الكتاب: الإفصاح
المؤلف: الشيخ المفيد
الجزء:
الوفاة: ٤١٣
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: مؤسسة البعثة
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٤ - ١٩٩٣ م
المطبعة:
الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: طبعت بموافقة اللجنة الخاصة المشرفة على المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد

الإفصاح
في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام
تأليف
الفقيه المتكلم
أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي
المعروف ب‍ الشيخ المفيد
المتوفى 413 هق
قسم الدراسات الإسلامية
مؤسسة البعثة
قم
3

مركز مؤسسة البعثة للطباعة والنشر
اسم الكتاب: الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)
المؤلف الفقيه المتكلم أبو عبد الله محمد بن النعمان الحارثي المعروف ب‍ " الشيخ المفيد "
تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة - قم
الطبعة الأولى 1412 ه‍. ق
الكمية: 2000 نسخه
التوزيع: مؤسسة البعثة
طهران شارع سمية - بين شارعي الشهيد مفتح وفرصت - تلفون 821159
فاكس: 821370 ص. ب: 1361 / 15815
ومعارض مؤسسة البعثة للنشر والتوزيع:
قم - تلفون: 32118، مشهد - تلفون: 59488، أصفهان - تلفون: 32817
4

بسم الله الرحمن الرحيم
5

مقدمة
المؤلف
هو شيخ الأمة، ورئيس متكلميه، ورأس فقهائها: أبو عبد الله
محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن النعمان ابن
التابعي الجليل الشهيد سعيد بن جبير، العكبري البغدادي، المعروف
ب‍ (ابن المعلم) الشهير في الآفاق ب‍ (الشيخ المفيد) (1).
ولد في الحادي عشر من ذي القعدة بعكبرا - وهي مدينة تقع
في شمال بغداد على الضفة الشرقية لنهر دجلة - سنة (336) أو (338) ه‍.
وتوفي ببغداد ليلة الجمعة لثلاث خلون من شهر رمضان المبارك
سنة (413) وكان يوم وفاته كيوم الحشر كما وصفه بعض المؤرخين، شيعه
ثمانون ألفا، وصلى عليه تلميذه الشريف المرتضى علي بن الحسين
بميدان الأشنان، الذي ضاق على الناس رغم سعته، ولم ير يوم أكبر

(1) روي أن علي بن عيسى الرماني لقبه بالمفيد، بعد مناظرة طريفة جرت بينهما، أفحم
الرماني فيها، وقيل أن الذي لقبه بالمفيد هو القاضي عبد الجبار المعتزلي. أنظر تفصيل
ذلك في روضات الجنات 6: 159.
7

منه لشدة زحام الناس للصلاة عليه، ومن كثرة بكاء المؤالف والمخالف،
ولا عجب فقد فقد العلم به حامل لوائه، وزعيم طلائعه، ورائد الفكر
وفارسه المعلم وكميه المقدام، وثلم الدين بموته ثلمة لا يسدها شئ.
كان (1) قدس سره شيخا ربعة، نحيفا، أسمر، خشن اللباس،
كثير الصلاة والصوم والتقشف والتخشع والصدقات، عظيم الخشوع،
ما كان ينام من الليل إلا هجعة ثم يقوم ويصلي، أو يتلو كتاب الله، أو
يطالع، أو يدرس.
كان مديما للمطالعة والتعلم، ومن أحفظ الناس، قيل إنه
ما ترك للمخالفين كتابا إلا حفظه، وبهذا قدر على حل شبه القوم.
كان دقيق الفطنة، ماضي الخاطر، حاضر الجواب، حسن اللسان
والجدل، ضنين السر، جميل العلانية، بارعا في جميع العلوم، حتى كان
يقال: له على كل إمام منة.
كان نشيطا للبحث والمناظرة، صبورا على الخصم، وكان يناظر
أهل كل عقيدة فلا يدرك شأوه، ولم يكن في زمانه من يدانيه أو يضاهيه في
هذا المضمار، حتى جعل المخالفين في ضيق شديد بقوة حجته وتأثير

(1) كل ما سنورده من أحواله وصفاته ومديحه فهو مما أطراه به كبار علماء الرجال والتاريخ
من الفريقين، كصهره أبي يعلى الجعفري وتلميذيه النجاشي والطوسي، وكأبي حيان
التوحيدي وابن النديم والخطيب البغدادي واليافعي والذهبي وابن الجوازي وابن حجر
العسقلاني وابن كثير الشامي وغيرهم.
8

كلامه في الناس الذين راحوا يتهافتون لولوج باب السعادة والفوز،
وسلوك نهج واحد أصيل وواضح، ألا وهو نهج آل البيت عليهم السلام،
مما أثار حفيظة بعض المتعصبين - الذين كان دأبهم الانتصار لأنفسهم،
فجانبوا الإنصاف بحق من خالفهم وإن كان محقا دونهم - كابن العماد
الحنبلي واليافعي والخطيب البغدادي الذين راحوا يعلنون فرحهم
وسرورهم بوفاة هذا المصلح العظيم، ناسين جليل قدره، فقالوا: " هلك به
خلق من الناس إلى أن أرواح الله المسلمين منه "!!
كان شديدا على أهل البدع والأهواء وحملة الأفكار المنحرفة،
وكان بعضهم يتفادى مناظرته ويخشى حجاجه، وله مع البعض الآخر
كالقاضي عبد الجبار المعتزلي والقاضي أبي بكر الباقلاني رئيس
الأشاعرة مناظرات كثيرة رواها تلامذته ومترجموه، وحفلت بها كتبه ك‍
(العيون والمحاسن)، وكتب أكثر من خمسين كتابا ورسالة في الرد عليهم
وتفنيد آرائهم، ومن أقطابهم: الجاحظ، ابن عباد، ابن قتيبة، ثعلب،
الجبائي، أبو عبد الله البصري، ابن كلاب القطان - من رؤساء
الحشوية -، الخالدي، النفسي، النصيبي، الكرابيسي، ابن رشيد، ابن
الاخشيد، الحلاج وغيرهم، ألزمهم فيها الحجة بالمنطق والدليل الذي لا
ينقض.
كما خص الإمامة وما يتفرع عنها من بحوث عقائدية وكلامية
بمجموعة من مصنفاته القيمة، وما يهمنا منها هنا كتابة:
9

الافصاح في إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السلام
وهو هذا الكتاب الذي بين يديك، قال في ديباجته:
" إني - بمشيئة الله وتوفيقه - مثبت في هذا الكتاب جملا من
القول في الإمامة يستغنى ببيانها عن التفصيل، ومعتمد في إيضاحها على
موجز يغني عن التطويل، وراسم في أصول ذلك رسوما يصل بها إلى
فروعها ذوو التحصيل.. والغرض فيما نورده الآن تلخيص جنس مفرد
لم يتميز بالتحديد فيما أسلفناه، ولا وجدناه على ما نؤمه لأحد من
أصحابنا المتقدمين رضي الله عنهم ولا عرفناه، مع صدق الحاجة إليه فيما
كلفه الله تعالى جميع من ألزمه فروضه وأمره ونهاه، إذ كان به تمام
الاخلاص لمن اصطفاه سبحانه من خلقه وتولاه، وكمال الطاعة في
البراءة إليه ممن بمعصيته له عاداه ".
وقال في خاتمته:
" قد أثبت في هذا الكتاب جميع ما يتعلق به أهل الخلاف في إمامة
أئمتهم من تأويل القرآن والاجماع والعمد لهم في الأخبار على ما يتفقون
عليه من الاجماع دون ما يختلفون فيه، لشذوذه ودخوله في باب الهذيان،
وبينت عن وجوه ذلك بواضح البيان، وكشفت عن الحقيقة فيه بجلي
البرهان ".
أورد فيه أدلة علماء العامة على صحة إمامة أئمتهم، وآراء
المتكلمين والمفسرين وأصحاب النظريات المختلفة والمذاهب المتعددة،
ثم أجاب عنها بفهم قوي، ونظر دقيق، وأسلوب جميل، وبيان فصيح،
10

مبينا ضعفها وسقمها من عدة وجوه، ثم يفترض صحة الدليل الذي
احتجوا به، تاركا ما أورده عليه من إشكالات جانبا، ليرده بوجوه وأدلة
أخرى ذات معان جديدة تخلف عن سابقتها، مستشهدا في جميع ذلك
بكثير من الآيات القرآنية، مستعينا بطريقي: النقل الصحيح المتواتر
المتفق عليه، والعقل، فيستوفي البحث في المسألة الواحدة حتى يسقطها
من الاعتبار، وبدلا من أن تكون دليلا لهم تصبح دليلا وحجة عليهم،
غير تارك لهم ثغرة يلجؤون إليها إلا التسليم واتباع نهج الحق والصراط
المستقيم بما جاءهم به من البينة والبرهان {فعلموا أن الحق لله}
{فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل} {يحاجون في الله
من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب
ولهم عذاب شديد}.
كما حاجج في هذا الكتاب أبرز الفرق وأشهرها كالسنة
والمعتزلة والحشوية والخوارج فيما بينهم، بذكر حجج وأدلة وشبه بعضهم
على البعض الآخر، مؤكدا قدرته وتفوقه وسعة اطلاعه بأفكار وعقائد
الفرق والمذاهب الأخرى.
والمباحثات المذكورة في هذا الكتاب ليست كلها افتراضية أو
غير واقعية، كما قد يتصور البعض، بل إن بعضها كان قد حدث فعلا،
كما هو واضح في محاججته مع بعض متكلمي المعتزلة، وبعض المرجئة،
قال في نهايتها بعد غلبته عليهما: " فلحق بالأول في الانقطاع، ولم
11

أحفظ منه إلا عبارات فارغة داخلة في باب الهذيان " (1).
وقد ضمنه مؤلفه منتخبا من كتابه (المسألة الكافئة) كما ذكر ذلك
في معرض إحالته إليه (2).
وأحال فيه أيضا إلى كتابه الآخر (العيون والمحاسن) (3) الذي
ألفه سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة (4)، أي قبل وفاته بثلاثين سنة، وكان
عمره الشريف آنذاك خمسا أو سبعا وثلاثين سنة، فيكون تأليفه
للإفصاح بعد هذا العمر.
والمتيقن لدينا أن الافصاح ليس آخر كتاب ألفه، لأنه وعد في
آخره بتأليف كتاب في (إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام من القرآن) وقد ألفه
فعلا، إذ عده تلميذه أبو العباس أحمد بن علي
النجاشي (372 - 450 ه‍) من تأليفاته (5).
نسخ الكتاب
اعتمدنا في تحقيق هذا الكتاب على ثلاث نسخ خطية ورابعة
مطبوعة.
النسخة الأولى: وهي المحفوظة في خزانة مخطوطات مكتبة ملك،

(1) الافصاح: 120.
(2) الافصاح: 129.
(3) الافصاح: 192.
(4) الفصول المختارة من العيون والمحاسن 2: 99
(5) رجال النجاشي: 40.
12

في طهران برقم (2926)، وتقع في (57)) ورقة، ليس فيها اسم الناسخ
ولا تاريخ الاستنساخ، وكتب في رأس الصفحة الأولى (كتاب الايضاح
لشيخنا الأعز الأجل السديد الشيخ المفيد طاب ثراه) كذا ورد عنوان
الكتاب في هذه النسخة ولكن الصحيح (الافصاح) بدليل ما في سائر
النسخ والمعاجم المختصة والفهارس المعنية بالتراث.
وقد رمزنا لها ب‍ (أ).
النسخة الثانية: وهي المحفوظة في خزانة مخطوطات مكتبة
المجلس النيابي الإيراني (مجلس شوراى ملى)، في طهران، برقم (10547)،
وتقع في (40) ورقة، ليس فيها اسم الناسخ ولا تاريخ الاستنساخ.
ورمزنا لها ب‍ (ح).
النسخة الثالثة: وهي المحفوظة في خزانة مخطوطات المكتبة
المركزية العامة (آستان قدس رضوي) في مدينة مشهد المقدسة، برقم
(7443)، وتقع في (51) ورقة، كتب في أولها:
(هذا كتاب الإفصاح في إثبات إمامة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام،
من مصنفات الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المعروف
بالشيخ المفيد قدس الله سره السعيد).
وفي آخرها:
(يقول العبد الفقير إلى الله الغني ابن زين العابدين محمد حسن
الأرموي، النزيل عند سيده ومولاه أمير المؤمنين علي في مشهد الغري،
على مشرفه آلاف التحية والسلام: قد اتفق لي الفراغ من كتابة هذه
13

النسخة الشريفة ليومين خلتا (كذا) من شهر رمضان من شهور سنة
ألف وثلاثمائة وخمسون (كذا) الهجرية على هاجرها الصلوات والسلام،
والمرجو من المنتفعين أن يذكرني (كذا) بالمغفرة والاستغفار، والله ولي
التوفيق، سنة 1350).
ورمزنا لها ب‍ (ب).
النسخة الرابعة: وهي المطبوعة في النجف الأشرف، المطبعة
الحيدرية، سنة (1368 ه‍)، في (136) صفحة، وجاء في آخرها:
(إلى هنا تم كتاب الإفصاح للشيخ السديد الشيخ المفيد..
استنساخا على يد الفقير إلى ربه الغني عبد الرزاق (1) بن السيد محمد
ابن السيد عباس بن السيد حسن بن السيد قاسم الموسوي نسبا
المقرمي لقبا، في النجف الأشرف على مشرفه الصلاة والسلام، عصر يوم
الأحد الثاني من شهر ذي الحجة الحرام من سنة الألف والثلثمائة
والخمسين هجرية على مهاجرها ألف صلاة وتحية، سنة 1350 ذي
الحجة.
صحح مقابلة من أوله إلى تمامه على نسخة العلامة الشيخ شير
محمد بن صفر علي الهمداني الجورقاني دام بقاه).
وأعادت مكتبة المفيد في قم المقدسة طبعها بالأوفسيت ضمن

(1) وهو العلامة الحجة، له تأليفات بلغت أكثر من اثنين وأربعين كتابا ورسالة، جلها في
تاريخ الشهداء العلويين وأئمة آل البيت عليهم السلام، ولد في النجف الأشرف سنة
(1316 ه‍) وتوفي فيها سنة (1391 ه‍)، وصدر له من منشورات مؤسستنا كتاب (مقتل
الحسين) عليه السلام.
14

كتاب (عدة رسائل للشيخ المفيد).
ورمزنا لها ب‍ (م).
منهج التحقيق
لاحظنا أن النسخ الثلاث المخطوطة والنسخة المطبوعة في
النجف الأشرف مليئة بالتصحيف والتحريف والسقط، فكان من العسير
اختيار نسخة من بينها يصح الاعتماد عليها كي تكون أصلا في
التحقيق، لذا اعتبرناها كلها أصولا معتمدة وبمرتبة واحدة، إذ تعد كل
واحدة منها مكملة الأخرى، فعمدنا إلى مقابلة جميع النسخ مع بعضها
البعض.
ثم تلا المقابلة تخريج الأحاديث والآثار والأشعار من أمهات
المصادر المعتمدة عند الفريقين.
وفي مرحلة تقويم متن الكتاب وتصحيحه، قمنا بما يلي:
1 - إثبات أنسب الألفاظ وأصحها - عند اختلاف النسخ - في
متن الكتاب، ثم الإشارة إلى الاختلافات ذات الوجوه المحتملة الواردة
في النسخ الأخرى.
2 - تقطيع المتن بأحسن وجه يحفظ له المعنى ويسهل على
القارئ تقبله، ويضيف عليه جمالية في الاخراج.
3 - ضبط بعض الكلمات الصعبة والأعلام.
4 - شرح المفردات الغامضة شرحا موجزا باعتماد أهم معاجم
اللغة.
5 - ترجمة موجزة لبعض الرواة والأعلام الواردة في الكتاب.
15

6 - التعليق المقتضب عند الضرورة.
ومن ثم تأتي مرحلة ترتيب هوامش الكتاب وفقا للمعلومات
والملاحظات المثبتة في الفقرات المتقدمة.
وأخيرا قمنا بإعداد الفهارس الفنية الشاملة لمحتويات هذا
الكتاب.
شكر وثناء
يسر مؤسسة البعثة إذ تقدم للقارئ الكريم هذا الأثر القيم أن
تتقدم بالثناء والتقدير للإخوة الأفاضل الذين ساهموا في إنجازه كل
بحسب تخصصه، وكما يلي:
1 - مقابلة النسخ: الأخ كريم راضي الواسطي والأخ إسماعيل
الموسوي.
2 - تخريج النصوص: الأخ عصام البدري.
3 - تقويم النص: الأخ علي موسى الكعبي والأخ شاكر شبع.
4 - تثبيت الهوامش: الأخ عبد الكريم البصري.
5 - إعداد الفهارس: الشيخ كريم الزريقي.
نسأل الله سبحانه أن يوفق كل العاملين في خدمة دينه المبين إلى
ما يجب ويرضى، وأن يوفقنا لأداء واجبنا في حقل إحياء تراث أهل
البيت عليهم السلام إنه تعالى ولي التوفيق.
قسم الدراسات الإسلامية
مؤسسة البعثة - قم
16

صورة الصفحة الأولى من النسخة (أ).
17

صورة الصفحة الأخيرة من النسخة (أ).
18

صورة الصفحة الأولى من النسخة (ب).
19

صورة الصفحة الأخيرة من النسخة (ب).
20

صورة الصفحة الأخيرة من النسخة (ج).
21

صورة الصفحة الأولى من النسخة (ج).
22

بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب
(الافصاح في إثبات إمامة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام)
من مصنفات
الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان
المعروف ب‍ (الشيخ المفيد) قدس الله سره السعيد
23

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله موجب الحمد ومستحقه، وصلواته على خيرته من خلقه: محمد وآله.
أما بعد:
فإني - بمشيئة الله وتوفيقه - مثبت في هذا الكتاب جملا من
القول في الإمامة يستغنى ببيانها عن التفصيل، ومعتمد في إيضاحها على
موجز يغني عن التطويل وراسم في أصول ذلك رسوما يصل بها إلى
فروعها ذوو التحصيل، وإن كان ما خرج من تصنيفاتي وأمالي في هذا
الباب يوفي (1) - والله المحمود على ما تضمن - معناه من كل كتاب، ويعرف
الزيادة فيه متأمله من ذوي الألباب.

(1) (يوفى) ليس في ب.
25

والغرض فيما نورده الآن - بمعونة الله عز وجل - بعد الذي
ذكرناه، ووصفنا حاله وبيناه، تلخيص جنس مفرد لم يتميز بالتحديد فيما
أسلفناه، ولا وجدناه على ما نؤمه لأحد من أصحابنا المتقدمين رضي الله عنهم ولا
عرفناه، مع صدق الحاجة إليه فيما كلفه الله تعالى جميع من ألزمه فروضه
وأمره ونهاه (1)، إذ كان به تمام الاخلاص لمن اصطفاه سبحانه من خلقه
وتولاه، وكمال الطاعة في البراءة إليه ممن بمعصيته (2) له عاداه، وبالله
استعين، وإياه أستهدي إلى سبيل الرشاد.

(1) في ب، م: ونهيه.
(2) في ب: ممن يرى بمعصية. وفي أ، ح: ممن يرى منه معصيته.
26

مسألة
إن سأل سائل، فقال: أخبروني عن الإمامة، ما هي في التحقيق
على موضوع الدين واللسان؟
قيل له: هي التقدم فيما يقتضي طاعة (1) صاحبه، والاقتداء به
فيما تقدم فيه على البيان.
فإن قال: فحدثوني عن هذا التقدم، بماذا حصل لصاحبه:
أبفعل نفسه، أم بنص مثله في الإمامة عليه، أم باختياره؟
قيل له: بل بإيثار سبق ظهور حاله أوجب له ذلك عند الله
تعالى ليزكي أعماله، فأوجب على الداعي إليه بما يكشف عن مستحقه
النص عليه، دون ما سوى ذلك مما عددت في الأقسام.
فإن قال: فخبروني عن المعرفة بهذا الإمام، أمفترضة على
الأنام، أم مندوب إليها كسائر التطوع الذي يؤجر فاعله، ولا يكتسب
تاركه الآثام؟

(1) (طاعة) ليس في ب، م.
27

قيل له: بل فرض لازم كأوكد فرائض الإسلام.
فإن قال: فما الدليل على ذلك، وما الحجة فيه والبرهان؟
قيل له: الدليل على ذلك من أربعة أوجه:
أحدها: القرآن، وثانيها: الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله، وثالثها:
الاجماع، ورابعها: النظر القياسي والاعتبار.
فأما القرآن: فقول الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (1) فأوجب معرفة
الأئمة من حيث أوجب طاعتهم، كما أوجب (2) معرفة نفسه، ومعرفة نبيه
- عليه وآله السلام - بما ألزم من طاعتهما (3) على ما ذكرناه.
وقول الله تعالى: {يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي
كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا} (4) وليس
يصح أن يدعى أحد بما لم يفترض عليه علمه والمعرفة به.
وأما الخبر: فهو المتواتر (5) عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال: " من مات
وهو لا يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية " (6) وهذا صريح بأن الجهل

(1) سورة النساء 4: 59.
(2) (معرفة الأئمة.. كما أوجب) ليس في أ.
(3) في أ: طاعتها.
(4) سورة الإسراء 17: 71.
(5) في أ: التواتر.
(6) كمال الدين 2: 412 / 10، الكافي 1: 308 / 3، غيبة النعماني: 330 / 5، حلية الأولياء
3: 224، مسند أحمد بن حنبل 4: 96، مجمع الزوائد 5: 218.
28

بالإمام يخرج صاحبه عن الإسلام.
وأما الاجماع: فإنه لا خلاف بين أهل الإسلام أن معرفة إمام (1)
المسلمين واجبة على العموم، كوجوب معظم الفرائض في الدين.
وأما النظر والاعتبار: فإنا وجدنا الخلق منوطين بالأئمة في
الشرع، إناطة يجب بها عليهم معرفتهم على التحقيق، وإلا كان ما
كلفوه من التسليم لهم في أخذ الحقوق منهم، والمطالبة لهم في أخذ مالهم،
والارتفاع إليهم في الفصل عند الاختلاف، والرجوع إليهم في حال
الاضطرار، والفقر إلى حضورهم لإقامة الفرائض من صلوات وزكوات
وحج وجهاد، تكليف ما لا يطاق، ولما استحال ذلك على الحكيم الرحيم
سبحانه، ثبت أنه فرض معرفة الأئمة، ودل على أعيانهم بلا
ارتياب.
فإن قال: فخبروني الآن من كان الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله،
والقائم في رئاسة الدين مقامه، لأعرفه فأؤدي بمعرفته ما افترض له علي
من الولاء؟
قيل له: من أجمع المسلمون على اختلافهم في الآراء والأهواء
على إمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله (2)، ولم يختلفوا من بعد وفاته فيما أوجب له
ذلك من اجتماع خصال الفضل له والأقوال فيه والأفعال: أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام.

(1) في أ، ح، م: أئمة.
(2) في أ، ح زيادة: على حال.
29

فإن قال: أبينوا لي عن صحة هذا المقال، فإني أراكم مدعين
الاجماع فيما ظاهره الاختلاف، ولست أقنع منكم فيه إلا بالشرح
لوجهه والبيان (1).
قيل له: ليس فيما حكيناه من الاجماع (2) اختلاف ظاهر ولا
باطن، فإن ظننت ذلك لبعدك عن الصواب، أفلا ترى أن الشيعة من
فرق الأمة تقطع بإمامته عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل، وتقضي له
بذلك إلى وقت وفاته، وتخطئ من شك في هذا المقال على كل حال؟
والحشوية (3) والمرجئة (4) والمعتزلة متفقون على إمامته عليه السلام بعد عثمان، وأنه

(1) في ب، م: والمقال.
(2) (من الاجماع) ليس في ب، م.
(3) سميت الحشوية بهذا الاسم، لأنهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في
الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وآله، أي يدخلونها فيها وليست منها، وهم من فرق
المرجئة يقولون بالجبر والتشبيه، وإن الله تعالى موصوف عندهم بالنفس واليد والسمع
والبصر، وقالوا: كل ثقة من العلماء يأتي بخبر مسند عن النبي فهو حجة. " المقالات
والفرق: 6، 136 ". وأراد المصنف بالحشوية هنا أهل السنة عموما، أنظر ص 91 و 216.
(4) المرجئة: اختلف فيهم على أقوال: فقيل هم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضير
مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله تعالى
أرجأ تعذيبهم عن المعاصي، أي أخره عنهم.
وقيل: هم الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل، لأنهم يقدمون القول ويؤخرون
العمل.
وقيل: ما عدا الشيعة من العامة، وسموا مرجئة لأنهم زعموا أن الله تعالى أخر نصب
الإمام ليكون نصبه باختيار الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله. " المقالات والفرق: 5، 131،
مجمع البحرين - رجا - 1: 177 ".
30

لم يخرج عنها حتى توفاه الله تعالى راضيا عنه، سليما من الضلال؟
والخوارج - وهم أخبث أعدائه وأشدهم (1) عنادا - يعترفون له بالإمامة،
كاعتراف الفرق الثلاث، وإن فارقوهم بالشبهة في انتهاء الحال؟
ولا سادس في الأمة لمن ذكرناه يخرج بمذهبه عما شرحناه،
فيعلم بذلك وضوح ما حكمنا به من الاجماع على إمامته (2) بعد
النبي صلى الله عليه وآله كما وصفناه.
فأما الاجماع على ما يوجب له الإمامة من الخلال: فهو إجماعهم
على مشاركته عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله في النسب، ومساهمته له في
كريم الحسب، واتصاله به في وكيد السبب (3)، وسبقه كافة الأمة إلى
الاقرار، وفضله على جماعتهم في جهاد الكفار، وتبريزه عليهم في المعرفة
والعلم بالأحكام، وشجاعته وظاهر زهده اللذين لم يختلف فيهما (4) اثنان،
وحكمته في التدبير وسياسة الأنام، وغناه بكماله في التأديب المحوج إليه
المنقص (5) عن الكمال، وببعض هذه الخصال يستحق الإمامة فضلا عن
جميعها على ما قدمناه.
وأما الاجماع على الأفعال الدالة على وجوب الإمامة والأقوال:

(1) في أ، ح زيادة: له.
(2) في أ: بإمامته.
(3) في أ: النسب.
(4) في أ: الذي لم يختلف فيه.
(5) في ب، ح، م: النقص.
31

فإن الأمة متفقة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله قدمه في حياته، وأمره على
جماعة من وجوه أصحابه، واستخلفه في أهله واستكفاه أمرهم عند
خروجه إلى تبوك قبل وفاته، واختصه لإيداع أسراره، وكتب عهوده،
وقيامه مقامه في نبذها إلى أعدائه، وقد كان ندب ليعرض ذلك من تقدم
عليه، فعلم الله سبحانه أنه لا يصلح له، فعزله بالوحي من سمائه.
ولم يزل (1) يصلح به إفساد من كان على الظاهر من خلصائه،
ويسد به خلل أفعالهم المتفاوتة بحكمه وقضائه، وليس يمكن أحد ادعاء
هذه الأفعال من الرسول صلى الله عليه وآله لغير أمير المؤمنين عليه السلام، على اجتماع ولا
اختلاف، فيقدح بذلك في أس (2) ما أصلناه وبيناه.
وأما الأقوال المضارعة لهذه الأفعال في الدلالة: فهي أكثر من أن
تحصى على ما شرطناه (3) في الاختصار، وإن كنا سنورد منها ما فيه
كفاية، إن شاء الله تعالى:
فمنها: ما سلم لروايته الجميع من قول الرسول صلى الله عليه وآله بغدير
خم (4)، بعد أن قرر أمته على المفترض له من الولاء الموجب لإمامته
عليهم، والتقدم لسائرهم في الأمر والنهي والتدبير، فلم ينكره أحد منهم،

(1) (يزل) ليس في أ.
(2) الأس: الأصل. " الصحاح - أسس - 3: 903 ".
(3) في أ، ب، ح: على شرطنا.
(4) خم: بئر حفرها مرة بن كعب، ونسب إلى ذلك غدير خم، وهو بين مكة والمدينة. " معجم
البلدان 2: 388 ".
32

وأذعنوا بالإقرار له طائعين: " من كنت مولاه فعلي مولاه (1) فأعطاه
بذلك حقيقة الولاية، وكشف به عن مماثلته له في فرض الطاعة والأمر
لهم، والنهي والتدبير والسياسة (2) والرئاسة، وهذا نص - لا يرتاب بمعناه
من فهم اللغة - بالإمامة.
ومنها أيضا: قوله صلى الله عليه وآله بلا اختلاف بين الأمة: " أنت مني بمنزلة
هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي " (3) فحكم له بالفضل على
الجماعة، والنصرة والوزارة والخلافة، في حياته وبعد وفاته، والإمامة له،
بدلالة أن هذه المنازل كلها كانت لهارون من موسى عليه السلام في حياته،
وإيجاب جميعها لأمير المؤمنين عليه السلام إلا ما أخرجه الاستثناء منها ظاهرا،
وأوجبه بلفظ يعدله من بعد وفاته، وبتقدير ما كان يجب لهارون من
موسى لو بقي بعد أخيه، فلم يستثنه النبي صلى الله عليه وآله، فبقي لأمير
المؤمنين عليه السلام عموم ما حكم له من المنازل، وهذا نص على إمامته، لا
خفاء به على من تأمله، وعرف وجوه القول فيه، وتبينه.
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله على الاتفاق: " اللهم ائتني بأحب خلقك
إليك، يأكل معي من هذا الطائر " (4) فجاءه بأمير المؤمنين عليه السلام، فأكل

(1) الكافي 1: 227 / 1، علل الشرائع: 144، أمالي الصدوق: 291، حلية الأولياء 4: 23،
مسند أحمد 1: 331، المستدرك للحاكم 3: 134.
(2) (والسياسة) ليس في أ.
(3) علل الشرائع: 222، أمالي الصدوق: 146 / 7، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 10 / 23،
سنن الترمذي 5: 641 / 3731، مسند أحمد 6: 438، مجمع الزوائد 9: 108.
(4) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 187 / 2، أمالي الصدوق: 521 / 3، الخصال: 555،
صحيح الترمذي 5: 636 / 3721، المستدرك 3: 130، مجمع الزوائد 7: 138.
33

معه، وقد ثبت أن أحب الخلق إلى الله تعالى أفضلهم عنده، إذ كانت
محبته منبئة عن الثواب دون الهوى وميل الطباع، وإذا صح أنه أفضل
خلق الله تعالى ثبت أنه كان الإمام، لفساد تقدم المفضول على الفاضل
في النبوة وخلافتها العامة في الأنام.
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله يوم خيبر: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله
ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على
يديه " (1) فأعطاها من بين أمته جميعا عليا عليه السلام، ثم بين له من الفضيلة بما
بان به من الكافة، ولولا ذلك لاقتضى الكلام خروج الجماعة من هذه
الصفات على كل حال، وذلك محال، أو كان التخصيص بها ضربا من
الهذيان، وذلك أيضا فاسد محال، وإذا وجب أنه أفضل الخلق بما
شرحناه، ثبت أنه كان الإمام دون من سواه، على ما رتبناه.
وأمثال ما ذكرناه مما يطول به (2) التقصاص من تفضيله له عليه السلام
على كافة أصحابه وأهل بيته، بأفعاله به وظواهر الأقوال فيه ومعانيها
المعقولة، لمن فهم الخطاب والشهادة له بالصواب، ومقتضى العصمة من
الذنوب والآفات، مما يدل على غناه عن الأمة، ويكشف بذلك عن كونه

(1) أمالي الطوسي 1: 313، إرشاد المفيد: 36، إعلام الورى: 99، مسند أحمد 1: 185،
صحيح مسلم 4: 1871 / 32، صحيح الترمذي 5: 639، المناقب لابن المغازلي: 177.
مناقب الخوارزمي: 105، ذخائر العقبى: 72، الرياض النضرة 3: 148 و 151.
(2) في أ: بذكره. والتقصاص: التتبع. أنظر المعجم الوسيط 2: 739.
34

إماما بالتنزيل الذي رسمناه، وقد استقصينا القول في أعيان هذه
المسائل على التفصيل والشرح والبيان في غير هذا المكان (1)، فلا حاجة
بنا إلى ذكره هاهنا مع الغرض الذي أخبرنا به عنه ووصفناه.
واعلم - أرشدك الله تعالى - أن فيما رسمناه من هذه الأصول
أربع مسائل، يجب ذكرها والجواب عنها، لتزول به شبهة أهل الخلاف:
أولها: السؤال عن وجه الدلالة من الاجماع الذي ذكرناه في
إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله على إمامته من بعده على
الفور، دون من قام ذلك المقام ممن يعتقد الجمهور في فعله الصواب.
ثانيها: عن الدلالة على أن أمير المؤمنين عليه السلام الأفضل عند الله
تعالى من الجميع، وإن كان أفضل منهم في ظاهر الحال.
ثالثها: عن الدليل على فساد إمامة المفضول على الفاضل
بحسب ما ذكرناه.
رابعها: عن حجة دعوى الاجماع في سائر ما عددناه، مع ما
يظن فيه من خلاف البكرية والعثمانية والخوارج، وما يعتقدونه من الدفع
لفضائل أمير المؤمنين عليه السلام
الجواب عن السؤال الأول: أنه إذا ثبت بالحجة القاهرة من
الاجماع وجود إمام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل: وثبوت إمامته على الفور،
ولم يكن على من ادعي ذلك له سوى أمير المؤمنين عليه السلام إجماع على حال

(1) أنظر رسالته " تفضيل أمير المؤمنين على سائر الصحابة " والفصول المختارة من العيون
والمحاسن 1: 64.
35

من الأحوال، لما يعرف من مذاهب شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام، في
العباس وأبي بكر، وتقدمه في ذلك المقام، ونفي الإمامة عنه على كل
حال، ومذهب شيعة أمير المؤمنين عليه السلام في ما تدعيه الراوندية (1) من إمامة
العباس وأنها لم تصح له في حال، ولم يكن دليل من كتاب ولا سنة، ولا
اعتبار على إمامة المتقدم فينوب ذلك مناب الاجماع، ثبت أن أمير
المؤمنين عليه السلام كان إماما في تلك الحال ومستقبلها إلى أن قبضه الله تعالى
إلى جنته على ما وصفناه، وإلا خرج الحق عن الاجماع (2)، وبطل قول
كافة الأمة فيما شهدوا به من وجود الإمام (3) وثبوت الإمامة له على
القطع والثبات، وذلك فاسد بالنظر الصحيح والاجماع.
والجواب عن السؤال الثاني: أن الدلائل قد قامت على أن
رسول الله صلى الله عليه وآله لم ينطق عن الهوى، ولا فعل في شرعة شيئا ولا قال إلا
بوحي (4) يوحى، وقد علمنا أن الوحي من الله جل اسمه العالم بالسر
وأخفى، وأنه جل اسمه لا يحابي خلقه، ولا يبخس أحدا منهم حقه.
فلولا أن أمير المؤمنين عليه السلام كان الأفضل عنده جل اسمه لما
فرض على نبيه صلى الله عليه وآله التفضيل له على الكافة، والتنويه بفضله من بين

(1) الراوندية: هم شيعة ولد العباس بن عبد المطلب، قالوا: إن أحق الناس بالإمامة بعد
الرسول صلى الله عليه وآله العباس بن عبد المطلب لأنه عمه ووارثه وعصبته. " المقالات والفرق:
180، فرق الشيعة: 46 ".
(2) (عن الاجماع) ليس في أ.
(3) في أ: الإمامة.
(4) في أ: شيئا وقال إن هو إلا وحي، وفي ب، م: شيئا إلا بوحي.
36

الجماعة، والاقرار له من التعظيم بما لم يشركه فيه غيره، لأنه لو لم يكن
ذلك كذلك لكان محابيا له وباخسا لغيره حقه، أو غير عالم بحقيقة
الأمر في مستحقه، وذلك كله محال، فثبت أن الفضل الذي بان به أمير
المؤمنين عليه السلام في الظاهر من الجماعة بأفعال الرسول صلى الله عليه وآله وأقواله، أدل
دليل على فضله في الحقيقة، وعند الله سبحانه على ما ذكرناه.
والجواب عن السؤال الثالث: ما قدمناه في فساد نبوة المفضول
على الفاضل، ومشاركة الإمامة للنبوة في معنى التقدم والرفعة والرئاسة
وفرض الطاعة، وبما يفسد به علو المفضول على الفاضل في الثواب،
ودلالة التعظيم الديني على منزلة المعظم في استحقاق الجزاء بالأعمال،
وثبوت علو تعظيم الإمام على الرعية في شرعية الإسلام، وفي كل ملة،
وعند أهل كل نحلة وكتاب.
والجواب عن السؤال الرابع: أنا لا نعلم بكريا ولا عثمانيا ولا
خارجيا دفع إجماع المختلفين على تسليم ما رويناه من فضائل أمير
المؤمنين عليه السلام وعددناه، وكيف ينكرون رواية ذلك وهم أنفسهم قد رووه،
ونقوله عن أسلافهم وتقبلوه، وأعملوا أفكارهم في الاستخراج بوجوهه
وتأولوه؟! وليس خلافهم للشيعة فيما تعلقوا به من معانيه خلافا في صحة
سنده والتسليم لرواته، كما أن اختلاف المسلمين في تأويل القرآن لا
يوجب إنكارهم للتنزيل.
ومن دفع ما وصفناه من هذه الحال وجب رده إلى أصحاب
37

الحديث ممن سميناه، وإن كان الموجود في أصولهم - من نقلهم (1) -
شاهدا عليهم بما ذكرناه، على أننا لا ننكر أن يدفع المتفق عليه واحد
من أهل النظر أو اثنان، أو ألف من العامة أو ألفان، لكنه لا يكون ذلك
باتفاق الحجة قادحا فيما انعقد به الاجماع، لوجود أمثاله فيما نعتناه.
وإنما مدار الأمر على اصطلاح (2) معظم العلماء، واجتماع
المختلفين على التسليم عند السلامة من العصبية، وحال السكون عن
المماراة (3) والمجادلة، ونقل المتضادين في الآراء والاعتقادات مع العداوة
في أصل الديانات والمناصبة، ولولا أن الأمر كذلك لما ثبت إجماع (4)
على شئ من شريعة الإسلام، لوجود المختلفين فيها على كل حال.
وها هنا منصفة بيننا وبين أهل الخلاف، وهي أن يذكروا شيئا من
فرائض الشريعة وواجبات الأحكام، أو مدائح قوم من الصحابة، أو
تفضيلا لهم على غيرهم من الأنام، ممن يلجؤون في صحته إلى الاجماع،
فإن لم نوجدهم خلاف فيه، من أمثال المنكرين لما عددناه من فضائل
أمير المؤمنين عليه السلام، وإلا فقد ظهرت الحجة لهم فيما ادعوه، وهيهات.
فإن قال قائل (5): فإذا كان أمير المؤمنين عليه السلام هو الإمام بعد

(1) في أ، ح: نقله. والمراد ظاهرا الحديث.
(2) يقال اصطلح القوم: زال ما بينهم من خلاف واتفقوا. " المعجم الوسيط 1: 520 ".
(3) المماراة: الجدال والنزاع. " الصحاح - مرا 6: 2491 ".
(4) في ب، م: إجماع في.
(5) (قائل) ليس في ب، ح، م.
38

النبي صلى الله عليه وآله دون سائر الناس، فعلى أي وجه تقدم عليه أبو بكر وعمر
وعثمان، وادعوا الإمامة دونه، وأظهروا أنهم أحق بها على كل حال؟
قيل له: لقد كان ذلك على وجه الدفع له عليه السلام عن حقه،
والخلاف عليه في مستحقه، وليس ذلك بمستحيل ممن ارتفعت عنه
العصمة، وإن كان في ظاهر الأمر على أحسن الصفات.
فإن قال: فكيف يجوز ذلك ممن سميناه، وهم وجوه أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله والمهاجرين والسابقين إلى الإسلام؟
قيل له: أما وجوه الصحابة ورؤساء المهاجرين وأعيان
السابقين إلى الإيمان بواضح الدليل وبين البرهان فهو أمير المؤمنين علي
ابن أبي طالب أخو رسول الله صلى الله عليه وآله ووزيره وناصره ووصيه وسيد
الأوصياء، وعم رسول الله صلى الله عليه وآله حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد
رسوله سيد الشهداء رضوان الله عليهم، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله جعفر بن أبي
طالب الطيار مع الملائكة في الجنان رضي الله عنه، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله
أيضا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه، الذين سبقوا من سميت
إلى الإيمان، وخرجوا في مواساة النبي صلى الله عليه وآله عن الديار والأوطان،
وأثنى الله عليهم في محكم القرآن، وأبلوا دون أصحابه (1) في الجهاد
وبارزوا الأقران، وكافحوا الشجعان، وقتلوا الأبطال، وأقاموا عمود
الدين وشيدوا الإسلام.

