الكتاب: التوحيد
المؤلف: المفضل بن عمر الجعفي
الجزء:
الوفاة: ١٦٠
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: تعليق : كاظم المظفر
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤٠٤ - ١٩٨٤ م
المطبعة:
الناشر: مؤسسة الوفاء - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: توحيد المفضل إملاء الإمام أبي عبد الله الصادق (ع) على المفضل بن عمر الجعفي

توحيد المفضل
1

توحيد المفضل
إملاء
الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام
على المفضل بن عمر الجعفي
علق عليه
كاظم المظفر
مؤسسة الوفاء
بيروت - لبنان
3

كافة الحقوق محفوظة ومسجلة
الطبعة الثانية
1404 ه‍ 1984 م
مؤسسة الوفاء
المكتب: بئر العبد - مقابل مدرسة قصر الثقافة - بناية كتاب وبرجاوي
المستودع: المريجة. شارع البلدية - ملك دياب
هاتف: 386868
ص ب: 1457 - بيروت.
4

بسم الله الرحمن الرحيم
(كلام ابن العوجاء مع صاحبه)
روى محمد بن سنان (1)، قال: حدثني المفضل بن عمر (2) قال: كنت
ذات بعد العصر جالسا في الروضة بين القبر والمنبر، وأنا مفكر فيما خص
الله تعالى به سيدنا محمدا صلى الله عليه وعلى آله، من الشرف والفضائل، وما
منحه وأعطاه وشرفه وحباه، مما يعرفه الجمهور من الأمة وما جهلوه من فضله
وعظيم منزلته، وخطير مرتبته، فإني لكذلك إذ أقبل (ابن أبي العوجاء) (3)

1 - هو أبو جعفر الزاهري. لا ذكر الكشي في شأنه ما يدل على مدح عظيم وعلى قدح أيضا، وذكر
أنه روى عنه جماعة من العدو والثقاة من أهل العلم والإنصاف، وجميع الروايات المجرحة له
واهية ساقطة، فقد أشار الكثير إلى قوته والذب عنه، وتفنيد ما قيل فيه من الضعف. وإن
اجتماع الأعيان على الرواية عنه أدل شئ على كمال قوته عده الشيخ المفيد من خاصة الإمام
الكاظم وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته كما عده الشيخ في الغيبة من الوكلاء
المرضيين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا، بل مضوا على منهاج الأئمة، وفي الخلافة كان مكفوف
البصر أعمى توفي عام 220 ه‍.
2 - مضت ترجمة المفضل بصورة مفصلة في المقدمة.
3 - هو عبد الكريم بن أبي العوجاء ربيب حماد بن سلمة على ما يقول ابن الجوزي ومن تلامذة
الحسن البصري، وذكر البغدادي إنه كان مانويا يؤمن بالتناسخ ويميل إلى مذهب الرافضة (!)
ويقول بالقدر، ويتخذ من شرح سيرة ماني وسيلة للدعوة، وتشكيك الناس في عقائدهم،
ويتحدث في التعديل والتجوير على ما يذكر البيروني. ومن هنا يتبين أن ابن أبي العوجاء هذا
كان زنديقا مشهورا بذلك. وله مواقف حماسة مع الإمام الصادق، أفحمه الإمام في كل مرة
منها، سجنه والي الكوفة محمد بن سليمان ثم قتله في أيام المنصور عام 155 ه‍، وقيل عام
160 ه‍ في أيام المهدي تجد ذكره في تاريخ الطبري ج 3 ص 375 ط ليدن، وفهرست ابن
النديم ص 338، والفرق بين الفرق ص 255 ط محمد بدر، ودائرة المعارف الإسلامية مج
1 ص 81، واحتجاج الطبرسي ص 182 و 183 ط النجف، وما للهند من مقولة ص
123.
5

فجلس بحيث أسمع كلامه فلما استقر به المجلس إذ من أصحابه قد جاء
فجلس إليه، فتكلم (ابن أبي العوجاء) فقال: لقد بلغ صاحب هذا القبر
العز بكماله، وحاز الشرف بجميع خصاله، ونال الحظوة في كل أحواله،
فقال له صاحبه: إنه كان فيلسوفا ادعى المرتبة العظمى، والمنزلة الكبرى،
وأتى على ذلك بمعجزات بهرت العقول، وضلت فيها الأحلام، وغاصت
الألباب على طلب علمها في بحار الفكر، فرجعت خاسئات، وهي حسر،
فلما استجاب لدعوته العقلاء والفصحاء والخطباء، دخل الناس في دينه
أفواجا، فقرن اسمه باسم ناموسه (1)، فصار يهتف به على رؤوس
الصوامع، في جميع البلدان والمواضع، التي انتهت إليها دعوته، وعلتها
كلمته، وظهرت فيها حجته برا وبحرا، سهلا وجبلا، في كل يوم وليلة خمس
مرات مرددا في الأذان والإقامة، ليتجدد في كل ساعة ذكره، ولئلا يخمل
أمره.
فقال (ابن أبي العوجاء): دع ذكر محمد (صلى الله عليه وعلى آله) فقد
تحير فيه عقلي، وضل في أمره فكري. وحدثنا في الأصل الذي نمشي
له... ثم ذكر ابتداء الأشياء، وزعم ذلك بإهمال لا صنعة فيه ولا تقدير،
ولا صانع ولا مدبر، بل الأشياء تتكون من ذاتها بلا مدبر، وعلى هذا كانت
الدنيا لم ولا تزال!

1 - الناموس: الشريعة.
6

(محاورة المفضل مع أبي العوجاء)
(قال المفضل): فلم أملك نفسي غضبا وغيظا وحنقا، فقلت: يا
عدو الله ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري جل قدسه الذي خلقك في
أحسن تقويم، وصورك في أتم صوره، ونقلك في أحوالك حتى بلغ حيث
انتهيت.
فلو تفكرت في نفسك وصدقك (1) لطيف حسك، لوجدت دلائل
الربوبية وآثار الصنعة فيك قائمة، وشواهده جل وتقدس في خلقك واضحة،
وبراهينه لك لائحة، فقال: يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك، فإن
ثبتت لك حجة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من
أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا، ولا بمثل دليلك تجادل
فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش خطابنا، ولا
تعدى في جوابنا وأنه الحليم الرزين، العاقل الرصين، لا يعتريه خرق (2)،
ولا طيش ولا نزق (3) يسمع كلامنا، ويصغي إلينا ويتعرف حجتنا، حتى إذا
استفرغنا (4) ما عندنا، وظنننا قطعناه، دحض حجتنا بكلام يسير،
وخطاب قصير، يلزمنا الحجة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردا،
فإن من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه.
(سبب إملاء الكتاب المفضل
قال المفضل: فخرجت من المسجد محزونا مفكرا فيما بلي به الإسلام

(1) صدقك: أي قال لك صدقا.
(2) الخرق: ضعف الرأي وسوء الصرف والحمق.
(3) النزق: هو الطيش والخفة عند الغضب.
(4) لعله من الإفراغ بمعنى الصب. يقال: استفرغ مجهوده، أي بذل طاقته.
7

وأهله من كفر هذه العصابة وتعطيلها (1) فدخلت على مولاي (عليه السلام) فرآني
منكسرا فقال: ما لك؟ فأخبرته بما سمعت من الدهريين (2) وبما رددت
عليهما. فقال: يا مفضل لألقين عليك من حكمه الباري وعلا وتقدس
اسمه في خلق العالم، والسباع، والبهائم، والطير، والهوام، وكل ذي روح
من الأنعام والنبات (3)، والشجرة المثمرة، وغير ذات الثمر والحبوب،
والبقول، المأكول من ذلك وغير المأكول، ما يعتبر به المعتبرون ويسكن إلى
معرفته المؤمنون: ويتحير فيه الملحدون فبكر علي غدا.

(1) التعطيل: مصدر، وفي الاصطلاح الديني هو إنكار صفات الخالق الباري، والمعطلة: هم
أصحاب مذهب التعطيل.
(2) واحده الدهري، وهو الملحد الذي يزعم بأن العالم موجود أزلا وأبدا.
(3) العطف التشريكي هنا يكشف عن رأي الإمام الصادق في النبات وإن له روحا، وبعبارة
أخرى أن لديه حسا وحركة، ولم تكتشف هذه النظرية العلمية إلا في أواخر القرن الثامن عشر
الميلادي، وأول من قال بأن في النبات حسا تشله السموم وتميته الكهربية هو (بيشا) العالم
الفسيولوجي الفرنسي المتوفى عام 1802 م (عجائب الخلق لزيدان ص 193) وقد ثبتت هذه
النظرية بوجود بعض الأزهار المتفتحة نهارا والمقفلة ليلا (ص 625 من كتاب التأريخ
الطبيعي) وقام عالم هندي هو (السرجفادس بوز) بوضع آلة دقيقة تظهر بها حركات النبات،
وما يتأثر به من المؤثرات الخارجية، كالمنبهات والمخدرات، وأنشأ هذا العالم معهدا كبيرا في
(كلكتا) لدرس حركات النبات، وانفعاله بالحر والبرد والظلمة والنور - فصول في التاريخ
الطبيعي للدكتور يعقوب صروف ص 49 - وقد أصبح من المشهور وجود بعض نباتات تفترس
بعض الحشرات والحيوانات الصغيرة، وتوجد أيضا أزهار تضحك وأخرى تبكي - ص
1020 من السنة السادسة والثلاثين لمجلة الهلاك - وأمثلة ذلك النبتة المستحية وندى الشمس
وأعجوبة القدر والأباريق ومصيدة الذباب واللقاح وغير هذه. وفي مقدمات كتابنا
(في دنيا النبات) وضعنا فصلا طريفا عن طبائع النبات وحركاته، ومنه اقتبسنا هذه الكلمات.
8

* (المجلس الأول) *
(قال المفضل): فانصرفت عنده فرحا مسرورا، وطالت علي تلك
الليلة انتظارا وعدني به، فلما أصبحت غدوت فاستؤذن لي فدخلت
وقمت بين يديه، فأمرني بالجلوس، فجلست، ثم نهض إلى حجرة كان يخلو
فيها، ونهضت بنهوضه، فقال: اتبعني، فتبعته، فدخل ودخلت خلفه،
فجلس وجلست بين يديه، فقال: يا مفضل كأني بك وقد طالت عليك هذه
الليلة انتظارا لما وعدتك، فقلت: أجل يا مولاي، فقال: يا مفضل إن الله
تعالى كان ولا شئ قبله، وهو باق ونهاية له، فله الحمد على ما ألهمنا،
والشكر على منحنا، فقد خصنا من العلوم بأعلاها ومن المعالي بأسناها،
واصطفانا على جميع الخلق بعلمه، وجعلنا مهيمنين (1)، عليهم بحكمه،
فقلت: يا مولاي أتأذن لي أن أكتب ما تشرحه - وكنت أعددت معي ما أكتب
فيه - فقال لي: إفعل مفضل.
(جهل الشكاك بأسباب الخلقة ومعانيها)
إن الشكاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة، وقصرت أفهامهم عن

(1) جمع مهيمن، وهو الأمين والمؤتمن والشاهد.
9

تأمل الصواب، والحكمة فيما ذرأ (1) الباري جل قدسه، وبرأ (2) من صنوف
خلقه في البر، والبحر، والسهل، والوعر، فخرجوا بقصر علومهم إلى
الجحود، وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود، حتى أنكروا خلق
الأشياء، وادعوا تكونها بالإهمال، لا صنعه فيها ولا تقدير ولا حكمة من
مدبر، ولا صانع، تعالى الله عما يصفون، وقاتلهم أنى يؤفكون (3) فهم في
ضلالهم وغيهم وتجبرهم بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بنيت أتقن بناء وأحسنه،
وفرشت بأحسن الفرش وأفخره، وأعد فيها ضروب الأطعمة والأشربة
والملابس والمآرب التي يحتاج إليها ولا يستغني عنها، ووضع كل شئ من ذلك
موضعه على صواب من التقدير، وحكمة من التدبير، فجعلوا يترددون
فيها يمينا وشمالا، ويطوفون بيوتها إدبارا وإقبالا، محجوبة أبصارهم عنها، لا
يبصرون بنية الدار، وما أعد فيها وربما عثر بعضهم بالشئ الذي وضع
موضعه، وأعد للحاجة إليه، وهو جاهل للمعنى ولما أعد ولماذا جعل
كذلك؟ فتذمر وتسخط وذم الدار وبانيها. فهذه حال هذا الصنف في إنكارهم
ما أنكروا من أمر الخلقة وثبات الصنعة. فإنهم لما غربت (4) أذهانهم عن معرفة
الأسباب والعلل في الأشياء، صاروا يجولون في هذا العالم حيارى، فلا
يفهمون ما هو عليه من اتقان خلقته، وحسن صنعته، وصواب هيئته. وربما
وقف بعضهم على الشئ يجهل سببه، والأرب (5) فيه، فيسرع إلى ذمه
ووصفه بالإحالة والخطأ، كالذي أقدمت عليه المنانية (6) الكفرة، وجاهرت به

(1) ذرأ الله الخلق: خلقهم.
(2) برأه: خلقه من العدم.
(3) أي ينصرفون عن الحق.
(4) أي غابت.
(5) الأرب: بالفتح - المهارة أو الحاجة.
(6) أو المانوية: هم أصحاب الحكيم الفارسي ماني بن فاتك الذي ظهر في أيام سابور
(ثاني ملوك الدولة الساسانية) ومذهبه مزيج من المجوسية والنصرانية، وقد تبعه في
معتقده خلق كثير، وبقي قسم كبير منهم في الدور العباسي الأول ثم تسربت آراؤه
إلى أوروبا وبقية الأقطار الآسيوية. وماني هذا كان راهبا بحران ولد حوالي عام 215
م وقتله بعدئذ بهرام بن هرمز. أنظر في ذلك الملل والنحل للشهرستاني ج 2 ص 81
ومروج الذهب ج 1 ص 155، والفهرست ص 456، ومعرب الشاهنامة ج 2 ص
71 والفرق بين الفرق ص 162 و 207، والآثار الباقية للبيروني ص 207، وتاريخ
الفكر العربي لإسماعيل مظهر ص 39، وحرية الفكر لسلامة موسى ص 55.
10

الملحدة المارقة الفجرة، وأشباههم من أهل الضلال المعللين أنفسهم
بالمحال (1) فيحق على من أنعم الله عليه بمعرفته، وهداه لدينه، ووفقه لتأمل
التدبير في صنعة الخلائق، والوقوف على ما خلقوا له من لطيف التدبير وصواب
التقدير، بالدلالة القائمة الدالة صانعها أن يكثر حمد الله مولاه على
ذلك، ويرغب إليه في الثبات عليه والزيادة منه فإنه جل اسمه: (لئن
شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) * (2).
(تهيئة العالم وتأليف أجزائه)
يا مفضل أول العبر والدلالة على الباري جل قدسه، تهيئة هذا العالم
وتأليف أجزائه ونظمها (3)، على ما هي عليه، فإنك إذا تأملت العالم بفكرك

(1) أي الشاغلين أنفسهم عن طاعة ربهم بأمور يحكم العقل السليم باستحالتها.
(2) سورة إبراهيم آية 7.
(3) الضمير راجع إلى الأجزاء.
11

وخبرته بعقلك، وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده،
فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم مضيئة (1)،
كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكل شئ فيها لشأنه معد، والإنسان
كالمالك ذلك البيت، والمخول (2) جميع ما فيه. وضروب النبات مهيأة لمأربه،
وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه. ففي هذا دلالة واضحة على أن
العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملائمة، وأن الخالق له واحد، وهو الذي
ألفه ونظمه بعضا إلى بعض، جل قدسه وتعالى جده وكرم وجهه ولا إله غيره
تعالى عما يقول الجاحدون، وجل وعظم عما ينتحله الملحدون.
(خلق الإنسان وتدبير الجنين في الرحم)
نبدأ يا مفضل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به.. فأول ذلك ما يدبر به
الجنين في الرحم، وهو محجوب في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة
الرحم، وظلمة المشيمة (3)، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء، ولا دفع
أذى. ولا استجلاب منفعة، ولا دفع مضرة، فإنه يجري من دم الحيض
ما يغذوه، الماء والنبات، فلا يزال ذلك غذاؤه.
(كيفية ولادة الجنين وغذائه وطلوع أسنانه وبلوغه)
حتى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه وقوى أديمه (4) مباشرة الهواء

(1) في نسخة منضودة أي جعل بعضها فوق بعض فهي منضودة.
(2) من التخويل وهو الاعطاء والتمليك.
(3) المشيمة: غشاء ولد الإنسان يخرج معه عند الولادة، جمعه مشيم ومشايم.
(4) الأديم: الجلد المدبوغ.
12

وبصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق (1) بأمه فأزعجه أشد إزعاج وأعنفه حتى
يولد، فإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمه إلى ثديها وانقلب
الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء وهو أشد موافقة للمولود من الدم
فيوافيه في وقت حاجته إليه، فحين يولد قد تلمظ (2) وحرك شفتيه طلبا
للرضاع، فهو يجد ثدي أمه كالأداوتين (3) المعلقتين لحاجته فلا يزال يتغذى
باللبن، ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء لين الأعضاء. حتى إذا يحرك،
واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوى بدنه، طلعت له الطواحن من
الأسنان والأضراس (4) ليمضغ (5) بها الطعام، فيلين عليه. ويسهل له
إساغته، فلا يزال كذلك حتى يدرك، فإذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في
وجهه، فكان ذلك علامة الذكر، وعز الرجل الذي يخرج به من جدة الصبا
وشبه النساء. وإن كانت أنثى يبقى وجهها نقيا من الشعر، لتبقى لها البهجة،
والنضارة التي تحرك الرجل لما فيه دوام النسل وبقاؤه.
اعتبر يا مفضل فيما يدبر به الإنسان في هذه الأحوال المختلفة، هل ترى
مثله يمكن أن يكون بالإهمال؟ أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم،
ألم يكن سيذوي ويجف كما يجف النبات إذا فقد الماء، ولو لم يزعجه المخاض
عند استحكامه ألم يكن سيبقى في الرحم كالمؤود (6) في الأرض؟ ولو لم يوافقه

(1) الطلق (بسكون الثاني) وجع الولادة.
(2) تلمظ: إذا أخرج لسانه فمسح به شفتيه.
(3) الإداوة: بكسر ففتح - إناء صغير من جلد يتخذ للماء، جمعه أداوي.
(4) الطواحن: هي الأضراس، وتطلق الأضراس غالبا على المآخير والأسنان على
المقاديم، كما هو الظاهر هنا، وإن لم يفرق اللغويون بينهما.
(5) مضغ الطعام: لاكه بلسانه.
(6) وأد البنت: دفنها في التراب وهي حية، كما كان العرب يفعلون ذلك في العهد
الجاهلي.
13

اللبن مع ولادته ألم يكن سيموت جوعا أو يغتذي بغذاء لا يلائمه، ولا يصلح
عليه بدنه، ولو لم تطلع له الأسنان في وقتها ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام
وإساغته. أو يقيمه على الرضاع فلا يشتد بدنه ولا يصلح لعمل؟ ثم كان
يشغل أمه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد،
(حال من لا ينبت في وجهه الشعر وعلة ذلك)
ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته ألم يكن سيبقى هيئة الصبيان
والنساء، فلا ترى له جلالة ولا وقارا؟
قال المفضل فقلت له: يا مولاي فقد رأيت من يبقى حالته ولا ينبت
الشعر في وجهه وإن بلغ الكبر، فقال (ع): (ذلك بما قدمت أيديكم
وإن الله ليس بظلام للعبيد) (1) فمن هذا الذي يرصده (2) حتى يوافيه بكل
شئ من هذه المآرب إلا الذي أنشأه خلقا، بعد إن لم يكن، ثم توكل له
بمصلحته بعد إن كان، فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير، فقد يجب أن
يكون العمد والتقدير يأتيان بالخطأ والمحال، لأنهما ضد الإهمال وهذا فظيع من
القول وجهل من قائله. لأن الإهمال لا يأتي بالصواب والتضاد لا يأتي
بالنظام (3) تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا.

(1) سورة آل عمران آية 182.
(2) يرصده: أي يرقبه.
(3) أي إذا لم تكن الأشياء منوطة بأسبابها، ولم ترتبط الأمور بعللها، فكما جاز أن يحصل
هذا الترتيب والنظام التام بلا سبب، فجاز أن يصير التدبير في الأمور سببا
لاختلافها، وهذا خلاف ما يحكم به العقلاء لما يرون من سعيهم في تدبير الأمور
وذمهم، من يأتي بها على غير تأمل وروية... ويحتمل أن يكون المراد أن الوجدان
يحكم بتضاد آثار الأمور - المتضادة، وربما أمكن إقامة البرهان عليه أيضا، فإذا أتي
الاهمال بالصواب يجب أن يأتي ضده وهو التدبير بالخطأ، وهذا أفضع وأشنع.
(من تعليقات البحار)
14

(حال المولود لو ولد فهما عاقلا وتعليل ذلك)
ولو كان المولود يولد فهما (1) عاقلا، لأنكر العالم عند ولادته ولبقي حيرانا
تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف، وورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم
من البهائم والطير، إلى غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم.
واعتبر ذلك بأن من سبي بلد وهو عاقل، يكون كالواله الحيران فلا
يسرع إلى تعلم الكلام، وقبول الأدب، كما يسرع الذي سبي صغيرا غير
عاقل، ثم لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة (2) إذا رأى نفسه محمولا مرضعا
معصبا بالخرق مسجى (3) في المهد لأنه لا يستغني عن هذا كله. لرقة بدنه
ورطوبته حين يولد ثم كان لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد
للطفل فصار يخرج إلى الدنيا غبيا (4) غافلا عما فيه أهله، فيلقى الأشياء بذهن
ضعيف ومعرفة ناقصة. ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا، وشيئا بعد
شئ، وحالا بعد حال: حتى يألف الأشياء، ويتمرن ويستمر عليها،
فيخرج من حد التأمل لها والحيرة فيها إلى التصرف، والاضطرار إلى المعاش
بعقله وحيلته، وإلى الاعتبار والطاعة والسهو والغفلة والمعصية، وفي هذا أيضا
وجوه أخر، فإنه لو كان يولد تام العقل مستقلا بنفسه لذهب موضع حلاوة
تربية الأولاد، وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة وما
يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافأة بالبر، والعطف عليهم، عند

(1) الفهم - بفتح فكسر - السريع الفهم.
(2) الغضاضة: هي الذلة والمنقصة - جمعها غضائض.
(3) التسجية: هي التغطية بثوب يمد على الجسم.
(4) على وزن فعيل - وهو القليل الفطنة.
15

حاجتهم إلى ذلك منهم (1) ثم كان الأولاد لا يألفون آباءهم ولا يألف الآباء
أبناءهم، لأن الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء وحياطتهم، فيتفرقون
عنهم حين يولدون، فلا يعرف الرجل أباه وأمه، ولا يمتنع عن نكاح أمه
وأخته، وذوات المحارم منه، إذا كان لا يعرفهن. وأقل ما في ذلك من
القباحة، بل هو أشنع وأعظم وأفظع وأقبح وأبشع، لو خرج المولود بطن
أمه وهو يعقل، أن يرى (2) منها ما لا يحل له، ويحسن به أن يراه، أفلا ترى
كيف أقيم كل شئ من الخلقة على غاية الصواب؟ وخلا من الخطأ دقيقه
وجليله (3).
(منفعة الأطفال في البكاء)
اعرف يا مفضل ما للأطفال في البكاء من المنفعة. واعلم أن في أدمغة
الأطفال رطوبة، إن بقيت فيها أحدثت عليهم أحداثا جليلة وعللا عظيمة،
من ذهاب البصر وغيره، والبكاء يسيل تلك الرطوبة من رؤوسهم فيعقبهم
ذلك الصحة في أبدانهم والسلامة في أبصارهم. أفليس قد جاز أن يكون
الطفل ينتفع بالبكاء ووالداه لا يعرفان ذلك فهما دائبان (4) ليسكتانه
ويتوخيان (5) في الأمور مرضاته لئلا يبكى، وهما لا يعلمان أن البكاء أصلح له

(1) أي بان يبر الأبناء بآبائهم والعطف عليهم عند حاجة الآباء إلى ذلك في كبرهم
وضعفهم، وجزاء لما عانوا من الشدائد في سبيل تربية الأبناء.
(2) خبر لقوله: أقل ما في ذلك.
(3) إن بعض هذا البيان البديع من الإمام عن تدرج الإنسان في نموه، ونموه في أوقاته،
كاف في حكم العقل، بأن له صانعا صنعه عن علم وحكمة وتقدير وتدبير. (عن
كتاب الإمام الصادق) للشيخ محمد حسين المظفر ج 1 ص 171.
(4) الدؤب: الجد والتعب.
(5) التوخي. التحري والقصد.
16

وأجمل عاقبة. فهكذا يجوز أن في كثير من الأشياء منافع لا يعرفها
القائلون بالإهمال ولو عرفوا ذلك لم يقضوا على الشئ أنه لا منفعة فيه، من
أجل أنهم لا يعرفونه ولا يعلمون السبب فيه، فإن كل ما لا يعرفه المنكرون
يعلمه العارفون (1) وكثيرا ما يقصر عنه على المخلوقين محيط به علم الخالق جل
قدسه وعلت كلمته.
فأما ما يسيل من أفواه الأطفال من الريق، ففي ذلك خروج الرطوبة
التي لو بقيت في أبدانهم لأحدثت عليهم الأمور العظيمة، كمن تراه قد غلبت
عليه الرطوبة، فأخرجته إلى حد البله والجنون والتخليط إلى غير ذلك من
الأمراض المتلفة كالفالج (2) اللقوة (3) وما أشبههما، فجعل الله تلك الرطوبة
تسيل من أفواههم في صغرهم، لما لهم في ذلك من الصحة في كبرهم، فتفضل
على خلقه بما جهلوه ونظر لهم بما لم يعرفوه، ولو عرفوا نعمه عليهم لشغلهم
ذلك من التمادي في معصيته، فسبحانه ما أجل نعمته وأسبغها على المستحقين
وغيرهم من خلقه، تعالى عما يقول المبطلون (4) علوا كبيرا.
(آلات الجماع وهيئتها)
أنظر الآن يا مفضل كيف جعلت آلات الجماع في الذكر والأنثى جميعا
على ما يشاكل ذلك عليه، فجعل للذكر آلة ناشره تمتد حتى تصل النطفة (5) إلى

(1) أي أن ذلك مما لا يقصر عن إدراكه ذو العلم والفهم.
(2) الفالج: داء يحدث في أحد شقي البدن، فيبطل إحساسه وحركته.
(3) اللقوة: - بفتح فسكون - داء يصيب الوجه، يعوج منه الشدق إلى أحد جانبي
العنق، جمعه لقاء وإلقاء.
(4) يقال: أبطل أي جاء بالباطل.
(5) النطفة: ماء الرجل أو المرأة، والجمع نطاف ونطف.
17

الرحم، إذا كان محتاجا إلى أن يقذف ماءه في غيره، وخلق للأنثى وعاء
قعرا (1) ليشتمل على الماءين جميعا. ويحتمل الولد ويتسع له ويصونه حتى
يستحكم، أليس ذلك من تدبير حكيم لطيف سبحانه وتعالى عما
يشركون!؟.
(أعضاء البدن وفوائد كل منها)
فكر يا مفضل في أعضاء البدن أجمع، وتدبير كل منها للأرب فاليدان
للعلاج، والرجلان للسعي، والعينان للاهتداء، والفم للاغتذاء والمعدة
للهضم، والكبد للتخليص، والمنافذ (2) لتنفيذ الفضول، والأوعية لحملها،
والفرج لإقامة النسل، وكذلك جميع الأعضاء، إذا ما تأملتها واعملت
فكرك فيها ونظرك، وجدت كل شئ منها قد قدر لشئ على صواب
وحكمة.
(زعم الطبيعيين وجوابه)
قال المفضل فقلت: يا مولاي إن قوما يزعمون أن هذا من فعل الطبيعة،
فقال عليه السلام: سلهم عن هذه الطبيعة أهي شئ له علم وقدرة على مثل
هذه الأفعال، أم ليست كذلك؟؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من
إثبات الخالق، فإن هذه صنعته!! (3)، وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير

(1) القعر من كل شئ: عمقه ونهاية أسفله.
(2) المنافذ هنا بمعنى النوافذ من الإنسان، أي كل سم أو خرق فيه كالفهم والأنف،
والظاهر أن المراد بها هنا محل خروج البول والغائط.
(3) لعل المراد أنهم إذا قالوا بذلك فقد أثبتوا الصانع، فلم يسمونه بالطبيعة، وهي
ليست بذات علم ولا إرادة ولا قدرة؟
18

علم ولا عمد، وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة، علم أن هذا
الفعل للخالق الحكيم، فإن الذي سموه طبيعة هو سنته في خلقه، الجارية على
ما أجراها عليه (1).
(عملية الهضم وتكون الدم وجريانه في الشرايين والأوردة)
فكر يا مفضل في وصول الغذاء إلى البدن، وفيه من التدبير، فإن
الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه، وتبعث بصفوه إلى الكبد، في عروق دقاق
واشجة (2) بينهما، قد جعلت كالمصفى للغذاء، لكيلا يصل إلى الكبد منه
شئ فينكأها (3) وذلك أن الكبد رقيقة لا تحتمل العنف، ثم إن الكبد تقبله
فيستحيل بلطف التدبير دما، وينفذه إلى البدن كله في مجاري مهيئة لذلك،
بمنزلة المجاري التي تهيأ للماء ليطرد في الأرض كلها وينفذ ما يخرج من الخبث

(1) أي ظاهر بطلان هذا الزعم، والذي صار سببا لذهولهم إلى إن الله تعالى أجرى
عادته بأن يخلق الأشياء بأسبابها، فذهبوا إلى استقلال تلك الأسباب في ذلك. وبعبارة
أخرى إن سنة الله وعادته قد جرت لحكم كثيرة، فتكون الأشياء بحسب بادي النظر
مستندة إلى غيره تعالى، ثم - يعلم - بعد الاعتبار والتفكر - إن الكل مستند إلى قدرته
أو تأثيره تعالى، وإنما هذه الأشياء وسائل وشرائط لذلك ومن هنا تحيروا في الصانع
تعالى.
(من تعليقات البحار)
(2) الواشجة: مؤنث الواشج اسم فاعل بمعنى المشتبك، يقال: وشجت العروق
والأغصان إذا اشتبكت. والمراد بالواشجة هنا الموصلة أو الواصلة.
(3) نكأ القرحة قشرها قبل أن تبرأ فندبت.
19

