الكتاب: الاحتجاج
المؤلف: الشيخ الطبرسي
الجزء: ٢
الوفاة: ٥٤٨
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: تعليق وملاحظات: السيد محمد باقر الخرسان
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٨٦ - ١٩٦٦ م
المطبعة:
الناشر: دار النعمان للطباعة والنشر - النجف الأشرف
ردمك:
ملاحظات:

الإحتجاج
تأليف
أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي
الجزء الثاني
تعليقات وملاحظات
السيد محمد باقر الخرسان
منشورات
دار
النعمان
للطباعة والنشر
حسن الشيخ إبراهيم الكتبي
1

طبع في مطابع
النعمان
النجف الأشرف
حسن الشيخ إبراهيم الكتبي
تلفون 997 المسكن 227 حي
1386 ه‍ - 1966 م
2

احتجاج الحسن بن علي عليهما السلام على معاوية في الإمامة، من يستحقها
ومن لا يستحقها بعد مضي النبي.
وقد جرى قبل ذلك إيراد كثير من الحجج لعبد الله بن جعفر بن أبي
طالب، وعبد الله بن عباس، وغيرهما، على معاوية في الإمامة وغيرها، بمحضر
من الحسن عليه السلام، والفضل بن عباس، وغيرهما.
روى سليم بن قيس قال: سمعت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: قال
لي معاوية:
ما أشد تعظيمك للحسن والحسين، ما هما بخير منك، ولا أبوهما بخير من
أبيك، ولولا أن فاطمة بنت رسول الله لقلت: ما أمك أسماء بنت عميس بدونها.
قال: فغضبت من مقالته، وأخذني ما لا أملك، فقلت: أنت لقليل المعرفة
بهما، وبأبيهما، وأمهما، بلى والله أنهما خير مني، وأبوهما خير من أبي، وأمهما
خير من أمي، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول فيهما وفي أبيهما وأنا غلام
فحفظته منه، ورعيته.
فقال معاوية - وليس في المجلس غير الحسن والحسين عليهما السلام، وابن جعفر
رحمه الله، وابن عباس، وأخيه الفضل -: هات ما سمعت! فوالله ما أنت بكذاب.
فقال إنه أعظم مما في نفسك.
قال: وإن كان أعظم من أحد وحرى، فآته! ما لم يكن أحد من أهل الشام
أما إذا قتل الله طاغيتكم، وفرق جمعكم، وصار الأمر في أهله ومعدنه، فما نبالي
ما قلتم، ولا يضرنا ما ادعيتم.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن
كنت أولى به من نفسه فأنت يا أخي أولى به من نفسه) وعلي بين يديه في البيت،
والحسن، والحسين، وعمرو بن أم سلمة، وأسامة بن يزيد، وفي البيت فاطمة عليها السلام
وأم أيمن، وأبو ذر، والمقداد، والزبير بن العوام، وضرب رسول الله صلى الله عليه وآله على
3

عضده وأعاد ما قال فيه ثلاثا، ثم نص بالإمامة على الأئمة تمام الاثني عشر عليهم السلام
ثم قال صلوات الله عليه: (لأمتي اثنا عشر إمام ضلالة، كلهم ضال مضل
عشرة من بني أمية، ورجلان من قريش، وزر جميع الاثنا عشر وما أضلوا في
أعناقهما، ثم سماهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسمى العشرة منهما).
قال: فسمهم لنا.
قال: فلان وفلان، وصاحب السلسلة وابنه من آل أبي سفيان، وسبعة من
ولد الحكم بن أبي العاص، أولهم مروان.
قال معاوية: لئن كان ما قلت حقا هلكت، وهلكت الثلاثة قبلي، وجميع
من تولاهم من هذه الأمة، ولقد هلك أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار
والتابعين من غيركم وأهل البيت وشيعتكم.
قال ابن جعفر: فإن الذي قلت والله حق سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال معاوية - للحسن والحسين وابن عباس -: ما يقول ابن جعفر؟
قال ابن عباس: ومعاوية بالمدينة أول سنة اجتمع عليه الناس بعد قتل علي عليه السلام
أرسل إلى الذي سمى، فأرسل إلى عمرو بن أم سلمة، وأسامة، فشهدوا جميعا أن
الذي قال ابن جعفر حق، قد سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله كما سمعه.
ثم أقبل معاوية إلى الحسن، والحسين، وابن عباس، والفضل، وابن أم
سلمة، وأسامة.
قال: كلكم على ما قال ابن جعفر؟
قالوا: نعم.
قال معاوية: فإنكم يا بني عبد المطلب لتدعون أمرا، وتحتجون بحجة قوية
إن كانت حقا، وأنكم لتبصرون على أمر وتسترونه والناس في غفلة وعمى، ولئن
كان ما تقولون حقا لقد هلكت الأمة، ورجعت عن دينها، وكفرت بربها وجحدت
نبيها، إلا أنتم أهل البيت ومن قال بقولكم، وأولئك قليل في الناس.
فأقبل ابن عباس على معاوية فقال: قال الله تعالى: (وقليل من عبادي
4

الشكور) وقال: (وقليل ما هم).
وما تعجب مني يا معاوية أعجب من بني إسرائيل: إن السحرة قالوا لفرعون
(إقض ما أنت قاض) فآمنوا بموسى وصدقوه، ثم سار بهم ومن اتبعهم من بني
إسرائيل فأقطعهم البحر، وأراهم العجائب، وهم مصدقون بموسى وبالتوراة
يقرون له بدينه، ثم مروا بأصنام تعبد فقالوا: (يا موسى اجعل لنا إلها كما
لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) وعكفوا على العجل جميعا غير هارون فقالوا:
(هذا إلهكم وإله موسى) وقال لهم موسى - بعد ذلك -: (ادخلوا الأرض
المقدسة) فكان من جوابهم ما قص الله عز وجل عليهم: (فقال موسى رب إني
لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين).
فما اتباع هذه الأمة رجالا سودوهم وأطاعوهم، لهم سوابق مع رسول الله صلى الله عليه وآله
ومنازل قريبة منها، وأصهاره مقرين بدين محمد صلى الله عليه وآله وبالقرآن، حملهم الكبر
والحسد أن خالفوا إمامهم ووليهم، بأعجب من قوم صاغوا من حليهم عجلا ثم
عكفوا عليه يعبدونه، ويسجدون له، ويزعمون أنه رب العالمين، واجتمعوا على
ذلك كلهم غير هارون وحده، وقد بقي مع صاحبنا الذي هو من نبينا بمنزلة هارون
من موسى من أهل بيته ناس: سلمان، وأبو ذر، والمقداد، والزبير، ثم رجع
الزبير وثبت هؤلاء الثلاثة مع إمامهم حتى لقوا الله.
وتعجب يا معاوية أن سمى الله من الأئمة واحدا بعد واحد، وقد نص عليهم
رسول الله بغدير خم وفي غير موطن، واحتج بهم عليهم، وأمرهم بطاعتهم، وأخبر
أن أولهم علي بن أبي طالب ولي كل مؤمن ومؤمنة من بعده، وأنه خليفته فيهم ووصيه
وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله جيشا يوم مؤتة فقال: عليكم بجعفر، فإن هلك فزيد، فإن
هلك فعبد الله بن رواحة، فقتلوا جميعا، أفترى يترك الأمة ولم يبين لهم من الخليفة
بعده، ليختاروا هم لأنفسهم الخليفة، كأن رأيهم لأنفسهم أهدى لهم وأرشد من
رأيه واختياره، وما ركب القوم ما ركبوا إلا بعد ما بينه، وما تركهم رسول
الله صلى الله عليه وآله في عمى ولا شبهة.
5

فأما ما قال الرهط الأربعة الذين تظاهروا على علي عليه السلام وكذبوا على
رسول الله، وزعموا أنه قال: إن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة
فقد شبهوا على الناس بشهادتهم، وكذبهم، ومكرهم.
قال معاوية: ما تقول يا حسن؟
قال: يا معاوية قد سمعت ما قلت، وما قال ابن عباس، العجب منك يا معاوية
ومن قلة حيائك، ومن جرأتك على الله حين قلت: (قد قتل الله طاغيتكم، ورد
الأمر إلى معدنه) فأنت يا معاوية معدن الخلافة دوننا، ويل لك يا معاوية وللثلاثة
قبلك الذين أجلسوك هذا المجلس، وسنوا لك هذه السنة، لأقولن كلاما ما أنت
أهله، ولكني أقول ليسمعه بنو أبي هؤلاء حولي.
إن الناس قد اجتمعوا على أمور كثيرة ليس بينهم اختلاف فيها، ولا تنازع
ولا فرقة، على: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله عبده، والصلوات
الخمس، والزكاة المفروضة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت، ثم أشياء كثيرة
من طاعة الله لا يحصى ولا يعدها إلا الله، واجتمعوا على تحريم الزنا، والسرقة
والكذب، والقطيعة، والخيانة، وأشياء كثيرة من معاصي الله لا يحصى ولا يعدها
إلا الله، واختلفوا في سنن اقتتلوا فيها، وصاروا فرقا يلعن بعضهم بعضا، وهي:
(الولاية) ويتبرأ بعضهم عن بعض، ويقتل بعضهم بعضا، أيهم أحق وأولى بها،
إلا فرقة تتبع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، فمن أخذ بما عليه أهل القبلة الذي
ليس فيه اختلاف، ورد علم ما اختلفوا فيه إلى الله، سلم ونجا به من النار،
ودخل الجنة، ومن وفقه الله ومن عليه واحتج عليه بأن نور قلبه بمعرفة ولاة
الأمر من أئمتهم ومعدن العلم أين هو، فهو عند الله سعيد، ولله ولي، وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: (رحم الله امرء علم حقا فقال أو سكت فسلم).
نحن نقول أهل البيت أن الأئمة منا، وأن الخلافة لا تصلح إلا فينا، وأن
الله جعلنا أهلها في كتابه وسنة نبيه، وأن العلم فينا ونحن أهله، وهو عندنا
مجموع كله بحذافيره، وأنه لا يحدث شئ إلى يوم القيامة حتى أرش الخدش إلا
6

وهو عندنا مكتوب بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وبخط علي عليه السلام بيده.
وزعم قوم: أنهم أولى بذلك منا حتى أنت يا بن هند تدعي ذلك، وتزعم:
أن عمر أرسل إلى أبي أني أريد أن أكتب القرآن في مصحف فابعث إلي بما كتبت
من القرآن، فأتاه فقال: تضرب والله عنقي قبل أن يصل إليك.
قال: ولم؟
قال: لأن الله تعالى قال: (والراسخون في العلم) إياي عنى، ولم يعنك
ولا أصحابك، فغضب عمر ثم قال:
يا بن أبي طالب تحسب أن أحدا ليس عنده علم غيرك، من كان يقرأ
من القرآن شيئا فليأتني به، إذا جاء رجل فقرأ شيئا معه يوافقه فيه آخر كتبه
وإلا لم يكتبه.
ثم قالوا: قد صاغ منه قرآن كثير، بل كذبوا والله بل هو مجموع محفوظ
عند أهله، ثم أمر عمر قضاته وولاته: اجتهدوا آرائكم واقضوا بما ترون أنه الحق
فلا يزال هو وبعض ولاته قد وقعوا في عظيمة، فيخرجهم منها أبي ليحتج عليهم
بها، فتجمع القضاة عند خليفتهم وقد حكموا في شئ واحد بقضايا مختلفة فأجازها
لهم، لأن الله تعالى لم يؤته الحكمة وفصل الخطاب، وزعم كل صنف من مخالفينا
من أهل هذه القبلة: أنهم معدن الخلافة والعلم دوننا، فنستعين بالله على من ظلمنا
وجحدنا حقنا، وركب رقابنا، وسن للناس علينا ما يحتج به مثلك، وحسبنا
الله ونعم الوكيل.
إنما الناس ثلاثة: مؤمن يعرف حقنا ويسلم لنا ويأتم بنا، فذلك ناج
محب لله ولي.
وناصب لنا العداوة يتبرأ منا، ويلعننا، ويستحل دمائنا، ويجحد حقنا،
ويدين الله بالبراءة منا، فهذا كافر مشرك، وإنما كفر وأشرك من حيث لا يعلم
كما يسبوا الله عدوا بغير علم، كذلك يشرك بالله بغير علم.
ورجل آخذ بما لا يختلف فيه، ورد علم ما أشكل عليه إلى الله، مع ولايتنا
7

ولا يأتم بنا، ولا يعادينا، ولا يعرف حقنا، فنحن نرجو أن يغفر الله له، ويدخله
الجنة، فهذا مسلم ضعيف.
فلما سمع معاوية أمر لكل منهم بمائة ألف درهم، غير الحسن والحسين وابن
جعفر، فإنه أمر لكل واحد منهم بألف ألف درهم.
احتجاجه (ع) على من أنكر عليه مصالحة معاوية ونسبه إلى التقصير في
طلب حقه.
عن سليم بن قيس قال: قام الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام على المنبر
حين اجتمع مع معاوية، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس إن معاوية زعم: أني رأيته للخلافة أهلا ولم أر نفسي لها أهلا
وكذب معاوية، أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبي الله، فأقسم
بالله لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني، لأعطتهم السماء قطرها، والأرض
بركتها، ولما طمعتم فيها يا معاوية، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (ما ولت أمة
أمرها رجلا قط وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا
إلى ملة عبدة العجل).
وقد ترك بنو إسرائيل هارون واعتكفوا على العجل وهم يعلمون أن هارون
خليفة موسى، وقد تركت الأمة عليا عليه السلام وقد سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول
لعلي: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة فلا نبي بعدي) وقد هرب رسول الله صلى الله عليه وآله من قومه وهو يدعوهم إلى الله حتى فر إلى الغار، ولو وجد عليهم
أعوانا ما هرب منهم، ولو وجدت أنا أعوانا ما بايعتك يا معاوية.
وقد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، ولم يجد عليهم أعوانا، وقد جعل الله النبي في سعة حين فر من قومه لما لم يجد أعوانا عليهم
كذلك أنا وأبي في سعة من الله حين تركنا الأمة وبايعت غيرنا ولم نجد أعوانا،
وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضا.
8

أيها الناس إنكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب لم تجدوا رجلا من
ولد النبي غيري وغير أخي.
وعن حنان بن سدير (1) عن أبيه سدير (2) عن أبيه (3) عن أبي سعيد
عقيصي (4) قال: لما صالح الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان
دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته فقال عليه السلام:
ويحكم ما تدرون ما عملت، والله الذي عملت لشيعتي خير مما طلعت عليه الشمس
أو غربت، ألا تعلمون أني إمامكم، ومفترض الطاعة عليكم، واحد سيدي شباب
أهل الجنة بنص من رسول الله علي؟

(1) ذكره النجاشي في رجاله ص 112 فقال: (حنان بن سدير بن حكيم بن
صهيب أبو الفضل الصيرفي الكوفي. روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام،
له كتاب في صفة الجنة والنار) وعده الشيخ في أصحاب الكاظم عليه السلام في رجاله
ص 346 وقال: (حنان بن سدير الصيرفي واقفي) وفي الفهرست قال: (له كتاب.
وهو ثقة. رحمه الله) وفي رجال الكشي ص 465: (حنان بن سدير واقفي، أدرك أبا
عبد الله ولم يدرك أبا جعفر، وكان يرتضي به سديدا)
(2) ذكره العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص 85 والشيخ في رجاله ص 91
وعده من أصحاب علي بن الحسين عليهما السلام و ص 125 من أصحاب الباقر (ع)
و ص 29 من أصحاب الصادق عليه السلام وقال: (سدير بن حكيم كوفي يكنى أبا الفضل
والد حنان) وذكر الكشي ص 182 عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ذكر عنده سدير
فقال: (سدير عصيدة بكل لون).
(3) عده الشيخ في رجاله ص 88 من أصحاب علي بن الحسين عليهما السلام.
(4) ذكره العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 193 في أولياء علي (ع)
فقال: (وأبو سعيد عقيصان - بفتح العين المهملة، والقاف قبل الياء المنقطة تحتها
نقطتين، والصاد المهملة والنون بعد الألف - من بني تيم الله بن ثعلبة. وذكره الشيخ
في رجاله ص 40 فعده من أصحاب علي (ع) وقال: (دينار يكنى أبا سعيد، ولقبه
عقيصا، وإنما لقب بذلك لشعر قاله، وذكره أيضا ص 96 في أصحاب الحسين (ع)
9

قالوا: بلى.
قال: أما علمتم أن الخضر لما خرق السفينة، وأقام الجدار، وقتل الغلام
كان ذلك سخطا لموسى بن عمران عليه السلام إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان
ذلك عند الله تعالى ذكره حكمة وصوابا؟ أما علمتم أنه ما منا أحد إلا ويقع في
عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم (عج)؟ الذي يصلي خلفه روح الله عيسى بن
مريم عليه السلام، فإن الله عز وجل يخفي ولادته ويغيب شخصه لئلا يكون لأحد في
عنقه بيعة إذا خرج، ذاك التاسع من ولد أخي الحسين، ابن سيدة الإماء، يطيل
الله عمره في غيبته ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة، ذلك ليعلم أن
الله على كل شئ قدير.
عن زيد بن وهب الجهني (1) قال: لما طعن الحسن بن علي عليه السلام بالمدائن
أتيته وهو متوجع، فقلت:
ما ترى يا بن رسول الله فإن الناس متحيرون؟ فقال:
أرى والله أن معاوية خير لي من هؤلاء، يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي
وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لئن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمي،
وأومن به في أهلي، خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلت
معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما، والله لئن أسالمه وأنا عزيز خير من
أن يقتلني وأنا أسير، أو يمن علي فيكون سنة على بني هاشم آخر الدهر ولمعاوية
لا يزال يمن بها وعقبه علي الحي منا والميت.
(قال): قلت: تترك يا بن رسول الله شيعتك كالغنم ليس لها راع؟

(1) ذكره العلامة (ره) في أولياء علي عليه السلام في القسم الأول من خلاصته
ص 194 والشيخ في رجاله ص 42 في أصحاب علي (ع) وفي الفهرست ص 97 فقال:
(زيد بن وهب له كتاب: خطب أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر في الجمع والأعياد
وغيرها) وفي أسد الغابة ص 243 ج 2 أنه كان في جيش علي (ع) حين مسيره إلى النهروان
وقال ابن عبد البر في هامش الإصابة ص 44 5 ج 1: أنه ثقة، توفي سنة (96).
10

قال: وما أصنع يا أخا جهينة أني والله أعلم بأمر قد أدى به إلي ثقاته:
أن أمير المؤمنين عليه السلام قال لي - ذات يوم وقد رآني فرحا -: يا حسن أتفرح
كيف بك إذا رأيت أباك قتيلا؟! كيف بك إذا ولي هذا الأمر بنو أمية، وأميرها
الرحب البلعوم، الواسع الإعفجاج، (1) يأكل ولا يشبع، يموت وليس له في
السماء ناصر ولا في الأرض عاذر، ثم يستولي على غربها وشرقها، يدين له العباد
ويطول ملكه، يستن بسنن أهل البدع الضلال، ويميت الحق وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله
يقسم المال في أهل ولايته، ويمنعه من هو أحق به، ويذل في ملكه المؤمن،
ويقوى في سلطانه الفاسق، ويجعل المال بين أنصاره دولا، ويتخذ عباد الله خولا
يدرس في سلطانه الحق، ويظهر الباطل، ويقتل من ناواه على الحق، ويدين من
لاواه على الباطل، فكذلك حتى يبعث الله رجلا في آخر الزمان، وكلب من
الدهر، (2) وجهل من الناس، يؤيده الله بملائكته، ويعصم أنصاره، وينصره
بآياته، ويظهره على أهل الأرض حتى يدينوا طوعا وكرها، يملأ الأرض قسطا
وعدلا، ونورا وبرهانا، يدين له عرض البلاد وطولها، لا يبقى كافر إلا آمن به
ولا صالح إلا صلح، ويصطلح في ملكه السباع، وتخرج الأرض نبتها، وينزل
السماء بركتها، وتظهر له الكنوز، يملك ما بين الخافقين أربعين عاما، فطوبى
لمن أدرك أيامه، وسمع كلامه.
وعن الأعمش (3) عن سالم بن أبي الجعد (4) قال: حدثني رجل منا

(1) أي واسع الكرش والأمعاء.
(2) الكلب: شبيه بالجنون.
(3) الأعمش: أبو محمد سليمان بن مهران الأسدي، مولاهم الكوفي، معروف
بالفضل والثقة، والجلالة، والتشيع والاستقامة، والعامة أيضا يثنون عليه، مطبقون
على فضله وثقته، مقرون بجلالته، مع اعترافهم بتشيعه، وقرنوه بالزهري، ونقلوا
منه نوادر كثيرة، بل صنف ابن طولون الشامي كتابا في نوادره سماه: (الزهر الأنعش
في نوادر الأعمش) مات سنة (148).
راجع الكنى والألقاب ج 2 ص 39 رجال الشيخ ص 26.
(4) عده الشيخ ص 43 من رجاله في أصحاب علي عليه السلام و ص 91 في
أصحاب علي بن الحسين عليهما السلام فقال: (سالم بن أبي الجعد الأشجعي مولاهم
الكوفي يكنى أبا أسماء) وذكره العلامة في القسم لأول من خلاصته ص 193 في أولياء
علي عليه السلام.
11

قال: أتيت الحسن بن علي عليه السلام فقلت:
يا بن رسول الله أذللت رقابنا، وجعلتنا معشر الشيعة عبيدا، ما بقي معك رجل
قال: ومم ذاك؟
قال: قلت: بتسليمك الأمر لهذا الطاغية.
قال: والله ما سلمت الأمر إليه إلا أني لم أجد أنصارا، ولو وجدت أنصارا
لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه، ولكني عرفت أهل الكوفة،
وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم من كان فاسدا، إنهم لا وفاء لهم. ولا ذمة في قول
ولا فعل، إنهم لمختلفون، ويقولون لنا: أن قلوبهم معنا، وأن سيوفهم لمشهورة
علينا، قال: وهو يكلمني إذ تنخع الدم، فدعا بطست فحمل من بين يديه ملئ
مما خرج من جوفه من الدم.
فقلت له: ما هذا يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله إني لأراك وجعا؟
قال: أجل دس إلي هذا الطاغية من سقاني سما فقد وقع على كبدي وهو
يخرج قطعا كما ترى.
قلت: أفلا تتداوى؟
قال: قد سقاني مرتين وهذه الثالثة لا أجد لها دواء، ولقد رقى إلي: أنه
كتب إلى ملك الروم يسأله أن يوجه إليه من السم القتال شربة، فكتب إليه ملك
الروم: أنه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا، فكتب إليه أن
هذا ابن الرجل الذي خرج بأرض تهامة، وقد خرج يطلب ملك أبيه، وأنا أريد
أن أدس إليه من يسقيه ذلك، فأريح العباد والبلاد منه، ووجه إليه بهدايا وألطاف
فوجه إليه ملك الروم بهذه الشربة التي دس فيها فسقيها واشترط عليه في
ذلك شروطا.
12

وروي أن معاوية دفع السم إلى امرأة الحسن بن علي عليهما السلام، جعدة بنت
الأشعث، فقال لها: (اسقيه فإذا مات هو زوجتك ابني يزيد) فلما سقته السم ومات
عليه السلام، جاءت الملعونة إلى معاوية الملعون فقالت: (زوجني يزيد) فقال:
(اذهبي فإن امرأة لم تصلح للحسن بن علي لا تصلح لابني يزيد).
احتجاج الحسين بن علي عليهما السلام على عمر بن الخطاب في الإمامة
والخلافة.
روي أن عمر بن الخطاب كان يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله،
فذكر في خطبته أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فقال له الحسين عليه السلام - من
ناحية المسجد -:
إنزل أيها الكذاب عن منبر أبي رسول الله لا منبر أبيك!
فقال له عمر: فمنبر أبيك لعمري يا حسين لا منبر أبي من علمك هذا
أبوك علي بن أبي طالب؟
فقال له الحسين عليه السلام: إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري أنه لها وأنا مهتد
به، وله في رقاب الناس البيعة على عهد رسول الله، نزل بها جبرئيل من عند الله
تعالى لا ينكرها إلا جاحد بالكتاب، قد عرفها الناس بقلوبهم وأنكروها بألسنتهم
وويل للمنكرين حقنا أهل البيت، ماذا يلقاهم به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله من إدامة
الغضب وشدة العذاب!!
فقال عمر: يا حسين من أنكر حق أبيك فعليه لعنة الله، أمرنا لناس فتأمرنا
ولو أمروا أباك لأطعنا.
فقال له الحسين: يا بن الخطاب فأي الناس أمرك على نفسه قبل أن تؤمر
أبا بكر على نفسك ليؤمرك على الناس، بلا حجة من نبي ولا رضا من آل محمد،
فرضاكم كان لمحمد صلى الله عليه وآله رضا؟ أو رضا أهله كان له سخطا؟! أما والله لو أن
للسان مقالا يطول تصديقه، وفعلا يعينه المؤمنون، لما تخطأت رقاب آل محمد،
13

ترقى منبرهم، وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم، لا تعرف معجمه، ولا
تدري تأويله، إلا سماع الآذان، المخطئ والمصيب عندك سواء، فجزاك الله
جزاك، وسألك عما أحدثت سؤالا حفيا.
(قال): فنزل عمر مغضبا، فمشى معه أناس من أصحابه حتى أتى باب
أمير المؤمنين عليه السلام فاستأذن عليه فأذن له، فدخل فقال:
يا أبا الحسن ما لقيت اليوم من ابنك الحسين، يجهرنا بصوت في مسجد
رسول الله ويحرض علي الطغام وأهل المدينة، فقال له الحسن عليه السلام: على مثل
الحسين ابن النبي صلى الله عليه وآله يشخب بمن لا حكم له، أو يقول بالطغام على أهل دينه؟
أما والله ما نلت إلا بالطغام، فلعن الله من حرض الطغام.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: مهلا يا أبا محمد فإنك لن تكون قريب الغضب
ولا لئيم الحسب، ولا فيك عروق من السودان، إسمع كلامي ولا تعجل بالكلام
فقال له عمر: يا أبا الحسن إنهما ليهمان في أنفسهما بما لا يرى بغير الخلافة
فقال أمير المؤمنين: هما أقرب نسبا برسول الله من أن يهما، أما فارضهما
يا بن الخطاب بحقهما يرض عنك من بعدهما.
قال: وما رضاهما يا أبا الحسن؟
قال: رضاهما الرجعة عن الخطيئة، والتقية عن المعصية بالتوبة.
فقال له عمر: أدب يا أبا الحسن ابنك أن لا يتعاطى السلاطين الذين هم
الحكماء في الأرض.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أنا أؤدب أهل المعاصي على معاصيهم، ومن
أخاف عليه الزلة والهلكة، فأما من والده رسول الله ونحله أدبه فإنه لا ينتقل إلى
أدب خير له منه، أما فارضهما يا بن الخطاب.
قال: فخرج عمر فاستقبله عثمان بن عفان، وعبد الرحمان بن عوف.
فقال له عبد الرحمن: يا أبا حفص ما صنعت فقد طالت بكما الحجة؟
فقال له عمر: وهل حجة مع ابن أبي طالب وشبليه؟!
14

فقال له عثمان: يا بن الخطاب، هم بنو عبد مناف، الأسمنون والناس عجاف
فقال له عمر: ما أعد ما صرت إليه فخرا فخرت به بحمقك، فقبض
عثمان على مجامع ثيابه ثم نبذ به ورده، ثم قال له: يا بن الخطاب، كأنك تنكر
ما أقول، فدخل بينهما عبد الرحمن وفرق بينهما، وافترق القوم.
احتجاج الحسين (ع) بذكر مناقب أمير المؤمنين وأولاده عليهم السلام
حين أمر معاوية بلعن أمير المؤمنين (ع) وقتل شيعته، وقتل من يروي شيئا
من فضائله.
عن سليم بن قيس قال: قدم معاوية بن أبي سفيان حاجا في خلافته فاستقبله
أهل المدينة، فنظر فإذا الذين استقبلوه ما فيهم أحد من قريش، فلما نزل قال:
ما فعلت الأنصار وما بالها لم تستقبلني؟
فقيل له: إنهم محتاجون ليس لهم دواب.
فقال معاوية: فأين نواضحهم؟
فقال قيس بن سعد بن عبادة - وكان سيد الأنصار وابن سيدها -: أفنوها
يوم بدر واحد وما بعدهما من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وآله، حين ضربوك وأباك على
الإسلام حتى ظهر أمر الله وأنتم كارهون، فسكت معاوية، فقال قيس:
أما أن رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إلينا أنا سنلقي بعده إثرة.
فقال معاوية: فما أمركم به؟
فقال: أمرنا أن نصبر حتى نلقاه.
قال: فاصبروا حتى تلقوه!
ثم إن معاوية مر بحلقة من قريش فلما رأوه قاموا غير عبد الله بن عباس
فقال له:
يا بن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك، إلا لموجدة أني قاتلتكم
بصفين، فلا تجد من ذلك يا بن عباس! فإن ابن عمي عثمان قد قتل مظلوما!
15

قال ابن عباس: فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما.
قال: إن عمر قتله كافر.
قال ابن عباس: فمن قتل عثمان؟
قال: قتله المسلمون.
قال: فذلك أدحض لحجتك.
قال: فإنا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته،
فكف لسانك.
فقال: يا معاوية أتنهانا عن قراءة القرآن؟!
قال: لا.
قال: أتنهانا عن تأويله؟!
قال: نعم.
قال: فنقرأه ولا نسأل عما عنى الله به؟ ثم قال: فأيهما أوجب علينا قرائته
أو العمل به؟
قال: العمل به.
قال: فكيف نعمل به ولا نعلم ما عنى الله؟!
قال: سل عن ذلك من يتأوله غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.
قال: إنما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان يا معاوية
أتنهانا أن نعبد الله بالقرآن بما فيه من حلال وحرام؟! فإن لم تسأل الأمة عن
ذلك حتى تعلم تهلك وتختلف.
قال: اقرؤا القرآن وتأولوه ولا ترووا شيئا مما أنزل الله فيكم، وارووا
ما سوى ذلك.
قال: فإن الله يقول في القرآن: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى
الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).
قال: يا بن عباس أربع على نفسك، وكف لسانك، وإن كنت لا بد فاعلا
16

فليكن ذلك سرا لا يسمعه أحد علانية.
ثم رجع إلى بيته فبعث إليه بمائة ألف درهم، ونادى منادي معاوية أن قد
برئت الذمة ممن يروي حديثا من مناقب علي وفضل أهل بيته، وكان أشد الناس
بلية أهل الكوفة، لكثرة من بها من الشيعة، فاستعمل زياد ابن أبيه وضم إليه العراقين:
الكوفة والبصرة، فجعل يتتبع الشيعة وهو بهم عارف، يقتلهم تحت كل حجر ومدر
وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وصلبهم في جذوع النخل، وسمل أعينهم،
وطردهم وشردهم، حتى نفوا عن العراق فلم يبق بها أحد معروف مشهور، فهم
بين مقتول أو مصلوب، أو محبوس، أو طريد، أو شريد.
وكتب معاوية إلى جميع عماله في جميع الأمصار: أن لا تجيزوا لأحد من
شيعة علي وأهل بيته شهادة، وانظروا قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه ومحبي أهل
بيته وأهل ولايته، والذين يروون فضله ومناقبه فأدنوا مجالسهم، وقربوهم،
وأكرموهم، واكتبوا بمن يروي من مناقبه واسم أبيه وقبيلته، ففعلوا، حتى
كثرت الرواية في عثمان، وافتعلوها لما كان يبعث إليهم من الصلات والخلع
والقطايع، من العرب والموالي، وكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في الأموال
والدنيا، فليس أحد يجئ من مصر من الأمصار فيروي في عثمان منقبة أو فضيلة
إلا كتب اسمه، وأجيز، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
ثم كتب إلى عماله: إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر،
فادعوا الناس إلى الرواية في معاوية وفضله وسوابقه، فإن ذلك أحب إلينا، وأقر
لأعيننا، وأدحض لحجة أهل هذا البيت، وأشد عليهم، فقرأ كل أمير وقاض كتابه
على الناس، فأخذ الرواة في فضائل معاوية على المنبر في كل كورة وكل
مسجد زورا، وألقوا ذلك إلى معلمي الكتاتيب فعلموا ذلك صبيانهم، كما يعلمونهم
القرآن، حتى علموه بناتهم ونساؤهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
وكتب زياد بن أبيه إليه في حق الحضرميين: أنهم على دين علي، وعلى رأيه
فكتب إليه معاوية: أقتل كل من كان على دين علي ورأيه فقتلهم ومثل بهم.
17

وكتب كتابا آخر انظروا من قبلكم من شيعة علي واتهموه بحبه فاقتلوه
وإن لم تقم عليه البينة فاقتلوه على التهمة والظنة والشبهة تحت كل حجر، حتى
لو كان الرجل تسقط منه كلمة ضربت عنقه، حتى لو كان الرجل يرمى بالزندقة
والكفر كان يكرم ويعظم ولا يتعرض له بمكروه، والرجل من الشيعة لا يأمن على
نفسه في بلد من البلدان لا سيما الكوفة والبصرة، حتى لو أن أحدا منهم أراد أن
يلقي سرا إلى من يثق به لأتاه في بيته فيخاف خادمه ومملوكه، فلا يحدثه إلا بعد
أن يأخذ عليهم الأيمان المغلظة: ليكتمن عليه، ثم لا يزداد الأمر إلا شدة، حتى
كثر وظهر أحاديثهم الكاذبة، ونشأ عليه الصبيان يتعلمون ذلك.
وكان أشد الناس في ذلك القراء المراؤون المتصنعون الذين يظهرون الخشوع
والورع، فكذبوا وانتحلوا الأحاديث وولدوها فيحظون بذلك عند الولاة والقضاة
ويدنون مجالسهم، ويصيبون بذلك الأموال والقطايع والمنازل، حتى صارت
أحاديثهم ورواياتهم عندهم حقا وصدقا، فرووها وقبلوها وتعلموها وعلموها،
وأحبوا عليها وأبغضوا من ردها أو شك فيها، فاجتمعت على ذلك جماعتهم،
وصارت في يد المتنسكين والمتدينين منهم الذين لا يحبون الافتعال إلى مثلها، فقبلوها
وهم يرون أنها حق، ولو علموا بطلانها وتيقنوا أنها مفتعلة لأعرضوا عن روايتها
ولم يدينوا بها، ولم يبغضوا من خالفها، فصار الحق في ذلك الزمان عندهم باطلا
والباطل عندهم حقا، والكذب صدقا، والصدق كذبا.
فلما مات الحسن بن علي ازداد البلاء والفتنة، فلم يبق لله ولي إلا خائف على
نفسه، أو مقتول، أو طريد، أو شريد. فلما كان قبل موت معاوية بسنتين حج
الحسين بن علي عليه السلام وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس معه. وقد جمع
الحسين بن علي عليه السلام بني هاشم، رجالهم ونساءهم، ومواليهم، وشيعتهم، من حج منهم
ومن لم يحج، ومن الأنصار ممن يعرفونه، وأهل بيته، ثم لم يدع أحدا من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن أبنائهم والتابعين، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح
والنسك إلا جمعهم فاجتمع عليه بمنى أكثر من ألف رجل، والحسين عليه السلام في سرادقه
18

عامتهم التابعون وأبناء الصحابة، فقام الحسين عليه السلام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال:
أما بعد: فإن الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم
وبلغكم، وأني أريد أن أسألكم عن أشياء فإن صدقت فصدقوني، وإن كذبت
فكذبوني، اسمعوا مقالتي، واكتموا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم
من أمنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإني أخاف أن يندرس هذا الحق
ويذهب، والله متم نوره ولو كره الكافرون،
فما ترك الحسين شيئا أنزل الله فيهم من القرآن إلا قاله وفسره، ولا شيئا
قاله الرسول في أبيه وأمه وأهل بيته إلا رواه، وكل ذلك يقول الصحابة: (اللهم
نعم، قد سمعناه وشهدناه) ويقول التابعون: (اللهم قد حدثنا من نصدقه ونأتمنه)
حتى لم يترك شيئا إلا قاله ثم قال:
أنشدكم بالله إلا رجعتم وحدثتم به من تثقون به، ثم نزل وتفرق الناس
على ذلك.
احتجاجه عليه السلام على معاوية توبيخا له على قتل من قتله من شيعة
أمير المؤمنين وترحمه عليهم.
عن صالح بن كيسان (1) قال: لما قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه
حج ذلك العام فلقي الحسين بن علي عليه السلام فقال:
يا أبا عبد الله هل بلغك ما صنعنا بحجر، وأصحابه، وأشياعه، وشيعة أبيك؟
فقال عليه السلام: وما صنعت بهم؟
قال: قتلناهم، وكفناهم، وصلينا عليهم.
فضحك الحسين عليه السلام ثم قال: خصمك القوم يا معاوية، لكننا لو قتلنا شيعتك
.

(1) صالح بن كيسان المدني عده الشيخ من أصحاب علي بن الحسين عليه السلام
ص 93 من رجاله
19

ما كفناهم، ولا صلينا عليهم، ولا قبرناهم، ولقد بلغني وقيعتك في علي وقيامك
ببغضنا، واعتراضك بني هاشم بالعيوب، فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك، ثم
سلها الحق عليها ولها، فإن لم تجدها أعظم عيبا فما أصغر عيبك فيك، وقد ظلمناك
يا معاوية فلا توترن غير قوسك، ولا ترمين غير غرضك، ولا ترمنا بالعداوة من
مكان قريب، فإنك والله لقد أطعت فينا رجلا ما قدم إسلامه، ولا حدث نفاقه،
ولا نظر لك فانظر لنفسك أو دع - يعني: (عمرو بن العاص).
وقال عليه السلام - في جواب كتاب كتب إليه معاوية على طريق الإحتجاج -:
أما بعد: فقد بلغني كتابك أنه بلغك عني أمور أن بي عنها غنى، وزعمت أني
راغب فيها، وأنا بغيرها عنك جدير، أما ما رقى إليك عني فإنه رقاه إليك الملاقون
المشاؤن بالنمائم المفرقون بين الجمع، كذب الساعون الواشون ما أردت حربك
ولا خلافا عليك وأيم الله إني لأخاف الله عز ذكره في ترك ذلك، وما أظن الله تبارك وتعالى
براض عني بتركه، ولا عاذري بدون الاعتذار إليه فيك، وفي أولئك القاسطين الملبين
حزب الظالمين، بل أولياء الشيطان الرجيم، ألست قاتل حجر بن عدي أخي
كندة وأصحابه الصالحين المطيعين العابدين، كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون
المنكر والبدع، ويؤثرون حكم الكتاب، ولا يخافون في الله لومة لائم، فقتلتهم
ظلما وعدوانا، بعدما كنت أعطيتهم الإيمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة، لا تأخذهم
بحدث كان بينك وبينهم، ولا بأحنة تجدها في صدرك عليهم، أو لست قاتل عمرو
ابن الحمق صاحب رسول الله، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فصفرت لونه،
ونحلت جسمه، بعد أن أمنته وأعطيته من عهود الله عز وجل وميثاقه ما لو أعطيته
العصم ففهمته لنزلت إليك من شعف الجبال، ثم قتلته جرأة على الله عز وجل،
واستخفافا بذلك العهد، أو لست المدعي زياد بن سمية، المولود على فراش عبيد
عبد ثقيف، فزعمت أنه ابن أبيك، وقد قال رسول الله: (الولد للفراش وللعاهر
الحجر) فتركت سنة رسول الله واتبعت هواك بغير هدى من الله، ثم سلطته على
أهل العراق فقطع أيدي المسلمين وأرجلهم وسمل أعينهم، وصلبهم على جذوع النخل
20

كأنك لست من هذه الأمة، وليسوا منك؟ أو لست صاحب الحضرميين الذين
كتب إليك فيهم ابن سمية أنهم: على دين علي ورأيه، فكتبت إليه اقتل كل من
كان على دين علي عليه السلام ورأيه فقتلهم، ومثل بهم بأمرك، ودين علي والله وابن
علي الذي كان يضرب عليه أباك، وهو أجلسك بمجلسك الذي أنت فيه ولولا ذلك
لكان أفضل شرفك وشرف أبيك تجشم الرحلتين اللتين بنا من الله عليكم فوضعهما
عنكم؟ وقلت فيما تقول أنظر نفسك ولدينك ولأمة محمد صلى الله عليه وآله، واتق شق عصا
هذه الأمة، وأن تردهم في فتنة، فلا أعرف فتنة أعظم من ولايتك عليها، ولا أعلم
نظرا لنفسي وولدي وأمة جدي أفضل من جهادك، فإن فعلته فهو قربة إلى الله
عز وجل، وإن تركته فأستغفر الله لذنبي وأسأله توفيقي لإرشاد أموري، وقلت
فيما تقول إن أنكرك تنكرني، وإن أكدك تكدني، وهل رأيك الأكيد الصالحين
منذ خلقت؟! فكدني ما بدا لك إن شئت فإني أرجو أن لا يضرني كيدك، وأن
لا يكون على أحد أضر منه على نفسك، على أنك تكيد فتوقظ عدوك، وتوبق
نفسك، كفعلك بهؤلاء الذين قتلتهم ومثلث بهم بعد الصلح والأيمان والعهد والميثاق
فقتلتهم من غير أن يكونوا قتلوا إلا لذكرهم فضلنا، وتعظيمهم حقنا، بما به
شرفت وعرفت، مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل
أن يدركوا، أبشر يا معاوية بقصاص، واستعد للحساب، واعلم أن لله عز وجل
كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وليس الله تبارك وتعالى بناس أخذك
بالظنة، وقتلك أولياءه بالتهمة، ونفيك إياهم من دار الهجرة إلى دار الغربة والوحشة
وأخذك الناس ببيعة ابنك، غلام من الغلمان، يشرب الشراب، ويلعب بالكعاب
لا أعلمك إلا قد خسرت نفسك، وشريت دينك، وغششت رعيتك، وأخزيت
أمانتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت التقي الورع الحليم.
قال: فلما قرأ معاوية كتاب الحسين عليه السلام قال: لقد كان في نفسه ضب
علي ما كنت أشعر به.
فقال ابنه يزيد، وعبد الله بن أبي عمير بن جعفر: أجبه جوابا شديدا
21

تصغر إليه نفسه، وتذكر أباه بأسوء فعله وآثاره.
فقال: كلا أرأيتما لو أني أردت أن أعيب عليا محقا ما عسيت أن أقول،
إن مثلي لا يحسن به أن يعيب بالباطل، وما لا يعرف الناس، ومتى عبت رجلا
بما لا يعرف لم يحفل به صاحبه ولم يره شيئا، وما عسيت أن أعيب حسينا، وما
أرى للعيب فيه موضعا إلا أني قد أردت أن أكتب إليه وأتوعده وأهدده، وأجهله
ثم رأيت لا أفعل.
قال: فما كتب إليه بشئ يسوءه، ولا قطع عنه شيئا كان يصله به، كان
يبعث إليه في كل سنة ألف ألف درهم سوى عروض وهدايا من كل ضرب.
احتجاجه صلوات الله عليه بإمامته على معاوية وغيره وذكر طرف من
مفاخراته ومشاجراته التي جرت له مع معاوية وأصحابه.
عن موسى بن عقبة (1) أنه قال: لقد قيل لمعاوية: إن الناس قد رموا
أبصارهم إلى الحسين عليه السلام، فلو قد أمرته يصعد المنبر ويخطب فإن فيه حصرا أو
في لسانه كلالة.
فقال لهم معاوية: قد ظننا ذلك بالحسن، فلم يزل حتى عظم في أعين الناس
وفضحنا، فلم يزالوا به حتى قال للحسين: يا أبا عبد الله لو صعدت المنبر فخطبت.
فصعد الحسين عليه السلام على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله
فسمع رجلا يقول:
من هذا الذي يخطب؟
فقال الحسين عليه السلام: نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله صلى الله عليه وآله
الأقربون، وأهل بيته الطيبون، واحد الثقلين اللذين جعلنا رسول الله صلى الله عليه وآله ثاني
كتاب الله تبارك وتعالى، الذي فيه تفصيل كل شئ، لا يأتيه الباطل من بين يديه
.

(1) موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني تابعي عده الشيخ (ره) في أصحاب
الصادق عليه السلام ص 307
22

ولا من خلفه، والمعول علينا في تفسيره، لا يبطينا تأويله، بل نتبع حقايقه.
فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، أن كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله عز
وجل: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه
إلى الله والرسول) وقال: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم لعلمه
الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان إلا قليلا).
وأحذركم الاصغاء إلى هتوف الشيطان بكم فإنه لكم عدو مبين فتكونوا
كأوليائه الذين قال لهم لا غالب لكم اليوم من الناس وأني جار لكم فلما تراءت
الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم فتلقون للسيوف ضربا وللرماح
وردا وللعمد حطما وللسهام غرضا ثم لا يقبل من نفس إيمانها لن تكن آمنت من
قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قال معاوية: حسبك يا أبا عبد الله قد بلغت.
وعن محمد بن السايب (1) أنه قال: قال مروان بن الحكم يوما للحسين
ابن علي عليه السلام.
لولا فخركم بفاطمة بم كنتم تفتخرون علينا؟ فوثب الحسين عليه السلام
- وكان عليه السلام شديد القبضة - فقبض على حلقه فعصره، ولوى عمامته على عنقه
حتى غشي عليه، ثم تركه، وأقبل الحسين عليه السلام على جماعة من قريش فقال:
أنشدكم بالله إلا صدقتموني إن صدقت أتعلمون أن في الأرض حبيبين كانا
أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله مني ومن أخي؟ أو على ظهر الأرض ابن بنت نبي غيري
وغير أخي؟
قالوا: اللهم لا.
قال: وأني لا أعلم أن في الأرض ملعون ابن ملعون غير هذا وأبيه، طريدي
رسول الله، والله ما بين جابرس وجابلق أحدهما بباب المشرق والآخر بباب
المغرب رجلان ممن ينتحل الإسلام أعدى لله ولرسوله ولأهل بيته منك ومن أبيك
إذا كان وعلامة قولي فيك أنك: إذا غضبت سقط رداؤك عن منكبك.
.

(1) محمد بن السايب: عده الشيخ في أصحاب الصادق (ع) ص 289
23

قال: فوالله ما قام مروان من مجلسه حتى غضب فانتفض وسقط رداؤه
عن عاتقه.
احتجاجه عليه السلام على أهل الكوفة بكربلا. عن مصعب بن عبد الله (1)
لما استكف الناس بالحسين عليه السلام ركب فرسه واستنصت الناس، حمد الله
وأثنى عليه، ثم قال:
تبا لكم أيتها الجماعة وترحا وبؤسا لكم! حين استصرختمونا ولهين،
فأصرخناكم موجفين، فشحذتم علينا سيفا كان في أيدينا، وحمشتم علينا نارا
أضرمناها على عدوكم وعدونا، فأصبحتم إلبا على أوليائكم، ويدا على أعدائكم
من غير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، ولا ذنب كان منا إليكم،
فهلا لكم الويلات إذ كرهتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لم يستحصف
ولكنكم أسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدبا، وتهافتم إليها كتهافت الفراش، ثم
نقضتموها سفها وضلة، فبعدا وسحقا لطواغيت هذه الأمة! وبقية الأحزاب، ونبذة
الكتاب، ومطفئي السنن، ومؤاخي المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين،
وعصاة الإمام، وملحقي العهرة بالنسب، ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط
الله عليهم وفي العذاب هم خالدون.
أفهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون!! أجل والله، خذل فيكم معروف، نبتت
عليه أصولكم، واتذرت عليه عروقكم، فكنتم أخبث ثمر شجر للناظر، وأكلة
للغاصب، ألا لعنة الله على الظالمين الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها
وقد جعلوا الله عليهم كفيلا، ألا وإن الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلة والذلة
وهيهات له ذلك مني! هيهات منا الذلة! أبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون
.

(1) مصعب بن عبد الله: من آل الزبير بن العوام مجهول الحال ذكره المامقاني
في الجزء الثالث من رجاله ص 219
24

وحجور طهرت وجدود طابت، أن يؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، الأواني
زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد، وكثرة العدو، وخذلة الناصر، ثم تمثل
فقال شعرا:
فإن نهزم فهزامون قدما وإن نهزم فغير مهزمينا
وما أن طبنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا
فلو خلد الملوك إذا خلدنا ولو بقي الكرام إذا بقينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون بما لقينا
وقيل: أنه لما قتل أصحاب الحسين عليه السلام وأقاربه وبقي فريدا ليس معه إلا ابنه
علي زين العابدين عليه السلام، وابن آخر في الرضاع اسمه عبد الله، فتقدم الحسين عليه السلام
إلى باب الخيمة فقال:
ناولوني ذلك الطفل حتى أودعه! فناولوه الصبي جعل يقبله وهو يقول:
يا بني ويل لهؤلاء القوم إذا كان خصمهم محمد صلى الله عليه وآله، قيل: فإذا بسهم قد أقبل
حتى وقع في لبة الصبي فقتله، فنزل الحسين عن فرسه وحفر للصبي بجفن سيفه
ورمله بدمه ودفنه، ثم وثب قائما وهو يقول:
كفر القوم وقدما رغبوا * عن ثواب الله رب الثقلين
قتلوا قدما عليا وابنه * حسن الخير كريم الطرفين
حنقا منهم وقالوا اجمعوا * نفتك الآن جميعا بالحسين
يالقوم من أناس رذل جمعوا * الجمع لأهل الحرمين
ثم صاروا وتواصوا كلهم * باحتياج لرضاء الملحدين
لم يخافوا الله في سفك دمي * لعبيد الله نسل الكافرين
وابن سعد قد رماني عنوة * بجنود كوكوف الهاطلين
لا لشئ كان مني قبل ذا * غير فخري بضياء الفرقدين
بعلي الخير من بعد النبي * والنبي القرشي الوالدين
خيرة الله من الخلق أبي * ثم أمي فأنا ابن الخيرتين
25

فضة قد خلقت من ذهب * فأنا الفضة وابن الذهبين
من له جد كجدي في الورى * أو كشيخي فإنا ابن القمرين
فاطم الزهراء أمي وأبي * قاصم الكفر ببدر وحنين
عروة الدين علي المرتضى * هادم الجيش مصلي القبلتين
وله في يوم أحد وقعة * شفت الغل بقبض العسكرين
ثم بالأحزاب والفتح معا * كان فيها حتف أهل القبلتين
في سبيل الله ماذا صنعت * أمة السوء معا بالعترتين
عترة البر التقي المصطفى * وعلى القرم يوم الجحفلين
عبد الله غلاما يافعا * وقريش يعبدون الوثنين
وقلى الأوثان لم يسجد لها * مع قريش لا ولا طرفة عين
طعن الأبطال لما برزوا * يوم بدر وتبوك وحنين
ثم تقدم الحسين عليه السلام حتى وقف قبالة القوم وسيفه مصلت في يده آيسا من
نفسه، عازما على الموت، وهو يقول:
أنا ابن علي الطهر من آل هاشم * كفاني بهذا مفخرا حين أفخر
وجدي رسول الله أكرم من مشى * ونحن سراج الله في الخلق نزهر
وفاطم أمي من سلالة أحمد * وعمي يدعى ذو الجناحين جعفر
وفينا كتاب الله أنزل صادقا * وفينا الهدى والوحي بالخير تذكر
ونحن أمان الله للناس كلهم * نطول بهذا في الأنام ونجهر
ونحن حماة الحوض نسقي * ولاتنا بكأس رسول الله ما ليس ينكر
وشيعتنا في الحشر أكرم شيعة * ومبغضنا يوم القيامة يخسر
26

احتجاج فاطمة الصغرى على أهل الكوفة.
عن زيد بن موسى بن جعفر (1) عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال:
خطبت فاطمة الصغرى عليها السلام بعد أن ردت من كربلا فقالت:
الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده وأومن به
وأتوكل عليه، وأشهد: أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده
ورسوله، وأن أولاده ذبحوا بشط الفرات من غير دخل ولا تراث، اللهم إني أعوذ
بك أن أفتري عليك الكذب، وأن أقول خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود
لوصيه علي بن أبي طالب عليه السلام، المسلوب حقه، المقتول من غير ذنب، كما قتل
ولده بالأمس في بيت من بيوت الله، وبها معشر مسلمة بألسنتهم، تعسا لرؤوسهم!
ما دفعت عنه ضيما في حياته ولا عند مماته، حتى قبضته إليك محمود النقيبة، طيب
الضريبة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه فيك لومة لائم، ولا عذل
عاذل، هديته يا رب للإسلام صغيرا، وحمدت مناقبه كبيرا، ولم يزل ناصحا لك
ولرسولك صلى الله عليه وآله صلواتك عليه وآله حتى قبضته إليك، زاهدا في الدنيا غير حريص
عليها، راغبا في الآخرة مجاهدا لك في سبيلك، رضيته فاخترته، وهديته إلى
طريق مستقيم.
أما بعد يا أهل الكوفة! يا أهل المكر والغدر والخيلاء، أنا أهل بيت ابتلانا
الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلائنا حسنا، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا،
فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجته في الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا
الله بكرامته، وفضلنا بنبيه صلى الله عليه وآله على كثير من خلقه تفضيلا، فكذبتمونا،
وكفرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالا، وأموالنا نهبا، كأنا أولاد الترك أو كابل،

(1) زيد بن موسى بن جعفر (ع) - وهو لأم ولد - عقد له محمد بن محمد بن
زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) أيام أبي السرايا على الأهواز، ولما
دخل البصرة وغلب عليها أحرق دور بني العباس وأضرم النار في نخيلهم وجميع أسبابهم
فقيل له: زيد النار. عمدة الطالب ص 221
27

كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم،
قرت بذلك عيونكم، وفرحت به قلوبكم، اجتراءا منكم على الله، ومكرا مكرتم
والله خير الماكرين، فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا (1)
ونالت أيديكم من أموالنا، فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة، والرزايا العظيمة
في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم
ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور.
تبا لكم! فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حل بكم، وتواترت من
السماء نقمات فيسحتكم بما كسبتم (2) ويذيق بعضكم بأس بعض، ثم تخلدون
في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين، ويلكم أتدرون
أية يد طاعنتنا منكم، أو أية نفس نزعت إلى قتالنا، أم بأية رجل مشيتم إلينا،
تبغون محاربتنا؟ قست قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطبع على أفئدتكم، وختم
على سمعكم وبصركم، وسول لكم الشيطان وأملى لكم وجعل على بصركم غشاوة
فأنتم لا تهتدون.
تبا لكم يا أهل الكوفة! كم تراث لرسول الله صلى الله عليه وآله قبلكم، وذحوله
لديكم، ثم غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام جدي، وبنيه عترة النبي الطيبين
الأخيار، وافتخر بذلك مفتخر فقال:
(نحن قتلنا عليا وبني علي بسيوف هندية ورماح، وسبينا نساؤهم سبي ترك
ونطحناهم فأي نطاح).
فقالت: بفيك أيها القائل الكثكث (3) ولك الأثلب (4) افتخرت بقتل
قوم زكاهم الله وطهرهم، وأذهب عنهم الرجس، فاكظم واقع كما أقعى أبوك،
وإنما لكل امرء ما قدمت يداه، حسدتمونا ويلا لكم على ما فضلنا الله.

(1) الجذل: الفرح
(2) يسحتكم: يستأصلكم
(3) الكثكث: دقاق التراب
(4) الأثلب: دقاق الحجر
28

فما ذنبنا أن جاش دهر بحورنا * وبحرك ساج لا يواري الدعامصا (1)
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
قال: فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالوا: حسبك يا بنت الطيبين! فقد
أحرقت قلوبنا، وأنضجت نحورنا، وأضرمت أجوافنا، فسكتت عليها وعلى أبيها
وجدها السلام
خطبة زينب بنت علي بن أبي طالب بحضرة أهل الكوفة في ذلك اليوم
تقريعا لهم وتأنيبا.
عن حذيم بن شريك الأسدي (2) قال لما أتى علي بن الحسين زين العابدين
بالنسوة من كربلاء، وكان مريضا، وإذا نساء أهل الكوفة ينتدبن مشققات
الجيوب، والرجال معهن يبكون.
فقال زين العابدين عليه السلام - بصوت ضئيل وقد نهكته العلة -: إن هؤلاء
يبكون علينا فمن قتلنا غيرهم، فأومت زينب بنت علي بن أبي طالب عليهما السلام إلى الناس
بالسكوت. قال حذيم الأسدي: لم أر والله خفرة قط أنطق منها، كأنها تنطق
وتفرغ على لسان علي عليه السلام، وقد أشارت إلى الناس بأن انصتوا فارتدت الأنفاس
وسكنت الأجراس، ثم قالت - بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله -
أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل (3) والغدر، والخذل!! ألا فلا
رقأت العبرة (4) ولا هدأت الزفرة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد

(1) الدعامص - جمع دعموص - وهو: دويبة صغيرة تكون في مستنقع الماء،
والبيت للأعشى.
(2) حذيم بن شريك الأسدي: عده الشيخ في رجاله ص 88 من أصحاب الإمام
علي بن الحسين عليه السلام.
(3) الختل: الخداع.
(4) رقأت: جفت.
29

قوة أنكاثا (1) تتخذون أيمانكم دخلا بينكم (2) هل فيكم إلا الصلف (3)
والعجب، والشنف (4) والكذب، وملق الإماء وغمز الأعداء (5) أو كمرعى
على دمنة (6) أو كفضة على ملحودة (7) ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن
سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون أخي؟! أجل والله فابكوا
فإنكم أحرى بالبكاء فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلا، فقد أبليتم بعارها، ومنيتم
بشنارها (8) ولن ترحضوا أبدا (9) وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة
ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حربكم، ومعاذ حزبكم ومقر
سلمكم، واسى كلمكم (10) ومفزع نازلتكم، والمرجع إليه عند مقاتلتكم
ومدرة حججكم (11) ومنار محجتكم، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم، وساء
ما تزرون ليوم بعثكم، فتعسا تعسا! ونكسا نكسا! لقد خاب السعي، وتبت
الأيدي، وخسرت الصفة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة،
أتدرون ويلكم أي كبد لمحمد صلى الله عليه وآله فرثتم؟! وأي عهد نكثتم؟! وأي كريمة
له أبرزتم؟! وأي حرمة له هتكتم؟! وأي دم له سفكتم؟! لقد جئتم شيئا إدا
تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا! لقد جئتم بها شوهاء
صلعاء، عنقاء، سوداء، فقماء خرقاء (12) كطلاع الأرض، أو ملأ السماء (13)
.

(1) أي: حلته وأفسدته بعد إبرام.
(2) أي: خيانة وخديعة.
(3) الصلف: الذي يمتدح بما ليس عنده.
(4) الشنف: البعض بغير حق.
(5) الغمز: الطعن والعيب.
(6) الدمنة: المزبلة.
(7) الفضة: الجص. والملحودة: القبر.
(8) الشنار: العار.
(9) أي لن تغسلوها.
(10) أي: دواء جرحكم.
(11) المدرة زعيم القوم ولسانهم المتكلم عنهم.
(12) الشوهاء: القبيحة. والفقهاء إذا كانت ثناياها العليا إلى الخارج فلا تقع
على السفلى. والخرقاء: الحمقاء.
(13) طلاع الأرض: ملؤها
30

أفعجبتم أن تمطر السماء دما، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، فلا
يستخفنكم المهل، فإنه عز وجل لا يحفزه البدار (1) ولا يخشى عليه فوت
الثار، كلا إن ربك لنا ولهم لبالمرصاد، ثم أنشأت تقول عليها السلام:
ماذا تقولون إذ قال النبي لكم * ماذا صنعتم وأنتم آخر الأمم
بأهل بيتي وأولادي وتكرمتي * منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم
ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم * أن تخلفوني بسوء في ذوي رحم
إني لأخشى عليكم أن يحل بكم * مثل العذاب الذي أودى على ارم
ثم ولت عنهم.
قال حذيم: فرأيت الناس حيارى قد ردوا أيديهم في أفواههم، فالتفت إلي
شيخ في جانبي يبكي وقد اخضلت لحيته بالبكاء، ويده مرفوعة إلى السماء، وهو
يقول: بأبي وأمي كهولهم خير كهول، ونساؤهم خير نساء، وشبابهم خير شباب
ونسلهم نسل كريم، وفضلهم فضل عظيم، ثم أنشد:
كهولكم خير الكهول ونسلكم * إذا عد نسل لا يبور ولا يخزى
فقال علي بن الحسين عليه السلام يا عمة اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار،
وأنت بحمد الله عالمة غير معلمة، فهمة غير مفهمة، إن البكاء والحنين لا يردان
من قد أباده الدهر، فسكتت. ثم نزل عليه السلام وضرب فسطاطه، وأنزل نسائه
ودخل الفسطاط.
احتجاج علي بن الحسين عليهما السلام على أهل الكوفة حين خرج من
الفسطاط وتوبيخه إياهم على غدرهم ونكثهم.
قال حذيم بن شريك الأسدي: خرج زين العابدين عليه السلام إلى الناس وأومئ
إليهم أن اسكتوا فسكتوا، وهو قائم، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه،
ثم قال:
.

(1) يحفزه: يدفعه.
31

أيها الناس من عرفني فقد عرفني! ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين،
المذبوح بشط الفرات من غير دخل ولا تراث، أنا ابن من انتهك حريمه، وسلب
نعيمه، وانتهب ماله، وسبي عياله، أنا ابن من قتل صبرا، فكفى بذلك فخرا.
أيها الناس ناشدتكم بالله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه،
وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة؟ قاتلتموه وخذلتموه فتبا لكم ما
قدمتم لأنفسكم وسوء لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول
لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي.
قال: فارتفعت أصوات الناس بالبكاء، ويدعو بعضهم بعضا: هلكتم وما تعلمون.
فقال علي بن الحسين، رحم الله امرءا قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي في الله
وفي رسوله، وفي أهل بيته، فإن لنا في رسول الله أسوة حسنة.
فقالوا بأجمعهم؟ نحن كلنا يا بن رسول الله سامعون مطيعون حافظون
لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك رحمك الله فإنا حرب
لحربك، سلم لسلمك، لنأخذن ترتك وترتنا، عمن ظلمك وظلمنا.
فقال علي بن الحسين عليه السلام: هيهات هيهات!! أيها الغدرة المكرة، حيل
بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى آبائي من قبل
كلا ورب الراقصات إلى منى، فإن الجرح لما يندمل!! قتل أبي بالأمس، وأهل
بيته معه، فلم ينسني ثكل رسول الله صلى الله عليه وآله، وثكل أبي وبني أبي و جدي شق
لهازمي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري.
و مسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا:
ثم قال عليه السلام:
لا غرو أن قتل الحسين وشيخه * قد كان خيرا من حسين وأكرما
فلا تفرحوا يا أهل كوفة بالذي * أصيب حسين كان ذلك أعظما
قتيل بشط النهر نفسي فداؤه * جزاء الذي أرداه نار جهنما
32

احتجاجه عليه السلام بالشام على بعض أهلها حين قدم به وبمن معه
على يزيد لعنه الله.
وعن ديلم بن عمر قال: كنت بالشام حين أتي بسبايا آل محمد صلى الله عليه وآله، فأقيموا
على باب المسجد حيث تقام السبايا، وفيهم علي بن الحسين، فأتاهم شيخ من أشياخ
أهل الشام فقال:
الحمد لله الذي قتلكم، وأهلككم، وقطع قرون الفتنة. فلم يأل عن سبهم
وشتمهم، فلما انقضى كلامه.
قال له علي بن الحسين عليه السلام: إني قد أنصت لك حتى فرغت من منطقك،
وأظهرت ما في نفسك من العداوة والبغضاء، فانصت لي كما أنصت لك.
فقال له: هات.
قال علي عليه السلام: أما قرأت كتاب الله عز وجل؟
قال: نعم.
فقال عليه السلام له: أما قرأت هذه الآية (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة
في القربى).
قال: بلى.
فقال عليه السلام: نحن أولئك فهل تجد لنا في سورة بني إسرائيل حقا خاصة
دون المسلمين؟
فقال: لا.
فقال: أما قرأت هذه الآية؟ وآت ذا القربى حقه؟
قال: نعم.
قال علي عليه السلام: فنحن أولئك الذين أمر الله نبيه أن يؤتيهم حقهم.
فقال الشامي: إنكم لأنتم هم؟
فقال علي عليه السلام: نعم. فهل قرأت هذه الآية واعلموا إنما غنمتم من شئ
33

فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى؟
فقال له الشامي: بلى.
فقال علي عليه السلام: فنحن ذو القربى، فهل تجد لنا في سورة الأحزاب حقا
خاصة دون المسلمين؟
فقال: لا.
قال علي بن الحسين عليه السلام: أما قرأت هذه الآية: (إنما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)؟
قال: فرفع الشامي يده إلى السماء ثم قال:
اللهم إني أتوب إليك! ثلاث مرات، اللهم إني أتوب إليك من عداوة آل محمد، وأبرء
إليك ممن قتل أهل بيت محمد، ولقد قرأت القرآن منذ دهر فما شعرت بها قبل اليوم.
احتجاج زينب بنت علي بن أبي طالب حين رأت يزيد (لعنه الله) يضرب ثنايا
الحسين (ع) بالمخصرة.
روى شيخ صدوق من مشايخ بني هاشم وغيره من الناس: أنه لما دخل علي
ابن الحسين عليه السلام وحرمه على يزيد، وجيئ برأس الحسين عليه السلام ووضع بين يديه
في طست، فجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده، وهو يقول:
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحا * ولقالوا يا يزيد لا تشل
فجزيناه ببدر مثللا * وأقمنا مثل بدر فاعتدل
لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل
قالوا: فلما رأت زينب ذلك فأهوت إلى حبيبها فشقت، ثم نادت بصوت حزين
تقرع القلوب، يا حسيناه! يا حبيب رسول الله! يا بن مكة ومنى! يا بن فاطمة
الزهراء سيدة النساء! يا بن محمد المصطفى.
34

قال: فأبكت والله كل من كان، ويزيد ساكت، ثم قامت على قدميها،
وأشرفت على المجلس، وشرعت في الخطبة، إظهارا لكمالات محمد صلى الله عليه وآله، وإعلانا
بأنا نصبر لرضاء الله، لا لخوف ولا دهشة، فقامت إليه زينب بنت علي وأمها فاطمة
بنت رسول الله وقالت:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على جدي سيد المرسلين، صدق الله سبحانه
كذلك يقول: (ثم كان عاقبة الذين أساؤا السؤى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها
يستهزؤن) أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض، وضيقت علينا آفاق
السماء، فأصبحنا لك في أسار، نساق إليك سوقا في قطار، وأنت علينا ذو اقتدار
أن بنا من الله هوانا وعليك منه كرامة وامتنانا، وأن ذلك لعظم خطرك، وجلالة
قدرك، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك (1) تضرب أصدريك فرحا (2)
وتنقض مذرويك مرحا (3) حين رأيت الدنيا لك مستوسقة (4) والأمور لديك
متسقة (5) وحين صفا لك ملكنا، وخلص لك سلطاننا، فمهلا مهلا لا تطش جهلا
أنسيت قول الله عز وجل: (ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيرا لأنفسهم
إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين).
أمن العدل يا بن الطلقاء؟! تخديرك حرائرك وإمائك، وسوقك بنات
رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدوا بهن الأعداء
من بلد إلى بلد، وتستشرفهن المناقل (6) ويتبرزن لأهل المناهل (7) ويتصفح
وجوههن القريب والبعيد، والغائب والشهيد، والشريف والوضيع، والدني والرفيع
ليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي، عتوا منك على الله (8)
وجحودا لرسول الله، ودفعا لما جاء به من عند الله، ولا غرو منك ولا عجب من
.

(1) نظر في عطفه: أخذه العجب.
(2) الأصدران: عرقان تحت الصدغين
(3) المذروان: أطراف الأليتين.
(4) مستوسقة: مجتمعة.
(5) متسقة: مستوية.
(6) تستشرف: تنظر.
(7) المناهل: مواضع شرب الماء في الطريق.
(8) عتوا: عنادا
35

فعلك، وأنى يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الشهداء ونبت لحمه بدماء السعداء
ونصب الحرب لسيد الأنبياء، وجمع الأحزاب، وشهر الحراب، وهز السيوف في
وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، أشد العرب جحودا، وأنكرهم له رسولا، وأظهرهم له
عدوانا، وأعتاهم على الرب كفرا وطغيانا، ألا إنها نتيجة خلال الكفر، وصب
يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر، فلا يستبطئ في بغضنا أهل البيت من كان نظره
إلينا شنفا وإحنا وأظغانا، يظهر كفره برسول الله، ويفصح ذلك بلسانه، وهو
يقول: - فرحا بقتل ولده وسبي ذريته، غير متحوب ولا مستعظم -.
لأهلوا واستهلوا فرحا ولقالوا يا يزيد لا تسل
منحنيا على ثنايا أبي عبد الله - وكان مقبل رسول الله صلى الله عليه وآله - ينكتها
بمخصرته، قد التمع السرور بوجهه، لعمري لقد نكأت القرحة (1) واستأصلت
الشأفة، بإراقتك دم سيد شباب أهل الجنة، وابن يعسوب الدين العرب، وشمس
آل عبد المطلب، وهتفت بأشياخك، وتقربت بدمه إلى الكفرة من أسلافك، ثم
صرخت بندائك ولعمري لقد ناديتهم لو شهدوك! ووشيكا تشهدهم، ولن يشهدوك
ولتود يمينك كما زعمت شلت بك عن مرفقها وجدت، وأحببت أمك لم تحملك
وإياك لم يلد، أو حين تصير إلى سخط الله ومخاصمك رسول الله صلى الله عليه وآله.
اللهم خذ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، واحلل غضبك على من سفك دمائنا
ونقض ذمارنا، وقتل حماتنا، وهتك عنا سدولنا، وفعلت فعلتك التي فعلت،
وما فريت إلا جلدك، وما جززت إلا لحمك، وسترد على رسول الله بما تحملت
من دم ذريته، وانتهكت من حرمته، وسفكت من دماء عترته ولحمته، حيث
يجمع به شملهم، ويلم به شعثهم، وينتقم من ظالمهم، ويأخذ لهم بحقهم من أعدائهم
فلا يستفزنك الفرح بقتلهم، ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء
عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، وحسبك بالله وليا وحاكما،
وبرسول الله خصما، وبجبرئيل ظهيرا، وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المسلمين

(1) نكأت: قشرت قبل أن تبرأ
36

أن بئس للظالمين بدلا، وأيكم شر مكانا وأضل سبيلا، وما استصغاري قدرك،
ولا استعظامي تقريعك (1) توهما لانتجاع الخطاب فيك (2) بعد أن تركت
عيون المسلمين به عبرى، وصدورهم عند ذكره حرا، فتلك قلوب قاسية، ونفوس
طاغية، وأجسام محشوة بسخط الله ولعنة الرسول، قد عشش فيه الشيطان، وفرخ،
ومن هناك مثلك ما درج، فالعجب كل العجب لقتل الأتقياء، وأسباط الأنبياء،
وسليل الأوصياء، بأيدي الطلقاء الخبيثة، ونسل العهرة الفجرة، تنطف أكفهم
من دمائنا (3) وتنحلب أفواههم من لحومنا (4) تلك الجثث الزاكية على
الجيوب الضاحية، تنتابها العواسل (5) وتعفرها أمهات الفواعل (6) فلئن اتخذتنا
مغنما لتجد بنا وشيكا مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد
فإلى الله المشتكى والمعول، وإليه الملجأ والمؤمل، ثم كد كيدك، واجهد جهدك
فوالله الذي شرفنا بالوحي والكتاب، والنبوة والانتخاب، لا تدرك أمدنا، ولا
تبلغ غايتنا، ولا تمحو ذكرنا، ولا يرحض عنك عارنا، وهل رأيك إلا فند،
وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم يناد المنادي ألا لعن الله الظالم العادي.
والحمد لله الذي حكم لأوليائه بالسعادة، وختم لأصفيائه بالشهادة، ببلوغ
الإرادة، نقلهم إلى الرحمة والرأفة، والرضوان والمغفرة، ولم يشق بهم غيرك،
ولا ابتلى بهم سواك، ونسأله أن يكمل لهم الأجر، ويجز لهم الثواب والذخر،
ونسأله حسن الخلافة، وجميل الإنابة، إنه رحيم ودود.
فقال يزيد مجيبا لها:
يا صيحة تحمد من صوايح * ما أهون الموت على النوائح
ثم أمر بردهم. وقيل: أن فاطمة بنت الحسين كانت وضيئة الوجه، وكانت

(1) التقريع: التعنيف.
(2) الانتجاع: الانتفاع.
(3) تنطف: أي تقطر.
(4) تتحلب: تسيل.
(5) تنتابها العواسل: تأتي مرة بعد أخرى والعواسل: الذئاب.
(6) تعفرها: تمرغها في التراب. والفواعل: أولاد الضباع.
37

جالسة بين النساء، فقام إلى يزيد رجل من أهل الشام أحمر فقال:
يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية! يعني: فاطمة بنت الحسين، فأخذت
بثياب عمتها زينب بنت علي بن أبي طالب عليه السلام فقالت:
أوتم وأستخدم؟!
فقالت زينب للشامي: كذبت ولؤمت، والله ما ذاك لك ولا له، فغضب
يزيد ثم قال:
إن ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت.
قالت زينب: كلا، والله ما جعل الله ذلك لك، إلا أن تخرج من ملتنا،
وتدين بغير ديننا.
فقال يزيد: إنما خرج من الدين أبوك، وأخوك.
قالت زينب: بدين الله، ودين أبي، ودين أخي، اهتديت أنت إن كنت مسلما
قال يزيد: كذبت يا عدوة الله.
فقالت زينب: أنت أمير تشتم ظلما، وتقهر بسلطانك.
فكأنه استحيى فسكت فعاد الشامي فقال:
يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية.
فقال يزيد: أغرب وهب الله لك حتفا قاضيا
احتجاج علي بن الحسين زين العابدين على يزيد بن معاوية لما أدخل عليه.
روت ثقات الرواة وعدولهم أنه لما أدخل علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام
في جملة من حمل إلى الشام سبايا من أولاد الحسين بن علي عليه السلام وأهاليه على
يزيد قال له:
يا علي الحمد لله الذي قتل أباك!
قال علي عليه السلام: قتل أبي الناس.
قال يزيد: الحمد لله الذي قتله فكفانيه!
38

قال علي عليه السلام: على من قتل أبي لعنة الله، أفتراني لعنت الله عز وجل؟
قال يزيد: يا علي إصعد المنبر فأعلم الناس حال الفتنة، وما رزق الله
أمير المؤمنين من الظفر!
فقال علي بن الحسين: ما أعرفني بما تريد. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى
عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال:
أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا ابن
مكة ومنى، أنا ابن المروة والصفا، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن من لا يخفى،
أنا ابن من علا فاستعلا فجاز سدرة المنتهى فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى.
فضج أهل الشام بالبكاء حتى خشي يزيد أن يرحل من مقعده، فقال
- للمؤذن -: أذن فلما قال المؤذن: (الله أكبر، الله أكبر) جلس علي ابن
الحسين على المنبر فقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. بكى
علي بن الحسين عليه السلام ثم التفت إلى يزيد فقال:
يا يزيد هذا أبي أم أبوك؟
قال: بل أبوك. فانزل. فنزل عليه السلام فأخذ بناحية باب المسجد، فلقيه مكحول
صاحب رسول الله عليه السلام فقال:
كيف أمسيت يا بن رسول الله؟
قال أمسينا بينكم مثل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبحون أبنائهم،
ويستحيون نسائهم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم.
فلما انصرف يزيد إلى منزله، دعى بعلي بن الحسين عليه السلام فقال:
يا علي أتصارع ابني خالد؟
قال عليه السلام: وما تصنع بمصارعتي إياه، أعطني سكينا واعطه سكينا فليقتل
أقوانا أضعفنا، فضمه يزيد إلى صدره، ثم قال:
لا تلد الحية إلا الحية، أشهد أنك ابن علي بن أبي طالب عليه السلام.
ثم قال له علي بن الحسين عليه السلام: يا يزيد بلغني أنك تريد قتلي، فإن كنت
39

لا بد قاتلي، فوجه مع هؤلاء النسوة من يؤديهن إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال له يزيد لعنه الله: لا يؤديهن غيرك، لعن الله ابن مرجانة، فوالله ما
أمرته بقتل أبيك، ولو كنت متوليا لقتاله ما قتلته، ثم أحسن جائزته وحمله
والنساء إلى المدينة.
احتجاجه (ع) في أشياء شتى من علوم الدين وذكر طرف من مواعظه
البليغة.
جاء رجل من أهل البصرة إلى علي بن الحسين عليه السلام فقال:
يا علي بن الحسين إن جدك علي بن أبي طالب قتل المؤمنين، فهملت عينا
علي بن الحسين دموعا حتى امتلأت كفه منها، ثم ضرب بها على الحصى، ثم قال:
يا أخا أهل البصرة لا والله ما قتل علي مؤمنا، ولا قتل مسلما، وما أسلم
القوم ولكن استسلموا وكتموا الكفر وأظهروا الإسلام، فلما وجدوا على الكفر
أعوانا أظهروه، وقد علمت صاحبة الجدب والمستحفظون من آل محمد صلى الله عليه وآله أن
أصحاب الجمل وأصحاب صفين وأصحاب النهروان لعنوا على لسان النبي الأمي وقد
خاب من افترى.
فقال شيخ من أهل الكوفة: يا علي بن الحسين إن جدك كان يقول:
(إخواننا بغوا علينا).
فقال علي بن الحسين عليه السلام: أما تقرأ كتاب الله (وإلى عاد أخاهم هودا)
فهم مثلهم أنجى الله عز وجل هودا والذين معه وأهلك عادا بالريح العقيم.
وبالإسناد المقدم ذكره: أن علي بن الحسين عليه السلام كان يذكر حال من
مسخهم الله قردة من بني إسرائيل ويحكي قصتهم، فلما بلغ آخرها قال: إن الله
تعالى مسخ أولئك القوم لإصطيادهم السمك، فكيف ترى عند الله عز وجل يكون
حال من قتل أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله، وهتك حريمه؟! إن الله تعالى وإن لم
يمسخهم في الدنيا فإن المعد لهم من عذاب الآخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ.
40

فقيل له: يا بن رسول الله فإنا قد سمعنا منك هذا الحديث، فقال لنا بعض
النصاب: فإن كان قتل الحسين باطلا فهو أعظم عند الله من صيد السمك في السبت،
أفما كان الله غضب على قاتليه كما غضب على صيادي السمك؟
قال علي بن الحسين عليه السلام: قل لهؤلاء النصاب فإن كان إبليس معاصيه أعظم
من معاصي من كفر بإغوائه فأهلك الله من شاء منهم، كقوم: نوح، وفرعون،
ولم يهلك إبليس، وهو أولى بالهلاك، فما باله أهلك هؤلاء الذين قصروا عن إبليس
في عمل الموبقات، وأمهل إبليس مع إيثاره لكشف المحرمات، أما كان ربنا عز
وجل حكيما تدبيره حكمة فيمن أهلك وفيمن استبقى؟ فكذلك هؤلاء الصائدون
في السبت، وهؤلاء القاتلون للحسين، يفعل في الفريقين ما يعلم أنه أولى بالصواب
والحكمة، لا يسأل عما يفعل وعباده يسألون.
وقال الباقر عليه السلام: فلما حدث علي بن الحسين عليه السلام بهذا الحديث قال له
بعض من في مجلسه: يا بن رسول الله كيف يعاتب الله ويوبخ هؤلاء الأخلاف على
قبائح أتاها أسلافهم - وهو يقول: (ولا تزروا وازرة وزر أخرى)؟
فقال زين العابدين عليه السلام: إن القرآن نزل بلغة العرب فهو يخاطب فيه أهل
اللسان بلغتهم، يقول الرجل التميمي - قد أغار قومه على بلد وقتلوا من فيه -:
أغرتم على بلد كذا، وفعلتم كذا، ويقول العربي: نحن فعلنا ببني فلان،
ونحن سبينا آل فلان، ونحن خربنا بلد كذا. لا يريد أنهم باشروا ذلك، ولكن
يريد هؤلاء بالعذل وأولئك بالإفتخار: أن قومهم فعلوا كذا، وقول الله عز وجل
في هذه الآيات إنما هو توبيخ لأسلافهم، وتوبيخ العذل على هؤلاء الموجودين،
لأن ذلك هو اللغة التي نزل بها القرآن، والآن هؤلاء الأخلاف أيضا راضون
بما فعل أسلافهم، مصوبون لهم، فجاز أن يقال: أنتم فعلتم أي: إذ رضيتم قبيح فعلهم
وعن أبي حمزة الثمالي (1) قال: دخل قاض من قضاة أهل الكوفة على

(1) قال الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب ج 2 ص 118:
(الثمالي أبو حمزة ثابت بن دينار، الثقة الجليل، صاحب الدعاء المعروف في
- أسحار شهر رمضان، كان من زهاد أهل الكوفة ومشايخها وكان عربيا أزديا، روى
عن الفضل بن شاذان قال: سمعت الثقة يقول: سمعت الرضا عليه السلام يقول -: أبو
حمزة الثمالي في زمانه، كسلمان الفارسي في زمانه، وذلك أنه خدم أربعة منا: علي بن
الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وبرهة من عصر موسى بن جعفر).
وعده الشيخ في أصحاب علي بن الحسين ص 84 من رجاله فقال: (ثابت بن أبي
صفية دينار الثمالي الأزدي، يكنى أبا حمزة الكوفي، مات سنة خمسين وماية، وذكره في
أصحاب الباقر عليه السلام ص 110 و ص 160 في أصحاب الصادق (ع) وقال
النجاشي ص 89 لقى علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله وأبا الحسن عليهم السلام
وروى عنهم وكان من خيار أصحابنا، وثقاتهم، ومعتمديهم في الرواية والحديث
و (قال): وروى عنه العامة ومات سنة خمسين ومائة له كتاب تفسير القرآن.
41

علي بن الحسين عليه السلام فقال له:
جعلني الله فداك! أخبرني عن قول الله عزو جل: (وجعلنا بينهم وبين
القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين)
قال له: ما يقول الناس فيها قبلكم؟
قال: يقولون: أنها مكة.
فقال: وهل رأيت السرق في موضع أكثر منه بمكة.
قال: فما هو؟
قال: إنما عنى الرجال.
قال: وأين ذلك في كتاب الله؟
فقال: أو ما تسمع إلى قوله عز وجل: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها
ورسله) وقال: (وتلك القرى أهلكناهم) وقال: (واسأل القرية التي كنا فيها
والعير التي أقبلنا فيها) أفيسأل القرية أو الرجال أو العير؟
قال: وتلا عليه آيات في هذا المعنى.
قال: جعلت فداك! فمن هم؟
42

قال: نحن هم.
فقال: أو ما تسمع إلى قوله: (سيروا فيها ليالي وأياما آمنين)؟
قال: آمنين من الزيغ.
وروي أن زين العابدين عليه السلام مر بالحسن البصري وهو يعظ الناس بمنى
فوقف عليه السلام عليه ثم قال:
امسك أسألك عن الحال التي أنت عليها مقيم، أترضاها لنفسك فيما بينك
وبين الله إذا نزل بك غدا؟
قال: لا.
قال: أفتحدث نفسك بالتحول والانتقال عن الحال التي لا ترضاها لنفسك
إلى الحال التي ترضاها؟ (قال): فأطرق مليا ثم قال: إني أقول ذلك بلا حقيقة.
قال: أفترجو نبيا بعد محمد صلى الله عليه وآله يكون لك معه سابقة؟
قال: لا.
قال: أفترجو دارا غير الدار التي أنت فيها ترد إليها فتعمل فيها؟
قال: لا.
قال: أفرأيت أحدا به مسكة عقل رضي لنفسه من نفسه بهذا؟ إنك على
حال لا ترضاها ولا تحدث نفسك بالانتقال إلى حال ترضاها على حقيقة، ولا ترجو
نبيا بعد محمد، ولا دار غير الدار التي أنت فيها فترد إليها فتعمل فيها، وأنت تعظ
الناس، قال: فلما ولى عليه السلام قال الحسن البصري: من هذا؟
قالوا: علي بن الحسين.
قال: أهل بيت علم فما رأي الحسن البصري بعد ذلك يعظ الناس.
وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت علي بن الحسين عليه السلام يحدث رجلا من
قريش قال:
لما تاب الله على آدم واقع حواء ولم يكن غشيها منذ خلق وخلقت إلا في
الأرض، وذلك بعد ما تاب الله عليه، قال: وكان آدم يعظم البيت وما حوله من
43

حرمة البيت، فكان إذا أراد أن يغشى حواء خرج من الحرم وأخرجها معه، فإذا
جاز الحرم غشيها في الحل، ثم يغتسلان إعظاما منه للحرم، ثم يرجع إلى فناء البيت.
قال: فولد لآدم من حواء عشرون ذكرا وعشرون أنثى، فولد له في كل
بطن ذكر وأنثى، فأول بطن ولدت حواء: (هابيل) ومعه جارية يقال لها:
(أقليما) قال: وولدت في البطن الثاني: (قابيل) ومعه جارية يقال لها (لوزا)
وكانت لوزا أجمل بنات آدم. (قال): فلما أدركوا خاف عليهم آدم الفتنة
فدعاهم إليه فقال:
أريد أن أنكحك يا هابيل لوزا، وأنكحك يا قابيل أقليما.
قال قابيل: ما أرضى بهذا أتنكحني أخت هابيل القبيحة، وتنكح هابيل
أختي الجميلة.
قال: فأنا أقرع بينكما، فإن خرج سهمك يا قابيل على لوزا، وخرج
سهمك يا هابيل على أقليما، زوجت كل واحد منكما التي خرج سهمه عليها.
(قال): فرضيا بذلك، فاقترعا، (قال): فخرج سهم هابيل على لوزا أخت
قابيل، وخرج سهم قابيل على أقليما أخت هابيل. قال: فزوجهما على ما خرج
لهما من عند الله. (قال) ثم حرم الله نكاح الأخوات بعد ذلك.
قال: فقال له القرشي: فأولداهما؟
قال: نعم.
قال: فقال القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم!
قال: فقال علي بن الحسين: إن المجوس إنما فعلوا ذلك بعد التحريم من الله.
ثم قال له علي بن الحسين عليه السلام: لا تنكر هذا، إنما هي الشرايع جرت
أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له، فكان ذلك شريعة من شرايعهم،
ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك.
لقي عباد البصري علي بن الحسين عليه السلام في طريق مكة فقال له:
يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته، وأقبلت على الحج ولينه، وأن
44

