الكتاب: الفرج بعد الشدة
المؤلف: القاضي التنوخي
الجزء: ١
الوفاة: ٣٨٤
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٣٦٤ش
المطبعة: امير - قم
الناشر: منشورات الشريف الرضي - قم
ردمك:
ملاحظات: الأصل مأخوذ عن نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية / دار الطباعة المحمدية بالقاهرة

الفرج بعد الشدة
للقاضي أبي علي الحسن بن أبي القاسم التنوخي
(327 - 384)
الأصل مأخوذ عن نسخة خطية محفوظة
بدار الكتب المصرية
الجزء الأول
منشورات الرضى قم
1

الكتاب: الفرج بعد الشدة
المؤلف: للقاضي أبي علي المحسن ابن أبي القاسم التنوخي
الناشر: منشورات الشريف الرضى - قم
عدد الصفحات: الجزء الأول والجزء الثاني 518
عدد المطبوع: 1000 نسخه
الطبعة: الثانية
المطبعة: أمير - قم
سنة الطبع: 1364
2

ترجمة المؤلف
قال ابن خلكان: هو أبو علي المحسن بن أبي القاسم علي بن محمد بن أبي
الفهم داود بن إبراهيم بن تميم التنوخي. ولد ليلة الأحد لأربع بقين من شهر
ربيع الأول سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالبصرة. وسمع بها من أبي
العباس الأشرم، وأبي بكر الصولي، والحسين بن محمود بن عثمان. ونزل
ببغداد وأقام بها وحدث إلى حين وفاته.
وكان: سماعه صحيحا وأول سماعه الحديث في سنة ثلاث وثلاثين
وثلاثمائة، وكان من العلماء الحفاظ، والشعراء المجيدين وفيه يقول أبو عبد الله
ابن الحجاج الشاعر:
إذا ذكر القضاة وهم شيوخ * تخيرت الشباب على الشيوخ
ومن لم يرض لم أصفعه إلا * بحضرة سيدي القاضي التنوخي
وله ديوان شعر أكبر من ديوان أبيه.
له مؤلفات منها: كتاب الفرج بعد الشدة، وكتاب نشوان المحاضرة،
وكتاب المستجاد من فعلات الأجواد، وتولى القضاء من قبل أبي السائب
عتبة بن عبيد الله في بابل والقصر وما والاهما في سنة تسع وأربعين
وثلاثمائة، ثم ولاه الامام المطيع لله القضاء بعسكر مكرم وايذج ورامهرمز
وتقلد بعد ذلك أعمالا كثيرة في أماكن مختلفة ومن شعره قوله:
قل للمليحة في الخمار المذهب * أفسدت نسك أخي التقي المترهب
نور الخمار ونور خدك تحته * عجبا لوجهك كيف لم يتلهب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن * للحسن عن مذهبهما من مذهب
فإذا أتت عين لتسرق نظرة * قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي
3

وكتب رحمه الله تعالى إلى بعض الرؤساء في شهر رمضان:
نلت في ذا الصيام ما ترتجيه * وكفاك الاله ما تتقيه
أنت في الناس مثل شهرك في الأشهر * بل مثل ليلة القدر فيه
ومن شعره في بعض المشايخ وقد خرج ليستقي، وكان في السماء سحاب
فلما دعا أصحت السماء فقال أبو علي
خرجنا لنستسقي بيمن دعائه * وقد كان هدب الغيم أن يلحق الأرضا
فلما ابتدأ يدعو تكشفت السما * فما تم إلا والغمام قد انقضا
وكانت وفاته رحمه تعالى ببغداد ليلة الاثنين لخمس بقين من المحرم
سنة أربع وثمانين وثلاثمائة
4

بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب
الحمد لله الذي جعل بعد الشدة فرجا، ومن الضيق سعة ومخرجا، ولم
يخل محنة من منحة، ولا نقمة من نعمة، ولا نكبة ورزية، من موهبة
وعطية، وصلى الله على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله الطيبين
الطاهرين.
(أما بعد): فانى لما رأيت أبناء الدنيا متقلبين فيها بين خير وشر،
ونفع وضر، ولم يكن لهم في أيام الرخاء، أنفع من الشكر والثناء، ولا في
أيام البلاء، أنجع من الصبر والدعاء، لان من جعل الله عمره أطول من محنته،
فإنه سيكشفها عنه بطوله ورأفته، فيصير ما هو فيه من الأذى، كما قال بعض
من مضى، ويروى للأغلب العجلي أو غيره:
الغمرات ثم ينجلينا * ثمت يذهبن فلا يجينا
وطوبى لمن وفق في الحالين، للقيام بالواجبين. وجدت من أقوى
ما يفزع إليه، من أناخ الدهر بمكروهه عليه، قراءة الاخبار التي تنبئ عن
تفضل الله عز وجل على من حصل قبله في محصله، ونزل به مثل بلائه
ومعضله، بما أتاحه الله تعالى له من صنيع أسهل به الأرزاق، ومعونة حل
بها الخناق، ولفظ غريب نجاه، وفرج عجيب أنقذه وتلافاه، وإن خفيت
من ذلك الأسباب، ولم يبلغ ما حدث منه الفكر والحساب، فان في معرفة
الممتحن بذلك تشحيذ بصيرته للصبر، وتقوية عزيمته على التسليم لله مالك
كل أمر، وتصويب رأيه في الاخلاص، والتفويض إلى من بيده ملك
النواص، وكثيرا إذا علم الله تعالى من وليه وعبده، انقطاع آماله إلا من
5

عنده، لم يكله إلى سعيه وجهده، ولم يرض له باحتماله وطوقه، ولم يخله
من عنياته ورفقه، وأنا بمشيئة الله تعالى جامع في هذا الكتاب، أخبارا
من هذا الجنس والباب، أرجو به انشراح صدور ذوي الألباب، عندما
يدهمهم من شدة ومصاب، إذ كنت قد قاسيت من ذلك في محن
دفعت إليها ما يحنو بي على الممتحنين، ويحدو بي على بذل الجهد في تفريج
غموم المكروبين، وكنت قد وقفت في بعض محنى على خمس أو ست أوراق
جمعها أبو الحسن علي بن محمد المدايني، وسماها: " كتاب الفرج بعد الشدة
والضيق " وذكر فيها أخبارا تدخل جميعها في هذا المعنى فوجدتها حسنة ولكنها
لقلتها نموذج صغير، ولم يأت بها مؤتلفة، ولا سلك بها سبيل الكتب المصنفة،
ولا الأبواب الواسعة المؤلفة، مع اقتداره على ذلك، ولا أعلم غرضه في
التقصير، ولعله أراد أن ينهج طريق هذا الفن من الاخبار، ويسبق إلى
فتح الباب فيه بذلك المقدار، وينقل جميع ما عنده فيه من الآثار.
ووقع إلى كتاب لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا قد سماه:
" كتاب الفرج بعد الشدة ". في نحو عشرين ورقة والغالب فيه أحاديث
عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأخبار عن الصحابة والتابعين
رحمهم الله تعالى يدخل بعضها في معنى طلبته، ولا يخرج عن قصده وبغيته
وباقيها أحاديث وأخبار في الدعاء والصبر، والأرزاق، والتوكل،
والتعرض، للشدائد بذكر الموت، وما يجرى مجرى التعازي ويتسلى به عن
طوارق الهموم، ونوازل الاحداث والغموم، ويستحق عليها من الثواب
في الأخرى، مع التمسك بالحزم في الأولى. وهو عندي خال من ذكر فرج
بعد شدة، غير مستحق أن يدخل في كتاب مقصور على هذا الفن، وضمن
الكتاب نبذا قليلة من الشعر، وروى فيه شيئا يسيرا جدا مما ذكره المدايني،
إلا أنه جاء به بلا اسناده له الا عن المدايني.
وقرأت أيضا كتابا للقاضي أبى لحسين عمر بن القاضي أبى عمرو محمد بن
يوسف القاضي رحمهم الله في مقدار خمسين ورقة قد سماه: " كتاب الفرج
بعد الشدة ". أودعه أكثر ما رواه المدايني وجمعه وأضاف إليه أخبارا أخر
6