والفضول إلى مفائض (1) قد أعدت لذلك فما كان منه من جنس المرة (2) الصفراء
جرى إلى المرارة (3) وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال، وما كان من
البلة والرطوبة جرى إلى المثانة (4).
فتأمل حكمة التدبير في تركيب البدن، ووضع هذه الأعضاء منه
مواضعها، وإعداد هذه الأوعية فيه، لتحمل تلك الفضول، لئلا تنتشر في
البدن فتسقمه وتنهكه، فتبارك من أحسن التقدير، وأحكم التدبير، وله
الحمد كما هو أهله ومستحقه.
(أول نشوء الأبدان: تصوير الجنين في الرحم)
قال المفضل فقلت: صف نشوء الأبدان ونموها حالا بعد حال حتى تبلغ
التمام والكمال، قال عليه السلام: أول ذلك تصوير الجنين في الرحم حيث
لا تراه عين ولا تناله يد، ويدبره حتى يخرج سويا مستوفيا جميع ما فيه قوامه
وصلاحه من الأحشاء والجوارح والعوامل، إلى ما في تركيب أعضائه من

(1) المفائض: المجاري، مأخوذة من فاض الماء، وفي بعض النسخ بالغين من غاض
الماء غيضا، أي نضب وذهب في الأرض.
(2) المرة: بكسر ففتح - خلط من أخلاط البدن وهو الصفراء أو السوداء، جمعه مرار.
(3) المرارة: هنة شبه كيس لاصقة بالكبد تكون فيها مادة صفراء هي المرة أشار إليها
الإمام، جمعها مرائر ومرارات.
(4) في كلام الإمام عليه السلام هنا معان صريحة عن الدورة الدموية - التي اكتشفها
العالم الانكليزي وليم هارفي (1578 - 1756) بل أن الإمام قد فصل القول - كما
نرى هنا - عن جريان الدم في الأوردة والشرايين، وإن مركزه هو القلب، فنستطيع
إذن أن نقول بأن الإمام هو المكتشف الأول للدورة الدموية.
20

العظام، واللحم، والشحم، والعصب، والمخ، والعروق
والغضاريف (1). فإذا خرج إلى العالم تراه كيف ينمو بجميع أعضائه وهو
ثابت على شكل وهيئة لا تتزايد ولا تنقص إلى أن يبلغ أشده إن مد في
عمره أو يستوفي مدته قبل ذلك، هل هذا إلا من لطيف التدبير والحكمة.
(اختصاص الإنسان بالإنتصاب والجلوس دون البهائم)
أنظر مفضل ما خص به الإنسان في خلقه تشرفا، وتفضلا على
البهائم، فإنه خلق ينتصب قائما، ويستوي جالسا، ليستقبل الأشياء بيديه
وجوارحه، ويمكنه العلاج والعمل بهما فلو كان مكبوبا على وجهه كذوات
الأربع، لما استطاع أن يعمل شيئا من الأعمال.
(تخصص الإنسان بالحواس وتشربها دون غيره)
أنظر الآن يا مفضل إلى هذه الحواس (2) التي خص بها الإنسان في
خلقه، وشرف بها على غيره. كيف جعلت العينان في الرأس، كالمصابيح
فوق المنارة؟ ليتمكن من مطالعة الأشياء، ولم تجعل في الأعضاء التي تحتهن،
كاليدين والرجلين، فتعترضها الآفات ويصيبها من مباشرة العمل والحركة،
ما يعللها ويؤثر فيها وينقص منها، ولا في الأعضاء التي وسط البدن، كالبطن،
والظهر، فيعسر تقلبها، واطلاعها نحو الأشياء.
(هامش) * (1) الغضاريف: جمع غضروف وهو كل عظم رخص لين.
(2) هي الأعضاء التي تؤمن مناسباتنا مع المحيط الخارجي، وهي خمسة أعضاء اللمس
والذوق والشم والبصر والسمع. (*)
21

(الحواس الخمس وأعمالها وما في ذلك من الأسرار)
فلما لم يكن لها في شئ من هذه الأعضاء موضع، كان الرأس أسنى
المواضع للحواس، وهو بمنزلة الصومعة لها. فجعل الحواس خمسا تلقى خمسا
لكي لا يفوتها شئ من المحسوسات.. فخلق البصر ليدرك الألوان فلو كانت
الألوان ولم يكن بصر يدركها. لم تكن فيها منفعة. وخلق السمع ليدرك
الأصوات، فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها، لم يكن فيها إرب،
وكذلك سائر الحواس. ثم هذا يرجع متكافيا، فلو كان بصر ولم تكن
الألوان، لما كان للبصر معنى، ولو كان سمع ولم تكن أصوات، لم يكن
للسمع موضع.
(تقدير الحواس بعضها يلقى بعضا)
فانظر كيف قدر بعضها يلقى بعضا، فجعل لكل حاسة محسوسا (1)
يعمل فيه. ولكل محسوس (2) حاسة تدركه، ومع هذا فقد جعلت أشياء
متوسطة بين الحواس والمحسوسات، لا تتم الحواس إلا بها، كمثل الضياء
والهواء، فإنه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر، لم يكن البصر يدرك اللون،
ولم لم يكن هواء يؤدي الصوت إلى السمع، لم يكن السمع يدرك الصوت.
فهل يخفى عليه من صح نظره وأعمل فكره، إن مثل هذا الذي وصفت من

(1 - 2) لعل الأصل في كلمة محسوس هنا هو (حس) ولا تأتي كلمة محسوس هنا، لأن
حس بمعنى شعر وعلم فعل لازم، ومن البديهي عدم جواز صيغة اسم المفعول من
الفعل اللازم، إلا إذا عدي بحرف الجر أو جاء مع المصدر أو الظرف، ويأتي فعل
حسن متعديا بغير هذا المعنى، فيقال: حسه إذا قتله واستأصله.
22

تهيئه الحواس والمحسوسات بعضها يلقى بعضا، وتهيئة أشياء أخر بها تتم
الحواس، لا يكون إلا بعمل وتقدير من لطيف خبير.
(فيمن عدم البصر والسمع والعقل وما في ذلك من الموعظة)
فكر مفضل فيمن عدم البصر من الناس. وما يناله من الخلل في
أموره، فإنه لا يعرف موضع قدميه، ولا يبصر ما بين يديه، فلا يفرق بين
الألوان، وبين المنظر الحسن والقبيح، ولا يرى حفرة إن هجم عليها ولا عدوا
إن أهوى إليه بسيف، ولا يكون له سبيل إلى أن يعمل شيئا من هذه الصناعات
مثل الكتابة والتجارة والصياغة. حتى إنه لولا نفاذ ذهنه لكان بمنزلة الحجر
الملقى.
وكذلك من عدم السمع، يختل في أمور كثيرة، فإنه يفقد روح
المخاطبة والمحاورة، ويعدم لذة الأصوات واللحون المشجية والمطربة،
وتعظم المؤنة على الناس في محاورته. حتى يتبرموا به، ولا يسمع شيئا
من أخبار الناس وأحاديثهم، حتى يكون كالغائب وهو شاهد، أو كالميت
وهو حي.
فأما من عدم العقل، فإنه يلحق بمنزلة البهائم، بل يجهل كثيرا
مما تهتدى إليه البهائم، أفلا ترى كيف صارت الجوارح والعقل، وسائر
الخلال (1) التي بها صلاح الإنسان، والتي لو فقد منها شيئا لعظم ما يناله
في ذلك من الخلل، يوافي (2) خلقه على التمام حتى لا يفقد شيئا منها،
فلم كان كذلك؟ إلا أنه خلق بعلم وتقدير.

(1) الخلال: جمع خلة وهي الخصلة.
(2) يوافي خبر إلى صارت المتقدمة قبل سطرين.
23

قال المفضل: فقلت فلم صار بعض الناس يفقد شيئا من هذه
الجوارح فيناله من ذلك مثل ما وصفته يا مولاي؟ قال عليه السلام:
ذلك للتأديب والموعظة لمن يحل ذلك به ولغيره بسببه كما يؤدب الملوك
الناس للتنكيل والموعظة، فلا ينكر ذلك عليهم، بل يحمد من رأيهم،
ويتصوب من تدبيرهم. ثم إن للذين تنزل بهم هذه البلايا من الثواب
بعد الموت - إن شكروا وأنابوا - ما يستصغرون معه ما ينالهم منها، حتى
أنهم لو خيروا بعد الموت لاختاروا أن يردوا إلى البلايا ليزدادوا من
الثواب.
(الأعضاء المخلوقة أفرادا وأزواجا وكيفية ذلك)
فكر يا مفضل في الأعضاء التي خلقت أفرادا وأزواجا، وما في
ذلك من الحكمة والتقدير، والصواب في التدبير.
فالرأس مما خلق فردا، ولم يكن للإنسان صلاح في أن يكون له
أكثر من واحد. ألا ترى أنه لو أضيف إلى رأس الإنسان رأس آخر
لكان ثقلا عليه، من غير حاجة إليه، لأن الحواس التي يحتاج إليها
مجتمعة في رأس واحد. ثم كان الإنسان ينقسم قسمين لو كان له
رأسان، فإن تكلم من أحدهما كان الآخر معطلا لا أرب فيه ولا حاجة
إليه، وإن تكلم منهما جميعا بكلام واحد كان أحدهما فضلا لا يحتاج
إليه، وإن تكلم بأحدهما بغير الذي تكلم به من الآخر، لم يدر السامع
بأي ذلك يأخذ وأشباه هذا من الاخلاط.
واليدان مما خلق أزواجا، ولم يكن للإنسان خير في أن يكون له يد
24

واحدة لأن ذلك كان يخل به (1) فيما يحتاج إلى معالجته من الأشياء ألا
ترى أن النجار والبناء لو شلت إحدى يديه لا يستطيع أن يعالج
صناعته، وإن تكلف ذلك لم يحكمه، ولم يبلغ منه ما يبلغه إذا كانت
يداه تتعاونان على العمل.
(الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان وعمل كل منها)
أطل الفكر يا مفضل في الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان
فالحنجرة كالأنبوبة لخروج الصوت، واللسان والشفتان والأسنان لصياغة
الحروف والنغم. ألا ترى أن من سقطت أسنانه لم يقم السين، ومن
سقطت شفته لم يصحح الفاء، ومن ثقل لسانه لم يفصح الراء،
وأشبه (2) شئ بذلك المزمار (3) الأعظم، فالحنجرة تشبه قصبة المزمار،
والرئة تشبه الزق (4) الذي ينفخ فيه لتدخل الريح، والعضلات التي
تقبض على الرئة ليخرج الصوت كالأصابع التي تقبض على الزق حتى
تجري الريح في المزامير والشفتان والأسنان التي تصوغ الصوت حروفا
ونغما كالأصابع تختلف في فم المزمار فتصوغ صفيره ألحانا غير أنه
وإن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالآلة والتعريف فإن المزمار - في
الحقيقة - هو المشبه بمخرج الصوت.

(1) يقال: أخل بالشئ إذا قصر فيه.
(2) يظهر أن الجملة ناقصة وتكملتها: (مخرج الصوت أشبه شئ).
(3) المزمار: الآلة التي يزمر فيها - جمعها مزامير.
(4) المراد بالزق هنا الجلد الذي يستعمل في المزمار.
25

(ما في الأعضاء من المآرب الأخرى)
قد أنبأتك بما في الأعضاء من الغناء في صنعة الكلام وإقامة الحروف،
وفيها مع الذي ذكرت لك مآرب أخرى. فالحنجرة ليسلك فيها هذا النسيم إلى
الرئة، فتروح على الفؤاد بالنفس الدائم المتتابع الذي لو حبس شيئا يسيرا لهلك
الإنسان، وباللسان تذاق الطعوم، فيميز بينها، ويعرف كل واحد منها حلوها
من مرها وحامضها من مرها ومالحها من عذبها وطيبها من خبيثها، وفيه مع
ذلك معونة على إساغة الطعام والشراب والأسنان لمضغ الطعام حتى يلين
وتسهل إساغته، وهي مع ذلك كالسند للشفتين تمسكهما وتدعمهما من داخل
الفم واعتبر ذلك فإنك ترى من سقطت أسنانه مسترخي الشفة ومضطربها،
وبالشفتين يترشف (1) الشراب، حتى يكون الذي يصل إلى الجوف منه بقصد
وقدر، لا يثج (2) ثجا، فيغص به الشارب، أو ينكأ (3) في الجوف، ثم
همى (4) بعد ذلك كالباب المطبق على الفم يفتحها الإنسان إذا شاء ويطبقها إذا
شاء. وفيما وصفنا من هذا بيان.
إن كل واحد من هذه الأعضاء يتصرف، وينقسم إلى وجوه من المنافع
كما تتصرف الأداة الواحدة في أعمال شتى، وكالفأس تستعمل في النجارة
والحفر وغيرهما من الأعمال.

(1) ترشف الشراب أي بالغ في مصه.
(2) ثج يثج تجا: أساله.
(3) لعله أراد أنه يقع في غير ما حاجة.
(4) همى الماء سال لا يثنيه شئ.
26

(الدماغ وأغشيته والجمجمة وفائدتها)
ولو رأيت الدماغ إذا كشف عنه لرأيته قد لف بحجب بعضها فوق بعض
لتصونه من الأعراض، وتمسكه فلا يضطرب. ولرأيت عليه الجمجمة بمنزلة
البيضة، كيما تقيه (1) هد الصدمة، والصكة التي ربما وقعت في الرأس ثم قد
جللت الجمجمة بالشعر، حتى صارت بمنزلة الفرو للرأس يستره من شدة الحر
والبرد، فمن حصن الدماغ هذا التحصين، إلا الذي خلقه وجعله ينبوع
الحس، والمستحق للحيطة والصيانة، بعلو منزلته من البدن وارتفاع درجته،
وخطير مرتبته.
(الجفن وأشفاره)
تأمل يا مفضل: الجفن على العين كيف جعل كالغشاء والأشفار (2)
كالأشراح (3) وأولجها (4) في هذا الغار، وأظلها بالحجاب. وما عليه من
الشعر.
(الفؤاد ومدرعته)
يا مفضل من غيب الفؤاد جوف الصدر، وكساه المدرعة (5) التي

(1) في نسخة يفته بدلا عن تقيه، ويفته من الفت وهو الكسر.
(2) الأشفار جمع شفر وهو أصل منبت الشعر في الجفن.
(3) الأشراح: العرى.
(4) أولجها: أدخلها.
(5) كأن المراد بالمدرعة هنا ثوب الجديد فالمدرعة في الأصل جبة مشقوقة المقدم أو كما عند
اليهود ثوب من كتان كان يلبسه عظيم أحبارهم ولكن الذي يريده الإمام من حد قولهم
درع، إذا لبس درع الحديد.
27

غشاؤه، وحصنه بالجوانح وعليها من اللحم والعصب، لئلا يصل إليه ما
ينأكه (1). (الحلق والمرئ)
من جعل في الحلق منفذين أحدهما لمخرج الصوت وهو الحلقوم المتصل
بالرئة، والآخر منفذا للغذاء، وهو المرئ (2) المتصل بالمعدة الموصل الغذاء
إليها، وجعل على الحلقوم طبقا يمنع الطعام أن يصل إلى الرئة فيقتل،
(الرئة وعملها.. أشراج منافذ البول والغائط)
من جعل الرئة مروحة الفؤاد لا تفتر ولا تختل لكيلا تتحير (3) الحرارة في
الفؤاد، فتؤدي إلى التلف؟. من جعل لمنافذ البول والغائط أشراجا (4).
تضبطهما، لئلا يجريا جريانا دائما، فيفسد على الإنسان عيشه فكم عسى أن
يحصى المحصى من هذا، بل الذي لا يحصى منه ولا يعلمه الناس أكثر.
(المعدة عصبانية والكبد)
من جعل المعدة عصبانية شديدة وقدرها لهضم الطعام الغليظ؟ ومن

(1) نكأه: جرحه وآذاه.
(2) المري: هو العرق الذي يمتلئ ويدر باللبن جمعه مرايا، وقد أبان الإمام وظيفة المري
وعمله بتعبير لطيف.
(3) تحيرت الحرارة: ترددت كأنها لا تدري كيف تجري فتجمعت وفي نسخة تتحيز وليس
لها معنى مستقيم.
(4) الأشراج جمع شرج وهو في الأصل الشقاق في القوس، وقد استعار الإمام منها معنى
لمنافذ البول والغائط.
28

جعل الكبد رقيقة ناعمة لقبول الصفو (1) اللطيف من الغذاء، ولتهضم وتعمل
ما هو الطف من عمل المعدة إلا الله القادر؟ أترى الاهمال يأتي بشئ من
ذلك؟ كلا! بل هو تدبير مدبر حكيم قادر، عليم بالأشياء قبل خلقه إياها،
لا يعجزه وهو اللطيف الخبير.
(المخ والدم والأظفار والأذن ولحم الأليتين والفخذين)
فكر يا مفضل لم صار المخ الرقيق محصنا في أنابيب العظام؟ وهل ذلك إلا
ليحفظه ويصونه؟. لم صار الدم السائل محصورا في العروق بمنزلة الماء في
الظروف (2). إلا لتضبطه فلا يفيض؟. لم صارت الأظفار على أطراف
الأصابع إلا وقاية لها ومعونة على العمل؟ لم صار داخل الأذن ملتويا كهيأة
اللولب (3) إلا ليطرد فيه الصوت، حتى ينتهي إلى السمع، وليكسر حمة
الريح، ينكأ في السمع؟ لم حمل الإنسان على فخذيه وأليتيه اللحم،
إلا ليقيه من الأرض، فلا يتألم من الجلوس عليها، كما يألم من نحل جسمه
وقل لحمه، إذا لم يكن بينه وبين الأرض حائل يقيه صلابتها.
(الإنسان ذكر وأنثى وتناسله وآلات العمل وحاجته وحيلته وإلزامه بالحجة)
من جعل الإنسان ذكر أو أنثى إلا من خلقه متناسلا؟ ومن خلقه متناسلا
إلا من خلقه مؤملا؟ ومن أعطاه آلات العمل إلا خلقه عاملا؟ ومن خلقه

(1) الصفو من كل شئ: خالصه وخياره.
(2) الظروف جمع ظرف وهو كل ما يستقر فيه غيره ويغلب استعماله للقربة والسقاء.
(3) اللولب! آلة من خشب أو حديد ذات محور ذي دوائر ناتئة وهو الذكر أو داخله وهو
الأنثى جمعه لوالب.
29

عاملا إلا من جعله محتاجا؟ ومن جعله محتاجا من ضربه بالحاجة؟ (1).
ومن ضربه بالحاجة إلا من توكل بتقويمه؟ (2) ومن خصه بالفهم إلا من أوجب
الجزاء؟ ومن وهب الحيلة إلا من ملكه الحول (3) ومن ملكه الحول إلا
من ألزمه الحجة؟ ومن يكفيه ما لا تبلغه حيلته إلا من يبلغ مدى
شكره.
فكر وتدبر ما وصفته. هل تجد الاهمال يأتي مثل هذا النظام
والترتيب تبارك الله تعالى عما يصفون.
(الفؤاد وثقبه المتصلة بالرئة)
أصف لك الآن يا مفضل الفؤاد... إعلم أن فيه ثقبا موجهة نحو
الثقب التي في الرئة تروح عن الفؤاد، حتى لو اختلفت تلك الثقب وتزايل
بعضها عن بعض، لما وصل الروح إلى الفؤاد، ولهلك الإنسان أفيستجيز ذو
فكرة وروية أن يزعم مثل هذا يكون بالإهمال، ولا يجد شاهدا من نفسه
يزعه (4) عن هذا القول؟ لو رأيت فردا من مصراعين فيه كلوب (5) أكنت تتوهم
أنه جعل كذلك بلا معنى؟ بل كنت تعلم ضرورة أنه مصنوع يلقى فردا آخر،
فيبرزه ليكون اجتماعهما ضرب من المصلحة. وهكذا تجد الذكر من
الحيوان، كأنه فرد من زوج مهيأ من فرد أنثى، فيلتقيان فيه من دوام النسل
وبقائه، فتبا (6) وخيبة وتعسا لمنتحلي الفلسفة كيف عميت قلوبهم عن هذه

(1) أي سبب له أسباب الاحتجاج أو خلقه بحيث يحتاج.
(2) أي تكفل برفع حاجته وتقويم أوده.
(3) الحول مصدر بمعنى القدرة والقوة على التصرف وجودة النظر والحذق.
(4) يزعه: يكفه ويمنعه.
(5) الكلوب - بفتح الأول - وتشديد الثاني - المهماز أو حديدة معطوفة الرأس يجر بها
الجمر أو خشبة في رأسها عقافة منها أو من حديد والجمع كلاليب.
(6) تبا لفلان تنصبه على المصدر بإضمار فعل أي ألزمه الله هلاكا وخسرانا.
30

الخلقة العجيبة حتى أنكروا التدبير والعمد فيها؟.
(فرج الرجل والحكمة فيه)
لو كان فرج الرجل مسترخيا، كيف يصل إلى قعر الرحم، حتى
يفرغ النطفة فيه؟ ولو منعضا (1) أبدا كيف كان الرجل يتقلب في الفراش،
أو يمشي بين الناس وشئ شاخص أمامه، ثم يكون في ذلك مع قبح المنظر
تحريك الشهوة في كل وقت من الرجال والنساء جميعا، فقدر الله جل اسمه أن
يكون أكثر ذلك لا يبدو للبصر في كل وقت، ولا يكون على الرجال مؤنة،
بل جعل فيه قوة الانتصاب وقت الحاجة إلى ذلك، لما قدر أن يكون فيه من
دوام النسل وبقائه.
(منفذ الغائط ووصفه)
اعتبر الآن يا مفضل بعظم النعمة الإنسان في مطعمه ومشربه
وتسهيل خروج الأذى. أليس من حسن التقدير في بناء الدار أن يكون الخلاء
في أستر موضع منها، فكذا جعل الله سبحانه المنفذ المهيأ للخلاء من الإنسان
في أستر موضع منه، فلم يجعله بارزا خلفه، ولا ناشزا من بين يديه، بل
هو منيب في موضع غامض من البدن، مستور محجوب، يلتقي عليه
الفخذان، وتحجبه الأليتان بما عليهما من اللحم فتواريانه، فإذا احتاج الإنسان
إلى الخلاء، وجلس تلك الجلسة الفي ذلك المنفذ منه منصبا، مهيأ لإنحدار
الثقل (3). فتبارك من تظاهرت آلاؤه ولا تحصى نعماؤه.

(1) المنعض كأنه مأخوذ من العض وهو القرن يريد أنه صلب شديد.
(2) الفي. وجد.
(3) الثفل - بالضم - ما يستقر في أسفل الشئ من كدرة.
31

(الطواحن من أسنان الإنسان)
فكر يا مفضل في الطواحن (1)، التي جعلت للإنسان، فبعضها
حداد (2) لقطع الطعام وقرضه، وبعضها عراض (3) لمضغه ورضه، فلم
ينقص واحد الصفتين، إذ كان محتاجا إليهما جميعا.
(الشعر والأظفار وفائدة قصهما)
تأمل واعتبر بحسن التدبير في خلق الشعر والأظفار، فإنهما لما كانا مما
يطول ويكثر، حتى يحتاج إلى تخفيفه أولا فأولا، جعلا عديما الحس، لئلا يؤلم
الإنسان الأخذ منهما. وكان قص الشعر وتقليم الأظفار مما يوجد له ألم، وقع
من ذلك بين مكروهين، أما أن يدع كل واحد منهما حتى يطول فيثقل عليه،
وأما أن يخففه بوجع وألم يتألم منه.
قال المفضل فقلت: فلم لم يجعل خلقه لا تزيد فيحتاج الإنسان إلى
النقصان منه، فقال عليه السلام: إن لله تبارك اسمه في ذلك على العبد نعما لا
يعرفها، فيحمده عليها.. إعلم أن آلام البدن وأدواءه (4) تخرج بخروج الشعر
في مسامه (5) وبخروج الأظفار من أناملها، ولذلك أمر الإنسان بالنورة،

(1) الطواحن جمع طاحن وهو الضرس.
(2) حداد أي قاطعة.
(3) عراض جمع عريض ضد طويل، وربما أريد بن المعارضة وهي السن التي في عرض
الفم أو ما يبدو من الفم عند الضحك.
(4) الأدواء جمع داء وهو المرض والعلة.
(5) المسام من الجلد ثقبه ومنافذه كمنابت الشعر، ومنهم من يجعلها جمع سم أي الثقب
مثل محاسن وحسن.
32

وحلق الرأس، وقص الأظفار، في كل أسبوع ليسرع الشعر والأظفار في
النبات، فتخرج الآلام والأدواء بخروجهما (1)... وإذا طالا تحيرا، وقل
خروجهما، فاحتبست الآلام والأدواء في البدن فأحدثت عللا وأوجاعا،
ومنع - مع ذلك - الشعر من المواضع تضر بالإنسان، وتحدث عليه الفساد
والضر لو نبت الشعر في العين، ألم يكن سيعمي البصر؟ ولو نبت في الفم، ألم
يكن سينغص على الإنسان طعامه وشرابه؟ ولو نبت في باطن الكف، ألم يكن
سيعوقه عن صحه اللمس وبعض الأعمال؟ ولو نبت في فرج المرأة وعلى ذكر
الرجل، ألم يكن سيفسد عليهما لذة الجماع؟..... فانظر كيف تنكب (2)
الشعر عن هذه المواضع، لما في ذلك من المصلحة، ثم ليس هذا في الإنسان
فقط، بل تجده في البهائم والسباع وسائر المتناسلات، فإنك ترى أجسامها
مجللة بالشعر وترى هذه المواضع خالية منه لهذا السبب بعينه.. فتأمل الخلقة
كيف تتحرز (3) وجوه الخطأ والمضرة، وتأتي بالصواب والمنفعة.
(شعر الركب والإبطين)
إن المنانية (4) وأشباههم، حين أجهدوا في عيب الخلقة والعمد (5) عابوا.
الشعر النابت على الركب والإبطين، ولم يعلموا ذلك من رطوبة تنصب إلى
هذه المواضع، فينبت الشعر كما ينبت العشب في مستنقع المياه أفلا ترى إلى
هذه المواضع أستر وأهيأ لقبول تلك الفضلة من غيرها؟؟... ثم إن هذه تعد

(1) يؤيد هذا الرأي علم الطب الحديث، وإن كانت نظرية التطور تقول بأن الشعر
والأظافر من الزوائد الحيوانية الأولى التي لم يعد لها نفع ولا فائدة.
(2) تنكب عليه: عدل عنه وتجنبه.
(3) احترز منه وتحرز أي تحفظه وتوقاه كأنه جعل نفسه في حرز منه.
(4) المنانية أو المانوية سبق الكلام عنها في أوائل الكتاب.
(5) يقال فعله عمدا وعن عمد أي قصدا لا عن طريق الصدفة.
33

مما يحمل الإنسان من مؤنه هذا البدن وتكاليفه لما له في ذلك من المصلحة،
فإن اهتمامه بتنظيف بدنه. وأخذ ما يعلوه من الشعر، مما يكسر به شرته (1)
ويكف عاديته (2) ويشغله عن بعض ما يخرجه إليه الفراغ من الأشر (3)
والبطالة.
(الريق وما فيه من المنفعة)
تأمل الريق وما فيه من المنفعة، فإنه جعل يجري جريانا دائما إلى الفم،
ليبل الحلق واللهوات (4) فلا يجف، فإن هذه المواضع لو جعلت كذلك، كان
فيه هلاك الأسنان ثم كان لا يستطيع أن يسيغ (5) طعاما، إذا لم يكن في الفم بلة
تنفذه، تشهد بذلك المشاهدة، واعلم أن الرطوبة مطية الغذاء وقد تجري من
هذه البلة إلى مواضع أخر من المرة (6) فيكون في ذلك صلاح تام للإنسان، ولو
يبست المرة لهلك الإنسان.
(محاذير كون بطن الإنسان كهيئة القباء)
ولقد قال قوم من جهلة المتكلمين وضعفة المتفلسفين بقلة التمييز وقصور
العلم: لو كان بطن الإنسان كهيئة القباء (7) يفتحه الطبيب إذا شاء فيعاين ما

(1) الشرة - بكسر فتشديد - الحدة والنشاط أو الشر.
(2) العادية: الحدة والغضب أو الشغل أو الظلم والشر.
(3) الأشر - بفتحتين - البطر وشدة الفرح والجمع أشرون وأشارى.
(4) اللهوات جمع لهاة وهي اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم.
(5) أساغ الطعام يسيغه سيغا: سهل مطعمه.
(6) المرة - بالكسر - خلط من أخلاط البدن وهو الصفراء أو السوداء والجمع مرار.
(7) القباء - بالفتح - ثوب يلبس فوق الثياب جمعه أقبية.
34

فيه، ويدخل يده فيعالج ما أراد علاجه ألم يكن أصلح من أن يكون مصمتا (1)
محجوبا عن البصر واليد، لا يعرف ما فيه إلا بدلالات غامضة، كمطل النظر
إلى البول، وجس العرق، وما أشبه ذلك مما يكثر فيه الغلط والشبهة، حتى
ربما كان ذلك سببا للموت، فلو علم هؤلاء الجهلة أن هذا لو هكذا، كان
أول ما فيه إن كان يسقط عن الإنسان الوجل من الأمراض والموت وكان
يستشعر البقاء ويغتر بالسلامة فيخرجه ذلك إلى العتو (2) والأشر (3). ثم
كانت الرطوبات في البطن تترشح وتتحلب (4) فيفسد على الإنسان مقعده
ومرقده وثياب بدلته وزينته، بل كان يفسد عيشه، ثم إن المعدة والكبد
والفؤاد إنما تفعل أفعالها بالحرارة الغريزية التي جعلها الله محتبسة في الجوف،
فلو كان في البطن فرج ينفتح حتى يصل البصر إلى رؤيته، واليد إلى علاجه،
لوصل برد الهواء إلى الجوف، فمازج الحرارة الغريزية، وبطل عمل
الأحشاء، فكان في ذلك هلاك الإنسان، أفلا ترى أن كل ما تذهب إليه
الأوهام - سوى ما جاءت به الخلقة - خطأ وخطل (5).
(أفعال الإنسان في الطعم والنوم والجماع وشرح ذلك)
فكر يا مفضل في الأفعال جعلت في الإنسان من الطعم والنوم
والجماع وما دبر فيها... فإنه جعل لكل واحد منها في الطباع نفسه محرك

