الكتاب: الفرج بعد الشدة
المؤلف: القاضي التنوخي
الجزء: ٢
الوفاة: ٣٨٤
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: منشورات الشريف الرضي - قم
ردمك:
ملاحظات: الأصل مأخوذ عن نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية / دار الطباعة المحمدية بالقاهرة

الفرج بعد الشدة
للقاضي أبي علي المحسن بن أبي القاسم التنوخي
(327 - 384)
الأصل مأخوذ عن نسخة خطية محفوظة
بدار الكتب المصرية
الجزء الثاني
منشورات الرضى - قم
دار الطباعة المحمدية بالقاهرة
197

بسم الله الرحمن الرحيم
الباب السابع
(من استنقذ من كرب وضيق خناق * بإحدى حالتي عمدا أو اتفاق)
قال أبو علي: حدثنا على ابن الحسين المعروف بالأصفهاني إملاء من حفظه،
قال: حدثني أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني الكاتب، قال: كان محمد بن زيد
العلوي الداعي بطبرستان إذا افتتح الخراج نظر في بيت المال من خراج
السنة التي قبلها ففرق في قبائل قريش قسطا على دعوتهم، وفى الأنصار،
وفى الفقهاء، وأهل القرآن، وسائر طبقات الناس حتى يفرغ جميع ما بقي. فجلس
في سنة من السنين ففرق المال كما كان يفعل، فلما فرغ من بني هاشم دعى
بسائر عبد بنى عبد مناف فقام رجل. فقال له من أي عبد مناف أنت؟
قال: من بنى أمية. قال: من أيهم أنت؟ فسكت: فقال: لعلك من ولد معاوية؟
قال: نعم، قال فمن أي ولده؟ فأمسك. قال: لعلك من ولد يزيد؟ قال:
نعم. قال بئس الاختيار اخترت لنفسك في قصدك بلدا ولايته إلى أبى طالب،
وعندك ثارهم في سيدهم وإخوتهم وبنى عمه، وقد كانت لك مدوحة عندهم
بالشام والعراق عند من يتولى جدك ويحب برك، فإن كنت جئت على جهل
بهذا فما يكون بعد جهلك شئ، وإن كنت جئت متمريا فقد خاطرت بنفسك
قال: فنظر إليه العلويون نظرا شديدا. فصاح بهم محمد وقال: كفوا كأنكم
تظنون أن في قتل هذا دركا أو ثارا بالحسين بن علي رضي الله عنهما، أو
بأحد من أقاربه، وأي جرم لهذا؟! إن الله تعالى قد حرم أن تطالب نفس بغير
ما كسبت، والله لا تعرض له أحد إلا أفديته منه واسمعوا حديثا أحدثكم
به يكون قدوة لكم فيما تستأنفون * حدثني أبي، عن أبيه رضوان الله عليهما
قال: حج المنصور فعرض جوهر فاخر كان لهشام بن عبد الملك فقال: هذا
199

بعينه قد بلغني خبره أن عند ابنه محمد وما بقي منهم أحد غيره، ثم قال للربيع:
إذا كان غدا وصليت بالناس في المسجد الحرام وحصل الناس فيه فأغلق
الأبواب كلها، ووكل بها ثقاتك من الشيعة، وافتح للناس بابا واحدا وقف
عليه فلا يخرج أحد إلا من عرفته. فلما كان من الغد فعل الربيع ما أمره
وتبين محمد بن هشام القصة فعلم أنه هو المطلوب، وأنه مأخوذا، فأقبل عليه
محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم فرآه
متحيرا وهو لا يعرفه. فقال يا هذا: أراك متحيرا فمن أنت ولك أمان الله
وأنت في ذمتي حتى أخلصك؟ قال: أنا محمد بن هشام بن عبد الملك. فمن
أنت؟ قال أنا محمد بن زيد بن علي بن الحسين. قال: فعند الله أحتسب دمى
إذن. قال لا بأس عليك، فإنك لست قاتل زيد، ولا في قتلك إدراك ثار.
وأنا الآن بخلاصك أولى منى بتسليمك وتعذرني في مكروه أتناولك، أو قبيح
أخاطبك به يكون فيه خلاصك. قال: أنت وذاك. قال فطرح رداه على
رأسه ووجهه ولببه به وأقبل يجره، فلما وقع عين الربيع عليه لطمه لطمات،
وجاء به إلى الربيع وقال يا أبا الفضل: إن هذا الخبيث جمال من الكوفة
أكراني جماله ذاهبا وراجعا، ثم هرب منى وأكرى بعض القواد الخرسانية
ولى عليه بذلك بينة. قال فضم إليه حرسيين وقال لهما امضيا معه فمضيا معه
فلما بعدا عن المسجد قال له تؤدى إلى حقي؟ قال نعم يا ابن رسول الله صلى الله
عليه وسلم. فقال انصرفا فانصرفا وأطلقه فقبل محمد بن هشام يده وقال: بأبي
أنت وأمي الله أعلم حيث يجعل رسالته، ثم أخرج جوهرا له قدر فدفعه إليه
وقال: تشرفني بقبول هذا. فقال يا ابن عم: إنا أهل بيت لا نقبل على
المعروف مكافأة، وقد تركت لك أعظم من هذا، تركت لك دم زيد بن علي
فانصرف راشدا، ووار شخصك حتى يخرج هذا الرجل، فإنه مجد في
طلبك فمضى وتوارى. قال: ثم أمر محمد بن زيد الداعي بطبرستان للأموي
بمثل ما أمر به لسائر بنى عبد مناف وضم إليه جماعة من مواليه وأمرهم أن
يخرجوه إلى الري ويأتوه بكتاب بسلامته. فقام الأموي ومضى ومعه القوم
حتى وصل إلى مأمنه. قال أبو مسلم الأصبهاني: وكان أبو مسلم محمد بن بحر
200

وزيد بن محمد بن زيد الداعي بطبرستان وخبرني أن هذا الخبر سمعه وشاهده
من لفظ الداعي.
وحدثني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني املاء من حفظه وأنا أسمع
قال: قرأت في بعض الأخبار للأوائل أن الإسكندر لما انتهى إلى بلد الصين
ونزل على ملكها أتاه حاجبه وقد مضى من الليل شطره، فقال له: رسول
ملك الصين يستأذن عليك. فقال ائذن له فأدخله فوقف بين يدي الإسكندر
وسلم وقال: إن رأى الملك أن يستخليني فأمر الإسكندر من بحضرته أن
ينصرفوا فانصرفوا وبقى خاصته. فقال: إن الذي جئت له لا يمكن أن يسمعه
غيرك. فقال: فقال فتشوه ففتش فلم يوجد معه سلاح فوضع الإسكندر بين
يديه سيفا مسلولا وقال له: قف بمكانك وقل ما شئت. واخرج كل من كان
عنده فقال الرسول: أنا ملك الصين لا رسوله وجئت أسألك عما تريده، فإن كان
مما يمكن عمله ولو على أصعب الوجوه عملته وأغنيتك عن الحرب، فقال:
له الإسكندر وما أمنك منى؟ قال علمي بأنك رجل عاقل وليست بيننا عداوة
متقدمة ولا مطالبة بدخل، وأنك تعلم انك إن قتلتني لم يكن ذلك سببا بأن
يسلم إليك أهل الصين ملكهم، ولا يمنعهم قتلى من أن ينصبوا لأنفسهم ملكا
غيري وتنسب إلى غير الجميل وضد الحزم، فأطرق الإسكندر متفكرا وعلم
أنه رجل عاقل. فقال: الذي أريده منك ارتفاع مملكتك لثلاث سنين
عاجلا، ونصف ارتفاعها في كل سنة. قال هل غير ذلك؟ قال: لا. قال قد
أجبتك. قال فكيف تكون حالك حينئذ؟ قال: أكون قتيلا محاربا.
قال: فان قنعت منك بارتفاع سنتين. فكيف يكون حالك؟ قال: يكون
أصلح مما كانت وأفسح في المدة. قال فإن قنعت منك بارتفاع سنة واحدة؟
قال: ذلك يكون مضرا بي ومذهبا لجميع لذاتي، قال: فان قنعت منك بارتفاع
الثلث كيف يكون حالك؟ قال يكون الثلث موفرا والباقي لجيشي ولأسباب
الملك. قال فقد اقتصرت منك على ذلك. فشكره وانصرف فلما طلعت
الشمس أقبل جيش الصين حتى طبق الأرض وأحاط بجيش الإسكندر حتى
201

خاف الهلاك، وتواثبت أصحابه فركبوا الخيل واستعدوا للحرب فبينما هم
كذلك إذ طلع ملك الصين وعليه التاج فلما رأى الإسكندر ترجل. فقال له
الإسكندر: غدرت؟ قال: لا. قال فما هذا الجيش؟ قال أردت أن أعلمك
أنى لم أطعك من قلة، ولا ضعف، ولا عجز، وأنت ترى هذا الجيش. وما
غاب عنك أكثر ولكني رأيت العالم الأكبر مقبلا عليك ممكنا لك فعلمت
أن من حارب العالم الأكبر. غلب، فأردت طاعته بطاعتك، والتذلل له
بالتذلل لك. فقال الإسكندر ليس مثلك من يؤخذ منه شئ. فانى لم أجد
بيني وبينك من يستحق بالتفضيل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك
من جميع ما أردته منك وأنا راحل عنك، قال ملك الصين. أما إذا فعلت ذلك
فلست تخسر، فلما انصرف الإسكندر أتبعه ملك الصين من الهدايا والتحف
بأضعاف ما كان، فرده عليه الإسكندر.
قال: أخبرني أبو بكر محمد بن يحيى الصولي فيما أجازه لي قال: حدثني
الحسين بن يحيى، قال كان لإسحاق الموصلي غلام يقال له فتح يستقى الماء
لأهل داره على بغلين له دائما فقال إسحاق: قلت يوما له: أي شئ خبرك
يا فتح؟ قال: خبري أنه ليس في هذا الدار أشقى منك ومنى. أنت تطعم أهل
الدار الخبز، وأنا أسقيهم الماء. قال: فاستظرفت قوله وضحكت منه وقلت
له فأي شئ تحب؟ قال: تعتقني وتهب لي البغلين لأستقي عليهما لنفسي ففعلت *
وأخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني جرمى بن أبي العلا، قال:
حدثني الزبير بن بكار عبد الاعلى بن عبد الله بن محمد بن صفوان الجمحمي، قال:
حملت دينا وأنا بعسكر المهدى فركب المهدى يوما بين أبى عبيد الله، وبين عمر
ابن بريغ وأنا وراءه في موكبه على برذون قطوف فقال المهدى ما أنسب بيت
قالته العرب؟ فقال أبو عبيد الله: قول امرئ القيس:
وما ذرفت عيناك إلا لتضر بي * بسهميك في أعشار قلب مقتل
فقال هذا أعرابي قح. فقال عمر بن بزيغ: قول كثير عزة يا أمير المؤمنين.
قال ما هو؟ قال:
202

أريد لانسى ذكرها فكأنما * تمثل ليلى بكل سبيلي
فقال له: ما هذا بشئ. وما له يرى أن ينسى ذكرها حتى تمثل له. فقلت
أنا عندي حاجتك يا أمير المؤمنين. فقال. الحق بي. فقلت: ليس بي لحاق
لان ليس ذلك في دابتي. فقال: احملوه على دابة. قلت: هذا أول الفتح.
فحملت على دابة فلحقته قال ما عندك قلت قول الأخوص:
إذا قلت أنى مشتف بلقائها * فحم التلاقي بيننا زادني سقم
فقال: أحسنت حاجتك؟ قلت: على دين. قال: اقضوا دينه
فقضوا ديني.
قال وذكر محمد بن عبدوس في " كتاب الوزراء ": حدث أحمد بن محمد
ابن زياد قال الديان بن الصلت: كنت في خدمة الفضل بن سهل على ما كنت
عليه من ثقته بي واستنابته، فدعاني في وقت من الأوقات إلى أن يضم إلى
أربعة آلاف من الجند والساكرية ويقودني عليهم ويجريني مجرى قواده
فامتنعت عليه من ذلك وأعلمته أنى لا أقوم بذلك ولا أصلح له ولا أمن أن
أتقلد له ما يقع التقصير فيه فيسقط ذلك حالي عنده ومنزلتي لديه. فأنكر ذلك
على أشد الانكار وعاودني فيه مرارا فلم أجبه إليه. فلما رأى إقامتي على
الامتناع جفاني وأعرض عنى، وامتدت الأيام على هذا السبيل حتى أدى بي
ذلك إلى الاختلال الشديد، الذي أضرني فدخل على غلامي يوما فأخبرني
أنه لا نفقة عنده، ولا مقدرة له في احتيالها لامتناع التجار من اعطائه
لتأخر مالهم عنهم، ولا علف لدوابنا ولا قوت لنا فأومأت إلى عمامة
كانت عندي فأمرته ببيعها وصرف ثمنها فيما يحتاج إليه فباعها بثمانية عشر
درهما وورد على في هذا اليوم كتاب وكيلي على أهلي بمدينة السلام يعلمني
ضيق الامر فيما يحتاج إليه من إقامته للعيال وأنه التمس من التجار ألفي درهم
فلم يجيبوا إليها فعظم على ما ورد من ذلك وضاقت بي المذاهب فيه. فبينما أنا
قاعد عشية يومى ذلك إذ أتاني رسول الفضل يأمرني بحضور الدار والمقام
فيها إلى وقت خروجه من عند المأمون فحضرتها بعد صلاة العتمة، وأقمت إلى
203

أن خرج الفضل في وقت السحر فلقيته وبين يديه خرائط محمولة فقال لي:
صليت صلاة الليل؟ فقلت: نعم. فقال: لكني ما صليت فكن هنا حتى
أصلى. فصلى ثم انفتل من صلاته فدعاني وقال: أتدري ما هذه الخرائط؟
قلت: لا. قال: هذه ثمان وستون خريطة وردت فقرأتها وأجبت عنها
جميعها بخطى. فدعوت له بحسن المعونة والتوفيق. ثم قال لي باديا: إن أبا
محمد الحسن بن سهل قد دفع إلى واسط ورأي أمير المؤمنين أن يمده
بدينار بن عبد الله، ونعيم بن حازم في عشرة آلاف رجل. وأن تقلد الانفاق
على عسكريهما وأن يجرى لك في كل شهر عشرة آلاف درهم ولكاتبك
ثلاثة آلاف درهم ولقراطيسك ألف درهم وأن يوظف لك على كل عسكر
عشرة أحمال تحملك أو خمسمائة درهم عوضا عنها، ثم أمد في ذك الوقت أن
يحمل لي أرزاق ثلاثة أشهر. فما صليت صلاة الصبح حتى حمل لي اثنان
وأربعون ألف درهم. وأخذ في جهاز العسكرين قال: وبعث إلى الفضل بن
سهل بفرس من دوابه، وأمرني أن أبعث إلى نعيم بن حازم، وأظهر أنه
خصه به، وأنه من خيله الذي يركبها. فوجهت به إلى نعيم بن حازم وأظهر
السرور والابتهاج بذلك، والتعظيم له فوهب لغلامي عشرة آلاف درهم،
وبعث إلى بخمسين ألف درهم فكتبت بذلك إلى الفضل. فوقع على رقعتي
أردد على نعيم ما أمر لك به ووهبه لغلامك واقبض لنفسك عوضا منه مائة
وعشرون ألف درهم. ثم أمر بعد أيام لدينار بسبعمائة ألف درهم صلة ومعونة
ولنعيم بخمسمائة ألف درهم فبعثت بها إليهما فبعث إلى كل واحد منهما بخمسين
ألف درهم. فكتبت إلى الفضل رقعة أخبره فيها بما فعلاه فوقع على ظهرها
اقبل من دينار ما بعث به، واردد إلى النعيم ما بعث به. واقبض لنفسك
عوضا عن ذلك مائة ألف درهم. قال: ونقلنا عن مرو فلما صرنا في الطريق
ورد على كتاب الفضل يأمرني فيه: أن أحمل إلى دينار ألف ألف درهم
وخمسمائة ألف درهم، وإلى نعيم ألف ألف درهم فبعث إلى دينار ألف درهم
وخمسين ألف درهم وبعث إلى نعيم مائة ألف درهم فقبلت من دينار ما بعث
به إلى، ورددت على نعيم حسب ما كان حد لي في رقعته الأولى والثانية،
204

ولم أكتب بالخبر في ذلك إلى الفضل لئلا يتوهم بذلك استدعاء العوض.
فكتب بذلك صاحب سر كان علينا فوقع على ظهر كتابه قد علمت أنك إنما
أمسكت عن الكتاب بما فعله دينار ونعيم لئلا يتوهم عليك الاستدعاء
للصلاة، وقد رأيت أن تقبض لنفسك عوضا من ذلك مائتي ألف درهم.
قال الريان: فلم تمض سبعة وعشرون يوما حتى حصلت عندي سبعمائة
ألف درهم.
وذكر محمد بن عبدوس في كتابه عن جبريل بن بختشيوع الطبيب في خبر
طويل أنه سمع المأمون يقول: كان لي في خراسان يوما عجيبا وأولاني الله فيه
بإحسانه الجميل، وذلك لما توجه طاهر بن الحسين لحرب علي بن عيسى بن ما
كما قد عرفتموه من ضعف طاهر وقوة على وقع في نفوس عسكري جميعا
ان طاهر ذاهب، ولحق أصحابي إضاقة شديدة وظهرت فيهم خلة، ونفذ
ما كان معي ولم يبق منه قليل ولا كثير وأفضيت إلى حال كان أصلح ما فيها
الهرب، فلم أدر إلى أين أهرب ولا كيف أجد، فبقيت حائرا متفكرا وأنا
والله كذلك نازلا في دار أبوابها حديد، ولى متشرفات أجلس فيها إذا
شئت، وعدة غلماني ستة عشر غلاما لا أملك غيرهم إذا بالقواد والجيش
جميعا قد شغبوا على، وطلبوا أرزاقهم وولغوا جميعا يشتمون وتكلموا بكل
قبيح، وكان الفضل بن سهل بين يدي فأمر بإغلاق الأبواب وقال لي: قم
فاصعد إلى المجلس الذي يتشرف فيه إشفاقا على من دخولهم، وسرعة
أخذهم إياي وتعليلا لي بالصعود. فقلت له: ويحك ما يغنى الصعود والقوم
يدخلون الساعة ليأخذوني. فلئن أكون بموضعي أصلح. فقال: اصعد
فوالله ما تنزل إلا خليفة، فجعلت أهزء به وأعجب منه وأحسب أنه ما قال إلا
ليستجسني وأردت الهرب من أبواب الدار، فلم يكن إلى ذلك سبيل لإحاطة
القوم بالدار والأبواب. كلها. فألح على إلى أن صعدت وأنا وجل فجلست
في المشرفات، وأنا أرى العسكر فلما علموا بصعودي اشتد طلبهم وشتمهم
وضجيجهم، ونادوني بالوعيد والشتم فأغلظت على الفضل بن سهل وقلت له:
205

إنك أنت جاهل، وقد غررتني فلم تدعني أعمل برأيي وليس العجب إلا ممن
قبل منك، وهو في هذا يحلف أنى لا أنزل إلا خليفة وغيظي عليه يزداد
وتعجبي منه ومن حمقه ومواصلته الايمان مما يشاهده من الحال، وكان
ما أقاسيه منه أشد مما أقاسيه من الجند، ثم وضعوا القوم النار في شوك
وضعوه وأدنوه من الدار ونقبوا في سورها عدة نقوب، وثلموا فيه جزاء
فذهبت نفسي جزعا، وعلمت بأني بين أن أحترق وبين أن يصلوا إلى فيقتلوني
فهممت بأن ألقى نفسي إليهم، وقدرت أنهم إذا رأوني استحيوا وانصرفوا
وجعل الفضل بن سهل يقبل يدي ورجلي ويناشدني أن لا أفعل، وحلف أنى
لا أنزل إلا خليفة وفى يده الأصطرلاب ينظر فيه في الوقت بعد الوقت، فلما
علا الامر واستحكم اليأس قال لي يا سيدي: والله أتاك الفرج أرى شيئا في
الصحراء قد أقبل ومعه فرجنا فازددت من قوله غيظا، وأمرت غلماني بتأمل
الصحراء فلم يروا شيئا. وجد القوم في الهدم والحريق، حتى هممت لما دخلني
أن أرمى الفضل إليهم فقال الغلمان يا سيدي إنا نرى شيئا في الصحراء قد أقبل
يلوح فنظرت فإذا شيخ وجعل يزيد تبيابا إلى أن تبينوا رجلا على بغل يلوح
ثم قرب من العسكر، فقويت له قلوبنا ورأي الجند ذلك فتوقفوا وخالطهم فإذا
هو يقول البشرى، هذا رأس علي بن عيسى معي في المخلاة، فلما رأوا ذلك أمسكوا
عنا وانقلبوا بالدعاء لي، والسرور بالظفر والفتح فقال لي الفضل يا سيدي:
ائذن لي في ادخال بعضهم. فأذنت فشرط عليهم أن لا يدخل إلا من يريد.
فأجابوا إلى ذلك وسمى قوما من القواد يعدهم واحدا واحدا ففعلوا ذلك وأطفأ
الله عز وجل تلك الثائرة ووهب لي السلامة وقلدني الخلافة وظفرت من أموال
علي بن عيسى وما في عسكره بما أصلحنا به جنودنا * وذكر أيضا في " كتابه " قال:
حدثنا محمد بن مخلد، عن أبيه مخلد بن أزدى المدايني الكاتب قال: كان مخلد
يلقب لبد لطول عمره فحدثني أن المأمون لما قدم العراق خطر له أن يقلد
الأعمال إلى السبعة الذين قدموا معه من خراسان فطالت عطلة كتاب السواد
وعماله، وكانوا يحضرون داره في كل يوم حتى ساءت أحوال أكثرهم فخرج
يوما بعض مشائخ الشيعة، وكان مغفلا فتأمل مخلدا فلم ير أسن منه فجلس إليه
206

فقال له: إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أتخير ناحية من نواحي الخراج صالحة
المرفق ليوقع بتقليدي إياها فاختر لي ناحية من نواحي الخراج فقال: لا أعرف
لك عملا أولى بك من بريدات البحر وصدقات الوحش. فقال له أكتبه لي فكتبه
له فعرض الشيعي الرقعة على لمأمون وسأله تقليده العمل. فقال له: من كتب
هذه الرقعة؟ فقال شيخ من الكتاب يحضر الدار في كل يوم. فقال هلمه فلما
حضر قال له ما هذا يا جاهل؟ تفرغت لأصحابي. فقال: يا أمير المؤمنين أصحابنا
هؤلاء ثقات يصلحون لحفظ ما يقع في أيديهم من الخزائن والأموال، وأما
شروط الخراج وحكمه، وما يجب تعجيل استخراجه، وما يجب تأخيره،
وما يجب اطلاقه وما يجب منعه، وما يجب انفاقه، وما يجب احتباسه، فلا
يعرفونه وتقليدهم إياه يعود بذهاب الارتفاع فإن كنت يا أمير المؤمنين
لا تثق بنا فمر إلى أن يضم إلى كل رجل منهم رجل منا فيكون الشيعي يحفظ المال
ونحن نجمعه. فاستصاب المأمون كلامه وأمر بتقليد عمال السواد، وكتابه
وأن يضم إلى كل واحد منهم رجلا من الشيعة وضم مخلد إلى ذلك الشيخ
فقلده ناحية جليلة.
ووجدت في كتاب أبى الفرج الحنطي المخزومي الكاتب أن محمد بن
عبد الحميد الحسمي قال: حججت في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وأنا في
بعض المنازل راجعا إذ غشيتنا فقراء المدينة يستميجون، فوقفت على
جارية تتصدق بوجه كأنه القمر حين استدار، ولون الشمس حين أنار،
فرددت طرفي عنها واستعذت بالله من الفتنة بها، فلم تزل بين رجال
الحاج وتعود إلى رحلي حتى وقفت فقلت لها: أما تستحين أن تبدين
مثل هذا الوجه في مثل هذا الوقت والموضع بحضرة الخلائق فلطمت
وجهها وقالت:
لم أبده حتى نقضت حيلتي * أبديته وهو الأعز الأكرم
ويعز ذاك على إلا أنه * دهر يجور كما تراه ويظلم
قد صنته وحجبته حتى إذا * لم يبق لي طمع ومات الهيثم
207

أبرزته من حجبه مقهورة * والله يشهد لي بذاك ويعلم
كشف الزمان قناعة في بلدة * قل الصديق بها وعز الدرهم
أصبحت في أرض الحجاز غريبا * وأبو ربيعة أسرتي ومحكم
قال فأعجبني ما رأيت من جمالها وفصاحتها وأدبها وشعرها فبررتها
وكتبت الأبيات منها وقلت لها ما اسمك؟ قالت: المهنأة بنت الهيثم الشيباني.
وكان أبى جار النبي صلى الله عليه وسلم فزاره واعتل ونفد ماله وتوفى وتركني
فقيرة فاحتجت إلى التكفف قال: ورحلنا فلما صرنا إلى الدجلة دخلت إلى
مالك بن طوق مسلما فسألني عن طريقي وسفري وما رأيته فيه من الأعاجيب
فحدثته بحديث الجارية فأعجبه واستظرفه وكتب الأبيات منى، فدخلت إلى
منزلي بالشام فلما كان بعد مدة أتاني رسوله يستزيرني فصرت إليه فلما كان
بعد أيام من اجتماعنا كنت جالسا بحضرته فإذا خادمان قد جاءا ومعهما
أكياس مختومة، وتخوت ثياب مشدودة فوضعاها إلى جانبي فقلت لمالك
ما هذا؟ قال حق دلالتك على المهناة بنت الهيثم الشيباني حتى أظفرني الله تعالى
بها وهي أرسلت هذا إليك من مالها، ولك من مالي ضعفه قلت فما الخبر:
قال إنك لما انصرفت أنفذت رسلا إلى البادية ممن أثق بعقولهم وأمانتهم
فما زالوا يسألون عنها حتى ظفروا بها، وحملوها إلى ووليها معها فلما جاءتني
رأيت منها زيادة عما كان زرعه في نفسي حديثك عنها فتزوجتها من وليها،
وجعلته أحد قوادي وأفضت عليها من دنياي حسب تمكنها من قلبي،
فسألت عن سبب طلبي لها فأخبرتها خبرك، وكتبت أستزيرك لأعرفك
هذا، وأقضى حقك فلما عرفت حضورك أنفذت هذا إليك،
وقد أمرت لك بعشرين ألف درهم وعشر تخوت ثيابا، قال ابن عبد الحميد:
فكانت أم عدة من أولاده * حدثني أبو القاسم سعيد بن عبد الرحمن الكاتب
الأصبهاني قال: كان أبو الحسن بن أبي الفضل يتقلد بلدنا فقدم عليه من
بغداد شيخ من الكتاب يطلب التصرف وأورد عليه كتبا من إخوانه بالحضرة
يذكرون طول عطلته وموقعه من الصناعة ويسألونه تصريفه فسلم الرجل
وجلس، وأخرج إضبارة الكتب فتركها بين يديه، وكان في الأمير حدة
208

وضجر، فاستكثر الكتب وفض واحدا وقرأه وأقبل على شغله من غير أن
يقرأ باقي الكتب وضجر، وتغيظ وقال أليس كلها في معنى واحد؟. قد والله
بلينا بكم معاشر المتعطلين، كل يوم يصير إلينا منكم واحد يريد تصرفا أو برا،
ولو كانت خزائن الأرض لي لكانت قد نفدت. يا هذا: مالك عندي شئ
ولا تصرف، ولا لي عمل شاغر فأوده إليك، ولا في مالي فضل لبرك فدبر
أمرك بمعرفتك. كل هذا والرجل ساكت إلى أن أمسك ابن أبي الفضل،
فلما سكن قال الرجل: أحسن الله جزاءك، وتولى مكافأتك الحسنى، وفعل
بك وصنع. قال وأسرف الرجل في شكره، والدعاء له. ثم ولى منصرفا.
فقال ابن أبي الفضل: ردوه. فرد. فقال يا هذا: أتسخر بي على أي شئ تشكرني
على إئاسك من التصرف، أو قطع رجائك في الصلة وضجري لك، أو تريد
خداعي بهذا الفعل؟ فقال: ما أريد خداعك وما كان من قبيح الرد غير
منكر لأنك حاكم، ويلحقك ضجر، ولعل الامر كما ذكرته من كثرة
الواردين عليك، وقد تعبت بهم، ولم أشكرك إلا في موضع الشكر، لأنك
صدقتني عما لي عندك في أول مجلس، فأعتقت عنقي من ذل الطمع، وأرحتني
من التعب بالغدو والرواح إليك، وكشفت لي ما أدبر أمري به، وكسوتي
لم تخلق، وبقية نفقتي معي، ولعلهما يحملاني إلى بلد آخر ووجه سواك.
قال: فأطرق الأمير. ومضى الرجل. فرفع رأسه. وقال: ردوه، فلحقوه
فردوه فاعتذر إليه، وأمر له بصلة وقال: تأخذها إلى أن أقلدك عملا يصلح
لك، فإني أرى فيك مصطنعا. فلما كان بعد أيام قلده عملا جليلا، وصلحت
حال الرجل معه
قال أبو الفرج المعروف الأصبهاني، قال: حدثني جحظة وهو
أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، قال:
أحلت بي إضاقة أنفقت فيها جميع ما أملك حتى بقيت وليس في بيتي
غير البواري، فأصبحت يوما وأنا أفلس من طنبور بلا وتر، كما قال
209

المثل، ففكرت كيف أعمل؟ فوقع لي أن أكتب إلى محبرة بن أبي عباد
الكاتب وكنت أجاوره، وكان قد ترك التصرف قبل ذلك بسنين ولزم
بيته وحالفه النقرس فأزمنه حتى صار لا يتمكن من التصرف إلا محمولا
على الأيدي أو المحفة، وكان مع ذلك على غاية الظرف، وكبر النفس، وعظم
النعمة، ومواصلة الشرب وان أتطايب عليه ليدعوني فآخذ منه ما أنفقه
مدة فكتبت إليه:
ماذا ترى في جدي * وفى عضبا وبوارد
ومشمع ليس يخطى * من نسل يحيى بن خالد
وقهوة ذات لون * تحكى خدود الجرائد
قال: فما شعرت إلا بمحفة محبرة تحملها غلمانه إلى داري وأنا جالس على
بابى فقلت له: لم جئت ومن دعاك؟ قال: أنت. قلت: إنما قلت ما ترى وعنيت
بيتك وما قلت لك أنه في بيتي، وبيتي والله أفرغ من فؤاد أم موسى. فقال:
الآن قد جئت ولا أرجع، ولكن ادخل إليك واستدعى من داري من
أريد، قلت: ذاك إليك فدخل بيت فلم ير إلا بارية. فقال يا أبا الحسن: هذا
والله ضر مدقع، ثم أنفذ إلى داره فاستدعى فرشا وآلة وقماشا وغلمانا وجاء
فراشوه ففرشوا ذلك، وجاؤا بالآلات الصفر والشمع وغير ذلك مما يحتاج
إليه، وجاء طباخه بما كان في مطبخه وهو شئ كثير الآلات وجاء شرابيه
بالصواني، والمخروطي، والفاكهة وآلة التبخير، والبخور، وألوان الأنبذة
وجلس يومه ذلك وليلته عندي. فشرب على غناء مغنية أحضرتها له كنت
ألفتها. فلما كان من غد سلم إلى غلامه كيسا فيه ألف درهم، ورزمة ثياب
صحاح مفصلة من فاخر الثياب، واستدعى محفته فجلس فيها فشيعته فلما بلغ
آخر الصحن قال: مكانك يا أبا الحسن احفظ بابك، فكل ما في دارك لك، فلا
تدع أحدا يحمل منه شيئا. وقال لغلمانه اخرجوا فخرجوا بين يديه وأغلقت
الباب على قماش بألوف كثيرة * وحدثني عبد الله بن محمد بن عبد الله العبقسي،
قال: حدثني بعض تجار أهل الكرخ ببغداد عن صديق له قال: كنت أعامل
رجلا من الخراسانية أبيع له في كل سنة متاعا يقدم به فانتفع من سمسرته
210

بألوف كثيرة فلما كان سنة من السنين تأخر عن الحاج، فأثر ذلك في حالي،
ثم توالت على محن فأغلقت دكاني، وجلست في بيتي مستترا من دين ركبني
ثلاثا أو أربع سنين، فلما كان في وقت ورود الحجاج تتبعت نفسي لأعرف
خبر الخراساني طمعا لاصلاح حالي بوروده، فمضيت إلى سوق يحيى فلم اعط
له خبرا، ورجعت فنزلت إلى الجزيرة وأنا تعب مغموم، وكان يوما حارا
ونزلت إلى دجلة فسبحت وصعدت وأنا رطب، فابتل موضع قدمي وخطوت
فعلقت برجلي قطعة رمل فانكشف سير فلبست ثيابي، وغسلت رجلي
وجلست مفكرا أولع بالسير فانجر فلم أزل أجره حتى بان لي هميان من
جلد فأخرجته فإذا هو مملوء فأخفيته تحت ثيابي، وجئت إلى منزلي ففتحته
فإذا فيه ألف دينار عينا فقويت نفسي به قوة شديدة وقلت: اللهم لك على
أنى متى صلحت حالي بهذه الدنانير وعادت، أن أتحرى خبر هذا الهميان فمن
علمت أنه له رددته عليه بقيمة ما فيه من الدنانير واحتفظت بالهميان،
وأصلحت أمري مع غرمائي، وفتحت دكاني وعدت إلى رسمي في التجارة
والسمسرة فما مضت على إلا ثلاث سنين حتى صار في ملكي عين وورق
بألوف دنانير، وجاء الحجاج فتبعتهم لأعرف خبر الهميان فلم يعطيني أحد خبره.
فصرت إلى دكاني فأنا جالس وإذا برجل قائم حيال دكاني أشعث أغبر
وافى السبال، وفى خلقه سؤال الخراسانية وزيهم فظننته سائلا، فأومأت
إلى دريهمات لأعطيه فأسرع الانصراف فارتبت به وقمت فلحقته فتأملته
فإذا هو صاحبي الذي كنت أنتفع من سمسرته في كل سنة. فقلت له:
ما الذي أصابك؟ وبكيت رحمة له. فبكى وقال: حديثي طويل. فقلت: البيت
البيت. فحملته فأدخلته الحمام، وألبسته ثيابا نظافا وأطعمته، ثم سألته عن
خبره فقال: أنت تعرف حالي ونعمتي وإني أردت الخروج إلى الحج بعد
آخر سنة جئت إلى بغداد فقال لي أمير بلدي: عندي قطعة ياقوت أحمر
كالكف، لا قيمة لها عظما وجلالة، ولا تصلح إلا للخليفة. فخذها معك فبعها
لي ببغداد واشترى لي بها متاعا طلبه من عطر وظرف بكذا وكذا واحمل الباقي
211

مالا، فأخذت القطعة وهي كما قال فجعلتها في هميان من صفته كيت وكيت.
قال: ووصف الهميان الذي عندي، وجعلت في الهميان ألف دينار عينا من
مالي وجعلته على وسطى، فلما جئت إلى بغداد، نزلت أسبح في الجزيرة بسوق
يحيى وتركت الهميان وثيابي بحيث ألاحظهما، فلما صعدت من دجلة لبست
ثيابي وقد غربت الشمس وأنسيت الهميان فلم أذكره إلا من غد، فغدوت
لطلبه وكأن الأرض قد ابتلعته فهونت على نفسي المصيبة، وقلت: لعل
قيمة الحجر خمسة آلاف دينار أغرمها فخرجت إلى الحج وقضيت حجى
ورجعت إلى بلدي فأنفذت إليه ما حملته به، وأخبرته بخبري وقلت له: خذ
منى تمام الخمسة آلاف دينار فطمع وقال: قيمة الحجر خمسون ألف دينار
وقبض على جميع ما أملكه من مال ومتاع وأنزل صنوف المكاره بي،
وحبسني سبع سنين كنت أتردد فيها في العذاب. فلما كان في هذه السنة سأله
الناس في أمري فأطلقني فلم يمكنني المقام في بلدي، وتحمل شماتة الأعداء
فخرجت على وجهي أعالج الفقر بحيث لا أعرف، وجئت مع الخراسانية أمشى
أكثر الطريق، ولا أدرى ما أعمل فجئت لأشاورك في معاش أتعلق به.
فقلت يا هذا: قد رد الله عز وجل عليك ضالتك هذا الهميان الذي وصفته
عندي، وقد كان فيه ألف دينار أخذتها، وعاهدت الله عز ذكره أنى ضامنها
لمن يعطيني صفة الهميان، وقد أعطيتني صفته وعلمت أنه لك، وقمت فجئت
بكيس فيه ألف دينار فقلت: خذها وتعيش بها ببغداد فإنك لا تعدم خيرا إن
شاء الله تعالى. فقال لي يا سيدي: الهميان بعنيه عندك لم يخرج عن يدك. قلت: نعم
فشهق شهقة ظننت أنه قد تلف منها. وخر ساجدا فما أفاق إلا بعد ساعة ثم قال:
ائتني بالهميان، فجئته به فقال: سكين فأعطيته فخرق أسفله واستخرج منه حجر
ياقوت أحمر كالكف، فأشرق البيت منه وكاد أن يأخذ بصرى شعاعه وأقبل
يشكرني ويدعو لي فقلت: خذ دنانيرك فحلف بكل يمين أنه لا يأخذ منها شيئا إلا
ثمن ناقة. ومحمل ونفقة تبلغه. فاجتهدت به فبعد جهد أخذ ثلاثمائة دينار وأحلني
من الباقي. فلما كان في العام المقبل جاءني بقريب مما كان يجيئني به سالفا. فقلت:
212

ما خبرك؟ فقال مضيت وشرحت لأهل البلد خبري وأريتهم الحجر فجاء معي
وجوههم إلى الأمير وأعلموه القصة، وخاطبوه في إنصافي فأخذ الحجر ورد
عل جميع ما كان أخذه منى من مال وعقار وضياع وغير ذلك، ووهب لي
مالا من عنده وقال: اجعلني في حل مما عذبتك به. فأحللته وعادت نعمتي
على ما كانت عليه وعدت إلى تجارتي ومعاشي وكل هذا بفضل الله
عز وجل وبركتك فعل الله بك وصنع. قال: وكان يجيئني في كل سنة
إلى أن مات.
حدثني عبد الله بن محمد بن الحسن الصروري قال: حدثني أبي أن رجلا
حج وفى وسطه هميان فيه دنانير وجواهر قيمة الجميع ثلاثة آلاف دينار.
وكان: الهميان من ديباج أسود فلما كان ببعض الطريق نزل ليبول فانحل
الهميان من وسطه فسقط ولم يعلم بذلك إلا بعد أن سار عن الموضع
فراسخ فاتفق أن جاء رجل في أثره فجلس يبول في مكانه فرأى الهميان
فأخذه وكان عليه دين فحفظه. قال: وكان الرجل من أهل بلدنا فأخبرني أنه
لم يؤثر في قلبي ذهابه لأني استخلفته عند الله تعالى، وكنت في طريق الله
عز وجل، وكانت تجارتي عظيمة وأموالي كثيرة. قال: فلما قضيت حجتي
وعدت وتتابعت المحن على حتى لم أملك شيئا فهربت على وجهي من بلدي
فلما كان بعد سنين من فقري وقد أفضيت إلى أن أتصدق على الطريق وزوجتي
معي وما أملك من تلك الليلة إلا دانقا ونصف، وكانت الليلة مطيرة وقد
أويت في بعض القرى إلى خان خراب فضرب زوجتي الطلق فتحيرت
وولدت. فقالت يا هذا: الساعة تخرج روحي فاخرج وخذ لي شيئا أتقوى
به. فخرجت أخبط في الظلمة والمطر حتى جئت إلى بقال. قال: فدققت عليه
فكلمني بعد جهد فشرحت له حالي فرحمني وأعطاني بتلك القطع حلبة وزيتا
وأغلاهما وأعارني غضارة جعلت ذلك فيها، وجئت أريد الموضع فلما مشيت
بعيدا وقربت من الخان زلقت رجلي وانكسرت الغضارة وذهب جميع ما فيها.
213

فورد على قلبي أمر عظيم ما ورد على مثله قط، فأقبلت أبكى وألطم وأصبح
فإذا برجل قد أخرج رأسه من شباك في داره فقال ويلك مالك تبكى. ما تدعنا
أن ننام؟ فشرحت له القصة فقال يا هذا: البكاء كله بسبب دانق ونصف
فداخلني من الغم أعظم من الغم الأول فقلت يا هذا: والله ما عندي قدر لما
ذهب منى، ولكن بكائي رحمة لزوجتي ولنفسي مما قد وقعت إليه فان امرأتي
تموت الآن وولدي جوعا، ووالله العلى الأعلا، وعلى وحلف أيمانا غليظة لقد
حججت في سنة كذا وكذا وأنا أملك من المال شيئا كثيرا فذهب منى هميان
فيه دنانير وجواهر تساوى ثلاثة آلاف دينار فما فكرت فيه، وهو ذا
تراني الساعة أبكى بسبب دانق ونصف فضة فأسأل الله تعالى السلامة، ولا
تعايرني فتبلى بمثل بلواي. قال فقال لي: بالله يا رجل ما كان صفة هميانك؟
فأقبلت ألطم وقلت ما ينفعني ما خاطبتني به وما تراه من جهدي وقيامي
في المطر حتى تستهزئ بي أيضا وما ينفعني وينفعك من صفة همياني الذي
الذي ضاع منذ كذا وكذا سنة؟. قال: ومشيت فإذا الرجل قد خرج وهو يصيح بي
فقال يا رجل خذ هذا فظننته يتصدق على فجئت وقلت له أي شئ تريد؟
فقال لي صف هميانك وقبض على فلم أجد للخلاص سبيل غبر وصفه له
فوصفته. فقال لي أدخل. فدخلت. فقال: أين امرأتك قلت في الخان
الفلاني. قال فأنفذ غلمانه فجاؤوا بها فأدخلت إلى حرمه فأصلحوا شأنها
وأطعموها كل ما تحتاج إليه وجاؤني بجبة وقميص وعمامة وسراويل وأدخلني
الحمام سحرا، وطرحت ذلك على فأصبحت في عيشة راضية. فقال: أقم عندي
أياما فأقمت عشرة أيام فكان يعطيني في كل يوم عشرة دنانير وأنا متحير
في عظم بره بعد شدة جفائه فلما كان بعد ذلك قال لي: في أي شئ تتصرف
قلت كنت تاجرا. قال فلى غلات وأنا أعطيك رأس مال تتجر فيه وتشركي؟.
فقلت افعل، فأخرج لي مائتي دينار فقال خذها واتجر فيها هاهنا. فقلت:
هذا معاش قد أغناني الله يجب أن ألزمه فلزمته فلما كان بعد شهور ربحنا فجئته
وأخذت حقي وأعطيته حقه. فقال لي: اجلس فجلست فأخرج إلى همياني
214

بعينه وقال أتعرف هذا؟ فحين رأيته شهقت وأغمي علي فما أفقت إلا بعد ساعة
ثم قلت له يا هذا؟ أملك أنت أم بنى؟ فقال أنا ممتحن بحفظه منذ كذا وكذا
سنة. فلما سمعتك تلك الليلة تقول ما قلته وطالبتك بالعلامة فأعطيتها أردت
أن أعطيك للوقت هميانك فخفت أن تنشق مرارتك فأعطيتك تلك الدنانير
التي أوهمتك أنها هبة وإنما أعطيتكها من هميانك. والدنانير المائتان قرض
فخذ هميانك واجعلني في حل. قال فشكرته ودعوت له وأخذت الهميان
وارتجع دنانيره ورجعت إلى بلدي فبعث الجوهر وضممت ثمنه إلى ما معي
واتجرت فما مضت إلا سنيات حتى صرت صاحب عشرة آلاف دينار وصلحت
حالي فأنا أعيش في فضل الله تعالى وفى فضل تلك الدنانير إلى الآن.
عن أبي سهل زياد القطان صاحب علي بن عيسى قال: كنت مع علي بن
عيسى لما نفى إلى مكة ودخلنا في حر شديد وقد كدنا أن نتلف، وطاف
علي بن عيسى وجاء فالقى نفسه وهو كالميت من الحر والتعب وقلق قلقا
شديدا وقال اشتهى على الله تعالى شربة ماء مثلوج. فقلت له يا سيدنا أيدك الله:
أنت تعلم أن هذا مما لا يوجد في هذا المكان. فقال هو كما قلت، ولكن
نفسي ضاقت عن ستر هذا القول، فاستروحت إلى المنى. قال فخرجت من
عنده فرجعت إلى المسجد الحرام فما استقررت فيه حتى نشأت سحابة وكثفت
وبرقت ورعدت رعدا متصلا شديدا ثم جاءت بمطر يسير وبرد كثير
فبادرت إلى الغلمان فقلت اجمعوا فجمعوا منه شيئا كثيرا وملأنا منه
جررا كثيرة، وجمع منه أهل مكة شيئا عظيما قال: وكان علي بن عيسى صائما
فلما كان وقت المغرب خرج إلى المسجد ليصلى المغرب فقلت له أنت والله
مقبل والنكبة زائلة، وهذه علامات الاقبال فاشرب الثلج كما طلبته. (قال):
وجئته في المسجد بأقداح مملوءة بأصناف الأسوقة والأشربة مكبوسة بالبرد
قال: فأقبل يسقى من يقرب منه من الصوفية، والمجاورين، في المسجد الحرام،
والضعفاء ويشربونه ونحن نأتيه بما عندنا من ذلك وأقول له اشرب. فيقول:
حتى تشرب الناس فخبئت له خمسة أرطال وقلت له لم يبق شئ. فقال الحمد لله
215

ليتني كنت تمنيت المغفرة بدلا من تمنى الثلج فلعلي كنت أجاب. فلما دخل
المبيت حلفت عليه أن يشرب وما زلت أداريه حتى شرب منه بقليل سويق
بقية ليلته * حدثني عبد الله بن محمد بن الحسين بن الحفا العبقسي. قال: حدثني أبي
، قال: كان مجاورني فتى من أولاد الكتاب ورث عن أبيه مالا جليلا
أتلفه في القيان، وأكله إسرافا وبدارا حتى لم يبق منه شئ فاحتاج إلى بعض
داره فلم يبق منها إلا بيت يأويه فحدثني بعض من كان يعاشره قال: صرت
إليه يوما بعد انقطاعي عنه بنحو سنة لأعرف خبره فدخلت عليه فوجدته
نائما في ذلك البيت في يوم بارد على حصير خلق، وقد توطأ وطأ كأنه حشو
فراش، وقد تغطا بقطن كأنه حشو لحاف، فهو بين ذلك القطن كأنه السفرجل.
فقلت ويحك: بلغت إلى هذا الحال؟ قال هو الحد ما ترى. قلت فهل لك
حاجة؟ قال أو تقضيها. فظننته يطلب منى شيئا لنفقة فقلت: أي والله. قال
اشتهى أن تحملني إلى بيت فلانة المغنية حتى أراها. يعنى المغنية التي يعشقها
وأتلف ماله بسببها. قال وبكى فرققت له ومضيت إلى منزلي فجئته من ثيابي
بما لبسه وأدخلته الحمام وحملته إلى بيتي، فأطعمته وبخرته وأخذت بيده
وقصدنا دار المغنية فلما رأتنا لم تشك في أن حاله صلحت وأنه قد جاءها
بدراهم فبشت به وسألته عن خبره؟ فصدقها عن حاله حتى انتهى إلى ذكر
الثياب وأنها لي. فقالت له في الحال: قم فقال: لم؟ قالت لئلا تجئ ستي فتراك
وليس معك شئ فتحرد على فاخرج إلى برا حتى أصعد فأكلمك من فوق.
فخرج وجعل ينظر أن تخاطبه من روزنة في الدار إلى الشارع وهو جالس
فقلبت عليه مرقة سكباج فصيرته آية ونكالا وضحكت فبكى وقال: يا أبا
فلان: بلغ أمري إلى هاهنا، أشهد الله وأشهدك أنى تائب عنها، فأخذت
أتعظ به وقلت: أي شئ تنفعك التوبة الآن ورددته إلى بيته ونزعت ثيابي
عنه وتركته بين القطن كما كان أولا، وحملت ثيابي وغسلتها وأيست منه فما
عرفت له خبرا نحو ثلاث سنين، فأنا ذات يوم في باب الطاق فإذا بغلام
يطرق لرجل راكب فرفعت رأسي فإذا به على برذون فاره، بمركب خفيف
مليح، وثياب حسنة وكان قديما في أيام يساره يركب من الدواب والمراكب
216

أفخرها وآلته وثيابه وقماشه أفخر شئ، فحين رآني قال فلان فعلمت أن حاله
صلحت وقبلت فخذه وقلت سيدي أبو فلان. قال: نعم. فقلت أي شئ
هذا؟ قال صنع الله عز وجل وله الحمد والشكر البيت. البيت. قال فتبعته
حتى انتهيت إلى بابه فإذا الدار الأولى قد رمها وجصصها وطبقها وبنى فيها
مجلسين متقابلين وخزائن ومستراحا وجعل ما كان في الدار من البيوت
والمجالس صحنا كبيرا وقد صارت طيبة إلا أنها ليست بذلك السرور الأول،
وأدخلني حجرة كان يخلو فيها قديما وأعادها كأحسن ما كانت وفيها فرش
حسنة، ولكن ليس من ذلك الجنس الأول، وليس في داره إلا ثلاث غلمان
وخادم قد كنت أعرفه لأبيه قد رده وأقامه على حرمه، وشيخ بواب ممن كان
يصحبهم قديما، ووكيل يتسوق له فجلس وأجلسني، وجاؤنا بفاكهة حسنة
نظيفة قليلة في آلة مقتصدة مليحة، ثم جاؤوا بعدها بطعام نظيف كاف غير
مسرف ولا مقصر، فأكلنا ثم نام ولم تكن تلك عادته ومدت ستار، وأحضرت
مشام ورياحين في صيوان وزبدات والجميع متوسط غير مسرف وانتبه
فصلى وتبخر بقطعة ند جديدة وبخرني بمثلها: فقلت يا سيدي: ما هذه
الترتيبات التي لست أعرفها؟. فقال: دع ما مضى وخذ ما نحن فيه وأقبل
يشرب وغنى من وراء ستارة ثلاث جوار في نهاية طيب الغناء كل واحدة
منهن أحسن وأطيب من التي أتلف عليها ماله، فلما طابت نفسي ونفسه قال
يا أبا فلان: تذكر زماننا الأول؟ قلت نعم. قال أنا الآن في همة متوسطة
وما أفدته من العقل والعلم بأمر الدنيا ليسليني عما ذهب منى، وهو ذا ترى
فرشي وثيابي، ومركبي، فلم يكن ذلك بالعظيم المفرط ففيه جمال وبغال، وتنعم
وكفاية وهو مغن عن ذلك الاسراف والتبذير وقد تخلصت من تلك الشدة
الشديدة تذكر يوم عاملتني فلانة المغنية لعنها الله تعالى بما عاملتني به.
قلت: نعم. والحمد لله الذي كشف عنك ذلك. فمن أين هذه النعمة؟ قال
مات خادم كان مولى لأبي وابن عم في يوم واحد فحصل لي من تركتهما أربعون
ألف دينار وصل أكثرها وأنا بين القطن كما رأيتني، فحمدت الله تعالى
واعتقدت التوبة من التدبير السيئ، وأنا أدبر ما رزقته فعمرت هذه الدار
217

بألف دينار، واشتريت من الآلة والفرش والثياب والجواري ما تراه وغيره
بسبعة آلاف دينار، وسلمت إلى بعض التجار الثقات ألفي دينار يتجر لي
فيها، وأودعت بطن الأرض عشرة آلاف دينار للشدائد والحوادث،
وابتعت بالباقي ضيعة تغل في كل سنة ما يزيد على مقدار نفقتي هذه التي
شاهدتها فما أبقى أحتاج إلى الاستزادة وما تقبل غلة إلا وعندي بقية من الغلة
الأولى، وأنا أتقلب في نعم الله تعالى كما ترى، ومن تمام النعمة أن لا أعاشرك
ولا أحد ممن كان يحسن لي الاسراف. يا غلمان: أخرجوه قال: فأخرجت ووالله
فما أذن لي بعدها في الدخول عليه.
حدثني أبي قال بلغني من غير واحد أن أبا يوسف صحب أبا حنيفة على
فقر شديد، وكان ينقطع بلازمته عن طلب المعاش فيعود إلى منزله إلى فقر
شديد، وكانت أمه تحتال فيما يقتاته يوما بيوم، فلما طال ذلك عليها خرج
إلى المجلس يوما فأقام فيه وعاد ليلا وطلب ما يأكل، فجاءته بغضارة مغطاة
فكشفها فإذا فيها دفاتر. فقال ما هذا؟ قالت ما أنت مشغول به نهارك أجمع
فكل منه ليلا. قال: فبكى وبات جائعا وتأخر من غد عن المجلس حتى احتال
فميا أكلوه فلما جاء إلى أبي حنيفة سأله عن سبب تأخره فصدقه.
فقال: ألا عرفتني فكنت أمدك ولا يجب أن تغتم فإنه إن طال عمرك
فستأكل بالفقه اللوزينج بالفستق المقشر. قال أبو يوسف: فلما
خدمت الرشيد واختصصت به قدم بحضرته يوما لوزينج بفستق مقشر
فدعاني إليها فحين أكلت منها ذكرت أبا حنيفة فبكيت وحمدت الله تعالى.
فسألني الرشيد عن السبب فأخبرته * حدثني أبو الحسين محمد بن عبد الواحد
الهاشمي: أن شيخا من التجار كان له عند بعض القواد مال جليل فماطله
واستخف به. قال فعملت على الظلامة إلى المعتضد لأني كنت تحملت عليه
واستشفعت، وتظلمت إلى عبيد الله بن سليمان فلم ينجع ذلك. فقال لي بعض
إخواني: على أن أأخذ لك المال ولا تحتاج إلى الظلامة إلى المعتضد. قم معي
الساعة. فقمت معه فجاء بي إلى خياط في سوق الثلاثاء وهو جالس يخيط
218

ويقرأ القرآن في مسجد، فقص عليه قصتي فقام فلما مشينا تأخرت
وقلت لصديقي: إنك قد عرضت هذا الشيخ ونفسك وإياي لمكروه عظيم هذا
إذا حصل على باب الرجل صفع وصفعنا معه لم يلتفت لفلان وفلان، ولم
يفكر في الوزير فكيف يفكر في هذا الفقير؟! فضحك الرجل وقال: لا عليك
امش واسكت. فجئنا إلى باب القائد فحين رآه غلمانه أعظموه، وأهووا لتقبيل
يديه، فمنعهم من ذلك وقالوا: ما حاجتك أيها الشيخ فان صاحبنا راكب؟ فإن كان
أمرا نعلمه نحن بادرنا إليه وإلا فادخل واجلس إلى أن يجئ فقويت نفسي
فدخلنا وجاء الرجل. فلما رأى الخياط أعظمه إعظاما تاما وقال: لست أخلع
ثيابي حتى تأمر بأمرك. فخاطبه في أمري. فقال: والله ما عندي إلا خمسة آلاف
درهم فتسأله أن يأخذها ورهنا بباقي ماله إلى شهر، فبادرت بالإجابة فأحضر
الدراهم وحليا بقيمة الباقي فقبضت ذلك وأشهدت الخياط ورفيقي عليه إلى شهر
يكون الرهن عندي على البقية فان حان الاجل ولم يسدد فأنا وكيل أبيع وآخذ
مالي من ثمنه وخرجنا. فلما بلغنا إلى موضع الخياط طرحت المال بين يديه،
وقلت يا شيخ: إن الله تعالى قد رد هذا المال بك. فأحب أن تأخذ ربعه، أو
ثلثه، أو نصفه بطيب قلب منى. فقال ما أسرع ما كافئتني عن الجميل بالقبيح؟!
انصرف بمالك بارك الله لك فيه. فلت له: قد بقيت لي حاجة فقال: قل.
قلت: تخبرني عن سبب طاعة هذا لك بعد تهاونه بأكثر أهل المملكة؟ فقال
يا هذا: قد بلغت مرادك فلا تقطعني عن شغلي. فألجت عليه فقال: أنا رجل أؤم
وأقرى في هذا المسجد منذ أربعين سنة، ومعاشي هذه الخياطة لا أعرف غيرها
وكنت منذ دهر قد صليت المغرب وخرجت أريد منزلي فاجتزت بتركي كان
في هذه الدار، وامرأة جميلة تجتازه فتعلق بها وهو سكران ليدخلها داره،
وهي ممتنعة تستغيث وليس أحد يغيثها ولا يمنعه منها. وتقول في جملة كلامها:
قد حلف زوجي بطلاقي أن لا أبيت إلا عنده، فان بيتني هنا حرمني مع
ما يرتكبه منى من المعصية. قال فجئت إلى التركي ورفقت به وسألته تركها
فضرب رأسي بدبوس فشجني وأدخل المرأة داره فصرت، إلى منزلي
فغسلت الدم وشددت الشجة وخرجت أصلى عشاء الآخرة. فلما فرغت منها
219

قلت لمن حضر قوموا معي إلى عدو الله هذا التركي ننكر عليه، ولا نبرح أو
يخرج المرأة. فقاموا وجئنا فصحنا على بابه فخرج علينا في عدة من غلمانه وأوقع
بنا، وقصدني من دون الجماعة فضربني ضربا عظيما حتى كدت أتلف منه،
فحملني الجيران كالتالف فعالجني أهلي ونمت نوما ثقيلا وفقت نصف الليل فما
حملني النوم للألم وفكرا للقصة فقلت: هذا قد شرب طول ليلته، ولا يعرف
الأوقات فلو أذنت لوقع له أن الفجر قد طلع فأطلق المرأة فلحقت بيتها قبل
الفجر فسلمت من إحدى المكروهين. فخرجت إلى المسجد متحاملا وصعدت
المنارة فأذنت، وجعلت أتطلع منها إلى الطريق أراقب خروج المرأة فان
خرجت وإلا أقمت الصلاة لكي لا يشك في الصباح فيخرجها فما مضت إلا
ساعة والمرأة عنده إلا وقد امتلأ الشارع خيلا ورجلا ومشاعل وهم يقولون:
من هذا الذي أذن الساعة أين هو؟ ففزعت وسكت ثم قلت أخاطبهم لعلى
أستعين بهم على إخراج المرأة فصحت من المنارة أنا أذنت. فقالوا: أجب
أمير المؤمنين. فقلت دنا الفرج، فنزلت فإذا بدر وعدة غلمان معه فحملني
وأدخلني على أمير المؤمنين فلما رأيته هبته، وارتعدت فسكن منى وقال:
ما حملك عن أن تغرر بالمسلمين بأذانك في غير وقته، فيخرج ذو الحاجة في غير
حينها، ويمسك المريد للصوم في وقت قد أبيح له فيه الافطار، وينقطع
العسس عن الطواف والحرس. فقلت: فليؤمنني أمير المؤمنين لاصدق. قال:
أنت آمن. فقصصت عليه القصة وأريته الضرب. فقال: يا بدر على بالغلام
والمرأة في هذه الساعة، وعزلت في موضع، ومضى بدر وأحضر الغلام
والمرأة فسألها المعتضد عن الصورة فأخبرته بمثل ما قلته، فقال لبدر: بادر
بها الساعة إلى زوجها مع ثقة يدخلها دارها ويشرح لزوجها خبرها، ويأمره
عنى بالتمسك بها والاحسان إليها، ثم استدعاني فوقفت وجعل يخاطب للغلام
وأنا قائم اسمع الكلام. فقال له: يا فلان كم جرايتك في كل سنة؟ قال كذا
وكذا قال: وكم عطاؤك؟ قال كذا وكذا. قال فما كان لك فيهن وفى هذه النعمة
العظيمة العريضة كف عن ارتكاب معاصي الله تعالى وخرق هيبة السلطان
حتى استعملت ذلك وتجاوزته بالوثوب على من أمرك بالمعروف؟! قال: فأسقط
220

الغلام في يده ولم يدر جوابا. فقال: هاتوا جوالقا ومداق الجص وقيداه وغلاه
فقيده وأغله وأدخله الجوالق وأمر الفراشين بدقة بمداق الجص وأنا أرى
ذلك وهو يصيح ثم انقطع صوته ومات فأمر به فغرق في دجلة. وتقدم لبدر
بحمل ما في داره ثم قال لي يا شيخ أي شئ رأيت من أجناس المكروه ولو على
هذا وأومى بيده إلى بدر فالعلامة بيننا أن تؤذن في هذا الوقت. فإني أسمع
صوتك وأستدعيك وافعل مثل هذا بمن لا يقبل منك أو يؤذيك. قال فدعوت
له. وانصرفت. وانتشر الخبر عند الأولياء والغلمان فما خاطبت منهم أحدا
بعدها في إنصاف أحد، أو كف عن قبيح إلا طاوعني كما رأيت خوفا من
المعتضد. وما احتجت أن أو أذن إلى الآن.
وجدت في بعض الكتب عن الأصمعي قال: كنت بالبصرة أطلب العلم
أنا مقل، وكان على بابنا بقال إذا خرجت بكرة يقول لي إلى أين؟ فأقول
إلى فلان المحدث، وإذا عدت المساء يقول لي من أين؟ فأقول: من عند فلان
الاخباري واللغوي. فيقول يا هذا: إقبل وصيتي أنت شاب فلا تضيع نفسك،
واطلب معاشا يعود عليك نفعه، وأعطني جميع ما عندك من الكتب أطرحها في
هذا الدن وأصب عليها من الماء للعشرة أربعة وأنبذه وانظر ما يكون منه، والله
لو طلبت منى بجميع ما لديك من الكتب جوزة ما أعطيتك. فيضيق صدري
بمداومة الكلام حتى كنت أخرج من بيتي ليلا، وأدخله ليلا وحالي في خلال
ذلك يزداد ضيقا حتى أقضيت إلى بيع آخر أساسات داري وبقيت لا أهتدي
إلى نفقه يوم، وطال شعري واخلق ثوبي، واتسخ بدني وأنا كذلك متحير
في أمري إذ جاء لي خادم للأمير محمد بن سليمان قال: أجب الأمير. فقلت
ما يصنع الأمير برجل قد بلغ به الفقر إلى ما ترى؟ فلما رأى سوء حالي وقبيح
منظري رجع فأخبر الأمير بخبري. وعاد إلى ومعه تخوت ثياب ودرج فيه
بخور، وكيس فيه دنانير وقال: قد أمرني الأمير أن أدخلك الحمام، وألبسك
من هذه الثياب، وأدع باقيها عليك، وأطعمك من هذا الطعام، وإذا بخوان
كبير فيه صنوف الأطعمة، وأبخرك لترجع إليك روحك. ثم أطلعك عليه
221

فسررت بذلك سرورا شديدا ودعوت له. فقمت وعملت ما قاله ومضيت
معه حتى دخلت على محمد بن سليمان فسلمت عليه فقربني ورفعني ثم قال
يا عبد الملك: قد اخترتك لتأديب ولدى أمير المؤمنين فاعمل على الخروج إلى
بابه وانظر كيف يكون فشكرته ودعوت له وقلت: سمعا وطاعة سأخرج شيئا
من كتبي وأتوجه فقال: ودعني وكن على الطريق فقبلت يده وأخذت جميع
ما احتجت إليه من كتبي وجعلت باقيها في بيت وسددت بابه وأقعدت على الدار
عجوزا من أهلنا تحفظها، وباكرني رسول محمد بن سليمان وأخذني إلى ذلال قد
اتخذ لي وفيه ما أحتاج إليه وجلس معي ينفق على حتى وصلت إلى بغداد ودخلت
على أمير المؤمنين فسلمت عليه فرد على السلام وقال: أنت عبد الملك بن قريب
الأصمعي؟ قلت: نعم. أنا عبد أمير المؤمنين ابن قريب الأصمعي قال: اعلم أن ولد
الرجل مهجة قلبه وثمرة فؤاده، وهو ذا أسلم إليك ابني محمد بأمانة الله فلا نعلمه
ما يفسد عليه دينه فلعل أن يكون للمسلمين إماما. قلت: السمع والطاعة وأخرجه
إلى وتحولت معه إلى دار قد أخليت لنا لتأديبه فيها وبها من أصناف الخدم والفرش
ما يسر وأجرى على في كل شهر عشرة آلاف درهم، وأمر بأن يخرج إلى في كل
يوم مائدة فلزمته، وكنت مع ذلك أقضى حوائج الناس، وأخذ عليها للرغائب،
وأنفذ جميع ما يجتمع أولا فأولا إلى البصرة فأبني داري وأشتري ضياعا وعقارا
فأقمت معه حتى قرأ القرآن وتفقه في الدين وروى الشعر. واللغة. وروى أيام
الناس وأخبارهم، واستعرضه الرشيد فأعجب به وقال يا عبد الملك: أريد أن
يصلى بالناس إماما في يوم جمعة فاختر له خطبة وحفظه إياها فحفظته عشرا.
فخرج وصلى بالناس وأنا معه، فأعجب الرشيد به وأخذه نثار الدراهم والدنانير
من الخاصة والعامة وأثنى الجوائز والصلاة على من كل ناحية فجمعت مالا
عظيما. ثم استدعاني الرشيد فقال: يا عبد الملك قد أحسنت الخدمة فتمنى.
فقلت: ما عسيت أن أتمنى وقد حزت آمالي فأمر لي بمال عظيم وكسوة كثيرة
وطيب فاخر، وعبيد وإماء، وظهر وفرش وآلة فقلت أن رأى أمير المؤمنين
أن يأذن لي بالالمام إلى البصرة والكتابة إلى عامله بها أن يخاطب الناس الخاصة
والعامة بالسلام على ثلاث أيام، وإكرامي بعد ذلك فكتب لي عنه بما أردت
222

وانحدرت إلى البصرة وداري قد عمرت، وضيعي قد كثرت، ونعمتي قد
فشت فما تأخر عنى أحد فلما كان في اليوم الثالث تأملت أصاغر من جاءني فإذا
البقال وعليه عمامة وسخة، ورداء نظيف، وجبة قصيرة، وقميص طويل في
رجله جرموقان وهو بلا سراويل فقال لي: كيف أنت يا عبد الملك؟
فاستضحكت من حماقته وخطابه لي بما كان يخاطبني الرشيد. فقلت بخير وقد
قبلت وصيتك وجمعت ما عندي من كتب العلم وطرحتها في الدن كما أمرت
وصببت عليه من الماء للعشرة أربعة فخرج ما ترى، ثم أحسنت إليه بعد ذلك
وجعلته وكيلي.
أخبرني القاضي أبو علي محسن بن علي قال مسرور الكبير: استدعاني
المأمون ليلة وقد مضى من الليل ثلثه فقال لي: خذ معك فلانا وفلانا
وسماهما لي أحدهما علي بن محمد والآخر دينار الخادم. واذهب مسرعا لما
أقول لك فإنه بلغني أن شيخا يحضر ليلا إلى آثار دور البرامكة وينشد شعرا
ويذكرهم ذكرا كثيرا ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف فامض أنت وعلى
ودينار حتى تردوا تلك الخرائب، فاستتروا خلف بعض الجدران فإذا الشيخ
قد جاء وبكى وندب وأنشد أبياتا فأتوني به. قال: فأخذتهما ومضينا حتى
أتينا الخرائب فإذا نحن بغلام قد أتى ومعه بساط وكرسي حديد، وإذا شيخ
قد جاء وله جمال وعليه مهابة ولطف، فجلس على الكرسي وجعل يبكى وينتحب
ويقول هذه الأبيات:
ولما رأيت السيف جندل جعفرا * ونادى مناد للخليفة يا يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسفي * عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا
مع أبيات أطالها فلما فرغ قبضنا عليه وقلنا له: أجب أمير المؤمنين
ففزع فزعا شديدا وقال: دعوني حتى أوصى بوصية فإني لا أوقن بعدها
بحياة، ثم تقدم إلى بعض الدكاكين واستفتح وأخذ ورقة وكتب فيها وصية
وسلمها إلى غلامه، ثم سرنا فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين قال حين
رآه: من أنت؟ وبما استوجبت منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم؟
223

قال الخادم ونحن نسمع يا أمير المؤمنين: إن للبرامكة أيادي خضرة عندي
أفتأذن لي أن أحدثك بحالي معهما؟ قال: قل. فقال يا أمير المؤمنين: أنا المنذر
ابن المغيرة من أولاد الملوك، وقد زالت عنى نعمتي كما تزول عن الرجال،
فلما ركبني الدين واحتجت إلى بيع ما على رأسي ورؤوس أهلي وبيتي الذي
ولدت فيه أشاروا على بالخروج إلى البرامكة فخرجت من دمشق ومعي نيف
وثلاثون امرأة وصبي وصبية وليس معنا ما يباع ولا يوهب حتى دخلنا
بغداد ونزلنا في بعض المساجد، فدعوت ببعض ثياب كنت عددتها لاستتر
بها فلبستها وخرجت وتركتهم جياعا لا شئ عندهم ودخلت شوارع بغداد
سائلا عن البرامكة فإذا أنا بمسجد مزخرف، وفى جانبه شيخ بأحسن زي
وزينة وعلى الباب خادمان وفى الجامع جماعة جلوس فطمعت في القوم ودخلت
المسجد وجلست بين أيديهم، وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى والعرق
يسيل منى لأنها لم تكن صناعتي، وإذا الخادم قد أقبل ودعا القوم فقاموا
وأنا معهم وإذا يحيى جالس على دكة له وسط بستان فسلمنا وهو يعدنا مائة
وواحدا وبين يديه عشرة من ولده، وإذا بأمرد نبت العذار في خديه قد أقبل
من بعض المقاصير وبين يديه مائة خادم متمنطقون، في وسط كل خادم
منطقة من ذهب يقرب وزنها من ألف مثقال، مع كل خادم مجمرة من ذهب
وفى كل مجمرة قطعة من عود كهيئة الفهد وقد قرن به مثله من العنبر السلطاني
فوضعوه بين يدي الغلام وجلس إلى جنب يحيى ثم قال للقاضي تكلم: وزوج
عائشة من ابن أخي هذا. فخطب القاضي خطبة النكاح وزوجه وشهد أولئك
الجماعة وأقبلوا علينا بالنثار ببنادق المسك والعنبر، فالتقطت والله يا أمير
المؤمنين ملء كمي ونظرت وإذا نحن في المكان ما بين يحيى والمشايخ وولده
والغلام مائة واثنى عشر، فإذا بمائة واثنى عشر خادما قد أقبلوا ومع كل
خادم صينية من الفضة على كل صينية ألف دينار فوضعوا بين يدي كل رجل
منا صينية فرأيت القاضي والمشايخ يضعون الدنانير في أكمامهم ويجعلون
الصواني تحت آباطهم ويقوم الأول فالأول حتى بقيت وحدي لا أجسر على
أخذ الصنية فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها وجعلت الذهب في كمي
224

والصينية في يدي وقمت، وجعلت أتلفت إلى ورائي مخافة ان أمنع من
الذهاب فبينما أنا كذلك وقد وصلت إلى صحن الدار ويحيى يلاحظني فقال
للخادم: اثنتي بهذا الرجل. فأتيته فقال: مالي أراك تلتفت يمينا وشمالا
فقصصت عليه قصتي. فقال للخادم: ائتني بولدي موسى. فأتاه به، فقال له:
يا بنى هذا رجل غريب فخذه إليك واحفظه بنفسك وبنعمتك. فقبض
موسى ولده على يدي وأدخلني إلى دار من دوره فأكرمني غاية الاكرام
وأقمت عنده يومى وليلتي في ألذ عيش وأتم سرور. فلما أصبح دعا بأخيه
العباس، وقال له الوزير: أمرني بالعطف على هذا الفتى وقد علمت اشتغالي
في بيت أمير المؤمنين فاقبضه إليك وأكرمه ففعل ذلك وأكرمني غاية
الاكرام، ثم لما كان من الغد تسلمني أخوه أحمد فلم أزل في أيدي القوم
يتداولوني مدة عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي وصبياني أفي الأموات هم أم
في الاحياء، فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الخدم
فقالوا: قم أخرج إلى عيالك بسلام. فقلت وا ويلاه سلبت الدنانير والصينية
واخرج على هذه الحالة إنا لله وإنا إليه راجعون فرفع الستر الأول، ثم
الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع، وقال لي مهما كان لك من الحوائج فارفعها إلى
فانى مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به. فلما رفع الستر الأخير رأيت حجرة
كالشمس حسنا ونورا واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك،
وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج وحمل إلى مائة ألف درهم
وعشرة آلاف دينار، ومنشور بضيعتين وتلك الصينية التي كنت أخذتها
بما فيها من الدنانير والبنادق. وأقمت يا أمير المؤمنين مع البرامكة في دورهم
ثلاث عشر سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجل غريب. فلما جائتهم
البلية ونزل بهم يا أمير المؤمنين من الرشيد ما نزل أجحف بي عمرو بن مسعدة،
وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج مالا يفي دخلهما به، فلما تحامل على
الدهر كنت في أخر الليل أقصد خرابات دورهم فاندبهم واذكر حسن صنيعهم
إلى وأبكى على إحسانهم. فقال المأمون: على بعمرو بن مسعدة فلما أتى به
225

قال له: أتعرف هذا الرجل؟ قال يا أمير المؤمنين هو بعض صنائع البرامكة
قال: كم ألزمته في ضيعته؟ قال: كذا. وكذا. فقال له: رد إليه كل ما أخذته
منه في مدته، وأفرغهما له ليكونا له ولعقبه من بعده، قال: فعلا نحيب
الرجل فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال له يا هذا: قد أحسنا إليك فما يبكيك؟
قال يا أمير المؤمنين: وهذا أيضا من صنيع البرامكة لو لم آت خراباتهم فأبكيهم
وأندبهم حتى اتصل خبري إلى أمير المؤمنين ففعل بي ما فعل من أين كنت أصل
إلى أمير المؤمنين؟: قال إبراهيم بن ميمون: فرأيت المأمون وقد دمعت عيناه
وظهر عليه حزنه، وقال: لعمري هذا من صنائع البرامكة فعليهم فابك، وإياهم
فاشكر، ولهم فأوف، ولاحسانهم فاذكر.
بلغني أنه كان رجل من أهل الكوفة من ذوي الأدب والظرف يعاشر
الناس وتأتيه ألطافهم فيعيش بها متسعا ثم انقلب الدهر عليه فأمسك
الناس عنه وجفوه، حتى قعد في بيته والتجأ إلى عياله وشاركهن في فضل
مغازلهن فاستتم ذلك عليه، وناسيه الناس ولزمه الفقر. قال: فبينما أنا ذات
ليلة في منزلي على أسوء حال، وإذا بوقع حافر دابة ورجل يدق الباب
فكلمته من ورائه وقلت له: ما حاجتك؟ قال إن أخا لك لا أسميه يقرأ عليك
السلام ويقول: إني مستتر وليس آنس بكل أحد فان رأيت أن تصير إلى
لنتحدث ليلتنا قلت: لعل سعدى يكون قد تحرك، ثم لم أجد شيئا ألبسه
فاشتملت بإزار امرأتي وخرجت فقدم إلى فرسا مجنونا كان معه فركبته إلى
أن أدخلني إلى فتى أجمل الناس فقام إلى وعانقني، ودعا بالعشاء. فأكلنا
وبالشراب فشربنا، وأخذنا في الحديث فما خضت في شئ إلا وسبقني إليه
حتى إذا صار السحر قال: إن رأيت أن لا تسألني عن شئ من أمري أو
تجعل هذه الزيارة بيني وبينك إذا أرسلت إليك. فقال: وهنا دارهم تقبلها ولا
تردها، وأخرج إلى جرابا مملوءا دراهم ودنانير فدخلتني أريحية الشراب
فقلت: اخترتني على الناس لسرك فآخذ على ذلك جزاء لا حاجة لي بالمال فجهدني
فلم آخذه. وقدم إلى الفرس فركبت وعدت إلى منزلي فدخلته مخفقا وعيالي
226

يتطلعن إلى ما أجئ به فأخبرتهن بخبري وأصحبت نادما على فعلى وقد ورد
على وعلى عيالي ما لم يكن في حسابنا فمكثت حينا لا يأتي رسول الرجل إلى أن
جاءني بعد مدة فصرت إليه فعاودني مثل ذلك الفعل وعاودته الامتناع
وانصرفت مخفقا فأقبلت امرأتي على باللوم والتوبيخ فقلت لها: أنت طالق
ثلاثا إذ عاودني فلم آخذ ما يعطيني. فمكثت على ذلك مدة أطول من الأولى
ثم جاءني رسوله، فلما أردت الركوب قالت لي امرأتي يا مشؤم أذكر يمينك
وبكاء بناتي، وسوء حالك وصرت إلى الرجل فلما مضينا إلى الشراب وأنا
أحادثه إلى أن أبلج الفجر وأخرج إلى الجراب فعاودني في الكلام. فأخذته،
فقبل رأسي وتنكرني على قبوله وقدم إلى الفرس وانصرفت عنه إلى منزلي
فلقيت الجراب فلما رأينه عيالي سجدن لله شكرا وفتحناه فإذا هو مملوء
دنانير فأصلحت من حالي، واشتريت مركوبا وثيابا حسنة وأثاثا وضيعة
قدرت أن غلتها تفي بي وبعيالي بعدي واستظهرت على زماني ببقية الدنانير
وانهال الناس على يظهرون الفرح بما تجدد لي وظنوا أنى كنت غائبا في
انتجاع ملك وعدت مسريا. وانقطع رسل الرجل عنى فبينما أنا أسير في
القرب من منزلي وإذا ضوضاء شديدة وجماعة متجمعة فقلت ما هذا؟ فقالوا:
رجل من مدينة فلان يقطع الطريق فطلبه السلطان إلى أن عرف خبره هنا
فهجم عليه فخرج على الناس بالسيف يمنع عن نفسه فقربت من الجميع وتأملت
الرجل فإذا هو صاحبي بعينه يقاتل الناس والشرط فينكشف الناس عنه
ويكرون عليه ويضايقونه، فنزلت عن فرسى وأقبلت أقوده حيت دنوت منه
وقد انكشفت الناس فقلت له: بأبي أنت وأمي أنت شأنك والفرس.
واطلب النجاة فاستوى على ظهره فلم يلحقوه فقبض على وأقبلوا يتهددوني
حتى جاؤوا إلى عيسى بن موسى وكان لي عارفا فقالوا: أيها الأمير إنا كدنا أن
نأسر الرجل فجاء هذا فأعطاه فرسا فنجاه عليه، فاشتد غضب عيسى بن موسى
وكاد أن يوقع بي وأنا منكر وشرحت له ما كان أفضى بي الحال إليه وما
عاملني به الرجل من الجميل وإني كافأته فقال لي: أحسنت لا بأس عليك. ثم
التفت إلى الناس وقال يا حمقى هذا مستفتل بسيف قد تكلمتم عنه بأجمعكم
227

فكيف كان هو يدفعه عن فرسه انصرفوا. ثم خلا سبيلي فانصرفت إلى منزلي
وقد قضيت زمام الفتى وخلصت النعمة بعد الشدة وأمنت عواقب الحال
وكان آخر عهدي به والسلام * سرق لجعفر بن سليمان الهاشمي جوهر بالبصرة
وهو أميرها فجهد أن يعرف له خبرا فخفي عليه الفاعل فأغاظه فجاء بالشرط
وضربهم فجدوا في الطلب، فلما كان بعد ذلك بشهور أتاه بعضهم برجل وجده
يبيع في سفط درة فاخرة من ذلك الجوهر وقد قبض عليه وضربه ضربا
عظيما إلى أن أقر فأخبر جعفر بخبره فأذن له في دخوله فلما أرى الرجل
جعفر استغاث به وبكى فرحمه جعفر وقال: ألم تكن طلبت منى هذه الدرة
في وقت كذا فوهبتها لك. فقال للشرط خلوا عنه واطلبوا الغريم، وروت
الفرس قريبا من هذا فذكروا أن بعض ملوكهم سخط له على حاجب سخطا
عظيما فألزمه بيته وكان فيه كالمحبوس وقطع عنه أرزاقه وجرايانه وأقام على
ذلك سنين حتى تهتك ولم يبق له مال، ثم بلغه أن الملك قد اتخذ سماطا عظيما
يحضره الناس في غد ذلك اليوم فأرسل إلى أصدقائه وأعلمهم بأن له مال
ويجب أن يبعث بعض ولده ليحضره واستعار منهم دابة بسرجها ولجامها
وغلاما ليسعى بين يديه وخلعة يلبسها وسيفا ومنطقة فأعير ذلك فلبسه
وركب الدابة وخرج من بيته حتى جاء دار الملك، فلما رآه البوابون لم يشكوا
في أنه لم يقدم على ذلك إلا بإذن الملك وتذمموا التقدم وأن يحجبوه حتى
يستأذنون فدخل وهو مظهر لقوة الجأش ولم يذل حاله مع طائفة
منهم يقول نفسه إلى أن وصل إلى الملك وقد أكل وهو جالس يشرب فلما
رآه الملك قطب وأنكر حضوره وهم أن يأمر به وبالحجاب والبوابين
فكره أن ينغص يوما قد أفرده بالسرور على نفسه وأقبل الرجل يخدم فيما
كان يخدم فيه قديما فازدادت حالته تمويها على الحجاب والحاشية إلى أن كاد
المجلس ينصرم وغفل أكثر من كان حاضرا فيه فتقدم إلى صينية من ذهب
تزن ألف مثقال مملوءة مسكا فأخذها بخفة وجعل المسك في كمه والصينية في
حقه، وخرج فركب وعاد إلى منزله ورد العواري على أهلها وباع المسك
228

وكسر الصينية وجعلها دنانير واتسع بها وأفاق الملك في غد من سكرته وقد سمع
الذين يخدمون في الشراب يطلبون الصينية وقهرمان الدار يطالب بها ويضرب
قوما من أجلها فذكر حديث الحاجب وعلم أن ما حمله على الاقدام على مثل
ذلك الامر إلا من وراء شدة وضر. فقال لقهرمانه: لا تطلب الصينية فما لاحد
في ضياعها ذنب قد أخذها من لا يردها ومنظره لا يتم عليه. فلما كان بعد سنة
عاد ذلك الحاجب إلى شده الإضافة لنفاد الدنانير وبلغه خبر سماط يكون
عند الملك في غد يومه فاحتال بحيلة أخرى حتى دخل على الملك فلما رآه
الملك قال يا فلان: قد نفدت تلك الدنانير فقبل الأرض بين يديه وبكى ومرغ
خديه وقال أيها الملك: قد احتلت مرتين في أن تقتلني فأستريح مما أنا فيه
من عظم الضر الذي أعانيه أو تعفوا عنى كما يليق بك وتذكر حرمتي فأعيش
في ظلك وليس لي بعد هذه الكرة حيلة فرق له الملك وعفا عنه وأمر برد
أرزاقه ونعمته ورده إلى حالته الأولى في خدمته.
وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه قال: نالت عمر بن هبيرة ضائقة
شديدة فأصبح ذات يوم في نهاية الكسل وضيقة الصدر والضجر مما هو فيه
فقال له أهله ومواليه: لو ركبت فلقيت أمير المؤمنين فلعله إذا رآك أن
يجرى لك شيئا فيه محبة، أو يسألك عن حال فتخبره. فركب ودخل
على يزيد بن عبد الملك بن مروان فوقف بين يديه ساعة فخاطبه، ثم نظر يزيد
فوجد عمرو قد تغير تغيرا شديدا أنكره. فقال له: أتريد الخلاء؟ قال: لا.
قال إن لك لشأنا؟ قال يا أمير المؤمنين: أجد بين كتفي إذا لا أدرى ما هو؟
قال يزيد: انظروا ما هو؟ فنظروا فإذا بين كتفيه عقرب قد ضربته عدة
ضربات فلم يبرح حتى كتب عهده على العراق، وجعل يزيد يصفه بالرجولية
وسعة الصدر * وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه قال: حدثني ميمون بن
موسى، قال: خرج رجل من المتصرفين من عسكر المعتصم بالله إلى مصر.
قال: فحدثني عنه بعض المتصرفين قال: نزلت في دار بالقرب منه، فحدثني:
229

الرجل بما كنت وقفت على بعضه قال: أصبحت ذات يوم وقد نفذت نفقتي،
وتقطعت ثيابي، وأنا من الهم والغم على مالا يوصف. فقال لي غلامي:
أي شئ نعمل اليوم؟ فقلت له خذ بلجام الدابة فبعه وانه محلى، وابتع مكانه
لجاما جديدا واشتر لنا خبزا سميذا، وجديا حنيذا. فقد قرمت نفسي إلى
أكلها وعجل ولا تنس أيضا أن تبتاع أيضا كوز نبيذ لسروري. فمضى الغلام
وجلست مفكرا في أمري وما ألاقي وكيف أعمل. فإذا بباب الدار قد دق
دقا عظيما حتى كاد أن ينكسر فإذا رهق شديد، فقلت لغلامي وكان واقفا
بين يدي: أخرج فانظر ما هذا؟ فذهب الغلام وفتح الباب فلم يفتح فكسره
وامتلأت الدار على غلمانا من الأتراك وغيرهم وإذا باشتاس وهو حاجب
المعتصم ومحمد بن عبد الملك الزيات وقد دخلا وطرحت لهما زولية فجلسا
عليها وإذا معهما حفارون قال: فلما رأيت ذلك بادرت فقبلت أيديهما
فسألاني عن خبري فخبرتهما به، وأنى خرجت من جملة آهل العسكر طمعا
في التصرف وذكرت حالي وما توالت إليه فوعدت وعدا جميلا والحفارون
يحفرون فالتفت اشتاس إلى محمد بن عبد الملك فقال: أنا والله جائع. فقال له
محمد: وأنا والله جائع. فقلت عند ذلك يا سيداي عند خادمكما شئ قد اتخذ له
فإذا أذنتما في إحضاره حضر فقالا: هات. فقدمت الجدي وما كان ابتيع
فأكلا واستوفيا وغسلا أيديهما ثم قال لي أشتاس عندك من ذلك الفن شئ؟
فقلت نعم فسقيتهما من الكوز ثلاث أقداح فجعل أحدهما يقول للآخر
ظريف وما ينبغي لنا أن نضيع هذا الجميل، فبينما الحال على ذلك إذ ارتفع
تكسير الحفارين فإذا هم قد كشفوا عن عشرين مرجلا دنانير وأخرجت
ليتوجهوا بها إلى المعتصم، فلما نهضوا قال أحدهما للآخر فهذا الشقي الذي
أكلنا طعامه وشربنا شرابه ندعه هكذا. فقال الآخر ماذا نعمل؟ نحفن له
حفنة من كل مرجل لا تؤثر فيه فنكون قد أعنيناه، ونصدق أمير المؤمنين
على الحديث. ثم قال حجرك فجعل كل واحد منهما لي حفنة من كل مرجل ثم
حملا المال وانصرفا فنظرت فإذا قد حصل لي عشرين ألف دينار، فانصرفت
بها إلى العراق فابتعت بها ضياعا وتركت التصرف.
230

وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه قال: حدثني أبي عن أبي قلابة المحدث
قال: ضقت ضيقة شديدة فأصبحت ذات يوم والمطر يجئ كأفواه القرب
والأولاد يتضورون جوعا وما عندي حبة واحدة أتقوتها فبقيت متحيرا في
أمري فخرجت فجلست في دهليز وفتحت بابى وجعلت أفكر في أمري ونفسي
تكاد تخرج غماما أنا فيه وليس يسلك الطريق أحد لشدة المطر، فإذا بامرأة
على حمار فاره وخادم أسود آخذ بلجام الحمار، والحمار يخوض في الوحل فلما
صار بحذائي سلم على وقال: أين منزل فلان؟ فقلت: هذا منزله وأنا هو.
فسألتني المرأة عن مسألة فأفتيتها بها فصادف ذلك ما أحبت فأخرجت من
حفها خريطة ودفعت إلى منها ثلاثين دينارا، ثم قالت يا أبا قلابة: سبحان
خالقك لقد تنوق في قبح وجهك وانصرفت * وحدثني أبو القاسم التنوخي في
المذاكرة بإسناد ذهب عن حفظي قال: كان أحمد بن أبي خالد بغيضا قبيح
التهجم، وكان مع ذلك حرا، وكان يلزمه رجل متعطل من طلاب التصرف
يقال له ابن صالح الأضخم من وجوه الكتاب فحدث قال: لما آلت بي العطلة
في أيام المأمون والوزير إذ ذاك أحمد بن أبي خالد، وضاقت حالي حتى خشيت
التكشف فبكرت إلى أحمد بن أبي خالد مغلسا لأكلمه في أمري فرأيت بابه قد فتح،
وخرج وبين يديه بريد المأمون، فلما نظرني أنكر بكوري وعبس وجهه وقال:
في الدنيا أحد بكر هذا البكور ليشغلنا عن أمرنا؟. فلم تصبر نفسي أن قلت: ليس
العجب منك أصلحك الله فيما استقبلتني به، وإنما العجب منى كيف أسهرت
نفسي ليلتي وأسهرت من في داري تأميلا لك وتوقعا للصبح لأصير إليك وأبثك
أمري فأستعين بك على إصلاح حالي، وحلفت يمينا غليظة أن وقفت ببابك
أو سألتك حاجة حتى تصير إلى معتذرا مما كلمتني به. وانصرفت مغموما
مكروبا بما لقيني به متذمما على ما فرط منى غير شاك في العطب إذ كنت لا أقدر
على الحنث، وكان ابن أبي خالد لا يلتفت إلى تبرئة قسمي فإني كذلك وقد طلعت
الشمس إذ دخل بعض غلماني وقال: أحمد بن أبي خالد مقبل في الشارع، ثم
دخل آخر فقال: قد دخل دارنا، ثم آخر فقال قد وقف على الباب، ثم تبادر
الغلمان يدخلون الدهليز فخرجت مستقبلا له. فلما استقر في مجلسه من داري
231

ابتدأت أشكره على ابراره قسمي. فقال: إن أمير المؤمنين كان أمرني
بالركوب إليه في بعض مهماته فدخلت إليه وقد غلبني السهو مما فرط منى إليك
حتى أنكر ذلك فقصصت على قصتي معك. فقال: أسأت بالرجل قم:
فامض إليه واعتذر مما قلته له. فقلت: أفأمضي إليه فارغ اليد. قال: فتريد
ماذا؟ قلت له: تقضى دينه قال: كم هو؟ قلت ثلاثمائة ألف درهم. قال: وقع
له بذلك. قلت: يرجع بعد إلى الدين. قال: وقع له بثلاثمائة أخرى. قلت:
وولاية يتشرف بها. قال: وله مصرا أو غيرها مما يشتهيها قلت: ومعونة على
سفره. قال: وقع له بمائة ألف درهم. قال: وأخرج التوقيع من خفه بالولاية
وبسبعمائة ألف درهم فدفعه إلى وانصرف * وذكر أبو الحسين القاضي
قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم الخياط قال: كان في جيراني بالجانب
الشرقي من بغداد رجل من الأتراك له رزق في الجند فتأخر رزقه في أيام
المكتفى، ووزارة العباس بن الحسين. فساءت حاله، ورثت هيئته حتى لزم
الجلوس عند خباز كان بالقرب منا وكان يستشفعه على جماعة يسألهم ويشفعه
أيضا بأن يعطيه في كل يوم خمسة أرطال خبزا يتقوت بها هو وعياله فاجتمعت
عليه للخباز شئ فضاق به صدر الخباز أن يعطيه شيئا آخر فمنعه فخرج ذات
يوم فجلس وهو عظيم الهم، ثم كشف لي حديثه وقال: لقد علمت أن لابد
لي من مسألة الناس، وقد عملت على مسألة كل من يشترى من الخباز أن
يتصدق على وقد حملني الجوع على هذا كله، لكن لما ذكرت ما في ذلك من
الذل منعتني نفسي فبينما هو على ذلك إذ جاء رجل بزي نقيب يسأل عنه فدل
عليه، فوجده جالسا عند الخباز فقال له: قم. فقال: إلى أين؟ قال: إلى الديوان
حتى تقبض رزقك فقد خرج لك ولصاحبك رزق شهرين، فضمي معه فلما
كان بعد ساعة جاءني وقد قبض مائتين وأربعون دينارا، فرم منزله
وأصلح حاله وحال عياله، وابتاع دابة وسلاحا، وخرج مع قائد كان
برسمه وحسن حاله.
232

وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه بإسناده عن الفضل بن عياض قال:
حدثني رجل أن رجلا خرج بغزل له فباعه بدرهم ليشترى به دقيقا فمر على
رجلين كل واحد منهما آخذ برأس أخيه، قال: ما هذا؟ قال يصطخبان في
درهم فأعطاهما ذلك الدرهم وليس له شئ غيره. فجاء إلى امرأته فأخبرها
فجمعت له شيئا من البيت فذهب يبيعه فكسد عليه فمر عليه رجل ومعه
سمكة قد اروجت. فقال له: إن معك شئ قد كسد ومعي شئ قد كسد فهل
لك أن تبيعني هذا بذاك؟ فبايعه، وجاء الرجل بالسمكة إلى البيت فقامت
المرأة تصلحها، وإذا بلؤلؤة في جوفها، فقالت له: أتعرف قدر اللؤلؤة؟
قال: لا. ولكن أعرف من يعرفه، فانطلق بها إلى صديق له وهو في سوق
الجوهر، وقال: بعها لي. قال لك بها على أربعون ألف، وإن شئت فاذهب بها
إلى فلان فهو أثمن لك بها منى. فذهبت بها إليه فقال: لك بها ثمانون ألفا وإن شئت
فاذهب إلى فلان فهو أثمن لك بها منى. فذهبت إليه فقال: لك بها مائة وعشرين
ألفا. ولا أدرى أحدا يزيدك. قال: فحمل لي اثنى عشر بدرة في كل بدرة عشرة
آلاف درهم. فذهب بها إلى منزله ليضعها فيه فإذا رجل في الباب يسأل.
فقال: هذه قصتي التي كنت عليها أدخل. فدخل فقال له: خذ نصف هذا
المال. فأخذ الرجل الفقير ست بدر ثم تباعد غير بعيد، ورجع إليه وقال:
ما أنا بمسكين ولا فقير. ولكن أرسلني إليك ربك تعالى الذي أعطاك بالدرهم
عشرين قيراطا فهذا الذي أعطاك قيراط وادخر لك الباقي * وذكر أبو الحسين
القاضي في كتابه القرطبلي: كان في جيراني رجل من أهل البيوتات، وكانت
له نعمة فزالت له وساءت حالته، وكانت له زوجة وأربع بنات فحملت
زوجته، وأخذها الطلق في الليل. قال: فلم يكن لي حيلة شئ في الدنيا فخرجت
ليلا هاربا على وجهي أمشى حتى أتيت جسر النهروان فأملت أن ألقى عاملها
وكان يعرفني فاسأله تصريفي في شئ. وتعجيل رزقه ببعض الشئ لانفذه
إلى زوجتي، فوصلت إلى الموضع، وقد ارتفع النهار فجلست أستريح بالقرب
من يقال فإذا برجل قد جاء، ووضع مخلاته وعصاه ثم قال: اعطني كذا
وكذا من خبز وآدم فأعطاه فأكل ووزن له الثمن ثم فتح مخلاته ففضها وميز
233

ما فيها من الكتب فرأيت فيها خطابا إلى وعليه وصفة منزلي. فقلت: هذا
إلى: فقال: أتدري ما تقول؟ قلت: نعم. قال: أفتعرف من كتبه؟ قلت:
لا. قال: فان فيه سفتجة بمال وبسبب هذا الكتاب من دون جميع ما معي
استؤجرت وخرجت من الدينور، فقلت له: قد قلت لك الحقيقة، وإن
مضيت إلى بغداد لم تجد صاحب الكتاب غيري. فقال أما هنا إنسان يعرفك؟
قلت: نعم. قال: قم بنا إليه. فجئنا إلى العامل فلما دخلت عليه قال لي:
ما أقدمك يا أبا فلان علينا؟ فقلت له: قبل كل شئ من أنا أعزك الله، وأين
منزلي ببغداد؟ قال: أنت أبو فلان بن فلان الفلاني، ومنزلك بمدينة السلام
مدينة المنصور في مكة كذا منها. فقلت للرجل: عرفت صدقي؟ قال: نعم.
فحدثت العامل بحديثي، وأخذت الكتاب من الرجل، وإذا هو من بعض
المستورين من الدينور يذكر ابن عم كان لي فيها قد توفى بعد أن أوصى إليه
انى أنا وارثه وأسماني له ووصف مسكني ببغداد، وأن الثلث من ماله يصرف
في وجوه البر، وباقي التركة لي وأنه باع أثاث المنزل وما خاف فساده وصرف
الثلث منه، وبعض ما كان أوصى به وأنفذ إلى سفتجة بالثلثين ن ذلك مبلغها
سبعمائة دينار وكذا وكذا دينار بأجل أربعين يوما على تاجر في دار القطن
بالكرخ، وقال: والقصد أن تبادر إلى الدينور لتبيع العقار، والضياع أو
تبيع الثلث منها لتصرفه في مهم وتتمسك بالباقي إن شئت. قال: فورد على من
السرور مالا عهد لي بمثله وحمدت الله تعالى وقلت للرجل: قد وجب حقك
وسأحسن إليك. وشرحت له قصتي وأنه لا حبة فضة معي. فجاءني إلى البقال
وقال: زن لأستاذي بكذا. وكذا. خبزا وأدما وما يريد غيرهما فتغذيت
ووزن الرجل ثمن ذلك من عنده واستأجر حمارين فأركبني أحدهما وركب
هو الآخر، ووزن الأجرة من عنده وجئنا في بقية يومنا إلى بغداد وقصدنا دار
القطن وفى النهار بقية صالحة. فأوصلت السفتجة إلى التاجر فقال: صحيحة إذا
حل الاجل فاحضر للقبض. فقلت له: خذ حديثي وافعل بعد ذلك ما يوفقك
الله تعالى له، ويرى في مروءتك، وقصصت عليه قصتي. فقال: بالله الذي
لا إله إلا هو أنت صادق؟ فحلفت له. فأخرج كيسا كان يقربه فوزن منه
مال السفتجة، وأخذ خطى بذلك، وصرت من وقتي إلى السوق فاشتريت
234

عسلا وسكرا وشيرجا وخبزا كثيرا وحملا مشويا وما يصلح للنساء في
النفاس، ومهدا وقشوة وعطرا صالحا وشيئا من الثياب وصرت إلى منزلي
وقد قربت عشاء الآخرة، فوجدت كل من فيه من النساء يدعوا على ويلعنني
فقدمت الحمالين ودخلت منزلي، فانقلبت الدار وانقلب الدعاء على، فصار
دعاء لي، وصار الغم سرورا، ووجدت زوجتي قد ولدت ابنا وعرفت الصبيان
خبر السفتجة والميراث والرجل، وأعطيت الزوجة والقابلة من الدنانير،
وأقمت الرجل عندي أياما، حتى أصلحت أمري وأمر عيالي وخلفت
لهم نفقة، وأعطيت الرجل منها وأجزلت واكتريت منها حمارين لي وله
واستصحبته إلى الدينور فوجدت فيه ما يخصني ما تركه ابن عمى نحو عشرة
آلاف دينار. فبعت ذلك كله، وأخذت بحصتي سفائج إلى بغداد وعدت
وقد فرج الله عز وجل عنى وأصلح حالي فأنا أعيش في بقية تلك
الحال إلى الآن.
وذكر أبو الحسين القاضي قال: حدثني أبي عن بعض إخوانه وأحسبه
أبو يوسف بن يعقوب بن ثابت قال: أملق بعض الكتاب في أيام الرشيد
حتى أفضى إلى بيع دابته، ونقض داره فلم يبق فيها إلا بيت يأوى إليه هو
وولده، فانقطع عن الناس وانقطعوا عنه دهرا، وكان الرشيد يولى أعمال
أذربيجان وأرمينية في كل سنتين أو ثلاثا رجلا فاضلا فمرة عين رجلا
هاشميا فاضلا فطلب كاتبا فارها يصطنعه وشاور فيه صديقا له من الكتاب،
فوصف له هذا الرجل المتعطل، ووعده بإحضاره وصار إليه فطرق الباب
عليه فوجده لما دخل إليه على حال من الفقر لا يتهيأ له معها القاء أحد فبعث
إليه من منزله بخلعة من ثيابه ودابة وغلام وبخورا ودراهم، وركب معه
إلى الهاشمي فلقيه بها فاستجوبه الهاشمي، فوجده بارعا في صناعته،
فاستكتبه وقرر جرايته، وأمر له بمال معجل معونة له على سفره، وأمره
بالقدوم على أذربيجان فعاد الرجل إلى منزله وأصلح من حاله وخلف نفقة
لعياله وشخص إلى تلك البلد فلما بلغ الوالي المصروف الخبر رحل عن البلد،
235

وأخذ غير الطريق الذي بلغه أن الكاتب سلكه وخلف كاتبه لرفع الحساب
فلما شارف الناحية خرج إليه الكاتب المعزول ولقيه وسأله عن صاحبه.
فلما أعلمه بشخوصه إلى دار السلام أنكر ذلك فقال له: الكاتب المعزول مل
بنا إلى موضع نجلس فيه نتحدث ونرى رأيك فمالا ونزلا وطرح لهما ما جلسا
عليه فقال: أعزك الله لا تنكر انصراف صاحبي فإنه رجل كبير المقدار
وأخاف من مهانة تلحقه فشخص إلى دار السلام، وقد خلف قبلي مائة ألف
درهم فاقبض ذلك وأكتب لنا كتابا بإزاحة علته وانفصال ما بيننا وبينك،
ونحن ننصب لك من يرفع الحساب رفع من لا يغيب ولا يستعصى عليه.
فقبل كاتب الوالي ذلك، وركبا وقد زال الخلاف بينهما إلى تقبيض تلك
الأشياء النفيسة لنفسه ولصاحبه، وكتب الكاتب الرشيد بإزاحة علته،
وانفصال ما بينهم وبينه، وخرج الكاتب لاحقا لصاحبه، وخلف من يسلم
الحساب، فاتصل ظاهر الخبر بالهاشمي الوالي فكتب إلى كاتبه ينكر عليه
فكتب إليه إني قد بلغت من الامر مبلغا مرضيا إذا وقفت عليه. فلما صار
إلى الناحية عرفه ما جرى فحسن موقعه منه وتبرك به، وغلب على عقله فكسب
مالا عظيما فلما مضت عليه ثلاث سنين صرف الهاشمي وخلفه الذي كان قبله
واليا، وبلغ الهاشمي الخبر. فقال لكاتبه ما الرأي؟ فقال: نفعل به مثل
ما فعل بنا، وأقيم أنا ومعي مثل ما كان أعطانا فأعطيه إياه، وآخذ كتابه
بانفصال ما بيننا وبينه والحق بك. ففعل ووافى الكاتب الذي كان مصروفا
فتلقاه الكاتب في الموضع الذي كانا التقيا فيه في مبدأ الامر فعدلا ونزلا
وعرض عليه ما خلفه صاحبه له وسأله قبول ذلك، والكتابة بمثل ما كان
كتب له إلى الرشيد. فامتنع من قبول ذلك، وكتب له بانفصال ما بينهما
إلى الرشيد كتابا وكيدا وقال: أراك رجلا فاضلا فطنا، وأرى صاحبك
عاقلا، وقبول هذا لا يكون مكافأة له بل يكون كأنه بيع له وشراء منه.
ولكن قد تذكرت أمرا أجمع لنا ولكم من هذا. قال ما هو؟ قال اعقد
بيننا وبين صاحبك صهرا ونكون إخوة وأصدقاء. قال: فعل الله بك وصنع
فما في الدنيا أكرم ولاية منك. فعقد بينهما الصهرين وسارا إلى مقصدهما
236

ودخل الكاتب بغداد، وقد حصل الهاشمي صاحبه وأخبره الخبر فحمد ربه
وأمضى عقده في المصاهرة فصار الكاتب من أرباب الأحوال وعاد إلى
أفضل ما كان عليه قبل محنته * وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه قال:
حدثتني جدتي أم أبى قالت: كان زوجي يعقوب بن علي قد نهض إلى مصر
وتصرف بها وعمل وتعطل وأقام هناك وأضقنا إضاقة شديدة وعرضنا بيع
ضيعة لنا فلم نجد لها ثمنا، وتأخر كتابه عنا وانقطع خبره حتى توهمنا أن
حادثا حدث عليه، وكان أولاده صغارا فكنت أحتال وأنفق عليهم حتى لم
يبق لي في المنزل شئ وحضر وقت عمارة الضيعة فاحتجنا إلى بزر ونفقة
فتعذر ذلك علينا حتى كدنا أن نتعطل ويفوت وقت الزراعة فأصبحت يوما
وبي من الغم من اجتماع هذه الأحوال أمر عظيم ووجهت إلى بعض من كنت
أثق به وأتوهم أنى لو سألته اسعافنا بالكثير من ماله أن لا يخالفنا لأقترض منه
شيئا لذلك. فرد رسولي واعتذر وعرفني الرسول أنه قال: إذا بعثت لهم ما طلبوا
والضيعة لم تعمر ولم يحصل لهم غلة وزوجها لم يعرف له خبر فمن أين تردون على
المال؟ قال: فكدت أموت غما وامتنعت من الطعام يومى وليلتي فأصبحت فما
انتصف النهار حتى ورد على كتاب زوجي بسلامته، وذكر السبب في تأخر
كتابه وبسفنجة أنفذها طي كتابه بمائتي دينار، وذكر ثيابا أنفذها مع آخر
من أهل البصرة مبلغها خمسون دينارا فعمرنا الضيعة وزرعت في تلك السنة
وحسنت حالي.
وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه أيضا قال: روى أن سعيد بن العاص
قدم الكوفة عاملا لعثمان بن عفان وكان يتعشى عنده من القراء رجل قد
ساءت حاله فقالت له امرأته ويحك قد بلغنا عن أميرنا هذا كرم فاذكر له
حالك فلعله أن ينيلنا شيئا فلم يبق للصبر فينا بقية فقال: ويحك لا تخلقي وجهي
فقالت: فاذكر له ما نحن فيه على كل حال فلما كان بالعشاء أكل عنده ولما انصرف
الناس ولم يقم الرجل فقال له سعيد: أظن جلوسك لحاجة فاذكرها فخجل
237

الرجل فقال سعيد لغلمانه: تنحوا. ثم قال: يرحمك الله أنا وأنت فاذكر
حاجتك فخجل فنفخ سعيد المصباح فأطفأه ثم قال: رحمك الله لست ترى
وجهي فاذكر حاجتك. قال: أصلح الله الأمير أصابتنا حاجة وأحببت ذكرها
لك قال: فإذا أصبحت فأت فلانا وكيلي. فلما أصبح الرجل لقى الوكيل
فقال إن الأمير قد أمر لك بشئ فهات من يحمله معك. فقال: ما عندي
من يحمل معي وما أظن الأمير إلا قد أمر لي بقوصرة تمر وقد ذهب ماء
وجهي، ولو كان دراهم أو دنانير لأعطانيها يد بيد. فلما كان بعد أيام قالت
له امرأته يا هذا قد بلغ بنا الامر إلى ما ترى ومهما أعطاك الأمير فخذه نتقوت
به أياما فاذهب والق وكيله. فلقيه فقال أين أنت لقد أخبرت الأمير أن
ليس لك من يحمل ما أمر به لك. فأمرني أن أوجه معك من يحمل ذلك.
قال ثم أخرج إلى أناس من السودان على رأس كل واحد منهم بدرة دراهم
وقال: امضوا معه فلما بلغ الرجل باب منزله فتح بدرة وأخرج منها دراهم
فدفعها للسودان وقال انصرفوا. قالوا: إلى أين نحن عبيدك إنه ما حمل
مملوك لأمير هدية فرجع المملوك إلى مالكه قال: فصلحت حال الرجل
واستظهر في أمر دنياه * وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه عن الأصمعي
قال: لزمت باب الرشيد وكنت أقيم عليه طول نهاري، وأبيت بالليل مع
الحراس أسامرهم وأتوقع طالع سعدى حتى كدت أموت قرا وهزالا وأنا
أتصبر وأتذكر عاقبة الصبر وما وراءه من الفرج وآمل صلاح حالي باتفاق
محمود، فبينما أنا ذات يوم وقد أثر في السهاد خرج بعض الحجاب فقال: هل
بالباب أحد يحسن الشعر؟ فقلت الله أكبر رب مضيق فكه اليسر أنا ذاك
الرجل..؟ أخذ بيدي وقال ادخل فإنه ختم لك بالسعادة ولعلها ليلة تكون
فزت فيها بالغنى فقلت بشرك الله بالخير، ودخلت فواجهت الرشيد في البهو
جالسا واخدم وقوفا على رأسه وجعفر بن يحيى البرمكي إلى جانبه، فوقف
بي الحاجب حتى يسمع تسليمي فسلمت ثم قال: تنح قريبا لتسكن نفسك إن
كنت وجدت للردعة حسنة فقلت في نفسي إن سكت فهي فرصة تفوتني إلى
238

آخر الدهر فلا أعتاض عنها إلا كمدا حتى يضيق على الضريح. فقلت بصوت
إضاءة: كرم أمير المؤمنين وبهاء مجده مدبران لمن نظر إليه من آذية النفس
يسألني أيده الله فأجيبه أم ابتدى فأصيب. فتبسم إلى جعفر وقال ما أحسن
من استدعى الاحسان وأحرى به أن يكون محسنا ثم قال لي أشاعر أنت
أم راوية للشعر؟ قلت: راوية قال لمن قلت لكل أمر ذي جد وهزل بيد
أن يكون محسنا قال (أنصف الفارة من رماها) ما معنى هذه الكلمة؟
قلت لها وجهان: زعمت التبابعة أنه كان لها رماة لا يقع سهامها في غير الحدق
فكانت تكون في الموكب الذي فيه الملك على الجياد البلق فخرج فارس معلم
بعذبات سمور وقلنسوة فنادى أين رماة الحدق؟ فقالت العرب انصف الفارة
من رماها. والوجه الآخر: المرتفع من الجبل الشاهق فمن ضاهاه بفعاله
فقد رماه وما أحسب هذا هو المعنى لان المرماة كالمعطاة، فكما أن المعطاة
للنديم هو أن يأخذ كأسا كذلك المراماة ترميها وترميه قال أصبت أرويت
للحجاج شيئا؟ قلت الأكثر قال أنشدني قوله (ارقني طارق هم طارق)
فمضيت فيها مضى الجواد تهدر أشداقي. فلا بلغت مدحه لبنى أمية ثنيت عنان
اللسان لا مداحة للمنصور. قال: أعن عمد أو غير عمد؟ فقلت بل عن عمد
قال تركت كذبه إلى صدقه بما أصف المنصور من مجده. قال جعفر: بارك الله
عليك مثلك يؤهل لمثل هذا الموقف. ثم التفت إلى الرشيد وقال: أرويت لعدى
ابن الرفاع؟ قلت الأكثر قال أنشدني قوله * بانت سعاد فأخلفت ميعادها *
فابتدرت بها تهدر أشداقي. فقال لي جعفر: يا هذا أنشد على مهل لن
تنصرف إلا غانما. فقال الرشيد: هل قطعت على لتشركي في الجائزة؟ قال:
فطابت نفسي وقلت أفلا ألبس أردية البتة على العرب وأنا أرى الخليفة
والوزير يتشاطران المواهب لي فتبسم ومضيت فيها. ثم قال: أرويت لذي الرمة
شيئا؟ قلت: الكثير قال أنشدني قوله * أمن حذر الهجران قلبك يطمح *
فقلت هي عروس شعره. قال فأية لجهة قلت قوله: (ما بال عينك منها الماء ينسكب)؟
قال: امض فيها فمضيت حتى انتهيت إلى وصفة جميلة. قال جعفر: تغنى علينا ما تسع
من مسامرة الشين بجمل أجرب. فقال الرشيد: اسكت فهي التي سلبتك تاج
239

ملكك وإن عجتك عن قرارك، ثم جعلت جلودها سياطا لتضرب بها أنت
وقومك عند الغضب. فقال جعفر: الحمد لله عوفيت من غير ذنب قال الرشيد:
أخطأت في كلامك لو قلت أستعين الله قلت صوابا. إنما يحمد الله عز وجل
ويستعان على الشدائد. ثم قال: إن لأجد مللا، وهذا جعفر ضيف عندنا
فسامره في ليلتك فإذا أصبحت فان تابعي يلقاك بثلاثين ألف درهم ثم قام.
وقربت إليه النعل فجعل الخادم يصلح عقب النعل في رجله. فقال: أرفق
ويلك أحسبك قد عقرتني. فقال جعفر: قاتل الله العجم لو كانت سديه
ما أحتاج أمير المؤمنين إلى هذه الكلفة. فقال، هذه نعلي ونعل آبائي ولا تدع
نفسك والتعرض لما تكره. فمضى. فقال جعفر: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين
ولا يجوز أن آمر فيه بمثل ما أمر لك لأمرت لك بثلاثين ألف درهم ولكن
قد أمرت بتسعة وعشرين ألف درهم فإذا أصبحت فاقبضها فما صليت ظهر
الغد إلا في منزلي وقد صرف لي المال فأيسرت ولازمتها، وزال ما كنت فيه
من الضر وأتى الاقبال.
وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه قال: بلغني عن عمرو بن مسعدة أنه
قال: كنت مع المأمون عند قدومه من بلاد الروم حتى إذا نزلت الرقة
قال يا عمرو، ما ترى الرجحي قد احتوى على الأهواز وهي سلة الخير
وجميع المال قبله وطمع فيها وكتبه متصلة بحملها وهو يتعلل ويتربص بي
الدوائر؟ فقلت: أنا أكفى أمير المؤمنين هذا، وأنفذ من يضطره إلى حمل
ما عليه. فقال: ما يقنعني هذا. فقلت فيأمر أمير المؤمنين بأمره؟ فقال فاخرج
إليه بنفسك حتى تصفده بالحديد فتحمله إلى بغداد وتقبض على جميع ما في
يده من أموالنا وتنظر في أعمالنا وترتب لها عمالا فقلت السمع والطاعة.
فلما كان في غد دخلت عليه فقال ما فعلت فيما أمرتك به؟ فقلت أنا على ذلك.
قال أتريد أن تجئ في غد مودعا؟ قلت السمع والطاعة. فلما كان في غد جئته
مودعا فقال: أريد أن تحلف لي أنك لا تقيم ببغداد إلا يوما واحدا فاضطربت
من ذلك إلى أن حضني واستحلفني أن لا أقيم فيها أكثر من ثلاثة أيام فخرجت
240

حتى قدمت بغداد فلم أقم فيها إلا ثلاثة أيام وانحدرت في زلال أريد البصرة،
وجعل لي في الزلال خيش واستكثرت من الثلج لشدة الحر، فلما صرت
بين جرجاى وحبل سمعت صوتا من الشاطئ يصيح يا ملاح؟ فرفعت سجف
الزلال وإذا بشيخ كبير السن جالس حاسر الرأس حافي القدمين خلق
القميص فقلت للغلام أجبه فأجابه. فقال يا غلام أنا شيخ كبير السن على هذه
الصورة التي ترى وقد أحرقتني الشمس وكادت تتلفني وأريد حبل فاحملوني
معكم فإن الله يحسن أجر صاحبكم. قال: فشتمه الملاح وانتهره فأدركتني رقة
عليه وقلت خذوه معنا فتقدمنا الشط وصحنا به وحملناه فلما صار معنا في الزلال
وانحدرنا نتقدم فدفعت إليه قميصا ومنديلا وغسل وجهه واستراح وكأنه
كان ميتا، وعاد إلى الدنيا فحضر وقت الغذاء وتقدمت وقلت للغلام هاته
يأكل معنا. فجاء وقعد على الطعام فأكل أكل أديب نظيف غير أن الجوع أثر فيه
فلما رفعت المائدة أردت أن يقوم ويغسل يده ناحية كما تفعل العامة في مجالس
الخاصة فلم يفعل. فغسلت يدي وتذممت أن أمر بقيامه فقلت قدموا له الطشت
فغسل يده وأردت بعدها أن يقوم لأنام، فلم يفعل فقلت يا شيخ: أي شئ
صناعتك؟ قال حائك أصلحك الله. فقلت في نفسي هذه الحياكة علمته سوء
الأدب فتناومت عليه ومددت رجلي فقال: قد سألتني عن صناعتي وأنت
أعزك الله ما صناعتك؟ فأكبرت ذلك وقلت أنا جنيت على نفسي هذه
الجناية ولابد من احتمالها أتراه الأحمق لا يرى زلالي وغلماني ونعمتي
وأن مثلي لا يقال له هذا. فقلت كاتب: فقال كاتب كامل أو كاتب ناقص؟
فإن الكتاب خمسة فأيهم أنت فورد على من قول الحائك موردا عظيما
وسمعت كلاما أكبرته، وكنت متكئا فجلست ثم قلت: فصل الخمسة. قال:
نعم. كاتب خراج: يحتاج أن يكون عالما بالشروط، والطسوت،
والحساب، والمساحة، والبثوق، والفنون، والرتوق. وكاتب أحكام:
يحتاج أن يكون عالما بالحلال، والحرام، والاحتجاج. والاجماع،
والأصول، والفروع. وكاتب معونه: يحتاج إلى أن يكون عالما بالقصاص
241

والحدود، والجراحات، والمواثبات، والسياسات. وكاتب جيش: يحتاج
أن يكون عالما بحلي الرجال، وشيات الدواب، ومدارات الأولياء وشيئا
من العلم بالنسب، والحساب. وكاتب رسائل: يحتاج أن يكون عالما بالصدور،
والفصول، والإطالة، والايجاز، وحسن البلاغة. والخط. قال فقلت: إني
كاتب رسائل. قال فأسألك عن بعضها؟ قلت قل: فقال لي أصلحك الله: لو
أن رجلا من إخوانك تزوج أمك فأردت أن تكاتبه مهنئا فكيف كنت
تكاتبه. ففكرت في الحال فلم يخطر ببالي شئ، فقلت ما أرى للتهنئة وجها
قال: فكيف تكتب إليه تعزيه؟ ففكرت فلم يخطر ببالي شئ. فقلت أعفني
قال قد فعلت. ولكنك لست بكاتب رسائل. قلت أنا كاتب خراج.
قال: لا بأس لو أن أمير المؤمنين ولاك ناحية وأمرك فيها بالعدل والانصاف
وتقضى حاجة السلطان فيتظلم إليك بعضهم من مساحيك وأحضرتهم للنظر
بينهم وبين رعيتك فحلف المساح بالله العظيم لقد أنصفوا وما ظلموا وحلفت
الرعية بالله أنهم لقد جاروا وظلموا وقالت الرعية قف معنا على ما مسحوه
وانظر من الصادق من الكاذب فخرجت لتقف عليه فوقفوا على قراح شكله
قاتل قثاء كيف كنت تمسحه؟ قلت: كنت آخذ طوله على انعراجه وعرضه
ثم أضربه في مثله. قال إن شكل قاتل القثاء أن يكون زاويتاه محدودتين وفى
تحديده تقويس. قلت فأخذ الوسط فاضربه في العرض قال إذا ينثني عليك
العمود فأسكتني. فقلت: ولست كاتب خراج. قال: فإذا ما أنت؟ قلت:
أنا كاتب قاض. قال أرأيت لو أن رجلا توفى وخلف امرأتين حاملتين
إحداهما حرة والأخرى سرية فولدت السرية غلاما والحرة جارية فعدت
الحرة إلى ولد السرية فأخذته وتركت بدله الجارية فاختصما في ذلك فكيف
الحكم بينهما قلت لا أدرى. قال: فلست بكاتب قاض، قلت: فأنا كاتب
جيش. فقال: لا بأس أرأيت لو أن رجلين جاء إليك لتحليهما وكل واحد
منهما اسمه واسم أبيه كاسم الآخر إلا أن أحدهما مشقوق الشفة العليا
والآخر مشقوق الشفة السفلى كيف كنت تحليهما؟ قلت فلان الأعلم، وفلان
الأعلم، قال إن رزقها مختلفان وكل واحد منهما يجئ في دعوة الآخر.
242

قلت لا أدرى. قال: فسلت بكاتب جيش. قلت: أنا كاتب معونة. قال:
لا تبالي لو أن رجلين رفعا إليك قد شج أحدهما الآخر شجة موضحة، وشج
الآخر شجة مأمونة كيف كنت تفصل بينهما؟ قلت: لا أدرى. قال لست إذا
كاتب معونة أطلت لنفسك أيها الرجل شغلا غير هذا. قال فصغرت إلى نفسي
وغاظني فقلت: قد سئلت عن هذه الأمور ويجوز أن لا يكون عندك جوابها
كما لم يكن عندي فإن كنت عالما بالجواب فقل. فقال: نعم. إن الذي
تزوج أمك فتكتب إليه أما بعد: فإن الأمور تجرى من عند الله بغير محبة
عباده ولا اختيارهم، بل هو تعالى مختار لهم ما أحب وقد بلغني تزويج
الوالدة خار الله لك في قبضها، وأن القبور أكرم الأزواج وأستر العيوب
والسلام. وأما قراح قاتل قثاء فتمسح العمود حتى إذا صار عدادا في يدك
ضربته في مثله ومثل ثلثه فما خرج فهو المساحة. وأما الجارية والغلام:
فيوزن لبن الاثنتين فأيهما كان أخف فالجارية له. وأما الجنديان المتفقا
الاسمين فإن كان الشق في الشفة العليا قيل فلان الأعلم، وإذا كان في الشفة
السفلى قلت فلان الأفلح. وأما صاحب الشجتين فلصاحب الموضحة ثلث
الدية، ولصاحب المأمونة نصف الدية، فلما أجاب بهذه المسائل تعجبت منه
وامتحنته بأشياء كثيرة غيرها فوجدته ماهرا في جميعها حاذقا بليغا فقلت:
ألست زعمت أنك حائك؟ فقال أنا أصلحك الله حائك كلام ولست بحائك
نساجة وأنشأ يقول:
ما مر بؤس ولا نعيم * إلا ولى فيهما نصيب
فذقت حلوا وذقت مرا * كذاك عيش الفتى ضروب
نوائب الدهر أدبتني * وإنما يوعظ الأديب
قلت فما الذي بك من سوء الحال؟ قال: أنا رجل كاتب دامت عطلتي،
وكثرت عيلتي، وتواصلت محنتي، وقلت حيلتي، فخرجت اطلب تصرفا فقطع
على الطريق فصرت كما ترى فمشيت على وجهي فلما لاح لي الزلال استغثت
بك قلت فإني قد خرجت إلى إلى متصرف جليل احتاج فيه إلى جماعة مثلك،
وقد أمرت لك بخلعة حسنة تصلح لمثلك وخمسة آلاف درهم تصلح بها أمرك،
243

وتنفذ منها إلى عيالك، وتقوى نفسك بباقيها، وتصير معي إلى عملي فأوليك
أجله فقال: أحسن الله جزاك إذا تجدني بحيث أسرك ولا أقوم مقام معذر
إليك إن شاء الله، وأمرت بتقبيضه ما رسمت له فقبضه وانحدر إلى
الأهواز معي فجعلته المناظر للرجحى والمحاسب له بحضرتي، والمستخرج لما
عليه فقام بذلك أحسن قيام وعظمت حاله معي وعادت نعمته إلى أحسن
ما كانت عليه.
قال مؤلف هذا الكتاب: بلغني لعمرو بن مسعدة في زلاله هذا خلاف
حدثني به عبد الله بن الحسن العبسي وهو يذكر أن أهل أمه أقرباء لبنى
مازنة الذين كانوا أبناء البصرة، وأهل النعم بها. قال. حدثني أبي قال: سمعت
شيوخا يتحدثون أن عمرو بن مسعدة كان مصعدا من واسط إلى بغداد في
حر شديد وهو جالس في زلال، فناداه رجل يا صاحب الزلال بنعمة الله
عليك إلا نظرت إلى. قال: فكشفت سجف الزلال فإذا شيخ ضعيف حاف
حاسى، فقال له: قد ترى ما أنا فيه ولست أجد من يحملني فابتغ الاجر في
وتقدم إلى ملاحيك يطرحوني بين مجاذيفهم إلى أن أبلغ بلدا يطرحوني فيه.
قال عمرو: فرحمته وقلت حذوه فأخذوه فغشى عليه، وكاد يموت لما لحقه من
الشمس والمشي. فلما أفاق قلت له يا شيخ ما حالك، وقصتك؟ فبكى وقال:
قصتي طويلة. فسليته من بكائه وطرحت عليه قميصا ومنديلا، وأمرت له
بدراهم فاستمسك وشكرني وحمد الله جلت عظمته فقلت له: لابد أن تحدثني
بقصتك؟ فقال: أنا رجل كانت لله على نعمة، وكنت صيرفيا فابتعت جارية
بخمسمائة دينار فعشقتها عشقا عظيما فكنت لا أفارقها إلا ساعة واحدة، فإذا
خرجت إلى الدكان أخذني الجنون والهيمان حتى أعود إليها فأجلس معها بقية
يومى، فدام ذلك حتى تعطل دكاني وبطل كسبي، وأقبلت أنفق رأس مالي
حتى لم يبق منه قليل ولا كثير، وأنا مع ذلك الحال لا أطيق أن أفارقها بقدر
ما أقعد في الدكان لا تعيش، وحبلت الجارية وأقبلت أنقض داري وأبيع
أنقاضها حتى فرغت من ذلك، ولم يبق لي حيلة وضربها الطلق فقالت لي:
244

يا هذا هو ذا أموت فاحتل ما تبتاع به عسلا ودقيقا وشيرجا وإلا مت. فبكيت
وحزنت وخرجت على وجهي وجئت لأغرق في الدجلة، فذكرت حلاوة
الروح والنفس وخوف العقاب في الآخرة، ثم خرجت على وجهي إلى
النهروان، وما زلت أمشى من قرية إلى قرية حتى بلغت خراسان فصادفت
من عرفني، فتصرفت في صناعتي ورزقني الله جلت عظمته، فأثريت واتسعت
حالي وكتبت ستة وستين كتابا لأعرف خبر منزلي فلم يعد إلى الجواب فلم
أشك أن الجارية قد ماتت فقطعت المكاتبة فتراخت السنون حتى حصل معي
ما قيمته عشرون ألف دينار. فقلت: قد صارت لي نعمة فلو رجعت إلى
وطنى، فابتعت بالمال كله متاعا من خراسان وأقبلت أريد العراق من طريق
فارس والأهواز فلما حصلت بينهما خرج على القافلة اللصوص فأخذوا جميع
ما فيها ونجوت بثيابي وعدت فقيرا كما خرجت من بغداد. فدخلت الأهواز
وبقيت فيها متحيرا حتى كشفت خبري لبعض أهلها ممن لا أعرفه فأعطاني
ما تحملت به إلى واسط، ونفدت نفقتي فمشيت إلى هذا الموضع وقد كدت
أتلف فاستغثت بك، ولى منذ فارقت بغداد ثمانية وعشرون سنة. فعجبت
من محنته ورفقت به وقلت له: إذا صرنا إلى بغداد وعرفت خبر أهلك فصر
إلى فإني آمر بتصريفك فيما يصلح لمثلك مما تعيش. فشكر ودعا لي، ودخلت
بغداد ومضت على ذلك مدة نسيته فيها. فبينما أنا يوما قد ركبت أريد دار
المأمون، فإذا بالشيخ على بابى راكبا بغلا فارها بمركب محلى ثقيل وغلامين
أسودين بين يديه كأنهما مماليكه، وثياب حسنة فلما رأيته رحبت به وقلت
له ما الخبر؟ فقال: طويل. فقلت عد إلى فلما كان من الغد جاءني فقلت له.
عرفني خبرك، فقد سررت بحسن ظاهر حالك، فقال: إني لما صعدت من
زلالك قصدت داري فوجدت حائطها الذي يلي الطريق كما خلفت غير أن باب
الدهليز مجلو نظيف وعليه دكتان وبغال مع شاكرية. فقلت: إنا لله ماتت
جاريتي ويملك الدار بعض الجيران فباعها لرجل من أصحاب السلطان فقدمت
على رجل بقال كنت أعرفه في المحلة فإذا في دكانه غلام حدث فقلت من تكون
من فلان البقال؟ فقال: ابنه. فقلت: ومتى مات أبوك؟ قال منذ عشرين
245

سنة. قلت هذه الدار لمن؟ قال لابن داية أمير المؤمنين وهو الآن صاحب
جهبذة وصاحب بيت ماله. فقلت بمن يعرف؟ قال بابن فلان الصيرفي
فسماني. فقلت: هذه الدار من باعها عليه قال هذه دار أبيه. فقلت وهل
يعيش أبوه؟ قال: لا. قلت أفتعرف عن حديثهم شيئا؟ قال: نعم. حدثت
أن هذا الرجل كان صيرفيا جليلا وافتقر وأن أم هذا الفتى ضربها الطلق فخرج
أبوه يطلب لها شيئا ففقد وهلك. فقال أبى: فجاءني رسول أم هذا الغلام
تستغيث بي فقمت لها بحوائج الولادة. ودفعت لها عشرة دراهم فما أنفقتها حتى
قيل قد ولد لأمير المؤمنين الرشيد مولود وقد عرض عليه جميع المراضع
فلم يقبل ثديهن، وقد طلب له الحراير فجاؤه بغير واحدة فما أخذ ثدي واحدة
منهن وهم في طلب مرضع فأرشدت الذي طلب الداية إلى أم هذا، فحملت
إلى دار الرشيد وحين وضع فم الصبي على ثديها قبله فأرضعته. وكان الصبي
هو المأمون وصارت عندهم في حالة جليلة، ووصل إليها منهم خير عظيم. ثم
خرج المأمون إلى خراسان فخرجت هذه المرأة وابنها هذا معهم ولم يعرف
أخبارهم إلا منذ قريب لما عاد المأمون وعادت حاشيته، وقد رأينا هذا قد جاء
رجلا وأنا لم أكن رأيته قط. وقد كان أبى قد مات فقالوا: هذا ابن فلان
الصيرفي وابن مرضعة الخليفة فبنى هذه الدار وسواها. فقلت له: أفعندك
علم من أمه أهي حية أم ميتة؟ فقال: هي حية تمضى إلى دار الخليفة أياما
وتكون عند ابنها أياما وهي الآن هنا. فحمدت الله على هذه الحالة وجئت
حتى دخلت الدار مع الناس فرأيت الصحن في نهاية العمارة والحسن، وفيه
مجالس كثيرة مفروشة بفرش ظاهرة، وفى صدره رجل شاب بين يديه كتاب
وجهابذة وحساب يستوفيه عليهم، وفى ضفاف الدار ومجالسها جهابذة بين
أيديهم الأموال والتخوت والشواهين، يقبضون ويقبضون، وبصرت بالفتى
فرأيت شبهي فيه. فعلمت أنه ابني فجلست في غمار الناس إلى أن لم يبق في
المجلس غيري فأقبل إلى فقال: يا شيخ هل من حاجة تقولها؟ قلت: نعم،
ولكنها لا يجوز أن يسمعها غيرك. ثم أومأ إلى غلمان كانوا قياما حوله فانصرفوا
فقال: قل أعزك الله. قلت أنا أبوك. فلما سمع ذلك تغير وجهه ولم يكلمني
246

بحرف ووثب مسرعا وتركني في مكاني فلم أشعر إلا بخادم قد جاءني وقال:
قم يا سيدي. فقمت معه حتى بلغت ستارة منصوبة في دار لطيفة وكرسي
بين يديه والفتى خارج الستارة على كرسي آخر فقال أجلس أيها الشيخ.
فجلست على الكرسي ودخل الخادم فإذا بحركة خلف الستارة فقلت: أظنك
تريد أن تختبر صدق قولي من جهة فلانة؟ وذكرت اسم جاريتي أمه. فإذا
أنا بالستارة قد هتكت والجارية قد خرجت إلى وجعلت تقبلني وتبكي
وتقول: مولاي والله. قال فرأيت الفتى قد بهت وتحير فقلت للجارية ويحك
ما خبرك؟ فقالت: دع خبري ففي مشاهدتك لما تفضل الله جلت عظمته على
كفاية عن أن أخبرك. فقل ما كان خبرك أنت؟ قال فقصصت عليها خبري منذ
خروجي من عندها إلى يومى ذلك وقصيت ما كان قصه على ابن البقال
وشرحت ذلك كله بحضرة الفتى ومستمع منه. فلما استوفى الحديث خرج وتركني
في مكاني فإذا بخادم قال: يا مولاي يسألك ابنك أن تخرج إليه. قال فخرجت
فقال لي: معذرة إلى الله واليك يا أبت من تقصيري في حقك، فإنه جاء أمر
لم يظن مثله يكون، فالآن هذه النعمة لك، وأنا ولدك وأمير المؤمنين يجتهد
بي منذ دهر أن أترك الجهبذة وأتوفر على خدمته فما فعلت تمسكا بصنعتي،
والآن فإني أسأله أن يرد عملي إليك وأخدمه أنا غيرها عاجلا وأصلح أمرك.
فأخذت إلى الحمام وتطيبت وجاؤني بخلعة لبستها، وخرجت إلى حجرة والدته
فجلست فيها ثم إنه أدخلني على أمير المؤمنين وحدثه حديثي ثم إنه أمر لي
بخلع وهي هذه ورد إلى العمل الذي كان لابني وأجرى لي في كل شهر من
الرزق. كذا، وكذا. وقلد ابني أعمالا هي أجل من عمله. وأضعف لي
أرزاقه فجئت لأشكرك على ما عاملتني به من الجميل، وأعرفك بتجدد
النعمة. قال عمرو: فلما أسماني الفتى عرفته وعلمت أنه ابن داية أمير
المؤمنين كما قال:
وحدثني محمد بن عبد الله بن الحسين السقطي، قال: حدثني محمد بن زكريا
الأنصاري، قال: غلست يوما إلى الربد أريد مسجد الزيادتين بشارع المربد
247

لوعد كان على فيه وكانت الريح قوية وبين يدي بأذرع رجل يمشى، فلما
بلغنا دار رياح قلعت الرياح ستر آجر وجصا على رأس حائط فرمت بها عليه
فلم أشكك في اتلافه، وارتفعت غبرة عظيمة أفزعتني فرجعت، فلما سكنت
عدت أسلك الطريق، ولم أر الرجل فعجبت وتممت طريقي حتى دخلت
مسجد الزيادتين فرأيت أهل المسجد مجتمعين فحدثتهم بما رأيت في طريقي
متوجعا للرجل وشاكرا لله تعالى سلامتي. فقال رجل منهم يا أبا الخطاب:
أنا الذي وقعت على السترة وذاك أنى قصدت هذا المسجد لما وعدت، فلما
سقطت السترة ولم أحس لها بضرر لحقني ووجدت نفسي سالما قائما فحمدت
الله تعالى، وتحيرت ووقفت حتى انجلت الغبرة، فتأملت الصورة فإذا في
السترة باب كبير وقد اتفق أن وقع رأسي وسائر جسدي في موضع الباب
فخرجت منه وسقطت باقي السترة حوالي فلم يضرني شئ فتخطيت على المنهدم
وسبقتك إلى هاهنا * وحدثني: أن الفتح بن خاقان اجتاز على بعض القناطر
وهو متصيد وقد انقطع عن عسكره وانخسفت القنطرة من تحته فغرق فرآه
اكار وهو لا يعرفه فطرح نفسه عليه وخلصه، وقد كان أن يتلف ولحقه
أصحابه فأمر للاكار بمال عظيم وتصدق بمثله فدخل عليه البحتري فأنشده
قصيدته التي أولها:
* متى لاح برق أو بدا طلل قفر *
إلى أن قال:
لقد كان يوم النهروان عظيمة * أطلت ونعما جرى بهما الدهر
أجزت عليه عابرا فتشاعبت * أواديه لما أن طغى فوقه البحر
وزالت أواخر الجسر وانهدمت به * قواعده الظلماء وما ظلم الجسر
فما كان ذلك الهول إلا عناية * بدا طالعا من تحت ظلمانها البدر
فان ننس نعمى الله فيك فحظنا * أضعنا وأن نشكر فقد وجب الشكر
فقال له الفتح: الناس يهنونا بنثر وأنت بنظم وأجزل صلته.
وحدثني أبي بكر محمد بن عبد الله الرازي المعروف بابن حمدون، عن
الحسن بن محمد الأنباري الكاتب. قال: كان لي أيام مقامي بارجان رجل
248

تاجر يعرف بجعفر بن محمد فكنت آنس به يحدثني قال: كنت أحج دائما
وأنزل بالكوفة على رجل حسيني فقير مستور فألطفه وافتقده فتأخرت عن
الحج سنة ثم عدت فوجدته مثريا فسألته عن سبب غنائه فقال: كان قد
اجتمع معي دريهمات على وجه الدهر ففكرت عام أول في أن أتزوج فإني
كنت عزبا كما علمت، ثم قلت على فرض الحج قد تعين على فرأيت أن أقدم
أداء الفروض وأتوكل ان الله تعالى إن سهل لي بعد ذلك ما أتزوج به.
فلما حججت طفت طواف الدخول فأودعت رحلي وما كان معي بيتا من
خان وقفلت بابه وخرجت إلى منا، فلما عدت وجدت الباب مفتوحا فارغا
فتحيرت ونزلت بي شدة ما رأيت مثلها قط. فقلت هذا أمر عظيم لثوابي
فما وجه الغم، واستسلمت لأمر الله تعالى وجلست في البيت لا حيلة لي ولا
تطيب نفسي بالمسألة فاتصل مقامي ثلاثة أيام ما طعمت فيها شيئا فلما كان
في اليوم الرابع بدا بي الضعف سحرا، وخفت على نفسي وذكرت قول
جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء زمزم لما شرب له. فخرجت حتى
شربت منها ورجعت لأريد الباب باب إبراهيم لأستريح فيه، وكان في الطريق
بقية من سدفة فعثرت في الطريق بشئ أوجع أصبعي فانكببت عليه لأمسكه
فوقعت يدي على هميان ادم أحمد كبير فأخذته فلما حصل في يدي ندمت
وعلمت أن اللقطة حرام، وقلت إن تركته الآن كنت المضيع له، وقد لزمني
أن أعرفه ولعل صاحبه إذا رجع إليه أن يهب لي شيئا أقتاته حلالا. فجئت
إلى بيتي وحللته في المصباح فإذا هي دنانير صفر تزيد على ألف دينار فشددته
ورجعت إلى المسجد وجلست على الحجر وناديت من ضاع منه شئ فليأتني
بعلامته ويأخذه. فانقضى يومى أنادى ما جاءني أحد، وأنا على حالي في الجوع
وبت في بيتي ليلتي كذلك، وغدوت إلى الصفا والمروة فعرفته عندهما
يومى حتى كان ينقضى فلم يأتني أحد فضعفت ضعفا شديدا فخشيت على نفسي
فرجعت متحاملا مقبلا حتى جلست على باب إبراهيم فقلت قبل انصراف
الناس قد ضعفت عن الصياح، وأنا ماض اجلس على باب إبراهيم فمن
رأيتموه يطلب شيئا قد ضاع منه فارشدوه إلى، فلما قربت المغرب وأنا في
249

الموضع إذا بخراساني مجتاز ينشد ضالة فصحت به وقلت له صف ما ضاع
منك؟ فأعطاني صفة الهميان بعينه وذكر وزن الدنانير وعدتها فقلت: إن
أرشدتك إلى من يعطيك إياه تعطيني مائة دينار؟ قال: لا. قلت فخمسين.
قال: لا. فلم أزل أنازل إلى أن بلغت إلى دينار واحد فقال لا إن أراد من هو
عنده إيمانا واحتسابا وإلا فهو الضر وولى لينصرف، فورد على أعظم وارد
وهممت بالسكوت، ثم خفت الله تعالى وأشفقت أن يفوتني الخرساني
فصحت به ارجع. فرجع فأخرجت الهميان فدفعته إليه فمضى فجلست ومالي
قوة على المشي إلى بيتي فما غاب عنى حينا حتى عاد فقال لي من أي البلاد أنت؟
ومن أي الناس أنت؟ فاغتظت منه غيظا عظيما فقلت وما عليك هل بقي لك
عندي شئ؟ قال: لا. ولكني أسألك بالله العظيم من أي الناس والبلاد أنت
تعرفني ولا تضجر فقلت: من أهل الكوفة. فقال: ومن أيهم أنت؟
واختصر. قلت: رجل من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام
فقال ما حالك ومالك؟ فقلت ما أملك من الدنيا شيئا إلا ما تراه على وقصصت
عليه قصتي وما كنت طمعت فيه من صلاحها بما تعطينيه من الهميان،
وما انتهيت إليه من الضعف وشدة الجوع. فقال أريد أن تعرفني صحة نسبك
وحالك حتى أقوم بأمرك كله. قلت: ما أقدر على المشي لشدة الضعف
ولكن اعرض الطواف وصح بالكوفيين وقل رجل من بلدكم علوي بباب
إبراهيم يريد الجيئة بينكم من ينشط لحال هو فيها فمن جاء معك فهاته فغاب
غير بعيد وجاء ومعه من الكوفيين جماعة اتفق أنهم كلهم يعرفون باطن
حالي فقالوا: ما تريد أيها الشريف؟ فقلت هذا رجل يريد أن يعرف حالي
ونسبي لشئ بينه وبيني فعرفوه ما تعرفونه من صحة نسبي فوصفوا له طريقتي
وعزمي فمضى وجاء وأخرج الهميان بعينه كما كنت سلمته له فقال: يا هذا خذ
هذا بأسره بارك الله لك فيه: فقلت: ما يكفيك ما عاملتني به حتى تستهزئ
بي، وأنا في حال الموت: فقال: معاذ الله هو والله لك. فقلت فلم بخلت على
بدينار منه ثم وهبت الجميع لي. فقال: ليس الهميان لي فما كان لي أن أعطيك
منه شيئا قل أم كثر، وإنما أعطانيه رجل من بلدي وسألني أن أطلب
250

بالعراق أو بالحجاز رجلا علويا حسينيا فقيرا مستورا فإذا علمت هذا من
حاله أغنيته بأن أسلم إليه هذا الهميان كله ليصير أهلا لنعمة تنعقد له فلم تجتمع
لي هذه الصفة في أحد، فلما اجتمعت فيك لما شاهدته من الأمانة والفقر
والعفة والصبر، وصح عندي نسبك أعطيتك إياه فقلت: إن كنت تحب
استكمال الاجر فخذ منه دينارا وابتع لي دراهم واشتر لي منها ما آكله وصر به
الساعة إلى هاهنا. فقال لي إليك حاجة فقلت: قل. فقال: أنا رجل موسر
والذي أعطيتك ليس لي فيه شئ كما عرفتك، وأنا أسألك أن تقوم معي إلى
رحلي فتكون في ضيافتي إلى الكوفة وتتوفر دنانيرك عليك. فقلت ما بي
حركة فاحتل في حملي كيف شئت فغاب وجاء بمركوب فأركبنيه إلى رحله
وأطعمني في الحال ما كان عنده وقطع لي من الغد ثيابا وكان يخدمني بنفسه،
وعادلني في عماريته إلى الكوفة فلما بلغنا أعطاني من عنده دنانير أخرى
وقال لي صفها على ما عندك قال وفارقته وأنا أدعو إليه وأشكره ولم أمس
الهميان بل أنفق من الدنانير التي أعطانيها الرجل باقتصاد إلى أن اتفقت لي
ضيعة رخيصة فابتعتها بما في الهميان فأغلت وأثمرت وأنا بعافية.
251

الباب الثامن
من أشفى على أن يقتل * فكان الخلاص إليه أعجل
وجدت في كتاب أبى الفرج المخزومي الحنطي: أن إبراهيم بن المهدى لما
طال استتاره عن المأمون ضاق صدره فخرج ليلة من موضع كان مستخفيا
فيه يريد موضعا آخر في زي امرأة، وكان عطرا فعرض له حارس فلما شم
رائحة الطيب ارتاب به فكلمه، فلما علم أنه رجل ضبطته فقال خذ خاتمي
فثمنه ثلاثون ألف دينار وخلني فأبى وتعلق به فحمله إلى صاحب الشرطة
فأتى به المأمون فلما دخل عليه بالحالة التي هو عليها جلس المأمون مجلسا عاما
وقام خطيب بحضرته يخطب بفضله وما رزقه الله جلت عظمته من الظفر
بإبراهيم، ولما دخل إبراهيم بين يديه سلم عليه بالخلافة فرد عليه السلام.
فقال إبراهيم، يا أمير المؤمنين إن ولى الثار محكم في القصاص، والعفو
أقرب للتقوى، ومن تناولته يد الاقدار بما مدله من أسباب الرجاء ما يأمن
معه عادية الدهر وقد جعل الله عفوك فوق كل ذي عفو كما جعل كل ذي ذنب
دوني، فإن تؤاخذ فبحقك وإن تعفو فبفضلك ثم قال:
ذنبي إليك عظيم * وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أولا * فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالى * من الكرام فكنه
وقال
أتيت ذنبا عظيما * وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمن * وإن جزيت فعدل
فرق له المأمون وأقبل على أخيه أبي إسحق وابنه العباس والقواعد وقال
ما ترون في أمره؟ فقال بعضهم يضرب عنقه. وبعضهم قال: يقصص لحمه إلى
أن يتلف. وبعضهم قال تقطع أطرافه ويترك إلى أن يموت. فكل أشار بقتله
وإنما اختلفوا في الصفة فقال المأمون لأحمد بن أبي خالد ما تقول أنت يا أحمد؟
252

فقال يا أمير المؤمنين: إن قتلته وجدنا مثلك قد قتل مثله كثيرا، وإن عفوت
لم نجد مثلك عفى عن مثله فأيما أحب إليك أن تفعل فعلا تجد لك فيه شريك
أو تنفرد بالفضل؟! فأطرق المأمون مليا ثم رفع رأسه. فقال: أعد ما قلت
يا أحمد؟ فأعاد فقال بل منفرد بالفضل ولا رأى لنا في الشركة فكشف إبراهيم
المقنعة عن رأسه وكبر تكبيرة عالية وقال قد عفى والله أمير المؤمنين بصوت
كاد الإيوان أن يتزعزع، وكان إبراهيم طويلا ادم جعد الشعر جهير الصوت
فقال له المأمون: لا بأس عليك يا عم وأمر بحبسه في دار أحمد بن أبي خالد
فلما كان بعد شهر أحضره المأمون فقال اعتذر من ذنبك. فقال يا أمير المؤمنين
ذنبي أجل من أن أتفوه فيه بعذر، وعفو أمير المؤمنين أعظم من أن أنطق
بشكر ولكني أقول:
تفديك نفسي أن تضيق بصالح * والعفو منك بفضل خلق واسع
إن الذي خلق المحارم حازها * في صلب آدم للامام السابع
ملئت قلوب الناس منك مهابة * وتظل تكلؤهم بقلب خاشع
فعفوت عمن لم يكن عن مثله * عفو ولم أشفع إليك بشافع
ورحمت أطفالا كأفراخ القطا * وحنين والدة يقلب جازع
فقال المأمون: لا تثريب عليك يا عماه قد عفوت عنك فاستأنف الطاعة
ورد ماله وضياعه فقال إبراهيم يشكره
رددت مالي ولم تبخل على به * وقبل ردك مالي قد حقنت دمى
أمنت منك وقد خولتني نعما * نعم الحياتان من موت ومن عدمي
فلو بذلت دمى أبغى رضاك به * والمال حتى اسل النعل عن قدمي
ما كان ذاك سوى عارية رجعت * إليك لو لم تعرها كنت لم تلم
وقام علمك بي فاحتج عندك لي * مقام شاهد عدل غير متهم
فقال المأمون: إن من الكلام كلاما كالدر وهذا منه. وأمر له بخلع ومال
قيل إنه ألف ألف درهم. وقال له إن أبا إسحاق وولدي أشارا بقتلك. فقال
إبراهيم فما قلت لهما يا أمير المؤمنين؟ قال قلت لهما إن قرابته قوية ورحمه ماسة
وقد ابتدأنا بأمر فينبغي أن نستتمه فان نكث فالله مغير ما به. قال إبراهيم:
253

لقد نصحنا لك ولكن أبيت إلا ما أنت أهله ودفعت ما خفت بما رجوت،
فقال المأمون: قد مات حقدي بحيات عذرك، وقد عفوت عنك وأعظم من
عفوي عنك أنى لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين * ووجدت في بعض الكتب
أنه لما حصل إبراهيم بن المهدى في قبضة المأمون لم يشكك هو وغيره أنه مقتول
فأطال حبسه في مطمورة بأسوأ حال وأقبحها. قال إبراهيم: فآيست من نفسي
ووطنتها على القتل وتعزيت عن الحياة حتى صرت أتمنى القتل للراحة من العذاب
وما أؤمله في الآخرة من حصول الثواب فبينما أنا كذلك إذ دخل على أحمد بن أبي
خالد مبادرا فقال: أعهد فقد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك. فقلت أعطني
دواتا وقرطاسا فكتبت وصية ذكرت فيها كلما احتجت إليه وأسندتها إلى
المأمون ونهضت فتطوعت ركعات ومضى أحمد وفرغت من الصلاة وجلست
أتوقع القتل فعاد إلى أحمد بعد ساعتين وقال أمير المؤمنين يقرئك السلام
ويقول أنا أحمد الله جلت عظمته الذي وفقني لصلة رحمك والصلح وقد أمنك
ورد عليك نعمك وجميع ضياعك وملكك فانصرف إلى دارك. قال: فبدأت
أدعى للمأمون فغلبني البكاء والانتحاب وهو يطالبني بالجواب وأنا غير متمكن
منه. فقال لي أحمد: لقد رأيت منك عجبا أخبرك انى أمرت بضرب رقبتك فلم
تجزع، ولم تبك ثم أخبرتك بتفضل أمير المؤمنين عليك وصفحه عنك فلم
تتمالك من البكاء؟ فقال: اما السكوت عن الخبر الأول فلأني لم أتوهم منذ ظفر بي
ان أسلم من القتل، فلما ورد على ما لم أشك فيه لم اجزع ولم أبك واما بكائي عند الخبر
الثاني فوالله شأنه ما هو لسرور بالحياة، ولا لرجوع النعمة ولا بكائي إلا لما كان منى
في قطيعة رحم من بعد استحقاقي منه للقتل يخولني مثل هذا الصلح الذي لم يسمع به
في جاهلية ولا إسلام. فقد استحق أمير المؤمنين الثواب من الله تعالى في صلة رحمه
وإظهاره إحسانه عند إساءتي وحلمه عند جهلي، وفضله عند نقضي وجوابي هو
ما شهدت وسمعت. فرجع إلى المأمون وأخبره ثم عاد إلى بالمال والخلع ومركوب
فانصرفت به إلى داري ونعمتي * وقال على ابن هشام بن قبراط الكاتب ببغداد بإسناد
ذكره يحدث عن أحمد بن يوسف الكاتب قال كنت اشرب مع المأمون وأنادمه وانا
أتقلب له في ديوان المشرق وديوان الرسائل قبل وزارتي له وكان كثيرا ما أنادمه على
254

الانفراد وربما يجمع بيني وبين البريدي، فلما رضى عن إبراهيم بن المهدي
ونادمه صار لا يكاد يشرب مع غيره وغيري ويقتصر على استماع الغناء من وراء
الستاير وربما حضر إسحاق بن إبراهيم الموصلي فنحن ذات يوم على شرب ومعنا
إسحاق إذ غنى إبراهيم بن المهدى فقال:
صونوا جيادكم واجلوا سلاحكم * وشمروا انها أيام من غلبا
فاستعاده المأمون مرارا وبان لي في وجهه الغيظ والغضب والهم وزوال
الطرب ولم يفطن إبراهيم وترك المأمون القدح الذي كان في يده ونهض فظنناه
يريد الوضوء ثم عاد فما شعرنا إلا وقد استدعانا إلى مجلس آخر فإذا هو جالس
على سرير الخلافة بقلنسوة وثياب الهيبة وبين يديه إسحاق بن إبراهيم المصعبى
وجلة القواد فاستدعى إبراهيم بزيه فحضر بأخس صورة وأقبحها وعليه ثياب
المنادمة يفضحه بذلك. فلما وقف بين يديه قال: يا إبراهيم ما حملك على الخروج
على والخطبة لنفسك بالخلافة؟ قال أحمد بن يوسف وقد كنت لما أبطأ
المأمون عن مجلس الشرب عرفت الصورة، فلما استدعاني جئت وقد لبست
ثياب العمل ومحيت ثياب المنادمة، فلما سئل إبراهيم ذلك بمثل ذلك المجلس
علمت أن الصوت قد ذكره، فأقبل عليه إبراهيم بوجه ضيق وقلب ثابت
فقال يا أمير المؤمنين: لست أخلو من أن أكون عندك عاقلا أو جاهلا،
فان كنت جاهلا فقد سقط عنى اللوم من الله تعالى ثم منك. وإن كنت
عاقلا فيحسن أن تعلم أنى قد علمت أن محمدا أخاك مع أمواله وذخائره
وأموال والدته وكثرة ضياعها وصنائعها والأعمال التي كانت في يديه وارتفاعها
ومحبة بني هاشم له لم يثبت لك وهو خليفة وأنت أمير من أمرائه، فكيف
أثبت أنا لك وأنا في قوم أكثر رزق الرجل ثلاثون درهما في الشهر وقد
غلبني على بغداد بن أبي خالد العياد وأصحابه يقطعون ويضربون ويحبسون
ويطلقون، ووالله جل شأنه، وحق رسول الله وحق جدي العباس ما دخلت
فيما دخلت فيه إلا لأبقى هذا الامر عليك وعلى أهل بيتك لما رأيت الحسن
ابن سهل قد حمله البطر والرفض على أن يخرج الخلافة عنك، فأردت ضبط
الامر إلى أن أتقدم فتسلمته. قال: فرأيت المأمون وقد اصفر وجهه فقال
255

على ببناء الخادم. فاحضر فقال رقعة سلمتها إليك بمرو قبل رحيلي عنها
وأمرتك بحفظها فهاتها فمضى وجاء بسفط ففتحه وأخرج منه الرقعة فإذا
مكتوب بخط المأمون لئن أظفرني الله عز وجل بإبراهيم بن المهدي لأسألنه
بحضرة الأولياء والخاصة من أهل بيتي وأجنادي عن السبب الذي دعاه إلى
الخروج على فان ذكر أنه إنما أراد بذلك حفظ الامر على أهل بيتي لما جرى
في أمر علي بن موسى لأخلين سبيله ولأحسن إليه، ولئن ذكر غير ذلك من
العذر كائنا ما كان لأضربن عنقه. قال أحمد بن يوسف: ولم يكن بحضرته
كاتب غيري فدفعها إلى وقال يا أحمد ادفعها إليه. ثم قال يا عم خذ براءتك
من أحمد وعند إلى مجلسك الذي خلفتك فيه. قال فسلمنا الرقعة إليه وعدنا
إلى مجلسنا وموضعنا فطرح إبراهيم نفسه مغشيا عليه فما شعرنا إلا بالمأمون
قد رجع بثياب بذلته فقمنا وجلس مجلسنا وقال: ارجعوا إلى ما كنا فيه
وأتممنا يومنا ذلك.
وجدت في بعض الكتب ان كسرى أبرويز ركب يوما فرسه الشبندير
فتلكأ عليه فجذب عنانه فانقطع فأحضر صاحب السروج وقال: يكون
عنان مثلي ضعيفا ينقطع اضربوا عنقه. فقال أيها الملك: اسمع وانصف.
قال: قل. قال: ما بقاء جلدة تنازعها ملكان ملك الناس وملك الدواب، قال:
زه. زه أطلقوا عنه وأعطوه اثنى عشر ألف درهم وعفا عنه * وذكر محمد
ابن عبدوس في كتابه قال. لما صار الرشيد إلى طوس واشتدت علته اتصل
خبره بالأمين فوجد ببكر بن المعتمر ودفع إليه كتابا إلى الربيع بن الفضل
وإسماعيل بن صبيح وغيرهما يأمرهم بالقفول إلى بغداد إن حدثت الحادثة
بالرشيد والاحتياط على ما في الخزائن وحمله، وقد كان الرشيد جدد الشهادة
للمأمون بجميع ما في عسكره من مال وأثاث وخزن وكراع وغير ذلك فلما
ورد بكر بن المعتمر أوصل كتبا ظاهرة كانت معه بعيادة الرشيد، وكانت
الكتب الباطنة مخفاة فاتصل خبرها بالرشيد فأحضره وطالبه بالكتب الباطنة
فجحدها. قال: فذكر عبيد الله بن عبد الله بن طاهر. قال: حدثني أبي قال:
256

كنت مع الرشيد بطوس لما ثقلت علته وقد ورد بكر بن المعتمر والمأمون
حينئذ بمرو، وقد ظفر الرشيد بأخي رافع بن الليث. فأحضر ذلك اليوم
ومعه قرابة له فخلع الرشيد على بكر وصرفه إلى منزله. ثم أمر بإحضاره
ومطالبته بالكتب فجحدها فأمر بحبسه ثم جلس الرشيد مجلسا عاما في مضرب
خز أسود، استدارته أربعمائة زراع، وقبابه مغشاة بخز أسود وهو جالس في
فازة خز أسود في وسط المضرب، والعمد كلها سود وقد جعل مكان الحديد
فضة، والأوتاد والحبال كلها سود وعليه جبة خز سوداء وعليه فتك قد
استشعره لما هو فيه من شدة البرد والعلة، وفوقها دراعة خز أسود مبطنة
بفتك وقلنسوة طويلة وعمامة خز سوداء وهو عليل لما به وخلف الرشيد
خادم يمسكه لئلا يميل ببدنه، والفضل بن الربيع جالس بين يديه فقال
للفضل: مر بكرا باحضار ما معه من الكتب السرية فأنكرها وقال: ما كان
معي إلا الكتب التي أوصلتها. فقال للفضل: توعده وأعلمه ان لم يفعل قتلته
فأقام ينكر وقال: ما كان معي إلا الكتب التي أوصلتها. فقال الرشيد بصوت:
قنبوه. فنحى بكر وجئ بالقنب وقنب من قرنه إلى قدمه. قال بكر:
فأيقنت بالقتل ويئست من نفسي وعملت على الاقرار فأنا على ذلك حتى أحضر
هارون أخي رافع وقرابته الذين كانوا معه وقال أيتوهم رافع أنه يغلبني والله
لو كان معه عدد نجوم السماء لألتقطهم واحدا بعد واحد حتى أقتلهم عن
آخرهم، فقال الرجل: الله الله يا أمير المؤمنين فان الله تعالى يعلم، وأهل خراسان
أنى برئ من أخي منذ عشرين سنة ملازم مسجدي فاتق الله تعالى في وفى
هذا الرجل. فقال له قطع الله لسانك. فسكت فقال: آخى الثالث أنت والله
منذ كذا وكذا تدعو الله تعالى بالشهادة فلما رزقنها على يدي أشر خلقه أخذت
في الاعتذار فاغتاظ الرشيد وقال: على بجزارين فقال له قرابتي يا هارون.
إفعل ما شئت. فانا نرجو أن نكون نحن وأنت بين يدي الله تعالى في أقرب مدة
فتعلم كيف يكون حالك. فصاح وأمر الجزارين بهما فقطعا عضوا عضوا
فوالله ما فرغ منهما حتى توفى الرشيد. فقال بكر وأنا أتوقع القتل بعدهما
257

حتى أتاني غلام لأبي العتاهية قد بعث به مولاه، وكتب في راحته شيئا
أرانيه فإذا هو:
هي الأيام والعبر * وأمر الله ينتظر
أتيأس أن ترى فرجا * فأين الله والقدر
فوثقت بالله، وقويت نفسي. ثم سمعت واعية لا أفهم معناها فإذا
الفضل بن الربيع قد أقبل إلى فقال: حلوا أبا حامد ليس هذا يكفيني فحللت
ودعا لي بخلع فجعلت على ثم قال: أعظم الله أجرك في أمير المؤمنين وأخذ
بيدي، وأدخلني بيتا فإذا الرشيد مسجى فيه، وكشفت عن وجهه فلما رأيته
ميتا سكنت. فقال: هيه هات الكتب الباطنة التي معك، وكنت اتخذت
صندوقا للمطبخ قد ثقبت قوائمه وجعلت الكتب فيها، وجعلت الجلد
فوقها، فشق الجلد وكسرت القوائم وسلمت الكتب إلى أصحابها، وأخذت
الأجوبة وانصرفت * قال مؤلف هذا الكتاب: وقد أتى أبو الحسين القاضي في
كتابه بهذين البيتين لأبي العتاهية، ولم يذكر القصة وزاد بين البيت الأول
والبيت الثاني بيتا، وهو هذا:
فلا تجزع وإن عظم البلاء * ومسك الضر
حدثني إبراهيم بن علي النصيبي المتكلم قال: جماعة من أهل نصيبين: إنه كان
بها أخوين ورثا عن أبيهما مالا جليلا، فاقتسماه فأسرع أحدهما في انفاق
حصته فلم يبق له شئ حيت احتاج إلى ما في أيدي الناس، وثمر الآخر حصته
فزادت وعرض له سفر في تجارته. فجاءه أخوه الفقير فقال يا أخي: إنك
تحتاج إلى أن تستأجر غلاما في سفرك، وأنا أحتاج أن أخدم الناس فاجعلني
بدل غلام تستأجره، فيكون ذلك أصون لي ولك. فلم يشك الأخ أن أخاه
قد تأدب، وأن هذا أول إقباله، وآثر أن يصون أخاه، ورق عليه فأخذه
معه. فكان للأخ الغنى حمار يركبه، وقد استأجر بغالا لأحماله فركب أخوه
أحدها والمكاري أحدها، وساروا فلما استتم بهم السفر حصلوا في جبل في
الطريق فيه عين ماء فقال الأخ الفقير للأخ الغنى لو نزلت هاهنا وأرحنا
دوابنا وسقيناها من هذا الماء وأكلنا ثم ركبنا. فقال: افعل فنزل التاجر
258

على باب الكهف الذي في الجبل وأدخل متاعه إليه وبسط السفرة ليأكل،
وأخذ أخوه الفقير والمكاري الدواب ومضيا ليسقياها وانتظر التاجر أخاه
والمكاري فاحتبسا طويلا. ثم جاء أخوه وحده وشد الدواب فقال له:
أين المكارى؟ فقال له: قد أقام في الجبل فقال له: تعالى نأكل. فتركه
ومضى، ثم عاد يسعى إليه وبيده أحجار يرميه بها ويقول لأخوه: استكتف
يا ابن الفاعلة. فقال: ويحك مالك ما تريد؟ فقال: أريد قتلك يا ابن الفاعلة
أخذت مال أبى وعملته تجارة لك، وجعلتني غلامك قال ورفسه فألقاه على
ظهره ثم أوثقه كتافا، وأثخنه ضربا بالحجارة وشجا وصاح الرجل فلم يجبه
أحد فبرك أخوه الفقير على صدره، وأخرج من وسطه سكينا عظيما في قراب
لها ليذبحه فرام استخراجها من القراب فتعسرت عليه فقام عن صدر أخيه
وعلى يده اليسرى السكين في قرابها، وجذبها بيده اليمين وقد صار القراب
من خلفه فخرجت السكين بحمية الجبدة فذبحته فوقع يخور في دمه وينزف
إلى أن مات، وجفت يده على السكين بعد موته، وهي فيها وحصل على تلك
الصورة وأخوه الغنى مشدود لا يقدر على الحركة والسفرة منشورة والطعام
عليها، والدواب مشدودة. فأقام على تلك الصورة بقية يومه وليلته وقطعة
من غد فاجتازت قافلة على المحجة، وكان بينها وبين الكهف بعد فأحست
البغال بالدواب المجتازة، ونهق الحمار وجذب الرسن وجذبت البغال
أرسانها فقلعت وعادت تطلب الدواب القادمة فلما رأى أهل القافلة دوابا
غائرة ظنوا أنها لقوم قد أسرهم اللصوص، وكانوا في منعة فتسارعوا إلى
البغال فلما قصدوها رجعت تطلب موضعها وتبعها قوم من أهل القافلة فانتهوا
إلى التاجر، وشاهدوه مكتوفا والسفرة منشورة والأخ مذبوحا وبيده السكين
فشاهدوا عجبا واستنطقوا الرجل فأومأ إليهم أنه لا قدرة لي على الكلام فحلوا
كتافه وسقوه ماء، وأقاموا عنده إلى أن أفاق، وقدر على الكلام وأخبرهم
الخبر فطلبوا المكارى فوجدوه غريقا في الماء قد أغرقه الأخ الفقير فحملوا
ثقل التاجر على بغاله، وأركبوه حماره وسيروه معهم إلى المنزل * وحدثني
إبراهيم ابن علي النصيبي قال: حدثني إبراهيم بن علي الصفار شيخ كان جارا
259

لنا بنصيبين قال: خرجت من نصيبين بسيف نفيس كنت ورثته عن أبي
أقصد به عباس بن عمرو السلمى أمير ديار ربيعة، وهو برأس العين لأهديه
له، واستجديه بذلك، فصحبني في الطريق شيخ من شيوخ الاعراب
فسألني عن أمري، فآنست به فحدثته الحديث، وكنا قد قربنا من العين
فدخلناها وافترقنا، وكان يجيئني ويراعيني، ويظهر لي أنه مسلم على وأنه
يبرني بالقصد ويسألني عن حالي، فأخبرته أن الأمير قبل هديتي وأجاز لي
بألف درهم وثياب، وإني أريد الخروج يوم كذا وكذا. فلما كان ذلك
اليوم خرجت عن البلد راكبا حمارا، فلما أصحرت إذا بالشيخ على دويبة
ضعيفة متقلدا سيفا، فحين رأيته استربت منه وأنكرته، ورأيت الشر في
عينيه، فقلت: ما تصنع هاهنا؟ فقال: قضيت حوائجي وأريد الرجوع،
وصحبتك عندي آثر من صحبة غيرك. فقلت: على اسم الله تعالى، وما زلت
متحذرا منه وهو مجتهد أن ادنو منه فلا أفعل، وكلما دنى من بعدت عنه إلى
أن سرنا شيئا يسيرا، وليس معنا ثالث فقصر عنى، واحثثت الحمار لأفوته فما
حسيت إلا بركضة فالتفت فإذا هو قد جرد سيفه، وقصدني فرميت بنفسي
عن الحمار وعدوت، فلما خاف أن أفوته صاح: يا أبا القاسم إنما مزحت
معك فلم ألتفت إليه فقرع دابته وزاد في التحريك، وبان لي ناووس فطلبته،
وكاد الاعرابي يلحق بي فدخلت الناووس ووقفت وراء بابه. قال: ومن
صفات تلك النواويس أنها مبنية بالحجارة، وباب كل ناووس حجر واحد
عظيم قد نقر وجفف وملس فلا تستمكن اليد منه، وله في وجهه حلقة وليس
من داخله شئ تتعلق اليد به وإنما يدفع من خارجه فينفتح فيدخل إليه وإذا
خرج منه وجذبت الحلقة انغلق الباب وتمكن اردامه من ورائه فلم يمكن
فتحه من داخل قال فحين دخلت الناووس وقفت خلف بابه، وجاء الاعرابي
فشد دابته في حلقة، ودخل يريدني مخترطا سيفه والناووس مظلم فلم يرني ومشى
إلى صدر الناووس فخرجت أنا من خلف الباب وجذبته معي حتى صار الباب
مردودا وحصلت الحلقة في ردة هناك وحللت الدابة وركبتها وجاء الاعرابي
إلى باب الناووس فرأى الموت عيانا فقال: يا أبا القاسم اتق الله في أمري
260

فإنني أتلف قلت له تتلف أنت أهون من أن أتلف أنا. قال فأخرجني وأعطيك أمانا
واستوثق منى بالايمان أنى لا أتعرض لك بسوء أبدا واذكر الحرمة التي
بيننا. قلت: لم ترعها أنت وأيمانك فاجرة لا أثق بها في تلف نفسي فأخذ
يكرر الكلام. فقلت لا تهذي هو ذا اركب دابتك واجنب حماري والوعد
بيننا عبد أيام هاهنا، فلا تبرح حتى أجئ وإن احتجت إلى طعام فعليك
بجيف العلوج فنعم الطعام لك وأخذت أهوا به في هذا القول وأخذ يبكى
ويستغيث ويقول قتلتني والله. فقلت: إلى لعنة وركبت دابته وجنبت دابتي
ووجدت على دابته خرجا فيه ثياب يسيرة فجئت إلى نصيبين فبعث الثياب
وكانت دابته شهباء فصيرتها أدهم وبعته لئلا يعرف صاحبه فأطالب
بالرجل واتفق أنه اشتراه رجل من المحتاجين وكفيت أمره وانكتمت القصة.
فلما كان أكثر من سنة عرض لي خروج إلى رأس العين فخرجت في ذلك
الطريق فلما لاح لي الناووس تذكرت فقلت اعدل إلى الناووس وانظر إلى
ما صار إليه أمره فجئت إليه فإذا بابه كما تركته ففتحته ودخلته فإذا أنا بالاعرابي
وقد صار رمة فلا زلت أحمد الله عز وجل على السلامة ثم حركته برجلي
وقلت على سبيل العبث ما خبرك يا فلان فإذا بصوت شئ يتخشخش ففتشته
فإذا هميان فأخذته وأخذت سيفه وخرجت ففتحت الهميان فإذا فيه خمسمائة
درهم وبعت السيف بعد ذلك بجملة دراهم.
حدثني أبو المغيرة محمد بن يعقوب بن يوسف الشاعر البصري قال حدثني
أبو موسى عيسى بن عبد الله البغدادي. قال: حدثني صديق لي قال: كنت
قاصدا الرملة وحدي وما كنت دخلتها قط فانتهيت إليها وقد نام الناس ليلا
فعدلت إلى المقبرة ودخلت بعض القباب التي على القبور فطرحت درقة كانت
معي واتكأت عليها وعلقت سيفي واضطجعت أريد النوم لادخل البلد نهارا
فاستوحشت من الموضع وأرقت فلما طال أرقي أحسست بحركة فقلت
لصوص يجتازون وإن تصديت لهم لم آمنهم ولعلهم يكونون جماعه ولا أطيقهم
فانعزلت بمكاني ولم أتحرك وأخرجت رأسي من بعض أبواب القبة على
261

تخوف منى شديد فرأيت دابة كالذئب تمشى فأخفيت نفسي فإذا بها قد قصدت
قبة حيالي فما زالت تتلفت طويلا وتدور حواليها ثم دخلتها فارتبت وأنكرت
أمرها وتطلعت نفسي إلى علم ما هي. ثم دخل القبة وخرج غير مطيل ثم جعل
ينطر ثم دخل وجرج بسرعة ثم دخل وعيني إليه فضرب بيده إلى قبر في القبة
يبعثره فقلت نباش لا شك فيه وتأملته يحفر بيديه فعلمت أن فيها آلة من حديد
يحفر بها فتركته إلى أن اطمأن وأطال وحفر شيئا كثيرا ثم أخذت سيفي
ودرقتي ومشيت على أطراف أناملي ودخلت القبة فأحس بي فقام إلى بقامة
إنسان وأومئ إلى ليلطمني بكفيه فضربت يده بالسيف فأنبتها وطارت فقال:
أواه قتلتني لعنك الله وعدا من بين يدي وعدوت خلفه وكانت ليلة
مقمرة حتى دخل البلد وأنا أراه ولست ألحقه إلا أنه بحيث يقع بصرى عليه
إلى أن احتاز بي في طرق كثيرة وأنا في خلال ذلك أعلم الطريق لئلا
أضل حتى جاء إلى باب فدفعه ودخل فأغلقه وأنا اسمع فعلمت الباب ورجعت
أقفوا أثرى والعلامات التي علمتها في طريقي حتى انتهيت إلى القبة التي كان
فيها النباش، وطلبت الكف فوجدتها فأخرجتها إلى القمر فبعد جهد انتزعت
الكف المقطوعة من آلة حديد مصنوعة على شكل الكف وتأملت الكف
فوجدت فيه نقض حنا وخاتمان من الذهب وهي أحسن كف في الدنيا
نعومة ورطوبة وسمنا وملاحة فاغتممت ومسحت الدم منها ونمت في القبة
التي كنت فيها ودخلت البلد من الغد أطلب العلامات حتى انتهيت إلى الباب
وسألت لمن الدار فقالوا لقاضي البلد فاجتمع إليها خلق كثير وخرج منها
رجل بهى فصلى بالناس وجلس في المحراب فازداد عجبي من الامر وقلت
لبعض الحاضرين بمن يعرف هذا القاضي؟ فقال بفلان فأطلت الحديث
في معناه حتى عرفت أنه له ابنة عاتقا وزوجة فلم أشك أن النباشة ابنته
فتقدمت إليه فقلت بيني وبين القاضي أعزه الله حديث لا يصلح إلا على خلوة
فقام ودخل المسجد وخلا بي. وقال قل: فأخرجت الكف وقلت أتعرف
هذه فتأمها طويلا فقال أما الكف فلا، وأما الخواتم فخواتم ابنة لي عاتق
فما الخبر فقصصت عليه القصة بأسرها فقال: قم معي فأدخلني بيته وأغلق
262