أكثرها حسنة وفيها ما هو غير مماثل عندي لما عناه، ولا مشاكل لما نحاه، وأتى
في أثنائها بأبيات شعر يسيرة، من معادن لا مثالها جمة كثيرة، ولم يلم بما أورده
ابن أبي الدنيا، ولا أعلم تعمد ذلك أم لم يقف على الكتاب؟! ووجدت أبا بكر
ابن أبي الدنيا والقاضي أبا الحسين لم يذكرا للمدايني كتابا في هذا المعنى، فإن لم
يكونا عرفا هذا فهو طريف، وان كانا تعمدا ترك ذكره تثقيفا لكتابيهما
وتغطية على كتاب الرجل فهو أطرف، ووجدتهما قد استحسنا استعارة لقب
كتاب المدايني على اختلافهما في الاستعارة، وحيدهما عن أن يأتيا بجميع
العبارة، فتوهمت أن كل واحد منهما لما زاد على قدر ما أخرجه المدايني اعتقد
أنه أولى منه بلقب كتابه، فإن كان هذا الحكم ماضيا، والصواب به قاضيا،
فيجب أن يكون من زاد عليهما أيضا فيما جمعاه أولى منهما بما تعبا في تصنيفه
ووضعاه، فكان هذا من أسباب نشاطي لتأليف كتاب يحتوي من هذا
الفن على أكثر مما جمعه القوم، وأبين للمعنى، واكشف وأوضح وان خالف
مذهبهم في التصنيف، وعدل عن طريقهم في الجمع والتأليف، فإنهم
نسقوا ما أوعدوه كتبهم جملة واحدة، وربما صادقت مللا من سامعها، أو
وافقت سآمة من الناظرين فيها، فرأيت أن أنوع الاخبار واجعلها أبوابا،
ليزداد من يقف على الكتب الأربعة بكتابي من بينها اعجابا، وأن أضع ما في
الكتب الثلاثة في مواضعه من أبواب هذا الكتاب، إلا ما اعتقد أنه يجب
ان لا يدخل فيه، وأن تركه وتعديه أصوب وأولى. والتشاغل بذكر غيره مما
هو أدخل في هذا المعنى ولم يذكره القوم أليق وأحرى، وأن أعزو ما أخرجه
مما في الكتب الثلاثة إلى مؤلفيها تأدية للأمانة، واستيثاقا في الرواية، وتبيينا
لما آتي به من الزيادة، وتنبيها على موضع الإفادة، فاستخرت الله عز وجل
ذكره، وبدأت بذلك في هذا الكتاب ولقبته بكتاب: " الفرج بعد الشدة ".
تيمنا لقارئه بهذا المقال، وليستسعد في ابتدائه بهذا الفال، ولم أستبشع
إعادة هذا اللقب، ولم احتشم تكريره على ظهور الكتب، لأنه قد صار جاريا
مجرى تسمية رجل ابنه محمدا أو محمودا، أو سعدا، أو مسعودا، وليس لقائل
مع التداول لهذين الاسمين أن يقول لمن سمى بهما الآن: انك انتحلت هذا
7

الاسم أو سرقته. ووجدتني متى أعطيت كتابي هذا حقه من الاستقصاء،
وبلغت به حده في الاستيفاء، جاء في ألوف أرواق لطول ما مضى من الزمان
وان الله سبحانه وتعالى بحكمته أجرى فيه أمور عباده منذ خلقهم، وإلى أن
يقبضهم على التقلب بين شدة ورخاء، ورغد وبلاء، وأخذ وعطاء، ومنع وصنع
وضيق ورحب، وفرج وكرب، علما منه تعالى بعواقب الأمور، ومصلحة
الكافة والجمهور، فأخبار ذلك كثيرة المقدار، عظيمة الترداد والتكرار،
وليست كلها بمستحسنة ولا مستفادة، ولا مستطابة الذكر والإعادة،
فاقتصرت على أحسن ما رويته من هذه الأخبار، وأصح ما بلغني في معانيها
من الآثار، واملح ما وجدت في فنونها من الاشعار، وجعلت قصدي إلى
الايجاز والاختصار، واسقاط الحشو وترك الاكثار وإن كان المجتمع
من ذلك جملة يستطيلها الملول، ولا يتفرغ لقرائتها المشغول، وأنا راغب
إلى من يصل كتابي هذا إليه، وينشط للوقوف عليه، أن يصفح عما يعثر به
من زلل، ويصلح ما يجد فيه من خطأ أو خلل، والله اسأل السلامة من
المعاب، والتوفيق لبلوغ المحاب والارشاد إلى الصواب، ويفعل الله ذلك
بكرمه انه جواد وهاب.
8

الباب الأول
فيما أنبأ الله تعالى به في القرآن من ذكر الفرج بعد البؤس والامتحان
قال الله تعالى وهو أصدق القائلين وقوله الحق اليقين بسم الله الرحمن
الرحيم: (ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي انقض ظهرك *
ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا فإذا فرغت
فانصب * وإلى ربك فارغب (1) فهذه السورة كلها مفصحة بأذكار الله عز وجل
رسوله صلى الله عليه وسلم منته عليه في شرح صدره بعد الغم والضيق
ووضع وزره عنه، وهو الاثم بعد أنقاض الظهر، وهو الثقل الذي أثقله
لنقض العظام كما ينتقض البيت إذا صوت للوقوع. ورفع جل جلاله ذكره
بعد أن لم يكن بحيث جعله مذكورا معه، والبشارة له في نفسه عليه الصلاة
والسلام وفى أمته بأن مع اليسر الواحد يسرين إذا رغبوا إلى الله تعالى ربهم
وأخلصوا له طاعاتهم ونياتهم وقال الله تعالى: (سيجعل الله بعد عسر يسرا (2)
(ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على
الله فهو حسبه (3) وقال جل ثناؤه: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على
عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه - إلى
قوله - اعلم أن الله على كل شئ قدير (4) فأخبر الله تعالى ان الذي مر على
القرية استبعد أن يكشف الله عنها وعن أهلها البلاء بقوله: (أنى يحيى هذه
الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه) إلى آخر القصة فلا شدة أشد من
الموت والخراب، ولا فرج أفرج من الحياة أو العمارة. فأعلمه الله تعالى بما فعله
به أنه لا يجب أن يستبعد فرجا من الله وصنعا كما عمل به، وانه قادر على
أن يحيى القرية وأهلها كما أحياه الله تعالى فأراه بذلك آياته ومواضع صنعه
وقال جل ثناؤه: (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه (5)

(1) الشرح 1 - 8.
(2) الطلاق 7 و 2 - 3
(3) الطلاق 7 و 2 - 3
(4) البقرة 259
(5) الزمر 36
9

وقال سبحانه: (وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما
كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا
يعملون (1) وقال جل من قائل: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا
كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف
وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين
لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين (2) وقال جل من قائل (قل من
ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجينا من هذه
لنكونن من الشاكرين * قال الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (3)
وقال جل ثناؤه: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو
لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من
بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد (4) وقال جل ذكره: (ونريد أن
نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن
لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (5)
وقال جل من قائل: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم
خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون (6) وقال تعالى: (وقال ربكم
ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم
داخرين (7) وقال تعالى: (وأفوض أمرى إلى الله إن بصير بالعباد * فوقاه الله
سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب (8)) وقال تعالى: (وإذا
سألك عبادي عنى فانى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي
وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (9) وقال تعالى: (ولنبلونكم بشئ من الخوف
والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا
أصابتهم مصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من

(1) يونس 12 و 22
(2) يونس 12 و 22
(3) الانعام 63 و 64
(4) إبراهيم 13 و 14
(5) القصص 5 و 6
(6) النحل 62
(7) المؤمن 60
(8) المؤمن 44 و 45
(9) البقرة 186
10

ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (1) وقال عز من قائل: (الذين قال لهم
الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم
الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله
والله ذو فضل عظيم (2)
وروى عن الحسن البصري رضى الله تعالى عنه أنه قال: عجبا لمكروب
غفل عن خمس وقد عرف ما جعل لمن قالهن. قوله: (ولنبلونكم بشئ من
الخوف والجوع إلى - قوله - هم المهتدون (3) وقوله تعالى: (وأفوض أمرى
إلى الله إن الله بصير بالعباد * فوقاه الله سيئات ما مكروا (4) وقوله تعالى:
(وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات
أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من
الغم وكذلك ننجي المؤمنين (5) وقوله: (الذين قال لهم الناس إن الناس
قد جمعوا لكم فاخشوهم - إلى قوله - والله ذو فضل عظيم (6) وقوله تعالى:
(وأيوب إذ نادى ربه أنى مسني الضر - إلى قوله - وذكرى للعابدين (7))
وروى عن الحسن البصري رضي الله عنه أيضا أنه قال: من لزم قراءة هذه
الآيات في الشدائد كشفها الله تعالى عنه، لأنه قد وعد وحكم فيهن بما جعله
لمن قالهن وحكمه تعالى لا يبطل، ووعده لا يخلف. وقد ذكر تعالى فيما قصه
من أخبار الأنبياء شدائد ومحنا استمرت على جماعة منهم وضروبا جرت
عليهم من البلاء فأعقبها بفرج وتخفيف، وتداركهم منها بصنع جليل لطيف.
فأول ممتحن منهم آدم عليه السلام أبو البشر فان الله جل جلاله خلقه في الجنة
وعلمه الأسماء كلها وأسجد الملائكة له، ونهاه عن أكل الشجرة. فوسوس له
الشيطان، فكان منه ما قاله الرحمن في محكم القرآن: (وعصى آدم ربه فغوى ثم
اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (8) هذا بعد أن أهبطه من الجنة إلى الأرض

(1) البقرة 155 - 157
(2) آل عمران 173 و 174
(3) البقرة 155
(4) المؤمن 44 و 45
(5) الأنبياء 87
(6) آل عمران 173
(7) الأنبياء 83
(8) طه 118
11

وأفقده لذيذ ذلك الخفض، فانتقضت عادته، وغلظت محنته، وقتل أحد ابنيه
الآخر، وكانا أول أولاده. فلما طال حزنه وبكاؤه، واتصل استغفاره
ودعاؤه، رحم الله تذلله وخشوعه، واستكانته ودموعه، فتاب عليه وهداه
وكشف ما به ونجاه فكان آدم صلى الله عليه وسلم أول من دعا فأجيب،
وامتحن فأثيب، وخرج من ضيق وكرب، إلى سعة ورحب، وسكن
همومه، ونسي غمومه، وأيقن بتجديد الله تعالى له النعم، وإزالته عنه النقم،
وانه تعالى إذا استرحم رحم، فأبدله الله تعالى هذا بتلك الشدائد، وعوضه
بدل الابن المفقود والابن العاق الموجود نبي الله شيثا عليه السلام وهو
أول أولاده البررة بالوالدين، ووالد النبيين والصالحين، وأبو الملوك الجبارين
وجعل ذريته هم الباقين وخصهم من النعم بما لا يحيط به وصف الواصفين
وقد جاء في القرآن من الشرح لهذه الجملة والبيان، مالا يحتمل ذكره هذا
المكان، وقد روى فيه من الاخبار، مالا وجه للإطالة به والاكثار.
ثم نوح عليه السلام فإنه امتحن بخلاف قومه عليه، وعصيان ابنه له، والطوفان
العام، وركوب السفينة وهي تجرى بهم في موج كالجبال، واعتصام ابنه بالجبل
وتأخره عن الركوب معه. فقاسى نوح بذلك الشدائد، فأعقبه الله تعالى الخلاص
من تلك الأهوال بالتمكين له في الأرض، وبغيض الطوفان وجعله شبه آدم
عليه الصلاة والسلام، لأنه أنشأ منه ثانيا جميع البشر كما أنشأهم أولا من آدم
فلا ولد لآدم إلا من نوح عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: (ولقد
نادانا نوح فلنعم المجيبون، ونجيناه وأهله من الكرب العظيم * وجعلنا ذريته
هم الباقين، وتركنا عليه في الآخرين (1). (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا
له ونجيناه وأهله من الكرب العظيم (2)
ثم إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وما وقع له من كسر الأصنام، وما
لحقه من قومه من محاولة احراقه، فجعل الله النار عليه بردا وسلاما.