الله عز وجل يقول: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون - إلى قوله - وبشر المؤمنين).
فقال علي بن الحسين: إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم
أفضل من الحج.
وسأل عليه السلام عن النبيذ فقال:
شربه قوم وحرمه قوم صالحون، فكان شهادة الذين دفعوا بشهادتهم
شهواتهم أولى أن تقبل من الذين جروا بشهادتهم شهواتهم.
وعن عبد الله بن سنان (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
قال رجل لعلي بن الحسين عليه السلام: إن فلانا ينسبك إلى أنك ضال مبتدع!
فقال له علي بن الحسين عليه السلام: ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت
إلينا حديثه، ولا أديت حقي حيث أبلغني عن أخي ما لست أعلمه، إن الموت
يعمنا، والبعث محشرنا، والقيامة موعدنا، والله يحكم بيننا، إياك والغيبة! فإنها
أدام كلاب النار، واعلم أن من أكثر عيوب الناس شهد عليه الاكثار إنه إنما
يطلبها بقدر ما فيه.
وسأل عليه السلام عن الكلام والسكوت أيهما أفضل فقال عليه السلام.
لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات، فالكلام أفضل من السكوت
قيل: وكيف ذاك يا بن رسول الله؟
قال: لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما يبعثهم

(1) عبد الله بن سنان: قال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 104:
(عبد الله بن سنان - بالسين المهملة والنون قبل الألف وبعدها - ابن طريف مولى بني
هاشم، ويقال مولى بني أبي طالب، ويقال: مولى بني العباس كان خازنا للمنصور
والمهدي والهادي والرشيد، وكان كوفيا ثقة من أصحابنا، جليلا لا يطعن عليه في
شئ، روى عن الصادق (ع) وقيل روى عن أبي الحسن موسى عليه السلام ولم يثبت
قال فيه الصادق (ع): أما أنه يزيد على السن خيرا، رواه الكشي في حديث المرسل)
45

بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجب ولاية الله بالسكوت، ولا
توقيت النار بالسكوت، ولا نجنب سخط الله بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام
وما كنت لأعدل القمر بالشمس، إنك تصف فضل السكوت بالكلام، ولست تصف
فضل الكلام بالسكوت.
روي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: لما قتل الحسين بن علي عليه السلام أرسل
محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين عليه السلام فخلا به ثم قال:
يا بن أخي قد علمت أن رسول الله كان جعل الوصية والإمامة من بعده لعلي
ابن أبي طالب عليه السلام، ثم إلى الحسن، ثم الحسين، وقد قتل أبوك رضي الله عنه
وصلى عليه ولم يوص، وأنا عمك وصنو أبيك، وأنا في سني وقدمتي أحق بها منك
في حداثتك، فلا تنازعني الوصية والإمامة، ولا تخالفني.
فقال له علي بن الحسين عليه السلام: إتق الله ولا تدع ما ليس لك بحق، إني
أعظك أن تكون من الجاهلين، يا عم! إن أبي صلوات الله عليه أوصى إلي قبل أن
يتوجه إلى العراق، وعهد إلي في ذلك قبل أن يستشهد بساعة، وهذا سلاح رسول
الله صلى الله عليه وآله عندي، فلا تعرض لهذا فإني أخاف عليك بنقص العمر، وتشتت الحال
وأن الله تبارك وتعالى أبى إلا أن يجعل الوصية والإمامة إلا في عقب الحسين، فإن أردت
أن تعلم فانطلق بنا إلى الحجر الأسود حتى نتحكم إليه ونسأله عن ذلك.
قال الباقر عليه السلام: وكان الكلام بينهما وهما يومئذ بمكة، فانطلقا حتى أتيا
الحجر الأسود فقال علي بن الحسين عليه السلام لمحمد:
ابتدء فابتهل إلى الله واسأله أن ينطق لك الحجر ثم سله. فابتهل محمد في
الدعاء وسأل الله ثم دعا الحجر فلم يجبه، فقال علي بن الحسين عليه السلام:
أما أنك يا عم لو كنت وصيا وإماما لأجابك!
فقال له محمد: فادع أنت يا بن أخي! فدعا الله علي بن الحسين عليه السلام بما أراد
ثم قال: (أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء وميثاق الناس
أجمعين، لما أخبرتنا بلسان عربي مبين من الوصي والإمام بعد الحسين بن علي!
46

فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه، ثم أنطقه الله بلسان عربي مبين فقال:
اللهم إن الوصية والإمامة بعد الحسين بن علي بن أبي طالب إلى علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، فانصرف محمد
وهو يتولى علي بن الحسين عليه السلام.
وعن ثابت البناني (1) قال: كنت حاجا وجماعة عباد البصرة مثل: أيوب
السجستاني، وصالح المروي، وعتبة الغلام، وحبيب الفارسي، ومالك بن دينار
فلما أن دخلنا مكة رأينا الماء ضيقا، وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث
ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألوننا أن نستسقي لهم، فأتينا الكعبة وطفنا بها
ثم سألنا الله خاضعين متضرعين بها فمنعنا الإجابة. فبينما نحن كذلك إذا نحن
بفتى قد أقبل وقد أكربته أحزانه، وأقلقته أشجانه، فطاف بالكعبة أشواطا ثم
أقبل علينا فقال:
يا مالك بن دينار! ويا ثابت البناني! ويا أيوب السجستاني! ويا صالح المروي
ويا عتبة الغلام! ويا حبيب الفارسي! ويا سعد! ويا عمر! ويا صالح الأعمى! ويا رابعة
ويا سعدانة! ويا جعفر بن سليمان!
فقلنا: لبيك وسعديك يا فتى!
فقال: أما فيكم أحد يحبه الرحمن؟
فقلنا: يا فتى علينا الدعاء وعليه الإجابة.
فقال: ابعدوا عن الكعبة فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمن لأجابه، ثم
أتى الكعبة فخر ساجدا فسمعته يقول - في سجوده -: (سيدي بحبك لي إلا
سقيتهم الغيث). *

(1) ثابت البناني: قال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص 29 (ثابت
البناني يكنى أبا فضالة، من أهل بدر من أصحاب أمير المؤمنين (ع) قتل بصفين).
وفي أصحاب علي من رجال الشيخ ص 36: ثابت الأنصاري البناني يكنى أبا فضالة
من أهل بدر قتل معه عليه السلام بصفين.
47

قال: فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كافواه القرب.
فقلت: يا فتى من أين علمت أنه يحبك؟ قال: لو لم يحبني لم يستزرني،
فلما استزارني علمت أنه يحبني، فسألته بحبه لي فأجباني، ثم ولى عنا وأنشأ يقول:
من عرف الرب فلم تغنه * معرفة الرب فذاك الشقي
ما ضر في الطاعة ما ناله * في طاعة الله وماذا لقي
ما يصنع العبد بغير التقى * والعز كل العز للمتقي
فقلت يا أهل مكة من هذا الفتى؟
قالوا: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين عليه السلام قال:
نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر
المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض، كما أن النجوم أمان
لأهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبنا
يمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وينشر الرحمة، وتخرج بركات
الأرض منا لساخت الأرض بأهلها.
ثم قال: ولم تخلوا الأرض منذ خلق الله آدم من حجة لله فيها، ظاهر مشهور
أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة الله، ولولا ذلك لم
يعبد الله.
وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي خالد الكابلي (1) قال:

(1) في الكنى والألقاب للشيخ عباس القمي ج 1 ص 60 قال: (قال الفضل بن
شاذان ولم يكن في زمن علي بن الحسين (ع) في أول أمره إلا خمسة أنفس: سعيد بن
جبير، سعيد بن المسيب، محمد بن جبير بن مطعم، يحيى بن أم الطويل، أبو خالد الكابلي
واسمه وردان ولقبه كنكر) ثم قال: وفي خبر الحواريين أنه من حواري علي بن الحسين
عليه السلام وقد شاهد كثيرا من دلائل الأئمة عليهم السلام ويأتي في الطاقي رواية
تنعلق به، ويظهر من رسالة أبي غالب الزراري أن آل أعين وهم أكبر بيت في الكوفة
من الشيعة أن أول من عرف منهم عبد الملك عرفه من صالح بن ميثم ثم عرفه حمران
من أبي خالد الكابلي.
48

دخلت على سيدي علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام فقلت له:
يا بن رسول الله أخبرني بالذين فرض الله طاعتهم ومودتهم، وأوجب على
خلقه الاقتداء بهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟
فقال لي: يا أبا كنكر! إن أولي الأمر الذين جعلهم الله أئمة الناس وأوجب
عليهم طاعتهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم انتهى الأمر إلينا، ثم سكت.
فقلت له: يا سيدي روي لنا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (لا تخلو
الأرض من حجة الله على عباده) فمن الحجة والإمام بعدك؟
قال: ابني (محمد) واسمه في التوراة (باقر) يبقر العلم بقرا، هو الحجة
والإمام بعدي، ومن بعد محمد ابنه (جعفر) اسمه عند أهل السماء (الصادق).
فقلت له: يا سيدي فكيف صار اسمه: الصادق، وكلكم صادقون؟
فقال حدثني أبي عن أبيه: أن رسول الله قال: (إذا ولد ابني جعفر بن
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فسموه: الصادق، فإن الخامس
من ولده الذي اسمه جعفر يدعي الإمامة اجتراء على الله، وكذبا عليه، فهو عند
الله (جعفر الكذاب) المفتري على الله، المدعي لما ليس له بأهل، المخالف على
أبيه، والحاسد لأخيه، ذلك الذي يكشف سر الله عند غيبة ولي الله).
ثم بكى علي بن الحسين بكاءا شديدا، ثم قال:
كأني بجعفر الكذاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر ولي الله،
والمغيب في حفظ الله، والتوكيل بحرم أبيه جهلا منه بولادته، وحرصا على قتله
إن ظفر به، طمعا في ميراث أبيه حتى يأخذه بغير حقه.
قال أبو خالد: فقلت له: يا بن رسول الله وأن ذلك لكائن؟
فقال: إي وربي إنه المكتوب عندنا في الصحيفة: التي فيها ذكر المحن التي
تجري علينا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.
49

قال أبو خالد: فقلت: يا بن رسول الله ثم يكون ماذا؟
قال: ثم تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله والأئمة بعده
يا أبا خالد! إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل أهل
كل زمان، لأن الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به
الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي
رسول الله بالسيف، أولئك المخلصون حقا وشيعتنا صدقا، والدعاة إلى دين الله
سرا وجهرا. وقال عليه السلام: انتظار الفرج من أعظم الفرج.
وبالإسناد المتقدم ذكره عن علي بن الحسين عليه السلام في تفسير قوله تعالى: (لكم
في القصاص حياة) الآية ولكم يا أمة محمد في القصاص حياة لأن من هم بالقتل فعرف
أنه يقتص منه فكف لذلك عن القتل، كان حياة للذي هم بقتله، وحياة لهذا الجاني
الذي أراد أن يقتل، وحياة لغيرهما من الناس، إذا علموا أن القصاص واجب لا
يجسرون على القتل مخافة القصاص، يا أولي الألباب: أولي العقول لعلكم تتقون.
ثم قال عليه السلام: عباد الله هذا قصاص قتلكم لمن تقتلونه في الدنيا، وتفنون
روحه، أفلا أنبئكم بأعظم من هذا القتل، وما يوحيه الله على قاتله مما هو أعظم
من هذا القصاص؟
قالوا: بلى يا بن رسول الله.
قال: أعظم من هذا القتل أن يقتله قتلا لا يجبر ولا يحيى بعده أبدا.
قالوا: ما هو؟
قال: أن يضله عن نبوة محمد، وعن ولاية علي بن أبي طالب، ويسلك به
غير سبيل الله، ويغير به باتباع طريق أعداء علي والقول بإمامتهم، ودفع علي عن
حقه، وجحد فضله، وألا يبالي بإعطائه واجب تعظيمه، فهذا هو القتل الذي هو
تخليد المقتول في نار جهنم خالدا مخلدا أبدا، فجزاء هذا القتل مثل ذلك الخلود
في نار جهنم.
وقال أبو محمد الحسن العسكري صلوات الله عليه: أن رجلا جاء إلى علي بن
50

الحسين برجل يزعم أنه قاتل أبيه، فاعترف فأوجب عليه القصاص، وسأله أن يعفو
عنه ليعظم الله ثوابه، فكأن نفسه لم تطب بذلك فقال علي بن الحسين - للمدعي
الدم الذي هو الولي المستحق للقصاص -: إن كنت تذكر لهذا الرجل عليك فضلا
فهب له هذه الجناية، واغفر له هذا الذنب.
قال: يا بن رسول الله له علي حق، ولكن لم يبلغ به أن أعفو له عن قتل والدي.
قال: فتريد ماذا؟
قال: أريد القود، فإن أراد لحقه علي أن أصالحه على الدية صالحة وعفوت عنه
قال: علي بن الحسين عليه السلام فماذا حقه عليك؟
قال: يا بن رسول الله لقنني توحيد الله، ونبوة رسول الله صلى الله عليه وآله، وإمامة علي
والأئمة عليهم السلام.
فقال علي بن الحسين: فهذا لا يفي بدم أبيك؟ بلى والله هذا يفي بدماء
أهل الأرض كلهم من الأولين والآخرين سوى الأنبياء والأئمة، إن قتلوا فإنه
لا يفي بدمائهم شئ. تمام الخبر.
وبالإسناد المقدم ذكره أن محمد بن علي الباقر عليه السلام قال:
دخل محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (1) على علي بن الحسين عليه السلام،
وهو كئيب حزين فقال له زين العابدين عليه السلام.
ما بالك مغموما؟
قال: يا بن رسول الله غموم وهموم تتوالى علي لما امتحنت به من جهة حساد

(1) قال الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب ج 2 ص 270 (الزهري بضم
الزاي وسكون الهاء أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن الحرث بن شهاب
ابن زهرة بن كلاب الفقيه المدني التابعي المعروف وقد ذكره علماء الجمهور وأثنوا عليه
ثناء بليغا، قيل: أنه قد حفظ علم العلماء السبعة، ولقى عشرة من الصحابة، وروى
عنه جماعة من أئمة علم الحديث، وأما علمائنا فقد اختلفت كلماتهم في مدحه وقدحه وقد
ذكرنا ما يتعلق به في سفينة البحار).
51

نعمي، والطامعين في، وممن أرجو، وممن أحسنت إليه، فيخلف ظني.
فقال له علي بن الحسين عليه السلام: إحفظ عليك لسانك تملك به إخوانك.
قال الزهري: يا بن رسول الله إني أحسن إليهم بما يبدر من كلامي.
قال علي بن الحسين عليه السلام: هيهات هيهات! إياك أن تعجب من نفسك بذلك
وإياك أن تتكلم بما يسبق إلى القلوب إنكاره. وإن كان عندك اعتذاره، فليس
كل من تسمعه شرا يمكنك أن توسعه عذرا.
ثم قال: يا زهري من لم يكن عقله من أكمل ما فيه كان هلاكه من أيسر
ما فيه. ثم قال: يا زهري أما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك
فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك، وتجعل تربك منهم
بمنزلة أخيك، فأي هؤلاء أن تظلم، وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه، وأي هؤلاء
تحب أن تهتك ستره، وإن عرض لك إبليس لعنه الله بأن لك فضلا على أحد من
أهل القبلة، فانظر إن كان أكبر منك فقل: قد سبقني بالإيمان والعمل الصالح
فهو خير مني، وإن كان أصغر منك فقل: قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير
مني، وإن كان تربك فقل: أنا على يقين من ذنبي في شك من أمره فما لي أدع
يقيني لشكي، وإن رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك فقل: هذا
أفضل أخذوا به، وإن رأيت منهم جفا وانقباضا فقل: هذا الذنب أحدثته، فإنك
إذا فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك، وكثر أصدقائك، وفرحت بما يكون من
برهم، ولم تأسف على ما يكون من جفائهم.
واعلم أن أكرم الناس على الناس من كان خيره عليهم فايضا، وكان عنهم
مستغنيا متعففا، وأكرم الناس بعده عليهم من كان مستعففا، وإن كان إليهم
محتاجا، فإنما أهل الدنيا يتعقبون الأموال، فمن لم يزدحمهم فيما يتبقونه كرم
عليهم، ومن لم يزاحمهم فيما ومكنهم من بعضها كان أعز وأكرم.
وبالإسناد المقدم ذكره عن الرضا عليه السلام أنه قال: قال علي بن الحسين: إذا
رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته
52

فرويدا لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف
نيته ومهانته، وجبن قلبه، فنصب الدين فخا لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره
فإن تمكن من حرام اقتحمه، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام، فرويدا لا
يغرنكم! فإن شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من ينبوا عن المال الحرام وإن
كثر، ويحمل نفسه على شوها قبيحة، فيأتي منها محرما، فإذا وجدتموه يعف
عن ذلك فرويدا لا يغرنكم، حتى تنظروا ما عقدة عقله، فما أكثر من ترك ذلك
أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسد بجهله أكثر مما يصلحه بعقله
فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغركم! تنظروا أمع هواه يكون على عقله أم
يكون مع عقله على هواه وكيف محبة للرياسات الباطلة وزهده فيها فإن في الناس
من خسر الدنيا والآخرة يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرياسة الباطلة أفضل
من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة فيترك ذلك أجمع طلبا للرياسة حتى إذا
قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد، فهو يخبط خبط
عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر
عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، لا يبالي ما فات من
دينه إذا سلمت له رياسة التي قد شقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم
ولعنهم وأعد لهم عذابا مهينا، ولكن الرجل كل الرجل. نعم الرجل هو: الذي
جعل هواه تبعا لأمر الله، وقواه مبذولة في رضى الله، يرى الذل مع الحق أقرب
إلى عز الأبد من العز في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى
دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفذ، وأن كثيرا ما يلحقه من سرائها إن اتبع
هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول فذلكم الرجل نعم الرجل فيه فتمسكوا
وبسنته فاقتدوا وإلى ربكم فتوسلوا فإنه لا ترد له دعوة ولا يخيب له طلبة.
53

احتجاج أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام في شئ مما يتعلق
بالأصول والفروع.
عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليهما السلام في قوله تعالى: (ومن كان
في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) قال: من لم يدله خلق السماوات والأرض،
واختلاف الليل والنهار، ودوران الفلك بالشمس والقمر، والآيات العجيبات،
على أن وراء ذلك أمر هو أعظم منه فهو في الآخرة أعمى، قال: فهو عالم يعاين
أعمى وأضل سبيلا،
سأل نافع بن الأزرق أبا جعفر عليه السلام قال: اخبرني عن الله عز وجل متى كان؟
قال: متى لم يكن حتى أخبرك متى كان؟! سبحان من لم يزل ولا يزال
فردا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
عن عبد الله بن سنان عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر عليه السلام وقد دخل عليه
رجل من الخوارج فقال له:
يا أبا جعفر أي شئ تعبد؟
قال: الله.
قال: رأيته؟
قال: بلى. لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقايق
الإيمان، لا يعرف بالقياس، ولا يدرك بالحواس، موصوف بالآيات معروف
بالدلالات، لا يجور في حكمه ذلك الله لا إله إلا الله قال فخرج الرجل وهو يقول الله
أعلم حيث يجعل رسالته.
وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام.
قال: في صفة القديم -: أنه واحد صمد، أحدي المعنى، ليس بمعان
كثيرة مختلفة.
قال: قلت: جعلت فداك أنه يزعم قوم من أهل العراق أنه يسمع بغير الذي
54

يبصر، ويبصر بغير الذي يسمع.
قال: فقال: كذبوا وألحدوا، وشبهوا الله تعالى أنه سميع بصير، يسمع
بما به يبصر، ويبصر بما به يسمع.
قال: فقلت: يزعمون أنه بصير على ما يعقله.
قال: فقال: تعالى الله إنما يعقل من كان بصفة المخلوق، وليس الله كذلك.
وروى بعض أصحابنا أن عمرو بن عبيد دخل على الباقر عليه السلام فقال له:
جعلت فداك! قول الله (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) ما ذلك الغضب.
قال: العذاب يا عمرو! وإنما يغضب المخلوق الذي يأتيه الشئ فيستفزه،
ويغره عن الحال التي هو بها إلى غيرها، فمن زعم أن الله يغيره الغضب والرضا،
ويزول عن هذا، فقد وصفه بصفة المخلوق.
وعن أبي الجارود (1) قال: قال: أبو جعفر عليه السلام: إذا حدثتكم بشئ

(1) أبو الجارود: في ج 1 ص 31 من الكنى والألقاب للشيخ القمي (زياد بن
المنذر قال شيخنا صاحب المستدرك في ترجمته في الخاتمة: وأما أبو الجارود فالكلام فيه
طويل، والذي يقتضيه النظر بعد التأمل فيما ورد فيما قالوا فيه: أنه كان ثقة في النقل مقبول
الرواية، معتمدا في الحديث، إماميا في أوله وزيديا في آخره، ثم أطال الكلام في
حاله إلى أن قال: وفي تقريب ابن حجر: (زياد بن المنذر أبو الجارود الأعمى الكوفي
رافضي، كذبه يحيى بن معين من السابعة، مات بعد الخمسين أي: بعد المائة و (قال)
وعن دعوات الراوندي عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر (ع): أني أمرء ضرير
البصر، كبير السن، والشقة فيما بيني وبينكم بعيدة، وأنا أريد أمرا أدين الله به،
واحتج به، وأتمسك به، وأبلغه من خلفت، قال: (عجب بقولي فاستوى جالسا فقال:
كيف قلت يا أبا الجارود رد علي قال فرددت عليه، فقال: نعم يا أبا الجارود،
شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وأقام
الصلاة، وإيتاء لزكاة وصوم شهر رمضان، وحج البيت، وولاية ولينا، وعداوة
عدونا، والتسليم لأمرنا، وانتظار قائمنا، والورع، والاجتهاد.
55

فسألوني من كتاب الله ثم قال - في بعض حديثه -: أن النبي صلى الله عليه وآله نهى عن القيل
والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال.
فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله عز وجل؟
قال: قوله: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف
أو إصلاح بين الناس ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) وقال:
(لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم).
وروى حمران بن أعين (1) قال: سألت أبا جعفر عليه السلام قول الله عز وجل
(وروح منه).
قال: هي مخلوقة خلقها الله بحكمته في آدم وفي عيسى عليهما السلام.
محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عن قول الله عز وجل (ونفخت فيه
من روحي) كيف هذا النفخ؟

(1) قال السيد بحر العلوم في رجاله ج 1 ص 222: (آل أعين أكبر بيت في
الكوفة من شيعة أهل البيت عليهم السلام، وأعظمهم شأنا، وأكثرهم رجالا وأعيانا
وأطولهم مدة وزمانا، أدرك أوائلهم السجاد والباقر والصادق عليهم السلام، وبقي
أواخرهم إلى أوائل الغيبة الكبرى وكان فيهم العلماء والفقهاء، والقراء والأدباء، ورواة
الحديث، ثم ذكران من مشاهيرهم حمران إلى أن قال قال أبو غالب رحمه الله: (إنا
أهل بيت أكرمنا الله عز وجل بدينه، واختصنا بصحبة أوليائه وحججه، من أول ما
نشأنا إلى وقت الفتنة التي امتحنت بها الشيعة، فلقى عمنا (حمران) سيدنا وسيد العابدين
علي بن الحسين (ع).
و (قال): وكان حمران من أكابر مشايخ الشيعة المفضلين الذين لا يشك فيهم.
وكان أحد حملة القرآن، ومن يعد ويذكر اسمه في كتب القراء.
وروى أنه قرأ على أبي جعفر محمد بن علي (ع) وكان - مع ذلك - عالما بالنحو
واللغة، ولقى (حمران - وجدانا: زرارة وبكير) أبا جعفر محمد بن علي وأبا عبد الله
جعفر بن محمد عليهم السلام الخ.. وقال السيد أيضا ص 255 وقد جاء، في مدح حمران
ابن أعين وجلالته وعظم محله، أخبار كادت تبلغ التواتر.
56

فقال: إن الروح متحرك كالريح، إنما سمي روحا لأنه اشتق اسمه من الريح
وإنما أخرجه عن لفظة الريح لأن الروح متجانس للريح، وإنما أضافه إلى نفسه
لأنه اصطفاه على ساير الأرواح، كما اصطفى بيتا من البيوت. وقال: (بيتي)
وقال - لرسول من الرسل -: (خليلي) وأشباه ذلك مخلوق مصنوع مربوب مدبر.
وعن محمد بن مسلم أيضا قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عما روي: (أن الله
خلق الله آدم على صورته)؟
فقال: هي صورة محدثة مخلوقة، اصطفاها الله واختارها، على أساس الصور
المختلفة، فأضافها إلى نفسه، كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح، فقال (بيتي)
وقال: (ونفخت فيه من روحي).
وعن عبد الرحمن بن عبد الزهري قال: حج هشام بن عبد الملك، فدخل
المسجد الحرام متكيا على يد سالم مولاه، ومحمد بن علي بن الحسين جالس فقال
له سالم:
يا أمير المؤمنين هذا محمد بن علي بن الحسين عليه السلام.
فقال له هشام: المفتون به أهل العراق؟
قال: نعم.
قال: اذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين ما الذي يأكل الناس
ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: يحشر الناس على مثل قرصة البر النقي فيها أنهار
متفجرة يأكلون ويشربون حتى يفرغ من الحساب.
قال: فرأى هشام أنه قد ظفر به. فقال: الله أكبر إذهب إليه فقل له:
ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ!
فقال له أبو جعفر: هم في النار أشغل، ولم يشغلوا عن أن قالوا: أفيضوا
علينا من الماء أو مما رزقكم الله. فسكت هشام لا يرجع كلاما.
وروي أن نافع بن الأزرق جاء إلى محمد بن علي بن الحسين، فجلس بين
57

يديه يسأله عن مسائل في الحلال والحرام. فقال له أبو جعفر - في عرض كلامه -
قل لهذه المارقة، بما استحللتم فراق أمير المؤمنين عليه السلام، وقد سفكتم دمائكم بين
يديه، وفي طاعته، والقربة إلى الله تعالى بنصرته؟ فسيقولون لك أنه حكم في
دين الله، فقل لهم: قد حكم الله تعالى في شريعة نبيه رجلين من خلقه، قال جل
اسمه: (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما)
وحكم رسول الله صلى الله عليه وآله سعد بن معاذ في بني قريضة، فحكم فيهم بما أمضاه الله،
أو ما علمتم أن أمير المؤمنين إنما أمر الحكمين أن يحكما بالقرآن ولا يتعدياه واشترط
رد ما خالف القرآن من أحكام الرجال؟ وقال حين قالوا له: حكمت على نفسك
من حكم عليك. فقال: ما حكمت مخلوقا فإنما حكمت كتاب الله، فأين تجد
المارقة تضليل من أمر الحكم بالقرآن، واشترط رد ما خالفه، ولا ارتكابهم في
بدعتهم البهتان.
فقال نافع بن الأزرق: هذا والله ما طرق بسمعي قط، ولا خطر مني ببال
هو الحق إن شاء الله تعالى.
وعن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام: يا أبا الجارود ما يقولون في
الحسن والحسين عليهما السلام، قلت: ينكرون عليهما أنهما ابنا رسول الله.
قال: فبأي شئ احتججتم عليهم؟
قال: قلت بقول الله في عيسى: (ومن ذريته داود إلى قوله - وكل من
الصالحين) فجعل عيسى من ذرية إبراهيم، واحتججنا عليهم بقوله تعالى: (قل
تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم).
ثم قال: فأي شئ قالوا:
قال: قلت: قالوا: قد يكون ولد البنت من الولد ولا يكون من الصلب.
قال: فقال أبو جعفر: والله يا أبا الجارود لأعطينكم من كتاب الله آية تسميها
أنها لصلب رسول الله صلى الله عليه وآله لا يردها إلا كافر.
قال: قلت: جعلت فداك وأين؟
58

قال: قال: حيث قال: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم - إلى
قوله - وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) فسلهم يا أبا الجارود وهل يحل
لرسول الله نكاح حليلتيهما؟ فإن قالوا: نعم. فكذبوا والله، وإن قالوا: لا.
فهما والله ابنا رسول الله لصلبه، وما حرمن عليه إلا للصلب.
وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي الربيع قال: حججت مع أبي جعفر عليه السلام
في السنة التي حج فيها هشام بن عبد الملك، وكان معه نافع مولى عمر بن الخطاب
فنظر نافع إلى أبي جعفر عليه السلام في ركن البيت وقد اجتمع عليه الخلق فقال:
يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تكافأ عليه الناس؟
فقال: هذا محمد بن علي بن الحسين عليه السلام.
قال: لآتينه ولأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصي نبي.
قال: فاذهب إليه لعلك تخجله، فجاء نافع حتى اتكأ علي الناس وأشرف
على أبي جعفر فقال:
يا محمد بن علي أني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وقد عرفت
حلالها وحرامها، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصي
نبي أو ابن نبي، فرفع أبو جعفر عليه السلام رأسه فقال:
سل عما بدا لك!
قال: اخبرني كم بين عيسى ومحمد من سنة؟
قال: أجيبك بقولك أم بقولي؟
قال: أجبني بالقولين!
قال: أما بقولي فخمسمائة سنة، وأما بقولك فستمائة سنة.
قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل: (واسأل من أرسلنا من قبلك من
رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) من الذي سأل محمد وكان بينه وبين
عيسى خمسمائة سنة؟ قال: فتلا أبو جعفر عليه السلام هذه الآية: (سبحان الذي
أسرى بعبده ليلا من المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا) كان
59

من الآيات التي أراها محمدا حيث أسرى به إلى بيت المقدس، أنه حشر الله الأولين
والآخرين، من النبيين والمرسلين، ثم أمر جبرئيل عليه السلام فأذن شفعا وأقام شفعا
وقال في أذانه: (حي على خير العمل) ثم تقدم محمد صلى الله عليه وآله فصلى بالقوم، فلما
انصرف قال الله عز وجل: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون
الرحمن آلهة يعبدون).
فقال رسول الله: على ما تشهدون؟ وما كنتم تعبدون؟
قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله، أخذت
على ذلك عهودنا ومواثيقنا.
فقال: صدقت يا أبا جعفر!
قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل: (يوم تبدل الأرض غير الأرض
والسماوات) أي أرض تبدل؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: خبزة بيضاء يأكلونها حتى يفرغ الله من حساب الخلايق
فقال: إنهم عن الأكل لمشغولون.
فقال أبو جعفر عليه السلام: أهم حينئذ أشغل أم هم في النار؟
قال نافع. بل هم في النار.
قال: فقد قال الله عز وجل: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا
علينا من الماء أو مما رزقكم الله) ما أشغلهم إذا دعوا بالطعام فأطعموا الزقوم،
ودعوا بالشراب فسقوا من الجحيم.
فقال: صدقت يا بن رسول الله! وبقيت مسألة واحدة.
قال: وما هي؟
قال: فأخبرني متى كان الله؟ قال: ويلك أخبرني متى لم يكن حتى
أخبرك متى كان؟! سبحان من لم يزل ولا يزال، فردا صمدا لم يتخذ صاحبة
ولا ولدا، ثم أتى هشام بن عبد الملك فقال: ما صنعت؟ قال: دعني من كلامك والله
هو أعلم الناس حقا وهو ابن رسول الله حقا.
60

وعن أبان بن تغلب (1) قال: دخل طاوس اليماني إلى الطواف ومعه صاحب
له، فإذا هو بأبي جعفر يطوف أمامه وهو شاب حدث، فقال طاوس لصاحبه:
(إن هذا الفتى لعالم) فلما فرغ من طوافه صلى ركعتين، ثم جلس وأتاه الناس
فقال طاوس لصاحبه: نذهب إلى أبي جعفر عليه السلام ونسأله عن مسألة لا أدري عنده
فيها شئ أم لا، فأتياه فسلما عليه ثم قال له طاوس:
يا أبا جعفر هل تدري أي يوم مات ثلث الناس؟
فقال: يا أبا عبد الرحمن لم يمت ثلث الناس قط، إنما أردت ربع الناس.
قال: وكيف ذلك؟
قال: كان آدم وحواء، وقابيل وهابيل، فقتل قابيل هابيل، فذلك ربع الناس.
قال: صدقت:
قال أبو جعفر عليه السلام: هل تدري ما صنع بقابيل؟
قال: لا.
قال: علق بالشمس ينضح بالماء الحار إلى أن تقوم الساعة.
وروي أن عمرو بن عبيد، وفد على محمد بن علي الباقر عليه السلام لامتحانه بالسؤال
عنه فقال له:
جعلت فداك ما معنى قوله تعالى: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات

(1) في رجال النجاشي ص 7: (أبان بن تغلب بن رياح أبو سعيد البكري الجريري
مولى بني جرير بن عبادة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكاشة بن صعب بن علي بن
بكر بن وائل، عظيم المنزلة في أصحابنا، لقى علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله
عليهم السلام روى عنهم، وكانت له عندهم منزلة وقدم، وذكره البلاذري قال: روى
أبان عن عطية العوفي قال له أبو جعفر: إجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإني أحب
أن يرى في شيعتي مثلك وقال أبو عبد الله عليه السلام لما أتاه نعيه: (أم والله لقد
أوجع قلبي موت أبان) وكان قاريا من وجوه القراء، فقيها لغوبا، سمع من العرب
وحكى عنهم.
61

والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) ما هذا الرتق والفتق؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: كانت السماء رتقا لا تنزل القطر، وكانت الأرض
رتقا لا تخرج النبات، ففتق الله السماء بالقطر، وفتق الأرض بالنبات، فانقطع
عمرو ولم يجد اعتراضا، ومضى وعاد إليه فقال:
خبرني جعلت فداك عن قوله تعالى: (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى)
ما غضب الله؟
فقال له أبو جعفر عليه السلام: غضب الله تعالى عقابه يا عمرو، ومن ظن أن الله
يغره شئ فقد هلك.
وعن أبي حمزة الثمالي قال: أتى الحسن البصري أبا جعفر عليه السلام فقال:
جئتك لا سألك عن أشياء من كتاب الله.
فقال أبو جعفر: ألست فقيه أهل البصرة؟
قال: قد يقال ذلك.
فقال له أبو جعفر عليه السلام: هل بالبصرة أحد تأخذ عنه؟
قال: لا.
قال: فجميع أهل البصرة يأخذون عنك؟
قال: نعم.
فقال أبو جعفر: سبحان الله لقد تقلد عظيما من الأمر، بلغني عنك أمر
فما أدري أكذاك أنت، أم يكذب عليك؟
قال: ما هو؟
قال: زعموا أنك تقول: أن الله خلق العباد ففوض إليهم أمورهم.
قال: فسكت الحسن.
فقال: رأيت من قال الله له في كتابه: أنك آمن، هل عليه خوف بعد
هذا القول منه.
فقال الحسن: لا.
62

فقال أبو جعفر عليه السلام: إني أعرض عليك آية وأنهي إليك خطابا، ولا
أحسبك إلا وقد فسرته على غير وجهه، فإن كنت فعلت ذلك فقد هلكت وأهلكت.
فقال له: ما هو؟
قال: أرأيت حيث يقول: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها
قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين) يا حسن بلغني أنك
أفتيت الناس فقلت: هي مكة. فقال أبو جعفر عليه السلام: فهل يقطع على من حج
مكة، وهل يخاف أهل مكة، وهل تذهب أموالهم؟
قال: بلى
قال: فمتى يكونون آمنين؟ بل فينا ضرب الله الأمثال في القرآن، فنحن
القرى التي بارك الله فيها، وذلك قول الله عز وجل، فمن أقر بفضلنا حيث أمرهم
بأن يأتونا فقال: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها) أي جعلنا بينهم
وبين شيعتهم القرى التي باركنا فيها، قرى ظاهرة، والقرى الظاهرة الرسل،
والنقلة عنا إلى شيعتنا، وفقهاء شيعتنا، إلى شيعتنا، وقوله تعالى: (وقدرنا فيها
السير) فالسير مثل للعلم، سير به ليالي وأياما، مثل لما يسير من العلم في الليالي
والأيام عنا إليهم، في الحلال والحرام، والفرائض والأحكام، آمنين فيها إذا
أخذوا منه، آمنين من الشك والضلال، والنقلة من الحرام إلى الحلال، لأنهم
أخذوا العلم ممن وجب لهم أخذهم إياه عنهم، بالمعرفة، لأنهم أهل ميراث العلم من
آدم إلى حيث انتهوا، ذرية مصطفاة بعضها من بعض، فلم ينته الاصطفاء إليكم،
بل إلينا انتهى، ونحن تلك الذرية المصطفاة لا أنت ولا أشباهك يا حسن، فلو قلت
لك حين دعيت ما ليس لك، وليس إليك يا جاهل أهل البصرة! لم أقل فيك إلا
ما علمته منك، وظهر لي عنك، وإياك أن تقول بالتفويض، فإن الله عز وجل لم
يفوض الأمر إلى خلفه، وهنا منه وضعفا، ولا أجبرهم على معاصيه ظلما.
والخبر طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
وروي أن سالما دخل على أبي جعفر عليه السلام فقال:
63

جئت أكلمك في أمر هذا الرجل.
قال: أيما رجل؟
قال: علي بن أبي طالب عليه السلام.
قال: في أي أموره؟
قال: في إحداثه.
قال أبو جعفر: أنظر ما استقر عندك مما جاءت به الرواة عن آبائهم.
قال: ثم نسبهم، ثم قال: يا سالم أبلغك أن رسول الله بعث سعد بن عبادة
براية الأنصار إلى خيبر، فرجع منهزما، ثم بعث عمر بن الخطاب براية المهاجرين
والأنصار، فأتى سعد جريحا وجاء عمر يجبن أصحابه ويجبنونه. فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله: (هكذا يفعل المهاجرون والأنصار) حتى قالها ثلاثا. ثم قال: (لأعطين
الراية غدا رجلا كرار ليس بفرار، يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله).
قال: نعم. وقال القوم جميعا أيضا.
فقال أبو جعفر: يا سالم إن قلت إن الله عز وجل أحبه وهو لا يعلم ما
هو صانع فقد كفرت، وإن قلت إن الله عز وجل أحبه وهو يعلم ما هو صانع،
فأي حدث ترى له.
فقال أعد علي:
فأعاد عليه السلام عليه فقال سالم: عبدت الله على ضلالة سبعين سنة.
وعن أبي بصير قال: كان مولانا أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام جالسا
في الحرم وحوله عصابة من أوليائه، إذ أقبل طاوس اليماني في جماعة من أصحابه
ثم قال لأبي جعفر عليه السلام:
أتأذن لي في السؤال؟
فقال: أذنا لك فسل!
قال: اخبرني متى هلك ثلث الناس؟
قال: وهمت يا شيخ! أردت أن تقول: (متى هلك ربع الناس)؟ وذلك
64

يوم قتل قابيل هابيل، كانوا أربعة: آدم، وحواء، وقابيل وهابيل. فهلك ربعهم
فقال: أصبت ووهمت أنا فأيهما كان أبا للناس القاتل أو المقتول؟
قال: لا واحد منهما بل أبوهم شيث بن آدم.
قال: فلم سمي آدم آدم؟
قال: لأنه رفعت طينته من أديم الأرض السفلى.
قال: ولم سميت حواء حواء؟
قال: لأنها خلقت من ضلع حي، يعني ضلع آدم.
قال: فلم سمي إبليس إبليس؟
قال: لأنه أبلس من رحمة الله عز وجل فلا يرجوها.
قال: فلم سمي الجن جنا؟
قال: لأنهم استجنوا فلم يروا.
قال: فأخبرني عن كذبة كذبت، من صاحبها؟
قال: إبليس حين قال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).
قال: فأخبرني عن قوم شهدوا شهادة الحق وكانوا كاذبين؟
قال: المنافقون حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: (نشهد أنك لرسول الله)
فأنزل الله عز وجل: (إذا جائك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم
أنك لرسوله والله يشهدان المنافقين لكاذبون).
قال: فأخبرني عن طائر طار مرة ولم يطر قبلها ولا بعدها، ذكره الله
عز وجل في القرآن ما هو؟
فقال: طور سيناء أطاره الله عز وجل على بني إسرائيل حين أظلهم بجناح
منه، فيه ألوان العذاب، حتى قبلوا التوراة، وذلك قوله عز وجل: (وإذ نتقنا
الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم) الآية.
قال: فأخبرني عن رسول بعثه الله تعالى ليس من الجن، ولا من الإنس،
ولا من الملائكة، ذكره الله تعالى في كتابه؟
65

قال: الغراب، حين بعثه الله عز وجل ليري قابيل كيف يواري سوأة أخيه
هابيل حين قتله قال الله عز وجل: (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه
كيف يواري سوأة أخيه).
قال: فأخبرني عمن أنذر قومه ليس من الجن، ولا من الإنس، ولا من
الملائكة، ذكره الله عز وجل في كتابه؟
قال: النملة حين قالت: (يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم
سليمان وجنوده وهم لا يشعرون).
قال: فأخبرني عمن كذب عليه، ليس من الجن، ولا من الإنس، ولا من
الملائكة، ذكره الله عز وجل في كتابه؟
قال: الذئب الذي كذب عليه أخوة يوسف.
قال: فأخبرني عن شئ قليله حلال وكثيره حرام، ذكره الله عز وجل
في كتابه؟
قال: نهر طالوت. قال الله عز وجل: (إلا من اغترف غرفة بيده).
قال: فأخبرني عن صلاة فريضة تصلى بغير وضوء، وعن صوم لا يحجز عن
أكل ولا شرب،
قال: أما الصلاة بغير وضوء فالصلاة على النبي وآله عليه وعليهم السلام، وأما
الصوم فقول الله عز وجل: (أني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا).
قال: فأخبرني عن شئ يزيد وينقص، وعن شئ يزيد ولا ينقص، وعن
شئ ينقص ولا يزيد؟
فقال: الباقر عليه السلام: أما الشئ الذي يزيد وينقص فهو: القمر، والشئ
الذي هو يزيد ولا ينقص فهو: البحر، والشئ الذي ينقص ولا يزيد هو: العمر.
وقد تكرر إيراد أول هذا الخبر لما في آخره من الفوائد.
وبالإسناد المقدم ذكره عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: كان
علي بن الحسين زين العابدين جالسا في مجلسه فقال يوما في مجلسه أن رسول الله صلى الله عليه وآله
66

لما أمر بالمسير إلى تبوك، أمر بأن يخلف عليا بالمدينة. فقال علي عليه السلام: يا رسول
الله ما كنت أحب أن أتخلف عنك في شئ من أمورك، وأن أغيب عن مشاهدتك
والنظر إلى هديك، وسمتك، فقال رسول الله: يا علي أما ترضى أن تكون مني
بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، تقيم يا علي وأن لك في مقامك من
الأجر مثل الذي يكون لك لو خرجت مع رسول الله، ولك أجور كل من خرج
مع رسول الله صلى الله عليه وآله موقنا طائعا، وأن لك على الله يا علي لمحبتك أن تشاهد من
محمد سمته في ساير أحواله، بأن يأمر جبرئيل في جميع مسيرنا هذا أن يرفع
الأرض التي يسير عليها، والأرض التي تكون أنت عليها، ويقوي بصرك حتى
تشاهد محمدا وأصحابه في ساير أحوالك وأحوالهم، فلا يفوتك الأنس من رؤيته
ورؤية أصحابه ويغنيك ذلك عن المكاتبة والمراسلة.
فقام رجل من مجلس زين العابدين لما ذكر هذا وقال له: يا بن رسول
الله صلى الله عليه وآله كيف يكون، وهذا للأنبياء لا لغيرهم؟
فقال زين العابدين عليه السلام: هذا هو معجزة لمحمد رسول الله لا لغيره، لأن
الله إنما رفعه بدعاء محمد، وزاد في نور بصره أيضا بدعاء محمد، حتى شاهد ما شاهد
وأدرك ما أدرك، ثم قال له الباقر عليه السلام: يا عبد الله ما أكثر ظلم كثير من هذه
الأمة لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وأقل أنصارهم، أم يمنعون عليا ما يعطونه ساير
الصحابة، وعلي أفضلهم، فكيف يمنع منزلة يعطونها غيره، قيل: وكيف ذاك
يا بن رسول الله؟
قال: لأنكم تتولون محبي أبي بكر ابن أبي قحافة، وتتبرؤون من أعدائه
كائنا من كان، وكذلك تتولون عمر بن الخطاب، وتتبرؤون من أعدائه كائنا
من كان، وتتولون عثمان بن عفان وتتبرؤون من أعدائه كائنا من كان، حتى
إذا صار إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، قالوا: نتولى محبيه، ولا نتبرأ من أعدائه
بل نحبهم، فكيف يجوز هذا لهم، ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول في علي: (اللهم وال
من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله) أفترونه لا
67

يعادي من عاداه؟! ولا يخذل من خذله؟! ليس هذا بإنصاف. ثم أخرى: أنهم
إذا ذكر لهم ما أخص الله به عليا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله، وكرامته على ربه
تعالى، جحدوه، وهم يقبلون ما يذكر لهم في غيره من الصحابة، فما الذي منع
عليا ما جعله لسائر أصحاب رسول الله؟ هذا عمر بن الخطاب إذا قيل لهم: أنه كان
على المنبر بالمدينة يخطب إذ نادى في خلال خطبته: يا سارية الجبل وعجب القوم
وقالوا ما هذا من الكلام الذي في هذه الخطبة، فلما قضى الخطبة والصلاة قالوا:
ما قولك في خطبتك يا سارية الجبل؟
فقال: اعلموا أني وأنا أخطب إذ رميت ببصري نحو الناحية التي خرج فيها
إخوانكم إلى غزوة الكافرين بنهاوند، وعليهم سعد بن أبي وقاص، ففتح الله لي
الأستار والحجب، وقوى بصري حتى رأيتهم وقد اصطفوا بين يدي جبل هناك،
وقد جاء بعض الكفار ليدور خلف سارية، وساير من معه من المسلمين، فيحيطوا
بهم فيقتلوهم، فقلت يا سارية الجبل، ليلتجئ إليه، فيمنعهم ذلك من أن يحيطوا
به، ثم يقاتلوا، ومنح الله إخوانكم المؤمنين أكتاف الكافرين، وفتح الله عليهم
بلادهم، فاحفظوا هذا الوقت، فسيرد عليكم الخبر بذلك، وكان بين المدينة
ونهاوند مسيرة أكثر من خمسين يوما.
قال الباقر عليه السلام: فإذا كان مثل هذا لعمر، فكيف لا يكون مثل هذا
لعلي بن أبي طالب عليه السلام؟! ولكنهم قوم لا ينصفون بل يكابرون.
وعن عبد الله بن سليمان (1) قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام فقال له
رجل من أهل البصرة: يقال له: (عثمان الأعمى).
أن الحسن البصري يزعم أن الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم من
يدخل النار.
فقال أبو جعفر عليه السلام: فهلك إذا مؤمن آل فرعون، والله مدحه بذلك،

(1) عبد الله بن سليمان النخعي كوفي عده الشيخ في رجاله ص 165 من أصحاب
الصادق عليه السلام.
68

وما زال العلم مكتوما منذ بعث الله عز وجل رسوله نوحا، فليذهب الحسن يمينا
وشمالا، فوالله ما يوجد العلم إلا هيهنا، وكان عليه السلام يقول: محنة الناس علينا
عظيمة، إن دعوناهم يجيبونا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا.
احتجاج أبي عبد الله الصادق (ع) في أنواع شتى من العلوم الدينية على
أصناف كثيرة من أهل الملل والديانات.
روي عن هشام بن الحكم (1) أنه قال: من سؤال الزنديق الذي أتى
أبا عبد الله عليه السلام أن قال:
ما الدليل على صانع العالم؟
فقال: أبو عبد الله عليه السلام وجود الأفاعيل التي دلت على أن صانعها صنعها
إلا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت أن له بانيا وإن كنت لم تر

(1) هشام بن الحكم الكندي مولاهم البغدادي، وكان ينزل ببني شيبان بالكوفة
وكان مولده بالكوفة، ومنشؤه واسط، وتجارته ببغداد ثم انتقل إليها في آخر عمره
سنة تسع وتسعين وماءة. وقيل هذه السنة هي سنة وفاته.
عين الطائفة ووجهها ومتكلمها وناصرها من أرباب الأصول وله نوادر حكايات
ولطائف مناظرات ممن اتفق علمائنا على وثاقته، ورفعة شأنه ومنزلته عند أئمتنا
المعصومين عليهم السلام.
وكان ممن فتق الكلام في الإمامة، وهذب المذهب بالنظر، وكان حاذقا بصناعة
الكلام، حاضر الجواب، وكان ثقة بالروايات حسن التحقيق بهذا الأمر.
روى عن أبي عبد الله وعن أبي الحسن عليهما السلام وعاش بعد أبي الحسن ولما
توفي ترحم عليه الرضا عليه السلام
روى عن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الثاني عليه السلام
ما تقول جعلت فداك في هشام بن الحكم؟ فقال عليه السلام (رحمه الله ما كان أذبه
عن هذه الناحية).
راجع سفينة البحار ج 2 ص 719 رجال الشيخ ص 729 رجال العلامة ص 178
69

الباني، ولم تشاهده.
قال: فما هو؟
قال: هو شئ بخلاف الأشياء، ارجع بقولي شئ إلى إثباته، وأنه شئ
بحقيقته الشيئية، غير أنه لا جسم، ولا صورة، ولا يحس، ولا يجس، ولا يدرك
بالحواس الخمس، لا تدركه الأوهام، ولا تنقصه الدهور، ولا يغيره الزمان.
قال السائل: فإنا لم نجد موهوما إلا مخلوقا.
قال أبو عبد الله عليه السلام: لو كان ذلك كما تقول، لكان التوحيد منا
مرتفعا لأنا لم نكلف أن نعتقد غير موهوم، لكنا نقول: كل موهوم بالحواس مدرك
بها، تحده الحواس ممثلا، فهو مخلوق، ولا بد من إثبات كون صانع الأشياء خارجا
من الجهتين المذمومتين: إحداهما النفي إذا كان النفي هو الإبطال والعدم، والجهة
الثانية التشبيه بصفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف، فلم يكن بد من إثبات
الصانع لوجود المصنوعين، والاضطرار منهم إليه، أنهم مصنوعون، وأن صانعهم
غيرهم، وليس مثلهم، إن كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما
يجري عليهم من حدوثهم بعد أن لم يكونوا، وتنقلهم من صغر إلى كبر، وسواد
إلى بياض، وقوة إلى ضعف، وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها.
قال السائل: فأنت قد حددته إذا ثبت وجوده!
قال أبو عبد الله عليه السلام: لم أحدده، ولكني أثبته، إذ لم يكن بين الإثبات
والنفي منزلة.
قال السائل: فقوله: (الرحمن على العرش استوى)؟
قال أبو عبد الله عليه السلام: بذلك وصف نفسه، وكذلك هو مستول على العرش
بائن من خلقه، من غير أن يكون العرش محلا له، لكنا نقول: هو حامل، وممسك
للعرش، ونقول في ذلك ما قال: (وسع كرسيه السماوات والأرض) فثبتنا من
العرش والكرسي ما ثبته، ونفينا أن يكون العرش والكرسي حاويا له، وأن
يكون عز وجل محتاجا إلى مكان، أو إلى شئ مما خلق، بل خلقه محتاجون إليه.
70

قال السائل: فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء، وبين أن تخفضوها
نحو الأرض؟
قال أبو عبد الله: في علمه وإحاطته وقدرته سواء، ولكنه عز وجل أمر
أوليائه وعباده برفع أيديهم إلى السماء، نحو العرش، لأنه جعله معدن الرزق،
فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول، حين قال: (ارفعوا أيديكم إلى الله
عز وجل) وهذا تجمع عليه فرق الأمة كلها، ومن سؤاله أن قال: ألا يجوز أن
يكون صانع العالم أكثر من واحد؟
قال أبو عبد الله: لا يخلو قولك أنهما اثنان من أن يكونا: قديمين قويين
أو يكونا ضعيفين، أو يكون أحدهما قويا، والآخر ضعيفا، فإن كانا قويين
فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه، وينفرد بالربوبية، وإن زعمت أن أحدهما
قوي والآخر ضعيف، ثبت أنه واحد كما نقول، للعجز الظاهر في الثاني، وإن
قلت أنهما اثنان، لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة، أو مفترقين من
كل جهة، فلما رأينا الخلق منتظما، والفلك جاريا، واختلاف الليل والنهار والشمس
والقمر، دل ذلك على صحة الأمر والتدبير، وايتلاف الأمر، وأن المدبر واحد.
وعن هشام بن الحكم قال: دخل ابن أبي العوجاء على الصادق عليه السلام
فقال له الصادق عليه السلام:
يا بن أبي العوجاء! أنت مصنوع أم غير مصنوع؟
قال: لست بمصنوع.
فقال له الصادق: فلو كنت مصنوعا كيف كنت؟
فلم يحر ابن أبي العوجاء جوابا، وقام وخرج.
قال: دخل أبو شاكر الديصاني - وهو زنديق - على أبي عبد الله وقال:
يا جعفر بن محمد دلني على معبودي!
فقال أبو عبد الله عليه السلام: إجلس! فإذا غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها
فقال أبو عبد الله: ناولني يا غلام البيضة! فناوله إياها، فقال أبو عبد الله: يا ديصاني
71

هذا حصن مكنون، له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد
الرقيق ذهبة مايعة، وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة، ولا
الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المايعة، فهي على حالها، لا يخرج منها خارج مصلح
فيخبر عن إصلاحها، ولا يدخل إليها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها، لا يدرى
للذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى له مدبرا؟
قال: فأطرق مليا ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنك إمام وحجة من الله على خلقه، وأنا تائب
مما كنت فيه.
وعن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أسماء الله عز ذكره
واشتقاقها، فقلت:
الله مما هو مشتق؟
قال: يا هشام الله مشتق من إله، وإله يقتضي مألوها، والاسم غير
المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا، ومن عبد الاسم
والمعنى فقد كفر وعبد الاثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد،
أفهمت يا هشام؟
قال: فقلت زدني!
فقال: إن لله تسعة وتسعين اسما، فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل
اسم منها آلها، ولكن الله معنى يدل عليه، فهذه الأسماء كلها غيره، يا هشام
الخبز اسم للمأكول، والماء اسم للمشروب، والثوب اسم للملبوس، والنار اسم
للمحروق، أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل به أعدائنا، والمتخذين مع الله غيره؟
قلت: نعم.
قال: فقال: نفعك الله به، وثبتك!
قال هشام: فوالله ما قهرني أحد في علم التوحيد حتى قمت مقامي هذا.
وعن هشام بن الحكم قال: كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد الله عليه السلام
72

علم، فخرج إلى المدينة ليناظره، فلم يصادفه بها، وقيل: هو بمكة، فخرج إلى
مكة ونحن مع أبي عبد الله عليه السلام، فانتهى إليه - وهو في الطواف - فدنا منه وسلم.
فقال له أبو عبد الله: ما اسمك؟
قال: عبد الملك.
قال: فما كنيتك؟
قال: أبو عبد الله.
قال أبو عبد الله عليه السلام: فمن ذا الملك الذي أنت عبده، أمن ملوك الأرض
أم من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك أعبد إله السماء، أم عبد إله الأرض؟
فسكت. فقال أبو عبد الله: قل! فسكت.
فقال: إذا فرغت من الطواف فأتنا، فلما فرغ أبو عبد الله عليه السلام من الطواف
أتاه الزنديق، فقعد بين يديه ونحن مجتمعون عنده. فقال أبو عبد الله عليه السلام:
أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا؟
فقال: نعم.
قال: فدخلت تحتها؟
قال: لا.
قال: فهل تدري ما تحتها؟
قال: لا أدري إلا أني أظن أن ليس تحتها شئ.
فقال أبو عبد الله: فالظن عجز ما لم تستيقن. ثم قال له: صعدت إلى السماء؟
قال: لا.
قال: أفتدري ما فيها؟
قال: لا.
قال: فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما؟
قال: لا.
قال: فالعجب لك، لم تبلغ المشرق، ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل تحت
73

الأرض، ولم تصعد إلى السماء، ولم تخبر ما هناك فتعرف ما خلفهن، وأنت جاحد
بما فيهن، وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟!
فقال الزنديق: ما كلمني بهذا غيرك.
قال أبو عبد الله عليه السلام: فأنت من ذلك في شك، فلعل هو ولعل ليس هو.
قال: ولعل ذلك.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم،
ولا حجة للجاهل على العالم، يا أخا أهل مصر، تفهم عني، أما ترى الشمس
والقمر والليل والنهار يلجان ولا يستبقان، يذهبان ويرجعان، قد اضطرا ليس
لهما مكان إلا مكانهما، فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان، وإن كانا
غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهارا والنهار ليلا؟ اضطرا والله يا أخا أهل مصر إن
الذي تذهبون إليه وتظنون من الدهر، فإن كان هو يذهبهم فلم يردهم؟ وإن كان
يردهم فلم يذهب بهم؟ أما ترى السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، لا تسقط
السماء على الأرض، ولا تنحدر الأرض فوق ما تحتها، أمسكها والله خالقها ومدبرها. قال: فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله، فقال: هشام خذه إليك وعلمه.
وعن عيسى بن يونس (1) قال: كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن
البصري، فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما
لا أصل له ولا حقيقة؟
قال: إن صاحبي كان مخلطا، يقول طورا بالقدر، وطورا بالجبر، فما
أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه، فقدم مكة متمردا، وإنكارا على من يحجه، وكان
تكره العلماء مجالسته لخبث لسانه، وفساد ضميره، فأتى أبا عبد الله عليه السلام فجلس
إليه في جماعة من نظرائه، فقال:
يا أبا عبد الله! إن المجالس بالأمانات، ولا بد لكل من به سعال أن يسعل

(1) عيسى بن يونس ذكره الشيخ في رجاله ص 258 في أصحاب الصادق (ع)
وفي أصحاب الكاظم عليه السلام ص 355 فقال عيسى بن يونس بزرج له كتاب.
74

أفتأذن لي في الكلام؟
فقال: تكلم.
فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا
البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله كهرولة البعير إذا نفر، إن من
فكر في هذا وقدر، علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنك
رأس هذا الأمر وسنامه، وأبوك أسسه ونظامه!
فقال أبو عبد الله: إن من أضله الله وأعمى قلبه، استوخم الحق ولم يستعذبه
وصار الشيطان وليه، يورده مناهل الهلكة، ثم لا يصدره، وهذا بيت استعبد الله
به عباده، ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثهم على تعظيمه وزيارته، جعله محل
أنبيائه، وقبلة للمصلين له، فهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدي إلى غفرانه،
منصوب على استواء الكمال، ومجتمع العظمة والجلال، خلقه الله قبل دحو الأرض
بألفي عام، فأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عما نهى عنه وزجر، الله المنشئ
للأرواح والصور.
فقال ابن أبي العوجاء: ذكرت الله فأحلت على الغائب.
فقال أبو عبد الله: ويلك! كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد،
وإليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم ويرى أشخاصهم، ويعلم أسرارهم؟!
فقال ابن أبي العوجاء: فهو في كل مكان، أليس إذا كان في السماء كيف
يكون في الأرض وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء؟
فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل من مكان
اشتغل به مكان، وخلا منه مكان، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث
في المكان الذي كان فيه، فأما الله العظيم الشأن، الملك الديان، فلا يخلو منه مكان
ولا يشتغل به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان.
وروي أن الصادق عليه السلام قال لابن أبي العوجاء: إن يكن الأمر كما تقول
- وليس كما نقول - نجونا ونجوت وإن يكن الأمر كما - نقول وهو كما
75

نقول - نجونا وهلكت.
وروي أيضا: أن ابن أبي العوجاء سأل الصادق عليه السلام عن حدث العالم فقال:
ما وجدت صغيرا ولا كبيرا إلا إذا ضم إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال وانتقال
عن الحالة الأولى، ولو كان قديما ما زال ولا حال، لأن الذي يزول ويحول
يجوز أن يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث، وفي كونه
في الأزل دخول في القدم، ولن يجتمع صفة الحدوث والقدم في شئ واحد.
قال ابن أبي العوجاء: هبك علمك في جري الحالتين والزمانين على ما ذكرت
استدللت على حدوثها، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن
تستدل على حدوثها؟
فقال عليه السلام: إنا نتكلم على هذا العالم الموضوع، فلو رفعناه ووضعنا عالما
آخر كان لا شئ أدل على الحدث ومن رفعنا إياه ووضعنا غيره، لكن أجيبك
من حيث قدرت أن تلزمنا، فنقول: إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في
الوهم أنه متى ضم شئ منه إلى شئ منه كان أكبر، وفي جواز التغير عليه خروجه
من القدم كما إن في تغيره دخوله في الحدث، وليس لك ورائه شئ يا عبد الكريم.
وعن يونس بن ظبيان (1) قال: دخل رجل على أبي عبد الله عليه السلام قال:
أرأيت الله حين عبدته؟
قال: ما كنت أعبد شيئا لم أره.

(1) قال العلامة في القسم الثاني من خلاصته: يونس بن ظبيان - بالضاد المعجمة
المفتوحة والباء المنقطة تحتها نقطه قبل الياء والنون أخيرا - قال أبو عمرو الكشي: قال
الفضل بن شاذان في بعض كتبه -: الكذابون المشهورون: أبو الخطاب ويونس بن
ظبيان ويزيد الصايغ ومحمد بن سنان وأبو سمينة أشهرهم وقال النجاشي أنه مولى ضعيف
جدا لا يلتفت إلى ما رواه كل كتبه تخليط قال ابن الغضايري يونس بن ظبيان كوفي
غال كذاب وضاع للحديث روى عن أبي عبد الله عليه السلام لا يلتفت إلى حديثه فأنا
لا أعتمد على روايته لقول هؤلاء المشايخ العظام فيه.
76

قال: فكيف رأيته؟
قال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقايق الإيمان
لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بغير تشبيه.
وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى (لا تدركه
الأبصار) قال: إحاطة الوهم ألا ترى إلى قوله: (قد جائكم بصائر من ربكم)
ليس يعني بصر العيون، (فمن أبصر فلنفسه) وليس يعني من أبصر نفسه (ومن
عمي فعليها) ليس يعني عمي العيون، إنما عنى: إحاطة الوهم - كما يقال: فلان بصير
بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب - الله
أعظم من أن يرى بالعين.
ومن سؤال الزنديق الذي سأل أبا عبد الله عليه السلام عن مسائل كثيرة أنه قال:
كيف يعبد الله الخلق ولم يروه؟
قال: رأته القلوب بنور الإيمان، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان،
وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب، وأحكام التأليف، ثم الرسل وآياتها
والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته.
قال: أليس هو قادر أن يظهر لهم حتى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين؟
قال: ليس للمحال جواب.
قال: فمن أين أثبت أنبياء ورسلا؟
قال عليه السلام: أنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما
خلق، وكان ذلك الصانع حكيما، لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا أن يلامسوه
ولا أن يباشرهم ويباشروه، ويحاجهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده
يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم، وفي تركه فناؤهم، فثبت
الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أن له معبرون
هم أنبياء الله وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين عنه، مشاركين
للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيدين من عند الحكيم
77

العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه
والأبرص، فلا تخلو الأرض من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول
ووجوب عدالته.
ثم قال عليه السلام بعد ذلك: نحن نزعم أن الأرض لا تخلو من حجة ولا تكون
الحجة إلا من عقب الأنبياء، ما بعث الله نبيا قط من غير نسل الأنبياء، وذلك أن
الله شرع لبني آدم طريقا منيرا، وأخرج من آدم نسلا طاهرا طيبا، أخرج منه
الأنبياء والرسل، هم صفوة الله، وخلص الجوهر، طهروا في الأصلاب، وحفظوا
في الأرحام، لم يصبهم سفاح الجاهلية، ولا شاب أنسابهم، لأن الله عز وجل جعلهم
في موضع لا يكون أعلى درجة وشرفا منه، فمن كان خازن علم الله، وأمين غيبه
ومستودع سره، وحجته على خلقه، وترجمانه ولسانه، لا يكون إلا بهذه الصفة
فالحجة لا يكون إلا من نسلهم، يقوم مقام النبي صلى الله عليه وآله في الخلق بالعلم الذي
عنده، وورثه عن الرسول، إن جحده الناس سكت، وكان بقاء ما عليه الناس
قليلا مما في أيديهم من علم الرسول على اختلاف منهم فيه، قد أقاموا بينهم الرأي
والقياس، وأنهم إن أقروا به وأطاعوه وأخذوا عنه، ظهر العدل، وذهب الاختلاف
والتشاجر، واستوى الأمر وأبان الدين، وغلب على الشك اليقين، ولا يكاد أن
يقر الناس به ولا يطيعوا له أو يحفظوا له بعد فقد الرسول، وما مضى رسول ولا
نبي قط لم يختلف أمته من بعده، وإنما كان علة اختلافهم على الحجة وتركهم
إياه. قال: فما يصنع بالحجة إذا كان بهذه الصفة؟ قال: قد يقتدى به ويخرج عنه
الشئ بعد الشئ مكانه منفعة الخلق وصلاحهم فإن أحدثوا في دين الله شيئا أعلمهم
وإن زادوا فيه أخبرهم وإن نفدوا منه شيئا أفادهم.
ثم قال الزنديق: من أي شئ خلق الله الأشياء؟
قال: لا من شئ.
فقال: كيف يجئ من لا شئ شئ؟
قال عليه السلام: إن الأشياء لا تخلو أما أن تكون خلقت من شئ أو من غير
78

شئ، فإن كان خلقت من شئ كان معه، فإن ذلك الشئ قديم، والقديم لا
يكون حديثا ولا يفنى ولا يتغير، ولا يخلو ذلك الشئ من أن يكون جوهرا
واحدا ولونا واحدا، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة
الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى؟ ومن أين جاء الموت إن كان الشئ الذي
أنشئت منه الأشياء حيا؟! ومن أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشئ ميتا؟!
ولا يجوز أن يكون من حي وميت قديمين لم يزالا، لأن الحي لا يجئ منه ميت
وهو لم يزل حيا، ولا يجوز أيضا أن يكون الميت قديما لم يزل لما هو به من
الموت، لأن الميت لا قدرة له ولا بقاء.
قال: فمن أين قالوا أن الأشياء أزلية؟
قال: هذه مقالة قوم جحدوا مدبر الأشياء فكذبوا الرسل، ومقالتهم،
والأنبياء وما أنبأوا عنه، وسموا كتبهم أساطير، ووضعوا لأنفسهم دينا بآرائهم
واستحسانهم، أن الأشياء تدل على حدوثها، من دوران الفلك بما فيه، وهي سبعة
أفلاك، وتحرك الأرض ومن عليها، وانقلاب الأزمنة، واختلاف الوقت، والحوادث
التي تحدث في العالم، من زيادة ونقصان، وموت وبلى، واضطرار النفس إلى
الاقرار بأن لها صانعا ومدبرا، ألا ترى الحلو يصير حامضا، والعذب مرا، والجديد
باليا، وكل إلى تغير وفناء؟!
قال: فلم يزل صانع العالم عالما بالأحداث التي أحدثها قبل أن يحدثها؟
قال: فلم يزل يعلم فخلق ما علم.
قال: أمختلف هو أم مؤتلف؟
قال: لا يليق به الاختلاف ولا الايتلاف، وإنما يختلف المتجزي، ويأتلف
المتبعض، فلا يقال له مؤتلف ولا مختلف.
قال: فكيف هو الله الواحد؟
قال: واحد في ذاته، فلا واحد كواحد، لأن ما سواه من الواحد متجزي
وهو تبارك وتعالى واحد لا يتجزى، ولا يقع عليه العد.
79

قال: فلأي علة خلق الخلق وهو غير محتاج إليهم، ولا مضطر إلى خلقهم،
ولا يليق به التعبث بنا؟
قال: خلقهم لإظهار حكمته، وإنفاذ علمه، وإمضاء تدبيره.
قال: وكيف لا يقتصر على هذه الدار فيجعلها دار ثوابه، ومحتبس عقابه؟
قال: إن هذه الدار دار ابتلاء، ومتجر الثواب، ومكتسب الرحمة،
ملئت آفات، وطبقت شهوات، ليختبر فيها عبيده بالطاعة، فلا يكون دار عمل
دار جزاء.
قال: أفمن حكمته أن جعل لنفسه عدوا، وقد كان ولا عدو له، فخلق
كما زعمت (إبليس) فسلطه على عبيده يدعوهم إلى خلاف طاعته، ويأمرهم بمعصيته
وجعل له من القوة كما زعمت ما يصل بلطف الحيلة إلى قلوبهم، فيوسوس إليهم
فيشككهم في ربهم، ويلبس عليهم دينهم، فيزيلهم عن معرفته، حتى أنكر قوم لما
وسوس إليهم ربوبيته، وعبدوا سواه، فلم سلط عدوه على عبيده، وجعل له السبيل
إلى إغوائهم؟
قال: إن هذا العدو الذي ذكرت لا تضره عداوته، ولا تنفعه ولايته، وعداوته
لا تنقص من ملكه شيئا، وولايته لا تزيد فيه شيئا، وإنما يتقى العدو إذا كان في
قوة يضر وينفع، إن هم بملك أخذه، أو بسلطان قهره، فأما إبليس فعبد خلقه
ليعبده ويوحده، وقد علم حين خلقه ما هو وإلى ما يصير إليه، فلم يزل يعبده مع
ملائكته حتى امتحنه بسجود آدم، فامتنع من ذلك حسدا، وشقاوة غلبت عليه،
فلعنه عند ذلك، وأخرجه عن صفوف الملائكة، وأنزله إلى الأرض ملعونا مدحورا
فصار عدو آدم وولده بذلك السبب، ما له من السلطنة على ولده إلا الوسوسة،
والدعاء إلى غير السبيل، وقد أقر مع معصيته لربه بربوبيته.
قال: أفيصلح السجود لغير الله؟
قال: لا.
قال: فكيف أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟
80

قال: إن من سجد بأمر الله، سجد لله، إذا كان عن أمر الله.
قال: فمن أين أصل الكهانة، ومن أين يخبر الناس بما يحدث؟
قال: إن الكهانة كانت في الجاهلية في كل حين فترة من الرسل، كان
الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الأمور بينهم، فيخبرهم
عن أشياء تحدث، وذلك من وجوه شتى، فراسة العين، وذكاء القلب، ووسوسة
النفس، وفتنة الروح، مع قذف في قلبه، لأن ما يحدث في الأرض من الحوادث
الظاهرة فذلك يعلم الشيطان ويؤديه إلى الكاهن، ويخبره بما يحدث في المنازل
والأطراف، وأما أخبار السماء فإن الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ
ذاك، وهي لا تحجب، ولا ترجم بالنجوم، وإنما منعت من استراق السمع لئلا
يقع في الأرض سبب تشاكل الوحي من خبر السماء، فيلبس على أهل الأرض ما
جائهم عن الله، لإثبات الحجة، ونفي الشبهة، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة
من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه فيختطفها، ثم يهبط بها إلى الأرض،
فيقذفها إلى الكاهن، فإذا قد زاد كلمات من عنده، فيخلط الحق بالباطل، فما
أصاب الكاهن من خبر مما كان يخبر به فهو ما أداه إليه الشيطان لما سمعه، وما
أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه، فمنذ منعت الشياطين عن استراق السمع
انقطعت الكهانة، واليوم إنما تؤدي الشياطين إلى كهانها أخبارا للناس بما يتحدثون
به، وما يحدثونه، والشياطين تؤدي إلى الشياطين ما يحدث في البعد من الحوادث، من
سارق سرق ومن قاتل قتل، ومن غائب غاب، وهم بمنزلة الناس أيضا، صدوق وكذوب.
قال: وكيف صعدت الشياطين إلى السماء وهم أمثال الناس في الخلقة والكثافة
وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود عليهما السلام من البناء ما يعجز عنه ولد آدم؟
قال: غلظوا لسليمان كما سخروا وهم خلق رقيق، غذائهم النسيم، والدليل
على كل ذلك صعودهم إلى السماء لاستراق السمع، ولا يقدر الجسم الكثيف على
الارتقاء إليها بسلم أو بسبب.
قال: فأخبرني عن السحر ما أصله، وكيف يقدر الساحر على ما يوصف
81

من عجائبه، وما يفعل؟
قال: إن السحر على وجوه شتى:
وجه منها بمنزلة الطب، كما أن الأطباء وضعوا لكل داء دواء، فكذلك
علم السحر، احتالوا لكل صحة آفة، ولكل عافية عاهة، ولكل معنى حيلة.
ونوع آخر منه خطفة وسرعة، ومخاريق وخفة
ونوع آخر ما يأخذ أولياء الشياطين عنهم.
قال: فمن أين علم الشياطين السحر؟
قال: من حيث عرف الأطباء الطلب، بعضه تجربة، وبعضه علاج.
قال: فما تقول في الملكين هاروت وماروت؟ وما يقول الناس بأنهما
يعلمان الناس السحر؟
قال: إنهما موضع ابتلاء، وموقع فتنة، تسبيحهما: اليوم لو فعل الإنسان
كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولو يعالج بكذا وكذا لكان كذا، أصناف السحر
فيتعلمون منهما ما يخرج عنهما، فيقولان لهم إنما نحن فتنة فلا تأخذوا عنا ما
يضركم ولا ينفعكم.
قال: أفيقدر الساحر أن يجعل الإنسان بسحره في صورة الكلب أو الحمار
أو غير ذلك؟
قال: هو أعجز من ذلك، وأضعف من أن يغير خلق الله، إن من أبطل
ما ركبه الله وصوره وغيره فهو شريك الله في خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
لو قدر الساحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهرم والآفة والأمراض، ولنفى
البياض عن رأسه، والفقر عن ساحته، وأن من أكبر السحر النميمة، يفرق بها بين
المتحابين، ويجلب العداوة على المتصافيين، ويسفك بها الدماء، ويهدم بها الدور
ويكشف بها الستور، والنمام أشر من وطئ الأرض بقدم، فاقرب أقاويل السحر
من الصواب أنه بمنزلة الطب، إن الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النساء
فجاء الطبيب فعالجه بغير ذلك العلاج فأبرء.
82

قال: فما بال ولد آدم فيهم شريف ووضيع؟
قال: الشريف المطيع، والوضيع العاصي.
قال: أليس فيهم فاضل ومفضول؟
قال: إنما يتفاضلون بالتقوى.
قال: فتقول أن ولد آدم كلهم سواء في الأصل لا يتفاضلون إلا بالتقوى؟
قال: نعم. أني وجدت أصل الخلق التراب، والأب آدم، والأم حواء،
خلقهم إله واحد، وهم عبيده، إن الله عز وجل اختار من ولد آدم أناسا طهر
ميلادهم، وطيب أبدانهم، وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، أخرج
منهم الأنبياء والرسل، فهم أزكى فروع آدم، فعل ذلك لأمر استحقوه من الله
عز وجل. ولكن علم الله منهم حين ذرأهم أنهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به
شيئا، فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده، وهؤلاء الذين
لهم الشرف والفضل والحسب، وساير الناس سواء، إلا من اتقى الله أكرمه، ومن
أطاعه أحبه، ومن أحبه لم يعذبه بالنار.
قال: فأخبرني عن الله عز وجل كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحدين
وكان على ذلك قادرا؟
قال عليه السلام: لو خلقهم مطيعين، لم يكن لهم ثواب، لأن الطاعة إذا ما كانت
فعلهم لم يكن جنة ولا نارا، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته
واحتج عليهم برسله، وقطع عذرهم بكتبه، ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون
ويستوجبون بطاعتهم له الثواب، وبمعصيتهم إياه العقاب.
قال: فالعمل الصالح من العبد هو فعله، والعمل الشر من العبد هو فعله؟
قال: العمل الصالح من العبد بفعله، والله به أمره، والعمل الشر من العبد
بفعله، والله عنه نهاه.
قال: أليس فعله بالآلة التي ركبها فيه؟
قال: نعم. ولكن بالآلة التي عمل بها الخبر، قدر على الشر الذي نهاه عنه
83

قال: فإلى العبد من الأمر شئ؟
قال: ما نهاه الله عن شئ إلا وقد علم أنه يطيق تركه، ولا أمره بشئ إلا
وقد علم أنه يستطيع فعله، لأنه ليس من صفة الجور، والبعث، والظلم، وتكليف
العباد ما لا يطيقون.
قال: فمن خلقه الله كافرا أيستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجة.
قال عليه السلام: إن الله خلق خلقه جميعا مسلمين، أمرهم ونهاهم، والكفر
اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد، ولم يخلق الله العبد حين خلقه كافرا، إنه
إنما كفر من بعد أن بلغ وقتا لزمته الحجة من الله، فعرض عليه الحق فجحده
فبإنكاره الحق صار كافرا.
قال: أفيجوز أن يقدر على العبد الشر، ويأمره بالخير وهو لا يستطيع
الخير أن يعمله، ويعذبه عليه.
قال: إنه لا يليق بعدل الله ورأفته أن يقدر على العبد الشر ويريده منه،
ثم يأمره بما يعلم أنه لا يستطيع أخذه، والإنزاع عما لا يقدر على تركه، ثم
يعذبه على أمره الذي علم أنه لا يستطيع أخذه.
قال: بماذا استحق الذين أغناهم وأوسع عليهم من رزقه الغناء والسعة، وبماذا
استحق الفقير التقتير والتضييق.
قال: اختبر الأغنياء بما أعطاهم لينظر كيف شكرهم، والفقراء بما منعهم
لينظر كيف صبرهم، ووجه آخر: أنه عجل لقوم في حياتهم، ولقوم أخر ليوم
حاجتهم إليه، ووجه آخر فإنه علم احتمال كل قوم فأعطاهم على قدر احتمالهم
ولو كان الخلق كلهم أغنياء لخربت الدنيا، وفسد التدبير، وصار أهلها إلى الفناء
ولكن جعل بعضهم لبعض عونا، وجعل أسباب أرزاقهم في ضروب الأعمال، وأنواع
الصناعات، وذلك أدوم في البقاء، وأصح في التدبير، ثم اختبر الأغنياء بالاستعطاف
على الفقراء، كل ذلك لطف ورحمة من الحكيم الذي لا يعاب تدبيره.
قال: فيما استحق الطفل الصغير ما يصيبه من الأوجاع والأمراض بلا ذنب
84

عمله، ولا جرم سلف منه.
قال: إن المرض على وجوه شتى: مرض بلوى، ومرض عقوبة، ومرض
جعل علة للفناء، وأنت تزعم أن ذلك من أغذية ردية، وأشربة وبية، أو من علة
كانت بأمه، وتزعم أن من أحسن السياسة لبدنه، وأجمل النظر في أحوال نفسه
وعرف الضار مما يأكل من النافع، لم يمرض، وتميل في قولك إلى من يزعم:
أنه لا يكون المرض والموت إلا من المطعم والمشرب! قد مات أرسطا طاليس معلم
الأطباء، وإفلاطون رئيس الحكماء، وجالينوس شاخ ودق بصره، وما دفع الموت
حين نزل بساحته، ولم يألوا حفظ أنفسهم، والنظر لما يوافقها، كم مريضا قد
زاده المعالج سقما، وكم من طبيب عالم، وبصير بالأدواء والأدوية ماهر مات
وعاش الجاهل بالطب بعده زمانا. فلا ذاك نفعه علمه بطبه عند انقطاع مدته
وحضور أجله، ولا هذا ضره الجهل بالطب مع بقاء المدة وتأخر الأجل.
ثم قال عليه السلام: إن أكثر الأطباء قالوا: إن علم الطب لم تعرفه الأنبياء،
فما نصنع على قياس قولهم بعلم زعموا ليس تعرفه الأنبياء الذين كانوا حجج الله
على خلقه، وأمناءه في أرضه، وخزان علمه، وورثة حكمته، والأدلاء عليه،
والدعاة إلى طاعته؟
ثم إني وجدت أن أكثرهم يتنكب في مذهبه سبل الأنبياء، ويكذب الكتب
المنزلة عليهم من الله تبارك وتعالى، فهذا الذي أزهدني في طلبه وحامليه.
قال: فكيف تزهد في قوم وأنت مؤدبهم وكبيرهم؟
قال عليه السلام: إني رأيت الرجل الماهر في طبه إذا سألته لم يقف على حدود
نفسه، وتأليف بدنه، وتركيب أعضائه، ومجرى الأغذية في جوارحه، ومخرج
نفسه وحركة لسانه، ومستقر كلامه، ونور بصره، وانتشار ذكره، واختلاف
شهواته، وانسكاب عبراته، ومجمع سمعه، وموضع عقله، ومسكن روحه، ومخرج
عطسته، وهيج غمومه، وأسباب سروره، وعلة ما حدث فيه من بكم وصمم، وغير
ذلك، لم يكن عندهم في ذلك أكثر من أقاويل استحسنوها، وعلل فيما بينهم جوزوها.
85

قال: فأخبرني عن الله أله شريك في ملكه، أو مضاد له في تدبيره؟
قال: لا.
قال: فما هذا الفساد الموجود في العالم. من سباع ضارية، وهوام مخوفة
وخلق كثير مشوهة، ودود، وبعوض، وحيات، وعقارب، وزعمت: أنه لا يخلق
شيئا إلا لعلة، لأنه لا يعبث؟
قال: ألست تزعم أن العقارب تنفع من وجه المثانة والحصاة، ولمن يبول
في الفراش، وأن أفضل الترياق ما عولج من لحوم الأفاعي، فإن لحومها إذا
أكلها المجذوم بشب نفعه، وتزعم أن الدود الأحمر الذي يصاب تحت الأرض
نافع للأكلة؟
قال: نعم.
قال: عليه السلام: فأما البعوض والبق فبعض سببه أنه جعله أرزاق الطير، وأهان
بها جبارا تمرد على الله وتجبر، وأنكر ربوبيته، فسلط الله عليه أضعف خلقه ليريه
قدرته وعظمته، وهي البعوض، فدخلت في منخره حتى وصلت إلى دماغه فقتلته،
واعلم أنا لو وقعنا على كل شئ خلقه الله تعالى لم خلقه؟ ولأي شئ أنشأه؟ لكنا
قد ساويناه في علمه، وعلمنا كلما يعلم، واستغنينا عنه، وكنا وهو في العلم سواء.
قال: فأخبرني هل يعاب شئ من خلق الله وتدبيره؟
قال: لا.
قال: فإن الله خلق خلقه عزلا، أذلك منه حكمة أم عبث؟
قال: بل منه حكمة.
قال: غيرتم خلق الله، وجعلتم فعلكم في قطع الغلفة أصوب مما خلق الله
لها، وعبتم الأغلف، والله خلقه، ومدحتم الختان وهو فعلكم. أم تقولون أن ذلك
من الله كان خطأ غير حكمة؟!
قال: عليه السلام: ذلك من الله حكمة وصواب، غير أنه سن ذلك وأوجبه على
خلقه، كما أن المولود إذا خرج من بطن أمه وجدنا سرته متصلة بسرة أمه،
86

كذلك خلقها الحكيم فأمر العباد بقطعها، وفي تركها فساد بين للمولود والأم،
وكذلك أظفار الإنسان أمر إذا طالت أن تقلم، وكان قادرا يوم دبر خلق الإنسان
أن يخلقها خلقة لا تطول، وكذلك الشعر من الشارب والرأس، يطول فيجز،
وكذلك الثيران خلقها الله فحولة، وإخصاؤها أوفق، وليس في ذلك عيب في
تقدير الله عز وجل.
قال: ألست تقول: يقول الله تعالى: (ادعوني أستجب لكم) وقد نرى
المضطر يدعوه فلا يجاب له، والمظلوم يستنصره على عدوه فلا ينصره؟
قال: ويحك ما يدعوه أحد إلا استجاب له، أما الظالم فدعاؤه مردود إلى أن
يتوب إليه، وأما المحق فإنه إذا دعاه استجاب له، وصرف عنه البلاء من حيث
لا يعلمه، أو ادخر له ثوابا جزيلا ليوم حاجته إليه، وإن لم يكن الأمر الذي
سأل العبد خيرا له إن أعطاه أمسك عنه، والمؤمن العارف بالله ربما عز عليه أن يدعوه
فيما لا يدري أصواب ذلك أم خطأ، وقد يسأل العبد ربه هلاك من لم ينقطع مدته
أو يسأل المطر وقتا ولعله أوان لا يصلح فيه المطر، لأنه أعرف بتدبير ما خلق
من خلقه، وأشباه ذلك كثيرة فافهم هذا.
قال: اخبرني أيها الحكيم ما بال السماء لا ينزل منها إلى الأرض أحد،
ولا يصعد من الأرض إليها بشر، ولا طريق إليها، ولا مسلك، فلو نظر العباد في
كل دهر مرة من يصعد إليها وينزل لكان ذلك أثبت في الربوبية، وأنفى للشك
وأقوى لليقين، وأجدر أن يعلم العباد أن هناك مدبرا إليه يصعد الصاعد، ومن
عنده يهبط الهابط.
قال: إن كل ما ترى في الأرض من التدبير إنما هو ينزل من السماء، ومنها
يظهر، أما ترى الشمس منها تطلع، وهي نور النهار، وفيها قوام الدنيا، ولو حبست
حار من عليها، وهلك، والقمر منها يطلع، وهو نور الليل، وبه يعلم عدد السنين
والحساب، والشهور والأيام، ولو حبس لحار من عليها وفسد التدبير، وفي السماء
النجوم التي يهتدى بها في ظلمات البر، والبحر، ومن السماء ينزل الغيث الذي فيه
87

حياة كل شئ، من: الزرع، والنبات، والأنعام، وكل الخلق لو حبس عنهم
لما عاشوا، والريح لو حبست إياه لفسدت الأشياء جميعا، وتغيرت، ثم الغيم والرعد
والبرق والصواعق، كل ذلك إنما هو دليل على أن هناك مدبرا يدبر كل شئ
ومن عنده ينزل، وقد كلم الله موسى وناجاه، ورفع الله عيسى بن مريم، والملائكة
تتنزل من عنده، غير أنك لا تؤمن بما لم تره بعينك، وفيما تراه بعينك كفاية
أن تفهم وتعقل.
قال: فلو أن الله رد إلينا من الأموات في كل مائة عام واحدا لنسأله عن
من مضى منا. إلى ما صاروا، وكيف حالهم، وماذا لقوا بعد الموت، وأي شئ
صنع بهم، ليعمل الناس على اليقين، واضمحل الشك، وذهب الغل عن القلوب.
قال: إن هذه مقالة من أنكر الرسل وكذبهم، ولم يصدق بما جاءوا به
من عند الله، إذ أخبروا وقالوا: أن الله أخبر في كتابه عز وجل على لسان
أنبيائه، حال من مات منا، أفيكون أحد أصدق من الله قولا ومن رسله، وقد
رجع إلى الدنيا ممن مات خلق كثير، منهم: (أصحاب الكهف) أماتهم الله ثلاثمائة
عام وتسعة ثم بعثهم في زمان قوم أنكروا البعث، ليقطع حجتهم، وليريهم قدرته
وليعلموا أن البعث حق، وأمات الله (أرمياء) النبي عليه السلام الذي نظر إلى خراب
بيت المقدس وما حوله حين غزاهم بخت نصر وقال: (أنى يحيي هذه الله بعد
موتها) (فأماته الله مائة عام ثم أحياه) ونظر إلى أعضائه كيف تلتئم، وكيف
تلبس اللحم، وإلى مفاصله وعروقه كيف توصل، فلما استوى قاعدا قال: (أعلم
أن الله على كل شئ قدير) وأحيى الله قوما خرجوا عن أوطانهم هاربين من
الطاعون، لا يحصى عددهم، وأماتهم الله دهرا طويلا، حتى بليت عظامهم، وتقطعت
أوصالهم، وصاروا ترابا، فبعث الله في وقت أحب أن يري خلقه قدرته، نبيا يقال
له: (حزقيل) دعاهم فاجتمعت أبدانهم، ورجعت فيها أرواحهم، وقاموا كهيئة
يوم ماتوا، لا يفقدون من أعدادهم رجلا، فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا، وأن
الله أمات قوما خرجوا مع موسى عليه السلام حين توجه إلى الله فقالوا: (أرنا الله جهرة)
88

(فأماتهم الله ثم أحياهم)
قال: فأخبرني عمن قال: بتناسخ الأرواح، من أي شئ قالوا ذلك، وبأي
حجة قاموا على مذاهبهم.
قال: إن أصحاب التناسخ قد خلفوا ورائهم منهاج الدين، وزينوا لأنفسهم
الضلالات، وأمرجوا أنفسهم في الشهوات (1) وزعموا أن السماء خاوية ما فيها
شئ مما يوصف، وأن مدبر هذا العالم في صورة المخلوقين، بحجة من روى أن
الله عز وجل خلق آدم على صورته، وأنه لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا نشور،
والقيامة عندهم خروج الروح من قالبه وولوجه في قالب آخر، فإن كان محسنا في
القالب الأول أعيد في قالب أفضل منه حسنا في أعلى درجة من الدنيا، وإن كان
مسيئا أو غير عارف صار في بعض الدواب المتعبة في الدنيا، أو هوام مشوهة الخلقة
وليس عليهم صوم ولا صلاة، ولا شئ من العبادة أكثر من معرفة من تجب عليهم
معرفته، وكل شئ من شهوات الدنيا مباح لهم، من: فروج النساء، وغير ذلك،
من الأخوات، والبنات، والخالات، وذوات البعولة، وكذلك الميتة، والخمر،
والدم، فاستقبح مقالتهم كل الفرق، ولعنهم كل الأمم، فلما سئلوا الحجة زاغوا
وحادوا، فكذب مقالتهم التوراة، ولعنهم الفرقان، وزعموا مع ذلك أن إلههم
ينتقل من قالب إلى قالب، وأن الأرواح الأزلية هي التي كانت في آدم، ثم هلم
جرا تجري إلى يومنا هذا في واحد بعد آخر، فإذا كان الخالق في صورة المخلوق
فبما يستدل على أن أحدهما خالق صاحبه؟! وقالوا: أن الملائكة من ولد آدم
كل من صار في أعلى درجة من دينهم خرج من منزلة الامتحان والتصفية فهو ملك
فطورا تخالهم نصارى في أشياء، وطورا دهرية يقولون: أن الأشياء على غير
الحقيقة، فقد كان يجب عليهم أن لا يأكلوا شيئا من اللحمان، لأن الذرات عندهم
كلها من ولد آدم حولوا من صورهم، فلا يجوز أكل لحوم القربات.