الباب واستدعى طبقا وطعاما فأحضر واستدعى امرأته فقال له الخادم
تقول لك كيف تخرج ومعك رجل غريب؟ فقال لابد من خروجها تأكل معنا
فهذا لا نحتشمه، فأبت عليه فحلف بالطلاق لتخرجن. قال: فخرجت وهي
باكية، فجلست معنا. فقال لها: أخرجي ابنتك. فقالت له: يا هذا جننت
فما الذي حل بك قد فضحتني وأنا امرأة كبيرة فكيف تهتك صبية عانقا
فحلف بالطلاق لتخرجنها، فخرجت. فقال لها: كلى معنا، فرأيت صبية
كالدنيا مليحة ما لمحت مقلتاي أحسن منها إلا أن لونها قد اصفر جدا وهي
مريضة فقلت إن ذلك لنزف الدم من يدها فأقبلت بيمينها وشمالها مخبأة.
فقال: أخرجي يدك اليسار. فقالت: قد خرج بها خراج عظيم وهي
مشدودة، فحلف لتخرجها فقالت امرأته يا رجل استر على نفسك وابنتك.
فوالله وحلفت بأيمان كثيرة ما أطلعت لهذه الصبية على سوء قط إلا البارحة
فإنها جاءتني بعد نصف الليل فأيقظتني فقالت يا أمي الحقيني وإلا تلفت
فقلت ما بالك. فقالت: قد قطعت يدي وهو ذا نزف الدم والساعة أموت
فعالجيني وأخرجت يدها مقطوعة فلطمت فقالت لا تفضحيني ونفسك
بالصياح عند أبي والجيران وعالجيني. فقلت. لا أدرى بما أعالجك. فقالت
أغلى زيتا وأكوي يدي به ففعلت ذلك وكويتها وشددتها، فقلت الآن
خبريني ما دهاك فامتنعت، فقلت والله لئن لم تحدثيني لأكشفن أمرك لأبيك.
فقالت: إنه قد وقع في نفسي منذ سنين أن أنبش الموتى فتقدمت إلى هذه
الجارية فاشترت لي جلد ماعز بشعره واستعملت كفا من حديد فكنت إذا
نمتم أفتح الباب وآمرها أن تنام في الدهليز ولا تغلق الباب فألبس الجلد
والكف الحديد وأمشي على أربع فلا يشك الذي يراني من فوق سطح أو
غيره أنى كلب ثم أخرج إلى المقبرة وقد عرفت من النهار خبر من يموت من
الجلة والمياسير وأين دفن فأقصد قبره فأنبشه وآخذ الأكفان وأدخلها معي
في الجلد وأمشي مشيتي وأعود والباب غير مغلوق فأدخل وأغلقه وأنزع
تلك الآلة فأدفعها إلى الجارية مع الكفن فتأخذه وتخبيه في بيت لا تعلمون
به وقد اجتمع عندي ثلاثمائة كفن أو ما يقاربها لا أدرى ما أصنع بها إلا أنى
263

كنت أجد لذلك الخروج لذة لا سبب لها أكثر من أن أصابتني هذه المحنة
فلما كانت الليلة سلط على رجل أحس بي كأنه كان حارسا لذلك القبر فقمت
لأضرب وجهه بالكف الحديد فيشتغل عنى وأعدوا فداخلني بالسيف
ليضربني فتوقيت الضربة بشمالي فأباد كفى. فقلت لها اظهري انه قد خرج
على كفك خراج وتعالي فإن الذي برى ما بك من الصفار يصدق قولك فإذا
مضت أيام قلنا لأبيك ان لم يقطع يدك خبث جميع جئتك وتلف فيأذن لنا
في قطعها فتظهر أنا قطعناها ويشيع الخبر حينئذ وينستر أبوك فعملنا على
هذا بعد أن استتبناها فتابت وحلفت بالله لا عادت، وكنت عولت على أن
أبيع الجارية هذه وأراعي مبيت الصبية وأبيتها إلى جانبي ففضحتها ونفسك.
قال: فقال لها القاضي فما تقولين. قالت: صدقت أمي ووالله لا عدت أبدا
وتبت إلى الله. فقال لها القاضي هذا صاحبك الذي قطع يدك فكادت
تتلف جزعا، ثم قال لي يا فتى من أين أنت؟ قلت من العراق. قال ففيم وردت
قلت أطلب الرزق قال قد جاءك حلالا طيبا نحن قوم مياسير ولله علينا نعمة
وستر فلا تنغص النعمة ولا تهتك الستر أزوجك ابنتي هذه وأغنيك
بمالي عن الناس وتكون معنا في دارنا. قال نعم فأمر ثم خرج إلى المسجد
والناس مجتمعون ينتظرونه فخطب وزوجني وأقعدني في الدار ووقعت
الصبية في نفسي حتى كدت أموت عشقا لها فافترعتها وأقامت شهورا معي
وهي نافرة منى وأنا أؤانسها وأبكى حسرة على يدها وأعتذر إليها وهي تظهر
قبول عذري وأنا الذي بها غما على يدها يزيد حنقا على إلى أن نمت ليلة واستثفلت
في نومي على رسمي فأحسست بثقل شديد على صدري فانتبهت جزعا فإذا هي
باركة على صدري وركبتاها على يدي مستوثقة منهما وفى يدها موسى وقد
أهوت لتذبحني فاضطربت ورمت الخلاص فتعذر وخشيت أن تبادرني
فسكت وقلت لها كلميني واعملي ما شئت فقالت: قل. قلت ما يدعوك إلى هذا؟
قالت أظننت - تقطع يدي وتهتكني ويتزوجني مثلك وتنجوا سالما والله
لا كان هذا. فقلت أما الذبح لقد فاتك ولكنك تتمكنين من جراحات وتوقيعها
264

في ولا تأمنين أن أفلت فأذبحك وأهرب أو أكشف هذا عليك ثم أسلمك
إلى السلطان فتنكشف جنيتك الأولى والثانية، ويتبرأ منك أبوك وأهلك
وتقتلين فقالت: افعل ما شئت لابد من ذبحك، وقد استوحش كل منا من
صاحبه فنظرت فإذا الخلاص منها بعيد ولابد من أن تجرح الموضع فيكون
فيه تلفى فقلت: الحيلة اعمل فيها فقلت لك غير هذا؟ فقالت: قل. قلت:
أطلقيني وأنا أطلقك الساعة وتخرجين عنى فاخرج غدا عن البلد فلا أراك
ولا تريني، ولا ينكشف لك حديث في بلدك، ولا تنفضحين وتتزوجين من
شئت فقد شاع أن يدك قطعت بخراج خبيثة، وتربحين الستر. قالت: لا أفعل
حتى تحلف لي أنك لا تقيم في البلد ولا تفضحني أبدا، وتعجل لي بالطلاق.
فطلقتها، وحلفت أنى أخرج ولا أفضحها بالايمان المغلظة فقامت عن صدري
تعدو خوفا من أقبض عليها حتى رمت الموسى حيث لا أدرى وعادت وأخذت
تظهر أن الذي فعلته مزاح وتلاعبني فقلت: إليك عنى فقد حرمت على، ولا
يحل لي ملامستك، وفى غد أخرج عنك. فقالت: الآن علمت صدقك، ووالله
لئن لم تفعل لا نجوت من يدي فقمت فجاءتني بصرة، وقالت: هذه مائة دينار
خذها نفقة لك واكتب رقعة طلاقي، واخرج غدا فأخذت الدنانير وخرجت
سحرة ذلك اليوم بعد أن كتبت إلى أبيها أنى طلقتها، وأنى خرجت حياء منه،
ولم ألتق معهم أبدا * وحكى محمد بن بديع العقيلي قال: رأيت رجلا من بنى
عقيل في ظهره كله شرط كشرط الحجام إلا أنها أبكر فسألته عن سبب ذلك
فقال: إني كنت هويت ابنة عم لي، وخطبتها فقالوا لي: لا نزوجك إلا أن
تجعل الشبكة صداقها، وهي فرس سابقة كانت لبعض بنى بكر بن كلاب
فتزوجتها على ذلك، وخرجت أحتال في أن أسل الفرس لأتمكن من الدخول
بابنة عمى فأتيت الحي الذي فيه الفرس بصورة مجتاز مقتر إلى أن عرفت
مربط الفرس من الخبا، ورأيت لهم مهرة فاحتلت حتى دخلت البيت من
كسره وحصلت خلف النضد تحت عهن لهم كانوا نفشوه ليغزل فلما جاء الليل
وافى صاحب البيت، وقد أصلحت له المرأة عشاء فجعلا يأكلان وقد استحكمت
الظلمة ولا مصباح لهم، وكنت ساغبا فأخرجت يدي وأهويت إلى القصعة
265

وأكلت معهم فأحس الرجل بيدي، وأنكرها وقبض عليها فقبضت على يد
المرأة بيدي الأخرى فقالت له المرأة: مالك ويدى. فظن أنه قابض على يد
المرأة فخلى يدي فخليت يد المرأة وأكلنا ثم أنكرت المرأة يدي فقبضت عليها
فقبضت على يد الرجل فقال لها: مالك فخلت عن يدي وخليت عن يده وانقضى
الطعام، واستلقى الرجل ونام. فلما استثقل وأنا مراصدهم والفرس مقيد
في جانب وابنتها في البيت غير مقيدة، ومفتاح قيد الفرس تحت رأس
المرأة فوافى عبد له أسود فنبذ حصاة وانتبهت المرأة وقامت إليه، وتركت
المفتاح في مكانها، وخرجت من الخبا إلى ظهر البيت ورمقتها بعيني فإذا هو
قد علاها، فلما حصلا في شأنهما دبيت فأخذت المفتاح وفتحت القفل، وكان
معي لجام شعر فأوجرته الفرس وركبتها وخرجت عليها من الخبا فقامت
المرأة من تحت الأسود فدخلت الخبا ثم صاحت وذعر الحي فصاحوا
وأحسوا بي، فركبوا في طلبي وأنا أكد الفرس وخلفي خلق منهم فأصبحت
ولست أرى إلا فارسا واحدا يرمح فلحقني وقد طلعت الشمس فأخذ يطعنني
فلم يصل طعنه إلى أكثر مما تراه في جلدي لا فرسه تلحق بي فيتمكن طعنه منى،
ولا فرسى يبعث بي إلا حيث لا يمسني الرمح حتى وافينا إلا نهر جرار فصحت
بالفرس فوثبتها، وصاح الفارس بفرسه فلم يشب فلما رأيت عجزها عن العبور
نزلت عن فرسى لأستريح وأريحها فصاح بي الرجل وقال: يا هذا أنا صاحب
الفرس الذي تحتك وهذه ابنتها فإذا قد أخذتها فلا تحد عنها فإنها تساوى
عشر ديات وعشر دبات. وما طالبت عليها شيئا قط إلا لحقته ولا طلبني
أحد عليها إلا فاتته، وإنما سميت الشبكة لأنها لم تر شيئا إلا أدركته فكانت
كالشبكة في التعلق به فقلت: إما إذا نصحتني فوالله لأنصحنك ولا أكذبك
إنه كان من صورتي البارحة كيت وكيت حتى قصصت عليه قصة امرأته
والعبد وحيلتي في الفرس: فأطرق رأسه ساعة ثم قال: لا جزاك الله من طارق
خيرا أخذت فرسى وقتلت عبدي وطلقت ابنة عمى * وحكى رجل من
الجند قال: خرجت من بعض بلدان الشام وأنا على دابتي وخرج لي فيه
266

ثياب ودنانير. فلما سرت عدة فراسخ لحقني المساء، فإذا بدير عظيم فيه
راهب في صومعة فنزل واستقبلني، وسألني المبيت عنده، وأن يضيفني ففعلت
فلما دخلت الدير لم أجد فيه غيري، فأخذ دابتي وطرح لها شعيرا، وعزل
رحلي في بيت، وجاءني بما جاد، وكان الزمان شديد البرد، وأوقد بين يدي
نارا، وجاءني بطعام طيب من أطعمة الرهبان. فأكلت ونبيذ فشربت،
ومضت قطعة من الليل فأردت النوم، وقلت أدخل المستراح فسألته عنه فدلني
على طريقه، وكنا في غرفة فمشيت فلما سرنا على باب المستراح فإذا بادية
مطروحة فلما صارت رجلاي عليها خلت ونزلت، فإذا أنا في الصحراء وإذا
البادية كانت مطروحة على غير سقف، وكان الثلج سقط تلك الليلة سقوطا عظيما
فصحت، وقدرت أن ذلك تم من غير قصد فما كلمني فقمت، وقد جرح بدني
إلا أنى سالم فجئت وتظللت بطارق باب الدير من الثلج فما وقفت فيه حينا
حتى رأيت فيه برابخ من فوق رأسي قد جاءتني منها حجارة لو تمكنت من
دماغي لطحنته، فخرجت أعدو وصحت به فشتمني فعلمت أن ذلك من حيلته
طمعا في رحلي، فلما خرجت وقع الثلج على فعلمت أنى تالف إن دام ذلك
فولد لي الفكر أن طلبت حجرا فيه ثلاثون رطلا فوضعته على عاتقي وأقبلت
أعدوا في الصحراء وهو على عاتقي شوطا حتى إذا تعبت وحميت وجريت عرقا
طرحت الحجر وجلست أستريح، فإذا نالني البرد أخذت الحجر وعدوت
حتى أبلغ خلف الحصن فأجلس من حيث يقع لي أن الراهب لا يراني، فإذا
أحسست بأن البرد قد بدا يأخذني تناولت الحجر وسعيت من الدير إلى ذلك
الحصن، وأنا على هذا إلى الغداة، فلما كان قبل طلوع الفجر، وأنا خلف الدير
سمعت بحركة بابه فتخفيت فإذا بالراهب قد خرج فجاء إلى موضع سقوطي
فلما لم يرني. قال وأنا أسمعه: يا قوم ما فعل المشؤوم؟ أظنه قد رأى بقربه
قرية فقام يمشى إليها كيف أعمل فاتني سلبه، وأقبل يمشى يطلب أثرى فخالفته
أنا إلى باب الدير، وكان في وسطى سكين فوقفت خلف الباب فطاف ولم يبعد
فلما لم ير لي أثرا عاد ودخل، فحين بدأ برد الباب ثرت به فقضبت عليه، ووجأته
بالسكين وصرعته فذبحته وأغلقت باب الحصن، وصعدت الغرفة فاصطليت
267

بنار كانت موقدة، ودفيت وطرحت عنى تلك الثياب، وفتحت خرجي فلبست
منه ثيابا، وأخذت كساء الراهب ونمت فيه إلى العصر ثم انتبهت، وأنا سالم
غير منكر شيئا من نفسي، فطفت بالدير حتى رأيت طعاما فأكلت وسكنت
نفسي، وظفرت بمفاتيح بيوت الحصن في يدي فأقبلت أفتح بيتا بيتا فإذا أنا
بمال من عين وثياب وآلات ورحالات أقوام وأخراجهم، وإذا عادته كانت
هكذا مع كل من يجتاز به منفردا فلم أدر كيف أعمل في ثقل المال وما
وجدته فلبست ثياب الراهب، وأقمت في موضعه أياما أترائي لمن يجتاز بي
من بعد فلا يشكون في أنني هو، وإذا قربوا لم أبرز لهم وجهي إلى أن خفى
لهم خبري ثم نزعت تلك الثياب، وأخذت جواليقا فملأتها مالا وجعلتها
على الدابة، ومشيت وسقت إلى أقرب قرية، واكتريت فيها منزلا، ولم أزل
أنقل إليه كلما وجدته حتى لم أدع شيئا له قدر إلا حصلته في القرية ثم أقمت
إلى أن اتفقت لي قافلة، وحملت من تلك الأمتعة كل ما قدرت عليه، ورفعته
إلى المحمل، وسرت في قافلة عظيمة لنفسي بغنيمة هائلة حتى قدمت
بلدي، وقد حصلت لي عشرات ألوف دراهم ودنانير وسلمت من الموت *
حدثني أبو القاسم عبد الله بن محمد بن الحسين العبقسي الشاعر قال: كان لأبي
مملوك يسمى مقبل فأبق منه، ولم يعرف له خبرا سنين كثيرة، ومات أبى
وتغربت عن بلدي، ووقعت إلى نصيبين، وأنا حدث فبينما أنا مجتاز يوما
في سوقها وعلى لباس فاخر، وفى كمي منديل فيه دراهم كثيرة رأيت غلاما
مقبلا فحين رآني انكب على يدي فقبلها وأظهر سرورا شديدا بي، وأقبل
يسألني عن أبي وأهلنا فأعرفه موت من مات وخبر من بقي ثم قال لي:
يا سيدي متى دخلت إلى هاهنا، وفي أي شئ؟ فعرفته. فأخذ يعتذر من هربه
منا ثم قال: أنا مستوطن هاهنا، وأنت مجتاز فلو أنعمت على وجئت في دعوتي
فانى أحضر لك نبيذا طيبا وغناء حسنا، فاغتررت به وبالصبا، ومضيت معه
حتى بلغ بي إلى آخر البلد، وإلى دور خراب ثم انتهى إلى دار عامرة مغلقة
الأب فدقه ففتح له، ودخل فدخلت، وحين حصلت الدهليز أغلق الباب
بسرعة واستوثق منه فتنكرت لذلك ودخلت الدار فإذا أنا بثلاثين رجلا بالسلاح
268

وهم جلوس على بادية فلم أشكك في أنهم لصوص، وأيقنت بالشر وبادرني
أحدهم يلطمني، وقال: انزع ثيابك. فطرحت كل ما كان على حتى بقيت
بالسراويل. فحلوا الدراهم التي كانت معي، وأعطوا مقبلا شيئا منها وقالوا:
امض فهات بهذا ما نأكله فإنا جياع فطارت روحي فقال لهم الغلام: ما أمض
أو تقتلوه، فقلت لهم يا قوم: ما ذنبي حتى تقتلوني؟ قد أخذتم ما معي، ولستم
ترثوني إذا قتلتموني، ولا لي حال غير ما أخذتموه فالله الله في. ثم أقبلت
أستعطف مقبلا، وهو لا يجيبني ويقول لهم: إنكم إن لم تقتلوه ويفلت دل
السلطان عليكم فقتلتم كلكم قال: فوثب إلى أحدهم بسيف مسلول، وسحبني من
الموضع الذي كنت فيه إلى البالوعة ليذبحني، وكان بقربى غلام أمرد
فعلقت به وقلت: يا فتى ارحمني وأجرني فإن سنك قريب من سنى واستدفع
البلاء من الله بخلاصي. فوثب الغلام وطرح نفسه على وقال: والله لا يقتل
وأنا حي، وجرد سيفه وقام فقام أستاذه لقيامه وقال: لا يقتل من أجاره
غلامي، واختلفوا وصار مع غلامه جماعة فانتزعوني وجعلوني في زاوية من
البيت الذي كانوا فيه: ووقفوا بيني وبين أصحابهم وقال لهم رئيسهم. كفوا
عن الرجل إلى أن ننظر في أمره، وشتم مقبلا وقال: امض فهات ما نأكله
فإنا جياع، وليس يفوتنا قتله. فمضى مقبل وجاءهم بمأكول كثير، وجلسوا
يأكلون وترك جماعة منهم الاكل حراسة لي لئلا يغتالني أحدهم إذا تشاغلوا
بالاكل فلما أكلوا انفرد بعض من كان يتعصب لي بحراستي وأكل من لم
يكن أكل منهم ثم أفضوا إلى الشراب فقال لهم: الآن قد أكلتم فترك هذا
يؤدى إلى قتلكم فدعوا الخلاف في أمره واقتلوه. فوثب من يريد قتلى
ووثب الغلام ومن معه للمنع عنى، وطال الكلام بينهم وأنا في الزاوية،
وقد اجتمع إلى من يمنع قتلى. فصرت بينهم وبين الحائط، إلى أن جرد
بعضهم السيوف على بعض فقال لهم رئيسهم: هذا الذي أنتم فيه يؤدى إلى
قتلكم والله رأيت رأيا فلا تخالفوه. فقالوا ماذا تأمرنا؟ فقال: اغمدوا السلاح
واصطلحوا ونشرب إلى وقت نريد أن نخرج عن هذه الدار ثم نكتفه ونسد
فاه، وندعه في الدار وننصرف فإنه لا يتمكن من الخروج وراءنا، والصياح
269

علينا إلى أن نصبح من غد فنمر على بلاد ولا يجرح بعضكم بعضا ولا تنصرف
كلمتكم، فقالوا هذا صواب وجلسوا يشربون وجاء الغلام ليشرب معهم.
فقلت له: الله الله في فتمم ما قد عملت ولا تشرب معهم وتحرسني لئلا يثب
على أحد منهم على غفلة فيضربني ضربة يكون فيها تلف نفسي ثم لا تتمكن
أنت من ردها ولا تنفعني أن تقتل قاتلي فرحمني وقال افعل ثم قال لأستاذه
أحب أن تترك شربك اليوم وتفعل كما أفعل فجاءا فجلسا قدامي وأنا في الزاوية
أتوقع الموت، ساعة فساعة. إلى أن حلت العتمة وقام القوم، فتحزموا
ولبسوا ثيابهم وخرجوا وبقى الغلام وأستاذه فقالا لي يا فتى قد علمت أنا
خلصنا دمك فلا تكافئنا بقبح وهو ذا نخرج ولا يحسن أن نكتفك واحذر
أن تصيح فأخذت أقبل أياديهما وأرجلهما وأقول أنتما أحييتماني فكيف
أكافئكما بالقبيح فقالا قم معنا فقمت ففتشا الدار حتى علما أنه لم يختلف فيها
من يريد قتلى ثم قالا لي يا هذا. قد أمنت فإذا خرجنا فاستوثق من الباب
ونم وراءه فلا يكون إلا خيرا، ثم خرجا، فاستوثقت من غلق الباب.
ثم جزعت جزعا، ولم أشكك في أنه يخرج من تحت الأرض منهم من يقتلني،
وزاد على الجزع، وأقبلت أمشى في الدار وأدعوا وأسبح إلى أن كدت
أتلف، وآنست باستمرار الوقت على السلامة، فحملتني عيني ونمت، فلم
أحس إلا بالشمس وحرارتها على الباب. فقمت وخرجت أمشى عريانا
بسراويل، إلى أن حصلت في الموضع الذي كنت أسكنه، وما حدثت أحدا
بهذا الحديث مدة لبقية الفزع. ثم بعد انقضاء سنة أو قريب منها، كنت
يوما عند صاحب الشرطة بنصيبين لصداقة كانت بينه وبين أبى، فلم ألبث
أن حضر من عرفه عن عثور الطوف على جماعة من اللصوص بقرية سماها
من قرى نصيبين، وقبضه على سبعة نفر منهم، وفوت الباقين، فأمر
باحضارهم فوقع بصرى منهم على ذلك الغلام الذي أجارني ذلك اليوم،
وعلى أستاذه ثم على مقبل، فأخذتني رعدة تبينت في وأخذ مقبل من بينهم
مثل ما أخذني. فقال لي صاحب الشرطة مالك؟ فقلت له: إن حديثي
لطويل. ولعل الله أراد بحضوري هذا المجلس سعادة نفر وشقاوة نفر.
270

فقال هات: فقصصت عليه قصتي مع القوم إلى آخرها، فتعجب وقال هلا
شرحتها لي فيما قبل، حتى كنت أطلبهم؟ وأنتصف لك منهم. فقلت: إن
الفزع الذي كان في قلبي منهم لم يبسط لساني به. فقال: فمن الذي كان
معك من هؤلاء؟ قلت: الغلام وأستاذه وواحد من الباقين، فأمر بحل كتافهم
وتميزهم من بين أصحابهم ودعا مقبل. فقال: ما حملك على ما فعلت بابن أستاذك؟
قال سوء الأصل، وخبث العرق فقال لا جرم تقابل بفعلك وأمر به فضرب
عنقه وأصحابه الباقين، ودعا بالغلام وأستاذه وصاحبهما وقال لهما: لقد أحسنتما
في دفعكما عن هذا الفتى، والله يجزيكما عن فعلكما الخير، فتوبا إلى الله من
فعلكما، وانصرفا في صحة الله مع صاحبكما، ولا تعودا لما كنتما عليه من
التلصص. فقد مننت عليكما لحسن صنعكما مع هذا الفتى، فإن ظهرت
منكما ثانيا، ألحقتكم بأصحابكم. فشكروه ودعوا له وانصرفوا وشكرته على
ما فعل والحمد لله على توفيقي لقضاء حق من أجارني والانتقام ممن ظلمني ثم
صار ذلك الغلام وأستاذه من أصدقائي وكان يختلفان إلى
وحكى إبراهيم بن عبد السلام الهاشمي البصري. قال: كان عندنا بالمريد
رجل من خول محمد بن سليمان الهاشمي وكان مؤنثا يسمى عياد، وكان يحمل
السلاح فاجتمع يوما مع قوم من الخول على شراب لهم، فتجاروا حديث
الشجاعة فعابوه بما فيه من التأنيث فخاطرهم في شئ يعمله مما يعرضون عليه
يبين به من شجاعته فقالوا له يخرج الساعة بغير سلاح إلى صهاريج الحجاج
فيدخل منها الصهريج الفلاني ويسمر في أرضه في هذا الوتد ويعود وهذه
الصهاريج على أكثر من فرسخ من البصرة في البرية وهي موحشة المكان خالية
يجتمع فيها الماء وكان الحجاج قد عملها لشرب أهل الموسم والقوافل. قال:
فأخبرني عباد. قال: خرجت وليس معي إلا وتد ومطرقة حتى بلغت
الصهريج الذي خاطرت عليه، وكان أعظمها وأوحشها فدخلت وكان جافا
وجلست وضربت الوتد بالمطرقة في أرضه فطن الصهريج فسمعت صلصلة
شديدة وصوت سلسلة فقطعت الدق وانقطع الصوت وأعدت الدق فعاد
271

الصوت وظهرت حركة وأنا ثابت القلب أتأمل ولا أدرى شيئا من الظلمة،
إلى أن أحسست بالحركة والصوت قد قربا منى، وتأملت فإذا بشخص
لطيف لا يشبه قدر خلقة الانسان، فاستوحشت وثبت نفسي وأنا أدق
والشخص يقرب منى فوثبت وألقيت نفسي عليه واستوثقت منه فإذا هو
قرد في عنقه سلسلة، فظننت أنه قد أفلت من قراد أو قافلة، فسحبته فلان
في يدي وآنس بي، فأخذته على يدي وساعدي وجئت أريد باب الصهريج،
فلما بلغته سمعت كلاما فخشيت أن يكون بعض من يطلبني من العصبية هناك،
فوقفت أنسمع فإذا كلام امرأة مع رجل وهي تقول له: يا فلان ويحك،
أتقتلني، أتذبحني؟ أتبلغ بي الموت، اتق الله. وهو يقول: الذنب كله
لك، وأنت أذنت لهم في أن يزوجوك، ولو أبيت ما قدر أبوك أن يزوجك،
وإنما فعلتيه مللا بي وأنا تالف عشقا وأنت تتمنعين. والله لأذبحنك،
استكتفي يا ابنة الفاعلة. قال: فنظرت فإذا ظهره إلى باب الصهريج فصحت
عليه صيحة عظيمة وضربت قفاه بالقرد ففزع القرد وقبض على عنق الرجل
وتمكن من ظهره، فورد على الرجل ما حيره وأفزعه، وذهب بعقله فخر
مغشيا عليه ووقع السيف من يده، فأخذته ورأيت الجحفة هناك فأخذتها
وقصدت الرجل، وكان عقله ثاب إليه، ورمى القرد عن ظهره وسعى
هاربا. فقصدت المرأة وحللت كتافها. وقلت لها: ما قصتك؟ فقالت:
أنا بنت فلان وذكرت رجلا من أهل المربد، وهذا ابن عمى وكان يعشقني
فخطبني من أبى فامتنع من تزويجه بي، وزوجني من رجل غريب ودخل بي
منذ شهور فلما كان أمس خرجت أنا وجماعة من نساء الجيران ننظر إلى
الصحراء وقت العصر، وبلغه خبرنا فكبسنا في الصحراء ومعه عدة رجال
بالسلاح، فأخذ كل رجل امرأة وانفرد بها، وحملني هذا إلى هذا الصهريج
ففجر بي طول الليل. ولما كان الآن عزم على قتلى، فأغاثني الله بك،
وما أعرف للنسوة خبرا. قلت: لا بأس عليك أمشي فمشت بين يدي حتى
دخلت البصرة، فدقت باب والدها وفتح لها فدخلته وعدت إلى أصحابي
272

فحدثتهم الحديث وأريتهم القرد، وخرجنا من الغد فرأوا الوتد، وذهبنا إلى
باب المرأة فأريتهم إياه، وأخذت خطري * قال وحكى أبى قال: كان في جواري
رجل يعرف بأبي عبيدة، حسن الأدب كثير الرواية للاخبار، وكان قديما ينادم
إسحق بن إبراهيم المصعبي فحدثني أن إسحاق استدعاه ذات ليلة في نصف الليل قال:
فهالني ذلك وأفزعني وأوحشني لما كنت أعرفه من زعارة الأخلاق، وشدة
الاسراع إلى القتل، وخفت أن يكون قد بلغه عنى أمر باطل فيسرع إلى قتلى
قبل كشف حالي فخرجت طائر العقل حتى أتيت داره فأدخلت إلى بعض دور
الحرم فاشتد جزعي، وذهب على أمري فانتهى بي إليه، وهو في حجرة لطيفة
فسمعت في دهليزها بكاء امرأة ونحيبها، ودخلت فإذا هو جالس على كرسي
وبيده سيف مسلول. وهو مطرق فأيقنت بالقتل، وسلمت ووقفت. فرفع
رأسه وقال: اجلس يا أبا عبيدة فسكن روعي وجلست فرمى إلى رقاعا كانت
بين يديه، وقال: اقرأ هذا فقرأتها جميعا فإذا هي رقع أصحاب الشرط يخبره
كل واحد منهم بخبر يومه وما جرى في عمله وفى جميعها ذكر كبسات وقعت
على نساء وجدن على فساد من بنات الوزراء والامراء والاجلاء الذين بادوا،
وذهبت مراتبهم ويسألوه عما يعملون في أمرهن فقلت: قد وقفت أعز الله
الأمير على هذه الرقاع فما يأمرني الأمير. قال: ويحك يا أبا عبيدة إن هؤلاء
الناس الذين ذكروا حال بناتهم كلهم كانوا أجل منى وامثل، وقد أفضى بهم
الدهر في حرمهم إلى ما قد سمعت، وقد وقع لي أن بناتي بعدى سيبلغن إلى
هذا المبلغ وقد جمعتهن وهو خمس وجعلتهن في هذه الحجرة لأقتلهن الساعة،
وأستريح ثم أدركتني رأفة البشرية، والخوف من الله تعالى فأردت أن
أشاورك في إمضاء الرأي أو شئ تشير به على فيهن فقلت أيها الأمير: إن
آباء هؤلاء النساء اللواتي قرأت رقاع أصحاب الاخبار بما جرى عليهن
أخطأ وافى تدبيرهن لأنهم خلفوا عليهن النعم، ولم يحفظوهن بالزواج فخلون
بأنفسهن ونعمهن ففسدن، ولو كانوا جعلوهن في أعناق الأكفاء ما جرى منهن
هذا. والذي أرى أن أستدعي فلان العابد وله خمس بنين كلهم جميل الوجه
273

حسن اللبسة والنشو فتزوج كل واحد؟ من بناتك واحدا منهم فتكتفي
العار والنار، فتكون قد أخذت بأمر الله عز وجل وبالحزم، ويراك الله قد
أردت طاعته في حفظهن فيحفظك فيهن. فقال: امض الساعة إليه، وأفرغ
لي معه من هذا. قال: فمضيت إلى الرجل وقررت الامر معه وأخذت الفتيان
وآباءهم، وجئت إلى دار إسحق بن إبراهيم فما طلع الفجر حتى عقدت للخمس
فتيان على الخمس بنات في خطبة واحدة، وحمل اسحق بين يدي كل واحد
منهم خمسة آلاف دينار عينا، وشيئا كثيرا من الطيب والثياب، وحمل
كلا منهم على فرس بمركب ذهب، وأعطاني كل واحد من الأزواج مالا
مما دفع إليه كثيرا وأمر لي إسحاق بخمسمائة دينارا، وخلعة وطيبا وأنفذ إلى
أمهات البنات هدايا وأموالا جليلة وشكرتني على تخليص بناتهن من القتل،
وقلبي بتلك الغمة فرحا فعدت إلى داري ومعي ما قيمته ثلاثة آلاف دينار *
ودعا الرشيد صالحا صاحب الموصل حين تنكر للبرامكة فقال له: أخرج إلى
المنصور بن زياد فقل له قد صحت عليك عشر آلاف ألف درهم فاحملها إلى
في هذا اليوم وانطلق معه فان دفعها إليك كاملة قبل مغيب الشمس فأقبلها
وإلا فاحمل إلى رأسه، وإياك ومراجعتي في شئ من أمره. قال صالح:
فخرجت إلى منصور بن زياد وعرفته الخبر. فقال: إنا لله وإن إليه راجعون
ذهبت والله نفسي ثم حلف أنه لا يعرف موضع ثلاثمائة ألف فكيف بعشرة
آلاف ألف درهم فقال له: خذ في عملك. فقال له: امض بي إلى منزلي حتى
أوصى. فما هو إلا أن دخله حتى ارتفع الصياح من منازله وحجر نسائه فأوصى
وخرج وما فيه دم فقال لصالح: امض بنا إلى أبى على يحيى بن خالد لعل الله
أن يأتينا بفرج من عنده. فمضى معه إلى يحيى وهو يبكى فقال له: ما وراءك؟
فقص عليه القصة فأقلق يحيى أمره، وأطرق مفكرا ثم دعى بخازنه فقال له:
كم عندك من المال؟ قال: خمسة آلاف ألف درهم فقال أحضرنيها فأحضرها ثم
وجه للفضل ابنه أنك قد أعلمتي فداك أبوك ان عندك ألفي ألف درهم تريد أن
تشترى بها ضيعة، وقد أصبت ضيعة يبقى لك ذكرها، وتحصد ثمرتها فوجه إلى بالمال
فوجه به ثم قال للرسول: امض إلى جعفر وقل له ابعث فداك أبوك ألف ألف درهم
274

لحق لزمني فوجه بها إليه ثم قال لصالح هذه ثمانية آلاف درهم ثم أطرق
اطراقه لأنه لم يكن عنده شئ ثم رفع رأسه إلى خادم له فقال له امض إلى
دنانير فقل لها وجهي إلى بالعقد الذي كان أمير المؤمنين وهبه لك فجاءه
به فإذا بعقد كعظم الذراع ثم التفت إلى صالح وقال له قد اشتريت هذا
العقد لأمير المؤمنين بثمانية وعشرين ألف دينار وقد حسبته عليك الآن بألف
ألف درهم وهذا تمام حقك فانصرف وخل عن صاحبنا فلا سبيل لك عليه
قال صالح فأخذت ذلك ورددت منصورا معي فلما صرت بالباب أنشأ
منصور متمثلا بقول:
فما بقي على تركتماني * ولكن خفتما ضرب النبال
فقال صالح ما على وجه الأرض رجل أنبل من هذا الذي خرجنا من
عنده، ولا سمعت بمثله فيما مضى من الدهر ولا على وجه الأرض أخبث
سريرة ولا أكفر نعمة ولا أدنى طمعا من هذا النطي، لم يشكر من أعطاه
وزن عن هذا المال العظيم. قال: وصرت إلى الرشيد فقصصت عليه القصة
وطويت عنه ما تمثل به منصور، خوف أن يقتله إذا سمع ذلك. فقال الرشيد:
قد علمت أنه إن نجا إنما ينجو بأهل هذا البيت، اطلق الرجل واقبض المال
واردد العقد، فإني لم أكن لأهب هبة وترجع إلى مالي. قال صالح: فلم أطب
نفسا إلا بتعريف يحيى ما قاله منصور عند خروجنا من المنزل من عنده. فرجعت
إليه وأطنبت في شكره والدعاء له، ووصف ما كان منه. وقلت: ولكن
أنعمت على غير شاكر قابل أكرم فعل بألأم قول. قال: وكيف؟ فأخبرته
بما كان، فجعل والله يطلب له المعاذير، ويقول يا با علي أن المنحوت القلب
ربما سبقه لسانه بما ليس في ضميره، وكان الرجل في حال عظيمة. قال صالح.
فقلت له والله ما أدرى من أي أمر بك أعجب من أوله أم من آخره، ولكني
أعلم أن الدهر لا يخلف مثلك أبدا. قال: وكان علي بن عيسى القمي ضامنا
يعمل الخراج والضياع ببلده، فبقيت عليه أربعون ألف دينار. ولح
المأمون في طلابته حتى قال لعلي بن صالح حاجبه طالبه بالمال وانظره ثلاثة
أيام فإن أحضر المال قبل انقضائها وإلا فاضربه بالسياط حتى يؤديها
275

أو يتلف، وكان بين علي بن عيسى وغسان بن عباد عداوة فانصرف من دار
المأمون آيسا من نفسه لا يقدر على شئ من المال فقال له كاتبه: لو عرجت
على غسان وأخبرته بخبرك لرجوت أن يعينك عليه. قال: فحملته على قبول
ذلك فدخل على غسان فتلقاه بجميل ووفاه حقه فقص عيه كاتبه قصته.
فقال له: أرجوا أن يكفيه الله، ونهض علي بن عيسى آيسا من نفسه كاسف
البال نادما على قصده. وقال لكاتبه لما انصرف: ما أفدتني بقصد غسان
إلا لتجعل المهانة والذل لي، وتشاغل في طريقه بلقاء بعض إخوانه وعاد إلى
داره، فوجد على داره بغالا عليها أربعون ألف دينارا مع رسول غسان
ابن عباد فبلغه سلامه وعرفه عنه بما دفع إليه وسلم إليه المال وتقدم
بحضور دار المأمون في غد ذلك اليوم. فبكر علي بن عيسى فلما وصل الناس
إلى المأمون مثل غسان بن عباد بين الصفوف، وقال يا أمير المؤمنين: إن
لعلي بن عيسى حرمة وخدمة وسالف أصل ولأمير المؤمنين عليه سالف
إحسان وقد لحقه من الخسران في ضمانة ما قد تعارفه الناس وجرى عليه من
حدة المطالبة وشدتها والوعيد بضرب السياط ما حيره وقطعه عن احتيال
ما عليه، فإن رأى أمير المؤمنين أن يسعفني ببعض ما عليه ويضعه عنه فعل.
قال: فلم يزل به إلى حطه النصف واقتصر منه على عشرين ألف دينار، قال
غسان على أن تجدد عليه الضمان وتشرفه بخلع. فأجابه المأمون إلى ذلك.
قال: فيأذن لي أمير المؤمنين أن احمل الدواة إليه ليوقع بذلك فيبقى شرف
حملها على وعلى عقبى. قال: افعل ففعل. وخرج علي بن عيسى والتوقيع
معه بذلك وعليه الخلع. فلما وصل إلى منزله رد العشرين ألف دينا لي إلى
غسان وشكره فردها غسان وقال إني لم استحطتها لنفسي وإنما أحببت
توفيرها عليك واستحطتها لك، وليس والله يعود شئ من المال إلى ملكي.
وحكى أحمد بن أبي داود. قال: ما صحب السلطان أجلد من عمر بن فرج
الرجحي، ولا أزجل ولا أخبث منه. غضب عليه المعتصم يوما وهم بقتله
وأمر بحضوره فجاء وقد نزف دمه. فقال المعتصم: السيف يا غلام. فجعلت
276

ركبتا عمر تصطكان. فقلت إن رأى أمير المؤمنين أن يسأله عن ذنبه فلعله
أن يخرج منه بعد لعذر. فقال له يا ابن الفاعلة: أمرتك في ولد أبى طالب
أن تعرف خبر منازلهم؟ قال: لا. قال: فلم فعلت. فقال عمر: إنما فعلت
ذلك لأنه بلغني عن واحد منهم أن أصل قوم يكاتبونه، فأردت أن أعرف
ما في الكتب الواردة عليه. وجعل عمر في خلال ذلك يلتمس البساط الذي
كان تحت المعتصم فزاد ذلك في غضبه. وقال يا ابن الفاعلة: ما شغلك ما أنت
فيه عن لمس البساط كأنك غير مكترث بما أريده منك؟ فقال: لا والله
أمير المؤمنين، ولكن العبد يعنى من أمر سيده بكل شئ على جميع الأحوال،
وإني ما استحسنت هذا البساط لأنه ليس من بسط الخلافة. فقال له
ويلك: هذا البساط ذكر محمد بن عبد الملك أنه قام علينا بخمسين ألف
درهم. فقال يا سيدي: عندي خير منه بسبعمائة دينار. قال: فذهب عن
المعتصم والله ذلك الفور الذي كان به وسكن غضبه وقال: وجه الساعة من
يحضره. فجاء البساط وما كان قد قام عليه فيما أظن بأكثر من ثلاثة آلاف
دينار فبسط واستحسنه المعتصم واستلافه وقال: هذ والله أحسن من
بساطنا، وأرخص، وقد أخذناه منك بما أقام عليك، ووالله ما برح ذلك
اليوم حتى نادمه وخلع عليه * قال وأخذ مصعب ابن الزبير رجلا من أصحاب
المختار فأمر بضرب عنقه فقال أيها الأمير: ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة
إلى صورتك هذه الحسنة، ووجهك هذا الجميل الذي يستضاء به فأتعلق بك
ثم أقول يا رب سل هذا فيم قتلني؟ قال: قد عفوت عنك. قال أيها الأمير:
اجعل ما وهبت لي في حياتي في خفض فإنه لا عيش لفقير. فقال: ردوا عليه
عليه عطاءه، وأعطوه مائة ألف درهم. فقال: أشهد الله أنى قد جعلت نصفها
لابن قيس الرقيات. قال: ولم قال لقوله:
إنما مصعب شهاب من الله * تخلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك رحمة ليس فيه * جبروت ولا به كبرياء
يتقى الله في الأمور وقد أفلح * من كان همه الاتقاء
277

فضحك مصعب وقال: أرى فيك للصنيعة موضعا، وجعله في ندمائه
وأحسن صلته.
وقيل للفضل بن يحيى قد أفسدت جودك بكبرك. فقال: والله مالي حيلة
في النزوع عنه وما كان طبعي هكذا، إلا أنني حملت نفسي عليه لما رأيت من
عمارة بن حمزة فتشبهت به فصار طبعا لا أقدر على الاقلاع عنه، وذلك أن
أبى كان يضمن فارس من المهدى فحملت عليه ألف ألف درهم وكان المهدى
قد ساء رأيه فيه فحرك ذلك ما كان في نفسه وأمر أبا عون أن يأخذه فيطالبه
بالمال، فإن غربت الشمس عن يومه ذلك ولم يسلم جميعه أو يبقى درهم منه
أتاه برأسه من غير أن يستأذنه أو يراجعه. قال: فأخذه أبو عون فاستدعاني
إليه وقال يا بنى قد ترى ما نحن فيه فلا تدعوا في منازلكم شيئا إلا أحضرتموه،
فجمعنا كل ما في منازلنا من صامت وحلى فلم يبلغ عشر المال. فقال لي يا بنى:
إن كانت لنا حيلة في الحياة فهي من قبل عمارة بن حمزة وإلا فأنا مقتول
العشية فألقه واذكر له الصورة فمضيت إلى بابه فاستؤذن لي عليه فدخلت
عليه وهو مضطجع قد غاص في فرش له ما كاد يبين غير وجهه، فوالله
فوالله ما تحرك. وسلمت فأومأ إلى بالجلوس فجلست بعيدا منه فلم يعرني الطرف
فانكسرت نفسي وقلت: أي خير عند من هذا لقاؤه وعنوان أمره،
فأمسكت لا أتكلم منكرا في الكلام والقيام. فقال: أذكر حاجتك إن
كنت أتيت بها. قال فقصصت عليه القصة وعرفته بما جثت بقصده وما نحن
فيه من المضايقة والتشديد. قال: فوالله ما أجابني بأكثر من أن قال امض
فإن الله تعالى يكفيك. فقمت متحيرا أجر رجلي لا أشك في أنه قد آيسني
من حاجتي وقلت إن عدت إلى أبى بهذا الجواب مات غما قبل ضرب العنق،
فتوقفت ساعة لا أدرى ما أصنع، ثم قلت على كل حال لابد من أن أمضى
وأؤانسه فإن كان له حيلة أخرى شرعنا فيها قبل أن ينصرم النهار. قال:
فجئته فوجدت على الباب بغالا محملة فقلت لمن معها من أنتم ومن بعث بكم؟
فقالوا: أنفذنا عمارة إليكم بمال على هذه البغال فدخلت وأخبرت أبى بما جرى
278

وأخذنا المال فصححناه وما صليت العصر إلا وسلمنا المال، ولما عرف
المهدى الصورة فاستحيا وأفرج عن أبي. وكان ذلك سبب رضاه عنه،
وصلاح نيته له، فلما كان بعد شهرين ورد لنا من فارس مال كثير فقال لي أبى:
خذ المال وامض به إلى عمارة واشكره ورده عليه، فحملت المال وجئت به
إلى بابه حتى استؤذن لي فدخلت عليه وهو على فرشه فما زادني على ما عاملني
به أولا ولا نقصني، فشكرته عن أبي ودعوت له وعرفته إحضاري المال
وسألته الامر بقبضه. فقال لي: أكنت قسطارا لأبيك أقرضه وأرتجع منه؟
فقلت لا يا سيدي بل أحييته وحقنت دمه ومننت عليه وما أحب أن ينقمك،
فلما حصل له المال أنفذه فقال له أما إذا رده أبوك فقد وهبته لك خذه
وانصرف. فقمت وقد أعطاني ما لم يعطه أحدا فجئت إلى أبى فعرفته
ما جرى. فقال: لا والله يا بنى ما تطيب لك نفسي به كله، ولكن تأخذ منه
مائتي ألف درهم فأعطانيها. فهي أول مالي وأصل نعمتي فتعلمت من عمارة
الكرم والكبر معا فصار لي طبعا.
وحكى المعروف بالهايم الرواية فيما حدثني به. قال: كنت أسير من
الشام أريد العراق فلما انتهيت إلى قرية في بعض الطريق لقيني خرساني معه
مخلاة فقال أين تريد؟ قلت: بغداد. فقال: أنا رفيقك فسرنا إلى قرية
خراب على شاطئ الفرات في برية الشام فرأينا على باب القرية رجلا أسود
منكر الخلق عريانا لا يتوارى بشئ البتة فعدا مجفلا عنا، فدخلنا القرية
فجلسنا في دار خراب على شاطئ الفرات وأخرجنا زادا كان معنا فجعلنا
نأكل، فإذا الحجارة تجيئنا متداركة حتى خفنا أن نهلك منها، وما تمالكنا أن
نقوم إلا بجهد وتأملنا أمره فرأينا الأسود يرجمنا فطلبناه، وطلبنا فلما دخلنا
وأم الأسود أن يقبض على ففزعت منه فقبض على الخرساني وقبض عليه
الآخر وجعلا يتعاركان فانكب الأسود على كتف الخرساني فعضه فصاح
الخراساني يا بغدادي أدركني فقد قتلني. فدنوت من خلف الأسود وتعلقت
بخصيتيه ولكمتهما لكمات شديدة فخر مغشيا عليه، وقام الخرساني فجلس على
279

صدره وخنقه بيده حتى تلف وسرنا والخرساني يصيح من ألم العضة فانتهينا
إلى حيال قرية عامرة فصحنا بملاح فقدم زورقه لنعبر إلى القرية فطرح الخرساني
نفسه على الشط كالتالف فشجعته وقلت: مالك وأي شئ قدر عضة؟ فقال
ويحك أنظر إليها فرأيتها فإذا هي قد أخذت كتفه كله واسودت واحمر بدنه
كله فحملته أنا والملاح حتى حصلنا في الزورق وعبرنا فلما صرنا بالقرب من
الشط تلف فأخرجناه ميتا فاجتمع أهل القرية وسألوا عن شأنه فحدثتهم
الحديث. فقالوا: هذا عبد فلان أصابه داء الكلب وتغرب في تلك الخرابات
وقد قتل خلقا كثيرا بالعض وتبادر قوم منهم يريدون الموضع للنظر إلى
الأسود وسرت أنا في طريقي وحمدت الله على سلامتي من الأسود * قال:
وقرأت في كتب الفرس. أن أبرويز الملك كان معجبا بالقلهيذ لطيب غنائه
فنشأ للقلهيذ غلام أحسن غناء منه فأهداه إلى أبرويز متقربا به إليه واستطابه
أبرويز وغلب على قلبه حتى قدمه على القلهيذ فحصده القلهيذ فقتله وبلغ ذلك
أبرويز فغضب غضبا شديدا، واستدعا القلهيذ وأمر فأحضروا له السيف
والنطع وعز على ضرب عنقه وقال له يا كلب: علمت أن شطر لذتي بالغناء
كان فيك، وشطرها في غلامك فقتلته لتذهب بشطر لذتي والله لأقتلنك وأمر
به فجر ليقتل. فقال أيها الملك: اسمع منى كلمة ثم اعمل ما شئت. قال: قل.
قال: إذا كانت لذتك شطرين وقد أبطلت أنا بالجهل والخطأ أحدهما فهل
تبطل أنت على نفسك الشطر الآخر بطاعة الغضب فإن جنايتك على نفسك
أعظم من جنايتي عليك. فقال أبرويز: ما نطقت بهذا الكلام في مثل هذا
المقام إلا لما في أجلك من التأخير، ولما يريد الله اسعادي به من الالتذاذ بالغناء
وقد عفوت عنك فأطلقه.
وقال أبو إسحق أخبرنا أحمد بن أبي داود. قال: دخلت على
المعتصم يوما فقال لي يا أبا عبد الله: لم يدعني اليوم أبو الحسن الاقشين حتى
أطلقت يده على القاسم بن عيسى فقمت من بين يديه ولم أبصر شيئا جزعا
على أبى دلف ودخلني أمر عظيم وخرجت فركبت دابتي وسرت أشد سير
280

من الجوسق إلى باب الاقشين بقرب المطيرة أؤمل أن أدرك أبا دلف من
قبل أن يحدث عليه حادثة. فلما بلغت بابه كرهت أن أستأذن فيعلم أنى قد
حضرت بسبب أبى دلف فيعجل عليه فدخل فدخلت على دابتي إلى الموضع
الذي كنت أنزل فيه وأوهمت حاجبه أنى قد جئت برسالة من المعتصم، ثم
نزلت فرفع الستر فدخلت فوجدت الاقشين في مجلسه، وأبا دلف مصفدا
بالحديد بين يديه على نطع وهو يقرعه ويخاطبه بأشد عضب وأغلظ مخاطبة
فحين قربت منه أمسك. فسلمت وأخذت مجلسي ثم قلت للاقشين: قد
عرفت حرمتي بأمير المؤمنين وخدمتي إياه، وموضعي عنده، وموقعي من
رأيه وتفرده بالصنيعة عندي، والاحسان إلى وعلمت مع ذلك ميلى إليك ومحبتي
لك وقد رغبت إليك فيما يرغب إليه مثلي إلى مثلك ممن رفع الله قدره، وأجل
خاطره، وأعلى همته فقال: كلما قلت وكلما أردته منى فهو مبذول لك خلا هذا
الجالس فانى لا أشفعك فيه. فقلت: ما جئتك إلا في أمره، ولا ألتمس منك غيره
ولولا شدة غضبك وما تتوعده به من القتل لكان في جميل عفوك ما أغنى عن
كلامك، ولكني لما عرفت غضبك وما تنقمه عليه احتجت مع موقعه منى إلى
كلامك في أمره، واستيهاب عظيم جرمه إذ كان مثلك في جلالتك إنما يسئل
جلائل الأمور فقال يا أبا عبد الله. هذا رجل طلب دمى، ولم يقتصر على إزالة
نعمتي، ولا سبيل إلى تشفيعك فيه، ولكن هذا بيت مالي، وهذه ضياعي وكل
ما أملك فخذ من ذلك ما أردت. فقلت: بارك الله لك في مالك وثمرها لك، ولم
آت لهذا وإنما أتيت في مكرمة يبقى فضلها، وتحسن أحدوثتها، وتعتقد بها
منة في عنقي لا أزال مرتهنا بشكرها. فقال: ما عندي في هذا شئ البتة. فقلت
له: القاسم بن عيسى فارس العرب وشريفها فاستبقه وأنعم عليه فإن لم تره لهذا
أهلا فهبه للعرب كلها، وأنت تعلم أن ملوك العجم لم تزل تفضل على ملوك
العرب، ومن ذلك ما كان من كسرى إلى النعمان حتى ملكه، وأنت اليوم
بقية العجم فأنعم على شريف من العرب بالعفو عنه، فقال: ما عندي في هذا
إلا ما سمعته، وتنكر وتبينت الشر في وجهه. فقلت في نفسي: أنصرف وأدع
هذا يقتل أبا دلف لا والله، ولكن أمثل بين يديه قائما وأسأله فلعله يستحى
281

فقمت وتوهمني أريد الانصراف فتحضر لي. فقلت: لست أريد الانصراف
وإنما مثلت بين يديك طالبا راغبا ضارعا سائلا مستوهبا هذا الرجل منك.
فكان جوابه أغلط فتحيرت. فقلت: انكب على رأسه فأقبله فدخلني من
ذلك أنفة شديدة وقلت: أقبل رأس هذا النذل لا يكون هذا أبدا ثم راجعتني
الشفقة على أبى دلف فقلبت رأسه وتضرعت فلم يجبني، فأخذ في ما قدم وما حدث
وعدت فجلست وقلت يا أبا الحسن: قد طلبت إليك وتضرعت، ووضعت
خدى لك ومثلت بين يديك، وقبلت رأسك فشفعني واصرفني شاكرا فهو
أجمل بك. قال: لا والله ما عندي غير ما قلته لك. قلت: فأنا رسول أمير
المؤمنين إليك وهو يقول لك لا تحدث في القاسم بن عيسى حدثا فإنك إن
قتلته قتلت به. قال: يقول أمير المؤمنين هذا لي بعد أن أطلق يدي عليه؟
قلت: نعم. أنا رسوله إليك بما قلته لك فان كنت في الطاعة فاسمع وأطع، وإن
كنت قلت لا طاعة فافعل؟! ونفضت يدي في وجهه ونهضت فاضطرب حتى لم
يقدر أن يدعو لي بدايتي، وركبت فأعددت السير إلى المعتصم لأخبره الخبر
وبما اضطررت إليه من تأدية رسالة باطلة عنه، لأني علمت أنه لم يقل لي ما قاله
إلا وهو يحب استبقاء أبى دلف فانتهيت إلى الجوسق في وقت حار والحجاب
جميعا نيام والدار خالية فانتهيت إلى ستر الدار التي فيها المعتصم وجلست وقلت
إن جاء الاقشين دخلت معه وتكلمت، وإن سأل الوصول أخبرت أمير
المؤمنين الخبر كله. فبينما أنا كذلك إذ خرج خادم صغير من وراء الستر، ثم
دخل وخرج فقال: ادخل. فدخلت وقلت يا أمير المؤمنين: أما لي حرمة؟ أما
لي زمام؟ اما لي حق؟ أما في فضل أمير المؤمنين ونعمته على ما يجب رعايته؟
فقال: مالك يا أبا عبد الله ما قصتك؟ اجلس. اجلس. فقلت يا أمير المؤمنين
قلت لي اليوم في القاسم بن عيسى قولا علمت أنك تريد استنقاذه، وحقن دمه
فمضيت من فورى إلى أبى الحسن الاقشين، وقصصت عليه القصة، وكلما دخلت
معه في الكلام يتغيظ ويفتل سباله حتى إذا أردت أن أعرفه الرسالة التي أديتها
عنه قطع كلامي وقال يمضى قاضى وصنيعتي أحمد بن أبي داود إلى جندي فيخضع
له، ويقف بين يديه، ويقبل رأسه فلا يشفعه قتلني الله إن لم أقتله يكررها
282

فما استوفى كلامه حتى رفع الستر ودخل الاقشين فلقيه بأكبر البر والاكرام
وأجلسه بقربه، وقال في هذا الوقت الحار يا أبا الحسن؟ فقال يا أمير المؤمنين
رجل عرفت ما نالني منه وأنه طلب دمى، وقد أطلقت يدي عليه ويجيئني هذا
ويقول إنك بعثت به إلى تأمرني أن لا أحدث فيه حدثا، وإني إن قتلته قتلت
به فأظهر الغضب وقال: نعم أنا أرسلته إليك فلا تحدث على القاسم بن علي
حدثا، فنهض الاقشين مغضبا يدمدم واتبعته لأتلافاه فصاح بي المعتصم ارجع
يا أبا عبد الله فرجعت. وقلت يا أمير المؤمنين إنه باق مما جرى كلاما قد قطعتني
بكلامك عن تكملته وهي بمعنى الرسالة قال قد فهمتها والقاسم بن عيسى يوافيك
العشية فاحذر أن تتفوه بشئ مما جرى؟ ومضى الاقشين فأطلق القاسم وخلع
عليه فجاءني القاسم من عشيته وما أخبرت بالحديث أحد حتى قتل الاقشين
ومات المعتصم.
قال قرأت في بعض كتب الفرس المنقولة إلى العربية أن ملكا من ملوكهم
قدم إليه صاحب مائدته عضادة اسفيدباج فسقطت منها نقطة على ذراع
الملك فأمر بقتل الرجل فقال الرجل: أعيذ الملك بالله من أن يقتلني ظلما لغير
ذنب قصدته. فقال الملك: قتلك واجب ليتعظ بك غيرك فلا يمهل الخدمة
فأخذ الرجل العضادة فصبها بأسرها على الملك وقال: أيها الملك تكرهت أن
يشيع عنك أنك قتلتني ظلما ففعلت هذا لاستحق القتل، ويزول عنك قبح
الأحدوثة بظلم الخدم فشأنك الآن وما تريد. فقال الملك: ما أحصن الاجل
قد عفوت عنك * قال أحمد بن أبي داود: وما رأيت رجلا عاين الموت فما
اكترث به ولا شغله عما أراده حتى بلغه وخلصه الله من القتل إلا تميم
ابن جميل فانى رأيته بين يدي المعتصم بالله، وقد بسط له النطع وانتضى
السيف، وكان رجلا جسيما وسيما فأحب المعتصم أن يستنطقه لينظر
أين منظره من مخبره، فقال له: تكلم. فقال: إما إذا أذن أمير المؤمنين
في الكلام فالحمد لله الذي أحسن كل شئ خلقه، وبدأ خلق الانسان من
طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. يا أمير المؤمنين: جبر الله
283

بك صدع الدين، ولم بك شعث المسلمين، إن الذنوب تخرس الألسنة، وتخلع
الأفئدة، وأيم الله لقد عظمت الجريرة، وانقطعت الحجة، وساء الظن ولم
يبق إلا عفوك أو انتقامك وأنشد:
أرى الموت بين النطع والسيف كامنا * يلاحظني من حيث لا أتلفت
وأكثر ظني أنك اليوم قاتلي * وأي امرء مما قضى الله يفلت
وأي امرء يدلى بعذر وحجة * وسيف المنايا بين عينيه مصلت
وما جزعي من أن أموت وأنني * لاعلم أن الموت شئ موقت
ولكن خلفي بلية قد تركتهم * وأكبادهم من حسرتي تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم * وقد لطموا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة * إذ ود الردى عنهم وإن مت موتوا
فاستعبر المعتصم ثم قال يا تميم: قد عفوت عنك من الهفوة، ووهبتك
للصبية وأمر بفك قيوده وخلع عليه، وعقد عليه سقى الفرات.
وقال أوتى معن بن زائدة بثلاثمائة أسير فأمر بضرب أعناقهم فأحضر
سيف ماض وسياف ونطع وقدم واحد منهم فقتل، ثم قدم غلام كان فيهم
فقال يا معن: لا تقتل أسراك وهم عطاش. فقال اسقوهم ماء فشربوا. فقام
الغلام فقال أيها الأمير: لقد أطعنا في السؤال وإن لكل كبد حرا أجر، ونحن
والله جياع فإن رأيت أن تشبعنا قبل قتلنا فافعل. فأمر لهم بطعام فأكلوا
فلما شبعوا قام الغلام فقال أيها الأمير: كنا أسراك والآن سرنا أضيافك.
فقال خلوا عنهم فأطلقوهم جميعا * وقرأت في بعض الكتب كان موسى الهادي
قد طالب أخاه هارون أن يخلع نفسه من العهد لصيره لابنه من بعده
ويخرج هارون من الامر فلم يجب إلى ذلك، فأحضر يحيى بن خالد البرمكي
ولطف به وداره ووعده ومناه وسأله أن يشير على هارون بالخلع فلم يجب
يحيى إلى ذلك ودافعه عنه، وهدده الهادي وتوعده وجرت بينهما في ذلك
خطوب وأشرف يحيى معه على الهلاك وهو مقيم على مدافعته عن صاحبه إلى
أن اعتل الهاذي علته التي مات فيها واشتد به فدعا يحيى وقال له: ليس
284

ينفعني معك شئ، وقد أفسدت أخي وقويت نفسه حتى امتنع مما أريده،
ووالله لأقتلنك فدعا بالسيف والنطع وأبركه ليضرب عنقه. فقال له إبراهيم
ابن ذكوان الحراني يا أمير المؤمنين: إن ليحيى عندي يدا أريد أن أكافئه
عنها فأحب أن تهبه لي الليلة وأنت في غد أعلا عينا وما تراه في أمره. فقال
وما فائدة ليلة؟ فقال: إما أن يعود صاحبه إلى رضاء أمير المؤمنين أو يعهدك
في أمر نفسه وولده فأجابه. قال يحيى فأقمت من النطع وقد أيقنت بالموت
وعلمت أنه لم يبق من أجلى إلا بقية الليلة فما اكتحلت غمضا إلى السحر سمعت
صوت القفل ففتح عنى فلم أشكك أن الهادي استدعاني للقتل لما انصرف
إبراهيم كاتبه وانقضت الليلة فإذا بخادم قد أقبل وقال: أجب السيدة. فقلت:
مالي وللسيدة؟ فقال: قم. قال: فقمت فأتيت الخيزران. فقالت لي: إن
أمير المؤمنين قد مات، ونحن نساء فأدخل وأصلح أمره، وأنفذ إلى هارون
فجئ به فدخلت فإذا هو ميت على فراشه وأمة العزيز تبكى على رأسه
فغمضته وشددت لحيته، وحمدت الله على لطيف صنعه وتفريجه ما كنت
فيه، وبادرت إلى هارون فوجدته نائما فأيقظته فلما رآني عجب وقال
ويحك: ما الخبر؟ فقلت يا أمير المؤمنين: قم إلى دار الخلافة. فقال: مات
موسى قلت: نعم. فقال الحمد لله هاتوا ثيابي فقبل أن يلبسها جاءني من عرفني
سرا أنه قد ولد له ابن من مراجل، ولم يكن عرف الخبر فقلت أقر الله عينك
يا أمير المؤمنين بابن مراجل فحمد الله كثيرا وسماه عبد الله المأمون وركب
وأنا معه إلى دار الخلافة.
ووجدت في بعض الكتب أن الحجاج كان يستعرض قوما من أصحاب
ابن الأشعث فقتل منهم جماعة ثم جئ برجل فأمر بضرب عنقه فقال أيها
الأمير: إن لي عليك حقا. فقال: إنه سبك عبد الرحمن يوما فرددت عليه
قال ومن يعلم هذا؟ فصاح الرجل: أنشد الله رجلا سمع ذلك إلا شهد به فقام
من الاسرى رجل وقال: قد كان ذلك. قال: خلوا عنه. ثم قال للشاهد: ما منعك
أن تنكر سبى كما أنكر هو؟ قال: قديم بغضي لك. فقال خلوا عنهما هذا ليده
285

وهذا لصدقه * وذكر المدايني في كتابه يرفعه إلى رجل كان من أسراء
الحجاج من أصحاب بن الأشعث قال: جعل الحجاج يقتل عامة يومه الاسراء
وبقيت منا جماعة قليلة، وأتى برجل ليضرب عنقه فقال يا حجاج: والله لان
كنا أسأنا الفعل فما أحسنت في العقوبة، ولئن كنا لزمنا الجناية فما كرمت
في العفو. فقال: رده يا حرسي كيف قلت؟ فأعاده. فقال الحجاج صدقت
والله أف لهذه الجيف والجثث أما كان فيها أحد ينبهنا كما نبهتنا أطلقوا عنه *
وذكر المدايني في كتابه عن معمر بن المسنى قال: أتى الحجاج بقوم ممن
كانوا خرجوا عليه أمر بهم فقتلوا، وأقيمت الصلاة وقد بقي منهم رجل
واحد فقال الحجاج لعنبسة: انصرف بهذا معك واغد على غدا. قال عنبسة
فخرجت به فلما سرنا في الطريق قال هل فيك خير؟ قلت: وما ذاك. قال إني
والله ما خرجت على المسلمين، ولم أستحل منا لهم، وعندي ودائع وأموال
فتخلى عنى حتى آتي أهلي وأرد على كل ذي حق حقه واجعل الله لك على
أنى أتصبح عندك في غد فتعجبت منه وتضاحكت ومضينا ساعة فأعاد على
القول. فقلت له: اذهب فذهب. فلما توارى عنى شخصه سقط في يدي فأتيت
أهلي فأخبرتهم فقالوا: لقد اجترأت على الحجاج وبتنا بأطول ليلة فلما طلع
الفجر إذا به قد جاءني. فقلت: أرجعت؟ فقال: سبحان الله جعلت الله
عز وجل شاهدي ثم لم ارجع. قال فانطلقت إلى الحجاج فقال: أين أسيرنا؟
قلت أصلح الله الأمير هو بالباب وقد كانت لي وله قصة. قال: وما هي؟
فأخبرته الخبر، وأدخلته عليه فقال لي: أتحب أنى أهبه لك. قلت: نعم. قال
هو لك. فقلت للرجل خذ أي طريق شئت فرفع بصره إلى السماء وقال: الحمد
لله وانصرف. وما كلمني بكلمة فقلت في نفسي هذا مجنون فلما كان في غد أتاني
فقال يا هذا: جزاك الله خيرا أنى ما جهلت قدر ما صنعت ولكن كرهت أن
أشرك في حمد الله أحدا * وذكر محمد بن عمر القاضي أبو الحسين في كتابه قال:
حبس رجل وقد وجب عليه حد، فلما رفع خبره أمر بضرب عنقه فقال المخبر:
فدخلت بعدها الحبس إلى رجل بيني وبينه سبب أتفقد خبره فرأيت الذي
أمر بضرب عنقه يلعب بالنرد فقلت للذي دخلت إليه أنا أعلم بضرب عنق
286

ذلك الانسان فما أفرغ قلبه يلعب بالنرد وهو محبوس. قال صاحبي: اظرف
من هذا أنه قد أمر بضرب عنقه، وقد علم بذلك وهو ذا ترى حاله
قال: فازددت تعجبا ففطن الرجل لما نحن فيه فأخذ بيده فصا من فصوص
النرد فرفعه وقال إلى: إن يسقط هذا من يدي إلى الأرض تكون قد
حدثت أمور. فخرجت وأنا متعجب منه مفتكر في قوله فما أمسينا ذلك
ذلك اليوم حتى سعت الجند وفتحت السجون وخرج من كان فيها والرجل
فيهم وسلم من القتل.
287

الباب التاسع
من شارف الموت بحيوان مهلك رآه * فكفاه الله سبحانه ذلك بلطفه ونجاه
عن إبراهيم الخواص قال: ركبت البحر مع جماعة من الصوفية
فكسر المركب بنا فنجى منا قوم على خشب من خشب المركب فوقعنا إلى
مكان لا ندري أي مكان هو فأقمنا فيه أياما لا نجد ما نقتاته فأحسسنا بالموت
فقال بعضنا لبعض تعالوا حتى نجعل الله على أنفسنا أن ندع له شيئا فلعله
يرحمنا فيخلصنا من هذه الشدة فقال بعضنا: لا أفرط الدهر. وقال بعضنا:
أصلى كل يوم كذا وكذا ركعة. وقال بعضنا: أدع اللذات، إلى أن قال
كل منا شيئا، وأنا ساكت فقالوا لي: قل شيئا. فلم يجئ على لساني إلا أن
قلت لا آكل لحم فيل أبدا. فقالوا: الهزل في مثل هذا الحال؟ فقلت:
والله ما تعمدت الهزل، ولكني منذ بدأتم وأنا أعرض على نفسي شيئا أدعه
لله عز وجل فلا تطاوعني ولا يخطر على قلبي غير الذي لفظت به وما أجرى
هذا على لساني، ولا ألهمه قلبي إلا لأمر. فلما كان بعد ساعة قال بعضنا:
لم لا نطوف في هذه الأرض متفرقين فنطلب قوتا فمن وجد شيئا أنذر به
الباقين والموعد هذه الشجرة. قال: فتفرقنا في الطرق فرجع أحدنا بولد فيل
صغير فلوح بعضنا لبعض فاجتمعنا فأخذه أصحابنا واحتالوا فيه حتى شووه
وقعدوا يأكلون وقالوا: تقدم. فقلت: أنتم تعلمون أنني منذ ساعة تركته
لله عز وجل، وما كنت لارجع في شئ تركته له، لعله جرى ذلك على لساني
لأجل موتى من بينكم، لأني ما أكلت شيئا منذ أيام، وما أطمع في شئ آخر،
وما يراني الله أنقض عهده ولو مت، واعتزلتهم وأكل أصحابي وأقبل الليل،
وتفرقنا إلى مواضعنا التي كنا فهيا نبيت وأويت إلى أصل شجرة كنت أبيت
عندها فلم يكن إلا لحظة فإذا بفيل عظيم قد أقبل وهو ينعر، والصحراء
تتدكدك بنعيره وشدة شغبه وهو يطلبنا. فقال بعضهم: قد حضر الاجل
فاستسلموا وتشهدوا وأخذنا في الاستغفار والتسبيح وطرح القوم نفوسهم
288

على وجوههم فجعل الفيل يقصد واحدا واحدا فيشمه من أول جسده إلى
آخره فإذا لم يبق فيه موضع إلا شمه شال إحدى قوائمه فوضعها عليه وفسخه
فإذا علم أنه قد أتلفه، قصد آخر ففعل به مثل فعله في الأول إلى أن لم يبق
غيري وأنا جالس منتصب أشاهد ما جرى وأستغفره وأسبحه. فقصدني الفيل
فحين قرب منى رميت نفسي على ظهري، ففعل بي من الشم كما فعل بأصحابي،
ثم أعاد شمي مرتين أو ثلاثا ولم يكن فعل بأحد منهم ذلك وروحي في خلال
ذلك تكاد تخرج فزعا، ثم لف خرطومه على فشالني في الهواء فظننته يريد
قتلى بقتلة أخرى فجهرت بالاستغفار فما نحى خرطومه حتى جعلني فوق
ظهره فانتصبت جالسا واجتهدت في حفظ نفسي بموضعي، وانطلق الفيل
يهرول تارة ويسعى أخرى، وأنا أحمد الله عز وجل على تأخير الفيل قتلى
وأطمع في الحياة، وتارة أتوقع أن يثور بي فيقتلني فأعاود الاستغفار،
وأنا أقاسي في ذلك وأتجرع من الألم الشديد لسرعة سير الفيل أمرا عظيما.
فلم أزل على ذلك إلى أن طلع الفجر واشتد ضوءه فإذا به قد لف خرطومه
على فقلت قد حضر الاجل، فاستكثرت من الاستغفار فإذا به قد أنزلني
من ظهره وتركني على الأرض ورجع إلى الطريق التي جاء منها وأنا لا أصدق
فلما غاب عن عيني ولم أسمع له حسا خررت ساجدا لله سبحانه فما رفعت
رأسي حتى أحسست بالشمس، فإذا أنا على ظهر محجة عظيمة فمشيت عليها
نحوا من فرسخين فانتهيت إلى بلد كبير فدخلته فعجب أهله منى وسألوني عن
فأخبرتهم بالقصة فزعموا أن الفيل سار في هذه الليلة مسيرة أيام، واستطرفوا
سلامتي وأقمت عندهم حتى صلحت من تلك الشدائد التي قاسيتها وتندى بدني
ثم سرت مع التجار إلى بلد على شاطئ البحر فركبته ورزقني الله السلامة
إلى أن عدت إلى بلدي.
قال: حدثني أبو بكر البسطامي صاحب ابن دريد وكان زوج ابنته، وكان
شيخا من أهل الأدب والحديث وقد استوطن الأهواز سنين وكان ملازما
289

لأبي رحمه الله يتفقده ويبره قال: كان لامرأة ابن غاب عنها غيبة طويلة
منقطعة وآيست منه فجلست يوما تأكل فحين كسرت لقمة وأومت بها إلى
فيها وقف بالباب سائل مستطعم فامتنعت من أكل اللقمة وحملتها مع تمام
الرغيف فتصدقت بها وبقيت جائعة يومها وليلتها فما مضت إلا أيام يسيرة
بعد ذلك حتى عاد ابنها فأخبرها بشدائد عظيمة مرت به. وقال: أعظم شئ
جرى لي، كنت منذ أيام أسلك أجمة عظيمة في الموضع الفلاني إذ خرج على
أسد فقبض على من على ظهر حمار كنت راكبه وعاد الحمار وتشبكت مخالب
الأسد في ثياب كانت على فما وصل إلى بدني كثير شئ من مخالبه وذهب
أكثر ثيابي فأدخلني الأسد الأجمة وبرك ليفترسني فرأيت رجلا عظيم الخلقة
أبيض الوجه والثياب قد جاء حتى قبض بيده من غير سلاح على قفا الأسد
وشاله وخبط به الأرض وقال: قم يا كلب لقمة بلقمة. فقام الأسد هاربا
يهرول وثاب إلى عقلي وطلبت الرجل فلم أجده وجلست ساعات إلى أن
ثابت إلى قوتي ثم نظرت إلى نفسي فلم أجد بها بأسا فمشيت حتى لحقت
بالقافلة التي كنت فيها فتعجبوا لما رؤني فحدثتهم حديث ولم أدر معنى القول
من الرجل لقمة بلقمة فنظرت إلى المرأة فإذا هو وقت أن أخرجت اللقمة
من فيها وتصدقت بها * وجدت في دفتر عتيق عن بعضهم. قال: خرجت
إلى الحائر في أيام الحنبلية أنا وجماعة مختفين فلما صرنا في أجمة بر قال لي
رفيق منهم يا فلان: إن نفسي تحدثني أن السبع يخرج فيفترسني من بين الجماعة،
فإن كان ذلك فخذ حماري وما عليه فأده إلى عيالي في منزلي، فقلت له هذا
استشعار يجب أن تتعوذ بالله منه وتضرب عن الذكر فيه. قال: فما مضى
على هذا الامر إلا يسير حتى خرج الأسد فحين رآه الرجل سقط عن حماره
يتشهد وقصده الأسد من بين الجماعة فأخذه ودخل به الأجمة وسقت الحمار
وأسرعت مع القافلة وبلغت الحائر وزرنا ورجعنا إلى بغداد واسترحت في
بيتي يوما أو يومين، ثم أخذت الحمار وجئت به إلى منزله لأسلمه إلى عياله
فدققت الباب فخرج إلى الرجل بعينه فعانقني وبكا وبكيت وقلت حديثك؟
فقال: إن السبع ساعة أخذني وجرني إلى الأجمة وأنا لا أعقل أمرى سمعت
290

صوت شئ ورأيت السبع قد خلاني ومضى ففتحت عيني فإذا الذي سمعته
صوت خنزير، وإذا السبع لما رآه عن له أن يتركني ومضى فصاده وبرك
عليه يفترسه، وأنا أشاهده إلى أن فرغ منه ثم رجع السبع من الأجمة وغاب
عن عيني فسكنت وتأملت حالي فوجدت مخالبه قد وصلت إلى فخذي قليلا،
وقوتي قد عادت فقلت: لأي شئ جلوسي فقمت أتسحب في الأجمة أطلب
الطريق فإذا بجيف ناس وبقر وعظام بالية وأثر من افترسهم الأسد فما زلت
أتخطاها حتى انتهيت إلى رجل قد أكل الأسد بعض جسده وبقى أكثره وهو
طري وفى وسطه هميان قد تخرق بعضه وظهرت منه دنانير فتقدمت فجمعتها
وقطعت الهميان، وأخذت جميع الدنانير وتتبعتها حتى لم يفتني منها شئ وقويت
فضل قوة فأسرعت في المشي وطلبت الجادة فوقفت عليها وأقمت أمشى إلى
بعض القرى، واستأجرت حمارا وعدت إلى بغداد ولم أمض إلى الزيارة لأني
خشيت أن تسبقوني وتذكروا خبري فيصير عند عيالي مأتم فسبقتكم وأنا
أعالج فخذي، وإذا من الله عز وجل بالعافية عدت إلى الزيارة. وحدثني بهذا
الحديث غير واحد من أهل بغداد * حدثني أبو جعفر أصبغ بن أحمد بن شبح
وكان بحجب أبا محمد المهلي رحمة الله عليه قبل وزارته. فلما ولى الوزارة كان
يصرفه في الاستحثاث على العمال، وفى الأعمال التي يتصرف فيها العمال الصغار
قال: كنت بشيراز مع أبي الحسن علي بن خلف بن طبات وهو يتولى
عمالتها يومئذ، فجاء مستحثا من الوزير يطالبه بحمل الأموال. وكان أحد الغلمان
الأكابر قد كوتب باكرامه فأحضره أول يوم طعامه وشرابه فامتنع من
مؤاكلته وذكر أن له عذرا. فقال: لابد أن تأكل. فأكل بأطراف أصابعه
ولم يخرج يده من كمه وكاد كمه يدخل في الغضائر ويناله الغمر، فلما كان في
غد قال علي بن خلف: ليدعه كل يوم واحد منكم فكانوا يدعونه ويدعون
بعضهم بعضا. فتكون صورته في الاكل واحدة فنقول: لعل به برصا أو
جذاما إلى أن بلغت النوبة إلى فدعوته ودعوت الحاشية وجلسنا نأكل وهو
يأكل معنا على هذه الصورة فسألته إخراج يده والانبساط في الاكل فامتنع من
إخراج يده. فقلت له: يلحقك تنغيص بالاكل هكذا فأخرجها على أي شئ
291

كان بها فانا نرضى به. قال: فكشفها فإذا فيها وفى ذراعه ضربات بعضها فيه
بقة أدوية يابسة وهي على أقبح ما يكون من المنظر فأكل معنا غير محتشم،
وقدم الشراب فشربنا فلما أخذ منا الشراب سألته عن سبب تلك الضربات
فقال: هو أمر طريف أخاف أن لا أصدق فيه ولا يجمل بي الحديث به.
فقلت: لابد أن تتفضل. قال: كنت عام أول بقريب من هذا الوقت قائما
بحضرة الوزير فسلم إلى كتابا إلى عامل دمشق ومنشورا وأمرني بالتوجه
إليه وإزهاقه بالمطالبة بحمل المال، ورسم أن أخرج على طريق السماوة
لا تعجل وكتب إلى عامل هيت بإنفاذي مع خفارة فلما حصلت هيت استدعا
العامل جماعة من أحياء العرب وضمني إليهم وأعطاهم مالا على ذلك وأشهد
عليهم بتسلمي واحتاط في أمرى، وكانت هناك قافلة تريد الخروج منذ مدة
وتتوقى البرية فآنسوا وسألوني أن آخذ لنفسي مالا وللاعراب مالا،
وأوصلهم في الخفارة ويسيرون معي ففعلت ذلك. فصرنا قافلة عظيمة وكان
معي من غلماني من يحمل السلاح وهم يقربون من العشرين غلاما، وفى حمالي
القافلة، والتجار يحملون السلاح أيضا فرحلنا عن هيت، ودخلنا في البرية
ثلاثة أيام بلياليها فبينما نحن نسير إذ لاحت لنا خيل فقلنا للأعراب ما هذه
الخيل؟ فتسرع منهم قوم ثم عادوا كالمنهزمين وقالوا: قوم من بنى فلان بيننا
وبينهم دم، ونحن طلبتهم ولا ثبات لنا معهم ولا يمكننا خفارتكم منهم وركضوا
متفرقين، وبقينا نحن متحيرين ولم نشك أنهم كانوا بعض أهلهم وإن ذلك
فعل على مواطأة فجمعت القافلة، وطفت بها أنا وغلماني ومن كان منهم يحمل
السلاح متساندين كالدائرة وقلت لمن كان معي: لو كان هؤلاء يأخذون
أموالنا ويدعون جمالنا لننجوا عليها كان هذا أسهل، ولكن الجمال والدواب
أول ما تؤخذ وتتلف في البرية ضعفا وعطشا فاعملوا على أن نقاتل فان هزمناهم
سلمنا وإن قتلناهم كان أسهل. فقالوا: نفعل. وقدم القوم فقتلنا لهم عدة خيل،
وجرحنا منهم غير جريح وما ظفروا منا بعود فباتوا قريبا منا حنقين علينا،
وتفرق الناس للاكل والصلاة واجتهدت بهم أن يجتمعوا، ويبيتوا تحت السلاح
فخالفوني، وكانوا قد آمنوا ونام بعضهم فغشينا الخيل فلم يكن عندنا ممانعة
292

فوضعوا فينا السيوف، وكنت أنا المطلوب خاصة لما شاهدوه من تدبير
القوم برأيي وعلموه من أنى رئيس القافلة فقطعوني بالسيوف ولحقتني هذه
الجروحات وفى بدني أضعاف أضعافها. قال: وكشف لنا عن أكثر جسده
فإذا به أمر عظيم لم ير مثله في بشر قط. قال: وكان في أجلى تأخير فرميت
نفسي بين القتلى لا يشك في تلفي. قال: فلما كان بعد ساعة أفقت فوجدت
في نفسي قوة والعطش بي شديد فلم أزل أتحايل حتى قمت أطلب من القافلة
قدح ماء لأشرب منها فلم أجد أحدا، ورأيت من القتلى والمجروحين الذين هم
في آخر رمق وسمعت من أنينهم ما أضعف نفسي وأيقنت بالتلف وقلت: غاية
ما أعيش إلى أن تطلع الشمس، فملت أطلب شجرة أو محلا لأجعله ظلا لي من
الشمس إذا طلعت فإذا بي قد عثرت بشئ عظيم لا أدرى ما هو من الظلمة،
وإذا أنا منبطح عليه بطولي وطوله فثار من تحتي فحسست عليه وكنت قدرته
رجلا من الاعراب فإذا هو أسد فحين علمت ذلك طار عقلي، وقلت: إن
استرخيت افترسني فعانقت رقبته بيدي ونمت على ظهره وألقيت بطني بظهره
وجعلت رجلاي تحت مخصاه وكانت دمائي تجرى فحين دخلني ذلك الفزع
الشديد رقى دمى وعلق شعر الأسد بأفواه الجروحات فصار سدادا لها
وعونا على أن أمسك نفسي فوقه، وورد على الأسد منى أظرف مما ورد على
منه فأقبل يجرى كما تجرى الفرس على طريق وأنا أحس بروحي وأعضائي
تتقصف من شدة جريه، فلم أشك في أنه يقصد أجمته فيلقيني إلى لبوته
فتفترسني إلا أنى ضبطت نفسي، وأنا أؤمل الفرج وأدافع الموت، وكلماهم
الأسد أن يربض ضربت مخصاه برجلي، فيطير وأنا أعجب من نفسي ومطيتي
وأدعوا الله عز وجل وأرجوه، وما زلت على ذلك إلى أن ضربني نسيم
السحر فقويت نفسي وأقبل الفجر يضئ، فتذكرت طلوع الشمس فجزعت
ودعوت الله عز وجل فما كان أسرع من أن سمعت صوتا ضعيفا لا أدرى
ما هو، ثم قوى فشبهته بناعورة. قال: والأسد يجرى وقوى الصوت فلم
أشك في أنه ناعورة ثم صعد بي الأسد إلى تل فرأيت منه بياض ماء الفرات،
وهو جار وناعورة تدور والأسد يمشى على شاطئ الفرات برفق إلى أن
293

وجد شريعة فنزل منها إلى الماء، وأقبل يسبح ليعبر فقلت في نفسي:
ما قعودي؟ لئن لم أتخلص هنا ما تخلصت أبدا فما زلت أرفق حتى خلصت
شعره من أفواه جراحاتي وسقطت وسبحت منحدرا وأقبل الأسد يشق الماء
عرضا فبينما أنا أسبح نظرت جزيرة فقصدتها وحصلت فيها وقد بطلت قوتي
وذهب عقلي وطرحت نفسي عليها كالتلف فلم أحس إلا بحرارة الشمس قد
نبهتني فرجعت أطلب شجرة رأيتها في الجزيرة لاستظل بها فرأيت السبع مقعيا
على ذنبه بشاطئ الفرات فقل فزعي منه، وأقمت مستظلا بالشجرة أشرب
من ذلك الماء إلى العصر فإذا أنا بزورق منحدر فصحت به وحلفت لهم أن
ما بالجزيرة أحد سواي، وأومأت لهم إلى الأسد وقلت لهم: قصتي ظريفة
طويلة وأن تجاوزتموني كنت أنتم قد قتلتموني فالله الله في. فرقوا لي
ودخلوا إلى يحملوني فلما صرت في الزورق ذهب عقلي فما أفقت إلا في اليوم
الثاني فإذا على ثياب نظاف، وقد غسلت جراحاتي وجعل فيها الزيت وأدوية
وأنا بصورة الاحياء فسألني أهل الزورق عن حالي فحدثتهم وبلغنا إلى هيت
فأنفذت إلى العامل من عرفه خبري فبعث لي من يحملني إليه فتوجع لي وقال:
ما أظن أنك أفلت فالحمد لله. فحدثته كيف نجيت فعجب وقال: بين الموضع
الذي قطع عليكم وبين الموضع الذي حملك أهل الزورق منه مشاق أربعين فرسخا
على غير محجة. فأقمت عنده أياما، ثم أعطاني نفقة وثيابا وزورقا فجئت إلى
بغداد فكنت أتعالج عشرة أشهر حتى صرت هكذا ثم خرجت وقد افتقرت
وأنفقت جميع ما كان في بيتي فلما أقمت بين يدي الوزير رق لي وأطلق لي مالا
وأخرجني إليكم.
حدثني على ابن نصيف المعروف بشهدابخه، وسعيد بن عبد الله
السمرقندي الفقيه عن شخص حدثهما أنه بات في سطح خان في بعض الاسفار،
ومعه رجل وزوجته وقرد له فنام الناس وأخذني الارق فلما هدأت
العيون رأيت القرد قد قلع المسمار الذي فيه السلسلة ومشى نحو المرأة ولم أعلم
ما يريد فقمت فرآني القرد فرجع إلى مكانه، ثم فعل ذلك دفعات وأنا أقوم
294

