الكتاب: الأمالي
المؤلف: السيد المرتضى
الجزء: ٢
الوفاة: ٤٣٦
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: تصحيح وتعليق : السيد محمد بدر الدين النعساني الحلبي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٢٥ - ١٩٠٧ م
المطبعة:
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
ردمك:
ملاحظات:

(الجزء الثاني من كتاب)
أمالي السيد المرتضى
(الشريف أبي القاسم علي بن طاهر أبي احمد الحسين المتوفي سنة 436 رضي الله عنه) (في التفسير والحديث والأدب)
(الطبعة الأولى)
(سنة 1325 ه‍ و 1907 م)
(على نفقة أحمد ناجي الجمالي ومحمد أمين الخانجي وأخيه)
(حقوق الطبع محفوظة)
صححه وضبط ألفاظه وعلق حواشيه (السيد محمد بدر الدين النعساني الحلبي)
منشور المكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
قم إيران 1403 ه‍ ق
1

بسم الله الرحمن الرحيم
[تأويل خبر].. ان سأل سائل عن الخبر المروى عن عبد الله بن عمر أنه قال
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع
الرحمن يصرفها كيف شاء ثم يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك اللهم
مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.. وعما يرويه أنس قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما من قلب آدمي إلا وهو بين إصبعين من أصابع الله تعالى فإذا شاء أن
يثبته ثبته وان شاء أن يقلبه قلبه.. وعما يرويه ابن حوشب قال قلت لام سلمة زوج
النبي صلى الله عليه وسلم ما كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان أكثر
دعائه يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقالت قلت يا رسول الله ما أكثر دعائك
يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقال يا أم سلمة ما من آدمي إلا وقلبه بين إصبعين
من أصابع الله عز وجل ما شاء أقام وما شاء أزاغ.. فقال ما تأويل هذه الأخبار على
ما يطابق التوحيد وينفى التشبيه أوليس من مذهبكم ان الأخبار التي يخالف ظاهرها
الأصول ولا تطابق العقول لا يجب ردها والقطع على كذب راويها إلا بعد أن لا يكون
لها في اللغة مخرج ولا تأويل وإن كان لها ذلك فباستكراه أو تعسف ولستم ممن يقول
ذلك في مثل هذه الأخبار فما تأويلها.. الجواب ان الذي يعول عليه من تكلم في
تأويل هذه الأخبار هو أن يقول إن الأصبع في كلام العرب وإن كانت الجارحة
المخصوصة فهي أيضا الأثر الحسن يقال لفلان على ماله وإبله أصبع حسنة أي قيام وأثر
حسن.. قال الراعي يصف راعيا حسن القيام على إبله
ضعيف العصا بادي العروق ترى له * عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا
.. وقال طفيل الغنوي يصف فحلا
2

كميت كركن الباب أحيى بناته * مقاليتها فاستحشمتهن إصبع
.. وقال لبيد بن ربيعة
من يبسط الله عليه إصبعا * بالخير والشر بأي أولعا (1)
يملأ له منه ذنوبا مترعا
.. وقال حميد بن ثور
أغر كلون البدر في كل منكب * من الناس نعمى تحتديها وإصبع
.. وقال آخر
وأرزنات ليس فيهن أبن * ذو إصبع في مسها وذو فطن
.. وقال آخر
أكرم نزار أو اسقه المشعشعا * فإن فيه خصلات أربعا
حدا وجودا وندى وأصبعا *
والأصبع في كل ما أوردناه المراد بها الأثر الحسن والنعمة فيكون المعنى ما من آدمي
إلا وقلبه بين نعمتين لله جليلتين حسنتين.. فان قيل هذا قد ذكر كما حكيتم إلا أنه
لم يفصل ما النعمتان وما وجه التثنية ههنا ونعم الله تعالى على عباده كثيرة لا تحصى
.. قلنا يحتمل أن يكون الوجه في ذلك نعم الدنيا ونعم الآخرة وشاهما لأنهما كالجنسين أو
كالنوعين وإن كان كل قبيل منهما في نفسه ذا عدد كثير لأن الله تعالى قد أنعم على
عباده بان عرفهم بأدلته وبراهينه ما أنعم به عليهم من نعم الدنيا والآخرة وعرفهم مالهم
في الاعتراف بذلك والشكر عليه والثناء به من الثواب الجزيل والبقاء في النعيم الطويل
.. ويمكن أن يكون الوجه في تسميتهم للأثر الحسن بالأصبع هو من حيث يشار إليه

(1) أنشده في اللسان في مادة ص ب ع
من يجعل الله عليه إصبعا * في الخير أو الشر يلقاه معا
3

بالأصبع اعجابا به وتنبيها عليه وهذه عادتهم في تسمية الشئ بما يقع عنده وبما له به علقة
وقد قال قوم في بيتي طفيل والراعي أنهما أرادا أن يقولا يدا في مكان الأصبع لان اليد
النعمة فلم يمكنهما فعدلا عن اليد إلى الأصبع لأنها من اليد وفي الأصبع التي هي
الجارحة ثمان لغات. أصبع بفتح الألف والباء. وأصبع بفتح الألف وكسر الباء
وأصبع بضم الألف والباء. وإصبع بضم الألف وفتح الباء. وإصبوع بضم الألف
مع الواو. وإصبع بكسر الألف والباء. وإصبع بكسر الألف وفتح الباء. وإصبع
بكسر الألف وضم الباء.. وفي هذه الأخبار وجه آخر وهو أوضح مما ذكر وأشبه
بمذاهب العرب في ملاحن كلامها وتصرف كناياتها وهو أن يكون المعني في ذكر الأصابع
الإخبار عن تيسر تصريف القلوب وتقليبها والفعل فيها عليه جلت عظمته ودخول
ذلك تحت قدرته ألا ترى انهم يقولون هذا الشئ في خنصري وأصبعي وفي يدي وقبضتي
كل ذلك إذا أرادوا تسهله وتيسره وارتفاع المشقة فيه والمؤنة وعلى هذا المعنى يتأول
المحققون قوله تعالى (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه)
فكأنه صلى الله عليه وسلم لما أراد المبالغة في وصفه بالقدرة على تقليب القلوب وتصريفها
بغير مشقة ولا كلفة وإن كان غيره تعالى يعجز عن ذلك ولا يتمكن منه فقال إنها بين
إصبعين من أصابعه كناية عن هذا المعنى واختصارا للفظ الطويل وجريا على مذهب
العرب في إخبارهم عن مثل هذا المعنى بمثل هذا اللفظ وهذا الوجه يجب أن يكون
مقدما على الوجه الأول ومعتمدا عليه لأنه واضح جلى.. ويمكن أن يكون (1) في الخبر
وجه آخر على تسليم ما يقترحه المخالفون من أن الأصبعين هما المخلوقتان من اللحم

(1) لا يخفى ان هذه الأجوبة لا مدخلية لها في السؤال ولو كانت فليس ذلك محلا
له لان البحث والسؤال ومحلهما في معني تصريفها كيف شاء وإذا شاء أن يثبته ثبته وان
شاء أن يقلبه قلبه وما شاء أقام وما شاء أزاغ وأمثالها في أمثال معنى هذا الحديث
الشريف مما هو صريح في الجبر ورفع التكليف فان هذا هو الداء العضال وموضع
انفصام العقول لا في معنى الأصبع وجواز قراءة الأصبوع مما لا يسمن ولا
يغنى من جوع اه‍ من هامش الأصل
4

والدم استظهارا في الحجة وإقامة لها على كل وجه وهو أنه لا ينكر أن يكون القلب
يشتمل عليه جسمان على شكل الأصبعين يحركه الله تعالى بهما ويقلبه بالفعل فيهما
ويكون وجه تسميتهما بالأصابع من حيث كانا على شكلهما والوجه في اضافتهما إلى الله
تعالى وإن كانت جميع أفعاله تضاف إليه بمعنى الملك والقدرة لأنه لا يقدر على الفعل فيهما
وتحريكهما منفردين عما جاورهما غيره تعالى فقيل انهما أصبعان له من حيث اختص
بالفعل فيهما على هذا الوجه لان غيره إنما يقدر على تحريك القلب وما هو مجاور للقلب
من الأعضاء بتحريك جملة الجسم ولا يقدر على تحريكه وتصريفه منفردا مما يجاوره غيره
تعالى فمن أين للمبطلين المتأولين هذه الأخبار بأهوائهم وضعف آرائهم ان الأصابع
ههنا إذا كانت لحما ودما فهي جوارح لله تعالى وما هذا الوجه الذي ذكرناه ببعيد.. وعلى
المتأول أن يورد كلما يحتمله الكلام مما لا تدفعه حجة وان ترتب بعضه على بعض في القوة
والوضوح ونحن نعود إلى تفسير ما لعله أن يشتبه من الأبيات التي استشهدنا بها.. أما
قوله - حدا وجودا وندى وأصبعا - فمعنى الحد المضاء والنفاذ وقول آخر
- وأرزنات ليس فيهن أبن - فالأرزنات العصى والأبن العقد.. فأما قول حميد بن ثور
- في كل منكب من الناس - فالمنكب الجماعة والمنكب الناحية.. وأما معني أبيات لبيد فإنه
أراد من يسق الله إليه خيرا أو يصرف عنه شرا فعل ذلك به وأسبغ له حتى ينتهي منتهاه
.. فأما بيت طفيل الغنوي فمعناه ان هذا الفحل الذي وصفه بأنه كميت وانه كركن الباب
لتمامه وشدته لما ضرب في الإبل التي وصفها عاشت أولادها التي هي بناته بعد ان كن
مقاليت والمقلاة التي لا يعيش لها ولد فكان هذا منه أثرا جميلا عليها.. فأما بيت الراعي
فمعنى قوله - ضعيف العصا - يريد انه قليل الضرب لها أما لأنهن لا يحوجنه سدادا وتأودا
أو لشفقته عليهن وهذه كناية في نهاية الحسن واختصار شديد لأنه قد يجوز أن يكون
ضعيف العصا على الحقيقة من حيث لا يحتاج إلى استعمالها في الضرب فيختارها قوية
ويجوز أن يكون حذف وأراد ضعيف فعل العصا.. وقوله - بادي العروق - يعني عروق
رجله لفاسدها من السعي في أثر هذا الإبل وأراد - بالأصبع - ان له عليها في جدب
الناس أثرا جميلا لحسن قيامه وتعهده.. وقد قيل إنه إنما سمى الراعي لبيت قاله في
5

هذه القصيدة بعد بيتين من البيت الذي أنشدناه وهو
لها أمرها حتى إذا ما تبوأت * بأحقافها مأوى تبوأ مضجعا
وهذا قول الأصمعي.. وقال السكري سمى بذلك لقوله في هذه القصيدة أيضا
هدان أخو وطب وصاحب علبة * يرى المجد أن يلقى خلاء ومرتعا
وروى عن بعض بني نمير أنه قال إنما سمي بذلك لقوله
تبيت مرافقهن فوق مزلة * لا يستطيع بها القراد مقيلا
فقال بعض بني نمير لما سمع هذا البيت والله ما هو إلا راعي إبل فبقيت عليه.. وقال
محمد بن سلام إنما سمي الراعي لكثرة وصفه الإبل وحسن نعته لها واسمه عبيد بن
حصين بن جندل وكنيته أبو جندل وقيل أبو نوح
(مجلس آخر 23)
[تأويل آية].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك)
ما المراد بالنفس في هذه لآية وهل المعنى فيها كالمعنى في قوله (ويحذركم الله نفسه) أو
يخالفه أو يطابق معنى الآيتين والمراد بالنفس فيهما ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال يقول الله عز وجل إذا أحب العبد لقائي أحببت لقاءه وإذا ذكرني في
نفسه ذكرته في نفسي وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وإذا تقرب إلى
شبرا تقربت إليه ذراعا وإذا تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا أو لا يطابقه.. الجواب
قلنا إن النفس في اللغة لها معان مختلفة ووجوه في التصرف متباينة.. فالنفس نفس الانسان
وغيره من الحيوان وهي التي إذا فقدها خرج عن كونه حيا ومنه قوله تعالى (كل نفس
ذائقة الموت).. والنفس ذات الشئ الذي يخبر عنه كقولهم فعل ذلك فلان نفسه إذا
تولى فعله.. والنفس الأنفة من قولهم ليس لفلان نفس أي لا أنفة له.. والنفس
الإرادة من قولهم نفس فلان في كذا أي ارادته.. قال الشاعر
6

فنفساي نفس قالت أنت ابن بحدل * تجد فرجا من كل غم تهابها
ونفس تقول اجهد نجاك فلا تكن * كخاضبة لم يغن شيئا خضابها
ومنه أن رجلا قال للحسن البصري يا أبا سعيد لم أحجج قط فنفس تقول لي حج ونفس
تقول لي تزوج فقال الحسن أما النفس فواحدة ولكن لك هم يقول حج وهم يقول
تزوج وأمره بالحج.. وقال الممزق العبدي ويروى لمعقر بن حمار البارقي
ألا من لعين قد نآها حميمها * وأرقني بعد المنام همومها
فباتت لها نفسان شتى همومها * فنفس تعزيها ونفس تلومها
.. وقال النمر بن تولب العكلي
أما خليلي فإني لست معجله * حتى يؤامر نفسية كما زعما
نفس له من نفوس القوم صالحة * تعطي الجزيل ونفس ترضع الغنما
أراد أنه بين نفسين نفس تأمره بالجود وأخرى تأمره بالبخل وكنى برضاع الغنم عن
البخل لان البخيل يرضع اللبن من الشاة ولا يحلبها لئلا يسمع الضيف صوت الشخب
فيهتدى إليه ومنه قيل لئيم راضع.. وقال كثير
فأصبحت ذا نفسين نفس مريضة * من الناس ما ينفك هم يعودها
ونفس ترجي وصلها بعد صرمها * تجمل كي يزداد غيظا حسودها
.. والنفس العين التي تصيب الانسان يقال أصابت فلانا نفس أي عين.. وروى أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي فيقول بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك
وداء هو فيك من عين عائن ونفس نافس وحسد حاسد.. وقال ابن الاعرابي
النفوس التي يصيب الناس بالنفس وذكر رجلا فقال كان والله حسودا نفوسا كذوبا
.. وقال عبيد الله بن قيس الرقيات وهو قرشي
يتقي أهلها النفوس عليها * فعلى نحرها الرقي والتميم
7

.. وقال مضرس الفقعسي
وإذا نموا صعدا فليس عليهم * منا الخيال ولا نفوس الحسد
.. وقال ابن هرمة يمدح عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك
فأسلم سلمت من المكاره والردى * وعثارها ووقيت نفس الحسد
.. والنفس أيضا من الدباغ بمقدار الدبغة يقول اعطني نفسا من دباغ أي قدر ما أدبغ به
مرة.. والنفس الغيب يقول القائل إني لا أعلم نفس فلان أي غيبه وعلى هذا تأويل قوله
تعالى (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) أي تعلم غيبي وما عندي ولا أعلم غيبك
.. وقيل إن النفس أيضا العقوبة من قولهم أحذرك نفسي أي عقوبتي وبعض المفسرين
يحمل قوله تعالى (ويحذركم الله نفسه) على هذا المعنى كأنه يحذركم عقوبته.. وروى
ذلك عن ابن عباس والحسن وآخرين قالوا معنى الآية ويحذركم الله إياه.. وقد وروى
عن الحسن ومجاهد في قوله تعالى (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) ما ذكرناه
من التأويل بعينه.. فان قيل ما وجه تسمية الغيب بأنه نفس قلنا لا يمتنع أن يكون
الوجه في ذلك ان نفس الانسان لما كانت خفية الموضع نزل ما يكتمه ويجتهد في ستره
منزلتها وسمي باسمها فقيل فيه انه نفسه مبالغة في وصفه بالكتمان والخفاء وإنما حسن
أن يقول تعالى مخبرا عن نبيه عليه الصلاة والسلام ولا أعلم ما في نفسك من حيث تقدم
قوله (تعلم ما في نفسي) ليزدوج الكلام ولهذا لا يحسن ابتداء أن يقول أنا
لا أعلم ما في نفس الله تعالى وان حسن على الوجه الأول ولهذا نظائر في الاستعمال
مشهورة مذكورة.. فأما الخبر الذي يرويه السائل فتأويله ظاهر وهو خارج على
مذهب العرب في مثل هذا الباب معروف ومعناه ان من ذكرني في نفسه جازيته على
ذكره لي وإذا تقرب إلى شبرا جازيته على تقربه إلي وكذلك الخبر إلى آخره فسمى
المجازاة على الشئ باسمه اتساعا كما قال تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها. ويمكرون
ويمكر الله. الله يستهزئ بهم).. وكما قال الشاعر
ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهله الجاهلينا
8

ونظائر هذا كثير في كلام العرب ولما أراد تعالى المبالغة في وصف ما يفعله به من الثواب
والمجازاة على تقربه بالكثرة والزيادة كنى عن ذلك بذكر المسافة المتضاعفة فقال باعا
وذراعا إشارة إلى المعنى من أبلغ الوجوه وأحسنها
(مجلس آخر 24)
[تأويل آية].. ان سأل سائل فقال ما تأويل قوله تعالى (إذ جاؤكم من فوقكم ومن
أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) وكيف
يجوز أن تبلغ القلوب الحناجر مع كونهم أحياء ومعلوم ان القلب إذا زال عن موضعه
المخلوق فيه مات صاحبه وعن أي شئ زاغت الأبصار وبأي شئ تعلقت ظنونهم بالله
تعالى.. الجواب قيل له في هذه الآية وجوه.. منها أن يكون المراد بذلك انهم جبنوا
وفزع أكثرهم لما أشرف المشركون عليهم وخافوا من بوائقهم وبوادرهم ومن شأن
الجبان عند العرب إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته ولهذا يقولون للجبان انتفخ سجره
أي رئته وليس يمتنع أن تكون الرئة إذا انتفخت رفعت القلب ونهضت به إلى نحو
الحنجرة وهذا التأويل قد ذكره الفراء وغيره ورواه الكلبي عن أبي صالح ابن
عباس.. ومنها قيل إن القلوب توصف بالوجيب والاضطراب في أحوال الجزع والهلع
.. قال الشاعر
كأن قلوب أدلائها * معلقة بقرون الظباء
.. وقال امرؤ القيس
ولا مثل يوم في قدران ظلته * كأني وأصحابي علي قرن أعفرا
ويروى في قدار ظللته أراد المبالغة في وصف نفسه وأصحابه بالقلق والاضطراب ومفارقة
السكون والاستقرار وإنما خص الظبي لأن قرنه أكثر تحركا ونشاطه واضطرابا لنشاطه
ومرحه وسرعته.. وقد قال بعض الناس ان امرأ القيس لم يصف شدة أصابته في
9

هذا البيت فيليق قوله على قرن أعفرا بالتأويل المذكور بل وصف أماكن كان فيها
مسرورا متنعما ألا ترى إلى قوله قبل هذا البيت بلا فصل
ألا رب يوم صالح قد شهدته * بناذق ذات التل من فوق طرطرا
فيكون معنى قوله على قرن أعفرا على هذا الوجه انه كان على مكان عال مشرف شبهه
لارتفاعه وطوله بقرن الظبي وهذا القول لابن الاعرابي والأول للأصمعي.. فأما
قول الآخر
ألا قل خير الشأن كيف تغيرا * فأصبح يرمي الناس عن قرن أعفرا
فلا يشتمل الا الشدة والحال المذموم ويجوز أن يريد ان الناس فيه غير مطمئنين بل هم
منزعجون قلقون كأنهم على قرن ظبي ويحتمل انه يطعنهم بقرن ظبي كقولك رماه بداهية
ويكون معنى عن ههنا معنى الباء فقال عن قرن أعفرا وهو يريد بقرن أعفرا وقد ذكر
في هذا البيت الوجهان معا فيكون معنى الآية على هذا التأويل ان القلوب لما اتصل
وجيبها واضطربت بلغت الحناجر لشدة القلق.. ومنها أن يكون المعنى كادت القلوب
من شدة الرعب والخوف تبلغ الحناجر وان لم تبلغ في الحقيقة فألقى ذكر كادت لوضوح
الأمر فيها ولفظة كادت ههنا للمقاربة مثل قول قيس بن الحطيم
أتعرف رسما كالطراز المذهب * لعمرة وحشا غير موقف راكب
ديار التي كادت ونحن على مني * تحل بنا لولا نجاء الركائب
معناه قاربت أن تحل بنا وان لم تحلل في الحقيقة.. وقوله - غير موقف راكب - فيه
وجهان أحدهما انه ليس بموضع يقف فيه راكب لخلوه من الناس ووحشته والآخر
أن يكون انه أراد وحش إلا أن راكبا وقف به يعني نفسه.. وقال نصيب
وقد كدت يوم الحزن لما ترنمت * هتوف الضحى محزونة بالترنم
أموت لمبكاها أسى إن لوعتي * ووجدي بسعدى شجوه غير منجم
معنى - المنجم - المقلع.. وقال ذو الرمة
10

وقفت علي ربع لمية ناقتي * فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه
تكلمني أحجاره وملاعبه
وكل هذا معنى كاد فيه المقاربة ومتى أدخلت العرب على كاد جحدا فقالوا ما كاد عبد
الله يقوم ولم يكد عبد الله يقوم كان فيه وجهان أجودهما قام عبد الله بعد ابطاء ولأي
ومثله قوله تعالى (فذبحوها وما كادوا يفعلون) أي بعد ابطاء وتأخر لأن وجد أن
البقرة عسر عليهم.. وروى أنهم أصابوها ليتيم لا مال له غيرها فاشتروها من وليه بملء
جلدها ذهبا فقال تعالى (وما كادوا يفعلون) إما لأنهم لم يقفوا عليها أو لغلائها وكثرة
ثمنها.. والوجه الآخر في قولهم ما يكاد عبد الله يقوم أي ما يقوم عبد الله وتكون
لفظة يكاد على هذا المعنى مطرحة لا حكم لها وعلى هذا يحمل أكثر المفسرين قوله
تعالى (إذا أخرج يده لم يكد يراها) أي لم يرها أصلا لأنه عز وجل لما قال (أو
كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق
بعض) كان بعض هذه الظلمات يحول بين العيون وبين النظر إلى اليد وسائر المناظر
فيكد على هذا التأويل زيدت للتوكيد والمعنى إذا أخرج يده لم يرها.. وقال قوم معنى
الآية إذا أخرج يده رآها بعد إبطاء وعسر لتكاثف الظلمة وترادف الموانع من الرؤية
فيكد على هذا الجواب ليست بزائدة.. وقال آخرون معنى الآية إذا أخرج يده لم يرد
أن يراها لان ما شاهده من تكاثف الظلمات آيسه من تأمل يده وقرر في نفسه انه
لا يدركها ببصره.. وحكى عن العرب أولئك أصحابي الذين أكاد أنزل عليهم أي أريد
أن أنزل عليهم.. وقال الشاعر
كادت وكدت وتلك خير إرادة * لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
أي أرادت وأردت.. وقال الأفوه لأودى
فإن تجمع أوتاد وأعمدة * وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
أي أرادوا.. وقال بعضهم معنى قوله تعالى (كذلك كدنا ليوسف) أي أردنا ليوسف
.. وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس معناه كذلك صنعنا ليوسف.. ومما يشهد
11

لمن جعل لفظة يكد زائدة في الآية.. قول الشاعر
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه * فما أن يكاد قرنه يتنفس
أي فما ان يتنفس قرنه ويكاد مزيدة للتوكيد.. وقال حسان
وتكاد تكسل أن تجئ فراشها * في جسم خرعبة وحسن قوام
معناه وتكسل أن تجئ فراشها.. وقال الآخر
وإلا ألوم النفس فيما أصابني * وإلا أكاد بالذي نلت أنجح
أي لا أنجح بالذي نلت ولو لم يكن الأمر على هذا لم يكن البيت مدحا.. وروى عبد
الصمد بن المعدل بن غيلان عن أبيه عن جده غيلان قال قدم علينا ذو الرمة الكوفة
فأنشدنا بالكناسة وهو على راحلته قصيدته الحائية التي يقول فيها
إذا غير النأي المحبين لم يكد * رسيس الهوى من حب مية يبرح
فقال له عبد الله بن شبرمة قد برح يا ذا الرمة ففكر ساعة ثم قال
إذا غير النأي المحبين لم أجد * رسيس الهوى من حب مية يبرح
قال فأخبرت أبى بما كان من قول ذي الرمة واعتراض ابن شبرمة عليه فقال أخطأ
ذو الرمة في رجوعه عن قوله الأول وأخطأ ابن شبرمة في اعتراضه عليه هذا كقوله
عز وجل (إذا أخرج يده لم يكد يراها) أي لم يرها.. فأما قوله عز وجل (إن
الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس) فيحتمل أن يكون المعنى أريد إخفاءها
لكي تجزى كل نفس بما تسعى ويجوز أن تكون زائدة ويكون المعنى ان الساعة آتية
أخفيها لتجزى كل نفس.. وقد قيل فيه وجه آخر وهو أن يتم الكلام عند قوله
تعالى (إن الساعة آتية أكاد) ويكون المعنى أكاد آتي بها ويقع الابتداء بقوله تعالى
(أخفيها لتجزى كل نفس).. ومما يشهد لهذا الوجه قول ضابئ البرجمي
هممت ولم أفعل وكدت وليتني * تركت علي عثمان تبكي حلائله
أراد وكدت أقتله فحذف الفعل لبيان معناه.. وروى عن سعيد بن جبير انه كان يقرأ
12

أكاد أخفيها فمعنى أخفيها على هذا الوجه أظهرها.. قال عبدة بن الطبيب يصف ثورا
يخفي التراب بأظلاف ثمانية * في أربع مسهن الأرض تحليل
أراد انه يظهر التراب ويستخرجه بأظلافه.. وقال امرؤ القيس
فإن تدفنوا الداء لا نخفه * وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
أي لا نظهره.. وقال النابغة
تخفي بأظلافها حتى إذا بلغت * يبس الكثيب تداعى الترب فانهدما
وقد روى أهل العربية أخفيت الشئ يعني سترته وأخفيته بمعنى أظهرته وكأن القراءة
بالضم تحتمل الأمرين الاظهار والستر والقراءة بالفتح لا تحتمل غير الاظهار وإذا كانت
بمعنى الاظهار كان الكلام في كاد واحتمالها للوجوه الثلاثة التي ذكرناها كالكلام فيها
إذا كانت بمعنى الستر والتغطية.. فان قيل فأي معنى لقوله إني أسترها لتجزى كل
نفس بما تسعى وأظهرها على الوجهين جميعا وأي فائدة في ذلك.. قلنا الوجه في هذا
ظاهر لأنه تعالى إذا ستر عنا وقت الساعة كانت دواعينا إلي فعل الحسن والقبيح مترددة
وإذا عرفنا وقتها بعينه كنا ملجئين إلى التوبة بعد مقارفة الذنوب ونقض ذلك الغرض
بالتكليف واستحقاق الثواب به فصار ما أريد به من المجازاة للمكلفين بسعيهم واتصال
ثواب أعمالهم يمنع من اطلاعهم على وقت انقطاع التكليف عنهم فأما إذا كانت لفظة
أخفيها بمعنى الاظهار فوجهه أيضا واضح لأنه تعالى إنما يقيم القيامة ويقطع التكليف
ليجازى كلا باستحقاقه ويوفي مستحق الثواب ثوابه ويعاقب المسئ باستحقاقه فوضح
وجه قوله تعالى (أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى) على المعنيين جميعا [قال
المرتضى رضي الله عنه].. وجدت أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري يطعن على جواب من
أجاب في قوله تعالى (وبلغت القبول الحناجر) بان معناه كادت تبلغ الحناجر ويقول
كاد لا تضمر ولا بد من أن يكون منطوقا بها ولو جاز ضميرها لجاز أن يقال قام عبد الله
بمعني كاد عبد الله يقوم فيكون تأويل قام عبد الله لم يقم عبد الله لان معنى كاد عبد الله
يقوم لم يقم وهذا الذي ذكره غير صحيح ونظن ان الذي حمله على الطعن في هذا الوجه
13

حكايته له عن ابن قتيبة لان من شأنه أن يرد كل ما يأتي به ابن قتيبة وأن تعسف في
الطعن عليه والذي استبعده غير بعيد لان كاد قد تضمر في مواضع يقتضيها بعض
الكلام وان لم تكن في صريحه ألا ترى انهم يقولون أوردت على فلان من العتاب
والتوبيخ والتقريع ما مات عنده وخرجت نفسه ولما رأى فلان فلانا لم يبق فيه روح
وما أشبه ذلك ومعنى جميع ما ذكرناه المقاربة ولابد من اضمار كاد فيه.. وقال جرير
إن العيون التي في طرفها مرض * قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وإنما المعنى انهن كدن يقتلننا فهذا أكثر في الشعر والكلام من أن نذكره وليس يمتنع
فأما قوله - يحيين قتلانا - فالأظهر في معناه انهن لم يزلن يفعلن ما قاربنا عنده الموت والقتل
من الصدود والهجر وما أشبه ذلك وسمى هذه الأمور حياة كما سمى أضدادها قتلا
وقد قيل إن معنى يحيين قتلانا انهن لم يدين قتلانا من الدية لان دية القتيل عند العرب
كالحياة له وقد روى ثم لم يحيين قتلانا وهذه رواية شاذة لم تسمع من عالم ولا محصل
ومعناها ضعيف ركيك وإذا كان الأمر على ما ذكرناه لم يمتنع أن يقال قام فلان بمعنى
كاد يقوم إذا دلت الحال على ذلك كما يقال مات بمعنى كاد يموت.. فأما قوله فيكون
تأويل قوله قام عبد الله لم يقم عبد الله فخطأ لأنه ليس معنى كاد يقوم انه لم يقم كما ظن
بل معناه انه قارب القيام ودنا منه فمن قال قام عبد الله وأراد كاد يقوم فقد أفاد ما لا يفيده
لم يقم.. وأما قوله تعالى (زاغت الأبصار) فمعناه زاغت عن النظر إلى كل شئ فلم تلتفت
إلا إلى عدوها ويجوز أن يكون المراد بزاغت أي جارت ومالت عن القصد في النظر
دهشا وتحيرا.. فأما قوله تعالى (وتظنون بالله الظنونا) معناه انكم تظنون مرة انكم
تنصرون وتظهرون على عدوكم ومرة انكم تبتلون وتمتحنون بالتخلية بينكم وبينهم
ويجوز أيضا أن يريد الله تعالى ان ظنونكم اختلفت فظن المنافقون منكم خلاف
ما وعدكم الله تعالى به من النصرة وشكوا في خبره عز وجل كما قال تعالى حكاية عنهم
(ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) وظن المؤمنون ما طابق وعد الله تعالى لهم كما حكى
عز وجل عنهم في قوله (هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله) وكلما ذكرناه
واضح في تأويل الآية وما تعلق بها
14

(مجلس آخر 25)
[تأويل آية].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (وجعلنا نومكم سباتا) فقال إذا
كان السبات هو النوم فكأنه قال وجعلنا نومكم نوما وهذا مما لا فائدة فيه.. الجواب
قيل له في هذه الآية وجوه.. منها أن يكون المراد بالسبات الراحة والدعة.. وقد
قال قوم ان اجتماع الخلق كلهم كان في يوم الجمعة والفراغ منه في يوم السبت فسمى اليوم
بالسبت للفراغ الذي كان فيه ولان الله تعالى أمر بني إسرائيل فيه بالاستراحة من
الأعمال قيل وأصل السبات التمدد يقال سبتت المرأة شعرها إذا حلته من العقص
وأرسلته.. قال الشاعر
وإن سبتته مال جثلا كأنه * سدا واهلات من نواسج خثعما
أراد إن أرسلته.. ومنها أن يكون المراد بذلك القطع لان السبت القطع والسبت أيضا
الحلق يقال سبت شعره سبتا إذا حلقه وهو يرجع إلى معني القطع والنعال السبتية
التي لا شعر عليها.. قال عنترة
بطل كأن ثيابه في سرحة * يحذى نعال السبت ليس بتوأم
ويقال لكل أرض مرتفعة منقطعة مما حولها سبتاء وجمعها سباتي فيكون المعنى على هذا
الجواب جعلنا نومكم سباتا أي قطعا لأعمالكم وتصرفكم.. ومن أجاب بهذا الجواب
يقول إنما سمى يوم السبت بذلك لان بدء الخلق كان يوم الأحد وجمع يوم الجمعة
وقطع يوم السبت فترجع التسمية إلى معنى القطع.. وقد اختلف الناس في ابتداء
الخلق فقال أهل التوراة ان الله ابتدأه في يوم الأحد وكان الخلق في يوم الأحد
والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة ثم فرغ في يوم السبت وهذا قول أهل
التوراة.. وقال آخرون ان الابتداء كان في يوم الاثنين إلى السبت وفرغ في يوم
الأحد وهذا قول أهل الإنجيل.. فأما قول أهل الاسلام فهو ان ابتداء الخلق كان
يوم السبت واتصل إلى يوم الخميس وجعلت الجمعة عيدا فعلى هذا القول الآخر يمكن
15

أن يسمي اليوم بالسبت من حيث قطع فيه بعض خلق الأرض.. فقد روى أبو هريرة
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال إن الله تعالى خلق البرية يوم السبت وخلق
فيها الجبال يوم الأحد.. ومنها أن يكون المراد بذلك إنا جعلنا نومكم سباتا ليس
بموت لان النائم قد يفقد من علومه وقصوده وأحواله أشياء كثيرة يفقدها الميت فأراد
تعالى أن يمتن علينا بان جعل نومنا الذي يضاهي فيه بعض أحوالنا أحوال الميت ليس
بموت على الحقيقة ولا بمخرج لنا عن الحياة والإدراك فجعل التأكيد بذكر المصدر
قائما مقام نفى الموت وسادا مسد قوله تعالى وجعلنا نومكم ليس بموت.. ويمكن
أن يكون في الآية وجه آخر لم يذكر فيها وهو أن السبات ليس هو كل نوم وإنما هو
من صفات النوم إذا وقع على بعض الوجوه والسبات هو النوم الممتد الطويل السكون
ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم انه مسبوت وبه سبات ولا يقال ذلك في كل نائم
وإذا كان الأمر على هذا لم يجر قوله (وجعلنا نومكم سباتا) مجرى أن يقول وجعلنا
نومكم نوما.. والوجه في الامتنان علينا بان جعل نومنا ممتدا طويلا ظاهر وهو لما في
ذلك لنا من المنفعة والراحة لان التهويم والنوم الغرار لا يكسبان شيئا من الراحة بل
يصحبهما في الأكثر القلق والانزعاج والهموم وهي التي تقلل النوم وتنزره وفراغ القلب
ورخاء البال يكون معهما غزارة النوم وامتداده وهذا واضح.. [قال المرتضى] رضي الله عنه
ووجدت أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري يطعن على الجواب الذي ذكرناه أولا
ويقول إن ابن قتيبة أخطأ في اعتماده لان الراحة لا يقال لها سبات ولا يقال سبت الرجل
بمعنى استراح وأراح ويعتمد على الجواب الذي ثنينا بذكره ويقول فيما استشهد به ابن
قتيبة من قولهم سبتت المرأة شعرها ان معناه أيضا القطع لان ذلك إنما يكون بإزالة
الشداد الذي كان مجموعا به وقطعه.. والمقدار الذي ذكره ابن الأنباري لا يقدح في
جواب ابن قتيبة لأنه لا ينكر أن يكون السبات هو الراحة والدعة إذا كانتا عن نوم
وان لم توصف كل راحة بأنها سبات ويكون هذا الاسم يختص الراحة إذا كانت على
هذا الوجه ولهذا نظائر كثيرة في الأسماء وإذا أمكن ذلك لم يكن في امتناع قولهم سبت
الرجل بمعنى استراح في كل موضع دلالة على أن السبات لا يكون اسما للراحة عند النوم
16

والذي يبقى على ابن قتيبة أن يبين أن السبات هو الراحة والدعة ويستشهد على ذلك
بشعر أو لغة فان البيت الذي ذكره يمكن أن يكون المراد به القطع دون التمدد
والاسترسال.. فان قيل فما الفرق بين جواب ابن قتيبة وجوابكم الذي ذكرتموه
أخيرا قلنا الفرق بينهما بين لان ابن قتيبة جعل السبات نفسه راحة وجعله عبارة عنها
وأخذ يستشهد على ذلك بالتمدد وغيره ونحن جعلنا السبات من صفات النوم
والراحة واقعة عنده للامتداد وطول السكون فيه فلا يلزمنا أن يقال سبت الرجل
بمعنى استراح لان الشئ لا يسمى بما يقع عليه حقيقة والاستراحة تقع على جوابنا عند
السبات وليس السبات إياها بعينها على أن في الجواب الذي اختاره ابن الأنباري ضربا
من الكلام لان السبت وإن كان القطع على ما ذكره فلم يسمع فيه البناء الذي ذكره
وهو السبات ويحتاج في اثبات مثل هذا البناء إلى سمع عن أهل اللغة وقد كان يجب
أن يورد من أي وجه إذا كان السبت هو القطع جاز أن يقال سبات على هذا المعنى ولم
نره فعل ذلك
[تأويل خبر].. ان قال قائل ما تأويل الخبر الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
ان الميت ليعذب ببكاء الحي عليه.. وفي رواية أخرى ان الميت يعذب في قبره بالنياحة
عليه.. وقد روى هذا المعنى المغيرة بن شعبة أيضا فقال سمعت النبي صلى عليه وسلم
يقول من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه.. الجواب أنا إذا كنا قد علمنا بأدلة
العقل التي لا يدخلها الاحتمال ولا الاتساع والمجاز قبح من أخذه أحد بذنب غيره
وعلمنا أيضا ذلك بأدلة السمع مثل قوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فلا
بد أن نصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلة إلى ما يطابقها.. والمعنى في الأخبار التي
سئلنا عنها ان صحت روايتها انه إذا أوصى موص بان يناح عليه ففعل ذلك بأمره وعن
إذنه فإنه يعذب بالنياحة عليه وليس معنى يعذب بها انه يؤاخذ بفعل النواح وإنما معناه
أن يؤاخذ بأمره بها ووصيته بفعلها وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك لان الجاهلية
كانوا يرون البكاء عليهم والنوح فيأمرون به ويؤكدون الوصية بفعله وهذا مشهور
عنهم.. قال طرفة بن العبد
17

فإن مت فأنعيني بما أنا أهله * وشقي علي الجيب يا أم معبد
.. وقال بشر بن أبي خازم لابنته عميرة
فمن يك سائلا عن بيت بشر * فإن له بجنب الردم بابا
ثوى في ملحد لا بد منه * كفى بالموت نأيا واغترابا
رهين بلى وكل فتي سيبلى * فأذري الدمع وانتحبي انتحابا
وقد روى عن ابن عباس في هذا الخبر أنه قال وهل ابن عمر إنما مر رسول الله صلى
الله عليه وسلم على يهودي فقال إنكم لتبكون عليه وانه ليعذب في قبره.. وقد روى
ابن بكار هذا الخبر أيضا عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلت لما أخبرت
بروايته وهل أبو عبد الرحمن كما وهل يوم قليب بدر إنما قال عليه الصلاة والسلام
ان أهل الميت ليبكون عليه وانه ليعذب بجرمه.. [قال المرتضى] رضي الله عنه يعنى
- وهل - أي ذهب وهمه إلى غير الصواب يقال وهلت إلى الشئ فأنا أهل وهلا إذا ذهب
وهمك إليه ووهلت عنه أهل وهلا أي نسبته وغلطت فيه ووهل الرجل يوهل وهلا
إذا فزع والوهل الفزع.. فأما - القليب - فهي البئر والجمع القلب.. قال حسان بن ثابت
يذكر قتلى بدر من المشركين
يناديهم رسول الله لما
قذفناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا حديثي كان حقا
وأمر الله يأخذ بالقلوب
.. وقال آخر يبكي على قتلى بدر من المشركين
فماذا بالقليب قليب بدر * من الفتيان والشرب الكرام
وماذا بالقليب قليب بدر * من الشيزى يكلل بالسنام
وموضع وهله في ذكر القليب انه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب
بدر فقال هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ثم قال إنهم ليسمعون ما أقول فأنكر ذلك عليه
وقيل إنما قال عليه الصلاة والسلام انهم الآن ليعلمون ان الذي كنت أقوله لهم هو
18

الحق واستشهد بقول الله عز وجل (إنك لا تسمع الموتى) وأهل القليب جماعة من
قريش منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وغيرهم.. وروى عن عبد الله
ابن مسعود أنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قائما يصلي بمكة وأناس
من قريش في حلقة فيهم أبو جهل بن هشام فقال ما يمنع أحدكم أن يأتي الجزور التي
نحرها آل فلان فيأخذ سلاها ثم يأتي به حتى إذا سجد وضعه على ظهره قال عبد الله
فانبعث أشقى القوم وأنا أنظر إليه فجاء به حتى وضعه على ظهره قال عبد الله لو كانت
لي يومئذ منعة لمنعته وجاءت فاطمة رضوان الله عليها عليه وهي يومئذ صبية حتى أماطته عن
ظهر أبيها ثم جاءت حتى قامت على رؤسهم فأوسعتهم شتما قال فوالله لقد رأيت بعضهم
يضحك حتى أنه ليطرح نفسه على صاحبه من الضحك فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم
أقبل على القوم فقال اللهم عليك بفلان وفلان فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا
عليهم أسقط في أيديهم قال فوالله الذي لا إله غيره ما سمى النبي صلى الله عليه وسلم
أحدا إلا وقدر رأيته يوم بدر وقد أخذ برجله يجر إلى القليب مقتولا وقوله - فيأخذ
سلاها - أي جلدتها التي فيها ولدها ما دام في بطنها والجمع الأسلاء.. وقال ابن حبيب
الأسلاء التي فيها الأولاد.. قال الأخطل
ويطرحن بالثغر السخال كأنما * يشققن بالأسلاء أردية العصب
.. وقال الشماخ
والعيس دامية المناسم ضمر * يقذفن بالأسلاء تحت الأركب
.. قال الفراء سقط في أيديهم من الندامة وأسقط لغتان وهو بغير ألف أكثر وأجود
.. ويمكن أن يكون في قوله يعذب ببكاء أهله وجه آخر وهو أن يكون المعنى ان الله تعالى
إذا أعلمه ببكاء أهله وأعزته عليه وما لحقهم بعده من الحزن والهم تألم بذلك فكان
عذابا له والعذاب ليس بجار مجرى العقاب الذي لا يكون إلا على ذنب متقدم بل قد
يستعمل كثيرا بحيث يستعمل الألم والضرر ألا ترى ان القائل قد يقول لمن ابتدأه
بالضرر والألم قد عذبتني بكذا وكذا كما يقول أضررت بي وآلمتني وإنما لم يستعمل
19

العقاب حقيقة في الايلام المتبدأ من حيث كان اشتقاق لفظه من المعاقبة التي لا بد من
تقدم سبب لها وليس هذا في العذاب
[تأويل خبر].. ان سأل سائل عن الخبر الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال ما من أحد يدخله عمله الجنة وينجيه من النار قيل ولا أنت يا رسول
الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل يقولها ثلاثا.. فقال أليس في هذا
دلالة على أن الله تعالى يتفضل بالثواب وانه غير مستحق عليه ومذهبكم بخلاف ذلك
.. الجواب قلنا فائدة الخبر ومعناه بيان فقر المكلفين إلى الله تعالى وحاجتهم إلى ألطافه
وتوفيقاته ومعوناته وان العبد لو أخرج إلى نفسه وقطع الله تعالى مواد المعونة واللطف
عنه لم يدخل بعمله الجنة ولا نجا من النار فكأنه عليه الصلاة والسلام أراد ان أحدا
لا يدخل الجنة بعمله الذي لم يعنه الله تعالى عليه ولا لطف له فيه ولا أرشده إليه
وهذا هو الحق الذي لا شبهة فيه.. فأما الثواب فما نأبى القول بأنه تفضل بمعنى ان الله تعالى
تفضل بسببه الذي هو التكليف ولهذا نقول إنه لا يجب على الله تعالى شئ ابتداء وإنما
يجب عليه ما أوجبه على نفسه فالثواب مما كان أوجبه على نفسه بالتكليف وكذلك
التمكين والإلطاف وكلما يجلبه ويوجبه التكليف ولولا إيجابه له على نفسه بالتكليف لما
وجب.. فان قيل فقد سمى الرسول عليه الصلاة والسلام ما يفعل به فضلا فقال إلا أن
يتغمدني الله برحمة منه.. وفضل قلنا هذا يطابق ما ذكرناه لان الرحمة النعمة والثواب
نعمة وهو تفضل من الوجه الذي ذكرناه وان حملنا قوله عليه الصلاة والسلام
برحمة منه وفضل على ما يفعل به من الألطاف والمعونات فهي أيضا فضل وتفضل لان
سببها غير واجب.. فأما قوله عليه الصلاة والسلام يتغمدني الله فمعناه يسترني يقال
غمدت السيف في غمده إذا سترته.. قال الشاعر
نصبنا رمحا فوقها جد عامر * كظل السماء كل أرض تغمدا
- فالجد - هنا البخت والحظ وشبه ما قسم لعامر من الغلبة والظفر بظل السماء الذي يستر
كل شئ ويظهر عليه.. أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى بن حنيفاء قال
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي قراءة عليه قال أملى علينا أبو العباس أحمد
20

ابن يحيى ثعلب النحوي قال أخبرنا ابن الاعرابي قال يقال للقوم إذا دعوت عليهم بهرهم
الله والمبهور هو المكروب وأنشدنا * أبرزوها مثل المهاة تهادى
بين خمس كواعب أتراب * ثم قالوا تحبها قلت بهرا
عدد القطر والحصى والتراب
[قال المرتضى].. رضي الله عنه وقد قيل في معنى قوله بهرا غير هذا الوجه.. أخبرنا
أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال أخبرني أحمد بن يحيى الصولي قال حدثنا
القاسم بن إسماعيل قال حدثنا الثوري عن أبي عمر الأسدي قال سمعت أبا عمرو بن العلاء
يقول عمر بن ربيعة حجة في العربية وما أخذ عليه شئ الا قوله - ثم قالوا تحبها قلت بهرا -
وله فيه عذر ان أراد الخبر لا الاستفهام كأنهم قالوا أنت تحبها على جهة الاخبار منهم
لا الاستفهام فوكد هو إخبارهم بجوابه فهذا حسن وبهرا يجوز أن يكون أراد نعم حبا
بهرني بهرا ويكون أيضا بمعنى عقرا وتعسا ودعا عليهم إذ جهلوا من حبه لها مالا يجهل
مثله.. وأنشد أبو عمرو بن العلاء
لحا الله قومي إذ يبيعون مهجتي * بجارية بهرا لهم بعدها بهرا
.. قال أبو عمرو يكون بهرا بمعنى ظاهرا يريد حبا ظاهرا من قولهم قمر باهر.. وقد
روى بعض الرواة أنه قال - قيل لي هل تحبها قلت بهرا - والرواية الأولى هي المشهورة
ولعل من روى ذلك فر بهذه الرواية من اللحن وهذان البيتان لعمر بن عبد الله بن
أبي ريبعة المخزومي من جملة أبيات منها
من رسولي إلى الثريا بأنى * ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
وهي مكنونة تحير منها * في أديم الخدين ماء الشباب
سلبتني عجاجة المسك عقلي * فسلوها بما يحل اغتصابي
أزهقت أم نوفل إذ رعتها * مهجتي ما لقاتلي من متاب
21

