها وذلك غير الله في الحقيقة، وإذا لم يقع منهم التسمية لله في الحقيقة لم
تحل ذبائحهم.
والذي يخالفنا في هذا الباب من أصحابنا لا يعرف معاني هذا الكلام ولا
يعمل فيما يذهب إليه على الواضح من الأخبار وإنما يعتمد في ذلك على أحاديث،
شواذ وأخر لها معاني وتأويلات، ولم أقصد للنقض عليهم فأستقصي الكلام وإنما
ذكرت هذه النكتة لما اقتضاه شرح الحديث الذي قدمناه.
فصل
قال الشيخ أدام الله عزه: حكى أبو القاسم الكعبي في كتاب الغرر عن أبي
الحسن الخياط، قال: حدثني أبو مخالد قال: مر أبو عمرو بن العلاء بعمرو بن عبيد
وهو يتكلم في الوعيد فقال - يعني أبا عمرو -: إنما أتيتم من العجمة لأن العرب لا
ترى ترك الوعيد ذما وإنما ترى ترك الوعد ذما وأنشد:
وإني وإن أوعدته ووعدته * لأخلف إيعادي وأنجز موعدي
قال: فقال له عمر أفليس يسقى تارك الإيعاد مخلفا؟ قال. بلى. قال:
فنسمي الله عز وجل مخلفا إذا لم يفعل ما أوعد؟. قال: لا قال: فقد أبطلت
شاهدك.
67

قال الشيخ أدام الله عزه: ووجدت أبا القاسم قد اعتمد على هذا الكلام
واستحسنه ورأيته قد وضعه في أماكن شتى من كتبه واحتج به على أصحابنا
الراجئة. فيقال له: إن عمرو بن عبيد ذهب عن موضع الحجة في الشعر وغالط أبا
عمرو بن العلاء أو جهل مواضع العمدة من كلامه، وذلك أنه إذا كانت العرب
والعجم وكل عاقل يستحسن العفو بعد الوعيد ولا يعلقون بصاحبه ذما فقد بطل
أن يكون العفو من الله تعالى مع الوعيد قبيحا، لأنه لو جاز أن يكون منه قبيحا ما
هو حسن في الشاهد عند كل عاقل، لجاز أن يكون منه حسنا ما هو قبيح في
الشاهد عند كل عاقل، وهذا نقض العدل، والمصير إلى قول أهل التجوير والجبر.
مع أنه إذا كان العفو مستحسنا مع الخلف فهو أولى بأن يكون حسنا مع
عدم الخلف ونحن إذا قلنا إن الله سبحانه يعفو مع الوعيد فإنما نقول بأنه توعد
بشرط يخرجه عن الخلف في وعيده لأنه حكيم لا يعبث.
وإذا كان حسن العفو في الشاهد منا يغمر قبح الخلف حتى يسقط الذم
عليه وهو لو حصل في موضع لم يجر به إلى العفو أو ما حصل في معناه من الحسن
لكان الذم عليه قائما ويجعل وجود الخلف كعدمه في ارتفاع اللوم عليه، فهو في
إخراج الشرط المشهور عن القبح إلى صفة الحسن وإيجاب الحمد والشكر
لصاحبه أخرى وأولى من إخراجه الخلف عما كان يستحق عليه من الذم عند
حسن العفو وأوضح في باب البرهان وهذا بين لمن تدبره.
وشئ آخر وهو أنا لا نطلق على كل تارك الإيعاد الوصف بأنه مخلف لأنه
نجوز أن يكون قد شرط في وعيده شرطا أخرجه به عن الخلف، وإن أطلقنا ذلك في
البعض فلإحاطة العلم أو عدم الدليل على الشرط فنحكم على الظاهر
وإن كان أبو عمرو بن العلاء أطلق القول في الجواب إطلاقا فإنما أراد به
68

الخصوص دون العموم وتكلم على معنى البيت الذي استشهد به.
وما رأيت أعجب من متكلم يقطع على حسن معنى مع مضامته لقبيح
ويجعل حسنه مسقطا للذم على القبيح ثم يمتنع من حسن ذلك المعنى مع تعريه
من ذلك القبيح ثم يفتخر بهذه النكتة عند أصحابه ويستحسنون احتجاجه
المؤدي إلى هذه المناقضة ولكن العصبية ترين القلوب!
فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: سئل أبو الحسن علي بن إسماعيل بن ميثم
رحمه الله فقيل له: لم صلى أمير المؤمنين - عليه السلام - خلف القوم؟ قال: جعلهم
بمثل سواري المسجد، قال السائل: فلم ضرب الوليد بن عقبة الحد بين يدي
عثمان؟ قال: لأن الحد له وإليه فإذا أمكنه إقامته أقامه بكل حيلة، قال: فلم أشار
على أبي بكر وعمر؟ قال. طلبا منه أن يحيى أحكام الله عز وجل ويكون دينه القيم
كما أشار يوسف - عليه السلام - على ملك مصر نظرا منه للخلق، ولأن الأرض والحكم
فيها إليه فإذا أمكنه أن يظهر مصالح الخلق فعل وإذا لم يمكنه ذلك بنفسه توصل
إليه على يدي من يمكنه طلبا منه لإحياء أمر الله تعالى.
قال: فلم قعد عن قتالهم؟. قال: كما قعد هارون بن عمران عن السامري
وأصحابه وقد عبدوا العجل، قال: أفكان ضعيفا؟ قال: كان كهارون - عليه السلام -
حيث يقول: * (يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) * (1) وكان كنوح
- عليه السلام -، إذ قال: * (إني مغلوب فانتصر) * (2) وكان كلوط - عليه السلام إذ قال: * (لو

(1) - الأعراف / 150.
(2) - القمر / 10.
69

أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) * (1) وكان كموسى وهارون - عليهما السلام - إذ قال
موسى: * (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) * (2) قال: فلم قعد في الشورى؟ قال:
اقتدارا منه على الحجة وعلما منه بأن القوم إن ناظروه وأنصفوا كان هو الغالب،
ولو لم يفعل وجبت الحجة عليه لاثه من كان له حق فدعي إلى أن يناظر فيه
فإن ثبت له الحجة سلم الحق إليه وأعطيه فإن لم يفعل بطل حقه وأدخل بذلك
الشبهة على الخلق، وقد قال - عليه السلام - يومئذ: اليوم أدخلت في باب إن أنصفت فيه
وصلت إلى حقي، يعني أن أبا بكر استبد بها يوم السقيفة ولم يشاوره.
قال: فلم زوج عمر بن الخطاب ابنته؟ قال: لإظهاره الشهادتين وإقراره
بفضل رسول الله (ص) وأراد بذلك استصلاحه وكفه عنه وقد عرض لوط - عليه السلام -
بناته على قومه وهم كفار ليردهم عن ضلالتهم فقال: * (هؤلاء بناتي هن أطهر
لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) * (3).
فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه مرسلا عن عمرو بن وهب اليماني قال: حدثني
عمرو بن سعد (4) عن محمد بن جابر عن أبي إسحاق السبيعي قال: قال شيخ من
أهل الشام حضر صفين مع أمير المؤمنين - عليه السلام - بعد انصرافهم من صفين:
أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء من الله وقدر؟ قال: نعم يا

(1) - هود / 80.
(2) - المائدة / 25.
(3) - هود / 78.
(4) - في نسخة عمرو بن كعب.
70

أخا أهل الشام والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ولا هبطنا واديا ولا
علونا تلعة إلا بقضاء من الله وقدره.
فقال الشامي: عند الله تعالى أحتسب عناي إذا يا أمير المؤمنين وما أظن أن
لي أجرا في سعيي إذا كان الله قضاه علي وقدره لي.
فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: إن الله قد أعظم لكم الأجر على مسيركم
وأنتم سائرون وعلى مقامكم وأنتم مقيمون ولم تكونوا في شئ من حالاتكم
مكرهين ولا إليها مضطرين ولا عليها مجبرين.
فقال الشامي: فكيف يكون ذلك والقضاء والقدر ساقانا وعنهما كان
مسيرنا وانصرافنا؟
فقال له أمير المؤمنين - عليه السلام -: ويحك يا أخا أهل الشام لعلك ظننت
قضاء لازما وقدرا حتما لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد
والوعيد والأمر من الله عز وجل والنهي منه، وما كان المحسن أولى بثواب
الاحسان من المسئ ولا المسئ أولى بعقوبة الذنب من المحسن. تلك مقالة عبدة
الأوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وشهداء الزور وقدرية هذه الأمة
ومجوسها، إن الله أمر عباده تخييرا ونهاهم تحذيرا وكلف يسيرا وأعطى على القليل
كثيرا ولم يطع مكرها ولم يعص مغلوبا ولم يكلف عسيرا ولم يرسل الأنبياء لعبا ولم
ينزل الكتب على العباد عبثا * (وما خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ذلك
ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) * (1).
قال الشامي: فما القضاء والقدر اللذان كان مسيرنا بهما وعنهما؟
قال. الأمر من الله تعالى في ذلك والحكم منه ثم تلا * (وكان أمر الله قدرا

(1) - ص / 27.
71

مقدورا) * (1).
فقام الشامي مسرورا فرحا لما سمع هذا المقال وقال: فرجت عني يا أمير
المؤمنين فرج الله عنك وأنشأ يقول:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته * يوم النشور من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا * جزاك ربك عنا فيه إحسانا
نفى الشكوك مقال منك متضح * وزاد ذا العلم والإيمان إيقانا
فلن أرى عاذرا في فعل فاحشة * ما كنت راكبها ظلما وعدوانا
كلا ولا قائلا يوما لداهية * أرداه فيها لدينا غير شيطانا
ولا أراد ولا شاء الفسوق لنا * قبل البيان لنا ظلما وعدوانا
نفسي الفداء لخير الخلق كلهم * بعد النبي علي الخير مولانا
أخي النبي ومولى المؤمنين معا * وأول الناس تصديقا وإيمانا
وبعل بنت رسول الله سيدنا * أكرم به وبها سرا وإعلانا
فصل
وأخبرني الشيخ أيده الله أيضا قال: قال أبو حنيفة: دخلت المدينة فأتيت
جعفر بن محمد فسلمت عليه وخرجت من عنده فرأيت ابنه موسى في دهليز
قاعدا في مكتب له وهو صبي صغير السن فقلت له: يا غلام أين يحدث الغريب
عندكم إذا أراد ذلك؟ فنظر إلي ثم قال: يا شيخ اجتنب شطوط الأنهار ومسقط
الثمار وفئ النزال وأفنية الدور والطرق النافذة والمساجد وارفع وضع بعد ذلك
حيث شئت.

(1) - الأحزاب / 38.
72

قال: فلما سمعت هذا القول منه نبل في عيني وعظم في قلبي فقلت له:
جعلت فداك ممن المعصية؟ فنظر إلي نظرا ازدراني به ثم قال: إجلس حتى أخبرك
فجلست بين يديه فقال: إن المعصية لا بد من أن تكون من العبد أو من خالقه أو
منهما جميعا، فإن كانت من الله تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده
ويأخذه بما لم يفعله، وإن كانت منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف عبده
الضعيف، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر وإليه توجه النهي وله حق
الثواب وعليه العقاب ووجبت له الجنة والنار
قال أبو حنيفة: فلما سمعت ذلك قلت: * (ذرية بعضها من بعض والله
سميع عليم) * (1).
قال الشيخ أيده الله: وفي ذلك يقول الشاعر
لم تخل أفعالنا اللاتي يذم بها * إحدى ثلاث معان حين نأتيها
إما تفرد بارينا بصنعتها * فيسقط اللوم عنا حين ننشيها
أو كان يشركنا فيها فيلحقه * ما سوف يلحقنا من لائم فيها
أو لم يكن لإلهي في جنايتها * ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها

(1) - آل عمران / 34.
73

فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه أيضا مرسلا قال: مر فضال بن الحسن بن
فضال الكوفي بأبي حنيفة وهو في جمع كثير يملي عليهم شيئا من فقهه وحديثه،
فقال لصاحب كان معه: والله لا أبرح أو أخجل أبا حنيفة، فقال صاحبه: إن أبا
حنيفة ممن قد علمت حاله ومنزلته وظهرت حجته، فقال: مه هل رأيت حجة
كافر علت على مؤمن، ثم دنا منه فسلم عليه فرد ورد القوم بأجمعهم السلام.
فقال: يا أبا حنيفة رحمك الله إن لي أخا يقول: إن خير الناس بعد
رسول الله (ص) علي بن أبي طالب وأنا أقول: إن أبا بكر خير الناس بعد
رسول الله (ص) وبعده عمر فما تقول أنت رحمك الله؟ فأطرق مليا ثم رفع رأسه
فقال: كفى بمكانهما من رسول الله كرما وفخرا أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره
فأي حجة أوضح لك من هذه؟ فقال له فضال: إني قد قلت ذلك لأخي، فقال.
والله لئن كان الموضع لرسول الله يردونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه
حق، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول الله (ص) لقد أساءا وما أحسنا إليه إذ رجعا
في هبتهما ونكثا عهدهما.
فأطرق أبو حنيفة ساعة، ثم قال قل له: لم يكن لهما ولا له خاصة ولكنهما
نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما،
فقال له فضال: قد قلت له ذلك، فقال: أنت تعلم أن النبي (ص) مات عن تسع
حشايا فنظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في
شبر فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك، وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان
رسول الله (ص) وفاطمة ابنته تمنع الميراث؟ فقال أبو حنيفة: يا قوم نحوه عني فإنه
والله رافضي خبيث.
74

فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه على عبد الله بن كلاب، قال الشيخ أيده الله:
استدل ابن كلاب على أن معنى المكلم غير معنى المتكلم بأن قال: قد يقول
القائل فلان مكلم لفلان ولا يصح أن يقول هو متكلم لفلان قال: فتعلم أن لفظة
متكلم لا تدل على أكثر من موصوف بالكلام وهر يجري مجرى العالم والمعلم في أنه
ليس معنى أحدهما معنى الآخر
فيقال له ليس بيننا وبينك خلاف في اختلاف المعنيين وأن أحد الوصفين
يتعدى والآخر لا يتعدى وإنما الخلاف بيننا وبينك في وجه آخر وهو أن هذا
الوصف لا بد من أن يتعدى إذا كان الموصوف به حكيما ولم يك محتاجا وإلا بطل
المعقول.
ألا ترى أنه متى تعرى المتكلم من الآفة والحاجة لم يعقل في الشاهد إلا
وهو مكلم وإنما يخرج عن هذا الوصف المتعدي إلى ما يختص به من لفظ متكلم
بآفة تعرض له أو لحاجة به إلى فعل الكلام، ولا متكلم غيره كالمغني ليطرب
والمحدث نفسه للضجر والمتحفظ لكلامه قد سمعه أو يريد تأليفه أو يكون
مألوفا بالنوم الذي يغمر عقله أو الجنة أو ضرب من السوداء وما جانسها مما يغمر
العقل فيقع الكلام منه مع عدم القصد، وإذا ثبت أن القديم تعالى ليس بمحتاج
ولا يصح عليه تعلق الآفات به فقد ثبت أنه لا يكون متكلما إلا وهو مكلم فلو
جاز خلاف ذلك مع كون الحقيقة في الشاهد على ما بيناه لجاز قلب الحقائق كلها
وهو محال فاسد.
على أنه يقال له. أليس قد ثبت أن المكلم لا يكون مكلما إلا بكلام كما أن
75

المحرك لا يكون محركا إلا بحركة ولا مسكنا إلا بسكون، فلا يخلو أن القديم تعالى
في كلامه لموسى بن عمران - عليه السلام - من إحدى منزلتين إما أن يكون مكلما له
بكلامه الذي هو عنده قديم فيلزم أن يكون فيما لم يزل مكلما له كما أنه لو حركه
بحركة لم تزل لوجب أن يكون فيما لم يزل له محركا، وفي هذا نقض مذهبه الذي
اجتباه لنفسه في الفرق بين المكلم والمتكلم وإثبات القديم متكلما دون أن يكون
مكلما، أو يكون مكلما له بكلام غير كلامه القديم فيكون مكلما بالكلام المحدث
وذلك أيضا نقض مذهبه لقوله إنه لا يكون مكلما إلا بكلامه ومحال أن يكون
كلامه محدثا.
فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله حراسته أيضا قال: دخل أبو الحسن علي بن ميثم
رحمه الله على الحسن بن سهل وإلى جانبه ملحد قد عظمه والناس حوله، فقال.
لقد رأيت ببابك عجبا، قال: وما هو؟ قال: رأيت سفينة تعبر بالناس من جانب
إلى جانب بلا ملاح ولا ماصر قال: فقال له صاحبه الملحد وكان بحضرته: إن
هذا أصلحك الله لمجنون، قال: فقلت: وكيف ذاك؟ قال. خشب جماد لا حيلة له
ولا قوة ولا حياة فيه ولا عمل كيف يعبر بالناس؟
قال: فقال أبو الحسن: فأيهما أعجب هذا أو هذا الماء الذي يجري على وجه
الأرض يمنة ويسرة بلا روح ولا حيلة ولا قوى، وهذا النبات الذي يخرج من
الأرض والمطر الذي ينزل من السماء تزعم أنت أنه لا مدبر لهذا كله وتنكر أن
تكون سفينة تحرك بلا مدبر وتعبر بالناس، قال: فبهت الملحد.
76

فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه أيضا مرسلا قال. وقف رجل من بني أسد على
أمير المؤمنين - عليه السلام - فقال. يا أمير المؤمنين العجب فيكم يا بني هاشم كيف
عدل بهذا الأمر عنكم وأنتم الأعلون نسبا وأشد نوطا بالرسول (ص) وفهما للكتاب؟
فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: يا بن دودان إنك لقلق الوضين ضيق المجم ترسل عن
غير ذي سدد ولك ذمامة الصهر - لأنه من أصهاره - عليه السلام - وحق المسألة وقد
استعلمت فاعلم، كانت أثرة سخت بها نفوس قوم وشحت عليها نفوس قوم
آخرين (فدع عنك نهبا صيح في حجراته) وهلم الخطب في أمر أبي سفيان فلقد
أضحكني الدهر بعد إبكائه، ولا غرو يئس القوم والله من خفضي وهينتي وحاولوا
الإدهان في ذات الله وهيهات ذلك مني، فإن تنجر عنا محن البلوى، أحملهم من
الحق على محضه، وإن تكن الأخرى * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ولا تأس
على القوم الفاسقين) * (1).
قال الشيخ أدام الله عزه: وهذا القول من أمير المؤمنين - عليه السلام - أدل دليل
على أنه لم تستقر به الدار ولم يتمكن من إنفاذ حكم من الأحكام، وأنه إنما عدل
عن قبض فدك وترك حقه لضروب من الاستصلاح وقد أبان عن ذلك أيضا
بكلامه المشهور عند الخاصة والعامة، حيث يقول: " أما والله لو ثنيت لي الوسادة
لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور
بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم حتى يزهر كل كتاب من هذه الكتب ويقول
يا رب إن عليا قضى بقضائك).

(1) - فاطر / 8.
77

فدل على أنه - عليه السلام - غير متمكن من إنفاذ جميع الأحكام، وقد روت
الناصبة عنه - عليه وآله السلام - أنه قال حين أفضي الأمر إليه لقضاته - وقد قالوا له: بم
نقضي يا أمير المؤمنين؟ - فقال: " اقضوا بما كنتم تقضون حتى تكون الناس جماعة
أو أموت كما مات أصحابي، فدل على أنه - عليه السلام - قد أخر القضاء بمذهبه في
كثير من الأحكام لمكان الاختلاف عليه وانتظر الاجتماع من المختلفين أو وجود
المصلحة.
فصل
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه وكلامه قال. وقال أبو القاسم الكعبي:
سمعت أبا الحسين الخياط يحتج في إبطال قول المرجئة في الشفاعة بقوله تعالى:
* (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار) * (1) قال: والشفاعة لا
تكون إلا لمن استحق العقاب.
قال: فيقال له: ما كان أغفل أبا الحسين وأعظم رقدته أترى أن الراجئة إذا
قالت إن النبي (ص) يشفع فيشفع فيمن يستحق العقاب، قالوا إنه هو الذي ينقذ
من في النار أم يقولون إن الله سبحانه هو الذي أنقذه بتفضله ورحمته وجعل ذلك
إكراما لنبيه (ص) فأين وجه الحجة فيما تلاه؟ أو ما علم أن من مذهب خصومه القول
بالوقف في الأخبار وأنهم لا يقطعون بالظاهر على العموم والاستيعاب، فلو كان
القول يتضمن نفي خروج أحد من النار لما كان ذلك ظاهرا ولا مقطوعا به عند
القوم، وكيف ونفس الكلام يدل على الخصوص دون العموم بقوله * (أفمن حق
عليه كلمة العذاب) *، وإنما يعلم من المراد بذلك بدليل دون نفسه وقد حصل

(1) - الزمر / 19.
78

الاجماع على أنه توجه إلى الكفار وليس أحد من أهل القبلة يدين بجواز الشفاعة
للكفار فيكون ما تعلق به الخياط حجة عليه.
ثم قال أبو القاسم: وكان أبو الحسين - يعني الخياط - يتلو في ذلك أيضا
قوله عز وجل: * (تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * وما
أضلنا إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم) * (1).
قال الشيخ أدام الله عز،: فيقال لهم: ما رأيت أعجب منكم يا معاشر
المعتزلة تتكلمون فيما قد شارككم الناس فيه من العدل والتوحيد أحسن كلام حتى إذا
صرتم إلى الكلام في الإمامة والإرجاء صرتم فيهما عامة حشوية تخبطون خبط
عشواء لا تدرون ما تأتون وما تذرون، ولكن لا أعجب العجب من ذلك وأنتم إنما
جودتم فيما عاونكم عليه غيركم واستفدتموه من سواكم وقصرتم فيما تفردتم به لا
سيما في نصرة الباطل الذي لا يقدر على نصرته في الحقيقة قادر، ولكن العجب
منكم في ادعائكم الفضيلة والبينونة بها من سائر الناس، ولو والله حكى هذا
الاستدلال مخالف لكم لارتبنا بحكايته، ولكن لا ريب وشيوخكم يحكونه عن
مشايخهم ثم لا يقنعون حتى يوردوه على سبيل التبجح به والاستحسان له، وأنت أيها
الرجل من غلوك فيه جعلته أحد الغرر فأنت وإن كنت أعجمي الأصل والمنشأ
فأنت عربي اللسان صحيح الحس، وظاهر الآية في الكفار خاصة ولا يخفى ذلك
على الأنباط فضلا عن غيرهم حيث يقول الله تعالى حاكيا عن الفرقة بعينها وهي
تعني معبوداتها دون الله وتخاطبها فتقول: * (إذ نسويكم برب العالمين) * فيعترفون
بالشرك بالله ثم يقولون: * (وما أضلنا إلا المجرمون) * وقبل ذلك يقسمون فيقولون:
* (تالله إن كنا لفي ضلال مبين) *.

(1) - الشعراء / 98 - 101.
79

فهل يا أبا القاسم - أصلحك الله - تعرف أحدا من خصومك في الإرجاء
والشفاعة يذهب إلى جواز الشفاعة لعباد الأصنام المشركين بالله عز وجل،
والكفار برسله - عليهم السلام - حتى استحسنت استدلال شيخك بهذه الآية على
المشبهة، كما زعمت، والمجبرة ومن ذهب مذهبهم من العامة، فإن ادعيت علم
ذلك تجاهلت، وإن زعمت أنه إذا بطلت الشفاعة للكفار فقد بطلت للفساق،
أتيت بقياس طريف من القياس الذي حكي عن أبي حنيفة أنه قال فيه: " البول
في المسجد أحيانا أحسن من بعض (نقض ن خ) القياس ".
وكيف تزعم ذلك وأنت إنما حكيت مجرد القول في الآية، ولم تذكر وجه
الاستدلال منها وإن ما توهمت أن الحجة في ظاهرها غفلة عظيمة حصلت منك
على أنه إنما يصح القياس على العلل والمعاني دون الصور والألفاظ، والكفار إنما
بطل قول من ادعى الشفاعة لهم - إن لو ادعاها مدع - بصريح القرآن لا غير فيجب
أن لا تبطل الشفاعة لفساق أهل الملة إلا بنص القرآن أيضا أو قول من
الرسول (ص) يجري مجرى القرآن في الحجة، وإذا عدم ذلك بطل القياس فيه. مع أنا
قد بينا أنك لم تقصد القياس وإنما تعلقت بظاهر القرآن وكشفنا عن غفلتك في
المتعلق به، فليتأمل ذلك أصحابك وليستحيوا لك منه.
على أنه قد روي عن الباقر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
- عليهم السلام - أنه قال: في هذه الآيات دلالة على وجود الشفاعة، قال: وذلك أن أهل
النار لو لم يروا يوم القيامة شافعين يشفعون لبعض من استحق العقاب فيشفعون
ويخرجون بشفاعتهم من النار أو يعفون منها بعد الاستحقاق، لما تعاظمت
حسراتهم ولا صدر عنهم هذا المقال لكنهم لما رأوا شافعا يشفع فيشفع، وصديقا
حميما يشفع لصديقه فيشفع، عظمت حسراتهم عند ذلك فقالوا: * (فما لنا من
80

شافعين ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين) *.
ولعمري إن مثل هذا الكلام لا يرد إلا عن إمام هدى، أو أحد من الأئمة
أئمة الهدى - عليهم السلام -، فأما ما حكاه أبو القاسم فيليق بمقام الخياطين ونتيجة
عقول السخفاء والضعفاء في الدين.
فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه أيضا في إبطال القياس: سئل الشيخ أيده الله
في مجلس لبعض القضاة وكان فيه جمع كثير من الفقهاء والمتكلمين، فقيل له: ما
الدليل على إبطال القياس في الأحكام الشرعية؟
فقال الشيخ أدام الله عز ه: الدليل على ذلك أنني وجدت الحكم الذي تزعم
خصومي أنه أصل يقاس عليه ويستخرج منه الفرع، قد كان جائزا من الله
سبحانه التعبد في الحادثة التي هو حكمها بخلافه مع كون الحادثة على حقيقتها
وبجميع صفاتها، فلو كان القياس صحيحا لما جاز في العقول التعبد في الحادثة
بخلاف حكمها إلا مع اختلاف حالها وتغير الوصف عليها، وفي جواز ذلك على
ما وصفناه دليل على إبطال القياس في الشرعيات.
فلم يفهم السائل معنى هذا الكلام ولا عرفه، والتبس على الجماعة كلها
طريقه ولم يلح لأحد منهم ولا فطن به، وخلط السائل وعارض على غير ما سلف،
فوافقه الشيخ أدام الله عزه على عدم فهمه للكلام وكرره عليه فلم يحصل له معناه.
قال الشيخ أيده الله: فاضطررت إلى كشفه على وجه لا يخفى على الجماعة،
فقلت: إن النبي (ص) نص على تحريم التفاضل في البر فكان النص في ذلك أصلا
81

زعمتم أيها القايسون أن الحكم بتحريم التفاضل في الأرز مقيس عليه وأنه الفرع
له، وقد علمنا أن في العقل يجوز أن يتعبد القديم سبحانه وتعالى بإباحة التفاضل
في البر وهو على جميع صفاته بدلا من تعبده بحظره فيه، فلو كان الحكم بالحظر
لعلة في البر أو صفة هو عليها لاستحال ارتفاع الحظر إلا بعد ارتفاع العلة أو
الوصف، وفي تقديرنا وجوده على جميع الصفات والمعاني التي يكون عليها مع
الحظر عند الإباحة وهذا دليل على بطلان القياس فيه.
ألا ترى أنه لما كان وصف المتحرك إنما لزمه لوجود الحركة، أو لقطعه
المكانين، استحال توهم حصول السكون له في الحقيقة مع وجود الحركة أو قطعه
المكانين، وهذا بين لمن تدبره. فلم يأت القوم بشئ يجب حكايته.
(حكاية مجلس آخر في هذا الاستدلال)
قال الشيخ أدام الله عزه. ثم جرى هذا الاستدلال في مجلس آخر فاعترض
بعض المعتزلة فقال: ما أنكرت على من قال لك إن هذا الدليل إنما هو على من
زعم أن للشرعيات عللا موجبة كعلل العقليات. وليس في الفقهاء من يذهب إلى
ذلك، وإنما يذهبون إلى أنها سمات وعلامات غير موجبة لكنها دالة على الحكم،
ومنبئة عنه، وإذا كانت سمات وعلامات لم يمتنع من تقدير خلاف الحكم على
الحادثة مع كونها على صفاتها، وذلك مسقط لما اعتمدت عليه.
قال الشيخ أيده الله: فقلت له. ليس مناقضة الفقهاء الذين أو مات إليهم
حجة علي فيما اعتمدته، وقد ثبت أن حقيقة القياس هو حمل الشئ على نظيره في
الحكم بالعلة الموجبة له في صاحبه، فإذا وضع هؤلاء القوم هذه السمة على غير
الحقيقة فأخطأوا لم يخل خطأهم بموضع الاعتماد، مع أن الذي قدمته يفسد هذا
82

الاعتراض أيضا وذلك أن السمة والعلامة إذا كانت تدل على حكم من الأحكام
فمحال وجودها وهي لا تدل لأن الدليل لا يصح أن يخرج عن حقيقته، فيكون
تارة دليلا وتارة ليس بدليل، وإذا كنتم تزعمون أن العلامة هي صفة من صفات
المحكوم عليه بالحكم الذي ورد به النص فقد جرت مجرى العلة في استحالة
وجودها مع عدم مدلولها كما يستحيل وجود العلة مع عدم معلولها، وليس بين
الأمرين فصل.
فخلط هذا الرجل تخليطا بينا ثم ثاب إليه فكره، فقال: هذه السمات عندنا
سمعية طارئة على الحوادث ولسنا نعلمها عقلا ولا اضطرارا وإنما نعلمها سمعا
وبدليل السمع، وعندنا مع ذلك أن العلل السمعية والأدلة السمعية قد تخرج
أحيانا عن مدلولها ومعلولها وهي كالأخبار العامة التي تدل على استيعاب الجنس
بإطلاقها ثم تكون خاصة عند قرائنها، وهذا فرق بين الأمور العقلية والسمعية.
قال الشيخ أيده الله: فقلت له: إن كانت هذه السمات سمعية طارئة على
الحوادث وليست من صفاتها اللازمة لها وإنما هي معان متجددة، فيجب أن يكون
الطريق إليها السمع خاصة دون العقل والاستنباط لأنها حينئذ تجري مجرى
الأسماء التي هي الألقاب فلا يصل عاقل إلى حقايقها إلا بالسمع الوارد بها، ولو
كان ورد بها سمع لبطل القياس لأنه كان حينئذ يكون نصا على الحمل كقول
القائل: اقطعوا زيدا فقد سرق من حرز وإثما استحق القطع لأنه سرق من حرز
لا لغير ذلك من شئ يضام هذا الفعل أو يقاربه، وهذا نص على قطع كل سارق
من حرز إذا كان التقييد فيه على ما بيناه.
فإن كنتم تذهبون في القياس إلى ما ذكرناه فالخلاف بيننا وبينكم في الاسم
دون المعنى والمطالبة لكم بعده بالنصوص الواردة في سائر ما استعملتم فيه
القياس، فإن ثبت لكم زال المراء بيننا وبينكم، وإن لم يثبت علمتم أنكم إنما
83

تدفعون عن مذاهبكم بغير أصل معتمد، ولا برهان يلجأ إليه.
فقال: لسنا نقول إن النص قد ورد في الأصول حسبما ذكرت وإنما ندرك
السمات بضرب من الاستخراج والتأمل.
قال الشيخ أيده الله: فقلت: هذا هو الذي يعجز عنه كل أحد إلا أن يلجأ
إلى استخراج عقلي وقد أفسدنا ذلك فيما سلف، والآن فإن كنت صادقا فتعاط
ذلك، فإن قدرت عليه أقررنا لك بالقياس الذي أنكرناه، وإن عجزت عنه بان ما
حكمناه به عليك من دفاعك عن الأصل المعروف.
فقال:. لا يلزمني ذكر طريق الاستخراج، وجعل يضجع في الكلام، وبان
عجزه.
فقال أبو بكر بن الباقلاني: لسنا نقول هذه العلامات مقطوع بها، ولا
معلومة فنذكر طريق استخراجها، ولكن الذي أذهب إليه - وهو مذهب هذا
الشيخ - وأومأ إلى الأول - القول بغلبة الظن في ذلك، فما غلب في ظني عملت
عليه وجعلته سمة وعلامة، وإن غلب في ظن غيري سواه وعمل عليه أصاب ولم
يخطئ وكل مجتهد مصيب فهل معك شئ على هذا المذهب؟
فقلت: هذا أضعف من جميع ما سلف وأوهن، وذلك أنه إذا لم يكن لله
تعالى دليل على المعنى ولا السمة وإنما تعبدك على ما زعمت بالعمل على غلبة
الظن فلا بد أن يجعل لغلبة الظن سببا وإلا لم يحصل ذلك في الظن ولم يكن لغلبته
طريق، وهب أنا سلمنا لك التعبد بغلبة الظن في الشريعة، ما الدليل على أنه قد
يغلب فيما زعمت؟ وما السبب الموجب له أرناه؟ فإنا نطالبك به كما طالبنا هذا
الرجل بجهة الاستخراج للسمة.
والعلة السمعية كما وصف فإن أوجدتنا ذلك، ساغ لك وإن لم توجدناه
84

بطل ما اعتمدت عليه.
فقال: أسباب غلبة الظن معروفة وهي كالرجل الذي يغلب في ظنه إن
سلك هذا الطريق نجا وإن سلك غيره هلك، وإن أتجر في ضرب من المتاجر
ربح، وإن أتجر في غيره خسر، وإن ركب إلى ضيعة والسماء متغيمة مطر، وإن ركب
وهي مصحية سلم، وإن شرب هذا الدواء انتفع، وإن عدل إلى غيره استضر وما
أشبه ذلك. ومن خالفني في أسباب غلبة الظن قبح كلامه.
فقلت له: إن هذا الذي أوردته لا نسبة بينه وبين الشريعة وأحكامها، وذلك
أنه ليس شئ منه إلا وللخلق فيه عادة وبه معرفة فإنما يغلب ظنونهم حسب
عاداتهم، وإمارات ذلك ظاهرة لهم، والعقلاء يشتركون في أكثرها وما اختلفوا فيه
فلاختلاف عاداتهم خاصة، وأما الشريعة فلا عادة فيها ولا أمارة من دربة
ومشاهدة لأن النصوص قد جاءت فيها باختلاف المتفق في صورته، وظاهر معناه
واتفاق المختلف في الحكم وليس للعقول في رفع حكم منها وإيجابه مجال، وإذا لم
يك فيها عادة بطل غلبة الظن فيها.
ألا ترى أنه من لا عادة له بالتجارة ولا سمع بعادة الناس فيها لا يصح أن
يغلب ظنه في نوع منها بربح ولا خسران، ومن لا معرفة له بالطرقات ولا بأغيارها
ولا له عادة في ذلك ولا سمع بعادة أهلها فليس يغلب ظنه بالسلامة في طريق
دون طريق.
ولو قدرنا وجود من لا عادة له بالمطر ولا سمع بالعادة فيه، لم يصح أن
يغلب في ظنه مجئ المطر عند الغيم دون الصحو، وإذا كان الأمر كما بيناه وكان
الاتفاق حاصلا على أنه لا عادة في الشريعة للخلق بطل ما ادعيت من غلبة
الظن وقمت مقام الأول في الاقتصار على الدعوى.
فقال: هذا الآن رد على الفقهاء كلهم وتكذيب لهم فيما يدعونه من غلبة
85

الظن ومن صار إلى تكذيب الفقهاء كلهم قبحت مناظرته. فقلت له: ليس كل
الفقهاء يذهب مذهبك في الاعتماد في المعاني والعلل على غلبة الظن، بل أكثرهم
يزعم أنه يصل إلى ذلك بالاستدلال والنظر فليس كلامنا ردا على الجماعة وإنما هو
رد عليك وعلى فرقتك خاصة. فإن كنت تقشعر من ذلك فما ناظرناك إلا له، ولا
خالفناك إلا من أجله، مع أن الدليل إذا أكذب الجماعة فلا حرج علينا في
ذلك ولا لوم، بل اللوم لهم إذا صاروا إلى ما تدل الدلائل على بطلانه وتشهد
بفساده.
وليس قولي: إنكم معشر المتفقهة تدعون غلبة الظن وليس الأمر كذلك
بأعجب من قولك وفرقتك: إن الشيعة والمعتزلة وأكثر المرجئة، وجمهور الخوارج
فيما يدعون العلم به من مذهبهم في التوحيد والعدل مبطلون كاذبون مغرورون،
وإنهم في دعواهم العلم بذلك جاهلون، فأي شناعة تلزم فيما وصفت به
أصحابك مع الدليل الكاشف عن ذلك؟ فلم يأت بشئ.
فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه قال: سأل أبو الهذيل العلاف أبا الحسن علي
ابن ميثم رحمه الله عند علي بن رياح فقال له: ما الدليل على أن عليا كان أولى
بالإمامة من أبي بكر؟ فقال له: الدليل على ذلك إجماع أهل القبلة على أن عليا
- عليه السلام - كان عند وفاة رسول الله (ص) مؤمنا عالما كافيا ولم يجمعوا بذلك على أي
بكر، فقال له أبو الهذيل. ومن لم يجمع عليه عافاك الله؟ قال له أبو الحسن: أنا
وأسلافي من قبل وأصحابي الآن، فقال له أبو الهذيل: فأنت وأصحابك ضلال
تائهون، قال له أبو الحسن. ليس جواب هذا الكلام إلا السباب ثم اللطام.
86

فصل
قال الشيخ أدام الله عزه: حضرت يوما مجلسا فجرى فيه كلام في رذالة بني
تيم بن مرة وسقوط أقدارهم فقال شيخ من الشيعة: قد ذكر أبو عيسى الوراق فيما
يدل على ذلك قول الشاعر
ويقضى الأمر حين تغيب تيم * ولا يستأذنون وهم شهود
وإنك لو رأيت عبيد تيم * وتيما قلت أيهما العبيد
فذكر الشاعر أن الرائي لهم لا يفرق بين عبيدهم وساداتهم من الضعة
وسقوط القدر فانتدب له أبو العباس هبة الله المنجم فقال له: يا شيخ ما
أعرفك بأشعار العرب، هذا في تيم بن مرة، أو في تيم الرباب، وجعل يتضاحك
بالرجل ويتماجن عليه يقول له. سبيلك إلى أن تؤلف دواوين العرب فإن بصرك
بها حسن.
فقال الشيخ أدام الله عزه: فقلت له. قد جعلت هذا الباب رأس مالك،
ولو أنصفت في الخطاب لأنصفت في الاحتجاج وإن أخذنا معك في إثبات هذا
الشعر تعلق البرهان فيه بالرجال والكتب والمصنفات، واندفع المجلس ومض
الوقت ولكن بيننا وبينك كتب السير وكل من اطلع على حديث الجمل وحرب
البصرة، فهل ريب في شعر عمير بن الأهلب الضبي وهو يجود بنفسه بالبصرة وقد
قتل بين يدي الجمل وهو يقول:
لقد أوردتنا حومة الموت أمنا * فلم ننصرف إلا ونحن رواء
نصرنا قريشا ضلة من حلومنا * ونصرتنا أهل الحجاز عناء
لقد كان عن نصر ابن ضبة أمه * وشيعتها مندوحة وغناء
نصرنا بني تيم بن مرة شقوة * وهل تيم إلا أعبد وإماء
87

وهو قول رجل من أنصار عائشة، ومن سفك دمه في ولايتها يقول هذا
القول في قبيلتها بلا ارتياب بين أهل السير، ولم يك بالذي يقوله في تلك الحال إلا
وهو معروف عند الرجال غير مشكوك فيه عند أحد من العارفين بقبائل العرب
من سائر الناس فأخذ في الضجيج ولم يأت بشئ.
فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه في إثبات الحكم بقول فاطمة - عليها السلام - قال
الشيخ أيده الله: قد ثبت عصمة فاطمة - عليها السلام - بإجماع الأمة على ذلك فتيا
مطلقة، وإجماعهم على أنه لو شهد عليها شهود بما يوجب إقامة الحد من الفعل
المنافي للعصمة لكان الشهود مبطلين في شهادتهم ووجب على الأمة تكذيبهم
وعلى السلطان عقوبتهم فإن الله تعالى قد دل على ذلك بقوله. * (إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (1) ولا خلاف بين نقلة
الآثار أن فاطمة - عليها السلام - كانت من أهل هذه الآية، وقد بينا فيما سلف أن
ذهاب الرجس عن أهل البيت الذين عنوا بالخطاب يوجب عصمتهم ولإجماع
الأمة أيضا على قول النبي (ص): (من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله
عز وجل ".
فلولا أن فاطمة - عليها السلام - كانت معصومة من الخطأ، مبرأة من الزلل لجاز
منها وقوع ما يجب أذهاب به بالأدب والعقوبة، ولو وجب ذلك لوجب أذاها، ولو
جاز وجوب أذاها لجاز أذى رسول الله (ص) والأذى لله عز وجل فلقا بطل ذلك
دل على أنها - عليها السلام - كانت معصومة حسبما ذكرناه.
وإذا ثبت عصمة فاطمة - عليها السلام - وجب القطع بقولها واستغنت عن

(1) - الأحزاب / 33.
88

الشهود في دعواها لأن المدعي إنما افتقر للشهود له لارتفاع العصمة عنه وجواز
ادعائه الباطل فيستظهر بالشهود على قوله لئلا يطمع كثير من الناس في أموال
غيرهم وجحد الحقوق الواجبة عليهم. وإذا كانت العصمة مغنية عن الشهادة
وجب القطع على قول فاطمة - عليها السلام - وعلى ظلم مانعها فدكا ومطالبها بالبينة
عليها.
ويكشف عن صحة ما ذكرناه أن الشاهدين إنما يقبل قولهما على الظاهر مع
جواز أن يكونا مبطلين كاذبين فيما شهدا به، وليس يصح الاستظهار على قول من
قد أمن منه الكذب بقول من لا يؤمن عليه ذلك، كما لا يصح الاستظهار على قول
المؤمن بقول الكافر وعلى قول العدل البر بقول الفاسق الفاجر
ويدل أيضا على ذلك أن النبي (ص) استشهد على قوله فشهد خزيمة بن
ثابت في ناقة نازعه فيها منازع، فقال له النبي (ص): من أين علمت يا خزيمة أن
هذه الناقة لي؟ أشهدت شراي لها؟ فقال: لا ولكني علمت أنها لك من حيث
علمت أنك رسول الله، فأجاز النبي (ص) شهادته كشهادة رجلين وحكم بقوله،
فلولا أن العصمة دليل الصدق (و) تغني عن الاستشهاد لما حكم النبي (ص) بقول
خزيمة بن ثابت وحده وصوبه في الشهادة له على ما لم يره ولم يحضره باستدلاله
عليه بدليل نبوته وصدقه على الله سبحانه فيما أداه إلى بريته.
وإذا وجب قبول قول فاطمة - عليها السلام - بدلائل صدقها واستغنت عن
الشهود لها، ثبت أن من منع حقها وأوجب الشهود على صحة قولها قد جار في
حكمه وظلم في فعله وآذى الله تعالى ورسوله (ص) بإيذائه لفاطمة - عليها السلام -، وقد
قال الله جل جلاله: * (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد
لهم عذابا مهينا) * (1).

(1) - الأحزاب / 57.
89

فصل
ومن حكايته أدام الله عزه قال: سئل هشام بن الحكم رحمه الله عما ترويه
العامة من قول أمير المؤمنين - عليه السلام - لما قبض عمر، وقد دخل عليه وهو
مسجى: " لوددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى "، وفي حديث آخر لهم
" إني لأرجو أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى ".
فقال هشام: هذا حديث غير ثابت ولا معروف الإسناد وإنما حصل من
جهة القصاص وأصحاب الطرقات، ولو ثبت لكان المعنى فيه معروفا، وذلك
أن عمر واطأ أبا بكر والمغيرة وسالما مولى أبي حذيفة وأبا عبيدة على كتب
صحيفة بينهم يتعاقدون فيها على أنه إذا مات رسول الله (ص) لم يورثوا أحدا من
أهل بيته ولم يولوهم مقامه من بعده، فكانت الصحيفة لعمر إذ كان عماد القوم
والصحيفة التي ود أمير المؤمنين - عليه السلام - ورجا أن يلقى الله بها هي هذه
الصحيفة فيخاصمه بها ويحتج عليه بمتضمنها.
والدليل على ذلك ما روته العامة عن أبي بن كعب أنه كان يقول في
مسجد رسول الله (ص) بعد أن أفضي الأمر إلى أبي بكر بصوت يسمعه أهل
المسجد " ألا هلك أهل العقدة والله ما آسى عليهم إثما آسى على من يضلون
من الناس، فقيل له: يا صاحب رسول الله من هؤلاء أهل العقدة؟ وما عقدتهم؟
فقال: قوم تعاقدوا بينهم إن مات رسول الله لم يورثوا أحدا من أهل بيته ولا ولوهم
مقامه، أما والله لئن عشت إلى يوم الجمعة لأقومن فيهم مقاما أبين به للناس
أمرهم، قال: فما أتت عليه الجمعة ".
90

فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه مرسلا قال. قال الصادق - عليه السلام -: أعربوا
حديثنا فإنا قوم فصحاء.
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه مرسلا عن محمد بن سلام الجمحي أن أبا
الأسود الدؤلي دخل على أمير المؤمنين - عليه السلام - فرمى إليه رقعة فيها: بسم الله
الرحمن الرحيم الكلام ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم ما
أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أوجد معنى
في غيره. فقال أبو الأسود: يا أمير المؤمنين هذا كلام حسن فما تأمرني أن أصنع
به فإنني لا أدري ما أردت بإيقافي عليه؟ فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: إني
سمعت في بلدكم هذا لحنا كثيرا فاحشا فأحببت أن أرسم كتابا من نظر إليه ميز
بين كلام العرب وكلام هؤلاء فابن على ذلك. فقال أبو الأسود: وفقنا الله بك يا
أمير المؤمنين للصواب.
قال الشيخ أدام الله عزه: وقد اختلف في معنى النحو ما هو؟ فقيل.
النحو ما قصد له. تقول: نحا نحوه أي قصد قصده، وإنما أرادوا قصد نحو
الإعراب.
وقال أبو عثمان المازني: النحو ناحية من الكلام، والعربية اسم اللغة،
يقال هي اللغة العربية يراد به الجيدة الفصيحة البينة، وقيل للعربي عربي لأنه
عرب الألفاظ أي بينها.
وقال الأصمعي: قال رجل لبنيه: يا بني أصلحوا ألسنتكم فإن الرجل
تنوبه النائبة يحب أن يتجمل فيها، فيستعير من أخيه دابته وثوبه، ولا يجد من
يعيره لسانه.
91

فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه مرسلا عن محمد بن أحمد بن أبان النخعي،
قال: حدثني معاذ بن سعيد الحميري قال: شهد السيد إسماعيل بن محمد
الحميري رحمه الله عند سوار القاضي بشهادة، فقال له: ألست إسماعيل بن
محمد الذي يعرف بالسيد؟ فقال: نعم، فقال له: كيف أقدمت على الشهادة
عندي، وأنا أعرف عداوتك للسلف؟ فقال السيد: قد أعاذني الله من عداوة
أولياء الله وإنما هو شئ لزمني ثم نهض، فقال له: قم يا رافضي فوالله ما
شهدت بحق، فخرج السيد رحمه الله وهو يقول:
أبوك ابن سارق عنز النبي * وأنت ابن بنت أبي جحدر
ونحن على رغمك الرافضون * لأهل الضلالة والمنكر
ثم عمل شعرا وكتبه في رقعة وأمر من ألقاها في الرقاع بين يدي سوار
قال: فأخذ الرقعة سوار، فلما وقف عليها خرج إلى أبي جعفر المنصور وكان قد
نزل الجسر الأكبر ليستعدي على السيد فسبقه السيد إلى المنصور فأنشأ
قصيدته التي يقول فيها:
يا أمين الله يا منصور يا خيره الولاة * إن سوار بن عبد الله من شر القضاة
نعثلي جملي لكم غير موات * جده سارق عنز فجرة من فجرات
والذي كان ينادي من وراء الحجرات * يا هنات اخرج إلينا إننا أهل هنات
فاكفنيه لا كفاه الله شر الطارقات * سن فينا سننا كانت مواريث الطغاة
قال: فضحك أبو جعفر المنصور وقال: نصبتك قاضيا فأمدحه كما
92

هجوته، فأنشد السيد رحمه الله يقول:
إني امرؤ من حمير أسرتي * بحيث تحوي سروها حمير
آليت لا أمدح ذا نائل * له سناء وله مفخر
إلا من الغر بني هاشم * إن لهم عندي يدا تشكر
إن لهم عندي يدا شكرها * حق وإن أنكرها منكر
يا أحمد الخير الذي إنما * كان علينا رحمة تنشر
حمزة والطيار في جنة * فحيث ما شاء دعا جعفر
منهم وهادينا الذي نحن من * بعد عمانا فيه نستبصر
لما دجا الدين ورق الهدى * وجار أهل الأرض واستكبروا
ذاك علي بن أبي طالب * ذاك الذي دانت له خيبر
دانت وما دانت له عنوة * حتى تدهدا عرشه الأكبر
ويوم سلع إذ أتى آتيا * عمرو بن عبد مصلتا يخطر
يخطر بالسيف مدلا كما * يخطر فحل الصرمة الدوسر
إذ جلل السيف على رأسه * أبيض عضبا حده مبتر
فخر كالجذع وأوداجه * ينصب منها حلب أحمر
وكان أيضا مما جرى له مع سوار، ما حدث به الحرث بن عبيد الله الربعي
قال: كنت جالسا في مجلس المنصور وهو بالجسر الأكبر وسوار عنده والسيد
ينشده:
إن الإله الذي لا شئ يشبهه * آتاكم الملك للدنيا وللدين
آتاكم الله ملكا لا زوال له * حتى يقاد إليكم صاحب الصين
وصاحب الهند مأخوذ برمته * وصاحب الترك محبوس على هون
93

حتى أتى على القصيدة والمنصور مسرور فقال سوار: هذا والله يا أمير
المؤمنين يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه، والله إن القوم الذين يدين بحبهم لغيركم
وإنه لينطوي في عداوتكم.
فقال السيد: والله إنه لكاذب وإنني في مديحك لصادق ولكنه حمله الحسد
إذ رآك على هذه الحال، وإن انقطاعي إليكم ومودتي لكم أهل البيت لمعرق فيها
عن أبوي وإن هذا وقومه لأعداؤكم في الجاهلية والإسلام، وقد أنزل الله عز وجل
على نبيه - عليه وآله السلام - في أهل بيت هذا: * (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات
أكثرهم لا يعقلون) * (1) فقال المنصور صدقت.
فقال سوا يا أمير المؤمنين إنه يقول بالرجعة، ويتناول الشيخين بالسب
والوقيعة فيهما، فقال السيد: أما قوله بأني أقول بالرجعة فإن قولي في ذلك على ما
قال الله تعالى: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون) * (2)
وقد قال في موضع آخر: * (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) * (3) فعلمت أن هاهنا
حشرين: أحدهما عام والآخر خاص، وقال سبحانه: * (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا
اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) * (4)، وقال الله تعالى: * (فأماته الله
مائة عام ثم بعثه) * (5) وقال الله تعالى: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم
ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) * (6).
فهذا كتاب الله عز وجل، وقد قال رسول الله (ص): " يحشر المتكبرون في صور

(1) - الحجرات / 4.
2 - النمل / 83.
3 - الكهف / 47.
4 - غافر / 11.
5 - البقرة / 259.
6 - البقرة / 243.
94

الذر يوم القيامة "، وقال (ص): " لم يجر في بني إسرائيل شئ إلا ويكون في أمتي مثله
حتى المسخ والخسف والقذف "، وقال حذيفة: " والله ما أبعد أن يمسخ الكثيرا
من هذه الأمة قردة وخنازير ".
فالرجعة التي لا نذهب إليها هي ما نطق به القرآن وجاءت به السنة، وإنني
لأعتقد أن الله تعالى يرد هذا - يعني سوارا - إلى الدنيا كلبا، أو قردا أو خنزيرا، أو
ذرة، فإنه والله متجبر متكبر كافر، قال: فضحك المنصور وأنشد السيد يقول:
جاثيت سوارا أبا شملة * عند الإمام الحاكم العادل
فقال قولا خطأ كله * عند الورى الحافي والناعل
ما ذب عما قلت من وصمة * في أهله بل لج في الباطل
وبان للمنصور صدقي كما * قد بان كذب الأنوك الجاهل
يبغض ذا العرش ومن يصطفي * من رسله بالنير الفاضل
ويشنأ الحبر الجواد الذي * فضل بالفضل على الفاضل
ويعتدى بالحكم في معشر * أدوا حقوق الرسل للراسل
فبين الله تزاويقه * فصار مثل الهائم الهائل
قال: فقال المنصور كف عنه، فقال السيد: يا أمير المؤمنين البادئ أظلم
يكف عني حتى أكف عنه، فقال المنصور لسوار: تكلم بكلام فيه نصفة، كف
عنه حتى لا يهجوك.
95

فصل
وأخبرني الشيخ أدام الله عزه: مرسلا عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني
عن سعيد بن جناح عن سليمان بن جعفر قال: قال لي أبو الحسن العسكري:
نمت وأنا أفكر في بيت ابن أبي حفصة:
أنى يكون وليس ذاك بكائن * لبني البنات وراثة الأعمام
فإذا إنسان يقول لي:
قد كان إذ نزل الكتاب بفضله * ومضى القضاء به من الأحكام
إن ابن فاطمة المنوه باسمه * حاز الوراثة عن بني الأعمام
وبقي ابن نثلة واقفا متحيرا * يبكي ويسعده ذووا الأرحام
فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه سئل في مجلس الشريف أبي الحسن أحمد بن
القاسم العلوي المحمدي، فقيل له: ما الدليل على أن أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب كان أفضل الصحابة؟ فقال: الدليل على ذلك قول النبي (ص): (اللهم
ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر) فجاء أمير
المؤمنين - عليه السلام - وقد ثبت أن أحب الخلق إلى الله سبحانه وتعالى أعظمهم ثوابا
عند الله وأن أعظم الناس ثوابا لا يكون إلا لأنه أشرفهم أعمالا وأكثرهم عبادة لله
تعالى، وفي ذلك برهان على فضل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الخلق كلهم سوى
96

النبي (ص).
فقال له السائل: وما الدليل على صحة هذا الخبر؟ وما أنكرت أن يكون غير
معتمد لأنه إنما رواه أنس بن مالك وحده، وأخبار الآحاد ليست بحجة فيما يقطع
على الله تعالى بصوابه.
فقال الشيخ أدام الله عزه: هذا الخبر وإن كان من أخبار الآحاد على ما
ذكرت من أن أنس بن مالك رواه وحده، فإن الأمة بأجمعها قد تلقته بالقبول ولم
يرووا أن أحدا رده على أنس ولا أنكر صحته عند روايته، فصار الاجماع عليه هو
الحجة في صوابه ولم يخل ببرهانه كونه من أخبار الآحاد كما شرحناه.
مع أن التواتر قد ورد بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - احتج به في مناقبه يوم
الدار فقال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (ص): " اللهم ائتني
بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر " فجاء أحد غيري؟ فقالوا: اللهم
لا، فقال اللهم اشهد فاعترف القوم بصحته ولم يك أمير المؤمنين - عليه السلام - بالذي
يحتج بباطل لا سيما وهو في مقام المنازعة والتوسل بفضائله إلى أعلى الرتب التي
هي الإمامة والخلافة للرسول (ص) وإحاطة علمه بأن الحاضرين معه في الشورى
يريدون الأمر دونه مع قول النبي (ص): " علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما
دار " وإذا كان الأمر على ما وصفناه دل على صحة الخبر حسبما بيناه.
فاعترض بعض المجبرة فقال. إن احتجاج الشيعة برواية أنس من أطرف
الأشياء، وذلك أنهم يعتقدون تفسيق أنس بل تكفيره، ويقولون: إنه كتم الشهادة
في النص حتى دعا عليه أمير المؤمنين - عليه السلام - ببلاء لا تواريه الثياب فبرص على
كبر السن فمات وهو أبرص، فكيف يجوز بأن يستشهد برواية الكافرين؟
فقالت المعتزلة: قد أسقط هذا الكلام الرجل ولم يجعل الحجة في الرواية
97

أنسا وإنما جعلها الاجماع، وهذا الذي أوردته هذيان قد تقدم إبطاله.
فقال السائل: هب أنا سلمنا صحة الخبر، ما أنكرت ألا يفيد ما ادعيت من
فضل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الجماعة، وذلك أن المعنى فيه (اللهم ائتني بأحب
الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر) يريد أحب الخلق إلى الله عز وجل في
الأكل معه دون أن أراد أحب الخلق إليه في نفسه لكثرة أعماله، إذ قد يجوز أن
يكون الله سبحانه يحب ألا يأكل مع نبيه من غيره أفضل منه ويكون ذلك أحب
إليه للمصلحة.
فقال الشيخ أدام الله عزه: هذا الذي اعترضت به ساقط وذلك أن محبة الله
تعالى ليست ميل الطباع وإنما هي الثواب كما أن بغضه وغضبه ليسا باهتياج
الطباع وإنما هما العقاب. ولفظ " أفعل " في أحب وأبغض لا يتوجه إلا إلى معناهما
من الثواب والعقاب، ولا معنى على هذا الأصل لقول من زعم أن " أحب الخلق إلى
الله يأكل مع رسول الله (ص) " توجه إلى محبة الأكل والمبالغة في ذلك بلفظ " أفعل "
لأنه يخرج اللفظ عما ذكرناه من الثواب إلى ميل الطباع، وذلك محال في صفة الله
تعالى سبحانه.
وشئ آخر وهو أن ظاهر الخطاب يدل على ما ذكرناه دون ما عارضت به
أن لو كانت المحبة على غير معنى الثواب، لأنه (ص) قال: " اللهم ائتني بأحب
خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر " وقوله: " بأحب الخلق إليك " كلام تام،
وقوله بعد ه: " يأكل معي من هذا الطائر " كلام مستأنف لا يفتقر الأول إليه، ولو
كان أراد ما ذكرت لقال: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك في الأكل معي " فلما
كان اللفظ على خلاف هذا وكان على ما قد ذكرناه لم يجز العدول عن الظاهر إلى
محتمل على المجاز.
وشئ آخر وهو أنه لو تساوى المعنيان في ظاهر الكلام لكان الواجب علينا
98

تحميلهما اللفظ معا دون الاقتصار على أحدهما إلا بالدليل لأنه لا يتنافى الجمع
بينهما فيكون أراد بقوله: " أحب خلقك إليك " في نفسه وللأكل معي، وإذا كان
الأمر على ما بيناه سقط اعتراضك.
وقال رجل من الزيدية كان حاضرا للسائل: هذا الاعتراض ساقط على
أصلك وأصلنا، لأنا نقول جميعا: إن الله عز وجل لا يريد المباح والأكل مع
النبي (ص) مباح وليس بفرض ولا نفل فيكون الله عز وجل يحبه فضلا عن أن يكون
بعضه أحب إليه من بعض، وهذا السائل من أصحاب أبي هاشم فلذلك أسقط
الزيدي كلامه على أصله إذ كان يوافقه في الأصول على مذهب أبي هاشم فخلط
السائل هنيأة.
ثم قال للشيخ أدام الله عزه: فأنا أعترض باعتراض آخر وهو أن
أقول: ما أنكرت أن يكون هذا القول إنما أفاد أن عليا - عليه السلام - كان أفضل الخلق
في يوم الطائر ولكن بم يدفع أن يكون قد فضله قوم من الصحابة عند الله عز
وجل بكثرة الأعمال والمعارف بعد ذلك، وهذا أمر لا يعلم بالعقل وليس معك
سمع في نفس الخبر يمنع من ذلك ويدل على أنه - عليه السلام - أفضل الصحابة كلهم
إلى وقتنا هذا. فإنا لا نسألك عن فضله عليهم وقتا بعينه.
فقال الشيخ أدام الله عزه: هذا السؤال أوهن مما تقدم والجواب عنه أيسر
وذلك أن الأمة مجمعة على إبطال قول من زعم أن أحدا اكتسب أعمالا زادت على
الفضل الذي حصل لأمير المؤمنين - عليه السلام - على الجماعة من قبل أنهم بين
قائلين:
فقائل يقول: إن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أفضل من الكل في وقت
الرسول (ص) ولم يساوه أحد بعد ذلك وهم الشيعة الإمامية والزيدية وجماعة من
شيوخ المعتزلة وجماعة من أصحاب الحديث.
99

وقائل يقول. إنه لم يبن لأمير المؤمنين في وقت من الأوقات فضل على
سائر الصحابة يقطع به على الله عز وجل وتجزم الشهادة بصحته ولا بان لأحد
منهم فضل عليه وهم الواقفة في الأربعة من المعتزلة، منهم أبو علي وأبو هاشم
وأتباعهما.
وقائل يقول: إن أبا بكر كان أفضل من علي أمير المؤمنين في وقت
الرسول (ص) وبعده، وهم جماعة من المعتزلة، وبعض المرجئة وطوائف من
أصحاب الحديث.
وقائل يقول: إن أمير المؤمنين خرج عن فضله بحوادث كانت منه فساواه
غيره وفضل عليه من أجل ذلك من لم يكن له فضل عليه وهم الخوارج وجماعة من
المعتزلة، منهم الأصم، والجاحظ.
وجماعة من أصحاب الحديث أنكروا قتال أهل القبلة، ولم يقل أحد من
الأمة إن أمير المؤمنين كان أفضل عند الله سبحانه تعالى من الصحابة كلهم ولم
يخرج عن ولاية الله عز وجل ولا أحدث معصية لله تعالى، ثم فضل عليه غيره
بعمل زاد به ثوابه على ثوابه ولا جوز ذلك فيكون معتبرا، وإذا بطل الاعتبار به
للاتفاق على خلافه سقط، وكان الاجماع حجة يقوم مقام قول الله تعالى في صحة ما
ذهبنا إليه فلم يأت بشئ.
وذاكرني الشيخ أدام الله عزه في هذه المسألة بعد ذلك فزادني فيها زيادة
ألحقتها وهي أن قال: إن الذي يسقط ما اعترض به السائل في تأويل قول
النبي (ص): " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، على المحبة للأكل معه دون محبته في
نفسه بإعظام ثوابه، بعد الذي ذكرناه في إسقاطه، أن الرواية جاءت عن أنس بن
مالك أنه قال: لما دعا رسول الله (ص) أن يأتيه الله عز وجل بأحب الخلق إليه قلت:
اللهم اجعله رجلا من الأنصار ليكون لي الفضيلة بذلك، فجاء علي
100

- عليه السلام - فرددته وقلت له: رسول الله على شغل. فمضى ثم عاد ثانية فقال لي:
استأذن لي على رسول الله. فقلت له: إنه على شغل فجاء ثالثة فاستأذنت له فدخل
فقال له النبي (ص): قد كنت سألت الله تعالى أن يأتيني بك دفعتين ولو أبطأت على
الثالثة لأقسمت على الله بأن يأتيني بك.
فلولا أن النبي (ص) سأل الله عز وجل أن يأتيه بأحب خلقه إليه في نفسه
وأعظمهم ثوابا عنده، وكانت هذه من أجل الفضائل لما آثر أنس أن يختص بها
قومه، ولولا أن أنسا فهم ذلك من معنى كلام الرسول (ص) لما دافع أمر المؤمنين - عليه
السلام - عن الدخول ليكون ذلك الفضل لرجل من الأنصار فيحصل له جزء منه.
وشئ آخر وهو أنه لو احتمل معنى لا يقتفي الفضيلة لأمير المؤمنين
- عليه السلام -، لما احتج به أمير المؤمنين - عليه السلام - يوم الدار ولا جعله شاهدا على أنه
أفضل من الجماعة، وذلك أنه لو لم يكن الأمر على ما وصفناه وكان محتملا لما ظنه
المخالفون من أنه سأل ربه أن يأتيه بأحب الخلق إليه في الأكل معه، لما أمن أمير
المؤمنين - عليه السلام - من أن يتعلق بذلك بعض خصومه في الحال أو يشتبه ذلك على
إنسان. فلما احتج به أمير المؤمنين - عليه السلام - على القوم واعتمده في البرهان، دل
على أنه لم يكن مفهوما منه إلا فضله، وكان إعراض الجماعة أيضا عن دفاعه عن
ذلك بتسليم ما ادعاه دليلا على صحة ما ذكرناه.
وهذا بعينه يسقط قول من زعم أنه يجوز مع إطلاق النبي (ص) في أمير
المؤمنين - عليه السلام - ما يقتضي فضله عند الله تعالى على الكافة، وجود من هو أفضل
منه في المستقبل، لأنه لو جاز ذلك لما عدل القوم عن الاعتماد عليه ولجعلوه شبهة
في منعه مما ادعاه من القطع على نقصانهم عنه في الفضل، وفي عدول القوم عن
ذلك دليل على أن القول مفيد بإطلاقه فضله - عليه السلام - ومؤمن من بلوغ أحد منزلته
في الثواب بشئ من الأعمال، وهذا بين لمن تدبره.
101

فصل
ومن كلامه أدام الله عزه أيضا: سئل الشيخ أدام الله حراسته عن معصية
داود - عليه السلام - ما كانت؟ فقال: فيها جوابان:
أحدهما أن الله سبحانه لما جعله خليفة في الأرض بقوله: * (يا داود إنا
جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) * (1) أراد سبحانه وتعالى أن
يهذبه ويؤدبه لأمر علمه منه فجعل ذلك بملائكته دون البشر وأهبط عليه الملكين
في صورة بشرين، فقالا له: * (خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق
ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي
نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب) * (2)، فقال داود - عليه السلام - للمدعي
حاكما على المدعى عليه من غير أن يسأل المدعى عليه عن صحة دعوى المدعي
* (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) * (3).
وقد كان الحكم يوجب أن لا يعجل بذلك حتى يسأل المدعى عليه فيقول
له: ما تقول في هذه الدعوى؟ فلما عجل بالحكم قبل الاستثبات كان ذلك منه
صغيرة ووجب عليه التوبة منها وتبين ذلك في الحال ففعل ما وجب عليه مما
وصفناه، قال الله عز وجل * (وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب
فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) * (4).