(1) في أ: أصحابك.
39

ثم الطبقة التي تليهم، كخباب (1) وعمار وأبي ذر والمقداد وزيد بن
حارثة، ونظرائهم في الاجتهاد وحسن الأثر والبلاء والاخلاص لله
ولرسوله صلى الله عليه وآله في السر والاعلان.
وبعد: فلو سلمنا لك دعواك لمن ادعيت الفضل لهم على ما
تمنيت، لم يمنع مما ذكرناه، لأنه لا يوجب لهم العصمة من الضلال، ولا
يرفع عنهم جواز الغلط والسهو والنسيان، ولا يحيل منهم تعمد العناد.
وقد رأيت ما صنع شركاؤهم في الصحبة والهجرة والسبق إلى
الإسلام حين رجع الأمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام باختيار الجمهور منهم
والاجتماع (2)، فنكث بيعته طلحة والزبير، وقد كانا بايعاه على الطوع
والإيثار، وطلحة نظير أبي بكر، والزبير أجل منهما على كل حال، وفارقه
سعد بن أبي وقاص وهو أقدم إسلاما من أبي بكر، وأشرف منه في
النسب، وأكرم منه في الحسب، وأحسن آثارا من الثلاثة في الجهاد.
وتبعه على فراقه وخذلانه محمد بن مسلمة وهو من رؤساء
الأنصار، واقتفى آثارهم في ذلك وزاد عليها بإظهار سبه (3) والبراءة منه
حسان، فلو كانت الصحبة مانعة من الضلال لمنعت من ذكرناه ومعاوية

(1) خباب بن الأرت التميمي، صحابي، من نجباء السابقين، شهد المشاهد كلها، ونزل
الكوفة فمات سنة (37) ه‍. " سير أعلام النبلاء 2: 323 / 62. حلية الأولياء 1: 359،
الإصابة 2: 101 / 2206، رجال الشيخ الطوسي: 19 / 3 (2) (والاجتماع) ليس في ب، م.
(3) في ب، ح، م: وزاد عليهم في سبه.
40

ابن أبي سفيان وأبا (1) موسى الأشعري، وله من الصحبة والسبق ما لا
يجهل، وقد علمتم عداوتهم لأمير المؤمنين عليه السلام، وإظهارهم البراءة منه،
والقنوت عليه (2)، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وأميره على أبي بكر
وعمر وعثمان.
ولو كانت الصحبة أيضا مانعة من الخطأ في الدين والآثام لكانت
مانعة لمالك بن نويرة، وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله على الصدقات،
ومن تبعه من وجوه المسلمين (3) من الردة عن الإسلام.
ولكانت صحبة السامري لموسى بن عمران عليهما السلام وعظم محله منه
ومنزلته، تمنعه من الضلال باتخاذ العجل والشرك بالله عز وجل،
ولاستحال أيضا على أصحاب موسى نبي الله عليه السلام، وهم ستمائة ألف
إنسان، وقد شاهدوا الآيات والمعجزات، وعرفوا الحجج والبينات، أن
يجتمعوا على خلاف نبيهم وهو حي بين أظهرهم، وباينوا خليفته وهو
يدعوهم ويعظهم ويحذرهم من الخلاف، وينذرهم فلا يصغون إلى شئ
من قوله، ويعكفون على عبادة العجل من دون الله عز وجل.
ولكان أيضا أصحاب عيسى عليه السلام معصومين من الردة، ولم يكونوا
كذلك، بل فارقوا أمره، وغيروا شرعه، وادعوا عليه أنه كان يأمرهم
بعبادته، واتخاذه إلها مع الله تعالى تعمدا للكفر والضلال، وإقداما على
العناد من غير شبهة ولا سهو ولا نسيان.

(1) نصبت عطفا على الاسم الموصول (من).
(2) في ب، م: حتى دعوا عليه في قنوت الصلاة.
(3) في أ: المؤمنين.
41

فإن قال: فإذا كان الأمر على ما ذكرتموه، وكان القوم قد دفعوا
حقا لأمير المؤمنين عليه السلام كما وصفتموه، فلم أقرهم (1) على ذلك أمير
المؤمنين عليه السلام، واتبعهم عليه الأنصار والمهاجرون، وما بال أمير
المؤمنين عليه السلام لم يجاهدهم كما جاهد الناكثين والقاسطين والمارقين؟
قيل له: لم يقرهم على ذلك جميع المسلمين، ولا تبعهم عليه سائر
الأنصار والمهاجرين، وإن كان الراضي بذلك منهم الجمهور، والمؤثر في
العدد هم الأكثرون، وليس ذلك علامة على الصواب، بل هو في إلا غلب
دليل على الضلال، وقد نطق بذلك القرآن، قال الله تعالى: {وما أكثر
الناس ولو حرصت بمؤمنين} (2).
وقال تعالى {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} (3).
وقال تعالى: {وأن أكثركم فاسقون} (4).
وقال تعالى: {وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على
بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} (5).
وقال تعالى: {وما آمن معه إلا قليل} (6) في آيات يطول
بإثباتها الكتاب.

(1) في ب: أمرهم
(2) سورة يوسف 12: 103.
(3) سورة يوسف 12: 106.
(4) سورة المائدة 5: 59.
(5) سورة ص 38: 24.
(6) سورة هود 11: 40.
42

على أن هذا القول، وإن كان حجة فيما ذكرناه، فالوجود شاهد
به لصحته على ما وصفناه، ألا ترى أن أكثر الخلق على مرور الأيام
والأوقات (1) عصاة لله تعالى، والقليل منهم مطيعون له على الاخلاص،
والجمهور الأكثر منهم جهال على كل حال، والعلماء قليل يحصرهم
العدد بلا ارتياب، وأهل التصون (2) والمروءة من بين الخلق أفراد، وأهل
المناقب في الدين والدنيا آحاد، فيعلم بذلك أن الأكثر لا معتبر بهم في
صحيح الأحكام.
وبعد: فإنه لم يتمكن قط متملك (3) إلا وكان حال الخلق معه
حالهم مع أبي بكر وعمر وعثمان، وهذه عادة جارية إلى وقتنا هذا وإلى
آخر الزمان، ألا ترى إلى اجتماع الأمة (4) على متاركة (5) معاوية بن أبي
سفيان حين ظهر أمره عند مهادنة الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
وسكوت الكافة عنه وهو يلعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على
المنابر، ويقنت عليه في الصلوات، ويضرب رقاب المسلمين على الولاية
له، ويجيز على البراءة منه بالأموال.
وكذلك كانت حالهم مع يزيد لعنه الله، وقد قتل الحسين بن

(1) في أ: على مرور الأزمات، وفي ح، م: على مرور الأوقات.
(2) التصون: حفظ النفس من المعائب " أقرب الموارد - صون - 1: 671 ".
(3) في ب، م: ملك.
(4) (الأمة) ليس في ب.
(5) المتاركة: المسالمة، والمصالحة. " أقرب الموارد - ترك - 1: 76 "، وفي ب، ح، م: مشاركة.
43

علي عليه السلام ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وحبيبه وقرة عينه ظلما وعدوانا، وسبي
أهله ونساءه وذراريه (1)، وهتكهم بين الملأ، وسيرهم على الأقتاب في
الفلوات، واستباح حرم رسول الله صلى الله عليه وآله في وقعة الحرة (2)، وسفك دماء
أهل الإيمان، وأظهر الردة عن الإسلام، فلم يجاهره أحد من الأمة
بنكيرة، وأطبقوا على إظهار التسليم له والائتمام به، والاتباع له
والانقياد.
ولم يزل الأمر يجري في الأمة (3) بعد يزيد لعنه الله مع الجبارين
من بني أمية ومروان على ما وصفناه، وكذلك كانت صورتهم على عهد
آدم عليه السلام وإلى وقت من سميناه، ومن بعدهم إلى الآن، وإنما ينظر الناس
إلى من حصل له الاتفاق في الرئاسة والسلطان، وينقادون له كما
ذكرناه، ويجتنبون خلافه على ما بيناه، سواء كان من الله أو من
الشيطان، أو كان عادلا في الرعية أو كان ظالما من الفجار.
بل قد وجدنا الجمهور في كثير الأحوال يتحيزون (4) عن أولياء

(1) في أ: وذريته.
(2) وقعة الحرة: حدثت في أيام يزيد بن معاوية في سنة (63 ه‍)، وكان أمير الجيش فيها
مسلم بن عقبة، وسموه لقبيح صنيعه مسرفا، حيث قدم المدينة ونزل (حرة وأقم) - شرق
المدينة - فخرج أهل المدينة لمحاربته فكسرهم، وقتل من الموالي ثلاثة آلاف وخمسمائة
رجل، ومن الأنصار ألفا وأربعمائة، وقيل ألفا وسبعمائة، ومن قريش ألفا وثلاثمائة، ودخل
جنده المدينة فنهبوا الأموال وسبوا الذرية واستباحوا الفروج، وأحضروا أعيان المدينة
لمبايعة يزيد بن معاوية، " مروج الذهب 3: 69 والكامل في التاريخ 3: 63 ".
(3) (يجري في الأمة) ليس في ب.
(4) في ب، م: يحترزون، وتحيز عنه: تنحى.
44

الله تعالى، ويخالفون أنبياءه، ويسفكون في العناد لهم الدماء، ويطبقون
على طاعة أعداء الله عز وجل، ويسلمون لهم على الطوع والإيثار، وربما
اتفق للظالم المتغلب والناقص الغبي الجاهل من الجماعة الرضا به
والاتباع، فانقادت الأمور له على منيته فيها والمحاب، واختلفت (1) على
العادل المستحق الكامل الحكيم العالم (2)، واضطربت عليه الأمور،
وكثرت له المعارضات، وحصلت في ولايته الفتن والمنازعات، والخصومات
والمدافعات (3).
وقد عرف أهل العلم ما جرى على كثير من أنبياء الله صلى الله عليه وآله
من الأذى والتكذيب، والرد لدعواهم، والاستخفاف بحقوقهم،
والانصراف عن إجابتهم، والاجتماع على خلافهم، والاستحلال
لدمائهم.
فأخبر الله تعالى بذلك فيما قص به (4) من نبأهم في القرآن، فكان
من الأتباع للفراعنة والنماردة وملوك الفرس والروم على الضلال، ما لا
يحيل (5) على ذي عقل ممن سمع الكتاب، ليعلم بما شرحناه أنه لا معتبر
في الحق بالاجتماع، ولا معتمد في الباطل على الاختلاف، وإنما مدار

(1) في أ، ب، ح: واختلف.
(2) (العالم) ليس في ب، ح، م.
(3) في م: المرافعات.
(4) في أ: بهم.
(5) في أ: لا يحل.
45

الأمر في هذين البابين على الحجج والبينات، لما وصفناه من وجود
الاجتماع على الظلال، والاختلاف والتباين في الهدى، والصواب بما
بيناه، ولا سبيل إلى دفعه إلا بالعناد.
فصل
فأما قوله: فلم لا يجاهدهم أمير المؤمنين عليه السلام كما جاهد الناكثين
والقاسطين والمارقين؟ فقد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام فيما تظاهر عنه من
الأخبار، فكان من (1) الجواب حيث يقول: " أما والله، لولا حضور
الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر (2)، وما أخذ الله على العلماء (3) أن لا
يقاروا على كظة (4) ظالم، ولا سغب (5) مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها،
ولسقيت آخرها بكأس أولها " (6).
فدل على أنه عليه السلام إنما ترك جهاد الأولين لعدم الأنصار، وجاهد
الآخرين لوجود الأعوان، وكان ذلك هو الصلاح الشامل على معلوم
الله تعالى وشرائط حكمته في التدبيرات.

(1) في ب، ح، م: هو.
(2) في أ، ح: لولا حضور الناصر، ولزوم الحجة.
(3) في أ، ح: على أولياء الأمر.
(4) الكظة: شئ يعتري الإنسان عند الامتلاء من الطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق.
" الصحاح - كظظ - 3: 1178 ".
(5) السغب: الجوع، والمراد منه هضم حقوق المظلوم. " الصحاح - سغب 1: 147 ".
(6) نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية: 31.
46

فإن قال: أفليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " ما كان الله
ليجمع أمتي على ضلال " (1) فكيف يصح اجتماع الأمة على دفع المستحق
عن حقه والرضا بخلاف الصواب، وذلك ضلال بلا اختلاف؟
قيل له: أول ما في هذا الباب أن الرواية لما ذكرت غير معلومة
عن النبي صلى الله عليه وآله، وإنما جاءت بها الأخبار على اختلاف من المعاني
والألفاظ، وقد دفع صحتها جماعة من رؤساء أهل النظر والاعتبار،
وأنكرها إمام المعتزلة وشيخها إبراهيم بن سيار النظام (2)
وبعد: فلو ثبت ما ضرنا فيما وصفناه، لأنا لا نحكم بإجماع أمة
الإسلام على الرضا بما صنعه المتقدمون على أمير المؤمنين عليه السلام فكيف
نحكم بذلك ونحن نعلم يقينا - كالاضطرار - خلاف الأنصار في عقد
الإمامة على المهاجرين، وإنكار بني هاشم وأتباعهم على الجميع في
تفردهم بالأمر دون أمير المؤمنين عليه السلام، وقد جاءت الأخبار مستفيضة
بأقاويل جماعة من وجوه (3) الصحابة في إنكار ما جرى، وتظلم أمير
المؤمنين عليه السلام من ذلك (4) برفع الصوت والإجهار؟!

(1) أنظر الرد على هذا الحديث في الاحتجاج: 115، الخصال 2: 549 / 30.
ومن مصادره سنن الترمذي 4: 466 / 2167، مسند أحمد 5: 145، سنن الدارمي 1:
29.
(2) أنظر ترجمته في: " تاريخ بغداد 6: 97 / 3131، سير أعلام النبلاء 10: 541 / 172،
لسان الميزان 1: 67 / 173، الكنى والألقاب 3: 253 ".
(3) (وجوه) ليس في ب، م.
(4) (من ذلك) ليس في ب.
47

وكان من قول العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله ما
قد عرفه الناس، ومن أبي سفيان بن حرب والزبير بن العوام أيضا ما
لا يخفى على من سمع الأخبار، وكذلك من عمار بن ياسر وسلمان وأبي
ذر والمقداد وبريدة الأسلمي وخالد بن سعيد بن العاص في جماعات
يطول بذكرها الكلام.
وهذا يبطل ما ظنه الخصم من اعتقاد (1) الاجماع على إمامة
المتقدم (2) على أمير المؤمنين عليه السلام على أنه لا شبهة تعرض في إجماع (3)
الأمة على أبي بكر وعمر وعثمان إلا وهي عارضة في قتل عثمان بن
عفان، وإمامة معاوية من بعد صلح الحسن عليه السلام، وطاعة يزيد بعد الحرة،
وإمامة بني أمية وبني مروان.
فإن وجب (4) لذلك القطع بالإجماع على الثلاثة المذكورين حتى
تثبت إمامتهم ويقضى لهم بالصواب ليكون جميع من ذكرناه شركاءهم
في الإمامة، وثبوت الرئاسة الدينية والسلطان، إذ العلة واحدة فيما
أوجب لهم ذلك، فهو ظاهر التسليم والانقياد على الاجتماع، وترك
النكير والخلاف، وهذا ما يأباه أهل العلم كافة، ولا يذهب إليه أحد من
أهل التمييز لتناقضه في الاعتقاد.

(1) في أ: اعتقادنا.
(2) في ب: من تقدم.
(3) في ب، م: في التعرض على إجماع.
(4) (وجب) ليس في ب.
48

فإن قال: أليس قد روى أصحاب الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله أنه
قال: " خير القرون القرن الذي أنا فيه، ثم الذين يلونه (1) " (2).
وقال عليه السلام: " إن الله تعالى اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما
شئتم فقد غفرت لكم " (3).
وقال عليه السلام: " أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم " (4) فكيف
يصح مع هذه الأحاديث أن يقترف (5) أصحابه السيئات، أو يقيموا على
الذنوب والكبائر الموبقات؟!
قيل له: هذه أحاديث آحاد، وهي مضطربة الطرق والإسناد،
والخلل ظاهر في معانيها والفساد، وما كان بهذه الصورة لم يعارض
الاجماع ولا يقابل (6) حجج الله تعالى وبيناته الواضحات (7)، مع أنه قد
عارضها من الأخبار التي جاءت بالصحيح من الإسناد، ورواها الثقات

(1) في ب: ثم الذي يليه.
(2) مسند أحمد 2: 228، سنن أبي داود 4: 214 / 4657، صحيح مسلم 4: 1962 / 210،
وفيها: خير أمتي القرن..
(3) مسند أحمد 1: 80 و 2: 295، صحيح مسلم 4: 1941 / 161، صحيح البخاري 6:
363 / 383، سنن الدارمي 2: 313.
(4) لسان الميزان 2: 137، تفسير البحر المحيط 5: 528، أعلام الموقعين 2: 223، كنز
العمال 1: 199 / 1002، كشف الخفاء ومزيل الالباس 1 / 132.
وانظر تلخيص الشافي 2: 246.
(5) في م: يعترف.
(6) في أ: يعترض الإجماعات ولا قايل، في ب: تعترض الإجماعات ولا تقابل.
(7) في أ: وموضحاته.
49

عند أصحاب الآثار، وأطبق على نقلها الفريقان من الشيعة والناصبة
على الاتفاق، ما ضمن خلاف ما انطوت (1) عليه فأبطلها على البيان:
فمنها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " لتتبعن سنن من كان
قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في حجر ضب
لاتبعتموهم ". فقالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: " فمن
إذن؟! " (2).
وقال صلى الله عليه وآله في مرضه الذي توفي فيه: " أقبلت الفتن كقطع الليل
المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة (3) شر من الأولى " (4).
وقال صلى الله عليه وآله في حجة الوداع لأصحابه: " ألا وإن دماءكم
وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في
بلدكم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا لأعرفنكم ترتدون بعدي
كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إني قد شهدت وغبتم " (5).
وقال عليه السلام لأصحابه أيضا: " إنكم محشورون إلى الله تعالى يوم

(1) في أ: انطق.
(2) مسند أحمد 2: 511، سنن ابن ماجة 2: 1322 / 3994، صحيح البخاري 4:
326 / 249.
(3) في ب: آخره.
(4) مسند أحمد 3: 489، مجمع الزوائد 9: 24، سنن ابن ماجة 2: 1310 / 3961.
(5) الجامع الصحيح للترمذي 4: 461 / 2159 و 486 / 2193، صحيح البخاري 7: 182
و 8: 285 / 14 و 9: 90 / 27، صحيح مسلم 3: 1305 / 29 - 31، سنن أبي داود 4:
221 / 4686 قطعة منه، مسند أحمد 1: 230، سنن النسائي 7: 127 قطعة منه، سنن
الدارمي 2: 69 قطعة منه.
50

القيامة حفاة عراة، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات
الشمال، فأقول: يا رب، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا
بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم " (1).
وقال عليه السلام " أيها الناس، بينا أنا على الحوض إذ مر بكم زمرا،
فتفرق بكم الطرق، فأناديكم: ألا هلموا إلى الطريق، فيناديني مناد من
ورائي: إنهم بدلوا بعدك، فأقول: ألا سحقا، ألا سحقا " (2).
وقال عليه السلام: " ما بال أقوام يقولون: إن رحم (3) رسول الله صلى الله عليه وآله لا
تنفع يوم القيامة، بلى - والله - إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة، وإني
- أيها الناس - فرطكم على الحوض، فإذا جئتم، قال الرجل منكم:
يا رسول الله أنا فلان بن فلان، وقال الآخر: أنا فلان بن فلان،
فأقول: أما النسب فقد عرفته، ولكنكم أحدثتم بعدي فارتددتم
القهقري " (4).
وقال عليه السلام وقد ذكر عنده الدجال: " أنا لفتنة بعضكم أخوف مني
لفتنة الدجال " (5).

(1) صحيح البخاري 6: 108، صحيح مسلم 4: 2194 / 58، الجامع الصحيح للترمذي 4:
615 / 2423، سنن النسائي 4: 117.
(2) مسند أحمد 6: 297.
(3) (إن رحم) ليس في ب، ح، م.
(4) مسند أحمد 3: 18 و 62 قطعة منه.
(5) كنز العمال 14: 322 / 28812.
51

وقال عليه السلام " إن من أصحابي من لا يراني بعد أن يفارقني " (1).
في أحاديث من هذا الجنس يطول شرحها، وأمرها في الكتب
عند أصحاب الحديث أشهر من أن يحتاج فيه إلى برهان، على أن كتاب
الله عز وجل شاهد بما ذكرناه، ولو لم يأت حديث فيه لكفى في بيان ما
وصفناه:
قال الله سبحانه وتعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من
قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على
عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} (2)، فأخبر تعالى
عن ردتهم بعد نبيه صلى الله عليه وآله على القطع والثبات.
وقال جل اسمه: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم
خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} (3) فأنذرهم الله سبحانه من
الفتنة في الدين، وأعلمهم أنها تشملهم على العموم، إلا من خرج
بعصمة الله من الذنوب.
وقال سبحانه وتعالى: {ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن
يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله
الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون
السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون} (4) وهذا صريح في الخبر عن

(1) مسند أحمد 6: 307.
(2) سورة آل عمران 3: 144.
(3) سورة الأنفال 8: 25.
(4) سورة العنكبوت 29: 1 - 4.
52

فتنتهم بعد النبي صلى الله عليه وآله بالاختبار، وتمييزهم بالأعمال.
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} (1) إلى آخر الآية، دليل على ما
ذكرناه.
وقوله تعالى: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج
الله أضغانهم} (2) يزيد ما شرحناه.
ولو ذهبنا إلى استقصاء ما في هذا الباب من آيات القرآن،
والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله، لانتشر القول فيه، وطال به الكتاب.
وفي قول أنس بن مالك -: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله المدينة، فأضاء
منها كل شئ، فلما مات عليه السلام أظلم منها كل شئ، وما نفضنا عن
النبي صلى الله عليه وآله الأيدي ونحن في دفنه حتى أنكرنا قلوبنا (3) - شاهد عدل
على القوم بما بيناه.
مع أنا نقول لهذا السائل المتعلق بالأخبار الشواذ المتناقضة ما
قدمنا حكايته، وأثبتنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله الذين توهمت أنهم
لا يقارفون الذنوب، ولا يكتسبون السيئات، هم الذين حصروا عثمان
ابن عفان، وشهدوا عليه بالردة عن الإسلام، وخلعوه عن إمامة الأنام،

(1) سورة المائدة 5: 54.
(2) سورة محمد صلى الله عليه وآله 47: 29.
(3) الجامع الصحيح للترمذي 5: 588 / 3618، مسند أحمد بن حنبل 3: 221 / 268، سنن
ابن ماجة 1: 522 / 1631.
53

وسفكوا دمه على استحلال، وهم الذين نكثوا بيعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد
العهود والإيمان، وحاربوه بالبصرة، وسفكوا دماء أهل الإسلام، وهم
القاسطون بالشام، ومنهم رؤساء المارقة عن الدين والإيمان، ومن قبل
منع جمهورهم الزكاة حتى غزاهم إمام عدل عندكم (1)، وسبي ذراريهم،
وحكم عليهم بالردة والكفر والضلال.
فإن زعمت أنهم (2) فيما قصصناه من أمرهم (3) على الصواب،
فكفاك خزيا بهذا المقال، وإن حكمت عليهم أو على بعضهم (4) بالخطأ
وارتكاب الآثام بطلت أحاديثك، ونقضت ما بينته (5) من الاعتلال (6).
ويقال له أيضا: وهؤلاء الصحابة الذين رويت ما رويت فيهم من
الأخبار، وغرك منهم التسمية لهم بصحبة النبي صلى الله عليه وآله، وكان أكابرهم
وأفاضلهم أهل بدر، الذين زعمت أن الله قطع لهم المغفرة والرضوان، هم
الذي نطق القرآن بكراهتهم للجهاد، ومجادلتهم للنبي صلى الله عليه وآله في تركه،
وضنهم بأنفسهم من نصره، ورغبتهم في الدنيا، وزهدهم في الثواب، فقال
جل اسمه: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من
المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى

(1) (عندكم) ليس في ب، م.
(2) في أ، ح: أن جميعهم.
(3) في أ: أمورهم.
(4) (أو على بعضهم) ليس في ب، م.
(5) في أ: بنيته.
(6) في أ: الاعتدال.
54

الموت وهم ينظرون * وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم
وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق
بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره
المجرمون} (1).
ثم زجرهم الله تعالى عن شقاق نبيهم صلى الله عليه وآله، لما علم من خبث
نياتهم وأمرهم بالطاعة والاخلاص، وضرب لهم فيما أنبأ به من بواطن (2)
أخبارهم وسرائرهم الأمثال، وحذرهم من الفتنة بارتكابهم قبائح
الأعمال، وعدد عليهم نعمه ليشكروه ويطيعوه فيما دعاهم إليه من
الأعمال، وأنذرهم العقاب من الخيانة لله جلت عظمته، ولرسوله صلى الله عليه وآله،
فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه
وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون *
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله
فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون * يا أيها
الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا
أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون * واتقوا فتنة
لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب *
واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم
الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم

(1) سورة الأنفال 8: 5 - 8، وفي م زيادة: نفاقهم.
(2) في أ: مواطن.
55

تشكرون * يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا
أماناتكم وأنتم تعلمون * واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن
الله عنده أجر عظيم} (1).
ومن قبيل هذا ما أكده عليهم من فرض الصبر في الجهاد،
وتوعدهم بالغضب على الهزيمة، لما علم من ضعف بصائرهم، فلم يلتفتوا
إلى وعيده، وأسلموا نبيه صلى الله عليه وآله إلى عدوه في مقام بعد مقام.
فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا
واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (2).
{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم
الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى
فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} (3).
هذا وقد أخبر جل اسمه عن عامة من حضر بدرا من القوم،
ومحبتهم للحياة، وخوفهم من الممات، وحضورهم ذلك المكان طمعا في
الغنائم والأموال، وأنهم لم يكن لهم نية في نصرة الإسلام. فقال تعالى:
{إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل
منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان
مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وإن الله

(1) سورة الأنفال 8: 20 - 28.
(2) سورة الأنفال 8: 45.
(3) سورة الأنفال 8: 15، 16.
56

لسميع عليم * إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا
لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات
الصدور} (1).
وقال في القوم بأعيانهم، وقد أمرهم نبيهم صلى الله عليه وآله بالخروج إلى
بدر، فتثاقلوا عنه، واحتجوا عليه، ودافعوه عن الخروج معه:
{ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس
كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا
أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى
ولا تظلمون فتيلا * أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج
مشيدة} (2) الآية.
وقال تعالى فيهم وقد كان لهم في الأسرى من الرأي:
{ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض
تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب
من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} (3).
فأخبر سبحانه بالنص الذي لا يحتمل التأويل أنهم أرادوا الدنيا
دون الآخرة، وآثروا العاجلة على الآجلة، وتعمدوا من العصيان ما لولا

(1) سورة الأنفال 8: 42، 43.
(2) سورة النساء 4: 77، 78.
(3) سورة الأنفال 8: 67، 68.
57

سابق علم الله وكتابه، لعجل لهم العقاب.
وقال تعالى فيما قص (1) من نبأهم في يوم أحد، وهزيمتهم من
المشركين، وتسليم النبي صلى الله عليه وآله:
{إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم
فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير
بما تعملون} (2).
وقال جل اسمه في قصتهم بحنين، وقد ولوا الأدبار ولم يبق مع
النبي صلى الله عليه وآله أحد غير أمير المؤمنين عليه السلام، والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه،
وسبعة من بني هاشم ليس معهم غيرهم من الناس (3):
{ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا
وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله
سكينته على رسوله وعلى المؤمنين..} (4) يعني أمير المؤمنين عليه السلام،
والصابرين معه من بني هاشم دون سائر المنهزمين.
وقال سبحانه في نكثهم عهود النبي صلى الله عليه وآله وهو حي بين أظهرهم
موجود:
{ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد

(1) في أ: فيما نص به.
(2) سورة آل عمران 3: 153.
(3) إرشاد المفيد: 74، مجمع البيان 5: 28، السيرة الحلبية 3: 67، تاريخ اليعقوبي 2: 62،
مع اختلاف.
(4) سورة التوبة 9: 25، 26.
58

الله مسؤولا} (1).
وقد سمع كل من سمع من الأخبار، ما كان يصنعه كثير منهم،
والنبي صلى الله عليه وآله حي بين أظهرهم، والوحي ينزل عليه بالتوبيخ لهم
والتعنيف والإيعاد، ولا يزجرهم ذلك عن أمثال ما ارتكبوه من الآثام:
فمن ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله كان يخطب على المنبر في يوم
الجمعة، إذ جاءت عير لقريش قد أقبلت (2) من الشام، ومعها من يضرب
بالدف ويصفر (3)، ويستعمل ما حظره الإسلام، فتركوا النبي صلى الله عليه وآله قائما
على المنبر، وانفضوا عنه إلى اللهو واللعب، رغبة فيه، وزهدا في سماع
موعظة النبي صلى الله وآله، وما يتلوه عليهم من القرآن.
فأنزل الله عز وجل فيهم: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا
إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله
خير الرازقين} (4).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم (5) يصلي بهم، إذ أقبل رجل

(1) سورة الأحزاب 33: 15.
(2) في أ: أفلت.
(3) (ويصفر) ليس في ب، م.
(4) تأويل الآيات 2: 693 / 3، تفسير القمي 2: 367، مجمع البيان 10: 433، مسند أحمد
3: 313 و 370، صحيح البخاري 6: 267 / 393، الجامع الصحيح للترمذي 5:
414 / 3311، جامع البيان للطبري 28: 67، الدر المنثور 8: 165، والآية من سورة
الجمعة 62: 11.
(5) (ذات يوم) ليس في أ.
59

ببصره سوء يريد المسجد للصلاة، فوقع في بئر كانت هناك فضحكوا
منه واستهزؤوا به، وقطعوا الصلاة، ولم يوقروا الدين، ولا هابوا
النبي صلى الله عليه وآله، فلما سلم النبي صلى الله عليه وآله، قال: " من ضحك فليعد وضوءه
والصلاة " (1).
ولما تأخرت عائشة وصفوان بن المعطل (2) في غزوة بني المصطلق،
أسرعوا إلى رميها بصفوان، وقذفوها بالفجور، وارتكبوا في ذلك البهتان.
وكان منهم في ليلة العقبة من التنفير لناقته صلى الله عليه وآله، والاجتهاد في
رميه عنها وقتله بذلك ما كان.
ثم لم يزالوا يكذبون عليه صلى الله عليه وآله في الأخبار حتى بلغه ذلك،
فقال: " كثرت الكذابة علي فما أتاكم عني من حديث فاعرضوه على
القرآن " (3).
فلو لم يدل على تهاونهم بالدين، واستخفافهم بشرع
نبيهم صلى الله عليه وآله، إلا أنهم كانوا قد تلقوا عنه أحكام الإسلام على الاتفاق،
فلما مضى صلى الله عليه وآله من بينهم جاؤوا بجميعها على غاية الاختلاف، لكفى
في ظهور حالهم ووضح به أمرهم وبان، فكيف وقد ذكرنا من ذلك طرفا

(1) سنن الدارقطني 1: 161 - 172 بعدة طرق، تاريخ بغداد 9: 379، وكنز العمال 9:
331 / 26281.
(2) أنظر ترجمته في أسد الغابة 3: 26، الجرح والتعديل 4: 420 / 1844، سير أعلام
النبلاء 2: 545 / 115، الإصابة 3: 250 / 8084.
(3) الاحتجاج 2: 447.
60

يستبصر به أهل الاعتبار، وإن عدلنا عن ذكر الأكثر إيثارا للاختصار.
فأما من كان منهم يظاهر النبي صلى الله عليه وآله بالإيمان (1)، ممن يقيم معه
الصلاة، ويؤتي الزكاة، وينفق في سبيل الله، ويحضر الجهاد، ويباطنه
بالكفر والعدوان (2)، فقد نطق بذكره القرآن كما نطق بذكر من ظهر منه
النفاق:
قال الله تعالى {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا
قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا
قليلا} (3).
وقال جل اسمه فيهم: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا
أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا
ينفقون إلا وهم كارهون} (4).
وقال تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل
المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم
يردون إلى عذاب عظيم} (5).
وقال سبحانه: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم

(1) في ب، م: فأما من كان منهم زمن حياة النبي صلى الله عليه وآله بظاهر الإيمان.
(2) في ب، م: وبباطنه الكفر والعدوان.
(3) سورة النساء 4: 142.
(4) سورة التوبة 9: 54.
(5) سورة التوبة 9: 101.
61

ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم} (1).
وقال عز وجل: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا
تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم
العدو فأحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} (2).
وقال فيهم وقد أحاطوا بالنبي صلى الله عليه وآله، وجعلوا مجالسهم منه عن
يمينه وشماله، ليلبسوا بذلك على المؤمنين:
{فمال الذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن
الشمال عزين * أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم *
كلا إنا خلقناهم مما يعلمون} (3).
ثم دل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله على جماعة منهم وأمره بتألفهم،
والاغضاء عمن ظاهره بالنفاق منهم، فقال: {سيحلفون بالله لكم إذا
انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم
جهنم جزاء بما كانوا يكسبون} (4).
وقال: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (5).
وقال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه

(1) سورة محمد صلى الله عليه وآله 47: 30
(2) سورة المنافقون 63: 4.
(3) سورة المعارج 70: 36 - 39.
(4) سورة التوبة 9: 95.
(5) سورة الأعراف 7: 199.
62

عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا
ذو حظ عظيم} (1).
وجعل لهم في الصدقة سهما منصوصا، وفي الغنائم جزءا مفروضا،
وكان من عددناه، وتلونا فيه القرآن، وروينا في أحواله (2) الأخبار، قد
كانوا من جملة الصحابة (3)، وممن شملهم اسم الصحبة، ويتحقق إلى
الاعتزاء إلى النبي صلى الله عليه وآله على طبقاتهم في الخطأ والعمد والضلال والنفاق
بحسب ما شرحناه، فهل يتعلق عاقل بعد هذا بذكر الصحبة، ومشاهدة
النبي صلى الله عليه وآله في القطع على فعل الصواب، وهل يوجب بذلك (4) العصمة
والتأييد، إلا بأنه مخذول مصدود (5) عن البيان؟!

(1) سورة فصلت 41: 34، 35.
(2) في ب: أحوالهم.
(3) في أ، ح: العصابة.
(4) في ب، م زيادة: بدون.
(5) في ب،: الإمامة حاشا فإنه غني.
63

فصل
فإن قال قائل: لسنا ندفع أنه قد كان في وقت رسول الله صلى الله عليه وآله
طوائف من أهل النفاق يستترون (1) بالإسلام، وأن منهم من كان أمره
مطويا عن النبي صلى الله عليه وآله، منهم من فضحه الوحي وعرفه الله تعالى
نبيه صلى الله عليه وآله، ولا ندفع أيضا أنه قد وقع من جماعة من الصحابة الأخيار
ذلك سهوا عن الصواب، وخطأ في الهزيمة من الذي فرض عليهم
مصابرته في الجهاد، فإن الله تعالى قد عفا عنهم بما أنزله في ذلك من
القرآن.
لكنا ندفعكم عن تخطئة أهل السقيفة، ومن اتبعهم من أهل
السوابق والفضائل، ومن قطع له رسول الله صلى الله عليه وآله بالسلامة، وحكم له
بالصواب (2)، وأخبر عنه أنه من أهل الجنان، كأبي بكر وعمر وعثمان
وعلي عليه السلام، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن نفيل
وعبد الرحمن بن عوف الزهري وأبي عبيدة بن الجراح، الذين (3) قال

(1) في م: يستهزؤن.
(2) في أ، ح: بالثواب.
(3) (وأبي عبيدة بن الجراح، الذين) ليس في ب.
65

النبي صلى الله عليه وآله فيهم: " عشرة من أصحابي في الجنة " (1) على ما جاء به
الثابت في الأخبار، ومن قاربهم في الفضائل، وماثلهم في استحقاق
الثواب، فيجب أن يكون الكلام في هؤلاء القوم على الخصوص، دون
العموم في الأتباع والأصحاب.
قيل لهم: لو كان سؤالكم فيما سلف عن خاصة من عممتموه
على الاطلاق، لصدر جوابنا عنه بحسب ذلك على التمييز والإفراد،
لكنكم تعلقتم بالاسم الشامل، فاغتررتم باستحقاق التسمية بالصحبة
والاتباع على الاطلاق، فأوضحنا لكم عن غلطكم فيما ظننتموه منه بما
لا يستطاع دفعه على الوجوه كلها والأسباب.
وإذا كنتم الآن قد رغبتم عن ذلك السؤال، واعتمدتم في المسألة
عمن ذكرتموه على الخصوص دون كافة الأصحاب، فقد سقطت أعظم
أصولكم في الكلام، وخرجت الصحبة والاتباع والمشاهدة وسماع الوحي
والقرآن، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإنفاق والجهاد من إيجاب
الرحمة والرضوان، وسقط الاحتجاج في الجملة، بالعصمة من كبائر الآثام
والردة عن الإسلام بذلك، وبما رويتموه عن (2) النبي صلى الله عليه وآله من الأخبار،
ولم يبق لكم فيمن تتولونه وتدينون (3) بإمامته إلا الظن والعصبية

(1) سنن أبي داود 4: 211 / 4649، سنن الترمذي 5: 648 / 3748، كنز العمال 11:
638 / 33105، و 646 / 33137 مع اختلاف.
(2) (وسماع الوحي.. رويتموه عن) من نسخة أ.
(3) في أ: فيما توالونه وتتقون.
66

للرجال، والتقليد في الاعتقاد، والاعتماد على ما يجري مجرى الأسمار (1)
والخرافات، وما لا يثبت على السير والامتحان (2)، وسنقفكم على حقيقة
ذلك فيما نورده من الكلام، إن شاء الله تعالى.
فصل
وعلى أن الذي تلوناه في باب الأسرى، وإخبار الله تعالى عن
إرادة المشير به لعرض الدنيا، وحكمه عليه باستحقاق تعجيل العقاب،
لولا ما رفع عن أمة رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك، وأخره للمستحقين منهم
إلى يوم المآب، لخص أبا بكر ومن شاركه في نيته وإرادته فيه، لأنه هو
المشير في الأسرى بما أشار على الاجماع من الأمة والاتفاق، فما عصمته
السوابق والفضائل على ما ادعيتموه له من الأخبار بعاقبته، والقطع له
بالجنان، حسبما اختلفتموه من الغلط في دين الله عز وجل، والتعمد
لمعصية الله، وإيثار عاجل الدنيا على ثواب الله تعالى، حتى وقع من ذلك
ما أبان الله به عن سريرته، وأخبر لأجله عن استحقاقه لعقابه، وهو
وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن
الجراح في جملة من انهزم يوم أحد، وتوجه إليهم الوعيد من الله عز وجل،
ولحقهم التوبيخ والتعنيف على ما اكتسبوه بذلك من الآثام في قوله

(1) أي أحاديث الليل. أنظر النهاية 2: 399.
(2) في ب: والاستحسان.
67

تعالى: {إذ تصعدون ولا تلون على أحد} (1) الآية.
وكذلك كانت حاله يوم حنين، بلا اختلاف بين نقلة الآثار، ولم
يثبت أحد منهم مع النبي صلى الله عليه وآله، وكان أبو بكر هو الذي أعجبته في ذلك
اليوم كثرة الناس، فقال: لم نغلب اليوم من قلة. ثم كان أول المنهزمين،
ومن ولى من القوم الدبر، فقال الله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم
كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم
وليتم مدبرين} (2) فاختص من التوبيخ به لمقاله بما لم يتوجه إلى غيره،
وشارك الباقين في الذم على نقض العهد والميثاق.
وقد كان منه ومن صاحبه يوم خيبر ما لا يختلف فيه من أهل
العلم اثنان، وتلك أول حرب حضرها المسلمون بعد بيعة الرضوان، فلم
يفيا لله تعالى بالعقد مع قرب العهد، وردا راية رسول الله صلى الله عليه وآله على
أقبح ما يكون من الانهزام، حتى وصفهما رسول الله صلى الله عليه وآله بالفرار،
وأخرجهما من محبة الله عز وجل، ومحبة رسوله صلى الله عليه وآله بفحوى مقاله لأمير
المؤمنين عليه السلام، أو ما يدل عليه الخطاب حيث يقول: " لأعطين الراية غدا
رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع
حتى يفتح الله على يديه " (3) فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام.
هذا وقد دخل القوم كافة سوى أمير المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى:

(1) سورة آل عمران 3: 153.
(2) سورة التوبة 9: 25.
(3) تقدم مع تخريجاته في ص 34.
68

{ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله
مسؤولا} (1).
فأما ما تعلقوا به في العفو عنهم في قوله تعالى: {إن الذين تولوا
منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا
ولقد عفا الله عنهم} (2) الآية، فإنه طريف، يدل على جهلهم، وضعف
عقولهم، وذلك أنهم راموا بما تعلقوا به من السوابق التي زعموا لأئمتهم،
والقضايا والأخبار عن العواقب دفعا عن إضافة الظلم إليهم، والخطأ
في دفع النص على أمير المؤمنين عليه السلام، وجحد حقوقه بعد النبي صلى الله عليه وآله،
بما جلب عليهم إيجاب التخطئة لهم في حياة الرسول صلى الله عليه وآله، والحكم
عليهم بنقض العهود، وارتكاب كبائر الذنوب، وتوجه الذم إليهم من
أجل ذلك والوعيد، ثم اشتغلوا بطلب الحيل في تخليصهم من ذلك (3)
وتمحل وجوه العفو عنهم فيما لا يمكنهم دفاعه من خلافهم على الله
تعالى، وعلى نبيه صلى الله عليه وآله وهو بين أظهرهم، وما كان أغناهم عن هذا
التخليط والتهور لو سلكوا طريق (4) الرشاد، ولم تحملهم العصبية على
تورطهم، وتدخلهم في (5) العناد!