فلما طال الامر جاء إلى وفتح خرجا وأخرج منه صرة دراهم ظننت أن فيها أكثر
من مائة درهم ورمى بها إلى. فعجبت من ذلك وقلت في نفسي أمسك لأنظر
ما يفعل فجاء إلى المرأة فمكنته من نفسها فواقعها، فاغتممت بتمكيني إياه من
ذلك وحفظت الصرة فلما كان في الغد صاح صاحب القرد يطلب ما ذهب منه
وقال لصاحب الخان: إن قردي يعرفني من أخذ هذه الصرة فتقفل باب
الخان واقعد أنا وأنت ويخرج الناس فمن علق به القرد فهو خصمي ففعل
ذلك وأقبل الناس يخرجون والقرد ساكن وخرجت فما تعرض لي، فوقفت
خارج الخان أنظر ما يجرى فلما لم يبق أحد خرج رجل يهودي فتعلق به القرد
فقال: القراد: هو خصمي وجذبه ليحمله إلى صاحب الشرطة فلم أستحل
حينئذ السكوت. فقلت: يا قوم ليس اليهودي صاحبكم وإنما أنا صاحبكم
والصرة معي ولى قصة ظريفة في أخذها وأخرجتها، وقصصت عليهم القصة
فحملنا إلى صاحب الشرطة وحضرت الصرة فعرفوا صاحب الشرطة محلى
ومنزلي ويساري وأقبل القراد يحيد عن القرد فما برحت حتى أمر صاحب
الشرطة بقتل القرد وطلبت المرأة فهربت وسلم اليهودي.
حدثني الحسن بن صافي مولى محمد بن المتوكل القاضي. قال: حدثني
غلام كان أبق منى. قال: إني كنت أسير ماشيا في وسط بغداد فلما صرت
بين دير العاقول والسيب وأنا وحدي في يوم صائف له ريح شديد رأيت
بالعبد منى غيطة عظيمة قد خرج منها سبع، فحين رآني وحدي أقبل يهرول
إلى فذهب على أمرى وأيقنت بالهلاك وتخدر بدني كله وألهمت أن آخذ
منديلي وأحمله في رأس قصبة كانت معي ظنا أنى أقرعه بذلك وبينما أنا في
تلك الحال من الإياس وبقى بيني وبينه نحو المائتي ذراعا إذ قلع الريح أصل
حشيش يقال له بارق عينه، وصار يلتفت بالشوك حتى بقي كالكارة العظيمة
والريح تدحرجه نحو السبع وبالقضاء تمكنت منه وصار حفيف شديد فحين
رآني السبع وسمع الصوت رجع منصرفا وقد فزع فزعا شديدا وبقى يحول وجهه
في كل عشر خطوات فإذا رآني وذلك الأصل في أثره يتدحرج يزيد
295

في الجرى إلى أن بعد عنى بعدا شاسعا ودخل الغيطة وعادت إلى نفسي
ومضيت في طريقي.
حدثني القاضي أبو بكر أحمد بن سيار. قال: حدثني شيخ من أهل النير
ومكران رأيته بعمان ووجدتهم يذكرون ثقته ومعرفته بالبحر وأنه دخل
الهند والصين. قال: كنت ببعض البلدان بالهند وقد خرج على ملكها خارج
فأنفذ إليه الجيوش فطلب منه الأمان فأمنه فسار ليدخل إلى بلد الملك،
فلما قرب أخرج الملك جيشا لتلقيه وكذا الآلات وخرجت العامة تنظر
دخوله فخرجت معهم فلما قعدنا في الصحراء ووقف الناس ينتظرون طلوع
الرجل فطلع وهو راجل في عدة رجال من أصحابه وعليه ثوب حرير ومئزر
وفى وسطه جرى على زي القوم والجرى مدية معوجة الرأس من سلاح
الهند فتلقوه باكرام، ومشوا معه حتى انتهوا إلى فيلة عظيمة قد أخرجت
للزينة وعليها الفيالون ومنها فيل يحض الملك نفسه ويركبه في بعض الأوقات،
فلما قرب منه. قال له الفيال: تنح عن طريق الفيل. فسكت عنه فأعاد عليه
الفيال القول: فسكت. فقال: يا هذا احذر على نفسك وتنح عن طريق
فيل الملك. فقال له الخارجي: قل لفيل الملك يتنحى عن طريقي. فغضب الفيال
وأغرى الفيل به بكلام كلمه به فغضب الفيل وعمد إلى الخارجي فلف
خرطومه عليه فقبض الخارجي بيده على الخرطوم وشاله الفيل إشالة عظيمة
والناس يرون، وأنا فيهم وخبط به الأرض فإذا هو قد انتصب قائما على
قدميه فوق الأرض ولم ينح يده عن الخرطوم فزاد غضب الفيل فأشاله أعظم
من تلك وعدا ثم رمى به الأرض، فإذا هو قد حصل عليها مستويا على
قدميه منتصبا قابضا على الخرطوم فسقط الفيل ميتا، لان قبضه الخرطوم
تلك المدة كانت على النفس فقتله. قال: فوكل به وحمل إلى الملك وحدث
بالصورة فأمر بقتله. قال: فاجتمعت القحاب (بهذا اللفظ وهن النساء
الفواجر يفعلن ذلك بالهند ظاهرا عند البر تقربا إليه بذلك عندهم قال وهن
العدول يشهدن في الحقوق ويقمن الشهادة فيقطع بها حاكمهم في سائر الأمور
296

ويعترض في الآراء لان عندهم أنهن بذلن أنفسهم عند البر بغير أجر وقد
صرن في حكم العباد الزهاد) فقال القحاب للملك نحب أن نستبقي مثل هذا
فإن فيه جمالا للملك، ويقال إن للملك خادما قتل فيلا بقوته وحيلته من غير
سلاح فعفى عنه * عن أبي بكر محمد بن سهل الشاهد الواسطي القاضي. قال:
أخبرني وكيلان ثقتان كانا في ضعتين بنواحي الحامدة ونهر جعفر: قالا:
خرجنا مع صناع عندنا إلى أجمة نقطع قصبا فرأينا شبلا كالسنور فقتله أحد
قطاعي القصب فقالوا قطعنا الشبل، والساعة يجئ السبع واللبوة فإذا لم
يرياه طلبانا ونحن نبيت في الصحراء بين القصب فيفترسانا. قال: فما كان
بأسرع من أن سمعنا صوت السبع، فطرنا على وجوهنا واجتمعنا إلى دار
خراب خارج الأكمة وعلونا على سطحها وكان فيها غرفة عليها باب كنا
نأوى إليها ليلا فلما رأى السبع ولده قتيلا قصدنا فصار معنا في صحن الدار
الخراب وكان بين يدي الغرفة صحنين فأخذ السبع يظفر ليصير معنا فما قدر
على ذلك فولى وعلا فكه في الصحراء وصاح فجاءته اللبوة فظفرت مثله فما
وصلت فخرجا وصاحا فأتاهما عدة سباع أخرى من السباع فظفروا فما قدروا
على الوصول فلم يزالوا كذلك حتى اجتمع بضع عشرة سبعا وكلما جاء واحد
منهم ظفر إلينا فلم يبلغنا ونحن كالموتى خوفا من أن يصل إلينا واحد منهم
فبينما نحن كذلك إذا اجتمعت السباع كلها كالحلقة وجعلت أفواهها في
الأرض وصاحت صيحة واحدة فرأينا حفرة قد احتفرت في التراب من
أنفاسهما فما كان إلا ساعة حتى جاء سبع أسود هزيل متجرد الشعر طويل
فتلقته السباع كلها وبصبصت بين يديه وحوله فجاء يقدمها وهي خلفه حتى
رآنا في الغرفة وكنا قد أغلقنا الباب واجتمعنا كالحلقة لندفعه عن الدخول فلم
يزل يدفع الباب بمؤخره حتى كسر بعض ألواحه وأدخل جحره إلينا فعمد
أحدنا إلى ذنبه وقطعه بمنجل كان معنا فصاح صيحة عظيمة منكرة وهرب
فرمى بنفسه إلى الأرض فلم يزل يخمش السباع السباع الباقين من بين يديه
وهام في الصحراء وتبعه الباقون ونزلنا نحن لما لم يبق منهما شئ فلحقنا
297

القرية وأخبرناهم خبرنا فقال لنا شيخ منهم هذا السبع مثل الجرذ العتيق إذ
قطع ذنبه يأكل الفار.
حدثنا قاضى القضاة أبو السايب عتبة بن عبيد الله بن موسى الهمدان.
قال: كان رجل من أهل أذربيجان له على رجل دين فهرب منه وطالت
غيبته فلقى الدائن المدين بعد مدة في الصحراء منفردا، فقبض عليه وطالبه
فحلف بالله أنه معسر وسأله الانتظار وقال لو انى أيسر الناس لما تمكنت هنا
من دفع شئ إليك فأبى عليه وأخرج قيدا كان معه ليقيده حتى لا يهرب
فتضرع إليه وسأله أن لا يفعل وبكى فلم ينفعه ذلك فيقده بالقيد ومشى إلى
القرية بقرب الموضع الذي التقينا فيه فجاءاها مساء وقد أغلق أهلها سورها
واجتهدا في فتحها لهما فأبى أهل القرية ذلك عليهما فباتا في مسجد خراب على
باب القرية وأدخل صاحب الدين رجله في حلقة من حلقة القيد حتى لا يهرب
فجاء السبع وهما نائمان فقبض على صاحب الدين فافترسه وجره فانجر المدين
معه بسبب الحلقة التي في إحدى رجليه فلم يزل ذلك حاله إلى أن فرغ السبع
من أكل صاحب الدين وشبع وانصرف وترك المدين وقد تجرح بدنه وبقيت
ركبة صاحب الدين في القيد لحملها الرجل مع قيده إلى أهل القرية وأخبرهم
الخبر فحلوا قيده وسار لحال سبيله
حدثني أبو جعفر بن مسعود بن عبد الله الضبي أن شيخا من التنا البصريين
كان قد انتقل عنها إلى قرية له وضيعة بقرب نهر الدين فاستوطنها. قال:
كان في هذا البستان - وأشار إلى بستان بجانب داره كثير الأشجار - أفعى تسمى
الجراب لأنها كانت بقدر الجراب الكبير طولا وسعة وانتفاخا فكثرت
خيانتها حتى أخربت على هذه الضيعة فانتقلت عنها إلى الجانب الآخر
من النهر وبطلت ضيعتي وصار هذا البستان كالأجمة لا يجسر أحد على دخوله
فطلبت حواء من البصرة ليصيده وبذلت له على ذلك بذلا فجاء الحواء فتبخر
298

بدخنة معه فظهرت الأفعى فحين رآها هاله أمرها وقصدته الأفعى
فنهشته فتلف في الحال فصار لي حديث بذلك وشاع الخبر فامتنع
الحواؤن من المجئ وتغربت عن الضيعة وبطلت معيشتي فيها وذات يوم
كنت جالسا في النهر الآخر إذ جاءني رجل فسلم على وقال بلغني خبر
أفعى عندك قد قتل فلان الحواء وأخرب عليك. ضيعتك فجئت لا تدلي
عليك حتى آخذه فقلت ما أحب تعرضك لهذا وقد صار لي بتلف ذاك
الحواء ذكره فقال: إن ذلك الحواء كان أخي وأنا أريد أخذ ثأره أو
اللحوق به قلت تشهد على نفسك أهل الأنهار المجاورة إن هذا باختيارك
لا بمسألة لي في ذلك. قال نعم: ففعل وأريته البسان قال أريد شيئا آكل
فجئناه بطعام فأكل ثم أخرج دهنا كان معه فطلى به جميع بدنه. وقال
لغلام كان معه: انظر هل بقي موضع من غير ما أطليه. فقال له الصبي
لا: فجلست أنا فوق السطح الذي كان في داري أنظر فأخرج
الحواء دهنه فتبخر بها فما كان بأسرع من أن ظهر الأفعى كأنه دن فحين
قرب من الحواء هرب منه وتبعه الحواء فلحقه وقبض عليه فالتفت
الأفعى وعضت يده فتركه الحواء وذهب عليه أمره فجئناه وحملناه
فمات في الليل وانقلبت الناحية بحديث الأفعى ومضى على هذا
مدة. فجاءني رجل يشبه الرجل وسألني عما سألني عنه الاخوان فأخبرته
بالخبر. فقال: الرجلان أخواي ولابد لي أن آخذ بثأرهما أو أكون
اللاحق بهما فأشهدت عليه وأريته الموضع وصعدت إلى السطح فشرب
هذا أقداحا كثيرة وأخرج دهنا كان معه وطلى به دفعات وكل مرة
يسأل غلامه فيقول هل بقي موضع لم يبلغه الطلاء فيقول له الغلام أعد
الطلاء فيعيده حتى طلا نفسه ثلاث دفعات وصار الدهن يسقط عن بدنه
وبخر فخرج الأفعى فطلبه الحواء فأخذ الأفعى يحاربه ومكن الحاوي
يده من قفاه فانثنى عليه فعض إبهامه فبادر الحواء فخرم فاه وجعله في
سله، وأخرج سكينا وقطع ابهام نفسه، وغلا زيتا وكواها به وخر كالتالف
299

فحملناه إلى القرية فإذا بصبي من غلماني أتاني بليمونة. وكان إذ ذاك قليلا
بالبصرة جدا وعندي شجرة واحدة. فحين رأى الليمون قال يا سيدي: هذا
موجود عندكم؟ قلت: نعم. قال: أغثني بكل ما تقدر عليه فانا نعرفه في
بلدنا أنه يقوم مقام الترياق. فقلت: وأين بلدك، قال: عمان. فأتيته بكل
ما كان عندي فأقبل يقصمه ويسرع في أكله، وعمد إلى بعضه فاستخرج منه
ماء، وأقبل يتحسى منه ويطلى به الموضع فأصبح في غد معافى سالما فسألته
عن خبره قال: ما خلصني بعد الله عز وجل إلا ماء الليمون، وأظن أن أخواي
لو اتفق لهما ذلك ما تلفا فقلت له: ذلك الدهن الذي طليت به نفسك ما هو؟
قال: الطلق الذي لو طرح على الجسم لا يكون فيه خلل، وما ضرت النار
الجسم، وإنما تلف أخواي لان بعض أبدانهما خلا من الطلا وجف بعض
الدهن فقلت: وكيف تمكن منك الحية؟ قال: لطول الوقت جف بعض
الدهن فتمكن منى ولولا الليمون لتلفت فتعلمت منه استخراج ماء الليمون،
وكنت أول من استخرجه بالبصرة، ونبه الناس على منافعه وجربته في الطبخ
فوجدته طيبا وتداولته الناس قال: ثم أخرج الأفعى فقطع رأسه وذنبه وغلاه
في طنجير واستخرج دهنه وجعله في قوارير وانصرف.
حدثني عبد الوهاب بن محمد مهدى المعروف بأحمد بن أبي سلمة الشاهد
الفقيه المتكلم العسكري في سنة خمسة وخمسين وثلاثمائة بعسكر مكرم: أنه
شاهد رجلا مفلوجا حمل من أصفهان إلى عسكر مكرم ليعالج. قال: فطرح
على باب خان في الجانب الشرقي منها قد هجر وفرغ منه أكثر العقارات لكثرة
العقارب والجرارات فيه وفى خانين بجواره، وطلب له موضع ليسكنه فلم
يوجد إلا في هذا الخان. فأنزله غلمانه وهم لا يعلمون حالته، وأنه أخلى
لكثرة الجرارات فيه، وصعد أصحاب الرجل إلى السطح وتركوه في أسفله
لما وصف لهم أن المفلوج لا يبيت على السطح. قال: فلما كان في الغد دخلوا عليه
فوجدوه جالسا وكان طريحا لا يمكنه أن يتقلب من جنب إلى جنب، ووجدوا
له لسانا فصيحا، وكان متكسرا بالعلة حتى أن الرجل مشى من يومه ذلك
300

فأحضر بعض الأطباء وسأل عن حاله، ففتشه فوجد أثر لسغ الجرارة
في إبهام رجله اليسرى فقال له: انتقل الساعة من هذا الخان فإنه
مشهور بكثرة الجرارات، وقد لسعتك واحدة منهن فأبرأتك،
وعشت بشئ ما عاش به أحد قط، وقامت حرارتها ببرد الفالج فأزالته ولم
تتجاوزه فتقتلك، وسيعقب ذلك حدة وحرارة فاصبر لها حتى أعالجك
باليسير من الرطوبة فلا ترجع إليك رطوبة الفالج، وانتقل لئلا تلسعك
أخرى فتتلف فانتقل الرجل، وتعاهده الطبيب فحم المفلوج من غد. فلطف
به في علاجه حتى برأ.
حدثني عبيد الله بن محمد بن الصروي قال: كنت أتصرف مع المختار بن
الغيث بن حمران أحد قواد بنى عقيل فسار وأنا في جملته مع دكين الشيرازي
لما تغلب على الموضع يطلب ناصر الدولة، وصار العسكر منتشرا سائرا
بعجلة، وكان تحتي حجرة فصرت في أخريات الناس ثم انقطعت عن العسكر
حتى صرت وحدي ثم وردت الدابة ماء كان في الطريق وحمر ولم يمكنه أن
يسير خطوة واحدة فخفت أن يدركني من يأسرني فنزلت عنها أمشى وفى عنقي
سيف بجمائل، والمقرعة في يدي فسرت فراسخ حتى صعدت جبل سنجار،
وكنت أحتاج أن أمشى فيه نحو الفرسخ ثم أنزل إلى سنجار فاحتبسني الليل
واستنفذ المشي جلدي فخفت الوحوش في الجبل فطلبت موضعا أسكن فيه
ليلتي فلم أجد، ورأيت جبابا منقورة في الجبل فطلبت أقربها قعرا ورميت
فيه بحجر فظننت أن قعره قامة أو نحوها فرميت بنفسي فيه، وكان البرد
شديدا. فنمت ليلتي لا أعقل من التعب والجوع فلما كان من الغد انتبهت
وعندي أن الجب محفور كالآبار، وانى أضع رجلاي في جوانبه فأتسلق وأطلع
فتأملت فإذا هو محفور كالتنور رأسه ضيق وأسفله شديد السعة، وجوانبه
منقوشة فقمت في سوط الجب فإذا هو أعلى من قامتي فتحيرت في أمرى ولم
أدر كيف السبيل إلى الصعود، وطلعت الشمس وأضاء الجب، وإذا فيه
أفعى مدور كالطبق بين حجرين، وقد سدر من شدة البرد فليس ينتشر ولم
301

يتحرك من مكانه، وهممت أن أجرد السيف وأقطعه به ثم قلت أتعجل شرا
لا أدرى عاقبته، ولا منفعة لي في قتله لأني سأتلف في هذه البئر وهي قبري فما
معنى قتل الأفعى أدعه فلعله أن يبتدئ بالنهش فأتعجل التلف، ولا أرى
نفسي تخرج بالجوع والعطش فأقمت يومى كله على ذلك، والأفعى لم تتحرك،
وأنا أبكى وأنوح على نفسي. وقد يئست من الحياة فلما كان من الغد أصبحت
وقد ضعفت. فحملني حب الحياة على الفكر في الخلاص فقمت وجمعت من
الحجارة الرقيقة شيئا كثيرا، ووضعتها في وسط الجب وعلوتها لتنال يدي
طرف البئر فاحمل نفسي إلى رأسها فحين وضعت رجلي على الحجارة انهالت
لرقتها وملاستها فلم أعد عملها، وأمضيت يومى كله وأنا مشتغل البال، وجاء
الليل فلم يمكني أن أقوم من الجوع والضعف ثم حملني النوم. فلما كان من الغد
فكرت في حيلة أخرى، ووقع لي أن شددت المقرعة التي معي بعلاقتها في حمائل
السيف ودليت المقرعة إلى داخل البئر، وقد أمسكت بإحدى يدي فحصل جفن
السيف فوق الجب معترضا لرأسه، وهي مدلاة إلى ثم سللت السيف. ولم
أزل أقلع من أرض البئر ما يمكن نحته، وقلعه من تراب قليل ثم غيبت ذلك
الرضراض وتعلقت على السيف المعترض وظفرت، وصار السيف معترضا في
جفنه تحت صدري وظهرت يداى في البئر فحصل جوانبها تحت إبطي واستللت
نفسي فإذا أنا قد خرجت منها بعد أن أعوج السيف، وكاد يندق ويدخل في
بطني لثقلي عليه فوقفت خارج البئر مغشيا على من هول ما نالني، ووجدت
أسناني قد اصطكت وقوتي قد بطلت عن المشي. فما زلت أحبو وأطلب
المحجة حتى وقفت عليها، ورأني قوم مجتازون فأخذوا بيدي، وقوى قلبي
فمشيت حتى دخلت سنجار آخر النهار، وقد بلغت روحي إلى حد التلف.
فدخلت مسجدا فطرحت نفسي فيه، وأنا لا أشك في الموت وحضرت صلاة
المغرب واجتمع أهل المسجد فيه وسألوني عن خبري فلم يكن في مقدرة على
الكلام فحملوني إلى بيت أحدهم، ولم يزالوا يصبون على حلقي الماء ثم المرق
والثريد إلى أن فتحت عيني بعد العتمة فتكلمت وبت ليلتي بحال عظيم من
الألم فلما كان من الغد دخلت الحمام، وأقمت عندهم أياما حتى برأت وأخرجت
302

نفقة كانت في وسطى فاستأجرت منها مركوبا ولحقت بصاحبي وسلم الله
عز وجل * عن ديسم بن إبراهيم بن شاذلويه المتغلب كان بآذربيجان لما ورد
حضرة سيف الدولة يستنجده على المرزبان بن محمد بن مسافر السلاد لما هربه
عنها قال: إن بناحية أذربيجان واديا يقال له الرأس شديد جرية الماء جدا،
وفى أرضه حجارة كثيرة بعضها ظاهر من الماء، وبعضها مغطى بالماء، وليس
للسفن فيه مسلك، وله أجراف هائلة، وبه قنطرة يجتاز عليها المارة. قال:
كنت مجتازا عليها في عسكري فلما صرت في وسط القنطرة رأيت امرأة
تمشى وتحمل ولدا طفلا في القماط فزاحمها بغل محمل فطرحت على القنطرة
فزعا فسقط الطفل من يدها إلى النهر فوصل إلى الماء بعد ساعة لبعد ما بين
القنطرة وصفحة الماء ثم غاص وارتفعت الضجة في العسكر ثم رأينا الصبي قد
طفا على وجه الماء، وقد سلم من تلك الحجارة، وكان الموضع كثير العقبان ولها
أوكار في أجواف هذا النهر، ومنها يصطاد أفراخها. قال: فحين ظهر الطفل في
قماطه صادف ذلك عقابا طائرا فرآه فظنه طعمة، وانقض عليه وشبك مخالبه
في القماط، وطار به وخرج إلى الصحراء فطمعت في تخليص الطفل فأمرت
جماعة آن يركضوا وراء العقاب ففعلوا وتبعتهم بنفسي لمشاهدة الحال فإذا
العقاب قد نزل إلى الأرض وابتدأ يمزق قماط الصبي ليفترسه فحين رأوه صاحوا
بأجمعهم وقصدوه ومنعوه عن الصبي فطار وتركه على الأرض فلحقنا الصبي فإذا
هو سالم ما وصل إليه جرح وهو يبكى فقايأناه حتى خرج الماء من جوفه وحملناه
سالما إلى أمه.
حدثنا أبو محمد بن الحسن بن المظفر الكاتب المعروف بالحاتمي قال: رأيت
بمصر رجلا يعرف بابن التمساح. فسألت جماعة من أهل مصر عن ذلك فقالوا:
هذا وطئ التمساح أمه فولدته. فكذبت ذلك وبحثت عن الخبر. فأخبرني
جماعة من عقلاء أهل مصر أن التمساح بها يأخذ الناس في الماء من الشطوط
القربية فيفترسهم وربما أخذهم إلى جباله، وهي جبال حجارة فيها مفارات
إلى النيل لا يصل إليها الماشي ولا سالك الماء لبعدها عن الجهتين فيتسلق
303

التمساح إلى بعض المغارات فيودع بها الانسان الذي أخذه حيا أو ميتا بحسب
الاتفاق ويتركه ويذهب فإذا جاع ولم يظفر بشئ عاد إليه فيفترسه فمرة
واحد منهم قبض على امرأة وجعلها في المغار فذكرت المرأة أنها حين
استقرت في المغار وانصرف التمساح رأت رجلا حيا وأثر جماعة قد افترسهم
التمساح وأنها قد سألت الرجل عن أمره فذكر أن التمساح تركه هنا منذ يومين
قالت وأخذ الرجل يؤنسني إلى أن طالبني بنفسي. فقلت يا هذا: اتق الله.
فقال: التمساح قد مضى ومن ساعة إلى ساعة فرج ولعله أن يحتاز بنا سفينة
قبل عودته فنطرح أنفسنا إليها وننجو فوعظته، ولم يلتفت إلى كلامي واغتصبني
فواقعني ولم ينزل عنى حتى جاء التمساح وأخذه من فوقى ومضى فبقيت كالميتة
فزعا فإني لكذلك إذ سمعت وقع حوافر الخيل وصليل لجم وصوت أقوام
كثيرين فأخرجت رأسي من الغار وصحت واستغثت فأطلع بعضهم وقالوا
ما أنت. قلت حديثي طويل ارموا لي حبلا فشددت نفسي وجزبوني فصرت
معهم على ظهر المغار بعد أن توهمت وانسلخ بعض جلدي فسألوني عن خبري
فأخبرتهم حديث التمساح فأركبوني شيئا حتى دخلت البلد فلما كان في وقت
حيضي تأخر عنى ثم ظهر الحمل فولدت ابني هذا بعد تسعة أشهر وكرهت
أن أخبر الناس بالحديث فنسبته إلى التمساح.
حدثني أبو القاسم بن الأعلم العلوي الفيلسوف. قال: خرجت من بغداد
أريد الكوفة فلما صرت بينها وبين حمام عمرو قرية من الكوفة أفضيت إلى أجمة
هناك، وكنت قد تقدمت الرفقة وكنت راكبا حمارا وورائي بمسافة قريبة غلام
مملوك لي راكبا بغلة فلما وصلنا للأجمة رأيت ممشاة دقيقة في وسط الأجمة وعليها
المسلك ويوصل إليها بهبوط فرمت النزول إليها فوقف الحمار من تحتي فضربته
ضربا شديدا فلم يبرح فالتفت إلى كفله أتأمل ما بقوائمه فوجدت أسدا واقفا
بينه وبين كفل الحمار نحو ذراع وأقل وإذا بالحمار عندما شم رائحته أصابته رعدة
عظيمة فرسخت قوائمه في الأرض ولم يتحرك فلم أشك في التلف وأن الأسد
سيمد يده فيجذبني من على الحمار فغمضت عيني لئلا أرى كيفية وجودي
304

في مخالبه وفمه وأقبلت أتشهد وأقرأ ومع هذا أجد عقلي ثابتا ومتصورا
لهيئة الأسد ولم يفدني التغميض شيئا فاستدرت إليه وفتحت عيني في عينه
وأقبلت أتشهد خفيا والأسد فاتح فاه، وأنا أتأمل أسنانه ويصل إلى أنفى من
فمه روائح منتنة وإني لكذلك إذ لحقني الصبي المملوك على البلغة ومعه رجل
ركب دابة ووراءهما قوم مشاة فحين رآني والأسد على تلك الصورة جزع
جزعا شديدا وصاح بأعلى صوته يا معشر المسلمين ادركونا فقد أفترس الأسد
مولاي فحين سمع الأسد الصياح من ورائه التفت فرأى الصبي فتناوله من على
سرجه وغار البغل وصار الصبي في فم الأسد كالفأرة في فم السنور وأنا
كالميت إلا أنى أرى كل شئ وأقبل الأسد يحمل على راكب الدابة والمشاة
والصبي في فمه فهربوا منه ودخل الأجمة فقلت في نفسي قد فداني الله عز وجل
بمملوكي فرميت نفسي من على الحمار وسرت أعدو حتى تلقاني قوم قد جاؤوا
من الكوفة ورأوا فزعي فسألوني عن أمرى فأخبرتهم فتقدموا يطلبون
الأسد وردت إلى روحي فزدت في الجرى إلى أن خرجت من الأجمة ولحقتني
الرفقة الذين كنت معهم وقد أحضروا البغلة التي كانت تحت مملوكي وساقوا
فركبت ودخلت الكوفة قال وكان هذا يوم الثلاث غرة المحرم سنة ثمان
وثلاثين وثلاثمائة فصمت يومى واعتدت أن أصومه أبدا فأنا كل يوم ثلاثاء
صائم إلى الآن. وجاءني أبو عمر بن يحيى وهنأني بالسلامة وبقدومي وقد كان
خبري شاع وقال في جملة كلامه كيف خفت الأسد؟ أو ما علمت أن لحومنا بنى
فاطمة محرمة على السباع؟! فقلت له مثل سيدنا أطال الله بقاه لا يقول مثل هذا
وما الذي كان يؤمنني أن يكون هذا الخبر باطلا فأتلف. وكيف كانت نفسي
مع طبع البشرية تطيق هذا في مثل ذلك الوقت مع احتمال هذا الحديث
قال ولم لا تطيق وكيف يجوز أن يكون هذا الخبر باطلا مع ما روينا من
خبر زينب الكذابة مع علي بن موسى الرضا رضي الله عنه. قال: فقلت له بلى
قد رويت ذلك ولكن لم يحضرني فكرى من هذا شئ في تلك الحال.
قال مؤلف الكتاب فقلت أنا لأبي القاسم الأعلم: وما خبر زينب الكذابة
305

فإني ما سمعته. قال: هذا خبر مشهور عند الشيعة. يروى بإسناد لهم لا أحفظه
أن امرأة يقال لها زينب ادعت أنها علوية فجئ بها إلى علي بن موسى الرضا
رضي الله عنهم فدفع نسبتها فخاطبته بكلام دفعت به نسبه ونسبته إلى مثل
ما نسبها له من الادعاء، وكان ذلك بحضرة الخليفة. فقال الرضا: أخرج أنا
وهذه إلى بركة السباع فإني رويت عن آبائي عن النبي صلى الله عليه وسلم ان
لحوم ولد فاطمة رضي الله عنها محرمة على اكل السباع فمن أكلته السباع فهو
دعى. فقالت المرأة: لا أرضى بهذا ودفعت الخبر فأجبرها السلطان على ذلك.
فقالت: فلينزل هو قبلي، فنزل الرضا رضي الله عنه بركة السباع بمحضر
من خلق عظيم فلما رأته السباع أقعت على أذنابها فدنا منها ولم يزل يمسح
رأس كل واحد منها ويمر بيده إلى ذنبه والسبع يبصبص له حتى أتى
على آخرها ثم ولى، وكرهت المرأة النزول وأبته، فأجبرت على ذلك
فحين نزلت وثب عليها بعض السباع فافترسها ومزقها فعرفت بزينب
الكذابة.
وروى عن جماعة من شيوخ البحرين الذين ترددوا إلى بلد الهند أنهم
سمعوا هناك حكاية مستفيضة أن رجلا كان معاشه صيد الفيلة. قال:
استخفيت مرة في شجرة عالية كثيرة الورق في غيضة كانت تجتاز
بها الفيلة من شرائع الماء التي تردها إلى مرتعها فاجتاز بي قطيع منها
وكانت عادتي أن أدع القطعان تجوز إلى أن يبلغ آخر فيل فأرميه
بسهم مسموم في بعض مقاتله فتفزع الفيلة وتمضى فإذا مات المجروح
نزلت فاقتلعت أنيابه وسلخت جلده وأخذت ذلك وبعته في البلاد فلما
اجتاز بي هذا القطيع رميت آخر فيل كان فيه فخر فاضطربت الفيلة وأسرعت
إليه فإذا أعظمها قد عاد فوقف عليه وتأمل السهم والجرح ورجعت
معه الفيلة ووقفت بوقوفه فما زال قائما والفيل المجروح يضطرب إلى
أن مات فضج ذلك الفيل ضجيجا عظيما وضجت الفيلة ثم انتشرت في الغيضة
ففتشوها شجرة شجرة فأيقنت بالهلاك. وانتهى الفيل الأعظم إلى
306

الشجرة التي أنا فيها واتكأ عليها فإذا هي قد انكسرت على عظمها وضخامتها
وسقطت الشجرة إلى الأرض فلم أشك أن الفيل سيدوسني فإذا به قد جاء
حتى وقف يتأملني، وأجحمت الفيلة عنى فلما رآني الفيل الأعظم، ونظر
إلى قوسي وسهامي لف خرطومه فلواه على وأنزلني إلى الأرض وأخذ يومئ
بخرطومه إلى ثعبان كان هناك برفق وتملق فسددت سهما إلى الثعبان ورميته
فأصبته، وتابعت رميه فانصرف مثخنا فتقدم الفيل إليه فداسه ثم عاد
فأخذني بخرطومه وحطني على ظهره، وجعل يهرول والفيلة خلفه فجاء إلى
غيطة لم أكن أعرفها أعظم من تلك التي أخذني منها فإذا هي فراسخ وفيها فيلة
ميتة لا يحصيها إلا الله عز وجل وأكثرها قد بلى جسده وبقيت عظامه فما زال
يتتبع الأنياب ويجمعها، ويومئ إلى فيل فيجئ إليه فيعبى عليه ما يمكنه أن
يعبيه عليه من ذلك إلى أن لم يدع هناك نابا إلا جمعه، وأوقر تلك الفيلة ثم
أركبني على ظهره وأخذ بي على طريق العمارة، واتبعته الفيلة فلما شارف
القرى أومى إلى الفيلة فطرحت أحمالها حتى لم يبق منها شئ ثم أنزلني
بخرطومه برفق وتركني عند الأنياب، وقد صارت تلا عظيما قائلا فجلست
عندها متعجبا من سلامتي، ورجع الفيل يريد الصحراء، ورجعت الفيلة
برجوعه، وأنا لا أصدق بسلامتي، ولا بما شاهدت من عظم فطنة الفيل
وذكائه. فلما غابت الفيلة عن عيني مشيت إلى أقرب القرى منى
واستأجرت خلقا كثيرا حتى خرجوا معي وحملوا تلك الأنياب في أيام وما
زلت أبيعها في تلك المدة حتى حصل لي مال عظيم كان سبب يساري وعنائي
عن صيد الفيلة.
عن مروان بن شعيب العدوي، عن عدى بن ربيعة قال: كنت في حداثتي
شديد القوة، وكانت عندي زوجة لي من عبد القيس ببلدة منارة وهي
قريبة من تل أهواز على أربع فراسخ، وعندي قوم من أهل المرأة، ونحن
نشرب فتفاخرنا حتى انتهينا إلى تجريد السيوف فحجز بيننا مشايخ القرية وبدر
لساني أن حلفت بالطلاق أن لا أبيت بمنارة فخرجت منها أريد منزلي بتل
307

أهواز ومعي سيفي وحجفتي، وكان ذلك ليلا فسرت في الطريق وحدي،
وبلغت إلى أجمة لابد من سلوكها. فما سرت فيها قليلا سمعت ضجة من
ورائي قبيحة فجردت سيفي ورجعت أطلب الصوت فوجدت أسدا قد افترس
رجلا وهو الذي صاح، وهو في فم الأسد عرضا بثيابه فصحت في الأسد فرمى
الرجل ورجع إلى فقاتلته ساعة ثم وثب على وثبة شديدة فلطيت الأرض ثم
جمعت نفسي في حجفتي، فلشدة وثبته جازني فصار ورائي فأسرعت الوثوب
وبعجته بالسيف في فمه، وكان سيفا ماضيا فدخل في فيه وخرج من لحيته فخر
صريعا يضرب فتداركته بضربات كثيرة حتى تلف، وعدت إلى الرجل فوجدته
يتنفس ولا يعقل فحملته إلى الجادة، وكانت ليلة مقمرة، وتأملته فإذا هو تاجر
من تل أهواز أعرفه فلم تطب نفسي بتركه أصلا فجعلته عند الجادة، وعدت
فأخذت رأس السبع وحملته والرجل وحصلتهما في صبيغة كانت على، والصبيغة
إزار أحمر يتشح به العرب في تلك الناحية، وكان الأسد في خلال قتالي قد
ضرب فخذي بكفه فأحسست به في الحال كغرز الإبرة لما كنت فيه من الهول
فلما حصلت أمشى حاملا لرأس الأسد والرجل أحسست بالألم، ورأيت الدم
يجرى وقوتي قد ضعفت فصبرت نفسي حتى بلغت تل أهواز وقد أصبحت فنكر
أهل القرية الجراح، وسألوني عن خبري فألقيت الصبيغة التي بها الرجل
والرأس فاستهولوا الحال لما حدثتهم بها وفتشوا الرجل فوجدوا في بدنه
خدوش كثيرة فأخذوه ورمت أن أمشى يسيرا إلى منزلي فلم أقدر حتى حملت،
وكنت أعالج من تلك الجراح مدة، وعولج الرجل فبرأ قبلي، وهو حي إلى
الآن يسميني مولاي ومعتقي. قال: وجراحاتي لصعوبتها تنتقض
على في أغلب الأوقات. قال صاحب الحكاية: وأراني الجرح، وكان
عظيم الفتح. فلم أكن أعلم سببا لشكرنا وعربدتنا إلا نجاة ذلك الرجل
من السبع.
قال رجل يعرف بعبد العزيز بن الحسن الأزد، من تجار القصب بالبصرة
قال: كنت يوما جالسا في القصباء، وقد أخرج من النهر قصب رطب فعمل
308

كالقباب على العادة فيما يراد تجفيفه من القصب، وكان يوما صائفا،
وكدني الحر، فدخلت أحدى تلك القباب القصب، وهي تكون باردة جدا
وعادة التجار أن يسكنوا بها فنمت في القبة فلبردها استثقلت في النوم.
فانتبهت بعد العصر، وقد انصرف الناس من القصباء، وهي موضع بالبصرة
في أعلاها صحراء وبساتين فاستوحشت للوحدة، وعملت على القيام فإذا
بأفعى غليظ الساعد طويل متدور على باب القبة كالطبق، ولم أجد سبيلا
إلى الخروج، ويئست من نفسي وتحيرت وجزعت جزعا شديدا. فأخذت
في التشهد والتسبيح والفزع إلى الله تعالى، وإني لكذلك إذ جاء ابن عرس
من بعيد فلما رأى الأفعى تأمله ثم رجع من حيث جاء، وأتى ثانيا ومعه ابن
عرس آخر فوقف أحدهما يتأمله على يمين القبة، والآخر على اليسار، وصار
أحدهما عند رأس الحية والآخر عند ذنبه، والحية غافلة عنهما ثم وثبا عليه
في آن واحد وعضاه فاضطرب ولم يفلت منهما وجراه حتى بعدا عن عيني
فخرجت من القبة سالما.
عن الحسن بن علي الأنصاري المقرئ بالرملة، وكان فارسا فاتكا شجاعا
جلدا قال: خرجت في قافلة من الرملة صاحبها ابن الحداد وأنا على مهر لي،
وعلى سلاحي، فبلغنا في ليلة ظلماء إلى واد عميق جدا عمقه نحو فرسخ، وفى
بطنه ماء يجرى وعليه شجر كثير، وهو مشهور بالسباع والطريق على جنبه
في مضيق فازدحمت القافلة فسقط جمل عليه بز فرأيت صاحبه يلطم ويبكى،
وكان موسرا فدعاه ابن الحداد، وقال له: أنت رجل موسر فما هذا الجزع؟
فقال له: على الجمل أكثر من عشرة آلاف دينار. فنادى في القافلة من ينزل
ويخلص الجمل ويرده إلى صاحبه وله ما يشاء؟ فلم يجسر أحد على ذلك فلما كرر
النداء أجبته وقلت: عجل لي الدنانير. فقال: لا ولكن أكتب لك بها الساعة
كتابا.، وأشهد من في القافلة فإذا صار الجمل وحمله مع ما فيه من المال عندي
فالمال لك فكتبنا كتابا بذلك وأشهدنا القافلة، وأعطيتهم دابتي ورحلي
أخذت سيفا وحجفة وشمعة، ودنوت للنزول فرأيت منزلا غرني فاستعجلت
309

بسلوكه فنزلت ساعة حتى صرت على جانب الوادي فإذا هو واد مشجر فيه
أثر الرعاة والغنم ثم لم أجد طريقا إلى أسفل، وكان سبيلي أن أرجع وأرتاد
المنزل من جهة أخرى فحملني ضيق الوقت والحرص على الدنانير أن جعلت
أتوغل وأتنقل من شجرة إلى شجرة، ومن حجر إلى حجر حتى حصلت في
جنب الوادي على صخرة ملساء كالرف، وليس لها إلى أسفل طريق البتة
فاطلعت بالشمعة فإذا بيني وبين القرار نحو عشرين ذراعا، وفى أسفل الوادي
بردى كثيف يجرى بينه الماء، وله خرير شديد فأجمعت رأيي على أن ألقى
نفسي، وأطفأت الشمعة وشددتها مع حمائل السيف مع الحجفة وألقيت ذلك
في موضع علمته عن يميني ثم جمعت نفسي فوثبت في وسط البردى فوقعت
على شئ ثار من تحتي ونفضني بعد أن صاح صيحة ملا بها الوادي،
وإذا هو أسد فشق الوادي، وسعى هاربا فوقف بأذائي من جانب الوادي
الآخر فطلبت سيفي وحجفتي حتى أخذتهما، ووقفت أنتظر أن يمشى فأطلب
الجمل فأقبل يريدني فمشيت بين يديه في ذلك البردى، وهو في أثرى يخوض
الماء ويشق البردى، وأنا أخاتله من موضع إلى موضع فطلع القمر فأبصرت
بناء خفيا فقصدته فإذا هو بيت رحى يديرها الماء فدخلت فيه ثم فكرت
فقلت هذا مأوى السبع والساعة يجيئني فخرجت منه وجئت إلى شجرة كبيرة
فقطعتها بالسيف من نصف ساقها وجررتها، ودخلت بيت الرحى فامتلأ
الباب بها وجلست في الداخل، وساق الشجرة في يدي فما كان إلا مقدار
الجلوس حتى أحسست بالأسد يزحم الشجرة، وهو يروم الدخول فاستندت
إلى الحائط وأمسكت ساق الشجرة أدافعه بها حتى ملني ومللته ثم ربض بالباب
إلى أن أسفر الصبح فلما كادت الشمس تطلع مضى لحال سبيله فأقمت إلى
أن انبسطت الشمس حتى أمنته، ثم خرجت فما زلت أطلب أثر الجمل حتى
انتهيت إليه فإذا هو قد تقطع من أثر السقطة والعدلان مطروحان، وكانوا
أمروني بفتقهما واستخراج المال منهما. وحمله إن لم أقدر على تخليص الجمل
وحلم العدلين ففعلت ذلك وحملت المال على ظهري وطلبت المصعد، وقد
علت الضحى فصعدت فيه. فلما صرت برأس الوادي إذا ببادية مجتازين
310

فقصدوني فمانعتهم عن نفسي بالسيف فلم أطلقهم فضربوني بالسيوف. فقلت
لشيخ رأيته كالرئيس لهم، إلى الزمام على ما معي حتى أصدقك وأنفعك نفعا
كثيرا. فقال: أصدقني حتى أعطيك الزمام فحدثته بالحديث فأخذوا المال
وساروا بي معهم حتى وقفوا على العدلين فاحتملوها وضرب الشيخ يده في
المال فحثى منه ثلاث حثوات وأعطاها لي فأخذتها، وقلت إن هذا لا ينفعني
إن لم تبلغوني مأمني فأناخ جملا وحملني عليه وسار بي سيرا حثيثا حتى أتى بي
القافلة على بعد ثم أنزلني، وقال الحق رفقتك، فما عليك من أحد بأس.
فمشيت حتى لحقت القافلة، وقد خبأت تلك الدنانير في سراويلي فعرفتهم
بما جرى وبما أخذته البادية وكتمتهم ما أعطونيه ودخلنا طبرية، فشكوا
إلى أميرها أبى عثمان مولى بنى عقيل. فأسرى إلى الاعراب فارتجع منهم
أكثر المال والثياب ورده إلى صاحبه وكنت أنا لما دخلت طبرية فارقتهم
ودخلت مصر ولحقوني وبلغني ما رد عليهم. فقلت لصاحب المال: قد بذلت
مهجتي وأفلت من الأسد ومن الموت مرارا ومن الاعراب حتى وصل إليك
بعض مالك فلا أقل من أن توصلني إلى بعض ما كنت قد وعدتني به فأعطاني
مائتي دينار، فأضفتها إلى ما أعطانيه الاعراب فإذا الجميع ستمائة دينار مع
السلامة من تلك الشدائد.
وجدت أيضا أن رجلا وفد على هشام فقال يا أمير المؤمنين: لقد رأيت
في طريقي عجبا. فقال وما هو: قال. بينما أسير بين جبلى طي إذ نظرت فإذا
عن يميني أسد كالبغل وعن يسارى ثعبان كالحبل وهما مقبلان نحوى ففزعت
منهما ورفعت رأسي إلى السماء وقلت شعرا:
يا دافع المكروه قد تراهما * فنجني يا رب من أذاهما
ومن أذى من كادنى سواهما * لا تجعلني شلوى من قراهما
قال: فقربا منى فشماني حتى لم أشك في الموت ثم صدرا عنى فنجوت
ولله الحمد.
311

بلغني عن القاضي القضاة أبى السائب ولم أسمع ذلك منه. قال: وافيت
من همدان إلى العراق وأنا فقير وزرت قبر الحسين رضي الله عنه فلما
انصرفت أريد قصر بن هبيرة قيل أن الأرض مسبعة وأشير على أن ألحق
قرية فيها حصن سميت لي فآوى إليها قبل المساء وكنت ماشيا فأسرعت
وأتعبت نفسي إلى أن لحقت القرية فوجدت باب الحصن مغلقا فدفعته فلم
يفتح لي وتوسلت للقائمين بحراسته بمن قصدت زيارته. فقالوا قد أتانا منذ
أيام من ذكر مثل ما تذكر فأدخلناه وآويناه فكان عينا علينا للصوص وفتح
الباب ليلا وسلبونا ولكن الحق بذلك المسجد وكن فيه لئلا تمسى فيأتيك
السبع فصرت إلى المسجد فدخلت بيتا كان فيه وجلست فلم يكن بأسرع من
أن جاء رجل على حمار منصرفا من الحائر فدخل المسجد وشد حماره في حلق
كان في باب البيت ودخل إلى ومعه كرز فيه خرج فأخرج منه سراجا
فأصلحه وقدح فأوقدها وأخرج خبزه وأخرجت خبزى واجتمعنا على الاكل
فما نشعر إلا والسبع قد حصل في المسجد فلما رآه الحمار دخل إلى البيت الذي
كنا فيه فدخل السبع وراه فخرج الحمار وجذب باب البيت بالرسن فأغلقه
علينا وعلى السبع وصرنا محبوسين فيه وقدرنا أن السبع لا يفترسنا بسبب
السراج وأنه إذا انطفئ أخذنا وأكلنا وما طال الامر أن فنى ما كان في السراح
من الدهن وطفئ وصرنا في الظلمة والسبع معنا فما كان عندنا من حاله شئ
إلا إذا تنفس فإنا كنا نسمع نفسه وراث الحمار من فزعه فملا المسجد روثا
ومضى الليل ونحن على حالنا وقد كدنا نتلف فزعا ثم سمعنا صوت الآذان
من داخل الحصن وجاء المؤذن فدخل المسجد فلما رأى ما فعله الحمار لعن
وشتم وحل رسن الحمار من الغلق فمر يطير في الصحراء وفتح المؤذن باب
البيت لينظر من فيه فوثب السبع إليه فدقه وحمله إلى الأجمة وقمنا نحن
وانصرفنا سالمين.
بلغني عن أبي عيسى محمد بن محمد بن علي بن مقلة. قال: كنت عند أبي
الحسن علي بن عمر بن يحيى العلوي بالكوفة إذ دخل عيله غلام له. فقال:
312

يا مولاي أخذ الأسد فلانا وكيلنا. فانزعج وقال: في أي محل. فقال: في
موضع كذا وأدخله الأجمة الفلانية. فقال العلوي: لا إله الا الله في هذا
الموضع بعينه أخذ الأسد أباه وأدخله إلى هذه الأجمة بعينها منذ كذا وكذا
سنة، فاغتم فأخذنا نسليه فعاد إلى شأنه في المحادثة، وأنا قاعد أحدثه إذ دخل
عليه غلمانه مبادرين. وقالوا: قد نجى الوكيل من الأسد وحضر فما تم
كلامه إلا ودخل الوكيل فبش له العلوي وسأله عن خبره. فقال نعم: أخذني
السبع كما شاهد من حدثكم وكنت راكبا فحملني بفمه كما تحمل السنور
بعض أولادها إلا أنه ما كلمني فأدخلني الأجمة وقد زال عقلي فما أعرف من
أمرى شيئا إلا أنى أفقت فلم أره ووجدت أعضائي سالمة ووجدت حولي من
الجماجم والعظام أمرا عظيما ولم تزل قوتي تعود إلى أن قمت فعثرت بشئ فإذا
هو هميان فأخذته وشددته على وسطى ومشيت إلى أن بعدت عن الموضع
فوصلت إلى شبية بوهدة فجلست فيها وغطيت نفسي بما أمكنني من القصب
بقية ليلتي فلما طلعت الشمس أحسست بكلام المجتازين وحوافر بغالهم
فخرجت وعرفتهم قصتي وركبت بغل أحدهم فلما بعدت عن الأجمة وأمنت
على نفسي فتحت الهميان فإذا فيه رقعة فتأملتها فإذا هي بخط أبى بأصل
ما كان في الهميان من الدنانير وما أنفقه فإذا هو هميان أبى الذي كان
في وسطه عندما افترسه الأسد فحسبت الخرج ووزنت الدنانير فإذا هي
بإزاء ما بقي من الأصل ما نقصت شيئا. قال: وأخرج الهميان وفتحه
وأخرج الرقعة فقال العلوي نعم هذا خط أبيك فعجبت الجماعة من ذلك.
بلغني عن رجل من أهل الأنبار. قال: خرجت إلى ضيعة لي في ظاهر
الأنبار راكبا دابة كانت معي، ومعي عبد أسود مملوك في نهاية الشجاعة فلما
صرنا في بعض الطريق بالقرب من الضيعة إذ نشأت سحابة فأمطرت وكان
المطر قد أدركنا فملنا إلى قباب كانت كالأسرة تبنيها على الطريق وعلى السابلة
فلجأنا إليها وقوى المطر جدا حتى منعنا من الحركة فأشار على الغلام بالمبيت
فقلت له نخاف ويلك اللصوص. فقال لي أتخاف وأنا معك. فقلت فالسبع
قال نصير الدابة داخل القبة وأنت تليها وأنا عند الباب وأشد وسطى بالحبل
313

الذي معنا وأشد طرفه برجلك حتى لا يأخذني النوم فإن جاء الأسد أخذني
دونك. وما زال يحسن لي ذلك الرأي حتى أطعته وملنا إلى أحد القباب ودخلناها
وفعل ما قال فلا والله ما مضت قطعة من الليل حتى وافى السبع فأخذ الأسود
ودقه واحتمله وجر رجلي المشدودة معه في الحبل ولم يزل يجرني على الشوك
والحجارة والدكادك إلى أن صار إلى أجمته وأنا ألا أعقل شيئا من أمرى
ولا أحس بأكثر مما يجرى ولا تمييز لي يؤديني إلى الاجتهاد في حل الحبل
من رجلي ثم رمى بالأسود وربض عليه وما زال يأكل منه حتى شبع وترك
ما فضل منه وليس في من حس الحياة غير النظر فقط ثم مضى فنام بالقرب
من مكاننا وبقيت زمانا على تلك الحال ثم سكن روعي وثاب إلى فهمي ورجعت
إلى نفسي فحللت رجلي من الحبل المشئوم وقمت لأدب فعثرت بشئ لا أدرى
ما هو فأخذته بيدي فإذا هو هميان ثقيل فشددته في وسطى وخرجت من
الأجمة وقد قارب الصبح أن يسفر ومشيت إلى القبة التي فيها دابتي فإذا هي
واقفة بحالها فأخرجتها وركبتها وانصرفت إلى منزلي فوجدت في الهميان جملة
دنانير فحمدت الله عز وجل على السلامة وبقى الرعب في قلبي والتألم في جسدي.
314

الباب العاشر
من اشتد بلاؤه بمرض ناله * فعافاه الله سبحانه بأيسر سبب وأقاله
روى بإسناد آخره عن عثمان بن أبي العاص الثقفي، قال: شكوت إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وجعا قد كان يبطلني، قال: فقال لي يا عثمان: ضع يدك
عليه وقل " أعوذ بعزة الله وقدرته من شر هذا الوجع، ومن شر ما أجد "
سبع مرات. قال: فقلتها فشفاني الله، وعن ابن جعدية قال: مرض أبو عزة
الجمحي الشاعر فكانت قريش لا تؤاكله ولا تجالسه. فقال: الموت خير من
هذه الحياة فأخذ حديدة ودخل بعض شعاب مكة فطعن بها في المعدة والمعدة
موضع عقبى الراكب من الدابة. قال ابن الجعدية: فمرت الحديدة بين الجلد
والصفاف فسال منه ماء أصفر فقال:
لا هم رب نائل ونهد * والمهمات والجبال والجرد
من بعد ما طعنت في معد
قال مؤلف الكتاب: كذا في كتاب الطوسي، والصواب عندي:
لا هم ورب من يرعى بياض نجد * أصبحت عبدا لك وابن عبد
أبرأتني من وضح بجلدي * من بعدما طعنت بها في معد
حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن البهلول التنوخي قال:
كان ينزل باب الشام من الجانب الغربي من بغداد رجل مشهور بالزهد
والعبادة يقال له لبيب العابد لا يعرف إلا بهذا، وكان الناس ينتابونه،
وكان صديقا لأبي فحدثني لبيب قال: كنت مملوكا روميا لبعض الجند فرباني
وعلمني السلاح حتى صرت رجلا، ومات مولاي وتزوجت بامرأته، وقد
علم الله أنى ما أردت بذلك إلا صيانتها، وأقمت معها مدة ثم اتفق لي أنى
رأيت حية داخلة إلى حجرها فأمسكت ذنبها لأقتلها فانثنت علي فنهشت يدي
فشلت، ومضى على ذلك زمان طويل فشلت يدي الأخرى بغير سبب أعرفه
315

ثم جفت رجلاي ثم عميت ثم خرست. فكنت على هذه الحال ملقى سنة
كاملة لم يبق لي جارحة صحيحة إلا سمعي أسمع به ما أكره، وأنا طريح على
ظهري، ولا أقدر على كلام، ولا إيماء، ولا حركة أسقى وأنا ريان وأطعم وأنا
شعبان، وأترك وأنا جائع. فلما كان بعد سنة دخلت امرأة إلى زوجتي وقالت:
كيف أبو علي؟ فقالت لها زوجتي: لا هو حي فيرجى، ولا ميت فيسلى.
فأقلقني ذلك وآلم قلبي ألما شديدا، وضججت إلى الله عز وجل في سرى
بالدعاء، وكنت في جميع تلك العلل لا أجد ألما في نفسي فلما كان بقية ذلك
اليوم ضرب على جسدي ضربا شديدا كاد يتلفني، ولم أزل على ذلك الحال إلى
أن دخل الليل وانتصف، وخف الألم قليلا فنمت فما أحسست إلا وقد انتبهت
وقت السحر وإحدى يداى على صدري فتعجبت من ذلك في نفسي وقلت:
كيف صارت يدي على صدري، ومن رفعها إليه؟! وكانت طول هذه المدة
مطروحة على فراشي لا ترفع؟ إلا أن شالها أحد لي ثم وقع في قلبي تحريكها
فتحركت ففرحت فرحا شديدا وقوى طمعي في فضل الله عز وجل بالعافية
فحركت الأخرى فتحركت فقبضت إحدى رجلي فانقبضت فرددتها فرجعت
وفعلت مثل ذلك بالأخرى، ورمت الانقلاب من غير أن يقلبني أحد كما
كان يفعل بي فانقلبت بنفسي فجلست، ورمت القيام فأمكنني فقمت فنزلت
من على السرير الذي كنت مطروحا عليه، وكان في بيت من الدار فمشيت
أتلمس الحائط من الظلمة لأنه لم يكن هناك سراج إلى أن وقفت على الباب،
وأنا لا أطمع في بصرى فخرجت من البيت إلى صحن الدار فرأيت السماء
والكواكب مزهرة، وكدت أموت فرحا وانطلق لساني وقلت يا قديم
الاحسان لك الحمد، ثم صحت بزوجتي فقامت وقالت: أبو علي. فقلت لها: الساعة
صرت أبو علي اسرجي فأسرجت فقلت: جيئيني بمقراض فجاءت به فقصصت
شاربا كان لي بزي الجند فقالت زوجتي: ما تصنع الساعة؟ تعبك رفقاؤك
فقلت: بعد هذا لا أخدم غير ربى، فانقطعت إلى الله عز وجل، وخرجت
من الدار وطلقت الزوجة، ولزمت عبادة ربى. وقال أبو الحسن: خبر هذا
معروف مشهور، وكانت هذه الكلمة لا تفارقه، وهي: يا قديم الاحسان
316

لك الحمد، وصارت عادته يقولها في حشو كلامه، وكان يقال: إنه مجاب
الدعوة فقيل له: إن الناس يقولون إنك رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم في منامك فمسح يده عليك فبرأت. فقال: ما كان لعافيني سبب
غير ما عرفتك.
حدثني محمد بن علي الخلال البصري أحد أبناء القضاة، قال: حدثني بعض
الأطباء الثقاة أن غلاما من بغداد كان عليلا فقدم الري وهو ينفث الدم،
وكان قد لحقه ذلك وهو في طريقه فاستدعى أبا بكر الرازي الطبيب المشهور
بالحذق صاحب الكتب المصنفة فأراه ما ينفث، ووصف له الحال. فأخذ
الرازي مجلسه، ورأي قارورته، واستوصف حاله منذ ابتدأت العلة به فلم
يقم له دليل على سل ولا قرحة ولم يعرف العلة فاستنظر الرجل ليفكر في
الامر فقامت على العليل القيامة، وقال: هذا يأس لي من الحياة لحذق
الطبيب وجهله بالعلة فازداد ما به وولد الفكر للرازي أن عاد إليه وسأله عن
المياه التي شربها في طريقه فأخبره أنه شرب من مستنقعات وصهاريج فقام في
نفس الرازي بحدة الخاطر وجودة الذهن أن علقة كانت في الماء وقد حصلت
في معدته، وأن ذلك النفث للدم من فعلها وقال له: إذا كان في غد جئتك
فعالجتك، ولم أنصرف حتى تبرأ ولكن بشرط أن تأمر غلمانك أن يطيعوني
فيما آمرهم به فيك. قال: نعم. وانصرف الرازي وتقدم وجمع له ملا
مركنين من طحلب فأحضرهما في غد معه، وأراه إياهما وقال له: ابلع جميع
ما في هذين المركنين فبلع الرجل منه شيئا كثيرا. ثم قال: ليس يمكنني بلع
شئ آخر أكثر منه. فقال له ابلع. فقال: لا أستطيع. فقال للغلمان خذوه
ففعلوا ذلك به وطرحوه على قفاه، وفتحوا فاه، وأقبل الرازي يدس الطحلب
في حلقه ويكبسه كبسا شديدا، ويطالبه ببلعه شاء أو أبى ويتهدده بالضرب
إلى أن أبلعه كارها أحد المركنين بأسره، والرجل يستغيث ولا ينفع مع
الرازي شئ إلى أن قال العليل: الساعة اقذف فزاد الرازي فيما يكبسه
في حلقه فذرعه القئ فقذف فتأمل الرازي قذفه فإذا فيه علقة، وإذا هي
317

لما وصل الطحلب إليها دبت إليه بالطبع وتركت موضعها فلما قذف العليل
خرجت مع الطحلب ونهض العليل معافى.
عن أبي الحسن علي بن الحسن الصيدلاني قال: كان عندي بسوق الأربعاء
من أولاد آذر غلام حدث لحقه وجع في معدته شديد بلا سبب يعرفه،
وكانت تضرب عليه في أكثر الأوقات ضربانا عظيما حتى كاد يتلف وقل
أكله ونحل جسمه فحمل إلى الأهواز فعولج بكل شئ فما نجح فيه دواء فرد
إلى بيته وقد يئس منه فاجتاز بنا بعض الأطباء فدعاه والد العليل وعرفه حال ابنه
فقال للعليل: اقعد واشرح لنا سبب مرضك منذ حال صحتك إلى أن أصبت
فشرحها فطاولها بحديث إلى أن قال العليل: إني دخلت بستان لنا فكان في بيت
البقر منه رمان كثير قد جمع للمبيع فأكلت منه رمانا عدة فقال له الطبيب:
كيف كنت تأكل؟ قال: كنت أعض رأس الرمانة بفمي وأكسرها وأرمى
بها وأكلها قطعا قطعا فقال الطبيب: في غد أعجل لك العلاج فتبرأ بإذن الله وخرج
فلما كان من الغد جاءه بقدر اسفيدباج قد طبخها في لحم جر وسمين وقال للعليل:
كل هذا فقال ما هو؟ قال: إذا أكلته عرفتك قال فأكل العليل وقال له امتل منه
ففعل ثم أطعمه بطيخا كثيرا ثم تركه ساعتين وسقاه فقاعا قد خلط بماء حار
وشبث ثم قال له أي شئ أكلت؟ فقال لا أدرى فأخبره الخبر فحين سمع الغلام
ذلك اندفع يقذف فأمر بعينيه ورأسه فأمسكت، وأقبل يتأمل القذف إلى أن
طرح الغلام شيئا أسود كالنواة الكبير يتحرك فأخذه الطبيب وقال له: أرفع
رأسك فقد برأت وفرج الله تعالى عنك فرفع الغلام رأسه وانقطع القذف
وسقاه الطبيب شيئا يقطع الغثيان وصب على رأسه ماء ورد ومسكن ثم أخذ
الذي يشبه النواة فأراه لوالد الغلام فإذا هو قراد فقال له: انى قد ذكيت أن
الموضع الذي كان فيه الرمان كان فيه قرادا من البقر وأنه دخلت واحدة
منهن في رأس إحدى الرمانات التي اقتلعت رؤسها بفم الغلام فنزل القراد
في حلقه وعلق بمعدته يمتصها وعلمت أن القراد يهش إلى لحم الكلب فأطعمته
إياه وقلت: إن صح ظني سيتعلق القراد بلحم الكلب تعلقا يخرج معه إن
318

قذف فيبرأ وإن لم يكن ما ذكيت صحيحا فما يضره من أكل هذا اللحم فلما
أحب الله عز وجل عافيته صح ما ذكيته. فنبهه إلى أن لا يعاود بعدها إدخال
شئ في فيه لا يدرى ما هو وبرأ الغلام وصح جسمه.
حدثنا أبو الحسن غلامنا عن ابن الصيدلاني. قال: كان لي أكار حدث
حدث فانتفخ ذكره انتفاخا عظيما فلم يكن ينام الليل ولا يهدأ النها وعولج
فلم يكن لبرئه سبيل. قال: فجاء متطبب من الأهواز يريد البصرة فسألته أن
أن ينظر إليه. فقال لي: قل له يصدقني عن خبره في أيام صحته إلى الآن.
قال: فحدثته. قال فأصدقي؟ فلست أدرى شيئا يوجب هذه العلة ومالي إلى
علاجك سبيل. قال: فقال لي الغلام. أصدق وأنا آمن جهتك فقلت افعل
فقال له: أنا غلام حدث أعزب فوطئت حمارا ذكرا كان لي في الصحراء.
قال: فقال له الطبيب. الآن قد علمت أنك صادق والساعة أعالجك فتبرأ.
ثم أمر به فأمسك امساكا شديدا والغلام ساكت إلى أن جس منه موضعا
فصاح الغلام، فأخذ الطبيب خيطا أبريسما فشد الموضع شدا شديدا ولم يزل
يمرح ذكر الغلام حتى خرجت منه حبة وقد كبرت وجرحت الموضع فسال
منه شئ يسير كماء اللحم فأعطاه مرهما وقال استعمل هذا أياما فإنك تبرأ
وتب إلى الله تعالى عن مثل هذا الفعل واستعمل الغلام المرهم فبرأ.
حدثني أبو عبد الله الحسن بن محمد بن عبد الله الدقاق المعروف بابن
العسكري من بغداد في المذاكرة. قال: كان أبى إذا جلس يفتش دفاتره
وأنا صبي أجئ فآخذ منها الشئ بعد الشئ أستحسنه وألعب به، وكنت
أرى في دفاتره دفترا فيه خطوط حمر فاستحسنه وأطلبه فيمنعني منه حتى
بلغت مبلغ الرجال. قال: فجلس يوما يفتش كتبه فرأيت الدفتر فأغفلت أبى
وأخذته ففتحته أقرأه، فإذا هو مولدي قد عمله بعض المنجمين ووجدت
فيه أنى ان بلغت أربعا وثلاثين سنة كان على قطع فيها فالتفت أبى فرأى الدفتر
في يدي فصاح وأخذه منى ونظر أي موضع أقرأ فرآه فأخذ يضعف ذلك
في نفسي لئلا أغتم ومضت السنون فلما بلغت إلى السنة التي ذكرها المنجم
319

المنجم ركبت مهرا لي وقد خرجت إلى دار الضرب وأبى فيها وكان إليه
العيار فبلغت إلى سباط في درب الديرج فنفر المهر من كلب كان في الطريق
رابضا فضرب رأسي حائطا كان في السباط فوقعت عن المهر مغشيا على ثم
حملت إلى دار الضرب فأحضروا طبيبا وقد انتفخ موضع من رأسي انتفاخا
عظيما فأشار بفصدي ففصدت فلم يخرج لي دم فحملت إلى بيتنا ولم أشك في
أنى ميت لشدة ما لحقني فاعتللت مدة وضعفت نفسي خوفا مما ذكر من حكم
المنجم وكنت يوما جالسا مستندا على سرير وقد آيست من نفسي إذ حملتني
عيناي فخفق رأسي فضرب درابزين السرير فانشج الموضع المنتفخ وخرج
منه أرطال دم فخف ما بي في الحال وصلحت وبرأت وعشت إلى الآن
وكان له يوم. وقد حدثني بهذا الحديث وهو ابن أربع وثمانون سنة وشهور
على ما أخبرني.
حدثني أبو الحسن بن علي بن أبي محمد الحسين بن محمد الصالحي الكاتب.
قال: رأيت بمصر طبيبا كان بها مشهورا يعرف بالقطيعي. وكان يقول:
يكسب في كل شهر ألف دينار من جرايات يجريها عليه قوم من رؤساء
العسكر ومن السلطان وما يأخذه من العامة. قال: وكان له دار قد جعلها
شبه بيمارستان من جملة داره، يأوى إليها ضعفاء الاعلاء ويعالجهم ويقوم
بأغذيتهم وأدويتهم وخدمتهم وينفق أكثر كسبه على ذلك. قال أبو الحسن:
وأصيب أحد فتيان الرؤساء بمصر بالسكتة وأسماه لي وذهب عنى اسمه،
فحمل إلى الأطباء وفيهم القطيعي فأجمعوا على موته إلا القطيعي، وعمل أهله
على غسله وكفنه. فقال القطيعي: دعوني أعالجه فإن برئ وإلا فليس
يلحقه أكثر من الموت الذي قد أجمع هؤلاء عليه فخلاه أهله معه. فقال:
هاتوا غلاما جلدا ومقارع، فأتى بذلك، فأمر به وضربه عشر مقارع بأشد
الضرب. ثم مس مجسه وضربه عشرا أخرى شديدة ثم مس مجسه وضربه
أيضا عشرا أخرى ثم مس مجسه وضربه عشرا أخرى ثم مس مجسه. وقال
للأطباء أيكون للميت نبض متحرك. فقالوا لا: فضربه عشر مقارع أخرى
320

وقال جسوه. فقالوا: قد زاد نبضه، فضربه عشرا أخرى فتأوه فضربه عشرا
أخرى فصاح فقطع عنه الضرب فجلس العليل يجس بدنه ويتأوه وقد ثابت
قوته إليه. فقال له ما تجد؟ قال: أنا جائع. فقال: أطعموه الساعة، فجاؤه بما
يأكل فرجعت قوته إليه وقمنا وقد برئ. فقال له الأطباء: من أين لك هذا.
قال كنت مسافرا في قافلة فيها اعراب يخفروننا فسقط منهم فارس عن فرسه
فأسكت فعمد إليه شيخ منهم فضربه ضربا عظيما فما رفع عنه الضرب حتى
أفاق، فعلمت أن الضرب جلب إليه الحرارة وأزالت سكتته فقست عليه أمر
هذا العليل.
حدثني بعض المتطببين بالبصرة قال: حدثني أبو منصور بن مارمة كاتب
أبى مقاتل صالح بن مدركة الكلابي أمير دجلة. وكان أبو منصور من رؤساء
أهل البصرة الذين يضرب المثل بنعمتهم وترفههم. وكان ثقة أديبا قد شاهدته
أنا ولم أسمع منه هذه الحكاية. قال: أخبرني شيوخنا. قال: كان بعض
أهلنا قد استسقى فآيس من حياته فحمل إلى بغداد فشور الأطباء فيه فوصفوا
له أدوية كبارا فعرفوا أنه قد تناولها بأسرها فلم تنجع وآيسوا منه، وقالوا
لا حيلة في برئه. قال: فسمع العليل. فقال لمن كان معه: دعوني الآن أتزود
من الدنيا وآكل ما أشتهي ولا تقتلوني بالحمية. فقالوا: كل ما تريد فمهما رآه
مما يجتاز به على الطريق اشتراه وأكله ولم يلتفت إلى ضره ونفعه فمر به رجل
يبيع جرادا مطبوخا فأجلسه واشترى منه عشرة أرطال وأكلها بأسرها،
فلما كان بعد ساعة انحل طبعه وتواتر قيامه حتى قام في ثلاثة أيام أكثر
من ثلاثمائة مجلس وضعف وكاد يتلف وآيس منه، ثم قطع القيام وقد زال
كل ما كان في جوفه وعادت بطنه إلى حالها في الصحة وثابت إليه قوته وبرأ
فخرج برجليه في اليوم الخامس يتصرف في حوائجه فرآه أحد الأطباء فعجب
من أمره فسأله عن الخبر. فعرفه. فقال: ليس من شأن الجراد أن يفعل هذا
ولابد من أن يكون في الجراد الذي فعل هذا خاصية فأحب أن تدلني على
321

الذي باعك الجراد. قال: فما زالوا في طلبه حتى اجتاز بالباب دفعة ثانية
فأراه الطبيب. فقال: ممن اشتريت هذا الجراد؟ فقال ما اشتريته. أنا
أصيده وأجمع منه شيئا كثيرا وأطبخه على الأيام وأبيعه. فقال: من أين
تصيده؟ فذكر قرية على فراسخ يسيرة من بغداد. فقال له الطبيب: أعطيك
دينارا وتدع شغلك وتجئ معي إلى ذلك الموضع. فقال: نعم فخرجا وعاد
الطبيب من غد، فذكر أنه رأى ذلك الجراد يرعى في صحراء أكثرها حشيشة
يقال لها المأذريون وهي دواء الاستسقاء فإذا دفع إلى العليل منها دون
درهم أسهله اسهالا يزيل الاستسقاء ولكن لا يؤمن من أن لا ينضبط ولا يقف
فيقتله الذرب، والعلاج بها خطر جدا وهي مذكورة في الكتب ولفرط
ضررها لا يكاد يصفها الطبيب فلما وقع الجراد على هذه الحشيشة وانطبخت
في معدته ثم طبخ الجراد ضعف فعلها بطبيخين اجتمعا عليه وقضى أن
تناولها هذا بالانفاق، وقد تعدلت بمقدار ما يدفع طبعه دفعا قطع
بانقطاع العلة فبرأ.
حدثني محمد بن أحمد بن طوطئ الواسطي أبو الحسين. قال: سمعت أبا
على عمر بن يحيى العلوي الكوفي رحمه الله يقول: كنت في بعض حججي في
طريق مكة فاستسقى رجل كان معنا من أهل الكوفة، وثقل في علته وسل
الاعراب قطارا من القافلة كان على جمل منه هذا العليل فافتقد وجزعنا
عليه وعلى القطار وكنا راجعين إلى الكوفة فلما كان بعد مدة جاءني العليل
إلى داري معافا فسألته عن قصته وسبب عافيته. فقال: إن الاعراب لما
سلوا القطار ساقوه إلى محلهم، وكان من المحجة على فراسخ يسيرة فأنزلوني
ورأوا صورتي فطرحوني في أواخر بيوتهم وتقاسموا ما كان في القطار
فكنت أزحف وأتصدق من البيوت ما آكله فأطعم فتمنيت الموت وكنت
أدعو الله عز وجل به أو العافية. فرأيتهم وقد عادوا يوما من ركوبهم
فأخرجوا أفاعي قد صادوها فقطعوا رؤسها وأذنابها وسووها وأكلوها.
فقلت: هؤلاء يأكلون هذه فلا تضرهم بالعادة التي نشؤا عليها ولعلى إن
322

أكلت منها شيئا أن أتلف فأستريح مما أنا فيه. فقلت لبعضهم: أطعمني من
هذه الحيات. فرمى إلى واحدة منها مشوية فيها أرطال فأكلتها بأسرها وأمعنت
طالبا للموت فأخذني نوم عظيم. فانتبهت وقد عرقت عرقا عظيما واندفعت
طبيعتي فقمت في بقية يومى وليلتي أكثر من مائة مجلس إلى أن سقطت طريحا
وجوفي يجرى. فقلت: هذا طريق الموت وأقبلت أتشهد وأدعو الله عز وجل
بالمغفرة. فلما أضاء الصبح تأملت بطني فإذا هي قد ضمرت وزال عنها ما كان بها.
فقلت أي شئ ينفعني من هذا وأنا ميت فلما أضحى النهار وانقطع القيام وجبت
صلاة الظهر فلم أحس بقيام وجعت فجئت لأزحف على العادة فوجدت بدني
خفيفا وقوتي صالحة فتحاملت فمشيت فطلبت منهم مأكولا فأطعموني فقويت
فبت في الليلة الثانية معافا ما أنكر شيئا من أمرى فأقمت أياما إلى أن وثقت من
نفسي بأنى إن مشيت نجوت فأخذت الطريق من بعضهم إلى أن صرت على المحجة
ثم سلكتها إلى الكوفة مشيا.
حدثني أبو الفضل محمد بن عبيد الله بن المرزبان الشيرازي الكاتب، قال:
حدثني القاضي أبو بكر الجعابي الحافظ، قال: دخلت يوما على القاضي أبى الحسين
ابن القاضي أبى عمر رحمهما الله وهو مغموم فقلت: لا يغم الله قاضى القضاة ما هذا
الحزن الذي أراه به؟ قال: مات يزيد المائي. فقلت: يبقى الله قاضى القضاة،
ومن يزيد الماتى حتى إذا مات اغتم عليه قاضى القضاة هذا الغم كله؟ فقال ويحك:
مثلك يقول هذا في رجل أوجد لنا صناعة فخيمة. قد مات وما ترك في حذقه
أحد وهل تفخر البلدان الا بكثرة رؤساء الصنائع وحذاق أهل العلوم فيها
فإذا مضى رجل لا مثيل له في صناعته لابدل الناس فرحهم بالترح، وهل يدل
هذا إلا على نقصان العالم، وانحطاط البلدان. قال: ثم أقبل يعدد فضائله
والأشياء الظريفة التي عالج بها، والعلل الصعبة التي زالت بتدبيرها فذكر من
ذلك أشياء كثيرة كان منها إذ قال: لقد أخبرني مذ مدة رجل من جلة أهل
هذه البلد أن كان حدث بابنة له علة فكتمت أمرها ثم اطلع عليها أبوها
فكتمها هو مدة ثم انتهى أمر البنت إلى حد الموت قال: فقلت لا يصح ترك
323

علاج هذا وكتمانه أكثر من هذا. قال: وكانت العلة أن فرج الصبية كان
يضرب عليها ضربانا عظيما لا تنام معه الليل ولا النهار وتصرخ أعظم
صراخ، ويجرى في خلال ذلك منه دم يسير كماء اللحم وليس هناك جرح يظهر
ولا ورم. قال: فلما خفت المأثم أحضرت يزيدا فشاورته. فقال: أتأذن لي
في الكلام وبسط عذرى قلت نعم. قال: لا يمكنني أن أصف لك شيئا دون
أن أشاهد الموضع بعيني وأفتشه بيدي، وأسائل المرأة عن أسباب لعلها
كانت الجالبة للعلة. قال: فلعظم الصورة وبلوغها حد التلف أمكنته من ذلك،
فأطال مسائلتها وحديثها بما ليس من جنس العلة فبعد أن جس الموضع من
ظاهره وعرف بقعة الألم حتى كدت أبطش به ثم تصبرت ورجعت إلى
ما أعرفه من ستره فصبرت على مضض، إلى أن قال: تأمر من يمسكها،
ففعلت. ثم أدخل يده في الموضع دخولا شديدا فصاحت المرأة فأغمى عليها
وانبعث الدم وأخرج في يده حيوانا أقل من الخنفساء فرمى به فجلست الجارية
في الحال. وقالت: يا أبت اشترني فقد عوفيت. فأخذ يزيد الحيوان بيده
وخرج من المحل فأجلسته. وقلت: أخبرني ما هذا؟ فقال: إن تلك المسايلة
التي لم أشك في أنك أنكرتها إنما كانت لاطلب دليلا أستدل به على سبب
العلة، إلى أن قالت: أنها في يوم من الأيام كانت جالسة في بيت دواب من
بستان لكم ثم حدثت العلة بها من غير سبب تعرفه. فلما كان في غدته الضربان
تخيلت أنه قد دب إلى فرجها من القردان التي تكون على البقر وفى بيوته قراد
قد تمكن من أول داخل الفرج وكلما امتص الدم من موضع ولد له ضربانا،
وانه إذا شبع خف الضربان لانقطاع مصه وانقطت من الجرح الذي يمتص
منه إلى خارج الفرج هذه النقط اليسيرة من الدم. فقلت: أدخل يدي
وأفتش فأدخلتها، فوجدت القراد فأخرجته وهو هذا الحيوان وقد تغيرت
صورته من كثرة ما امتص من الدم مع طول الأيام. قال: فتأملنا الحيوان
فإذا هو قراد وبرأت المرأة.
324

قال مؤلف هذا الكتاب: ولم يذكر القاضي أبو الحسن في كتابه هذا
الخبر ولعله اعتقد أنه مما لا يجب ادخاله فيه.
عن ابن عقيل، وكان إذا جاء من البادية ينزل في شارع دار الرقيق
بالقرب من درب سليمان قال: كانت عندي جارية بالبادية بالغة زمنة مقعدة
سنين ومن عاداتنا أن نأخذ الحنظل فنقور رأسه ونملأه باللبن الحليب، ونرد
عل كل واحدة رأسها، ونتركها في الرماد الحار حتى تغلى. فإذا غلت حسي
كل واحد منا ما في الحنظلة من ذلك فتسهله وتصلح بدنه. قال: فأخذنا سنة من
السنين ثلاث حناظل لثلاث أنفس يشربونها، وجعلنا فيها اللبن على الصفة المارة
فرأتها الجارية الزمنة فلغرضها بالحياة وضجرها من الزمانة غدت إلى الحناظل
الثلاث فحستها كلها وعلمنا بذلك بعد لما رأينا من قيامها فآيسنا من حياتها فباعدناها
في الأخبية لئلا نشم روائحها فتعدينا، ولتموت بالبعد عنا فلما كان في الليل انقطع
قيامها، ومشت برجلها إلى أن عادت إلى البيوت العافية لا قلبة بها وعاشت
بعد ذلك سنين وولدت.
قال جبريل بن يخشوع: كنت مع الرشيد بالرقة، ومعه المأمون ومحمد
وكان رجلا كثير الأكل والشرب. فأكل في بعض الأيام أشياء خلط فيها،
ودخل المستراح فغشى عيله وقوى عليه الغشى حتى لم يشك غلمانه أنه قد مات
وحضر أبناه وشاع عند العامة والخاصة خبره فأرسل إلى فحضرت وجسست
عرقه. فوجدت نبضا خفيفا، وقد كان قبل ذلك بأيام يشتكى امتلاء وحركة
الدم. فقلت لهم: لم يمت والصواب أن يحجم الساعة. فقال كوثر: لما يعرف
من أمر الخلافة وافضائها إلى صاحبه محمد: يا ابن الفاعلة تقول احجموا رجلا
ميتا لا يقبل قولك ولا كرامة. فقال المأمون: الامر قد وقع وليس يضر
بأن نحجمه فأحضر، وتقدمت إلى جماعة من غلمانه بإمساكه ففعلوا وأقعد.
فقلت للحجام: ضع محاجمك ففعل فلما مصها رأيت الموضع قد أحمر فطابت
نفسي بذلك أنه حي. ثم قلت: اشرط. فشرط فخرج الدم فسجدت شكرا
325

لله عز وجل، وكلما خرج الدم يحرك رأسه ويصفر لونه إلى أن تكلم فقال:
أين أنا؟ فطيبت نفسه وغذيناه صدر دارج، وسقيناه نبيذا وما زلت أسعطه
بالطيب في أنفه حتى تراجعت إليه قوته، وأدخل الخاصة والقواد إليه فسلموا
عليه من بعد لما كان قد شاع من خبره ثم تكاملت قوته، ووهب الله له
العافية. فلما خرج من علته دعا بصاحب حرسه وصاحب شرطته
وحاجبه فسأل صاحب الحرس عن غلته في كل سنة فعرف أنها ألف ألف
درهم، وسأل صاحب شرطته عن غلته فعرف أنها خمسمائة ألف درهم. ثم
قال لي يا جبرئيل: كم غلتك؟ فقلت: خمسين ألف درهم. فقال: ما أنصفناك
حيث غلات هؤلاء وهم يحرسوني ويحجبوني عن الناس على ما هي عليه وتكون
غلتك ما ذكرت، وأمر باقطاعي ما قيمته ألف ألف درهم فقلت: أسيدي مالي
حاجة إلى الاقطاع ولكن تهب لي ما أشترى الضياع بها ففعل وتقدم بمعاونتي على
ابتياعها فابتعت بهباته وصلاته ضياعا غلتها ألف ألف درهم فجميع ما امتلكته
ضياعا لا أقطاع فيها.
حدثني طلحة بن عبد الله بن قياس الطائي الجوهري البغدادي أبو جعفر
قال: كان في درب مهروية الجانب الشرقي ببغداد قديما رجل من كبراء
الحجزية، وكان متشببا بغلام من غلمانه رباه صغيرا فاعتل الغلام علة من
بلسام وهو الذي تسميه العاملة البرسام فبلغ إلى حالة قبيحة، وزال عقله
فتفرقوا عنه يوما وهو في موضع فيه خيش، ووكلوا صبيا بمراعاته فسمعوا
صياح الفتى الموكل به. فبادروا إليه فقال: انظروا إلى ما قد أصابه. فإذا
عقرب قد نزل من المسند على رأس العليل، فلسعته في عدة مواضع. فإذا
به قد فتح عينيه، وهو لا يشكوا ألما. فسألوه عن حاله فطلب ما يأكل
فأطعموه، وبرأ. فلاموا طبيبه فقال: علام تلومونني لو أمرتكم أن تلسعوه
بعقرب أكنتم تفعلون؟.
326

عن أبي بكر بن قارب الرازي، وكان تلميذ لأبي بكر محمد بن زكريا
الطبيب بعد رجوعه من عند أمير خراسان لما استدعاه ليعالجه من علة صعبة
قال: اجتزت في طريقي إلى نيسابور ببلد بسطام وهو النصف من طريق
نيسابور إلى الري. قال: فاستقبلني رئيسها فأنزلني داره، وخدمني وخدمته
وسألني أن أقف على ابن له به استسقاء فأدخلني إلى دار قد أفردها فشاهدت
العليل، ولم أطمع في البراءة، فعللت القول بمشهد من العليل ولما انفردت بأبيه
سألني أن أصدق. فصدقته وآيسته من حياة ابنه، وقلت له: يمكنه من
شهواته فإنه لا يعيش، وخرجت إلى خراسان وعدت بعد اثنى عشر شهرا
فاستقبلني الرجل بعد عودي ولما لقيته استحيت منه غاية الحياء، ولم أشك
في وفاة ابنه، وإني كنت نعيته إليه وخشيت من ثقله بي فلم أجد عنده ما يدل
على ذلك، وكرهت أن أسأله عنه لئلا أجدد عليه حزنا قد نسيه. فقال لي
بعد أيام: أتعرف هذا الفتى؟ وأومئ إلى شاب حسن الوجه والسجية، كثير
الدم والقوة قائم مع الغلمان يخدمنا. فقلت: لا. فقال: هذا ابني الذي
آيستني منه عند مضيك إلى خراسان. فتحيرت وقلت: عرفني سبب برءه.
فقال لي: إنه بعد قيامك من عنده فطن أنه قد آيستني منه فقال لي لست أشك
أن هذا الرجل وهو أوحد في الطب قد آيسك منى، والذي أسئلك أن تمنع
هؤلاء الغلمان يعنى الغلمان الذين كنت أخدمهم إياه عنى لأنهم آذوني لأني
إذا رأيتهم معافين، وأنا لست بينهم يتجدد على قلبي الحزن فأرحني منهم
يا أبى وأفرد لي فلانة لخدمتي ففعلت ما سأله، وكانت المرأة داية له، وكان
يحمل إليها في كل يوم ما تأكله وله ما يطلب على غير حمية. فلما كان بعد أيام
حمل إلى الداية مضيرة لتأكل فتركتها ومضت لشغل لها فذكرت بعد أن عادت
أن أبى قد نهاها عن أكل المضيرة فوجدتها قد ذهب كثير منها، وبقى بعضه
متغير اللون قالت: فسألت الغلام عن السبب فأخبرني أنه رأى أفعى عظيما
قد خرج من موضع ودب إليها وأكل منها ثم قذف فيها فصار لونها كما
ترينه فقلت: أنا ميت وهو ذا يلحقني ألم شديد ومتى أظفر بمثل هذا، وجئت
فأكلت من الغضارة ما استطعت لأمرت عاجلا وأستريح فلما لم أستطع زيادة
327