(1) - ص / 26.
2 - ص / 22 - 23.
3 - ص / 24.
4 ص / 24 - 25.
102

والجواب الآخر: حكاه الناصر فأخبر أن داود - عليه السلام - ذكرت له امرأة أوريا
ابن حنان فسأله أن ينزل له عنها ليتزوج بها بعد انقضاء عدتها، وكان ذلك مباحا
في شرعه، فامتنع عليه أوريا ورغب بامرأته على جزع لحقه من الامتناع عليه ورهبة
حصلت له منه.
وكانت الخطيئة من داود - عليه السلام - أن طلب ذلك من أوريا بن حنان وهو
نبي وملك مطاع وأوريا رعية وتابع، ولو سأل أوريا ذلك مثله من الرعية لما كان
بسؤاله مخطئا لأنه لم يكن يحدث له عند الامتناع من الجزع والخوف والهلع ما
حدث له عند الامتناع من نبيه وملكه ورئيسه داود - عليه السلام -، وهذا الجواب غير
بعيد، والله نسأل التوفيق.
قال الشيخ أدام الله عزه: فإن قال قائل: أليس قد نطق القرآن بوقوع
المعصية من نبي من أنبياء الله سبحانه في حال نبوته، وهذا خلاف مذهبك في
ارتفاع المعاصي عن الأنبياء كلهم والأئمة - عليهم السلام - لأنهم على أصلك معصومون
من الذنوب والخطأ في الدين.
فالجواب: أن الذي أذهب إليه في هذا الباب أنه لا يقع من الأنبياء
- عليهم السلام - ذنب بترك واجب مفترض، ولا يجوز عليهم خطأ في ذلك ولا سهو
يوقعهم فيه وإن جاز منهم ترك نفل ومندوب إليه على غير القصد والتعمد، ومتى
وقع ذلك منهم عوجلوا بالتنبيه عليه، فيزولون عنه في أسرع مدة وأقرب زمان.
فأما نبينا (ص) خاصة والأئمة من ذريته - عليهم السلام - فلم يقع منهم صغيرة بعد
النبوة والإمامة من ترك واجب ولا مندوب إليه، لفضلهم على من تقدمهم من
103

الحجج - عليهم السلام - وقد نطق القرآن بذلك وقامت الدلائل منه ومن غيره على ذلك
للأئمة من ذريته - عليهم السلام - قال الله تعالى وقد ذكر معصية آدم - عليه السلام -: * (وعصى
آدم ربه فغوى) * (1) فسمى المعصية غواية وذلك حكم كل معصية، إذ كان فاعلها
يخيب بفعلها من ثواب تركها، وكانت الغواية هي الخيبة في وجه من الوجوه، وعلى
مفهوم اللغة، قال الشاعر
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وقال الله سبحانه في آية الدين عند ذكر الشهود: * (فاستشهدوا شهيدين من
رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل
إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) * (2) يريد لئلا تنسى إحداهما فسمى النسيان
ضلالا، وذلك معروف في اللغة، فلما تقرر أن كل معصية غواية وكل نسيان ضلال
دل قوله سبحانه وتعالى: * (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى *) (3)
على أنه قد نفى عن نبيه عليه وآله السلام المعاصي على كل وجه والنسيان من كل
وجه، وهذا بين لمن تأمله.
قال الشيخ أدام الله عز،. وأقول: إن ترك النفل قد يسمى معصية كما أن
فعله قد يسمى طاعة لا سيما إذا وقع ذلك من نبي أو وصي أو صفي فإنهم
لمنزلتهم عند الله سبحانه يؤاخذهم بالقليل من الفعل ولا يعذرهم فيه ليؤدبهم
بذلك ويهذبهم ويزجرهم عن مثله في المستقبل، ولو وقع من غيرهم، ما كان
ليؤاخذهم به ولا يعجل لهم الأدب عليه على ما قدمت ذكره.

(1) - طه / 121.
(2) - البقرة / 282.
(3) - النجم / 1 - 2.
104

فصل
ومن كلام الشيخ وحكاياته قال الشيخ أدام الله عزه: قال أبو القاسم
الكعبي في كتاب الغرر، إن سأل سائل فقال: من أين أثبت الاجتهاد؟ قلنا: إنا
وجدنا كل مبطل له قد صار فيما أقامه مقامه إلى الاجتهاد في أنه أبطل الاجتهاد
وأوجب الوقوف في الحادثة وأوجب الأخذ بقول الإمام حسب ما تقول الرافضة
- يعني الإمامية - قال: فهو على كل حال قد صار إلى الاجتهاد لأن إيجابه الوقوف
حكم حكم به، وكذلك الأخذ بقول الإمام حكم لم ينص الله عليه ولا نص عليه
رسوله، فلما كان هؤلاء إنما أبطلوا الاجتهاد من هذه الجهة كانوا مصححين له
من حيث لا يشعرون ومثبتين أنه لا بد من الاجتهاد.
قال الشيخ أدام الله عزه: فيقال له: خبرنا عمن أثبت الأصول عندك من
جهة الاجتهاد وأبطل النص فيها ولم يعتمد عليه، وزعم أن الاجتهاد هو طريق إلى
العلم بها، أيكون النظر أصلا في إبطال مقاله؟ أم لا سبيل إلى الرد عليه إلا من
جهة التوقيف؟
فإن قال: لا سبيل إلى كسر مذهبه إلا من جهة التوقيف.
قيل له. فقد كان العقل إذن يجيز للناس وضع الشرايع كلها من جهة
الاجتهاد، وهذا خلاف مذهبك وما لا نعلم أن أحدا من الفقهاء ولا أهل العلم
كافة ركبه، على أن صحة السمع لا يخلو من أن تكون معروفة من جهة النظر أو
الخبر، فإن كانت معروفة من جهة الخبر فحكم صحة الخبر كحكمها، وهذا يؤدي
إلى ما لا نهاية له، وإن كانت معروفة بالنظر فقد ظفرنا بالبغية في إلزامك ذلك.
وإن للقائل الذي قدمنا ذكره أن يستدل على صحة مقاله بمثل استدلالك،
فيقول: وجدت كل من أبطل الاجتهاد في استخراج هذه الأحكام يضطره الأمر في
105

ذلك إلى الاجتهاد، لأنه إن استعمله مبتدئا فيه فضرورته إليه ظاهرة وإن استعمل
النص والاحتجاج بالاجماع فإنا نصححها بالاجتهاد فهو مضطر في أصل ما
اعتمد عليه إلى الاجتهاد. وهذا نظير ما قلت يا أبا القاسم لمخالفيك في الاجتهاد
في الفروع عندك، مع أنها أصول عندهم لا مجال للاجتهاد فيها ولا فصل في ذلك.
على أنه يقال له: ما أبين غفلتك! أنت تزعم أن الاجتهاد في الأحكام له حد
يمنع من الحكم على الذاهب عنه بالضلال، ومبطلوا الاجتهاد إنما أبطلوه بضرب
من النظر والاستدلال حكموا على الذاهب عنه بالضلال، فمن أين صار ما أبطله
القوم من الاجتهاد هو الذي به صححوه، وما صححوه هو الذي شهدوا بفساده
لولا سهوك عن الحق.
واعلم رحمك الله أن الذي يذهب إليه هذا الرجل ومن شاركه في خلافنا في
الحكم بالنص ليس هو اجتهاد في الحقيقة، بل هو حدس وترجيم وظن فاسد لا
ينتج يقينا ولا يولد علما ولو اعترفنا لهم بأنهم مجتهدون لما لمناهم على فعلهم لكنا
نعتقد فيهم أنهم مقصرون مفرطون تائهون ضالون، ومن أطلق لفظه بالرد على أهل
الاجتهاد في الأحكام فإنما أطلقه مجازا لأن القوم قد شهروا أنفسهم بهذه الصفة
حتى صارت كالعلم لهم، وإن كانوا بالضد منها فجرت لهم مجرى سمة المهلكة
بالمفازة واللديغ بالسليم وعين الشمس بالجونة وما أشبه ذلك، فتأمله ترشد إن
شاء الله.
قال الشيخ أدام الله عزه: وقد تعلق قوم من ضعفة متفقهة العامة ومن
جهال المعتزلة في صحة الاجتهاد والقياس بقول أمير المؤمنين - عليه السلام - " علمني
رسول الله (ص) ألف باب فتح لي كل باب ألف باب ".
فيقال لهم: وهل أصول الشريعة كلها ألف أصل وفروعها
ألف ألف وذلك نهايتها وهي محصورة بهذا العدد لا أقل
منه ولا أكثر؟ فإن زعموا ذلك قالوا قولا مرغوبا عنه
106

وقيل لهم: أرونا أصلا واحدا له ألف فرع، وقد ظهرت حجتكم وهذا ما
تعجزون عنه، وإن قالوا: ليست الأصول ألفا على التحرير وليس فيها مائة ألف
فرع، أبطلوا استدلالهم، فإن قالوا: فما وجه قول أمير المؤمنين - عليه السلام - وما تأويله؟
قيل لهم: يحتمل وجوها:
منها أن المعلم له الأبواب وهو رسول الله (ص) فتح له بكل باب منها ألف
باب ووقفه على ذلك.
ومنها أن علمه بكل باب أوجب فكره فيه فبعثه الفكر على المسألة عن
شعبه ومتعلقاته فاستفاد بالفكر فيه علم ألف باب بالبحث عن كل باب منها
ومثل هذا معنى قول النبي (ص): " من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم).
ومنها أنه نص له على علامات تكون عندها حوادث كل حادثة
يدل على حادثة إلى أن ينتهي إلى ألف حادثة فلما عرف الألف علامة عرف بكل
علامة منها ألف علامة، والذي يقرب هذا من الصواب أنه - عليه السلام - أخبرنا بأمور
تكون قبل كونها ثم قال - عليه السلام - عقيب إخباره بذلك. " علمني رسول الله
ألف باب فتح لي كل باب ألف باب ".
وقال بعض الشيعة: إن معنى هذا القول أن النبي نص له على صفة ما
فيه الحكم على الجملة دون التفصيل كقوله: " يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب "
وكان هذا بابا استفيد منه تحريم الأخت من الرضاعة والأم والخالة والعمة وبنت
الأخ وبنت الأخت، وكقول الصادق. - عليه السلام -: " الربا في كل مكيل وموزون "
فأستفيد بذلك الحكم في أصناف المكيلات والموزونات كلها. وكقوله - عليه السلام -
يحل من الطير ما يدف، ويحرم منه ما يصف، ويحل من البيض ما اختلف طرفاه،
ويحرم منه ما اتفق طرفاه، ويحل من السمك ما كان له فلوس، ويحرم منه ما ليس
له فلوس، وما أشبه ذلك. والأجوبة الأولة هي لي خاصة وأنا اعتمدتها.
107

فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه سئل عن قول الله عز وجل: * (وإن يوما عند
ربك كألف سنة مما تعدون) * (1) وقوله في موضع آخر: * (تعرج الملائكة والروح إليه
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة * فاصبر صبرا جميلا) * (2) وقوله تعالى في
موضع آخر * (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره
ألف سنة مما تعدون) * (3) وما الوجه في هذه الآيات مع اختلاف ظواهرها؟
فقال الشيخ أدام الله عز: أما معنى الأولة والثانية فإنه تحمل على التعظيم
لأمر الآخرة والإخبار عن شدته وأهواله، فاليوم الواحد من أيامها على أهل
العذاب كألف سنة من سني الدنيا لشدته وعظم بلائه وما يحل بالكافرين فيه من
أنواع العذاب.
واليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة فهو يوم المحشر وإنما طال على
الكافرين حتى صار قدره عندهم ذلك لما يشاهدون فيه من شدة الحساب
وعذاب جهنم وصعوبته، والممر على الصراط، والمعاينة للسعير وإسماعهم زفرات
النار وصوت سلاسلها وأغلالها، وصياح خزنتها، ورؤيتهم لاستطارة شررها.
ألا ترى إلى قوله تعالى: * (إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) * (4) وقد وصف الله
عز وجل ذلك اليوم وقال: * (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما

(1) - الحج / 47.
(2) - المعارج / 4 - 5
(3) - السجدة / 5.
(4) - المعارج / 6.
108

ثقيلا) * وقال تعالى: * (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل
ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) *
(2) وقال تعالى: * (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم
يومئذ شأن يغنيه) * (3) وهذا الذي ذكرناه معروف في اللسان يقول القائل " كانت
ليلتي البارحة شهرا " وقال امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويل إلا انجل * بصبح وما الاصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه * بكل مغار الفتل شدت بيذبل
والليل لم يطل في نفسه ولكن طال عليه لما قاسى فيه من الهم والسهر،
والعرب تقول ليوم الشر " هذا يوم أطول من عمر النسر ".
وأما قوله عز وجل: * (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم
كان مقداره ألف سنة مما تعدون) * فالمعنى فيه على ما ذكر أنه يعرج في يوم مقداره
لو رام بشر قطعه، لما قطعه إلا في ألف سنة، وإذا كان الأمر على ما بيناه لم يكن بين
المعاني تفاوت على ما وصفناه.

(1) - الإنسان / 27.
(2) - الحج / 2.
(3) عبس / 34 - 37.
109

فصل
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه، وكلامه في الغيبة قال. قال لي شيخ من
حذاق المعتزلة وأهل التدين بمذهبه منهم: أريد إن أسألك عن مسألة كانت
خطرت ببالي وسألت عنها جماعة ممن لقيت من متكلمي الإمامية بخراسان
وفارس والعراق فلم يجيبوا فيها بجواب مقنع.
فقلت: سل على اسم الله إن شئت.
فقال: خبرني عن الإمام الغائب عندكم أهو في تقية منك كما هو في تقية
من أعدائه؟ أم هو في تقية من أعدائه خاصة؟
فقلت له: الإمام عندي في تقية من أعدائه لا محالة وهو أيضا في تقية من
كثير من الجاهلين به ممن لا يعرفه ولا سمع به فيعاديه أو يواليه، هذا على غالب
الظن والعرف، ولست أنكر أن يكون في تقية من جماعة ممن يعتقد إمامته الآن،
فأما أنا فإنه لا تقية عليه مني بعد معرفته بي على حقيقة المعرفة والحمد لله.
فقال: هذا والله جواب طريف لم أسمعه من أحد قبلك، فأحب أن تفصل
لي وجوهه وكيف صار في تقية ممن لا يعرفه وفي تقية من جماعة تعتقد إمامته الآن
وليس هو في تقية منك إذ عرفك؟
فقلت له: أما تقيته من أعدائه فلا حاجة لي إلى الكلام فيها لظهور ذلك
وأما تقيته ممن لا يعرفه فإنما قلت ذلك على غالب الظن وظاهر الحال وذلك أنه
ليس يبعد أن لو ظهر لهم لكانوا بين أمور، إما أن يسفكوا دمه بأنفسهم لينالوا
110

بذلك المنزلة عند المتغلب على الزمان ويحوزوا به المال والرياسة، أو يسعوا به إلى
من يحل هذا الفعل به أو يقبضوا عليه ويسلموه إليه فيكون في ذلك عطبه وفي
عطبه وهلاكه عظيم الفساد.
وإنما غلب في الظن ذلك لأن الجاهل لحقه ليس يكون معه المعرفة التي
تمنعه من السعي على دمه ولا يعتقد في الكف عنه ما يعتقده المتدين بولايته وهو
يرى الدنيا مقبلة إلى من أوقع الضرر به فلم يبعد منه ما وصفناه بل قرب وبعد منه
خلافه.
وأما وجه تقيته من بعض من يعتقد إمامته الآن، فإن المعتقدين بذلك ليسوا
بمعصومين من الغلط ولا مأمونا عليهم الخطأ بل ليس مأمونا عليهم العناد
والارتداد، فلا ينكر أن يكون المعلوم منهم أنه لو ظهر لهم الإمام - عليه السلام - أو
عرفوا مكانه أن تدعوهم دواعي الشيطان إلى الاغراء به والسعي عليه والإخبار
بمكانه طمعا في العاجلة ورغبة فيها وإيثارا لها على الآجلة كما دعت دواعي
الشيطان أمم الأنبياء إلى الارتداد عن شرايعهم حتى غيرها جماعة منهم وبدلها
أكثرهم، وكما عاند قوم موسى نبيهم وإمامهم هارون وارتدوا عن شرعه الذي جاء
به هو وأخوه موسى - عليهما السلام - واتبعوا السامري، فلم يلتفتوا إلى أمر هارون ونهيه
ولا فكروا في وعظه وزجره وإذا كان ذلك على ما وصفت، لم ينكر أن تكون هذه
حال جماعة من منتحلي الحق في هذا الزمان لارتفاع العصمة عنهم.
وأما حكمي لنفسي فإنه ليس يختصني لأنه يعم كل من شاركني في المعنى
الذي من أجله حكمت وإنما خصصت نفسي بالذكر لأنني لا أعرف غيري عينا
على اليقين مشاركا لي في الباطن فأدخله معي في الذكر.
والمعنى الذي من أجله نفيت أن يكون صاحب الأمر - عليه السلام - متقيا مني
111

عند المعرفة بحالي لأنني أعلم أني عارف بالله عز وجل وبرسوله (ص) وبالأئمة
- عليهم السلام -، وهذه المعرفة تمنعني من إيقاع كفر غير مغفور والسعي على دم الإمام
- عليه السلام -، بل إخافته عندي كفر غير مغفور.
وإذا كنت على ثقة تعصمني من ذلك لما أذهب إليه في الموافاة، فقد أمنت
أن يكون الإمام في تقية مني أو ممن شاركني فيما وصفت من إخواني، وإذا تحقق
أمورنا على ما ذكرت فلا يكون في تقية مني بعد معرفته أني على حقيقة المعرفة إذ
التقية إنما هي الخوف على النفس والإخافة للإمام لا تقع من عارف بالله عز وجل
على ما قدمت.
فقال: فكأنك إنما جوزت تقية الإمام من أهل النفاق من الشيعة، فأما
المعتقدون للتشيع ظاهرا وباطنا فحالهم كحالك وهذا يؤدي إلى المناقضة لأن
المنافق ليس بمعتقد للتشيع في الحقيقة، وأنت قد أجزت ذلك على بعض الشيعة
في الحقيقة فكيف يكون هذا؟
فقلت له: ليس الأمر كما ظننت، وذلك أن جماعة من معتقدي التشيع
عندي غير عارفين في الحقيقة وإنما يعتقدون الديانة على ظاهر القول بالتقليد
والاسترسال دون النظر في الأدلة والعمل على الحجة، ومن كان بهذه المنزلة لم
يحصل له الثواب الدائم المستحق للمعرفة المانع بدلالة الخبر به عن إيقاع كفر من
صاحبه فيستحق به الخلود في الجحيم فتأمل ذلك.
قال: فقد اعترض الآن هاهنا سؤال في غير الغيبة أحتاج إلى معرفة جوابك
عنه ثم أرجع إلى المسألة في الغيبة، خبرني عن هؤلاء المقلدين من الشيعة الإمامية
أنهم كفار يستحقون الخلود بالنار؟ فإن قلت ذلك فليس في الجنة من الشيعة
الإمامية إذا غيرك لأنا لا نعرف أحدا منهم على تحقيق النظر سواك بل إن كان،
فيهم فلعلهم لا يكونون عشرين نفسا في الدنيا كلها، وهذا ما أظنك تذهب إليه،
112

وإن قلت إنهم ليسوا بكفار وهم يعتقدون التشيع ظاهرا وباطنا فهم مثلك وهذا
مبطل لما قدمت.
فقلت له: لست أقول إن جميع المقلدة كفار لأن فيهم جماعة لم يكلفوا المعرفة
ولا النظر في الأدلة لنقصان عقولهم عن الحد الذي به يجب تكليف ذلك، وإن
كانوا مكلفين عندي للقول والعمل، وهذا مذهبي في جماعة من أهل السواد
والنواحي الغامضة والبوادي والأعراب والعجم والعامة، فهؤلاء إذا قالوا وعملوا
كان ثوابهم على ذلك كعوض الأطفال والبهائم والمجانين وكان ما يقع منهم من
عصيان يستحقون عليه العقاب في الدنيا وفي يوم المآب طول زمان الحساب أو في
النار أحقابا، ثم يخرجون إلى محل الثواب.
وجماعة من المقلدة عندي كفار لأن فيهم من القوة على الاستدلال ما
يصلون به إلى المعارف فماذا انصرفوا عن النظر في طرقها فقد استحقوا الخلود في
النار فأما قولك إنه ليس في الدنيا أحد من الشيعة ينظر حق النظر إلا عشرون
نفسا أو نحوهم فإنه لو كنت صادقا في هذا المقال ما منع أن يكون جمهور الشيعة
عارفين لأن طرق المعرفة قريبة يصل إليها كل من استعمل عقله وإن لم يكن
يتمكن من العبارة عن ذلك ويسهل عليه الجدل ويكون من أهل التحقيق في
النظر وليس عدم الحذق في الجدل وإحاطة العلم بحدوده والمعرفة بغوامض
الكلام ودقيقه ولطيف القول في المسألة، دليلا على الجهل بالله عز وجل.
فقال: ليس أرى أن أصل معك الكلام في هذا الباب الآن لأن الغرض هو
القول في الغيبة ولكن لما تعلقت بمذهب غريب أحببت أن أقف عليه وأنا أعود
إلى مسألتي الأولى وأكلمك في هذا المذهب بعد هذا يوما آخر أخبرني الآن إذا لم
يكن الإمام في تقية منك فما باله لا يظهر لك فيعرفك نفسه بالمشاهدة ويريك
معجزة ويبين لك كثيرا من المشكلات ويؤنسك بقربه ويعظم قدرك بقصده
113

ويشرفك بمكانه إذا كان قد أمن منك الاغراء به وتيقن ولايتك له ظاهرة وباطنة؟
فقلت له: أول ما في هذا الباب أنني لا أقول لك إن الإمام - عليه السلام - يعلم
السرائر وإنه مما لا يخفى عليه الضمائر فتكون قد أخذت رهني بأنه يعلم مني ما
أعرفه من نفسي، وإذا لم يكن ذلك مذهبي وكنت أقول إنه يعلم الظواهر كما
يعلم البشر وإن علم باطنا فبإعلام الله عز وجل له خاصة على لسان نبيه
- عليه السلام - بما أودعه آباؤه - عليهم السلام - من النصوص على ذلك أو بالمنام الذي
يصدق ولا يخلف أبدا أو بسبب أذكره غير هذا، فقد سقط سؤالك من أصله لأن
الإمام إذا فقد علم ذلك من جهة الله عز وجل أجاز علي ما يجيزه على غيري ممن
ذكرت فأوجبت الحكمة تقيته مني وإنما تقيته مني على الشرط الذي ذكرت آنفا ولم
أقطع على حصوله لا محالة، ولم أقل إن الله عز وجل قد أطلع الإمام على باطني
وعرفه حقيقة حالي قطعا فتفرغ الكلام عليه.
على أنني لو قطعت على ذلك لكان لترك ظهوره لي وتعرفه إلي وجه واضح
غير التقية، وهو أنه - عليه السلام - قد علم أنني وجميع من شاركني في المعرفة نزول
عن معرفته ولا نرجع عن اعتقاد إمامته ولا نرتاب في أمره ما دام غائبا، وعلم أن
اعتقادنا ذلك من جهة الاستدلال، ومع عدم ظهوره لحواسنا أصلح لنا في تعاظم
الثواب وعلو المنزلة باكتساب الأعمال، إذ كان ما يقع من العمل بالمشاق الشديدة
أعظم ثوابا مما يقع بالسهولة مع الراحة، فلما علم - عليه السلام - ذلك من حالنا،
وجب عليه الاستتار عنا لنصل إلى معرفته وطاعته على حد يكسبنا من المثوبة أكثر
مما يكسبنا العلم به والطاعة له مع المشاهدة وارتفاع الشبهة التي تكون في حال
الغيبة والخواطر، وهذا ضد ما ظننت.
مع أن أصلك في اللطف يؤيد ما ذكرناه ويوجب ذلك وإن علم أن الكفر
يكون مع الغيبة والإيمان مع الظهور لأنك تقول: إنه لا يجب على الله تعالى فعل
114

اللطف الذي يعلم أن العبد إن فعل الطاعة مع عدمه كانت أشرف منها إذا فعلها
معه، فكذلك يمنع الإمام من الظهور إذا علم أن الطاعة للإمام تكون عند غيبته
أشرف منها عند ظهوره وليس يكفر القوم به في كلا الحالين وهذا بين لا إشكال
فلما ورد عليه الجواب سكت هنيئة، ثم قال: هذا لعمري جواب يستمر
على الأصول التي ذكرتها والحق أولى ما استعمل.
فقلت له: أنا أجيبك بعد هذا الجواب بجواب آخر أظنه مما قد سمعته
لأنظر كلامك عليه.
فقال: هات ذلك فإني أحب أن أستوفي ما في هذه المسألة، فقلت له: إن
قلت إن الإمام في تقية مني وفي تقية ممن خالفني ما يكون كلامك عليه؟ قال:
أفتطلق أنه في تقية منك كما هو في تقية ممن خالفك؟ قلت: لا. قال: فما الفرق بين
القولين؟ قلت: الفرق بينهما أنني إذا قلت إنه في تقية مني كما هو في تقية ممن
خالفني، أوهمت أن خوفه مني على حد خوفه من عدوه وأن الذي يحذره مني هو
الذي يحذره منه أو مثله في القبح، فإذا قلت: إنه يتقي مني وممن خالفني ارتفع
هذا الايهام، قال: فمن أي وجه اتقى منك؟ ومن أي وجه اتقى من عدوه؟ فصل
لي الأمرين حتى أعرفهما.
فقلت له: تقيته من عدوه هي لأجل خوفه من ظلمه له وقصده الإضرار به
وحذره من سعيه على دمه، وتقيته مني لأجل خوفه من إذاعتي على سبيل السهو
أو للتجمل والتشرف بمعرفته بالمشاهدة، أو على التقية مني بمن أوعزه إليه من
إخواني في الظاهر فيعقبه ذلك ضررا عليه فبان الفرق بين الأمرين.
فقال. ما أنكرت أن يكون هذا يوجب ا لمساواة بينك وبين عدوه، لأنه ليس
يثق بك كما لا يثق بعدوه، فقلت له: قد بينت الفرق وأوضحته وهذا سؤال بين
115

قد سلف جوابه وتكراره لا فائدة فيه على أنني أقلبه عليك فأقول لك: أليس قد
هرب رسول الله (ص) من أعدائه واستتر عنهم في الغار خوفا على نفسه منهم، قال:
بلى، قلت له: فهل عرف عمر بن الخطاب حال هربه ومستقره ومكانه كما عرف
ذلك أبو بكر لكونه معه؟ قال: لا أدري، قلت: فهب عرف عمر ذلك، أعرف
ذلك جميع أصحابه والمؤمنين به؟ قال: لا قلت: فأي فرق كان بين أصحابه الذين
لم يعلموا بهربه ولا عرفوا بمكانه وبين أعدائه الذين هرب منهم و هلا أبانهم من
المشركين بإيقافهم على أمره، ولم ستر ذلك عنهم كما ستره عن أعدائه؟ وما
أنكرت أن يكون لا فرق بين أوليائه وأعدائه وأن يكون قد سوى بينهم في الخوف
منهم والتقية وإلا فما الفصل بين الأمرين، فلم يأت بشئ أكثر من أنه جعل
يؤمي إلى معتمدي في الفرق بينما ألزم ولم يأت به على وجهه وعلم من نفسه العجز
عن ذلك.
قال الشريف أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي: واستزدت الشيخ أدام
الله عزه على هذا الفصل من هذا المجلس حيث اعتل بأن غيبة الامام - عليه السلام -
عن أوليائه إنما هي لطف لهم في وقوع الطاعة منهم على وجه يكون به أشرف منها
عند مشاهدته، فقلت له: فكيف يكون حال هؤلاء الأولياء عند ظهوره - عليه السلام -
، أليس يجب أن يكون القديم تعالى قد منعهم اللطف في شرف طاعاتهم وزيادة
ثوابهم؟
فقال الشيخ أدام الله عزه: ليس في ذلك منع لهم من اللطف على ما ذكرت
من قبل أنه لا ينكر أن يعلم الله سبحانه وتعالى منهم أنه لو أدام ستره عنهم
وإباحة الغيبة في ذلك الزمان بدلا من الظهور، لفسق هؤلاء الأولياء فسقا
يستحقون به من العقاب ما لا يفي أضعاف ما يفوتهم من الثواب فأظهره سبحانه
116

لهذه العلة، وكان ما يقتطعهم به عنه من العذاب، أرد عليهم وأنفع لهم مما كانوا
يكتسبونه من فضل الثواب على ما تقدم به الكلام.
قال الشيخ أيده الله: ووجه آخر وهو أنه لا يستحيل أن يكون الله تعالى قد
علم من حال كثير من أعداء الإمام - عليه السلام - أنهم يؤمنون عند ظهوره ويعترفون
بالحق عند مشاهدته ويسلمون له الأمر وأنه إن لم يظهر في ذلك الزمان أقاموا على
كفرهم وازدادوا طغيانا بزيادة الشبهة عليهم فوجب في حكمته تعالى إظهاره
لعموم الصلاح.
ولو أباحه الغيبة لكان قد خص بالصلاح ومنع من اللطف في ترك الكفر،
وليس يجوز على مذهبنا في الأصلح أن يخص الله تعالى بالصلاح، ولا يجوز أيضا أن
يفعل لطفا في اكتساب بعض خلقه منافع تزيد على منافعه إذ كان في فعل ذلك
اللطف، رفع لطفه لجماعة في ترك القبح والانصراف عن الكفر به سبحانه
والاستخفاف بحقوق أوليائه - عليهم السلام -، لأن الأصل والمدار على إنقاذ العباد من
المهالك، وزجرهم من القبائح، وليس الغرض زيادتهم في المنافع خاصة إذ كان
الاقتطاع بالألطاف عما يوجب دوام العقاب أولى من فعل اللطف فيما يستزاد به
من الثواب لأنه ليس يجب على الله تعالى أن يفعل بعبده ما يصل معه إلى نفع
يمنعه من أضعافه من النفع.
وكذلك لا يجب عليه أن يفعل اللطف له في النفع بما يمنع غيره من
أضاف ذلك النفع، وهو إذا سلبه هذا اللطف لم يستدرجه به إلى فعل القبيح،
ومتى فعله حال بين غيره وبين منافعه ومنعه من لطف ما ينصرف به عن القبيح،
وإذا كان الأمر على ما بيناه كان هذان الفصلان يسقطان هذه الزيادة.
117

فصل
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه، قال: سئل أبو محمد الفضل بن شاذان
النيشابوري رحمه الله قيل له: ما الدليل على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؟
فقال: الدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه (ص) ومن إجماع
المسلمين، فأما كتاب الله سبحانه وتعالى قوله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * (1) فدعانا سبحانه وتعالى إلى
إطاعة أولي الأمر كما دعانا إلى طاعة نفسه وطاعة رسوله (ص) فاحتجنا إلى معرفة
أولي الأمر كما وجبت علينا معرفة الله ومعرفة رسوله (ص)، فنظرنا في أقاويل الأمة
فوجدناهم قد اختلفوا في أولي الأمر وأجمعوا في الآية على ما يوجب كونها في علي
بن أبي طالب - عليه السلام -.
فقال بعضهم: أولوا الأمر هم أمراء السرايا، وقال بعضهم: هم العلماء،
وقال بعضهم: هم القوام على الناس، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر
وقال بعضهم: هم علي بن أبي طالب والأئمة من ذريته - عليهم السلام -، فسألنا الفرقة
الأولى فقلنا لهم: أليس علي بن أبي طالب من أمراء السرايا؟ فقالوا: بلى فقلنا
للثانية: ألم يكن علي - عليه السلام - من العلماء؟ قالوا: بلى. وقلنا للثالثة: أليس علي
- عليه السلام - قد كان من القوام على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فقالوا: بلى، فصار أمير المؤمنين - عليه السلام - معنيا بالآية باتفاق الأمة وإجماعها،
وتيقنا ذلك بإقرار المخالف لنا في إمامته - عليه السلام - والموافق عليها، فوجب أن يكون

(1) - النساء / 59.
118

إماما بهذه الآية لوجود الاتفاق على أنه معني بها، ولم يجب العدول إلى غيره
والاعتراف بإمامته لوجود الاختلاف في ذلك، وعدم الاتفاق وما يقوم مقامه في
البرهان.
وأما السنة: فإنا وجدنا النبي (ص) استقضى عليا - عليه السلام - على اليمن وأمره
على الجيوش وولاه الأموال وأمره بأدائها إلى بني جذيمة الذين قتلهم خالد بن
الوليد ظلما واختاره - عليه السلام - لأداء رسالات الله عز وجل والابلاغ عنه في سورة
البراءة، واستخلفه عند غيبته على من خلف ولم نجد النبي (ص) سن هذه السنن في
غيره ولا اجتمعت هذه السنن في أحد بعد النبي (ص) كما اجتمعت في علي
- عليه السلام -، وسنة رسول الله (ص) بعد موته واجبة كوجوبها في حياته، وإنما تحتاج
الأمة إلى الإمام لهذه الخصال التي ذكرناها فإذا وجدناها في رجل قد سنها الرسول
(ص) فيه كان أولى بالإمامة ممن لم يسن النبي (ص) فيه شيئا من ذلك.
وأما الاجماع فإن إمامته تثبت من جهته من وجوه:
منها أنهم قد أجمعوا جميعا على أن عليا - عليه السلام - قد كان إماما ولو يوما
واحدا، ولم يختلف في ذلك أصناف أهل الملة ثم اختلفوا، فقالت طائفة: كان
إماما في وقت كذا دون وقت كذا، وقالت طائفة: كان إماما بعد النبي (ص) في جميع
أوقاته ولم تجتمع الأمة على غيره أنه كان إماما في الحقيقة طرفة عين، والاجماع أحق
أن يتبع من الخلاف.
ومنها أنهم أجمعوا جميعا على أن عليا - عليه السلام - كان يصلح للإمامة وأن
الإمامة تصلح لبني هاشم، واختلفوا في غيره، وقالت طائفة: لم تكن تصلح لغير
علي بن أي طالب - عليه السلام -، ولا تصلح لغير بني هاشم والاجماع حق لا شبهة
فيه، والاختلاف لا حجة فيه.
119

ومنها أنهم أجمعوا على أن عليا - عليه السلام - كان بعد النبي (ص) ظاهر العدالة
واجبة له الولاية، ثم اختلفوا فقال قوم: إنه كان مع ذلك معصوما من الكبائر
والضلال، وقال آخرون: لم يك معصوما ولكن كان عدلا برا تقيا على الظاهر لا
يشوب ظاهره الشوائب فحصل الاجماع على عدالته، واختلفوا في نفي العصمة
عنه، ثم أجمعوا كلهم جميعا على أن أبا بكر لم يك معصوما واختلفوا في عدالته،
فقالت طائفة: كان عدلا وقالت أخرى: لم يكن عدلا لأنه أخذ ما ليس له، فمن
أجمعوا على عدالته واختلفوا في عصمته أولى بالإمامة ممن اختلفوا في عدالته
وأجمعوا على نفي العصمة عنه.
فصل
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه، وكلامه. حضر الشيخ مجلس أبي منصور
ابن المرزبان وكان بالحضرة جماعة من متكلمي المعتزلة فجرى كلام وخوض في
شجاعة الإمام، وهل ذلك شرط يجب في الإمامة أم لا يجب؟ ومضى فيه طرف على
سبيل المذاكرة، فقال أبو بكر بن صرايا: عندي أن أبا بكر الصديق كان من
شجعان العرب ومتقدميهم في الشجاعة.
فقال له الشيخ أدام الله عزه: من أين حصل ذلك عندك وبأي وجه عرفته؟
فقال: الدليل على ذلك أنه رأى قتال أهل الردة وحده في نفر معه وخالفه
على رأيه في ذلك جمهور الصحابة وتقاعدوا عن نصرته، فقال: أما والله لو منعوني
عقالا لقاتلتهم، ولم يستوحش من اعتزال القوم له ولا ضعف ذلك نفسه ولا منعه
من التصميم على حربهم، فلولا أنه كان من الشجاعة على حد يقصر الشجعان
عنه لما أظهر هذا القول عند خذلان القوم له.
120

فقال له الشيخ أيده الله: ما أنكرت على من قال لك إنك لم تلجأ إلى معتمد
عليه في هذا الباب وذلك أن الشجاعة لا تعرف بالحس لصاحبها فقط ولا
بإدعائها، وإنما هي شئ في الطبع يمده الاكتساب، والطريق إليها أحد أمرين:
إما الخبر عنها من جهة علام الغيوب المطلع على الضمائر فيعلم خلقه حال
الشجاع وإن لم يبد منه فعل يستدل به عليها، والوجه الآخر أن يظهر منه أفعال
يعلم بها حاله كمبارزة الأقران ومقاومة الشجعان ومنازلة الأبطال والصبر عند
اللقاء وترك الفرار عند تحقق القتال، ولا يعلم ذلك أيضا بأول وهلة ولا بواحدة
من الفعل حتى يتكرر ذلك على حد يتميز به صاحبه ممن حصل له ذلك اتفاقا أو
على سبيل الهوج والجهل بالتدبير.
وإذا كان الخبر من الله سبحانه وتعالى بشجاعة أبي بكر معدوما، وكان هذا
الفعل الدال على الشجاعة غير موجود للرجل فكيف يجوز لعاقل أن يدعي له
الشجاعة بقول قاله هو ليس من دلالتها في شئ عند أحد من أهل النظر
والتحصيل لا سيما ودلائل جبنه وهلعه وخوفه وضعفه أظهر من أن يحتاج فيها إلى
التأمل.
وذلك أنه لم يبارز قط قرنا ولا قاوم بطلا ولا سفك بيده دما، وقد شهد مع
رسول الله (ص) مشاهده فكان لكل واحد من الصحابة أثر في الجهاد إلا له، وفر في
يوم أحد، وانهزم في يوم خيبر، وولى الدبر يوم التقى الجمعان، وأسلم رسول الله (ص)
في هذه المواطن مع ما كتب الله تعالى عليه الجهاد، فكيف تجتمع دلائل الجبن
ودلائل الشجاعة لرجل واحد في وقت واحد لولا أن العصبية تميل بالعبد إلى
الهوى.
وقال له رجل من طياب الشيعة وكان حاضرا: عافاك الله أي دليل هذا
121

وكيف يعتمد عليه وأنت تعلم أن الإنسان قد يغضب فيقول: لو سامني هذا
السلطان لهذا الأمر ما قبلته، وإن عندنا لشيخا ضعيف الجسم ظاهر الجبن
يصلي بنا في مسجدنا فلا يحدث أمر يضجره وينكره إلا قال: والله لأصبرن على
هذا أو لأجاهدن فيه ولو اجتمعت علي ربيعة ومضر.
فقال: ليس الدلائل على الشجاعة ما ذكرت دون غيره، والذي اعتمدنا
عليه يدل كما يدل العقل والخبز ووجه الدلالة منه أن أبا بكر باتفاق لم يكن
مؤوف العقل ولا غبيا ولا ناقصا بل كان بالاجماع من العقلاء، وكان بالاتفاق جيد
الآراء، فلولا أنه كان واثقا من نفسه عالما بصبره وشجاعته لما قال هذا القول
بحضرة المهاجرين والأنصار وهو لا يأمن أن يقوم القوم على خلافه فيخذلونه
ويتأخرون عنه ويعجز هو لجبنه أن لو كان الأمر على ما ادعيتموه عليه، فيظهر منه
الخلف في قوله وليس يقع هذا من عاقل حكيم، فلما ثبتت حكمة أبي بكر دل
مقاله الذي حكيناه على شجاعته كما وصفناه.
فقال له الشيخ أدام الله عزه: ليس تسليمنا لعقل أبي بكر وجودة رأيه تسليما
لما ادعيت من شجاعته كما رويت عنه من القول ولا يوجب ذلك في عرف ولا
عقل ولا سنة ولا كتاب، وذلك أنه لو كان على ما ذكرت من الحكمة فليس
بممتنع أن يأتي بهذا القول مع جبنه وخوفه وهلعه ليشجع أصحابه ويحض
المتأخرين عنه على نصرته، ويحثهم على جهاد عدوه ويقوي عزمهم على معونته،
ويصرفهم عن رأيهم في خذلانه.
وهكذا يصنع الحكماء في تدبيراتهم فيظهرون فن الصبر ما ليس عندهم
ومن الشجاعة ما ليس في طبائعهم حتى يمتحنوا الأمر وينظروا عواقبه، فإن
استجاب المتأخرون عنهم ونصرهم الخاذلون لهم، وكلوا الحرب إليهم وعلقوا
122

الكلفة بهم، وإن أقاموا على الخذلان واتفقوا على ترك النصرة لهم والعدول من
معونتهم، أظهروا من الرأي خلاف ما سلف وقالوا: قد كانت الحال موجبة للقتال
وكان عزمنا على ذلك تاما، فلما رأينا أشياعنا وعامة أتباعنا يكرهون ذلك، أوجبت
الضرورة إعفاءهم عما يكرهون والتدبير لهم بما يؤثرون، وهذا أمر قد جرت به عادة
الرؤساء في كل زمان ولم يك تنقلهم من رأي إلى رأي مسقطا لأقدارهم عند الأنام.
فلا ينكر أن يكون أبو بكر إنما أظهر التصميم على الحرب لحث القوم على
موافقته في ذلك ولم يبدلهم جزعه لئلا يزيد ذلك في فشلهم ويقوى به رأيهم،
واعتمد على أنهم إن صاروا إلى أمره، ونفع هذا التدبير في تمام غرضه فقد بلغ
المراد، وإن لم ينجع ذلك عدل عن الرأي الأول كما وصفناه من حال الرؤساء في
تدبيراتهم.
على أن أبا بكر لم يقسم بالله في قتال أهل الردة بنفسه، وإنما أقسم في قتالهم
بأنصاره الذين اتبعوه على رأيه، وليس في يمينه بالله لينفذن خالدا وأصحابه
ليصلوا بالحرب، دليل على شجاعته في نفسه.
وشئ آخر وهو أن أبا بكر قال هذا القول عند غضبه لمباينة القوم له ولا
خلاف بين ذوي العقول أن الغضبان قد يعتريه عند غضبه من هيجان الطباع ما
يفسد عليه رأيه حتى يقدم من القول على ما لا يفي به عند سكون نفسه ويعمل
من الأعمال ما يندم عليه عند زوال الغضب عنه ولا يكون في وقوع ذلك منه دليل
على فساد عقله ووجوب إخراجه عن جملة أهل التدبير
وقد صرح الرجل بذلك في خطبته المشهورة عنه التي لا يختلف فيها اثنان،
وأصحابه خاصة يقولون بها ويجعلونها من مفاخره حيث يقول: " إن رسول الله
خرج من الدنيا وليس أحد من الأمة يطالبه بضربة سوط فما فوق، وكان عليه وآله
123

السلام معصوما عن الخطأ تأتيه الملائكة بالوحي فلا تكلفوني ما كنتم تكلفونه فإن
لي شيطانا يعتريني عند غضبي فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني لا أؤثر في
أشعاركم وأبشاركم ".
فقد أعذر هذا الرجل إلى القوم وأنذرهم فيما يأتيه عند غضبه من قول وفعل
ودلهم على الحال فيه، فلذلك آمن من نكير المهاجرين والأنصار عليه مقاله عند
غضبه، مع إحاطة العلم منهم بما لحقه في الحال من خلاف المخالفين عليه حتى
بعثه على ذلك المقال فلم يأت بشئ.
فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه أيضا سئل عن صلاة أبي بكر بالناس هل
كانت عن أمر النبي (ص) أم عن غير أمره؟ فقال: الذي صح في ذلك وثبت أن
عائشة قالت: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، فكان الأمر بذلك من جهتها في
ظاهر الحال، وادعى المخالفون أنها إنما أمرت بذلك عن النبي (ص) ولم تثبت لهم
هذه الدعوى بحجة يجب قبولها.
قال الشيخ أدام الله عزه: والدليل على أن الأمر كان مختصا بعائشة دون
النبي (ص) قول النبي لها عند إفاقته من غشيته وقد سمع صوت أبي بكر في
المحراب: " إنكن لصويحبات يوسف " ومبادرته معجلا معتمدا على أمير المؤمنين
- عليه السلام - والفضل بن العباس ورجلاه يخطان الأرض من الضعف حتى نحى أبا
بكر عن المحراب، فلو كان - عليه السلام - هو الذي أمره بالصلاة لما رجع باللوم على
أزواجه في ذلك ولا بادر وهو على الحال التي وصفناها حتى صرفه عن الصلاة،
ولكان قد أقره حتى يقضي فرضه ويتم الصلاة وفي صرفه له وقوله لعائشة ما
124

ذكرناه، دليل على صحة ما وصفناه.
قال الشيخ أدام الله عزه: وقد تعلق القوم في تأويل قول النبي (ص) " إنكن
لصويحبات يوسف " بشئ يدل على جهلهم، فقالوا: إن لهذا القول من النبي (ص)
سببا معروفا وهو أنه (ص) قال: قدموا أبا بكر، فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا
بكر رجل أسيف فإن قام مقامك لم يملك العبرة فمر عمر أن يصلي بالناس. فقال
النبي (ص) لها عند خلافها عليه: " إنكن لصويحبات يوسف ".
وقد كان اعترض علي بهذا الكلام شيخ من مشايخ أهل الحديث واعتمده.
فقلت له: أول ما في هذا الباب أنك قد اعترفت بخلاف عائشة للنبي (ص) وردها
عليه أمره حتى أنكر عليها ذلك، وفي الاعتراف به شهادة منك عليها بالمعصية لله
عز وعلا ولرسوله وهذا أعظم مما تنكرونه على الشيعة من شهادتهم عليها بالمعصية
بعد النبي (ص) عند محاربتها لأمير المؤمنين - عليه السلام -.
والثاني أنه لا خلاف أن النبي (ص) كان من أحكم الحكماء وأفصح الفصحاء
ولم يكن يشبه الشئ بخلافه ويمثله بضده وإنما كان يضع المثل في موضعه فلا
يخرم مما مثله به في معناه شيئا، ونحن نعلم أن صويحبات يوسف إنما عصين الله
وخالفنه بأن أرادت كل واحدة منهن من يوسف - عليه السلام - ما أرادته الأخرى
وفتنت به كما فتنت به صاحبتها، وبذلك نطق القرآن قال الله جل وعلا: * (فلما
رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم *
قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما أمره
ليسجنن وليكونا من الصاغرين) * (1).
فلو كانت عائشة دفعت الأمر عن أبيها ولم ترد شرف ذلك المقام له ولم

(1) - يوسف / 31 - 32.
125

تفتتن بمحبة الرئاسة وعلو المنزلة، لكان النبي (ص) في تشبيهها بصويحبات يوسف
قد وضع المثل في غير موضعه وشبه الشئ بضده وخلافه ورسول الله (ص) يجل عن
هذه الصفة ولا يجوز عليه النقص ويرتفع عن الجهل بحقيقة الأمثلة.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه ثبت أن التمثيل إنما وقع من النبي (ص) لموضع
خلاف المرأة له وتقدمها بالأمر لأبيها عليه لفتنتها بمحبة الاستطالة والرغبة في حوز
الفضيلة بذلك والرئاسة على ما قدمناه.
قال الشيخ أدام الله عزه: وقد قالوا أيضا في مبادرة النبي (ص) بالخروج إلى
المسجد وصرف أبي بكر عن الصلاة إنما كان ذلك لأن المسلمين كانوا متعلقي
القلوب برسول الله (ص) محزونين بتأخره عنهم فخشى - عليه السلام - أن يتأخر عنهم
فيختلفوا ويرجف عليه منهم المرجفون، ولم يبادر إلى ما ذكرتموه من الانكار لصلاة
أبي بكر بالناس.
فيقال لهم لو كان الأمر على ما وصفتموه لما نحى رسول الله بين أبا بكر عن
المحراب، ولأمكنه الوصول إلى غرضه مع إتمام أبي بكر للصلاة بأن كان عليه وآله
السلام يخرج إلى القوم عند فراغ أبي بكر من الصلاة فيشاهدونه على حال
الاستقلال ويسرون بلقائه ويبطل ما يتخوفونه من أراجيفهم عليه، ولا يعزل
الرجل عن صلاة قد أمره بإقامتها ليدل بذلك على أنه قد أحدث ما يوجب عزله
أو يكشف عن حال مستحقة له كانت مستورة عن الأنام، لأجلها لم يصح أن
يصلي بالناس أو يكون القول على ما قلناه من الله لم يكن عن أمره - عليه السلام - تلك
الصلاة، أو كان عليه وآله السلام لما خرج صلى خلفه كما فعل على أصولكم مع
عبد الرحمان لما أدركه وهو في الصلاة فلم يعزله عن المقام وصلى - عليه السلام - خلفه
مع المؤتمين به من الناس.
126

وقد علم العقلاء بالعادة الجارية أن الذي يقدم إنسانا في مقام يشرف به
قدره ويعظم به منزلته لا يبادر بعد تقديمه بغير فصل إلى صرفه وحط تلك الرتبة
التي كان جعلها له إلا لحادث يحدثه أو اعتراض أمر ظاهر يرفع الشبهة بظهوره
من (غير ن خ) تغير حاله الموجبة لصرفه، وإن الفعل الذي وقع من النبي (ص) في باب أبي
بكر مع القول الذي اقترن إليه من التوبيخ لزوجته لا يكون من الحكماء إلا للنكير
المحض، والدلالة على استدراك ما كان يفوت من الصلاح بالفعل لو لم يقع فيه
ذلك البدار ومن أنكر ما وصفناه خرج من العرف والعادات.
وقد زعم قوم من أهل العناد أن النبي (ص) لم يعزل أبا بكر عن الصلاة
بخروجه إلى المسجد وأنه كان مع ذلك على إمامته في الصلاة، قلنا لهم فكان أبو
بكر إماما للنبي (ص) وكان الرسول مؤتما به في الحال؟ فقالوا بأجمعهم: لا. قلنا لهم:
أفكان شريكا للنبي (ص) في إمامة الصلاة حتى كانا جميعا إمامين للمسلمين في
تلك الصلاة؟ فقالوا أيضا: لا. قلنا لهم: أفليس لما خرج النبي (ص) كان هو إمام
المسلمين في تلك الصلاة وصار أبو بكر بعد أن كان إمامهم فيها مؤتما كأحد
الجماعة بالنبي (ص)؟ قالوا: بلى، قلنا لهم: من لا يعقل أن هذا صرف له من المقام
فليس يعقل شيئا على الوجوه والأسباب، وهذه الطائفة رحمك الله جهال جدا
وأوباش غمار، ولعل معاندا منهم لا يبالي بما قال، يرتكب القول بأن أبا بكر كان
باقيا على إمامته في الصلاة بعد خروج النبي (ص).
فيقال له: هذا خروج من الاجماع، ومع أنه خروج من الاجماع فما معنى ما
جاء به التواتر وحصل عليه الإطباق من أن رسول الله (ص) صلى بالناس ثم
الاختلاف في ابتدائه من حيث ابتدأ أبو بكر من القرآن أو من حيث انتهى من
القرآن، ومع ذلك فإذا كان أبو بكر هو الإمام للنبي (ص) في آخر صلاة صلاها
127

- عليه السلام - فواجب أن يكون النبي (ص) معزولا عن إمامة أمته ومصروفا عن النبوة
لأن الله تعالى أخره في آخر أيامه عن المقام وختم بذلك عمله في ملة الإسلام،
وليس يشبه هذا ما يدعونه في صلاته خلف عبد الرحمان فإن ذلك وإن كان أيضا
ظاهر الفساد فقد صلى رسول الله (ص) بعد ذلك بالناس وأخر عبد الرحمان عما
كان قدمه فيه ولم يجب أن تثبت سنته بتقدمه عليه إذ أفعال رسول الله (ص) ينسخ
بعضها بعضا فلا تثبت السنة منها إلا بما استقر، وآخر أفعاله - عليه السلام - سنة ثابتة
إلى آخر الزمان.
فصل
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه وكلامه، قال الشيخ: كان يختلف إلي
حدث من أولاد الأنصار ويتعلم الكلام فقال لي يوما: اجتمعت البارحة مع
الطبراني شيخ من الزيدية. فقال لي: أنتم يا معشر الإمامية حنبلية وأنتم تستهزؤون
بالحنبلية، فقلت له: وكيف ذلك؟ فقال: لأن الحنبلية تعتمد على المنامات وأنتم
كذلك، والحنبلية تدعي المعجزات لأكابرها وأنتم كذلك، والحنبلية ترى زيارة
القبور والاعتكاف عندها وأنتم كذلك فلم يكن عندي جواب أرتضيه، فما
الجواب؟
قال الشيخ أدام الله عزه: فقلت له: ارجع إليه فقل له: قد عرضت ما ألقيته
إلي على فلان فقال لي: قل له إن كانت الإمامية حنبلية بما وصفت أيها الشيخ
فالمسلمون بأجمعهم حنبلية والقرآن ناطق بصحة الحنبلية وصواب مذاهب أهلها،
وذلك أن الله تعالى يقول: * (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا
والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين * قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك
128

فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين) * (1).
فأثبت الله جل اسمه المنام وجعل له تأويلا عرفه أولياؤه - عليهم السلام - وأثبتته
الأنبياء ودانت به خلفاؤهم وأتباعهم من المؤمنين واعتمدوه في علم ما يكون
وأجروه مجرى الخبر مع اليقظة وكالعيان له.
وقال سبحانه: * (ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا
وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من
المحسنين) * (2) فنبأهما - عليه السلام - بتأويله وذلك على تحقيق منه لحكم المنام، وكان
سؤالهما له مع جهلهما بنبوته دليلا على أن المنامات حق عندهم، والتأويل لأكثرها
صحيح إذا وافق معناها، وقال عز اسمه: * (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان
يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في
رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون * قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام
بعالمين) * (3) ثم فسرها يوسف - عليه السلام - وكان الأمر كما قال.
وقال تعالى في قصة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام -: * (فلما بلغ معه السعي
قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر
ستجدني إن شاء الله من الصابرين) * (4) فأثبتا - عليهما السلام - الرؤيا وأوجبا الحكم ولم
يقل إسماعيل لأبيه - عليه السلام - يا أبت لا تسفك دمي برؤيا رأيتها فإن الرؤيا قد
تكون من حديث النفس وأخلاط البدن وغلبة الطباع بعضها على بعض كما
ذهبت إليه المعتزلة.

(1) - يوسف / 4 - 5.
(2) - يوسف / 36.
(3) - يوسف / 43 - 44.
(4) - الصافات / 102.
129

فقول الإمامية في هذا الباب ما نطق به القرآن، وقول هذا الشيخ هو قول
الملأ من أصحاب الملك حيث قالوا: * (أضغاث أحلام) * ومع ذلك فإنا لسنا نثبت
الأحكام الدينية من جهة المنامات وإنما نثبت من تأويلها ما جاء الأثر به عن ورثة
الأنبياء - عليهم السلام -.
فأما قولنا في المعجزات فهو كما قال الله تعالى: * (وأوحينا إلى أم موسى أن
أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه
من المرسلين) * (1).
فضمن هذا القول تصحيح المنام إذ كان الوحي إليها في المنام، وضمن
المعجز لها لعلمها بما كان قبل كونه.
وقال سبحانه في قصة مريم - عليها السلام -: * (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم
من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني
مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) * (2). فكان نطق المسيح
- عليه السلام - معجزا لمريم - عليها السلام - إذ كان شاهدا ببراءة ساحتها. وأم موسى
- عليه السلام - ومريم لم تكونا نبيين ولا مرسلين ولكنهما كانتا من عباد الله الصالحين.
فعلى مذهب هذا الشيخ كتاب الله يصحح الحنبلية.
وأما زيارة القبور فقد أجمع المسلمون على وجوب زيارة رسول الله (ص) حتى
رووا من حج ولم يزره متعمدا فقد جفاه (ص) وثلم حجه بذلك الفعل، وقد قال
رسول الله (ص): " من سلم علي من عند قبري سمعته ومن سلم علي من بعيد
بلغته سلام الله عليه ورحمته وبركاته " وقال (ص) للحسن - عليه السلام -: " من زارك بعد
موتك أو زار أباك أو زار أخاك فله الجنة ".

(1) - القصص / 7.
(2) - مريم / 29 - 31.
130

وقال أيضا في حديث له أوله مشروح في غير هذا الكتاب: " تزوركم طائفة
من أمتي تريد به بري وصلتي فإذا كان يوم القيامة زرتها في الموقف فأخذت
بأعضادها فأنجيتها من أهواله وشدائده "، ولا خلاف بين الأمة أن رسول الله (ص)
لما فرغ من حجة الوداع لاذ بقبر قد درس فقعد عنده طويلا ثم استعبر فقيل له يا
رسول الله ما هذا القبر؟ فقال: هذا قبر أمي آمنة بنت وهب سألت الله في زيارتها
فأذن لي.
وقال (ص): " قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وكنت
نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروها ".
وقد كان أمر في حياته (ص) بزيارة قبر حمزة - عليه السلام - وكان يلم به
وبالشهداء، ولم تزل فاطمة - عليها السلام - بعد وفاته (ص) تغدو إلى قبره وتروح
والمسلمون يثابرون على زيارته وملازمة قبره (ص) فإن كان ما يذهب إليه الإمامية من
زيارة مشاهد الأئمة - عليهم السلام - حنبلية وسخفا من الفعل، فالإسلام مبني على
الحنبلية ورأس الحنبلية رسول الله (ص)، وهذا قول متهافت جدا يدل على قلة دين
قائله وضعف رأيه وبصيرته.
ثم قلت له: يجب أن تعلم أن الذي حكيت عنه قد حرف القول وقبحه ولم
يأت به على وجهه، والذي نذهب إليه في الرؤيا أنها على أضرب. فضرب منه يبشر
الله به عباده ويحذرهم وضرب تهويل من الشيطان وكذب يخطر ببال النائم،
وضرب من غلبة الطباع بعضها على بعض، ولسنا نعتمد على المنامات كما حكاه
لكننا نأنس بما نبشر به، ونتخوف مما نحذر منها ومن وصل إليه شئ من علمها
عن ورثة الأنبياء - عليهم السلام - ميز بين حق تأويلها وباطله ومتى لم يصل إليه شئ
من ذلك كان على الرجاء والخوف.
وهذا يسقط ما لعله سيتعلق به في منامات الأنبياء - عليهم السلام - من أنها وحي
131

لأن تلك مقطوع بصحتها وهذه مشكوك فيها مع أن منها أشياء قد اتفق ذوو
العادات على معرفة تأويلها حتى لم يختلفوا فيه ووجدوه حسنا.
وهذا الشيخ لم يقصد بكلامه الإمامية ولكنه قصد الأمة ونصر البراهمة
والملحدة، مع أني أعجب من هذه الحكاية عنه وأنا أعرفه يميل إلى مذهب أبي
هاشم ويعظمه ويختاره، وأبو هاشم يقول في كتابه " المسألة في الإمامة ": إن أبا بكر
رأى في المنام كأن عليه ثوبا جديدا عليه رقمان ففسره على النبي (ص) فقال له إن
صدقت رؤياك تبشر بخير (فستخبر بولد ن خ) وتلي الخلافة سنتين، فلم
يرض شيخه أبو هاشم أن أثبت المنامات حتى أوجب بها الخلافة وجعلها دلالة
على الإمامة فيجب على قول هذا الشيخ الزيدي عند نفسه أن يكون أبو هاشم
رئيس المعتزلة عنده حنبليا بل يكون عنده أبو بكر حنبليا بل رسول الله (ص) لأنه
صحح المنام وأوجب به الأحكام، وهذا من بهرج المقال.
فصل
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه أيضا وكلامه، قال أيده الله: حضرت
بمجمع لقوم من الرؤساء وكان فيهم شيخ من أهل الري معتزلي يعظمونه لمحل
سلفه وتعلقه بالدولة فسئلت عن شئ من الفقه فأفتيت فيه على المأثور عن
الأئمة - عليهم السلام -.
فقال ذلك الشيخ. هذه الفتيا تخالف الاجماع.
فقلت له: إجماع من تعني عافاك الله؟
فقال: إجماع الفقهاء المعروفين بالفتيا في الحلال والحرام من فقهاء الأمصار
فقلت له: هذا أيضا مجمل من القول، فهل يدخل آل محمد - عليهم السلام - في
132

جملة هؤلاء الفقهاء أم تخرجهم عن الاجماع؟
فقال: بل أجعلهم في صدر الفقهاء ولو صح عنهم ما تروونه لما خالفناه.
فقلت له: هذا مذهب لا أعرفه لك ولا لمن أومأت إليه ممن جعلتهم الفقهاء
لأن القوم بأجمعهم يرون الخلاف على أمير المؤمنين - عليه السلام - وهو سيد أهل البيت
- عليهم السلام - في كثير مما قد صح عنه من الأحكام فكيف تستوحشون من خلاف
ذريته - عليهم السلام - وتوجبون على أنفسكم قبول قولهم على كل حال؟
فقال: معاذ الله ما نذهب إلى هذا ولا يذهب إليه أحد من الفقهاء، وهذه
شناعة منك على القوم بحضرة هؤلاء الرؤساء.
- فقلت له: لم أحك إلا ما أقيم عليه البرهان ولا ذكرت إلا معروفا لا يمكن
أحدا من أهل العلم دفعي عنه لما هو عليه من الاشتهار لكنك أنت تريد أن
تتجمل بضد مذهبك عند هؤلاء الرؤساء، ثم أقبلت على القوم فقلت: لا خلاف
عند شيوخ هذا الرجل وأئمته وفقهائه وساداته أن أمير المؤمنين - عليه السلام - قد يجوز
عليه الخطأ في شئ يصيب فيه عمرو بن العاص زيادة على ما حكيت عنه من
المقال فاستعظم القوم ذلك وأظهروا البراءة من معتقديه وأنكره هو وزاد في
الانكار فقلت له: أليس من مذهبك ومذهب هؤلاء الفقهاء أن عليا - عليه السلام - لم
يكن معصوما كعصمة النبي (ص)؟ قال: بلى. قلت: فلم لا يجوز عليه الخطأ في
شئ من الأحكام؟ فسكت.
ثم قلت له: أليس عندكم أن أمير المؤمنين - عليه السلام - قد كان يجتهد برأيه في
كثير من الأحكام وأن عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة
كانوا من أهل الاجتهاد؟ قال: بلى. قلت له: ما الذي يمنع من إصابة هؤلاء القوم
ما يذهب على أمير المؤمنين - عليه السلام - من جهة الاجتهاد مع ارتفاع العصمة عنه
وكون هؤلاء القوم من أهل الاجتهاد؟. فقال: ليس يمنع من ذلك مانع. فقلت له:
133

فقد أقررت ما أنكرت الآن، ومع هذا أفليس من أصلك أن كل أحد بعد
النبي (ص) يؤخذ من قوله ويترك إلا ما انعقد عليه الاجماع؟ قال: بلى. قلت: أفليس
هذا يسوغكم الخلاف على أمير المؤمنين - عليه السلام - في كثير من أحكامه التي لم يقع
عليها الاجماع؟
وبعد فليست بي حاجة إلى هذا التعسف ولا أنا مفتقر فيما حكيت إلى هذا
الاستدلال لأنه لا أحد من الفقهاء إلا وقد خالف أمير المؤمنين - عليه السلام - في بعض
أحكامه ورغب منها إلى غيره، وليس فيهم أحد وافقه في جميع ما حكم فيه
- عليه السلام - من الحلال والحرام.
وإني لأعجب من إنكارك لما ذكرت وصاحبك الشافعي يخالف أمير
ا لمؤمنين - عليه السلام - في الميراث وا لمكاتب ويذهب إلى قول زيد فيهما.
ويروي عنه - عليه السلام - أنه كان لا يرى الوضوء من مس الذكر ويقول هو إن
الوضوء منه واجب، وإن عليا - عليه السلام - خالف الحكم فيه بضرب من الرأي.
وحكى الربيع عنه في كتابه المشهور عنه أنه قال: لا بأس بصلاة الجمعة
والعيدين خلف كل أمين وغير مأمون ومتغلب، صلى علي بالناس وعثمان محصور،
فجعل الدلالة على جواز الصلاة خلف المتغلب على أمر الأمة صلاة الناس
خلف علي - عليه السلام - في زمن حصر عثمان، فصرح بأن عليا - عليه السلام - كان متغلبا،
ولا خلاف أن المتغلب على أمر الأمة فاسق ضال، وقال لا بأس بالصلاة خلف
الخوارج لأنهم متأولون وإن كانوا فاسقين، فمن يكون هذا مذهبه ومقالة إمامه
وفقيهه، يزعم معه أنه لو صح له عن أمير المؤمنين - عليه السلام - شئ أو عن ذريته
الطاهرين - عليهم السلام - لدان به لولا أن الذاهب إلى هذا يريد التلبيس.
وليس في فقهاء الأمصار سوى الشافعي إلا وقد شارك الشافعي في الطعن
134

على أمير المؤمنين - عليه السلام - وتزييف كثير من قوله والرد عليه في أحكامه حتى إنهم
يصرحون بأن الذي يذكره أمير المؤمنين - عليه السلام - في الأحكام معتبر فإن أسنده إلى
النبي (ص) قبلوه منه على ظاهر العدالة كما يقبلون من أبي موسى الأشعري وأبي
هريرة والمغيرة بن شعبة مما يسنده إلى النبي (ص)، بل كما يقبلون من حمال في السوق
على ظاهر العدالة ما يرويه مسندا إلى النبي (ص) وأما ما قاله أمير المؤمنين - عليه السلام -
من غير إسناد له إلى الرسول (ص) كان موقوفا على صبرهم ونظرهم واجتهادهم فإن
وضح لهم صوابه فيه قالوا به من حيث النظر لا من حيث حكمه به وقوله. وإن
عثروا على خطأ فيه اجتنبوه وردوا عليه وعلى من اتبعه فيه.
فزعموا أن آراءهم هي المعيار على قوله - عليه السلام -. وهذا، لا يذهب إليه من
وجد في صدره جز من مودته صلوات الله عليه وسلامه وحقه الواجب له
- عليه السلام - وتعظيمه الذي فرضه الله عز وجل ورسوله، بل لا يذهب إلى هذا القول
إلا من رد على رسول الله (ص): " علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار "
وقوله: " أنا مدينة العلم وعلي بابها "، وقوله: " علي أقضاكم " وقول أمير المؤمنين
- عليه السلام -: " ضرب رسول الله (ص) بيده على صدري وقال: اللهم اهد قلبه وثبت
لسانه فما شككت في قضاء بين اثنين ". فلما ورد عليه هذا الكلام تحير وقال: هذه
شناعات على الفقهاء والقوم لهم حجج على ما حكيت عنهم.
فقال له بعض الحاضرين: نحن نبرأ إلى الله من هذا المقال ومن كل دائن
به، وقال له أخ إن كان مع القوم حجج على ما حكاه الشيخ فهي حجج على
إبطال ما ادعيت أولا من ضد هذه الحكاية، ونحن نعيذك بالله من أن تذهب إلى
هذا القول فإن كل شئ تظنه حجة عليه فهو كالحجة في إبطال نبوة النبي
فسكت مستحيا مما جرى وتفرق الجمع.
135

فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه في تفسير القرآن، سئل عن قوله تعالى:
* (علمت نفس ما قدمت وأخرت) * (1) وعن قوله تعالى: * (ينبأ الإنسان يومئذ بما
قدم وأخر) * (2)، وقيل له ما هو المقدم هاهنا والمؤخر؟
فقال: أما ما قدمه الإنسان فهو ما عمله في حياته مما لم يكن له أثر بعد
وفاته، وأما الذي أخره فهو ما سنه في حياته فاقتدى به بعد وفاته.
وهذا مبين في قول النبي (ص): " من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من
عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها
إلى يوم القيامة ".
وقد قال سبحانه: * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) * (3) يريد به
عقاب إضلالهم لمن أضلوه من الناس، والأصل في هذا تعاظم العقاب عليهم بما
يفعل من القبيح في الاقتداء بهم، وتعاظم الثواب لهم بما يصنع من الجميل
بالاتباع لسنتهم الحسنة في الناس.