(1) مصمت اسم مفعول الذي لا جوف له.
(2) العتو: الاستكبار وتجاوز الحد.
(3) الأشر - بفتحتين - من أشر أي بطر ومرح فهو أشر وأشران وجمعه آشرون وأشارى.
(4) ترشح وتحلب بمعنى واحد وهو السيلان.
(5) الخطل: المنطق الفاسد المضطرب.
35

يقتضيه ويستحث به، فالجوع يقتضي الطعم الذي فيه راحه البدن وقوامه
والكرى (1) يقتضي النوم الذي فيه راحة البدن واجمام (2) قواه، والشبق (3)
يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه.. ولو كان الإنسان إنما يصير
إلى أكل الطعام، لمعرفته بحاجة بدنه إليه، ولم يجد من طباعه شيئا يضطره
إلى ذلك، كان خليقا أن يتوانى (4) عنه أحيانا بالثقل والكسل، حتى ينحل؟؟
بدنه فيهلك، كما يحتاج الواحد الدواء لشئ مما يصلح به بدنه فيدافع
به حتى يؤديه ذلك إلى المرض والموت، وكذلك لو كان إنما يصير إلى النوم
بالفكر في حاجته إلى راحه البدن واجمام قواه كان عسى أن يتثاقل عن
ذلك، فيدفعه ينهك بدنه. ولو كان إنما يتحرك للجماع بالرغبة في
الولد كان غير بعيد أن يفتر عنه، حتى يقل النسل أو ينقطع فإن من الناس
من لا يرغب في الولد، ولا يحفل به.
فانظر كيف جعل لكل واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان
وصلاحه، محركا من نفس الطبع يحركه لذلك، ويحدوه عليه.
واعلم أن في الإنسان قوى أربعا قوة جاذبة تقبل الغذاء وتورده على
المعدة. وقوة ماسكة تحبس الطعام، حتى تفعل فيه الطبيعة فعلها، وقوة
هاضمة، وهي التي تطبخه، وتستخرج صفوه، وتبثه في البدن، وقوة
دافعة تدفعه وتحدر الثفل (5) الفاضل، بعد أخذ الهاضمة حاجتها.. ففكر
في تقدير هذه القوى الأربع التي في البدن وأفعالها وتقديرها للحاجة إليها
والأرب فيها، وما في ذلك من التدبير والحكمة، فلولا الجاذبة كيف كان
يتحرك الإنسان لطلب الغذاء الذي به قوام البدن؟ ولولا الماسكة كيف

(1) الكرى: النعاس.
(2) الاجمام من الجمام وهو الراحة يقال: جم الفرس إذا ذهب إعياؤه.
(3) يتوانى: يقصر.
(4) الشبق بفتحتين شدة الشهوة.
(5) الثفل هو ما يستقر في أسفل الشئ من كدرة.
36

كان يلبث الطعام في الجوف تهضمه المعدة؟ ولولا الهاضمة كيف كان
ينطبخ (1) حتى يخلص منه الصفو الذي يغذو البدن ويسد خلله (2) ولولا
الدافعة كيف كان الثفل الذي تخلفه الهاضمة يندفع ويخرج أولا فأولا؟ أفلا
ترى كيف وكل الله سبحانه - بلطف صنعه وحسن تقديره - هذه القوى
بالبدن، والقيام بما فيه صلاحه... وسأمثل لك في ذلك مثالا: إن البدن
بمنزلة دار الملك، له فيها حشم (3) وصبية وقوام (4) موكلون بالدار، فواحد
لقضاء حوائج الحشم وإيرادها (5) عليهم، وآخر لقبض ما يرد وخزنه، إلى
أن يعالج ويهيأ، وآخر لعلاج ذلك وتهيئته وتفريقه، وآخر لتنظيف ما في
الدار من الأقذار وإخراجه منها، فالملك في هذا هو الخلاق الحكيم ملك
العالمين، والدار هي البدن، والحشم هم (6) الأعضاء، والقوام هم (7)
هذه القوى الأربع. ولعلك ترى ذكرنا هذه القوى الأربع وأفعالها - بعد
الذي وصفت - فضلا وتزدادا (8) وليس ما ذكرته من هذه القوى على الجهة
التي ذكرت في كتب الأطباء ولا قولنا فيه كقولهم، لأنهم ذكروها على ما
يحتاج في صناعة الطب وتصحيح الأبدان، وذكرناها على ما يحتاج في
صلاح الدين وشفاء النفوس من الغي (9) كالذي أوضحته بالوصف الشافي
والمثل المضروب من التدبير والحكمة فيها.

(1) انطبخ مطاوع طبخ تقول طبخ اللحم أي أنضجه.
(2) الخلل جمع خلة - بالفتح - وهي القبة.
(3) الحشم: الخدم والعيال أو من يغضبون له أو يغضب لهم من أهل وعبيد وجيرة.
(4) لعل القوام جمع قيم إذ القيم على الأمر هو المتولي عليه.
(5) أورده إيرادا أي أحضره المورد ثم استعمل المطلق الأحضار.
(6) (7) في بعض النسخ هي.
(8) لعل الأصل في الكلمة مزيدا من الزيادة أو تزيدا من قولك تزيد الرجل في حديثه أي
زخرفة وزاد فيه على الحقيقة، وتزيد في الشئ أي تكلف الزيادة فيه.
(9) الغي: الضلال والهلاك والخيبة.
37

(قوى النفس وموقعها من الإنسان)
تأمل يا مفضل هذه القوى في النفس، وموقعها من الإنسان،
أعني الفكر والوهم والعقل والحفظ وغير ذلك، أفرأيت لو نقص الإنسان
من هذه الخلال (1) الحفظ وحده، كيف كانت تكون حاله، وكم من خلل
كان يدخل عليه في أموره ومعاشه وتجاربه، إذا لم يحفظ ما له وما عليه وما
أخذه وما أعطى وما رأى وما سمع وما قال وما قيل له ولم يذكر من أحسن
إليه ممن أساء به، وما نفعه مما ضره ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما
لا يحصى، ولا يحفظ علما ولو درسه عمره ولا يعتقد دينا، ولا ينتفع
بتجربة، ولا يستطيع أن يعتبر شيئا على ما مضى بل كان حقيقا أن ينسلخ
من الإنسانية.
(النعمة على الإنسان في الحفظ والنسيان)
فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخلال، وكيف موقع الواحدة
منها دون الجميع، وأعظم من النعمة على الإنسان، في الحفظ النعمة في
النسيان، فإنه لولا النسيان لما سلا (2) أحد عن مصيبة، ولا انقضت له
حسرة، ولا مات له حقد، ولا استمتع بشئ من متاع الدنيا مع تذكر
الآفات، ولا رجاء غفلة من سلطان، ولا فترة من حاسد. أفلا ترى
كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان وهما مختلفان متضادان، وجعل له
في كل منهما ضربا من المصلحة. وما عسى أن يقول الذين قسموا الأشياء
بين خالقين متضادين في هذه الأشياء المتضادة المتباينة، وقد تراها تجتمع

(1) الخلال: جمع خلة بالفتح - وهي الخصلة والصفة.
(2) سلا الشئ وسلا عنه: نسيه وهجره وطابت نفسه عنه وذهل عن ذكره.
38

على ما فيه الصلاح والمنفعة (1).
(اختصاص الإنسان بالحياء دون بقية الحيوانات)
أنظر يا مفضل إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا
الخلق، الجليل قدره العظيم غناؤه، أعني: الحياء. فلولاه لم يقر
ضيف (2) ولم يوف بالعداة، ولم تقض الحوائج، ولم يتحر الجميل، ولم
يتنكب (3) القبيح في شئ من الأشياء، حتى أن كثيرا من الأمور المفترضة
أيضا إنما يفعل للحياء فإن من الناس من لولا الحياء لم يرع حق والديه ولم
يصل ذا رحم، ولم يؤد أمانة، ولم يعف عن فاحشة.. أفلا ترى كيف
وفي الإنسان جميع الخلال التي فيها صلاحه وتمام أمره.
(اختصاص الإنسان بالمنطق والكتابة)
تأمل يا مفضل ما أنعم الله - تقدست أسماؤه - على الإنسان،
من هذا المنطق الذي يعبر به عما في ضميره، وما يخطر بقلبه، وينتجه
فكره وبه يفهم عن غيره ما في نفسه، ولولا ذلك كان بمنزلة البهائم
المهملة، التي لا تخبر عن نفسها بشئ، ولا تفهم عن مخبر شيئا، وكذلك
الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين وأخبار الباقين للآتين، وبها تخلد
الكتب في العلوم والآداب وغيرها، وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه
وبين غيره من المعاملات والحساب ولولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن

(1) يقول علم النفس الحديث أن النسيان عمل من أعمال الذهن كالتذكر تماما، وليس في
مقدورنا أن نتذكر شيئا إلا إذا نسينا أشياء حتى ليمكن القول بأن الذاكرة هي أداة
النسيان، ونحن نفكر بفضل ما نسينا، كما نفكر بفضل ما تذكرنا.
(2) قرى الضيف: إضافة.
(3) يتنكب: يتجنب.
39

بعض، وأخبار الغائبين عن أوطانهم، ودرست العلوم، وضاعت الآداب
وعظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم ومعاملاتهم، وما
يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم، وما روي لهم، مما لا يسعهم
جهله، ولعلك تظن أنها مما يخلص إليه بالحيلة والفطنة، وليست مما
أعطيه الإنسان من خلقه وطباعه.
وكذلك الكلام، إنما هو شئ يصطلح الناس، فيجري بينهم
ولهذا صار يختلف في الأمم المختلفة، وكذلك لكتابة العربي والسرياني
والعبراني والرومي، وغيرها من سائر الكتابة، التي هي متفرقة في الأمم
إنما اصطلحوا عليها، كما اصطلحوا على الكلام، فيقال لمن ادعى ذلك:
إن الإنسان وإن كان له في الأمرين جميعا فعل أو حيلة، فإن الشئ الذي
يبلغ به ذلك الفعل والحيلة، عطية وهبة من الله عز وجل له في خلقه،
فإنه لو لم يكن له لسان مهيأ للكلام، وذهن يهتدي به للأمور، لم يكن
ليتكلم أبدا ولو لم تكن له كف مهيئة وأصابع للكتابة، لم يكن ليكتب
أبدا.
واعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها ولا كتابة، فأصل ذلك
فطرة الباري جل وعز، وما تفضل به على خلقه، فمن شكر أثيب، ومن
كفر فإن الله غني عن العالمين. (1)
(إعطاء الإنسان ما يصلح دينه ودنياه ومنعه مما سوى ذلك)
فكر يا مفضل فيما أعطي الإنسان علمه وما منع، فإنه أعطي جميع
علم ما فيه صلاح دينه ودنياه فمما فيه صلاح دينه معرفة الخالق تبارك

(1) كلام الإمام في بحث اللغات وشأنها هنا يشعر بأن الإنسان هو الذي وضع اللغات،
بما خطره الله من قابلية المنطق وتعلم الكلام.
40

وتعالى وبالدلائل والشواهد القائمة في الخلق، ومعرفة الواجب عليه، من
العدل على الناس كافة. وبر الوالدين، وأداء الأمانة، ومواساة أهل
الخلة، وأشباه ذلك، مما قد توجد معرفته، والإقرار، والاعتراف به في
الطبع والفطرة، من كل أمة موافقة أو مخالفة، وكذلك أعطي علم ما فيه
صلاح دنياه، كالزراعة والغراس، واستخراج الأرضين، واقتناء الأغنام،
والأنعام واستنباط المياه، ومعرفة العقاقير التي يستشفي بها من ضروب
الأسقام، والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر، وركوب السفن،
والغوص في البحر، وضروب الحيل في صيد الوحش والطير والحيتان،
والتصرف في الصناعات ووجوه المتاجر والمكاسب، وغير ذلك مما يطول
شرحه ويكثر تعداده، مما فيه صلاح أمره في هذه الدار. فأعطي علم ما
يصلح به دينه ودنياه، ومنع ما سوى ذلك، مما ليس في شأنه ولا طاقته أن
يعلم. كعلم الغيب وما هو كائن. وبعض قد كان أيضا، كعلم ما
فوق السماء وما تحت الأرض. وما في لجج البحار وأقطار العالم، وما في
قلوب وما في الأرحام وأشباه هذا مما حجب عن الناس علمه.
وقد ادعت طائفة من الناس هذه الأمور، فأبطل دعواهم ما يبين من
خطئهم، فيما يقصون عليه ويحكمون به فيما ادعوا عليه.
فانظر كيف أعطي الإنسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه ودنياه،
وحجب عنه ما سوى ذلك، ليعرف قدره ونقصه وكلا الأمرين فيها
صلاحه.
(ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته)
تأمل الآن يا مفضل ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته، فإنه
لو عرف مقدار عمره - وكان قصير العمر - لم يتهنأ بالعيش، مع ترقب
الموت وتوقعه، لوقت قد عرفه، بل كان يكون بمنزلة من قد فنى ماله، أو
41

قارب الفناء، فقد استشعر الفقر، والوجل من فناء ماله وخوف الفقر على
أن الذي يدخل على الإنسان فناء العمر أعظم مما يدخل عليه من فناء
المال، لأن من يقل ماله يأمل أن يستخلف منه، فيسكن إلى ذلك، ومن
أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس وإن كان طويل العمر، ثم عرف
ذلك، وثق بالبقاء، وانهمك في اللذات والمعاصي، وعمل على أنه يبلغ
من ذلك شهوته، ثم يتوب في آخر عمره. وهذا مذهب لا يرضاه الله من
عباده ولا يقبله، ألا ترى لو أن عبدا لك عمل على أنه يسخطك سنة
ويرضيك يوما أو شهرا، لم تقبل منه، ولم يحل عندك محل العبد
الصالح دون أن يضمر طاعتك ونصحك في كل الأمور؟ وفي كل
الأوقات، على تصرف الحالات (فإن قلت) أو ليس قد يقيم الإنسان على
المعصية حينا ثم يتوب فتقبل توبته؟ (قلنا): إن ذلك شئ يكون من
الإنسان لغلبة الشهوات له وتركه مخالفتها. من غير أن يقدرها نفسه،
ويبني عليه أمره، فيصفح الله عنه، ويتفضل عليه بالمغفرة. فإما من قدر
أمره على أن يعصي ما بدا له، ثم يتوب آخر ذلك، فإنما يحاول خديعة
من لا يخادع، بأن يتسلف (1) التلذذ في العاجل، ويعد ويمني نفسه التوبة
في الآجل، ولأنه لا يفي بما يعد من ذلك، فإن النزوع الترفه والتلذذ
ومعاناة (2) التوبة، ولا سيما عند الكبر وضعف البدن، أمر صعب، ولا
يؤمن على الإنسان، مع مدافعته بالتوبة أن يرهقه الموت، فيخرج من
الدنيا غير تائب، كما قد يكون على الواحد دين إلى أجل، وقد يقدر على
قضائه، فلا يزال يدافع بذلك حتى يحل الأجل، وقد نفذ المال، فيبقى
الدين قائما عليه. فكان خير الأشياء للإنسان أن يستر عنه مبلغ عمره،

(1) التسلف: الاقتراض كأنه يجري معاملة مع ربه، بأن يتصرف في اللذات عاجلا ويعد
ربه في عوضها التوبة ليؤدي إليه آجلا... وفي بعض النسخ يستسلف وهو طلب وبيع
الشئ سلفا.
(2) المعاناة: مقاساة العناء والمشقة.
42

فيكون طول عمره يترقب الموت، فيترك المعاصي، ويؤثر العمل الصالح
(فإن قلت): وها هو الآن ستر عنه مقدار حياته، وصار يترقب الموت
في كل ساعة يقارف (1) الفواحش وينتهك المحارم (2) (قلنا): إن وجه
التدبير في هذا الباب، هو الذي جرى عليه الأمر فإن كان الإنسان مع
ذلك لا يرعوي (3) ولا ينصرف عن المساوي، فإنما ذلك من مرحه ومن
قساوة قلبه، لا من خطأ في التدبير، كما أن الطبيب قد يصف للمريض ما
ينتفع به، فإن كان المريض مخالفا لقول الطبيب، لا يعمل بما يأمره ولا
ينتهي عما ينهاه عنه، لم ينتفع بصفته، ولم تكن الإساءة في ذلك للطبيب
بل للمريض، حيث يقبل منه. ولئن كان الإنسان مع ترقبه للموت كل
ساعة لا يمتنع عن المعاصي، فإنه لو وثق بطول البقاء كان أحرى بأن يخرج
إلى الكبائر الفظيعة.. فترقب الموت على كل حال خير له من الثقة بالبقاء
ثم إن ترقب الموت وإن كان صنف من الناس يلهون عنه، ولا يتعظون به
فقد يتعظ به صنف آخر منهم، وينزعون عن المعاصي، ويؤثرون العمل
الصالح، ويجودون بالأموال والعقائل (4) النفيسة في الصدقة على الفقراء
والمساكين فلم يكن من العدل أن يحرم هؤلاء الانتفاع بهذه الخصلة لتضييع
أولئك حظهم منها.
(الأحلام وامتزاج صادقها بكاذبها وسر ذلك)
فكر يا مفضل في الأحلام كيف دبر الأمر فيها فمزج صادقها

(1) في الأصل المطبوع يفارق ولا يستقيم المعنى بها بل يكون عكسيا. ولما رجعنا إلى البحار
وجدناها يقارف.
(2) المحارم جمع محرم وهو الحرام.
(3) الارعواء: الكف عن الشئ، أو الندم على الشئ والانصراف عنه وتركه.
(4) العقائل جميع عقيلة والعقيلة من الإبل هي الكريمة، والعقيلة من كل شئ هي
أكرمه.
43

بكاذبها، فإنها لو كانت كلها تصدق لكان الناس كلهم أنبياء، ولو كانت
كلها تكذب، لم يكن فيها منفعة، بل كانت فضلا لا معنى له، فصارت
تصدق أحيانا، فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدى لها، أو مضرة يتحذر
منها، وتكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد.
(الأشياء المخلوقة لمآرب الإنسان وإيضاح ذلك)
فكر يا مفضل في هذه الأشياء التي تراها موجودة معدة في العالم من
مأربهم، فالتراب للبناء. والحديد للصناعات، والخشب للسفن وغيرها
والحجارة للأرحاء (1) وغيرها، والنحاس للأواني. والذهب والفضة
للمعاملة والذخيرة، والحبوب للغذاء، والثمار للتفكه، واللحم
للمأكل، والطيب للتلذذ، والأدوية للتصحح (2) والدواب للحمولة.
والحطب للتوقد والرماد للكلس (3)، والرمل للأرض، وكم عسى أن
يحصي المحصي من هذا وشبهه... أرأيت لو أن داخلا دخل دارا، فنظر
إلى خزائن مملوءة من كل ما يحتاج إليه الناس، ورأى كل ما فيها مجموعا معدا
لأسباب معروفة أكان يتوهم أن مثل هذا يكون بالإهمال، ومن غير عمد؟
فكيف يستجيز قائل أن يقول هذا من صنع الطبيعة في العالم، وما أعد فيه
من هذه الأشياء.
اعتبر يا مفضل بأشياء خلقت لمآرب الإنسان، وما فيها من التدبير
فإنه خلق له الحب لطعامه، وكلف طحنه وعجنه وخبزه، وخلق له الوبر
لكسوته، فكلف ندفه وغزله ونسجه، وخلق له الشجر، فكلف غرسها

(1) الأرحاء جمع رحى وهي الطاحونة.
(2) التصحح من صحح المريض: أزال مرضه.
(3) الكلس: - بالكسر - ما يقوم به الحجر والرخام ونحوهما ويتخذ منها بإحراقها.
44

وسقيها والقيام عليها وخلقت له العقاقير لأدويته، فكلف لقطها (1)
وخلطها وصنعها، وكذلك تجد سائر الأشياء على هذا المثال.
فانظر كيف كفى الخلقة التي لم يكن عنده فيها حيلة. وترك عليه في
كل شئ من الأشياء موضع عمل وحركة، لما له في ذلك من الصلاح،
لأنه لو كفى كله، حتى لا يكون له في الأشياء موضع شغل وعمل،
لما حملته الأرض أشرا وبطرا (2) ولبلغ به ذلك إلى أن يتعاطى أمورا فيها
تلف نفسه، ولو كفى كل ما يحتاجون إليه لما تهنأوا (3) بالعيش ولا
وجدوا له لذة... ألا ترى لو أن امرءا نزل بقوم، فأقام حينا بلغ جميع ما
يحتاج إليه من مطعم ومشرب وخدمة، لتبرم بالفراغ ونازعته نفسه إلى
التشاغل بشئ، فكيف لو كان طول عمره مكفيا لا يحتاج إلى شئ؟
فكان من صواب التدبير في هذه الأشياء التي خلقت للإنسان: أن جعل له
فيها موضع شغل، لكيلا تبرمه البطالة، ولتكفه عن تعاطي ما لا يناله،
ولا خير فيه أن ناله.
(الخبز والماء رأس معاش الإنسان وحياته)
واعلم يا مفضل أن رأس معاش الإنسان وحياته: الخبز والماء...
فانظر كيف دبر الأمر فيهما، فإن حاجة الإنسان إلى الماء أشد من حاجته
إلى الخبز، وذلك أن صبره على الجوع أكثر من صبره على العطش،
والذي يحتاج من الماء أكثر مما يحتاج إليه من الخبز، لأنه يحتاج إليه
لشربه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه وسقي أنعامه وزرعه فجعل الماء مبذولا

(1) اللقط مصدر من لقط الشئ: أخذه من الأرض بلا تعب. ولقط الطائر الحب:
أخذه بمنقاره.
(2) الأشر والبطر: (كلاهما بالفتح) بمعنى واحد.
(3) وفي نسخة البحار تهنوا.
45

لا يشترى لتسقط عن الإنسان المؤنة في طلبه وتكلفه، وجعل الخبز متعذرا
لا ينال إلا بالحيلة والحركة، ليكون للإنسان في ذلك شغل يكفه عما يخرجه
إليه الفراغ من الأشر والعبث... ألا ترى أن الصبي يدفع إلى المؤدب،
وهو طفل لم تكمل ذاته للتعليم، كل ذلك ليشتغل عن اللعب والعبث
الذين ربما جنيا عليه وعلى أهله المكروه العظيم. وهكذا الإنسان لو خلا
من الشغل، لخرج من الأشر والعبث والبطر، إلى ما يعظم ضرره عليه
وعلى من قرب منه. واعتبر ذلك بمن نشأ في الجدة (1) ورفاهية العيش
والترفه والكفاية، وما يخرجه ذلك إليه.
(اختلاف صور الناس وتشابه الوحوش والطير وغيرها)
(من الحكمة في ذلك)
اعتبر لم لا يتشابه الناس واحد بالآخر، كما تتشابه الوحوش والطير
وغير ذلك، فإنك ترى السرب من الظباء والقطا تتشابه لا يفرق بين
واحد منها وبين الأخرى، وترى الناس مختلفة صورهم وخلقهم، حتى لا
يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة. والعلة في ذلك أن الناس
محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحلاهم، لما يجري بينهم من المعاملات
وليس يجري بين البهائم مثل ذلك، فيحتاج إلى معرفة كل واحد منها بعينه
وحليته. ألا ترى أن التشابه في الطير والوحش لا يضرها شيئا، وليس
كذلك الإنسان، فإنه ربما تشابه التوأم (2) تشابها شديدا فتعظم المؤنة على
الناس في معاملتهما، حتى يعطي أحدهما بالآخر، ويؤخذ أحدهما بذنب

(1) الجدة - بالتخفيف - الغني.
(2) التوأم: المولود مع غيره في بطن واحد جمعه توائم. وفي جميع النسخ توؤمان وورودها
هنا خطأ ظاهر، إذ لا يجوز فيها لأكثر من فردين، ومجيؤها بهذا النص دلالة على التثنية
فيكون معناها أربعة أفراد.
46

الآخر (1)، وقد يحدث مثل هذا في تشابه الأشياء. فضلا عن تشابه
الصور، فمن لطف بعباده بهذه الدقائق التي لا تكاد تخطر بالبال، حتى
وقف بها على الصواب، إلا من وسعت رحمته كل شئ.
لو رأيت تمثال الإنسان مصورا على حائط، وقال لك قائل: إن هذا
ظهر هنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع!... أكنت تقبل ذلك، بل
كنت تستهزئ به، فكيف تنكر هذا في تمثال مصور جماد، ولا تنكر في
الإنسان الحي الناطق.
(نمو أبدان الحيوان وتوقفها وسبب ذلك)
لم صارت أبدان الحيوان - وهي تغتذي أبدا - لا تنمي، بل تنتهي
إلى غاية من النمو، ثم تقف ولا تتجاوزها، لولا التدبير، ذلك، فإن
تدبير الحكيم فيها أن تكون أبدان كل صنف منها على مقدار معلوم غير
متفاوت في الكبير والصغير، وصارت تنمي حتى تصل إلى غايتها، ثم
تقف ثم لا تزيد، والغذاء مع ذلك دائم لا ينقطع ولو تنمي نموا دائما
لعظمت أبدانها، واشتبهت مقاديرها (2) حتى لا يكون لشئ منها حد
يعرف.
(ما يعتري أجسام الإنس من ثقل الحركة والمشي لو لم يصبها ألم)
لم صارت أجسام الإنس خاصة تثقل عن الحركة والمشي، وتجفو عن

(1) أي قد يشبه مال شخص بمال شخص آخر كثوب أو دينار فيصير سببا للاشتباه والتشاجر
والتنازع فضلا عن تشابه الصورة فإنه أعظم فسادا.
(2) أي لم يعرف غاية ما ينتهي إليه مقداره، فيشتبه الأمر عليه، فيما يريد أن يهيئه لنفسه
من دار وثياب وزوجة.
47

الصناعات اللطيفة (1)، إلا لتعظيم المؤنة فيما يحتاج إليه الناس للملبس
والمضجع والتكفين وغير ذلك، لو كان الإنسان لا يصيبه ألم ولا وجع، بم
كان يرتدع عن الفواحش، ويتواضع لله، ويتعطف على الناس... أما
ترى الإنسان إذا عرض له وجع خضع واستكان ورغب إلى ربه في
العافية، وبسط يده بالصدقة، ولو كان لا يألم من الضرب بم كان
السلطان يعاقب الدعار (2) ويذل العصاة المردة، وبم كان الصبيان يتعلمون
العلوم والصناعات، وبم كان العبيد يذلون لأربابهم، ويذعنون
لطاعتهم. أفليس هذا توبيخ (ابن أبي العوجاء) (3) وذويه الذين جحدوا
التدبير.
(والمانوية) الذين أنكروا الوجع والألم.
(انقراض الحيوان لو لم يلد ذكورا وإناثا)
ولو لم يولد من الحيوان إلا ذكر فقط أو أنثى فقط ألم يكن النسل
منقطعا وباد مع أجناس الحيوان، فصار بعض الأولاد يأتي ذكورا وبعضها
يأتي إناثا ليدوم التناسل ولا ينقطع.

(1) أي يبتعد ويجتنب ولا يداوم على الصناعات اللطيفة أي التي فيها دقة ولطافة. والمراد أن
الله تعالى جعل أجسام الإنسان بحيث تثقل عن الحركة والمشي قبل سائر الحيوانات،
وتكل عن الأعمال الدقيقة لتعظم عليه مؤونة تحصيل ما يحتاج إليه، فلا يبطر ولا
يطمع، أو ليكون لهذه الأعمال أجر، فيصير سببا لمعائش أقوام يزاولونها. (2)
الدعار جمع داعر وهو الخبيث. وفي النسخة المطبوعة الذعار بالذال وهذا تصحيف.
(3) تقدمت ترجمة ابن أبي العوجاء في مقدمة الكتاب.
48

(ظهور شعر العانة عند البلوغ ونبات اللحية للرجل دون)
(المرأة وما في ذلك من التدبير)
لم صار الرجل والمرأة إذا أدركا تنبت لهما العانة، ثم تنبت اللحية
للرجل وتتخلف عن المرأة. لولا التدبير في ذلك، فإنه جعل الله
تبارك وتعالى الرجل قيما ورقيبا على المرأة، وجعل المرأة عرسا وخولا (1)
للرجل، أعطى الرجل اللحية، لما له من العز والجلالة والهيبة، ومنعها
المرأة، لتبقى لها نضارة الوجه والبهجة التي تشاكل المفاكهة (2) والمضاجعة
أفلا ترى الخلقة وكيف تأتي بالصواب في الأشياء، وتتخلل مواضع
الخطأ (3) فتعطي وتمنع على قدر الأرب (4) والمصلحة بتدبير الحكيم عز
وجل.
قال المفضل: ثم حان وقت الزوال، فقام مولاي إلى الصلاة،
وقال: بكر (5) إلي غدا إن شاء الله تعالى.. فانصرفت عنده مسرورا بما
عرفته، مبتهجا بما أوتيته، حامدا تعالى عز وجل على ما أنعم به علي
شاكرا لأنعمه على ما منحني بما عرفنيه مولاي، وتفضل به علي، فبت في
ليلتي مسرورا بما منحنيه، محبور بما علمنيه.