(1) أمرج الدابة: تركها تذهب حيث شاءت.
89

قال: ومن زعم أن الله لم يزل، ومعه طينة مؤذية، فلم يستطع التفصي منها (1)
إلا بامتزاجه بها ودخوله فيها، فمن تلك الطينة خلق الأشياء!
قال: سبحان الله وتعالى! ما أعجز إله يوصف بالقدرة، لا يستطيع
التفصي من الطينة! إن كانت الطينة حية أزلية، فكانا إلهين قديمين فامتزجا
ودبرا العالم من أنفسهما، فإن كان ذلك كذلك، فمن أين جاء الموت والفناء؟ وإن
كانت الطينة ميتة فلا بقاء للميت مع الأزلي القديم، والميت لا يجئ منه حي،
وهذه مقالة الديصانية، أشد الزنادقة قولا، وأمهنهم مثلا، نظروا في كتب قد
صنفتها أوائلهم، وحبروها بألفاظ مزخرفة من غير أصل ثابت، ولا حجة توجب
إثبات ما ادعوا، كل ذلك خلافا على الله وعلى رسله، بما جاءوا عن الله، فأما
من زعم أن الأبدان ظلمة، والأرواح نور، وأن النور لا يعمل الشر، والظلمة لا تعمل
الخير، فلا يجب عليهم أن يلوموا أحدا على معصية، ولا ركوب حرمة ولا إتيان فاحشة
وأن ذلك عن الظلمة غير مستنكر، لأن ذلك فعلها، ولا له أن يدعو ربا، ولا يتضرع
إليه، لأن النور الرب، والرب لا يتضرع إلى نفسه، ولا يستعبد بغيره، ولا لأحد
من أهل هذه المقالة أن يقول: (أحسنت) يا محسن أو (أسأت) لأن الإسائة من
فعل الظلمة، وذلك فعلها، والإحسان من النور، ولا يقول النور لنفسه أحسنت
يا محسن، وليس هناك ثالث، وكانت الظلمة على قياس قولهم، أحكم فعلا،
وأتقن تدبيرا، وأعز أركانا من النور، لأن الأبدان محكمة، فمن صور هذا الخلق
صورة واحدة على نعوت مختلفة، وكل شئ يرى ظاهرا من الزهر، والأشجار
والثمار، والطير، والدواب، يجب أن يكون إلها، ثم حبست النور في حبسها
والدولة لها، وأما ما ادعوا بأن العاقبة سوف تكون للنور، فدعوى، وينبغي على
قياس قولهم أن لا يكون للنور فعل، لأنه أسير، وليس له سلطان، فلا فعل له
ولا تدبير، وإن كان له مع الظلمة تدبير، فما هو بأسير، بل هو مطلق عزيز،
فإن لم يكن كذلك، وكان أسير الظلمة، فإنه يظهر في هذا العالم إحسان،

(1) التفصي التخلص وتفصى عن الشئ بان عنه.
90

وجامع فساد وشر، فهذا يدل على أن الظلمة تحسن الخير وتفعله، كما تحسن
الشر وتفعله، فإن قالوا محال ذلك، فلا نور يثبت ولا ظلمة، وبطلت دعواهم،
ورجع الأمر إلى أن الله واحد وما سواه باطل، فهذه مقالة ماني الزنديق وأصحابه.
وأما من قال: النور والظلمة بينهما حكم، فلا بد من أن يكون أكبر الثلاثة
الحكم، لأنه لا يحتاج إلى الحاكم إلا مغلوب أو جاهل أو مظلوم، وهذه مقالة
المانوية والحكاية عنهم تطول.
قال: فما قصة ماني؟
قال: متفحص أخذ بعض المجوسية فشابها ببعض النصرانية، فأخطأ الملتين
ولم يصب مذهبا واحدا منهما، وزعم أن العالم دبر من إلهين، نور وظلمة، وأن
النور في حصار من الظلمة على ما حكينا منه، فكذبته النصارى، وقبلته المجوس.
قال: فأخبرني عن المجوس أفبعث الله إليهم نبيا؟ فإني أجد لهم كتبا محكمة
ومواعظ بليغة، وأمثالا شافية، يقرون بالثواب والعقاب، ولهم شرايع يعملون بها.
قال عليه السلام: ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وقد بعث إليهم نبي بكتاب من
عند الله، فأنكروه. وجحدوا كتابه.
قال: ومن هو فإن الناس يزعمون أنه خالد بن سنان؟
قال عليه السلام: إن خالدا كان عربيا بدويا، ما كان نبيا، وإنما ذلك شئ
يقوله الناس.
قال: أفزردشت؟
قال: إن زردشت أتاهم بزمزمة، وادعى النبوة، فآمن منهم قوم وجحده
قوم، فأخرجوه فأكلته السباع في برية من الأرض.
قال: فأخبرني عن المجوس كانوا أقرب إلى الصواب في دهرهم، أم العرب؟
قال: العرب في الجاهلية، كانت أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس
وذلك أن المجوس كفرت بكل الأنبياء، وجحدت كتبهم، وأنكرت براهينهم،
ولم تأخذ بشئ من سننهم، وآثارهم، وأن كيخسرو ملك المجوس في الدهر الأول
91

قتل ثلاثمائة نبي، وكانت المجوس لا تغتسل من الجنابة، والعرب كانت تغتسل
والاغتسال من خالص شرايع الحنيفية، وكانت المجوس لا تختن، وهو من سنن
الأنبياء، وأول من فعل ذلك إبراهيم خليل الله، وكانت المجوس لا تغسل موتاها
ولا تكفنها، وكانت العرب تفعل ذلك، وكانت المجوس ترمي الموتى في الصحارى
والنواويس، والعرب تواريها في قبورها وتلحدها، وكذلك السنة على الرسل، إن
أول من حفر له قبر آدم أبو البشر، وألحد له لحد، وكانت المجوس تأتي الأمهات
وتنكح البنات والأخوات، وحرمت ذلك العرب، وأنكرت المجوس بيت الله الحرام
وسمته بيت الشيطان، والعرب كانت تحجه وتعظمه، وتقول: بيت ربنا، وتقر
بالتوراة والإنجيل، وتسأل أهل الكتب وتأخذ، وكانت العرب في كل الأسباب
أقرب إلى الدين الحنيفية من المجوس.
قال: فإنهم احتجوا بإتيان الأخوات أنها سنة من آدم.
قال: فما حجتهم في إتيان البنات والأمهات، وقد حرم ذلك آدم، وكذلك
نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وسائر الأنبياء، وكل ما جاء عن الله عز وجل.
قال: ولم حرم الله الخمر ولا لذة أفضل منها؟
قال: حرمها لأنها أم الخبائث، وأس كل شر، يأتي على شاربها ساعة
يسلب لبه، ولا يعرف ربه، ولا يترك معصية إلا ركبها، ولا حرمة إلا انتهكها
ولا رحم ماسة إلا قطعها، ولا فاحشة إلا أتاها، والسكران زمامه بيد الشيطان،
إن أمره أن يسجد للأوثان سجد، وينقاد حيث ما قاده.
قال: فلم حرم الدم المسفوح؟
قال: لأنه يورث القساوة، ويسلب الفؤاد رحمته، ويعفن البدن ويغير اللون
وأكثر ما يصيب الإنسان الجذام يكون من أكل الدم.
قال: فأكل الغدد؟
قال: يورث الجذام.
قال: فالميتة لم حرمها؟
92

قال: فرقا بينها وبين ما يذكى ويذكر اسم الله عليه، والميتة قد جمد فيها
الدم، وتراجع إلى بدنها، فلحمها ثقيل غير مرئ، لأنها يؤكل لحمها بدمها.
قال: فالسمك ميتة؟
قال: إن السمك ذكاته إخراجه حيا من الماء، ثم يترك حتى يموت من
ذات نفسه، وذلك أنه ليس له دم، وكذلك الجراد.
قال: فلم حرم الزنا؟
قال: لما فيه من الفساد، وذهاب المواريث، وانقطاع الأنساب، لا تعلم
المرأة في الزنا من أحبلها، ولا المولود يعلم من أبوه، ولا أرحام موصولة، ولا
قرابة معروفة.
قال: فلم حرم اللواط؟
قال: من أجل أنه لو كان إتيان الغلام حلالا لاستغنى الرجال عن النساء
وكان فيه قطع النسل، وتعطيل الفروج، وكان في إجازة ذلك فساد كثير.
قال: فلم حرم إتيان البهيمة؟
قال: كره أن يضيع الرجل ماءه، ويأتي غير شكله، ولو أباح ذلك
لربط كل رجل أتانا يركب ظهرها ويغشى فرجها، وكان يكون في ذلك فساد
كثير، فأباح ظهورها، وحرم عليهم فروجها، وخلق للرجال النساء ليأنسوا بهن
ويسكنوا إليهن، ويكن مواضع شهواتهم، وأمهات أولادهم.
قال: فما علة الغسل من الجنابة، وأن ما أتى حلالا وليس في الحلال تدنيس؟
قال عليه السلام: إن الجنابة بمنزلة الحيض، وذلك أن النطفة دم لم يستحكم
ولا يكون الجماع إلا بحركة شديدة، وشهوة غالبة، فإذا فرغ تنفس البدن،
ووجد الرجل من نفسه رائحة كريهة، فوجب الغسل لذلك، وغسل الجنابة مع
ذلك أمانة ائتمن الله عليها عبيده ليختبرهم بها.
قال: أيها الحكيم! فما تقول فيمن زعم أن هذا التدبير الذي يظهر في
العالم تدبير النجوم السبعة؟
93

قال عليه السلام: يحتاجون إلى دليل، أن هذا العالم الأكبر والعالم الأصغر من
تدبير النجوم التي تسبح في الفلك، وتدور حيث دارت، متعبة لا تفتر، وسائرة
لا تقف.
ثم قال: وأن لكل نجم منها موكل مدبر، فهي بمنزلة العبيد المأمورين المنهيين
فلو كانت قديمة أزلية لم تتغير من حال إلى حال.
قال: فمن قال بالطبايع؟
قال: القدرية، فذلك قول من لم يملك البقاء، ولا صرف الحوادث، وغيرته
الأيام والليالي، لا يرد الهرم، ولا يدفع الأجل، وما يدري ما يصنع به.
قال: فأخبرني عمن يزعم أن الخلق لم يزل يتناسلون ويتوالدون، ويذهب
قرن ويجئ قرن، وتفنيهم الأمراض والأعراض، وصنوف الآفات، ويخبرك
الآخر عن الأول، وينبئك الخلف عن السلف، والقرون عن القرون، أنهم وجدوا
الخلق على هذا الوصف بمنزلة الشجر والنبات في كل دهر يخرج منه حكيم عليم
بمصلحة الناس، بصير بتأليف الكلام، ويصنف كتابا قد حبره بفطنته، وحسنه
بحكمته، قد جعله حاجزا بين الناس، يأمرهم بالخير ويحثهم عليه، وينهاهم
عن السوء والفساد، ويزجرهم عنه، لئلا يتهارشوا، ولا يقتل بعضهم بعضا.
قال عليه السلام: ويحك إن من خرج من بطن أمه أمس، ويرحل عن الدنيا غدا
لا علم له بما كان قبله، ولا ما يكون بعده، ثم إنه لا يخلو الإنسان من أن يكون
خلق نفسه، أو خلقه غيره، أو لم يزل موجودا، فما ليس بشئ ليس يقدر أن
يخلق شيئا وهو ليس بشئ، وكذلك ما لم يكن فيكون شيئا، يسئل فلا يعلم
كيف كان ابتداؤه، ولو كان الإنسان أزليا لم تحدث فيه الحوادث، لأن الأزلي
لا تغيره الأيام، ولا يأتي عليه الفناء، مع أنا لم نجد بناء من غير بان، ولا أثرا
من غير مؤثر، ولا تأليفا من غير مؤلف، فمن زعم أن أباه خلقه، قيل: فمن خلق
أباه، ولو أن الأب هو الذي خلق ابنه، لخلقه على شهوته، وصوره على محبته،
ولملك حياته، ولجاز فيه حكمه، ولكنه إن مرض فلم ينفعه، وإن مات فعجز
94

عن رده، إن من استطاع أن يخلق خلقا وينفخ فيه روحا حتى يمشي على رجليه
سويا، يقدر أن يدفع عنه الفساد.
قال: فما تقول في علم النجوم؟
قال: هو علم قلت منافعه، وكثرت مضراته، لأنه لا يدفع به المقدور،
ولا يتقى به المحذور، إن خبر المنجم بالبلاء لم ينجه التحرز من القضاء، وإن
أخبر هو بخير لم يستطع تعجيله، وإن حدث به سوء لم يمكنه صرفه، والمنجم
يضاد الله في علمه، بزعمه أن يرد قضاء الله عن خلقه.
قال: فالرسول أفضل أم الملك المرسل إليه؟
قال: بل الرسول أفضل.
قال: فما علة الملائكة الموكلين بعباده، يكتبون عليهم ولهم، والله عالم
السر وما هو أخفى،
قال: استعبدهم بذلك، وجعلهم شهودا على خلقه، ليكون العباد لملازمتهم
إياهم أشد على طاعة الله مواظبة، وعن معصيته أشد انقباضا، وكم من عبد يهم
بمعصيته فذكر مكانهما فارعوى وكف، فيقول ربي يراني، وحفظتي علي بذلك
تشهد، وأن الله برأفته ولطفه أيضا وكلهم بعباده، يذبون عنهم مردة الشيطان،
وهوام الأرض، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله إلى أن يجئ أمر الله.
قال: فخلق الخلق للرحمة أم للعذاب؟
قال: خلقهم للرحمة، وكان في علمه قبل خلقه إياهم، أن قوما منهم
يصيرون إلى عذابه بأعمالهم الردية، وجحدهم به.
قال: يعذب من أنكر فاستوجب عذابه بإنكاره، فبم يعذب من وحده وعرفه؟
قال: يعذب المنكر لإلهيته عذاب الأبد، ويعذب المقر به عذاب عقوبة
لمعصيته إياه فيما فرض عليه، ثم يخرج، ولا يظلم ربك أحدا.
قال: فبين الكفر والإيمان منزلة؟
قال عليه السلام: لا.
95

قال: فما الإيمان وما الكفر؟
قال عليه السلام: الإيمان: أن يصدق الله فيما غاب عنه من عظمة الله، كتصديقه
بما شاهد من ذلك وعاين، والكفر: الجحود.
قال: فما الشرك وما الشك؟
قال عليه السلام: الشرك هو: أن يضم إلى الواحد الذي ليس كمثله شئ آخر
والشك: ما لم يعتقد قلبه شيئا.
قال: أفيكون العالم جاهلا؟
قال عليه السلام: عالم بما يعلم، وجاهل بما يجهل.
قال: فما السعادة وما الشقاوة؟
قال: السعادة: سبب الخير، تمسك به السعيد فيجره إلى النجاة، والشقاوة
سبب خذلان، تمسك به الشقي فيجره إلى الهلكة، وكل بعلم الله.
قال: أخبرني عن السراج إذا انطفى أين يذهب نوره؟
قال عليه السلام: يذهب فلا يعود.
قال: فما أنكرت أن يكون الإنسان مثل ذلك إذا مات وفارق الروح
البدن، لم يرجع إليه أبدا كما لا يرجع ضوء السراج إليه أبدا إذا انطفى؟
قال: لم تصب القياس، إن النار في الأجسام كامنة، والأجسام قائمة بأعيانها
كالحجر والحديد، فإذا ضرب أحدهما بالآخر، سقطت من بينهما بار، تقتبس
منها سراج، له ضوء، فالنار ثابت في أجسامها، والضوء ذاهب، والروح: جسم
رقيق، قد ألبس قالبا كثيفا، وليس بمنزلة السراج الذي ذكرت، أن الذي خلق
في الرحم جنينا من ماء صاف، وركب فيه ضروبا مختلفة: من عروق، وعصب
وأسنان، وشعر، وعظام، وغير ذلك، هو يحييه بعد موته، ويعيده بعد فنائه.
قال: فأين الروح؟
قال: في بطن الأرض حيث مصرع البدن إلى وقت البعث.
قال: فمن صلب فأين روحه؟
96

قال: في كف الملك الذي قبضها حتى يودعها الأرض.
قال: فأخبرني عن الروح أغير الدم؟
قال: نعم. الروح على ما وصفت لك: مادتها من الدم، ومن الدم رطوبة
الجسم، وصفاء اللون، وحسن الصوت، وكثرة الضحك، فإذا جمد الدم فارق
الروح البدن.
قال: فهل يوصف بخفة وثقل ووزن؟
قال: الروح بمنزلة الريح في الزق، إذا نفخت فيه امتلأ الزق منها، فلا
يزيد في وزن الزق ولوجها فيه، ولا ينقصها خروجها منه، كذلك الروح ليس
لها ثقل ولا وزن.
قال: فأخبرني ما جوهر الريح؟
قال: الريح هواء إذا تحرك يسمى ريحا، فإذا سكن يسمى هواء، وبه
قوام الدنيا، ولو كفت الريح ثلاثة أيام لفسد كل شئ على وجه الأرض ونتن،
وذلك أن الريح بمنزلة المروحة، تذب وتدفع الفساد عن كل شئ وتطيبه،
فهي بمنزلة الروح إذا خرج عن البدن نتن البدن وتغير، وتبارك الله أحسن الخالقين.
قال: أفتتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟
قال: بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور، فعند ذلك تبطل الأشياء، وتفنى
فلا حس ولا محسوس، ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها، وذلك أربعمائة سنة
يسبت فيها الخلق، وذلك بين النفختين.
قال: وأنى له بالبعث والبدن قد بلى، والأعضاء قد تفرقت، فعضو ببلدة
يأكلها سباعها، وعضو بأخرى تمزقه هوامها، وعضو قد صار ترابا بني به مع
الطين حائط؟
قال: إن الذي أنشأه من غير شئ، وصوره على غير مثال كان سبق إليه،
قادر أن يعيده كما بدأه.
قال: أوضح لي ذلك!
97

قال: إن الروح مقيمة في مكانها، روح المحسن في ضياء وفسحة، وروح
المسئ في ضيق وظلمة، والبدن يصير ترابا كما منه خلق، وما تقذف به السباع
والهوام من أجوافها، مما أكلته ومزقته كل ذلك في التراب. محفوظ عند من لا
يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض، ويعلم عدد الأشياء ووزنها، وأن تراب
الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب، فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر
النشور، فتربو الأرض ثم تمخضوا مخض السقاء، فيصير تراب البشر كمصير الذهب
من التراب إذا غسل بالماء، والزبد من اللبن إذا مخض، فيجتمع تراب كل قالب
إلى قالبه، فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح، فتعود الصور بإذن المصور
كهيئتها، وتلج الروح فيها، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا.
قال: فأخبرني عن الناس يحشرون يوم القيامة عراة؟
قال: بل يحشرون في أكفانهم.
قال: أنى لهم بالأكفان وقد بليت؟!
قال: إن الذي أحيا أبدانهم جدد أكفانهم.
قال: فمن مات بلا كفن؟
قال: يستر الله عورته بما يشاء من عنده.
قال: أفيعرضون صفوفا؟
قال عليه السلام: نعم. هم يومئذ عشرون ومائة ألف صف في عرض الأرض.
قال: أوليس توزن الأعمال؟
قال: لا إن الأعمال ليست بأجسام، وإنما هي صفة ما عملوا، وإنما يحتاج
إلى وزن الشئ من جهل عدد الأشياء، ولا يعرف ثقلها أو خفتها، وأن الله لا
يخفى عليه شئ.
قال: فما معنى الميزان؟
قال عليه السلام: العدل.
قال: فما معناه في كتابه: (فمن ثقلت موازينه)؟
98

قال: فمن رجح عمله.
قال: فأخبرني أوليس في النار مقتنع أن يعذب خلقه بها دون الحيات والعقارب.
قال: إنما يعذب بها قوما زعموا أنها ليست من خلقه، إنما شريكه الذي
يخلقه، فيسلط الله عليهم العقارب والحيات في النار ليذيقهم بها وبال ما كذبوا
عليه فجحدوا أن يكون صنعه.
قال: فمن أين قالوا: (أن أهل الجنة يأتي الرجل منهم إلى ثمرة يتناولها
فإذا أكلها عادت كهيئتها)؟
قال: نعم ذلك على قياس السراج يأتي القابس فيقتبس عنه فلا ينقص من
ضوئه شيئا، وقد امتلأت الدنيا منه سراجا.
قال: أليسوا يأكلون ويشربون، وتزعم أنه لا يكون لهم الحاجة؟
قال: بلى. لأن غذائهم رقيق لا ثقل له، بل يخرج من أجسادهم بالعرق.
قال: فكيف تكون الحوراء في جميع ما أتاها زوجها عذراء؟
قال: لأنها خلقت من الطيب لا يعتريها عاهة، ولا يخالط جسمها آفة. ولا
يجري في ثقبها شئ، ولا يدنسها حيض، فالرحم ملتزقة ملدم، إذ ليس فيها
لسوى الإحليل مجرى.
قال: فهي تلبس سبعين حلة ويرى زوجها مخ ساقها من وراء حللها وبدنها؟
قال: نعم. كما يرى أحدكم الدراهم إذا لقيت في ماء صاف قدره قدر رمح.
قال: فكيف تنعم أهل الجنة بما فيه من النعيم، وما منهم أحد إلا وقد فقد
ابنه، وأباه، أو حميمه، أو أمه، فإذا افتقدوهم في الجنة لم يشكوا في مصيرهم
إلى النار، فما يصنع بالنعيم من يعلم أن حميمه في النار ويعذب؟
قال عليه السلام: إن أهل العلم قالوا: أنهم ينسون ذكرهم. وقال: بعضهم
انتظروا قدومهم، ورجوا أن يكونوا بين الجنة والنار في أصحاب الأعراف.
قال عليه السلام: فأخبرني عن الشمس أين تغيب؟
قال: إن بعض العلماء قال: إذا انحدرت أسفل القبة دار بها الفلك إلى بطن
99

السماء صاعدة أبدا، إلى أن تنحط إلى موضع مطلعها يعني: أنها تغيب في عين حامية
ثم تخرق الأرض راجعة إلى موضع مطلعها، فتحير تحت العرش حتى يؤذن لها
بالطلوع، ويسلب نورها كل يوم، وتجلل نورا آخر.
قال: فالكرسي أكبر أم العرش؟
قال: كل شئ خلقه الله في جوف الكرسي ما خلا عرشه فإنه أعظم من أن
يحيط به الكرسي.
قال: فخلق النهار قبل الليل؟
قال: خلق النهار قبل الليل، والشمس قبل القمر، والأرض قبل السماء
ووضع الأرض على الحوت، والحوت في الماء، والماء في صخرة مجوفة، والصخرة
على عاتق ملك، والملك على الثرى، والثرى على الريح العقيم، والريح على الهواء
والهواء تمسكه القدرة، وليس تحت الريح العقيم إلا الهواء والظلمات، ولا وراء
ذلك سعة ولا ضيق، ولا شئ يتوهم، ثم خلق الكرسي فحشاه السماوات والأرض
والكرسي أكبر من كل شئ خلقه الله، ثم خلق العرش فجعله أكبر من الكرسي
وعن أبان بن تغلب أنه قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام، إذ دخل عليه
رجل من أهل اليمن، فسلم عليه فرد عليه أبو عبد الله، فقال له: مرحبا يا سعد!
فقال الرجل: بهذا الاسم سمتني أمي، وما أقل من يعرفني به، فقال له أبو عبد الله:
صدقت يا سعد المولى! فقال الرجل: جعلت فدك بهذا اللقب كنت القب. فقال
أبو عبد الله عليه السلام: لا خير في اللقب، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: (ولا
تتنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان).
ما صناعتك يا سعد؟
قال: جعلت فداك! أنا أهل بيت ننظر في النجوم، لا يقال أن باليمن أحدا
أعلم بالنجوم منا.
فقال أبو عبد الله: كم يزيد ضوء الشمس على ضوء القمر درجة؟
فقال اليماني: لا أدري.
100

فقال: صدقت.
فقال: فكم ضوء القمر يزيد على ضوء المشتري درجة؟
قال: اليماني: لا أدري!
فقال أبو عبد الله عليه السلام: صدقت!
قال: فكم يزيد ضوء المشتري على ضوء العطارد درجة؟
قال اليماني: لا أدري!
فقال أبو عبد الله: صدقت!
قال: فكم ضوء عطارد يزيد درجة على ضوء الزهرة؟
قال اليماني: لا أدري!
قال أبو عبد الله: صدقت!
قال: فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الإبل؟
فقال اليماني: لا أدري!
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: صدقت!
قال: فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت البقر؟
فقال اليماني: لا أدري!
فقال له أبو عبد الله: صدقت!
قال: فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الكلاب؟
فقال اليماني: لا أدري!
فقال له أبو عبد الله: صدقت في قولك لا أدري! فما زحل عندكم في النجوم؟
فقال اليماني: نجم نحس.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: لا تقل هذا فإنه نجم أمير المؤمنين صلوات الله عليه
وهو نجم الأوصياء عليهم السلام، وهو النجم الثاقب الذي قال الله تعالى في كتابه.
فقال اليماني: فما معنى الثاقب؟
فقال: إن مطلعه في السماء السابعة، فإنه ثقب بضوئه حتى أضاء في السماء
101

الدنيا، فمن ثم سماه الله النجم الثاقب.
ثم قال: يا أخا العرب أعندكم عالم؟
فقال اليماني: جعلت فداك إن باليمن قوما ليسوا كأحد من الناس في علمهم.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: وما يبلغ من علم عالمهم؟
فقال اليماني: إن عالمهم ليزجر الطير، ويقفو الأثر في ساعة واحدة مسيرة
شهر للراكب المحث.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: فإن عالم المدينة أعلم من عالم اليمن.
قال اليماني: وما يبلغ علم عالم المدينة؟
قال: إن علم عالم المدينة ينتهي إلى أن لا يقفو الأثر، ولا يزجر الطير،
ويعلم ما في اللحظة الواحدة مسيرة الشمس، تقطع اثني عشر برجا، واثني عشر
برا، واثني عشر بحرا، واثني عشر عالما.
فقال له اليماني: ما ظننت أن أحدا يعلم هذا، وما يدري ما كنهه!
قال: ثم قام اليماني وخرج.
وعن سعيد بن أبي الخضيب (1)
قال: دخلت أنا وابن أبي ليلى المدينة، فبينما نحن في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله
إذ دخل جعفر بن محمد عليه السلام، فقمنا إليه فسألني عن نفسي وأهلي ثم قال:
من هذا معك؟
فقلت: ابن أبي ليلى قاضي المسلمين!
فقال: نعم. ثم قال له:
أتأخذ مال هذا فتعطيه هذا، وتفرق بين المرء وزوجه، ولا تخاف في هذا أحدا؟
قال: نعم.
قال: فبأي شئ تقضي؟

(1) سعيد ابن أبي الخضيب البجلي: عده الشيخ في رجاله ص 205 من أصحاب
الصادق عليه السلام.
102

قال: بما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وعن أبي بكر، وعمر.
قال: فبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (أقضاكم علي بعدي)؟
قال: نعم.
قال: فكيف تقضي بغير قضاء علي عليه السلام، وقد بلغك هذا؟
قال: فاصفر وجه ابن أبي ليلى ثم قال: التمس مثلا لنفسك، فوالله لا
أكلمك من رأسي كلمة أبدا.
وعن الحسين بن زيد (1) عن جعفر الصادق عليه السلام أن رسول الله قال لفاطمة:
يا فاطمة إن الله عز وجل يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك. (قال) فقال المحدثون
بها (قال): فأتاه ابن جريج فقال:
يا أبا عبد الله حدثنا اليوم حديثا استهزأه الناس.
قال: وما هو؟
قال: حديث أن رسول الله قال لفاطمة: (إن الله ليغضب لغضبك، ويرضى لرضاك).
(قال): فقال عليه السلام: إن الله ليغضب فيما تروون لعبده المؤمن،
ويرضى لرضاه.
فقال: نعم.
قال عليه السلام: فما تنكر أن تكون ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله مؤمنة، يرضى الله
لرضاها، ويغضب لغضبها.
قال: صدقت! الله أعلم حيث يجعل رسالاته.

(1) ذكره العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 51 فقال: الحسين بن زيد
ابن علي بن الحسين عليهم السلام. أبو عبد الله، يلقب ذا الدمعة كان أبو عبد الله تبناه
ورباه، وزوجه بنت الأرقط، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام،
وكتابه مختلف الرواية.
103

وعن حفص بن غياث (1) قال: شهدت المسجد الحرام وابن أبي العوجاء (2)
يسأل أبا عبد الله عليه السلام عن قوله تعالى: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا
غيرها ليذوقوا العذاب) ما ذنب الغير؟
قال: ويحك هي هي وهي غيرها!
قال: فمثل لي ذلك شيئا من أمر الدنيا!
قال: نعم أرأيت لو أن رجلا أخذ لبنة فكسرها، ثم ردها في ملبنها، فهي
هي وهي غيرها.
وروي أنه سأل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل في قصة إبراهيم عليه السلام
(قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) قال: ما فعله كبيرهم
وما كذب إبراهيم عليه السلام.
قيل: وكيف ذلك؟
فقال: إنما قال إبراهيم: فاسألوهم إن كانوا ينطقون، فإن نطقوا فكبيرهم
فعل، وإن لم ينطقوا فكبيرهم لم يفعل شيئا، فما نطقوا، وما كذب إبراهيم عليه السلام

(1) حفص بن غياث: عده الشيخ في رجاله ص 118 من أصحاب الباقر (ع)
وذكره في أصحاب الصادق عليه السلام أيضا ص 175 فقال: حفص بن غياث بن طلق
ابن معاوية. أبو عمر النخعي القاضي الكوفي أسند عنه، وذكره في باب من لم يرو عن
الأئمة عليهم السلام ص 471 والعلامة في القسم الثاني من خلاصته ص 218 وقال: ولي
القضاء لهارون وروى عن الصادق (ع) وكان عاميا وله كتاب معتمد.
(2) عبد الكريم بن أبي العوجاء هذا من تلامذة الحسن البصري وقد انحرف عن
التوحيد وحبسه محمد بن سليمان عامل الكوفة من جهة المنصور وهو خال معن بن زائدة
فكثر شفعاءه بمدينة السلام وألحوا على المنصور حتى كتب إلى محمد بالكف عنه وقبل أن
يجئ الكتاب إلى محمد بن سليمان بعث عليه وأمر بضرب عنقه فلما أيقن أنه مقتول قال
أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل بها
الحرام ولقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم ثم ضربت عنقه.
104

فسئل عن قوله في سورة يوسف: (أيتها العير أنكم لسارقون)؟.
قال: إنهم سرقوا يوسف من أبيه، ألا ترى إنه قال لهم حين قالوا: (ماذا
تفقدون قالوا نفقد صواع الملك) ولم يقل سرقتم صواع الملك، إنما سرقوا
يوسف من أبيه، فسئل عن قول إبراهيم: (فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم).
قال: ما كان إبراهيم سقيما، وما كذب إنما عنى سقيما في دينه أي مرتادا.
وعن عبد المؤمن الأنصاري (1) قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أن قوما
رووا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (اختلاف أمتي رحمة)؟.
فقال: صدقوا.
قلت: إن كان اختلافهم رحمة، فاجتماعهم عذاب؟
قال: ليس حيث تذهب وذهبوا، إنما أراد قول الله عز وجل: (فلو لا
نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يحذرون) أمرهم أن ينفروا إلى رسول الله، ويختلفوا إليه، ويتعلموا، ثم يرجعوا
إلى قومهم فيعلموهم، إنما أراد اختلافهم في البلدان، لا اختلافا في الدين،
إنما الدين واحد.
وروي عنه صلوات الله عليه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ما وجدتم في كتاب
الله عز وجل فالعمل لكم به، ولا عذر لكم في تركه، وما لم يكن في كتاب الله
عز وجل وكانت في سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، وما لم يكن فيه سنة مني
فما قال أصحابي فقولوا، إنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم، بأيها أخذ
اهتدي، وبأي أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة.

(1) ذكره الشيخ في أصحاب علي بن الحسين (ع) ص 99 من رجاله وفي
أصحاب الباقر (ع) ص 131 وعده في أصحاب الصادق عليه السلام ص 236 وذكره
العلامة في القسم أول من خلاصته ص 131 فقال: (عبد المؤمن بن القاسم بن قيس
ابن قهد - بفتح القاف وإسكان الهاء - الأنصاري روى عن أبي عبد الله وأبي جعفر
عليهما السلام ثقة وهو أخو أبي مريم عبد الغفار بن القاسم، وقيس بن فهد صحابي).
105

قيل: يا رسول الله من أصحابك؟ قال: أهل بيتي.
قال محمد بن الحسين بن بابويه القمي رضي الله عنه: إن أهل البيت لا يختلفون
ولكن يفتون الشيعة بمر الحق، وربما أفتوهم بالتقية، فما يختلف من قولهم فهو
للتقية، والتقية رحمة للشيعة، ويؤيد. تأويله رضي الله عنه، أخبار كثيرة.
منها: ما رواه محمد بن سنان، عن نصر الخثعمي (1) قال: سمعت أبا
عبد الله يقول: من عرف من أمرنا أن لا نقول إلا حقا فليكتف بما يعلم منا، فإن
سمع منا خلاف ما يعلم فليعلم أن ذلك منا دفاع واختيار له.
وعن عمر بن حنظلة: (2) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام: عن رجلين من
أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحا كما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك؟
قال عليه السلام: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الجبت
والطاغوت المنهي عنه، وما حكم له به فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه ثابتا له
لأنه أخذه بحكم الطاغوت، ومن أمر الله عز وجل أن يكفر به، قال الله عز وجل:
(يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به).
قلت: فكيف يصنعان وقد اختلفا؟
قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا
وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضيا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما،
فإذا حكم بحكم ولم يقبله منه فإنما بحكم الله استخف، وعلينا رد، والراد علينا كافر
وراد على الله، وهو على حد من الشرك بالله.

(1) نصر الخثعمي: لم أعثر فيما بين يدي من كتب الرجال على ترجمة لصاحب
هذا الاسم. ولعله نصير الخثعمي الذي ذكره الأردبيلي في جامع الرواة ج 2 ص 292
فقال: نصير أبو الحكم الخثعمي. محمد بن سنان عنه عن أبي عبد الله في محاسن البرقي
في باب أن المؤمن صنفان.
(2) عمر بن حنظلة العجلي البكري الكوفي: عده الشيخ في رجاله ص 251 من
أصحاب الصادق عليه السلام.
106

قلت. فإن كان كل واحد منهما اختار رجلا من أصحابنا، فرضيا أن يكونا
الناظرين في حقهما فيما حكما، فإن الحكمين اختلفا في حديثكم؟.
قال: إن الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث،
وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر.
قلت: فإنهما عدلان مرضيان، عرفا بذلك لا يفضل أحدهما صاحبه؟
قال: ينظر الآن إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما، المجمع
عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند
أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور ثلاث: أمر بين رشده
فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد حكمه إلى الله عز وجل وإلى
رسوله، حلال بين، وحرام بين، وشبهات تتردد بين ذلك، فمن ترك الشبهات
نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات، وهلك من
حيث لا يعلم.
قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟.
قال ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما
خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة.
قلت: جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ثم
وجدنا أحد الخبرين يوافق العامة، والآخر يخالف بأيهما تأخذ من الخبرين؟.
قال: ينظر إلى ما هم إليه يميلون، فإن ما خالف العامة ففيه الرشاد.
قلت جعلت فداك فإن وافقهم الخبران جميعا؟.
قال: انظروا إلى ما تميل إليه حكامهم وقضاتهم، فاتركوا جانبا
وخذوا بغيره.
قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا؟.
قال: إذا كان كذلك فارجه وقف عنده، حتى تلقي إمامك، فإن الوقوف
عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات، والله هو المرشد.
107

جاء هذا الخبر على سبيل التقدير، لأنه قل ما يتفق في الأثر أن يرد خبران
مختلفان في حكم من الأحكام، موافقين للكتاب والسنة، وذلك مثل غسل الوجه
واليدين في الوضوء لأن الأخبار جاءت بغسلهما مرة مرة وغسلهما مرتين مرتين،
فظاهر القرآن لا يقتضي خلاف ذلك، بل يحتمل كلتا الروايتين، ومثل ذلك
يؤخذ في أحكام الشرع.
وأما قوله عليه السلام للسائل ارجه وقف عنده حتى تلقي إمامك، أمره بذلك عند
تمكنه من الوصول إلى الإمام، فأما إذا كان غائبا ولا يتمكن من الوصول إليه،
والأصحاب كلهم مجمعون على الخبرين، ولم يكن هناك رجحان لروايات أحدهما
على الآخر بالكثرة والعدالة، كان الحكم بهما من باب التخيير.
يدل على ما قلنا: ما روي عن الحسن بن الجهم (1) عن الرضا عليه السلام: قال: قلت
للرضا عليه السلام: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟.
قال: ما جاءك عنا فقسه على كتاب الله عز وجل وأحاديثنا، فإن كان يشبهما
فهو منا وإن لم يشبهما فليس منا.
قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة، بحديثين مختلفين، فلا نعلم أيهما الحق.
فقال: إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت.
وما رواه الحرث بن المغيرة (2) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا سمعت

(1) الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين: أبو محمد الشيباني ثقة روى عن أبي
الحسن موسى والرضا عليهما السلام ذكره العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 43
والنجاشي في رجاله ص 40 والشيخ في أصحاب الكاظم ص 347 من رجاله.
(2) قال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 55: الحرث بن المغيرة
النصري - بالنون والصاد غير المعجمة - روى الكشي عن محمد بن قولويه قال: حدثنا
سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن عبد الله بن محمد الحجال عن يونس
ابن يعقوب قال: كنا عند أبي عبد الله (ع) فقال: ما لكم من مفزع أما لكم من
مستراح تستريحون إليه ما يمنعكم من الحرث بن المغيرة النصري وروى حديثا في
طريقه سجادة: أنه من أهل الجنة.
وقال النجاشي: حارث بن المغيرة النصري من بني نصر بن معاوية بصري عربي
روى عن أبي جعفر الباقر والصادق والكاظم (ع) وعن زيد بن علي عليه السلام
ثقة ثقة.
108

من أصحابك الحديث وكلهم ثقة، فموسع عليك حتى ترى القائم فترده عليه.
وروى سماعة بن مهران (1) قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام قلت: يرد علينا
حديثان، واحد يأمرنا بالأخذ به، والآخر به ينهانا عنه؟.
قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقي صاحبك فتسأله عنه.
قال: قلت: لا بد من أن نعمل بأحدهما.
قال: خذ بما فيه خلاف العامة، فقد أمر عليه السلام بترك ما وافق العامة، لأنه
يحتمل أن يكون قد ورد مورد التقية، وما خالفهم لا يحتمل ذلك.
وروي عنهم عليهم السلام أيضا أنهم قالوا: إذا اختلف أحاديثنا عليكم فخذوا بما
اجتمعت عليه شيعتنا، فإنه لا ريب فيه، وأمثال هذه الأخبار كثيرة لا يحتمل
ذكرها هنا، وما أردناه عارض ليس هنا موضعه.

(1) قال النجاشي ص 146 من رجاله: (سماعة بن مهران بن عبد الرحمن
الحضرمي مولى عبد بن وايل بن حجر الحضرمي يكنى: أبا ناشرة وقيل: أبا محمد كان
يتجر في القز ويخرج به إلى حران ونزل من الكوفة كندة روى عن أبي عبد الله وأبي
الحسن (ع) ومات بالمدينة ثقة ثقة. وله بالكوفة مسجد بحضر موت وهو مسجد زرعة
ابن محمد الحضرمي بعده وذكره أحمد بن الحسين رحمه الله وأنه وجد في بعض الكتب
أنه مات سنة خمس وأربعين وماءة في حياة أبي عبد الله، وذلك أن أبا عبد الله (ع)
قال: إن رجعت لم ترجع إلينا فأقام عنده فمات في تلك السنة وكان عمره نحوا من ستين
سنة وليس أعلم كيف هذه الحكاية لأن سماعة روى عن أبي الحسن وهذه الحكاية يتضمن
أنه مات في حياة أبي عبد الله (ع) والله أعلم. له كتاب يرويه عنه جماعة كثيرة
(الخ) وذكره الشيخ في أصحاب الصادق ص 24 وفي أصحاب الكاظم ص 315.
109

وعن بشير بن يحيى العامري (1) عن ابن أبي ليلى (2) قال: دخلت أنا

(1) بشير بن يحيى العامري: لم أعثر له على ترجمة فيما بين يدي من
كتب الرجال.
(2) في سفينة البحار ج 2 ص 520 أقول (ابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن
القاضي الكوفي عده الشيخ من أصحاب الصادق (ع). كان بينه وبين أبي
حنيفة منافرات توفي سنة 148 وكان أبوه من أكابر تابعي الكوفة، وجده أبو ليلى من
الصحابة قال ابن النديم: واسم أبي ليلى يسار من ولد أحيحة بن الجلاح وقال: ولي ابن
أبي ليلى القضاء لبني أمية وولد العباس وكان يفتي بالرأي قبل أبي حنيفة، وذكره في
الخلاصة القسم الأول ونقل عن أبي عقدة أنه روى عن ابن نمير أنه كان صدوقا مأمونا
ولكنه سئ الحفظ جدا. وقال ابن داود: أنه ممدوح وقال المولى محمد صالح:
أنه ممدوح مشكور صدوق مأمون. وفي التعليقة روى ابن أبي عمير عنه عن أبيه
وقد أغرب أبو علي في رجاله وقال: إن نصب الرجل أشهر من كفر إبليس، وهو
من مشاهير المنحرفين وتولى القضاء لبني أمية ثم لبني العباس برهة من السنين كما ذكره غير واحد
من المؤرخين ورده شهادة جملة من أجلاء أصحاب الصادق (ع) لأنهم رافضة مشهور وفي
كتب الحديث مذكور من ذلك ما ذكره الكشي في ترجمة محمد بن مسلم فلاحظ ومن ذلك
في ترجمة عمار الدهني ويجب ذكره في الضعفاء كما فعله الفاضل. قال شيخنا في المستدرك
بعد نقل هذا الكلام من أبي علي: قلت: المدعى صدقه وأمانته ووثاقته في الحديث
ومجرد القضاء والعامية لا ينافي ذلك. وقال صدر المحققين العاملي في حواشيه على رجاله
وفي تضاعيف الأخبار ما يدل على أن ابن أبي ليلى لم يكن على ما ذكره المؤلف من
النصب بل يظهر من الروايات ميله لآل محمد عليهم السلام. وروايات رد الشهادة تشهد
بذلك لأنه قبل شهادتهم بعد ردها. وفي صدر الوقوف من الكافي أن ابن أبي ليلى
حكم في قضية بحكم فقال له محمد بن مسلم: أن عليا عليه السلام قضى بخلاف ذلك وروى
ذلك له عن الباقر (ع) فقال ابن أبي ليلى: هذا عندك؟ قال: نعم. قال: فأرسل
وأتني به. قال له محمد بن مسلم: على أن لا تنظر في الكتاب إلا في ذلك الحديث ثم أراه
الحديث عن الباقر (ع) فرد قضيته. ونقضه للقضاء بعد الحكم دليل على عدم التعصب
فضلا عن النصب... وبالجملة فمن تتبع الأخبار وجد أن ابن أبي ليلى كان يقضي بما
يبلغه عن الصادقين عليهما السلام ويحكم بذلك بعد التوقف بل ينقض ما كان قد حكم به
إذا بلغه عنهم (ع) خلافه فكيف يكون من حاله ذلك من النواصب).
110

والنعمان أبو حنيفة (1) على جعفر بن محمد، فرحب بنا فقال.

(1) أبو حنيفة: واسمه النعمان بن ثابت بن زوطي. وكان زوطي مملوكا لبني
تيم الله بن ثعلبة. وأصله من كابل، وقيل مولى لبني قفل كما في الفهرست لابن النديم
ص 284 وقال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج 13 ص 324: (ولد أبو حنيفة
وأبوه نصراني).. إلى أن قال: (وكان زوطي مملوكا لبني تيم الله بن ثعلبة فأعتق،
فولاؤه لبني عبد الله بن ثعلبة ثم لبني قفل).
وروى مسندا عن الزيادي يقول: سمعت أبا جعفر يقول: كان أبو حنيفة اسمه
عتيك بن زوطرة فسمى نفسه النعمان وأباه ثابتا. وقيل كان والد أبي حنيفة من
(نسا) وقيل أصله من (ترمذ) وقيل ثابت والد أبي حنيفة من أهل (الأنبار).
وأورد الخطيب البغدادي في تاريخه عدة روايات بأسانيد مختلفة تقول: أن أبا
حنيفة استتيب من الكفر مرتين وفي بعضها ثلاثا وفي رواية سفيان الثوري استتيب من
الكفر مرارا. وفي رواية أبي عيينة استتيب من الدهر ثلاث مرات راجع تاريخ
بغداد ج 13 ص 380 - 383 رفيه ص 372 مسندا أن أبا حنيفة قال: لو أن رجلا عبد هذه
النعل يتقرب بها إلى الله لم أر بذلك بأسا. وكان شريك يقول: كفر أبو حنيفة بآيتين
من كتاب الله قال الله تعالى: (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) وقال
تعالى: (يزدادوا إيمانا مع إيمانهم) وزعم أبو حنيفة أن الإيمان لا يزداد ولا ينقص
وأن الصلاة ليست من دين الله.
وفي ص 386 منه عن الجوهري روى مسندا قال: سمعت أبا مطيع يقول: قال
أبو حنيفة: إن كانت الجنة والنار مخلوقتين فإنهما يفنيان وفيه عن ابن أسباط قال أبو حنيفة
لو أدركني رسول الله وأدركته لأخذ بكثير من قولي وقال سمعت أبا إسحاق يقول كان
أبو حنيفة يجيئه الشئ عن النبي فيخالفه إلى غيره وفي ص 370 من نفس المصدر سئل أبو حنيفة
عن رجل قال: أشهد أن الكعبة حق. ولكن لا أدري هي هذه التي بمكة أم لا فقال
مؤمن حقا. وسئل عن رجل قال: أشهد أن محمد بن عبد الله نبي ولكن لا أدري هو
الذي قبره بالمدينة أم لا فقال: مؤمن حقا.
وهو أحد المذاهب الأربعة السنية، صاحب الرأي والقياس والفتاوى المعروفة
في الفقه.
ذكر ابن خلكان في ج 2 ص 86 من الوفيات في ترجمة محمد بن سبكتكين عن
إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني في كتابه الذي سماه: (مغيث الخلق في اختيار
الأحق) قال: إن السلطان محمود المذكور كان على مذهب أبي حنيفة وكان مولعا بعلم
الحديث، وكانوا يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه وهو يسمع وكان يستفسر
الأحاديث فوجدها أكثرها موافقا لمذهب الشافعي فوقع في خلده حكمه. فجمع العلماء
من الفريقين في مرو والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر فوقع الاتفاق
على أن يصلوا بين يديه ركعتين على مذهب الشافعي وعلى مذهب أبي حنيفة.. فصلى
القفال المروزي... إلى أن قال: ثم صلى ركعتين على ما يجوز أبو حنيفة فلبس جلد
كلب مدبوغا ثم لطخ ربعه بالنجاسة وتوضأ بنبيذ التمر وكان في صميم الصيف في المفازة
واجتمع عليه الذباب والبعوض وكان وضوءه منكسا منعكسا، ثم استقبل القبلة وأحرم
بالصلاة من غير نية في الوضوء، وكبر بالفارسية، ثم قرأ آية بالفارسية (دو بركك
سبن) ثم نقر نقرتين كنقرات الديك من غير فصل ومن غير ركوع وتشهد، وضرط
في آخره من غير نية السلام وقال: أيها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة فقال السلطان:
لو لم تكن هذه الصلاة صلاة أبي حنيفة لقتلتك فأنكرت الحنفية أن تكون هذه صلاة أبي
حنيفة فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة! وأمر السلطان نصرانيا كاتبا يقرأ
المذهبين فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال، فأعرض السلطان
عن مذهب أبي حنيفة، وفي ج 13 من تاريخ بغداد ص 370 قال الحارث بن عمير:
وسمعته يقول: لو أن شاهدين شهدا عند قاض: أن فلان بن فلان طلق امرأته، وعلما
جميعا أنهما شهدا بالزور ففرق القاضي بينهما، ثم لقيها أحد الشاهدين فله أن
يتزوج بها.
وفي ص 362 منه قال: قال مساور الوراق:
كنا من الدين قبل اليوم في سعة * حتى ابتلينا بأصحاب المقاييس
قاموا من السوق إذ قلت مكاسبهم * فاستعملوا الرأي عند الفقر والبؤس
أما العريب فأمسوا لا عطاء لهم * وفي المولى علامات المفاليس
فلقيه أبو حنيفة فقال هجوتنا نحن نرضيك، فبعث إليه بدراهم فقال:
إذا ما أهل مصر بادهونا * بداهية من الفتيا لطيفة
أتيناهم بمقياس صحيح * صليب من طراز أبي حنيفة
إذا سمع الفقيه به حواه * وأثبته بحبر في صحيفة.
فأجابه بعضهم يقول:
إذا ذو الرأي خاصم عن قياس * وجاء ببدعة هنة سخيفة
أتيناه بقول الله فيها * وآيات محبرة شريفة
فكم من فرج محصنة * عفيف أحل حرامها بأبي حنيفة
وروي أيضا أنه اجتمع الثوري وشريك والحسن بن صالح وابن أبي ليلى
فبعثوا إلى أبي حنيفة فأتاهم فقالوا له: ما تقول في رجل قتل أباه، ونكح أمه، وشرب
الخمر في رأس أبيه؟ فقال: مؤمن. فقال له ابن أبي ليلى: لا قبلت لك شهادة
أبدا وقال الثوري لا كلمتك أبدا. وقال شريك: لو كان لي من الأمر شئ لضربت
عنقك وقال له الحسن وجهي من وجهك حرام أن أنظر إلى وجهك أبدا وروي
أيضا عن الإمام مالك قال: ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي
حنيفة وقال: كانت فتنة أبي حنيفة أضر على هذه الأمة من فتنة إبليس وأخرج
عن الأوزاعي قال: عمد أبو حنيفة إلى عرى الإسلام فنقضه عروة عروة وعن عبد الرحمن
ابن مهدي قال: ما علم في الإسلام فتنة بعد فتنة الدجال أعظم من رأي أبي حنيفة
وأخرج عن أبي صالح الفراء قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة
على رسول الله صلى الله عليه وآله أربعمائة حديث أو أكثر وأنه سئل عن مسألة فأجاب فيها ثم
قيل له: يروى عن النبي (ص) فيها كذا وكذا قال: دعنا من هذا وفي رواية قال:
حك هذا بدنب خنزيرة.
قال ابن خلكان ص 165 ج 2 من الوفيات ولم يكن يعاب بشئ سوى قلة
العربية فمن ذلك ما روى: أن أبا عمرو بن العلاء المقري النحوي سأله عن القتل بالمثقل
هل يوجب القود أم لا؟ فقال لا فقال له أبو عمرو ولو قتله بحجر المنجنيق فقال ولو قتله
(بابا قبيس).
وتوفي سنة ماءة وخمسين وقبره ببغداد في مقبرة خيزران.
111

يا بن أبي ليلى من هذا الرجل؟
فقلت: جعلت فداك من أهل الكوفة له رأي وبصيرة ونفاذ.
قال: فلعله الذي يقيس الأشياء برأيه؟
ثم قال: يا نعمان! هل تحسن أن تقيس رأسك؟
قال: لا.
قال: ما أراك تحسن أن تقيس شيئا فهل عرفت الملوحة في العينين، والمرارة
في الأذنين والبرودة في المنخرين، والعذوبة في الفم؟ قال: لا.
قال: فهل عرفت كلمة أولها كفر وآخرها إيمان؟.
قال: لا. قال ابن أبي ليلى: قلت: جعلت فداك لا تدعنا في عمياء مما وصفت.
قال: نعم حدثني أبي عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله قال: إن الله خلق عيني
ابن آدم شحمتين، فجعل فيها الملوحة، فلولا ذلك لذابتا، ولم يقع فيهما شئ
من القذى إلا أذابه، والملوحة تلفظ ما يقع في العين من القذى، وجعل المرارة في
الأذنين حجابا للدماغ، وليس من دابة تقع في الأذن إلا التمست الخروج، ولولا
ذلك لوصلت إلى الدماغ فأفسدته وجعل الله البرودة في المنخرين حجابا للدماغ،
ولولا ذلك لسال الدماغ وجعل العذوبة في الفم منا من الله تعالى على ابن آدم ليجد
لذة الطعام والشراب، وأما كلمة أولها كفر وآخرها إيمان فقول لا إله إلا الله
ثم قال: يا نعمان إياك والقياس: فإن أبي حدثني عن آبائه عليهم السلام أن رسول
الله قال: من قاس شيئا من الدين برأيه قرنه الله تبارك وتعالى مع إبليس، فإنه أول
114

من قاس حيث قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، فدعوا الرأي والقياس فإن
دين الله لم يوضع على القياس.
وفي رواية أخرى أن الصادق عليه السلام قال لأبي حنيفة لما دخل عليه:
من أنت؟
قال أبو حنيفة:
قال عليه السلام: مفتي أهل العراق؟
قال: نعم.
قال: بما تفتيهم؟
قال: بكتاب الله.
قال: عليه السلام: وأنك لعالم بكتاب الله، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه و
متشابهه؟
قال: نعم.
قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل: (وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما
آمنين أي (1) موضع هو؟
قال أبو حنيفة: هو ما بين مكة والمدينة، فالتفت أبو عبد الله
إلى جلسائه. وقال:
نشدتكم بالله هل تسيرون بين مكة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل،
وعلى أموالكم من السرق؟
فقالوا: اللهم نعم.
فقال أبو عبد الله: ويحك يا أبا حنيفة! إن الله لا يقول إلا حقا أخبرني عن
قول الله عز وجل: (ومن دخله كان آمنا) أي (2) موضع هو؟ قال: ذلك

(1) سبأ - 17
(2) آل عمران - 97
115

بيت الله الحرام، فالتفت أبو عبد الله إلى جلسائه وقال: نشدتكم بالله هل تعلمون:
إن عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل؟
قالوا: اللهم نعم.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: ويحك يا أبا حنيفة! إن الله لا يقول إلا حقا.
فقال أبو حنيفة: ليس لي علم بكتاب الله، إنما أنا صاحب قياس.
قال أبو عبد الله: فانظر في قياسك إن كنت مقيسا أيما أعظم عند الله
القتل أو الزنا؟
قال: بل القتل.
قال: فكيف رضى في القتل بشاهدين، ولم يرض في الزنا إلا بأربعة؟ ثم
قال له: الصلاة أفضل أم الصيام؟ قال: بل الصلاة أفضل.
قال عليه السلام: فيجب على قياس قولك على الحايض قضاء ما فاتها من الصلاة في
حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة.
قال له: البول أقذر أم المني؟
قال البول أقذر.
قال عليه السلام: يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني، وقد
وجب الله تعالى الغسل من المني دون البول.
قال: إنما أنا صاحب رأي.
قال عليه السلام: فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة،
فدخلا بامرأتيهما في ليلة واحدة ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد وولدتا
غلامين فسقط البيت عليهم، فقتل المرأتين وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك
وأيهما المملوك وأيهما الوارث وأيهما الموروث؟
قال: إنما أنا صاحب حدود.
قال: فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح وأقطع قطع يد رجل، كيف
يقام عليهما الحد.
116

قال: إنما أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء.
قال: فأخبرني عن قول الله لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: (لعله
يتذكر أو يخشى) (1) ولعل منك شك؟
قال: نعم.
قال: وكذلك من الله شك إذ قال: (لعله)؟
قال أبو حنيفة: لا علم لي.
قال عليه السلام: تزعم أنك تفتي بكتاب الله ولست ممن ورثه، وتزعم أنك صاحب
قياس وأول من قاس إبليس لعنه الله ولم يبن دين الإسلام على القياس، وتزعم أنك صاحب
رأي وكان الرأي من رسول الله صلى الله عليه وآله صوابا، ومن دونه خطأ، لأن الله تعالى قال:
(فاحكم بينهم بما أراك الله) (2) ولم يقل ذلك لغيره، وتزعم أنك صاحب
حدود، ومن أنزلت عليه أولى بعلمها منك، وتزعم أنك عالم بمباعث الأنبياء،
ولخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك، لولا أن يقال: دخل على ابن رسول الله فلم
يسأله عن شئ ما سألتك عن شئ، فقس إن كنت مقيسا.
قال أبو حنيفة: لا أتكلم بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس.
قال: كلا إن حب الرياسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك
تمام الخبر.
وعن عيسى بن عبد الله القرشي (3) قال. دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله عليه السلام
فقال: يا أبا حنيفة قد بلغني أنك تقيس!
فقال: نعم.
فقال: لا تقس فإن أول من قاس إبليس لعنه الله حين قال: خلقتني من نار
وخلقته من طين، فقاس بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النار وعرف

(1) طه - 44
(2) المائدة - 57
(3) عيسى بن عبد الله القرشي لم أعثر له على ترجمة فيما بين يدي من كتب الرجال
117

ما بين النورين، وصفاء أحدهما على الآخر.
وعن الحسن بن محبوب (1) عن سماعة قال: قال أبو حنيفة لأبي عبد الله (ع): كم بين المشرق والمغرب؟
قال: مسيرة يوم للشمس بل أقل من ذلك، قال: فاستعظمه.
قال: يا عاجز لم تنكر هذا أن الشمس تطلع من المشرق، وتغرب في المغرب
في أقل من يوم. تمام الخبر.
عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي (2) قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام
بمكة، إذ دخل عليه أناس من المعتزلة، فيهم عمرو بن عبيد، وواصل بن عطا
وحفص بن سالم، وأناس من رؤسائهم، وذلك أنه حين قتل الوليد، واختلف أهل
الشام بينهم، فتكلموا فأكثروا وخطبوا فأطالوا.
فقال لهم أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام: إنكم قد أكثرتم علي فأطلتم،
فاسندوا أمركم إلى رجل منكم، فليتكلم بحجتكم وليوجز.
فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد، فأبلغ وأطال، فكان فيما قال أن قال:
قتل أهل الشام خليفتهم، وضرب الله بعضهم ببعض، وتشتت أمرهم، فنظرنا
فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروة، ومعدن للخلافة، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن
فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه، ثم نظهر أمرنا معه، وندعو الناس إليه، فمن بايعه
كنا معه وكان منا، ومن اعتزلنا كففنا عنه، ومن نصب لنا جاهدناه ونصبنا له
على بغية ونرده إلى الحق وأهله، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك، فإنه لا غنا بنا

(1) الحسن بن محبوب قال العلامة في القسم الأول من خلاصته الحسن بن محبوب
السراد ويقال الزراد، يكنى أبا على مولى بجيلة كوفي ثقة عين روى عن الرضا (ع)
وكان جليل القدر يعد في الأركان الأربعة في عصره
(2) عبد الكريم بن عتبة قال العلامة في القسم الأول من الخلاصة - بضم العين
المهملة والتاء المنقطة فوقها نقطتين، والباء المنقطة تحتها نقطة - الهاشمي من أصحاب أبي
الحسن الكاظم (ع) ثقة.
118

عن مثلك، لفضلك ولكثرة شيعتك، فلما فرغ قال أبو عبد الله عليه السلام: أكلكم على
مثل ما قال عمرو؟
قالوا: نعم. فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي ثم قال:
إنما نسخط إذا عصي الله فإذا أطيع الله رضينا أخبرني يا عمرو لو أن الأمة
قلدتك أمرها فملكته بغير قتال ولا مؤنة، فقيل لك: (ولها من شئت) من
كنت تولي؟
قال: كنت أجعلها شورى بين المسلمين.
قال: بين كلهم؟
قال: نعم.
فقال: بين فقهائهم وخيارهم؟
قال: نعم.
قال: قريش وغيرهم؟
قال: العرب والعجم.
قال: فأخبرني يا عمرو أتتولى أبا بكر وعمر أو تتبرأ منهما؟
قال: أتولاهما.
قال: يا عمرو إن كنت رجلا تتبرأ منهما فإنه يجوز لك الخلاف عليهما،
وإن كنت تتولاهما فقد خالفتها، قد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور
أحدا، ثم ردها أبو بكر عليه ولم يشاور أحدا، ثم جعلها عمر شورى بين ستة، فأخرج
منها الأنصار غير أولئك الستة من قريش، ثم أوصى الناس فيهم بشئ ما أراك ترضى
أنت ولا أصحابك.
قال: وما صنع؟
قال: أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، وأن يتشاور أولئك الستة ليس
فيهم أحد سواهم إلا ابن عمر ويشاورونه وليس له من الأمر شئ، وأوصى من كان بحضرة
من المهاجرين والأنصار إن مضت ثلاثة أيام ولم يفرغوا ويبايعوه أن يضرب أعناق الستة جميعا
119

وإن اجتمع أربعة قبل أن يمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضرب أعناق الاثنين،
افترضون بذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين؟
قالوا: لا.
قال: يا عمرو دع ذا أرأيت لو بايعت صاحبك هذا الذي تدعو إليه،
ثم اجتمعت لكم الأمة ولم يختلف عليكم منها رجلان، فأفضيتم إلى المشركين
الذين لم يسلموا ولم يؤدوا الجزية، كان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون
فيهم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله في المشركين في الجزية؟
قالوا: نعم.
قال: فتصنعون ماذا؟
قالوا: ندعوهم إلى الإسلام فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية.
قال: فإن كانوا مجوسا، وأهل كتاب، وعبدة النيران والبهائم وليسوا
بأهل كتاب؟
قالوا: سواء.
قال: فأخبرني عن القرآن أتقرأونه؟
قال: نعم.
قال: اقرأ (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون
ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية
عن يد وهم صاغرون) قال: فاستثنى الله عز وجل واشترط من الذين أوتوا الكتاب
فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء.
قال: نعم.
قال عليه السلام: عمن أخذت هذا؟
قال سمعت الناس يقولونه.
قال: فدع ذا فإنهم إن أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة؟
قال: اخرج الخمس واقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليها.
120

قال: تقسمه بين جميع من قاتل عليها؟
قال: نعم.
قال: فقد خالفت رسول الله في فعله وفي سيرته، وبيني وبينك فقهاء أهل
المدينة ومشيختهم، فسلهم فإنهم لا يختلفون ولا يتنازعون في أن رسول الله إنما
صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم، وأن لا يهاجروا، على أنه إن دهمه من
عدوه دهم فيستفزهم فيقاتل بهم، وليس لهم من الغنيمة نصيب، وأنت تقول بين
جميعهم، فقد خالفت رسول الله صلى الله عليه وآله في سيرته في المشركين، دع ذا ما تقول
في الصدقة؟
قال: فقرأ عليه هذه الآية: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين
عليها) إلى آخرها.
قال: نعم فكيف تقسم بينهم؟
قال: اقسمها على ثمانية أجزاء، فاعطي كل جزء من الثمانية جزء.
فقال عليه السلام إن كان صنف منهم عشرة آلاف وصنف رجلا واحدا أو رجلين
أو ثلاثة، جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف.
قال: نعم.
قال: وما تصنع بين صدقات أهل الحضر وأهل البوادي فتجعلهم فيها سواء؟
قال: نعم.
قال: فخالفت رسول الله في كل ما أتى به، كان رسول الله يقسم صدقة
البوادي في أهل البوادي، وصدقة الحضر في أهل الحضر، ولا يقسم بينهم بالسوية إنما يقسمه
قدر ما يحضره منهم، وعلى قدر ما يحضره فإن كان في نفسك شئ مما قلت لك فإن
فقهاء أهل المدينة، ومشيختهم كلهم لا يختلفون في أن رسول الله كذا كان يصنع،
ثم أقبل على عمرو وقال:
اتق الله يا عمرو وأنتم أيها الرهط! فاتقوا الله، فإن أبي حدثني وكان خير
أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (من
121

ضرب الناس بسيفه، ودعاهم إلى نفسه، وفي المسلمين من هو أعلم منه، فهو ضال متكلف).
وروي عن يونس بن يعقوب (1) قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فورد
عليه رجل من أهل الشام فقال: أني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض، وقد جئت
لمناظرة أصحابك.
فقال له أبو عبد الله: كلامك هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله أو من عندك؟
فقال: من كلام رسول الله بعضه، ومن عندي بعضه.
فقال أبو عبد الله: فأنت إذا شريك رسول الله! صلى الله عليه وآله
قال: لا.
قال: فسمعت الوحي من الله تعالى؟
قال: لا.
قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله؟
قال: لا.
قال: فالتفت إلي أبو عبد الله فقال: يا يونس هذا خصم نفسه قبل
أن يتكلم، ثم قال: يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته. قال يونس: فيا لها

(1) قال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 185.
يونس بن يعقوب بن قيس أبو علي الجلاب البجلي الدهني اختلف علماءنا فيه.
فقال الشيخ الطوسي رحمه الله: أنه ثقة مولى شهد له وعد له في عدة مواضع.
وقال النجاشي: أنه اختص بأبي عبد الله عليه السلام وأبي الحسن عليه السلام وكان
يتوكل لأبي الحسن عليه السلام ومات في المدينة قريبا من الرضا عليه السلام فتولى أمره
وكان حظيا عندهم موثقا وكان قد قال بعبد الله ثم رجع. وقال أبو جعفر ابن بابويه
أنه فطحي هو وأخوه يوسف.
قال الكشي: حدثني حمدويه عن بعض أصحابنا أن يونس بن يعقوب فطحي كوفي
مات بالمدينة وكفنه الرضا عليه السلام.
وروى الكشي أحاديث حسنة تدل على صحة عقيدة هذا الرجل والذي أعتمد عليه
قبول روايته.
122

من حسرة. فقلت: جعلت فداك سمعتك تنهى عن الكلام، وتقول: ويل لأصحاب
الكلام، يقولون: هذا ينقاد، وهذا ينساق، وهذا لا ينساق، وهذا نعقله، وهذا
لا نعقله!
فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنما قلت: ويل لقوم تركوا قولي بالكلام،
وذهبوا إلى ما يريدون ثم قال: اخرج إلى الباب فمن ترى من المتكلمين فادخله!
قال: فخرجت فوجدت حمران بن أعين، وكان يحسن الكلام، ومحمد بن
نعمان الأحول، وكان متكلما، وهشام بن سالم، وقيس الماصر، وكانا متكلمين
وكان قيس عندي أحسنهم كلاما، وكان قد تعلم الكلام من علي بن الحسين،
فأدخلتهم، فلما استقربنا المجلس وكنا في خيمة لأبي عبد الله عليه السلام، في طرف
جبل في طريق الحرم، وذلك قبل الحج بأيام، فأخرج أبو عبد الله رأسه من الخيمة
فإذا هو ببعير يخب قال: هشام ورب الكعبة. قال: وكنا ظننا أن هشاما رجل
من ولد عقيل، وكان شديد المحبة لأبي عبد الله، فإذا هشام بن الحكم، وهو
أول ما اختطت لحيته، وليس فينا إلا من هو أكبر منه سنا، فوسع له أبو عبد الله عليه السلام
وقال: (ناصرنا بقلبه ولسانه ويده) ثم قال لحمران:
كلم الرجل يعني: الشامي. فكلمه حمران وظهر عليه ثم قال: يا طاقي
كلمه! فكلمه فظهر عليه محمد بن نعمان. ثم قال لهشام بن سالم: كلمه! فتعارفا
ثم قال لقيس الماصر: كلمه! وأقبل أبو عبد الله عليه السلام يتبسم من كلامهما وقد
استخذل الشامي في يده، ثم قال للشامي: كلم هذا الغلام! يعني: هشام بن الحكم
فقال: نعم ثم قال الشامي لهشام: يا غلام سلني في إمامة هذا يعني: أبا عبد الله عليه السلام؟
فغضب هشام حتى ارتعد ثم قال له: أخبرني يا هذا أربك أنظر لخلقه،
أم خلقه لأنفسهم؟
فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه!
قال: ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا؟
قال: كلفهم، وأقام لهم حجة ودليلا على ما كلفهم به، وأزاح في ذلك عللهم.
123

فقال له هشام: فما هذا الدليل الذي نصبه لهم؟
قال الشامي: هو رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال هشام: فبعد رسول الله صلى الله عليه وآله من؟ قال: الكتاب والسنة.
فقال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه، حتى رفع
عنا الاختلاف، ومكننا من الاتفاق؟
فقال الشامي: نعم.
قال هشام: فلم اختلفنا نحن وأنت، جئتنا من الشام تخالفنا، وتزعم أن
الرأي طريق الدين، وأنت مقر بأن الرأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين؟
فسكت الشامي كالمفكر. فقال أبو عبد الله عليه السلام!
ما لك لا تتكلم؟
قال: إن قلت: أنا ما اختلفنا كابرت، وإن قلت أن الكتاب والسنة
يرفعان عنا الاختلاف، أبطلت، لأنهما يحتملان الوجوه، ولكن لي عليه مثل ذلك.
فقال له أبو عبد الله: سله تجده مليا!
فقال الشامي لهشام: من أنظر للخلق ربهم أم أنفسهم؟
فقال: بل ربهم أنظر لهم.
فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم، ويرفع اختلافهم، ويبين
لهم حقهم من باطلهم؟
فقال هشام: نعم.
قال الشامي: من هو؟
قال هشام: أما في ابتداء الشريعة فرسول الله صلى الله عليه وآله، وأما بعد النبي فعترته.
قال الشامي: من هو عترة النبي القائم مقامه في حجته؟
قال هشام: في وقتنا هذا أم قبله؟
قال الشامي: بل في وقتنا هذا.
قال هشام: هذا الجالس يعني: أبا عبد الله عليه السلام، الذي تشد إليه الرحال
124

ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن جده.
قال الشامي: وكيف لي بعلم ذلك؟
فقال هشام: سله عما بدا لك.
قال الشامي: قطعت عذري، فعلي السؤال.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: أنا أكفيك المسألة يا شامي: أخبرك عن مسيرك
وسفرك، خرجت يوم كذا، وكان طريقك كذا، ومررت على كذا، ومر بك
كذا، فأقبل الشامي كلما وصف له شيئا من أمره يقول: (صدقت والله) فقال
الشامي: أسلمت لله الساعة!
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: بل آمنت بالله الساعة، أن الإسلام قبل الإيمان
وعليه يتوارثون، ويتناكحون، والإيمان عليه يثابون.
قال: صدقت، فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنك
وصي الأنبياء.
قال: فأقبل أبو عبد الله عليه السلام على حمران فقال: يا حمران تجري الكلام
على الأثر فتصيب فالتفت إلى هشام بن سالم فقال: تريد الأثر ولا تعرف! ثم
التفت إلى الأحول فقال: قياس رواع، تكسر باطلا بباطل. ألا إن باطلك أظهر
ثم التفت إلى قيس الماصر فقال: تكلم وأقرب ما يكون من الخبر عن الرسول صلى الله عليه وآله
أبعد ما تكون منه، تمزج الحق بالباطل، وقليل الحق يكفي من كثير الباطل
أنت والأحول قفازان حاذقان.
قال يونس بن يعقوب: فظننت والله أنه يقول لهشام، قريبا مما قال لهما.
فقال: يا هشام لا تكاد تقع تلوي رجليك إذ هممت بالأرض طرت، مثلك فليكلم
الناس إتق الزلة، والشفاعة من ورائك.
وعن يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة من أصحابه
فيهم حمران بن أعين، ومؤمن الطاق، وهشام بن سالم، والطيار، وجماعة من
أصحابه، فيهم هشام بن الحكم، وهو شاب فقال أبو عبد الله:
125

يا هشام!
قال: لبيك يا بن رسول الله!
قال: ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟ قال هشام: جعلت
فداك يا بن رسول الله، إني أجلك وأستحييك، ولا يعمل لساني بين يديك.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: إذا أمرتكم بشئ فافعلوه!
قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد، وجلوسه في مسجد البصرة،
وعظم ذلك علي، فخرجت إليه، ودخلت البصرة يوم الجمعة، وأتيت مسجد البصرة
فإذا أنا بحلقة كبيرة، وإذا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء مؤتزر بها من صوف
وشملة مرتد بها، والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في
آخر القوم على ركبتي، ثم قلت:
أيها العالم أنا رجل غريب، أتأذن لي فأسألك عن مسألة؟
قال: اسأل!
قلت له: ألك عين؟
قال: يا بني أي شئ هذا من السؤال، إذا كيف تسأل عنه؟
فقلت: هذا مسئلتي.
فقال: يا بني! سل وإن كانت مسألتك، حمقى.
قلت: أجبني فيها.
قال: فقال لي: سل!
فقلت: ألك عين؟
قال: نعم.
قال: قلت: فما تصنع بها؟
قال: أرى بها الألوان والأشخاص.
قال: قلت: ألك أنف؟
قال: نعم.
126

قال: قلت: فما تصنع به؟
قال: أشم به الرائحة.
قال: قلت: ألك لسان؟
قال: نعم.
قال: قلت: فما تصنع به؟
قال: أتكلم به.
قال: قلت: ألك أذن؟
قال: نعم.
قلت: تصنع بها؟
قال: أسمع بها الأصوات
قال: قلت: ألك يدان؟
قال: نعم.
قلت: فما تصنع بهما؟
قال: أبطش بهما، وأعرف بهما اللين من الخشن.
قال: قلت: ألك رجلان؟
قال: نعم.
قال: قلت: فما تصنع بهما؟
قال انتقل بهما من مكان إلى مكان.
قال: قلت: ألك فم.
قال: نعم.
قال: قلت: فما تصنع به؟
قال: أعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها.
قال: قلت: ألك قلب؟
قال: نعم.
127

قال: قلت: فما تصنع به؟
قال: أميز به كلما ورد على هذه الجوارح.
قال: قلت: أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟
قال: لا.
قلت: وكيف ذاك وهي صحيحة سليمة؟
قال: يا بني إن الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته، ردته إلى
القلب، فتيقن بها اليقين، وأبطل الشك.
قال: فقلت: فإنما أقام الله عز وجل القلب لشك الجوارح؟
قال: نعم. قلت: لا بد من القلب وإلا لم يستيقن الجوارح.
قال: نعم. قلت: يا أبا مروان! إن الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحكم
حتى جعل لها إماما، يصحح لها الصحيح، وينفي ما شكت فيه، ويترك هذه الخلق
كله في حيرتهم، وشكهم، واختلافهم، لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم، وحيرتهم
ويقيم لك إماما لجوارحك، ترد إليه حيرتك وشكك.
قال: فسكت ولم يقل لي شيئا.
قال: ثم التفت إلي فقال لي:
أنت هشام؟
قال: قلت: لا.
فقال لي: أجالسته؟
فقلت: لا.
قال: فمن أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة.
قال: فأنت إذا هو. ثم ضمني إليه، وأقعدني في مجلسه، وما نطق حتى
قمت، فضحك أبو عبد الله، ثم قال:
يا هشام من علمك هذا؟ قلت: يا بن رسول الله جرى على لساني.
قال: يا هشام هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى.
128

وبالإسناد المقدم ذكره عن الصادق عليه السلام أنه قال: قوله عز وجل: (اهدنا
الصراط المستقيم) يقول أرشدنا للزم الطريق المؤدي إلى محبتك والمبلغ إلى جنتك
من أن نتبع أهوائنا فنعطب، ونأخذ بآرائنا فنهلك، فإن من اتبع هوائه وأعجب
برأيه كان كرجل سمعت غثاء الناس تعظمه وتصفه، فأحببت لقائه من حيث
لا يعرفني لا نظر مقداره ومحله فرأيته في موضع قد احدقوا به جماعة من غثاء العامة
فوقفت منتبذا عنهم، متغشيا بلثام أنظر إليه وإليهم، فما زال يراوغهم حتى خالف
طريقهم، وفارقهم، ولم يقر. فتفرقت جماعة العامة عنه لحوائجهم، وتبعته أقتفي
أثره، فلم يلبث أن مر بخباز فتغفله فأخذ من دكانه رغيفين مسارقة، فتعجبت
منه، ثم قلت في نفسي: لعله معامله، ثم مر بعده بصاحب رمان، فما زال به حتى
تغفله فأخذ من عنده رمانتين مسارقة، فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي: لعله معامله
ثم أقول وما حاجته إذا إلى المسارقة، ثم لم أزل أتبعه حتى مر بمريض، فوضع
الرغيفين والرمانتين بين يديه، ومضى وتبعته، حتى استقر في بقعة من صحراء،
فقلت له: يا أبا عبد الله لقد سمعت بك وأحببت لقائك، فلقيتك لكني رأيت منك
ما شغل قلبي، وأني سائلك عنه ليزول به شغل قلبي.
قال: ما هو؟
قلت: رأيتك مررت بخباز وسرقت منه رغيفين، ثم بصاحب الرمان فسرقت
منه رمانتين.
فقال لي: قبل كل شئ حدثني من أنت؟
قلت: رجل من ولد آدم من أمة محمد صلى الله عليه وآله.
قال: حدثني ممن أنت؟
قلت: رجل من أهل بيت رسول الله.
قال: أين بلدك؟
قلت: المدينة.
قال: لعلك جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام؟
129

قلت: بلى.
قال لي: فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك بما شرفت به، وتركك علم
جدك وأبيك، لأنه لا ينكر ما يجب أن يحمد ويمدح فاعله.
قلت: وما هو؟
قال: القرآن كتاب الله.
قلت: وما الذي جهلت؟
قال: قول الله عز وجل: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء
بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) وأني لما سرقت الرغيفين، كانت سيئتين، ولما سرقت
الرمانتين، كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات، فلما تصدقت بكل واحد منها كانت
أربعين حسنة، أنقص من أربعين حسنة أربع سيئات، بقي ست وثلاثون.
قلت: ثكلتك أمك! أنت الجاهل بكتاب الله! أما سمعت قول الله عز وجل:
(إنما يتقبل الله من المتقين) (1) إنك لما سرقت رغيفين، كانت سيئتين، ولما
سرقت الرمانتين كانت سيئتين، ولما دفعتها إلى غيرها من غير رضا صاحبها، كنت
إنما أضفت أربع سيئات إلى أربع سيئات، ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات،
فجعل يلاحيني فانصرفت وتركته.
وبالإسناد الذي تقدم: عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام أنه قال:
قال بعض المخالفين بحضرة الصادق عليه السلام لرجل من الشيعة.
ما تقول في العشرة من الصحابة؟
قال: أقول فيهم القول الجميل الذي يحط الله به سيئاتي، ويرفع به درجاتي
قال السائل: الحمد لله على ما أنقذني من بغضك، كنت أظنك رافضيا
تبغض الصحابة.
فقال الرجل: ألا من أبغض واحدا من الصحابة فعليه لعنة الله.
قال: لعلك تتأول ما تقول، فمن أبغض العشرة من الصحابة؟

(1) المائدة - 27
130

فقال: من أبغض العشرة من الصحابة فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس
أجمعين. فوثب فقبل رأسه فقال: اجعلني في حل مما قذفتك به من الرفض
قبل اليوم.
قال: أنت في حل وأنت أخي ثم انصرف السائل فقال له الصادق عليه السلام: جودت لله درك! لقد عجبت الملائكة ومن حسن توريتك، وتلفظك بما خلصك،
ولم تثلم دينك، زاد الله في قلوب مخالفينا غما إلى غم وحجب عنهم مراد منتحلي
مودتنا في تقيتهم.
فقال أصحاب الصادق عليه السلام: يا بن رسول صلى الله عليه وآله ما عقلنا من كلام هذا
إلا موافقته لهذا المتعنت الناصب.
فقال الصادق عليه السلام: لئن كنتم لم تفهموا ما عنى، فقد فهمناه نحن، فقد
شكره الله له، إن ولينا الموالي لأوليائنا المعادي لأعدائنا إذا ابتلاه الله بمن يمتحنه
من مخالفيه، وفقه لجواب يسلم معه دينه وعرضه، ويعظم الله بالتقية ثوابه إن
صاحبكم هذا قال: من عاب واحدا منهم فعليه لعنة الله أي: من عاب واحدا منهم،
هو: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وقال في الثانية: من عابهم وشتمهم
فعليه لعنة الله، وقد صدق لأن من عابهم فقد عاب عليا عليه السلام لأنه أحدهم، فإذا
لم يعب عليا ولم يذمه فلم يعبهم جميعا، وإنما عاب بعضهم، ولقد كان لحزقيل
المؤمن من قوم فرعون الذين وشوا به إلى فرعون مثل هذه التورية كان حزقيل
يدعوهم إلى توحيد الله، ونبوة موسى، وتفضيل محمد رسول الله صلى الله عليه وآله على جميع
رسل الله وخلقه، وتفضيل علي بن أبي طالب عليه السلام والخيار من الأئمة على سائر
أوصياء النبيين، وإلى البراءة من فرعون، فوشى به واشون إلى فرعون، وقالوا
إن حزقيل يدعو إلى مخالفتك، ويعين أعدائك على مضادتك.
فقال لهم فرعون: ابن عمي، وخليفتي في ملكي، وولي عهدي، إن كان
قد فعل ما قلتم فقد استحق العذاب على كفره نعمتي وإن كنتم عليه كاذبين فقد
استحققتم أشد العذاب لإيثاركم الدخول في مساءته، فجاء بحزقيل وجاء بهم فكاشفوه
131

وقالوا: أنت تجحد ربوبية فرعون الملك، وتكفر نعمائه.
فقال حزقيل: أيها الملك هل جربت علي كذبا قط.
قال: لا.
قال: فسلهم من ربهم؟
قالوا: فرعون.
قال: ومن خلقكم؟
قالوا: فرعون هذا.
قال: ومن رازقكم الكافل لمعايشكم، والدافع عنكم مكارهكم؟
قالوا: فرعون هذا.
قال حزقيل: أيها الملك فأشهدك وكل من حضرك: أن ربهم هو ربي،
وخالقهم هو خالقي، ورازقهم هو رازقي، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي، لا رب
لي ولا خالق غير ربهم وخالقهم ورازقهم، وأشهدك ومن حضرك: أن كل رب وخالق
سوى ربهم وخالقهم ورازقهم فأنا برئ منه، ومن ربوبيته، وكافر بإلهيته.
يقول حزقيل هذا وهو يعني: أن ربهم هو الله ربي ولم يقل أن الذي قالوا:
هم أنه ربهم هو ربي، وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره، وتوهموا
أنه يقول: فرعون ربي وخالقي ورازقي، فقال لهم: يا رجال السوء ويا طلاب
الفساد في ملكي: ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمي، وهو عضدي، أنتم
المستحقون لعذابي، لإرادتكم فساد أمري، وهلاك ابن عمي والفت في عضدي
ثم أمر بالأوتاد فجعل في ساق كل واحد منهم وتد وفي صدره وتد، وأمر أصحاب
أمشاط الحديد فشقوا بها لحومهم من أبدانهم، فذلك ما قال الله تعالى: (فوقيه
الله سيئات ما مكروا) (1) لما وشوا به إلى فرعون ليهلكوه وحاق بآل فرعون سوء
العذاب، وهم الذين وشوا بحزقيل إليه لما أوتد فيهم الأوتاد، ومشط عن أبدانهم
لحومها بالأمشاط.