حين قالت لها أجيبي فقالت * من دعاني قالت أبو الخطاب
أبرزوها مثل المهاة تهادى * بين خمس كواعب أتراب
ثم قالوا تحبها قلت بهرا * عدد القطر والحصى والتراب
والثريا هي التي عناها عمر أموية وقد اختلف في نسبها فقيل إنها الثريا بنت عبد الله بن
الحارث بن أمية الأصغر أبو عبد شمس وقيل إنها الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث
ابن أمية الأصغر وذكر الزبير بن بكار ان الثريا هي بنت عبد الله بن محمد بن عبد الله
ابن الحارث بن أمية الأصغر وانها أخت محمد بن عبد الله المعروف بأبي جراب العبلي
الذي قتله داود بن علي.. وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال حدثني محمد بن إبراهيم
قال حدثنا أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار قال حدثني موسى بن عمر بن الأفلح قال
خبرني بلال بن أبي عتيق في حديث طويل لعمر بن أبي ربيعة مع الثريا اختصرناه
وأوردنا بعضه قال لما سمع ابن أبي عتيق قول عمر - من رسولي إلى الثريا باني - قال
إياي أراد وبي نوه لا جرم والله لا أذوق أكلا حتى أشخص إليه لأصلح بينهما فنهض
ونهضت معه فجاء قوما من بني الدئل بن أبي بكر لم تكن النجائب تفارقهم يكرونها فاكترى
منهم راحلتين وأغلى لهم بهما فقلت له استوضعهم شيئا أو دعني أماكسهم فقد استطولوا
فقال لي ويحك أما علمت أن المكاس ليس من خلق الله الكرام وركب إحداهما وركبت
الأخرى فسار سيرا شديدا فقلت له ارفق على نفسك فان ما تريد لا يفوتك فقال
ويحك - أبادر حبل الود أن يتقضبا - ومن ملح الدنيا أن يلتم الصدع بين عمر والثريا
فقدمنا مكة ليلا غير محرمين فدق على عمر بابه فخرج إليه فسلم عليه فما نزل ابن أبي
عتيق عن راحلته وقال لعمر اركب أصلح بينك وبين الثريا فاني رسولك الذي سألت
عنه فركب معه فقدمنا الطائف فقال ابن أبي عتيق للثريا هذا عمر قد جشمني السفر
من المدينة إليك فجئتك به معترفا بذنب لم يجنه معتذرا من إساءتك إليه فدعيني من التعداد
والترداد فإنه من الشعراء الذين يقولون مالا يفعلون فصالحته أحسن صلح وكررنا
راجعين إلى المدينة ولم يقم ابن أبي عتيق بمكة ساعة واحدة.. وفي الثريا يقول عمر
22

ابن أبي ربيعة أيضا لما تزوجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف المكنى بأبي الأبيض
وقيل بل تزوجها سهيل بن عبد العزيز بن مروان
أيها المنكح الثريا سهيلا * عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت * وسهيل إذا استقل يماني
(مجلس آخر 26) [تأويل آية].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (فغشيهم من اليم ما غشيهم) فقال
ما الفائدة في قوله تعالى ما غشيهم وقوله غشيهم يدل عليه ويستغنى به عنه لان غشيتهم لا يكون
إلا الذي غشيهم وما الوجه في ذلك.. الجواب قد ذكر في هذا أجوبة.. أحدها
أن يكون المعنى فغشيهم من اليم البعض الذي غشيهم لأنه لم يغشهم جميع مائه بل غشيهم
بعضه فقال ما غشيهم ليدل على أن الذي غرقهم بعض الماء وانهم لم يغرقوا بجميعه وهذا
الوجه حكي عن الفراء وذكره أبو بكر الأنباري واعتمده وغيره أوضح منه - واليم - هو
البحر.. قال الشاعر
وبني تبع علي اليم قصرا * عاليا مشرفا على البنيان
.. وثانيها أن يكون المعني فغشيهم من اليم ما غشى موسى وأصحابه وذلك أن موسى
عليه الصلاة والسلام وأصحابه وفرعون وأصحابه سلكوا جميعا البحر وغشيهم كلهم إلا
أن فرعون وقومه لما غشيهم غرقهم وموسى عليه الصلاة والسلام وقومه جعل لهم في
البحر طريق يبس فقال تعالى فغشى فرعون وقومه من ماء اليم ما غشى موسى وقومه
فنجا هؤلاء وهلك هؤلاء وعلى هذا الوجه والتأويل تكون الهاء في قوله ما غشيهم كناية
عن غير من كني عنه بقوله فغشيهم لان الأولى كناية عن فرعون وقومه والثانية
كناية عن موسى وقومه.. وثالثها انه غشيهم من عذاب اليم وإهلاكه لهم ما غشى
الأمم السالفة من العذاب والهلاك عند تكذيبهم أنبياءهم وإقامتهم على رد أقوالهم
23

والعدول عن ارشادهم والأمم السالفة وان لم يغشهم الهلاك والعذاب من قبل البحر
فقد غشيهم عذاب واهلاك استحقوهما بكفرهم وتكذيبهم أنبياءهم فشبه بينه وبين هؤلاء
من حيث اشتمال العذاب على جميعهم عقوبة على التكذيب.. ورابعها أن يكون المعنى
فغشيهم من قبل اليم ما غشيهم من العطب والهلاك فتكون لفظة غشيهم الأولى للبحر
والثانية للهلاك والعطب اللذين لحقاهم من قبل البحر.. ويمكن في الآية وجه آخر لم
يذكر فيها وهو واضح يليق بمذاهب العرب في استعمال مثل هذا اللفظ وهو أن تكون
الفائدة في قوله تعالى (ما غشيهم) تعظيم الأمر وتفخيمه كما يقول القائل فعل فلان
ما فعل وأقدم على ما أقدم إذا أراد التفخيم وكما قال تعالى (وفعلت فعلتك التي فعلت)
وما يجري هذا المجرى ويدخل في هذا الباب قولهم للرجل هذا هذا وأنت أنت وفي
القوم هم هم.. قال الهذلي
رقوني وقالوا يا خويلد لا ترع * فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
.. وقال أبو النجم
أنا أبو النجم وشعري شعري * كل ذلك أرادوا تعظيم الأمر وتكبيره
(مجلس آخر 27)
[تأويل آية].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (فخر عليهم السقف من
فوقهم) فقال ما الفائدة في قوله من فوقهم يفيده قوله فخر عليهم السقف لان
مع الاقتصار على القول الأول لا يذهب وهم أحد إلى أن السقف يخر من تحتهم.. الجواب
قيل له في ذلك أجوبة.. أولها أن يكون من بمعنى عن فيكون المعنى فخر عنهم السقف من
فوقهم أي خر عن كفرهم وجحودهم بالله تعالى وآياته كما يقول القائل اشتكى فلان عن
دواء شربه فيكون من وعن بمعني واحد أي من أجل الدواء وكذلك يكون معنى الآية
24

فخر من أجل كفرهم السقف من فوقهم.. قال الشاعر
أرمى عليها وهي فرع أجمع * وهي ثلاث أذرع وإصبع
أراد أرمي عنها لأن كلام العرب رميت عن القوس فأقام على مقام عن ولو أنه قال
تعالى على هذا المعنى فخر عليهم السقف ولم يقل من فوقهم جاز أن يتوهم متوهم ان
السقف خر وليس هم تحته.. وثانيها أن يكون على بمعنى اللام والمراد فخر السقف
فان على قد تقام مقام اللام.. وحكي عن العرب ما أغيظك على وما أغمك على يريدون
ما أغيظك لي وما أغمك لي.. قال الطرماح يصف ناقة
كأن مجراها علي ثفناتها * معرس خمس وقعت للجناجن (1)
أراد وقعت على الجناجن وهي عظام الصدر فأقام اللام مقام على.. وقد يقول القائل أيضا
تداعت على فلان داره واستهدم عليه حائطه ولا يريد انه كان تحته فأخبر تعالى بقوله
(من فوقهم) عن فائدة لولاه ما فهمت ولجاز أن يتوهم متوهم في قوله فخر عليهم
السقف ما يتوهمه من قوله خرب عليه ربعه ووقعت عليه دابته وأشباه ذلك.. وللعرب
في هذا مذهب طريف لطيف لأنهم لا يستعملون لفظه على في مثل هذا الموضع إلا
في الشر والأمر المكروه الضار ويستعملون اللام وغيرها في خلاف ذلك ألا تري أنهم
لا يقولون عمرت على فلان ضيعته بدلا من قولهم خربت عليه ضيعته ولا ولدت عليه

(1) - الثفنات - جمع ثفنة بفتح فكسر وهو من البعير ركبته وما مس الأرض
من كركرته وسعداناته وأصول أفخاذه - والمعرس - محل التعريس وهو النزول آخر
الليل يريد محل مبيتها وبعده * وقعن اثنتين واثنتين وفردة
يبادرون تغليسا سمال المداهن
- السمال - جمع سملة وهي بقية الماء في الحوض - والمداهن - جمع مدهن وهي نقر في
رؤس الجبال يستنقع فيها الماء وقد سبق إلى هذا المعنى ذو الرمة فقال
كان مجراها على ثفناتها * معرس خمس من قطا متجاور
وقعن اثنتين واثنتين وفردة * جريدا هي الوسطى بصحراء حائر
25

جاريته بل يقولون عمرت له ضيعته وولدت له جاريته وهكذا من شأنهم إذا قالوا قال
على وروى على فإنه يقال في الشر والكذب وفي الخير والحق يقولون قال عني وروي
عنى ومثل ذلك قوله تعالى (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) لأنهم لما
أضافوا الشر والكفر إلى ملك سليمان حسن أن يقال نتلو عليه ولو كان خيرا لقيل
عنه ومثله (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) وقوله (أتقولون على الله ما لا
تعلمون).. وقال الشاعر
عرضت نصيحة مني ليحيى * فقال غششتني والنصح ضر
ومالي لا أكون أعيب يحيى * ويحيي طاهر الأخلاق بر
ولكن قد أتاني أن يحيي * يقال عليه في نفعاء شر
فقلت له تجنب كل شئ * يعاب عليك إن الحر حر
ومثله قول الفرزدق في عنبسة بن سعدان المعروف بعنبسة الفيل وقد كان يتبع شعره
وبخطئه ويلحنه (1)

(1) - قلت - كان عنبسة يعيب على الفرزدق مثل قوله
وعض زمان يا بن مروان لم يدع * من المال الا مسحتا أو مجلف
- المسحت - المبدد - والمجلف - الذي ذهبت به السنون وكان الفرزدق لحانة على
جودة شعره وكان فحاشا لا يعترض عليه أحد الا هجاه وقد سأله بعضهم عن رفع مجلف
في البيت فغضب وقال على أن أقول وعليكم أن تحتجوا وأنكر عليه عبد الله بن أبي
إسحاق الحضرمي قوله
مستقبلين شمال الشام تضربنا * بحاصب من نديف القطن منثور
على عمائمنا نلقى وأرحلنا * على زواحف نزجى مخها رير
فقال الا قلت (على زواحف نزجيها محاسير) فغضب وقال
فلو كان عبد الله مولى هجوته * ولكن عبد الله مولي مواليا
26

لقد كان في معدان والفيل زاجر * لعنبسة الراوي على القصائدا
فقال على ولم يقل عني للمعنى الذي ذكرناه.. وثالث الوجوه في الآية أن يكون من
فوقهم تأكيد للكلام وزيادة في البيان كما قال تعالى (ولكن تعمى القلوب التي في
الصدور) والقلب لا يكون إلا في الصدر ونظائر ذلك في الكتاب كثير وفى كلام
الأدب أيضا والله أعلم
[تأويل خبر آخر أيضا].. إن سأل سائل عن الخبر الذي يرويه نافع عن أبي
إسحاق الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال إن هذا القرآن مأدبة لله تعالى فتعمدوا مأدبته ما استطعتم وان أصفر البيوت لبيتا
أصفر من كتاب الله فقال ما تأويله وكيف بيان غريبه.. الجواب قلنا - المأدبة - في كلام
العرب هي الطعام يصنعه الرجل ويدعو إليه الناس فشبه النبي صلى الله عليه وسلم
ما يكتسبه الانسان من خير القرآن ونفعه وعائدته إذا قرأه وحفظه بما يناله المدعو
من طعام الداعي وانتفاعه به يقال قد أدب الرجل يأدب فهو آدب إذا دعا الناس إلى
طعامه وشرابه ويقال للمأدبة المدعاة وذكر خلف الأحمر انه يقال فيه أيضا مأدبة بفتح
الدال.. قال طرفة العبدي
نحن في المشتاة ندعو الجفلى * لا ترى الآدب فينا ينتقر
ومعنى - الجفلى - أنه عم بدعوته ولم يخص بها قوما دون قوم.. والنقري إذا خص
بها بعضا دون بعض ومعنى - ينتقر - من النقري.. قال بعض هذيل
وليلة يصطلي بالفرث جازرها * يختص بالنقري المثرين داعيها
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة * عند الصباح ولا تسري أفاعيها
معنى - يصطلى بالفرث جازرها - أن الجازر إذا شق فيها الكرش أدخل يده لشدة البرد
في الفرث مستدفئا به ومعنى - يختص - بالنقري المثرين داعيها - أنه يخص بدعائه إلى طعامه
الأغنياء الذين يطمع من جهتهم في المكافأة.. وقال الآخر
27

قالوا ثلاثاؤه خصب ومأدبة * وكل أيامه يوم الثلاثاء
.. وقال الهذلي يصف عقابا
كأن قلوب الطير في جوف وكرها * نوى القسب ملقى عند بعض المآدب (1)
أراد جمع مأدبة.. وقد روى هذا الحديث بفتح المأدبة.. وقال الأحمر المراد بهذه
اللفظة مع الفتح هو المراد بها مع الضم.. وقال غيره المأدبة بفتح الدال مفعلة من
الأدب معناه ان الله تعالى أنزل القرآن أدبا للخلق وتقويما لهم وإنما دخلت الهاء في
مأدبة ومأدبة والقرآن مذكر لمعني المبالغة كما قالوا هذا شراب مطيبة للنفس.. وكما
قال عنترة
والكفر مخبثة لنفس المنعم
وجرى ذلك مجرى قولهم رجل علامة ونسابة في باب المدح على جهة التشبيه بالهداية
ورجل هلباجة في باب الذم على جهة التشبيه بالبهيمة.. ويقال لطعام الاملاك ولمية ولطعام
الختان العذيرة ولطعام الزفاف العرس ولطعام بناء الدار الوكيرة ولطعام حلق الشعر
العقيقة ولطعام القادم من السفر النقيعة ولطعام النفاس الخرس والذي تطعمه النفساء
نفسها الخرسة.. قال الشاعر
إذا النفساء لم تخرس ببكرها * غلاما ولم تسكت بحتر فطيمها
- الحتر - الشئ القليل.. وقال آخر
كل الطعام تشتهي ربيعه * العرس والإعذار والنقيعه
ويروي الخرس.. وينشد أيضا في النقيعة قول الشاعر
إنا لنضرب بالسيوف رؤسهم * ضرب القدار نقيعة القدام
- القدار - الجزار - والقدام - جمع قادم.. وقال أبو زيد يقال لطعام الاملاك
النقيعه ولطعام بناء الدار الوكيرة ولطعام الختان الاعذار والعذيرة.. وقال الفراء

(1) - القسب - بفتح فسكون اليابس من التمر
28

الشيدخي طعام الاملاك والوليمة طعام العرس.. وقال أبو زيد يقال من النقيعة نقعت
.. وقال الفراء منها أنقعت.. وقال ابن السكيت يقال للطعام الذي يتعلل به قدام الغداء
السلفة واللهنة لهنوا ضيفكم أي أطعموه اللهنة.. قال الشاعر
عجيز عارضها منفل * طعامها اللهنة أو أقل
.. وقال ابن السكيت يقال فلان يأكل الوجبة إذا كان يأكل في اليوم والليلة أكلة
.. قال بشار
فاستغن بالوجبات عن ذهب * لم يبق فيه لامرئ ذهبة
.. وقال ابن السكيت قال الأصمعي لرجل أسرع في سيره كيف كان سيرك قال كنت
آكل الوجبة وأنجو الوقعة وأعرس إذا فجرت وأرتحل إذا أسفرت وأسير الوضع
وأجتنب اللمع فجئتكم لمسى سبع.. قوله - أنجو الوقعة - معناه أقضي حاجتي مرة في
اليوم وهو من النجو.. وقوله - أسير الوضع - فالوضع سير فيه بعض الاسراع واللمع
سير أشد منه وأراد انه يجتنب الشديد من السير كراهة أن يقف ظهره قبل أن يبلغ
الأرض التي يقصدها ويقال شر السير الحقحقة أي السير الشديد الذي يقطع صاحبه
عن بلوغ بغيته.. قال الشاعر
إذا ما أردت الأرض ثم تباعدت * عليك فضع رحل المطي وأنزل
أي استرح حتى تقوى على السير فان جهدت نفسك لم تقطع أرضا ولم تبق ظهرا وهذا
من أبيات المعاني التي يسأل عنها والذي قيل فيه ما ذكرناه.. ويمكن أن يكون معنى البيت
إذا بعدت عليك الأرض فدعها واسل عنها كما يقال دواء ما عز مطلبه الصبر وما جرى
مجرى ذلك من ألفاظ التسلية والأمر بالعدول عن تتبع ما صعب من الأمور.. وقال
الآخر في معنى البيت الأول
يقطع بالنزول الأرض عنها * وبعد الأرض يقطعه النزول
وقوله - لمسى سبع - أي لمساء سبع ليال.. ويقال للذي يحضر طعام القوم من غير
أن يدعا إليه الوارش والوروش وقوله العامة طفيلي مولد لا يوجد في العتيق من كلام
29

العرب وأصل ذلك أن رجلا يقال له طفيل كان بالكوفة لا يفقد وليمة من غير أن يدعى
إليها فقيل للوارش طفيلي تشبيها بطفيل هذا في وقته.. ويقال للذي يحضر الشراب
من غير أن يدعى إليه واغل.. قال امرؤ القيس
فاليوم فاشرب غير مستحقب * إثما من الله ولا واغل
ويقال لما يشربه الوغل.. قال الشاعر
إن أك سكيرا فلا أشرب الوغل ولا يسلم مني البعير إن نشزا
وقوله صلى الله عليه وسلم ان أصفر البيوت لبيتا صفر من كتاب الله معناه أخلا البيوت
- والصفر - عند العرب الخالي من الآنية وغيرها.. ويمكن في قوله مأدبة وجه آخر
وهو أن يكون وجه التشبيه للقرآن بالمأدبة وتسميته بها من حيث دعاء الخلق إليه
وأمرهم بالاجتماع عليه فسماه عليه الصلاة والسلام مأدبة لهذا الوجه لأن المأدبة هي التي
يدعى الناس إليها ويجتمعون عليها وهذا الوجه يخالف الأول لأن الأول تضمن ان
وجه التشبيه من حيث النفع العائد على الحافظ للقرآن كما ينتفع المدعو إلى المأدبة بما
يصيبه من الطعام وهذا الوجه الآخر تضمن ان التشبيه وقع لاجتماع الناس في الدعاء
إليه والارشاد إلى اصابته وليس يبعد أن يريد عليه الصلاة والسلام بالخبر المعنيين معا
فلا تنافي بينهما.. أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال
أخبرنا أبو حاتم قال كنا في مجلس الأصمعي إذ أقبل اعرابي فقال أين عهدتكم فأشرنا
إلى الأصمعي فقال له ما معنى قول الشاعر
لا مال إلا العطاف تؤزره * أم ثلاثين وابنة الجبل
لا يرتقي النز في ذلاذله * ولا يعدى نعليه من بلل
.. فقال الأصمعي
عصرته نطفة تضمنها * لصب تلقى مواضع السبل
أو وجبة من جناة أشكلة * إن لم يرعها بالقوس لم تنل
30

قال فأدبر الاعرابي وهو يقول لم أر كاليوم رجلا.. قال ابن دريد إنما وصف رجلا
خائفا في رأس جبل يقول لا مال له إلا العطاف وهو السيف تؤزره أم ثلاثين يعني
كنانة فيها ثلاثون سهما وابنة الجبل يعني القوس لأنها تعمل من شجر الجبال مثل
النبع وغيره.. وقوله - لا يرتقى النز في ذلاذله - لأنه في رأس جبل فلا نزهناك يتعلق
بما يفضل من ثيابه ولا بلل يعدى نعليه عنهما - والعصرة - الملجأ - والنطفة - الماء -
المجتمع في صخر أو غيره من بقية ماء المطر - واللصب - الشق في الجبل أضيق من اللهب
وأوسع من الثقب - والسبل - المطر - والوجبة - أن يأكل كل يوم مرة - والأشكل -
السدر الجبلي واحده أشكلة.. يقول فهذه النطفة والوجبة من الأشكلة عصرتاه..
وقوله - ان لم يرعها بالقوس - يعني انها لا تنال باليد حتى تحرك بالقوس.. [قال
المرتضى] رضي الله عنه وإنما جعل الأصمعي انشاد باقي الأبيات دلالة على معرفة معناه
لأنه يبعد أن يعرفها ولا يعرف معناها والأعرابي إنما سأل عن المعنى فأقام انشاده لها
مقام تفسيرها واستغنى الأعرابي بذلك وعلم بتمامه للأبيات معرفته بمعناها وكان الأصمعي
كثيرا إذا أنشد شيئا من الشعر ينشد في معناه في الحال.. فمن ذلك أن إسحاق بن
إبراهيم الموصلي أنشده يوما لنفسه
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي * وقام بنصري حازم وابن حازم
عطست بأنف شامخ وتناولت * يداي الثريا قاعدا غير قائم
.. قال فلما فرغت من انشادهما أنشدني بعقب ذلك
ألا أيها السائلي جاهلا * لتعرفني أنا أنف الكرم
نمت في الكرام بني عامر * فروعي وأصلي قريش العجم
قال فجاء والله بالشعر الذي نحوته عملت بيتي عليه.. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني
قال حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا عون بن محمد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم
قال ما أنشدت الأصمعي شيئا قط إلا أنشدني مثله كأنه أعده لي فأنشدته يوما للأعشى
31

علقتها عرضا وعلقت رجلا
غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
فأنشدني من وقته
قتلتك أخت بني لؤي إذ رمت
وأصاب نبلك إذ رميت سواها
وأعارها الحدثان منك مودة
وأعار غيرك ودها وهواها
وذكر أبو العيناء قال كان الأصمعي إذا سمع انسانا ينشد شعرا في معنى أنشد في ذلك
المعنى من غير أن يريه أنه أراده فأنشده رجل قول القطامي
والناس من يلق خيرا قائلون له * ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
فأنشد هو قول قعنب الفزاري * فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما (1)
وروى ميمون بن هارون قال سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول أنشدت الأصمعي قول
الأعشى طلبا أن ينشدني مثله وكان مع بخله بالعلم لا يضن بمثل هذا
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا * أو تنزلون فإنا معشر نزل
فأنشدني لربيعة بن مقروم الضبي
ولقد شهدت الخيل يوم طرادها * بسليم أو ظفة القوائم هيكل (2)
فدعوا نزال فكنت أول نازل * وعلام أركبه إذا لم أنزل
وروى عن إسحاق بن إبراهيم أيضا أنه قال دخل على يوما الأصمعي وعندي أخ
للعماني الراجز حافظ رواية فلما دخل عبث به أخو العماني فقال له من هذا قال هو

(1) نسبه هنا إلى قعنب الفزاري ونسبة غيره من أهل الأدب إلى المرقش الأصفر
وهو عمرو بن حرملة أو ربيعة بن سفيان على اختلاف فيه
(2) - أوظفة - جمع وظيف ككريم وهو مستدق الذراع والساق من الخيل
والإبل - والهيكل - الضخم المشرف - ونزال - اسم فعل أمر بمعنى انزل
32

الباهلي الذي يقول * فما صحفة مأدومة بإهالة
بأطيب من فيها ولا أقط رطب (1)
فقال له قبل أن يستتم الكلام هو على كل حال أصلح من قول أخيك العماني
يا رب جارية حوراء ناعمة * كأنها عومة في جوف راقود (2)
قال إسحاق فقلت له أكنت أعددت هذا الجواب قال لا ولكن ما مر بي شئ إلا وأنا
أعرف منه طرفا
[تأويل آية أخرى].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (وقالت اليهود عزير ابن الله
وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم) ومعلوم أن القول لا يكون إلا
بالأفواه.. الجواب قلنا القول يحتمل معنيين في لغة العرب.. أحدهما القول باللسان
.. والآخر بالقلب فالقول الذي يضاف إلى القلب هو الظن والاعتقاد ولهذا المعنى ذهبت
العرب بالقول مذهب الظن فقالوا أتقول عبد الله خارجا ومتى تقول محمدا منطلقا يريدون
متى تظن.. قال الشاعر
أما الرحيل فدون بعد غد * فمتى تقول الدار تجمعنا
أراد فمتى تظن الدار.. وقال الآخر
أجهالا تقول بني لؤي * لعمر أبيك أم متجاهلينا

(1) - الصحفة - قصعة دون الجفنة وفوق المثقلة - والإهالة - الشحم أو
ما أذيب منه أو الزيت أو كل ما ائتدم به - والأقط - بفتح فكسر وقد يسكن شئ يتخذ
من المخيض الغنمى.. يريد بهذا التعريض ببني باهلة قوم الأصمعي وانهم إذا استحسنوا
شيئا شبهوه بشئ من المأكولات
(2) - العومة - دويبة - والراقود - دن كبير أو طويل الأسفل مطلى داخله
بالقار.. يريد به ان رهط العماني يستطيبون حتى الخبائث والحشرات ويشبهون
بها ما يستحسن
33

أراد تظن بنى لؤي.. وقال توبة بن الحمير
ألا يا صفي النفس كيف تقولها * لوان طريدا خائفا يستجيرها
تخبر إن شطت بها غربة النوى * ستنعم ليلى أن يفك أسيرها (1)
أراد كيف تظنها فلما كان القول يستعمل في الأمرين معا أفاد قوله تعالى (بأفواههم)
قصر المعنى على ما يكون باللسان دون القلب ولو أطلق القول ولم يأت بذكر الأفواه
لجاز أن يتوهم المعنى الآخر.. ومما يشهد لذلك قوله تعالى (إذا جاءك المنافقون
قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)
فلم يكذب تعالى قول ألسنتهم لأنهم لم يخبروا بأفواههم إلا بالحق بل كذب ما يرجع
إلى قلوبهم من الاعتقادات.. ووجه آخر وهو أن تكون الفائدة في قوله تعالى
بأفواههم ان القول لا برهان عليه وانه باطل كذب لا يرجع فيه إلا إلى مجرد القول
باللسان لان الانسان قد يقول بلسانه الحق والباطل وإنما يكون قوله حقا إذا كان
راجعا إلى برهان فيكون إضافة القول إلى اللسان تقتضي ما ذكرناه من الفائدة وهذا
كما يقول القائل لمن يشك في قوله أو يكذبه هكذا تقول وليس الشأن فيما تقوله وتتفوه
به وتقلب به لسانك فكأنهم أرادوا أن يقولوا هذا قول لا برهان عليه فأقاموا قولهم
هكذا تقول بلسانك وإنما يقولون كذا بأفواههم مقام ذلك والمعنى انه قول لا تعضده
حجة ولا برهان ولا يرجع فيه إلا إلى اللسان.. ووجه آخر وهو أن تكون الفائدة في

(1) هكذا أنشد البيت هنا وفى غيره من كتب الأدب
اطن به أخيرا وأعلم أنها * ستنعم يوما أو يفك أسيرها
وهذه الرواية أنسب وأقرب إلى المعنى ومنها يعلم أن قوله في البيت الذي قبله
- الا يا صفي النفس - إنما هو خطاب لنفسه على سبيل التجريد وتلك عادة لهم مشهورة في
لظمهم ونثرهم - والبيتان من قصيدة له طويلة حسنة أولها
نأتك بليلى دارها لا تزورها * وشطت نواها واستمر مريرها
يقول رجال لا يضرك نأيها * بلى كل ما شف النفوس يضيرها
34

ذلك التأكيد فقد جرت به عادة العرب في كلامها وما تقدم من الوجهين أولى لأن
حمل كلامه تعالى على الفائدة أولى من حمله على ما تسقطه معه الفائدة
[تأويل آية أخرى].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (ألم يأتكم نبأ الذين من
قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات
فردوا أيديهم في أفواههم) فقال أي معنى لرد الأيدي في الأفواه وأي مدخل لذلك
في التكذيب بالرسل عليهم السلام.. الجواب قلنا في ذلك وجوه.. أولها أن يكون
إخبارا عن القوم بأنهم ردوا أيديهم في أفواههم عاضين عليها غيظا وحنقا على الأنبياء
عليهم السلام كما يفعل المتوعد لغيره المبالغ في معاندته ومكايدته وهذه عادة معروفة في
المغيظ المحنق انه يعض على أصابعه ويفرك أنامله ويضرب بإحدى يديه على الأخرى وما
شاكل ذلك من الأفعال.. وثانيها أن تكون الهاء في الأيدي للكفار المكذبين والهاء
التي في الأفواه للرسل عليهم السلام فكأنهم لما سمعوا وعظ الرسل ودعاءهم وإنذارهم
أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل فيضعونها على أفواههم ليسكتونهم ويقطعوا كلامهم
.. وثالثها أن تكون الهاءان جميعا يرجعان إلى الكفار لا إلى الرسل فيكون المعنى
انهم إذا سمعوا وعظهم وإنذارهم وضعوا أيدي أنفسهم على أفواههم مشيرين إليهم
بذلك إلى الكف عن الكلام والامساك عنه كما يفعل من يريد منا أن يسكت غيره ويمنعه
عن الكلام من وضع أصبعه على في نفسه.. ورابعها أن يكون المعنى فردوا القول
بأيدي أنفسهم إلى أفواه الرسل أي انهم كذبوهم ولم يصغوا إلى أقوالهم فالهاء الأولى
للقوم والثانية للرسل والأيدي إنما ذكرت مثلا وتأكيدا كما يقول القائل أهلك فلان
نفسه بيده أي وقع الهلاك به من جهته لا من جهة غيره.. وخامسها أن المراد بالأيدي
النعم والهاء الثانية للقوم المكذبين والتي قبلها للرسل والتقدير فردوا بأفواههم نعم الرسل
أي ردوا وعظهم وإنذارهم وتنبيههم على مصالحهم الذي لو قبلوه لكان نعما عليهم..
ويجوز أيضا أن تكون الهاء التي في الأيدي للقوم الكفار لأنها نعم من الله تعالى عليهم
فيجوز اضافتها إليهم وحمل لفظة في علي معنى الباء جائز لقيام بعض الصفات مقام بعض
يقولون رضيت عنك ورضيت عليك.. وحكي في لغة طئ أدخلك الله بالجنة يريدون في
35

الجنة فيعبرون بالباء عن معنى في كذلك أيضا يصح أن يعبروا بفي عن الباء.. قال الشاعر
وأرغب فيها عن لقيط ورهطه * ولكنني عن سنبس لست أرغب
أراد وارغب بها فحمل في علي الباء.. وسادسها وهو جواب اختاره أبو مسلم بن بحر
وزعم أنه أولى من غيره قال المضمرون في قوله أيديهم الرسل وكذلك المضمرون في
أفواههم والمراد باليد ههنا ما نطق به الرسل من الحجج والبينات التي ذكر الله تعالى
انهم جاءوا بها قومهم واليد في كلام العرب قد تقع على النعمة وعلى السلطان أيضا وعلى
الملك وعلى العهد والعقد ولكل ذلك شاهد من كلامهم والذي أتى به الأنبياء قومهم
هو الحجة والسلطان وهو النعمة وهو العهد وكل ذلك يقع على اسم اليد ولما كان ما تعظ
به الأنبياء قومهم وينذرونهم به إنما يخرج من أفواههم فردوه وكذبوه قيل إنهم ردوا
أيديهم في أفواههم أي انهم ردوا القول من حيث جاء قال ولا يجوز أن يكون الضمير
في ذلك للرسل إليهم كما تأوله بعض المفسرين وذكر ان معناه انهم عضوا عليهم أناملهم
غيظا لأن رافع يده إلى فيه والعاض عليها لا يسمى رادا ليده إلي فيه إلا إذا كانت يده
في فيه فيخرجها ثم يردها.. [قال المرتضى] رضي الله عنه وليس ما استنكره أبو مسلم
من رد الأيدي إلى الأفواه بمستنكر ولا بعيد لأنه قد يقال رد يده إلى فيه والى وجهه
وعاد فلان يقول كذا ورجع يفعل كذا وان لم يتقدم ذلك الفعل منه ولو لم يسغ هذا
القول تحقيقا لساغ تجوزا واتساعا وليس يجب أن تؤخذ العرب بالتحقيق في كلامها
فان تجوزها واستعاراتها أكثر على أنه يمكن أن يكون المراد بذلك انهم فعلوا ذلك
الفعل شيئا بعد شئ وتكرر منهم فلهذا جاز أن يقول ردوا أيديهم في أفواههم لأنه قد
تقدم منهم مثل هذا الفعل فلما تكرر جازت العبارة عنه بالرد وهذا يبطل استضعافه
للجواب إذا صرنا إلى مراده
[تأويل خبر].. روى أن مسلما الخزاعي ثم المصطلقي قال شهدت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقد أنشده منشد قول سويد بن عامر المصطلقي
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم * إن المنايا توافي كل إنسان
36

واسلك طريقك فيها غير مختشع * حتى تبين ما يمنى لك ألماني (1)
فكل ذي صاحب يوما يفارقه * وكل زاد وإن أبقيته فاني
والخير والشر مقرونان في قرن * بكل ذلك يأتيك الجديدان
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أدركته لأسلم فبكى مسلم فقال ابنه يا أبت ما يبكيك
من مشرك مات في الجاهلية فقال يا بني لا تفعل فما رأيت مشركة تلقفت من مشرك خيرا
من سويد.. قوله - ما يمنى لك ألماني - معناه ما يقدر لك القادر.. قال الفراء يقال منى
الله عليه الموت أي قدر الله عليه الموت.. وقال يعقوب مناك الله بما يسرك أي قدر
الله لك ما يسرك وأنشد * لعمر أبي عمرو لقد ساقه المنى
إلي جدث يوزي له بالأهاضب (2)
.. قال ابن الاعرابي ساقه المنى أي ساقه القدر.. وأنشد ابن الاعرابي
منت لك أن تلاقيني المنايا * أحاد أحاد في الشهر الحلال (3)
معناه قدرت لك.. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى (من نطفة إذا تمنى) معناه إذا
تخلق وتقدر.. وقال بعض أهل اللغة إنما سمى منى لما يمنى من ثواب الله أي يقدر
فيه وقيل أيضا لما يمنى من الدم.. وقيل إنما سمى بذلك لأن إبراهيم عليه الصلاة
والسلام لما انتهى قال له الملك تمن قال أتمنى الجنة فسمى منى لذلك ومني يذكر ويؤنث
والتذكير أجود.. قال الشاعر في التذكير
سقى منى ثم رواه وساكنه * ومن ثوي فيه واهي الوذق معتبق

(1) - مختشع - من الخشوع وهو الذل والمسكنة يقول إن من سلك طريقه الذي
يليق به سلوكه ولم يتجاوزه إلى مالا يليق به قضى عمره في عز ورفعة حتى يوافي أجله
(2) - الجدث - القبر - ويوزى يحتفر ويعمل من أوزى داره إذا جعل حول
حيطانها الطين - والأهاضب - جمع هضبة وهي المشرف من الأرض
(3) - أحاد أحاد - يعنى واحدا واحدا وهما ممنوعان من الصرف للعدل
37

.. وقال آخر في التأنيث
ليومنا بمنى إذ نحن ننزلها * أسر من يومنا بالعرج أو ملل
فأما قوله - فالخير والشر مقرونان في قرن - فالقرن الحبل وأراد انهما مجموعان
لا يفترقان من حيث لا يكاد يصيب الانسان في الدنيا خيرا صرفا لا شر فيه فلهذا قال إنهما
مقرونان في قرن ويجوز أيضا أن يريد أن لسرعة تقلب الدنيا وإبدالها الخير بالشر
كأن الخير والشر مقرونان مجتمعان معا لتقارب ما بينهما.. فأما - الجديدان -
فهما الليل والنهار وهما أيضا الأجدان والملوان والفتيان والردفان والعصران..
قال الشاعر
إن الجديدين في طول اختلافهما * لا يفسدان ولكن تفسد الناس
.. وقال آخر
وانطله العصرين حتى يملني * ويرضى بنصف الدين والأنف راغم (1)
وقال أبو عبيدة ويقال الليل والنهار ابنا سبات.. وأنشد ابن الاعرابي
وكنا وهم كابني سبات تفرقا * سوى ثم كانا منجدا وتهاميا
ويقال للغداة والعشي القرنان والبركان والصرعان.. أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن
عثمان بن يحيى قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي قال أملى علينا أبو العباس
أحمد بن يحيى النحوي قال أنشدنا ابن الاعرابي لرفيع الوالبي
كذبتك ما وعدتك أمس صلاح * وعسى يكون لما وعدت نجاح
برؤ من السقم الطويل ضمانه * لا يستوي سقم بكم وصحاح
أصلاح إنك قد رميت نوافذا * وجوائفا ليست لهن جراح

(1) - أنطله - بالنون أي أمطله وقد روى بالميم أيضا والمعنى انه لا يزال يسوفه
من يوم إلى يوم ومن وقت إلى آخر حتى يرضى بنصف ماله عليه من الدين وأنفه راغم
38

ولقد رأيتك بالقوادم لمحة * وعلى من سدف العشي رياح
معنا رياح ههنا أي على وقت من العشى ومثله رواح وقوم يروونه بالكسر وليس بشئ
ما كان أبصرني بغرات الصبا * واليوم قد شفعت لي الأشباح
ومشي بجنب الشخص شخص مثله * والأرض نائية الشخوص براح
حلق الحوادث لمتي فتركن لي * رأسا يصل كأنه جماح
وذكا بأصداغي وقرن ذؤابتي * قبس المشيب كأنه مصباح
قال كأنه جماح من املاسه - وجماح - سهم أو قصبة يجعل عليه الطين ثم يرمى به الطير
وبهذا الاسناد لبعضهم
أرى الناس للصعلوك حزبا ولا أرى * لذي نشب إلا خليلا مصافيا
أرى المال يغشى ذا الوصوم فلا يرى * ويدعى من الأشراف من كان غابيا
- الصعلوك - الفقير وهو أيضا القرضوب والسبروت - والصوم - العيوب..
وبهذا الاسناد لعقيل بن علفة *
إني ليحمدني الخليل إذا اجتدى * مالي ويكرهني ذوو الأضغان
وأبيت تحلجني الهموم كأنني * دلو السقاة تمد بالأشطان (1)
وأعيش بالبلل القليل وقد أرى * أن الرموس مصارع الفتيان
وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني علي بن منصور قال أخبرني محمد بن
موسى عن دعبل بن علي قال قال لي عقيل بن علفة وذكر الأبيات الثلاثة وزاد فيها

(1) - تحلجني - من حلجت القطن إذا ميزت حبه عن شعره ورواه ابن الاعرابي بالخاء
من خلجه الهم شغله - وتمد - ترفع - والأشطان - جمع شطن وهو حبل البئر - والرموس -
جمع رمس وهو القبر يقول إن الموت كائن لا محالة فالقليل من العيش والكثير سمان
39

ولقد علمت لئن هلكت ليذكرن
قومي إذا علن النجي مكاني
[قال المرتضى] رضي الله عنه وكان عقيل بن علفة مع قوة شعره جيد الكلام
حكيم الألفاظ.. وروى المدائني قال قال عبد الملك بن مروان لعقيل بن علفة المري
ما أحسن أموالكم فقال ما ناله أحدنا عن أصحابه تفضلا قال ثم أيها قال مواريثنا قال
فأيها أشرف قال ما استفدناه لوقعة خولت نعما وأفادت عزا قال فما مبلغ عزكم قال ما لم
يطمع فينا ولم نؤمن قال فما مبلغ جودكم قال ما عقدنا به مننا وأبقينا به ذكرا قال فما
مبلغ حفاظكم قال يدفع كل رجل منا عن المستجير به كدفاعه عن نفسه قال عبد الملك
هكذا فليصف الرجل قومه.. وروى أنه قيل لعقيل بن علفة قد عنست بناتك أفما
تخشى عليهن الفساد قال كلا إني خلفت عندهن الحافظين قيل وما هما قال الجوع
والعرى أجيعهن فلا يأشرن وأعريهن فلا يظهرن.. وقال له عبد الملك يوما مالك
تهجو قومك قال لأنهم أشباه الغنم إذا صيح بها رفعت وإذا سكت عنها رتعت قال إنما
تقول البيت والبيتين قال حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق.. فأما معنى - علفة - اسم
أبيه.. قال ابن الاعرابي قال العلفة مثل الباقلاء الرطبة تكون تحت الرهز من البقل
وغيره.. وقال أبو سعيد السكري العلفة ضرب من أوعية بزر بعض النبات مثل قشرة
الباقلاء واللوبيا وهو الغلاف الذي يجمع عدة حب.. وقيل إن عقيلا كان يكنى بأبي
الوليد وكان عقيل غيورا موصوفا بشدة الغيرة.. وروى أبو عمرو بن العلاء انه حمل
يوما ابنة له وأنشأ يقول * إني وإن سيق إلي المهر
ألف وعبدان وذود عشر * أحب أصهاري إلي القبر
وذكر الأصمعي ان عقيلا كان لغيرته إذا رأى الرجل يتحدث إلى النساء أخذه ودهن
ارفاغه ومغابنه بزبد وربطه وطرحه في قرية النمل فلا يعود إلى محادثتهن.. وروى
الأصمعي قال كان عقيل بن علفة في بعض سفره ومعه ابنه العلمس وابنته الجرباء
فأنشأ يقول
40

قضت وطرا من دير سعد وربما * علي عجل ناطحنه بالجماجم (1)
ثم أقبل على ابنه فقال أجز يا علمس فقال
وأصبحن بالموماة يحملن فتية * نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
ثم أقبل على ابنته فقال أجيزي يا جرباء فقالت

(1) - دير سعد - بين بلاد غطفان والشام وقد أخرج الضحاك هذه الحكاية بأبسط
مما ذكر هنا ونحن نذكرها تتميما للفائدة.. قال خرج عقيل بن علفة وجثامة وابنته
الجرباء حتى أتوا بنتا له ناكحا في بني مروان بالشامات ثم إنهم قفلوا حتى إذا كانوا ببعض
الطريق قال عقيل بن علفة * قضت وطرا من دير سعد وطالما
على عرض ناطحنه بالحجاجم * إذا هبطت أرضا يموت غرابها
بها عطشا أعطينهم بالخزائم * ثم قال أنفذ يا جثامة فقال جثامة
فأصبحن بالمواماة يحملن فتية * نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
إذا علم غادرنه بتنوفة * تذارعن بالأيدي لآخر طاسم
ثم قال أنفذي يا جرباء فقالت
كأن الكرى سقاهم صرخدية * عقارا تمطى في المطا والقوائم
فقال عقيل شربتيها ورب الكعبة لولا الأمان لضربت بالسيف تحت قرطك أما وجدت
من الكلام غير هذا فقال جثامة وهل أساءت إنما أجادت وليس غيري وغيرك فرماه عقيل
بسهم فأصاب ساقه وأنفذ السهم ساقه والرجل ثم شد على الجرباء فعقر ناقتها ثم حملها
على ناقة جثامة وتركه عقيرا مع ناقة الجرباء ثم قال لولا أن تسبني بنو مرة لما عشت ثم
خرج متوجها إلى أهله وقال لئن أخبرت أهلك بشأن جثامة أو قلت لهم انه اصابه غير الطاعون
لا قتلتك فلما قدموا على أهل أبير وهم بنو القين ندم عقيل على فعله بجثامة فقال لهم
هل لكم في جزور انكسرت قالوا نعم قال فالزموا أثر هذه الراحلة حتى تجدوا الجزور فخرج
القوم حتى انتهوا إلى جثامة فوجدوه قد أنزفه الدم فاحتملوه وتقسموا الجزور وأنزلوه
عليهم وعالجوه حتى برئ وألحقوه بقومه فلما كان قريبا منهم تغني
أيعذر لا حينا ويلحين في الصبا * وما هن والفتيان الا شقائق
فقال له القوم إنما أفلت من الجراحة التي جرحك أبوك آنفا وقد عاودت ما يكرهه
فامسك عن هذا ونحوه إذا لقيته لا يلحقك منه شر وعر فقال إنما هي خطرة خطرت
والراكب إذا سار تغنى
41

كان الكرى سقاهم صرخدية * عقارا تمشت في المطا والقوائم
قال فأقبل على ابنته يضربها ويقول والله ما وصفتيها بهذه الصفة حتى شربتيها فوثب عليه
إخوتها فقاتلوه دونها ثم رماه أحدهم بسهم فانتظم فخذه.. فقال عقيل
إن بنى زملوني بالدم * من يلق أبطال الرجال يكلم
ومن يكن ذا أود يقوم * شنشنة أعرافها من أخزم
- الشنشنة - الطبيعة والسجية وقيل الشبه وهذا مثل اجتلبه عقيل وقد قيل قبله ولعقيل
وللدهر أثواب فكن في لباسه * كلبسته يوما أجد وأخلقا
وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم * وإن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا
(مجلس آخر 27)
[تأويل آية].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (والى الله ترجع الأمور) فقال
كيف يصح القول بأنها رجعت وهي لم تخرج عن يده.. الجواب قلنا قد ذكر
في ذلك وجوه.. أولها ان الناس في دار المحنة والتكليف قد يغتر بعضهم ببعض
ويعتقدون فيهم انهم يملكون جر المنافع إليهم وصرف المضار عنهم وقد يدخل عليهم
الشبه لتقصيرهم في النظر وعدولهم عن وجهه وطريقه فيعبد قوم الأصنام وغيرها من
42