(1) الصافات 75 - 78
(2) الأنبياء 76
12

وقال تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (1)
ثم اقتص قصته في قوله تعالى: (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم
فاعلين، قلنا: يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا
فجعلناهم الأخسرين * ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين * - إلى
قوله تعالى - وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا (2) وما كلفه الله تعالى إياه من مفارقة
وطنه بالشام لما غارت عليه سارة من أم ولده هاجر، فهاجر بها وبابنه منها
إسماعيل الذبيح عليه السلام فأسكنهما بواد غير ذي زرع، نازحين بعيدين
منه، حتى أنبع الله عز وجل لهما الماء، وتابع عليهما النعماء، وأحسن لإبراهيم
فيهما الصنع. والفائدة النفع. وجعل لإسماعيل النسل والنبوة والعدد والملك
هذا بعد أن كان أمر سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام أن يجعل ابنه
إسماعيل لسبيل الذبح. قال الله تعالى فيما اقتصه من ذكره في سورة الصافات:
(فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إني أرى في المنام
انى أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت أفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء
الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت
الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم *
وتركنا عليه في الآخرين (3) فلا بلاء أعظم من بلاء شهد الله جل ثناؤه أنه بلاء
مبين، وهو تكليف إنسان أن يجعل سبيل الذبح ابنه وتكليفه هو والمذبوح
أن يؤمنا ويصبرا ويسلما ويحتسبا. فلما أديا ما كلفا من ذلك وعلم الله جل
جلاله منهما صدق الايمان، والصبر، والتسليم، والاذعان، فدى الابن
بذبح عظيم، وخصلهما من تلك الشدائد الهائلة
ومن هذا الباب قصة لوط عليه السلام لما نهى قومه عن الفاحشة
فعصوه وكذبوه، وتضييفه الملائكة عليهم السلام فطالبوه بما طالبوه

(1) الأنبياء 51
(2) الأنبياء 68 - 72
(3) الصافات 101 - 108
13

فخسف الله تعالى بهم أجمعين، ونجى لوطا وأثابه ثواب الشاكرين، وقد
نطق بهذا كلام الله العظيم في مواضع من الذكر الحكيم
ويعقوب ويوسف عليهما السلام، فقد أفرد الله تعالى بذكر شأنهما وعظم
بلواهما وامتحانهما سورة محكمة بين فيها حسد إخوة يوسف له على المنام الذي
بشره الله فيه بغاية الاكرام، حتى طرحوه في الجب فخلصه الله تعالى منه بمن
أدلى الدلو ثم استعبد، فألقى الله عز وجل في قلب من صار إليه إكرامه واتخاذه
ولدا، ثم مراودة امرأة العزيز إياه عن نفسه، وعصمة الله له منها وكيف
جعل عاقبته بعد الحبس إلى ملك مصر، وما لحق يعقوب من العمى لفرط البكاء
وما لحق إخوة يوسف من التسريق وحبس أحدهم نفسه حتى يأذن له أبوه،
أو يحكم الله له، وكيف أنفذ يوسف عليه السلام إلى أبيه عليه السلام قميصه
حتى رده الله عز وجعل به بصيرا، وجمع بينهم وجعل كل واحد منهم بالنعمة
مرسورا.
وأيوب عليه السلام وما امتحن به من الأسقام وعظم اللاواء،
والدود، والادواء، وقد جاء القرآن الكريم بذكره، ونطقت الاخبار
بشرح أمره قال الله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أنى مسني الضر وأنت
أرحم الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثله
معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (1)
ويونس عليه السلام وما اقتص الله عز وجل من قصته في غير
موضع من كتابه العزيز ذكر فيها التقام الحوت له وتسبيحه في بطنه
وكيف نجاه الله تعالى وأعقبه بالرسالة والصنع قال الله تعالى: (وإن يونس
لمن المرسلين، إذ ابق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين - إلى

(1) الأنبياء 83
14

قوله - فمتعناهم إلى حين (1)) ومنها قوله (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن
أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت
من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين (2)
قال بعض المفسرين معنى: أن لن نقدر عليه أي نضيق عليه وهذا مثل
قوله تعالى: (ومن قدر عليه رزقه (3) أي من ضيق عليه رزقه ومثل قوله
تعالى: (قل) إن ربى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم
من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين (4) وقد جاء قدر في القرآن بمعنى
ضيق في مواضع كثيرة. ومن هذا قيل للفرس الضيق الخطو فرس أقدر. لأنه
لا يجوز أن يهرب من الله تعالى نبي من أنبيائه، ومن ظن أن الله تعالى لا يقدر
عليه أي لا يدركه، وأنه يعجز الله هربا فقد كفر. والأنبياء عليهم السلام أعلم
بالله سبحانه من أن يظنوا فيه هذا الظن الذي هو كفر. وقد روى أنه من
أدام قراءة (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى
في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين - إلى قوله -
ننجي المؤمنين (5)) في الصلاة وغيرها في أوقات شدائده عجل الله له الفرج،
وأنا أحد من واظبتها في نكبة عظيمة لحقتني يطول ذكرها عن هذا الموضع
وقد كنت حبست وهددت بالقتل، ففرج الله سبحانه وتعالى عنى وأطلقت
في اليوم التاسع من حين قبضت.
وموسى بن عمران عليه الصلاة والسلام فقد نطق القرآن بقصصه في
غير موضع منها قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا
خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه
من المرسلين * - إلى قوله - ولكن أكثرهم لا يعلمون (6)) فلا شدة أعظم
من أن يبتلى الناس بملك يذبح أبناءهم، حتى ألقت أم موسى ابنها في البحر،

(1) الصافات 139 - 148
(2) الأنبياء 87
(3) الطلاق 7
(4) سبأ 39
(5) الأنبياء 88
(6) القصص 7 - 13
15

ولا شدة أعظم من حصول طفل في بحر فكشف الله سبحانه ذلك عنه
بالتقاط آل فرعون له، وما ألقاه في قلوبهم من الرأفة عليه حتى استحبوه،
وحرم عليه المراضع حتى رده إلى أمه وكشف عنها الشدة في فراقه وعنه الشدة
في حصوله في البحر. ومعنى قوله تعالى: (ليكون لهم عدوا وحزنا (1)
أي يصير عاقبة أمره معهم إلى عداوته لهم وهذه لا العاقبة كما قال الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب * وكلكم يصير إلى ذهاب
وقد علم أن الولادة لا يقصد بها الموت، والبناء لا يقصد به الخراب وإنما
عاقبة الامر فيهما أن يصيرا إلى ذلك. وعلى الوجه الأول قوله تعالى: (ولقد
ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس (2) أي عاقبة أمرهم وفعلهم واختيارهم
لأنفسهم يصيرهم إلى جهنم فيصيرون لها، لا أن الله جل ثناؤه خلقهم لقصد
تعذيبهم بالنار في جهنم عز الله تعالى عن الظلم. وقال عز وجل في تمام هذه
القصة: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملا يأتمرون
بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين، فخرج منها خافا يترقب قال رب
نجنى من القوم الظالمين (3) فهذه شدة أخرى كشفها الله تعالى عنه وقال سبحانه
وتعالى: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون - إلى قوله - من
خير فقير (4) فهذه شدة أخرى لحقته بالاغتراب والحاجة إلى الاضطرار في
المعيشة والاكتساب فوفق الله له شعيبا عليه السلام وزوجه ابنته قال الله
تعالى في تمام القصة: (فجاءته إحداهما تمشى على استحياء قالت إن أبى
يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف.
نجوت من القوم الظالمين (5)
ثم أخبر الله تعالى في هذه القصة كيف زوجه شعيب ابنته بعد أن
استأجره ثماني حجج، وانه خرج بأهله من عند شعيب فرأى النار فمضى
ليقتبس منها فكلمه الله تعالى وجعله نبيا وأرسله إلى فرعون، فسأله أن