(1) غافر - 45
132

ومثل هذه التورية قد كانت لأبي عبد الله عليه السلام في مواضع كثيرة.
فمن ذلك ما رواه معاوية بن وهب (1) عن سعيد بن سمان (2) قال:
كنت عند أبي عبد الله إذ دخل عليه رجلان من الزيدية، فقالا له:
أفيكم إمام مفترض طاعته؟
قال: فقال: لا.
فقالا له: قد أخبرنا عنك الثقات أنك تقول به، وسموا أقواما وقالوا:
هم أصحاب ورع وتشمير، وهم ممن لا يكذب، فغضب أبو عبد الله عليه السلام وقال:
ما أمرتهم بهذا، فلما رأيا الغضب في وجهه خرجا.
فقال لي: أتعرف هذين؟
قلت: هما من أهل سوقنا، وهما من الزيدية، وهما يزعمان: أن سيف
رسول الله عند عبد الله بن الحسن.
فقال: كذبا لعنهما الله، وهو ما رآه عبد الله بن الحسن بعينيه، ولا
بواحدة من عينيه. ولا رآه أبوه. اللهم إلا أن يكون رآه عند علي بن الحسين عليه السلام
فإن كانا صادقين فما علامة في مقبضه، وما أثر في موضع مضربه، وأن عندي لسيف
رسول الله، وأن عندي لراية رسول الله صلى الله عليه وآله، ودرعه، ولامته، ومغفره، فإن
كانا صادقين فما علامة في درع رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وأن عندي لراية رسول الله
المغلبة، وأن عندي ألواح موسى وعصاه، وأن عندي لخاتم سليمان بن داود
وأن عندي الطست الذي كان موسى يقرب بها القربان، وأن عندي الاسم الذي

(1) عده الشيخ في أصحاب الصادق (ع) ص 310 من رجاله وذكره العلامة
في القسم الأول من خلاصته فقال: (معاوية بن وهب البجلي، أبو الحسن عربي
صميم، ثقة صحيح، حسن الطريق، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (ع).
(2) سعيد بن عبد الرحمن وقيل: ابن عبد الله الأعرج السمان أبو عبد الله
التمي مولاهم كوفي ثقة، روى عن أبي عبد الله (ع)، ذكره ابن عقدة وابن نوح له
كتاب يرويه عن جماعة... رجال النجاش ص 137.
133

كان رسول الله إذا وضعه بين المسلمين والمشركين، لم يصل من المشركين إلى
المسلمين نشابة، وأن عندي لمثل التابوت الذي جاءت به الملائكة، ومثل السلاح
فينا كمثل التابوت في بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل في أي أهل بيت وجد
التابوت على أبوابهم أوتوا النبوة، ومن صار إليه السلاح منا أوتي الإمامة، ولقد
لبس أبي درع رسول الله صلى الله عليه وآله فخطت على الأرض خططا، ولبستها أنا وكانت
تخط على الأرض - يعني: طويلة - مثل ما كانت على أبي، وقائمنا من إذا
لبسها ملأها إن شاء الله تعالى.
وكان الصادق عليه السلام يقول: علمنا غابر ومزبور، ونكت في القلوب، ونقر
في الأسماع، وأن عندنا الجفر الأحمر، والجفر الأبيض، ومصحف فاطمة عليها السلام
وعندنا الجامعة، فيها جميع ما يحتاج إليه الناس، فسئل عن تفسير هذا الكلام
فقال: أما الغابر: فالعلم بما يكون، والمزبور: فالعلم بما كان، وأما النكت في
القلوب: فهو الالهام، والنقر في الأسماع: فحديث الملائكة، نسمع كلامهم،
ولا نرى أشخاصهم، وأما الجفر الأحمر: فوعاء فيه توراة موسى، وإنجيل عيسى
وزبور داود، وكتب الله.
وأما مصحف فاطمة: ففيه ما يكون من حادث، وأسماء من يملك إلى أن
تقوم الساعة.
وأما الجامعة: فهو: كتاب طوله سبعون ذراعا، إملاء رسول الله من فلق
فيه وخط علي بن أبي طالب عليه السلام بيده، فيه والله جميع ما يحتاج الناس إليه إلى
يوم القيامة، حتى أن فيه أرش الخدش، والجلدة، ونصف الجلدة.
ولقد كان زيد بن علي بن الحسين (1) يطمع أن يوصي إليه أخوه

(1) قال السيد عبد الرزاق المقرم في كتابه (زيد الشهيد) ص 43:
قال المحدث النوري في رجال مستدرك لوسائل (أن زيد بن علي جليل
القدر عظيم الشأن كبير المنزلة. وأما ما ورد مما يوهم خلاف ذلك مطروح أو محمول
على التقية.
وقال الشيخ المفيد في الإرشاد ص 251: كان زيد بن علي بن الحسين (ع) عين أخوته بعد أبي جعفر (ع)، وأفضلهم، وكان عابدا ورعا فقيها، سخيا، شجاعا،
وظهر بالسيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويأخذ بثار الحسين (ع). وفي
عيون أخبار الرضا ج 1 ص 248 بسنده عن محمد بن يزيد النحوي عن ابن أبي عبدون
عن أبيه قال: لما حمل زيد بن موسى بن جعفر إلى المأمون - وكان قد خرج بالبصرة
وأحرق دور بني العباس - وهب المأمون جرمه لأخيه علي بن موسى الرضا (ع)
وقال: يا أبا الحسن لئن خرج أخوك وفعل ما فعل، لقد خرج من قبله زيد بن علي
فقتل ولولا مكانك لقتلته فليس ما أتاه بصغير فقال الرضا (ع): لا تقس أخي زيدا
إلى زيد بن علي فإنه كان من علماء آل محمد (ص)، غضب لله عز وجل فجاهد أعدائه
حتى قتل في سبيله، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنه سمع أباه جعفر بن محمد يقول
رحم الله عمي زيدا إنه دعا إلى الرضا من آل محمد ولو ظفر لو في بما دعا إليه ولقد
استشارني في خروجه فقلت له: يا عمي إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة
فشأنك فلما ولى قال جعفر بن محمد: ويل لمن سمع داعيته فلم يجبه. فقال المأمون يا أبا الحسن
أليس قد جاء فيمن ادعى الإمامة بغير حقها ما جاء؟
فقال الرضا (ع) أن زيد بن علي لم يدع ما ليس له بحق وأنه كان أتقى لله من ذاك
إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد، وإنما جاء فيمن يدعي أن الله نص عليه ثم
يدعو إلى غير دين الله ويضل عن سبيله بغير علم. وكان زيد بن علي والله ممن خوطب
بهذه الآية: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم)
وروى الكليني في روضة الكافي ص 264 مسندا عن الصادق (ع) أنه قال:
لا تقولوا: خرج زيد فإن زيدا كان عالما، وكان صدوقا، ولم يدعكم إلى نفسه، إنما دعا
إلى الرضا من آل محمد (ص) لو ظفر لو في بما دعاكم إليه، إنما خرج إلى سلطان مجتمع
لينقضه. وفي إرشاد المفيد (ره) ص 252 قال ولما قتل بلغ ذلك من أبي عبد الله
الصادق (ع) كل مبلغ وحزن له حزنا عظيما حتى بان عليه وفرق من ماله في عيال من أصيب
معه من أصحابه ألف دينار. وروى ذلك أبو خالد الواسطي قال: سلم إلى أبو عبد الله (ع) ألف دينار وأمرني أن أقسمها في عيال من أصيب مع زيد فأصاب عيال عبد الله بن الزبير أخي فضيل الرسان منها أربعة دنانير وكان مقتله يوم الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة عشرين
ومائة وكانت سنة يومئذ اثنين وأربعين سنة.
134

الباقر عليه السلام، ويقيمه مقامه في الخلافة بعده، مثل ما كان يطمع في ذلك محمد بن
135

الحنفية بعد وفاة أخيه الحسين صلوات الله عليه، حتى رأى من ابن أخيه زين
العابدين عليه السلام من المعجزة الدالة على إمامته ما رأى، وقد تقدم ذكره في هذا
الكتاب، فكذلك زيد رجا أن يكون القائم مقام أخيه الباقر صلوات الله عليه، حتى
سمع ما سمع من أخيه، ورأى ما رأى من ابن أخيه، أبي عبد الله الصادق
فمن ذلك ما رواه صدقة بن أبي موسى، عن أبي بصير قال: لما حضر أبا جعفر
محمد بن علي الباقر عليه السلام الوفاة، دعا بابنه الصادق عليه السلام ليعهد إليه عهدا، فقال له
أخوه زيد بن علي:
لما امتثلت في مثال الحسن والحسين عليهما السلام رجوت أن لا تكون أتيت منكرا.
فقال له الباقر عليه السلام: يا أبا الحسن إن الأمانات ليست بالمثال، ولا العهود
بالرسوم، إنما هي أمور سابقة عن حجج الله تبارك وتعالى، ثم دعا بجابر بن
عبد الله الأنصاري فقال:
يا جابر حدثنا بما عاينت من الصحيفة؟
فقال له: نعم يا أبا جعفر، دخلت على مولاتي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله
لأهنيها بولادة الحسن عليه السلام، فإذا بيدها صحيفة بيضاء من درة، فقلت يا سيدة
النسوان ما هذه الصحيفة التي أراها معك؟
قالت: فيها أسماء الأئمة من ولدي.
قلت لها: ناوليني لأنظر فيها!
قالت: يا جابر لولا النهي لكنت أفعل، ولكنه قد نهي أن يمسها إلا نبي
أو وصي نبي، أو أهل بيت نبي، ولكنه مأذون لك أن تنظر إلى باطنها من ظاهرها.
قال جابر: فقرأت فإذا فيها: أبو القاسم محمد بن عبد الله المصطفى ابن
عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أمه آمنة.
136

أبو الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام المرتضى، أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم
ابن عبد مناف.
أبو محمد الحسن بن علي البر التقي، أبو عبد الله الحسين بن علي أمهما
فاطمة بنت محمد.
أبو محمد علي بن الحسين العدل، أمه شهر بانويه بنت يزدجرد بن شهريار.
أبو جعفر محمد بن علي الباقر، أمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب.
أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق، أمه: (أم فروة) بنت القسم بن محمد بن
أبي بكر.
أبو إبراهيم موسى بن جعفر الثقة، أمه جارية اسمها (حميدة) المصفاة.
أبو الحسن علي بن موسى الرضا، أمه جارية اسمها: (نجمة).
أبو جعفر محمد بن علي الزكي أمه جارية اسمها: (خيزران).
أبو الحسن علي بن محمد الأمين، أمه جارية اسمها: (سوسن).
أبو محمد الحسن بن علي الرضي، أمه جارية اسمها: (سمانة) تكنى أم الحسن.
أبو القاسم محمد بن الحسن وهو حجة القائم، أمه جارية اسمها: (نرجس)
صلوات الله عليهم أجمعين.
وعن زرارة بن أعين قال: قال لي زيد بن علي وأنا عند أبي عبد الله عليه السلام:
يا فتى ما تقول في رجل من آل محمد استنصرك؟ قال:
قلت: إن كان مفروض الطاعة، فلي أن أفعل ولي أن لا أفعل.
فلما خرج قال أبو عبد الله: أخذته والله من بين يديه ومن خلفه، وما
تركت له مخرجا.
وقيل للصادق عليه السلام: ما يزال يخرج رجل منكم أهل البيت فيقتل ويقتل
معه بشر كثير فأطرق طويلا ثم قال: إن فيهم الكذابين وفي غيرهم المكذبين.
وروي عنه صلوات الله عليه أنه قال: ليس منا أحد إلا وله عدو من أهل
بيته، فقيل له: بنو الحسن لا يعرفون لمن الحق؟
137

قال: بلى ولكن يحملهم الحسد.
عن أبي يعقوب (1) قال: لقيت أنا ومعلى بن خنيس (2) الحسن بن
الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: يا يهودي فأخبرنا بما قال فينا جعفر
ابن محمد عليه السلام فقال: هو والله أولى باليهودية منكما إن اليهودي من شرب الخمر.
وبهذا الإسناد قال: سمعت أبا عبد الله يقول لو توفي الحسن بن الحسن على
الزنا والربا وشرب الخمر، كان خيرا له مما توفي عليه
وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الآية: (ثم أورثنا
الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (3) قال: أي شئ تقول؟ قلت: إني أقول
أنها خاصة لولد فاطمة.

(1) عده الشيخ الطوسي (ره) في رجاله ص 339 من أصحاب الإمام جعفر بن
محمد الصادق (ع) فقال: (أبو يعقوب: الأسدي إمام بني الصيد الكوفي.
(2) المعلى بن خنيس ذكره الشيخ الطوسي (ره) في عداد أصحاب الصادق - ع
ص 320 من رجاله وذكره العلامة في القسم الثاني من خلاصته ص 259 فقال: معلى بن
خنيس - بضم الخاء المعجمة وفتح النون والسين المهملة بعد الياء المنقطة تحتها نقطتين -
أبو عبد الله مولى الصادق جعفر بن محمد (ع)، ومن قبله كان مولى بني أسد، كوفي.
قال النجاشي: أنه بزاز بالزاي قبل الألف وبعدها وهو ضعيف جدا وقال: الغضايري
أنه كان أول أمره مغيريا ثم دعى إلى محمد بن عبد الله المعروف بالنفس الزكية، وفي هذه
الظنة أخذه داود بن علي فقتله، والغلاة يضيفون إليه كثيرا قال ولا أرى الاعتماد
على شئ من حديثه. وروي فيه أحاديث تقتضي الذم وأخرى تقتضي المدح، وقد
ذكرناها في الكتاب الكبير. وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي - في الغيبة بغير
إسناد - أنه كان من قوام أبي عبد الله (ع) وكان محمودا عنده ومضى على منهاجه، وهذا
يقتضي وصفه بالعدالة.
أقول يريد بقوله كان مغيريا أي: من أصحاب المغيرة بن سعيد مولى بجيلة الذي
لعنه الإمام الصادق (ع) مرارا.
(3) فاطر - 32
138

فقال عليه السلام: أما من سل سيفه ودعا الناس إلى نفسه إلى الضلال من ولد
فاطمة وغيرهم، فليس بداخل في الآية، قلت: من يدخل فيها قال: الظالم لنفسه
الذي لا يدعو الناس إلى ضلال ولا هدى والمقتصد منا أهل البيت هو العارف حق
الإمام والسابق بالخيرات هو الإمام.
عن محمد بن أبي عمير الكوفي (1) عن عبد الله بن الوليد السمان (2) قال: قال
أبو عبد الله عليه السلام: ما يقول الناس في أولي العزم وصاحبكم أمير المؤمنين عليه السلام؟
قال: قلت: ما يقدمون على أولي العزم أحدا.
قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى قال لموسى: (وكتبنا
له في الألواح من كل شئ موعظة) (3) ولم يقل كل شئ موعظة. وقال
(2) خلاصة العلامة ص 111:
عبد الله بن الوليد السمان - بالسين المهملة والنون أخيرا - النخعي مولى كوفي روى
عن أبي عبد الله (ع) ثقة.
(3) الأعراف - 145

(1) محمد بن أبي عمير: واسم أبي عمير: زياد بن عيسى. ويكنى: أبا محمد مولى
الأزد. من موالي المهلب بن أبي صفرة وقيل: موالي بني أمية والأول أصح،
بغدادي الأصل والمقام، لقى أبا الحسن موسى (ع) وسمع منه أحاديث كناه في بعضها
فقال: يا أبا أحمد.
وروى عن الرضا (ع). كان جليل القدر عظيم المنزلة عندنا وعند المخالفين.
قال الكشي: أنه ممن جمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عنه وأقروا له بالفقه والعلم.
وقال الشيخ الطوسي (ره): أنه كان أوثق الناس عند الخاصة والعامة، وأنسكهم نسكا
وأزهدهم وأعبدهم. أدرك من الأئمة ثلاثة: أبا إبراهيم موسى بن جعفر (ع) ولم يرو
عنه وروى عن أبي الحسن الرضا (ع) قال أبو عمرو الكشي: قال محمد بن مسعود:
حدثني علي بن الحسين قال ابن أبي عمير أفقه من يونس بن عبد الرحمن وأصلح وأفضل
وله حكاية ذكرناها في كتابنا الكبير، مات رحمه الله سنة سبع عشر ومائتين
القسم الأول من خلاصة العلامة ص 141.
139

لعيسى: (وليبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) (1) ولم يقل كل شئ وقال
لصاحبكم أمير المؤمنين عليه السلام: (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده
علم الكتاب) (2) وقال الله عز وجل: (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) (3)
وعلم هذا الكتاب عنده.
وعن عبد الله بن الفضل الهاشمي (4) قال: سمعت الصادق عليه السلام يقول: أن لصاحب
هذا الأمر غيبة لا بد منها، يرتاب فيها كل مبطل، قلت له: ولم جعلت فداك؟
قال: الأمر لا يؤذن لي في كشفه لكم.
قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟
قال: وجه الحكمة في غيبته، وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج
الله تعالى ذكره، أن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره، كما لم
ينكشف وجه الحكمة لما آتاه الخضر من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار
لموسى عليه السلام، إلى وقت افتراقهما. يا بن الفضل إن هذا الأمر أمر من الله، وسر
من سر الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنه عز وجل حكيم صدقنا بأن أفعاله
كلها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف.
وعن علي بن الحكم (5) عن أبان قال: أخبرني الأحول أبو جعفر محمد
بن النعمان الملقب بمؤمن الطاق: أن زيد بن علي بن الحسين بعث إليه وهو مختف
قال: فأتيته فقال لي: يا أبا جعفر ما تقول إن طرقك طارق منا أتخرج معه؟

(1) الزخرف - 63
(2) الرعد - 43
(3) الأنعام - 59
(4) عده الشيخ الطوسي في أصحاب الصادق عليه السلام ص 122 من رجاله.
(5) علي بن الحكم من أهل الأنبار قال الكشي: عن حمدويه عن محمد بن عيسى
أن علي بن الحكم هو ابن أخت داود بن النعمان بياع الأنماط وهو نسيب بني الزبير
الصيارفة. وعلي بن الحكم تلميذ ابن أبي عمير، ولقى من أصحاب أبي عبد الله الكبير
وهو مثل ابن فضال وابن بكير.
140

قال: قلت له: إن كان أبوك أو أخوك خرجت معه.
قال: فقال لي: فأنا أريد أن أخرج وأجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي!
قال: قلت: لا أفعل جعلت فداك!
قال: فقال لي: أترغب بنفسك عني؟
قال: فقلت له: إنما هي نفس واحدة، فإن كان لله تعالى في الأرض حجة
فالمتخلف عنك ناج، والخارج معك هالك، وإن لم يكن لله في الأرض حجة،
فالمتخلف عنك والخارج معك سواء.
قال: فقال لي: يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان، فيلقمني
اللقمة السمينة، ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقة علي، ولم يشفق علي من
حر النار إذ أخبرك بالدين ولم يخبرني به.
قال: قلت له: من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك، خاف عليك أن
لا تقبله فتدخل النار وأخبرني، فإن قبلته نجوت، وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل
النار، ثم قلت له:
جعلت فداك أنتم أفضل أم الأنبياء؟
قال: بل الأنبياء.
قلت: يقول يعقوب ليوسف: (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا
لك كيدا) (1) لم لم يخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه ولكن كتمه، وكذا
أبوك كتمك لأنه خاف عليك.
قال: فقال: أما والله لئن قلت ذلك فقد حدثني صاحبك بالمدينة أني أقتل
وأصلب بالكناسة، وأن عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي.
قال: فحججت وحدثت أبا عبد الله عليه السلام بمقالة زيد وما قلت له: فقال لي:
أخذته من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن يساره، ومن فوق رأسه ومن

(1) يوسف - 5
141

تحت قدميه، ولم تترك له مسلكا يسلكه.
وعن هشام بن الحكم قال: اجتمع ابن أبي العوجاء، وأبو شاكر الديصاني
الزنديق، وعبد الملك البصري، وابن المقفع، عند بيت الله الحرام، يستهزؤن بالحاج
ويطعنون بالقرآن.
فقال ابن أبي العوجاء: تعالوا ننقض كل واحد منا ربع القرآن، وميعادنا
من قابل في هذا الموضع، نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كله، فإن في نقض
القرآن إبطال نبوة محمد، وفي إبطال نبوته إبطال الإسلام، وإثبات ما نحن فيه،
فاتفقوا على ذلك وافترقوا، فلما كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام، فقال
ابن أبي العوجاء:
أما أنا فمفكر منذ افترقنا في هذه الآية: (فلما استيأسوا منه خلصوا
نجيا) (1) فما أقدر أن أضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئا، فشغلتني
هذه الآية عن التفكر في ما سواها.
فقال عبد الملك: وأنا منذر فارقتكم مفكر في هذه الآية (يا أيها الناس
ضرب مثل فاستمعوا له أن الذين يدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا
له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) (2) ولم
أقدر على الإتيان بمثلها.
فقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: (لو كان فيهما
آلهة إلا الله لفسدتا) (3) لم أقدر على الإتيان بمثلها.
فقال ابن المقفع: يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا
منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: (وقيل يا أرض ابلعي مائك ويا سماء اقلعي
وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) (4) لم
أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

(1) يوسف - 80
(2) الحج - 73
(3) الأنبياء - 24
(4) هود - 44
142

قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك، إذ مر بهم جعفر بن محمد الصادق عليه السلام
فقال: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون
بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (1) فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا:
لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصية محمد إلا إلى جعفر بن محمد، والله ما رأيناه
قط إلا هبناه واقشعرت جلودنا لهيبته، ثم تفرقوا مقرين بالعجز.
ولهذا الأمر قال محمد بن أبي بكر في خبر عجيب شعرا (2):
تجملت تبلغت وإن عشت تفيلت لك التسع من الثمن وبالكل تملكت
وعن أحمد بن عبد الله البرقي (3) عن أبيه (4) عن شريك بن عبد الله (5)

(1) الإسراء - 88
(2) تجملت في حرب صفين، أي ركبت الجمل وخرجت لحرب علي عليه السلام
وتبغلت حين جاءوا بجنازة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام لزيارة قبر جده فخرجت
راكبة على بغلة يقودها مروان وهي تنادي: لا تدخلوا بيتي من لا أحب، وقال مروان: أيدفن
عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع جده رسول الله، لا كان ذلك أبدا. والبيت لابن
عباس خاطبها به ذلك اليوم وليس لمحمد بن أبي بكر بل أن محمدا لم يدرك ذلك اليوم
وقتل في عهد أمير المؤمنين وقد مرت ترجمته ص 269 من الجزء الأول من هذا الكتاب فراجع.
(3) قال السيد الأمين العاملي رحمه الله في أعيان الشيعة ج 9 ص 4: (أحمد بن
عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، في طريق الصدوق إلى محمد بن مسلم، والظاهر
أنه من مشائخ الإجازة، وربما أحتمل أن يكون ابن بنت البرقي ونسب إلى جده والله أعلم)
(4) لم أعثر له على ترجمة فيما عندي من كتب الرجال
(5) شريك بن عبد الله بن سنان بن أنس النخعي الكوفي، ذكره ابن قتيبة
والذهبي في رجال الشيعة، وكان ممن روى النص على أمير المؤمنين علي عليه السلام كما
في الميزان للذهبي. ومن تتبع سيرته علم أنه كان يوالي أهل البيت عليهم السلام وقد روى
عن أوليائهم علما جما، قال ابنه عبد الرحمن: كان عند أبي عشرة آلاف مسألة عن
جابر الجعفي، وعشرة آلاف غرائب وقال عبد الله بن المبارك: شريك أعلم بحديث
الكوفيين من سفيان، وكان عدوا لأعداء علي عليه السلام، سئ القول فيهم، ومع
ذلك وصفه الذهبي بالحافظ الصادق أحد الأئمة، ونقل عن ابن معين القول بأنه صدوق
ثقة، احتج به مسلم وأرباب السنن لأربعة. قال الذهبي: قد كان شريك من أوعية العلم
حمل عنه إسحاق الأزرق تسعة آلاف حديث.
ولد بخراسان أو ببخارى سنة 95 ومات بالكوفة مستهل (قع) سنة 177 أو 178
عن الكنى والألقاب للقمي ج 3 ص 205
143

عن الأعمش قال: اجتمعت الشيعة والمحكمة عند أبي نعيم النخعي بالكوفة (1)
وأبو جعفر محمد بن النعمان مؤمن الطاق حاضر، فقال ابن أبي حذرة:
أنا أقرر معكم أيتها الشيعة أن أبا بكر أفضل من علي ومن جميع أصحاب
النبي بأربع خصال لا يقدر على دفعها أحد من الناس، هو ثان مع رسول الله في
بيته مدفون، وهو ثاني اثنين معه في الغار، وهو ثاني اثنين صلى بالناس آخر
صلاة قبض بعده رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو ثاني اثنين الصديق من هذه الأمة. قال
أبو جعفر مؤمن الطاق رحمة الله عليه: يا بن أبي حذرة وأنا أقرر معك أن عليا
أفضل من أبي بكر وجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله بهذه الخصال التي وصفتها، وأنها
مثلبة لصاحبك، وألزمك طاعة علي من ثلاث جهات، من القرآن وصفا، ومن
خبر الرسول نصا، ومن حجة العقل اعتبارا، ووقع الاتفاق على إبراهيم النخعي
وعلى أبي إسحاق السبيعي، وعلى سليمان بن مهران الأعمش.
فقال: أبو جعفر مؤمن الطاق: أخبرني يا بن أبي حذرة عن النبي صلى الله عليه وآله
كيف ترك بيوته - التي أضافها الله إليه، ونهى الناس عن دخولها إلا بإذنه - ميراثا
لأهله وولده، أو تركها صدقة على جميع المسلمين؟ قل ما شئت.
فانقطع ابن أبي حذرة لما أورد عليه ذلك، وعرف خطأ ما فيه.

(1) قال في تهذيب التهذيب ج 12 ص 258: أبو نعيم النخعي الصغير. اسمه
عبد الرحمن بن هاني الكوفي، سبط إبراهيم النخعي تقدم.
وقال في ج 6: عبد الرحمن بن هاني بن سعيد الكوفي أبو نعيم النخعي الصغير ابن
بنت إبراهيم النخعي روى عن مسعر والثوري وشريك وابن جريح وعمر بن ذره.. الخ.
144

فقال أبو جعفر مؤمن الطاق: إن تركها ميراثا لولده وأزواجه فإنه قبض
عن تسع نسوة، وإنما لعايشة بنت أبي بكر تسع ثمن هذا البيت الذي دفن فيه
صاحبك، ولا يصيبها من البيت ذراع في ذراع، وإن كان صدقة فالبلية أطم وأعظم
فإنه لم يصب من البيت إلا ما لأدنى رجل من المسلمين، فدخول بيت النبي صلى الله عليه وآله
بغير إذنه في حياته وبعد وفاته معصية إلا لعلي بن أبي طالب عليه السلام وولده، فإن الله
أحل لهم ما أحل للنبي صلى الله عليه وآله، ثم قال لهم: إنكم تعلمون أن النبي، أمر بسد
أبواب جميع الناس التي كانت مشرعة إلى المسجد ما خلا باب علي عليه السلام، فسأله
أبو بكر أن يترك له كوة لينظر منها إلى رسول الله فأبى عليه، وغضب عمه العباس
من ذلك فخطب النبي صلى الله عليه وآله خطبة وقال:
إن الله تبارك وتعالى أمر لموسى وهارون أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا،
وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب، ولا يقرب فيه النساء إلا موسى وهارون
وذريتهما، وأن عليا هو بمنزلة هارون من موسى، وذريته كذرية هارون، ولا
يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا يبيت فيه جنب إلا
علي وذريته عليهم السلام.
فقالوا بأجمعهم: كذلك كان.
قال أبو جعفر: ذهب ربع دينك يا بن أبي حذرة، وهذه منقبة لصاحبي
ليس لأحد مثلها، ومثلبة لصاحبك، وأما قولك: (ثاني اثنين إذ هما في الغار)
أخبرني هل أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين في غير الغار؟
قال ابن أبي حذرة: نعم.
قال أبو جعفر: فقد خرج صاحبك في الغار من السكينة، وخصه بالحزن
ومكان علي في هذه الليلة على فراش النبي صلى الله عليه وآله، وبذل مهجته دونه أفضل من
مكان صاحبك في الغار.
فقال الناس: صدقت.
فقال أبو جعفر: يا بن أبي حذرة ذهب نصف دينك، وأما قولك ثاني اثنين
145

الصديق من الأمة، فقد أوجب الله على صاحبك الاستغفار لعلي بن أبي طالب عليه السلام
في قوله عز وجل: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا
الذين سبقونا بالإيمان) إلى آخر الآية والذي ادعيت إنما هو شئ سماه الناس
ومن سماه القرآن وشهد له بالصدق والتصديق أولى به ممن سماه الناس، وقد قال
علي عليه السلام على منبر البصرة: أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن آمن أبو بكر
وصدقت قبله.
قال الناس: صدقت.
قال أبو جعفر مؤمن الطاق: يا بن أبي حذرة ذهب ثلاثة أرباع دينك.
وأما قولك في الصلاة بالناس، كنت ادعيت لصاحبك فضيلة لم تتم له، وأنها إلى التهمة
أقرب منها إلى الفضيلة، فلو كان ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله لما عزله عن تلك الصلاة
بعينها، أما علمت أنه لما تقدم أبو بكر ليصلي بالناس خرج رسول الله صلى الله عليه وآله فتقدم
وصلى بالناس وعزله عنها، ولا تخلو هذه الصلاة من أحد وجهين: أما أن تكون
حيلة وقعت منه، فلما حس النبي صلى الله عليه وآله بذلك خرج مبادرا مع علته فنحاه عنها
لكيلا يحتج بها بعده على أمته فيكونوا في ذلك معذورين. وأما أن تكون هو
الذي أمره بذلك، وكان ذلك مفوضا إليه كما في قصة تبليغ براءة، فنزل
جبرئيل عليه السلام وقال: لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك، فبعث عليا في طلبه وأخذها
منه، وعزله عنها وعن تبليغها، فكذلك كانت قصة الصلاة، وفي الحالتين هو مذموم
لأنه كشف عنه ما كان مستورا عليه، وفي ذلك دليل واضح أنه لا يصلح للاستخلاف
بعده، ولا هو مأمون على شئ من أمر الدين.
فقال الناس: صدقت.
قال أبو جعفر مؤمن الطاق: يا بن أبي حذرة ذهب دينك كله، وفضحت
حيث مدحت.
فقال الناس لأبي جعفر: هات حجتك فيما ادعيت من طاعة علي عليه السلام،
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق:
146

أما من القرآن وصفا فقوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله
وكونوا مع الصادقين) (1) فوجدنا عليا بهذه الصفة في القرآن في قوله عز وجل
(والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس - يعني في الحرب والشغب - أولئك الذين
صدقوا وأولئك هم المتقون) (2) فوقع الاجماع من الأمة بأن عليا عليه السلام أولى
بهذا الأمر من غيره، لأنه لم يفر من زحف قط، كما فر غيره في غير موضع.
فقال الناس: صدقت.
وأما الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله نصا، فقال: (إني تارك فيكم الثقلين، ما
أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا
حتى يردا علي الحوض) وقوله صلى الله عليه وآله: (إنما مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح،
من ركبها نجى، ومن تخلف عنها غرق، ومن تقدمها مرق، ومن لزمها لحق) (3)
فالمتمسك بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله هاد مهتد بشهادة من الرسول والمتمسك
بغيرها ضال مضل.
قال الناس: صدقت يا أبا جعفر: وأما من حجة العقل فإن الناس كلهم
يستعبدون بطاعة العالم، ووجدنا الاجماع قد وقع على علي عليه السلام بأنه كان أعلم
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان الناس يسألونه ويحتاجون إليه، وكان علي

(1) التوبة - 120
(2) البقرة - 177
(3) ذخائر العقبى ص 20: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال. قال رسول الله:
(مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجى، ومن تعلق بها فاز، ومن تخلف عنها
غرق) أخرجه الملا في سيرته قال الحجة الأميني في ج 2 ص 301 من الغدير: وحديث
السفينة رواه الحاكم في المستدرك ج 3 ص 151 عن أبي ذر وصححه بلفظ: مثل أهل
بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا. ومن تخلف عنها غرق وأخرجه الخطيب
في تاريخه ج 12 ص 91 عن أنس، والبزار عن ابن عباس، وابن الزبير، وابن جرير
والطبراني عن أبي ذر وأبي سعيد الخدري. وأبو نعيم وابن عبد البر، ومحب الدين
الطبري. وكثيرون آخرون.
147

مستغنيا عنهم، هذا من الشاهد والدليل عليه من القرآن قوله عز وجل: (أفمن
يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) (1)
فما اتفق يوم أحسن منه، ودخل في هذا الأمر عالم كثير.
وقد كانت لأبي جعفر مؤمن الطاق مقامات مع أبي حنيفة. فمن ذلك:
ما روي أنه قال يوما من الأيام لمؤمن الطاق: إنكم تقولون بالرجعة.
قال: نعم.
قال أبو حنيفة: فاعطني الآن ألف درهم حتى أعطيك ألف دينار إذا رجعنا.
قال الطاقي لأبي حنيفة: فاعطني كفيلا بأنك ترجع إنسانا ولا ترجع خنزيرا.
وقال له يوم آخر: لم لم يطالب علي بن أبي طالب بحقه بعد وفاة
رسول الله إن كان له حق؟
فأجابه مؤمن الطاق: خاف أن يقتله الجن كما قتلوا سعد بن عبادة بسهم
المغيرة بن شعبة. وفي رواية بسهم خالد بن الوليد (2).

(1) يونس - 35
(2) سعد بن عبادة: رئيس الخزرج، وكان صاحب راية الأنصار يوم بدر
وأمير المؤمنين عليه السلام صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وآله والمهاجرين.
ولما قبض النبي صلى الله عليه وآله اجتمعت الأنصار إليه وكان مريضا فجاءوا به إلى سقيفة بني
ساعدة وأرادوا تأميره، ولما تم الأمر لأبي بكر امتنع عن مبايعته، فأرسل إليه أبو بكر
ليبايع فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب
بسيفي ما أطاعني، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن تبعني، ولو اجتمع معكم الجن والإنس ما
بايعتكم حتى أعرض على ربي. فقال عمر: لا تدعه حتى يبايع فقال بشير بن سعد: إنه
قد لج وليس بمبايع لكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته
ولا يضركم تركه، إنما هو رجل واحد فتركوه، وقبلوا مشورة بشير بن سعد، واستنصحوه
لما بدا لهم منه فكان سعد لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع معهم، ويحج ولا يفيض معهم
بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر راجع ج 3 ص 210 من تاريخ الطبري
وقال ابن أبي الحديد في ج 1 ص 540 من شرح النهج: وخرج إلى حوران فمات بها
قيل: قتله الجن لأنه بال قائما في الصحراء ليلا، ورووا بيتين من شعر قيل: أنهما
سمعا ليلة قتله ولم ير قائلهما:
نحن قتلنا سيد الخزرج * سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين * فلم تخطئ فؤاده
ويقول قوم: أن أمير الشام يومئذ كمن له من رماه ليلا وهو خارج إلى الصحراء
بسهمين فقتله لخروجه عن طاعة الإمام وقد قال بعض المتأخرين في ذلك:
يقولون: سعد شكت الجن قلبه * ألا ربما صححت دينك بالغدر
وما ذنب سعد أنه بال قائما * ولكن سعدا لم يبايع أبا بكر
وقد صبرت من لذة العيش أنفس * وما صبرت عن لذة النهي والأمر
148

وكان أبو حنيفة يوما آخر يتماشى مع مؤمن الطاق في سكة من سكك
الكوفة، إذا مناد ينادي من يدلني على صبي ضال؟
فقال مؤمن الطاق: أما الصبي الضال فلم نره، وإن أردت شيخا ضالا فخذ
هذا! عني به: أبا حنيفة.
ولما مات الصادق عليه السلام رأى أبو حنيفة مؤمن الطاق فقال له:
مات إمامك؟
قال: نعم. أما إمامك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.
وروي: أنه مر فضال بن الحسن بن فضال الكوفي (1) بأبي حنيفة وهو
في جمع كثير، يملي عليهم شيئا من فقهه وحديثه. فقال - لصاحب كان معه -:
والله لا أبرح حتى أخجل أبا حنيفة.
فقال صاحبه الذي كان معه: إن أبا حنيفة ممن قد علت حاله، وظهرت حجته.

(1) في رجال المامقاني ج 2 ص 373 حكى عن المولى الوحيد أنه قال: يظهر
من معارضته مع أبي حنيفة كونه من فضلاء الشيعة واحتمل الحائري كونه أخا علي بن
الحسن بن فضال.
149

قال: صه! هل رأيت حجة ضال علت علي حجة مؤمن؟! ثم دنا منه فسلم
عليه، فرد ورد القوم السلام بأجمعهم. فقال:
يا أبا حنيفة أن أخا لي يقول: أن خير الناس بعد رسول الله علي بن أبي
طالب عليه السلام، وأنا أقول أبو بكر خير الناس وبعده عمر. فما تقول أنت رحمك الله؟
فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: كفى بمكانهما من رسول الله صلى الله عليه وآله كرما
وفخرا، أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره، فأي حجة تريد أوضح من هذا؟
فقال له فضال: إني قد قلت ذلك لأخي فقال: والله لئن كان الموضع لرسول
الله صلى الله عليه وآله دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما حق فيه، وإن كان الموضع
لهما فوهباه لرسول الله صلى الله عليه وآله لقد أساءا وما أحسنا، إذ رجعا في هبتهما، ونسيا عهدهما. فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال له: لم يكن له ولا لهما خاصة، ولكنهما
نظرا في حق عايشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما.
فقال له فضال: قد قلت له ذلك فقال: أنت تعلم أن النبي مات عن تسع
نساء، ونظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع الثمن، ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا
هو شبر في شبر، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك، وبعد فما بال عائشة
وحفصة ترثان رسول الله صلى الله عليه وآله وفاطمة بنته تمنع الميراث؟!
فقال أبو حنيفة: يا قوم نحوه عني فإنه رافضي خبيث.
حكي عن أبي الهذيل العلاف (1) قال:

(1) أبو الهذيل العلاف محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول البصري، شيخ
البصريين في الاعتزال ومن أكبر علمائهم، وصاحب المقالات في مذهبهم، كان معاصرا
لأبي الحسن الميثمي المتكلم الإمامي حكي أنه سأل أبو الحسن الميثمي أبا الهذيل فقال:
ألست تعلم أن إبليس ينهى عن الخير كله ويأمر بالشر كله؟
قال: بلى.
قال: فيجوز أن يأمر بالشر كله وهو لا يعرفه، وينهى عن الخير كله وهو لا يعرفه؟
قال: لا.
فقال له أبو الحسن: قد ثبت أن إبليس يعلم الشر كله والخير كله
قال أبو الهذيل: أجل.
قال: فأخبرني عن إمامك الذي تأتم به بعد رسول الله (ص) هل يعلم الخير
كله والشر كله؟ قال. لا.
قال له: فإبليس أعلم من إمامك إذا فانقطع أبو الهذيل.
توفي أبو الهذيل بسر من رأى سنة 277.
الكنى والألقاب ج 1 ص 170
150

دخلت الرقة فذكر لي أن بدير زكن رجلا مجنونا حسن الكلام، فأتيته
فإذا أنا بشيخ حسن الهيئة جالس على وسادة يسرح رأسه ولحيته، فسلمت عليه
فرد السلام وقال: ممن يكون الرجل؟
قال: قلت: من أهل العراق.
قال: نعم. أهل الظرف والأدب.
قال: من أيها أنت؟ قلت: من أهل البصرة.
قال: أهل التجارب والعلم.
قال: فمن أيهم أنت؟
قلت: أبو الهذيل العلاف.
قال: المتكلم؟
قلت: بلى.
فوثب عن وسادته وأجلسني عليها ثم قال - بعد كلام جرى بيننا -:
ما تقولون في الإمامة؟
قلت: أي الإمامة تريد؟
قال: من تقدمون بعد النبي صلى الله عليه وآله؟
قلت: من قدم رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: ومن هو؟
151

قلت: أبا بكر.
قال لي: يا أبا الهذيل ولم قدمتم أبا بكر؟
قال: قلت: لأن النبي صلى الله عليه وآله قال: (قدموا خيركم وولوا أفضلكم) وتراضى
الناس به جميعا.
قال: يا أبا الهذيل هاهنا وقعت.
أما قولك أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (قدموا خيركم وولوا أفضلكم) فإني
أوجدك (1). أن أبا بكر صعد المنبر قال: (وليتكم ولست بخيركم وعلي
فيكم) فإن كانوا كذبوا عليه فقد خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وآله، وإن كان هو الكاذب
على نفسه فمنبر رسول الله لا يصعده الكاذبون.
وأما قولك: أن الناس تراضوا به، فإن أكثر الأنصار قالوا منا أمير ومنكم
أمير، وأما المهاجرون فإن الزبير بن العوام قال: لا أبايع إلا عليا، فأمر به فكسر
سيفه، وجاء أبو سفيان بن حرب وقال: يا أبا الحسن لو شئت لأملأنها خيلا
ورجالا يعني: (المدينة) وخرج سلمان فقال بالفارسي: (كرديد ونكرديد،
وندانيد كه جه كرديد) (2) والمقداد وأبو ذر، فهؤلاء المهاجرون والأنصار.
أخبرني يا أبا الهذيل عن قيام أبي بكر على المنبر وقوله: أن لي شيطانا
يعتريني، فإذا رأيتموني مغضبا فاحذروني، لا أقع في أشعاركم وأبشاركم (3)

(1) في ج 2 من العقد الفريد ص 347 قال: وخطب أيضا - يعني: أبا بكر -
حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس أني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن رأيتموني
على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني. الخ.
(2) أي: فعلتم وما فعلتم ولا تعلمون الذي فعلتم.
(3) روى الطبري في ج 3 ص 210 من تاريخه مرفوعا عن عاصم بن عدي
قال: نادى منادي أبي بكر.. إلى أن قال: وقام في الناس فحمد الله وأثنى عليه
وقال: (يا أيها الناس إنما أنا مثلكم، وأني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول
الله (ص) يطيق، إن الله اصطفى محمدا على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا
متبع ولست مبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله
قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة، ضربة سوط فما دونها، ألا وإن لي شيطانا
يعتريني، فإذا أتاني فاجتنبوني، لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم... الخ)
152

فهو يخبركم على المنبر أني مجنون، وكيف يحل لكم أن تولوا مجنونا؟!
وأخبرني يا أبا الهذيل عن قيام عمر وقوله: وددت أني شعرة في صدر أبي
بكر، ثم قام بعدها بجمعة فقال: (أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها
فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه) (1) فبينما هو يود أن يكون شعرة في صدره،
وبينما هو يأمر بقتل من بايع مثله.
فأخبرني يا أبا الهذيل عن الذي زعم أن النبي صلى الله عليه وآله لم يستخلف، وأن
أبا بكر استخلف عمر، وأن عمر لم يستخلف، فأرى أمركم بينكم متناقضا.
وأخبرني يا أبا الهذيل عن عمر حين صيرها شورى بين ستة، وزعم: أنهم من
أهل الجنة فقال: (إن خالف اثنان لأربعة فاقتلوا الاثنين، وإن خالف ثلاثة
لثلاثة، فاقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن بن عوف) فهذه ديانة
أن يأمر بقتل أهل الجنة؟!!!
وأخبرني يا أبا الهذيل عن عمر لما طعن دخل عليه عبد الله بن عباس قال:
فرأيته جزعا فقلت:
يا أمير المؤمنين ما هذا الجزع؟
قال: يا بن عباس ما جزعي لأجلي ولكن جزعي لهذا الأمر من يليه بعدي.
قال: قلت: ولها طلحة بن عبيد الله.
قال: رجل له حدة، كان النبي صلى الله عليه وآله يعرفه فلا أولي أمر المسلمين حديدا.

(1) ذكر الطبري في تاريخه ج 3 ص 200 أن عمر قال - وهو على المنبر -:
أريد أن أقول مقالة قد قدر أن أقولها، من وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها إلى أن
قال: فلا يغرن امرء أن يقول: أن بيعة أبي بكر كانت فلتة، فقد كانت كذلك غير
أن الله وقى شرها... الخ
153

قال: قلت: ولها زبير بن العوام.
قال: رجل بخيل، رأيته يماكس امرأته في كبة من غزل، فلا أولي أمور
المسلمين بخيلا.
قال: قلت: ولها سعد بن أبي وقاص.
قال: رجل صاحب فرس وقوس، وليس من أحلاس الخلافة (1)
قال: قلت: ولها عبد الرحمن بن عوف.
قال: رجل ليس يحسن أن يكفي عياله.
قال: قلت: ولها عبد الله بن عمر.
فاستوى جالسا ثم قال: يا بن عباس! ما الله أردت بهذا أولي رجلا لم يحسن
أن يطلق امرأته؟!
قال: قلت: ولها عثمان بن عفان.
قال: والله لئن وليته ليحملن بني أبي معيط على رقاب المسلمين، ويوشك
أن يقتلوه. قالها ثلاثا.
قال: ثم سكت لما أعرف من مغائرته لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
فقال: يا بن عباس أذكر صاحبك.
قال: قلت: فولها عليا.
قال: فوالله ما جزعي إلا لما أخذنا الحق من أربابه، والله لئن وليته ليحملنهم
على المحجة العظمى، وإن يطيعوه يدخلهم الجنة، فهو يقول هذا ثم صيرها شورى
بين الستة فويل له من ربه!!!
قال أبو الهذيل: فوالله بينما هو يكلمني إذ اختلط، وذهب عقله. فأخبرت
المأمون بقصته، وكان من قصته أن ذهب بماله وضياعه حيلة وغدرا، فبعث إليه
المأمون، فجاء به وعالجه وكان قد ذهب عقله بما صنع به، فرد عليه ماله وضياعه

(1) الأحلاس: جمع حلس يقال: فلان حلس بيته: أي ملازم له تشبيها له
بحلس البعير وهو: كساء رقيق يكون تحت البرذعة والمراد ليس من أهلها
154

وصيره نديما، فكان المأمون يتشيع لذلك، والحمد لله على كل حال.
وقد جاءت الآثار عن الأئمة الأبرار عليهم السلام: بفضل من نصب نفسه من
علماء شيعتهم لمنع أهل البدعة والضلال عن التسلط على ضعفاء الشيعة ومساكينهم،
وقمعهم بحسب تمكنهم وطاقتهم، فمن ذلك ما روي: عن أبي محمد الحسن بن علي
العسكري عليه السلام، أنه قال:
قال جعفر بن محمد عليه السلام: علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس
وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلط عليهم إبليس
وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم
والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان محبينا، وذلك يدفع عن أبدانهم.
احتجاج أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام في أشياء شتى على
المخالفين.
الحسن بن عبد الرحمن الحماني (1) قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السلام: أن
هشام بن الحكم زعم: أن الله تعالى جسم ليس كمثله شئ، عالم، سميع، بصير
قادر، متكلم، ناطق، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد، ليس شئ
منها مخلوقا.
فقال: قاتله الله. أما علم أن الجسم محدود؟! والكلام غير المتكلم؟ معاذ
الله وأبرء إلى الله من هذا القول. لا جسم، ولا صورة، ولا تحديد، وكل شئ
سواه مخلوق، وإنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في
نفس، ولا نطق بلسان.

(1) ذكره الأردبيلي في جامع الرواة ج 1 ص 206 فقال: محمد بن إسماعيل عن
علي بن العباس عن الحسن بن عبد الرحمان الحماني عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما
السلام في الكافي باب النهي عن الجسم والصورة.
155

وعن يعقوب بن جعفر (1) عن أبي إبراهيم عليه السلام أنه قال: لا أقول أنه
قائم فأزيله عن مكان، ولا أحده بمكان يكون فيه، ولا أحده أن يتحرك في
شئ من الأركان والجوارح، ولا أحده بلفظ شق فم، ولكن كما قال عز وجل:
(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (2) بمشيته من غير تردد في
نفس صمدا فردا لم يحتج إلى شريك يدبر له ملكه، ولا يفتح له أبواب علمه.
وعن يعقوب بن جعفر الجعفري أيضا، عن أبي إبراهيم موسى عليه السلام قال:
ذكر عنده قوم زعموا: أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا فقال:
أن الله لا ينزل، ولا يحتاج أن ينزل، إنما منظره في القرب والبعد سواء
لم يبعد منه بعيد، ولا يقرب منه قريب، ولم يحتج إلى شئ بل يحتاج إليه كل
شئ، وهو ذو الطول لا إله إلا هو العزيز الحكيم!
أما قول الواصفين: أنه ينزل تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، فإنما يقول
ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة، وكل متحرك يحتاج إلى من يحركه ويتحرك
به (3) فمن ظن بالله الظنون فقد هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على
حد تحدونه بنقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرك، زوال أو استنزال، أو نهوض
أو قعود، فإن الله جل وعز عن صفة الواصفين، ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين.

(1) ذكره الأردبيلي في جامع الرواة ج 2 ص 346 ونقل عن الكافي والتهذيب
عدة روايات عنه عن الصادق والكاظم عليهم السلام وورد اسمه فيها مرة يعقوب بن
جعفر، وأخرى يعقوب بن جعفر الجعفري وثالثة يعقوب بن جعفر بن إبراهيم الجعفري
(2) راجع موضوع نفي الحركة عنه تعالى في هامش الجزء الأول من هذا
الكتاب ص 300.
(3) لا بد لكل حركة من أن تستلزم أربعة أمور: المحرك، والمتحرك، وما منه
الحركة، وما إليه الحركة. وقد مر في الجزء الأول من هذا الكتاب ص 300
و 31 تفصيل الحديث في نفي الحركة عنه تعالى والاستدلال على بطلان نسبتها إليه
وتنزهه عنها فراجع.
156

وعن الحسن بن راشد (1) قال: سئل أبو الحسن موسى عليه السلام عن معنى
قول الله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (2) فقال: استولى على ما دق وجل.
وعن يعقوب بن جعفر الجعفري قال: سأل رجل يقال له عبد الغفار المسمى
أبا إبراهيم موسى بن جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى: (ثم دنى فتدلى فكان قاب
قوسين أو أدنى) (3) قال: أرى هاهنا خروجا من حجب، وتدليا إلى الأرض،
وأرى محمدا رأى ربه بقلبه، ونسب إلى بصره، فكيف هذا؟
فقال أبو إبراهيم: دنى فتدلى، فإنه لم يزل عن موضع ولم يتدل ببدن.
فقال عبد الغفار: أصفه بما وصف به نفسه حيث قال: (دنى فتدلى) فلم
يتدل عن مجلسه إلا وقد زال عنه، ولولا ذلك لم يصف بذلك نفسه.
فقال أبو إبراهيم عليه السلام: أن هذه لغة في قريش، إذا أراد رجل منهم أن
يقول: قد سمعت يقول: قد تدليت، وإنما التدلي: الفهم.
وعن داود بن قبيصة (4) قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: سئل أبي عليه السلام
هل منع الله عما أمر به، وهل نهى عما أراد، وهل أعان على ما لم يرد؟
فقال عليه السلام: أما ما سألت: (هل منع الله عما أمر به؟) فلا يجوز ذلك،
ولو جاز ذلك لكان قد منع إبليس عن السجود لآدم، ولو منع إبليس لعذره
ولم يلعنه.

(1) عده الشيخ في رجاله ص 67. من أصحاب الصادق عليه السلام فقال:
الحسن بن راشد مولى بني العباس كوفي، وفي أصحاب الكاظم (ع) ص 346 ذكره أيضا
باسم الحسين بن راشد وقال: بغدادي
(2) طه - 5
(3) النجم - 9
(4) ذكره العلامة في القسم الثاني من خلاصته ص 221 باسم: (دارم) فقال:
بالراء بعد الألف ابن (قبيصة) بفتح القاف وكسر الباء المنقطة تحتها نقطة وبعدها
ياء ساكنة وصاد مهملة ابن نهشل أبو الحسن السائح يروي عن الرضا عليه السلام.
قال ابن الغضايري لا يؤنس بحديثه ولا يوثق به.
157

وأما ما سألت: (هل نهى عما أراد؟) فلا يجوز ذلك، ولو جاز ذلك
لكان حيث نهى آدم عن أكل الشجرة أراد منه أكلها، ولو أراد منه أكلها لما
نادى عليه صبيان الكتاتيب: (وعصى آدم ربه فغوى) والله تعالى لا يجوز عليه
أن يأمر بشئ ويريد غيره.
وأما ما سألت عنه من قولك: (هل أعان على ما لم يرد؟) ولا يجوز ذلك
وجل الله تعالى عن أن يعين على قتل الأنبياء وتكذيبهم، وقتل الحسين بن علي عليه السلام
والفضلاء من ولده، وكيف يعين على ما لم يرد وقد أعد جهنم لمخالفيه، ولعنهم
على تكذيبهم لطاعته، وارتكابهم لمخالفته؟! ولو جاز أن يعين على ما لم يرد
لكان أعان فرعون على كفره وادعائه أنه رب العالمين، أفترى أراد الله من فرعون أن
يدعي الربوبية. يستتاب قائل هذا القول، فإن تاب من كذبه على الله وإلا ضربت عنقه.
وروي عن الحسن بن علي بن محمد العسكري عليه السلام: أن أبا الحسن موسى
ابن جعفر عليه السلام قال:
أن الله خلق الخلق فعلم ما هم إليه صايرون فأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به
من شئ فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به، وما نهاهم عنه من شئ فقد جعل
لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بأذنه، وما جبر الله
أحدا من خلقه على معصيته، بل اختبرهم بالبلوى وكما قال: (ليبلوكم أيكم
أحسن عملا) (1).
قوله: ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذنه، أي: بتخليته وعلمه.
وروي: أنه دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبد الله بن مسلم فقال له:
يا أبا حنيفة إن هاهنا جعفر بن محمد من علماء آل محمد فاذهب بنا إليه نقتبس
منه علما، فلما أتيا إذا هما بجماعة من علماء شيعته ينتظرون خروجه أو دخولهم
عليه، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث فقام الناس هيبة له، فالتفت أبو حنيفة فقال:
يا ابن مسلم من هذا؟

(1) هود - 7
158

قال: موسى ابنه.
قال: والله أخجله بين يدي شيعته
قال له: لن تقدر على ذلك.
قال: والله لأفعلنه، ثم التفت إلى موسى فقال:
يا غلام أين يضع الغريب في بلدتكم هذه؟
قال: يتوارى خلف الجدار، ويتوقى أعين الجار، وشطوط الأنهار، ومسقط
الثمار، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، فحينئذ يضع حيث شاء.
ثم قال: يا غلام ممن المعصية؟
قال: يا شيخ لا تخلو من ثلاث:
أما أن تكون من الله وليس من العبد شئ، فليس للحكيم أن يأخذ عبده
بما لم يفعله.
وأما أن تكون من العبد ومن الله، والله أقوى الشريكين فليس للشريك
الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه.
وأما أن تكون من العبد وليس من الله شئ، فإن شاء عفى وإن شاء عاقب.
قال: فأصابت أبا حنيفة سكتة كأنما ألقم فوه الحجر.
قال: فقلت له: ألم أقل لك لا تتعرض لأولاد رسول الله. وفي ذلك يقول الشاعر:
لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها * إحدى ثلاث معان حين نأتيها
إما تفرد بارينا بصنعتها * فيسقط اللوم عنا حين ننشيها
أو كان يشركنا فيها فيلحقه * ما سوف يلحقنا من لائم فيها
أو لم يكن لإلهي في جنايتها * ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها
روي عن علي بن يقطين (1) أنه قال: أمر أبو جعفر الدوانيقي يقطين أن

(1) قال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص 91 علي بن يقطين بن موسى
البغدادي، سكن بغداد وهو كوفي الأصل روى عن أبي عبد الله عليه السلام حديثا
واحدا، وروى عن أبي الحسن موسى عليه السلام فأكثر، وكان ثقة جليل القدر
راجع رجال الكشي ص 367 والجزء الثاني من سفينة البحار ص 252.
له منزلة عظيمة عند أبي الحسن عليه السلام عظيم المكان في هذه الطائفة روي أنه
عليه السلام ضمن له الجنة وأن لا تمسه النار أبدا. وكان وزيرا لهارون فاستأذن الإمام
عليه السلام بترك العمل معه فلم يأذن له، وقال له: عسى أن يجبر الله بك كسرا، ويكسر
بك نائرة المخالفين من أوليائه، يا علي كفارة أعمالكم الاحسان إلى إخوانكم. وروي
أنه لما قدم أبو إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام العراق، قال علي بن يقطين: أما
ترى حالي وما أنا فيه؟ فقال عليه السلام يا علي إن لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة
ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي وروي أنه قال أبو الحسن عليه السلام لعلي
ابن يقطين: إضمن لي خصلة أضمن لك ثلاثا فقال علي: جعلت فداك وما الخصلة
التي اضمنها لك؟ وما الثلاث اللواتي تضمنهن لي؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: الثلاث
اللواتي أضمنهن لك أن لا يصيبك حر الحديد أبدا، بقتل، ولا فاقة، ولا سجن حبس
فقال علي: فما الخصلة التي اضمنها لك؟ فقال يا علي وأما الخصلة التي تضمن لي أن لا
يأتيك ولي أبدا إلا أكرمته فضمن له علي الخصلة وضمن له أبو الحسن الثلاث وروي
أنه عليه السلام قال: إني استوهبت علي بن يقطين من ربي عز وجل البارحة فوهبه لي
أن علي بن يقطين بذل ماله ومودته فكان لذلك منا مستوجبا.
159

يحفر له بئرا بقصر العبادي، فلم يزل يقطين في حفرها حتى مات أبو جعفر ولم
يستنبط منها الماء، وأخبر المهدي بذلك فقال له: احفر أبدا حتى يستنبط الماء
ولو أنفقت عليها جميع ما في بيت المال.
قال: فوجه يقطين أخاه أبا موسى في حفرها، فلم يزل يحفر حتى ثقبوا
ثقبا في أسفل الأرض فخرجت منه الريح (قال): فهالهم ذلك، فأخبروا به أبا موسى.
فقال: انزلوني (قال): فأنزل وكان رأس البئر أربعين ذراعا في أربعين
ذراع، فأجلس في شق محمل ودلي في البئر، فلما صار في قعرها نظر إلى هول،
وسمع دوي الريح في أسفل ذلك، فأمرهم أن يوسعوا الخرق فجعلوه شبه الباب
العظيم، ثم دلي فيه رجلا في شق محمل فقال: ايتوني بخبر هذا ما هو؟]
160

قال: فنزلا في شق محمل فمكثا مليا ثم حركا الحبل فأصعدا، فقال لهما:
ما رأيتما؟
قالا: أمرا عظيما. رجالا، ونساءا، وبيوتا، وآنية، ومتاعا، كله ممسوخ
من حجارة فأما الرجال والنساء فعليهم ثيابهم، فمن بين قاعد ومضطجع ومتكئ
فلما مسسناهم إذا ثيابهم تتفشا شبه الهباء، ومنازل قائمة، قال: فكتب بذلك أبو
موسى إلى المهدي، فكتب المهدي إلى المدينة إلى موسى بن جعفر، يسأله: أن
يقدم عليه فقدم عليه، فأخبره فبكى بكاءا شديدا، وقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء
بقية قوم عاد، غضب الله عليهم فساخت بهم منازلهم، هؤلاء أصحاب الأحقاف.
قال: فقال له المهدي: يا أبا الحسن وما الأحقاف؟ قال: الرمل.
وحدث. أبو أحمد هاني بن محمد العبدي (1) قال: حدثني أبو محمد رفعه
إلى موسى بن جعفر عليه السلام قال: لما أدخلت على الرشيد سلمت عليه فرد علي
السلام ثم قال: يا موسى بن جعفر خليفتان يجئ إليهما الخراج؟
فقلت: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تبوء بإثمي وإثمك، فتقبل الباطل
من أعدائنا علينا، فقد علمت بأنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، أما
علم ذلك عندك، فإن رأيت بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله أن تأذن لي أحدثك
بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله؟
فقال: قد أذنت لك.
فقلت: أخبرني أي عن آبائه عن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (أن
الرحم إذا مست الرحم تحركت واضطربت) فناولني يدك جعلني الله فداك.
قال: ادن مني! فدنوت منه، فأخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه وعانقني
طويلا، ثم تركني وقال: (اجلس يا موسى! فليس عليك بأس، فنظرت إليه فإذا
به قد دمعت عيناه، فرجعت إلى نفسي. فقال: صدقت وصدق جدك صلى الله عليه وآله، لقد

(1) في رجال المامقاني ج 3 ص 290 نقل الوحيد رواية الصدوق عنه مترضيا
عليه وهو دليل على وثاقته.
161

تحرك دمي واضطربت عروقي. حتى غلبت علي الرقة، وفاضت عيناي. وأنا أريد
أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين لم أسأل عنها أحدا، فإن أنت
أجبتني عنها خليت عنك ولم أقبل قول أحد فيك، وقد بلغني أنك لم تكذب قط
فأصدقني فيما أسألك ما في قلبي.
فقلت: ما كان علمه عندي فإني مخبرك به إن أنت أمنتني.
قال: لك الأمان إن صدقتني وتركت التقية التي تعرفون بها معاشر بني
فاطمة، قلت ليسأل أمير المؤمنين عما يشاء.
قال: اخبرني لم فضلتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة، وبنو عبد المطلب
ونحن وأنتم واحد، أنا بنو عباس وأنتم ولد أبي طالب، وهما عما رسول الله صلى الله عليه وآله
وقرابتهما منه سواء؟
فقلت: نحن أقرب.
قال: وكيف ذاك؟
قلت: لأن عبد الله وأبا طالب لأب وأم، وأبوكم العباس ليس هو من أم
عبد الله ولا من أم أبي طالب.
قال: فلم ادعيتم أنكم ورثتم النبي صلى الله عليه وآله، والعم يحجب ابن العم، وقبض
رسول الله صلى الله عليه وآله وقد توفي أبو طالب قبله والعباس عمه حي؟ فقلت له: إن رأى
أمير المؤمنين أن يعفني عن هذه المسألة، ويسألني عن كل باب سواه يريده.
فقال: لا. أو تجيب.
فقلت: فآمني.
قال: آمنتك قبل الكلام.
فقلت: إن في قول علي بن أبي طالب عليه السلام: أنه ليس مع ولد الصلب
ذكرا كان أو أنثى لأحد سهم، إلا الأبوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعلم مع
ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنة إلا أن تيما وعديا وبني
أمية قالوا: (العم والد) رأيا منهم بلا حقيقة، ولا أثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن
162

قال بقول علي من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دراج يقول
في هذه المسألة بقول علي وقد حكم به، وقد ولاه أمير المؤمنين المصرين الكوفة
والبصرة، وقضى به، فأنهي إلى أمير المؤمنين فأمر بإحضاره وإحضار من يقول بخلاف
قوله، منهم: سفيان الثوري، وإبراهيم المازني، والفضيل بن عياض، فشهدوا
أنه قول علي عليه السلام في هذه المسألة. فقال لهم فيما بلغني بعض العلماء من أهل
الحجاز: لم لا تفتون وقد قضى نوح بن دراج؟
فقالوا: جسر وجبنا. وقد أمضى أمير المؤمنين قضيته بقول قدماء العامة
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (أقضاكم علي) وكذلك عمر بن الخطاب قال: (علي
أقضانا) وهو اسم جامع، لأن جميع ما مدح به النبي صلى الله عليه وآله أصحابه من القرابة
والفرائض والعلم داخل في القضاء.
قال: زدني يا موسى!
قلت: المجالس بالأمانات وخاصة مجلسك.
فقال: لا بأس به.
فقلت: إن النبي لم يورث من لم يهاجر، ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر.
فقال: ما حجتك فيه.
قلت: قول الله تبارك وتعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من
ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) (1) وأن عمي العباس لم يهاجر.
فقال لي: إني أسألك يا موسى هل أفتيت بذلك أحدا من أعدائنا، أو
أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشئ؟
فقلت: اللهم لا. وما سألني عنها إلا أمير المؤمنين.
ثم قال لي: جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله،
ويقولوا لكم: يا بني رسول الله، وأنتم بنو علي، وإنما ينسب المرء إلى أبيه،
وفاطمة إنما هي وعاء، والنبي جدكم من قبل أمكم.

(1) الأنفال - 72
163

فقلت: يا أمير المؤمنين لو أن النبي نشر فخطب إليك كريمتك، هل
كنت تجيبه؟
قال: سبحان الله! ولم لا أجبه، بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك؟
فقلت له: لكنه لا يخطب إلي ولا أزوجه.
فقال: ولم؟
فقلت: لأنه ولدني ولم يلدك.
فقال: أحسنت يا موسى! ثم قال: كيف قلتم أنا ذرية النبي والنبي لم
يعقب، وإنما العقب الذكر لا الأنثى، وأنتم ولد الابنة ولا يكون ولدها عقبا له.
فقلت: أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه، إلا أعفيتني عن هذه المسألة.
فقال: لا أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي! وأنت يا موسى يعسوبهم،
وإمام زمانهم، كذا أنهي إلي، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه، حتى تأتيني
فيه بحجة من كتاب الله، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شئ
ألف ولا واو إلا تأويله عندكم، واحتججتم بقوله عز وجل: (ما فرطنا في الكتاب
من شئ) (1) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.
فقلت: تأذن لي في الجواب؟
قال: هات.
فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: (ومن
ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين *
وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) (2) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟
فقال: ليس لعيسى أب.
فقلت: إنما ألحقناه بذراري الأنبياء عليهم السلام من طريق مريم عليها السلام وكذلك
ألحقنا بذراري النبي صلى الله عليه وآله من قبل آمنا فاطمة، أزيدك يا أمير المؤمنين؟
قال: هات

(1) الأنعام - 38.
(2) الأنعام - 84 و 85
164

قلت: قول الله عز وجل: (فمن حاجك فيه من بعد ما جائك من العلم
فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل
فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (1) ولم يدع أحد أنه أدخله النبي صلى الله عليه وآله تحت
الكساء عند مباهلة النصارى إلا علي بن أبي طالب عليه السلام وفاطمة، والحسن والحسين
أبنائنا الحسن والحسين ونسائنا فاطمة، وأنفسنا علي بن أبي طالب عليه السلام. على أن
العلماء قد أجمعوا على أن جبرئيل قال يوم أحد: (يا محمد إن هذه لهي المواساة من
علي) قال: (لأنه مني وأنا منه).
فقال جبرئيل: (وأنا منكما يا رسول الله) (2) ثم قال: لا سيف إلا ذو
الفقار ولا فتى إلا علي، فكان كما مدح الله عز وجل به خليله عليه السلام إذ يقول:
(قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) (3) إنا نفتخر بقول جبرئيل أنه منا
فقال: أحسنت يا موسى! إرفع إلينا حوائجك.
فقلت له: إن أول حاجة لي أن تأذن لابن عمك أن يرجع إلى حرم جده
وإلى عياله.
فقال: ننظر إن شاء الله.
وروي أن المأمون قال لقومه: أتدرون من علمني التشيع؟
فقال القوم: لا والله ما نعلم ذلك.
قال: علمنيه الرشيد! قيل له:
وكيف ذلك، والرشيد يقتل أهل البيت؟!
قال: كان الرشيد يقتلهم على الملك، لأن الملك عقيم، ثم قال: إنه دخل
موسى بن جعفر عليهما السلام على الرشيد يوما فقام إليه، واستقبله وأجلسه في الصدر
وقعد بين يديه، وجرى بينهما أشياء، ثم قال موسى بن جعفر عليه السلام لأبي:

(1) آل عمران - 61.
(2) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 167.
(3) الأنبياء - 60.
165

يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قد فرض على الولاة عهده: أن ينعشوا فقراء هذه
الأمة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا إلى
العاني، وأنت أولى من يفعل ذلك.
فقال: أفعل يا أبا الحسن. ثم قام فقام الرشيد لقيامه، وقبل بين عينيه
ووجهه، ثم أقبل علي وعلى الأمين والمؤتمن فقال:
يا عبد الله! ويا محمد! ويا إبراهيم! امشوا بين يدي ابن عمكم وسيدكم،
خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه، وشيعوه إلى منزله، فأقبل إلي أبو الحسن
موسى بن جعفر عليه السلام سرا بيني وبينه فبشرني بالخلافة. وقال لي: (إذا ملكت
هذا الأمر فأحسن إلى ولدي).
ثم انصرفنا وكنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس قلت:
يا أمير المؤمنين ومن هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته، وقمت من مجلسك
إليه فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ
الركاب له؟
قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده.
فقلت: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟
فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام
حق، والله يا بني أنه لأحق بمقام رسول الله مني ومن الخلق جميعا، ووالله لو
نازعتني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، لأن الملك عقيم.
فلما أراد الرحيل من المدينة إلى مكة أمر بصرة سوداء فيها مائتا دينار،
ثم أقبل على الفضل فقال له:
إذهب إلى موسى بن جعفر وقل له: يقول لك أمير المؤمنين نحن في ضيقة
وسيأتيك برنا بعد هذا الوقت.
فقمت في وجهه فقلت: يا أمير المؤمنين! تعطي أبناء المهاجرين والأنصار
وسائر قريش وبني هاشم ومن لا تعرف حسبه ونسبه: خمسة آلاف دينار إلى
166

ما دونها. وتعطي موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار، وأخس عطية
أعطيتها أحدا من الناس؟
فقال: اسكت لا أم لك! فإني لو أعطيته هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه
أن يضرب وجهي غدا بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته
أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وإغنائهم.
وقيل: ولما دخل هارون الرشيد المدينة، توجه لزيارة النبي صلى الله عليه وآله ومعه
الناس، فقدم إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله فقال!
السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا بن العم، مفتخرا بذلك على غيره.
فتقدم أبو الحسن موسى بن جعفر إلى القبر فقال:
السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبة.
فتغير وجه الرشيد وتبين الغيظ فيه.
وروي: عن أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام أنه قال: لما سمعت
هذا البيت - وهو لمروان بن أبي حفصة -:
أنى يكون ولا يكون ولم يكن * لبني البنات وراثة الأعمام
دار في ذلك ليلتي، فنمت تلك الليلة فسمعت هاتفا في منامي يقول:
أنى يكون ولا يكون ولم يكن * للمشركين دعائم الإسلام
لبني البنات نصيبهم من جدهم * والعم متروك بغير سهام
ما للطليق وللتراث وإنما * سجد الطليق مخافة الصمصام (1)

(1) يريد بالطليق: العباس بن عبد المطلب عم الرسول، حيث أسر يوم بدر
أسره أبو يسر كعب بن عمرو الأنصاري، وكان رجلا صغير الجثة، وكان العباس رجلا
عظيما قويا، فقال النبي صلى الله عليه وآله لأبي اليسر كيف أسرته؟ قال: أعانني رجل ما رأيته
قبل ذلك ولا بعده فقال صلى الله عليه وآله: لقد أعانك عليه ملك كريم
ولما أمسى القوم والأسارى محبوسون في الوثاق، وفيهم العباس، بات رسول
الله (ص) تلك الليلة ساهرا. فقال له بعض أصحابه: ما يسهرك يا رسول الله (ص)؟
قال: سمعت أنين العباس فقام رجل من القوم فأرخى من وثاقه شيئا. فقال رسول
الله (ص) ما بالي لا أسمع أنين العباس؟ فقال رجل من القوم: أرخيت من وثاقه
شيئا قال: افعل ذلك بالأسارى كلهم راجع تاريخ الطبري ج 2 ص 288 والدرجات
الرفيعة للسيد علي خان المدني ص 80
167

وبقي ابن نثلة واقفا متلددا * فيه ويمنعه ذوو الأرحام
إن ابن فاطمة المنوه باسمه * حاز التراث سوى بني الأعمام
وسأل محمد بن الحسن أبا الحسن موسى عليه السلام - بمحضر من الرشيد وهم
بمكة - فقال له: أيجوز للمحرم إن يظلل عليه محمله؟
فقال له موسى عليه السلام: لا يجوز له ذلك مع الاختيار.
فقال له محمد بن الحسن: أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختارا.
فقال له: نعم.
فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك.
فقال له أبو الحسن موسى عليه السلام: أتعجب من سنة النبي وتستهزئ بها؟
إن رسول الله صلى الله عليه وآله كشف ظلاله في إحرامه، ومشى تحت الظلال وهو محرم. إن
أحكام الله تعالى يا محمد لا تقاس، فمن قاس بعضها على بعض فقد ضل عن السبيل.
فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جوابا.
وقد جرى لأبي يوسف مع أبي الحسن موسى صلوات الله عليه بمحضر
المهدي ما يقرب من ذلك. وهو: أن موسى عليه السلام سأل أبا يوسف عن مسألة ليس
فيها عنده شئ. فقال لأبي الحسن موسى عليه السلام: إني أريد أن أسألك عن شئ.
قال: هات.
فقال: ما تقول في التظليل للمحرم؟
قال: لا يصلح.
قال: فيضرب الخباء في الأرض فيدخل فيه؟
قال: نعم.
168

قال: فما فرق بين هذا وذلك.
قال أبو الحسن موسى عليه السلام: ما تقول في (الطامث) تقضي الصلاة؟
قال: لا.
قال: تقضي الصوم؟
قال: نعم.
قال: ولم؟
قال: إن هذا كذا جاء.
قال أبو الحسن عليه السلام: وكذلك هذا.
قال: المهدي لأبي يوسف: ما أراك صنعت شيئا!
قال: يا أمير المؤمنين رماني بحجة
وعن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال: قال رجل من خواص الشيعة
لموسى بن جعفر عليه السلام - وهو يرتعد بعد ما خلا به -:
يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله ما أخوفني أن يكون فلان بن فلان ينافقك في
إظهاره اعتقاد وصيتك وإمامتك.
فقال موسى عليه السلام: وكيف ذاك؟
قال: لأني حضرت معه اليوم في مجلس فلان وكان معه رجل من كبار أهل
بغداد، فقال له صاحب المجلس:
أنت تزعم: أن صاحبك موسى بن جعفر إمام دون هذا الخليفة القاعد
على سريره؟
قال له صاحبك هذا: ما أقول هذا، بل أزعم: أن موسى بن جعفر غير
إمام، وإن لم أكن أعتقد أنه غير إمام فعلي وعلى من لم يعتقد ذلك لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين.
فقال له صاحب المجلس: جزاك الله خيرا، ولعن من وشى بك إلي
فقال له موسى بن جعفر عليه السلام: ليس كما ظننت، ولكن صاحبك أفقه
169

منك. إنما قال: موسى غير إمام، أي أن الذي هو غير إمام فموسى غيره، فهو
إذا إمام، فإنما أثبت بقوله هذا إمامتي ونفى إمامة غيري (1) يا عبد الله متى
يزول عنك هذا الذي ظننته بأخيك هذا من النفاق؟ تب إلى الله. ففهم الرجل ما
قاله واغتم، ثم قال:
يا بن رسول الله ما لي مال فأرضيه به، ولكن قد وهبت له شطر عملي كله،
من تعبدي وصلاتي عليكم أهل البيت، ومن لعنتي لأعدائكم.
قال موسى عليه السلام: الآن خرجت من النار.
وروي أيضا عنه عليه السلام: أنه قال:
فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج
إليه، أشد على إبليس من ألف عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط، وهذا همه
مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه، لينقذهم من يد إبليس ومردته، ولذلك هو
أفضل عند الله من ألف عابد، وألف ألف عابد.
وروي أنه عليه السلام كان حسن الصوت، وحسن القراءة، وقال يوما من الأيام:
أن علي بن الحسين عليه السلام كان يقرء القرآن فربما مر به المار فصعق من حسن
صوته، وأن الإمام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس، قيل له:
ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يحمل من خلفه ما يطيقون.
احتجاج أبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع) في التوحيد والعدل وغيرهما
على المخالف والمؤالف والأجانب والأقارب.
دخل عليه رجل فقال له:
يا بن رسول الله ما الدليل على حدوث العالم؟

(1) توضيح ذلك: أنه أراد: أنا أزعم: أن إمامك هذا القاعد على سريره هو
إمام ضلال، وموسى بن جعفر عليه السلام هو إمام من غير هذا النوع.
170

فقال: إنك لم تكن ثم كنت، وقد علمت أنك لم تكون نفسك، ولا
كونك من هو مثلك.
وعن محمد بن عبد الله الخراساني (1) خادم الرضا عليه السلام قال: دخل رجل
من الزنادقة على الرضا عليه السلام وعنده جماعة.
فقال له أبو الحسن: أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون -
ألسنا وإياكم شرعا سواء، ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟
فسكت. فقال أبو الحسن: وإن لم يكن القول قولنا، وهو كما نقول،
ألستم قد هلكتم ونجونا.
قال الزنديق: رحمك الله فأوجدني كيف هو، وأين هو؟
قال: ويلك! إن الذي ذهبت إليه غلط، وهو أين الأين، وكان ولا أين،
وهو كيف الكيف، وكان ولا كيف، ولا يعرف بكيفوفية، ولا بأينونية، ولا يدرك
بحاسة، ولا يقاس بشئ.
قال الرجل: فإذن إنه لا شئ، إذ لم يدرك بحاسة من الحواس.
فقال أبو الحسن: ويلك! لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته
ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا، وأنه شئ بخلاف الأشياء.
قال الرجل: فأخبرني متى كان؟
قال أبو الحسن عليه السلام: أخبرني متى لم يكن، فأخبرك متى كان؟!
قال الرجل: فما الدليل عليه؟
قال أبو الحسن: أني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان
في العرض والطول، ودفع المكاره عنه، وجر المنفعة إليه، علمت أن لهذا البنيان
بانيا فأقررت به، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته. وإنشاء السحاب، وتصريف
الرياح، ومجرى الشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك من الآيات العجيبات

(1) محمد بن عبد الله الخراساني خادم لرضا عليه السلام: مجهول الحال لم يذكر
في كتب الرجال.
171

المتقنات، علمت أن لهذا مقدرا ومنشئا.
قال الرجل: فلم لا تدركه حاسة البصر؟
قال: للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار، منهم ومن
غيرهم، ثم هو أجل من أن يدركه بصر، أو يحيط به وهم، أو يضبطه عقل.
قال: فحده لي!
قال: لا حد له.
قال: ولم؟
قال: لأن كل محدود متناه، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا
احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود، ولا متزايد ولا متناقص، ولا
متجزي، ولا متوهم.
قال الرجل: فأخبرني عن قولكم: أنه لطيف، وسميع، وبصير، وعليم
وحكيم، أيكون السميع إلا بالأذن، والبصير إلا بالعين، واللطيف إلا بعمل اليدين
والحكيم إلا بالصنعة؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: إن اللطيف منا على حد إيجاد الصنعة، أو ما رأيت
أن الرجل اتخذ شيئا فيلطف في اتخاذه؟ فيقال: ما ألطف فلانا. فكيف لا يقال
للخالق الجليل: (لطيف) إذ خلق خلقا لطيفا وجليلا، وركب في الحيوان منه
أرواحها، وخلق كل جنس مباينا من جنسه في الصورة، ولا يشبه بعضه بعضا،
فكل به لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته.
ثم نظر إلى الأشجار وحملها أطايبها، المأكولة منها وغير المأكولة، فقلنا
عند ذلك أن خالقنا (لطيف) لا كلطف خلقه في صنعتهم، وقلنا أنه (سميع) لأنه لا يخفى
عليه أصوات خلقه، ما بين العرش إلى الثرى، من الذرة إلى ما أكبر منها، في
برها وبحرها، ولا يشتبه عليه لغاتها، فقلنا عند ذلك أنه سميع لا بأذن، وقلنا:
أنه (بصير) لا ببصر، لأنه يرى أثر الذرة السحماء في الليلة الظلماء على الصخرة
السوداء، ويرى دبيب النمل في الليلة الدجية، ويرى مضارها ومنافعها، أثر و
172

سفادها، وفراخها ونسلها، فقلنا عند ذلك: أنه (بصير) لا كبصر خلقه
قال: فما برح حتى أسلم. وفيه كلام غير هذا.
وروي عنه عليه السلام في خبر آخر: أنه قال:
إنما يسمى الله تعالى (بالعالم) لغير علم حادث، علم به الأشياء، واستعان
به على حفظ ما يستقبل من أمره، والرؤية فيما يخلق، وإنما سمي العالم من
الخلق: (عالما) لعلم حادث، إذ كان قبله جاهلا، وربما فارقهم العلم بالأشياء
فصار إلى الجهل وإنما سمي الله: (عالما) لأنه لا يجهل شيئا، فقد جمع الخالق
والمخلوق اسم العالم، واختلف المعنى، وهو الله تعالى (قائم).
وأما القائم فليس على معنى انتصاب وقيام على ساق في كبد، كما قامت
الأشياء، ولكنه أخبر أنه قائم يخبر أنه (حافظ) كقولك: (فلان القائم بأمرنا)
وهو عز وجل القائم على كل نفس بما كسبت، والقائم أيضا في كلام الناس:
(الباقي) والقائم أيضا: (الكافي) كقولك للرجل: (قم بأمر كذا) أي: اكفه.
والقائم منا قائم على ساق، فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى.
وأما (الخبير) فالذي لا يعزب عنه شئ ولا يفوته، وليس بالتجربة والاعتبار
بالأشياء فتفيده التجربة والاعتبار علما لولاهما لما علم، لأن من كان كذلك
كان جاهلا، والله تعالى لم يزل خبيرا بما يخلق، والخبير من الناس المستخبر،
فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.
وأما (الظاهر) فليس من أنه علا الأشياء بركوب فوقها، وقعود عليها،
وتسنم لذراها، ولكن ذلك لقهره وغلبته الأشياء وقدرته عليها كقول الرجل:
ظهرت على أعدائي، وأظهرني الله على خصمي، إذا أخبر على الفلج والظفر، فهكذا
ظهور الله على الأشياء.
ووجه آخر: أنه الظاهر لمن أراده لا يخفى عليه، لمكان الدليل والبرهان
على وجوده في كل ما دبره وصنعه مما يرى، فأي ظاهر أظهر وأوضح أمرا
من الله تبارك وتعالى، فإنك لا تعدم صنعته حيثما توجهت، وفيك من آثاره
173