أكل رجعت حتى جئت إلى فراشي وجئت أنت. قالت: ورأيت أنا المضيرة
على يده وفمه فصحت. فقال: لا تعلمي أحدا حتى تدفني الغضارة بما فيها لئلا
يأكلها إنسان فيموت أو حيوان فيلسع إنسانا فيقتله ففعلت ما قال وخرجت
إليك. فلما عرفتني ذلك ذهب على أمرى، ودخلت إلى ابني مسرعا
فوجدته نائما فقلت: لا توقظوه حتى ننظر ما يكون منه. فانتبه آخر
النهار، وقد عرق عرقا شديدا، وهو يطلب المستحم فأنهضناه إليه
فاندفعت طبيعته وقام من الليل، ومن الغد أكثر من مائة مجلس فازداد
يأسنا منه، وقل القيام وقد صار بطنه مع ظهره مثل بطون الأصحاء وطلب
فراريج فأكل، ولم تزل قوته تزداد فطمنا في حياته فمنعناه التخليط وثابت قوته
وتزايدت إلى أن صار كما ترى. قال: فعجبت من ذاك وذكرت أن الأوائل
قالوا: إن المستسقى إذا أكل من لحم حية عتيقة مزمنة لها مئة سنة برأ ولو
قلت لك هذا علاجه لظننت أنى أدافعك، ومن أين يعلم كم عمر الحية إذا وجدت
فأمسكت عنه.
328

الباب الحادي عشر
من امتحن من لصوص بسرق أو قطع * فعوض عن الخلف بأكمل صنع
عن دعبل بن علي الخزاعي الشاعر. قال: لما قلت قصيدة (مدارس
أيات خلت من تلاوة) قصدت بها أبى الحسن علي بن موسى الرضا رضوان
الله عليهم أجمعين وهو بخرسان ولى عهد المأمون. فوصلت إليه فأنشدته
فاستحسنها. وقال: لا تنشدها لاحد حتى آمرك واتصل خبري بالمأمون
فأحضرني وسألني عن خبري. ثم قال لي: يا دعبل أنشدني (مدارس آيات
خلت من تلاوة) فقلت لا أعرفها يا أمير المؤمنين. فقال يا غلام أحضر
أبا الحسن علي بن موسى. قال: فلم يكن بأسرع من أن أحضر. فقال له:
يا أبا الحسن سألت دعبلا عن (مدارس آيات) فذكر أنه لا يعرفها فالتفت إلى
أبو الحسن. فقال أنشده يا دعبل: فأنشدت القصيدة ولم ينكر ذلك المأمون
إلى أن بلغت إلى بيت فيها وهو هذا:
قال رسول الله هب لي رقابهم * وآل زياد غلظ الرقاب
ثم تممتها إلى آخرها فاستحسنها وأمر لي بخمسين ألف درهم وأمر لي
علي بن موسى بقريب منها. فقلت له: يا سيدي أريد أن تهب لي ثوبا يلي بدنك
أتبرك به وأجعله كفنا، فوهب لي قميصا قد ابتذله ومنشفة وأظنه قال
وسراويل. قال ووصلني ذو الرياستين، وحملني على برذون أصفر خرساني
فكنت أسايره في يوم مطير وعليه ممطر خز وبرنس ومنه فأمر لي به ودعا
بغيره جديدا فلبسه. وقال: إنما آثرتك باللبس لأنه خز الممطرين. قال:
فأعطيت به ثمانين دينارا فلم تطب نفسي ببيعه وقضيت حاجتي وكررت
راجعا إلى العراق، فلما صرت بعض الطريق خرج علينا أكراد يعرفون
بالسرنجان فسلبوني وسلبوا القافلة، وكان ذلك في يوم مطير. فاعتزلت في
قميص خلق قد بقي على وأنا متأسف من دون ما كان معي على القميص
والمنشفة اللذين وهبهما لي علي بن موسى الرضا رضي الله عنهما إذ مر بي واحد
329

من الأكراد تحته الأصفر الذي حملني عليه ذو الرياستين وعليه الممطر الخز
ثم وقف بالقرب منى وابتدأ ينشد (مدارس آيات) ويبكى. فلما رأيت
ذلك عجبت من لص يتشيع، ثم طمعت في القميص والمنشفة. فقلت يا سيدي
لمن هذه القصيدة؟ فقال: وما أنت وذلك ويلك. فقلت له: فيه سبب أخبرك
به. فقال: هي أشهر بصاحبها من أن يجهل. فقلت: ومن هو؟ قال دعبل
ابن علي الخزاعي شاعر آل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت يا سيدي
أنا والله دعبل وهذه قصيدتي. فقال ويلك ما تقول؟. قلت: الامر أشهر من
ذلك فاسأل أهل القافلة بصحة ما أخبرتك به. فقال: لا جرم والله ولا يذهب
من القافلة خلالة فما فوقها ثم نادى في الناس من أخذ شيئا يرده على صاحبه
فردوا على الناس أمتعتهم وعلى جميع ما كان معي ما فقد أحد عقالا ثم انصرفنا
إلى شأننا. فقال راوي هذا الخبر عن دعبل فحدثت بهذا الحديث علي بن بهزا
الكردي فقال لي ذلك والله أبى الذي فعل هذا.
حدثني عبد الله بن عمرو الحارث الواسطي السراج المعروف بأبي
أحمد الحارث. قال: كنت مسافرا في بعض الجبال فخرج علينا ابن سيار
الكردي فقطع علينا وكان بزي الامراء لا بزي القطاع فقربت منه أنظر إليه
وأسمع كلامه فوجدته يدل على فهم وأدب فداخلته فإذا برجل فاضل يروى
الشعر ويفهم النحو فطمعت فيه وعملت في الحال أبياتا مدحته بها. فقال:
لست أعلم أن هذا من شعرك ولكن اعمل لي على قافية هذا البيت ووزنه
شعرا الساعة لاعلم أنك قلته، وأنشدني بيتا: قال: فعملت في الحال إجارة له
ثلاثة أبيات. فقال لي أي شئ أخذ منك لأرده عليك. قال فذكرت ما أخذ
منى واستضفت إليه قماش رفيقين كانا لي فرد جميع ذلك، ثم أخذ من أكياس
التجار التي نهبها كيسا فيه ألف درهم فوهبه لي. قال: فجزيته خيرا ورددته
عليه. فقال لي: لم لم تأخذه فواربت في كلامي، قال أحب أن تصدقني، فقلت
وأنا آمن قال نعم. قلت: لأنك لا تملكه وهو من أموال الناس أخذته
منهم الساعة ظلما فكيف يحل لي أخذه. فقال لي: أما قرأت ما ذكره الجاحظ
330

في كتاب اللصوص عن بعضهم. قال: إن هؤلاء التجار لم تسقط عنهم زكاة
الناس لأنهم منعوها وتجردوا فتركت عليهم فصارت أموالهم بذلك مستهلكة
واللصوص فقراء إليها، فإذا أخذوا أموالهم وإن كره التجار أخذها كان
ذلك لهم مباحا لان عين المال مستهلكة بالزكاة وهم يستحقون أخذ الزكاة
شاء أرباب الأموال أو كرهوا. فقلت بلى: قد ذكر ذلك الجاحظ ولكن
من أين يعلم أن هؤلاء استهلكت الزكاة أموالهم. فقال: لا عليك أنا أحضر
هؤلاء التجار الساعة وأريك بذلك دليلا صحيحا أن أموالهم لنا حلال، ثم
قال لأصحابه هاتوا التجار فجاؤوا، فقال لأحدهم منذ كم تتجر في هذا المال
الذي قطعناه عليك. قال: منذ كذا وكذا سنة. قال: فكيف كنت تخرج
زكاته فتلجلج وتكلم بكلام منه لا يعرف الزكاة على حقيقتها فضلا عن أن
يخرجها، ثم دعى بآخر. وقال له: إذا كان معك ثلاثمائة درهم وعشرة دنانير
وحال عليك الحول فكم تخرج منها للزكاة فما أحسن أن يجيبه. ثم قال
للآخر: إن كان معك تجارة ولك دين على نفسين، أحدهما ملى والآخر
معسر ومعك دراهم وكان الحول حال على الجميع كيف تخرج الزكاة. قال: فما
فهم السؤال فضلا عن أن يتعاطى الجواب. فصرفهم. ثم قال لي: بان لك
صدق حكاية أبى عثمان الجاحظ، وان هؤلاء التجار ما زكوا قط. خذ الآن
الكيس. قال: فأخذته وساق القافلة ليتصرف فيها. فقلت: إن رأيت
أيها الأمير أن تنفذ معي من يبلغني المأمن كان لك الفضل ففعل ذلك
ونجوت من أذاه.
حدثني أبي رحمة الله عليه. قال: لما كنت مقيما بالكرخ أتقلد القضاء
بها وبالمرج وأعمالها كان معي رجل له ابن صبي فأقام معي أبوه عشر سنين،
وكان ذلك الصبي يدخل داري ويمرح مع غلماني وأهب له في بعض الأوقات
الدراهم والثياب وأحمله وأرقصه كما يفعل الناس بأولاد غلمانهم، ثم صرفت
عن الكرخ ورحلت ولم أعرف للرجل ولا لابنه خبرا حتى مضت السنون،
فأنفذني أبو عبد الله اليزيدي من واسط برسالة إلى أبى بكر بن رائق فلقيته
331

في حدود دير العاقول. قال: وانحدرت أريد واسطا وقد كان قيل لي قبل
اصعادي أن في الطريق لصا يعرف بالكرخي وكنت خرجت من واسط
بطالع أخذته على موجب تحويل مولدي لتلك السنة وقد استظهرت فيه عند
نفسي وكفاني الله تعالى في اصعادي أمر اللص فلم أر له أثرا فلما انحدرت
إلى واسط في بعض الطريق خرج علينا اللصوص في سفن عدة ونشاب
وسلاح شاك وهم نحو مائة نفس كالعسكر العظيم، وكان معي من غلماني من
يضرب النشاب فحلفت أن من يرمى منهم ضربته إذا صرت في البلد مائتي
مقرعة وذلك أنى خفت أن يقصدنا اللصوص فلا يرضوا إلا بقتلى من دونهم
وبادرت وأخذت ذلك السلاح الذي كان معهم فرميت به في الماء
واستسلمت للامر طلبا للسلامة وجلست أفكر في الطالع فإذا ليس ما يوجب
عنده القطع على والناس قد أدبروا إلى الشط وأنا في جملتهم حيث تفرغ
سفنهم وينقل ما فيها إلى الشط وهم يخبطون بالسيوف وكنت في وسط الكار
فانتهى الامر إلى فعجبت من حصول القطع وأن الطالع لا يوجبه ولست
أتهم عملي فأنا كذلك وإذا بسفينة فيها رئيسهم قد طرح على زيربي كما كان
يطرح على سفن التجار ليشرف على ما يؤخذ منها فحين رآني منع أصحابه من
انتهاب شئ من زيربي وصعد وحده إلى فتأملني طويلا ثم انكب فقبل يدي
وكان متلثما فلم أعرفه فارتعت. وقلت: يا هذا مالك؟ فقال لي أما تعرفني
يا سيدي؟ فتأملته وأنا جزع فلم أعرفه. فقلت: لا والله. قال بلى: وأنا
عبدك ابن فلان الكرخي حاجبك، وأنا الصبي الذي ربيت في دارك وربيتني
وكنت تحملني على كتفك وتطعمني بيدك. قال: فتأملته فإذا الخلقة خلقته،
إلا أن اللحية غيرته في عيني، فسكن روعي. وقلت يا هذا: كيف بلغت
إلى هذا الحال. قال: نشأت فلم أتعلم غير معالجة السلاح وجئت إلى بغداد
اطلب الديوان فما قبلني أحد فانضفت إلى هؤلاء وطلبت الطريق فلو كان أنصفني
السلطان ونزلني بحيث أستحق من الشجاعة لانتفع بخدمتي، وما فعلت هذا.
ثم قال يا سيدي هل رأيت أحدا من القوم أخذ منك شيئا. فقلت: ما ذهب
إلا سلاح رميته في الماء وشرحت له الصورة فضحك وقال: والله أصاب القاضي
332

فمن في الكارة ممن تعنى به حتى أطلقه. فقلت: كلهم عندي بمنزلة واحدة
فلو أفرجت عن الجميع كان أحسن بك. فقال: والله لولا أن أصحابي فرقوا
ما أخذوا لفعلت ذلك ولكنهم لا يطيعوني في رده إلا أنى لا أدع أحدا
يأخذ من السفن الباقية شيئا بعد هذا فجزيته الخير فصعد إلى الشط
وأصعد جميع أصحابه ومنع أن يؤخذ شئ من السفن الباقية فما تعرض
إليها أحد ورد على قوم ضعفاء أشياء كثيرة كانت أخذت منهم وأطلق
الناس وسار معي في أصحابه إلى أن صار بيني وبين المأمن شئ يسير ثم ودعني
وانصرف إلى أصحابه.
حدثت عن بعض التجار البغداديين. قال: خرجت بسلع لي ومتاع من
بغداد أريد واسطا، وكان اليزيدي بها. والدنيا مفتتنة، فقطع على الطريق
وعلى الكار الذي كنت فيه لص كان في الطريق يقال له ابن حمدون يطلع
قريبا من بغداد فأفقرني وكان معظم ما أملكه معي فسهل على الموت وطرحت
نفسي له وكنت أسمع ببغداد أن ابن حمدون فيه فتوة وظرف وأنه إذا قطع
لم يعرض لأصحاب البضائع القليلة التي تكون دون الألف وإذا أخذ ممن
حاله ضعيفة شيئا قاسمه عليه فترك شطر ماله في يديه وأنه لا يفتش امرأة ولا
يسلبها وحكايات كثيرة مثل ذلك فأطمعني ذلك في أن يرق لي فصعدت
إلى الموضع الذي هو فيه جالس فخاطبته في أمرى ورفقته ووعظته وقلت له:
إن جميع ما أمتلكه قد أخذه وإنني أحتاج إلى أن أتصدق من بعده. قال:
فقال لي يا هذا: لعن الله السلطان الذي أحوجنا إلى هذا فإنه قد أسقط
أرزاقنا فاحتجنا إلى هذا الفعل ولسنا فيما نفعل ارتكاب أمر عظيم مما يرتكبه
السلطان أنت تعلم أن ابن شيراز ببغداد يصادر الناس ويفقرهم حتى يأخذ
الموسر المكثر فلا يخرج من حبسه وهو يهتدى إلى شئ غير الصدقة
وكذلك يفعل اليزيدي بواسط والبصرة والديلم وبالأهواز وقد علمت أنهم
يأخذون أصول الضياع والدور والعقار ويتجاوز ذلك إلى الحرم والأولاد
فاحسبونا نحن مثل هؤلاء. فقلت أعزك الله ظلم الظلمة لا يكون حجة، والقبيح
333

لا يكون سنة فإذا وقفت أنا وأنت بين يدي الله عز وجل أترضى أن يكون
هذا جوابك له. قال: فأطرق مليا ولم أشك في أنه يقتلني ثم رفع رأسه وقال:
كم أخذ منك فصدقته، فقال: أحضروه فأحضر. قال: وكان كما ذكرت
فأعطاني نصفه. فقلت. الآن قد وجب حقي عليك وصار لي باحسانك إلى
حرمة. فقال أجل: فقلت إن الطريق فاسد، وما إلا أن أتجاوزك حتى
يؤخذ هذا أيضا فأنفذ معي من يؤديني إلى المأمن. قال: ففعل ذلك وسلمت
بما أفلت معي. قال: فجعل الله عز وجل فيه البركة وأخلف.
حدثني الحسن بن صافي مولى ابن المتوكل القاضي. وكان أبوه يعرف
بغلام ابن مقلة. قال: لما حصل المتقى بالله الرقة ومعه أبو الحسن علي بن
محمد بن مقلة وزيره، كاتبني بأن أخرج إليه فخرجت ومعي جماعة من أنسابي
وأنساب الخليفة إلى هيت وضم إلينا ابن قتال خفراء يودونا إلى الرقة
فرحلت من هيت ومعنا الخفراء والغلمان ومن أتجر معنا من هيت فصرنا
نحو المائتي مقاتل، فلما كان في اليوم الرابع من مسيرنا ونحن في البر
الأقفر وقد حصلنا نستريح إذا بسواد عظيم من بعيد لا ندري ما هو فلم
نزل نرقبه إلى أن بان لنا وإذا هو بمائة مطية رجلان فجمعنا رجالنا وأصحابنا
وحملنا وأخذوا حجفهم وسلو سيوفهم وتقدمهم رئيسهم. فقال لنا: يا معشر
الناس لا يسلن أحد سيفه ولا يرمين بسهم، فمن فعل ذلك فهو مقتول ففشل
أكثر من كان معنا، وقاتل الباقون قتالا ضعيفا وخالطنا الاعراب وخرج
جماعة منهم وأخذونا وجميع ما كان معنا واقتسموه وطرحونا في الشمس
مجرحين فنظرت فإذا أنا قد عريت وبقى على خلق لا يصد عنى شيئا وليس معي
ماء أشربه ولا ظهر أركبه وليس بيني وبين الموت الا ساعات يسيرة فقامت
على القيامة واشتد جزعي ولم يكن لي حيلة فآيست من الحياة فأنا كذلك
إذ وجدت شنشجة كانت لي فيها خاتم عقيق كبير الفص كثير اللمعان فوقع
لي في الحال وجه الحيلة فأخذته وجعلته في قطن وخبأته معي وقصدت رئيس
القوم وكان هو الذي تولى أخذ مالي وقد عرف موضعي وقدري. وقلت
334

له: رأيت عظيم ما أخذته منى فأنا خادم الخليفة، وقد خرجت لأمر كبير من
خدمته، وإنك فزت بما أخذته منى، وأنا أعاملك به وأسديه إليك حلالا
لا يجرى مجرى الغصوب على أن تؤمنني على نفسي وترد على من ثيابي
وأدواتي وتسقيني ماء، وتسيرني حتى أصل إلى ما منى. فقال ما هو؟ فقلت:
تعطيني إيمانك وعهودك وذمامك على الوفاء ففعل فانفردت به، وجعلت يدي
مقابلة للشمس وأريته الخاتم وأقمت فصه في شعاع الشمس فكاد يخطف بصره
ورأي ما لم يكن رآه فهاله وقال لي: استره وقل لي خبره. قلت هذا خاتم الخلافة
وهذا الفص منه ياقوت أحمر وهو الذي يتداوله الخلفاء منذ العهد الطويل،
ويعرف بالجبل ولا يقوم أمر الخلافة إلى به، وكان مخبوءا ببغداد فأمرني
الخليفة أن أحمله في جملة ما حملته، حيث حصل عندك فالرأي أن تمتنع من أعطاه
إلا بمائة ألف دينار وهم لم يقدروا عليك فيضطروا لانفاذ الثمن، وأرى أيضا
أن تأخذه وتنفذه إلى ناحية الشام وتوقفني على موضع حلتك، وتخفى حصول
الخاتم معك، وإني إذا حصلت بحضرة الخليفة وعرفته الخبر جاءتك رسله
بالرغائب حتى يرتجعه منك بأي ثمن. قال: فإذا خذ من ثيابك ما تريد فأخذت
من ثيابي ما احتجت إليه وأخذ الخاتم فخباه في جيبه وأركبني راحلة مواطاة
وأعطاني أداتين كبيرتين، وسار معي والناس يهلكون عطشا، ولم يزل
يسيرني حتى بلغت إلى حصن في البرية يعرف بالزيتونة من بناء هشام بن
عبد الملك فيه رجل من بنى أمية يكنى بأبي مروان معه في الحصن نحو من
مائتي رجل فلما حصلت عنده، وأمنت انصرفت الاعراب، وعرفت
أبا مروان خبري في القطع، ومن أنا فأعظم أمرى وأكرمني وأنفذ معي من
أصحابه من بلغني الرقة سالما.
عن رجل من الدقاقين في دار ابن الزبير بالبصرة قال: أورد على رجل
غريب سفتجة بأجل، وكان يتردد على إلى أن حل ميعاد السفتجة ثم قال:
دعها عندك حتى آخذها متفرقة، وكان يجئ في كل يوم فيأخذ بقدر نفقته إلى
أن نفذت، وصار بيننا معرفة وألف الجلوس عندي وكان يراني أخرج كيسا
335

من صندوقي فأعطيه منه فقال لي يوما: ان قفل الرجل صاحبه في سفره وأمينه
في حضره وخليفته على ماله، والذي ينفى الظن عن أهله وعياله فإن لم يكن
وثيقا تطرقت الحيل عليه، وأرى قفلك هذا وثيقا. فقل لي ممن ابتعته
لابتاع مثله لنفسي. فقلت له: من فلان بن فلان الاقفالي عند باب الصفارين
قال: فما شعرت يوما وقد جئت إلى دكاني فطلبت صندوقي لآخذ شيئا من
الدارهم فحمل إلى، ولما فتحته وجدته خاليا من الدراهم فقلت لغلامي وكان
غير متهم عندي هل أنكرت من الدرابات شيئا. قال: لا. فقلت: فتش هل
ترى في الدكان نقبا. قال: لا. فقلت: من السقف حيلة. قال لا قلت: فاعلم
أن الدراهم قد ذهبت فقلق الغلام فسكنته، وقمت لا أدرى ما أصنع وتأخر
الرجل عنى فلما غاب اتهمته وذكرت مسألته عن القفل فقلت للغلام: أخبرني
كيف تفتح دكاني وتقفله قال رسمي ان أدرب درابين والدرابات في المسجد
فأحملها في دفعات اثنين أو ثلاثة فاشرحها ثم افعل كذا وكذا فقلت البارحة
واليوم فعلت. قال نعم فقلت فإذا مضيت لترد الدرابات أو تحضرها فلمن
تدع الدكان؟ قال خاليا. قلت من هنا وقع الشر ومضيت إلى الصانع الذي
ابتعت منه القفل فقلت: جاءك إنسان اشترى منك مثل هذا القفل، قال:
نعم رجل من صفته كذا وكذا وأعطاني صفة صاحبي تماما فعلمت أنه احتال
على الغلام وقت المساء لما انصرفت أنا وذهب الغلام يحمل الدرابات فدخل
هو إلى الدكان فاختبئ فيه، ومعه مفتاح القفل الذي يقع على قفلي وأنه
أخذ الدراهم وجلس طول الليل خلف الدرابات. فلما جاء الغلام ليفتحها
وحمل بعض الدرابات ليرفعها خرج هو، وإنه ما فعل ذلك إلا وقد خرج
إلى بغداد. فسلمت دكاني إلى الغلام وقلت له: من يسأل عنى فعرفه أنى
خرجت إلى ضيعتي قال: ثم خرجت ومعي قفلي ومفتاحه فقلت أبتدي
بطلب الرجل بواسط قال: فلما صعدت من السميرية طلبت خانا في الكتبيين
بواسط لأنزله فأرشدت إليه فصعدت فإذا بقفل مثلي قفلي سواء على بيت
فقلت لقيم الخان هذا البيت من ينزله؟ قال قدم رجل من البصرة أمس فقلت
أي شئ صفته؟ قال: فوصف لي صاحبي بعينه فلم أشك أنه هو وإن الدراهم
336

في بيته فاكتريت بيتا بجانبه، ورصدت البيت حتى انصرف قيم الخان
ففتحت القفل بمفتاحي فحين دخلت البيت وجدت كيسي بعينه فأخذته
وخرجت وأقفلت الباب ونزلت في الحال إلى السفينة التي جئت فيها ودعوت
الملاح وانحدرت إلى البصرة فما أقمت بواسط إلا ساعتين من النهار ورجعت
إلى منزلي بمالي عينه.
حدثني عبد الله بن محمد البصري قال: حدثني اكار بنهر سايس يقال له سارح
قال: خرجت من نهر سايس إلى موضع من طرف يقال له كوخ راذويه فبلغني
أن في طريقي رجلا يقطع الطريق وحده وحذرت منه، فلما خرجت من القرية
رأيت رجلا تدل فراسته على شدته ونجدته وفي يده زقاية فجسرني على الطريق
فترفقنا فانتهينا إلى سقاية في البرية فخرج علينا اللص متحزما متسلحا فصاح
بنا فطرح رفيقي كارة كانت على ظهره وأخذ عصاة وبادر اللص وضربه بها
فعطل اللص الضربة واستلقاها على سيفه فقطع العصاة ثم ضرب بسيفه رجل
الرجل فأقعده ثم وشحه بالسيف حتى قتله وحمل على ليقتلني فقلت له ما حاربتك
ولا أمتنع من أخذك ثيابي فلأي شئ تقتلني فقال استكتف فكتفني بتكتي
ثم حمل الثياب وانصرف وبقيت متحيرا مشفيا على التلف بالعطش والشمس
والوحوش فلما زلت أتمطى في التكة إلى أن قطعتها فقمت أمشى إلى أن جنبني
الليل فرأيت في الصحراء على بعد ضوء نار خفيا فقصدته فمشيت إلى نصف
الليل فوجدته يخرج من قبة في الصحراء فقربت منها وأطلعت فإذا هو اللص
جالس في القبة يشرب نبيذا ومعه امرأته، فلما أبصرني صاح وتناول السيف
وخرج إلى فما زلت أنا شده وأحلف له أنني ما علمت أنه هو ولا قصدته وإنما
رأيت النار فقصدتها. فلم يعبأ بقولي وحلفته المرأة أن لا يقتلني بحضرتها
فجذبني إلى نهر جار بقرب من القبة، وطرحني على شاطئه تحته وجرد سيفه
ليذبحني فسمع صوت أسد قريبا فارتعدت يده وسكن، وأخذ يسكني فآنست
بالسبع استيحاشا منه، وزدت في الصياح فما شعرت إلا والسبع قد تناوله من
337

صدري فقمت فأخذت السيف وجئت إلى القبة فلم تشك الجارية آنى هو فقالت
قتلته؟ فقلت: لها الله عز وجل قتله، وقصصت عليها القصة، وسألتها عن شأنها
فقالت: أنا امرأة من القرية الفلانية أسرني هذا الرجل وخبأني في هذا الموضع
وهو يتردد إلى في كل ليلة فأرهبتها فدلتني على دفائن له في الصحراء فاستخرجتها
وحملت الجارية وبلغتها القرية وسلمتها فيها وفزت بمال عظيم أغناني عن مقصدي
فعدت إلى بلدي.
وحدثني أيضا عن ابن الدنانيري التمار الواسطي قال: حدثني غلام لي،
قال: كنت ناقدا بالأبلة لرجل تاجر فاقتضيت له من البصرة نحو الخمسمائة
دينار عينا وورقا ولففتها في فوطة واستعديت على السفر مساء إلى الأبلة فما
زلت أطلب ملاحا فلم أجد إلى أن رأيت ملاحا مجتازا في خيطية خفيفة فارغة
فسألته أن يحملني فسهل على الأجرة وقال: أنا راجع إلى منزلي بالأبلة
فأنزل فنزلت. قال وجعلت الفوطة بين يدي وسرنا إلى أن تجاوزنا مسماران
فإذا رجل ضرير على الشط يقرأ أحسن قراءة تكون، فلما رآه الملاح كبر
وصاح هو بالملاح احملني فقد جنبني الليل، وأخاف على نفسي فشتمه الملاح
فقلت: أحمله فدخل إلى الشط فحمله. فلما حصل معنا رجع إلى قراءته فخلب
عقلي بطيبها فلما قربنا من الأبلة قطع القراءة وقام ليخرج في بعض المشارع
إلى الأبلة فلم أر الفوطة فقمت واقفا فاستغاث الملاح وقال: الساعة تقلب
الخيطية، وخاطبني بخطاب من لا يعلم حالي. فقلت: يا هذا كانت بين يدي
فوطة فيها خمسمائة دينار. فما سمع ذلك بكى وقال: لم أدخل الشط بعد ولا
لي موضع أخبئ فيه شيئا فتتهمني بسرقته ولى أطفال وأنا ضعيف فاتق الله
عز وجل وفعل الضرير مثل ذلك ففتشت الخيطية فلم أجد شيئا فوجمت
وقلت: هذه محنة لا أدرى كيف أتخلص منها، وخرجنا فعملت على الهروب
وأخذ كل منا طريقا وبت ولم أمض إلى صاحبي وأنا بليلة عظيمة فلما
أصبحت عملت على الرجوع إلى البصرة لأستخفي فيها أياما ثم أرجع إلى بلد
شاسع فانحدرت وخرجت من مشرعة بالبصرة، وأنا أمشى وأتعثر وأبكى
338

قلقا على فراق أهلي وولدي وذهاب معيشتي وجاهي إذ اعترضني رجل فقال
لي يا هذا: ما وراءك ولماذا أنت قلق البال فأعرضت عنه فاستحلفني
فأخبرته بالايجاز على سبيل السلوى فقال: امض إلى السجن ببنى نبير واشتر
معك خبزا وشواء جيدا وحلوى وسل السجان أو يوصلك إلى رجل محبوس
هناك يقال له أبو بكر البغاش، وقل له إني زائره فإنك لا تمنع فإن منعت
وهبت للسجان شيئا يسيرا فإنه يدخلك إليه فإذا رأيته فسلم عليه ولا تخاطبه
حتى تجعل بين يديه ما معك، فإذا أكل وغسل يده يسألك عن حاجتك.
فأخبره خبرك فإنه سيدلك على من أخذ مالك ويرتجعه لك. قال فشكرته
وانصرف، وفعلت ذلك ووصلت إلى الرجل. فإذا شيخ مثقل بالحديد
فسلمت عليه، وطرحت ما معي بين يديه فدعى رفقاء كانوا معه وأقبلوا
يأكلون فلما استوفى وغسل يده قال: من أنت وما حاجتك؟ فشرحت له
القصة فقال: امض الساعة لوقتك ولا تتأخر إلى بنى هلال فادخل الدرب
الفلاني حتى تنتهى إلى آخره فإنك تشاهد بابا شعثا فافتحه وادخله بلا
استئذان فتجد دهليزا طويلا يؤدى إلى بابين فادخل الأيمن منهما فسيدخلك
إلى دار فيها أوتاد وبواري وعلى كل وتد إزار ومئزر فانزع ثيابك والقها
على الوتد وأتزر بالمئرز اتشح بالإزار فيجئ قوم يفعلون كما فعلت إلى أن
يتكاملوا ثم يأتون بطعام فكل معهم وتعهد أن تفعل في كل شئ كما يفعلون
فإذا أتوا بالنبيذ فاشرب معهم أقداحا يسيرة ثم خذ قدحا كبيرا واملأه وقم
فقل هذا شادي خالي أبو بكر البغاش فسيضحكون ويفرحون ويقولون هو
خالك فقل نعم فسيقومون ويشربون لي فإذا تكامل شربهم لي جلسوا فقل
نعم خالي يقرأ عليكم السلام ويقول لكم بحياتي يا فتيان ردوا على ابن أختي
الفوطة التي أخذتموها أمس في السفينة بنهر الأبلة فإنهم يردونها عليك فخرجت
من عنده وفعلت ما قال ووجدت الصورة على ما ذكر فردت الفوطة على بعينها
ولم يحل شدها فلما حصلت لي قلت لهم يا فتيان هذا الذي فعلتموه بي هو قضاء
لحق خالي ولى حاجة تخصني فقالوا: مقضية. فقلت عرفوني كيف أخذتم
الفوطة؟ فامتنعوا ساعة فأقسمت عليهم بحياة أبى بكر البغاش فقام واحد منهم
339

وأومئ إلى رجل فتأمله جيدا فإذا هو الضرير الذي كان يقرأ وإنما يتعامى
وأومئ إلى آخر. وقال: أتعرف هذا فتأملته فإذا هو الملاح بعينه. فقلت:
كيف فعلتما؟ فقال الملاح: أنا أدور المشارع في أول أوقات المساء وقد
سبقت بهذا المتعامي فأجلسته حيث وأبت فإذا رأيت من معه شيئا له قدر
ناديته وأوجبت الأجرة عليه وحملته فإذا بلغت إلى القارى وصارح به شتمته
حتى لا يشك الراكب في براءة ساحتي فان حمله الراكب فذاك وإن لم يحمله
رققت عليه حتى يحمله وجلس هذا يقرأ بقراءته الطيبة ويذهل الرجل كما
ذهلت أنت فإذا بلغت الموضع الفلاني فإن فيه رجل متوقعا لنا يسبح حتى
يلاصق السفينة وعلى رأسه قوصرة والراكب لا يفطن له فيأخذ الأعمى الشئ
الذي مع الراكب بحيلة خفية ويلقيه في القوصرة فيأخذه هذا ويسبح إلى الشط
فإذا أراد الراكب النزول وانتقد ما معه عملنا كما رأيت فلا يتهمنا ونتفرق
فإذا كان في الغد اجتمعنا واقتسمنا ما أخذناه واليوم كان يوم القسمة
فلما جئت برسالة أستاذنا خالك سلمنا إليك الفوطة. قال: فأخذتها وانصرفت
إلى بلدي عاجبا حامدا.
حدثني عبد الله بن محمد الصروري. قال: حدثني بعض إخواني أنه كان
ببغداد رجل يتلصص في حداثته ثم تاب وصار بزازا. قال: فانصرف ليلة
من دكانه وقد أغلقه فجاء رجل لص متزي بزي صاحب الدكان في كمه شمعة
صغيرة ومفاتيح فصاح بالحارس وأعطاه الشمعة في الظلمة وقال أشعلها وجئني
بها فإن لي في هذه الليلة في دكاني شغلا فمضى الحارس وأشعل الشمعة وركب
وركب اللص المفاتيح على الاقفال ففتحها ودخل الدكان وجاء الحارس
بالشمعة مشعلة فأخذها منه وهو لا يتبين وجهه وجعلها بين يديه وفتح سفط
الحساب فأخرج ما فيه وجعل ينظر في الدفاتر ويرى بيده أنه يحسب فدخلت
الحيلة على الحارس ولم يشك أنه صاحب الدكان إلى أن قارب السحر فاستدعاه
اللص وكلمه من بعيد. وقال له: اطلب لي حمالا فجاءه بحمال فحمل عليه من متاع
الدكان أربع رزم وأقفل الدكان وانصرف معه وأعطى الحارس درهمين
340

فلما أصبح الناس جاء صاحب الدكان ليفتحه فقام إليه الحارس يدعوا له فعل
الله بك وصنع كما أعطيتني البارحة الدرهمين قال فأنكر الرجل ما سمع ولم
يرد جوابا، وفتح الدكان فوجد سيلان الشمعة وحسابه مطروحا وفقد الرزم
الأربع فاستدعى الحارس وقال من الذي حمل الرزم البارحة معي فقال: قد
استدعيت فلانا الحمال وهو الذي حملها فقال له على به فمضى الحارس وجاء
بالحمال فأغلق الرجل الدكان وأخذ الحمال معه ومشى وقال له: إلى أين حملت
الرزم البارحة فإني كنت منتبذا؟ فقال: إلى المشرعة الفلانية واستدعيت لك
فلانا الملاح فركبت معه فقصد الرجل المشرعة وسأل عن الملاح فحضر وركب
معه وقال: أين عديت اليوم بأخي الذي كان معه الأربع رزم؟ فقال: إلى
المشرعة الفلانية فقال: اطرحني إليها فطرحه فقال: من حملها؟ قال: فلان
الحمال فدعى به فقال امش فمشى وأعطاه شيئا واستدل منه برفق على الموضع
الذي حمل إليه الرزم فجاء به إلى باب غرفة في موضع بعيد عن الشط قريب
إلى من الصحراء فوجد الباب مقفلا واستوقف الحمال ان فش القفل وفتح الباب
ودخل فوجد الرزم فيه على حالها فدعى الحمال وحملها عليه ووجد يركانا
فأخذه أيضا ووضعه مع الرزم وحين خرج من الغرفة استقبله اللص وفهم
الامر فاتبعه إلى الشط فجاء إلى المشرعة ودعى الملاح ليعير فدعى الحمال من
يحط عنه؟ فجاء اللص فحط عنه كأنه يجتاز متطوع ثم أدخل الرزم إلى السفينة
مع صاحبها إلى أن انتهى إلى اليركان فأخذه ووضعه على كتفه وقال للتاجر
يا أخي استودعتك الله قد ارتجعت رزمك فدع كسائي فضحك منه وقال:
انزل ولا خوف عليك فنزل معه فاستتابه ووهب له شيئا ولم يسئ إليه.
عن رجل يعرف بأبي العرب قال: كنت مع أهل قرية من نواحي الشام
أسكها أنا وأسلافي وكنت أطحن مع أهل القرية في رحى ماء على فراسخ من
البلد يخرج إليها أهل البلد وأهل القرى المجاورة بغلاتهم وتكثر فلا يتمكن
من الطحن إلا القوى فالقوى، فمضيت مرة ومعي غلة وحملت معي خبزا
341

ولحما مطبوخا يكفيني لأيام وكان الزمان شتاء فلما وصلت حططت أعدالي
وانتظرت حيت يخف الناس فأطحن فيها على عادتي فأخذني الجوع فتحولت
إلى موضع نزه وفرشت سفرتي لآكل فاجتاز بي رجل عظيم الخلقة فدعوته.
إلى الاكل فلم يتأخر وجلس فأكل جميع ما كان في سفرتي حتى لم يدع فيها
ولا أوقية واحدة فعجبت من ذلك عجبا بان له منى فأمسكت وغسلنا أيدينا
فقال: على أي شئ مقامك هنا قلت لأطحن هذه الغلة قال: ولم لم تطحنها
فأخبرته بسبب بعد ذلك على فثار كالجمل حتى شق الناس وهم مزدحمون على
الرحى وهي تدور فجعل رجله عليها فوقفت ولم تدر فعجب الناس وقال من
فيكم يتقدم فجاء رجل معجب بشدته فأخذ بيده ورمى به كالكورة وجعله
تحت رجله الأخرى فما قدر أن يتحرك وقال: قدموا غلتي إلى الطحن وإلا
كسرت الرحى وكسرت عظام هذا فقالوا لي هات الغلة فجئت بها فطحنت
وفرغ منها وجعلها في الاعدال وقال لي قم فقلت إلى أين؟ قال: إلى منزلك
فقلت لا أسلك الطريق وحدي فهو مخيف ولكن اصبر حتى يتفرغ أهل قربتي
فارجع معهم فقال قم وأنا معك ولست تخاف بإذن الله عز وجل فقلت في
نفسي من كانت تلك قوته يجب أن آنس به فقمت وحملت الغلة على الحمير
وسرنا ولم نر في طريقنا أحدا فلما بلغت المنزل عجب قومي من سرعتي وورودي
بالغلة لوحدي ورأوا الرجل وسألوني عن القصة فأخبرتهم وسألناه أن يقيم
عندنا أياما في ضيافتنا ففعل فذبحنا له بقرة وأصلحنا له سكباجا وقدم إليه
فأكل الجميع بنحو المائة رطل خبزا فقال له أبى يا هذا ما رأيت مثلك قط فأي
شئ أنت ومن أين معاشك قال: أنا رجل من الناحية الفلانية وكان لي أخ
أشد بدنا وقلبا منى اسمه عاد واسمى شداد وكنا نبدرق القوافل من قريتنا إلى
مواضع كثيرة لا نستعين بأحد وتخرج علينا الرجال الكثيرة فألقاهم أنا وأخي
فقط ونهزمهم واشتهر أمرنا حتى كان إذا قيل قافلة عاد وشداد لم يعرض
لها أحد فمكثنا بذلك سنين كثيرة فخرجنا مرة أنا وأخي نسير قافلة قد خفرناها
فلما صرنا بالفلاة رأينا سوادا مقبلا نحونا فانتظرنا أن يقدم علينا أحد ثم
بان لنا شخص وهو رجل أسود على ناقة حمراء ثم خالطنا وقال هذه قافلة
342

عاد وشداد فقلنا نعم فترجل ودعانا للبراز فانقضضنا عليه فضرب ساق أخي
بالسيف ضربة أقعدته وعاد إلى فقبض على كتفي فما أطقت الحركة فكتفني
ثم كتف أخي وطرحنا على الناقة كالزاملتين ثم ركبها وسار بعد أن أخذ من
القافلة ما كان فيها من عين وورق وحلى وشيئا من الزاد وأوقر الراحلة بذلك
وسار بنا على غير محجة في طريق لا نعرفه بقية يومنا وليتنا وبعض الثاني
حتى أتى جبلان لا نعرفهما وأوغل فيهما وانتهى إلى مغارات وأناخ الراحلة
ثم رمى بنا عنها وتركنا في الكتاف وجاء إلى مغارة على بابها صخرة لا ينقلها
إلا الجماعة الكثيرة فنحاها عن الباب واستخرج منها جارية حسناء وسائلها
عن خبرها وجلسا يأكلان مما جاء به من الزاد ثم قال لها: قومي فقامت
فدخلت إلى الغار ثم جاء إلى أخي فذبحه وأنا أراه وشواه وأكله وحده حتى
لم يدع منه غير عظامه ثم استدعى الجارية فخرجت فجعلا يشربان فلما توسط
شربه جرني فلم أشك في أن يريد ذبحي فإذا هو قد طرحني في غار من تلك
المغارات وحل كتافي وأطبق الباب بصخرة عظيمة قال: فآيست من الحياة
وعلمت أنه إنما أخرني لغد فلما كان في الليل لم أحس إلا بالمرأة تكلمني فقلت
ما لك: فقالت إن هذا العبد قد سكر ونام وهو يذبحك في الغد كما ذبح صاحبك
فإن كانت لك قوة فاجتهد في دفع الصخرة، وأخرج وأقتله وانج بنفسك
وبى فقلت ومن أنت فقالت: أنا امرأة من أهل البلد الفلاني ذات نعمة
خرجت أريد أرضا بالبلد الفلاني فخرج هذا عدو الله على القافلة التي كنت
فيها فاستهلكها وأخذني غصبا وأنا منذ كذا وكذا شهرا على هذه الصورة
ويرتكب منى الحرام وأشاهد ذبح الناس وأكله لهم ولا يوصف له إنسان
بشدة بدنه إلا قصده ثم يقهره ويجئ به فيأكله ويعتقد أن شدته تنتقل إليه
وإذا خرج حبسني في الغار وخلف عندي مأكولا وماء لأيام ولو اتفق أنه
يحتبس عنى ولو يوما لمت جوعا وعطشا فقلت إنني والله ما أطيق قلع الصخرة
قالت ويلك فجرب نفسك قال فجئت إلى الصخرة واعتمدتها بقوتى فتحركت
فنظرت فإذا قد وقعت تحت الصخرة حصاة صغيرة وقد صارت الصخرة
متركبة تركيبا صحيحا وذلك لما أراده الله سبحانه وتعالى من خلاصي فقلت
343

لها: أبشرى ولم أزل أجتهد حتى زحزحت الصخرة شيئا أمكنني الخروج منه
قال فخرجت وأخذت سيف الأسود واعتمدت بكلتا يدي وضربت ساقيه فإذا
قد أبنت أحدهما وكسرت الأخرى فانتبه ورام الوثوب فلم يقدر فضربته
الأخرى على حبل عاتقه فسقط فضربته أخرى فأنبت رأسه وعمدت إلى
المغارات وأخذت كلما وجدت فيها من عين وورق وجوهر وثوب فاخر
خفيف الحمل وأخذت زادا لأيام وركبت راحلته وأردفت المرأة ولم أزل
أسير في طريق لا أعرفها حتى وقفت على محجة فسلكتها فأفضت بي إلى بعض
القرى فسلمت الراحلة إلى المرأة وأعطيتها نفقة تكفيها إلى بلدها وسيرتها
مع خفراء وعدت إلى بلدي بتلك الفوائد الجليلة وعاهدت الله عز وجل
أن لا أتعرض للطريق ولا للخفاوة أبدا فأنا أتاجر في ضياع اشتريتها من ذلك
المال وغيره وأقوم بعماراتها وأعيش من غلتها إلى الآن.
وعن رجل كردي يعرف بأبي على كان قد انحاز إلى عمران بن شاهين
ابن عبد حسنويه بن الحسن الكردي وكان شجاعا قال: خرجنا مرة بالجبال
في أيام موسم الحاج وعددنا سبعون رجلا من فارس وراجل فاعترضنا
الحاج للخراسانية وكان لنا عين من القافلة فعاد وعرفنا أن في القافلة رجل
من أهل شاس وفرغانة معه اثنى عشر جملا وجارية في قبة عليها حلى ثقيل
فجعل أعيننا عليه حتى وثبنا عليه هو والجارية في عماريته فقطعنا قطاره
وكتفناه وأدخلناه وما معه بين الجبال ووقفنا على ما معه وفرحنا بالغنيمة
وكان للرجل برذون أصفر يساوى مائتي درهم فلما رآنا نريد القفول قال:
يا فتيان هناكم الله بما أخذتم ولكنني رجل حاج بعيد الدار فلا تتعرضوا
لسخط الله بمعنى من الحج فأما المال فيذهب ويجئ وتعلمون أنه لا نجاة لي
إلا على هذا البرذون فاتركوه لي فليس يبين ثمنه في الغنيمة التي أخذتموها
فتشاورنا فقال شيخ مجرب لا تردوه عليه واتركوه مكتوفا هنا فإن كان في
أجله تأخير فسيقيض له من يحل كتافه فكنت فيمن عزم على هذا وقال بعضنا
ما مقدار دابة بمائتي درهم حتى نمنعها رجل حاج وجعلوا يرققون بقلوت
344

الباقين حتى سمحنا بذلك فأطلقناه ولم ندع عليه إلا ثوبا يستر عورته فقال.
يا فتيان أنتم مننتم على وردتم دابتي وأخشى إذا أنا سرت أن يأخذها غيركم
فاعطوني قوسي ونشابي أذب بها عن نفسي وفرسي فقلنا لا نرد سلاحا على
أحد فقال بعضنا لبعض وما مقدار قوس ثمنها درهمان وما نخشى من مثل هذا
فأعطيناه قوسه ونشابه وقلنا انصرف فشكرنا ودعا لنا ومضى حتى غاب عن
أعيننا فما كدنا نسير والجارية تبكى وتقول أنا حرة ولا يحل لكم أن
تأخذوني فنحن في هذا وإذا بالرجل قد كر راجعا وقال يا فتيان أنا لكم ناصح
فإنكم قد أحسنتم إلى ولا بد لي من مكافأتكم على إحسانكم بنصيحتي لكم
فقلنا ما نصيحتك فقال: دعوا ما في أيديكم وانصرفوا سالمين بأنفسكم ولكم الفضل
فإنكم مننتما على رجل واحد وأنا أمن على سبعين رجلا منكم وإذا به قد انقلبت
عينا في أم رأسه وخرج الزبد على أشداقه كالجمل الهائج فهزأنا به وضحكنا فأعاد
علينا النصيحة فقال يا قوم قد مننت عليكم لا تجعلوا لأرواحكم سبيلا فزاد غيظنا
عليه فقصدناه وحملنا عليه فانحاز عنا ورمى خمس نشابات كانت بيده فقتل
بها منا خمسة أنفار وأخذ خمسة أخر وقال إن جماعتكم تموت على هذا إن لم
تخلوا عن ما في أيديكم فلم نزل ندافعه ويقتل منا حتى قتل خمسين رجلا وبقى
معه النشاب في جعبته ثم قتل منا جماعة آخرين فاضطررنا إلى أن ترجلنا فحاز
دوابنا وحده وساقها قليلا ثم رجع وقال أطالبكم بحلمكم من رمى بسلاحه
فهو آمن ومن تمسك به فهو أبصر فرمينا سلاحنا فقا آمنين وأخذ جميع
السلاح والدواب وفاتتنا الغنيمة والخيل والسلاح وكان ذلك سبب توبتي عن
قطع الطريق أنفة لما لحقني منه وأنا على ذلك الحال إلى اليوم.
345

الباب الثاني عشر
من ألجأه الخوف إلى هرب واستتار * فأدرك بأمن ومستجد نعم ومسار
عن محمد بن زكريا العلائي قال: غنى الرشيد يوما بهذا الشعر:
ألا هل إلى شم الخزامي ونظرة * إلى قرقرى قبل الممات سبيل
فيا أثلات القاع من بطن توضح * حنيني إلى اضلالكن طويل
أريد نهوضا نحوكم فيصدني * إذا رمته دير على ثقيل
قال مؤلف الكتاب: وجدت الشعر في غير هذه الرواية:
ويا اثلاث القاع قد مل صحبتي * صحابي فهل في ظلكن مقيل
أحدث نفسي عنك أن لست راجعا * إليك فحزني في الفؤاد دخيل
(رجوع للحديث) فاستحسن الرشيد الشعر، وسأل عن قائله فعرف أنه
ليحيى بن طالب الحنفي اليماني فقال: هو حي أم ميت؟ فقال بعض الحاضرين
هو حي كميت. فقال: ولم؟ قال: هرب من اليمامة لدين عليه ثقيل فصار إلى
الري فأمر الرشيد أن يكتب إلى عامله بالري يعرفه ذلك، وأن يدفع إليه
عشرة آلاف درهم، ويحمل إلى اليمامة على دواب البريد، وكتب إلى عامله
باليمامة بقضاء دينه. فلما كان بعد أيام قال الرشيد لمن حضره: إن الكتب
وردت بامتثال ما أمرت به، وعاد يحيى إلى وطنه موسرا وقد قضى دينه عنه
من غير سعى منه في ذلك.
ذكر محمد بن عبدوس في كتابه: " كتاب الوزراء ". قال: حدثني عبد الواحد
ابن محمد يعنى الحصني، قال: حدثني يموت بن المزرع. قال: كان التعابي
يقول بالاعتزال فاتصل ذلك بالرشيد، وكثر عليه في أمره. فأمر عليه بأمر
غليظ فهرب إلى اليمن، وكان مقيما فيها على خوف وتوق فاحتال يحيى بن خالد
إلى أن أسمع الرشيد شيئا من خطبه ورسائله فاستحسنها الرشيد وسأل عن
الكلام لمن هو؟ فقال يحيى: هو كلام العتابي، وإن رأيت يا أمير المؤمنين
346

أن يحضر حتى يسمع الأمين والمأمون ويضع لهما خطبا لكان في ذلك صلاح
لهما. فأمنه الرشيد وأمر باحضاره. ثم لما اتصل خبر ذلك بالعتابي قال يمدح
يحيى بن خالد:
ما زلت في سكرات الموت مطرحا * قد غاب عنى وجه الأرض من خبلي
فلم تزل دائبا تسعى لتنقذني * حتى اختلست حياتي من يد الاجل
ذكر في بعض كتب الدولة: أن أبا سلمة الخلال لما قوى الدعاة وشارفوا
العراق، وقد ملكوا خراسان وما بينها وبين العراق استدعى لبني العباس
فسيرهم في منزله بالكوفة، وكان له سرداب فجعل فيه جميع من كان حيا في ذلك
الوقت من ولد عبد الله بن العباس، وفيهم السفاح والمنصور، وعيسى بن موسى
وهو يراعى الاخبار، وكان الدعاة يأمرون بقصده إذا ظهروا وغلبوا على
الكوفة ليصرفهم الامام فيسلمون الامر إليه فلما أوقع قحطبة وابن هبيرة
الوقعة العظيمة على الفرات، وغرق قحطبة وانهزم ابن هبيرة ولحق بواسط
وتحصن بها، ودخل ابنا قحطبة الكوفة بالعسكر كله قالوا لأبي سلمة: أخرج
إلينا الامام. فدافعهم وقال: لم يحضر الوقت الذي يجوز فيه ظهور الإمام،
وأخفى الخبر عن بنى العباس وعمل على نقل الامر عنهم إلى ولد فاطمة رضي الله عنهم
، وكاتب جماعة منهم فتأخروا عنه وساء ظن بنى العباس. فاحتالوا
حتى أخرجوا مولى لهم أسود كان معهم في السرداب، وقالوا له: أعرف لنا
الاخبار فصار يعرفهم أن قحطبة غرق وأن ابن هبيرة انهزم، وأن ابني قحطبة
قد دخلا الكوفة بالعسكر منذ كذا وكذا. فقالوا: أخرج وتعرض لابني
قحطبة واعلمهما بمكاننا، ومرهما أن يكبسا الدار علينا ويخرجانا، فخرج
المولى وكان حميد بن قحطبة عارفا به فتعرض له فلما رآه أعظم رؤيته وقال:
ويلك ما فعل ساداتنا وأين هم؟ فخبره بخبرهم، وأرى إليه رسالتهم فركب في
قطعة من الجيش وأبو سلمة غافل فجاء حتى ولج الدار وأراه الأسود السرداب
فدخل ومعه نفر من الجيش فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقالوا:
وعليكم السلام. فقال: أيكم ابن الحارثية؟ وكانت أم أبى العباس عبد الله بن
347

محمد بن علي بن عبد الله وكان إبراهيم بن محمد الذي يقال له الامام لما بث
الدعاة قال لهم: إن حدث بعدى حدث فالإمام ابن الحارثية الذي معه العلامة
وهي " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم
الوارثين، ونمكن لهم في الأرض، إلى قوله تعالى: ما كانوا يحذرون " قال:
فلما قال ابن قحطبة أيكم ابن الحارثية ابتدره أبو العباس وأبو جعفر كلاهما
يقول أنا ابن الحارثية فقال ابن قحطبة: فأيكما معه العلامة؟ فقال أبو جعفر
فعلمت أنى قد أخرجت من الامر لأنه لم يكن معي علامة، فقال أبو العباس
ونريد أن نمن وتلا الآية. فقال له حميد بن قحطبه: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته مد يدك فبايعه ثم انتضى سيفه وقال: بايعوا أمير
المؤمنين. فبايعه اخوته وبنو عمه وعمومته والجماعة الذين كانوا معه في السرداب
وأخرجه إلى المنبر بالكوفة وأجلسه عليه. فحصر أبو العباس عن الكلام
فتكلم عنه عمه داود بن علي فقام دونه عمه على المنبر بمرقاة وجاء أبو سلمة،
وقد استوحش وخاف فقال حميد: يا أبا سلمة زعمت أن الامام لم يقدم بعد.
فقال أبو سلمة: إنما أردت أن أدفع بخروجهم إلى أن يهلك مروان، وإن
كانت لهم كرة لم يكونوا قد عرفوا بها فيهلكوا، وإن هلك مروان أظهرت
أمرهم على ثقة. فأظهر أبو العباس قبول هذا العذر منه، وأقعده إلى جانبه ثم
دبر عليه بعد مدة حتى قتله، وقد دار هذا الخبر على غير هذا السياق فقالوا:
قدم أبو العباس السفاح وأهله على أبى سلمة سرا فستر أمرهم، وعزم أن
يجعلها شورى بين ولد على والعباس حتى يختاروا منهم من أرادوا ثم قالوا:
خاف أن لا يتفق الامر فعزم أن يعدل بالامر إلى ولد الحسن والحسين رضي الله عنهم
وهم ثلاثة: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين و عبد الله بن الحسن
ابن الحسين بن علي وعمر بن علي بن الحسن ووجه بكتبهم مع رجل من مواليهم
من ساكني الكوفة. فبدأ بجعفر بن محمد فلقيه ليلا فأعلمه أنى رسول أبى سلمة
وإن معه كتابا إليه قال: ما أنا وأبو سلمة هو شيعة لغيري. فقال له: الرسول
تقرأ الكتاب وتجيب عنه بما رأيت. فقال جعفر لخادمه: قرب منى السراج.
فقربه فوضع عليه كتاب أبى سلمة فأحرقه. فقال ألا تجيب عنه؟ فقال:
348

قد رأيت الجواب. ثم أتى عبد الله بن الحسين فقبل كتابه، وركب إلى
جعفر. فقال جعفر: أمر جاء بك يا أبا محمد لو أعلمتني لجئتك. فقال: وأي
أمر هو؟ مما يجل عن الوصف. فقال: وما هو؟ قال: هذا كتاب أبى سلمة
يدعوني إلى الامر، ويراني أحق الناس به، وقد جاء به شيعتنا من خراسان
فقال له جعفر رضي الله عنه: ومتى صاروا شيعتك؟ أنت وجهت أبا مسلم
إلى خراسان، وأمرته بلبس السواد؟ أتعرف أحدا منهم باسمه ونسبه؟
قال: لا. قال: كيف يكونوا شيعتك وأنت لا تعرف واحدا منهم ولا
يعرفونك؟ فقال عبد الله: هذا الكلام كان منك لشئ. فقال جعفر: قد علم
الله تعالى أنى أوجب النصح على نفسي لكل مسلم فكيف أدخره عيك؟ فلا
تمنين نفسك الأباطيل فان هذه الدولة ستتم لهؤلاء القوم، وما هي لاحد من
ولد أبى طالب، وقد جاءني مثل ما جاءك فانصرف غير راض بما قال له،
وأما عمر بن علي بن الحسن فرد عليه الكتاب وقال: لا أعرف من كتبه.
قال وأبطأ أبو سلمة على أبى العباس ومن معه فخرج أصحابه يطوفون بالكوفة
فلقى حميد بن قحطبة ومحمد بن صول أحد مواليهم فعرفاه لأنه كان يحمل كتب
محمد بن علي وإبراهيم بن محمد إليه فسألاه عن الخبر فأعلمهما أن القوم قد
قدموا وإنهم في سرداب يعنى ببنى أود فصارا إلى الموضع فسلما عليهم وقالا:
أيكما عبد الله؟ فقال المنصور: وأبو العباس كلانا عبد الله. فقال أيكما ابن
الحارثية؟ فقال أبو العباس أنا. فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة
الله وبركاته، ودنوا فبايعوه وأحضره إلى المسجد الجامع فصعد على المنبر
فحصر وتكلم عنه عمه داود بن علي وقام دونه بمرقاة.
وعن طارق بن المبارك عن أبيه قال: جاءني رسول عمرو بن عتبة فقال
لي: يقول لك عمرو قد جاءت هذه الدولة، وأنا حديث السن كثير العيال
منتشر الأموال فما أكون في قبيلة إلا وشهر أمرى، وقد عزمت أن أفدى
حرمي بنفسي وأنا صائر إلى باب الأمير سليمان بن علي فصر إلى فوافيته. فإذا
عليه طيلسان مطبق أبيض وسراويل، وشئ مشدود فقلت سبحان الله
349

ما تصنع الحادثة بأهلها أيها الانسان؟ تلقى هؤلاء القوم الذين تريد لقاهم،
وعليك مثل هذا؟ قال: والله ما ذهب على ذلك ولكن ليس عندي ثوب إلا
أشهر من ذلك فأعطيته طيلساني وأخذت طيلسانه، ولويت سراويله إلى ركبته
فدخل ثم خرج مسرورا. فقلت: حدثني بما جرى بينك وبين الأمير قال:
دخلت إليه ولم يرني قط. فقلت أيها الأمير: لفظتني البلاد إليك ودلني
فضلك عليك فاما قبلتني غانما، وإما رددتني سالما. فقال: من أنت؟
فانتسبت إليه فقال: مرحبا أقعد فتكلم غانما مسرورا. ثم أقبل على وقال
ما حاجتك يا ابن أخي؟ فقلت ان الحرم اللواتي أنت أقرب الناس إليهن قد خفن
بخوفنا، ومن خاف خيف عليه فوالله ما أجابني عليه إلا بدموع تسيل على
خديه. فقال يا ابن أخي: يخفر الله دمك ويحفظك في حرمك ويوقر عليك مالك
والله لو أمكنني ذلك في جميع أهلك لفعلت ولكن كن متواريا كظاهر وآمنا
كخائف، ولتأتيني رقاعك. قال وكان الله يكتب إليه كما كان يكتب الرجل
إلى ابن عمه قال: فلما فرغ من كلامه رددت عليه طيلسانه فقال مهلا فإن
ثيابنا إذا خرجت عنا لم ترجع إلينا. ووجدت هذا الخبر بإسناد ليس هو لي
برواية عن العتبى قال: حدثنا طارق الزراع البصري ولم يتجاوزه قال قدم
جدك عمرو بن معاوية البصري حين نكب بنو أمية قال فجعل لا ينزل بحي
الا أجهزوه واشتهر فقال لي: اذهب بنا أضع يدي في يد هذا الرجل يعنى
سليمان بن يحيى وذكر نحوه، وقال في آخره: فلنا صار عمرو إلى منزله
دفعت إليه ثوبه وطلبت ثوبي فردهما على جميعا وقال: انا لم نأخذ ثوبك
لنحبسه ولم نعطك ثوبنا لترده.
عن عبد الله بن قيس الرقيات قال: لما خرجت مع مصعب بن الزبير
حين بلغه شخوص عبد الملك بن مروان فلما نزل مصعب مسكن وتبين الغدر
ممن معه دعاني، ودعا بمال فملا المناطق منه وألبسني منها وقال: امض
حيث شئت فإني مقتول فقلت: لا والله لا أروح حتى آتي سبيل فأقمت معه
حتى قتل، ومضيت إلى الكوفة فأول بيت دخلته إذا فيه امرأة معها بنتان لها
350

كأنهما ظبيتان فرقيت في درجة لها إلى مشرف فقعدت فيه قال فأصعدت
ما أحتاج إليه من الطعام والشراب والفرش والماء والوضوء فأقمت كذلك
عندها أكثر من حول تقوم بكل ما يصلحني وتغدوا على في كل صباح فتسألني
عن حوائجي فما سألتني من أنا ولا أنا سألتها من هي وأنا في أثناء ذلك أسمع
الصياح في والجعل فلما طال بي المقام وفقدت الصياح والجعل وعرضت بمكاني
عادت إلى تسألني ما الصياح والحاجة؟ فأعلمتها أنى قد عرضت بموضعي
وأحببت الشخوص إلى أهلي فقالت لي: يأتيك ما تحتاج إليه إن شاء الله تعالى
قال: فلما أمسيت وضرب الليل بأرواقه رقت إلى وقالت إن شئت فنزلت
وقد أعدت راحلتين عليهما جميع ما أحتاج إليه ومعهما عبد وأعطت العبد
نفقة الطريق وقالت العبد والراحلتان لك فركبت وركب معي العبد حتى
أتيت مكة فدققت منزلي فقالوا من أنت يا هذا فقلت عبد الله بن قيس الرقيات
فولولوا وبكوا وقالوا لم يردنا طلبك إلا في هذا الوقت فوقفت عندهم حتى
أسحرت ونهضت فقدمت المدينة ومعي العبد فجئت إلى عبد الله بن جعفر
ابن أبي طالب رضي الله عنهم وهو يعشى أصحابه فجلست معهم وجعلت أتعاجم
وأقول نبا ربنا وأي طيار فلما خرج أصحابه كشفت له عن وجهي فقال:
ابن قيس؟! قلت عائذا بك فقال: ويحك ما أجدهم في طلبك وأحرصهم على
الظفر بك. ولكني أكتب إلى أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي زوجة
الوليد بن عبد الملك و عبد الملك أرق شئ عليها فكتب إليها يسألها التشفع
إلى عمها عبد الملك فلما وصلها الكتاب دخلت على عمها فسألها هل من حاجة
قالت: نعم لي حاجة فقال قد قضيت كل حاجة لك قالت: وإن كان ابن قيس
الرقيات فقال لا نستثنين على ونفخ بيده فأصاب حر وجهها فوضعت يدها
على خدها فقال لها ارفعي يدك فقد قضيت كل حاجة وإن كانت ابن قيس
الرقيات فقالت تؤمنه فقد كتب إلى يسألني أن أسألك قال: فهو آمن قامت فمر
به يحضر المجلس العشية فحضر ابن قيس وحضر الناس حين بلغهم مجلس
عبد الملك قال فأخر الاذن لابن قيس وأذن للناس فدخلوا وأخذوا مجالسهم
ثم أذن له فلما دخل عليه قال: عبد الملك يا أهل الشام أتعرفون هذا قالوا
351

لا قال: هو ابن قيس الرقيات الذي يقول:
كيف نومي على الفراش ولما * تشمل الشام غارة شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدى * عن خداع العقيلة العذراء
فقالوا يا أمير المؤمنين اسقنا دم هذا المنافق قال الآن وقد أمنته وصار في
منزلي وعلى بساطي وقد أخرت الاذن لتقتلوه فلم تفعلوا فاستأذنه ابن قيس
أن ينشده مديحه فأذن له فأنشدته قصيدته التي يقول فيها.
عاد له من كثيرة الطرب * فعينه بالدموع تنسكب
والله ما أن صبت إلى فلا * يعرف بيني وبينها نسب
إلا الذي أورثت كثيرة في * القلب وللحب سورة عجب
حتى قال فيها:
إن الأغر الذي أبوه أبو * العاص عليه الوقار والحجب
يعتدل التاج فوق مفرقه * على جبين كأنه الذهب
فقال له عبد الملك: يا ابن قيس أتمدحني بالتاج كأني من العجم وتقول
في مصعب ابن الزبير.
إنما مصعب شهاب من الله * تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك رأفة ليس فيه * جبروت منه ولا كبرياء
أما الأمان فقد سبق لك ولكن الله لا تأخذ مع المسلمين عطاء أبدا
وأخبرني أبو الفرج المعروف بالأصفهاني عن حماد بن إسحاق عن أبيه أن
عبد الله بن قيس الرقيات منعه عبد الملك بن مروان عطاءه من بيت المال
وطلبه ليقتله فاستجار بعبد الله بن جعفر وقصده فالتقاه نائما وكان ابن قيس
صديقا لسائب خاثر فطلب الاذن على ابن جعفر فتعذر فجاء بسائب خاثر
ليستأذن له فقال له سائب خاثر فجئت من قبل رجلي عبد الله ابن جعفر
ونبحت بنباح الجرو الصغير فانتبه ولم يفتح عينيه ورفسني برجله قال فدرت
إلى عند رأسه فنبحت بنباح الكلب الهرم فانتبه وفتح عينيه فقال ما لك ويلك
فقلت ابن قيس الرقيات بالباب فقال ائذن له فأذنت له ودخل فرحب به
عبد الله وقربه فعرفه ابن قيس خبره فدعى بظبية فيها دنانير وقال لي عد له
352

ما فيها فجعلت أعد له وأطرب وأحسن صوتي بجهدي حتى عددت له ثلاث مائة
دينار وسكت. فقال عبد الله: ويلك لما ذا سكت ما هذا وقت قطع الصوت
الحسن فجعلت أعد ما في الظبية وفيها ثمانمائة دينار فدفعتها إليه فلما قبضها
التفت لابن جعفر وقال له: تسأل أمير المؤمنين في أمرى. قال: نعم إذا دخلت
عليه ثم أنه دعى بالطعام فأكل أكلا فاحشا وركب ابن جعفر فدخل معه إلى
عبد الملك فلما قدم الطعام جعل يسئ الاكل فقال عبد الملك لابن جعفر من
هذا؟ قال: رجل لا يجوز أن يكون كاذبا إن استبقى وإن قتل كان أكذب
الناس قال: كيف؟ قال لأنه يقول:
ما نقموا من بنى أمية إلا * أنهم يحلمون ان غضبوا
فإن قتلته بغضبك عليه أكذبكم فيما مدحكم به قال فهو آمن ولكن لا أعطيه
عطاء من بيت المال قال: أحب أن تهب عطاءه لي أيضا كما وهبت لي دمه قال:
قد فعلت وأمرت له بذلك.
عن حماد الراوية قال: كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك جعل هشام
يحفوني دون سائر أهله من بنى أمية في أيام يزيد فلما مات يزيد وأفضت
الخلافة إلى هشام خفته ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا إلى من أثق به من
إخواني سرا فلما لم أسمع أحدا يذكرني أمنت فخرجت فصليت الجمعة عند
باب الفيل فإذا بشرطيين قد وقفا على وقالا: يا حماد أجب الامر يوسف
ابن عمر فقلت في نفسي. من هذا. كنت أحذر. ثم قلت للشرطيين هل لكما أن
تدعاني أتى بيتي فاودع أهلي وداع من لا يرجع إليهم أبدا ثم أصير معكما
فقالا: ما إلى ذلك سبيل فاستسلمت في أيديهما وصرت إلى الأمير وهو في
الإيوان الأحمر فسلمت عليه فرد على السلام ورمى إلى كتابا فيه: " بسم الله
الرحمن الرحيم. من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر أما بعد:
فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الرواية من يأتيك به من غير أن يروع
353

ولا يتعتع وأدفع إليه خمسمائة دينارا وجملا مهريا يسير عليه اثنتي عشرة
ليلة إلى دمشق، فأخذت الخمسمائة دينار وإذا جمل مرحول فجعلت رحلي في
الغرر وسرت اثنتي عشرة ليلة حتى وافيت دمشق ونزلت على باب هشام
واستأذنت عليه فاذن لي فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام وبين
كل رخامتين قضيب ذهب وحيطانه كذلك وهشام جالس على طنفسة حمراء
وعليه ثياب خز حمر وقد تضمخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مفتوت
في أواني ذهب يقلبه بيده فتفوح رائحته فسلمت عليه فرد على واستدناني
فدنوت منه حتى قبلت رجله، وإذا جاريتان لم أر مثلهما وفي أذن كل واحدة
منها حلقتان فيهما لؤلؤتان تتوقدان. فقال لي: كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟
قلت بخير يا أمير المؤمنين. قال أتدري فيم بعثت إليك؟ قلت: لا قال بعثت
بسبب بيت خطر في بالى لم أدر من قائله قلت وما هو؟ قال:
ودعوا بالصبوح يوما فجاءت * قينة في يمينها إبريق
فقلت: هذا يقوله عدى بن زيد العبادي في قصيدة له قال أنشدنيها فأنشدته
بكر العاذلون في وضح الصبح يقولون لي ألا تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد الله والقلب عندكم موثوق
لست أدرى إذا كثر العذل فيها * أعدو يلومني أم صديق
ودعوا بالصبوح يوما فجاءت * قينة في يمينها إبريق
ندمته على عقار كعين الديك * صفى سلافها الراووق
قال فطرب، ثم قال: أحسنت يا حماد والله يا جارية اسقيه فسقتني شربة
ذهبت بثلث عقلي وقال أعد فأعدته فاستخفه الطرب حتى نزل عن فراشه ثم
قال للجارية الأخرى اسقيه فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي فقلت إن سقتني
الثالثة افتضحت ثم قال لي: سل حوائجك؟ قلت كائنة ما كانت قال: نعم قلت
إحدى الجاريتين قال هما لك بما عليهما وما لهما ثم قال: للأولى اسقيه
فسقتني شربة سقطت منها ولم أعقل حتى أصبحت فإذا بالجاريتين عند رأسي
وإذا عشرة من الخدم مع كل واحد منهم بدرة وقال لي أحدهم أن أمير
354

المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خذ هذا فانتفع به في سفرك فأخذتها
والجارتين وانصرفت.
عن عبد الله بن عمران أبى فروة قال: كان عبد الله بن الحجاج الثعلبي
من أشراف قيس وكان مع ابن الزبير فلما قتل دخل عبد الله بصفة أعرابي
على عبد الملك بن مروان ليلا وهو يتعشى مع الناس فجلس وأكل معهم ثم
وثب فقال:
منع القرار فجئت نحوك هاربا * جيش يجر ومقنب يتلمع
فقال: أي الأخابيث أنت؟ فقال:
ارحم أصيبية هديت كأنهم * حجل تدرج بالسرية جوع
فقال: أجاع الله بطونهم فأنت أجعتهم فقال:
مال لهم مما تظن جمعته * يوم القليب فحيز عنهم أجمع
فقال: كسب سوء خبيث فقال:
ولقد وطئت بنو سعيد وطأة * وابن الزبير فعرشه متضعضع
وأرى الذين رجوا تراث محمد * أفلت نجومهم ونجمك يسطع
فقال الحمد لله على ذلك فقال:
أدنوا لترحمني وتقبل توبتي * وأراك تدفعني فأين المدفع
فقال: إلى النار فقال:
ضافت ثياب الملبسين فأولني * عرفا وألبسني فثوبك أوسع
قال: فرمى إليه بمطرف خز كان عليه فقال عبد الله: أمنت والله فقال
له عبد الملك: كن شئت إلا عبد الله بن الحجاج فقال: والله ما أنا إلا هو
وقد أمنتني، اكلت طعامك ولبست ثيابك فأي خوف على قال: ما هداك إلا
جدك وأمضى له الأمان.
ووجدت في بعض كتبي هذا الخبر ان ابن الزبير لما قتل اهدر عبد الملك
355

دم عبد الله بن الحجاج هذا فاشتد عليه الطلب فجاء ليلا ولم يكن عبد الملك
ليجمع بين اسمه وجسمه فجلس بين الناس مستخفيا على الطعام إلى أن أكل
وتحرم ورآه عبد الملك ثم قام وقال الأبيات وموضوع هذا الخبر يدل على
هذا ولعله سقط من الرواية المتقدمة والله أعلم.
عن أبي طالوت كانت ابن طاهر قال: سمعت الفضل بن الربيع يقول: لما
استترت عن المأمون أخفيت نفسي حتى على عيالي وولدي وكنت أنتقل
وحدي فلما قرب المأمون من بغداد ازداد حذري وخوفي على نفسي فتشددت
في الاحتياط والتواري فأفضيت إلى منزل بزاز كنت أعرفه في درب على
باب الطاق وتشدد المأمون في طلبي فلم يعرف لي خبرا فتذكرني يوما فاغتاظ
على إسحق بن إبراهيم وحد به في طلبي فاغلظ له فخرج إسحاق من حضرته
وجد بأصحاب الشرط وأوقع ببعضهم المكاره ونادى في الجانبين من جاء به
فله عشرة آلاف درهم وأقطع غلته ثلاثة آلاف دينار في كل سنة وإن كل
من وجد عنده بعد النداء يضرب خمسماية سوط ويؤخذ ماله وتهدم داره
ويحبس طول عمره ونودى بذلك عشاء فما شعرت بصاحت الدار حتى دخل
على وأخبرني به وقال والله ما أقدر بعد هذا على حفظ روحك ولا آمن على
روحي وغلماني وجاريتي إن تشره نفوسهم إلى المنال فيدلون عليك وأهلك
بهلاكك فان صفح الخليفة عنك لم آمن أن تتهمني إني دللت عليك فيكون
ذلك أقبح وليس الرأي لك ولا لي إلا أن تخرج فورد على أعظم وارد فقلت
إذا جاء الليل خرجت عنك قال ومن يطيق الصبر على هذا وهذا وقت حار
وقد طال عهد الناس بك فتنكر واخرج قلت وكيف أتنكر قال تأخذ لحيتك
وتغطى رأسك وتلبس قميصا ضيقا وتخرج فقلت: أفعل فجاء بمقراض فأخذ
أكثر لحيتي وتنكرت وخرجت في أول أوقات العصر وأنا ميت خوفا
فمشيت في المشارع حتى بلغت الجسر فوجدته قد رش وهو متزلق فلما
توسطته فإذا بفارس من الجند الذين كانوا ينوبون في داري أيام وزارتي
قرب منى وقال: طلبة أمير المؤمنين والله وعدل إلى ليقبض على فمن حلاوة
356

النفس دفعته ودابته فزلق ووقع في بعض سفن الجسر وتعادى الناس
لخلاصته وظنوا أنه زلق نفسه وتشاغلوا به وزدت أنا في المشي ولم أعد لئلا
بنكر حالي من يراني إلى أن عبرت الجسر ودخلت دار سليمان فوجدت امرأة
على باب دار مفتوح فقلت لها: يا امرأة أنا خائف من القتل فأجيريني
واحفظيني فقالت: ادخل وأومأت إلى غرفة فصعدت إليها فلما كان بعد ساعة
إذا بزوجها على الباب ففتحته له ودخل فتأملته فإذا هو صاحبي على الجسر وهو
مشدود الرأس من شجة لحقته وسألته المرأة عن خبره فأخبرها بالقصة وقال
لها قد زمنت دابتي وأنفذتها لتباع في سوق اللحم وقد فاتني الغناء وجعل
يشتمني وهو لا يعلم بوجودي معه في الدار وأقبلت المرأة تترفق به إلى أن
هدأ فلما صليت المغرب وأقبل الظلام صعدت المرأة إلى وقالت أظنك صاحب
القصة فقلت نعم فقالت: قد سمعت ما عنده فاتق الله واخرج فدعوت
لها ونزلت ففتحت الباب فتحا رقيقا وكانت الدرجة في الدهليز فأفضيت إلى
الباب فلما انتهيت إلى آخر الدرب وجدت الحراس قد أغلقوه فتحيرت
فرأيت رجلا يفتح بابا بمفتاح رومي. فقلت: هذا رومي وهو ممن يقبل مثلي
فدنوت وقلت استرني سترك الله قال: ادخل فدخلت فرأيت رجلا فقيرا
وحيدا فأقمت ليلتي فبكر من غد ثم عاد نصف النهار ومعه حمالان يحمل
أحدهما حصير ومخدة وجرار وكيزان وغضائر جدد وقدر جديد والآخر
يحمل خبز وفاكهة ولحم وثلج فدخل وترك ذلك كله عندي وأغلق الباب
فنزلت وعذلته وقلت له كلفت نفسك هذا فقال: أنا رجل مزين وأخاف أن
تستقذرني فاطبخ أنت واطعمني في غضارة أجئ بها من عندي فشكرته على
ذلك ومكثت عنده ثلاثة أيام فلما كان اليوم الرابع ضاق صدري. فقلت له:
الضيافة ثلاثة وقد أحسنت وأجملت وأريد الخروج فقال لا تفعل فانى وحيد
وخبرك لا يخرج من عندي أبدا فأقم إلى أن يفرج الله عنك فلست أتثاقل
بك فأبيت للحين قال فخرجت حتى بلغت باب التين إلى دار عجوز من موالينا
فدفعت الباب عليها فخرجت فلما رأتني بكت وحمدت الله تعالى على رؤيتي
وأدخلتني الدار فلما كان في السحر وأنا نائم غير مكترث وبكرت فسعت
357

إلى أبواب اسحق فما شعرت إلا وإسحاق نفسه في خيله ورجله قد أحاط
بالدار ثم كبسها فاستخرجني منها حتى أوقفني بين يدي المأمون حافيا حاسرا
فلما رآني سجد طويلا ثم رفع رأسه فقال يا فضل: أتدري لم سجدت قلت
شكرا لله على ظفرك بعدوك وعدو دولتك والمغرى بينك وبين أخيك قال
ما أردت هذا ولكن سجدت شكرا على ما ألهمنيه من العفو عنك. فحدثني
بخبرك فشرحته له من أوله إلى آخره فأمر بإحضار المرأة مولاتي وكانت في
الدار تنتظر الجائزة فقال: ما حملت على ما فعلت مع انعامه وإنعام أهله
عليك قالت رغبة في المال. قال هل لك ولد، أو زوج، أو أخ؟ قالت لا فأمر
بضربها مائتي صوت وتخليدها في الحبس ثم قال لإسحاق أحضر الساعة الجندي
وامرأته والمزين فاحضروا في المجلس فسأل الجندي عن السبب الذي حمله
على فعله فقال الرغبة في المال ووالله أنه الذي أثبتني في الجيش ولكني رغبت
في المال العاجل فقال أنت بأن تكون حجاما أولى بك من أن تكون من
أوليائنا وأمر بأن يسلم للمزينين في الدار ويوكل به من يعسفه حتى يتعلم
الحجامة وأمر باستخدام زوجته على قهرمة دور حرمه وقال هذه امرأة عاقلة
دينة وأمر بتسليم دار الجندي وقماشه إلى المزين وإن يجعل رزقه له ويجعله
جنديا مكان ذلك الجندي، واطلقني إلى داري فرجعت إليها آخر النهار آمنا
مطمئنا: ووجدت هذا الخبر بخلاف هذا في " كتاب الوزراء " لابن عيدوس فإنه
ذكر أن الفضل ابن الربيع استتر فطال استتاره واستعجمت عليه الاخبار
فغير زيه وخرج في السحر وكان استتر بناحية الخربية من الجانب الغربي
فمشى وهو لا يدرى أين يقصد لحيرته وبعد عهده بالطرق فأداه المشي إلى
الجسر وقد أسفر الصبح فأيقن بالعطب وقصد منزلا لرجل كانت بينه وبينه
مودة بسويقة نصر، فلما صار صار ببعض المشارع سمع النداء عليه ببذل عشرة
آلاف درهم فتخفى حتى جاوزه الركبان والمنادى ومشى فرآه رجل فانتبه له
وقال يا فضل وكان في أحد جانبي الطريق الذي الفضل فيه فأمه إلى الجانب
الذي كان فيه ليقبض عليه فاعترضته حمير وجمال عليها جف ونظر الفضل
يمينا وشمالا فلم يجد مذهبا وبصر بدرب فدخله فوجده لا ينقذ ووجد في صدره
358

بابا مفتوحا فهجم على المنزل وفيه امرأة فاستغاث بها فأجارته وبادرت إلى
الباب فأغلقته وناشدها الله أن تستره إلى الليل فأمرته بالصعود إلى غرفة لها
فلم يستقر به القعود حتى دق الباب فلما فتح الباب دخل الرجل الذي رآه
وعزم على القبض عليه وإذا المنزل له فقال لزوجته فاتني الساعة عشرة آلاف
درهم. قالت له وكيف ذلك؟ قال لها مر بي الفضل فمددت يدي لأقبض عليه
فابتلعته الأرض فقالت له امرأته الحمد لله عز وجل على أن كفاك أمره وبقى
دينك عليك ولم تكن سببا لسفك دمه أو مكروه يلحقه فلما خرج صعدت
إليه فقالت قد سمعت وما هذا لك بموضع فخرج إلى بعض منازل معامليه فلما
صار إليه نبه العامل عليه وأسلمه إلى طالبيه فحمل إلى المأمون فلما رآه وسأله
عن خبره شرح له قصته فأمر للمرأة بثلاثين ألف درهم وقال للرسول قل لها
يقول لك الفضل هذا جزاء لك على ما فعلته من الجميل فردتها وأبت قبولها
وقالت: لست آخذ على شئ فعلته لله تعالى جزاء إلا منه.
حدثنا أبو الحسن محمد بن عمر بن شجاع المتكلم البغدادي الملقب بجنيد
قال: حدثنا الفضل بن هامان السيرافي وكان مشهورا بسلوك أقاصي بلاد
البحر قال: قال لي رجل من بعض بياسرة بلاد الهند والبيسر هو المولود على
ملة الاسلام هناك قال: كان في إحدى بلادهم ملك حسن السيرة وكان لا يأخذ
ولا يعطى بمواجهة وإنما كان يقلب يده وراء ظهره فيأخذ ويعطى بها إعظاما
منهم للملك وسنة لهم هناك ولأولادهم وأنه توفى فوثب رجل من غير أهل
المملكة فاحتوى على ملكه وهرب ابن له كان يصلح للملك خوفا على نفسه
من المتغلب، ورسوم ملوك الهند أن الملك إذا قام عن مجلسه لأي حاجة عرضت
له كان عليه صدرة قد جمع فيها كل نفيس وفاخر من اليواقيت والجواهر
مضروب بالإبريسم في الصدرة ويكون فيها من الجوهر ما لو أراد أن يقيم
به ملكه لأقامه قال: ويقولون ليس يملك من إذا قام عن مجلسه وليست معه
حتى إذا حدثت عليه حادثة وهرب بها أمكنه إقامة ملك منها فلما حدث على
الملك تلك الحادثة أخذ ابنه صدرته وهرب بها فحكى عن نفسه أنه مشى ثلاثة
359

أيام قال ولم أطعم طعاما ولم يكن معي فضة ولا ذهب فابتاع به مأكولا ولم
أقدر على إظهار ما معي وانفت ان استطعم قال: فجلست على قارعة الطريق
فإذا رجل هندي مقبل على كتفه كارة فحطها وجلس حذائي فقلت أين تريد
قال الحرام الفلاني ومعنى الحرام الرستاق فقلت وأنا أيضا أريد هذا الحرام
قال فنصطحب قلت نعم فصحبته طمعا في أن يعرض على شيئا من مأكوله
قال فحل الكاره وأكل وأنا أراه ولم يعرض على شيئا من مأكوله ولم تقو
نفسي على أن تبدئه بالسؤال فلما فرغ قام يمشى فمشيت معه وبت معه طمعا
في أن تحمله المزاملة على العرض على فعمل بالليل كما عمل بالنهار قال وأصبحنا
في غد فمشينا فعاملني بمثل ذلك أربعة أيام قال فصار لي سبعة أيام لم أذق فيها
شيئا فأصبحت في الثامن ضعيفا مهووسا لا قدرة لي على المشي فعدلت عن
الطريق وفارقت الرجل فرأيت قوما يبنون وقيما عليهم فقلت للقيم استعملني
مثل هؤلاء بأجرة تعطينيها عشاء فقال نعم ناولهم الطين قلت عجل لي أجرة
يوم ففعل فابتعت بها ما أكلته وقمت أناولهم الطين فكنت لعادة الملك أقلب
يدي إلى ظهري وأعطيهم الطين فلما أتذكر أن ذلك خطأ ينبه على سفك دمى
أبادر بتلافي ذلك فادر يدي بسرعة من قبل أن يفطنوا بي قال فلمحتني امرأة
قائمة فأخبرت سيدتها خبري وكانت صاحبة البناء وقالت لا بد أن يكون
هذا من أولاد الملوك قال فتقدمت إلى القيم بحبسي عن المضي مع الصناع
فاحتبسني وانصرف الصناع فجاءتني بالدهن والعروق لاغتسل بهما وهذه تقدمة
إكرامهم وسنة لعظمائهم فتغسلت بذلك وجاؤوني بالأرز والسمك فطعمت
فعرضت المرأة على نفسها في التزويج فأجبت وعقدت ودخلت بها من ليلتي
وأقمت معها أربع سنين ادبر حالي وحالها وكانت لها نعمة فأنا يوم جالس
على باب دارها إذا برجل من بلدي فاستدعيته فجاء فقلت له من أين أنت؟ قال:
من بلد كذا وكذا فذكر بلدي فقلت ما تصنع ها هنا قال: كان فينا ملك
حسن السيرة فمات فوثب على ملكه رجل ليس من أهل بيت الملك وكان
للملك الأول ابن يصلح للملك فخاف على نفسه فهرب وان المتغلب أساء عشرة
الرعية فوثبنا عليه فقتلناه وانبثثنا في البلد ان نطلب ابن ذلك الملك المتوفى
360