(1) القصص 8
(2) الأعراف 23
(3) القصص 20 و 21
(4) القصص 23 و 24
(5) القصص 25
16

يرسل معه أخاه هارون فشد الله عضده به وجعله نبيا معه، فأي فرج أحسن
من فرج من أتى خائفا هاربا فقيرا قد آجر نفسه ثماني حج فجوزي
بالنوبة والملك قال الله تعالى: (وقال الملا من قوم فرعون أتذر موسى
وقومه ليفسدوا في الأرض، ويذرك وآلهتك. قال سنقتل أبناءهم ونستحيي
نساءهم وإنا فوقهم قاهرون (1) فهذه شدة أخرى لحقت بني إسرائيل
فكشفها الله تعالى عنهم. قال الله تعالى: (وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في
قومي وأصلح (2). (وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبرا إن الأرض
لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا
ومن بعدما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض
فينظر كيف تعلمون (3) وقال تعالى: (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل
بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون (4).
فأخبر تعالى عن صنعه لهم وفلقه البحر لبنى إسرائيل حتى عبروه يبسا، واغراقه
فرعون لما تبعهم فكل ذلك أخبار عن محن عظيمة انجلت بمنح جليلة لا يؤدى
شكر الله عليها ويجب على العاقل تأملها ليعرف كنه تفضل الله بكشف الشدائد
وإغاثته بإصلاح كل فاسد لمن تمسك بطاعته، وأخلص في خشيته. وأصلح
من نيته، ليسلك من هذه السبيل، فإنها إلى النجاة من المكاره أوضح
طريق وأهدى دليل. وذكر سبحانه وتعالى في (والسماء ذات البروج (5)
أصحاب الأخدود، وروى قوم من أهل الملل المخالفة للاسلام عن كتبهم أشياء
في ذلك فذكرت اليهود: ان أصحاب الأخدود كانوا دعاة إلى الله تعالى وإن ملك
بلدهم أضرم لهم نارا وطرحهم فيها فاطلع الله على صبرهم، وخلوص نياتهم
في دينهم وطاعتهم له فأمر النار أن لا تحرقهم فشوهدوا فيها قعودا وهي
تضرم عليهم ولا تحرقهم ونجوا منها، وجعل الله دائرة السوء على الملك فأهلكه.

(1) الأعراف 127
(2) الأعراف 142
(3) الأعراف 128 و 129
(4) الأعراف 137
(5) البروج 1
17

وذكر هؤلاء الفوم أن نبيا كان في بني إسرائيل بعد موسى عليه الصلاة
والسلام بزمان طويل يقال له دانيال، وان قومه كذبوه فأخذه ملكهم
بختنصر فقدمه إلى أسدين كان يجوعهما في جب فلما علم الله تعالى حسن
اتكاله عليه، وصبره طلبا لما لديه. أمسك عنه أفواه الأسدين حتى قام
على رؤسهما برجليه وهي مذللة له غير ضارة فبعث الله تعالى أرميا من الشام
حتى خلص دنيال من هذه الشدة وأهلك من أراد هلاك دانيال.
وعضدت روايتهم أشياء رواها أصحاب الحديث منها: ما حدثوني عن
عبد الله بن أبي الهذيل قال: إن بختنصر جوع أسدين وأطلقهما في جب وجاء
بدانيال فألقاه عليهما فلم يهيجاه فمكث ما شاء الله، ثم اشتهى ما يشتهى
الآدميون من الطعام والشراب فأوحى الله تعالى إلى أرميا وهو بالشام أن
أعدد طعاما وشرابا لدانيال. فقال يا رب: أنا بالأرض المقدسة، ودانيال
بأرض بابل من أرض العراق. فأوحى الله إليه أن أعدد ما أمرتك به
فسأرسل إليك من يحملك ويحمل ما أعددت ففعل، فأرسل الله إليه من حمله
وحمل ما أعد حتى وقف على رأس الجب. فقال دنيال: من هذا؟ قال: أنا
أرميا. قال ما جاء بك؟ قال: أرسلني إليك ربك. قال: وقد ذكرني؟
قان نعم. قال دنيال:
" الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي لا يخيب من دعاه،
والحمد لله الذي من توكل عليه كفاه، والحمد لله الذي من وثق به لم يكله إلى
غيره، والحمد لله الذي يجزى بالصبر نجاة، والحمد لله الذي هو يكشف
ضرنا وكربتنا، والحمد الله الذي هو يقيننا ورجاؤنا حين تنقطع الحيل عنا،
والحمد لله الذي هو ثقتنا حين تسوء ظنوننا بأعمالنا "
وقد ذكر الله تعالى في محكم التنزيل الشدة التي جرت على سيدنا محمد
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار فيما اقتصه من قصة الغار فقال
سبحانه وتعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني
18

اثنين إذ هما في الغار - إلى قوله - والله عزيز حكيم (1)) وروى أن النبي
صلى الله عليه وسلم لما خاف أن تلحقه المشركون حين سار عن مكة دخل
الغار هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه فاستخفيا فيه فأرسل الله تعالى
عنكبوتا فنسج في الحال على باب الغار، وحمامة عششت وباضت وأفرخت
للوقت، فلما انتهى المشركون إلى الغار ورأوا ذلك لم يشكوا أنه غار لم
يدخله أحد منذ حين، وإن النبي صلى الله عليه وسلم " وأبا بكر رضي الله عنه
لير ان أقدامهم ويسمعان كلامهم، فلما انصرفوا وبعدوا وجاء الليل خرجا
فصارا نحو المدينة فورداها سالمين.
وروى أصحاب الحديث أيضا في شرح حال النبي صلى الله عليه وسلم
في المحن التي لحقته من المشركين من شق الفرث عليه، ومحاولة أبى جهل،
وشيبة وعتبة ابني ربيعة، وأبى سفيان بن حرب، والعاص بن وائل، وعقبة
ابن أبي معيط وغيرهم لعنهم الله تعالى قتله وما كانوا يكاشفونه به من السب،
والتكذيب، والاستهزاء، والتأنيب ورميهم له صلى الله عليه وسلم بالجنون،
وقصدهم إياهم غير دفعة بأنواع الأذى، والفضيحة والافتراء، وحصرهم إياه
صلى الله عليه وسلم وجمعهم بني هاشم في الشعب وتخويفهم إياه، وتدبيرهم
أن يقتلوه حتى بعد، وبيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مكانه وعلى
فراشه ما يطول ذكره واقتصاصه، ويكثر شرحه، ثم أعقبه الله عز وجل
من ذلك بالنصر والتمكين، وإعزاز الدين وإظهاره على كل دين، وقمع
الجاحدين والمشركين، وقتل أولئك الكفرة المعادين والمعاندين، وغيرهم
من المكذبين الكاذبين الذين كانوا عن الحق ناكثين، وبالدين مستهزئين،
وللمؤمنين ناصبين متوعدين، وللنبي صلى الله عليه وسلم مكاشفين محاربين،
وأذل من بقي منهم بعز الاسلام، بعد أن عاد بإظهاره، وأضمر الكفر
في إسراره، فصار من المنافقين الملعونين، والحمد لله رب العالمين.

(1) التوبة 40
19

فهذه أخبار جاءت في آيات من القرآن.. نفع الله بها وينفع بها غير
إنسان. وهي تجرى في هذا الباب وتنضاف إليه، وروى عن أبي ذر رضي الله عنه
أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية (ومن يتق الله
يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه
إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا (1) ثم يقول: يا أبا ذر:
" لو أن الناس كلهم أخذوا بذلك لكفاهم ".
حدثنا علي بن أبي طالب باسناده قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: إن بنى فلان أغاروا على فذهبوا يا بنى وإبلي، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: إن آل محمد لكذا وكذا ما في بيتهم مد من طعام فاسأل
الله تعالى. فرجع إلى امرأته فقالت له: ما قال لك؟ فأخبرها. فقالت: نعم
ما ردك إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما لبث أن رد الله عليه إبله أوفر
مما كانت وابنه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فصعد النبي صلى الله
عليه وسلم المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأمر الناس مسألة الله عز وجل
والرجوع إليه والرغبة وقراءة (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * يرزقه من
حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل
الله لكل شئ قدرا (1).
وسئل أبو الدرداء عن هذه الآية (كل يوم هو في شأن (2) فقال:
سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من شأنه يغفر ذنبا، ويكشف
كربا، ويرفع أقواما، ويصنع آخرين.
وأخبرني محمد بن الحسن بإسناد طويل قال، سمعت سعيد بن عنبسة
يقول: بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصا ويحذف به إذ رجعت حصاة
منها عليه فصارت في أذنه فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها فبقيت
الحصاة في أذنه مدة وهي تؤلمه فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئا يقرأ

(1) الطلاق 2 و 3
(2) الرحمن 29
20

(أمن يجيب المضطر إذا دعاه (1)) الآية. فقال الرجل يا رب أنت المجيب
وأنا المضطر، فاكشف عنى ضر ما أنا فيه. فنزلت الحصاة من أذنه في الحال.
وروى أن أبا عبيدة حصر فكتب إليه عمر رضى اله عنه: مهما نزل
بامرئ من شدة يجعل الله بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وأنه يقول
عز وجل: (اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم
تفلحون (2)).
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن يونس عليه السلام
حين بدا له أن يدعو الله بالكلمات حين ناداه وهو في بطن الحوت فقال:
" اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إن كنت من الظالمين " فأقبلت الدعوة نحو
العرش فقالت الملائكة: يا رب هذا صوت ضعيف مكروب من بلاد
غريبة. قال أما تعرفون ذلك؟ قالوا: لا يا رب. قال: ذلك عبدي يونس،
قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل نرفع له عملا صالحا متقبلا ودعوة مستجابة؟
قال: نعم. قالوا يا رب: أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فننجيه من البلاد؟
قال: بلى، فأمر الحوت فطرحه بالعراء، وقال أبو صخر: فأخبرني أبو سقيط
وأبوه حدثه بهذا الحديث أنه سمع أبا هريرة يقول: طرح بالعراء فأنبت الله
عليه اليقطينة. قلنا: وما اليقطينة؟ قال شجرة الدبا. قال أبو هريرة: وهيأ
الله له أرنبة وحشية تأكل من حشائش الأرض وتجئ فتفشح عليه وترويه
من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت جلده، وقال أمية بن أبي الصلت قبل الاسلام
في ذلك شعرا:
فأنبت يقطينا عليه برحمة * من الله لولا الله القى ضاحيا
وروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لما ابتلع الحوت
يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار البحر فسمع يونس عليه السلام تسبيح
الحصا وهو في ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل
(فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من