ما يغنيك، والظاهر منا البارز بنفسه المعلوم بحده، فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى.
وأما (الباطن): فليس على معنى الاستبطان للأشياء بأن يغور فيها، ولكن
ذلك منه على استبطانه للأشياء علما وحفظا وتدبيرا، كقول القائل: بطنته بمعنى:
(خبرته) وعلمت مكنون سره، والباطن منا الغاير في الشئ المستتر فيه، فقد
جمعنا الاسم واختلف المعنى.
قال: وهكذا جميع الأسماء وإن كنا لم نسمها كلها.
وكان المأمون لما أراد أن يستخلف الرضا، جمع بني هاشم فقال: إني
أريد أن استعمل الرضا عليه السلام على هذا الأمر من بعدي.
فحسده بنو هاشم وقالوا: أتولي رجلا جاهلا، ليس له بصر بتدبير الخلافة؟
فابعث إليه يأتنا فترى من جهله ما تستدل به!
فبعث إليه فأتاه فقال له بنو هاشم: يا أبا الحسن إصعد المنبر وانصب لنا
علما نعبد الله عليه، فصعد المنبر فقعد مليا لا يتكلم مطرقا ثم انتفض انتفاضة فاستوى
قائما وحمد الله تعالى وأثنى عليه، وصلى على نبيه وأهل بيته، ثم قال:
أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفة الله توحيده، ونظام توحيده نفي
الصفات عنه، (1) بشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق، وشهادة كل
مخلوق أن له خالقا ليس بصفة ولا موصوف، وشهادة كل صفة وموصوف
بالاقتران، وشهادة الاقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع
من الحدث، (2) فليس الله عرف من عرف ذاته بالتشبيه، ولا إياه وحد من

(1) (أول عبادة الله) أي: أشرفها وأقدمها رتبة (معرفته) تعالى لأن الطاعة
والعبادة تأتي بعد المعرفة فهي متأخرة رتبة عنها ولا تقبل عبادة بدون المعرفة فهي
دونها في الشرف أيضا (وأصل معرفة الله توحيده) أي تنزيهه عن التركيب والشركة
(ونظام التوحيد) أي تمامه وكماله (نفي الصفات الزائدة عنه) فلا يتم التوحيد إلا بالقول
بأن صفاته تعالى عين ذاته
(2) ثم إنه عليه السلام شرع بإقامة الدليل على نفي الصفات الزائدة على الذات
فقال: (لشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق) وذلك أن الصفة لا قوام لها إلا بالموصوف فهي محتاجة إليه لا تنفك عنه. وبها كمال الموصوف فهو محتاج إليها.
والحاجة دليل الإمكان (وشهادة كل مخلوق أن له خالقا) غنيا بذاته (ليس بصفة)
حتى يفتقر إلى الموصوف ليقوم به ذاته (ولا موصوف) حتى يحتاج إلى الصفة لكي
يكمل بها ذاته (وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران) لما عرفت من حاجة بعضها
إلى الآخر وشهادة الاقتران بالحدث.. الخ توضيح ذلك: هو أن الصفة والموصوف أما
أن يكونا قديمين. أو يكون أحدهما قديما والآخر حادثا أو يكونا حادثين.
ولا رابع لهذا الحصر الثلاثي.
والأول باطل لما يلزم منه القول بتعدد القدماء وقد ثبت بطلانه.
والثاني يبطله الاقتران والحاجة والافتقار لما ألمحنا إليه آنفا وحينئذ يثبت القول
الثالث وهو المطلوب.
174

اكتنهه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا به صدق من نهاه، ولا صمد صمده من
أشار إليه، ولا إياه عنى من شبهه، ولا له تذلل من بعضه، ولا إياه أراد من توهمه (1)
كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، (2) بصنع الله يستدل
عليه، وبالعقول يعتقد معرفته، وبالفطرة تثبت حجته، (3) خلقة الله الخلق حجاب

(1) (فليس الله) الواجب الوجود الواحد الأحد (عرف من عرف بالتشبيه
ذاته) بل عرف ممكنا من مخلوقاته (ولا إياه وحد من اكتنهه) أي جعل له كنها
(ولا حقيقته أصاب من مثله) أي جعل لا: لا وصورة سواء كانت ذهنية أو خارجية
(ولا به صدق من نهاه) أي جعل له حدا ونهاية (ولا صمد صمده) أي قصد نحوه
(من أشار إليه) سواء بالإشارة الحسية أو الذهنية (ولا إياه عنى من شبهه) وإنما
عنى ممكنا من الممكنات، ومخلوقا من جملة المخلوقات (ولا له تذلل) أي تعبد (من
بعضه) أي جعل له أبعاضا وجزأه فهو إنما عبد جسما مخلوقا مركبا له أجزاء وأبعاض
(ولا إياه أراد من توهمه) أي: تصور له صورة ذهنية.
(2) (كل معروف بنفسه) أي: بكنه حقيقته (مصنوع) لما يلزمه من التركيب
(وكل قائم في سواه) لا يكون علة لاحتياجه إلى الغير فهو (معلول).
(3) (بصنع الله) وحكيم تدبيره (يستدل عليه) (وبالعقول تعتقد معرفته)
(وبالفطرة) التي هي بمعنى الابتداع أفي الله شك فاطر السماوات والأرض (تثبت حجته) -
ولعل في قوله عليه السلام بالفطرة إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وآله: (كل
مولود يولد على الفطرة إلا أن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فالعقول لو تركت
على فطرتها وأصل خلقتها لآمنت به
175

بينه وبينهم، (1) ومفارقته إياهم مباينة بينه وبينهم، وابتداؤه إياهم دليل على أن
لا ابتداء له، لعجز كل مبتدأ عن ابتداء غيره، وأدوه إياهم دليل على أن لا أداة
له، لشهادة الأدوات بفاقة المأدين، فأسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم وذاته
حقيقة، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه، وغيوره تحديد لما سواه، فقد جهل
الله من استوصفه، وقد تعداه من استمثله، وقد أخطاه من اكتنهه، (2) ومن
قال: (كيف) فقد شبهه، ومن قال: (لم) فقد علله، ومن قال: (متى) فقد
وقته، ومن قال: (فيم) فقد ضمنه، ومن قال: (إلى م) فقد نهاه، ومن قال:
(حتى م) فقد غياه ومن غياه فقد غاياه، ومن غاياه فقد جزاه، ومن جزاه فقد
وصفه، ومن وصفه فقد الحد فيه، ولا يتغير الله بتغير المخلوق، كما لا يتحدد بتحديد
المحدود، أحد لا بتأويل عدد، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلي لا باستهلال
رؤية، باطن لا بمزايلة، مباين لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم،
موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بجول فكرة، مدبر لا بحركة
مريد لا بهمامة، شاء لا بهمة، مدرك لا بمجسة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة

(1) (خلقة الله الخلق حجاب) حاجز (بينه) في كمله وغناه ووجوبه الذاتي
(وبينهم) في حاجتهم إليه ونقصهم وإمكانهم الذاتي (ومفارقته إياهم) في الصفات دليل
على (مباينة بينه وبينهم) في الذات. وفي بعض النسخ (ومباينته إياهم مفارقته أينيتهم)
أي: أن مفارقته الأينية التي هي من لوازم الأجسام دلت على مباينته إياهم في الذات.
أو أن مباينته إياهم في الذات دلت على مفارقته لهم فيما اختصوا به من الأينية فلا يقال
له: (أين هو) لأن ذاته تباين ذواتهم فلا يلازمها ما يلزم المكنات.
(2) مر مثل هذه الفقرات للإمام أمير المؤمنين عليه السلام في الجزء الأول من
هذا الكتاب ص 294 فليراجع.
176

لا تصحبه الأوقات، ولا تضمنه الأماكن، ولا تأخذه السنات، ولا تحده الصفات،
ولا تقيده الأدوات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره
المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادته
بين الأشياء عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بن الأمور عرف أن لا قرين له، ضاد
النور بالظلمة، والجلاية بالبهمة، والجسو بالبلل، والصرد بالحرور، مؤلف بين
متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها
ذلك قوله عز وجل: (ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) (ففرق)
بين قبل وبعد، ليعلم أن لا قبل له ولا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها
دالة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفاوتها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب
بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيرها، له معنى الربوبية إذ
لا مربوب، وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه، ومعنى العالم ولا معلوم، ومعنى الخالق
ولا مخلوق، وتأويل السمع ولا مسموع، ليس منذ خلق استحق معنى اسم الخالق
ولا باحداثه البرايا استفاد معنى البارئية، كيف ولا يغيبه: (مذ) ولا تدنيه:
(قد) ولا يحجبه: (لعل) ولا يوقته: (متى) ولا يشتمله: (حين) ولا يقارنه:
(مع) إنما تحد الأدوات أنفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها، وفي الأشياء توجد
فعالها، منعتها (منذ) القدمة، وحمتها (قد) الأزلية، وجنبتها لولا (التكملة)
افترقت فدلت على مفرقها، وتباينت فأعزت على مباينها، بها تجلى صانعها للعقول
وبها احتجب عن الرؤية، وإليها تحاكم الأوهام، وفيها أثبت غيره، ومنها أنبط
الدليل، وبها عرف الاقرار، وبالعقول يعتقد التصديق بالله، وبالإقرار يكمل
الإيمان به، لا ديانة إلا بعد معرفته، ولا معرفة إلا بالإخلاص، ولا إخلاص مع
التشبيه، ولا نفي مع إثبات الصفة للتثنية، وكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه
وكل ما يمكن فيه يمتنع في صانعه ولا يجري عليه الحركة ولا السكون، وكيف
يجري عليه ما هو أجراه، أو يعود فيه ما هو ابتداه، إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزى
كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولما كان للباري معنى غير المبروء، ولو وجد له
177

وراء وجد له أمام، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، وكيف يستحق الأزل من
لا يمتنع من الحدث، أم كيف ينشئ الأشياء من لا يمتنع من الانشاء، إذا لقامت
عليه آية المصنوع، ولتحول دليلا بعد ما كان مدلولا عليه، ليس في محال القول
حجة، ولا في المسألة عنه جواب، ولا في معناه لله تعظيم، ولا في إبانته عن الحق
ضيم إلا بامتناع الأزلي أن يثنى، ولما بدئ له أن يبدئ لا إله إلا الله العلي
العظيم، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا، وخسروا خسرانا مبينا، وصلى
الله على محمد وآله الطاهرين.
وروي عن الحسن بن محمد النوفلي (1): أنه كان يقول: قدم سليمان المروزي
متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله، ثم قال له: إن ابن عمي علي بن موسى
الرضا قدم علي من الحجاز - يحب الكلام - وأصحابه، فعليك أن تصير إلينا يوم
التروية لمناظرته.
فقال سليمان: يا أمير المؤمنين أني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة
من بني هاشم، فينتقص عند القوم إذا كلمني ولا يجوز الاستقصاء عليه.
قال المأمون: إنما وجهت إليك لمعرفتي بقوتك، وليس مرادي إلا أن تقطعه
عن حجة واحدة فقط.
فقال سليمان: حسبك يا أمير المؤمنين! إجمع بيني وبينه، وخلني وإياه.
فوجه المأمون إلى الرضا عليه السلام، فقال له: إنه قدم علينا رجل من أهل
المرو، وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام، فإن خف عليك أن تتجشم المصير
إلينا فعلت.
فنهض عليه السلام للوضوء ثم حضر مجلس المأمون، وجرى بينه وبين سليمان
المروزي كلام في البداء بمعنى الظهور، لتغير المصلحة، واستشهد عليه السلام بآي كثيرة

(1) قال العلامة الحلي رحمه الله في القسم الثاني من الخلاصة ص 213: (الحسن
ابن محمد بن سهل النوفلي ضعيف).
178

من القرآن على صحة ذلك، مثل قول الله: (يبدئ الخلق ثم يعيده) (1) و (يزيد
في الخلق ما يشاء) (2) و (يمحو الله ما يشاء ويثبت) (3) و (ما يعمر من معمر
ولا ينقص من عمره) (4) و (آخرون مرجون لأمر الله) (5) وأمثال ذلك.
فقال سليمان: يا أمير المؤمنين لا أنكر بعد يومي هذا البداء، ولا أكذب
به إن شاء الله (6).
فقال المأمون: يا سليمان اسأل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن

(1) الروم - 11.
(2) فاطر - 1.
(3) الرعد - 41.
(4) فاطر - 11.
(5) التوبة - 107.
(6) عقيدتنا نحن الإمامية في البداء تتلخص فيما يلي:
لقد ثبت من الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت سلام الله عليهم أن الله سبحانه
وتعالى خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات:
الأول - اللوح المحفوظ:
وهو اللوح المطابق لعلمه تعالى لا يحدث فيه أي تبدل أو تغيير.
للثاني - لوح المحو والإثبات:
وهو الذي يتغير ويتبدل ما فيه حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية قبل وقوعه
وتحققه في الخارج.
وهذا اللوح - أعني - لوح المحو والإثبات تتطلع عليه الرسل والأنبياء
والأوصياء والملائكة، وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: أن لله
علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته
وأنبياءه ورسله فنحن نعلمه.
ومعنى البداء: ظهور الشئ بعد خفائه. وهو في عقيدة الإمامية: ظهور الشئ
من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم فقولنا: (بدا لله) معناه بدا لله شأن أو
حكم وليس معناه ظهر له ما خفى عليه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ورد عن الإمام
الصادق عليه السلام أنه قال: أن الله لم يبد له من جهل، وقال عليه السلام: ما بدا لله
في شئ إلا كان في علمه قبل أن يبدو له.
179

الاستماع والإنصاف!
قال سليمان: يا سيدي ما تقول فيمن جعل الإرادة اسما وصفة، مثل حي
وسميع وبصير وقدير؟
قال الرضا عليه السلام: إنما قلتم حدثت الأشياء واختلفت لأنه شاء وأراد، ولم تقولوا:
(حدثت واختلفت) لأنه سميع بصير، فهذا دليل على أنها ليست مثل سميع وبصير
ولا قدير.
قال سليمان: فإنه لم يزل مريدا؟
قال: يا سليمان فإرادته غيره؟
قال: نعم.
قال: قد أثبت معه شيئا لم يزل!
قال سليمان: ما أثبت؟
قال الرضا عليه السلام: أهي محدثة؟
قال سليمان: لا، ما هي محدثة! فأعاد عليه المسألة فقال: هي محدثة
يا سليمان؟ فإن الشئ إذا لم يكن أزليا كان محدثا، وإذا لم يكن محدثا كان أزليا.
قال سليمان: إرادته منه كما أن سمعه وبصره وعلمه منه.
قال الرضا عليه السلام: فإرادته نفسه؟
قال: لا.
قال: فليس المريد مثل السميع والبصير.
قال سليمان: إنما إرادته كما سمع نفسه، وأبصر نفسه وعلم نفسه.
قال الرضا عليه السلام: ما معنى أراد نفسه، أراد أن يكون شيئا، أو أراد أن
يكون حيا، أو سميعا، أو بصيرا أو قديرا؟
قال: نعم.
قال الرضا عليه السلام: أفبإرادته كان ذلك؟
قال سليمان: نعم.
180

قال الرضا عليه السلام: فليس لقولك أراد أن يكون حيا سميعا بصيرا معنى،
إذ لم يكن ذلك بإرادته.
قال سليمان: بلى قد كان ذلك بإرادته، فضحك المأمون ومن حوله،
وضحك الرضا عليه السلام، ثم قال لهم: ارفقوا بمتكلم خراسان!
فقال يا سليمان: فقد حال عندكم عن حالة وتغير عنها، وهذا مما لا يوصف
الله عز وجل به، فانقطع.
ثم قال الرضا عليه السلام: يا سليمان أسألك عن مسألة؟.
قال: سل جعلت فداك!
قال: أخبرني عنك وعن أصحابك تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون،
أو بما لا تفقهون وتعرفون؟
فقال: بل بما نفقهه ونعلم.
قال الرضا عليه السلام: فالذي يعلم الناس أن المريد غير الإرادة، وأن المريد
قبل الإرادة، وأن الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم: أن الإرادة والمريد
شئ واحد.
قال: جعلت فداك! ليس ذلك منه على ما يعرف الناس، ولا على ما يفقهون.
قال: فأراكم ادعيتم على ذلك بلا معرفة، وقلتم: الإرادة كالسمع والبصر
إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف ولا يعقل. فلم يحر جوابا.
ثم قال الرضا عليه السلام: هل يعلم الله تعالى جميع ما في الجنة والنار؟
قال سليمان: نعم.
قال: فيكون ما علم الله عز وجل أنه يكون من ذلك؟
قال: نعم.
قال: فإذا كان حتى لا يبقى منه شئ إلا كان أيزيدهم أو يطويه عنهم؟
قال سليمان: بل يزيدهم.
قال: فأراه في قولك قد زادهم ما لم يكن في علمه أنه يكون.
181

قال: جعلت فداك! فالمزيد لا غاية له.
قال: فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيها إذا لم يعرف غاية ذلك،
وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون، تعالى
الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال سليمان: إنما قلت لا يعلمه لأنه لا غاية لهذا لأن الله عز وجل وصفهما
بالخلود، وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعا.
قال الرضا عليه السلام: ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم، لأنه قد يعلم
ذلك ثم يزيدهم، ثم لا يقطعه عنهم، ولذلك قال عز وجل في كتابه: (كلما
نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) (1) وقال لأهل الجنة:
(عطاء غير مجذوذ) (2) وقال عز وجل: (وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة) (3)
فهو عز وجل يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة، أرأيت ما أكل أهل الجنة وما شربوا
أليس يخلف مكانه؟
قال: بلى.
قال: أفيكون يقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه؟
قال سليمان: لا.
قال: فكذلك كلما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم.
قال سليمان: بلى. يقطعه عنهم ولا يزيدهم.
قال الرضا عليه السلام: إذا يبيد ما فيها، وهذا يا سليمان إبطال الخلود، وخلاف
الكتاب، لأن الله عز وجل يقول: (لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد) (4) ويقول
عز وجل: (عطاء غير مجذوذ) (5) ويقول عز وجل: (وما هم عنها بمخرجين) (6)

(1) النساء - 55.
(2) هود - 109.
(3) الواقعة - 33
(4) ق - 35.
(5) هود - 109.
(6) الحجر - 48.
182

وبقول عز وجل: (خالدين فيها) (1) ويقول عز وجل: (وفاكهة كثيرة لا مقطوعة
ولا ممنوعة) (2) فلم يحر جوابا. ثم قال الرضا عليه السلام:
ألا تخبرني عن الإرادة فعل أم هي غير فعل؟
قال: بل هي فعل.
قال: فهي محدثة لأن الفعل كله محدث!
قال: ليست بفعل.
قال: فمعه غيره لم يزل؟
قال سليمان: إن الإرادة هي الأشياء.
قال: يا سليمان هذا الذي عبتموه على ضرار وأصحابه من قولهم: (أن
كل ما خلق الله عز وجل في سماء أو أرض أو بحر أو بر من: كلب أو خنزير أو قرد أو
إنسان أو دابة إرادة الله، وأن إرادة الله تحيى وتموت، وتذهب، وتأكل وتشرب، وتنكح،
وتلد وتظلم، وتفعل الفواحش، وتكفر، وتشرك، فتبرأ منها وتعاديها وهذا حدها.
قال سليمان: إنها كالسمع والبصر والعلم
قال الرضا عليه السلام: قد رجعت إلى هذا ثانية! فأخبرني عن السمع والعلم أمصنوع؟
قال سليمان. لا.
قال الرضا عليه السلام: فكيف نفيتموه؟ فمرة قلتم لم يرد، ومرة قلتم أراد،
وليس بمفعول له.
قال سليمان: إنما ذلك كقولنا مرة علم ومرة لم يعلم.
قال الرضا عليه السلام: ليس ذلك سواء لأن نفي المعلوم ليس ينفي العلم، ونفي
المراد نفي الإرادة أن تكون، لأن الشئ إذا لم يرد لم تكن إرادة، وقد يكون
العلم ثابتا وإن لم يكن المعلوم، بمنزلة البصر فقد يكون الإنسان بصيرا وإن
لم يكن المبصر، ويكون العلم ثابتا وإن لم يكن المعلوم.
فلا يزال سليمان يردد المسألة وينقطع فيها ويستأنف، وينكر ما كان أقر

(1) البقرة - 162.
(2) الواقعة - 33.
183

به، ويقر بما أنكر، وينتقل من شئ إلى شئ، والرضا صلوات الله عليه ينقض
عليه ذلك، حتى طال الكلام بينهما، وظهر لكل أحد انقطاعه مرات كثيرة،
تركنا إيراد ذلك مخافة التطويل، فآل الأمر إلى أن قال سليمان:
إن الإرادة هي القدرة.
قال الرضا عليه السلام: وهو عز وجل يقدر على ما لا يريد أبد الأبدين من
ذلك لأنه قال تبارك وتعالى: (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) (1) فلو
كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته.
فانقطع سليمان وترك الكلام عند هذا الانقطاع، ثم تفرق القوم.
وعن صفوان بن يحيى (2) قال: سألني أبو قرة المحدث صاحب شبرمة أن أدخله

(1) الإسراء - 86.
(2) صفوان بن يحيى: أبو محمد البجلي مولى بني بجيلة بياع السابري كوفي
قال الشيخ الطوسي (ره): أنه أوثق أهل زمانه عند أصحاب الحديث وغيرهم.
وكان يصلي كل يوم خمسين ومائة ركعة، ويصوم في السنة ثلاثة أشهر، ويخرج زكاة
ماله في السنة ثلاث مرات. وذلك أنه اشترك هو وعبد الله بن جندب وعلي بن النعمان
في بيت الله الحرام وتعاقدوا جميعا: أن من مات منهم يصلي من بقي صلاته ويصوم
عنه ويزكي عنه ما دام حيا. فمات صاحباه وبقي صفوان بعدهما، وكان يفي لهما بذلك
فيصلي عنهما ويحج عنهما ويصوم عنهما ويزكي عنهما، وكل شئ من البر والإحسان
يفعله لنفسه كذلك يفعله عن صاحبيه، وكان وكيل الرضا عليه السلام.
وقال أبو عمرو الكشي: أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن صفوان بن
يحيى بياع السابري والإقرار له بالفقه في آخرين يأتي ذكرهم في مواضعهم إن شاء الله تعالى.
وروي عن محمد بن قولويه عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن معمر بن
خلاد قال: قال أبو الحسن عليه السلام: ما ذئبان ضاربان في غنم قد غاب عنها رعاؤها
بأضر في دين المسلم من حب الرياسة، ثم قال عليه السلام ولكن صفوان لا يحب الرياسة.
وكان له عند لرضا عليه السلام منزلة شريفة، وتوكل للرضا عليه السلام وأبي
جعفر عليه السلام، وسلم مذهبه من الوقف، وكانت له منزلة من الزهد والعبادة.
القسم الأول من خلاصة العلامة ص 88.
184

على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فاستأذنه فأذن له، فدخل فسأله عن أشياء من الحلال
والحرام، والفرائض والأحكام، حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال له:
أخبرني جعلني الله فداك عن كلام الله لموسى؟
فقال: الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية.
فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان!
فقال أبو الحسن: سبحان الله عما تقول، ومعاذ الله أن يشبه خلقه، أو يتكلم
بمثل ما هم به متكلمون، ولكنه تبارك وتعالى ليس كمثله شئ، ولا كمثله قائل
ولا فاعل.
قال: كيف ذلك؟
قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق. ولا يلفظ بشق
فم ولسان، ولكن يقول له: (كن) فكان بمشيته، ما خاطب به موسى عليه السلام
من الأمر والنهي من غير تردد في نفس.
فقال أبو قرة: فما تقول في الكتب؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وكل كتاب
أنزل كان كلام الله، أنزله للعالمين نورا وهدى، وهي كلها محدثة، وهي غير الله،
حيث يقول: (ويحدث لهم ذكرا) (1) وقال: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم إلا استمعوه
وهم يلعبون) (2) والله أحدث الكتب كلها الذي أنزلها.
فقال أبو قرة: فهل تفنى؟
فقال أبو الحسن: أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فان، وما سوى الله
فعل الله، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان فعل الله، ألم تسمع الناس يقولون:
(رب القرآن) وأن القرآن يقول يوم القيامة: (يا رب هذا فلان - وهو أعرف
به منه - قد أظمأت نهاره، وأسهرت ليله، فشفعني فيه) وكذلك التوراة والإنجيل
والزبور، وهي كلها محدثة، مربوبة، أحدثها من ليس كمثله شئ، هدى لقوم

(1) طه - 113.
(2) البقرة - 21.
185

يعقلون، فمن زعم أنهن لم يزلن معه فقد أظهر: أن الله ليس بأول قديم، ولا واحد،
وأن الكلام لم يزل معه، وليس له بدء، وليس بآله.
قال أبو قرة: وإنا روينا: أن الكتب كلها تجئ يوم القيامة والناس في صعيد
واحد، صفوف قيام لرب العالمين ينظرون حتى ترجع فيه، لأنها منه وهي جزء
منه، فإليه تصير.
قال أبو الحسن عليه السلام: فهكذا قالت النصارى في المسيح أنه روحه، جزء منه
ويرجع فيه، وكذلك قالت المجوس: في النار والشمس أنهما جزء منه ترجع فيه،
تعالى ربنا أن يكون متجزيا، أو مختلفا، وإنما يختلف ويأتلف المتجزي، لأن
كل متجزي متوهم، والكثرة والقلة مخلوقة دالة على خالق خلقها.
فقال أبو قرة: فإنا روينا: أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسم
لموسى عليه السلام الكلام، ولمحمد صلى الله عليه وآله الرؤية.
فقال أبو الحسن عليه السلام: فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين الجن والإنس: أنه
لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علما، وليس كمثله شئ. أليس محمد صلى الله عليه وآله؟
قال: بلى.
قال أبو الحسن: فكيف يجئ رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم: أنه جاء
من عند الله، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله، ويقول: أنه لا تدركه الأبصار،
ولا يحيطون به علما، وليس كمثله شئ، ثم يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت
به علما، وهو على صورة البشر، أما تستحيون؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه
بهذا: أن يكون أتى عن الله بأمر ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.
فقال أبو قرة: إنه يقول: (ولقد رآه نزلة أخرى) (1).
فقال أبو الحسن عليه السلام: إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال:
(ما كذب الفؤاد ما رأى) (2) يقول: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وآله ما رأت عيناه
ثم أخبر بما رأت عيناه فقال: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) (3) فآيات الله

(1) النجم - 13، 11، 18.
(2) النجم - 13، 11، 18.
(3) النجم - 13، 11، 18.
186

غير الله، وقال: (ولا يحيطون به علما) (1) فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم
ووقعت المعرفة.
فقال أبو قرة: فتكذب بالرواية؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذبتها،
وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شئ.
وسأله عن قول الله: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام
إلى المسجد الأقصى) (2) فقال أبو الحسن عليه السلام: قد أخبر الله تعالى: أنه أسرى
به، ثم أخبر: أنه لم أسري به، فقال: (لنريه من آياتنا) (3) فآيات الله غير
الله، فقد أعذر، وبين لم فعل به ذلك، وما رآه وقال: (فبأي حديث بعد الله
وآياته تؤمنون) (4) فأخبر أنه غير الله.
فقال أبو قرة: أين الله؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: الأين مكان، وهذه مسألة شاهد عن غايب،
فالله تعالى ليس بغائب، ولا يقدمه قادم، وهو بكل مكان، موجود، مدبر
صانع، حافظ، ممسك السماوات والأرض.
فقال أبو قرة: أليس هو فوق السماء دون ما سواها؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: هو الله في السماوات وفي الأرض، وهو الذي
في السماء إله وفي الأرض إله، وهو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، وهو
معكم أينما كنتم، وهو الذي استوى إلى السماء وهي دخان، وهو الذي استوى
إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وهو الذي استوى على العرش، قد كان ولا خلق
وهو كما كان إذ لا خلق، لم ينتقل مع المنتقلين.
فقال أبو قرة: فما بالكم إذ دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء؟
فقال أبو الحسن عليه السلام: إن الله استعبد خلقه بضروب من العبادة، ولله مفازع

(1) طه - 11
(2) الإسراء - 1
(3) الإسراء - 1
(4) الجاثية - 5
187

يفزعون إليه، ومستعبد، فاستعبد عباده بالقول، والعلم، والعمل، والتوجه، ونحو
ذلك، استعبدهم بتوجيه الصلاة إلى الكعبة، ووجه إليها الحج والعمرة، واستعبد
خلقه عند الدعاء والطلب والتضرع، ببسط الأيدي ورفعها إلى السماء لحال الاستكانة
وعلامة العبودية والتذلل له.
قال أبو قرة: فمن أقرب إلى الله الملائكة أو أهل الأرض؟
قال أبو الحسن عليه السلام: إن كنت تقول بالشبر والذراع، فإن الأشياء كلها
باب واحد هي فعله لا يشتغل ببعضها عن بعض، يدبر أعلى الخلق من حيث يدبر
أسفله، ويدبر أوله من حيث يدبر آخره، من غير عناء، ولا كلفة، ولا مؤنة،
ولا مشاورة، ولا نصب، وإن كنت تقول من أقرب إليه في الوسيلة، فأطوعهم له
وأنتم تروون أن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، ورويتم أن أربعة أملاك
التقوا أحدهم من أعلى الخلق، واحدهم من أسفل الخلق، واحدهم من شرق
الخلق، وأحدهم من غرب الخلق فسأل بعضهم بعضا فكلهم قال: (من عند الله) أرسلني
بكذا وكذا، ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل.
فقال أبو قرة: أتقر أن الله محمول؟
فقال أبو الحسن: كل محمول مفعول، ومضاف إلى غيره محتاج، فالمحمول
اسم نقص في اللفظ، والحامل فاعل وهو فاعل وهو في اللفظ ممدوح، وكذلك قول القائل:
فوق، وتحت، وأعلى، وأسفل، وقد قال الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه
بها) (1) ولم يقل في شئ من كتبه أنه محمول، بل هو الحامل في البر والبحر،
والممسك للسماوات والأرض، والمحمول ما سوى الله، ولم نسمع أحدا آمن بالله
وعظمه قط قال في دعائه: (يا محمول).
قال أبو قرة: أفتكذب بالرواية: أن الله إذا غضب يعرف غضبه الملائكة
الذين يحملون العرش، يجدون ثقله في كواهلهم فيخرون سجدا، فإذا ذهب
الغضب خف فرجعوا إلى مواقفهم؟

(1) الأعراف - 179
188

فقال أبو الحسن عليه السلام: أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس إلى
يومك هذا والى يوم القيامة فهو غضبان على إبليس وأوليائه أو عنهم راض؟
فقال: نعم. هو غضبان عليه.
قال: فمتى رضي فخف وهو في صفتك لم يزل غضبانا عليه وعلى أتباعه؟
ثم قال: ويحك كيف تجترئ أن تصف ربك بالتغير من حال إلى حال، وأنه
يجري عليه ما يجري على المخلوقين؟! سبحانه لم يزل مع الزائلين ولم يتغير
مع المتغيرين.
قال صفوان: فتحير أبو قرة ولم يحر جوابا حتى قام وخرج.
عن عبد السلام بن صالح الهروي (1) قال: قلت لعلي بن موسى الرضا عليه السلام:
يا بن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث: أن المؤمنين يزورون
ربهم من منازلهم في الجنة؟

(1) قال الشيخ الطوسي في أصحاب الرضا عليه السلام من رجاله ص 380:
عبد السلام بن صالح الهروي أبو الصلت عامي وص 396 منه أبو الصلت الخراساني
الهروي عامي روى عنه بكر بن صالح. وقال العلامة في القسم الأول من الخلاصة
ص 117: عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي روى عن الرضا عليه السلام ثقة
صحيح الحديث. وقال الشيخ عباس القمي في ج 1 من الكنى والألقاب ص 96:
(عبد السلام بن صالح الهروي روى عن الرضا عليه السلام ثقة صحيح الحديث قاله
جش والعلامة، له كتاب: (وفاة الرضا (ع)) وكان (ره) كما يشعر به بعض الكلمات
مخابطا للعامة وراويا لأخبارهم فلذلك التبس أمره على بعض المشايخ فذكر أنه عامي.
قال الأستاذ الأكبر في التعليقة بعد نقل كلام الشهيد الثاني في تشيعه لا يخفى أن الأمر
كذلك فإن الأخبار الصادرة عنه في العيون والأمالي وغيرهما الناصة على تشيعه بل وكونه
من خواص الشيعة أكثر من أن تحصى وعلماء العامة ذكروا أنه شيعي قال الذهبي في ميزان
الاعتدال: عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي رجل صالح إلا أنه شيعي ونقل
عن الجعفي أنه رافضي خبيث وقال الدارقطني أنه رافضي متهم وقال ابن الجوزي أنه
خادم الرضا شيعي مع صلاحه وعن الأنساب للسمعاني قال أبو حاتم: هو رأس مذهب
الرافضة. إلى أن قال: أقول: الروايات الدالة على تشيعه كثيرة وقد أشرت إلى نبذ منها في كساب سفينة البحار وروى الشيخ الطوسي (ره) عنه في الشكر ما ينبغي. أن
يكتب بالتبر) توفي سنة 236 ه‍
189

فقال عليه السلام: يا أبا الصلت إن الله تبارك وتعالى فضل نبيه محمدا صلى الله عليه وآله على جميع
خلقه، من النبيين والملائكة، وجعل طاعته طاعته، ومبايعته مبايعته، وزيارته
في الدنيا والآخرة زيارته، فقال عز وجل: (من يطع الرسول فقط أطاع الله) (1)
وقال: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) (2) وقال
النبي صلى الله عليه وآله: (من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله) ودرجة النبي صلى الله عليه وآله
في الجنة أرفع الدرجات، فمن زاره في درجته في الجنة من منزلة فقد زار
الله تبارك وتعالي.
قال: قلت: يا بن رسول الله فما معنى الخبر الذي رووه: أن ثواب لا إله
إلا الله النظر إلى وجه الله؟
فقال عليه السلام: يا أبا الصلت فمن وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن
وجه الله أنبياءه ورسله وحججه عليهم صلوات الله، هم الذين بهم يتوجه إلى الله عز
وجل وإلى دينه ومعرفته، فقال الله عز وجل: (كل من عليها فان، ويبقى وجه
ربك ذي الجلال والإكرام) (3) وقال الله عز وجل: (كل شئ هالك إلا وجهه) (4)
فالنظر إلى أنبياء الله ورسله وحججه عليهم السلام في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين، وقد
قال النبي صلى الله عليه وآله: (من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة) (5)
وقال صلى الله عليه وآله: (أن فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني) (6) يا أبا الصلت إن الله
تبارك وتعالى لا يوصف بمكان، ولا يدرك بالأبصار والأوهام.

(1) النساء - 79
(2) الفتح - 10
(3) الرحمن - 27
(4) القصص - 88
(5) راجع ذخائر العقبى ص 2 وينابيع المودة ج 1 ص 305
(6) راجع نفس المصدر السابق.
190

قال: فقلت له: يا بن رسول الله فأخبرني عن الجنة والنار: أهما
اليوم مخلوقان؟
قال: نعم. وأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد دخل الجنة ورأى النار لما عرج به إلى السماء.
قال: فقلت له: إن قوما يقولون: أنهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين؟
فقال: ما أولئك منا ولا نحن منهم، من أنكر خلق الجنة والنار فقد كذب
النبي صلى الله عليه وآله وكذبنا، وليس من ولايتنا على شئ، ويخلد في نار جهنم. قال
الله عز وجل: (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم
آن) (1) وقال النبي صلى الله عليه وآله: (لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل (ع)
فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته، فتحول ذلك نطفة في صلبي، فلما هبطت
إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة عليها السلام، ففاطمة حوراء إنسية، فكلما
اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة) (2).
وقال الرضا عليه السلام: في قول الله عز وجل: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها
ناظرة) (3) قال: يعني - مشرقة - تنظر ثواب ربها.
وقال عليه السلام: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (قال الله جل جلاله: ما آمن بي من

(1) الرحمن - 43
(2) في ينابيع المودة ص 197 عن عايشة قالت: قلت: يا رسول الله ما لك إذا
جعلت لسانك في فيها كأنك تريد أن تلعقها عسلا؟ قال: لما أسري بي إلى السماء
أدخلني جبرائيل الجنة فناولني تفاحة فأكلتها، فصارت نطفة في ظهري، فلما نزلت من
السماء واقعت خديجة ففاطمة من تلك النطفة فكلما اشتقت إلى تلك التفاحة قبلتها ثم
قال: أخرجه أبو سعد في شرف النبوة وفيه أيضا عن ابن عباس كان النبي صلى الله
عليه وآله وسلم يكثر القبلة لفاطمة، فقالت له: إنك تكثر تقبيل فاطمة؟: فقال:
إن جبرائيل أدخلني الجنة ليلة أسري بي إلى السماء فأطعمني من جميع ثمارها، فصارت
ماء في صلبي، فحملت خديجة بفاطمة، فإذا اشتقت إلى تلك الثمار، قبلت فاطمة فأصبت
من تقبيلها رائحة جميع تلك الثمار التي أكلتها ثم قال: أخرجه أبو الفضل بن خيرون.
(2) القيامة - 23
191

فسر برأيه كلامي، وما عرفني من شبهني بخلقي، وما على ديني من استعمل القياس
في ديني) وقال: (من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم)
ثم قال: إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن، ومحكما كمحكم القرآن،
فردوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا.
وقال: من شبه الله بخلقه فهو مشرك، ومن نسب إليه ما نهى عنه فهو كافر.
وعن الحسين بن خالد (1) قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: لم يزل الله عز
وجل عليما، قادرا، حيا، قديما، سميعا، بصيرا.
فقلت: يا بن رسول الله إن قوما يقولون: لم يزل عالما بعلم، وقادرا بقدرة
وحيا بحياة، وقديما بقدم، وسميعا بسمع، وبصيرا ببصر.
فقال عليه السلام: من قال ذلك ودان به فقد اتخذ مع الله آلهة أخرى، وليس
من ولايتنا على شئ ثم قال عليه السلام: لم يزل الله عز وجل عليما، قادرا، حيا، قديما
سميعا، بصيرا - لذاته - تعالى عما يقول المشركون والمشبهون علوا كبيرا.
وعن الحسين بن خالد قال: قلت للرضا عليه السلام: يا بن رسول الله إن قوما
يقولون: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (إن الله خلق آدم على صورته).
فقال: قاتلهم الله! لقد حذفوا أول الحديث، إن رسول الله مر برجلين
يتسابان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: (قبح الله وجهك ووجه من يشبهك)
فقال له صلى الله عليه وآله: (يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك! فإن الله عز وجل خلق آدم
على صورته).
وعن إبراهيم بن أبي محمود (2) قال: قلت للرضا عليه السلام: يا بن رسول الله

(1) من أصحاب الكاظم والرضا عليهما السلام ذكره الشيخ في رجاله صفحة
347 و 373.
(2) إبراهيم بن أبي محمود: ذكره الشيخ في أصحاب الكاظم عليه السلام
ص 343 وقال: له مسائل وفي أصحاب الرضا عليه السلام ص 367 فقال: خراساني
ثقة مولى. وقال العلامة في الخلاصة ص 3: روى عن الرضا (ع) ثقة أعتمد على روايته.
192

ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله: أن الله تبارك وتعالى
ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا؟
فقال عليه السلام: لعن الله المحرفين الكلم عن مواضعه، والله ما قال صلى الله عليه وآله كذلك
إنما قال صلى الله عليه وآله: (أن الله تبارك وتعالى ينزل ملكا إلى السماء كل ليلة في الثلث
الأخير، وليلة الجمعة في أول الليل. فيأمره فينادي أهل من سائل فاعطيه؟ هل
من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فاغفر له؟ يا طالب الخير فأقبل، يا طالب
الشر أقصر، فلا يزال ينادي بهذا حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محله
من ملكوت السماء) حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله.
وعن محمد بن سنان قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام: هل كان الله عارفا
بنفسه قبل أن يخلق الخلق؟
قال: نعم.
قلت: يراها ويسمعها؟
قال: ما كان محتاجا إلى ذلك لأنه لم يكن يسألها ولا يطلب منها شيئا، هو
نفسه، ونفسه هو، قدرته نافذة، فليس بمحتاج إلى أن يسمي نفسه، ولكنه اختار
أسماء لغيره يدعوه بها، لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف، فأول ما اختار نفسه
(العلي العظيم) أعلا الأشياء كلها، فمعناه: (الله) واسمه: (العلي العظيم) هو
أول أسمائه لأنه علا كل شئ.
وقال عليه السلام في قوله: (يوم يكشف عن ساق) (1) فساق حجاب من نور
يكشف فيقع المؤمنون سجدا، وتدمج أصلاب المنافقين، فلا يستطيعون السجود.
وسئل عن قوله عز وجل: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) (2)
فقال: إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان يحل فيه فيحجب عن عباده، ولكنه
يعني: عن ثواب ربهم محجوبون.
وسئل عن قوله عز وجل: (وجاء ربك والملك صفا صفا) (3) فقال: إن

(1) القلم - 42.
(2) المطففين - 15.
(3) الفجر - 22.
193

الله لا يوصف بالمجئ والذهاب والانتقال، إنما يعني بذلك: وجاء أمر ربك.
وسئل عن قوله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ضلل من الغمام
والملائكة) (1) قال: معناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من
الغمام وهكذا نزلت.
وسئل عن قوله عز وجل: (سخر الله منهم) (2) وعن قوله: (الله يستهزئ
بهم) (3) وعن قوله: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) (4) وعن قوله:
(يخادعون الله وخادعهم) (5).
فقال: إن الله لا يسخر، ولا يستهزئ، ولا يمكر، ولا يخادع، ولكنه
عز وجل يجازيهم جزاء السخرية، وجزاء الاستهزاء، وجزاء المكر، وجزاء الخديعة
تعالى الله عما يقولون الظالمون علوا كبيرا.
وسئل عن قوله عز وجل: (نسوا الله فنسيهم) (6) فقال: إن الله تبارك
وتعالى لا يسهو، ولا ينسى، إنما يسهو وينسى المخلوق المحدث، ألا تسمعه عز وجل
يقول: (وما كان ربك نسيا) (7) وإنما يجازي من نسيه، ونسي لقاء يومه، بأن
ينسيهم أنفسهم، كما قال: (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) (8) وقال: (فاليوم ننساهم
كما نسوا لقاء يومهم هذا) (9) أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم
هذا، أي نجازيهم على ذلك.
وسئل عن قول الله عز وجل: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره
للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء) (10)
قال: ومن يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنة ودار كرامة في الآخرة،

(1) البقرة - 210.
(2) التوبة - 8
(3) البقرة - 15.
(4) آل عمران - 54.
(5) النساء - 141.
(6) التوبة - 68.
(7) مريم - 64.
(8) الحشر - 19.
(9) الأعراف - 50.
(10) الأنعام - 125.
194

يشرح صدره للتسليم لله والثقة به. والسكون إلى ما وعده من ثوابه، حتى يطمئن
إليه، ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة - لكفره به وعصيانه
له في الدنيا - يجعل صدره ضيقا حرجا، حتى يشك في كفره ويضطرب في اعتقاد
قلبه حتى يصير كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين
لا يؤمنون.
أبو الصلت الهروي قال: سأل المأمون الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل:
(وهو الذي خلق السماوات والأرض في سنة أيام، وكان عرشه على الماء ليبلوكم
أيكم أحسن عملا)؟ (1).
فقال: إن الله تبارك وتعالى خلق العرش والماء ليظهر بذلك قدرته للملائكة
فتعلم أنه على كل شئ قدير ثم رفع العرش بقدرته، ونقله فجعله فوق السماوات
السبع، ثم خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهو مستول على عرشه، وكان
قادرا على أن يخلقها في طرفة عين، ولكنه عز وجل خلقها في ستة أيام ليظهر
للملائكة ما يخلفه منها شيئا بعد شئ، فنستدل (بحدوث ما يحدث) على الله تعالى
مرة بعد مرة، ولم يخلق العرش لحاجة به إليه، لأنه غني عن العرش، وعن جميع
ما خلق، لا يوصف بالكون على العرش، لأنه ليس بجسم تعالى الله عن صفة خلقه
علوا كبيرا.
وأما قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) فإنه عز وجل خلق خلقه ليبلوهم
بتكليف طاعته وعبادته، لا على سبيل الامتحان والتجربة، لأنه لم يزل عليما بكل شئ.
فقال المأمون: فرجت عني يا أبا الحسن فرج الله عنك.
ثم قال له: يا بن رسول الله فما معنى قول الله عز وجل: (ولو شاء ربك
لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (2)
وما (ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) (3).

(1) هود - 7
(2) يونس - 99.
(3) يونس - 100.
195

فقال الرضا عليه السلام: حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن
أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه
علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: إن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: لو أكرهت
يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوتنا على عدونا!
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (ما كنت لألقى الله عز وجل ببدعة لم يحدث إلي فيها
شيئا وما أنا من المتكلفين) فأنزل الله تعالى عليه: يا محمد ولو شاء ربك لآمن من
في الأرض كلهم جميعا، على سبيل الالجاء والاضطرار في الدنيا، كما يؤمن عند
المعاينة ورؤية البأس في الآخرة، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثوابا
ولا مدحا، ولكني أريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين، ليستحقوا مني
الزلفى والكرامة، ودوام الخلود في جنة الخلد، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.
وأما قوله عز وجل: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) (1) فليس
ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها، ولكن على معنى أنها ما كانت لتؤمن إلا
بإذن الله، وإذنه أمره لها بالإيمان بما كانت مكلفة متعبدة بها، وإلجاؤه إياها
إلى الإيمان عند زوال التكلف والتعبد عنها.
فقال المأمون: فرجت عني فرج الله عنك فأخبرني عن قول الله عز وجل:
(الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا) (2).
فقال: إن غطاء العين لا يمنع من الذكر، والذكر لا يرى بالعين، ولكن
الله عز وجل شبه الكافرين بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام بالعميان، لأنهم كانوا
يستثقلون قول النبي صلى الله عليه وآله فيه، ولا يستطيعون له سمعا.
فقال المأمون: فرجت عني فرج الله عنك.
وعن عبد العظيم بن عبد الله الحسني رضي الله عنه (3) عن إبراهيم بن

(1) آل عمران - 145.
(2) الكهف - 102.
(3) أبو القاسم عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن
علي بن أبي طالب (ع) زاهد عابد ذو ورع ودين، معروف بالأمانة وصدق اللهجة
عالم بأمور الدين كثير الحديث والرواية، يروي عن الإمامين الجواد والعسكري
(عليهما السلام)، ولهما إليه لرسائل، ويروي عن جماعة من أصحاب موسى بن جعفر
وعلي بن موسى (ع) له كتاب يسميه كتاب: (يوم وليلة) وله كتاب: (خطب
أمير المؤمنين (ع)) وقد كتب الصاحب بن عباد رسالة مختصرة في أحوال عبد العظيم
أوردها صاحب المستدرك في خاتمة المستدرك راجع الجزء الثاني من سفينة البحار
ص 120، وخلاصة العلامة ص 130.
196

أبي محمود (1) قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل: (وتركهم
في ظلمات لا يبصرون) (2) فقال: إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بالترك كما
يوصف خلقه، ولكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة
واللطف، وخلى بينهم وبين اختيارهم.
قال: وسألته عن قول الله عز وجل: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) (3).
قال: الختم هو: (الطبع) على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم، كما
قال عز وجل: (بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) (4).
قال: وسألته عن الله عز وجل هل يجبر عباده على المعاصي؟
قال: لا. بل يخيرهم، ويمهلم حتى يتوبوا.
قلت: فهل يكلف عباده ما لا يطيقون؟
فقال: كيف يفعل ذلك وهو يقول: (وما ربك بظلام للعبيد) (5).
ثم قال: حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عليهم السلام عن
أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه
علي بن أبي طالب عليهم السلام، أنه قال: من زعم أن الله يجبر عباده على المعاصي ويكلفهم
ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته، ولا تقبلوا شهادته، ولا تصلوا وراءه، ولا تعطوه
من الزكاة شيئا.

(1) مرت ترجمته في ص 92.
(2) البقرة 17.
(3) البقرة - 7.
(4) النساء - 154.
(5) حم السجدة - 46
197

وعن يزيد بن عمير بن معاوية الشامي (1) قال: دخلت على علي بن موسى
الرضا بمرو، فقلت له: يا بن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام أنه
قال: (لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين) ما معناه:
فقال: من زعم: أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها، فقد قال: (بالجبر)
ومن زعم: أن الله فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام فقد قال: (بالتفويض)
والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك.
فقلت: يا بن رسول الله فما أمر بين الأمرين؟
فقال: وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به، وترك ما نهوا عنه.
قلت: وهل لله مشية وإرادة في ذلك؟
فقال: أما الطاعات، فإرادة الله ومشيته فيها الأمر بها، والرضا لها، والمعاونة
عليها، وإرادته ومشيته في المعاصي، النهي عنها، والسخط لها والخذلان عليها.
قلت: فلله عز وجل فيها القضاء؟
قال: نعم. ما من فعل يفعله العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء.
قلت: ما معنى هذا القضاء؟
قال: الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.
وروي أنه ذكر عنده الجبر والتفويض فقال: إن الله لم يطع بإكراه، ولم يعص
بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم
عليه، فإن إئتمر العباد بطاعة لم يكن الله عنها صادا، ولا منها مانعا، وإن إئتمروا
بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي
أدخلهم فيه ثم قال عليه السلام: من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.
وعن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: قلت له: يا بن
رسول الله أن الناس ينسبوننا إلى القول بالتشبيه والجبر، لما روي من الأخبار
في ذلك عن آبائك عليهم السلام.

(1) مجهول الحال لم أعثر له على ترجمة.
198

فقال: يا بن خالد أخبرني عن الأخبار التي رويت عن آبائي الأئمة في الجبر
والتشبيه أكثر، أم الأخبار التي رويت من النبي صلى الله عليه وآله في ذلك؟
فقلت: بل ما رويت عن النبي صلى الله عليه وآله أكثر.
قال: فليقولوا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول بالتشبيه والجبر.
فقلت له: إنهم يقولون: أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقل شيئا من ذلك وإنما
روي عليه.
قال: فليقولوا في آبائي الأئمة عليهم السلام: أنهم لم يقولوا من ذلك شيئا وإنما
روي عليهم. ثم قال: من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك، ونحن براء منه
في الدنيا والآخرة، يا بن خالد إنما وضع الأخبار عنا في التشبيه والجبر (الغلاة)
الذين صغروا عظمة الله، فمن أحبهم فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبنا، ومن
والاهم فقد عادانا، ومن عاداهم فقد والانا، ومن وصلهم فقد قطعنا، ومن قطعهم
فقد وصلنا، ومن جفاهم فقد برنا، ومن برهم فقد جفانا، ومن أكرمهم فقد
أهاننا، ومن أهانهم فقد أكرمنا، ومن قبلهم فقد ردنا، ومن ردهم فقد قبلنا
ومن أحسن إليهم فقد أساء إلينا، ومن أساء إليهم فقد أحسن إلينا، ومن صدقهم فقد
كذبنا، ومن كذبهم فقد صدقنا، ومن أعطاهم فقد حرمنا، ومن حرمهم فقد
أعطانا. يا بن خالد من كان من شيعتنا فلا يتخذن منهم وليا ولا نصيرا.
احتجاج الرضا عليه السلام على أهل الكتاب والمجوس ورئيس الصابئين
وغيرهم.
روي عن الحسن بن محمد النوفلي أنه قال: لما قدم علي بن موسى الرضا صلوات
الله عليه على المأمون، أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات، مثل:
الجاثليق، ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئين، والهربذ الأكبر، وأصحاب زردشت
ونسطاس الرومي، والمتكلمين، ليسمع كلامه وكلامهم، فجمعهم الفضل بن سهل،
199

ثم أعلم المأمون باجتماعهم فقال:
أدخلهم علي ففعل، فرحب بهم المأمون ثم قال لهم:
إنما جمعتكم لخير، وأحببت أن تناظروا ابن عمي هذا المدني القادم علي،
فإذا كان بكرة فاغدوا علي ولا يتخلف منكم أحد.
فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، نحن مبكرون إن شاء الله.
قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا عليه السلام
إذ دخل علينا ياسر الخادم - وكان يتولى أمر أبي الحسن - عليه السلام - فقال: يا سيدي
أن أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويقول: فداك أخوك، أنه اجتمع إلينا أصحاب
المقالات، وأهل الأديان، والمتكلمون من جميع أهل الملل فرأيك في البكور
علينا إن أحببت كلامهم، وإن كرهت ذلك فلا تتجشم، وإن أحببت أن نصير إليك
خف ذلك علينا.
فقال أبو الحسن عليه السلام: أبلغه السلام وقل: قد علمت ما أردت، وأنا صائر
إليك بكرة إن شاء الله.
قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما مضى ياسر التفت إلينا ثم قال لي: يا نوفلي
أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة، فما عندك في جمع ابن عمي علينا أهل الشرك
وأصحاب المقالات؟
فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان، ويحب أن يعرف ما عندك، ولقد بنى
على أساس غير وثيق البنيان، وبئس والله ما بنى.
فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟
قلت: إن أصحاب الكلام والبدع خلاف العلماء، وذلك: أن العالم لا ينكر
غير المنكر، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة
إن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا: صحح وحدانيته، وإن قلت: أن محمدا صلى الله عليه وآله
رسول، قالوا: ثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل - وهو مبطل عليهم بحجته - ويغالطونه
حتى يترك قوله، فاحذرهم جعلت فداك!
200

قال: فتبسم ثم قال لي: يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا علي حجتي؟!
قلت: لا. والله ما خفته عليك قط، وأني لأرجو أن يظفرك الله بهم
إن شاء الله.
فقال لي: يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟
قلت: نعم.
قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل
بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى الهرابذة
بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أهل المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت
كل صنف، ودحضت حجته، وترك مقالته، ورجع إلى قولي، علم المأمون أن
الذي هو بسبيله ليس بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم.
فلما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له:
جعلت فداك أن ابن عمك ينتظرك، اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه؟
فقال له الرضا عليه السلام: تقدمني فإني صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله، ثم توضأ
وضوء الصلاة، وشرب شربة سويق وسقانا، ثم خرج وخرجنا معه، حتى دخل
على المأمون، وإذا المجلس غاص بأهله، ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين
والقواد حضور.
فلما دخل الرضا عليه السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجمع بني هاشم،
فما زالوا وقوفا والرضا عليه السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس، فجلسوا
فلم يزل المأمون مقبلا عليه يحدثه ساعة، ثم التفت إلى الجاثليق فقال:
يا جاثليق! هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر وهو: من ولد فاطمة
بنت نبينا صلى الله عليه وآله، وابن علي بن أبي طالب عليه السلام، فأحب أن تكلمه وتحاجه وتنصفه.
فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلا يحاج علي بكتاب أنا
منكره، ونبي لا أؤمن به؟
201

فقال الرضا عليه السلام يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقر به؟
قال الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل، نعم والله أقر به
على رغم أنفي.
فقال له الرضا عليه السلام: سل عما بدا لك واسمع الجواب.
قال الجاثليق: ما تقول في نبوة عيسى وكتابه هل تنكر منهما شيئا؟
قال الرضا عليه السلام: أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه، وما بشر به أمته، وأقرت به
الحواريون، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد وكتابه، ولم يبشر به أمته!
قال الجاثليق: أليس إنما تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟
قال: بلى.
قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد، ممن لا تنكره النصرانية
وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا.
قال الرضا عليه السلام: الآن جئت بالنصفة يا نصراني! ألا تقبل مني العدل
والمقدم عند المسيح عيسى بن مريم عليه السلام؟
قال الجاثليق: ومن هذا العدل سمه لي؟
قال: ما تقول في (يوحنا) الديلمي؟
قال: بخ بخ ذكرت أحب الناس إلى المسيح.
قال: أقسمت عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال: أن المسيح أخبرني
بدين محمد العربي وبشرني به أنه يكون من بعدي، فبشرت به الحواريين فآمنوا به؟
قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح، وبشر بنبوة رجل وأهل
بيته ووصيه وأهل بيته، ولم يلخص متى يكون ذلك، ولم يسم لنا القوم فنعرفهم.
قال الرضا عليه السلام: فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل
بيته وأمته أتؤمن به؟
قال: أمر سديد.
قال الرضا لفسطاس الرومي: كيف يكون حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟
202

قال: ما أحفظني له، ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال عليه السلام: ألست
تقرأ الإنجيل؟
قال: بلى لعمري.
قال: فخذ علي السفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وأمته
فاشهدوا لي، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي! ثم قرأ السفر الثالث حتى
بلغ ذكر النبي صلى الله عليه وآله وقف ثم قال:
يا نصراني أني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل؟
قال: نعم. ثم تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته وأمته، ثم قال:
ما تقول يا نصراني؟ هذا قول عيسى بن مريم، فإن كذبت ما نطق به
الإنجيل فقد كذبت موسى وعيسى عليهما السلام، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك
القتل، لأنك تكون قد كفرت بربك ونبيك وبكتابك.
قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي من الإنجيل، وأني لمقر به.
قال الرضا عليه السلام: اشهدوا على إقراره! ثم قال:
يا جاثليق سل عما بدا لك!
قال الجاثليق: أخبرني عن حواري عيسى بن مريم، كم كان عدتهم، وعن
علماء الإنجيل كم كانوا؟
قال الرضا عليه السلام: على الخبير سقطت. أما الحواريون فكانوا اثني عشر
رجلا، وكان أفضلهم وأعلمهم (لوقا) وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال
(يوحنا) الأكبر - يا حي - و (يوحنا) بقرقيسيا و (يوحنا) الديلمي بزخار
وعنده كان ذكر النبي صلى الله عليه وآله، وذكر أهل بيته، وهو الذي بشر أمة عيسى وبني إسرائيل
به. ثم قال:
يا نصراني والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى الله عليه وآله. وما ننقم على
عيسى شيئا إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته.
قال الجاثليق: أفسدت والله علمك، وضعفت أمرك، وما كنت ظننت إلا
203

أنك أعلم أهل الإسلام.
قال الرضا عليه السلام: وكيف ذلك؟!
قال الجاثليق: من قولك أن عيسى كان ضعيفا، قليل الصيام والصلاة،
وما أفطر عيسى يوما قط، وما نام بليل قط، وما زال صائم الدهر قائم الليل.
قال الرضا عليه السلام: فلمن كان يصوم ويصلي؟
فخرس الجاثليق وانقطع.
قال الرضا عليه السلام: يا نصراني أني أسألك عن مسألة قال: سل! فإن كان
عندي علمها أجبتك.
قال الرضا عليه السلام: ما أنكرت أن عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله.
قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قبل، أن من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه
والأبرص، فهو: (رب) مستحق لأن يعبد.
قال الرضا صلوات الله عليه: فإن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى عليه السلام،
مشى على الماء، وأحيى الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، فلم لا تتخذه أمته رب
ولم يعبده أحد من دون الله عز وجل، ولقد صنع حزقيل النبي مثل ما صنع عيسى
ابن مريم، فأحيى خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة، ثم التفت
إلى رأس الجالوت فقال: يا رأس الجالوت! أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل
في التوراة، اختارهم (بخت نصر) من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس، ثم
انصرف بهم إلى بابل، فأرسله الله عز وجل إليهم فأحياهم، هذا في التوراة
لا يدفعه إلا كافر منكم؟
قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه.
قال: صدقت.
ثم قال: يا يهودي خذ علي هذا السفر من التوراة، فتلا عليه من التوراة
آيات، فأقبل اليهودي يترجح لقراءته، ويتعجب ثم أقبل على النصراني فقال:
يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟
204

قال: بل كانوا قبله.
قال الرضا عليه السلام: لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله فسألوه أن يحيي لهم
موتاهم، فوجه معهم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له: (اذهب إلى الجبانة، فناد
بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك، يا فلان، ويا فلان، ويا فلان
يقول لكم رسول الله محمد قوموا بإذن الله) فناداهم فقاموا ينفضون التراب عن
رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم، ثم أخبروهم أن محمدا قد بعث نبيا
فقالوا: وددنا أن أدركناه فنؤمن به، ولقد أبرأ الأكمه والأبرص والمجانين،
وكلمته البهائم والطير والجن والشياطين، ولم نتخذه ربا من دون الله، ولم ننكر
لأحد من هؤلاء فضلهم، فإن اتخذتم عيسى ربا جاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل
ربين، لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم: من إحياء الموتى وغيره،
ثم إن قوما من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت
فأماتهم الله في ساعة واحدة، فعمد أهل القرية فحظروا عليهم حظيرة، فلم يزالوا
فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل
فتعجب منهم ومن كثرة العظام البالية، فأوحى الله إليه أتحب أن أحييهم لك فتنذرهم؟
قال: نعم.
فأوحى الله إليه أن نادهم فقال: أيتها العظام البالية قومي بإذن الله! فقاموا
أحياء أجمعون ينفضون التراب عن رؤوسهم ثم إبراهيم خليل الله عليه السلام حين اتخذ
الطير فقطعهن قطعا، ثم وضع على كل جبل منهن جزءا، ثم ناداهن فأقبلن سعيا
إليه، ثم موسى بن عمران وأصحابه السبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل
فقالوا له: إنك قد رأيت الله فأرناه!
فقال لهم: إني لم أره.
فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن
آخرهم فبقي موسى وحيدا.
فقال: يا رب اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم، فأرجع أنا
205

وحدي، فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به، فلو شئت أهلكتهم من قبل وإياي
أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟
فأحياهم الله عز وجل من بعد موتهم، وكل شئ ذكرته لك من هذا
لا تقدر على دفعه، لأن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فإن
كان كل من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، والمجانين يتخذ ربا من دون
الله فاتخذ هؤلاء كلهم أربابا! ما تقول يا نصراني؟!
فقال الجاثليق: القول قولك، ولا إله إلا الله.
ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال: يا يهودي أقبل علي أسألك بالعشر الآيات
التي أنزلت على موسى بن عمران هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمد صلى الله عليه وآله وأمته
إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير، يسبحون الرب جدا جدا، تسبيحا
جديدا، في الكنايس الجدد فليفزع بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم لتطمئن قلوبهم
فإن بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض، هكذا هو
في التوراة مكتوب؟
قال رأس الجالوت: نعم. أنا لنجد ذلك كذلك.
ثم قال للجاثليق: يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا؟
قال: أعرفه حرفا حرفا.
قال لهما: أتعرفان هذا من كلامه: يا قوم أني رأيت صورة راكب الحمار
لابسا جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوءه ضوء القمر؟
فقالا: قد قال ذلك شعيا.
قال الرضا عليه السلام: يا نصراني أهل تعرف في الإنجيل قول عيسى: أني ذاهب
إلى ربكم وربي، و (الفارقليطا) جائي هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له، وهو
الذي يفسر لكم كل شئ، وهو الذي يبدي فضايح الأمم، وهو الذي يكسر
عمود الكفر؟
فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئا من الإنجيل إلا ونحن مقرون به.
206

فقال: أتجد هذا في الإنجيل ثابتا؟
قال: نعم.
قال الرضا عليه السلام: يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأول حين افتقدتموه
عند من وجدتموه؟ ومن وضع لكم هذا الإنجيل؟
قال له: ما افتقدنا الإنجيل إلا يوما واحدا حتى وجدناه غضا طريا فأخرجه
إلينا يوحنا ومتى.
فقال الرضا عليه السلام: ما أقل معرفتك بسنن الإنجيل وعلمائه، فإن كان كما
تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل؟ وإنما الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم
اليوم، فإن كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه، ولكني مفيدك علم ذلك، إعلم:
أنه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم: قتل عيسى
ابن مريم وافتقدنا الإنجيل، وأنتم العلماء فما عندكم؟
فقال لهم ألوقا ومرقانوس ويوحنا ومتى: أن الإنجيل في صدورنا نخرجه
إليكم سفرا سفرا، في كل أحد، فلا تحزنوا عليه ولا تخلوا الكنايس، فإنا سنتلوه
عليكم في كل أحد سفرا سفرا حتى نجمعه كله.
فقال الرضا عليه السلام: أن ألوقا ومرقانوس ويوحنا ومتى وضعوا لكم هذا الإنجيل
بعد ما افتقدتم الإنجيل الأول، وإنما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ تلاميذ الأولين.
أعلمت ذلك؟
قال الجاثليق: أما قبل هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن، وقد بان لي من
فضل علمك بالإنجيل وقد سمعت أشياء مما علمته شهد قلبي أنها حق، واستزدت
كثيرا من الفهم.
فقال الرضا عليه السلام: فكيف شهادة هؤلاء عندك؟
قال: جائزة. هؤلاء علماء الإنجيل، وكل ما شهدوا به فهو حق.
قال الرضا عليه السلام - للمأمون ومن حضره من أهل بيته وغيرهم -: اشهدوا عليه!
قالوا: شهدنا.
207

ثم قال للجاثليق: بحق الابن وأمه، هل تعلم أن (متى) قال في نسبة عيسى:
أن المسيح بن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهود بن خضرون؟
وقال (مرقانوس) في نسبة عيسى عليه السلام: أنه كلمة الله أحلها في الجسد الآدمي فصارت
إنسانا؟ وقال (ألوقا): أن عيسى بن مريم وأمه كانا إنسانين من لحم ودم فدخل فيهما
روح القدس؟ ثم إنك تقول في شهادة عيسى على نفسه حقا أقول لكم أنه لا يصعد
إلى السماء إلا من نزل منها إلا راكب البعير خاتم الأنبياء، فإنه يصعد إلى السماء
وينزل فما تقول في هذا القول؟
قال الجاثليق: هذا قول عيسى لا ننكره.
قال الرضا عليه السلام: فما تقول في شهادة ألوقا ومرقانوس ومتى على عيسى
وما نسبوا إليه؟
قال الجاثليق: كذبوا على عيسى.
قال الرضا عليه السلام: يا قوم أليس قد زكاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حق.
فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين أحب أن تعفيني من أمر هؤلاء.
قال الرضا عليه السلام: قد فعلنا. سل يا نصراني عما بدا لك!
قال الجاثليق: ليسألك غيري، فوالله ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك.
فالتفت الرضا عليه السلام إلى رأس الجالوت فقال له: تسألني أو أسألك؟
قال: بل أسألك. ولست أقبل منك حجة إلا من التوراة، أو من الإنجيل
أو من زبور داود، أو ما في صحف إبراهيم وموسى.
قال الرضا عليه السلام: لا تقبل مني حجة إلا بما تنطق به التوراة على لسان
موسى بن عمران عليه السلام، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم عليه السلام، والزبور على
لسان داود عليه السلام.
قال رأس الجالوت: من أين تثبت نبوة محمد؟
قال الرضا عليه السلام: شهد بنبوته موسى بن عمران، وعيسى بن مريم، وداود
خليفة الله في الأرض.
208

فقال له: ثبت قول موسى بن عمران!
قال الرضا عليه السلام: تعلم يا يهودي أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم:
أنه سيأتيكم نبي من إخوانكم فيه فصدقوا، ومنه فاسمعوا، فهل تعلم أن لبني إسرائيل
أخوة غير ولد إسماعيل، إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والنسب
الذي بينهما من قبل إبراهيم عليه السلام؟
فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعه.
فقال له الرضا عليه السلام: هل جاءكم من أخوة بني إسرائيل غير محمد صلى الله عليه وآله؟
قال: لا.
وفي العيون: فقال الرضا عليه السلام: أفليس قد صح هذا عندكم؟
قال: نعم. ولكني أحب أن تصححه لي من التوراة.
فقال له الرضا عليه السلام: هل تنكرون التوراة تقول لكم: جاء النور من قبل
طور سيناء، وأضاء للناس من جبل ساعير، واستعلن علينا من جبل فاران؟
قال رأس الجالوت: أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها.
قال الرضا عليه السلام: أنا أخبرك به أما قوله: جاء النور من قبل طور سيناء:
فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى على جبل طور سيناء، وأما
قوله: وأضاء للناس في جبل ساعير، فهو: الجبل الذي أوحى الله عز وجل إلى
عيسى بن مريم عليه السلام وهو عليه، وأما قوله: واستعلن علينا من جبل فاران:
فذاك جبل من جبال مكة، وبينه وبينها يومان أو يوم.
قال شعيا النبي - فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة - رأيت راكبين أضاء لهما
الأرض، أحدهما على حمار، والآخر على جمل، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل؟
قال رأس الجالوت: لا أعرفهما فخبرني بهما!
قال: أما راكب الحمار فعيسى، وأما راكب الجمل فمحمد صلى الله عليه وآله أتنكر
هذا من التوراة؟
قال: لا ما أنكره.
209

قال الرضا عليه السلام: هل تعرف حيقوق النبي عليه السلام؟
قال: نعم. أني به لعارف!
قال: فإنه قال - وكتابكم ينطق به -: جاء الله تعالى بالبيان من جبل
فاران، وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأمته، يحمل خيله في البحر كما
يحمل في البر، يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس، يعني بالكتاب:
القرآن. أتعرف هذا وتؤمن به؟
قال رأس الجالوت: قد قال ذلك حيقوق النبي عليه السلام ولا ننكر قوله. قال الرضا عليه السلام: فقد قال داود عليه السلام في زبوره - وأنت تقرأه -: اللهم
ابعث مقيم السنة بعد الفترة، فهل تعرف نبيا أقام السنة بعد الفترة غير محمد صلى الله عليه وآله؟
قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكره، ولكن عنى بذلك:
عيسى وأمامه هي الفترة.
قال الرضا عليه السلام: جهلت أن عيسى لم يخالف السنة، وكان موافقا لسنة
التوراة، حتى رفعه الله إليه، وفي الإنجيل مكتوب: أن ابن البرة ذاهب و (الفارقليطا)
جائي من بعدي، هو يخفف الآصار، ويفسر لكم كل شئ، ويشهد لي كما شهدت
له، أنا جئتكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل، أتؤمن بهذا في الإنجيل؟
قال: نعم. لا أنكره.
قال الرضا عليه السلام: أسألك عن نبيك موسى بن عمران عليه السلام.
فقال: سل!
قال: ما الحجة على أن موسى ثبتت نبوته؟
قال اليهودي: أنه جاء بما لم يجئ أحد من الأنبياء قبله.
قال له عليه السلام: مثل ماذا؟
قال: مثل فلق البحر، وقلبه العصا حية تسعى، وضربه الحجر فانفجر منه
العيون وإخراجه يده بيضاء للناظرين، وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها.
قال له الرضا عليه السلام: صدقت في أنها كانت حجته على نبوته، إنه جاء بما
210

لا يقدر الخلق على مثله، أفليس كل من ادعى أنه نبي وجاء بما لا يقدر الخلق
على مثله وجب عليكم تصديقه؟
قال: لا. لأن موسى لم يكن له نظير لمكانه من ربه وقربه منه، ولا يجب
علينا الاقرار بنبوة من ادعاها حتى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء.
قال الرضا عليه السلام: فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى، ولم يفلقوا
البحر ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشر عينا، ولم يخرجوا أيديهم مثل إخراج
موسى يده بيضاء، ولم يقلبوا العصا حية تسعى؟!
قال له اليهودي: قد خبرتك أنه متى جاءوا على نبوتهم من الآيات بما
لا يقدر الخلق على مثله ولو جاءوا بمثل ما لم يجئ به موسى، أو كانوا على ما جاء
به موسى وجب تصديقهم.
قال الرضا عليه السلام: يا رأس الجالوت! فما يمنعك من الاقرار بعيسى بن مريم،
وكان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم
ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله؟!
قال رأس الجالوت: يقال: أنه فعل ذلك، ولم نشهده.
قال الرضا عليه السلام: أرأيت ما جاء به موسى من الآيات وشاهدته! أليس إنما
جاء الأخبار من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك؟
قال: بلى.
قال: كذلك أيضا أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم. فكيف
صدقتم بموسى ولم تصدقوا بعيسى؟!
فلم يحر جوابا.
فقال الرضا عليه السلام: وكذلك أمر محمد صلى الله عليه وآله وما جاء به، وأمر كل نبي بعثه
الله، ومن آياته أنه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا، ولم يتعلم، ولم يختلف إلى معلم.
ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء عليهم السلام وأخبارهم حرفا حرفا، وأخبار
من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة، ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون
211

في بيوتهم، بآيات كثيرة لا تحصى.
قال رأس الجالوت: لم يصح عندنا خبر عيسى، ولا خبر محمد، ولا يجوز
لنا أن نقر لهما بما لا يصح عندنا.
قال الرضا عليه السلام: فالشاهد الذي يشهد لعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله شاهد زور؟
فلم يحر جوابا.
ثم دعا بالهربذ الأكبر. فقال له الرضا عليه السلام: أخبرني عن زردشت الذي
تزعم: أنه نبي ما حجتك على نبوته؟
قال: إنه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله، ولم نشهده. ولكن الأخبار من
أسلافنا وردت علينا بأنه: أحل لنا ما لم يحله لنا غيره فاتبعناه.
قال: أفليس إنما أتتكم الأخبار فاتبعتموه؟
قال: بلى.
قال: فكذلك سائر الأمم السالفة، أتتهم الأخبار بما أتى به النبيون، وأتى
به موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله، فما عذركم في ترك الاقرار بهم، إذ كنتم إنما أقررتم
بزردشت من قبل الأخبار الواردة بأنه: جاء بما لم يجئ به غيره؟
فانقطع الهربذ مكانه.
فقال الرضا عليه السلام: يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل
فليسأل غير محتشم!
فقام إليه عمران الصابي - وكان واحدا من المتكلمين - فقال: يا عالم الناس!
لولا أنك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل، ولقد دخلت الكوفة والبصرة
والشام والجزيرة، ولقيت المتكلمين فلم أقع على أحد يثبت لي واحدا ليس غيره
قائما بوحدانيته، أفتأذن أن أسألك؟
قال الرضا عليه السلام: إن كان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو!
قال: أنا هو.
قال: سل يا عمران وعليك بالنصفة، إياك والخطل والجور!
212

قال: والله يا سيدي ما أريد إلا أن تثبت لي شيئا أتعلق به. فلا أجوزه!
قال: سل عما بدا لك!
فازدحم الناس وضم بعضهم إلى بعض.
فقال: أخبرني عن الكائن الأول وعما خلق؟
قال: سألت فافهم الجواب!
أما الواحد فلم يزل كائنا واحدا، لا شئ معه، بلا حدود، ولا أعراض،
ولا يزال كذلك. ثم خلق خلقا مبتدعا، مختلفا، بأعراض وحدود مختلفة،
لا في شئ أقامه، ولا في شئ حده، ولا على شئ حذاه ومثله، فجعل الخلق من
بعد ذلك صفوة وغير صفوة لله، واختلافا وايتلافا، وألوانا، وذوقا، وطعما،
لا لحاجة كانت منه إلى ذلك، ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلا به، ولا رأى لنفسه فيما
خلق زيادة ولا نقصانا، تعقل هذا يا عمران؟
قال: نعم والله يا سيدي.
قال: واعلم يا عمران! أنه لو كان خلق ما خلق لحاجة، لم يخلق إلا من
يستعين به على حاجته، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق، لأن الأعوان
كلما كثروا كان صاحبهم أقوى.
ثم طال السؤال والجواب بين الرضا عليه السلام وبين عمران الصابي، وألزمه عليه السلام
في أكثر مسائله، حتى انتهت الحال إلى أن قال:
أشهد أنه يا سيدي كما وصفت، ولكن بقيت مسألة!
قال: سل عما أردت!
قال: أسألك عن: (الحكيم) في أي شئ، وهل يحيط به شئ، وهل يتحول
من شئ إلى شئ، أو هل به حاجة إلى شئ؟
قال الرضا عليه السلام: أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه، فإنه من أغمض
ما يرد على المخلوقين في مسائلهم، وليس يفهمه المتقارب عقله العازب حلمه،
ولا يعجز عن فهمه أولو العقل المنصفون.
213

أما أول ذلك. فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول: يتحول
إلى ما خلق لحاجته إلى ذلك، ولكنه عز وجل لم يخلق شيئا لحاجة، ولم يزل ثابتا
لا في شئ، إلا أن الخلق يمسك بعضه بعضا، ويدخل بعضه في بعض، ويخرج منه.
والله جل وتقدس بقدرته يمسك ذلك كله، وليس يدخل في شئ، ولا يخرج منه
ولا يؤده حفظه، ولا يعجز عن إمساكه، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك إلا
الله عز وجل، ومن اطلعه عليه من رسله وأهل سره، والمستحفظين لأمره، وخزانه
القائمين بشريعته، وإنما أمره كلمح البصر أو هو أقرب، إذا شاء شيئا فإنما يقول
له: (كن) فيكون بمشيته وإرادته، وليس شئ من خلقه أقرب إليه من شئ،
ولا شئ أبعد منه من شئ، أفهمت يا عمران؟
قال: نعم يا سيدي فهمت، وأشهد أن الله على ما وصفت ووحدت، وأن
محمدا عبده المبعوث بالهدى ودين الحق، ثم خر ساجدا نحو القبلة وأسلم.
قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابي -
وكان جدلا لم يقطعه عن حجته أحد قط - لم يدن من الرضا عليه السلام أحد، ولم يسألوه
عن شئ، وأمسينا فنهض المأمون والرضا عليه السلام فدخلا وانصرف الناس.
ثم قال الرضا عليه السلام - بعد أن عاد إلى منزله -: يا غلام صر إلى عمران
الصابي فأتني به!
فقلت: جعلت فداك! أنا أعرف موضعه هو عند بعض إخواننا من الشيعة.
قال: فلا بأس قربوا إليه دابة.
فصرت إلى عمران فأتيته به، فرحب به، ودعا بكسوة فخلعها عليه، ودعا
بعشرة آلاف درهم فوصله به.
قلت: جعلت فداك! حكيت فعل جدك أمير المؤمنين عليه السلام.
قال: هكذا يجب. ثم دعا عليه السلام بالعشاء فأجلسني عن يمينه، وأجلس عمران
عن يساره، حتى إذا فرغنا قال لعمران: انصرف مصاحبا وبكر علينا نطعمك
طعام المدينة.
214

فكان عمران بعد ذلك يجتمع إليه المتكلمون من أصحاب المقالات فيبطل
عليهم أمرهم حتى اجتنبوه. ووصله المأمون بعشرة آلاف درهم، وأعطاه الفضل
مالا جزيلا، وولاه الرضا عليه السلام صدقات البلخ فأصاب الرغائب.
وروي عن علي بن الجهم أنه قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه السلام
فقال له المأمون:
يا بن رسول الله أليس من قولك: (أن الأنبياء معصومون)؟ (1).
قال: بلى.
قال: فما معنى قول الله عز وجل: (وعصى آدم ربه فغوى)؟ (2).
فقال: إن الله تبارك وتعالى قال لآدم عليه السلام: (أسكن أنت وزوجك الجنة
وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) (3) ولم يقل
لهما لا تأكلا من هذه الشجرة، ولا مما كان من جنسها، فلم يقربا تلك الشجرة،
وإنما أكلا من غيرها إذ وسوس الشيطان إليهما وقال: (ما نهاكما ربكما عن هذه
الشجرة) (4) وإنما نهاكما أن تقربا غيرها، ولم ينهكما عن الأكل منها: (إلا
أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) (5) (وقاسمهما أني لكما من الناصحين) (6)
ولم يكن آدم وحوا شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا، (فدلاهما بغرور) (7)

(1) عقيدتنا في النبي والإمام عليهما السلام، أن يكونا معصومين بمعنى: أننا
ننزه النبي والإمام عليهما السلام عن كبائر الذنوب وصغائرها، وعن الخطأ والنسيان
بل عما ينافي المروءة وعن كل عمل يستهجن عرفا.
ولو انتفت عنه العصمة: لاحتملنا الخطأ والنسيان والمعصية في كل عمل أو قول
يصدر عنه وحينئذ لا تكون أقواله ولا أفعاله حجة علينا، ولا نكون ملزمين باتباعها.
وفي ذلك انتقاض الغرض. وقد أجمع الإمامية على القول بالعصمة. وما يتوهم خلاف
ذلك من بعض الأخبار والأدعية فهي مؤولة.
(2) طه - 121.
(3) البقرة - 35.
(4) الأعراف - 20.
(5) الأعراف - 20.
(6) الأعراف - 21، 22.
(7) الأعراف - 21، 22.
215

فأكلا منها ثقة بيمينه بالله، وكان ذلك من آدم قبل النبوة، ولم يكن ذلك بذنب
كبير استحق دخول النار، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء
قبل نزول الوحي عليهم، فلما اجتباه الله تعالى وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب
صغيرة ولا كبيرة. قال الله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه
وهدى) وقال عز وجل: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران
على العالمين) (1).
قال المصنف (ره): لعل الرضا صلوات الله عليه أراد (بالصغائر الموهوبة):
ترك المندوب وارتكاب المكروه من الفعل، دون الفعل القبيح الصغير بالإضافة
إلى ما هو أعظم منه، لاقتضاء أدلة العقول والأثر المنقول لذلك، ورجعنا إلى
سياق الحديث.
ثم قال المأمون: فما معنى قول الله عز وجل: (فلما آتاهما صالحا جعلا
له شركاء فيما آتاهما) (2).
فقال الرضا عليه السلام: أن حوا ولدت خمسمائة بطن، في كل بطن ذكر وأنثى
وأن آدم وحوا عاهدا الله ودعواه قالا: (لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين) (3)
فلما آتاهما صالحين من النسل، خلقا سويا بريئا من الزمانة والعاهة، كان
ما آتاهما صنفين: صنفا ذكرانا وصنفا إناثا، جعل الصنفان لله تعالى شركاء فيما
آتاهما ولم يشكراه شكر أبويهما له عز وجل. قال الله تعالى: (فتعالى الله عما
يشركون) (4).
فقال المأمون: أشهد أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله حقا، فأخبرني عن قول
الله عز وجل في إبراهيم: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي؟) (5).
فقال الرضا عليه السلام: أن إبراهيم وقع على ثلاثة أصناف: صنف يعبد
(الزهرة)، وصنف يعبد (القمر)، وصنف يعبد (الشمس) ذلك حين خرج من

(1) آل عمران - 33.
(2) الأعراف - 189، 188.
(3) الأعراف - 189، 188.
(4) الأعراف - 189.
(5) الأنعام - 76.
216

من السرب الذي أخفى فيه.
فلما جن عليه الليل رأى (الزهرة) قال: (هذا ربي؟!) على الانكار
والاستخبار. (فلما أفل (الكوكب) قال لا أحب الآفلين) (1) لأن الأفول
من صفات المحدث ولا من صفات القديم.
(فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي؟!) (2) على الانكار والاستخبار.
(فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين) (3) يقول: لو لم
يهدني ربي لكنت من القوم الضالين.
(فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر) (4) من الزهر والقمر؟!
على الانكار والاستخبار، لا على سبيل الإخبار والإقرار.
(فلما أفلت قال - للأصناف الثلاثة من: عبدة الزهرة، والقمر، والشمس -
يا قوم إني برئ مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض
حنيفا وما أنا من المشركين) (5) فإنما أراد إبراهيم عليه السلام بما قال: أن يبين لهم
بطلان دينهم، ويثبت عندهم: أن العبادة لا تحق لمن كان بصفة الزهرة والقمر
والشمس، وإنما تحق العبادة لخالقها خالق السماوات والأرض. وكان مما احتج به
على قومه مما ألهمه الله عز وجل وآتاه، كما قال الله عز وجل: (وتلك حجتنا
آتيناها إبراهيم على قومه) (6).
فقال المأمون: لله درك يا بن رسول الله! فأخبرني عن قول إبراهيم: (رب
أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) (7).
قال الرضا عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم عليه السلام: (إني
متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أحييت له) فوقع في نفس إبراهيم
أنه ذلك الخليل فقال: (ربي أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن

(1) الأنعام - 86.
(2) الأنعام - 77.
(3) الأنعام - 77.
(4) الأنعام - 78 - 79.
(5) الأنعام - 78 - 79.
(6) الأنعام - 83.
(7) البقرة - 260.
217

ليطمئن قلبي) على الخلة: (قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على
كل جبل منهن جزءا ثم أدعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله على كل شئ قدير) (1)
فأخذ إبراهيم نسرا وبطا وطاووسا وديكا، فقطعهن وخلطهن ثم جعل على كل
جبل من الجبال التي حوله - وكانت عشرة - منهن جزءا، وجعل مناقيرهن بين
أصابعه، ثم دعاهن بأسمائهن، ووضع عنده حبا وماء، فتطايرت تلك الأجزاء
بعضها إلى بعض حتى استوت الأبدان، وجاء كل بدن حتى انضم إلى رقبته ورأسه
فخلى إبراهيم عليه السلام عن مناقيرهن، فطرن ثم وقعن فشربن من ذلك الماء والتقطن
من ذلك الحب؟
وقلن: يا نبي الله أحييتنا أحياك الله!
فقال إبراهيم: (بل الله يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير).
فقال المأمون: بارك الله فيك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله:
(فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان) (2).
قال الرضا عليه السلام: إن موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة
من أهلها - وذلك بين المغرب والعشاء - (فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته
وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى) فقضى
موسى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فمات. قال: (هذا من عمل الشيطان) (3)
يعني الاقتتال الذي وقع بين الرجلين، لا ما فعله موسى من قتله إياه (أنه - يعني:
الشيطان - عدو مضل مبين) (4).
قال المأمون فما معنى قول موسى: (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) (5)؟
قال: يقول: إني وضعت نفسي غير موضعها، بدخولي هذه المدينة، فاغفر
لي أي: استرني من أعدائك. لئلا يظفروا بي فيقتلوني (فغفر له) (6) أي:
ستره من عدوه، (إنه هو الغفور الرحيم) (7) قال: (ربي بما أنعمت علي) (8)

(1) البقرة - 260.
(2) القصص - 15.
(3) القصص - 15.
(4) القصص - 15.
(5) القصص 16.
(6) القصص 16.
(7) القصص 16.
(8) القصص - 17.
218

من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة، (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) (1) بل أجاهد
في سبيلك بهذه القوة حتى ترضى. (فأصبح موسى في المدينة خائفا يترقب فإذا
الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين) (2) قاتلت رجلا
بالأمس، وتقاتل هذا اليوم لأؤدبنك، فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما
ظن الذي هو من شيعته أنه يريده (قال: - يا موسى - أتريد أن تقتلني كما قتلت
نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من
المصلحين) (3).
قال المأمون: جزاك الله عن أنبيائه خيرا يا أبا الحسن! فما معنى قول موسى
لفرعون: (فعلتها إذا وأنا من الضالين) (4)؟
قال الرضا عليه السلام: إن فرعون قال لموسى لما أتاه: (وفعلت فعلتك التي فعلت
وأنت من الكافرين) (5) (قال موسى فعلتها إذا وأنا من الضالين) عن الطريق
بوقوعي إلى مدينة من مدائنك، (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما
وجعلني من المرسلين) (6) وقد قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: (ألم يجدك يتيما
فآوى) (7) يقول: ألم يجدك وحيدا فآوى إليك الناس؟ (ووجدك ضالا) يعني:
عند قومك (فهدى) (8) أي: هداهم إلى معرفتك. (ووجدك عائلا فأغنى) (9)
يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجابا.
قال المأمون: بارك الله فيك يا بن رسول الله! فما معنى قول الله: (ولما
جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني) الآية (10)
كيف يكون كليم الله موسى بن عمران لا يعلم أن الله تعالى ذكره لا يجوز

(1) القصص - 17.
(2) القصص - 18.
(3) القصص - 19.
(4) الشعراء - 20.
(5) الشعراء - 18.
(6) الشعراء - 21.
(7) الضحى - 6.
(8) الضحى - 8.
(9) الضحى - 8.
(10) الأعراف - 142.
219

عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟!
فقال الرضا عليه السلام: إن كليم الله موسى بن عمران علم أن الله جل عن أن
يرى بالأبصار، ولكنه لما كلمه الله تعالى وقربه نجيا، رجع إلى قومه فأخبرهم:
أن الله عز وجل كلمه وقربه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما
سمعت، وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفا، ثم اختار منهم سبعة
آلاف، ثم اختار منهم سبعمائة، ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه، فخرج
بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى إلى الطور، وسأل الله عز
وجل أن يكلمه ويسمعهم كلامه، فكلمه الله تعالى: وسمعوا كلامه من فوق وأسفل
ويمين وشمال، ووراء وأمام، لأن الله عز وجل أحدثه في الشجرة، ثم جعله منبعثا
منها حتى سمعوه من جميع الوجوه. فقالوا: لن نؤمن لك بأن هذا الذي سمعناه
كلام الله حتى نرى الله جهرة، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا، بعث
الله عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا.
فقال موسى: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنك
ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة الله إياك؟
فأحياهم الله وبعثهم معه، فقالوا: إنك لو سألت الله أن يريك تنظر إليه لأجابك، وكنت تخبرنا كيف هو
فنعرفه حق معرفته.
فقال موسى: يا قوم! إن الله لا يرى بالأبصار ولا كيفية له، وإنما يعرف
بآياته ويعلم بعلاماته.
فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله.
فقال موسى: رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم،
فأوحى الله جل جلاله إليه يا موسى سلني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم، فعند
ذلك قال موسى: (رب أرني أنظر إليك) (قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل
فإن استقر مكانه - وهو يهوى - فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل - بآية من
220

آياته - جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك) يقول:
رجعت إلى معرفتي بك؟ عن جهل قومي، (وأنا أول المؤمنين) منهم بأنك لا ترى.
فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله عز وجل:
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) (1)؟
فقال الرضا عليه السلام همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها كما همت به
لكنه كان معصوما والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه، ولقد حدثني أبي عن أبيه
الصادق أنه قال: همت بأن تفعل وهم بأن لا يفعل.
فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله عز وجل:
(وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه. الآية) (2)؟
فقال الرضا عليه السلام: ذلك يونس بن متى، ذهب مغاضبا لقومه، فظن بمعنى:
استيقن أن لن نقدر عليه، أي: نضيق عليه رزقه، ومنه قوله عز وجل: (وأما
إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه) (3) أي: ضيق وقتر، (فنادى في الظلمات) ظلمة
الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، (أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت
من الظالمين) بتركي العبادة التي قد قرت عيني بها في بطن الحوت. فاستجاب الله
له. وقال عز وجل: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) (4).
فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن! أخبرني عن قول الله عز وجل:
(حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا)؟ (5).
قال الرضا عليه السلام: يقول الله: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم، وظن قومهم
أن الرسل قد كذبوا، جاء الرسل نصرنا.
فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله: (ليغفر لك
الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)؟ (6).