فنجلسه مكان أبيه فما عرفنا له خبرا قال فقلت أتعرفني؟ قال لا: قلت: أنا
طلبتكم قال وأعطيته العلامات فعلم صحة ما قلته له فكفر لي فقلت: اكتم
أمرنا إلى أن ندخل الناحية قال: افعل ففعل قال: فدخلت إلى المرأة وأعلمتها
بالخبر وحدثتها بأمري كله وأعطيتها الصدرة وقلت هذه قيمتها كذا كذا
ومن حالها كذا وكذا وأنا ماض مع الرجل فإن كان ما ذكر صحيحا فالعلامة
أن يجيئك رسولي ويذكر لك الصورة وإن كانت مكيدة كانت الصدرة لك قال
ومضى الرجل وكان الامر صحيحا فلما قرب من البلد استقبلوه بالتكفير
وأجلسوه في الملك فانفذ إلى زوجته من حملها فجاءت إليه فحين اجتمع شمله
واستقام أمره أمر فبنيت له دار ضيافة عظيمة وأمر أن لا يجوز في عمله مجتاز إلا
حمل إليها فيضاف فيها ثلاثة أيام ويزود لثلاثة أيام أخر فكان يفعل ذلك
وهو يراعى الرجل الذي صحبه في سفره ويقدر أن يقع في يديه فلما كان بعد
حول استعرض الناس قال وكان يستعرضهم في كل يوم فلا يرى الرجل
فيصرفهم فلما كان في ذلك اليوم رأى الرجل فيهم فحين وقعت عينه عليه أعطاه
ورقة تابول وهذه علامة غاية الاكرام ونهاية رتبة الاعظام إذا فعله الملك
برعيته قال فحين فعل الملك ذلك بالرجل كفر له وقبل الأرض فأمره الملك
بالنهوض ونظر إليه فإذا هو ليس يعرف الملك فأمر بتغير حاله وإحسان
ضيافته ففعل ثم استدعاه فقال أتعرفني؟ فقال: وكيف لا أعرف الملك وهو
من عظم شأنه وعلو سلطانة بحيث هو قال لم أرد هذا أتعرفني قبل هذا الحال
قال لا فذاكره الملك بالحديث والقصة في منعه إياه الطعام في السفر قال فبهت
الرجل فقال ردوه إلى الدار فردوه فزاد في إكرامه وحضر الطعام فأطعم
فلما أراد النوم قال الملك لزوجته امضى فغمزيه حتى ينام قال فجاءت المرأة فلم
تزل تغمزه إلى أن نام ثم رجعت إلى الملك فقالت قد نام قال ليس هذا نوم حركوه
فحركوه فإذا هو ميت قال فقالت له المرأة أي شئ هذا قال فساق لها حديثه
معه وقال وقع في يدي فتناهيت في إكرامه والهند لهم أكباد عظام وأوهام
ظريفة فأدخلت عليه حسرة عظيمة إذ لم يحسن إلى فقتلته وقد كنت أتوقع
موته قبل هذا بما توهمه واستشعره من العلة في نفسه لفرط الحسرة.
361

حدثنا أبو عبد الله بن أحمد بن شيرزاد قال: حدثني خالي وابن عم أبى
أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد قال: لما سعى على عند بحكم حتى صرفني
عن كتبته ونكبي وألزمني بمائتي ألف دينار فأديت أكثرها من غير أن
أبيع شيئا من أملاكي الظاهرة فلما قاربت على وفاتها استحضرني أحمد بن علي
الكوفي كاتبه، وأخذ يخاطبني بكلام طويل هو تقدمة واعتذار لشئ
يريد أن يخاطبني به. فقلت له يا سيدي: ما تريد؟ وما بك حاجة إلى التسبب
فانى بمودتك واثق. فقال: إن هذا الرجل يعنى بحكم قد رجع عليك في صلحك
وطمع فيه وطالبني أن آخذ منك مائتي ألف دينار أخرى، ووالله ما هذا
عن رأيي ولا لي فيه مدخل، ولو قدرت على إزالته عنك لفعلت. قال:
فأخذت أحلف أنى لا أهتدي إليها، ولا إلى عشرها، وان النكبة فد
استنفدت مالي ولم يبق لي شئ إلا داري وضياعي، وانى أسميهما، ولا أكتم
شيئا منهما، وأخرج له عنهما ليهب لي روحي. قال: فطال الخطاب بيننا
فلما قام في نفسه صدقي فكر طويلا ثم قال: يا سيدي هذا رجل أعجمي وعنده
أن وراءك أضعاف هذا المال، وأن فيك من الفضل ما يصلح لقب دولته
عليه، وأنت والله معه في طريق القتل إلا أن يكفيك الله عز وجل، ووالله
ما أحب أن يجرى مثل هذا على يدي، ولا في أيامى فيلزمني عاره إلى الأبد
وأجسره على قتل كتابه فدبر خلاصك. فتحيرت ثم سكنت وقلت له:
تعطيني ميثاقك وتحلف لي أن سرك في محبة خلاصي كعلانيتك حتى أقول
ما عندي؟ ففعل. فحلفت له أنى قد صدقته، وانى لا أمتنع مما يجر عنى به بعد
هذا اليمين ولو شاء منى أن أفتح دواتي وأكتب بين يديه، وقلت له: أنت
وقتك مقبل ووقتي مدبر، وأنت فارغ القلب وأنا ذاهل بالمحنة فدبر أمرى
الآن كيف شئت فإنه ينفتح لك بهاتين الخلتين ما قد استبهم على. قال:
ففكر ثم قال: آنا ان آيست هذا الرجل من مالك لم آمنه على دمك، وان
أطعمته في مالك وليس لك ما تعلله به أدت بك المطالبة إلى التلف، ولكن
الصواب عندي أن أطمعه في ضيعتك فاشتريها له منك وأقول ان ضياع السواد
الخراجية قد أجمع شيوخ الكتاب بالحضرة قديما وحديثا على أن كل ما كان
362

منها غلته درهم فقيمته أربعة دراهم وأبو جعفر يقول: ان غلات الضياع بعد
الخراج خمسة وعشرون ألف دينار وانه يضمنها بذلك حاصلا خالصا بعد
الخراج والمؤن ويقيم بذلك كفلاء فاشترها منه بمائتي ألف دينار كملا ويحصل
لعقبك ملك جليل مع هذا، وهو يؤدى باقي المصادرة الأولى، وتصير
ضامنا لضيعته فادفع ذلك إليك أيضا. ومن ساعة إلى ساعة فرج وأنا أحتال
بحيلة في أن يكون الكتاب عندي فلا أسلمه إليه فلعل حادثه تحدث وترجع
إليك ضيعتك، وتكون بالعاجل قد تخلصت وسلم دمك في أربع سنين.
قال: فعلمت أنه قد نصحني وآثر خلاصي وأجبت فدخل إلى بحكم ولم يزل
معه في محادثات إلى أن تقرر الامر على ما قاولني عليه وأحضر الشهود
وكتب على الكتاب بالابتياع والكتاب بالإجارة وقال لي: الوجه أن تقيم
كفلاء ببقية المصاردة الأولى فقد استأذنته في صرفك إلى منزلك، وإذا
انصرفت فانضم ولا يراك أحد، وكن متحذرا ولا تظهر أنك مستتر فتغريه
بك. قال: فشكرته وأقمت الكفلاء بالمال إلى أيام معلومة فصرفني فعدت
إلى داري وكنت متحذرا اجلس في كل يوم فيدخل إلى بعض الناس بمقدار
ما يعلم أنى في داري فإذا كان نصف النهار خرجت إلى منازل إخواني وأقمت
يوما عند هذا ويوما عند الآخر وراعيت أخبار داري أتوقع أن يجيئها من
يكبسها فيطلبني فأكون بحيث لا يعرف خبري فأنجو فطال ذلك والسلامة
مستمرة، وانحدر بحكم إلى واسط فآنست بالجلوس والاستقرار في داري
فلما كان في بعض الأيام ضاق صدري ضيقا لا أعرف سببه واستوحشت
وفكرت في أمرى وقلت إن كبست على غفلة فماذا أصنع؟ قال: وكان
لداري أربعة عشر بابا إلى أربعة عشر سكة وشارعا وزقاقا نافذا ومنها عدة
أبواب لا يعرف جيرانها أنها تفضى إلى داري وأكثرها عليه الأبواب
الجديدة. قال: فترآ لي أن أرسلت لغلماني المقاتلة، وكانوا متفرقين عنى قد
صرفتهم لئلا يصير لي حديث فجاؤني واجتمع منهم ومن أولادهم نحو ثلاثمائة
غلام فقلت لهم إذا كان الليلة فاحضروا جميعا بسلاحكم وبيتوا عندي ليلا
وأقيموا نهارا إلى أن أدبر أمرى. قال: ففعلوا ذلك وفرقتهم في الحجر
363

المتقاربة للمجلس الذي كنت أجلس فيه وقلت إن كبست فتشاغلوا عن من
يطلبني لا نجو قال وكنت أدبر كيف أعمل في قلب الدولة أو استصلاح بحكم
فلم يقع لي الرأي ولا أجد إلى ذلك طريقا، وكنت أوصيت بوابي أن يغلق
بابى المعلوم للناس ولا يفتحه لاحد من خلق الله إلا بأمري وأجلست غلاما
كان يحجبني في أيام الدولة، ومعه عشرون غلاما بسلاح خلف الباب وكان
لا يفتح لاحد. فما مضى لهذا إلا يومان أو ثلاثة حتى جاءني حاجبي وقال:
قد دق الباب فقلنا من الطارق؟ قال: أنا غلام لمحمد بن ثبال البرجمان وهو
وأبو بكر النقيب بالقرب منكم يستأذنون على سيدنا في الدخول فقلت في نفسي
بليت والله، وأمرت الغلمان فاجتمعوا بأسرهم متسلحين في بيت له قبة كبيرة
كنت جالسا في أحد أروقته وأمرتهم أن لا ينبسوا بكلمة وقلت للحاجب
اصعد على السطح فانظر ما ترى؟ وأخبرني به ففعل وعاد وقلت رأيت الشارع
مملوء بالخيل والرجل وقد أحاطوا من جنبات كثيرة ولما رأوني أراقبهم
تنحيت فصاح بي البرجمان قائلا كلمني وما عليك بأس فأخرجت رأسي فقال:
ويحك ما جئنا لمكروه وما جئنا إلا لبشارة فعرف سيدنا بذلك فقلت ليس
هو في الدار ولكن أراسله ثم أخبر الأمير أيده الله في غد برسول إلى داره
فقال أنا ههنا واقف ساعة إلى أن يرى رأيه ففكرت وقلت هذه حيلة للقبض
على لا شك ويجوز أن يكون بحكم قد تغير على الكوفي ولا يجد لخدمته غيري
واعترضني الطمع وكاد يفسد رأيي ثم قلت للغلمان: ان قلت لكم اخرجوا
فضعوا على أبى بكر النقيب والبرجمان أيديكم فاخرجوا وخذوا رأسيهما ولا
تستأذنوا البتة فأجابوا فقلت احذروا أن تخالفوا فأهلك فقالوا نعم ثم قلت
للحاجب اطلع السطح وقل له إني على حال من اختلال الفرش والكسوة
لا أحب معهما دخول أحد إلى فإن رضيت أن تدخل أنت وأبو بكر النقيب
فقط وإلا فأنا أصلح أمرى وأجئ إلى دارك الليلة قال فعاد الغلام وقال كلمته
فقالوا رضينا بذلك فقلت يا فلان: اخرج واحذر أن يفتح الباب كله فتدخل
الجماعة وأرى أن تقول له أن يتباعد عن الباب إلى الشارع قليلا فان ازدحم
الناس وتكاثروا فهي حيلة فدعهم يدخلون وصح يا هذا فاعلم أنا أنها حيلة
364

فاخرج من بعض الأبواب أمامهم فيفضون إلى هذا الباب وهو مقفل ووراءه
الغلمان وإن حضرا وحيدين فقل لهما الشرط أن أقفل الباب بينكما وبين
أصحابكما ثم افتح الباب الذي يلي الشارع حتى يدخلا ثم اقفله وارم مفاتيحه
من تحت الباب الثاني إلينا إلى الصحن ودق هذا الباب فإني واقف وراءه
لاتقدم بفتحه ويدخلان ففعل الحاجب ذلك وحصل أبو بكر النقيب والبرجمان
في الدهليز وحيدين فلما سمعت صوت قفل الباب الباب الخارجي وأنا عند
الباب الداخلي ودق الحاجب الباب الثاني ورمى بالمفتاح عدت إلى مجلسي
فجلست فيه ونحيت من كنت أقمته وراء الباب الثاني بالسلاح وأعدت على
الجماعة الوصية بقتلهما إن صحت يا غلمان اخرجوا ثم تقدمت إلى غلام كان
واقفا بلا سلاح أن يفتح الباب ويدخلهما ففعل ذلك وألقيت نفسي على
الفرش كأني عليل ودخلا فلم أو فهما الحق وأخفيت كلامي كما يفعل العليل
فقالا ما خبرك فقلت أنا منذ أيام عليل وارتعت لحضوركما فأخذ البرجمان
يحلف أنه ما حضر إلا ليردني إلى منزلتي واستكتابي للأمير بحكم فشكرته على
ذلك وقلت أنى تائب من التصرف ولا أصلح له فقال قد أمرني الأمير
بمخاطبتك في الخروج إليه إلى واسط لتقرير هذا الامر فلا يجوز أن أكتب
إليه بمثل هذا عنك ولكن إن كنت زاهدا في الحقيقة فاخرج إليه واحدث
لخدمته عهدا واستعفه فإنه لا يجبرك فقلت هل كاتبني بشئ توصله إلى فقال
قد اقتصر على ما كتب به إلى لما يعلمه من مودتي لك ولكي لا يفشوا الخبر
بذلك فقلت تقفني على كتابه إليك قال لم أحمله معي فعلمت أنه كوتب بالقبض
على فقلت أنا عليل كما ترى ولا فضل في للسفر ولكن تجيب الأمير عنى
بالسمع والطاعة وإني سأخرج لحضرته بعد أسبوع ذا شممت نفسي قليلا
قال إنه يقبح هذا الوجه وأرى أن تخرج قلت لا أقدر فراجعني وراجعته إلى
أن قال لا بد من خروجك فقلت إني لا أخرج ولا كرامة لك فاجهد جهدك
وهممت أن أصيح بالغلمان وكان أبو بكر النقيب خبيثا فقام وقال: اسئل
سيدنا بالله العظيم أن لا يتكلم بحرف ويدعني وهذا الامر ثم أخذ بيد البرجمان
وقاما إلى ناحية من المجلس بعيدة لا أسمع ما يجرى بينهما فأطالا السر ثم جاءني
365

فأخذ أبو بكر يعتذر إلى مما جرى ويخاطبني باللين ويقول فبعدكم يوم يخرج
سيدنا حتى نقنع بوعده ونتصرف فقلت بعد عشرة أيام فقال: قد رضينا
وأخذ بيد البرجمان والبرجمان يتبزق على في الكلام وأبو بكر يغمزه ويترفق
به فلما بلغا إلى قريب من الدهليز رجع أبو بكر ورد البرجمان معه وقال هذا
ليس يعرفك حق معرفتك وعنده أنه يقدر أن يستوفى عليك الحجة فبالله
إلا عرفته ما كان في نفسك أن تعمل بنا لو استوفينا عليك المطالبة لئلا أقع
أنا في مكروه معه ومع الأمير أطال الله بقاه فقلت في نفسي أنا أريد الهرب
الساعة فما معنى مساترتي عنهما ما أريد أن أفعله ولم لا أظهره ليكون أهيب
في نفوسهما فقلت للغلام الذي كان واقفا امض إلى أصحابنا ومرهم أن
يخرجوا ولا يعملوا ما كنت تقدمت به إليهم فمضى الغلام وفتح الباب عنهم
وقال اخرجوا ولا تحدثوا حادثة فخرج القوم بالسلاح فقلت هؤلاء أعددتهم
لدفعكما عن نفسي ان رمتما قسري قال فمات البرجمان في جلده واصفر وتحير
وقال له أبو بكر أنت تظن أنك بالجبل ولست تعلم بين يدي من أنت؟! علمت
الآن أن الرأي كان في يدي لا في يدك والله لو زدت في المعنى لخرج هؤلاء
فأخذوا رأسك ورأسي قلت معاذ الله ولكن كانوا يمنعونكما من أذاي ثم
قلت للغلمان كونوا معهما إلى أن يخرجا وتغلقوا الأبواب خلفهما ففعلوا
وقمت في الحال فلبست خفا وإزارا على صورة النساء واستصحبت جماعة من
عجائز داري وخرجت من باب من تلك الأبواب الخفية متحيرا لا أدرى أين
أقصد فقصدت عدة مواضع كلما أتيت موضعا علمت أنه لا يحملني فأتجاوزه
إلى غيره إلى أن كدني المشي وقربت من الرصافة فعن لي أن أقصد خالة
المقتدر واطرح نفسي عليها فصرفت جميع من كان معي إلا واحدة وقصدت
دار الخالة ودخلت دهليزها فقام إلى الخادم وقال من أقول فقالت
العجوز تقول امرأة لا تحب أن تمسى نفسها فدخل فإذا الخالة قد
خرجت إلى الدهليز فقالت لها العجوز يا ستي تأمرين الخادم بالانصرام
فلما انصرف كشفت وجهي وقلت يا ستي الله الله في دمي اشتريني
فقالت يا أبا جعفر ما الخبر قلت أدخليني أحدثك قالت كن بمكانك
366

ثم دخلت فأبطأت حتى قلت قد كرهت دخولي وستخرج من يصرفني
وتعتذر وهممت بالانصراف من نفسي فإذا بها قد خرجت وقالت أرعبتك
بالانتظار وما كان ذلك إلا احتياطا لك فادخل فدخلت فإذا دارها الأولى
فارغة على عظمها وليس فيها أحد فسلكت بي وبالعجوز إلى موضع من
الدار فدخلنا حجره وأقفلتها بيدي ومشيت بين أيدينا حتى انتهينا إلى سرداب
فأدخلتنا فيه ومشينا طويلا وهي بين أيدينا حتى صعدت منه إلى درجة
أفضت بي منها إلى دار في نهاية الحسن والشرف وفيها من الآلات والفرش
كل شئ حسن وقالت إنما احتسبت عليك حتى أصلحت لك هذه الدار
وأخليت الأولى لئلا يراك الذين كانوا فيها فيعرفون خبرك فأخبرك فاجلس
هاهنا ما شئت فوالله إنك لتسرني بذلك واحفظ نفسك من أن ينتشر
خبرك من جهتك فليس معك من جهتي من يعرف خبرك فيشفيه ولا أعرفه
أحد من أسبابي واحتفظ لنفسك ممن يخرج من عندك أو يدخل عليك فتهلك
نفسك وتهلكني معك فإنك تعلم أن هذا الرجل ظالم جاهل لا يعرف حق مثلي
فقلت لها ما معي غير هذه العجوز ولست أدعها تخرج فقالت هذا هو الصواب
وأقمت عندها مدة وكانت تجيئني كل يوم فتعرفني أخبار الدينا وتحادثني ساعة
وتنصرف وتحمل إلى كل شئ فاخر من المأكول والمشروب والبخور وأخدم
بما لا أخدم بمثله في أيام دولتي فلما كان في غد يوم حصولي عندها قالت يا أبا
جعفر أنت وحدك وليس يصلح أن يخدمك كل واحد وقد حملت إليك
هذه الجارية وأومأت إلى وصيفة في غاية الحسن والملاحة فاستخدمها فإنها
تقوم مقام فراشة وقد أهديتها لك فإن احتجت إلى ما تحتاج إليه الرجال
صلحت لذلك أيضا فقبلتها وشكرتها وفاتشت الجارية فإذا هي تغنى أحسن
غناء وأطيبه فكان عيشي معها أطيب عيش ومضى على استتاري نحو شهرين
لا يخرج من عندي أحد ولا يدخل عندي غير الخالة فقلت لها قد تطلعت
نفسي إلى معرفة الاخبار وإنفاذ هذه العجوز إلى من تتعرف ذلك منه قالت
افعل واحتفظ جهدك فكتبت مع العجوز كتابا إلى وكيل كان لي أثق به آمره
أن يتعرف لي الاخبار ويكتب بها إلى مع العجوز ورسمت له أن ينفذ طيورا
367

مع غلام أسميته له وكنت به واثقا ويأمر بالقيام بواسط والمكاتبة على الطيور
في كل يوم بالاخبار ورسمت للعجوز أن لا تعرف الوكيل موضعي لئلا
يفشوا شئ من الامر ويقع الوكيل فيطالب بي فيدل على فعاد إلى الجواب
بما عنده من الاخبار وانه لا ينقضى يوم إلا وينفذ الغلام والطيور وأمهلته
عشرة أيام ثم رددت العجوز فانفذ على يدها كتابا ورد على الطيور فقرأته
ومضت على ذلك مدة وأنا على الغاية من النشاط والسرور فقلت للعجوز
يوما امض إلى فلان فاعرفي خبره وهل ورد كتاب من واسط فمضت
وللاتفاق سقط طائر عند دخولها بكتاب ففضه وسلمه إليها دون أن يقف
عليه فجاءتني به فإذا هو بتاريخ يومه وأكثره رطب يذكر فيه غلامي ورود
الاخبار إلى واسط بقتل الأكراد ليحكم وان الناس قد هاجوا فما نالت
رجلاي الأرض فرحا وسرورا وكتبت في الحال رقعة إلى كاتبه الكوفي
اشكره فيها على جميله واعرفه انى ما طويت خبري عنه إلى الآن الا اشفاقا
عليه من أن يسأل عنى فيكون متى حلف أنه لا يعرف خبري صادقا وان
من حق ما عاملني به أن أعرفه ما يجب أن يتحرز عنه وذكرت ما ورد من
قتل سيده وأشير عليه بالاستتار مع الاستظهار وأنفذت الرقعة في طي رقعة
كتبتها لوكيلي وأمرته أن يمضى بها إليه في الحال ولا يسلمها الا بيده وقلت
للعجوز: إذا مضى الوكيل فارجعي أنت ولا تقعدي في داره ففعلت وعادت
فعرفتني أن الوكيل قد توجه إلى الكوفي، فلما كان بين العشائين رددت
العجوز إلى الوكيل وقلت لها: اطرقي بابه فإن كان في بيته على حال سلامة
فادخلي، وان بان لك أنه معتقل أو داره موكل بها فانصرفي ولا تدخلي فعادت
إلى رقعة الوكيل وفيها أنه حين أوصل الرقعة إلى الكوفي بان له في وجهه
الاضطراب وأنه ما صلى العصر من ذلك اليوم حتى امتلأ في البلد بأن الكوفي
قد استتر وأن بحكم حدث به حادثة لا ندري ما هي، وقد عدت بعد العصر إلى
دار الكوفي فوجدتها مغلقة ليس فيها أحد وأنه قد أنفذ جوابه إليك فقرأته
فإذا هو يشكرني ويقول قد علمت أن مثلك يا سيدي لم يكن ليفتعل هذا الخبر
ولا يضيع مروءته وقد تشاغل الذين مع الأمير بالهرب على أن يكتبوا
368

لي بالحادثة، وكتب به من رتبته أنت كما ذكرت في رقعتك فإن كان الخبر
صحيحا وهو عندي صحيح فالرأي معي في الاختفاء وإن كان باطلا فما يضرني
ذلك عند صاحبي إن كان حيا لأنه يتصورني جبانا لا غير فيكون أسلم في
العاجل. وقد أنفذت إليك يا سيدي طي رقعتي هذه الكتابين اللذين كتبتهما
عليك في ضيعتك بالابتياع والإجارة ابتغاء إتمام مودتك ولتعلم صدقي فيما
كنت توسطته، ونصحي فيما عاملتك به فإن كان مات الرجل قد رجعت إليك
ضيعتك، وإن كان باطلا فإنه لا يسألني عنهما وإن ذكرهما يوما وسألني اجحداني
تسلمتهما وقضيت حقك بذلك وأعدت نعمتك عليك فأخذت الكتابين
ومزقتهما في الحال ولبست من عند الخالة خفا وإزارا بعد أن عرفتها الصورة
وخرجت مع العجوز وجئت إلى داري فدخلتها من بعض أبوابها الخفية.
فلما كان الغد قوى الخبر بقتل بحكم ففتحت بابى وفرج الله عنى المحنة فلما كان
العشاء أتاني رسول الخالة ومعه الجارية وقال يا سيدي سيدتي تقرئك السلام
وتقول لك لم تدع جاريتك عندنا وإذا بها قد أرسلتها وحملت معها كلما كانت
أخذ متنيه من فرش وآلة وأضافت عليه أشياء كثيرة جليلة القدر وقالت
إنه جهاز الجارية وأحب أن تقبله فأخذت الجميع ورددت الرسول شاكرا
ومن الله على بالعود إلى أحسن حال.
قال محمد بن عبدوس في " كتاب الوزراء " عن سليمان البرقي قال: انصرفت
عن بعض العمال فألقيت عمر بن الفرج الرجحي يتقلد الديوان وكان في نفسه
شئ على فأخفيت شخصي وتسترت عن أصحابي فطلبني واركن العيون على
فلم يصل إلى وأمر أن يعمل لي مؤامرة تشتمل على ثلاثمائة ألف درهم وكان
بيني وبين الحجاج بن سلمة مودة فأتاني عشية من عشايا استتاري رفعته
يأمرني بالمصير إليه فقدمت عليه فلما رآني قال صر إلى عمر بن الرجحي فسلم
عليه وعرفه أرا قد بعثت بك إليه قال فقلت: يا سيدي أنظر فيما تقوله فإنه
يهدر دمى كيف أمضى إليه هكذا قال اعلم أنه قال لي اليوم أن فلسطين قد
369

انغلقت عليه وفسدت وقصر مالها مع جلالة ارتفاعها وقد أكلها العمال وانه
في طلب من يكفيه أمرها ويحفظ مالها وليس يعرف من يرضى كفاءته. فقلت
لو أردت الكفاءة وجدتهم. هذا سليمان بن سهل وهو من الأكفاء ولا يشك
فيه فلم عطلته وأخفته فقال: وكيف لي به؟ فقلت: تؤمنه وتزيل ما عليه من
المطالبة وتقلده فلسطين فإنه يكفيك أمرها ويوفر عليك مالها ويحمله إليك
وأنا أبعث به إليك فقال: ابعث به فهو آمن، فصر إليه فإنه لا يتعرض لك
إلا بما تحب. قال فبكرت إليه فإذا هو في ديوانه فلما دخلت صحن الدار رأيت
العمال على أكتافهم الحجارة والمقارع تأخذهم فهالني ما رأيت فلما وصلت إليه
سلمت عليه وقلت: انى كنت خادم أبى الفضل أعنى أباه فرجا الرجحي واحد
صنائعه فقال لولا ما أتيت به من هذه الحرمة لكنت أحد هؤلاء الذين
تراهم، ثم رفع مصلاه وأخرج الكتب بولاية فلسطين وأمرني بكتمان أمرى
واعداد السير فأخذت الكتب وأشخصت إلى هناك فأرضيته وقضيت
حق نفسي.
عن الحكم بن عتبة أن حارثة بن بدر الغداني كان يسعى في الأرض.
فسادا فهدر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه دمه فهرب واستجار بأشراف
الناس فلم يجره أحد. فقيل له عليك بسعيد بن قيس الهمداني فلعله أن يجيرك
فطلب سعيدا فلم يجده فجلس في طلبه حتى جاء فأخذ بلجام دابته وقال:
أجرني أجارك الله. فقال له ما لك قال: هدر أمير المؤمنين دمى قال وفيم قال:
سعيت في الأرض فسادا قال: ومن أنت؟ قال: أنا حارثة بن بدر الغداني
قال: أقم وانصرف إلى علي رضي الله عنه فوجده قائما على المنبر يخطب
فقال: يا أمير المؤمنين، ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
الأرض فسادا؟ قال: ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من
خلاف أو ينفوا من الأرض قال: يا أمير المؤمنين، الا من تاب؟ قال:
الا من تاب، قال: فهذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا وقد أجرته. قال أنت
رجل من المسلمين وقد أجرناه. ثم قال رضي الله عنه وهو على المنبر: أيها الناس
370

إني كنت أهدرت دم حارثة بن بدر فمن لقيه فلا يتعرض له، فانصرف إليه
سعيد فأعلمه وكساه وحمله وأجازه فقال فيه شعرا:
الله يجزى سعيد الخير نافلة * أعنى سعيد بن قيس قوم همداني
أنقذني من شفا غبراء مظلمة * لولا شفاعته ألبست أكفاني
قالت تميم بن مر لا نخاطبه * وقد أبت ذلكم قيس بن غيلاني
أساغ في الحلق ريقا كنت أحرضه * وأظهر الله سترى بعد كتماني
انى تداركني عمن شمائله * أباؤه حين ينمى خير قحطاني
عن عطاء بن العاصم بن الحدثان قال: كان أبو النمير الثقفي شبب بزينب
بنت يوسف بن الحكم وكان الحجاج أخوها يتهدده ويقول لولا أن يقول قائل
لقطعت لسانه فهرب إلى اليمن ثم ركب بحر عدن فقال في هربه شعرا:
أتتني في الحجاج والبحر بيننا * عقارب تسرى والعيون هواجع
فضقت بها ذرعا وأجهشت خيفة * ولم آمن الحجاج والامر ناصع
وحل بي الخطب الذي جاءني به * سميع فليست تستقر الأضالع
فبت دبير الأمير والرأي ليلتي
وقد أخلقت خدى الدموع الهواطع
وما أمنت نفسي الذي خفت شره * ولا طاب لي مما خشيت المضاجع
ففي الأرض ذات العرض عنك ابن يوسف
إذا شئت منأى لا أبالك واسع
فإن نلتني حجاج فاشتف جاهدا * فإن الذي لا يحفظ الله ضائع
فطلبه الحجاج فلم يقدر عليه فطال على النميري الهروب واشتاق إلى وطنه
فجاء حتى وقف على رأس الحجاج. فقال إيه يا نميري أنت القائل (فإن نلتني
حجاج فاشتف جاهدا) فقال بل أنا الذي أقول.
أخاف من الحجاج ما لست خائفا * من الأسد العرم باض لم ينهه ذعر
أخاف يديه أن تنال مفاصلي * بأبيض غضب ليس من دونه ستر
وأنا الذي أقول:
371

فهنا أنا ذا طوفت شرقا ومغربا * وأنت وقد دوخت كل مكاني
فلو كانت العنقاء منك تطيرني * لخلتك إلا أن يصد تراني
عن مروان أبى حفصة قال: كان المنصور قد طلب معن بن زائدة الشيباني
طلبا شديدا وجعل لمن يأت به مالا فحدثني معن باليمن أنه اضطر لشدة الطلب
إلى أن نام في الشمس حتى لوحت وجهه وخفف عارضيه ولبس جبة صوف
غليظة وركب جملا من الجمال الثقالة وخرج عليه ليمضى إلى البادية: وكان قد
أبلى في حرب يزيد بن عمرو بن هبيرة بلاء حسنا فخاف فاغتاظ المنصور ووجد
في طلبه قال معن فلما خرجت من باب حرب تبعني عبد أسود متقلدا سيفا
حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه وقبض على فقلت:
ما لك؟ قال: طلبة أمير المؤمنين قلت: ومن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين؟
قال: أنت معن بن زائدة فقلت: يا هذا اتق الله وأين أنا من معن؟ قال:
دع هذا عنك فأنا والله أعرف بك منك فقلت: فإن كانت القصة كما تقول
فهذا جوهر حملته معي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاء بي فخذه ولا تسفك
دمى فقال: هاته فأخرجته إليه فنظر إليه ساعة وقال صدقت في قيمته ولست
قابله حتى أسألك عن شئ فإن صدقتني أطلقتك. فقلت قل: فقال إن الناس
يصفوك بالجود فأخبرني هل وهبت قط مالك كله، قلت: لا. قال: فنصفه
قلت: لا. قال: فثلثه حتى بلغ إلى عشره فاستحيت وقلت أظن أنى فعلت
هذا فقال: ما أراك فعلته وأنا والله راجل ورزقي من أبى جعفر عشرون
درهما، وهذا الجوهر قيمته ألف دينار وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك
وجودك المأثور بين الناس لتعلم أن في الدنيا من هو أجود منك فلا تعجبك
نفسك، ولتحتقر بعد هذا كل شئ فعلته، ولا تتوقف عن مكرمة ثم رمى
بالجوهر في حجري وخلى خطام البعير وانصرف فقلت خذ ما وهبته إليك
فإني عنه غنى. فضحك وقال أردت ان تكذبني في مقالي هذا والله لا آخذه
ولا آخذ للمعروف ثمنا أبدا ومضى فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت
لمن جاءني به ما شاء فما عرفت له خبرا وكأن الأرض ابتلعته قال وكان سبب
372

رضاء المنصور عن معن انه لم يزل مستترا حتى يوم الهاشمية فلما وثب القوم
على المنصور وكادوا يقتلونه وثب معن وهو متلثم فانتضى سيفه وقاتل فأبلى
بلاء حسنا وذب القوم عنه ثم، جاء والمنصور راكب على بغلة لجامها بيد
الربيع فقال له تنح فإني أحق بلجامها في هذا الوقت، فقال المنصور: صدق
فادفعه إليه فأخذه ولم يزل يقاتل حتى انكشفت تلك الحال فقال له المنصور
من أنت لله أبوك؟ قال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة قال:
قد أمنك الله على نفسك، ومالك ومثلك يصطنع. ثم أخذه معه وخلع عليه
وحباه وقربه ثم دعا به يوما فقال إني أهلتك لأمر كيف تكون فيه؟ قال:
كما يحب أمير المؤمنين. فولاه البصرة وتوجه إليها فبسط فيهم العطاء حتى
أسرف قال: مروان وقدم معن عقيب ذلك فدخل على المنصور فقال له بعد
كلام طويل قد بلغني عنك شئ لولا مكانك عندي ورأيي فيك لغضبت
عليك قال وما رابك يا أمير المؤمنين فوالله ما تعرضت لسخط قال: أعطاك
لمروان بن بن أبي حفصة في قوله فيك:
معن بن زائدة الذي زادت به * شرفا على شرف بنو شيبان
ان عد أيام الفعال فإنما * يوماه يوم ندى ويوم طعان
قال والله يا أمير المؤمنين: ما أعطيته ما بلغك لهذا الشعر ولكن أعطيته
ما أعطيته لقوله.
ما زلت يوم الهاشمية معلنا * بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاءه * من وقع كل مهند وسنان
قال فاستحيا المنصور وقال: إنما أعطيته لمثل هذا القول: قال نعم يا أمير
المؤمنين ولولا مخافة الشنعة لأمكنته من مفاتيح بيوت الأموال وأبحته
إياها. فقال المنصور لله درك من اعرابى ما أهون عليك ما يعز على الناس
وأهل الحزم.
عن قطن بن معاوية الكلابي قال كنت ممن سارع إلى إبراهيم بن عبد الله
واجتهد معه فلما قتل طلبني أبو جعفر فاستخفيت منه فطلب أموالي وذريتي
373

ولحقت بالبادية وجاورت في بنى نضر بن معاوية ثم في بنى كلاب ثم بنى
فزارة ثم في نبي سليم ثم تنقلت في بوادي قيس أجاور فيهم حتى ضقت ذرعا
بالاستخفاء فأزمعت القدوم على أبى جعفر والاعتراف، له وقدمت البصرة
ونزلت بها ثم أرسلت إلى عمرو بن أبي العلاء وكان لي ودا فشاورته في
الامر الذي أزمعته فلم يقبل رأيي وقال والله ليقتلنك فلم ألتفت إليه وشخصت
إلى بغداد فنزلت خانا وليس بالمدينة أحد يركب خلا المهدى، ثم قلت للغلمان
أنا ذاهب إلى أمير المؤمنين فأمهلوا ثلاثا فإن جئتكم فيها وإلا فانصرفوا
ودخلت المدينة وجئت إلى دار الربيع والناس ينتظرونه فلم ألبث أن خرج
وهو يمشى وقام الناس إليه وقمت معهم فسلمت عليه فرد على السلام وقال:
من أنت؟ قلت قطن بن معاوية قال: انظر ما تقول قلت: أنا هو. قال: فاقبل
على من معه وقال: احتفظوا بهذا فلما حرست لحقني الندم وذكرت رأى
أبى عمرو فتأسفت ودخل الربيع فلم يطل حتى خرج خصى فأخذ بيدي
وأدخلني قصر الذهب ثم أتى بيتا حصينا فأدخلنيه وأغلق على وانطلق فاشتدت
ندامتي وأيقنت بالبلاء وخلوت بنفسي ألومها فلما كان الظهر أتاني الخصي بماء
فتوضأت وصليت وأتاني بطعام فأخبرته أنى صائم، فلما كان المغرب أتاني بماء
فتوضأت وصليت وأرخى على الليل سدوله فأنسيت الحياة وسمعت أبواب
المدينة تغلق فامتنع عنى النوم فلما ذهب صدر من الليل أتاني الخصي ففتح
عنى ومضى بي فأدخلني صحن دار ثم أتاني من وراء ستور مسدولة وأخذني
وأدخلني محلا فإذا أبو جعفر وحده والربيع قائم على حاله ناحية فأكب
أبو جعفر هنيهة مطرقا ثم رفع رأسه فقال: هيه فقلت: يا أمير المؤمنين أنا
قطن بن معاوية فقال: والله جهدت عليك جهدي حتى من الله على بك. فقلت
يا أمير المؤمنين لقد عصيت أمرك وواليت عدوك وخرجت على أن أسلبك
ملكك، فإن عفوت فأنت أهل لذلك وإن عاقبت فبأصغر ذنوبي تقتلني قال:
فسكت هنيهة ثم قال: هيه فأعدت مقالتي فسكت ثم قال: إن أمير المؤمنين
قد عفا عنك فقلت: يا أمير المؤمنين إني أمر من ورائك فلا أصل بعدها
إليك، وضياعي ودوري مقبوضة فإن رأى أمير المؤمنين أن يردها على قال:
374

فدعى بخادم معه الدواة ثم أمره وهو يكتب بإملائه إلى عبد الملك بن ثور
النميري وهو يومئذ على البصرة أن أمير المؤمنين قد رضى عن قطن بن معاوية
فاردد عليه ضياعه ودوره وجميع ما قبض له فاعلم ذلك وأنفذه إن شاء الله
تعالى. ثم ختم الكتاب ودفعه إلى فخرجت من ساعتي لا أدرى أين أذهب فإذا
الحرس بالباب فجلست مع أحدهم أحدثه فلم ألبث أن خرج الربيع وقال:
أين الرجل الذي خرج الساعة؟ فقمت إليه فقال: انطلق أيها الرجل فقد
والله سلمت. ثم صحبني إلى منزله فعشاني وفرش لي فلما أصبحنا ودعته وأتيت
غلماني وأرسلتهم يكترون لي سميرة فوجدوا صديقا لي من الدقاقين من أهل
نيسان وقد اكترى سميرة لنفسه فحملني معه فقدمت على عبد الاعلى بن أيوب
بكتاب أبى جعفر فأقعدني عنده حتى رد ما اصطفى لي.
حدثني عبد الله بن أحمد بن معروف بن أبي القاسم قال: كنت بمصر وكان
بها رجل يعرف بالناظري من أبناء حلب قد قبض سيف الدولة ضيعته
وصادره فهرب منه إلى كافور الأخشيدي فأجرى عليه جراية سابغة في كل
شهر كما كان يجرى على جميع من يقصده من الجرايا التي تسمى الراتب وكان
له مالا عظيما قدره في السنة خمسون ألف دينار لأرباب النعم وأجناس الناس
وليس فيها لاحد من الجيش ولا من الحاشية ولا من المتصرفين في الأعمال
شئ. قال: فجرى يوما ذكر الناظري بحضرة كافور فقيل له إنه فاسق بغاء
وكثرت عليه الحكايات في ذلك فأمر بقطع جرايته فرفع إليه قصته يشكوا
فيها انقطاع راتبه ويسأل التوقيع بإعادة صرفه، فأمر كافور فوقع على ظهرها
قد صح عندنا أنك رجل تصرف ما نجريه عليك فيما يكرهه الله من الفساد
وما نرى أن نعينك على ذلك فالحق بمن شئت فلا خير لك عندنا بعدها قال:
فلما قرأها الناظري عمل محضرا فيه خطوط كثير ممن يعرف أنه مستور ولم
يعهد فيه البغاء واحتج بالمحضر وجعله طي رقعة قال فيها إن الذي كان يدفع
إليه لم يكن لأجل حفظه فرجه وهتكته وإنما كان لأنه منقطع غريب هارب
مفارق لنعمته وأن الله عز وجل أقدر على قطع أرزاق من يرتكب المعاصي
375

وما فعل ذلك بأرزاقهم بل أمهلهم وأمرهم بالتوبة. فإن كان ما نسب إليه صحيحا
فهو تائب إلى الله عز وجل ويسأل رده إلى رسمه ورفع القصة إلى كافور قال
صاحب الحديث: ولم أدر إلى أي شئ انتهى أمره إلا أنه صار مفضوحا بين
الناس وتحدثوا بحديثه واتفق خروجي من مصر عقيب ذلك إلى حضرة
سيف الدولة فلقيته بحلب وحدثته بأحاديث المصريين وكان يتشوق إلى سماعها
صغرت أو كبرت ثم سقت له حديث الناظري فضحك منه ضحكا شديدا
وقال: هل هذا المشؤم بلغ إلى مصر؟ فقال لي محمد بن أسمر النديم: اعلم أن هذا
الرجل كان صديقي جدا وقد هلك وافتقر وفارق نعمته فأحب أن تخاطب
الأمير في أمره عقيب ما جرى آنفا لأعاونك فلعل الله عز وجل أن يفرج
عنه. فقلت افعل ولما أخذ سيف الدولة يسألني عن الامر فأعدت شرحه عليه
وعاد فضحك فقلت: أطال الله بقاء مولانا الأمير سررت بهذا الحديث ويجب
أن يكون له ثمرة إما لي وإما للرجل الذي قد صيرته فضيحة بحلب زيادة على
فضيحته بمصر. قال اما لك فنعم واما له فلا يستحق فإنه فعل وصنع وأخذ
يطلق القول فيه فقلت اما لي فلست أريده لان فوائدي من مولانا متصلة
ولست أحتاج مع أنعامه على وترادف إحسانه إلى السبب إلى الفوائد ولكن
أرى أن تجعلها لهذا المفتضح المشؤم. فقال تنفذ إليه سفتجة بثلاثة آلاف
درهم فشكرته الجماعة وخاطبته في أن يأذن له في العود إلى حضرته ويؤمنه
ويكتب له أمانا مؤكدا قال فغمزني الأسمر في الاستزادة فقلت أطال الله بقاء
مولانا الأمير أن الثلاثة آلاف درهم لو أنفذت إلى مصر ما كفته فيمن يحمله
معه على نفقته لان أكثر أهل مصر بغاؤون وضايقوه في الناكة وغلبوه باليسار
لأنه لا يصل هو إلى شئ إلا بالغرم الثقيل وبلغني وأنا بمصر: أن رجلا من
البغائين اشتد به حاله فطلب من يأتيه فلم يقدر فخرج إلى الموضع الفلاني قرية
قريبة من مصر فأقام بها فكان إذا اجتاز بها المجتازون استدعى منهم من
يصلح لهذا الحال فحمله على نفسه وكان يعيش، بالمجتاز ويتمكن من إرضاه بما
لا يتمكن منه بمصر فعاش بذلك برهة حتى جاءه يوما بغاء آخر وسكن معه
فكان إذا جاء الغلام الذي يصلح لهذا الحال سأل عنه ففسد على الأول أمره
376

فجاء الثاني وقال له يا هذا: أفسدت على أمرى وأبطلت عملي وأنا هربت من
مصر لأجل المنافسة فليس لك أن تقيم معي ههنا فقال له الثاني: سواء العاكف
فيه والباد ولا أبرح. ههنا فقال الأول بيني وبينك شيخنا ابن العجمي الكاتب
رئيس البغائين بمصر وجذبه معه إلى مصر واحتكما إليه فحكم بن العجمي للأول
ومنع الثاني من المقام في الناحية فكيف يمكن للناظري أيد الله مولانا أن
يكتفى بثلاثة آلاف درهم وقد أمرت له بها في بلد هذا قدر الناكة فيه وكثرة
البغائين لو كان مقيما فكيف وقد أنعمت عليه بالاذن في المسير ويحتاج إلى
بغال يركبها في الطريق بأجرة ونفقة وديون عليه يقضيها. فضحك ضحكا شديدا
من حكاية البغائين وحكم ابن العجمي بينهما وقال اجعلوها خمسة آلاف درهم
فقلت له: أنا والأسمر فترد إلى الرجل أطال الله بقاء مولانا ضيعته. فقال: لقد
أطلتم على في أمر هذا الصانع الفاعل فأطلقوا له عن ضيعته بأسرها ووقعوا
بذلك إلى الديوان وعن مستغله وأخلوا له عن داره وان تفرش له أحسن
من الفرش الذي ذهب له لما سخط عليه قال فأكبت الجماعة تقبل يديه ورجليه
وقلت: أطال الله بقاء مولانا الأمير ما سمع بهذا الكرم قط مع سوء رأيك في
الرجل وسوء حديثه، فما على الأرض بغاء أبرك على صاحبه من هذا قال:
فضحك ونفذت الكتب والتوقيعات بما رسمه فلما كان بعد مدة وأنا بحلب عاد
الرجل إلى بلده ونعمته.
عن أبي عمرو بن العلاء قال خرجت هاربا من الحجاج إلى مكة فبينما أنا
أطوف بالبيت إذا أعرابي ينشد.
ربما تجزع النفوس من الامر * لها فرجة كحل العقال
فقلت: مه. قال: مات الحجاج. قال: فلا أدرى بأي القولين كنت
أفرح بقوله فرجة بفتح الفاء أو بموت الحجاج ووجدت هذا الخبر في بعض
الكتب وفيه أن أبا عمرو وسمع الاعرابي ينشد.
يا قليل العزاء في الأهوال * وكثير الهموم والأوجال
صبر النفس عند كل مهم * إن في الصبر حيلة المحتال
377

ربما تجزع النفوس من الامر * لها فرجة كحل العقال
قيل والفرجة من الفرج والفرجة فرجة الحائط.
وعن أبي عمرو قال: كنت مستخفيا من الحجاج وذلك أن عمى كان
عاملا له فهرب فهم بأخذي به. فبينما أنا على حالي إذ سمعت منشد ينشد:
* ربما تكره النفوس من الامر *
البيت، وذكر الحديث، وزاد فيه أن أبا عمرو يقرأ الا من اغترف
غرفة بيده وفرجة بالفتح شاهد له في هذه القراءة، وذكر أبو الحسين المدايني
في كتابه أن القمير الثعلبي قال في الوليد بن عبد الملك:
أتتني يا وليد بلاء قومي * بمسكن والزبيريون صيد
أتنسانا إذا استغنيت عنا * وتذكرنا إذا صل الحديد
فطلبه الوليد فهرب منه حينا. فلما ضاقت به البلاد واشتد به الخوف
انصرف إلى دمشق حتى حضر عشاء الوليد فدخل مع الناس فلما أكلت
الجماعات بعض الاكل عرف رجل الثعلبي فأخبر الوليد به فدعا به وقال
له: يا عدو الله الذي أمكنني منك بلا عقد ولا ذمة أنشدني ما قلت فبكى ثم
أنشده فقال: ما ظنك بي؟ قال: قلت إن أمهلت حتى أطأ بساطه وآكل
طعامه فقد أمنت: وإن عوجلت قبل ذلك فقد هلكت، وقد أمهلت حتى
وطأت بساطك يا أمير المؤمنين، وأكلت طعامك فقد أمنت إذا، فقال له
الوليد: قد أمنت فانصرف راشدا، فلما ولى تمثل الوليد بقول
من قال:
شمس العداوة حتى يستفاد لهم * وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
عن الفضل بن العباس من ولد نافع مولى العباس بن عبد المطلب عن
أبيه قال: ما أتيت زينب بنت سليمان بن علي الهاشمي فانصرفت من عندها
إلا ببر. وان قل، وكان لها وصيفة يقال لها كتات فعلقتها وقلت لأبي: يا أبى
أنا والله مشغول القلب بكتات جارية زينب فقال يا بنى اطلبها من عندها فإنها
378

لا تمنعها عنك. فقلت: كنت أحب أن تكون حاضرا لتعينني عليها. فقال:
ليس لك إلى ولا إلى غيري احتياج. فغدوت إليها. فلما انقضى السلام قلت
لها: جعلني الله فداك إني فكرت في حاجة سألت أبى أن يحضر كلامي إياك
فيها لاستعين به فأسكتني. فقالت: يا بنى ان حاجة لا تقضى حتى يحضر أبوك
لحاجة عظيمة القدر فما هي؟ قلت: كتات وصيفتك أحب أن تهبها لي.
فقالت: أنت صبي أحمق اقعد أحدثك حديثا أحسن من كل كتات على ظهر
الأرض وأنت من كتات على وعد فقلت: هاتي جعلني الله فداك قالت:
كنت أول أمس عند الخيزران ومجلسي ومجلسها إذا اجتمعنا في الصدر المكان
وفوقنا سبتية لأمير المؤمنين المهدى، وهو كثير الدخول إليها فإذا جلس في
ذلك الموضع رفع عنه وإذا انصرف طرحت عليه السبتية إلى وقت حضوره
فأنا لجلوس إذ دخلت علينا حاجبة وقالت يا ستي بالباب امرأة ما رأيت
أحسن منا ولا أسوأ حالا عليها قميص ما تستر ببعضه موضعا من بدنها إلا
انكشف موضع آخر تستأذن عليك فالتفتت إلى وقالت: ما ترين؟ فقلت:
تسألين عن حالها واسمها ثم تأذنين لها على علم فقالت: الجارية قد والله جهدت
بها كل الجهدان تفعل فما فعلت وأرادت الانصراف فمنعتها فقلت للخيزران
وما عليك أن تأذني لها فإنك منها بين مكرمة أو ثواب فأذنت لها فدخلت
امرأة أكثر مما وصفت الجارية في الجمال وسوء الحال فجعلت تمشى وهي
مستحدثة حتى صارت إلى عمارة الباب فجعلت ما يليني وكنت متكئة فقالت:
السلام عليكم. فرددنا عليها السلام ثم قالت للخيزران أنا مزنة امرأة مروان
بن محمد. فلما وقع كلامها في سمعي قلت لا حياك الله ولا قربك الحمد لله الذي
أزال نعمتك وعزك وصيرك نكالا وعبرة أتذكرين يا عدوة الله حين أتاك
أهل بيتي يسألنك أن تكلمي صاحبك في انزال إبراهيم بن محمد من خشبته
فتلقيتيهن ذلك اللقاء وأخرجتيهن ذلك الاخراج الحمد لله الذي أزال نعمتك قالت
زينب فضحكت المرأة والله يا بنى حتى كادت تقهقه وبدأ لها ثغر ما رأيت أحسن
منه ثم قالت: أي شئ بنت عم؟ أي شئ أعجبك من صنع الله عز وجل بي
على العقوق حتى أردت أن تتأسى بي السلام عليكم ثم ولت خارجة وهي
379

تمشى بخلاف الأول فقلت للخيزران أنها مخبئة من الله عز وجل وهدية منه
إلينا ووالله يا خيزران لا يكون اخراجها مما هي فيه إلا بي ثم نهضت على أثرها
حتى وافيتها عند الستر ولحقتني الخيزران فتعلقت بها وقلت: يا أخية المعذرة
إلى الله عز وجل واليك فإني ذكرت بوجودك ما نالنا من المصيبة بصاحبنا
فكان منى ما وددت انى منعت منه وقطعت عنه، ولم أملك نفسي وأردت
معانقتها فوضعت يدها في صدري وقالت: لا تفعلي يا أخية فإني على حال
أصونك من الدنو منها فرددتها وقلت للجواري ادخلن معها الحمام، وقلت
للمواشط اذهبن معها حتى تصلحن حفافها وما تحتاج إلى اصلاحه من وجهها
فمضت ومضين معها ودعونا بكرسيين فجلست أنا والخيزران عليهما ننتظر
خروجها في صحن الدار فخرجت إحدى المواشط وهي تضحك فقلت لها:
ما يضحكك؟ قالت يا ستي انا لنرى من هذه الغريبة عجبا. فقلت: وما هو؟
قالت: نحن معها في انتهار وزجر وخصومة ما تفعلين أنت ولا ستنا مثله إذا
خدمنا كما قالت فقلت للخيزران: حتى تعلمي والله يا أختي أنها حرة رئيسة
والحر لا يحتشم من الأحرار ثم خرجت إلينا جارية ثانية فأعلمتنا أنها قد
خرجت من الحمام فوجهت إليها الخيزران بصنوف الخلع فتخيرت منها ما لبسته
وبعثنا إليها بطيب كثير فتطيبت ثم خرجت إلينا فقمنا جميعا فعانقناها فقالت
اما الآن فنعم ثم جئنا إلى الموضع الذي كنا جلوسا فيه وأمرنا بكشف السبتية
عن الموضع الذي كان يجلس فيه أمير المؤمنين وأقعدناها فيه ثم قالت:
الخيزران غداؤنا قد تأخر فهل لك في الطعام فقالت والله ما فيكن أحوج إليه
منى. فدعونا بالطعام فجعلت تأكل وتضع بين أيدينا كأنها في منزلها فلما فرغنا.
قالت لها الخيزران: من لك ممن تعتنين به؟ قالت ما لي وراء هذا الحائط أحد
من خلق الله تعالى. فقالت لها الخيزران فهل لك في المقام عندنا على أن نخلى
لك مقصورة ونحول إليها جميع ما تحتاجينه، ويستمتع بعضنا ببعض فقالت:
وردت وأنا على أقل حال وإذ قد تفضل الله عز وجل على بكما وبهذه النعمة
فلا أقل من الشكر للمبتدئ بكل نعمة ولكما فافعلي ما أحببت وبدا لك فقامت
الخيزران وقمت معها وأقمناها معنا وجعلنا نطوف في المقاصير فاختارت والله
380

أوسعها وأحسنها فملأتها الخيزران بالجواري والوصائف والخدم والفرش
والكسوة والآلات ثم قالت لها: ننصرف عنك ولميك بمنزلك حتى
تصلحينه فخلفناها في المقصورة وانصرفنا إلى موضعنا فقالت لي الخيزران: إن
هذه امرأة تعيسة قد عضها الفقر. وليس يملا عينها إلا المال ثم بعثت إليها
بخمسة آلاف دينار ومائتي ألف درهم وأرسلت إليها يكون هذا في خزانتك
تحت تصرفك، ووظيفتك ووظيفة حشمك قيام في كل يوم مع وظيفتنا
ثم لم نلبث ان دخل علينا المهدى فقلت: والله يا سيدي عندي خبر ظريف
فقال ما هو؟ فحدثته به فلما قلت له ما كان منى من الوثوب عليها واسماعها
اقشعر واصفر ثم قال: يا زينب هذا مقدار شكرك لربك عز وجل وقد
أمكنك من عدوك وأظفرك به على هذه الحالة التي تصفينها والله لولا مكانك
منى لحلفت أن لا أكلمك أبدأ أين المرأة قالت فوفيته خبرها فقال لخادم بين
يديه ادفع إليها عشرة آلاف دينار ومائتي ألف درهم وأبلغها سلامي وقل
لها لولا خوفي أن احتشمها لصرت إليها مسلما ومخبرا إياها بسروري بها
وقل لها إني أخوك وجميع ما نفذ فيه أمرى فأمرك أنفذ فيه ثم قالت زينب
فإذا بها قد وردت علينا مع الخادم وعلى رأسها دواج ملحم حتى قعدت
ولقيها المهدى أحسن لقاء وأقامت عنده ساعة محدثة ثم انصرفت إلى مقصورتها
فهذا الحديث يا بنى خير من كتاب قال: فأمسكت. فقالت لي: قد اغتممت
فقلت: ما اغتم أبقاك. الله قالت توافيك كتات فلما كان الليل وجهت بها
إلى ومعها ما يساوى ثمنها من كل صنف من الرقيق والكسا والآلة، وفي
رواية أخرى أن الذي حملته الخيزران خمسمائة ألف درهم وأن المهدى حمل
إليها ألف ألف درهم.
عن أبي عبد الله الحسين بن محمد النافطائي قال: كنا نتعلم ونحن أحداث
في ديوان إسحق بن إبراهيم الطاهري، وكنت ملازما لمجلس فتى من الكتاب
له خلق جميل يعرف بأبي غالب فزور جماعة من الكتاب تزويرا بمال أخذوه
ووقف إسحق على الخبر فطلبهم فظفر ببعضه فقطع أيديهم وهرب الباقون
381

وكان فيمن هرب الفتى الذي كنت ألزم مجلسه فغاب سنين كثيرة حتى مات
إسحق فبينما أنا ذات يوم في بعض شوارع بغداد إذا أنابه فقلت أبو غالب؟
قال نعم فإذا تحته دابة فاره وسرج محلى وعليه ثياب حسنة فقلت: عرفني
حالك؟ قال: إلى المنزل. فسرت معه فاحتبسني ذلك اليوم عنده فرأيت فيه
مروءة فسألته عن حاله فقال: لما طلبنا اسحق استترت فلما بلغني ما عامل به
من كان معي في الخيانة ضاقت على بغداد فخرجت على وجهي خوفا من العقوبة
حتى وافيت ديار مصر مستخفيا وطلبت التصرف فتعذر على وتفرق من كان
معي ولم يصبر إلا غلام واحد فرقت حالي جدا حتى بعت ما في البيت عن
آخره على قلة فأصبحت يوما فقال لي غلامي: أي شئ تعمل اليوم؟ فما معنا
حبة. فقلت: خذ مبطنتي فبعها واشتر لنا ما نحتاج إليه فخرج الغلام وبقيت
في الدار وحدي أفكر فيما وقعت فيه من الغربة والشدة والوحدة والعطلة،
وتعذر المعيشة والتصرف، ومن اقترض منه فكاد عقلي أن يزول فبينما أنا
كذلك وقد استلقيت على قفاي إذا بجرذ قد خرج من كوة البيت وفي فيه
دينار فوضعه ثم عاد فأخرج دينارا آخر وما زال كذلك حتى أخرج ثمانين
دينارا فصفها وجعل يتمرغ ويلعب وأنا أنظر إليه وأظهر التناوم وقد قويت
نفسي ولست أتحرك لئلا يستوحش الجرذ ولا يحضر غيرها فما زال يلعب
حتى أخذ واحدا ودخل الكوة فقمت وأخذت الدنانير وشددتها، وجاء
الغلام ومعه ما قد ابتاعه فتغذينا وقلت له: اشتر لنا فاسا. فقال: ماذا نصنع
به فحدثته الحديث وأريته الدنانير وقلت: عزمت على أن أقلع الكوة فلعل
فيها شئ آخر فمضى وجاء به فحفرنا الكوة فأفضى بنا الحفر إلى بركة فيها
سبعة آلاف دينار فأخذناها وأصلحنا الموضع على ما كان وخرجت
فأخذت بالمال سفاتج بعد أن تركت بعضه وأنفذت الغلام بالسفانج إلى
بغداد وانتظرته حتى ورد كتابه بصحة تلك السفاتج وتحصيله المال في بيتي
وان إسحاق قد مات فانحدرت إلى بغداد وابتعت بالمال ضيعة فأئمرت ونمت
فلزمتها وتركت التصرف.
382

الباب الثالث عشر
من نالته شدة في هواه * فكشفها الله تعالى وملكه من يهواه
عن عاصم بن عدي قال كان لعمرو بن دويرة السمحي أخ قد كلف بابنة
عم له كلفا شديدا، وكان أبوه يكره ذلك ويأباه فشكاه إلى خالد بن عبد الله
القشيري وهو أمير العراق أنه يسئ جواره فحبسه أياما ثم تركه فلما زاد ما في
نفس الفتى وحمل عليه الحب تسور الجدار إلى ابنة عمه فلما حصل معها أحس
به أبوها فقبض عليه وأتى خالدا وادعى عليه بالسرقة وأتاه بجماعة يشهدون
أنهم وجدوه في منزله ليلا وقد دخل دخول اللص فسأل خالد الفتى فاعترف
أنه دخل ليسرق وما سرق شيئا ليدفع بذلك الفضيحة عن ابنة عمه فأراد خالد
أن يقاصيه فدفع عمرو أخوه إلى خالد رقعة فيها هذا الشعر:
أخالد قد أوطيت والله عشوة * وما العاشق المظلوم فينا بسارق
أقر بما لم يجنه المرء أنه * رأى الموت خيرا من فضيحة عاشق
ولولا الذي قد خفت من قطع كفه * لألفيت في أمر لهم غير ناطق
إذا مدت الغايات في السبق للعلى * فأنت ابن عبد الله أول سابق
فأرسل خالد مولى له من الخبر ليتجسس على جلية الامر فأتاه بتصحيح
ما قاله عمرو في شعره فأحضر بالجارية وأخذ بتزويجها من الفتى فامتنع أبوها
وقال ليس هو بكفؤ لها قال بلى إنه لكفؤ لها إذا كف يده عنها ولئن لم تزوجه
لا زوجته وأنت كاره فزوجه العم وساق خالد المهر إلى العم من ماله وكان
يسمى العاشق إلى أن مات.
عن أبي العلا صاعد بن ثابت النصراني الذي كان خليفة الوزراء عن أبي
الحسين بن ميمون الأفطس الذي كان وزيرا للمتقى قال لما دخل أبو عبد الله
اليزيدي بغداد متقلدا للوزارة المرة الثانية للمتقى قبض عليه وأحضره للبصرة
فلما وردها اليزيدي منهزما أحسن إليه وأطلقه وأمرني بإنزاله بالقرب منى
383

وائتناسه بملازمتي وافتقاده بالدعوات ففعلت فكنا متلازمين لا نفترق
ووجدته أحلى الناس حديثا وأحسنهم أدبا وأتمهم عقلا ولم أر قط أشد تغزلا
ولا تهالكا في العشق منه فحدثني يوما قال عشقت مغنية في القيان عشقا
مبرحا شديد فراسلت مولاتها في بيعها منى فطلبت فيها ثلاثة آلاف دينار
وكنت أعرف من نفسي الملل فخشيت أن اشتريتها ان أملها فدافعت بذلك
ومضت أيام فانصرفت من عندي يوما وقد كان المقتدر بالله أمر أن يشترى
له مغنيات وأنا لا أعلم فكانت الجارية حسنة الوجه والغنا فحملت إلى المقتدر
في جملة جوار فأمر بشرائهن كلهن فاشتريت في جملتهن وأنفذت من غد
أستدعيها من مولاتها فأخبرت بالخبر فقامت على القيامة ودخل على قلبي من
الأحزان أمر ما دخل مثله على قط من نكبة فضلا عن عشق وزاد الامر
على حتى انتهى بي إلى حد الوسواس وامتنعت عن النظر في أمر داري
وتشاغلت بالبكاء ولم يكن لي سبيل إلى الغراء وكنت أكتب حينئذ لام المتقى
وله وكان حدثا فتأخرت عنهما أياما وأخللت بأمرهما وأنا متوفر تلك الأيام
على الطوالي في الصحارى ولا آكل ولا أشرب ولا أتشاغل بأكثر من الهيمان
وأنكر المتقى وأمه أمرى لتأخري فاستدعاني وخاطبني في شئ من أمرى
فوجدني لا أعى ما يقوله فسألني عن سبب اختلاطي فصدقته وبكيت بين يديه
وسألته أن يسأل إباه بيع الجارية على أو هبتها. فقال: ما أجسر على هذا قال
فزاد على الامر وبطلت وبلغ أم المتقى الخبر وراسلتها بما سألت به ابنها فرقت
لي وحملت نفسها ان خاطبت أم المقتدر في أمرى فقالت لها السيدة ما العجب
من الرجل فإن الذي في قلبه من العشق أعماه عن وجه الرأي إنما العجب
منك كيف وقع لك أنه يجوز أن تقول للخليفة أنزل عن جاريتك لرجل
يعشقها فراسلتني أم المتقى بما جرى فزاد ما بي من القلق وكنت لا ألقى أحدا
من رؤساء البلد كالوزير ونصر القسوري وحاشية الخليفة إلا وأقصدهم وأبكى
بين أيديهم وأحدثهم حديثي واسألهم مسألة الخليفة تسليم الجارية إلى ببيع
أو هبة فمنهم من ينكر على ومنهم من يوبخني ومنهم من يرثى لي فيعذرني
ومنهم من يقول: إن عم الخليفة هذا منك وانك تتعرض لخدمه فإن فيه تلف
384

نفسك ومنهم من يطير بي وأنا ملازم لهم ولأبوابهم وقد تركت خدمة صاحبي
وبطل أمر داري وضيعتي فطال هذا على المتقى وأمه وأضاقا من أجل إخلالي
بالنظر في أمورهما فطلبا كاتبا يصرفانني به، وبلغ الخبر إلى وقد كنت آيست
من الجارية فعزلت نفسي وقلت ليس بعد الصرف إلا الفقر والنكبة وذهاب
الخير ولو كنت اشتريتها لكنت الآن قد ملكتها فلم أفقر نفسي وأقطع تصرفي
وأقبلت أعظ نفسي وأسليها ليلتها كلها إلى أن طاوعتني على الصبر فبكرت
إلى دار المتقى وبدأت النظر في أموره ورأوا منى خلاف ما تقدم فسروا
بذلك وقالوا: أنت أحب الناس إلينا من غيرك ومن الغريب الذي نستأنفه
فضمنت لهما الملازمة وتمشية الأمور وأقمت على ذلك معهم مدة ثم اشتقت
إلى الشرب وكنت قد هجرته منذ فقدت الجارية إلى ذلك اليوم فقلت للغلام
امض فاصلح لنا مجلسنا للشرب وعد أصحابنا أعنى أصدقاء لي كانوا يعاشرونني
للرواح إلى ولا تدع غناء فلما قضيت شغلي عدت إلى داري واجتمع أصدقائي
وصوبوا رأيي وجلسنا نشرب ونتحدث ونلعب بالشطرنج فقالوا: لو دعوت
غناء فقلت أخاف أن أتذكر به أمرى فجلسوا عندي إلى أن صليت العشاء
الآخرة وانصرفوا. وجلست وحدي أشرب القدح بعد القدح فلما مضت
قطعة من الليل إذا بابى يدق دقا عنيفا فقال بوابي من هذا؟ فقال خادم من دار
أمير المؤمنين فقامت قيامتي ولم أشك أن خبري قد اتصل به فأنكره وقال
مثل هذا لا يصلح أن يكون كاتبا لامرأة ولا مدبرا لغلام حدث وأنه قد
أنفذ للقبض على ويريد نكبتي فقمت أمشى في صحن الدار لأخرج من باب
آخر كان لي فاستتر فإذا الخدم قد دخلوا ومعهم بغلة عليها عمارية وشموع
وإذا قد نزل من العمارية جاريتان إحداهما معشوقتي فبهت وقال أحد الخدم
وهو كالرئيس لهم مولانا يقرؤك السلام ويقول: عرفت خبرك مع هذه الجارية
فرحمتك وقد وهبتها لك مع جميع مالها وتركها الخادم وعدة بغال عليها أثقال
من صنوف الثياب والفرش والآلات والقماش وعدة جوار وانصرف الرسول
فأخذت بيد عشيقتي وأدخلتها المجلس فلما رأته والشرب قالت سلوت عنى
385

وشربت بعدى فحلفت لها ما شربت نبيذا مذ فارقتها إلا في هذا اليوم بلا غناء
وحادثتها حديثي بطوله وقلت لها ما سبب ما جرى؟ فقالت: اعلم أن الخليفة
لم يرني مذيوم عرضني وأمر بشرائي إلا الليلة وكان قد اتصل مزاح السيدة
معي بك وذلك أنها استدعتني منذ مدة ثم سألتني عن خبري معك وحدثتني
ما دار بينك وبين أم المتقى فصدقتها وبكيت أيضا فقالت كأنك تحبينه فسكت
وتغامز الجوار على وصار شعار السيدة المزاح معي فيك فلما كانت هذه
الليلة قعد الخليفة يشرب مع السيدة والجواري فاستدعيت وغنيت للخليفة
فقال: إن كنت تحسنين الصوت الفلاني تغنيه وكان صوتك على فغنيته
وتمثلت لي صورتك وذكرت سرى معك فلم أملك دموعي حين جرت
فقال: المقتدر ما هذا؟ فتحيرت وجزعت ونظرت إلى السيدة فضحكت وضحك
الجواري فقال المقتدر للسيدة: ما القصة؟ فدافعته فقال: بحياتي فحدثته
الحديث فلما استوفاه قال: يا جارية الأمير هكذا إنما بكيت ابن ميمون فسكت
فقال: إن صدقت وهبتك له فقلت: نعم فأقبل على أمه وقال: ما هو بكثير
إن وهبتها لخادم لنا فقالت: والله أردت أن أسألك هذا ولكن رأيت أنك
إن تفضلت به ابتداء كان أحسن فقال لبعض الخدم القيام: خذ هذه وجميع
ما في حجرتها فاحمله إلى دار ابن ميمون كاتب ابني إبراهيم واقرأه السلام
وعرفه إني وهبتها له، فلما نقلت تصايح الجواري قد جاء فرجك وبلغت مناك
فقمت في حجرتي وحملت إليك وما تراه معي فحمدت الله عز وجل وجلست
معها وما شلت ما في المجلس حتى شربت معها فيه وغنت لي وبت بأتم ليلة
وبكرت نشيطا إلى دار أم التقى لادعوا لهما وأقامت الجارية عندي إلى أن ماتت
حدثني عبد الله بن محمد الصروي قال: حدثني أبي، قال: كان ببغداد
من أولاد النعم فتى ورث من أبيه مالا عظيما وكان يعشق قينة فأنفق عليها
شيئا ثم اشتراها وكانت تحبه كما يحبها فلم يزل ينفق ماله عليها إلى أن أفلس.
فقالت الجارية: يا هذا قد بقينا كما ترى فلو طلبت معاشا كان الامر أسهل
قال: وكان الفتى لشدة حبه للجارية واحضاره الاستارات لها ليزيدها في
386

صنعتها قد تعلم الغناء والضرب والحذق فيهما فشاور بعض معارفه فقال.
ما أعرف لك أصلح من أن تغني الناس وتحمل جاريتك إليهم وتأخذ على هذا
الكثير من الأموال ويطيب عيشك فانف من ذلك وعاد إليها فأخبرها بما
أشير عليه وأعملها أن الموت أسهل عنده من ذلك فصبرت معه مدة على الشدة
ثم قالت: له قد رأيت لك رأيا. قال: قولي. قالت: تبيعني فإنه يحصل لك من
ثمني ما أردت أن تتجر به أو تقتنى ضيعة وتعيش عيشة صالحة وتتخلص من
هذه الشدة وأحصل أنا في نعمة لان مثلي لا يشتريها إلا ذو نعمة. فحملها إلى
سوق النخاسين فأول من اعترضها فتى هاشمي من أهل البصرة قد ورد بغداد
للعب والتمتع فاشتراها بألف وخمسمائة دينار عينا. قال الرجل: فحين لفظت بالبيع
وأعطيت المال ندمت واندفعت في بكاء عظيم وحملت الجارية في أقبح من
صورتي وجهدت في الإقالة فم يكن إلى ذلك سبيل وأخذت الدنانير في
الكيس لا أدرى إلى أين أذهب لان بيتي موحش منها وورد على من اللطم
والبكاء ما قد أموسني فدخلت مسجدا وجلست أبكى فحملتني عيني وتركت
الكيس تحت رأسي كالمخدة ونمت فما شعرت إلا بإنسان قد جذبه من تحت
رأسي فانتبهت فزعا فإذا شاب قد أخذ الكيس وهو يعدوا فقمت لاعدوا
وراءه فإذا رجلي مشدودة بحبل قنب في وتد مضروب في أرض المسجد فما
أمكنني أن أتخلص من ذلك حتى غاب الرجل عن عيني فبكيت ولطمت
ونالني أمر عظيم أشد من الأول وقلت فارقت من أحب لاستغنى بثمنه عن
الصدقة وقد صرت الآن فقيرا مفارقا فجئت إلى دجلة ولففت رأسي ووجهي
برداء كان على ولم أكن أحسن السباحة فرميت بنفسي إلى الماء فظن الحاضرون
أن ذلك لغلظ وقع على فطرح قوم نفوسهم خلفي فأخرجوني وسألوني عن
أمرى فأخبرتهم فبعضهم رحمني والبعض استجهلني إلى أن خلا بي شيخ فأخذ
يعظني ويقول يا هذا: ذهب مالك فكان ماذا حتى تتلف نفسك أو ما علمت
أن فاعل هذا في نار جهنم ولست أول من افتقر بعد غنى واستغنى بعد فقر
فلا تفعل وثق بالله عز وجل. أين منزلك قم معي إليه فما فارقني حتى حملني
إلى منزلي فأدخلني إليه وما زال يؤانسني فيه ويعظني إلى أن رأى من السلوان
387

فانصرف فكدت أقتل نفسي لوحشة منزلي على ثم ذكرت النار فخرجت
ولحقت به فبكى لي رقة وأعطاني خمسين درهما وقال: خذ هذه واخرج
الساعة من بغداد واجعلها نفقة لك إلى حيث وجدت قلبك يساعدك على
قصده وأنت من أولاد الكتاب وخطك صالح وأدبك جيد فاقصد بعض العمال
واطرح نفسك عليه فأقل ما في الامر أن تصير محررا بين يديه وتعيش معه
ولعل الله أن يخلف عليك فقبلت نصيحته وعملت على ذلك وجئت إلى
الكتبيين وقد قوى في نفسي أن أقصد واسطا وكان لي بها أقارب فأجعلهم
ذريعة إلى التصرف مع عاملها فحين جئت إلى الكتبيين إذا بزلال مقدم
وجراية كثيرة وقماش فاخر كثير ينقل إلى الزلال فسألت من يحملني إلى
واسط؟ فقال أحد ملاحي الزلال: نحن نحملك إلى واسط بدرهمين ولكن
هذا الزلال لرجل هاشمي من أهل البصرة ولا يمكنا حملك معه على هذه
الصورة ولكن تلبس ثياب الملاحين وتجلس معنا كأنك واحد منا فحين
رأيت الزلال وسمعت أنه لرجل هاشمي من أهل البصرة طمعت أن يكون
هو مشترى جاريتي فانفرج لسماعها لحد واسط فدفعت الدرهمين إلى الملاح
وعدت فاشتريت جبة من جباب الملاحين وبعت تلك الثياب التي على وأضفت
ثمنها إلى ما معي من النفقة واشتريت خبزا وأدما وجلست في الزلال فما كان
إلا ساعة حتى رأيت جاريتي بعينها ومعها جاريتان تخدمانها فسهل على ما كان
بي وما أنا فيه وقلت أراها وأسمع من غناءها من ههنا لحد البصرة واعتقدت
أن جعلت البصرة مقصدي وطمعت في أن أداخل مولاها وأصير أحد ندمائه
وقلت لا تخليني هي من المودة فإني واثق بها ولم يكن بأسرع من أن جاء الفتى
الشئ اشتراها راكبا ومعه عدة من الغلمان ركبان وركبوا في الزلال وانحدر
بهم فلما وصلوا إلى كلو إذ أخرج الطعام فأكل وأكل الباقون على سطح
الزلال وأطعموا الملاحين ثم أقبل على الجارية فقال: إلى كم هذه المدافعة
عن الغناء ولزوم الحزن والبكاء ما أنت أول من فارق مولى كان له فعلمت
ما عندها من أمرى ثم ضرب ستارة في جانب الزلال واستدعى الذين في
سطحه وجلس معهم خارج الستارة فسألت عنهم فإذا هم أخوته وبنو عمه
388

فاخرجوا الصواني ففرقها عليهم فيها النبيذ وما زالوا يرفقون بالجارية إلى
أن استدعت بالعود فأصلحته واندفعت تغنى من الثقيل الأول بإطلاق الوتر
الذي في مجرى الوسطى.
بان الخليط بمن عرفت فادلجوا * عمدا لقتلك ثم لم يتحرجوا
وغدت كأن على ترائب نحوها * جمر الغضا في ساعة يتأجج
ثم غلبها البكاء فقطعت الغناء وتنغص على القوم سرورهم ووقعت أنا
مغشيا على فظن الملاحون أنى قد صرعت فأذن بعضهم في أذني فأفقت بعد
ساعة وما زالوا يدارونها ويرفقون بها ويسألونها الغناء إلى أن أصلحت العود
واندفعت تغنى في الثقيل الثاني.
فوقفت أسئل بالذين تحملوا * وكأن قلبي بالشفار يقطع
فدخلت دارهم أسائل عنهم * والدار خالية المنازل بلقع
ثم شهقت فكادت تتلف وارتفع لها بكاء عظيم وصعقت أنا فتبرم بي
الملاحون وقالوا: كيف حملنا هذا المجنون؟ وقال بعضهم: إذا بلغتم بعض
هذه القرى فأخرجوه وأريحونا منه فجاءني أمر عظيم من كل ما أصابني وجاءني
في نفسي التصبر والحيلة في أن أعلم الجارية بمكاني بالزلال لتمنع من إخراجي
فأفقت وبلغنا إلى قرب المداين فقال صاحب الزلال إصعدوا بنا إلى الشط
فطرحوا إلى الشط وصعدت الجماعة وكان المساء قريبا وصعد أكثر الملاحين
يتغطون وخلا الحريري وكان الجواري فيمن صعد إلى مستراح ضرب لهن
فمشيت سارقا نفسي حتى صرت خلف الستارة فغيرت طريقة العود عما كانت
عليه إلى طريقة أخرى ورجعت إلى موضعي من الزلال وفرغ القوم من
حاجتهم في الشط ورجعوا والقمر منبسط فقالوا لها هو ذا ترين وقتنا فتكلفي
الغناء ولا تنغصي علينا فأخذت العود فجسته وشهقت وقالت: قد والله أصلح
هذا العود مولاي على طريقة من الضرب كان بها معجبا وكان يضربها معي
ووالله أنه معنا في الزلال. فقال لها مولاها: والله يا هذه لو كان معنا ما امتنعنا
من عشرته فلعله أن يخف بعض ما بك فننتفع بغنائك ولكن هذه بعيد فقالت:
لا أدرى ما تقولون هو والله معنا. فقال الرجل للملاحين: ويلكم هل حملتم
389

معنا إنسانا؟ قالوا: لا فأشفقت أن ينقطع السؤال فصحت نعم هو ذا أنا
فقالت كلام مولاي والله وجاء بي الغلمان إلى الرجل فلما رآني فقال: ويحك
ما هذا الذي أصابك وصيرك في مثل هذا الحال؟ فصدقته عن أمرى وبكيت
وعلى نحيب الجارية من خلف الستارة وبكى هو وأخوته بكاء شديدا رقة لنا
ثم قال يا هذا: والله ما وطئت هذه الجارية ولا سمعت غناها إلا اليوم وأنا
رجل موسع على ولله الحمد وردت بغداد لسماع الغناء وطلب أرزاق من
الخليفة وقد بغلت من الامرين ما أردت ولما عملت على الرجوع إلى وطنى
أحببت أن أستبيع من غناء بغداد شيئا فاشتريت هذه الجارية لأضمها إلى عدة
مغنيات عندي بالبصرة وإذا كنتما على هذه الحال فأنا والله أغتنم المكرمة
والثواب فيكما وأشهد الله أنى إذا صرت إلى البصرة أعتقتها وزوجتك منها
وأجريت عليكما ما يكفيكما ويسعكما على شريطة إذا أجبتني إليها قلت: ما هي؟
قال: ان تحضرنا كلما أردنا الغناء خلف ستارتنا وتنصرف بانصرافك إلى
دار أفردها لكما وقماش أعطيكما إياه فقلت: يا سيدي وكيف أبخل بهذا على
من هو المعطى لي وعلى من رد على حياتي وأخذت أقبل يده فمنعني ثم أدخل
رأسه إلى الجارية فقال: يرضيك هذا فأخذت تدعوا له وتشكره فاستدعى
غلاما فقال: خذ بيد هذا الرجل وغير ثيابه وبخره وقدم إليه ما يأكله وجئنا به
فأخذني الغلام ففعل بي ذلك وعدت وتركت بين يدي صينية واندفعت الجارية
تغنى بنشاط وسرور وانبساط واستدعت النبيذ فشربت وشربنا وأخذت
أقترح عليها الأصوات الجياد فتضاعف سرور الرجل وما زلنا على ذلك أياما
إلى أن بلغنا إلى نهر معقل ونحن سكارى فشد الزلال في الشط وأخذتني بولة
فصعدت إلى ضيعة بنهر معقل لأبول فحملني النوم فيها بالسكر ودفع الزلال
وأنا لا أعلم وأصبحوا فلم يجدوني ودخلوا البصرة ولم أنتبه إلا بحر الشمس
فجئت إلى الشط فلم أر لهم عينا ولا أثرا وقد كنت أجللت الرجل أن أسأله
بمن يعرف وأين داره من البصرة واحتشمت أن أسأل غلمانه عن ذلك فبقيت
على شاطئ نهر معقل كأول يوم بدأت بي المحنة وكأن ما كنت فيه منام
واجتازت بي سميرية فركبت فيها ودخلت البصرة وما كنت دخلتها قط فنزلت
390

خانا وبقيت متحيرا لا أدرى ما أعمل ولم يتوجه لي معاش إلى أن اجتاز بي
يوما إنسان عرفته من بغداد فتبعته لأكشف له حالي وأستميحه فأنفت من
ذلك ودخل الرجل إلى منزله فعرفته وجئت إلى بقال كان هناك على باب الخان
الذي نزلته فأعطيته دانقا وأخذت منه ورقة ودواة وجلست أكتب رقعة
إلى الرجل فاستحسن البقال خطى ورأي رثاثة ذلي فسألني عن أمرى فأخبرته
أنني رجل ممتحن فقير وقد تعذر على التصرف وما بقي مع شئ ولم أشرح
له أكثر من ذلك فقال أتعمل معي في كل يوم على نصف درهم وطعامك
وكسوتك وتضبط حساب دكاني قلت: نعم قال: أصعد فخرقت الرقعة وصعدت
فجلست معه ودبرت أمره وضبطت دخله وخرجه وان غلمانه يسرقونه
فأديت إليه الأمانة فلما كان بعد شهر رأى الرجل دخله زائدا وخرجه ناقصا
فحمدني فكنت معه كذلك شهورا ثم جعل رزقي في كل يوم درهما ولم يزل
حالي يقوى معه إلى أن حال عليه الحول وبان له الصلاح في أمره فدعاني
إلى أن أتزوج ابنته ويشاركني في الدكان ففعلت ودخلت بزوجتي فلزمت
الدكان والحال يقوى إلا أنني في خلان ذلك منكسر القلب ميت النشاط ظاهر
الحزن وكان البقال ربما شرب فيجتذبني إلى مساعدته فامتنع وأظهر أن ذلك
حزنا على موتى لي واستمرت بي الحال على هذا سنين فلما كان يوما رأيت
قوما يجتازون بخون ونبيذا اجتياز متصلا فسألت على ذلك فقالوا اليوم يوم
الشعانين ويخرج أهل الظرف واللعب بالشراب والطعام والقيان إلى الأبلة
فيرون النصارى ويشربون ويتفرجون فدعتني نفسي إلى التفرج وقلت لعلى
أقف لأصحابي على خبر لان هذا من مظانهم فقلت أريد أن أنظر هذا المنظر
فقال لي شأنك فأصلح لي طعاما وشرابا وسلم إلى غلاما وسفينة فخرجت وأكلت
في السفينة وبدأت أشرب حتى وصلت إلى الأبلة وأبصرت الناس وابتدأوا
ينصرفون فانصرفت فإذا بالزلال بعينه لقيته في أوساط الناس سائرا في نهر
الأبلة فتأملته فإذا بأصحابي على سطحه ومعهم عدة مغنيات فحين رأيتهم لم أتمالك
فرحا وطرحت إليهم فلما رأوني وعرفوني كبروا وأخذوني إليهم وقالوا:
ويحك أنت حي وعانقوني وفرحوا وسألوني عن قصتي وأخبرتهم بها على أتم
391

شرح فقالوا: إنا لما فقدناك في الحال وقع لنا أنك بالسكر وقعت في الماء
وغرقت ولم نشك في هذا فخرقت الجارية ثيابها وكسرت العود وجزت
شعرها وبكت ولطمت فما منعناها عن شئ من هذا ووردنا البصرة فقلنا لها
ما تختارين أن نعلم بك فقد كنا وعدنا مولاك بوعد تمنعنا المروءة من
استخدامك معه في حال فقده والاستمتاع بغنائك فقالت: تمكنوني من
القوت اليسير ولبس الثياب السود وان أعمل قبرا في بيت من الدار وأجلس
عنده وأتوب من الغنا فمكناها من ذلك فيه جالسة عنده إلى الآن وأخذوني
معهم فحين دخلت الدار رأيتها بتلك الصورة ورأتني فشهقت شهقة عظيمة
ما شككت في تلفها واعتنقنا فما افترقنا ساعة طويلة ثم قال لي مولاها خذها
فقلت: بل تعتقها وتزوجني بها كما وعدتني ففعل ذلك ودفع لي ثيابا كثيرة
وفرشا وقماشا وحمل لي خمسمائة دينار وقال هذا مقدار ما أردت أن أجرى
عليك في كل شهر من منذ أول دخولي البصرة وقد اجتمع طول هذه المدة
فخذه والجراية لك مستأنفة في كل شهر وشئ آخر لكسوتك وكسوة الجارية
والشرط في المنادمة وسماع الغنا من الجارية من وراء ستارة باق وقد وهبت
لك الدار الفلانية قال فجئت إليها فإذا بذلك الفرش والقماش الذي أعطانيه
فيها والجارية فجئت إلى البقال فحدثته حديثي وطلقت ابنته ووفيتها صداقها
وأقمت مع الجارية على تلك الحالة والهاشمي سنين وصرت رب ضيعة ونعمة
وعدت إلى قريب مما كنت عليه وأنا أعيش كذلك إلى الآن مع جاريتي.
حدثني أبو دوق الهراني عن الرباشي أن رجلا من أهل النعيم بالبصرة
اشترى صبية فأحسن أدبها وتعليمها وأحبها كل المحبة وأنفق عليها حتى أملق
ومسهما الضر الشديد فقالت له الجارية إني لأرثي لك يا مولاي مما أرى بك
من سوء الحال فلو بعتني واتسعت بثمني فلعل الله أن يصنع بك وأقع أنا
بحيث يحسن حالي فيكون بذلك أصلح لكل واحد منا قال: فحملها إلى السوق
فعرضت على عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي وهو أمير البصرة يومئذ
فأعجبته فاشتراها بمائة ألف درهم فلما قبض المولى الثمن وأراد الانصراف
392