(1) النمل 62
(2) آل عمران 200
21

الظالمين (1)) قال الله عز وجل: (فنبذناه بالعراء وهو سقيم (2)) قال:
كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس له ريش.
حدثني فتى من الكتاب البغداديين يعرف بأبي الحسن بن أبي الليث وكان
أبوه من كتاب الجند يتصرف مع اشكرون بن سهلان الديلمي أحد الامراء
في عسكر معز الدولة بن أحمد بن بويه قال: قرأت في بعض الكتب إذا دهمك
أمر تخافه فبت وأنت طاهر، على فراش طاهر، وثيابك كلها طاهرة، واقرأ:
(والشمس وضحاها (3) إلى آخر السورة. سبعا (والليل إذا يغشى (4))
إلى آخر السورة سبعا ثم قل: " اللهم اجعل لي فرجا ومخرجا من أمرى "
فإنه يأتيك في الليلة الأولى، أو الثانية إلى السابعة آت في منامك فيقول لك:
المخرج منه كذا وكذا. قال فحبست بعد ذلك بسنين حبسة طالت حتى أيست
من الفرج - وكنت قد أنسيت هذا الخبر فذكرته يوما وأنا في الحبس ففعلت
ذلك. فلم أر في أول ليلة، ولا في الثانية، ولا في الثالثة شيئا. فلما كان في الليلة
الرابعة فعلت ذلك على الرسم فرأيت في منامي كأن قائلا يقول لي خلاصك على
يدي علي بن إبراهيم. فأصبحت من غد متعجبا ولم أكن أعرف رجلا يقال له
علي بن إبراهيم، فلما كان بعد يومين دخل على شاب لا أعرفه فقال: قد كفلت
ما عليك فقم، وإذا معه رسول إلى السجان بتسليمي إليه، فقمت معه فحملني إلى
منزلي وسلمني فيه وانصرف. فقلت لهم: من هذا؟ قالوا رجل من أهل الأهواز
يقال له علي بن إبراهيم يكون في الكرخ. قيل لنا أنه صديق للذي حبسك
فطرحنا أنفسنا عليه فتوسط في أمرك وضمن ما عليك وأخرجك.
قال مؤلف هذا الكتاب: فلما كان بعد يسير جاءني علي بن إبراهيم هذا وهو
معاملي في سنين كثيرة فذاكرته بالحديث فقال: نعم كان هذا عبدوس الذي
حبسه هو ابن أخت أبى على النصراني خازن معز الدولة، فلما طالبه بالمبلغ الذي
كان عليه من الضمان الذي ضمنه منه وكان عبدوس صديقي فجاءني من سألني
خطابه في أمره فجرى الامر على ما عرفت.

(1) الأنبياء 88
(2) الصافات 145
(3) الشمس
(4) الليل 1
22

قال مؤلف الكتاب وجدت في كتاب محمد بن جرير الطبري الذي سماه
بكتاب " الآداب الحميدة والأخلاق النفيسة " حدثني محمد بن عمارة الأسدي،
عن روح بن الحارث بن حبيش الصنعاني. عن أبيه، عن جده أنه قال لبنيه:
إذا دهمكم أمر فلا يبيتن أحدكم إلا وهو طاهر، على فراش طاهر، ولا يبيتن
معه امرأة وليقرأ (والشمس وضحاها (1)) إلى آخر السورة سبعا (والليل
إذا يغشى (2) إلى آخر السورة سبعا ثم يقل: " اللهم اجعل لي من أمري
فرجا ومخرجا " فإنه يأتيه آت في أول ليلة، أو في الثالثة، أو في الخامسة، وأظنه
قال: أو في السابعة يقول لك: مخرج مما أنت فيه كذا قال أنيس: وأصابني
وجمع شديد فلم أدر ما علاجه فبت على هذه الحالة فأتاني في أول ليلة اثنان
جلس أحدهما على رأسي وجلس الآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه:
جسه. فلمس جسدي كله فلما بلغ موضعا من رأسي قال: أحجم هذا ولا تحلقه
ولكن اغسله بخطمية، ثم التفت إلى أحدهما أو كلاهما وقال لي: فكيف
لو ضممت إليهما (والتين والزيتون (3)) فلما أصبحت سألت لم أمرت
بالخطمية فقيل لتمسك المحجمة فبرأت وأنا إلى اليوم لا أحدث بهذا الحديث
أحدا فيعالج به من تلك العلة إلا وجد الشفاء بإذن الله تعالى وأضمم إليهما قراءة
(والتين والزيتون (3)).
وحدثت عن أحمد بن أبي داود قال: حدثني الواثق قال: حدثني المعتصم
ان قوما ركبوا البحر فسمعوا هاتفا يهتف بهم من يعطيني عشرة آلاف دينار
حتى أعلمه كلمات إذا أصابه غم أو أشرف على هلكة فقالها انكشفت عنه؟.
فقام رجل من أهل المركب معه عشرة آلاف دينار فصاح أيها الهاتف: أنا
أعطيك حتى تعلمني. فقيل له أرم بالمال في البحر فرمى بالمال. فسمع الهاتف
يقول: إذا أصابك غم أو أشرفت على هلكة فاقرأ: (ومن يتق الله يجعل له
مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله
بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا (4) فقال جميع من في المركب للرجل

(1) الشمس 1
(2) الليل 1
(3) التين 1
(4) الطلاق 2 و 3
23

لقد ضيعت مالك. فقال: كلا إن هذه لفظة ما أشك في نفعها. قال: فلما كان
بعد أيام كسر بهم المركب فلم ينج منهم أحد غير ذلك الرجل على لوح فحدث
بعد ذلك قال: طرحني البحر على جزيرة فصعدت أمشى فيها فإذا بقصر
منيف فدخلته فإذا فيه من كل ما يكون من الجواهر التي في البحر وغيرها
وإذا بامرأة لم أرقط أحسن منها فقلت لها: من أنت، وأي شئ تعملين
هاهنا؟ قالت أنا ابنة فلان بن فلان التاجر بالبصرة، وكان أبى عظيم التجارة،
وكان لا يصبر عنى، فسافر بي البحر معه فانكسر مركبنا فاختطفت حتى
حصلت في هذه الجزيرة، وإنه يخرج إلى شيطان من البحر فيتلاعب بي سبعة
أيام من غير أن يطأني إلا أنه يلامسني ويؤذيني ويتلاعب بي وينظر إلى ثم
ينزل إلى البحر سبعة أيام وهذا يوم موافاته فاتق الله في نفسك واخرج قبل
موافاته وإلا أتى عليك. فما انقضى كلامها حتى رأيت ظلمة هائلة عظيمة قد
أقبلت. فقالت: قد جاء والله وسيهلكك، فلما قرب منى وكاد يغشاني قرأت
الآية فإذا هو قد خر كقطعة جبل إلا أنه رماد محترق. فقالت المرأة هلك
والله وكفيت أمره من أنت يا هذا الفتى الذي من الله على بك؟ فقمت أنا
وهي وانتخبنا ذلك الجوهر حتى حملنا كل ما فيه من نفيس وفاخر
ولزمنا ساحل البحر نهارنا أجمع، فلما كان الليل رجعنا إلى القصر.
قال: وكان فيه ما يؤكل فقلت لها من أين لك هذا؟ قالت وجدته
هاهنا. فلما كان بعد أيام رأينا مركبا يبين عن بعد، فلوحنا إليهم
فدخلوا فحملونا وسلمنا الله عز وجل إلى البصرة. فوصفت لي منزل أهلها فأتيتهم
فقالوا: من أنت؟ قلت رسول فلانة بنت فلان، فارتفعت الواغية. وقالوا
يا هذا: لقد جددت علينا مصيبتنا. فقلت اخرجوا ثم أخذتهم ورجعت حتى
جئت بهم إلى ابنتهم فكادوا يموتون فرحا وسألوها عن خبرها فقصته عليهم
وسألتهم أن يزوجوني بها ففعلوا وجعلنا هذا الجوهر رأس مال بيني وبينها
وأنا اليوم أيسر من بالبصرة وهؤلاء أولادي منها.
وذكر أبو عبد الله محمد بن عبدوس في كتاب الوزراء: ان عبد الله
24