(1) يوسف - 24.
(2) الأنبياء - 87.
(3) الفجر - 16.
(4) الصافات - 144.
(5) يوسف - 110.
(6) الفتح - 1.
221

قال الرضا عليه السلام: لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا من
رسول الله صلى الله عليه وآله، لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما، فلما جاءهم
بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: (أجعل الآلهة إلها
واحدا إن هذا لشئ عجاب * فانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم
إن هذا لشئ يراد * ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) (1)
فلما فتح الله عز وجل على نبيه مكة قال له: يا محمد (إنا فتحنا لك فتحا مبينا
ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) (2) عند مشركي أهل مكة بدعائك إياهم
إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر، لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم
عن مكة، ومن بقي منهم لا يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعى الناس إليه، فصار
ذنبه عندهم مغفورا بظهوره عليهم.
فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله عز وجل:
(عفا الله عنك لم أذنت لهم) (3).
فقال الرضا عليه السلام: هذا مما نزل (بإياك أعني واسمعي يا جارة) خاطب الله
بذلك نبيه صلى الله عليه وآله وأراد به أمته، وكذلك قوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن
عملك ولتكونن من الخاسرين) (4) وقوله عز وجل: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت
تركن إليهم شيئا قليلا) (5).
قال المأمون: صدقت يا بن رسول الله! فأخبرني عن قول الله عز وجل:
(وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي
في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) (6).
قال الرضا عليه السلام: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل
الكلبي في أمر أراده، فرأى امرأته تغتسل فقال لها: (سبحان الذي خلقك) وإنما

(1) ص - 5 و 6 و 7
(2) الفتح 1.
(3) التوبة - 44.
(4) الزمر - 65.
(5) الأسرى - 74.
(6) الأحزاب - 37
222

أراد بذلك تنزيه الله عن قول من زعم: أن الملائكة بنات الله، فقال الله عز وجل:
(أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما) (1)
فقال النبي صلى الله عليه وآله لما رآها تغتسل: (سبحان الذي خلقك) أن يتخذ ولدا يحتاج
إلى هذا التطهير والاغتسال، فلما عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته بمجئ
رسول الله صلى الله عليه وآله، وقوله لها سبحان الذي خلقك، فلم يعلم زيد ما أراد بذلك وظن
أنه قال ذلك لما أعجبه من حسنها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إن
امرأتي في خلقها سوء، وإني أريد طلاقها.
فقال له النبي: (أمسك عليك زوجك واتق الله) وقد كان الله عرفه عدد
أزواجه وأن تلك المرأة منهن، فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد، وخشي الناس
أن يقولوا: أن محمدا يقول لمولاه أن امرأتك ستكون لي زوجة، فيعيبوه بذلك،
فأنزل الله عز وجل: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) يعني: بالإسلام (وأنعمت
عليه) يعني: بالعتق (أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه
وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) (2) ثم إن زيد بن حارثة طلقها واعتدت منه
فزوجها الله عز وجل من نبيه محمد صلى الله عليه وآله، وأنزل بذلك قرآنا فقال عز وجل:
(فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج
أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا) (3) ثم علم عز وجل أن
المنافقين سيعيبوه بتزويجها فأنزل الله: (ما كان على النبي من حرج فيما فرض
الله له) (4).
فقال المأمون: لقد شفيت صدري يا بن رسول الله، وأوضحت لي ما كان ملتبسا
فجزاك الله عن أنبيائه وعن الإسلام خيرا.
قال علي بن الجهم: فقام المأمون إلى الصلاة، وأخذ بيد محمد بن جعفر

(1) الأسرى - 40.
(2) الأحزاب - 38.
(3) الأحزاب - 38.
(4) الأحزاب - 38.
223

ابن محمد - وكان حاضر المجلس - وتبعتهما فقال له المأمون: كيف رأيت ابن أخيك؟
فقال: عالم. ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم.
فقال المأمون: إن ابن أخيك من أهل بيت النبوة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وآله:
(ألا إن أبرار عترتي، وأطايب أرومتي، أحلم الناس صغارا، وأعلم الناس كبارا
فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم
في باب ضلالة).
وانصرف الرضا عليه السلام إلى منزله، فلما كان من الغد غدوت إليه، وأعلمته
ما كان من قول المأمون وجواب عمه محمد بن جعفر له، فضحك الرضا عليه السلام ثم قال:
يا بن الجهم لا يغرنك ما سمعته منه، فإنه سيغتالني والله ينتقم لي منه.
احتجاجه صلوات الله عليه فيما يتعلق بالإمامة وصفات من خصه الله
تعالى بها وبيان الطريق إلى من كان عليها وذم من يجوز اختيار الإمام ولؤم
من غلا فيه وأمر الشيعة بالتورية والتقية عند الحاجة إليهما وحسن التأدب.
أبو يعقوب البغدادي (1) قال: إن ابن السكيت (2) قال - لأبي الحسن
الرضا عليه السلام -:

(1) قال المامقاني في رجاله ج 3 ص 29: أبو يعقوب البغدادي روى في كتاب العقل
والجهل من الكافي عن أحمد بن محمد السياري عنه ولم أقف على اسمه وحاله.
(2) قال الشيخ عباس القمي في ج 7 من الكنى والألقاب ص 303: ابن السكيت
- بكسر - السين وتشديد الكاف - أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي. الأهوازي
الإمامي النحوي اللغوي الأديب: ذكره كثير من المؤرخين وأثنوا عليه، وكان ثقة
جليلا من عظماء الشيعة. وبعد من خواص الإمامين التقيين (ع) وكان حامل لواء علم
العربية والأدب والشعر واللغة والنحو، وله تصانيف كثيرة مفيدة منها: (تهذيب
الألفاظ) وكتاب: (إصلاح المنطق) قال ابن خلكان: قال بعض العلماء: ما عبر
على جسر بغداد كتاب من اللغة مثل إصلاح المنطق ولا شك أنه من الكتب النافعة
الممتعة الجامعة لكثير من اللغة ولا نعرف في حجمه مثله في بابه، وقد عنى به جماعة
واختصره الوزير المغربي وهذبه الخطيب التبريزي.. قتله المتوكل في خامس رجب
سنة 244 وسببه أن المتوكل قال له يوما: أيما أحب إليك ابناي هذان أي: (المعتز
والمؤيد) أم (الحسن والحسين) فقال ابن السكيت والله أن قنبرا خادم علي بن
أبي طالب (ع) خير منك ومن ابنيك فقال المتوكل للأتراك سلوا لسانه من قفاه
ففعلوا فمات.
224

لماذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء، وبآية السحر، وبعث عيسى
بآية الطلب، وبعث محمدا صلى الله عليه وآله بالكلام والخطب؟
فقال له أبو الحسن عليه السلام: أن الله لما بعث موسى عليه السلام كان الغالب على أهل
عصره السحر فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسع القوم مثله، وبما أبطل به
سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم.
وأن الله بعث عيسى عليه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات، واحتاج الناس
إلى الطلب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيا لهم الموتى وأبرأ
الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجة عليهم.
وأن الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام
- وأظنه قال والشعر - فأتاهم من عند الله من مواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم
وأثبت به الحجة عليهم.
قال: فما زال ابن السكيت يقول له: والله ما رأيت مثلك قط! فما الحجة
على الخلق اليوم؟
فقال عليه السلام العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه، والكاذب على الله فيكذبه.
فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب، قد ضمن الرضا عليه السلام في كلامه
هذا أن العالم لا يخلو في زمان التكليف من صادق من قبل يلتجئ المكلف إليه
فيما اشتبه عليه من أمر الشريعة، صاحب دلالة تدل على صدقه عليه تعالى، يتوصل
المكلف إلى معرفته بالعقل، ولولاه لما عرف الصادق من الكاذب، فهو حجة الله تعالى
225

على الخلق أولا.
وعن القسم بن مسلم (1) عن أخيه عبد العزيز بن مسلم (2) قال:
كنا في أيام علي بن موسى الرضا عليه السلام بمرو، فاجتمعنا في جامعها في يوم
جمعة في بدو قدومنا، فأدار الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها
فدخلت على سيدي ومولاي الرضا عليه السلام فأعلمته ما خاض الناس فيه، فتبسم ثم قال:
يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن أديانهم، إن الله تبارك وتعالى
لم يقبض نبيه صلى الله عليه وآله حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل
شئ، بين فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه كملا.
فقال عز وجل: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (3) وأنزل في حجة الوداع وهو
آخر عمره: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينا) (4) فأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمض صلى الله عليه وآله حتى بين لأمته معالم دينه
وأوضح لهم سبيله، وتركهم على قصد الحق، وأقام لهم عليا عليه السلام علما وإماما
وما ترك شيئا يحتاج إليه الأمة إلا بينه، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه
فقد رد كتاب الله عز وجل، ومن رد كتاب الله فهو كافر. هل تعرفون قدر
الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم. إن الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا
وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالونها
بآرائهم، فيقيموها باختيارهم. إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل
بعد النبوة والخلة، مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه الله بها، فأشاد بها ذكره فقال عز وجل:
(إني جاعلك للناس إماما)) (5) فقال الخليل - سرورا بها -: (ومن ذريتي) (6)
قال الله عز وجل: (لا ينال عهدي الظالمين) (7) فأبطلت هذه الآية إمامة كل

(1) القسم بن مسلم: مجهول.
(2) عبد العزيز بن مسلم: ذكره
الشيخ في أصحابه الرضا عليه السلام ص 383 من رجاله.
(3) الأنعام - 38
(4) المائدة - 4.
(5) البقرة 124.
(6) البقرة 124.
(7) البقرة 124.
226

ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثم أكرمه الله عز وجل بأن جعل
في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة
وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات
وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) (1) فلم: تزل في ذريته يرثها بعض
عن بعض قرنا فقرنا، حتى ورثها النبي صلى الله عليه وآله فقال الله عز وجل: (إن أولى الناس
بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) (2) فكانت
له خاصة، فقلدها النبي صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام بأمر الله على رسم ما فرض الله، فصارت
في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله عز وجل: (وقال الذين
أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) (3) فهي في ولد علي عليه السلام
خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله، فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟
إن الإمامة منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء.
إن الإمامة خلافة الله عز وجل، وخلافة الرسول، ومقام أمير المؤمنين،
وميراث الحسن والحسين.
إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين.
إن الإمامة رأس الإسلام النامي، وفرعه السامي.
بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام، والحج والجهاد، وتوفير الفئ والصدقات
وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف.
الإمام يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين
الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة.
الإمام كالشمس الطالعة للعالم وهي في الأفق، بحيث لا تناله الأيدي والأبصار.
الإمام: البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي
في غياهب الدجى والبيداء القفار ولجج البحار.

(1) الأنبياء - 72 و 73
(2) آل عمران - 68.
(3) الروم - 56.
227

الإمام: الماء العذب على الظلماء، والدال على الهدى، والمنجي من الردى.
الإمام: النار على البقاع الحارة لمن اصطلى، والدليل على المسالك، من
فارقه فهالك.
الإمام: السحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشمس المضيئة، والأرض البسيطة
والعين الغزيرة، والغدير والروضة.
الإمام: الأمين الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، ومفزع
العباد في الداهية.
الإمام: أمين الله في أرضه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، الداعي
إلى الله، والذاب عن حريم الله.
الإمام: المطهر من الذنوب، المبرأ من العيوب، مخصوص بالعلم، موسوم.
بالحلم، نظام الدين، وعز المسلمين، وغيظ المارقين، وبوار الكافرين.
الإمام: واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عدل، ولا يوجد له بديل
ولا له مثيل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب، بل
اختصاص من المتفضل الوهاب فمن ذا يبلغ معرفة الإمام ويمكنه اختياره؟ هيهات هيهات!
ضلت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وحسرت العيون، وتصاغرت العظماء
وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الألباب وكلت
الشعراء، وعجزت الأدباء، وعيت البلغاء، عن وصف شأن من شأنه، أو فضيلة من
فضائله فأقرت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف أو ينعت بكنهه، أو يفهم شئ
من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه، ويغني غناه، لا وكيف وأنى وهو بحيث النجم
من أيدي المتناولين، ووصف الواصفين! فأين الاختيار من هذا، وأين العقول
عن هذا، وأين يوجد مثل هذا، ظنوا أن دخل يوجد في غير آل رسول الله صلى الله عليه وآله؟
كذبتهم والله أنفسهم ومنتهم الباطل، فارتقوا مرتقا صعبا دحضا تزل عنه إلى الحضيض
أقدامهم، راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة، وآراء مضلة، فلم يزدادوا
منه إلا بعدا.
228

قاتلهم الله أنى يؤفكون! لقد راموا صعبا، وقالوا إفكا، وضلوا ضلالا بعيدا
ووقعوا في الحيرة، إذ تركوا الإمام من غير بصيرة، وزين لهم الشيطان أعمالهم
فصدهم عن السبيل، وكانوا مستبصرين، رغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله، إلى
اختيارهم والقرآن يناديهم: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان
الله وتعالى عما يشركون) (1) وقال عز وجل: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا
قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (2) وقال عز وجل:
(وما لكم كيف تحكمون * أم لكم كتاب فيه تدرسون * أن لكم فيه لما تخيرون *
أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة أن لكم لما تحكمون * سلهم أيهم بذلك
زعيم * أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين) (3) وقال عز وجل:
(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (4) (أم طبع الله على قلوبهم فهم
لا يفقهون (5) (قالوا سمعنا وهم لا يسمعون * إن شر الدواب عند الله الصم البكم
الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) (6)
(وقالوا سمعنا وعصينا بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) (7).
فكيف لهم باختيار الإمام؟! والإمام عالم لا يجهل، راع لا ينكل، معدن
القدس والطهارة، والنسك والزهادة، والعلم والعبادة، ومخصوص بدعوة الرسول
وهم نسل مطهرة البتول، لا مغمز فيه في نسب، ولا يدانيه ذو حسب، في البيت
من قريش، والذروة من هاشم، والعترة من آل الرسول، والرضا من الله، شرف
الأشراف، والفرع من عبد مناف، نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة
عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله.
إن الأنبياء والأئمة يوفقهم الله، ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما

(1) القصص - 68.
(2) الأحزاب - 36.
(3) القلم - 36 إلى 41.
(4) محمد - 24.
(5) التوبة - 87.
(6) الأنفال - 21 و 22 و 23.
(7) البقرة - 93.
229

لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق علم أهل زمانهم في قوله عز وجل: (أفمن يهدي
إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) (1)
وقوله عز وجل: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) (2) وقوله عز وجل
- في طالوت -: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي
ملكه من يشاء والله واسع عليم) (3) وقال عز وجل لنبيه: (وكان فضل الله عليك
عظيما) (4) وقال عز وجل - في الأئمة من أهل بيته وعترته -: (أم يحسدون
الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم
ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) (5).
وأن العبد إذا اختاره الله لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع
الحكمة، وألهمه العلم إلهاما، فلم يعي بعده الجواب، ولا يحير فيه عن الصواب
وهو معصوم مؤيد، موفق مسدد، قد أمن الخطايا والزلل والعثار، فخصه الله بذلك
ليكون حجته على عباده، وشاهده على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله
ذو الفضل العظيم، فهل يقدرون على مثل هذا، فيختاروه أو يكون مختارهم
بهذه الصفة فيقدموه، تعدوا وبيت الله الحق، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم
كأنهم لا يعلمون، وفي كتاب الله: (فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم) (6)
فذمهم الله ومقتهم أنفسهم فقال عز وجل: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى
من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) (7) وقال عز وجل: (فتعسا لهم وأضل
أعمالهم) (8) وقال عز وجل: (كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع
الله على كل قلب متكبر جبار) (9).
وروي عن الحسن بن علي بن فضال عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام:

(1) يونس - 35.
(2) البقرة - 269.
(3) البقرة - 247.
(4) النساء - 102.
(5) النساء - 54.
(6) آل عمران - 187.
(7) القصص - 50.
(8) محمد - 8.
(9) المؤمن - 35.
230

أنه قال: للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس،
وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس، ويولد مختونا، ويكون مطهرا
ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ولا يكون له ظل، وإذا وقع إلى الأرض
من بطن أمه وقع على راحتيه رافعا صوته بالشهادتين، ولا يحتلم، ولا ينام عينه
ولا ينام قلبه، ويكون محدثا ويستوي عليه درع رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا يرى له بول
ولا غائط، لأن الله قد وكل الأرض بابتلاع ما يخرج منه، وتكون رائحته أطيب
من رائحة المسك، ويكون أولى الناس منهم بأنفسهم، وأشفق عليهم من آبائهم
وأمهاتهم، ويكون أشد الناس تواضعا لله عز وجل، ويكون آخذ الناس بما يأمر به
وأكف الناس عما ينهى عنه، ويكون دعاؤه مستجابا، حتى أنه لو دعى على صخرة
لانشقت بنصفين، أو يكون عنده سلاح رسول الله وسيفه ذو الفقار، وتكون عنده
صحيفة فيها أسماء شيعته إلى يوم القيامة، وصحيفة فيها أسماء أعدائه إلى يوم القيامة
ويكون عنده الجامعة، وهي صحيفة فيها سبعون ذراعا، فيها جميع ما يحتاج إليه
ولد آدم، ويكون عنده الجفر الأكبر والأصغر، وهو إهاب كبش فيها جميع العلوم
حتى أرش الخدش، حتى الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة، ويكون عنده مصحف
فاطمة عليها السلام.
وروى خالد بن الهيثم الفارسي (1) قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: إن
الناس يزعمون: أن في الأرض أبدالا فمن هؤلاء الأبدال؟
قال: صدقوا، الأبدال هم: الأوصياء، جعلهم الله في الأرض بدل الأنبياء
إذا رفع الأنبياء وختم بمحمد صلى الله عليه وآله.
وقد روي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: من ذم الغلاة والمفوضة وتكفيرهم
وتضليلهم والبراءة منهم وممن والاهم، وذكر علة ما دعاهم إلى ذلك الإعتقاد الفاسد
الباطل، ما قد تقدم ذكر طرف منه في هذا الكتاب.
وكذلك روي عن آبائه وأبنائه عليهم السلام، في حقهم والأمر بلعنهم، والبراءة منهم، وإشاعة

(1) مجهول.
231

حالهم، والكشف عن سوء اعتقادهم، كي لا يغتر بمقالتهم ضعفاء الشيعة، ولا يعتقد
من خالف هذه الطائفة أن الشيعة الإمامية بأسرهم على ذلك، نعوذ منه وممن اعتقده
وذهب إليه. فمما ذكره الرضا عليه السلام عن علة وجه خطأهم وضلالهم عن الدين القيم: ما رويناه
بالإسناد الذي تقدم ذكره عن أبي محمد الحسن العسكري: أن الرضا عليه السلام
والصلوات والتحيات قال:
إن هؤلاء الضلال الكفرة ما أتوا إلا من قبل جهلهم بمقدار أنفسهم، حتى اشتد
إعجابهم بها وكثرة تعظيمهم لما يكون منها، فاستبدوا بآرائهم الفاسدة، واقتصروا
على عقولهم المسلوك بها غير سبيل الواجب، حتى استصغروا قدر الله واحتقروا
أمره، وتهاونوا بعظيم شأنه، إذ يعلموا أنه القادر بنفسه الغني بذاته، الذي ليست
قدرته مستعارة ولا غناه مستفادا، والذي من شاء أفقره ومن شاء أغناه، ومن شاء
أعجزه بعد القدرة، وأفقره بعد الغنى، فنظروا إلى عبد قد اختصه الله بقدرة ليبين
بها فضله عنده، وآثر بكرامته ليوجب بها حجته على خلقه، وليجعل ما أتاه من
ذلك ثوابا على طاعته، وباعثا على اتباع أمره، ومؤمنا عباده المكلفين من غلظ من
نصبه عليهم حجة ولهم قدوة، فكانوا كطلاب ملك من ملوك الدنيا ينتجعون فضله
ويؤملون نائله، ويرجون التفيوء بظله والانتعاش بمعروفه، والانقلاب إلى أهليهم
بجزيل عطائه الذي يعينهم على طلب الدنيا، وينقذهم من التعرض لدني المكاسب
وخسيس المطالب، فبينا هم يسألون عن طريق الملك ليترصدوه وقد وجهوا الراغبة
نحوه، وتعلقت قلوبهم برؤيته، إذ قيل لهم: سيطلع عليكم في جيوشه ومواكبه
وخيله ورجله، فإذا رأيتموه فأعطوه من التعظيم حقه، ومن الاقرار بالمملكة
واجبه، وإياكم أن تسموا باسمه غيره، أو تعظموا سواه كتعظيمه، فتكونوا قد
بخستم الملك حقه وأزريتم عليه، واستحققتم بذلك منه عظيم عقوبته فقالوا:
نحن كذلك فاعلون جهدنا وطاقتنا، فما لبثوا أن طلع عليهم بعض عبيد الملك
في خيل قد ضمها إليه سيده، ورجل قد جعلهم في جملته، وأموال قد حباه بها، فنظر
هؤلاء - وهم للملك طالبون - فاستكثروا ما رأوه بهذا العبد من نعم سيده، ورفعوه
232

أن يكون هو من المنعم عليه بما وجدوا معه، فأقبلوا يحيونه تحية الملك ويسمونه باسمه
ويجحدون أن يكون فوقه ملك وله مالك، فأقبل عليهم العبد المنعم عليه وسائر
جنوده بالزجر والنهي عن ذلك، والبراءة مما يسمونه به، ويخبرونهم: بأن الملك
هو الذي أنعم بهذا عليه واختصه به، وأن قولكم ما تقولون يوجب عليكم سخط
الملك وعذابه، ويفوتكم كلما أملتموه من جهته، وأقبل هؤلاء القوم يكذبونهم
ويردون عليهم قولهم، فما زالوا كذلك حتى غضب الملك لما وجد هؤلاء قد سووا
به عبده، وأزروا عليه في مملكته وبخسوه حق تعظيمه، فحشرهم أجمعين إلى حبسه،
ووكل بهم من يسومهم سوء العذاب.
فكذلك هؤلاء لما وجدوا أمير المؤمنين عبدا أكرمه الله ليبين فضله، ويقيم
حجته، فصغروا عندهم خالقهم أن يكون جعل عليا له عبدا، وأكبروا عليا عن
أن يكون الله عز وجل له ربا، فسموه بغير اسمه فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملته
وشيعته وقالوا لهم: يا هؤلاء أن عليا وولده عباد مكرمون مخلوقون ومدبرون
لا يقدرون إلا على ما أقدرهم عليه لله رب العالمين، ولا يملكون إلا ما ملكهم، ولا
يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا قبضا ولا بسطا، ولا حركة ولا سكونا
إلا ما أقدرهم عليه وطوقهم، وأن ربهم وخالقهم يجل عن صفات المحدثين، ويتعالى
عن نعت المحدودين، وأن من اتخذهم أو واحدا منهم أربابا من دون الله فهو من
الكافرين وقد ضل سواء السبيل.
فأبى القوم إلا جماحا وامتدوا في طغيانهم يعمهون، فبطلت أمانيهم، وخابت
مطالبهم، وبقوا في العذاب.
وروينا أيضا بالإسناد المقدم ذكره عن أبي محمد العسكري عليه السلام: أن أبا الحسن
الرضا عليه السلام قال:
إن من تجاوز بأمير المؤمنين عليه السلام العبودية فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تتجاوزوا بنا العبودية، ثم قولوا فينا ما شئتم
ولن تبلغوا، وإياكم والغلو كغلو النصارى فإني برئ من الغالين.
233

فقام إليه رجل فقال: يا بن رسول الله صف لنا ربك! فإن من قبلنا قد
اختلفوا علينا.
فوصفه الرضا عليه السلام أحسن وصف، ومجده ونزهه عما لا يليق به تعالى.
فقال الرجل: بأبي أنت وأمي يا بن رسول الله! فإن معي من ينتحل موالاتكم
ويزعم أن هذه كلها من صفات علي عليه السلام، وأنه هو الله رب العالمين.
(قال): فلما سمعها الرضا عليه السلام، ارتعدت فرائصه وتصببب عرقا وقال:
سبحان الله عما يشركون، سبحانه عما يقول الكافرون علوا كبيرا، أوليس علي
كان آكلا في الآكلين، وشاربا في الشاربين، وناكحا في الناكحين، ومحدثا
في المحدثين. وكان مع ذلك مصليا خاضعا، بين يدي الله ذليلا، وإليه أواها منيبا
أفمن هذه صفته يكون إلها؟! فإن كان هذا إلها فليس منكم أحد إلا وهو إله
لمشاركته له في هذه الصفات الدالات على حدث كل موصوف بها.
فقال الرجل: يا بن رسول الله إنهم يزعمون: أن عليا لما أظهر من نفسه
المعجزات التي لا يقدر عليها غير الله، دل على أنه إله، ولما ظهر لهم بصفات
المحدثين العاجزين لبس ذلك عليهم، وامتحنهم ليعرفوه، وليكون إيمانهم اختيارا
من أنفسهم.
فقال الرضا عليه السلام: أول ما هاهنا أنهم لا ينفصلون ممن قلب هذا عليهم فقال:
لما ظهر منه (الفقر والغاقة) دل على أن من هذه صفاته وشاركه فيها الضعفاء المحتاجون
لا تكون المعجزات فعله، فعلم بهذا أن الذي أظهره من المعجزات إنما كانت فعل
القادر الذي لا يشبه المخلوقين، لا فعل المحدث المشارك للضعفاء في صفات الضعف.
وروي: أن المأمون كان يحب في الباطن سقطات أبي الحسن الرضا عليه السلام
وأن يغلبه المحتج، ويظهره غيره، فاجتمع يوما عنده الفقهاء والمتكلمون، قدس
إليهم أن ناظروه في الإمامة!
فقال لهم الرضا عليه السلام: اقتصروا على واحد منكم يلزمكم ما يلزمه.
فرضوا برجل يعرف بيحيى بن الضحاك السمرقندي، ولم يكن بخراسان مثله.
234

فقال له الرضا عليه السلام: يا يحيى أخبرني عمن صدق كاذبا على نفسه، أو كذب
صادقا على نفسه، أيكون محقا مصيبا، أم مبطلا مخطيا؟
فسكت يحيى.
فقال له المأمون: أجبه!
فقال: يعفيني أمير المؤمنين عن جوابه.
فقال المأمون: يا أبا الحسن عرفنا الغرض في هذه المسألة!
فقال: لا بد ليحيى من أن يخبرني عن أئمته: أنهم كذبوا على أنفسهم أو
صدقوا، فإن زعم أنهم كذبوا فلا إمامة للكاذب، وإن زعم أنهم صدقوا فقد قال
أولهم: (أقيلوني وليتكم ولست بخيركم) وقال ثانيهم: (بيعة أبي بكر كانت
فلتة وقى الله شرها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه) فوالله ما رضي لمن فعل مثل فعله
إلا بالقتل، فمن لم يكن بخير الناس والخيرية لا تقع إلا بنعوت، منها: العلم.
ومنها: الجهاد. ومنها: ساير الفضائل وليست فيه، ومن كانت بيعته فلتة يجب
القتل على من فعل مثلها، كيف يقبل عهده إلى غيره، وهذه صفته؟! ثم يقول
على المنبر: أن لي شيطانا يعتريني، فإذا مال بي فقوموني، وإذا أخطأت فأرشدوني
فليسوا أئمة إن صدقوا وإن كذبوا فما عند يحيى شئ في هذا.
فعجب المأمون من كلامه. وقال: يا أبا الحسن ما في الأرض من يحسن
هذا سواك!
وروي عنه عليه السلام أنه قال: أفضل ما يقدمه العالم من محبينا وموالينا أمامه
ليوم فقره وفاقته، وذله ومسكنته، أن يغيث في الدنيا مسكينا من محبينا من يد
ناصب عدو لله ولرسوله، فيقوم من قبره والملائكة صفوف، من شفير قبره إلى موضع
محله من جنان الله، فيحملوه على أجنحتهم، ويقولون: طوبى لك طوباك طوباك
يا دافع الكلاب عن الأبرار، ويا أيها المتعصب للأئمة الأخيار.
وبالإسناد الذي تكرر عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال: دخل على
أبي الحسن الرضا عليه السلام رجل فقال: يا بن رسول الله لقد رأيت اليوم شيئا عجبت منه.
235

قال: وما هو؟
قال: رجل كان معنا يظهر لنا أنه: من الموالين لآل محمد المتبرين من أعدائهم
فرأيته اليوم عليه ثياب قد خلعت عليه، وهو ذا يطاف به ببغداد، وينادي المنادي
بين يديه: معاشر المسلمين اسمعوا توبة هذا الرجل الرافضي ثم يقول: قل!
فقال: (خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر) فإذا قال ذلك ضجوا وقالوا:
قد تاب، وفضل أبا بكر على علي بن أبي طالب عليه السلام.
فقال الرضا عليه السلام إذا خلوت فأعد علي هذا الحديث!
فلما خلى أعاد عليه. فقال له:
إنما لم أفسر لك معنى كلام الرجل بحضرة هذا الخلق المنكوس، كراهة
أن ينقل إليهم فيعرفوه ويؤذوه، لم يقل الرجل خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
(أبو بكر) فيكون قد فضل أبا بكر على علي عليه السلام، ولكن قال: خير الناس بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله (أبا بكر) فجعله نداء لأبي بكر ليرضي من يمشي بين يديه
من بعض هؤلاء، الجهلة، ليتوارى من شرورهم. إن الله تعالى جعل هذه التورية مما
رحم به شيعتنا.
وبهذا الإسناد عن أبي محمد العسكري عليه السلام أنه قال: لما جعل المأمون إلى علي
ابن موسى الرضا عليه السلام ولاية العهد، دخل عليه آذنه فقال:
إن قوما بالباب يستأذنون عليك، يقولون: (نحن من شيعة علي عليه السلام).
فقال: أنا مشغول فاصرفهم!
فصرفهم إلى أن جاءوا هكذا يقولون ويصرفهم شهرين، ثم أيسوا من الوصول
فقالوا: (قل لمولانا إن شيعة أبيك علي بن أبي طالب عليه السلام قد شمت بنا أعداؤنا
في حجابك لنا، ونحن ننصرف عن هذه الكرة، ونهرب من بلادنا خجلا وأنفة
مما لحقنا، وعجزا عن احتمال مضض ما يلحقنا من أعدائنا).
فقال علي بن موسى عليهما السلام: إئذن لهم ليدخلوا، فدخلوا عليه فسلموا عليه
فلم يرد عليهم، ولم يأذن لهم بالجلوس، فبقوا قياما.
236

فقالوا: يا بن رسول الله ما هذا الجفاء العظيم، والاستخفاف بعد هذا الحجاب
الصعب، أي باقية تبقى منا بعد هذا؟
فقال الرضا عليه السلام: اقرؤا: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم
ويعفو عن كثير) (1) والله ما اقتديت إلا بربي عز وجل وبرسوله وبأمير المؤمنين
ومن بعده من آبائي الطاهرين عليهم السلام، عتبوا عليكم فاقتديت بهم.
قالوا: لماذا يا بن رسول الله؟
قال: لدعواكم أنكم شيعة أمير المؤمنين! ويحكم إن شيعته: الحسن والحسين
وسلمان، وأبو ذر، والمقداد، وعمار، ومحمد بن أبي بكر الذين لم يخالفوا شيئا
من أوامره، وأنتم في أكثر أعمالكم له مخالفون، وتقصرون في كثير من الفرائض
وتتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في الله، وتتقون حيث لا تجب التقية، وتتركون
التقية حيث لا بد من التقية، لو قلتم: إنكم مواليه ومحبوه، والموالون لأوليائه
والمعادون لأعدائه، لم أنكره من قولكم، ولكن هذه مرتبة شريفة ادعيتموها
إن لم تصدقوا قولكم بفعلكم هلكتم، إلا أن تتدارككم رحمة ربكم.
قالوا: يا بن رسول الله! فإذا نستغفر الله ونتوب إليه من قولنا بل نقول
كما علمنا مولانا: نحن محبوكم ومحبوا أوليائكم، ومعادوا أعدائكم.
قال الرضا عليه السلام: فمرحبا بكم إخواني، وأهل ودي، ارتفعوا! فما زال
يرفعهم حتى ألصقهم بنفسه. ثم قال لحاجبه.
كم مرة حجبتهم؟
قال: ستين مرة.
قال: فاختلف إليهم ستين مرة متوالية، فسلم عليهم وأقرأهم سلامي فقد
محوا ما كان من ذنوبهم باستغفارهم وتوبتهم، واستحقوا الكرامة لمحبتهم لنا
وموالاتهم، وتفقد أمورهم وأمور عيالاتهم، فأوسعهم نفقات ومبرات وصلات
ودفع معرات.

(1) الشورى - 30.
237

احتجاج أبي جعفر محمد بن علي الثاني عليهما السلام في أنواع شتى
من العلوم الدينية.
روى أبو داود بن القسم الجعفري (1) قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام:
قل هو الله أحد، ما معنى الأحد؟
قال: المجمع عليه بالوحدانية، أما سمعته يقول: (ولئن سألتهم من خلق
السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله) (2) ثم يقولون بعد ذلك له
شريك وصاحبة.
فقلت: قوله: (لا تدركه الأبصار) (3)؟
قال: يا أبا هاشم! أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك
السند والهند. والبلدان التي لم تدخلها، ولم تدرك ببصرك ذلك. فأوهام القلوب
لا تدركه، فكيف تدركه الأبصار.
وسئل عليه السلام: أيجوز أن يقال لله: أنه شئ؟
فقال: نعم. تخرجه من الحدين: حد الإبطال، وحد التشبيه.
وعن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فسأله
رجل فقال:

(1) داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رحمه الله
ذكره الشيخ في الفهرست ص 93 فقال: له كتاب. وذكره في رجاله في أصحاب
الرضا عليه السلام ص 375 وفي أصحاب الجواد عليه السلام ص 401 وقال: ثقة جليل
القدر وفي أصحاب الهادي عليه السلام ص 414 وفي أصحاب العسكري ص 431.
وذكره العلامة في الخلاصة فقال: يكنى أبا هاشم الجعفري رحمه الله من أهل بغداد
ثقة جليل القدر، عظيم المنزلة عند الأئمة عليهم السلام شاهد أبا جعفر وأبا الحسن
وأبا محمد عليهم السلام وكان شريفا عندهم، له موقع جليل عندهم. روى أبوه عن
الصادق عليه السلام
(2) العنكبوت - 61.
(3) الأنعام - 103.
238

أخبرني عن الرب تبارك وتعالى أله أسماء وصفات في كتابه، وهل أسماؤه
وصفاته هي هو؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: أن لهذا الكلام وجهين: إن كنت تقول: (هي هو)
أنه: ذو عدد وكثرة، فتعالى الله عن ذلك، وإن كنت تقول: هذه الأسماء والصفات
لم تزل، فإن ما لم تزل محتمل على معنيين: فإن قلت لم تزل عنده في علمه،
وهو يستحقها فنعم، وإن كنت تقول: لم تزل صورها وهجاؤها وتقطيع حروفها
فمعاذ الله أن يكون معه شئ غيره، بل كان الله تعالى ذكره ولا خلق، ثم خلقها
وسيلة بينه وبين خلقه، يتضرعون بها إليه ويعبدون، وهي: (ذكره) وكان الله
سبحانه ولا ذكر، والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل، والأسماء والصفات
مخلوقات، والمعني بها هو الله، لا يليق به الاختلاف ولا الايتلاف، وإنما يختلف
ويتألف المتجزي، ولا يقال له قليل ولا كثير، ولكنه القديم في ذاته، لأن ما سوى
الواحد متجزي والله واحد ولا متجزي، ولا متوهم بالقلة والكثرة وكل متجزي
أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له، فقولك: (إن الله قدير)
خبرت أنه لا يعجزه شئ، فنفيت بالكلمة العجز، وجعلت العجز لسواه، وكذلك قولك
: (عالم) إنما نفيت بالكلمة الجهل، وجعلت الجهل لسواه، فإذا أفنى الله الأشياء أفنى
(الصورة والهجاء والتقطيع) فلا يزال من لم يزل عالما.
فقال الرجل: فكيف سمينا ربنا سميعا؟
فقال: لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع، ولم نصفه بالسمع المعقول
في الرأس، وكذلك سميناه (بصيرا) لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من:
لون أو شخص أو غير ذلك، ولم نصفه ببصر طرفة العين. وكذلك سميناه (لطيفا)
لعلمه بالشئ اللطيف مثل: (البعوضة) وما هو أخفى من ذلك، وموضع المشي منها
والشهوة والسفاد، والحدب على أولادها، وإقامة بعضها على بعض، ونقلها الطعام
والشراب إلى أولادها في الجبال والمغاور والأودية والقفار، وعلمنا بذلك أن خالقها
لطيف بلا كيف، إذ الكيف للمخلوق المكيف، وكذلك سمينا ربنا (قويا) بلا
239

قوة البطش المعروف من الخلق، ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من الخلق لوقع
التشبيه واحتمل الزيادة، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان، وما كان ناقصا كان
غير قديم، وما كان غير قديم كان عاجزا، فربنا تبارك وتعالى لا شبه له، ولا ضد
ولا ند، ولا كيفية، ولا نهاية، ولا تصاريف، محرم على القلوب أن تحتمله، وعلى
الأوهام أن تحده، وعلى الضمائر أن تصوره، عز وجل عن أداة خلقه، وسمات
بريته، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
عن الريان بن شبيب (1) قال: لما أراد المأمون أن يزوج ابنته أم الفضل
أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم ذلك، واستنكروا منه
وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا عليه السلام، فخاضوا في ذلك
واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا: ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم
على هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا عليه السلام فإنا نخاف أن
يخرج به عنا أمر قد ملكناه الله، وينتزع منا عزا قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا
وبين هؤلاء القوم قديما وحديثا وما كان عليه خلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم
والتصغير بهم، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت، وكفانا الله المهم من
ذلك، فالله الله أن ترديا إلى غم قد انحسر عنا، واصرف رأيك عن ابن الرضا عليه السلام
وأعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.
فقال لهم المأمون: أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه، ولو
أنصفتم القوم لكان أولى بكم، وأما ما كان يفعله من قبلي بهم، فقد كان به قاطعا
للرحم، وأعوذ بالله من ذلك، ووالله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا
ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
وأما أبو جعفر محمد بن علي، فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل
في العلم والفضل، مع صغر سنه والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس

(1) قال العلامة الحلي رحمه الله في القسم الأول من خلاصته ص 71 (الريان
أن شبيب - بالشين المعجمة وبعدها باء منقطة - خال المعتصم، ثقة).
240

ما قد عرفته منه، فيعلموا أن الرأي ما رأيت.
فقالوا: إن هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه،
فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما ترا بعد ذلك.
فقال لهم: ويحكم أني أعرف بهذا الفتى منكم، وأن هذا من أهل بيت علمهم
من الله تعالى ومواده وإلهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا
الناقصة عن حد الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت
لكم من حاله.
قالوا: لقد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فخل بيننا وبينه
لننصب من يسأله بحضرتك عن شئ من فقه الشريعة، فإن أصاب في الجواب عنه
لم يكن لنا اعتراض في حقه، وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه
وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه.
فقال لهم المأمون: شأنكم وذلك متى أردتم.
فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم - وهو يومئذ
قاضي الزمان - على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة
على ذلك، وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوما للاجتماع فأجابهم إلى
ذلك، واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم، وأمر
المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ويجعل له فيه مسورتان ففعل ذلك، وخرج
أبو جعفر عليه السلام وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر، فجلس بين المسورتين، وجلس
يحيى بن أكثم بين يديه. فقام الناس في مراتبهم، والمأمون جالس في دست متصل
بدست أبي جعفر عليه السلام.
فقال يحيى بن أكثم للمأمون: تأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل
أبا جعفر عن مسألة؟
فقال المأمون: استأذنه في ذلك.
فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟
241

فقال أبو جعفر عليه السلام: سل إن شئت!
فقال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيدا؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: قتله في حل أو حرم، عالما كان المحرم أو جاهلا
قتله عمدا أو خطأ، حرا كان المحرم أو عبدا، صغيرا كان أو كبيرا، مبتدئا بالقتل
أو معيدا، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد أم من كباره
مصرا على ما فعل أو نادما، في الليل كان قتله للصيد أم بالنهار، محرما كان
بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما؟
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتى عرف
جماعة أهل المجلس عجزه.
فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر
إلى أهل بيته فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثم أقبل إلى أبي جعفر
فقال له:
أتخطب يا أبا جعفر؟
قال: نعم. يا أمير المؤمنين.
فقال له المأمون: اخطب لنفسك جعلت فداك! فقد رضيتك لنفسي وأنا
مزوجك أم الفضل ابنتي وإن رغم أنوف قوم لذلك.
فقال أبو جعفر عليه السلام: الحمد لله إقرارا بنعمته، ولا إله إلا الله إخلاصا
لوحدانيته، وصلى الله على سيد بريته، والأصفياء من عترته.
أما بعد: فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام
فقال سبحانه: (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا
فقراء يغنيهم الله من فضله والله واسع عليم) (1) ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب
أم الفضل بنت عبد الله المأمون، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت
محمد عليهما السلام، وهو: (خمسمائة درهم) جيادا فهل زوجته يا أمير المؤمنين بها

(1) النور - 32.
242

على هذا الصداق المذكور؟
فقال المأمون: نعم. قد زوجتك يا أبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق
المذكور، فهل قبلت النكاح؟
قال أبو جعفر عليه السلام: نعم. قد قبلت ذلك ورضيت به.
فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم من الخاصة والعامة.
قال الريان: ولم نلبث أن سمعنا أصواتا تشبه الملاحين في محاوراتهم، فإذا
الخدم يجرون سفينة مصنوعة من فضة تشد بالحبال من الإبريسم، على عجلة مملوة
من الغالية، فأمر المأمون أن تخضب لحى الخاصة من تلك الغالية ففعلوا ذلك،
ثم مدت إلى دار العامة فتطيبوا بها، ووضعت الموائد فأكل الناس، وخرجت الجوائز
إلى كل قوم على قدرهم.
فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي قال المأمون لأبي جعفر عليه السلام:
جعلت فداك! إن رأيت أن تذكر الفقه فيما فصلته من وجوه قتل المحرم
لنعلمه ونستفيده.
فقال أبو جعفر عليه السلام: نعم إن المحرم إذا قتل صيدا في الحل وكان الصيد
من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، وإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء
مضاعفا، وإذا قتل فرخا في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن، فإذا قتله في الحرم
فعليه الحمل وقيمة الفرخ، فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة
وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبيا فعليه شاة، فإن كان قتل شيئا من ذلك
في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه
الهدي فيه وكان إحرامه للحج نحره بمنى، وإن كان إحرام بعمرة نحره بمكة
وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد عليه المأثم، وهو موضوع عنه
في الخطأ، والكفارة على الحر في نفسه، وعلى السيد في عبده، والصغير لا كفارة
عليه، وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الآخرة، والمصر
يجب عليه العقاب في الآخرة.
243

فقال المأمون: أحسنت يا أبا جعفر أحسن الله إليك. فإن رأيت أن تسأل
يحيى عن مسألة كما سألك؟
فقال أبو جعفر ليحيى: أسألك؟
قال: ذلك إليك جعلت فداك، فإن عرفت جواب ما تسألني عنه وإلا
استفدته منك.
فقال أبو جعفر عليه السلام: أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان
نظره إليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار حلت له، فلما زالت الشمس حرمت
عليه، فلما كان وقت العصر حلت له، فلما كانت الشمس حرمت عليه، فلما دخل
وقت العشاء الآخرة حلت له، فلما كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه، فلما
طلع الفجر حلت له، ما حال هذه المرأة، وبماذا حلت له وحرمت عليه؟
فقال له يحيى بن أكثم: لا والله لا اهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف
الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدنا.
فقال أبو جعفر عليه السلام: هذه أمة لرجل من الناس، نظر إليها أجنبي في أول
النهار فكان نظره إليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت
له، فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوجها
فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها (1) فحرمت عليه، فلما كان وقت
العشاء الآخرة كفر عن الظهار فحلت له، فلما كان نصف الليل طلقها طلقة
واحدة فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له.
(قال): فأقبل المأمون على من حضر من أهل بيته وقال لهم: هل فيكم
من يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال؟
قالوا: لا والله إن أمير المؤمنين أعلم بما رأى.
فقال: ويحكم إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل،

(1) الظهار هو: أن يقول الرجل لزوجته (أنتي علي كظهر أمي) فإذا قال
لها ذلك: حرمت عليه ولا يرجع بها إلا بعد أن يعطي الكفارة.
244

وإن صغر السن لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله افتتح دعوته
بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو ابن عشر سنين، وقبل منه
الإسلام وحكم له به، ولم يدع أحدا في سنه غيره، وبايع الحسن والحسين عليهما السلام
وهما دون الست سنين ولم يبايع صبيا غيرهما؟ أو لا تعلمون الآن ما اختص الله
به هؤلاء القوم وأنهم ذرية بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم؟
قالوا: صدقت يا أمير المؤمنين.
ثم نهض القوم، فلما كان من الغد حضر الناس وحضر أبو جعفر عليه السلام،
وصار القواد والحجاب والخاصة والعمال لتهنئة المأمون وأبي جعفر عليه السلام فأخرجت
ثلاثة أطباق من الفضة، فيها بنادق مسك وزعفران معجون في أجواف تلك البنادق
ورقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنية، وإقطاعات. فأمر المأمون بنثرها
على القوم من خاصته، فكان كل من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها
والتمسه فأطلق له، ووضعت البدر فنثر ما فيها على القواد وغيرهم، وانصرف الناس
وهم أغنياء بالجوائز والعطايا، وتقدم المأمون بالصدقة على كافة المساكين، ولم يزل
مكرما لأبي جعفر عليه السلام معظما لقدره مدة حياته، يؤثره على ولده وجماعة
أهل بيته.
وروي: أن المأمون بعدما زوج ابنته أم الفضل أبا جعفر، كان في مجلس
وعنده أبو جعفر عليه السلام ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة.
فقال له يحيى بن أكثم: ما تقول يا بن رسول الله في الخبر الذي روي:
أنه (نزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك
السلام ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عني راض فإني عنه راض) (1).

(1) قال الحجة الأميني في الغدير في ج 6 بعد ذكر هذا الحديث الموضوع:
(أخرجه الخطيب البغدادي في تأريخه ج 2 ص 106 من طريق محمد بن بابشاذ صاحب
الطامات ساكتا عن بطلانه جريا على عادته، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2
ص 213 فقال: كذب).
245

فقال أبو جعفر عليه السلام: لست بمنكر فضل أبي بكر ولكن يجب على صاحب
هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع: (قد
كثرت علي الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي
فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به) وليس يوافق هذا الخبر
كتاب الله قال الله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن
أقرب إليه من حبل الوريد) (1) فالله عز وجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه
حتى سأل عن مكنون سره، هذا مستحيل في العقول.
ثم قال يحيى بن أكثم: وقد روي: (أن مثل أبي بكر وعمر في الأرض
كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء).
فقال: وهذا أيضا يجب أن ينظر فيه، لأن جبرئيل وميكائيل ملكان لله
مقربان يم يعصيا الله قط، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة، وهما قد أشركا بالله عز
وجل وإن أسلما بعد الشرك. فكان أكثر أيامهما الشرك بالله فمحال أن
يشبههما بهما.
قال يحيى: وقد روي أيضا: (أنهما سيدا كهول أهل الجنة) (2) فما
تقول فيه؟

(1) ق - 16.
(2) ذكره الحجة الأميني في سلسلة
الموضوعات ج 5 ص 276 من كتاب الغدير فقال:
(من موضوعات يحيى بن عنبسة وهو ذلك الدجال الوضاع ذكره الذهبي في الميزان
ج 3 ص 126 وقال: قال يونس بن حبيب: ذكرت لعلي بن المدائني محمد بن كثير
المصيصي وحديثه هذا فقال علي: كنت أشتهي أن أرى هذا الشيخ فالآن لا أحب
أن أراه. ورواه من طريق عبد الرحمن بن مالك بن مغول الكذاب الأفاك الوضاع.
وفي تلخيص الشافي ص 219 من الجزء الثاني:
(أما الخبر الذي يتضمن أنهما سيدا كهول أهل الجنة فمن تأمل أصل هذا الخبر
بعين إنصاف علم أنه موضوع في أيام بني أمية معارضة لما روي من قوله صلى الله
عليه وآله في الحسن والحسين: (أنهما سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما).
وهذا الخبر الذي ادعوه يروونه عن عبيد الله بن عمر وحال عبيد الله في الانحراف من
أهل البيت معروفة وهو أيضا كالجار إلى نفسه على أنه لا يخلو من أن يريد بقوله:
(سيدا كهول الجنة) أنهما سيدا كهول من هو في الجنة، أو يراد أنهما سيدا من يدخل
الجنة من كهول الدنيا. فإن كان الأول، فذلك باطل. لأن رسول الله قد وقفنا
- وأجمعت الأمة - على أن جميع أهل الجنة جرد مرد، وأنه لا يدخلها كهل وإن كان
الثاني فذلك دافع ومناقض للحديث المجمع على روايته من قوله في الحسن والحسين
أنهما سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما... الخ).
246

فقال عليه السلام: وهذا الخبر محال أيضا، لأن أهل الجنة كلهم يكونون شبابا
ولا يكون فيهم كهل، وهذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله
في الحسن والحسن عليهما السلام: بأنهما (سيدا شباب أهل الجنة).
فقال يحيى بن أكثم: وروي: (أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة).
فقال عليه السلام: وهذا أيضا محال، لأن في الجنة ملائكة الله المقربين، وآدم
ومحمد، وجميع الأنبياء والمرسلين، لا تضئ الجنة بأنوارهم حتى تضئ بنور عمر.
فقال يحيى: وقد روي: (أن السكينة تنطق على لسان عمر) (1).
فقال عليه السلام: لست بمنكر فضل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر: فقال
- على رأس المنبر -: (أن لي شيطانا يعتريني، فإذا ملت فسددوني).

(1) بهذا المضمون وردت عدة روايات منها: أن الحق ينطق على لسان عمر
وأن ملكا ينطق على لسانه وغير ذلك قال في تلخيص الشافي ج 2 ص 247:
وأما ما روي من قوله: (الحق ينطق على لسان عمر) فإن كان صحيحا فإنه
يقتضي عصمة عمر، والقطع على أن أقواله كلها حجة وليس هذا مذهب أحد فيه لأنه
لا خلاف في أنه ليس بمعصوم وأن خلافه سائغ.
وكيف يكون الحق ناطقا على لسان من يرجع في الأحكام من قول إلى قول،
وشهد لنفسه بالخطأ، ويخالف بالشئ ثم يعود إلى قول من خالفه ويوافقه عليه ويقول:
(لولا علي لهلك عمر) و (لولا معاذ لهلك عمر)
وكيف لا يحتج بهذا الخبر هو لنفسه في بعض المقامات التي احتاج إلى الإحتجاج فيها.
وكيف لم يقل أبو بكر لطلحة - حين أنكر نصه عليه - بأن الحق ينطق
على لسانه).
وأحصى الحجة الأميني في ج 6 من الغدير مائة مخالفة لعمر بن الخطاب ثم قال:
هذا قليل من كثير مما وقفنا عليه من (نوادر الأثر في علم عمر) وبوسعنا الآن أن نأتي
بأضعاف ما سردناه لكنا نقتصر على هذا رعاية لمقتضى الحال.
247

فقال يحيى: قد روي: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (لو لم أبعث لبعث عمر) (1).
فقال عليه السلام: كتاب الله أصدق من هذا الحديث، يقول الله في كتابه: (وإذ
أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) (2) فقد أخذ الله ميثاق النبيين فكيف
يمكن أن يبدل ميثاقه، وكل الأنبياء عليهم السلام لم يشركوا بالله طرفة عين، فكيف
يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
نبئت وآدم بين الروح والجسد).
فقال يحيى بن أكثم: وقد روي أيضا: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (ما احتبس
عني الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب) (3).

(1) قال الأميني في الجزء الخامس من الغدير أخرجه ابن عدي بطريقين:
وقال: لا يصح زكريا (الوكار) كذاب يضع، وابن واقد عبد الله متروك، ومشرح
ابن (عاهان) لا يحتج به.
(2) الأحزاب - 7.
(3) قال الأميني في ج 6 ص 312 من الغدير: وأمثال هذه الأكاذيب فإن من يكون بتلك
المثابة حتى يكاد أن يبعث نبيا لا يفقد علم واضحات المسائل عند ابتلائه أو ابتلاء من
يرجع أمره إليه من أمته بها، ولا يتعلم القرآن في اثنتي عشر سنة وأين كان الحق والملك
والسكينة يوم كان لا يهتدي إلى أمهات المسائل سبيلا فلا تسدده ولا تفرغ الجواب على
لسانه، ولا تضع الحق في قلبه، وكيف يسع المسدد بذلك كله أن يحسب كل الناس أفقه
منه حتى ربات الحجال؟ وكيف كان يأخذ علم الكتاب والسنة من نساء الأمة وغوغاء
الناس فضلا عن رجالها وأعلامها؟ وكيف كان يرى عرفان لفظة في القرآن تكلفا
ويقول: هذا لعمر الله هو التكلف، ما عليك يا بن أم عمر أن لا تدري ما الأب؟
وكيف كان يأخذ عن أولئك الجم الغفير من الصحابة ويستفتيهم في الأحكام؟ وكيف
كان يعتذر عن جهله أوضح ما يكون من السنة بقوله: ألهاني عنه الصفق بالأسواق؟
وكيف كان لم يسعه أن يعلم الكلالة ويقيمها ولم يتمكن من تعلم صور ميراث الجد وكان
النبي (ص) يقول: ما أراه يعلمها، وما أراه يقيمها. ويقول: أني أظنك تموت قبل
أن تعلم ذلك! وكيف كان مثل أبي بن كعب يغلظ له في القول ويراه ملهى عن علم
الكتاب بالصفق بالأسواق وبيع الخيط والقرظة؟ وكيف كان أمير المؤمنين جاهلا
بتأويل القرآن؟ وكيف وكيف وكيف وكيف!!! نعم راق للقوم أن ينحتوا له فضائل
ويغالوا فيها ولم يترووا في لوازمها وحسبوا أن المستقبل الكشاف يمضي كما مضت القرون
خاليا عن باحث أو منقب، أو أن بواعث الارهاب يلجم لسانه عن أن ينطق، ويضرب
على يده عن أن تكتب، ولا تفسح حرية القلم والمذاهب والأفكار للعلماء أن يبوحوا
بما عندهم.
248

فقال عليه السلام: وهذا محال أيضا، لأنه لا يجوز أن يشك النبي صلى الله عليه وآله في نبوته
قال الله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) (1) فكيف يمكن
أن ينتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به.
قال يحيى: روي: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (لو نزل العذاب لما نجى منه
إلا عمر).
فقال عليه السلام: وهذا محال أيضا، لأن الله تعالى يقول: (وما كان الله ليعذبهم
وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) (2) فأخبر سبحانه أنه لا يعذب
أحدا ما دام فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وما داموا يستغفرون.
وعن عبد العظيم الحسني رضي الله عنه قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى عليهم السلام:
يا مولاي أني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد الذي يملأ الأرض قسطا
وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

(1) الحج - 75.
(2) الأنفال - 38.
249

فقال عليه السلام: ما منا إلا قائم بأمر الله، وهاد إلى دين الله، ولكن القائم
الذي يطهر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود ويملأ الأرض قسطا وعدلا هو:
الذي يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، وهو
سمي رسول الله وكنيه، وهو الذي تطوى له الأرض، ويذل له كل صعب، يجتمع
إليه من أصحابه عدة أهل بدر: (ثلاثمائة وثلاثة عشر) رجلا من أقاصي الأرض
وذلك قول الله: (أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير) (1)
فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص، أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد
وهو: (عشرة آلاف) رجل خرج بإذن الله، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى
يرضى عز وجل.
قال عبد العظيم: فقلت له: يا سيدي فكيف يعلم أن الله قد رضي؟
قال: يلقي في قلبه الرحمة، فإذا دخل المدينة أخرج اللات والعزى فأحرقهما.
احتجاج أبي الحسن علي بن محمد العسكري (ع) في شئ من التوحيد
وغير ذلك من العلوم الدينية والدنياوية على المخالف والمؤالف.
سئل أبو الحسن عليه السلام عن التوحيد فقيل له: لم يزل الله وحده لا شئ معه
ثم خلق الأشياء بديعا واختار لنفسه الأسماء، ولم تزل الأسماء والحروف له
معه قديمة؟
فكتب: لم يزل الله موجودا ثم كون ما أراد، لا راد لقضائه، ولا معقب
لحكمه، تاهت أوهام المتوهمين، وقصر طرف الطارفين، وتلاشت أوصاف الواصفين
واضمحلت أقاويل المبطلين عن الدرك لعجيب شأنه، أو الوقوع بالبلوغ على علو
مكانه، فهو بالموضع الذي لا يتناهى، وبالمكان الذي لم يقع عليه عيون بإشارة
ولا عبارة، هيهات هيهات!!

(1) النساء - 77.
250

وحدثنا أحمد بن إسحاق (1) قال كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد
العسكري أسأله عن الرؤية وما فيه الخلق فكتب:
لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر، فمتى
انقطع الهواء وعدم الضياء لم تصح الرؤية، وفي جواب اتصال الضيائين الرائي والمرئي
وجوب الاشتباه، والله تعالى منزه عن الاشتباه، فنثبت أنه لا يجوز عليه سبحانه
الرؤية بالأبصار، لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات.
وعن العباس بن هلال (2) قال: سألت أبا الحسن علي بن محمد عليه السلام عن قول
الله عز وجل: (الله نور السماوات والأرض) (3). فقال عليه السلام: يعني هادي من
في السماوات ومن في الأرض.
ومما أجاب به أبو الحسن علي بن محمد العسكري عليه السلام في رسالته إلى أهل
الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض أن قال: اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف
بينهم في ذلك: أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الاجماع
عليه مصيبون، وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون، ولقول النبي صلى الله عليه وآله: (لا تجتمع
أمتي على ضلالة) فأخبر عليه السلام أن ما اجتمعت عليه الأمة ولم يخالف بعضها بعضا
هو الحق، فهذا معنى الحديث لا ما تأوله الجاهلون (4)، ولا ما قاله المعاندون

(1) ذكره الشيخ في أصحاب الجواد ص 398 من رجاله وقال العلامة في القسم
الأول من خلاصته ص 15: أحمد بن إسحاق بن سعد بن عبد الله بن سعد بن مالك الأحوص
الأشعري، أبو علي القمي، كان وافد القميين، روى عن أبي جعفر الثاني عليه
السلام وأبي الحسن عليه السلام وكان خاصة أبي محمد عليه السلام وهو شيخ القميين
رأي صاحب الزمان عليه السلام.
(2) العباس بن هلال الشامي: ذكره الشيخ في رجاله في عداد أصحاب
الرضا عليه السلام ص 382 والنجاشي ص 217 وقال: روى عن الرضا عليه السلام.
(3) النور - 35.
(4) أي: ما تأولوه من قولهم بالإجماع في اختيار الإمام الذي لم يجعل لهم
الله الخيرة فيه.
251

ومن إبطال حكم الكتاب واتباع حكم الأحاديث المزورة والروايات المزخرفة،
اتباع الأهواء المردية المهلكة التي تخالف نص الكتاب، وتحقيق الآيات الواضحات
النيرات. ونحن نسأل الله أن يوفقنا للصواب، ويهدينا إلى الرشاد.
ثم قال عليه السلام: فإذا شهد الكتاب بتصديق خبر وتحقيقه فأنكرته طائفة من
الأمة، وعارضته بحديث من هذه الأحاديث المزورة، فصارت بإنكارها ودفعها
الكتاب كفارا ضلالا، وأصح خبر ما عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع
عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: (إني مستخلف فيكم خليفتين: كتاب الله
وعترتي، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي
الحوض) (1) واللفظة الأخرى عنه في هذا المعنى بعينه قوله عليه السلام: (إني تارك
فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض
ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا) فلما وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب الله
مثل قوله: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة وهم راكعون) (2) ثم اتفقت روايات العلماء في ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام:
أنه تصدق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وأنزل الآية فيه، (3) ثم وجدنا
رسول الله صلى الله عليه وآله قد أبانه من أصحابه بهذه اللفظة: (من كنت مولاه فعلي مولاه
اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) (4) وقوله صلى الله عليه وآله: (علي يقضي ديني وينجز
موعدي وهو خليفتي عليكم بعدي) وقوله صلى الله عليه وآله حيث استخلفه على المدينة فقال:
يا رسول الله أتخلفني على النساء والصبيان؟
فقال: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (5)

(1) راجع حديث الثقلين في هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 216.
(2) المائدة - 58.
(3) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 167.
(4) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 161 و 196.
(5) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 262.
252

فعلمنا إن الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار، وتحقيق هذه الشواهد، فلزم الأمة
الاقرار بها إذا كانت هذه الأخبار وافقت القرآن، ووافق القرآن هذه الأخبار
فلما وجدنا ذلك موافقا لكتاب الله، ووجدنا كتاب الله لهذه الأخبار موافقا، وعليها
دليلا، كان الاقتداء بهذه الأخبار فرضا لا يتعداه إلا أهل العناد والفساد.
ثم قال عليه السلام: ومرادنا وقصدنا الكلام في الجبر والتفويض وشرحهما وبيانهما
وإنما قدمنا ما قدمنا ليكون اتفاق الكتاب والخبر إذا اتفقا دليلا لما أردناه، وقوة
لما نحن مبينوه من ذلك إن شاء الله.
(فقال): الجبر والتفويض يقول الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام، عندما سئل
عن ذلك فقال: لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين.
قيل: فماذا يا بن رسول الله؟
فقال: صحة العقل، وتخلية السرب، والمهلة في الوقت، والزاد قبل الراحلة
والسبب المهيج للفاعل على فعله، فهذه خمسة أشياء فإذا نقص العبد منها خلة كان
العمل عنه مطرحا بحسبه، وأنا أضرب لكل باب من هذه الأبواب الثلاثة
وهي: الجبر، والتفويض، والمنزلة بين المنزلتين، مثلا يقرب المعنى للطالب، ويسهل
له البحث من شرحه، ويشهد به القرآن بمحكم آياته، ويحقق تصديقه عند ذوي
الألباب، وبالله العصمة والتوفيق.
ثم قال عليه السلام: فأما الجبر. فهو: قول من زعم أن الله عز وجل جبر
العباد على المعاصي وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله وكذبه، ورد
عليه قوله: (ولا يظلم ربك أحدا) (1) وقوله جل ذكره: (ذلك بما قدمت يداك
وأن الله ليس بظلام للعبيد) (2) مع آي كثيرة في مثل هذا، فمن زعم أنه مجبور
على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله وظلمه في عقوبته له، ومن ظلم ربه فقد كذب
كتابه، ومن كذب كتابه لزمه (الكفر) بإجماع الأمة، فالمثل المضروب في ذلك:

(1) الكهف - 50
(2) الحج - 10.
253

مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك إلا نفسه، ولا يملك عرضا من عروض الدنيا
ويعلم مولاه ذلك منه، فأمره - على علم منه بالمصير - إلى السوق لحاجة يأتيه بها
ولم يملكه ثمن ما يأتيه به، وعلم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها
منه إلا بما يرضى به من الثمن، وقد وصف به مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة
وإظهار الحكمة ونفي الجور، فأوعد عبده إن لم يأته بالحاجة يعاقبه، فلما صار
العبد إلى السوق، وحاول أخذ الحاجة التي بعثه بها، وجد عليها مانعا يمنعه منها
إلا بالثمن ولا يملك العبد ثمنها، فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجة،
فاغتاظ مولاه لذلك وعاقبه على ذلك، فإنه كان ظالما متعديا مبطلا لما وصف من
عدله وحكمته ونصفته، وإن لم يعاقبه كذب نفسه، أليس يجب أن لا يعاقبه والكذب
والظلم ينفيان العدل والحكمة، تعالى الله عما يقول المجبرة علوا كبيرا.
ثم قال العالم عليه السلام: - بعد كلام طويل -: فأما التفويض الذي أبطله الصادق عليه السلام
وخطأ من دان به، فهو: قول القائل: (إن الله عز وجل فوض إلى العباد اختيار
أمره ونهيه وأهملهم).
وهذا الكلام دقيق لم يذهب إلى غوره ودقته إلا الأئمة المهدية عليهم السلام من عترة
آل الرسول صلوات الله عليهم فإنهم قالوا: (لو فوض الله أمره إليهم على جهة الاهمال
لكان لازما له رضا ما اختاروه واستوجبوا به الثواب، ولم يكن عليهم فيما اجترموا
العقاب إذ كان الاهمال واقعا، وتنصرف هذه المقالة على معنيين: أما أن تكون
العباد تظاهروا عليه فالزموه اختيارهم بآرائهم - ضرورة - كره ذلك أم أحب فقد لزمه
الوهن، أو يكون جل وتقدس عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي عن إرادته ففوض
أمره ونهيه إليهم، وأجراهما على محبتهم إذ عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي على إرادته
فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان، ومثل ذلك: مثل رجل ملك عبدا ابتاعه
ليخدمه ويعرف له فضل ولايته، ويقف عند أمره ونهيه وادعى مالك العبد: أنه
قاهر قادر عزيز حكيم، فأمر عبده ونهاه، ووعده على اتباع أمره عظيم الثواب
وأوعده على معصيته أليم العقاب، فخالف العبد إرادة مالكه، ولم يقف عند أمره
254

ونهيه، فأي أمر أمره به أو نهاه عنه لم يأتمر على إرادة المولى، بل كان العبد
يتبع إرادة نفسه، وبعثه في بعض حوائجه وفيما الحاجة له فصار العبد بغير تلك الحاجة
خلافا على مولاه وقصد إرادة نفسه واتبع هواه، فلما رجع إلى مولاه نظر إلى
ما أتاه فإذا هو خلاف أمره فقال العبد: اتكلت على تفويضك الأمر إلي فاتبعت
هواي وإرادتي لأن المفوض إليه غير محظور عليه لاستحالة اجتماع التفويض والتحظير.
ثم قال عليه السلام: فمن زعم أن الله فوض قبول أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت
عليه العجز، وأوجب عليه قبول كلما عملوا من خير أو شر، وأبطل أمر الله ونهيه.
ثم قال: إن الله خلق الخلق بقدرته وملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الأمر
والنهي، وقبل منهم اتباع أمره ونهيه ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته وذم
من عصاه وعاقبه عليها، ولله الخيرة في الأمر والنهي يختار ما يريده ويأمر به، وينهى
عما يكره ويثبت ويعاقب بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه
لأنه العدل ومنه النصفة والحكومة، بالغ الحجة بالإعذار والإنذار، وإليه الصفوة
يصطفي من يشاء من عباده، اصطفى محمدا صلوات الله عليه وآله وبعثه بالرسالة إلى خلقه
ولو فوض اختيار أموره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار أمية بن أبي الصلت وأبي
مسعود الثقفي إذ كانا عندهم أفضل من محمد صلى الله عليه وآله لما قالوا: (لولا أنزل هذا القرآن
على رجل من القريتين عظيم) (1) يعنونهما بذلك فهذا هو: (القول بين القولين)
ليس بجبر ولا تفويض، بذلك أخبر أمير المؤمنين عليه السلام حين سأله عتابة بن ربعي
الأسدي عن الاستطاعة.
فقال أمير المؤمنين: تملكها من دون الله أو مع الله؟
فسكت عتابة بن ربعي.
فقال له: قل يا عتابة!
قال: وما أقول؟
قال: إن قلت تملكها مع الله قتلتك، وإن قلت تملكها من دون الله قتلتك.

(1) الزخرف - 21.
255

قال: وما أقول يا أمير المؤمنين؟
قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن ملككها كان ذلك من
عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملكك، والمالك لما عليه
أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حيث يقولون: (لا حول ولا قوة
إلا بالله).
فقال الرجل: وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟
قال: لا حول لنا عن معاصي الله إلا بعصمة الله، ولا قوة لنا على طاعة الله
إلا بعون الله.
قال: فوثب الرجل وقبل يديه ورجليه.
ثم قال عليه السلام في قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم
والصابرين ونبلوا أخباركم) (1) وفي قوله: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) (2)
وفي قوله: (أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) (3) وقوله: (ولقد فتنا سليمان (4)
وقوله: (فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري) (5) وقول موسى عليه السلام:
(إن هي إلا فتنتك) (6) وقوله: (ليبلوكم فيما آتاكم) (7) وقوله: (ثم
صرفكم عنهم ليبتليكم) (8) وقوله: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة) (9)
وقوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (10) وقوله: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه
بكلمات) (11) وقوله: (ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض) (12)
أن جميعها جاءت في القرآن بمعنى الاختيار.

(1) محمد - 31.
(2) الأعراف - 181.
(3) العنكبوت - 2.
(4) سورة ص - 34.
(5) طه - 85.
(6) الأعراف - 154.
(7) المائدة - 51.
(8) آل عمران - 152.
(9) القلم - 17.
(10) هود - 7.
(11) البقرة - 142.
(12) محمد - 4.
256

ثم قال عليه السلام: فإن قالوا ما الحجة في قول الله تعالى: (يهدي من يشاء ويضل
من يشاء) (1) وما أشبه ذلك؟
قلنا: فعلى مجاز هذه الآية يقتضي معنيين: أحدهما عن كونه تعالى قادرا
على هداية من يشاء وضلالة من يشاء، ولو أجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب
ولا عليهم عقاب، على ما شرحناه. والمعنى الآخر: أن الهداية منه (التعريف) كقوله
تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (2) وليس كل آية
مشتبهة في القرآن كانت الآية حجة على حكم الآيات اللاتي أمر بالأخذ بها
وتقليدها، وهي قوله: (هو الذي أنزل عليكم الكتاب منه آيات محكمات هن
أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء
الفتنة وابتغاء تأويله. الآية) (3) وقال: (فبشر عبادي الذين يستمعون القول
فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) (4) وفقنا الله
وإياكم لما يحب ويرضى، ويقرب لنا ولكم الكرامة والزلفى، وهدانا لما هو لنا
ولكم خير وأبقى، إنه الفعال لما يريد، الحكيم المجيد.
عن أبي عبد الله الزيادي (5) قال: لما سم المتوكل، نذر لله إن رزقه الله
العافية أن يتصدق بمال كثير، فلما سلم وعوفي سأل الفقهاء، عن حد (المال الكثير)
كم يكون؟ فاختلفوا. فقال بعضهم: (ألف درهم) وقال بعضهم: (عشرة آلاف)
وقال بعضهم: (مائة ألف) فاشتبه عليه هذا.
فقال له الحسن حاجبه: إن أتيتك يا أمير المؤمنين من هذا خبرك بالحق
والصواب فما لي عندك؟
فقال المتوكل: إن أتيت بالحق فلك عشرة آلاف درهم، وإلا أضربك
مائة مقرعة.

(1) إبراهيم - 4.
(2) حم - السجدة - 17.
(3) آل عمران - 7.
(4) الزمر - 18.
(5) أبو عبد الله الزيادي: لم أعثر له على ترجمة.
257

فقال: قد رضيت. فأتى أبا الحسن العسكري عليه السلام فسأله عن ذلك.
فقال أبو الحسن عليه السلام: قل له: يتصدق بثمانين درهما. فرجع إلى المتوكل
فأخبره. فقال: سله ما العلة في ذلك؟
فسأله فقال: إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وآله: (ولقد نصركم الله في مواطن
كثيرة) (1) فعددنا مواطن رسول الله صلى الله عليه وآله فبلغت ثمانين موطنا.
فرجع إليه فأخبره ففرح، وأعطاه عشرة آلاف درهم.
وعن جعفر بن رزق الله (2) قال: قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر
بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحد فأسلم.
فقال يحيى بن أكثم: قد هدم إيمانه شركه وفعله، وقال بعضهم: يضرب
ثلاثة حدود، وقال بعضهم: يفعل به كذا وكذا.
فأمر المتوكل بالكتاب إلى أبي الحسن العسكري وسؤاله عن ذلك.
فلما قرأ الكتاب كتب عليه السلام: يضرب حتى يموت، فأنكر يحيى وأنكر
فقهاء العسكر ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين سله عن ذلك فإنه شئ لم ينطق به
كتاب، ولم يجئ به سنة.
فكتب إليه: إن الفقهاء قد أنكروا هذا، وقالوا: لم يجئ به سنة ولم ينطق
به كتاب، فبين لنا لم أوجبت علينا الضرب حتى يموت؟
فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده
وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية) (3) فأمر
به المتوكل فضرب حتى مات.
سأل يحيى بن أكثم أبا الحسن العالم عليه السلام عن قوله تعالى: (سبعة أبحر
ما نفدت كلمات الله) (4) ما هي؟

(1) التوبة - 26.
(2) روى عنه في التهذيب والكافي ولم أعثر له على ترجمة.
(3) المؤمن - 84 و 85.
(4) لقمان - 27.
258

فقال: هي: (عين الكبريت) و (عين اليمن) و (عين البرهوت) و (عين
الطبرية) و (جمة ماسيدان) وجمة (أفريقا) و (عين ما جروان) ونحن
الكلمات التي لا تدرك فضائلنا ولا تستقصى.
وروي عن الحسن العسكري عليه السلام: أنه اتصل بأبي الحسن علي بن محمد
العسكري عليه السلام: أن رجلا من فقهاء شيعته كلم بعض النصاب فافهمه بحجته حتى
أبان عن فضيحته، فدخل إلى علي بن محمد عليه السلام وفي صدر مجلسه دست عظيم منصوب
وهو قاعد خارج الدست، وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم، فما زال يرفعه
حتى أجلسه في ذلك الدست، وأقبل عليه فاشتد ذلك على أولئك الأشراف، فأما
العلوية فأجلوه عن العتاب، وأما الهاشميون فقال له شيخهم: يا بن رسول الله هكذا
تؤثر عاميا على سادات بني هاشم من الطالبيين والعباسيين؟!
فقال عليه السلام إياكم وإن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم: (ألم تر إلى الذين
أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم
وهم معرضون) (1) أترضون بكتاب الله حكما؟
قالوا: بلى.
قال: أليس الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس
فافسحوا يفسح الله لكم إلى قوله يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم
درجات) (2) فلم يرض للعالم المؤمن إلا أن يرفع على المؤمن غير العالم، كما
لم يرض للمؤمن إلا أن يرفع على من ليس بمؤمن، أخبروني عنه قال:
(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)؟ أو قال: (يرفع
الذين أوتوا شرف النسب درجات)؟ أوليس قال الله: (هل يستوي الذين يعلمون
والذين لا يعلمون) (3) فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله؟! إن كسر هذا
(لفلان) الناصب بحجج الله التي علمه إياها، لأفضل له من كل شرف في النسب.

(1) النساء - 6.
(2) المجادلة - 11.
(3) الزمر - 9.
259

فقال العباسي: يا بن رسول الله قد أشرفت علينا هو ذا تقصير بنا عمن ليس
له نسب كنسبنا، وما زال منذ أول الإسلام يقدم الأفضل في الشرف على من
دونه فيه.
فقال عليه السلام: سبحان الله أليس عباس بايع أبا بكر وهو (تيمي) والعباس
(هاشمي)؟ أوليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب وهو (هاشمي)
أبو الخلفاء وعمر (عدوي)؟! وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشورى
ولم يدخل العباس؟ فإن كان رفعنا لمن ليس بهاشمي على هاشمي منكرا فأنكروا
على عباس بيعته لأبي بكر، وعلى عبد الله بن عباس خدمته لعمر بعد بيعته، فإن
كان ذلك جائزا فهذا جائز، فكأنما ألقم الهاشمي حجرا.
وروي عن علي بن محمد الهادي عليه السلام أنه قال: لولا من يبقى بعد غيبة
قائمكم عليه السلام من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله
والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي
أحد إلا ارتد عن عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة
كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل.
احتجاج أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام في أنواع
شتى من علوم الدين.
وبالإسناد المقدم ذكره: أن أبا محمد العسكري عليه السلام قال - في قوله تعالى -:
(ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) (1)
أي: وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها بأنهم الذين لا يؤمنون
وعلى سمعهم كذلك بسمات، وعلى أبصارهم غشاوة، وذلك: أنهم لما أعرضوا عن
النظر فيما كلفوه، وقصروا فيما أريد منهم، وجهلوا ما لزمهم الإيمان به، فصاروا

(1) البقرة - 7.
260

كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه، فإن الله عز وجل يتعالى عن العبث والفساد
وعن مطالبة العباد بما منعهم بالقهر منه، فلا يأمرهم بمغالبته، ولا بالمصير إلى ما قد
صدهم بالقسر عنه، ثم قال: ولهم عذاب عظيم يعني: في الآخرة العذاب المعد
للكافرين، وفي الدنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح
لينبهه لطاعته، أو من عذاب الاصلاح ليصيره إلى عدله وحكمته.
وروى أبو محمد العسكري عليه السلام مثل ما قال هو في تأويل هذه الآية من
المراد بالختم على قلوب الكفار عن الصادق عليه السلام بزيادة شرح لم نذكره مخافة
التطويل لهذا الكتاب.
وبالإسناد المتكرر من أبي محمد عليه السلام أنه قال - في تفسير قوله تعالى -:
(الذي جعل لكم الأرض فراشا.. الآية) (1) جعلها ملائمة لطبايعكم، موافقة
لأجسادكم، لم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة
فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم،
ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في حرثكم
وأبنيتكم ودفن موتاكم، ولكنه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به، وتتماسكون
وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها من اللين ما تنقاد به لحرثكم وقبوركم
وكثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم.
ثم قال: (والسماء بناء) يعني: سقفا من فوقكم محفوظا، يدير فيها شمسها
وقمرها ونجومها لمنافعكم.
ثم قال: (وأنزل من السماء ماء) يعني: المطر ينزله من علو ليبلغ قلل
جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادكم، ثم فرقه رذاذا ووابلا وهطلا وطلا، لينشقه
أرضوكم، ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة، ليفسد أرضيكم
وأشجاركم وزروعكم وثماركم.
ثم قال: (وأخرج به من الثمرات رزقا لكم) يعني: مما يخرجه من الأرض

(1) البقرة - 22.
261

رزقا لكم، (فلا تجعلوا لله أندادا) أشباها وأمثالا من الأصنام التي لا تعقل،
ولا تسمع، ولا تبصر، ولا تقدر على شئ، (وأنتم تعلمون) أنها لا تقدر على شئ
من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم.
وبالإسناد الذي مضى ذكره عن أبي محمد العسكري عليه السلام في قوله تعالى:
(ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) (1) إن الأمي منسوب إلى (أمه)
أي: هو كما خرج من بطن أمه، لا يقرأ ولا يكتب، (لا يعلمون الكتاب)
المنزل من السماء ولا المتكذب به، ولا يميزون بينهما (إلا أماني) أي: إلا أن يقرأ
عليهم ويقال لهم: إن هذا كتاب الله وكلامه، لا يعرفون إن قرأ من الكتاب
خلاف ما فيه، (وإن هم إلا يظنون) أي ما يقرأ عليهم رؤساؤهم من تكذيب
محمد صلى الله عليه وآله في نبوته وإمامة علي سيد عترته، وهم يقلدونهم مع أنه (محرم عليهم)
تقليدهم، (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله
تعالى.. الخ) (2) هذا: القوم اليهود، كتبوا صفة زعموا أنها صفة محمد صلى الله عليه وآله، وهي
خلاف صفته، وقالوا للمستضعفين منهم: هذه صفة النبي المبعوث في آخر الزمان
أنه: طويل عظيم البدن والبطن، أهدف، (3) أصهب الشعر، ومحمد صلى الله عليه وآله بخلافه،
وهو يجئ بعد هذا الزمان بخمسمائة سنة، وإنما أرادوا بذلك أن تبقى لهم على
ضعفائهم رياستهم، وتدوم لهم إصاباتهم، ويكفوا أنفسهم مؤنة خدمة رسول الله صلى الله عليه وآله
وخدمة علي عليه السلام وأهل بيته وخاصته، فقال الله عز وجل: (فويل لهم مما كتبت
أيديهم وويل لهم مما يكسبون) من هذه الصفات المحرفات والمخالفات لصفة محمد صلى الله عليه وآله
وعلي عليه السلام: الشدة لهم من العذاب في أسوء بقاع جهنم، وويل لهم: الشدة في العذاب
ثانية مضافة إلى الأولى، بما يكسبونه من الأموال التي يأخذونها إذا ثبتوا عوامهم
على الكفر بمحمد رسول الله صلى الله عليه وآله، والحجة لوصيه وأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام
ولي الله.