(1) - الانفطار / 5.
(2) - القيامة / 13.
(3) - العنكبوت / 13.
136

فصل
وسئل الشيخ أدام الله عزه عن قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله
وكونوا مع الصادقين) * (1) فقيل له: فيمن نزلت هذه الآية؟ فقال: في أمير المؤمنين
- عليه السلام - وجرى حكمها في الأئمة من ذريته الصادقين - عليهم السلام -.
قال الشيخ أدام الله عزه: وقد جاءت آثار كثيرة في ذلك، ومما يدل على
صحة هذا التأويل ما أنا أذكره بمشيئة الله وعونه. قد ثبت أن الله سبحانه دعا
المؤمنين في هذه الآية إلى اتباع الصادقين والكون معهم فيما يقتضيه الدين، وثبت
أن المنادى به يجب أن يكون غير المنادى إليه لاستحالة أن يدعى الإنسان إلى
الكون مع نفسه واتباعها.
فلا يخلو أن يكون الصادقون الذين دعا الله تعالى إليهم جميع من صدق
وكان صادقا حتى يعمهم اللفظ ويستغرق جنسهم أو يكونوا بعض الصادقين،
وقد تقدم إفسادنا لمقال من زعم أنه عم الصادقين لأن كل مؤمن فهو صادق
بإيمانه فكان يجب بذلك أن يكون الدعاء للإنسان إلى اتباع نفسه وذلك محال على
ما ذكرناه.
وإن كانوا بعض المؤمنين دون بعض فلا يخلو من أن يكونوا معهودين
معروفين فتكون الألف واللام إنما دخلا للمعهود أو يكونوا غير معهودين، فإن
كانوا معهودين فيجب أن يكونوا معروفين غير مختلف فيهم، وتأتي الروايات
بأسمائهم والإشارة إليهم خاصة وأنهم طائفة معروفة عند من سمع الخطاب من

(1) - التوبة / 119.
137

الرسول (ص)، وفي عدم ذلك دليل على بطلان مقال من ادعى أن هذه الآية نزلت
في جماعة غير من ذكرناه كانوا معهودين.
وإن كانوا غير معهودين فلا بد من الدلالة عليهم ليتميزوا ممن يدعي
مقامهم وإلا بطلت الحجة لهم وسقط تكليف اتباعهم، وإذا ثبت أنه لا بد من
الدليل عليهم ولم يدع أحد من الفرق دلالة على غير من ذكرناه، ثبت أنها فيهم
خاصة لفساد خلو الأمة كلها من تأويلها وعدم أن يكون القصد إلى أحد منهم
بها.
على أن الدليل قائم على أنها فيمن ذكرناه لأن الأمر ورد باتباعهم على
الاطلاق وذلك يوجب عصمتهم وبراءة ساحتهم والأمان من زللهم بدلالة
إطلاق الأمر باتباعهم، والعصمة توجب النص على صاحبها بلا ارتياب، وإذا
اتفق مخالفونا على نفي العصمة والنص عمن ادعوا له تأويل هذه الآية، فقد ثبت
أنها في الأئمة - عليهم السلام - لوجود النقل بالنص عليهم وإلا خرج الحق عن أمة محمد
(ص) وذلك فاسد.
مع أن في القرآن دليلا على ما ذكرناه وهو أن الله سبحانه قال: * (ليس البر
أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله. واليوم الآخر
والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا
عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأساء أولئك الذين صدقوا وأولئك
هم المتقون) * (1) فجمع الله تبارك اسمه وتعالى هذه الخصال كلها ثم شهد لمن

(1) - البقرة / 177.
138

كملت فيه بالصدق والتقى على الاطلاق، فكان مفهوم معنى الآيتين الأولى وهذه
الثانية أن اتبعوا الصادقين الذين باجتماع هذه الخصال التي عددناها فيهم،
استحقوا إطلاق الاسم بصادقين.
ولم نجد أحدا من أصحاب رسول الله (ص) اجتمعت فيه هذه الخصال إلا
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - فوجب أنه الذي عناه الله سبحانه بالآية
وأمر فيها باتباعه والكون معه فيما يقتضيه الدين، وذلك أنه ذكر الإيمان به جل
اسمه وتعالى واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، فكان أمير المؤمنين
- عليه السلام - أول الناس إيمانا به وبما وصف بالأخبار المتواترة بأنه أول من أجاب
رسول الله (ص) من الذكور وبقول النبي لفاطمة - عليها السلام -: " زوجتك أقدمهم سلما
وأكثرهم علما ".
وقول أمير المؤمنين - عليه السلام -: " أنا عبد الله وأخو رسوله لم يقلها أحد قبلي
ولا يقولها أحد بعدي إلا كذاب مفتر صليت قبلهم سبع سنين "، وقوله
- عليه السلام -: " اللهم إني لا أقر لأحد من هذه الأمة عبدك قبلي "، وقوله - عليه السلام -
وقد بلغه من الخوارج مقالا أنكره، " لا أم يقولون إن عليا يكذب أفعلى من أكذب
أعلى الله فأنا أول من عبده أم على رسول الله (ص) فأنا أول من آمن به وصدقه
ونصره " وقول الحسن - عليه السلام - صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين
- عليه السلام -: " لقد قبض في الليلة رجل ما سبقه الأولون بعمل ولا بدركه الآخرون "
في أدلة يطول شرحها على ذلك.
ثم أردف الوصف الذي تقدم، بإيتاء المال على حبه ذوي القربى
واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ووجدنا ذلك
139

لأمير المؤمنين - عليه السلام - بالتنزيل وتواتر الأخبار به على التفصيل.
قال الله عز وجل: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) * (1)
واتفقت الرواة من الفريقين الخاصة والعامة على أن هذه الآية بل السورة كلها
نزلت في أمير المؤمنين وزوجته فاطمة وابنيه - عليهم السلام -، وقال سبحانه: * (الذين
ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم
ولا هم يحزنون) * (2).
وجاءت الرواية أيضا مستفيضة بأن المعني بهذا أمير المؤمنين - عليه السلام - ولا
خلاف أنه أعتق من كد يده جماعة لا يحصون كثرة ووقف أراضي كثيرة وعينا
استخرجها - عليه السلام - وأحياها بعد موتها فانتظم الصفات على ما ذكرناه.
ثم أردف ذلك قوله: * (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) *. وكان هو المعني بها
- عليه السلام - بدلالة قوله: * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون) * (3) واتفق أهل النقل على أنه صلوات الله عليه
المزكي في حال ركوعه في الصلاة فطابق هذا الوصف وصفه في الآية المتقدمة
وشاركه في معناها.
ثم أعقب ذلك قوله: * (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) * وليس أحد من
الصحابة إلا من نقض العهد في الظاهر أو تقول ذلك عليه إلا أمير المؤمنين
- عليه السلام - فإنه لا يمكن لأحد أن يزعم أنه نقض ما عاهد عليه رسول الله (ص) من
النصرة والمساواة فاختص أيضا بهذا الوصف.

(1) - الدهر / 76.
(2) - البقرة / 274.
(3) - المائدة / 55.
140

ثم قال سبحانه: * (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس) * ولم يوجد
أحد صبر مع رسول الله (ص) عند الشدائد غير أمير المؤمنين - عليه السلام - فإنه باتفاق
وليه وعدوه لم يول دبرا ولا فر من قرن ولا هاب في الحرب خصما.
فلما استكمل - عليه السلام - هذه الخصال بأسرها قال سبحانه: * (أولئك الذين
صدقوا) * يعني به أن المدعو إلى اتباعه من جملة الصادقين، هو من دل على اجتماع
الخصال فيه وذلك أمير المؤمنين - عليه السلام -، وإنما عبر عنه بحرف الجمع تعظيما له
وتشريفا، إذ العرب تضع لفظ الجمع على الواحد إذا أرادت أن تدل على نباهته
وعلو قدره وشرف محله، وإن كان قد يستعمل فيمن لا يراد له ذلك إذا كان
الخطاب يتوجه إليه ويعم غيره بالحكم. ولو جعلنا المعنى في لفظ الجمع بالعبارة
عن أمير المؤمنين - عليه السلام - لكان لذلك وجها لأنه وإن خص بالذكر فإن الحكم
جار فيمن يليه من أئمة الهدى - عليهم السلام - على ما قد شرحناه. وهذا بين والله
نسأل توفيقا نصل به إلى الرشاد بمنه.
فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه في توبة طلحة والزبير على ما تدعيه المعتزلة
من ذلك، قال الشيخ أدام الله عزه: أما طلحة فقتل بين الصفين وهو مصمم على
الحرب، وهذه حال ظاهرها الإقامة على الفسق، ومن ادعى باطنا غيرها فقد ادعى
علم غيب لا يجب قبوله منه إلا ببرهان ولا برهان على ذلك، مع أن الأخبار قد
جاءت مستفيضة عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه مر به وهو قتيل فقال لأصحابه:
أجلسوا طلحة فأجلسوه فقال: هل وجدت ما وعدك ربك حقا فقد وجدت ما
وعدني ربي حقا، ثم قال: أضجعوا طلحة وقال في موضع آخر وقد مر به: لقد كان
141

لك برسول الله صحبة لكن الشيطان دخل منخريك فأوردك النار.
وكتب - عليه السلام - إلى عماله في الآفاق بالفتح وكان فيه. " إن الله تعالى قتل
طلحة والزبير على بغيهما وشقاقهما ونكثهما وهزم جمعهما ورد عائشة خاسرة " في
كلام طويل، ولو كان الرجل تائبا لما قال هذا القول فيه أمير المؤمنين - عليه السلام -،
مع أنا إن جوزنا توبة طلحة مع الحال التي وصفناها ووجب علينا الشك في أمره
والانتقال عن ظاهر حاله، وجب أن يشك في كل فاسق وكافر ظهر لنا ضلاله ولم
يظهر منه ندمه بل كان على ظاهر الضلال إلى وقت خروجه من الدنيا، وهذا
فاسد. وقد استقصيت القول في هذا الباب في كتابي المعروف بالمسألة الكافية.
وأما الزبير فقتل وهو منهزم من غير إظهار ندم ولا إقلاع ولا توبة، ولو كان
انصرافه للندم والتوبة لكان يصير إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - ويكون مصير إلى
حيزه ويظهر نصرته ومعونته كما جرد في حربه وعداوته، ولو جاز أن يقطع على
توبته ويجب علينا ولايته مع ما وصفناه، لوجب على المسلمين أن يقطعوا على توبة
كل منهزم عن الرسول (ص) وإن لم يصيروا إلى حيزه ولا أظهروا الاقرار بنبوته،
وقد تعلق القوم في باب الزبير بقولين رويا عن أمير المؤمنين - عليه السلام -
أما أحدهما: فإنهم ذكروا أن الزبير رجع عن الحرب بعد أن ذكره أمير
المؤمنين - عليه السلام - كلام رسول الله (ص) فقال له عبد الله ابنه: يا أبت تتركنا في مثل
هذا المقام وتنصرف عنا في مثل هذه الحال. فقال له: يا بني إن عليا ذكرني أمرا
أنسانيه الدهر، فقال له عبد الله: لا ولكنك فررت من سيف ابن أبي طالب،
فقالوا: فرجع الزبير عند ذلك كارا على أصحاب أمير المؤمنين - عليه السلام - فقال أمير
المؤمنين: أفرجوا للشيخ فإنه محرج. قالوا: فلما شهد له أمير المؤمنين - عليه السلام -
بذلك وكف أصحابه عن قتله دل على ندمه وتوبته.
142

والقول الآخر زعموا أن ابن جرموز لما جاء برأس الزبير وبسيفه إلى أمير
المؤمنين - عليه السلام - قال له: سمعت رسول الله (ص) يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار
قالوا: فلو لم يكن الزبير تائبا لما كان قاتله ضالا من أهل النار ولو لم يكن من أهل
الجنة لما كان قاتله من أهل النار
قال الشيخ أدام الله عزه: فيقال لهم: إن كان رجوع الزبير عند أذكار أمير
المؤمنين - عليه السلام - توبة توجب مدحه فالإنصاف يوجب أن رجوعه عند تحريض
ابنه له نقض للتوبة وإصرار يوجب ذمه، بل رجوعه إلى القتال على الوجه الذي
روي أسوأ الحالة لأنه يدل على عناده بارتفاع الشبهة عنه في فسقه به وضلاله،
ولأنه ترك الديانة للحمية والعصبية والأنفة ومحبة الرياسة، وهذا بخلاف ما
ظننتموه.
أما قول أمير المؤمنين - عليه السلام -: " أفرجوا للشيخ فإنه محرج " فإنه متى صح
كان على الاستهزاء والذم لأنه لا يجوز أن يأمر - عليه السلام - أصحابه بالتمكين لعدوه
من حربه ولا يجيز لهم تسويغه إظهار خلافه، ولأن الحرج لا يدعو إلى الفسق ولا
يبعث على خلاف الحق، مع أن الذي كان من ابن الزبير غير محرج لأهل الإيمان
إلى إظهار الضلال ولا ملجئ لأحد من الخلق إلى ارتكاب المعاصي والطغيان،
فعلم أن قول أمير المؤمنين - عليه السلام - متى صح عنه صلوات الله عليه وسلامه خرج
مخرج قوله سبحانه: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (1)، وقوله تعالى: * (انظر إلى
إلهك الذي ظلت عليه عاكفا) * (2)، وقوله سبحانه: * (فما أغنت عنهم آلهتهم التي
يدعون من دون الله من شئ) * (3)، ونظائر ذلك من آي القرآن.

(1) - الدخان / 49.
(2) - طه / 97.
(3) - هود / 101.
143

وأما ترك أمير المؤمنين - عليه السلام - الأمر لأصحابه بقتل الزبير وقتاله فذلك
من تفضله ومنه عليه، وهو كقول رسول الله (ص) في المن على أهل مكة وأمانهم
فليس في العفو عن الجاني، وترك التعجيل لعقوبته دلالة على الرضا بفعاله، بل هو
دليل التفضل والصفح للتآلف والاستصلاح.
وأما تعلقهم بما رووا عن أمير المؤمنين - عليه السلام - من قوله لابن جرموز حين
جاء برأس الزبير، بشر قاتل ابن صفية بالنار، وأن ذلك يوجب للزبير الجنة ويدل
على أنه من أهل الإيمان فأول ما في هذا الباب أنه ليس كل من وجب عليه النار
بقتل نفس دل على أن النفس من أهل الجنة لأن قتل المعاهد يوجب النار وإن
كان المقتول في النار وقتل الغيلة يوجب النار وإن كان المقتول في النار، وقتل
الكافر لشفاء الغيظ دون الديانة أو للرياء والسمعة أو للقربة إلى المخلوقين أو
للعبث أو لجعله علامة لفجور أو لقتل مؤمن كل ذلك يوجب لفاعله النار وإن
كان المقتول في النار، وكذلك قتل الكافر الكافر يوجب النار وإن كان الكافر من
أهل النار.
على أن قصة ابن جرموز في قتل الزبير والمعنى الذي وجب له به النار
معروف عند من سمع الأخبار غير مختلف فيه بين نقلة السير والآثار، وذلك أن
ابن جرموز كان يوم الجمل مع عائشة في نفر من بني سعد فقتل من أصحاب أمير
المؤمنين - عليه السلام - جماعة فلما رأى الدائرة على أصحاب الجمل لحق بالأحنف بن
قيس وهو بالجلحاء على فرسخين من البصرة معتزلا للقتال، فجاء رجل إلى
الأحنف فأسر إليه أن الزبير بوادي السباع متوجها إلى المدينة مستخفيا من الناس،
فقال الأحنف رافعا صوته: ما عسيت أن أصنع بالزبير إن كان بوادي السباع. وقد
جاء فقتل الناس بعضهم ببعض وفتنهم ثم انطلق سالما إلى المدينة.
144

فعلم القوم أنه إنما رفع صوته ليعلمهم بذلك وأنه يعجبه قتله، فقام ابن
جرموز ومعه رجلان من بني عوف بن سعد أحدهما فضالة بن حابس والآخر
جميع بن عمير فركبوا خيولهم فأدركوه وقد توجه منطلقا ركض فرسه فسبقهم إليه
عمرو بن جرموز فحذره (فحدقه ن خ) الزبير وجعل يتحذر منه فقال له عمرو: لا بأس
عليك فإنما أنا منطلق في طريقي ومصاحبك، فأمنه الزبير عند ذلك واطمأن إليه فاغتفله
حتى إذا شغل عنه طعنه بالرمح فقتله ثم نزل فاحتز رأسه فأتى به الأحنف ثم
انحدر به إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - متقربا به إليه صلوات الله عليه يريد الخروج
بذلك عما صنع في قتاله وقتل أصحابه، ولم يك قتله له تدينا ولا على بصيرة من
أمره وكان ذلك معلوما لأمير المؤمنين - عليه السلام - بما أنبأه به الرسول (ص) فلأجل ذلك
خبر بأنه من أهل النار.
مع أنه قد استحق النار بأمانه وقتله له بعد الأمان ثم باغتياله أيضا. مع أن
ابن جرموز خرج على أمير المؤمنين - عليه السلام - مع الخوارج وكان آخذا برايتهم فقتله
الله على يد أمير المؤمنين - عليه السلام - وأورده بقتله إياه النار فكان الخبر الذي رووه
خبرا عن عاقبته لئلا يلتبس أمره بقتل الزبير فيظن أن ذلك عاصم له عن
استحقاق العقاب.
وقد أطبق أهل النقل على مثل القول الذي روي عن أمير المؤمنين - عليه السلام -
في ابن جرموز عند مجيئه برأس الزبير عن النبي (ص) في رجل من الأنصار قتل
جماعة من المشركين في يوم أحد وأبلى بلاء حسنا فبشره رسول الله (ص) بالنار
فرووا أن رجلا من الأنصار كان يقال له قزمان قاتل في يوم أحد قتالا
شديدا حتى قتل ستة نفر من المشركين أو سبعة فأثبته الجراح فاحتمل إلى بيته
وجاء المسلمون إلى رسول (ص) فأخبروه بخبره، وذكروه عنده بحسن معونته
145

وزكوه ومدحوه فقال رسول الله (ص): إنه من أهل النار فأتى النبي (ص) بعد ذلك
فقيل له: يا رسول الله إن قزمان قد استشهد فقال (ص) يفعل الله ما يشاء ثم
أتى فقيل: يا رسول الله إنه قتل نفسه، فقال: اشهدوا أني رسول الله. وذكروا أنه لما
احتمل وبه الجراح نزل في دور بني ظفر فقال له المسلمون: أبشر فقد أبليت اليوم،
فقال: بم تبشروني فوالله ما قاتلت إلا على أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت،
فلما اشتد به ألم الجراح حبا إلى كنانته فأخذ منها مشقصا فقتل نفسه.
فإذا كان الأمر على ما شرحناه وكان رسول الله (ص) قد قطع بالنار على رجل
جاهد في الظاهر لمعونة الإسلام وقتل جماعة من المشركين ثم شهد عليه بالعقاب
عند إخبار المسلمين له ببلائه وعظم نكايته في الكفار وحسن معونته لما علم من
عاقبة أمره ومآله إلى الفعل الذي يستحق به النار مخافة أن يشتبه أمره على أهل
الإسلام فيعتقدوا فيه الإيمان مع قتله نفسه بما سلف له من الجهاد أو يشكوا في
استحقاقه العقاب، لم ينكر أن يكون أمير المؤمنين - عليه السلام - بشر ابن جرموز بالنار
عند مجيئه برأس الزبير لعاقبة أمره والعلم منه بضميره الذي يستحق به العقاب
وما سبق له من العلم فيه بحصوله على الخارجية في العقد، وقتاله الذي كان منه
يوم النهروان مخافة أن يشتبه أمره فيما يصير إليه على أحد من أهل الإيمان كما
وصفناه وبيناه.
ولا يدل ذلك منه - عليه السلام - على استحقاق الزبير الجنان ولا على توبته من
الضلال ولا على عدم استحقاقه النار كما لم يدل ذلك من رسول الله (ص) على
استحقاق من قتل قزمان من الكفار الجنان ولا على توبتهم من الشرك وانتقالهم
إلى الإسلام، ولا على عدم استحقاقهم العقاب، وهذا بين لمن تدبره.
ووجه آخر وهو أن بعض الشيعة قال إن ابن جرموز إنما استحق النار
146

لخلافه على الإمام العادل - عليه السلام - في قتل الزبير بن العوام وذلك أن أمير المؤمنين
- عليه السلام - نادى يوم البصرة ألا لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولكم ما حوى
عسكرهم من الكراع والسلاح، فخالفه ابن جرموز واتبع الزبير فكان في ذلك
مخالفا للإمام وعاصيا له في أفعاله فاستحق النار لما ارتكبه من ضلاله ولم يجب
بذلك أن يكون الزبير من أهل الجنة لأنه لا تعلق لاستحقاقه الثواب باستحقاق
هذا المخالف لإمامه العقاب، وهذا وجه لا بأس بالتعلق به بل هو واضح
معتمد.
سؤال - قال الشيخ أدام الله عزه: فإن قال قائل ما أنكرتم أن يكون إخبار
النبي (ص) باستحقاق قاتل الزبير النار يدل على استحقاق الزبير الجنان ويوجب
أن قاتله إنما استحق النار من أجل أن المقتول من أهل الجنة لا لشئ من الأسباب
التي ذكرتموها وإلا فمتى ما كان الأمر على ما ادعيتموه دون ما ذكرناه، بطل معنى
قول النبي (ص) لأنه قد نبه باستحقاق القاتل النار على استحقاق المقتول الجنة
بذكر المقتول والحكم على قاتله بالنار
الجواب - قيل له: إن لذكر النبي (ص) الزبير وقتله عند البشارة لقاتله بالنار
وجها غير الذي ظننته وهو أنه لما كان الزبير رأس الفتنة وأمير أهل الضلالة وقائد
أهل النكث والجهالة كان القتل له يوجب على الظاهر لقاتله أعظم المنازل وأجل
المراتب وأكبر الثواب والمدائح كما يجب لقاتل النبي (ص) أو الصديق التقي أو إمام
المسلمين البر الوفي عظيم العقاب، وكان المعلوم من حال هذا القاتل ضد ما
يقتضيه الظاهر، أراد رسول الله (ص) الإبانة عن حاله والكشف عن باطنه وماله لئلا
يلتبس أمره على ما قدمناه فيما سلف وليزيل الشبهة فيما يجب من الاعتقاد فيه على
ظاهر الحال.
147

وهذا يجري مجرى من علم الله سبحانه أنه يقتل عبدا مسلما تقيا برا عدلا
وفيا على غير التعمد، ومع حسن الطوية وسلامة النية والاخلاص لله تعالى في
الطاعة، فذكر النبي (ص) أن هذا القاتل من أهل الجنة فقال: إن فلانا يعني الإمام
سيقتل وإن قاتله من أهل الجنة ليكشف بذلك عن حاله ويمنع الاعتقاد فيه ما
يوجبه ظاهر فعله من القتل الذي تلبس بالتعمد.
وإنما بشره بالجنة مع وصفه بقتل رجل من أهل الجنة ليدل على أن قتله له لم
يقع على الوجه الذي به يستحق العقاب وليزيل الشبهة من أمره ويصرف الناس
عن اعتقاد موجب ظاهره.
وهذا كقول نبي قال لأمته: ألا ترون أن فلانا الصائم نهاره القائم ليله
المتصدق بماله، اعلموا أنه من أهل النار ليدلهم بذلك على مآله ويكشف لهم عن
باطنه ولتزول الشبهة عنهم في أمره بحسن ظاهره، أو قال في رجل مرتكب لكبائر
الذنوب، اعلموا أن فلانا الشارب للخمور القاتل للنفوس المرتكب للفجور من
أهل الجنة، فذلك سائغ جائز يدل على مال الرجل ويكشف عن عاقبته ويمنع
من الاعتقاد لما يجب بظاهره على أغلب الأمور
ومدار هذا الباب هو أن كل من فعل فعلا أوجب ظاهره فيه حكما لأجل
الفعل وكان الباطن عند الله سبحانه وتعالى يخالف الظاهر وأراد الإبانة عن حاله
وإزالة الشبهة في أمره، حكم عليه بخلاف حكم الظاهر وعلقه بذكر الفعل الذي
يوجب على الظاهر ضد ما حكم به لأجل الباطن ليزيل الشبهة بذكر ذلك، ويدل
على ما كان ملتبسا بالفعل بعينه.
ولولا أن النبي (ص) ذكر قاتل الزبير وخبر عنه بالنار عند ذكر قتله لوجب
أن يعتقد في قاتله منزلة أجل الصالحين، ومن فقأ عين الفتنة واجتث أصل
148

الضلالة حتى يجب له من الحكم أن ينزل في أعلى منازل المثابين، من حيث كان
الزبير أعظم أهل الفتنة عقابا لكونه إمام القوم وداعيهم إلى الفتنة، ولما يجب من
تعاظم الثواب لقاتل من يتعاظم له العقاب، ولما يجب لمزيل الفتنة من الثواب
الموفي على ما يستحقه مثيرها من العقاب.
ولما علم الله سبحانه من حال ابن جرموز ما ذكرناه، أعلم نبيه - عليه السلام -
ذلك ليدل أمته عليه فدلهم بالذكر الذي حكيناه، وهذا واضح لمن تأمله وأحسن
النظر فيه والمنة لله جل وعلا.
فصل
ومن كلام الشيخ أيده الله فيما يختص مذاهب أهل الإمامة، قال الشيخ أدام
الله عزه: إن قال قائل: كيف يصح لكم معشر الإمامية القول بإمامة الاثني عشر
- عليهم السلام - وأنتم تعلمون أن فيهم من خلفه أبوه وهو صبي صغير لم يبلغ الحلم
ولا قارب بلوغه، كأبي جعفر محمد بن علي بن موسى - عليهم السلام - وقد توفي أبوه وله
عند وفاته سبع سنين، وكقائمكم الذي تدعونه وسنه عند وفاة أبيه عند المكثرين
خمس سنين.
وقد علمنا بالعادات التي لم تنتقض في زمان من الأزمنة أن من كان له من
السنين ما ذكرناه، لم يكن من بالغي الحلم ولا مقاربيه، والله تعالى يقول: * (وابتلوا
اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) * (1)
وإذا كان الله تعالى قد أوجب الحجر على هذين النفسين في أموالهما لإيجابه ذلك في
جملة الأيتام، بطل أن يكونا إمامين لأن الإمام هو الوالي على الخلق في جميع أمر
الدين والدنيا.

(1) - النساء / 6.
149

وليس يصح أن يكون الوالي على أموال الله تعالى كلها من الصدقات
والأخماس والمأمون على الشريعة والأحكام وإمام الفقهاء والقضاة والحكام
والحاجز على كثير من ذوي الألباب في ضروب من الأعمال، من لا ولاية له على
درهم واحد من مال نفسه ولا يؤمن على النظر لنفسه ومن هو محجور عليه لصغر
سنه ونقصان عقله لتناقض ذلك واستحالته، وهذا دليل على بطلان مذاهب
الإمامية خاصة.
فالجواب عن ذلك وبالله التوفيق قال الشيخ أدام الله عزه: هذا كلام يوهم
الضعفة ويوقع الشبهة لمن لا بصيرة له، ويروع بظاهره قبل الفحص عن معناه
والعلم بباطنه. وجملة القول فيه أن الآية التي اعتمدها هؤلاء القوم في هذا الباب،
خاصة وليست بعامة بدلالة توجب خصوصها وتدل على بطلان الاعتقاد
لعمومها. وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد قطع العذر في كمال من أوجب له
الإمامة ودل على عصمة من نصبه للرئاسة، وقد وضح بالبرهان القياسي والدليل
السمعي إمامة هذين الإمامين - عليهما السلام - فأوجب ذلك خروجهما من جملة الأيتام
الذين توجه نحوهم الكلام.
كما أوجب العقل خصوص قوله تعالى: * (والله على كل شئ قدير) * (1) وقام
الدليل على عدم العموم من قوله تعالى: * (وأوتيت من كل شئ) * (2) و * (فتحنا
عليهم أبواب كل شئ) * (3). وكما خص الاجماع قوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب
لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * (4)، فأفرد النبي بغير هذا الحكم ممن

(1) - البقرة 284.
(2) - النمل / 23.
(3) - الأنعام / 44.
(4) - النساء / 3.
150

انتظمه الخطاب.
وكما خص العقل قوله تعالى: * (إنا اعتدنا للكافرين نارا أحاط بهم
سرادقها) * (1) وقوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا
فيها) * (2) وقوله تعالى: * (ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا) * (3) فأخرج آدم وموسى
وذا النون وغيرهم من الأنبياء - عليهم السلام - والصالحين الذين وقع منهم ظلم صغير
فذكرهم الله في صريح التنزيل إذ لم يذكرهم على التفصيل.
وكما اختصت الآية في السراق من قوله: * (والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) * (4) فجعلت في سارق دون
سارق ولم يعم السراق، وكما اختصت آية القتل قوله: * (النفس بالنفس) * (5).
وأشباه ذلك مما يطول شرحه.
وإذا كان المستدل بما حكيناه على الإمامية معترفا بخصوص ما هو على
الظاهر عموم بدليل يدعيه ربما ووفق فيه وربما خولف فيه، كانت الإمامية غير
حرجة في اعتقادها خصوص آية الحجر بدليل يوجبه العقل ويحصل عليه الاجماع
على التنزيل الذي أذكره والبيان، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن هذه الآية
يختص انتظامها لنواقص العقول عن حد الاكمال الذي يوجب الإيناس فلم تك
منتظمة لمن حصل له من العقل ما هو حاصل لبالغي الحلم من أهل الرشاد فبطل
أن تكون منتظمة للأئمة - عليهم السلام -.

(1) - الكهف / 29.
(2) - النساء / 14.
(3) الفرقان / 19
(4) - المائدة / 38.
(5) - المائدة / 45.
151

والذي يكشف لك عن وهن هذه الشبهة التي أوردها هؤلاء الضعفاء هو
أن المحتج بهذه الآية لا يخلو من أن يكون مسلما للشيعة إمامة هذين النفسين
- عليهما السلام - تسليم جدل أو منكرا لإمامتهما غير معترف بها على حال، فإن كان
مسلما لذلك فقد سقط احتجاجه لضرورته إلى الاعتراف بخروج من أكمل الله عز
وجل عقله وكلفه المعارف وعصمه من الذنوب والمآثم، من عموم هذه الآية
ووجوب ما وصفناه للإمام. وإن كان منكرا لم يكن لكلامه في تأويل هذه الآية
معنى لأن التأويل للقرآن فرع لا يتم إلا بأصله.
ولأن إنكاره لإمامة من ذكرناه بغير الآية التي تعلق بها يغنيه عن الاعتماد
عليها ولا يفقره إليها فإن اعتمد عليها فإنما يعتمد على ضرب من الرجحان، مع
أن كلامه حينئذ يكون كلام من احتج بعموم قوله: * (والله على كل شئ قدير) * مع
منازعته في المخلوق، وإنكاره القول بالتعديل وككلام من تعلق بعموم قوله:
* (ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا) * مع إنكاره عصمة الأنبياء من الكبائر
والقطع على أنهم من أهل الثواب، وهذا تخليط لا يصير إليه ناظر
مع أن الخصوص قد يقع في القول ولا يصح وقوعه في عموم العقل والعقل
موجب لعموم الأئمة - عليهم السلام - بالكمال والعصمة فإذا دل الدليل على إمامة
هذين النفسين - عليهما السلام - وجب خصوص الآية فيمن عداهما بلا ارتياب.
مع أن العموم لا صيغة له عندنا فيجب استيعاب الجنس بنفس اللفظ
وإنما يجب ذلك بدليل يقترن إليه، فمتى تعرى عن الدليل وجب الوقف فيه ولا
دليل على عموم هذه الآية، وهذا خلاف ما توهموه.
على أن خصومنا قد نسوا في هذا الباب شيئا لو ذكروه لصرفهم عن هذا
الاحتجاج، وذلك أنهم يخصون قوله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل
152

حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها
النصف) * (1) ويخرجون ولد رسول الله (ص) من عموم هذه الآية بخبر واحد ينقضه
القرآن ويرده اتفاق آل محمد - عليهم السلام - ولا يقنعون من خصومهم أن يخصوا آية
الأيتام بدليل العقل وبرهان القياس وتواتر الأخبار بالنص على هؤلاء الأئمة
- عليهم السلام -، فمن رأى أعجب من هؤلاء القوم! ولا أظلم ولا أشد جورا في
الأحكام، والله نسأل التوفيق للصواب بمنه.
فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه في الرجعة وجواب سؤال فيها سأله المخالفون
قال الشيخ: سأل بعض المعتزلة شيخا من أصحابنا الإمامية وأنا حاضر في مجلس
قد ضم جماعة كثيرة من أهل النظر والمتفقهة فقال له: إذا كان من قولك إن الله
جل اسمه يرد الأموات إلى دار الدنيا قبل الآخرة عند قيام القائم - عليه السلام - ليشفى
المؤمنين كما زعمتم من الكافرين وينتقم لهم منهم كما فعل ببني إسرائيل فيما
ذكرتم حتى تتعلقون بقوله تعالى: * (ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال
وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا) * (2) فخبرني ما الذي يؤمنك أن يتوب يزيد وشمر
وعبد الرحمان بن ملجم ويرجعوا عن كفرهم وضلالهم ويصيروا في تلك الحال إلى
طاعة الإمام - عليه السلام - فيجب عليك ولايتهم والقطع بالثواب لهم؟ وهذا نقض
مذاهب الشيعة.
فقال الشيخ المسؤول: القول في الرجعة إنما قبلته من طريق التوقيف وليس

(1) - النساء / 11.
(2) - الإسراء / 6.
153

للنظر فيه مجال وأنا لا أجيب عن هذا السؤال لأنه لا نص عندي فيه وليس يجوز
أن أتكلف من غير جهة النص الجواب، فشنع السائل وجماعة المعتزلة عليه
بالعجز والانقطاع.
وقال الشيخ أدام الله عز،: فأقول أنا أبين في هذا السؤال جوابين.
أحدهما: أن العقل لا يمنع من وقوع الإيمان ممن ذكره السائل لأنه (لا ن خ)
يكون إذ ذاك قادرا عليه ومتمكنا منه لكن السمع الوارد عن أئمة الهدى - عليهم السلام -
بالقطع عليهم بالخلود في النار والتدين بلعنهم، والبراءة منهم إلى آخر الزمان منع
من الشك في حالهم، وأوجب القطع على سوء اختيارهم فجروا في هذا الباب
مجرى فرعون وهامان وقارون ومجرى من قطع الله عز اسمه على خلوده في النار
ودل بالقطع على أنهم لا يختارون أبدا الإيمان ممن قال الله تعالى في جملتهم:
* (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما
كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) * (1) يريد إلا أن يلجئهم الله، والذين قال الله تعالى
فيهم: * (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم
خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) * (2) ثم قال جل من قائل في
تفصيلهم وهو يوجه القول إلى إبليس: * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم
أجمعين) * (3).
وقوله: * (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) * (4) وقوله: * (تبت يدا أبي لهب

(1) - الأنعام / 111.
(2) - الأنفال / 22 - 23.
(3) - ص / 85.
(4) - ص / 78.
154

وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب) * (1) فقطع عليه بالنار
وأمن من انتقاله إلى ما يوجب له الثواب، وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما
توهموه على هذا الجواب.
والجواب الآخر أن الله سبحانه إذا رد الكافرين في الرجعة لينتقم منهم لم
يقبل لهم توبة وجروا في ذلك مجرى فرعون لما أدركه الغرق * (قال آمنت أنه لا إله إلا
الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين) * (2)، قال الله سبحانه: * (الآن وقد
عصيت قبل وكنت من المفسدين) * (3) فرد الله عليه إيمانه ولم ينفعه في تلك الحال
ندمه وإقلاعه، وكأهل الآخرة الذين لا تقبل لهم توبة ولا ينفعهم ندم لأنهم
كالملجئين إذ ذاك إلى الفعل، ولأن الحكمة تمنع من قبول التوبة أبدا وتوجب
اختصاص بعض الأوقات بقبولها دون بعض.
وهذا هو الجواب الصحيح على مذهب أهل الإمامة، وقد جاءت به آثار
متظاهرة عن آل محمد - عليهم السلام - حتى روي عنهم في قوله سبحانه: * (يوم يأتي
بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها
خيرا قل انتظروا إنا منتظرون) * (4) فقالوا: إن هذه الآية هو القائم - عليه السلام -، فإذا
ظهر لم تقبل توبة المخالف، وهذا يسقط ما اعتمده السائل.
سؤال - فإن قالوا في هذا الجواب: ما أنكرتم أن يكون الله سبحانه على ما
أصلتموه قد أغرى عباده بالعصيان وأباحهم الهرج والمرج والطغيان لأنهم إذا
كانوا يقدرون على الكفر وأنواع الضلال وقد يئسوا من قبول التوبة، لم يدعهم داع
إلى الكف عما في طباعهم ولا انزجروا عن فعل قبيح يصلون به إلى النفع العاجل،
ومن وصف الله سبحانه بإغراء خلقه بالمعاصي وإباحتهم الذنوب فقد أعظم

(1) - المسد / 1.
(2) - يونس / 95 - 91.
(3) - يونس / 95 - 91.
(4) - الأنعام / 158.
155

الفرية عليه؟.
جواب - قيل لهم: ليس الأمر على ما ظننتموه وذلك أن الدواعي لهم إلى
المعاصي ترتفع إذ ذاك ولا يحصل لهم داع إلى قبيح على وجه من الوجوه ولا سبب
من الأسباب لأنهم يكونون قد علموا بما سلف لهم من العذاب إلى وقت الرجعة
على خلاف أئمتهم - عليهم السلام - ويعلمون في الحال أنهم معذبون على ما سبق لهم من
العصيان، وأنهم إن راموا فعل قبيح تزايد عليهم العقاب ولا يكون لهم عند ذلك
طبع يدعوهم إلى ما يتزايد عليهم به العذاب بل تتوفر لهم دواعي الطباع والخواطر
كلها إلى إظهار الطاعة والانتقال عن العصيان، وإن لزمنا هذا السؤال لزم جميع
أهل الإسلام مثله في أهل الآخرة وحالهم في إبطال توبتهم وكون توبتهم غير
مقبولة منهم، فمهما أجاب به الموحدون لمن ألزمهم ذلك، فهو جوابنا بعينه.
سؤال آخر - وإن سألوا على المذهب الأول والجواب المتقدم فقالوا: كيف
يتوهم من القوم الإقامة على العناد والإصرار على الخلاف وقد عاينوا فيما يزعمون
عقاب القبور وحل بهم عند الرجعة العذاب على ما يعلمون مما زعمتم أنهم
مقيمون عليه، وكيف يصح أن تدعوهم الدواعي إلى ذلك، ويخطر لهم في فعله
الخواطر وما أنكرتم أن تكونوا في هذه الدعوى مكابرين؟.
الجواب - قيل لهم. يصح ذلك على مذهب من أجاب بما حكيناه من
أصحابنا بأن نقول: إن جميع ما عددتموه لا يمنع من دخول الشبهة عليهم في
استحسان الخلاف لأن القوم يظنون أنهم إنما بعثوا بعد الموت تكرمة لهم وليلوا
الدنيا كما كانوا، و (لان خ) يظنون أن ما اعتقدوه في العذاب السالف لهم كان غلطا
منهم، وإذا حل بهم العقاب ثانية توهموا قبل مفارقة أرواحهم أجسادهم أن ذلك
ليس من طريق الاستحقاق وأنه من الله تعالى لكنه كما تكون الدول وكما حل
بالأنبياء.
156

ولأصحاب هذا الجواب أن يقولوا: ليس ما ذكرناه في هذا الباب بأعجب
من كفر قوم موسى وعبادتهم العجل وقد شاهدوا منه الآيات وعاينوا ما حل
بفرعون وملئه على الخلاف، ولا هو بأعجب من إقامة أهل الشرك على خلاف
رسول الله (ص) وهم يعلمون عجزهم عن مثل ما أتى به القرآن، ويشهدون
معجزاته وآياته عليه وآله السلام، ويجدون مخبرات أخباره على حقائقها من قوله
تعالى: * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) * (1) وقوله: * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء
الله آمنين) * (2). وقوله: * (ألم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم
سيغلبون) * (3) وما حل بهم من العقاب بسيفه عليه وآله السلام وهلاك كل من
توعده بالهلاك، هذا وفيمن أظهر الإيمان به المنافقون ينضافون في خلافه إلى أهل
الشرك والضلال.
على أن هذا السؤال لا يسوغ لأصحاب المعارف من المعتزلة لأنهم يزعمون
أن أكثر المخالفين على الأنبياء كانوا من أهل العناد، وأن جمهور المظهرين للجهل
بالله يعرفونه على الحقيقة ويعرفون أنبياءه وصدقهم ولكنهم في الخلاف على
اللجاجة والعناد. فلا يمنع أن يكون الحكم في الرجعة وأهلها على هذا الوصف
الذي حكيناه، وقد قال الله تعالى: * (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد
ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو
ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) * (4). فأخبر سبحانه أن أهل العقاب لو
ردهم الله تعالى إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر والعناد مع ما شاهدوا في القبور وفي
المحشر من الأهوال وما ذاقوا من أليم العذاب.

(1) - القمر / 45.
(2) - الفتح / 27.
(3) - الروم / 1 - 3.
(4) - الأنعام / 27 - 28.
157

فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه في المتعة، قال الشيخ أدام الله عزه: حضرت
دار بعض قواد الدولة وكان بالحضرة شيخ من الإسماعيلية يعرف بابن لؤلؤ
فسألني ما الدليل على إباحة المتعة؟ فقلت له: الدلالة على ذلك قول الله جل
جلاله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما
استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من
بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما) * (1) فأحل جل اسمه نكاح المتعة بصريح
لفظها وبذكر أوصافه من الأجر عليها والتراضي بعد الفرض من الازدياد في الأجل
وزيادة الأجر فيها.
فقال: ما أنكرت أن تكون هذه الآية منسوخة بقوله: * (والذين هم لفروجهم
حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى
وراء ذلك فأولئك هم العادون) * (2) فحظر الله تعالى النكاح إلا لزوجة أو ملك
يمين، وإذا لم تكن المتعة زوجة ولا كانت ملك يمين فقد سقط قول من أحلها.
فقلت له: قد أخطأت في هذه المعارضة من وجهين: أحدهما أنك ادعيت
أن المستمتع بها ليست بزوجة ومخالفك يدفعك عن ذلك ويثبتها زوجة في
الحقيقة. والثاني أن سورة المؤمنين مكية وسورة النساء مدنية والمكي متقدم للمدني
فكيف يكون ناسخا له وهو متأخر عنه، وهذه غفلة شديدة

(1) - النساء / 24.
(2) - المؤمنون / 5 - 7.
158

فقال: لو كانت المتعة زوجة لكانت ترث ويقع بها الطلاق، وفي إجماع
الشيعة على أنها غير وارثة ولا مطلقة، دليل على فساد هذا القول.
فقلت له: وهذا أيضا غلط منك في الديانة، وذلك أن الزوجة لم يجب لها
الميراث ويقع بها الطلاق من حيث كانت زوجة فقط، وإنما حصل لها ذلك بصفة
تزيد على الزوجية، والدليل على ذلك أن الأمة إذا كانت زوجة لم ترث ولم تورث
والقاتلة لا ترث، والذمية لا ترث، والأمة المبيعة تبين بغير طلاق، والملاعنة تبين
أيضا بغير طلاق وكذلك المختلعة والمرتدة والمرتد عنها زوجها والمرضعة قبل
الفطام بما يوجب التحريم من لبن الأم أو الزوجة تبين بغير طلاق، وكل ما عددناه
زوجات في الحقيقة فبطل ما توهمت فلم يأت بشئ.
فقال صاحب المجلس وهو رجل أعجمي لا معرفة له بالفقه وإنما يعرف
الظواهر: أنا أسألك في هذا الباب عن مسألة خبرني هل تزوج رسول الله (ص) متعة
أو تزوج أمير المؤمنين - عليه السلام -؟ فقلت له: لم يأت بذلك خبر ولا علمته. فقال
لي: لو كان في المتعة خير ما تركها رسول الله (ص) وأمير المؤمنين - عليه السلام -، فقلت
له: أيها القائد ليس كل ما لم يفعله رسول الله (ص) كان محرما وذلك أن رسول الله (ص)
والأئمة - عليهم السلام - كافة لم يتزوجوا بالإماء، ولا نكحوا الكتابيات ولا خالعوا ولا
تزوجوا بالزنج ولا نكحوا السند ولا اتجروا إلى الأمصار ولا جلسوا باعة للتجارة
وليس ذلك كله محرما ولا منه شئ محظورا إلا ما اختصت الشيعة به دون مخالفيها
من القول في نكاح الكتابيات.
فقال: دع هذا وخبرني عن رجل ورد من قم يريد الحج فدخل إلى مدينة
السلام فاستمتع فيها بامرأة ثم انقضى أجلها فتركها وخرج إلى الحج وكانت
حاملا منه ولم يعلم بحالها فحج ومضى إلى بلده وعاد بعد عشرين سنة وقد ولدت
159

بنتا وشبت ثم عاد إلى مدينة السلام فوجد فيها تلك الابنة فاستمتع بها وهو لا
يعلم أليس يكون قد نكح بنته وهذا فظيع جدا.
فقلت له: إن أوجب هذا الذي ذكره القائد تحريم المتعة وتقبيحها، أوجب
تحريم نكاح الميراث وكل نكاح وتقبيحه، وذلك أنه قد يتفق فيه مثل ما وصفته
وجعلته طريقا إلى حظر المتعة، وذلك أنه لا يمنع أن يخرج رجل من أهل السنة
وأصحاب أحمد بن حنبل من خوارزم قاصدا للحج فينزل بمدينة السلام ويحتاج
إلى النكاح، فيستدعي امرأة من جيرانه حنبلية سنية فيسألها أن تلتمس له امرأة
ينكحها، فتدله على امرأة شابة ستيرة ثيب لا ولي لها فيرغب فيها وتجعل المرأة أمرها
إلى إمام المحلة وصاحب مسجدها، فيحضر رجلين ممن يصلي معه ويعقد عليها
النكاح للخوارزمي السني الذي لا يرى المتعة ويدخل بالمرأة ويقيم معها إلى وقت
رحيل الحاج إلى مكة، فيستدعي الشيخ الذي عقد عليه النكاح فيطلقها بحضرته
ويعطيها عدتها وما يجب عليه من نفقتها، ثم يخرج فيحج وينصرف من مكة على
طريق البصرة إلى بلده وقد كانت المرأة حاملا وهو لا يعلم فيقيم عشرين سنة ثم
يعود إلى مدينة السلام للحج، فينزل في تلك المحلة بعينها ويسأل عن العجوز
فيفقدها لموتها فيسأل عن غيرها، فتأتيه قرابة لها أو نظيرة لها في الدلالة فتذكر له
جارية هي بنت المتوفاة بعينها، فيرغب فيها ويعقد عليها كما عقد على أمها بولي
وشاهدين ثم يدخل بها فيكون قد وطئ بنته فيجب على القائد أن يحرم لهذا الذي
ذكرناه كل نكاح.
فاعترض الشيخ السائل أولا فقال: عندنا أنه يجب على هذا الرجل أن
يوصي إلى جيرانه باعتبار حالها، وهذا يسقط هذه الشناعة. فقلت له. إن كان هذا
عندكم واجبا فعندنا أوجب منه وأشد لزوما أن يومي المستمتع ثقة من إخوانه في
160

البلد باعتبار حال المستمتع بها، فإن لم يجد أخا أوصى قوما من أهل البلد وذكر
لهم أنها كانت زوجته ولم يذكر المتعة وهذا شرط عندنا فقد سقط أيضا ما توهمته.
ثم أقبلت على صاحب المجلس فقلت له: إن أمرنا مع هؤلاء المتفقهة
عجيب وذلك أنهم مطبقون على تبديعنا في نكاح المتعة مع إجماعهم على أن رسول
الله (ص) قد كان أذن فيها وأنها عملت على عهده، ومع ظاهر كتاب الله عز وجل في
تحليلها، وإجماع آل محمد - عليهم السلام - على إباحتها، والاتفاق على أن عمر حرمها في
أيامه مع إقراره بأنها كانت حلالا على عهد رسول الله (ص)، فلو كنا على ضلالة
فيها لكنا في ذلك على شبهة تمنع ما يعتقده المخالف فينا من الضلال والبراءة منا.
وليس فيمن يخالفنا إلا من يقول في النكاح وغيره بضد القرآن وخلاف الاجماع
ونقض شرع الإسلام والمنكر في الطباع وعند ذوي المروءات، ولا يرجع في ذلك إلى
شبهة تسوغه في قوله وهم معه يتولى بعضهم بعضا ويعظم بعضهم بعضا، وليس
ذلك إلا لاختصاص قولنا بآل محمد - عليهم السلام - فلعداوتهم لهم رمونا عن قوس
واحد.
هذا أبو حنيفة النعمان بن ثابت يقول: لو أن رجلا عقد على أمه عقدة
النكاح وهو يعلم أنها أمه ثم وطئها لسقط عنه الحد ولحق به الولد.
وكذلك قوله في الأخت والبنت، وكذلك سائر المحرمات، ويزعم أن هذا
نكاح شبهة أوجبت سقوط الحد عنه.
ويقول: لو أن رجلا استأجر غسالة أو خياطة أو خبازة أو غير ذلك من
أصحاب الصناعات ثم وثب عليها فوطئها وحملت منه سقط عنه الحد ولحق به
الولد.
161

ويقول: إذا لف الرجل على إحليله حريرة ثم أولجه في قبل امرأة ليست له
بمحرم حتى ينزل لم يكن زانيا ولا وجب عليه الحد.
ويقول: إن الرجل إذا يلوط بغلام فأوقب لم يجب عليه الحد ولكن يردع
بالكلام الغليظ والأدب والخفقة بالنعل والخفقتين وما أشبه ذلك.
ويقول: إن شرب النبيذ الصلب المسكر حلال طلق، وهو سنة وتحريمه
وقال الشافعي: إذا فجر الرجل بامرأة فحملت منه فأولدت بنتا فإنه يحل
للفاجر أن يتزوج بهذه البنت ويطأها ويولدها لا حرج عليه في ذلك فأحل نكاح
البنات وقال: لو أن رجلا اشترى أخته من الرضاعة ووطئها لما وجب عليه الحد،
وكان يجيز سماع الغناء بالقصب وأشباهه.
وقال مالك بن أنس: إن وطئ النساء في أحشاشهن حلال طلق، وكان يرى
سماع الغناء بالدف وأشباهه من الملاهي، ويزعم أن ذلك سنة في العرسات
والولائم.
وقال داود بن علي الإصفهاني: إن الجمع بين الأختين في ملك اليمين حلال
طلق، والجمع بين الأم والبنت غير محظور فاقتسم هؤلاء الفجور وكل منكر فيما
بينهم واستحلوه ولم ينكر بعضهم على بعض، مع أن الكتاب والسنة والاجماع
تشهد بضلالهم في ذلك، ثم عظموا أمر المتعة والقرآن شاهد بتحليلها والسنة
والاجماع يشهدان بذلك، فيعلم أنهم ليسوا من أهل الدين ولكنهم من أهل
العصبية والعداوة لآل محمد - عليهم السلام - فاستعظم صاحب المجلس ذلك وأنكره
وأظهر البراءة من معتقديه وسهل عليه أمر المتعة والقول بها.
162

فصل
قال الشيخ أدام الله عزه: وقد كنت استدللت بالآية التي قدمت تلاوتها على
تحليل المتعة في مجلس كان صاحبه رئيس زمانه فاعترضني فيها أبو القاسم
الداركي فقال: ما أنكرت أن يكون المراد بقوله تعالى: * (فما استمتعتم به منهن
فآتوهن أجورهن فريضة) * إنما أراد به نكاح الدوام وأشار بالاستمتاع إلى الالتذاذ
دون نكاح المتعة الذي تذهب إليه.
فقلت له: إن الاستمتاع وإن كان في الأصل هو الالتذاذ فإنه إذا علق بذكر
النكاح وأطلق بغير تقييد لم يرد به إلا نكاح المتعة خاصة لكونه علما عليها في
الشريعة وتعارف أهلها.
ألا ترى أنه لو قال قائل: نكحت أمس امرأة متعة، أو هذه المرأة نكاحي لها
أو عقدي عليها للمتعة أو أن فلانا يستحل نكاح المتعة لما فهم من قوله إلا
النكاح الذي تذهب إليه الشيعة خاصة، وإن كانت المتعة قد تكون بوطئ الإماء
والحرائر على الدوام كما أن الوطئ في اللغة هو وطئ القدم ومماسة باطنه للشئ
على سبيل الاعتماد، ولو قال قائل: وطئت جاريتي ومن وطف امرأة غيره فهو زان،
وفلان يطأ امرأته وهي حائض لم يعقل من ذلك مطلقا على أصل الشريعة إلا
النكاح دون وطئ القدم.
وكذلك الغائط هو الشئ المحوط، وقيل هو الشئ المنهبط
ولو قال قائل: هل يجوز أن آتي الغائط ثم لا أتوضأ وأصلي، أو قال: فلان
أتى الغائط ولم يستبرئ، لم يفهم من قوله إلا الحدث الذي يجب منه الوضوء
163

وأشباه ذلك مما قد تقرر في الشريعة.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد ثبت أن إطلاق لفظ نكاح المتعة لا يقع
إلا على النكاح الذي ذكرناه، وإن كان الاستمتاع في أصل اللغة هو الالتذاذ كما
قدمناه.
فاعترض القاضي أبو محمد بن معروف فقال: هذا الاستدلال يوجب عليك
أن لا يكون الله تعالى أحل بهذه الآية غير نكاح المتعة لأنها لا تتضمن سواه، وفي
الاجماع على انتظامها تحليل نكاح الدوام دليل على بطلان ما اعتمدته.
فقلت له: ليس يدخل هذا الكلام على أصل الاستدلال ولا يتضمن
معتمدي ما ألزمنيه القاضي فيه وذلك أن قوله سبحانه: * (وأحل لكم ما وراء
ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) * (1) يتضمن تحليل المناكح
المخالفة للسفاح في الجملة ويدخل فيه نكاح الدوام من الحرائر والإماء ثم يختص
نكاح المتعة بقوله تعالى: * (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) * ويجري
ذلك مجرى قول القائل: (قد حرم الله عليك نساء بأعيانهن وأحل لك ما عداهن
فإن استمتعت منهن فالحكم فيه كذا وكذا، وإن نكحت نكاح الدوام فالحكم فيه
كيت وكيت). فيذكر له المحللات في الجملة، ويبين له حكم نكاح بعضهن، كما
يذكرهن له، ثم يبين له أحكام نكاحهن كلهن. فما أعلمه زاد علي شيئا.

(1) - النساء / 24.
164

فصل
قال الشيخ أدام الله عزه: قد كنت حضرت مجلس الشريف أبي الحسن أحمد
ابن القاسم المحمدي رحمه الله وحضره أبو القاسم الداركي فسأله بعض الشيعة
عن الدلالة على تحريم نكاح المتعة عنده فاستدل بقوله تعالى: * (والذين هم
لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين *
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) * (1) قال: والمتعة باتفاق الشيعة ليست
بزوجة ولا ملك يمين فبطل أن تكون حلالا.
فقال له السائل: ما أنكرت أن تكون زوجة، وما حكيته عن الشيعة من
إنكار ذلك لا أصل له.
فقال له: لو كانت زوجة كانت وارثة لأن الاتفاق حاصل على أن كل زوجة
فهي وارثة وموروثة إلا ما أخرجه الدليل من الأمة والذمية والقاتلة، فنازعه السائل
في هذه الدعوى وقال: ما أنكرت أن تكون المتعة أيضا زوجة تجري مجرى الذمية
والرق والقاتلة في خروجها عن استحقاق الميراث وضايقه في هذه المطالبة.
فلما طال الكلام بينهما في هذه النكتة وتردد قال: الدليل على أنها ليست
بزوجة أن القاصد إلى الاستمتاع بها إذا قال لها: تمتعيني نفسك، فأنعمت له،
حصلت متعة ليس بينها وبينه ميراث ولا يلحقها الطلاق، وإذا قال لها: زوجيني
نفسك، فأنعمت، حصلت زوجة يقع بها الطلاق ويثبت بينها وبينه الميراث، فلو

(1) - المؤمنون / 5 - 7.
165

كانت المتعة زوجة لما اختلف حكمها باختلاف الألفاظ ولا وقع الفرق بين
أحكامها بتغاير الكلام ولوجب أن يقع الاستمتاع في العقد بلفظ التزويج، ويقع
التزويج بلفظ الاستمتاع وهذا باطل بإجماع الشيعة وما هم عليه من الاتفاق، فلم
يدر السائل ما يقول له لعدم فهمه وفقهه وضعف بصيرته بأصل المذهب.
فقال الشيخ أدام الله عزه: فقلت للداركي: لم زعمت أن الأحكام قد تتغير
باختلاف ما ذكرت من الكلام، وما أنكرت أن يكون العقد عليها بلفظ الاستمتاع
يقوم مقام العقد عليها بلفظ الزوجية، وأن يكون لفظ الزوجية يقوم مقام لفظ
الاستمتاع فهل تجد لما ادعيت من هذا الأمر برهانا أو عليه دليلا أو فيه بيان؟.
وبعد فكيف استجزت أن تدعي إجماع الشيعة على ما ذكرت ولم يسمع
ذلك من أحد منهم ولا قرأت لهم في كتاب ونحن معك في المجلس نفتي بأنه لا
فرق بين اللفظين في باب العقد للنكاح سواء كان نكاح الدوام أو نكاح المتعة،
وإنما الفصل بين النكاحين في اللفظ ومن جهة الكلام ذكر الأجل في نكاح
الاستمتاع وترك ذكره في نكاح الميراث. فلو قال لها: تمتعيني نفسك، ولم يذكر
الأجل لوقع نكاح الميراث لا ينحل إلا بالطلاق، ولو قال لها: تزوجيني نفسك إلى
أجل كذا، فأنعمت به لوقع نكاح استمتاع، وهذا ما ليس فيه بين الشيعة خلاف،
فلم يرد شيئا تجب حكايته وظهر عليه بحمد الله الكلام.
166

فصل
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه قال: سئل الفضل بن شاذان رحمه الله
تعالى عما روته الناصبة عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه قال: " لا أوتي برجل يفضلني
على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلدة المفتري " فقال: إنما روى هذا الحديث سويد
ابن غفلة، وقد أجمع أهل الآثار على أنه كان كثير الغلط، وبعد فإن نفس الحديث
متناقض لأن الأمة مجمعة على أن عليا - عليه السلام - كان عدلا في قضيته وليس من
العدل أن يجلد حد المفتري من لم يفتر، هذا جور على لسان الأمة كلها وعلي بن
أبي طالب - عليه السلام - عندنا برئ من ذلك.
قال الشيخ أدام الله عزه وأقول: إن هذا الحديث إن صح عن أمير المؤمنين
- عليه السلام - ولن يصح بأدلة أذكرها بعد، فإن الوجه فيه أن المفاضل بينه وبين
الرجلين إنما وجب عليه حد المفتري من حيث أوجب لهما بالمفاضلة ما لا
يستحقانه من الفضل، لأن المفاضلة لا تكون إلا بين متقاربين في الفضل وبعد أن
يكون في المفضول فضل، وإن كانت الدلائل على أن من لا طاعة معه لا فضل له
في الدين، وأن المرتد عن الإسلام ليس فيه شئ من الفضل الديني، وكان
الرجلان بجحدهما النص قد خرجا عن الإيمان، بطل أن يكون لهما فضل في
الإسلام، فكيف يحصل لهما من الفضل ما يقارب فضل أمير المؤمنين - عليه السلام -؟
ومتى فضل إنسان أمير المؤمنين - عليه السلام - عليهما فقد أوجب لهما فضلا
عظيما في الدين. فإنما استحق حد المفتري الذي هو كاذب دون المفتري الذي هو
راجم بالقبيح لأنه افترى بالتفضيل لأمير المؤمنين - عليه السلام - عليهما من حيث كذب
167

في إثبات فضل لهما في الدين، ويجري في هذا الباب مجرى من فضل المسلم البر
التقي على الكافر المرتد الخارج عن الدين، ومجرى من فضل جبرئيل - عليه السلام - على
إبليس، ورسول الله (ص) على أبي جهل بن هشام في أن المفاضلة بين ما ذكرناه
توجب لمن لا فضل له على وجه فضلا مقاربا لفضل العظماء عند الله سبحانه،
وهذا بين لمن تأمله.
مع أنه لو كان هذا الحديث صحيحا وتأويله على ما ظنه القوم لوجب أن
يكون حد المفتري واجبا على رسول الله (ص) وحاشا له من ذلك لأن رسول الله (ص)
قد فضل أمير المؤمنين - عليه السلام - على سائر الخلق فآخى بينه وبين نفسه، وجعله
بحكم الله في المباهلة نفسه، وسد أبواب القوم إلا بابه، ورد كبراء أصحابه عن
إنكاحهم ابنته سيدة نساء العالمين - عليها السلام - وأنكحه وقدمه في الولايات كلها ولم
يؤخره، وأخبر أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وأنه أحب الخلق إلى الله وأنه
مولى من كان مولاه من الأنام، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى بن عمران، وأنه
- عليه السلام - أفضل من سيدي شباب أهل الجنة، وأن حربه حربه وسلمه سلمه وغير
ذلك مما يطول شرحه إن ذكرناه.
وكان يجب أيضا أن يكون - عليه السلام - قد أوجب الحد على نفسه إذ أبان عن
فضله على سائر أصحاب رسول الله (ص) حيث يقول: " أنا عبد الله وأخو رسول الله
(ص) لم يقلها أحد قبلي، ولا يقولها أحد بعدي إلا كذاب مفتر، صليت قبلهم سبع
سنين ".
وفي قوله - عليه السلام - لعثمان وقد قال له: أبو بكر وعمر خير منك. فقال: بل
أنا خير منك ومنهما، عبدت الله قبلهما وعبدته بعدهما. وكان أيضا قد أوجب الحد
168

على ابنه الحسن - عليه السلام - وجميع ذريته وأشياعه وأنصاره وأهل بيته، فإنه لا ريب
في اعتقادهم فضله على سائر الصحابة، وقد قال الحسن - عليه السلام - صبيحة الليلة
التي قبض فيها أمير المؤمنين - عليه السلام -: " لقد قبض في هذه الليلة رجل ما سبقه
الأولون بعمل ولا أدركه الآخرون " وهذه المقالة متهافتة جدا.
قال الشيخ أدام الله عزه: ولست أمنع العبارة بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان
أفضل من أبي بكر وعمر على معنى تسليم فضلهما من طريق الجدل، أو على
معتقد الخصوم في أن لهما فضلا في الدين، فأما على تحقيق القول في المفاضلة فإنه
غلط وباطل.
قال الشيخ أدام الله عزه: وشاهد ما أطلقت من القول ونظيره قول أمير
المؤمنين - عليه السلام - في أهل الكوفة: " اللهم إني قد مللتهم وملوني وسئمتهم
وسئموني، اللهم فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني " ولم يكن في أمير
المؤمنين - عليه السلام - شر وإنما أخرج الكلام على اعتقادهم فيه ومثله قول حسان وهو
يعني النبي (ص).
أتهجوه ولست له بكفؤ * فشركما لخيركما الفداء
ولم يكن في رسول الله (ص) شر وإنما أخرج الكلام على معتقد الهاجي فيه.
169

فصل
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه وكلامه، قال الشيخ أيده الله وقد كان
الفضل بن شاذان رحمه الله استدل على إمامة أمير المؤمنين - عليه السلام - بقول الله
تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين
والمهاجرين) * (1). قال: وإذا أوجب الله للأقرب برسول الله (ص) الولاية وحكم بأنه
أولى به من غيره، وجب أن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أولى بمقام رسول الله (ص)
من كل أحد.
قال الفضل: فإن قال قائل: فإن العباس كان أقرب إلى رسول الله (ص) من
علي - عليه السلام -، قيل له: إن الله تعالى لم يذكر الأقرب في النبي (ص) دون أن علقه
بوصف، فقال: * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام
بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين) * فشرط في الأولى
بالرسول الإيمان والهجرة، ولم يكن العباس من المهاجرين، ولا كانت له هجرة
بالاتفاق.
قال الشيخ وأقول: إن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أقرب إلى رسول الله
من العباس وأولى بمقامه منه إن ثبت أن المقام موروث، وذلك أن عليا - عليه السلام -
كان ابن عم رسول الله (ص) لأبيه وأمه، والعباس عمه لأبيه خاصة، ومن تقرب
بسببين كان أقرب ممن تقرب بسبب واحد.
وأقول: إنه لو لم تكن فاطمة - عليه السلام - موجودة بعد رسول الله (ص) لكان أمير

(1) - الأنفال / 75.
170

المؤمنين - عليه السلام - أحق بميراث رسول الله (ص) وبتركته من العباس ولو ورث مع
الولد أحد غير الأبوين والزوج والزوجة لكان أمير المؤمنين - عليه السلام - أحق بميراث
الرسول (ص) مع فاطمة - عليها السلام - من العباس لما قدمت من انتظامه القربة من
جهتين واختصاص العباس بها من جهة واحدة.
قال الشيخ أدام الله عزه: ولست أعلم بين أهل العلم خلافا في أن عليا
- عليه السلام - كان ابن عم رسول الله (ص) لأبيه وأمه وأن العباس كان عمه لأبيه خاصة،
ويدل على ذلك ما رواه نقلة الآثار وهو أن أبا طالب رحمة الله عليه مر على رسول
الله (ص) وهو يصلي وعلي - عليه السلام - إلى جانبه فلما سلم قال: ما هذا يا بن أخ؟ فقال
له رسول الله (ص) شئ أمرني به ربي يقربني به إليه، فقال لابنه جعفر: يا بني صل
جناح ابن عمك، فصلى رسول الله (ص) بعلي وجعفر جميعا يومئذ فكانت أول
صلاة جماعة في الإسلام، ثم أنشأ أبو طالب - عليه السلام - يقول:
إن عليا وجعفرا ثقتي * عند ملم الزمان والكرب
والله لا أخذل النبي ولا * يخذله من بني ذو حسب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لأمي من بينهم وأبي
ومن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري رحمه الله قال: سمعت عليا
- عليه السلام - ينشد ورسول الله (ص) يسمع:
أنا أخو المصطفى لا شك في نسبي * معه ربيت وسبطاه هما ولدي
جدي وجد رسول الله منفرد * وفاطم زوجتي لا قول ذي فند
فالحمد لله شكرا لا شريك له * البر بالعبد والباقي بلا أمد
صدقته وجميع الناس في بهم * من الضلالة والاشراك والنكد
171

قال: فابتسم رسول الله (ص) وقال: صدقت يا علي وفي ذلك يقول الشاعر
أيضا:
إن علي بن أبي طالب * جدا رسول الله جداه
أبو علي وأبو المصطفى * من طينة طيبها الله
فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه في حوز البنت المال دون العم والأخ. سئل
الشيخ أدام الله عزه في مجلس الشريف أبي الحسن علي بن أحمد بن إسحاق أدام
الله عزه فقيل له: أخبرنا عن رجل توفي وخلف بنتا وعما كيف تقسم الفريضة في
تركته؟ فقال الشيخ أدام الله عز: إذا لم يكن ترك غير المذكورين فالمال بأسره
للبنت خاصة وليس للعم شئ، فقال السائل: لم زعمت أن المال للبنت خاصة
وليس للعم شئ وما الدليل على ذلك؟
فقال الشيخ أيده الله: الدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل ومن سنة
نبيه، ومن إجماع آل محمد - عليهم السلام -.
فأما كتاب الله سبحانه فقوله جل جلاله: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر
مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة
فلها النصف) * (1) فأوجب الله سبحانه للبنت النصف كملا مع الأبوين وأوجب

(1) - النساء / 11.
172

لها النصف الآخر مع العم بدلالة قوله تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين) * (1) وذلك أنه إذا كان الأقرب أولى من
الأبعد كانت البنت مستحقة للنصف مع العم كما تستحقه مع الأبوين بنص
التلاوة، ونظرنا في النصف الآخر ومن أولى به أهي أم العم؟ فإذا هي وجدناها
أقرب من العم لأنها تتقرب بنفسها، والعم يتقرب إلى الميت بجده، والجد يتقرب
إلى الميت بأبيه، فوجب رد النصف الباقي إلى البنت بمفهوم آية ذوي الأرحام.
وأما السنة فإن رسول الله (ص) لما قتل حمزة بن عبد المطلب - عليه السلام -،
ابنته وأخاه العباس وابن أخيه رسول الله (ص) وبني أخيه عليا - عليه السلام - وجعفرا
وعقيلا رضي الله عنهما، فورث رسول الله (ص) ابنته جميع تركته ولم يرث هو منها شيئا
ولا ورث أخاه العباس ولا بني أخيه أبي طالب رحمه الله، فدل على أن البنت أحق
بالميراث كله من العم والأخ وابن الأخ وقد قال الله جل اسمه: * (لقد كان لكم في
رسول الله أسوة حسنة) * (2). وقال تعالى: * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا) * (3).
وأما إجماع آل محمد - عليهم السلام -: فإن الأخبار متواترة عنهم بما حكيناه، وقد
قال رسول الله (ص): " إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن
يفترقا حتى يردا علي الحوض ".
فقال السائل: ما أنكرت أن يكون قوله تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى
ببعض في كتاب الله) *، ليس في الميراث لكنه في غيره، وأما فعل رسول الله (ص) مع

(1) - الأنفال / 75.
(2) - الأحزاب / 21.
(3) - الحشر / 7.
173

بنت حمزة فما أنكرت أن يكون إنما جاز له ذلك لأنه استطاب نفوس الوراث معها.
وأما الاجماع الذي ذكرت عن آل محمد - عليهم السلام - فإنه ليس بحجة لأن
الحجة هي في إجماع الأمة بأسرها.
فقال الشيخ أدام الله عزه: أما إنكارك كون آية ذوي الأرحام في الميراث فإنه
غير مرتفع به ولا يعتمد عليه من كان معدودا في جملة أهل العلم وذلك أن الله
سبحانه نسخ بهذه الآية ما كان عليه القوم من الموارثة بين الإخوان في الدين وحط
عن الأنصار ميراث المهاجرين لهم دون أقاربهم فقال سبحانه وتعالى * (النبي أولى
بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب
الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في كتاب
الله مسطورا) * (1) فبين سبحانه أن ذوي الأرحام أولى بذوي أرحامهم من
المهاجرين الذين لا رحم بينهم ومن المؤمنين البعداء منهم في النسب. ثم قال: إلا
أن تتبرعوا عليهم فتفعلوا بهم معروفا وهذا مما لا يختلف فيه من عرف الأخبار ونظر
في السير والآثار مع دلالة تتضمن الكلام.
على أنا لا نجد من ذوي الأرحام أولى بأقاربهم في شئ من الأشياء إلا في
الميراث خاصة والعقل الذي يوجبه الميراث وما عدا ذلك فالإمام أولى به من ذوي
الأرحام والمسلمون أولى به إذا لم ينظر فيه الإمام.
وأما ما ادعيت من استطابة رسول الله (ص) في أنفس المذكورين فلو كان على ما
ذكرت ووصفت، لوجب أن يرد به النقل ويثبت في الآثار ويكون معروفا عند حملة
الأخبار، فلما لم يذكر ذلك على وجه من الوجوه، دل على أنه لا أصل له وأن
تخريجه باطل محال.