(1) سورة الأحزاب 33: 15.
(2) سورة آل عمران 3: 155.
(3) (من ذلك) ليس في ب، م.
(4) في أ: طرق.
(5) في أ: ويدخلهم فيه.
69

وبعد: فإن العفو من الله سبحانه قد يكون عن العاجل من
العقاب، وقد يكون عن الآجل من العذاب، وقد يكون عنهما جميعا إذا
شاء، وليس في الآية أنه عفا عنهم على كل حال، ولا أنه يعفو عنهم في
يوم المآب، بل ظاهرها يدل على الماضي دون المستقبل، ويؤيده قوله
تعالى: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد
الله مسؤولا} (1).
فقد ثبت أنه لا يكون العفو في كل حال، وإن عفا فقد عفا عن
السؤال، فإذن لا بد أن يكون معنى العفو على ما قلناه في الدنيا عن
العاجل دون الآجل، كما عفا سبحانه عنهم في يوم بدر، لما كان منهم من
الرأي في الأسرى، وقد أخبر أنه لولا ما سبق في كتابه، من دفع العقاب
عن أمة محمد صلى الله عليه وآله، وترك معاجلتهم بالنقمات، لمسهم منه جل جلاله
عذاب عظيم، أو يكون العفو عن خاص من القوم دون العموم، وإلا
لتناقض (2) القرآن.
وعلى أي الوجهين ثبت العفو عن المذكورين، فقد خرج الأمر
عن يد خصومنا في براءة ساحة من يذهبون إلى إمامته وتعظيمه والولاية
له (3) لأنه لا تتميز الدعوى إلا بدليل، ولا دليل للقوم إلا ما تلوناه في
العفو، وذلك غير موجب بنفسه التغيير والتمييز بخروجه عن

(1) سورة الأحزاب 33: 15.
(2) في أ: تناقض.
(3) (وتعظيمه والولاية له) ليس في ب.
70

الاستيعاب، وعن الوقوع على كل حال.
على أنا لو سلمنا لهم العفو عنهم على ما تمنوه، لما أوجب ذلك
لهم العفو عما اكتسبوه من بعد من الذنوب، ولا دل (1) على عصمتهم فيما
يستقبل من الأوقات، ولا خروجهم عن العمد في المعاصي والشبهات،
فأين وجه الحجة لهم فيما اعتمدوه لولا ضعف الرأي واليقين؟!
فأما ما ادعوه على النبي صلى الله عليه وآله من قوله: " عشرة من أصحابي
في الجنة " (2) ثم سموا أبا بكر وعمر وعثمان ومن تقدم ذكره فيما حكيناه،
فإنه ساقط من غير وجه:
أحدها: أن الذي رواه فيما زعموا عن النبي صلى الله عليه وآله سعيد بن زيد
ابن نفيل، وهو أحد العشرة بما تضمنه لفظ الحديث على شرحهم إياه،
وقد ثبت أن من زكى غيره بتزكية نفسه لم تثبت تزكيته لذلك في شريعة
الإسلام، ومن شهد لغيره بشهادة له فيها نصيب لم تقبل شهادته
باتفاق.
ومنها: أن سعيدا واحد، ورواية الواحد لا يقطع بها على الحق
عند الله سبحانه.
ومها: أن دليل العقل يمنع من القطع بالجنة والأمان من النار
لمن تجوز منه مواقعة قبائح الأعمال، ومن ليس بمعصوم من الزلل
والضلال، لأنه متى قطع له بما ذكرناه، وهو من العصمة خارج بما

(1) في أ: ولا دليل.
(2) تقدمت مصادر الحديث ص 66.
71

وصفناه، كان مغرى بمواقعة الذنوب والسيئات، مرحا في ارتكاب ما
تدعوه إليه الطبائع والشهوات، لأنه يكون آمنا من العذاب، مطمئنا إلى
ما أخبر به من حسن عاقبته، وقطع له به من الثواب في الجنات، وذلك
فاسد لا يجوز على الحكيم سبحانه، ولا يصح منه تدبير العباد.
وإذا وجب ما ذكرناه، وكانت الأمة مجمعة على ارتفاع العصمة
عمن ضمن الخبر أسماءهم، سوى أمير المؤمنين عليه السلام، لما تذهب إليه
الشيعة من عصمته، ومفارقته للجماعة في التوفيق للصواب، ثبت أن
الحديث باطل مختلق، مضاف إلى النبي صلى الله عليه وآله.
فصل
على أنه يقال لهم لو كان الخبر كما زعمتم صحيحا، وكان الاتفاق
عليه من الجماعة ما تدعون واقعا، لكان الأمان من عذاب الله
لأبي بكر وعمر وعثمان به حاصلا، وكان الذم عنهم في حقيقة ذلك زائلا،
ولو كان الأمر كذلك لما جزع القوم عند احتضارهم من لقاء الله تعالى،
ولا اضطربوا من قدومهم على أعمالهم، مع اعتقادهم أنها مرضية لله
سبحانه، ولا شكوا بالظفر في ثواب الله عز وجل.
ولجروا في الطمأنينة لعفو الله تعالى، لثقتهم بخبر الرسول صلى الله عليه وآله،
مجرى أمير المؤمنين عليه السلام في التضرع إلى الله عز وجل في حياته أن يقبضه
الله تعالى إليه، ويعجل له السعادة بما وعده من الشهادة، وعند احتضاره
أظهر من سروره بقرب لقائه برسول الله صلى الله عليه وآله، واستبشاره بالقدوم
72

على الله عز وجل، لمعرفته بمكانه منه، ومحله من ثوابه، وقد سبق من
كلام الصالحين أن من أطاع الله أحب لقاءه، ومن عصاه كره لقاءه.
والخبر الظاهر أن أبا بكر جعل يدعو بالويل والثبور عند
احتضاره، وأن عمر تمنى أن يكون ترابا عند وفاته، وود لو أن أمه لم
تلده، وأنه نجا من أعماله كفافا، لا له ولا عليه، وما ظهر من جزع عثمان
ابن عفان عند حصر القوم له، وتيقنه بهلاكه، دليل على أن القوم لم
يعرفوا من رسول الله صلى الله عليه وآله ما تضمنه الخبر من استحقاقهم الجنة على
كل حال، ولا أمنوا من عذاب الله سبحانه لقبيح ما وقع منهم
الأعمال.
وبعد: فكيف ذهب عن عثمان بن عفان الاحتجاج بهذا الخبر
- إن كان حقا - على حاصريه في يوم الدار، وما الذي منعه من
الاحتجاج به عليهم في استحلال دمه، وقد ثبت في الشرع حظر دماء
أهل الجنان، وما باله تعلق في دفعهم عن نفسه بكل ما وجد إليه السبيل
من الاحتجاج، ولم يذكر هذا الخبر في جملة ما اعتمده في هذا المقال؟!
كلا لو كان الأمر على ما ظنه الجهال من صحة هذا الحديث عن
النبي صلى الله عليه وآله، أو روايته في وقت عثمان، لما ذهب عليه التعلق به على ما
بيناه.
مع أنا لو سلمنا لهم ما يتمنونه من ثبوت الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله،
لما أمكنهم به دفع ما ذكرناه من إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وجحد القوم
لفرض طاعته على الشبهة والعناد، لأنهم قد علموا ما جرى بين أمير
73

المؤمنين عليه السلام وبين طلحة والزبير من المباينة في الدين، والتخطئة من
بعضهم لبعض والتضليل والحرب، وسفك الدم على الاستحلال به دون
التحريم، وخروج الجميع من الدنيا على ظاهر التدين بذلك، دون
الرجوع عنه بما يوجب العلم واليقين.
فإن كان ما وقع من الفريقين صوابا - مع ما ذكر ناه - لم ينكر
أن يعتقد أمير المؤمنين عليه السلام أنه الإمام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل، ويرى
أبو بكر وعمر وعثمان خلاف ذلك، وكونهم على صواب.
وإن كان أحد الفريقين على خطأ، لم ينكر أيضا أن يكون
المتقدمون على المؤمنين عليه السلام في النص وإنكاره على خلاف
الصواب، وإن كانوا جميعا من أهل الثواب (1).
وإن كان الفريقان في حرب البصرة على ضلال، وذلك لا
يضرهما في استحقاق النعيم والأمان من الجحيم، كان المتقدمون في
الإمامة ودفعها على خطأ، وإن كانوا من أهل النعيم، ولم يضر ذلك
بأمانهم (2) من عذاب السعير، وهذا أقرب لأنه جرى ما جرى من أهل
البصرة، وفي ذلك زيادة عليه بالحرب وسفك الدماء، وإظهار البراءة
والتفسيق.
وإن زعم مخالفونا أن المحق من الفريقين أمير المؤمنين عليه السلام

(1) في أ: الصواب.
(2) تحرفت في النسخ إلى: بإمامتهم.
74

وأصحابه دون من خالفهم، غير أن المخالفين تابوا قبل خروجهم من
الدنيا فيما بينهم وبين الله عز وجل، بدلالة الخبر وما تضمنه من
استحقاقهم لثواب الله تعالى على التحقيق.
فكذلك يقال لهم: إن المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام كانوا
بذلك ضالين، ولكنهم تابوا قبل خروجهم من الدنيا في سرائر هم وفيما
بينهم وبين خالقهم، وإن لم يكن ذلك منهم على الظهور، بدلالة الخبر
على ما رتبوه، وهذا يدمر معتمدهم فيما تعلقوا به من الحديث في دفع
النص على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام لتقدم من سموه، وزعموا أنه (1) من
أهل الجنة، ولا يجوز لهم دفع الحق على كل الوجوه، والله الموفق.

(1) في ب، م: أنهم.
75

فصل
فإن قال قائل: فإني أترك التعلق بالخبر عن النبي صلى الله عليه وآله بأن
القوم في الجنة لما طعنتم به فيه، مما لا أجد منه مخلصا، ولكن خبروني
عن قوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين
اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري
تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} (1).
أليس قد أوجب لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد
وسعيد جنات عدن، ومنع بذلك من تجويز الخطأ عليهم في الدين والزلل
عن الطريق المستقيم، فكيف يصح القول مع ذلك بأن الإمامة كانت
دونهم لأمير المؤمنين عليه السلام وأنهم دفعوه بالتقدم عليه عن حق وجب له
على اليقين، وهل هذا إلا متناقض؟!
قيل له: إن الله سبحانه لا يعد أحدا بالثواب إلا على شرط
الاخلاص والموافاة بما يتوجه الوعد بالثواب عليه، وأجل من أن يعري

(1) سورة التوبة 9: 100.
77

ظاهر اللفظ بالوعد عن الشروط، لما في العقل من الدليل على ذلك
والبرهان.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه، فالحاجة ماسة إلى ثبوت أفعال
من ذكرت في السبق والطاعة لله تعالى في امتثال أوامره ظاهرا على وجه
الاخلاص، ثم الموافاة بها على ما ذكرناه حتى يتحقق لهم الوعد
بالرضوان والنعيم المقيم وهذا لم يقم عليه دليل، ولا تثبت لمن ذكرت
حجة توجب العلم واليقين، فلا معنى للتعلق بظاهر الآية فيه، مع أن
الوعد من الله تعالى بالرضوان إنما توجه إلى السابقين الأولين من
المهاجرين والأنصار، دون أن يكون متوجها إلى التالين الأولين.
والذين سميتهم من المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام ومن
ضممت إليهم في الذكر، لم يكونوا من الأولين في السبق، وإنما كانوا من
التالين للأولين، والتالين للتالين.
والسابقون الأولون من المهاجرين، هم: أمير المؤمنين عليه السلام،
وجعفر بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وخباب، وزيد بن حارثة،
وعمار وطبقتهم.
ومن الأنصار النقباء المعروفون (1)، كأبي أيوب، وسعد بن معاذ،
وأبي الهيثم بن التيهان، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، ومن كان في
طبقتهم من الأنصار.

(1) في أ: المقربون.
78

فأما أصحابك فهم الطبقة الثانية ممن ذكرناه، والوعد إنما حصل
للمتقدمين في الإيمان دونهم على ما بيناه، وهذا يسقط ما توهمت.
فصل
ثم يقال له: قد وعد الله المؤمنين والمؤمنات في الجملة مثل وعد
به السابقين من المهاجرين والأنصار، ولم يوجب ذلك نفي الغلط عن
كل من استحق اسم الإيمان، ولا إيجاب العصمة له من الضلال، ولا
القطع له بالجنة على كل حال.
قال الله عز وجل: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري
من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن
ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} (1).
فإن وجب للمتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام الثواب على كل
حال، لاستحقاقهم الوصف بأنهم من السابقين الأولين من المهاجرين
والأنصار على ما ادعيت لهم في المقال، فإنه يجب مثل ذلك لكل من
استحق اسم الإيمان في حال من الأحوال، بما تلوناه، وهذا ما لا يذهب
إليه أحد من أهل الإسلام.
ويقال له أيضا: قد وعد الله الصادقين مثل ذلك، فقطع لهم
بالمغفرة والرضوان، فقال سبحانه: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم
لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم

(1) سورة التوبة 9: 72.
79

ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} (1).
فهل يجب لذلك أن يقطع على كل من صدق في مقاله بالعصمة
من الضلال، ويوجب له الثواب المقيم، وإن ضم إلى فعله قبائح
الأفعال؟!
فإن قال: نعم. خرج عن ملة الإسلام، وإن قال: لا يجب ذلك
لعلة من العلل. قيل له في آية السابقين مثل ما قال، فإنه لا يجد فرقا.
ويقال له أيضا: ما تصنع في قول الله تعالى: {وبشر الصابرين
* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك
عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} (2)؟!
أتقول أن كل من صبر (3) على مصاب فاسترجع مقطوع له
بالعصمة والأمان من العذاب، وإن كان مخالفا لك في الاعتقاد، بل
مخالفا للإسلام؟!
فإن قال: نعم ظهر خزيه، وإن قال: لا يجب ذلك. وذهب في
الآية إلى الخصوص دون الاشتراط، سقط معتمده من عموم آية
السابقين، ولم يبق معه ظاهر فيما اشتبه به الأمر عليه في إمامة أمير
المؤمنين عليه السلام، وخطأ المتقدمين عليه حسب ما ذكرناه.
وهذا باب إن بسطنا القول فيه، واستوفينا الكلام في معانيه،

(1) المائدة 5: 119.
(2) سورة البقرة 2: 155 - 157.
(3) في ب: أتقول إن كان من خبر.
80

طال به الخطاب، وفيما اختصرناه كفاية لذوي الألباب.
فصل
فإن قال في أصل الجواب أنه لا يجوز تخصيص السابقين الأولين،
ولا الاشتراط فيهم، لأنه سبحانه قد اشترط في التابعين، وخصهم بقوله:
{والذين اتبعوهم بإحسان} (1).
فلو كان في السابقين الأولين من يقع منه غير الحسن الجميل،
لما أطلق الرضا عنهم في الذكر ذلك الاطلاق، واشترط فيمن وصله بهم
من التابعين.
قيل له: أول ما في هذا الباب، أنك أوجبت للسابقين بهذا الكلام
العصمة من الذنوب، ورفعت عنهم جواز الخطأ وما يلحقهم به من
العيوب، والأمة مجمعة على خلاف ذلك لمن زعمت أن الآية فيه
صريحة (2)، لأن الشيعة تذهب إلى تخطئة المتقدمين على أمير
المؤمنين عليه السلام، والمعتزلة والشيعة وأكثر المرجئة وأصحاب الحديث يضللون
طلحة والزبير في قتالهم أمير المؤمنين عليه السلام، والخوارج تخطئ أمير
المؤمنين عليه السلام وتبرأ منه ومن عثمان، وطلحة والزبير ومن كان في حيزهما،
وتكفرهم بحربهم أمير المؤمنين عليه السلام، وولايتهم (3) عثمان بن عفان، فيعلم

(1) سورة التورة 9: 100.
(2) (صريحة) ليس في أ، ب، ح.
(3) في م: وتوليتهم.
81

أن إيجاب العصمة لمن يزعم أن الله تعالى عناه في الآية (1) بالرضوان
باطل، والقول به خروج عن الاجماع.
على أن قوله تعالى: {والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم
ورضوا عنه} (2) ليس هو شرطا في التابعين، وإنما هو وصف للاتباع،
وتمييز له من ضروبه التي لا يوجب شئ منها الرحمة والغفران، وهذا مما
لا يبطل الخصوص في السابقين، والشرط في أفعالهم على ما ذكرناه.
مع أنا قد بينا أن المراد بالسابقين الأولين، هم الطبقة الأولى من
المهاجرين والأنصار، وذكرنا أعيانهم وليس من المتقدمين على أمير
المؤمنين عليه السلام والمخالفين عليه من كان من الأولين، وإن كان فيهم جماعة
من التالين، ولسنا ندفع ظاهر الأولين من القوم، وأنهم من أهل الثواب
وجنات النعيم على عمومهم دون الخصوص، وهذا أيضا يسقط تعلقهم
بما ذكروه في التابعين، على أنه لا يمتنع أن يكون الشرط في التابعين
شرطا في السابقين، ويكتفى به بذكر السابقين للاختصار، ولأن وروده (3)
في الذكر على الاقتران.
ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن
يرضوه} (4)

(1) (في الآية) ليس في ب، ح، م.
(2) سورة التوبة 9: 100.
(3) (وروده) ليس في ب، ح، وفي أ: الجميع.
(4) سورة التوبة 9: 62.
82

وقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في
سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} (1).
ويقال له أيضا: أليس الله تعالى يقول: {كل نفس بما
كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين} (2).
وفي الأنفس من لم يرده، ولم يستثنه لفظا، وهم: الأطفال والبله (3)
والبهائم والمجانين؟! وإنما يدل استثناؤهم لفظا (4) على استثناء أهل (5) العقول.
فبم ينكر أن يكون الشرط في السابقين مثل الشرط في التابعين،
وأن اللفظ من ذكر السابقين موجود في التابعين؟ وهذا بين لمن تدبره.
على أن الذي ذكرناه في الخبر، وبينا أنه لا يجوز من الحكيم
تعالى أن يقطع بالجنة إلا على شرط الاخلاص، لما تحظره الحكمة من
الاغراء بالذنوب، يبطل ظنهم في تأويل هذه الآية، وكل ما يتعلقون به
من غيرها في القطع على أمان أصحابهم من النار، للاجماع على ارتفاع
العصمة عنهم، وأنهم كانوا ممن يجوز عليه اقتراف الآثام، وركوب
الخلاف لله تعالى على العمد والنسيان، وقد تقدم ذلك فيما سلف، فلا
حاجة بنا إلى الإطالة فيه.

(1) سورة التوبة 9: 34.
(2) سورة المدثر 74: 38، 39.
(3) البله: جمع أبله: ضعيف العقل. " مجمع البحرين - بله - 6: 343 ".
(4) (وهم الأطفال.. لفظا) ليس في أ.
(5) (أهل) ليس في أ، ب، ح.
83

فصل آخر
ويمكن أيضا مما ذكرناه من أمر طلحة والزبير وقتالهما لأمير
المؤمنين عليه السلام، وهما عند المخالفين من السابقين (1) الأولين، ويضم إليه ما
كان من سعد بن عبادة، وهو سيد الأنصار ومن السابقين الأولين، ونقباء
رسول الله صلى الله عليه وآله في السقيفة، ترشح (2) للخلافة، ودعا أصحابه إليه، وما
راموه من البيعة له على الإمامة حتى غلبهم المهاجرون على الأمر، فلم
يزل مخالفا لأبي بكر وعمر، ممتنعا عن بيعتهما في أهل بيته وولده وأشياعه
إلى أن قتل بالشام على خلافهما ومباينتهما (3).
وإذا جاز من بعض السابقين دفع الحق في الإمامة، واعتقاد
الباطل فيها، وجاز من بعضهم استحلال الدم على الضلال، والخروج
من الدنيا على غير توبة ظاهرة للأنام، فما تنكر من وقوع مثل ذلك من
المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام - وإن كانوا من السابقين الأولين (4) -
وما الذي يعصمهم مما وقع من شركائهم في السبق والهجرة وغير ذلك
مما تعدونه لهم في الصفات، وهذا مما لا سبيل إلى دفعه.

(1) في ب، ح، م: التابعين.
(2) في ب: توشحه.
(3) أنظر تفصيل ذلك في: الكامل في التاريخ 2: 331، الطبقات الكبرى 3: 616، أسد
الغابة 2: 284.
(4) (وإن.. الأولين) ليس في ب، ح، م.
84

فصل
فإن قال: فإذا كنتم قد أخرجتم المتقدمين على أمير المؤمنين
والمحاربين له والقاعدين عنه من رضا الله تعالى، وما ضمنته آية
السابقين بالشرط على ما ذكرتم، والتخصيص الذي وصفتم، ولما
اعتمدتموه من تعريهم من العصمة، وما واقعه - من سميتموه منهم على
الاجماع - من الذنوب، فخبروني عن قوله تعالى: {لقد رضى الله عن
المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (1).
فكيف يصح لكم تأويله بما يخرج القوم من الرضا والغفران،
والاجماع منعقد على أن أبا بكر وعمر (2) وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا
قد بايعوا تحت الشجرة، وعاهدوا النبي صلى الله عليه وآله، أوليس هذا الاجماع
يوجب الرضا على البيان؟
قيل له: القول في الآيتين جميعا سواء، وهو في هذه الآية أبين

(1) سورة الفتح 48: 18.
(2) زاد في م: وعثمان، والثابت أنه لم يبايع تحت الشجرة. أنظر الدر المنثور 7 / 521.
85

وأوضح وأقرب طريقا، وذلك أن الله تعالى ذكر المبايعين (1)، وخصص من
توجه إليه الرضا من جملتهم بعلامات نطق بها التنزيل، ودل بذلك على
أن أصحابك - أيها الخصم - خارجون عن الرضا على التحقيق، فقال
جل اسمه: {لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة
فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} (2).
فخص سبحانه بالرضا منهم من علم الله منهم الوفاء، وجعل
علامته من بينهم ثباته في الحروب بنزول السكينة عليه، وكون الفتح
القريب به وعلى يديه، ولا خلاف بين الأمة أن أول حرب لقيها رسول
الله صلى الله عليه وآله بعد بيعة الرضوان حرب خيبر، وأنه قدم أبا بكر فيها فرجع
منهزما فارا من مرحب، وثنى بعمر فرجع منهزما فارا، يجبن أصحابه
ويجبنونه.
فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: " لأعطين الراية غدا رجلا
يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرارا، لا يرجع حتى
يفتح الله تعالى على يديه " (3) فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام فلقي مرحبا
فقتله، وكان الفتح على يديه واختص الرضا به (4)، ومن كان معه من
أصحابه وأتباعه، وخرج صاحباك من الرضا بخروجهما عن الوفاء،

(1) في ب، م: السابقين.
(2) سورة الفتح 48: 18
(3) تقدم مع تخريجاته في ص 34.
(4) (واختص الرضى به) ليس في ب، م.
86

وتعريهما من السكينة، لانهزامهما وفرارهما وخيبتهما من الفتح القريب،
لكونه على يد غيرهما، وخرج من سميت من أتبعاهما (1) منه، إذ لا فتح
لهم ولا بهم على ما ذكرناه (2) وانكشف عن الرجلين خاصة، بدليل قول
رسول الله صلى الله عليه وآله: " ويحبه الله ورسوله " ما كان مستورا، لاستحقاقهما في
الظاهر ضد ذلك من الوصف، كما استحقا اسم الفرار دون الكرار،
ولولا أن الأمر كما وصفناه لبطل معنى كلام النبي صلى الله عليه وآله، ولم يكن له
فائدة، وفسد تخصيصه عليا عليه السلام بما ضمنه من الثناء على ما شرحناه.
ومما يؤيد ذلك ويزيده بيانا قول الله عز وجل: {ولقد كانوا
عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا} (3).
فدل على أنه تعالى يسأل المولين (4) يوم القيامة عن العهد،
ويعاقبهم بنقض العهد، وليس يصح اجتماع الرضا والمسألة والعقاب
لشخص واحد، فدل ذلك على خصوص الرضا، ووجب إلحاقه في
الحكم بما لا يتوجه إليه السؤال، وإذا وجب ذلك بطل تعلق الخصم في
الآية بالعموم، وسقط اعتماده على البيعة في الجملة.
وعلى كل حال، هذا إن لم يكن في الآية نفسها وفيما تلوناه بعدها
دليل على خروج القوم من الرضا، وكان الأمر ملتبسا، فكيف وفيها

(1) في أ: أتباعا.
(2) (على ما ذكرناه) ليس في ب، ح، م.
(3) سورة الأحزاب 33: 15.
(4) في أ: المؤمنين.
87

أوضح برهان بما رتبناه؟!
ومما يدل على خصوص الآية أيضا قوله تعالى: {ومن يولهم
يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من
الله ومأواه جهنم وبئس المصير} (1).
فتوعد على الفرار بالغضب والنار، كما وعد على الوفاء بالرضا
والنعيم، فلو كانت آية الرضا في المبايعين على العموم وعدم الشرط
لبطل الوعيد، وخرجت الآية النازلة عن الحكمة (2)، ولم يحصل لها
فائدة ولا مفهوم، وذلك فاسد بلا ارتياب.
ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {من المؤمنين رجال
صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر
وما بدلوا تبديلا} (3).
وهذا صريح باختصاص الرضا بطائفة من المبايعين دون
الجميع، وبثبوت الخصوص في الموفين بظاهر التنزيل الذي لا يمكن
لأحد دفعه، إلا بالخروج عن الدين.
على أن بعض أصحابنا قد سلم لهم ما ظنوه من توجه الرضا
إلى جميع المبايعين (4)، وأراهم أنه غير نافع لهم فيما اعتقدوه، لأن الرضا

(1) سورة الأنفال 8: 16.
(2) في ب، ح، م: النازلة منافية للحكمة.
(3) سورة الأحزاب 33: 23.
(4) في م: المتابعين.
88

للماضي من الأفعال، وما هو في الحال لا يعصم من وقوع ضده الموجب
للسخط في المستقبل، وما يتوقع من الأحوال، وهذا ما لا يمكن لأحد
من خصومنا دفعه، إلا من قال منهم بالموافاة فإنه يتعلق بها، وكلامي
المتقدم يكفي في الكثير على الجميع، والحمد لله.
89

فصل
فإن قال: قد فهمت ما ذكرتموه في هذه وما قبلها من الآي، ولست
أرى لأحد حجة في دفعه لوضوحه في البيان، ولكن خبروني عن قوله
تعالى في سورة النور: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات
ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم
دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا
يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} (1).
أليس قد ذكر المفسرون أنها في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن
أبي طالب عليه السلام؟! واستدل المتكلمون من مخالفيكم على صحة ذلك، بما
حصل لهم من جميع هذه الصفات:
فأولها: أنهم كانوا حاضرين لنزولها بدليل كاف المواجهة (2) بلا
اختلاف، ثم أنهم كانوا ممن خاف في أول الإسلام، فآمنهم الله تعالى،
ومكن لهم في البلاد، وخلفوا النبي صلى الله عليه وآله وأطاعهم العباد، فثبت أنها

(1) سورة النور 24: 55.
(2) المراد منها كاف الخطاب في الآية.
90

نزلت فيهم بهذا الضرب من الاعتبار، وإلا فبينوا لنا الوجه في معناها،
إن لم يكن الأمر على ما ذكرناه.
قيل له: إن تفسير القرآن لا يؤخذ بالرأي، ولا يحمل على
اعتقادات الرجال والأهواء، وما حكيته من ذلك عن المفسرين فليس
هو إجماعا منهم، ولا مرجوعا به إلى ثقة ممن تعاطاه ومن ادعاه، ولم
يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله، ولا إلى من تجب طاعته على الأنام.
وممن فسر القرآن عبد الله بن عباس، والمحكي عنه في تأويل
هذه الآية غير ما وصفت بلا تنازع بين حملة الآثار، وكذلك المروي عن
محمد بن علي عليهما السلام، وعن عطاء ومجاهد (1)، وإنما ذكر ذلك برأيه وعصبيته
مقاتل بن سليمان، وقد عرف نصبه لآل محمد صلى الله عليه وآله وجهله وكثرة
تخاليطه في الجبر والتشبيه، وما ضمنته كتبه في معاني القرآن.
على أن المفسرين للقرآن طائفتان: شيعة، وحشوية، فالشيعة لها
في هذه الآية تأويل معروف تسنده إلى أئمة الهدى عليهم السلام، والحشوية مختلفة
في أقاويلها على ما ذكرناه، فمن أين يصح إضافة ما ادعوه من التأويل
إلى مفسري القرآن جميعا على الاطلاق، لولا عمى العيون وارتكاب
العناد؟!
فأما ما حكوه (2) في معناها عن المتكلمين منهم، فقد اعتمده

(1) أنظر سعد السعود: 166 - 173، مجمع البيان 7: 239، تفسير الطبري 18: 122،
تفسير القرطبي 12: 297.
(2) في ب، م: حكموه.
91

جميعهم على ما وصفوه بالاعتبار الذي ذكروه، وهو ضلال عن المراد (1)،
وخطأ ظاهر الفساد، من وجوه لا تخفى على من وفق للرشاد:
أحدها: أن الوعد مشترط بالإيمان على التحقيق بالأعمال
الصالحات، وليس على ما يذهب إليه مخالفونا من إيمان أصحابهم على
الحقيقة، وأنهم كانوا من أصحاب الصالحات بإجماع، ولا دليل يقطع به
على الحق عند الله، بل الخلاف في ذلك ظاهر بينهم وبين خصومهم،
والمدافعة عن الأدلة على ذلك موجودة كالعيان.
والثاني: أن المراد في الآية بالاستخلاف إنما هو توريث الأرض
والديار، والتبقية (2) لأهل الإيمان بعد هلاك الظالمين لهم من الكفار، دون
ما ظنه القوم من الاستخلاف في مقام النبوة، وتملك الإمامة وفرض
الطاعة على الأنام.
ألا ترى أن الله سبحانه قد جعل ما وعد به من ذلك مماثلا لما
فعله بالمؤمنين وبالأنبياء عليهم السلام قبل هذه الأمة في الاستخلاف (3)، وأخبر
بكتابه عن حقيقة ذلك وصورته ومعناه، وكان بصريح ما أنزله من القرآن
مفيدا لما ذكرناه، من توريث الديار والنعم والأموال عموم المؤمنين دون
خصوصهم ومعنى ما بيناه، دون الإمامة التي هي خلافة للنبوة والإمرة
والسلطان.

(1) في أ: المرام.
(2) في أ: التنقية، وفي م: النعمة.
(3) في ب، م: الآية بالاستخلاف.
92

قال الله تعالى في سورة الأعراف: {قال موسى لقومه
استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده
والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا
قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر
كيف تعملون} (1).
فبشرهم بصبرهم على أذى الكافرين بميراث أرضهم، والملك
لديارهم من بعدهم، والاستخلاف على نعمتهم، ولم يرد بشئ من ذلك
تمليكهم مقام النبوة والإمامة على سائر الأمة، بل أراد ما بيناه.
ونظير هذا الاستخلاف من الله سبحانه لعباده، ومما هو في معناه،
قوله جل اسمه في سورة الأنعام: {وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ
يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم
آخرين} (2) وليس هذا الاستخلاف من الإمامة وخلافة النبوة في شئ
وإنما هو ما قدمنا ذكره ووصفناه.
وقوله تعالى: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم
لننظر كيف تعملون} (3) فإنما أراد بذلك تبقيتهم (4) بعد هلاك الماضين،
وتوريثهم ما كانوا فيه من النعم، فجعله (5) من مننه عليهم ولطفه بهم

(1) سورة الأعراف 7: 128، 129.
(2) سورة الأنعام 6: 133.
(3) سورة يونس 10: 14.
(4) في أ: تبعيتهم.
(5) في م: فجعلوا.
93

ليطيعوه ولا يكفروا به كما فعل الأولون.
ومنه قوله تعالى: {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم
مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير} (1) وقد
علم كل ذي عقل أن هذا الاستخلاف مباين للعامة في معناه، وقد وفى
الله الكريم موعده لأصحاب نبيه صلى الله عليه وآله جميعا في حياته وبعد وفاته،
ففتح لهم البلاد، وملكهم رقاب العباد، وأحلهم الديار، وأغنمهم الأموال،
فقال عز من قائل: {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم
تطؤها} (2).
وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ثبت أن المراد بالآية من
الاستخلاف ما ذكرناه، ولم يتضمن ذلك الإمامة وخلافة النبوة على ما
بيناه، وكان الوعد به عموما لأهل الإيمان (3) بما شرحناه، وبطل ما تعلق
به خصومنا في إمامة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام ووضح جهلهم في
الاعتماد على التأويل الذي حكيناه عنهم للآية لما تلوناه من كتاب الله
تعالى وفصلنا وجهه وكشفناه.
وقد حكى هذا المعنى بعينه في تأويل هذه الآية الربيع عن أبي
العالية (4)، والحسين بن محمد، عن الحكم، وغيرهما، عن جماعات من

(1) سورة الحديد 57: 7.
(2) الأحزاب 33: 27.
(3) في أ: البيان و.
(4) هو رفيع بن مهران الرياحي البصري، أدرك الجاهلية لكنه أسلم بعد وفاة
94

التابعين، ومفسري القرآن (1).
فصل
على أن عموم الوعد بالاستخلاف للمؤمنين الذي عملوا
الصالحات من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، على ما اختصوا به من الصفات
في عبادتهم لله تعالى على الخوف والأذى والاستسرار بدين الله جل
اسمه، على ما نطق به القرآن، يمنع مما ادعاه (2) أهل الخلاف من
تخصيص أربعة منهم دون الجميع، لتناقض اجتماع معاني العموم على
الاستيعاب والخصوص، ووجوب دفع أحدهما صاحبه بمقتضى
العقول (3).
وإذا ثبت عموم الوعد، وجب صحة ما ذكرناه في معنى
الاستخلاف من توريث الديار والأموال، وظهور عموم ذلك لجميعهم (4)
في حياة النبي صلى الله عليه وآله وبعده بلا اختلاف، بطل ما ظنه الخصوم في ذلك
وتأولوه على المجازفة، والعدول عن النظر الصحيح.

النبي صلى الله عليه وآله، قارئ حافظ مفسر، روى عنه الربيع بن أنس الخراساني، راجع تهذيب
الكمال 9: 214 وسير أعلام النبلاء: 4 / 207
(1) أنظر تفسير الطبري 18: 122، الدر المنثور 6: 215.
(2) في ب: أعاده.
(3) في أ: القول.
(4) في أ: والظهور بالدين لعموم ذلك جميعهم.
95

فصل
فإن قال منهم قائل: إن الآية وإن كان ظاهرها العموم، فالمراد
بها الخصوص، بدليل وجود الخلافة فيمن عددناه دون الجميع. وعلى هذا
يعتمد متكلموهم.
قيل له: أحلت في ذلك من قبيل أنك إنما أوجبت لأصحابك
الإمامة، وقضيت لهم بصحة الخلافة بالآية، وجعلتها ملجأ لك في حجاج
خصومك، ودفعهم عما وصفوا به من فساد عقلك، فلما لم يتم (1) لك مرادك
من الآية، بما أوجبه عليك عمومها بظاهرها، ودليل متضمنها، عدلت إلى
تصحيح تأويلك منها، بادعاء ما تورعت فيه من خلافة القوم، وثبوت
إمامتهم، الذي أفقرك عدم البرهان عليه إلى تصحيحه عندك بالآية،
فصرت دالا على وجوده معنى تنازع فيه بوجود شئ تتعلق صحة وجوده
بوجود ما دفعت (2) عن وجوده، وهذا تناقض من القول، وخبط أوجبه
لك (3) الضلال، وأوقعك فيه التقليد والعصبية للرجال، نعوذ بالله من
الخذلان.
ثم يقال له: خبرنا عما تدعيه من استخلاف الله تعالى
لأئمتك على الأنام، وصحة إمامتهم على ما زعمت فيما سلف لك من
الكلام، أبظاهر أمرهم ونهيهم وتملكهم علمت ذلك، وحكمت به على

(1) في م: لم يتبين.
(2) في ب، ح، م: وقعت.
(3) في ب، م: أوجبك.
96

القطع والثبات، أم بظاهر الآية ودليلها على ما قدمت من الاعتبار، أم
بغير ذلك من ضروب الاستدلال؟
فإن قال: بظاهر أمرهم ونهيهم في الأمة، ورئاستهم الجماعة،
ونفوذ أمرهم و (1) أحكامهم في البلاد، علمت ذلك وقطعت به على أنهم
خلفاء الله تعالى: والأئمة بعد رسوله عليه السلام. وجب على وفور هذه العلة
القطع بصحة إمامة كل من ادعى خلافة الرسول صلى الله عليه وآله، ونفذت
إحكامه وقضاياه في البلاد، وهذا ما لا يذهب إليه أحد من أهل الإيمان.
وإن قال: إنما علمت صحة خلافتهم بالآية ودلائلها على
الاعتبار.
قيل له: ما وجه دلالة الآية على ذلك، وأنت دافع لعمومها في
جميع أهل الإيمان، وموجب خصوصها بغير معنى في ظاهرها، ولا في
باطنها، ولا مقتضاها على الأحوال؟ فلا يجد شيئا يتعلق به فيما ادعاه.
وإن قال: إن دلالتي على ما ادعيت من صحة خلافتهم معنى
غير الآية نفسها، بل من الظاهر (2) من أمر القوم ونهيهم، وتأمرهم على
الأنام. خرجت الآية عن يده، وبانت فضيحته فيما قدره منها وظنه في
تأويلها وتمناه، وهذا ظاهر بحمد الله.