المعبودات الجامدة الهامدة التي لا تسمع ولا تبصر ويعبد آخرون البشر ويجعلونهم
شركاء لله تعالى في استحقاق العبادة ويضيف كل هؤلاء أفعال الله عز وجل فيهم إلى
غيره فإذا جاءت الآخرة وانكشف الغطاء واضطروا إلى المعارف زال ما كانوا عليه في
الدنيا من الضلال واعتقاد الباطل وأيقن الكل انه لا خالق ولا رزاق ولا ضار ولا نافع
غير الله فردوا إليه أمورهم وانقطعت آمالهم من غيره وعلموا ان الذي كانوا عليه من
عبادة غيره وتأميله للضر والنفع غرور وزور فقال الله تعالى (والى الله ترجع الأمور)
لهذا المعنى.. والوجه الثاني أن يكون معنى الآية في الأمور أن الأمور كلها لله تعالى
وفي يده وقبضته من غير خروج ورجوع حقيقي وقد تقول العرب قد رجع على من
فلان مكروه بمعنى صار إلى منه ولم يكن سبق إلي قبل هذا الوقت وكذلك يقولون قد
عاد على من زيد كذا وكذا وان وقع منه على سبيل الابتداء.. قال الشاعر
وإن تكن الأيام أحسن مرة * إلي فقد عادت لهن ذنوب
أي صارت لها ذنوب لم تكن من قبل بل كان قبلها إحسان فحمل الآية على هذا المعنى
شائع جائز تشهد له اللغة.. والوجه الثالث إنا قد علمنا أن الله تعالى قد ملك العباد
في دار التكليف أمورا تنقطع بانقطاع التكليف وإفضاء الأمر إلى الدار الآخرة مثل
ما ملكه الموالي من العبيد وما ملكه الحكام من الحكم وغير ذلك فيجوز أن يريد الله
تعالى برجوع الأمر إليه انهاء ما ذكرناه من الأمور التي يملكها غيره بتمليكه إلى أن
يكون هو وحده مالكها ومدبرها.. ويمكن في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد
بها أن الأمر ينتهي إلى أن لا يكون موجود قادر غيره ويفضي الأمر في الانتهاء إلى
ما كان عليه في الابتداء لأن قبل انشاء الخلق هكذا كانت الصورة وبعد إفنائهم هكذا
يصير وتكون الكناية برجوع الأمر إليه عن هذا المعنى وهو رجوع حقيقي لأنه عاد
إلى ما كان عليه متقدما.. ويحتمل أيضا أن المراد بذلك ان إلى قدرته تعود المقدورات
لأن ما أفناه من مقدوراته الباقية كالجواهر والاعراض ترجع إلى قدرته ويصح منه
تعالى إيجاده لعوده إلى ما كان عليه وإن كان ذلك لا يصح في مقدورات البشر وإن كانت
43

باقية لما دل عليه الدليل من اختصاص مقدور القدر باستحالة العود إليها من حيث لم
يجر فيها التقديم والتأخير وهذا أيضا حكمه تعالى المتفرد به دون غيره من سائر القادرين
والله أعلم بما أراد
(مجلس آخر 28)
[تأويل آية].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (ليس البر أن تأتوا البيوت من
ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها) فقال أي معنى لذكر البيوت
وظهورها وأبوابها وهل المراد بذلك البيوت المسكونة على الحقيقة أو كنى بهذه اللفظة
عن غيرها فإن كان الأول فما الفائدة في إتيانها من أبوابها دون ظهورها وإن كانت كناية
فبينوا وجهها ومعناها.. الجواب قيل له في الآية وجوه.. أولها ما ذكر من أن الرجل
من العرب كان إذا قصد حاجة فلم تقض له ولم ينجح فيها رجع فدخل من مؤخر البيت
ولم يدخل من بابه تطيرا فدلهم الله تعالى على أن هذا من فعلهم لا بر فيه وأمرهم من
التقى بما ينفعهم ويقربهم إليه وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التطير وقال
لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر أي لا يعدى شئ شيئا.. وقال عليه الصلاة
والسلام لا يورد ذو عاهة على مصح ومعنى هذا الكلام ان من لحقت إبله آفة أو مرض
فلا ينبغي أن يوردها على إبل لغيره صحاح لأنه متى يلحق الصحاح مثل هذه
العاهة اتفاقا لا لأجل العدوي ولم يؤمن من صاحب الصحاح أن يقول إنما لحق إبلي
هذه الآفة من تلك الإبل وهي أعدت إبلي فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا
ليزول المأثم بين الفريقين والظن القبيح.. وثانيها ان العرب (1) إلا قريشا ومن ولدته

(1) قوله إن العرب الا قريشا الخ قلت ليس كذلك وإنما الذين كانوا يتحامون دخول
البيوت من أبوابها وهم محرمون الأحامس وهم قريش وكنانة وجديلة ومن تابعهم في
الجاهلية وإنما سموا بذلك لتحمسهم في دينهم أي تشددهم وقد صح ان النبي صلى الله
عليه وسلم أقبل ليدخل بيت بعض نسائه وهو محرم ومعه بعض أصحابه فلما دخل النبي صلى
الله عليه وسلم تأخر الرجل فقاله له عليه الصلاة والسلام مالك لا تدخل فقال أنا أحمسي
فقال وأنا كذلك فنسخ بفعله وقوله ما كانت عليه قريش ومن أخذ مأخذها
44

قريش كانوا إذا أحرموا في غير الأشهر الحرم لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها ودخلوها
من ظهورها إذا كانوا من أهل الوبر وإذا كانوا من أهل المدر نقبوا في بيوتهم ما يدخلون
ويخرجون منه ولم يدخلوا ولم يخرجوا من أبواب البيوت فنهاهم الله تعالى عن ذلك
وأعلمهم انه لا معنى له وانه ليس من البر وان البر غيره.. وثالثها وهو جواب أبي عبيدة
معمر بن المثنى ان المعنى ليس البر بان تطلبوا من غير أهله وتلتمسوه من غير بابه وأتوا
البيوت من أبوابها معناه اطلبوا الخير من وجهه ومن عند أهله.. ورابعها وهو
جواب أبى على الجبائي أن يكون الفائدة في هذا الكلام ضرب المثل وأراد ليس البر
أن يأتي الرجل الشئ من خلاف جهته لأن إتيانه من خلاف جهته يخرج الفعل عن
حد الصواب والبر إلى الاثم والخطأ وبين البر والتقوى وأمر باتيان الأمور من
وجوهها وان تفعل على الوجوه التي لها وجبت وحسنت وجعل تعالى ذكر البيوت
وظهورها وأبوابها مثلا لأن العادل عن الأمر عن وجهه كالعادل في البيت عن بابه
.. وخامسها أن تكون البيوت كناية عن النساء ويكون المعني وأتو النساء من حيث
أمركم الله والعرب تسمي المرأة بيتا.. قال الشاعر
مالي إذا أنزعها صأيت * أكبر غيرني أم بيت
أراد بالبيت المرأة.. ومما يمكن أن يكون شاهدا للجواب الذي حكيناه عن أبي على
الجبائي
والجواب عن أبي عبيدة أيضا ما أخبرنا به أبو القاسم أحمد بن يحيى النحوي
قال أنشدنا ابن الاعرابي
إني عجبت لأم العمر إذ هربت * من شيب رأسي وما بالشيب من عار
ما شقوة المرء بالإقتار يقتره * ولا سعادته يوما بإكثار
إن الشقي الذي في النار منزله * والفوز فوز الذي ينجو من النار
45

أعوذ بالله من أمر يزين لي * شتم العشيرة أو يدني من العار
وخير دنيا ينسي المرء آخرة * وسوف تبدو إلي الجبار أسراري
لا أدخل البيت أحبو من مؤخره * ولا أكسر في ابن العم أظفاري
فقوله - لا أدخل البيت أحبو من مؤخره - يحتمل أن يريد به إنني لا آتي الأمور من
غير وجهها على أحد الأجوبة في الآية.. ويحتمل أيضا إني لا أطلب الخير إلا من أهله على
جواب أبي عبيدة.. ويحتمل وجها آخر وهو أن يريد إنني لا أقصد البيت للريبة
والفساد لأن من شأن من يسعي إلى أفساد الحرم ويقصد البيوت للريبة أن يعدل عن
أبوابها طلبا لاخفاء أمره فكأنه نفى عن نفسه بهذا القول القبيح وتنزه عنه كما تنزه
بقوله - ولا أكسر في ابن العم أظفاري - عن مثله وأراد انه لا يبدأ ابن العم مني السوء
ولا يتألم بشئ من جهتي فأكون كأنني قد جرحته بأظفاري وكسرتها في لحمه وهذه
كنايات بليغة مشهورة للعرب.. ويجرى مجرى هذه الأبيات ويقاربها في المعني
وحسن الكناية قول هلال بن خثعم
وإني لعف عن زيارة جارتي * وإني لمشنوء إلي اغتيابها
إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها * زؤرا ولم تنبح علي كلابها
وما أنا بالداري أحاديث بيتها * ولا عالما من أي حوك ثيابها
وأن قراب البطن يكفيك مللأه * ويكفيك عورات الأمور اجتنابها
قال المرتضى] رضي الله عنه وقد جمعت هذه الأبيات فقرا عجيبة وكنايات بليغة لأنه
نفى عن نفسه زيارة جارته عند غيبة بعلها وخص حال الغيبة لأنها أدنى إلى الريبة
وأخص بالتهمة فقال - ولم تنبح على كلابها - أراد إني لا أطرقها ليلا مستخفيا متنكرا
فتنكرني كلابها وتنبحني وهذه الكناية تجرى مجرى قول الشاعر المتقدم.. لا أدخل
البيت أحبو من مؤخره وقد روى ولم تأنس إلى كلابها وهذا معني آخر كأنه أراد
انه ليس يكثر الطروق لها والغشيان لمنزلها فتأنس به كلابها لأن الانس لا يكون إلا
46

مع المواصلة والمواترة.. وقوله - وما أنا بالداري أحاديث بيتها - أراد به أيضا التأكيد
في نفى زيارتها وطروقها عن نفسه لأنه إذا أدمن الزيارة عرف أحاديث بيتها فإذا لم يزرها
وصارمها لم يعرف.. ويحتمل أن يريد إنني لا أسأل عن أحوالها وأحاديثها كما يفعل
أهل الفضول فنزه نفسه عن ذلك.. وقوله - ولا عالم من أي حوك ثيابها - كناية مليحة
عن انه لا يجتمع معها ولا يقرب منها فيعرف صفة ثيابها.. وبالاسناد المتقدم لحارثة
ابن بدر الغداني
إذا الهم أمسي وهو داء فأمضه * ولست بممضيه وأنت تعادله
ولا تنزلن أمر الشديدة بامرئ * إذا هم أمرا عوقته عواذله
فما كل ما حاولته الموت دونه * ولا دونه أرصاده وحبائله
ولا الفتك ما آمرت فيه ولا الذي * تحدث من لاقيت أنك فاعله
وما الفتك إلا لامرئ ذي حفيظة * إذا مال لم ترعد عليه خصائله
ولا تجعلن سرا إلي غير أهله * فتقعد إن أفشي عليك تجادله
ولا تسأل المال البخيل ترى له * غنى بعد ضر أورثته أوائله
أرى المال أفياء الظلال فتارة * يؤوب وأخرى يختل المال خاتله
معنى - آمرت - شاورت - والخصائل - كل لحم مجتمع وقد روينا في هذه الأبيات زيادة
على القدر الذي ذكرناه.. أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني الحسن بن علي قال
حدثنا محمد بن العباس قال حدثني الفضل بن محمد عن أبي المنهال المهلبي قال من الأبيات
السائرة قول حارثة بن بدر الغداني
لعمرك ما أبقى لي الدهر من أخ * حفي ولا ذي خلة لي أواصله
ولا من خليل ليس فيه غوائل * فشر الأخلاء الكثير غوائله
47

وقل لفؤاد إن نزى بك نزوة * من الروع أفرخ أكثر الروع باطله
معنى - أفرخ - أي أسكن يقال أفرخ روعه إذا سكن
وما كل ما حاولته الموت دونه * وذكر البيتين اللذين بعده وزاد
وكن أنت ترعى سر نفسك واعلمن * بأن أقل الناس للسر حامله
إذا ما قتلت الشئ فبح به * ولا تقل الشئ الذي أنت جاهله
ومما يستحسن لحارثة بن بدر الغداني قوله
لنا نبعة كانت تقينا فروعها * وقد بلغت إلا قليلا عروقها
وإنا لتستحلي المنايا نفوسنا * ونترك أخرى مرة لا نذوقها
وشيب رأسي قبل حين مشيبه * رعود المنايا بيننا وبروقها
قوله - لنا نبعة كانت تقينا فروعها - مثل ضربه وإنما أراد عشيرته وأهل بيته.. وقد
روى هذه الأبيات علي بن سليمان الأخفش عن أبي العباس ثعلب وزاد فيها
رأيت المنايا باديات وعودا * إلى دارنا سهلا إلينا طريقها
وقد قسمت نفسي فريقين منهما * فريق مع الموتى وعندي فريقها
وبينا نرجي النفس ما هو نازح * من الأمر لاقت دونها ما يعوقها
.. وروى أبو العيناء قال أنشد الشعبي عبد الله بن جعفر الأبيات الثلاثة الأول فقال
عبد الله لمن هذا يا شعبى قال لحارثة بن بدر فقال نحن أحق بهذا ثم أمر للعشبي بأربعمائة
دينار.. ومن مستحسن قول حارثة
ولقد وليت إمارة فرجعتها * في المال سالمة ولم أتمول
ولقد منعت النصح من متقبل * ولقد رفدت النصح من لم يقبل
48

فبأي لمسة لامس لم ألتمس * وبأي حيلة حائل لم أحتل
يا طالب الحاجات يرجو نجحها * ليس النجاح مع الأخف الأعجل
فاصدق إذا حدثت تكتب صادقا * وإذا حلفت مماريا فتحلل
معنى - تكتب صادقا - أي تكون عند الله صادقا.. وقوله - فتحلل - أي استثن
وإذا رأيت الباهشين إلي العلى * غبرا أكفهم بريث فاعجل
معنى - الباهشين - المادين أيديهم إلى الشئ المهتشين له
واحذر مكان السوء لا تحلل به * وإذا نبا بك منزل فتحول
وإذا ابن عمك لج بعض لجاجة * فانظر به عدة ولا تستعجل (1)
وإذا افتقرت فلا تكن متخشعا * ترجو الفواضل عند غير المفضل
واستغن ما أغناك ربك بالغنى * وإذا تكون خصاصة فتجمل
.. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرنا محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا محمد بن
يزيد النحوي قال كان حارثة بن بدر الغداني رجل تميم في وقته وكان قد غلب على زياد
وكان الشراب قد غلب عليه فقيل لزياد ان هذا قد غلب عليك وهو مشتهر بالشراب
فقال زياد كيف لي باطراح رجل هو يسايرني مذ دخلت العراق لم تصطك ركابي ركاباه
ولا تقدمني فنظرت إلي قفاه ولا تأخر عني فلويت عنقي إليه ولا أخذ على الشمس في
شتاء قط ولا الروح في صيف قط ولا سألته عن علم إلا ظننته لا يحسن غيره فلما مات
زياد جفاه عبيد الله ابنه فقال له حارثه أيها الأمير ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال
عند أبي المغيرة فقال له عبيد الله ان أبا المغيرة قد كان برع بروعا لا يلحقه معه عيب

(1) - اللجاجة - الخصومة - وانظر - انتظر - يقول إذا خاصمك قريبك
ولج في خصومتك فانتظر رجوعه إليك وإقلاعه عن خصومتك ولا تستعجل عليه
في مقابلته بمثل ما بدأك به أو فانتظر به نازلة تشغله عنك وتكف عنك غائلته
49

وأنا حدث وإنما أنسب إلى من يغلب على وأنت رجل تديم الشراب فمتى قربتك
وظهرت منك رائحة الشراب لم آمن أن يظن بي فدع الشراب وكن أول داخل على
وآخر خارج فقال له حارثة أنا لا أدعه لمن يملك ضري ونفعي أفأدعه للحال عندك قال
فاختر من عملي ما شئت قال توليني رام هرمز فإنها أرض عدات وشرف فان بها شرابا
وصف لي فولاه إياها فلما شيعه الناس.. قال أنس بن أبي أنس وقيل ابن أبي
إياس الدئلي
أحار بن بدر قد وليت إمارة * فكن جرذا فيها تخون وتسرق
ولا تحقرون يا حار شيئا وجدته * فحظك من ملك العراقين سرق (1)
وباه تميما بالغنى إن للغني * لسانا به العي الهيوبة ينطق
فإن جميع الناس إما مكذب * يقول بما تهوى وإما مصدق
يقولون أقوالا ولا يعلمونها * فإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
وهذه الأبيات تروى لأبى الأسود الدئلي وانه كتب بها إلى حارثة لما ردت إليه سرق
ويزاد فيها
وكن حازما في اليوم إن الذي به * يجئ غد يوم علي الناس مطبق
ولا تعجزن فالعجز أوطأ مركب * وما كل من يدعو إلى الخير يرزق
إذا ما دعاك القوم عدوك آكلا * وكل حار أوجع لست ممن يحمق
ويقال ان حارثة بن بدر أجاب عن هذه الأبيات بقوله
جزاك إله العرش خير جزائه * فقد قلت معروفا وأوصيت كافيا

(1) - سرق - بضم أوله وتشديد ثانيه كورة من كور الأهواز ومدينتها دورق
50

أشرت بأمر لو أشرت بغيره * لألفيتني ني فيه لأمرك عاصيا (1)
.. ويقال ان حارثة بن بدر والأحنف بن قيس قد دخلا على ابن زياد فقال لحارثة أي
الشراب أطيب وكان يتهم فقال برة طاساريه واقطة عنوية وسمنة عنزية وسكرة سوسية
ونطفة مسرقانية فقال للأحنف يا أبا بحر ما أطيب الشراب قال الخمر قال وما يدريك
ولست من أهلها قال رأيت فيها خصلتين عرفت انها أطيب الشراب.. ولحارثة بن بدر
يخاطب عبيد الله بن زياد لما تغير عليه بعد اختصاصه كان بأبيه
أهان وأقصى ثم تنتصحونني * وأي امرئ يعطي نصيحته قسرا
رأيت الأكف المصلتين عليكم * ملاء وكفى من عطاياكم صفرا
وإني مع الساعي إليكم بسيفه * إذا أحدث الأيام في عظمكم كسرا
متى تسألوني ما علي وتمنعوا * الذي لي لم أسطع كم صبرا
.. وقال يعاتبه
وكم من أمير قد تجبر بعدما * مريت له الدنيا بسيفي فدرت
إذا زبنته عن فواق أتت به * دعاني ولم أدع إذا ما أقرت
إذا ما هي ما احلوت محاحق مقسمي * ويقسم لي منها إذا ما أمرت
- زبنته - أي دفعته عن أن يحلبها - والفواق - اجتماع اللبن في الضرع بين الحلبتين.. ومعنى
- أقرت - تركته يحلبها.. ويشبه أبيات حارثة هذه قول عبد الله بن الزبير يعاتب معاوية
ومروان وأهل بيته من جملة قصيدة وهي أبيات قوية جدا

(1) - قلت - أورد هذه الحكاية ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان وذكر
بيتي بدر المذكورين هنا وزاد بعدهما بيتا واحدا وهو
ستلقى أخا يصفيك بالود حاضرا * ويوليك حفظ الغيب ما كان نائيا
51

عطاؤكم للظاربين رقابكم * وندعى إذا ما كان جز الكراكر (1)
أنحن أخوكم في المضيق وسهمنا * إذا ما قسمتم في الخطاء الأصاغر
الخطاء - سهام صغار -
وثديكم الأدنى إذا ما قسمتم * ونلقى بثدي حين نسأل باسر (2)
وإن كان فينا الذنب للناس مثله * أخذنا به من قبل ناه وآمر
أي من قبل أن ننهي عنه أو نؤمر باجتنابه
وإن جاءكم منا غريب بأرضكم * لويتم له يوما جنوب المناخر
فهل يفعل الأعداء إلا كفعلكم * هوان السراة وابتغاء العواثر
وغير نفسي عنكم ما فعلتم * وذكر هوان منكم متظاهر
جفاؤكم من عالج الحرب عنكم * وأعداؤكم من بين جاب وعاشر
فلا تسألوني عن هواي وودكم * وقل في فؤاد قد توجه نافر
ولحارث يرثي زيادا
لهفي عليك للهفة من خائف * يبغي جوارك حين ليس مجير
أما القبور فإنهن أوانس * بجوار قبرك والديار قبور
عمت فواضله فعم مصابه * فالناس فيه كلهم مأجور
ردت صنائعه إليه حياته * فكأنه من نشرها منشور

(1) - جز - قطع - والكراكر - جمع كركرة بالكسر وهي رحى زور البعير
أو صدر كل ذي خف أو الجماعة من الناس كنى بذلك عن الحرب
(2) - باسر - أي جاف لا لبن فيه.. ومنه بسر الحاجة أي طلبها قبل أوانها
52

.. [قال المرتضى] رضي الله عنه وأظن أبا تمام الطائي نظر إلى قول حارثة بن بدر
* ردت صنائعه إليه حياته * في قوله
ألم تمت يا شقيق النفس مذ زمن * فقال لي لم يمت من لم يمت كرمه
وأخبرنا علي بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا عبد الرحمن يعني ابن
أخي الأصمعي عن عمه قال مر حارثة بن بدر الغداني ومعه كعب مولاه فجعل لا يمر
بمجلس من مجالس تميم إلا قالوا مرحبا بسيدنا فقال كعب ما سمعت كلاما قط هو
أقر لعيني وألذ في سمعي مما سمعته اليوم فقال حارثة ولكني ما سمعت كلاما قط هو
أكره إلي منه ثم قال
ذهب الرجال فسدت غير مسود * ومن الشقاء تفرد ى بالسؤدد
وهذا البيت يقال إنه لحارثة لا انه تمثل به.. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني
عبد الله بن جعفر قال حدثنا محمد بن زيد قال قال الكناني مر حارثة بن بدر بالأحنف
ابن قيس فقال لولا انك مستعجل لشاورتك قال له أجل كانوا يكرهون أن يشاور
الجائع حتى يشبع والظمآن حتى ينقع والمضل حتى يجد والغضبان حتى يرضى والمحزون
حتى يفيق
(مجلس آخر 29)
[تأويل آية].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله
سريع الحساب) فقال أي تمدح في سرعة الحساب وليس بظاهر وجه المدحة فيه
.. الجواب قلنا في ذلك وجوه.. أولها أن يكون المعني أنه سريع الحساب للعباد على
أعمالهم وان وقت الجزاء قريب وان تأخر ويجري مجرى قوله تعالى (وما أمر الساعة
إلا كلمح البصر أو هو أقرب) وإنما جاز أن يعبر عن المجازاة أو الجزاء بالحساب لأن
53

ما يجازى به العبد هو كفؤ لفعله وبمقداره فهو حساب له إذا كان مماثلا مكافئا.. ومما
يشهد بان في الحساب معنى المكافأة قوله تعالى (جزاء من ربك عطاء حسابا) أي
عطاء كافيا ويقال أحسبني الطعام يحسبني إحسابا إذا كفاني.. قال الشاعر
وإذ لا ترى في الناس حسنا يفوتها * وفي الناس حسنا لو تأملت محسب
معناه كاف.. وثانيها أن يكون المراد أنه عز وجل يحاسب الخلق جمعيا في أوقات يسيرة
ويقال ان مقدار ذلك حلب شاة لأنه تعالى لا يشغله محاسبة بعضهم عن محاسبة غيره
بل يكلمهم جميعا ويحاسب كلهم على أعمالهم في وقت واحد وهذا أحد ما يدل على أنه
تعالى ليس بجسم وانه لا يحتاج في فعل الكلام إلى آلة لأنه لو كان بهذه الصفات تعالى
عنها لما جاز أن يخاطب اثنين في وقت واحد بمخاطبتين مختلفتين ولكان خطاب بعض
الناس يشغله عن خطاب غيره ولكانت مدة محاسبته للخلق على أعمالهم طويلة غير قصيرة
كما أن جميع ذلك واجب في المحدثين الذين يفتقرون في الكلام إلى الآلات.. وثالثها
ما ذكره بعضهم من أن المراد بالآية انه سريع العلم بكل محسوب وانه لما كانت عادة بني
الدنيا أن يستعملوا الحساب والاحصاء في أكثر أمورهم أعلمهم الله تعالى انه يعلم
ما يحسبون بغير حساب وإنما سمى العلم حسابا لأن الحساب إنما يراد به العلم وهذا
جواب ضعيف لأن العلم بالحساب أو المحسوب لا يسمى حسابا ولو سمى بذلك لما جاز
أيضا أن يقال إنه سريع العلم بكذا لأن علمه بالأشياء مما لا يتجدد فيوصف بالسرعة
.. ورابعها ان الله تعالى سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم وذلك أنه يسأل في
وقت واحد سؤالات مختلفة من أمور الدنيا والآخرة فيجزى كل عبد بمقدار استحقاقه
ومصلحته فيوصل إليه عند دعائه ومسئلته ما يستوجبه بحد ومقدار فلو كان الأمر على
ما يتعارفه الناس لطال العدد واتصل الحساب فأعلمنا تعالى انه سريع الحساب أي سريع
القبول للدعاء بغير احساس وبحث عن المقدار الذي يستحقه الداعي كما يبحث المخلوقون
للحساب والاحصاء وهذا جواب مبني أيضا على دعوى أن قبول الدعاء لا يسمى حسابا
في لغة ولا عرف ولا شرع وقد كان يجب على من أجاب بهذا الجواب أن يستشهد على
54

ذلك بما يكون حجة فيه وإلا فلا طائل فيما ذكره.. ويمكن في الآية وجه آخر وهو
أن يكون المراد بالحساب محاسبة الخلق على أعمالهم يوم القيامة وموافقتهم عليها وتكون
الفائدة في الاخبار بسرعته الاخبار عن قرب الساعة كما قال تعالى (سريع العقاب)
وليس لأحد أن يقول فهذا هو الجواب الأول الذي حكيتموه وذلك أن بينهما فرقا
لأن الأول مبنى على أن الحساب في الآية هو الجزاء والمكافأة على الأعمال وفي هذا
الجواب لم يخرج الحساب عن بابه وعن معنى المحاسبة المعروفة والمقابلة بالأعمال وترجيحها
وذلك غير الجزاء الذي يفضي الحساب إليه.. وقد طعن بعضهم في الجواب الثاني
معترضا على أبي على الجبائي في اعتماده إياه بان قال مخرج الكلام في الآية على وجه
الوعيد وليس في خفة الحساب وسرعة زمانه ما يقتضى زجرا ولا هو مما يتوعد بمثله
فيجب أن يكون المراد الاخبار عن قرب أمر الآخرة والمجازاة على الأعمال.. وهذا
الجواب ليس أبو علي المبتدي به بل قد حكي عن الحسن البصري واعتمده أيضا قطرب
ابن المستنير النحوي وذكره المفضل بن سلمة وليس الطعن الذي حكيناه عن هذا
الطاعن بمبطل له لأنه اعتمد على أن مخرج الآية مخرج الوعيد وليس كذلك لأنه قال
تعالى (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وما له في الآخرة من خلاق
ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك
لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) فالأشبه بالظاهر أن يكون الكلام وعدا
بالثواب وراجعا إلى الذين يقولون ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا
عذاب النار أو يكون راجعا إلى الجميع فيكون المعنى ان للجميع نصيبا مما كسبوا فلا
يكون وعيدا خالصا بل إما أن يكون وعدا خالصا أو وعدا ووعيدا على أنه لو كان
وعيدا خالصا على ما ذكر الطاعن لكان لقوله تعالى (والله سريع الحساب) على تأويل
من أراد قصر الزمان وسرعة الموافقة وجه وتعلق بالوعد والوعيد لأن الكلام على كل
حال متضمن لوقوع المحاسبة على أعمال العباد والإحاطة بخيرها وشرها وان وصف
الحساب مع ذلك بالسرعة وفي هذا ترغيب وترهيب لا محالة لأن من علم بأنه يحاسب
بأعماله ويوقف على جميلها وقبيحها الزجر عن القبيح وعمل ورغب في فعل الواجب
55

فهذا ينصر الجواب وان كنا لا ندفع ان في حمل الحساب على قرب المجازاة وقرب
المحاسبة على الأعمال ترغيبا في الطاعات وزجرا عن المقبحات فالتأويل الأول أشبه
بالظاهر ونسق الآية إلا أن التأويل الآخر غير مدفوع أيضا ولا مردود
(مجلس آخر 30) [تأويل آية].. ان سأل سائل عن قوله تعالى (والله يرزق من يشاء بغير حساب)
فقال أي تمدح في الاعطاء بغير حساب وقد يكون المعطي بحساب أجزل عطية من
المعطى بغير حساب.. الجواب قلنا في هذه الآية وجوه.. أولها أن تكون الفائدة
انه تعالى يرزق من يشاء بغير تقدير من المرزوق ولا احتساب منه فالحساب ههنا راجع
إلى المرزوق لا إليه تعالى كما يقول القائل ما كان كذا وكذا في حسابي أي لم أؤمله ولم
أقدر أنه يكون وهذا وصف للرزق بأحسن الأوصاف لان الرزق إذا لم يكن محتسبا
كان أهنأ له وأحلا.. وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية
أنه قال عنى بها أموال بني قريظة والنضير فإنها تصير إليكم بغير حساب ولا قتال على
أسهل الأمور وأقربها وأيسرها.. وثانيها انه تعالى يرزق من يشاء رزقا غير مضيق
ولا مقتر بل يزيد في السعة والكثرة على كل عطاء للمخلوقين فيكون نفى الحساب فيه
نفيا للتضييق ومبالغة في وصفه بالسعة والعرب تسمى العطاء القليل محسوبا.. قال
قيس بن الخطيم
أني سريت وكنت غير سروب * وتقرب الأحلام غير قريب
ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه * في النوم غير مصرد محسوب
.. وثالثها أن يكون المعنى انه يرزق من يشاء من غير حساب أي من غير طلب للمكافأة
أو أراغة فائدة تعود إليه أو منفعة ترجع عليه لان من شأن أهل الدنيا أن يعطوا
ليتكافئوا ولينتفعوا ولهذا يقال فيمن يقصد بالعطية إلى هذه الأمور فلان يحاسب الناس
56

فيما يعطيهم ويناقشهم فيما يوصله إليهم وما أشبه ذلك فلما انتفت هذه الأمور من عطاياه
سبحانه جاز أن يقول إنه يرزق من يشاء بغير حساب.. ورابعها ما أجاب به قطرب
قال معنى الآية يعطى العدد الكثير لا ما يضبطه الحساب أو يأتي عليه العدد لأن مقدروه
تعالى لا يتناهي وخزائنه لا تنحصر ولا يصح عليه النفاد وليس كالمعطي منا الألف
من الألفين والعشرة من المائة لان مقدار ما يتسع له ويتمكن منه محدود متناه ولا
تناهي ولا انقطاع لما يقدر سبحانه عليه.. وخامسها أن يعطى عباده في الجنة من النعيم
واللذات أكثر مما استحقوا وأزيد مما وجب لهم بمحاسبته إياهم على طاعتهم كما قال
تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) وكما قال
عز وجل (إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم) وكما قال تعالى
(ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله).. وسادسها أن يكون المعطي منا غيره شيئا
والرازق سواه رزقا قد يكون له ذلك فيكون فعله حسنا لا يسأل عنه ولا يؤاخذ به
ولا يحاسب عليه وربما لم يكن له ذلك فيكون فعله قبيحا يؤاخذ به ويحاسب عليه فنفى
الله تعالى عن نفسه أن يفعل من الرزق القبيح وما ليس له أن يفعله بنفي الحساب عنه
وأنبأ أنه لا يرزق ولا يعطى إلا على أفضل الوجوه وأحسنها وأبعدها من الذم وتجرى
الآية مجرى قوله تعالى (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) وإنما أراد انه تعالى من
حيث وقعت أفعاله كلها حسنة غير قبيحة لم يجز أن يسأل عنها وان سئل العباد عن
أفعالهم لأنهم يفعلون الحسن والقبيح معا.. وسابعها ان الله تعالى إذا رزق العبد وأعطاه
من فضله كان الحساب عن العبد ساقطا من جهة الناس فليس لأحد أن يقول له لم
رزقت ولا يقول لربه لم رزقته ولا يسأله ربه عن الرزق وإنما يسأله عن انفاقه في الوجوه
التي ينفقه فيها فسقط الحساب من هذه الوجوه عما يرزقه الله تعالى ولذلك قال تعالى
(بغير حساب).. وثامنها أن يكون المراد بمن يشاء أن يرزقه من أهل الجنة لأنه
يرزقهم رزقا لا يصح أن يتناول جميعه الحساب ولا العدد والاحصاء من حيث لا نهاية
له ولا انقطاع للمستحق منه ويطابق هذه الآية قوله تعالى في موضع آخر (فأولئك
يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب)
57

[تأويل خبر].. ان سأل سائل عن الخبر الذي يروي عن زيد بن ثابت عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال توضؤا مما غيرت النار.. فقال ما المراد بالوضوء ههنا ومذهبكم
ان مس ما غيرته النار لا يوجب الوضوء.. جواب ان معنى توضؤا أي نظفوا أيديكم
من الزهومة لأنه روى أن جماعة من الأعراب كانوا لا يغسلون أيديهم من الزهومة
ويقولون فقدها أشد علينا من ريحها فأمر عليه الصلاة السلام بتنظيف الأيدي.. فان
قيل كيف يصح أن تحملوا الخبر على اللفظ اللغوي مع انتقاله بالعرف الشرعي إلى الافعال
المخصومة بدلالة ان من غسل يده أو وجهه لا يقول بالاطلاق توضأت ومتى سلم لكم
أن الوضوء أصله من النظافة لم ينفعكم مع الانتقال الذي ذكرناه وكلامه عليه الصلاة
والسلام خص بالعرف الشرعي وحمله عليه أولى من حمله على اللغة.. قلنا ليس ننكر أن
يكون اطلاق الوضوء هو المنتقل من اللغة إلى عرف الشرع والمختص بالأفعال المعينة
وكذلك المضاف منه إلى الحدث أو الصلاة وما أشبههما.. فأما المضاف إلى الطعام وما
جرى مجراه فباق على أصله ألا ترى انهم لو قالوا توضأت من الطعام ومن الغمرة أو
توضأت للطعام لا يفهم منه إلا الغسل والتنظيف وإذا قولوا توضأت اطلاقا أو توضأت
من الحدث أو للصلاة فهم منه الأفعال الشرعية فليس ينكر ما ذكرناه من اختصاص
النقل لأنه كما يجوز انتقال اللفظة من فائدة في اللغة إلي فائدة في الشرع على كل وجه كذلك
يجوز أن ينتقل على وجه دون وجه ويبقى من الوجه الذي لم ينتقل منه على ما كان عليه
في اللغة وقد ذهب كثير من الناس إلي أن اطلاق لفظة مؤمن منتقل من اللغة إلى
عرف الدين ومختص باستحقاق الثواب وإن كان مقيدها باقيا على ما كان عليه في اللغة
.. ويبين ذلك أيضا ما روى عن الحسن أنه قال الوضوء قبل الطعام ينفى الفقر وبعده
ينفى اللمم وإنما أراد غسل اليدين بغير شك.. وروى عن قتادة أنه قال غسل اليد
وضوء.. وروى عكرش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل وغسل يده ومسح
ببلل يده وجهه وذراعيه ورأسه وقال هكذا الوضوء مما مست النار على أنه لو كانت
هذه اللفظة منتقلة على كل حال إلى الأفعال الشرعية المخصوصة لصح أن نحملها في الخبر
على خلاف ذلك ونردها إلى أصلها بالأدلة وإن كان الأولى لولا الأدلة أن تحمل على
58

مقتضى الشرع فمن الأدلة على ما ذكرناه ما رواه ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
أكل كتف شاة وقام فصلى ولم يتوضأ.. وروى عطاء عن أم سلمة قالت قربت جنبا
مشويا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منه وصلى ولم يتوضأ.. وروى محمد بن
المنكدر عن جابر أنه قال كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك
الوضوء مما مست النار وكل هذه الأخبار توجب العدول عن ظاهر الخبر الأول (1) لو كان
له ظاهر فيكف وقد بينا انه لا ظاهر له.. فأما اشتقاق الوضوء فهو من الوضاءة التي
هي الحسن فلما كان من غسل يده ونظفها قد حسنها قيل وضأها ويقال فلان وضئ
الوجه وقوم وضاء.. قال الشاعر
مساميح الفعال ذوو أناة * مراجيح وأوجههم وضاء (2)
والوضوء بضم الواو المصدر وكذلك أيضا التوضأ.. والوضوء بفتح الواو اسم ما يتوضأ
به وكذلك الوقود اسم لما توقد به النار والوقود بالضم المصدر ومثله التوقد وقد يجوز
أن يكون الوقود بفتح الواو المصدر وكذلك الوضوء بفتح الواو كما قالوا حسن القبول
فجعلوا القبول مصدرا وهو مفتوح الأول ولا يجوز في الوقود والوضوء بالضم إلا معنى

(1) - قلت - الخبر الأخير وهو ما رواه جابر انه كان آخر الأمرين من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار يدل دلالة صريحة على أن المراد بالوضوء
في الحديث السابق وهو توضؤا مما غيرت النار الوضوء الشرعي الذي هو عبارة عن
غسل الأعضاء المعلومة وان الوضوء مما مست النار كان مشروعا ثم نسخ وكل ما ذكر
من كونه صلى الله عليه وسلم أكل مما نالته النار ولم يتوضأ محمول على ما بعد النسخ وهذا
هو الصحيح ولا حاجة لنمحل السيد رحمه الله ولا يناقض هذا مذهب أحد ممن يقول
بعدم مشروعية الوضوء مما مست النار
(2) - الفعال - بكسر الفاء جمع فعل خيرا كان أو شرا فان فتحوا الفاء أرادوا
ما هو من أفعال الخير فقط - والأناة - السكينة والتؤدة - ومراجيح - ثقال يريد
أنهم لا يطيشون في كل ما ينزل بهم
59

المصدر وحده.. قال جرير
أهوى أراك برامتين وقودا * أم بالجنينة من مدافع أودا (1)
.. وقال آخر
إذا سهيل لاح كالوقود * فردا كشاة البقر المطرود
.. وقال آخر
وأججنا بكل يفاع أرض * وقود النار للمتنورينا
أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن يحيى قال
حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثني إبراهيم بن محمد عن عبد
العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن ابن شهاب قال أتيت عبيد الله
ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود يوما في منزله فإذا هو مغيظ ينفخ فقلت له مالي أراك
هكذا قال دخلت على عاملكم هذا يعني عمر بن عبد العزيز ومعه عبد الله بن عمرو ابن
عثمان فسلمت فلم يردا على السلام فقلت
ألا فابلغنا عني عراك بن مالك * فإن أنت لم تفعل فأبلغ أبا بكر
فقد جعلت تبدو شواكل منكما * فإنكما بي موقران من الصخر
وطاوعتما بي غادرا ذا معاكة * لعمري لقد أورى وما مثله يورى
يقال - معك - به وسدل به إذا تعرض به لشر
فلولا اتقا الله اتقائي فيكما * للمتكما لوما أحر من الجمر
فمسا تراب الأرض منها خلقتما * وفيها المعاد والمقام إلي الحشر
ولا تأنفا أن تغشيا فتكلما * فما حشي الأقوام شرا من الكبر

(1) - الجنينة - تصغير جنة وهي البستان روضة نجدية - وأود - بضم فسكون
أحد منازل تميم بنجد - ومدافع - جمع مدفع وهو مسيل الماء إلى الوادي
60

ولو شئت أدلى فيكما غير واحد * علانية أو قال عندي في السر (1)
معناه لو شئت اغتابكما عندي غير واحد
فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما * ضحكت له حتى يلج يستشرى (2)
وكيف تريدان ابن سبعين حجة * علي ما أتى وهو ابن عشرين أو عشر
لقد علقت دلوا كما دلو حول * من القوم لأرخو المراس ولا نزر (3)
قال ابن شهاب فقلت له مثلك يرحمك الله مع نسكك وفضلك وفهمك يقول الشعر فقال إن
المصدور إذا نفث برى وإنما ذكر عراك بن مالك وأبا بكر بن عمرو بن جرم وكانا
صديقيه كناية بذكرهما عن ذكر غيرهما.. وقد جاءت رواية أخرى ان أبا بكر بن
عمر بن جرم وعراك بن مالك كانا يجتازان على عبيد الله فلا يسلمان عليه فقال الأبيات
يخاطبهما بها.. وروى محمد بن سلام لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة
إذا كان لي سر فحدثته العدى * وضاق به صدري فللناس أعذر
هو السر ما استودعته وكتمته * وليس بسر حين يفشو ويظهر
.. وأنشد مصعب الزبيري لعبيد الله بن عتبة بن مسعود
أواخي رجالا لست مطلع بعضهم * على سر بعض إن صدري واسعه
إذا هي حلت وسط عود ابن غالب * فذلك ود نازح لا أطالعه

(1) - أدلى - يقال أدلى فلان في فلان إذا قال فيه قولا قبيحا.. يقول لو شئت
لسلطت عليكما الناس فسبوكما سرا وعلانية ولكني أمسك عنكما اتقاء لله فيكما
(2) - يستشرى - بمعنى يلج أي يتوغل في الأمر ويغرق فيه.. ومنه قيل للخوارج
الشراة لتوغلهم في المروق من الطاعة ومخالفة الجماعة
(3) - حول - شديد الاحتيال ومثله حول كصرد وحوله كهمزة وحوالي بفتح
الحاء وضمها.. يقول أنكما وقعتما مع من لا تطيقان دفعه عن أنفسكما
61

تلاقت حيازيمي على قلب حازم * كتوم لما ضمت عليه أضالعه
بني لي عبد الله في سورة العلى * وعتبة مجدا لا تنال مصانعه
والبيت الأول يشبه قول مسكين الدارمي
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم * علي سر بعض غير أني جماعها
ومما يستحسن لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة قوله
تغلغل حب عتمة في فؤادي * فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب * ولا حزن ولم يبلغ سرور
شققت القلب ثم ذررت فيه * هواك فليم فالتأم الفطور
أكاد إذا ذكرت العهد منها * أطير لو أن إنسانا يطير
غنى النفس أن أزداد حبا * ولكني إلى وصل فقير
وأخذ هذا المعنى أبو نواس فقال
أحللت في قلبي هواك محلة * ما حلها المأكول والمشروب
وأخذه المتنبي في قوله
وللسر منى موضع لا يناله * نديم ولا يفضى إليه شراب
وكأن العباس بن الأحنف ألم به في قوله
لو شق قلبي لرأى وسطه * اسمك والتوحيد في سطر
.. وقال الصاحب إسماعيل بن عباد
لو شق قلبي لرأوا وسطه * سطرين قد خطا بلا كاتب
العدل والتوحيد في جانب
وحب أهل البيت في جانب
وقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أحسن من الجميع وبعده بيت المتنبي
ولعبيد
62

الله بن عبد الله بن عتبة
لعمر أبي المحصين أيام نلتقي * لمالا نلاقيها من الدهر أكثر
يعدون يوما واحدا إن أتيتها * وينسون ما كانت علي الدهر تهجر
فإن يكن الواشون أغروا بهجرها * فإنا بتجديد المودة أجدر
ومن مستحسن قوله من غزله
لعمري لئن شطت بعتمة دارها * لقد كنت من وشك الفراق أليح (1)
أروح بهم ثم أغدوا بمثله * ويحسب أنى في الثياب صحيح
أخذ هذا المعنى بشار فقصر عنه في قوله
ويصبح محزونا ويمسي به * وليس يدري ماله عندك
(مجلس آخر 31)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى حاكيا عن شعيب عليه الصلاة والسلام
(قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن
نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا).. فقال (2) أليس هذا صريحا منه بان الله تعالى يجوز أن

(1) - شطت - بعدت - ووشك - قرب - وأليح - أخاف وأحذر.. يقول إن
ارتحلت عنا وفارقتنا فقد كنت أنتظر ذلك وأتوقعه وأتخوف منه قبل أن يقع
(2) - قلت - أصل الاشكال في الآية ينبني على مذهب المعتزلة ان الله جل شأنه
لا يريد الا الحسن وان غير الحسن لا يشاؤه ولا يريده ومذهب أهل السنة ان كل ما يقع
في السكون من خير أو شر فهو مراد لله تعالى وعلى هذا المذهب فلا اشكال في الآية بل
هي شاهدة له
63

يفعل الكفر والقبيح لأن ملة قومه كانت كفرا وضلالا وقد أخبر انه لا يعود فيها إلا
أن يشاء الله.. الجواب قيل له في هذه الآية وجوه.. أو لها أن يكون الملة التي عناها
الله إنما هي العبادات الشرعيات التي كان قوم شعيب متمسكين بها وهي منسوخة عنهم ولم
يعن بها ما يرجع إلى الاعتقادات في الله وصفاته مما لا يجوز أن تختلف العبادة فيه
والشرعيات يجوز فيها اختلاف العبادة من حيث تبعت المصالح والألطاف والمعلوم من
أحوال المكلفين فكأنه قال إن ملتكم لا نعود فيها مع علمنا بان الله قد نسخها وأزال
حكمها إلا أن يشاء الله أن يتعبدنا بمثلها فنعود إليها وتلك الأفعال التي كانوا متمسكين
بها مع نسخها عنهم ونهيهم عنها وإن كانت ضلالا وكفرا فقد كان يجوز فيما هو مثلها أن
يكون إيمانا وهدى بل فيها أنفسها قد كان يجوز ذلك وليس تجرى هذه الأفعال مجرى
الجهل بالله تعالى الذي لا يجوز أن يكون إلا قبيحا.. وقد طعن بعضهم على هذا الجواب
فقال كيف يجوز أن يتعبدهم الله تعالى بتلك الملة مع قوله (قد افترينا على الله كذبا
إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها).. فيقال له لم ينف عودهم إليها على كل حال
وإنما نفى العود إليها مع كونها منسوخة منهيا عنها والذي علقه بمشيئة الله تعالى من العود
إليها هو بشرط أن يأمر بها ويتعبد بمثلها والجواب مستقيم لا خلل فيه.. وثانيها انه
أراد ان ذلك لا يكون أبدا من حيث علقه بمشيئة الله تعالى لما كان معلوما انه لا يشاؤه
وكل أمر علق بما لا يكون فقد نفى كونه على أبعد الوجوه وتجري الآية مجرى قوله
تعالى (لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) وكما يقول القائل أنا لا أفعل
كذا حتى يبيض القار أو يشيب الغراب.. وكما قال الشاعر
وحتى يؤب القارظان كلاهما * وينشر في القتلى كليب لوائل (1)