(1) - الأحزاب / 6.
174

وأما دفعك الحجة من إجماع آل محمد - عليهم السلام - واعتمادك على إجماع الأمة
كافة فإنه إذا وجبت الحجة بإجماع الأمة، وجبت بإجماع أهل البيت - عليهم السلام -
لحصول الاجماع الذي ذكرت على موجب العصمة لآل محمد - عليهم السلام - من قول
النبي (ص) فإن بطل الاعتماد على إجماع آل محمد - عليهم السلام - مع الشهادة من النبي
(ص) بأن المتمسك بهم لا يضل أبدا، بطلت الحجة من إجماع الأمة إذ قد وجد
الفساد فيما أجمعوا عليه من نقل الخبر الذي رويناه وهذا محال لا خفاء باستحالته
فلم يرد شيئا.
فصل
ومن كلام الشيخ أدام الله عزه في الطلاق، قال الشيخ: حضرت يوما عند
صديقنا أبي الهذيل سبيع بن المنبه المختاري رحمه الله وألحقه بأوليائه الطاهرين
- عليهم السلام - وحضر عنده الشيخان أبو طاهر وأبو الحسن الجوهريان والشريف أبو
محمد بن المأمون فقال لي أحد الشيخين: ما تقول في طلاق الحامل إذا وقع الرجل
منه ثلاثا في مجلس واحد؟ قال: فقلت له: إذا أوقعه بحضور مسلمين عدلين
وقعت منه واحدة لا أكثر من ذلك فسكت الجوهري هنيئة ثم قال: كنت أظن
أنكم لا توقعون شيئا منه بتة.
فقال أبو محمد بن المأمون للشيخ أدام الله عزه: أتقولون إنه يقع منه واحدة؟
فقال له الشيخ أيده الله: نعم إذا كان بشرط الشهود فأظهر تعجبا من ذلك.
وقال: ما الدليل على أن الذي يقع بها واحدة وهو قد تلفظ بالثلاث؟
قال الشيخ أيده الله: فقلت له: الدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل،
175

ومن سنة نبيه (ص)، ومن إجماع المسلمين، ومن قول أمير المؤمنين - عليه السلام -، ومن
قول ابن عباس رحمه الله ومن قول عمر بن الخطاب.
فازداد الرجل تعجبا لما سمع هذا الكلام، وقال: أحب أن تفصل لنا ذلك
وتشرحه على البيان.
فقلت له: أما كتاب الله تعالى فقد تقرر أنه نزل بلسان العرب وعلى مذاهبها
في الكلام، قال الله سبحانه: * (قرانا عربيا غير ذي عوج) * (1) وقال: * (وما أرسلنا
من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) * (2) ثم قال سبحانه في آية الطلاق:
* (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * (3) فكانت الثالثة في قوله:
* (أو تسريح بإحسان) *.
ووجدنا المطلق إذا قال لامرأته: " أنت طالق " أتى بلفظ واحد يتضمن
تطليقة واحدة، فإذا قال عقيب هذا اللفظ: ثلاثا، لم يخل من أن تكون إشارته إلى
طلاق وقع فيما سلف ثلاث مرات أو إلى طلاق يكون في المستقبل ثلاثا، أو إلى
الحال، فإن كان أخبر عن الماضي فلم يقع الطلاق إذا باللفظ الذي أورده في الحال
وإنما أخبر عن أمر كان، وإن كان أخبر عن المستقبل فيجب أن لا يقع بها طلاق
حتى يأتي الوقت ثم يطلقها ثلاثا على مفهوم اللفظ والكلام، وليس هذان القسمان
مما جرى الحكم عليهما ولا تضمنهما المقال فلم يبق إلا أنه أخبر عن الحال وذلك
كذب ولغو بلا ارتياب لأن الواحدة لا تكون أبدا ثلاثا، فلأجل ذلك حكمنا عليه
بتطليقة واحدة من حيث تضمنه اللفظ الذي أورده وأسقطنا ما لغى فيه وأطرحناه

(1) - الزمر / 28.
(2) - إبراهيم / 4.
(3) - البقرة / 229.
176

إذ كان على مفهوم اللغة التي نطق بها القرآن فاسدا وكان مضادا لأحكام الكتاب.
وأما السنة فإن النبي (ص) قال: " كل ما لم يكن على أمرنا هذا فهو رد " وقال
- عليه السلام -: " ما وافق الكتاب فخذوه وما خالفه فاطرحوه " وقد بينا أن المرة لا تكون
مرتين وأن الواحدة لا تكون ثلاثا، فأوجبت السنة إبطال طلاق الثلاث.
وأما إجماع الأمة فإنهم مطبقون على أن كل ما خالف الكتاب والسنة فهو
باطل، وقد تقدم وصف خلاف الطلاق الثلاث للكتاب والسنة فحصل الاجماع
على بطلانه.
وأما قول أمير المؤمنين - عليه السلام -: فإنه قد تظاهر عنه بالخبر المستفيض أنه
قال: " إياكم والمطلقات ثلاثا في مجلس واحد فإنهن ذوات أزواج "، وأما قول ابن
عباس فإنه يقول: " ألا تعجبون من قوم يحلون المرأة لرجل وهي تحرم عليه،
ويحرمونها على آخر وهي محل له "، فقالوا: يا ابن عباس ومن هؤلاء القوم؟ قال:
" هم الذين يقولون للمطلق ثلاثا في مجلس قد حرمت عليك امرأتك ".
وأما قول عمر بن الخطاب: فلا خلاف أنه رفع إليه رجل مد طلق امرأته
ثلاثا فأوجع رأسه ثم ردها إليه، وبعد ذلك رفع إليه رجل قد طلق كالأول فأبانها
منه. فقيل له في اختلاف حكمه في الرجلين. فقال: قد أردت أن أحمله على كتاب
الله عز اسمه ولكني خشيت أن يتتابع فيه السكران والغيران.
فاعترف بأن المطلقة ثلاثا ترد إلى زوجها على حكم الكتاب وأنه إنما أبانها
منه بالرأي والاستحسان، فعملنا من قوله على ما وافق القرآن، ورغبنا عما ذهب إليه
من جهة الرأي. فلم ينطق أحد من الجماعة بحرف وأنشأوا حديثا آخر تشاغلوا
177

قال الشيخ أيده الله: وما أشبه قولهم في الحكم على الواحدة من الطلاق
بأنها ثلاث إلا بقول النصارى ثلاثة أقانيم جوهر واحد. بل النصارى أعذر منهم
لأنهم ذكروا ثلاثة معان معقولة، ثم وصفوها بمعنى واحد في خلاف وصفها في
الثلاثة فأخطأوا في المعنى القياسي وإن كان غلطهم على الظاهر في المعنى
العددي والناصبة أتت بمعنى واحد ولفظ واحد فخروا عنه بأنه ثلاثة في معنى ما
كان واحدا، وهذا نهاية الجهل وضعف العقل.
على أنه لا خلاف بين أهل اللسان وأهل الإسلام أن المصلي لو قال في ركوعه
سبحان ربي العظيم فقط ثم قال في عقيبه ثلاثا لم يكن مسبحا ثلاثا، ولو قال في
سجوده سبحان ربي الأعلى ثم قال ثلاثا لم يكن مسبحا ثلاثا، ولو قرأ الحمد مرة
ثم قال في آخرها بلفظة عشرا لم يكن قارئا لها عشرا.
وقد أجمعت الأمة على أن الملاعن لو قال في شهادته: أشهد بالله أربعا أني
لمن الصادقين لم يكن شاهدا أربع مرات على الحقيقة حتى يفصلها، ولو أن حاجا
رمى الجمرة بسبع حصيات في دفعة واحدة لم يجز ذلك عن رمي سبع متفرقات،
وهذا كله دليل على أنه إذا قال: أنت طالق، ثم قال: ثلاثا، لم يكن طلاقا ثلاثا،
وهذا بين لمن تدبره.
فصل
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه وكلامه في الطلاق، قال الشيخ أيده الله:
وقد ألزم الفضل بن شاذان رحمه الله فقهاء العامة على قولهم في الطلاق، أن يحل
للمرأة الحرة المسلمة أن تمكن من وطئها في اليوم الواحد عشرة أنفس على سبيل
النكاح وهذا شنيع في الدين منكر في الإسلام.
178

قال الشيخ أيده الله: ووجه إلزامه لهم ذلك بأن قال: خبروني عن رجل
تزوج امرأة على الكتاب والسنة وساق إليها مهرها أليس قد حل له وطيها؟ فقالوا:
وقال المسلمون كلهم: بلى. قال لهم: فإن وطئها ثم كرهها عقيب الوطئ أليس يحل
له خلعها على مذهبكم في تلك الحال؟ فقالت العامة خاصة: نعم، قال لهم: فإنه
خلعها ثم بدا له بعد ساعة في العود إليها أليس يحل له أن يخطبها لنفسه ويحل لها
أن ترغب فيه؟ قالوا: بلى، فقال لهم: فإن عقد عليها عقد النكاح أليس قد عادت
إلى ما كانت عليه من النكاح وسقط عنها عدة الخلع؟ قالوا: بلى، قال لهم: فإن
رجع إلى نيته في فراقها ففارقها عقيب العقد الثاني بالطلاق من غير أن يدخل بها
ثانية أليس قد بانت منه ولا عدة عليها بنص القرآن من قوله: * (ثم طلقتموهن
من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) * (1)؟ قالوا: نعم ولا بد لهم
من ذلك مع التمسك بالدين، قال لهم: أليس قد حلت من وقتها للأزواج إذ ليس
عليها عدة بنص القرآن؟ قالوا: بلى، قال: فما تقولون إن صنع بها الثاني كصنع
الأول، أليس يكون قد نكحها اثنان في بعض يوم من غير حظر من ذلك على
أصولكم في الأحكام، فلا بد أن يقولوا بلى، قال لهم: وكذلك لو نكحها ثالث
ورابع إلى أن يتم ناكحوها عشرة أنفس وأكثر من ذلك إلى آخر النهار، أليس يكون
ذلك جائزا طلقا حلالا؟ وهذه هي الشناعة التي لا تليق بأهل الإسلام.
قال الشيخ أيده الله: والموضع الذي لزمت منه هذه الشناعة فقهاء العامة
دون الشيعة الإمامية أنهم يجيزون الخلع والطلاق والظهار في الحيض، وفي الطهر
الذي قد حصل فيه جماع من غير استبانة حمل، والإمامية تمنع من ذلك وتقول: إن
هذا أجمع لا يقع بالحاضرة التي تحيض إلا بعد أن تكون طاهرة من الحيض طهرا لم

(1) الأحزاب / 49.
179

يحصل فيه جماع فلذلك سلمت مما وقع فيه المخالفون.
قال الشيخ أدام الله عزه: وقد حيرت هذه المسألة العامة حتى زعم بعضهم
وقد ألزمته أنا بمتضمنها، أن المطلقة بعد الرجعة إليها عن الخلع يلزمها العدة وإن
كانت مطلقة من غير دخول بها فرد القرآن ردا ظاهرا وقلت لهذا القائل: من أين
أوجبت عليها العدة وقد طلقها الرجل من غير أن يدخل بها مع نص القرآن؟
فقال: لأنه قد دخل بها مرة قبل هذا الطلاق.
فقلت له: إن اعتبرت هذا الباب لزمك أن يكون من تزوج بامرأة وقد كان
طلقها ثلاثا فاستحلت ثم اعتدت وتزوجها بعد العدة ثم طلقها قبل أن يدخل بها
في الثاني أن تكون العدة واجبة عليها لأنه قد دخل بها مرة، وهذا خلاف دين
الإسلام.
فقال: الفرق بينهما أن هذه التي ذكرت قد قضت منه عدة والأولة لم تقض
العدة.
فقلت له: أليس قد أسقطت الرجعة لها بعد الخلع عنها العدة باتفاق؟
قال: بلى، قلت له: فمن أين يرجع عليها ما كان قد سقط عنها، وكيف يصح
ذلك في الأحكام الشرعية وأنت لا يمكنك أن تلزمها العدة الساقطة عنها إلا
بنكاح لا يجب فيه العدة بظاهر القرآن؟ وهذا أمر متناقض فلم يأت بشئ.
فصل
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه أيضا في الميراث وحديثه، حدثني الشيخ
أيده الله تعالى قال: أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، عن
أبيه رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن
أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن بكير بن أعين قال:
180

جاء رجل إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر - عليه السلام - فقال له: يا أبا جعفر
ما تقول في امرأة تركت زوجها وأخويها لأمها وأختا لأبيها؟ فقال أبو جعفر
- عليه السلام -: للزوج النصف ثلاثة أسهم من ستة أسهم وللإخوة من الأم الثلث
سهمان من ستة وللأخت من الأب ما بقي وهو السدس سهم من ستة. فقال له
الرجل: فإن فرائض زيد وفرائض العامة والقضاة على غير ذلك يا أبا جعفر
يقولون: للأخت من الأب ثلاثة أسهم من ستة تعول إلى ثمانية، فقال له أبو جعفر
- عليه السلام -: ولم قالوا ذلك؟ قال: لأن الله تعالى يقول: * (إن امرؤا هلك ليس له ولد
وله أخت فلها نصف ما ترك) * (1) قال أبو جعفر - عليه السلام -: فإن كانت الأخت
أخا؟ قال: ليس له إلا السدس.
فقال أبو جعفر - عليه السلام -: فما لكم نقصتم الأخ إن كنتم تحتجون في النصف
للأخت بأن الله تعالى قد سمى لها النصف فإن الله تعالى قد سمى للأخ أيضا
الكل، والكل أكثر من النصف، قال الله سبحانه: * (فلها نصف ما ترك وهو يرثها
إن لم يكن لها ولد) * (2) فلا تعطون الذي جعل الله له الجميع في بعض فرائضكم
شيئا وتعطونه السدس في موضع وتعطون الذي جعل الله له النصف ذلك تاما.
فقال له الرجل فكيف تعطي الأخت أصلحك الله النصف ولا يعطى الأخ
شيئا؟ فقال أبو جعفر - عليه السلام -: يقولون في أم وزوج وإخوة لأم وأخت لأب
فيعطون الزوج النصف ثلاثة أسهم من ستة تعول إلى تسعة والأم السدس والإخوة
من الأم الثلث والأخت من الأب النصف ثلاثة ترتفع من ستة إلى تسعة، قال:
كذلك يقولون، قال: فإن كانت الأخت أخا لأب؟ قال: ليس له شئ، فقال
الرجل لأبي جعفر - عليه السلام - فما تقول أنت رحمك الله؟ فقال: ليس للإخوة من
الأب والأم ولا للإخوة من الأم ولا للإخوة من الأب مع الأم شئ.

(1) - النساء / 176.
(2) النساء / 176.
181

فصل
ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه قال: وقد ألزم الفضل بن شاذان رحمه الله
فقهاء العامة في قولهم في الميراث أن يكون نصيب بني العم أكثر من نصيب الولد
واضطرهم إلى الاعتراف بذلك.
قال لهم: خبروني عن رجل توفي وخلف ثلاثين ألف درهم وخلف ثمانية
وعشرين بنتا وخلف ابنا واحدا كيف يقسم ميراثه؟ فقالوا: يعطى الولد الذكر
ألفي درهم وتعطى كل بنت ألف درهم، فيكون للبنات ثمانية وعشرون ألف درهم
على عددهم ويحصل للولد الذكر ألفا درهم فيكون ما قسمه الله تعالى وأوجبه في
كتابه: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) *.
قال لهم: فما تقولون إن كان موضع الابن ابن عم كيف تقسم الفريضة؟
فقالوا: يعطى ابن العم عشرة آلاف درهم وتعطى البنات كلهن عشرين ألف
درهم.
قال لهم الفضل بن شاذان: فقد صار ابن العم أوفر حظا من الابن
للصلب والابن مسمى في التنزيل متقرب بنفسه، وبنو العم لا تسمية لهم إنما
يتقربون بأبيهم وأبوهم يتقرب بجده، والجد يتقرب بابنه، وهذا نقض الشريعة.
قال الشيخ أدام الله عزه: وإنما لزمت هذه الشناعة فقهاء العامة خاصة
لقولهم بأن من عدا الزوج والزوجة والأبوين يرثون مع الولد على خلاف مسطور
الكتاب والسنة، وإنما أعطوا ابن العم عشرة آلاف درهم في هذه الفريضة من
حيث تعلقوا بقوله تعالى: * (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) * (1) فلما
بقي الثلث أعطوه لابن العم فلحقتهم الشناعة المخرجة لهم عن الدين ونجت
الشيعة من ذلك.

(1) - النساء / 11.
182

فصل
قال الشيخ أدام الله عزه: وما رأيت أشد وقاحة من الناصبة في تشنيعهم على
الإمامية فيما يذهبون إليه من الفقه المأثور عن آل محمد - عليهم السلام - وإن عجبي
ليطول منهم في ذلك فإنني لا أزال أسمع المحتفل منهم والمتفقه يقول: خرجت
الإمامية عن الاجماع في قولها إن البنت تحوز المال دون العم وقد بينا عن الحجة في
ذلك من نص القرآن وسنة رسول الله (ص)، ولو قالت الشيعة ذلك فيهم ووصفتهم
في توريث العم النصف مع البنت برد القرآن والسنة والاجماع لكانت ظاهرة
الحجة في صدقها.
ثم إن الرجل منهم ينفر العامة عن الإمامية بما يحكيه من قولها في توريث
المرأة قيمة الطوب والخشب دون ملك الرباع، والأثر عن آل محمد - عليهم السلام - ورد
بأن ذلك حكم الله تعالى في الأزواج لأنهن إنما يرثن بالسبب دون النسب وهن
يتزوجن بعد أزواجهن فلو ورثن من الأرض لأدخلن على ولد الميت الأجنبي،
فأدى ذلك إلى إفساد الملك في الأغلب وإن جاز سلامته من الفساد فحكم الله
تعالى بذلك في الأزواج لرأفته بعباده، وأعطيت المرأة قيمة ما منعت من ملكه فلم
تظلم في ذلك.
والناصبة لا ترجع على أنفسها باللوم إذا زعمت أن من سمى الله كل
المال لا يستحق منه شيئا في بعض فرائضهم ويستحق السدس في بعض آخر مع
توريثهم الأخت التي سمى لها النصف ذلك على كما له وإذا تأمل المتأمل ما
وصفناه بان له من جرأة القوم وتفريطهم (تغطرسهم ن خ) ما ذكرناه.
ثم يقولون أيضا: إن الشيعة تظلم في الفرائض فتعطي الابن الأكبر سيف
183

أبيه وقميصه وخاتمه ومصحفه دون الابن الأصغر فإن لم يكن له من الذكور إلا
ولد واحد أعطي ذلك دون البنات، وهذا القول مأثور من سنة رسول الله (ص) وقد
فعله أمير المؤمنين - عليه السلام - بابنه الحسن - عليه السلام - وفعلته الأئمة - عليهم السلام - من
بعده.
وقد ذهب جماعة من الإمامية إلى تعويض باقي الورثة بقيمة ما اختص به
الولد الأكبر والذكر دون البنات، ومن لم ير العوض ولا أخذ القيمة ذهب إلى أن
السنة أفردت الابن باستحقاق ذلك، وجاءت بتفضيله على باقي الولد كما جاء
القرآن: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) *.
وإنما وجب للذكر ضغف ما للأنثى لأن عليه العقل والجهاد وليس ذلك
على الإناث، كذلك على الولد الأكبر قضاء الصوم عن أبيه والصلاة إذا كان قد
فرط فيهما وهو أن يجب عليه قضاء الصوم من مرض أو سفر فيسوفه ويخترم دونه،
ويجب عليه قضاء الصلاة التي نسيها فيسوفها وتأتيه المنية قبل قضائها، فيلزم
الولد الأكبر من الذكور قضاء ذلك فلأجله فضل في الميراث بما ذكرناه.
وليس هذا بأشنع من قولهم إن ابن العم أوفر حظا في الميراث من الابن وإن
الابن أقل سهما من ابن العم، بل لا شناعة في قول الشيعة، وهذا القول ضلال
بخلاف الكتاب والسنة في قواعد الاجماع.
184

فصل
قال الشيخ أدام الله عزه: ومن شناعتهم على أهل الإمامة ما اختصوا به من
جمهورهم في المسح على الرجلين، وظاهر القرآن ينطق بذلك قال الله تعالى: * (يا
أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق
وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * (1) فأوجب المسح بصريح اللفظ،
وجاءت الأخبار أن رسول الله (ص) توضأ فغسل وجهه وذراعيه ومسح برأسه ومسح
برجليه، وأن أمير المؤمنين - عليه السلام - توضأ كذلك، وأن ابن عباس رحمه الله قال: نزل
القرآن في الوضوء بغسلين ومسحين فاسقط الله تعالى الغسلين في التيمم وجعل
بدلهما مسحين. وجاءت الآثار عن أئمة الهدى من آل محمد - عليهم السلام - أنهم قالوا:
إن الرجل ليصلي أربعين سنة وما يطيع الله عز وجل في الوضوء. فقيل لهم: وكيف
ذلك؟ فقالوا: يجعل موضع المسح غسلا.
فهذا القول لا شناعة فيه لموافقته الكتاب والسنة وأحكام أهل البيت
- عليهم السلام - وخيار الصحابة، لكن الشناعة في قولهم بالمسح على الخفين اللذين
ليسا من بعض الإنسان ولا من جوارحه ولا نسبة بينهما وبين أبعاضه إلا كغيرهما
من الملبوسات، والقرآن ينطق بضد قولهم في ذلك إذ صريحه يفيد إيقاع الطهارة
بنفس الجارحة دون ما عداها.
وقد قال الصادق - عليه السلام -: " إذا رد الله كل إهاب إلى موضعه ذهبت طهارة
هؤلاء - يعني الناصبة في جلود الإبل والبقر والغنم " وهم أنفسهم أعني الناصبة

(1) - المائدة / 6.
185

يروون عن عائشة أنها قالت: لأن ينقطع رجلاي بالمواسي أحب إلي من أن أمسح
على الخفين، ويروون عن أبي هريرة أنه كان يقول: " ما أبالي أمسحت على خفي أم
مسحت على ظهر عير بالفلاة " وكثيرا ما يشنعون علينا بتحليل المتعة بالنساء وقد
تقدم قولنا بالحجة على صحتها من الكتاب والسنة وإجماع الأمة فلا شناعة في
القول بها.
لكن الشناعة عليهم في القول بنكاح الأمهات، والأخوات، والبنات
والعمات والخالات، والمستأجرات من ذوات الصناعات، وإتيان النساء في
أدبارهن على الجبر لهن والاكراه، والجمع بين الأخوات في ملك اليمين والأمهات
والبنات ثم لا يقنعون بالتشنيع بالحق الذي لا قبح فيه مع شناعة مذاهبهم
وقبحها على ما وصفناه حتى يتخرصون علينا بالكذب فيزعمون أنا لا نلحق ولد
المتعة بأبيه، وهذا بهت منهم للشيعة وكذب عليهم لا شبهة فيه.
لكن القول عنهم فيما لا يمكنهم دفاعه مما هو ضد للشريعة وخروج عن
الملة قول أبي حنيفة: إن الرجل إذا تزوج بالمرأة ثم طلقها عقيب عقد النكاح بلا
فصل فأتت بولد لستة أشهر أنه يلحق به من غير أن يكون جامعها الرجل ولا
خلا بها، وإنما عقد عليه لها أبوها وطلقها هو في المجلس فألحق بالرجل غير ولده،
وقال: لو عقد عليها بمصر وهي ببغداد ثم جاءت بولد وهو بمصر لم يبرح منها
للحق به الولد.
وقال الشافعي بضد هذا: إنه لو افتض رجل بكرا وأحبلها فجاءت بابنة لحل
له العقد عليها وحل له وطيها، فأباح هذا نكاح ابنته وعلق ذلك على الرجل غير
ولده.
ثم زعم أبو حنيفة أيضا: أن المرأة إذا زنت بصبي صغير لم تحد وإن زنى
186

كبير بصغيرة حد، فأبطل قول الله تعالى: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما
مائة جلدة) * (1) ثم فرق بين المتفقين وناقض في القياس وقال مضيفا إلى قبايح
قوله: إن المرأة إذا كان لها مهر فمات زوجها وتقادم موته وجهل مهر المرأة فإنه لا
مهر لها.
ونظير ذلك قوله: إن المقر على نفسه بشرب الخمر بعد ما تقادم لا حد
عليه، فأبطل بذلك أيضا حكم الله تعالى وقال في الجماعة، إذا سرق بعضهم دون
بعض قطع الجميع، فأوجب الحد على من أسقطه الله عنه وأسقطه عمن أوجبه الله
تعالى عليه.
تم
- الجزء الأول = ويتلوه = الجزء الثاني =
بمشيئة الله وعونه

(1) - النور / 2.
187

الجزء الثاني
من كتاب
الفصول المختارة
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل
قال الشيخ أيده الله: وقد ناقض رجل من أهل الحجاز رجلا من أهل
العراق وشنع عليه في مقالته فقابله العراقي وظهر بينهما في ذلك فضائحهما معا
وقبح اعتقاداتهما، وأنا أحكي طرفا من قولهما لينضاف إلى ما أثبتناه في ذلك.
قال الحجازي: وجدت الله تعالى يقول: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا
طيبا) * (1). وأرى العراقي يقول: فإن لم تجدوا ماء فتوضأوا بالنبيذ بخلاف قول الله
عز وجل ورسوله (ص) وإجماع المسلمين.
فقال العراقي: وأنا أيضا وجدت الله يقول: * (واستشهدوا شهيدين من

(1) - المائدة / 6.
189

رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) * (1) وأرى
الحجازي يقول: واستشهدوا شاهدا واحدا ويمين المدعي، مع قول النبي (ص): " لو
يعطى قوم بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم " فخالف كتاب الله وسنة نبيه
(ص) وإجماع المسلمين.
ثم قال الحجازي: وأرى العراقي يقول في فأرة وقعت في بئر فماتت إنه ينزح
منه عشرون دلوا، وإن وقع فيها ذنب فأرة ينزح ماء البئر كله، فما أعجب هذا
القول وأطرفه! كيف يكون الكل غير منجس والبعض منجسا إن هذا لشئ
عجيب!
فقال العراقي: أطرف من هذا القول قولك أيها الحجازي في فأرة وقعت في
بئر فيها قلتان من ماء وتفسخت فيها إن ماء البئر طاهر ولو أخذ من الماء قلة
وفيها بعض الفارة لكان ذلك الماء نجسا، فقد صارت الفارة بأسرها غير منجسة
وبعضها منجس، والماء بأسره طاهر وبعضه نجس، وهذا أشنع مما حكيت عنا.
ثم قال الحجازي: وأرى العراقي يقول في الفارة إذا ماتت في البئر إنه ينزح
منها عشرون دلوا، وإن مات فيها إنسان من أهل الطهارة والإيمان ينزح الماء كله،
أفترى الفارة أطهر من أهل الإيمان، نعوذ بالله من سوء الاختيار
فقال العراقي: وأنا أيضا أرى الحجازي يقول إن المسلم المؤمن التقي
الطاهر إذا مس فرجه وجب عليه الوضوء ولو مس فرج كلب أو خنزير لما وجب
عليه الوضوء بجعل الكلب والخنزير أطهر من أهل التقى والإيمان نعوذ بالله من
الخذلان.

(1) - البقرة / 282.
190

وحكى زكريا بن يحيى الساجي عن أبي حنيفة قال: إذا أدخل الجنب يده.
في بئر بنية الوضوء فسد الماء كله، وإن لم ينو الوضوء كان الماء طاهرا، وهذا
عجيب أيضا.
وحكي عن محمد بن الحسن أنه كان يقول: لو أن رجلا، جنبا دخل بئرا ينوي
الغسل من الجنابة لفسد الماء كله ولم يطهر هو، فإن خرج منها ثم دخلها ثانية لم
يطهر هو أيضا ولم يطهر الماء، فإن دخلها ثالثة كان هذا حكمه، فإن دخلها رابعة
طهر.
وحكي عن أبي يوسف أنه قال: لو أن رجلا جنبا دخل بئرا ليخرج منها
دلوا فانغمس فيها لم يفسد الماء ولم يجزه الغسل، وقال محمد بن الحسن: لا يفسد
الماء ويجزيه الغسل، وهذه الأقوال عجيبة جدا.
قال الشيخ أيده الله: عدنا إلى الحكاية عن المتناقض الحجازي بئرا ليخرج منها
قال الحجازي: رأيت العراقي يدفع السنن بالراح ويعدل عنها إلى الرأي
والقياس، لأنا نجد النبي (ص) يقول: الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، وقال
العراقي: إن الوضوء غير محتاج إلى النية جرأة منه على رد السنن.
فقال العراقي: وأنا أرى الحجازي أرد للسنة مني وأشد إقداما على البدعة،
لأنه يقول في صرورة أحرم بالحج عن غيره أن الحجة تكون على المحرم وتجزيه عن
حجة الإسلام، فيا عجبا من مدع على العراقي رد السنة في الوضوء بغير النية ويأتي
هو في الحج الذي هو أعظم الدين فيجيزه بغير نية، نعوذ بالله من مشنع هو
بالتشنيع عليه أولى، ومن عائب بشئ قد أتى ما هو أعظم منه.
ثم قال الحجازي: وأرى العراقي يقول: إن الرجل لو صلى في ثوب فيه من
بول ما (لا ن خ) يؤكل لحمه أكثر من قدر الدرهم أن صلاته جائزة إلا أن يكون كثيرا
191

فاحشا، والكثير عنده ربع الثوب فصاعدا، ثم يناقض فيقول: لو أن شاة بالت في
بئر فيها ألف قربة ماء لنجس الماء كله، وهذا من فاحش المناقضة.
فقال العراقي: وأرى الحجازي أولى بالمناقضة لأنه يقول: لو أن رجلا تيمم
بتراب قد خالطه دقيق لم يجزه، وإن توضأ بماء قد خالطه لبن كان وضوءه جائزا،
وهذا أعجب من ذلك.
ثم قال الحجازي: وجدت الله تعالى يقول: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم
إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم
إلى الكعبين) * (1) فأمر تعالى بالوضوء مرتبا، وقال رسول الله حين بدأ بالصفا:
(نبدأ بما بدأ الله تعالى به)، وأرى العراقي ينقض ذلك ويخالف الله في ترتيبه.
فقال العراقي: فإني رأيتك أيها الحجازي تقول في أصل الديانة بمثل ما
شنعت به علي، وذلك أن الله عز وجل يقول: * (وفضل الله المجاهدين على
القاعدين أجرا عظيما) * (2) ويقول تعالى: * (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا
يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) * (3) فقدم الله جل اسمه أهل الجهاد على
القاعدين في محل التعظيم، ولم يسو بين العالمين وبين من نقص عن رتبتهم في
العلم وقد قدمنا جميعا أبا بكر على علي بن أبي طالب وكان أكثر علما من أبي بكر،
وكان مجاهدا، وأبو بكر قاعد، فيجب أن نشترك جميعا في العيب وتسلم منه
الرافضة خاصة، وهذا مما لا ترتضيه لنفسك، ثم قال له: على أننا قد اتفقنا جميعا
على تقديم المياسر على الميامن ولم نوجب الترتيب في ذلك فيجب أن نكون جميعا
قد خالفنا الله في ترتيبه.

(1) المائدة / 6.
(2) - النساء / 95.
(3) - الزمر / 9.
192

فصل
ثم قال الحجازي: وأرى العراقي متعجرفا في قوله متعسفا في نحلته يقدم
بالعصبية على الأنبياء وينجس الأخيار والأصفياء. من ذلك قوله: إن المني نجس
ومنه خلقت الأنبياء، فليت شعري إذا لم يفكر في تنجيس نفسه فهلا اتقى الله في
إقدامه على أنبياء ربه بالتنجيس ولقد نزه الله عز وجل الأنبياء عما أضافه إليهم.
فقال العراقي: وأرى الحجازي أشد تعجرفا وتعسفا وإقداما على القول
بالباطل من ذلك قوله: إن الشعر إذا بان من الحي فهو نجس، وهذا رد على رسول
الله (ص) وقول فظيع في سنته لأن النبي (ص) قسم شعره حين حلقه بمنى بين
أصحابه لتلحقهم بركته، ولو كان نجسا وحاشا له (ص) مما ذهب إليه
الحجازي لما قسمه بين أصحابه ولكان يجعل سبيله سبيل ما يخرج من السبيلين في
إطراحه وإبعاده ولكنه (ص) أعلمنا بفعله ذلك طهارة شعره فوجب علينا أن
نحكم لأجل ذلك على كل شعر بائن بالطهارة لاتفاق العلل الموجبة لذلك.
ثم قال الحجازي: ورأيت النبي (ص) قال في الصلاة: تحريمها التكبير
وتحليلها التسليم، وأرى العراقي يقول: تحريم الصلاة التعظيم والتهليل، وتحليلها
البول والغائط والضراط، وهذا رد على رسول الله (ص).
فقال العراقي: وأنا أرى الحجازي قد دان بمثل ذلك وأشنع منه وذلك أن
من قوله إنه من قذف المحصنات في صلاته ساهيا جازت صلاته، والنبي (ص) قد
جعل التسليم خروجا فكيف يكون التسليم خروجا وقذف المحصنات ليس
بخروج، وهذا هو الرد على رسول الله (ص)، قال وهو يقول مع ذلك مناقضا أنه لو
193

قال في افتتاح الصلاة الأكبر الله لم يكن مكبرا حتى يأتي باللفظ المعروف في ذلك
وهو الله أكبر ولو قال في موضع التسليم عليكم السلام لكان مسلما خارجا من
الصلاة وإن خالف المعروف المأثور في ذلك.
ثم قال الحجازي: ورأيت الله سبحانه يقول في القرآن بلسان عربي مبين،
وأرى العراقي يقول: لو قرأ بالفارسية في الصلاة لكان جائزا تحريفا للقرآن وتبديلا
له وإدخالا له في جملة ما يأتيه الباطل وقد نفى الله عز وجل عنه الباطل من بين
يديه ومن خلفه وهو أيضا إخراج القرآن عن حد الاعجاز إلى حد الامكان نعوذ
بالله من الخذلان.
فقال العراقي: وأرى الحجازي قد شاركني في هذه الشناعة وأبطل الكتاب
والسنة وذلك أن الله تعالى يقول: * (ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين
لهم) * (1) وقال تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (2) ولم ير النبي (ص)
في حال يلفظ بالفارسية فضلا عن أن يؤدي فرضا من فرائض الصلاة بالفارسية،
ولا خلاف عند الحجازي أن التشهد في الصلاة والصلاة على النبي (ص) فيها
فرض، ولو تشهد المصلي بالفارسية في الصلاة لأجزأه ذلك، ولو سلم أيضا
التسليمة التي هي عنده فريضة بالفارسية لأجزأه ذلك، فإن كان العراقي قد
خالف القرآن فالحجازي قد رد السنة والقرآن.
ثم قال الحجازي: رأيت النبي (ص) يقول: كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب
فهي خداج، وأرى العراقي يجيز الصلاة بالآية القصيرة مثل ألم، ومدهامتان، وما
أشبههما من الآيات جرأة منه على الله عز وجل.

(1) - إبراهيم / 4.
(2) - الأحزاب / 21.
194

فقال العراقي: وأرى الحجازي قد نقض هذا الخبر وأبطل معناه وذلك أنه
يقول: من قرأ بآية طويلة مقدارها مقدار فاتحة الكتاب أجزأته صلاته فقد دخل
بهذا القول فيما عاب، ورد الحديث الذي احتج به ردا واضحا.
ثم قال الحجازي: وأرى العراقي مدعيا للقياس وهو مع ذلك أشد الناس
مناقضة وأبعدهم من القياس من ذلك قوله في رجل تكلم في الصلاة ساهيا فإن
ذلك مفسد لصلاته، وإن سلم في صلاته ساهيا لم يفسد صلاته، فأي مناقضة
أبين من هذه؟
فقال العراقي: وأرى الحجازي أكثر مناقضة وأعجب مقالة من ذلك قوله:
إن الخائف على نفسه من السبع والعدو في حال القتال أنه يصلي إلى غير القبلة
ولا إعادة عليه، وإن تيمم وهو يخاف على نفسه التلف إن اغتسل صلى بتيممه
وأعاد الصلاة، وهذا لعمري هو المناقضة الظاهرة.
ثم قال الحجازي: وأرى العراقي يقدم على رد الكتاب ويبيح ما قد جعل
الله إباحته على صفة من ذلك قوله: إن العائث في الأرض بالفساد يحل له أكل
الميتة عند الضرورة، ويقصر عند طول سفره فأباح رخص الله تعالى حيث
حظرها.
فقال العراقي: فإن قول الحجازي أعجب، وذلك أنه يبيح لهذا العائث
بعينه المسح على الخفين يوما وليلة كما يبيحه للمقيم، فإن كان ذلك تشهيا فلا
مكاس بالشهوة، وإن كان اتباعا للسنة واقتداء بالسلف فلسنا نعلم لذلك قائلا
ممن تقدم الحجازي والله نسأل التوفيق.
ثم قال الحجازي: وأرى العراقي يقول في الرجل يصلي الظهر يوم الجمعة
195

في منزله أنها تجزيه، ثم يقول إن خرج بعد ذلك يريد الجمعة فأدرك الإمام في
الصلاة صلى معه وإن لم يدرك الإمام أعاد الظهر أربعا فهي في حال تجزيه وفي
حال لا تجزيه، وهذا تلاعب بالدين.
فقال العراقي: فإن الحجازي أشد تلاعبا بالدين مني، وذلك أنه يقول في
الإمام إذا خطب خطبتين لم يجلس بينهما أن ذلك لا يجزيه وإن صلى ركعتين لم يجزه
عن الجمعة، وحجته ز ذلك أن النبي (ص) فرق بين الخطبتين، فلا يجزي خلاف
فعل النبي (ص)، وهو مع هذا يقر بأن النبي (ص) ما اعتكف إلا صائما والاعتكاف
على مذهبه يجوز بغير صيام خلافا للنبي (ص) وخلافا على جميع أصحابه إذ لم ير
أحد منهم اعتكف إلا بصيام، فأينا على هذا القول ألعب في الدين؟
ثم قال الحجازي: وأرى العراقي مع مناقضته في الطهارة والصلاة قد ناقض
أيضا في الزكاة وذلك إني رأيت النبي (ص) جعل في أربعين من الغنم شاة، وأرى
العراقي يجعل فيها كلبا، ورأيت رسول الله (ص) جعل صدقة الفطرة من الحنطة
والشعير وأرى العراقي يعطي من ذلك السقمونيا.
فقال العراقي: وأنا أيضا رأيت النبي (ص) يقول في خمس من الإبل شاة،
وأرى الحجازي يقول في خمس من الإبل بعير، وهذا رد على النبي (ص).
ثم قال الحجازي: ورأيت النبي (ص) يقول ليس فيما دون خمس أواق صدقة
وأرى العراقي يقول إذا كانت للرجل عشرة مثاقيل ذهبا ومائة درهم قيمتها عشرة
مثاقيل، أن عليه الزكاة خلافا للسنة.
فقال العراقي: وأنا أرى الحجازي قد رد قول النبي (ص) " ليس فيما دون
الخمس أواق صدقة " لأنه يوجب على ألف رجل لهم مئتا درهم الزكاة ويسقطها
عمن يملك مائة ألف درهم من الصيارفة، وهذا هو السفه في الأحكام.
196

ثم قال الحجازي: وقد ناقض العراقي أيضا في الصيام، فقال: إذا داوى
الصائم جائفة في شهر رمضان فعليه القضاء، وإن بلع حصاة أو خاتما وما
أشبههما متعمدا لم يجب عليه بذلك القضاء.
فقال العراقي: فإن الحجازي شريكي في المناقضة، وذلك أن من قوله إن
المسافر والمريض إذا أفطرا في شهر رمضان ثم لم يقضيا ما أفطراه حتى حال
عليهما شهر رمضان آخر أن عليهما القضاء والكفارة، وقال مع ذلك لو أن رجلا
أفطر عامدا في شهر رمضان من غير عذر كان عليه القضاء ولا كفارة عليه فأينا
مع هذا أشد مناقضة.
ثم قال الحجازي: وقال العراقي مناقضا في المجنون إذا غلب الجنون على
عقله الشهر كله لم يكن عليه القضاء، وإن أفاق في بعض الشهر كان عليه صيام
ما أفاق فيه وقضاء ما سلف ثم قال في المغمى عليه الشهر كله، عليه قضاء الشهر
بأسره وهذه هي المناقضة الواضحة.
فقال العراقي: قد ذهب الحجازي إلى مثل ذلك بعينه، فقال: إن من بلغ
من الصبيان في بعض النهار أنه يمسك بقية يومه ولا قضاء عليه، ومن أسلم من
الكفار في بعض النهار كان عليه قضاء ذلك اليوم، وهذا ما لا خفاء بالمناقضة
فيه
ثم قال الحجازي: وأرى العراقي مبدعا في الحج كإبداعه فيما سلف وذلك
أن النبي (ص) قال: لا ينكح المحرم ولا ينكح وأرى العراقي يقول: لا حرج على
المحرم أن ينكح وينكح، ردا لقول رسول الله (ص).
فقال العراقي: وأنت أيها الحجازي قد رددت على النبي (ص) وذلك أن
197

النبي (ص) قال: إن المحرم إذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين ويقطعهما من
أسفل الكعبين وأنت تقول يلبس الخفين ولا حرج عليه وإن لم يقطعهما فرددت
على النبي (ص) ردا صريحا.
ثم قال الحجازي: وأرى العراقي يقابل أفعال النبي (ص) بالرد ويبدع المتبع
لسنته، ومن ذلك أن النبي (ص) أشعر بدنة وسلت الدم بإصبعه، فقال العراقي
إشعار البدنة بدعة.
فقال العراقي: فإن الحجازي أيضا غير سليم من هذا العيب، وذلك أن
النبي (ص) قيل له ليلة المزدلفة: الصلاة، فقال: الصلاة أمامك، وأعيد عليه القول،
فقال: الصلاة أمامك، حتى أتى المزدلفة فجمع بها الصلاتين، وقال الحجازي: لا
حرج في الصلاة قبل جمع في وقت لم يصل النبي (ص) فيه وفي موضع لم يصل فيه،
وهذا أشنع مما أضافه إلى العراقي.
ثم قال الحجازي مشنعا على العراقي في البيوع أنه يجعل الخمرة النجسة
المحرمة أثمانا للأشياء استخفافا بالشريعة، من ذلك: قوله إن المسلم إذا اشترى
عبدا من ذمي بخمر ثم أعتقه أن العتق جائز وعليه قيمة الخمر
فقال العراقي: وإن الحجازي يقول في مسلم كاتب عبده على خمر إن العبد
يكون مكاتبا وعليه أداء الخمر لا غيره، وهذا هو ما عابه بعينه.
وشنع الحجازي أيضا فقال. وأرى العراقي لا يتحاشى من إجازة بيع الخمر
تهاونا بالمحارم، من ذلك قوله: لا بأس ببيع العصير ممن يتخذه خمرا.
فقال العراقي: فأنت أيضا تقول: لا بأس ببيع السلاح لأهل الحرب وحمله
إليهم ومبايعة قاتلي الأنفس وقاطعي الطريق ومخيفي السبل، السلاح الذي
198

يتوصلون به إلى حتف أهل الإسلام، وهذا أشنع مما ذكرت.
فقال الحجازي: رأيت النبي (ص) يقول: ثمن الكلاب سحت، وأمر بقتل
الكلاب، وأرى العراقي يستجيز بيع الكلاب وأكل أثمانها.
فقال العراقي: فإن الحجازي قد رد قول النبي (ص) كما رددت، وذلك أن
النبي (ص) قال: من ملك ذا رحم فهو حر والحجازي يقول: إن الرجل يملك أخته،
والمرأة تملك أخاها، وهذا أقبح مما حكاه عن العراقي.
ثم شنع الحجازي على العراقي في الكفارات، فقال: وجدت الله تعالى يقول
في كفارة اليمين: * (إطعام عشرة مساكين) * (1) وأرى العراقي يقول: يطعم مسكينا
واحدا عشر مرات وقد أدى فرض الله عز وجل عليه.
وقال العراقي: فإن الله تعالى يقول: * (إطعام عشرة مساكن من أوسط ما
تطعمون أهليكم أو كسوتهم) * (2) وأنت أيها الحجازي تقول إن كسى مسكينا
واحدا عشر مرات أجزأه، فكيف أكون أنا رادا للقرآن في الاطعام ولا تكون أنت
رادا له في الكسوة، لولا الاقتراح الذي لا يجدي نفعا.
ثم شنع الحجازي على العراقي في الحدود، فقال: رأيت العراقي مبطلا
لحدود الله عز وجل، من ذلك قوله في مجنون زنى بصحيحة أنه لا حد عليهما، ثم
يقول مناقضا: وإن زنح صحيح بمجنونة فإن الحد عليه.
فقال العراقي: فإن الحجازي يقول إن المجنون إذا جامع امرأته الصحيحة
في شهر رمضان وهي صائمة لم يكن عليها كفارة، ولو جامع صحيح امرأته
199

المجنونة في شهر رمضان كانت عليه الكفارة فقد ناقض هو أيضا ودخل فيما
عاب.
ثم قال الحجازي: وأرى العراقي يكافئ دماء أهل الكفر بدماء أهل الإسلام
مع قول الله تعالى: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * (1) فزعم أن
المسلم يقتل بالكافر وأن لأهل الذمة أن يقتلوا أهل الإيمان قودا.
فقال العراقي: وأنت أيها الحجازي شريكي في مثل ذلك لأنك تقول إن
مخيف السبيل إذا كان مسلما وقتل ذميا قتل أو صلب والذي (والمزني ن خ) من
قبلك يقول إن المسلم إذا قتل الذمي غيلة قتل به فأي شناعة ليست عليكما.
قال الشيخ أدام الله عزه: فهذا طرف مما تناقض فيه الرجلان قد أتيت به على
نهاية من الاختصار، ولو ذكرت جميع ما وجدته لهما في إثبات الأحكام لاحتجت
إلى كتاب مفرد لذلك وخرجت عن غرضي في هذا الكتاب، وفيما أوردته كفاية
لأولي الألباب في بطلان ما ذهب إليه أهل الخلاف لآل محمد - عليهم السلام - من
الحلال والحرام.

(1) - النساء / 141.
200

فصل
ومن حكايات الشيخ وكلامه، قال الشيخ أيده الله: قال لي يوما بعض
المعتزلة: لو كان ما تدعونه من هذا الفقه الذي تضيفونه إلى جعفر بن محمد وآبائه
وأبنائه - عليهم السلام - حقا وأنتم صادقون في الحكاية عنهم، لوجب أن يقع لنا معشر
مخالفيكم العلم الضروري بصحة ذلك حتى لا نشك فيه كما وقع لكم صحة
الحكاية عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وداود وغيرهم من فقهاء الأمصار برواية
أصحابهم عنهم. فلما لم نعلم صحة ما تدعونه مع سماعنا لأخباركم وطول
مجالستنا لكم، دل على أنكم متخرصون في ذلك.
وبعد فما بال كل من عددناه من فقهاء الأمصار قد استفاض عنهم القول
في الفتيا استفاضة منعت من الريب في مذاهبهم، وأنتم أئمتكم أعظم قدرا من
هؤلاء وأجل خطرا لا سيما مع ما تعتقدونه فيهم من العصمة وعلو المنزلة والفضل
على جميع البرية والبينونة من الخلق بالمعجزة وما اختصوا به من خلافة الرسول (ص)
وفرض الطاعة على الجن والإنس إن هذا لشئ عجيب.
قال الشيخ أيده الله: فقلت له: إن الجواب عن هذا السؤال قريب جدا غير
أني أقلبه عليك فلا يمكنك الانفصال منه إلا بإخراج من ذكرت من جملة أهل
العلم، ونفي المعرفة عنهم وإسقاط مقال من زعم أنهم كانوا من أصحاب الفتيا،
والعلم الضروري حاصل لكل من سمع الأخبار بضد ذلك وخلافه، وأنهم
- عليهم السلام - كانوا من أجلة أهل الفتيا، وذلك أننا وإن كنا كاذبين على قولك فلا بد
لهؤلاء القوم - عليهم السلام - من مقال في الفتيا يتضمن بعض ما حكيناه عنهم، فما بالنا
201

معشر الشيعة بل ما بالكم معشر الناصبة لا تعلمون مذاهبهم على الحقيقة
بالضرورة كما تعلمون مذاهب أهل الحجاز وأهل العراق ومن ذكرت من فقهاء
الأمصار
فإن زعمت أنك تعلم لهم في الفتيا مذهبا بخلاف ما نحكيه عنهم، علم
اضطرار مع تديننا بكذبك في ذلك، لم نجد فرقا بيننا وبينك إذا ادعينا أننا نعلم
صحة ما نحكيه عنهم بالاضطرار وأنك وأصحابك تعلمون ذلك ولكنكم
تكابرون العيان وهذا ما لا فصل فيه.
فقال: إنا لم نعلم مذاهبهم باضطرار لأنه كان مبثوثا في مذاهب الفقهاء
وكانوا - عليهم السلام - يختارون فاختاروا من قول الصحابة والتابعين فتفرق مجموع
اختيارهم في مذاهب الفقهاء.
فقلت: إن هذا بعينه موجود في مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي ومن
عددت لأن هؤلاء تخيروا من أقوال الصحابة والتابعين فكان يجب أن لا نعلم
مذاهبهم باضطرار على أنك إن قنعت بهذا الاعتلال فإنا نعتمد عليه في جوابك،
فنقول إننا إنما تعرفنا في علم الاضطرار بمذاهبهم - عليهم السلام - لأن الفقهاء يقسموا
مذاهبهم المنصوصة عندنا قد أتوا بها على سبيل الاختيار لأن قولهم متفرق في مقال
الفقهاء فلذلك لم يقع العلم به باضطرار
فقال: فهب أن الأمر كما وصفت ما بالنا لا نعلم ما رويتم عنهم من خلاف
جميع الفقهاء علم اضطرار؟
فقلت له: ليس شئ مما تومي إليه إلا وقد قاله صحابي أو تابعي وإن اتفق
من ذكرت من فقهاء الأمصار على خلافه الآن فلما قدمناه مما رضيته من الاعتلال لم
يحصل علم الاضطرار مع أنك تقول لا محالة بأن قولهم - عليهم السلام - في هذه الأبواب
202

بخلاف ما عليه غيرهم فيها وهو ما أجمع عليه عندك فقهاء الأمصار من الصحابة
والتابعين بإحسان، فما بالنا لا نعلم ذلك من مقالهم علم اضطرار وليس هو مما
يحدثه مذاهب الفقهاء ولا اختلف فيه عندك من أهل الإسلام أحد، فبأي شئ
تعلقت في ذلك تعلقنا به في إسقاط سؤالك والله الموفق للصواب فلم يأت بشئ
تجب حكايته والحمد لله.
قال الشريف أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي أيده الله: قلت للشيخ
أيده الله عقيب هذه الحكاية لي: إن حمل هؤلاء القوم أنفسهم على أن يقولوا إن
جعفر بن محمد وأباه محمد بن علي وابنه موسى بن جعفر - عليهم السلام - لم يكونوا من
أهل الفتيا لكنهم كانوا من أهل الزهد والصلاح.
قال: فإنه يقال لهم: هب أنا سامحناكم في هذه المكابرة وجوزناها لكم
أليس من قولكم وقول كل مسلم وذمي وعدو لعلي بن أبي طالب وولي له، أن
أمير المؤمنين - عليه السلام - كان من أهل الفتيا؟ فلا بد من أن يقولوا: بلى، فيقال لهم:
ما بالنا لا نعلم جميع مذاهبه في الفتيا كما نعلم جميع مذاهب من عددتموه من
فقهاء الأمصار بل من الصحابة كزيد وابن مسعود وعمر بن الخطاب، فإن قالوا:
إنكم تعلمون ذلك باضطرار، قلنا لهم: وذلك هو ما تحكونه أنتم عنه أو ما نحكيه
نحن بما يوافق حكايتنا عن ذريته - عليهم السلام -، فإن قالوا: هو ما نحكيه دونكم،
قلنا لهم: ونحن على أصلكم في إنكار ذلك مكابرون، فإن قالوا: نعم، قلنا لهم: بل
العلم حاصل لكم بما نحكيه عنه خاصة وأنتم في إنكار ذلك مكابرون وهذا ما لا
فصل فيه.
وهو أيضا يسقط اعتلالكم في عدم العلم الضروري بمذاهب الذرية لما
ذكروه من تقسيم الفقهاء لها، لأن أمير المؤمنين - عليه السلام - قد سبق الفقهاء الذين
203

أشاروا إليهم وكان مذهبه - عليه السلام - منفردا فإن اعتلوا بأنه كان متقسما في قول
الصحابة فهم أنفسهم ينكرون ذلك لروايتهم عنه الخلاف، مع أنه يجب أن لا
نعرف مذهب عمر وابن مسعود لأنهما كانا متقسمين في مذهب الصحابة، وهذا
فاسد من القول بين الاضمحلال.
قال الشيخ: وهذا كلام صحيح، ويؤيده علمنا بمذاهب المختارين من
المعتزلة والزيدية والخوارج مع انبثاثها في أقاويل الصحابة والتابعين وفقهاء
الأمصار
وقال الشيخ أيده الله تعالى: وقد ذكرت الجواب عما تقدم من السؤال في هذا
الباب في كتابي المعروف بتقرير الأحكام ووجوده هناك يغني عن تكراره هاهنا إذ
هو في موضعه مستقصى على البيان.
فصل
ومن حكايات الشيخ وكلامه قال الشيخ أدام الله عزه: حكى عمرو بن بحر
الجاحظ عن إبراهيم بن سيار النظام في كتاب الفتيا بعد كلام أورده في صدره:
قال إبراهيم: وقد قال عمر بن الخطاب: " لو كان هذا الدين بالقياس لكان باطن
الخف أولى بالمسح من ظاهره "، قال: وهذا القول من عمر لا يجوز إلا في الأحكام
والفرائض وأما الوعد والوعيد والتعديل والتجويز والتشبيه ونفي التشبيه فلا يجوز
فيه خلاف القياس، وقد كان يجب على عمر بن الخطاب، العمل بما قال في
الأحكام كلها ولكنه ناقض فاستعمل القياس بعد أن منع منه بما تقدم من المقال.
فقال الجاحظ: وقال إبراهيم: وليس ذلك بأعجب من قوله يعني عمر بن
204

الخطاب " أجرأكم على الجد أجرأكم على النار " ثم قضى في الجد بمائة قضية
مختلفة، ذكر ذلك هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة
السلماني عن شئ من أمر الجد فقال: إني لأحفظ من عمر مائة قضية في الجد
كلها ينقض بعضها بعضا.
قال إبراهيم: وليس قول من قال إنما كان ذلك من عمر على جهة الاصلاح
بين الخصوم بشئ لأن الاصلاح غير القضاء، وكيف يكون هذا التأويل مذهبا
وعمر نفسه يقول: إني قضيت في الجد قضايا مختلفة كلها لم آل فيها عن الحق فإن
أعش إن شاء الله لأقضين فيه بقضاء لا يختلف فيه اثنان بعدي تقضي به المرأة
وهي قاعدة على ذيلها " ذكر ذلك أيوب السجستاني (السختياني ن خ) وابن عون
عن محمد بن سيرين، وهؤلاء بعمر أعرف ممن خرج له العذر.
وقال الجاحظ: وقال إبراهيم: وقال أيضا عمر: " ردوا الجهالات إلى السنة)
ولعمري لو رد المجهول إلى المعروف والاختلاف إلى الاجماع كان أولى به، ومتى رد
عمر الجهالات إلى السنة وهو يقفي في شئ واحد بمائة قضية مختلفة، ولو كان
ذلك عنده جائزا وكان عند نفسه مأجورا لما قال: " أجرأكم على الجد أجرأكم على
النار " وهذا بين في الكلام.
قال الشيخ أيده الله: وهذا القول الذي حكيناه عن صديق المعتزلة أبي
عثمان فيما حكاه عن شيخه ورئيسه إبراهيم النظام، طعن ظاهر على عمر بن
الخطاب وشهادة عليه بالجور في الأحكام وقطع منه على أنه كان من أهل العناد في
الديانة وأنه لم يرعها فيما صار إليه من اجتهاد الرأي. ألا ترى إلى قوله بعد أن أورد
مناقضته في الكلام كيف صرح بعناده فقال: لو كان الاختلاف في الأحكام والقول
فيها بالرأي عند عمر جائزا لما قال: " أجرأكم على الجد أجرأكم على النار " فأبان في
205

هذا المقال عن اعتقاده في عمر وأنه إنما أقدم على القول بالرأي واختلفت
أحكامه فيه للدنيا وطلب الرئاسة دون الدين الذي يؤم به الثواب.
وقال الجاحظ: قال إبراهيم وليس يشبه رأيه في الأحكام صنيعه حين
خالف أبي بن كعب عبد الله بن مسعود في الصلاة في ثوب واحد لأنه حين بلغه
ذلك خرج مغضبا حتى أسند ظهره إلى حجرة عائشة وقال: " اختلف رجلان من
أصحاب رسول الله (ص) ممن يؤخذ عنهما لا أسمع أحدا يختلف في الحكم بعد
مقامي هذا إلا فعلت به وفعلت "، أفترى أن عمر نسي اختلاف قوله في الأحكام
حتى أنكر ما ظهر من الاختلاف عن الرجلين كلا، ولكنه كان يناقض ويخبط
خبط عشواء.
قال الجاحظ: وقال إبراهيم: وهذه أيضا كانت سبيل أبي بكر لأنه سئل عن
قول الله عز وجل: * (وفاكهة وأبا) * (1) فقال: " أي سماء تظلني أم أي أرض تقلني
أم أين أذهب أم كيف أصنع إذا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله عز
وجل، أما الفاكهة فنعرفها، وأما الأب فالله أعلم به "، ثم سئل عن الكلالة، فقال:
" أقول فيها برأي فإن كان صوابا فمن الله عز وجل، وإن كان خطأ فمن قبلي،
الكلالة ما دون الوالد والولد ".
قال إبراهيم: وقوله هاهنا خلاف قوله هناك، فكيف يجوز لصاحب الحكم
في الأموال وفي حقوق المسلمين برأي لا يدري صاحبه لعله فيه مخطئ، فإن
استجاز القول فيها - لأن ذلك كان جهد رأيه - فليجز الاجتهاد في الآية التي سئل
عنها، ومن استعظم القول بالرأي ذلك الاستعظام لم يقدم على القول بالرأي هذا
الإقدام.

(1) - عبس / 31.
206

قال الجاحظ: وقال إبراهيم: وإنني لأعجب من قول عم " إني لأستحي
من الله أن أخالف أبا بكر " فإن كان عمر إنما تابعه لأن خلافه لا يجوز فقد خالفه
في الجد مائة مرة، وفي أهل الردة وفي أمور كثيرة، وإن كان لم يقل ذلك لأن أبا بكر
لا يخطئ ولكنه كان استبان له بعد أن الحق ما قال أبو بكر في الكلالة فإن كان
ذلك كذلك فما وجه قوله: " إني لأستحي من الله عز وجل أن أخالف أبا بكر "
وهذا قول لو قال به أبعد الناس كان عليه الاقرار به، على أن أبا بكر لم يعزم على
ذلك القول وقد تبرأ إليهم منه.
قال الجاحظ: وقال إبراهيم: وكذلك كان ابن مسعود يعني في المناقضة
والقول بالباطل في الدين، ألا تراه قال في حديث [بروع (1) ابنة واسق] " أقول فيها
برأي فإن كان خطأ فمني وإن كان صوابا فمن الله عز وجل، لها صدقة نسائها
ولا وكس ولا شطط " وهذا هو الحكم بالظن والقضاء بالشبهة، وإذا كانت
الشهادة بالظن حراما فالحكم بالظن أعظم.
قال إبراهيم: ولو أن ابن مسعود أخذ نفسه بما أدب به غيره حيث يقول:
" الحلال بين والحرام بين فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك " واستعمل هذا الأدب
لم يقل في الأحكام وهو رجل مقلد: " أقول فيها برأي فإن أصبت فمن الله وإن
أخطأت فمن نفسي " وهذا كلام فاسد لأنه لا يكون عمل واحد واجتهاد واحد إذا
وافق الحق كان من الله وإذا وافق الباطل كان من عند غير الله عز وجل وهو في
الوجهين جميعا شئ واحد. وقال إبراهيم: ولو كان ابن مسعود بدل نظره في الفتيا
بنظره في الشقي كيف شقي والسعيد كيف سعد حتى لا يفحش قوله على الله عز
وجل فيما دان به في ذلك ولا يشتد غلطه، كان أولى به.