(1) الخول - بفتحتين - العبيد والإماء وغيرهم من الحاشية وهو يستعمل بلفظ واحد
للجميع، وربما قيل للواحد خائل.
(2) المفاكهة: هي الممازحة والمضاحكة.
(3) يحتمل أن تكون الجملة حالية، أي تأتي بالصواب مع أنها تدخل مواضع هي مظنة
الخطأ من قولهم تخللت القوم أي دخلت خلالهم ويحتمل أن يكون المراد بالتخلل التخلف
أو الخروج من خلالها، لكن تطبيقها على المعاني اللغوية يدعو إلى التكلف. (4) الأرب - بفتحتين -: الحاجة والغاية والجميع آراب.
(5) بكر - بالتشديد - أتاه بكرة.
49

* (المجلس الثاني) *
قال المفضل: فلما كان اليوم الثاني بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي
فدخلت، فأمرني بالجلوس فجلست فقال: -
الحمد لله مدبر الأدوار (1)، ومعيد الأكوار (2)، طبقا (3) عن طبق،
وعالما بعد عالم، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا
بالحسنى، عدلا منه، تقدست أسماؤه، وجلت آلاؤه، لا يظلم الناس
شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، يشهد بذلك قوله جل قدسه * (فمن
يعمل مثقال ذره خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذره شرا يره) * في نظائر لها (4)
في كتابه الذي فيه تبيان كل شئ ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه (تنزيل من حكيم حميد) ولذلك قال سيدنا محمد صلوات الله عليه
وعلى آله: " إنما هي أعمالكم ترد إليكم ".
ثم أطرق الإمام هنيئة وقال:: يا مفضل الخلق حيارى عمهون (5)
سكارى في طغيانهم يترددون، وبشياطينهم وطواغيتهم يقتدون، بصراء
عمي لا يبصرون، نطقاء بكم (6) لا يعقلون، سمعاء (7) صم (8) لا

(1) الأدوار جمع دور مصدر بمعنى الحركة.
(2) الأكوار جمع كور - بالفتح - مصدر بمعنى الجماعة الكثيرة أو القطيع من الإبل والبقر
ويقال كل دور كور والمراد أما استيناف قرن بعد قرن وزمان بعد زمان.
(3) الطبق: وجه الأرض ولعل المراد به معنى الحال يقال: الدهر إطباق - أي أحوال
تختلف.
(4) أي قالها في ضمن نظائرها أو مع نظائرها.
(5) عمهون، جمع عمه - بفتح فكسر - وهو المتردد في الضلال والمتحير في أمره أو طريقه.
(6) بكم: جمع أبكم وهو الأخرس.
(7) سمعاء، جمع سميع بمعنى السامع والمسمع وهو للمبالغة.
(8) الصم، جمع أصم وهو الذي انسدت أذنه وثقل سمعه أو ذهب عنه بتاتا.
50

يسمعون، رضوا بالدون (1)، وحسبوا، أنهم مهتدون، حادوا (2) عن
مدرجة (3) الأكياس (4) ورتعوا في مرعى الأرجاس (5) الأنجاس، كأنهم
من مفاجآت الموت آمنون، وعن المجازات مزحزحون، يا ويلهم ما
أشقاهم، وأطول عناءهم وأشد بلاءهم * (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا
ولا هم ينصرون إلا من رحم الله) *!
قال المفضل: فبكيت لما سمعت منه!... فقال: لا تبك تخلصت
إذ قبلت، ونجوت إذ عرفت.
(أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها وإيضاح ذلك)
ثم قال: ابتدئ لك بذكر الحيوان ليتضح لك من أمره ما وضح
لك من غيره. فكر في أبنية أبدان الحيوان، وتهيئتها على ما هي عليه فلا
هي صلاب كالحجارة. ولو كانت كذلك لا تنثني (6)، ولا تتصرف في
الأعمال، ولا هي على غاية اللين والرخاوة، فكانت لا تتحامل، ولا
تستقل بأنفسها، فجعلت من لحم رخو ينثني، تتداخله عظام صلاب
يمسكه عصب وعروق تشده، وتضم بعضه إلى بعض، وغلفت (7) فوق
ذلك بجلد يشتمل على البدن كله وأشباه ذلك، هذه التماثيل التي تعمل

(1) الدون، أريد به هنا معنى الخسيس الحقير السافل.
(2) حادوا: مالوا.
(3) مدرجة جمع مدارج، ما يساعد على التوصل إلى ما هو أفضل أو أعلى منه.
(4) الأكياس: جمع كيس بتشديد الياء - أي الفطن الحسن الفهم والأدب.
(5) الأرجاس لعله جمع رجس - بالكسر - القذر والمأثم أو كل ما استقذر من العمل والعمل
المؤدي إلى العذاب.
(6) لا تنثني: لا تنعطف ولا تميل.
(7) في نسخة وعليت.
51

من العيدان، وتلف بالخرق وتشد بالخيوط، وتطلى فوق ذلك بالصمغ
فتكون العيدان بمنزلة العظام، والخرق بمنزلة اللحم، والخيوط بمنزلة
العصب والعروق، والطلاء بمنزلة الجلد، فإن جاز أن يكون الحيوان
المتحرك حدث بالإهمال من غير صانع جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل
الميتة، فإن كان هذا غير جائز في التماثيل فبالحري أن لا يجوز في الحيوان.
(أجساد الأنعام وما أعطيت وما منعت وسبب وذلك)
وفكر يا مفضل - بعد هذا - في أجساد الأنعام (1) فإنها حين خلقت
على أبدان الإنس من اللحم والعظم والعصب، أعطيت أيضا السمع
والبصر ليبلغ الإنسان حاجته، فإنها لو كانت عميا صما لما انتفع بها
الإنسان ولا تصرفت شئ من مآربه، ثم منعت الذهن والعقل لتذل
للإنسان، فلا تمتنع عليه، إذا كدها الكد الشديد، وحملها الحمل
الثقيل. فإن قال قائل إنه قد يكون للإنسان عبيد من الإنس، يذلون
ويذعنون بالكد الشديد، وهم مع ذلك غير عديمي العقل والذهن. فيقال
في جواب ذلك أن هذا الصنف من قليل، فأما أكثر الناس فلا
يذعنون بما تذعن به الدواب من الحمل والطحن وما أشبه ذلك، ولا
يغرون (2) بما يحتاج إليه منه.. ثم لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال
بأبدانهم لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال، لأنه كان يحتاج مكان الجمل
الواحد والبغل الواحد إلى عدة أناسي، فكان هذا العمل يستفرغ الناس
حتى لا يكون فيهم عنه فضل لشئ من الصناعات مع ما يلحقه من التعب
الفادح في أبدانهم والضيق والكد في معاشهم.

(1) الأنعام جمع نعام - بفتحتين - الإبل وتطلق على البقر والغنم.
(2) لا يغرون - بالغين على بناء المفعول - أي لا يؤثر فيهم الاغراء والتحريض على جميع
الأعمال التي يحتاج إليها الخلق من ذلك العمل الذي تأتي به الدواب.
52

(خلق الأصناف الثلاثة من الحيوان)
فكر يا مفضل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان وفي خلقها، على
ما هي عليه مما فيه صلاح كل واحد منها. فالإنس لما قدروا أن يكونوا
ذوي ذهن وفطنة وعلاج لمثل هذه الصناعات من البناء والتجارة والصياغة
والخياطة، وغير ذلك خلقت لهم أكف كبار ذوات أصابع غلاظ ليتمكنوا
من القبض على الأشياء، وأوكدها هذه الصناعات.
(آكلات اللحم من الحيوان والتدبير في خلقها)
وآكلات اللحم لما قدر أن تكون معائشها من الصيد، خلقت لهم
أكف لطاف مدمجة (1) ذوات براثن (2) ومخالب (3) تصلح لأخذ الصيد ولا
تصلح للصناعات، وآكلات النبات قدر أن يكونوا، لا ذوات صنعة
ولا ذات صيد خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونة الأرض إذا حاولت
طلب المرعى، ولبعضها حوافر ململمة (4) ذوات قعر (5) كأخمص القدم
تنطبق على الأرض عند تهيئها للركوب والحمولة.
تأمل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان، حين خلقت ذوات
أسنان حداد، وبراثن شداد، وأشداق (6) وأفواه واسعة، فإنه لما قدر أن

(1) مدمجة أي مستقيمة محكمة متداخلة.
(2) البراثن جمع برثن بالضم - من السباع والطير بمنزلة الإصبع من الإنسان.
(3) المخالب جمع مخلب - بالكسر - وهو الظفر خصوصا من السباع.
(4) ململمة أي مجموعة بعضها إلى بعض.
(5) قعر كل شئ أقصاه.
(6) الأشداق جمع شدق - بالفتح أو الكسرة - زاوية الفم من باطن الخدين.
53

يكون طعمها (1) اللحم خلقت خلقة تشاكل وأعينت بسلاح،
وأدوات تصلح للصيد، وكذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير ومخالب مهيئة
لفعلها، ولو كانت الوحوش ذوات مخالب كانت قد أعطيت ما لا تحتاج
إليه، لأنها لا تصيد ولا تأكل اللحم، ولو كانت السباع ذوات أظلاف
كانت قد منعت ما تحتاج إليه، أعني السلاح الذي تصيد به وتتعيش.
أ فلا ترى كيف أعطي واحد من الصنفين ما يشاكل صنفه وطبقته. بل
ما فيه بقاؤه وصلاحه.
(ذوات الأربع واستقلال أولادها)
أنظر الآن إلى ذوات الأربع كيف تراها تتبع أماتها (2) مستقلة بأنفسها
لا تحتاج إلى الحمل والتربية كما تحتاج أولاد الإنس، فمن أجل أنه ليس
عند أماتها ما عند أمهات البشر من الرفق والعلم بالتربية، والقوة عليها
بالأكف والأصابع المهيأة لذلك أعطيت النهوض والاستقلال بأنفسها
وكذلك ترى كثيرا من الطير كمثل الدجاج والدراج (3) والقبج (4)، تدرج
وتلقط حين تنقاب عنها البيضة. فأما ما كان منها ضعيفا لا نهوض فيه،
كمثل فراخ الحمام واليمام (5) والحمر (6) فقد جعل في الأمهات فضل عطف

(1) الطعم - بالضم - الطعام.
(2) الأمات جمع أم وقيل إنها تستعمل في البهائم، وأما في الناس فهي أمهات.
(3) الدراج - بضم فتشديد - طائر شبيه بالحجل وأكبر منه أرقط بسواد وبياض قصير المنقار
يطلق على الذكر والأنثى، جمعه دراريج وواحدته دراجة والتاء للوحدة لا للتأنيث.
(4) القبج - بفتحتين - طائر يشبه الحجل وفي القاموس هو الحجل والواحدة قبجة تقع على
الذكر والأنثى.
(5) اليمام: الحمام الوحشي.
(6) الحمر - بضم فتشديد - طائر أحمر اللون والواحدة حمرة.
54

عليها، فصارت تمج (1) الطعام في أفواهها بعد ما توعيه (2) حواصلها (3) فلا
تزال تغذوها تستقل بأنفسها، ولذلك لم ترزق الحمام فراخا كثيرة مثل
ما ترزق الدجاج، لتقوى الأم على تربية فراخها فلا تفسد ولا تموت فكلا
أعطى بقسط من تدبير الحكيم اللطيف الخبير.
(قوائم الحيوان وكيفية حركتها)
أنظر إلى قوائم الحيوان كيف تأتي أزواجا، لتتهيأ للمشي، ولو
كانت أفرادا لم تصلح لذلك، لأن الماشي ينقل قوائمه يعتمد على بعض
فذو القائمتين ينقل واحدة، ويعتمد على واحدة، وذو الأربع ينقل اثنتين
ويعتمد على اثنتين وذلك من خلاف، لأن ذا الأربع لو كان ينقل قائمتين
من أحد جانبيه، ويعتمد على قائمتين من الجانب الآخر، لم يثبت على
الأرض، كما يثبت السرير وما أشبهه، فصار ينقل اليمنى من مقاديمه مع
اليسرى من مآخيره، وينقل الأخريين أيضا خلاف، فيثبت على
الأرض، ولا يسقط إذا مشى.
(انقياد الحيوانات المسخرة للإنسان وسببه)
أما ترى الحمار كيف يذل للطحن والحمولة وهو يرى الفرس مودعا
منعما، والبعير لا يطيقه عدة رجال لو استعصى كيف كان ينقاد للصبي؟
والثور الشديد كيف كان يذعن لصاحبه، حتى يضع النير (4) على عنقه،

(1) تمج الطعام أي ترمي به.
(2) توعيه من أوعى الزاد ونحوه - أي جعله في الوعاء.
(3) الحواصل كأنها جمع حوصلة وحوصلاء وهي من الطير بمنزلة المعدة من الإنسان.
(4) النير - بالكسر - الخشبة المعترضة في عنقي الثورين بأدائها والجمع أنيار ونيران.
55

ويحرث به؟ والفرس الكريم يركب (1) السيوف والأسنة بالمواتاة لفارسه
والقطيع من الغنم يرعاه واحد، ولو تفرقت الغنم فأخذ كل واحد منها في
ناحية لم يلحقها. وكذلك جميع الأصناف المسخرة للإنسان.. كانت
كذلك؟ إلا بأنها عدمت العقل والروية، فإنها لو كانت تعقل وتتروى في
الأمور كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه حتى يمتنع
الجمل على قائده والثور على صاحبه، وتتفرق الغنم عن راعيها وأشباه هذا
من الأمور.
(افتقاد السباع للعقل والروية وفائدة ذلك)
وكذلك هذه السباع لو كانت ذات عقل وروية فتوازرت (2) على
الناس، كانت خليقة أن تجتاحهم، فمن كان يقوم للأسد والذئاب
والنمور والدببة، لو تعاونت وتظاهرت على الناس؟... أفلا ترى كيف
حجر (3) ذلك عليها وصارت مكان ما كان يخاف من أقدامها ونكايتها،
تهاب مساكن الناس وتحجم عنها، ثم لا تظهر ولا تنتشر لطلب قوتها إلا
بالليل، فهي مع صولتها كالخائف من الأنس بل مقموعة (4) ممنوعة منهم
ولو كان ذلك لساورتهم في مساكنهم وضيقت عليهم.
(عطف الكلب على الإنسان ومحاماته عنه)
ثم جعل في الكلب من بين هذه السباع عطف على مالكه ومحاماة عنه.

(1) يركب السيوف والأسنة أي يلقي نفسه عليها.
(2) توازرت أي اجتمعت واتحدت.
(3) حجر عليه الأمر: حرمه ومنعه.
(4) مقموعة: مقهورة ذليلة.
56

وحافظ له، ينتقل على الحيطان والسطوح في ظلمة الليل لحراسة منزل
صاحبه وذب الذعار عنه، ويبلغ من محبته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت
دونه ودون ماشيته وماله ويألفه غاية الألف (1) حتى يصبر معه على الجوع
والجفوة... فلم طبع الكلب على هذه الألفة والمحبة؟ إلا ليكون حارسا
للإنسان له عين (2) بأنياب (3) ومخالب، ونباح هائل، ليذعر منه السارق،
ويتجنب المواضع التي يحميها ويخفرها (4).
(وجه الدابة وفمها وذنبها وشرح ذلك)
يا مفضل تأمل وجه الدابة كيف هو...؟ فإنك ترى العينين
شاخصتين أمامها لتبصر ما بين يديها، لئلا تصدم حائطا، أو تتردى في
حفرة وترى الفم مشقوقا شقا في أسفل الخطم (5) ولو شق كمكان الفم من
الإنسان في مقدم الذقن، لما استطاع أن يتناول به شيئا من الأرض ألا ترى
أن الإنسان لا يتناول الطعام بفيه ولكن بيده، تكرمة له على سائر الآكلات،
فلما لم يكن للدابة يد تتناول بها العلف جعل خرطومها (6) مشقوقا من
أسفله، لتقبض على العلف ثم تقضمه، واعينت بالجحفلة (7) لتتناول بها
ما قرب وما بعد... اعتبر بذنبها والمنفعة لها فيه، فإنه بمنزلة الطبق (8)
على الدبر والحياء جميعا، يواريهما ويسترهما، ومن منافعها فيه أن ما يبين

(1) الألف - بفتح فسكون - المحبة والأنس.
(2) العين - بالفتح - الغلظة في الجسم والخشونة.
(3) الأنياب جمع ناب وهو السن خلف الرباعية مؤنث.
(4) يخفرها: يجيرها ويؤمنها.
(5) خطم الدابة: مقدم أنفها وفمها.
(6) الخرطوم: الأنف أو مقدمه أو ما ضممت عليه الحنكين.
(7) الجحفلة هي لذات الحافر كالشفة للإنسان.
(8) الطبق - بفتحتين - مصدر الغطاء جمعه أطباق.
57

الدبر ومراقي البطن منها وضر (1) يجتمع عليها الذباب والبعوض فجعل لها
الذنب كالمذبة (2) تذب بها عن تلك المواضع، ومنها أن الدابة تستريح إلى
تحريكه وتصريفه يمنة ويسرة، فإنه لما كان قيامها على الأربع بأسرها،
وشغلت المقدمتان بحمل البدن عن التصرف والتقلب، كان لها في تحريك
الذنب راحة، وفيه منافع أخرى يقصر عنها الوهم، فيعرف موقعها في
وقت الحاجة إليها، فمن ذلك أن الدابة ترتطم في الوحل (3)، فلا يكون
شئ أعون على نهوضها، من الأخذ بذنبها، وفي شعر الذنب منافع
للناس كثيرة يستعملونها في مأربهم، ثم جعل ظهرها مسطحا مبطوحا على
قوائم أربع ليتمكن من ركوبها، وجعل حياها بارزا من ورائها ليتمكن
الفحل من ضربها، ولو كان أسفل البطن كما كان الفرج من المرأة لم يتمكن
الفحل منها... ألا ترى أنه لا يستطيع أن يأتيها كفاحا (4) كما يأتي الرجل
المرأة
(الفيل ومشفره)
تأمل مشفر (5) الفيل وما فيه من لطيف التدبير، فإنه يقوم مقام اليد
في تناول العلف والماء، وازدرادهما إلى جوفه، ولولا ذلك لما استطاع أن
يتناول شيئا من الأرض، لأنه ليست له رقبة يمدها كسائر الأنعام، فلما
عدم العنق أعين مكان ذلك بالخرطوم الطويل ليسد له، فيتناول به

(1) الوضر - بفتحتين - مصدر الوسخ.
(2) المذبة - بالكسر - ما يذب به الذباب.
(3) الوحل - بفتحتين - الطين الرقيق جمعه وحول وأوحال.
(4) الكفاح - بالكسر - الملاقاة وجها لوجه.
(5) المشفر - بكسر فسكون ففتح - الشفة وتستعمل للبعير إلا أن الإمام الصادق عدل المعنى
إلى خرطوم الفيل إذ هو بمثابة الشفاه، بل هو شفاهه الحقيقية التي بها يتناول العلف
والماء.
58

حاجته... فمن ذا الذي عوضه مكان العضو الذي عدم ما يقوم مقامه
إلا الرؤوف بخلقه؟ وكيف يكون هذا بالإهمال - كما قالت الظلمة -؟ فإن
قال قائل: فما باله لم يخلق ذا عنق كسائر الأنعام؟ قيل إن رأس الفيل
وأذنيه أمر عظيم، وثقل ثقيل، فلو كان ذلك على عنق عظيم، لهدها
وأوهنها، فجعل رأسه ملصقا بجسمه لكيلا يناله منه ما وصفناه، وخلق له
مكان العنق هذا المشفر ليتناول غذاءه، فصار مع عدم العنق - مستوفيا ما
فيه بلوغ حاجته.
(حياء الأنثى من الفيلة)
أنظر الآن كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة في أسفل بطنها؟ فإذا
هاجت للضراب ارتفع وبرز، حتى يتمكن الفحل من ضربها.. فاعتبر
كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة على خلاف ما عليه في غيرها من الأنعام
ثم جعلت فيه هذه الخلة ليتهيأ للأمر الذي فيه قوام النسل ودوامه.
(الزرافة وخلقتها وكونها ليست من لقاح أصناف شتى)
فكر في خلق الزرافة، واختلاف أعضائها، وشبهها بأعضاء أصناف
من الحيوان. فرأسها رأس فرس، وعنقها عنق جمل، وأظلافها أظلاف
بقرة، وجلدها جلد نمر.
وزعم ناس من الجهال بالله عز وجل: إن نتاجها من فحول شتى،
قالوا: وسبب ذلك أن أصنافا من حيوان البر إذا وردت الماء تنزو على بعض
السائمة، وينتج مثل الشخص الذي هو كالملتقط من أصناف شتى
وهذا جهل من قائله، وقلة معرفة بالباري جل قدسه، وليس كل صنف
من الحيوان يلقح كل صنف، فلا الفرس يلقح الجمل، ولا الجمل يلقح
59

البقر، وإنما يكون التلقيح من بعض الحيوان فيما يشاكله ويقرب من خلقه،
كما يلقح الفرس الحمار، فيخرج بينهما البغل، ويلقح الذئب الضبع،
فيخرج من بينهما السمع (1). على أنه ليس يكون في الذي يخرج من بينهما
عضو كل واحد، منهما كما في الزرافة، عضو من الفرس وعضو من
الجمل، وأظلاف من البقرة، بل يكون كالمتوسط بينهما الممتزج منهما،
كالذي تراه في البغل، فإنك ترى رأسه وأذنيه وكفله (2)، وذنبه وحوافره
وسطا بين هذه الأعضاء من الفرس والحمار وشحيجة (3)، كالممتزج من
صهيل الفرس ونهيق الحمار، فهذا دليل على أنه ليست الزرافة من لقاح
أصناف شتى من الحيوان، كما زعم الجاهلون، بل هي خلق عجيب من
خلق الله للدلالة على قدرته التي لا يعجزها شئ، وليعلم أنه خالق
أصناف الحيوان كلها، يجمع بين ما يشاء من أعضائها، في أيها شاء
ويفرق ما شاء، منها في أيها شاء. ويزيد في الخلقة ما شاء وينقص منها ما
شاء.، دلالة على قدرته على الأشياء، وأنه لا يعجز شئ أراده جل
وتعالى... فأما طول عنقها والمنفعة في ذلك فإن منشأها ومرعاها في
غياطل (4) ذوات أشجار شاهقة، ذاهبة طولا في الهواء. فهي تحتاج إلى
طول العنق لتتناول بفيها أطراف تلك الأشجار فتقوت من ثمارها.
(القرد وخلقته والفرق بينه وبين الإنسان)
تأمل خلقة القرد وشبهه بالإنسان في كثير من أعضائه أعني الرأس
والوجه والمنكبين والصدر، وكذلك أحشاؤه شبيهة أيضا بأحشاء الإنسان

(1) السمع - بكسر فسكون - ولد الذئب من الضبع والأنثى سمعة.
(2) الكفل - بفتحتين - من الدابة: العجز أو الردف والجمع أكفال.
(3) الشحيج من شحج البغل: صوت وغلظ صوته.
(4) الغياطل جمع غيطل وهو الشجر الكثير الملتف.
60

وخص مع ذلك بالذهن والفطنة التي بها يفهم عن سائسه ما يؤمي إليه
ويحكى كثيرا مما يرى الإنسان يفعله، حتى أنه يقرب من خلق الإنسان
وشمائله في التدبير في خلقته على ما هي عليه. أن يكون عبرة للإنسان في
نفسه فيعلم أنه من طينة البهائم وسنخها (1) إذ كان يقرب من خلقها هذا
القرب. وأنه لولا فضيلة فضله بها في الذهن والعقل والنطق كان كبعض
البهائم على أن في جسم القرد فضولا أخرى تفرق بينه وبين الإنسان
كالخطم (2) والذنب المسدل والشعر المجلل للجسم كله. وهذا لم يكن مانعا
للقرد أن يلحق بالإنسان لو أعطي مثل ذهن الإنسان وعقله ونطقه والفصل
الفاصل بينه وبين الإنسان - في الحقيقة - هو النقص في العقل والذهن
والنطق.
(إكساء أجسام الحيوانات وخلقة أقدامها بعكس الإنسان)
(وأسباب ذلك)
أنظر يا مفضل إلى لطف الله جل اسمه بالبهائم كيف كسيت
أجسامها هذه الكسوة من الشعر والوبر والصوف لتقيها من البرد وكثرة
الآفات البست الأظلاف والحافر والاخفاف لتقيها من الحفاء (3) إذ كانت لا
أيدي لها ولا أكف ولا أصابع مهيأة للغزل والنسج فكفوا بأن جعل كسوتهم
في خلقهم باقية عليهم ما بقوا لا يحتاجون إلى تجديدها واستبدال بها.
فأما الإنسان فإنه ذو حيلة وكف مهيأة للعمل. فهو ينسج ويغزل
ويتخذ لنفسه الكسوة ويستبدل بها حالا بعد حال. وله في ذلك صلاح من
جهات. من ذلك أنه يشتغل بصنعة اللباس عن العبث وما تخرجه إليه

(1) السنخ - بالكسر - الأصل والجمع أسناخ وسنوخ.
(2) الخطم من الدابة: مقدم أنفها وفمها.
(3) الحفاء هو المشئ بلا خف ولا نعل.
61

الكفاية. ومنها أنه يستريح إلى خلع كسوته إذا شاء ولبسها إذا شاء ومنها
أن يتخذ لنفسه من الكسوة ضروبا لها جمال وروعة فيتلذذ بلبسها وتبديلها
وكذلك يتخذ بالرفق من الصنعة ضروبا الخفاف (1) والنعال يقي بها
قدميه. وفي ذلك معائش لمن يعمله من الناس ومكاسب يكون فيها
معائشهم ومنها أقواتهم وأقوات عيالهم. فصار الشعر والوبر والصوف يقوم
للبهائم مقام الكسوة والأظلاف (2) والحوافر والاخفاف مقام الحذاء.
(مواراة البهائم عند إحساسها بالموت)
فكر يا مفضل في خلقة عجيبة جعلت في البهائم، فإنهم يوارون (3)
أنفسهم إذا ماتوا، كما يواري الناس موتاهم، وإلا فأين جيف هذه
الوحوش والسباع وغيرها، لا يرى منها شئ، وليست قليلة فتخفى
لقلتها؟ بل لو قال قائل: إنها أكثر من الناس لصدق.
فاعتبر في ذلك بما تراه في الصحارى والجبال من أسراب الظباء (4)
والمها (5) والحمير الوحش والوعول (6) والأيائل (7) وغير ذلك من الوحوش
وأصناف السباع من الأسد والضباع والذئاب والنمور وغيرها، وضروب
الهوام والحشرات ودواب الأرض، وكذلك أسراب الطير من الغربان

(1) الخفاف جمع خف - بالضم - وهو ما يلبس بالرجل.
(2) الأظلاف - بالكسر - وهو لما اجتر من الحيوانات كالبقرة والظبي بمنزلة الحافر للفرس.
(3) يوارون أنفسهم: يخفونها.
(4) الظباء جمع ظبية وهي أنثى الغزال.
(5) المها: جمع مهاة وهي البقرة الوحشية.
(6) الوعول جمع وعل وهو تيس الجبل له قرنان قويان منحنيان كسيفين أحد بين.
(7) الأيائل جمع أيل - بفتح فتشديد - حيوان من ذوات الظلف للذكور منه قرون متشعبة لا
تجويف فيها، أما الإناث فلا قرون لها.
62

والقطا والإوز والكراكي (1) والحمام وسباع الطير جميعا، وكلها لا يرى منها
إذا ماتت إلا الواحد بعد الواحد يصيده قانص أو يفترسه سبع، فإذا
أحسوا بالموت كمنوا في مواضع خفية فيموتون فيها، ولولا ذلك لامتلأت
الصحارى منها حتى تفسد رائحة الهواء وتحدث الأمراض والوباء.
فانظر إلى هذا بالذي يخلص إليه الناس، وعملوه بالتمثيل (2) الأول
الذي مثل لهم كيف جعل طبعا وأذكارا (3) في البهائم وغيرها، ليسلم
الناس من معرة (4) ما يحدث عليهم من الأمراض والفساد.
(الفطن التي جعلت في البهائم: الأيل والثعلب والدلفين)
فكر يا مفضل في الفطن التي جعلت في البهائم لمصلحتها، بالطبع
والخلقة، لطفا من الله عز وجل لهم، لئلا يخلو من نعمة جل وعز أحد من
خلقه بعقل وروية، فإن الأيل يأكل الحيات فيعطش عطشا شديدا
فيمتنع عن شرب الماء، خوفا من أن يدب السم في جسمه فيقتله، ويقف
على الغدير وهو مجهود عطشا، فيعج عجيجا عاليا، ولا يشرب منه، ولو
شرب لمات من ساعته.
فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة، من تحمل الظمأ الغالب
الشديد، خوفا من المضرة في الشرب، وذلك مما لا يكاد الإنسان العاقل
المميز يضبطه من نفسه.