(1) (أمرهم و) ليس في ب، م.
(2) في أ، ح: والظاهر. بدل: بل من الظاهر.
97

فصل
مع أنا لو سلمنا لهم في معنى الاستخلاف أن المراد في الآية ما
ذكروه من إمامة الأنام، لما وجب به ما ذهبوا إليه من صحة خلافة
المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام بل كانت الآية نفسها شاهدة بفساد
أمرهم وانتقاضه على البيان، وذلك أن الله جل اسمه وعد المؤمنين من
أصحاب نبيه صلى الله عليه وآله بالاستخلاف، ثوابا لهم على الصبر والإيمان،
والاستخلاف من الله تعالى للأئمة لا يكون استخلاف من العباد، ولما
ثبت أن أبا بكر كان منصوبا باختيار عمر وأبي عبيدة بن الجراح، وعمر
باستخلاف أبي بكر دون النبي صلى الله عليه وآله، وعثمان باختيار عبد الرحمن، فسد
أن يكونوا داخلين تحت الوعد بالاستخلاف، لتعريهم من النص
بالخلافة من الله تعالى، وإقرار مخالفينا - إلا من شذ منهم - أن إمامتهم
كانت باختيار، وثبت أن الآية كانت مختصة بأمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام دونهم، لإجماع شيعته على أن إمامته باستخلاف الله تعالى
له، ونصه عليه، وأقامه عليه السلام نبيه صلى الله عليه وآله علما للأمة وإماما لها بصريح
المقال.
فصل آخر
ويقال لهم: ما تنكرون أن يكون خروج أبي بكر وعمر وعثمان
من الخوف في أيام النبي صلى الله عليه وآله يخرجهم عن الوعد بالاستخلاف، لأنه

(1) في ب، ح، م: بخروجهم والظاهر أنها: خروجهم.
98

إنما توجه إلى من كان يلحقه الخوف من أذى المشركين، وليس له مانع
منهم، كأمير المؤمنين (1) عليه السلام وما مني به النبي صلى الله وآله وعمار وأمه وأبيه،
والمعذبين بمكة، ومن أخرجهم النبي صلى الله عليه وآله، مع جعفر بن أبي طالب إلى بلاد الحبشة لما كان ينالهم من الفتنة والأذى في الدين (2).
فأما أبو بكر فإن الشيعة تذكر أنه لم يكن خائفا في حياة
النبي صلى الله عليه وآله لأسباب نحن أغنياء عن شرحها، وأنتم تزعمون أن
الخوف مرتفع عنه لعزته في قريش ومكانه منهم وكثرة ماله واتساع (3) جاهه،
وإعظام القوم له لسنه وتقدمه، حتى أنه كان يجير ولا يجار عليه، ويؤمن
ولا يحتاج إلى أمان، وزعمتم إنه اشترى تسعة نفر من العذاب.
وأن عمر بن الخطاب لم يخف قط، ولا هاب أحدا من الأعداء،
وأنه جرد سيفه عند إسلامه، وقال: لا يعبد الله اليوم سرا. ثقة بنفسه،
وطمأنينة إلى سلامته، وأمنا من الغوائل، وأنه لن يقدم عليه أحد بسوء،
لعظم رهبة الناس منه وإجلالهم لمكانه.
وأن عثمان بن عفان كان آمنا ببني أمية، وهم ملاك الأمر إذ ذاك.،
فكيف يصح لكم مع هذا القول أن تستدلوا بالآية على صحة خلافتهم
ودخولهم (4) تحت الوعد بالاستخلاف، وهم من الوصف المنافي لصفات

(1) في ب، م: مانع في أمير المؤمنين.
(2) في ب، م: والأذى فيه.
(3) في ب، م: وامتناع.
(4) (أن تستدلوا.. ودخلوهم) ليس في ب، م.
99

الموعودين بالاستخلاف على ما ذكرناه، لولا أنكم تخبطون فيما تذهبون
إليه خبط عشواء؟!
فصل
ويقال لهم: أليس يمكنكم إضافة ما تلوتموه من هذه الآية في
أئمتكم إلى صادق عن الله تعالى فيجب العمل به، وإنما أسندتم قولكم
فيه إلى ضرب من الرأي والاعتبار الفاسد بما أوضحناه.
وقد ورد عن تراجمة القرآن من آل محمد صلى الله عليه وآله في تأويلها ما هو
أشبه من تأويلكم وأولى بالصواب، فقالوا: إنها نزلت في عترة
النبي صلى الله عليه وآله وذريته الأئمة الأطهار عليهم السلام وتضمنت البشارة لهم
بالاستخلاف، والتمكن في البلاد، وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي
منهم، فكانوا عليه السلام هم المؤمنين العاملين الصالحات، بعصمتهم (1) من
الزلات.
وهم أحق بالاستخلاف على الأنام ممن عداهم، لفضلهم على
سائر الناس، وهم المدالون (2) على أعدائهم في آخر الزمان، حتى
يتمكنوا في البلاد، ويظهر دين الله تعالى بهم ظهورا لا يستخفي على
أحد من العباد، ويأمنون بعد طول خوفهم من الضالمين المرتكبين في

(1) في ب، م: الصالحين عصمهم الله.
(2) المدالون: المنصورون، يقال: أداله على عدوه: نصره. " الصحاح - دول - 4: 1700 ".
وفي أ: الموالون، وفي ب، م: المذلون.
100

أذاهم الفساد (1)، وقد دل القرآن على ذلك وجاءت به الأخبار:
قال الله عز وجل: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن
الأرض يرثها عبادي الصالحون} (2).
وقال تعالى: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا
وكرها وإليه يرجعون} (3).
وقال تعالى: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته
ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} (4). وكل هذه أمور منتظرة، غير
ماضية ولا موجودة في الحال.
ومثلهم فيما بشرهم الله تعالى به من ذلك ما تضمنه قوله تعالى:
{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة
ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان
وجنودههما منهم ما كانوا يحذرون} (5) وقوله تعالى في بني إسرائيل: {ثم
رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر
نفيرا} (6).
ومما أنزله فيهم سوى المثل لهم عليه السلام قوله تعالى: {الذين إن

(1) في أ، ح: العناد.
(2) سورة الأنبياء 21: 105.
(3) سورة آل عمران 3: 83.
(4) سورة النساء 4: 159.
(5) سورة القصص 28: 5، 6.
(6) سورة الإسراء 17: 6.
101

مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف
ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (1). فصار معاني جميع ما تلوناه
راجعا إلى الإشارة إليهم عليهم السلام بما ذكرناه.
ويحقق. (2) ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله على الاتفاق من قوله:
" لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي يواطئ
اسمه اسمي، يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا " (3).
وأما ما تعلقوا به من كاف المواجهة، فإنه لا يخل بما شرحناه في
التأويل من آل محمد عليهم السلام لأن القائم من آل محمد والموجود من أهل
بيته في حياته هم من المواجهين في الحقيقة والنسب والحسب، وإن لم يكن
من أعيانهم، فإذا كان منهم بما وصفناه، فقد دخل تحت الخاطب، وبطل
ما توهم أهل الخلاف.
فصل
على أنه يقال لهم: ما الفصل بينكم فيما تأولتم به هذه الآية (4)
وبين من تأولها خلاف تأويلكم، فأوجب حكمها في غير من سميتم، ولجأ

(1) سورة الحج 22: 41.
(2) في ب، م: وتحقيق.
(3) سنن أبي داود 4: 106، سنن الترمذي 4: 52، مسند أحمد 1: 376، 377، 430،
448. وراجع إحقاق الحق 13: 234 - 247.
(4) (هذه الآية) ليس في ب، م.
102

في صحة مقاله إلى مثل عيوبكم، فقال:
إن الله جل اسمه بشر في هذه الآية بالاستخلاف أبا سفيان
صخر بن حرب، ومعاوية ويزيد ابني أبي سفيان، وذلك أني قد وجدتهم
انتظموا صفات الموعودين بالاستخلاف، وكانوا من الخائفين عند قوة
الإسلام لخلافهم على النبي صلى الله عليه وآله، فتوجه إليهم الوعد من الله
سبحانه بالأمن من الخوف، بشرط الانتقال إلى الإيمان، واستئناف
الأعمال الصالحات، والاستخلاف بعد ذلك، والتمكين لهم في البلاد،
ثوابا لهم على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله، وترغيبا لهم في الإيمان،
فأجابوا الله تعالى إلى ما دعاهم إليه، وأذعنوا بالإسلام، وعملوا
الصالحات، فأمنوا من المخوفات.
واستخلفهم النبي صلى الله عليه وآله في حياته، كانوا من بعده خلفاء
لخلفائه الراشدين، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله استخلف أبا سفيان
على سبي الطائف، وهم يومئذ ستة آلاف إنسان، واستعمله من بعد ذلك
على نجران فلم يزل عامله عليها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو
خليفته فيها من غير عزل له ولا استبدال.
واستعمل أيضا - صلوات الله عليه - يزيد بن أبي سفيان على صدقات
أخواله بني فراس بن غنم، فجباها (1) وقدم بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله،
فلقيه أبوه أبو سفيان فطلب منه مال الصدقات، فأبى أن يعطيه، فقال:

(1) (فجباها) ليس في ب، ح، م. أنظر الإصابة 6: 341، الأعلام للزركلي 9: 237.
103

إذا صرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك، فأخبره فقال له:
" خذ المال فعد به إلى أبيك ". فسوغه مال الصدقات كله، صلة لرحمه،
وإكراما له، وتمييزا له من كافة أهل الإسلام.
واستعمل رسول الله صلى عليه وآله على كتابته معاوية، وكان والي
خليفتيه من بعده عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وولى أبو بكر يزيد
ابن أبي سفيان ربع أجناد الشام، وتوفي وهو خليفته على ذلك، فأقره
عمر بن الخطاب إلى أن مات خلافته.
وإذا كان أبو سفيان ومعاوية ويزيد - ابناه - على ظاهر الإسلام
والإيمان والعمل الصالح، وكان لهم من الخلافة في الإسلام ما وصفناه،
ثم الذي حصل لمعاوية من الإمرة بعد أمير المؤمنين عليه السلام، وبيعة
الحسن بن علي عليه السلام، وتسليم الأمر إليه، حتى سمي عامه
(عام الجماعة) للاتفاق، ولم يسم عام أحد من الخلفاء قبله بذلك، ثبت
أنهم المعنيون في الآية ببشارة الاستخلاف، دون من ادعيتم له ذلك
بمعنى الاستدلال على ما انتظمتموه من الاعتبار.
وهذا أشبه من تأويل المعتزلة للآية في أبي بكر وعمر وعثمان، وهو
ناقض لمذاهبهم، ومضاد لاعتقاداتهم، ولا فضل لأحد منهم فيه إلا أن
يرجع في العبرة (1) إلى ما شرحناه، أو يعتمد في التفسير على الأثر حسبما
قدمناه، فيبطل حينئذ توهمه فيما تأوله على ما بيناه (2)، والحمد لله.

(1) في العبرة) ليس في ب، ح، م.
(2) (على ما بيناه) ليس في ب.
104

فصل
ثم يقال لهم أيضا: ألستم تعلمون أن الوليد بن عقبة بن أبي
معيط وعبد الله بن أبي سرح قد كانا واليين على المسلمين من قبل
عثمان بن عفان، وهو إمام عدل عندكم مرضي الفعال، وقد كان مروان
ابن الحكم كذلك، ثم خطب له على المنابر في الإسلام بإمرة المؤمنين، كما
خطب لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وكذلك أيضا ابنه عبد الملك،
ومن بعده من بني أمية، قد حكموا في العباد وتمكنوا في البلاد، فبأي شئ
تدفعون صرف معنى الآية إليهم، والوعد بالاستخلاف لهم، وإدخالهم
في جملة من سميتموه، وزعمتم أنهم أئمة عدل خلفاء، واعتمدتم في
صحة ذلك على ما ذكرناه في أمر أبي سفيان ومعاوية ويزيد - ابنيه - حسبما
شرحناه؟!
فلا يجدون مهربا من ذلك بما قدمناه على الترتيب الذي
رسمناه، وكذلك السؤال عليهم في عمرو بن العاص وأبي موسى
الأشعري، فإنهما ممن كان على ظاهر الإسلام، والعمل الصالح عند
الجمهور من الناس، وكانا من المواجهين بالخطاب، وممن خاف في صدر
الإسلام، وحصلت لهما ولآيات (1) في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، وخلافة له،
ولخلفائه على أصولهم بغير إشكال، وليس يمكن لخصومنا دفع التأويل
فيهما بما يتعلقون به في أمية وبني (2) مروان من الخروج عن الخوف

(1) في ب، ح، م: وحصلت لهم.
(2) (بني) ليس في ب.
105

في صدر الإسلام، وهذا كله تخليط ورطهم الجهل فيه بدين الله تعالى،
والعداوة (1) لأوليائه عليهم السلام.

(1) في أ: والولاية.
106

فصل
فإن قال: قد وضح لي ما ذكرتموه في أمر هذه الآية، وأثبتموه في
معناها، كما ظهر الحق لي فيما تقدمها (1)، وانكشف بترادف الحجج التي
أوردتموها ما كان مستورا عني من ضعف تأول مخالفيكم لها، غير أني
واصف استدلالا لهم من آي آخر على ما يدعونه من إمامة أبي بكر
وعمر، لأسمع ما عندكم فيه، فإن أمره قد اشتبه علي ولست أجد محيصا
عنه، وذلك أنهم قالوا: وجدنا الله تعالى يقول في سورة الفتح: {سيقول
لك المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون
أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون
بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا} (2).
ثم قال: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي
بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا
وإن تتولوا كما توليتم، من قبل يعذبكم عذابا أليما} (3).

(1) (في أمر.. تقدمها) ليس في ب، م.
(2) سورة الفتح 48: 15.
(3) سورة الفتح 48: 16.
107

قالوا: فحظر الله على نبيه صلى الله عليه وآله إخراج المخلفين معه بقوله
: {قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل}.
ثم أوجب عليهم الخروج مع الداعي لهم من بعده إلى قتال القوم
الذين وصفهم بالبأس الشديد من الكفار، وألزمهم طاعته في قتالهم حتى
يجيبوا إلى الإسلام ووجدنا الداعي لهم إلى ذلك من بعده أبا بكر وعمر،.
لأن أبا بكر (1) دعاهم إلى قتال المرتدين، وكانوا أولي بأس شديد على
الحال المعروفة، ثم دعاهم عمر بن الخطاب من بعده إلى قتال أهل
فارس، وكانوا كفارا أشداء، فدل ذلك على إمامتهما بما فرض الله تعالى
في كتابه من طاعتهما (2)، فهذا دليل للقوم على نظامه الذي حكيناه، فما
قولكم فيه؟
قيل له: ما نرى في هذا الكلام - على إعجاب أهل الخلاف به -
حجة تؤنس، ولا شبهة تلتبس، وليس فيه أكثر من الدعوى العرية عن
البرهان، ومن لجأ إلى مثله فيما يجب بالحجة والبيان، فقد كشف عن
عجزه وشهد على نفسه بالخذلان، وذلك أن متضمن الآي ينبئ عن
منع المخلفين من اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله عند الانطلاق إلى المغانم التي
سأله القوم اتباعه ليأخذوها (3)، وليس فيه حظر عليه صلوات الله عليه وآله إخراجهم

(1) (لأن أبا بكر) ليس في ب، م.
(2) ممن ذهب إلى هذا الرأي ابن جريج والقرطبي والزمخشري والبيضاوي، أنظر
تفسير القرطبي 16: 272، الكشاف 4: 338، تفسير البيضاوي 2: 410، الدر المنثور
7: 520.
(3) في ب، ح، م، له وأخذها.
108

معه في غير ذلك الوجه، ولا منع له كم من إيجاب الجهاد عليهم معه في مغاز
أخر.
وبعد تلك الحال، فمن أين يجب، إذا كان الله تعالى قد أمره
بإيذانهم عند الرد لهم عن وجه الغنيمة بالدعوة فيما بعد إلى قتال
الكافرين، أن يكون ذلك بدعاء من بعده دون أن يكون بدعائه هو
بنفسه صلوات الله عليه وآله، إذا كان صلى الله عليه وآله قد دعا أمته إلى قتال طوائف من الكفار
أولي بأس شديد بعد هذه الغزاة التي غنم المسلمون، وحظر الله
تعالى فيها على المخلفين الخروج، وهل فيما ذكروه من ذلك أكثر من
الدعوى على ما وصفناه؟
فصل
ثم يقال لهم: أليس الوجه الذي منع الله تعالى المخلفين من اتباع
النبي صلى الله عليه وآله فيه الوصول إلى الغنائم منه بالخروج معه، هو فتح خيبر،
الذي بشر الله تعالى به أهل بيعة الرضوان على ما اتفق عليه أهل
التفسير، وتواتر به أهل السير والآثار (1)؟! فلا بد من أن يقولوا: بلى. وإلا
سقط الكلام معهم فيما يتعلق بتأويل القرآن، ويرجع فيه إلى علماء
التفسير ورواة الأخبار، إذا ما وصفناه إجماع ممن سميناه.
فيقال لهم: أو لستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد غزا بعد
غزوة خيبر غزوات عديدة، وسار بنفسه وأصحابه إلى مواطن كثيرة،

(1) معالم التنزيل 5: 170، الكشاف 4: 337، تفسير الرازي 28: 90، تفسير القرطبي 16: 270 وغيرها.
109

واستنفر (1) الأعراب وغيرهم فيها إلى جهاد الكفار، ولقي المسلمون في
تلك المقامات من أعدائهم ما انتظم وصف الله تعالى له بالبأس الشديد،
لا سيما بمؤتة (2) وحنين وتبوك سوى ما قبلها وبينها وبعدها من
الغزوات؟! ولا بد أيضا من أن يقولوا: بلى. وإلا وضح من جهلهم ما
يحظر مناظرتهم في هذا الباب.
فيقال لهم: فمن أين يخرج لكم مع ما وصفناه - أيها الضعفاء
الأوغاد - وجوب طاعة المخلفين من الأعراب بعد النبي صلى الله عليه وآله دون أن
يكون هو الداعي لهم بنفسه على ما بيناه؟ فلا يجدون حيلة في إثبات ما
ادعوه مع ما شرحناه.
فصل
ثم يقال لهم: ينبغي أن تنتبهوا من رقدتكم، وتعلموا أن الله تعالى
لو أراد منع المخلفين من اتباع النبي صلى الله عليه وآله في جميع غزواته - على ما
ظننتموه - لما خص ذلك بوقت معين دون ما سواه، ولكان الحظر له واردا
على الاطلاق، وبما يوجب عمومه في كل حال، ولما لم يكن الأمر كذلك،
بل كان مختصا بزمان الغنائم التي تضمن البشارة فيها القرآن، وبوصف
مسألتهم له بالاتباع دون حال الامتناع منه أو الإعراض (3) عن

(1) في أ: واستبق، وفي م: استفز.
(2) مؤتة: قرية في حدود الشام. " معجم البلدان 5: 219 ".
(3) في أ، ب، م: والإعراض.
110

السؤال، دل على بطلان ما توهمتموه، ووضح لكم بذلك الصواب.
فصل آخر
وقد ظن بعض أهل الخلاف بجهله وقلة (1) علمه أن هؤلاء
المخلفين من الأعراب هم الطائفة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله
في غزوة تبوك، وكانت مظاهرة له بالنفاق، فتعلق فيما ادعاه من حظر
النبي صلى الله وآله عليهم الاتباع له على كل حال، بقوله جل اسمه في سورة
التوبة: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم استأذنوك للخروج فقل
لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود
أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} (2).
فقال: هذا هو المراد بقوله في سورة الفتح: {كذلكم قال الله
من قبل} (3) وإذا كان قد منعه من إخراجهم معه أبدا، ثبت أن الداعي
لهم إلى قتال القوم الذين وصفهم بالبأس الشديد هو غيره وذلك مصحح عند
نفسه ما ادعاه من وجوب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان على ما قدمنا
القول فيه وبيناه آنفا.
فيقال له: أيها الغافل الغبي الناقص، أين يذهب بك وهذه

(1) في ب، ح، م: دون.
وممن ذهب إلى هذا الرأي ابن زيد والجبائي والفخر الرازي، أنظر تفسير الطبري
26: 51، والثعالبي 4: 175 والفخر الرازي 28: 90.
(2) سورة التوبة 9: 83.
(3) سورة الفتح 48: 15.
111

الآية وما قبلها من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل
لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة
الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} (1) نزلت
في غزوة تبوك بإجماع علماء الأمة، ولتفصيل ما قبلها من التأول قصص
طويلة قد ذكرها المفسرون، وسطرها مصنفو السير والمحدثون؟!
ولا خلاف أن الآيات التي نزلت في سورة الفتح نزلت في
المخلفين عن الحديبية، وبين هاتين الغزوتين من تفاوت الزمان ما لا
يختلف فيه اثنان من أهل العلم، وبين الفريقين أيضا في النعت والصفات
اختلاف في ظاهر القرآن.
فكيف يكون ما نزل بتبوك - وهي في سنة تسع من الهجرة -
متقدما على النازل في عام الحديبية - وهي سنة ست - لولا أنك في حيرة
تصدك عن الرشاد؟!
ثم يقال له: فهب أن جهلك بالأخبار، وقلة معرفتك بالسير
والآثار، سهل عليك القول في تأويل القرآن بما قضى على بطلانه
التأريخ المتفق عليه بواضح البيان، أما سمعت الله جل اسمه يقول في
المخلفين من الأعراب: {ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد
تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا
كما توليتم، من قبل يعذبكم عذابا أليما} (2).

(1) سورة التوبة 9: 38.
(2) سورة الفتح 48: 16.
112

فأخبر عن وقوع الدعوة لهم إلى القتال على الاستقبال، وإرجاء
أمرهم في الثواب والعقاب بشرطه في الطاعة منهم والعصيان، ولم يقطع
بوقوع أحد الأمرين منهم على البيان.
وقال جل اسمه في المخلفين الآخرين من المنافقين المذكورين
في سورة براءة: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك
للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم
رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين * ولا تصل على أحد
منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا
وهم فاسقون} (1).
فقطع على استحقاقهم العقاب (2) وأخبر نبيه صلى الله عليه وآله بخروجهم
من الدنيا على الضلال، ونهاه عن الصلاة عليهم إذا فارقوا الحياة،
ليكشف بذلك عن نفاقهم لسائر الناس، وشهد عليهم بالكفر بالله عز
اسمه وبرسوله صلى الله عليه وآله بصريح الكلام، ولم يجعل لهم في الثواب شرطا على
حال، وأكد ذلك بقوله تعالى: {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد
الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} (3).
وهذا جزم من الله تعالى على كفرهم في الحال، وموتهم على الشرك

(1) سورة التوبة 9: 83، 84.
(2) في ب نسخة بدل، وفي ح: العذاب.
(3) سورة التوبة 9: 85.
113

به، وسوء عاقبتهم وخلودهم في النار، وقد ثبت في (1) العقول فرق ما بين
المرجأ أمره فيما يوجب الثواب والعقاب (2)، وبين المقطوع له بأحدها (3)
على الوجوه كلها.
وإن الإرجاء لما ذكرناه، والشرط الذي ضمنه كلام الله تعالى فيما
تلوناه، لا يصح اجتماعه مع القطع، بما شرحناه من متضمن الآي الأخر
على ما بيناه، لشخص واحد ولا لأشخاص متعددة على جميع الأحوال،
وإن من جوز (4) ذلك وارتاب في معناه فليس بمحل من يناظر في
الديانات، لأنه لا يصير إلى ذلك إلا بآفة تخرجه عن حد (5) العقلاء أو
مكابرة ظاهرة وعناد، وهذا كاف في فضيحة هؤلاء الضلال الذين حملهم
الجهل بدين الله، والنصب لآل محمد نبيه صلى الله عليه وآله على القول في القرآن
بغير هدى ولا بيان، نسأل الله التوفيق، ونعوذ به من الخذلان.
فصل
على أنا لو سلمنا لهم تسليم نظر ما توهموه من تضمن الآية
لوجوب طاعة داع للمخلفين من الأعراب إلى القتال بعد النبي صلى الله عليه وآله

(1) في أ زيادة: بدائة.
(2) (فيما.. والعقاب) ليس في ب، م.
(3) في ب، ح، م: العقاب.
(4) في أ: جهل.
(5) في ب: جد.
114

على ما اقترحوه، واعتبرنا فيما ادعوه من ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان
بمثل ما اعتبروه، لكان بأن يكون دلالة على إمامة أمير المؤمنين علي
ابن أبي طالب عليه السلام أولى من أن يكون دلالة على إمامة من ذكروه، وذلك
أن أمير المؤمنين عليه السلام قد دعا بعد النبي صلى الله عليه وآله إلى قتال الناكثين بالبصرة
والقاسطين بالشام والمارقين بالنهروان، واستنفر الكافة إلى قتالهم
وحربهم وجهادهم، حتى ينقادوا بذلك إلى دين الله تعالى الذي فارقوه،
ويخرجوا به عن الضلال الذي اكتسبوه، وقد علم كل من سمع الأخبار
ما كان من شدة أصحاب الجمل وصبرهم عند اللقاء، حتى قتل بين
الفريقين على قول المقل عشرة آلاف إنسان.
وتقرر عند أهل العلم أنه لم تر حرب في جاهلية ولا إسلام
أصعب ولا أشد من حرب صفين، ولا سيما ما جرى من ذلك ليلة
الهرير، حتى فات أهل الشام فيها الصلاة، وصلى أهل العراق بالتكبير
والتهليل والتسبيح، بدلا من الركوع والسجود والقراءة، لما كانوا عليه
من الاضطرار (1) بتواصل اللقاء في القتال، حتى كلت السيوف بينهم
لكثرة الضراب، وفنى النبل، وتكسرت الرماح بالطعان، ولجأ كل امرئ
منهم عند عدم سلاحه إلى قتال صاحبه بيده وفمه، حتى هلك جمهورهم
بما وصفناه، وانكشفت الحرب بينهم عن قتل نيف وعشرين ألف (2)

(1) في ب، ح، م: الاضطراب.
(2) في ب، م: قتل عشرين ألف.
115

إنسان على قول المقل أيضا، وضعف هذا العدد أو قريب من الضعف
على قول آخرين بحسب اختلافهم في الروايات.
فأما أهل النهروان، فقد بلغ وظهر من شدتهم وبأسهم وصبرهم
على القتال مع أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة والشام، ما لم يرتب فيه من
أهل العلم (1) اثنان، وظهر من إقدامهم بعد التحكيم على قتل النفوس
والاستسلام للموت والبأس والنجدة ما يغني أهل العلم به عن
الاستدلال عليه، والاستخراج لمعناه، ولو لم يدل على عظم بأسهم
وشدتهم في القتال إلا أنهم كانوا بالاتفاق أربعة آلاف إنسان، فصبروا
على اللقاء حتى قتل سائرهم سوى أربعة أنفس شذوا منهم على ما
جاءت به الأخبار.
ولم يجر أمر أبي بكر وعمر في الدعوة مجرى أمير المؤمنين عليه السلام
لأنهما كانا مكتفيين بطاعة الجمهور لهما، وانقياد الجماعات إلى طاعتهما،
وعصبية الرجال لهما، فلم يظهر من دعائهما إلى قتال من سير إليه
الجيوش ما ظهر من أمر أمير المؤمنين عليه السلام في الاستنفار والترغيب في
الجهاد والترهيب من تركه والاجتهاد في ذلك والتكرير له حالا بعد
حال، لتقاعد الجمهور عن نصرته، وخذلان من خذله من أعداء الله
الشاكين في أمره والمعاندين له، وما مني به من تمويه خصومه وتعلقهم في
استحلال قتاله بالشبهات.
ثم لم يبن من شدة أهل الردة وفارس مثل ما ذكرناه من أهل

(1) في أ: الإسلام.
116

البصرة والشام والنهروان على ما شرحناه، بل ظهر منهم خلاف ذلك،
لسرعة انفضاضهم عمن لقيهم من أهل الإسلام، وتفرقهم وهلاكهم
بأهون سعي، وأوحى (1) مدة، وأقرب مؤنة، على ما تواترت به الآثار،
وعلمه كافة من سمع الأخبار، فبان بما وصفناه أننا مع التسليم للخصوم
بما ادعوه في معنى الآية، وباعتبارهم الذي اعتمدوه، أولى بالحجة منهم
في صرف تأويلها إلى إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، دون من سموه على ما
قدمناه.
ولو تكافأ القولان، ولم يكن لأحدهما رجحان على صاحبه في
البرهان، لكانت المكافأة مسقطه لما حكموا به من تخصيص أبي بكر
وعمر، بدلالة الآية على الترتيب الذي أصلوا الكلام عليه في الاستدلال،
وهذا ظاهر جلي ولله الحمد.
فصل
قد كان بعض متكلمي المعتزلة رام الطعن في هذا الكلام، بأن
قال: قد ثبت أن القوم الذين فرض الله تعالى قتالهم بدعوة من أخبر
عنه كفار خارجون عن ملة الإسلام، بدلالة قوله تعالى: {تقاتلونهم أو
يسلمون} (2).

(1) الوحي: السرعة. " الصحاح. وحى - 6: 252 "، وفي ب، ح، م: وفي أرحى.
(2) سورة الفتح 48: 16.
117

وأهل البصرة والشام والنهروان - فيما زعم - لم يكونوا كفارا، بل
كانوا من أهل ملة الإسلام إلا أنهم فسقوا عن الدين، وبغوا على
الإمام، فقاتلهم بقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي
حتى تفيئ إلى أمر الله} (1).
وأكد ذلك عند نفسه بسيرة أمير المؤمنين عليه السلام فيهم، وبخبر رواه
عنه عليه السلام، أنه سئل عنهم، فقال: " إخواننا بغوا علينا} (2) ولم يخرجهم عن
حكم أهل الإسلام.
قال: فثبت بذلك أن الداعي إلى قتال من سماه الله تعالى ووصفه
بالبأس الشديد (3) إنما هو أبو بكر وعمر دون أمير المؤمنين عليه السلام،
فصل
فقلت له: ما أبين غفلتك، وأشد عماك! أنسيت قول أصحابك في
المنزلة بين المنزلتين، وإجماعهم على من استحق التسمية بالفسق خارج
بما به استحق ذلك عن الإيمان والإسلام، غير سائغ تسميته بأحد هذين
الاسمين في الدين على التقييد والاطلاق، أم جهلت هذا من أصل
الاعتزال، أم تجاهلت وارتكبت العناد؟!

(1) سورة الحجرات 49: 9.
(2) قرب الإسناد: 45، سنن البيهقي 8: 182، حياة الصحابة 2: 496.
(3) في ب، ح، م: والشدة.
118

أو لست تعلم أن المتعلق بإيجاب الإسلام على أهل البصرة
والشام (1) والنهروان لا يلزم بذلك إكفارهم، ولا يمنعه من نفي الكفر
عنهم، بحسب ما نبهناك عليه من مقالة أصحابك في الأسماء والأحكام،
فكيف ذهب عليك هذا الوجه من الكلام، وأنت تزعم أنك متحقق بعلم
الحجاج؟! فاستحى لذلك وبانت فضيحته، بما كان يدافع به من الهذيان.
فصل
قال بعض المرجئة وكان حاضر الكلام: قد نجونا نحن من
المناقضة التي وقع فيها أهل الاعتزال، لأنا لا نخرج أحدا من الإسلام
إلا بكفر يضاد الإيمان، فيجب على هذا الأصل أن يكون الكلام بيننا
في إكفار القوم على ما تذهبون إليه، وإلا لزمكم معنى الآي.
فقلت له: لسنا نحتاج إلى ما ظننت من نقل الكلام على
الفرع (2)، وإن كان مذهبك في الأسماء ما وصفت، لأن الإسلام عندنا
وعندك إنما هو الاستسلام والانقياد، ولا خلاف بيننا أن الله عز وجل
قد أوجب على محاربي أمير المؤمنين عليه السلام مفارقة ما هم عليه بذلك من
العصيان، وألزمهم الاستسلام له والانقياد إلى ما يدعوهم إليه، من
الدخول في الطاعة وكف القتال، فيكون قوله تعالى: {تقاتلونهم أو

(1) (والشام) ليس في ب، ح، م.
(2) (على الفرع) ليس في ب، ح، م.
119

يسلمون} (1) خارجا على هذا المعنى الذي ذكرناه، وهو موافق لأصلك،
وجار على أصل اللغة التي نزل بها القرآن. فلحق بالأول في الانقطاع،
ولم أحفظ منه إلا عبارات فارغة داخلة في باب الهذيان.
فصل
على أنه يقال للمعتزلة والمرجئة والحشوية جميعا: لم أنكرتم إكفار
محاربي أمير المؤمنين عليه السلام، وقد فارقوا طاعة الإمام العادل وأنكروها،
وردوا فرائض الله تعالى عليه وجحدوها، واستحلوا دماء المؤمنين
وسفكوها، وعادوا أولياء الله المتقين في طاعته، ووالوا أعداءه الفجرة
الفاسقين في معصيته، وأنتم قد أكفرتم مانعي أبي بكر الزكاة، وقطعتم
بخروجهم عن ملة الإسلام؟! ومن سميناه قد شاركهم في منع أمير
المؤمنين عليه السلام الزكاة، وأضاف إليه من كبائر الذنوب ما عددناه، وهل
فرقكم بين الجميع في أحكام الكفر (2) والإيمان إلا عناد في الدين وعصبية
للرجال.
فصل
فإن قالوا: مانعو الزكاة إنما منعوها على وجه العناد، ومحاربو أمير
المؤمنين إنما حاربوه ومنعوه زكاتهم واستحلوا الدماء في خلافه على

(1) سورة الفتح 48: 16.
(2) في ب، م: في الأحكام.
120

التأويل دون العناد، فلهذا افترق الأمران.
قيل لهم: انفصلوا (1) ممن قلب القصة عليكم، فحكم على محاربي
أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه، واستحلال دماء المؤمنين من أصحابه، ومنعه
الزكاة وإنكار حقوقه بالعناد، وحكم على مانعي أبي بكر الزكاة بالشبهة
والغلط في التأويل، وهذا أولى بالحق والصواب، لأن أهل اليمامة لم
يجحدوا فرض الزكاة، وأنما أنكروا فرض حملها إلى أبي بكر، وقالوا:
نحن نأخذها من أغنيائنا، ونضعها في فقرائنا، ولا نوجب على أنفسنا
حملها إلى من لم يفترض له ذلك علينا بسنة ولا كتاب.
ولم نجد لمحاربي أمير المؤمنين عليه السلام حجة في خلافه واستحلال
قتاله ولا شبهة أكثر من أنهم نكثوا بيعته فقد أعطوه إياها من أنفسهم
بالاختيار، وادعوا بالعناد أنهم أجابوا إليها بالاضطرار، وقرفوه (2) بقتل
عثمان وهم يعلمون اعتزاله فتنة عثمان، وطالبوه بتسليم قتلته إليهم وليس
لهم في الأرض سلطان، ولا يجوز تسليم القوم إليهم على الوجوه كلها
والأسباب، ودعاه المارقون منهم إلى تحكيم الكتاب، فلما أجابهم إليه
زعموا أنه قد كفر بإجابتهم إلى الحكم بالقرآن، وهذا ما لا يخفى العناد
من جماعتهم فيه على أحد من ذوي الألباب.

(1) في ب، م: انقضوا.
(2) قرفه: اتهمه. " الصحاح - قرف - 4: 1415 ".
121

فصل
فإن قالوا: فإذا كان محاربو أمير المؤمنين عليه السلام كفارا عندكم بحربه،
مرتكبي العناد في خلافه، فما باله عليه السلام لم يسر فيهم بسيرة الكفار
فيجهز على جرحاهم، ويتبع مدبرهم، ويغنم جميع أموالهم، ويسبي
نساء هم وذراريهم، وما أنكرتم أن يكون عدوله عن ذلك في حكمهم يمنع
من صحة القول عليهم بالإكفار؟
قيل لهم: إن الذي وصفتموه في حكم الكفار إنما هو شئ يختص
بمحاربي المشركين، ولم يوجد في حكم الاجماع والسنة فيمن سواهم من
سائر الكفار، فلا يجب أن يعدى منهم إلى غيرهم بالقياس، ألا ترون أن
أحكام الكافرين تختلف، فمنهم من يجب قتله على كل حال، ومنهم من
يجب قتله بعد الامهال، ومنهم الجزية ويحقن دمه بها
ولا يستباح، ومنهم من لا يحل دمه ولا تؤخذ منه الجزية على حال، ومنهم
من يحل نكاحه ومنهم من يحرم بالإجماع، فكيف يجب اتفاق الأحكام
من الكافرين على ما أوجبتموه فيمن سميناه، إذا كانوا كفارا، وهي على
ما بيناه في دين الإسلام من الاختلاف؟!
فصل
ثم يقال لهم: خبرونا هل تجدون في السنة أو الكتاب أو الاجماع
الحكم (1) في طائفة من الفساق بقتل المقبلين منهم وترك المدبرين، وحظر

(1) (الحكم) ليس في ب، م.
122

الإجهاز على جرحى المقاتلين وغنيمة ما حوي عسكرهم دون ما سواه
من أمتعتهم وأموالهم أجمعين؟
فإن ادعوا معرفة ذلك ووجوده طولبوا بتعيينه فيمن عدا البغاة
من محاربي أمير المؤمنين عليه السلام، فإنهم يعجزون عن ذلك، ولا يستطيعون
إلى إثباته سبيلا.
وإن قالوا: إن ذلك، وإن كان غير موجود في طائفة من الفاسقين،
فحكم أمير المؤمنين عليه السلام به في البغاة دليل على أنه في السنة أو
الكتاب (1)، وإن لم يعرف وجه التعيين.
قيل لهم: ما أنكرتم أن يكون حكم أمير المؤمنين عليه السلام في البغاة
ممن سميتموه دليلا على أنه حكم الله تعالى قي طائفة من الكافرين
موجود في السنة والكتاب، وإن لم يعرف الجمهور الوجه في ذلك على
التعيين، فلا يجب أن يخرج القوم من الكفر لتخصيصهم من الحكم
بخلاف ما حكم الله تعالى به فيمن سواهم من الكافرين، كما لا يجب
خروجهم من الفسق بتخصيصهم من الحكم بخلاف ما حكم الله تعالى
به فيمن سواهم من (2) الفاسقين، وهذا ما لا فصل فيه.
فصل
على أن أكثر المعتزلة يقطعون بكفر المشبهة والمجبرة، ولا

(1) في ب: في السنة والكتاب.
(2) (الكافرين كما.. سواهم من) ليس في أ، ب، م.
123

يخرجونهم بكفرهم عن الملة، ويرون (1) الصلاة على أمواتهم، ودفنهم في
مقابر المسلمين، وموارثتهم، ومنهم من يرى مناكحتهم، ولا يلحقونهم
بغيرهم من الكفار في أحكامهم المضادة لما وصفناه، ولا يلزمون أنفسهم
مناقضة في ذلك.
وأبو هاشم الجبائي (2) خاصة يقطع بكفر من ترك الكفر وأقام
على قبيح أو حسن يعتقد قبحه، ولا يجري عليه شيئا من أحكام
الكافرين من قتل، أو أخذ جزية، أو منع من موارثة، أو دفن في مقابر
المسلمين، أو صلاة عليه بعد أن يكون مظهر للشهادتين، والاقرار
بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله على الاجمال، وهذا يمنعه فيمن تقدم ذكره
من المعتزلة وأصحابهم من المطالبة في محاربي أمير المؤمنين عليه السلام بما سلف
حكايته عن الخصوم، ولا يسوغ لهم الاعتماد بذكر الإسلام من الأذى (3).
فصل
فإن قالوا: كيف يصح لكم إكفار أهل البصرة والشام وقد سئل

(1) في أ: بكفرهم عن المسألة، وترك.
(2) هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي، أبو هاشم، من كبار المعتزلة، عالم
بالكلام، له آراء انفرد بها عنهم، وله مصنفات في الاعتزال، ولد ببغداد، وتوفي بها في سنة
321 ه‍. أنظر " تاريخ بغداد 11: 55 / 5735، وفيات الأعيان 3: 183 / 383، سير
أعلام النبلاء 15: 63 / 32 ".
(3) (ولا يسوغ.. الأذى) ليس في ب، ح، م
124

أمير المؤمنين عليه السلام عنهم، فقال: " إخواننا بغوا علينا " (1)، ولم ينف عنهم
الإيمان، ولا حكم عليهم بالشرك والإكفار؟!
قيل لهم: هذا خبر شاذ، لم يأت به التواتر من الأخبار، ولا أجمع
على صحته رواة الآثار، وقد قابله ما هو أشهر منه، عن أمير
المؤمنين عليه السلام، وأكثر نقلة، وأوضح طريقا في الإسناد، وهو أن رجلا سأل
أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة، والناس مصطفون للحرب، فقال له: علام
نقاتل هؤلاء القوم - يا أمير المؤمنين - ونستحل دماءهم وهم يشهدون
شهادتنا، ويصلون إلى قبلتنا؟
فتلا عليه السلام هذه الآية، رافعا بها صوته: {وإن نكثوا أيمانهم من
بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم
لعلهم ينتهون} (2).
فقال الرجل حين سمع ذلك: كفار، ورب الكعبة. وكسر جفن
سيفه ولم يزل يقاتل حتى قتل (3).
وتظاهر الخبر عنه عليه السلام أنه قال يوم البصرة: " والله ما قوتل أهل
هذه الآية حتى اليوم: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على
الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل

(1) تقدم مع تخريجاته في ص 118.
(2) سورة التوبة: 9: 12.
(3) الاحتجاج: 169 - 170.
125

الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} (1).
وجاء مثل ذلك عن عمار وحذيفة رحمة الله عليهما (2)، وغيرهما من
أصحاب النبي صلى الله عليه آله، فالأمر في اجتماع أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام على
إكفار عثمان والطالبين بدمه وأهل النهروان أظهر من أن يحتاج فيه إلى
شرح وبيان، وعنه أخذت الخوارج مذهبها الموجود في أخلافها اليوم
من الإكفار لعثمان بن عفان وأهل البصرة والشام، وإن كانت الشبهة
دخلت عليهم في سيرته عليه السلام فيهم، وما استعمله من الأحكام
حتى ناظره أسلافهم عند مفارقتهم له فحججهم (3) بما قد تواترت به
الأخبار.
فصل
على أنا لو سلمنا لهم الحديث في وصفهم بالإخوة له عليه
السلام، لما منع من كفرهم، كما لم يمنع من بغيهم، ولم يضاد ضلالهم
باتفاق مخالفينا، ولا فسقهم عن الدين واستحقاقهم اللعنة
والاستخفاف والإهانة وسلب اسم الإيمان عنهم والإسلام، والقطع
عليهم بالخلود في الجحيم.