(1) - في بعض النسخ: يروع.
207

قال: وكان يزعم أن مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا فاسق ولا كافر ولا منافق،
وبقوله قال سفيان الثوري وغيره وهم من الشكية.
قال إبراهيم: وزعم ابن مسعود أنه رأى القمر قد انشق لرسول الله (ص) قال
إبراهيم: وهذا من الكذب الذي لا خفاء به لأن الله تعالى لم يشق له القمر وحده
وإنما شقه آية للعالمين وحجة لسيد المرسلين ومزجرة للعباد وبرهانا في جميع
البلاد، فكيف لم يعرف ذلك العامة ولم يؤرخ الناس بذلك العام ولم يذكره شاعر
ولم يسلم عنده كافر ولم يحتج به مسلم على ملحد فيما سلف، وهذا باب يستوي في
معرفته الخاصة والعامة.
قال الشيخ أيده الله تعالى: فتأملوا وفقكم الله هذا الكلام وحصلوا ما فيه،
فإن أبا عثمان قد أفصح في الحكاية عن شيخه النظام صريح الطعن على أبي بكر
وعمر و عبد الله بن مسعود ثم زاد عبد الله في الذم، بأن كذبه فيما يحكيه من
مشاهدة المعجز لرسول الله (ص) على ما وصفه به من الحكم في الدين بالرأي
وتناقض قوله في ذلك، تعرفوا بفهم ما ذكرناه خبث باطن هذا الرجل وهو سيد
أهل الاعتزال وبه فخرت المعتزلة وضربت به وبأبي الهذيل الأمثال، فقال قائلهم
عند موته ذهب الكلام، خرف أبو الهذيل ومات النظام، وإذا انضاف إلى نظركم
فيما سلف نظركم فيما يأتي بعد من مقال هذا الرجل وإخوانه من أهل الاعتزال
تحققتم فيهم ما ذكرناه.
قال الجاحظ: قال إبراهيم: وكإقدام عبد الله على حذف سورتين من كتاب
الله عز وجل فهبه لم يشهد قراءة النبي (ص) لهما أفما علم بعجيب تأليفهما وأنهما على
نظم سائر القرآن المعجز للبلغاء أن ينظموا نظمه وأن يحسنوا تأليفه على أنهما من
القرآن، وأحسبه جهل ذلك كله كيف لم يصدق جماعة الأمة أنهما من القرآن.
208

قال: وما زال - يعني عبد الله - يطبق في الركوع حتى مات، وأخذ ذلك عنه
بعض أصحابه وأحسبه لم يشهد النبي في فعل خلاف ذلك وكان غائبا، كيف لم
يقنعه إجماعهم على فسخ ذلك وكيف لم يستوحش من خلافهم وهو في ذلك الرأي
غريب وحيد. قال: وعاب عثمان حين بلغه أنه صلى بمنى أربعا، وقال فيه قولا
شديدا ثم قام فتقدم فكان أول صلاة صلاها أربعا فقيل له في ذلك فقال:
الخلاف شر فكيف يكون هذا عذره وقد عمل بالفرقة في أمور كثيرة عظيمة
وخالف الأمة بأسرها، وكيف يكون الخلاف على المعصية معصية.
قال إبراهيم: ورأي عبد الله أناسا من الزط فقال: هؤلاء أشبه من رأيت
بالجن ليلة الجن، ذكر ذلك عنه من لا يتهم عليه ولا على غيره جماعة، منهم
سليمان التميمي عن أبي عثمان النهدي. وقال علقمة: قلت لابن مسعود: كنت
مع رسول الله (ص) ليلة الجن؟ فقال: ما شهدها منا أحد. ذكر ذلك أيضا عنه من لا
يتهم عليه ولا على غيره جماعة، منهم داود عن الشعبي عن علقمة.
قال إبراهيم: وسأله عمر عن شئ من الصرف فقال: لا بأس به. فقال
عمر قد كرهته فقال: يا أمير المؤمنين وأنا أيضا قد كرهته إذ كرهته أنت. فرجع عن
قوله بغير نظر ولا تأمل.
وهذا بن مسعود ركن من أركانكم يعني - فقهاء العامة - وإمام من أئمتكم
وهو من أفاضل من قال في الفتيا فما ظنك فيمن دونه، فكيف يكون هؤلاء حجة
علينا ويلزمنا لهم طاعة، على أنا لم نبلغ من القول فيهم ما قال بعضهم في بعض.
قال الجاحظ: قال إبراهيم: ورويتم عن إسماعيل عن الشعبي أن قوما
سألوا زيد بن ثابت عن شئ فأفتاهم فكتبوه فقال: وما يدريكم لعلي قد أخطأت
وإنما اجتهدت لكم برأي، ورويتم عن المغيرة عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب
209

قضى بقضاء فقال له رجل: أصبت والله يا أمير المؤمنين، فقال: وما يدريك أني
أصبت والله ما يدري عمر أ أصاب أم أخطأ، ورويتم عن سفيان الثوري عن
عاصم عن الشعبي عن ابن عباس أنه قال: ربما أنهاكم عن أشياء لعلها ليس بها
بأس وآمركم بأشياء لعل بها بأسا، ورويتم عن عمر وعن طاووس أن ابن عمر
سئل عن شئ فقال: لا أدري فإن شئت أخبرتك بالظن.
قال إبراهيم: فقد أقر القوم على أنفسهم أنهم بالظن كانوا يريقون الدماء،
وبالظن كانوا يبيحون الفروج، وبالظن يحكمون في الأموال، وبالظن يوجبون
العبادات وقد نهى الله عز وجل العباد أن يحكموا بالظن ويشهدوا به فقال تعالى:
* (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) * (1) وأمر بالعلم واليقين فخالف القوم ذلك
وعلموا أن الناس لهم منقادون وأنهم ما قالوا من شئ فهو حتم لا مرد له. قال
إبراهيم: وإذا كان هذا المذهب موجودا في الأكابر والأصاغر من السلف فما ظنك
بالتابعين، ثم ما ظنك بالفرق التي بينهم، وإذا كان هذا ما أقروا به على أنفسهم
فما لم يقروا به ورأوا ستره أكثر.
قال الشيخ أيده الله: وقد أدخل إبراهيم النظام أمير المؤمنين - عليه السلام - في
جملة من ذكرنا قوله فيه ونظمه معهم في معايب الأقوال عنادا منه له - عليه السلام -
وعصبية لم يلجأ فيها إلى شبهة بل اعتمد في نصرتها على البهت واللجاج، وظن
الجاحظ وإخوانه من أهل الاعتزال أن إبراهيم قد أخذ بطائل من ذلك وسوى بين
القوم في الحكم عليهم بموجب الضلال وليس الأمر كما ظنوه في استواء الأحوال
لكنه مستمر في القول منهم والاعتقاد دون الحجة الموجبة للاتفاق.
والدليل على ذلك أن الذي حكى عن النظام عمن ذكرناه متفق عليه عند

(1) - الزخرف / 86.
210

جماعة أهل الإسلام لا ينازع فيه اثنان من نقلة الآثار، فالطاعنون على القوم ينقونه
للحجة عليهم في ارتكاب الضلال، والمتولون لهم ينقونه على وجه المدح لهم
بالاجتهاد في الأحكام ويجعلونه أصلا لمذاهبهم في تسويغ الاختلاف، ومن أبى
الاجتهاد والقياس من القائلين بسلامة القوم ينقله عنهم على وجه الصلح في
الأحكام والقول بمدلول الخطاب واختلاف وجوهه واحتماله في اللسان، فليس في
الأمة إلا من يشهد بصحة ذلك على ما حكاه إبراهيم وغيره من أصحاب
المقالات.
والذي حكاه عن أمير المؤمنين - عليه السلام - من اختلاف الأقوال وإظهار
القول بالرأي شئ تفرد به فريق وأباه فريق، وادعته شيعة أبي بكر وعمر وعثمان،
وأنكرته شيعة علي أمير المؤمنين - عليه السلام - كافة وأطبقوا على رده وتكذيب الرواة له،
وأجمعت ذريته وعترته - عليهم السلام - على إنكار ذلك وإبطاله فكيف يكون المختلف
فيه نظير المتفق عليه؟ أم كيف يتساوى الحكمان في ذلك والقول فيه على ما
وصفناه؟ مع أن الاجماع من فرق أهل الخلاف ومن ذرية أمير المؤمنين - عليه السلام -
وشيعته على نقيض ما تفرد به شيعة عثمان من الحكاية عن أمير المؤمنين - عليه السلام -
في اختلاف الأحكام، وقد نقل ذلك عدو علي - عليه السلام - كما نقله وليه فكانت
الحجة به دامغة لأهل الخلاف.
من ذلك إجماع الخاص والعام عن النبي (ص) أنه قال: " علي أقضاكم "
وأقضى القوم لا يختلف قوله في الأحكام، وقال النبي (ص): " علي مع الحق والحق
مع علي يدور حيثما دار " ومن كان الحق معه بشهادة رسول الله (ص) لم يرتكب
الضلال، وقول أمير المؤمنين - عليه السلام -: " بعثني رسول الله (ص) إلى اليمن قاضيا بين
أهله فقلت له: أتبعثني وأنا شاب ولا علم لي بكثير من القضاء فضرب بيده على
211

صدري وقال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فما شككت في قضاء بين اثنين ".
وهذا القول يضاد الحكاية عنه أنه كان يقول بالرأي لأن القول بالرأي
يوجب الشك في الأحكام وقد نفى عن نفسه ذلك فكيف يثبته مع النفي له لولا
البهت والعناد.
وهذه أخبار قد سلمها العدو ونقلها على ما ذكرناه وإنما يتأولها من فارقنا
في العقد على مدلولها ويختص بها شيئا دون شئ أو زمانا دون زمان، وذلك باطل
لظاهر عمومها وما تقتضيه حقائقها في معانيها من كونها مدحا على الأوصاف
التي هي عليها عند من عرف اللسان، وليس لخصومنا أخبار تنفي ما حكاه
إبراهيم عن أئمتهم من الاختلاف بل الاجماع على صحة ذلك عليهم حاصل
حسبما قدمناه.
على أن أكثر ما حكاه إبراهيم عن أمير المؤمنين - عليه السلام - يمكن مساهلته في
بابه وتسليمه له على وجه النظر دون التدين وحمله مع ذلك على خلاف ما توهمه
من القول بالاجتهاد، ولأنا نذهب فيه إن سلمناه مذهب التقية والاستصلاح
والتأليف والمداراة، وهذا أصل ندين به ونعتقده وليس لخصومنا مثله يلجأون إليه
في الخروج من الشناعات.
قال الشيخ أيده الله: وقد أورد الجاحظ الأخبار التي ذكرناها واعتمدنا
عليها في بطلان ما أضافه إبراهيم إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - من القول بالرأي ولم
يعمل فيها شيئا بل خلط في الكلام عليها وصار إلى الهذيان، وقد ذكر عنا أيضا
عمدة وأضرب عن الكلام عليها جانبا للعجز والاضطرار وهي أن العقول عندنا
توجب عصمة الإمام والدليل القاهر قائم على إمامة أمير المؤمنين - عليه السلام -،
وليس يجوز أن يعتري الشك في الدين أهل العصمة في الأديان ولا أن يقع الضلال
212

من الإمام السيد الذي هو أفضل الأنام، وهذا يسقط ما حكاه القوم واعتمدوه مما
جاءت به الأخبار
وليس فيمن خالفنا أحد يدعي العصمة لأئمته ولا لأحد منهم ولا
لصحابي ولا لتابعي بإحسان فنسلم مما حكاه إبراهيم عنهم وحكم به عليهم من
الضلال في الدين والعناد. وتد استقصيت القول في إقرار أمير المؤمنين - عليه السلام -
أحكام القوم للتقية والاستصلاح وبينت وجوه ذلك وأوردت الزيادات فيه
والمسائل والجوابات في كتابي المعروف بتقرير الأحكام فأغنى عن إعادته هاهنا.
قال الشيخ أيده الله: وقد علم إبراهيم أن الذي أراد به التسوية بين أمير
المؤمنين - عليه السلام - وبين القوم لا يتم له عند أهل النظر والحجاج فاعتمد على
السب المحض لأمير المؤمنين - عليه السلام - والغميزة فيه بمجرد أقوال الرجال، فقال
وقد اختلف قول علي بن أبي طالب - عليه السلام - في أمهات الأولاد فقال بشئ ثم
رجع عنه، وحكى عن عبيدة السلماني أنه قال: سألت عليا - عليه السلام - عن بيع
أمهات الأولاد فقال: كان رأي ورأي عمر أن لا يبعن وأنا الآن أرى أن يبعن،
فقلت له: رأيك مع رأي عمر أحب إلينا من رأيك وحدك.
قال الشيخ أيده الله: وهذا خبر قد أطبق الفقهاء ونقاد الآثار على بطلانه،
ومن صححه منهم فلم يثق بهذه الحكاية من عبيدة وقال: تخرصها وعمل
بالكذب فيما ادعى، لأن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أعظم في نفوس المهاجرين
والأنصار من أن يقدموا عليه - في حكم حكم به هذا الإقدام فكيف بعبيدة مع
صغر سنه في الحال وضعة قدره، ولم يكن عبيدة ولا أضرابه في الذين يتجاسرون
على أمير المؤمنين - عليه السلام - بهذا المقال.
وجملة الأمر أنه لو كان عبيدة صادقا لما أخل ذلك بها ذكرناه من عصمة أمير
213

المؤمنين - عليه السلام - من قبل أنه كان رأيه في أيام عمر أن لا يخالفه في (الفتيا خوفا من
انتشار الكلمة ووقوع الفساد وذلك هو الذي توجبه الحكمة في تدبير الدين
واستصلاح الأنام، فلما أفضي الأمر إليه زال ما كان يخافه فيما سلف من إظهار
الخلاف فحكم بما لم يزل يعتقده من جواز بيع أمهات الأولاد كما رأى رسول الله
(ص) في عام الحديبية، إمضاء أحكام الكفار والكف عن الحرب لهم والجهاد ثم
زالت العلة الموجبة لذلك في عام الفتح فرأى حربهم وجهادهم وخلاف ما كان
رآه قبل من الأحكام.
فأما اعتراض عبيدة قوله بالرد، فذلك نظير رد الخوارج عليه في التحكيم
وحرب طلحة والزبير ومعاوية وأهل الشام له، ولم يخل ذلك بكمال عصمته
- عليه السلام - كما لم يقدح خلاف المشركين لرسول الله (ص) وردهم عليه وحربهم له في
نبوته وعصمته ومن اعتمد على ما اعتمد عليه الجاحظ وأستاذه وأشياعهما في هذا
الباب، فقد وضح جهله وبان عجزه.
ثم قال الجاحظ: وقال إبراهيم: وقد قضى يعني أمير المؤمنين - عليه السلام -
في الحد بقضايا مختلفة، وهذا تخرص منه لا خفاء به لأنه لا يحفظ عنه في الحد إلا
قول واحد ولم يختلف من أهل النقل عليه في ذلك اثنان ومن اعتمد على البهت
هان أمره.
ثم قال إبراهيم: وندم - يعني أمير المؤمنين - عليه السلام - على إحراق المرتد
بعد الذي كان من فتيا ابن عباس، وهذا من أطرف شئ سمع وأعجبه، وذلك أن
ابن عباس أحد تلامذته والآخذين العلم عنه، وهو الذي يقول: كان أمير المؤمنين
- عليه السلام - يجلس بيننا كأحدنا ويداعبنا ويبسطنا، ويقول: والله ما ملأت طرفي قط
منه هيبة له - عليه السلام -، فكيف يجوز من مثل من وصفناه التقدم على أمير المؤمنين
214

- عليه السلام - في الفتيا وإظهار الخلاف عليه في الدين لا سيما في الحال التي هو مظهر
له فيها الاتباع والتعظيم والتبجيل.
وكيف يكون ما حكاه إبراهيم من ندمه - عليه السلام - على إحراق المرتد حقا وقد
أحرق في آخر زمانه الأحد عشر الذين ادعوا الربوبية فيه. أفتراه ندم على ندمه
الأول؟ كلا! ولكن الناصبة تتعلق بالهباء المنثور
ثم قال إبراهيم: وودي رجلا جلده في الخمر ثمانين فمات، وقال إنما وديته
لأن هذا شئ جعلناه بيننا وهذا شئ لم يسمع به إلا من هذه الجهة ولا رواه أحد
من أهل الآثار، كيف وهو - عليه السلام - يقول: " من ضربناه حدا في حق من حقوق
الله فمات فلا دية له علينا ومن ضربناه حدا في حق من حقوق المخلوقين فمات
فديته علينا " ولا خلاف في أن حد الخمر من حقوق الله عز وجل خاصة، ولكني
أظن أن إبراهيم أراد أن يذكر حد القذف فغلط بحد الخمر لاتفاقهما في العدد.
وقال إبراهيم: رأى - يعني أمير المؤمنين - عليه السلام - الرجم على مولاة
حاطب فلما سمع قول عثمان تابعه ونازعه زيد بن ثابت في المكاتب فأفحمه،
وهذا سب صريح بغير حجة وكذب ظاهر بلا شبهة، لأن الاتفاق حاصل على أن
أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أعلم القوم وأنهم كانوا يرجعون إليه ولا يرجع إلى أحد
منهم، وكيف يكون ما رواه هذا الرجل حقا والخبر المستفيض عن النبي (ص) أنه
قال: " علي أقضاكم " وليس يصح أن يكون أقضى الأمة من أفحمه زيد بن ثابت
في المكاتب فإن كان قد أفحمه على ما ذكره إبراهيم، فقد أكذب النبي
بإفحامه من شهد له بأنه أقضى منه، وليس المكاتب من الفرائض في شئ فيصح
أن يتعلق بالخبر الذي يروونه " زيد أفرضكم " مع أن الاجماع موجود على مذهب
أمير المؤمنين - عليه السلام - في الرجم والمكاتب خلاف زيد وابن عفان، وهذا يدل على
215

بطلان ما ادعاه هؤلاء القوم.
ثم قال إبراهيم: وروى داود عن الشعبي أن عليا رجع عن قوله في الحرام
ثلاثا، ولو لم يحتج في إبطال هذه الرواية إلا بإضافتها إلى الشعبي لكفى، وذلك أن
الشعبي كان مشهورا بالنصب لعلي - عليه السلام - ولشيعته وذريته، وكان معروفا
بالكذب سكيرا خميرا مقامرا عيارا، وكان معلما لولد عبد الملك بن مروان وسميرا
للحجاج.
وروى إسماعيل بن عيسى العطار قال: حدثنا بهلول بن كثير، قال: حدثنا
أبو حنيفة، قال: أتيت الشعبي أسأله عن مسألة فإذا بين يديه شطرنج ونبيذ وهو
متوشح بملحفة مصبوغة بعصفر فسألته عن مسألة، فقال: ما تقول فيها بنو
أستها، قال: فقلت: هذا أيضا مع هذا وذهبت إلى كتب لي كنت سمعتها منه
فخرقتها ثم صار مصيري هذا أن أسمع عن رجل عنه.
وروى أبو بكر الكوفي عن المغيرة قال: كان الشعبي يهون عليه أن تقام
الصلاة وهو على الشطرنج والنرد، وقال: مررت بالشعبي وإذا هو قائم في
الشمس على فرد رجل وفي فمه بيذق فقال: هذا جزاء من قومر.
وروى الفضل بن سليمان عن النضر بن مخارق قال: رأيت الشعبي
بالنجف يلعب بالشطرنج وإلى جنبه قطيفة فإذا مر به من يعرفه أدخل رأسه فيها.
وبلغ من كذبه أنه قال: لم يشهد الجمل من الصحابة إلا أربعة فإن جاءوا بخامس
فأنا كذاب، علي وعمار وطلحة والزبير، وقد أجمع أهل السير أنه شهد البصرة مع
علي - عليه السلام - ثمانمائة من الأنصار وتسعمائة من أهل بيعة الرضوان وسبعون
من أهل بدر
وهو الذي روى أن عليا - عليه السلام - كان أحمر الرأس واللحية خلافا على الأمة
216

في وصفه، وبلغ من نصبه وكذبه أنه كان يحلف بالله لقد دخل علي بن أبي طالب
اللحد وما حفظ القرآن، وهذا خلاف الاجماع وإنكار الاضطرار، وروى مخالد
قال: قيل للشعبي: إنك لتقع في هذه الشيعة وإنما تعلمت منهم. وكان يقول: ما
أشك في صاحبنا الحرث الأعور أنه كان كذابا، وكان يشبه في زيه ولباسه وفعاله
وكلامه بالشطار وأهل الزعارة، وخالف الأمة في قوله: إن النفساء تربص شهرين.
فكيف يحتج برواية هذا على أمير المؤمنين - عليه السلام - مع أن المشهور عنه أنه كان لا
يرى الحرام شيئا ويقول فيه إنه جاء إلى ما أحل الله فحرمه على نفسه يمسك امرأته
ولا شئ عليه.
ثم قال إبراهيم: وقال - يعني أمير المؤمنين - عليه السلام - في أمر الحكمين:
لقد عثرت عثرة لا أنجبر * سوف أكيس بعدها وأستمر
وأجمع الرأي الشتيت المنتشر
وهذا لا ينضاف إليه - عليه السلام - بلا شبهة لأنا نعلم بالضرورة أنه كان
- عليه السلام - يظهر التدين بصوابه في التحكيم وتضليل من خطاه في ذلك حتى قتل
أربعة آلاف على تخطئتهم له في التحكيم، فكيف يسوغ من عاقل أن يضرب
الرقاب على قول قيل فيه وهو يشهد به على نفسه؟! هذا ما لا يتوهمه إلا مؤوف
العقل غير معدود في جملة المكلفين.
وكيف يصح ذلك مع أن الخوارج إنما ساموه أن يعترف لهم بالخطأ فيما
صنعه في باب الحكمين ليرجعوا إلى ولايته فرد عليهم ذلك ووجه بابن عباس
لمناظرتهم فيه، ولو كان قال هذا الشعر كما حكاه إبراهيم لكان الغاية في بغية القوم
منه ولرضوا به عنه ولدخلوا في ولايته إذ صريحه شهادة منه على نفسه بالخطأ والندم
217

على ما صنع.
والذي يدل على بطلان جميع ما حكاه هذا الرجل عنه من قرب ويوضحه
أنه لو كان له أصل لكان أوكد الحجج لأعدائه من الخوارج وغيرهم ممن رأى
حربه بالبصرة أو صفين ومن قعد عن نصرته، ولشيعة عثمان خاصة حتى لم كانوا
يحتجون به عليه في المقامات ويشنعون به على رؤوس الجماعات، وقد أحطنا علما
باحتجاج جميع من خالفه أو قعد عنه أو نازعه وحاربه، فلم نجد فيه أنهم قالوا له
تناقضت أحكامك واختلفت آراؤك ولا فضل لك في العلم لأن زيدا نازعك
فأفحمك ولأن عثمان خالفك فأسكتك ولأنك تحكم بشئ ثم تندم عليه وتخطئ
في أمر وتعترف بخطئك فيه ثم تقيم عليه، بل وجدنا جماعة من ذكرناه معترفين
بفضله - عليه السلام - في العلم والشجاعة والحكم والقرابة بالرسول (ص) والزهد، وإنما
كان بعضهم يتعلق عليه بإيوائه قتلة عثمان وهم أهل البصرة والشام، وبعضهم
بتحكيم الرجال وهم أهل النهروان، وبعضهم بقتال أهل القبلة وهم المعتزلة
للقتا ل.
وقد اجتهدت بنو أمية وبنو مروان في مثالبه - عليه السلام - ونفروا العامة عن ولايته
فلم يحفظ عن أحد منهم في سلطانه سقط له في العلم ولا تجهيل له في الأحكام،
وأكثر ما كانوا يخبطون به في ذلك ويشبهون به على الاغفال، خذلانه لعثمان
ونصرته لقتلته والاستبداد بالأمر دون الرجال وما أشبه ذلك.
ولو كان شئ مما حكاه إبراهيم عن أمير المؤمنين - عليه السلام - محفوظ، لنشره
من ذكرناه واعتمد عليه كما وصفناه، وفي عدول الكافة عنه لا سيما الخوارج - وقد
جرت بينه وبينهم المناظرات - دليل على وقاحة إبراهيم وبهته وعناده وضعف ما
اعتمده من الكذب الذي لا خفاء به.
218

ثم طعن على أمير المؤمنين - عليه السلام - أيضا إبراهيم بأن قال: وخالف الجماعة
كلها في أمهات الأولاد، وفي الأحياض، وقضائه في قطع اليدين أصول الأصابع،
ودفع السارق إلى الشهود، وجلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا في خلافة عثمان،
وجهره بتسمية الرجال في قنوت الغداة، وقبول شهادة الصبيان بعضهم على
بعض، قال: وقد قال الله عز وجل: * (ممن ترضون من الشهداء) * (1) وأخذه نصف
دية الرجل من أولياء المرأة، وكأخذ نصف دية العين من المقتص من الأعور،
وتخليفه رجلا يصلي العيدين بالضعفاء في المسجد الأعظم.
قال: وغير ما عددناه مما جعله في سلطانه وحكم به وقاله، وهو خلاف على
الأحياء من قضاته ومن فقهاء مصره وعلى جميع الأموات من نظرائه.
قال إبراهيم: وهو يقول مع ذلك لقضاته: " اقضوا كما كنتم تقضون حتى
يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي فإني أكره الخلاف " فلا يخلو ما ترك
من الحكم وأخره من العمل به إلى اجتماع الناس، أن يكون كهذه الأمور في
الخلاف أو كخلاف بعضهم على بعض أو كخلاف آخر
قال: وأعجب مما مضى، قطعه القدم وترك العقب وقطعه الأصابع وتركه
الكف والابهام.
قال: فإن كان الذي أخره من باب الخلاف الذي عددناه فكيف لم يحكم به
ولم أخره وقدم مثله؟ وإن كان كخلاف بعض الصحابة لبعض فذلك مما لا
يحتشم منه ولا يوحش العامة من صاحبه، وإن كان ضربا آخر من الخلاف فليس
يكون إلا خلاف المعروف من دين محمد (ص).
قال: فعلى أي وجه استجاز ترك الحكم عنده وأمرهم أن يحكموا بالباطل،

(1) - البقرة / 282.
219

أفتراه كان في تقية؟ كلا، ما كانت عليه تقية من ذلك لأن أصل الفساد لم يكن
عليه من قبل خلافهم له في الفتيا، وإنما كان الخلاف من طلحة والزبير على وجه
طلب الشورى وأنهما بايعاه بالمدينة كارهين والطلب بدم عثمان، وأنه كان سدى
ذلك ولحمته، وأن قاتل عثمان لا يكون للناس إماما، وكان خلاف عبد الله بن
وهب على أن من حكم الرجال في واجب الدين وما قد أفصح به الكتاب فغير
إمام، فلو كان اضطراب جل الناس من قبل الخلاف على علي - عليه السلام - في الفتيا
كان لما قال وجه، فكيف وقد حكم في كل ما ذكرناه بخلاف ما عليه الجماعة ثم لم
يكن في ذلك تنكير ولا تغيير
ثم قال إبراهيم عقيب هذا الفصل: فكيف تجب طاعة قوم هذه سيرتهم
وأقاويلهم ومذاهبهم يعني عليا أمير المؤمنين - عليه السلام - وأبا بكر وعمر وزيدا
و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عباس ومن تقدم ذكره، غير أنه لم يذكر عثمان
على التفصيل وأظن أن الجاحظ طوى ذكره لعصبيته للعثمانية والمروانية إلا أنه قد
حكى عنه الطعن عليه في الجملة في فصل أنا أورده إن شاء الله.
قال الشيخ أيده الله: وليس في جميع هذا الفصل الذي حكيناه عن إبراهيم
كثير طائل ولا معتمد من شبهة فيتعلق بها المبطل غير ألفاظ في جملة ما أورده، أنا
أبين عن وهن متضمنها وإن كان في المختصر الذي قدمته من النقض عليه كفاية
لولا أنني أريد البيان.
أما ما ذكره من خلافه - عليه السلام - على جملة القوم فالعار في ذلك على من
خالفه دونه والعيب يختص به سواه، لأنه - عليه السلام - هو الإمام المتبوع والقدوة
المتأسى به والمدلول على صوابه والمدعو إلى اتباعه حيث يقول رسول الله (ص): " أنا
مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب " وحيث يقول (ص) وقد
220

قدمناه فيما سلف: " علي أقضاكم " و " هو مع الحق والحق معه " وفي قوله (ص):
" إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا
علي الحوض، فلما عدل القوم عن اتباعه كانوا " ضلالا بذلك وكان هو - عليه السلام -
المصيب وأهل بيته - عليهم السلام - وأنصاره وشيعته.
وما أعجب هذا المقال من النظام وهو في مذهبه هذا الذي نصره بتخطئة
الصحابة، مبطل للاجماع راد على من احتج به واعتمده فكيف يشنع على الشيعة
بانفراد أمير المؤمنين - عليه السلام - بالأحكام وهو ركن الأمة وعمادها وملجأها في الدين
وإمامها، ثم يقول خالف جميع الأحياء من قضاته وفقهاء مصره، ولو أنصف
واستحمى لجعل الخلاف للقضاة والفقهاء عليه وأضافه إليهم دونه وجعل قوله
الحجة، إذ قول الإمام هو المعيار على قضاته ورعيته وليس قول الرعية معيارا عليه
فقلب القصة تعجرفا.
وأما قوله: إنه - عليه السلام - قال لقضاته: اقضوا كما كنتم تقضون، فإنما قال لهم
هذا القول في أول الأمر وعند فور الناس بالبيعة له، فكره - عليه السلام - أن يأمرهم
بالقضاء بمذاهبه كلها المتضمنة لنقض أحكام من تقدمه والخلاف على جماعتهم،
فينفرون عن نصرته ويتفرقون عن الجهاد معه ويشمأزون منه ويظنون أن ذلك
مقدمة للبراءة ممن تقدمه فصدف عنه لتألفهم واستصلاحهم، فلما قتل الله أهل
البصرة وفرق جمعهم وأباد أهل الشام وأفنى الخارجة بالنهروان، خمدت نار الفتنة
ودرجهم في طول المدة على الخلاف شيئا بعد شئ ولو تمكن - عليه السلام - على الحد
الذي يستطيع معه إظهار جميع الأحكام من غير أن يكون في ذلك عموم الفساد،
لأظهر الأحكام المأثورة عن ذريته - عليهم السلام - مما حفظوها عنه عن الرسول (ص)
فتلك هي الأحكام التي لم يتمكن من إمضائها مع ما حكم به مما ذكره إبراهيم من
221

الأحكام، وليست خلافا لدين محمد (ص) بل هي أحكامه في الحقيقة بالجلي من
البرهان.
وأما قول إبراهيم إن الفساد لم يكن على أمير المؤمنين - عليه السلام - من قبل
خلافهم في الفتيا فإن ذلك إنما كان كذلك لأنه - عليه السلام - لم يفتتح ولايته به بل قال
لقضاته: اقضوا كما كنتم تقضون، وقد ذكر هذا إبراهيم لكنه نسيه عن قرب ولو
افتتح ولايته بنقض أحكام القوم والخلاف عليهم جملة لكان الفساد عليه أكثر من
الفساد بأهل البصرة وصفين والنهروان، لأنه كان يكون تضليلا لأئمتهم وتفسيقا
لهم وتخطئة لجمهور الصحابة في الاقتداء بمن سلف والتصويب لهم في الأحكام،
لكنه - عليه السلام - عدل عن ذلك ودرجهم على إظهار الخلاف في شئ بعد شئ
وحال بعد حال، وأراهم في الظاهر أنه كخلاف بعضهم على بعض في الاجتهاد
فلو أمن - عليه السلام - من اضطراب الجماعة وتفرقهم عنه وانصرافهم عن نصرته عند
الحكم بمحض مذهبه لما أخر ذلك.
ودليل ما قلناه قوله - عليه السلام - لقضاته: " اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون
الناس جماعة " فأخر الحكم بجميع مذهبه إلى اتفاق الجماعة أفلا ترى إلى قوله
- عليه السلام -: " لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل
الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم حتى
يزهر كل كتاب من هذه الكتب ويقول: يا رب إن عليا قد قضى بقضائك " فدل
على أنه لم تستقر به الدار ولم يتمكن من تنفيذ الأحكام.
وأما انصرافهم عن النكير عليه فيما حكم به من خلاف أقاويل الجماعة
الذين ذكرهم فإنما استقام له ذلك لوفاق جمهور أصحابه له - عليه السلام - واتباعهم
إياه، وتجويزهم الخلاف على من تقدم فيه ولو استجازوا فيما بقي من الأحكام مثل
222

ذلك لأظهر - عليه السلام - القول فيها ولم يؤخره إلى وقت الاجتماع.
وقول إبراهيم: إن الذي أخره لا يخلو من أن يكون مثل ما أظهره أو خلاف
المعروف من دين محمد (ص)، فإنه يقال له: بل هو من جنس ما أظهره وهو من دين
محمد (ص) لا غير وإنما لم يظهر الحكم لأن في إظهاره مباينة القوم بنقض أحكام
أئمتهم كلها وإخراج ذلك على وجه التضليل لهم وليس في إظهار البعض ما يدل
على إظهار الكل، ولأن الاتفاق قد يحصل بتجويز جماعة الخلاف على إمام لهم في
شئ، وإن كان الخلاف لهم في مثله ونوعه أو نظيره في باب الخلاف فيكون لأجل
ذلك الواجب على المستصلح أن يكف عن إظهاره وليس في الاتفاقات قياس.
وشئ آخر وهو أن يكون الذي عدل أمير المؤمنين - عليه السلام - عن تغييره من
أحكام القوم شيئا قد تكرر العمل به في سلطان الماضين حتى صار دينا ومذهبا،
وما خالفه ونقضه لم يكن كذلك بل كان قولهم فيه مجردا من عمل بل كان فتيا
مضت في الحال وعمل بها في سلطانهم وقتا من الزمان، فلم يتخوف من إظهار
الخلاف فيها وربما كانت الشبهة للاتباع في بعض المنكر أقوى منها في بعض آخر،
فعدل الإمام المستصلح للأنام عن تغيير ما قويت عندهم فيه الشبهات إلى ما
ضعفت في أنفسهم الشبهة فيه كراهة اختلاف الكلمة والافتتان.
وأما ما تعلق به في إبطال شهادة الصبيان من قوله: * (ممن ترضون من
الشهداء) * ومن قوله: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * فإن الأمر فيه على خلاف ما
توهمه، وذلك أن الله سبحانه أمر بالإشهاد في الديون رجلين أو رجلا وامرأتين ولم
يبطل الحكم في ذلك ولا في غيره بشهادة من يخالف ما وصفناه، وليس يتضمن
قوله: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * أن لا تقبلوا إلا شهادة ذوي عدل وقد قبل
رسول الله (ص) شهادة " خزيمة بن ثابت " وحده وأمضى الحكم بها، وقبل شهادة
223

واحد ويمين المدعي وأمضى الحكم بذلك. فما نرى إبراهيم إلا طاعنا على رسول
الله (ص) بما اعتمده، بل طاعنا على كتاب الله عز وجل ومزريا على أحكامه، وذلك
أن الله تعالى قد أمر بقبول شهادة الكفار في الوصية حيث يقول: * (أو آخران من
غيركم) * (1) والكفار ليسوا من أهل العدالة.
وإنما قبل أمير المؤمنين - عليه السلام - شهادة الصبيان في مكان دون مكان وعلى
حال دون حال، فقبلها في الجراح وأشباهه من حقوق العباد وأخذ بأول قولهم
وأطرح آخره لما دعاه إلى ذلك الاضطرار لتنفيذ أحكام الله عز وجل ومنع أن يبطل
حقوق العباد، ولم يصنع - عليه السلام - ذلك إلا بنص فيه من الرسول (ص) بأدلة، منها
الاتفاق على قوله (ص): " أنا مدينة العلم وعلي بابها "، وقوله (ص): " علي مع الحق
والحق مع علي يدور معه حيثما دار " على أنه قد أخذ بهذا القول عن أمير المؤمنين
- عليه السلام - جماعة لا يتمكن الجاحظ من الطعن عليهم في الفتيا ودان به أئمة في
الفقه عنده من التابعين وهو إجماع من فقهاء مدينة الرسول (ص).
وقد روى مالك عن هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير أجاز شهادة
الصبيان بعضهم على بعض في الجراح وقال مالك بهذا القول ما لم يتفرقوا. وروى
ابن أبي زياد عن أبيه قال: السنة أن ليفي بشهادة الغلمان ويؤخذ بها في الجراح
ولا يلتفت إلى ما أحدثوا. وروى أيضا عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز مثل ذلك.
وروى يونس عن ابن شهاب قال: كان مروان يجيز شهادة الصبيان ويأخذ بأول
قولهم. وروى ابن إسحاق قال: كان ابن شهاب وربيعة يجيزان شهادة الصبيان
بعضهم على بعض. وروى مثل ذلك أيضا عن شريح وهو مشهور عنه، وهذا
يكشف لك عن جهل الجاحظ وأستاذه النظام فيما ادعياه من الاجماع على خلاف

(1) - المائدة / 106.
224

أمير المؤمنين - عليه السلام - في هذا الباب.
وأما تعلقه بضرب الوليد بن عقبة أربعين سوطا في خلافة عثمان فإنه ذهب
عليه وجه ذلك لأن أمير المؤمنين - عليه السلام - ضربه بسعفة لها رأسان فكان قد أقام
فيه الحد ثمانين على الكمال، وهذا مأخوذ من قوله تعالى في محكم القرآن: * (وخذ
بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب) * (1).
وأما تشنيعه على أمير المؤمنين - عليه السلام - في القنوت في الغداة والجهر فيه
بتسمية الرجال فيه، فهذا أدل دليل على جهله وقلة فهمه وأوضح برهان على
إلحاده وإرادته الطعن على رسول الله (ص)، وذلك أنه لا خلاف بين الفقهاء وحملة
الآثار أن رسول الله (ص) كان يقنت في صلاة الغداة ويجهر بتسمية الرجال فيه.
وقد نقل الناس ذلك واستفاض حتى ليس يخالف في لفظه من أهل
العلم اثنان، وكان قنوته بعد حمد الله تعالى والثناء عليه " اللهم العن رعلا
وذكوان، والعن الملحدين من أسد وغطفان، والعن أبا سفيان، والعن سهيلا ذا
الأسنان، والعن العصاة الذين عادوا دينك وقاتلوا نبيك " فجعل يلعنهم بهذا
الذي ذكرناه أربعين صباحا، وقد روت الرواة عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قنت
في الصبح فقال: " اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة (2) بن هشام، وعياش (3)
ابن أبي ربيعة، والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر ورعل
وذكوان واجعل عليهم سنين كسني يوسف ".
فإن كان على أمير المؤمنين - عليه السلام - في ذلك عار أو نقص في الدين

(1) - ص / 44.
(2) - في بعض النسخ: سليمان أو سلمان.
(3) - في بعض النسخ: عباس.
225

وحاشاه من ذلك بما ذكره إبراهيم في قنوته وجهره بتسمية الرجال، فذلك بعينه
عيب على رسول الله (ص) وعار عليه، وهذا هو الذي أراده النظام وكنى عنه بذكر
أمير المؤمنين - عليه السلام - ولم يذكر بعد هذا وقبله شيئا إلا والوجه فيه معروف واضح
البيان وقد قدمت الحجة عليه في الجملة، وإن ذكرت وجه بعضه فأنا أذكر وجوه
باقيه لئلا يتوهم متوهم أني إنما عدلت عنه لعدم البرهان عليه.
أما قول أمير المؤمنين - عليه السلام - في الأحياض فلسنا نعلم فيه خلافا بل قوله
في الأقراء وأنها الأطهار مأخوذ من جهة اللغة التي نزل بها القرآن وذلك أن القرء
هو الجمع ومن ذلك سميت القرية قرية لجمعها من تحتوي عليه، وقيل قريت
الماء في الحوض إذا جمعته، وسمي الذكر قرانا باجتماع بعضه إلى بعض، ولما كان
الطهر فيه تجمع المرأة الدم بالحيض ثبت أنه القرء، فأي شناعة في ذلك؟
وأما قطعه اليد من أصول الأصابع فذلك هو حكم الله عز وجل بنص
القرآن قال الله عز وجل: * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) * (1) وإنما الكتابة
بالأصابع خاصة.
وأما دفعه السارق إلى الشهود فهو كأمره الجزار بقطع يد السارق، وكتأميره
بعض الفقهاء في بلد لقطع الأيدي وضرب الرقاب، وإنما رد أمر السارق إلى
الشهود استظهارا عليهم في الشهادة ليرهبوا الكذب فيها وليمتحن صدقهم، فإن
كانوا صادقين لم يتحرجوا من قطع المشهود عليه، وإن كانوا كاذبين جزعوا من
ذلك ويخرجوا من ولايته بأنفسهم، فأي شناعة في هذا لولا جهل النظام وضعف
عقله.
وأما أخذه نصف الدية من أولياء المرأة إذا أرادوا قود الرجل بها فذلك هو

(1) - البقرة / 79.
226

العدل الذي من تخلف عنه لم يصر إلا إلى الجور، وذلك أن دية المرأة خمسة آلاف
درهم ودية الرجل عشرة آلاف درهم فإذا قتل أولياء المرأة الرجل قتلوا نفسا ديتها
الضعف من دية صاحبتهم فوجب عليهم رد الفاضل من ذلك، ألا ترى أنهم لو
أرادوا أخذ الدية لما كان لهم إلا خمسة آلاف درهم فكيف يكون لهم نفس قيمتها في
الشريعة عشرة آلاف درهم وإنما لهم من الدية خمسة آلاف درهم.
لكن النظام يجعل المحاسن من غفلته مثالب وهو لا يشعر بذلك، وكذلك
القول في أخذ نصف الدية من المقتص من الأعور لأن دية عين الأعور عشرة
آلاف درهم ودية فرد عين الصحيح خمسة آلاف، وهذا كالأول.
وأما تخليفه رجلا يصلي العيدين بالضعفاء في المسجد الحرام، فذلك من
الأدلة على عدله - عليه السلام - وأنه أعرف الأمة بمعالم الدين وأنواع القضاء لأنه لو
كلف الضعفاء بالخروج إلى المصلى لكلفهم فوق الوسع، ولو أنه أسقط عنهم
صلاة العيدين لكان قد منعهم فضلا كثيرا فجعل لهم ما يدركون به الفضل ولم
يكلفهم ما لا طاقة لهم به، وهذه كلها أمور منصوصة على ما قدمناه.
وأما قوله أنه - عليه السلام - أمرهم أن يحكموا بالباطل إلى أن تجتمع الناس، فقد
تجاهل بذلك من قبل أن الحق كان عند الاختلاف، تنفيذ أحكام القوم، ولو أبدله
بالحكم بما يوجب التقية العدول عنه لكان الباطل بعينه، ولم يسلك أمير المؤمنين
- عليه السلام - في هذا الباب إلا مسلك رسول الله (ص) حيث أمضى أحكام المشركين في
الحديبية وكانت ضلالا منهم وشركا وكان إمضاؤه هدى وإيمانا وصوابا وهذا
القدر كاف في إسقاط هذه الشناعة.
وأما قوله: إن خلاف طلحة والزبير على أمير المؤمنين - عليه السلام - إنما كان على
وجه طلب الشورى وإنهما بايعاه بالمدينة كارهين فهذا هو نفس ما ادعاه الرجلان
227

وكذبا فيه على الواضح من البيان.
وذلك أن أمير المؤمنين - عليه السلام - لم يدع الناس إلى بيعته وإنما جاءوه فيها
على الاختيار وألزموه قبول أمرهم، وكان أول من صفق على يده بالاتفاق طلحة بن
عبيد الله، والدلالة على ذلك ما أجمع عليه رواة الآثار من قول الأسدي، وقد رأى
يد طلحة أول يد صفقت على يد أمير المؤمنين - عليه السلام -، فقال: إنا لله، أول يد
صفقت على يد أمير المؤمنين يد شلاء يوشك أن لا يتم هذا الأمر فكيف يكون
طلحة مكرها وهو أول من صفق على يده بالبيعة؟
ويكشف أيضا عن ذلك قول أمير المؤمنين - عليه السلام - في خطبته التي هي
أشهر من خطبه كلها وقد ذكر بيعته، فقال: " فتداك الناس علي كتداك الإبل على
حياضها حتى وطئ الحسنان وشقت أعطافي وقيل لي إن لم تجبنا إلى البيعة ألحقناك
بابن عفان " ولا خلاف أن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان عند قتل عثمان مستتر عن
جمهور الناس فلما قتل عثمان، تلوذ بحيطان المدينة مخافة أن يقال إنه رغب في
الأمر حتى مضى الناس إليه طوعا. وكيف يكون طلحة والزبير مكرهين والعامة
تروي أنه قال لهما: " امددا أيديكما أبايعكما فإنني أكون لكما وزيرا خير من أن
أكون لكما أميرا ".
وأما طلبهما الشورى فليس ذلك لهما وقد تمت إمامته وانعقدت بيعته
بالمهاجرين والأنصار وبهما أنفسهما، هذا على التسليم للمخالفين أن إمامته كانت
باختيار دون النص عليها والدلالة على وجوبها.
وقوله: إنه قتل عثمان وكان سدى ذلك ولحمته وقاتل عثمان لا يكون للناس
إماما، فقد علم كل من سمع الأخبار أن أمير المؤمنين - عليه السلام - لم يحضر قتل عثمان
وقد كان أنفذ إليه بابنه الحسن - عليه السلام - لما منعوه الماء ليسقيه، وأن الذي تولي
228

قتله وحضره طلحة والزبير في أشياعهما وجماعة من المهاجرين والأنصار وقد قال
أمير المؤمنين - عليه السلام - لهما ولغيرهما ممن اشتبه ذلك عليه: " والله ما قتلت عثمان ولا
مالأت على قتله " فلم يمكن أحد منهم الرد عليه.
وأما خذلانه له فلسنا ننكره وكذلك الديانة كانت توجب ذلك ولو نصره أو
رضي بفعاله لما كان يصلح للإمامة.
والذي توهمه النظام وشبه به في إبطال إمامته إذا صح كان دليلا على إمامته
- عليه السلام -، ولم يأت فيما أورده بحجة فيحتاج إلى نقضها وإنما اقتصر على الدعوى
فأسقطناها بمثلها، ثم لم نقنع بذلك حتى عضدناها ببرهان يعرفه من تأمله والله
الموفق للصواب.
قال الشيخ أدام الله عزه: وقد طعن إبراهيم على أمير المؤمنين - عليه السلام - من
وجه آخر فزعم أنه كان يحدث بالمعاريض ويدلس في الحديث، فقال: روى أبو
عوانة عن داود بن عبد الله الأزدي عن حميد بن عبد الرحمان الحميري أنه بعث ابن
أخ له إلى الكوفة وقال: سل علي بن أبي طالب عن الحديث الذي رواه عنه أهل
الكوفة في البصرة فإن كان حقا تحولنا عنها، قال: فأتى الكوفة وأتى الحسن بن علي
- عليه السلام - فأخبره بالخبر، فقال له الحسن - عليه السلام -: ارجع إلى عمك فاقرأه السلام
وقل له: قال أمير المؤمنين - يعني أباه - عليه السلام - إذا حدثتكم بحديث عن رسول
الله (ص) فإني لم أكذب على الله عز وجل ولا على رسوله وإذا حدثتكم برأي فإنما أنا
رجل محارب والحرب خدعة.
قال: وروى داود عن الأعمش عن خيثمة عن سويد بن غفلة، قال:
سمعت عليا - عليه السلام - يقول: إذا حدثتكم عن رسول الله (ص) فهو كما حدثتكم
فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله (ص)، وإذا
229

سمعتموني أحدث فيما بيني وبينكم فإنما أنا رجل محارب والحرب خدعة.
قال إبراهيم: وكيف يجوز لمن قد علم أنه إذا قال للناس أمرني رسول الله (ص)
بكذا وكذا أن ذلك عندهم على السماع والمشافهة، فإن كان هذا ونحوه جائزا
فالتدليس في الحديث جائز، قال إبراهيم: وفي الجملة إن عليا لو لم يحدثهم عن
النبي (ص) بالمعاريض لما اعتذر من ذلك.
قال الشيخ أدام الله حراسته: وهذا الذي ذكره النظام عن أمير المؤمنين
- عليه السلام - ليس فيه شئ يوجب التدليس ولا الشبهات في الأخبار، بل قد أفصح
أمير المؤمنين - عليه السلام - عن المراد فيه وميز بين ما يقتضي الظاهر منه مثله في الباطن
وبين ما له وجه وتأويل في الكلام، فقال لهم: " إذا حدثتكم عن رسول الله (ص) فهو
كما حدثتكم وإذا لم أسند الحديث إلى الرسول فله وجه تأويل " فرفع بذلك
التلبيس وأزال عنهم الشكوك والارتياب، ولا معنى لقول النظام كيف يجوز لمن
علم أنه إذا قال للناس أمرني رسول الله (ص) بكذا أن ذلك عندهم على السماع، لأنه
قد منعهم من الاعتقاد بما أورده من علامات الاعراض.
مع أنه يمكن أن يقال له: إن الذي يضيفه أمير المؤمنين - عليه السلام - إلى النبي
(ص) من باب ما باطنه كظاهره في الأحكام، وليس يدخل في باب الخبر عن نفسه
وما يراه. فلا تخلط أيها الرجل هذين وميز كل واحد منهما على ما ذكرناه فإنه
يسقط شناعتك مع أنها قد سقطت بما قدمناه.
وأما قوله: إن أمير المؤمنين - عليه السلام - لو لم يحدثهم بالمعاريض لما اعتذر من
ذلك، فإنا لا ننكر أن يتكلم - عليه السلام - بالمعاريض في حال الاضطرار بعد أن يجعل
بينها وبين الحقائق فصلا وقد فعل ذلك أمير المؤمنين - عليه السلام -، وليس إخباره به
230

اعتذارا على ما ظنه النظام بل بيان وبرهان لهم على وجوه الكلام وهو يجري مجرى
الحقيقة في القرآن والمجاز والمحكم منه والآيات المتشابهات، فإن كانت الدلالة
من أمير المؤمنين - عليه السلام - على الفرق بين الاعراض اعتذارا من جناية جناها أو
غلط وقع منه - وحاشاه من ذلك - فالدلائل من الله عز وجل على الفرق بين ما
ذكرناه اعتذار من خطأ فيه وهذا كفر وإلحاد.
وما رأيت أعجب من رجل يحكي عن متكلم أنه حقق وعرض ولم يخل
كلامه من برهان ويميز به بين الأمرين ثم يحكم عليه بالتلبيس والتدليس لوجود
البرهان. أفتراه لو عرى كلامه من الدليل لكان يجب على قول النظام أن يكون قد
بين وأزال الالتباس، وقد كان ذلك كذلك فهذا هو الجهل المحض والوسواس
وإن كان بخلافه فكيف يكون المبرهن مدلسا لولا العناد.
على أن الحديث الذي رواه عن حميد الحميري غير معروف ولا ثابت عند
نقلة الآثار وهو سن جملة تخرصه الذي قدمنا حكايته عنه فيما سلف من هذه
الأبواب.
ثم قال إبراهيم: وقال عمرو بن عبيد وهاشم بن الأوقص: ألا ترى أن قوله
- يعني أمير المؤمنين - عليه السلام " أمرت أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين "
من ذلك القول الذي يقوله برأيه للخدعة، وقوله في ذي الثدية: " ما كذبت ولا
كذبت " من ذلك أيضا قال: ولعل الشئ إذا كان عنده حقا استجاز أن يقول: إن
رسول الله (ص) أمرني به لأن الله ورسوله قد أمرا بكل حق.
قال الشيخ أيده الله: يقال لإبراهيم: هذا من جهل عمرو بن عبيد وهاشم
ابن الأوقص وضلالهما، وضعف عقلك أنت أيضا يا إبراهيم في اعتمادك على هذا
231

القول منهما وطعنكم وجماعتكم على أمير المؤمنين - عليه السلام -، وذلك أن قوله:
" أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين " إنما قاله قبل كون القتال من هؤلاء
المذكورين وهو متوجه إلى البصرة عند نكث طلحة والزبير بيعته، فجعل هذا
القول حجته في قصدهما والمسير إليهما لأن قوما أشاروا بالكف عنهما فاعتمد في
ترك رأيهم في ذلك على هذا القول وأضافه إلى النبي (ص) في أقوالي ضمها إليها، نقلها
أهل السير جميعا، منها قوله - عليه السلام -: " أما والله لقد علم أصحاب محمد (ص) وهذه
عائشة بنت أبي بكر فاسألوها أن أصحاب الجمل والمخدج اليد ملعونون على
لسان النبي الأمي وها هذه هاهنا فاسألوها " وقال - عليه السلام -: " لا أجد إلا قتالهم أو
الكفر بما أنزل على محمد (ص) " فكيف يكون هذا عن رأيه وهو يستشهد بأعدى
الناس له ويواجه عائشة بلعنة أصحابها ويستشهدها على خبر ذي الثدية قبل
كونه.
وهب أنه - عليه السلام - ذكر قتال أهل البصرة وقال فيه برأيه من أين علم بحال
القاسطين والمارقين ولم يكن ظهر منهم شئ في الحال يستدل به بل المارقون كانوا
خاصة أصحابه عند هذا المقال، وكيف عين ذا الثدية بالمقال وقطع عليه
بالضلال وجعله رأسا للقوم وهو إذ ذاك من جملة أوليائه. فإن كان رجم بذلك
فأصاب، لم ينكر أن يكون ما خبر به المسيح - عليه السلام - أصحابه من أفعالهم في
المأكول والمشروب والمدخر كان ترجيما، وكذلك جميع ما خبرت به الأنبياء قبل
كونه وإخبار النبي (ص) قبل مخبراتها، وهذا طعن في الدين وخروج من قول أهل
الملل كافة، ولعمري إنه يليق بمذهب النظام، وإن كان ما خبر
به عن النبي (ص) وكان إخباره به قبل كونه يدل على أنه لم
يكن عن رأي ترجيم ولا تحديس وظن وتركين. فقد بطل
232

ما قاله الرجلان، ولا وجه غير الترجيم إلا علم الغيب فترى
النظام وابن عبيد والأوقص أرادوا الطعن على أمير المؤمنين
- عليه السلام - فجعلوه إلها يعلم الغيب بغير تعليم، وهكذا يجن الله من
عاداه.
ثم قال إبراهيم: وقال عمرو بن عبيد: لولا أن عليا يوم التمس ذا الثدية
كان يقول والله ما كذبت ولا كذبت وهو ينظر إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة
أخرى، ما شككت أن النبي (ص) قد قال له في ذلك قولا. قال إبراهيم: وهذا القول
من عمرو طعن شديد على - عليه السلام -.
قال الشيخ أيده الله: فيقال لإبراهيم: لسنا نشك في نصب عمرو وعداوته
لأمير المؤمنين - عليه السلام - وكما لا نشك في ذلك فلسنا نشك في جهله وضعف عقله
وطعنه في الدين ونفاقه، والذي حكيت عنه يدل على ما وصفناه لأن نظر أمير
المؤمنين - عليه السلام - إلى السماء إن لم يدل على صحة ما رواه عن النبي (ص) ورغبته إلى
الله تعالى في التوفيق لتقريب إظهار المخدج ليزول عن قلوب الناس الشبهات، لم
يدل على أنه لا نص عنده في ذلك، وأي نسبة بين النظر إلى السماء وبين الكذب
وبين النظر إلى الأرض وبين التدليس؟ وهل النظر إلى ذلك إلا كالنظر إلى العسكر
أو إلى نفسه أو يمين أو يسار أو أمام أو وراء؟ وهل ذلك إلا كغيره مما عددناه من
ضروب الأفعال والتصرف من الإنسان في حركاته وسكناته؟
وهذا الذي حكاه النظام عن عمرو بن عبيد ليس يجب فيه أكثر من
التعجب منه، فإنه ليس بحجة يجب التسليم لها ولا شبهة يجب النظر فيها، ولولا
أنني كرهت إغفاله لئلا يظن ظان أن ذلك لشبهة فيه لما كان الرأي إيراده لأنه
233

محض الهذيان.
على أنه إذا تأمل متأمل قصة المخدج عرف أن أمره كان بعهد من رسول
الله (ص)، وذلك أن هذا المخدج لم يكن معروفا عند أصحاب أمير المؤمنين
- عليه السلام - ولا مشهورا، ولا علموا أنه كان في الخوارج فنجا أو قتل، ولا سمعوا له
خبرا فأنبأهم أمير المؤمنين - عليه السلام - بصفته قبل الوقعة وخبرهم بقتله ومآله،
والدليل على ذلك أنه لو كان الرجل معروفا عند القوم وكان قتله معلوما لهم لما
كان لاستدلال أمير المؤمنين بالخبر عنه على باطلهم وحقه معنى يعقل وإنما جعل
خبره معجزا وبرهانا له على صوابه.
فلما انكشف الحرب أمر بطلبه في القتلى فلم يوجد وشك الناس في خبره
فقلق - عليه السلام - لذلك وجعل ينظر إلى السماء تارة يناجي ربه في بيان الأمر وإزالة
الغمة عن الخلق، وينظر إلى الأرض أخرى مفكرا في أصحابه خائفا عليهم
الضلال عند استبطائهم وجوده، فوفق الله الكشف عنه فركب أمير المؤمنين
- عليه السلام - بغلة رسول الله (ص) حتى أتى جمعا من القتلى فقال: اكشفوا بعضهم عن
بعض فكشفوهم فوجدوا رجلا أسود بادنا له ثديان كثدي المرأة عليها شعرات إذا
مدت جذبت يده وإذا أرسلت ردت يده، فكبر - عليه السلام - عند ذلك ذال الريب
عن أصحابه، فكيف يكون الخبر عما وصفناه حدسا وترجيما، بل كيف تكون هذه
المنقبة الجليلة مثلبة وهذه الفضيلة العظيمة رذيلة لولا أن الله سبحانه قد أعمى
قلب عمرو بن عبيد والنظام والحاكي عنه وأصحابهما المعتقدين لفضلهما والله
نسأل توفيقا برحمته.
234

فصل
قال الشيخ أيده الله: وجدت جماعة من المعتزلة يدفعون ما حكيت عن
النظام بحكاية الجاحظ عنه أن يكون مذهبا له، وتحملهم الحمية للاعتزال
والعصبية للرجال على إنكار المعلوم من ذلك وعلى أن يحملوا أنفسهم على البهت
المزري بصاحبه المسقط لقدره، حتى آل بهم الأمر إلى تخريج العذر للنظام فيما
ذكرناه بأن زعموا أن الذي وصفناه وشرحناه من الفصول عنه إنما خرج مخرج
الحجاج لحملة الأخبار ومناقضة خصومه من الفقهاء.
قالوا: وإنما قال الرجل إن هذه الشناعات على الصحابة تلزمكم على
روايتكم عنهم هذه الروايات فأما أنا فإني أتخلص من ذلك باعتمادي على ظاهر
القرآن والخبر القاطع للعذر من الأخبار ويسلم بذلك على مقالتي الأئمة من
الصحابة والتابعين بإحسان.
قال الشيخ أيده الله: وهذا تمن من هؤلاء الجهال واعتلال فاسد يدل على
ضعف عقل معتقده أو على محض العصبية منه والعناد، وذلك أن صريح كلام
النظام وظاهره وباطنه بخلاف ما ادعاه هؤلاء القوم الأوغاد، ولا فرق بين من حمل
مذهب النظام على ما ذكره القوم وانصرف عن مفهومه وبين من حمل مذهب
الخوارج على خلاف المعروف منه، بل ادعى فيه معنى مذهب الشيعة وحمل
مذهب الشيعة على مقتضى مذهب الخوارج وصنع ذلك في سائر المذاهب
والمقالات.
وأقرب ما يبطل قول هذه الفرقة ويشهد بتخرصها وعنادها في تخريج
235

مذهب النظام على خلاف ما حكيناه، ما شهد به الجاحظ عليه وحكاه عنه نصا
لا يشوبه شك ولا ارتياب، وذلك أنه قال: وكان إبراهيم من أشد الناس قولا في
الروافض لبغضهم أبا بكر وعمر وأبا عبيدة، وأشد الناس قولا في الخوارج
لبغضهم عليا - عليه السلام - وعثمان وطلحة والزبير وعائشة، ومن أشد الناس قولا في
المعتزلة لبغضهم سعدا وابن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وزيد بن ثابت
وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وجميع من كان لا يرى قتال الفئة الباغية ويقول:
كن عند الله المقتول ولا تكن القاتل. فإذا صار إلى القول في أصول الفتيا، انتظم
جميع المعاني المعيبة عنده والمذهب الذي كان يسخطه من غيره.
ولو كان له من يثيره ويسائله لكشف منه ما كان مستورا ولأظهر من تناقض
مذهبه ما يسقط قدره ويحط منه، ولكن أصحابه لم يكونوا أصحاب أخبار وآثار
وأحكام وفتيا وكانت " المداخلة " إليهم أعجب من علم القرآن، و " الطفرة " أبلغ عندهم
من علم الأحكام، وبئس المذهب لعمر الله اجتبى لنفسه واختار لدينه، وسنقول
عند الرد عليه بالذي يجب إن شاء الله.
قال الشيخ أيده الله: فأيما أولى بنا الآن أن نصدق على النظام قوله على
نفسه وإخباره عن مذهبه وصريح لفظه الدال على مراده وحكاية صاحبه،
الجاحظ عمرو بن بحر عنه أو تصديق هؤلاء النفر المتعصبين بالباطل الحاملين
أنفسهم على البهت والعناد والخصومة واللجاج؟ وكيف يحسن مناظرة من ركب
هذا المركب في الوقاحة والمكابرة لولا أن قوما من الضعفة الذين لا معرفة لهم
بالمقالات ولم يطلعوا على المذاهب ولا عنوا بقراءة الكتب على المشايخ فالتبس
عليهم هذا المقال؟
236

فصل
مع أن النظام لم يحتج في شاهد مذهبه إلى الشهادة عليه من عمرو بن بحر
وغيره من حيث صرح بما مضى وبما أنا مبينه الآن حيث يقول: وقلتم - يعني
مخالفيه - إن قولنا هذا - يعني قوله - خلاف على الجماعة وأن النبي (ص) قال: يد الله
على الجماعة، ثم قال حاكيا عن مذهبه: فنحن لا نزعم أن أصحاب رسول الله (ص)
أطبقوا على الرأي وأجمعوا على القول في الفتيا فيكون كما وصفتم ويخالف ما
ادعيتم، وإنما كان يرى الفتيا بالقياس وترك المنصوص عليه من أصحاب رسول
الله (ص) عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وزيد
ومعاذ وأبو الدرداء وأبو موسى وناس قليل من أحداث الصحابة دون الأكابر
والباقون هم الجماعة، وهؤلاء النفر هم أصحاب الفرقة، ولكن لما كان فيهم عمر
ابن الخطاب وعثمان وهؤلاء معهم سلطان الرغبة والرهبة، شاع لهم ذلك في
الدهماء وانقادت لهم العوام وجاز للباقين السكوت على التقية وعلى أنهم قد
علموا أنه غير مقبول منهم ولا مسموع قولهم.
قال الشيخ أيده الله: أفلا ترون وفقكم الله إلى تجريده مذهبه في تمييز
الصحابة وتعيين من طعن عليه منهم فبدأ بعمر بن الخطاب وأتبعه الباقين، وقبل
هذا قد ذكر أبا بكر وصرح بالطعن عليه في قوله في الكلالة، وطعن على عبد الله
ابن عباس بعد هذا وعلى ابن عمر، وذكر في هذا الفصل بعينه علة استفاضة
القول في الصحابة بالرأي وأنها هي التمكن والغلبة والسلطان ونحن مصدقوه فيما
ذكره عن القوم، ومصوبوه في تعلقه بانغمار الحق بالتقية إلا إدخاله أمير المؤمنين
- عليه السلام - في جملتهم في القول بالقياس والرأي ومكذبوه ورادون عليه بما سلف لنا
في ذلك من البيان، وما أعلم أحدا أجسر على البهتان ممن تعلق في مذهب النظام
بخلاف ما شرحه هو في مقالته وحكيناه عنه في المواضع المقدمات.
237

فصل
قال الشيخ أيده الله: وقال الجاحظ في آخر فصل حكاه عن النظام في
الفتيا: وكان إبراهيم من حفاظ الحديث مع ذهن حديد ولسان ذرب يتخلص به
إلى الغامض، ويحل به المنعقد، ويقرب به ما بعد وهو مع ذلك يخطئ خطأ الغمر
ويخبط خبط السكران ويجمع بين التيقظ والغفلة والحزم والإضاعة.
ثم قال عمرو عقيب هذا الفصل: وقول إبراهيم هذا لم يعمل به مسلم وهو
وإن طول وكثر فإن المأخذ في الكثير عليه قريب، فقد شهد عمرو على النظام
بخلافه الأمة في المقال، ووصفه بالجمع بين المتضادات وهو أعرف بمذهبه من
هؤلاء الجهال، وبعد فإن لم نصدق الجاحظ عليه في هذه الحكايات لم يجب أن
نصدقه عليه في جميع ما حكاه من مذاهبه لأنها لم تظهر إلا من جهته، وإذا أكذبناه
في ذلك كله لم نعرف للنظام مذهبا في الفتيا فضلا عن أن يحتاج إلى الاحتيال له في
التخريجات.
على أن هذه الجماعة التي حكينا عنها الانكار لا بد لها مع إقامتها على ذلك
من تكذيب الجاحظ وتضليله وتجهيله في الرد على النظام، لأنه قد رد عليه في هذا
الكتاب على ترتيب ما حكيناه من تدينه بما وصفناه، وليست في موضع من يقبل
قولها على الجاحظ ويترك ما خبر به وحكاه إلى شهواتها وأمانيها التي تدل على سوء
التدبير وقلة الدين وضعف الرأي.
قال الشيخ أيده الله: فهذه جملة ما ثبت عن النظام في الطعن على الصحابة
والأئمة الراشدين والتابعين بإحسان، ولو أوردنا جميع ما في هذه الأبواب من
مقاله لطال به الكتاب، وقد أضربنا عن مناقضته بين الأخبار وإيراده تكذيب
238

بعض القوم لبعض في الروايات وشهادته عليهم بالبدع في الديانات وقول الزور
والبهتان، فمتى أردتم أرشدكم المعرفة ذلك على الكمال فعليكم بكتاب الفتيا
لعمرو بن بحر الجاحظ فإنكم تجدونه في ذلك على الاستقصاء والبيان، مع أن
إبراهيم في اعتذاره من الإقدام على تخطئة الأمة ملبس في ذلك على الضعفاء لأنه
يدين بفساد الاجماع. وقد ذكر ذلك عنه عمرو بن بحر في هذا الكتاب فقال: وقال
إبراهيم: لم يضطرني الخبر أن النبي (ص) قال: " لا تجتمع أمتي على خطأ " وكان يزعم
أنه قد يجوز أن يجتمع المسلمون على ضلالة ولكن لا يجتمعون على خطأ بعينه.
وقال الجاحظ في افتتاح حكاياته عنه: زعم إبراهيم بن سيار أن سبيل
القرآن كسبيل التوراة والإنجيل والزبور وجميع كتب الأنبياء، وأن سبيل هذه الأمة
في فتياها وأحكامها كسبيل أمة موسى وعيسى وجميع الأنبياء - عليهم السلام -، وأن
أصحاب محمد (ص) حين تكلفوا القول في الفتيا وقالوا بالقياس لم يعد أمرهم أحد
وجهين: إما أن يكونوا ظنوا أن ذلك جائز لهم بسبب غلطوا فيه ولأمر توهموه، أو
يكون ذلك كان منهم على التآمر والتحكم وليكونوا أئمة وقادة وسلفا.
قال الشيخ أيده الله: في هذا - أدام الله توفيقكم - كفاية في الدلالة على
مذهب الرجل في جواز تغيير القرآن والزيادة فيه والنقصان والطعن على الاجماع
والبراءة من أهل بيت النبي (ص) والصحابة جميعا والتابعين بإحسان، وكفى بمعتقد
هذا الرجل كفرا وإلحادا وخروجا عن دين الإسلام، والحمد لله على ما من به علينا
من هدايته وله الشكر على نعمته في دينه وإياه نسأل سترا جميلا برحمته.
239