(1) الكراكي جمع كركي - بضم فسكون فسكر - طائر كبير أغبر اللون طويل العنق والرجلين
أبتر الذنب قليل اللحم.
(2) المراد بالتمثيل ما ذكره الله تعالى في قصة قابيل.
(3) في الأصل المطبوع ادكارا بالدال المهملة، ولكن الأذكار أوضح وهو من قولهم ذكر
الشئ: حفظه في ذهنه.
(4) المعرة: الأمر القبيح والمساءة والإثم والأذى.
63

والثعلب إذا اعوزه الطعم، تماوت ونفخ بطنه، حتى يحسبه
الطير ميتا، فإذا وقعت عليه لتنهشه، وثب عليها فأخذها. فمن أعان
الثعلب العديم النطق والروية بهذه الحيلة، إلا من توكل بتوجيه الرزق له
من هذه وشبهه. فإنه لما كان الثعلب يضعف عن كثير مما تقوى عليه
السباع من مساورة الصيد، أعين بالدهاء والفطنة والاحتيال لمعاشه.
والدلفين (1) يلتمس صيد الطير، فيكون حيلته في ذلك أن يأخذ
السمك فيقتله ويسرحه (2) حتى يطفو على الماء ثم يكمن تحته ويثور الماء
الذي عليه حتى لا يتبين شخصه، فإذا وقع الطير على السمك الطافي وثب
إليها فاصطادها.
فانظر إلى هذه الحيلة كيف جعلت طبعا في هذه البهيمة لبعض
المصلحة.
(التنين والسحاب)
قال المفضل فقلت: أخبرني يا مولاي عن التنين (3) والسحاب،
فقال عليه السلام، إن السحاب كالموكل به، يختطفه حيثما ثقفه (4)، كما
يختطف حجر المغناطيس الحديد، فهو لا يطلع رأسه في الأرض خوفا من
السحاب، ولا يخرج إلا في القيظ (5) مرة إذا صحت السماء فلم يكن فيها

(1) الدلفين - بضم فسكون - دابة بحرية كبيرة والجمع دلافين، واللفظ دخيل ومرادفه في
العربية الدخس - بضم ففتح -.
(2) في الأصل المطبوع يشرحه بالشين، لكن كلمة يسرحه هنا أكثر أداء للمعنى المقصود.
(3) التنين - بالكسر - الحية العظيمة والجمع تنانين.
(4) ثقفه: أدركه وظفر به.
(5) القيظ: حميم الصيف وشدة الحر والجمع أقياظ وقيوظ.
64

نكتة (1) من غيمة قلت فلم وكل السحاب بالتنين يرصده ويختطفه إذا
وجده؟ قال: ليدفع عن الناس مضرته (2).
(في الذرة والنمل وأسد الذباب والعنكبوت وطبائع كل منهما)
قال المفضل فقلت: قد وصفت لي يا مولاي من أمر البهائم ما فيه
معتبر لمن اعتبر، فصف لي الذرة والنملة والطير، فقال عليه السلام يا
مفضل تأمل وجه الذرة الحقيرة الصغيرة هل تجد فيها نقصا عما فيه
صلاحها، فمن أين هذا التقدير والصواب في خلق الذرة؟ إلا من التدبير
القائم في صغير الخلق وكبيره.
أنظر إلى (النمل) واحتشاده في جمع القوت وإعداده، فإنك ترى
الجماعة منها إذا نقلت الحب إلى زبيتها (3) بمنزلة جماعة من الناس ينقلون
الطعام أو غيره، بل للنمل في ذلك من الجد والتشمير ما ليس للناس
مثله.. أما تراهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل، ثم

(1) النكتة: النقطة السوداء في الأبيض أو البيضاء في الأسود والجمع نكت ونكات.
(2) الذي يظهر إن هذا الأمر الغريب كان معروفا عند العرب - الأوائل، وقد ورد ذكره في
الشعر القديم، كالذي جاء في قصيدة للشاعر العباسي إسماعيل بن محمد المعروف
بالسيد الحميري المتوفى سنة 173، فقال من تلك القصيدة التي يذكر فيها إحدى فضائل
الإمام علي عليه السلام. -
ألا يا قوم للعجب العجاب * لخف أبي الحسين وللحباب
عدو من عدات الجن عبد * بعيد في المرادة من صواب
كريه اللوم أسود ذو بصيص * حديد الناب أزرق ذو لعاب
أتى خفا له فانساب فيه * لينهش رجله منها بناب
فقض من السماء له عقاب * من العقبان أو شبه العقاب
فطار به فحلق ثم أهوى * به للأرض من دون السحاب
(3) الزبية - بضم فسكون: - الرابية لا يعلوها ماء جمعها زبى.
65

يعمدون إلى الحب فيقطعونه قطعا. لكيلا ينبت فيفسد عليهم، فإن أصابه
ندى أخرجوه فنشروه حتى يجف، ثم لا يتخذ النمل الزبية إلا في نشز (1)
من الأرض كيلا يفيض السيل فيغرقها، وكل هذا منه بلا عقل ولا روية،
بل خلقة خلق عليها لمصلحة من الله جل وعز.
أنظر إلى هذا الذي يقال له الليث (2) وتسميه العامة (أسد الذباب)
وما أعطي من الحيلة والرفق في معاشه، فإنك تراه حين يحس بالذباب قد
وقع قريبا منه. تركه مليا حتى كأنه موات لا حراك به، فإذا رأى الذباب
قد أطمأن وغفل عنه، دب دبيبا دقيقا، حتى يكون منه بحيث تناله
وثبته، ثم يثب عليه فيأخذه، فإذا أخذه اشتمل عليه بجسمه كله، مخافة
أن ينجو منه، فلا يزال قبضا عليه، حتى يحس بأنه قد ضعف واسترخى
ثم يقبل عليه فيفترسه، ويحيى بذلك منه.
فأما (العنكبوت) فإنه ينسج ذلك النسج، فيتخذه - شركا ومصيدة
للذباب، ثم يكمن (3) في جوفه، فإذا نشب فيه الذباب أحال (4) عليه
يلدغه ساعة بعد ساعة، فيعيش بذلك منه.
فذلك (5) يحكي صيد الكلاب والفهود، وهذا (6) يحكي صيد
الاشراك والحبائل.
فانظر إلى هذه الدويبة الضعيفة، كيف جعل في طبعها ما لا يبلغه
الإنسان إلا بالحيلة واستعمال الآلات فيها، فلا تزدري بالشئ إذا كانت

(1) النشز - بفتحتين - المكان المرتفع جمعه نشاز وانشاز.
(2) الليث: ضرب من العناكب والجمع ليوث ومليثة.
(3) في الأصل المطبوع يتمكن وهو خطأ.
(4) أحال: أقبل ووثب.
(5) يعني به أسد الذباب.
(6) يعني به العنكبوت وفي نسخة - هكذا -.
66

العبرة فيه واضحة كالذرة والنملة وما أشبه ذلك فإن المعنى النفيس قد يمثل
بالشئ الحقير، فلا يضع منه ذلك (1) كما لا يضع من الدينار - وهو من
ذهب أن يوزن بمثقال من حديد.
(جسم الطائر وخلقته)
تأمل يا مفضل جسم الطائر وخلقته، فإنه حين قدر أن يكون طائرا
في الجو، خفف جسمه وادمج (2) خلقه، واقتصر به من القوائم الأربع
على اثنتين، ومن الأصابع الخمس على أربع، ومن منفذين المزبل والبول
على واحد يجمعهما، ثم خلق ذا جؤجؤ (3) محدد، ليسهل عليه أن يخرق
الهواء كيف ما أخذ فيه، كما جعلت السفينة بهذه الهيئة، لتشق الماء وتنفذ
فيه، وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان، لينهض بها للطيران،
وكسا (4)، كله الريش، ليتداخله الهواء فيقله (5)، ولما قدر أن يكون
طعمه الحب واللحم يبلعه بلعا بلا مضغ، نقص من خلقة الإنسان
وخلق له منقار صلب جاسي يتناول به طعمه، فلا ينسحج (6) من لفظ
الحب، ولا يتقصف (7) من نهش اللحم، ولما عدم الأسنان، وصار يزدرد
الحب صحيحا واللحم غريضا (8) أعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له
الطعم طحنا يستغني عن المضغ، واعتبر ذلك بأن عجم العنب (9)

(1) أي لا ينقص من قدر المعنى النفيس تمثيله بالشئ الحقير.
(2) أدمج خلقه: لفه وأحسنه.
(3) الجؤجؤ من الطائر والسفينة: الصدر والجمع جآجئ.
(4) في الأصل كتبت بالألف المقصورة وهي خطأ.
(5) يقله: يحمله ويرفعه.
(6) ينسحج: أي ينتشر.
(7) يتقصف: أي يتكسر.
(8) الغريض: كل أبيض طرئ.
(9) عجم العنب: ما كان في جوف العنب من النوى الصغير.
67

وغيره، يخرج من أجواف الأنس صحيحا، ويطحن في أجواف الطير لا
يرى له أثر، ثم جعل مما يبيض بيضا، ولا يلد ولادة، لكيلا يثقل عن
الطيران، فإنه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتى تستحكم، لأثقلته
وعاقته عن النهوض والطيران، فجعل كل شئ من خلقه مشاكلا للأمر
الذي قدر أن يكون عليه ثم صار الطائر السائح في هذا الجو يقعد على
بيضه فيحضنه أسبوعا وبعضها أسبوعين وبعضها ثلاثة أسابيع، حتى يخرج
الفرخ من البيضة، ثم يقبل عليه فيزقه الريح لتتسح حوصلته للغذاء، ثم
يربيه ويغذيه بما يعيش به. فمن كلفه أن يلقط الطعم والحب يستخرجه،
بعد أن يستقر في حوصلته، ويغذو به فراخه..؟ ولأي معنى يحتمل هذه
المشقة. وليس بذي روية ولا تفكر، ولا يأمل في فراخه ما يؤمل الإنسان
في ولده من العز والرفد (1) وبقاء الذكر...؟ فهذا من فعله يشهدانه
معطوف على فراخه، لعله لا يعرفها ولا يفكر فيها، وهي دوام النسل
وبقاؤه لطفا من الله تعالى ذكره.
(الدجاجة وتهيجها لحضن البيض والتفريخ)
أنظر إلى (الدجاجة) كيف تهيج لحضن البيض والتفريخ، وليس لها
بيض مجتمع ولا وكر موطى، بل تنبعث وتنتفخ وتقوى (2) وتمتنع من
الطعم، حتى يجمع لها البيض، فتحضنه وتفرخ.. فلم كان ذلك منها إلا
لإقامة النسل؟ ومن أخذها بإقامة النسل ولا روية لها ولا تفكير، لولا أنها
مجبولة على ذلك؟

(1) الرفد - بالكسر - المعونة والعطاء والجمع إرفاد ورفود.
(2) في الأصل كتبت الألف مشالة، وتقوى من القوى أي الجوع فكأن الدجاجة تبيت
جائعة.. وفي نسخة تقوقي أي تصيح.
68

(خلق البيضة والتدبير في ذلك)
إعتبر بخلق البيضة، وما فيها من المح (1) الأصفر الخاثر (2) والماء
الأبيض الرقيق، فبعضه ينشو منه الفرخ، وبعضه ليغتذي به، إلى أن
تنقاب عنه البيضة، وما في ذلك من التدبير، فإنه لو كان نشوء (3) الفرخ
في تلك القشرة المستحفظة (4) التي لا مساغ لشئ إليها، جعل معه في
جوفها من الغذاء ما يكتفي به إلى وقت خروجه منها، كمن يحبس في
حبس حصين لا يوصل إلى من فيه، فيجعل معه من القوت ما يكتفي به
إلى وقت خروجه منه.
(حوصلة الطائر)
فكر يا مفضل في حوصلة الطائر، وما قدر له فإن مسلك الطعم
إلى القانصة (5) ضيق، لا ينفذ فيه الطعام إلا قليلا قليلا، فلو كان الطائر
لا يلقط حبة ثانية، حتى تصل الأولى إلى القانصة، لطال عليه، ومتى
كان يستوفي طعمه؟. فإنما يختلسه اختلاسا، لشدة الحذر، فجعلت له
الحوصلة كالمخلاة (6) المعلقة أمامه، ليوعى فيها ما أدرك من الطعم
بسرعة، ثم تنفذه إلى القانصة على مهل، وفي الحوصلة أيضا خلة
أخرى، فإن من الطائر ما يحتاج إلى أن يزق فراخه فيكون رده للطعم من
قرب أسهل عليه.

(1) المح - بالضم - صفر البيض، وفي بعض النسخ بالخاء المعجمة أي مخ.
(2) خثر اللبن: ثخن واشتد فهو خاثر.
(3) سقطت الهمزة من الأصل.
(4) المستحفظة من استحفظه السر أو المال: سأله أن يحفظه.
(5) القانصة للطير كالمعدة للإنسان جمعها قوانص.
(6) المخلاة: ما يجعل فيه العلف ويعلق في عنق الدابة والجمع مخال.
69

(اختلاف ألوان الطير وعلة ذلك)
قال المفضل فقلت: إن قوما من المعطلة يزعمون أن اختلاف الألوان
والأشكال في الطير إنما يكون من قبل إمتزاج الاخلاط، واختلاف مقاديرها
المرج (1) والأهمال.
قال: يا مفضل هذا الوشي الذي تراه في الطواويس والدراج (2)
والتدارج على استواء ومقابلة، كنحو ما يخط بالأقلام، كيف يأتي به
الامتزاج المهمل على شكل واحد لا يختلف، ولو كان بالإهمال لعدم
الاستواء ولكان مختلفا.
(ريش الطائر ووصفه)
تأمل ريش الطير وكيف هو...؟ فإنك تراه منسوجا كنسج الثوب
من سلوك (3) دقاق، قد ألف بعضه إلى بعض، كتأليف الخيط إلى الخيط
والشعرة إلى الشعرة، ثم ترى ذلك النسج إذا مددته ينفتح قليلا ولا ينشق
لتداخله الريح، فيقل الطائر إذا طار، وترى في وسط الريشة عمودا غليظا
متينا قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته، وهو القصبة
التي في وسط الريشة، وهو مع ذلك أجوف، ليخف على الطائر ولا يعوقه
عن الطيران.

(1) المرج - بالتحريك - الاضطراب واللبس والفساد والاختلاط وفي بعض النسخ بالزاء
المعجمة... والأول أظهر وأجلى للمعنى المقصود.
(2) الدراج طائر تقدم ذكره.
(3) السلوك جمع سلك وهو الخيط ينظم فيه الخرز ونحوه.
70

(الطائر الطويل الساقين والتدبير في ذلك)
هل رأيت يا مفضل هذا الطائر الطويل الساقين (1) وعرفت ما له من
المنفعة في طول ساقيه، فإنه أكثر ذلك في ضحضاح (2) من الماء فتراه
بساقين طويلين، كأنه ربيئة (3) فوق مرقب (4) وهو يتأمل ما يدب في الماء،
فإذا رأى شيئا مما يتقوت به، خطا خطوات رقيقا حتى يتناوله، ولو كان
قصير الساقين وكان يخطو نحو الصيد ليأخذه، يصيب بطنه الماء، فيثور
ويذعر منه، فيفرق عنه، فخلق له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته ولا
يفسد عليه مطلبه.
تأمل ضروب التدبير في خلق الطائر، فإنك تجد كل طائر طويل
الساقين طويل العنق، وذلك ليتمكن من تناول طعمه من الأرض ولو كان
طويل الساقين قصير العنق، لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض وربما
أعين مع العنق بطول المناقير، ليزداد الأمر عليه سهولة وإمكانا أفلا ترى
أنك لا تفتش شيئا من الخلقة إلا وجدته على غاية الصواب والحكمة.
(العصافير وطلبها للأكل)
أنظر إلى العصافير، كيف تطلب أكلها بالنهار فهي لا تفقده ولا تجده
مجموعا معدا، بل تناله بالحركة والطلب، وكذلك الخلق كله فسبحان من

(1) ينطبق الوصف الذي ذكره الإمام الصادق للطائر الطويل الساقين على بعض الطيور
المائية كالنحام والأنيس.
(2) الضحضاح: الماء اليسير أو القريب القعر.
(3) الربيئة: العين التي ترقب، أو الطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو، ولا يكون
إلا على جبل.
(4) المرقب: الموضع المرتفع يعلوه الرقيب جمعه مراقب.
71

قدر الرزق كيف فرقه. فلم يجعل مما لا يقدر عليه، إذ جعل بالخلق حاجة
إليه، ولم يجعل مبذولا ينال بالهوينا (1) إذ كان لا صلاح ذلك فإنه لو كان
يوجد مجموعا معدا كانت البهائم تنقلب عليه، ولا تنقلع عنه حتى
تبشم (2) فتهلك. وكان الناس أيضا يصيرون بالفراغ إلى غاية الأشر
والبطر، حتى يكثر الفساد وتظهر الفواحش.
(معاش البوم والهام والخفاش)
أعلمت ما طعم هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلا بالليل،
كمثل البوم والهام (3) والخفاش؟...
قلت: لا يا مولاي.
قال: إن معاشها من ضروب تنتشر في الجو من البعوض والفراش
وأشباه الجراد واليعاسيب (4). وذلك أن هذه الضروب مبثوثة في الجو لا
يخلو منها موضع.. واعتبر ذلك بأنك إذا وضعت سراجا بالليل في سطح
أو عرصة دار، اجتمع عليه من هذه الضروب شئ كثير.. فمن أين يأتي
ذلك كله، إلا من القرب؟ فإن قال قائل: إنه يأتي من الصحارى
والبراري، قيل له: كيف يوافي تلك الساعة من موضع بعيد، وكيف
يبصر من ذلك البعد سراجا في دار محفوفة بالدور فيقصد إليه، مع أن هذه
عيانا تتهافت على السراج من قرب، فيدل ذلك على أنها منتشرة في كل

(1) الهوينا: التؤدة والرفق، وهي تصغير الهونى، والهونى تأنيث الأهون... وقد كتبت
الهوينا في الأصل هكذا: الهويني.
(2) تبشم أي تتخم من الطعام.
(3) الهام جمع هامة: نوع من البوم الصغير تألف القبور والأماكن الخربة وتنظر من كل
مكان أينما درت أدارت رأسها، وتسمى أيضا الصدى.
(4) اليعاسيب جمع يعسوب وهو ذكر النحل وأميرها.
72

موضع من الجو، فهذه الأصناف من الطير تلتمسها إذا خرجت فتتقوت
بها.
فانظر كيف وجه الرزق لهذه الطيور التي لا تخرج إلا بالليل من هذه
الضروب المنتشرة في الجو، واعرف ذلك المعنى في خلق هذه الضروب
المنتشرة، التي عسى أن يظن ظان أنها فضل لا معنى له.
(خلقة الخفاش)
خلق الخفاش خلقة عجيبة بين خلقة الطير وذوات الأربع، هو إلى
ذوات الأربع أقرب، وذلك أنه ذو أذنين ناشزتين (1) وأسنان ووبر وهو يلد
ولادا ويرضع ويبول، ويمشي إذا مشى على أربع، وكل هذا خلاف صفة
للطير، ثم هو أيضا مما يخرج بالليل، ويتقوت بما يسري (2) في الجو من
الفراش وما أشبهه، وقد قال قائلون إنه لا طعم للخفاش وإن غذاءه (3)
من النسيم وحده، وذلك يفسد ويبطل من جهتين: أحدهما خروج
الثفل (4) والبول منه، فإن هذا لا يكون من غير طعم، والأخرى إنه ذو
أسنان، ولو كان لا يطعم شيئا لم يكن للأسنان فيه معنى، وليس في الخلقة
شئ لا معنى له، وأما المآرب فيه فمعروفة، حتى أن زبله يدخل في بعض
الأعمال، ومن أعظم الأرب فيه خلقته العجيبة الدالة على قدرة الخالق
جل ثناؤه، وتصرفها فيما شاء كيف شاء لضرب من المصلحة.

(1) الناشز: ما كان ناتئا مرتفعا عن مكانه... وفي نسخة ناشر بالراء أي مبسوط.
(2) يسري: يسير في الليل.
(3) سقطت الهمزة في الطبعة الأولى.
(4) الثفل - بالضم - الكدرة المستقرة في أسفل الشئ.
73

(حيلة الطائر أبو نمرة بالحسكة ومنفعتها)
فأما الطائر الصغير الذي يقال له ابن نمرة (1) فقد عشش في
بعض الأوقات في بعض الشجر، فنظر إلى حية عظيمة قد أقبلت نحو عشه
فاغرة فاها، تبغيه لتبتلعه، فبينما هو يتقلب ويضطرب في طلب حيلة منها
إذ وجد حسكة، فحملها فألقاها في فم الحية فلم تزل الحية تلتوي وتتقلب
حتى ماتت. أفرأيت لو لم أخبرك بذلك، كان يخطر ببالك أو ببال غيرك
أنه يكون من حسكة مثل هذه المنفعة، أو يكون من طائر صغير أو كبير
مثل هذه الحيلة.. اعتبر بهذا وكثير من الأشياء يكون فيها منافع لا تعرف
بحادث يحدث أو خبر يسمع به.
(النحل عسله وبيوته)
أنظر إلى النحل واحتشاده في صنعة العسل، وتهيئة البيوت المسدسة
وما ترى في ذلك من دقائق الفطنة، فإنك إذا تأملت العمل رأيته عجيبا
لطيفا، وإذا رأيت المعمول وجدته عظيما شريفا موقعه من الناس، وإذا
رجعت إلى الفاعل الفيتة غبيا جاهلا بنفسه (2) فضلا عما سوى ذلك،
ففي هذا أوضح الدلالة على أن الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس
للنحل بل هي للذي طبعه عليها، وسخره فيها لمصلحة الناس.

(1) في الأصل المطبوع أبو تمرة وهو غير صحيح، وفي نسخة البحار ابن تمرة... وتمرة أو
ابن تمرة طائر أصغر من العصفور.
(2) أي ليس له عقل يتصرف في سائر الأشياء على نحو تصرفه في ذلك الأمر المخصوص،
فظهر أن خصوص هذا الأمر إلهام من مدبر حكيم أو خلقة وطبيعة جبله عليها في شأن
مصلحته الخاصة، مع كون هذا الحيوان غافلا عن المصلحة أيضا، ولعل هذا يؤيد ما
يقال إن الحيوانات العجم غير مدركة للكليات. (من تعليقات البحار).
74

(الجراد وبلاؤه)
أنظر إلى هذا الجراد ما أضعفه وأقواه!. فإنك إذا تأملت خلقه
رأيته كأضعف الأشياء وإن دلفت (1) عساكره نحو بلد من بلدان لم يستطع
أحد أن يحميه منه.. ألا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو جمع خيله
ورجله (2) ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك. أفليس من الدلائل
على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه، إلى أقوى خلقه فلا يستطيع
دفعه.
(كثرة الجراد)
أنظر إليه كيف ينساب على وجه الأرض مثل السيل فيغشى السهل،
والجبل والبدو والحضر، حتى يستر نور الشمس بكثرته، فلو كان هذا مما
يصنع بالأيدي، متى كان تجتمع منه هذه الكثرة؟ وفي كم سنة كان
يرتفع؟ فاستدل بذلك على القدرة التي لا يؤدها شئ، ولا يكثر عليها.
(وصف السمك)
تأمل خلق السمك ومشاكلته للأمر الذي قدر أن يكون عليه، فإنه
خلق غير ذي قوائم، لأنه لا يحتاج إلى المشي، إذ كان مسكنه الماء وخلق
غير ذي رية، لأنه لا يستطيع أن يتنفس وهو منغمس في اللجة، وجعلت
له مكان القوائم أجنحة شداد يضرب بها في جانبيه، كما يضرب الملاح

(1) دلف دلفا ودلفانا: مشى كالمقيد وقارب الخطو في مشيه.
(2) الرجل - بالفتح - جمع راجل وهو من يمشي على رجليه لا راكبا.
75

بالمجاذيف من جانبي السفينة، وكسا (1) جسمه قشورا متانا متداخلة
كتداخل الدروع والجواشن (2) لتقيه من الآفات، فأعين بفضل حس في
الشم، لأن بصره ضعيف، والماء يحجبه، فصار يشم الطعم من البعد
البعيد، فينتجعه (3) فيتبعه، وإلا فكيف يعلم به وبموضعه؟ واعلم أن من
فيه إلى صماخه (4) منافذ، فهو يعب الماء بفيه، ويرسله من صماخيه
فيتروح إلى ذلك، كما يتروح غيره من الحيوان إلى تنسم هذا النسيم.
(كثرة نسل السمك وعلة ذلك)
فكر الآن في كثرة نسله وما خص به من ذلك، فإنك ترى في جوف
السمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة، والعلة في ذلك أن يتسع
لما يغتذي به من أصناف الحيوان، فإن أكثرها يأكل السمك، حتى أن
السباع أيضا في حافات الآجام (5) عاكفة على الماء أيضا كي ترصد
السمك، فإذا مر بها خطفته، فلما كانت السباع تأكل السمك، والطير
يأكل السمك، والناس يأكلون السمك، والسمك يأكل السمك كان من
التدبير فيه أن يكون على ما هو عليه من الكثرة.
(سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين)
فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق، وقصر علم المخلوقين،

(1) في الأصل كتبت الألف المقصورة.
(2) الجواشن جمع جوشن وهو الدرع أو الصدر.
(3) ينتجع: يطلب الكلأ في موضعه.
(4) الصماخ - بالكسر - خرق الأذن الباطن الماضي إلى الرأس، والجمع صمخ وإصمخة.
(5) الآجام جمع الجمع للأجمة: الشجر الكثير الملتف.
76

فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك ودواب الماء والأصداف
والأصناف التي لا تحصى، ولا تعرف منافعها إلا الشئ بعد الشئ يدركه
الناس بأسباب تحدث، مثل القرمز (1) فإنه لما عرف الناس صبغه، بأن
كلبة تجول على شاطئ البحر فوجدت شيئا من الصنف الذي يسمى
الحلزون (2)، فأكلته فاختضب خطمها (3) بدمه فنظر الناس إلى حسنه
فاتخذوه صبغا (4)، وأشباه هذا مما يقف الناس عليه حالا بعد حال وزمانا
بعد زمان. (5).
قال المفضل: وحان وقت الزوال، فقام مولاي عليه السلام إلى
الصلاة وقال: بكر إلي غدا إن شاء الله تعالى.. فانصرفت وقد تضاعفت
سروري بما عرفنيه، مبتهجا بما منحنيه، حامدا لله على ما آتانيه، فبت
ليلتي مسرورا مبتهجا.

(1) القرمز صبغ أحمر.
(2) الحلزون: دويبة تكون في صدق وهي المعروفة بالبزاق.
(3) الخطم مقدم أنف الدابة وفمها.
(4) يظهر من كلام الإمام عليه السلام اتحاد القرز والحلزون، ويحتمل أن يكون المراد أن
من صبغ الحلزون تفطن الناس بأعمال القرمز للصبغ، لما فيهما من تشابه.
(5) ليس العجب من خالق أمثال هذه الذرة والدودة وأصناف الأسماك الغريبة، التي
اختلفت أشكالها وتنوعت الحكمة فيها، وليس العجيب - أن يهتدي إلى الحكمة في كل
واحد من تلك المصنوعات بعد وجودها وتكوينها، وإنما العجب ممن ينكر فاطر السماوات
والأرض وما فيهن وما بينهن، مع اتقان الصنعة وأحكام الخلقة وبداعة التركيب، ولو
نظر الجاحد إلى نفسه مع غريب الصنع وتمام الخلق، لكان أكبر برهان على الوجود
ووحدانية الوجود.
(الإمام الصادق للمظفر ج 1 ص 177).
77

* (المجلس الثالث) *
فلما كان اليوم الثالث بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي فدخلت فأذن لي
بالجلوس فجلست فقال عليه السلام: -
الحمد لله الذي اصطفانا ولم يصطف علينا، اصطفانا بعلمه (1)، وأيدنا
بحلمه (2) من شذ عنا (3) فالنار مأواه، ومن تفيأ بظل دوحتنا فالجنة مثواه.. قد
شرحت لك يا مفضل خلق الإنسان، وما دبر به، وتنقله في أحواله، وما فيه
من الاعتبار، وشرحت لك أمر الحيوان... وأنا ابتدئ الآن بذكر السماء
والشمس والقمر والنجوم والفلك والليل. والنهار والحر والبرد والرياح
والجواهر الأربعة الأرض والماء والهواء والنار والمطر والصخر والجبال والطين
والحجارة والنخل والشجر وما في ذلك من الأدلة والعبر.
(لون السماء وما فيه من صواب التدبير)
فكر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير، فإن هذا اللون أشد
الألوان موافقة وتقوية للبصر، حتى أن من صفات الأطباء لمن أصابه شئ أضر
ببصره إدمان النظر إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد وقد وصف الحذاق منهم
لمن كل بصره الاطلاع في إجانة (4) خضراء مملوءة ماء، فانظر كيف جعل الله
جل وتعالى أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد ليمسك الأبصار المتقلبة
عليه، فلا ينكأ فيها بطول مباشرتها له فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر

(1) اصطفانا أي اختارنا وفضلنا على الخلق، بأن أعطانا من علمه ما لم يعطه أحدا.
(2) أيدنا بحلمه أي قوانا على تبليغ الرسالة بما حلانا به من حلمه لنصبر على ما يلقانا من أذى
الناس وتكذيبهم.
(3) شذ عنا: ندر عنا وأنفرد.
(4) الإجانة - بكسر فتشديد - إناء تغسل فيه الثياب والجمع أجاجين.
78

والروية والتجارب، يوجد مفروغا منه في الخلقة حكمة بالغة (1) ليعتبر بها
المعتبرون، ويفكر فيها الملحدون، قاتلهم الله أنى يؤفكون (2).
(طلوع الشمس وغروبها والمنافع في ذلك)
فكر يا مفضل في طلوع الشمس وغروبها، لإقامة دولتي النهار والليل،
فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كله، فلم يكن الناس يسعون في معائشهم،
ويتصرفون في أمورهم، والدنيا مظلمة عليهم، ولم يكونوا يتهنون بالعيش مع
فقدهم لذة النور وروحه... والأرب في طلوعها ظاهر مستغنى بظهوره عن
الإطناب في ذكره، والزيادة في شرحه... بل تأمل المنفعة في غروبها، فلولا
غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع عظم حاجتهم إلى الهدوء والراحة
لسكون أبدانهم، وجموم حواسهم (3) وانبعاث القوة الهاضمة لهضم الطعام،
وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء، ثم كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل،
ومطاولته على ما يعظم نكايته في أبدانهم، فإن كثيرا من الناس لولا جثوم (4)
هذا الليل بظلمته عليهم، لم يكن لهم هدوء ولا قرار، حرصا على
الكسب والجمع والادخار، ثم كانت الأرض تستحمي بدوام الشمس
بضيائها، ويحمي كل ما عليها من حيوان ونبات، فقدرها الله بحكمته
وتدبيره، تطلع وقتا وتغرب وقتا، بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة
ليقضوا حوائجهم، ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليهدؤا ويقروا، فصار النور
والظلمة، مع تضادهما منقادين متظاهرين ما فيه صلاح العالم وقوامه.