(1) أمالي الطوسي 1: 130، تفسير العياشي 2: 79 / 27، مناقب ابن شهرآشوب 3: 148،
شواهد التنزيل 1: 209 / 280 و 281، والآية من سورة المائدة 5: 54.
(2) تفسير التبيان 3: 555، مجمع البيان 3: 321، مناقب ابن شهرآشوب 3: 148.
(3) في م: في حبهم.
126

قال الله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هودا} (1)، فأضافه إليهم
بالإخوة وهو نبي الله وهم كفار بالله عز وجل.
وقال تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحا} (2).
وقال: {وإلى مدين أخاهم شعيبا} (3) ولم يناف ذلك كفرهم،
ولا ضاد ظلالهم وشركهم، فأحرى أن لا يضاد تسمية أمير المؤمنين عليه السلام
محاربيه بالإخوة مع كفرهم بحربه، وضلالهم عن الدين بخلافه، وهذا
بين لا إشكال فيه.
فصل
ومما يدل على كفر محاربي أمير المؤمنين عليه السلام علمنا بإظهارهم
التدين بحربه، والاستحلال لدمه ودماء المؤمنين من ولده وعترته
وأصحابه، وقد ثبت أن استحلال دماء المؤمنين أعظم عند الله من
استحلال (4) جرعة خمر، لتعاظم المستحق (5) عليه من العقاب بالاتفاق.
وإذا كانت الأمة مجمعة على إكفار مستحل الخمر، وإن شهد
الشهادتين وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فوجب القطع على كفر مستحل

(1) سورة الأعراف 7: 65، سورة هود 11: 50.
(2) سورة الأعراف 7: 73، سورة هود 11: 61.
(3) سورة الأعرف 7: 85، سورة هود 11: 84.
(4) في أ زيادة: شرب.
(5) في ب: المستحل.
127

دماء المؤمنين، لأنه أكبر (1) من ذلك وأعظم في العصيان بما ذكرناه، وإذا
ثبت ذلك صح الحكم بإكفار محاربي أمير المؤمنين عليه السلام على ما وصفناه.
دليل آخر: ويدل على ذلك أيضا ما تواترت به الأخبار من قول
النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: " حربك - يا علي - حربي، وسلمك سلمي " (2).
وقد ثبت أنه لم يرد بذلك الخبر عن كون حرب أمير المؤمنين عليه السلام
حربه على الحقيقة، وإنما أراد التشبيه في الحكم دون ما عداه، وإلا كان
الكلام لغوا ظاهر الفساد، وإذا كان حكم حربه عليه السلام كحكم
حرب الرسول صلى الله عليه وآله وجب إكفار محاربيه، كما يجب بالإجماع إكفار
محاربي رسول الله صلى الله عليه وآله.
دليل آخر: وهو أيضا ما أجمع على نقله حملة الآثار من قول
الرسول صلى الله عليه وآله: " من آذى عليا فقد آذاني، ومن آذاني، فقد آذى الله
تعالى
" (3) ولا خلاف بين أهل الإسلام أن المؤذي للنبي صلى الله عليه وآله بالحرب
والسب والقصد له بالأذى والتعمد لذلك كافر، خارج عن ملة الإسلام،
فإذا ثبت ذلك وجب الحكم بإكفار محاربي أمير المؤمنين عليه السلام بما أوجبه

(1) في أ: أكثر، وفي ب، م: أكفر.
(2) أمالي الطوسي 1: 374، تفسير فرات: 181، مناقب ابن شهرآشوب 3: 217، مناقب
الخوارزمي: 76، مناقب ابن المغازلي: 50 / 73، الفصول المختارة: 197.
(3) الرياض النضرة 3: 122، ذخائر العقبى: 65، الجامع الصغير للسيوطي: 122، ينابيع
المودة: 205، مناقب ابن شهرآشوب 3: 211.
128

النبي صلى الله عليه وآله من ذلك بما بيناه.
دليل آخر: وهو أيضا ما انتشرت به الأخبار، وتلقاه العلماء
بالقبول عن رواة الآثار، من قول النبي صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام:
" اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ".
وقد ثبت أن من عادى الله تعالى وعصاه على وجه المعاداة فهو
كافر خارج عن الإيمان، فإذا ثبت أن الله تعالى لا يعادي أولياءه وإنما
يعادي أعداءه، وصح أنه تعالى معاد لمحاربي أمير المؤمنين عليه السلام لعداوتهم
له، بما ذكرناه من حصول العلم بتدينهم بحربه عليه السلام بما ثبت به عداوة
محاربي رسول الله صلى الله عليه وآله ويزول معه الارتياب، وجب إكفارهم على ما
قدمناه.
وقد استقصيت الكلام في هذا الباب في كتابي المعروف
ب‍ (المسألة الكافئة) (2) وفيما أثبته منه هاهنا كفاية، إن شاء الله.
فصل
ثم يقال للمعتزلة ومن وافقهم في إنكار إمامة معاوية بن أبي

(1) أمالي الصدوق: 460 / 2، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 47 / 183 و 59 / 227، مشكل
الآثار 2: 307، مسند أحمد 1: 88 و 4: 370، أخبار أصفهان 2: 227، تاريخ بغداد
14 / 236، مستدرك الحاكم 3: 110.
(2) ذكر هذا الكتاب تلميذاه النجاشي والطوسي وسمياه " المسألة الكافئة في إبطال توبة
الخاطئة ". أنظر رجال النجاشي: 399، فهرست الطوسي: 158.
129

سفيان وبني أمية من عقلاء أصحاب الحديث: ما الفرق بينكم فيما تأولتم
به الآية، وأوجبتم به منها طاعة أبي بكر وعمر، وبين الحشوية فيما أوجبوا
به منها طاعة معاوية وبني أمية وجعلوه حجة لهم على إمامتهم، وعموا
بالمعني بها أبا بكر وعمر وعثمان ومن ذكرناه.
وذلك أن أكثر فتوح الشام وبلاد المغرب والبحرين والروم
وخراسان كانت على يد معاوية بن أبي سفيان وأمرائه كعمرو بن
العاص وبسر بن أرطاة ومعاوية بن حديج وغير من ذكرناه، ومن بعدهم
على أيدي بني أمية وأمرائهم بلا اختلاف.
فإن جروا (1) على ذلك خرجوا عن أصولهم، وزعموا أن الله
سبحانه أوجب طاعة الفاسقين، وأمر باتباع الظالمين، ونص على إمامة
المجرمين، وإن امتنعوا منه لعلة من العلل مع ما وصفناه من قتالهم بعد
النبي صلى الله عليه وآله لقوم كفار أولي بأس شديد منعوا من ذلك في الرجلين
بمثلها، فلا يجدون فصلا مع ما يلحق مقالتهم من الخلل والتناقض
بالتخصيص على التحكم دون الحجة والبيان، ومن الله نسأل التوفيق.

(1) في ب، ح، أ: أقروا.
130

فصل
فإن قال: قد قطعتم عذري في الجواب عما تعلق به خصماؤكم من
تأويل هذه الآية، وأزلتم - بحمد الله - ما اشتبه علي من مقالهم فيها،
ولكن كيف يمكنكم تأويل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد
منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على
المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة
لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} (1).
وقد علمتم أنه لم يقاتل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا أبو بكر،
فوجب أن يكون إماما وليا لله تعالى بما ضمنه التنزيل، وهذا ما لا نرى
لكم عنه محيصا؟!
قيل له: قد بينا فيما سلف وجه التأويل لهذه الآية، وذكرنا (2) عن
خيار الصحابة أنها نزلت في أهل البصرة، بما رويناه عن حذيفة بن
اليمان وعمار بن ياسر، وقد جاءت الأخبار بمثل ذلك عن أمير

(1) سورة المائدة 5: 54.
(2) تقدم البحث حوله مع التخريجات في ص 125 و 126
131

المؤمنين عليه السلام، ووردت بمعناه عن عبد الله بن مسعود، ودللنا أيضا على
كفر محاربي أمير المؤمنين عليه السلام بما لا يخفى الصواب فيه على ذوي
الإنصاف، وذلك موجب لردتهم عن الدين الذي دعا الله تعالى إليه
العباد، فبطل صرف تأويلها عن هذا الوجه إلى ما سواه.
فصل
مع أن متضمن الآية وفوائدها وما يتصل بها مما بعدها يقضي
بتوجهها إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فإنه المعني بالمدحة فيها، والمشار إليه في
جهاد المرتدين دون من ظنوه بغير بصيرة وتوهموه.
وذلك أن الله سبحانه توعد المرتدين عن دينه بالانتقام منهم
بذي صفات مخصوصة بينها في كتابه، وعرفها كافة عباده، بما يوجب لهم
العلم بحقائقها، وكانت بالاعتبار الصحيح خاصة لأمير المؤمنين عليه السلام دون
المدعى له ذلك بما لا يمكن دفعه إلا بالعناد:
فأولها: وصفهم بأنهم يحبون الله تعالى ويحبهم الله.
وقد علم كل من سمع الأخبار اختصاص أمير المؤمنين عليه السلام بهذا
الوصف من الرسول صلى الله عليه وآله، وشهادته له به يوم خيبر حيث يقول:
" لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا
غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه " (1) فأعطاها عليا عليه السلام، ولم

(1) تقدم مع تخريجاته في ص 34.
132

يرد خبر ولا جاء أثر بأنه صلى الله عليه وآله وصف أبا بكر ولا عمر ولا عثمان بمثل
ذلك في حال من الأحوال، بل مجئ هذا الخبر بوصف أمير المؤمنين عليه السلام
بذلك عقيب ما كان من أبي بكر وعمر في ذلك اليوم من الانهزام، واتباعه
بوصف الكرار دون الفرار، موجب لسلب الرجلين معنى هذه المدحة كما
سلبهما مدحة الكر، وألزمهما ذم الفرار.
وثانيها: وصف المشار إليه في الآية باللين على المؤمنين والشدة
على الكافرين، حيث يقول جل اسمه: {أذلة على المؤمنين أعزة
على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} (1).
وهذا وصف لا يمكن أحدا دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن استحقاقه
بظاهر ما كان عليه من شدته على الكافرين، ونكايته في المشركين،
وغلظته على الفاسقين، ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين،
ورأفته بالمؤمنين، ورحمته للصالحين.
ولا يمكن أحدا ادعاؤه لأبي بكر إلا بالعصبية، أو الظن دون
اليقين، لأنه لم يعرف له قتيل في الإسلام، ولا بارز قرنا، ولم ير له (2)
موقف عني فيه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله (3)، ولا نازل بطلا، ولا سفك بيده
لأحد المشركين دما، ولا كان له فيهم جريح، ولم يزل من قتالهم هاربا،
ومن حربهم ناكلا، وكان على المؤمنين غليظا، ولم يكن بهم رحيما.

(1) سورة المائدة 5: 54. -
(2) (بارز.. له) ليس في أ، ب، م.
(3) في ب، زيادة: ولا بارز قرنا
133

ألا ترى ما فعله بفاطمة سيدة نساء العالمين عليها السلام وما أدخله من
الذل على ولدها، وما صنع بشيعتها (1)، وما كان من شدته على صاحب
رسول الله صلى الله عليه وآله وعامله على الصدقات، ومن كان في حيزه من المسلمين
حتى سفك دماءهم بيد المنافق الرجيم (2)، واستباح حريمهم بما لا
يوجب ذلك في الشرع والدين.
فثبت أنه كان من الأوصاف على ضد ما أوجبه الله تعالى في
حكمه لمن أخبر عن الانتقام به من المرتدين.
ثم صرح تعالى فيما أوصله بالآية (3) من الذكر الحكيم ينعت (4)
أمير المؤمنين عليه السلام، وأقام البرهان الجلي على أنه عناه بذلك وأراده
خاصة، بما أشار به من صفاته التي تحقق بالانفراد بها من العالمين.
فقال جل اسمه: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله
ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} (5).
فصارت الآية متوجهة إلى أمير المؤمنين عليه السلام بدلالة متضمنها، وما
اتصل بها على حسب ما شرحناه، وسقط توهم المخالف فيما ادعاه لأبي

(1) للتوسع في هذا البحث راجع الشافي 4: 57 - 123، تقريب المعارف: 163 - 168،
الصراط المستقيم 2: 282 - 302، نهج الحق: 265 - 272.
(2) في أ: الذميم.
(3) في ب، ح، م: ثم خرج به جل اسمه بما وصله في الآية.
(4) في ب، ح، م: حازه بدل (بنعت).
(5) سورة المائدة 5: 55: 56.
134

بكر على ما بيناه.
فصل
ويؤيد ذلك إنذار رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا بقتال أمير
المؤمنين عليه السلام لهم من بعده، حيث جاءه سهيل بن عمرو (1) في جماعة
منهم، فقالوا: يا محمد، إن أرقاءنا لحقوا بك فأرددهم علينا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " لتنتهن - يا معشر قريش - أو ليبعثن
الله عليكم رجلا يضر بكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله ".
فقال له بعض أصحابه: من هو - يا رسول الله - أبو بكر؟!
فقال: " لا " فقال: فعمر؟! فقال: " لا، ولكنه خاصف النعل في الحجرة "
وكان علي عليه السلام يخصف نعل رسول الله صلى عليه وآله في الحجرة (2).
وقوله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام: " تقاتل بعدي الناكثين
والقاسطين والمارقين " (3)

(1) سهيل بن عمرو بن عبد شمس، القرشي العامري من لؤي، خطيب قريش وأحد
ساداتها في الجاهلية، أسلم يوم الفتح بمكة، وهو الذي تولى أمر الصلح بالحديبية. توفي
بالشام في 18 ه‍. " سير أعلام النبلاء 1: 194 / 25، الجرح والتعديل 4: 245 / 1058،
صفوة الصفوة 1: 731 / 112، الإصابة 3: 146 / 3566 ".
(2) إرشاد المفيد: 64، صحيح الترمذي 5: 634 / 3751، مستدرك الحاكم 2: 125 و 137،
مسند أحمد 3: 82، مناقب ابن المغازلي: 438 - 440، دلائل النبوة للبيهقي 6: 435.
(3) مستدرك الحاكم 3: 139، أسد الغابة 4: 33، تاريخ بغداد 13: 187، مجمع الزوائد 6:
235، مناقب الخوارزمي: 122 و 125، الطرائف: 104 / 154، فرائد السمطين 1:
282 / 221.
135

وقول الله عز وجل: {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون} (1).
وهي في قراءة عبد الله بن مسعود: منهم بعلي منتقمون (2) وبذلك جاء
التفسير عن علماء التأويل (3).
وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ولم يجر لأبي بكر وعمر في حياة
النبي صلى الله عليه وآله ما ذكرناه، فقد صح أن المراد بمن ذكرناه أمير المؤمنين عليه السلام
خاصة على ما بيناه.
وقد صح أنه المراد بقوله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه} (4) على ما فصلنا القول به من انتظام الكلام ودلالة معانيه،
وما في السنة مما بينا الغرض فيه وشرحناه.
فصل
على أنا متى حققنا النظر في متضمن هذه الآية، ولم نتجاوز
المستفاد من ظاهرها، وتأويله على مقتضى اللسان إلى القرائن من
الأخبار على نحو ما ذكرناه آنفا، لم نجد في (5) ذلك أكثر من الأخبار

(1) سورة الزخرف 43: 41.
(2) (وهي في.. منتقمون) ليس في ب، ح.
(3) أنظر الفرودس 3: 154 / 4417، شواهد التنزيل ج 2: 151 - 155، الدر المنثور 7:
380.
(4) سورة المائدة 5: 54.
(5) في أ، ب، م: نفي.
136

بوجود بدل من (1) المرتدين في جهاد من فرض الله جهاده من
الكافرين، على غير تعيين لطائفة من مستحقي القتال، ولا
عموم الجماعة بما يوجب استغراق الجنس في المقال.
ألا ترى لو أن حكيما أقبل على عبيد له، وقال لهم: يا هؤلاء، من
يعصني منكم ويخرج عن طاعتي فسيغنيني الله عنه بغيره ممن يطيعني،
ويجاهد معي على الاخلاص في النصحية لي، ولا يخالف أمري.
لكان كلامه هذا مفهوما مفيدا لحث عبيده على طاعته، وإخباره
بغناه عنهم عند مخالفتهم، ووجود من يقوم مقامهم في طاعته على أحسن
من طريقتهم، ولم يفد بظاهره ولا مقتضاه الأخبار بوجود من يجاهدهم
أنفسهم على القطع، وإن كان محتملا لوعيدهم بالجهاد على الجواز له
دون الوجوب لموضع الإشارة بذكر الجهاد إلى مستحقه.
وهذا هو نظير الآية فيما انطوت عليه، ومماثل ألفاظها فيما تفضي
إليه، ومن ادعى فيه خلاف ما ذكرناه لم يجد إليه سبيلا، وإن رام فيه فصلا
عجز عن ذلك، ورجع بالخيبة حسيرا، ومن الله نسأل التوفيق.

(1) في أ، ب، م: بوجوده يدل على. وزاد عليها في ب، م: أن.
137

.
138

فصل
فإن قال: أفليس الله تعالى يقول في سورة الفتح: {محمد رسول
الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا
سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر
السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج
شطأه} (1).
وقد علمت الكافة أن أبا بكر وعمر وعثمان من وجوه أصحاب
رسول الله صلى الله وعليه وآله، ورؤساء من كان معه، وإذا كانوا كذلك فهم أحق
الخلق بما تضمنه القرآن من وصف أهل الإيمان، ومدحهم بالظاهر من
البيان، وذلك مانع من الحكم عليهم بالخطأ والعصيان (2)؟!
قيل لهم: إن أول ما نقول في هذا الباب أن أبا بكر وعمر وعثمان
ومن تضيفه (3) الناصبة إليهم في الفضل كطلحة والزبير وسعد وسعيد
وأبي عبيدة وعبد الرحمن لا يتخصصون من هده المدحة بما خرج عنه

(1) سورة الفتح 48: 29.
(2) في ب، ح، م: النسيان.
(3) في أ: يصفه، وفي ب، م: تضفه.
139

أبو هريرة وأبو الدرداء، بل لا يتخصصون بشئ لا يعم عمرو بن
العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة وأبا الأعور السلمي
ويزيد و (1) معاوية بن أبي سفيان، بل لا يختصون منه بشئ دون أبي
سفيان صخر بن حرب وعبد الله بن أبي سرح والوليد بن عقبة بن أبي
معيط والحكم بن أبي العاص ومروان بن الحكم وأشباههم من الناس،
لأن كل شئ أوجب دخول من سميتهم في مدحة القرآن، فهو موجب
دخول من سميناه، وعبد الله بن أبي سلول ومالك بن نويرة (2) وفلان
وفلان.
إذ أن جميع هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن كان معه،
ولأكثرهم من النصرة للإسلام والجهاد بين يدي النبي صلى الله عليه وآله والآثار
الجميلة والمقامات المحمودة ما ليس لأبي بكر وعمر وعثمان، فأين موضع
الحجة لخصومنا في فضل من ذكره على غيره من جملة من سميناه، وما
وجه دلالتهم منه على إمامتهم، فإنا لا نتوهمه، بل لا يصح أن يدعيه
أحد من العقلاء؟!
فصل
ثم يقال لهم: خبرونا عما وصف الله تعالى به من كان مع نبيه
صلى الله عليه وآله بما تضمنه القرآن، أهو شامل لكل من كان معه عليه الصلاة والسلام

(1) في ب، ح: بن.
(2) (ومالك بن نويرة) ليس في ب، ح، م.
140

في الزمان، أم في الصقع والمكان، أم في ظاهر الإسلام، أم في
ظاهره وباطنه على كل حال، أم الوصف به علامة تخصيص مستحقه
بالمدح دون من عداه، أم لقسم آخر غير ما ذكرناه؟
فإن قالوا: هو شامل لكل من كان مع النبي صلى الله عليه وآله في الزمان أو
المكان أو ظاهر الإسلام، ظهر سقوطهم وبان جهلهم وصرحوا بمدح
الكفار وأهل النفاق، وهذا ما لا يرتكبه عاقل.
وإن قالوا: إنه يشمل كل من كان معه على ظاهر الديانة
وباطنها معا دون من عددتموه من الأقسام.
قيل لهم: فدلوا على أئمتكم وأصحابكم، ومن تسمون من
أوليائكم، أنهم كانوا في باطنهم على مثل ما أظهروه من الإيمان، ثم ابنوا
حينئذ على هذا الكلام، وإلا فأنتم مدعون ومتحكمون بما لا تثبت معه
حجة، ولا لكم عليه دليل، وهيهات أن تجدوا دليلا يقطع به على سلامة
بواطن القوم من الضلال، إذ ليس به قرآن ولا خبر عن النبي صلى الله عليه وآله،
ومن اعتمد فيه على غير هذين فإنما اعتمد على الظن والحسبان.
وإن قالوا: إن متضمن القرآن من الصفات المخصوصة إنما هي
علامة على مستحقي المدحة من جماعة مظهري الإسلام دون أن تكون
منتظمة لسائرهم على ما ظنه الجهال.
قيل لهم: فدلوا الآن على من سميتموه كان مستحقا لتلك
الصفات، لتتوجه إليه المدحة ويتم لكم فيه المراد، وهذا ما لا سبيل إليه
حتى يلج الجميل في سم الخياط.
141

فصل
ثم يقال لهم: تأملوا معنى الآية، وحصلوا فائدة لفظها، وعلى أي
وجه تخصص متضمنها من المدح، وكيف مخرج القول فيها؟ تجدوا
أئمتكم أصفارا مما ادعيتموه لهم منها، وتعلموا أنهم باستحقاق الذم
وسلب الفضل بدلالتها منهم بالتعظيم والتبجيل من مفهومها،
وذلك أن الله تعالى ميز مثل قوم من أصحاب نبيه صلى الله عليه وآله في كتبه الأولى،
وثبوت صفاتهم بالخير والتقى (1) في صحف إبراهيم وموسى
وعيسى عليه السلام، ثم كشف عنهم بما ميزهم به من الصفات التي تفردوا بها
من جملة المسلمين، وبانوا بحقيقتها عن سائر المقربين.
فقال سبحانه: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على
الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا
سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم
في الإنجيل} (2).
وكأن تقدير الكلام: إن الذين بينت (3) أمثالهم في التوراة
والإنجيل من جملة أصحابك ومن معك - يا محمد - هم أشداء
على الكفار، والرحماء بينهم الذين تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله
ورضوانا.

(1) في أ: بالجبر والنفي.
(2) سورة الفتح 48: 29.
(3) في ب: يثبت، وفي ح: ثبت.
142

وجرى هذا في الكلام مجرى من قال: زيد بن عبد الله إمام
عدل، والذين معه يطيعون الله، ويجاهدون في سبيل الله، ولا يرتكبون
شيئا مما حرم الله وهم المؤمنون حقا دون من سواهم، إذ هم أولياء الله
الذين تجب مودتهم دون من معه ممن عداهم، وإذا كان الأمر على ما
وصفناه، فالواجب أن تستقرئ الجماعة في طلب هذه الصفات، فمن
كان عليها منهم فقد توجه إليه المدح وحصل له التعظيم، ومن كان على
خلافها فالقرآن إذن منبه على ذمه، وكاشف عن نقصه، ودال على
موجب لومه، ومخرج له عن منازل التعظيم.
فنظرنا في ذلك واعتبرناه، فوجدنا أمير المؤمنين عليه السلام وجعفر بن
أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعمار بن ياسر
والمقداد بن الأسود وأبا دجانة - وهو سماك بن خرشة الأنصاري (1) -
وأمثالهم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، قد انتظموا صفات الممدوحين
من الصحابة في متضمن القرآن.
وذلك أنهم بارزوا من أعداء الملة الأقران، وكافحوا منهما
الشجعان، وقتلوا منهم الأبطال، وسفكوا في طاعة الله سبحانه دماء
الكفار، وبنوا بسيوفهم قواعد الإيمان، وجلوا عن نبيهم صلى الله عليه وآله الكرب

(1) أبو دجانة الأنصاري: صحابي، شجاعا بطلا، له آثار جميلة في الإسلام، شهد بدرا،
وثبت يوم أحد، وأصيب بجراحات كثيرة، واستشهد باليمامة في الإسلام (11 ه‍) " معجم رجال
الحديث 8: 303، سير أعلام النبلاء 1: 243 / 39، أسد الغابة 2: 352 ".
143

والأحزان، وظهر بذلك شدتهم على الكفار، كما وصفهم الله تعالى في
محكم القرآن، وكانوا من التواصل على أهل الإسلام والرحمة بينهم على
ما ندبوا إليه، فاستحقوا الوصف في الذكر والبيان.
فأما إقامتهم الصلاة وابتغاؤهم من فضل الله تعالى القربات،
فلم يدفعهم عن علو الرتبة في ذلك أحد من الناس، فثبت لهم حقيقة
المدح لحصول مثلهم فيما أخير الله تعالى عنهم في متقدم الكتب،
واستغنينا بما عرفنا لهم مما شرحناه في استقراء غيرهم، ممن قد ارتفع في
حاله الخلاف، وسقط الغرض بطلبه على الاتفاق.
ثم نظرنا فيما ادعاه الخصوم لأجل أئمتهم وأعظمهم قدرا
عندهم من مشاركة من سميناه فيما ذكرنا من الصفات وبيناه،
فوجدنا هم على ما قدمناه من الخروج عنها واستحقاق أضدادها على ما
رسمناه.
وذلك أنه لم يكن لأحد منهم مقام في الجهاد، ولا عرف لهم قتيل
من الكفار، ولا كلم كلاما في نصرة الإسلام، بل ظهر منه الجزع في
مواطن القتال، وفر في يوم خيبر واحد وحنين، وقد نهاهم الله تعالى عن
الفرار، وولوا الأدبار مع الوعيد لهم على ذلك في جلي البيان، وأسلموا
النبي صلى الله عليه وآله للحتوف (1) في مقام بعد مقام، فخرجوا بذلك عن الشدة
على الكفار، وهان أمرهم على أهل الشرك والضلال، وبطل أن يكونوا

(1) في ب، م: للخوف.
144

من جملة المعنين (1) بالمدحة في القرآن ولو كانوا على سائر ما عدا ما
ذكرناه من باقي الصفات، وكيف وأنى يثبت لهم شئ منها بضرورة ولا
استدلال، لأن المدح إنما توجه إلى من حصل له مجموع الخصال في الآية
دون بعضها، وفي خروج القوم من البعض بما ذكرناه (2) مما لا يمكن دفعه
إلا بالعناد وجوب الحكم عليهم بالذم بما وصفناه؟! وهذا بين جلي والحمد
لله.
فصل
ثم يقال لهم: قد روى مخالفوكم عن علماء التفسير من آل
محمد عليهم السلام أن هذه الآية إنما نزلت في أمير المؤمنين والحسن والحسين
والأئمة عليهم السلام من بعدهم خاصة دون سائر الناس، وروايتهم لما ذكرنا عمن
سمينا أولى بالحق والصواب مما ادعيتموه بالتأويل والظن الحسبان
والرأي، لإسنادهم مقالتهم في ذلك إلى من ندب النبي صلى الله عليه وآله
إلى الرجوع إليه عند الاختلاف، وأمر باتباعه في الدين، وأمن متبعه من
الضلال.
ثم إن دليل القرآن يعضده البيان، وذلك إن الله تعالى أخبر عمن
ذكره بالشدة على الكفار، والرحمة لأهل الإيمان، والصلاة له، والاجتهاد
في الطاعات، بثبوت صفته في التوراة والإنجيل، وبالسجود لله تعالى

(1) في ب، ح: المعينين.
(2) (من البعض بما ذكرناه) ليس في ب، م.
145

وخلع الأنداد، ومحال وجود صفة ذلك لمن سجوده للأوثان، وتقربه للات
والعزى دون الله الواحد القهار، لأنه يوجب الكذب في المقال، أو
المدحة بما يوجب الذم من الكفر والعصيان.
وقد اتفقت الكافة على أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير
وسعدا وسعيدا وأبا عبيدة وعبد الرحمن قد عبدوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله.
الأصنام، وكانوا دهرا طويلا يسجدون للأوثان من دون الله تعالى،
ويشركون به الأنداد، فبطل أن تكون أسماؤهم ثابتة في التوراة
والإنجيل بذكر السجود على ما نطق به القرآن.
وثبت لأمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام ذلك، للاتفاق على
أنهم لم يعبدوا قط غير الله تعالى، ولا سجدوا لأحد سواه، وكان مثلهم
في التوراة والإنجيل واقعا موقعه على ما وصفناه، مستحقا به المدحة قبل
كونه لما فيه من الاخلاص لله سبحانه على ما بيناه.
ووافق دليل ذلك برهان الخبر عمن ذكرناه من علماء آل
محمد صلوات الله عليهم، بما دل به النبي صلى الله عليه وآله من مقاله الذي اتفق العلماء عليه،
وهذا أيضا مما لا يمكن التخلص منه مع الإنصاف.
فصل
على أنه يقال لهم: خبرونا عن طلحة والزبير، أهما داخلان في
جملة الممدوحين بقوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على
146

الكفار} (1) إلى آخره، أم غير داخلين في ذلك؟
فإن قالوا: لم يدخل طلحة والزبير ونحوهما في جملة القوم.
خرجوا من مذاهبهم وقيل لهم: ما الذي أخرجهم من ذلك وأدخل أبا
بكر وعمر وعثمان، فكل شئ تدعونه في استحقاق الصفات، فطلحة
والزبير أشبه أن يكونا عليها منهم، لما ظهر من مقاماتهم في الجهاد الذي
لم يكن لأبي بكر وعمر وعثمان فيه ذكر على جميع الأحوال؟! فلا يجدون
شيئا يعتمدون عليه في الفرق بين القوم أكثر من الدعوى الظاهرة
الفساد.
وإن قالوا: إن طلحة والزبير في جملة القوم الممدوحين بما في الآي.
قيل لهم: فهلا عصمهما المدح الذي ادعيتموه لهم من دفع أمير
المؤمنين عليه السلام عن حقه، وإنكار إمامته، واستحلال حربه، وسفك دمه،
والتدين بعداوته على أي جهة شئتم: كان ذلك من تعمد، أو خطأ، أو
شبهة، أو عناد، أو نظر، أو اجتهاد!
فإن قالوا: إن مدح القرآن - على ما يزعمون - لم يعصمهما من ذلك،
ولا بد من الاعتراف بما ذكرناه، لأن منع دفعه جحد الاضطرار.
قيل لهم: فبما تدفعون أن أبا بكر وعمر وعثمان قد دفعوا أمير
المؤمنين عليه السلام عن حقه، وتقدموا عليه وكان أولى بالتقدم عليهم، وأنكروا
إمامته وقد كانت ثابتة، و دفعوا النصوص عليه وهي له واجبة، ولم

(1) سورة الفتح 48: 29.
147

يعصمهم ذلك، ثم توجه المدح لهم من الآية، كما لم يعصم طلحة والزبير
مما وصفناه ووقع منهم في إنكار حق أمير المؤمنين عليه السلام، كما وقع من
الرجلين المشاركين لهم فيما ادعيتموه من مدح القرآن وعلى الوجه الذي
كان منهما ذلك من تعمد أو خطأ أو شبهة أو اجتهاد أو عناد؟ وهذا ما
لا سبيل لهم إلى دفعه، وهو مبطل لتعلقهم بالآية ودفع أئمتهم عن
الضلالة، وإن سلم لهم منها ما تمنوه تسليم جدل للاستظهار.
فصل
ويؤكد ذلك أن الله تعالى مدح من وصف بالآية بما كان عليه في
الحال، ولم يقض بمدحه له على صلاح العواقب، ولا أوجب العصمة له
من الضلال، ولا استدامة لما استحق به المدحة في الاستقبال.
ألا ترى أنه سبحانه قد اشترط في المغفرة لهم والرضوان الإيمان
في الخاتمة، ودل بالتخصيص لمن اشترط له ذلك، على أن في جملتهم من
يتغير حاله فيخرج عن المدح إلى الذم واستحقاق العقاب، فقال تعالى
فيما اتصل به من وصفهم (1) ومدحهم بما ذكرناه من مستحقهم في الحال:
{كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب
الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات
منهم مغفرة وأجرا عظيما} (2).

(1) (به من وصفهم) ليس في ب، ح، م.
(2) سورة الفتح 48: 29
148

فبعضهم في الوعد ولم يعمهم به، وجعل الأجر مشترطا لهم
بالأعمال الصالحة، ولم يقطع على الثبات، ولو كان الوصف لهم بما تقدم
موجبا لهم الثواب، ومبينا لهم المغفرة والرضوان، لاستحال الشرط فيهم
بعده وتناقض الكلام، وكان التخصيص لهم موجبا بعد العموم ظاهر
التضاد، وهذا ما لا يذهب إليه ناظر، فبطل ما تعلق به الخصم من جميع
الجهات، وبان تهافته على اختلاف المذاهب في الأجوبة والاسقاطات،
والمنة لله.
149

.
150

مسألة أخرى
وقد تعلق هؤلاء القوم أيضا بعد الذي ذكرناه عنهم فيما تقدم من
الآي بقوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح
وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد
الله الحسنى والله بما تعملون خبير} (1).
فزعموا بجهلهم أن هذه الآية دالة على أن أبا بكر وعمر
وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا و عبد الرحمن وأبا عبيدة بن
الجراح من أهل الجنة على القطع والثبات، إذ كانوا ممن أسلم قبل
الفتح، وأنفقوا وقاتلوا الكفار، وقد وعدهم الله الحسنى - وهي الجنة وما
فيها من الثواب - وذلك مانع من وقوع معصية منهم يجب عليه بها
العقاب، وموجب لولايتهم في الدين وحجيتهم على كل حال (2).

(1) سورة الحديد 57: 10
(2) ممن ذهب إلى هذا الرأي الكلبي والزمخشري والقرطبي والنسفي والفخر الرازي، أنظر
تفسير الكشاف 4: 474، تفسير القرطبي: 17 / 240، تفسير النسفي 3: 478، تفسير
الفخر الرازي 29: 219.
151

فصل
فيقال لهم: إنكم بنيتم كلامكم في تأويل هذه الآية وصرف الوعد
فيها إلى أئمتكم على دعويين:
إحداهما: مقصورة عليكم لا يعضدها برهان، ولا تثبت بصحيح
الاعتبار.
والأخرى: متفق على بطلانها، لا تنازع في فسادها ولا اختلاف،
ومن كان أصله فيما يعتمده ما ذكرناه، فقد وضح جهله لذوي الألباب.
فأما الدعوى الأولى: فهي قولكم أن أبا بكر وعمر قد أنفقا
قبل الفتح، وهذا ما لا حجة فيه بخبر صادق ولا كتاب، ولا عليه من
الأمة إجماع، بل الاختلاف فيه موجود، والبرهان على كذبه (1) لائح
مشهود.
وأما الدعوى الأخيرة: وهي قولكم أنهما قاتلا الكفار فهذه
مجمع على بطلانها غير مختلف في فسادها، إذ ليس يمكن لأحد من
العقلاء أن يضيف إليهما قتل كافر معروف، ولا جراحة مشرك موصوف،
ولا مبارزة قرن ولا منازلة كفؤ، ولا مقام مجاهد.
وأما هزيمتهما من الزحف فهي أشهر وأظهر من أن يحتاج فيه
إلى الاستشهاد، وإذا خرج الرجلان من الصفات التي تعلق الوعد
بمستحقها من جملة الناس، فقد بطل ما بنيتم على ذلك من الكلام،

(1) في أ: على كذب مدعيه.
152

وثبت بفحوى القرآن ودلائله استحقاقهما الوعيد بضد ما استحقه أهل
الطاعة.
فصل
على أن اعتلالكم يوجب عموم الصحابة كلها بالوعد، ويقضي
لهم بالعصمة من كل ذنب، لأنهم بأسرهم بين رجلين: أحدهما أسلم قبل
الفتح وأنفق وقاتل، والآخر كان ذلك منه بعد الفتح، ومن دفع (1) منهم
عن ذلك كانت حاله حال أبي بكر وعمر وعثمان في دفع الشيعة لهم عما
أضافه إليهم أشياعهم من الإنفاق لوجه الله تعالى، وإذا كان الأمر على
ما وصفناه، وكان القرآن ناطقا بأن الله تعالى قد وعد جماعتهم الحسنى،
فكيف يختص بذلك من سميتموه، لولا العصبية والعناد؟!
فصل
ثم يقال لهم: إن كان لأبي بكر وعمر وعثمان الوعد بالثواب، لما
ادعيتموه لهم من الإنفاق والقتال، وأوجب ذلك عصمتهم من الآثام،
لأوجب ذلك لأبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية (2) وخالد بن
الوليد وعمرو بن العاص أيضا، بل هو لهؤلاء أوجب، وهم به أحق من
أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم ممن سميتموه، لما نحن مثبتوه في المقال.