ابن المعلى بن أيوب حدثه عن أبيه قال: قال المعلى بن أيوب: اعتنى الفضل
ابن مروان ونحن في بعض الاسفار فطالبني بعمل بعيد يعمل في مدة بعيدة
واقتضانيه في كل يوم مرارا إلى أن أمرني عن المعتصم أن لا أبرح إلا بعد
الفراغ منه. فقعدت في ثيابي وجاء الليل فجعلت بين يدي نفاطة وطرح غلماني
أنفسهم حولي وورد على أمر عظيم لأني قلت ما تجاسر على أن يوكل بي إلا
وقف على سوء رأى في من المعتصم. قال: فانى لجالس وذقني على يدي وقد
مضى من الليل بعضه وأنا مفكر فحملتني عيني فنمت فرأيت كأن شخصا قد
مثل بين يدي وهو يقول: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه
تضرعا وخفية لئن أنجينا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم
منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (1)) ثم انتبهت فقرأتها فإذا أنا بمشعل
قد أقبل من بعيد، فلما قرب منى رأيت وراءه حمادا ونفس صاحب الحرس
وقد أنكر نفاطتي فجاء ليعرف سببها فأخبرته خبري فمضى إلى المعتصم فأخبره
فإذا الرسل يطلبونني فدخلت إليه وهو قاعد ولم يبق من الشمع إلا أسفله.
فقال لي: ما خبرك فشرحته له. فقال لي: ويلي على النبطي يمتهنك، وأي يد
له عليك، وأنت كاتبي كما هو كاتبي انصرف. قال: فانصرفت وبكرت إلى
الفضل على عادتي لم أنكر شيئا.
حدثني أبو الفضل محمد بن عبد الله في المذاكرة في خبر طويل لست
أقوم عليه أن رجلا كانت بينه وبين رجل يتمكن من أذاه عداوة فخافه
خوفا شديدا، وأهمه أمره ولم يدر ما يصنع فرأى في منامه كأن قائلا يقول له:
اقرأ في كل يوم في إحدى ركعتي الفجر (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب
الفيل (2)) إلى آخر السورة. قال فقرأتها فما مضت إلا شهور حتى كفيت
أمر ذلك الرجل وأهلكه الله عز وجل وأنا أقرؤها إلى الآن.
قال مؤلف هذا الكتاب: فوقعت أنا بعد ذلك في شدة لحقتني
من عدو خفته فاستترت منه فجعلت دأبي قراءة هذه السورة في

(1) الانعام 63 و 64
(2) الفيل 1
25

الركعة الثانية من صلاة الفجر كل يوم وأقرأ في الأولى منها: (ألم نشرح
لك صدرك (1)) إلى آخر السورة لخبر كان بلغني فيها، فلما كان بعد شهور
كفاني الله أمر ذلك العدو، وأهلكه من غير سعى لي في ذلك ولا حول
ولا قوة.
وأما الخبر في (ألم نشرح (1)) فان أبا بكر بن شجاع المقرى البغدادي
الذي كان يخلفني على العيار في دار الضرب بسوق الأهواز في سنة ست
وأربعين وثلاثمائة. وكان: شيخا ثقة نبيلا وهو من أمناء القاضي الأحنف
محمد بن أبي الشوارب حدثنا بأسناد ذكره أن بعض الصالحين ألح عليه الغم
وضيق الصدر وتعذر الامر حتى كاد يقنط فكان يمشى يوما وهو يقول:
أرى الموت لمن أمسى * على الذلة له أصلح
فهتف به هاتف يسمع صوته ولا يرى شخصه - أو قال - رأى في النوم
كأن قائلا يقول:
ألا أيها المرء * الذي الهم به برح
إذا ضاق بك الصد * ر ففكر في ألم نشرح
قال فقرأتها في صلاتي فشرح الله صدري، وأزال كربي وسهل أمري
أو كما قال. وحدثني غيره هذا الخبر من قريب بهذا الحديث وزاد في الشعر
حيث قال:
فإن العسر مقرون * بيسرين فلا تبرح
وقد ذكر القاضي أبو الحسين في كتاب الفرج بعد الشدة البيتين فقط
وقال في الأخير منهما
إذا أعضلك الامر * بدل إذا ضاق بك الصدر

(1) الشرح 1
26

الباب الثاني
ما جاء في الآثار من ذكر الفرج بعد اللاواء، وما يتوصل
به إلى كشف الشدة والبلاء
أخبرني القاضي أبو القاسم علي بن محمد بن أبي الفهم التنوخي بالاسناد
الصحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سلوا الله من فضله فان
الله تبارك وتعالى يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج ". وروى
مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " انتظار
الفرج من الله عز وجل عبادة ". وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل أعمال أمتي انتظارها فرج
الله " وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال لعلي رضي الله عنه في حديث ذكره: " واعلم أن النصر مع الصبر،
والفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا ". وعن عمر بن مرة قال: سمعت
أبا وائل يحدث عن كردوس بن عمرو وكان ممن قرأ الكتب أنه قال: إن
الله عز وجل يبتلى العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه.
حدثنا ابن أبي الدنيا يرفعه، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: " ألا
أعلمك كلمات تنتفع بهن؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: احفظ الله يحفظك
احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا
سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما كان وما هو
كائن، ولو جهد العباد أن ينفعوك بشئ لم يكتبه الله لم يقدروا عليه، ولو
جهدوا أن يضروك بشئ لم يكتبه الله عليك لما قدروا، فإن استطعت أن
تعمل لله بالصدق في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره
خيرا كثيرا، واعلم أن النصر مع الصبر، وان الفرج مع الكرب وأن مع
العسر يسرا ". وروى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال
27

رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن المعونة من الله عز وجل تأتى العبد على
قدر المؤونة، وإن الصبر يأتي على قدر شدة البلاء، - وربما قال -: إن الفرج
يأتي من الله على قدر شدة البلاء ". وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال: " من ستر أخاه المسلم ستره الله يوم القيامة، ومن
نفس عن أخيه كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم
القيامة، والله عز وجل في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ". وروى
ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.
وروى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم
، عن أبيه، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أجرى
الله على يده فرجا لمسلم فرج الله عنه كرب الدنيا والآخرة ". وروى ابن
عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من
أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا،
ورزقة من حيث لا يحتسب ". وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا حول ولا قوة إلا بالله دواء من كل داء
أيسرها الهم ".
وعن نصر بن زياد قال كنت عند جعفر بن محمد رضي الله عنه فأتاه
سفيان بن سعيد الثوري قال يا ابن رسول الله: حدثني فقال: يا سفيان إذا
استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار، وإذا ورد عليك أمر تكرهه
فأكثر: من لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإذا أنعم الله عليك بنعمة
فأكثر من: الحمد لله:
حدثني محد بن جعفر بن صالح الصالحي بالاسناد عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال: " بينما ثلاثة نفر من بني إسرائيل يسيرون إذ أخذهم
المطر فأوو إلى غار في جبل فانطبقت عليهم صخرة فسدت الغار فقالوا
تعالوا فليسأل الله عز وجل كل رجل منا بأفضل عمله فقال أحدهم: اللهم
إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم جميلة وكنت أهواها فدفعت إليها مائة
28

دينار فلما جلست منها مجلس الرجل من المرأة قالت: اتق الله يا ابن العم ولا
تفض الخاتم إلا بحق فقمت عنها وتركت لها المائة دينار. اللهم إن كنت تعلم
أنى فعلت ذلك خشية منك وابتغاء لما عندك فافرج عنا. فانفرج عنهم ثلث
الصخرة. وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران
فكنت أغدو عليهما بصبوحهما، وأروح عليهما بغبوقهما فغدوت عليهما
يوما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أنصرف عنهما
فيفقدان غداءهما فوقفت حتى استيقظا فدفعت إليهما غداءهما. اللهم إن
كنت تعلم أنى إنما فعلت ذلك ابتغاء ما عندك، وخشية منك فافرج عنا، فانفرج
عنهم الثلث الثاني، وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم أنني استأجرت أجيرا
فلما دفعت إليه أجرته قال عملي أوفى من هذا وترك لي أجرته وقال بيني وبينك
يوم يؤخذ للمظلوم فيه من الظالم ومضى، فابتعت له بأجرته غنما فلم أزل
أرعاها ونمت حتى تزايدت وكثرت. فلما كان بعد مدة من الدهر أتاني
فقال: يا هذا إن لي عندك أجرة عملت لك كذا وكذا في وقت كذا
وكذا. فقلت له: خذ الغنم فهي لك. فقال تمنعني أجرتي ونهزأ بي؟ فقلت:
خذها فإنها لك. فأخذها ودعا لي. اللهم إن كنت تعلم أنى إنما فعلت هذا خشية
منك وابتغاء لما عندك فافرج عنا فانفرج عنهم باقي الصخرة وخرجوا
يمشون ". وذكر الحديث.
قال مؤلف هذا الكتاب هذا حديث مشهور رواه عن النبي صلى الله
عليه وسلم علي بن أبي طالب، و عبد الله بن عباس، و عبد الله بن عمر،
و عبد الله بن أبي أوفى، والنعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنهم. وعن كل
واحد منهم عدة طرق. وقد اختلف في ألفاظه والمعنى واحد. وليس غرضي
هنا جمع طرقه وألفاظه فاستقصى ذلك هنا.
وروى إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده قال: كنا جلوسا عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا أخبركم بشئ إذا نزل برجل منكم كرب
أو بلاء من الدنيا دعا به ففرج عنه؟ فقبل له بلى. فقال دعاء ذي النون لا إله
29

إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " حدثنا ابن بشار قال: حدثنا ابن عدي
بالاسناد عن حميد بن عبد الرحمن الحميري قال: كان بأبي الحصاة، وكان
يلقى من شدة ما به من البلاء ألما عظيما، فانطلقت إلى بيت المقدس فلقيت
أبا العوام، فشكوت له الذي بأبي وأخبرته خبره فقال: مره فليدع بهذه
الدعوات وهي: ربنا الذي في السماء تقدس اسمه. أمرك ماض في السماء
والأرض كما رحمتك في السماء فاجعلها في الأرض، اغفر لنا حوبتنا وخطايانا
إنك رب الطيبين. أنزل رحمة من عندك وشفاء من شفائك على ما بفلان
ابن فلان من وجع ". قال فدعا به فأذهبه الله عز وجل.
وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " كلمات الفرج لا إله إلا الله الحكيم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم
، لا إله إلا الله رب السماوات السبع والأرضين السبع ورب العرش
العظيم ". حدثنا عن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه رضي الله عنهما، عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو
فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت ".
وروى عبد الله بن جعفر قال: علمتني أمي أسماء بنت عميس شيئا أمرها
به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقوله عند الكرب: " الله ربى لا أشرك
به شيئا ". وروى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: علمني رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أو شدة أن أقول: " لا إله
إلا الله الحكيم الكريم، عز الله وتبارك رب العرش العظيم، والحمد لله
رب العالمين ".
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: علمني رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول: " لا إله إلا الله العلى
الكريم، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب
العالمين ". قالت أسماء بنت عميس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " من أصابه هم، أو غم أو سقم، أو شدة. أو ذل، أو لاوأ فقال:
30