فصل
ومن حكايات الشيخ وكلامه، قال الشيخ أيده الله تعالى: وجدت أصحاب
المقالات كافة يقولون إن أول خلاف وقع في الإسلام بعد وفاة رسول الله (ص) الخلاف
في الإمامة بين المهاجرين والأنصار، وقد غلطوا في ذلك، فإن أول خلاف حدث في
الإسلام بعد وفاة الرسول (ص)، خلاف عمر بن الخطاب في وفاة النبي (ص) فإنه
ادعى حياته.
وذلك أن جميع أهل السير والآثار يقولون إن النبي (ص) لما قبضه الله عز وجل
فخرج الناعي ينعاه، خرج عمر بن الخطاب من منزله فقال: " والله لا أسمع أحدا
يقول مات رسول الله إلا قتلته، إن رسول الله (ص) لم يمت وإنما غاب عنا كما غاب
موسى عن قومه أربعين ليلة، والله ليرجعن رسول الله إلى قومه كما رجع موسى إلى
قومه وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم " فلم يزل على ذلك يقول هذا القول في محفل
بعد محفل حتى خرج إليه أبو بكر فقال له: على رسلك يا عمر فلم ينصت له،
فلما رأى أنه لا ينصت له، قام قائما فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي (ص)
ثم قال: " أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله
سبحانه وتعالى فإن الله سبحانه حي لا يموت ولقد نعى نبيه إلى نفسه وهو بين
أظهركم فقال: * (إنك ميت وإنهم ميتون) * " قالوا: فحينئذ كف عمر عن القول
الذي كان يقول به.
قال الشيخ أدام الله تأييده: وفي هذا الذي ذكرناه غير شئ:
فمنه أن أول خلاف حدث بعد رسول الله (ص) خلاف عمر بن الخطاب على
240

الجماعة ونفيه موت رسول الله (ص) وما ادعاه من حياته.
ومنه أن هذا الخلاف هو مذهب المحمدية من الغلاة وبه يدينون وهو
ضلال باتفاق.
ومنه أنه خلاف أظهره الرجل بغير شبهة تدعو إليه من جهة عقل أو
تأويل كتاب أو لفظ سنة أو عادة جرت فيتعلق بذلك، وما جرى هذا المجرى لم
يتوهم على صاحبه إلا العناد وقصد الإفساد والإدغال في الدين.
ومنه أنه يدل على جهل قائله بالقرآن وعدم حفظه له لأن التنزيل مبين
لوفاة رسول الله (ص)، قال الله سبحانه لنبيه - عليه السلام - * (إنك ميت وإنهم
ميتون) * (1) وقال سبحانه: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن
مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) * (2).
ومنه أن الرجل أقدم على اليمين بالله عز وجل وأقسم بأسمائه الحسنى أن
رسول الله (ص) لم يمت، ثم لم يقنع بذلك حتى وصفه بالغيبة ثم شبه غيبته بغيبة
موسى - عليه السلام - عن قومه وأقسم بالله في مقدار زمان غيبته، ثم لم يقنعه جميع ذلك
من قوله الباطل حتى خبر أنه سيرجع ويقطع أيدي رجال وأرجلهم، فهب أن
الشبهة دخلت عليه في وفاة النبي (ص) واعتقد أنه ممن لا يموت أو ممن يتأخر موته
عن تلك الحال، أي شبهة عرضت له في ذكر قطع أيدي الرجال وأرجلهم إذا
عاد؟ إن هذه الأمور عجيبة وإذا تأملها المنصف عرف مباينتها لليقين والصدق
ومباعدتها لشرائط الإيمان.
ولعل بعض أهل الخلاف يزعم عند سماع هذا الكلام أن القول الذي أظهره

(1) - الزمر / 30.
(2) - آل عمران / 144.
241

عمر لم يكن عن عقد ونية ولكنه كان منه على سبيل الإرهاب لئلا يطمع أهل
النفاق. فإن زعم ذلك، قيل له: إن هذا التخريج لا يصح على ظاهر مقال الرجل
ولا يلائم ما كان منه في الحال لأنه أخرجه مخرج الجد وأبان عما يبان به عن
الاعتقاد فأكده بالقسم والأيمان، ولو كان على ما ظننت من أنه أراد الاستصلاح ما
كان يورد ذلك على الوجه الذي يقع به الضلال ولا يؤكده التأكيد الذي يدل به
السامعين على وجود اعتقاد صدقه في ظاهره وباطنه، ولما كان لقوله عند سماع
الآية من أبي بكر " كأني والله ما سمعتها قط ولا علمت أنها في القرآن " معنى،
ولقال عند اجتماع الكلمة على الوفاة للناس: " اعلموا أيها الناس أني لم أك جاهلا
بوفاة الرسول وإنما أظهرت ما أظهرت من الكلام للإرهاب والاستصلاح " وفي
يمين عمر بالله تعالى أنه لما سمع الآية تنبه بها على غلطه في المقال وكان قبلها كأن
لم يسمعها قط دليل على بطلان قول من تخرج له ما قدمناه.
وإذا بطل أن يكون الرجل أراد بما أظهره الاستصلاح وبطل أن يكون ما قاله
لشبهة دخلت عليه دعته إلى ذلك المقال، لم يبق إلا أنه أراد الفساد في الدين
وسلك طريق العناد. على أنه مع الأمر الذي يخرجونه له في ذلك لا ينفك من
إظهار الباطل والتصريح بالكذب في الأخبار والإذاعة بما يدعو إلى الجهل
والضلال، وهذا بين لذوي الألباب.
على أن المقدار من الزمان الذي أظهر فيه عمر بن الخطاب من القول ما
حكيناه ثم رجع عنه، لم يكن موهوما فيه أن لو صمت عن ذلك أو اعتمد على
غيره مما لا يخرج به على ظاهر الحق ووقوع الفساد على معهود العادات.
وبعد، فما بال أبي بكر لم يسبقه إلى هذا الاستصلاح وغيره من المهاجرين
والأنصار، بل ما باله لما أمره أبو بكر بالانصات لم يجبه إلى ذلك حتى تركه وعدل
242

عن كلامه إلى كلام الناس، وكيف لم يجر فساد قط في ما سلف عند موت نبي أو
ملك كان المعلوم أو المظنون أنه لو وقع موته ساعة من النهار يصلح الناس
وارتفع ذلك الفساد فكيف لم يسبقه إلى ذلك أحد عند موت من ذكرناه من الملوك
والأنبياء، وأي فساد كان يتخوف من السكوت عن الباطل والكذب ودفع
الضرورات، وما كان وجه الفساد الذي يتخوفه الرجل، وإنما انتشرت الكلمة
ووقع معظم الخلاف بعد رجوعه عما كان ادعاه.
مع أنا لا نجده استصلح أحدا من الأمة بذلك ولا نعرف وجها في كلامه
للاستصلاح، وقد وجدنا ما كان يتخوفه من الفساد مع مقاله ذلك، فأي فائدة
حصلت للأمة فيما أورده وعلى أي معنى يحمله إن لم يكن أراد الإفساد والتلبيس
والاضلال، على أن الرجل نفسه قد أظهر أنه قال القول الذي حكيناه عنه على
وجه الاعتقاد له وصرح بأنه لم يقصد الاستصلاح بمقال ظاهره خلاف باطنه في
الحال وأبطل قول من خرج له العذر بالاستصلاح.
فروى محمد بن إسحاق عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك قال: لما
بويع أبو بكر في السقيفة وكان من الغد، جلس أبو بكر على المنبر فقام عمر
فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه وقال: " أيها الناس إنه كنت قلت لكم
بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأي، وما وجدتها في كتاب الله ولا كانت بعهد من
رسول الله (ص) ولكن قد كنت أرى أن رسول الله (ص) سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا
موتا ".
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: " والله إني لأمشي مع عمر في خلافته وما
معه غيري وهو يحدث نفسه ويضرب قدميه بدرته إذ التفت إلي فقال: يا بن عباس
هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله (ص) قال: قلت:
243

لا أدري أنت أعلم يا أمير المؤمنين " قال: فإنه والله ما حملني على ذلك إلا أنني
كنت أقرأ هذه الآية: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس
ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (1) وكنت أظن أنه سيبقى بعد أمته حتى يشهد
عليها بآخر أعمالها فإنه الذي حملني على أن قلت ما قلت.
ألا ترى إلى تصريح الرجل بأنه كان يعتقد حياة رسول الله (ص) ويعتل لذلك
تارة بالرأي وتارة بتأويل القرآن، وأنه لم يعتمد فيه أنه من كتاب الله ولا عهد من
الرسول (ص) ثم يناقض تارة أخرى بالاعتلال، فيزعم أن الذي حمله عليه ما وجده
في الكتاب، فيعلم بذلك صحة ما ذكرناه عنه من التخليط ويظهر لك إدغاله في
الدين بمناقضته في المقال وبنقله التلبيس على الضعفاء من اعتلال إلى اعتلال،
وقد تبين لك بما قلناه صحة ما قدمناه من ركوبه في ذلك عظيم الضلال وأنه إن
كان صدق على نفسه فقد وضح عناده وإدغاله في الدين على ما شرحناه.
قال الشيخ أيده الله: وقد سلك ابنه عبد الله طريقه في الإقدام على الباطل
والقول بغير علم ولا بيان وهو عندهم من صلحاء الصحابة وأهل الفضل
والسداد.
وذلك أنه لما غنم المسلمون من الفرس في أيام عمر ما غنموه وكان في جملته
العود الذي يستعمله المجوس في الملاهي، فأحضروه مجلس عمر فلم يكد يعرفه
أحد ممن حضر في الحال، ولم يدر ما الذي يصنع به ولا اسمه من الأسماء،
فتشاجروا في ذلك فقال لهم عبد الله بن عمر: دعونا من اختلافكم في هذا وخذوها
عني وأنا أبو عبد الرحمان، هذا الميزان الحراني، فلم يرض بالسكوت عما لا يعلم
حتى تحدى القوم بأن عنده معرفة لما لا يعرفه، ثم لم يرض بذلك حتى أنبأهم

(1) - البقرة / 143.
244

بباطل وشهد عندهم شهادة زور وقد كان غنيا عن ذلك وما دعاه إليه داع.
وهذا مما يعد من حماقته أفترى من خالفنا يمكنه أن يزعم في هذا أيضا أنه
أراد به الاستصلاح بكلام يطلب لهذا الرجل عذرا إلا مشارك له في الحمق والإقدام
على الباطل، ولا يثق به في النقل بعد ما حكيناه ويتولاه في الشرع ويعتقد فضله في
الصحابة إلا مائق مأفون العقل.
ولو لم يكن عبد الله ضعيف الرأي ناقص العقل لما تأخر عن بيعه أمير
المؤمنين - عليه السلام - وأبى الدخول في طاعته وحرم الجهاد معه ويدعه في حروبه
وخذل الناس عنه واستحل خلافه ومباينته ثم جاء بعد ذلك مختارا إلى الحجاج بن
يوسف الثقفي فقال له: أيها الأمير امدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين عبد الملك
ابن مروان. حتى قال له الحجاج بن يوسف الثقفي: وما حملك على هذا يا أبا عبد
الرحمان بعد ما تأخرت عنه؟ قال: حملني عليه حديث رويته عن النبي (ص) إنه
قال: " من مات وليس في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية " فقال له الحجاج:
بالأمس تتأخر عن بيعة علي بن أبي طالب مع روايتك هذا الحديث ثم تأتيني الآن
لأبايعك لعبد الملك، أما يدي فمشغولة عنك ولكن هذه رجلي فبايعها فسخر منه
وعبث به وأنزله منزلته.
ولعمري إن عبد الله وإن فارق أباه في الشهامة والفطنة لقد وافقه في العداوة
لأمير المؤمنين - عليه السلام - ومضى على شاكلته وعادته في ذلك، وقد قال
رسول الله (ص) " من أبغض عليا فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله عز
وجل " وقال له - عليه السلام -: " عادى الله من عاداك وقاتل الله من قاتلك " وقال له
- عليه السلام -: " حربك يا علي حربي وسلمك يا علي سلمي " وقال له - عليه السلام -:
" اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، وهذه
دعوات قد استجابها الله عز وجل من نبيه عليه وآله السلام
245

فصل
من كلام الشيخ أيده الله، قال الشيخ: قد أجمعت الأمة على أن أبا بكر قال
بعد العقد له: " أقيلوني أقيلوني " فاستقالهم الولاية والإمرة عليهم وفهمنا ذلك
وعرفناه وقد أجمعت الأمة على أن الناس دعوا عثمان إلى الخلع فأبى فحصروه لذلك
وتوعدوه بالقتل إن لم يخلع نفسه ليختاروا لأنفسهم من يرضوه فأبى إلا دفاعهم
عن ذلك واحتج عليهم فيه بأن الله سبحانه قمصه الأمر فلا يحل له خلعه، وقال
لهم: " لا أخلع قميصا قمصنيه الله عز وجل " فنظرنا في هذين الفعلين فوجدناهما
مختلفين متضادين يوجب أحدهما إن كان صوابا خطأ فاعل ضده وإن كان خطأ
صواب فاعل خلافه.
وذلك أنه إن كان حل لأبي بكر أن يخلع نفسه من الإمامة مختارا ويدعو
الناس إلى خلعه فقد حرم الله سبحانه على عثمان أن يمتنع من ذلك إذا أريد عليه
ودعي إليه وأخيف وهدد بالقتل إن امتنع عليهم من ذلك فلما رأينا عثمان اختار
القتل على الإجابة إلى الخلع، علمنا أنه لم يختر ذلك إن كان متدينا به إلا أن الخلع
أعظم من إظهار كلمة الشرك وصنع ضروب الفسق وأكل الميتة والدم ولحم
الخنزير لأن هذه كلها تحل عند الخوف على النفس وعثمان لم يستحل الخلع عند
الخوف على نفسه فكان على مذهبه من أعظم الكبائر وأكبر ضروب الكفر، وإذا
كان أبو بكر قد استحله ودعا إليه بان أنه أتى كفرا على مذهب عثمان وأعظم من
الكفر أو يكون استحلاله ذلك يدل على أن استسلام عثمان للقتل بدلا من الخلع،
أعظم ما يكون من الكفر لأن من امتنع من مباح بقتل نفسه كان مارقا عن الدين
246

ولا فضل في ذلك لمن عقل على ما بيناه.
وعسى أن يقول بعضهم إن عثمان دعي إلى خلعه على ما يوجب الخلع
فامتنع لذلك وأبو بكر اختار الخلع فاختلف الوجهان في ذلك.
فإنه يقال له: لو كان الأمر على ما وصفت لكان الخلع حاصلا له وإن لم
يخلع نفسه لأن الفسق الموجب للخلع بوجوده يخرج عند أصحاب الاختيار خاصة
صاحبه من الإمامة ولا يحتاج معه إلى أن يخلع نفسه، مع أن عثمان كان أناب لهم
وأظهر التوبة وأعتبهم على ما عتبوه ورجع لهم في الظاهر إلى ما أرادوه فصار في
الحكم بمنزلته الأولى من العدالة فلذلك ساموه أن يخلع نفسه مختارا وكان ذلك
هو الذي دعا إليه أبو بكر بعينه فلم يختلف الوجهان على ما ظننتموه وفي ذلك ما
قدمناه من وجوب ضلال أحد الرجلين وخطأه في الدين.
على أن الاختيار إن كان للأمة فكان إليها العزل والخلع ولم يكن لدعائها
عثمان إلى أن يخلع نفسه معنى يعقل لأنه كان لها أن تخلعه إذا لم يجبها إلى ذلك
ويختاره، وإن كان الخلع إلى الإمام فلا معنى لقول أبي بكر للناس أقيلوني وقد كان
يجب - لما كره الأمر - أن يخلع هو نفسه ولا تكون لهم إذ ذاك ضربة لازب عليه،
وهذا أيضا تناقض آخر يبين عن بطلان الاختيار وتخليط القوم.
وأنت أرشدك الله إذا تأملت قول أمير المؤمنين - عليه السلام - في خطبته في الكوفة
عند ذكر الخلافة حيث يقول: " فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر
بعد وفاته " وجدته عجبا وعرفت منه المغزى الذي كان من الرجل في القول وبان
خلاف الباطن منه للظاهر وتيقنت الحيلة التي أوقعها والتلبيس وعثرت به على
الضلال وقلة الدين والله تعالى نسأل التوفيق.
247

فصل
وسمعت شيخنا أيده الله يقول: إن مما يشهد برذالة بني تيم بن مرة وبني
عدي ويجب أن يضاف إلى ما سلف لنا في ذلك، قول أبي سفيان صخر بن حرب
بن أمية حين بلغه بيعة الناس لأبي بكر فجعل يقول ويحرض بني هاشم على فسخ
أمره ويدعوهم إلى تقديم أمير المؤمنين - عليه السلام - وتسليمه ويقول:
بني هاشم لا يطمع الناس فيكم * ولا سيما تيم بن مرة أو عدي
فما الأمر إلا فيكم وإليكم * وليس لها إلا أبو حسن علي
أبا حسن فاشدد لها كف حازم * فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي
أفلا ترون إلى قول هذا الشيخ بحضرة الملأ وبحيث يبلغ قوله الحاضر
والبادي كيف يزري على تيم وعدي ويظهر القول برذالتها وقصورها عن
استحقاق الخلافة ونيل الرياسة وهو وإن كان منافقا عندنا فإن وصف القبائل لا
تتعلق صحته بما ينفي نفاقه ولا يخل نفاقه بصدقه في وصفه لأن العرب كانوا أهل
أنفة من الكذب فيما يعلم باضطرار ضد مقالتهم فيه لا سيما وأبو سفيان سيد من
سادات قومه، فأقل ما في هذا الباب أن ينزل بشعره منزلة شعر الجاهلية في وصف
القبائل بالشجاعة أو الجبن أو السخاء أو البخل أو الشرف أو الضعة، وإذا كان
الأمر على ما بيناه سقط قول من رام إبطال احتجاجنا بقول أبي سفيان على ما
ذكرناه لموضع نفاقه وخلافه الدين على ما بيناه.
248

فصل
قال الشيخ أيده الله: وما رأيت أوهن ولا أضعف من تعلق المعتزلة
ومتكلمي المجبرة بقول العباس بن عبد المطلب رحمه الله لأمير المؤمنين - عليه السلام -
بعد وفاة رسول الله (ص): " امدد يدك يا بن أخ أبايعك فيقول الناس عم رسول الله
بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان " وقد ادعوا أن في هذا دليلا على أن رسول
الله (ص) لم ينص على أمير المؤمنين - عليه السلام -.
وقولهم إنه لو كان نص عليه لم يدعه العباس إلى البيعة لأن المنصوص عليه
لا يفتقر في إمامته وكمالها إلى البيعة فلما دعاه العباس إلى عقد إمامته من حيث
تنعقد الإمامة التي تكون بالاختيار دل على بطلان النص، وهذا الكلام مع وهنه
فقد حار قوم من الشيعة عن فهم الغرض فيه وعدلوا عن نقضه من وجهه، وقد
كنت قلت لمناظر اعتمد عليه في حجاجه في الإمامة ورام به مناقضتي في مجلس
من مجالس النظر أقوالا أنا أورد مختصرا منها وأعتمد على بعضها إذ كان شرح ذلك
يطول.
وهو أن يقال لهم إن كان دعاء العباس أمير المؤمنين - عليه السلام - إلى البيعة يدل
على ما زعمتم من بطلان النص وثبوت الإمامة من جهة الاختيار فيجب أن يكون
دعاء النبي (ص) الأنصار إلى بيعته في ليلة العقبة ودعاؤه المسلمين من المهاجرين
والأنصار تحت شجرة الرضوان، دليلا على أن نبوته (ص) إنما ثبتت له من جهة
الاختيار فإنه لو كان ثابت الطاعة من قبل الله عز وجل وإرساله له وكان المعجز
دليل نبوته، لاستغنى عن البيعة له تارة بعد أخرى فإن قلتم ذلك، خرجتم عن
الملة، وإن أثبتموه نقضتم العلة عليكم.
249

فإن قالوا: إن بيعة الناس لرسول الله (ص) لم تك لإثبات نبوته وإنما كانت
للعهد في نصرته بعد معرفة حقه وصدقه فيما أتى به عن الله عز وجل من رسالته.
قيل لهم: أحسنتم في هذا القول وكذلك كان دعاء العباس أمير المؤمنين
- عليه السلام - إلى بسط اليد إلى البيعة فإنما كان بعد ثبوت إمامته بتجديد العهد في
نصرته والحرب لمخالفيه وأهل مضادته ولم يحتج - عليه السلام - إليها في إثبات إمامته.
ويدل على ما ذكرناه قول العباس: " يقول الناس عم رسول الله بايع ابن
أخيه فلا يختلف عليك اثنان " فعلق الاتفاق بوقوع البيعة ولم يكن لتعلقه بها إلا
وهي بيعة الحرب التي يرهب عندها الأعداء ويحذرون من الخلاف ولو كانت بيعة
الاختيار من جهة الشورى والاجتهاد لما منع ذلك من الاختلاف بل كانت نفسها
الطريق إلى تشتت الرأي وتعلق كل قبيل باجتهاده واختياره.
أولا ترى إلى جواب أمير المؤمنين - عليه السلام - بقوله: " يا عم إن لي برسول الله
(ص) أعظم شغل عن ذلك " ولو كانت بيعته عقد الإمامة لما شغله عنها شاغل ولما
كانت قاطعة له عن مراده في القيام برسول الله (ص)، أولا ترى أنه لما ألح عليه
العباس في هذا الباب قال: " يا عم، إن رسول الله (ص) أوصى إلي وأوصاني أن لا
أجرد سيفا بعده حتى يأتيني الناس طوعا وأمرني بجمع القرآن والصمت حتى
يجعل الله عز وجل لي مخرجا " فدل ذلك أيضا على أن البيعة إنما دعا إليها للنصرة
والحرب وأنه لا تعلق لثبوت الإمامة بها وأن الاختيار ليس منها في قبيل ولا دبير
علي ما وصفناه.
ووجه آخر وهو أن القوم لما أنكروا النص وأظهروا أن الإمامة تثبت لهم من
طريق الاختيار، أراد العباس أن يكيدهم من حيث ذهبوا إليه ويبطل أمرهم بنفس
ما جعلوه طريقا لهم إلى الظلم وجحد النص، فقال لأمير المؤمنين - عليه السلام -:
250

" ابسط يدك أبايعك فإن سلموا الحق لأهله لم تضرك البيعة وإن ادعوا الشورى
والاختيار وأنكروا حقك كان لك من البيعة والاختيار والعقد مثل ما لهم فلم
يمكنهم الاستبداد بالأمر دونك " فأبى أمير المؤمنين - عليه السلام - ذلك وكره أن يتوصل
إلى حقه بباطل لا يوصل إليه وبرهان أمره يقهر القلوب بظهور النص عليه.
ولأنه كره أن يبسط يده للبيعة فيلزمه بعد ذلك تجريد السيف على دافعيه
الأمر فلا يستقيم له مع الاختيار وعقد القوم له أن يلزم التقية وقد تقدمت الوصية
له من النبي (ص) بالكف عن الحرب مخافة بطلان الدين ودرس الإسلام، وقد بين
ذلك في مقاله - عليه السلام - حيث يقول: " أما والله لولا قرب عهد الناس بالكفر
لجاهدتهم " فعدل عن قبول البيعة لما ذكرناه.
فإن قال بعضهم في هذا الجواب: قد وصل إلى حقه كما زعمتم بعد عثمان
بالاختيار ودخل في الشورى فكيف استجاز التوصل إلى الحق بالباطل على ما
فهمناه عنكم من الجواب؟
قيل له: يقول القوم إنما ساغ له ذلك في الشورى وبعد عثمان لخفاء النص
عليه في تلك الأحوال واندراس أمره بمرور الزمان على دفعه عن حقه فلم يجد إذ
ذاك من ظهور فرض طاعته ما كان عند وفاة رسول الله (ص) فاضطر إلى التوصل إلى
حقه من حيث جعلوه طريقا إلى التأمير على الناس.
على أن القوم جمعوا بين علتين إحداهما ما ذكرناه، والأخرى ما أردفناه
المذكور من وجوب الجهاد عليه بعد قبول البيعة ولم يكن في الأول يجوز له ذلك
للوصية المتقدمة من النبي (ص) في الكف عن السيف ولما رآه في ذلك من
الاستصلاح وكانت الحال بعد عمر وبعد عثمان على خلاف ما ذكرناه وهذا يبطل
ما تعلقتم به.
251

ووجه آخر وهو المعتمد عندي في هذا الجواب عن هذا السؤال والمعول
عليه دون ما سواه، وهو أن أمير المؤمنين - عليه السلام - لم يتوصل إلى حقه في حال من
الأحوال بما يوصل إليه من اختيار الناس له على ما ظنه الخصوم.
وذلك أنه - عليه السلام - احتج في يوم الشورى بنصوص رسول الله (ص) الموجبة له
فرض الطاعة كقوله: " أفيكم أحد قال له رسول الله (ص) من كنت مولاه فعلي مولاه
غيري؟ أفيكم أحد قال له رسول الله (ص) أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه
لا نبي بعدي غيري؟ " وأشباه هذا من الكلام الموجب لإمامة صاحبه بدليله
المغني له عن اختيار العباد.
ولما قتل عثمان لم يدع أحدا إلى اختياره لكنه دعاهم إلى بيعته على النصرة له
والاقرار بالطاعة وليس في هذا من معنى الاختيار الذي يذهب إليه المخالفون
شئ على كل حال، والجواب الأول لي خاصة والثاني لأصحابنا وقد نصرته بموجز
من الكلام.
فصل
وقد سأل المخالفون في شئ يتعلق بهذا الفصل عن سؤال لم أجد لأحد من
أصحابنا فيه جوابا فأجبت عنه بما أسقطه على البيان، وهو أن قالوا: إذا زعمتم أن
النبي (ص) قد نص على أمير المؤمنين - عليه السلام - بالإمامة وبين عن فرض طاعته
ودعا الأمة إلى اتباعه، فما معنى قول العباس بن عبد المطلب رحمة الله عليه لأمير
المؤمنين - عليه السلام - في مرض رسول الله (ص): " يا ابن أخ ادخل معي إلى النبي فاسأله
عن الأمر من بعده هل هو فينا فتطمئن قلوبنا أم هو في غيرنا فيوصيه بنا " فدخلا
252

عليه فسأله العباس عن ذلك فلم يجبه هل هو فيهم أو في غيرهم فقال لهم: " على
رسلكم معشر بني هاشم أنتم المظلومون بي أنتم المقهورون ".
فيقال لهم أخطأتم الغرض في معنى هذا المقال وضللتم عن المراد منه،
وذلك أن العباس رحمه الله إنما سأل النبي (ص) عن كون الأمر فيهم بعده على
الوجوب وتسليم الأمة لهم وهل المعلوم عند الله عز وجل تمكينهم منه وعدم
الحيلولة بينهم وبينه فتطمئن لذلك نفسه ويسكن إلى وصوله إلى غرضه وعدم
المنازع وتمكينهم من الأمر أو يغلبون عليه ويحال بينهم وبينه فسأل النبي (ص) أن
يوصي بهم في الاكرام والاعظام ولم يك في شك من الاستحقاق والاختصاص
بالحكم.
ألا ترى إلى جواب النبي (ص) بأنكم المقهورون وأنتم المضطهدون، فجميع
هذه الألفاظ جاءت بها الرواية ولولا أن سؤال العباس إنما كان عن حصول المراد
من التمكين من المستحق ونفوذ الأمر والنهي لم يكن لجواب النبي (ص) بما ذكرناه
معنى يعقل وكان جوابا عن غير السؤال ورسول الله (ص) يجل عن صفات النقض
كلها لانتظامه صفات الكمال.
ونظير ما ذكرناه قول الرجل لأبيه وهو يعلم أنه وارثه دون الناس كافة:
" أترى أن تركتك تكون لي بعد الوفاة أم تحصل لغيري، وهل ما أهلتني له ينفرد لي
أم يغلبني عليه إخوتي أو بنو عمي " فيقول له الوالد إذا لم يعلم الحال ما يغلب في
ظنه من ذلك أو يجيبه بالرجاء، وليس سؤال الولد لوالده أن يجيبه عن الاستحقاق.
وأمثال هذا يكثر وفي الجواب عنه كفاية وغنى عن الأمثال وبالله نستعين.
253

فصل
ومن كلام الشيخ أيده الله في تقدم إيمان أمير المؤمنين - عليه السلام -، قال
الشيخ أحسن الله توفيقه: أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين - عليه السلام - أول ذكر
أجاب رسول الله (ص) ولم يختلف في ذلك أحد من أهل العلم إلا أن العثمانية
طعنت في إيمان أمير المؤمنين - عليه السلام - لصغر سنه في حال الإجابة وقالوا: إنه لم
يكن - عليه السلام - في تلك الحال بالغا فيقع إيمانه على وجه المعرفة، وإن إيمان أبي بكر
حصل منه مع الكمال فكان على اليقين والمعرفة والاقرار من جهة التقليد والتلقين
غير مساو للاقرار بالمعلوم المعروف بالدلالة.
فلم يحصل خلاف من القوم في تقدم الاقرار من أمير المؤمنين - عليه السلام -
للجماعة والإجابة منه للرسول وإنما خالفوا فيما ذكرناه، وأنا أبين عن غلطهم
فيما ذهبوا إليه من توهين إقرار أمير المؤمنين - عليه السلام - وحملهم إياه على وجه التلقين
دون المعرفة واليقين بعد أن أذكر خلافا حدث بعد الاجماع من بعض المتكلمين
والناصبة من أصحاب الحديث.
وذلك أن هاهنا طائفة تنسب إلى العثمانية وتزعم أن أبا بكر سبق أمير
المؤمنين - عليه السلام - إلى الاقرار وتعتل في ذلك بأحاديث مولدة ضعاف.
منها أنهم رووا عن أبي نضيرة (1) قال: أبطأ علي والزبير عن بيعة أبي بكر
قال: فلقي أبو بكر عليا فقال له (ص) أبطأت عن بيعتي وأنا أسلمت قبلك، ولقي
الزبير فقال: أبطأت عن بيعتي وأنا أسلمت قبلك.

(1) - في بعض النسخ: أبو نضرة.
254

ومنها حديث أبي أمامة عن عمر بن عنبسة (1) قال: أتيت رسول الله (ص) أول
ما بعث وهو بمكة وهو حينئذ مستخف، فقلت: من أنت؟ قال: أنا نبي، قلت:
وما النبي؟ قال: رسول الله، فقلت: الله أرسلك؟ قال: نعم، فقلت: بماذا أرسلك؟
قال: بأن يعبد الله عز وجل ويكسر الأصنام ويوصل الأرحام، قلت: نعم ما
أرسلك به، فمن تبعك على هذا الأمر؟ قال: حر وعبد، يعني أبا بكر وبلالا وكان
عمر يقول: " لقد رأيتني وأنا رابع الإسلام " قال: فأسلمت ثم قلت: أنا أبايعك يا
رسول الله.
ومنها حديث الشعبي قال: سألت ابن عباس عن أول من أسلم؟ قال:
أبو بكر ثم قال: أما سمعت قول حسان:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها * بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده * وأول الناس منهم صدق الرسلا
ومنها حديث رووه عن منصور عن مجاهد قال: أول من أظهر الإسلام
سبعة: رسول الله (ص) وأبو بكر وخباب وعمار وبلال وسمية وصهيب.
ومنها حديث رووه عن عمرو بن مرة قال: ذكرت لإبراهيم النخعي حديثا
فأنكره وقال: أبو بكر أول من أسلم.
قال الشيخ أيده الله: فيقال لهم: أما الحديث الأول فإنه رواه أبو نضيرة وهذا
أبو نضيرة مشهور بعداوة أمير المؤمنين - عليه السلام -، وقد ضمنه ما ينقض أصلا لهم
في الإمامة، ولو ثبت لكان أرجح من تقدم إسلام أبي بكر وهو أن أمير المؤمنين

(1) - في بعض النسخ: عتبة ولعل الصحيح عمرو بن عبسة.
255

- عليه السلام - والزبير أبطئا عن بيعة أبي بكر، وإذا ثبت أنهما أبطئا عن بيعته وتأخرا،
نقض ذلك قولهم إن الأمة أجمعت عليه ولم يكن من أمير المؤمنين - عليه السلام - كراهية
لأمره.
وإذا ثبت أن أمير المؤمنين - عليه السلام - قد كان متأخرا عن بيعته على وجه
الكراهة لها بدلالة ما رووه من قول أبي بكر له: " أبطأت عن بيعتي وأنا أسلمت
قبلك " على وجه الحجة عليه في كونه أولى بالإمامة منه، ثبت بطلان إمامة أبي بكر
لأن أمير المؤمنين - عليه السلام - لا يجوز أن يكره الحق ولا أن يتأخر عن الهدى، وقد
أجمعت الأمة على أنه - عليه السلام - لم يوقع خطأ بعد الرسول (ص) يعثر عليه طول مدة أبي
بكر وعمر وعثمان، وإنما ادعت الخوارج الخطأ منه في آخر أيامه - عليه السلام -
بالتحكيم وذهبت عن وجه الحق في ذلك.
وإذا لم يجز من أمير المؤمنين - عليه السلام - التأخر عن الهدى والكراهة للحق
والجهل بموضع الأفضل، بطل هذا الحديث. وما زلنا نجتهد في إثبات الخلاف من
أمير المؤمنين - عليه السلام - على أبي بكر والتأخر عن بيعته والكراهة لأمره، والناصبة
تحيد عن قبول ذلك وتدفعه أشد دفع حتى صاروا يسلمونه طوعا واختيارا
وينظمونه في احتجاجهم لفضل صاحبهم، فهكذا يفعل الله عز وجل بأهل
الباطل يخيبهم ويسلبهم التوفيق حتى يدخلوا فيما يكرهون من حيث لا يشعرون.
على أن بإزاء هذا الحديث عن أبي بكر حديثا عنه ينقضه من طريق أوضح
من طريق أبي نضيرة، وهو ما رواه علي بن مسلم الطوسي، عن زافر بن سليمان،
عن الصلت بن بهرام، عن الشعبي قال: مر علي بن أبي طالب - عليه السلام - ومعه
أصحابه على أبي بكر فسلم ومضى، فقال أبو بكر " من سره أن ينظر إلى أول
الناس في الإسلام سبقا وأقرب الناس من نبينا - عليه السلام - رحما وأعظمهم دالة عليه
256

وأفضلهم غناء عنه بنفسه فلينظر إلى علي بن أبي طالب " وهذا يبطل ما ادعوه على
أبي بكر وأضافه أبو نضيرة إليه.
وأما حديث عمر بن عنبسة فإنه من طريق أبي أمامة ولا خلاف أن أبا أمامة
كان من المنحرفين عن أمير المؤمنين - عليه السلام - والمتجبرين عليه، وأنه كان في حيز
معاوية، ثم فيه عن عمرو وأنه شهد لنفسه أنه كان رابع الإسلام وشهادة المرء
لنفسه غير مقبولة إلا أن يكون معصوما أو يدل دليل على صدقه، وإذا لم تثبت
شهادته لنفسه بطل الحديث بأسره.
مع أن الرواية قد اختلفت عن عمرو من طريق أبي أمامة، فروى عنه في
حديث آخر أنه قال: أتيت النبي (ص) بماء يقال له عكاظ فقلت له: يا رسول الله
من بايعك على هذا الأمر؟ قال: من بين حر وعبد، فأقيمت الصلاة فصليت
خلفه أنا وأبو بكر وبلال وأنا يومئذ رابع الإسلام. فاختلف اللفظ والمعنى في
هذين الحديثين والواسطة واحد، فتارة يذكر مكة وتارة يذكر عكاظا، وتارة يذكر
أنه وجده مستخفيا بمكة وتارة يذكر أنه كان ظاهرا يقيم الصلاة ويصلي بالناس
معه، والحديث واحد من طريق واحد وهذا أدل دليل على فساده.
وأما حديث الشعبي فقد قابله الحديث عنه من طريق الصلت بن بهرام
المتضمن لضده، وفي ذلك إسقاطه، مع أنه قد عزاه إلى ابن عباس والمشهور عن
ابن عباس ضد ذلك وخلافه.
ألا ترى إلى ما رواه أبو صالح عن عكرمة عن ابن عباس وهذان أصدق
على ابن عباس من الشعبي لأن أبا صالح معروف بعكرمة وعكرمة معروف بابن
عباس، قال: قال رسول الله في: " صلت الملائكة علي وعلى علي بن أبي طالب
سبع سنين "، قالوا: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: " لم يكن معي من الرجال غيره "،
257

ومن طريق عمر بن ميمون عن ابن عباس قال: " أول من أسلم من الناس بعد
خديجة بنت خويلد علي بن أبي طالب ".
وأما قول حسان فإنه ليس بحجة من قبل أن حسانا كان شاعرا وقصد
الدولة والسلطان وقد كان منه بعد رسول الله انحراف شديد عن أمير المؤمنين
- عليه السلام - وكان عثمانيا وحرض الناس على أمير المؤمنين - عليه السلام - وكان يدعو إلى
نصرة معاوية وذلك مشهور عنه في نثره ونظمه، ألا ترى إلى قوله:
يا ليت شعري وليت الطير * تخبرني ما كان بين علي وابن عفانا
ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
ليسمعن وشيكا في ديارهم * الله أكبر يا ثارات عثمانا
فإن جعلت الناصبة شعر حسان حجة في تقديم إيمان أبي بكر فلتجعله
حجة في قتل أمير المؤمنين - عليه السلام - عثمان والقطع على أنه أحفى الناس بقتله وأن
ثاراته يجب أن تطلب منه.
فإن قالوا: إن حسانا غلط في ذلك.
قلنا لهم: وكذلك غلط في قوله في أبى بكر
وإن قالوا: لا يجوز غلطه في باب أبي بكر لأنه شهد به بمحضر من
الصحابة فلم يردوا عليه.
قيل لهم: ليس عدم إظهارهم الرد عليه دليلا على رضاهم به لأن الجمهور
كانوا شيعة أبي بكر وكان المخالفون له في تقية من الجهر بالنكير عليه في ذلك
مخافة الفرقة والفتنة.
مع أن قول حسان بن ثابت محتمل لأن يكون أبو بكر من المتقدمين في
258

الإسلام والأولين دون أن يكون أول الأولين، ولسنا ندفع أن أبا بكر ممن يعد في
المظهرين للإسلام أولا وإنما ننكر أن يكون من أول الأولين، فلما احتمل قول
حسان ما وصفناه لم ينكر المسلمون عليه ذلك.
مع أن حسانا أيضا قد حرض على أمير المؤمنين - عليه السلام - ظاهرا ودعا إلى
مطالبته بثارات عثمان جهرا فلم ينكر عليه في الحال منكر، فيجب أن يكون مصيبا
في ذلك.
فإن قالوا: هذا شئ قاله في مكان دون مكان، فلما ظهر عنه أنكره جماعة
من الصحابة.
قيل لهم: فإن قنعتم بذلك واقترحتم في الدعوى فاقنعوا منا بمثله فيما
اعتقدتموه من شعره في أبي بكر وهذا ما لا فصل فيه.
على أن حسانا قد شهد في شعره بإمامة أمير المؤمنين نصا وذكر ذلك
بحضرة النبي (ص) فجزاه خيرا في قوله:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالنبي مناديا
في أبيات سأذكرها في موضعها إن شاء الله، وشهد لأمير المؤمنين - عليه السلام -
أيضا بسبق قريش إلى الإيمان حيث يقول:
جزى الله خيرا والجزاء بكفه * أبا حسن عنا ومن كأبي حسن
سبقت قريشا بالذي أنت أهله * فصدرك مشروح وقلبك ممتحن
فشهد بتقديم إيمان أمير المؤمنين - عليه السلام - الجماعة، وهذا مقابل لما تقدم
ومسقط له، فإن زعموا أن هذا محتمل، قيل لهم: أما في تفضيله إياه على الكل
259

فليس بمحتمل، وأما في تقدم الإسلام فإن الظاهر منه يوجبه، وإن احتمل
فكذلك ما ذكرتموه عنه أيضا محتمل.
وأما روايتهم عن مجاهد فإنها مقصورة على مذهبه ورأيه ومقاله، وبإزاء
مجاهد عالم من التابعين ينكرون عليه مقاله ويذهبون إلى خلافه في ذلك وأن أمير
المؤمنين - عليه السلام - أول الناس إيمانا، وهذا القدر كاف في إبطال قول مجاهد.
على أن الثابت عن مجاهد خلاف ما ادعاه هؤلاء القوم وأضافوه إليه وضده
ونقيضه، روى ذلك منهم من لا يتهم عليه سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن
مجاهد وأثره عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): " السباق أربعة: سبق يوشع
ابن نون إلى موسى بن عمران - عليه السلام - وصاحب ياسين إلى عيسى بن مريم
- عليه السلام - وسبق علي بن أبي طالب - عليه السلام - إلى رسول الله (ص) " ونسي الناقل عن
سفيان الآخر، وقد ذكر في حديث غير هذا أنه مؤمن آل فرعون، وهذا يسقط
تعلقهم بما ادعوه على مجاهد.
وأما حديث عمرو بن مرة عن إبراهيم فهو أيضا نظير قول مجاهد، وإنما
أخبر عمرو عن مذهب إبراهيم والغلط جائز على إبراهيم ومن فوقه، وبإزاء
إبراهيم من هو فوقه وأجل قدرا منه يدفع قوله ويكذبه في دعواه كأبي جعفر محمد
ابن علي الباقر وأبي عبد الله الصادق - عليهم السلام -، ومن غير أهل البيت قتادة
والحسن وغيرهما ممن لا يحصى كثرة، وفي هذا أيضا غنى عن غيره.
قال الشيخ أيده الله: فهذه جملة ما اعتمده القوم فيما ادعوه من خلافنا في
تقديم إيمان أمير المؤمنين - عليه السلام - وتعلقوا به، وقد بينت عوارها وأوضحت عن
حالها، وأنا ذاكر طرفا من أسماء من روى أن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أسبق
الخلق إلى رسول الله (ص) وأولهم من الذكور إجابة له وإيمانا به.
260

فمن ذلك الرواية عن أمير المؤمنين - عليه السلام - نفسه من طريق سلمة بن
كهيل عن حبة العرني، قال: سمعت عليا - عليه السلام - يقول: " اللهم لا أعرف عبدا
لك عبدك من، هذه الأمة قبلي غير نبيها " يقول ذلك ثلاث مرات، ثم قال: " لقد
صليت قبل أن يصلي أحد سبعا ".
ومن طريق المنهال عن عباية الأسدي عن أمير المؤمنين - عليه السلام -، قال:
" لقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين ".
ومن طريق جابر عن عبد الله بن يحيى الحضرمي عن علي بن أبي طالب
- عليه السلام - قال: " صليت مع رسول الله ثلاث سنين ولم يصل أحد غيري ".
ومن طريق نوح بن قيس الطاحني عن سليمان بن أبي فاطمة، قال:
حدثتني معاذة العدوية، قالت: سمعت عليا - عليه السلام - يخطب على منبر البصرة
فسمعته يقول: " أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن
يسلم ".
ومن طريق عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أمير المؤمنين - عليه السلام -، قال:
" صليت قبل الناس سبع سنين ".
ومن طريق نوح بن دراج عن خالد الخفاف، قال: أدركت الناس وهم
يقولون: وقع بين علي - عليه السلام - وعثمان كلام، فقال عثمان: والله إن أبا بكر وعمر
خير منك، فقال علي - عليه السلام -: " كذبت والله لأنا خير منك ومنهما عبدت الله
قبلهما وعبدت الله بعدهما ".
ومن طريق الحرث الأعور قال: سمعت أمير المؤمنين - عليه السلام - يقول:
" اللهم إني لا أعترف لعبد من عبادك عبدك قبلي " وقال - عليه السلام - قبل ليلة الهرير
بيوم وهو يحرض الناس على أهل الشام: " أنا أول ذكر صلى مع رسول الله (ص)
261

ولقد رآني أضرب بالسيف قدامه وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا
علي، حياتك حياتي وموتك موتي " وقال - عليه السلام - وقد بلغه أن قوما يطعنون عليه
في الأخبار عن رسول الله (ص) بعد كلام خطب به - عليه السلام -: " بلغني أنكم تقولون
أن عليا يكذب فعلى من أكذب أعلى الله فأنا أول من آمن به وعبده ووحده أم على
رسول الله (ص) فأنا أول من آمن به وصدقه ونصره " وقال - عليه السلام - لما بلغه افتخار
معاوية عند أهل الشام، شعره المشهور الذي يقول فيه:
سبقتكم إلى الإسلام طرا * صغيرا ما بلغت أوان حلمي
وأنا أذكر الشعر بأسره في موضع غير هذا عند الحاجة إليه إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك ما رواه أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري صاحب رسول الله (ص)
من طريق عبد الرحمان بن معمر عن أبيه عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: مال
رسول الله (ص): " صلت الملائكة علي وعلى علي بن أبي طالب سبع سنين وذلك
أنه لم يصل معي رجل غيره ".
ومن ذلك ما رواه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه من طريق علثم (1)
الكندي عن سلمان قال: قال رسول الله: " أولكم ورودا علي الحوض أولكم
إسلاما علي بن أبي طالب ".
ومن ذلك ما رواه أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه من طريق محمد بن
عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت
رسول الله (ص) يقول لعلي - عليه السلام -: " أنت أول من آمن بي " في حديث طويل
وروى أبو سخيلة عن أبي ذر أيضا قال: سمعت رسول الله وهو آخذ

(1) - في بعض النسخ: ميثم.
262

بيد علي - عليه السلام - يقول: " أنت أول من آمن بي وأول من يصافحني يوم القيامة "
وقد رواه ابن أبي رافع عن أبيه أيضا عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: أتيته
أودعه فقال: " إنها ستكون فتنة فعليك بالشيخ علي بن أبي طالب - عليه السلام - فإني
سمعت رسول الله (ص) يقول: أنت أول من آمن بي ".
ومن ذلك ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه من طريق قيس بن مسلم
عن ربعي بن خراش قال: سألت حذيفة بن اليمان: ما تقول في علي بن أبي
طالب؟ فقال: " ذاك أقدم الناس سلما وأرجح الناس علما ".
ومن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه من طريق
شريك بن عبد الله عن محمد بن عقيل عن جابر قال: بعث رسول الله (ص) يوم
الاثنين وأسلم علي - عليه السلام - يوم الثلاثاء.
ومن ذلك ما رواه زيد بن أرقم من طريق عمرو بن مرة عن أبي حمزة مولى
الأنصار قال: سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من صلى مع رسول الله (ص) علي
ابن أبي طالب.
ومن ذلك ما رواه زيد بن صوحان العبدي من طريق عبد الله بن هشام عن
أبيه عن طريف بن عيسى الغنوي، أن زيد بن صوحان خطب في مسجد الكوفة
فقال. " سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين وأول المؤمنين إيمانا ".
ومن ذلك ما روته أم سلمة زوج النبي (ص) من طريق مساور الحميري عن
أمه قالت: قالت أم سلمة. " والله لقد أسلم علي بن أبي طالب أول الناس وما كان
كافرا " في حديث طويل.
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عباس بن عبد المطلب من طريق أبي صالح
263

عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): " صلت الملائكة علي وعلى
علي بن أبي طالب سبع سنين "، قالوا: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: " لم يكن معي
من الرجال غيره ".
ومن طريق عمرو بن ميمون عنه ما تقدم ذكره وروى مجاهد عنه أيضا مثل
ذلك، وقد سلف لنا فيما مضى.
ومن ذلك ما رواه قثم بن العباس بن عبد المطلب من طريق قيس بن أبي
حازم عن أبي إسحاق، قال: دخلت على قثم بن العباس فسألته عن علي بن أبي
طالب - عليه السلام - فقال: " كان أولنا برسول الله (ص) لحوقا وأشدنا به لصوقا ".
ومن ذلك ما رواه مالك الأشتر رضي الله تعالى عنه من طريق الفضل بن
أدهم المزني قال: سمعت ما لك الأشتر بن الحرث يقول في خطبة خطبها بصفين:
" معنا ابن عم رسول الله (ص) وسيف من سيوف الله علي بن أبي طالب صلى مع
رسول الله (ص) صغيرا ولم يسبقه بالصلاة ذكر وجاهد حتى صار شيخا كبيرا ".
ومن ذلك ما رواه سعيد بن قيس من طريق مالك بن قدامة الأرحبي أن
سعيد بن قيس خطب الناس بصفين فقال: " معنا ابن عم نبينا (ص) صدق وصلى
صغيرا وجاهد مع نبيكم كبيرا ".
ومن ذلك ما رواه عمرو بن الحمق الخزاعي من طريق عبد الله بن شريك
العامري، قال: قام عمرو بن الحمق بصفين فقال: " يا أمير المؤمنين أنت ابن عم
نبينا وأول المؤمنين إيمانا بالله عز وجل ".
ومن ذلك ما رواه هاشم بن عتبة (1) بن أبي وقاص من طريق جندب بن

(1) - في بعض النسخ: هشام بن عيينة.
264

عبد الله الأزدي، قال: قال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص يوم صفين: نجاهد في
طاعة الله مع ابن عم رسول الله (ص) وأول من آمن بالله وأفقه الناس في دين الله.
ومن ذلك ما رواه محمد بن كعب من طريق عمر مولى عفرة عن محمد بن
كعب: قال: " أول من أسلم علي بن أبي طالب وأول من أظهر الإسلام أبو بكر ".
ومن ذلك ما رواه مالك بن الحويرث من طريق مالك بن الحسن بن مالك،
قال: أخبرني أبي عن جدي مالك بن الحويرث، قال: " أول من أسلم من الرجال
علي بن أيي طالب ".
ومن ذلك ما رواه أبو مخلد من طريق أبي عوانة عن عمران عن أبي مخلد،
قال: " أول من أسلم وصلى علي بن أبي طالب ".
ومن ذلك ما رواه أبو بكر عتيق بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وأنس
ابن مالك، وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري.
والذي رواه أبو بكر، من طريق زافر بن سليمان عن الصلت بن بهرام عن
الشعبي، قال: " مر علي بن أبي طالب على أبي بكر ومعه أصحابه فسلم عليه
ومضى، فقال أبو بكر: من سره أن ينظر إلى أول الناس في الإسلام سبقا وأقرب
الناس برسول الله (ص) قرابة فلينظر إلى علي بن أبي طالب ": في الحديث، وقد قدمناه
فيما مضى.
وأما عمر فإن أبا حازم مولى ابن عباس قال: سمعت عبد الله بن عباس
يقول: قال عمر بن الخطاب: كفوا عن علي بن أبي طالب فإني سمعت من رسول
الله (ص) فيه خصالا قال: " إنك أول المؤمنين بعدي إيمانا " وساق الحديث.
وأما عمرو بن العاص فإن تميم بن جذيم الناجي قال: إنا لمع أمير المؤمنين
265

- عليه السلام - بصفين إذ خرج إليه عمرو بن العاص فأراد أن يكلمه. فقال عمرو: تكلم
فإنك أول من أسلم واهتدى ووحد وصلى.
ومن ذلك ما رواه أبو موسى الأشعري من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل
عن أبيه سلمة عن أبي جعفر عن ابن عباس قال: قال أبو موسى الأشعري: " علي
أول من أسلم ".
ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك من طريق عباد بن عبد الصمد، قال:
سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله (ص): " لقد صلت الملائكة علي وعلى
علي بن أبي طالب سبع سنين، وذلك أنه لم ترفع إلى السماء شهادة أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله إلا مني ومن علي صلوات الله عليه ".
ومن ذلك ما روي عن الحسن بن أبي الحسن البصري من طريق قتادة بن
دعامة السدوسي، قال: سمعت الحسن يقول: " إن عليا - عليه السلام - صلى مع
النبي أول الناس، فقال رسول الله (ص) صلت الملائكة علي وعلى علي سبع
سنين ".
ومن ذلك ما روي عن قتادة من طريق سعيد بن أبي عروبة قال: سمعت
قتادة يقول: " أول من صلى من الرجال علي بن أبي طالب ".
ومن ذلك ما روي عن ابن إسحاق من طريق يونس بن بكير عن محمد بن
إسحاق، قال: " كان أول ذكر آمن وصدق علي بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين
ثم أسلم بعده زيد بن حارثة ".
ومن ذلك ما روي عن الحسن بن زيد من طريق إسماعيل بن عبد الله بن
أبي أويس قال: أخبرني أبي عن الحسن بن زيد أن عليا - عليه السلام - كان أول ذكر
أسلم.
266

وأما الرواية عن آل أبي طالب في ذلك فإنها أكثر من أن تحصى، وقد أجمع
بنو هاشم وخاصة آل علي - عليه السلام - لا تنازع بينهم على أن أول من أجاب رسول
الله (ص) من الذكور علي بن أبي طالب - عليه السلام -، ونحن أغنياء بشهرة ذلك عن ذكر
طرقه ووجوهه.
وأما الأشعار التي تؤثر عن الصحابة في الشهادة له - عليه السلام - بتقدم الإيمان
وأنه أسبق الناس إليه فقد وردت عن جماعة منهم وظهرت عنهم على وجه يوجب
العلم ويزيل الارتياب ولم يختلف فيها من أهل العلم والنقل والآثار اثنان.
فمن ذلك قول خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين رحمه الله:
إذا نحن بايعنا عليا فحسبنا * أبو حسن مما نخاف من الفتن
وجدناه أولى الناس بالناس إنه * أطب قريش بالكتاب وبالسنن
وإن قريشا لا تشق غباره * إذا ما جرى يوما على الضمر البدن
ففيه الذي فيهم من الخير كله * وما فيهم مثل الذي فيه من حسن
وصي رسول الله من دون أهله * وفارسه قد كان في سالف الزمن
وأول من صلى من الناس كلهم * سوى خيرة النسوان والله ذو المنن
وصاحب كبش القوم في كل وقعة * يكون لها نفس الشجاع لدى الذقن
فذاك الذي تثنى الخناصر باسمه * إمامهم حتى أغيب في الكفن
ومنه قول حسان بن ثابت، وقد قدمنا هذين البيتين فيما سلف:
جزى الله خيرا والجزاء بكفه * أبا حسن عنا ومن كأبي حسن
سبقت قريشا بالذي أنت أهله * فصدرك مشروح وقلبك ممتحن
267

ومنه قول كعب بن زهير:
صهر النبي وخير الناس كلهم * وكل من رامه بالفخر مفخور
صلى الصلاة مع الأمي أولهم * قبل العباد ورب الناس مكفور
ومنه قول ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب حيث يقول عند بيعة الناس
لأبي بكر:
ما كنت أحسب أن الأمر منتقل * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتهم * وأعلم الناس بالآثار والسنن
وآخر الناس عهدا بالنبي ومن * جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما فيهم لا تمترون به * وليس في القوم ما فيه من الحسن
ماذا الذي ردكم عنه فنعلمه * ها إن بيعتكم من أول الفتن
وفي هذا الشعر قطع من قائله على إبطال إمامة أبي بكر وإثبات الإمامة
لأمير المؤمنين - عليه السلام -.
ومنه قول الفضل بن أبي لهب فيما رد به على الوليد بن عقبة من مديحه
لعثمان ومرثيته له وتحريضه على أمير المؤمنين - عليه السلام - في قصيدته التي يقول في
أولها:
ألا إن خير الناس بعد * ثلاثة قتيل التجيبى الذي جاء من مصر
فقال الفضل رحمه الله:
ألا إن خير الناس بعد محمد * مهيمنه التاليه في العرف والنكر
وخيرته في خيبر ورسوله * بنبذ عهود الشرك فوق أبي بكر
268

وأول من صلى وصنو نبيه * وأول من أردى الغواة لدى بدر
فذاك علي الخير من ذا يفوقه * أبو حسن حلف القرابة والصهر
وفي هذا الشعر دليل على تقدم إيمان أمير المؤمنين -
عليه السلام -، وعلى أنه كان الأمير في سنة تسع على الجماعة، وكان في جملة رعيته أبو
بكر على خلاف ما ادعته الناصبة من قولهم أن أبا بكر كان الأمير على الجماعة،
وأن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان تابعا له.
ومنه قول مالك بن عبادة الغافقي حليف حمزة بن عبد المطلب رضي الله
عنه:
رأيت عليا لا يلبث قرنه * إذا ما دعاه حاسرا أو مسربلا
فهذا وفى الإسلام أول مسلم * وأول من صلى وصام وهللا
ومنه قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب:
وكان ولي الأمر بعد محمد * علي وفي كل المواطن صاحبه
وصي رسول الله حقا وجاره * وأول من صلى ومن لان جانبه
وفي هذا الشعر أيضا دليل على اعتقاد هذا الرجل في أمير المؤمنين - عليه السلام -
أنه كان الخليفة لرسول الله (ص) بلا فصل.
ومنه قول النجاشي بن الحرث بن كعب:
فقل للمضلل من وائل * ومن جعل الغث يوما سمينا
جعلت ابن هند وأشياعه * نظير علي أما تستحونا
إلى أول الناس بعد الرسول * أجاب النبي من العالمينا
269

ومنه قول جرير بن عبد الله البجلي:
فصلى الإله على أحمد * رسول المليك تمام النعم
وصلى على الطهر من بعده * خليفتنا القائم المدعم
عليا عنيت وصي النبي * يجالد عنه غواة الأمم
له الفضل والسبق والمكرمات * وبيت النبوة لا المهتضم
وفي هذا الشعر أيضا تصريح من قائله بإمامة أمير المؤمنين - عليه السلام - بعد
الرسول وأنه كان الخليفة له دون من تقدم.
ومنه قول عبد الله بن حكيم التميمي حيث يقول:
دعانا الزبير إلى بيعة * وطلحة من بعد ما أثقلا
فقلنا صفقنا بأيماننا * فإن شئتما فخذا الأشملا
نكثتم عليا على بيعة * وإسلامه فيكم أولا
ومنه قول عبد الرحمان بن حنبل حليف بني جمح:
لعمري لئن بايعتم ذا حفيظة * على الدين معروف العفاف موفقا
عفيفا على الفحشاء أبيض ماجدا * صدوقا وللجبار قدما مصدقا
أبا حسن فارضوا به وتبايعوا * فليس كمن فيه لذي العيب منطقا
علي وصي المصطفى ووزيره * وأول من صلى لذي العرش واتقى
ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:
وإن عليا لكم مفخر * يشبه بالأسد الأسود
أما إنه ثاني العابدين * بمكة والله لم يعبد
270

ومنه قول زفر بن زيد بن حذيفة الأسدي:
فحوطوا عليا واحفظوه فإنه * وصي وفى الإسلام أول أول
ومنه قول قيس بن سعد بن عبادة بصفين:
هذا علي وابن عم المصطفى * أول من أجابه ممن دعا
هذا الإمام لا نبالي من غوى
ومنه قول هاشم بن عتبة بن أبي وقاص بصفين:
أشلهم بذي الكعوب شلا * مع ابن عم أحمد يجلي
أول من صدقه وصلى
فصل
قال الشيخ أيده الله: فأما قول الناصبة إن إيمان أمير المؤمنين - عليه السلام - لم
يقع على وجه المعرفة وإنما كان على وجه التقليد وبحفظ التلقين ومن كان بهذه
المنزلة لم يستحق صاحبه المدحة ولم يجب له به الثواب، وادعاؤهم أن أمير المؤمنين
- عليه السلام - كان في تلك الحال ابن سبع سنين ومن كانت هذه سنه لم يكن كامل
العقل ولا مكلفا، فإنه يقال لهم: إنكم قد جهلتم في ادعائكم أنه كان في وقت
مبعث النبي (ص) ابن سبع سنين وقلتم قولا لا برهان عليه يخالف المشهور ويضاد
المعروف.
271

وذلك أن جمهور الروايات جاءت بأنه - عليه السلام - قبض وله خمس وستون
سنة، وجاء في بعضها أن سنه كانت عند وفاته ثلاثا وستين سنة، فأما ما سوى
هاتين الروايتين فشاذ مطروح لا يعرف في صحيح النقل ولا يقبله أحد من أهل
الرواية والعقل، وقد علمنا أن أمير المؤمنين - عليه السلام - صحب رسول الله (ص) ثلاثا
وعشرين سنة منها ثلاث عشرة قبل الهجرة وعشر بعدها وعاش بعده ثلاثين سنة،
وكانت وفاته في سنة أربعين من الهجرة، فإذا حكمنا في سنه على خمس وستين بما
تواترت به الأخبار، كانت سنه عند مبعث النبي (ص) اثنتي عشرة سنة وإن حكمنا
على ثلاث وستين كانت سنه عند المبعث عشر سنين، فكيف يخرج من هذا
الحساب أن يكون سنه عند المبعث سبع سنين؟
اللهم إلا أن يقول قائل إن سنه كانت عند وفاته ستين سنة فيصح له ذلك
إلا أنه يكون دافعا للمتواتر من الأخبار منكرا للمشهور من الآثار معتمدا على
الشاذ من الروايات، ومن صار إلى ذلك كان الأولى بمناظرته البيان له عن وجه
الكلام في الأخبار والتوقيف على طريق الفاسد من الصحيح فيها دون المجازفة في
المقالة.
وكيف يمكن عاقل سمع الأخبار أو نظر في شئ من الآثار أن يدعي أن
أمير المؤمنين - عليه السلام - توفي وله ستون سنة، مع قوله - عليه السلام - الشايع عنه الذايع
في الخاص والعام عندما بلغه من إرجاف أعدائه في التدبير والرأي: " بلغني أن
قوما يقولون أن علي بن أبي طالب شجاع لكن لا بصيرة له بالحرب لله أبوهم وهل
فيهم أحد أبصر بها مني لقد قمت فيها وما بلغت العشرين وها أنا ذا قد ذرفت
على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع " فخبر - عليه السلام - بأنه قد ذرف على الستين في
وقت عاش بعده دهرا طويلا وذلك في أيام صفين.
272

وهذا يكذب قول من زعم أنه صلوات الله عليه توفي وله ستون سنة، مع
أن الروايات قد جاءت مستفيضة ظاهرة بأن سنه كانت عند وفاته بضعا وستين
سنة، وفي مجيئها بذلك على الانتشار دليل على بطلان مقال من أنكر ذلك.
فممن روى ما ذكرناه علي بن عمرو بن أبي سبرة عن عبد الله بن محمد بن
عقيل قال: سمعت محمد بن الحنفية يقول في سنة الجحاف حين دخلت سنة
إحدى وثمانين: هذه لي خمس وستون سنة وقد جاوزت سن أبي، قلت: وكم كانت
سنه يوم قتل؟ قال: ثلاثا وستين سنة.
ومنهم أبو القاسم نعيم قال: حدثنا لشريك عن أبي إسحاق، قال: توفي
علي صلوات الله عليه وهو ابن ثلاث وستين سنة. ومنهم يحيى ابن أبي كثير عن
سلمة، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول، وقد سئل عن سن أمير المؤمنين
صلوات الله عليه يوم قبض قال: كان قد نيف على الستين، ومنهم ابن عائشة من
طريق أحمد بن زكريا، قال: سمعته يقول بعث رسول الله (ص) وعلي - عليه السلام - ابن
عشر سنين وقتل علي وله ثلاث وستون سنة، ومنهم الوليد بن هشام الفحدمي من
طريق أبي عبد الله الكواسحي، قال: أخبرنا الوليد بأسانيد مختلفة: أن عليا
- عليه السلام - قتل بالكوفة يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة
أربعين وهو ابن خمس وستين سنة.
فأما من روى أن سنه كانت عند البعثة أكثر من عشر سنين فغير واحد
منهم عبد الله بن مسعود من طريق عثمان بن المغيرة عن وهب عنه قال: إن أول
شئ علمته من أمر رسول الله (ص) أننا قدمنا مكة فأرشدونا إلى العباس بن عبد
المطلب فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم، فبينا نحن جلوس إذ أقبل رجل من
باب الصفا عليه ثوبان أبيضان على يمينه غلام مراهق أو محتلم تتبعه امرأة قد
273

سترت محاسنها حتى قصدوا الحجر فاستلمه والغلام والمرأة معه، ثم طاف بالبيت
سبعا والغلام والمرأة يطوفان معه، ثم استقبل الكعبة وقام فرفع يديه وكبر وقام
الغلام على يمينه وكبر وقامت المرأة خلفهما فرفعت يديها وكبرت فأطال الرجل
القنوت، ثم ركع فركع الغلام والمرأة معه، ثم رفع رأسه فأطال القنوت ثم سجد
وهما يصنعان ما يصنع.
فلما رأينا شيئا ننكره ولا نعرفه بمكة أقبلنا على العباس فقلنا: يا أبا الفضل
إن هذا الدين ما كنا نعرفه فقال: أجل والله ما تعرفون هذا قلنا: ما تعرفه؟ قال:
هذا ابن أخي محمد بن عبد الله وهذا علي بن أبي طالب وهذه المرأة خديجة بنت
خويلد والله ما على وجه الأرض أحد يعبد الله بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة.
وروى قتادة عن الحسن وغيره قال: كان أول من آمن علي بن أبي طالب
وهو ابن خمس عشرة سنة أو ست عشرة.
وروى شداد بن أوس قال: سألت خباب بن الأرت عن إسلام علي: فقال:
أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة ولقد رأيته يصلي مع النبي وهو يومئذ بالغ
مستحكم البلوغ، وروى علي بن زيد عن أبي نضرة قال: أسلم علي وهو ابن أربع
عشرة سنة وكان له يومئذ ذؤابة يختلف إلى الكتاب.
وقد روى عبد الله بن زياد عن محمد بن علي قال: أول من آمن بالله علي وهو
ابن إحدى عشرة سنة. وروى الحسن بن زيد قال: أول من أسلم علي بن أبي
طالب وهو ابن خمس عشرة سنة، وقد قال عبد الله بن أبي سفيان بن عبد المطلب:
وصلى علي مخلصا بصلاته * لخمس وعشر من سنين كوامل
وخلى أناسا بعده يتبعونه * له عمل أفضل به صنع عامل
274