(1) في ب، وقع.
(2) (ومعاوية) ليس في ب، ح، م.
153

وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن أبا سفيان أسلم قبل الفتح
بأيام، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله الأمان لمن دخل داره تكرمة له وتمييزا
عمن سواه، وأسلم معاوية قبله في عام القضية (1) وكذلك كان إسلام
يزيد بن أبي سفيان (2).
وقد كان لهؤلاء الثلاثة من الجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله ما لم يكن
لأبي بكر وعمر وعثمان، لأن أبا سفيان أبلى يوم حنين بلاء حسنا، وقاتل
يوم الطائف قتالا لم يسمع بمثله في ذلك اليوم لغيره، وفيه ذهبت عينه،
وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وآله مع ابنه يزيد بن أبي سفيان، وهو يقدم بها
بين يدي المهاجرين والأنصار.
وقد كان أيضا لأبي سفيان بعد النبي صلى الله عليه وآله مقامات ومعروفة في
الجهاد، وهو صاحب يوم اليرموك، وفيه ذهبت عينه الأخرى، وجاءت
الأخبار أن الأصوات خفيت فلم يسمع إلا صوت أبي سفيان، وهو
يقول: يا نصر الله اقترب. والراية مع ابنه يزيد، وقد كان له بالشام وقائع
مشهورات (3).
ولمعاوية من الفتوح بالبحر وبلاد الروم والمغرب والشام في أيام
عمر وعثمان وأيام إمارته وفي أيام أمير المؤمنين عليه السلام وبعده ما لم يكن لعمر

(1) كان معاوية يقول أنه أسلم عام القضية وكتم إسلامه من أبيه وأمه. أنظر أسد الغابة 4:
385.
(2) أسلم يوم فتح مكة. أنظر سير أعلام النبلاء 1: 329، أسد الغابة 5: 112.
(3) أنظر الإصابة 3: 237، سير أعلام النبلاء 2: 106.
154

ابن الخطاب.
وأما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص فشهرة قتالهما مع
النبي صلى الله عليه وآله وبعده تغني الإطالة بذكرها في هذا الكتاب، وحسب
عمرو بن العاص في فضله على أبي بكر وعمر تأمير رسول الله صلى الله عليه وآله
إياه عليهما في حياته (1) ولم يتأخر إسلامه عن الفتح فيكون لهما فضل
عليه بذلك، كما يدعى في غيره.
وأما خالد بن الوليد فقد أمره رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته، وأنفذه
في سرايا كثيرة (2).
ولم ير لأبي بكر وعمر ما يوجب تقديمهما على أحد في أيامه صلى الله
عليه وآله، فإن أنصف الخصوم جعلوا ما عددناه لهؤلاء القوم فضلا على من
سموه في متضمن الآي، وإلا فالتسوية واجبة بينهم في ذلك على كل
حال، وهذا يسقط تعلقهم بالتخصيص فيما سلمناه لهم تسليم جدل من
التفضيل على ما أدعوه في التأويل، وإن القول فيه ما قدمناه.
فصل
ثم يقال لهم: أليست الآية قاضية بالتفضيل ودالة على الثواب
والأجر لمن جمع بين الإنفاق والقتال معا، ولم يفرد أحدهما عن الآخر،

(1) عقد رسول الله صلى الله عليه وآله لواء لعمرو على أبي بكر وعمر في غزوة ذات السلاسل.
أنظر سير أعلام النبلاء 3 / 57 و 67.
(2) أنظر سير أعلام النبلاء 1: 366.
155

فيكون مختصا به على الانفراد؟! فلا بد من أن يقولوا: بلى. وإلا
خالفوا ظاهر القرآن.
فيقال لهم: هب أنا سلمنا لكم أن لأبي بكر وعمر وعثمان إنفاقا،
ولم يصح ذلك بحجة من خبر صادق ولا إجماع ولا دليل قرآن، وإنما هي
دعوة عرية عن البرهان، فأي قتال لهم قبل الفتح أو بعده مع
النبي صلى الله عليه وآله حتى يكونوا بمجموع الأمرين مستحقين للتفضيل على
غيرهم من الناس؟! فإن راموا ذكر قتال بين يدي النبي صلى الله عليه وآله لم يجدوا
إليه سبيلا على الوجوه كلها والأسباب، اللهم إلا أن يقولوا ذلك على
التخرص والبهت بخلاف ما عليه الاجماع، وذلك باطل بالاتفاق.
ثم يقال لهم: قد كان للرسول صلى الله عليه وآله مقامات في الجهاد، وغزوات
معروفات، ففي أيها قاتل أبو بكر وعمر وعثمان، أفي بدر، فليس لعثمان
فيها ذكر واجتماع، ولم يحضرها باتفاق، وأبو بكر وعمر كانا في العريش
محبوسين عن القتال، لأسباب تذكرها الشيعة، وتدعون أنتم خلافا لما
تختصون (1) به من الاعتقاد؟!
أم بأحد فالقوم بأسرهم ولوا الأدبار، ولم يثبت مع النبي صلى الله عليه وآله
سوى أمير المؤمنين عليه السلام، وانضاف إليه نفر من الأنصار؟!
أم بخيبر وقد عرف العلماء ومن خالطهم من العامة ما كان من
أمر أبي بكر وعمر فيها من الفساد والرجوع من الحرب والانهزام،

(1) في أ، ب، ح: تختصمون.
156

حتى غضب النبي صلى الله عليه وآله، وقال: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله
ورسوله، ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على
يديه " (1) فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام، وكان الفتح على يديه، كما أخبر
النبي صلى الله عليه وآله؟!
أم في يوم الأحزاب فلم يكن لفرسان الصحابة وشجعانها
ومتقدميها في الحرب إقدام في ذلك اليوم سوى أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه
خاصة، وقتله عمرو بن عبد ود، ففتح الله بذلك على أهل الإسلام؟!
أم في يوم حنين فأصل هزيمة المسلمين كانت فيه بمقال من أبي
بكر، واغتراره بالجمع، واعتماده على كثرة القوم دون نصر الله ولطفه
وتوفيقه، ثم انهزم هو وصاحبه أول الناس، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله إلا
تسعة نفر من بني هاشم، أحدهم أمير المؤمنين عليه السلام، وثبتوا به في ذلك
المقام؟! ثم ما بين هذه الغزوات وبعدها، فحال القوم فيها في التأخر عن
الجهاد ما وصفناه لغيره من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم ومسلمة الفتح،
وأضرابهم من الناس وطبقات الأعراب في القتال والإنفاق، وما هو
مشهور عند نقلة الآثار، وقد نقلنا لأبي سفيان وولديه في هذا الباب ما
لا يمكن دعوى مثله لأبي بكر وعمر وعثمان على ما قدمناه وشرحناه.
وإذا لم يكن للقوم من معاني الفضل ما يوجب لهم الوعد (2)،
بالحسنى على ما نطق به القرآن، ولا اتفق لهم الجمع بين الإنفاق والقتال

(1) تقدم تخريجاته في ص 34.
(2) في ب، ح: الوجه.
157

بالإجماع وبالدليل (1) الذي ذكرناه، فقد ثبت أن الآية كاشفة عن
نقصهم، دالة على تعريتهم (2) مما يوجب الفضل، ومنبهة على أحوالهم
المخالفة لأحوال مستحقي التعظيم والثواب.
فصل
ثم يقال لهم أيضا: أخبرونا عن عمر بن الخطاب، بما ذا قرنتموه
بأبي بكر (3) وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن، فيما ادعيتموه لهم
من الفضل في تأويل الآية، ولم يكن له قتال قبل الفتح ولا بعده،
ولا ادعى له أحد إنفاقا على كل حال!
وهب أن الشبهة دخلت عليكم في أمر أبي بكر بما تدعونه من
الإنفاق، وفي عثمان ما كان منه من النفقة في تبوك، وفي طلحة والزبير
وسعيد بالقتال، أي شبهة دخلت عليكم في عمر بن الخطاب، ولا إنفاق
له ولا قتال؟! وهل ذكركم إياه في القوم إلا عصبية وعنادا وحمية في
الباطل، وإقداما على التخرص في الدعاوى والبهتان.
فصل آخر
ثم يقال لهم: خبرونا عن طلحة والزبير ما توجه إليهما من الوعد

(1) في أ: دليله.
(2) في أ: تعريهم.
(3) في أ: قربتموه إلى أبي بكر
158

بالحسنى في الآية على ما ادعيتموه للجماعة، وهل عصمهما ذلك من
خلاف أمير المؤمنين عليه السلام وحربه، وسفك دماء أنصاره وشيعته، وإنكار
حقوقه التي أوجبها الله تعالى له ودفع إمامته؟!
فإن قالوا: لم يقع من الرجلين شئ من ذلك، وكانا معصومين
عن جميعه. كابروا وقبحت المناظرة لهم، لأنهم اعتمدوا العناد في ذلك
ودفعوا علم الاضطرار.
وإن قالوا: إن الوعد من الله سبحانه لطلحة والزبير بالحسنى
لم يمنعهما من سائر ما عددناه، للاتفاق منهم على وقوعه من جهتهما
والاجماع.
قيل لهم: ما أنكرتم أن يكون ذلك أيضا غير عاصم لأبي بكر
وعمر وعثمان مع دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن حقه، وإنكار فضله (1)،
وجحد إمامته والنصوص عليه، ولا يمنع التسليم لكم ما ادعيتموه من
دخولهم في الآية، وتوجه المدحة إليهم منها، والوعد بالحسنى والنعيم على
غاية منيتكم، فيما ذكرته الشيعة في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وحال
المتقدمين عليه، كما رتبنا ذلك فيما تقدم من السؤال، فلا يجدون منه
مهربا.
فصل
وقد زعم بعض الناصبة أن الآية قاضية بفضل أبي بكر على أمير

(1) في أ، ب، ح: فرضه.
159

المؤمنين عليه السلام، فإن زعم أن أبا بكر له إنفاق بالإجماع وقتال مع
النبي صلى الله عليه وآله، وأن عليا لم يكن له إنفاق (1) على ما زعم وكان له قتال، ومن
جمع الأمرين كان أفضل من المنفرد بأحدهما على النظر الصحيح
والاعتبار.
فيقال له: أما قتال أمير المؤمنين عليه السلام وظهور جهاده مع
النبي صلى الله عليه السلام واشتهاره فمعلوم بالاضطرار، وحاصل عليه من الآية
بالإجماع والاتفاق، وليس لصاحبك قتال بين يدي النبي صلى الله عليه وآله باتفاق
العلماء، ولا يثبت له جهاد بخبر ولا قرآن، ولا يمكن لأحد ادعاء ذلك
له على الوجوه كلها والأسباب، إلا أن يتخرص باطلا على الظن
والعناد.
وأما الإنفاق فقد نطق به القرآن لأمير المؤمنين عليه السلام في آية
النجوى (2) بإجماع علماء القرآن، وفي آية المنفقين بالليل والنهار (3)، وجاء
التفسير بتخصيصها فيه عليه السلام، ونزل الذكر بزكاته عليه السلام في الصلاة (4)،

(1) (بالإجماع.. إنفاق) ليس في ب، ح، م.
(2) وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم
صدقة} سورة المجادلة 58: 12. وانظر مستدرك الحاكم 2: 482 والرياض النضرة 3:
222.
(3) وهي قوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند
ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} سورة البقرة 2: 274. وانظر مناقب ابن
المغازلي: 280 / 325، الرياض النضرة 3: 178، شواهد التنزيل 1: 109.
(4) وهو قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون} سورة المائدة 5: 55 وانظر تفسير الحبري 258 / 21
و 260 / 22، معرفة علوم الحديث للحاكم: 102، فرائد السمطين 1: 187 - 195.
160

وصدقته على المسكين واليتيم والأسير في: {هل أتى على الإنسان} (1).
وليس يثبت لأبي بكر إنفاق يدل عليه القرآن بظاهره، ولا قطع
العذر به من قول إمام صادق في الخبر عن معناه، ولا يدل عليه تواتر
ولا إجماع، مع حصول العلم الضروري بفقر أبي بكر، وما كان عليه من
الاضطرار المانع لصحة دعوى الناصبة له ذلك، حسب ما تخرصوه في
المقال، ولا فرق بين من ادعى لأبي بكر القتال مع ما بيناه ومن ادعى
مثل ذلك لحسان، وبين من ادعى له الإنفاق مع ما بيناه ومن ادعى مثله
لأبي هريرة وبلال.
وإذا كانت الدعوى لهذين الرجلين على ما ذكرناه ظاهرة
البطلان، فكذلك ما شاركهما في دلالة الفساد من الدعوى لأبي بكر
على ما وصفناه، فبطل مقال من ادعى له الفضل في الجملة، فضلا عمن
ادعاه له على أمير المؤمنين عليه السلام على ما بنى عليه الناصب الكلام، وبان
جهله، والله الموفق للصواب.

(1) سورة الإنسان 76: 1. وانظر تفسير الحبري: 326 / 69، شواهد التنزيل 2: 298 -
315.
161

باب آخر
من السؤال عن تأويل القرآن
وأخبار يعزونها إلى النبي صلى الله عليه وآله
وأنه قد مدح أئمتهم على التخصيص والاجمال
مسألة
فإن قالوا: وجدنا الله تعالى قد مدح أبا بكر في مسارعته إلى
صديق النبي صلى الله عليه وآله، وشهد له بالتقوى على القطع والثبات، فقال الله
تعالى:
{والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما
يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي
عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} (1).
وإذا ثبت أن هذه الآية نزلت في أبي بكر على ما جاء به الأثر،
استحال أن يجحد فرض الله تعالى، وينكر واجبا، ويظلم في أفعاله،
ويتغير عن حسن أحواله، وهذا ضد ما تدعونه عليه وتضيفونه (2) إليه

(1) سورة الزمر 39: 33 - 35.
(2) في أو يصفونه.
163

من جحد النص على أمير المؤمنين عليه السلام فقولوا في ذلك كيف شئتم لنقف
عليه
جواب:
قيل لهم: قد أعلمناكم فيما سلف أن تأويل كتاب الله تعالى لا
يجوز بأدلة الرأي، ولا تحمل معانيه على الأهواء، ومن قال فيه بغير علم
فقد غوى، والذي ادعيتموه من نزول هذه الآية في أبي بكر على
الخصوص فهذا راجع إلى الظن، والعمل عليه غير صادر عن اليقين،
وما اعتمدتموه من الخبر فهو مخلوق، وقد سبرنا الأخبار ونخلنا الآثار
فلم نجده في شئ منها معروف، ولا له ثبوت من عالم بالتفسير
موصوف، ولا يتجاسر أحد من الأمة على إضافته إلى النبي صلى الله عليه وآله فإن
عزاه إلى غيره فهو كداود ومقاتل بن سليمان (1) وأشباههما من المشبهة
الضلال، والمجبرة الاغفال الذين أدخلوا في تأويل كلام الله تعالى
الأباطيل، وحملوا معانيه على ضد الحق والدين، وضمنوا تفسيرهم الكفر
بالله العظيم، والشناعة (2) للنبيين والملائكة المقربين عليهم السلام أجمعين، ومن

(1) مقاتل بن سليمان بن بشير البلخي، من أعلام المفسرين، كان متروك الحديث إذ نسبه
الكثيرون إلى الكذب ووضع الحديث، عاش في بغداد وتوفي بالبصرة في سنة 150 ه‍. " تهذيب
التهذيب 10: 279 / 501، الجرح والتعديل 8: 354 / 1630، سير أعلام النبلاء 7:
201 / 79، وفيات الأعيان 5: 255 / 733 ".
(2) في أ: والشتم.
164

اعتمد (1) في معتقده على دعاوى ما وصفناه فقد خسر الدنيا والآخرة بما
بيناه، وبالله العصمة وإياه نسأل التوفيق.
فصل
على أن أكثر العامة وجماعة الشيعة يروون عن علماء التأويل
وأئمة القول في معاني التنزيل أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي
طالب عليه السلام على الخصوص، وإن جرى حكمها في حمزة وجعفر وأمثالهما من
المؤمنين السابقين، وهذا يدفع (2) حكم ما ادعيتموه لأبي بكر ويضاده،
ويمنع من صحته ويشهد بفساده، ويقضي بوجوب القول به دون ما
سواه، إذا كان واردا من طريقين، ومصطلحا عليه من طائفتين مختلفين،
ومتفقا عليه من (3) الخصمين المتباينين، فحكمه بذلك حكم الاجماع، وما
عداه فهو من طريق - كما وصفناه - مقصور على دعوى الخصم خاصة
بما بيناه، وهذا ما لا يحيل الحق فيه على أحد من العقلاء، فممن روى
ذلك على ما شرحناه:
إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن السدي، عن ابن عباس، في
قوله تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به}.

(1) في ب، م: ومن اعتقد.
(2) في أ: يرفع، وفي ب نسخة بدل: يرجع.
(3) في أ، ب، ح: وثانيا قرآن، بدل: ومتفقا عليه من.
165

قال: هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (1)
ورواه عبيدة بن حميد، عن منصور، عن مجاهد، مثل ذلك
سواء (2).
وروى سعيد، عن الضحاك، مثل ذلك أيضا (3).
وروى أبو بكر الحضرمي، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، في قوله
تعالى: {والذي جاء بالصدق} " هو رسول الله صلى الله عليه وآله، صدق به أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام " (4).
وروى علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير (5)، عن أبي عبد الله
جعفر بن محمد عليه السلام، مثل ذلك سواء (6).
فصل
وقد روى أصحاب الحديث من العامة عن طرقهم خاصة أنها
نزلت في النبي صلى الله وآله وحده دون غيره من سائر الناس.
فروى علي بن الحكم، عن أبي هريرة، قال: بينا هو يطوف

(1 و 2) مناقب ابن شهرآشوب 3: 92، تلخيص الشافي 3: 215، تفسير الحبري:
315 / 62.
(3) مناقب ابن شهرآشوب 3: 92، مجمع البيان 8: 777، شواهد التنزيل 2: 122 / 813.
(4) كشف الغمة 1: 324، تلخيص الشافي 3: 214.
(5) (عن أبي بصير) ليس في ب، ح، م، وعلي بن أبي حمزة يروي عن الصادق عليه السلام مباشرة
وكذلك بتوسط أبي بصير، راجع معجم رجال الحديث 11: 227.
(6) تلخيص الشافي 3: 215، وانظر مناقب ابن المغازلي 269 / 317، كفاية الطالب:
233، ترجمة الإمام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 2: 418 و 419 / 924 / 925.
166

بالبيت إذ لقيه معاوية بن أبي سفيان، فقال له أبو هريرة: يا معاوية،
حدثني الصادق المصدق والذي جاء بالصدق وصدق به: أنه يكون
أمرا (1) يود أحدكم لو علق بلسانه منذ خلق الله السماوات والأرض، وأنه
لم يل ما ولي (2).
ورووا عن السدي وغيره من السلف، عن قوله تعالى: {والذي
جاء بالصدق وصدق به} قال: جاء بالصدق عليه السلام، وصدق به نفسه عليه السلام (3).
وفي حديث لهم آخر، قالوا: جاء محمد صلى الله عليه وآله بالصدق، وصدق به
يوم القيامة إذا جاء به شهيدا (4).
فصل
وقد رووا أيضا في ذلك ما اختصوا بروايته دون غيرهم، عن
مجاهد في قوله تعالى: {والذي جاء بالصدق} أنه رسول الله صلى الله عليه وآله،
والذي صدق به أهل القرآن، يجيئون (5) به يوم القيامة، فيقولون: هذا
الذي دعوتمونا إليه (6) قد اتبعنا ما فيه (7).

(1) في ب، م: يكون أمير المؤمنين عليه السلام.
(2) تلخيص الشافي 3: 214.
(3) مجمع البيان 8: 777، تلخيص الشافي 3: 214.
(4) تلخيص الشافي 3: 214.
(5) في م: يحدثون.
(6) في أ والمصادر: أعطيتمونا.
(7) تلخيص الشافي 3: 215، الدر المنثور 7: 229، تفسير الطبري: 24: 4، تفسير القرطبي
15: 256.
167

فصل
وقد زعم جمهور متكلمي العامة وفقهائهم أن الآية عامة في جميع
المصدقين برسول الله صلى الله عليه وآله، وتعلقوا في ذلك بالظاهر أو العموم، وبما
تقدمه (1) من قول الله تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب
بالصدق إذ جاءه أليس في جهم مثوى للكافرين * والذي جاء
بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} (2).
وإذا كان الاختلاف بين روايات العامة وأقاويلهم في تأويل هذه
الآية على ما شرحناه، وإذا تناقضت أقوالهم فيه بما بيناه سقط جميعها
بالمقابلة والمكافأة، وثبت تأويل الشيعة للاتفاق الذي ذكرناه، ودلالته
على الصواب حسب ما وصفناه، والله الموفق للصواب.
مسألة
فإن قال قائل منهم: كيف يتم لكم تأويل هذه الآية في أمير
المؤمنين عليه السلام، وهي تدل على أن الذي فيه قد كانت له ذنوب كفرت عنه
بتصديقه رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث يقول الله تعالى: {ليكفر الله عنهم
أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعلمون} (3).
ومن قولكم أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يذنب ذنبا، ولا قارف معصية،

(1) في ب، ح، وربما تعلق به.
(2) سورة الزمر 39: 32، 33.
(3) سورة الزمر 39: 35.
168

صغيرة ولا كبيرة، على خطأ ولا عمد، فكيف يصح أن الآية - مع ما
وصفنا - فيه؟!
جواب:
قيل لهم: لسنا نقول في عصمة أمير المؤمنين عليه السلام بأكثر من قولنا
في عصمة النبي صلى الله عليه وآله، ولا نزيد على قول أهل العدل في عصمة
الرسل عليهم السلام من كبائر الآثام، وقد قال الله تعالى في نبيه صلى الله عليه وآله {ليغفر
لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} (1).
وقال تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} (2).
وقال تعالى: {ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك} (3).
فظاهر هذا الكلام يدل على أنه قد قارف الكبائر، وقد ثبت أنه
مصروف عن ظاهره بضروب من البرهان، فكذلك القول فيما تضمنته
الآية في أمير المؤمنين عليه السلام.
وجه آخر: أن المراد بذكر التكفير إنما هو ليؤكد التطهير له صلوات الله
عليه من الذنوب، وهو وإن كان لفظه لفظ الخبر على الاطلاق، فإنه
مشترط بوقوع الفعل لو وقع، وإن كان المعلوم أنه غير واقع أبدا
للعصمة، بدليل العقل الذي لا يقع فيه اشتراط.

(1) سورة الفتح 48: 2.
(2) سورة التوبة 9: 117.
(3) سورة الشرح 94: 2، 3.
169

وجه آخر: وهو أن التكفير المذكور بالآية إنما تعلق بالمحسنين
الذين أخبر الله تعالى بجزائهم من التنزيل، وجعله جزاء للمعني
بالمدح للتصديق دون أن يكون متوجها إلى المصدق المذكور، وهذا
يسقط ما توهمه الخصوم.
170

مسألة أخرى
فإن قالوا: فما عندكم في قوله تعالى: {فأما من
أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى} (1) مع ما
جاء في الحديث أنها نزلت في أبي بكر على التخصيص (2)، وهذا ظاهر
عند (3) الفقهاء وأهل التفسير؟
الجواب: قيل لهم في ذلك كالذي قبله، وهو من دعاوى العامة
بغير بينة ولا حجة تعتمد ولا شبهة، وليس يمكن إضافته إلى صادق عن
الله سبحانه، ولا فرق بين من ادعاه لأبي بكر وبين من ادعاه لأبي
هريرة، أو المغيرة بن شعبة، أو عمرو بن العاص، أو معاوية بن أبي
سفيان، في تعري دعواه عن البرهان، وحصولها في جملة الهذيان، مع أن
ظاهر الكلام يقتضي عمومه في كل معط من أهل التقوى والإيمان، وكل

(1) سورة الليل 92: 5 - 7.
(2) الدر المنثور 8: 535، جامع البيان للطبري 30: 142، الكشاف 4: 762، تفسير
الثعالبي 4: 420، تفسير الرازي 31: 198.
(3) في أ: مع.
171

من خلا من الكفر والطغيان، ومن حمله على الخصوص فقد صرفه عن
الحقيقة إلى المجاز، ولم يقنع منه فيه إلا بالجلي من البرهان.
فصل
على أن أصحاب الحديث من العامة قد رووا ضد ذلك عن
عبد الله بن عباس وأنس بن مالك وغيرهما من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وآله، قد ذكروا أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وسمرة بن
جندب (1)، وأخبروا عن سبب نزولها فيهما بما يطول شرحه، وأبو
الدحداح الأنصاري هو الذي أعطى واتقى، وسمرة بن جندب هو
الذي بخل واستغنى، وفي روايتهم لذلك إسقاط لما رواه بعضهم من
خلافه في أبي بكر، ولم يسنده إلى صحابي معروف، ولا إمام من أهل
العلم موصوف، وهذا بين لمن تدبره.
فصل
مع أنه لو كانت الآية نازلة في أبي بكر على ما ادعاه الخصوم،
لوجب ظهورها فيه على حد يدفع (2) الشبهة والشكوك، ويحصل معه
اليقين بسبب ذلك، والمعنى الذي لأجله نزل التنزيل وأسباب ذلك

(1) تفسير القمي 2: 425، مجمع البيان 10: 759، أسباب النزول للسيوطي: 195، تفسير
البحر المحيط 8: 483.
(2) في أ: يرفع.
172

متوفرة من الرغبة في نشره، والأمان من الضرر في ذكره، ولما لم يكن
ظهوره على ما وصفناه دل على بطلانه بما بيناه، والحمد لله.
173

مسألة أخرى
فإن قالوا: أفليس قد وردت الأخبار بأن أبا بكر كان يعول على
مسطح ويتبرع عليه، فلما قذف عائشة في جملة أهل الإفك امتنع من
بره، وقطع عنه معروفه، وآلى في الامتناع من صلته (1)، فأنزل الله تعالى:
{ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى
والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن
يغفر الله لكم والله غفور رحيم} (2).
وأخبر أن أبا بكر من أهل الفضل والدين والسعة في الدنيا،
وبشره بالمغفرة والأجر العظيم، وهذا أيضا يضاد معتقدكم فيه.
جواب:
قيل لهم: لسنا ندفع أن الحشوية قد روت ذلك، إلا أنها لم تسنده

(1) أسباب النزول للسيوطي 2: 30، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12: 207، الكشاف
3: 222 تفسير البيضاوي 2: 119، تفسير الرازي 23: 186.
(2) سورة النور 24: 22.
175

إلى الرسول صلى الله عليه وآله، ولا روته عن حجة في الدين، وإنما أخبرت به عن
مقاتل والضحاك وداود الحواري والكلبي وأمثالهم ممن فسر القرآن
بالتوهم، وأقدم على القول فيه بالظن والتخرص حسب ما قدمناه.
وهؤلاء بالإجماع ليسوا من أولياء الله المعصومين ولا أصفيائه
المنتجبين، ولا ممن يلزم المكلفين قولهم والاقتداء بهم على كل حال في
الدين، بل هم ممن يجوز عليه الخطأ وارتكاب الأباطيل.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يضرنا ما ادعوه في التفسير،
ولا ينفع خصومنا على ما بيناه ممن يوجب اليقين، على أن الآثار
الصحيحة والروايات المشهورة والدلائل المتواترة قد كشفت عن فقر
أبي بكر ومسكنته، ورقة حاله وضعف معيشته، فلم يختلف أهل العلم أنه
كان في الجاهلية معلما، وفي الإسلام خياطا (1)، وكان أبوه صيادا، فلما كف
بذهاب بصره وصار مسكينا محتاجا، قبضه عبد الله بن جدعان لندي (2)
الأضياف إلى طعامه، وجعل له في كل يوم على ذلك أجرا درهما (3)، ومن
كانت حاله في معيشته على ما وصفناه، وحال أبيه على ما ذكرناه، خرج
عن جملة أهل السعة في الدنيا، ودخل في الفقراء فما أحوجهم إلى

(1) ذكر ابن رسته في الأعلاق النفيسة: 192 أن أبا بكر كان بزازا.
(2) ندوت القوم: جمعتهم في مجلس، والمراد هنا يدعوهم إلى الطعام. " الصحاح - ندا - 6:
2505 ".
(3) أنظر الشافي 4: 24 و 25، تلخيص الشافي 3: 238.
176

المسألة والاجتداء! وهذا يبطل ما توهموه.
فصل
على أن ظاهر الآية معناها موجب لتوجهها إلى الجماعة دون
الواحد، والخطاب بها يدل على تصريحه على ذلك، فمن تأول القرآن بما
يزيله عن حقيقته، وادعى المجاز فيه والاستعارة بغير حجة قاطعة، فقد
أبطل (1) بذلك وأقدم على المحظور وارتكب الضلال.
فصل
على أنا لو سلمنا لهم أن سبب نزول هذه الآية امتناع أبي بكر
من بر مسطح، والايلاء منه بالله تعالى لا يبره ويصله (2)، لما أوجب من
فضل أبي بكر ما ادعوه، ولو أوجبه لمنعه من خطأه في الدين، وإنكاره
النص على أمير المؤمنين عليه السلام، وجحده ما لزمه والاقرار به على اليقين،
للاجماع على أن ذلك غير عاصم من الضلال، ولا مانع من مقارفة
الآثام، فأين موضع التعلق بهذا التأويل في دفع ما وصفناه آنفا لولا
الحيرة والصد عن السبيل؟!

(1) أي جاء بالباطل. " المعجم الوسيط - بطل - 1: 61 ".
(2) في ب، ح، م لامتناع بره وفضله بدل (لا يبره ويصله).
177

فصل
وبعد: فليس يخلو امتناع أبي بكر عيلولة مسطح والإنفاق عليه
من أن يكون مرضيا لله تعالى، وطاعة له ورضوانا، أو أن يكون سخطا
لله ومعصية وخطأ، فلو كان مرضيا لله سبحانه وقربة إليه لما زجر عنه
وعاتب عليه، وأمر بالانتقال عنه وحض على تركه وإذا لم يك لله تعالى
طاعة، فقد ثبت أنه معصية مسخوطة وفساد في الدين، وهذا دال على
نقص الرجل وذمه، وهو بالضد مما توهموه.
فصل
على أن مسطحا من بني عبد مناف (1)، وهو من ذوي القربى
للنبي صلى الله عليه وآله، وما نزل من القرآن في إيجاب صلته وبره والنفقة عليه فإنما
هو شئ على استحقاقه ذلك عند الله تعالى، ودال على فضله، وعائد
على قومه بالتفضل وأهله وعشيرته، وكاشف عما يجب بقرابة
النبي صلى الله على وآله من التعظيم لمحسنهم، والعفو عن مسيئهم، والتجاوز عن
الخاطئ منهم، وليس يتعدى ذلك إلى المأمور به، ولا يكسبه شيئا، وفي
هذا إخراج لأبي بكر من الفضيلة بالآية على ما شرحناه.

(1) هو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف. أنظر جمهرة أنساب العرب:
73، سير أعلام النبلاء 1: 187.
178

فصل
على أن مسطحا، وإن كان من بني عبد مناف، فإنه ابن خالة
أبي بكر، لأن أمه أثاثة بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم،
وكان أبو بكر يمونه لرحمه منه، دون حقه بالهجرة والإيمان، فلما كان منه
من أمر عائشة ما كان امتنع من عيلولته وجفاه، وقطع رحمه غيظا عليه
وبغضا له، فنهاه الله تعالى عن ذلك، وأمره بالعود إلى بره، وأخبره
بوجوب ذلك عليه لهجرته وقرابته من النبي صلى الله عليه وآله، ودل بما أنزله فيه على
خطئه في حقوقه وقطيعته من استحقاقه لضد ذلك بإيمانه وطاعته لله
تعالى وحسن طريقته، فأين يخرج من هذا فضل بأبي بكر؟! إلا أن تكون
المثالب مناقب، والذم مدحا، والقبيح حسنا، والباطل حقا، وهذا نهاية
الجهل والفساد.
فصل
ويؤكد ذلك أن الله عز وجل رغب للنهي عن قطيعة من سماه في
صلته في المغفرة إذا انتهى عما نهاه عنه، وصار إلى مثل (1) ما أمره به،
حيث يقول: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} (2).
فلولا أنه كان مستحقا للعقاب لما جعل المغفرة له بشرط
الانتقال، وإذا لم تتضمن الآية انتقاله مع ما دلت عليه، قبحت حاله

(1) في أ، ب، ح: إلى ضد.
(2) سورة النور 24: 22.
179

وصارت وبالا عليه، حسب ما ذكرناه.
فصل
فأما ادعاؤهم أن الله تعالى شهد لأبي بكر بأنه من أهل الفضل
والسعة، فليس الأمر كما ظنوه، وذلك لقوله تعالى: {ولا يأتل أولوا
الفضل منكم والسعة} (1) إنما هو نهي يختص بذكر أهل الفضل
والسعة، يعم في المعنى كل قادر عليه، وليس بخبر في الحقيقة ولا المجاز.
وإنما يختص بذكر ما سميناه على حسب اختصاص الأمر بالطاعات
بأهل الإيمان حيث يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله
ورسوله} (2) و {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} (3).
وإن كان المعني من الأمر بذلك عاما لجميع المكلفين، والمراد في
الاختصاص من اللفظ ما ذكرناه ملاءمة الوصف لما دعا إليه من
الأعمال، وهو يجري مجرى قول القائل لمن يريد تأديبه ووعظه: لا
ينبغي لأهل العقل والمروءة والسداد أن يرتكبوا الفساد، ولا يجوز لأهل
الدين والعفاف أن يأتوا (4) قبائح الأفعال، وإن كان المخاطب بذلك
ليس من أهل المروءة والسداد، ولا أهل الديانة والعفاف، وإنما خص

(1) سورة النور 24: 22.
(2) سورة الأنفال 8: 20.
(3) سورة آل عمران 3: 102.
(4) في ب، ح، م: أن يرتكب
180

بالمنكر ما وصفناه لما قدمناه وبيناه.
فيعلم أن ما تعلق به المخالف فيما ادعاه من فعل أبي بكر من
لفظ القرآن على خلاف ما توهمه وظنه، وأنه ليس من الخبر في شئ
على ما بيناه.
وأماه قولهم: أن أبا بكر كان من أهل السعة في الدنيا بظاهر
القرآن، فالقول فيه كالمتقدم سواء، ومن بعد ذلك فإن الفضل والسعة
والنقص والفقر من باب التضايف، فقد يكون الإنسان من ذوي
الفضل بالإضافة إلى من دونه من أهل الضائقة والفقر (1)، ويكون مع
ذلك مسكينا بالإضافة إلى من هو أوسع حالا منه، وفقيرا إلى من هو
محتاج إليه.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه، لم ينكر وصف أبي بكر بالسعة عند
إضافة حاله إلى مسطح وأنظاره من المضطرين بالفقر ومن لا معيشة له
ولا عائدة عليه، كما يكون السقف سماء لمن هو تحته، وتحتا لمن هو فوقه
ويكون الخفيف ثقيلا عندما هو أخف منه وزنا، والقصير طويلا
بالإضافة إلى من هو أقصر منه، وهذا ما لا يقدح في قول الشيعة،
ودفعها الناصبة عما ادعته لأبي بكر من الاحسان والإنفاق على
النبي صلى الله عليه وآله، حسب ما تخرصوه من الكذب في ذلك، وكابروا به العباد،
وأنكروا به ظاهر الحال، وما جاء به التواتر من الأخبار، ودل عليه
صحيح النظر والاعتبار، وهذا بين لمن تدبره.

(1) في ب: الإضافة والفضل.
181

فصل
وقد روت الشيعة سبب نزول هذه الآية من كلام جرى بين
بعض المهاجرين والأنصار، فتظاهر المهاجرون عليهم وعلوا في الكلام،
فغضبت الأنصار من ذلك، وآلت بينها أن لا تبر ذوي الحاجة من
المهاجرين، وأن تقطع معروفها عنهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية،
فاتعظت الأنصار بها، وعادت إلى بر القوم وتفقدهم، وذكروا في ذلك
حديثا طويلا وشرح جوابه أمرا بينا.
فإذا ثبت مذهبهم في ذلك سقط السؤال من أصله، ولم يكن لأبي
بكر فيه ذكر، واستغني بذلك عن تكلف ما قدمناه، إلا أنا قد تطوعنا
على القوم بتسليم ما ادعوه، وأوضحنا لهم عن بطلان ما تعلقوا به فيه،
استظهارا للحجة وإصدارا عن البيان، والله الموفق للصواب.
فصل آخر
ثم يقال لهم: خبرونا عما ادعيتموه لأبي بكر من الفضل في
الدنيا، لو انضاف إلى التقوى، ونزول القرآن أن تصريح الشهادة له به
عودا بعد سدى، هل كان موجبا لعصمته من الضلال في مستقبل
الأحوال، ودالا على صوابه في كل فعل وقول، وأنه لا يجوز عليه الخطأ
والنسيان، وارتكاب الخلاف لله تعالى والعصيان؟
فإن ادعوا له بالعصمة من الآثام، وأحالوا من أجله عليه
الضلال في الاستقبال، خرجوا عن الاجماع، وتفردوا بالمقال، بما لم يقبله
182

أحد من أهل الأديان، وكابروا دلائل العقول وبرهان السمع، ودفعوا
الأخبار.
وقيل لهم: دلوا على صحة ما ادعيتموه من ذلك. فلا يجدون شيئا
يعتمدونه على كل حال.
وإن قالوا: ليس يجب له بالفضل والسعة وسائر ما عددناه
وانضاف إليه ونطق به القرآن العصمة من الضلال، بل جائز عليه الخطأ
مع استحقاقه لجميعه ومقارفة الذنوب في الاستقبال.
قيل لهم: فهب أنا سلمنا لكم (1) الآن من تأويل الآية على ما
اقترحتموه، ما أنكرتم في ضلال الرجل فيما بعد من إنكاره النص على
أمير المؤمنين عليه السلام، ودفعه عما أوجب الله تعالى عليه الاقرار به من
الفرض، وتغيير حاله من الفضل بالنقص، إذ كانت العصمة مرتفعة
عنه، والخطأ جائز عليه، والضلال عن الحق موهوم منه ومظنون به،
فلا يجدون حيلة، في دفع ذلك، ولا معتمدا في إنكاره، وهذا مما تقدم
معناه، إنما ذكرته للتأكيد والبيان، وهو مما لا محيص لهم عنه، والحمد لله.