الله ربى لا شريك له كشف ذلك عنه ". وعن أبي سلمة الجهمي، عن أبي
القاسم، عن عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ما أصاب مسلما قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن
أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم
هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك،
أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي،
ونور بصرى، وجلاء حزني، وذهاب همى إلا أذهب الله همه وأبدله
مكان حزنه فرجا، قالوا يا رسول الله: أفلا نتعلم هذه الكلمات؟ قال: بلى
ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن ". وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه كان إذا أصابه غم أو كرب يقول: " حسبي الرب من العباد، حسبي
الخالق من المخلوقين، حسبي الرازق من المرزوقين، حسبي الله هو حسبي،
حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب
العرش العظيم ". وروى إسماعيل ابن فديك أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: " ما أكربني أمر إلا تمثل لي جبريل وقال يا محمد: قل توكلت على
الحي الذي لا يموت، والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك
في الملك، ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا "، وروى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا نزل به هم أو غم قال " يا حي يا قيوم
برحمتك أستغيث ". وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم مثل ذلك.
وفى الاخبار أن موسى عليه السلام كان دعاؤه حين يتوجه إلى فرعون
وهو دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، ودعاء كل مكروب:
" كنت وتكون، وأنت حي لا تموت أبدا، تنام العيون وتنكدر النجوم وأنت
حي قيوم، لا تأخذك سنة ولا نوم يا حي يا قيوم ".
31

دعاء للفرج أعطانيه أبو عبد الحميد داود بن الناصر المعروف: بطباطبا
ابن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم
وقال لي: إن أهله يتوارثونه على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وهو: " يا من يحل عقد المكاره، ويفك حلق الشدائد، ويا من يلتمس
به المخرج إلى محل الفرج، ذلت لقدرتك الصعاب، وتسببت بلطفك
الأسباب، وجرى بلطفك القضاء، ومضت على ذكرك الأشياء فهي بمشيئتك
دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون وحيك منزجرة، أنت المدعو للمهمات،
وأنت المفزع في اللمات، لا يندفع منها إلا ما دفعت، ولا ينكشف منها
إلا ما كشفت، قد نزل بي ما يكيدني ثقله، وألم بي ما يهيضني حمله،
وبقدرتك أوردته على، وبسلطانك وجهته إلى، لا مصدر لما أوردت،
ولا كاشف لما وجهت، ولا فاتح لما أغلقت، ولا مغلق لما فتحت، ولا ميسر
لما عسرت، ولا معسر لما يسرت، صل على محمد وعلى آل محمد، وافتح لي
يا رب أبواب الفرج بطولك، واحبس عنى سلطان الهم بحولك، وأنلني
حسن النظر فيما شكوت، وأذقني حلاوة الصنع فيما سألت، وهب لي من
لدنك فرجا قريبا هنيئا، وصلاحا في جميع أمري، واجعل لي من عندك مخرجا
رحيبا، ولا تشغلني بالاهتمام عن تعهد فروضك، واستعمال سنتك فقد ضقت
ذرعا بما قد عراني، وتحيرت في أمري وفيما نزل بي ودهاني، وضعفت
عن حمل ما قد أثقلني هما، وتبدلت فيما أنا فيه قلقا وغما، وأنت القادر
على كشف ما وقعت فيه، ودفع ما ثقلت به، فافعل بي ذلك يا سيدي
وإلهي وإن لم أستحقه، وأجبني إليه وإن لم أستوجبه، يا ذا العرش
العظيم، ثلاث مرات ".
وأعطاني دعاء آخر وقال لي إن أهله يتوارثونه عن أهل البيت
عليهم السلام وهو: " لا إله إلا الله حقا حقا، لا اله إلا الله تعبدا
وصدقا، لا إله إلا الله ايمانا وصدقا " يا منزل الرحمة من أماكنها، ومنشئ
البركة من ادنها أسألك أن تصلى على محمد عبدك ونبيك وخيرتك من خلقك
32

وصفيك، وعلى آله مصابيح الدجا، وأئمة الهدى، وأن تفرج عنى فرجا
عاجلا، وتلبسني في أموري صلاحا شاملا. وتفعل بي في ديني ودنياي
ما أنت أهله، وتنيلني صلاحا لجميع أمري شاملا، يا كاشف كل كرب،
ويا غافر كل ذنب ".
حدثني أيوب بن العباس بن الحسن بإسناد كثير: أن أعرابيا شكا إلى
أمير المؤمنين علي رضي الله عنه شكوى لحقته، وضيقا في الحال، وكثرة من
العيال، فقال له: عليك بالاستغفار فان الله عز وجل يقول: (استغفروا
ربكم إنه كان غفارا (1)) الآيات. فمضى الرجل وعاد إليه فقال يا أمير
المؤمنين: إني قد استغفرت الله كثيرا ولم أر فرجا مما أنا فيه؟ فقال له:
لعلك لا تحسن الاستغفار؟ قال: علمني فقال: أخلص نيتك، وأطع ربك
وقل: " اللهم إني أستغفرك من كل ذنب قوى عليه بدني بعافيتك، أو نالته
قدرتي بفضل نعمتك، أو بسطت إليه يدي بسابغ رزقك، واتكلت فيه عند
خوفي منه على أمانك، ووثقت فيه بحملك، وعولت فيه على كريم عفوك.
اللهم إني أستغفرك من كل ذنب خفت فيه أمانتي، أو بخست فيه نفسي، أو
قدمت فيه لذتي، أو آثرت فيه شهوتي، أو سعيت فيه لغيري، أو استغويت
إليه من تبعني، أو غلبت فيه بفضل حيلتي، أو أحلت فيه على مولاي فلم
يعاجلني على فعلى، إذ كنت سبحانك كارها لمعصيتي غير مريدها منى، لكن
سبق علمك في باختياري واستعمال مرادي وإيثاري فحلت عنى ولم تدخلني
فيه جبرا، ولم تحملني عليه قهرا، ولم تظلمني عليه شيئا يا أرحم الراحمين،
يا صاحبي في شدتي، يا مؤنسي في وحدتي، يا حافظي في غربتي، يا وليي في نعمتي
يا كاشف كربتي، يا مستمع دعوتي، يا راحم عبرتي، يا مقيل عثرتي، يا إلهي
بالتحقيق، يا ركني الوثيق، يا رجاي للضيق، يا مولاي الشفيق، يا رب البيت
العتيق، أخرجني من حلق المضيق إلى سعة الطريق، بفرج من عندك قريب

(1) نوح 10 - 12
33

وثيق، واكشف عنى كل شدة وضيق، واكفني ما أطيق، ومالا أطيق، اللهم
فرج عنى كل هم وغم، وأخرجني من كل حزن وكرب يا فارج الهم، ويا كاشف
الغم، ويا منزل القطر، ويا مجيب دعوة المضطر، يا رحمن الدنيا والآخرة
ورحيمهما صل على محمد خيرتك من خلقك وعلى آله الطيبين الطاهرين،
وفرج عنى ما ضاق به صدري، وعيل معه صبري، وقلت فيه حيلتي، وضعفت
له قوتي، يا كاشف كل ضر وبلية، يا عالم كل سر وخفية يا أرحم الراحمين:
(وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد (1)). وما توفيقي إلا بالله
عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. قال الاعرابي: فاستغفرت بذلك مرارا
فكشف الله عنى الغم والضيق ووسع على في الرزق وأزال المحنة.
وعن أبي مخلد أنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أبالي على
أي حالة أصبحت على ما أحب، أو على ما أكره. وذلك لأني لا أدرى الخير
فيما أحب أو فيما أكره. روى عن الأعمش عن إبراهيم قال: إن لم يكن لنا
خير فيما نكره لم يكن لنا خير فيما نحب. وروى عن سفيان بن عيينة قال:
قال محمد بن علي رضي الله عنه لمحمد بن المنكدر: مالي أراك مغموما؟ فقال
أبو حازم: لدين فدحه. قال محمد بن علي: أفتح له في الدعاء. قال: نعم. قال
بورك لك في حاجة أكثرت فيها دعاء ربك كانت لك ما كانت.
دعاء لداود عليه السلام: " سبحان مستخرج الدعاء بالبلاء، سبحان
مستخرج الشكر بالرخاء. وروى عن طاوس قال: إني لفي الحجر ذات ليلة
إذ دخل علي بن الحسين عليه السلام فقلت: رجل صالح من أهل بيت الخير
لأسمعن إلى دعائه الليلة. فصلى. ثم سجد فأصغيت بسمعي إليه فسمعته يقول:
عبيدك بفنائك يرجو ثوابك، ويخشى عقابك. قال طاوس: فما دعوت بها
في كرب إلا فرج الله عنى. وروى في الاخبار: أن صديقا ذبح عجلا بين يدي
أمه فخبل عقله، فبينما هو كذلك ذات يوم تحت شجرة فيها وكر طائر إذ وقع
فرخ ذلك الطائر في الأرض فغبر في الترات فأتاه الطائر فجعل يطير فوق رأسه،