(1) - القارظان - يذكر بن عنزة وعامر بن رهم وكلاهما من عنزة خرجا في طلب
القرظ وهو ثمر السنط فلم يرجعا فضربت العرب بغيبتهما المثل ويقال انهما مرا بواد
عميق فيه عسل فقال أحدهما لصاحبه لو نزلت فأتيتنا منه بشئ فربط نفسه بحبل وتدلى
حتى بلغ أسفل الوادي فلما اخذ من العسل حاجته قال لصاحبه ارفعني فقال له لا أرفعك
أو تزوجني أختك وكان له أخت يهواها فقال له ليس هذا وقته فتركه ومضى ثم هلك
في منصرفه إلي أهله ولم يوقف لهما على خبر - وكليب - هو الذي قتله جساس فهاجت
بمقتله الحرب التي تسمى حرب البسوس
64

والقارظان لا يووبان أبدا وكليب لا ينشر أبدا فكأنه قال إن هذا لا يكون أبدا.. وثالثها
ما ذكره قطرب بن المستنير من أن في الكلام تقديما وتأخيرا وان الاستثناء من الكفار
وقع لا من شعيب فكأنه تعالى قال حاكيا عن الكفار (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا
معك من قريتنا إلا أن يشاء الله أن تعودوا في ملتنا) ثم قال حاكيا عن شعيب عليه
الصلاة والسلام وما يكون لنا أن نعود فيها على كل حال.. ورابعها أن تكون الهاء
التي في قوله فيها إلى القرية لا إلى الملة لأن ذكر القرية قد تقدم كما تقدم ذكر الملة
ويكون تلخيص الكلام إنا سنخرج من قريتكم ولا نعود فيها إلا أن يشاء الله بما ينجزه
لنا من الوعد في الاظهار عليكم والظفر بكم فنعود إليها.. وخامسها أن يكون المعنى إلا
أن يشاء الله أن يردكم إلى الحق فنكون جميعا على ملة واحدة غير مختلفة لأنه لما قال
تعالى حاكيا عنهم أو لتعودن في ملتنا كان معناه أو لنكونن على ملة واحدة غير مختلفة
فحسن أن يكون من بعد إلا أن يشاء الله أن يجمعكم معنا على ملة واحدة.. فان قيل
الاستثناء بالمشيئة إنما كان بعد قوله (وما يكون لنا أن نعود فيها) فكأنه قال ليس نعود
فيها إلا أن يشاء الله فكيف يصح هذا الجواب.. قلنا هو كذلك إلا أنه لما كان معنى
أن نعود فيها هو أن تصير ملتنا واحدة غير مختلفة جاز أن يوقع الاستثناء على المعنى
فيقول إلا أن يشاء الله أن نتفق في الملة بان ترجعوا أنتم إلى الحق.. فان قيل فكان الله
تعالى ما شاء أن ترجع الكفار إلى الحق.. قلنا بلى قد شاء ذلك إلا أنه ما شاءه على كل
حال بل من وجه دون وجه وهو أن يؤمنوا ويصيروا إلى الحق مختارين ليستحقوا
الثواب الذي أجرى بالتكليف إليه ولو شاءه على كل حال لما جاز أن لا يقع منهم فكان
شعيبا عليه الصلاة والسلام قال إن ملتنا لا تكون واحدة أبدا الا أن يشاء الله أن يلجئكم
إلى الاجتماع معنا على ديننا وموافقتنا في ملتنا والفائدة في ذلك واضحة لأنه لو أطاق
65

أنا لا نتفق أبدا ولا تصير ملتنا واحدة لتوهم متوهم ان ذلك مما لا يمكن على حال من
الأحوال فأفاد بتعليقه له بالمشيئة هذا الوجه ويجري قوله تعالى (إلا أن يشاء الله)
مجرى قوله تعالى (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا).. وسادسها
أن يكون المعنى إلا أن يشاء الله أن يمكنكم من إكراهنا ويخلي بينكم وبينه فنعود إلى
إظهارها مكرهين ويقوى هذا الوجه قوله تعالى (أو لو كنا كارهين).. وسابعها أن
يكون المعنى إلا أن يشاء الله أن يتعبدنا باظهار ملتكم مع الاكراه لان اظهار كلمة الكفر
قد تحسن في بعض الأحوال إذا تعبد الله تعالى باظهارها وقوله (أو لو كنا كارهين)
يقوي هذا الوجه أيضا.. فان قيل فكيف يجوز من نبي من أنبياء الله أن يتعبد باظهار
الكفر وخلاف ما جاء به من الشرع.. قلنا يجوز أن يكون لم يرد بالاستثناء نفسه بل قومه
فكأنه قال وما يكون لي ولا لامتي أن نعود فيها إلا أن يشاء الله أن يتعبد أمتي باظهار
ملتكم على سبيل الاكراه وهو جائز غير ممتنع
[تأويل خبر].. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير الصدقة
ما أبقت غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول.. الجواب قد قيل في
قوله خير الصدقة ما أبقت غنى قولان.. أحدهما ان خير ما تصدقت به ما فضل عن
قوت عيالك وكفايتهم فإذا خرجت صدقتك عنك إلى من أعطيت خرجت عن استغناء
منك ومن عيالك عنها ومثله في الحديث الآخر إنما الصدقة عن ظهر غنى.. وقال ابن
عباس في قوله تعالى (ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو) قال ما فضل عن أهلك
.. والجواب الآخر أن يكون أراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيت عن المسألة
أي تجزل له في العطية فيستغنى بها ويكف عن المسألة وذلك مثل أن يريد الرجل أن
يتصدق بمائة درهم فيدفعها إلى رجل واحد محتاج فيستغنى بها ويكف عن المسألة فذلك
أفضل من أن يدفعها إلى مائة رجل لا تبين عليهم.. والتأويل الأول يشهد له آخر الخبر
وهو قوله وابدأ بمن تعول ويشهد له الحديث الآخر أيضا إنما الصدقة عن ظهر غني
.. وقوله اليد العليا خير من اليد السفلى.. قال قوم يريدان اليد المعطية خير من الآخذة
وقال آخرون ان العليا هي الآخذة والسفلى هي المعطية.. قال ابن قتيبة ولا أرى
66

هؤلاء إلا قوما استطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة ولو كان هذا يجوز لقيل ان المولى
من فوق هو الذي أعتق والمولى من أسفل هو الذي أعتق والناس إنما يعلون بالعطايا
لا بالسؤال.. [قال المرتضى] رضي الله عنه وعندي (1) ان معنى قوله عليه الصلاة والسلام
اليد العليا خير من اليد السفلى غير ما ذكر من الوجهين جميعا وهو أن تكون اليد
ههنا هي العطية والنعمة لان النعمة قد تسمى يدا في مذهب أهل اللسان بغير شك
فكأنه صلى الله عليه وسلم أراد ان العطية الجزيلة خير من العطية القليلة وهذا حث
منه صلى الله عليه وسلم على المكارم وتحضيض على اصطناع المعروف بأوجز الكلام
وأحسنه مخرجا.. ويشهد لهذا التأويل أحد التأويلين المتقدمين في قوله ما أبقت
غنى وهذا أشبه وأولى من أن تحمل على الجارحة لان من ذهب إلى ذلك وجعل
المعطية خيرا من الآخذه لا يستمر قوله لان فيمن يأخذ من هو خير عند الله تعالى
ممن يعطي ولفظة خير لا تحمل إلا على الفضل في الدين واستحقاق الثواب.. وأما
من جعل الآخذة خيرا من المعطية فيدخل عليه هذا الطعن أيضا مع أنه قد قال قولا
شنيعا وعكس الأمر على ما قال ابن قتيبة.. فان قيل كيف يصح تأويلكم مع قوله
عليه الصلاة والسلام خير الصدقة ما أبقت غنى وهي لا تبقى غنى إلا بعد أن تنقص من
غيرها وإذا كانت العطية التي هي أجزل أفضل فتلك لا تبقى غنى والتي تبقى غني ليست

(1) - قوله وعندي أن معني قوله عليه الصلاة والسلام الخ هذا التأويل بعيد جدا
فان قوله في الحديث العليا خير من السفلي لا يدل على أن المراد باليد النعمة ولو كان
المراد هذا لوصفها بكونها حقيرة وجليلة أو كبيرة وصغيرة والظاهر أن المراد باليد الجارحة
وأما قوله بعد في دفع هذا ان هذا لا يستمر لان فيمن يأخذ من هو خير عند الله ممن
يعطى فبعد تسليم صحته لا يسلم على عمومه وليس المراد في الحديث بكون اليد العليا
خيرا من السفلى انها كذلك من جميع الوجوه حتى يلزم ما قال وإنما المراد أفضليتها من
حيث كونها معطية ومفضولية الآخذة من حيث كونها آخذة فلا ينافي هذا أن تكون
الآخذة خيرا من المعطية من وجه آخر
67

الجزيلة وهذا تناقض.. قلنا أما تأويلنا فمطابق للوجهين المذكورين في قوله ما أبقت غنى
لان من تأول ذلك على أن المراد بها المعطي وان خير العطية ما أغنته عن المسألة
فالمطابقة ظاهرة ومن تأوله على الوجه الآخر وحمل ما أبقى الغنى على المعطي وأهله
وأقاربه فتأويلنا أيضا مطابق له لأنه قد يكون في العطايا التي تبقى بعدها الغنى على
الأهل والأقارب جزيل وغير جزيل فقال عليه الصلاة والسلام خير الصدقة ما أبقت
غنى بعد إخراجها والعطية الجزيلة التي يبقى بعدها غني خير من القليلة فمدح عليه
الصلاة والسلام بعد ابقاء الغنى جزيل العطية وحث على الكرم والفضل.. أخبرنا
أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى قال أخبرنا أبو عبيد الله الحكيمي قال أملى علينا
أبو العباس أحمد بن يحي النحوي قال أنشدنا ابن الاعرابي لثابت قطنة العتكي
يا هند كيف بنصب بات يبكيني * وعائر في سواد العين يؤذيني (1)
كأن ليلي والأضداد هاجدة * ليل السليم وأعيى من يداويني
لما حني الدهر من قوسي وعذرني * شيبي وقاسيت أمر الغلظ واللين
إذا ذكرت أبا غسان أرقني * هم إذا عرس السارون يشجيني
كان المفضل عزا في ذوي يمن * وعصمة وثمالا للمساكين
غيثا لذي أزمة غبراء شاتية * من السنين ومأوى كل مسكين
إني تذكرت قتلى لو شهدتهم * في حومة الحرب لم يصلوا بها دوني
لا خير في العيش إذ لم يجن بعدهم * حربا تنئ بهم قتلي فتشفيني

(1) - النصب - الهم والتعب وإنما سكنه لضرورة الشعر - والعائر كل ما أعل
العين من رمد أو قذي
68

لاخير في طمع يدني إلي طبع * وعفة من قوام العيش تكفيني (1)
وأنظر الأمر يعنيني الجواب به * ولست أنظر فيما ليس يعنيني
لا أركب الامر تزرى بي عواقبه * ولا يعاب به عرضي ولا ديني
لا يغلب الجهل حلمي بعد مقدرة * ولا العضيهة من ذي الضغن تكبيني
كم من عدو رماني لو قصدت له * لم يأخذ النصف مني حين يرميني
.. [قال المرتضى] أدام الله علوه وهذه الأبيات يروي بعضها لعروة بن أذينة ويداخل
أبياتا له على هذا الوزن وهي التي يقول فيها
لقد علمت وما الإشراف من خلقي * إن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعنينى تطلبه * ولو قعدت أتاني لا يعنيني (2)
كم قد أفدت وكم أتلفت من نشب * ومن معاريض رزق غير ممنون

(1) - الطبع - الذل وفي الحديث أعوذ بالله من طمع يفضي إلى طبع - والعفة -
بالضم بقية اللبن في الضرع بعدما امتص أكثره.. يقول إن القليل يغني عن الكثير فلا
خير في طمع يفضي إلى ذل
(2) يقول إن الرزق مقسوم لن يفوت الانسان منه ما قسم له - ويحكى أن عروة
هذا وفد على عبد الملك بن مروان مسترفدا فلما دخل عليه قال له من أنت فتسمي له
فقال عبد الملك ألست القائل (لقد علمت وما الاشراف من خلقي) الأبيات فأطرق
مليا ثم خرج من فوره ذلك فركب ناقته وخرج إلى الحجاز ثم إن عبد الملك سال عنه
فقيل إنه سافر فندم على ما كان منه وقال إنه شاعر ولسانا من أن ينالنا من لسانه شئ
فأرسل إليه بصلة جزيلة فوافاه الرسول بها حين وافى منزله بالمدينة فقال للرسول قل
لأمير المؤمنين كيف رأيت صدقه في قوله
69

فما أشرت علي يسر وما ضرعت * نفسي لخلة عسر جاء يبلوني (1)
خيمي كريم ونفسي لا تحدثني * أن الإله بلا رزق يخليني
وما اشتريت بمالي قط مكرمة * إلا تيقنت أنى غير مغبون
ولا دعيت إلى مجد ومحمدة * إلا أجبت إليه من يناديني
لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي * ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
إني سيعرفني من لست أعرفه * ولو كرهت وأبدو حين يخفينى
فغطني جاهدا واجهد علي إذا * لاقيت قومك فانظر هل تغطيني (2)
وقوم يخطبون فيروون قوله - لقد علمت وما الاشراف من خلقي - بالسين غير المعجمة
وذلك خطأ وإنما أراد بالاشراف أنى لا أستشرف وأتطلع على ما فاتني من أمور الدنيا
ومكاسبها ولا تتبعها نفسي.. [قال المرتضى] رضي الله عنه ولي أبيات في معنى بعض أبيات
لطنة وعروة بن أذينة التي تقدمت وهي من جملة قصيدة طويلة خرجت عنى منذ اثنتي
عشرة سنة والأبيات
تعاقبني بؤس الزمان وخفضه * وأدبني حرب الزمان وسلمه
وقد علم المغرور بالدهر أنه * وراء سرور المرء في الدهر غمه

(1) - أشرت - من الأشر وهو البطر - وضرعت - من الضراعة وهي الذل
(2) وذكر الأصفهاني في الأغاني لعروة زيادة عما ذكره السيد رحمه الله في هذه
الأبيات وهي
كم من فقير غنى النفس تعرفه * وكم غنى فقير النفس مسكين
وكم أخ لي طوي كشحا فقلت له * ان الطواءك عني سوف يطويني
اني لأبصر فيما كان من أربى * وأكثر الصمت فيما ليس يعنيني
70

وما المرء إلا نهب يوم وليلة * تخب به شهب الفناء ودهمه
يعلله برد الحياة يمسه * ويغتره روح النسيم يشمه
وكان بعيدا عن منازعة الردى * فألقته في كف المنية أمه
ألا إن خير الزاد ما سد فاقة * وخير تلادى الذي لا أجمه (1)
وإن الطوي بالعز أحسن بالفتى * إذا كان من كسب المذلة طعمه
وإني لأنهى النفس عن كل لذة * إذا ما ارتقي منها إلى العرض وصمه
وأعرض عن نيل الثريا إذا بدا * وفي نيله سوء المقال وذمه
أعف وما الفحشاء عنى بعيدة * وحسبي في صد عن الأمر إثمه
وما العف من ولى عن الضرب سيفه * ولكن من ولى عن السوء حزمه
ولي في معنى قوله وما الاشراف من خلقي * ما خامر الرزق قلبي قبل فجأته
ولا بسطت له في النائبات يدي * كم قد ترادف لم أحفل زيادته
ولو تجاوزني ما فت من عضدي * إن أسخط الأمر أدرك عنه مضطربا
وإن أرد بدلا من مذهب أجد
ومعنى ما خامر الرزق قلبي - أي لم أتمنه ولا تطلعت إلى حضوره ولا خطر لي ببال

(1) - الفاقة - الحاجة - والتليدان - التالد من المال وهو ما ورثه الانسان من
آبائه والطارف وهو ما اكتسبه واستحدثه بسعيه غلب أحدهما على الاخر فثناهما به
يقول خير المال ما سد الفاقة وما زاد على ذلك فهو فضل وزيادة وهذا كقولهم خير الزاد
ما بلغك المحل وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق وقوله وخير تلادي يريد به ان خير
مال الانسان ما أنفق منه وأعطي لا ما ادخر وجمع
71

تنزها وتقنعا والوجه في تخصيص نفى بسط اليد بالنوائب لأنها يضرع عندها في الأكثر
المتنزه ويطلب المتعفف فمن لزم النزاهة مع الحاجة وشدة الضرورة فهو الكامل المروة
ومعنى البيت الثاني ظاهر.. فأما الثالث فالمراد به إنني ممن إذا كره شيئا تمكن من مفارقته
والنزوع عنه ولست ممن تضيق حيلته وتقصر قدرته عن استدراك ما يحب بما يكره.. وفيه
فائدة أخرى وهي أنني ممن لا تملكه العادات وتقتاده الأهواء بل متى أردت مفارقة خلق
إلى غيره وعادة إلى سواها لم يكن ذلك على متعذرا من حيث كان لرأيي على هواي
السلطان والرجحان.. أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني محمد بن إبراهيم قال
حدثنا أحمد بن يحيى النحوي قال أخبرنا الزبير بن بكار قال حدثني عروة بن عبيد
الله بن عروة بن الزبير قال كان عروة ابن أذينة نازلا مع أبي في قصر عروة بالعقيق
فسمعته ينشد لنفسه
إن التي زعمت فؤادك ملها * خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فيك الذي زعمت بها فكلاكما * أبدى لصاحبه الصبابة كلها
ولعمرها لو كان حبك فوقها * يوما وقد ضحيت إذا لأظلها (1)
وإذا وجدت لها وساوس ساوة * شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها * بلباقة فأدقها وأجلها (2)

(1) هكذا هو هنا وقد نسب هذه الأبيات بعض أهل الأدب إلى المجنون وأنشد
البيت هكذا
اني لاكتم في الحشا من حبها * وجدا لو أصبح فوقها لاظلها
وأنشد بعده
وببيت نحت جوانحي حب لها
لو كان تحت فراشها لاقلها
(2) - اللبقة - الحسنة الدل - وأدقها - أي أدق خصرها - وأجلها - أي أجل
عجيزتها أي جعلها عظيمة فالكلام على التوزيع وارجاع كل شئ إلى ما يناسبه
72

لما عرضت مسلما لي حاجة * أخشى صعوبتها وأرجو ذلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي * ما كان أكثرها لنا وأقلها
فدنا فقال لعلها معذورة * في بعض رقبتنا فقلت لعلها
.. قال عروة بن عبيد الله فجاءني أبو السائب المخزومي يوما فسلم على وجلس إلى
فقلت له بعد الرحب به ألك حاجة يا أبا السائب فقال أو كما تكون الحاجة أبيات لعروة
ابن أذينة بلغني أنك سمعتها منه قلت أي أبيات قال وهل يخفى القمر * ان التي زعمت
فؤادك ملها * فأنشدته فقال ما يروى هذا إلا أهل المعرفة والفضل هذا والله الصادق
الود الدائم العهد لا الهذلي الذي يقول
إن كان أهلك يمنعونك رغبة * عني فأهلي بي أضن وأرغب
لقد عدا الأعرابي طوره وإني لأرجو أن يغفر الله لابن أذينة في حسن الظن بها
وطلب العذر لها فدعوت له بطعام فقال لا والله حتى أروى هذه الأبيات فلما رواها
وثب فقلت له كما أنت يغفر الله لك حتى تأكل فقال والله ما كنت لأخلط بمحبتي لها
وأخذي إياها غيرها وانصرف.. [قال المرتضى] رضي الله عنه والهذلي الذي عابه وأنشد
له هذا البيت هو عبد الله بن مسلم بن جندل الهذلي.. وقول عروة - باكرها النعيم - أراد
انها لم تعش إلا في النعيم ولم تعرف الا الخفض وانها لم تلاق بؤسا فتخشع وتضرع
ويؤثر ذلك في جمالها وتمامها والبكور هو التقديم في كل وقت.. وكان عروة بن أذينة
مع تغزله يوصف بالعفاف والنزاهة.. وروى أن سكينة بنت الحسين عليهما السلام مرت
به فقالت يا أبا عامر أنت الذي تقول
إذا وجدت أوار الحب في كبدي * أقبلت نحو سقاء القوم أتبرد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره * فمن لنار علي الأحشاء تتقد
.. وأنت القائل
قالت وابثثتها وجدي فبحت به * قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
73

ألست تبصر من حولي فقلت لها * غطى هواك وما ألقى علي بصرى
قال نعم قالت هن حرائر وأشارت إلى جواريها إن كان هذا خرج من قلب سليم..
وأنشد أبو الحسن أحمد بن يحيى لعروة
كأن خزامى طلة صابها الندى * وفارة مسك ضمنتها ثيابها
إذا اقتربت سعدى لهجت بحبها * وإن تغترب يوما يرعك اغترابها
وكدت لذكراها أطير صبابة * وغالبت نفسا زاد شوقا غلابها
ففي أي هذا راحة لك عندها * سواء لعمري نأيها واقترابها
وعاد الهوى منها كظل سحابة * ألاحت ببرق ثم مر سحابها
[قال المرتضى] رضي الله عنه وهيهات هذا البيت الأخير من قول كثير
وإني وتهيامي بعزة بعدما * تخليت مما بيننا وتخلت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلما * تبوأ منها للمقيل اضمحلت
كأني وإياها سحائب ممحل * رجاها فلما جاوزته استهلت
.. وروى يحيى بن علي قال حدثنا أبو هفان قال أشعر أبيات قيلت في الحسدة والدعاء
لهم بالكثرة أربعة.. فأولها قول الكميت بن زيد
إن يحسدوني فإني لا ألومهم * قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم مابي وما بهم * ومات أكثرنا غيظا بما يجد
أنا الذي يجدوني في حلوقهم * لا أرتقي صدرا عنها ولا أرد
لا ينقص الله حسادي فإنهم * أسر عندي من اللائي له الودد
.. وقال عروة بن أذينة
لا يبعد الله حسادي وزادهم * حتى يموتوا بداء في مكنون
74

إني رأيتهم في كل منزلة * أجل قدرا من اللائي يحبوني
.. وقال نصر بن سيار
إن يحسدوني علي ما بي وما بهم * فمثل ما بي لعمري جر لي الحسدا
.. وقال معن بن زائدة
إني حسدت فزاد الله في حسدي * لا عاش من عاش يوما غير محسود
ما يحسد المرء إلا من فضائله * بالعلم والظرف أو بالبأس والجود
[قال المرتضى] رضي الله عنه وقد لحظ البحتري هذا المعني في قوله
محسد بخلال فيه فاضلة * وليس يفترق النعماء والحسد
وأظن أبا العتاهية أخذ قوله
كم عائب لك لم أسمع مقالته * ولم يزدك لدينا غير تزيين
كأن عائبكم يبدي محاسنكم * وصفا فيمد حكم عندي ويغريني
ما فوق حبك حبا لست اعلمه * فلا يضرك أن لا تستزيدينى
من قول عروة بن أذينة
لا بعد سعدى مريحي من جوى سقم * يوما ولا قربها إن حم يشفيني
إذا الوشاة لحوا فيها عصيتهم * وخلت أن بسعدى اليوم يغريني
وقد أخذ أبو نواس هذا المعنى في قوله
ما حطك الواشون من رتبة * عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم اثنوا ولم يعلموا * عليك عندي بالذي عابوا
ولعروة بن أذينة
تروعنا الجنائز مقبلات * ونسهو حين تخفى ذاهبات
75

كروعة الألغار ذئب
فلما غاب عادت راتعات
- الثلة - القطعة من الضأن.. وهذا المعنى قد سبق إليه بعض الاعراب فقال
ونحدث روعات لدى كل فزعة * ونسرع نسيانا وما جاءنا أمن
وإنا ولا كفران لله ربنا * لكالبدن لا تدرى متي يومها البدن
أخذه أبو العتاهية في قوله * إذا ما رأيتم ميتين فزعتم
وإن غيبوا ملتم إلي صبواتها * وأخذ عروة بن أذينة قوله
إن الفتى مثل الهلال له * نور ليال ثم يمتحق
يبلي وتفنيه الدهور كما * يبلى وينضى الجدة الخلق
من قول بعض شعراء طيئ * مهما يكن ريب الزمان فإنني
أرى قمر الليل المعذب كالفتى * يهل صغيرا ثم يعظم ضوءه
وصورته حتى إذا ما هوى استوى * تقارب يخبو ضوءه وشعاعه
ويمصح حتى يستسر فلا يرى * كذلك زيد المرء عند انتقاصه
يعود إلى مثل الذي كان قد بدى * أخذه محمد بن يزيد الكاتب فقال
المرء مثل هلال عند مطلعه * يبدو ضئيلا ضعيفا تم يتسق
يزداد حتى إذا ما تم أعقبه * كر الجديدين نقصانا فيمتحق
(مجلس آخر 32)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك
76

سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على
الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر
فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق
ولبئسما ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون).. فقال كيف ينزل الله تعالى السحر على
الملائكة أم كيف تعلم الملائكة الناس السحر والتفريق بين المرء وزوجه وكيف نسب
الضرر الواقع عند ذلك إلى أنه باذنه وهو تعالى قد نهى عنه وحذر من فعله وكيف
أثبت العلم لهم ونفاه عنهم بقوله (ولقد علموا لمن اشتراه) ثم قوله (لو كانوا يعلمون)
.. الجواب قلنا في الآية وجوه كل منها يزيل الشبهة الداخلة على من لا ينعم النظر فيها
.. أولها أن يكون ما في قوله (وما أنزل على الملكين) بمعنى الذي فكأنه تعالى أخبر
عن طائفة من أهل الكتاب بأنهم اتبعوا ما تكذب به الشياطين على ملك سليمان وتضيفه
إليه من السحر فبرأه الله تعالى من قذفهم وأكذبهم في قولهم فقال وما كفر سليمان
ولكن الشياطين كفروا باستعمال السحر والتمويه على الناس ثم قال يعلمون الناس
السحر وما أنزل عل الملكين وأراد انهم يعلمونهم السحر والذي أنزل على الملكين وما
أنزل على الملكين وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال فيه ليعرفا ذلك ويعرفاه
للناس فيجتنبوه ويحذروا منه كما أنه تعالى قد أعلمنا ضروب المعاصي ووصف لنا أعمال
القبائح لنجتنبها لا لنواقعها لأن الشياطين كانوا إذا علموا ذلك وعرفوه استعملوه واقدموا
على فعله وإن كان غيرهم من المؤمنين لما عرفه اجتنبه وحاذره وانتفع باطلاعه على
كيفيته ثم قال وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة يعنى الملكين ومعنى يعلمان
يعلمان والعرب تستعمل لفظة علمه بمعني أعلمه.. قال القطامي
تعلم أن بعد الغي رشدا * وأن لشابك الغير انقشاعا
.. وقال كعب بن زهير
تعلم رسول الله أنك مدركي * وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
77

ومعني تعلم في البيتين معنى اعلم والذي يدل ان المراد ههنا الاعلام لا التعليم قوله وما يعلمان
من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر أي انهما لا يعرفانه صفات السحر وكيفيته
إلا بعد أن يقولا إنما نحن محنة لان الفتنة بمعنى المحنة وإنما كان محنة بحيث ألقيا إلى
المكلفين أمرا لينزجروا عنه وليمتنعوا من مواقعته وهم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه
ويرتكبوه فقالا لمن يطلعانه على ذلك لا تكفر باستعماله ولا تعدل عن الغرض في إلقاء
هذا إليك فإنه إنما ألقى إليك واطلعت عليه لتجتنبه لا لتفعله ثم قال فيتعلمون منهما
ما يفرقون به بين المرء وزوجه أي فيعرفون من جهتهما ما يستعملونه في هذا الباب
وإن كان الملكان ما ألقياه إليهم لذلك ولهذا قال ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم لأنهم لما
قصدوا بتعلمه أن يفعلوه ويرتكبوه لا أن يجتنبوه صار ذلك لسوء اختيارهم ضررا
عليهم.. وثانيها أن يكون ما أنزل موضعه موضع جر فيكون معطوفا بالواو على ملك
سليمان والمعنى واتبعوا ما كذب به الشياطين على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين
ومعنى ما أنزل على الملكين أي معهما وعلى ألسنتهما كما قال تعالى (ربنا وآتنا ما وعدتنا
على رسلك) أي على ألسنتهم ومعهم وليس بمنكر أن يكون ما أنزل معطوفا علي ملك
سليمان وان اعترض بينهما من الكلام ما اعترض لأن رد الشئ إلى نظيره وعطفه على
ما هو أولى هو الواجب وان اعترض بينهما ما ليس منهما ولهذا نظائر من القرآن وكلام
العرب كثيرة قال الله تعالى (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا
قيما) وقيم من صفات الكتاب حال منه لا من صفة عوج وان تباعد ما بينهما ومثله
(يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر
به والمسجد الحرام) فالحرام ههنا معطوف علي الشهر أي يسئلونك عن الشهر الحرام
وعن المسجد الحرام.. وحكي عن بعض علماء أهل اللغة أنه قال العرب تلف الحرفين
المختلفين ثم ترمي بتفسيرهما جملة ثقة بان السامع يرد إلى كل خبره كقوله تعالى (ومن
رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) وهذا واضح في
مذهب العرب كثير التطابق ثم قال (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة)
والمعنى انهما لا يعلمان أحدا بل ينهيان عنه ويبلغ من نهيهما وصدهما عن فعله واستعماله
78

أن يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال السحر والاقدام على فعله وهذا كما يقول
الرجل ما أمرت فلانا بكذا ولقد بالغت في نهيه حتى قلت له انك ان فعلته أصابك كذا
وكذا وهذا هو نهاية البلاغة في الكلام والاختصار الدال مع اللفظ القليل على المعاني
الكثيرة لأنه استغنى بقوله (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة) عن
بسط الكلام الذي ذكرناه ولذلك نظائر في القرآن قال الله تعالى (ما اتخذ الله من ولد
وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) فلولا الاختصار
لكان شرح الكلام بقوله ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ولو كان معه
إله إذا لذهب كل إله بما خلق ومثله قوله تعالى (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما
الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب) أي فيقال للذين اسودت
وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم وأمثاله أكثر من أن تورد.. ثم قال تعالى (فيتعلمون
منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) وليس يجوز أن يرجع الضمير في هذا الجواب
إلى الملكين وكيف يرجع إليهما وقد نفى عنها التعليم بل يرجع إلي الكفر والسحر
وقد تقدم ذكر السحر وتقدم أيضا ذكر ما يدل على الكفر ويقتضيه في قوله ولكن
الشياطين كفروا فدل كفروا على الكفر والعطف عليه مع السحر جائز وإن كان
التصريح قد وقع بذكر السحر دونه ومثل ذلك قوله تعالى (سيذكر من يخشى ويتجنبها
الأشقى) أي يتجنب الذكرى الأشقى ولم يتقدم تصريح بالذكرى لكن دل عليها قوله
سيذكر.. ويجوز أيضا أن يكون المعنى فيتعلمون منهما أي بدلا مما علمهم الملكان
ويكون المعنى انهم يعدلون عما علمهم ووقفهم عليه الملكان من النهي عن السحر إلى تعلمه
واستعماله كما يقول القائل ليت لنا من كذا كذا وكذا أي بدلا منه.. وكما قال الشاعر
جمعت من الخيرات وطبا وعلبة
وصر الأخلاف المزهمة البزل (1)

(1) - الصر - شد خلف الناقة بالخيط لئلا تحلب والناقة صرورة - والاخلاف - جمع
خلف وهو للناقة كالثدي للمرأة - والمزهمة - السمان الكثيرة الشحم ومثله الزهم.. قال زهير
القائد الخيل منكوبا دوابرها * منها الشنون ومنها الزاهق الزهم
- والبزل - جمع بازل وهو البعير إذا انشق نابه وذلك إنما يكون في السنة التاسعة
79

ومن كل أخلاق الكرام نميمة * وسعيا على الجار المجاور بالمحل
يريد جمعت مكان الخيرات ومكان أخلاق الكرام هذه الخصال الذميمة.. وقوله ما يفرقون
به بين المرء وزوجه فيه وجهان.. أحدهما أن يكونوا يغوون أحد الزوجين ويحملونه
على الكفر والشرك بالله تعالى فيكون بذلك قد فارق زوجه الآخر المؤمن المقيم على
دينه فيفارق بينهما اختلاف النحلة والملة.. والوجه الآخر أن يسعون بين الزوجين
بالنميمة والوشاية والاغراء والتمويه بالباطل حتى يؤول أمرهما إلى الفرقة والمباينة..
وثالث الوجوه أن تحمل ما في قوله وما أنزل على الجحد والنفي فكأنه تعالى قال واتبعوا
ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين
ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ويكون قوله
ببابل هاروت وماروت من المؤخر الذي معناه التقديم ويكون على هذا التأويل هاروت
وماروت رجلين من جملة الناس هذان أسماؤهما وإنما ذكرا بعد ذكر الناس تمييزا وتبيينا
ويكون الملكان المذكور ان اللذان نفى عنهما السحر جبرائيل وميكائيل عليهما السلام
إلى سليمان بن داود عليه السلام فأكذبهما الله تعالى بذلك ويجوز أن يكون هاروت
وماروت يرجعان إلى الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا
ويسوغ ذلك كما ساغ في قوله تعالى (وكنا لحكمهم شاهدين) يعنى حكم داود وسليمان
ويكون قوله على هذا التأويل وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة راجعا إلى
هاروت وماروت اللذين هما من الشياطين أو من الانس المتعلمين للسحر من الشياطين
والعاملين به ومعنى قولهما إنما نحن فتنة فلا تكفر يكون على طريق الاستهزاء والنماجن
والتخالع كما يقول الماجن من الناس إذا فعل قبيحا أو قال باطلا هذا فعل من لا يفلح
وقول من لاينجب والله لا حصلت إلا على الخسران وليس ذلك منه على سبيل النصح
للناس وتحذيرهم من مثل فعله بل على جهة المجون والتهالك ويجوز أيضا على هذا
التأويل الذي يتضمن النفي والجحد أن يكون هاروت وماروت اسمين لملكين ونفى
عنهما انزال السحر بقوله وما أنزل على الملكين ويكون قوله وما يعلمان من أحد يرجع
80

إلى قبيلتين من الجن أو إلى شياطين الجن والإنس فتحسن التثنية لهذا.. وقد روى
هذا التأويل الأخير في حمل ما على النفي عن ابن عباس وغيره من المفسرين.. وروى
عنه أيضا انه كان يقرأ وما أنزل على الملكين بكسر اللام ويقول متى كان العلجان ملكين
بل كانا ملكين.. وعلى هذه القراءة في الآية وجه آخر وان لم يحمل قوله وما أنزل على
الملكين على الجحد والنفي وهو أن يكون هؤلاء الذين أخبر عنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين
وتدعيه على ملك سليمان واتبعوا ما أنزل على هذين الملكين من السحر ولا يكون الانزال
مضافا إلى الله تعالى وان أطلق لأنه جل وعز لا ينزل السحر بل يكون منزله إليهما
بعض الضلال العصاة ويكون معنى أنزل وإن كان من الأرض حمل إليهما لا من السماء
انه أتي به من نجود البلاد وأعاليها فان من هبط من نجد البلاد إلى غورها يقال نزل
وهبط وما جرى هذا المجرى.. فأما قوله تعالى (وما هم بضارين به من أحد إلا
بإذن الله) فيحتمل وجوها.. منها أن يريد بالاذن العلم من قولهم أذنت فلانا بكذا
إذا أعلمته وأذنت لكذا إذا سمعته وعلمته.. قال الشاعر
في سماع يأذن الشيخ له
وحديث مثل ماذي مشار (1)
.. ومنها أن تكون إلا زائدة فيكون المعنى وما هم بضارين به من أحد بإذن الله ويجرى
مجرى قول أحدنا لقيت زيدا إلا أني أكرمته أي لقيت زيدا فأكرمته.. ومنها أن
يكون أراد بالاذن التخلية وترك المنع فكأنه أفاد بذلك ان العباد لن يعجزوه وما هم
بضارين أحدا إلا بأن يخلي الله تعالى بينهم وبينه ولو شاء لمنعهم بالقهر والقسر زائدا على
منعهم بالزجر والنهي.. ومنها أن يكون الضرر الذي عنى انه لا يكون إلا باذنه وأضافه
إليه هو ما يلحق المسحور من الأدوية والأغذية التي تطعمه إياها السحرة ويدعون
أنها موجبة لما يقصدونه فيه من الأمور ومعلوم ان الضرر الحاصل عن ذلك من فعل

(1) - الماذي - العسل الأبيض - ومشار - مجني.. يقول إن غناءها لطيبه وحسنه
يستمع الشيخ الهرم له ويصغى إليه وحديثها لطلاوته ورقته كأنه العسل الجيد والأصمعي
يروى هذا البيت مثل ماذى مشار بالإضافة وفتح الميم قال والمشار الخلية
81

الله تعالى بالعادة لأن الأغذية لا توجب ضررا ولا نفعا وإن كان المعرض للضرر من
حيث كان الفاعل له هو المستحق للذم وعليه يجب العوض.. ومنها أن يكون الضرر
المذكور إنما هو يحصل عن التفريق بين الأزواج لأنه أقرب إليه في ترتيب الكلام
والمعنى انهم إذا أغووا أحد الزوجين فكفر فبانت منه زوجته فاستضر بذلك كانوا
ضارين له بما حسنوه له من الكفر لان الفرقة لم تكن إلا بإذن الله وحكمه لأنه تعالى
هو الذي حكم وأمر بالتفريق بين المختلفي الأديان فلهذا قال وما هم بضارين به من
أحد إلا بإذن الله والمعنى انه لولا حكم الله وإذنه في الفرقة بين هذين الزوجين باختلاف
الملة لم يكونوا ضارين له هذا الضرب من الضرر الحاصل عند الفرقة ويقوى هذا الوجه
ما روي أنه كان من دين سليمان عليه السلام انه من سحر بانت امرأته.. فأما قوله
تعالى (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق) ثم قوله (لو كانوا يعلمون)
ففيه وجوه.. أولها أن يكون الذين علموا غير الذين لم يعلموا ويكون الذين علموا
الشياطين أو الذين خبر عنهم بأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون
واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان والذين لم يعلموا هم الذين تعلموا السحر
وشروا به أنفسهم.. وثانيها أن يكون الذين علموا هم الذين لم يعلموا إلا انهم علموا
شيئا ولم يعلموا غيره فكأنه تعالى وصفهم بأنهم عالمون بأنه لا نصيب لمن اشترى ذلك
ورضيه لنفسه على الجملة ولم يعلمه كنه ما يصير إليه من عقاب الله الذي لا نفاد له ولا
انقطاع.. وثالثها أن تكون الفائدة في نفى العلم بعد اثباته انهم لم يعملوا بما علموا فكأنهم
لم يعلموا وهذا كما يقول أحدنا لغيره ما أدعوك إليه خير لك وأعود عليك ولو كنت
تعقل وتنظر في العواقب وهو يعقل وينظر في العواقب إلا أنه لا يعمل بموجب علمه
فحسن أن يقال له مثل هذا القول.. قال كعب بن زهير يصف ذئبا وغرابا تبعاه
ليصيبا من زاده
إذا حضراني قلت لو تعلمانه * ألم تعلما أني من الزاد مرمل
فنفى عنهما العلم ثم أثبته بقوله ألم تعلما وإنما المعنى في نفيه العلم عنهما انهما لم يعملا بما علماه
82

فكأنهما لم يعلماه.. ورابعها أن يكون المعنى ان هؤلاء القوم الذين قد علموا ان
الآخرة لاحظ لهم فيها مع عملهم القبيح إلا انهم ارتكبوه طمعا في حطام الدنيا وزخرفها
فقال تعالى (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) ان الذي آثروه وجعلوه
عوضا من الآخرة لا يتم لهم ولا يبقى عليهم وانه منقطع زائل ومضمحل باطل وإنما
الملك إلى المستحق في الآخرة وكل ذلك واضح بحمد الله والحمد لله رب العالمين وصلى
الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
[تأويل خبر].. روى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو كان
القرآن في إهاب ما مسته النار.. وقد ذكر متأولوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا
الخبر وجوها كثيرة كلها غير صحيح ولا شاف وأنا أذكر ما اعتمدوه وأبين ما فيه ثم أذكر
الوجه الصحيح.. قال ابن قتيبة ذهب الأصمعي إلى أن من تعلم القرآن من المسلمين
لو ألقى في النار لم تحرقه وكنى بالإهاب وهو الجلد عن الشخص والجسم واحتج على
تأويله هذا الحديث عن سليمان بن محمد قال سمعت أبا امامة يقول اقرؤا القرآن ولا
تغرنكم هذه المصاحف المعلقة فان الله لا يعذب قلبا وعى القرآن.. قال ابن قتيبة
وفي الحديث تأويل آخر وهو ان القرآن لو كتب في جلد ثم ألقى في النار على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تحرقه النار على وجه الدلالة على صحة أمر النبي صلى
الله عليه وسلم ثم انقطع ذلك بعده قال وجرى هذا مجرى كلام الذئب وشكاية البعير
وغير ذلك من آياته صلى الله عليه وسلم.. قال وفيه تأويل ثالث وهو أن يكون الاحراق
إنما نفى عن القرآن لا عن الإهاب ويكون معنى الحديث لو جعل القرآن في إهاب ثم
ألقى في النار ما احترق القرآن فكأن النار تحرق الجلد والمداد ولا تحرق القرآن لأن
الله ينسخه ويرفعه من الجلد صيانة له عن الاحراق.. وقال أبو بكر محمد بن القاسم
الأنباري رادا على ابن قتيبة معترضا عليه اعتبرت ما قاله ابن قتيبة من ذلك كله فما
وجدت فيه شيئا صحيحا.. أما قوله الأول فيرده ما روي عنه عليه الصلاة والسلام
من قوله يخرج من النار قوم بعد ما يحرقون فيها فيقال هؤلاء الجهنميون طلقاء الله عز وجل
.. قال وقد روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا دخل أهل الجنة
83

الجنة وأهل النار النار قال الله عز وجل انظروا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل
من إيمان فأخرجوه منها.. قال أبو بكر وكيف يصح قول ابن قتيبة في زعمه ان النار
لا تحرق من قرأ القرآن ولا خلاف بين المسلمين ان الخوارج وغيرهم ممن يلحد في
دين الله ويقرأ القرآن أن تحرقهم النار بغير شك واحتجاجه بخبر أبي أمامة ان الله
لا يعذب قلبا وعى القرآن معناه قرأ القرآن وعمل به فأما من حفظ ألفاظه وضيع
حدوده فإنه غير واع له.. قال أما قوله إنه من دلائل النبوة التي انقطعت بعده فما روى
هذا الحديث أحد انه كان في دلائله عليه الصلاة والسلام ولو أراد ذلك دليلا لكان
صلى الله عليه وسلم يجعل القرآن في إهاب ثم يلقيه في النار فلا يحترق.. قال وقول
ابن قتيبة الثالث لاحترق الجلد والمداد ولم يحترق القرآن غير صحيح لان الذي يصحح
هذا القول يوجب أن القرآن غير المكتوب وهذا محال لان المكتوب في المصحف هو
القرآن والدليل على هذا قوله تعالى (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا
المطهرون) ومنه الحديث لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو وإنما يريد المصحف..
قال أبو بكر والقول عندنا في تأويل هذا الحديث انه أراد لو كان القرآن في جلد ثم
ألقى في النار ما أبطلته لأنها وان أحرقته فإنها لا تدرسه إذ كان الله قد ضمنه
قلوب الأخيار من عباده والدليل على هذا قول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم
فيما روى إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظان فلم يرد تعالى ان القرآن
لو كتب في شئ ثم غسل بالماء لم ينغسل وإنما أراد ان الماء لا يبطله ولا يدرسه إذ كانت
القلوب تعيه وتحفظه.. قال ومثل هذا كثير في كتاب الله وفي لغة العرب قال الله
تعالى (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون
الله حديثا) فهم قد كتموا الله تعالى لما قالوا والله ربنا ما كنا مشركين وإنما أراد تعالى
ولا يكتمون الله حديثا في حقيقة الأمر لأنهم وان كتموه في الظاهر فالذي كتموه
غير مستتر عنه.. [قال المرتضي] رضي الله عنه والوجه الصحيح في تأويل الخبر غير
ما توهمه ابن قتيبة وابن الأنباري جميعا وهو ان هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم
على طريق المثل والمبالغة في تعظيم شأن القرآن والاخبار عن جلالة قدره وعظم
84

خطره والمعنى انه لو كتب في إهاب وألقى في النار وكانت النار مما لا تحرق شيئا لعلو
شأنه وجلالة قدره لم تحرقه النار.. ولهذا نظائر في القرآن وكلام العرب وأمثالهم
كثيرة ظاهرة على من له أدنى أنس بمذاهبهم وتصرف كلامهم فمن ذلك قوله تعالى
(لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال
نضربها للناس لعلهم يتفكرون) ومعنى الكلام إنا لو أنزلنا القرآن على جبل وكان الجبل
مما يتصدع إشفاقا من شئ أو خشية لأمر لتصدع مع صلابته وقوته فكيف بكم معاشر
المكلفين مع ضعفكم وقلتكم فأنتم أولى بالخشية والاشفاق وقد صرح الله تعالى بان
الكلام خرج مخرج المثل بقوله تعالى (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)
ومثله قوله تعالى (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا)
.. ومثله قول الشاعر
أما وجلال الله لو تذكرينني * كذكراك ما نهنهت للعين مدمعا
فقالت بلى والله ذكرا لو أنه * تضمنه صم الصفا لتصدعا
.. ومثله
فلو أن ما بي بالحصى فلق الحصى * وبالريح لم يسمع لهن هبوب
.. ومثله
وقفت علي ربع لمية ناقتي * فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه * تكلمني أحجاره وملاعبه
وهذه طريقة للعرب مشهورة في المبالغة يقولون هذا كلام يفلق الصخر ويهد الجبال
ويصرع الطير ويستنزل الوعول وليس ذلك بكذب منهم بل المعنى انه لحسنه وحلاوته
وبلاغته يفعل مثل هذه الأمور لو تأتت ولو كانت مما يسهل ويتيسر لشئ من الأشياء
لتسهلت به من أجله.. فأما الجواب الأول المحكى عن ابن قتيبة فالذي يفسده زائدا
على ما رده ابن الأنباري انه لو كان الأمر على ما ذكره ابن قتيبة وحكاه عن الأصمعي
85

لكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أغرانا بالذنوب لأنه إذا أمن حافظ القرآن ومتعلمه
من النار والعذاب فيها ركن المكلفون إلى تعلم القرآن والاقدام على القبائح آمنين غير
خائفين وهذا لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم والمعني في قول أبي أمامة ان الله عز وجل
لا يعذب قلبا وعى القرآن على نحو ما ذكره ابن الأنباري.. فأما جواب ابن قتيبة
الثاني فمن أين له ان ذلك مختص بزمانه صلى الله عليه وسلم وليس في اللفظ ولا غيره
دلالة عليه وأقوى ما يبطله انه لو كان كما ذكر لما جاز أن يخفى على جماعة المسلمين الذين
رووا جميع معجزاته وضبطوها وفي وجداننا من روى ذلك وجمعه وعنى به غير عارف
بهذه الدلالة آية إبطال ما توهمه.. فأما جوابه الثالث فباطل لأن القرآن في الحقيقة
ليس يحل الجلد ولا يكون فيه حتى ينسب الاحتراق إلى الجلد دونه وإذا كان الأمر
على هذا لم يكن في قوله إن الإهاب هو المحترق دون القرآن فائدة لأن هذه سبيل كل
كلام كتب في اهاب أو غيره إذا احترق الإهاب لم يضف الاحتراق إلى الكلام لاستحالة
هذه الصفة عليه.. ومن أعجب الأمور قول ابن الأنباري وهذا يوجب أن القرآن
غير المكتوب لان كلام ابن قتيبة ليس يوجب ما ظنه بل يوجب ضده من أن لفظ
المكتوب هو القرآن ولهذا علق الاحتراق بالكتابة والجلد دون المكتوب الذي هو
القرآن فإذا كان المكتوب في المصحف هو القرآن على ما اقترح ابن الأنباري فما المانع
من قول ابن قتيبة ان الجلد يحترق دونه لان أحدا لا يقول إن الجلد هو القرآن وإنما
يقول قوم انه مكتوب فيه وإذا كان غيره لم يمتنع إضافة الاحتراق إلي أحدهما دون
الآخر وهذا كله تخليط من الرجلين لأن القرآن غير حال في الجلد على الحقيقة وليست
الكتابة عين المكتوب وإنما الكتابة أمارة للحروف فاما أن تكون هي الكلام على
الحقيقة أو يوجد معها الكلام مكتوبا فيحال.. فأما استشهاده على ذلك بالآية وبقوله
لا تسافروا بالقرآن فذلك تجوز وتوسع وليس يجب أن يجعل اطلاق الألفاظ المحتملة
دليلا على اثبات الأحكام والمعاني ومعترضة على أدلة العقول وقد تجوز القوم بأكثر
من هذا فقالوا في هذا الكتاب شعر امرئ القيس وعلم الشافعي وفقه فلان فلم يقتض
ذلك أن يكون العلم والكلام على الحقيقة موجودين في الدفتر وقد بين الكلام في هذا
86

الباب في مواضع هي أولى به.. فأما جواب ابن الأنباري الذي ارتضاه لنفسه فلا
طائل أيضا فيه لأنه لا مزية للقرآن فيما ذكره على كلام وشعر في العالم لأنا نعلم أن
الشعر والكلام المحفوظ في صدور الرجال إذا كتب في جلد ثم أحرق أو غسل لم
يذهب ما في الصدور ومنه بل يكون ثابتا بحاله فأي مزية للقرآن في هذا على غيره وأي
فضيلة.. فان قال وجه المزية ان غير القرآن من الشعر وغيره يمكن أن يندرس ويبطل
باحراق النار والقرآن إذا كان تعالى هو المتولي لايداعه الصدور لا يتم ذلك فيه.. قلنا
الكل سواء لأن غير القرآن إنما يبطل باحتراق الإهاب المكتوب فيه متى لم يكن محفوظا
مودعا للصدور ومتى كان بهذا الصفة لم يبطل باحتراق الجلد وهكذا القرآن لو لم يحفظ
في الصدور لبطل بالاحتراق ولكنه لا يبطل بهذا الشرط فصار الشرط في بطلان غير
القرآن وثباته كالشرط في بطلان القرآن وثباته فلا مزية على هذا الجواب للقرآن فيما
خص به من أن النار لا تمسه وهذا يبين انه لا وجه غير ما ذكرناه في الخبر وهو أشبه
بمذاهب العرب وأولى بتفضيل القرآن وتعظيمه.. أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد
الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أنشدنا أبو حاتم قال ابن دريد وأنشدنا عبد الرحمن
يعني ابن أخي الأصمعي عن عمه للحسين بن مطير الأسدي وقال عبد الرحمن قال
عمي لو كان شعر العرب هكذا ما اثم منشده
ألا حبذا البيت الذي أنت هاجره * وأنت بتلماح من الطرف ناظره
لأنك من بيت لعيني معجب * وأملح في عيني من البيت عامره
أصد حياء أن يلم بي الهوى * وفيك المنى لولا عدو أحاذره
وفيك حبيب النفس لو تستطيعه * لمات الهوى والشوق حين تجاوره
فإن آته لم أنج إلا بظنة * وإن يأته غيري تنط بي جرائره (1)

(1) - تنط - تربط وتعلق أي تسند - والجرائر - جمع جريرة وهي الذنب
.. يقول إن آت هذا البيت رماني الناس بظنونهم وان أتاه غيري أضيف إلي أي قال
الناس إنه مرسل من قبلي لمراسلة من فيه
87

وكان حبيب النفس للقلب واترا * وكيف يحب القلب من هو واتره
فإن تكن الأعداء أحموا كلامه * علينا فلن تحمى علينا مناظره
أحبك يا سلمى علي غير ريبة * ولا بأس في حب تعف سرائره (1)
ويا عاذلي لولا نفاسة حبها * عليك لما باليت أنك خائره
بنفسي من لابد أني هاجره * ومن أنا في الميسور والعسر ذاكره
ومن قد لحاه الناس حتى اتقاهم * ببغضي إلا ما تجن ضمائره (2)
أحبك حبا لن أعنف بعده * محبا ولكني إذا ليم عاذره
لقد مات قبلي أول الحب فانقضي * ولو مت أضحى الحب قد مات آخره (3)
كلامك يا سلمى وإن قل نافعي * فلا تحسبي أني وإن قل حاقره
ألا لا أبالي أي حي تحملوا * إذا إثمد البرقاء لم يخل حاضره (4)

(1) - الريبة - الظنة والتهمة.. يقول أحبك حبا لا يخالطه سوء ولا يظن فيه شر
.. قوله - ولا بأس في حب تعف سرائره - أي تعف سرائر صاحبه فأضاف السرائر
للحب توسيعا وإنما هي للمحب ومثله في القرآن الكريم عيشة راضية أي راض صاحبها
(2) - لحاه - لامه واللاحي اللائم في الشئ المعنف عليه.. وقوله - الا ما تجن
ضمائره - يريد به أنه يظهر للناس كراهتي وبغضي لكف ألسنتهم عنه وليس في قلبه الا محبتي
(3) يريد أن محبته لها ذهبت بسيرة من تقدمه من المحبين وانه لن يأتي بعده
من يذكر بالمحبة وان حبه لن يضارعه حب من تقدمه ومن يأتي بعده
(4) - تحملوا - يروى بدله تفرقوا - والبرقاء - اسم موضع في بادية الجزيرة
.. يقول إنه لا يبالي رحيل من رحل من الناس إذا كان هذا الموضع عامرا بأهله لم يرحلوا
لأنهم هم الذين يحبهم ويشفق من رحيلهم.. وفى بعض كتب الأدب بعد هذه الأبيات
وبالبرق أطلال كأن رسومها * قراطيس خط الحبر فيهن ساطره
أبت سرحة الأثماد الا ملاحة * وطيبا إذا ما نبتها اهتز ناضره
88

وأنشد ابن الاعرابي لابن مطير
لعمرك بالبيت الذي لا نطوره * أحب إلينا من بلاد نطورها (1)
تقلبت في الإخوان حتى عرفتهم * ولا يعرف الإخوان إلا خبيرها
فلا أصرم الخلان حتى يصارموا * وحتى يسيروا سيرة لا أسيرها
فإنك بعد الشر ما أنت واجد * خليلا مديما سيرة لا يديرها
معني - يديرها - يقلبها مرة ههنا ومرة ههنا
وإنك في عين الأخلاء عالم * بأن الذي يخفى عليك ضميرها
فلا تكرا بمسحة صاحب * من الود لا تدري علام مصيرها
وما الجود عن فقر الرجال ولا الغنى * ولكنه خيم الرجال وخيرها
وقد تغدر الدنيا فيضحى غنيها * فقيرا ويغنى بعد بؤس فقيرها
وكائن ترى من حال دنيا تغيرت * وحال صفا بعد اكدرار غديرها
ومن طامع في حاجة لن ينالها * ومن يائس منها أتاه يسيرها

(1) - نطوره - نحوم حوله.. يقول إن البيت الذي نتجنبه ونتحاماه خوف الوشاة
أحب إلينا من البلاد التي نأتيها إذا لم يكن من نهوى فيها.. ومثل هذا قول الأحوص
يا بيت عاتكة الذي أتعزل * حذر العدا وبه الفؤاد موكل
اني لأمنحك الصدود وإنني * قسما إليك مع الصدود لأميل
89

ومن يتبع ما يعجب النفس لم يزل * مطيعا لها في فعل شئ يضيرها
فنفسك أكرم عن أمور كثيرة * فمالك نفس بعدها تستعيرها (1)
[قال المرتضي] رضي الله عنه ولى في معني قول ابن مطير - وقد تغدر الدنيا -
والبيت الذي بعده من جملة قصيدة
وكيف آنس بالدنيا ولست أرى * إلا امرأ قد تعرى من عواريها
نصبو إليها بآمال مخيبة * كأننا ما نري عقبى أمانيها
في وحشة الدار ممن كان يسكنها * كل اعتبار لمن قد ظل يأويها
لا تكذبن فما قلبي لها وطن * وقد رأيت طلولا من مغانيها
.. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أنشدنا علي بن سليمان الأخفش قال أنشدنا أحمد
ابن يحيى ثعلب للحسين بن مطير * لقد كنت جلد قبل أن توقد النوى
علي كبدي نارا بطيئا خمودها * ولو تركت نار الهوى لتصرمت
ولكن شوقا كل يوم يزيدها * وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي
إذا قدمت أحزانها وعهودها * فقد جعلت في حبة القلب والحشا
عهاد الهوى تولي بشوق يعيدها * بمرتجة الأرداف هيف خصورها
عذاب ثناياها عجاف قيودها (2)

(1) - يقول إن النفس لا تميل بطبعها الا إلى الشرور فمن أطاع نفسه وأنالها مشتهاها
وقع في شرور كثيرة وقادته إلى ما يضره
(2) - مرتجة الارداف - يريدان أردافها ضخمة فهي إذا تحركت اضطربت اردافها
- وهيف - جمع هيفاء وهي الدقيقة الخصر الضامرة البطن - وعجاف - جمع عجفاء وهي
النحيفة وهذا الجمع شاذ فان افعل وفعلاء لا يجمع على فعال الا انهم بنوه على سمان
لأنهم قد يبنون الشئ على ضده كقولهم عدوة بالهاء لمكان صديقة وعجاف لا مانع من
جعله صفة للمرأة وان أنكره ثعلب
90

يعنى انها عجاف اللثات وأصول الأسنان وهي قيودها.. قال أبو العباس ثعلب عجاف
بالخفض لحن لأنه ليس من صفة النساء وسبيله أن يكون نصبا لأنه حال من الثنايا
مخصرة الأوساط زانت عهودها * بأحسن مما زينتها عقودها
وصفر تراقيها وحمر أكفها * وسود نواصيها وبيض خدودها
وصف التراقي بالصفرة من الطيب وحمرة أكفها من الخضاب
يمنيننا حتى ترف قلوبنا * رفيف الخزامي بات طل يجودها
أخذ.. قوله مخصرة الأوساط البيت من قول مالك بن أسماء بن خارجة
وتزيدين طيب الطيب طيبا * إن تمسيه أين مثلك أينا
وإذا الدر زان حسن وجوه * كان للدر حسن وجهك زينا
وروى أبو تمام الطائي في الحماسة بعض الأبيات الذي ذكرناها للحسين بن مطير وروى
له أيضا ويشبه أن يكون الجميع من قصيدة واحدة
وكنت أذود العين أن ترد البكا * فقد وردت ما كنت عنه أذودها
هل الله عاف عن ذنوب تسلفت * أم الله إن لم يعف عنها معيدها
وأنشد أبو محكم لابن مطير * قضى الله يا أسماء أن لست بارحا
أحبك حتى يغمض العين مغمض * وحبك بلوى غير أن لا يسرني
وإن كان بلوى أنني لك مبغض * إذا أنا رضت النفس في حب غيرها
أتي حبها من دونها يتعرض * فيا ليتني أقرضت جلدا صبابتي
وأقرضني صبرا على الشوق مقرض
91

ويشبه أن يكون أخذ قوله إذا أنا رضت النفس في حب غيرها من قول رجل من فزارة
وأعرض حتى يحسب الناس أنما * بي الهجر لا والله مابي لك الهجر
ولكن أروض النفس أنظر هل لها * إذا فارقت يوما أحبتها صبر
أو من قول نصيب
وإني لأستحيى كثيرا وأتقي * عدوا وأستبقي المودة بالهجر
وأنذر بالهجران نفسي أروضها * لأعلم عند الهجر هل لي من صبر
ويشبه أن يكون أخذ.. قوله فياليتني أقرضت جلدا صبابتي البيت من قول بعض العرب
رمى قلبه البرق الملالي رمية * بجنب الحما وهنا فكاد يهيم
فهل من معين طرف عين خلية * فإنسان عين العامري كليم (1)
وللحسين في هذا المعنى ما رواه المبرد
ولي كبد مقروحة من يبيعني * بها كبدا ليست بذات قروح
أبا الناس ويب الناس لا يشترونها * ومن يشتري ذا علة بصحيح
وأخذ العباس بن الأحنف هذا المعنى فقال
من ذا يعيرك عينه تبكي بها * أرأيت عينا للبكاء تعار
وأخبرنا المرزباني قال حدثنا أبو عبد الله الحكيمي قال حدثني يموت بن المزرع قال
حدثنا محمد بن حميد قال كنا عند الأصمعي فأنشده رجل أبيات دعبل
أين الشباب وأية سلكا * لا أين يطلب طل بل هلكا
لا تعجبي يا سلم من رجل * ضحك المشيب برأسه فبكى

(1) - يقول إنه يريد عينا غير عاشقة لينظر بها إلى ديار أحبته فان طرفه مجروح
مقيم من العشق لا يستطيع أن ينظر به
92

أسلم ما بالشيب منقصة * لا سوقة تبقى ولا ملكا
قصر الغواية عن هوى قمر * وجد السبيل إليك مشتركا
يا ليت شعري كيف يومكما * يا صاحبي إذا دمي سفكا
لا تأخذا بظلامتي أحدا * قلبي وطرفي في دمى اشتركا
قال فاستحسنها كل من في المجلس وأكثر التعجب من قوله - ضحك المشيب برأسه
فبكى - فقال الأصمعي إنما أخذ قوله هذا من ابن مطير في قوله
أين أهل القباب بالدهناء * أين جيراننا على الأحساء
جاورونا والأرض ملبسة * نور الأقاحي تجاد بالأنواء (1)
كل يوم بأقحوان جديد * تضحك الأرض من بكاء السماء
وقد أخذه أيضا مسلم صريع الغواني في قوله
مستعبر يبكي علي دمنة * ورأسه يضحك في الشيب
.. [قال المرتضي] رضي الله عنه ولأبي الحجناء نصيب الأصغر مثل هذا المعنى وهو قوله
فبكى الغمام به فأصبح روضه * جذلان يضحك بالحميم ويزهر
ولابن المعتز مثله
ألحت عليه كل طحياء ديمة * إذا ما بكت أجفانها ضحك الزهر
ولابن دريد مثله
تبسم المزن وانهلت مدامعه * فأضحك الروض جفن الضاحك الباكي

(1) - الدهناء - أرض من منازل تميم بنجد متسعة إذا أخصبت ربعت العرب جميعا
لسعتها - والأحساء - ماء لغنى ويروى البيت الأول
أين جيراننا على الأحساء * أين جيراننا على الأطواء
93

وغازل الشمس نور ظل يلحظها * بعين مستعبر بالدمع ضحاك
وروى عن أبي العباس المبرد أنه قال أخذ ابن مطير.. تضحك الأرض من بكاء السماء
من قول دكين الزاجر * جن النبات في ذراها وزكى
وضحك المزن به حتى بكى * (مجلس آخر 33)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون
ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب).. الجواب قلنا قد
ذكر وجهان مطابقان للحق.. أحدهما أن يكون الراسخون في العلم معطوف على اسم
الله تعالى فكأنه قال وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم وانهم مع علمهم
به يقولون آمنا به فوقع قوله يقولون آمنا به في موقع الحال والمعنى أنهم يعلمونه قائلين
آمنا به كل من عند ربنا وهذا في غاية المدح لهم لأنهم إذا علموا ذلك بقلوبهم وأظهروا
التصديق به على ألسنتهم فقد تكاملت مدحتهم ووصفهم بأداء الواجب عليهم.. والحجة لمن
ذهب إلى ما بيناه والرد على من استبعد عطفه على الأول وتقديره أن يكون قوله يقولون
آمنا بالله على هذا التأويل لا ابتداء له مثل قوله (ما أفاء الله على رسوله من أهل
القرى فلله وللرسول ولذي القربى) إلى قوله (شديد العقاب) فذكر جملة ثم تلاها بالتفصيل
وتسمية من يستحق هذ الفئ فقال (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم
وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا) إلي قوله الصادقون وقال فما الذين تبوءوا الدار
والايمان فهم الأنصار يحبون من هاجر إليهم ويؤثرون على أنفسهم وقال فيمن جاء
بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان فهذه الآيات تدل على أنه
لا ينكر في آية الراسخون في العلم أن يكون قوله يقولون آمنا به حالا مع العلم بتأويل
94

المتشابه فلو أشكل شئ من ذلك لما أشكل قوله والذين هاجروا من بعدهم يقولون
ربنا اغفر لنا ولاخواننا في أنه موافق لقوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به فان
الصورتين واحدة.. ومما يستشهد به على ذلك من الشعر قول يزيد بن مفرغ في عبد
له كان يسمي بردا باعه (1) ثم ندم عليه

(1) قلت كان من حديث يزيد في بيعه غلامه بردا انه كان صحب زياد بن أبي سفيان
فلم يحمده وأتى ابنه عبادا فرأى منه ما يكره وكان عباد طويل اللحية عريضها فركب ذات
يوم وابن مفرغ معه في موكبه فهبت ريح فنفشت لحيته فقال ابن مفرغ
ألا ليت اللحي كانت حشيشا * فترعاها خيول المسلمينا
فبلغ ذلك عبادا فحقد عليه وجفاه فقال ابن مفرغ
ان تركي ندى سعيد بن عثمان * فتى الجود ناصري وعديدي
واتباعي أخا الرضاعة واللؤم * لنقص وفوت شأو بعيد
قلت والليل مطبق بعراه * ليتني مت قبل ترك سعيد
يريد سعيد بن عثمان بن عفان فإنه استصحب يزيدا هذا حين ولى خراسان فلم يصحبه
وعدل عنه إلى زياد فلما قال ذلك أخذه عبيد الله بن زياد فحبسه وعذبه وسقاء الزبد في
النبيذ وحمله على بعير وقرن به خنزيرة وأمشاه بطنه مشيا شديدا فكان يسيل ما يخرج منه
على الخنزيرة فتصى فكلما صاءت قال ابن مفرغ
ضجت سمية لما مسها القرن * لا تجزعي إن شر الشيمة الجزع
وسمية أم زياد.. ثم إن عبيد الله بن زياد دس إليه قوما يقتضونه ويستعدون عليه فأمر
ببيع ما وجد له في اعطاء غرمائه فكان فيما بيع له غلام يقال له برد يعدل عنده ولده
وجارية يقال لها الأراكة فقال في برد الأبيات التي ذكرها صاحب الكتاب وقال في
الأراكة وفيه
يا برد ما مسنا دهر أضربنا * من قبل هذا ولا بعناله ولدا
أما الأراك فكانت من محارمنا * عيشا لذيذا وكانت جنة رغدا
لولا الدعي ولولا ما تعرض لي * من الحوادث ما فارقتها أبدا
95

وشريت بردا ليتني * من بعد برد كنت هامه
أو بومة تدعو صدا * بين المشقر فاليمامه
الريح تبكى شجوها * والبرق يلمع في الغمامة
فعطف البرق على الريح ثم اتبعه بقوله يلمع فكأنه قال والبرق أيضا يبكيه لامعا في غمامه
أي في حال لمعانه ولو لم يكن البرق معطوفا على الريح في البكاء لم يكن للكلام معنى ولا
فائدة.. ويمكن أيضا على هذا الوجه مع عطف الراسخين على ما تقدم واثبات العلم بالمتشابه
لهم ان قوله يكون يقولون آمنا به استئناف جملة استغنى فيها عن حرف العطف كما استغنى
في قوله يقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ونحو ذلك مما للجملة الثانية فيه التباس في الجملة
الأولى فيستغنى به عن حرف العطف ولو عطف بحرف العطف كان حسنا ينزل الملتبس
منزلة غير الملتبس.. والوجه الثاني في الآية أن يكون قوله والراسخون في العلم مستأنفا
غير معطوف على ما تقدم ثم أخبر عنهم بأنهم يقولون آمنا ويكون المراد بالتأويل على هذا
الجواب المتأول لأنه قد يسمى تأولا قال تعالى (هل ينظرون الا تأويله يوم يأتي تأويله)
المراد بذلك لا محالة المتأول والمتأول الذي لا تعلمه العلماء وإن كان تعالى عالما به كنحو
وقت قيام الساعة ومقادير الثواب والعقاب وصفة الحساب وتعيين الصغائر إلى غير ذلك
فكأنه قال وما يعلم تأويل جمعه على المعنى الذي ذكرناه إلا الله والعلماء يقولون آمنا به
وقد اختار أبو علي الجبائي هذا الوجه وقواه وضعف الأول بان قال قول الراسخين
في العلم آمنا به كل من عند ربنا دلالة على استسلامهم لأنهم لا يعرفون تأويل المتشابه كما
يعرفون تأويل المحكم ولأن ما ذكره من وقت القيامة ومن التمييز بين الصغائر
والكبائر هو من تأويل القرآن إذ كان داخلا في خبر الله والراسخون في العلم لا يعلمون
ذلك.. وليس الذي ذكره بشئ لأنه لا يمتنع أن يقول العلماء مع علمهم بالمتشابه آمنا به على
الوجه الذي قدمنا ذكره فكيف يظن أنهم لا يقولون ذلك إلا مع فقد العلم به وما
المنكر من أن يظهر الانسان بلسانه الايمان بما يعلمه ويتحققه فأما قوله ولأن ما ذكرناه
من تأويل القرآن فذلك إنما يكون تأويلا للقرآن إذا حملت هذا اللفظة على المتأول
96

لا على الفائدة والمعنى وأما إذا حملت على أنه وما يعلم معنى المتشابه وفائدته إلا الله فلابد
من دخول العلماء فيه وليس يمكنه أن يقول إن حمل التأويل على المتأول أظهر من حمله
على المعنى والفائدة لأن الأمر بالعكس من ذلك بل حمله على المعنى أظهر وأكثر في
الاستعمال وأشبه بالحقيقة على أنه لو قيل إن الجواب الأول أقوى من الثاني لكان أولى
من قوله من قبل انه لو كان المراد بالتأويل المتأول لا الفائدة والمعنى لم يكن لتخصيص
المتشابه بذلك دون المحكم معنى لان في متأول المحكم كاخباره عن الثواب والعقاب
والحساب مما لا شبهة في كونه محكما ما لا يعرف تفصيله وكنهه الا الله تعالى فأي معنى
لتخصيص المتشابه والكلام يقتضى توجهه نحو المتشابه ألا ترى إلى قوله (وأما الذين
في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) فخص المتشابه بالذكر
والأولى أيضا أن يكون المراد بلفظة تأويله الثانية هو المراد بلفظة تأويله الأولى وقد
علمنا أن الذين في قلوبهم زيغ إنما اتبعوا تأويله على خلاف معناه ولم يطلبوا لتأويله
الذي هي متأوله والوجه الأول أقوى وأرجح.. ويمكن في الآية وجه ثالث لم نجدهم
ذكروه على أن يكون قوله والراسخون في العلم مستأنفا غير معطوف ويكون المعنى وما
يعلم تأويل المتشابه بعينه وعلى سبيل التفصيل الا الله وهذا صحيح لان أكثر المتشابه
قد يحتمل الوجوه الكثيرة المطابقة للحق الموافقة لأدلة العقول فيذكر المتأول جميعا
ولا يقطع على مراد الله منها بعينه لان الذي يلزم مثل ذلك أن يعلم في الجملة أن لا يرد
من المعني ما يخالف الأدلة وان قد أراد بعض الوجوه المذكورة المتساوية في الجواز
والموافقة للحق وليس في تكليفنا أن نعلم المراد بعينه وهذا مثل الضلال والهدى الذين
تبين احتمالهما لوجوه كثيرة منها ما يخالف الحق فنقطع على أنه تعالى لم يرده ومنها
وجوه تطابق الحق فنعلم في الجملة انه قد أراد أحدها ولا نعلم المراد منها بعينه وغير
هذا من الآي المتشابه فان أكثرها يحتمل وجوها والقليل منها يختص بوجه واحد
صحيح ولا يحتمل سواه ويكون قوله تعالى من بعد والراسخون في العلم يقولون آمنا
به أي صدقنا بما نعلمه مجملا ومفصلا من المحكم والمتشابه وان الكل من عند ربنا وهذا
وجه واضح.. أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرنا محمد بن أبي الأزهر قال
97

أنشدنا محمد بن يزيد لأبى حية النميري وهي أبيات مختارة
وخبرك الواشون أن لا أحبكم * بلى وستور الله ذات المحارم
أصد وما الصد الذي تعرفينه * عزاء بنا إلا اجتراع العلاقم
حياء وبغيا أن تشيع نميمة * بنا وبكم أف لأهل النمائم
وإن دما لو تعلمين جنيته * على الحي جاني مثله غير سالم
أما إنه لو كان غيرك أرفلت * صعاد القنا بالراعفات اللهاذم
ولكنه والله ما طل مسلما * كبيض الثنايا واضحات الملاغم
قال ثعلب - الملاغم - ما حول الفم.. وقال المبرد واضحات الملاغم يريد العوارض
.. وقوله - ما طل مسلما - أي أبطل دمه
إذا هن ساقطن الحديث حسبته * سقوط حصى المرجان من سلك ناظم
ويروى ساقطن الأحاديث للفتي.. ويروى أيضا ساقطن الحديث كأنه
رمين فأقصدن القلوب فلا ترى * دما مائرا إلا جوى في الحيازم
[قال سيدنا رضي الله عنه].. ومن مستحسن ما مضى في هذه القصيدة قوله
كأن لم أبرح بالعيون وأقتتل * بتفتير أبصار الصحاح السقائم (1)
ولم أله بالحدث الألف الذي له * غدائر لم يحر من فار اللطائم (2)

(1) - أبرح - من برح به الأمر إذا لقى منه شدة والبرح الشدة - وتفتير - من
الفتور وهو انكسار العين - والسقائم - جمع سقيمة وهي المريضة ولم يرد انها سقيمة
من مرض وإنما أراد ان بها من الضعف والفتور ما بالمريض وان لم تكن مريضة
(2) - الحدث - الصغير السن - والألف - العظيم الفخذين - والغدائر - جمع
غديرة وهي الخصلة من الشعر - والفار - جمع فأرة يريد فأرة المسك - واللطائم - جمع
لطيمة وهي المسك
98

إذا اللهو يطبيني وإذ أستميله * بمحلولك الفودين وحف المقادم (1)
وإذ أنا منقاد لكل مقود * إلى اللهو حلاف البطالات آثم
وروى ابن حبيب مفود ومعنى - حلاف البطالات - أي حلاف في البطالات
مهين المطايا متلف غير أنني * على هلك ما أتلفته غير نادم
أرى خير يومي الخسيس وإن علا * بي اللوم لم أحفل ملامة لائم
- خير يومى الخسيس - أي أحب يومي إلى الذي هو أخس عند أهل الرأي والعقل..
وأنشد أبو إسحاق إبراهيم بن سيف بن الزيادي لأبى حية واسمه هيثم (2) بن الربيع
ترحل بالشباب الشيب عنا * فليت الشيب كان به الرحيل
وقد كان الشباب لنا خليلا * فقد قضى مآربه الخليل
لعمر أبي الشباب لقد تولى * حميدا ما يراد به بديل

(1) - يطبيني - يستميلني - والمحلولك - الحالك اللون أي الذي لونه أسود
- والفودان - تثنية فود وهو معظم شعر الرأس مما يلي الاذن وناحية الرأس - والوحف -
الشعر الكثير الأسود - والمقادم - جمع قادمة وهو الناصية
(2) قلت ذكره بعض الأدباء فقال كان أبو حية يروي عن الفرزدق وكان كذابا
قال يوما رميت ظبية فلما خرج السهم ذكرت بالظبية حبيبة لي فشددت خلف السهم
حتى أخذت بقذذه.. وكان جبانا قال جار له اطلعت عليه يوما وبيده سيف له قد انتضاه
يسمى لعاب المنية ليس بينه وبين الخشب فرق وهو واقف على باب داره يقول إيها
أيها المغتر بنا والمجترئ علينا بئس والله ما اخترت لنفسك خير قليل وسيف صقيل لعاب
المنية الذي سمعت به ضربته لا تخاف نبوتها أخرج بالعفو عنك لا أدخل بالعقوبة عليك
اني والله ان أدع قيما تملأ الأرض خيلا ورجلا يا سبحان الله ما أكثرها وأطيبها ثم
فتح الباب فإذا كلب قد خرج فقال الحمد لله الذي مسخك كلبا وكفانا حربا
99

إذ الأيام مقبلة علينا * وظل أراكة الدنيا ظليل
وأنشد المبرد قال أنشدنا أبو عثمان المازني لأبي حية
زمان الصبا ليت أيامنا * رجعن لنا الصالحات القصارا
زمان على غراب غداف * فطيره الدهر عنى فطارا
فلا يبعد الله ذاك الغراب * وإن هو لم يبق إلا أدكارا
كأن الشباب ولذاته * وريق الصبا كان ثوبا معارا
وهازئة أن رأت لمتى * تلفع شيب بها فاستدارا
وقلدني منه بعد الخطام * عذارا فما أستطيع اعتذارا
أجارتنا إن ريب الزمان * قبلي نال الرجال الخيارا
فإما تري لمتى هكذا * فأسرعت فيها لشيبي النفارا
فقد ارتدى وحفة طلة * وقد أبرز والفتيات الخفارا
أما قوله - على غراب غداف - فأراد به الشباب والشعر الأسود.. ويشبه أن يكون مأخوذا
من قول الأعشى
وما طلابك شيئا لست تدركه * إن كان عنك غراب الجهل قد وقعا
ولأبي حية من قصيدة أولها
ألا يا اسلمي أطلال خنسا وأنعمي * وخنساء مخماص الوشاحين مشيها
إلى الدوح أقتار خطى المتجشم (1)

(1) قوله - مخماص الوشاحين - أي هيفاء والوشاح تثنية وشاح وهو أديم عريض ترصعه المرأة
بالجواهر فتشده بين عاتقيها وكشحيها فإذا قالوا مخماص الوشاح أو غرثى الوشاح أرادوا أنها
هيفاء محل الوشاح - وأقتار - من أقتر في النفقة إذا ضيق فيها - والمتجشم - المتكلف
للشئ.. يقول إنها تمشي مشى إدلال كما يمشى من لا يستطيع المشي
100

ألما بسلمى قبل أن ترمي النوى * بنافذة نبض الفؤاد المتيم
يقف عاشقا لم يبق من روح نفسه * ولا عقله المسلوب غير التوهم
فقلن لها سرا فديناك لا يرح * صحيحا فإن لم تقتليه فألممي
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت * بأحسن موصولين كف ومعصم
وهذا البيت الأخير مأخوذ من قول النابغة
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه * فتناولته واتقتنا باليد (1)
ولقوله - وقلن لها سرا فديناك لا يرح - خبر وهو ما أخبرنا به أبو الحسن علي بن محمد
الكاتب قال حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الباقطاني قال أتصل بعبيد الله بن
سليمان بن وهب أمر علي بن العباس الرومي وكثرة مجالسته لأبى الحسين القاسم ابنه
وسمع شيئا من أهاجيه فقال لأبى الحسين قد أحببت ان أرى ابن روميك هذا فدخل
يوما عبيد الله إلى أبي الحسين وابن الرومي عنده فاستنشده من شعره فأنشده وخاطبه
فرآه مضطرب العقل جاهلا فقال لأبي الحسين بينه وبينه ان لسان هذا أطول من عقله
ومن هذه صورته لا تأمن عقاربه عند أول عتب ولا يفكر في عاقبة فأخرجه عنك
فقال أخاف حينئذ أن يعلن ما يكتمه في دولتنا ويذيعه في تمكننا فقال يا بني إني لم أرد
باخراجك له طرده فاستعمل فيه بيت أبي حية النميري

(1) - النصيف - المئزر - واتقتنا باليد - أي حالت بيننا وبين النظر إليها بوضعها
معصمها على وجهها يصف بذلك المتجردة امرأة النعمان بن المنذر وكان النابغة يجلس إلى
النعمان وينادمه فدخلت المتجردة يوما على النعمان وعنده النابغة وهي لا تعلم بمكانه فلما
وقع بصرها عليه اضطربت واستحيت وسقط مئزرها فتناولته بيدها وسترت وجهها
باليد الأخرى ويقال انها وضعت معصمها على وجهها فستره فلم يستبن منه شئ
101

فقلنا لها سرا فديناك لا يرخ * سليما وإن لم تقتليه فألممي
فحدث القاسم ابن فراس بما جرى وكان أعدى الناس لابن الرومي وقد هجاه بأهاج قبيحة
فقال له الوزير أعزه الله أشار بان يغتال حتى يستراح منه وأنا أكفيك ذلك فسمه في
الخشكنانج فمات.. قال الباقطاني والناس يقولون ما قتله ابن فراس وإنما قتله عبيد الله
.. قال ابن الرومي لما رجع إلى داره وقد دب السم في أعضائه شعرا
أشرب الماء إذا ما تلتهب * نار أحشائي لإطفاء اللهب
فأراه زائدا في حرقتي * فكان الماء للنار حطب
وذكر محمد بن يزيد المبرد قال مما يفضل لتخلصه من التكليف وسلامته من التزيد
وبعده من الاستعانة قول أبي حية
رمتني وستر الله بيني وبينها * عشية آرام الكناس رميم
ألا رب يوم لو رمتني رميتها * ولكن عهدي بالنضال قديم
[قال المرتضي] رضي الله عنه وقد روى هذان البيتان لنصيب في غير رواية المبرد
قال المبرد يقول رمتني وأصابتني بمحاسنها ولو كنت شابا لرميت كما رمت وفتنت كما فتنت
ولكن عهدي قد تطاول بالشباب وهذا كلام واضح.. وأما الاستعانة فهي أن يدخل
في الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه ليصحح وزنا أو نظما.. قال ومما يختار من قول
أبى حية أيضا
ألاحي من أجل الحبيب المغانيا * لبسن البلى مما لبسن اللياليا (1)
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة * تقاضاه شئ لا يمل التقاضيا

(1) قوله - من أجل الحبيب - روى بدله من بعد الحبيب - والمغاني - جمع مغنى وهو
المنزل الذي غنى به أهله ثم ظعنوا عنه وقوله - لبسن البلى - يريد ان طول العهد واختلاف
العصرين عليها أخلق جدتها وطمس رسومها
102

ويقال إن أحسن ما وصف به المسواك قول أبى حية
لقد طال ما أعييت راحلة الصبا * وعللت شيطان الغوى المشوق
وداويت قرح القلب منهن بالمنا * باللحظ لو يبذلنه المتسرق
وساقينني كأس الهوى وسقيتها * رقاق الثنايا عذبة المتريق
وخمصانة تفتر عن متنضد * كنور الأقاحي طيب المتذوق
ويروي عن متنسق يعنى ثغرا على نسق واحد لا اختلاف فيه
إذا مضغت بعد امتتاع من الضحى * أنابيب من عودا لأراك المخلق
سقت شعث المسواك ماء غمامة * فضيضا بخرطوم المدام المروق
- الامتتاع - الارتفاع يقال متع النهار وأمتع إذا طال - والمخلق - الذي علق به الخلوق
والطيب من يدها.. وقال بعضهم عنى بالمخلق المملس - والفضيض - الذي سال من
الغمامة أي كماء فض - والخرطوم - سلاف الخمر وهو أول ما يخرج من غير عصر ولا دوس
وإن ذقت فاها بعد ما سقط الندى
بعطفي بخنداة رداح المنطق
- البخندة - الضخمة - والرداح - العظيمة الأرداف
شممت العرار الطل غب هميمة * ونور الخزامي في الندى المترقرق
- العرار - بهار البر - والطل - الغض الطري - والهميمة - مطر لين.. وأخبرنا المرزباني
قال حدثني علي بن هارون بن علي قال سمعت أبي وقد ذكر قول أبي حية
نظرت كأني من وراء زجاجة * إلى الدار من فرط الصبابة أنظر
بعينين طورا يغرقان من البكا * فأعشى وطورا يحسران فأبصر
فقال لو اعترضني ملك تجب طاعته ويلزم الانقياد لأمره فقال أي شعر أجود وأولى
بايستحسن ولم يفسح لي في أن أميز المدح من الفخر والهجاء من التشبيب وسائر أصناف
الشعر ومذاهب الشعراء فيه لما عدلت عن هذين البيتين.. ويقال ان أبا أحمد عبيد
103

الله بن عبد الله بن طاهر أجاز بيتي أبي حية هذين بقوله
فلا مقلتى من غامر الماء تنجلي * ولا دمعتي من مكمد الوجد تقطر
ولأبي حية
من المبكيات الجلد حتى كأنما * يسح بعينيه الدموع شعيب
- الشعيب - مزادة من أدمين شعب أحدهما بالآخر
ليالي أهلانا جميعا وحولنا * سوائم منها رائح وغريب
وإذ يتجنين الذنوب وما لنا * إليهن لولا ودهن ذنوب
ولأبي حية
أصد عن البيت الحبيب وإنني * لأصغي إلى البيت الذي أتجنب
أزور بيوتا غيره ولأهله * علي ما عدا عنهم أعز وأقرب
وقطع أسباب المودة معشر * غضاب وهل في أحسن القول مغضب
وإن لاثنى يا أم عمرو نميمة * يدب بها بيني وبينك عقرب
وما بيننا لو أنه كان عالما * بذاك الألى يولون ما يترتب
حديثا إذا لم يخش عيبا كأنه * إذا ساقطته الشهد بل هو أطيب
لو أنك تستشفي به بعد سكرة * من الموت كادت سكرة الموت تذهب
وقلت لها ما تأمرين فإنني * أرى البين أذني روعة يترقب
قال محمد بن يحيى الصولي ولا أحسبه في قوله لو أنك تستشفى به بعد سكرة إلا تبع
قوله توبة بن الحمير
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت * علي ودوني جندل وصفائح
لسمت تسليم البشاشة أو زقى * إليها صدى من جانب القبر صائح
104

[قال المرتضي] رضي الله عنه وأول من سبق إلى هذا المعنى فأحسن الأعشى في قوله
عهدي بها في الحي قد درعت * صفراء مثل المهرة الضامر
لو أسندت ميتا إلى نحرها * عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا * واعجبا للميت الناشر
ومعنى - الناشر - المنشور يقال أنشر الله الميت فنشر وهو ناشر بمعنى منشور مثل ماء دافق
فهو مدفوق.. وقال بعض أصحاب المعاني ان الجارية التي وصفها أيضا هي ميتة بمعنى
أنها ستموت فيكون المعنى ان الناس عجبوا من أن يكون من يموت كيف ينشر الموتى
ومن قال هذا أجاز نشر الله الموتى بمعنى أنشر والقول الأول أظهر وما نظن الأعشى
عنى غيره
(مجلس آخر 34)
[تأويل آية].. ان سأل سائل عن قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام
(لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).. فقال لم خص اليوم بالقول
وإنما أراد العفو عنهم في جميع مستقبل أوقاتهم.. الجواب قلنا في هذه الآية وجوه
أربعة.. أولها انه لما كان هذا الوقت الذي أشار إليه هو أول أوقاته التي كشف فيها
نفسه لهم وأطلعهم على ما كان يستره عنهم من أمره أشار إلى الوقت الذي لو أراد الانتقام
لأبتدأ به فيه والذي عفى فيه عنهم لم يراجع الانتقام.. وثانيها أن يوسف عليه السلام لما
قدم توبيخهم وعدد عليهم قبيح ما فعلوه وعظيم ما ارتكبوه وهو مع ذلك يستر عنهم نفسه
ولا يفصح لهم بحاله قال لهم عند تبين أمرهم (لا تثريب عليكم اليوم) أي قد انقطع عنكم
توبيخي ومضى عذلي ولأئمتي عند اعترافكم بالذنب وكان ذكر اليوم دلالة على انقطاع
المعاقبة والتوبيخ وعلى أن الأوقات المتصلة باليوم تجري مجراه في زوال الغضب وتمام
105

العفو وسقوط المواقفة لهم على ما سلف منهم.. وثالثها (1) ان ذكر اليوم المراد به الزمان
والحين فوضع اليوم موضع الزمان كله المشتمل على الليالي والأيام والشهور والسنين كما
يقول العربي لغيره قد كنت تستحسن شرب الخمر فاليوم وفقت لتركها ومقتها يريد في
هذا الزمان ولا يريد يوما واحدا بعينه ومثله قد كنت تقصر في الجواب عن فنون
العلم فاليوم ما يعجزك مسألة ولا تتوقف عن جواب بريد باليوم باقي الزمان كله..
وقال امرؤ القيس
حلت لي الخمر وكنت امرأ * عن شربها في شغل شاغل
فاليوم فاشرب غير مستحقب * إثما من الله ولا واغل (2)
لم يقصد يوما بعينه.. ومثله
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا * واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا

(1) - قلت هذا هو الجواب الصحيح وايضاح ذلك ان العرب إذا أطلقت الليل
فإنما يريدون به سواد الليل من حين تغرب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني وإذا أطلقت
اليوم فقد تريد به بياض النهار كما إذا قالوا جالست فلانا يوما وقد تريد به مطلق الوقت
أي ساعة من ليل أو نهار كما في قوله صلى الله عليه وسلم تلك أيام الهرج أي وقته
وفرقان ما بين ذلك انهم إذا قرنوا به من الافعال ما له استمرار أرادوا منه بياض النهار
كالمجلسة والمحادثة ونحوهما مما يستوعب وقتا طويلا وإذا قرنوا به من الافعال ما ليس
له استمرار بل هو من الافعال الآنية أراودا به مطلق الوقت وعلى هذا الآية وما
استشهد به المصنف من الشواهد الشعرية
(2) - الواغل - الذي يدخل على القوم وهم يشربون فيشرب معهم من غير
دعوة فأما الذي يأتي الولائم من غير دعوة ليأكل فيسمى وارشا وراشنا والناس يسمونه
طفيليا نسبة إلى طفيل وهو رجل من أهل الكوفة من بني عبد الله بن غطفان كان يأتي
الولائم من غير أن يدعى إليها وكان يقول وددت ان الكوفة كلها بركة مصهرجة فلا
يخفى علي منها شئ
106

.. وقال لبيد
وما الناس إلا كالديار وأهلها * بها يوم حلوها وغدوا بلاقع
كل ذلك لا يراد بذكر اليوم والغد فيه الا جميع الأوقات المستقبلة.. ورابعها أن
يكون المراد لا تثريب عليكم البتة ثم قال اليوم يغفر الله لكم فتعلق اليوم بالغفران وكان
المعنى غفر الله لكم اليوم.. وقد ضعف قوم هذا الجواب من جهة ان الدعاء لا ينصب
ما قبله.. فأما معنى التثريب فان أبا عبيدة قال معناه لا شغب ولا معاقبة ولا إفساد..
وقال الشاعر
فعفوت عنهم عفو غير مثرب * وتركتهم لعقاب يوم سرمد
.. وقال أبو العباس ثعلب يقال ثرب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه.. وقال
بعضهم وهو ابن مسلم التثريب مأخوذ من لفظ الثرب وهو شحم الجوف فكأنه موضوع
للمبالغة في اللوم والتعنيف والتقصي إلى أبعد غاياتها
[تأويل خبر].. روى أبو عبيد الله القاسم بن سلام عن حجاج عن حماد بن سلمة
عن هشام بن حسان وحبيب بن الشهيد عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن كسب الرمازة.. وقال أبو عبيد قال حجاج الزمارة الزانية
وقال مثل هذا مثل حديثه الآخر انه نهى عن كسب البغي.. وقال أبو عبيد وقال غير
حجاج هي الرمازة بتقديم الراء قال وقول حجاج أثبت عندنا لأنهم كانوا يكرهون
إماءهم على البغاء فأنزل الله (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان أردن تحصنا لتبتغوا
عرض الحياة الدنيا) قال فالعرض هو كسب البغي الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم
عنه.. قال أبو عبيد ولا أعلم مم أخذت الرمازة غير أني وجدتها مفسرة في الحديث
.. وقال ابن قتيبة الأمر على ما ذكر أبو عبيد إلا ما أنكره على من زعم أنها الرمازة
لأن الرمازة هي الفاجرة سميت بذلك لأنها ترمز أي تومئ بعينيها وحاجبيها وشفتيها..
.. قال الفراء وأكثر الرمز بالشفتين ومنه قوله تعالى (أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا
رمزا) فالرمازة صفة من صفات الفاجرة ثم صار اسما لها أو كالاسم ولذلك قيل لها
107