(1) في ب، ح: لهم.
183

مسألة أخرى
فإن قالوا: أفليس قد آنس الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بأبي بكر في
خروجه (1) إلى المدينة للهجرة، وسماه صاحبا له في محكم كتابه، وثانيا
لنبيه صلى الله عليه وآله في سفره، ومستقرا معه في الغار لنجاته، فقال تعالى: {إلا
تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في
الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه
وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي
العليا والله عزيز حكيم} (2) وهذه فضيلة جليلة يشهد بها القرآن، فهل
تجدون من الحجة مخرجا؟
جواب:
قيل لهم: أما خروج أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وآله فغير مدفوع،
وكونه في الغار معه غير مجحود، واستحقاق اسم الصحبة معروف، إلا
أنه ليس في واحدة منها ولا في جميعها ما يظنون له من الفضل، فلا تثبت

(1) في ب زيادة: من مكة.
(2) سورة التوبة 9: 40.
185

له منقبة في حجة سمع ولا عقل، بل قد شهدت الآية التي تلوتموها في
ذلك بزلل الرجل، ودلت على نقصه وأنبأت عن سوء أفعاله بما نحن
موضحون عن وجهه، إن شاء الله تعالى.
وأما ما ادعيتموه من أنس الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله، فهو توهم منكم
وظن يكشف عن بطلانه الاعتبار، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله مؤيد
بالملائكة المقربين الكرام، والوحي ينزل عليه من الله تعالى حالا بحال،
والسكينة معه في كل مكان، وجبرئيل عليه السلام آتيه بالقرآن وعصمته والتوفيق
من الله تعالى والثقة بما وعهده من النصر والظفر يرفع عنه الاستيحاش،
فلا حاجة إلى أنيس سوى من ذكرنا، لا سيما وبمنقوص عن منزلة
الكمال، خائف وجل، يحتاج إلى التسكين والرفق والمداراة.
وقد نطق بصفته هذه صريح القرآن، وأنبأ بمحنة النبي صلى الله عليه وآله،
وما عالجه من تدبيره له بالتسكين والتشجيع وتلافي ما فرط منه لشدة
جزعه وخوفه وقلقه، كي لا يظهر منه ما يكون به عظيم الفساد، حيث
يقول سبحانه فيما أخبر به عن نبيه صلى الله عليه وآله: {لا تحزن إن الله معنا} (1).
وبعد: فلو كان لرسول الله صلى الله عليه وآله مؤنس على ما ادعاه الجاهل،
لم يكن له بذلك فضل في الدين، لأن الأنس قد يكون لأهل التقوى
والإيمان بأمثالهم من أهل الإيمان، وبأغيارهم من أهل الضلال والبهائم
والشجر والجمادات، بل ربما أنس العاقل بمن يخالفه في دينه،

(1) سورة التوبة 9: 40.
186

واستوحش ممن يوافقه، وكان أنسه بعبده - وإن كان ذميا - أكثر من
أنسه بعالم وفقيه - وإن كان مهذبا - ويأنس بوكيله أحيانا ولا يأنس
برئيسه، كما يأنس بزوجته أكثر من أنسه بوالدته، ويأنس إلى الأجنبي
فيما لا يأنس فيه إلى الأقرب منه، وتأتي عليه الأحوال يرى أن التأنس
ببعيره وفرسه أولى من التأنس بأخيه وابن عمه، كما يختار المسافر
استصحاب من يخبره بأيام الناس، ويضرب له الأمثال، وينشده
الأشعار، ويلهيه بالحديث عن الذكر وما يبهج (1) الخواطر بالبال، ولا
يختار استصحاب أعبد الناس ولا أعرفهم بالأحكام ولا أقرأهم للقرآن،
وإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يثبت لأبي بكر فضل بالإنس به، ولو
سلمناه ولم نعترض في بطلانه بما قدمناه، وهذا بين لا إشكال فيه عند
ذوي الألباب.
وأما كونه للنبي صلى الله عليه وآله ثانيا، فليس فيه أكثر من الأخبار بالعدد
في الحال، وقد يكون المؤمن في سفره ثاني كافر، أو فاسق، أو جاهل، أو
صبي، أو ناقص، كما يكون ثاني مؤمن وصالح وعالم وبالغ وكامل، وهذا
ما ليس فيه اشتباه، فمن ظن به فضلا فليس من العقلاء.
وأما الصحبة فقد تكون بين المؤمن والكافر كما تكون بينه وبين
المؤمن، وقد يكون الصاحب فاسقا كما يكون برا تقيا، ويكون أيضا
بهيمة وطفلا، فلا معتبر باستحقاقها فيما يوجب المدح أو الذم، ويقتضي

(1) في أ: عن الفكر وما ينتج.
187

الفضل أو النقص.
قال الله تعالى فيما خبر به عن مؤمن وكافر: {قال له صاحبه
وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك
رجلا * لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا} (1) فوصف أحدهما
بالإيمان، والآخر بالكفر والطغيان، وحكم لكل واحد منهما بصحبة
الآخر على الحقيقة (2) وظاهر البيان، ولم يناف الصحبة اختلاف ما بينهما
في الأديان.
وقال الله سبحانه مخاطبا الكفار الذين بهتوا نبيه صلى الله عليه وآله، وادعوا
عليه الجنون والنقصان: {وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق
المبين} (3) فأضافه عليه السلام إلى قومه بذكر الصحبة، ولم يوجب ذلك لهم
فضلا، ولا بإقامتهم كفرا وذما، فلا ينكر أن يضيف إليه عليه السلام رجلا بذكر
الصحبة، وإن كان المضاف إليه كافرا ومنافقا وفاسقا، كما أضافه إلى
الكافرين بذكر الصحبة (4)، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسيد الأولين
والآخرين، ولم يوجب لهم فضلا ولا وفاقا (5) في الدين، ولا نفي عنهم
بذلك نقصا ولا ضلالا عن الدين.
وقد ثبت أن إضافته إليهم بذكر الصحبة أوكد في معناها من

(1) سورة الكهف 18: 37، 38.
(2) (على الحقيقة) ليس في ب، م.
(3) سورة التكوير 81: 22، 23.
(4) (وإن كان المضاف.. بذكر الحصبة) ليس في ب، ح، م.
(5) في أ: رفاقا.
188

إضافة أبي بكر بها، لأن المضاف إليه أقوى في السبب من المضاف، وهذا
ظاهر البرهان.
فأما استحقاق الصبي اسم الصحبة من الكامل العاقل، وإن لم
يوجب ذلك له كمالا، فهو أظهر من أن يحتاج فيه إلى الاشتهار بإفاضته
على ألسن الناس العام والخاص، ولسقوطه بكل لسان..
وقد تكون البهائم صاحبا، وذلك معروف في اللغة، قال عبيد بن
الأبرص:
بل رب ماء أردت آجن * سبيله خائف جديب
قطعته غدوة مسيحا * وصاحبي بادن خبوب
يريد بصاحبه بعيره بلا اختلاف (1).
وقال أمية بن أبي الصلت:
إن الحمار مع الحمار مطية * فإذا خلوت به فبئس الصاحب (2)
وقال آخر:
زرت هندا وذاك بعد اجتناب * ومعي صاحب كتوم اللسان (3)
يعني به السيف، فسمى سيفه صاحبا.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يثبت لأبي بكر بذكر الصحبة
فضيلة، ولا كانت له منقبة على ما بيناه وشرحناه.
وأما حلوله مع النبي صلى الله عليه وآله في الغار، فهو كالمتقدم غير موجب له

(1) ديوان عبيد بن الأبرص: 27، وفيه بل رب ماء وردت آجن.
(2 و 3) كنز الفوائد للكراجكي 2: 50.
189

فضلا، ولا رافع عنه نقصا وذما، وقد يحوي المكان البر والفاجر، والمؤمن
والكافر، والكامل والناقص، والحيوان والجماد، والبهيمة والإنسان، وقد
ضم مسجد النبي صلى الله عليه وآله الذي هو أشرف من الغار المؤمنين وأهل النفاق،
وحملت السفينة البهائم وأهل الإيمان من الناس، ولا معتبر حينئذ
بالمكان، ومن اعتقد به فضلا لم يرجع في اعتقاده ذلك إلى حجة عقلية ولا
عبارة ولا سمع ولا قياس، ولم يحصل بذلك إلا على ارتكاب الجهالات.
فإن تعلقوا بقوله تعالى: {إن الله معنا} فقد تكون {معنا}
للواحد كما تكون للجماعة، وتكون للموعظة والتخويف كما تكون
للتسكين والتبشير، وإذا احتملت (1) هذه الأقسام لم تقتض فضلا، إلا أن
ينضم إليها دليل من غيرها وبرهان، وليس به مع التعلق بها أكثر من
ظاهر الإسلام.
فصل
فأما الحجج منها على ما يوجب نقص أبي بكر وذمه، فهو قوله
تعالى فيما أخبر به من نهي نبيه صلى الله عليه وآله لأبي بكر عن الحزن في ذلك
المكان، فلا يخلو أن يكون ذلك منه على وجه الطاعة لله سبحانه لما نهاه
النبي صلى الله عليه وآله عنه، ولا لفظ له في تركه، لأنه صلى الله عليه وآله لا ينهى عن طاعات
ربه، ولا يؤخر عن قربه.

(1) في ب، ح، م: اختلفت
190

ومن وصفه بذلك فقد قدح في نبوته، وأخرجه عن الإيمان بالله
تعالى، وأدخله في جملة أعدائه وأهل مخالفيه، وذلك ضلال عظيم.
وإذا خرج أبو بكر بحزنه الذي كان منه في الغار على الاتفاق
من طاعة الله تعالى، فقد دخل به في معصية الله، إذ ليس بين الطاعة
والمعصية في أفعال العاقل الذاكر واسطة على تحقيق النظر، ومن جعل
بينهما قسما ثالثا - وهو المباح - لزمه فيه ما لزم في الطاعة، إذ كان رسول
الله صلى الله عليه وآله لا يحظر ما أباحه الله تعالى، ولا يزجر عما شرعه الله.
وإذا صح أن أبا بكر كان عاصيا لله سبحانه يحزنه المجمع على
وقوعه منه في الغار، دل على استحقاقه الذم دون المدح، وكانت الآية
كاشفة عن نقصه بما بيناه.
ومنها: أن الله سبحانه أخبر في هذه الآية أنه خص نبيه صلى الله عليه وآله
بالسكينة دون أبي بكر، وهذا دليل على أن حاله غير مرضية لله تعالى، إذ
لو كان من أولياء الله وأهل محبته لعمته السكينة مع النبي صلى الله عليه وآله في ذلك
المقام، كما عمت من كان معه صلى الله عليه وآله ببدر وحنين، ونزل القرآن، فقال
تعالى في هذه السورة: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين
إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما
رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى
المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء
الكافرين} (1).

(1) سورة التوبة 9: 25، 26.
191

وقال في سورة الفتح: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ
يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم
وأثابهم فتحا قريبا} (1).
وقال فيها أيضا: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية
حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} (2).
فدل عموم السكينة كل من حضر مع النبي صلى الله عليه وآله من المؤمنين
مقاما سوى الغار، بما أنزل به القرآن، على صلاح حال القوم
وإخلاصهم لله تعالى، واستحقاقهم الكرامة منه بالسكينة التي أكرم بها
نبيه صلى الله عليه وآله، وأوضح بخصوص نبيه في الغار بالسكينة دون صاحبه في تلك
الحال على ما ذكرناه عن خروجه من ولاية الله تعالى، وارتكابه لما أوجب
في العدل والحكمة الكرامة بالسكينة من قبائح الأعمال، وهذا بين لم
تحجب عنه العباد، وقد استقصيت الكلام في هذه المسألة في مواضع من
كتبي، وخاصة كتاب (العيون والمحاسن) (3) فإنني فرغت فيها الكلام،
واستوفيت ما فيه على التمام، فلذلك خففت القول هاهنا، وتحريت
الاختصار، وفيما أثبته كفاية، إن شاء الله تعالى.

(1) سورة الفتح 48: 18.
(2) سورة الفتح 48: 26.
(3) راجع الفصول المختارة من العيون والمحاسن 1: 19 - 24، بحار الأنوار 10: 418 -
424، وانظر الاحتجاج 2: 499 والشافي 4: 25.
192

مسألة أخرى
فإن قالوا: إن الأمة مجمعة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله خص أبا
بكر وعمر يوم بدر بالكون معه في العريش، وصانهما عن البذل في
الحرب، وأشفق على حياتهما عن ضرب السيوف، وفزع إليهما في الرأي
والتدبير، وهذا أمر أبين فضلا وأجل منقبة، فقولوا في ذلك ما عندكم في
معناه.
جواب:
قيل لهم: ما أراكم تعتمدون في الفضائل إلا على الرذائل، ولا
تصلون المناقب إلا بذكر المثالب، وذلك دليل خذلانكم وخزيكم في
الدين وضلالكم.
أما كون أبي بكر وعمر مع رسول صلى الله عليه وآله في العريش ببدر فلسنا
ننكره، لكنه لغير ما ظننتموه، والأمر فيه أوضح من أن يلتبس بما
توهمتموه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما علم من جبنهما عن الحروب،
وخوفهما من البراز للحتوف، وجزعهما من لقاء الأبطال، وضعف
بصيرتهما، وعدم ثباتهما في القتال بما أوجب في الحكمة والدين والتدبير،
193

حبسهما في ذلك المكان، ومنعهما من التعرض إلى القتال، والاحتياط
عليهما، لأن لا يوقعا في تدبيره الفساد.
ولو علم صلى الله عليه وآله منهما قوة في الجهاد، وبصيرة في حرب أهل
العناد، ونية في الاصلاح والسداد، لما حال بينهما وبين اكتساب الثواب،
ولا منعهما من التعرض لنيل المنازل العالية بجهاد الأعداء، ولا اقتصر
بهما على منازل القاعدين، ولا أدخلهما في حكم المفضولين، بما نطق به
الذكر الحكيم حيث يقول سبحانه: {لا يستوي القاعدون من
المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم
وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة
وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا
عظيما} (1).
ويؤكد ذلك أن الله تعالى أخبر عباده في كتابه بأنه: {اشترى
من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله
فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان ومن
أوفى بعهده من الله.. فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو
الفوز العظيم} (2).
فلا يخلو أن يكونا في جملة المؤمنين الذين نعتهم الله وأخبر عنهم
بما ضمنه القرآن، أو أن يكونوا من غيرهم بخلاف صفاتهم التي جاء بها

(1) سورة النساء 4: 95.
(2) سورة التوبة 9: 111.
194

التنزيل، فلو كانوا من جملة المؤمنين (1) لما منعهم رسول الله صلى الله عليه وآله من
الوفاء بشرط الله عليهم في القتال، ولا حال بينهم وبين التوصل بالجهاد
إلى ما وعد الله عليه أهل الإيمان من عظيم الثواب، في محل النعيم
والأجر الكبير، الذي من ظفر به كان من الفائزين، لأنه صلى الله عليه وآله إنما
بعث بالحث على أعمال الخيرات، والاجتهاد في القرب والطاعات،
والترغيب في بذل النفوس في جهاد الأعداء، وإقامة المفترضات.
ولما وجدناه قد منع هذين الرجلين من الجهاد، وحبسهما عما ندب
إليه خيار (2) العباد، دل على أنهما بخلاف صفات من اشترى الله تعالى
نفسه بالجنة من أهل الإيمان، وهذا واضح لذوي العقول والأذهان.
ويزيد ذلك بيانا انهزامهما مع المنهزمين في يوم أحد، وفرارهما من
مرحب يوم خيبر، وكونهما من جملة المولين الأدبار في يوم الخندق، وأنهما
لم يثبتا لقرن قط، ولا بارزا بطلا، ولا أراقا في نصرة الإسلام دما، ولا
احتملا في الذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله ألما، وكل ذلك يؤكد ما ذكرناه
في معناه، ويزيل عن ذوي الاعتبار الشبهات فيما ذكره أهل الضلالات.
وأما قولهم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله صانهما عن البذل في الحرب،
وأشفق عليهما من ضرب السيف، فهو أوهن كلام وأضعفه، وذلك
أنه صلى الله وآله عرض في ذلك اليوم عمه حمزة أسد الله وأسد رسوله للحرب،
وبذل إليها أخاه وابن عمه وصهره وأحب الخلق إليه أمير المؤمنين علي

(1) " الذين نعتهم الله.. جملة المؤمنين) ليس في ب، ح، م.
(2) في ب، ح، م: حيال.
195

ابن أبي طالب عليه السلام، وابن عمه عبيدة بن لحارث بن عبد المطلب رحمة الله عليه،
وأحباءه من الأخيار، وخلصاءه من أهل الإيمان (1).
فكان عليه السلام يقدم كل من عظمت منزلته عنده للجهاد، معرضا له
بذلك إلى أجل منازل الثواب، ويرى أن تأخره عن ذلك حط له عن
شئ من المقام، إلا أن يكون بصفة من ذكرناه من المرتابين في الإيمان
والشاكين في نعيم الجنان.
ولم يك عليه السلام من أبناء الدنيا والداعين إليها، وإلى التمسك بأعمال
أهلها والترغيب عن حطامها، فيتصور بما ذكره الجاهلون من الاشفاق
على أحبته من الشهادة، والمنع لهم ما يعقب لهم من الراحة ويحصل به
الفضيلة، ولو كان بهذه الصفة لخرج عن النبوة ولحق بأهل الكبر
والجبرية، وحاشاه صلى الله عليه وآله من ذلك.
فصل
على أنه يقال لهم: لو كان الأمر على ما ظننتموه في منع الرجلين
من الجهاد كان سببه المحبة والاشفاق، لأشفق عليهما من ذلك في خيبر،
ولم يعرضهما له حتى افتضحا بالهزيمة بين المسلمين، وأبان عليه السلام ذلك
لأمته أجمعين عن حالهما في الظاهر، وما كانا عليه في السر والباطن،
وسماهما فرارين، وأخرجهما عن محبة الله تعالى حيث يقول عند

(1) في ح، م: الأديان.
196

فرارهما: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله
كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه " (1).
وقد بينا ما يقتضيه فيهما من فحوى هذا الكلام فيما تقدم، ولا
حاجة لنا إلى تكراره.
فصل
وأما قولهم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله إنما حبسهما عن القتال لحاجة
منه إلى رأيهما في التدبير. فإنه نظير ما سلف من جهلهم، بل أفحش منه،
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله كان معصوما وكانا بالاتفاق غير معصومين،
وكان صلى الله عليه وآله مؤيدا بالملائكة ولم يكونا مؤيدين.
وقد ثبت أن العاقل لا يستمد الرأي إلا ممن يعتقد فضله عليه
منه، ومتى استمد ممن يساويه أو يقاربه في معناه فلجواز عدوله عن
صوابه بالغلط عن طريقه، وما يلحقه من الآفات في النظر، ويحول بينه
وبين الحق فيه من الشبهات.
وإذا فسد القول بفضل أبي بكر وعمر على رسول الله صلى الله عليه وآله في
الرأي، بل في كل شئ من الأشياء، وبطل مساواتهما له ومقاربتهما إياه
مع ما يبطل من جواز الغلط عليه، ولحوق الآفات به لعصمته (2) صلى الله عليه وآله،
استحال مقال من زعم أنه كان محتاجا إليهما في الرأي.

(1) تقدم مع تخريجاته في ص: 34.
(2) في أ زيادة: ورأفته.
197

فصل
على أنه لو كان ممن يجوز عليه الخطأ في الدين والغلط في
التدبير، لكان ما يقع منه مستدركا بجبرئيل وميكائيل وأمثالهما من
الملائكة عليهم السلام، ولم يكله الله تعالى في شئ منه إلى رعيته، ولا أحوجه فيه
إلى أحد من أمته، لما تقتضيه الحكمة في تولى حراسته وتهدئته، وغناه
بذلك عمن أحوجه الله سبحانه إليه من جميع بريته.
ولو جاز أن يلجئه الله تعالى إلى أحد من أمته في الرأي، لجاز أن
يضطر إليه في جميع معرفة الأحكام، ولجعله تابعا لهم فيما يدركونه
بالاجتهاد والقياس، وهذا ما لا يذهب إليه مسلم، فثبت ما بيناه من
الغرض في حبس الرجلين عن القتال، فإنه كما شرحناه، وبينا وجهه
وأوضحناه، دون ما ظنه الجاهلون، والحمد لله.
فصل
ثم يقال لهم: خبرونا عن حبس رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر وعمر
عن القتال في يوم بدر لحاجة إلى مشورتهما عليه، وتدبيرهما الأمر معه،
أقلتم ذلك ظنا أو حدسا، أم قلتموه واعتمدتم فيه على اليقين؟
فإن زعموا أنهم قالوا ذلك بالظن والحدس والترجيم فكفاهم
بذلك خزيا في مقالهم وشناعة وقبحا، وإن ادعوا العلم به والحجة فيه
طولبوا بوجه البرهان عليه، وهل ذلك من وجه العقل أدركوه أم وجوه
السمع والتوقيف، فلا يجدون شيئا يتعلقون به من الوجهين جميعا.
198

ثم يقال لهم: أما العريش فكان من رأي الأنصار بلا اختلاف،
ولم يكن لأبي بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين مقال، وأما المشورة فلم
تكن فيه، وإنما أشار في الأسرى بعد القتال، واختلفا عند المشورة في
الرأي.
وعدل رسول الله صلى الله عليه وآله إذ ذاك عن رأي عمر بن الخطاب،
لمعرفته أنه صدر عن تراث بينه وبين القوم، وقصد الشناعة (1) على
النبي صلى الله عليه وآله، وشفاء غيظ بني عبد مناف، ولم يرد بما قال وجه الله تعالى،
وصار إلى رأي أبي بكر لما أراد الله تعالى من المحنة لذلك.
فنزل القرآن بتخطئة صاحبكم، وجاء الخبر عن علام الغيوب
بخيانته في الدين، وركونه إلى الدنيا، وإرادته لحطامها، وضعف بصيرته
في الجهاد، وأظهر منه ما كان يخفيه، وكشف عن ضميره، وفضحه الوحي
بما ورد فيه، حيث يقول الله سبحانه: {ما كان لنبي أن يكون له
أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة
والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم
عذاب عظيم} (2).
وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله حينما استشارهما لم يكن لفقر
منه في الرأي والتدبير إليهما، وإنما كان لاستبراء أحوالهما والإظهار
لباطنهما في النصيحة له أو ضدها، كما أخبره الله سبحانه بتعريفه ذلك

(1) (اشناعة) ليس في ب.
(2) سورة الأنفال 8: 67، 68.
199

عند نطقهما في الأمور وكلامهما وغيرهما من أضرابهما، فقال تعالى: {ولو
نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} (1).
وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما ادعوه في العريش،
وكانت المشورة بعده من أوضح البرهان على نقص الرجلين دون
فضلهما على ما قدمناه (2).

(1) سورة محمد 47: 30.
(2) للتوسع راجع الفصول المختار 1: 14 و 15، الشافي 4: 417، الغدير
7: 207.
200

مسألة أخرى
فإن قالوا: أفليس قدم رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر في حياته على
جميع أهل بيته وأصحابه، حيث أمره أن يصلي
بالناس في مرضه مع قوله عليه السلام " الصلاة عماد الدين " (1)، وقوله عليه السلام:
" إمامكم خياركم " (2) وهذا أوضح دليل على إمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله،
وفضله على جميع أمته؟!
جواب:
قيل لهم: أما الظاهر المعروف فهو تأخير رسول الله صلى الله عليه وآله
أبا بكر عن الصلاة وصرفه عن ذلك المقام، وخروجه مستعجلا وهو من
ضعف الجسم بالمرض على ما لا يتحرك معه العاقل إلا بالاضطرار،
ولتدارك ما يخاف بفوته عظيم الضرر والفساد، حتى كان عزله عما كان
تولاه من تلك الصلاة.

(1) كنز العمال 7: 284 / 18889 و 18891.
(2) كنز العمال 7: 596 / 30433، عوالي اللئالي 1: 37 / 27، وفيهما: ليؤمكم خياركم.
201

فأما تقدمه على الناس فكان بقول عائشة دون النبي صلى الله عليه وآله،
وبذلك جاءت الأخبار وتواترت الأحاديث والآثار، ومن الدعي غير ذلك
فعليه حجة البرهان والبيان.
فصل
على أننا لو صححنا حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله، وسلمنا
لهم صدقها فيه (1) تسليم جدل، وإن كانت الأدلة تبطله وتقضي بفساده
من كل وجه، لما أوجب ما ادعوه من فضله على الجماعة، لأنهم مطبقون
على أن النبي صلى الله عليه وآله صلى خلف عبد الرحمن بن عوف الزهري (2)، ولم
يوجب ذلك له فضلا عليه ولا غيره من المسلمين.
ولا يختلفون أنه صلى الله عليه وآله أمر عمرو بن العاص على أبي بكر
وعمر وجماعة من المهاجرين والأنصار، وكان يؤمهم طول زمان إمارته في
الصلاة عليهم، ولم يدل ذلك على فضله عليهم في الظاهر، ولا عند الله
تعالى على حال من الأحوال.
وهم متفقون على أن النبي صلى الله عليه وآله قال لأمته: " صلوا خلف كل
بر وفاجر " (3) وأباح لهم الصلاة خلف الفجار، وجوز بذلك إمامة إمام لهم

(1) (صدقها فيه) ليس في ب.
(2) صحيح مسلم 1: 230 / 81، سنن ابن ماجة 1: 392 / 1236، سنن النسائي 1: 77،
سنن أبي داود 1: 38 / 1552.
(3) كنز العمال 6: 54 / 1481 عن سنن البيهقي، عوالي اللئالي 1: 37 / 28.
202

في الصلاة منقوص مفضول، بل فاسق فاجر مرذول، بما تضمنه لفظ
الخبر ومعناه، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما اعتمدوه من فضل
أبي بكر في الصلاة.
فصل
ثم يقال لهم: قد اختلف المسلمون في تقديم النبي صلى الله عليه وآله أبا بكر
للصلاة.
فقال المسمون السنة: إن عائشة أمرت بتقديمه عن
النبي صلى الله عليه وآله.
وقالت الشيعة: إنها أمرته بذلك عن نفسها دون النبي صلى الله عليه وآله،
بلا اختلاف بينهم أن النبي صلى الله عليه وآله خرج إلى المسجد وأبو بكر في
الصلاة، فصلى تلك الصلاة، فلا يخلو أن يكون صلاها إماما لأبي بكر
والجماعة، أو مأموما لأبي بكر مع الجماعة، أو مشاركا لأبي بكر في
إمامتهم، وليس قسم رابع يدعى فنذكره على التقسيم.
فإن كان صلى الله عليه وآله صلاها إماما لأبي بكر والجماعة فقد صرفه بذلك
عما أوجب فضله عند كم من إمامة القوم، وحطه عن الرتبة التي ظننتم
حصوله فيها بالصلاة، وبطل ما اعتمدتموه (1) من ذلك، ووجب له
خلافه من النقص والخروج عن الفضل على التأبيد، إذا كان آخر أفعال
رسول الله صلى الله عليه وآله جار حكمها على التأبيد (2) وإقامة الشريعة وعدم

(1) في ح: ما ادعيتموه.
(2) في ح، م: الندب.
203

نسخها إلى أن تقوم الساعة، وهذا بين لا ريب فيه.
وإن كان صلى الله عليه وآله مأموما لأبي بكر فقد صرف إذن عن النبوة،
وقدم عليه من أمره الله تعالى بالتأخير عنه، وفرض عليه غض الطرف
عنده، ونسخ بذلك نبوته وما يجب له بها من إمامة الجماعة، والتقدم
عليهم في الدين، وهذا ما لا يطلقه مسلم.
وإن كان النبي صلى الله عليه وآله إماما للجماعة مع أبي بكر على الاشتراك
في إمامتهم، وكان ذلك آخر أعماله في الصلاة، فيجب أن يكون سنة،
وأقل ما فيه جوازه وارتفاع البدعة منه، والاجماع منعقد على ضد ذلك،
وفساد إمامة نفسين في الصلاة معا لجماعة من الناس، وإذا كان الأمر
على ما وصفناه فقد سقط ما تعلق به القوم من صلاة أبي بكر، وما ادعوه
له بها من الفضل على تسليم الخبر دون المنازعة فيه، فكيف وقد بينا
سقوطه بما قدمناه.
فصل
على أن الخبر بصلاة أبي بكر وإن كان أصله من حديث عائشة
ابنته خاصة على ما ذكروه، فإنه قد جاء عنها في التناقض والاختلاف
وذلك شاهد بفساده على البيان:
فروى أبو وائل، عن مسروق، عن عائشة، قال: صلى رسول
الله صلى الله عليه وآله في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعدا (1).

(1) تاريخ الطبري 4: 1812، السيرة الحلبية 3: 464.
204

وروى إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة في حديث في الصلاة
أن النبي صلى الله عليه وآله صلى عن يسار أبي بكر قاعدا، وكان أبو بكر يصلي
بالناس قائما (1).
وفي حديث وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن
عائشة أيضا، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه عن يمين أبي بكر
جالسا، وصلى أبو بكر قائما بالناس (2).
وفي حديث عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: صلى
رسول الله صلى الله عليه وآله بحذاء أبي بكر جالسا، وكان أبو بكر يصلي بصلاة
رسول الله صلى الله عليه وآله، والناس يصلون بصلاة أبي بكر (3).
فتارة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إماما بأبي بكر، وتارة تقول:
كان أبو بكر إماما، وتارة تقول: صلى عن يمين أبي بكر، وتارة تقول:
صلى عن يساره، وتارة تقول: صلى بحذائه، وهذه أمور متناقضة تدل
بظاهر ما فيها من الاضطراب والاختلاف على بطلان الحديث، وتشهد
بأنه موضوع.
فصل آخر
على أن الخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: " إنما جعل

(1) السيرة الحلبية 3: 464.
(2) السيرة الحلبية 3: 467، سيرة ابن هشام 4: 302.
(3) السيرة الحلبية 3: 464 و 465.
205

الإمام إماما ليؤتم به، فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين " (1) يبطل
أيضا حديث صلاة أبي بكر، ويدل على اختلافه، لأنه يتضمن مناقضة
ما أمر به، مع ترك المتمكن منه على فاعله، ومتى ثبت أوجب تضليل
أبي بكر وتبديعه على الإقدام على خلاف النبي صلى الله عليه وآله.
واستدلوا بمثل ذلك في رسول الله صلى الله عليه وآله إذ كان هو المؤتم
بأبي بكر، وفي كلا الأمرين بيان فساد الحديث مع ما في الوجه الأول
من دليل فساده.
فصل آخر
مع أن الرواية قد جاءت من غير طريق عن عائشة أنها قالت:
جاء بلال فأذن بالصلاة ورسول الله صلى الله عليه وآله مغمى عليه، فانتظرنا
إفاقته وكاد الوقت يفوت، فأرسلنا إلى أبي بكر يصلي بالناس (2).
وهذا صريح منها بأن صلاته كانت عن أمرها ورأيها، دون أمر
رسول الله صلى الله عليه وآله وإذنه ورأيه ورسمه.
والذي يؤيد ذلك ويكشف عن صحته، الاجماع على أن
رسول الله صلى الله عليه وآله خرج مبادرا معجلا بين يدي رجلين من أهل بيته

(1) مسند أحمد بن حنبل 2: 214، 420، صحيح البخاري 1: 171 / 44، صحيح مسلم 1:
308 / 77، صحيح الترمذي 2: 194 / 361، سنن ابن ماجة 1: 276 / 846، سنن
النسائي 2: 83.
(2) كنز العمال 5: 634 / 4116 عن اللالكائي في السنة.
206

حتى تلافى الأمر بصلاته وعزل الرجل عن مقامه.
ثم الاجماع أيضا على قول البني صلى الله عليه وآله حين أفاق لعائشة
وحفصة: " إنكن كصويحبات يوسف عليه السلام " (1) ذما لهما على ما أفتنا به أمته،
وإخبارا عن إرادة كل واحدة منهما المنزلة بصلاة أبيها بالناس، ولو كان
هو صلى الله عليه وآله تقدم بالأمر لأبي بكر بالصلاة لما حال بينه وبين تمامها، ولا
رجع باللوم على غيره فيها، وهذا ما لا خفاء به على ذوي الأبصار.
وفي هذه المسألة كلام كثير، قد سبق أصحابنا رحمهم الله إلى
استقصائه، وصنف أبو عيسى محمد بن هارون الوراق (2) كتاب مفردا في
معناه سماه كتاب (السقيفة) يكون نحو مائتي ورقة، لم يترك لغيره زيادة
عليه فيما يوضح عن فساد قول الناصبة وشبههم التي اعتمدوها من
الخبر بالصلاة، وأشار إلى كذبهم فيه، فلذلك عدلت عن الإطالة في ذكر
البراهين على ما قدمت، واقتصرت على الاختصار، وإن كان فيما أثبته
كفاية لذوي الأبصار، والحمد لله.

(1) كنز العمال 5: 634 / 4116 عن اللالكائي في السنة.
(2) ترجم له النجاشي في رجاله: 372 / 1016 وعد من تصانيفه كتاب السقيفة، وأطراه
المحقق الداماد في الراشحة الثامنة من الرواشح السماوية وقال: هو من أجلة المتكلمين من
أصحابنا وأفاضلهم.
207

مسألة أخرى
فإن قالوا: إن لأبي بكر من الإنفاق على رسول الله صلى الله عليه وآله
والمواساة بماله ما لم يكن لعلي بن أبي طالب عليه السلام، ولا لغيره من
الصحابة، حتى جاء الخبر عنه صلى الله عليه وآله، أنه قال: " ما نفعنا مال كمال
أبي بكر " (1).
وقال عليه السلام في موطن آخر: " ما أحد من الناس أعظم نفعا علينا
حقا في صحبته وماله من أبي بكر بن أبي قحافة " (2).
جواب:
قيل لهم: قد تقدم لنا من القول فيما يدعى من إنفاق أبي بكر ما
يدل المتأمل له على بطلان مقال أهل الخلاف، وإن كنا لم نبسط الكلام
في معناه بعد، فإن أصل الحديث في ذلك عائشة، وهي التي ذكرته عن

(1) مسند أحمد 2: 253 و 366. وأخرجه في كنز العمال 11: 549 / 32576 و
555 / 32608، 12: 505 / 35648 عن مسند أحمد، وابن ماجة، وحلية الأولياء، وابن
عساكر.
(2) كنز العمال 11: 554 / 32604 عن الطبراني في المعجم الكبير.
209

رسول الله صلى الله عليه وآله، وأضافته بغير حجة، وقد عرفت ما كان من خطأها
في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وارتكابها معصية الله تعالى في خلافه حتى
نزل فيها وفي صاحبتها حفصة بنت عمر بن الخطاب: {إن تتوبا إلى
الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل
وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} (1).
ثم الذي كان منها في أمر عثمان بن عفان حتى صارت أوكد
الأسباب في خلعه، وقتله، فلما كان من أمره ما كان، وبايع الناس لأمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حسدته على ذلك، وكرهت أمره،
ورجعت عن ذم عثمان بن عفان إلى مدحه، وقذفت أمير المؤمنين عليه السلام
بدمه، وخرجت من بيتها إلى البصرة إقداما على خلاف الله تعالى فيما
أمرها به في كتابه، فألبت عليه ودعت إلى حربه، واجتهدت في سفك دمه
واستئصال ذريته وشيعته، وأثارت من الفتنة ما بقي في الأمة ضررها في
الدين إلى هذه الغاية.
ومن كانت هذه حالها لم يوثق بها في الحديث عن
رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا آمنت على الأدغال (2) في دين الله تعالى، لا سيما
فيما تجربه نفعا إليها وشهادة بفضل متى صح لكان لها فيه الحظ الأوفر،
وهذا ما لا يخفى على ذوي حجا.
(1) سورة التحريم 66: 4.
(2) أدغل في الأمر: أدخل فيه ما يخالفه ويفسده. " الصحاح - دغل - 4: 1697 ".
210

فصل
على أنه لو كان لأبي بكر إنفاق على ما تدعيه الجهال، لوجب
أن يكون له وجه معروف، وكان يكون ذلك لوجه ظاهر مشهور، كما
اشتهرت صدقة أمير المؤمنين عليه السلام بخاتمه، وهو في الركوع حتى علم به
الخاص، والعام، وشاعت نفقته بالليل والنهار والسر والاعلان، ونزول بها
محكم القرآن، ولم تخف صدقته التي قدمها بين يدي نجواه، حتى أجمعت
عليها أمة الإسلام، وجاء بها صريح القول في البيان، واستفاض إطعام
المسكين (1) واليتيم والأسير، وورد الخبر به مفصلا في {هل أتى على
الإنسان} (2).
فكان أقل ما يجب في ذلك أن يكون كشهرة نفقة عثمان بن
عفان في جيش العسرة، حتى لم يختلف في ذلك من أهل العمل اثنان (3)،
ولما خالف الخبر في إنفاق أبي بكر ما ذكرناه، وكان مقصورا على ابنته
خاصة، ويكفي في ما شرحناه، ومضافا إلى من في طريقه من أمثال
الشعبي وأشباهه المعروفين بالعصبية لأبي بكر وعمر وعثمان، والتقرب
إلى بني أمية بالكذب والتخرص والبهتان، مما يدل على فساده بلا
ارتياب.
(1) (حتى أجمعت.. المسكين) ليس في ح، وفي ب: وصدقته حين أجمع المسكين.
(2) سورة الإنسان 76: 1.
(3) (فكان أقل.. اثنان) ليس في ب، ح، م.
211

فصل
مع أن الله تعالى قد أخبر في ذلك بأنه المتولي عناء نبيه صلى الله عليه وآله
عن سائر الناس، ورفع الحاجة عنه في الدين والدنيا إلى أحد من العباد،
فقال تعالى {ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك
عائلا فأغنى} (1).
فلو جاز أن يحتاج مع ذلك إلى نوال أحد من الناس لجاز أن
يحتاج في هداه إلى غير الله تعالى، ولما ثبت أنه غني في الهدى بالله وحده،
ثبت أنه غني في الدنيا بالله تعالى دون الخلق كما بيناه.
فصل
على أنه لو كان فيما عدده الله تعالى من أشياء يتعدى الفضل
إلى أحد من الناس، فالواجب أن تكون مختصة بآبائه عليهم السلام، وبعمه
أبي طالب رحمة الله، وولده عليه السلام، وبزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ولم يكن
لأبي بكر في ذلك حظ ولا نصيب على كل حال.
وذلك أن الله تعالى آوى يتمه بجده عبد المطلب، ثم بأبي طالب
من بعه، فرباه وكفله صغيرا، ونصره وواساه ووقاه من أعدائه بنفسه
وولده كبيرا، وأغناه بما رزقه الله من أموال آبائه رحمهم الله تعالى وتركاتهم وهم
ملوك العرب، وأهل الثروة منهم واليسار بلا اختلاف، ثم ما أفاده من

(1) سورة الضحى 93: 6 - 8.
212

بعده في خروجه إلى الشام من الأموال، وما كان انتقل إليه من زوجته
خديجة بنت خويلد.
وقد علم جميع أهل العلم ما كانت عليه من سعة الأحوال، وكان
لها من جليل الأموال، وليس لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير
وسعد وسعيد وعبد الرحمن وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم من سائر
الناس سوى من سميناه سبب لشئ من ذلك، يتعدى به فضلهم إليه (1)
على ما بيناه، بل كانوا فقراء فأغناهم الله بنبيه صلى الله عليه وآله، وكانوا ضلالا
فدعاهم إلى الهدى، ودلهم على الرشاد، وكانوا أذلة فتوصلوا بإظهار
اتباع نبوته إلى الملك والسلطان.
وهب أن في هؤلاء المذكورين من كان له قبل الإسلام من المال
ما ينسب به إلى اليسار، وفيهم من له شرف بقبيلة يبين به ممن عداه، هل
لأحد من سامعي الأخبار وأهل العلم بالآثار ريب في فقر أبي بكر وسوء
حاله في الجاهلية والإسلام، ورذالة قبيلته من قريس كلها، وظهور
المسكنة في جمهورهم على الاتفاق؟
ولو كان له من السعة ما يتمكن به من صلة رسول الله صلى الله عليه وآله
والإنفاق عليه ونفعه بالمال، كما ادعاه الجاهلون، لا غنى أباه ببعضه عن
النداء على مائة ة عبد الله بن جدعان (2) بأجرة على ذلك (3) بما يقيم به

(1) في أ: فضل منه إليهم، وفي ب: فضله إليهم.
(2) في أ: لينتال.
(3) (بأجرة على ذلك) ليس في م.
213

رمقه، ويستر به عورته بين الناس، ولارتفع هو عن الخياطة وبيع
الخلقان (1) بباب بيت الله الحرام إلى مخالطة وجوه التجار، ولكان غنيا به
في الجاهلية عن تعليم الصبيان ومقاساة (2) الأطفال في ضرورته إلى ذلك
لعدم ما يغنيه عنه ما وصفناه. وهذا دليل على ضلال الناصبة فيما ادعوه
له من الإنفاق للمال، وبرهان يوضح عن كذبهم فيما أضافوه إلى
النبي صلى الله عليه وآله من مدحه على الإنفاق.
فصل آخر
مع أنه لو ثبت لأبي بكر نفقة مال على ما ظنه الجهال لكان خلو
القرآن من مديح له على الاجماع وتواتر الأخبار، مع نزوله بالمدح على
اليسير من ذوي الإنفاق، دليلا على أنه لم يكن لوجه الله تعالى، وأنه
يعتمد بالسمعة والرياء، وكان فيه ضرب من النفاق.
وإذا ثبت أن الله تعالى عدل كريم لا ينوه بذكر اليسير من
طاعاته، ويخفي الكثير، ولا يمدح الصغير، ويهمل الكبير، ففي خلو
القرآن من ذكر إنفاق أبي بكر أو مدحه له بذكر الإنفاق على الشرط
الذي وصفناه أوضح برهان على ما قدمناه.
ثم يقال لهم: قد علمت الكافة أن نفقات الصحابة على عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله إنما كانت في السلاح والكراع ومعونة الجهاد وصلات

(1) الخلقان: جمع خلق، الثوب البالي. " الصالح - خلق 4: 1472 ".
(2) المقاساة: المكابدة والمعالجة. " تاج العروس - قسا - 10: 293 ".
214

فقراء المسلمين، وتزويد المرملين (1)، ومعونة المساكين، ومواساة المهاجرين،
وأن النبي صلى الله عليه وآله لم يسترفد (2) أحدا منهم ولا استوصله، ولا جعل عليه
قسما من مؤنته، ولا التمس منهم شيئا أهله وعشيرته، وقد حرم الله تعالى
عليه وعلى أهل بيته أكل الصدقات، وأسقط عن كافتهم الأجر له على
تبليغهم عن الله تعالى الرسالات، ونصب الحجج لهم وإقامة البينات، في
دعائهم إلى الأعمال الصالحات، واستنقاذهم بلطفه من المهلكات،
وإخراجهم بنور الحق عن الظلمات.
وكان صلى ا لله عليه وآله من أزهد الناس في الدنيا وزينتها، ولم يزل مخرجا
لما في يديه من مواريث آبائه، وما أفاء الله تعالى من الغنائم والأنفال،
وجعله له خالصا دون الناس إلى فقراء أصحابه، وذوي الخلة من أتباعه
حتى استدان من المال (3) ما قضاه أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاته، وكان هو
المنجز لعداته (4) فأي وجه مع ما وصفناه من حاله صلى الله عليه وآله لإنفاق أبي بكر
على ما ادعوه، لولا أن الناصبة لا تأنف من الجهل ولا تستحيي من
العناد؟!