(1) خبر مبتدأ محذوف أو بالنصب على الحالية أو لكونه مفعولا لأجله.
(2) يؤفكون: يكذبون.
(3) الجموم مصدر جم تقول جم القوم: استراحوا وكثروا.
(4) الجثوم مصدر من قولهم جثم الليل.
79

(التدبير والمصلحة في الفصول الأربعة من السنة)
ثم فكر بعد هذا في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة
الأربعة من السنة وما في ذلك من التدبير والمصلحة، ففي الشتاء تعود
الحرارة في الشجر والنبات، فيتولد فيهما مواد الثمار، ويتكثف (2) الهواء فينشأ
منه السحاب والمطر، وتشتد أبدان الحيوان وتقوى، وفي الربيع تتحرك وتظهر
المواد المتولدة في الشتاء، فيطلع النبات، وتنور (3) الأشجار ويهيج الحيوان
للسفاد، وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار، وتتحلل فضول الأبدان،
ويجف وجه الأرض، فتهيأ للبناء والأعمال، وفي الخريف يصفو الهواء،
وترتفع الأمراض، وتصح الأبدان، ويمتد الليل فيمكن فيه بعض الأعمال
لطوله، ويطيب الهواء فيه إلى مصالح أخرى لو تقصيت لذكرها لطال فيها
الكلام.
(معرفة الأزمنة والفصول الأربعة عن طريق حركة الشمس)
فكر الآن في تنقل الشمس في البروج الاثني عشر (4) لإقامة دور السنة وما
في ذلك من التدبير. فهو الدور الذي تصح الأزمنة الأربعة من السنة
" الشتاء والربيع والصيف والخريف " تستوفيها على التمام، وفي هذا المقدار
من دوران الشمس تدرك الغلات والثمار، وتنتهي إلى غاياتهم ثم تعود
فيستأنف النشو والنمو.. ألا ترى أن السنة مقدار مسير الشمس من الحمل إلى

(1) يريد بذلك الإمام عليه السلام الفصول الأربعة.
(2) يتكثف الهواء - أي يغلظ ويكثر.
(3) تنور الأشجار أي تخرج نورها - بفتح فسكون - أي زهرها أو الأبيض منه.
(4) بروج السماء الاثني عشر هي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان
والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت.
80

الحمل. فبالسنة وأخواتها يكال الزمان من لدن خلق الله تعالى العالم، إلى كل
وقت وعصر من غابر الأيام، وبها يحسب الأعمار والأوقات المؤقتة
للديون والإجارات والمعاملات، وغير ذلك من أمورهم، وبمسير (1) الشمس
تكمل السنة، ويقوم حساب الزمان على الصحة.
أنظر إلى شروقها العالم كيف دبر أن يكون؟ فإنها لو كانت تبزغ في
موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها ومنفعتها إلى كثير من
الجهات، لأن الجبال والجدران كانت تحجبها عنها، فجعلت تطلع أول النهار
من المشرق فتشرق على ما قابلها من وجه المغرب، ثم لا تزال تدور وتغشى
جهة بعد جهة، حتى تنتهي إلى المغرب، فتشرق ما استتر عنها في أول
النهار، فلا يبقى موضع من المواضع إلا أخذ بقسطه من المنفعة منها، والأرب
التي قدرت له. ولو تخلفت مقدار عام أو بعض عام كيف كان يكون حالهم؟
بل كيف كان يكون لهم مع ذلك بقاء؟ أفلا ترى كيف كان يكون للناس هذه
الأمور الجليلة لم يكن عندهم فيها حيلة، فصارت تجري على مجاريها لا
تفتل (2) ولا تتخلف عن مواقيتها لصلاح العالم وما فيه بقاؤه.
(الاستدلال بالقمر في معرفة الشهور)
استدل بالقمر ففيه دلالة جليلة تستعملها العامة في معرفة الشهور، ولا
يقوم عليه حساب السنة، لأن دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة ونشو الثمار
وتصرمها، ولذلك صارت شهور القمر وسنوه تتخلف عن شهور الشمس
وسنيها، وصار الشهر من شهور القمر ينتقل، فيكون مرة بالشتاء ومرة
بالصيف.

(1) في نسخة البحار (ميسر) بتقديم الياء على السين، وليس للكلمة هنا معنى يوافق المراد.
(2) لا تفتل - أي لا تنصرف ولا تزول.
81

(ضوء القمر وما فيه من المنافع)
فكر في إنارته في ظلمة الليل والإرب في ذلك فإنه مع الحاجة الظلمة
لهدوء الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمة
داجية لا ضياء فيها، فلا يمكن فيه شئ من العمل، لأنه ربما احتاج الناس إلى
العمل بالليل، لضيق الوقت عليهم في بعض الأعمال في النهار، ولشدة الحر
وإفراطه، فيعمل في ضوء القمر أعمالا شتى، كحرث الأرض، وضرب
اللبن، وقطع الخشب، وما أشبه ذلك، فجعل ضوء القمر معونة للناس على
معائشهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وأنسا للسائرين وجعل طلوعه في بعض. الليل
دون بعض ونقص مع ذلك عن نور الشمس وضيائها، لكيلا ينبسط الناس
في العمل انبساطهم بالنهار، ويمتنعوا من الهدوء والقرار، فيهلكهم ذلك، وفي
تصرف القمر خاصة في مهله (1) ومحاقه (2) وزيادته ونقصانه وكسوفه،
من التنبيه على قدرة الله تعالى خالفه المصرف له هذا التصريف لصلاح العالم ما
يعتبر به المعتبرون.
(النجوم واختلاف مسيرها والسبب في أن بعضها راتبة والأخرى متنقلة)
فكر يا مفضل في النجوم واختلاف مسيرها، فبعضها لا تفارق مراكزها
من الفلك (3) ولا تسير إلا مجتمعة، وبعضها مطلقة تنتقل في البروج وتفترق في
مسيرها، فكل واحد منها يسير سيرين مختلفين، أحدهما عام مع الفلك نحو

(1) مهله: أي ظهوره.
(2) المحاق: - بكسر الأول أو ضمه أو فتحه - هو آخر الشهر القمري وقيل ثلاث ليال من
آخره.
(3) لعل المراد إنه ليس لها حركة بينة ظاهرة كما في النجوم السيارة.
82

المغرب، والآخر خاص لنفسه نحو المشرق كالنملة التي تدور على الرحى،
فالرحى تدور ذات اليمين، والنملة تدور ذات الشمال والنملة في ذلك تتحرك
حركتين مختلفين: إحداهما بنفسها فتتوجه أمامها، والأخرى مستكرهة مع
الرحى تجذبها إلى خلفها.. فاسأل الزاعمين أن النجوم صارت على ما هي
عليه بالإهمال، من غير عمد ولا صانع لها ما منعها أن تكون كلها راتبة (1) أو
تكون كلها منتقلة، فإن الاهمال معنى واحد (2) فكيف صار يأتي بحركتين
مختلفتين على وزن وتقدير؟ ففي هذا بيان أن مسير الفريقين على ما يسيران عليه
بعمد وتدبير وحكمة وتقدير، وليس بإهمال كما يزعم المعطلة، فإن قال قائل: ولم
صار بعض النجوم راتبا وبعضها منتقلا؟ قلنا: إنها لو كانت كلها راتبة لبطلت
الدلالات التي يستدل بها من تنقل المنتقلة، ومسيرها في برج من البروج،
كما يستدل بها على أشياء مما يحدث العالم، بتنقل الشمس والنجوم في
منازلها، ولو كانت كلها منتقلة، لم يكن لمسيرها منازل تعرف، ولا رسم يوقف
عليه، لأنه إنما يوقف عليه بمسير المنتقلة منها بتنقلها البروج الراتبة (3) كما

(1) راتبة أي ثابتة غير متحركة.
(2) يحتمل أن يكون المراد أن الطبيعة أو الدهر - الذين يجعلونهما أصحاب الإهمال مؤثرين - كل
منهما أمر واحد غير ذي شعور وإرادة، ولا يمكن صدور الأمرين المختلفين على مثل ذلك...
أو المراد أن العقل يحكم بأن مثل هذين الأمرين المتسقين الجاريين على قانون لحكمة لا يكون
إلا من حكيم راعى فيهما دقائق الحكم... أو المراد إن الاهمال أي عدم الحاجة إلى العلة،
وترجح الأمر الممكن من غير مرجح كما تزعمون أمر واحد حاصل فيهما، فلم صارت إحداهما
راتبة والأخرى منتقلة؟ ولم لم يعكس الأمر... ولعل المعنى الأول الذي ذكرناه أفضل
وأقرب. (من تعليقات البحار).
(3) نرجح إن الإمام عليه السلام راعى في انتقال البروج محاذاة نفس الأشكال... وإن أمكن
أن يكون المراد بيان حكمة بقاء الحركة ليصلح كون تلك الأشكال علامات للبروج، ولو
بقربها منها.. لكن هذا المعنى بعيد.
(من تعليقات البحار)
83

يستدل على سير السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها أو لو كان تنقلها
بحال واحد لاختلاط نظامها، وبطلت المآرب فيها، ولساغ القائل أن يقول إن
كينونتها على حال واحدة توجب عليها الاهمال من الجهة التي وصفنا، ففي
اختلاف سيرها وتصرفها وفي ذلك من المآرب والمصلحة، أبين دليل على
العمد والتدبير فيها.
(فوائد بعض النجوم)
فكر في هذه النجوم التي تظهر في بعض السنة وتحتجب بعضها كمثل
الثريا (1) والجوزاء (2) والشعريين (3) وسهيل (4)، فإنها لو كانت بأسرها تظهر في
وقت واحد لم يكن لواحد فيها على حياله دلالات يعرفها الناس، ويهتدون بها
لبعض أمورهم، كمعرفتهم الآن بما يكون من طلوع الثور (5) والجوزاء إذا
طلعت، واحتجابها إذا احتجبت، فصار ظهور كل واحد واحتجابه في وقت الوقت
غير الوقت الآخر، لينتفع الناس بما يدل عليه كل واحد على حدته، وما
جعلت الثريا وأشباهها تظهر حينا وتحتجب حينا إلا لضرب من المصلحة،
وكذلك جعلت بنات نعش (6) ظاهرة لا تغيب لضرب آخر من المصلحة، فإنها
بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في البر والبحر للطرق المجهولة، وكذلك

(1) الثريا: مجموع كواكب في عنق الثور.
(2) الجوزاء: برج في السماء، سميت بذلك لاعتراضها في جوز السماء أي وسطه.
(3) الشعريان: تثنية الشعرى - بالكسر - وهو الكواكب الذي يطلع في الجوزاء وطلوعه في شدة
الحر.
(4) سهيل - بالتصغير - نجم بهي طلوعه على بلاد العرب في أواخر القيظ. (5) الثور: برج في السماء من البروج الاثني عشر.
(6) بنات نعش الكبرى: سبعة كواكب تشاهدها جهة القطب الشمالي، وبقربها سبعة أخرى
تسمى بنات نعش الصغرى، والنجمة التي رسمت كبيرة هي النجمة القطبية التي يستدل بها
على نقطة القطب الشمالي.
84

أنها لا تغيب ولا تتوارى فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث
شاؤوا، وصار الأمران جميعا على اختلافهما موجهين نحو الأرب والمصلحة،
وفيهما مآرب أخرى علامات ودلالات على أوقات كثيرة من الأعمال، كالزراعة
والغراس والسفر في البر والبحر، وأشياء مما يحدث في الأزمنة من الأمطار
والرياح والحر والبرد، وبها يهتدي السائرون في ظلمة الليل، لقطع القفار
الموحشة واللجج (1) الهائلة، مع ما في ترددها في كبد السماء مقبلة ومدبرة
ومشرقة ومغربة من العبر، فإنها تسير أسرع السير وأحثه (2). أرأيت لو كانت
الشمس والقمر والنجوم بالقرب منا، حتى يتبين لنا سرعة سيرها بكنه ما هي
عليه، ألم تكن تستخطف الأبصار بوهجها وشعاعها كالذي يحدث أحيانا من
البروق إذا توالت واضطرمت في الجو؟ وكذلك أيضا لو أن أناسا كانوا في قبة
مكللة بمصابيح تدور حولهم دورانا حثيثا لحارت أبصارهم حتى يخروا
لوجوههم.
فانظر كيف قدر أن يكون مسيرها في البعد البعيد، لكيلا تضر في
الأبصار، وتنكأ فيها، وبأسرع السرعة. لكيلا تتخلف عن مقدار الحاجة
في مسيرها، وجعل فيها جزءا يسيرا من الضوء، ليسد مسد الأضواء إذا لم
يكن قمر، ويمكن فيه الحركة إذا حدثت ضرورة، كما قد يحدث الحادث على
المرء فيحتاج إلى التجافي (3) في جوف الليل، فإن لم يكن شئ من الضوء يهتدي
به لم يستطع أن يبرح مكانه.
فتأمل اللطف والحكمة في هذا التقدير، حين جعل للظلمة دولة ومدة
لحاجة إليها، وجعل خلالها شئ من الضوء للمآرب التي وصفنا.

(1) - اللجج جمع لجة: معظم الماء.
(2) - أسرع السير وأحثه كلاهما بمعنى واحد.
(3) - التجافي من تجافى أي لم يلزم مكانه.
85

(الشمس والقمر والنجوم والبروج تدل على الخالق)
فكر هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على العالم هذا
الدوران الدائم، بهذا التقدير والوزن لما في اختلاف الليل والنهار وهذه الأزمان
الأربعة المتوالية من التنبيه على الأرض وما عليها من أصناف الحيوان والنبات
من ضروب المصلحة، كالذي بينت وشخصت لك آنفا وهل يخفى على ذي
لب أن هذا تقدير مقدر وصواب وحكمة من مقدر حكيم، قال قائل: إن
هذا شئ اتفق أن يكون هكذا؟ فما منعه أن يقول مثل هذا في دولاب (1) يراه
يدور ويسقي حديقة شجر ونبات فيرى كل شئ من آلاته مقدرا بعضه
يلقي بعضا على ما فيه صلاح تلك الحديقة وما فيها. وبم كان يثبت هذا القول
لو قاله. وما ترى الناس كانوا قائلين له لو سمعوه منه؟ أفينكر أن يقول في
دولاب خشب مصنوع بحيلة قصيرة لمصلحة قطعة من الأرض، إنه كان بلا
صانع ومقدر، ويقدر أن يقول في هذا الدولاب الأعظم، المخلوق بحكمة
تقصر عنها أذهان البشر، لصلاح جميع الأرض وما عليها إنه شئ اتفق أن
يكون بلا صنعة ولا تقدير لو اعتل هذا الفلك، كما تعتل الآلات التي تتخذ
للصناعات وغيرها، أي شئ كان عند الناس من الحيلة في إصلاحه.
(مقادير الليل والنهار)
فكر يا مفضل في مقادير النهار والليل، كيف وقعت على ما فيه صلاح
هذا الخلق، فصار منتهى كل واحد منهما - إذا امتد - إلى خمس عشرة ساعة لا
يجاوز ذلك (2) أفرأيت لو كان النهار يكون مقداره مائة ساعة أو مائتي ساعة؟ ألم

(1) الدولاب - بالفتح - كل آلة تدور على محور والجمع دواليب، والكلمة من الدخيل.
(2) يتساوى الليل والنهار في جميع أنحاء العالم مرتين في الخريف ويوم 23 أيلول ومرة ثانية في
الربيع يوم 22 مارت. ويطول الليل في الشتاء بتاريخ 21 كانون الأول حتى يبلغ طوله في
العراق أكثر من أربعة عشر ساعة، ثم يطول النهار في الصيف بتاريخ 21 حزيران
ويزيد طوله في العراق على أربعة عشر ساعة.
86

يكن ذلك بوار كل ما في الأرض من حيوان ونبات؟ الحيوان فكان لا يهدأ
ولا يقر طول هذه المدة، ولا البهائم كانت تمسك عن الرعي لو دام لها ضوء
النهار، ولا الإنسان كان يفتر عن العمل والحركة، وكان ذلك ينهكها أجمع،
ويؤديها إلى التلف، وأما النبات فكان يطول عليه حر النهار ووهج الشمس
حتى يجف ويحترق كذلك الليل لو امتد مقدار هذه المدة كان يعوق أصناف
الحيوان عن الحركة والتصرف في طلب المعاش، حتى تموت جوعا، وتخمد
الحرارة الطبيعية عن النبات، حتى يعفن ويفسد، كالذي تراه يحدث على
النبات إذا كان في موضع تطلع عليه الشمس.
(الحر والبرد وفوائدهما)
اعتبر بهذا الحر والبرد كيف يتعاوران (1) العالم، ويتصرفان هذا
التصرف في الزيادة والنقصان والاعتدال، لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة
وما فيهما من المصالح، ثم هما بعد دباغ الأبدان التي عليها بقاؤها وفيهما
صلاحها، فإنه لولا الحر والبرد وتداولهما الأبدان لفسدت واخوت (2)
وانتكثت (3).
فكر في دخول أحدهما (4) على الآخر بهذا التدريج والترسل، فإنك ترى
أحدهما ينقص شيئا بعد شئ، والآخر يزيد مثل ذلك، حتى ينتهي كل واحد
منهما منتهاه في الزيادة والنقصان، ولو كان دخول أحدهما على الآخر مفاجأة،

(1) يتعاوران: يتداولان.
(2) أخوت: جاعت.
(3) انتكثت: انتقضت وانتبذت.
(4) أحدهما أي الحر والبرد.
87

لأضر ذلك بالأبدان وأسقمها. كما أن أحدكم لو خرج من حمام حار موضع
البرودة، لضره ذلك وأسقم بدنه فلم يجعل عز وجل هذا الترسل في الحر
والبرد، إلا للسلامة ضرر المفاجأة ولم جرى الأمر على ما فيه السلامة من
ضرر المفاجأة لولا التدبير في ذلك؟ فإن زعم زاعم: إن هذا الترسل في دخول
الحر والبرد إنما يكون لإبطاء مسير الشمس في ارتفاعها وانحطاطها، سئل عن
العلة في إبطاء مسير الشمس في ارتفاعها وانحطاطها، فإن اعتل في الابطاء
ببعد ما بين المشرقين (1) سئل عن العلة في ذلك، فلا تزال هذه المسألة ترقى معه
إلى حيث رقي من هذا القول، حتى استقر عن العمد والتدبير.. لولا الحر لما
كانت الثمار الجاسية (2) المرة تنضج فتلين وتعذب، حتى يتفكه بها رطبة
ويابسة.. ولولا البرد لما كان الزرع يفرخ (3) هكذا، ويريع الريع (4) الكثير
الذي يتسع للقوت، وما يرد الأرض للبذر... أفلا ترى ما في الحر
والبرد، من عظيم الغناء والمنفعة، وكلاهما مع غنائه والمنفعة فيه يؤلم الأبدان
ويمضها (5) وفي ذلك عبرة لمن فكر، ودلالة على أنه من تدبير الحكيم، في
مصلحة العالم وما فيه.
(الريح وما فيها)
وانبهك يا مفضل على الريح وفيها، ألست ترى ركودها إذا ركدت
كيف يحدث الكرب، الذي يكاد أن يأتي على النفوس، ويمرض الأصحاء،
وينهك المرضى، ويفسد الثمار، ويعفن البقول، ويعقب الوباء في الأبدان،

(1) المراد بالمشرقين هنا هما المشرق والمغرب من باب تغليب أحدهما على الآخر.
(2) الجاسية: أي الصلبة.
(3) يفرخ الزرع: أي تنبت أفراخه وهي ما يخرج في أصوله من صغاره.
(4) يريع الريع أي تنمو الغلة وتزداد.
(5) يمضها: يوجعها ويؤلمها.
88

والآفة في الغلات. ففي هذا بيان: إن هبوب الريح من تدبير الحكيم في
صلاح الخلق.
(الهواء والأصوات)
وأنبئك عن الهواء بخلة أخرى، فإن الصوت أثر يؤثره اصطكاك
الأجسام في الهواء، والهواء يؤديه إلى المسامع (1) والناس يتكلمون في حوائجهم
ومعاملاتهم طول نهارهم وبعض ليلهم، فلو كان أثر الكلام يبقى في
الهواء، كما يبقى الكتاب في القرطاس، لامتلأ العالم منه، فكان يكربهم
ويفدحهم، وكانوا يحتاجون في تجديده والاستبدال به، إلى أكثر مما يحتاج إليه
في تجديد القراطيس، لأن ما يلفظ الكلام أكثر مما يكتب، فجعل الخلاق
الحكيم جل قدسه الهواء قرطاسا خفيا يحمل الكلام ريثما يبلغ العالم
حاجتهم، ثم يمحى فيعود جديدا نقيا، ويحمل ما حمل أبدا بلا انقطاع،
وحسبك بهذا النسيم المسمى هواء عبرة، وما فيه من المصالح، فإنه حياة هذه
الأبدان، والممسك لها من داخل، بما يستنشق منه من خارج بما يباشر من
روحه، وفيه تطرد هذه الأصوات فيؤدي البعد البعيد.. وهو الحامل لهذه
الأرواح ينقلها موضع إلى موضع... ألا ترى كيف تأتيك الرائحة من
حيث تهب الريح، فكذلك الصوت، وهو القابل لهذا الحر والبرد، اللذين
يتعاقبان على العالم لصلاحه، ومنه هذه الريح الهابة فالريح تروح عن الأجسام

(1) تعريف الإمام عليه السلام للصوت لا يتعارض مع التعريف الذي اصطلحه العلم الحديث
له، فالصوت في النظر العلمي هو حركة اهتزازية تحدث في الهواء من جسم اهتز فيه،
والصوت إذ يحدث الرجات في الهواء تنتقل هذه الرجات إلى طبلة الأذن ليحملها عصب
السمع إلى المخ ومما يدل على أن الصوت هو رجات تحدث في الهواء أنه لو أحدث صوت داخل
ناقوس مفرغ الهواء لم يسمع له حس أبدا.
89

وتزجي السحاب من موضع إلى موضع، ليعم نفعه، حتى يستكشف فيمطر،
وتفضه حتى يستخف فيتفشى وتلقح الشجر، وتسير السفن، وترخى
الأطعمة وتبرد الماء، وتشب النار، وتجفف الأشياء الندية، وبالجملة إنها
تحيي كل ما في الأرض... فلولا الريح لذوي النبات، ولمات الحيوان،
وحمت الأشياء وفسدت.
(هيئة الأرض)
فكر يا مفضل فيما خلق الله عز وجل عليه الجواهر الأربعة (1) ليتسع
ما يحتاج إليه منها.. فمن ذلك سعة هذه الأرض وامتدادها، فلولا ذلك كيف
كانت تتسع لمساكن الناس ومزارعهم ومراعيهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم
والعقاقير العظيمة والمعادن الجسيم غناؤها. ولعل من ينكر هذه الفلوات (2)
الخاوية والقفار الموحشة. فيقول: ما المنفعة فيها؟ فهي مأوى هذه الوحوش
ومحالها ومراعيها، ثم فيها بعد تنفس، ومضطرب للناس إذا احتاجوا إلى
الاستبدال بأوطانهم، فكم بيداء وكم فدفد (3) حالت قصورا وجنانا، بانتقال
الناس إليها وحلولهم فيها، ولولا سعة الأرض وفسحتها لكان الناس كمن هو
في حصار ضيق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا أحزنه أمر يضطره إلى الانتقال
عنه.

(1) المراد بالجواهر الأربعة هي التراب والماء والهواء والنار، والمعروف أن المفكر اليوناني
إمبذوقليس (495 - 435) ق. م. قد رد الكون إلى تلك العناصر أو الجواهر
الأربعة التي هي في رأيه لا تفتأ في اتصال وانفصال يكونان سببا في نشأة الأشياء
واختلاف صفاتها تبعا للاختلاف في نسبة المزج بين العناصر.. ولا يخفى أن ما ذهب
إليه إمبذوقليس هذا في التفريق بين صفات العناصر وصفات الأشياء التي تركت منها
تباين ظاهر وتناقص واضح.
(2) الفلوات جمع فلات وهي الصحراء الواسعة.
(3) الفدفد: الفلاة والجمع فدافد.
90

ثم فكر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبة راكنة،
فتكون موطنا مستقرا للأشياء، فيتمكن الناس من السعي عليها في مأربهم،
والجلوس عليها لراحتهم، والنوم لهدوئهم، والاتقان لأعمالهم فإنها لو كانت
رجراجة منكفئة، لم يكونوا يستطيعون يتقنوا البناء والنجارة والصناعة وما
أشبه ذلك، بل كانوا لا يتهنون بالعيش والأرض ترتج من تحتهم، واعتبر ذلك
بما يصيب الناس حين الزلازل (1) - على قله مكثها - حتى يصيروا إلى ترك
منازلهم، والهرب عنها.. فإن قال قائل: فلم صارت هذه الأرض تزلزل؟
قيل له الزلزلة وما أشبهها موعظة وترهيب يرهب لها الناس ليرعوا، وينزعوا
عن المعاصي، وكذلك ما ينزل بهم البلاء في أبدانهم وأموالهم، يجري في
التدبير على ما فيه صلاحهم واستقامتهم، ويدخر لهم إن صلحوا من الثواب
والعوض في الآخرة ما لا يعد له شئ من أمور الدنيا، وربما عجل ذلك في
الدنيا إذا كان ذلك الدنيا صلاحا للعامة والخاصة.. ثم إن الأرض في
طباعها الذي طبعها الله عليه باردة يابسة، وكذلك الحجارة، وإنما الفرق بينها
وبين الحجارة فضل يبس في الحجارة، أفرأيت لو أن اليبس أفرط على الأرض
قليلا، حتى تكون حجرا صلدا، أكانت تنبت هذا النبات الذي به حياة
الحيوان، وكان يمكن بها حرث أو بناء؟؟ أفلا ترى كيف نقصت من يبس
الحجارة وجعلت على ما هي عليه من اللين والرخاوة لتتهيأ للاعتماد.
(فوائد الماء والسبب في كثرته)
ومن تدبير الحكيم جل وعلا في خلقه الأرض إن مهب الشمال أرفع من

(1) الزلازل جمع زلزلة، وهي من آثار التفاعلات الأرضية الحاصلة في بطن الأرض، وسببها هو
سبب تكون البراكين، وذلك أن مياه البحر تتسرب من خلال طبقات الأرض، حتى تصل إلى
عمق تكون فيه درجة الحرارة شدة، فإذا تبخر الماء بفعل الحرارة طلب له منفذا، ولا يزال
يتراكم على بعضه إلى أن يهدم ما يصادفه أمامه من الحواجز، فترتج له القشرة الأرضية بحسب
قوة البخار واندفاعه وهذا ما يسمى بالزلزلة.
91

مهب الجنوب (1) فلم جعل الله عز وجل كذلك إلا لتنحدر المياه على وجه الأرض
فتسقيها وترويها، ثم تفيض آخر ذلك إلى البحر، فكما يرفع أحد جانبي
السطح، ويخفض الآخر لينحدر الماء عنه ولا يقوم عليه كذلك جعل مهب
الشمال أرفع من مهب الجنوب لهذه العلة بعينها، ولولا ذلك لبقي الماء متحيرا
على وجه الأرض، فكان يمنع الناس من أعمالها، ويقطع الطرق والمسالك،
ثم الماء لولا كثرته، وتدفقه في العيون والأودية والأنهار، لضاق عما يحتاج إليه
الناس، لشربهم وشرب أنعامهم ومواشيهم، وسقي زروعهم وأشجارهم
وأصناف غلاتهم، وشرب ما يرده من الوحوش والطير والسباع، وتتقلب فيه
الحيتان ودواب الماء، وفيه منافع أخر أنت بها عارف وعن عظيم موقعها غافل
فإنه (2) سوى الأمر الجليل المعروف من عظيم غنائه في إحياء جميع ما على
الأرض من الحيوان والنبات يمزج الأشربة فتلذ وتطيب لشاربها، وبه تنظف
الأبدان والأمتعة من الدرن (3) الذي يغشاها، وبه يبل (4) التراب فيصلح
للأعمال وبه يكف عادية النار إذا اضطرمت، وأشرف الناس على المكروه،
وبه يستحم المتعب الكال (5) فيجد الراحة من أوصابه، إلى أشباه هذا من
المآرب التي تعرف عظم موقعها في وقت الحاجة إليها، فإن شككت في منفعة

(1) أي بعد ما خرجت الأرض من الكروية الحقيقية، صار ما يلي الشمال منها في أكثر المعمورة
أرفع مما يلي الجنوب، ولذا ترى أكثر الأنهار كدجلة والفرات وغيرهما تجري من الشمال إلى
الجنوب، لأن الماء الساكن في جوف الأرض تابع للأرض في ارتفاع وانخفاضه، ولذا - أيضا
صارت العيون المتفجرة تجري هكذا من الشمال إلى الجنوب.. ومن أجل ذلك حكموا بفوقية
الشمال على الجنوب. ويظهر لك مما بينه الإمام عليه السلام أنه لا ينافي كروية الأرض. (من
تعليقات البحار). (2) الضمير راجع إلى الماء وهو اسم إن ويمزج خبرها.. أي للماء سوى النفع الجليل المعروف
وهو كونه سببا لحياة كل شئ ومنافع أخرى منها أنه يمزح مع الأشربة.
(3) الدرن - بفتحتين - هو الوسخ جمعه أدران.
(4) بله الماء: نداه.
(5) الكان اسم فاعل من كل: تعب واعيا.
92

هذا الماء الكثير المتراكم في البحار، وقلت: ما الأرب فيه؟ فعلم أنه مكتنف
ومضطرب ما لا يحصى من أصناف السمك ودواب البحر ومعدن اللؤلؤ
والياقوت والعنبر (1) وأصناف شتى تستخرج من البحر، وفي سواحله منابت
العود اليلنجوج (2) وضروب من الطيب والعقاقير، ثم هو بعد مركب للناس،
ومحمل لهذه التجارات التي تجلب البلدان البعيدة، كمثل ما يجلب من
الصين إلى العراق، ومن العراق إلى الصين (3) فإن هذه التجارات، لم يكن
لها محمل إلا على الظهر لبارت وبقيت بلدانها وأيدي أهلها. لأن أجر حملها
يجاوز أثمانها، فلا يتعرض أحد لحملها وكان يجتمع في ذلك أمران: أحدهما
فقد أشياء كثيرة تعظم الحاجة إليها والآخر انقطاع معاش من يحملها ويتعيش
بفضلها.
(فوائد الهواء والسبب في كثرته)
وهكذا الهواء لولا كثرته وسعته لاختنق هذا الأنام من الدخان والبخار
الذي يتحير فيه، ويعجز عما يحول إلى السحاب والضباب أولا أولا، فقد تقدم
من صفته ما فيه كفاية.
(منافع النار وجعلها كالمخزونة في الأجسام)
والنار أيضا كذلك، فإنها لو كانت مبثوثة كالنسيم والماء كانت تحرق
العالم وما فيه، ولما لم يكن بد من ظهورها في الأحايين، لغنائها في كثير من

(1) العنبر هو الطيب والزعفران، أو حوت قد يبلغ طوله نحوا من 60 قدما ضخم الرأس وله
أسنان بخلاف البال والجمع عنابر.
(2) اليلنجوج: العود الطيب الرائحة.
(3) في نسخة البحار ومن العراق... إلى العراق... وما ذكرناه أظهر.
93