(1) البقرة - 78.
(2) البقرة 79.
(3) الهدف: الجسيم.
262

ثم قال عليه السلام: قال رجل للصادق عليه السلام: فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود
لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمهم
بتقليدهم والقبول من علمائهم، وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون علماءهم؟
فقال عليه السلام: بين عوامنا وعلمائنا وعوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة
وتسوية من جهة.
أما من حيث استووا: فإن الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علمائهم كما ذم عوامهم.
وأما من حيث افترقوا فلا.
قال: بين لي يا بن رسول الله!
قال عليه السلام: إن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح، وبأكل
الحرام والرشاء، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات،
وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم، وأنهم إذا تعصبوا أزالوا
حقوق من تعصبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم،
وظلموهم من أجلهم، وعرفوهم يقارفون المحرمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى
أن من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله ولا على الوسائط بين
الخلق وبين الله، فلذلك ذمهم لما قلدوا من قد عرفوه ومن قد علموا أنه لا يجوز
قبول خبره ولا تصديقه في حكايته، ولا العمل بما يؤديه إليهم عمن لم يشاهدوه
ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ كانت دلائله أوضح من أن
تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم.
وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة
والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصبون عليه وإن كان لإصلاح
أمره مستحقا، وبالترفرف بالبر والإحسان على من تعصبوا له وإن كان للإذلال
والإهانة مستحقا، فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين
ذمهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم، فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا
لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون
263

إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فإنه من ركب من القبايح والفواحش مراكب
فسقة العامة فلا تقبلوا منا عنه شيئا، ولا كرامة، وإنما كثر التخليط فيما يتحمل
عنا أهل البيت لذلك لأن الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره بجهلهم،
ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم، وآخرون يتعمدون الكذب علينا
ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم، ومنهم قوم (نصاب) لا يقدرون
على القدح فينا، يتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا، وينتقصون
بنا عند نصابنا، ثم يضيفون إليه أضعاف وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي
نحن براء منها، فيتقبله المستسلمون من شيعتنا، على أنه من علومنا، فضلوا
وأضلوا وهم أضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي عليه السلام
وأصحابه، فإنهم يسلبونهم الأرواح والأموال، وهؤلاء علماء السوء الناصبون المتشبهون
بأنهم لنا موالون، ولأعدائنا معادون، ويدخلون الشك والشبهة على ضعفاء شيعتنا
فيضلونهم ويمنعونهم عن قصد الحق المصيب، لا جرم أن من علم الله من قلبه من
هؤلاء القوم أنه لا يريد إلا صيانة دينه وتعظيم وليه لم يتركه في يد هذا المتلبس
الكافر، ولكنه يقيض له مؤمنا يقف به على الصواب، ثم يوفقه الله للقبول منه،
فيجمع الله له بذلك خير الدنيا والآخرة، ويجمع على من أضله لعنا في الدنيا
وعذاب الآخرة.
ثم قال: قال رسول الله: (أشرار علماء أمتنا: المضلون عنا، القاطعون
للطرق إلينا، المسمون أضدادنا بأسمائنا، الملقبون أضدادنا بألقابنا، يصلون عليهم
وهم للعن مستحقون، ويلعنونا ونحن بكرامات الله مغمورون، وبصلوات الله
وصلوات ملائكته المقربين علينا عن صلواتهم علينا مستغنون).
ثم قال: قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: من خير خلق الله بعد أئمة الهدى،
ومصابيح الدجى؟
قال: العلماء إذا صلحوا.
قيل: فمن شرار خلق الله بعد إبليس، وفرعون، ونمرود، وبعد المتسمين
264

بأسمائكم، والمتلقبين بألقابكم، والآخذين لأمكنتكم، والمتأمرين في ممالككم؟
قال: العلماء إذا فسدوا، هم المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقايق،
وفيهم قال الله عز وجل: (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا..
الآية) (1).
وبالإسناد المقدم ذكره عن أبي يعقوب يوسف بن محمد بن زياد، وأبي الحسن
علي بن محمد بن سيار، أنهما قالا: قلنا للحسن أبي القائم عليهما السلام: إن قوما عندنا
يزعمون: أن هاروت وماروت ملكان اختارتهما الملائكة لما كثر عصيان بني آدم
وأنزلهما الله مع ثالث لهما إلى الدنيا، وأنهما افتتنا بالزهرة وأراد الزنا بها، وشربا
الخمر، وقتلا النفس المحرمة، وأن الله يعذبهما ببابل، وأن السحرة منهما يتعلمون
السحر، وأن الله مسخ هذا الكوكب الذي هو (الزهرة).
فقال الإمام عليه السلام: معاذ الله من ذلك، إن ملائكة الله معصومون محفوظون
من الكفر والقبايح، بألطاف الله فقال عز وجل فيهم: (لا يعصون الله ما أمرهم
ويفعلون ما يؤمرون) (2) وقال: (ولله من في السماوات والأرض ومن عنده -
يعني: الملائكة - لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار
لا يفترون) (3) وقال في الملائكة: (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم
بأمره يعملون) إلى قوله (مشفقون) (4) كان الله قد جعل هؤلاء الملائكة
خلفائه في الأرض، وكانوا كالأنبياء في الدنيا، وكالأئمة، أفيكون من الأنبياء
والأئمة قتل النفس والزنا وشرب الخمر؟!!
ثم قال: أو لست تعلم أن الله لم يخل الدنيا من نبي أو إمام من البشر؟
أوليس يقول: (وما أرسلنا قبلك من رسلنا - يعني إلى الخلق - إلا رجالا نوحي
إليهم من أهل القرى) (5) فأخبر أنه لم يبعث الملائكة إلى الأرض ليكونوا أئمة

(1) البقرة - 159.
(2) التحريم - 6.
(3) الأنبياء - 19 و 20
(4) الأنبياء - 27 و 28.
(5) يوسف - 109.
265

وحكاما، وإنما أرسلوا إلى أنبياء الله.
قالا. قلنا له: فعلى هذا لم يكن إبليس ملكا!
فقال: لا. بل كان من الجن! أما تسمعان الله تعالى يقول: (وإذ قلنا
للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن) (1) فأخبر أنه كان
من الجن، وهو الذي قال: (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) (2).
وقال الإمام عليه السلام: حدثني أبي، عن جدي، عن الرضا، عن أبيه، عن
آبائه، عن علي عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله أن الله اختارنا معاشر آل محمد، واختار النبيين، واختار الملائكة المقربين، وما اختارهم إلا على علم منه بهم: أنهم لا يواقعون
ما يخرجون به عن ولايته، وينقطعون به من عصمته، وينضمون به إلى المستحقين
لعذابه ونقمته.
قالا: فقلنا: فقد روي لنا: أن عليا صلوات الله عليه لما نص عليه رسول الله
بالإمامة، عرض الله ولايته على فيام وفيام (3) من الملائكة فأبوها، فمسخهم
الله ضفادع.
فقال: معاذ الله! هؤلاء المتكذبون علينا، الملائكة هم: رسل الله كساير
أنبياء الله إلى الخلق، أفيكون منهم الكفر بالله؟
قلنا: لا.
قال: فكذلك الملائكة! إن شأن الملائكة عظيم وإن خطبهم لجليل.
وبالإسناد الذي تكرر عن أبي يعقوب وأبي الحسن أيضا أنهما قالا: حضرنا
عند الحسن بن علي أبي القائم عليهما السلام فقال له بعض أصحابه: جاءني رجل من إخواننا
الشيعة قد امتحن بجهال العامة، يمتحنونه في الإمامة ويحلفونه، فكيف يصنع
حتى يتخلص منهم؟
فقلت له: كيف يقولون؟

(1) الكهف - 51.
(2) الحجر - 27.
(3) الفيام: - بفتح الفاء وكسرها - الجماعة من الناس وغيرهم.
266

قال: يقولون: (أتقول أن فلانا هو الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فلا بد
لي أن أقول نعم وإلا أثخنوني ضربا، فإذا قلت: (نعم) قالوا لي: قل: (والله)
فقلت لهم: (نعم) وأريد به (نعما) من الأنعام: (الإبل والبقر والغنم).
قلت: فإذا قالوا: والله فقل ولي أي ولي تريد عن أمر كذا، فإنهم لا يميزون
وقد سلمت.
فقال لي: فإن حققوا علي فقالوا قل: (والله) وبين الهاء.
فقلت: قل والله برفع الهاء، فإنه لا يكون يمينا إذا لم يخفض.
فذهب ثم رجع إلي فقال: عرضوا علي وحلفوني، فقلت كما لقنتني.
فقال له الحسن عليه السلام: أنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (الدال على الخير
كفاعله) لقد كتب الله لصاحبك بتقيته بعدد كل من استعمل التقية من شيعتنا
وموالينا ومحبينا حسنة، وبعدد من ترك التقية منهم حسنة، أدناها حسنة لو قوبل
بها ذنوب مائة سنة لغفرت، ولك بإرشادك إياه مثل ما له.
وبالإسناد المتكرر ذكره عن الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: أعرف الناس
بحقوق إخوانه وأشدهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأنا، ومن تواضع في الدنيا
لإخوانه فهو عند الله من الصديقين ومن شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام حقا، ولقد
ورد على أمير المؤمنين عليه السلام أخوان له مؤمنان أب وابن، فقام إليهما، وأكرمهما
وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بين أيديهما، ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه
ثم جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل لييس وجاء ليصب على يد الرجل ماءا
فوثب أمير المؤمنين عليه السلام فأخذ الإبريق ليصب على يد الرجل فتمرغ الرجل
في التراب وقال:
يا أمير المؤمنين الله يراني وأنت تصب على يدي؟!
قال: اقعد واغسل يدك فإن الله عز وجل وأخوك الذي لا يتميز منك
ولا يتفضل عليك يخدمك، يريد بذلك في خدمه في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد
أهل الدنيا وعلى حسب ذلك في ممالكه فيها.
267

فقعد الرجل فقال له علي عليه السلام: أقسمت عليك بعظيم حقي الذي عرفته وبجلته
وتواضعك لله بأن ندبني لما شرفك به من خدمتي لك، لما غسلت مطمئنا كما كنت
تغسل لو كان الصاب عليك قنبرا، ففعل الرجل.
فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية وقال: يا بني لو كان هذا الابن
حضرني دون أبيه لصببت على يده، ولكن الله يأبى أن يسوي بين ابن وأبيه إذا
جمعهما مكان، لكن قد صب الأب على الأب، فليصب الابن على الابن، فصب محمد
ابن الحنفية على الابن.
ثم قال الحسن العسكري عليه السلام: فمن اتبع عليا عليه السلام على ذلك فهو الشيعي حقا.
احتجاج الحجة القائم المنتظر المهدي صاحب الزمان صلوات الله عليه
وعلى آبائه الطاهرين.
سعد بن عبد الله القمي الأشعري (1) قال: بليت بأشد النواصب منازعة
فقال لي يوما - بعد ما ناظرته -: تبا لك ولأصحابك! أنتم معاشر الروافض
تقصدون المهاجرين والأنصار بالطعن عليهم، وبالجحود لمحبة النبي لهم، فالصديق
هو فوق الصحابة بسبب سبق الإسلام، ألا تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله إنما ذهب به

(1) سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي قال الشيخ في باب أصحاب
العسكري عليه السلام ص 438: (عاصره عليه السلام ولم أعلم أنه روى عنه)
وقال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص 78: (يكنى أبا القاسم، جليل
القدر واسع الأخبار، كثير التصانيف، ثقة، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجيهها
ولقي مولانا أبا محمد العسكري عليه السلام.
قال النجاشي: ورأيت بعض أصحابنا يضعفون لقاءه لأبي محمد ويقولون:
هذه حكاية موضوعة عليه، والله أعلم.
توفي سعد رحمه الله سنة إحدى وثلاثمائة. وقيل: سنة تسع وتسعين ومائتين.
وقيل: مات رحمه الله يوم الأربعاء لسبع وعشرين من شوال سنة ثلاثمائة، في ولاية رستم)
268

ليلة الغار لأنه خاف عليه كما خاف على نفسه، ولما علم أنه يكون الخليفة في أمته
وأراد أن يصون نفسه كما يصون عليه السلام خاصة نفسه، كي لا يختل حال الدين من
بعده. ويكون الإسلام منتظما؟ وقد أقام عليا على فراشه لما كان في علمه أنه لو
قتل لا يختل الإسلام بقتله. لأنه يكون من الصحابة من يقوم مقامه لا جرم
لم يبال من قتله؟!
قال سعد: إني قلت على ذلك أجوبة لكنها غير مسكتة.
ثم قال: معاشر الروافض تقولون: أن (الأول والثاني) كانا ينافقان،
وتستدلون على ذلك بليلة العقبة.
ثم قال لي: أخبرني عن إسلامهما كان من طوع ورغبة أو كان عن إكراه وإجبار؟
فاحترزت عن جواب ذلك وقلت مع نفسي إن كنت أجبته بأنه كان عن إكراه
وإجبار لم يكن في ذلك الوقت للإسلام قوة حتى يكون إسلامهما بإكراه وقهر،
فرجعت عن هذا الخصم على حال ينقطع كبدي، فأخذت طومارا وكتبت بضعا
وأربعين مسألة من المسائل الغامضة التي لم يكن عندي جوابها، فقلت: أدفعها إلى
صاحب مولاي أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام الذي كان في قم أحمد بن إسحاق (1)
فلما طلبته كان هو قد ذهب فمشيت على أثره فأدركته وقلت الحال معه.
فقال لي: جئ معي إلى سر من رأى حتى نسأل عن هذه المسائل مولانا
الحسن بن علي عليهما السلام.
فذهبت معه إلى سر من رأى ثم جئنا إلى باب دار مولانا عليه السلام فاستأذنا
عليه فأذن لنا، فدخلنا الدار وكان مع أحمد بن إسحاق جراب قد ستره بكساء
طبري، وكان فيه مائة وستون صرة من الذهب والورق، على كل واحدة منها خاتم

(1) قال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 14: (أحمد بن إسحاق الرازي
من أصحاب أبي الحسن الثالث علي بن محمد الهادي عليهما السلام، أورد الكشي
ما يدل على اختصاصه بالجهة المقدسة، وقد ذكرته في الكتاب الكبير).
269

صاحبها الذي دفعها إليه، ولما دخلنا ووقع أعيننا على أبي محمد الحسن العسكري عليهما السلام
كان وجهه كالقمر ليلة البدر وقد رأينا على فخذه غلاما يشبه المشتري في الحسن
والجمال، وكان على رأسه ذؤابتان، وكان بين يديه رمان من الذهب قد حلي
بالفصوص والجواهر الثمينة قد أهداه واحد من رؤساء البصرة، وكان في يده قلم
يكتب به شيئا على قرطاس، فكلما أراد أن يكتب شيئا أخذ الغلام يده فألقى الرمان
حتى يذهب الغلام إليه ويجئ به فلما ترك يده يكتب ما شاء.
ثم فتح أحمد بن إسحاق الكساء ووضع الجراب بين يدي العسكري عليه السلام،
فنظر العسكري إلى الغلام فقال: فض الخاتم عن هدايا شيعتك ومواليك!
فقال: يا مولاي أيجوز أن أمد يدا طاهرة إلى هدايا نخسة وأموال رجسة؟!
ثم قال: يا بن إسحاق أخرج ما في الجراب ليميز بين الحلال والحرام!
ثم أخرج (صرة) فقال الغلام: هذا (لفلان بن فلان) من محلة (كذا)
بقم، مشتمل على اثنين وسبعين دينارا، فيها من ثمن حجرة باعها وكانت إرثا عن
أبيه خمسة وأربعون دينارا، ومن أثمان سبعة أثواب أربعة عشر دينارا، وفيه من
أجرة الحوانيت ثلاثة دنانير.
فقال مولانا عليه السلام صدقت يا بني! دل الرجل على الحرام منها.
فقال الغلام: في هذه العين دينار بسكة الري تاريخه في سنة (كذا) قد
ذهب نصف نقشه عنه، وثلاثة اقطاع قراضة بالوزن (دانق ونصف) في هذه الصرة
الحرام هذا القدر. فإن صاحب هذه الصرة في سنة كذا في شهر كذا كان له عند
نساج - وهو من جملة جيرانه - من وربع، فأتى على ذلك زمان كثير فسرقه
سارق من عنده فأخبره النساج بذلك فما صدقه وأخذ الغرامة بغزل أدق منه مبلغ
من ونصف، ثم أمر حتى نسج منه ثوب وهذا الدينار والقراضة من ثمنه. ثم حل
عقدها فوجد الدينار والقراضة كما أخبر، ثم أخرجت (صرة) أخرى.
فقال الغلام: هذا (لفلان بن فلان) من المحلة (الفلانية) بقم والعين فيها
(خمسون دينارا) ولا ينبغي لنا أن ندني أيدينا إليها.
270

قال: لم؟
فقال: من أجل أن هذه الدنانير ثمن الحنطة، وكانت هذه الحنطة بينه
وبين حراث له، فأخذ نصيبه بكيل كامل وأعطى نصيبه بكيل ناقص.
فقال مولانا الحسن بن علي عليهما السلام: صدقت يا بني!
قال: يا بن إسحاق إحمل هذه الصرور وبلغ أصحابها وأوص بتبليغها إلى
أصحابها، فإنه لا حاجة بنا إليها.
ثم قال: جئ إلي بثوب تلك العجوز.
فقال أحمد بن إسحاق: كان ذلك في حقيبة فنسيته، ثم مشى أحمد بن
إسحاق ليجئ بذلك فنظر إلي مولانا أبو محمد العسكري عليه السلام وقال:
ما جاء بك يا سعد؟
فقلت: شوقني أحمد بن إسحاق إلى لقاء مولانا.
قال: المسائل التي أردت أن تسأل عنها؟
قلت: على حالها يا مولاي.
قال: فاسأل قرة عيني - وأومى إلى الغلام - عما بدا لك!
فقلت: يا مولانا وابن مولانا روي لنا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله جعل طلاق
نسائه إلى أمير المؤمنين، حتى أنه بعث يوم الجمل رسولا إلى عائشة وقال: إنك
أدخلت الهلاك على الإسلام وأهله بالغش الذي حصل منك، وأوردت أولادك في موضع
الهلاك بالجهالة، فإن امتنعت وإلا طلقتك. فأخبرنا يا مولاي عن معنى الطلاق
الذي فوض حكمه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أمير المؤمنين عليه السلام؟
فقال: إن الله تقدس اسمه عظم شأن نساء النبي صلى الله عليه وآله فخصهن لشرف الأمهات
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا الحسن إن هذا شرف باق مادمن لله على طاعة، فأيتهن
عصت الله بعدي بالخروج عليك فطلقها من الأزواج، وأسقطها من شرف أمية المؤمنين.
ثم قلت: أخبرني عن الفاحشة المبينة التي إذا فعلت المرأة ذلك يجوز لبعلها
أن يخرجها من بيته في أيام عدتها؟
271

فقال عليه السلام: تلك الفاحشة السحق (1) وليست بالزنا لأنها إذا زنت يقام
عليها الحد، وليس لمن أراد تزويجها أن يمتنع من العقد عليها لأجل الحد الذي
أقيم عليها، وأما إذا ساحقت فيجب عليها الرجم، والرجم هو الخزي، ومن أمر
الله تعالى برجمها فقد أخزاها ليس لأحد أن يقربها.
ثم قلت: أخبرني يا بن رسول الله عن قول الله تعالى لنبيه موسى: (فاخلع
نعليك إنك بالواد المقدس طوى) (2) فإن فقهاء الفريقين يزعمون: أنها كانت
من إهاب الميتة؟
فقال عليه السلام: من قال ذلك فقد افترى على موسى واستجهله في نبوته، لأنه
ما خلا الأمر فيها من خطبين: أما أن كانت صلاة موسى فيها جائزة أو غير جائزة،
فإن كانت صلاة موسى جائزة فيها، فجاز لموسى أن يكون لابسها في تلك البقعة
وإن كانت مقدسة مطهرة، وإن كانت صلاته غير جائزة فيها فقد أوجب أن
موسى لم يعرف الحلال والحرام، ولم يعلم ما جازت الصلاة فيه مما لم يجز
وهذا (كفر).
قلت: فأخبرني يا مولاي عن التأويل فيها؟
قال: إن موسى عليه السلام كان بالوادي المقدس فقال: يا رب إني أخلصت لك
المحبة مني وغسلت قلبي عمن سواك، وكان شديد الحب لأهله فقال الله تبارك
وتعالى: فاخلع نعليك أي: انزع حب أهلك من قلبك إن كانت محبتك لي خالصة
وقلبك من الميل إلى من سواي مغسولا.
فقلت: أخبرني عن تأويل كهيعص.
قال: هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع الله عليها عبده زكريا ثم قصها
على محمد صلى الله عليه وآله، وذلك: أن زكريا عليه السلام سأل ربه: أن يعلمه الأسماء الخمسة،
فأهبط عليه جبرئيل فعلمه إياها، فكان زكريا إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسن

(1) المساحقة عند النساء كاللواط عند الرجال
(2) طه - 12.
272

سرى عنه همه، وانجلى كربه، وإذا ذكر اسم الحسين عليه السلام خنقته العبرة، ووقعت
عليه البهرة.
فقال - ذات يوم -: إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسليت بأسمائهم
من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي. فأنبأه الله تبارك وتعالى
عن قصته فقال: (كهيعص) فالكاف اسم (كربلاء) والهاء (هلاك العترة) والياء
(يزيد) وهو ظالم الحسين والعين (عطشه) والصاد (صبره) فلما سمع بذلك
زكريا عليه السلام لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ومنع فيهن الناس من الدخول عليه، وأقبل
على البكاء والنحيب، وكان يرثيه:
إلهي أتفجع خير جميع خلقك بولده؟
إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه؟
إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثوب هذه المصيبة؟
إلهي تحل كربة هذه المصيبة بساحتهما؟
ثم كان يقول: إلهي ارزقني ولدا تقر به عيني على الكبر، فإذا رزقتنيه
فافتني بحبه، ثم افجعني به كما تفجع محمدا حبيبك بولده.
فرزقه الله يحيى وفجعه به، وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين كذلك.
فقلت: أخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار الإمام لأنفسهم؟
قال: مصلح أو مفسد؟
فقلت: مصلح.
قال: هل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر
ببال غيره من صلاح أو فساد.
قلت: بلى.
قال: فهي (العلة) أيدتها لك ببرهان يقبل ذلك عقلك.
قلت: نعم.
قال: أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله، وأنزل عليهم الكتب، وأيدهم
273

بالوحي والعصمة، إذ هم أعلام الأمم، فأهدى إلى ثبت الاختيار ومنهم موسى وعيسى
هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذ هما على المنافق بالاختيار أن يقع
خيرتهما، وهما يظنان أنه مؤمن؟
قلت: لا.
قال: فهذا موسى كليم الله مع وفور عقله، وكمال علمه، ونزول الوحي
عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن لم يشك
في إيمانهم وإخلاصهم، فوقع خيرته على المنافقين. قال الله عز وجل: (واختار
موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا. الآية) (1) فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه
الله للنبوة واقعا على الأفسد دون الأصلح وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد،
علمنا أن لا اختيار لمن لا يعلم ما تخفي الصدور وما تكن الضمائر، وينصرف عنه
السرائر. وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على
ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح.
ثم قال مولانا عليه السلام: يا سعد من ادعى: أن النبي صلى الله عليه وآله - وهو خصمك - ذهب بمختار هذه الأمة مع نفسه إلى الغار فإنه خاف عليه كما خاف على نفسه لما علم أنه
الخليفة من بعده على أمته، لأنه لم يكن من حكم الاختفاء أن يذهب بغيره معه
وإنما أقام عليا على مبيته لأنه علم أنه إن قتل لا يكون من الخلل بقتله ما يكون
بقتل أبي بكر، لأنه يكون لعلي من يقوم مقامه في الأمور، لم لا تنقض عليه بقولك:
أو لستم تقولون: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (إن الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) وصيرها
موقوفة على أعمار هؤلاء الأربعة: (أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي) فإنهم كانوا
على مذهبكم خلفاء رسول الله؟ فإن خصمك لم يجد بدا من قوله: بلى.
قلت له: فإذا كان الأمر كذلك فكما أبو بكر الخليفة من بعده كان هذه
الثلاثة خلفاء أمته من بعده، فلم ذهب بخليفة واحد وهو (أبو بكر) إلى الغار
ولم يذهب بهذه الثلاثة؟ فعلى هذا الأساس يكون النبي صلى الله عليه وآله مستخفا بهم دون

(1) الأعراف - 154.
274

أبي بكر فإنه يجب عليه أن يفعل بهم ما فعل بأبي بكر، فلما لم يفعل ذلك بهم
يكون متهاونا بحقوقهم وتاركا للشفقة عليهم بعد أن كان يجب أن يفعل بهم جميعا
على ترتيب خلافتهم ما فعل بأبي بكر.
وأما ما قال لك الخصم: بأنهما أسلما طوعا أو كرها، لم لم تقل بل أنهما
أسلما طمعا، وذلك أنهما يخالطان مع اليهود ويخبران بخروج محمد صلى الله عليه وآله واستيلائه
على العرب من التوراة والكتب المقدسة وملاحم قصة محمد صلى الله عليه وآله، ويقولون لهما:
يكون استيلاؤه على العرب كاستيلاء (بخت نصر) على بني إسرائيل إلا أنه يدعي
النبوة ولا يكون من النبوة في شئ، فلما ظهر أمر رسول الله فساعدا معه على شهادة
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله طمعا أن يجدا من جهة ولاية رسول الله ولاية
بلد إذا انتظم أمره، وحسن باله، واستقامت ولايته، فلما أيسا من ذلك وافقا مع
أمثالهما ليلة العقبة وتلثما مثل من تلثم منهم، فنفروا بدابة رسول الله لتسقطه
ويصير هالكا بسقوطه بعد أن صعد العقبة فيمن صعد، فحفظ الله تعالى نبيه من
كيدهم ولم يقدروا أن يفعلوا شيئا، وكان حالهما كحال طلحة والزبير إذ جاءا
عليا عليه السلام وبايعاه طمعا أن تكون لكل واحد منهما ولاية، فلما لم يكن
ذلك وأيسا من الولاية نكثا بيعته وخرجا عليه حتى آل أمر كل واحد منهما
إلى ما يؤل أمر من ينكث العهود والمواثيق.
ثم قام مولانا الحسن بن علي عليهما السلام لصلاته وقام القائم معه، فرجعت من
عندهما وطلبت أحمد بن إسحاق فاستقبلني باكيا فقلت:
ما أبطأك وما أبكاك؟
قال: قد فقدت الثوب الذي سألني مولاي إحضاره.
قلت: لا بأس عليك فأخبره!
فدخل عليه وانصرف من عنده متبسما وهو يصلي على محمد وأهل بيته.
فقلت: ما الخبر؟
فقال: وجدت الثوب مبسوطا تحت قدمي مولانا عليه السلام يصلي عليه.
275

قال سعد: فحمدنا الله جل ذكره على ذلك وجعلنا نختلف بعد ذلك اليوم
إلى منزل مولانا عليه السلام أياما فلا نرى الغلام بين يديه، فلما كان يوم الوداع دخلت
أنا وأحمد بن إسحاق وكهلان من أهل بلدنا، فانتصب أحمد بن إسحاق بين يديه
قائما وقال:
يا بن رسول الله قد دنت الرحلة، واشتدت المحنة، فنحن نسأل الله أن يصلي
على المصطفى جدك، وعلى المرتضى أبيك، وعلى سيدة النساء أمك فاطمة الزهراء
وعلى سيدي شباب أهل الجنة عمك وأبيك، وعلى الأئمة من بعدهما آبائك. وأن يصلي
عليك وعلى ولدك، ونرغب إليه أن يعلي كعبك، ويكبت عدوك، ولا جعل الله هذا
آخر عهدنا من لقائك.
(قال): فلما قال هذه الكلمة استعبر مولانا عليه السلام حتى استهملت دموعه
وتقاطرت عبراته ثم قال:
يا بن إسحاق لا تكلف في دعائك شططا، فإنك ملاق الله في صدرك هذا، فخر
أحمد مغشيا عليه، فلما أفاق قال:
سألتك بالله وبحرمة جدك إلا ما شرفتني بخرقة أجعلها كفنا، فأدخل
مولانا يده تحت البساط فأخرج ثلاثة عشر درهما فقال:
خذها ولا تنفق على نفسك غيرها فإنك لن تعدم ما سألت والله لا يضيع
أجر المحسنين.
قال سعد: فلما صرنا بعد منصرفنا من حضرة مولانا عليه السلام من حلوان على
ثلاثة فراسخ، حم أحمد بن إسحاق وثارت عليه علة صعبة أيس من حياته بها،
فلما وردنا حلوان ونزلنا في بعض الخانات، دعا أحمد بن إسحاق رجلا من أهل
بلده كان قاطنا بها ثم قال: تفرقوا عني هذه الليلة واتركوني وحدي!
فانصرفنا عنه ورجع كل واحد إلى مرقده.
(قال) سعد: فلما حان أن ينكشف الليل عن الصبح أصابتني فكرة ففتحت
عيني، فإذا أنار بكافور الخادم خادم مولانا أبي محمد وهو يقول:
276

أحسن الله بالخير عزاكم، وختم بالمحبوب رزيتكم، قد فرغنا من غسل
صاحبكم ومن تكفينه، فقوموا لدفنه فإنه من أكرمكم محلا عند سيدكم، ثم
غاب عن أعيننا، فاجتمعنا على رأسه بالبكاء والنحيب والعويل حتى قضينا حقه وفرغنا
من أمره رحمه الله.
وعن الشيخ الموثوق أبي عمرو العمري - ره - (1) قال: تشاجر ابن أبي غانم

(1) هو عثمان بن سعيد العمري - بفتح العين وسكون الميم - أول النواب
الأربعة يكنى أبا عمرو السمان ويقال له الزيات والعسكري ذكره الشيخ الطوسي
في عداد أصحاب الهادي عليه السلام ص 420 وقال: (.. خدمه عليه السلام وله إحدى
عشر سنة، وله إليه عهد معروف) وفي أصحاب العسكري ص 434 وقال: (.. جليل
القدر ثقة وكيله عليه السلام) وفي كتاب الغيبة ص 214 قال: (فأما السفراء
الممدوحون في زمان الغيبة، فأولهم: من نصبه أبو الحسن علي بن محمد العسكري
وأبو محمد الحسن بن علي بن محمد ابنه عليهم السلام وهو الشيخ الموثوق به: أبو عمرو
عثمان بن سعيد العمري، وكان أسديا وإنما سمي العمري لما رواه أبو نصر هبة الله
ابن محمد بن أحمد الكاتب أنه ابن بنت أبي جعفر العمري - رحمه الله - قال أبو نصر
كان أسديا فنسب إلى جده فقيل العمري. وقد قال قوم من الشيعة: أن أبا محمد الحسن بن
علي عليه السلام قال: لا يجتمع على أمره بين عثمان وأبو عمرو فأمر بكسر كنيته
فقيل العمري، إلى أن قال: ويقال له: (السمان) لأنه كان يتجر في السمن تغطية على
الأمر، وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمد عليه السلام ما يجب عليهم حمله من الأموال
أنفذوا إلى أبي عمرو فيجعله في جراب السمن وزقاقه ويحمله إلى أبي محمد عليه السلام
تقية وخوفا) وقال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 6؟ 1: (.. ويقال له:
الزيات الأسدي من أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الثاني عليهما السلام خدمه وله
إحدى عشر سنة وله إليه عهد معروف وهو ثقة جليل القدر وكيل أبي محمد عليه السلام.)
وفي ج 2 من سفينة البحار ص 158: (أبو عمرو عثمان بن سعيد السمان العمري أول
النواب الأربعة، ما ورد في شأنه من الجلالة والعدالة والأمانة أكثر من أن يذكر
وهو أجل وأشهر من أن يصفه مثلي (كش) كان باب الجواد عليه السلام.. وحكي:
أنه يقال له: العمري لأنه ينتسب من قبل الأم إلى عمر الأطرف بن علي عليه السلام..)
وقبره في الجانب الغربي ببغداد.
277

القزويني وجماعة من الشيعة في (الخلف) فذكر ابن أبي غانم: أن أبا محمد عليه السلام
مضى ولا خلف له، ثم إنهم كتبوا في ذلك كتابا وأنفذوه إلى الناحية، وأعلموه
بما تشاجروا فيه.
فورد جواب كتابهم بخطه صلى الله عليه وعلى آبائه:
بسم الله الرحمن الرحيم
عافانا الله وإياكم من الفتن، ووهب لنا ولكم روح اليقين، وأجارنا وإياكم
من سوء المنقلب، أنه أنهي إلي ارتياب جماعة منكم في الدين، وما دخلهم من الشك
والحيرة في ولاة أمرهم، فغمنا ذلك لكم لا لنا، وساءنا فيكم لا فينا، لأن الله معنا
فلا فاقة بنا لي غيره، والحق معنا فلن يوحشنا من قعد عنا، ونحن صنايع ربنا
والخلق بعد صنايعنا.
يا هؤلاء ما لكم في الريب تترددون، وفي الحيرة تنعسكون، أو ما سمعتم
الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (1)
أو ما علمتم ما جاءت به الآثار مما يكون ويحدث في أئمتكم، على الماضين والباقين
منهم السلام؟ أو ما رأيتم كيف جعل الله لكم معاقل تأوون إليها، وأعلاما تهتدون
بها، من لدن آدم عليه السلام إلى أن ظهر الماضي عليه السلام، كلما غاب علم بدا علم، وإذا
أفل نجم طلع نجم، فلما قبضه الله إليه ظننتم: أن الله أبطل دينه، وقطع السبب
بينه وبين خلقه، كلا ما كان ذلك ولا يكون، حتى تقوم الساعة ويظهر أمر الله
وهم كارهون، وأن الماضي عليه السلام مضى سعيدا فقيدا على منهاج آبائه عليهم السلام، (حذو
النعل بالنعل) وفينا وصيته وعلمه، ومنه خلفه ومن يسد مسده، ولا ينازعنا موضعه
إلا ظالم آثم، ولا يدعيه دوننا إلا كافر جاحد، ولولا أن أمر الله لا يغلب، وسره
لا يظهر ولا يلعن، لظهر لكم من حقنا ما تبتز منه عقولكم، ويزيل شكوكم

(1) النساء - 58.
278

ولكنه ما شاء الله كان، ولكل أجل كتاب، فاتقوا الله وسلموا لنا وردوا الأمر إلينا
فعلينا الإصدار كما كان منا الايراد، ولا تحاولوا كشف ما غطي عنكم، ولا تميلوا
عن اليمين وتعدلوا إلى اليسار، واجعلوا قصدكم إلينا بالمودة على السنة الواضحة
فقد نصحت لكم، والله شاهد علي وعليكم، ولولا ما عندنا من محبة صاحبكم
ورحمتكم، والإشفاق عليكم، لكنا عن مخاطبتكم في شغل مما قد امتحنا به من
منازعة الظالم العتل، الضال المتتابع في غيه، المضاد لربه، المدعي ما ليس له،
الجاحد حق من افترض الله طاعته، الظالم الغاصب، وفي ابنة رسول الله صلى الله
عليه وآله وعليها إلي أسوة حسنة، وسيتردى الجاهل رداء عمله، وسيعلم الكافر لمن
عقبى الدار.
عصمنا الله وإياكم من المهالك والأسواء، والآفات والعاهات كلها برحمته
إنه ولي ذلك والقادر على ما يشاء، وكان لنا ولكم وليا وحافظا، والسلام على جميع
الأوصياء والأولياء والمؤمنين ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على النبي محمد وآله
وسلم تسليما.
وعن سعد بن عبد الله الأشعري، عن الشيخ الصدوق أحمد بن إسحاق بن
سعد الأشعري (ره): أنه جاء بعض أصحابنا يعلمه أن جعفر بن علي كتب إليه
كتابا يعرفه نفسه، ويعلمه أنه القيم بعد أخيه، وأن عنده من علم الحلال والحرام
ما يحتاج إليه، وغير ذلك من العلوم كلها.
قال أحمد بن إسحاق: فلما قرأت الكتاب كتبت إلى صاحب الزمان عليه السلام
وصيرت كتاب جعفر في درجه، فخرج إلي الجواب في ذلك:
بسم الله الرحمن الرحيم
أتاني كتابك أبقاك الله والكتاب الذي أنفذت درجه، وأحاطت معرفتي بجميع
ما تضمنه على اختلاف ألفاظه، وتكرر الخطأ فيه، ولو تدبرته لوقفت على بعض
ما وقفت عليه منه، والحمد لله رب العالمين حمدا لا شريك له على إحسانه إلينا
وفضله علينا، أبى الله عز وجل للحق إلا إتماما، وللباطل إلا زهوقا، وهو شاهد
279

علي بما أذكره، ولي عليكم بما أقوله، إذا اجتمعنا اليوم الذي لا ريب فيه،
ويسألنا عما نحن فيه مختلفون.
وأنه لم يجعل لصاحب الكتاب على المكتوب إليه ولا عليك ولا على أحد من الخلق
جميعا إمامة مفترضة، ولا طاعة ولا ذمة، وسأبين لكم جملة تكتفون بها إن شاء الله.
يا هذا يرحمك الله! إن الله تعالى لم يخلق الخلق عبثا، ولا أهملهم سدى،
بل خلقهم بقدرته، وجعل لهم أسماعا وأبصارا وقلوبا وألبا، ثم بعث النبيين عليهم السلام
مبشرين ومنذرين، يأمرونهم بطاعته وينهونهم عن معصيته، ويعرفونه ما جهلوه
من أمر خالقهم ودينهم، وأنزل عليهم كتابا وبعث إليهم ملائكة، وباين بينهم وبين
من بعثهم إليهم بالفضل الذي جعله لهم عليهم، وما آتاهم الله من الدلائل الظاهرة
والبراهين الباهرة، والآيات الغالبة. فمنهم: من جعل النار عليه بردا وسلاما
واتخذه خليلا، ومنهم: من كلمه تكليما وجعل عصاه ثعبانا مبينا، ومنهم: من
أحيى الموتى بإذن الله وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، ومنهم من علمه منطق
الطير وأوتي من كل شئ.
ثم بعث محمدا صلى الله عليه وآله رحمة للعالمين وتمم به نعمته، وختم به أنبياءه: وأرسله
إلى الناس كافة، وأظهر من صدقه ما أظهر، وبين آياته وعلاماته ما بين، ثم
قبضه صلى الله عليه وآله حميدا فقيدا سعيدا، وجعل الأمر من بعده إلى أخيه وابن عمه ووصيه
ووارثه علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم إلى الأوصياء من ولده واحدا بعد واحد، أحيى
بهم دينه، وأتم بهم نوره، وجعل بينهم وبين أخوتهم وبني عمهم والأدنين فالأدنين
من ذوي أرحامهم فرقا بينا، تعرف به الحجة من المحجوج، والإمام من المأموم
بأن: عصمهم من الذنوب، وبرأهم من العيوب، وطهرهم من الدنس، ونزههم من
اللبس، وجعلهم خزان علمه، ومستودع حكمته، وموضع سره، وأيدهم بالدلائل
ولولا ذلك لكان الناس على سواء، ولادعى أمر الله عز وجل كل أحد، ولما عرف
الحق من الباطل، ولا العلم من الجهل.
وقد ادعى هذا المبطل المدعي على الله الكذب بما ادعاه، فلا أدري بأية حالة
280

هي له، رجا أن يتم دعواه بفقه في دين الله؟! فوالله ما يعرف حلالا من حرام
ولا يفرق بين خطأ وصواب، أم بعلم؟! فما يعلم حقا من باطل، ولا محكما من
متشابه، ولا يعرف حد الصلاة ووقتها، أم بورع؟! فالله شهيد على تركه الصلاة
الفرض (أربعين يوما) يزعم ذلك لطلب الشعوذة، ولعل خبره تأدى إليكم، وهاتيك
ظروف مسكره منصوبة، وآثار عصيانه لله عز وجل مشهورة قائمة، أم بآية؟!
فليأت بآية، أم بحجة؟! فليقمها، أم بدلالة؟! فليذكرها. قال الله عز وجل
في كتابه: (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم
ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما
أنذروا معرضون * قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض
أم لهم شرك في السماوات إئتوني بكتاب من قبل هذا أو إثارة من علم إن كنتم
صادقين * ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم
عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) (1).
فالتمس تولى الله توفيقك من هذا الظالم ما ذكرت لك، وامتحنه واسأله
عن آية من كتاب الله يفسرها، أو صلاة يبين حدودها وما يجب فيها، لتعلم حاله
ومقداره، ويظهر لك عواره ونقصانه، والله حسيبه.
حفظ الله الحق على أهله، وأقره في مستقره، وأبى الله عز وجل أن تكون
الإمامة في الأخوين إلا في الحسن والحسين، وإذ أذن الله لنا في القول ظهر الحق
واضمحل الباطل، وانحسر عنكم. وإلى الله أرغب في الكفاية، وجميل الصنع والولاية
وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآل محمد.
محمد بن يعقوب الكليني (2) عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان

(1) الأحقاف 1 - 6.
(2) قال المحقق الشيخ عباس القمي في ج 3 من الكنى والألقاب ص 98:
(هو الشيخ الأجل قدوة الأنام، وملاذ المحدثين العظام، ومروج المذهب في غيبة
الإمام عليه السلام، أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي الملقب:
(ثقة الإسلام) ألف الكافي الذي هو أجل الكتب الإسلامية وأعظم المصنفات الإمامية
والذي لم يعمل للإمامية مثله، قال المولى محمد أمين الأسترآبادي في محكي فوائده: سمعنا
مشايخنا وعلمائنا أنه لم يصنف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه وكان خاله علان
الكليني الرازي) وقال النجاشي ص 292: (شيخ أصحابنا بالري ووجههم وكان أوثق
الناس في الحديث وأثبتهم..) وقال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص 145:
(.. صنف كتاب الكافي في عشرين سنة ومات ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلاثماية)
وقال الشيخ الطوسي وقال النجاشي: في سنة تسع وعشرين وثلاثماية، سنة تنائر النجوم
وصلى عليه محمد بن جعفر الحسيني أبو قيراط ودفن بباب الكوفة في مقبرتها..).
281

العمري رحمه الله (1) أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي

(1) محمد بن عثمان العمري رحمه الله هو ثاني الوكلاء الأربعة ذكره
الشيخ في رجاله ص 59 وقال: (.. يكنى أبا جعفر وأبوه يكنى أبا عمرو جميعا
وكيلان من جهة صاحب الزمان عليه السلام ولهما منزلة جليلة عند الطائفة) وقال
في الغيبة ص 218: فلما مضى أبو عمرو عثمان بن سعيد قام ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان
مقامه بنص أبي محمد عليه السلام عليه ونص أبيه عثمان عليه بأمر القائم عليه السلام.)
وفي ج 1 من سفينة البحار ص 228 (.. أبو جعفر باب الهادي وهو وكيل
الناحية في خمسين سنة الذي ظهر على يديه من طرف المأمول المنتظر (ع) معاجز كثيرة.
وكان محمد رحمه الله شيخا متواضعا في بيت صغير ليس له غلمان.. وروي عنه
قال: إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم مع الناس كل سنة يرى الناس فيعرفهم ويرونه
ولا يعرفونه وروي أنه قيل له: رأيت صاحب هذا الأمر؟ قال: نعم وآخر عهدي
به عند بيت الله الحرام وهو يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني. وعنه أيضا قال: رأيته
صلوات الله عليه متعلقا بأستار الكعبة في المستجار وهو يقول: اللهم انتقم بي من
أعدائك. وروى أنه حفر لنفسه قبرا وسواه بالساج ونقش فيه آيات من القرآن وأسماء
الأئمة عليهم السلام على حواشيه قيل سئل عن ذلك فقال: للناس أسباب. وكان في كل
يوم ينزل في قبره ويقرأ جزءا من القرآن ثم يصعد) قال العلامة في القسم الأول من الخلاصة
ص 149 ثم سئل بعد ذلك فقال: قد أمرت أن أجمع أمري. فمات بعد شهرين من ذلك
في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثمائة وقيل: سنة أربع وثلاثمائة. وقال عند موته:
أمرت أن أوصي إلى أبي القاسم الحسين بن روح وأوصى إليه..) وقبره ببغداد مشيد ويعرف: بالشيخ الخلاني.
282

فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السلام:
أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك، ووقاك من أمر المنكرين لي من أهل
بيتنا وبني عمنا.
فاعلم: أنه ليس بين الله عز وجل وبين أحد قرابة، ومن أنكرني فليس مني
وسبيله سبيل ابن نوح.
وأما سبيل ابن عمي جعفر وولده، فسبيل أخوة يوسف عليه السلام.
وأما الفقاع فشربه حرام ولا بأس بالشلماب.
وأما أموالكم فلا نقبلها إلا لتطهروا، فمن شاء فليصل ومن شاء فليقطع،
وما آتانا الله خير مما آتاكم.
وأما ظهور الفرج فإنه إلى الله وكذب الوقاتون.
وأما قول من زعم أن الحسين لم يقتل، فكفر وتكذيب وضلال.
وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا
حجة الله.
وأما محمد بن عثمان العمري، فرضي الله عنه وعن أبيه من قبل، فإنه ثقتي
وكتابه كتابي.
وأما محمد بن علي بن مهزيار الأهوازي، فسيصلح الله قلبه، ويزيل عنه شكه.
وإماما وصلتنا به، فلا قبول عندنا إلا لما طاب وطهر، وثمن المغنية حرام.
وأما محمد بن شاذان بن نعيم، فإنه رجل من شيعتنا أهل البيت.
وأما أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع، ملعون وأصحابه ملعونون
فلا تجالس أهل مقالتهم، فإني منهم برئ، وآبائي عليهم السلام منهم براء.
وأما المتلبسون بأموالنا، فمن استحل منها شيئا فأكله فإنما يأكل النيران
وأما الخمس، فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حل إلى وقت ظهور أمرنا
283

لتطيب ولادتهم، ولا تخبث.
وأما ندامة قوم شكوا في دين الله علي ما وصلونا به، فقد أقلنا من استقال
فلا حاجة إلى صلة الشاكين.
وأما علة ما وقع من الغيبة، فإن الله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا
لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) (1) أنه لم يكن أحد من آبائي إلا وقد
وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وأني أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من
الطواغيت في عنقي.
وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالإنتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار
السحاب، وأني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، فاغلقوا
أبواب السؤال عما لا يعنيكم، ولا تتكلفوا علم ما قد كفيتم، وأكثروا الدعاء بتعجيل
الفرج، فإن ذلك فرجكم، والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى.
أبو الحسن علي بن أحمد الدلال القمي (2) قال: اختلف جماعة من الشيعة
في أن الله عز وجل فوض إلى الأئمة صلوات الله عليهم أن يخلقوا ويرزقوا، فقال
قوم: هذا محال لا يجوز على الله تعالى، لأن الأجسام لا يقدر على خلقها غير
الله عز وجل، وقال آخرون: بل الله أقدر الأئمة على ذلك وفوض إليهم فخلقوا
ورزقوا، وتنازعوا في ذلك نزاعا شديدا، فقال قائل: ما بالكم لا ترجعون إلى
أبي جعفر محمد بن عثمان فتسألوه عن ذلك ليوضح لكم الحق فيه، فإنه الطريق
إلى صاحب الأمر، فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلمت وأجابت إلى قوله، فكتبوا
المسألة وأنفذوها إليه، فخرج إليهم من جهته توقيع، نسخته:

(1) المائدة - 104.
(2) ج 3 من رجال المامقاني ص 11 باب الكنى: أبو الحسن الدلال ليس
له ذكر في كلمات أصحابنا الرجاليين وإنما الذي عثرنا عليه رواية الكليني رحمه الله في باب
تربيع القبر من الكافي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن إسماعيل عنه عن يحيى بن
أبي عبد الله.
284

إن الله تعالى هو الذي خلق الأجسام، وقسم الأرزاق لأنه ليس بجسم ولا حال
في جسم، ليس كمثله شئ، وهو السميع البصير.
وأما الأئمة عليهم السلام، فإنهم يسألون الله تعالى فيخلق، ويسألونه فيرزق
إيجابا لمسألتهم، وإعظاما لحقهم.
عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي - ره - (1) قال:
حدثني محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (2) قال: كنت عند الشيخ أبي القاسم

(1) قال الشيخ عباس القمي ف ج 8 من الكنى والألقاب ص 212: (أبو جعفر
محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، شيخ الحفظة ووجه الطائفة المستحفظة
رئيس المحدثين والصدوق فيما يرويه عن الأئمة الطاهرين عليهم السلام ولد بدعاء مولانا
صاحب الأمر عليه السلام، ونال بذلك عظيم الفضل والفخر فعمت بركته الأنام،
وبقيت آثاره ومصنفاته مدى الأيام، له نحو من ثلاثمائة مصنف. قال ابن إدريس
في حقه (ره) أنه كان ثقة جليل القدر بصيرا بالأخبار ناقدا للآثار عالما بالرجال، وهو
أستاذ المفيد محمد بن محمد بن النعمان (ره) وقال العلامة في ترجمته: شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة
بخراسان ورد بغداد سنة 355 وسمع منه شيوخ الطائفة، وهو حدث السن كان جليلا
حافظا للأحاديث بصيرا بالرجال ناقدا للأخبار لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة
علمه له نحو من ثلاثمائة مصنف ذكرنا أكثرها في كتابنا الكبير مات (ره) بالري
سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة انتهى وقال الأستاذ الأكبر في التعليقة: نقل المشايخ
معنعنا عن شيخنا البهائي وقد سئل عنه فعدله ووثقه وأثنى عليه، وقال: سئلت قديما
عن زكريا بن آدم والصدوق محمد بن علي بن بابويه أيهما أفضل وأجل مرتبة فقلت:
زكريا بن آدم لتوافر الأخبار بمدحه فرأيت شيخنا الصدوق قدس سره عاتبا علي وقال:
من أين ظهر لك فضل زكريا بن آدم علي؟ وأعرض عني كذا في حاشية المحقق
البحراني على بلغته. وقبره رحمه الله في بلدة الري قرب عبد العظيم الحسني مزار
معروف في بقعة عالية في روضة مونقة وله خبر مستفيض مشهور ذكره (صا) وعده
من كراماته وأطراف قبره قبور كثيرة من أهل الفضل والإيمان.).
(2) في ج 2 من جامع الرواة ص 43 محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني
رحمه الله - عنه أبو جعفر بن بابويه مترضيا وهو عن الحسين بن روح قدس الله روحه
ما ينبئ عن حسن حاله واعتقاده (كتاب ميرزا محمد).
285

الحسين بن روح رضي الله عنه (1) مع جماعة منهم علي بن عيسى القصري، فقام
إليه رجل فقال له:
أريد أن أسألك عن شئ.
فقال له: سل عما بدا لك.

(1) الحسين بن روح: أحد النواب الأربعة في الجزء الأول من سفينة البحار
ص 271: (أخبرنا جماعة عن أبي محمد هارون بن موسى قال أخبرني أبو علي محمد بن
همام رضي الله عنه وأرضاه أن أبا جعفر محمد بن عثمان العمري قدس الله روحه،
جمعنا قبل موته وكنا وجوه الشيعة وشيوخها فقال لنا: إن حدث الموت فالأمر إلى
أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي فقد أمرت أن أجعله في موضعي بعدي فارجعوا
إليه وعولوا في أموركم عليه وفي رواية أخرى ما حاصلها أنه لما اشتدت حال أبي جعفر
رحمه الله اجتمع جماعة من وجوه الشيعة فدخلوا عليه فقالوا له: إن حدث أمر فمن يكون
مكانك؟ فقال لهم: هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي القائم مقامي
والسفير بيتكم وبين صاحب الأمر، والوكيل والثقة الأمين، فارجعوا إليه في أموركم
وعولوا عليه في مهماتكم، فبذلك أمرت وقد بلغت، وعن أم كلثوم بنت أبي جعفر - رض
قالت: كان الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح (ره) وكيلا لأبي جعفر - أي: محمد
ابن عثمان - سنين كثيرة ينظر له في أملاكه ويلقى بأسراره الرؤساء من الشيعة، وكان
خصيصا به، حتى أنه كان يحدثه ما يجري بينه وبين جواريه لقربه منه وأنسه، وكان
يدفع إليه في كل شهر ثلاثين دينارا رزقا له غير ما يصل إليه من الوزراء والرؤساء من
الشيعة مثل آل الفرات وغيرهم ولوضعه وجلالة محله عندهم، فحصل في أنفس الشيعة
محلا جليلا لمعرفتهم باختصاص أبي إياه وتوثيقه عندهم، ونشر فضله ودينه وما كان
يحتمله من هذا الأمر فتمهدت له الحال في حياة أبي إلى أن انتهت الوصية إليه بالنص
عليه فلم يختلف في أمره ولم يشك فيه أحد إلا جاهل بأمر أبي.. وكان أبو سهل
النوبختي يقول في حقه: أنه لو كان الحجة تحت ذيله وقرض بالمقاريض ما كشف
الذيل. مات رحمه الله في شعبان سنة 226 وقبره في بغداد..)
286

فقال الرجل: أخبرني عن الحسين بن علي عليهما السلام أهو ولي الله؟
قال: نعم.
قال: أخبرني عن قاتله لعنه الله أهو عدو لله؟
قال: نعم.
قال الرجل: فهل يجوز أن يسلط الله عز وجل عدوه على وليه؟
فقال أبو القاسم قدس الله روحه: إفهم عني ما أقول لك! إعلم أن الله تعالى
لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان، ولا يشافههم بالكلام، ولكنه جلت عظمته يبعث
إليهم من أجناسهم وأصنافهم بشرا مثلهم، ولو بعث إليهم رسلا من غير صنفهم وصورهم
لنفروا عنهم، ولم يقبلوا منهم، فلما جاؤوهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام ويمشون
في الأسواق، قالوا لهم: أنتم بشر مثلنا لا نقبل منكم حتى تأتونا بشئ نعجز من
أن نأتي بمثله، فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه، فجعل الله عز وجل
لهم المعجزات التي يعجز الخلق عنها.
فمنهم: من جاء بالطوفان بعد الإعذار والإنذار فغرق جميع من طغى وتمرد.
ومنهم: من ألقي في النار فكانت عليه بردا وسلاما.
ومنهم: من أخرج من الحجر الصلب الناقة، وأجرى من ضرعها لبنا.
ومنهم: من فلق له البحر وفجر له من العيون، وجعل له العصا اليابسة ثعبانا
تلقف ما يأفكون.
ومنهم: من أبرأ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله، وأنبأهم بما
يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.
ومنهم: من انشق له القمر وكلمته البهائم، مثل البعير والذئب وغير ذلك.
فلما أتوا بمثل ذلك وعجز الخلق من أممهم عن أن يأتوا بمثله، كان من
تقدير الله جل جلاله ولطفه بعباده وحكمته: أن جعل أنبياءه مع هذه المعجزات
في حال غالبين وأخرى مغلوبين، وفي حال قاهرين وأخرى مقهورين، ولو جعلهم
الله في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين، ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لأتخذهم الناس آلهة
287

من دون الله عز وجل، ولما عرف فضل صبرهم على البلاء والمحن والاختيار، ولكنه
جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم، ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين
وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين
غير شامخين ولا متجبرين، وليعلم العباد أن لهم عليهم السلام إلها هو خالقهم ومدبرهم
فيعبدوه ويطيعوا رسله، وتكون حجة الله ثابتة على من تجاوز الحد فيهم، وادعى
لهم الربوبية، أو عاند وخالف، وعصى وجحد، بما أتت به الأنبياء والرسل،
وليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة.
قال محمد بن إبراهيم بن إسحاق (ره): فعدت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين
ابن روح (ره) في الغد وأنا أقول في نفسي: أتراه ذكر لنا ما ذكر يوم أمس
من عند نفسه فابتدأني وقال: يا محمد بن إبراهيم لئن أخر من السماء فتختطفني الطير
أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أحب إلي من أن أقول في دين الله برأيي،
ومن عند نفسي، بل ذلك عن الأصل، ومسموع من الحجة صلوات الله عليه وسلامه.
ومما خرج عن صاحب الزمان صلوات الله عليه، ردا على الغلاة من التوقيع
جوابا لكتاب كتب إليه على يدي محمد بن علي بن هلال الكرخي.
يا محمد بن علي تعالى الله وجل عما يصفون، سبحانه وبحمده، ليس نحن
شركاؤه في علمه ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره، كما قال في محكم كتابه
تباركت أسماؤه: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) (1).
وأنا وجميع آبائي من الأولين: آدم ونوح وإبراهيم وموسى، وغيرهم من
النبيين، ومن الآخرين محمد رسول الله، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم ممن مضى من
الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين، إلى مبلغ أيامي ومنتهى عصري، عبيد الله عز وجل
يقول الله عز وجل: (من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم
القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا

(1) النمل - 65.
288

فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) (1).
يا محمد بن علي قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم، ومن دينه جناح البعوضة
أرجح منه.
فأشهد الله الذي لا إله إلا هو وكفى به شهيدا، ورسوله محمد صلى الله عليه
وآله، وملائكته وأنبياءه، وأولياءه عليهم السلام.
وأشهدك، وأشهد كل من سمع كتابي هذا، أني برئ إلى الله وإلى رسوله
ممن يقول: إنا نعلم الغيب، ونشاركه في ملكه، أو يحلنا محلا سوى المحل الذي
رضيه الله لنا وخلقنا له، أو يتعدى بنا عما قد فسرته لك وبينته في صدر كتابي.
وأشهدكم: أن كل من نبرأ منه فإن الله يبرأ منه وملائكته ورسله وأولياءه
وجعلت هذا التوقيع الذي في هذا الكتاب أمانة في عنقك وعنق من سمعه
أن لا يكتمه لأحد من موالي وشيعتي حتى يظهر على هذا التوقيع الكل من الموالي
لعل الله عز وجل يتلافاهم فيرجعون إلى دين الله الحق، وينتهون عما لا يعلمون
منتهى أمره، ولا يبلغ منتهاه، فكل من فهم كتابي ولا يرجع إلى ما قد أمرته
ونهيته، فقد حلت عليه اللعنة من الله وممن ذكرت من عباده الصالحين.
روى أصحابنا: أن أبا محمد الحسن السريعي كان من أصحاب أبي الحسن علي
ابن محمد عليهم السلام، وهو أول من ادعى مقاما لم يجعله الله فيه من قبل صاحب الزمان عليه السلام
وكذب على الله وحججه عليهم السلام، ونسب إليهم ما لا يليق بهم وما هم منه براء، تم
ظهر منه القول بالكفر والإلحاد، وكذلك كان محمد بن نصير النميري من أصحاب
أبي محمد الحسن عليه السلام، فلما توفي ادعى البابية لصاحب الزمان، ففضحه الله تعالى
بما ظهر منه من الالحاد والغلو والتناسخ، وكان يدعي أنه رسول نبي أرسله علي بن
محمد عليه السلام، ويقول بالإباحة للمحارم، وكان أيضا من جملة الغلاة أحمد بن هلال
الكرخي، وقد كان من قبل في عدد أصحاب أبي محمد عليه السلام، ثم تغير عما كان عليه
وأنكر بابية أبي جعفر محمد بن عثمان، فخرج التوقيع بلعنه من قبل صاحب الأمر

(2) طه - 124 - 126.
289

والزمان وبالبراءة منه، في جملة من لعن وتبرء منه، وكذا كان أبو طاهر محمد بن
علي بن بلال، والحسين بن منصور الحلاج، ومحمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن
أبي العزاقري، لعنهم الله، فخرج التوقيع بلعنهم والبراءة منهم جميعا، على يد
الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (ره) ونسخته:
عرف أطال الله بقاك! وعرفك الله الخير كله وختم به عملك، من تثق بدينه
وتسكن إلى نيته من إخواننا أدام الله سعادتهم: بأن (محمد بن علي المعروف بالشلمغاني)
عجل الله له النقمة ولا أمهله، قد ارتد عن الإسلام وفارقه، وألحد في دين الله
وادعى ما كفر معه بالخالق جل وتعالى، وافترى كذبا وزورا، وقال بهتانا وإثما
عظيما، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا، وخسروا خسرانا مبينا.
وأنا برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته
منه، ولعناه عليه لعاين الله تترى، في الظاهر منا والباطن، في السر والجهر، وفي كل
وقت وعلى كل حال، وعلى كل من شايعه وبلغه هذا القول منا فأقام على
تولاه بعده.
أعلمهم تولاك الله! أننا في التوقي والمحاذرة منه على مثل ما كنا عليه ممن
تقدمه من نظرائه، من: (السريعي، والنميري، والهلالي، والبلالي) وغيرهم.
وعادة الله جل ثناؤه مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة، وبه نثق وإياه نستعين وهو
حسبنا في كل أمورنا ونعم الوكيل (1).

(1) قال الشيخ الطوسي رحمه الله في كتاب الغيبة ص 244: (ذكر المذمومين
الذين ادعوا البابية لعنهم الله) أولهم المعروف بالسريعي (أخبرنا) جماعة عن أبي
محمد التلعكبري، عن أبي علي محمد بن همام (قال): كان السريعي يكنى: ب‍ (أبي محمد)
(قال) هارون: وأظن اسمه كان (الحسن)، وكان من أصحاب أبي الحسن علي بن
محمد ثم الحسن بن علي بعده عليهم السلام.
وهو أول من ادعى مقاما لم يجعله الله فيه، ولم يكن أهلا له، وكذب على الله
وعلى حججه عليهم السلام، ونسب إليهم ما لا يليق بهم، وما هم منه براء، فلعنته
الشيعة وتبرأت منه، وخرج توقيع الإمام عليه السلام بلعنه والبراءة منه.
(قال) هارون: ثم ظهر منه القول بالكفر والإلحاد.
(قال) وكل هؤلاء المدعين إنما يكون كذبهم أولا على الإمام وأنهم وكلاؤه،
فيدعون الضعفة بهذا القول إلى موالاتهم، ثم يترقى الأمر بهم إلى قول الحلاجية كما
اشتهر من أبي جعفر الشلمغاني ونظرائه عليهم جميعا لعائن الله تترى.
(ومنهم): محمد بن نصير النميري (قال ابن نوح): أخبرنا أبو نصر هبة الله
ابن محمد (قال): كان محمد بن نصير النميري من أصحاب أبي محمد الحسن بن علي عليهما
السلام فلما توفي أبو محمد ادعى مقام أبي جعفر محمد بن عثمان أنه صاحب إمام الزمان،
وادعى له البابية، وفضحه الله تعالى بما ظهر منه من الالحاد والجهل، ولعن أبي جعفر
محمد بن عثمان له وتبريه منه، واحتجابه عنه، وادعى ذلك الأمر بعد السريعي.
(قال أبو طالب الأنباري) لما ظهر محمد بن نصير بما ظهر لعنه أبو جعفر رضي
الله عنه وتبرأ منه، فبلغه ذلك فقصد أبا جعفر رضي الله عنه ليعطف بقلبه عليه أو
يعتذر إليه فلم يأذن له وحجبه ورده خائبا.
(وقال) سعد بن عبد الله. كان محمد بن نصير النميري يدعي أنه رسول نبي
وأن علي بن محمد عليه السلام أرسله، وكان يقول بالتناسخ، ويغلو في أبي الحسن - ع
ويقول فيه بالربوبية، ويقول بالإباحة للمحارم، وتحليل نكاح الرجال بعضهم بعضا
في أدبارهم، ويزعم: أن ذلك من التواضع والإخبات والتذلل في المفعول به، وأنه
من الفاعل إحدى الشهوات والطيبات، وأن الله عز وجل لا يحرم شيئا من ذلك،
وكان محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات يقوي أسبابه ويعضده.
(أخبرني) بذلك عن محمد بن نصير أبو زكريا يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان:
أنه رآه عيانا وغلام على ظهره
(قال): فلقيته فعاتبته على ذلك فقال: أن هذا من اللذات، وهو من التواضع
لله وترك التجبر.
(قال) سعد: فلما اعتل محمد بن نصير العلة التي توفي فيها، قيل له وهو مثقل
اللسان -: لمن هذا الأمر من بعدك؟
فقال - بلسان ضعيف ملجاج -: أحمد فلم يدروا من هو، فافترقوا بعده ثلاث فرق
قالت فرقة: أنه أحمد ابنه، وفرقة قالت: هو أحمد بن محمد بن موسى بن الفرات،
وفرقة قالت: أنه أحمد بن أبي الحسين بن بشر بن يزيد فتفرقوا فلا يرجعون إلى شئ
(ومنهم) أحمد بن هلال الكرخي، قال أبو علي بن همام: كان أحمد بن هلال
من أصحاب أبي محمد عليه السلام، فاجتمعت الشيعة على وكالة محمد بن عثمان - رضي
الله عنه - بنص الحسن عليه السلام في حياته. ولما مضى الحسين عليه السلام قالت
الشيعة الجماعة له:
ألا تقبل أمر أبي جعفر محمد بن عثمان وترجع إليه وقد نص عليه الإمام
المفترض الطاعة؟
فقال لهم: لم أسمعه ينص عليه بالوكالة وليس أنكر أباه - أي: عثمان بن سعيد -
فأما أن أقطع أن أبا جعفر وكيل صاحب الزمان فلا أجسر عليه.
فقالوا: قد سمعه غيرك، فقال أنتم وما سمعتم، ووقف على أبي جعفر فلعنوه
وتبرؤا منه، ثم ظهر التوقيع على يد أبي القاسم بن روح بلعنه والبراءة منه في جملة
من لعن.
(ومنهم): أبو طاهر محمد بن علي بن بلال، وقصته معروفة فيما جرى بينه
وبين أبي جعفر محمد بن عثمان العمري - نضر الله وجهه - وتمسكه بالأموال التي
كانت عنده للإمام، وامتناعه من تسليمها، وادعائه أنه الوكيل، حتى تبرأت الجماعة
منه ولعنوه، وخرج فيه من صاحب الزمان ما هو معروف.
(وحكى) أبو غالب الرازي: قال: حدثني أبو الحسن محمد بن محمد بن يحيى
المعاذي قال:
كان رجل من أصحابنا قد انضوى إلى أبي طاهر بن بلال بعد ما وقعت الفرقة
ثم إنه رجع عن ذلك وصار في جملتنا فسألناه عن السبب قال:
كنت عند أبي طاهر بن بلال يوما وعنده أخوه أبو الطيب وابن حرز وجماعة
من أصحابه إذ دخل الغلام فقال:
أبو جعفر على الباب، ففزعت الجماعة لذلك وأنكرته للحال التي كانت جرت.
وقال: يدخل.
فدخل أبو جعفر - رضي الله عنه - فقام له أبو طاهر والجماعة وجلس في صدر
المجلس، وجلس أبو طاهر كالجالس بين يديه، إلى أن سكتوا ثم قال: يا أبا طاهر
نشدتك بالله ألم يأمرك صاحب الزمان بحمل ما عندك من المال إلي؟
فقال: اللهم نعم.
فنهض أبو جعفر - رضي الله عنه - منصرفا، ووقعت على القوم سكتة، فلما
تجلت عنهم قال له أخوه أبو الطيب:
من أين رأيت صاحب الزمان؟
فقال أبو طاهر: أدخلني أبو جعفر - رضي الله عنه - إلى بعض دوره فأشرف
علي من علو داره فأمرني بحمل ما عندي من المال إليه.
فقال له أبو الطيب: ومن أين علمت أنه صاحب الزمان عليه السلام؟
قال قد وقع علي من الهيبة له، ودخلني من الرعب منه، ما علمت أنه صاحب
الزمان عليه السلام، فكان هذا سبب انقطاعي عنه.
(ومنهم): الحسين بن منصور الحلاج، أخبرنا الحسين بن إبراهيم عن أبي
العباس أحمد بن علي بن نوح عن أبي نصر هبة الله بن محمد الكاتب ابن بنت أم كلثوم
بنت أبي جعفر العمري قال:
290



لما أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلاج، ويظهر فضيحته ويخزيه، وقع له أن
أبا سهل بن إسماعيل بن علي النوبختي - رضي الله عنه - ممن تجوز عليه مخرقته، ووجه
إليه يستدعيه وظن أن أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله وقدر أن
يستجره إليه فيتمخرق به، ويتسوف بانقياده على غيره، فيستتب إليه ما قصد إليه من
الحيلة والبهرجة على الضعفة لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحله من العلم والأدب
أيضا عندهم.
وقول له في مراسلته إياه: إني وكيل صاحب الزمان عليه السلام - وبهذا
أو لا كان يستجر الجهال ثم يعلو منه إلى غيره - وقد أمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده
من النصرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الأمر
فأرسل إليه أبو سهل رضي - الله عنه - يقول له:
أني أسألك أمرا يسيرا يخف مثله عليك، في جنب ما ظهر على يديك، من الدلائل
والبراهين، وهو أني رجل أحب الجواري وأصبو إليهن، ولي منهن عدة أتحظاهن
والشيب يبعدني عنهن، واحتاج أن أخضبه في كل جمعة وأتحمل منه مشقة شديدة لأستر
عنهن ذلك، وإلا انكشف أمري عندهن، فصار القرب بعدا، والوصال هجرا، وأريد
أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإني طوع يديك،
وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك
من المعونة.
فلما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم أنه قد أخطأ في مراسلته، وجهل
في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جوابا، ولم يرسل إليه رسولا،
وصيره أبو سهل - رضي الله عنه - أحدوثة وضحكة ويطنز به (أي: يسخر) عند كل
أحد، وشهر أمره عند الكبير والصغير، وكان هذا الأمر سببا لكشف أمره، وتنفير
الجماعة عنه
و (منهم): ابن أبي العزاقر، أخبرني الحسين بن إبراهيم عن أحمد بن نوح
عن أبي نصر هبة الله بن محمد بن أحمد الكاتب ابن بنت أم كلثوم بنت أبي جعفر
العمري - رضي الله عنه - (قال): كان أبو جعفر بن أبي العزاقر وجيها عند بني
بسطام وذلك أن الشيخ أبا القاسم - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - كان قد جعل له عند
الناس منزلة وجاها، فكان عند ارتداده يحكي كل كذب وبلاء، وكفر لبني بسطام
ويسنده عن الشيخ أبي القاسم، فيقبلونه منه ويأخذونه عنه، حتى انكشف ذلك
لأبي القاسم - رضي الله عنه - فأنكره وأعظمه، ونهى بني بسطام عن كلامه وأمرهم
بلعنه والبراءة منه فلم ينتهوا، وأقاموا على توليه وذاك أنه كان يقول لهم:
أنني أذعت السر وقد أخذ علي الكتمان فعوقبت بالإبعاد بعد الإختصاص، لأن
الأمر عظيم لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن ممتحن، فيؤكد في نفوسهم
عظم الأمر وجلالته، فبلغ ذلك أبا القاسم - رضي الله عنه - فكتب إلى بني بسطام بلعنه
والبراءة منه وممن تابعه على قوله وأقام على توليه، فلما وصل إليهم أظهروه عليه فبكى
بكاء عظيما ثم قال: إن لهذا القول باطنا عظيما وهو: أن اللعنة (الإبعاد) فمعنى
قوله لعنه الله أي: باعده الله عن العذاب والنار، والآن قد عرفت منزلتي ومرغ خديه
على التراب وقال: عليكم بالكتمان لهذا لأمر، قالت الكبيرة - رضي الله عنها -: وقد
كنت أخبرت الشيخ أبا القاسم أن أم أبي جعفر بن بسطام قالت لي يوما وقد دخلنا إليها
فاستقبلتني وأعظمتني وزادت في إعظامي حتى انكبت على رجلي تقبلها فأنكرت ذلك
وقلت لها:
مهلا يا ستي!
فقالت لي: إن الشيخ أبا جعفر محمد بن علي قد كشف لنا السر.
قالت: فقلت لها: وما السر؟
قالت: قد أخذ علينا كتمانه، وأفزع إن أنا أذعته عوقبت.
قالت: وأعطيتها موثقا أني لا اكشفه لأحد واعتقدت في نفسي الاستثناء
بالشيخ - رضي الله عنه - يعني أبا القاسم الحسين بن روح.
قالت: إن الشيخ أبا جعفر قال لنا: أن روح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
انتقلت إلى أبيك يعني: أبا جعفر محمد بن عثمان - رضي الله عنه - وروح أمير المؤمنين
علي عليه السلام انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، وروح مولاتنا
فاطمة عليها السلام انتقلت إليك فكيف لا أعظمك يا ستنا؟!
فقلت لها: مهلا لا تفعلي فإن هذا كذب يا ستنا!
فقالت لي: سر عظيم وقد أخذ علينا أننا لا نكشف هذا لأحد فالله الله في
لا يحل لي العذاب، ويا ستي لولا أنك حملتيني على كشفه ما كشفته لك ولا لأحد غيرك.
قالت الكبيرة أم كلثوم - رضي الله عنها -: فلما انصرفت من عندها دخلت على
الشيخ أبي القاسم بن روح - رضي الله عنه - فأخبرته بالقصة وكان يثق بي ويركن إلى قولي.
فقال لي: يا بنية إياك أن تمضي إلى هذه المرأة بعد ما جرى منها، ولا تقبلي لها رقعة
إن كاتبتك، ولا رسولا إن أنفذته إليك، ولا تلقيها بعد قولها، فهذا كفر بالله تعالى،
وإلحاد قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله طريقا إلى أن يقول
لهم بأن الله تعالى اتحد به وحل فيه كما يقول النصارى في المسيح عليه السلام، ويعدو
إلى قول الحلاج لعنه الله.
قالت: فهجرت بني بسطام، وتركت المضي إليهم، ولم أقبل لهم عذرا، ولا
لقيت أمهم بعدها، وشاع في بني نوبخت الحديث فلم يبق أحد إلا وتقدم إليه الشيخ
أبو القاسم وكاتبه بلعن أبي جعفر الشلمغاني والبراءة منه وممن يتولاه ورضي بقوله أو
كلمه فضلا عن موالاته، ثم ظهر التوقيع من صاحب الزمان عليه السلام بلعن أبي جعفر
محمد بن علي والبراءة منه وممن تابعه وشايعه ورضي بقوله وأقام على توليه بعد المعرفة بهذا
التوقيع، وله حكايات قبيحة ننزه كتابنا عن ذكرها، ذكرها ابن نوح وغيره.
290

وأما الأبواب المرضيون، والسفراء الممدوحون في زمان الغيبة:
فأولهم: الشيخ الموثوق به أبو عمرو (عثمان) بن سعيد العمري. نصبه
أولا أبو الحسن علي بن محمد العسكري، ثم ابنه أبو محمد الحسن، فتولى القيام
بأمورهما حال حياتهما عليهما السلام، ثم بعد ذلك قام بأمر صاحب الزمان عليه السلام، وكان
توقيعاته وجواب المسائل تخرج على يديه.
فلما مضى لسبيله، قام ابنه أبو جعفر (محمد) بن عثمان مقامه، وناب منابه
في جميع ذلك.
فلما مضى هو، قام بذلك أبو القاسم (حسين بن روح) من بني نوبخت.
فلما مضى هو، قام مقامه أبو الحسن (علي) بن محمد السمري (1) ولم يقم

(1) قال في الجزء الثاني من سفينة البحار ص 249: (الشيخ الأجل علي بن
محمد السمري رضي الله عنه، أبو الحسن، قام بأمر النيابة بعد الحسين بن روح رضي
الله عنه، ومضى في النصف من شعبان سنة (329) تسع وعشرين وثلاثمائة، وأخرج
إلى الناس توقيعا قبل وفاته بأيام:
بسم الله الرحمن الرحيم
يا علي بن محمد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك
وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد الخ. فلما كان اليوم السادس دخلوا عليه
وهو يجود بنفسه فقيل له:
من وصيك من بعدك؟
فقال: لله أمر هو بالغه، وقضى رحمه الله.. روي أنه قال يوما لجمع
من المشايخ عنده آجركم الله في علي بن الحسين - أي: ابن بابويه - فقد قبض في هذه الساعة.
قالوا: فأثبتنا تاريخ الساعة واليوم والشهر، فلما كان بعد سبعة عشر يوما
أو ثمانية عشر، ورد الخبر: أنه قبض في تلك الساعة التي ذكرها الشيخ أبو الحسن رضي
الله عنه. وقبره ببغداد بالقرب عن قبر الكليني رحمه الله).
296

أحد منهم بذلك إلا بنص عليه من قبل صاحب الأمر عليه السلام، ونصب صاحبه الذي
تقدم عليه، ولم تقبل الشيعة قولهم إلا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كل
واحد منهم من قبل صاحب الأمر عليه السلام، تدل على صدق مقالتهم، وصحة بابيتهم.
فلما حان سفر أبي الحسن السمري من الدنيا وقرب أجله قيل له:
إلى من توصي؟
فأخرج إليهم توقيعا نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم
يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك
وبين ستة أيام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت
الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد،
وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جورا.
وسيأتي إلى شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج
السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فنسخوا هذا التوقيع وخرجوا، فلما كان اليوم السادس عادوا إليه وهو
يجود بنفسه.
فقال له بعض الناس: من وصيك من بعدك؟
فقال: لله أمر هو بالغه، وقضى فهذا آخر كلام سمع منه (ره).
(ذكر طرف مما خرج أيضا عن صاحب الزمان عليه السلام من المسائل الفقهية
وغيرها، في التوقيعات على أيدي الأبواب الأربعة وغيرهم).
عن محمد بن يعقوب الكليني، رفعه عن الزهري، قال: طلبت هذا الأمر طلبا
297

شافيا حتى ذهب لي فيه مال صالح، فوقعت إلى العمري وخدمته ولزمته، فسألته
بعد ذلك عن صاحب الزمان عليه السلام.
قال: ليس إلى ذلك وصول، فخضعت له.
فقال لي: بكر بالغداة.
فوافيت، فاستقبلني ومعه شاب من أحسن الناس وجها، وأطيبهم ريحا،
وفي كمه شئ، كهيئة التجار، فلما نظرت إليه دنوت من العمري، فأومى إليه فعدلت
إليه وسألته فأجابني عن كل ما أردت.
ثم مر ليدخل الدار وكانت من الدور التي لا يكترث بها.
فقال العمري: إن أردت أن تسأل فاسأل فإنك لا تراه بعد ذا.
فذهبت لأسأل فلم يستمع ودخل الدار وما كلمني بأكثر من أن قال:
ملعون ملعون من أخر العشاء إلى أن تشتبك النجوم، ملعون ملعون من
أخر الغداة إلى أن تنقضي النجوم، ودخل الدار.
وعن أبي الحسن محمد بن جعفر الأسدي (1) قال: كان فيما ورد علي من الشيخ
أبي جعفر محمد بن عثمان العمري قدس الله روحه في جواب مسائل إلى صاحب الزمان:
أما ما سألت عنه من الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فلئن كان كما
يقول الناس: (إن الشمس تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان) فما
أرغم أنف الشيطان شئ أفضل من الصلاة، فصلها وارغم الشيطان أنفه.
وأما ما سألت عنه من أمر الوقف على ناحيتنا، وما يجعل لنا ثم يحتاج إليه
صاحبه، فكل ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار، وكل ما سلم فلا خيار لصاحبه فيه

(1) قال العلامة في الخلاصة ص 160: (محمد بن جعفر بن محمد بن عون الأسدي
أبو الحسين الكوفي سكن الري يقال له محمد بن أبي عبد الله كان ثقة صحيح الحديث
إلا أنه روى عن الضعفاء. وكان يقول بالجبر والتشبيه فإنا في حديثه من المتوقفين، وكان
أبوه وجها روى عنه أحمد بن محمد بن عيسى وقال الشيخ الطوسي رحمه الله في رجاله ص 496:
(محمد بن جعفر الأسدي كان يكنى أبو الحسين الرازي كان أحد الأبواب).
298

احتاج أو لم يحتج، افتقر إليه أو استغنى عنه.
وأما ما سألت عنه من أمر من يستحل ما في يده من أموالنا ويتصرف فيه
تصرفه في ماله من غير أمرنا، فمن فعل ذلك فهو ملعون، ونحن خصماؤه يوم
القيامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: (المستحل من عترتي ما حرم الله ملعون على لساني
ولسان كل نبي مجاب) فمن ظلمنا كان في جملة الظالمين لنا، وكانت لعنة الله عليه
لقوله عز وجل: (ألا لعنة الله على الظالمين) (1).
وأما ما سألت عنه عن أمر المولود الذي نبتت غلفته بعد ما يختن مرة أخرى
فإنه يجب أن يقطع غلفته فإن الأرض تضج إلى الله تعالى من بول الأغلف أربعين صباحا.
وأما ما سألت عنه من أمر المصلي والنار والصورة والسراج بين يديه، هل
يجوز صلاته؟
فإن الناس قد اختلفوا في ذلك قبلك، فإنه جائز لمن لم يكن من أولاد عبدة الأصنام
والنيران أن يصلي والنار والسراج بين يديه، ولا يجوز ذلك لمن كان من أولاد
عبدة الأوثان والنيران.
وأما ما سألت عنه عن أمر الضياع التي لناحيتنا، هل يجوز القيام بعمارتها
وأداء الخراج منها، وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية، احتسابا للأجر،
وتقربا إليكم؟
فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه، فكيف يحل ذلك في مالنا
من فعل ذلك بغير أمرنا فقد استحل منا ما حرم عليه، ومن أكل من أموالنا شيئا فإنما
يأكل في بطنه نارا وسيصلى سعيرا.
وأما ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة، ويسلمها من
قيم يقوم بها ويعمرها، ويؤدي من دخلها خراجها ومؤنتها، ويجعل ما بقي من
الدخل لناحيتنا فإن ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيما عليها، إنما لا يجوز
ذلك لغيره.

(1) الأعراف - 43.
299

وأما ما سألت عنه من الثمار من أموالنا يمر به المار فيتناول منه ويأكل،
هل يحل له ذلك؟
فإنه يحل له أكله ويحرم عليه حمله.
وعن أبي الحسين الأسدي أيضا قال: ورد علي توقيع من الشيخ أبي جعفر
محمد بن عثمان العمري - قدس الله روحه - ابتداء لم يتقدمه سؤال عنه، نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، على من استحل من أموالنا درهما.
قال أبو الحسين الأسدي (ره): فوقع في قلبي أن ذلك فيمن استحل من
مال الناحية درهما دون من أكل منه غير مستحل، وقلت في نفسي: أن ذلك
في جميع من استحل محرما، فأي فضل في ذلك للحجة عليه السلام على غيره؟!
قال: فوالذي بعث محمدا صلى الله عليه وآله بالحق بشيرا، لقد نظرت بعد
ذلك في التوقيع فوجدته قد انقلب إلى ما كان في نفسي:
بسم الله الرحمن الرحيم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على من أكل
من مالنا درهما حراما.
وقال أبو جعفر بن بابويه في الخبر الذي روي فيمن أفطر يوما من شهر
رمضان متعمدا أن عليه ثلاث كفارات فإني أفتي به فيمن أفطر بجماع محرم عليه
أو بطعام محرم عليه لوجود ذلك في روايات أبي الحسن الأسدي (ره) فيما ورد
عليه من الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان (ره).
وعن عبد الله بن جعفر الحميري (1) قال: خرج التوقيع إلى الشيخ أبي جعفر
محمد بن عثمان قدس الله روحه في التعزية بأبيه (ره) في فصل من الكتاب:

(1) قال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص 106: (عبد الله بن جعفر
ابن الحسين بن مالك بن جامع الحميري - بالحاء المهملة - أبو العباس القمي شيخ القميين
ووجههم، قدم الكوفة سنة نيف وتسعين ومائتين، ثقة من أصحاب أبي محمد الحسن
العسكري عليه السلام.
300

إنا لله وإنا إليه راجعون، تسليما لأمره، ورضا بقضائه، عاش أبوك سعيدا
ومات حميدا، فرحمه الله وألحقه بأوليائه ومواليه عليهم السلام. فلم يزل مجتهدا في أمرهم
ساعيا فيما يقربه إلى الله عز وجل، نضر الله وجهه، وأقاله عثرته.
وفي فصل آخر: أجزل الله لك الثواب، وأحسن لك العزاء، رزيت ورزينا
وأوحشك فراقه وأوحشنا، فسره الله في منقلبه، كما كان من كمال سعادته أن
رزقه الله ولدا مثلك يخلفه من بعده، ويقوم مقامه بأمره، ويترحم عليه، وأقول:
الحمد لله، فإن النفس طيبة بمكانك، وما جعله الله عز وجل فيك وعندك، أعانك
الله وقواك، وعضدك ووفقك، وكان لك وليا وحافظا، وراعيا وكافيا.
ومما خرج عن صاحب الزمان صلوات الله عليه من جوابات المسائل الفقهية
أيضا: ما سأله عنها محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري فيما كتب إليه وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
أطال الله بقاك، وأدام الله عزك، وتأييدك، وسعادتك، وسلامتك، وأتم
نعمته عليك، وزاد في إحسانه إليك، وجميل مواهبه لديك، وفضله عندك، وجعلني
من السوء فداك، وقد مني قبلك الناس يتنافسون في الدرجات، فمن قبلتموه كان
مقبولا، ومن دفعتموه كان وضيعا، والخامل من وضعتموه، ونعوذ بالله من ذلك
وببلدنا أيدك الله جماعة من الوجوه يتساوون ويتنافسون في المنزلة، وورد أيدك الله
كتابك إلى جماعة منهم في أمر أمرتهم به من معاونة ص.
وأخرج علي بن محمد بن الحسين بن الملك المعروف بملك بادوكة (1) وهو ختن
ص رحمه الله من بينهم فاغتم بذلك، وسألني أيدك الله أن أعلمك ما ناله من ذلك، فإن كان
من ذنب فاستغفر الله منه، وإن يكن غير ذلك عرفته ما تسكن نفسه إليه إن شاء الله.
التوقيع: لم نكاتب إلا من كاتبنا.
وقد عودتني أدام الله عزك من تفضلك ما أنت أهل أن تخبرني
على العادة، وقبلك أعزك الله فقهاؤنا قالوا: محتاج إلى أشياء تسأل لي عنها.