(1) المرمل: الذي نفد زاده. " الصحاح - رمل - 4: 1713 ".
(2) الاسترفاد: الاستعانة. " مجمع البحرين - رفد - 3: 54 ".
(3) في ب: الشرع بدل (المال).
(4) تهذيب الآثار 1: 60، فردوس الأخبار 3: 61 / 4170، شواهد التنزيل 1: 373؟ 515
و 516، وأخرجه في كنز العمال 7: 249 / 18782 عن ابن أبي شيبة وقال: رجاله ثقات.
215

فصل
مع أنا لا نجدهم يحيلون على وجه فيما يذكرونه من إنفاق
أبي بكر، إلا على ما ادعوه من ابتياعه بلال بن حمامة (1) من مواليه،
وكانوا عزموا بعد الإيمان ليردوه عنه إلى الكفر والطغيان.
وهذا أيضا من دعاويهم الباطلة المتعرية من الحجج والبرهان،
وهو راجع في أصله إلى عائشة، وقد تقدم من القول فيما ترويه وتضيفه إلى
النبي صلى الله عليه وآله، ما يغني عن الزيادة فيه والتكرار.
ولو ثبت على غاية أمانيهم في الضلال لما كان مصححا لروايتهم
مدح أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وآله، وإخباره بانتفاعه بنفقته عليه
ومواساته بالمال، لأن بلالا لم يكن ولدا للنبي صلى الله عليه وآله، ولا أخا ولا والدا،
ولا قريبا ولا نسيبا، فيكون خلاصه من العذاب بمال أبي بكر نافعا
للنبي صلى الله عليه وآله، ولا مختصا به دون سائر أهل الإسلام.
ولو تعدى ما خص بلالا من الانتفاع بمال أبي بكر إلى
النبي صلى الله عليه وآله، لموضع إيمانه برسالته، وإقراره بنبوته ولكونه في جملة
أصحابه، لتعدى ذلك إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وجميع ملائكة
الله تعالى وأنبيائه وعباده الصالحين، لأن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله
يتضمن الإيمان بجميع النبيين والملائكة والمؤمنين والصديقين والشهداء

(1) هو بلال بن رباح، وحمامة أمه، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله، توفي بدمشق في الطاعون
سنة (18) وقيل غير ذلك، أنظر ترجمته في رجال الكشي: 38 / 79، رجال الطوسي:
8 / 4، معجم رجال الحديث 3: 364، سير أعلام النبلاء 1: 347.
216

والصالحين، وقد انكشف عن جهالات الناصبة وتجرئهم في بدعهم،
وضعف بصائرهم، وسخافة عقولهم، ومن الله نسأل التوفيق.
فصل
على أن الثابت من الحديث في مح النبي صلى الله عليه وآله خديجة بنت
خويلد رضي الله عنها دون أبي بكر، والظاهر المشهور من انتفاع النبي صلى الله عليه وآله
بمالها، يوضح عن صحته واختصاصها به دون من ادعى له بالبهتان، وقد
اشترك في نقل الحديث الفريقان من الشيعة والحشوية، وجاء مستفيضا
عن عائشة بنت أبي بكر على البيان.
فروى عبد الله بن المبارك، عن مجالد (1)، عن الشعبي، عن
مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا ذكر خديجة أحسن
الثناء عليها، فقلت له يوما: ما تذكر منها وقد أبدلك الله خيرا منها؟!
فقال: ما أبدلني الله خيرا منها، صدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها
إذ حرمني الناس، ورزقني الله الولد منها ولم يرزقني من غيرها " (2)
وهذا يدل على بطلان حديثها في مدح أبي بكر بالمواساة، ويوجب
تخصيصها بذلك دونه، ويوضح عن بطلان ما تدعيه الناصبة أيضا من

(1) في ب، ح، م: مجاهد، وهو تصحيف صوابه ما في المتن من نسخة أو المصادر، وانظر ترجمة
مجالد بن سعيد، في طبقات ابن سعد 6: 243، تهذيب التهذيب 10: 39، سير أعلام
النبلاء 6: 284.
(2) مسند أحمد بن حنبل 6: 117 عن شيخه علي بن إسحاق، عن ابن المبارك، سير أعلام
النبلاء 2: 117، كنز العمال 12: 132.
217

سبق أبي بكر جماعة الأمة إلى الإسلام، إذ فيه شهادة من
الرسول صلى الله عليه وآله بتقدم إيمان خديجة رحمها الله على سائر الناس.
218

مسألة أخرى
فإن قالوا: فما تصنعون في الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه
قال لأصحابه: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " (1)؟
أليس هذا نص منه على إمامتهما، وإيجاب على الأمة جميعا
فرض طاعتهما، وفي ذلك أدل دليل على طهارتهما وصوابهما فيما صنعاه
من التقدم على أمير المؤمنين، وصحة خلافتهما؟!
جواب
قيل لهم: هذا حديث موضوع، والخلل في سنده مشهور،
والتناقض في معناه ظاهر، وحاله في متضمنه لائحة للمعتبر الناظر.
فأما خلل إسناده: فإنه معزى إلى عبد الملك بن عمير (2)، عن

(1) مسند أحمد بن حنبل 5: 382 و 385 و 399 و 402، سنن ابن ماجة 1: 37 / 97، سنن
الترمذي 5: 609 / 3662، مستدرك الحاكم 3: 75. مصابيح السنة 4: 162 / 4742 و
218 / 4889.
(2) قال الشيخ الطوسي في تلخيص الشافي 3: 33: كان فاسقا جريئا على الله، وهو الذي
قتل عبد الله بن يقطر رسول الحسين بن علي إلى مسلم بن عقيل.. وكان مروانيا.
219

ربعي بن حراش، ثم من بعده تارة يعزى إلى حذيفة بن اليمان، وتارة
إلى حفصة بنت عمر بن الخطاب.
فأما عبد الملك بن عمير فمن أبناء الشام، وأجلاف محاربي
أمير المؤمنين عليه السلام، المشتهرين بالنصب والعداوة له ولعترته، ولم يزل يتقرب
إلى بني أمية بتوليد الأخبار الكاذبة في أبي بكر وعمر، والطعن في أمير
المؤمنين عليه السلام حتى قلدوه القضاء، وكان يقبل فيه الرشا، ويحكم بالجور
والعدوان، وكان متجاهرا بالفجور والعبث بالنساء، فمن ذلك أن الوليد بن
سريع خاصم أخته كلثم بنت سريع إليه في أموال وعقار، وكانت كلثم من
أحسن نساء وقتها وأجملهن فأعجبته، فوجه القضاء على أخيها تقربا
إليها، وطمعا فيها، فظهر ذلك عليه واستفاض عنه، فقال فيه هذيل
الأشجعي (1):
أتاه وليد بالشهود يقودهم * على ما ادعى من صامت المال والخول
يسوق إليه كلثما وكلامها * شفاء من الداء المخامر والخبل
فما برحت تومي إليه بطرفها * وتومض (2) أحيانا إذا خصمها غفل
هامش وقال أحمد بن حنبل: مضطرب الحديث جدا مع قلة روايته، وذكر إسحاق الكوسج
عن أحمد أنه ضعفه جدا. أنظر ترجمته في الجرح والتعديل: 5: 360، تهذيب التهذيب 6:
411، سير أعلام النبلاء 5: 438.
(1) هو هذيل بن عبد الله بن سالم بن هلال الأشجعي، شاعر كوفي معروف، وله هجاء في
ثلاثة من قضاة الكوفة: عبد الملك بن عمير، الشعبي، ابن أبي ليلى. أنظر جمهرة أنساب
العرب: 249، الأعلام للزركلي 9: 72.
(2) أومضت المرأة: سارقت النظر. " الصحاح - ومض - 3: 1113 ".
220

وكان لها دل وعين كحيلة * فأدلت بحسن الدل منها وبالكحل
فأفتنت القبطي حتى قضى لها * بغير قضاء الله في المال والطول
فلو كان من في القصر يعلم علمه * لما استعمل القبطي فينا على عمل
له حين يقضي للنساء تخاوص (1) * وكان وما منه التخاوص والحول
إذا ذات دل كلمته بحاجة * فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل
وبرق عينيه ولاك لسانه * يرى كل شئ ما خلا سخطها خبل (2)
ثم الذي عزاه إليه هو ربعي بن حراش عند أصحاب الحديث من
المعدودين في جملة الروافض المستهزئين على أبي بكر وعمر (3)، وإضافته
إليه - مع ما وصفناه - ظاهرة البطلان، مع أن المشهور عن حذيفة بن
اليمان في أصحاب العقبة يضاد روايته هذا الحديث عنه.
وأما روايته عن حفصة بنت عمر بن الخطاب فهي من البرهان
على فساده، ووجوب سقوطه في باب الحجاج، لأن حفصة متهمة فيما
ترويه من فضل أبيها وصاحبه، ومعروفة بعداوتها لأمير المؤمنين عليه السلام،
وتظاهرها ببغضه وسبه والاغراء به، والانحطاط في هوى أختها عائشة
بنت أبي بكر في حربه والتألب عليه، ثم لاجترارها بما يتضمنه أفضل
وجوه النفع إليهما به، وقد سلف (2) كتاب في هذا المعنى ما يستغنى به

(1) تخاوص: غض من بصره شيئا، وهو في كل ذلك يحدق النظر كأنه يقوم سهما. " لسان
العرب - خوص 7: 31 ".
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17: 62.
(3) أنظر تاريخ بغداد 8: 433.
(4) زاد في ب: منا.
221

عن الإطالة في هذا المقام، والله ولي التوفيق
فصل
على أنه لو ثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله لأوجب عصمة
أبي بكر وعمر من الآثام، وقضى لهما بالكمال، ونفى السهو والغلط عنهما
على كل حال، وذلك أن فرض الاقتداء بهما يوجب صواب الفاعل له
عند الله تعالى، وأن علمه في ذلك واقع موقع الرضا، فلو لم يكونا
معصومين من الخطأ لا يؤمن منهما وقوعه، وكان المقتدي بهما فيه ضالا عن
الصراط، وموقعا من الفعل ما ليس بصواب عند الله تعالى، ولا موافق
لرضاه، كما أن الله تعالى لما فرض طاعة نبيه صلى الله عليه وآله وأمر بالاقتداء به،
كما أمره بالاقتداء بمن تقدم من أنبيائه عليهم السلام، حيث يقول: {أولئك
الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (2) أوجب عصمته صلى الله عليه وآله كما أوجب
عصمة من تقدم من الأنبياء عليه السلام، ولم يجز في حكمته فرض الاقتداء بمن
ذكرناه مع ارتفاع العصمة منهم لما بيناه.
وفي الاجماع أن أبا بكر وعمر لم يكونا معصومين عن الخطأ،
وإقرارهما على أنفسهما بذلك أظهر حجة على اختلاف الخبر وفساده
كما ذكرناه.

(1) أنظر الشافي 2: 306 - 311، تلخيص الشافي 3: 32، الصراط المستقيم 3: 144 -
146.
(2) سورة الأنعام 6: 90.
222

فصل آخر
مع أن التباين بين أبي بكر وعمر في كثير من الأحكام يمنع من
فرض الاقتداء بهما على كل حال، لاستحالة اتباعهما فيما اختلفا فيه،
ووجوب خلاف أحدهما في وفاق صاحبه، وخلاف صاحبه في اتباعه.
وقد ثبت أن الله تعالى لا يكلف عباده المحال، ولا يشرع ذلك
منه صلى الله عليه وآله، وإذا بطل وجوب الاقتداء بهما في العموم لما بيناه، لم يبق
- إن سلم الحديث - إلا وجوبه في الخصوص، وذلك غير موجب للفضل
فيهما، ولا مانع من ضلالهما ونقصهما، وهو حاصل في مثل ذلك من أهل
الكتاب، ولو فاق المسلمين لهم في خاص من الأقوال مع كفرهم وضلالهم
بالإجماع، فبان بما وصفناه سقوط الحديث وفساد معانيه على ما قدمناه.
فصل آخر
على أن أصحاب الحديث قد رووه بلفظين مختلفين، على وجهين
من الأعراب متباينين: أحدهما الخفض، وقد سلف قولنا بما بيناه،
والآخر النصب، وله معنى غير ما ذهب إليه أهل الخلاف.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما دعا الأمة إلى التمسك بكتاب الله
تعالى، وبعترته عليه وعليهم السلام، حيث يقول: " إني مخلف فيكم الثقلين، ما إن
تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا
حتى يردا علي الحوض " (1). وكان عالما بما أوحى الله تعالى إليه، أن أول

(1) حديث الثقلين من الأحاديث الصحيحة المتواترة، تنتهي سلسلة أسانيده إلى جماعة من.
أجلة الصحابة، رواه في صحيح مسلم 4: 1883 / 36 و 37، سنن الترمذي 5:
662 / 3786 و 663 / 3788، سنن الدارمي 2: 431، سنن البيهقي 2: 148 و 7: 30
و 10: 114، مسند أحمد 3: 14 و 17 و 26 و 59 و 4: 366 و 371، مستدرك الحاكم
3: 109 و 148.
223

ناقض لأمره في ذلك وعادل عنه هذان الرجلان، فأراد عليه السلام تأكيد الحجة
عليهما، بتخصيصهما بالأمر باتباع الكتاب. والعترة بعد عمومها به،
ودخولهما في جملة المخاطبين من سائر الناس، فناداهما على التخصيص
لما قدمناه من التوكيد في الحجة عليهما، فقال: " اقتدوا باللذين من
بعدي: أبي بكر وعمر " وكانا هما المناديين بالاتباع دون أن يكون النداء
إليهما على ما شرحناه.
وليس بمنكر أن يبتدئ بالأمر بلفظ الجمع لاثنين، أو بلفظ
الاثنين للجمع اتساعا، كما يعبر عن الواحد وليس فيه من معاني الجمع
قليل ولا كثير بلفظ الاثنين أو الجمع، قال الله عز وجل: {هذان
خصمان اختصموا في ربهم} (1).
وقال {وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب - إلى
قوله - خصمان بغى بعضنا على بعض} (2).
وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد سقط ما تعلق به الناصبة
من الحديث، ولم يبق فيه شبهة، والحمد لله.

(1) سورة الحج 22: 19.
(2) سوره ص 38: 21، 22.
224

سؤال
فإن قالوا: فإنا نجد الأمة قد وصفت أبا بكر بالصديق، ونعتت
عمر بالفاروق، ووسمت عثمان بذي النورين، وشاع ذلك فيهم
واستفاض حتى لم يخف على أحد من الناس، وهذا من أوضح الدليل
على أن القوم من أهل الثواب، وأنهم كانوا في أمرهم على محض الحق
والصواب، ولو لم يكونوا كذلك لما شاع هذا المدح وذاع.
جواب
قيل لهم: لا معتبر لانتشار الصفات، ولا يعتمد ذلك عاقل على
حال، لأنه قد يوصف بالمدح بها من لا يستحق ذلك للعصبية والضلال،
كما يوصف بذلك من يستحقه (1) بصحيح الاعتبار، لا سيما الدولة
والمملكة في استفاضة ذلك من أوكد الأسباب، وإن لم يكن ثابتا بحجة
تظهر أو بيان.
ألا ترى أن نعت الأصنام بالألوهية قد كان مستفيضا في

(1) في أ: كما ينفق في المدح بها غير المستحق.
225

الجاهلية قبل الإسلام، وإن كنا نعلم بطلانه، ووجود من يعتقد خلافه في
تلك الأزمان، وأن الوصف بالربوبية قد شاع فيما سلف لكثير من ملوك
الزمان مع ثبوت خلاف أهل الحق وتيقنهم (1) في ترك إظهار الخلاف.
وقد استفاض من أوصاف ملوك بني العباس ما يقتضي جليل
المدحة، كما شاع وانتشر لمنازعيهم في الإمامة الطالبيين مثل ذلك حتى
صاروا فيه على حد سواء، ولم يجب بذلك اجتماع الفريقين في الصواب،
ولا اتفاقهم في الاستحقاق.
وكان وصف أبي جعفر بالمنصور كوصف محمد بن عبد الله بن
الحسن بالمهدي، ووصف القائم بعد أبي جعفر المنصور بالمهدي، وابنه
بالهادي، وابن ابنه بالرشيد كوصف من ذكرناه من الطبقة الأخرى
بالناصر والهادي والرشيد والمنصور أيضا والمعز والعزيز.
وإذا كانت الاستفاضة في أوصاف من سميناه على طريقة واحدة
استحال انتظام الحق لجميعها، لما يدخل ذلك من الخلل، ويلحقه من
التناقض، وبطل ما تعلق به الخصوم في تسمية العامة المتقدمين على أمير
المؤمنين عليه السلام كل ما يفيد المدحة لهم في الدين، ولم يجب باشتهاره ثبوت
إمامتهم على اليقين.
ثم يقال للمعتزلة والخوارج وأهل العدل والمرجئة وعقلاء
أصحاب الحديث: أنتم تعلمون أنه قد شاع لمعاوية بن أبي سفيان

(1) في ب، ح، م: ونفيهم، والظاهر أنها تصحيف: وتقيتهم.
226

واستفاض أنه (خال المؤمنين) و (كاتب وحي رب العالمين) كما شاع
واستفاض لأبي بكر أنه (صديق) ولعمر أنه (فاروق) ولم يجب بذلك
عندكم أن يكون خال المؤمنين على التحقيق، ولا مستحقا لكتابة الوحي
والتنزيل.
فما أنكرتم أن يكون الشائع لأبي بكر وعمر مما ذكرتموه لا يجب
لهما به حق في الدين؟! وهذا مما لا فرق لهم فيه.
فصل
ثم يقال للمعتزلة: ليس يمكنكم دفاع ما قد شاع لكم من لقبكم
بالقدرية، كما شاع من لقب أصحاب المخلوق بالجبر، والمحكمة
بالخارجية، وشيعة علي عليه السلام بالرافضة، وأصحاب الحديث بالحشوية، ولم
يجب بذلك عندكم ولا عند فريق ممن سميناه استحقاقهم الشائع مما
وصفناه، ولا خروجهم به من الدين كما ذكرناه، فما أنكرتم أن يكون
المشتهر في العامة لأبي بكر وعمر من لفظ المدحة لا يوجب لهما فضلا،
ولا يخرجهما عن نقص، وذلك مما لا تجدون إلى دفعه (1) سبيلا.

(1) في أ: وإلا فهلموا فضلا، وذلك ما لا يجدون إليه بدل (وذلك مما.. دفعه).
227

سؤال
فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون العقد لأبي بكر وعمر الإمامة،
وتقدمهما على الكافة في الرئاسة، يدل على فضلهما في الإسلام، وعلوهما
في الديانة، وإن كنا لا نحيط علما بذلك الفضل، ولم يتصل بنا من جهة
الأثر والنقل.
وذلك أنهما لم يكونا من أشرف القوم نسبا فيدعو ذلك إلى
تقديمهما، لأن بني عبد مناف أشرف منهما، ولا كانا من أكثرهم ما لا
فيطمع العاقدون لهما في نيل أموالهما، ولا كانا أعزهم عشيرة فيخافون
عشيرتهما.
فلم يبق إلا أن المتقدمين لهما على أمير المؤمنين عليه السلام والعباس بن عبد
المطلب وسائر المهاجرين والأنصار إنما قدموهما لفضل عرفوه لهما،
وإلا فما السبب الموجب لاتباع العقلاء المخلصين لأمرهما، ونصبهما
إمامين لجماعتهم ورئيسين لكافتهم لولا الذي ادعيناه؟
جواب
قيل لهم: لو كان للرجلين فضل حسب ما ادعيتموه، وكان ذلك
229

معروفا عند أهل زمانهما كما ذكرتموه، لوجب أن تأتي به الأخبار وترويه
نقلة السير والآثار، بل وجب أن يظهر على حد يوجب علم اليقين
والاضطرار، ويزيل الريب فيه حتى لا يختلف في صحته اثنان، لأن جميع
الدواعي إلى انتشار فضائل الرجال متوفرة، في نقل ما كان لهذين
الرجلين مما يقتضي التعظيم، لمن وجد لهما، والأخبار بها.
ألا ترى أنهما كانا أميري الناس، وحصلت لهما القدرة على الكافة
والسلطان، وكان المظهر لولايتهما في زمانهما ومن بعد إلى هذه الحال هو
الظاهر على عدوه، المتوصل به إلى ما يصلح به الأحوال، والمظهر
لعداوتهما مهدور الدم، أو خائف مطرود عن البلاد، والمظنون به من
الافصاح ببغضهما مبعد عن الدنيا، مستخف باعتقاده عند الجمهور،
متوقع منهم ما يخافه ويحذره، حتى صار القتل مسنونا لمن أظهر ولاية
أمير المؤمنين عليه السلام، وإن كان مظهرا لمحبة أبي بكر وعمر، متدينا بها على
الاعتقاد، وحتى جعل بنو أمية الامتحان بالبراءة من أمير المؤمنين عليه السلام
طريقا إلى استبراء الناس في اعتقاد إمامة من تقدمه، وكل من امتنع من
البراءة حكموا عليه بعداوة الشيخين، والبراءة من عثمان، ومن تبرأ من
أمير المؤمنين عليه السلام حكموا له باعتقاد السنة، وولاية أبي بكر وعمر
وعثمان.
ونال أكثر أهل الدنيا مما تمنوه منها (1) من القضاء والشهادات

(1) في ب، ح، م: تمناه منهم.
230

والإمارات، وحازوا الأموال، وقربت منازلهم من خلفاء بني أمية وبني
العباس بالعصبية لأبي بكر وعمر وعثمان، والدعاء إلى إمامتهم،
والتفضيل لهم على كافة الصحابة، والتخرص بما يضيفونه إليهم من
الفضل الذي يمنع بالقرآن، وينفى بالسنة، ويستحيل في العقول،
ويظهر فساده بيسير الاعتبار.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ولم يمكن لعاقل رفع ما بيناه
وشرحناه، بطل أن يكون العلم بفضل الرجلين والثالث أيضا على الحد
الذي ذكرناه، مما يزول معه الارتياب لتوفير الدواعي (1) على موجبه لو
كان، بل لم يقدر الخصم على ادعاء شئ في هذا الباب أقوى عنده مما
حكيناه عنهم فيما سلف من هذا الكتاب، وأوضحنا عن وهن التعلق به
وكشفناه، وبان بذلك جهل الناصبة فيما ادعوه لهما من الفضل
المجهول على ما توهموه، كما وضح به فساد مقالهم فيما تعلقوا به من ذلك
في تأويل المسطور، وتخرصوه من الخير المفتعل الموضوع، والمنة لله تعالى.
فصل
ثم يقال لهم: قد سبرنا أحوال المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام،
فيما يقتضي لهم فضلا يوجب تقدمهم، فلم نجده على شئ من الوجوه،
وذلك أن خصال الفضل معروفة، ووجوهه ظاهرة مشهورة، وهي: السبق

(1) في أ: الرواة بدل (الدواعي).
231

إلى الإسلام، والجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله، والعلم بالدين،
والإنفاق في سبيل الله جل اسمه، والزهد في الدنيا.
أما السبق إلى الإسلام: فقد تقدم أمير المؤمنين عليه السلام أبا بكر
باتفاق العلماء وإجماع الفقهاء (1)، وإن كان بعض أعدائه يزعم أنه لم
يكن على يقين، وإنما كان منه لصغر سنه على جهة التعليم، وقد تقدمه
أيضا بعد أمير المؤمنين عليه السلام زيد وجعفر وخباب رضي الله عنهم وغيرهم من
المهاجرين، وجاء بذلك الثبت في الحديث.
فروى سالم بن أبي الجعد، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص أنه
قال لأبيه سعد: كان أبو بكر أولكم إسلاما؟
قال: لا، قد أسلم قبله أكثر من خمسين رجلا (2).
فأما عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، فإنه لا يشتبه على أحد
من أهل العلم أنهما ينزلان عن مرتبة التقدم على السابقين، وأنهما لم
يكونا من الأولين في الإسلام، وقد تقدمهما جماعة من المسلمين.

(1) في أ: الأمة بدل (الفقهاء).
قال الحاكم النيسابوري في معرفة علوم الحديث: 22: لا أعلم خلافا بين أصحاب
التواريخ أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أولهم إسلاما.
وحديث أن عليا عليه السلام أولهم إسلاما مروي في مصادر معتبرة كثيرة وبطرق ومتون
شتى.
فرواه الترمذي في صحيحه 5: 640 / 3728، والحاكم في مستدركه على الصحيحين
3: 136، 183، 465، وأبو نعيم في حلية الأولياء 1: 65، 66، والخطيب في تاريخ بغداد
2: 18 و 4: 233.
(2) تاريخ الطبري 2: 215، الأعلام بحقيقة إسلام أمير المؤمنين عليه السلام: 409.
232

وأما الجهاد: فإنه لا قدم لأحدهم فيه، فلا يمكن لعاقل دعوى
ذلك على شئ من الوجوه وقد ذكر من كان منه ذلك سواهم،
فلم يذكر هم أحد، ولا تجاسر على القول بارزوا وقتا من الأوقات
قرنا، ولا سفكوا لمشرك دما، ولا جرحوا في الحرب كافرا، ولا نازلوا من
القوم إنسانا، فالريب في هذا الباب معدوم، والعلم بما ذكرناه حاصل
موجود.
وأما العلم بالدين: فقد ظهر من عجزهم فيه، ونقصهم عن مرتبة
أهل العلم في الضرورة إلى غيرهم من الفقهاء، أحوال إماراتهم ما أغنى
عن نصب الدلائل عليه.
وقد كان رسول صلى الله عليه وآله حكم لجماعة من أصحابه بأحكام
فيه، فما حكم لأحد من الثلاثة بشئ منه، فقال صلى الله عليه وآله: " أقرأكم أبي،
وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ، وأفرضكم زيد، وأقضاكم علي " (1).
فكان صلى الله عليه وآله ناحلا لكل من سميناه سهما من العلم، وجامعا
سائره لأمير المؤمنين عليه السلام، بما حكم له بالقضاء الذي يحتاج صاحبه إلى
جميع من سماه من العلوم، وأخرج أبا بكر وعمر وعثمان من ذلك كله،
ولم يجعل لهم فيه حظا كما ذكرناه، وهذا مما لا إشكال فيه على ذوي
العقول.
وأما الإنفاق: فقد قلنا فيما تقدم فيه قولا يغني عن إعادته

(1) سنن الترمذي 5: 664 / 3790 و 3791، سنن ابن ماجة 1: 55 / 154، مسند أحمد
3: 281، مصابيح السنة 4: 179 / 4787، مستدرك الحاكم 3: 422.
233

ها هنا، وعمر بن الخطاب من بين الثلاثة صفر منه بالاتفاق، أما عثمان
فقد كان له ذلك، وإن كان بلا فضل، فإن خلو القرآن من مديح له على
ما كان منه، دليل على أنه لا فصل له فيه، ولو حصل له به قسط من
الفضل لكان كسهم غيره من المنفقين الذين لم يجب لهم التقدم بذلك
في إمامة المسلمين.
وأما الزهد في الدنيا: فقد قضى بتعرية الثلاثة منه مثابرتهم على
الإمارة، ومضاربتهم الأنصار على الرئاسة، ومسابقتهم إلى الحلية في
التظاهر باسم الإمامة، وتر كوا رسول الله صلى الله عليه وآله مسجى بين أظهرهم، لم
يقضوا له بذلك في مصابه حقا، ولا حضروا له غسلا وتجهيزا، ولا صلاة
ولا تشييعا ولا دفنا، وتوفروا على مخاصمة من سبقهم إلى السقيفة طمعا
في العاجل، وزهدا في الآجل، وسيعا في حوز الشهوات، وتناولا للذات،
وتطاولا على الناس بالرئاسات، ولم يخرجها الأول منهم عن نفسه حتى
أيقن بهلاكه، فجعلها حينئذ في صاحبه ضنا بها على سائر الناس، وغبطة
لهم.
وكان من أمر الثاني في الشورى ما أوجب تحققه بها بعد وفاته،
وتحمل من أوزارها ما كان غنيا عنه لو سنحت بها نفسه إلى مستحقها،
وظهر بعده من الثالث ما استحل به أصحاب رسول الله صلى عليه وآله دمه،
من إطراح الدين، والانقطاع إلى الدنيا، وقضاء الذمامات بأموال الله
تبارك وتعالى، وتقليد الفجار من بني أمية ومروان رقاب أهل الأديان،
ولما طولب بنزعها عنه ليقوم بها من سلك طرق الدين، امتنع من ذلك
234

حبا للدنيا، وتأكد طمعه فيها، إلى أن سفك القوم دمه على الاستحلال
له، ورفع الحظر والتحريم.
ثم فأي زهد حصل لهم مع ما وصفناه، وأي شبهة تبقى على
مخالف في خروجهم عن خصال الفضل كلها مع ما ذكرناه، لولا أن
العصبية ترين على القلوب؟!
فصل
وأما سؤالهم عن علة تقديم الناس لهم مع ما ذكروه من أحوالهم
في النزول عن الشرف، وقلة العشيرة والمال، فلذلك غير علة:
إحداها: أنهم قصدوا إلى من ليس بأشرفهم فقدموه، ليكون ذلك
ذريعة إلى نيل جماعاتهم الإمامة، مع اختلافهم في منازل الشرف، ولا
يمنع أحدا منهم انحطاطه عن أعلى الرتب في النسب من التقدم إلى من
هو أشرف منه، ولو حصروها في أعلى القوم نسبا وأكرمهم حسبا
لاختصت بفريق، وحصل الباقون منها أصفارا، ثم لو جعلوها فيمن
كان غيره أكثر منه مالا لطمع الفقراء كلهم بذلك فيها، وتقدير هم حوز
الأفعال، ولم يحصروها في أعزهم عشيرة مخافة أن يتغير عليهم، فلا
يتمكنون من إخراجها منه، ولامتنع عنهم (1) بعشيرته فلا يبلغون منه
المراد.

(1) في أ، ب، ح: وبفقرهم، بدل: (ولامتنع عنهم).
235

والثانية: أن الذي قدموه كان متعريا، مما أوجب عندهم
تأخيره (1)، فلم يك على حال من الفضل يبعث على الحسد، فيحول
ذلك بينه وبين التقديم.
والثالثة: أن الأكثر كانوا إلى الرجل أسكن منهم إلى غيره،
لبعده عن عداوتهم، وخروجه عن آصارهم، بوتر من وترهم في الدين.
والرابعة: ملاءمة العاقدين للمعقود له في الباطن، واجتماعهم
على السر من أمرهم والظاهر، فتشابهت لذلك منهم القلوب.
والخامسة: استحكام طمع الاتباع في النيل من المتقدمين
مراداتهم في الرئاسات، والسيرة فيهم بما يؤثرونه من الأحكام المخالفة
للمفترضات والمسنونات، والتجاوز لهم عن العثرات والزلات، وهذا
أيضا من الأسباب الداعية إلى إخراج الحق عن أهله بلا اختلاف.
والسادسة: الاتفاق الذي لا يرجع فيه إلى أصل ثابت
ولا نتيجة نظر، وقد جرت به العادات، وقضت بوجود أمثاله الشهادات.
ألا ترى إلى اجتماع أهل الجاهلية على عبادة الأوثان، وهي
جمادات لا تنفع أحدا ولا تضره، ولا تجلب إليه خيرا ولا تدفع عنه شرا،
مع انصرافهم عن عبادة الله الذي خلقهم، وأراهم في أنفسهم وغيرهم
الآيات.
وكذلك كانت حال من تقدمهم في عبادة الأصنام (2)، مع تقريع

(1) في ب، ح، م، زيادة: من أخرجوه.
(2) في ب، ح، م، الأصنام وعبادتها بدل (عبادة الأصنام).
236

الأنبياء لهم وتوبيخ الحكماء.
وكذلك كانت حال قوم موسى عليه السلام حين خالفوا نبيهم في عبادة
العجل واتبعوا السامري، فتركوا (1) هارون نبي الله، ولم يصغوا إلى
وعظه، ولا التفتوا إلى قوله، ولا اعتنوا بحجته، ولم يكن السامري أكثر
القوم مالا، ولا أشرفهم نسبا، ولا أعزهم عشيرة.
وقد اتبع كثير من العرب مسيلمة الكذاب، مع ظهور نقصه
وعجزه وحماقته، واشتهار كذبه وسخفه، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله مع
ظهور فضله وكمال عقله، واشتهار صدقه فيهم، وأما منته، وشرف أصله
وكرم فرعه، وبرهان أمره ووضوح حجته وعجيب آياته، ولم يك مسيلمة
أعزهم عشيرة، ولا أكثرهم مالا، ولا أشرفهم نسبا، بل كان بالضد من
هذه الصفات كلها، ولم يمنع ذلك من الضلال به، وتقديم أتباعه له،
وارتداد جماعة ممن كان قد أسلم عن دينه واللحوق به.
وقد ظهر من اتباع الجمهور لأراذل الناس وانصرافهم عن
أفاضلهم على مرور (2) الأوقات ما لا يمكن دفعه، ولم يك ذلك لعز
عشيرة، ولا لشرف نسب، ولا كثرة مال، بل كان بتمام حيلة وجد في
الدنيا واتفاق، حتى ساست النساء الرجال، وتقدم الأطفال على
العقلاء، واسترق العبيد الأحرار، واستعبد الأوضاع الأشراف، وحكم
الجهال على العلماء.

(1) في أ: فشكوا بدل (فتركوا).
(2) في ب زيادة: الأيام و.
237

وقد قال الله عز وجل: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من
المجرمين} (1).
وقال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين
الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} (2).
وكان الجمهور في زمان أكثر الأنبياء أتباع المجرمين، فضل بهم
أكثر أممهم وغيروا شرائعهم، وصدوا عن سبيلهم، ودعوا إلى غير دينهم،
ولم يدعهم إلى ذلك شرف المضلين، ولا عزهم في عشائرهم، ولا كثرة
أموالهم، وإنما دعاهم إليه ما ذكرناه من الداعي إلى تقديم من سميناه.
ولو ذهبنا إلى تتبع هذا المعنى وتعداد من حصل له وشرح الأمر
فيه، لطال الخطاب، وفي الجملة أن الأغلب في حصول الدنيا لأهلها،
والأكثر فيها تمام الرئاسة لأهل الجهل، والمعهود في ملكها والغلبة عليها
لأهل الضلال والكفر، وإنما يخرج عن هذا العهد إلى أهل الإيمان وذوي
الفضل والكمال في النادر الشاذ، ومن دفع ما وصفناه، وأنكر ما شرحناه،
كان جاهلا أو مرتكبا للعناد.
فصل
ثم يقال لهم: لسنا ننكر أن تقديم المفضول على الفاضل مخالف
لأحكام العقول، وأن سياسة الناقص الكامل من الحكم المعكوس

(1) سورة الفرقان 25: 31.
(2) سورة الأنعام 6: 112.
238

المرذول، لكنه غير بدع عند أهل الضلال، ولا عجب من اختيارهم فيما
سلف من الأزمان والأحوال، وأن تقديم تيم وعدي على بني هاشم وعبد
مناف إنما هو كتقديم العبيد على السادات، وتغلب أبي بكر بن أبي
قحافة على مقام رسول الله صلى الله عليه وآله، ودفع أخيه ووصيه وصهره ووزيره
ووارثه وخليفته في أهله وأحب الخلق إلى الله تعالى وإليه لعجيب، تكاد
النفوس منه تذوب، لكنا إذا وكلنا الأمر إلى ما قدمناه من ذكر أمثاله
في البدائع من الأمور فيما سلف، سلت لذلك القلوب.
وقد قال الشاعر:
أجاء نبي الحق من آل هاشم * لتملك تيم دونهم عقدة الأمر؟!
وتصرف عن قوم بهم تم أمرها * ويملكها بالصفر منهم أبو بكر
أفي حكم من هذا فنعرف حكمه * لقد صار عرف الدين نكرا إلى نكر (1)!
وقال أيضا رحمه الله:
أترى صهاكا وابنها وابن ابنها * وأبا قحافة آكل الذبان
كانوا يرون، وفي الأمور عجائب * يأتي بهن تصرف الأزمان
أن الخلافة من وارثة هاشم * فيهم تصير وهيبة السلطان (2)

(1) الصراط المستقيم 2: 306 قال: من أحسن ما روته العباسة من شعر أبيها السيد
الحميري. وذكر الأبيات.
(2) ديوان السيد الحميري: 792.
239

فصل
إعلموا - رحمكم الله - أنه لولا ما اتفق لهؤلاء الثلاثة من التقدم على
آل محمد عليهم السلام والتسلط على الخلق بسلطانهم، والترؤس بالغطرسة
عليهم، لما سل بين المسلمين سفيان، ولا اختلف في الشريعة اثنان، ولا
استحل أتباع الجمل وأهل الشام والنهروان دماء أهل الإيمان،، ولا سفك
دم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام جهلا على التدين به
والاستحلال، ولا قتل الحسنان عليهم السلام، ولا استحلت حرمات العترة
وأريقت دماؤهم، كما يستباح ذلك من أهل الردة عن الإسلام.
لكنهم أصلوا ذلك بدفعهم عليا أمير المؤمنين عليه السلام، عن مقامه،
وسنوه باستخفافهم بحقه، وأوجبوه باستهانتهم بأمره، وسهلوه بوضعهم
من قدره، وسجلوه بحطهم له عن محله، وأباحوه بما أظهروا من عداوته
ومقته، فباءوا لذلك بإثمه، وتحملوا أوزاره وأوزار من ضل بهم عن الحق
بأسره، كما قال الله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم
وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون} (1).
241

ولقد أحسن شاعر آل محمد عليهم السلام في جملة ما فصلناه في هذا المقام
حيث يقول:
تبيت النشاوى من أمية نوما * وفي الطف قتلى ما ينام حميمها
وما ضيع الإسلام إلا عصابة * تأمر نوكاها (1) فدام نعيمها
فأضحت قناة الدين في كف ظالم * إذا اعوج منها جانب لا يقيمها (2)
وقال الآخر في ذلك:
لعمري لئن جارت أمية واعتدت * لأول من سن الضلالة أجور
وقال الكميت بن زيد رحمه الله وقد ذكر مقتل الحسين عليه السلام:
يصيب به الرامون عن قوس وترهم (3)
فيا آخرا يبدي (4) له الغي أول (5)
وقد أثبت في هذا الكتاب - والله المحمود - جميع ما يتعلق به
أهل الخلاف في إمامة أئمتهم من تأويل القرآن والاجماع، والعمد لهم في
الأخبار على ما يتفقون عليه من الاجماع دون ما يختلفون فيه، لشذوذه
ودخوله في باب الهذيان، وبينت عن وجوه ذلك بواضح البيان، وكشفت
عن الحقيقة فيه بجلي البرهان.

(1) أي الحمقى. أنظر الصحاح 4: 1612 - نوك -.
(2) أمالي المرتضى 1: 118، مقتل الحسين للخوارزمي 2: 191، معجم البلدان 4: 36،
والأبيات لأبي دهبل الجمحي.
(3) في ح نسخة بدل وفي المصدرين: غيرهم.
(4) في شرح الهاشميات: سدى. وفي الأغاني: أسدى. وهو الأنسب.
(5) شرح هاشميات الكميت لأبي رياش أحمد بن إبراهيم القيسي: 168، الأغاني 17:
31.
242

وأنا - بمشيته وعونه تعالى - أفرد فيما تعتمده الشيعة في إمامه
أمير المؤمنين عليه السلام من آيات القرآن المحكمات، والأخبار الصادقة بحجج
التواتر والقرآن من البينات كتابا، أشبع فيه معاني الكلام (1)، ليضاف إلى
هذا الكتاب، وتكمل به الفوائد في هذه الأبواب، والله - تعالى اسمه -
هو الموفق والهادي إلى الصواب.
* * *
إلى هنا تم كتاب (الافصاح) للشيخ السديد المفيد، أبي عبد الله
محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن النعمان بن سعيد
العكبري البغدادي قدس سره السعيد.

(1) عد تلميذه الشيخ أبو العباس النجاشي في رجاله: 400 من كتب أستاذه كتابا في
إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من القرآن.
243