هلوك لأنها تتهالك على الفراش أو على الرجل ثم صار اسما لها دون غيرها من النساء
وإن تهالكت على زوجها وقيل لها خرنع للينها وتثنيها ثم صار ذلك اسما لها دون غيرها
من النساء وان لانت وتثنت ونحوه قولهم للبعير أعلم لشق في مشفرة الأعلى ثم صار
كالاسم له وكذلك قولهم للذثب أزل للرسخ ثم صار كالاسم له والمرمزة لا تكاد تعلن
بالكلام إنما تومض أو ترمز أو تصفر.. قال الشاعر
رمزت إلي مخافة من بعلها * من غير أن يبدو هناك كلامها
.. وقال الأخطل
أحاديث سداها ابن حدراء فرقد * ورمازة مالت لمن يستميلها
.. وقال الراجز
يومئن بالأعين والحواجب * إيماض برق في عماء ناضب (1)
- والعماء - السحاب - والناضب - البعيد.. وقال بعضهم إنما قيل للفاجرة قجة من
القحاب وهو السعال قال وأحسبه أراد أنها تتنحنح أو تسعل ترمز بذلك.. قال وبلغني
عن المفضل انه كان يقول في قول الناس أجبن من صافر انه الرجل يصفر للفاجرة فهو
يخاف كل شئ.. وأما الأصمعي فإنه كان يقول الصافر ما يصفر من الطير وإنما وصف
بالجبن لأنه ليس من الجوارح.. وقال ابن قتيبة ولا أرى القول الا قول المفضل والدليل
على ذلك قول الكميت بن زيد الأسدي
أرجو لكم أن تكونوا في إخائكم * كلبا كورهاء تقلي كل صفار (2)
لما أجابت صفيرا كان آيتها * من قابس شيط الوجعاء بالنار

(1) أنشده في اللسان في مادة زم ريومضن بالأعين والحواجب - والمعنى واحد -
(2) - الورهاء - المرأة الحمقاء - وتقلى - تكره وتبغض - وآيتها - أي علامتها
يريد ان ذلك كان علامة بينها وبين خليلها إذا جاء يريدها - والوجعاء - الاست -
- وشيط - يقولون شيط فلان اللحم إذا دخنه بالنار ولم ينضجه وشيط الطاهي الرأس والكراع
إذا أشعل فيهما النار حتى يتشيط ما عليهما من الشعر والصوف ومنهم من يقول شوط
108

وهذه امرأة كان يصفر لها رجل فتجيبه فتمثل زوجها به وصفر لها فأتته فشيطها بميسم
فلما أعاد الصفير قالت قد قلينا كل صفار تريد انا قد عففنا وأطرحنا كل فاجر.. قال
أبو بكر بن القاسم الأنباري والاختيار عندي الزمارة معجمة الزاي على ما قال أبو
عبيد لحجج ثلاث.. إحداهن اجماع أصحاب الحديث على الزمارة.. والحجة الثانية
ان الفاجرة سميت زمارة لأنها تحسن نفسها وكلامها والزمر عند العرب الحسن.. قال
عمرو ابن أحمر الباهلي يصف شرابا وغناء
دنان حنانان بينهما * رجل أجش غناؤه زمر
.. قال الأصمعي معناه غناؤه حسن كأنه مزامير داود.. والحجة الثالثة انهم سموا
الفاجرة زمارة لمهانتها وقلة ما فيها من الخير من قولهم نعجة زمرة إذا كانت قليلة الصوف
ويقال رجل زمر المروءة إذا كان قليلها.. قال ابن أحمر
مطلنفئا لون الحصى لونه * يحجر عنه الذر ريش زمر
- المطلنفى - اللصوق بالأرض - والذر - النمل - والزمر - القليل.. فسمى البغي
زمارة على وجه الذم لها والتصغير لشأنها كما قيل لها فاجرة لميلها عن القصد يقال فجر
الرجل إذا مال.. قال لبيد
فإن تتقدم تغش منها مقدما * غليظا وإن أخرت فالكفل فاجر (1)
أي مائل - والكفل - كساء يوضع على ظهر البعير يوقى من العرق.. [قال المرتضى]

(1) قلت قال لبيد ذلك يخاطب عمه أبا مالك وكان وقع بينهما ما يوجب العتب
وقبل هذا البيت
فقلت ازدجر أحناء طيرك واعلمن * بأنك إن قدمت رجلك عاثر
فأصبحت أنى تأتها تلتبس بها * كلا مركبيها تحت رجليك شاجر
- ازدجر - أزجر - وأحناء طيرك - أي جوانب طيشك - والشاجر - المختلف
109

رضي الله عنه ولا أرى لاحدي الروايتين على الأخرى رجحانا لأن كل واحدة منهما
قد أتت من جهة من يسكن إلى مثله ولكل منهما مخرج في اللغة وتأويل يرجع إلى
معنى واحد لان الرمازة بالراء غير معجمة يرجع معناها على ما ذكر ابن قتيبة إلى
معنى الفجور ومن رواها بالزاي المعجمة فالمرجع في معناها إلى ذلك أيضا على الوجهين
اللذين ذكرهما ابن الأنباري فالأولي أن يثبتا متساويين ويكون الراوي مخيرا بينهما..
أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال أنشدني محمد بن أحمد الكاتب قال أنشدنا
أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الاعرابي للمضرب وهو عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمي
وما زلت أرجو نفع سلمى وودها * وتبعد حتى ابيض منى المسائح
وحتى رأيت الشخص يزداد مثله * إليه وحتى نصف رأسي واضح
علا حاجبي الشيب حتى كأنه * ظباء جرت منها سنيح وبارح (1)

(1) يقول إن الشيب انتشر في حواجبه فكأنه الظباء البيض انتشرت في الصحراء
في كل صوب - والسانح - ما ولاك ميامنه - والبارح - ما ولاك مياسره.. قال ابن برى
والعرب تختلف في العيافة يعنى في التيمن بالسانح والتشائم بالبارح فأهل نجد يتيمنون
بالسانح قال ذو الرمة
خليلي لا لاقيتما ما حييتما * من الطير الا السانحات وأسعدا
وقال النابغة
زعم البوارح ان رحلتنا غدا * وبذاك تنعاب الغراب الأسود
وقال كثير وهو حجازي يتشاءم بالسانح
أقول إذا ما الطير مرت مخيفة * سوانحها تجرى ولا أستثيرها
هذا هو الأصل ثم قد يستعمل النجدي لغة الحجازي فمن ذلك قول عمرو بن قميئة
وهو نجدي
فبين على طير سنيح نحوسه * واشأم طير الزاجرين سنيحها
110

وهزة أظعان عليهن بهجة * طلبت وريعان الصبا بي جامح
فلما قضينا من منى كل حاجة * ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا * وسالت بأعناق المطي الأباطح
وشدت علي حدب المهاري رحالنا * ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
قفلنا على الخوص المراسيل وارتمت * بهن الصحارى والصفاح الصحاصح
وأنشد ابن الاعرابي
قصدت بعيني شادن وتبسمت * بحماء عن غر لهن غروب
جرى الإسحل الأحوى عليهن أو جرى * عليهن من فرع الأراك قضيب
.. أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الكاتب قال أخبرني محمد بن يحيي الصولي قال حدثنا
محمد بن الحسن البلغي قال حدثنا أبو حاتم قال سمعت الأصمعي يقول سمعت الرشيد
يقول قلب العاشق عليه مع معشوقه فقلت له هذا والله يا أمير المؤمنين قول عروة بن
حزام العذري لعفراء
وإني ليعروني لذكراك روعة * لها بين جلدي والعظام دبيب
وما هو إلا أن أراها فجاءة * فأبهت حتى لا أكاد أجيب
وأصرف عن داري الذي كنت عارفا * ويعزب عني علمه ويغيب
ويضمر قلبي غدرها ويعينها * علي فما لي في الفؤاد نصيب
فقال الرشيد من قال هذا وهما فانى أقوله علما ولله درك يا أصمعي فانى أجد عندك
ما تضل عنه العلماء.. قال الصولي فأخذه العباس ابن الأحنف فقال
يهيم بحران الجزيرة قلبه
وفيها غزال فاتر الطرف ساحر
يؤازره قلبي علي وليس لي
يدان بمن قلبي على يوازره
111

وأشار إليه أيضا في قوله
قلبي إلي ما ضرني داعى * بكثر أحزاني وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي * إذا كان عدوي بين أضلاعي
وأخذه سهل بن هارون الكاتب فقال
أعان طرفي على جسمي وأعضائي * بنظرة وقفت جسمي علي داء
وكنت غرا بما تجنى على يدي * لا علم لي أن بعضي بعض أعدائي
.. وقال البحتري
ولست أعجب من عصيان قلبك لي * يوما إذا كان قلبي فيك يعصيني
وروى أبو عكرمة الضبي عن مسعود بن بشر المازني قال قال لنا الأصمعي يوما ما أحسن
ما قيل في صفة امرأة عجزاء خمصانة فأنشده قول الأعشى
صفر الوشاحين ملء الدرع بهكنة * إذا تأتت يكاد الخصر ينخزل
وأنشد قول علقمة بن عبدة
صفر الوشاحين ملء الدرع خرعبة * كأنها رشأ في البيت ملزوم
وأنشد قول ذي الرمة
ترى خلفها نصفا قناة قويمة * ونصفا نقا يرتج أو يترمرم
فقال أحسن ما قيل فيه قول أبي وجزة السعدي
أدماء عيطلة يكاد رداؤها * يقوى ويشبع ما أخب إزارها
قال عكرمة ومثله قول الحارث بن خالد المخزومي
غرثان سمط وشاحها قلق
ريان من أردافها المرط
.. وأخبرنا المرزباني قال حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا أبو العيناء قال حدثني الأصمعي
قال لما مات محمد بن سليمان بن علي الهاشمي دخلت على أخيه جعفر بن سليمان وقد حزن
112

عليه حزنا شديدا ولم يطعم ثلاثا فأنشدته لابن أراكة الثقفي
لعمري لئن أتبعت طرفك ما مضي * من الدهر أو ساق الحمام إلى القبر
لتستنفدن ماء الشؤون بأسره * وإن كنت تمريهن من ثبج البحر
فقلت لعبد الله إذ حن باكيا * تعز وماء العين منهمر يجري
تبين فإن كان البكا رد هالكا * على أحد فاجهد بكاك على عمرو
ولا تبك ميتا بعد ميت أحبه * علي وعباس وآل أبي بكر
قال فأمر فجئ بالطعام فأكل من ساعته.. قوله - حن باكيا - معناه رفع صوته بالبكاء
وقال قوم الخنين بالخاء معجمة من الأنف والحنين من الصدر وهو صوت يخرج من
كل واحد منهما.. وأخبرنا المرزباني قال حدثنا محمد بن العباس قال حدثنا محمد بن
يزيد النحوي قال سمعت الثوري يقول دخلنا مع الأصمعي إلى إسماعيل بن جعفر
ليلة في حاجة فأنشده الأصمعي أبيات ابن هرمة
أتيناك نرجو حاجة ووسيلة * لديك وقد تحظى لديك الوسائل
ونذكر ودا شده الله بيننا * على الدهر لم تدبب إليه الغوائل
فاقسم ما أكبا زنادك قادح * ولا أكذبت فيك الرجاء القوابل
ولا أرجعت ذا حاجة عنك علة * ولا عاق حرا عاجلا منك آجل
ولا لام فيك الباذل الوجه نفسه * ولا احتكمت في الجود منك المباخل
لم يزد على هذه الأبيات فقضي حاجته وأجاب مسئلته.. [قال المرتضى] رضي الله عنه
ويشبه أن يكون ابن هرمة أخذ قوله * ولا كذبت فيك الرجاء القوابل * من قول
الحزين الكناني في زيد بن علي بن الحسين عليه السلام
فلما تردى بالحمائل وانثنى * يصول بأطراف القنا والذوابل
113

تبينت الأعداء أن سنانه * يطيل حنين الأمهات الثواكل
تبين فيه ميسم العز والتقى * وليدا يفدى بين أيدي القوابل
.. وأخبرنا علي بن محمد الكاتب قال حدثنا محمد بن يحيي الصولي قال حدثني محمد بن الحسن
البلغي قال حدثني أبو حاتم عن الأصمعي قال قال الرشيد يوما يا أصمعي أتعرف للعرب
اعتذارا وندما ودع النابغة فإنه يحتج ويعتذر فقلت ما أعرف ذلك إلا لبشر بن أبي
خازم الأسدي فإنه هجا أوس بن حارثة بن لام فأسره بعد ذلك فأراد قتله فقالت له أمه
وكانت ذات رأى والله لا محا هجاءه لك إلا مدحه إياك فعفى عنه.. فقال بشر
وإني علي ما كان منى لنادم * وإني إلى أوس بن لام لتائب
فهب لي حياتي والحياة لقائم * يسرك فيها حين ما أنت واهب
وإني إلي أوس ليقبل توبتي * ويعرف ودي ما حييت لراغب
سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادق * كتاب هجاء سار إذ أنا كاذب
فقال الرشيد للأصمعي ان دولتي لتحسن ببقائك فيها.. وأخبرنا علي بن محمد الكاتب
قال حدثنا ابن دريد قال حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه قال سمعت
بيتين لم أحفل بهما ثم قال قلت هما على كل حال خير من موضعهما من الكتاب قال
فاني عند الرشيد يوما وعنده عيسى بن جعفر فأقبل على مسرور الكبير فقال يا مسرور
كم في بيت مال السرور فقال ما فيه شئ قال عيسى هذا بيت مال الحزن فاغتم لذلك
الرشيد وأقبل على عيسى وقال والله لتعطين الأصمعي سلفا على بيت مال السرور ألف
دينار فوجم عيسى وأنكر فقلت في نفسي جاء موضع البيتين وأنشدت الرشيد
إذا شئت أن تلقى أخاك معبسا * وجداه في الماضين كعب وحاتم
فكشفه عما في يديه فإنما * يكشف أخبار الرجال الدراهم
قال فتجلى عن الرشيد وقال لمسرور أعطه على بيت مال السرور ألفي دينار فأخذت
114

بالبيتين ألفي دينار وما كانا يساويان عندي درهمين
(مجلس آخر 35)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (خلق الانسان من عجل سأريكم
آياتي فلا تستعجلون).. الجواب قيل له قد ذكر في هذه الآية وجوه من التأويل
نحن نذكرها ونرجح الأرجح منها.. أولها أن يكون معنى القول المبالغة في وصف
الانسان بكثرة العجلة وانه شديد الاستعجال لما يؤثره من الأمور لهج باستدناء ما يجلب
إليه نفعا أو يدفع عنه ضررا ولهم عادة في استعمال مثل هذه اللفظة عند المبالغة كقولهم
لمن يصفونه بكثرة النوم ما خلقت إلا من نوم وما خلق فلان إلا من شر أرادوا
كثرة وقوع الشر منه وربما قالوا ما أنت إلا أكل وشرب وما أشبه ذلك.. قالت
الخنساء تصف بقرة
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت * فإنما هي إقبال وإدبار
وإنما أرادت ما ذكرناه من كثرة وقوع الاقبال والادبار منها ويشهد لهذا التأويل قوله
تعالى في موضع آخر (وكان الانسان عجولا) ويطابقه أيضا قوله تعالى (فلا تستعجلون)
لأنه وصفهم بكثرة العجلة وان من شأنهم فعلها توبيخا لهم وتقريعا ثم نهاهم عن الاستعجال
باستدعاء الآيات من حيث كانوا متمكنين من مفارقة طريقتهم في الاستعجال وقادرين
على التثبت والتأيد.. وثانيها ما أجاب به أبو عبيدة وقطرب بن المستنير وغيرهما من أن
في الكلام قلبا والمعنى خلق العجل من الانسان واستشهد على ذلك بقوله تعالى (وقد
بلغني الكبر) أي قد بلغت الكبر وبقوله تعالى (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة) والمعنى
ان العصبة تنوء بها وتقول العرب عرضت الناقة على الحوض وإنما هو عرضت الحوض
على الناقة وقولهم إذا طلعت الشعرى استوى العود على الحرباء يريدون استوى
الحرباء على العود وبقول الأعشى
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته * وأن تعلمي أن المعان موفق
115

يريد أن الموفق لمعان.. وبقول الآخر
على العباءات هداجون قد بلغت * نجران أو بلغت سوآتهم هجر
والمعنى أن السوآت هي التي بلغت هجر.. وبقول خداش بن زهير
وتركب خيل لا هوادة بينها * وتشقى الرماح بالظياطرة الحمر (1)
يريد تشفى الضياطرة بالرماح.. وبقول الآخر
يمشي به عوذ النعاج كأنها * عذارى ملوك في بياض ثياب (2)
يريد في ثياب بيض.. وبقول الآخر
حسرت كفي عن السرابل آخذه * فردا يحز علي أيدي المفيدينا
يريد حسرت السربال عن كفي.. وبقول الآخر وهو ابن أحمر
وجرد طار باطلها نسيلا * وأحدث قومها شعرا قصارا
أراد نسيلها باطلا.. وبقول الآخر
وقسورة أكتافهم في قسيهم * إذا ما مشوا لا يعمرون من النساء
أراد قسيهم في أكتافهم.. وبقول الآخر
وهن من الإخلاف والولعان (3)
أي الاخلاف والولعان منهن.. ويبقى على صاحب هذا الجواب مع التقاضي له عن حمل
كلامه تعالى على القلب أن يقال له وما المعنى والفائدة في قوله تعالى (خلق العجل من

(1) - الهوادة - اللين وما يرجي به صلاح الأمر - والضياطرة - جمع ضيطر
وضوطر وهو الضخم العظيم
(2) - عوذ - جمع عائذ وهي الحديثة النتاج من الظباء وكل أنثى - والنعاج - جمع
نعجة وهي البقرة الوحشية
(3) صدره * لخلابة العينين كذابة المنى * - والإخلاف - خلف الوعد
- والولعان - الكذب يقال ولع يلع ولعا وولعانا إذا كذب
116

الانسان) أتريدون بذلك ان الله تعالى خلق في الانسان العجلة وهذا لا يجوز لان
العجلة فعل من أفعال الانسان فكيف يكون مخلوقة فيه لغيره ولو كان كذلك ما جاز
أن ينهاهم عن الاستعجال في الآية فيقول (سأريكم آياتي فلا تستعجلون) لأنه لا ينهاهم
عما خلقه فيهم.. فان قالوا لم يرد انه تعالى خلقها لكنه أراد كثرة فعل الانسان لها
وانه لا يزال يستعملها.. قيل لهم هذا هو الجواب الذي قدمناه من غير حاجة إلى القلب
والتقديم والتأخير وإذا كان هذا المعنى يتم وينتظم على ما ذكرناه من غير قلب فلا حاجة
بنا إليه.. وقد ذكر أبو القاسم البلخي هذا الجواب في تفسيره واختاره وقواه وسأل
نفسه عليه فقال كيف جاز أن يقول فلا تستعجلون وهو خلق العجلة فيهم وأجاب بأنه
قد أعطاهم قدرة على مغالبة طبائعهم وكفها وقد يكون الانسان مطبوعا عليها وهو مع
ذلك مأمور بالتثبت قادر على أن يجانب العجلة وذلك كخلقه في البشر لشهوة النكاح
وأمرهم في كثير من الأوقات بالامتناع منه وهذا الذي ذكره البلخي تصريح بان المراد
بالعجل غيره وهو الطبع الداعي إليه والشهوة المتناولة له ويجب أيضا أن يكون المراد
بمن ههنا في لان شهوة العجل لا تكون مخلوقة من الانسان وإنما تكون مخلوقه فيه
وهذا تجوز على تجوز وتوسع على توسع لان القلب أولا مجاز ثم هو من بعيد المجاز
وذكر العجل والمراد به غيره مجاز آخر وإقامة من قام في كذلك على أنه تعالى إذا نهاهم
عن العجلة بقوله عز وجل (فلا تستعجلون) أي معنى لتقديم قوله خلقت شهوة
العجلة فيهم أو الطبع الداعي إليها فيهم على ما عبر به البلخي وهذا إلى أن يكون عذرا
لهم أقرب منه إلى أن يكون حجة عليم وأيسر الأحوال أن لا يكون عذرا ولا احتجاجا
فلا يكون لتقديمه معنى وفي الجواب الأول حسن تقديم ذلك على طريق الذم والتوبيخ
والتقريع من غير إضافة إليه عز وجل والجواب الأول أوضح وأصح.. وثالثها جواب
روى عن الحسن قال يعني بقوله من عجل أي من ضعف وهي النطفة المهينة الضعيفة
وهذا قريب إن كان في اللغة شاهد على أن العجل عبارة عن الضعف أو معناه.. ورابعها
ما حكى ان أبا الحسن الأخفش أجاب به وهو أن يكون المراد ان الانسان خلق من
تعجيل الأمر لأنه تعالى قال (إنما أمرنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)
117

.. فان قيل كيف يطابق هذا الجواب قوله من بعد فلا تستعجلون.. قلنا يمكن أن يكون
وجه المطابقة انهم لما استعجلوا بالآيات واستبطؤها أعلمهم تعالى انه ممن لا يعجزه شئ
إذا أراده ولا يمتنع عليه وان من خلق الانسان بلا كلفة ولا مئونة بان قال له كن
فكان مع ما فيه من بدائع الصنعة وعجائب الحكمة التي يعجز عنها كل قادر ويحار فيها
كل ناظر لا يعجزه اظهار ما استعجلوه من الآيات.. وخامسها ما أجاب به بعضهم من
أن العجل الطين فكأنه تعالى قال خلق الانسان من طين كما قال تعالى في موضع
آخر (وبدأ خلق الانسان من طين) واستشهد بقول الشاعر
والنبع ينبت بين الصخر ضاحية * والنخل ينبت بين الماء والعجل
ووجدنا قوما يطعنون في هذا الجواب ويقولون ليس بمعروف ان العجل هو الطين
وقد حكي صاحب كتاب العين عن بعضهم ان العجل الحمأة ولم يستشهد عليه إلا أن
البيت الذي أوردناه يمكن أن يكون شاهدا له وقد رواه ثعلب عن ابن الاعرابي وخالف
في شئ من ألفاظه فرواه
والنبع في الصخرة الصماء منبته
والنخل ينبت بين الماء والعجل
وإذا صح هذا الجواب فوجه المطابقة بين ذلك وبين قوله تعالى (فلا تستعجلون)
على نحو ما ذكرناه وهو ان من خلق الانسان مع الحكمة الظاهرة فيه من الطين
لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات أو يكون المعنى انه لا يجب لمن خلق من الطين
المهين وكان أصله هذا الأصل الحقير الضعيف أن يهزأ برسل الله وآياته وشرائعه لأنه
تعالى قال قبل هذه الآية (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي
يذكر آلهتكم).. وسادسها أن يكون المراد بالانسان آدم عليه السلام ومعنى من عجل
أي من سرعة من خلقه لأنه لم يخلقه من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة كما خلق غيره
وإنما ابتدأه الله تعالى ابتداء وأنشأه انشاء فكأنه تعالى نبه بذلك على الآية العجيبة في
خلقه له وانه عز وجل يرى عباده من آياته وبيناته أولا أولا ما تقتضيه مصالحهم
وتستدعيه أحوالهم.. وسابعها ما روى عن مجاهد وغيره ان الله تعالى خلق آدم
118

بعد خلق كل شئ آخر نهار يوم الجمعة على سرعة معاجلا به غروب الشمس.. وروى أن
آدم عليه السلام لما نفخت فيه الروح وبلغت إلى أعالي جسده ولم يبلغ أسافله قال
يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس.. وثامنها ما روى عن ابن عباس والسدي
ان آدم عليه السلام لما خلق وجعلت الروح في أكثر جسده وثب عجلان مبادرا إلى
أثمار الجنة.. وقال قوم قد هم بالوثوب فهذا معنى قوله تعالى (خلق الانسان عجولا)
وهذه الأجوبة الثلاثة مبنية على أن المراد بالانسان فيها آدم عليه السلام دون غيره
.. [قال المرتضى] رضي الله عنه وإني لأستحسن لمسكين الدارمي قوله
ورب أمور قد بريت لحاءها * وقومت من أصلابها ثم رعتها
أقيم بدار الحزم ما لم أهن بها * فإن خفت من دار هوانا تركتها
وأصلح جل المال حتى تخالنى * شحيحا وإن حق عراني أهنتها
ولست بولاج البيوت لفاقة * ولكن إذا استغنيت عنها ولجتها
أبيت عن الإدلاج في الحي نائما * وأرض بإدلاج وهم قطعتها
ألا أيها الجاري سنيحا وبارحا * تعرض نفسا لو أشاء قتلتها
تعارض فخر الفاخرين بعصبة * ولو وضعت لي في إناء أكلتها
وإن لنا ربعية المجد كلها * موارث آباء كرام ورثتها
إذا قصرت أيدي الرجال عن العلا * مددت لها باعا عليها فنلتها
وداع دعاني للعلا فأجبته * ودعوة داع للصديق خذلتها
ومكرمة كانت رعاية والدي * فعلمنيها والدي ففعلتها
وعوراء من قيل امرئ ذي قرابة * تصاممت عنها بعد ما قد سمعتها
رجاء غد أن يعطف الرحم بيننا * ومظلمة منه بجنبي عركتها
119

إذا ما أمور الناس رثت وضيعت * وجدت أموري كلها قد زممتها
وإني سألقى الله لم أرم حرة * ولم تأتمني يوم سر فخنتها
ولا قاذف نفسي ونفسي بريئة * وكيف اعتذاري بعد ما قد قذفتها
أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرنا أبو ذر القراطيسي قال حدثنا عبيد الله بن محمد
ابن أبي الدنيا قال حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي ان رجلا من الأنصار حدثه
قال قال مسكين الدارمي
ولست إذا ما سرني الدهر ضاحكا * ولا خاشعا ما عشت من حادث الدهر
ولا جاعلا عرضي لمالي وقاية * ولكن أقي عرضي فيحرزه وفرى
أعف لدى عسرى وأبدى تجملا * ولا خير فيمن لا يعف لدى العسر
وإني لأستحيى إذا كنت معسرا * صديقي وإخواني بأن يعلموا فقري
وأقطع إخواني وما حال عهدهم * حياء وإعراضا وما بي من كبر
فإن يك عارا ما أتيت فربما * أتى المرء يوم السوء من حيث لا يدرى
ومن يفتقر يعلم مكان صديقه * ومن يحي لا يعدم بلاء من الدهر
ومن مستحسن قوله
إن ادع مسكينا فما قصرت * قدري بيوت الحي والخدر
قيل إن مسكينا ليس باسمه وإنما اسمه ربيعة وإنما سمى بذلك لقوله
وسميت مسكينا وكانت لجاجة * وإني لمسكين إلى الله راغب (1)

(1) سماه في كتاب الشعراء ربيعة بن عامر بن أنيف من بني دارم وقال كان في
زمن معاوية رضي الله عنه وهو القائل فيه
إليك أمير المؤمنين رحلتها
تثير القطا ليلا وهن هجود
على الطائر الميمون والجد صاعد
لكل أناس طائر وجدود * إذا المنبر الغربي خلى مكانه
فان أمير المؤمنين يزيد
.. وأنشد له
وإذا الفاحش لاقي فاحشا * فهنا كم وافق الشن الطبق
إنما الفحش ومن يعتاده * كغراب السوء ما شاء نعق
أو حمار السوء ان أشبعته * رمح الناس وان جاع نهق
أو غلام السوء ان جوعته * سرق الجار وان يشبع فسق
أو كغيري رفعت من ذيلها * ثم أرخته ضرارا فانمزق
أيها السائل عما قد مضى * هل جديد مثل ملبوس خلق
120

ومعنى - قصرت قدري - أي سترت يريد انها بارزة لا تحجبها السواتر والحيطان
ما مس رحلي العنكبوت ولا * جدياته من وضعه غبر
وهذه كناية مليحة عن مواصلة السير وهجر الوطن لأن العنكبوت إنما تنسج على ما لا تناله
الأيدي ولا يكثر استعماله - والجديات - جمع جدية وهي باطن دفة الرحل
لا آخذ الصبيان ألثمهم * والأمر قد يغري به الأمر
يقول لا أقبل الصبي وأنا أريد التعرض بأمه ومثله لغيره
ولا ألقي لذي الودعات صوتي * لألهيه وريبته أريد (1)
وأنشد ابن الاعرابي مثله
إذا رأيت صبي القوم يلثمه * ضخم المناكب لا عم ولا خال

(1) قوله لذي الودعات الخ: ذو الودعات الطفل لأنهم يعلقون عليه الودع: ومعنى
وريبته أريد أي لا أريد ريبة أمه فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ومثل هذا يحفظ
ولا يقاس عليه لتخلف الشرط: والبيت من جملة أبيات لعقيل بن علفة المري الجافي المشهور
121

فاحفظ صبيك منه أن يدنسه * ولا يغرنك يوما كثرة المال
رجع إلى تمام القصيدة
ولرب يوم قد تركت وما * بيني وبين لقائه ستر
ومخاصم قاومت في كبد * مثل الدهان فكان لي العذر
وأعابني قومي بنو عدس * وهم الملوك وخالي البشر (1)
عمي زرارة غير منتحل * وأبي الذي حدثته عمرو
في المجد غرتنا مبينة * للناظرين كأنها البدر
لا يرهب الجيران غدرتنا * حتى يوارى ذكرنا القبر
لسنا كأقوام إذا كحلت * إحدى السنين فجارهم تمر
أي يستحلي الغدر به كما يستحلى التمر
مولاهم لحم على وضم * تنتابه العقبان والنسر
ناري ونار الجار واحدة * واليه قبلي ينزل القدر
يقال كان له امرأة تماظه فلما قال ذلك قالت له أجل إنما نارك وناره واحدة لأنه أوقد
ولم توقد والقدر ينزل إليه قبلك لأنه طبخ ولم تطبخ وأنت تستطعمه (2)

(1) قوله قومي بنو عدس: كل عدس في العرب بضم العين وفتح الدال إلا عدس
ابن زيد هذا فإنه مضموم العين والدال
(2) ويروى من غير هذا الوجه انه كانت لمسكين امرأة وكانت فاركا كثيرة الخصومة
والمماظة له فوقفت عليه وهو ينشد حتى إذا بلغ ناري ونار الجار البيت: قالت له صدقت
والله يجلس جارك فيطبخ قدره فتصطلى بناره ثم ينزلها فيجلس يأكل وأنت بحذائه
كالكلب فإذا شبع أطعمك أجل والله ان القدر لتنزل إليه قبلك فاعرض عنها فلما بلغ
إلى قوله: ماضر جارى الخ البيت فلما قالت له هتكته وثب إليها يضربها وجعل قومه
يضحكون منهما: المماظة شدة الخلق وفظاظته
122

ما ضر جاري إذ أجاوره * أن لا يكون لبيته ستر
قال ويقال انها قالت له في هذا البيت أيضا أجل إن كان له ستر هتكته
أعمى إذا ما جارتي خرجت * حتى يواري جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما * سمعي وما بي غيره وقر
وأنشد عمر بن شبة لمسكين أيضا
لا تجعلني كأقوام علمتهم * لا يظلموا لبة يوما ولاودجا
اني لأغلاهم باللحم قد علموا * نيا وأرخصهم باللحم إذ نضجا
أنا ابن قاتل جوع القوم قد علموا * إذا السماء كست آفاقها رهجا
يا رب أمرين قد فرجت بينهما * إذا هما نشبا في الصدر واعتلجا
أديم خلقي لمن دامت خليقته * فأمزج الحلو أحيانا لمن مزجا
وأقطع الخرق بالخرقاء لاهية * إذا الكواكب كانت في الدجا سرجا
ما أنزل الله من أمر فأكرهه * إلا سيجعل لي من بعده فرجا
ما مد قوم بأيديهم إلي شرف * إلا رأونا قياما فوقهم درجا
وأنشد أبو العباس ثعلب له
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله * ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى * ولكنما وجه الكريم خصيب
123

وروي ثعلب أيضا
لحافي لحاف الضيف والبيت بيته * ولم يلهني عنه غزال مقنع
أحدثه أن الحديث من القرى * وتعلم نفسي أنه سوف يهجع
ومعني - أحدثه ان الحديث من القرى - أي اصبر على حديثه واعلم أنه سوف ينام ولا
أعرض بمحادثته فأكون قد محقت قراي والحديث الحسن من تمام القرى.. وقال
الأصمعي أحسن ما قيل في الغيرة قول مسكين الدارمي
ألا أيها الغائر المستشيط * علام تغار إذا لم تغر
فما خير عرس إذا خفتها * وما خير بيت إذا لم يزر
تغار علي الناس أن ينظروا * وهل يفتن الصالحات النظر
فإني سأخلي لها بيتها * فتحفظ لي نفسها أو تذر
إذا الله لم يعطه ودها * فلن يعطي الود سوط ممر
ومن ذا يراعي له عرسه * إذا ضمه والمطي السفر
[قال رضي الله عنه] وكان مسكين كثير اللهج بالقول في هذ المعنى فمن ذلك قوله
وإني امرؤ لا آلف البيت قاعدا * إلى جنب عرسي لا أفرطها شبرا
ولا مقسم لا أبرح الدهر بيتها * لأجعله قبل الممات لها قبرا
إذا هي لم تحصن أمام قبابها * فليس بمنجيها بنائي لها قصرا
ولا حاملي ظني ولا قيل قائل * علي حائط حتى أحيط بها خبرا
فهبني امرأ راعيت ما دمت شاهدا * فكيف إذا ما سرت من بيتها شهرا
وأنشد أبو العيناء عن أبي العالية لمسكين
124

ما أحسن الغيرة في حينها * وأقبح الغيرة في غير حين
من لم يزل متهما عرسه * مناصبا فيها لوهم الظنون
يوشك أن يغريها بالذي * يخاف أو ينصبها للعيون
حسبك من تحصينها ضمها * منك إلى خلق كريم ودين
لا تظهرن منك على عورة * فيتبع المقرون حبل القرين
(مجلس آخر 36)
[تأويل آية]: إن سأل سائل عن قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام (ولقد
همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من
عبادنا المخلصين) فقال هل يسوغ ما تأول بعضهم هذه الآية عليه من أن يوسف عليه
السلام عزم على المعصية وأرادها وانه جلس مجلس الرجل من المرأة ثم انصرف عن
ذلك بأن رأى صورة أبيه يعقوب عاضا على إصبعه متوعدا له على مواقعة المعصية أو بأن
نودي له بالنهي والزجر في الحال على ما ورد به الحديث.. الجواب قلنا إذا ثبت بأدلة
العقول التي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات ان المعاصي لا تجوز على الأنبياء
عليهم السلام صرفنا كل ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة إلى ما يطابق الأدلة
ويوافقها كما يفعل مثل ذلك فيما يرد ظاهره مخالفا لما تدل عليه العقول من صفاته تعالى وما
يجوز عليه أو لا يجوز ولهذه الآية وجوه من التأويل كل واحد منها يقتضى براءة نبي الله
من العزم على فاحشة وإرادة المعصية.. أولها ان الهم في ظاهر الآية متعلق بما لا يصح
أن يعلق به العزم أو الإرادة على الحقيقة لأنه تعالى قال (ولقد همت به وهم بها) فعلق
الهم بهما وذاتا هما لا يجوز أن يراد أو يعزم عليهما لان الموجود الباقي لا يصح ذلك فيه
فلا بد من تقدير محذوف يتعلق العزم به وقد يمكن أن يكون ما تعلق به همه عليه السلام
125

إنما هو ضربها أو دفعها عن نفسه كما يقول القائل كنت هممت بفلان وقد هم فلان بفلان
أي بان يوقع به ضربا أو مكروها.. فان قيل فأي معنى لقوله تعالى (لولا أن رأى
برهان ربه) والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها.. قلنا يمكن أن يكون
الوجه في ذلك أنه لما هم بدفعها وضربها أراه الله برهانا على أنه ان أقدم على ما هم به
أهلكه أهلها أي قتلوه أو انها تدعي عليه المراودة عن القبيح وتقذفه بأنه دعاها إليه وان
ضربه لها كان لامتناعها فيظن به ذلك من لا تأمل له ولا علم بان مثله لا يجوز عليه
فأخبر الله تعالى بأنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء يعنى بذلك القتل والمكروه
الذين كانا يوقعان به لأنهما يستحقان الوصف بذلك من حيث القبح أو يعنى بالسوء
والفحشاء ظنهم بذلك.. فان قيل هذا الجواب يقتضي ان جواب لولا يتقدمها ويكون
التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بضربها ودفعها وتقديم جواب لولا قبيح غير
مستعمل أو يقتضى أن تكون لولا بغير جواب.. قلنا أما تقدم جواب لولا فجائز
وسنذكر ما فيه عند الجواب المختص بذلك غير أنا لا نحتاج إليه في هذا الجواب لأن
العزم على الضرب والهم بالضرب قد وقع إلا أنه انصرف عنه بالبرهان والتقدير ولقد
همت به وهم بدفعها لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك فالجواب في الحقيقة محذوف
والكلام يقتضيه كما حذف الجواب في قوله تعالى (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن
الله رؤوف رحيم) معناه لولا فضل الله عليكم ورحمته لهلكتم ومثله (كلا لو تعلمون
علم اليقين لترون الجحيم) معناه لو تعلمون علم اليقين لم تتنافسوا في الدنيا وتتفاخروا
بها.. وقال امرؤ القيس
فلو أنها نفس تموت سوية * ولكنها نفس تساقط أنفسا
أراد فلو أنها نفس تموت سوية لانقضت وفنيت فحذف الجواب على أن من تأول هذه
الآية على الوجه الذي لا يليق بنبي الله وأضاف العزم على المعصية إليه لابد له من تقدير
جواب محذوف ويكون التقدير عنده ولقد همت بالزنا وهم به لولا أن رأى برهان ربه
لفعله.. فان قيل قوله هم بها كقوله همت به فلم جعلتم همها متعلقا بالقبيح وهمه بها
متعلقا بما ذكرتم من الضرب وغيره.. قلنا أما الظاهر فلا يدل على ما تعلق الهم به
126

والعزم فيهما جميعا وإنما أثبتنا همها به بأن يكون متعلقا بالقبيح لشهادة الكتاب والآثار
به وهي ممن يجوز عليها فعل القبيح ولم يؤثر دليل في امتناعه عليها كما أثر ذلك فيه
عليه السلام والموضع الذي يشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى (وقال نسوة في المدينة
امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه إلى قوله في ضلال مبين) قوله تعالى (وراودته
التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب) وقوله (الآن حصحص الحق أنا راودته
عن نفسه وإنه لمن الصادقين) وفي موضع آخر (فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته
عن نفسه وإنه لمن الصادقين) وفى موضع آخر (فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته
عن نفسه فأستعصم) والآثار واردة باطباق مفسري القرآن ومتأوليه على أنها همت
بالفاحشة والمعصية.. والوجه الثاني في تأويل الآية أن يحمل الكلام على التقديم
والتأخير ويكون تلخيصه ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ويجرى
ذلك مجرى قولهم قد كنت هلكت لولا أنى تداركتك وقتلت لولا أنى خلصتك والمعنى
لولا تداركي لهلكت ولولا تخليصي لقتلت وان لم يكن وقع هلاك ولا قتل.. قال الشاعر
فلا تدعني قومي صريحا لحرة * لأن كنت مقتولا ويسلم عامر
.. وقال آخر
فلا تدعني قومي ليوم كريهة * لئن لم أعجل ضربة أو أعجل
فقدم جواب الشرط في البيتين جميعا (1) وقد استشهد عليه أيضا بقوله تعالى (ولولا فضل
الله عليكم ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك) والهم لم يقع لمكان فضل الله ورحمته
ومما يشهد لهذا التأويل ان في الكلام شرطا وهو قوله تعالى (لولا أن رأى برهان ربه)
فكيف يحمل على الاطلاق مع حصول الشرط وليس لهم أن يجعلوا جواب لولا محذوفا

(1) هذا الذي اعتمده يخالف مذهب جمهور البصريين فان جواب الشرط عندهم
لا يتقدم فإذا تقدم ما هو جواب في المعنى فهو دال عليه وليس إياه وهو محذوف: وذهب
الكوفيين والمبرد وأبو زيد إلي جواز تقديمه ولا حذف عندهم في مثل ذلك
127

مقدرا لأن جعل جوابها موجودا أولا: وقد استبعد قوم تقديم جواب لولا عليها قالوا
ولو جاز ذلك لجاز قام زيد لولا عمرو وقصدتك لولا بكر وقد بينا بما أوردناه من الأمثلة
والشواهد جواز تقديم جواب لولا والذي ذكروه لا يشبه بما أجزناه وقد يجوز أن
يقول القائل قد كان زيد قام لولا كذا وكذا وقد كنت قصدتك لولا أن صدني فلان
وان لم يقع قيام ولا قصد وهذا الذي يشبه الآية وليس تقديم جواب لولا بأبعد من
حذف جواب لولا جملة من الكلام وإذا جاز عندهم الحذف لئلا يلزمهم تقديم
الجواب جاز لغيرهم تقديم الجواب حتى لا يلزم الحذف.. والجواب الثالث
ما اختاره أبو علي الجبائي وإن كان غيره قد تقدمه إلى معناه وهو أن يكون معنى هم
بها اشتهاها ومال طبعه إلى ما دعته إليه وقد يجوز أن يسمي الشهوة في مجاز اللغة هما كما
يقول القائل فيما لا يشتهيه ليس هذا من همى وهذا أهم الأشياء إلى ولا قبح في
الشهوة لأنها من فعل الله تعالى فيه وإنما يتعلق القبيح بتناول المشتهى.. وقد روى
هذا الجواب عن الحسن البصري قال أما همها فكان أخبث الهم وأما همه فما طبع عليه
الرجال من شهوة النساء ويجب على هذا الوجه أن يكون قوله تعالى (لولا أن رأى
برهان ربه) متعلق بمحذوف كأنه قال لولا أن رأى برهان ربه لعزم أو فعل.. والجواب
الرابع ان من عادة العرب أن يسموا الشئ باسم ما يقع فيه في الأكثر عنده وعلى هذا
لا ينكر أن يكون المراد بهم بها أي خطر بباله أمرها ووسوس إليه الشيطان بالدعاء إليها
من غير أن يكون هناك هم أو عزم فسمى الخطور بالبال هما من حيث كان الهم يقع
في الأكثر عنده والعزم في الأغلب يتبعه وإنما أنكرنا ما ادعاه جهلة المفسرين ومحرفوا
القصاص وقذفوا به نبي الله عليه السلام لما ثبت في العقول من الأدلة على أن مثل ذلك
لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام من حيث كان منفرا عنهم وقادحا في الغرض المجري
إليه بارسالهم والقصة تشهد بذلك لأنه تعالى قال (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)
ومن أكبر السوء والفحشاء العزم على الزنا ثم الأخذ فيه والشروع في مقدماته وقوله تعالى
أيضا (انه من عبادنا المخلصين) يقتضي تنزيهه عن الهم بالزنا والعزم عليه وحكايته عن
النسوة قولهن (حاش لله ما علمنا عليه من سوء) يدل أيضا على أنه برئ من القبحين
128

.. فأما البرهان الذي رآه فيحتمل أن يكون لطفا لطف الله تعالى له به في تلك الحال
أو قبلها اختار عنده الانصراف عن المعاصي والتنزه عنها ويحتمل أيضا ما ذكره أبو علي
وهو أن يكون البرهان دلالة الله تعالى له على تحريم ذلك وعلى أن من فعله يستحق العقاب
وليس يجوز أن يكون البرهان ما ظنه الجهال من رؤية صورة أبيه يعقوب عليه السلام
متوعدا له أو النداء له بالزجر والتخويف لأن ذلك ينافي المحنة وينقض الغرض بالتكليف
ويقتضي أن لا يستحق على امتناعه وانزجاره مدحا ولا ثوابا وهذا سوء ثناء على الأنبياء
واقدام على قرفهم بما لم يكن منهم والحمد الله على حسن التوفيق.. روى أحمد ابن
عبد الله بن العباس الصولي الملقب بطماس قال كنت يوما عند عمى إبراهيم بن العباس
فدخل إليه رجل فقربه حتى جلس إلى جانبه أو قريبا منه ثم حادثه إلى أن قال له
عمى يا أبا تمام ومن بقي ممن يعتصم به ويلجأ إليه فقال أنت لا عدمت وكان إبراهيم طويلا
أنت والله كما قيل
يمد نجاد السيف حتى كأنه * بأعلى سنامي فالج يتطوح
ويندلج في حاجات من هو نائم * ويورى كريمات الندى حين يقدح
إذا اعتم بالبرد اليماني خلته * هلالا بدا في جانب الأفق يلمح
يزيد على فضل الرجال فضيلة * ويقصر عنه مدح من يتمدح
فقال له إبراهيم أنت تحسن قائلا وراويا ومتمثلا فلما خرج تبعته وقلت له أكتبني
الأبيات فقال هي لأبي الجويرية العبدي فاخذها من شعره.. وروى عن يحيى بن
البحتري قال رأيت أبى يذاكر جماعة من أمراء أهل الشام بمعان من الشعر فمر فيها
ذكر قلة نوم العاشق وما قيل فيه فأنشدوا انشادات كثيرة فقال لهم أبي قد فرغ من
هذا كاتب كان بالعراق فقال
أحسب النوم حكاكا * إذ رأى منك جفاكا
مني الصبر ومنك * الهجر فابلغ بي مداكا
129

بعدت همة عين * طمعت في أن تراكا
أو ما خط لعيني * أن ترى من قد رأكا
ليت حظي منك أن * تعلم ما بي من هواكا
قال أبي انه تصرف في معان من الشعر في هذه الأبيات قال فكتبها عنه جماعة من
حضروا والأبيات لإبراهيم بن العباس الصولي.. وأخبرنا علي بن محمد الكاتب قال
أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال لما بايع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليهما السلام
بالعهد وأمر الناس بلبس الخضرة صار إليه دعبل بن علي الخزاعي وإبراهيم بن العباس
الصولي وكانا صديقين لا يفترقان فأنشده دعبل
مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات
وأنشده إبراهيم بن العباس الصولي على مذهبهما قصيدة أولها
أزالت عراء القلب بعد التجلد * مصارع أولاد النبي محمد
قال فوهب لهما عشرين ألف درهم من الدراهم التي عليها اسمه وكان المأمون أمر
بضربها في ذلك الوقت فأما دعبل بن علي فصار بالشطر منها إلى قم فاشترى أهلها منه كل
درهم بعشرة دراهم فباع حصته بمائة ألف درهم.. وأما إبراهيم بن العباس فلم يزل
عنده بعضها إلى أن مات قال الصولي ولم أقف من قصيدة إبراهيم على أكثر من هذا
البيت.. قال وكان السبب في ذهاب هذا الفن من شعره ما حدثني أبو العباس أحمد
ابن محمد بن الفرات والحسين بن علي الباقطاني قالا كان إبراهيم بن العباس صديقا
لإسحاق بن إبراهيم أخي زيدان الكاتب المعروف بالزمن فأنسخه شعره في علي بن
موسى الرضا عليهما السلام وقد انصرف من خراسان ودفع إليه شيئا بخطه منه وكانت
النسخة عنده إلى أن ولى المتوكل وولى إبراهيم بن العباس ديوان الضياع وقد كان
تباعد ما بينه وبين أخي زيدان فعزله عن ضياع كانت في يده بحلوان وغيرها وطالبه
بمال وألح عليه وأساء مطالبته فدعا إسحاق بعض من يثق به من اخوانه وقال له امض
130