وروى سلمة بن كهيل عن أبيه عن حية بن جوين قال: أسلم علي وكان له
ذؤابة يختلف إلى الكتاب.
على أنا لو سلمنا لخصومنا ما ادعوه من أنه - عليه السلام - كان له عند المبعث
سبع سنين، لم يدل ذلك على صحة ما ذهبوا إليه من أن إيمانه كان على وجه
التلقين دون المعرفة واليقين وذلك أن صغر السن لا ينافي كمال العقل، وليس دليل
وجوب التكليف بلوغ الحلم فيراعى ذلك، هذا باتفاق أهل النظر والعقول وإنما
يراعى بلوغ الحلم في الأحكام الشرعية دون العقلية.
وقد قال الله سبحانه في قصة يحيى - عليه السلام -: * (وآتيناه الحكم صبيا) * (1)
وقال في قصة عيسى - عليه السلام -: * (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد
صبيا قال إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت
وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) * (2) فلم ينف صغر هذين النبيين
- عليهما السلام - كمال عقلهما والحكمة التي آتاهما الله تعالى، ولو كانت العقول تحيل
ذلك لأحالته في كل أحد وعلى كل حال.
وقد أجمع أهل التفسير إلا من شذ منهم في قوله تعالى: * (وشهد شاهد من
أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه
قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) * (3) أنه كان طفلا صغيرا في المهد أنطقه
الله تعالى حتى برأ يوسف - عليه السلام - من الفحشاء وأزال عنه التهمة.
والناصبة إذا سمعت هذا الاحتجاج قالت: إن هذا الذي ذكرتموه فيمن

(1) - مريم / 12.
(2) - مريم / 29 - 31.
(3) - يوسف / 26 - 27.
275

عددتموه كان معجزا بخرقه العادة ودلالة لنبي من أنبياء الله عز وجل، فلو كان
أمير المؤمنين - عليه السلام - مشاركا لمن وصفتموه في خرق العادة لكان معجزا له
- عليه السلام - أو للنبي (ص)، وليس يجرز أن يكون المعجز له، ولو كان للنبي (ص) لجعله
في معجزاته واحتج به في جملة بيناته ولجعله المسلمون من آياته، فلما لم يجعله
رسول الله (ص) لنفسه علما ولا عده المسلمون في معجزاته علمنا أنه لم يجز فيه الأمر
على ما ذكرتموه.
فيقال لهم: ليس كل ما خرق الله به العادة وجب أن يكون علما ولا لزم أن
يكون معجزا ولا شاع علمه في العام ولا عرف من جهة الاضطرار وإنما المعجز
العلم هو خرق العادة عند دعوة داع أو براءة مقذوف وتجري براءته مجرى
التصديق له في مقاله بل هي تصديق في المعنى وإن لم يكن تصديقا بنفس اللفظ
والقول.
وكلام عيسى - عليه السلام - إنما كان معجزا لتصديقه له في قوله: * (إني عبد الله
آتاني الكتاب وجعلني نبيا) * مع كونه خرقا للعادة وشاهدا لبراءة أمه من الفاحشة
ولصدقها فيما ادعته من الطهارة وكانت حكمة يحيى - عليه السلام - في حال صغره
تصديقا له في دعوته في الحال ولدعوة أبيه زكريا - عليه السلام - فصارت مع كونها خرقا
للعادة دليلا ومعجزا وكلام الطفل في براءة يوسف - عليه السلام - إنما كان معجزا
بخرق العادة لشهادته ليوسف - عليه السلام - بالصدق في براءة ساحته ويوسف
- عليه السلام - نبي مرسل.
فثبت أن الأمر على ما ذكرناه، ولم يك كمال عقل أمير المؤمنين - عليه السلام -
شاهدا في شئ مما ادعاه ولا استشهد هو - عليه السلام - به فيكون مع كونه خرقا للعادة
معجزا، ولو استشهد - عليه السلام - به أو شهد على حد ما شهد الطفل ليوسف
- عليه السلام - وكلام عيسى - عليه السلام - له ولأمه وكلام يحيى - عليه السلام - لأبيه بما يكون في
276

المستقبل والحال، لكان لخصومنا وجه في المطالبة بذكر ذلك في المعجزات ولكن
لا وجه له على ما بيناه.
على أن كمال عقل أمير المؤمنين - عليه السلام - لم يكن ظاهرا للحواس ولا معلوما
بالاضطرار فيجري مجرى كلام المسيح - عليه السلام - وحكمة يحيى - عليه السلام - وكلام
شاهد يوسف - عليه السلام -، فيمكن الاعتماد عليه في المعجزات وإنما كان طريق
العلم به قول رسول الله (ص) أو الاستدلال الشاق بالنظر الثاقب والسبر بحاله
- عليه السلام - على مرور الأوقات لسماع كلامه والتأمل لاستدلالاته والنظر إلى ما يؤدي
إلى معرفته وفطنته.
ثم لا يحصل ذلك إلا لخاص من الناس، ومن عرف وجه الاستنباطات، وما
جرى هذا المجرى فارق حكمه حكم ما سلف للأنبياء من المعجزات وما كان
لنبينا (ص) من الأعلام، إذ تلك بظواهرها تقدح في القلوب أسباب اليقين ويشترك
الجميع في علم الحال الظاهرة منها المنبئة عن خرق العادات، دون أن تكون
مقصورة على ما ذكرناه من البحث الطويل والاستبراء للأحوال على مرور الأوقات
والرجوع فيه إلى نفس قول الرسول (ص) الذي يحتاج في العلم به إلى النظر في معجز
غيره والاعتماد على ما سواه من البينات، فلا ينكر أن يكون الرسول (ص) إنما عدل
عن ذكر ذلك واحتجاجه به في جملة آياته لما وصفناه.
وشئ آخر وهو أنه لا ينكر أن يكون الله عز وجل علم من مصلحة خلقه
الكف من الرسول (ص) عن الاحتجاج بذلك والدعاء إلى النظر فيه وأن اعتماده على
ما ظاهره خرق العادة أولى في مصلحة الدين.
وشئ آخر وهو أن رسول الله (ص) وإن لم يحتج به على التفصيل واليقين فقد
فعل ما يقوم مقام الاحتجاج به على البصيرة واليقين، فابتدأ عليا - عليه السلام - بالدعوة
277

قبل الذكور كلهم ممن ظاهره البلوغ وافتتح بدعوته أداء رسالته واعتمد عليه في
إيداعه سره وأودعه ما كان خائفا من ظهوره عنه.
فدل باختصاصه بذلك على ما يقوم مقام قوله - عليه السلام - إنه معجز له وإن
بلوغ عقله علم على صدقه، ثم جعل ذلك من مفاخره وجليل مناقبه وعظيم
فضائله ونوه بذكره وشهره بين أصحابه واحتج له به في اختصاصه، وكذلك فعل
أمير المؤمنين - عليه السلام - في ادعائه له فاحتج به على خصومه وتمدح به بين أوليائه
وأعدائه وفخر به على جميع أهل زمانه، وذلك هو معنى النطق بالشهادة بالمعجز
له بل هو الحجة في كونه نائبا في القول بما خصه الله تعالى منه ونفس الاحتجاج
بعلمه ودليل الله وبرهانه، وهذا يسقط ما اعتمدوه.
ومما يدل على أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان عند بعثة النبي
بالغا مكلفا وأن إيمانه به كان بالمعرفة والاستدلال وأنه وقع على أفضل الوجوه
وآكدها في استحقاق عظيم الثواب، أن رسول الله (ص) مدحه به وجعله من فضائله
وذكره في مناقبه ولم يك بالذي يفضل بما ليس بفضل ويجعل في المناقب ما لا
يدخل في جملتها ويمدح على ما لا يستحق عليه الثواب.
فلما مدح رسول الله (ص) بين أمير المؤمنين - عليه السلام - بتقدم الإيمان فيما ذكرناه
آنفا من قوله (ص) لفاطمة - عليها السلام -: " أما ترضين أني زوجتك أقدمهم سلما " وقوله
(ص) في رواية سلمان رضي الله عنه: " أول هذه الأمة ورودا على نبيها الحوض أولها
إسلاما علي بن أبي طالب " وقوله: " لقد صلت الملائكة علي وعلى علي سبع
سنين وذلك أنه لم يكن أحد من الرجال يصلي غيري وغيره "، وإذا كان الأمر على
ما وصفناه، فقد ثبت أن إيمانه - عليه السلام - وقع بالمعرفة واليقين دون التقليد والتلقين،
لا سيما وقد سماه رسول الله (ص) إيمانا وإسلاما. وما يقع من الصبيان على وجه التلقين
278

لا يسمى على الاطلاق الديني إيمانا وإسلاما.
ويدل على ذلك أن أمير المؤمنين - عليه السلام - قد تمدح به وجعله من مفاخره
واحتج به على أعدائه وكرره في غير مقام من مقاماته حيث يقول: " اللهم إني لا
أعرف عبدا لك من هذه الأمة عبدك قبلي "، وقوله - عليه السلام -: " أنا الصديق الأكبر
آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم " وقوله - عليه السلام - لعثمان: " أنا
خير منك ومنهما عبدت الله قبلهما وعبدت الله بعدهما " وقوله - عليه السلام -: " أنا أول
ذكر صلى " وقوله - عليه السلام -: " على من أكذب أعلى الله وأنا أول من آمن به
وعبده ".
فلو كان إيمانه على ما ذهبت إليه الناصبة من جهة التلقين ولم يكن له
معرفة ولا علم بالتوحيد لما جاز منه - عليه السلام - أن يتمدح بذلك، ولا أن يسميه
عبادة، ولا أن يفتخر به على القوم، ولا أن يجعله تفضيلا له على أبي بكر وعمر ولو
أنه فعل من ذلك ما لا يجوز لرده عليه مخالفوه واعترضه فيه مضادوه وحاجه في
بطلانه مخاصموه، وفي عدول القوم عن الاعتراض عليه وتسليم الجماعة له ذلك
دليل على ما ذكرناه وبرهان على فساد قول الناصبة الذي حكيناه.
وليس يمكن أن يدفع ما رويناه في هذا الباب من الأخبار لشهرتها وإجماع
الفريقين من الناصبة والشيعة على روايتها، ومن تعرض للطعن فيها مع ما شرحناه
لم يمكنه الاعتماد على تصحيح خبر وقع في تأويله الاختلاف، وفي ذلك إبطال
جمهور الأخبار وإفساد عامة الآثار
وهب أن من لا يعرف الحديث ولا خالط حملة العلم يقدم على إنكار بعض
ما رويناه أو يعاند فيه بعض العارفين به ويغتنم الفرصة بكونه خاصا في أهل
العلم، كيف يمكن دفع شعر أمير المؤمنين - عليه السلام - في ذلك وقد شاع من شهرته
على حد يرتفع فيه الخلاف وانتشر حتى صار مذكورا مسموعا من العامة فضلا
279

عن الخواص في قوله - عليه السلام -:
محمد النبي أخي وصنوي * وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي أضحى وأمسى * يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي * منوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها * فأيكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طرا * على ما كان من فهمي وعلمي
وأوجب لي الولاء معا عليكم * رسول الله يوم غدير خم
فويل ثم ويل ثم ويل * لمن يلقى الإله غدا بظلمي
وفي هذا الشعر كفاية في البيان عن تقدم إيمانه - عليه السلام - وأنه وقع مع
المعرفة بالحجة والبيان، وفيه أيضا أنه كان الإمام بعد الرسول (ص) بدليل المقال
الظاهر في يوم الغدير الموجب للاستخلاف.
ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه عبد الله بن الأسود الكندي عن محمد بن عبد الله
ابن أبي رافع عن أبيه عن جده أن رسول الله (ص) صلى يوم الاثنين وصلت خديجة
رضوان الله عليها معه ودعا عليا - عليه السلام - إلى الصلاة معه يوم الثلاثاء، فقال له:
أنظرني حتى ألقى أبا طالب، فقال له النبي (ص): إنها أمانة، فقال علي - عليه السلام -:
فإن كانت أمانة فقد أسلمت لك، فصلى معه وهو ثاني يوم المبعث.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثله، وقال في حديثه: إن هذا
دين يخالف دين أبي حتى أنظر فيه وأشاور أبا طالب. فقال له النبي (ص): أنظر
واكتم، قال: فمكث هنيأة ثم قال: بل أجيبك وأصدق بك، فصدقه وصلى معه.
وروى هذا المعنى بعينه وهذا المقال من أمير المؤمنين - عليه السلام - على اختلاف
280

في اللفظ واتفاق في المعنى، جماعة كثيرة من حملة الآثار.
وهو يدل على أن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان مكلفا عارفا في تلك الحال
بتوقفه واستدلاله وتميزه بين مشورة أبيه وبين الإقدام على القبول والطاعة
للرسول (ص) من غير فكرة ولا تأمل، ثم خوفه إن ألقى ذلك إلى أبيه أن يمنعه منه
مع أنه حق فيكون قد صد عن الحق فعدل عن ذلك إلى القبول وعلم من النبي
(ص) مع أمانته وما كان يعرفه من صدقه في مقاله وما سمعه من القرآن الذي نزل
عليه وأراه الله من برهانه أنه رسول محق فآمن به وصدقه، وهذا بعد أن ميز بين
الأمانة وغيرها وعرف حقها وكره أن يفشي سر رسول الله (ص) وقد ائتمنه عليه وهذا
لا يقع اتفاقا من صبي لا عقل له ولا يحصل ممن لا تمييز معه.
ويؤيد أيضا ما ذكرناه أن النبي (ص) بدأ به في الدعوة قبل الذكور كلهم وإنما
أرسله الله تعالى إلى المكلفين، فلو لم يعلم أنه - عليه السلام - عاقل مكلف لما افتتح به
أداء رسالته وقدمه في الدعوة على جميع من بعث إليه لأنه لو كان الأمر على ما
ادعته الناصبة لكان قد عدل عن الأولى وتشاغل بما لم يكلفه عن أداء ما
كلفه ووضع فعله في غير موضعه ورسول الله (ص) عن ذلك.
وشئ آخر وهو أنه دعا عليا - عليه السلام - في حال كان مستترا فيها بدينه كاتما
لأمره خائفا إن شاع من عدوه، فلا يخلو أن يكون قد كان واثقا من أمير المؤمنين
- عليه السلام - بكتم سره وحفظ وصيته وامتثال أمره وحمله من الدين ما حمله، أولم يكن
واثقا بذلك، فإن كان واثقا فلم يثق به - عليه السلام - إلا وهو في نهاية كمال العقل وعلى
غاية الأمانة وصلاح السريرة والعصمة والحكمة وحسن التدبير لأن الثقة بما
وصفناه دليل على جميع ما شرحناه على الحال التي قدمنا شرحها، وإن كان غير
واثق من أمير المؤمنين - عليه السلام - بحفظ سر وغير آمن من تضييعه وإذاعة أمره
281

فوضعه عنده من أعظم الجهل والتفريط وضد الحزم والحكمة والتدبير حاشا
الرسول (ص) من ذلك ومن كل صفة نقص، وقد أعلى الله تعالى عز وجل رتبته
وأكذب مقال من ادعى ذلك فيه.
وإذا كان الأمر على ما بيناه فما نرى الناصبة قصدت الطعن في إيمان أمير
المؤمنين - عليه السلام - إلا عيب الرسول (ص) والذم لأفعاله ووصفه بالعبث والتفريط
ووضع الأشياء غير مواضعها والإزراء عليه في تدبيراته، وما أراد مشايخ القوم ومن
ألقي هذا المذهب إليهم إلا ما ذكرناه والله متم نوره ولو كره الكافرون.
فصل
وسمعت الشيخ أدام الله عزه يقول: مما يدل على إيمان أبي طالب رضي الله
عنه إخلاصه في الود لرسول الله (ص) والنصرة له بقلبه ويده ولسانه وأمره ولديه عليا
- عليه السلام - وجعفرا رضي الله عنه باتباعه، وقول رسول الله (ص) فيه عند وفاته:
" وصلتك رحم وجزيت خيرا يا عم " فدعا له، وليس يجوز أن يدعو رسولي الله (ص)
بعد الموت لكافر ولا أن يسأل الله خيرا، ثم أمره عليا - عليه السلام - خاصة من بين
أولاده الحاضرين بتغسيله وتكفينه وتوريته دون عقيل ابنه وقد كان حاضرا ودون
طالب أيضا، ولم يكن من أولاده من قد آمن في تلك الحال إلا أمير المؤمنين
- عليه السلام - وجعفر وكان جعفر غائبا في بلاد الحبشة فلم يحضر من أولاده مؤمن إلا
أمير المؤمنين - عليه السلام - فأمره أن يتولى أمره دون من لم يكن على الإيمان، ولو كان
رحمة الله عليه كافرا لما أمر ابنه المؤمن بتولية أمره ولكان الكافر أحق به.
مع أن الخبر قد ورد على الاستفاضة بأن جبرئيل - عليه السلام - نزل على رسول الله
(ص) عند موت أبي طالب رضوان الله عليه فقال له: " يا محمد إن ربك يقرئك
282

السلام ويقول لك أخرج من مكة فقد مات ناصرك " وهذا يبرهن على إيمانه
لتحققه بنصرة الرسول (ص) وتقوية أمره.
ويدل على ذلك قوله رضوان الله عليه لعلي - عليه السلام - حين رآه يصلي مع
رسول الله (ص): " ما هذا يا بني "، فقال: " دين دعاني إليه ابن عمي " فقال له:
" اتبعه فإنه لا يدعوك إلا إلى خير " فاعترف بصدق رسول الله (ص) وذلك حقيقة
الإيمان، وقوله رحمة الله عليه وقد مر على أمير المؤمنين - عليه السلام - وهو يصلي عن
يمين رسول الله ومعه جعفر ابنه فقال: " يا بني صل جناح ابن عمك " فصلى
جعفر معه وتأخر أمير المؤمنين - عليه السلام - حتى صار هو وجعفر خلف رسول
الله (ص) فجاءت الرواية بأنها أول صلاة جماعة صليت في الإسلام، ثم أنشأ
أبو طالب يقول:
إن عليا وجعفرا ثقتي * عند ملم الزمان والكرب
والله لا أخذل النبي ولا * يخذله من بني ذو حسب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لأمي من بينهم وأبي
فاعترف بنبوة النبي (ص) اعترافا صريحا في قوله: " والله لا أخذل النبي " ولا
فصل بين أن يصف رسول الله (ص) بالنبوة في نظمه وبين أن يقر بذلك في نثر كلامه
ويشهد عليه من حضره.
ومما يدل على ذلك أيضا قوله في قصيدته اللامية:
ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب * لدينا ولا يعني بقول الأباطل
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
283

فشهد بتصديق رسول الله (ص) شهادة ظاهرة لا تحتمل تأويلا ونفى عنه
الكذب على كل وجه، وهذا هو حقيقة الإيمان ومنه قوله:
ألم تعلموا أن النبي محمدا * رسول أمين خط في سالف الكتب
وهذا إيمان لا شبهة فيه لشهادته له في الإيمان برسول الله (ص) وقد روى أصحاب
السير أن أبا طالب رضوان الله عليه لما حضرته الوفاة اجتمع إليه أهله فأنشأ يقول:
أوصي بنصر النبي الخير مشهده * عليا ابني وشيخ القوم عباسا
وحمزة الأسد الحامي حقيقته * وجعفرا أن يذودوا دونه الناسا
كونوا فداء لكم أمي وما ولدت * في نصر أحمد دون الناس أتراسا
فأقر للنبي (ص) بالنبوة عند احتضاره، واعترف له بالرسالة قبل مماته، وهذا
أمر يزيل الريب في إيمانه بالله عز وجل وبرسوله (ص) وبتصديقه له وإسلامه.
ومنه قوله المشهور عنه بين أهل المعرفة، وأنت إذا التمسته وجدته في غير
موضع من المصنفات، وقد ذكره الحسين بن بشر الآمدي في كتاب ملح القبائل:
أترجون أن نسخي بقتل محمد * ولم تختضب سمر العوالي من الدم
كذبتم وبيت الله حتى تفرقوا * جماجم تلقى بالحطيم وزمزم
وتقطع أرحام وتسبى حليلة * حليلا ويغشى محرم بعد محرم
وينهض قويم في الحديد إليكم * يذودون عن أحسابهم كل مجرم
على ما أتى من بغيكم وضلالكم * وغشيانكم في أمرنا كل مأثم
بظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى * وأمر أتى من عند ذي العرش مبرم
فلا تحسبونا مسلميه ومثله * إذا كان في قوم فليس بمسلم
284

فهذي معاذير وتقدمة لكم * لئلا يكون الحرب قبل التقدم
وهذا أيضا صريح في الاقرار بنبوة رسول الله (ص) كالذي قبله على ما بيناه،
وقد قال في قصيدته اللامية ما يدل على ما وصفناه في إخلاصه في النصرة حيث
يقول:
كذبتم وبيت الله نسلم أحمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع دونه * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فإن تعلقوا بما يؤثر عنه من قوله لرسول الله (ص):
والله لا وصلوا إليك بجمعهم * حتى أغيب في التراب دفينا
فامض ابن أخ فما عليك غضاضة * وأبشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح * ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
لولا المخافة أن تكون معرة * لوجدتني سمحا بذاك مبينا
فقالوا: هذا الشعر يتضمن أنه لم يؤمن برسول الله (ص) ولم يسمح له بالإسلام
والاتباع خوف المعرة والتسفيه فكيف يكون مؤمنا مع ذلك؟
فإنه يقال لهم: إن أبا طالب رحمه الله لم يمتنع من الإيمان برسول الله (ص) في
الباطن والاقرار بحقه من طريق الديانة، وإنما امتنع من إظهار ذلك لئلا تسفهه
قريش وتذهب رئاسته ويخرج منها من كان متبعا له عن طاعته وتنخرق هيبته
عندهم فلا يسمع له قول ولا يمتثل له أمر، فيحول ذلك بينه وبين مراده من نصرة
رسول الله (ص) ولا يتمكن من غرضه في الذب عنه فاستتر الإيمان وأظهر منه ما كان
يمكنه إظهاره على وجه الاستصلاح ليصل بذلك إلى بناء الإسلام وقوام الدعوة
285

واستقامة أمر رسول الله (ص) وكان في ذلك كمؤمني أهل الكهف الذين أبطنوا
الإيمان وأظهروا ضده للتقية والاستصلاح فأتاهم الله أجرهم مرتين، والدليل
على ما ذكرناه في أمر أبي طالب رحمه الله قوله في هذا الشعر بعينه:
ودعوتني وزعمت أنك ناصح ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
فشهد بصدقه واعترف بنبوته وأقر بنصحه وهذا محض الإيمان على ما
قدمناه.
فصل
وسمعت الشيخ أدام الله عزه يقول: ومما يشهد بأن آل محمد صلوات الله
عليهم أحق بمقام النبي (ص) ممن عداهم من سائر الناس في النظم الذي قد ضمن
أوفى الاحتجاج، قول الكميت بن زيد الأسدي رحمه الله:
يقولون لم يورث ولولا تراثه * لقد شركت فيه بكيل وأرحب
وعك ولخم والسكون وحمير * وكندة والحيان بكر وتغلب
ولا انتشلت عضوين منها يحابر * وكان لعبد القيس عضو مورب
ولا انتقلت من خندف في سواهم * ولا اقتدحت قيس بها ثم أثقبوا
ولا كانت الأنصار فيها أذلة * ولا غيبا عنها إذ الناس غيب
هم شهدوا بدرا وخيبر بعدها * ويوم حنين والدماء تصبب
وهم رئموها غير ظئر وأشبلوا * عليها بأطراف القنا وتحدبوا
فإن هي لم تصلح لحي سواهم * فإن ذوي القربى أحق وأوجب
286

وقد كان الجاحظ قال في بعض كتبه بجهله وتعصبه على الشيعة وعناده: إنه
لولا الكميت وما احتج به في هذا القول لم تعرف الشيعة وجه الحجة في تقديم آل
محمد - عليهم السلام -، وهذا ينضاف إلى حماقاته في الديانة واختياراته الملائمة لسخف
عقله، وكيف يجوز أن يذهب مثل هذا على الشيعة وأمير المؤمنين علي بن أبي
طالب - عليه السلام - إمام الشيعة قد احتج به على معاوية في جواب كتابه إليه الذي
يقول فيه: " لكل الخلفاء حسدت وعلى كلهم بغيت تقاد إلى بيعتهم وأنت كاره كما
يقاد الجمل المخشوش " فأجابه أمير المؤمنين - عليه السلام - عن هذا الفصل بأن
قال له.
" حاشا لله أن يكون الحسد من خلقي والبغي من شيمتي بل ذلك من
خلقك وخلق أبيك وأهل بيتك وشيمتهم إذ حسدتم رسول الله (ص) على ما آتاه الله
من فضله، فنصبتم له الحرب وكنتم أصحاب رايات أعدائه في كل موطن وبغيتم
عليه حتى أظفره الله بكم " في كلام يتصل بهذا.
ثم قال - عليه السلام -: " أما كراهتي لأمر القوم فإني لست أتبرأ منه ولا أنكره
وذلك أن رسول الله (ص) قبضه الله إليه ونحن أهل بيته أحق الناس به فقلنا لا يعدل
الناس عنا ولا يبخسونا حقنا، فما راعنا إلا والأنصار قد صارت إلى سقيفة بني
ساعدة يطلبون هذا الأمر فصار أبو بكر إليهم وعمر فيمن تبعهما، فاحتج أبو بكر
عليهم بأن قريشا أولى بمقام رسول الله (ص) منهم لأن رسول الله (ص) كل من قريش
وتوصل بذلك إلى الأمر دون الأنصار، فإن كانت الحجة لأبي بكر بقريش فنحن
أحق الناس برسول الله ممن تقدمنا لأننا أقرب من قريش كلها إليه وأخصهم به،
وإن لم يكن لنا حق مع القرابة فالأنصار على دعواهم " في كلام يتلو هذا لا حاجة
بنا إلى إيراده في هذا المكان.
287

وإنما نظم الكميت معنى كلام أمير المؤمنين - عليه السلام - في منثور كلامه في
الحجة على معاوية فلم يزل آل محمد - عليهم السلام - بعد أمير المؤمنين - عليه السلام - يحتجون
بذلك ومتكلموا الشيعة قبل الكميت وفي زمانه وبعده وذلك موجود في الأخبار
المأثورة والروايات المشهورة.
ومن بلغ إلى الحد الذي بلغه الجاحظ في البهت سقط كلامه ولم يجد فرقا
بينه وبين من قال: إن أول من فتح باب الحجة للمعتزلة في مذاهبها بشر بن
المعتمر في شعره وأنهم كانوا قبل ذلك مقلدة ومن تعاطى منهم الكلام كان
سخيف الحجة ضعيف الشبهة حتى اتفق لهم بشر وبنى الناس على شعره.
فإن قالوا: هذا بهت لأن كتب القوم موجودة قبل بشر تتضمن الحجج
والبراهين. قيل لهم: وما أتى به جاحظكم بهت وعناد لأن أصول الشيعة ورواياتهم
وكتب السيرة والمصنفات في الأثر قبل الكميت موجودة فيها احتجاج آل محمد
- عليهم السلام - بالقرابة واعتمادهم في اللصوق بالرسول (ص) والاختصاص به في النسب،
ومن نظر في كتب السقيفة وقول شيعة الصحابة، عرف ذلك وأغناه عن غيره.
مع أن من زعم أن احتجاج العلوية والشيعة بالقرابة شئ محدث، لم يكن
في منزلة من يناظر لأنه يدفع الاضطرار إذ الجماعة كلها مطبقة على ذلك وقد
صار سبقها إليه من جهة العادة كالطبع الذي لا يتوهم من صاحبه خلاف
موجبه لاتفاقها بلسان واحد على التعلق به والاعتماد عليه.
288

وسمعت الشيخ أيده الله تعالى يقول: ومما يشهد لإمامة أمير المؤمنين
- عليه السلام - ويؤيد القول بصحة وجود السلف للشيعة في الصدر الأول من النظم
المتفق على نقله أيضا قول أمير المؤمنين - عليه السلام - بصفين وهو يرتجز للمبارزة:
أنا علي صاحب الصمصامة * وصاحب الحوض لدى القيامة
أخو نبي الله ذي العلامة * قد قال إذ عممني العمامة
أنت أخي ومعدن الكرامة * ومن له من بعدي الإمامة
وهذا مع ما فيه من الدلالة على ما قدمناه دليل على أن أمير المؤمنين
- عليه السلام - قد ذكر النص واحتج به، وفيه إبطال قول الناصبة إنه لم يذكره في مقام
من مقاماته.
قال الشيخ أيده الله: ومما جاء في هذا المعنى ما قد تقدم ذكره في الأشعار
السابقة في تقدم إيمانه - عليه السلام -، وأنا أذكر المواضع منها دون جملتها وإن كنت قد
شرحت ذلك فيما مضى وتكراره هنا للتأكيد والبيان.
فمنه قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب:
وكان ولي الأمر بعد محمد * علي وفي كل المواطن صاحبه
فشهد بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان خليفة رسول الله (ص) دون من تقدم
عليه، بشهادته أنه كان ولي الأمر من بعده.
289

ومنه قول جرير بن عبد الله:
فصلى الإله على أحمد * رسول المليك تمام النعم
وصلى على الطهر من بعده * خليفته القائم المدعم
عليا عنيت وصي النبي * يجالد عنه غواة الأمم
وهذا قطع على إمامة أمير المؤمنين - عليه السلام - لا ريب فيه على عاقل في قصد
قائله وغرضه والإبانة عن معتقده في أنه الخليفة للرسول (ص) بلا فصل والإمام من
بعده، فأما الأشعار بأنه الوصي دون الجماعة والاطباق من الكافة على ذلك، يغنى
عن تفصيله بتسمية الرجال وفي ثبوته دليل على القول بإمامته - عليه السلام - إذ كان
وصي النبي (ص) في أهله وتركاته هو الخليفة له لاستحالة أن يكون إمامان في زمان
واحد وخليفتان للنبي (ص) على أمته في وقت واحد.
فصل
قال الشيخ أيده الله: ومما يشهد لقول الشيعة في معنى المولى وأن النبي (ص)
أراد به يوم الغدير الإمامة، قول حسان بن ثابت على ما جاء به الأثر أن رسول
الله (ص) لما نصب عليا - عليه السلام - يوم الغدير للناس علما وقال فيه ما قال، استأذنه
حسان بن ثابت في أن يقول شعرا في ذلك المقام فأذن له فأنشأ يقول:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالنبي مناديا
يقول فمن موليكم ووليكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولن تجدن منالك اليوم عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا
290

فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وآل وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا
فلما فرغ من هذا القول قال له النبي (ص): " لا تزال يا حسان مؤيدا بروح
القدس ما نصرتنا بلسانك " فلولا أن النبي (ص) أراد بالمولى الإمامة لما أثنى على
حسان بإخباره بذلك ولأنكره عليه ورده عنه.
ومنه قول قيس بن سعد بن عبادة رحمه الله وهو متوجه إلى صفين قصيدته
اللامية التي أولها:
قلت لما بغى العدو علينا * حسبنا ربنا ونعم الوكيل
حسبنا ربنا الذي فتح البصرة * بالأمس والحديث طويل
إلى قوله:
وعلي إمامنا وإمام * لسوانا أتى به التنزيل
يوم قال النبي من كنت مولاه * فهذا مولاه خطب جليل
إنما قاله النبي على الأمة * حتما ما فيه قال وقيل
وهذه الأشعار مع تضمنها الاعتراف بإمامة أمير المؤمنين - عليه السلام - فهي
دلائل على ثبوت سلف الشيعة وإبطال عناد المعتزلة في إنكارهم ذلك.
291

فصل
قال الشيخ أيده الله: ومما يشهد بشجاعة أمير المؤمنين - عليه السلام - وعظم بلائه
في الجهاد ونكايته في الأعداء من النظم الذي يشهد بصحة النثر في النقل، قول
أسيد بن أبي أياس بن زنيم بن محمد بن عبد العزى يحرض مشركي قريش على
أمير المؤمنين - عليه السلام -:
في كل مجمع غاية أخزاكم * جذع أبر على المذاكى القرح
لله دركم ألما تنكروا * قد ينكر الحر الكريم ويستحي
هذا ابن فاطمة الذي أفناكم * ذبحا ويمسي سالما لم يذبح
أعطوه خرجا واتقوا بضريبة * فعل الذليل وبيعة لم تربح
ابن الكهول وابن كل دعامة * في المعضلات وابن زين الأبطح
أفناهم قعصا وضربا يفتري * بالسيف يعمل حده لم يصفح
ومما يشهد لذلك قول أخت عمرو بن ود العامري وقد رأته قتيلا فقالت:
من قتله؟ فقيل لها: علي بن أبي طالب فقالت: كفو كريم ثم أنشأت تقول:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله * لكنت أبكي عليه آخر الأبد
لكن قاتله من لا يعاب به * من كان يدعى قديما بيضة البلد
أفلا ترى إلى قريش كيف تحرض عليه بذكر من قتله وكثرتهم وفناء
رؤسائهم بسيفه وقتله لشجعانهم وأبطالهم ثم لا يجسر أحد من القوم أن ينكر
ذلك ولا ينفع في جماعتهم التحريض لعجزهم عنه - عليه السلام -، أو لا ترى أنه
292

- عليه السلام - قد بلغ من فضله في الشجاعة أنها قد صارت تفخر بقتله من قتل منها
وتنفي العار عنه بإضافته إليه، وهذا لا يكون إلا وقد سلم الجميع له واصطلحوا
على إظهار العجز عنه.
وقد روى أهل السير أن أمير المؤمنين - عليه السلام - لما قتل عمرو بن عبد ود،
نعي إلى أخته فقالت: لم يعد يومه على يد كفو كريم لأرقأت دمعتي إن هرقتها
عليه قتل الأبطال وبارز الأقران وكانت منيته على يد كفو كريم ما سمعت
بأفخر من هذا يا بني عامر ثم أنشأت تقول:
أسدان في ضيق المكر تصاولا * وكلاهما كفو كريم باسل
فتخالسا مهج النفوس كلاهما * وسط المدار مخاتل ومقاتل
وكلاهما حفر القراع حفيظة * لم يثنه عن ذاك شغل شاغل
فاذهب علي فما ظفرت بمثله * قول سديد ليس فيه تحامل
فالثأر عندي يا علي فليتني * أدركته والعقل مني كامل
ذلت قريش بعد مقتل فارس * فالذل مهلكها وخزي شامل
ثم قالت: والله لا ثارت قريش بأخي ما حنت النيب.
وقد كان حسان بن ثابت افتخر للإسلام بقتل عمر بن عبد ود فقال في ذلك
أقوالا كثيرة منها:
أمسى الفتى عمرو بن عبد يبتغى * بجنوب يثرب غارة لم تنظر
فلقد وجدت سيوفنا مشهورة * ولقد رأيت جيادنا لم تقصر
ولقد لقيت غداة بدر عصبة * ضربوك ضربا غير ضرب الحسر
أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة * يا عمرو أو لجسيم أمر منكر
293

فلما بلغ شعره بني عامر قال فتى منهم يرد قوله في ذلك:
كذبتم وبيت الله لم تقتلوننا * ولكن بسيف الهاشميين فافخروا
بسيف ابن عبد الله أحمد في الوغى * بكف علي نلتم ذاك فاقصروا
فلم تقتلوا عمر بن ود ولا ابنه * ولكنه الكفؤ الهزبر الغضنفر
علي الذي في الفخر طال بناؤه * فلا تكثروا الدعوى علينا فتفخروا
ببدر خرجتم للبراز فردكم * شيوخ قريش جهرة وتأخروا
فلما أتاهم حمزة وعبيدة * وجاء علي بالمهند يخطر
فقالوا نعم أكفاء صدق وأقبلوا * إليهم سراعا إذ بغوا وتجبروا
فجال علي جولة هاشمية * فدمرهم لما عتوا وتكبروا
فليس لكم فخر علينا بغيرنا * وليس لكم فخر يعد ويذكر
وقد جاء الأثر من طرق شتى بأسانيد مختلفة عن زيد بن وهب قال:
سمعت عليا - عليه السلام - يقول وقد ذكر حديث بدر فقال: قتلنا من المشركين
سبعين وأسرنا سبعين، وكان الذي أسر العباس رجل قصير من الأنصار فأدركته
فألقى العباس قي عمامته لئلا يأخذها الأنصاري وأحب أن أكون أنا الذي
أسرته.
وجيئ به إلى رسول الله (ص) فقال الأنصاري: يا رسول الله قد جئتك بعمك
العباس أسيرا. فقال العباس: كذبت ما أسرني إلا ابن أخي علي بن أبي طالب.
فقال له الأنصاري: يا هذا أنا أسرتك. فقال: والله يا رسول الله ما أسرني إلا ابن
أخي علي بن أبي طالب ولكأني بجلحته في النقع تبين لي فقال رسول الله (ص):
صدق عمي ذاك ملك كريم، فقال العباس: لقد عرفته بجلحته وحسن وجهه،
294

فقال له: إن الملائكة الذين أيدني الله بهم على صورة علي بن أبي طالب ليكون
ذلك أهيب لهم في صدور الأعداء، قال: فهذه عمامتي على رأس علي فمره فليردها
علي فقال: ويحك إن يعلم الله فيك خيرا يعوضك أحسن العوض.
أفلا ترون أن هذا الحديث يؤيد ما تقدم ويؤكد القول بأن أمير المؤمنين كان
أشجع البرية وأنه بلغ من بأسه وخوف الأعداء منه - عليه السلام - أن جعل الله الملائكة
على صورته ليكون ذلك أرعب لقلوبهم وإن هذا المعنى لم يحصل لبشر من قبله
ولا بعده.
ويؤيد ما رويناه ما جاء من الأثر عن أبي جعفر محمد بن علي - عليه السلام - في
حديث بدر، قال: لقد كان يسأل الجريح من المشركين فيقال له من جرحك؟
فيقول: علي بن أبي طالب فإذا قالها مات.
وفي بلاء أمير المؤمنين - عليه السلام - يوم بدر يقول أبو هاشم السيد إسماعيل بن
محمد الحميري رحمه الله:
من كعلي الذي تبارزه * الأقران إذ بالسيوف تصطلم
إذا الوغى نارها مسعرة * تحرق فرسانها إذا اقتحموا
في يوم بدر وفي مشاهده * العظمى ونار الحروب تضطرم
بارز أبطالها وسادتها * قعصا لهم بالحسام قد علموا
دعوه كي يدركون غرته * فما تملوا منه ولا سلموا
جد بسيف النبي هامات * أقوام هم سادة وهم قدم
سيدنا الماجد الجليل أبو * السبطين رأس الأنام والعلم
إن عليا وإن فاطمة * إن سبطيهما وإن ظلموا
لصفوة الله بعد صفوته * لا عرب مثلهم ولا عجم
295

فصل
في معنى نسبة الإمامية قال الشيخ أيده الله: الإمامية هم القائلون بوجوب
الإمامة والعصمة ووجوب النص، وإنما حصل لها هذا الاسم في الأصل لجمعها
في المقالة هذه الأصول فكل من جمعها فهو إمامي وإن ضم إليها حقا في المذهب
كان أم باطلا، ثم إن من شمله هذا الاسم واستحقه لمعناه قد افترقت كلمتهم في
أعيان الأئمة - عليهم السلام - وفي فروع ترجع إلى هذه الأصول وغير ذلك.
فأول من شذ عن الحق من فرق الإمامية " الكيسانية " وهم أصحاب
المختار، وإنما سميت بهذا الاسم لأن المختار كان اسمه أولا كيسان، وقيل إنما
سمي بهذا الاسم لأن أباه حمله وهو صغير فوضعه بين يدي أمير المؤمنين - عليه السلام -
قالوا: فمسح يده على رأسه وقال: كيس كيس فلزمه هذا الاسم، وزعمت فرقة
منهم أن محمد بن علي - عليه السلام - استعمل المختار على العراقيين بعد قتل الحسين
- عليه السلام - وأمره بالطلب بثأره وسماه كيسان لما عرف من قيامه ومذهبه، وهذه
الحكايات في معنى اسمه عن الكيسانية خاصة، فأما نحن فلا نعرف إلا أنه سمى
بهذا الاسم ولا نتحقق معناه.
وقالت هذه الطائفة بإمامة أبي القاسم محمد بن أمير المؤمنين - عليه السلام - ابن
خولة الحنفية، وزعموا أنه هو المهدي الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت
ظلما وجورا، وأنه حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر الحق، وتعلقت في إمامته
بقول أمير المؤمنين - عليه السلام - يوم البصرة: أنت ابني حقا، وأنه كان صاحب رايته
كما كان أمير المؤمنين - عليه السلام - صاحب راية رسول الله (ص) وكان ذلك عندهم
296

الدليل على أنه أولى الناس بمقامه.
واعتلوا في أنه المهدي بقول النبي (ص) لن تنقض الأيام والليالي حتى يبعث
الله عز وجل رجلا من أهل بيتي اسمه اسمي وكنيته كنيتي واسم أبيه اسم أبي
يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.
قالوا: وكان من أسماء أمير المؤمنين - عليه السلام -: عبد الله، بقوله: أنا عبد الله
وأخو رسول الله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كذاب مفتر.
وتعلقوا في حياته بأنه إذا ثبت إمامته وأنه القائم، فقد بطل أن يكون الإمام
غيره، وليس يجوز أن يموت قبل ظهوره فتخلو الأرض من حجة، فلا بد على
صحة هذه الأصول من حياته.
وهذه الفرقة بأجمعها تذهب إلى أن محمدا رحمه الله كان الإمام بعد الحسن
والحسين - عليهما السلام - وقد حكي عن بعض الكيسانية أنه كان يقول: إن محمدا كان
الإمام بعد أمير المؤمنين - عليه السلام - ويبطل إمامة الحسن والحسين - عليه السلام - ويقول:
إن الحسن - عليه السلام - إنما دعا في باطن الدعوة إلى محمد بأمره وأن الحسين - عليه السلام -
ظهر بالسيف بإذنه وأنهما كانا داعيين إليه وأميرين من قبله وحكي عن بعضهم أن
محمدا مات وحصلت الإمامة بعده في ولده وأنها انتقلت من ولده إلى ولد العباس
ابن عبد المطلب، وقد حكي أيضا أن منهم من يقول: إن عبد الله بن محمد حي لم
يمت وأنه القائم وهذه حكاية شاذة وقيل: إن منهم من يقول: إن محمدا قد مات
وأنه يقوم بعد الموت وهو المهدي وينكر حياته، وهذا أيضا قول شاذ.
وجميع ما حكيناه بعد الأول من الأقوال فهو حادث ألجأ القوم إليه
الاضطرار عند الحيرة وفراقهم الحق. والأصل المشهور ما حكيناه من قول الجماعة
المعروفة بإمامة أبي القاسم بعد أخويه - عليها السلام - والقطع على حياته وأنه القائم.
297

مع أنه لا بقية للكيسانية جملة وقد انقرضوا حتى لا يعرف منهم في هذا الزمان
أحد إلا ما يحكى ولا يعرف صحته.
وكان من الكيسانية أبو هاشم إسماعيل بن محمد الحميري الشاعر رحمه الله
وله في مذهبهم أشعار كثيرة ثم رجع عن القول بالكيسانية وبرئ منه ودان بالحق
لأن أبا عبد الله جعفر بن محمد - عليه السلام - دعاه إلى إمامته وأبان له عن فرض
طاعته فاستجاب له فقال بنظام الإمامة وفارق ما كان عليه من الضلالة وله في
ذلك أيضا شعر معروف، ومن بعض قوله في إمامة محمد رضوان الله عليه
ومذاهب الكيسانية قوله:
ألا حي المقيم بشعب رضوي * وأهد له بمنزله السلاما
وقل يا بن الوصي فدتك نفسي * أطلت بذلك الجبل المقاما
أضر بمعشر والوك منا * وسموك الخليفة والإماما
وعادوا فيك أهل الأرض طرا * مقامك عندهم سبعين عاما
لقد أضحى بمورق شعب رضوي * تراجعه الملائكة الكلاما
وما ذاق ابن خولة طعم موت * ولا وارت له أرض عظاما
وإن له بها لمقيل صدق * وأندية تحدثه كراما
وله أيضا وقد روى عبد الله بن عطاء عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر
- عليهما السلام - أنه قال: أنا دفنت عمي محمد بن الحنفية ونفضت يدي من تراب قبره
فقال:
نبئت أن ابن عطاء روى * وربما صرح بالمنكر
298

لما لوى أن أبا جعفر * قال ولم يصدق ولم يبرر
دفنت عمي ثم غادرته * صفيح لبن وتراب ثرى
ما قاله قط ولو قاله * قلنا اتق الله أبا جعفر
وله عند رجوعه إلى الحق وفراقه الكيسانية:
تجعفرت باسم الله والله أكبر * وأيقنت أن الله يعفو ويغفر
ودنت بدين غير ما كنت داينا * به ونهاني سيد الناس جعفر
فقلت هب إني قد تهودت برهة * وإلا فديني دين من يتنصر
فلست بغال ما حييت وراجع * إلى ما عليه كنت أخفي وأضمر
ولا قائل قولا لكيسان بعدها * وإن عاب جهال متالي وأكثروا
ولكنه من قد مضى لسبيله * على أحسن الحالات يقضى ويؤثر
وكان " كثير عزة " كيسانيا ومات على ذلك، وله في مذهب الكيسانية قوله:
ألا إن الأئمة من قريش * ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه * هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبر * وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى * يقود الخيل يقدمها اللواء
يغيب فلا يرى فيهم زمانا * برضوى عنده عسل وماء
299

فصل
قال الشيخ أيده الله: وأنا أعرض على هذه الطائفة مع اختلافها في مذاهبها
بما أدل به على فساد أقوالها بمختصر من القول وإشارة إلى معاني الحجاج دون
استيعاب ذلك وبلوغ الغاية فيه إذ ليس غرضي القصد لنقض المذاهب الشاذة
عن نظام الإمامية في هذا الكتاب، وإنما كان غرضي حكايتها فأحببت أن لا
أخليها من رسم لمع من الحجج على ما ذكرت وبالله التوفيق.
فمما يدل على بطلان قول الكيسانية في إمامة محمد رضي الله عنه أنه لو كان
على ما زعموا إماما معصوما يجب على الأمة طاعته، لوجب النص عليه أو ظهور
العلم الدال على صدقه إذ العصمة لا تعلم بالحس ولا تدرك من ظاهر الخلقة
وإنما تعلم بخبر علام الغيوب المطلع على الضمائر أو بدليله سبحانه على ذلك،
وفي عدم النص على محمد من الرسول (ص) أو من أبيه أو من أخويه - عليهم السلام -
أيضا دليل على بطلان مقال من ذهب إلى إمامته.
وكذلك عدم الخبر المتواتر بمعجز ظهر عليه عند دعوته إلى إمامته - إذ لو
كان لكان ادعاها - برهان على ما ذكرناه.
مع أن محمدا رضي الله عنه لم يدع قط للإمامة لنفسه ولا دعا أحدا إلى اعتقاد
ذلك فيه، وقد كان سئل عن ظهور المختار وادعائه عليه أنه أمره بالخروج والطلب
بثأر الحسين - عليه السلام - وأنه أمره أن يدعو الناس إلى إمامته عن ذلك وصحته،
فأنكره وقال لهم: والله ما أمرته بذلك لكني لا أبالي أن يأخذ بثأرنا كل أحد وما
يسوءني أن يكون المختار هو الذي يطلب بدمائنا، فاعتمد السائلون له على ذلك
300

وكانوا كثرة قد رحلوا إليه لهذا المعنى بعينه على ما ذكره أهل السير فرجعوا فنصر
أكثرهم المختار على الطلب بدم أبي عبد الله الحسين - عليه السلام - ولم ينصروه على
القول بإمامة أبي القاسم.
ومن قرأ الكتب وعرف الآثار وتصفح الأخبار وما جرى عليه أمر المختار لم
يخف عليه هذا الفصل الذي ذكرناه فكيف يصح القول بإمامة محمد مع ما
وصفناه.
فصل
فأما ما تعلقوا به فيما ادعوه من إمامته من قول أمير المؤمنين - عليه السلام - له يوم
البصرة وقد أقدم بالراية: " أنت ابني حقا " فإنه جهل منهم بمعاني الكلام وعجرفة
في النظر والحجاج، وذلك أن النص لا يعقل من ظاهر هذا الكلام ولا من فحواه
على معقول أهل اللسان ولا من تأويله على شئ من اللغات، ولا فصل بين من
ادعى أن الإمامة تعقل من هذا اللفظ وأن النص بها يستفاد منه، وبين من زعم أن
النبوة تعقل منه وتستفاد من معناه إذ تعريه من الأمرين جميعا على حد واحد.
فإن قال منهم قائل: إن أمير المؤمنين - عليه السلام - لما كان إماما وقال لابنه
محمد: " أنت ابني حقا " دل ذلك على أنه إنما شبهه به في الإمامة لا غير فكان هذا
القول منه تنبيها على استخلافه له على حسب ما بيناه.
قيل له: لم زعمت أنه لما أضافه إلى نفسه وشبهه بها دل على أنه أراد التشبيه
له بنفسه في الإمامة دون غير هذه الصفة من صفاته - عليه السلام -، وما أنكرت أنه أراد
تشبيهه به في الصورة دون ما ذكرت.
301

فإن قال: إنه لم يجر في تلك الحالة ذكر الصورة ولا ما يقتضى أن يكون أراد
تشبيهه به فيها بالإضافة التي ذكرها فكيف يجوز حمل كلامه - عليه السلام - على ذلك.
قيل له: وكذلك لم يجر في تلك الحال للإمامة ذكر فتكون إضافته إلى نفسه
بالذكر دليلا على أنه أراد تشبيهه به فيها على أن لكلامه - عليه السلام - معنى معقولا
ولا يذهب عنه منصف، وذلك أن محمدا لما حمل الراية ثم صبر حتى كشف أهل
البصرة فأبان من شجاعته وبأسه ونجدته ما كان مستورا، سر بذلك أمير المؤمنين
- عليه السلام - فأحب أن يعظمه ويمدحه على فعله فقال له: " أنت ابني حقا " يريد به
أنك شبيهي في الشجاعة والبأس والنجدة وقد قيل: إن من أشبه أباه فما ظلم.
وقيل: إن من نعمة الله على العبد أن يشبه أباه ليصح نسبه.
فكان الغرض المفهوم من قول أمير المؤمنين - عليه السلام - التشبيه لمحمد به في
الشجاعة والشهادة له بطيب المولد والقطع على طهارته والمدحة له بما تضمنه
الذكر من إضافته، ولم يجر للإمامة ذكر ولا كان هناك سبب يقتضي حمل الكلام
على معناها ولا تأويله على فائدة يقتضيها، وإذا كان الأمر على ما وصفناه سقطت
شبهتهم في هذا الباب.
ثم يقال لهم: فإن أمير المؤمنين - عليه السلام - قال في ذلك اليوم بعينه في ذلك
الموطن نفسه - بعد أن قال لمحمد المقال الذي رويتموه - للحسن والحسين
- عليهما السلام - وقد رأى فيهما انكسارا عند مدحه لمحمد رضي الله عنه: " وأنتما ابنا
رسول الله " فإن كان إضافة محمد رضي الله تعالى عنه بقوله: " أنت ابني حقا " يدل
على نصه عليه فإضافته الحسن والحسين - عليهما السلام - إلى رسول الله (ص) يدل على أنه
قد نص على نبوتهما إذ كان الذي أضافهما إليه نبيا ورسولا وإماما فإن لم يجب ذلك
بهذه الإضافة لم يجب بتلك ما ادعوه، وهذا بين لمن تأمله.
302

وأما اعتمادهم على إعطائه الراية يوم البصرة وقياسهم إياه بأمير المؤمنين
- عليه السلام - عندما أعطاه رسول الله (ص) رأيته، فإن فعل النبي (ص) ذلك وإعطاءه أمير
المؤمنين - عليه السلام - الراية لا يدل على أنه الخليفة من بعده، فلو دل على ذلك لوجب
أن يكون كل من حمل الراية في عصر الرسول (ص) منصوصا عليه بالإمامة وكل
صاحب راية كان لأمير المؤمنين - عليه السلام - مشارا إليه بالخلافة، وهذا جهل لا
يرتكبه عاقل.
مع أنه يلزم هذه الفرقة أن يكون محمد رضي الله عنه إماما للحسن والحسين
- عليهما السلام - وأن لا تكون لهما إمامة البتة لأنهما لم يحملا الراية وكانت الراية له دونهما،
وهذا قول لا يذهب إليه إلا من شذ من الكيسانية على ما حكيناه.
وقول أولئك منتقض بالاتفاق على قول النبي (ص) في الحسن والحسين
- عليهما السلام -: " ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا " وبالاتفاق على وصية أمير المؤمنين
إلى الحسن - عليهما السلام - ووصية الحسن إلى الحسين - عليهما السلام - وبقيام الحسن
- عليه السلام - بالإمامة بعد أبيه ودعائه الناس إلى بيعته على ذلك، وبقيام الحسين
- عليه السلام - من بعده وبيعة الناس له على الأمر دون محمد حتى قتل - عليه السلام - من
غير رجوع عن هذا القول، مع قول رسول الله (ص) فيهما الدال على عصمتهما وأنهما
لا يدعيان باطلا حيث يقول: " ابناي هذان سيدا شباب أهل الجنة ".
وأما تعلقهم بقول النبي (ص): " لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله
رجلا من أهل بيتي " إلى آخر الكلام، فإن بإزائهم الزيدية يدعون ذلك في محمد بن
عبد الله بن الحسن بن الحسن - عليه السلام - وهم أولى به منهم لأن أبا محمد كان اسمه
المعروف به عبد الله، وكان أمير المؤمنين - عليه السلام - اسمه علي وإنما انضاف إلى الله
بالعبودية كما انضاف جميع العباد إلى الله بالعبودية، وإن كان لإضافته في هذا
303

الموضع معنى يزيد على ما ذكرناه ليست بنا حاجة إلى الكشف عنه في حجاج
هؤلاء القوم.
مع أن الإمامية الاثني عشرية أولى به في الحقيقة من الجميع لأن صاحبهم
اسمه اسم رسول الله (ص)، وكنيته كنيته، وأبوه عبد من عباد الله وهم يقولون
بالعصمة وجميع أصول الإمامية ويمضون مع الأخبار الواردة بالنصوص على
الأئمة - عليهم السلام -، وينقلون فضائل من تقدم القائم - عليه السلام - من آبائه ومعجزاتهم
وعلومهم التي بانوا بها من الرعية، ولا يدفعون ضرورة من موت حي، ولا يقدمون
على تضليل معصوم وتكذيب إمام عدل والكيسانية بالضد مما حكيناه فلا يعتبر
تعلقهم بظاهر لفظ قد تحدثه الفرق إذ المعتمد هو الحجة والبرهان ولم يأت القوم
بشئ منه فيكون عذرا لهم فيما صاروا إليه.
وأما تعلقهم في حياته بما ادعوه من إمامته وبناؤهم على ذلك أنه القائم من
آل محمد - عليهم السلام - فإنا قد أبطلنا ذلك بما تقدم من مختصر القول فيه فسقط
بسقوطه وبطلانه.
ومما يدل أيضا على فساده تواتر الخبر بنص أبي جعفر الباقر على ابنه
الصادق - عليهما السلام - بالإمامة، ونص الصادق على ابنه الكاظم موسى - عليهما السلام -،
ونص موسى على علي - عليهما السلام -، وتظاهر الخبر عمن ذكرناه بالعلوم الدالة على
إمامتهم والمعجزات المنبئة عن حقوقهم وصدقهم مع الخبر عن النبي (ص) بالنص
عليهم من حديث اللوح، وما رواه عبد الله بن مسعود ووصفه سلمان من ذكر
أعيانهم وأعدادهم.
وقد أجمع من ذكرناه بأسرهم والأئمة من ذريتهم وجميع أهل بيتهم على
موت أبي القاسم رضي الله عنه، وليس يصح أن يكون إجماع هؤلاء باطل.
304

ويؤيد ذلك أن الكيسانية في وقتنا هذا لا بقية لهم ولا يوجد عدد منهم
يقطع العذر بنقله بل لا يوجد أحد منهم يدخل في جملة أهل العلم، بل لا نجد
أحدا منهم جملة وإنما تقع مع الناس الحكاية عنهم خاصة، ومن كان بهذه المنزلة لم
يجز أن يكون ما اعتمده من طريق الرواية حقا لأنه لو كان كذلك لما بطلت الحجة
عليه بانقراض أهله وعدم تواترهم، فبان بما وصفناه أن مذهب القوم باطل لم يحتج
الله به على أحد ولا ألزمه اعتقاده على ما حكيناه.
قال الشيخ أيده الله تعالى: ثم لم تزل الإمامية على القول بنظام الإمامة حتى
افترقت كلمتها بعد وفاة أبي عبد الله جعفر بن محمد - عليهما السلام -.
فقالت فرقة منها: إن أبا عبد الله - عليه السلام - حي لم يمت ولا يموت حتى
يظهر فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا لأنه القائم المهدي،
وتعلقوا بحديث رواه رجل يقال له عنبسة بن مصعب عن أبي عبد الله - عليه السلام -
أنه قال: إن جاءكم من يخبركم عني بأنه غسلني وكفنني ودفنني فلا تصدقوه،
وهذه الفرقة تسمى الناووسية وإنما سميت بذلك لأن رئيسهم في هذه المقالة رجل
من أهل البصرة يقال له عبد الله بن ناووس.
وقالت فرقة أخرى: إن أبا عبد الله - عليه السلام - توفي ونص على ابنه إسماعيل
ابن جعفر - عليه السلام - وأنه الإمام بعده وأنه القائم المنتظر، وأنكروا وفاة إسماعيل في
حياة أبي عبد الله - عليه السلام - وقالوا إنه لم يمت وإنما لبس على الناس في أمره لأمر رآه
أبوه.
وقال فريق منهم: إن إسماعيل قد كان توفي على الحقيقة في زمن أبيه
- عليه السلام - غير أنه قبل وفاته نص على ابنه محمد فكان الإمام بعده.
وهؤلاء هم القرامطة وهم المباركية ونسبهم إلى القرامطة برجل من أهل
السواد يقال له قرمطويه، ونسبهم إلى المباركية برجل يسمى المبارك مولى إسماعيل
305

ابن جعفر والقرامطة أخلاف المباركية، والمباركية سلفهم.
وقال فريق من هؤلاء: إن الذي نص على محمد بن إسماعيل هو الصادق
- عليه السلام - دون إسماعيل وكان ذلك الواجب عليه لأنه أحق بالأمر بعد أبيه من
غيره، ولأن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين - عليهما السلام - وهؤلاء
الفرق الثلاث هم الإسماعيلية وإنما سموا بذلك لادعائهم إمامة إسماعيل.
وأما علتهم في النص على إسماعيل فهي أن قالوا: كان إسماعيل أكبر ولد
جعفر، وليس يجوز أن ينص على غير الأكبر، قالوا: وقد أجمع من خالفنا على أن
أبا عبد الله - عليه السلام - نص على إسماعيل غير أنهم ادعوا أنه بدا لله فيه وهذا قول لا
نقبله منهم.
وقالت فرقة أخرى: إن أبا عبد الله توفي وكان الإمام بعده محمد بن جعفر
واعتلوا في ذلك بحديث تعلقوا به، وهو أن أبا عبد الله - عليه السلام - على ما زعموا كان
في داره جالسا فدخل عليه محمد وهو صبي صغير فعدا إليه فكبا في قميصه ووقع
لوجهه، فقام إليه أبو عبد الله - عليه السلام - فقبله ومسح التراب عن وجهه وضمه إلى
صدره وقال: سمعت أبي يقول: إذا ولد لك ولد يشبهني فسمه باسمي، وهذا
الولد شبيهي وشبيه رسول الله (ص) وعلى سنته وشبيه علي - عليه السلام -، وهذه الفرقة
تسمى الشمطية بنسبتها إلى رجل يقال له يحيى بن أبي الشمط.
وقالت فرقة أخرى: إن الإمام بعد أبي عبد الله - عليه السلام - ابنه عبد الله بن
جعفر واعتلوا في ذلك بأنه كان أكبر ولد أبي عبد الله - عليه السلام - قالت: وإن أبا عبد
الله - عليه السلام - قال: الإمامة لا تكون إلا في الأكبر من ولد الإمام، وهذه الفرقة تسمى
الفطحية وإنما سميت بذلك لأن رئيسا لها يقال له عبد الله بن أفطح، ويقال: إنه
كان أفطح الرجلين، ويقال: بل كان أفطح الرأس، ويقال: إن عبد الله كان هو
306

الأفطح.
قال الشيخ أيده الله: فأما الناووسية فقد ارتكبت في إنكارها وفاة أبي عبد
الله - عليه السلام - ضربا من دفع الضرورة وإنكار المشاهدة لأن العلم بوفاته كالعلم
بوفاة أبيه من قبله، ولا فرق بين هذه الفرقة وبين الغلاة الدافعين لوفاة أمير
المؤمنين - عليه السلام - وبين من أنكر مقتل الحسين - عليه السلام - ودفع ذلك وادعى أنه
كان مشبها للقوم، فكل شئ جعلوه فصلا بينهم وبين من ذكرناه فهو دليل على
بطلان ما ذهبوا إليه في حياة أبي عبد الله - عليه السلام -.
وأما الخبر الذي تعلقوا به فهو خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا، ولو رواه
ألف إنسان وألف ألف لما جاز أن يجعل ظاهره حجة في دفع الضرورات وارتكاب
الجهالات بدفع المشاهدات، على أنه يقال لهم ما أنكرتم أن يكون هذا القول إنما
صدر من أبي عبد الله - عليه السلام - عند توجهه إلى العراق ليؤمنهم من موته في تلك
الأحوال، ويعرفهم رجوعه إليهم من العراق ويحذرهم من قبول أقوال المرجفين به
المؤدية إلى الفساد، ولا يجب أن يكون ذلك مستغرقا لجميع الأزمان وأن يكون على
العموم في كل حال.
ويحتمل أن يكون أشار إلى جماعة علم أنهم لا يبقون بعده وأنه يتأخر عنهم،
فقال: من جاءكم من هؤلاء، فقد جاء في بعض الأسانيد من جاءكم منكم، وفي
بعضها من جاءكم من أصحابي، وهذا يقتفي الخصوص.
وله وجه آخر وهو أنه عنى بذلك كل الخلق سوى الإمام القائم بعده لأنه
ليس يجوز أن يتولى غسل الإمام وتكفينه ودفنه إلا الإمام القائم مقامه إلا أن
تدعو ضرورة إلى غير ذلك، فكأنه - عليه السلام - أنبأهم بأنه لا ضرورة تمنع القائم من
بعده عن تولي أمره بنفسه.
307

وإذا كان الخصوص قد يكون في كتاب الله تعالى مع ظاهر القول للعموم
وجاز أن يخص القرآن ويصرف عن ظواهره على مذهب أصحاب العموم
بالدلائل، فلم لا جاز الانصراف عن ظاهر قول أبي عبد الله - عليه السلام - إلى معنى
يلائم الصحيح ولا يحمل على وجه يفسد المشاهدات ويسد على العقلاء باب
الضرورات.
وهذا كاف في هذا الموضع إن شاء الله تعالى مع أنه لا بقية للناووسية ولم
يكن أيضا في الأصل كثيرة ولا عرف منهم رجل مشهور بالعلم ولا قرئ لهم كتاب
وإنما هي حكاية إن صحت فعن عدد يسير لم يبرز قولهم حتى اضمحل
وانتقض، وفي ذلك كفاية عن الإطالة في نقضه.
فصل
وأما ما اعتلت به الإسماعيلية من أن إسماعيل رحمه الله كان الأكبر وأن
النص يجب أن يكون على الأكبر، فلعمري إن ذلك يجب إذا كان الأكبر باقيا بعد
الوالد وأما إذا كان المعلوم من حاله أنه يموت في حياته ولا يبقى بعده فليس يجب
ما ادعوه، بل لا معنى للنص عليه ولو وقع لكان كذبا لأن معنى النص أن
المنصوص عليه خليفة الماضي فيما كان يقوم به وإذا لم يبق بعده لم يكن خليفة
فيكون النص حينئذ عليه كذبا لا محالة، وإذا علم الله أنه يموت قبل الأول وأمره
باستخلافه، لكان الأمر بذلك عبثا مع كون النص كذبا لأنه لا فائدة فيه ولا
غرض صحيح، فبطل ما اعتمدوه في هذا الباب.
وأما ما ادعوه من تسليم الجماعة لهم حصول النص عليه فإنهم ادعوا في
ذلك باطلا وتوهموا فاسدا من قبل أنه ليس أحد من أصحابنا يعترف بأن أبا عبد
308

الله - عليه السلام - نص على ابنه إسماعيل ولا روى راو ذلك في شاذ من الأخبار ولا في
معروف منها وإنما كان الناس في حياة إسماعيل يظنون أن أبا عبد الله - عليه السلام -
ينص عليه لأنه أكبر أولاده، وبما كانوا يرونه من تعظيمه فلما مات إسماعيل رحمه
الله زالت ظنونهم وعلموا أن الإمامة في غيره فتعلق هؤلاء المبطلون بذلك الظن
وجعلوه أصلا وادعوا أنه قد وقع النص، وليس معهم في ذلك أثر ولا خبر يعرفه
أحد من نقلة الشيعة، وإذا كان معتمدهم على الدعوى المجردة من برهان فقد
سقط بما ذكرناه.
فأما الرواية عن أبي عبد الله - عليه السلام - من قوله: " ما بدا لله في شئ كما بدا
له في إسماعيل " فإنها على غير ما توهموه أيضا من البداء في الإمامة وإنما معناها ما
روي عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال: إن الله تعالى كتب القتل على ابني إسماعيل
مرتين فسألته فيه فعفا عن ذلك فما بدا له في شئ كما بدا له في إسماعيل، يعني
به ما ذكره من القتل الذي كان مكتوبا فصرفه عنه بمسألة أبي عبد الله - عليه السلام -
وأما الإمامة فإنه لا يوصف الله فيه بالبداء، وعلى ذلك إجماع فقهاء الإمامية
ومعهم فيه أثر عنهم - عليه السلام - أنهم قالوا: مهما بدا لله في شئ فلا يبدو له في نقل
نبي عن نبوته ولا إمام عن إمامته ولا مؤمن قد أخذ عهده بالإيمان عن إيمانه.
وإذا كان الأمر على ما ذكرناه فقد بطل أيضا هذا الفصل الذي اعتمدوه
وجعلوه دلالة على نص أبي عبد الله - عليه السلام - على إسماعيل.
309