(1) لم أعثر له على ترجمة.
301

روي لنا عن العالم عليه السلام: أنه سئل عن إمام قوم صلى بهم بعض صلاتهم وحدثت
عليه حادثة كيف يعمل من خلفه؟
فقال: يؤخر ويتقدم بعضهم، ويتم صلاتهم، ويغتسل من مسه.
التوقيع: ليس على من نحاه إلا غسل اليد، وإذا لم يحدث حادثة يقطع
الصلاة تمم صلاته مع القوم.
وروي عن العالم عليه السلام: أن من مس ميتا بحرارته غسل يده، ومن مسه وقد
برد فعليه الغسل، وهذا الإمام في هذه الحالة لا يكون إلا بحرارة، فالعمل في ذلك
على ما هو، ولعله ينحيه بثيابه ولا يمسه، فكيف يجب عليه الغسل؟
التوقيع: إذا مسه على هذه الحال لم يكن عليه إلا غسل يده.
وعن صلاة جعفر: إذا سها في التسبيح في قيام أو قعود، أو ركوع أو سجود
وذكره في حالة أخرى قد صار فيها من هذه الصلاة، هل يعيد ما فاته من ذلك
التسبيح في الحالة التي ذكرها أم يتجاوز في صلاته؟
التوقيع: إذا سها في حالة من ذلك ثم ذكر في حالة أخرى، قضى ما فاته
في الحالة التي ذكره.
وعن المرأة: يموت زوجها، يجوز أن تخرج في جنازته أم لا؟
التوقيع: تخرج في جنازته.
وهل يجوز لها في عدتها أن تزور قبر زوجها أم لا؟
التوقيع: تزور قبر زوجها ولا تبيت عن بيتها.
وهل يجوز لها أن تخرج في قضاء حق يلزمها، أم لا تبرح من بيتها وهي في عدتها.
التوقيع: إذا كان حق خرجت فيه وقضته، وإن كانت لها حاجة ولم يكن
لها من ينظر فيها خرجت بها حتى تقضيها، ولا تبيت إلا في بيتها.
وروي في ثواب القرآن في الفرائض وغيرها: أن العالم عليه السلام قال: عجبا لمن
لم يقرأ في صلاته: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) كيف تقبل صلاته؟
302

وروي: ما زكت صلاة من لم يقرأ (قل هو الله أحد).
وروي: أن من قرأ في فرائضه (الهمزة) أعطي من الثواب قدر الدنيا، فهل
يجوز أن يقرأ (الهمزة) ويدع هذه السور التي ذكرناها، مع ما قد روي: أنه
لا تقبل صلاة ولا تزكوها إلا بهما؟
التوقيع: الثواب في السور على ما قد روي، وإذا ترك سورة مما فيها الثواب
وقرأ (قل هو الله أحد، وإنا أنزلناه) لفضلهما أعطي ثواب ما قرأ، وثواب السورة
التي ترك، ويجوز أن يقرأ غير هاتين السورتين وتكون صلاته تامة، ولكن يكون
قد ترك الفضل.
وعن وداع شهر رمضان: متى يكون؟ فقد اختلف فيه أصحابنا، فبعضهم
يقول: يقرأ في آخر ليلة منه، وبعضهم يقول: هو في آخر يوم منه إذا رأى
هلال شوال؟
التوقيع: العمل في شهر رمضان في لياليه والوداع يقع في آخر ليلة منه،
فإذا خاف أن ينقص الشهر جعله في ليلتين.
وعن قول الله عز وجل: (إنه لقول رسول كريم) (1) أرسول الله صلى الله
عليه وآله المعني به، (ذي قوة عند ذي العرش مكين) (2) ما هذه القوة؟!
(مطاع ثم أمين) (3) ما هذه الطاعة وأين هي؟ ما خرج لهذه المسألة جواب.
فرأيك أدام الله عزك بالتفضل علي بمسألة من تثق به من الفقهاء عن هذه المسائل
فأجبني عنها منعما مع ما تشرحه لي من أمر علي بن محمد بن الحسين بن الملك
المقدم ذكره بما يسكن إليه، ويعتد بنعمة الله عنده، وتفضل علي بدعاء جامع لي
ولإخواني في الدنيا والآخرة فعلت مثابا إن شاء الله.
التوقيع: جمع الله لك ولاخوانك خير الدنيا والآخرة.
كتاب آخر لمحمد بن عبد الله الحميري (4) أيضا إليه عليه السلام في مثل ذلك:

(1) التكوير - 20 - 23.
(2) التكوير - 20 - 23.
(3) التكوير - 20 - 23.
(4) محمد بن عبد الله بن جعفر بن الحسين بن جامع بن مالك الحميري، قال العلامة
في القسم الأول من الخلاصة ص 57: (.. أبو جعفر القمي كان ثقة وجها، كاتب
صاحب الأمر عليه السلام وسأله مسائل في أبواب الشريعة.
قال النجاشي: قال لنا أحمد بن الحسين: وقعت هذه المسائل إلي في أصلها
والتوقيعات بين السطور، وكان له أخوة (جعفر، والحسين، وأحمد) كلهم كان لهم مكاتبة.
303

فرأيك أدام الله عزك في تأمل رقعتي والتفضل بما أسأل من ذلك لأضيفه
إلى ساير أياديك عندي ومنك علي واحتجت أدام الله عزك أن يسألني بعض الفقهاء
عن المصلي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبر؟
فإن بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبير، ويجزيه أن يقول بحول الله وقوته
أقوم وأقعد؟
الجواب: إن فيه حديثين:
أما أحدهما: فإنه إذا انتقل من حالة إلى حالة أخرى فعليه التكبير.
وأما الآخر: فإنه روي: أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبر ثم
جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك في التشهد الأول يجري
هذا المجرى، وبأيها أخذت من جهة التسليم كان صوابا.
وعن الفص الخماهن: هل يجوز فيه الصلاة إذا كان في إصبعه؟
الجواب: فيه كراهية أن يصلي فيه، وفيه أيضا إطلاق والعمل على الكراهة.
وعن رجل اشترى هديا لرجل غاب عنه، وسأله أن ينحر عنه هديا بمنى
فلما أراد نحر الهدي نسي اسم الرجل ونحر الهدي، ثم ذكره بعد ذلك، أيجزي
عن الرجل أم لا؟
الجواب: لا بأس بذلك، وقد أجزأ عن صاحبه.
وعندنا حاكة مجوس، يأكلون الميتة. ولا يغتسلون من الجنابة، وينسجون
لنا ثيابا، فهل يجوز الصلاة فيها من قبل أن تغسل؟
الجواب: لا بأس بالصلاة فيها.
وعن المصلي: يكون في صلاة الليل في ظلمة، فإذا سجد يغلط بالسجادة
304

ويضع جبهته على (مسح أو نطع) فإذا رفع رأسه وجد السجادة، هل يعتد بهذه
السجدة أم لا يعتد بها؟
الجواب: ما لم يستو جالسا فلا شئ عليه في رفع رأسه لطلب الخمرة.
وعن المحرم: يرفع الظلال هل يرفع خشب العمارية أو الكنيسية ويرفع
الجناحين أم لا؟
الجواب: لا شئ عليه في ترك رفع الخشب.
وعن المحرم: يستظل من المطر بنطع أو غيره، حذرا على ثيابه وما في محمله
أن يبتل، فهل يجوز ذلك؟
الجواب: إذا فعل ذلك في المحمل في طريقه، فعليه دم.
والرجل: يحج عن أحد، هل يحتاج أن يذكر الذي حج عنه عند عقد
إحرامه أم لا، وهل يجب أن يذبح عمن حج عنه وعن نفسه أم يجزيه هدي واحد؟
الجواب: قد يجزيه هدي واحد، وإن لم يفصل فلا بأس.
وهل يجوز للرجل أن يحرم في كساء خز أم لا؟
الجواب: لا بأس بذلك، وقد فعله قوم صالحون.
وهل يجوز للرجل أن يصلي في بطيط لا يغطي الكعبين أم لا يجوز؟
الجواب: جائز.
ويصلي الرجل وفي كمه أو سراويله سكين أو مفتاح حديد، هل يجوز ذلك؟
الجواب: جائز.
وعن الرجل: يكون معه بعض هؤلاء ويكون متصلا بهم، يحج ويأخذ
على الجادة ولا يحرم هؤلاء من المسلخ، فهل يجوز لهذا الرجل أن يؤخر إحرامه
إلى ذات عرق فيحرم معهم لما يخاف الشهرة أم لا يجوز إلا أن يحرم من المسلخ؟
الجواب: يحرم من ميقاته ثم يلبس الثياب، ويلبي في نفسه، فإذا بلغ
إلى ميقاتهم أظهر.
وعن لبس المعطون، فإن بعض أصحابنا يذكر أن لبسه كريه؟
305

الجواب: جايز، ولا بأس به.
وعن الرجل: من وكلاء الوقف مستحلا لما في يده، ولا يرع عن أخذ ماله
ربما نزلت في قريته وهو فيها، أو أدخل منزله - وقد حضر طعامه - فيدعوني
إليه، فإن لم آكل من طعامه، عاداني وقال: فلان لا يستحل أن يأكل من طعامنا
فهل يجوز لي أن آكل من طعامه وأتصدق بصدقة؟ وكم مقدار الصدقة؟ وإن
أهدى هذا الوكيل هدية إلى رجل آخر فأحضر فيدعوني إلى أن أنال منها، وأنا
أعلم أن الوكيل لا يرع عن أخذ ما في يده، فهل علي فيه شئ إن أنا نلت منها؟
الجواب: إن كان لهذه الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه،
واقبل بره، وإلا فلا.
وعن الرجل ممن يقول بالحق ويرى المتعة، ويقول بالرجعة، إلا أن له أهلا
موافقة له في جميع أموره، وقد عاهدها: ألا يتزوج عليها، ولا يتمتع، ولا يتسرى
وقد فعل هذا منذ تسعة عشر سنة. ووفى بقوله، فربما غاب عن منزله الأشهر
فلا يتمتع ولا تتحرك نفسه أيضا لذلك، ويرى أن وقوف من معه من أخ وولد
وغلام ووكيل وحاشية مما يقلله في أعينهم، ويجب المقام على ما هو عليه محبة لأهله
وميلا إليها، وصيانة لها ولنفسه، لا لتحريم المتعة بل يدين الله بها، فهل عليه في ترك
ذلك مأثم أم لا؟
الجواب: يستحب له أن يطيع الله تعالى بالمتعة ليزول عنه الحلف في المعصية
ولو مرة.
وفي كتاب آخر لمحمد بن عبد الله الحميري إلى صاحب الزمان عليه السلام من
جواب مسائله التي سأله عنها، في سنة سبع وثلاثمائة.
سأل عن المحرم: يجوز أن يشد الميزر من خلفه على عقبه بالطول، ويرفع
طرفيه إلى حقويه ويجمعهما في خاصرته ويعقدهما، ويخرج الطرفين الآخرين
من بين رجليه ويرفعهما إلى خاصرته، ويشد طرفيه إلى وركيه، فيكون مثل
السراويل يستر ما هناك، فإن الميزر الأول كنا نتزر به إذا ركب الرجل جمله
306

يكشف ما هناك، وهذا ستر؟
فأجاب عليه السلام: جاز أن يتزر الإنسان كيف شاء إذا لم يحدث في الميزر حدثا
بمقراظ ولا إبرة يخرجه به عن حد الميزر، وغزره غزرا ولم يعقده، ولم يشد
بعضه ببعض، وإذا غطى سرته وركبتيه كلاهما فإن السنة المجمع عليها بغير خلاف
تغطية السرة والركبتين، والأحب إلينا والأفضل لكل أحد شده على السبيل المألوفة
المعروفة للناس جميعا إن شاء الله.
وسأل: هل يجوز أن يشد عليه مكان العقد تكة؟
فأجاب: لا يجوز شد الميزر بشئ سواه من تكة ولا غيرها.
وسأل عن التوجه للصلاة أن يقول على ملة إبراهيم ودين محمد صلى الله عليه
وآله، فإن بعض أصحابنا ذكر: أنه إذا قال على دين محمد فقد أبدع، لأنا لم نجده
في شئ من كتب الصلاة خلا حديثا في كتاب القاسم بن محمد عن جده عن الحسن
بن راشد: أن الصادق عليه السلام قال للحسن:
كيف تتوجه؟
فقال: أقول لبيك وسعديك.
فقال له الصادق عليه السلام: ليس عن هذا أسألك. كيف تقول وجهت وجهي
للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما؟
قال الحسن: أقول.
فقال الصادق عليه السلام: إذا قلت ذلك فقل: على ملة إبراهيم، ودين محمد،
ومنهاج علي بن أبي طالب، والايتمام بآل محمد، حنيفا مسلما وما أنا من المشركين.
فأجاب عليه السلام: التوجه كله ليس بفريضة، والسنة المؤكدة فيه التي هي
كالإجماع الذي لا خلاف فيه: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا
مسلما على ملة إبراهيم ودين محمد وهدي أمير المؤمنين، وما أنا من المشركين. إن
صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من
المسلمين. اللهم اجعلني من المسلمين، أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم
307

بسم الله الرحمن الرحيم ثم اقرأ الحمد. قال الفقيه الذي لا يشك في علمه: أن
الدين لمحمد والهداية لعلي أمير المؤمنين لأنها له صلى الله عليه وآله وفي عقبه باقية
إلى يوم القيامة، فمن كان كذلك فهو من المهتدين، ومن شك فلا دين له، ونعوذ
بالله من الضلالة بعد الهدى.
وسأله: عن القنوت في الفريضة إذا فرغ من دعائه، يجوز أن يرد يديه على
وجهه وصدره للحديث الذي روي: (أن الله عز وجل أجل من أن يرد يدي عبده صفرا
بل يملأها من رحمته) أم لا يجوز؟ فإن بعض أصحابنا ذكر أنه عمل في الصلاة.
فأجاب عليه السلام: رد اليدين من القنوت على الرأس والوجه غير جايز في الفرائض
والذي عليه العمل فيه، إذا رجع يده في قنوت الفريضة وفرغ من الدعاء، أن يرد
بطن راحتيه مع صدره تلقاء ركبتيه على تمهل، ويكبر ويركع، والخبر صحيح
وهو في نوافل النهار والليل دون الفرائض، والعمل به فيها أفضل.
وسأل: عن سجدة الشكر بعد الفريضة، فإن بعض أصحابنا ذكر أنها (بدعة)
فهل يجوز أن يسجدها الرجل بعد الفريضة؟ وإن جاز ففي صلاة المغرب هي بعد
الفريضة أو بعد الأربع ركعات النافلة؟
فأجاب عليه السلام: سجدة الشكر من ألزم السنن وأوجبها، ولم يقل أن هذه السجدة
بدعة إلا من أراد أن يحدث بدعة في دين الله.
فأما الخبر المروي فيها بعد صلاة المغرب والاختلاف في أنها بعد الثلاث أو
بعد الأربع فإن فضل الدعاء والتسبيح بعد الفرائض على الدعاء بعقيب النوافل
كفضل الفرائض على النوافل، والسجدة دعاء وتسبيح فالأفضل أن تكون بعد الفرض
فإن جعلت بعد النوافل أيضا جاز.
وسأل: أن لبعض إخواننا من نعرفه ضيعة جديدة بجنب ضيعة خراب، للسلطان فيها
حصة وأكرته ربما زرعوا حدودها وتوذيهم عمال السلطان ويتعرضون في الكل من غلات
ضيعته، وليس لها قيمة لخرابها وإنما هي بائرة منذ عشرين سنة، وهو يتحرج
من شرائها لأنه يقال أن هذه الحصة من هذه الضيعة كانت قبضت عن الوقف قديما
308

للسلطان، فإن جاز شراؤها من السلطان، وكان ذلك صلاحا له وعمارة لضيعته،
وأنه يزرع هذه الحصة من القرية البائرة لفضل ماء ضيعته العامرة، وينحسم عنه
طمع أولياء السلطان، وإن لم يجز ذلك عمل بما تأمره به إن شاء الله تعالى؟
فأجاب: الضيعة لا يجوز ابتياعها إلا من مالكها أو بأمره أو رضاء منه
وسأل: عن رجل استحل امرأة خارجة من حجابها، وكان يحترز من أن
يقع ولد فجاءت بابن، فتحرج الرجل ألا يقبله فقبله وهو شاك فيه، وجعل يجري
النفقة على أمه وعليه حتى ماتت الأم، وهو ذا يجري عليه غير أنه شاك فيه ليس
يخلطه بنفسه، فإن كان ممن يجب أن يخلط بنفسه ويجعله كساير ولده فعل ذلك
وإن جاز أن يجعل له شيئا من ماله دون حقه فعل؟
فأجاب عليه السلام الاستحلال بالمرأة يقع على وجوه، والجواب يختلف فيها
فليذكر الوجه الذي وقع الاستحلال به مشروحا ليعرف الجواب فيما يسأل عنه
من أمر الولد إن شاء الله.
وسأله الدعاء له فخرج الجواب:
جاد الله عليه بما هو جل وتعالى أهله، إيجابنا لحقه، ورعايتنا لأبيه رحمه الله
وقربه منا، وقد رضينا بما علمناه من جميل نيته، ووقفنا عليه من مخاطبته، المقر
له من الله التي يرضى الله عز وجل ورسوله وأولياؤه عليهم السلام والرحمة بما بدأنا،
نسأل الله بمسألته ما أمله من كل خير عاجل وآجل، وأن يصلح له من أمر دينه
ودنياه ما يجب صلاحه، إنه ولي قدير.
وكتب إليه صلوات الله عليه أيضا في سنة ثمان وثلاثمائة كتابا سأله فيه
عن مسائل أخرى كتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
أطال الله بقاك وأدام عزك وكرامتك وسعادتك وسلامتك، وأتم نعمته عليك
وزاد في إحسانه إليك، وجميل مواهبه لديك، وفضله عليك، وجزيل قسمه لك،
وجعلني من السوء كله فداك، وقدمني قبلك.
309

إن قبلنا مشايخ وعجايز يصومون رجبا منذ ثلاثين سنة وأكثر، ويصلون
بشعبان وشهر رمضان.
وروى لهم بعض أصحابنا: أن صومه معصية؟
فأجاب عليه السلام: قال الفقيه: يصوم منه أياما إلى خمسة عشر يوما، إلا أن
يصومه عن الثلاثة الأيام الفائتة، للحديث: (إن نعم شهر القضاء رجب).
وسأل: عن رجل يكون في محمله والثلج كثير بقامة رجل، فيتخوف إن
نزل الغوص فيه، وربما يسقط الثلج وهو على تلك الحال ولا يستوي له أن يلبد
شيئا منه لكثرته وتهافته، هل يجوز أن يصلي في المحمل الفريضة؟ فقد فعلنا ذلك
أياما فهل علينا في ذلك إعادة أم لا؟
فأجاب: لا بأس به عند الضرورة والشدة.
وسأل: عن الرجل يلحق الإمام وهو راكع فيركع معه ويحتسب تلك
الركعة. فإن بعض أصحابنا قال: إن لم يسمع تكبيرة الركوع فليس له أن يعتد
بتلك الركعة؟
فأجاب: إذا لحق مع الإمام من تسبيح الركوع تسبيحة واحدة اعتد بتلك
الركعة وإن لم يسمع تكبيرة الركوع.
وسأل: عن رجل صلى الظهر ودخل في صلاة العصر، فلما إن صلى من صلاة
العصر ركعتين استيقن أنه صلى الظهر ركعتين، كيف يصنع؟
فأجاب: إن كان أحدث بين الصلاتين حادثة يقطع بها الصلاة أعاد الصلاتين
وإن لم يكن أحدث حادثة جعل الركعتين الآخرتين تتمة لصلاة الظهر، وصلى
العصر بعد ذلك.
وسأل: عن أهل الجنة هل يتوالدون إذا دخلوها أم لا؟
فأجاب: إن الجنة لا حمل فيها للنساء ولا ولادة، ولا طمث ولا نفاس،
ولا شقاء بالطفولية. وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، كما قال سبحانه، فإذا
اشتهى المؤمن ولدا خلقه الله بغير حمل ولا ولادة على الصورة التي يريد كما خلق آدم عبرة.
310

وسأل: عن رجل تزوج امرأة بشئ معلوم إلى وقت معلوم، وبقي له عليها
وقت، فجعلها في حل مما بقي له عليها وقد كانت طمثت قبل أن يجعلها في حل من
أيامها بثلاثة أيام، أيجوز أن يتزوجها رجل معلوم إلى وقت معلوم عند طهرها
من هذه الحيضة أو يستقبل بها حيضة أخرى؟
فأجاب: يستقبل حيضة غير تلك الحيضة، لأن أقل تلك العدة حيضة وطهرة تامة.
وسأل: عن الأبرص والمجذوم وصاحب الفالج هل يجوز شهادتهم، فقد روي
لنا: أنهم لا يأمون الأصحاء.
فأجاب: إن كان ما بهم حادثا جازت شهادتم، وإن كان ولادة لم يجز.
وسأل: هل يجوز للرجل أن يتزوج ابنة امرأته؟
فأجاب: إن كانت ربيت في حجره فلا يجوز، وإن لم تكن ربيت في حجره
وكانت أمها في غير عياله فقد روي: أنه جائز.
وسأل: هل يجوز أن يتزوج بنت ابنة امرأة ثم يتزوج جدتها بعد ذلك؟
فأجاب: قد نهي عن ذلك.
وسأل: عن رجل ادعى على رجل ألف درهم وأقام به البينة العادلة، وادعى
عليه أيضا خمسمائة درهم في صك آخر، وله بذلك بينة عادلة، وادعى عليه أيضا
ثلاثمائة درهم في صك آخر، ومائتي درهم في صك آخر، وله بذلك كله بينة
عادلة، ويزعم المدعى عليه أن هذه الصكاك كلها قد دخلت في الصك الذي بألف
درهم، والمدعي منكر أن يكون كما زعم، فهل يجب الألف الدرهم مرة واحدة
أو يجب عليه كلما يقيم البينة به؟ وليس في الصكاك استثناء إنما هي صكاك على وجهها.
فأجاب: يؤخذ من المدعى عليه ألف درهم مرة وهي التي لا شبهة فيها، ويرد
اليمين في الألف الباقي على المدعي فإن نكل فلا حق له.
وسأل عن طين القبر: يوضع مع الميت في قبره هل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب: يوضع مع الميت في قبره، ويخلط بخيوطه إن شاء الله.
وسأل فقال: روي لنا عن الصادق عليه السلام: أنه كتب على أزار ابنه إسماعيل
311

يشهد: أن لا إله إلا الله، فهل يجوز أن نكتب مثل ذلك بطين القبر أم غيره؟
فأجاب: يجوز ذلك.
وسأل: هل يجوز أن يسبح الرجل بطين القبر، وهل فيه فضل؟
فأجاب: يسبح الرجل به فما من شئ من السبح أفضل منه، ومن فضله أن
الرجل ينسى التسبيح ويدير السبحة فيكتب له التسبيح.
وسأل: عن السجدة على لوح من طين القبر، وهل فيه فضل؟
فأجاب: يجوز ذلك وفيه الفضل.
وسأل: عن الرجل يزور قبور الأئمة عليه السلام، هل يجوز أن يسجد على القبر
أم لا؟ وهل يجوز لمن صلى عند بعض قبورهم عليهم السلام أن يقوم وراء القبر ويجعل
القبر قبلة، ويقوم عند رأسه ورجليه؟ وهل يجوز أن يتقدم القبر ويصلي ويجعل
القبر خلفه أم لا؟
فأجاب: أما السجود على القبر، فلا يجوز في نافلة ولا فريضة ولا زيارة
والذي عليه العمل: أن يضع خده الأيمن على القبر.
وأما الصلاة فإنها خلفه، ويجعل القبر أمامه، ولا يجوز أن يصلي بين يديه
ولا عن يمينه ولا عن يساره، لأن الإمام صلى الله عليه وآله لا يتقدم ولا يساوى.
وسأل فقال: يجوز للرجل إذا صلى الفريضة أو النافلة وبيده السبحة أن
يديرها وهو في الصلاة؟
فأجاب: يجوز ذلك إذا خاف السهو والغلط.
وسأل: هل يجوز أن يدير السبحة بيده اليسار إذا سبح، أو لا يجوز؟
فأجاب: يجوز ذلك والحمد لله رب العالمين.
وسأل فقال: روي عن الفقيه في بيع الوقف خبر مأثور: إذا كان الوقف
على قوم بأعيانهم وأعقباهم، فاجتمع أهل الوقف على بيعه وكان ذلك أصلح لهم
أن يبيعوه، فهل يجوز أن يشترى من بعضهم إن لم يجتمعوا كلهم على البيع، أم
لا يجوز إلا أن يجتمعوا كلهم على ذلك؟ وعن الوقف الذي لا يجوز بيعه؟
312

فأجاب: إذا كان الوقف على إمام المسلمين فلا يجوز بيعه، وإن كان على
قوم من المسلمين فليبع كل قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين ومتفرقين إن شاء الله.
وسأل: هل يجوز للمحرم أن يصير على إبطه المرتك والتوتيا لريح العرق
أم لا يجوز؟
فأجاب: يجوز ذلك وبالله التوفيق.
وسأل: عن الضرير إذا شهد في حال صحته على شهادة، ثم كف بصره ولا
يرى خطه فيعرفه، هل يجوز شهادته أم لا؟ وإن ذكر هذا الضرير الشهادة، هل
يجوز أن يشهد على شهادته أم لا يجوز؟
فأجاب: إذا حفظ الشهادة وحفظ الوقت، جازت شهادته.
وسأل: عن الرجل يوقف ضيعة أو دابة ويشهد على نفسه باسم بعض وكلاء
الوقف، ثم يموت هذا الوكيل أو يتغير أمره ويتولى غيره، هل يجوز أن يشهد
الشاهد لهذا الذي أقيم مقامه إذا كان أصل الوقف لرجل واحد أم لا يجوز ذلك؟
فأجاب: لا يجوز ذلك، لأن الشهادة لم تقم للوكيل وإنما قامت للمالك،
وقد قال الله: (وأقيموا الشهادة لله) (1).
وسأل: عن الركعتين الأخراوين قد كثرت فيها الروايات فبعض يروي:
أن قراءة الحمد وحدها أفضل، وبعض يروي: أن التسبيح فيهما أفضل، فالفضل
لأيهما لنستعمله؟
فأجاب: قد نسخت قراءة أم الكتاب في هاتين الركعتين التسبيح والذي نسخ
التسبيح قول العالم عليه السلام: كل صلاة لا قراءة فيها فهو خداج إلا للعليل، أو يكثر
عليه السهو فيتخوف بطلان الصلاة عليه.
وسأل فقال: يتخذ عندنا رب الجوز لوجع الحلق والبحبحة، يؤخذ الجوز
الرطب من قبل أن ينعقد ويدق دقا ناعما، ويعصر ماؤه ويصفى ويطبخ على النصف
ويترك يوما وليلة ثم ينصب على النار، ويلقى على كل ستة أرطال منه رطل عسل

(1) الطلاق - 2.
313

ويغلي رغوته، ويستحق من النوشادر والشب اليماني من كل واحد نصف مثقال
ويداف بذلك الماء، ويلقي فيه درهم زعفران المسحوق، ويغلى ويؤخذ رغوته حتى
يصير مثل العسل ثخينا، ثم ينزل عن النار ويبرد ويشرب منه، فهل يجوز شربه أم لا؟
فأجاب: إذا كان كثيره يسكر أو يغير، فقليله وكثيره حرام، وإن كان
لا يسكر فهو حلال.
وسأل: عن الرجل يعرض له الحاجة مما لا يدري أن يفعلها أم لا، فيأخذ
خاتمين فيكتب في أحدهما: (نعم إفعل) وفي الآخر: (لا تفعل) فيستخير الله
مرارا، ثم يرى فيهما، فيخرج أحدهما فيعمل بما يخرج، فهل يجوز ذلك أم لا؟
والعامل به والتارك له أهو مثل الاستخارة أم هو سوى ذلك؟
فأجاب: الذي سنة العالم عليه السلام في هذه الاستخارة بالرقاع والصلاة.
وسأل: عن صلاة جعفر بن أبي طالب (ره) في أي أوقاتها أفضل أن تصلي
فيه، وهل فيها قنوت؟ وإن كان ففي أي ركعة منها؟
فأجاب: أفضل أوقاتها صدر النهار من يوم الجمعة، ثم في أي الأيام شئت
وأي وقت صليتها من ليل أو نهار فهو جائز، والقنوت فيها مرتان: في الثانية قبل
الركوع، وفي الرابعة بعد الركوع.
وسأل: عن الرجل ينوي إخراج شئ من ماله وأن يدفعه إلى رجل من إخوانه
ثم يجد في أقربائه محتاجا، أيصرف ذلك عمن نواه له أو إلى قرابته؟
فأجاب: يصرفه إلى أدناهما وأقربهما من مذهبه، فإن ذهب إلى قول العالم عليه السلام:
(لا يقبل الله الصدقة وذو رحم محتاج) فليقسم بين القرابة وبين الذي نوى حتى
يكون قد أخذ بالفضل كله.
وسأل: فقال: اختلفت أصحابنا في مهر المرأة.
فقال بعضهم: إذا دخل بها سقط المهر ولا شئ لها.
وقال بعضهم: هو لازم في الدنيا والآخرة، فكيف ذلك؟ وما الذي يجب فيه؟
فأجاب: إن كان عليه بالمهر كتاب فيه ذكر دين فهو لازم له في الدنيا
314

والآخرة، وإن كان عليه كتاب فيه ذكر الصداق سقط إذا دخل بها، وإن لم يكن
عليه كتاب، فإذا دخل بها سقط باقي الصداق.
وسأل فقال: روي لنا عن صاحب العسكر عليه السلام أنه سئل عن الصلاة في الخز
الذي يغش بوبر الأرانب فوقع: يجوز، وروي عنه أيضا: أنه لا يجوز. فأي
الخبرين يعمل به؟
فأجاب: إنما حرم في هذه الأوبار والجلود، فأما الأوبار وحدها فكل حلال.
وقد سأل بعض العلماء عن معنى قول الصادق عليه السلام: لا يصلى في الثعلب ولا
في الأرنب، ولا في الثوب الذي يليه، فقال: إنما عنى الجلود دون غيرها.
وسأل فقال: يتخذ بأصفهان ثياب عتابية على عمل الوشا من قز أو إبريسم
هل يجوز الصلاة فيها أم لا؟
فأجاب: لا يجوز الصلاة إلا في ثوب سداه أو لحمته قطن أو كتان.
وسأل: عن المسح على الرجلين وبأيهما يبدأ باليمين أو يمسح عليهما
جميعا معا؟
فأجاب عليه السلام: يمسح عليهما معا فإن بدأ بإحداهما قبل الأخرى فلا يبتدئ
إلا باليمين.
وسأل: عن صلاة جعفر في السفر هل يجوز أن يصلي أم لا؟
فأجاب عليه السلام: يجوز ذلك.
وسأل: عن تسبيح فاطمة عليها السلام: من سهى فجاز التكبير أكثر من أربع
وثلاثين هل يرجع إلى أربع وثلاثين أو يستأنف؟ وإذا سبح تمام سبعة وستين هل
يرجع إلى ستة وستين أو يستأنف؟ وما الذي يجب في ذلك؟
فأجاب: إذا سها في التكبير حتى يجوز أربعة وثلاثين عاد إلى ثلاثة وثلاثين
وبنى عليها، وإذا سها في التسبيح فتجاوز سبعا وستين تسبيحة عاد إلى ستة وستين
وبنى عليها، فإذا جاوز التحميد مائة فلا شئ عليه.
وعن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري أنه قال: خرج التوقيع من الناحية
315

المقدسة حرسها الله - بعد المسائل -:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا لأمره تعقلون، حكمة بالغة فما تغني النذر عن قوم لا يؤمنون.
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
إذا أردتم التوجه بنا إلى الله وإلينا، فقولوا كما قال الله تعالى:
(سلام على آل يس) (1).
السلام عليك يا داعي الله ورباني آياته.
السلام عليك يا باب الله وديان دينه.
السلام عليك يا خليفة الله وناصر خلقه.
السلام عليك يا حجة الله ودليل إرادته.
السلام عليك يا تالي كتاب الله وترجمانه.
السلام عليك يا بقية الله في أرضه.
السلام عليك يا ميثاق الله الذي أخذه ووكده.
السلام عليك يا وعد الله الذي ضمنه.
السلام عليك أيها العلم المنصوب، والعلم المصبوب، والغوث والرحمة الواسعة
وعدا غير مكذوب.
السلام عليك حين تقعد السلام عليك حين تقوم.
السلام عليك حين تقرأ وتبين.
السلام عليك حين تصلي وتقنت.
السلام عليك حين تركع وتسجد.
السلام عليك حين تكبر وتهلل.
السلام عليك حين تحمد وتستغفر.
السلام عليك حين تمسي وتصبح.

(1) الصافات - 30.
316

السلام عليك في الليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى.
السلام عليك أيها الإمام المأمون.
السلام عليك أيها المقدم المأمول.
السلام عليك بجوامع السلام.
أشهدك يا مولاي أني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا
عبده ورسوله لا حبيب إلا هو وأهله، وأشهد أن أمير المؤمنين حجته، والحسن
حجته، والحسين حجته، وعلي بن الحسين حجته، ومحمد بن علي حجته، وجعفر
ابن محمد حجته، وموسى بن جعفر حجته، وعلي بن موسى حجته، ومحمد بن علي
حجته، وعلي بن محمد حجته، والحسن بن علي حجته، وأشهد أنك حجة الله.
أنتم الأول والآخر، وأن رجعتكم حق لا شك فيها يوم لا ينفع نفسا إيمانها
لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، وأن الموت حق، وأن ناكرا
ونكيرا حق، وأشهد أن النشر والبعث حق، وأن الصراط والمرصاد حق، والميزان
والحساب حق، والجنة والنار حق، والوعد والوعيد بهما حق.
يا مولاي شقي من خالفكم وسعد من أطاعكم.
فاشهد على ما أشهدتك عليه، وأنا ولي لك برئ من عدوك، فالحق ما
رضيتموه، والباطل ما سخطتموه، والمعروف ما أمرتم به. والمنكر ما نهيم عنه،
فنفسي مؤمنة بالله وحده لا شريك له، وبرسوله، وبأمير المؤمنين، وبأئمة المؤمنين
وبكم يا مولاي. أولكم وآخركم، ونصرتي معدة لكم، فمودتي خالصة لكم
آمين آمين.
الدعاء عقيب هذا القول:
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم إني أسألك أن تصلي على محمد نبي رحمتك، وكلمة نورك، وأن تملأ قلبي
نور اليقين، وصدري نور الإيمان، وفكري نور الثبات، وعزمي نور العلم، وقوتي
نور العمل، ولساني نور الصدق، وديني نور البصائر من عندك، وبصري نور الضياء
317

وسمعي نور وعي الحكمة، ومودتي نور الموالاة لمحمد وآله عليهم السلام، حتى ألقاك
وقد وفيت بعهدك وميثاقك، فلتسعني رحمتك يا ولي يا حميد.
اللهم صل على حجتك في أرضك، وخليفتك في بلادك، والداعي إلى سبيلك
والقائم بقسطك، والثائر بأمرك، ولي المؤمنين، وبوار الكافرين، ومجلي الظلمة
ومنير الحق، والساطع بالحكمة والصدق، وكلمتك التامة في أرضك، المرتقب الخائف
والولي الناصح، سفينة النجاة، وعلم الهدى، ونور أبصار الورى، وخير من تقمص
وارتدى، ومجلي العمى، الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا
إنك على كل شئ قدير.
اللهم صل على وليك وابن أوليائك الذين فرضت طاعتهم، وأوجبت حقهم
وأذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرا.
اللهم انصر وانتصر به أولياءك وأولياءه، وشيعته وأنصاره واجعلنا منهم:
اللهم أعذه من كل باغ وطاغ، ومن شر جميع خلقك. واحفظه من بين يديه
ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، واحرسه، وامنعه، من أن يوصل إليه بسوء
واحفظ فيه رسولك وآل رسولك، وأظهر به العدل وأيده بالنصر، وانصر ناصريه
واخذل خاذليه، واقصم به جبابرة الكفرة، واقتل به الكفار والمنافقين، وجميع
الملحدين، حيث كانوا في مشارق الأرض ومغاربها، برها وبحرها، واملأ به
الأرض عدلا، وأظهر به دين نبيك، واجعلني اللهم من أنصاره وأعوانه، وأتباعه
وشيعته، وأرني في آل محمد ما يأملون، وفي عدوهم ما يحذرون إله الحق آمين،
يا ذا الجلال والإكرام، يا أرحم الراحمين.
ذكر كتاب ورد من الناحية المقدسة - حرسها الله ورعاها - في أيام بقيت من
صفر، سنة عشر وأربعمائة على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدس الله
روحه ونور ضريحه، (1) ذكر موصله أنه يحمله من ناحية متصلة بالحجاز، نسخته:

(1) قال الشيخ أبو جعفر الطوسي في رجاله ص 514: (محمد بن محمد بن النعمان
جليل ثقة. وقال في الفهرست ص 186: محمد بن محمد بن النعمان المفيد يكنى:
(أبا عبد الله) المعروف بابن المعلم من جملة متكلمي الإمامية، انتهت إليه رئاسة
الإمامية في وقته، وكان مقدما في العلم وصناعة الكلام، وكان فقيها متقدما فيه، حسن
الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، وله قريب من مائتي مصنف كبار وصغار،
وفهرست كتبه معروف، ولد سنة (338) ه‍، وتوفي لليلتين خلتا من شهر رمضان
سنة (413) ه‍، وكان يوم وفاته يوما لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه
وكثرة البكاء من المخالف والموافق. ثم قال: سمعنا منه هذه الكتب كلها، بعضها
قراءة عليه، وبعضها يقرأ عليه غير مرة وهو يسمع.).
وقال النجاشي ص 311 من رجاله: (شيخنا واستاذنا رضي الله عنه، فضله
أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة له كتب - ثم عدله (174) كتابا
ورسالة ثم قال -: مات رحمه الله ليلة الجمعة لثلاث ليال خلون من شهر رمضان سنة (413)
وكان مولده يوم الحادي عشر من ذي القعدة سنة (336) وصلى عليه الشريف المرتضى
أبو القاسم علي بن الحسين بميدان الأشنان وضاق على الناس مع كبره ودفن في داره
سنين، ونقل إلى مقابر قريش بالقرب من السيد أبي جعفر عليه السلام. وقيل: مولده
سنة (338).
وقال العلامة الحلي - رحمه الله - في القسم الأول من الخلاصة ص 147: (محمد
ابن محمد بن النعمان يكنى (أبا عبد الله) يلقب (بالمفيد) وله حكاية في سبب تسميته
(بالمفيد) ذكرناها في كتابنا الكبير، ويعرف بابن المعلم، من أجل مشايخ الشيعة
ورئيسهم وأستاذهم، وكل من تأخر عنه استفاد منه، وفضله أشهر من أن يوصف في الفقه
والكلام والرواية، أوثق أهل زمانه وأعلمهم، انتهت رياسة الإمامية إليه في وقته،
وكان حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب له قريب من مائتي مصنف كبار
وصغار،.. إلى أن قال: ثم نقل إلى مقابر قريش بالقرب من السيد الإمام أبي جعفر
الجواد عليه السلام عند الرجلين إلى جانب قبر شيخه الصدوق أبي القاسم جعفر بن محمد
ابن قولويه).
وقال الشيخ عباس القمي - رحمه الله - في الجزء الثالث من الكنى والألقاب
ص 164: (أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام البغدادي شيخ
المشايخ الجلة، ورئيس رؤساء الملة، فخر الشيعة، ومحيي الشريعة، ملهم الحق
ودليله، ومنار الدين وسبيله، اجتمعت فيه خلال الفضل، وانتهيت إليه رياسة الكل
واتفق الجميع على علمه وفضله، وفقهه وعدالته، وثقته وجلالته.
كان رحمه الله كثير المحاسن، جم المناقب، حديد الخاطر، حاضر الجواب، واسع
الرواية، خبير بالأخبار والرجال والأشعار.
وكان أوثق أهل زمانه بالحديث، وأعرفهم بالفقه والكلام، وكل من تأخر عنه
استفاد منه.
وقال علماء العامة في حقه: - هو شيخ مشايخ الإمامية رئيس الكلام والفقه والجدل
وكان يناظر أهل كل عقيدة، وكان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة
والصوم، خشن اللباس، وكان شيخا، ربعة، نحيفا، أسمر عاش ستا وسبعين سنة
وله أكثر من مائتي مصنف، كانت جنازته مشهورة شيعه ثمانون ألفا من الرافضة
والشيعة، وأراح الله منه أهل السنة، وكان كثير التقشف والتخشع، والإكباب
على العلم، وكان يقال له على كل إمامي منة، وقال الشريف أبو يعلى الجعفري - وكان
تزوج بنت المفيد رحمه الله -: ما كان المفيد ينام من الليل إلا هجعة ثم يقوم يصلي
أو يطالع أو يدرس أو يتلو. وقال ابن النديم: في عهدنا انتهت رياسة متكلمي الشيعة
إليه، مقدم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه، دقيق الفطنة، ماضي الخاطر، شاهدته
فرأيته بارعا.
توفي رحمه الله ليلة الثالث من شهر رمضان ببغداد سنة (413) وكان مولده يوم الحادي عشر من ذي القعدة (336) وصلى عليه الشريف المرتضى بميدان الأشنان
ثم نقل كلام الشيخ الطوسي المتقدم ثم قال: ورثاه مهيار الديلمي بقصيدة منها قوله:
ما بعد يومك سلوة لمعلل * مني ولا ظفرت بسمع معذل
سوى المصاب بك القلوب على الجوى * قيد الجليد على حشأ المتململ
وتشابه الباكون فيك فلم يبن * دمع المحق لنا من المتعمل
وتقدم في ابن قولويه أن قبره في البقعة الكاظمية (ع) وذكر جماعة من العلماء منهم
الميرزا محمد مهدي الشهرستاني في إجازته للسيد ميرزا محمد مهدي ابن ميرزا محمد تقي
الطباطبائي التبريزي المتوفى سنة (241) أن الشيخ المفيد - ره - رثاه صاحب
الأمر (عج) حيث وجد مكتوبا على قبره:
لا صوت الناعي بفقدك أنه * يوم على آل الرسول عظيم
إن كنت قد غيبت في جدث الثرى * فالعدل والتوحيد فيك مقيم
والقائم المهدي يفرح كلما * تليت عليك من الدروس علوم
أقول وقصيدة الديلمي هذه التي ذكر منها الشيخ عباس القمي - رحمه الله - ثلاثة
أبيات تبلغ (101) بيتا وهي موجودة في ديوانه المطبوع وفيها يقول:
يا مرسلا إن كنت مبلغ ميت * تحت الصفائح قول حي مرسل
فج الثرى الراوي فقل لمحمد * عن ذي فؤاد بالفجيعة مشعل
من للخصوم اللد بعدك غصة * في الصدر لا تهوى ولا هي تعتلي
من للجدال إذا الشفاه تقلصت * وإذا اللسان بريقه لم يبلل
من بعد فقدك رب كل غريبة * بكر بك افترعت وقولة فيصل
ولغامض خاف رفعت قوامه * وفتحت منه في الجواب المقفل
من للطروس يصوغ في صفحاتها * حليا يقعقع كلما خرس الحلي
يبقين الذكر المخلد رحمة * لك في فم الراوي وعين المجتلي
أين الفؤاد الندب غير مضعف * أين اللسان الصعب غير مفلل
تفرى به وتحز كل ضريبة * ما كل حزة مفصل للمنصل
كم قد ضممت لدين آل محمد * من شارد وهديت قلب مضلل
وعقلت من ود عليهم ناشط * لو لم ترضه ملاطفا لم يعقل
لا تطبيك ملالة عن قوله * تروى عن المفضول حق الأفضل
فليجزينك عنهم ما لم يزل * يبلو القلوب ليجتبي وليبتلي
ولتنظرن إلى علي رافعا * ضبعيك يوم البعث ينظر من عل
ورثاه الشريف المرتضى - رحمه الله - بقصيدة موجودة في ديوانه المطبوع يقول
فيها:
إن شيخ الإسلام والدين والعلم * تولى فأزعج الإسلاما
والذي كان غرة في دجى الأيام * أودى فأوحش الأياما
كم جلوت الشكوك تعرض في نص * وصي وكم نصرت إماما
وخصوم لد ملأتهم بالحق * في حومة الخصام خصاما
عاينوا منك مصمما ثغرة النحر * وما أرسلت يداك سهاما
وشجاعا يفري المرائر ما كل * شجاع يفري الطلا وإلهاما
من إذا مال جانب من بناء الدين * كانت له يداه دعاما
وإذا أزور جائر عن هداه * قاده نحوه فكان زماما
من لفضل أخرجت منه خبيثا * ومعان فضضت عنها ختاما
من لسوء ميزت عنه جميلا * وحلال خلصت منه حراما
من ينير العقول من بعد ما كن * همودا وينتج الافهاما
من بعير الصديق رأيا إذا ما * سله في الخطوب كان حساما
فامض صفرا من العيوب فكم بان * رجال آثروا عيوبا وذا ما
إلى أن يقول:
لن تراني وأنت في عدد الأموات * إلا - تجملا - بساما
318

للأخ السديد، والولي الرشيد، الشيخ المفيد، أبي عبد الله محمد بن محمد بن
النعمان أدام الله إعزازه، من مستودع العهد المأخوذ على العباد.
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين
فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا
محمد وآله الطاهرين، ونعلمك - أدام الله توفيقك لنصرة الحق، وأجزل مثوبتك
على نطقك عنا بالصدق -: أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤديه
عنا إلى موالينا قبلك، أعزهم الله بطاعته، وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته،
فقف أيدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه على ما أذكره، وأعمل في تأديته
إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله.
نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي
322

أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا
للفاسقين، فإنا نحيط علما بأنبائكم، ولا يعزب عنا شئ من أخباركم، ومعرفتنا
بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعا،
ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
أنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم
اللأواء (1) أو اصطلمكم الأعداء (2) فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على انتياشكم (3) من فتنة قد أنافت عليكم (4) يهلك فيها من حم أجله (5) ويحمى عنها من أدرك
أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا (6) ومباثتكم بأمرنا ونهينا، والله متم نوره ولو
كره المشركون.
اعتصموا بالتقية! من شب نار الجاهلية، يحششها (7) عصب أموية، يهول بها
فرقة مهدية، أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن، وسلك في الطعن منها السبل
المرضية، إذا حل جمادى الأولى من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيه، واستيقظوا
من رقدتكم لما يكون في الذي يليه.
ستظهر لكم من السماء آية جلية، ومن الأرض مثلها بالسوية، ويحدث
في أرض المشرق ما يحزن ويقلق، ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام
مراق، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق، ثم تنفرج الغمة من بعد ببوار
طاغوت من الأشرار، ثم يستر بهلاكه المتقون الأخيار، ويتفق لمريدي الحج من
الآفاق ما يؤملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق، ولنا في تيسير حجهم على
الاختيار منهم والوفاق شأن يظهر على نظام واتساق.
فليعمل كل امرء منكم بما يقرب به من بمحبتنا، ويتجنب ما يدنيه من

(1) اللأواء: الشدة وضيق المعيشة
(2) اصطلمه: استأصله.
(3) إنتاشه من الهلكة: أنقذه.
(4) أناف على الشئ طال وارتفع عليه.
(5) حم أجله: قرب.
(6) الأزوف: الاقتراب.
(7) حش النار: أوقدها وهيجها.
323

كراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجاءة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا
ندم على حوبة.
والله يلهمكم الرشد، ويلطف لكم في التوفيق برحمته.
نسخة التوقيع باليد العليا على صاحبها السلام:
هذا كتابنا إليك أيها الأخ الولي، والمخلص في ودنا الصفي، والناصر لنا
الوفي، حرسك الله بعينه التي لا تنام، فاحتفظ به! ولا تظهر على خطنا الذي سطرناه
بما له ضمناه أحدا! وأد ما فيه إلى من تسكن إليه، وأوص جماعتهم بالعمل عليه
إن شاء الله، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ورد عليه كتاب آخر من قبله صلوات الله عليه، يوم الخميس الثالث والعشرين
من ذي الحجة، سنة اثني عشر وأربعمائة. نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام الله عليك أيها الناصر للحق، الداعي إليه بكلمة الصدق، فإنا نحمد الله
إليك الذي لا إله إلا هو، إلهنا وإله آبائنا الأولين، ونسأله الصلاة على سيدنا
ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطاهرين.
وبعد: فقد كنا نظرنا مناجاتك عصمك الله بالسبب الذي وهبه الله لك من
أوليائه، وحرسك به من كيد أعدائه، وشفعنا ذلك الآن من مستقر لنا ينصب
في شمراخ، من بهماء صرنا إليه آنفا من غماليل ألجأنا إليه السباريت من الإيمان،
ويوشك أن يكون هبوطنا إلى صحصح من غير بعد من الدهر ولا تطاول من الزمان
ويأتيك نبأ منا بما يتجدد لنا من حال، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا
بالأعمال، والله موفقك لذلك برحمته، فلتكن حرسك الله بعينه التي لا تنام أن
تقابل لذلك فتنة تسبل نفوس قوم حرثت باطلا لاسترهاب المبطلين، يبتهج لذمارها
المؤمنون، ويحزن لذلك المجرمون، وآية حركتنا من هذه اللوثة حادثة بالجرم
المعظم من رجس منافق مذمم، مستحل للدم المحرم، يعمد بكيده أهل الإيمان
ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان، لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي
324

الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء، فليطمئن بذلك من أوليائنا القلوب،
وليثقوا بالكفاية منه، وإن راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه
تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب.
ونحن نعهد إليك أيها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين أيدك الله بنصره
الذي أيد به السلف من أوليائنا الصالحين، أنه من اتقى ربه من إخوانك في الدين
وأخرج مما عليه إلى مستحقيه، كان آمنا من الفتنة المبطلة، ومحنها المظلمة المظلة
ومن بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره بصلته، فإنه يكون خاسرا
بذلك لأولاه وآخرته، ولو أن أشياعا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب
في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا
على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه
ولا نؤثره منهم، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته على سيدنا البشير
النذير محمد وآله الطاهرين وسلم
وكتب في غرة شوال من سنة اثني عشر وأربعمائة.
نسخة التوقيع باليد العليا صلوات الله على صاحبها:
هذا كتابنا إليك أيها الولي الملهم للحق العلي، بإملائنا وخط ثقتنا، فاخفه
عن كل أحد، واطوه واجعل له نسخة يطلع عليها من تسكن إلى أمانته من أوليائنا
شملهم الله ببركتنا إن شاء الله.
الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين.
احتجاج الشيخ المفيد السديد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان
رضي الله عنه.
حدث الشيخ أبو علي الحسن بن محمد الرقي (1) بالرملة في شوال من سنة ثلاث
وعشرين وأربعمائة عن الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان (ره) أنه قال:

(1) لم أعثر له على ترجمة.
325

رأيت في المنام سنة من السنين كأني قد اجتزت في بعض الطرق فرأيت
حلقة دائرة فيها ناس كثير، فقلت:
ما هذا؟
قالوا: هذه حلقة فيها رجل يقص.
فقلت: من هو؟
قالوا: عمر بن الخطاب.
ففرقت الناس ودخلت الحلقة، فإذا أنا برجل يتكلم على الناس بشئ لم أحصله
فقطعت عليه الكلام، وقلت:
أيها الشيخ أخبرني ما وجه الدلالة على فضل صاحبك أبي بكر عتيق ابن
أبي قحافة من قول الله تعالى: (ثاني اثنين إذ هما في الغار)؟ (1).
فقال: وجه الدلالة على فضل أبي بكر من هذه الآية في ستة مواضع:
الأول: أن الله تعالى ذكر النبي صلى الله عليه وآله وذكر أبا بكر فجعله ثانيه، فقال:
(ثاني اثنين إذ هما في الغار).
والثاني: أنه وضعهما بالاجتماع في مكان واحد، لتأليفه بينهما فقال: (إذ
هما في الغار).
والثالث: أنه أضاف إليه بذكر الصحبة ليجمعه بينهما بما يقتضي الرتبة،
فقال: (إذ يقول لصاحبه).
والرابع: أنه أخبر عن شفقة النبي صلى الله عليه وآله عليه ورفقه به لموضعه
عنده فقال: (لا تحزن).
والخامس: أنه أخبر أن الله معهما على حد سواء ناصرا لهما ودافعا عنهما
فقال: (إن الله معنا).
والسادس: أنه أخبر عن نزول السكينة على أبي بكر لأن رسول الله صلى
الله عليه وآله لم تفارقه السكينة قط، فقال: (فأنزل الله سكينته عليه).

(1) التوبة - 41.
326

فهذه ستة مواضع تدل على فضل أبي بكر من آية الغار، لا يمكنك ولا
لغيرك الطعن فيها.
فقلت له: حبرت بكلامك في الإحتجاج لصاحبك عنه، وأني بعون الله
سأجعل جميع ما أتيت به كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
أما قولك: أن الله تعالى ذكر النبي صلى الله عليه وآله وجعل أبا بكر ثانيه، فهو إخبار
عن العدد، لعمري لقد كانا اثنين، فما في ذلك من الفضل؟! ونحن نعلم ضرورة
أن مؤمنا ومؤمنا، أو مؤمنا وكافرا، اثنان، فما أرى لك في ذكر العدد طائلا تعتمده.
وأما قولك: أنه وصفهما بالاجتماع في المكان، فإنه كالأول لأن المكان
يجمع المؤمن والكافر كما يجمع العدد المؤمنين والكفار، وأيضا: فإن مسجد
النبي صلى الله عليه وآله أشرف من الغار، وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار، وفي ذلك قوله
عز وجل: (فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين) (1)
وأيضا: فإن سفينة نوح قد جمعت النبي، والشيطان، والبهيمة، والكلب، والمكان
لا يدل على ما أوجبت من الفضيلة، فبطل فضلان.
وأما قولك: أنه أضاف إليه بذكر الصحبة، فإنه أضعف من الفضلين الأولين:
لأن اسم الصحبة يجمع بين المؤمن والكافر، والدليل على ذلك قوله تعالى: (قال
له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك
رجلا) (2) وأيضا: فإن اسم الصحبة تطلق بين العاقل وبين البهيمة، والدليل على
ذلك من كلام العرب الذي نزل القرآن بلسانهم، فقال الله عز وجل: (وما أرسلنا
من رسول إلا بلسان قومه) (3) أنهم سموا الحمار صاحبا فقالوا:
إن الحمار مع الحمار مطية * فإذا خلوت به فبئس الصاحب
وأيضا: قد سموا الجماد مع الحي صاحبا، قالوا ذلك في السيف شعرا:
زرت هندا وذاك غير اختيان * ومعي صاحب كتوم اللسان

(1) المعارج - 37.
(2) الكهف - 35.
(3) إبراهيم - 4.
327

يعني: السيف. فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر، وبين العاقل
والبهيمة، وبين الحيوان والجماد، فأي حجة لصاحبك فيه؟!
وأما قولك: أنه قال: (لا تحزن) فإنه وبال عليه ومنقصة له، ودليل
على خطئه، لأن قوله: (لا تحزن) نهي وصورة النهي قول القائل: (لا تفعل)
لا يخلوا أن يكون الحزن وقع من أبي بكر طاعة أو معصية، فإن كان (طاعة) فإن
النبي صلى الله عليه وآله لا ينهى عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو إليها، وإن كان (معصية)
فقد نهاه النبي صلى الله عليه وآله عنها، وقد شهدت الآية بعصيانه بدليل أنه نهاه.
وأما قولك: أنه قال: (إن الله معنا) فإن النبي صلى الله عليه وآله قد أخبر
أن الله معه، وعبر عن نفسه بلفظ الجمع، كقوله: (إنا نزلنا الذكر وإنا له
لحافظون) (1) وقيل أيضا في هذا: إن أبا بكر قال: (يا رسول الله حزني
على أخيك علي بن أبي طالب ما كان منه) فقال له النبي صلى الله عليه وآله:
(لا تحزن إن الله معنا) أي: معي ومع أخي علي بن أبي طالب عليه السلام.
وأما قولك: أن السكينة نزلت على أبي بكر، فإنه ترك للظاهر: لأن الذي
نزلت عليه السكينة هو الذي أيده بالجنود، وكذا يشهد ظاهر القرآن في قوله:
(فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود، لم تروها) (2) فإن كان أبو بكر هو صاحب
السكينة فهو صاحب الجنود، وفي هذا إخراج للنبي صلى الله عليه وآله من النبوة
على أن هذا الموضع لو كتمته عن صاحبك كان خيرا، لأن الله تعالى أنزل السكينة
على النبي صلى الله عليه وآله في موضعين كان معه قوم مؤمنون فشركهم فيها،
فقال - في أحد الموضعين -: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم
كلمة التقوى) (3) وقال في الموضع الآخر: (أنزل الله سكينته على رسوله وعلى
المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها) (4) ولما كان في هذا الموضع خصه وحده بالسكينة
قال: (فأنزل الله سكينته عليه) فلو كان معه مؤمن لشركه معه في السكينة كما

(1) الحجر - 9.
(2) التوبة - 41.
(3) الفتح - 26.
(4) التوبة 27.
328

شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين، فدل إخراجه من السكينة على خروجه
من الإيمان، فلم يحر جوابا وتفرق الناس واستيقظت من نومي.
احتجاج السيد الأجل علم الهدى المرتضى أبي القاسم علي رضي الله
عنه وأرضاه على أبي العلاء المعري الدهري في جواب ما سأل عنه مرموزا (1 و 2)
دخل أبو العلاء المعري على السيد المرتضى قدس الله روحه فقال: أيها السيد
ما قولك في الكل؟
قال السيد: ما قولك في الجزء؟
فقال: ما قولك في الشعرى؟
فقال: ما قولك في التدوير؟

(1) قال الشيخ الطوسي - رحمه الله - في رجاله ص 484: (علي بن الحسين
الموسوي يكنى: أبا القاسم، الملقب بالمرتضى ذو المجدين علم الهدى أدام الله تعالى أيامه
أكثر أهل زمانه أدبا وفضلا متكلم فقيه جامع للعلوم كلها مد الله في عمره، يروي عن
التلعكبري والحسين بن علي بن بابويه وغيرهم من شيوخنا، له تصانيف كثيرة ذكرنا
بعضها في الفهرست، وسمعنا منه أكثر كتبه وقرأناها عليه).
وقال في الفهرست ص 125: (علي بن الحسين بن موسى بن إبراهيم بن موسى
ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام كنيته:
(أبو القاسم) لقبه (علم الهدى) الأجل المرتضى رضي الله عنه، متوحد في علوم كثيرة
مجمع على فضله، مقدم في العلوم، مثل علم الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب والنحو
والشعر ومعاني الشعر واللغة وغير ذلك، له ديوان شعر يزيد على عشر بن ألف بيت وله
من التصانيف ومسائل البلدان شئ كثير، مشتمل على ذلك فهرسته المعروف، غير أني
أذكر أعيان كتبه وكبارها، - ثم عدد قسما من مؤلفاته ثم قال: توفي في شهر ربيع
الأول سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وكان مولده في رجب سنة خمس وخمسين وثلاثمائة
وسنة يومئذ ثمانون سنة وثمانية أشهر وأيام - نضر الله وجهه - قرأت هذه الكتب
أكثرها عليه وسمعت سائرها يقرأ عليه دفعات كثيرة).
وقال النجاشي ص 206: (علي بن الحسين بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن
موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
أبو القاسم المرتضى، حاز من العلوم ما لم يدانيه فيه أحد في زمانه، وسمع من الحديث
فأكثر، وكان متكلما شاعرا، أديبا عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا، صنف
كتبا - ثم عدد قسما من مؤلفاته ثم قال -: مات رضي الله عنه لخمس بقين من شهر ربيع
الأول سنة ست وثلاثين وأربعمائة وصلى عليه ابنه في داره ودفن فيها، وتوليت غسله
ومعي الشريف أبو يعلى محمد بن الحسن الجعفري وسلار بن عبد العزيز).
وقال العلامة الحلي - رحمه الله - في القسم الأول من الخلاصة ص 94: (علي بن
الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أبو القاسم المرتضى ذو المجدين علم الهدى
- رضي الله عنه - متوحد في علوم كثيرة، مجمع على فضله مقدم في علوم مثل: علم الكلام
والفقه وأصول الفقه والأدب من النحو والشعر واللغة وغير ذلك، وله ديوان شعر
يزيد على عشرين ألف بيت، وتوفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين
وأربعمائة وكان مولده سنة خمس وخمسين وثلاثمائة في رجب، ويوم توفي كان عمره
ثمانين سنة وثمانية أشهر وأيام، نضر الله وجهه، وصلى عليه ابنه في داره ودفن فيها
وتولى غسله أبو أحمد الحسين بن العباس النجاشي ومعه الشريف أبو يعلى محمد بن الحسن
الجعفري، وسلار بن عبد العزيز الديلمي، وله مصنفات كثيرة ذكرناها في كتابنا
الكبير، وبكتبه استفادت الإمامية منذ زمنه - رحمه الله - إلى زماننا هذا وهو سنة ثلاث
وتسعين وستمائة وهو ركنهم ومعلمهم قدس الله روحه وجزاه عن أجداده خيرا).
وقال الشيخ عباس القمي في ج 2 من الكنى والألقاب ص 439:
(هو سيد علماء الأمة، ومحيي آثار الأئمة، ذو المجدين أبو القاسم علي بن الحسين
ابن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم عليهم السلام، المشهور بالسيد المرتضى
الملقب من جده المرتضى عليه السلام في الرؤية الصادقة السيماء ب‍ (علم الهدى).
جمع من العلوم ما لم يجمعه أحد، وحاز من الفضائل ما تفرد به وتوحد، وأجمع
على فضله المخالف والمؤالف، كيف لا وقد أخذ من المجد طرفيه، واكتسى بثوبيه
وتردى ببرديه، متوحد في علوم كثيرة، مجمع على فضله، مقدم في العلوم مثل: علم
الكلام، والفقه، وأصول الفقه، والأدب، والنحو والشعر، واللغة وغير ذلك.
له تصانيف مشهورة منها: (الشافي) في الإمامة لم يصنف مثله في الإمامة و (الذخيرة)
و (جمل العلم والعمل) و (الذريعة) و (شرح القصيدة البديعة) وكتاب (الطيف
والخيال) وكتاب (الشيب والشباب) وكتاب (الغرر والدرر) والمسائل الكثيرة،
وله ديوان شعر يزيد على عشرين ألف بيت إلى غير ذلك.
قال آية الله العلامة: (وبكتبه استفادت الإمامية منذ زمنه رحمه الله إلى زماننا
هذا وهو سنة 693 وهو ركنهم ومعلمهم قدس الله روحه وجزاه عن أجداده خيرا).
وذكره الخطيب في تاريخ بغداد وأثنى عليه وقال: (كتبت عنه وعن جامع
الأصول أنه عده ابن الأثير من مجددي مذهب الإمامية في رأس المائة الرابعة.
(هنا) فوائد (الأول): قال ابن خلكان - في وصف علم الهدى -: كان نقيب
الطالبيين وكان إماما في علم الكلام والأدب والشعر، وهو أخو الشريف الرضي، وله
تصانيف على مذهب الشيعة، ومكالمة في أصول الدين، وله الكتاب الذي سماه (الغرر
والدرر) وهي مجالس أملاها تشتمل على فنون من معاني الأدب تكلم فيها على النحو
واللغة وغير ذلك وهو كتاب ممتع يدل على فضل كثير وتوسع في الاطلاع على العلوم.
وذكره ابن بسام في أواخر كتاب الذخيرة فقال: كان هذا الشريف إمام أئمة العراق
إليه فزع علماؤها، ومنه أخذ عظمائها: صاحب مدارسها، وجماع شاردها وآنسها،
ممن سارت أخباره، وعرفت به أشعاره وتصانيفه في أحكام المسلمين، مما يشهد أنه فرع
تلك الأصول، ومن ذلك البيت الجليل، وأورد له عدة مقاطع. وحكى الخطيب التبريزي:
329



أن أبا الحسن علي بن أحمد الفالي الأديب كانت له كتاب نسخة الجمهرة لابن دريد
في غاية الجودة فدعته الحاجة إلى بيعها فاشتراها الشريف المرتضى أبو القاسم المذكور
بستين دينارا وتصفحها فوجد بها أبياتا بخط بايعها أبي الحسن الفالي المذكور وهي:
أنست بها عشرين حولا وبعتها * لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها * ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية * صغار عليهم تستهل شؤوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرة * مقالة مكوي الفؤاد حزين
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك * كرائم من رب بهن ضنين
فأرجع النسخة إليه وترك الدنانير رحمه الله تعالى) (انتهى ملخصا).
(الثاني) قال الشهيد - رحمه الله في محكي أربعينه -: نقلت من خط السيد العالم
صفي الدين محمد بن معد الموسوي بالمشهد المقدس الكاظمي في سبب تسمية السيد المرتضى
بعلم الهدى: أنه مرض الوزير أبو سعيد محمد بن الحسين بن عبد الصمد في سنة عشرين
وأربعمائة فرأى في منامه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: قل لعلم
الهدى: يقرأ عليك حتى تبرأ. فقال: يا أمير المؤمنين ومن علم الهدى؟ قال عليه السلام:
علي بن الحسين الموسوي فكتب الوزير إليه بذلك. فقال المرتضى رضي الله عنه:
الله الله في أمري فإن قبولي لهذا اللقب شناعة علي. فقال الوزير: ما كتبت إليك إلا
بما لقبك به جدك أمير المؤمنين عليه السلام، فعلم القادر الخليفة بذلك فكتب إلى المرتضى
(تقبل يا علي بن الحسين ما لقبك به جدك) فقبل وأسمع الناس
(الثالث) قال صاحب رياض العلماء: ونقل عن خط الشهيد الثاني - رحمه الله -
على ظهر كتاب الخلاصة: أنه كان السيد المرتضى معظما عند العام والخاص. ونقل
عن الشيخ عز الدين أحمد بن مقبل يقول: لو حلف إنسان أن السيد المرتضى كان أعلم
بالعربية من العرب لم يكن عندي آثما. وقد بلغني عن شيخ من شيوخ الأدب بمصر:
أنه قال: والله أني استفدت من كتاب الغرر مسائل لم أجدها في كتاب سيبويه ولا غيره
من كتب النحو وكان نصير الدين الطوسي - رحمه الله - إذا جرى ذكره في درسه يقول:
(صلوات الله عليه) ويلتفت إلى القضاة والمدرسين الحاضرين درسه ويقول: (كيف
لا يصلى على المرتضى).
وقد ذكر المعري اسم المرتضى والرضي ومدحهما في طي مرثيته لوالدهما في ديوان
السقط ومن أبيات تلك المرثية:
أبقيت فينا كوكبين سناهما في * الصبح والظلماء ليس بخاف
وقال أيضا:
سأرى الرضى والمرتضى وتقاسما خطط العلى بتناصف ونصاف
(الرابع): قال شيخنا البهائي في كشكوله: كان للشيخ أبي جعفر الطوسي
أيام قراءته على السيد المرتضى (ره) كل شهر اثنا عشر دينارا ولابن البراج كل
شهر ثمانية دنانير وكان السيد المرتضى يجري على تلامذته... وكان السيد رحمه الله
نحيف الجسم وكان يقرأ مع أخيه الرضي على ابن نباتة صاحب الخطب وهما طفلان
وحضر المفيد مجلس السيد يوما فقام من موضعه وأجلسه فيه وجلس بين يديه، فأشار
المفيد بأن يدرس في حضوره وكان يعجبه كلامه إذا تكلم، وكان السيد قد وقف قرية
على كافة الفقهاء، وحكاية رؤية المفيد في المنام فاطمة الزهراء عليها السلام وأنها أتت
بالحسن والحسين ومجئ فاطمة بنت الناصر بولديها الرضي والمرتضى في صبيحة ليلة
المنام وقولها له: علم ولدي هذين مشهورة.
(الخامس) توفي السيد المرتضى - رضي الله عنه - لخمس بقين من شهر ربيع الأول
سنة 436، وصلى عليه ابنه في داره ودفن فيها ثم نقل إلى جوار جده أبي عبد الله
الحسين عليه السلام.
(السادسة): حكي عن القاضي التنوخي صاحب السيد المرتضى أنه قال: ولد
السيد سنة 355 وخلف بعد وفاته ثلاثين ألف مجلد من مقروءاته ومصنفاته ومحفوظاته،
ومن الأموال والأملاك ما يتجاوز عن الوصف وصنف كتابا يقال له: الثمانين وخلف
من كل شئ ثمانين، وعمر إحدى وثمانين سنة، من أجل ذلك سمي الثمانيني، وبلغ
في العلم وغيره مرتبة عظيمة قلد نقابة الشرفاء شرقا وغربا وإمارة الحاج والحرمين،
والنظر في المظالم وقضاء القضاة، وبلغ على ذلك ثلاثين سنة).
(2) اختلف في عقيدة أبي العلاء المعري فقيل: أنه كان ملحدا ومات كذلك.
وقيل: أنه كان مسلما موحدا. وقيل: أنه كان ملحدا ثم أسلم.
وهذا القول الأخير يعززه ما قرأته في ديوان عبد المحسن الصوري - رحمه الله -
المتوفى سنة 419. (المخطوط في مكتبة الأديب الفاضل الشيخ محمد هادي الأميني
- حفظه الله -) من قوله:
نجى المعري من العار * ومن شناعات وأخبار
وافقني أمس على أنه * يقول بالجنة والنار
وأنه لا عاد من بعدها * يصبو إلى مذهب بكار
واسم أبي العلاء المعري (أحمد) بن عبد الله بن سليمان.
قال الشيخ عباس القمي في ترجمته ج 3 من الكنى والألقاب ص 61: (. الشاعر
الأديب الشهير، كان نسيج وحده بالعربية ضربت آباط الإبل إليه، وله كتب كثيرة
وكان أعمى ذا فطانة، وله حكايات من ذكاته وفطانته. حكي أنه لما سمع فضائل الشريف
السيد المرتضى اشتاق إلى زيارته. فحضر مجلس السيد وكان سيد المجالس فجعل يخطو
ويدنو إلى السيد فعثر على رجل فقال الرجل: من هذا الكلب؟ فقال المعري الكلب
من لا يعرف للكلب سبعين اسما. فلما سمع الشريف ذلك منه قربه وأدناه فامتحنه فوجده
وحيد عصره وأعجوبة دهره. فكان أبو العلاء يحضر مجلس السيد وعد من شعراء
مجلسه..).
329

قال: ما قولك في عدم الانتهاء؟
قال: ما قولك في التحيز والناعورة
فقال: ما قولك في السبع؟
فقال: ما قولك في الزايد البري من السبع؟
فقال: ما قولك في الأربع؟
فقال: ما قولك في الواحد والاثنين؟
فقال: ما قولك في المؤثر؟
فقال: ما قولك في المؤثرات؟
فقال: ما قولك في النحسين؟
فقال: ما قولك في السعدين؟ فبهت أبو العلاء.
(قال): فقال السيد المرتضى قدس الله روحه - عند ذلك - ألا كل ملحد ملهد!
فقال أبو العلاء: من أين أخذته؟
قال: من كتاب الله (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) (1).
وقام وخرج فقال السيد رضي الله عنه: قد غاب عنا الرجل وبعد هذا لا يرانا.

(1) لقمان - 13.
334

فسئل السيد (ره) عن كشف هذه الرموز والإشارات فقال:
سألني عن الكل، وعنده الكل قديم، ويشير بذلك إلى عالم سماه (العالم
الكبير) فقال: ما قولك فيه؟ أراد أنه قديم.
فأجبته عن ذلك وقلت له: ما قولك في الجزء؟ لأن عندهم الجزء (محدث)
وهو متولد عن (العالم الكبير) وهذا الجزء عندهم هو (العالم الصغير) وكان
مرادي بذلك: أنه إذا صح أن هذا العالم محدث، فذلك الذي أشار إليه إن صح
فهو محدث أيضا، لأن هذا من جنسه على زعمه، والشي الواحد لا يكون بعضه
قديما وبعضه محدثا، فسكت لما سمع ما قلته.
وأما الشعرى: أراد أنها ليست من الكواكب السيارة.
فقلت له: ما قولك في التدويرات؟ أردت (الفلك) في التدويرات والدوران
والشعرى لا يقدح في ذلك.
وأما عدم الانتهاء، أراد بذلك أن العالم لا ينتهي لأنه قديم.
فقلت له: قد صح عندي (التحيز والتدوير) وكلاهما يدلان على الانتهاء.
وأما السبع: أراد بذلك (النجوم السيارة) التي هي عندهم ذوات الأحكام.
فقلت له: هذا باطل بالزايد البري الذي يحكم فيه بحكم لا يكون ذلك
الحكم منوطا بهذه الكواكب السيارة، التي هي: (الزهرة، والمشتري، والمريخ
وعطارد، والشمس، والقمر، وزحل).
وأما الأربع أراد بها (الطبايع) (2).
فقلت له: في الطبيعة الواحدة النارية يتولد منها دابة بجلدها تمس الأيدي
ثم يطرح ذلك الجلد على النار فتحرق الزهومات، فيبقى الجلد صحيحا، لأن
الدابة خلقها الله على طبيعة النار والنار لا تحرق النار، والثلج أيضا تتولد فيه
الديدان وهو على طبيعة واحدة، والماء في البحر على طبيعتين يتولد منه السموك
.

(1) أي: العناصر الأربعة على رأي الفلسفة القديمة وهي: (التراب، والنار
والماء، والهواء)
335

والضفادع، والحيات، والسلاحف، وغيرها. وعنده لا يحصل الحيوان إلا بالأربع
فهذا مناقض بهذا.
وأما المؤثر، أراد به: (الزحل).
فقلت له: ما قولك في المؤثرات؟ أردت بذلك: أن المؤثرات كلهن عنده
مؤثرات، فالمؤثر القديم كيف يكون مؤثرا؟!
وأما النحسين، أراد بهما: أنهما من النجوم السيارة، إذا اجتمعا يخرج
من بينهما سعد.
فقلت له: ما قولك في السعدين؟ إذا اجتمعا خرج من بينهما نحس، هذا
حكم أبطله الله تعالى، ليعلم الناظر أن الأحكام لا يتعلق بالمسخرات، لأن الشاهد
يشهد أن (العسل والسكر) إذا اجتمعا لا يحصل منهما (الحنظل). (والعلقم والحنظل)
إذا اجتمعا لا يحصل منهما (الدبس والسكر) هذا دليل على بطلان قولهم.
وأما قولي ألا كل ملحد ملهد، أردت: أن كل مشرك ظالم، لأن في اللغة:
ألحد الرجل إذ عدل من الدين، وألهد إذا ظلم، فعلم أبو العلاء ذلك وأخبرني عن
علمه بذلك، فقرأت: (يا بني لا تشرك بالله الآية).
وقيل: أن المعري لما خرج عن العراق سئل عن السيد المرتضى (ره) فقال:
يا سائلي عنه لما جئت أسأله * ألا هو الرجل العاري من العار
لو جئته لرأيت الناس في رجل * والدهر في ساعة والأرض في دار
احتجاجه قدس الله روحه في التعظيم والتقديم لأئمتنا عليهم السلام على
سائر الورى ما عدا نبينا عليه السلام بطريقة لم يسبقه إليها أحد ذكرها في
رسالة الموسومة بالرسالة الباهرة في فضل العترة الطاهرة.
قال: ومما يدل أيضا على تقديمهم وتعظيمهم على البشر: أن الله تعالى
دلنا على أن المعرفة بهم كالمعرفة به تعالى، في أنها: (إيمان وإسلام)
وأن الجهل بهم والشك فيهم كالجهل به والشك فيه، في أنه (كفر وخروج من الإيمان)
336

وهذه منزلة ليس لأحد من البشر إلا لنبينا صلى الله عليه وآله، وبعده لأمير المؤمنين
والأئمة من ولده عليهم السلام، لأن المعرفة بنبوة الأنبياء المتقدمين من آدم إلى عيسى عليهم السلام
غير واجبة علينا، ولا تعلق لها بشئ من تكاليفنا، ولولا أن القرآن ورد بنبوة
من سمي فيه من الأنبياء المتقدمين فعرفناهم تصديقا للقرآن، وإلا فلا وجه
لوجوب معرفتهم علينا، ولا تعلق لها بشئ من أحوال تكاليفنا.
وبقي علينا أن ندل على أن الأمر على ما ادعيناه.
والذي يدل على أن المعرفة بإمامة من ذكرناه عليهم السلام من جملة الإيمان،
وأن الاخلال بها كفر ورجوع عن الإيمان: (إجماع) الشيعة الإمامية على ذلك
فإنهم لا يختلفون فيه، وإجماعهم حجة، بدلالة أن قول الحجة المعصوم الذي قد
دلت العقول على وجوده في كل زمان في جملتهم وفي زمرتهم، وقد دللنا على هذه
الطريقة في مواضع كثيرة من كتبنا، واستوفينا ذلك في جواب المسائل التبانيات
خاصة، وفي كتاب نصرة ما انفردت به الشيعة الإمامية من المسائل الفقهية، فإن
هذا الكتاب مبني على صحة هذا الأصل.
ويمكن أن يستدل على وجوب المعرفة بهم عليهم السلام: (بإجماع الأمة) مضافا
إلى ما بيناه من إجماع الإمامية.
وذلك: أن جميع أصحاب الشافعي يذهبون إلى أن الصلاة على نبينا في التشهد
الأخير فرض واجب، وركن من أركان الصلاة، متى أخل بها الإنسان فلا صلاة
له، وأكثرهم يقول: أن الصلاة في هذا التشهد على آل النبي عليهم الصلاة والسلام
في الوجوب واللزوم ووقوف أجزاء الصلاة عليهم كالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله،
والباقون منهم يذهبون: إلى أن الصلاة على الآل مستحبة وليست بواجبة،
فعلى القول الأول لا بد لكل من وجبت عليه الصلاة من معرفتهم من حيث كان واجبا
عليه الصلاة عليهم، فإن الصلاة عليهم فرع على المعرفة بهم، ومن ذهب إلى أن
ذلك مستحب فهو من جملة العبادة، وإن كان مسنونا مستحبا، والتعبدية يقتضي
التعبد بما لا يتم إلا به من المعرفة.
337

ومن عدى أصحاب الشافعي لا ينكرون أن الصلاة على النبي وآله عليهم السلام
في التشهد مستحبة، وأي شبهة تبقى مع هذا في أنهم عليهم السلام أفضل الناس وأجلهم،
وذكرهم واجب في الصلاة، وعند أكثر الأمة من الشيعة الإمامية، وجمهور أصحاب
الشافعي: أن الصلاة تبطل بتركه، وهل مثل هذه الفضيلة لمخلوق سواهم أو يتعداهم.
ومما يمكن الاستدلال به على ذلك: أن الله تعالى قد ألهم جميع القلوب وغرس
في كل النفوس تعظيم شأنهم، وإجلال قدرهم، على تباين مذاهبهم، واختلاف
ديانتهم ونحلهم، وما أجمع هؤلاء المختلفون والمتباينون مع تشتت الأهواء وتشعب
الآراء على شئ كإجماعهم على تعظيم من ذكرنا وإكباره، فإنهم يزورون قبورهم
ويقصدون من شاحط البلاد وشاطها مشاهدهم، ومدافنهم، والمواضع التي رسمت
بصلاتهم فيها، وحلولهم بها، وينفقون في ذلك الأموال، ويستنفدون الأحوال.
فقد أخبرني من لا أحصيه كثرة: أن أهل نيشابور ومن والاها من تلك
البلدان يخرجون في كل سنة إلى طوس لزيارة الإمام أبي الحسن علي بن موسى
الرضا صلوات الله عليهما بالجمال الكثيرة، والإهب التي لا يوجد مثلها إلا للحج
إلى بيت الله الحرام، هذا مع أن المعروف من انحراف أهل خراسان عن هذه
الجهة، وازورارهم عن هذا الشعب، وما تسخير هذه القلوب القاسية، وعطف هذه
الأمم النائية، إلا كالخارقات للعادات، والخارج عن الأمور المألوفات، وإلا فما
الحامل للمخالفين لهذه النحلة، المنحازين عن هذه الجملة، على أن يراوحوا
هذه المشاهد ويغادوها، ويستنزلوا عندها من الله تعالى الأرزاق، ويستفتحوا بها
الاغلاق، ويطلبوا ببركتها الحاجات، ويستدفعوا البليات، والأحوال الظاهرة
كلها لا توجب ذلك، ولا تقتضيه ولا تستدعيه، وإلا فعلوا ذلك فيمن يعتقدونهم
أو أكثرهم إمامته وفرض طاعته، وأنه في الديانة موافق لهم غير مخالف، ومساعد
غير معاند، ومن المحال أن يكونوا فعلوا ذلك لداع من دواعي الدنيا، فإن الدنيا
عند غير هذه الطائفة موجودة، وعندها هي مفقودة، ولا لتقية واستصلاح، فإن
التقية هي فيهم لا منهم، ولا خوف من جهتهم، ولا سلطان لهم، وكل خوف إنما
338

هو عليهم، فلم يبق إلا داعي الدين، وذلك هو الأمر الغريب العجيب الذي لا تنفذ
في مثله إلا مشية الله، وقدرة القهار التي تذلل الصعاب، وتقود بأزمتها الرقاب.
وليس لمن جهل هذه المزية أو تجاهلها أو تعامى عنها وهو يبصرها، أن
يقول: إن العلة في تعظيم غير فرق الشيعة لهؤلاء القوم ليست ما عظمتموه وفخمتموه
وادعيتم خرقه للعادة وخروجه عن الطبيعة، بل هي لأن هؤلاء القوم من عترة
النبي صلى الله عليه وآله، وكل من عظم النبي صلى الله عليه وآله فلا بد أن يكون لعترته وأهل بيته معظما
ومكرما، وإذا انضاف إلى القرابة الزهد، وهجر الدنيا، والعفة، والعلم، زاد
الاجلال والإكرام لزيادة أسبابها.
والجواب عن هذه الشبهة الضعيفة: أن قد شارك أئمتنا عليهم السلام والصلاة في نسبهم
وحسبهم وقرابتهم من النبي صلى الله عليه وآله غيرهم، وكانت لكثير منهم عبادات ظاهرة
وزهادة في الدنيا بادية، وسمات جميلة، وصفات حسنة، من ولد أبيهم عليه وآله السلام
ومن ولد عمهم العباس رضوان الله عليهم، فما رأينا من الاجماع على تعظيمهم،
وزيارة مدافنهم، والاستشفاع بهم في الأغراض والاستدفاع بمكانهم للأعراض
والأمراض، ما وجدنا مشاهدا معاينا في هذا الاشتراك، وإلا فمن الذي أجمع على
فرط إعظامه وإجلاله من ساير صنوف العترة، يجري في هذا الحال مجرى الباقر
والصادق والكاظم والرضا صلوات الله عليهم أجمعين، لأن من عدا من ذكرناه من
صلحاء العترة وزهادها ممن يعظمه فريق من الأمة ويعرض عنه فريق، ومن عظم
منهم وقدمه لا ينتهي في الاجلال والإعظام إلى الغاية التي ينتهي إليها فيمن ذكرناه
ولولا أن تفصيل هذه الجملة ملحوظ معلوم لفصلناها على طول ذلك، ولسمينا من
كنينا عنه، ونظرنا بين كل معظم مقدم من العترة، ليعلم أن الذي ذكرناه هو
الحق الواضح وما عداه هو الباطل الماضح (1).
وبعد: فمعلوم ضرورة أن الباقر والصادق ومن وليهما من أئمة أبنائهما عليهما السلام
كانوا في الديانة والاعتقاد وما يفتون به من حلال وحرام على خلاف ما يذهب إليه

(1) الماضح: المشين المعيب.
339

مخالفوا الإمامية، وإن ظهر شك في ذلك كله فلا شك ولا شبهة على منصف في أنهم
لم يكونوا على مذاهب الفرق المختلفة المجمعة على تعظيمهم والتقرب إلى الله تعالى
بهم، وكيف يعترض ريب فيما ذكرناه؟! ومعلوم ضرورة أن شيوخ الإمامية
وسلفهم في ذلك الأزمان كانوا بطانة للباقر وللصادق صلوات الله عليهما ومن وليهما
أجمعين السلام، وملازمين لهم متمسكين بهم، ومظهرين أن كل شئ يعتقدونه
وينتحلونه ويصححونه أو يبطلونه فعنهم تلقوه ومنهم أخذوه، فلو لم يكونوا عليهم السلام
بذلك راضين وعليه مقرين لأبوا عليهم نسبة تلك المذاهب إليهم، وهم منها بريئون
خليون، ولنفوا ما بينهم من مواصلة ومجالسة، وملازمة وموالاة، ومصافاة،
ومدح وإطراء وثناء، ولأبدلوه، باللوم والذم، والبراءة والعداوة، فلو لم يكن
أنهم عليهم السلام لهذه المذاهب معتقدون وبها راضون، لبان لنا واتضح، ولو لم يكن
إلا هذه الدلالة لكفت وأغنت، وكيف يطيب قلب عاقل، أو يسوغ في الدين لأحد:
أن يعظم في الدين من هو على خلاف ما يعتقد أنه الحق وما سواه باطل، ثم ينتهي
في التعظيمات والكرامات إلى أبعد الغايات وأقصى النهايات، وهل جرت بمثل ذلك
عادة؟ أو مضت عليه سنة؟ أو لا يرون أن الإمامية لا تلتفت إلى من خالقها من
العترة، وحاد عن جادتها في الديانة، ومحجتها في الولاية، ولا تسمح له بشئ من
المدح والتعظيم، فضلا عن غايته وأقصى نهايته، بل تبرأ منه وتعاديه، وتجريه
في جميع الأحكام مجرى من لا نسب له ولا حسب، ولا قرابة ولا علقة، وهذا يوقظ
على أن الله تعالى خرق في هذه العصابة العادات، وقلب الجبلات، ليبين من عظيم
منزلتهم، وشريف مرتبتهم، وهذه فضيلة تزيد على الفضائل، وتوفي على جميع
الخصائص والمناقب، وكفى به برهانا لائحا، وحجابا راجحا. قطعنا هذا الكتاب
على كلام السيد علم الهدى قدس الله روحه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على
خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
340