إلى إبراهيم بن العباس فاعلمه ان شعره في علي بن موسى بخطه عندي وبغير خطه والله
لئن استمر على ظلمي ولم يزل عنى المطالبة لأوصلن الشعر إلى المتوكل قال فصار الرجل
إلى إبراهيم بن العباس فأخبره بذلك فاضطرب اضطرابا شديدا وجعل الأمر إلى
الواسطة في ذلك حتى أسقط جميع ما كان طالبه به وأخذ الشعر منه وأحلفه انه لم يبق
عنده منه شئ فلما حصل عنده أحرقه بحضرته.. وذكر أبو أحمد بن يحيى بن علي
المنجم ان أباه علي بن يحيى كان الواسطة بينهما.. قال الصولي وما عرفت من شعر
إبراهيم في هذا المعنى شيئا إلا أبياتا وجدتها بخط أبي قال أنشدني أخي لعمه في علي
ابن موسى الرضا عليهما السلام من قصيدة
كفى بفعال امرئ عالم * على أهله عادلا شاهدا
أرى لهم طارفا مؤنقا * ولا يشبه الطارف التالدا
يمن عليكم بأموالكم * ويعطون من مئة واحدا
فلا حمد الله مستبصرا * يكون لأعداءكم حامدا
فضلت قسيمك في قعدد * كما فضل الوالد الوالدا
قال الصولي فنظرت فوجدت علي بن موسى الرضا عليهما السلام والمأمون متساويين
في قعدد النسب وهاشم التاسع من آبائهما جميعا.. وروى الصولي ان منشدا أنشد
إبراهيم بن العباس وهو في مجلسه في ديوان الضياع
ربما تكره النفوس من الأمر * له فرجة كحل العقال
قال فنكت بقلمه ساعة ثم قال
ولرب نازلة يضيق بها الفتى * ذرعا وعند الله منها مخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها * فرجت وكان يظنها لا تفرج
فعجب من جودة بديهته.. وأخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الكاتب قال أخبرني
محمد بن يحيى الصولي قال حدثني القاسم بن إسماعيل أبو ذكوان الرواية قال كنت
131

بالأهواز أيام الواثق وإبراهيم بن العباس يلي معونتها وخراجها فوصفت له بالأدب
فأمر باحضاري فلما دخلت عليه قرب مجلسي وقال تسلف أنس المطاولة فان الاستمتاع
لا يتم إلا به فأنبسطت وتساءلنا عن الأشعار فما رأيت أحدا قط أعلم بالشعر منه فقال
لي ما عندك في قول النابغة
ألم تر أن الله أعطاك سورة * ترى كل ملك دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب * إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فقلت أراد تفضيله على الملوك فقال صدقت ولكن في الشعر خب وهو انه اعتذر إلى
النعمان من ذهابه إلى آل جفنة إلى الشام ومدحه لهم وقال إنما فعلت هذا لجفائك بي
فإذا صلحت بي لم أرد غيرك كما أن من أضاءت له الشمس لم يحتج إلي ضوء الكواكب
فأتى بمعنيين بهذا وبتفضيله قال فاستحسنت ذلك منه.. وكان إبراهيم بن العباس من
أصدق الناس لأحمد بن أبي داود فعتب على ابنه أبى الوليد من شئ قدمه ومدح أباه
وأحسن في التخلص كل الاحسان فقال
عفت مساو تبدت منك واضحة * على محاسن بقاها أبوك لكا
لئن تقدم أبناء الكرام به * لقد تقدم أبناء اللئام بكا
.. ولإبراهيم
تمر الصبا صفحا بساكن ذي الغضا * ويصدع قلبي أن يهب هبوبها
قريبة عهد بالحبيب وإنما * هوى كل نفس حيث كان حبيبها
تطلع من نفسي إليك نوازع * عوارف أن اليأس منك نصيبها
وأخذ هذا من قول ذي الرمة * إذا هبت الأرواح من كل جانب
به آل مي هاج شوقي هبوبها * هوي تذرف العينان منه وإنما
هوي كل نفس حيث كان حبيبها *
132

.. ولإبراهيم
دنت بأناس عن تناء زيارة * وشط بليلي عن دنو مزارها
وإن مقيمات بمنقطع اللوى * لأقرب من ليلى وهاتيك دارها
وأخذ ذلك من قول النظار الفقعسي
يقولون هذي أم عمرو قريبة * دنت بك أرض نحوها وسماء
ألا إنما بعد الحبيب وقربه * إذا هو لم يوصل إليه سواء
ووجدت بعض أهل الأدب يظن أن إبراهيم بن العباس سبق إلى هذا المعنى في قوله
كن كيف شئت وأني تشا * وأبرق يمينا وأرعد شمالا
نجابك لؤمك منجي الذباب * حمته مقاذيره أن ينالا
حتى رأيت مسلم بن الوليد قد سبق إلى هذا المعنى فأحسن غاية الاحسان فقال
أما الهجاء فدق عرضك دونه * والمدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق عرضك إنه * عرض عززت به وأنت ذليل
(مجلس آخر 37)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام
(قال رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن
وأكن من الجاهلين).. فقال إذا كانت المحبة عندكم هي الإرادة فهذا تصريح من يوسف
عليه السلام بإرادة المعصية لأن حبسه في السجن وقطعه عن التصرف معصية من فاعله
وقبيح من المقدم عليه وهو في القبح يجرى مجرى ما دعى إليه من الزنا وقوله من بعد
(وإلا تصرف عني كيدهن) يدل على أن امتناعه من القبيح مشروط بمنعهن وصرفهن
عن كيده وهذا بخلاف مذهبكم لأنكم تذهبون إلى أن ذلك لا يقع منه صرف النسوة
133

عن كيدهن أو لم يصرفهن.. الجواب قلنا أما قوله عليه السلام (رب السجن أحب
إلي) ففيه وجهان من التأويل.. أولهما ان المحبة متعلقة في ظاهر الكلام بما لا يصح
على الحقيقة أن يكون محبوبا مرادا لأن السجن إنما هو الجسم والأجسام لا يجوز أن
يريدها وإنما يريد الفعل فيها والمتعلق بها والسجن نفسه ليس بطاعة ولا معصية وإنما
الأفعال فيه قد تكون طاعات ومعاصي بحسب الوجوه التي يقع عليها فادخال القوم
يوسف عليه السلام الحبس أو اكراههم له على دخوله معصية منهم وكونه فيه وصبره
على ملازمته والمشاق التي تناله باستيطانه كان طاعة منه وقربة وقد علمنا أن ظالما لو
أكره مؤمنا على ملازمة لبعض المواضع وترك التصرف في غيره لكان فعل المكره
حسنا وإن كان فعل المكوره قبيحا وهذه الجملة تبين أن لا ظاهر في الآية يقتضى ما ظنوه
وانه لابد من تقدير محذوف يتعلق بالسجن وليس لهم أن يقدروا ما يرجع إلى الحابس
من الأفعال إلا ولنا أن نقدر ما يرجع إلى المحبوس وإذا احتمل الكلام الأمرين
ودل الدليل على أن النبي لا يجوز أن يريد المعاصي والقبائح اختص المحذوف المقدر بما
يرجع إليه مما ذكرناه وذلك طاعة لا لوم على مريده ومحبه.. فان قيل كيف يجوز
أن يقول السجن أحب إلى وهو لا يحب ما دعوه إليه ومن شأن مثل هذه اللفظة أن
تدخل بين ما وقع فيه اشتراك في معناها وان فضل البعض على البعض.. قلنا قد
تستعمل هذه اللفظة في مثل هذا الموضع وان لم يكن في معناها اشتراك على الحقيقة ألا
ترى ان من خير بين ما يحبه وما يكرهه جائز أن يقول هذا أحب إلى من هذا وان لم
يجز مبتدئا أن يقول من غير أن يخير هذا أحب إلى من هذا إذا كان لا يحب أحدهما
جملة وإنما سوغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر من حيث كان المخير بين الشيئين
لا يخير بينهما إلا وهما مرادان له ومما يصح أن يريدهما فموضوع التخيير يقتضي ذلك
وان حصل فيما ليس هذه صورته والمجيب على هذا متى قال كذا أحب إلى من كذا
مجيبا على ما يقتضيه موضوع التخيير وان لم يكن الأمران على الحقيقة يشتركان في
تناول محبته ومما يقارب ذلك قوله تعالى (قل أذلك خير أم جنة الخلد) ونحن نعلم
أن لا خير في العقاب وإنما حسن ذلك لوقوعه موقع التوبيخ والتقريع على اختيار
134

المعاصي على الطاعات وانهم ما ركبوا المعاصي وآثروها على الطاعات إلا لاعتقادهم أن
فيها خيرا ونفعا فقيل أذلك خير على ما تظنونه وتعتقدونه أم كذا وكذا وقد قال قوم
في قوله تعالى (أذلك خير أم جنة الخلد) إنما حسن ذلك لاشتراك الحالين في باب
المنزلة وان لم يشتركا في الخير والنفع كما قال تعالى (خير مستقرا وأحسن مقيلا) ومثل
هذا يأتي في قوله تعالى (رب السجن أحب إلى) لأن الأمرين يعني المعصية
ودخول السجن مشتركان في أن لكل منهما داعيا وعليه باعثا وان لم يشتركا في تناول
المحبة فجعل اشتراكهما في داعى المحبة اشتراكا في المحبة نفسها وأجرى اللفظ على ذلك
ومن قرأ هذه الآية بفتح السين فالتأويل أيضا ما ذكرناه لأن السجن المصدر فيحتمل
أن يريد ان سجني لهم نفسي وصبري على حبسهم أحب إلى من مواقعة المعصية ولا
يرجع بالسجن إلى فعلهم بل إلى فعله.. والوجه الثاني أن يكون معنى أحب إلى أي
أهون عندي وأسهل على وهذا كما يقال لأحدنا في الأمرين يكرههما معا ان فعلت
كذا وإلا فعل بك كذا وكذا فيقول بل كذا أحب إلى أي أهون عندي بمعنى
أسهل وأخف وإن كان لا يريد واحدا منهما وعلى هذا الجواب لا يمتنع أن يكون إنما
عنى فعلهم به دون فعله لأنه لم يخبر عن نفسه بالمحبة التي هي الإرادة وإنما وضع أحب
موضع أخف والمعصية قد تكون أهون وأخف من أخرى.. وأما قوله تعالى
(وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن) فليس المعنى فيه على ما ظنه السائل بل المراد
متي لم تلطف لي بما يدعوني إلي مجانبة المعصية وثبتني إلى تركها ومفارقتها صبوت وهذا
منه عليه السلام على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والتسليم لأموره وأنه لولا معونته
ولطفه ما نجا من كيدهن ولا شبهة في أن النبي إنما يكون معصوما عن القبائح بعصمة الله
تعالى ولطفه وتوفيقه.. فان قيل الظاهر خلاف ذلك لأنه قال (وإلا تصرف عنى
كيدهن) فيجب أن يكون المراد ما يمنعهن من الكيد ويدفعه والذي ذكرتموه من
انصرافه عن المعصية يقتضى ارتفاع الكيد والانصراف عنه.. قلنا معني الكلام
وإلا تصرف عني ضرر كيدهن والغرض به لأنهن إنما أجرين بكيدهن إلى مساعدته
لهن على المعصية فإذا عصم منها ولطف له في الانصراف عنها فكأن الكيد قد انصرف
135

عنه ولم يقع به من حيث لم يقع ضرره وما أجرى به إليه ولهذا يقال لمن أجرى بكلامه
إلى غرض لم يقع ما قلت شيئا ولمن فعل ما لا تأثير له ما فعل شيئا وهذا بين بحمد
الله ومنه
[تأويل خبر].. إن سأل سائل عن تأويل الخبر الذي يرويه عقبة بن عامر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة طويلة خطبها من يتبع المشمعة يشمع به
.. الجواب ان المشمعة هي الضحك والمزاح واللعب يقال شمع الرجل يشمع شموعا
وامرأة شموع إذا كانت كثيرة المزاح والضحك.. قال أبو ذؤيب يصف الحمير
بقرار قيعان سقاها وابل * واه فأثجم برهة لا يقلع (1)
فلبثن حينا يعتلجن بروضة * فيجد حينا في العلاج ويشمع
أراد أن هذا الحمار الذي وصف حاله مع الأتن وانه معهن في بعض القيعان يعارك هذه
الأتن ومعنى - يعتلجن - يعاض بعضهن بعضا ويترامحن من النشاط فيجد الفحل معهن
مرة وأخرى يأخذ معهن في اللعب فيشمع وفي جد لغتان يجد ويجد والمفتوح لغة
هذيل ويقال فلان جاد مجد على اللغتين معا.. وقيل إن معنى يشمع في الحمار انه يشم
ثم يرفع رأسه فيكشر عن أضراسه فجعل ذلك بمنزلة الضحك.. قال الشماخ
ولو أني أشاء كننت نفسي
إلى لبات بهكنة شموع (2)

(1) - القرار - جمع قرارة وهو حيث يستقر الماء - والقيعان - جمع قاع وهو القطعة
من الأرض الصلبة الطيبة - والوابل - المطر العظيم القطر.. ويروى سقاها صيف وهو
مطر الصيف - والواهي - كأنه منشق من شدة انصبابه وكثرة مائه - وانجم - أقام وثبت
- والبرهة - الحين والزمان - والروضة - البقعة يجتمع فيها الماء ينبت فيها البقل والعشب
ولا تسمى روضة الا إذا كان بها شجر وماء
(2) يروى هيكلة مكان بهكنة والهيكلة من النساء العظيمة وتهيكلها اختيالها - والشموع -
المزاحة - والبهكنة - التارة الغضة وقيل هي الجارية الخفيفة الطيبة الرائحة المليحة الحلوة
136

.. وقال المتنخل الهذلي
ولا والله نادى الحي ضيفي * هدؤا بالمساءة والعلاط
سأبدأهم بمشمعة وأثنى * بجهدي من طعام أو بساط
أراد بقوله - نادى الحي ضيفي - أي لا ينادونه من النداء بالسوء والمكروه ولا يتلقونه بما
يؤثر - والعلاط - من علطه واعتلط به إذا خاصمه وشاغبه ووسمه بالشر وأصله من
علاط البعير وهو وسم في عنقه.. وقيل إن معنى نادى الحي ضيفي من النادي أي
لا يجالسونه بالمكروه والسوء.. ومعنى - سأبدأهم بشمعة - أي بلعب وضحك لأن ذلك
من علامات الكرم والسرور بالضيف والقصد إلى إيناسه وبسطه.. ومنه قول الآخر
ورب ضيف طرق الحي سرى * صادف زادا وحديثا ما أشتهي (1)
إن الحديث طرف من القري
وروى الأصمعي عن خلف الأحمر قال سنة الاعراب انهم إذا حدثوا الرجل الغريب
وهشوا إليه ومازحوه أيقن بالقري وإذا أعرضوا عنه عرف الحرمان.. ومعنى - أثنى
بجهد من طعام أو بساط - أي اتبع ذلك بهذا.. ومعنى الخبر على هذا أن من كان من
شأنه العبث بالناس والاستهزاء بهم والضحك منهم أصاره الله تعالى إلى حالة يعبث به فيها
ويستهزأ منه.. ويقارب هذا الحديث من وجه حديث آخر وهو ما روى عن النبي صلى
الله عليه وسلم من يشمع الناس بعمله يشمع الله به والمعنى من يرائى بأعماله ويظهرها تقربا
إلى الناس واتخاذا للمنازل عندهم يشهره الله بالرياء ويفضحه ويهتكه.. ويمكن أيضا في الخبر
الأول وجه آخر لم يذكر فيه وهو ان من عادة العرب أن يسموا الجزاء على الشئ

(1) قوله ورب ضيف الخ.. البيتان للشماخ يمدح بهما عبد الله بن جعفر رضي الله
عنهما وقبلهما
انك يا بن جعفر نعم الفتى * ونعم مأوى طارق إذا أتي
ورب ضيف الخ
137

باسمه ولذلك نظائر في القرآن وأشعار العرب كثيرة مشهورة فلا ينكر أن يكون المعنى
من يتبع اللهو بالناس والاستهزاء بهم يعاقبه الله تعالى على ذلك ويجازيه فسمى الجزاء
على الفعل باسمه وهذا الوجه أيضا ممكن في الخبر الثاني.. أخبرنا عبيد الله المرزباني
قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه قال إني لفي
سوق ضرية وقد نزلت على رجل من بني كلاب كان متزوجا بالبصرة وكان له ابن
فضرية إذ أقبلت عجوز على ناقة لها حسنة البزة فيها باقي جمال فأناخت وعقلت ناقتها
وأقبلت تتوكأ على محجن لها فجلست قريبا منا وقالت هل من منشد فقلت للكالابي
أيحضرك شئ قال لا فأنشدتها شعر للبشر بن عبد الرحمن الأنصاري
وقصيرة الأيام ود جليسها * لو باع مجلسها بفقد حميم
من محذيات أخي الهوى غصص الجوى * بدلال غانية ومقلة ريم
صفراء من بقر الجواء كأنما * خفر الحياء بها وردع سقيم
قال فجثت على ركبتيها وأقبلت تحرش الأرض بمحجنها وأنشأت تقول
قفي يا أميم القلب نقرأ تحية * ونشكوا الهوى ثم افعلي ما بدا لك
فلو قلت طأ في النار اعلم أنه * هوى لك أو مدن لنا من وصالك
لقدمت رجلي نحوها فوطئتها * هدي منك لي أو ضلة من ضلالك
سلى البانة العلياء بالأجرع الذي * به البان هل حييت أطلال دارك
وهل قمت في أطلالهن عشية * مقام أخي البأساء واخترت ذلك
ليهنئك إمساكي بكفي على الحشا * ورقراق عيني خشية من زيالك
قال الأصمعي فأظلمت والله على الدنيا بحلاوة منطقها وفصاحة لهجتها فدنوت منها فقلت
أنشدتك الله لما زدتيني من هذا فرأيت الضحك في عينها وأنشدت
138

ومستخفيات ليس يخفين زرننا * يسحبن أذيال الصبابة والشكل
جمعن الهوى حتى إذا ما ملكنه * نزعن وقد أكثرن فينا من القتل
مريضات رجع الطرف خرس عن الخنا * تألفن أهواء القلوب بلا بذل
موارق من ختل المحب عواطف * بختل ذوي الألباب بالجد والهزل
يعنفنى العذال فيهن والهوى * يحذرني من أن أطيع ذوي العذل
[قال المرتضي] رضي الله عنه أما قول الأنصاري - وقصيرة الأيام - فأراد بذلك
ان السرور يتكامل بحضورها لحسنها وطيب حديثها فتقصر أيام جليسها لأن أيام السرور
موصوفة بالقصر.. ويمكن أن يريد بقصيرة الأيام أيضا حداثة سنها وقرب عهد مولدها
وإن كان الأول أشبه بما أتى في آخر البيت.. ومعنى - لو باع مجلسها بفقد حميم - أي
ابتاعه وهذا اللفظ من الأضداد لأنه يستعمل في البائع والمشتري معا.. قال الفراء
سمعت أعرابيا يقول بع لي تمرا بدرهم أي اشتر لي تمر.. وقال كثير
فياليت عز النأي إذ حال بيننا * وبينك باع الودلي منك تاجر (1)
أي ابتاع.. وقوله - من محذيات أخي الهوى - أي معطيات يقال أحذيت الرجل من

(1) وقبله
بليلى وجارات لليلي كأنها * نعاج الملا تحدى بهن الأباعر
أمنقطع ياعز ما كان بيننا * وشاجرني يا عز فيك الشواجر
إذا قيل هذا بيت عزة قادني * إليه الهوى واستعجلتني البوادر
أصد وبي مثل الجنون لكي يرى * رواة الخنا أنى لبيتك هاجر
ألا ليت حظي منك ياعز انني * إذا بنت باع الصبر لي عنك تاجر
وهذه الرواية في البيت الأخير أشهر من تلك
139

الغنيمة أحذيه إحذاء إذا أعطيته والاسم الحذوة والحذيا والحذية كل ذلك العطية
.. وقوله - كأنما خفر الحياء بها رداع سقيم - فالرداع هو الوجع في الجسد فكأنه
أراد انها منقبضة منكسرة من الحياء كما يتغير لون السقيم أو يريد تغير لونها وصفرته من
الحياء كما يتغير لون السقيم ويجري مجرى قول ليلى الأخيلية
ومخرق عنه القميص تخاله * بين البيوت من الحياء سقيما
حتى إذا خفق اللواء رأيته * تحت اللواء علي الخميس زعيما
أخبرنا المرزباني قال حدثني أبو عبد الله الحكيمي قال حدثني ميمون بن هارون
الكاتب قال حدثنا ابن أخي الأصمعي عن عمه قال لقيت أعرابيا بالبادية فاسترشدته
إلى مكان فأرشدني وأنشدني * ليس العمى طول السؤال وإنما
تمام العمى طول السكوت علي الجهل (1)
فرجعت إلى البصرة فمكثت بها حينا ثم قدمت البادية فإذا بالإعرابي جالسا بين ظهراني
قوم وهو يقضى بينهم فما رأيت قضية أخطأت قضية الصالحين من أقضيته فجلست إليه
فقلت يرحمك الله أما من رشوة أما من هدية أما من صلة فقال لا إذا جاء هذا ذهب
التوفيق فشكوت إليه ما ألقى من عذل حليلة لي إياي في طلب المعيشة فقال لست فيها
بأوحد وإني لشريكك ولقد قلت في ذلك شعرا فقلت أنشدنيه فأنشدني
باتت تعيرني الإقتار والعد ما * لما رأت لأخيها المال والخدما
عنف لرأيك ما الأرزاق من جلد * ولا من العجز بل مقسومة قسما

(1) وروي
شفاء العمي حسن السؤال وإنما * يطيل العمى طول السكوت على الجهل
فكن سائلا عما عناك فإنما * خلقت أخا عقل لتسأل بالعقل
وهما للرياشى النحوي
140

يا أمة الله إني لم أدع طلبا * للرزق قد تعلمين الشرق والشأما
فكل ذلك بالإجمال في طلب * لم ارز عرضا ولم أسفك لذاك دما
لو كان من جلد ذا المال أو أدب * لكنت أكثر من نمل القرى نعما
إرضي من العيش ما لم تحوجي معه * أن تفتحي لسؤال الأغنياء فما
واستشعري الصبر عل الله خالقنا * يوما سيكشف عنا الضر والعد ما
لا تحوجيني إلي ما لو بذلت له * نفسي لا عقبك التهمام والندما
بالله سرك أن الله خولني * ما كان خوله الاعراب والعجما
ما سرني أنني خولت ذاك ولا * أن لا أقول لباغي حاجة نعما
وأنني لم أفد عقلا ولا أدبا * ولا أرث والدي مجدا ولا كرما
فعسرة المرء أحرى في معاشك من * أمر يجر عليك الهم والألما
قال فوالله ما أنشدتها حتى حلفت أن لا تعذلني أبدا.. أخبرنا علي بن محمد الكاتب
قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال رأيت
بقباء شابا من بني عامر ما رأيت بدويا أفصح منه ولا أظرف فوالله كأنه شواظ يتلظى
فاستنشدته فأنشدني
فلم أنسكم يوم اللوى إذ تعرضت * لنا أم طفل خاذل قد تجلت
وقالت سأنسيك العشية ما مضى * وأصرف منك النفس عما أحبت
فما فعلت لا والذي أنا عبده * على ما بدا من حسنها إذ أدلت
أبت سابقات الحب إلا مقرها * إليك وما يثنى إذا ما استقرت
هواك الذي في النفس أمسى دخيلها * عليه انطوت احشاؤها واستمرت
141

وأنشدني أيضا
ديار للتي طرقتك وهنا * بريا روضة وذكاء رند
تسائلني وأصحابي هجود * وتثنى عطفها من غير صد
فلما أن شكوت الحب قالت * فإني فوق وجدك كان وجدي
ولكن حال دونك ذو شذاة * أسر بفقده ويهر فقدي
معنى - يهر - يكره.. وبهذا الاسناد عن قال الأصمعي قعدت إلى اعرابي يقال له إسماعيل
ابن عمار وإذا هو يفتل أصابعه ويتلهف فقلت له علام تتلهف فأنشأ يقول
عيناي مشئومتان ويحهما * والقلب حران مبتلى بهما
عرفتاني الهوى بظلمهما * يا ليتني قبله عدمتهما
هما إلى الحين قادتا وهما * دل على ما أجن دمعهما
سأعذر القلب في هواه فما * سبب هذا البلاء غيرهما
وبهذا الاسناد عن الأصمعي قال نزلت ليلة في وادي بني العنبر وهو إذ ذاك غان باهله
أي آهل فإذا فتية يريدون البصرة فأحببت صحبتهم فأقمت ليلتي تلك عليهم وإني لو صب
محموم أخاف أن لا أستمسك على راحلتي فلما أقاموا ليرحلوا أيقظوني فلما رأوا حالي
رحلوا لي وحملوني وركب أحدهم ورائي يمسكني فلما أمعنوا السير تنادوا الا فتي
يحدو بنا أو ينشدنا فإذا منشد في سواد الليل بصوت ند حزين ينشد
لعمرك إني يوم بانوا فلم أمت * خفاتا على آثارهم لصبور
غداة المنقى إذ رميت بنظرة * ونحن على متن الطريق نسير
فقلت لقلبي حين خف به الهوى * وكاد من الوجد المبر يطير
فهذا ولما تمض للبين ليلة * فكيف إذا مرت عليك شهور
142

وأصبح أعلام الأحبة دونها * من الأرض غول نازح ومسير
وأصبحت نجدي الهوى متهم الثوى * أزيد اشتياقا أن يحن بعير
عسى الله بعد النأي أن يسعف النوى * ويجمع شمل بعدها وسرور
قال فسكنت والله عني الحمى حتى ما أحس بها فقلت لرفيقي انزل يرحمك الله إلى راحلتك
فاني متماسك وجزاك الله عن الصبحة خيرا.. أخبرنا المرزباني قال أخبرنا محمد بن
العباس قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال حدثنا بعض أصحابنا عن الأصمعي قال كان
بالبصرة اعرابي من بني تميم يتطفل على الناس فعاتبته على ذلك فقال والله ما بنيت المنازل
إلا لتدخل ولا وضع الطعام إلا ليؤكل وما قدمت هدية فأتوقع رسولا وما أكره أن
أكون ثقلا ثقيلا على من أراه شحيحا بخيلا أتقحم عليه مستأنسا وأضحك إذا رأيته
عابسا فآكل برغمه وأدعه بهمه وما اخترق اللهوات طعام أطيب من طعام لم ينفق فيه
درهم ولا يعنى إليه خادم (1) وأنشأ يقول
كل يوم أدور في عرصة الحي * أشم القتار شم الذباب

(1) وروى من غير هذا الوجه عن المبرد قال كان بالبصرة طفيلي مشهور وكان ذا
أدب وظرف فمر بسكة النخع بالبصرة على قوم عندهم وليمة فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه
مع من دعى فأنكره صاحب المنزل فقالوا له لو تأنيت أو صبرت يا هذا قبل الدخول حتى
يؤذن لك كان أحسن لأدبك وأعظم لقدرك وأجمل لمروءتك فقال إنما اتخذت البيوت
ليدخل فيها ووضعت الموائد ليؤكل عليها والحشمة قطيعة واطراحها صلة وجاء في
الآثار صل من قطعك واعط من منعك وأحسن إلي من أساء إليك
143

فإذا ما رأيت آثار عرس * أو ختان أو مجمع الأصحاب
لا أروع دون التقحم لا أر * هب دفعا ولكزة البواب
مستهينا مما هجمت عليه * غير مستأذن ولا هياب
فتراني ألف ما قدم القوم * علي رغمهم كلف العقاب
ذاك أدني من التكلف والغر * م وغيظ البقال والقصاب
(مجلس آخر 38)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني
من أهلي) إلى قوله (أن تكون من الجاهلين).. فقال ظاهر قوله تعالى (إنه ليس
من أهلك) يقتضى تكذيب قوله عليه السلام انه من أهلي فالنبي لا يجوز عليه الكذب
فما الوجه في ذلك وكيف يصح أن يخبر عن ابنه انه عمل غير صالح وما المراد به..
الجواب قلنا في هذه الآية وجوه.. أحدها أن نفيه لان يكون من أهله لم يتناول نفى
النسب وإنما نفى أن يكون من أهله الذين وعد بنجاتهم لأنه عز وجل كان وعد نوحا
عليه السلام بان ينجي أهله ألا ترى إلى قوله تعالى (قلنا احمل فيها من كل زوجين
اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول) فاستثنى تعالى من أهله من أراد اهلاكه
بالغرق ويدل عليه أيضا قول نوح عليه السلام (ان ابني من أهلي وان وعدك الحق)
وعلى هذا الوجه يتطابق الخبران ولا يتنافيان وقد روى هذا التأويل بعينه عن ابن
عباس وجماعة من المفسرين.. والجواب الثاني أن يكون المراد بقوله تعالى (ليس من
أهلك) اي انه ليس على دينك وأراد انه كان كافرا مخالفا لأبيه وكأن كفره أخرجه
من أن يكون له أحكام أهله ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى طريق التعليل انه عمل
144

غير صالح فبين تعالى انه إنما خرج من أحكام أهله لكفره وسوء عمله وقد روي هذا
التأويل أيضا عن جماعة من المفسرين وحكى عن ابن جريج انه سئل عن ابن نوح
فسبح طويلا ثم قال لا إله إلا الله يقول الله ونادى نوح ابنه ويقول ليس منه ولكنه
خالفه في العمل فليس منه من لم يؤمن.. وروى عن عكرمة أنه قال كان ابنه ولكنه
كان مخالفا له في النية والعمل فمن ثم قيل إنه ليس من أهلك.. والوجه الثالث انه لم
يكن ابنه على الحقيقة وإنما ولد على فراشه فقال عليه السلام ان ابني على ظاهر الأمر
فأعلمه الله تعالى ان الأمر بخلاف الظاهر ونبه على خيانة امرأته وليس في ذلك تكذيب
خبره لأنه إنما خبر عن ظنه وعما يقتضيه الحكم الشرعي فأخبره الله تعالى بالغيب الذي
لا يعلمه غيره وقد روى هذا الوجه عن الحسن وغيره.. وروى قتادة عن الحسن
قال كنت عنده فقال ونادى نوح ابنه فقال لعمر الله ما هو ابنه قال فقلت يا أبا سعيد يقول
الله تعالى ونادى نوح ابنه وتقول ليس بابنه قال أفرأيت قوله ليس من أهلك قال قلت
معناه انه ليس من أهلك الذين وعدتك ان أنجيهم معك ولا يختلف أهل الكتاب انه
ابنه فقال أهل الكتاب يكذبون.. وروى عن مجاهد وابن جريج مثل ذلك.. وهذا
الوجه يبعد إذ فيه منافاة للقرآن لأنه قال تعالى (ونادى نوح ابنه) فأطلق عليه اسم البنوة
ولأنه أيضا استثناه من جملة أهله بقوله تعالى (وأهلك إلا من سبق عليه القول)
ولان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجب أن ينزهوا عن مثل هذه الحال لأنها تعر وتشين
وتغض من القدر وقد جنب الله تعالى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ما هو دون ذلك
تعظيما لهم وتوقيرا ونفيا لكل ما ينفر عن القبول منهم وقد حمل ابن عباس ظهور
ما ذكرناه من الدلالة على أن تأول قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط فخانتاهما على أن
الخيانة لم تكن منهما بالزنا بل كانت إحداهما تخبر الناس بأنه مجنون والأخرى تدل
على الأضياف والمعتمد في تأويل الآية هو الوجهان المتقدمان.. فأما قوله تعالى (انه
عمل غير صالح) فالقراءة المشهورة بالرفع.. وقد روى عن جماعة من المتقدمين انهم
قرؤا انه عمل غير صالح بنصب اللام وكسر الميم ونصب غير ولكل وجه.. فأما الوجه
في الرفع فيكون على تقدير ان ابنك ذو عمل غير صالح وما يستعمل غير صالح فحذف
145

المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وقد استشهد على ذلك بقول الخنساء
ما أم سقب علي بو تطيف به * قد ساعدتها على التحنان أظآر
ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت * فإنما هي إقبال وإدبار
أرادت إنما هي ذات اقبال وادبار.. وقال قوم ان المعنى أصل ابنك هذا الذي ولد على
فراشك وليس بابنك على الحقيقة والذي اخترناه خلاف ذلك.. وقال آخرون الهاء
في قوله تعالى (انه عمل غير صالح) راجعة إلى السؤال والمعنى ان سؤالك إباى ما ليس
لك به علم عمل انه غير صالح لأنه قد وقع من نوح ذلك السؤال والرغبة في قوله عليه
الصلاة والسلام (رب ان ابني من أهلي وان وعدك الحق) ومعنى ذلك نجه كما نجيتهم
ومن يجيب بهذا الجواب يقول إن ذلك صغيرة من النبي لأن الصغيرة جائزه عليهم ومن
يمنع أن يقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شئ من القبائح يدفع هذا الجواب ولا
يجعل الهاء راجعة إلى السؤال بل إلى الابن ويكون تقدير الكلام ما تقدم.. فإذا قيل له لم
قال تعالى (لا تسألني ما ليس لك به علم) فكيف قال نوح عليه الصلاة والسلام من
بعد (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من
الخاسرين).. قال لا يمتنع أن يكون نهيه عن سؤال ما ليس له به علم وان لم يقع منه
لم يكن يعوذ عليه الصلاة والسلام من ذلك وان لم يواقعه الا ترى ان الله تعالى قد نهى
نبيه عليه الصلاة والسلام عن الشرك والكفر وان لم يكن ذلك وقع منه فقال تعالى
(لئن أشركت ليحبطن عملك) وكذلك لا يمتنع أن يكون نهاه في هذا الموضع عما لم
يقع ويكون عليه السلام إنما سأل نجاة ابنه باشتراط المصلحة لا على سبيل القطع
وهكذا يجب في مثل هذا الدعاء.. فأما القراءة بالنصب فقد ضعفها قوم وقالوا كان يجب
أن يقال إنه عمل عملا غير صالح لأن العرب لا تكاد تقول هو يعمل غير حسن حتى
تقول عمل عملا غير حسن وليس وجهها بضعيف في العربية لأن من مذهبهم الظاهر إقامة
الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى وزوال اللبس فيقول القائل قد فعلت صوابا وقلت
حسنا بمعنى فعلت فعلا صوابا وقلت قولا حسنا.. وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي
146

أيها القائل غير الصواب * أخر النصح وأقللن عتابي
وقال أيضا
وكم من قتيل ما يباء به دم * ومن غلق رهنا إذا ظمه مني
ومن مالئ عينيه من شئ غيره * إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى (1)
وأنشدنا أبو عبد الله لرجل من بجيله
كم من ضعيف العقل منتكث القوى * ما إن له نقض ولا إبرام
مالت له الدنيا عليه بأسرها * فعليه من رزق الإله ركام
ومشيع جلد أمين حازم * مرس له فيما يروم مرام
أعمى عليه سبيله فكأنه * فيما يحاوله عليه حرام
أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا ميمون بن

(1) وقبل البيتين
فلم أر كالتجمير منظر ناظر * ولا كليال الحج أفتن ذا هوى
وبعدهما
يسحبن أذيال المروط بأسؤق * خدال وأعجاز مآكمها روي
وسبب هذه الأبيات ان أم عمرو بنت مروان حجت فلما قضت نسكها أتت عمر
ابن أبي ربيعة وقد أخفت نفسها في نساء فحادثته ثم انصرفت وعادت إليه منصرفها من
عرفات وقد أثبتها فقالت له لا تذكرني في شعرك وبعثت إليه بألف دينار فقبلها واشتري
بها ثيابا من ثياب اليمن وطيبا فأهداه إليها فردته فقال إذا والله أنهبه الناس فيكون
مشهورا فقبلته
147

هارون قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال كان محمد بن منصور بن زياد الملقب
بفتي العسكر يميل إلى الأصمعي ويفضله ويقوم بأمره قال فجئته يوما بعد موت محمد
وعنده عبد كان لمحمد أسود وقد ترك الناس وأقبل عليه وسائله وتحفى به وحادثه فلما
خرج لمته على ذلك وقلت من هذا حتى أفنيت عمر يومك به فقال هذا غلام ابن
منصور ثم أنشدني
وقالوا يا جميل أتى أخوها * فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب
أحبك والقريب بنا بعيد * لأن ناسبت بثنة من قريب
فقلت له وكنت أفعل هذا كثيرا به لإستجر كلامه وعلمه يا أبا سعيد ذلك أخوها وهذا
غلامها فضحك وقال أنشد أبو عمرو أو قال غيره
أري كل ارض أوطنتها وإن خلت * لها حجج تندى بمسك ترابها
حلفت بأنى لو أرى تبعا لها * ذئاب الفضي حنت إلي ذئابها
قال فجعلت أعجب من قرب لسانه من قلبه وإجادة حفظه له متى أراده.. وبهذا الاسناد
عن إسحاق الموصلي قال قرأت على الأصمعي شعر امرئ القيس فلما بلغت إلى هذا البيت
أمن أجل أعرابية حل أهلها * بروض الشرى عيناك تبتدران
فقال لي أتعرف في هذا البيت خبئا باطنا غير ظاهر قلت لا فسكت عنى فقلت إن كان
فيه شئ فأفدينه قال نعم أما يدلك البيت على أنه لفظ ملك مستهين ذي قدرة على ما يريد
قال اسحق وما رأيت قط مثل الأصمعي في العلم بالشعر.. وروى عن إسحاق أيضا
أنه قال قال لي الأصمعي ما يعنى امرؤ القيس بقوله
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع * فألهيتها عن ذي تمائم محول
فقلت تخبرني فقال كان مفركا فيقول ألهيت هؤلاء عن كراهتهن للرجال فيكف انا عند
المحبات لهم.. وروى أن السبب الذي هاج التنافر بين الأصمعي وابن الاعرابي ان
148

الأصمعي دخل يوما على سعيد بن سلم وابن الاعرابي حينئذ يؤدب ولده فقال لبعضهم
أنشد أبا سعيد فأنشد الغلام أبياتا لرجل من بني كلاب رواه إياها ابن الاعرابي
رأت نضو أسفار أميمة شاحبا * على نضو أسفار فجن جنونها
فقالت من اي الناس أنت ومن تكن * فإنك راعى صرمة لا يزينها
فقلت لها ليس الشحوب علي الفتي * بعار ولا خير الرجال سمينها
عليك براعي ثلة مسلحبة * يروح عليها مخضها وحقينها
سمين الضواحي لم تؤرقه ليلة * وأنعم أبكار الهموم وعونها
ورفع ليلة فقال له الأصمعي من رواك هذا فقال مؤدبي فأحضره فاستنشده فأنشده
ورفع ليلة فأخذ ذلك عليه وفسر البيت فقال إنما أراد انه لم تؤرقه ليلة أبكار الهموم
وعونها وأنعم أي زاد على هذه الصفة.. وقوله - سمين الضواحي - أي ما ظهر منه وبدا
سمين ثم قال الأصمعي لابن سلم من لم يحسن هذا المقدار فليس بموضع لتأديب ولد الملوك
.. وأخبرنا المرزباني قال حدثنا أحمد بن محمد المكي قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا
الأصمعي قال ولد بشار بن برد أكمه لم ينظر إلى الدنيا قط وكان ذا فطنة وذكاء فقلت
له يوما من أين لك هذا الذكاء قال من قدم العمى وعدم المناظر يمنع من كثير من
الخواطر المذهلة فيكسب فراغ الذهن وصحة الذكاء وأنشد لنفسه يفخر بالعمى
عميت جنينا والذكاء من العمى * فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاض ضياء العين للعقل رافدا * بقلب إذا ما ضيع الناس حصلا
وشعر كنور الروض لا أمت بينه * بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا
وأخبرنا المرزباني قال أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا
149

الأصمعي قال أنشد رجل وأنا حاضر بشارا قول الشاعر
وقد جعل الأعداء ينتقصوننا * وتطمع فينا ألسن وعيون
ألا إنما ليلي عصي خيز رانة * إذا غمزوها بالأكف تلين
فقال بشار والله لو جعلها عصى مخ أو زبد لما كان إلا مخطئا مع ذكر العصى ألا قال
كما قلت
وحوراء المدامع من معد * كأن حديثها قطع الجمان
إذا قامت لسبحتها تثنت * كأن قوامها من خيزران
ينسيك المني نظر إليها * ويصرف وجهها وجه الزمان
.. وأخبرنا المرزباني قال حدثنا علي بن أبي عبد الله الفارسي قال حدثني أبي عن عمر بن
شبة قال قال لي أبو عبيدة رحل بشار إلى الشام فمدح سليمان بن هشام بن عبد الملك
وكان مقيما بحران فقال فيه قصيدة طويلة أولها
نأتك على طول التجاور زينب * وما علمت أن النوى سوف يشعب
وكان سليمان بخيلا فأعطاه خمسة آلاف درهم ولم يصب غيرها بعد ان طال مقامه فقال
إن أمس منشنج اليدين عن الندى * وعن العدو محبس الشيطان
فلقد أروح علي اللئام مسلطا * ثلج المقام منعم الندمان
في ظل عيش عشيرة محمودة * تندى يدي ويخاف فرط لساني
أزمان سربال الشباب مذيل * وإذ الأمير علي من حران
رئم بأحوية العراق إذا بدا * برقت عليه أكلة المرجان
فاكحل بعبدة مقلتيك من القذى * وبوشك رؤيتها من الهملان
150

فلقرب من تهوى وأنت متيم * اشفى لدائك من بنى مروان
فلما رجع إلى العراق بره ابن هبيرة ووصله وكان ابن هبيرة يقدمه ويؤثره لمدحه
قيسا وافتخاره بها فلما جاءت دولة أهل خراسان عظم شأنه.. وأخبرنا المرزباني قال
حدثنا محمد بن أحمد الكاتب قال حدثنا أحمد بن يحيى النحوي قال قال الأصمعي
ما وصف أحد الثغر إلا احتاج إلى قول بشر بن أبي خازم
يفلجن الشفاه عن اقحوان * جلاه غب سارية قطار
ولا وصف أحد اللون بأحسن من قول عمر بن أبي ربيعة
وهي مكنونة تحير منها * في أديم الخدين ماء الشباب
شف عنها محقق جندبي * فهي كالشمس من خلال السحاب
ولا وصف أحد عيني امرأة إلا احتاج إلى قول ابن الرقاع
لولا الحياء وأن رأسي قد بدا * فيه المشيب لزرت أم القاسم
فكأنها وسط النساء أعارها * عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان اقصده النعاس فرنقت * في عينه سنه وليس بنائم
ولا وصف أحد نجيبا إلا احتاج إلى قول حميد بن ثور
محلى بأطواق عتاق يبينها * على الضر راعى الضأن لو يتقوف
ولا وصف أحد ظليما إلا احتاج إلى قول علقمة بن عبدة
هيق كأن جناحيه وجؤجؤه * بيت أطافت به خرقاء مهجوم
ولا اعتذر أحد إلا احتاج إلى قول النابغة
فإنك كالليل الذي هو مدركي * وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
[قال الشريف المرتضى] رضي الله عنه.. أما قول حميد - محلى بأطواق عتاق - فإنه
يريد أن عليه نجار الكرم والعتق فصارت دلالتهما وسماتهما حلية من حيث كان موسوما
151

بهما.. ومعنى - يبينها على الضراء - يتبينها ويعرفها هذا الراعي فيعلم انه كريم -
والتقوف - من القيافة.. فأما قول علقمة هيق - فالهيق - ذكر النعام.. ومعنى -
أطافت به خرقاء - أي عملته وابتنته وقيل إن خرقاء ههنا هي الحاذقة وان هذه اللفظة
تستعمل على طريق الأضداد في الحاذقة وغير الحاذقه.. ومعنى - مهجوم - أي مهدوم..
وقال الأصمعي معنى أطافت به عملته فخرقت في عمله يقول قد أرسل جناحيه كأنه خباء
امرأة خرقاء كلما رفعت ناحية استرخت ناحية أخرى والوجه الثاني أشبه وأملح.. فأما
قول بشر بن أبي خازم في وصف الثغر فأحسن منه أكشف وأشد استيفاء للمعنى قول النابغة
كالأقحوان غداة غب سمائه
جفت أعاليه وأسفله ند
فإنما وصف أعاليه بالجفوف ليكون متفرقا متنضدا غير متلبد ولا مجتمع فيشبه حينئذ
الثغور.. ثم قال وأسفله ند حتى لا يكون قحلا يابسا بل يكون فيه الغضاضة والصقالة
فيشبه غروب الأسنان التي تلمع وتبرق.. وروى الرياشي قال سمعت الأصمعي يقول
أحسن ما قيل في وصف الثغر قول ذي الرمة
وتجلو بفرع من أراك كأنه * من العنبر الهندي والمسك ينضح
ذرى أقحوان واجه الليل وارتقى * إليه الندى من رامة المتروح
هجان الثنايا مغربا لو تبسمت * لأخرس عنه كاد بالقول يفصح
(مجلس آخر 39)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن تأويل قوله تعالى (فلا تعجبك أموالهم ولا
أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون).. فقال
كيف يعذبهم بالأموال والأولاد ومعلوم أن لهم فيها سرورا ولذة وأما تأويل قوله تعالى
(وهم كافرون) فظاهره يقتضي انه أراد كفرهم من حيث أراد أن تزهق أنفسهم في
152

حال كفرهم لأن القائل إذا قال أريد أن يلقاني فلان وهو لابس أو على صفة كذا
وكذا فالظاهر أنه أراد كونه على تلك الصفة.. الجواب قلنا أما التعذيب بالأموال
والأولاد ففيه وجوه.. أولها ما روى عن ابن عباس وقتادة وهو أن يكون في الكلام
تقديم وتأخير ويكون التقدير فلا تعجبك يا محمد ولا يعجب المؤمنين معك أموال هؤلاء
الكفار والمنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة
عقوبة لهم على منعهم حقوقها واستشهد على ذلك بقوله تعالى (اذهب بكتابي هذا فألقه
إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون).. وأنشد في ذلك قول الشاعر
عشية أبدت جيد أدماء مغزل * وطرفا يريك الإثمد الجون أحورا
يريد وطرفا أحور يريك الإثمد الجون وقد اعتمد هذا الوجه أيضا أبو علي قطرب
وذكره أبو القاسم البلخي والزجاج.. وثانيها أن يكون معنى التعذيب بالأموال والأولاد
في الدنيا هو ما يجعله للمؤمنين من قتالهم وغنيمة أموالهم وسبى أولادهم واسترقاقهم وفي
ذلك لا محالة إيلام لهم واستخفاف بهم وإنما أراد الله تعالى بذلك اعلام نبيه صلى الله
عليه وآله والمؤمنين انه لم يرزق الكفار الأموال والأولاد ولم يبقها في أيديهم كرامة
لهم ورضى عنهم بل للمصلحة الداعية إلى ذلك وانهم مع هذه الحالة معذبون بهذه النعم
من الوجه الذي ذكرناه فلا يجب أن يغبطوا بها ويحسدوا عليها إذ كانت هذه عاجلتهم
والعقاب الأليم في النار آجلتهم وهذا جواب أبي على الجبائي وقد طعن عليه بعض من
لا تأمل له فقال كيف يصح هذا التأويل مع انا نجد كثيرا من الكفار لا تنالهم أيدي
المسلمين ولا يقدرون على غنيمة أموالهم ونجد أهل الكتاب أيضا خارجين عن هذه
الجملة لمكان الذمة والعهد وليس هذا الاعتراض بشئ لأنه لا يمتنع أن تختص الآية
بالكفار الذين لا ذمة لهم ولا عهد ممن أوجب الله تعالى محاربته فأما الذين هم بحيث
لا تنالهم الأيدي أو هم من القوة على حد لا يتم معه غنيمة أموالهم فلا يقدح الاعتراض
بهم في هذا الجواب لأنهم ممن أراد الله تعالى أن يسبى ويغنم ويجاهد ويغلب وان لم يقع
ذلك وليس في ارتفاعه بالتعذر دلالة على أنه غير مراد.. وثالثها أن يكون المراد بتعذيبهم
153