استعبر كل واحد منهما إلى صاحبه باكيا وأنشأت الجارية تقول:
هنيئا لك المال الذي قد أخذته * ولم يبق في كفى غير التذكر
أقول لنفسي وهي في غشى كربة * أبكى فقد بان الحبيب وأكثري
إذا لم يكن للمرء عندك حيلة * ولم تجد شيئا سوى الصبر فاصبري
فاشتد بكاء المولى ثم أنشد يقول:
فلو لا قعود الدهر بي عنك لم يكن * يفرقنا شئ سوى الموت فاعذري
أروح بهم في الفؤاد مبرح * أناجي به قلبا طويل التفكر
عليك سلام الله لا زيارة بيننا * ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال ابن معمر: قد شئت فخذها ولك المال وانصرفا راشدين; فوالله
لا كنت سببا لرفقة مجتمعين
حدثني أبو الفرج علي بن الحسين المعروف بالأصبهاني املاء من حفظه
قال: حدثني الحسين بن يحيى المرقاشي قال: حدثنا حماد بن إسحاق بن إبراهيم
الموصلي قال لما دخل الرشيد البصرة حاجا فكنت معه فقال لي جعفر بن يحيى
يوما يا أبا محمد: قد وصفت لي جارية مغنية حسناء تباع وذكروا أن مولاها
ممتنع عن عرضها إلا في داره وقد عزمت أن أركب متخفيا فأعرضها
فتساعدني فقلت السمع والطاعة فلما كان في نصف النهار حضر النخاس فاعلم
بحضوره فخرج جعفر بعمامة وطيلسان ونعل عربية وأمرني فلبست مثل ذلك
وركبنا حمارين قد أسرجا لنا بسروج التجار، وركب النخاس معنا وتخللنا
الطريق حتى أتينا دار ذات باب شاهق يدل على نعمة قديمة فقرع النخاس
الباب وإذا شاب حسن الوجه عليه أثار ضر باد وعليه قميص ففتح وقال:
أنزلوا يا سادة فدخلنا وإذا بدهليز شعت ودار قوراء خراب منقوضة وإذا
في الدهليز بيت كالعامر مغلوق الباب فأخرج لنا الرجل منه قطعة من حصير
كبير خلق ففرشها لنا وجلسنا عليها وقال له النخاس أحضر لنا الجارية فقد
حضر المشترى فدخل البيت وإذا بجارية قد خرجت في القميص الغليظ الذي
393

كان على الفتى بعينه وهي فيه مع خشونته كأنها في الحلى والحلل لحسن ووجهها
وفى يدها عود فأمرها جعفر بالغناء فجسته وضربت ضربا واندفعت تغنى.
ان يمس حبلك بعد طول تواصل * خلقا ويصبح بيتكم مهجورا
فلقد رآني والجديد إلى بلى * دهرا بوصلك راضيا مسرورا
جذلا بمالي عندكم لا أبتغي * بدلا بوصلك خلة وعشيرا
كنت المنى وأعز من وطئ الحصى * عندي وكنت بذاك منك جديرا
قال ثم غلبها البكاء حتى منعها الغناء وسمعنا من البيت نحيب الفتى وقامت
الجارية تتعثر في قميصها حتى دخلت البيت فارتفعت لهما ضجة بالبكاء والشهيق
ثم خفتا حتى ظننا أنهما قد ماتا وهممنا بالانصراف فإذا الفتى قد خرج وعليه
ذلك القميص بعينه فقال: أيها القوم اعذروني فيما أفعله وأقوله فقال له
جعفر: قل فقال: أشهد الله وأشهدكم أن هذه الجارية حرة لوجه الله تعالى
وأسألكم أن تزوجوني بها فتحير جعفر أسفا على الجارية ثم خاطبها فقال:
أتحبين أن أزوجك من مولاك؟ قالت: نعم فقرروا الصداق وخطب زوجها
ثم أقبل على الفتى فقال له: يا هذا ما حملك على ما فعلت؟ فقال: حديثي طويل
ان نشطت له حدثتك فقال: لا أقل لمن أن نسمعه فلعلنا نبسط عذرك فقال:
أنا فلان بن فلان وكان أبى من وجوه أهل هذه البلد ومياسره وهو عارف
بهذا وأشار إلى النخاس وأنه أسلمني إلى الكتاب وكانت لامي صبية وسنها
قريب من سنى وهي جارتي هذه وكانت معي في الكتاب تتعلم ما أعلم وتنصرف
معي فبلغت ثم عطلت عن المكتب وعلمت الغناء فكنت لمحبتي بها أتعلمه منها
وعلق بقلبي منها حبا شديدا وبلغت فخطبني وجوه أهل البصرة لبناتهم فخيرني
أبى فأظهرت له الزهد في التزويج ونشأت متوفرا على الأدب متقلبا في نعمة
أبى غير متعرض لما يتعرض له الاحداث لتعلق قلبي بالصبية ورغبة أهل البلد
تزداد في وعندهم أن عفتي لصلاح وما كانت إلا لتعلق قلبي بالجارية وإن
شهوتي لا تتعداها لاحد وبلغت الجارية في الغناء ما قد سمعتموه فعزمت أمي
على بيعها وهي لا تعلم بما في نفسي منها فأحسست بالموت واضطررت إلى أن
صدقت أمي عن الصورة فحدثت أبى فأجمع رأيهما على أن وهبا الجارية لي
394

وجهزاها كما يجهز أهل البيوتات بناتهن وجليت على وعمل العرس الحسن
فنعمت معها دهرا فمات أبى فلم أحسن أن أرب نعمته فأسأت تدبيرها وأسرعت
في الأكل والشرب والقيان وأنا مع ذلك أجدد في كل يوم خمسين دينار
وأكثر ولا أتجاوزها في جماع أو حب إلى أن تلفت النعمة وأفضت الحال
إلى نقض الدار والفقر إلى ما ترون فأنا على هذا منذ سنين فلما كان هذا الوقت
بلغني دخول الخليفة ووزيره وأكثر مملكته بالبصرة فقلت لها يا أختي: إن
شبابك يبلى وعمرك في الدنيا ينقضى ووالله ما في نفسي رغبة في بيعك فإني
أعلم أنى تالف متى فارقتك ولكني أوثر تلفها مع وصولك إلى نعمة ورفاهية
فدعيني أعرضك فلعله يشتريك بعض هؤلاء الكتاب فتحصلي معه في رغد
من العيش فإن مت بعدك فتلك أمنيتي ويكون كل واحد منا قد تخلص من
الشقاء وإن حكم الله عز وجل على بالبقاء صبرت لفضل الله واضطربت في
معاشي بثمنك فبكت من ذلك وقلقت ثم قالت افعل فخرجت إلى هذا النخاس
وأطلعته على أمرى وقد كان يسمع غناها في أيام نعمتي وعرف حالها وحالي
وعلمته أنى لا أعرضها أبدا إلا عندي فإنها والله ما تسلقت عتبة هذه الدار
قط وأردت بذلك أن يراها المشترى وحده ولا تمتهن بسوق ولا دخول إلى
بيوت الناس وانه لم يكن لها ما تلبسه إلا قميصي هذا وهو مشترك بيننا ألبسه
إذا خرجت لابتياع القوت وتتشح هي بإزارها فإذا جئت إلى البيت ألبستها
إياه واتشحت أنا بالإزار فلا جئتما لعرضها خرجت فغنتكم فلحقني من البكاء
والقلق أمر عظيم ودخلت إلى وقالت لي: يا هذا ما أعجب أمرك أنت مللتني
وآثرت فراقي وتبكى هذا البكاء على فقلت: يا هذه والله لفراق نفسي أسهل
على من فراقك وإنما أردت أن تتلخصي من هذا الشقاء فقالت: والله يا مولاي
لو تملكت منك ما تملكته منى ما بعتك أبدا وأموت جوعا فيكون الموت هو
الذي يفرق بيننا فقلت لا عليك تريدين أن تعلمي صدق قولي قالت نعم قلت
هل لك أن أخرج الساعة إلى المشترى فأعتقك بين يديه وأتزوجك ثم أصير
معك على ما نحن عليه إلى أن يأتي الله بفرج أو صنع أو موت وراحة فقالت
إن كنت صادقا فافعل هذا فما أريد غيرك فخرجت إليكم وكان منى ما قد علمتم
395

فاعذروني فقال جعفر: أنت معذور ونهض فنهضت والنخاس فلما قدمت
الحمير لنركب دنوت منه فقلت: يا سبحان الله مثلك في جودك ترى هذه
الكرامة ولا تنتهز الفرصة فيها والله لقد تقطع قلبي على الفتى فقال: ويحك
وقلبي والله. ولكن غيظي من فوت الجارية منعني من التكرم عليه فقلت:
فأين الرغبة في الثواب فقال: صدقت والله، ثم التفت إلى النخاس فقال له:
كم كان الخادم سلم إليك عند ركوبنا لثمنها قال: ثلاثة آلاف دينار قال: فأين
هي؟ قال: مع غلامي فقال لي وللنخاس خذاها وادفعاها إلى الفتى وقولا له
يكتسى ويركب ويجيئني لأحسن إليه وأستخدمه فرجعت إلى الفتى وأنا
أبكى فقلت له قد عجل الله عز وجل عليك بالفرج ان الذي خرج من عندك
هو الوزير الأمير جعفر بن يحيى البرمكي وقد أمر لك بهذا وهو يقول لك
كذا وكذا قال: فصعق حتى قلت قد تلف ثم أفاق فأقبل يدعو ويشكرني
فركبت فلحقت بجعفر فأخبرته فحمد الله عز وجل على ما وفقه له وعاد إلى
داره وأنا معه فلما كان العشاء جئنا إلى الرشيد فأخذ يسأل جعفر عن حاله في
يومه وهو يخبره بالأمور السلطانية ثم فاوضه فيما سوى ذلك إلى أن قص
عليه حديث الفتى والجارية فقال له الرشيد: فما عملت فأخبره فاستصاب رأيه
وقال: وقع له برزق سلطاني في رسم أرباب النعم في كل شهر كذا وكذا
واعمل بعد ذلك ما شئت فلما كان من الغد جاءني الفتى راكبا بثياب حسنة
وهيئة جميلة وإذا هو أحلى الناس كلاما وأتمهم أدبا فحملته معي إلى جعفر
وأوصلته إلى مجلسه فأمر بتسهيل وصوله إليه وخلطه بحاشيته ووقع له عن
الخليفة بما كان رسمه له وعن نفسه بشئ آخر وشاع حديثه بالبصرة وفى
أهل العسكر فلم يبق فيهما متغزلا ولا متظرف إلا أهدى إليه شيئا جليلا فما
خرجنا من البصرة إلا وهو رب نعمة صالحة
ووجدت هذا الخبر بخلاف هذا على ما ذكره أبى علي بن محمد بن الحسن
بن جهور العجمي البصري الكاتب في كتابه " كتاب السمار والندماء ". فزعم أن
الرشيد لما حج كان معه إبراهيم الموصلي واقتص الخبر على قريب مما ذكرناه
وأن الجارية بدأت فغنت بصوت من صنعة إبراهيم وهو.
396

نمت علينا زفرة صاعدة * وملني العائد والعائدة
يا رب كم فرجت من كل كربة * عنى فهذه المرة الواحدة
وإن الذي حضر لتقليب الجارية الرشيد وجعفر بن يحيى متنكرين
ومعهما إبراهيم الموصلي والنخاس وانهم انصرفوا وقطعوا الثمن على مائتي
ألف درهم ثم عادوا بالمال معهم فأمروا بإعادة التقليب فخرجت الجارية
فغنت لإبراهيم أيضا
ومن عادة الأيام أن صروفها * إذا سر منها جانب ساء جانب
وما اعرف الأيام إلا ذميمة * ولا الدهر إلا وهو بالثار طالب
ثم ذكر بقية الحديث على قريب من هذا. وفى الخبر الأول زيادات
ليست في حديث ابن جهور * وبلغني خبر لجعفر بن يحيى مع جارية تقارب
هذا اخبرني به أبو محمد الحسن أبو عبد الرحمن بن خلاد الوانهرزي خليفة
أبى على القضاء بها قال: أخبرنا محمد بن الصلت الجماني قال: حدثني بيلخ وشير
النخاسان قالا: أرسل إلينا جعفر بن يحيى البرمكي يطلب جارية قوالة ذات
أدب وظرف على صفة ذكرها وحدها فبقينا نجيل الرأي ونخوض في
ذكرهن ونتواصف من يعرف منهن وإلى جانبنا شيخ من أهل الكوفة
يسمع كلامنا فاقبل علينا فقال عندي بغية الوزير فانهضوا ان شئتم لتنظروا
إليها فنهضنا معه حتى إذا وصلنا إلى داره وجدناها ظاهرة الاختلال ولم نر
فيها إلا مسحا خلقا وثلاث قصبات عليها مسرجة فارتبنا لقوله لما ظهر من
سوء حاله ثم صوت بها فخرجت والله إلينا جارية والله كأنها فلقة قمر تنثني
كالقصب فاستقراها فقرأت آيات من القرآن حركت منا ما كان ساكنا
واتبعتها بقصيدة مليحة شوقتنا وأطربتنا فقلنا أصناع؟ وأشرنا إلى يدها
فقالت: نعم علمت العود وأنا صغيرة فقلنا أتحفينا به فقالت سبحان الله وهل
يصلح ذلك العود الا لمولى مالك ان دعاني إليه فعلته. قال: وراح الرسول
إلى جعفر فأخبره بما شاهده فلم يتمالك جعفر حين سمع بقصة الجارية حتى
استنهض الرسول إلى منزل الشيخ وتبعه حتى دخل عليه وسأله اخراجها إليه
397

ففعل فلما رآها جعفر أعجب بها قبل أن يستنطقها ثم استنطقها فأخذت بمجامع
قلبه فقال لمولاها: قل ما تشاء فقال الشيخ: لست أحدث أمرا حتى استأذنها
ولولا الضر الذي نحن فيه ما عرضتها ولكن حالي ما يشاهده الوزير ووراء
ذلك دين كثير قد قدحني ومن أجله فارقت وطنى وعرضت على البيع ثمرة
قلبي فقال جعفر فما مقدار ما في نفسك إن أردت بيعها قال ثلاثون ألف دينار
قال جعفر: فهي لك ان بعتنيها فلما سمعت ذلك استعبرت فلما رأى الشيخ
استعبارها أقبل على جعفر ومن حضر معه فقال أشهدكم أنى قد أعتقتها وجعلت
صداقها والله لا ملكتها أحدا أبدا فغضب جعفر وأقبل من حضر على الشيخ
يؤنبونه ويستجهلونه ويقولون: ضيعت هذا المال الجليل وعجلت وحمقت
فقال الشيخ: النفس أولى أن يبقى عليها من المال والرزاق الله عز وجل وعاد
جعفر إلى أبيه فأخبره بما كان من الرجل والجارية فقال أبوه له: فما صنعت
بهما قال تركنهما وانصرفت قال: ويحك ما أنفت أن تنصرف عن متحابين
مثلهما فقيرين لا نجبر حالهما أرضيت أن يكون الكوفي أسمح منك ودعا بغلام
فحمل معه إلى الشيخ ثلاثين ألف دينار على بغل فلما وصل المال إلى الشيخ
أخذه وحمد الله عز وجل وعاد بالجارية والمال إلى منزله بالكوفة.
وجدت في بعض كتبي أن عمرو بن شيبة قال: حدثني أبو غسان قال:
أخبرني بعض أصحابنا أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما
اشترى جارية من مولدات أهل مكة وكان يتعشقها غلام من أهلها فقدم في
أثرها المدينة فنزل قريبا من منزل عبد الله بن جعفر ثم جعل يلطف عبد الله
بظرائف مكة حتى عرفه وجعلت الجارية تراسله فأدخلته ليلة في اصطبل
دواب عبد الله بن جعفر فعبر عليه السايس فأعلم عبد الله بن جعفر فأتى به
فقال: مالك قبحك الله أبعد تحرمك بنا تتعرض لحرمنا قال: لا انك لما ابتعت
الجارية كنت لها محبا وكانت تجدني مثل ذلك قال: فدعا الجارية فسألها فجاءت
بمثل قصة الفتى فقال: خذها فهي لك. فلما كان بعد ذلك بقريب عشق عبد السلام
ابن أبي سليمان مولى أسلم جارية لآل طلحة ابن عبد الله بن معمر التميمي يقال
398

لها رواح فطلبها منهم ورجا أن يفعلوا به مثل ما فعل ابن جعفر بالفتى المكي
فلم يفعل الطلحيون ذلك فسأل في ثمنها حتى اجتمع له فاشتراها منهم وقال
عبد السلام:
وأنت فلا تعدل نوال بن جعفر * وأين لعمري من نوال بن معمري
يطير لذي الجنات هذا لفضله * وقد قص هذا في الجحيم المسعر
وقد كان في عصرنا ما يقارب مثل هذا وهو ما حدثني به أبو الحسن على
ابن عمر الدارقطني الحافظ قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الجرجاني الفقيه
الذي كنا ندرس عليه مذهب الشافعي قال: كنا ندرس على أبي إسحاق
المروزي الشافعي وكان يدرس عليه معنا فتى من أهل خراسان له والد هناك
يوجد إليه في كل سنة مع الحجاج قدر نمقته للسنة فاشترى جارية فوقعت في
نفسه وألفته وألفها وكانت معه سنين وكان رسمه أن يستدين في كل سنة دينا
بقدر ما يعجز عن نفقته فإذا جاء ما ينفذه إليه أبوه قضى دينه وأنفق الباقي
مدة ثم عاد إلى الدين فلما كان سنة من السنين جاء الحجاج وليس معهم نفقة
من أبيه فسألهم عن ذلك فقالوا ان أباك اعتل علة عظيمة صعبة فاشتعل بنفسه
فلم يتمكن من إنفاذ شئ معنا قال: فقلق الفتى قلقا شديدا وخاف غرماؤه
يطالبونه بالعادة في قضاء الدين وقت الموسم فاضطرب وأخرج الجارية إلى
النخاسين فعرضها وكان الفتى ينزل بقرب منزلي ويختلف إلى مجلس الفقه ولا
يكاد يفترق فباع الجارية بألف درهم وكسر لينفق منها على غرمائه قدر مالهم
ويتمرر بالباقي وعند رجوعنا من النخاسين كان قلقا موجعا فلما كان الليل
لم أشعر إلا وبابي يدق ففتحته فإذا بالفتى فقلت: مالك؟ فقال: قد امتنع على
النوم وحشة للجارية وشوقا إليها قال: ووجدته من القلق على أمر عظيم حتى
أنكرت عقله فقلت ما تشاء قال: لا أدرى وقد سهل الله على أن ترجع الجارية
إلى ملكي وأبكر غدا فأقر لغرمائي بما لهم واحتبس في حبس الحاكم إلى
أن يفرج الله عز وجل ويجيئني من خراسان نفقتي في العام المقبل بعد أن
تكون الجارية في ملكي فقلت له: أنا أكفيك ذلك في غد إن شاء الله واعمل
في رجوع الجارية إليك إذا كنت وقد وطنت نفسك على هذا قال: وبكرنا
399

إلى السوق فسألنا من اشترى الجارية؟ فقالوا: امرأة من دار أبى بكر بن أبي
حامد الخرساني صاحب بيت المال فجئنا إلى مجلس الفقه فشرحت لأبي إسحاق
المروزي بعض حديث الفتى وسألته أن يكتب إلى أبى بكر بن أبي حامد رقعة
يسئله فيها فسخ البيع والإقالة وأخذ الثمن ورد الجارية فكتب رقعة مؤكدة
في ذلك فقمت وأخذت بيد الخراساني صديقي وجئت إلى أبى بكر بن أبي
حامد فإذا مجلس حاشد فأمهلنا حتى خف فدنوت أنا والفتى فعرفني وسألني
عن المروزي فقلت هذه رقعته في حاجة له فلما قرأها قال أنت صاحب الجارية
قلت: لا ولكنه صديقي هذا وأومأت إلى الخراساني وقصصت عليه القصة
في سبب بيعه الجارية فقال لي والله ما أعلم انني ابتعت جارية ولا ابتيعت لي
فقلت ان امرأة جاءت فابتاعتها وذكرت انها من دارك فقال يجوز. يا فلان:
فجاء خادم فقال ادخل إلى دور الحرم وسل عن جارية ابتيعت أمس فلم يزل
يدخل ويخرج من دار إلى أخرى حتى وقع عليها فقال عثرت؟ فقال نعم فقال
أحضرها فأحضرت فقال لها: من مولاك فأومأت إلى الخراساني فقال لها:
أتحبين أن أردك عليه فقالت: والله ليس مثلك من يختار عليه ولكن لمولاي
حق التربية فقال هي كيسة عاقلة قال: فاخرج الخراساني الكيس وتركه بحضرته
فقال للخادم امض إلى الحرم فقل لهن ما كنتن وعدتن به هذه الجارية من
إحسان وبر فعجلنه الساعة فجاء الخادم بأشياء لها قدر فدفعها إليها ثم قال
للخراساني خذ كيسك فاقض منك دينك ووسع بباقيه على نفسك وعلى جاريتك
والزم الدرس فقد أجريت لك في كل شهر قفيز دقيقا ودينارين تستعين بها في
دارك فوالله ما انقطعت عن الفتى حتى مات.
قال مؤلف هذا الكتاب: وجدت هذا الخبر مستفيضا ببغداد وأخبرت به
على جهات مختلفة الا أنني أذكر بعض الطرق الاخر التي بلغتني.
حدثني أحمد بن عبد الله عن شيخ من دار القطن ببغداد قال: كان لأبي
بكر بن أبي حامد جارية ظريفة وكان ثم رجل يعرف بعبد الرحمن الصيرفي
باعها له بثلاثمائة دينار وكان يهواها فلما جاء الليل استوحش لها وحشة
400

شديدة ولحقه من القلق والهيام والجنون والأسف على فراقها ما منعه من
النوم، ولحقه من البكاء والسهر ما كاد يخرج نفسه فلما أصبح خرج إلى دكانه
ليتشاغل بالنظر في أمره فلم يكن إلى ذلك سبيل وزاد عليه القلق والشوق
فأخذ ثمن الجارية وجاء إلى دار أبى بكر بن أبي حامد ودخل ومجلسه حافل
فسلم وجلس في أخريات الناس إلى أن انفضوا فلما لم يبق منهم غير أبى بكر
ابن أبي حامد. قال له: إن كانت لك حاجة فاذكرها؟ فحصر وجرت دموعه
وشهق فرفق به ابن أبي حامد وقال له: قل عافاك الله ولا تستحى. قال: بعت
أمس جارية كانت لي أحبها واشتريت لك أطال الله بقاك وقد أحسست بالموت
أسفا عل فراقها وأخرج الثمن ووضعه بحضرته وقال: أنا أسألك أن ترد
على حياتي بأخذ هذه الدنانير وإقالتي البيع. قال فتبسم له ابن أبي حامد وقال:
فلما كانت بهذا المحل من قلبك فلم بعتها؟ قال أنا رجل صيرفي وكان رأس مالي
ألف دينار فلما اشتريتها تشاغلت بها عن لزوم الدكان فبطل كسبي وكنت
أنفق عليها من رأس مالي نفقة لا يحتملها مالي فلما مضت مدة خشيت الفقر
ونظرت فإذا لم يبق معي من رأس مالي إلا ثلثه أو أقل وصارت تطالبني
من النفقة بما أن أطعتها فيه حتى ذهبت هذه البقية فلما منعتها ساءت أخلاقها
على، وتنغصت عيشتي فقلت أبيعها وأرد ثمنها فيما اختل من دكاني، ويستقيم
عيشي وأستريح من أذاها وأتصبر على فراقها وينضبط أمرى بسقوط النفقة
على وتوفري على التجارة ولم أعلم أنه يلحقني هذا الامر العظيم وقد آثرت
الفقر الآن بأن تحصل لي الجارية فان الموت أسهل مما أنا فيه. فقال ابن أبي
حامد يا فلان: فجاء خادم أسود فقال أخرج الجارية التي اشتريت لنا أمس.
قال: فأخرجت الجارية. قال: يا بنى إن مثلي لا يطأ قبل الاستبراء والله ما
وقعت عيني عليها منذ اشتريت إلى الآن وقد وهبتها لك فخذها وخذ دنانيرك
بارك لك فيها ورد الدنانير إلى دكانك. ثم قال للخادم هات ألف درهم فجاء
بها. فقال للجارية: قد كنت عملت على أن أكسوك فجاء من أمر مولاك
ما رأيت، وليس من المروءة منعه منك فخذي هذا الدراهم واتسعي بها على
401

نفسك ولا تحملي مولاك ما لا يطيق فيفتقر ويحتاج لبيعك وأين تجدين من يرغب
فيك مثل رغبته فاعرفي له حق هذه المحبة، وهذه الألف درهم لك عندنا كل
سنة يجئ مولاك ويأخذها لك إذا شكرك ورضى طريقك، ثم قال له لا تنفق
عليها إلا بقدر طاقتك وهذه الألف درهم لها في كل سنة كفاية مع ما تطيقه
أنت من الانفاق عليها وتوفر على دكانك ومعاشك وليس كل وقت يتفق
لك ما اتفق الآن، فقام الرجل وقبل يديه ورجليه وجعل يبكى ويدعوا له
ورجع إلى بيته بماله وجاريته وأصلح دكانه ومعيشته وفرج الله عز وجل
ما كان من الشدة وكان ما فعله أبو بكر بن أبي حامد سببا لصلاح حاله.
ويشبه هذا الحديث ما وجدته في كتاب أعطانيه أبو الحسين عبد العزيز
ابن إبراهيم المعروف بابن حاجب النعمان وهو يومئذ كاتب الوزير المهلبي
على ديوان السواد وذكر أنه نسخه من كتاب أعطاه له أبو الحسن الخصيبي
وكان فيه اصلاحات بخط ابن مابيداد: اشترى الحسن بن سهل من القسطاطي
التاجر جارية بألف دينار فحملت إلى منزل الحسن وكتب للقمطاطي بثمنها
فأخذ الكتاب إحالة عليه بالمال وانصرف فوجد منزله مفروشا نظيفا وفيه
ريحان قد عبى تعبية حسنة ونبيذا قد صفى فقال ما هذا فقيل له جاريتك التي
بعتها الساعة أعدت لك هذا لتنصرف إليها فبعتها قبل انصرافك. قال:
فقام القسطاطي فرجع إلى الحسن وقال: أيها الأمير أقلني بيع الجارية أقالك
الله في الآخرة فقال ما إلى هذا سبيل وما دخلت قط دارنا جارية فخرجت
منها. قال أيها الأمير: إنه الموت. قال وما ذلك؟ فقص عليه القصة وبكى ولم يزل
يتضرع فرق له الحسن ورد الجارية عليه وقال له الألف دينار لا يرجع إلى
ملكي منها دينار واحد فأخذ القسطاطي الجارية والدنانير وعاد إلى منزله
وجلس مع جاريته على ما أعدته له.
عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال غدوت يوما وأنا ضجر من ملازمة
دار الخلافة والخدمة فيها وركبت بكرة وعزمت على أن أطوف
402

الصحراء وأتفرج بها فقلت لغلماني إن جاء رسول الخليفة فعرفوه انى بكرت
في مهم لي وانكم لا تعرفون أين توجهت ومضيت وطفت ما بدا لي ثم عدت
وقد حمى النهار فوقفت في شارع المخزم في الظل عند جناح رحب في الطريق
لأستريح فلم ألبث ان جاء خادم يقود حمارا فارها عليه جارية راكبة تحتها
منديل ديبقي وعليها من اللباس الفاخر مالا غاية ورائه ورأيت لها قواما حسنا
وطرفا فاتنا وشمائل ظريفة فحدثت أنا مغنية فدخلت الدار التي كنت واقفا
عليها وعلقها قلبي في الوقت علوقا شديدا لم أستطع معه البراح فلم ألبث إلا
يسيرا حتى أقبل رجلان شابان جميلان لهما هيئة تدل على قدرهما راكبان
فاستأذنا فأذن لهما فحملني حب الجارية على أن نزلت معهما ودخلت بدخولهما
فظنا أن صاحب الدار دعاني، وظن صاحب الدار أنى معهما فجلسنا فأتى بالطعام
فأكلنا وبالشراب فوضع وخرجت الجارية وفى يدها عود فرأيتها حسناء
وتمكن ما في قلبي منها وغنت غناء صالحا وشربنا وقمت قومة للبول فسأل
صاحب المنزل من الفتيين عنى فأخبراه أنهما لا يعرفانني فقال: هذا طفيلي ولكن
ظريف فاجملوا عشرته وجئت فجلست وغنت الجارية في لحن لي:
ذكرتك إذ مرت بنا أم شادن * امام المطايا تستريب وتطمح
من المولعات الرمل ادماء حرة * شعاع الضحى في بيتها يتوضح
فأدته أداء صالحا ثم غنت أصواتا فيها من صنعتي.
الطول الدوار * فارقتها الأوانس
أوحشت بعد أهلها * فهي قفر يابس
فكان أثرها فيه أصلح من الأول ثم غنت أصواتا من القديم والمحدث
وغنت في أضعافها من صنعتي في شعري.
قل لمن صد عاتبا * ونأى عنك جانبا
قد بلغت الذي أرد * ت وإن كنت لاعبا
واعترفنا بما ادعيت * وإن كنت كاذبا
فكان أصلح مما غنته، فاستعدته منها لا صححه لها فأقبل على رجل منهم
فقال: ما رأيت طفيليا أصفق وجها منك. لم ترض بالتطفل حتى اقترحت وهذا
403

تصديق المثل طفيلي ويقترح، فأطرقت ولم أجبه وجعل صاحبه يكفه عنى فلم
يكف ثم قاموا إلى الصلاة وتأخرت وأخذت العود وأشددت طبقته وأصلحته
إصلاحا محكما وعدت إلى موضعي فصليت وعادوا وأخذ الرجل في عربدته
على وأنا صامت ثم أخذت الجارية العود وجسته فأنكرت حال وقالت: من
مس عودي؟ فقالوا: ما مسه أجد قالت: بلى والله قد مسه حاذق متقدم وشد
طبقته وأصلحه إصلاح متمكن من صنعته. فقلت لها: أنا أصلحته قالت: بالله
عليك خذه فاضرب به فأخذته وضربت مبدأ عجيبا فيه نقرات محركة فما بقي
في المجلس أحد إلا ووثب فجلس بين يدي وقالوا: بالله عليك يا سيدنا أتغني؟
قلت نعم وأعرفكم نفسي أيضا أنا إسحق بن إبراهيم الموصلي وإني والله لآتيه
على الخليفة وأنتم تشتموني اليوم لأني تملحت معكم بسبب هذه الجارية ووالله
لا نطقت بحرف ولا جلست معكم أو تخرجوا هذا المعاند ونهضت لأخرج
فتعلقوا بي فلم أرجع فلحقتني الجارية فتعلقت بي فلنت وقلت: لا أجلس حتى
تخرجوا هذا البغيض. فقال له صاحبه: من هذا كنت أخاف عليك فأخذ
يعتذر فقلت أجلس ولكن والله لا أنطق بحرف وهو حاضر فأخذوا بيده
وأخرجوه فبدأت أغنى بالأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي فطرب
صاحب البيت طربا شديدا وقال هل لك في أمر أعرضه عليك: فقلت وما هو؟
قال تقيم عندي شهرا والجارية والحمار لك مع ما عليه من حلية وللجارية
من كسوة فقلت أفعل فأقمت عنده ثلاثين يوما لا يعرف أحد أين أنا
والمأمون يطلبني في كل موضع فلم يعرف لي خبرا فلما كان بعد ذلك سلم
إلى الجارية والحمار والخادم وجئت بذلك إلى منزلي وهو في أقبح صورة لخبري
وتأخري عنهم وركبت إلى المأمون من وقتي فلما رآني قال لي يا إسحاق
ويحك أين أنت. وأين تكون؟ فأخبرته بخبري فقال على بالرجل الساعة فدللتهم
على بيته فأحضر فسأله المأمون عن القصة فأخبره بها فقال أنت ذو مروءة
وسبيلك أن تعاون عليها فأمر له بمائة ألف درهم وقال: لا تعاشر ذاك المعربد
السفل. فقال معاذ الله يا أمير المؤمنين وأمر لي بخمسين ألف درهم وقال لي
أحضر الجارية فأحضرته إياها فغنته فقال لي قد جعلت لها توبة كل يوم
404

ثلاثاء تغنيني من وراء الستارة مع الجواري وأمر لها بخمسين ألف درهم
فربحت والله بتلك الركبة وأربحت.
عن نمير بن خلف الهلالي قال: كان منا فتى يقال له سيرين بن عبد الله ويعرف
بالأشتر كان يهوى جارية من قومه يقال لها جيداء وكانت ذات زوج وشاع
خبره في حبها فمنع منها وضيق عليه حتى لم يقدر ان يلم بها فجاءني يوما فقال
يا أخي: قد بلغ من الوجد وضاق على الصدر فهل تساعدني على زيارتها
فأجبته فركبنا وسرنا يومين حتى نزلنا قريبا من حيها فكمن في موضع وقال لي
اذهب إلى القوم فكن ضيفا فيهم ولا تذكر شيئا من أمرنا حتى ترى راعية
لجيداء صفتها كذا وكذا فتعلمها خبري وتأمرها بأخذ موعد منها فمضيت وفعلت
ما أمرني به حتى لقيت الراعية فخاطبتها فمضت إلى جيداء وعادت وقالت موعدك
الليلة عند تلك الشجرة من موضع كذا فمضيت إليه وجلسنا عند الشجرة إلى
الوقت المعلوم فإذا بجيداء قد أقبلت فوثب الأشتر يقبل عينها فقمت موليا
عنهما فقالا نقسم عليك إلا رجعت فوالله ما بيننا ما نستره عليك فرجعت وجلسنا
نتحدث فقال لها يا جيداء ما فيك من المصاحبة الليلة فنتعلل بها قالت لا والله إلا
بأن يعود حالي وإلى ما تعرف من البلاء والشدة فقال ما من ذلك بد ولو وقعت
السماء على الأرض. فقالت هل في صاحبك هذا خير؟ فقلت أي والله فقالت:
وقد خلعت ثيابها خذها وألبسها وأعطني ثيابك ففعلت فقالت: اذهب
فان زوجي سيأتيك بعد العتمة يطلب منك القدح ليحلب فيه الإبل فلا
تدفعه إليه من يدك فهكذا كنت أفعل به ودعه بين يديه فإنه سيذهب
فيحلب فيه ثم يأتيك به فيقول هاك غبوقك فلا تأخذه منه حتى تطيل
نكدك عليه ثم تأخذه أو تدعه حتى يضعه هو ثم لست تراه حتى يصبح
فذهبت وفعلت ما أمرتني وجاء بالقدح فلم آخذه وأطلت النكد عليه ثم أهويت
لآخذه وأهوى ليضعه فاختلفت أيدينا فانكفأ القدح فقال إن هذا الطماح مفرط
وضرب بيده إلى سوط ثم تناول جمتي فضرب ظهر بذل السوط ثلاثين فجاءت
أمه وأخته وانتزعاني من يده بعد أن زال عقلي وهممت أن أوجئه بالسكين فلما
405

خرجوا عنى لم ألبث إلا يسيرا، فإذا بأم جيداء قد دخلت على تكلمني
وتزبرني. فلزمت الصمت والبكاء فقالت يا بنيتي: اتق الله وأطيعي زوجك
أما الأشتر فلا سبيل لك إليه، وأنا أبعث إليك أختك الليلة. ثم مضت وبعثت
إلى الجارية فجعلت تكلمني وتدعو على من ضربني وتبكى وأنا ساكت ثم
اضطجعت إلى جنبي فشددت يدي على فمها وقلت: يا جارية ان أختك مع
الأشتر، وقد قطع ظهري بسببها، وأنت أولى بسترها منى وإن تكلمت بكلمة
فضحتيها، وأنا لست أبالي. فاهتزت مثل القضيب فزعا ثم ضحكت. وباتت
معي أظرف الناس، ولم نزل نتحدث حتى برق الفجر. ثم خرجت وجئت
إلى أصحابي فقالت جيداء: ما الخبر؟ فقلت: سلى أختك عنه فلعمري أنها عالمة
به، ودفعت إليها ثيابها وأريتها ظهري. فبكت وجزعت ومضت مسرعة وجعل
الأشتر يبكى وأنا أحدثه وارتحلنا.
عن بعضهم قال: حضرت في دعوة عند صديق لي من البزازين، كان
مشهورا. فقدم إليه في جملة طعامه داجيراجه فلم يأكلها فامتنعنا من أكلها.
فقال: أحب أن تأكلوا وتعفوني من أكلها. فلم ندعه حتى أكل فلما غسلنا
أيدينا انفرد يغسل يديه، ووقف غلام يعد عليه حتى قال: لقد غسلت يدك
أربعين مرة. فقطع الغسل فقلنا: ما سبب هذا؟ فامتنع فألححنا عليه فقال:
مات أبى وسني نحو العشرين سنة وخلف على حالا ضعيفة، وأوصاني قبل
موته بقضاء ديونه، وملازمة السوق وأن أكون أول داخل إليها وآخر من
يخرج منها فرأيت في ذلك منافع كثيرة وبينما أنا جالس ذات يوم، ولم يتكامل
السوق إذ بامرأة راكبة حمارا على كفله منديل ديبقي، وخادم يمسك العنان
فنزلت عندي فقمت إليها ولزمتها وسألتها عن حاجتها فطلبت شيئا من الثياب
ذكرته، فسمعت منها أحسن نغمة، ورأيت وجها لم أر أحسن منه قط.
فذهب على أمرى وهمت بها في الحال. فقلت: تصبري حتى يتكامل السوق
وآخذ لك ما تريدين. فأجابت، وأخذت تحادثني، وأنا كدت أن أموت عشقا
وخرج الناس فأخذت لها ما أرادت فجمعته وركبت، ولم تخاطبني في ثمنه
406

بحرف، وكان يبلغ الخمسة آلاف درهم فلما غابت عن عيني أفقت وأحسست
بالفقر، وقلت: محتالة خدعتني بكشف وجهها ورأتني حدثا ولم أكن سألتها
عن منزلها، ولا طالبتها بالثمن لدهشتي بها فكتمت خبري لئلا أفتضح وأتعجل
المكروه، وعملت على اغلاق دكاني وأن أبيع كل ما فيه وأفي الناس حقوقهم
وأجلس في بيتي مقتصرا على شئ يسير من عقار خلفه أبى فلما كان بعد
أسبوع إذا بها قد باكرتني ونزلت عندي. فحين رأيتها أنسيت ما كنت فيه،
وقمت إليها اجلالا. فقالت: يا فتى قد تأخرنا عنك وما شككنا أن قد روعناك
وظننت أننا احتلنا عليك؟ فقلت قد رفع الله قدرك عن هذا. فاستدعت
الميزان ووفتني دنانير بقيمة ما قلت لها أنه ثمن المتاع، وأخذت تذكر متاعا
آخر. فأجلسنها أحدثها وأتمتع بالنظر إليها إلى أن تكاملت السوق فقمت
فدفعت إلى كل إنسان ممن كان له شئ ماله، وطلبت منهم ما أردت فأعطوني
فجئت به معي فأخذته وانصرفت ولم تخاطبني في ثمنه، ولا خاطبتها في صفة
موضعها بحرف فلما غابت عن عيني ندمت وقلت المحنة هذه لأنها أعطتني خمسة
آلاف درهم وأخذت متاعا ثمنه ألف دينار، والآن لم أقف لها على خبر فليس
إلا الفقر وبيع المحكم لمتاع الدكان وما ورثته من أبى وتطاولت غيبتها عنى
أكثر من شهر وأخذ التجار يشدون على المطالبة فعرضت عقاري على البيع
وأشرفت على الهلاك، وأنا في ذلك وإذا بها قد نزلت عندي فحين رأيتها
ورأتني زال عنى الفكر، وأنسيت ما كنت فيه وأقبلت على تحادثني وقالت:
هات الطيار. فوزنت لي بقيمة المال فأخذت أطاولها، ونشطت لكلامها
فباسطتني فكنت فرحا وخجلا إلى أن قالت قل لك زوجة؟ فقلت: لا والله
يا ستي ما عرفت امرأة قط وبكيت. فقالت: مالك؟ قلت: خيرا، وأخذت بيد
خادمها، وأخرجت إليه دنانير كثيرة، وسألته التوسط بيني وبينها. فضحك
وقال: انها والله أعشق منك لها وما بها حاجة إلى ما اشترته منك وإنما
تجيئك لمطالبتك فخاطبها بما تريد فإنها تقبله، وتستغني عنى فعدت وقلت لها
إني مضيت لأنقد الدنانير. فضحكت وكانت قد رأتني مع الخادم فقلت:
يا ستي الله الله في دمى، وخاطبتها بما في نفسي فأعجبها ذلك، وقبلت الخطاب
407

أحسن قبول ثم قالت: الخادم يجيئك برسالتي بما تعمله، وقامت ولم تأخذ
ثيابا فوفيت الناس أموالهم، وحصل لي ربح واسع واغتممت غما شديدا
خوفا من انقطاعها عنى ولم أنم ليلتي قلقا وحزنا فلما كان بعد أيام جاءني الخادم
فأكرمته وأعطيته دنانير وسألته عنها قال: هي والله عليلة شوقا إليك. قلت:
فاشرح لي أمرها. قال: هذه صبية ربتها السيدة أم المقتدر، وهي من أخص
جوارها واشتهت رؤية الناس، والدخول والخروج فتوصلت إلى أن صارت
تخلف القهرمانة فتخرج لقضاء بعض الحوائج فترى الناس، وقد والله
حدثت السيدة بحديثك، وسألتها أن تزوجها منك فقالت: لا أفعل حتى أراه
فإن كان يستحقك وإلا لم أدعك باختيارك، ويحتاج أن تحتال في دخولك
الدار بحيلة ان تمت وصلت إلى حاجتك وإن انكشفت ذلك ضرب عنقك
فما تقول؟ قلت اصبر على هذا. فقال: إذا كان الليلة فأعبر المخزم وأدخل
المسجد الذي بنته السيدة على شاطئ دجلة، وعلى الحائط الآخر مما يلي دجلة
اسمها مكتوب بالاجر المقطوع (وهو المسجد الذي سد بابه الآن سبكتين
الحاجب الكبير مولى معز الدولة المعروف بشاشنكير وأدخله إلى ميدان داره
وجعله مصلى لغلمانه) فبت فيه تصل لمشتهاك. ففعلت فلما كان السحر إذا
بطيار لطيف قد قدم، وخدم قد نقلوا صناديق فارغة وجعلوها في المسجد،
وانصرفوا وبقى منهم واحد فتأملته فإذا هو الواسطة بيني وبينها ثم ظهرت
الجارية فاستدعتني فقمت وعانقتها وقبلت يدها، وقبلتني قبلا كثيرة وتحدثنا
ساعة ثم أجلستني في واحد من الصناديق كبير وأقفلته وأقبل الخدم يتراجعون
بثياب وماء ورد وعطر، وأشياء قد أحضروها من مواضع ففرقت في باقي
الصناديق، وأقفلت ثم حملت الصناديق في الطيار وانحدر فلحقني أمر عظيم
من الندم وقلت قتلت بشهوة لعلها لا تتم ولو تمت ما ساوت قتل نفسي، وأقبلت
أبكى وأدعو الله عز وجل وأتوب إليه وأنذر إلى أن حملت الصناديق بجهازها
في دار الخليفة، وحصل صندوقي خادمان أحدهما الواسطة ومشت هي أمام
الصندوق، والصناديق كلها خلف صندوقي. فلما اجتازت بطائفة من الخدم
الموكلين بأبواب الحرم. قالوا: نريد نفتش الصناديق فكانت تصيح على
408

بعضهم وتشتم بعضهم، وتدارى بعضم إلى أن انتهينا إلى خادم ظننته رئيس
القوم فخاطبته بفزع وخضوع وذلة، وحقق أن لابد من فتح الصناديق.
فبدأ بصندوقي فأنزله فحين حسست بذلك ذهب عقلي وغاب على أمرى وبلت
في الصندوق فزعا فجرى البول حتى خرج من خلاله. فقالت: يا أستاذ أهلكتني
وأهلكت التجار ذهب على الامر كله، وهلك علينا ما في الصندوق من متاع
وثياب وغيره قيمة الجميع عشرة آلاف دينار، لان فيه قارورة من ماء زمزم
وقد انقلبت وجرت على الثياب، والآن تستحيل ألوانها. فقال لها: خذي
صندوقك إلى لعنة الله أنت وهو ومرى فحمل الخادم صندوقي بعد أن اشتد
عليه وتلاحقت الصناديق فيما بعد وما راعني بعدها إلا حين سمعتها تقول:
ويلاه الخليفة. فمت رعبا وجاءني ما لم أحتسبه. فقال لها الخليفة ويحك أي
شئ في صناديقك؟ قالت يا مولاي ثياب للسيدة. فقال: افتحي حتى أراها
فقالت يا مولاي: الساعة أفتحها بين يديك وتراها. قال: مري هو ذا سأجئ
إليك. قالت للخدم: أسرعوا فأسرعوا، ودخلت حجرة وفتحت صندوقي
وقالت: اصعد تلك الدرجة. ففعلت وأخذت مما في بعض تلك الصناديق،
وجعلته في صندوقي، وجاء المقتدر ففتحت الصناديق بين يديه ثم أغلقت
الحجرة، ومضت ومعها الصناديق بحيث تجلس ثم عادت إلى وطيبت نفسي
وأحضرتني طعاما وشرابا وما احتاج إليه وأقفلت الحجرة ومضت فلما كان
من الغد جاءتني فصعدت إلى وقالت السيدة تجئ الساعة لتراك فانظر كيف
تكون فما كان بأسرع من أن جاءت السيدة فجلست على كرسي وفرقت
جواريها، ولم يبق معها واحدة منهن ثم أنزلتني الجارية. فحين رأتني السيدة
قبلت الأرض، وقمت ودعوت لها، فقالت، لجاريتها ما بئس ما أخذت هو
كيس ونهضت فجاءتني صاحبتي بعد ساعة وقالت: ابشر فقد وعدتني والله
ان تزوجني بك وما بين أيدينا الآن إلا عقبة الخروج فقلت يسلم الله تبارك
وتعالى. فلما كان من غد حملتني في الصندوق فخرجت كما دخلت وكان الحرص
على التفتيش أيسر وتركت في المسجد فرجعت وتصدقت ووفيت بنذري فلما
كان بعد أيام جاءني الخادم برقعة بخطها الذي أعرفه وكيس فيه ثلاثة آلاف
409

دينار عينا وتقول في الرقعة أمرتني السيدة بايصال هذا إليك من مالها وقالت
اشتر ثيابا ومركوبا ومملوكا يسعى بين يديك، وأصلح به ظاهرك وتجمل بكل
ما تقدر عليه وأحضر يوم الموكب إلى باب العامة وقف حتى تطلب فتدخل
على الخليفة فتزوج بحضرته فأجبت على الرقعة وأخذت المال واشتريت منه
ما قالوه بأحسن ما يكون، واحتفظت الباقي، وركبت دابتي يوم الموكب إلى
باب العامة ووقفت إلى أن جاءني من استدعاني فأدخلت على المقتدر، وهو
على السرير، والقضاة والهاشميون والجيش قيام فداخلني هيبة عظيمة وخطب
بعض القضاة وزوجني فلما صرت في بعض الممرات عدل بي إلى دار عظيمة
مفروشة بأنواع الفرش الفاخر والآلات والخدم فأجلست وتركت
وحدي وانصرف من أدخلني فلبثت يومى لا أدرى من أعرف إلا خدم
يدخلون ويخرجون، وطعام عظيم ينقل وهم يقولون الليلة تزف فلانة اسم
زوجتني إلى فلان البزاز. فلما جاء الليل أثر الجوع بي، وأقفلت الأبواب
وآيست من الجارية فقمت أطوف في الدار فوقعت على المطبخ وإذا قوم
طباخون جلوس فاستطعمتهم فلم يعرفوني فقدموا إلى داجيراجة فأكلتها
ومسحت يدي باشنان كان في المطبخ وأنا مستعجل لئلا يفطن بي وظننت انى
نقيت من ريحها، وعدت إلى مكاني فلما انتصف الليل إذا بطبول وزمور
والأبواب تفتح وصاحبتي قد أهديت إلى وجاؤا بها يحملونها وأنا أقدر أن
ذلك في النوم ولا أصدق به، وقد كادت مرارتي تنشق سرورا ثم خلوت بها
وانصرف الناس فحين تقدمت إليها وقبلتها رفستني فرمت بي عن المنضدة،
وقالت: أنكرت أن تفلح يا عامي، وقامت لتخرج فتعلقت بها وقبلت الأرض
بين يديها وقلت: عرفيني ذنبي واعملي بعده ما شئت فوقفت وقالت: هات
حديثك عن يومك كله فقصصت عليها القصة كلها فلما وقفت عليها قالت: قل
على، وعلى، وحلفتني بأيمان غليظة لا أكلت داجيراجة إلا غسلت يدي
أربعين مرة فاستحيت وتبسمت قلت فرجعت إلى المنضدة وصاحت يا جواري
فجاءت عدة وصائف. فقالت: هاتن ما نأكل. فقدمت إلينا مائدة حسنة
وألوان فاخرة من موائد الخلفاء وألوانهم فأكلت وأكلت معها واستدعت
410

شرابا أنا وهي وغنى لنا أولئك الوصائف وقمنا إلى الفراش فدخلت معها
وافتضضتها وبت بليلة من ليالي الجنة ولم نفترق أسبوعا ليلا ونهارا إلى أن
انقضت وليمة الأسبوع وكانت عظيمة فاخرة. فلما كان من الغد قالت: إن دار
الخلافة لا تحتمل المقام فيها أكثر من هذا، وما تم لاحد أن يدخل فبها بعروس
غيرك، وكل ذلك بعناية السيدة وقد أعطتني خمسين ألف دينار من عين،
وورق وجوهر وقماش، ولى خارج القصر أموال وذخائر وكلها لك فاخرج
وخذ معك مالا واشتر لنا دارا عظيمة حسنة واسعة الصحن فيها بستان كبير
كثيرة الحجر، ولا تضيق على نفسك كما تضيق نفوس التجار فانى ما تعودت
السكن إلا في الصحون الواسعة واحذر أن تبتاع شيئا ضيقا فلا أسكنه وإذا
تم البيع فأصلحها ونظفها وعرفني لأنقل إليك مالي وانتقل. فقلت: أفعل كما
تأمرين. فسلمت لي عشرة آلاف دينار فأخذتها وخرجت وآتيت داري
فانهال الناس على واعترضت الدور حتى ابتعت ما وافق اختيارها، وكتبت
إليها بالخبر، فنقلت إلى تلك النعمة بأسرها، وعندي ما لم أظن أنى أراه
فضلا عن أن أملكه، وأقامت عندي كذا وكذا سنة أعيش معها
بعيش الخلفاء، وأتجر في خلال ذلك لان نفسي لم تسمح بترك الصنعة
وابطال المعيشة، فتزايد مالي وجاهي، وولدت لي هؤلاء الشبان، وأومى إلى
أولاده، وماتت رحمها الله وبقى على مضرة الداجيراجة أنى لا آكلها إلا
غسلت يدي أربعين مرة.
وجدت في بعض الكتب أن عيسى بن موسى الهاشمي كان يحب زوجته
حبا شديدا فقال لها: أنت طالق إن لم تكوني أحسن من القمر فنهضت
واحتجبت عنه وقالت: قد طلقتني وباتت بليلة عظيمة فلما أصبح عدا على
المنصور وأخبره الخبر وقال له: يا أمير المؤمنين ان تم على طلاقها تلفت
نفسي عنها، وكان الموت أحب إلى من الحياة، وأظهر للمنصور جزعا
شديدا. فأحضر المنصور الفقهاء واستفتاهم؟ فقال جميع من حضر: قد
طلقت إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه فان سكت،
411

فقال له المنصور: مالك لا تتكلم؟ فقال: " بسم الله الرحمن الرحيم، والتين
والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم "
فلا شئ يا أمير المؤمنين أحسن من الانسان فقال المنصور لعيسى بن موسى:
قد فرج الله عز وجل عنك، والامر على ما قال هذا فأقم على زوجتك. وراسلها
أن أطيعي زوجك فما طلقك.
عن محمد بن يونس قال لما سلمت عمل دمشق إلى أبى المغيث الرافعي سألني
ان اكتب له عليه ففعلت فلما تآنست أنا وهو حدثني أول خبره في تقلده
الناحية فقال لي كنت قصدت عيسى بن موسى وهو يتقلد حمص فصرفني وقلده
ابن عم لي فانصرفت عنه إلى الرافقة وكان لابنة عم لي جارية نفيسة قد ربتها
وعلمتها الغناء وكنت ادعوها فألفتها ووقعت في قلبي موقعا عظيما واشتد حبى
لها فعملت على بيع منزلي وابتاعها وناظرت مولاتها في ذلك فحلفت إنها
لا تنقص ثمنها عن ثلاثة آلاف دينار فنظرت فإذا أنا افتقر ولا تفي حالي كلها
بثمنها فقامت قيامتي واشتد وجدى، وانحدرت إلى سر من رأى أطلب تصرفا
أو ما به شراها وكان محمد بن إسحاق الطاهري وأبوه يوهبان لي فقصدت محمدا
ومعي دواب وبقية من حالي فأقمت عليه مدة لم يسنح لي فيها تصرف فأبدت
لي رقة الحال فانحدرت إلى بغداد اقصد إسحاق بن إبراهيم الطاهري فوردت
في زورق وفكرت في أمرى وعلى من انزل فلم أثق بغير محمد بن الفضل
الحوحوائي لمودة كانت بيني وبينه فقصدته ونزلت عليه ووقع ذلك منه أجل
موقع وفاتشني عن أمرى وسألني عن حالي فذكرت له قصتي مع الجارية فقال
والله لا تبرح من مجلسك حتى تقبض ثمنها وأمر خادمه فأحضر كيسا فيه ثلاثة
آلاف دينار وسلمت إلى وتأبيت عليه فحلف إيمانا مؤكدة ان اقبله وقال إن
اتسعت لقضائه واحتجت إليه لم امتنع من أخذه منك فأخذت الكيس
وشكرته وتشاغلنا بالشرب فلما كان من الغد أتى رسول إسحاق بن إبراهيم
الطاهري يطلبني فصرت إليه فاحتفى بي وأكرمني وقال ما ظننت إنك توافي
بلدا أحله فتنزل غير داري فقلت والله ما وافيت إلا قاصدا إلى الأمير ولكن
412

دوابي تأخرت فتوقعت ورودها لأصير إلى باب الأمير عليها فدعا بكتب
وردت من محمد بن عبد الملك وفيها كتاب من أمير المؤمنين المعتصم بولايتي
دمشق وأراني كتابا يعلمه فيه ما خبأ علي بن إسحاق من قتل رجاء بن الضحاك
بدمشق وان أمير المؤمنين رأى تقليدك وطلبت بسر من رأى فذكر له
إنك انحدرت إلى إسحاق بن إبراهيم فأمر بتسليم كتبك إلى ودفع مائة ألف
دينار لك معونة على خروجك واحضر المال ووكل بي من يستحثني على البدار
فورد على من السرور ما أدهشني وودعته وخرجت إلى محمد بن الفضل
فعرفته ما جرى وودعته أيضا وأخرجت دنانيره فرددتها عليه فحلف بايمان
غليظة عظيمة لا عادت إلى ملكه أبدا وقال إن جلست في عملك واتسعت لم
أمتنع أن أقبل منك غير هذا. فشحت ومررت بالرقة وابتعت الجارية وبلغت
مناي بملكها واجتزت بحمص بابن عمى وأنا أجل منه عملا ودخلت عملي
فصنع الله سبحانه ووسع * ووجدت في كتاب " السمير " للمدايني أن رجلا من
بنى أسد علق امرأة من همدان بالكوفة وشاع أمرهما فوضع قوم المرأة
عليه عيونا حتى أخبروا أنه قد اتاها في منزلها فأتوا دارها واحتاطوا بها فلما
رأت ذلك ولم تجد للرجل مهربا وكانت المرأة بادية فقالت له ما أرى لك
موضعا أستر من أن أدخلك خلف ظهري وتلزمني فأدخلته بينها وبين
القميص ولزمها من خلفها ودخل القوم فداروا في الدار حتى لم يتركوا
موضعا إلا فتشوه فلما لم يجدوا الرجل استحيوا من فعلهم وأغلظت المرأة
عليهم وعنفتهم فخرجوا وأنشأ الرجل يقول:
حبك أشهاني وحبك قادني * لهمدان حتى أمسكوا بالمحنق
فجاشت إلى النفس أول مرة * فقلت ها ما تفرقي حين مفرقي
رويدك حتى تنظري عم تنجلي * عماية هذا العارض المتعلق
ذكر الهيثم بن عدي أن جماعة من عذرة حدثوه أن جميل بثينة حضر ذات
ليلة عند خباء حتى إذا صادف منها خلوة تنكر ودنا منها وكانت الليلة ظلماء
ذات غيم ورعد وريح فحذف بحصاة فأصابت بعض أترابها ففزعت ولت
413

ما حذفني في هذه الليلة إلا الجن، ففطنت بثينة أن جميلا فعل ذلك فقالت
لربتها الا فانصرفي يا أخية إلى منزلك حتى تنامى فانصرفت وبقت مع بثينة أم
الحسين ويروى أم اليسير بنت منظور وكانت لا تكتمها فقامت إلى جميل
فأدخلته الخباء معها وتحدثوا جميعا ثم اضطجعوا وذهب بهم النوم حتى
أصبحوا وجاءها غلام زوجها بصبوح من اللبن بعث به إليها فرآها نائمة ونظر
جميلا فمضى لوجهه حتى خبر سيده وكانت ليلى رأت الغلام والصبوح معه وقد
عرفت خبر جميل وبثينة فاستوقفته كأنها تسأله عن حاله وطاولته الحديث
وبعثت بجارية لها وقالت حذري جميلا وبثينة فجاءت الجارية ونبهتهما فلما
تبينت بثينة أن الصبح قد أضاء والناس قد انتشروا ارتاعت لذلك وقالت
يا جميل نفسك قد جاء غلام بعلى بصبوح من اللبن فرآنا نائمين فقال: جميل
وهو غير مكترث:
لعمرك ما خوفتني من مخافة * على ولا حذرتني موضع الحذر
وأقسم ما يلقى لي اليوم عزة * وفى الكف منى صارم قاطع ذكر
فأقسمت عليه أن يلقى نفسه تحت النضد وقالت إنما أسألك ذلك خوفا
على نفسي من الفضيحة لا خوفا عليك ونامت وأضجعت أم الحسين إلى جانبها
فجاء زوجها إلى أخيها وأبيها فعرفهما الخبر وجاءوا بأجمعهم إلى بثينة وهي
نائمة فكشفوا عنها الثوب فرأوا أم الحسين إلى جانبها نائمة فخجل زوجها
وسب عبده وقالت: ليلى لأبيها وأخيها قبحكما الله في كل يوم تفضحان المرأة
في فنائكما ويلكما هذا لا يجوز، فقالا إنما فعل ذلك زوجها فقالت: قبحه
الله وإياكما فجعلا يسبان زوجها وانصرفوا وأقام جميل تحت المنضد إلى الليل
ثم ودعها وانصرف:
عن أبي القاسم علي بن أحمد الكاتب المعروف بابن كردويه قال: كان لي
صديق من أهل واذان عظيم النعمة والضيعة فحدثني قال: تزوجت في شبابي
امرأة من آل وهب ضخمة النعمة حسنة الخلقة والأدب كثيرة المروءة ذات
جوار مغنيات فعشقتها عشقا مبرحا وتمكن لها من قلبي أمر عظيم ومكث
414

عيشي بها طيبا مدة طويلة ثم جرى بيني وبينها بعض ما يجرى بين الناس
فغضبت على وهجرتني وأغلقت باب حجرتها من الدار دوني ومنعتني الدخول
إليها وراسلتني بأن أطلقها فترضيتها بكل ما يمكنني فلم ترض ووسطت بيننا
أهلها من النساء فلم ينجع فلحقني الكرب والغم والقلق والجزع حتى كاد
يذهب بعقلي وهي مقيمة على حالها فجئت إلى باب حجرتها وجلست عنده
مفترشا الترات ووضعت خدى على العتبة أبكى وانتحب واتلافاها واسألها
الرضا وأقول كلما يجوز أن يقال في مثل هذا وهي لا تكلمني ولا تفتح الباب
ولا تراسلني ثم جاء الليل فتوسدت العتبة إلى أن أصبحت وأقمت على ذلك
ثلاثة أيام بلياليها وهي مقيمة على الهجران فآيست منها وعزلت نفسي ووبختها
ورضيتها على الصبر وقمت من باب حجرتها عاملا على التشاغل عنها ومضيت
إلى حمام في داري فأمطت عن جسدي الوسخ الذي كان لحقه وجلست لاغير
ثيابي وأتبخر فإذا بزوجتي قد خرجت إلى وجواريها المغنيات حواليها بآلاتهن
يغنين ومع بعضهن طبق فيه أوساط وسنوسج وماء ورد وما أشبه ذلك فحين
رأيتها استطرت فرحا وقمت إليها وأكبيت على يديها ورجليها وقلت ما هذا
يا ستي؟ فقالت: تعال حتى نأكل ونشرب ودع السؤال وجلست وقدم الطبق
فأكلنا جميعا ثم جئ بالشراب واندفع الجواري بالغناء وأخذنا في الشراب
وقد كاد عقلي يزول سرورا فلما توسطنا أمرنا قلت لها يا ستي: أنت هجرتيني
بغير ذنب كبير أوجب ما بلغته من الهجران وترضيتك بكل ما في المقدرة فما
رضيت ثم تفضلت اسداء بالرجوع إلى وصالي بما لم تبلغه أمالي فعرفيني
ما سبب هذا؟ قالت: كان الامر في سبب الهجر ضعيفا كما قلت ولكن تداخلني
في التجنى ما يتداخل المحبوب ثم استمر بي اللجاج وأراني الشيطان الصواب
فيما فعلته فأقمت على ما رأيته فلما كان الساعة أخذت دفترا كان بين يدي
وتصفحته فوقعت عيني على قول الشاعر.
الدهر أقصر مدة * من أن يضيع في الحساب
فتغتنم ساعاته * فمرورها مر السحاب
قالت: فعلمت أنها عظة لي وأن سبيلي ان لا أسخط الله عز وجل بإسخاط
415

زوجي ولا أستعمل اللجاج فأسوءك وأسوء نفسي فجئتك لا ترضاك وأرضيك
فانكببت على يديها ورجليها وصفا ما كان بيننا.
عن عبد الملك بن عمر قال قدم علينا عمرو بن هبيرة الكوفي فأرسل إلى
عشرة من أصحابه وإذا أحدهم من وجوه أهل الكوفة فسهرنا عنده ثم قال:
ليحدثني كل رجل منكم أحدوثة وابدأ أنت فقلت أصلح الله الأمير: أحديث
الحق أم حديث الباطل؟ قال: بل حديث الحق قلت: إن امرئ القيس بن حجر
الكندي حلف أن لا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية، وأربعة، واثنين
وجعل يخطب النساء وإذا سألهن عن هذا قلن أربعة عشر فبينما هو يسير في
الليل إذا برجل يحمل بنتا له صغيرة كأنها البدر لتمه فأعجبته فقال: يا جارية
ما ثمانية، وأربعة، واثنان؟ قالت: أما الثمانية فأطباء الكلبة، وأما الأربعة
فأخلاق الناقة، وأما الاثنان فثديا المرأة فخطبها إلى أبيها فزوجه إياها وشرطت
عليه أن تسأله ليلة بناءها عن ثلاثة خصال فجعل لها ذلك على أن يسوق لها
مائة من الإبل وعشرة عبيد وعشرة وصائف وثلاث أفراس ففعل ثم أنه
بعث عبدا له إلى المرأة وأهدى إليها نحيا من سمن، ونحيا من عسل، وحلة من
عصب فنزل العبد ببعض المياه ونشر الحلة فلبسها فتعلقت بشجرة فانشقت
وفتح النحيين واطعم أهل الماء منهما ثم قدم على حي المرأة وهم خلوف
فسألها عن أبيها وأمها وأخيها ودفع إليها هديتها فقالت: اعلم مولاك أن أبى
ذهب يقرب بعيدا ويبعد قريبا، وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين، وأن أخي
يراعى الشمس، وإن سماكم قد انشقت، وان وعاكما قد نضبا فقدم الغلام على
مولاه فأخبره فقال: ما أقوى قولها انها تعنى بقولها ان أباها ذهب يقرب
بعيدا ويبعد قريبا ان أباها ذهب يحالف قوما على قوم، وقولها ذهبت أمي
تشق النفس نفسين فإن أمها ذهبت تقبل امرأة نفساء وأما قولها أخي يراعى
الشمس فإن أخاها في سرح له يرعاه فينتظر وجوب الشمس ليروح به وأما
قولها ان سماكم قد انشقت فإن البرد الذي بعثت به انشق؟ وأما قولها ان وعاكما
قد نضبا فإن النحيين اللذين بعثت بهما نقصا فأصدقني قال يا مولاي إني نزلت
416

بماء لبنى تميم. فسألوني عن نسبي فأخبرتهم أنى اعمك، ونشرت الحلة
فلبستها فتعلقت بشجرة، وانشقت ثم فتحت النحيين، وأطعمت منهما
أهل الماء فقال: أولى لك ثم ساق الإبل، وخرج نحوها ومعه الغلام فنزلا
منزلا فقام الغلام يستقى فأعانه امرئ القيس فرمى به الغلام في البئر وخرج
حتى أتى المرأة بالإبل وأخبر أباها أنه زوجها فقيل لها قد جاء زوجك فقالت:
والله ما أدرى أهو زوجي أو لا، ولكن انحروا له جزورا وأطعموه من
كرشها. ففعلوا فأكل ما أطعموه، فقالت: اسقوه لبنا خازرا وهو
الحامض فسقوه فشرب. فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم. ففرشوا له
فنام، فلما أصبح أرسلت إليه أنى أريد أن أسألك فقال: سلى ما شئت.
فقالت: مم تختلج شفتاك؟ فقال: لتقبيلي إياك. فقالت: مم يختلج كشحاك؟
فقال: لالتزامي إياك. فقالت: مم يختلج فخذاك؟ فقال: لتوركي إياك.
قالت: عليكم بالعبد فشدوا أيديكم به ففعلوا. قال ومر قوم فاستخرجوا امرئ
القيس من البئر فرجع إلى حيه واستاق من الإبل، وأقبل إلى امرأته.
فقالت: والله لا أدرى أهو زوجي أو لا ولكن انحروا له جزورا وأطعموه
من كرشها وذنبها. ففعلوا فلما أتوه بذلك. قال: أين الكبد والسنام والملحاء
وأبى أن يأكل. فقالت: اسقوه لبنا خازرا فأبى أن يشربه، وقال: أين
الضريب والرايب. فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم ففرشوا له فأبى
أن ينام وقال: افرشوا لي عند التلعة الحمراء واضربوا لي عليها خبا ثم أرسلت
إليه هلم شرطي عليك في المسائل الثلاث قال: فأرسل إليها أن سلى عما شئت
قالت: مم تختلج شفتاك؟ قال: لشرب المشعشات. قالت: فمم يختلج
كشحاك؟ قال: للبسي الحبرات. قالت: فمم يختلج فخذاك؟ قال: لركضي
المطهمات. قالت: هذا زوجي فعليكم به واقتلوا العبد. فقتلوه، ودخل
امرئ القيس بالجارية. قال ابن هبيرة: حسبكم فلا خير في الحديث سائر اللية بعد
حديثك يا أبا عمرو ولن تأتينا بأعجب منه فقمنا وانصرفنا وأمر لي بجائزة سنية.
417

وجدت في كتاب الأغاني الكبير لأبي الفرج المعروف بالأصبهاني الذي
أجاز لي روايته في جملة ما أجازه لي أخبار قيس بن دريج الكناني قال في
صدرها: أخبرني بخبر قيس بن دريج، ولبنى امرأته جماعة من مشايخنا
في قصص متصلة ومنقطعة، وأخبار منثورة ومنظومة فألفت جميع ذلك ليتسق
حديثه إلا ما جاء منفردا، وحسن إخراجه عن جملة النظم، فذكرته على
حدة، فممن أخبرنا بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن
شبة، ولم يتجاوزه إلى غيره، وإبراهيم بن أيوب عن أبي شبة، والحسن بن علي
عن محمد بن موسى عن حماد البريدي عن أحمد بن يوسف عن جرير بن
قطن عن حساس بن محمد عن محمد بن أبي السرى عن هشام بن محمد الكلبي،
وعلى روايته أكثر المعول ونسخت أيضا من أخباره المنظومة أشياء ذكرها
عن رجاله، وخالد بن كلثوم عن نفسه، ومن روى عنه، وخالد بن حمل،
ونتفا حكاها التوسعي صاحب الرسائل عن أبيه عن أحمد بن حماد جميل، عن
ابن أبي جناح الكعبي، وحكيت كل متفق فيه متصلا، وكل مختلف في معانيه
منسوبا إلى قالوا جميعا: كان ينزل قيس برصة في ظاهر المدينة، وكان هو
وأبوه من حاضرة المدينة فمر قيس لبعض حوائجه بخباء من بنى كعب من
خزاعة، والحى جلوس فوقف على خيمة لبنى بنت الحباب الكعبية فاستسقى
ماء فسقته وخرجت به إليه، وكانت امرأة شديدة القامة شهلاء حلوة المنظر
والكلام، فلما رآها وقعت في نفسه وشرب الماء. فقالت له: أتنزل عندنا؟
قال: نعم، فنزل بهم وجاء أبوها فنحر له وأكرمه. فانصرف قيس وفى قلبه
من لبنى حر لا يطفى فجعل ينطق الشعر فيها حتى شاع وروى ثم أتاها يوما آخر
وقد اشتد وجده بها فسلم، وظهرت له وردت عليه سلامه، وتحفت به فشكا
إليها ما يجد بها، وما لقى من حبها. فشكت مثل ذلك فأطالت، وعرف كل
واحد منهما ماله عند صاحبه، فانصرف إلى أبيه فأعلمه حاله، وسأله أن
يزوجه إياها. فأبى عليه وقال: يا بنى عليك بإحدى بنات عمك فهن أحق بك
وكان دريج كثير المال فأحب أن لا يخرج ابنه عن يده فانصرف قيس،
وقد ساءه ما خاطبه به أبوه، فأتى أمه وشكا ذلك إليها، واستعان بها على أبيه
418

فلم يجد عندها ما يحب فأتى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما،
وروى أبو الفرج قبل هذا في أخبار قيس باسناد مفرد لم أذكره ههنا
خوف الإطالة أنه كان رضيع الحسين عليه السلام، وأتى إلى ابن
عتيق، وكان صديقه فشكا إليهما ما به، وما رد عليه أبوه. فقال له الحسين
عليه السلام: أنا أكفيك. فمشى معه إلى أبى لبنى، فلما بصر به أعظمه ووثب
إليه وقال: يا ابن رسول الله ما جاء بك الا بعثت إلى فأتيك فقال: إن الذي
جئت له يوجب قصدك، وقد جئتك خاطبا لبنى لقيس بن دريح. فقال:
يا ابن رسول الله الا بعثت إلى وما كنا لنعصي لك أمرا، وما بنا عن الفتى
رغبة، ولكن أحب أمرين إليها أن يخطبها أبوه دريج، وأن يكون ذلك عن
أمره، فإنا نخاف إن سمع أبوه بعد هذا يكون عارا وسبة علينا. فأتى الحسين
رضي الله عنه دريجا، وقومه مجتمعون عليه فقاموا إليه اعظاما وقالوا له مثل
قول الخزاعيين. فقال يا دريج: أقسمت عليك الا خطبت لبنى لابنك قيس.
قال: السمع والطاعة لأمرك. فخرج معه في وجوه قومه حتى أتى حي لبنى
فخطبها دريج على ابنه لأبيها فزوجه إياها، وزفت إليه. فأقام معها مدة
لا ينكر أحدهما من صاحبه شيئا، وكان أبر الناس بأمه فألهته لبنى وعكوفه
عليها عن بعض ذلك فوجدت أمه في نفسها وقالت: لقد شغلت هذه المرأة
ابني عن برى، ولم تر للكلام موضعا، حتى مرض قيس مرضا شديدا.
فلما برأ قالت أمه لأبيه: لقد خشيت أن يموت قيس ولم يترك خلفا، وقد
حرم الولد من هذه المرأة، وأنت ذو مال فيصير مالك إلى الكلالة فزوجه
بغيرها لعل الله أن يرزقه ولدا، وألحت عيله في ذلك. فأمهلها حتى اجتمع
قومه ثم قال يا قيس: إنك اعتللت هذه العلة ولا ولد لك ولا لي سواك،
وهذه المرأة ليست بولود فتزوج إحدى بنات عمك لعل الله تعالى أن يهب لك
ولدا تقربه أعيننا وعينك. فقال قيس: لست متزوجا غيرها أبدا. فقال أبوه
ان في مالي سعة فتسرى بالإماء. فقال. ولا أسؤها بشئ أبدا. فقال أبوه:
إني أقسم عليك إلا طلقتها. فأبى وقال: الموت والله أسهل على من
419

ذلك، ولكن أخيرك خصلة من خصال. قال: وما هي؟ قال: تتزوج أنت
فلعل الله أن يرزقك بولد غيري، قال: ما بي فضل لذلك. قال: فدعني أرحل
عنك بأهلي قال: ما كنت لاصنع. قال: فدع لبنى عندك وارتحل أنا عنك
لعلى أسلوها فأتي ما تحب بعد أن تكون نفسي طيبة بأنها في حبالى. قال:
لا أرضى أو تطلقها. ثم حلف أنه لا يكنه سقف بيت أبدا حتى تطلق لبنى،
وكان يخرج فيقعد في حر الشمس، ويجئ قيس فيقف إلى جانبه، ويظله
بردائه، ويصلى وهو بحر الشمس حتى يفئ الفئ وينصرف إلى لبنى فيعانقها
ويبكى وتبكى معه وتقول يا قيس: لا تطع أباك تهلك وتهلكني معك. فيقول:
ما كنت لأطيع أحدا فيك أبدا. فيقال: انه مكث على ذلك سنة. وقال خالد
ابن كلثوم ذكر ابن عائشة: أنه أقام كذلك أربعين يوما ثم طلقها. وحكى
ليث بن عمرو أنه سمع قيس بن دريج يقول ليزيد بن سليمان: هجرني أبواي
في لبنى عشر سنين استأذن عليهما فيردانني حتى أطلقها. قال ابن جريج:
فأخبرت أن عبد الله بن صفوان الطويل لقى دريجا أبا قيس فقال له: ما حملك
ان فرقت بينهما أو ما علمت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ما أبالي فرقت
بينهما أو مشيت إليهما. بالسيف وروى هذا الخبر من طريق آخر ان الحسين
ابن علي رضي الله عنهما قال لدريج أبى قيس أحل لك ان فرقت بين قيس
ولبنى اما انى سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ما أبالي أفرقت بين
الرجل وامرأته أو مشيت إليهما بالسيف. قالوا: فلما بانت لبنى منه بطلاقه
إياها وفزع من الكلام لم يصمت حتى استطير عقله وذهب به ولحقه مثل
الجنون وجعل يبكى ويتشنج أحر تشنج وبلغها الخبر فأرسلت إلى أبيها ليحملها
وقيل بل أقامت حتى انقضت عدتها وقيس يدخل إليها فأقبل أبوها بهودج
على ناقة وبابل يحمل أثاثها فلما رأى ذلك قيس أقبل على جاريتها وقال ويحك
ما دهاني فيكم؟ قالت لا تسئلني وسل لبنى فذهب ليلم بخبائها فمنعه قومها وأقبلت
إليه امرأة من قومه فقالت: مالك تسئل ويحك كأنك جاهل أو متجاهل
هذه لبنى ترحل الليلة أو غدا فسقط مغشيا عليه لا يعقل ثم أفاق وهو يقول:
وانى لمفن دمع عيني بالبكا * حذار الذي قد كان أو هو كائن
420

وقالوا غدا أو بعد غد ذاك بليلة * فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي * بكفى إلا أن من خان خائن
قال أبو الفرج من هذه الأبيات غناء ولها أخبار قد ذكرت في أخبار
المجنون يعنى قيس بن الملوح مجنون بنى عامر ثم ذكر أبو الفرج بعد هذا
عدة قطع من شعر قيس بن دريج. ثم قالوا فلما أرتحل بها قومها اتبعها مليا ثم
علم أن أباها سيمنعه من المسير معها فوقف ينظر إليها ويبكى حتى غابوا عن
عينه فكر راجعا ونظر إلى خف بعيرها فأكب عليه يقبله ورجع يقبل
موضع مجلسها وأثر قدميها فليم على ذلك وعنفه قومه في تقبيل التراب فقال:
وما أحببت أرضكم ولكن * أقبل أثر من وطئ الترابا
لقد لاقيت من كلفي بلبني * بلاء ما أسيغ له شرابا
ثم ذكر أبو الفرج قطعة من شعر قيس وأخبارا من أخباره في لبنى
مشهورة بأسانيد مفردة عن الاسناد الذي رأيته عنه هاهنا ثم رجع إلى
موضع من الحديث الذي جمع فيه أسانيده وأتى بسباقة تطول عن أن أذكرها
في كتابي هذا جملتها عظيم ما لحق قيسا من التململ والسهو والكمد والأسف
والبكاء العظيم والجزع المفرط والصاق خده بالأرض على أثارها وخروجه
في أثرها يشم روائحها وعتابة نفسه في طاعة أبيه على طلاقها وعلة اعتلها
أشرف منها على الموت وجمع أبيه له فتيات الحي يعللنه ويحدثنه طمعا في أن
يسلوا عن لبنى ويعلق واحدة منهن فيزوجها منه وقصة له مع طبيب حضره
وقطع شعره كثيرة له في خلال ذلك وذكر في جملة أخبار كثيرة بأسانيد
متفرقة وبالاسناد الذي ذكره أن أبا لبنى شكا قيسا إلى معاوية بن أبي سفيان
وذكر تعرضه لها بعد الطلاق فكتب إلى مروان بن الحكم يهدر دمه ان
تعرض لها فكتب مروان بذلك إلى صاحب الماء وأن أباها زوجها فبلغ ذلك
قيسا فاشتد جزعه وجعل يتشنج أحر تشنج ويبكى أشد بكاء وأتى محلة قومها
فنزل. عن راحلته وجعل يبكى في موضعها ويمرغ خده على ترابها ويبكى أحر
بكاء ثم قال قصيدة أتى بها أبو الفرج وبأخبارها أولها.
إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكا * إلى الله فقد الوالدين يتيم
421

وذكر بعدها أخبارا له معها واجتماعات عفيفة كانت بينهما بحيل ظريفة
ووجدها به وبكاها وإنكار زوجها ذلك عليها ومكاشفتها له به وعلة أخرى
لحقت قيسا واشهارها وافتضاحها وما لحق قيسا ولبنى من الخبل واختلال
العقل وقطع شعر كثيرة أخر لقيس في خلال ذلك وأن قيسا مضى إلى يزيد
ابن معاوية فمدحه وشكى إليه ما به فرق عليه وأخذ له كتاب أبيه بأن يقيم
حيث ما أحب ولا يعترض عليه أحد وأزال ما كان كتب به في هدر دمه
وقطع شعر كثيرة لقيس في خلال ذلك وأخبار مفردة ومتصلة ثم قال وقد
اختلف في كثير من أمر قيس ولبنى وذكر كلاما كثيرا في ذلك والجمع في
نيف وعشرين ورقة طلحية ثم قال بعد ذلك كله وذكر الفخذمي وابن عائشة
وخالد ابن حمل ان أبى عتيق صار إلى الحسن والحسين عليهما السلام و عبد الله
ابن جعفر رحمهما الله وجماعة من قريش فقال لهم: ان لي حاجة أخشى ان
تردوني فيها وانى أستعين بجاهكم وأموالكم عليها قالوا ذلك مبذول لك منا
فاجتمعوا ليوم وعدهم فيه فمضى بهم إلى زوج لبنى فلما رآهم أعظم مصيرهم
إليه وأكبره فقالوا قد جئناك بأجمعنا في حاجة لابن أبي عتيق فقال مقضية
كائنة ما كانت قال ابن أبي عتيق قد قضيتها كائنة ما كانت من أهل أو مال قال
نعم قال فتهب لي اليوم لبنى زوجتك وتطلقها قال فإني أشهدكم أنها طالق ثلاثا
فاستحيا القوم واعتذروا وقالوا والله ما عرفنا حاجته ولو علمنا أنها هذه
ما سألناك إياها قال ابن عائشة فعوضه الحسن عليه السلام في ذلك بمائة ألف
درهم وحملها ابن أبي عتيق إليه ولم تزل عنده حتى انقضت عدتها فأتى القوم
أباها فزوجها قيسا ولم تزل معه إلى أن ماتا فقال قيس بن دريج يمدح ابن أبي
عتيق.
جزى الرحمن أفضل ما يجازى * على الاحسان خيرا من صديق
فقد جربت إخواني جميعا * فما ألفيت كابن أبى عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع * ورأي حرت فيه عن طريق
وأطفأ لوعة كانت بقلبي * أغصتني حرارتها بريق
422

قال فقال له ابن أبي عتيق يا حبيبي أمسك عن هذا الحديث فما يسمعه أحد
إلا ظنني قوادا.
أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني قال: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي
قال حدثنا عبد الله بن سعد قال: حدثني عبد الله بن نصر المروزي قال: حدثنا
محمد بن عبد الله الطلحي، قال حدثني سليمان بن يحيى بن معاذ قال: قدم على
بنيسابور إبراهيم بن سبابة يعنى الشاعر البصري الذي كان جده حجاما فاعتقه
بعض بني هاشم فصار مولى لهم فأنزلته على فجاءني ليلة من الليالي وهو مكروب
وقد هام فجعل يصيح بي يا أبا أيوب؟! فخشيت أن يكون قد غشيته بلية فقلت
له ما تشاء فقال (أعياني الشاذن الربيب) فقلت له ماذا تقول فقال (أشكو
إليه فلا يجيب) فقلت داره وداوه فقال:
من أين أبغى شفاء ما بي * وإنما دائي الطبيب
فقلت فلا إذا الا أن يفرج الله تعالى فقال (يا رب فرج اذن وعجل)
فإنك السامع المجيب) * ثم انصرف.
أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني قال حدثني محمد بن مزيد أبى
الأزهر قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أبي قال سرت إلى سر من رأى
بعد قومي من الحج فدخلت إلى الواثق فقال بأي شئ أطرفتني من الأحاديث
التي استفدتها من العرب في اشعارهم فقلت يا أمير المؤمنين جلس إلى فتى من
الاعراب في بعض المنازل يحدثني فرأيت منه أحلى من رأيت من الفتيان منظرا
وحديثا وظرفا وأدبا فاستنشدته فأنشدني.
سقى العلم الفرد الذي في ظلاله * غزالان مكتنفان مؤتلفان
إذا أمنا التفا بجيدي مواصل * وطرفاهما للريب مسترقان
أردتهما ختلا فلم أستطعهما * ورميا ففاتاني وقد قتلان
ثم تنفس تنفسا ظننت أنه قد قطع حياذيمه فقلت ما لك بأبي أنت وأمي؟!
فقال لي ورأ هذا الجبلين شجى لي وقد حال قومه بيني وبين المرور بهذه البلاد
423

وهدروا دمى فأنا أتمتع بالنظر إلى الجبلين تعللا به إذا قدم الحاج ثم يحال
بيني وبين ذلك فقلت له زدني مما قلت فأنشدني.
إذا ما وردت الماء في بعض أهله * حضور فعرض بي كأنك مادح
فإن سألت عنى حضورا فقل لها * به غير من دائه وهو صالح
فأمرني الواثق فكتبت الشعرين فلما كان بعد أيام دعاني فقال: قد صنع
بعض عجائز دارنا في أحد الشعرين لحنا فاسمعه فإن ارتضيته أظهرناه وإن
رأيت فيه موضع إصلاح أصلحته فغنى لنا فيه من وراء الستارة فكان في
نهاية الجودة وكذا كان يفعل إذا صنع شيئا فقلت له أحسن الله صانعه يا أمير
المؤمنين ما شاء فقال بحياتي فقلت وحياتك وحلفت له بما وثق به فأمر لي
برطل فشربته ثم أخذ العود فغناه ثلاث مرات فلما كان بعد أيام دعاني وقال
لي قد صنع بعض عجائز دارنا في الشعر الآخر لحنا وأمر فغنى به وكانت حالي
به كالحالة الأولى في الشعر الأول لما استحسنته وحلفت له على جودته وسقاني
ثلاثة أرطال وأمر لي بثلاثة ألف درهم ثم قال قد قضيت حق هديتك قلت
نعم يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك وأتم نعمته عليك ولا أفقدنيها منك ربك
فقال: ولكنك لم تقض حق جليسك الاعرابي ولا سألتني معونة على أمره
وقد سبقت منه مسئلتك ثم قال: ولكني كتبت بخبره إلى صاحب الحجاز
وأمرته بإحضاره وخطبة المرأة له وحمل صداقها إلى قومها من مالي ففعل فقبلت
يده وقلت السبق إلى المكارم لك وأنت أولى بها من عبدك ومن سائر الناس
قال أبو الفرج: وصنعة الواثق في الشعرين جميعا من الرمل.
وجدت في بعض كتبي قال أبو عبيد الله محمد بن علي بن حمزة: كانت
لزوجتي جارية حسنة الوجه فعشقتها فعلمت زوجتي بذلك فحجبتها عنى واشتد
ما بي من الوجد عليها وتنغصت على حياتي وقاسيت شدة شديدة فبينما أنا
ذات ليلة نائم ومولاتها زوجتي إلى جانبي إذ رأيت في النوم كان الجارية حيالي
وأنا أبكى وقد لاح إنسان أنشدني:
وقفت حبالك أذرى الدموع * وأخلط بالدمع منى دما
424

وأشكو الذي بي إلى عاذلي * ولا خير في الحب أن يكتما
رضيت بما ليس فيه رضا * بتسليم طرفك ان سلما
فتهت على وأقضيتني * واعزر على بأن أرغما
قال فانتبهت جزعا ودعوت بدواة وبياض وجلست في فراشي فكتبت
الشعر فقالت زوجتي مالك ماذا تصنع فقصصت عليها الرؤيا فقالت هذا كله
من حب فلانة قد وهبتها لك.
أخبرني أبو الفرج القرشي المعروف بالأصبهاني قال: نسخت من كتاب
محمد بن موسى بن حماد ذكر الرياشي قال حماد الراوية أتيت مكة فجلست في
حلقة فيها عمر بن أبي ربيعة المخزومي فتذاكرنا العذريين فقال عمر بن أبي
ربيعة: كان لي صديق من بنى عذرة يقال له الجعد بن مهجع وكان أحد بنى سلامان
وكان يلقى من الصبابة بالنساء على أنه كان لا عاهر الخلوة ولا سريع السلوة
وكان يوافي الموسم في كل سنة إذا جاء وقته وترجمت عنه الاخبار وتوكفت
له الاسفار فغمني ذات سنة ابطاؤه حتى قدم حجاج عذرة فأتيت القوم أنشد
صاحبي وإذا غلام قد تنفس الصعدا ثم قال عن أبي المسهر تسأل؟ قلت: نعم
عنه اسأل وإياه أردت. قال: هيهات هيهات أصبح أبو المسهر لا مأيوس منه
فيهمل ولا مرجو فيعلل والله كما يقول الشاعر:
لعمري ما حبى لاسماء تاركي * أعيش ولا أقضى به فأموت
فقلت وما الذي به؟ قال: مثل الذي بك من الهيمان في نهوككما في الضلال
وجركما أذيال الخسار كأنكما لم تسمعا بجنة ولا نار قلت ومن أنت منه يا ابن
أخي قال أخوه قلت فما يمنعك أن تسلك أخيك من الأدب وان تركب
منه مركبه وأخوك كالبرد والبحار لا ترفعه ولا يرفعك ثم صرفت وجه ناقتي
وأنا أقول:
أرائحه حجاج عذرة وجهه * ولما يرح في القوم جعد بن مهجع
خليلان نشكو ما نلاقي من الهوى * متى أقل يسمع وان قال أسمع
ألا ليت شعري أي شئ أصابه * بلى زفرات هجن من بين أضلع
425