المصالح، جعلت كالمخزونة في الأجسام، فتلتمس عند الحاجة إليها،
وتمسك بالمادة والحطب ما احتيج إلى بقائها لئلا تخبو فلا هي تمسك بالمادة
والحطب، فتعظم المؤونة في ذلك، ولا هي تظهر مبثوثة، فتحرق كل ما هي
فيه، بل هي على تهيئة وتقدير، اجتمع فيها الاستمتاع بمنافعها والسلامة من
ضررها.
ثم فيها خلة أخرى وهي أنها مما خص بها الإنسان دون جميع الحيوان لما له
فيها من المصلحة، فإنه لو فقد النار لعظم ما يدخل عليه من الضرر في
معاشه، فأما البهائم فلا تستعمل النار، ولا تستمتع بها، ولما قدر الله عز وجل
أن يكون هذا هكذا، خلق للإنسان كفا وأصابع مهيئة لقدح النار
واستعمالها، ولم يعط البهائم مثل ذلك، لكنها اعينت بالصبر على الجفاء
والخلل في المعاش لكيلا ينالها في فقد النار ما ينال الإنسان عند فقدها.
وأنبئك من منافع النار على خلقة صغيرة عظيم موقعها، وهي هذا
المصباح الذي يتخذه الناس، فيقضون به حوائجهم ما شاؤوا في ليلهم ولولا
هذه الخلة لكان الناس تصرف أعمارهم بمنزلة من في القبور، فمن كان
يستطيع أن يكتب أو يحفظ، أو ينسج في ظلمة الليل، وكيف كان حال من
عرض له وجع في وقت من أوقات الليل، فاحتاج إلى أن يعالج ضمادا
أو سفوفا (1) أو شيئا يستشفى به.. فإما منافعها في نضج الأطعمة ودفاء
الأبدان وتجفيف أشياء وتحليل أشياء وأشباه ذلك، 7 فأكثر من أن تحصى
وأظهر من أن تخفى.
(الصحو والمطر وتعاقبهما على العالم وفوائد ذلك)
فكر يا مفضل في الصحو والمطر كيف يتعاقبان على هذا العالم لما فيه

(1) السفوف - بالفتح -: ما تسفه من دواء ونحوه. وسف الدواء ونحوه: أخذه غير ملتوت.
94

صلاحه، ولو دام واحد منهما عليه كان في ذلك فساده.. ألا ترى أن الأمطار
إذا توالت عفنت البقول والخضر واسترخت أبدان الحيوان وحصر الهواء
فأحدث ضروبا من الأمراض. وفسدت الطرق والمسالك وأن الصحو إذا دام
جفت الأرض، واحترق النبات، وغيض ماء العيون والأودية، فأضر ذلك
بالناس، وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضروبا أخرى من الأمراض...
فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب إعتدل الهواء ودفع كل واحد منهما عادية
الأخر، فصلحت الأشياء واستقامت.. فإن قال قائل: ولم لا يكون في شئ
من ذلك مضرة البتة؟ قيل له ليمض ذلك الإنسان ويؤلمه بعض الألم، فيرعوي
عن المعاصي، فكما إن الإنسان إذا سقم بدنه احتاج إلى الأدوية المرة البشعة
ليقوم طباعه، ويصلح ما فسد منه، كذلك إذا طغى واشتد، احتاج إلى ما
يمضه ويؤلمه، ليرعوي ويقصر عن مساويه، ويثبته على فيه حظه ورشده..
ولو أن ملكا من الملوك قسم في أهل مملكته قناطيرا (1) من ذهب وفضة، ألم يكن
سيعظم عندهم ويذهب له به الصوت، فأين هذا من مطرة رواء يعم به
البلاد، ويزيد في الغلات أكثر من قناطير الذهب والفضة في أقاليم الأرض
كلها.. أفلا ترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرها، وأعظم النعمة على الناس
فيها وهم عنها ساهمون، وربما عاقت عن أحدهم حاجة لا قدر لها، فيتذمر
ويسخط إيثارا للخسيس قدره على العظيم نفعه، جميلا محمودا لعاقبته وقلة
معرفته (2) لعظيم الغناء والمنفعة فيها.
(مصالح نزول المطر على الأرض وأثر التدبير فيه)
تأمل نزوله على الأرض والتدبير في ذلك، فإنه جعل ينحدر عليها من
علو ليغشى ما غلظ وارتفع منها فيرويه، ولو كان إنما يأتيها من بعض نواحيها لما

(1) القناطير جمع قنطار وهو المال الكثير أو وزن اختلف مقدار موزونه مع الأيام.
(2) في الأصل المطبوع محمود العاقبة وقلة معرفة، وما ذكرناه هو الأصح.
95

علا المواضع المشرفة منها، ويقل ما يزرع في الأرض... ألا ترى أن الذي
يزرع سيحا (1) أقل من ذلك، فالأمطار هي التي تطبق الأرض، وربما تزرع
هذه البراري الواسعة وسفوح الجبال وذراها فتغل الغلة الكثيرة. وبها يسقط
عن الناس في كثير من البلدان مؤنة سياق الماء من موضع إلى موضع، وما
يجري في ذلك بينهم من التشاجر والتظالم حتى يستأثر بالماء ذو العز والقوة،
ويحرمه الضعفاء، ثم إنه حين قدر أن ينحدر على الأرض إنحدارا جعل ذلك
قطرا شبيها بالرش، ليغور في قعر الأرض فيرويها، ولو كان يسكبه انسكابا
كان ينزل على وجه الأرض فلا يغور فيها، ثم كان يحطم الزروع القائمة إذا
اندفق عليها، فصار ينزل نزولا رقيقا، فينبت الحب المزروع، ويحيي الأرض
والزرع القائم.
وفي نزوله أيضا مصالح أخرى، فإنه يلين الأبدان، ويجلو كدر الهواء،
فيرتفع الوباء الحادث من ذلك، ويغسل ما يسقط على الشجر والزرع من
الدماء المسمى باليرقان (2) إلى أشباه هذا من المنافع، فإن قال قائل: أو ليس
قد يكون منه في بعض السنين الضرر العظيم الكثير، لشدة ما يقع منه، أو
برد (3) يكون فيه تحطم الغلات، وبخورة يحدثها في الهواء، فيولد كثيرا من
الأمراض في الأبدان والآفات في الغلات؟ قيل: بلى قد يكون ذلك الفرط،
لما فيه من صلاح الإنسان، وكفه عن ركوب المعاصي والتمادي فيها. فيكون
المنفعة فيما يصلح له من دينه، أرجح مما عسى أن يرزأ في ماله!.
(منافع الجبال)
أنظر يا مفضل إلى هذه الجبال المركومة من الطين والحجارة، التي يحسبها

(1) زراعة السيح هي الزراعة التي تحصل عن طريق الأنهر والمياه الجارية.
(2) البرقان - بفتحتين أو فتح فسكون - آفة للزرع أو دود يسطو على الزرع.
(3) البرد - بفتحتين -: ماء الغمام يتجمد في الهواء البارد ويسقط على الأرض حبوبا.
96

الغافلون: فضلا لا حاجة إليها. والمنافع فيها كثيرة: فمن ذلك أن تسقط
عليها الثلوج، فتبقى في قلالها (1) لمن يحتاج إليه، ويذوب ما ذاب منه،
فتجري منه العيون الغزيرة التي تجتمع منها الأنهار العظام، وينبت فيها ضروب
من النبات والعقاقير التي لا ينبت مثلها في السهل، ويكون فيها كهوف ومعاقل
للوحوش من السباع العادية (2) ويتخذ منها الحصون والقلاع المنيعة للتحرز من
الأعداء وينحت منها الحجارة للبناء والأرحاء (3) ويوجد فيها معادن لضرب من
الجواهر، وفيها خلال أخر يعرفها إلا المقدر لها في سابق علمه.
(أنواع المعادن واستفادة الإنسان منها)
فكر يا مفضل: في هذه المعادن وما يخرج منها من الجواهر المختلفة مثل
الجص والكلس (4) والجبسين (5) والزرنيخ (6) والمرتك (7) والتوتيا (8) والزئبق (9)

(1) القلال - بالكسر - جمع قلة - بضم فتشديد - أعلى الرأس والجبل وكل شئ.
(2) العادية: المعتدية.
(3) الارحاء جمع رحى وهي الطاحون.
(4) الكلس - بالكسر - تقدم ذكره.
(5) الجبسين كذا في النسخ ولم نجده فيما عندنا من كتب اللغة - الظاهر أنه الجبس وهو الجص
الذي يبنى به وهو مركب من كبريتات الكالسيوم ويوجد في الأراضي الثلا.
(6) في الأصل الزرانيج والألف زائدة، ولم ترد في كلام العرب، - والزرنيخ عنصر معروف
يوجد منفردا وعلى حالة كبرتيور الزرنيخ وهو جسم صلب لونه سنجابي لماع متبلور يتطاير
بالحرارة من غير أن يصهر ولا يذوب في الماء، وإذا خلط الزرنيخ مع الكلس حلق الشعر.
(7) المرتك وتضاف إليه غالبا كلمة الذهبي وهو أكسيد الرصاص عبارة عن بلورات صغيرة
مسحوقة يدخل في تركيب مرهم للبواسير.
(8) التوتياهي أوكسيد الزنك غير النقي مخلوطا مع الزرنيخ لا يستعمل في الطب.
(9) في الأصل الزيبق وهو استعمال عامي، والزئبق سيال معدني لماع يتجمد على درجة 40 تحت
الصفر ويغلي على درجة 360 فوق الصفر، ويستعمل لاستخراج الذهب والفضة بالتملغم
وفي البارومتر والترومومتر وفي عمل المرايا وفي الطب دهانا على الجلد في معالجة الزهري.
97

والنحاس والرصاص والفضة والذهب والزبرجد والياقوت والزمرد (1) وضروب
الحجارة، وكذلك ما يخرج منها من القار والموميا والكبريت والنفط (2) وغير
ذلك مما يستعمله في مأربهم فهل يخفى على ذي عقل إن هذه كلها ذخائر
ذخرت للإنسان في هذه الأرض، ليستخرجها فيستعملها عند الحاجة إليها،
ثم قصرت حيلة الناس عما حاولوا من صنعتها على حرصهم واجتهادهم في ذلك
فإنهم لو ظفروا بما حاولوا من هذا العلم كان لا محالة سيظهر، ويستفيض في
العالم، حتى تكثر الفضة والذهب، ويسقطا عند الناس. فلا تكون لهما
قيمته. ويبطل الانتفاع بهما في الشراء والبيع والمعاملات، ولا كان يجبي
السلطان الأموال ولا يدخرهما أحد للأعقاب، وقد أعطى الناس - مع
هذا - صنعة الشبه (3) من النحاس، والزجاج من الرمل. والفضة من
الرصاص، والذهب من الفضة، وأشباه ذلك مما لا مضرة فيه.
فانظر كيف أعطوا إرادتهم في ما لا ضرر فيه، ومنعوا ذلك فيما كان ضارا
لهم لو نالوه، ومن أوغل في المعادن انتهى إلى واد عظيم يجري منصلتا بماء
غزير، لا يدرك غوره، ولا حيلة في عبوره، ومن ورائه أمثال الجبال من
الفضة.
تفكر الآن في هذا، من تدبير الخالق الحكيم، فإنه أراد جل ثناؤه أن
يرى العباد قدرته، وسعه خزائنه، ليعلموا أنه لو شاء أن يمنحهم كالجبال من
الفضة لفعل، لكن لا صلاح لهم في ذلك، لأنه لو كان فيكون فيها - كما
ذكرنا - سقوط هذا الجوهر عند الناس، وقلة انتفاعهم به. واعتبر ذلك بأنه
قد يظهر الشئ الظريف مما يحدثه من الأواني والأمتعة، فما دام عزيزا
قليلا، فهو نفيس جليل آخذ الثمن، فإذا فشا وكثر في أيدي الناس، سقط
عندهم وخست قيمته.. ونفاسة الأشياء من عزتها.

(1 - 2) هذه العناصر والأحجار معروفة كلها فلا حاجة إلى شرحها. (3) الشبه - بكسر ففتح - هو النحاس الأصفر.
98

(النبات وما فيه من ضروب المآرب
) فكر يا مفضل في هذا النبات وما فيه من ضروب المآرب، فالثمار
للغذاء، والأتبان (1) للعلف، والحطب للوقود، والخشب لكل شئ من
أنواع التجارة وغيرها، واللحاء (2) والورق والأصول والعروق والصموغ
لضروب من المنافع. أرأيت لو كنا نجد الثمار التي نغتذي بها مجموعة على وجه
الأرض، ولم تكن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها، كم كان يدخل علينا
من الخلل في معاشنا، وإن كان الغذاء موجودا فإن المنافع بالخشب والحطب
والأتبان وسائر ما عددناه كثيرة عظيم قدرها، جليل موقعها، هذا مع ما في
النبات من التلذذ بحسن منظره، ونضارته التي يعدلها شئ من مناظر العالم
وملاهيه.
(الريع في النبات وسببه)
فكر يا مفضل في هذا الريع الذي جعل في الزرع، فصارت الحبة
الواحدة تخلف مائة حبة وأكثر وأقل، وكان يجوز للحبة أن تأتي بمثلها فلم
صارت تريع هذا الريع إلا ليكون في الغلة (3) متسع، لما يرد في الأرض من
البذر، وما يتقوت الزراع إلى إدراك زرعها المستقبل، ألا ترى أن الملك لو أراد
عمارة بلد من البلدان كان السبيل في ذلك أن يعطي أهله ما يبذرونه في أرضهم
وما يقوتهم إلى إدراك زرعهم.
(فانظر كيف تجد المثال قد تقدم في تدبير الحكيم، فصار الزرع يريع

(1) لم يرد في معاجم اللغة العربية، لفظ الأتبان على معنى التبن المعروف ولعل اللفظ قد غيره
النساخ والصحيح تبن.
(2) اللحاء: قشر العود أو الشجر.
(3) الغلة - بالفتح -: الدخل من كراء دار وفائدة أرض ونحو ذلك والجمع غلات وغلال.
99

هذا الريع ليفي بما يحتاج إليه للقوت والزراعة، وكذلك الشجر والنبت والنخل
يريع الريع الكثير، فإنك ترى الأصل الواحد حوله من فراخه أمرا عظيما، فلم
كان كذلك إلا ليكون فيه ما يقطعه الناس، ويستعملونه في مأربهم، وما برد
فيغرس في الأرض، ولو كان الأصل منه يبقى منفردا لا يفرخ ولا يريع لما أمكن
أن يقطع منه شئ لعمل ولا لغرس، ثم كان إن أصابته آفة انقطع أصله، فلم
يكن منه خلف.
(بعض النباتات وكيف تصان)
تأمل نبات هذه الحبوب من العدس والماش والباقلاء وما أشبه فإنها
تخرج في أوعية مثل الخرائط (1) لتصونها وتحجبها من الآفات إلى أن تشتد
وتستحكم، كما قد تكون المشيمة (2) على الجنين لهذا المعنى بعينه وأما البر (3)
وما أشبهه فإنه يخرج مدرجا في قشور صلاب على رؤوسها أمثال الأسنة من
السنبل ليمنع الطير منه ليتوفر على الزراع فإن قال قائل: أو ليس قد ينال الطير
من البر والحبوب؟ قيل له: بلى على هذا قدر الأمر فيها، لأن الطير خلق من
خلق الله تعالى وقد جعل الله تبارك وتعالى له في ما تخرج الأرض حظا ولكن
حصنت الحبوب بهذه الحجب لئلا يتمكن الطير منها كل التمكن فيعبث بها
ويفسد الفساد الفاحش. فإن الطير لو صادف الحب بارزا ليس عليه شئ
يحول دونه لأكب عليه حتى ينسفه أصلا، فكان يعرض من ذلك أن يبشم (4)
الطير فيموت، ويخرج الزراع من زرعه صفرا، فجعلت عليه هذه الوقايات
لتصونه، فينال الطائر منه شيئا يسيرا يتقوت به، ويبقى أكثره للإنسان، فإنه

(1) لم نجد للفظ (الخرائط) هنا معنى يتسق ومراد الإمام (ع) ولعله يريد الشكل المخروطي،
وهو ما يبتدئ من سطح مستدير ويرتفع مستدقا حتى ينتهي إلى نقطة.
(2) المشيمة: غشاء ولد الإنسان يخرج معه عند الولادة، جمعه: مشيم ومشايم.
(3) البر - بضم فتشديد - هو القمح، الواحدة برة.
(4) يبشم الطعام: أي يتخم من الطعام.
100

أولى به، إذ كان هو الذي كدح فيه وشقي به، وكان الذي يحتاج إليه أكثر مما
يحتاج إليه الطير.
(الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات)
تأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات، فإنها لما كانت تحتاج إلى
الغذاء الدائم كحاجة الحيوان، ولم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان ولا حركة
تنبعث بها لتناول الغذاء، جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذاء
فتؤديه إلى الأغصان وما عليها من الورق والثمر فصارت الأرض كالأم المربية
لها، وصارت أصولها التي هي كالأفواه ملتقمة للأرض لتنزع منها الغداء، كما
ترضع أصناف الحيوان أمهاتها، ألم تر إلى عمد الفساطيط (1) والخيم كيف تمد
بالأطناب (2) من كل جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط ولا تميل فهكذا تجد النبات
كله له عروق منتشرة في الأرض ممتدة إلى كل جانب لتمسكه وتقيمه، ولولا
ذلك كيف يثبت هذا النخل الطوال والدوح العظام في الريح العاصف؟.
فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة فصارت الحيلة التي
تستعملها الصناع في ثبات الفساطيط والخيم، متقدمة في خلق الشجر، لأن
خلق الشجر قبل صنعة الفساطيط والخيم... ألا ترى عمدها وعيدانها من
الشجر، فالصناعة مأخوذة من الخلقة.
(خلق الورق ووصفه)
تأمل يا مفضل خلق الورق فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها
أجمع، فمنها غلاظ ممتدة في طولها وعرضها، ومنها دقاق تتخلل تلك الغلاظ

(1) الفساطيط جمع فسطاط - بالضم أو الكسر - بيت من شعر.
(2) الأطناب جمع طنب - بضمتين - حبل طويل يشد به سرادق البيت.
101

منسوجة نسجا دقيقا معجما، لو كان مما يصنع بالأيدي كصنعة البشر لما فرغ من
ورق شجرة واحدة في عام كامل، ولاحتيج إلى آلات وحركة وعلاج وكلام،
فصار يأتي منه في أيام قلائل من الربيع ما يملأ الجبال والسهل وبقاع الأرض
كلها بلا حركة ولا كلام، إلا بالإرادة النافذة في كل شئ والأمر المطاع..
واعرف مع ذلك العلة في تلك العروق الدقاق، فإنها جعلت تتخلل الورقة
بأسرها، لتسقيها وتوصل الماء إليها، بمنزلة العروق المبثوثة في البدن، لتوصل
الغذاء إلى كل جزء منه، وفي الغلاظ منها معنى آخر، فإنها تمسك الورقة
بصلابتها ومتانتها، لئلا تنهتك وتتمزق، فترى الورقة شبيها بورقة معمولة
بالصنعة من خرق قد جعلت فيها عيدان ممدودة في طولها وعرضها لتتماسك فلا
تضطرب.. فالصناعة تحكي الخلقة وإن كانت لا تدركها على الحقيقة.
(العجم والنوى والعلة في خلقه)
فكر في هذا العجم والنوى والعلة فيه، فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم
مقام الغرس إن عاق دون الغرس عائق، كما يحرز الشئ النفيس الذي تعظم
الحاجة إليه في مواضع آخر، فإن حدث على الذي في بعض المواضع منه حادث
وجد في موضع آخر، ثم هو بعد يمسك بصلابته رخاوة الثمار ورقتها، ولولا
ذلك لتشدخت (1) وتفسخت، وأسرع إليها الفساد وبعضه يؤكل ويستخرج
دهنه، فيستعمل منه ضروب من المصالح، وقد تبين لك موضع الأرب في
العجم والنوى.
فكر الآن في هذا الذي تجده فوق النواة من الرطبة، وفوق العجم من
العنبة، فما العلة فيه؟ ولما ذا يخرج في هذه الهيئة؟ وقد كان يمكن أن يكون

(1) تشدخت: تكسرت.
102

مكان ذلك ما ليس فيه مأكل كمثل ما يكون في السدر (1) والدلب (2) وما أشبه
ذلك. فلم صار يخرج فوقه هذه المطاعم اللذيذة، إلا ليستمتع بها
الإنسان؟.
(موت الشجر وتجدد حياته وما في ذلك من ضروب التدبير)
فكر في ضروب من التدبير في الشجر، فإنك تراه يموت في كل سنة
موتة، فتحتبس الحرارة الغريزية في عوده، ويتولد فيه مواد الثمار ثم يحيى
وينتشر، فيأتيك بهذه الفواكه نوعا بعد نوع، كما تعد نوع، كما تقدم إليك
أنواع الأطبخة التي تعالج بالأيدي واحدا بعد واحد، فترى الأغصان في
الشجر تتلقاك بثمارها حتى كأنها تناولكها عن يد، وترى الرياحين تتلقاك في
أفنائها (3) كأنها تجئك بأنفسها، فلمن هذا التقدير إلا لمقدر حكيم وما العلة فيه
إلا تفكيه الإنسان بهذه الثمار والأنوار؟.. والعجب من أناس جعلوا مكان
الشكر على النعمة جحود المنعم بها.
(خلق الرمانة وأثر العمد فيه)
واعتبر بخلق الرمانة وما ترى فيها من أثر العمد والتدبير، فإنك ترى
فيها كأمثال التلال، من شحم مركوم في نواحيها، وحب مرصوف صفا كنحو
ما ينضد بالأيدي، وترى الحب مقسوما أقساما، وكل قسم منها ملفوفا بلفائف
من حجب منسوجة أعجب النسج وألطفه وقشره يضم ذلك كله.
فمن التدبير في هذه الصنعة إنه لم يكن يجوز أن يكون حشو الرمانة من
الحب وحده، وذلك أن الحب لا يمد بعضه بعضا، فجعل ذلك الشحم خلال

(1) السدر - بالكسر - شجر النبق جمعه سدور.
(2) الدلب - بالضم - شجر عظيم عريض الورق لا زهر له ولا ثمر والواحدة دلبة.
(3) الأفنان جمع فنن وهو الغصن المستقيم.
103

الحب ليمده بالغذاء. ألا ترى أن أصول الحب مركوزة في ذلك الشحم، ثم
لف بتلك اللفائف لتضمه وتمسكه فلا يضطرب، وغشى فوق ذلك بالقشرة
المستحصفة لتصونه وتحصنه من الآفات، فهذا قليل من كثير من وصف
الرمانة، وفيه أكثر من هذا لمن أراد الإطناب (1) والتذرع (2) في الكلام، ولكن
فيما ذكرت لك كفاية في الدلالة والاعتبار.
(حمل اليقطين وما فيه من التدبير والحكمة)
فكر يا مفضل في حمل اليقطين الضعيف مثل هذه الثمار الثقيلة من
الدباء (3) والقثاء (4) والبطيخ وما في ذلك من التدبير والحكمة، فإنه حين قدر أن
يحمل مثل هذه الثمار جعل نباته منبسطا على الأرض، ولو كان ينتصب قائما كما
ينتصب الزرع والشجر، استطاع أن يحمل مثل هذه الثمار الثقيلة،
ولتقصف قبل إدراكها وانتهائها إلى غاياتها.. فانظر كيف صار يمتد على وجه
الأرض ليلقي عليها ثماره فتحملها عنه فترى الأصل من القرع (5) والبطيخ
مفترشا للأرض، وثماره مبثوثة عليها وحواليه كأنه هرة ممتدة، وقد اكتنفتها
جراؤها (6) لترضع منها.

(1) يقال: أطنب في الوصف أو القول، أي بالغ.
(2) التذرع في الكلام هو الاكثار منه والإفراط فيه.
(3) لم نقف عليه.
(4) القثاء - بالضم - نوع من النبات ثمره يشبه ثمر الخيار الواحدة قثاءة.
(5) القرع - بالفتح - نوع من اليقطين، الواحدة قرعة.
(6) في الأصل المطبوع (أجزاؤها) وهذا تصحيف شنيع، والجراء جمع جرو - بتثليث الجيم -
صغير كل شئ حتى الرمان والبطيخ وغلب على الكلب والأسد والمراد هنا بالجراء أولاد
الهرة.
104

(موافاة أصناف النبات في الوقت المشاكل لها)
وانظر كيف صارت الأصناف توافي في الوقت المشاكل لها، من حمارة (1)
الصيف ووقدة الحر فتلقاها النفوس بانشراح وتشوق إليها، ولو كانت توافي
الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها واقشعرارا (2) منها مع ما يكون فيها من
المضرة للأبدان. ألا ترى أنه ربما أدرك شئ من الخيار في الشتاء، فيمتنع
الناس من أكله إلا الشره الذي يمتنع من أكل ما يضره ويسقم معدته.
(في النخل وخلقة الجذع والخشب وفوائد ذلك)
فكر يا مفضل في النخل، فإنه لما صار فيه إناث تحتاج التلقيح جعلت
فيه ذكورة اللقاح من غير غراس، فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من
الحيوان الذي يلقح الإناث لتحمل وهو لا يحمل. تأمل خلقة الجذع كيف
هو؟ فإنك تراه كالمنسوج نسجا من خيوط ممدودة كالسدى وأخرى معه معترضة
كاللحمة (3) كنحو ما ينسج، بالأيدي وذلك ليشتد ويصلب ولا يتقصف من
حمل القنوات (4) الثقيلة وهز الرياح العواصف إذا صار نخلة وليتهيأ للسقوف
والجسور وغير ذلك مما يتخذ منه إذا صار جذعا.
وكذلك ترى الخشب مثل النسج فإنك ترى بعضه مداخلا بعضه بعضا

(1) الحمارة: شدة الحر والجمع حمار.
(2) اقشعر: تغير لونه.
(3) اللحمة - بالضم - ما سدي به بين سدي الثوب أي ما نسج عرضا وهو خلاف سواه
والجمع لحم.
(4) في الأصل المطبوع - قنوان - ولا معنى لها هنا. والقنوات جمع قناة وهي العصا الغليظة،
وقد أراد بها الإمام عليه السلام هنا هي سعف النخل الغليظة.
105

طولا وعرضا كتداخل أجزاء اللحم، وفيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه
من الآلات فإنه لو كان مستحصفا (1) كالحجارة لم يمكن أن يستعمل في السقوف
وغير ذلك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب والأسرة والتوابيت وما أشبه
ذلك... ومن جسيم المصالح في الخشب أنه يطفو على الماء، فكل الناس
يعرف هذا منه، وليس كلهم يعرف جلالة الأمر فيه، فلولا هذه الخلة كيف
كانت هذه السفن والأظراف (2) تحمل أمثال الجبال من الحمولة، وأنى كان ينال
الناس هذا الرفق وخفة المؤنة في حمل التجارات من بلد إلى بلد، وكانت تعظم
المؤنة عليهم في حملها حتى يلقي كثير مما يحتاج إليه في بعض البلدان مفقودا
أصلا أو عسر وجوده.
(العقاقير واختصاص كل منها)
فكر في هذه العقاقير وما خص بها كل واحد منها من العمل في بعض
الأدواء، فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج (3)
وهذا ينزف المرة السوداء (4) مثل الافتيمون وهذا ينفى الرياح مثل
السكبينج (6) وهذا يحلل الأورام، وأشباه هذا من أفعالها فمن جعل هذه القوى

(1) أراد بالمستحصف: الشديد المحكم كأنه الحجارة.
(2) كذا في النسخ، والطرف لا يجمع على لفظ أظراف وإنما يقال للجمع ظروف.
(3) جاء في تذكرة الأنطاكي: شيطرج هندي هو الخامشة وهو نبت يوجد بالقبور الخراب له ورق
عريض ودقيق ينتثر أعلاه إذا برد الجو وزهره أحمر إلى بياض، يخلف بزر أسود أصغر من
الخردل ورائحته ثقيلة حادة وطعمه إلى مرارة.
(4) المرة السوداء: خلط من أخلاط البدن والجمع مرار.
(5) افتيمون لفظ يوناني معناه دواء الجنون وهو نبات له أصل كالجزر شديد الحمرة وفروع
كالخيوط الليفية تحف بأوراق دقاق خضر وزهرة إلى حمرة وغبرة وبزر دون الخردل أحمر إلى صفرة
يلتف بما يليه.
(6) سكبينج أو سكنبيج هو شجرة بفارس، ويورد الأطباء الأقدمون أوصافا طيبة كثيرة من
السكنبيج ويذكرون أنه يذهب عدة أمراض لا مجال لذكرها هنا.
106

فيها إلا من خلقها للمنفعة؟ ومن فطن الناس لها إلا من جعل هذا فيها؟.
ومتى كان يوقف على هذا منها بالعرض والاتفاق كما قال القائلون؟ وهب
الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه ولطيف رويته وتجاربه، فالبهائم كيف فطنت
لها حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحه أن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ،
وبعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم، وأشباه هذا كثير،
ولعلك تشكك في هذا النبات النابت في الصحارى والبراري حيث لا أنس ولا
أنيس، فتظن أنه فضل لا حاجة إليه، وليس كذلك، بل هو طعم لهذه
الوحوش، وحبه علف للطير، وعوده وأفنانه حطب، فيستعمله الناس، وفيه
بعد أشياء تعالج بها الأبدان، وأخرى تدبغ بها الجلود، وأخرى تصبغ
الأمتعة، وأشباه هذا من المصالح.. ألست تعلم أن من أخس النبات وأحقره
هذا البردي وما أشبهها، ففيها مع هذا من ضروب المنافع، فقد يتخذ من
البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك والسوقة، والحصر التي يستعملها كل
صنف من الناس، ويعمل منه الغلف التي يوقى بها الأواني، ويجعل حشوا بين
الظروف وفي الاسفاط، لكيلا تعيب وتنكسر، وأشباه هذا من المنافع.
فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق وكبيره وبما له قيمة وما
لا قيمة له، وأخس من هذا وأحقره الزبل، والعذرة التي اجتمعت فيها
الخساسة والنجاسة معا، وموقعها من الزروع والبقول والخضر أجمع الموقع
الذي لا يعدله شئ، حتى أن كل شئ من الخضر لا يصلح ولا يزكو إلا
بالزبل والسماد الذي يستقذره الناس، ويكرهون الدنو منه.
واعلم أنه ليس منزلة الشئ على حسب قيمته، بل هما قيمتان مختلفتان
بسوقين، وربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم، فلا
تستصغر العبرة في الشئ لصغر قيمته، فلو فطن طالبوا الكيمياء لما في
العذرة، لاشتروها بأنفس الأثمان وغالوا بها
قال المفضل: وحان وقت الزوال، فقام مولاي إلى الصلاة وقال
107

بكر إلى غدا إن شاء الله تعالى. فانصرفت وقد تضاعف سروري بما
عرفنيه، مبتهجا بما آتانيه، حامدا لله على ما منحنيه. فبت ليلتي
مسرورا.
108