بذلك كلما يدخله في الدنيا عليهم من الغموم والمصائب بأموالهم وأولادهم التي لهؤلاء
الكفار المنافقين عقاب وجزاء وللمؤمنين محنة وجالبة للعوض والنفع ويجوز أيضا أن
يراد به ما ينذر به الكافر قبل موته وعند احتضاره وانقطاع التكليف عنه مع أنه حي
من العذاب الدائم الذي قد أعد له واعلامه انه صائر إليه أو منتقل إلى قراره وهذا
الجواب قد روى معنى أكثره عن قوم من متقدمي المفسرين وذكره أبو علي الجبائي
أيضا.. ورابعها جواب يحكى عن الحسن واختاره الطبري وقدمه على غيره وهو أن
يكون المراد بذلك ما ألزمه هؤلاء الكفار من الفرائض والحقوق في أموالهم لأن ذلك
يؤخذ منهم على كره وهم إذا أنفقوا فيه أنفقوا بغير نية ولا عزيمة فتصير نفقتهم غرامة
وعذابا من حيث لا يستحقون عليها أجرا.. [قال الشريف المرتضي] رحمه الله وهذا وجه
غير صحيح لأن الوجه في تكليف الكافر اخراج الحقوق من ماله كالوجه في تكليف المؤمن
ذلك ومحال أن يكون إنما كلف اخراج هذه الحقوق على سبيل العذاب والجزاء لأن ذلك
لا يقتضي وجوبه عليه والوجه في تكليف الجميع هذه الأمور هو المصلحة واللطف في
التكليف ولا يجري ذلك مجرى ما قلناه في الجواب الذي قبل هذا من أن المصائب والغموم
تكون للمؤمنين محنة وللكافرين عقوبة لأن تلك الأمور مما يجوز أن يكون وجه حسنها
للعقوبة والمحنة جميعا ولا يجوز في هذه الفرائض أن يكون لوجوبها على المكلف إلا وجه
واحد وهو المصلحة في الدين فاقترن الأمران وليس لهم أن يقولوا ليس التعذيب في ايجاب
الفرائض عليهم وإنما هو في اخراجهم لأموالهم على سبيل التكره والاستثقال وذلك أنه إذا
كان الأمر على ما ذكروه وخرج الأمر من أن يكون مرادا لله تعالى لأنه جل وعز ما أراد
منهم اخراج المال على هذا الوجه بل على الوجه الذي هو طاعة وقربة فإذا أخرجوها
متكرهين مستثقلين لم يرد ذلك فكيف يقول إنما يريد الله ليعذبهم بها ويجب أن يكون ما
يعذبون به شيئا يصح أن يريده الله تعالى.. [قال الشريف] رحمه الله وجميع هذه الوجوه
التي حكيناها في الآية إلا جواب التقديم والتأخير مبنية على أن الحياة الدنيا طوق للعذاب
فيحمل كل متأول من القوم ضربا من التأويل ويطابق ذلك وما يحتاج عندنا إلى جميع
ما تكلفوه ولا إلى التقديم والتأخير إذا لم يجعل الحياة ظرفا للعذاب بل جعلناها ظرفا للفعل
154

الواقع بالأموال والأولاد المتعلق بهما لأنا قد علمنا أولا ان قوله ليعذبهم بها لابد من
الانصراف عن ظاهره لأن الأموال والأولاد نفسها لا تكون عذابا والمراد على سائر
وجوه التأويل المتعلق بها والمضاف إليها سواء كان انفاقها والمصيبة بها والغم عليها أو
إباحة غنيمتها واخراجها عن أيدي مالكيها فكان تقدير الآية إنما يريد الله ليعذبهم
بكذا وكذا مما يتعلق بأموالهم وأولادهم ويتصل بها فإذا صح هذا جاز أن تكون الحياة
الدنيا لأفعالهم القبيحة في أموالهم وأولادهم التي تغضب الله تعالى وتسخطه كانفاقهم
الأموال في وجوه المعاصي وحملهم الأولاد على الكفر وإلزامهم الموافقة لهم في النحلة
ويكون تقدير الكلام إنما يريد الله ليعذبهم بفعلهم في أموالهم وأولادهم الواقع ذلك منهم
في الحياة الدنيا وهذا وجه ظاهر يغنى عن التقديم والتأخير وسائر ما ذكروه من الوجوه
.. فأما قوله تعالى (وتزهق أنفسهم) فمعناه تبطل وتخرج أي انهم يموتون على الكفر
وليس يجب إذا كان مريدا لأن تزهق أنفسهم وهم على هذه الحال أن يكون مريدا
للحال نفسها على ما ظنوه لأن الواحد منا قد يأمر غيره ويريد منه أن يقاتل أهل البغى
وهم محاربون ولا يقاتلهم وهم منهزمون ولا يكون مريدا لحرب أهل البغي للمؤمنين وان
أراد قتلهم على هذه الحالة وكذلك قد يقول لغلامه أريد أن تواظب على المصير إلى في
السجن وأنا محبوس وللطبيب صر إلى ولازمني وأنا مريض وهو لا يريد المرض ولا
الحبس وإن كان قد أراد ما هو متعلق بهاتين الحالتين.. وقد ذكر في ذلك وجه آخر
على أن لا يكون قوله (وهم كافرون) حالا لزهوق أنفسهم بل يكون ذلك كأنه كلام
مستأنف والتقدير فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة
الدنيا وتزهق أنفسهم وهم مع ذلك كافرون صائرون إلى النار وتكون الفائدة انهم مع
عذاب الدنيا قد اجتمع عليهم عذاب الآخرة ويكون معنى تزهق أنفسهم على هذا
الجواب غير الموت وخروج النفس على الحقيقة بل المشقة الشديدة والكلف الصعبة كما
يقال ضربت فلانا حتى مات وتلفت نفسه وأخرجت روحه وما أشبه ذلك
[قال الشريف] رضي الله عنه ذاكرني قوم من أهل الأدب بأشعار المحدثين
وطبقاتهم وانتهوا إلى مروان بن يحيى بن أبي حفصة فأفرط بعضهم في وصفه وتقريظه
155

وتفضيله وآخرون في ذمه وتهجينه والإزراء على شعره وطريقته واستخبروا عما اعتقده
فيه فقلت لهم كان مروان متساوي الكلام متشابه الألفاظ غير متصرف في المعاني ولا
غواص عليها ولا مدقق فيها فلذلك قلت النظائر في شعره ومدائحه مكررة الألفاظ
والمعاني وهو غزير الشعر قليل المعنى الا انه مع ذلك شاعر له تجويد وحذق وهو
أشعر من كثير من أهل زمانه وأشعر شعراء أهله ويجب أن يكون دون مسلم بن الوليد
في تنقيح الألفاظ وتدقيق المعاني وحسن الألفاظ ووقوع التشبيهات ودون بشار بن
برد في الأبيات النادرة السائرة فكأنه طبقة بينهما وليس بمقصر دونهما شديدا ولا
منحط عنهما بعيدا وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقدمه على بشار ومسلم وكذلك
أبو عمرو الشيباني وكان الأصمعي يقول مروان مولد وليس له علم باللغة واختلاف
الناس في اختيار الشعر بحسب اختلافهم في التنبيه على معانيه وبحسب ما يستنبطونه من
مذاهبه وطرائقه فسئلت عند ذلك أن أذكر مختار ما وقع إلى من شعره وأنبه على
سرقاته ونظائر شعره وان أملى ذلك في خلال المجالس وأثنائها.. فمما يختار من شعره
قوله من قصيدة يمدح بها المهدى أولها
أعادك من ذكر الأحبة عائد * أجل واستخفتك الرسوم البوائد
يقول فيها
تذكرت من تهوى فأبكاك ذكره * فلا الذكر منسي ولا الدمع جامد
تحن ويأبى أن يساعدك الهوى * وللموت خير من هوى لا يساعد
ألا طالما أنهبت دمعك طائعا * وجارت عليك الآنسات النواهد
تذكرنا أبصارها مقل المها * وأعناقها أدم الظباء العواقد
تساقط منهن الأحاديث غضة * تساقط در اسلمته المعاقد
156

إليك أمير المؤمنين تجاذبت * بنا الليل خوص كالقسي شوارد
يمانية ينأى القريب محلة * بهن ويدنو الشاخط المتباعد
تجلى السرى عنها وللعيس أعين * سوام وأعناق إليك قواصد
إلى ملك يندى إذا يبس الثرى * بنائل كفيه الأكف الجوامد
له فوق مجد الناس مجدان منهما * طريف وعادي الجراثيم تالد
وأحواض عز حومة الموت دونها * وأحواض عرف ليس عنهن ذائد
أياد بنى العباس بيض سوابغ * علي كل قوم ناديات عوائد
وهم يعدلون السمك من قبة الهدى * كما تعدل البيت الحرام القواعد
سواعد عز المسلمين وإنما * تنوء بصولات الأكف السواعد
يكون غرارا نومه من حذاره * علي قبة الإسلام والخلق راقد
كأن أمير المؤمنين محمدا * لرأفته بالناس للناس والد
[قال الشريف] رضي الله عنه.. أما قوله
تساقط منهن الأحاديث غضة * تساقط در أسلمته المعاقد
فيكثر في الشعر وأظن أن الأصل فيه أبو حية النميري في قوله
إذا هن ساقطن الأحاديث للفتى * سقوط حصي المرجان من سلك ناظم (1)

(1) وهو من أبيات أولها
وخبرك الواشون أن لن أحبكم * بلى وستور الله ذات المحارم
أصد وما الصد الذي تعلمينه * عزاء بكم إلا ابتلاع العلاقم
حياء وبقيا أن تشيع نميمة * بنا وبكم أف لأهل النمائم
فان دما لو تعلمين جنينه * على الحي جاني مثله غير سالم
أما إنه لو كان غيرك أرقلت * إليه القني بالراعفات اللهاذم
ولكنه والله ماطل مسلما * كغر الثنايا واضحات الملاغم
إذا هن ساقطن الأحاديث للفتى * سقوط حصى المرجان من سلك ناظم
رمين فأقصدن القلوب ولا ترى * دما مائرا الأجوى في الحيازم
157

وإنما عنى بالمرجان صغار اللؤلؤ وعلى هذا يتأول قوله تعالى (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)
.. ومثله قول الآخر
هي الدر منثورا إذا ما تكلمت * وكالدر مجموعا إذا لم تكلم
.. ومثله
من ثغرها الدر النظيم * ولفظها الدر النثير
ونظيره قول البحتري وأحسن غاية الاحسان
ولما التقينا والنقا موعد لنا * تعجب رائي الدر حسنا ولاقطه
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها * ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
ومثله قول الأخطل
خلوت بها وسجف الليل ملقي * وقد أصغت إلى الغرب النجوم
كأن كلامه در نثير * ورونق ثغرها در نظيم
ولغيره
تبسمت فرأيت الدر منتظما * وحدثت فرأيت الدر منتثرا
ولآخر
وتحفظ لامن ريبة يحذرونها * ولكنها من أعين الناس تحفظ
وتلفظ درا في الحديث إذا جرى * ولم نر درا قبل ذلك يلفظ
ولبعض من تأخر زمانه من الشعراء وقرب من عصرنا هذا
أظهرن وصلا إذ رحمن متيما * وارين هجرا إذ خشين مراقبا
158

فنظمن من در المباسم جامدا * ونثرن من در المدامع ذائبا
[قال الشريف] رضي الله عنه وليس قول أبي هذيل في صفة الحديث
كتساقط الرطب الجني
من الأقناء لا نثرا ولا نزرا
من هذا الباب في شئ لأن جميع ما تقدم هو في وصف الثغر وهذا في وصف حسن
الحديث وانه متوسط في القلة والكثرة لازم للقصد كانتثار الرطب من الاقناء ويشبه
أن يكون أراد أيضا مع ذلك وصفه بالحلاوة والغضاضة لتشبيهه له بالرطب ثم إنه غض
طري غير مكرر ولا معاد لقوله الرطب الجني فيجتمع له أغراض الوصف له بالفصاحة
والاقتصاد في القلة والكثرة ثم وصفه بالحلاوة ثم الغضاضة.. ونظير قول أبي الهذيل
قول ذي الرمة
لها بشر مثل الحرير ومنطق * رخيم الحواشي لأهراء ولا نزر (1)
فأما قول مروان
إلى ملك تندى إذا يبس الثرى * بنائل كفيه الأكف الجوامد
فمثل قول أبي حنش النميري في يحيي بن خالد البرمكي
لا تراني مصافحا كف يحيى * إنني إن فعلت أتلفت مالي

(1) وبعده وعينان قال الله كونا فكانتا فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
- رخيم الحواشي - لينها - والهراء - كغراب المنطق الكثير أو الفاسد الذي لا نظام له
.. وروى أن الفرزدق حضر مجلس عبد الله بن أبي إسحاق فقال له كيف تنشد هذا البيت
وعينان قال الله كونا الخ فأنشده فعولان فقال له عبد الله ما كان عليك لو قلت فعولين
فقال له الفرزدق لو شئت ان أسبح لسبحت ونهض فلم يعرفوا مراده فقال عبد الله لو
قال فعولين لأخبر ان الله خلقهما وأمرهما ولكنه أراد انهما تفعلان ما تفعل الخمر أم
وكان هنا تامة لا خبر لها
159

لو يمس البخيل راحة يحيي * لسخت نفسه ببدل النوالي
ومثله قول ابن الخياط المدني في المهدي
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى * ولم أدر أن الجود من كفه يعدى
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغني * أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي
وقد قيل إن هذا الشاعر كأنه مصرح بالهجاء لأنه زعم أن الذي لمس كفه لم يفده شيئا
بل أعداه جوده فأتلف ماله ولم يرد الشاعر إلا المدح ولقوله وجه وهو ان ذوي
الغنى هم الذين تستقر الأموال في أيديهم وتلبث تحت أيمانهم ومن أخرج ما يملكه حالا
بحال لا يوصف بأنه ذو غنى فأراد الشاعر انني لم أفد منه ما بقي في يدي واستقر تحت
ملكي فلهذا قال لم يفد ما أفاد ذوو الغنى.. ومن هذا المعنى قول مسلم
إلى ملك لو صافح الناس كلهم * لما كان حي في البرية يبخل
ومثله قول أبي العكوك * لو لمس الناس راحتيه
ما بخل الناس بالعطاء * وأحسن من هذا كله وأشبه بالمدح وأدخل في طريقته قول البحتري
من شاكر عنى الخليفة بالذي * أولاه من طول ومن إحسان
ملأت يداه يدي وشرد جوده * بخلي فأفقرني كما أغناني
حتى لقد أفضلت من إفضاله * ورأيت نهج الجود حيث أراني
ووثقت بالخلف الجميل معجلا * منه فأعطيت الذي أعطاني
ومن هذا المعنى قول الآخر
رأيت الندى في آل عوف خليقة * إذا كان في قوم سواهم تخلقا
ولو جزت في أبياتهم لتعلمت * يداك الندى منهم فأصبحت مملقا
ولابن الرومي
160

يجود البخيل إذا مارا * ك ويسطو الجبان إذا عاينك
وأما قوله
وأحواض عز حومة الموت دونها * وأحواض عرف ليس عنهن زائد
فيشبه أن يكون إبراهيم بن العباس الصولي أخذه في قوله
لنا إبل كوم يضيق بها الفضا * وتفتر عنها أرضها وسماؤها
فمن دونها أن تستباح دماؤنا * ومن دوننا أن نستذم دماؤها
حمى وقرى فالموت دون مرامها * وأيسر خطب عند حق فناؤها (1)
وقد أحسن إبراهيم بن العباس في أبياته كل الاحسان فأما قوله
يكون غرارا نومه من حذاره * على قبة الإسلام والخلق راقد
فكثير متداول.. ومن أحسنه قول محمد بن عبد الملك الزيات
نعم الخليفة للرعية من إذا * رقدت وطاب لها الكرى لم يرقد
.. ومثله
ويظل يحفظنا ونحن بغفلة * ويبيت يكلؤنا ونحن نيام
ومثله للبحتري
أربيعة الفرس اشكري يد منعم * وهب الإساءة للمسئ الجاني
روعتموا جاراته فبعثتموا * منه حمية آنف غيران
لم تكر عن قاصي الرعية عينه * فتنام عن وتر القريب الداني
فأما قوله

(1) كان ثعلب يقول كان إبراهيم بن العباس أشعر المحدثين وينشد هذه الأبيات
ويقول لو كان هذا لبعض الأوائل لأستجيد له ولم يرو ثعلب قط شعر كاتب غيره
161

كأن أمير المؤمنين محمدا * لرأفته بالناس للناس والد
فنظير قول بعض الشعراء في يحيى بن خالد
أحيي لنا يحيى فعال خالد * فأصبح اليوم كثير الحامد
يسخو بكل طارف وتالد * على بعيد غائب وشاهد
الناس في إحسانه كواحد * وهو لهم أجمعهم كالوالد
ومن جيد قول مروان من قصيدة أولها
خلت بعدنا من آل ليلى المصانع * وهاجت لنا الشوق الديار البلاقع
يقول فيها
ومالي إلى المهدي لو كنت مذنبا * سوى حلمه الضافي على الناس شافع
ولا هو عند السخط منه ولا الرضى * بغير الذي يرضى به الله واقع
تغض له الطرف العيون وطرفه * على غيره من خشية الله خاشع
أما قوله - ولا هو عند السخط منه ولا الرضى - البيت.. فمثل قول أشجع
ولست بخائف لأبى على * ومن خاف الإله فلن يخافا
.. ومثله
أمنني منه ومن خوفه * خيفته من خشية الباري
ولأبي نواس
قد كنت خفتك ثم أمنني * من أن أخافك خوفك الله
ويشبه هذا المعني ما روى عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله دعا غلاما مرارا
فلم يجبه فخرج فوجده على باب البيت فقال له ما حملك على ترك إجابتي قال كسلت عن
اجابتك وأمنت عقوبتك فقال عليه السلام الحمد لله الذي جعلني ممن يأمنه خلقه..
162

فأما قوله - تغض له الطرف العيون - فيشبه أن يكون مأخوذا من قول الفرزدق أو ممن
تنسب (1) إليه هذه الأبيات
يغضي حياء ويغضى من مهابته * فما يكلم إلا حين يبتسم

(1) قوله أو ممن تنسب إليه يشير بهذا إلى أن القصيدة المشهورة التي تنسب للفرزدق
في سيدنا زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم التي قالها لما قال هشام حين
سأله رجل من أهل الشام من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة وذلك أن هشاما حج في
خلافة أبيه فطاف ولم يستطع استلام الحجر لشدة الزحام فلما جاء زين العابدين رضي الله عنه
تنحى الناس له فقال هشام للشامي لا أعرفه فقال الفرزدق أنا أعرفه وأنشأ يقول
هذا سليل حسين نجل فاطمة * بنت الرسول الذي انجابت به الظلم
فحبسه هشام بين مكة والمدينة فقال الفرزدق أبياته التي منها
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد * وعينا له حولاء باد عيوبها
ففكه ثم بعث إليه زين العابدين رضي الله عنه اثني عشر ألف درهم فردها وقال مدحتك
لله تعالى لا للعطاء فقال زين العابدين إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيده فقبلها ولم
يثبت للفرزدق منها غير سبعة أبيات ونسب بعضها إلى أبي دهبل الجمحي.. وأما قوله
يغضى حياء الخ وقوله
في كفه خيزران ريحها عبق * في كف أروع في عرنينه شمم
فقيل انهما لداود بن سلم يمدح بهما قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بن عبد
المطلب وبعدهما
هاتف بك من أوج ورابية * يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم
وروى من غير هذا الوجه ان عبد الله بن عبد الملك حج فقال له أبوه سيأتيك الحزين
الشاعر بالمدينة وهو ذرب اللسان فإياك أن تحتجب عنه وأرضه وصفته انه أشعر ذو
بطن عظيم الأنف فلما قدم عبد الله المدينة وصفه لحاجبه وقال له إياك أن ترده فلم يأت
الحزين حتى قام لينام فقال له الحاجب قد ارتفع فلما ولى ذكر فلحقه فقال ارجع
فاستأذن له فأدخله فلما صار بين يديه ورأي جماله وبهاءه وفي يده قضيب خيزران وقف
ساكتا فأمهله عبد الله حتى ظن أنه قد أراح ثم قال له السلام عليك رحمك الله أولا
فقال عليك السلام وحيا الله وجهك أيها الأمير انى قد كنت مدحتك بشعر فلما دخلت
عليك ورأيت جمالك وبهاءك أذهلني عنه فأنسيت ما كنت قلته وقد قلت في مقامي هذا
بيتين فقال ما هما فقال
في كفه خيزران ريحها عبق * من كف أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من مهابته * فما يكلم إلا حين يبتسم
بتقديم الأول على الثاني في هذه الرواية فأجازه فقال إخدمني أصلحك الله فإنه لا خادم
لي فقال اختر أحد هذين الغلامين فأخذ أحدهما فقال له عبد الله أعلينا ترذل خذ
الأكبر والناس يروون هذين البيتين للفرزدق في أبياته التي يمدح بها علي بن الحسين
رضي الله عنهما وهو غلط ممن رواه فيها وليس هذان البيتان مما يمدح به مثله وله من
الفضل المتعالم ما ليس لأحد
163

(مجلس آخر 40)
[تأويل آية].. إن سأل سائل عن قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله
وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه).. وقال ما معنى
الحول بين المرء وقلبه وهل يصح ما تأوله قوم من أنه يحول بين الكافر والايمان وما
معنى قوله لما يحييكم وكيف تكون الحياة في اجابته.. الجواب قلنا أما قوله تعالى
(يحول بين المرء وقلبه) ففيه وجوه.. أولها أن يريد بذلك تعالى يحول بين المرء
وبين الانتفاع بقلبه بالموت وهذا حث من الله عز وجل على الطاعات والمبادرة بها قبل
الفوت وانقطاع التكليف وتعذر ما يستوفى به المكلف نفسه من التوبة والاقلاع
فكأنه تعالى قال بادروا إلى الاستجابة لله وللرسول من قبل أن يأتيكم الموت فيحول
بينكم وبين الانتفاع بنفوسكم وقلوبكم ويتعذر عليكم ما تسوفون به نفوسكم من التوبة
164

بقلوبكم ويقوى ذلك قوله تعالى (وأنه إليه تحشرون).. وثانيها أن يحول بين
المرء وقلبه بإزالة عقله وإبطال تمييزه وإن كان حيا وقد يقال لمن فقد عقله وسلب تمييزه
انه بغير عقل قال الله تعالى (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب).. قال الشاعر
ولي ألف وجه قد عرفت مكانه
ولكن بلا قلب إلى أين اذهب
وهذا الوجه يقرب من الأول لأنه تعالى أخرج هذا الكلام مخرج الانذار لهم والحث
على الطاعات قبل فوتها لأنه لا فرق بين تعذر التوبة بانقطاع التكليف بالموت وبين
تعذرها بإزالة العقل.. وثالثها أن يكون المعنى المبالغة في الإخبار عن قربه من عباده
وعلمه بما يبطنون ويخفون وان الضمائر المكتومة له ظاهرة والخفايا المستورة لعلمه بادية
ويجري ذلك مجرى قوله تعالى (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ونحن نعلم أنه
تعالى لم يرد قرب المسافة بل المعنى الذي ذكرناه وإذا كان عز وجل هو أعلم بما في قلوبنا
منا وكان ما نعلمه أيضا يجوز أن ننساه ونسهو عنه ونضل عن علمه وكل ذلك لا يجوز
عليه جاز أن يقول إنه يحول بيننا وبين قلوبنا لأنه معلوم في الشاهد ان كل شئ يحول
بين شيئين فهو أقرب إليهما.. ولما أراد الله تعالى المبالغة في وصف القرب خاطبنا بما نعرف
ونألف وإن كان القرب الذي عناه جلت عظمته لم يرد به المسافة والعرب تضع كثيرا
لفظة القرب على غير معنى المسافة فيقولون فلان أقرب إلى قلبي من فلان وزيد منى
قريب وعمرو منى بعيد ولا يريدون قرب المسافة.. ورابعها ما أجاب به بعضهم
من أن المؤمنين كانوا يفكرون في كثرة عدوهم وقلة عددهم فيدخل قلوبهم الخوف
فأعلمهم تعالى انه يحول بين المرء وقلبه بأنه يبدله بالخوف آمنا ويبدل عدوهم بظنهم
انهم قادرون عليهم وغالبون لهم الجبن والخور.. ويمكن في الآية وجه خامس وهو
أن يكون المراد انه تعالى يحول بين المرء وبين ما يدعوه إليه قلبه من القبائح بالأمر
والنهي والوعد والوعيد لأنا نعلم أنه تعالى لو لم يكلف العاقل مع ما فيه من الشهوات
والنفار لم يكن له عن القبيح مانع ولا عن مواقعته رادع فكان التكليف حائلا بينه
وبينه من حيث زجر عن فعله وصرف عن مواقعته وليس يجب في الحائل أن يكون
في كل موضع مما يمتنع معه الفعل لأنا نعلم أن المشير منا على غيره في أمر كان قد هم به
165

وعزم على فعله أن يجتنبه والمنبه له على أن الحظ في الانصراف عنه يصح أن يقال منعه
منه وحال بينه وبين فعله.. قال عبيد الله بن قيس الرقيات
حال دون الهوى ودون * سرى الليل مصعب
وسياط على أكف * رجال تقلب
ونحن نعلم أنه لم يحل إلا بالتخويف والترهيب دون غيرهما.. فان قيل كيف يطابق
هذا الوجه صدر الآية.. قلنا وجه المطابقة ظاهر لأنه تعالى أمرهم بالاستجابة لله
تعالى ولرسوله فيما يدعون إليه من فعل الطاعات والامتناع من المقبحات فأعلمهم انه بهذا
الدعاء والانذار وما يجري مجراهما يحول بين المرء وبين ما تدعوه إليه نفسه من المعاصي
ثم إن المآب بعد هذا كله والمنقلب إلى ما عنده فيجازي كلا باستحقاقه.. فأما قوله تعالى
(إذا دعاكم لما يحييكم) ففيه وجوه.. أولها أن يريد بذلك الحياة في النعيم والثواب لان
تلك هي الحياة الدائمة الطيبة التي يؤمن من تغيرها ولا يخاف انتقالها فكأنه تعالى حث
على اجابته التي تكسب هذه الحال.. وثانيها انه يختص ذلك بالدعاء إلى الجهاد وقتال
العدو فكأنه تعالى أمرهم بالاستجابة للرسول عليه الصلاة والسلام فيما يأمرهم به من
قتال عدوهم ودفعهم عن حوزة الاسلام وأعلمهم ان ذلك يحيهم من حيث كان فيه
قهر للمشركين وتقليل لعددهم وفل لجهدهم وحسم لأطماعهم لأنهم متى كثروا وقووا
استلانوا جانب المؤمنين وأقدموا عليهم بالقتل وصنوف المكاره فمن ههنا كانت الاستجابة
له عليه الصلاة والسلام تقتضي الحياة والبقاء ويجري ذلك مجرى قوله تعالى (ولكم في
القصاص حياة).. وثالثها ما قاله قوم من أن كل طاعة حياة ويوصف فاعلها بأنه حي كما أن
المعاصي يوصف فاعلها بأنه ميت والوجه في ذلك ان المؤمن الطائع لما كان منتفعا
بحياته وكانت تؤديه إلى الثواب الدائم قيل إن الطاعة حياة ولما كان الكافر العاصي لا ينتفع
بحياته من حيث كان مصيره إلى العقاب الدائم كان في حكم الميت ولهذا يقال لمن كان منغص
الحياة غير منتفع بها فلان بلا عيش ولا حياة وما جرى مجرى ذلك من حيث لا ينتفع
بحياته.. ويمكن في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد بالكلام الحياة في الحكم لا في
166

الفعل لأنا قد علمنا أنه عليه الصلاة والسلام كان مكلفا مأمورا بجهاد جميع المشركين
المخالفين لملته وقتلهم وإن كان فيما بعد كلف ذلك فيمن عدا أهل الذمة على شروطها
فكأنه تعالى قال فاستجيبوا للرسول ولا تخالفوه فإنكم إذا خالفتم كنتم في الحكم غير
أحياء من حيث تعبد عليه الصلاة والسلام بقتالكم وقتلكم فإذا أطعتم كنتم في الحكم
أحياء ويجري ذلك مجرى قوله تعالى (ومن دخله كان آمنا) وإنما أراد تعالى إنما يجب
أن يكون آمنا وهذا حكمه ولم يخبر بان ذلك لا محالة واقع.. فأما المجبرة فلا شبهة لهم
في الآية ولا متعلق بها لأنه تعالى لم يقل انه يحول بين المرء وبين الايمان بل ظاهر الآية
لا يقتضي أن يحول بينه وبين أفعاله وإنما يقتضي ظاهرها انه يحول بينه وبين قلبه
وليس للايمان ولا للكفر ذكر ولو كان للآية ظاهر يقتضي ما ظنوه وليس لها ذلك
ولا يضر قناعته بأدلة العقل الموجبة انه تعالى لا يحول بين المرء وبين ما أمر به وأراده
منه وكلفه فعله لان ذلك قبيح والقبائح عنه منفية.. أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن
عمران المرزباني قال حدثني أحمد بن محمد الجوهري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي
قال حدثنا أحمد بن عمرو بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عمرو بن عبد الرحمن بن
عوف قال حدثني عمر وبن خالد بن عبد الله عن الحجاج السلمي قال لما اشتد بحصن بن
حذيفة بن بدر وجعه من طعنة كرز بن عامر إياه يوم بني عقيل دعا ولده فقال إن الموت
أهون مما أجد فأيكم يطيعني قالوا كلنا نطيعك فبدأ بأكبرهم فقال قم فخذ سيفي وأطعن
به حيث آمرك ولا تعجل قال يا أبتاه أيقتل المرء أباه فأتي على القوم كلهم فأجابوه بجواب
الأول حتى انتهى إلي عيينة فقال يا أبتاه ليس لك فيما تأمرني به راحة ولي بذلك طاعة
وهو هواك قال بلى قال فأمرني كيف أصنع قال الق السيف إنما أردت ان أعلم أيكم
أمضى لما آمر به فأنت خليفتي ورئيس قومك من بعدى فقال القوم انه سيقول في ذلك
أبياتا فاحضروه فلما أمسى قال
ولوا عيينة من بعدى أموركم
واستيقنوا أنه بعدى لكم حام
إما هلكت فإني قد بنيت لكم
عز الحياة بما قدمت قدامي
167

واستوسقوا للتي فيها مروءتكم * قود الجياد وضرب القوم في الهام
والقرب من قومكم والقرب ينفعكم * والبعد إن باعدوا والرمي للرامي
ولى حذيفة إذ ولى وخلفني * يوم الهباة يتيما وسط أيتام
لا أرفع الطرف ذلا عند مهلكة * القي العدو بوجه خده دامي
حتى اعتقدت لوا قومي فقمت به * ثم ارتحلت إلى الجفني بالشام
لما قضي ما قضى من حق زائره * عجت المطي إلى النعمان من عامي
اسمو لما كانت الآباء تطلبه * عند الملوك فطر في عندهم سامي
والدهر آخره شبه لأوله * قوم كقوم وأيام كأيام
فابنوا ولا تهدموا فالناس كلهم * من بين بان إلي العليا وهدام
قال ثم أصبح ودعا بني بدر فقال لوائي ورياستي لعيينة واسمعوا منى ما أوصيكم به لا يتكل
آخركم على أولكم فإنما يدرك الآخر ما أدركه الأول وانكحوا الكفء الغريب فإنه
عز حادث وإذا حضركم أمران فخذوا بخيرهما صدرا فان كل مورد معروف وأصحبوا
قومكم بأجمل أخلاقكم ولا تخالفوا فيما اجتمعوا عليه فان الخلاف يزرى بالرئيس
المطاع وإذا وحادثتم فاربعوا ثم قولوا الصدق فإنه لا خير في الكذب وصونوا الخيل
فإنها حصون الرجال وأطيلوا الرماح فإنها قرون الخيل وأعزوا الكبير بالكبر فإني بذلك
كنت أغلب الناس ولا تغزوا إلا بالعيون ولا تسرحوا حتى تأمنوا الصباح وأعطوا
على حسب المال واعجلوا الضيف بالقرى فان خيره أعجله واتقوا فضيحات البغى وفلتات
المزاح ولا تجيروا على الملوك فان أيديهم أطول من أيديكم واقتلوا كرز بن عامر ومات
حصن فأخذ عيينة الرياسة.. وقال
أطعت أبا عيينة في هواه * ولم تخلج صريمتي الظنون
168

وقد عرض الرئيس على بنيه * فقال القوم هذا لا يكون
ستحيا أو تموت فطالوه * وقتل المرء والده جنون
فلم أقتل بحمد الله حصنا * وكل فتى سيدركه المنون
ولم أنكل عليه وكل أمر * إذا هونته يوما يهون
فإن يك بدء هذا الأمر غثا * فآخره بنى بدر سمين
وحكي عمر بن بحر الجاحظ أن اسم عيينة بن حصن حذيفة وإنما أصابته اللقوة فجحظت
عينه وزال فكه فسمي لذلك عيينة وإذا عظمت عين الانسان لقبوه أبا عيينة وأبا العيناء
.. وروى قيس بن أبي حازم أن عيينة بن حصن بن حذيفة دخل على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال هذا أحمق مطاع.. وروى أيضا أنه كان يدلع لسانه للحسين بن علي
عليهما السلام وهو صبي فيرى لسانه فيهش له فقال له عيينة أراك تضع هذا بهذا
فوالله انه ليكون لي الابن رجلا قد خرج وجهه ما قبلته قط فقال رسول رسول الله صلى الله
وسلم انه لا يرحم من لا يرحم.. ونعود إلي ما كنا وعدنا به من الكلام على شعر مروان
فمما يختار من شعره قوله من قصيدة أولها
صحا بعد جهل فاستراحت عواذله * وأقصر عنه حين أقصر باطله
ومن مد في أيامه فتأخرت * منيته فالشيب لاشك شامله
هو المرء إما دينه فهو مانع * صؤن وإما ماله فهو باذله
أمر وأحلى ما بلا الناس طعمه * عقاب أمير المؤمنين ونائله
أبي لما يأبي ذوو الحزم والتقي * فعول إذا ما جد بالأمر فاعله
تروك الهوى لا السخط منه ولا الرضى * لدى موطن إلا علي الحق حامله
169

يرى أن مر الحق أحلي مغبة * وأنجا ولو كانت زعافا مناهله
فإن طليق الله من هو مطلق * وإن قتيل الله من هو قاتله
وإنك بعد الله للحكم الذي * تصاب به من كل حق مفاصله
.. أما قوله - ومن مد في أيامه فتأخرت * منيته فالشيب لا شك شامله -.. فمأخوذ من
قول طريح بن إسماعيل الثقفي * والشيب غاية من تأخر حينه
لا يستطيع دفاعه من يجزع * والأصل في هذا قول أمية بن أبي الصلت
من لم يمت عبطة يمت هرما * والموت كأس والمرء ذائقها
ويشبه ذلك قول الآخر
قل لعرسي ليس شيبي بعجب * من يعش يا أم عمار يشب
ومثله قول أبى العتاهية
من يعش يكبر ومن يكبر يمت * والمنايا لا تبالي من أتت
ويشبه قول البحتري
ولا بد من ترك إحدي اثنتين * فإما الشباب واما العمر
وقوله
والشيب مهرب من جارى مشيته * ولا نجاء له من ذلك الهرب
وقريب منه قول ابن المعتز
قالت كبرت وانتفيت من الصبا * فقلت لها ما عشت إلا لأكبرا
ولبعضهم
ولا بد من موت فإما شبية * وإما مشيب والشبية أصلح
معنى قوله - والشبيبة أصلح - إن الانسان إذا مات شابا كان أكثر للحزن عليه
170

والأسف على مفارقته فإذا أسن برم به أهله وهان عندهم فقده.. فأما قوله
هو المرء إما دينه فهو مانع
صؤن وإما ماله فهو باذله
فمعناه متكرر في الشعر كثير جدا.. وأحسن شعر جمع بين وصف الممدوح بمنع
ما يجب منعه وبذل ما يجب بذله قول مسلم بن الوليد الأنصاري
يذكر نيك الجود والبخل والنهى * وقول الخنا والحلم والعلم والجهل
فألقاك عن مذمومها متنزها * وألقاك في محمودها ولك الفضل
وأحمد من أخلاقك البخل إنه * بعرضك لا بالمال حاشا لك البخل
وقد أحسن البحتري في قوله
بلونا ضرائب من قد نرى * فما إن وجدنا لفتح ضريبا
تنقل في خلقي سؤدد * سماحا مرجي وبأسا مهيبا
فكالسيف إن جئته صارخا * وكالبحر إن جئته مستثيبا
فأما قوله - تروك الهوى لا السخط منه ولا الرضى - البيت.. فمعنى متداول مطروق في
الشعر وقد ذكره هو في قوله
إذا هن القين الرحال ببابه * حططن به ثقلا وأدركن مغنما
إلى طاهر الأثواب ما نال في رضى * ولا غضب مالا حراما ولا دما
وأحسن من هذا قول أبى تمام في محمد بن عبد الملك الزيات
ثبت الجنان إذا اصطكت بمظلمة * في رحله السن الأقوام والركب
لا المنطق اللهو يزكو في تبسمه * يوما ولا حجة الملهوف تستلب
كأنما هو في نادى قبيلته * لا القلب يغفو ولا الأحشاء تضطرب
وتحت ذاك قضاء حز شفرته * كما يعض بظهر الغارب القتب
171

لا سورة تتقى منه ولا بله * ولا يخاف رضى منه ولا غضب
ومثله قول البحتري في ابن الزيات أيضا
وجه الحق بين أخذ وإعطاء * وقصد في الجمع والتبديد
واستوى الناس فالقريب قريب * عنده والبعيد غير بعيد
لا يميل الهوى به حين يمضى الأمر * بين المقلي وبين الودود
وسواء لديه أبناء إبراهيم * في حكمه وأنباء هود
مستريح الأحشاء من كل ضغن * بارد الصدر من غليل الحقود
فأما قوله - وان قتيل الله من هو قاتله - فيشبه أن يكون مأخوذا من قول يزيد بن
مفرغ في عبيد الله بن زياد لعنهما الله
إن الذي عاش ختارا بذمته * ومات عبدا قتيل الله بالزاب
- أما قوله وانك بعد الله للحكم الذي تصاب به من كل حق مفاصله -.. فيشبه قول
أبي تمام في وصف القلم من قصيدة يمدح بها ابن الزيات.. وأجمع العلماء ان هذه
الأبيات أحسن أفخم من جميع ما قيل في القلم
لك القلم الأعلى الذي بشباته * تصاب من الأمر الكلى والمفاصل (1)
له الخلوات اللاء لولا نجيها * لما احتفلت للملك تلك المحافل (2)

(1) - الشباة - حد القلم وغيره ومثلها الشبا بالفتح والقصر.. وقوله - تصاب من
الأمر - روى أيضا ينال من الأمر - والكلي - جمع كلية وكلوة جاء بالياء والواو
- والمفاصل - جمع مفصل وهو ملتقى كل عظمين.. أراد ان القلم يطبق المفصل
ويصادف المحز وبه ينال مقاصد الأمور فإنه ينال بالأقلام ما يعجز عنه مجالدة الحسام
(2) قوله - له الخلوات - يعنى ان أصحاب القلم هم أهل المشورة وموضع السر يخلم
لهم الملوك المجالس للمشورة وبهم يحصل نظام الملك - والنجي - المسارر والتناجي المسارة
.. وأراد به المشير فان المشورة تكون سرا غالبا - والاحتفال - حسن القيام بالأمور
- والمحافل - جمع محفل كمجلس ومقعد وهو المجتمع
172

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه * وأري الجني اشتارته أيد عواسل (1)

(1) قوله - لعاب الأفاعي - الخ اللعاب ما يسيل من الفم - والقاتلات - صفة كاشفة
للأفاعي ذكرها تهويلا - والأري - بفتح الهمز ة وسكون الراء ما لزق من العسل في
جوف الخلية - والجني - بفتح الجيم والقصر العسل والإضافة للتخصيص فان الأرى
يأتي أيضا بمعنى ما لزق بأسفل القدر من الطبيخ وان جعلت الأرى بمعنى العسل
والجني بمعني كل ما يجتني من ثمرة ونحوها يلزم إضافة الموصوف إلى الصفة - واشتارته -
استخرجته يقال شار فلان العسل شورا وشيارا وشيارا وشيارة إذا استخرجه وكذلك أشاره
واشتاره - وأيد - جمع يد - والعواسل - جمع عاسله أي مستخرجة العسل والعاسل
مستخرج العسل من موضعه والمصراع الأول بالنسبة إلى الأعداء والثاني بالنسبة إلى
الأولياء.. يعنى ان لعاب قلمه بالنسبة إلي الأعداء سم قاتل وبالنسبة إلى الأولياء شفاء
عاجل.. فقوله لعاب مبتدأ مؤخر ولعاب الأفاعي خبر مقدم وأرى معطوف على الخبر
وجاز هذا مع تعريف الطرفين لأن المعني دال عليه لان اللعاب القاتل إنما هو لعاب
الأفاعي فلعاب القلم مشبه به في التأثير وعلم من هذا انه ليس من التشبيه المقلوب فان
لعاب القلم قد شبه بشيئين وهو السم والعسل باعتبارين وان جعلته من التشبيه المقلوب
كان من عطف الجمل والخبر في المعطوف محذوف وفيه تكلف اه‍ من شرح الشواهد
الكبرى.. فقوله السابق وان جعلت الأرى بمعني العسل والجني بمعنى كل ما يجتني من
ثمرة ونحوها يلزم إضافة الموصوف إلى الصفة.. قلت إن لزم ذلك فلا محذور فيه فان
ابن مالك نص في التسهيل على جواز إضافة الصفة إلى الموصوف والموصوف إلى قائم
مقام الوصف وعلى كل حال فهي مسألة خلافية فذهب البصريون إلي منع ذلك مطلقا
وتأولوا ما ورد منه وذهب الكوفيون إلي الجواز إذا اختلف اللفظان من غير تأويل
محتجين بنحو تعالى (حق اليقين. ولدار الآخرة. بجانب الغربي) وغير ذلك
173

له ريقة طل ولكن وقعها * بآثاره في الشرق والغرب وابل (1)
فصيح إذا استنطقته وهو راكب * وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت * - عليه شعاب الفكر وهي حوافل (2)
أطاعته أطراف القنى وتقوضت * لنجواه تقويض الخيام الجحافل (3)
إذا إستغزر الذهن الذكي وأقبلت * أعاليه في القرطاس وهي أسافل (4)
وقد رفدته الخنصران وسددت * ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل (5)

(1) قوله - له ريقة طل - ريقة مبتدأ وطل وصفة والظرف قبلة خبره والطل المطر
الضعيف - والوابل - وكذا الوبل المطر الشديد الضخم القطر.. يقول إن ما يجرى
من القلم حقير تافه في ظاهر الأمر لكن له أثر خير عم المشارق والمغارب
(2) قوله - إذا ما امتطى الخمس اللطاف - الخ.. أراد بالخمس اللطاف الأصابع
الخمس - والشعاب - جمع شعب بكسرهما الطريق في الجبل - والحوافل - جمع حافله
يقال حفل اللبن وغيره حفلا وحفولا اجتمع واحتفل الوادي امتلأ وسال
(3) قوله - أطاعته أطراف القنى - الخ.. هو جواب إذا وروى أطاعته أطراف
الرماح - وتقوضت - يقال تقوضت الصفوف إذا انتقضت وأصله من تقويض البناء وهو
نقضه من غير هدم - والنجوى - السر وتقويض أي كتقويض الخيام - والجحافل -
فاعل قوضت وهو جمع جحفل بتقديم الجيم على المهملة كجعفر الجيش
(4) قوله - إذا استغزر الذهن - استغزره وجده غزيرا وفاعله ضمير القلم - والذكي -
المتوقد وروى الخلي بدله والخلى الخالي وإنما تكون أعالي القلم أسافل حين الكتابة
(5) قوله - وقد رفدته الخنصران - الخ رفدته أعانته - وسددت - قومت -
174

رأيت جليلا شأنه وهو مرهف
ضني وسمينا خطبه وهو ناحل (1)
تم ولله الحمد الجزء الثاني من كتاب أمالي السيد المرتضي.. وقد صحح هذا
الجزء من أوله إلي نهاية الملزمة الخامسة عشر منه بتصحيح السيد محمد بدر الدين النعساني
ومن ثم إلى آخره بتصحيح حضرة الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي نزيل القاهرة
حالا وقد بذلا غاية جهدهما فيه تصحيحا وضبطا وتفسير ما يحتاج إلى إيضاح
غامضه أحسن الله إليهما وشكر مسعاهما.. وقد تم ولله الحمد طبعه في أوائل جمادي
الثانية سنة 1325 هجرية وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

(1) قوله - رأيت جليلا شأنه - الخ.. رأيت جواب إذا وشأنه فاعل جليلا وجملة
- وهو مرهف - حال وهو اسم مفعول من أرهفت السيف ونحوه إذا رققت شفرته
ويقال أيضا رهفته رهفا فهو رهيف ومرهوف - وضنى - تمييز وهو مصدر ضني من
باب تعب إذا مرض مرضا ملازما - وسمينا - معطوف على جليلا - وناحل - من نحل
الجسم ينحل بفتحهما نحو لا سقم ومن باب تعب
175