فلا يبعدنك الله خلا فإنني * سألقى كما لاقيت في الحب مصرعي
ثم انطلقت حتى وقفت موقفي من عرفات فبينما أنا كذلك إذا بإنسان قد
تغير لونه، وساءت هيأته فأدنى ناقته من ناقتي ثم خالف بين أعناقهما وعانقني
وبكا حتى اشتد بكاؤه فقلت ما وراءك فقال نوح العذل وطول المطل ثم
أنشأ يقول:
لئن كانت غدية دات لب * لقد علمت بأن الجب داء
ولا تنظر إلى تغيير جسمي * وإني لا يفارقني البكاء
فإني لو تكلفني كلاما * لعف الكلم وانكشف الغطاء
وان معاشري ورجال قومي * حتوفهم الصبابة واللقاء
إذا العذارى مات حليف قوم * فذاك العبد تبكيه الرشاء
فقلت يا أبا المسهر انها ساعة يضرب إليها أكباد الإبل من شرق الأرض
وغربها فلو دعوت كنت تتمنى أن تظفر بحاجتك قال فتركني وأقبل على الدعاء
فلما نزلت الشمس للغروب وهم الناس أن يفيضوا منه سمعته يتكلم بشئ
فأصغيت إليه فإذا هو يقول
يا رب كل غدوة وروحة * من محرم يشكو الضنا ولوحة
أنت حسيب الخطب يوم الدوحة
فقال وما يوم الدوحة فقا: والله لأخبرنك ولو لم تسألني وتيممنا نحو
مزدلفة فأقبل على وقال إني رجل ذو مال من نعم وشأ وذو المال لا يعذره
القل ولا يرويه الثمار وانى خشيت عام الأول على مالي التلف ونصر الغيث
أرض كلب فانتجعت أخوالي منهم فأوسعوا لي عن صدر المجلس وسقوني
حمة الماء وكنت معهم في خير أحوال، ثم انى عزمت على مرافقة إبلي بماء لهم
يقال له الحردان فركبت فرسى وسمطت خلفي شرابا كان أهداه إلى بعضهم
ثم مضيت حتى إذا كنت بين الحي ومرعى الغنم رفعت لي دوحة عظيمة
فنزلت عن فرسى وشددته بغصن من أغصانها وجلست في ظلها فبينما أنا
كذلك إذ سطع غبار من ناحية الحي ثم رفعت لي شخوص ثلاثة ثم تبينت
فإذا فارس يطرد مسحلا وأتانا فتأملته فإذا عليه درع أصفر وعمامة خز
426

سوداء وإذا فروع شعره تضرب خصريه فقلت غلام حديث عهد بعرس
أعجلته لذة الصيد فترك ثوبه ولبس ثوب امرأته فما جاز على إلا يسيرا حتى
طعن المسحل وثنى طعنة للأتان فصرعهما وأقبل راجعا نحوى وهو يقول:
نطعنهم سلكى ومخلوجة * كرك لأمين على نابل (1)
فقلت إنك قد تعبت وأتعبت فرسك فلو نزلت فثنى رجله فنزل فشد
فرسه بغصن من أغصان الشجرة وألقى رمحه وأقبل حتى جلس فجعل يحدثني
حديثا ذكرت به قول أبى ذؤيب.
وإن حديثا منك لو تبذلينه * جنى النحل في البان عوذ مطافل
فقمت إلى فرسى أصلحت من أمره ثم حسر العمامة عن رأسه فإذا غلام
كأن وجهه الدينار المنقوش. فقلت سبحانك اللهم ما أعظم قدرتك وأحسن
صنعتك فقال لي مم ذاك قلت مما راعني من جمالك وبهرني من نورك قال وما
الذي يروعك من حبيس التراب وأكيل الدواب ثم لا يدرى بعد ذلك أينعم
أم ييأس قلت لا يصنع الله بك إلا خيرا ثم تحدثنا ساعة فأقبل على فقال:
ما هذا الذي أرى قد سمطت في سرجك فقلت شراب أهداه لي بعض أهلك
فهل لك لك فيه من أرب قال أنت وذاك فأتيته به فشرب منه وجعل والله
ينكث بالسوط أحيانا على ثناياه فجعل والله يتبين لي أثر السوط فيهن فقلت
مهلا فإني خائف أن تكسرهن قال ولم قلت لأنهن رقاق عذاب فرفع عقيرته
يتغنى وأنشد:
إذا قبل الانسان آخر يشتهى * ثناياه لم يأثم وكان له أجرا
فإن زاد زاد في حسناته * مثاقيل يمحو الله عنه بها الوزرا
قال ثم قام إلى فرسه فأصلح أمره ثم رجع قال فبرقت لي بارقة من تحت
الدرع فإذا الذي كأنه حق عاج. فقلت نشدتك الله: امرأة أنت؟ قالت نعم
والله (2) إلا أنها تكره الغارة وتحب الغزل ثم أجلستها فجعلت تشرب معي

(1) الزيادة عن الأغاني.
(2) الذي في الأغاني إلا أنى أكره العشير وأحب الغزل (ولعل الصواب
العزلة) ثم جلست.
427

ما أفقد من أنسها شيئا حتى نظرت إلى عينيها كأنهما عينا مهاة مذعورة فوالله
ما راعني إلا ميلها على الدوحة سكرى فزين لي والله الغدر وحسن في عيني
ثم إن الله عز وجل عصمني منه فجلست حجرة منهما فما لبثت إلا يسيرا حتى
انتبهت فزعة فلاثت عمامتها برأسها وجالت في متن فرسها وقالت جزاك الله
عن الصحبة خيرا. قلت ألا تزودينني منك زاد فناولتني يدها فقبلتها فشممت
منها والله رائحة الشباب (1) المطلول وذكرت قول الشاعر:
كأنها إذ تقضى النوم وانتبهت * سحابة مالها عين ولا أثر
فقلت لها وأين الموعد قالت إن لي إخوة شوسا وأبا غيورا ووالله لان
أسرك أحب إلى من أن أضرك وانصرفت فجعلت أتبعها بصرى حتى غابت
فهي والله يا ابن أبي ربيعة أحلتني هذا المحل وأبلغتني هذا الموضع فقلت له
يا أبا المسهر إن الغدر بك مع ما تذكر لمليح فبكى واشتد بكاؤه فقلت لا تبك
فما قلت لك ما قلت إلا مازحا ولو لم أبلغ حاجتك بمالي لسعيت في ذلك حتى
أقدر عليه فقال لي خيرا فلما انقضى الموسم شددت على ناقتي وشد على ناقته
ودعوت غلامي فشد على بعير له وحملت عليه قبة حمراء من أدم كانت لأبي
ربيعة المخزومي وحملت معي ألف دينار ومطرف خز وانطلقنا حتى أتينا
بلاد كلب فنشدنا عن أبي الجارية فوجدناه في نادى قومه وإذا هو سيد الحي
وإذا الناس حوله فوقفت على القوم وسلمت فرد الشيخ السلام ثم قال من
الرجل؟ قلت: عمر بن عبد الله ابن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي قال: المعروف
غير المنكر فما الذي جاء بك قلت خاطبا قال الكف، والرغبة قلت إني لم
آت ذلك لنفسي عن غير زهادة فيك ولا جهالة بشرفك ولكني أتيت في
حاجة ابن أخيكم (2) هذا العذري وها هو ذاك فقال والله أنه لكفء
الحسب رفيع البيت غير أن بناتي لم يتفقن (3) إلا في هذا الحي من قريش

(1) الذي في الأغاني المسك المفتوت.
(2) الذي في الأغاني أختكم.
(3) الذي في الأغاني يقعن ولعل الصواب يقمن.
428

فوجمت لذلك وعرف التغير في وجهي فقال أما انى صانع بك ما لم أصنع
بغيرك قلت مثلي من شكر فما ذلك قال أخيرها فهي وما اختارت قلت
ما أنصفتني إذ تختار لغيري وتولى الخيار غيرك فأشار إلى العذري أن دعه
يخيرها فأرسل إليها أن من الامر كذا وكذا فأرسلت إليه ما كنت لاستبد
برأي دون القرشي فالخيار في قوله وحكمه فقال لي إنها قد وكلتك فاقض
ما أنت قاض فحمدت الله تعالى وأثنيت عليه بما هو أهله وصليت على النبي
صلى الله عليه وسلم وقلت اشهدوا أنى قد زوجتها من الجعد ابن مهجع
وأصدقتها هذه الألف دينار وجعلت تكرمتها العبد والبعير والقبة وكسوت
الشيخ المطرف وسألته أن يبنى (1) عليها من ليلته فأرسل إلى أمها فأبت
وقالت أتخرج ابنتي كما تخرج الأمة. فقال الشيخ: فعجلي في جهازها فما برحت
حتى ضربت القبة في وسط الحريم وأهديت إليه ليلا وبت أنا عند الشيخ فلما
أصبحت أتيت القبة فصحت بصاحبي فخرج إلى وقد أثر السرور فيه فقلت
كيف كنت بعدى وكيف هي بعدك فقال لي أبدت لي والله كثيرا مما كانت
تخفيه عنى يوم لقيتها فسألتها عن ذلك فأنشات تقول هذه الأبيات.
كتمت الهوى لما رأيتك جازعا * وقلت فتى بعض الصديق يريد
وإن تطرحني أو تقول فتية * يضر بها برح الهوى فيعود
فواريت (2) ما ألقى وفى داخل الحشا * من الوجد جرح فاعلمن شديد (3)
فقلت أقم على أهلك بارك الله لك فيهم وانطلقت وأنا أقول.
كفيت أخي العذري ما كان نابه * وانى لاعباد النوائب حمال
أما استحسنت منى المكارم والعلا * إذا طرحت إني لما لي بذال (4)
فقال العذري:

(1) الذي في الأغاني بها عليه في ليلته.
(2) رواية الأغاني فوريت عما بي
(3) رواية الأغاني برح
(4) الزيادة عن الأغاني
429

إذا ما أبو الخطاب خلى مكانه * فأف لدنيا ليس من أهلها عمر
فلاحى فتيان الحجازين بعده * ولا سقيت أرض الحجازين بالمطر
أخبرني أبو الفرج الأصبهاني إجازة قال: أخبرني عمى الحسن بن محمد قال:
حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال
حدثني معبد الصغير المغنى مولى علي بن يقطين قال: كنت منقطعا إلى البرامكة
فبينما أنا ذات يوم في منزلي إذا بابى يدق فخرج غلامي ثم رجع إلى فقال على
الباب فتى ظاهر المروءة يستأذن عليك فأذنت له فدخل على شاب فما رأيت
أحسن وجها ولا أنظت ثوبا ولا أجمل زيا منه من رجل دنف (1) عليه اثر
السقم ظاهر فقال لي إني أحاول لقاك مذ مدة فلا أجد إليه سبيلا وإن لي
حاجة. قلت: ما هي؟ فأخرج ثلاثمائة دينار ووضعها بين يدي ثم قال أسألك أن
تقبلها وتصنع في بيتين قلتهما لحنا تغنيني به فقلت له هاتهما فأنشدني.
بالله يا طرفي الجاني على بدني * لتطفئن بدمعي لوعة الحزن
أولا أبوحن حتى يحجبوا سكنى * فلا أراه ولو أدرجت في كفني
قال فصنعت له فيهما لحنا من الثقيل الأول مطلقا في مجرى الوسطى ثم
غنيته إياه فأغمى عليه حتى ظننته قد مات ثم أفاق فقال: أعد فديتك: فناشدته
الله في نفسه وقلت أخشى أن تموت فقال هيهات أنا أشقى من ذلك وما زال
يخضع لي ويتضرع حتى أعدنه عليه فصعق صعقة أشد من الأولى حتى ظننت
أن نفسه قد فاضت فلما أفاق رددب الدنانير عليه ووضعتها بين يديه وقلت
يا هذا خذ دنانيرك وانصرف عنى فقد قضيت حاجتك وبلغت وطرا مما أردته
ولست أحب أن أشرك في دمك فقال لا حاجة لي في الدنانير وهذه مثلها ثم
أخرج ثلاثمائة دينار أخرى وقال أعد على الصوت مرة أخرى وخذها فقلت
لا والله ولا بعشرة أضعافها إلا على ثلاث شرائط قال وما هن قلت أولها
أن تقيم عندي وتتحرم بطعامي والثانية أن تشرب أقداحا من النبيذ تشد
قلبك ويسكن ما بك. والثالثة تحدثني بقضيتك. فقال: أفعل ما تريد فأخذت

(1) الزيادة عن الأغاني
430

الدنانير ودعوت بطعام فأصاب منه إصابة معذر ثم دعوت بالنبيذ فشرب
أقداحا، وغنيته بشعر غيره في معناه، وهو يشرب ويبكى. ثم قال: أعزك
الله أعد على صوتي. فغنيته صوته، فجعل يبكى أحر بكاء وينشج أشد نشيج
وينتحب فلما رأيته (1) قد خف عما كان يلحقه، والنبيذ قد شد من قلبه
كررت عليه صوته مرارا ثم قلت له: حدثني حديثك. فقال: أنا رجل من
المدينة خرجت متنزها في ظاهرها - وقد سال العقيق - في فئة من أقاربي (2)
فبصرنا بقتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا له فجلسن حجرة منا وبصرت منهن
بفتاة كأنها قضيب قد طله الندى، تنظر بعين ما ارتد طرفها إلا بنفس
ملاحظها فأطلن وأطلنا حتى تفرق الناس وانصرفن وانصرفنا، وقد أبقت
بقلبي جرا بطيئا اندماله فعدت إلى منزلي وأنا وقيذ وخرجت من الغد إلى
العقيق وليس فيها أحد فلم أر لها ولا لصواحباتها أثرا ثم جعلت أتتبعها في طرق
المدينة وأسواقها فكأن الأرض قد ابتلعتها فلم أحس لها بعين ولا أثر وسقمت
فقمت حتى أيس منى أهلي، ودخلت بيت ظئر لي فسألتني عن حالي وضمنت
لي حالها، والسعي فيما أحبه منها فأخبرتها بقصتي فقالت: لا بأس عليك
هذه أيام الربيع، وهي سنة خصب وأنواء، وليس يبعد عنك المطر فيمد (3)
العقيق والنسوة سيجيئن فإذا رأيتها اتبعها حتى أعرف خبرها وموضعها،
وأسعى لك في تزويجها فكأن نفسي اطمأنت وتراجعت وجاء المطر فسال
العقيق فخرجت مع إخواني إليها فما جلسنا مجلسنا الأول كما كنا إلا والنسوة
أتين كفرسي رهان فأومأت إلى ظئري جلست حجرة قريبة منا ومنهن،
فأقبلت على إخواني فقلت لهم أحسن القائل:
رمتني بسهم أقصد القلب وانثنت * وقد غادرت جرحا بها (4) وندوبا

(1) في الأغاني رأيت ما به قد خف عما كان يلحقه ورأيت النبيذ.
(2) في الأغاني من أقراني وأخذني فبصرنا بقينات.
(3) في الأغاني وهذا العقيق ثم فيه اختلاف في العبارة فيما سيأتي أيضا.
(4) رواية الأغاني به.
431

فأقبلت هي على صواحبها فقالت: أحسن والله القائل، وأحسن من
أجابه حيث يقول:
بنا مثل ما تشكوا فصبرا لعلنا * نرى فرجا يشفى السقام قريبا
فأمسكت عن الجواب خوفا من أن يظهر منى ما يفضحني وإياها، وعرفت
ما أرادت ثم تفرق الناس وانصرفنا، وتبعتها ظئري حتى عرفت منزلها،
وصارت إلى فأخذت بيدي ومضينا إليها فم تزل تتلطف حتى وصلنا إليها
فتلاقينا وتزاورنا على حال مخالسة ومراقبة، وشاع حديثي وحديثها، حتى
ظهر ما بيني وبينها فحجبها أهلها، وتشدد عليها أبوها. فلم أقدر عليها فشكوت
إلى أبى ما نالني وشدة ما ألقى وسألته خطبتها لي فمضى أبى ومشيخة أهلي إلى
أبيها وخطبوها، فقال: لو كان بدأ بهذا قبل أن يشهرها لأسعفته بحاجته وبما
التمس، ولكنه قد فضحها فلم أكن لأحقق قول الناس بتزويجها إياه.
فانصرفنا على يأس منها ومن نفسي، قال معبد: فسألته أين تنزل؟ فخبرني.
فصارت بيننا عشرة، ثم جلس جعفر بن يحيى يوما للشرب فأتيته فكان
أول بيت غنيته به شعر الفتى وصوتي الذي صنعته فيه فطرب منه طربا
شديدا وقال: ويحك لمن هذا؟ فقلت: إن للصوت حديثا. فقال: ما هو؟
فحدثته فأمر بإحضار الفتى فأحضر من وقته، واستعاده الحديث فأعاده
عليه فقال: هي في ذمتي حتى أزوجكها. فطابت نفسي ونفس الفتى فأقمنا
ليلتنا حتى أصبح، وغدا جعفر إلى الرشيد فحدثه الحديث فعجب منه وأمر
بإحضارنا جميعا وأمر بأن أغنيه الصوت فغنيته فشرب عليه وسمع حديث الفتى
وأمر من وقته بالكتاب إلى عامل الحجاز باشخاص الرجل وابنته وسائر أهله إلى
حضرته فلم يمض إلا مسافة الطريق حتى حضروا فأمر الرشيد بإيصاله إليه فأوصله
وخطب إليه الجارية للفتى فأجابه وزوجه إياها، وحمل الرشيد إليه ألف دينار
لمهرها وألف دينار لجهازها وألف دينار لنفقة الطريق وأمر للفتى بألفي (1) دينار
وكان المدني بعد ذلك في جملة ندماء جعفر.

(1) في الأغاني بألف.
432

أخبرنا أبو الحسين محمد بن جعفر البصري المعروف بابن لنكك في رسالة
في فضل الورد على النرجس فقال من سمى بنته من سادات العرب وردة:
شرحبيل التنوخي، وعابد الطائي، وهي التي كان داود التيمي عاشقا لها فاستقبل
النعمان بن المنذر في يوم بؤسه - وقد خرج يريدها وهو لا يعلم بيوم النعمان -
فقال: ما حملك على استقبالي في يوم بؤسي؟ قال: شدة الوجد، وقلة الصبر.
فقال ألست القائل؟:
وددت وكانت الحسنات أنى * أقارع نجم وردة بالقداح
على قتلى بأبيض مشرفي * وكوني ليلة حتى الصباح
فان تكن القداح على تلقى * ذبحت على القداح بلا جناح
وإن كانت على بيمن خدى * لهوت بكاعب خود رزاح
قال: بلى. قال: فإني مخيرك إحدى اثنتين فأخبر لنفسك. قال ما هما؟ أبيت
اللعن. قال: أخلى سبيلك أو أمتعك سبعة أيام ثم أقتلك. قال: بم تمتعني؟
قال: بوردة. قال: قبلت الثاني فساق النعمان مهرها إلى عمها وجمع بينهما.
فلما انقضت الأيام أقبل على النعمان وهو يقول:
إليك ابن ماء المزن أقبلت بعدما * مضت لي سبع من دخولي على أهلي
مجئ مقر لاصطناعك شاكر * مننت عليه بالكريم من الفعل
لتقضى فيه ما أردت قضاءه * من العفو أهل العفو أو عاجل القتل
فان يك عفوا كنت أفضل منعم * وإن تكن الأخرى فمن حكم عدل
فأحسن جائزته وخلى سبيله وأنشد النعمان يقول:
إذ حوى من كان يهوى * ونجى من كل بؤس
وكذاك الطير يجرى * بسعود ونحوس
قال مؤلف الكتاب: ووجدت كتابا لأحمد بن أبي طاهر سماه كتاب:
" فضائل الورد على النرجس " أكثر قدرا وأغزر فائدة من رسالة ابن لنكك
فوجدته وقد ذكر فيه الخبر. قال: وممن سمى بنته وردة شرحبيل بن مسعود
433

الشرجي، وهو صاحب العين على مسيرة يوم وليلة من مسيرة يوم وليلة من
مسح. وبها التقى سليمان بن مبرد أمير الجيش الذي يقال لهم البوابون للطلب
بدم الحسين بن علي رضي الله عنهما وخيل عبيد الله بن زياد. وسمى عائد الطائي
بنته وردة وهي التي كان داود بن موسى التميمي ثم السعدي عاشقا لها، وساق
الخبر كما ذكره ابن لنكك والله تعالى أعلم.
434

الباب الرابع عشر
ما اختير من ملح الاشعار
في أكثر معاني ما تقدم من الأمثال والاخبار
قال لقيظ بن زرارة التميمي.
قد عشت في الناس أطوار على طرق * شتى وقاسيت فيها اللين والفظعا
كلا لبست فلا النعماء تبطرني * ولا تجزعت من لأوائها جزعا
لا يملا الامر صدري قبل موقعه * ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا
ما سد مطلع ضاقت ثنيته * إلا وجدت وراء الضيق متسعا
وقال أبو ذويب الهذلي:
فانى صبرت النفس بعد ابن عنبس * وقد لج من ماء الشؤون لجوج
لأحسب (2) جلدا أو ليخبر شامت * وللشر بعد القارعات فروج
ويروى لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
إني أقول لنفسي وهي ضيقة * وقد أناخ عليها الدهر بالعجب
صبرا على شدة الأيام إن لها * عقبى وما الصبر إلا عند ذي الحسب
وروى لعثمان بن عفان رضي الله عنه:
خليلي لا والله ما من ملمة * تدوم على حي وإن هي جلت
وإن نزلت يوما فلا تخضعن لها * ولا تكثر الشكوى إذا النعل زلت
فكم من كريم قد بلى بنوائب * فصابرها حتى مضت واضمحلت
فكانت على الأيام نفسي عزيزة * فلما رأت صبري على الذل ذلت
وأنشد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:
ولا تيأسن واستعون الله إنه * إذا الله يسر عقد شئ تيسرا
لأبي دهبل الجمحي من قصيدة له:

(1) ليعلم أن كافة التعاليق الموجودة بهامش هذا الكتاب هي بقلم صاحب
فضيلة الأستاذ العلامة الشيخ عبد الغني عبد الخالق المدرس بكلية الشريعة بالأزهر
(2) رواية اللسان ليحسب
435

عست كربة أمسيت فيها مقيمة * يكون لنا منها رخاء ومخرج
فيكبت أعداء ويجذل آلف * له كبد من لوعة الحب تلعج
وإني لمحزون غداة أزورها * وكنت إذا ناديتها لا أعرج
لجارية بن بدر الغدائي:
قل (1) للفؤاد إذا نزا بك نزوة * من الهم أفرخ أكثر الروع باطله
لتوبة بن الحمير العقيلي الخفاجي:
وقد (2) تذهب الحاجات يطلبها الفتى * شعاعا وتخشى النفس مالا يضرها
لجرير:
يعافى الله (3) بعد بلاه جهدا * وينهض بعد ما يبلى السقيم
لزياد بن عمر من بنى الحارث بن كعب - وقيل لزيادة بن زيد
العذري - من أبيات:
إذا مذهب سدت عليك فروجه * فإنك لاق لا محالة مذهبا
فلا تجعلن كرب الخطوب إذا عرت * عليك رتاجا لا يزال مضببا
وكن رجلا جلدا إذا ما تقلبت * به صيرفيات الهموم تقلبا
ذكر أبو تمام الطائي في كتاب الحماسة لجابر بن ثعلب الطائي:
كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى * ولم يك صعلوكا إذا ما تمولا
ولم يك في بؤس إذا بات ليلة
يناغي غزالا ساجي (5) الطرف أكحلا
وقريب منه ما أنشدني أبى عن أبي بكر بن دريد عن عبد الرحمن

(1) رواية اللسان فقل للفؤاد إن من الخوف.
(2) رواية تزيين الأسواق.
وقد تذهب الحاجات يسترها الفتى * فتخفى وتهوى النفس مالا يضيرها
(3) رواية الديوان بعد بلاء سوء ويبرأ.
(4) في الأرج زيد بن عمر، وفى حل العقال زياد بن عمرو العذري.
(5) رواية الحماسة فاتر.
436

ابن أخي الأصمعي عن عمه الأصمعي رحمهم الله:
كأن قوما إذا ما بدلوا نعما * بنكبة لم يكونوا قبلها نكبوا
ومثله أيضا:
إن البطون إذا جاعت متى شبعت * كأنما لم يقاس الجوع طاويها
لسعيد بن رمضان الأسدي:
فما نوب الحوادث باقيات * ولا بؤس يدوم ولا نعيم
كما يمسى سرورك وهو هم * كذلك ما يسوءك لا يدوم
فلا تهلك على ما فات وجدا * ولا تغررك بالأسف الهموم
وقريب منه لكثير في ابن محمد بن الحنفية رضي الله عنه لما حبسه عبد الله
ابن الزبير رضي الله عنه - من أبيات:
تحدث من لاقيت أنك عائذ * بل العائذ المظلوم في سجن عادم
فما ورق الدنيا بباق لأهلها (1) * وما شدة (2) الدنيا بضربة لازم
فزاد فيه بعض إخواننا:
لهذا وهذا مدة سوف تنقضي * ويصبح ما لاقيته حلم حالم
لاعرابي:
فلا تحسبن سجف اليمامة دائما * كما لم يدم عيش بسفج أبان
مغرس الأسدي:
ولا تيأسن من صالح إن ماله * وإن كان قدما (3) بين أيد تبادره
حوط بن ريان الأسدي:
تعلمني بالعيش عرسي كأنها * تعلمني الشئ الذي أنا جاهله
يعيش الفتى بالفقر يوما وبالغني * وكل كأن لم يلق حين يسائله
وقريب منه:

(1) رواية اللسان لأهله.
(2) رواية اللسان البلوى.
(3) كذا بالأصل.
437

يعيش الفتى بالفقر يوما وبالغني * وكل كأن لم يلقه حين يذهب
كأنك لم تعدم من الدهر لذة * إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
للأضبط بن قريع من جملة أبيات (1):
لكل (2) ضيق من الأمور سعه * والمسا والصباح لا فلاح معه
لا تحقرن (3) الوضيع علك أن * تلقاه يوما والدهر قد رفعه
قد يجمع المال غير آكله * ويأكل المال غير من جمعه
قال مؤلف هذا الكتاب في المعنى:
اصبر فليس الزمان مصطبرا * وكل أحداثه فمنقشعه
كم من فقير غناه في شبع * قد نال خفضا في عيشه ودعه
ومن جليل جلت مصائبه * ثم تلافاه بعدما وضعه
فعاد بالعز آمنا جذلا * وعاد أعداؤه له خضعه
أنشد أبو العباس ثعلب:
رب ريح لأناس عصفت * ثم ما إن لبثت أن ركدت
وكذاك الدهر في أفعاله * قدم زلت وأخرى ثبتت
وكذا الأيام من عادتها * أنها مفسدة ما أصلحت
ثم يأتيك مقادير بها * فترى مصلحة ما أفسدت
للحسين بن مطير الأسدي:
إذا يسر الله الأمور تيسرت * ولانت قواها واستقاد عسيرها
فكم طامع في حاجة لا ينالها * وكم آيس منها أتاه يسيرها (4)
وكم خائف صار المخوف ومقتر * تمول والاحداث يحلو مريرها

(1) موجودة في أمالي القالى ج 1 ص 107.
(2) رواية الأمالي لكل هم من الهموم... والمسى والصبح.
(3) رواية الأمالي ولا تعاد الفقير... تركع يوما والمشهور في
كتب اللغة والنحو ولا تهين الفقير.
(4) رواية حل العقال والأرج بشيرها.
438

وقد تغدر الدنيا فيمس غنيها * فقيرا ويغنى بعد بؤس فقيرها
وكم قد رأينا من تكدر عيشة * وأخرى صفا بعدا كدرار غديرها
فلا تقرب الامر الحرام فإنه * حلاوته تفنى ويبقى مريدها (1)
لمسكين الدارمي:
وإني لأرجو الله حتى كأنني * أرى بجميل الظن ما الله صانع
أنشدني محمد بن الحسين قال أنشدني ثعلب (2):
إلى الله كل الامر في الخلق كله * وليس إلى المخلوق شئ من الامر
إذا أنا لم أقبل من الدهر كل ما * تكرهت منه طال عتبى على الدهر
ووسع صدري للأذى كثرة الأذى * وإن كان أحيانا يضيق به صدري
وصيرني يأسى من الناس واثقا * بحسن صنيع الله من حيث لا أدرى
تعودت مع مس الضهر حتى ألفته * أسلمني حسن العزاء إلى الصبر
غيره:
إذا ضاق صدري بالأمور تفرجت * لعلمي بأن الامر ليس إلى الخلق
غيره:
يضيق صدري بغم عند حادثة * وإنما الخير لي في الغم أحيانا
ورب يوم يكون الغم أوله * وعند آخره روحا وريحانا
ما ضقت ذرعا بغم عند نائبة * إلا ولى فرج قد حل أو حانا
للزبير رضي الله عنه.
لا أحسب الشر جارا لا يفارقني * ولا أحز على ما فاتني الودجا
ولا لقيت من المكروه نازلة * إلا وثقت بأن ألقى لها فرجا
ولا تراني لما قد فات مكتئبا * ولا تراني بما قد نلت مبتهجا
لاعرابي:
ما كل وجه يضيق إلا * ودونه مطلب فسيح

(1) الزيادة عن الأغاني والأرج.
(2) قيل لما حوصر عثمان رضي الله عنه أنشد هذه الأبيات.
439

من روح الله عنه هبت * من كل وجه إليه ريح
لسليمان بن مهاجر البجلي من جملة أبيات:
إن المساءة قد تسر وربما * كان السرور بما كرهت جديرا
عن المارستاني قال أنشدني إبراهيم بن العباس الصولي وهو في مجلسه في
ديوان الضياع:
ربما تكره النفوس من الامر * له فرجة كحل العقال (1)
ونكت بقلمه ثم قال:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى * درعا وعند الله منها المخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها * فرجت وكان يظنها لا تفرج
لأبي العتاهية:
ولربما استيأست ثم أقول لا * إن الذي ضمن النجاح كريم
أنشدني أحمد بن عبد الله الوراق، قال: أنشدنا دعبل قصيدته (مدارس
آيات) فذكر القصيدة إلى آخرها وفيها ما يدخل في هذا الباب وهو قوله:
فلو لا الذي أرجوه في اليوم أو غد * تقطع قلبي إثرهم حسرات (2)
فيا نفس طيبي ثم يا نفس أبشرى * فغير بعيد كل ما هو آت
ولا تجزعي من دولة الجور إنني * كأني بها قد آذنت ببيات
عسى الله أن يرتاح للخلق إنه * إلى كل حي دائم اللحظات
لعلي بن الجهم من ضمن قصيدة له:
غير الليالي باديات عود * والمال عارية يباد وينفد
ولكل حال معقب ولربما * أجلى لك المكروه عما تحمد
لا يؤيسنك من تفرج كربة * خطب رماك به الزمان الأنكد
كم من عليل قد تخطاه الردى * فنجا ومات طبيبه والعود

(1) البيت لامية بن أبي الصلت وقبله.
لا تضيقن في الأمور فقد تكرر شف غماؤها بغير احتيال
(2) رواية معجم الأدباء لقطع قلبي إثرهم حسراتي.
440

لغيره في مثله:
قد يصح المريض بعد إياس * كان منه ويهلك العواد
ويصاد القطا فينجو سليما * بعد هلك ويهلك الصياد
لعبد الله بن المعتز:
وكم نعمة لله في صرف نقمة * ومكروه أمر قد حلا بعد إمرار
وما كل ما تهوى النفوس بنافع * وما كل ما تخشى النفوس بضرار
لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب من أبيات:
لا تعجلن فربما * عجل الفتى فيما يضره
فالعيش أحلاه يعود * على حلاوته أمره
ولربما كره الفتى * أمرا عواقبه تسره
لاعرابي:
كم مرة حفت بك المكاره * خار لك الله وأنت كاره
آخر ويروى لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
لا تكره المكروه عند نزوله * إن المكاره لم تزل متباينه
كم نعمة لا تستقل بشكرها * لله في جنب المكاره كامنه
غيره:
رب أمر تزهق النفس له * جاءها من خلل اليأس فرج
لا تكن من روح ربى آيسا * ربما قد فرجت تلك الفرج
بينما المرء كئيب موجع * جاءه الله بروح فبهج
رب أمر قد تضايقت له * فأتاك الله منه بالفرج
غيره:
البؤس يعقبه النعيم وربما * لاقيت ما ترجوه مما ترهب
غيره:
أتى من حيث لا ترجوه صنع * ويأبى أن تهم به الظنون
فحيث تراك تيأس فارج خيرا * فإن الغيث محتجب مصون
وكن أرجى لأمر لست ترجو * من المرجو أقرب ما يكون
441

لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
أراها تمتخض بالمعضلات * ألا يا ليت شعري ما الزبده
ألا إن زبدتها فرجة * تحل العقال من العقدة
لأبي إسحاق إسماعيل بن القاسم الملقت بأبي العتاهية:
إنما الدنيا هبات * وعوار مستردة
شدة بعد رخاء * ورخاء بعد شدة
وله (1) أيضا:
الناس في الدين والدنيا ذوو درج * والمال ما بين موقوف ومختلج
من ضاق عنك فأرض الله واسعة * في كل ضيق وهم (2) وجه منفرج
قد يدرك الراقد الهادي برقدته * وقد يخيب أخو الروحات (3) والدلج
خير المذاهب في الحاجات أنجحها * وأضيق الامر أدنا إلى الفرج
غيره:
يا صاحب الهم إن الهم منقطع * أبشر بذاك كأن قد فرج الله
اليأس يقطع أحيانا بصاحبه * لا تيأسن فإن الكافي الله
الله حسبك مما عذت منه به * وأين أمنع ممن حسبه الله
من البلايا ولكن حسبك الله * والله حسبك في كل لك الله
هون عليك فإن القادر الله * والخير أجمع فيها يصنع الله
فرب مستصعب قد سهل الله * ورب شر كثير قد كفى الله
إذا بليت فثق بالله وارض به * إن الذي يكشف البلوى هو الله
الحمد لله شكرا لا شريك له * ما أسرع اليسر جدا إن يشا الله
لمحمد بن حازم الباهلي:
طوبى لمن يتولى الله خالقه * ومن إلى الله يلجا يكفه الله

(1) نسب في الأرج هذه الأبيات إلى هلال بن العلاء الرقي.
(2) رواية الديون والأرج في وجه كل مضيق.
(3) في الأصل إخاء الراح والتصحيح عن الديوان والأرج.
442

ورب خائف أمر يستكين له * ينجو وخيرته ما قدر الله
ليحيى بن خالد بن برمك من أبيات:
ألا أعلم إنما الدنيا غرور * وليس بدائم فيها نعيم
سينقطع التلذذ عن أناس * إذا ماتوا وتنقطع الهموم
أنشدني أبى رحمه الله من قصيدة لسلم بن عمرو الخاسر:
إذا أذن الله في حاجة * أتاك النجاح على رسله
(وقرب ما كان مستبعدا * ورد الغريب إلى أهله
يفوز الجواد بحسن الثناء * ويبقى البخيل على بخله (1)
فلا تسأل الناس من فضلهم * ولكن سل الله من فضله
ووجدت مكتوبا بخط عمى القاضي أبى جعفر أحمد بن محمد بن أبي الجهم التوخي:
إذا أذن الله في حاجة * أتاك النجاح بها يركض
فان عاق من دونها عائق * أتى دونها عارض يعرض
أنشدني عبيد الله بن محمد بن الحسن العتبى المعروف بالبصري لنفسه:
إذا أذن الله في حاجة * أتاك الجناح بغير احتباس
فيأتيك من حيث لا تدره * مرادك للنجح بعد الإياس
لمحمد بن حازم الباهلي:
وأرحل إذا أجدبت بلاد * منها إلى الخصب والربيع
لعل دهرا غدا بنحس * بكر بالسعد في الرجوع
لأبي تمام الطائي:
وما من شدة إلا سيأتي * لها من بعد شدتها رخاء
وأنشدني الأمير أبو الفضل جعفر المكتفى بالله قال أنشدني بعض أصحابنا منسوبا (2)

(1) الزيادة عن حل العقال وحواشي معجم الأدباء.
(2) نسب في حل العقال هذه الأبيات إلى قيس بن الخطيم والأول منها
مع أبيات أخرى منسوبة إلى قيس أيضا في الحماسة ونقل التبريزي عن أبي
الرياش أنها للربيع بن أبي الحقيق اليهودي.
443

وكل شديدة نزلت بقوم * سيأتي بعد شدتها رخاء
فان الضغط يحويه (1) وعاء * ويتركه إذا فرغ الوعاء
وما ملئ الاناء وشد إلا * ليخرج ما به امتلأ الاناء
أنشدت:
متى تصفو لك الدنيا بخير * إذا لم ترض منها بالمزاج
ألم تر جوهر الدنيا المصفى * ومخرجه من البحر الأجاج
ورب مخيفة فجأت بهول * جرت بمسرة لك وابتهاج
ورب سلامة بعد امتناع * ورب مثقف (2) بعد اعوجاج
غيره:
لعمرك ما يدرى الفتى كيف يتقى * نوائب هذا الدهر أم كيف يحذر
يرى الشئ مما يتقى فيخافه * وما لا يرى مما يقى الله أكبر
وما عسر رمى الفتى بشماله * بل الدهر إلا ما وقى الله أعسر
لمحمد بن عبد المهلبي:
إني لرحال إذا الهم برك * رحب اللسان عند ضيق المعترك
عسرى على نفسي ويسرى مشترك * لا تهلك النفس على شئ هلك
فليس في الهم إذا فات درك * ولم يدم شئ على دور الفلك
رب زمان ذله أرفق لك * لا عار إن ضاقك دهر أو ملك
آخر غيره:
لكل غم فرج عاجل * يأتيك في المصبح والممسا
لا تتهم ربك فيما قضى * وهو الامر وطب نفسا
لعبد الله بن المعتز (3):
سواء على الأيام حفظ وإعقال * وتارك سعى واحتيال ومحتال

(1) في الأصل يحوى وفى حل العقال قد يحوى.
(2) في حل العقال تقوم.
(3) البيتان غير مثبتين بديوانه.
444

ولا هم إلا سوف يفتح قفله * ولا حال إلا بعدها للفتى حال
آخر غيره:
جزعت كذا ذو الهم يجزع قلبه * ألا رب يأس جاء من بعده فرج
كأنك بالمحبوب قد لاح نجمه * وذو الهم من بين المضايق قد خرج
عن أبي بكر بن أبي الدنيا قال: أنشدني رجل من قريش:
ألم تر أن ربك ليس تحصى * أياديه الحديثة والقديمة
تسل عن الهموم فليس شئ * يقيم ولا همومك بالمقيمة
لعل الله ينظر بعد هذا * إليك بنظرة منه رحيمه
آخر غيره (1):
بيني وين الدهر فيك عتاب * سيطول إن لم يمحه الأعتاب (2)
يا غائبا بمزاره وكتابه * هل يرتجى من غيبتيك إياب
لولا التعلل بالرجاء تقطعت * نفس عليك شعارها الأوصاب
لا يأس من روح الاله فربما * يصل القطوع ويقدم الغياب
(وإذا دنوت مواصلا فهو المنى * سعد المحب وساعد الأحباب
وإذا نأيت فليس لي متعلل * إلا رسول بالرضا وكتاب) (3)
آخر غيره:
فلا تيأس وإن أعسرت يوما * فقد أيسرت في الدهر الطويل
(ولا تيأس فإن اليأس كفر * لعل الله يغى عن قليل
ولا تظنن بربك ظن سوء * فإن الله أولى بالجميل
فإن العسر يتبعه يسار * وقول الله أصدق كل قيل
فلو أن العقول تسوق رزقا * لكان المال عند ذوي العقول) (4)
آخر غيره (5):

(1) هو أبو الحسن علي بن هارون المنجم كما في الأرج والمعجم
(2) في الأصل تحمه
(3) الزيادة عن معجم الأدباء
(4) الزيادة عن حل العقال
(5) هو جحظة كما في الأرج.
445

فلا تيأس وإن صحت * عزيمتهم على الدلج
فإن إلى غداة غد * سيأتي الله بالفرج
فتصبح عيسهم عرجا * وقد كانت بلا عرج
آخر غيره:
ربما يطلع التفرج للكربة * كالبدر من خلال السحاب
وتزول الهموم في قدر الزر * يعرى عن عروة الجلباب
آخر غيره:
رميت بالهم لما رميت به * ولم أقم عرضا للخطب يرميني
ولست آيس من روح ومن فرج * ومن لطائف صنع سوف تكفيني
وقل ما كان من دهري إلى سوى * ما سلم الله من أحداث ديني
آخرى غيره:
وكم من ضيقة كدت بغم * وكان عقيبها فرج مفاجى
فأضيق ما يكون الامر أدنى * وأقرب ما يكون إلى انفراج
للعكوك (علي بن جبلة):
عسى فرج يكون عسى * نعلل أنفسنا بعسى
فلا تقنط وإن لا قيت * هما يغيظ النفسا
فأقرب ما يكون المرء * من فرج إذا أيسا
لبعضهم:
لعمرك ما المحبوب من يتقى * ويخشى ولا المحبوب من حيث يطمع
وأكثر خوف النفس ليس بكائن * فما (1) درك الهم الذي ليس ينفع
أنشدني أبو يوسف السهيلي عن المنجع الشاعر:
لا البؤس يبقى ولا النعيم ولا * حلقة ضيق ستفرج الحلقه
صبرا على الدهر في تجوره * كم فتح الصبر مرة علقه
غيره:

(1) كذا بالأصل.
446

جديد همك يبليه الجديدان * فاستشعر الصبر إن الدهر يومان
يوم يسوء فيسليه ويذهبه * يوم يسر وكل زائل فان
مفرد:
لا تعجلن هما بما لست تدرى * إن تراخى يكون أولا يكون
غيره:
عادني الهم فاعتلج * كل هم إلى فرج
آخر غيره:
الغم فضل والقضاء مغالب * وصروف أيام الفتى تتقلب
لا تيأسن وإن تضايق مذهب * فيما تحاول أن تعذر مطلب
وانظر إلى عقبى الأمور فعندها * لله عادة فرجة تترق
لسعيد بن حميد:
يوم عليك مبارك * ما شئت (1) من فرج وطيب.
عاد الحبيب لوصله * وحجبت عن عين الرقيب
(وكذا الزمان يدور * بالأفراح من بعد الركوب) (2)
فاشرب شرابا نقله * تقبيل سالفة الحبيب
ودموع الهموم فإنها * تنأى عن الصدر الرحيب
لابد من فرج قريب * يأتيك بالعجب العجيب
من إنشاد ابن هانئ المغنى على الطنبور:
علل همومك بالمنى * إلى فرج قريب
لابد من صنع قريب * يأتيك بالعجب العجيب
لا تيأسن وان ألحح * الدهر من فرج قريب
روح فؤادك بالرضا * ترجع إلى روح وطيب
غيره:
ليس لي صبر ولا جلد * قد يراني الهم والسهد

(1) في حل العقال ما عشت في
(2) الزيادة عن حل العقال
447

من ملمات تؤرقني * مالها من كثره عدد
ولعل الله يكشفها * فيزول الحزن والكمد
أنشدني محمد بن عبد الواحد بن الحسن بن طرخان لنفسه:
هاكها صرفا تلالا * لم يدنسها المزاج
واترك الهم لشانيك * فللهم انفراج
يا أبا وهب صديقي * كل ضيق إلى انفراج
اسقني صهباء صرفا * لم تدنس بمزاج
آخر غيره:
رضت بالله ان يعطى شكرت وإن * يمنع قنعت وكان الصبر من عددي
إن كان عندك رزق اليوم فاطرحن * عنك الهموم فعند الله رزق غد
آخر غيره:
سهل على نفسك الأمور * وكن على مرها وقورا
فان ألمت صروف دهر * فلا تكن عندها ضجورا
فكم رأينا أخا هموم * أعقب من بعدها سرورا
ورب عسر أتى بيسر * فسار معسوره يسيرا
آخر غيره:
تعز ولا تأسى على وتبتئس * فجدي محظوظ وأمري مقبل
لعل الليالي أن تعود كعهدنا * ويجمعنا حال يسر ويجذل
ويعقب هذا البؤس نعمى وهمنا * سرور وبلوانا سراح معجل
أنشدني سعد بن محمد " الأزدي " البصري " البغدادي " لنفسه:
ان الزمان غرور * له صروف تدرو * فاصبر فرب اغتمام * يأتيك منه سرور
قال مؤلف الكتاب وفى محنة لحقتني فكشفها الله تعالى فقلت:
هون على قلبك الهموم فكم * قاسيت هما أدنى إلى الفرج
ما الشر من حيث تتقيه ولا * كل مخوف يفضى إلى الترح
448

ولآخر من قصيدة أولها:
هل مشتكى لغريب الدار ممتحن * أو راحم لضعيف الأسر مرتهن (1)
يقول فيها:
كأن جلدي سجن فوق أعظمه * والروح محبوسة للهم في بدني
فالحمد لله حمد الصابرين على * ما ساءني في قضاياه وأفجعني
لعل دهري بعد اليأس يسعفني * بما أحب وما أرجو ويعرفني
وأن أنال المنى يوما وإن طويت * من فوق جثماني من كفني
ولآخر (2) غيره:
وما زال هذا الدهر يأتي بأضرب * تسر وتبكى كلها تتنقل
فلا حزن يبقى على ذي كآبة * ولا فرح يحظى من يؤمل
ولآخر غيره:
في ذمة الله من سارت بسيرهم * مسرتي وأقام الخوف والحرق
لئن أشطهم دهر قضى شططا * وأزهق النفس هم حكمه الزهق
لقد أناب بعيني بعد غيبتهم * نجب عوائقها وامتدت العلق
ولآخر غيره:
يا قارع الباب رب مجتهد * قد أدمن القرع ثم لم يلج
ورب مستفتح (3) يوم على مهل * لم يشق في قرعة ولم يهج
علام يشقى الحريص في طلب الرزق بطول الرواح والدلج
وهو إن كف عنه طالبه الرزق وإن عاج عنه لم يعج
فاطو على الهم كشح مصطبر * فآخر الهم أول الفرج
غيره:

(1) في الأصل أو راحم له لم يبق الأسر مرتهن.
(2) هو أبو الفرج الأصبهاني كما في حل العقال.
(3) في الأصل مستورد وما أثبتناه رواية الأرج.
449

إصحب الدنيا مياومة * وادفع الأيام تندفع
وإذا ما ضيقة عرضت * فالقها بالصبر تتمتع
غيره (1)
درج الأيام تندرج * وبيوت الهم لا تلج
رب أمر عز مطلبه * قربته (2) ساعة الفرج
غيره:
كما لم يكن عصر العصارة باقيا * كذلك عصر البؤس ليس بثابت
وأنشدني أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج الكاتب
البغدادي لنفسه:
تسل عن الهموم مصطبرا * وكن لما كان غير منزعج
فكل ضيق يتلوه متسع * وكل هم يفضى إلى فرج
ولآخر:
إذا ضيقت أمرا ضاق جدا * وإن هونت ما قد عز هانا
فلا تهلك لما قد فات غما * فكم شئ تصعب ثم لأنا
ولآخر غيره:
لا يؤيسنك من مخبأة * أمر تغلظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرة * فالصعب يمكن بعدما جمحا
ولآخر غيره:
عرضن للذي يحب بحب * ثم دعه يروضه إبليس
فلعل الزمان يدنيك منه * إن هذا الهوى نعيم وبؤس
ولآخر غيره:
تحبب فإن الحب داعية الحب وكم * من بعيد الدار مستوجب القرب
تبين فان حدئت أنا أخا هوى * نجاسا لما فارج النجاة من الكرب

(1) كان الامام مالك رحمه الله يتمثل بهذين البيتين.
(2) في الأصل هونته وما أثبت رواية حل العقال.
450

(وأحسن أيام الهوى يومك الذي * تروع بالهجران فيه وبالعتب (1)
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى * فأين حلاوات الرسائل والكتب
للعباس بن الأحنف:
تعز وهون عليك الأمورا * عساك ترى بعدهم سرورا
لعل الذي بيديه الأمور * سيجعل في الكره خيرا كثيرا
(أكاتم ما بي فلا أستطيع * مع من شدة الوجد أن أستشير) (2)
أما تحسبيني أرى العاشقين * مثلي ولست أرى لي نظيرا
ولآخر غيره
قربت لي أملا فأصبح حسرة * ووعدتني وعدا فصار وعيدا
فلأصبرن على شقائي في الهوى * فلربما عاد الشقي سعيدا
ولآخر (3) غيره:
أيا سروة البستان طال تشوقي * فهل لي إلى ظل لديك سبيل
متى يلتقى من ليس يقضى خروجه * وليس لمن يهوى إليه وصول
عسى الله أن نرتاح من كربة لنا * فيلقى اغتباطا خلة وخليل
ولآخر غيره:
لعل التلاقي في ليال * وأيام من الدنيا بقينا
حبيبا نازحا أمسيت منه * على يأس وكنت به فتينا
ولآخر غيره:
لئن درست أسباب ما كان بيننا * من الوصل ما تتوقى إليك بدارس
وما أنا من أن يجمع الله بيننا * كأحسن ما كنا عليه - بآيس
ولآخر (4) غيره:

(1) الزيادة عن زهر الآداب وهو وما عبد منسوبان فيه للعباس بن الأحنف
وإن كان وما قبلهما غير موجودة بالديوان.
(2) الزيادة عن الديوان.
(3) هي علية بنت المهدى.
(4) هو قيس بن الملوح مجنون بنى عامر وهذا البيت من قصيدة طويلة مثبتة في تزيين الأسواق.
451

وقد يجمع الله الشتيتين بعد * ما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
غيره:
وما أنا منه بعد ذاك بآيس * بأن يأذن الله لي في اجتماع
فاتعس حد النوى باللقا * وأرغم بالقرب أنف الزماع
أنشدني سعد بن محمد (الأزدي) البصري (البغدادي) الوحيد (1) الشاعر:
كانت على رغم العدى أيامنا * مجموعة النشوات والاضطراب
ولقد عتبت على الزمان لبينهم * ولعله سيمن بالاعتاب
ومن الليالي أن علمت أحبة * وهي التي تأتيك بالأحباب
وله أيضا:
إن راعني منك الصدود * فلعل أيامى تعود
إذ لا تناولنا يد النعماء * إلا ما نريد
ولعل عهدك باللوى * يحيا فقد تحيا العهود
والغصن ييبس مرة * وتراه مخضرا يميد
إني لأرجو عطفة * يبكى لها الواشي الحسود
فرجا تقربه العيون * من فينجلي عنها السهود
مما أنشده علي بن مقلة في نكبته عقيب الوزارة الأولى:
إذا اشتملت على اليأس القلوب * وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واطمأنت * وأرست في أماكنها الخطوب
(ولم تر لانكشاف الضر وجها * ولا أغنى بحيلته الاريب) (2)
أتاك على قنوط منك غوث * يمن به اللطيف المستجيب
فكل الحادثات إذا تناهت * فموصول بها الفرج القريب
ولغيره. (وهو جعفر بن ورقاء الشيباني):

(1) في الأصل الوجيه وهو خطأ لان المعروف بالوجيه هو المبارك بن
المبارك أحد أدباء القرن السادس كما في المعجم وأيضا فقد صرح ياقوت في
ترجمة سعد هذا بأنه المعروف بالوحيد.
(2) الزيادة عن الأرج وهذه الأبيات لسيدنا علي رضي الله عنه.
452

الحمد لله على ما قضى * في المال لما حفظ المهجة
ولم تكن من ضيقة هكذا * إلا وكانت بعدها فرجه
للحسين بن عبد الرحمن:
لعمر بنيني الذين أراهما * جزوعين إن الشيخ غير جزوع
إذا ما الليالي أقبلت بإساءة * رجونا بأن تنأى بحسن صنيع
عن ابن أبي الدنيا (لرجل من قريش)
حلبنا الدهر أشطره ومرت * بنا حقب (1) الشدائد والرخاء
فلا (2) تأسف على دنيا تولت * ولا تفزع إلى غير الدعاء
هي الأيام تكلمنا وتأسو * وتأتى بالسعادة والشقاء
توكلت على رب السماء * وسلمنا لأسباب القضاء
ولغيره:
عسى فرج من حيث تأتى مكارهي * يجئ به من جاءني بالمكاره
سيرتاح لي مما أعاني بفرجة * فينتاشني منه بحسن اقتداره
عسى منقذ موسى بحسن جواره * وقد طرحته أمه بالمكاره
لمحمود الوراق:
إذا من بالسراء عم سرورها * وإن مس بالضراء أعقبها الاجر
وما منهما إلا له فيه منة * تضيق بها الأوهام والبر والبحر (3)
للعباس بن الأحنف (4):
قالوا لنا إن باللقا طول مشتانا * ونحن نأمل صنع الله مولانا
والناس يأتمرون الرأي بينهم * والله في كل يوم محدث شانا
وقال مؤلف هذا الكتاب:
لئن عداني الدهر عنك يا أملى * وسل جسمي بالأسقام والعلل
وشت شمل تصافينا والفتنا * الدهر ذو غير والدهر ذو دول

(1) في الأصل عقب
(2) في الفرج لابن أبي الدنيا فلم ولم
(3) في حل العقال والوصف والشكر
(4) البيتان غير مثبتين بديوانه
453

الحمد لله حمد الشاكرين على ما * شاء من حادث يوهي قوى الامل
قد اشتكت لصروف الدهر والتحقت * على فيك غواشي الحزن والوجل
واعتضت منك بسقم شانه خلل * ومن وصالك بالهجران والملل
وبعد أمنى من عذر ومثنية * عذار يسرح بالألفاظ والرسل
ومن لقائك لقى الطب أرحمهم * فظ وأرفقهم يدنى إلى الاجل
فلست آيس من رجع الوصال ولا * عود العوافي ولا آمن من السبل
وله في محنة لحقته من قصيدة:
أما للدهر من حكم رضى * يدال به الشريف من الدنى
ويستعلى الرؤوس من الذنابى * وينتصف الذكي من الغبي
ومن عاصاه دمع في بلاء * فليس بكاء عيني بالعصى
وما أبكى لوفر لم يفده * زمان خان عهد فتى وفى
ولا آسى على زمن تولى * بعيش ناضر غض ندى
ومن حدث تفوتني المعالي * على عهد بها حدث وفى (1)
وإن يدي لتقصر عن هلاك ال * عدو وعن مكافأة الولي
وما تلقى الحوادث إن ألمت * سوى قلب عن الدنيا سخى
وصبر ليس تنزحه الليالي * كنزح الدلو صافية الركى
وليس بآيس من كان يخشى * ويرجو الله من صنع قوى
وله عند صرفه من تقلده القضاء بالأهواز وقبض صيغة من صياغه
وحضوره إلى بغداد:
لئن أشمت الأعداء صرفي ورحلتي * فما صرفوا فضلى ولا انصرف المجد
مقام وتر حال وقبض وبسطة * كذا عادة الدنيا وأخلاقها النكد
وما زلت جلدا في المهمات (2) قبلها * ولا غر وفي الأحيان أن يغلب الجلد
فكم ليث غاب شردته ثعالب (2) * وكم من حسام فله غيلة غمد

(1) بالأصل: حدث في ولعل الصواب ما أثبتناه
(2) في حل العقال الملمات
(3) في الأصل يدلها وما أثبت رواية حل العقال
454

وكم جيفة تعلو وترسب درة * ومنحسة تقوى إذا ضعف السعد
ألم تر أن الغيث يجرى على الربا * فيحظى به إن جاد صيبه الوهد
وكم فرج والخطب يعتاد (1) نيله * يجئ على يأس إذا ساعد الجد
لقد أقرض الدهر السرور فإن يكن * أساء اقتضاء فالقروض لها رد
فكم فرحة تأتى على إثر ترحة * وكم راحة تطوى إذا اتصل الكد
وكم منحة من محنة تستفيدها * ومكروه أمر فيه للمرتجى وفد
على أنني أرجو لكشف الذي غدا * مليكا له في كل نائبة رفد
فيمنع منا الخطب والخطب صاغر * وتمسى عيون الدهر عنا هي الرمد
ونعتاض باللقيا من البين أعصرا * مضاعفة تبقى ويستهلك البعد
أنشدني سعد بن محمد الشاعر الوحيد رحمه الله:
يا نفس كونى لروح الله ناظرة * فإنه للأماني طيب الأرج
كم لحظة لك مخلوس تقلبها * كانت تردد بين اليأس والفرج
ولآخر غيره:
أتيأس أن يساعدك النجاح * فأين الله والقدر المتاح
هي الأيام والنعمى ستجزى * يجئ بها غدو أو رواح
ولآخر غيره (2):
إذا اشتد عسر فارج يسرا * فإن قضاء الله أن العسر يتبعه يسر
عسى ما ترى ألا يدوم وأن ترى * له فرجا يوما يجئ به العسر
(إذا ما ألمت شدة فاصطبر لها * فخير سلاح المرء في الشدة الصبر
وإني لأستحيي من الله أن أرى * إلى غيره أشكو وإن مسني الضر) (3)
عسى فرج يأتي به الله إنه * له كل يوم في خليقته أمر
فكن عندما يأتي به الدهر حازما * صبورا فإن الخير مفتاحه الصبر

(1) في حل العقال يعتاف.
(2) هو - كما في الأرج - أبو علي محمد بن محمد بن الشاطر الأنباري.
(3) الزيادة عن الأرج وحل العقال.
455

فكم من هموم بعد طول تكشفت * وآخر معسور الأمور له يسر
ولغيره:
وأكثر ما تلقى الأماني كواذبا * فإن صدقت حادت بصاحبها العذرا (1)
وآخر إحسان الليالي إساءة * على أنها قد تتبع العسر باليسر (2)
ولغيره:
لا تجزعن فإن العسر يتبعه * يسر ولا بؤس إلا بعده ريف
وللمقادير وقت لا تجاوزه * وكل أمر على الاقدار موقوف
ورب من كان معزولا فيعزل من * ولى عليه وللأحوال تصريف
ولغيره:
من ذا رأيت الزمان أيسره * فلم يشب يسره يرما بتعسير
أم هل ترى عسرة تمت على أحد * دامت فلم تنكشف إلا بتيسير
ولغيره:
الدهر (3) لا يبقى على حالة * والعسر قد يتبعه يسر
ولغيره:
صبرا قليلا فإن الدهر ذو غير * ما دام عسر على حال ولا يسر
قد يرحم المرء من يرضى (4) بمحنته * وليس يعلم ما يخبى له القدر
والدهر حلو ومر في تصرفه * وخير وشر وفيه العسر واليسر
ولغيره:
كل الأمور إلى * من قد يتم الأمور
وافزع إليه إذا لم * يجرك عجزا مجير
فكل صعب عسير * عليه سهل يسير

(1) كذا بالأصل فليحرر.
(2) في الأصل باليسرا.
(3) في الأصل المرء.
(4) في الأصل يغلظ
456

ولغيره:
أيها الانسان صبرا * إن بعد العسر يسرا
أشرب الصبر وإن * كان من الصبر أمرا
ولغيره:
كن عن همومك معرضا * وكل الأمور إلى القضا
وأبشر بطول سلامة * تسليك عما (1) قد مضى
(فلربما اتسع المضيق * وربما ضاق الفضا
ولرب أمر مسخط * لك في عواقبه رضا
الله يفعل ما يشاء * فلا تكن متفرضا) (2)
ولغيره:
صبرا وامهالا فكل ملمة * سيكشفها الصبر الجميل فأمهل
ولغيره:
فقد يأمل الانسان مالا يناله * ويأتيه رزق الله من حيث ييأس
ولغيره:
إذا استصعبت من دنياك حالا * ففكر في صروف كنت فيها
وأحدث شكر من نجاك منها * وأبدلها بنعمى ترتضيها
ولآخر غيره:
الدهر اعراض واقبال * وكل حال بعدها حال
ما أحسن الصبر ولا سيما * بالخر إن حالت به الحال
فصاحب الأيام في غفلة * وليس للأيام إغفال
أنشدني نصير بن محمد الأزدي مولى الأزد:
إني رأيت - وفى الأيام تجربة - * للصبر عاقبة محمودة الأثر
فاصبر على مضض الادلاج في السحر * وفى الرواح إلى الحاجات والبكر

(1) رواية الأرج بخير عاجل تنسى به ما.
(2) الزيادة عن الأرج وحل العقال
457

لا يعجزنك ولا يضجرك مطلها * فالنجع يتلف بين العجز والضجر
وقل من جد في أمر يحاوله * واستصحب الصبر إلا فان بالظفر
لغيره:
قد فرج الله من الهجر * ونلت ما أمل بالصبر
في ساعة اليأس أتاني المنى * كذاك تأتى دول الدهر
لغيره:
فصبرا أبا جعفر إنه * مع البر نصر من الصانع
فلا تيأسن أن تنال الذي * يؤمك من فضله الواسع
ولغيره:
إذا ضاق زمن بامرء * كان فيه بعض ضيق متسع
ولغيره:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت * ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
محمود الوراق:
صابر الصبر على كر النوائب * من كنوز الصبر كتمان المصائب
والبس الدهر على علاته * تجد الدهر مليئا بالعجائب
أنشدني الوحيد لنفسه:
عليك رجاء الله ذي الطول واللطف * بجملة ما تبدى (1) من الامر أو تخفى (1)
فقد خلق الأيام دائرة بنا * تقلبنا من كل (2) صرف إلى صرف
وكم فرج لله يأتي مرفرفا * على خافق (3) الأحشاء في تلف مشف (3)
فلا تمكنن من قلبك اليأس والاسى * لعل الذي ترجوه في مرجع الطرف
وصبرا جميلا إن للدهر عادة * مجربة اتباعه العسف بالعطف
لابن بسام:

(1) في الأصل يبدي. يخفى وما ثبت رواية حل العقال
(2) في حل العقال. كر.
(3) في الأصل تلف. شف وما ثبت رواية حل العقال.
458

ألا رب ذل ساق للنفس عزة * ويا رب نفس بالتعزز ذلت (1)
ينزل تبارك (2) رزاق البرية كلها * على ما رآه لا على ما استحقت
وكم ماجد (3) في القيد والباب دونه * ترقت به أحواله وتعلت
تشوب القذا بالصفو والصفو بالقذى * فلو أحسنت في كل حال لملت
سأصدق نفسي إن في الصدق راحة * وأرضى بدنيائي وإن هي قلت
وإن طرقتني الحادثات بنكبة * تذكرت ما عوفيت منه فقلت
(وما محنة إلا ولله نعمة * إذا قابلتها أدبرت واضمحلت (4))
ولآخر غيره:
كأنك بالأيام قد زال بؤسها * وأعطتك منها كل ما كنت تطلب
فترجع عنها راضيا غير ساخط * وتحمدها من بعدما كنت تعتب
حدثني الحسن بن صافي قال: رأيت على حائط مسجد مكتوبا بالفحم:
ليس من شدة تصيبك إلا * سوف تمضى ويكشف الضر كشفا
لا يضيق ذرعك الرحيب فان * النار يعلو لهيبها ثم تطفا
قد رأينا من كان أشفى على الهلك * فجاءت نجاته حين أشفى
ولآخر غيره:
الدهر خدن مصاف ذو مخادعة * لا يستقيم على حال لانسان
حلو ومكر وذو من ذو قرف * يخالط السوء منه فرط إحسان
ولغيره (5):
لئن قدمت قبل رجال لطالما * مشيت على رسلي فكنت المقدما

(1) في الأصل بالتذلل عزت. وفى حل العقال. للتعزز ذلت.
(2) في الأصل تنزل أرزاق وما ثبت عن حل العقال.
(3) في حل العقال فكم حائل.
(4) الزيادة عن حل العقال.
(5) هو القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني والبيتان من قصيدته
المشهورة في فضل العلم.
459

ولكن هذا الدهر يعقب صرفه * فيبرم منقوضا وينقض مبرما
وأنشدني أبو الفرج الببغاء لنفسه:
كم كربة ضاق وسعى عن تحملها * فملت عن جلدي فيها إلى جزعي
ثم استكنت فأدنتني إلى فرج * لم يجر بالظن في يأسى ولا طمعي
أنشدني سيدوك الواسطي من قصيدة:
أبى الله إلا أن يعيظ (1) عباده * فجلسته تحت الشراع المطنب
إلى أن يموت المرء يرجى ويتقى * ولا يعلم الانسان ما في المغيب
ولآخر غيره:
ما أحسن الصبر في مواطنه * والصبر في كل موطن حسن
حسبك من حسنه عواقبه * عاقبة الصبر مالها ثمن
وقال غيره:
إن ضقت من خطب ألم فعنده * فرج يرجى عنده ويخاف
فاصبر على قحب النوائب مثل ما * صبرت لها آباؤك الاشراف
أنشدت لعمرو بن معد يكرب الزبيدي:
وكانت على الأيام نفسي عزيزة * فلما رأت صبري على الذل ذلت
وكم غمرة دافعتها بعد غمرة * تجرعتها بالصبر حتى تولت (2)
لأبي العتاهية:
الدهر لا يبقى على حالة * لابد ما يقبل أو يدبر
فان تلقاك بمكروهه * فاصبر فان الدهر لا يصبر
لعلي بن الجهم:
هي النفس ما إن حملتها تتحمل * وللدهر أيام تجور وتعدل
وعاقبة الصبر الجميل جميلة * وأجمل أخلاق الرجال التحمل
ولآخر غيره:
لا تعتبن على النوائب * فالدهر يرغم كل عاتب

(1) كذا بالأصل
(2) هذه رواية حل العقال وفى الأصل عنها فولت
460

واضبر على حدثانه * إن الأمور لها عواقب
فلكل صافية قذى * ولكل خالصة شوائب
(والدهر أولى ما صبر * ت له على رنق المشارب
كم نعمة مطوية * لك تحت أنياب النوائب
ومسرة قد أقبلت * من حيث تنتظر المصائب) (1)
ولآخر غيره:
فاصبر على حلو القضاء ومره * فان اعتياد الصبر أدى إلى البر
خير الأمور خيارهن عواقبا * وكم قد أتاك النفع من جانب الضر
وقال غيره:
وإني لأرجو الله يكشف كربتي * ويسمع للمظلوم دعوة مضطر
لقد عجمتني العاجمات مثقفا * إذا ضاق أمر قد تناهى إلى الصبر
وما حزنى أن كر دهر بصرفه * على ولكن أن يفوت به وترى
فان فاتني وترى فأيسر فائت * إذا أنا عوضت الثواب من الوفر
ولطف كفايات الاله مبشر * بنيل الذي أملت لا بيد صفر
فإن يهل الامر أمرا فهو آمل * بلوغ الغنى فيما يهول من الامر
ورب مضيق بالقضاء ووارط * رأى مخرجا بين المثقفة السمر
آخر غيره:
ليس لما ليست له حيلة * موجودة خير من الصبر
والصبر مر ليس يقوى به * غير رحيب الباع والصدر
ولآخر غيره:
وما التحف المرء بالصبر إلا * وكفت عنه أيدي النائبات
وذو الصبر الجميل يفيد عزا * ويكرم في الحياة وفى الممات
ولآخر غيره:
الصبر مفتاح ما يرجى * وكل خير به يكون (2)

(1) الزيادة عن حل العقال
(2) رواية حل العقال وكل صعب به يهون
461

فاصبر وإن طالت الليالي * فربما طاوع الحرون (1)
وربما نيل باصطبار * ما قيل هيهات لا يكون
لأبي الحسن الأطروش المصري من أبيات:
ما زلت أدفع شدتي بتصبري * حتى استرحت من الأيادي والمنن
فاصبر على نوب الزمان تكرما * فكأنما ما كان منه لم يكن
ومما وجد على حجر قبر مكتوب:
اصبر لدهر نال منك * فهكذا مضت الدهور
فرح وحزن تارة * لا الحزن دام ولا السرور
ولآخر غيره (2):
اصبر على الدهر إن أصبحت منغمسا * بالضيق في لجج تهوى إلى لحج
فإن تضايق باب (3) عنك مرتتج * فاطلب لنفسك بابا غير مرتتج
لا تيأسن إذا ما ضقت من فرج * يأتي به الله في الروحات والدلج
فما تجرع كأس الصبر معتصم * بالله إلا أتاه الله بالفرج
ولآخر غيره:
وألزمت نفسي الصبر في كل محنة * فعادت بإحسان وخير عواقبه
ومن لم ينط بالصبر والرفق قلبه * يكن عرضا أودت بليل جوانبه
ولغيره (4):
وإني لأغضي مقلتي على القذى * والبس ثوب الصبر أبيض أبلجا
وإني لأدعو الله والامر ضيق * على فما ينفك أن يتفرجا
وكم من (5) فتى سدت عليه وجوهه * أصاب لها في دعوة الله مخرجا
(أبو جعفر) محمد بن بشير (الحميري:

(1) رواية الأرج. ساعد
(2) هو كما في حل العقال - عبيد الله الحارثي
(3) كذا في الأرج وفى الأصل وحل العقال أمر
(4) هو كما في الأرج وحل العقال أبو إسحق الثعلبي المفسر
(5) في الأرج ورب
462

إن الأمور إذا اشتدت مسالكها * فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
لا تيأسن - وإن طالت مطالبة * إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
(أخلق بذى الصبر أن يحظى بحاجته * ومدمن القرع للأبواب أن يلجا) (1)
لمدرك بن محمد الشيباني:
مستعمل الصبر مقرون به الفرج * يبلى ويصبر والأشياء ترتج
حتى إذا بلغت مكنون غايتها * جاءتك تزهر في ظلماتها السرج
فاصبر ودم وأقرع الباب الذي طلعت * منه المطالع فالمغرى به يلج
بقدرة الله فارج الله وارض به * فعن إرادته الغماء تنفرج
ولآخر غيره:
ثبوت الخطب أوله غليل * وآخره شفاء من عليل
فكم من علة كانت إلى ما * يجيش عتابه أهدى سبيل
ورب منيحة بفناء قوم * من الاحداث فهي إلى رحيل
كلا نجمي صروف الدهر خيرا * وشرا لابس ثوب الأفول
ولغيره (4):
قل من سره رضا الدهر إلا * ساء سخله بما لا يطاق
وكذا عادة الزمان شتات * والتثام وألفة وافتراق
لأبي أحمد يحيى بن علي المنجم إلى أبى على محمد بن عبيد الله بن خاقان لما
ولى الوزارة من أبيات:
لقد كذبت فيك العدو ظنونه * وقد صدقت فيك الصديق المواعد
وقد تحسن الأيام بعد إساءة * وإن كان في الامرين منها تباعد
ولغيره:
بيد الذي شغف الفؤاد بكم * تفريج ما ألقى من الهم
كرب بقلبي ليس يكشفه * إلا مليك عادل الحكم

(1) الزيادة عن الأرج وحل العقال
(2) هو - كما في حل العقال - عبيد الله الحارثي.
463

ولغيره:
أآلفة الحبيب كم افتراق * أظل وكان داعيه اجتماعي
وليست فرجة إلا وتأتى * لموقوف على نزح الوداع
ولغيره:
ولله لطف يرتجى ولعله * سيعقبنا من كسر أيدي الندا جبرا
ورب أمر (1) مرتج بابه * عليه إن يفتح أقفال (2)
ضاقت بذى الحيلة في فتحه * حيلته والمرء محتال
ثم تلقته مفاتيحه * من حيث لا يخطره البال
لعبد الله بن طاهر من أبيات جوابا:
دعوت مجيبا يا أبا الفضل سامعا * ويا رب مدعو وليس بسامع
فأوقعت شكواي الزمان وصرفه * إليه بحق في أحق المواقع
فصبرا قليلا كل هذا سينجلي * ويدفع عنه السوء أقدر دافع
فما ضاق أمر قط إلا وجدته * يؤول إلى أمر من الخير واسع
لمحمد بن حازم الباهلي:
إذا نابني خطب فزعت لكشفه * إلى خالقي من دون كل حميم
وإن من استغنى وإن كان معسر * على ثقة بالله - غير ملوم
ألا رب عسر قد أتى اليسر بعده * وغمرة كرب فجرت لكظيم
وله أيضا رحمه الله:
ألا رب أمر قد أضاق وحاجة * لها بين أحشاء الضلوع عويل
فلم تلبث الأيام أن عاد عسرها * بيسر ونجح والأمور تحول
ولغيره (3):
كن لما لا ترجو من الامر أرجى * منك يوما لما له أنت راجي

(1) كذا في حل العقال وفى الأصل امرئ.
(2) في حل العقال عليه إغلاق واقفال.
(3) هو - كما في الأرج - وهب بن ناجية المرى.
464

إن موسى مضى ليقبس نارا * من شعاع يلوح (1) والليل داجي
فانثنى راجعا وقد كلم الله * وناجاه وهو خير مناجي
وكذا الامر حين (2) يشتد بالمر * ء يؤدى إلى سرعة الانفراج
ولغيره:
اصبر على مضض الزما * ن وإن رمى بك في اللجج
فلعل طرفك لا يعود * إليك إلا بالفرج
ولغيره:
فيا صاحبي رحلي على أن أراكما * كما كنتما إن الزمان ينوب
ولا تيأسن من فرحة بعد ترحه * فللدهر لغز حادث وخطوب
سيرحمنا مولى شعيب وصالح * وأرحامنا تدلى بنا فتجيب
ولغيره:
خاف من فقر تعجله * والغنى أولى لمنتظره
ليس منكورا ولا عجبا * أن يعود الماء في نهره
ولغيره:
ألا أيها الشاكي الذي قال مفصحا * لقد كاد فرط اليأس أن يتلف المهج
رويدك لا تيأس من الله واصطبر * عسى أن يوافينا على غفلة فرج
ولغيره:
من صاحب القدر اقتدر * أولى بفوز من صبر
ولغيره:
إن سأل الزمان سر * الصبر عنوان الظفر
ولغيره:

(1) رواية الأرج من ضياء رآه.
(2) رواية الأرج ربما ضاق بالمر * ء فيتلوه سرعة.
465

إني وإن عصفت بالعيش نائبة * سبط التبختر بين اليأس والطمع
لا أستذم إلى صبر بهجرته * ولا أسوء زمان السوء بالجزع
كم نكبة في حشاها نعمة ويد * لله نأملها من هول مطلع
وكم فزعت من الأيام ثم أتت * تمد أيديها نحوى من الفزع
إذا بدت نكبة فالحظ آخرها * فانظر إلى فرج للكرب ممتنع
ولغيره:
يا هاربا من زمن جائر * يجنى الملمات على الحر
اصبر فما استمتعت في مطلب * بشافع خير من الصبر
وأبشر فإن اليسر يأتي الفتى * أقنط ما كان من اليسر
أنشدني سعد بن محمد الأزدي لنفسه:
لا يوحشنك من جميل تصبر * خطب فإن الصبر فيه أحزم
العسر أكرمه ليسر بعده * ولأجل عين ألف عين تكرم
لم يشك منى عسرة يوما ولا * جورا ولا قلنا على ما يحكم
والمرء يكره بؤسه ولعله * يأتيه فيه سعادة لا تعلم
ولغيره (1):
كانت إليك من الحوادث ذلة (2) * فاصبر لها فعلها تستغفر
إنا لنتهض (3) الخطوب بصبرنا * فالخطب ممتهن لمن لا يصبر
ولرب ليل بت فيه بكربة * وغدا بفرجتها الصباح المسفر
ولغيره:
أدبتني طوارق الحدثان * فتجافيت عن ذنوب زماني
كنت أشكو من الزمان خطوبا * أظهرت لي جواهر الاخوان
فتبينت منهم الخير والشر * وأهل الوفاء والخلان
وتوكلت في أموري على * الله اللطيف المهيمن المنان

(1) هو - كما في حل العقال - سعد بن محمد الأزدي.
(2) في حل العقال زلة.
(3) في حل العقال لنمتهن.
466

وتيقنت أنه سوف يكفيني * صروف الدهور والأزمان
ثم يمحو بالعسر يسيرا وبالنعمة * ضرا كما أتى في القران
إن تصبرت وانتظرت غياث الله * وافى كاللمح في الأحيان
هو عوني في كل خطب ملم * عدمت فيه نصرة السلطان
ولغيره:
إن يكن خانني اجتهادي (1) فما ذا * ك على مطلب الكريم بعاد
يحرم الليث صيده وهو منه * بين حد الأنياب والأظفار
ويزل السهم السديد عن القصد * وما تلك زلة الأسوار
ليس كل الأقطار يروى من الغيث * وإن عمها بصوت القطار (2)
إن يخني رشاء دلوي فقد * أحكمت اكرابه بعقد مغار (3)
أو يعد فارغا إلى فما * ألقيت إلا إلى المياه الغزار (4)
إن أساء الزمان بي فلقد * أحسنت صبرا وما أساء اختياري
وعسى فرجة تفتح نحوى * ناظر اليسر (5) بعد طول انتظار
ما لقيت الاعسار بالصبر * بشرتني وجوهه باليسار
ولغيره:
صرا فقد تتحقق الآمال * وتحول عما تكره الأحوال
إن كان قد ظفر الصدود بوصلنا * فلسوف يظفر بالصدود وصال
ولغيره:
فالامر في معناهما واحد * لذاك شكر ولذاك صبر
حتى أرى الاقدار قد فرجت * وكل عسر فله يسر

(1) كذا في حل العقال وفى الأصل إن أكن خبث إذا سألت.
(2) في حل العقال بثوب.
(3) كذا في حل العقال وفى الأصل اكرامه.
(4) كذا في حل العقال وفى الأصل القرار.
(5) كذا في حل العقال وفى الأصل ناصر النصر.
467

لغيره:
إن يأذن الله فيما بت آمله * أتى النجاح حثيثا غير ممطول
مالي سوى الله مأمول لنائبة * والله أكرم مسؤول ومأمون
لغيره:
حزنت وذو الأحزان يجرح صدره * ألا رب حزن جاء من بعده فرج
كأنك بالمحبوب قد لاح نجمه * وباليسر من بين المضايق قد خرج
لابن الرومي رحمه الله:
لعل الليالي بعد سخط من النوى * ستجمعنا في ظل تلك المآلف
ألا إن للأيام بعد انصرافها * عواطف من إحسانها المتضاعف
وله أيضا:
ورب جلباب هم * له من الصنع جيب
وكل خير وشر * دون العواقب غيب
ولغيره:
أقول قول حكيم * فاعرف بفهمك شرحه
كم فرجة إثر ضيق * وفرحة بعد ترحه
فالعسر يعقب يسرا * والهم يعقب فرحه
والعيش فاعلم ثلاث * غنى وأمن وصحه
لمؤلف الكتاب:
قل لمن أودى به الترح * كل هم بعده فرح
لا تضق ذرعا بنازلة * وارمها بالصبر تنفسح
غالط الاحداث مجتهدا * كل ما قد حل منتزح
وأزح بالراح طارقها * فجلاء الكربة القدح
ألقى بالمزج المريح أذى * حدها إن شئت تسترح
ولغيره:
وكأن يرى من ذي هموم تفرجت * وذي غربة عن داره وهو مسعود
468

ولغيره:
لا يرعك الشر إن ظهرت * بتهاويل (1) مخائله
رب أمر سر آخره * بعد ما ساءت أوائله
ولغيره (2):
فلا تجزع وإن أعسرت يوما * فقد أيسرت في زمن طويل
ولا تيأس فإن اليأس كفر * لعل الله يغنى عن قليل
ولا تظنن بربك ظن سوء * فان الله أولى بالجميل
ولغيره:
هل الهم إلا فرجة تتفرج * لما معقب يجرى إليه ويزعج
أبى لي اغضاء الجفون على القذا * يقين بأن لا عسر إلا مفرج
أخطط في ظهر الحصير كأنني * أسير يخاف القتل والهم يفرج
ويا ربما ضاق الفضاء بأهله * وأمكن من بين الأسنة مخرج
ولغيره:
أجارتنا أن التعفف بالبأس * فقير على استدرار دنيا بأساس
جدير بأن لا يؤذيا بمذلة * كريما فان لا يحوجاه إلى الناس
ولى مقلة تنفى القذا عن جفونها * وتأخذ من إيحاش دهر وإيناس
أجارتنا إن القداح كواذب * وأكثر أسباب النجاح مع الياس
ولغيره:
ولا تحسبون الخير لا شر بعده * ولا تحسبون الشر ضربة لازب
ولغيره:
ألا لا تموتن اغتماما وحسرة * وهما إذا ما سارح الهم أجذبا
وصبرا إذا ما الجذب ليس بدائم * كما لم يدم عشب لمن كان أعشبا
ولغيره:
استقدر الله خيرا وأرضين به * فبينما العسر إذا دارت مياسير

(1) في الأرج بتأويل
(2) تقدمت هذه الأبيات
469

ولغيره:
أما علمت بأن العسر يتبعه * يسر كما الصبر مقرون به الفرج
ولغيره:
إذا ما البين أحوجني * فليس على النوى حرج
دعى لومي على صلتي * سيقطع بيننا حجج
سأركب هول مظلمة * أفرجها فتنفرج
ولغيره:
عدا للبين موعدنا * فإن إلى غد فرج
دنى الهجر (1) والدلج * فقصدي للمنى يلج
ولى هم يؤرقني * على بحر له لجج
أطاف بحالك وضح * عليه من البلى بهج
أقول لنفس مكتثب * عليه من الردى ثبج
رضا ما دمت سالمة * فإن العيش مندعج
ولا تستخفين بها * فوجه الحق منبلج
وزور الحق ممتهن * إذا دارت به اللجج
وقائلة تعاتبني * وجنح الفجر منبلج
فقلت رويد معتبتي * لكل ملمة فرج
ذريني خلف قاصية * تضايق بي وتنفرج
أسرك أن أكون رفعت * حيث الامر والمهج
وأنى بت يصهرني * بحر جهنم وهج
فأدرك ما قصدت له * ويبقى العار والحرج
إذا أكدت حائلة * فلى في الأرض منعرج

(1) في الأصل التهجر وهو يخل بالوزن، وفى هذه القصيدة تحريف كثير
أصلحناه حسب الامكان.
470

ولغيره (1)
عسى مشرب يصفو فيرى ظمأة * أطال صداها المهل المتكدر
عسى بالجنوب الغاديات سنلتقي * وبالمستلذ المستطاب سنظفر
عسى جابر العظم الكسير بلطفه * سيرتاح للعظم الكسير فيجبر
عسى صور أمسى لها الجور دافنا * سيبعثها عدل يجئ فتظهر
عسى الله لا تيأس من الله إنه * يهون عليه ما يعز ويكبر (2)
ولغيره:
نحاول إذلال العزيز لأنه * رمانا بظلم واستمرت مرائره
ولغيره:
كفاك بهذا أيها المتجبر * وإن قال فيك القائلون وأكثروا
ولغيره:
ما اشتد باب ولا ضاقت مذاهبه * إلا أتاني وشيكا بعده الفرج
ولغيره:
إني رأيت مغبة الصبر * تفضى بصاحبها إلى اليسر
لابد من عسر ومن يسر * بهما تدور دوائر الدهر
فكما يلذ اليسر صاحبه * فكذاك فليصبر على العسر
ولغيره (3):
غنى النفس يكفي النفس حتى يكفها * وإن أعسرت حتى يضربها الفقر
فما عسرة - فأصبر لها إن لقيتها * بدائمة حتى يجئ لها يسر
ولغيره:

(1) هو كما في الأرج - علي بن محمد بن عبد الله الحسنى.
(2) في الأرج ويعسر.
(3) هو كما في الأرج وحل العقال - عثمان بن عفان رضي الله عنه وفيهما
اختلاف كلمات البيتين.
471

ولغيره (1):
لعمرك ما كل التعطل ضائر * ولا كل شغل فيه للمرء منفعه
إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى * عليك سواء فاغتنم لذة الدعه
فان ضقت فاصبر يفرج الله ما ترى * ألا رب صيق في عواقبه سعه
ولغيره (2):
يقولون صبرا والتصبر شيمتي * ألم يعلموا أن الكريم صبور
هل الدهر إلا نكبة وسلامة * وإلا فبؤس مرة وحبور
ولغيره:
وكل كرب وإن طالت بليته * يوما يفرج غماه فينكشف
ولغيره:
مفتاح باب الفرج الصبر * وكل عسر بعده يسر
والدهر لا يبقى على حالة * فكل أمر بعد أمر
والكره (3) تفنيه الليالي التي * يفنى عليها الخير والشر
وكيف يبقى حال من حاله * يسرع فيه النفع والضر
ولغيره:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان * ويأتي أهله النائي الغريب
ولغيره:
فياليت الرياح مسخرات * لحاجتنا تصبح أو تنوب
فتخبرنا الشمال إذا أتينا * ويخبر أهلها عنا الجنوب
ولغيره:
الحمد لله حمدا لا شريك له * إن الزمان لذو جمع وتفريق

(1) هو كما في الأرج - محمد بن عبد الله بن عبد الحكم
(2) هو كما في حل العقال - محمد بن يعقوب
(3) في الأرج. والكرب
472

قد ينقل المرء من ضيق إلى سعة * ويسلس الامر يوما بعد تعويق
والدهر يأتي على كل بأجمعه * وليس من سعة تبقى ولا ضيق
ولغيره:
ألا فاصبرن ما دام في النفس مسكة * عسى فرج يأتي به الله في غد
وإن أمرا رب السماء وكيله * حرى بحسن الظن غير مبعد
ولغيره:
خلقان لا أرضى فعالهما * تيه الغنى ومذلة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطرا * وإذا افتقرت فته على الدهر
واصبر فلست بواجد خلقا * أدنى إلى فرج من الصبر
غيره:
النسل من واحد والشكل مختلف * والدهر فيه بنو الدنيا على درج
إذا تضايق أمر فانتظر فرجا * فأضيق الامر أدناه إلى الفرج
تم الكتاب والحمد لله
473