فصل
فأما من ذهب إلى إمامة محمد بن إسماعيل بنص أبيه عليه فإنه منتقض
القول فاسد الرأي، من قبل أنه إذا لم يثبت لإسماعيل إمامة في حياة أبي عبد الله
- عليه السلام - لاستحالة وجود إمامين بعد النبي (ص) في زمان واحد، لم يجز أن تثبت
إمامة محمد لأنها تكون حينئذ ثابتة بنص غير إمام، وذلك فاسد بالنظر الصحيح.
فصل
وأما من زعم أن أبا عبد الله - عليه السلام - نص على محمد بن إسماعيل بعد وفاة
أبيه، فإنهم لم يتعلقوا في ذلك بأثر وإنما قالوه قياسا على أصل فاسد وهو ما ذهبوا
إليه من حصول النص على أبيه إسماعيل، وزعموا أن العدل يوجب بعد موت
إسماعيل النص على ابنه لأنه أحق الناس به، وإذا كنا قد بينا عن بطلان قولهم
فيما ادعوه من النص على إسماعيل فقد فسد أصلهم الذي بنوا عليه الكلام.
على أنه لو ثبت ما ادعوه من نص أبي عبد الله - عليه السلام - على ابنه إسماعيل لما
صح قولهم في وجوب النص على محمد ابنه من بعده لأن الإمامة والنصوص
ليستا موروثتين على حد ميراث الأموال، ولو كانت كذلك لاشترك فيها ولد الإمام،
وإذا لم تكن موروثة وكانت إنما تجب لمن له صفات مخصوصة ومن أوجبت
المصلحة إمامته، فقد بطل أيضا هذا المذهب.
310

فصل
وأما من ادعى إمامة محمد بن جعفر بعد أبيه - عليه السلام - فإنهم شذاذ جدا
قالوا بذلك زمانا مع قلة عددهم وإنكار الجماعة عليهم ثم انقرضوا حتى لم يبق
منهم أحد يذهب إلى هذا المذهب، وفي ذلك إبطال مقالتهم لأنها لو كانت حقا
لما جاز أن يعدم الله أهلها كافة حتى لا يبقى منهم من يحتج بنقله.
مع أن الحديث الذي رووه لا يدل على ما ذهبوا إليه لو صح وثبت، فكيف
وليس هو حديثا معروفا ولا رواه محدث مذكور وأكثر ما فيه عند ثبوت الرواية له
أنه خبر واحد وأخبار الآحاد لا يقطع على الله تعالى بصحتها.
ولو كان صحيحا أيضا لما كان في متضمنه دليل الإمامة لأن مسح أبي عبد
الله - عليه السلام - التراب عن وجه ابنه ليس بنص عليه في عقل ولا سمع ولا عرف ولا
عادة، وكذلك ضمه إلى صدره وكذلك قوله إن أبي خبرني أن سيولد لي ولد يشبهه،
وأنه أمره بتسميته وأنه أخبره أنه يكون على شبه رسول الله (ص) ولا في مجموع هذا كله
دلالة على الإمامة في ظاهر قول وفعل ولا في تأويله، وإذا لم يك في ذلك دلالة على
ما ذهبوا إليه بان بطلانه.
مع أن محمد بن جعفر خرج بالسيف بعد أبيه ودعا إلى إمامته وتسمى
بإمرة المؤمنين ولم يتسم بذلك أحد ممن خرج من آل أبي طالب، ولا خلاف بين
أهل الإمامة أن من تسمى بهذا الاسم بعد أمير المؤمنين - عليه السلام - فقد أتى منكرا
فكيف يكون هذا على شبه رسول الله (ص) لولا أن الراوي لهذا الحديث قد وهم فيه
أو تعمد الكذب.
311

فصل
وأما الفطحية فإن أمرها أيضا واضح وفساد قولها غير خاف ولا مستور
عمن تأمله، وذلك أنهم لم يدعوا نصا من أبي عبد الله - عليه السلام - على عبد الله وإنما
عملوا على ما رووه من أن الإمامة تكون في الأكبر وهذا حديث لم يرو قط إلا
مشروطا وهو أنه قد ورد أن الإمامة تكون في الأكبر ما لم تكن به عاهة، وأهل
الإمامة القائلون بإمامة موسى - عليه السلام - متواترون بأن عبد الله كان به عاهة في
الدين لأنه كان يذهب إلى مذاهب المرجئة الذين يقعون في علي - عليه السلام - وعثمان
وأن أبا عبد الله - عليه السلام - قال وقد خرج من عنده: " عبد الله هذا مرجئ كبير " وأنه
دخل عليه عبد الله يوما وهو يحدث أصحابه فلما رآه سكت حتى خرج فسئل عن
ذلك فقال: " أو ما علمتم أنه من المرجئة ".
هذا مع أنه لم يكن له من العلم ما يتخصص به من العامة، ولا روي عنه
شئ من الحلال والحرام، ولا كان بمنزلة من يستفتى في الأحكام، وقد ادعى
الإمامة بعد أبيه فامتحن بمسائل صغار فلم يجب عنها ولا تأتى للجواب فأي
علة أكبر مما ذكرناه تمنع من إمامة هذا الرجل.
مع أنه لو لم تكن علة تمنع من إمامته لما جاز من أبيه صرف النص عنه، ولو
لم يكن قد صرفه عنه لأظهره فيه، ولو أظهره لنقل وكان معروفا في أصحابه، وفي
عجز القوم عن التعلق بالنص عليه دليل على بطلان ما ذهبوا إليه.
312

فصل
قال الشيخ أيده الله: ثم لم تزل الإمامية بعد من ذكرناه على نظام الإمامة
حتى قبض موسى بن جعفر - عليه السلام -، فافترقت بعد وفاته فرقا قال جمهورهم
بإمامة أبي الحسن الرضا - عليه السلام - ودانوا بالنص عليه وسلكوا الطريقة المثلى في
ذلك، وقال جماعة منهم بالوقف على أبي الحسن موسى - عليه السلام - وادعوا حياته
وزعموا أنه هو المهدي المنتظر وقال فريق منهم إنه قد مات وسيبعث وهو القائم
بعده.
واختلفت الواقفة في الرضا - عليه السلام - ومن قام من آل محمد بعد أبي الحسن
موسى - عليه السلام - فقال بعضهم هؤلاء خلفاء - أبي الحسن - عليه السلام - وأمراؤه وقضاته
إلى أوان خروجه وإنهم ليسوا بأئمة وما ادعوا الإمامة قط، وقال الباقون إنهم
ضالون مخطئون ظالمون، وقالوا في الرضا - عليه السلام - خاصة قولا عظيما وأطلقوا
تكفيره وتكفير من قام بعده من ولده.
وشذت فرقة ممن كان على الحق إلى قول سخيف جدا فأنكروا موت أبي
الحسن - عليه السلام - وحبسه، وزعموا أن ذلك كان تخييلا للناس، وادعوا أنه حي
غائب وأنه هو المهدي وزعموا أنه استخلف على الأمر محمد بن بشر مولى بني
أسد، وذهبوا إلى الغلو والقول بالإباحة ودانوا بالتناسخ.
واعتلت الواقفة فيما ذهبوا إليه بأحاديث رووها عن أبي عبد الله - عليه السلام -
منها أنهم حكوا عنه أنه لما ولد موسى بن جعفر - عليه السلام - دخل أبو عبد الله
- عليه السلام - على حميدة البربرية أم موسى - عليه السلام - فقال لها: " يا حميدة بخ بخ حل
الملك في بيتك " قالوا: وسئل عن اسم القائم فقال اسمه اسم حديدة الحلاق.
313

فيقال لهذه الفرقة: ما الفرق بينكم وبين الناووسية الواقفة على أبي عبد الله
- عليه السلام - والكيسانية الواقفة على أبي القاسم ابن الحنفية رحمة الله عليه، والمفوضة
المنكرة لوفاة أبي عبد الله الحسين - عليه السلام - الدافعة لقتله، والسبائية المنكرة لوفاة
أمير المؤمنين - عليه السلام - المدعية حياته، والمحمدية النافية لموت رسول الله (ص)
المتدينة بحياته. وكل شئ راموا به كسر مذاهب من عددناهم فهو كسر لمذاهبهم
ودليل على إبطال مقالتهم.
ثم يقال لهم فيما تعلقوا به من الحديث الأول: ما أنكرتم أن يكون الصادق
- عليه السلام - أراد بالملك الإمامة على الخلق وفرض الطاعة على البشر وملك الأمر
والنهي، وأي دليل في قوله لحميدة: " حل الملك في بيتك " على أنه نص على ابنه
بأنه القائم بالسيف أو ما سمعتم الله تعالى يقول: * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب
والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) * (1) وإنما أراد ملك الدين والرئاسة فيه على
العالمين.
وأما قوله - عليه السلام - وقد سئل، عن اسم القائم فقال اسم حديدة الحلاق،
فإنه إن صح وثبت ذلك - على أنه غير معروف - فإنما أشار به إلى القائم بالإمامة
بعده ولم يشر به إلى القائم بالسيف، وقد علمنا أن كل إمام فهو قائم بالأمر بعد
أبيه فأي حجة فيما تعلقوا به لولا عمى القلوب.
على أنه يقال لهم: ما الدليل على إمامة أبي الحسن موسى - عليه السلام - وما
البرهان على أن أباه نص عليه؟ فبأي شئ تعلقوا في ذلك واعتمدوا عليه،
أريناهم بمثله صحة إمامة الرضا - عليه السلام - وثبوت النص من أبيه عليه، وهذا
ما لا يجدون عنه مخلصا.
وأما من زعم أن الرضا - عليه السلام - ومن بعده كانوا خلفاء أبي الحسن موسى

(1) - النساء / 54.
314

- عليه السلام - ولم يدعوا الأمر لأنفسهم، فإنه قول مباهت لا يذكر في دفع الضرورة
ولأن جميع شيعة هؤلاء القوم وغير شيعتهم من الزيدية الخلص ومن تحقق النظر،
يعلم يقينا أنهم كانوا ينتحلون الإمامة وأن الدعاة إلى ذلك خاصتهم من الناس،
ولا فصل بين هذه الفرقة في بهتها وبين الفرق الشاذة من الكيسانية فيما ادعوه من
أن الحسن والحسين - عليهما السلام - كانا خليفتي محمد بن الحنفية وأن الناس لم
يبايعوهما على الإمامة لأنفسهما، وهذا قول وضوح فساده يغني عن الإطناب فيه.
وأما البشرية فإن دليل وفاة أي الحسن - عليه السلام - وإمامة الرضا - عليه السلام -
وبطلان الحلول والاتحاد ولزوم الشرايع وفساد الغلو والتناسخ يدل بمجموع ذلك
وبآحاده على فساد ما ذهبوا إليه.
فصل
قال الشيخ أيده الله: ثم إن الإمامية استمرت على القول بأصول الإمامة
طول أيام أبي الحسن الرضا - عليه السلام -، فلما توفي وخلف ابنه أبا جعفر - عليه السلام -
وله عند وفاة أبيه سبع سنين، اختلفوا وتفرقوا ثلاث فرق:
فرقة مضت على سنن القول في الإمامة ودانت بإمامة أبي جعفر - عليه السلام -
ونقلت النص عليه وهم أكثر الفرق عددا.
وفرقة ارتدت إلى قول الواقفة ورجعوا عما كانوا عليه من إمامة الرضا
- عليه السلام -.
وفرقة قالت بإمامة أحمد بن موسى - عليه السلام - وزعموا أن الرضا - عليه السلام -
وصى إليه ونص بالإمامة عليه.
واعتل الفريقان الشاذان عن أصل الإمامة بصغر سن أبي جعفر - عليه السلام -
315

وقالوا ليس يجوز أن يكون إمام الزمان صبيا لم يبلغ الحلم.
فيقال لهم: ما سوى الراجعة إلى الوقف كما قيل للواقفة دلوا بأي دليل شئتم
على إمامة الرضا - عليه السلام - حتى نريكم بمثله إمامة أبي جعفر - عليه السلام -، وبأي
شئ طعنتم به في نقل النص على أبي جعفر - عليه السلام - فإن الواقفة تطعن بمثله في
نقل النص على أبي الحسن الرضا - عليه السلام - ولا فصل في ذلك.
على أن ما اشتبه عليهم من جهة سن أبي جعفر - عليه السلام - فإنه بين الفساد،
وذلك أن كمال العقل لا يستنكر لحجج الله تعالى مع صغر السن قال الله
سبحانه: * (قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني
الكتاب وجعلني نبيا) * (1) فخبر عن المسيح - عليه السلام - بالكلام في المهد، وقال في
قصة يحيى - عليه السلام -: * (وآتيناه الحكم صبيا) * (2).
وقد أجمع جمهور الشيعة مع سائر من خالفهم على أن رسول الله (ص) دعا
عليا - عليه السلام - وهو صغير السن ولم يدع الصبيان غيره، وباهل بالحسن والحسين
- عليهما السلام - وهما طفلان، ولم ير مباهل قبله ولا بعده باهل بالأطفال، وإذا كان
الأمر على ما ذكرناه من تخصيص الله تعالى حججه على ما شرحناه، بطل ما تعلق
به هؤلاء القوم.
على أنهم إن أقروا بظهور المعجزات على الأئمة - عليهم السلام - وخرق العادة لهم
وفيهم، بطل أصلهم الذي اعتمدوا عليه في إنكار إمامة أبي جعفر - عليه السلام - وإن
أبوا ذلك ولحقوا بالمعتزلة في إنكار المعجز إلا على الأنبياء - عليهم السلام -، كلموا بما
تكلم به إخوانهم من أهل النصب والضلال، وهذا المقدار يكفي بمشيئة الله في
نقض ما اعتمدوه بما حكيناه.

(1) - مريم / 29 - 30.
(2) - مريم / 12.
316

فصل
قال الشيخ أيده الله: ثم ثبتت الإمامية القائلون بإمامة أبي جعفر - عليه السلام -
بأسرها على القول بإمامة أبي الحسن علي بن محمد من بعد أبيه - عليهما السلام - ونقل
النص عليه إلا فرقة قليلة العدد شذوا عن جماعتهم، فقالوا بإمامة موسى بن محمد
أخي أبي الحسن علي بن محمد ثم إنهم لم يثبتوا على هذا القول إلا قليلا حتى
رجعوا إلى الحق ودانوا بإمامة علي بن محمد - عليه السلام - ورفضوا القول بإمامة موسى
ابن محمد وأقاموا جميعا على إمامة أبي الحسن - عليه السلام - فلما توفي تفرقوا بعد ذلك:
فقال الجمهور منهم بإمامة أبي محمد الحسن بن علي - عليه السلام - ونقلوا النص
عليه وأثبتوه.
وقال فريق منهم: إن الإمام بعد أبي الحسن، محمد بن علي أخو أبي محمد
- عليه السلام - وزعموا أن أباه عليا - عليه السلام - نص عليه في حياته، وهذا محمد كان قد
توفي في حياة أبيه فدفعت هذه الفرقة وفاته وزعموا أنه لم يمت وأنه حي وهو
الإمام المنتظر
وقال نفر من الجماعة شذوا أيضا عن الأصل: إن الإمام بعد محمد بن علي
بن محمد بن علي بن موسى - عليهم السلام - أخوه جعفر بن علي وزعموا أن أباه نص
عليه بعد مضي محمد وأنه القائم بعد أبيه.
فيقال للفرقة الأولى: لم زعمتم أن الإمام بعد أبي الحسن - عليه السلام - ابنه محمد
وما الدليل على ذلك؟ فإن ادعوا النص طولبوا بلفظه والحجة عليه ولن يجدوا
لفظا يتعلقون به في ذلك ولا تواتر يعتمدون عليه، لأنهم في أنفسهم من الشذوذ
317

والقلة على حد ينفى عنهم التواتر القاطع للعذر في العدد مع أنهم قد انقرضوا
ولا بقية لهم وذلك مبطل أيضا لما ادعوه.
ويقال لهم في ادعاء حياته، ما قيل للكيسانية والناووسية والواقفة،
ويعارضون بما ذكرناه ولا يجدون فصلا.
فأما أصحاب جعفر فإن أمرهم مبني على إمامة محمد، وإذا سقط قول هذا
الفريق لعدم الدلالة على صحته وقيامها على إمامة أبي محمد - عليه السلام - فقد بان
فساد ما ذهبوا إليه.
فصل
قال الشيخ أيده الله: ولما توفي أبو محمد الحسن بن علي بن محمد
- عليهم السلام - افترق أصحابه بعده على ما حكاه أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي
رضي الله عنه أربع عشرة فرقة:
فقال الجمهور منهم بإمامة ابنه القائم المنتظر - عليه السلام - وأثبتوا ولادته
وصححوا النص عليه وقالوا هو سمي رسول الله ومهدي الأنام، واعتقدوا أن
له غيبتين إحداهما أطول من الأخرى، والأولى منهما هي القصرى، وله فيها الأبواب
والسفراء، ورووا عن جماعة من شيوخهم وثقاتهم أن أبا محمد الحسن - عليه السلام - أظهره لم
وأراهم شخصه، واختلفوا في سنه عند وفاة أبيه فقال كثير منهم: كان سنه إذ ذاك
خمس سنين لأن أباه توفي سنة ستين ومائتين، وكان مولد القائم - عليه السلام - سنة
خمس وخمسين ومائتين وقال بعضهم بل كان مولده سنة اثنتين وخمسين ومائتين،
وكان سنه عند وفاة أبيه ثماني سنين، وقالوا إن أباه لم يمت حتى أكمل الله عقله
وعلمه الحكمة وفصل الخطاب وأبانه من سائر الخلق بهذه الصفة إذ كان خاتم
318

الحجج ووصي الأوصياء وقائم الزمان.
واحتجوا في جواز ذلك بدليل العقل من حيث ارتفعت إحالته ودخل تحت
القدرة، وبقوله تعالى في قصة عيسى - عليه السلام - * (ويكلم الناس في المهد) * وفي
قصة يحيى - عليه السلام - * (وآتيناه الحكم صبيا) * (2) وقالوا: إن صاحب الأمر - عليه السلام -
حي لم يمت ولا يموت ولو بقي ألف عام حتى يملأ الأرض قسطا وعدلا كما
ملئت ظلما وجورا، وأنه يكون عند ظهوره شابا قويا في صورة ابن نيف وثلاثين
سنة، وأثبتوا ذلك في معجزاته وجعلوه من جملة دلائله وآياته - عليه السلام -.
وقالت فرقة ممن دانت بإمامة الحسن - عليه السلام - إنه حي لم يمت وإنما غاب
وهو القائم المنتظر
وقالت فرقة أخرى إن أبا محمد - عليه السلام - مات وعاش بعد موته وهو القائم
المهدي واعتلوا في ذلك بخبر رووه أن القائم إنما سمي بذلك لأنه يقوم بعد
الموت.
وقالت فرقة أخرى إن أبا محمد - عليه السلام - قد توفي لا محالة، وإن الإمام من
بعده أخوه جعفر بن علي واعتلوا في ذلك بالرواية عن أبي عبد الله - عليه السلام - إن
الإمام هو الذي لا يوجد منه ملجأ إلا إليه، قالوا فلما لم نر للحسن - عليه السلام - ولدا
ظاهرا التجأنا إلى القول بإمامة جعفر أخيه.
ورجعت فرقة ممن كانت تقول بإمامة الحسن - عليه السلام - عن إمامته عند
وفاته وقالوا لم يكن إماما وكان مدعيا مبطلا، وأنكروا إمامة أخيه محمد، وقالوا
الإمام جعفر بن علي بنص أبيه عليه، قالوا إنما قلنا بذلك لأن محمدا مات في حياة

(1) - آل عمران / 46.
(2) - مريم / 12.
319

أبيه والإمام لا يموت في حياة أبيه، وأما الحسن - عليه السلام - فلم يكن له عقب والإمام
لا يخرج من الدنيا حتى يكون له عقب.
وقالت فرقة أخرى إن الإمام محمد بن علي أخو الحسن بن علي - عليه السلام -،
ورجعوا عن إمامة الحسن - عليه السلام - وادعوا حياة محمد بعد أن كانوا ينكرون ذلك.
وقالت فرقة أخرى إن الإمام بعد الحسن - عليه السلام - ابنه المنتظر وأنه علي بن
الحسن، وليس كما تقول القطعية إنه محمد بن الحسن وقالوا بعد ذلك بمقالة
القطعية في الغيبة والانتظار حرفا بحرف.
وقالت فرقة أخرى إن القائم محمد بن الحسن - عليه السلام - ولد بعد أبيه بثمانية
أشهر وهو المنتظر، وأكذبوا من زعم الله ولد في حياة أبيه.
وقالت فرقة أخرى إن أبا محمد - عليه السلام - مات عن غير ولد ظاهر ولكن عن
حبل من بعض جواريه والقائم من بعد الحسن محمول به، وما ولدته أمه بعد وإنه
يجوز أنها تبقى مائة سنة حاملا به فإذا ولدته أظهرت ولادته.
وقالت فرقة أخرى إن الإمامة قد بطلت بعد الحسن - عليه السلام - فارتفعت
الأئمة وليس في الأرض حجة من آل محمد - عليهم السلام - وإنما الحجة الأخبار الواردة
عن الأئمة المتقدمين - عليهم السلام -، وزعموا أن ذلك سائغ إذا غضب الله على العباد
فجعله عقربة لهم.
وقالت فرقة أخرى إن محمد بن علي أخا الحسن بن علي - عليه السلام - كان الإمام
في الحقيقة مع أبيه علي - عليه السلام - وإنه لما حضرته الوفاة وصى إلى غلام له يقال له
نفيس وكان ثقة أمينا، ودفع إليه الكتب والسلاح ووصاه أن يسلمها إلى أخيه جعفر
فسلمها إليه وكانت الإمامة في جعفر بعد محمد على هذا الترتيب.
وقالت فرقة أخرى وقد علمنا أن الحسن - عليه السلام - كان إماما فلما قبض
320

التبس الأمر علينا فلا ندري أجعفر كان الإمام بعده أم غيره، والذي يجب علينا أن
نقطع على أنه لا بد من إمام ولا نقدم على القول بإمامة أحد بعينه حتى يتبين لنا
ذلك.
وقالت فرقة أخرى بل الإمام بعد الحسن ابنه محمد وهو المنتظر غير أنه قد
مات وسيحيى ويقوم بالسيف فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.
وقالت الفرقة الرابع عشرة منهم أن أبا محمد - عليه السلام - كان الإمام من بعد
أبيه، وإنه لما حضرته الوفاة نص على أخيه جعفر بن علي بن محمد بن علي وكان
الإمام من بعده بالنص عليه والوراثة له، وزعموا أن الذي دعاهم إلى ذلك ما يجب
في العقل من وجوب الإمامة مع فقدهم لولد الحسن - عليه السلام - وبطلان دعوى من
ادعى وجوده فيما زعموا من الإمامية.
قال الشيخ أيده الله: وليس من هؤلاء الفرق التي ذكرناها فرقة موجودة في
زماننا هذا وهو من سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة إلا الإمامية الاثنا عشرية القائلة
بإمامة ابن الحسن المسمى باسم رسول الله (ص) القاطعة على حياته وبقائه إلى وقت
قيامه بالسيف، حسبما شرحناه فيما تقدم عنهم وهم أكثر فرق الشيعة عددا وعلماء
ومتكلمين ونظارا وصالحين وعبادا ومتفقهة وأصحاب حديث وأدباء وشعراء، وهم
وجه الإمامية ورؤساء جماعتهم والمعتمد عليهم في الديانة.
ومن سواهم منقرضون لا يعلم أحد من جملة الأربع عشرة فرقة التي قدمنا
ذكرها ظاهرا بمقالة ولا موجودا على هذا الوصف من ديانته وإنما الحاصل منهم
حكاية عمن سلف وأراجيف بوجود قوم منهم لا تثبت.
321

فصل
وأما الفرقة القائلة بحياة أبي محمد - عليه السلام -، فإنه يقال لها: ما الفصل بينك
وبين الواقفة والناووسية فلا يجدون فصلا، وأما الفرقة الأخرى التي زعمت أن أبا
محمد - عليه السلام - عاش من بعد موته وهو المنتظر فإنه يقال لها: إذا جاز أن تخلو
الدنيا من إمام حي يوما فلم لا يجوز أن تخلو منه سنة وما الفرق بين ذلك وبين أن
تخلو أبدا من الإمام، وهذا خروج عن مذهب الإمامية وقول بمذهب الخوارج
والمعتزلة، ومن صار إليه من الشيعة كلم بكلام الناصبة ودل على وجوب الإمامة.
ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون الحسن - عليه السلام - ميتا لا محالة ولم يعش بعد
وسيعيش، وهذا نقض مذاهبهم فأما ما اعتلوا به من أن القائم إنما سمي بذلك
لأنه يقوم بعد الموت، فإنه يحتمل أن يكون المراد به بعد موت ذكره دون أن يكون
المراد به موته في الحقيقة بعدم الحياة منه، على أنهم لا يجدون بهذا الاعتلال بينهم
وبين الكيسانية فرقا.
مع أن الرواية قد جاءت بأن القائم إنما سمي بذلك لأنه يقوم بدين قد
اندرس ويظهر بحق كان مخفيا ويقوم بالحق من غير تقية تعتريه في شئ منه،
وهذا يسقط ما ادعوه.
وأما الفرقة التي زعمت أن جعفر بن علي هو الإمام بعد أخيه الحسن
- عليه السلام - فإنهم صاروا إلى ذلك من طريق الظن والتوهم ولم يوردوا خبرا ولا أثرا
يجب النظر فيه، ولا فصل بين هؤلاء القوم وبين من ادعى الإمامة بعد الحسن
- عليه السلام - لبعض الطالبيين واعتمد على الدعوى المتعرية من برهان.
322

فأما ما اعتلوا به من الحديث عن أبي عبد الله - عليه السلام - إن الإمام هو الذي
لا يوجد منه ملجأ إلا إليه فإنه يقال لهم فيه: ولم زعمتم أنه لا ملجأ إلا إلى جعفر
وما أنكرتم أن يكون الملجأ هو ابن الحسن - عليه السلام - الذي نقل جمهور الإمام
النص عليه.
فإن قالوا: لا يجب أن يثبت وجود من لم يشاهد، قيل لهم: ولم لا يجب ذلك
إذا قامت الدلالة على وجوده مع أنه لا يجب علينا أن نثبت الإمامة لمن لا نص
عليه ولا دليل على إمامته، على أن هذه العلة يمكن أن يعتل بها كل من ادعى
الإمامة لرجل من آل أبي طالب بعد الحسن - عليه السلام -، ويقول إنما قلت ذلك
لأنني لم أجد ملجأ إلا إليه.
وأما الفرقة الراجعة عن إمامة الحسن - عليه السلام - والمنكرة لإمامة أخيه محمد
فإنها يحتج عليها بدليل إمامة الحسن - عليه السلام - من النص عليه والتواتر عن أبيه
به، ويطالب بالدلالة على إمامة علي بن محمد - عليه السلام -، وكل شئ اعتمدوه في
ذلك فإنه العمدة عليهم فيما أبوه من إمامة الحسن - عليه السلام - وأما إنكارهم لإمامة
محمد بن علي أخ الحسن - عليه السلام - فقد أصابوا في ذلك ونحن موافقوهم على
صحته.
وأما اعتلالهم لصوابهم في الرجوع عن إمامة الحسن - عليه السلام - وأنه ممن مضى
ولا عقب له، فهو اعتماد على التوهم لأن الحسن - عليه السلام - قد أعقب المنتظر
- عليه السلام -، والأدلة على إمامته أكثر من أن تحصى، وليس إذا لم نشاهد الإمام
بطلت إمامته، ولا إذا لم يدرك وجوده حسا واضطرارا ولم يظهر للخاصة والعامة،
كان ذلك دليلا على عدمه.
وأما الفرقة الأخرى الراجعة عن إمامة الحسن - عليه السلام - إلى إمامة محمد
أخيه، فهي كالتي قبلها والكلام عليها نحو ما سلف، مع أنهم أشد بهتانا ومكابرة
323

لأنهم أنكروا إمامة من كان حيا بعد أبيه وظهرت عنه من العلوم ما يدل على فضله
على الكل وادعوا إمامة رجل مات في حياة أبيه ولم يظهر منه علم ولا من أبيه
- عليه السلام - نص عليه بعد أن كانوا يعترفون بموته، وهؤلاء سقاط جدا.
وأما الفرقة التي اعترفت بولد الحسن - عليه السلام - وأقرت بأنه المنتظر إلا أنها
زعمت أنه علي وليس بمحمد، فالخلاف بيننا وبين هؤلاء في الاسم دون المعنى
والكلام لهم فيه خاصة، فيجب أن يطالبوا بالأثر في الاسم فإنهم لا يجدونه،
والأخبار منتشر في أهل الإمامة وغيرهم أن اسم القائم - عليه السلام - اسم رسول
الله (ص) ولم يكن في أسماء رسول الله (ص) علي، ولو ادعوا أنه أحمد لكان أقرب إلى
الحق، وهذا المقدار كاف فيما يحتج به على هؤلاء.
وأما الفرقة التي زعمت أن القائم ابن الحسن - عليه السلام - وأنه ولد بعد أبيه
بثمانية أشهر فأنكروا أن يكون له ولد في حياة أبيه، فإنه يحتج عليهم بوجوب
الإمامة من جهة العقول، وكل شئ يلزم المعتزلة وأصناف الناصبة يلزم هذه
الفرقة فيما ذهبوا إليه من جواز خلو العالم من وجود إمام حي كامل ثمانية أشهر،
لأنه لا فرق بين ثمانية أشهر والثمانين.
على أنه يقال لهم: لم زعمتم ذلك أبالعقل قلتموه أم بالسمع؟ فإن ادعوا
العقل أحالوا في العقول لأن العقل لا مدخل له في ذلك، وإن ادعوا السمع
طولبوا بالأثر فيه ولن يجدوه وإنما صاروا إلى هذا القول من جهة الظن والرجم
بالغيب، والظن لا يعتمد عليه في الدين.
وأما الفرقة الأخرى التي زعمت أن الحسن - عليه السلام - توفي عن حمل بالقائم
وأنه لم يولد بعد، فهي مشاركة للفرقة المتقدمة في إنكار الولادة، وما دخل على
تلك داخل على هذه ويلزمها من التجاهل ما يلزم تلك لقولها إن حملا يكون مائة
324

سنة، إذ كان هذا مما لم تجر به عادة ولا جاء به أثر في أحد من سائر الأمم ولم يكن
له نظير وهو وإن كان مقدورا لله تعالى فليس يجب أن يثبت إلا بعد الدليل
الموجب لثبوته.
ومن اعترف به من حيث الجواز فأوجبه، يلزمه إيجاب وجود كل مقدور
حتى لا يأمن لعل المياه قد استحالت ذهبا وفضة وكذلك الأشجار ولعل كل
كافر في العالم إذا نام مسخه الله تعالى قردا أو كلبا أو خنزيرا من حيث لم يشعر به
ثم يعيده إلى الإنسانية، ولعل بالبلاد القصوى مما لا نعرف خبره نساء يحبلن يوما
ويضعن في غده، وهذا كله جهل وضلال فتحه على نفسه من اعترف بخرق العادة
من غير حجة واعتمد على جواز ذلك في القدرة.
وأما الفرقة الأخرى التي زعمت أن الإمامة قد بطلت بعد الحسن - عليه السلام -
فإن وجوب الإمامة بالعقل يفسد قولها وقول الله: * (يوم ندعوا كل أناس
بإمامهم) * (1)، وقول النبي: " من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة
جاهلية "، وقول أمير المؤمنين - عليه السلام -: " اللهم إنك لا تخلي الأرض من حجة على
خلقك إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا تبطل حججك وبيناتك "، وقول
النبي (ص): " في كل خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ينفي عن هذا الدين
تحريف الغالين وانتحال المبطلين ".
وأما تعلقهم بقول الصادق - عليه السلام -: " إن الله لا يخلي الأرض من حجة إلا
أن يغضب على أهل الدنيا " فالمعنى في ذلك أنه لا يخليها من حجة ظاهرة بدلالة
ما قدمناه.
وأما الفرقة التي زعمت أن محمد بن علي - عليه السلام - كان إماما بعد أبيه وأنه

(1) - الإسراء / 71 (1).
325

وصى إلى غلام يقال له " نفيس " وأعطاه السلاح والكتب وأمره أن يدفعها إلى
جعفر فإن الذي قدمناه على الإسماعيلية من الدليل على بطلان إمامة إسماعيل
بوفاته في حياة أبيه يكسر قول هذه الفرقة، ونزيده بيانا أن وصي الإمام لا يكون إلا
إماما ونفيس غلام محمد لم يكن إماما، ويبطل إمامة جعفر عدم الدلالة على إمامة
محمد ودليل بطلان إمامته أيضا ما ذكرناه من وفاته في حياة أبيه.
وأما الفرقة التي أقرت بإمامة الحسن - عليه السلام - ووقفت بعده واعتقدت أنه
لا بد من إمام ولم يعينوا على أحد، فالحجة عليهم النقل الصادق بإمامة المنتظر
- عليه السلام - والنص من أبيه عليه، وليس هذا موضعه فنذكره على النظام -
وأما الفرقة التي أقرت بالمنتظر وأنه ابن الحسن - عليه السلام - وزعمت أنه قد
مات وسيحيى ويقوم بالسيف، فإن الحجة عليها ما يجب من وجود الإمام وحياته
وكماله وكونه بحيث يسمع الاختلاف ويحفظ الشرع، وبدلالة أنه لا فرق بين موته
وعدمه.
وأما الفرقة التي اعترفت بأن أبا محمد الحسن بن علي - عليه السلام - كان الإمام
بعد أبيه وادعت أنه لما حضرته الوفاة نص على أخيه جعفر بن علي، واعتلوا في
ذلك بأن زعموا أن دعوى من ادعى النص على ابن الحسن - عليه السلام - باطل والعقل
موجب للإمامة فلذلك اضطروا إلى القول بإمامة جعفر فإنه يقال لهم: لم زعمتم
أن نقل الإمامية النص من الحسن - عليه السلام - على ابنه باطل وما أنكرتم أن يكون
حقا لقيام الدلالة على وجوب الإمامة وثقة الناقلين وعلامة صدقهم بصفات
الغيبة والخبر فيها عما يكون قبل كونه وتكون النقلة لذلك خاصة أصحاب الحسن
- عليه السلام - والسفراء بينه وبين شيعته.
ولفساد إمامة جعفر لما كان عليه في الظاهر مما يضاد صفات الإمامة من
326

نقصان العلم وقلة المعرفة وارتكاب القبائح والاستخفاف بحقوق الله في مخلفي
أخيه مع عدم النص عليه ولفقد أحد من الخلق يروي ذلك أو يأثره عن أحد من
آبائه أو من أخيه خاصة، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه فقد سقط ما تعلق به هذا
الفريق أيضا.
على أنه لا فصل بين هؤلاء القوم وبين من ادعى إمامة بعض الطالبيين
واعتل بعلتهم في وجوب الإمامة وفساد قول الإمامية فيما يدعونه من النص على
ابن الحسن - عليه السلام -، فإذا كان لا فصل بين القولين وأحدهما باطل بلا اختلاف
فالآخر في البطلان والفساد مثله، فهذه وفقكم الله جملة كافية فيما قصدناه، ونحن
نشرح هذه الأبواب والقول فيها على الاستقصاء والبيان في كتاب نفرده بعد، والله
ولي التوفيق وإياه نستهدي إلى سبيل الرشاد.
فصل
سئل الشيخ أيده الله فقيل له: أليس رسول الله (ص) قد ظهر قبل استتاره
ودعا إلى نفسه قبل هجرته وكانت ولادته معروفة ونسبه مشهورا وداره معلومة، هذا
مع الخبر عنه في الكتب الأولى والبشارة به في صحف إبراهيم وموسى - عليهما السلام -
وإدراك قريش وأهل الكتاب علاماته ومشاهدتهم لدلائل نبوته وأعلام عواقبه،
فكيف لم يخف مع ذلك على نفسه ولا أمر الله أباه بستر ولادته وفرض عليه إخفاء
أمره كما زعمتم أنه فرض ذلك على أبي الإمام لما كان المنتظر عندكم من بين الأئمة
والمشار إليه بالقيام بالسيف دون آبائه، فأوجب ذلك على ما ادعيتموه واعتللتم به
في الفرق بين آبائه وبينه في الظهور على خبره وكتم ولادته والستر عن الأنام
شخصه، وهل قولكم في الغيبة مع ما وصفناه من حال النبي (ص) إلا فاسد
327

متناقض.
جواب - يقال إن المصلحة لا تكون من جهة القياس ولا تعرف أيضا
بالتوهم ولا يتوصل إليها بالنظائر والأمثال، وإنما تعلم من جهة علام الغيوب
المطلع على الضمائر العالم بالعواقب الذي لا تخفى عليه السرائر، فليس ننكر أن
يكون الله سبحانه قد علم من حال رسول الله (ص) مع جميع ما شرحتم أنه لا يقدم
عليه أحد ولا يؤثر ذلك منه إما لخوف من الإقدام على ذلك أو لشك فيما قد
سمعوه من وصفه أو لشبهة عرضت لهم في الرأي فيه، فتدبير الله سبحانه له في
الظهور على خلاف تدبير الإمام المنتظر لاختلاف الحالين.
ويدل على ما بيناه ويوضح عما ذكرناه أنه لم يتعرض أحد من عبدة الأوثان
ولا أهل الكتاب ولا أحد من ملوك العرب والفرس مع ما قد اتصل بهم من
البشارة بالنبي (ص) لأحد من آباء رسول الله (ص) بالإخافة، ولا لاستبراء واحدة من
أمهاته لمعرفة الحمل به، ولا قصدوا الإضرار به في حال الولادة ولا طول زمانه إلى
أن صدع بالرسالة.
ولا خلاف أن الملوك من ولد العباس لم يزالوا على الإخافة لآباء الإمام
وخاصة ما جرى من أبي جعفر المنصور مع الصادق - عليه السلام -، وما صنعه هارون
بأبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم - عليه السلام - حتى هلك في حبسه ببغداد، وما
قصد المتوكل بأبي الحسن العسكري - عليه السلام - جد الإمام حتى أشخصه من
الحجاز فحبسه عنده بسر من رأى، وكذلك جرى أمر أبي محمد الحسن - عليه السلام -
بعد أبيه إلى أن قبضه الله تعالى.
ثم كان من أمر المعتمد بعد وفاة أبي محمد - عليه السلام - ما لم يخف على أحد من
حبسه لجواريه والمساءلة عن حالهن في الحمل، واستبراء أمرهن عندما اتفقت
328

كلمة الإمامية على أن القائم هو ابن الحسن - عليه السلام - فظن المعتمد أنه يظفر به
فيقتله ويزيل طمعهم في ذلك فلم يتمكن من مراده وبقي بعض جواري أبي
محمد - عليه السلام - في الحبس أشهرا كثيرة، فدل بذلك على الفرق بين حال النبي (ص)
في مولده وبين الإمام - عليه السلام - على ما قدمناه بما ذكرناه وشرحناه.
وشئ آخر وهو أن الخوف قد كان مأمونا على رسول الله (ص) من بني هاشم
وبني عبد المطلب وجمع أهل بيته وأقاربه، لأن الشرف المتوقع له بالنبوة كان
شرفهم والمنزلة التي تحصل له بذلك فهي تختص بهم، وعلمهم بهذه الحال يبعثهم
على صيانته وحفظه وكلاءته ليبلغ الرتبة التي يرجونها له فينالون بها أعلى المنازل
ويملكون بها جميع العالم.
وأما البعداء منهم في النسب فيعجزون عن إيقاع الضرر به لموضع أهل بيته
ومنعهم منه وعلمهم بحالهم وأنهم أمنع العرب جانبا وأشدهم بأسا وأعزهم
عشيرة، فيصدهم ذلك عن التعرض له ويمنع من خطوره ببالهم، وهذا فصل بين
حال النبي (ص) فيما يوجب ظهوره مع انتشار ذكره والبشارة به، وبين الإمام فيما
يجوز استتاره وكتم أمر ولادته، وهذا بين لمن تدبره.
وشئ آخر وهو أن ملوك العجم في زمان مولد النبي (ص) لم يكونوا يكرهون
مجئ نبي يدعو إلى شرع مستأنف ولا يخافون بمجيئه على أنفسهم ولا على ملكهم
لأنهم كانوا ينوون الإيمان به والاتباع له، وقد كانت اليهود تستفتح به على العرب
وترجو ظهوره كما قال الله عز وجل: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) * (1) وإنما
حصل للقوم الخلاف عليه والإباء له بنية تجددت لهم عند مبعثه.
ولم يجر أمر الإمام المنتظر - عليه السلام - هذا المجرى بل المعلوم من حال جميع

(1) - البقرة / 89.
329

ملوك زمان مولده ومولد آبائه، خلاف ذلك من اعتقادهم فيمن ظهر منهم يدعو
إلى إمامة نفسه أو يدعو إليه داع، سفك دمه واستئصال أهله وعشيرته وهذا أيضا
فرق بين الأمرين.
وشئ آخر وهو أن رسول الله (ص) مكث ثلاث عشرة سنة يدعو بمكة إلى
دينه والاعتراف بالوحدانية وبنبوته ويسفه جميع من خالفه ويضللهم ويسب
آلهتهم، فلم يقدم أحد منهم على قتله ولا رام ذلك ولا استقام لهم نفيه عن بلادهم
ولا حبسه ولا منعه من دعوته، ونحن نعلم علما يقينا لا يتخالجنا فيه الشك بأنه لو
ظن أحد من ملوك هذه الأزمان ببعض آل أبي طالب أنه يحدث نفسه بادعاء
الإمامة بعد مدة طويلة، لسفك دمه دون أن يعلم ذلك ويتحققه فضلا عن أن
يراه ويجده.
وقد علم أهل العلم كافة أن أكثر من حبس في السجون من ولد رسول
الله (ص) وقتل بالغيلة إنما فعل به ذلك على الظنة والتهمة دون اليقين والحقيقة، ولو
لم يكن أحد منهم حل به ذلك إلا موسى بن جعفر - عليه السلام - لكان كافيا ومن تأمل
هذه الأمور وعرفها وفكر فيما ذكرناه وتبينه انكشف له الفرق بين النبي وبين الإمام
فيما سأل عنه هؤلاء القوم ولم يتخالجه فيه ارتياب والله الموفق للصواب.
وبهذا النحو يجب أن يجاب من سأل فقال: أليس الرسول قد ظهر في أول
أمره وعرفت العامة والخاصة وجوده ثم استتر بعد ذلك عند الخوف على نفسه فقد
كان يجب أن يكون تدبير الإمام في ظهوره واستتاره كذلك. مع أن الاتفاقات ليس
عليها قياس، والألطاف والمصالح تختلف في أنفسها ولا تدرك حقائقها إلا بسمع
يرد عن عالم الخفيات جلت عظمته فلا يجب أن نسلك في معرفتها طريق الاعتبار.
وليس يستتر هذا الباب إلا على من قل علمه بالنظر وبعد عنه الصواب
والله نستهدي إلى سبيل الرشاد.
330

فصل
ومن حكايات الشيخ وكلامه قال الشيخ أيده الله: حضرت مجلسا لبعض
الرؤساء وكان فيه جمع كثير من المتكلمين والفقهاء فألفيت أبا الحسن علي بن
عيسى الرماني يكلم رجلا من الشيعة يعرف بأبي الصقر الموصلي في شئ يتعلق
بالحكم في فدك ووجدته قد انتهى في كلامه إلى أن قال له: قد علمنا باضطرار أن
أبا بكر قال لفاطمة - عليها السلام - عند مطالبتها له بالميراث: " سمعت رسول الله يقول
نحن معاشر الأنبياء لا نورث " فسلمت - عليها السلام - لقوله ولم ترده عليه، وليس يجوز
على فاطمة - عليها السلام - أن تصبر على المنكر وتترك المعروف وتسلم للباطل لا سيما
وأنتم تقولون إن عليا - عليه السلام - كان حاضرا للمجلس، ولا شك أن جماعة من
المسلمين حضروه واتصل خبره بالباقين فلم ينكره أحد من الأمة ولا علمنا أن
أحدا رد على أبي بكر وأكذبه في الخبر، فلولا أنه كان محقا فيما رواه من ذلك لما
سلمت الجماعة له ذلك.
فاعترضه الرجل الإمامي بما روي عن فاطمة - عليها السلام - من ردها عليه
وإنكارها لروايته وخطبتها في ذلك واستشهادها على بطلان خبره بظاهر القرآن
وأورد كلاما في هذا المعنى على حسب ما يقتضيه واتسعت له الحال.
فقال علي بن عيسى: هذا الذي ذكرته شئ تختص أنت وأصحابك به،
والذي ذكرته من الحكم عليها شئ عليه الاجماع وبه حاصل علم الاضطرار فلو
كان ما تدعونه من خلافه حقا، لارتفع معه الخلاف وحصل عليه الاجماع كما
حصل على ما ذكرت لك من رواية أبي بكر وحكمه، فلما لم يكن الأمر كذلك دل
331

على بطلانه.
فكلمه الإمامي بكلام لم أرتضه، وتكرر منهما جميعا، فأشار صاحب
المجلس إلي لأخذ الكلام فأحس بذلك علي بن عيسى فقال لي: إنني قد جعلت
على نفسي أن لا أتكلم في مسألة واحدة مع نفسين في مجلس واحد فأمسكت عنه
وتركته حتى انقطع الكلام بينه وبين الرجل.
ثم قلت له: خبرني عن المختلف فيه هل يدل الاختلاف على بطلانه؟ فظن
أنني أريد شيئا غير المسألة الماضية وأنني لا أكسر شرطه فقال: لست أدري أي
شئ تريد بهذا الكلام فأبن لي عن غرضك لأتكلم عليه، فقلت له: لم آتك بكلام
مشكل ولا خاطبتك بغير العربية، وغرضي في نفس هذا السؤال مفهوم لكل ذي
سمع من العرب إذا أصغى إليه ولم يله عنه، اللهم إلا أن تريد أن أبين لك عن
غرضي فيما أجري بهذه المسألة إليه فلست أفعل ذلك بأول وهلة إلا أن تلزمني في
حكم النظر، والذي استخبرتك عنه معروف صحته وأنا أكرره: أتقول إن الشئ
إذا اختلف العقلاء في وجوده أو صحته وفساده كان اختلافهم دليلا على بطلانه،
أو قد يكون حقا وإن اختلفت العقلاء فيه؟
فقال: ليس يكون الشئ باطلا من حيث اختلف الناس فيه ولا يذهب إلى
ذلك عاقل.
فقلت له: فما أنكرت الآن أن تكون فاطمة - عليها السلام - قد أنكرت على أبي
بكر حكمه، وردت عليه في خبره، واحتجت عليه في بطلان قضائه، واستشهدت
بالقرآن على ما جاء الأثر به ولا يجب أن يقع الاتفاق على ذلك وإن كان حقا ولا
يكون الخلاف فيه علامة على كذب مدعيه بل قد يكون صدقا وإن اختلف فيه
على ما أعطيت في الفتيا التي قررناك عليها.
332

فقال: أنا لا أعتمد على ما سمعت مني من الكلام مع الرجل على
الاختلاف فيما ادعاه إلا بعد أن قدمت معه مقدمات لم تحض ها، والذي أعتمد
عليه الآن معك أن الذي يدل على صدق أبي بكر فيما رواه عن النبي (ص) من أنه لا
يورث وصوابه فيما حكم به، ما جاء به الخبر عن علي - عليه السلام - أنه قال: " ما
حدثني أحد بحديث إلا استحلفته ولقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر " فلو لم
يكن عنده صادقا أمينا عادلا، لما عدل عن استحلافه ولا صدقه في روايته ولا ميز
بينه وبين الكافة في خبره، وهذا يدل على أن ما يدعونه على أبي بكر من تخرص
الخبر فاسد محال.
فقلت له: أول ما في هذا الباب أنك قد تركت الاعتلال الذي اعتمدته بدئا
ورغبت عنه بعد أن كنت راغبا فيه وأحلتنا على شئ لا نعرفه ولا سمعناه وإنما
بينا الكلام على الاعتلال الذي حضرناه ولسنا نشاحك في هذا الباب لكنا نكلمك
على ما استأنفته من الكلام.
أنت تعلم وكل عاقل عرف المذاهب وسمع الأخبار، أن الشيعة لا تروي
هذا الحديث عن أمير المؤمنين - عليه السلام - ولا تصححه بل تشهد بفساده وكذب
رواته، وإنما يرويه آحاد من العامة ويسلمه من دان بإمامة أبي بكر خاصة، فإن لزم
الشيعة أمر بحديث تفرد به خصومهم لزم المخالفين ما تفردت الشيعة بروايته،
وهذا على شرط الإنصاف وحقيقة النظر والعدل فيه فيجب أن تصير إلى اعتقاد
ضلالة كل من روت الشيعة عن النبي (ص) وعن علي والأئمة من ذريته - عليهم السلام -
ما يوجب ضلالتهم، فإن لم تقبل ذلك ولم تلتزمه لتفرد القوم بنقله دونك فكيف
استجزت إلزامهم الاقرار برواية ما تفردت به دونهم لولا التحكم دون الإنصاف.
على أن أقرب الأمور في هذا الكلام أن تتكافأ الروايات ولا يلزم أحد
333

الفريقين منهما إلا ما حصل عليه الاجماع أو يضم إليه دليل يقوم مقام الاجماع في
الحجة والبيان، وفي هذا إسقاط الاحتجاج بالخبر من أصله.
مع أني أسلمه لك تسليم جدل وأبين لك أنك لم توف الدليل حقه ولا
اعتمدت على برهان، وذلك أنه ليس من شرط الكاذب في خبر أن يكون كاذبا في
جميع الأخبار، ولا من شرط من صدق في شئ أن يصدق في كل الأخبار وقد
وجدنا اليهود والنصارى والملحدين يكذبون في أشياء ويصدقون في غيرها، فلا
يجب لصدقهم فيما صدقوا فيه أن نصدقهم فيما كذبوا فيه، ولا نكذبهم فيما صدقوا
لأجل كذبهم في الأمور الأخر ولا نعلم أن أحدا من العقلاء جعل التصديق لزيد
في مقالة واحدة دليلا على صدقه في كل أخباره.
وإذا كان ذلك كذلك فما أنكرت أن يكون الرجل مخطئا فيما رواه عن
النبي (ص) في الميراث وأن أمير المؤمنين - عليه السلام - قد صدقه فيما رواه من الحديث
الذي لم يستحلفه فيه، فيكون وجه تصديقه له وعلة ذلك أنه - عليه السلام - شاركه في
سماعه من النبي (ص) فكان حفظه له عنه يغنيه عن استحلافه، ويدله على صدقه
فيما أخبر به ولا يكون ذلك من حيث التعديل له والحكم على ظاهره.
على أن الذي رواه أبو بكر عن النبي (ص) يدل على صحته العقل ويشهد
بصوابه القرآن فكان تصديق أمير المؤمنين - عليه السلام - له من حيث العقل والقرآن لا
من جهة روايته هو عن النبي (ص) ولا لحسن ظاهر له على ما قدمناه.
وذلك أن الخبر الذي رواه أبو بكر هو أن قال: سمعت رسول الله يقول: " ما
من عبد يذنب ذنبا فيندم عليه ويخرج إلى صحراء فلاة فيصلي ركعتين ثم يعترف به
ويستغفر الله عز وجل فيه إلا غفر الله له " وهذا شئ قد نطق به القرآن، قال الله
تعالى * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما
334

تفعلون) * (1) وقال: * (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) * (2) والعقل يدل على
قبول التوبة.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما تعلقت به وكان ذكره لأبي بكر
خاصة لأنه لم يحدثه بحديث غير هذا، فصدقه لما ذكرناه وأخبر عن تصديقه بما
وصفناه، ولم يكن ذلك لتعديله على ما ظننت، ولا لتصويبه في الأحكام كلها على
ما قدمت بما شرحناه.
فقال عند سماع هذا الكلام: أنا لم أعتمد في عدالة أبي بكر وصحة حكمه
على الخبر وإنما جعلته توطئة للاعتماد فطولت الكلام فيه وأطنبت في معناه، والذي
أعتمده في هذا الباب أني وجدت أمير المؤمنين - عليه السلام - قد بايع أبا بكر وأخذ
عطاءه وصلى خلفه ولم ينكر عليه بيد ولا لسان، فلو كان أبو بكر ظالما لفاطمة
- عليها السلام -، لما جاز أن يرضى به أمير المؤمنين - عليه السلام - إماما ينتهي في طاعته إلى ما
وصفت.
فقلت له: هذا انتقال ثان بعد انتقال أول وتدارك فائت وتلافي فارط وتذكر
ما كان منسيا، وإن عملنا على هذه المجازفة انقطع المجلس بنشر المسائل والتنقل
فيها والتحيز وخرج الأمر عن حده وصار مجلس مذاكرة دون تحقيق جدل
ومناظرة، وأنت لا تزال تعتذر في كل دفعة عندما يظهر من وهن متعمداتك بأنك
لم تردها ولكنك وطأت بها، فخبرني الآن هل هذا الذي ذكرته آخرا هو توطئة أو
عماد؟ فإن كان توطئة عدلنا عن الكلام فيه وسألناك عن المعتمد، وإن كان أصلا
كلمناك عليه.

(1) - الشورى / 25
(2) - البقرة / 222.
335

مع أني لست أفهم منك معنى التوطئة لأن كل كلام اعتل به معتل ففسد
فقد انهدم ما بناه عليه ووضح فساد ما بينه إن بناه عليه، فاعتذارك في فساد ما
تقدم ما بناه توطئة لا معنى له.
ولكننا نتجاوز هذا الباب ونقول لك: ما أنكرت على من قال لك إن ما
ادعيته من أن أمير المؤمنين - عليه السلام - بايع الرجل دعوى عرية عن برهان ولا فرق
بينها وبين قولك إنه كان مصيبا فيما حكم به على فاطمة - عليها السلام -
فدل على أن أمير المؤمنين - عليه السلام - قد بايع على ما ادعيت ثم ابن عليه،
فإما أن تعتمد على الدعوى المحضة فإنها تضر ولا تنفع، وقولك إنه - عليه السلام - صلى
خلف الرجل، فإن كنت تريد أنه صلى متأخرا عن مقامه فلسنا ننكر ذلك وليس
فيه دلالة على رضاه به، وإن أردت أنه صلى مقتديا به ومؤتما فما الدليل على ذلك
فإنا نخالفك فيه وعنه ندفعك، وهذه دعوى كالأولى تضر من اعتمد عليها أيضا
ولا تنفع.
وأما قولك إنه أخذ العطاء فالأمر كما وصفت، ولكن لم زعمت أن في ذلك
دلالة على رضاه بإمامته والتسليم له في حكمه، أوليس تعلم أن خصومك يقولون
في ذلك إنه أخذ بعض حقه ولم يكن يحل له الامتناع من أخذه لأن في ذلك
تضييعا لماله وقد نهى الله تعالى عن التضييع وأكل الأموال بالباطل.
وبعد فما الفصل بينك وبين من جعل هذا الذي اعتمدت عليه بعينه حجة
في إمامة معاوية، فقال: وجدت الحسن والحسن و عبد الله بن عباس و عبد الله بن
جعفر وغيرهم من المهاجرين والأنصار قد بايعوا معاوية بن أبي سفيان بعد صلح
الحسن - عليه السلام - وأخذوا منه العطاء وصلوا خلفه الفرائض ولم ينكروا عليه بيد ولا
لسان فكل ما جعلته اسقاطا لهذا الاعتماد فهو بعينه دليل على فساد ما اعتمدته
حذو النعل بالنعل، فلم يأت بشئ تجب حكايته.
336

فصل
ومن حكايات الشيخ وكلامه قال: سألني أبو الحسن علي بن نصر الشاهد
بعكبرا في مسجده وأنا متوجه إلى سر من رأى فقال: أليس قد ثبت عندنا أن أمير
المؤمنين - عليه السلام - كان أعلم الصحابة كلها وأعرفها بمعالم الدين وكانوا يستفتونه
ويتعلمون منه لفقرهم إليه، وكان غنيا عنهم لا يرجع إلى أحد منهم في علم الدين
ولا يستفيده - عليه السلام - منهم؟ فقلت: نعم هذا قولنا وهذا الواضح الذي لا خفاء
به ولا يمكن عاقل دفعه ولا يقدم أحد على إنكاره إلا أن يرتكب البهت والمكابرة.
فقال أبو الحسن: فإن بعض أهل الخلاف قد احتج علي في دفع هذا بأن
قال: قد وردت الرواية عن علي - عليه السلام - أنه قال: " ما حدثني أحد بحديث إلا
استحلفته عليه ولقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر "، فلو كان يعلم صلوات الله
عليه جميع الدين ولا يفتقر إلى غيره لما احتاج إلى استحلاف من يحدثه ولا
الاستظهار في يمينه ليصح عنده علم ما أخبر به.
وقد روي أيضا أنه - عليه السلام - حكم في شئ فقال له شاب من القوم:
أخطأت يا أمير المؤمنين. فقال - عليه السلام - له: صدقت أنت وأخطأت فماذا يكون
الجواب عن هذا الكلام وكيف الطريق إلى حله؟
فقلت له: أول ما في هذا الكلام أن الأخبار لا تتقابل ويحكم ببعضها على
بعض حتى تتساوى في الصفة فيكون الظاهر المستفيض مقابلا لمثله في
الاستفاضة والمتواتر مقابلا لمثله في التواتر والشاذ مقابلا لمثله في الشذوذ.
وما ذكرناه عن مولانا - عليه السلام - مستفيض قد تواتر به الخبر على التحقيق،
337

وما ذكره هذا الرجل عنه - عليه السلام - من الحديثين، فأحدهما شاذ وارد من طريق
الآحاد غير مرضي الإسناد، والآخر ظاهر البطلان لانقطاع إسناده وعدم وجوده في
نقل معروف من الثقات، وليس يجوز المقابلة في مثل هذه الأخبار بل الواجب
إسقاط الظاهر منها الشاذ وإبطال المتواتر ما ضاده من الآحاد.
والثاني إن لما ذكره الخصم من الحديث الأول عن أمير المؤمنين - عليه السلام - غير
وجه يلائم ما ذكرناه من فضل مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام - في العلم على سائر
الأنام:
منها أنه - عليه السلام - إنما كان يستحلف على الأخبار لئلا يجتري مجتر على
الإضافة إلى رسول الله (ص) بالسماع ما لم يسمعه منه وإنما ألقي إليه عنه فحصل
عنده بالبلاغ.
ومنها أنه كان يستحلف مع العلم بصدق المخبر ليتأكد خبره عند غيره من
السامعين فلا يشك فيه ولا يرتاب.
ومنها أنه - عليه السلام - استحلف فيما عرفه يقينا ليكون ذلك حجة له إذا حكم
به على أهل العناد ولا يقول قائل منهم عند حكمه بذلك قد حكم بالشاذ.
ومنها أنه يكون استحلافه - عليه السلام - للخبر بما لا يتضمن حكما في الدين
ويتضمن أدبا وموعظة أو لفظة حكمة أو مدحة لإنسان أو مذمة فلا يجب إذا
علم ذلك من غيره أن يكون فقيرا في علم الدين إليه وناقصا في العلم عن رتبته.
على أن لفظ الحديث " ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته " فهذا يوجب
بالضرورة أنه كان يستحلف على ما يعلم لأنه محال أن يكون كل من حدثه حدثه
بما لا يعلم، وإذا ثبت أنه قد استحلف على علم لأحد ما ذكرناه أو لعلة من العلل
بطل ما اعتمده هذا الخصم.
338

وأما الحديث الثاني فظهور بطلانه أوضح من أن يخفى وذلك أنه قال فيه:
إن شابا قال له: ليس الحكم فيه ذلك، فقال أمير المؤمنين - عليه السلام - على ما زعم
الخصم: أصبت أنت وأخطأت، وهذا واضح السقوط على ما بيناه لأنه لا يخلو
- عليه السلام - أن يكون حكم بالخطأ مع علمه بأنه خطأ، أو يكون حكم بالخطأ وهو
يظن أنه صواب فإن كان حكم بالخطأ على علم بأنه خطأ عاند في دين الله وضل
بإقدامه على تغيير حكم الله وهو - عليه السلام - يجل عن هذه الرتبة ولا يعتقد مثل هذا
فيه الخوارج فضلا عمن دونهم في عداوته من الناصبة، وإن كان حكم بالخطأ وهو
يظن أنه صواب فكيف زال ظنه عن ذلك وانتقل عنه بقول رجل واحد لا يعضده
برهان وهذا مما لا يتوهم على أحد من أهل الأديان.
على أنه لو كان لهذا الحديث أصل أو كان معروفا عند أحد من أهل الآثار
لكان الرجل معروفا مشهورا بالعين والنسب مشهور القبيلة والمكان، ولكان أيضا
الحكم الذي جرى فيه هذا الأمر مشهورا عند الفقهاء ومدونا عند أصحاب
الأخبار، وفي عدم معرفة الرجل وتعيين الحكم وعدمه من الأصول دليل على
بطلانه كما بيناه.
على أن الأمة قد اتفقت عنه - عليه السلام - أنه قال: " ضرب رسول الله (ص) بيده
على صدري وقال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فما شككت في قضاء بين اثنين "
وهذا مضاد لوقوع الخطأ منه - عليه السلام - في الأحكام ومانع من دخول السهو عليه في
شئ منها والارتياب.
وأجمعوا أن النبي (ص) قال: " علي مع الحق والحق مع علي يدور حيث ما دار "
وليس يجوز أن يكون من هذا وصفه يخطئ في الدين أو يشك في الأحكام.
وأجمعوا أن النبي (ص) قال: " علي أقضاكم " وأقضى الناس لا يجوز أن يخطف
339

في الأحكام، ولا أن يكون غيره أعلم منه بشئ من الحكم، فدل بذلك على بطلان
ما اعترض به الخصم وكشف عن وهنه على البيان وبالله التوفيق وإياه نستهدي إلى
سبيل الرشاد.
وأما التعلق من الخبر بقوله " وصدق أبو بكر " في تعديله وإثبات الإمامة له،
فليس بصحيح لأنه قد يصدق من لا يستحق الثواب، وقد يحكم بالصدق في
الخبر لمن يستحق العقاب، فلا وجه لتعلقه بذلك، مع أن الخبر باطل لا يثبت
بأدلة قد ذكرناها في مواضعها والحمد لله.
فصل
وحضر الشيخ أبو عبد الله أيده الله بمسجد الكوفة فاجتمع إليه من أهلها
وغيرهم أكثر من خمسمائة إنسان فابتدر إليه رجل من الزيدية أراد الفتنة والشناعة
فقال: بأي شئ استجزت إنكار إمامة زيد بن علي؟
فقال له الشيخ: إنك قد ظننت علي ظنا باطلا، وقولي في زيد لا يخالفني فيه
أحد من الزيدية فلا يجب أن يتصور مذهبي في ذلك بالخلاف لهم.
فقال له الرجل: وما مذهبك في إمامة زيد بن علي؟
فقال له الشيخ: أنا أثبت من إمامة زيد ما تثبته الزيدية وأنفي عنه من
ذلك ما تنفيه فأقول: إن زيدا رحمة الله عليه كان إماما في العلم والزهد والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنفي عنه الإمامة الموجبة لصاحبها العصمة والنص
والمعجز وهذا ما لا يخالفني عليه أحد من الزيدية حسبما قدمت.
فلم يتمالك جميع من حضر من الزيدية أن شكروه ودعوا له وبطلت حيلة
الرجل فيما أراد من التشنيع والفتنة.
340

فصل
وحضر الشيخ أبو عبد الله أيده الله بسر من رأى واجتمع عليه من
العباسيين وغيرهم جمع كثير فقال له بعض مشايخ العباسيين: أخبرني من كان
الإمام بعد رسول الله (ص)؟
فقال له: كان الإمام من دعاه العباس إلى أن يمد يده لبيعته على حرب من
حارب وسلم من سالم.
فقال له العباسي: ومن هذا الذي دعاه العباس إلى ذلك؟
فقال له الشيخ: هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - حيث قال له
العباس في اليوم الذي قبض فيه رسول الله (ص) بما اتفق عليه أهل النقل: " ابسط
يدك يا بن أخ أبايعك فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك
اثنان ".
فقال له شيخ من فقهاء أهل البلد: فما كان الجواب من علي؟
فقال له: كان الجواب أن قال له: إن رسول الله (ص) عهد إلي أن لا أدعو أحدا
حتى يأتوني ولا أجرد سيفا حتى يبايعوني ومع هذا فلي برسول الله شغل.
فقال العباسي: فقد كان العباس رحمه الله إذن على خطأ في دعائه له إلى
البيعة.
فقال له الشيخ: لم يخطئ العباس فيما قصد لأنه عمل على الظاهر وكان
عمل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الباطن وكلاهما أصاب الحق ولم يخطئه والحمد
لله.
فقال له العباسي: فإن كان علي بن أبي طالب هو الإمام بعد النبي (ص) فقد
أخطأ أبو بكر وعمر ومن اتبعهما وهذا أعظم في الدين.
341

فقال له الشيخ: لست أنشط الساعة للفتيا بتخطئة أحد وإنما أجبتك عن
شئ سألت عنه، فإن كان صوابا وضمن تخطئة إنسان فلا تستوحش من اتباع
الصواب، وإن كان باطلا فتكلم على إبطاله فهو أولى من التشنيع بما لا يجدي
نفعا.
مع أنه إن استعظمت تخطئة من ذكرت فلا بد لك من تخطئة علي والعباس
من قبل أنهما قد تأخرا عن بيعة أبي بكر ولم يرضيا بتقدمه عليهما، ولا عملا له ولا
لصاحبه عملا، ولا تقلدا لهما ولاية ولا رآهما أبو بكر وعمر أهلا أن يشركاهما في
شئ من أمورهما، وخاصة ما صنعه عمر بن الخطاب فإنه ذكر من يصلح للإمامة
في الشورى ومن يصلح للنظر في الاختيار فلم يذكر العباس في إحدى الطائفتين
ولما ذكر عليا - عليه السلام - عابه ووصفه بالدعابة تارة وبالحرص على الدنيا أخرى،
وأمر بقتله إن خالف عبد الرحمان بن عوف وجعل الحق في حيز عبد الرحمان دونه
وفضله عليه.
هذا وقد أخذ منه ومن العباس ومن جميع بني هاشم الخمس الذي جعله
الله تعالى لهم وأرغمهم فيه وحال بينهم وبينه وجعله في السلاح والكراع، فإن كنت
أيها الشيخ أيدك الله تنشط للطعن على علي والعباس بخلافهما للشيخين
وكراهتهما لإمارتهما وتأخرهما عن بيعتهما، وترى من العقد فيهما ما - سنه الشيخان
من أمرهما من التأخير لهما عن شريف المنازل والغض منهما والحط من أقدارهما،
فصر إلى ذلك فإنه الضلال بغير شبهة، وإن كنت ترى ولايتهما والتعظيم لهما
والاقتداء بهما، فاسلك سبيلهما ولا تستوحش من تخطئة من خالفهما، وليس هاهنا
منزلة ثالثة.
فقال العباسي عند سماع هذا الكلام: اللهم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا
فيه يختلفون.
342