* (المجلس الرابع) *
قال المفضل: فلما كان اليوم الرابع بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي،
فأمرني بالجلوس فجلست، فقال عليه السلام: منا التحميد والتسبيح
والتعظيم والتقديس، للاسم الأقدم، والنور الأعظم، العلي العلام، ذي
الجلال والإكرام، ومنشئ الأنام، ومفني العوالم والدهور، وصاحب السر
المستور، والغيب المحظور، والاسم المخزون، والعلم المكنون، وصلواته
وبركاته على مبلغ وحيه، ومؤدي رسالته، الذي بعثه بشيرا (ونذيرا وداعيا إلى
الله بإذنه، وسراجا منيرا، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن
بينة، فعليه وعلى آله من بارئه الصلوات الطيبات، والتحيات الزاكيات
الناميات، وعليه وعليهم السلام والرحمة والبركات في الماضين والغابرين، أبد
الآبدين، ودهر الداهرين، وهم أهله ومستحقوه).
(الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك)
قد شرحت لك يا مفضل من الأدلة على الخلق، والشواهد على صواب
التدبير والعمد في الإنسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك. ما فيه عبرة
لمن اعتبر، وأنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها
أناس من الجهال ذريعة إلى جحود الخلق والخالق والعمد والتدبير، وما أنكرت
المعطلة والمنانية من المكاره والمصائب، وما أنكروه من الموت والفناء، وما قاله
أصحاب الطبائع، ومن زعم أن كون الأشياء بالعرض والاتفاق، ليتسع ذلك
القول في الرد عليهم قاتلهم الله أنى يؤفكون.
109

(الآفات ونظر الجهال إليها والجواب على ذلك)
اتخذ أناس من الجهال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان - كمثل
الوباء واليرقان والبرد (1) والجراد - ذريعة إلى جحود الخالق والتدبير والخلق،
فيقال في جواب ذلك: أنه إن لم يكن خالق ومدبر فلم لا يكون ما هو أكثر من
هذا وأفظع؟ فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض، وتهوي الأرض فتذهب
سفلا، وتتخلف الشمس عن الطلوع أصلا، وتجف الأنهار والعيون حتى لا
يوجد ماء للشفة، وتركد الريح، حتى تخم الأشياء وتفسد، ويفيض ماء البحر
على الأرض فيغرقها، ثم هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه
ذلك ما بالها لا تدوم وتمتد، حتى تجتاح كل ما في العالم، بل تحدث في
الأحايين، ثم لا تلبث أن ترفع. أفلا ترى أن العالم يصان ويحفظ من تلك
الأحداث الجليلة التي لو حدث شئ منها كان فيه بواره ويلذع (2) أحيانا
بهذه الآفات اليسيرة، لتأديب الناس وتقويمهم، ثم لا تدوم هذه الآفات، بل
تكشف عنهم عند القنوط منهم، فيكون وقوعها بهم موعظة وكشفها عنهم
رحمة.
وقد أنكرت المنانية من المكاره والمصائب التي تصيب الناس فكلاهما
يقول: إن كان للعالم خالق رؤوف رحيم، فلم تحدث فيه هذه الأمور
المكروهة.. والقائل بهذا القول يذهب إلى أنه ينبغي أن يكون عيش الإنسان
في هذه الدنيا صافيا من كل كدر، ولو كان هكذا كان الإنسان يخرج من
الأشر (3) والعتو (4) إلى ما لا يصلح في دين ولا دنيا، كالذي ترى كثيرا من

(1) ذهب ذكر اليرقان والبرد سابقا.
(2) يقال لذعته النار أي أحرقته ولذعه بلسانه أي أوجعه بكلام وفي بعض النسخ بإهمال الأول
وإعجام الثاني من لدغ العقرب.
(3) الأشر: البطر.
(4) العتو - بالضم - الاستكبار وتجاوز الحد.
110

المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن، يخرجون إليه أن أحدهم ينسى أنه
بشر، وأنه مربوب أو أن ضررا يمسه، أو أن مكروها ينزل به، أو أنه يجب عليه
أن يرحم ضعيفا، أو يواسي فقيرا، أو يرثي المبتلي، أو يتحنن على ضعيف،
أو يتعطف على مكروب، فإذا عضته المكاره ووجد مضضها، اتعظ وابصر
كثيرا مما كان جهله وغفل عنه، ورجع إلى كثير مما كان يجب عليه.
والمنكرون لهذه الأمور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الأدوية المرة
البشعة، ويتسخطون من المنع من الأطعمة الضارة، ويتكرهون الأدب
والعمل، ويحبون أن يتفرغوا للهو والبطالة، وينالوا مطعم ومشرب، ولا
يعرفون ما تؤديهم إليه البطالة من سوء النشو والعادة، وما تعقبهم الأطعمة
اللذيذة الضارة من الأدواء والأسقام، وما لهم في الأدب من الصلاح، وفي
الأدوية من المنفعة، وإن شاب ذلك بعض الكراهة، فإن قالوا: فلم لم يكن
الإنسان معصوما من المساوي، حتى لا يحتاج إلى أن تلذعه هذه المكاره،
قيل: إذا كان يكون غير محمود على حسنه يأتيها، ولا مستحقا للثواب عليها.
فإن قالوا: وما كان يضره أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب،
بعد أن يصير إلى غاية النعيم واللذات؟ قيل لهم: اعرضوا على امرئ صحيح
الجسم والعقل، أن يجلس منعما، ويكفي كلما يحتاج إليه بلا سعي ولا
استحقاق، فانظروا هل تقبل نفسه ذلك، بل ستجدونه بالقليل مما يناله
بالسعي والحركة أشد اغتباطا وسرورا بالكثير مما يناله بغير الاستحقاق،
وكذلك نعيم الآخرة أيضا يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه والاستحقاق له
فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة، فإن أعد الثواب الجزيل على
سعيه في هذه الدنيا وجعل له السبيل إلى أن ينال ذلك بسعي واستحقاق،
فيكمل السرور والاغتباط بما يناله منه... فإن قالوا: أو ليس قد يكون من
الناس من يركن إلى ما نال من خير، وإن كان لا يستحقه، فما الحجة في منع
من رضي ينال نعيم الآخرة على هذه الجملة؟ قيل لهم: إن هذا باب لو
111

صح للناس لخرجوا إلى غاية الكلب (1) والضراوة على الفواحش، وانتهاك
المحارم، فمن كان يكف نفسه فاحشة أو يتحمل المشقة في باب من أبواب
البر لوثق بأنه صائر إلى النعيم لا محالة، أو من كان يأمن على نفسه وأهله وماله
من الناس لو لم يخاف الحساب والعقاب، فكان ضرر هذا الباب سينال الناس
في هذه الدنيا قبل الآخرة. فيكون في ذلك تعطيل العدل والحكمة معا،
وموضع للطعن على التدبير بخلاف الصواب ووضع الأمور في غير مواضعها.
(لماذا تصيب الآفات جميع وما الحجة في ذلك)
وقد يتعلق هؤلاء بالآفات تصيب الناس، فتعم البر والفاجر أو
يبتلي بها البر ويسلم الفاجر منها، فقالوا: كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم وما
الحجة فيه؟ فيقال لهم: إن هذه الآفات وإن كانت تنال الصالح والطالح
جميعا. فإن الله عز وجل جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما، أما الصالحون
فأن الذي يصيبهم من هذا يزدهم نعم ربهم عندهم في سالف أيامهم فيحدوهم
ذلك على الشكر والصبر، وأما الطالحون فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم
وردعهم عن المعاصي والفواحش، وكذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين
صلاحا ذلك، أما الأبرار فإنهم يغتبطون بما هم عليه البر والصلاح
ويزدادون فيه رغبة وبصيرة وأما الفجار فإنهم يعرفون رأفة ربهم، وتطوله
عليهم بالسلامة من غير استحقاق. فيحضهم ذلك على الرأفة بالناس،
والصفح عمن أساء إليهم.. ولعل قائلا يقول: إن هذه الآفات التي تصيب
الناس في أموالهم، فما قولك فيما يبتلون به في أبدانهم، فيكون فيه تلفهم كمثل
الحرق والغرق والسيل والخسف؟ فيقال له إن الله جعل في هذا أيضا صلاحا
للصنفين جميعا، أما الأبرار فلما لهم في مفارقة هذه الدنيا من الراحة من

(1) في الأصل المطبوع الكلبة. ولا معنى اللفظ هنا، والصحيح ما ذكرناه إذ الكلب - بفتحتين -
هو داء يشبه الجنون يأخذ الكلاب فتعض الناس فتكلب الناس أيضا إذا تمنعوا عن استعمال
لقاح الطبيب الفرنسي المعروف باستور.
112

تكاليفها، والنجاة من مكارهها، وأما الفجار فلما لهم في ذلك من تمحيص
أوزارهم، وحبسهم عن الازدياد منها، وجملة القول إن الخالق تعالى ذكره
بحكمته وقدرته قد يصرف هذه الأمور كلها إلى الخير والمنفعة، فكما أنه إذا
قطعت الريح شجرة أو قطعت نخلة، أخذها الصانع الرفيق، واستعملها في
ضروب من المنافع فكذلك يفعل المدبر الحكيم في الآفات التي تنزل بالناس
في أبدانهم وأموالهم، فيصيرها جميعا إلى الخير والمنفعة.. فإن قال ولم تحدث
على الناس؟ قيل له: لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول السلامة، فيبالغ
الفاجر في ركوب المعاصي، ويفتر الصالح عن الاجتهاد في البر فإن هذين
الأمرين جميعا يغلبان على الناس في حال الخفض والدعة والحوادث التي
تحدث عليهم تردعهم وتنبههم على ما فيه رشدهم، فلو خلوا منها لغلوا في
الطغيان والمعصية، كما غلا الناس في أول الزمان. حتى وجب عليهم البوار
بالطوفان وتطهير الأرض منهم.
(الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك)
ومما ينتقده الجاحدون للعمد والتقدير الموت والفناء. فإنهم يذهبون إلى
أنه ينبغي أن يكون الناس مخلدين في هذه الدنيا. مبرئين من هذه الآفات،
فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غايته، فينظر ما محصوله.
أفرأيت لو كل من دخل العالم ويدخله يبقون، ولا يموت أحد
منهم، ألم تكن الأرض تضيق بهم، حتى تعوزهم المساكن والمزارع والمعائش،
فإنهم - والموت يفنيهم أولا فأولا - يتنافسون في المساكن والمزارع، حتى
تنشب بينهم في ذلك الحروب، وتسفك فيهم الدماء، فكيف كانت
تكون حالهم لو كانوا يولدون ولا يموتون، وكان يغلب عليهم الحرص
والشره وقساوة القلوب، فلو وثقوا بأنهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم
بشئ يناله، ولا أفرج لأحد عن شئ يسأله، ولا سلا عن شئ مما
يحدث عليه، ثم كانوا يملون الحياة وكل شئ من أمور الدنيا كما قد يمل
113

الحياة من طال عمره، حتى يتمنى الموت والراحة من الدنيا... فإن
قالوا: إنه كان ينبغي أنه يرفع عنهم المكاره والأوصاب حتى لا يتمنوا
الموت ولا يشتاقوا إليه. فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتو والأشر
الحامل لهم على ما فيه فساد الدنيا والدين. وإن قالوا: إنه كان ينبغي
أن لا يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن والمعائش. قيل لهم: إذا كان
يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم والاستمتاع بنعم الله تعالى ومواهبه في
الدارين جميعا إذا لم يدخل العالم إلا قرن (1) واحد، لا يتوالدون ولا
يتناسلون... فإن قالوا: إنه كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد
من الناس مثل ما خلق ويخلق إلى انقضاء العالم يقال لهم: رجع الأمر
إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن والمعائش عنهم، ثم لو كانوا لا يتوالدون
ولا يتناسلون لذهب موضع الأنس بالقرابات وذوي الأرحام والانتصار
بهم عند الشدائد، وموضع تربية الأولاد والسرور بهم، ففي هذا دليل
على أن كلما تذهب إليه الأوهام - سوى ما جرى به التدبير - خطأ وسفه
من الرأي والقول.
(الطعن على التدبير من جهة أخرى والجواب عليه)
ولعل طاعنا يطعن على التدبير من جهة أخرى فيقول كيف يكون
هاهنا تدبير، ونحن نرى الناس في هذه الدنيا من عزيز، فالقوي يظلم
ويغصب، والضعيف يظلم ويسالم الخسف، والصالح فقير مبتلى،
والفاسق معافى موسع عليه، ومن ركب فاحشة أو انتهك محرما لم يعاجل
بالعقوبة. فلو كان في العالم تدبير لجرت الأمور على القياس القائم،
فكان الصالح هو المرزوق، والطالح هو المحروم، وكان القوي يمنع من
ظلم الضعيف. والمنتهك للمحارم يعاجل بالعقوبة.. فيقال جواب
ذلك: إن هذا لو كان هكذا لذهب موضع الاحسان الذي فضل به

(1) المراد بالقرن هنا أهل زمان واحد والجمع قرون.
114

الإنسان على غيره من الخلق، وحمل النفس على البر والعمل الصالح
احتسابا للثواب، وثقة بما وعد الله عنه، ولصار الناس بمنزلة الدواب
التي تساس بالعصا والعلف، ويلمع لها بكل واحد منهما ساعة فساعة
فتستقيم على ذلك، ولم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب،
حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسية إلى حد البهائم، ثم لا يعرف ما
غاب، ولا يعمل إلا على الحاضر من نعيم الدنيا، وكان يحدث من هذا
أيضا أن يكون الصالح إنما يعمل للرزق والسعة هذه الدنيا، ويكون
الممتنع من الظلم والفواحش إنما يكف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به
من ساعته، حتى تكون أفعال الناس كلها تجري على الحاضر لا يشوبه
شئ من اليقين بما عند الله، ولا يستحقون ثواب الآخرة والنعيم الدائم
فيها، مع أن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من الغنى والفقر والعافية
والبلاء ليست بجارية على خلاف قياسه، بل قد تجري على ذلك أحيانا
والأمر المفهوم.
فقد ترى كثيرا من الصالحين، يرزقون المال لضروب من التدبير وكيلا
يسبق إلى قلوب الناس أن الكفار هم المرزوقون، والأبرار هم المحرومون،
فيؤثرون الفسق الصلاح، وترى كثيرا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا
تفاقم طغيانهم وعظم ضررهم على الناس وعلى أنفسهم كما عوجل فرعون (1)
بالغرق وبخت نصر (2) بالتيه وبلبيس (3) بالقتل وان أمهل بعض الأشرار

(1) قصة غرق فرعون في البحر معروفة في الكتب المقدسة، والقرآن الكريم يشير إليها في أكثر
من موضع واحد.
(2) أو نبوخذ نصر كان أعظم ملوك الكدانيين، وملك في بابل من سنة 604 إلى سنة 561 ق م
وقد وصف بالقوة والبأس وعد من أبطال التاريخ في الشرق، وجاء ذكره في التوراة كثيرا لأنه
عاقب الأمم الغربية عقابا شديدا، وهاجم اليهود - سكان مملكة يهوذا الصغيرة - هجوما
صاعقا بعد أن أجلى أكثرهم إلى بابل ودمر عاصمتهم أورشليم تدميرا شديدا.
(3) بلبيس كذا في الأصل وهو غير معروف عند المؤرخين ولم نجده فيما بين أيدينا من الكتب.
115

بالعقوبة، وآخر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة، لأسباب تخفى على
العباد لم يكن هذا مما يبطل التدبير، فإن مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض ولا
يبطل تدبيرهم، بل يكون تأخيرهم ما أخروه، وتعجيلهم ما عجلوه داخلا في
صواب الرأي والتدبير وإذا كانت الشواهد تشهد، وقياسهم يوجب أن للأشياء
خالقا حكيما قادرا فما يمنعه أن يدبر خلقه، فإنه لا يصلح في قياسهم أن يكون
الصانع يهمل صنعته إلا بإحدى ثلاث خلال إما عجز وإما جهل وإما شرارة،
وكل هذا محال في صنعته عز وجل، وتعالى ذكره، وذلك أن العاجز لا يستطيع
أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة، والجاهل لا يهتدي لما فيها من الصواب
والحكمة والشرير لا يتطاول لخلقها وإنشائها، وإذا كان هذا هكذا وجب أن
يكون الخالق لهذه الخلائق يدبرها لا محالة، وإن كان لا يدرك كنه ذلك التدبير
ومخارجه، فإن كثيرا من تدبير الملوك لا تفهمه العامة ولا تعرف أسبابه، لأنها لا
تعرف دخيلة أمر الملوك وأسرارهم فإذا عرف سببه وجد قائما على الصواب
والشاهد المحنة. ولو شككت بعض الأدوية والأطعمة فيتبين لك من جهتين
أو ثلاث إنه حار أو بارد، ألم تكن ستقضي عليه بذلك وتنفي الشك فيه عن
نفسك؟ فما بال هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخلق والتدبير مع هذه
الشواهد الكثيرة وأكثر منها ما لا يحصى كثرة ولو كان نصف العالم وما فيه
مشكلا صوابه، لما كان من حزم الرأي وسمت (1) الأدب أن يقضي على العالم
بالإهمال لأنه كان في النصف الآخر وما يظهر فيه من الصواب، واتقان ما يردع
الوهم عن التسرع إلى هذه القضية، فكيف وكلما فيه إذا فتش وجد على غاية
الصواب حتى لا يخطر بالبال شئ إلا وجد ما عليه الخلقة أصح وأصوب منه.
(اسم هذا العالم بلسان اليونانية)
واعلم يا مفضل أن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف

(1) السمت - بالفتح - الطريق والمحجة والجمع سموت.
116

عندهم (قوسموس) وتفسيره الزينة، وكذلك سمته الفلاسفة ومن ادعى
الحكمة، أفكانوا يسمونه بهذا الأسم إلا لما رأوا فيه التقدير والنظام فلم
يرضوا أن يسموه تقديرا ونظاما سموه زينة، ليخبروا انه مع ما هو عليه من
الصواب والاتقان، على غاية الحسن والبهاء.
(عمى ماني دلائل الحكمة وادعاؤه علم الأسرار)
اعجب يا مفضل من قوم لا يقضون على صناعة الطب بالخطأ، وهم
يرون الطبيب يخطئ، ويقضون على العالم بالإهمال، ولا يرون شيئا منه
مهملا، بل أعجب من أخلاق من ادعى الحكمة، حتى جهلوا مواضعها في
الخلق، فأرسلوا ألسنتهم بالذم للخالق جل وعلا.. بل العجب من
المخذول (ماني) حين ادعى علم الأسرار وعمي عن دلائل الحكمة في الخلق
حتى نسبه إلى الخطأ ونسب خالقه إلى الجهل تبارك الحكيم الكريم.
(انتقاد المعطلة فيما راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل)
وأعجب منهم جميعا (المعطلة) الذين راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك
بالعقل، فلما أعوزهم ذلك، خرجوا إلى الجحود والتكذيب، فقالوا ولم لا
يدرك بالعقل؟ قيل لأنه فوق مرتبة العقل، كما لا يدرك البصر ما هو فوق
مرتبته.. فإنك لو رأيت حجرا يرتفع في الهواء علمت أن راميا رمى به، فليس
هذا العلم من البصر، بل من قبل العقل، لأن العقل هو الذي يميزه،
فيعلم أن الحجر لا يذهب علوا من تلقاء نفسه.. أفلا ترى كيف وقف البصر
على حده، فلم يتجاوزه، فكذلك يقف العقل حده من معرفة الخالق فلا
يعدوه، ولكن يعقله بعقل أقر فيه نفسا ولم يعاينها، ولم يدركها بحاسة من
الحواس.
117

(معرفة العقل للخالق معرفة إقرار لا معرفة إحاطة)
وعلى حسب هذا أيضا نقول: إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب
عليه الاقرار، ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته.. فإن قالوا فكيف
يكلف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف، ولا يحيط به؟ قيل لهم إنما
كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه، وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره
ونهيه، ولم يكلفوا الإحاطة بصفته، كما أن الملك لا يكلف رعيته أن يعلموا
أطويل هو أم قصير، وأبيض هو أم أسمر، وإنما يكلفهم الاذعان لسلطانه،
والانتهاء إلى أمره. ألا ترى أن رجلا لو أتى باب الملك، فقال: أعرض علي
نفسك حتى اتقصى معرفتك، وإلا لم أسمع لك كان قد أحل نفسه
بالعقوبة... فكذا القائل أنه لا يقر بالخالق سبحانه، حتى يحيط بكنهه
متعرضا لسخطه.. فإن قالوا: أو ليس قد نصفه؟ فنقول هو العزيز الحكيم الجواد
الكريم؟ قيل لهم كل هذه صفات إقرار، وليست صفات إحاطة، فإنا نعلم أنه
حكيم، ولا نعلم بكنه ذلك منه، وكذلك قدير وجواد وسائر صفاته، كما قد نرى
السماء، فلا ندري ما جوهرها، ونرى البحر ولا ندري أين منتهاه، بل فوق هذا المثال
بما لا نهاية له، ولأن الأمثال كلها تقصر عنه، ولكنها تقود العقل إلى معرفته.. فإن
قالوا: ولم يختلف فيه؟ قيل لهم: لقصر الأوهام عن مدى عظمته، وتعديها
أقدارها في طلب معرفته، وأنها تروم الإحاطة به، وهي تعجز عن ذلك وما دونه.
(الشمس واختلاف الفلاسفة في وضعها وشكلها ومقدارها)
فمن ذلك هذه الشمس التي تراها تطلع على العالم ولا يوقف على حقيقة
أمرها.. ولذلك كثرت الأقاويل فيها، واختلفت الفلاسفة المذكورون في
وصفها، فقال بعضهم هو فلك أجوف مملوء نارا، له فم يجيش بهذا الوهج
118

والشعاع.. وقال آخرون هو سحابة.. وقال آخرون جسم زجاجي،
يقل نارية في العالم، ويرسل عليه شعاعها.. وقال آخرون هو صفو لطيف
ينعقد ماء البحر.. وقال آخرون هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار.. وقال
آخرون هو من جوهر خامس سوى الجواهر الأربعة: ثم اختلفوا في شكلها..
فقال بعضهم هي بمنزلة صفيحة عريضة.. وقال آخرون هي كالكرة
المدحرجة.. وكذلك اختلفوا في مقدارها.. فزعم بعضهم أنها مثل الأرض
سواء... وقال آخرون بل هي أقل من ذلك. وقال آخرون بل هي أعظم من
الجزيرة العظيمة. وقال أصحاب الهندسة هي أضعاف الأرض مائة وسبعين
مرة... ففي اختلاف هذه الأقاويل منهم في الشمس، دليل على أنهم لم يقفوا
على الحقيقة من أمرها، فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر،
ويدركها الحس، قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها، فكيف ما
لطف عن الحس واستتر عن الوهم؟.. فإن قالوا: ولم استتر؟ قيل لهم: لم
يستتر بحيلة يخلص إليها، كمن يحتجب من الناس بالأبواب والستور. وإنما
معنى قولنا استتر إنه لطف عن مدى ما تبلغه الأوهام، كما لطفت النفس.
وهي خلق من خلقه. وارتفعت عن إدراكها بالنظر.. فإن قالوا ولم لطف
تعالى عن ذلك علوا كبيرا؟ كان ذلك خطأ من القول، لأنه لا يليق بالذي هو
خالق كل شئ إلا أن يكون مباينا لكل شئ، متعاليا عن شئ سبحانه
وتعالى.
(الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء أربعة أوجه وتفصيل ذلك)
فإن قالوا: كيف يعقل أن يكون مباينا لكل شئ متعاليا عن كل شئ؟
قيل لهم: الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء هو أربعة أوجه، فأولها أن ينظر
أموجود هو أم ليس بموجود، والثاني أن يعرف ما هو في ذاته وجوهره؟ والثالث
أن يعرف كيف هو وما صفته؟ والرابع أن يعلم لماذا هو ولأي علة؟ فليس من
119

هذه الوجود شئ يمكن للمخلوق أن يعرفه من الخالق حق معرفته، غير أنه
موجود فقط. فإذا قلنا: وكيف وما هو؟ فممتنع علم كنهه. وكمال المعرفة
به. وأما لماذا هو؟ فساقط في صفة الخالق، لأنه جل ثناؤه علة كل شئ.
وليس شئ بعلة له، ثم ليس علم الإنسان بأنه موجود، يوجب له أن يعلم:
ما هو وكيف هو؟ كما أن علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم: ما هي وكيف
هي؟ وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة... فإن قالوا فأنتم الآن تصفون من
قصور العلم عنه وصفا، حتى كأنه غير معلوم؟ قيل لهم: هو كذلك من جهة
إذا رام العقل معرفة كهنه والإحاطة به، وهو من جهة أخرى أقرب من كل
قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية. فهو من جهة كالواضح لا يخفى على
أحد وهو من جهة كالغامض لا يدركه أحد، وكذلك العقل أيضا ظاهر
بشواهده ومستور بذاته.
(أصحاب الطبائع ومناقشة أقوالهم)
فأما (أصحاب الطبائع) فقالوا: إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى
ولا عما فيه تمام الشئ في طبيعته، وزعموا أن الحكمة تشهد بذلك، فقيل
لهم: فمن أعطى الطبيعة هذه الحكمة، والوقوف على حدود الأشياء بلا
مجاوزة لها، وهذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب؟ فإن أوجبوا
للطبيعة الحكمة والقدرة على مثل هذه الأفعال، فقد أقروا بما أنكروا، لأن هذه
في صفات الخالق. وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة، فهذا وجه الخلق يهتف
بأن الفعل للخالق الحكيم، وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير
في الأشياء، وزعموا أن كونها بالعرض والاتفاق وكان مما احتجوا به هذه الآيات
التي تكون على غير مجرى العرف والعادة كانسان يولد ناقصا أو زائدا أصبعا، أو
يكون المولود مشوها مبدل الخلق فجعلوا هذا دليلا على أن كون الأشياء ليس
بعمد وتقدير بل بالعرض كيف ما أتفق أن يكون؟. وقد كان
120

(ارسطاطاليس) (1) رد عليهم فقال إن الذي يكون بالعرض والاتفاق إنما هو
شئ يأتي في الفرط مرة لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها، وليس
بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية شكل واحد جريا دائما متتابعا.
وأنت يا مفضل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال
ومنهاج واحد، كالإنسان يولد وله يدان ورجلان وخمس أصابع، كما عليه
الجمهور من الناس، فأما ما يولد على خلاف ذلك، فإنه لعلة تكون في
الرحم، أو في المادة التي ينشأ منها الجنين، كما يعرض في الصناعات، حين
يتعمد الصانع الصواب في صنعته، فيعوق دون ذلك عائق في الأداة، أو في
الألة التي يعمل فيها الشئ، فقد يحدث مثل ذلك في أولاد الحيوان للأسباب
التي وصفنا، فيأتي الولد زائدا أو ناقصا أو مشوها، ويسلم أكثرها فيأتي سويا لا
علة فيه، فكما أن الذي يحدث في بعض أعمال الأعراض لعلة فيه لا يوجب
عليها جميعا الاهمال وعدم الصانع، كذلك ما يحدث على بعض الأفعال
الطبيعية لعائق يدخل عليها، لا يوجب أن يكون جميعها بالعرض والاتفاق،
فقول من قال في الأشياء أن كونها بالعرض والاتفاق من قبيل أن شيئا منها يأتي
على خلاف الطبيعة بعرض يعرض له خطأ وخطل... فإن قالوا: ولم صار مثل
هذا يحدث في الأشياء؟ قيل لهم ليعلم أنه ليس كون الأشياء باضطرار من
الطبيعة، ولا يمكن أن يكون سواه - كما قال القائلون - بل هو تقدير وعمد من
خالق حكيم، إذ جعل الطبيعة تجري أكثر ذلك على مجرى ومنهاج معروف،

(1) ارسطاطاليس لفظة يونانية معناها محب الحكمة ويقال ارسطو وهو إحدى الشخصيات العالمية
التي اشتهرت منذ قرون بعيدة، كان تلميذا لأفلاطون بعد أن خلفه على دار التعليم عند غيبته
إلى صقلية نظر في الفلسفة بعد أن أتى عليه من العمر (30) عاما. كان بليغ اليونانيين وأجل
علمائهم، كما كان من ذوي الأفكار العالية في الفلسفة، ويعرف بالمعلم الأول لأنه أول من
جمع علم المنطق ورتبه واخترع فيه، وقد عظم محله عند الملوك حتى أن الإسكندر الأكبر كان
يمضي الأمور عن رأيه، عاش سبعا وستين سنة، بعد أن توفي في خلكيس عام 322 قبل
الميلاد، وله كتب كثيرة في مختلف فروع العلم.
121

وتزول أحيانا عن ذلك، لأعراض تعرض لها، فيستدل بذلك أنها مصرفة
مدبرة فقيرة إلى إبداء الخالق وقدرته في بلوغ غايتها، وإتمام عملها، تبارك الله
أحسن الخالقين.
يا مفضل خذما آتيتك، واحفظ ما منحتك، وكن لربك من
الشاكرين، ولآلائه من الحامدين، ولأوليائه من المطيعين، فقد شرحت لك
من الأدلة على الخلق، والشواهد على صواب التدبير والعمد، قليلا من كثير،
وجزءا من كل، فتدبره وفكر فيه واعتبر به فقلت بمعونتك يا مولاي أقر على
ذلك، وأبلغه إن شاء الله.. فوضع يده صدري فقال احفظ بمشيئة
الله، ولا تنس إن شاء الله، فخررت مغشيا علي، فلما أفقت قال: كيف
ترى نفسك يا مفضل؟ فقلت: قد استغنيت بمعونة مولاي وتأييده عن
الكتاب الذي كتبته وصار ذلك بين يدي كأنما اقرأه من كفي، فلمولاي
الحمد والشكر كما هو أهله ومستحقه.
فقال: يا مفضل فرغ قلبك، وأجمع إليك ذهنك وعقلك وطمأنينتك
فسألقي إليك من علم ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله بينهما وفيهما
من عجائب خلقه، وأصناف الملائكة وصفوفهم ومقاماتهم ومراتبهم إلى
سدرة المنتهى، وسائر الخلق من الجن والإنس، إلى الأرض السابعة السفلى
وما تحت الثرى، حتى يكون ما وعيته جزءا. من أجزاء انصرف إذا شئت
مصاحبا مكلوءا، فأنت منا بالمكان الرفيع، وموضعك من قلوب المؤمنين
موضع الماء من الصدى ولا تسألن عما وعدتك حتى أحدث لك منه ذكرا.
قال المفضل: فانصرفت من عند مولاي
بما لم ينصرف أحد بمثله.
122