(1) لمؤمن 44
34

فأخذ الصديق الفرخ فمسحه من التراب وأعاده في وكره فرد الله عليه عقله
وقال ابن عيينة: ما يكرهه العبد خير له مما يجب، لان ما يكرهه يهيجه على
الدعاء وما يحبه يلهيه. وروى عن عبد الصمد العمى قال: سمعت مالك بن
دينار يقول في مرضه وهو آخر كلام سمعته منه: ما أقرب النعم من البؤس
يعقبان ويوشكان زوالا. وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه
قال لجلسائه يوما وفيهم عمرو بن العاص: ما أحسن شئ يناله المرء؟ فأتى
كل رجل برأيه وعمرو ساكت. فقال له عمر: ما تقول يا عمرو؟ قال الغمرات
ثم ينجلين. كتب سعيد بن حميد إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر كتابا
من الأنبار قال فيه: وأرجو أن يكشف الله بالأمير هذه الغمة الطويل
مداها، البعيد منتهاها، فإن طولها قد أطمع في انقضائها، وتراخى أيامها قد
سهل طريق الامل لفنائها.
قال مؤلف هذا الكتاب: لحقتني محنة عظيمة من السلطان فكتب إلى
أبو الفرج عبد الواحد بن نصر المخزومي رقعة يتوجع إلى فيها نسختها:
بسم الله الرحمن الرحيم: " مدد النعم أطال الله بقاء القاضي بغفلات المسار وان
طالت أحلام، وساعات المحن وإن قصرت بسوابغ الهم أعوام، وأحظانا
بالمواهب من ارتبطها بالشكر، وأنهضنا بأعباء المصائب من قاومها بعدد
الصبر، إذ كان أولها بالعظة مذكرا، وآخرها بمضمون الفرج مبشرا، وإنما
يتعسف ظلم الفتنة، ويتمسك بتفريط العزم ضال الحكمة، ومن كان بسنة
الغفلة مغمورا، وبضعف المنية والرأي مقهورا، وفى انتهاز فرص الحرم
مفرطا، ولمرضى ما اختاره الله تعالى متسخطا والقاضي أنور بصيرة، وأطهر
سريرة، وأكمل حزما، وأنفذ مضاء وعزما من أن يتسلط الشك على يقينه،
أو يقدح اعتراض الشبه في مروءته ودينه، فيلقى ما اعتمده الله من طارق
القضاء المحتوم بغير واجبه من فرط الرضا والتسليم، ومع ذلك فإنما تعظم
المحنة إذا تجاوزت، وضعف التنبيه من الله جل ذكره إلى واجب العقوبة،
ويصير تجنى السلطان بها وجوب الحجة فشغلت الألسن عن محمود الثناء منها
35

بمذموم اللائمة، فإذا خلت من هذه الصفات اللئيمة، والشوائب المذمومة
كانت وإن راع ظاهرها بصفات النعم أولى، وبأسباب المنح أحق وأحرى،
وهي أعمال ذي الفهم الثاقب، والفكر الصائب مثله أيده الله تعالى بكامل
عقله، وزائد فضله فيما يسامح به الدنيا من مرتجع هباتها، وتبدله من خدع
لذاتها من علم أن أسعد أهلها منها ببلوغ الآمال أقربهم فيما خوله من التغيير
والانتقال، وصفاءها مشوب بالكدر، وأمنها مروع بالحذر، لان انتهاء
الشئ إلى حده ناقل له عما كان عليه إلى ضده، فتكاد المحنة بهذه القاعدة
لاقترابها في الفرج يفسح الرجاء، وانتهاء الشدة فيها إلى مستجد الرخاء أن
تكون أحق بأسماء النعم، وأدخل في باب المواهب والقسم، وبالحقيقة
فكل وارد من الله عز وجل على العبد وإن جهل مواقع الحكمة منه،
وساءه استتار عواقب الخيرة بمفارقة ما نقل عنه غير خال من مصلحة بتقديم
عاجل، وادخار آجل، وهذا الوصف ما ذكر الله به القاضي إذ كان
للمثوبة مفيدا، وللفرج ضامنا، وبالحظ مبشرا، وإلى المسرة مؤديا، وبأفضل
ما عوده الله عائدا، وهو ينجز ذلك بمستحكم الثقة ووجاهة الدعاء والرغبة،
ووسائط الصبر والمعونة. ولعله يكون إليه أقرب من ورود رقعتي إليه بقدرة
تعالى ومشيئته، ولولا الخوف من الإطالة، والتعرض للاضجار والملالة،
باخراج هذه الرقعة عن مذاهب الكتابة، وادخالها ذكر ما نطق به نص
الكتاب من ضمان اليسر بعد العسر، وما وردت به في هذا المعنى الأمثال
السائرة، والاشعار المتناقلة في جملة الرسائل وخير المصنفات لأودعتها نبذا
من ذلك، لكنني آثرت أن لا أعدل بها عما افتتحتها به واستخدمتها له، مقتصرا
على استغناء القاضي عن ذلك بمراشد حفظه، ووقور فضله، ومأثور نباهته
ونبله، والله يبلغنا ويبلغه ما فيه نهاية الآمال، ولا يخليه في طول البقاء من
موارد السعادة والاقبال إن شاء الله تعالى وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال:
أفضل ما يعمله الممتحن انتظار الفرج، والصبر على قدر البلاء، والصبر كفيل
بالنجاح، والمتوكل لا يخيب ظنه. وقال بعض الصالحين: استعمل في كل بلية
36

تطرقك حسن الظن بالله تعالى في كشفها فإن ذلك أقرب بك إلى الفرج،
ويقال العاقل لا يذل لأول نكبة، ولا يفرح بأول نعمة فربما أقلع المحبوب عما
يضر، وأجلى المكروه عما يسر. شكا عبد الله بن طاهر إلى سليمان بن يحيى
ابن معاذ كاتبه بلاء خافه وتوقعه فقال له أيها الأمير: لا يغلبن على قبلك إذا
اغتممت ما تكره دون ما تحب، فلعل العاقبة تكون ما تحب، وتوقى ما تكره
فتكون كمن يتسلف الغم والخوف. قال: أما إنك فقد فرجت عنى ما أنا فيه.
بلغني أن الناس قحطوا بالمدينة في أيام عمر رضي الله عنه فخرج بهم
مستسقيا فكان أكثر قوله الاستغفار. فقيل له يا أمير المؤمنين: لو دعوت
الله تعالى؟ فقال أما سمعتم قوله تعالى: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا *
يرسل السماء عليكم مدرارا (1) الآيات فصار الاستكثار منه في خطب
الاستسقاء سنة إلى اليوم.
حكى عن أنو شروان أنه قال: جميع مكاره الدنيا ينقسم على ضربين.
فضرب فيه حيلة فالاضطراب دواؤه، وضرب لا حيلة فيه فالاصطبار
شفاؤه. وكان بعض الحكماء يقول: الحلية فيما لا حيلة فيه الصبر، وكان يقال:
من اتبع الصبر أتبعه النصر، ومن الأمثال السائرة الصبر مفتاح الفرج، من
صبر قدر ثمرة الصبر الظفر، وعند اشتداد البلاء يأتي الرخاء، وكان يقال:
تضايقي تنفرجي، إذا اشتد الخناق انقطع الوثاق. والعرب تقول: إن في
الشر خيارا. قال الأصمعي: معناها إن بعض الشر أهون من بعض. وقال
أبو عبيدة: معناها إذا أصابتك مصيبة فاعلم أنه قد يكون أجل منها فلتهن عليك
مصيبتك. وقال بعض الحكماء: عواقب الأمور تتشابه في الغيوب، فرب
محبوب في مكروه ومكروه في محبوب وكم مغبوط بنعمة هي داؤه، ومرحوم
من داء فيه شفاؤه، ورب خير من شر، ونفع من ضر. وروى أن علي بن أبي
طالب سلام الله عليه قال: يا ابن آدم لا تحمل هم يومك الذي لم يأت على
يومك الذي قد أتى فإنه ان يكن من عمرك يأتك الله فيه بمحنتك، واعلم أنك

(1) نوح 10 و 11
37

لن تكسب شيئا سوى قوتك إلا كنت في خازنا لغيرك بعد موتك. وقال
وداعة السهمي في كلام له: اصبر على الشر إن فدحك فربما أجلى عما يفرحك
وتحت الرغوة اللبن الصريح. وقال شريح: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله
عليها أربع مرات. أحمده إن لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر
عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجوه من الثواب، وأحمده إذ لم
يجعلها في ديني. ويشبه هذا ما يروى عن بزر جمر لما حبسه أنو شروان عند
غضبه عليه في بيت كالقبر ظلمة وضيقا، وصفده بالحديد وألبسه الخشن من
الصوف، وأمر أن لا يزاد على قرصين في كل يوم من شعير، وكف ملح
جريشا ودورق ماء، وأن تحصى ألفاظه فتنقل إليه. فأقام بزرجمهر أياما
لا يتكلم فقال أنو شروان: أدخلوا إليه أصحابه وأمروهم أن يسألوه ويفاتحوه
في الكلام واسمعوا ما يجرى بينهم وعرفونيه. فدخل إليه جماعة من المختصين
به وقالوا أيها الحكيم: نراك في هذا الضيق والحديد، والصوف والشدة التي
وقعت فيها، ومع هذا فان سحنة وجهك، وصحة جسمك على حالهما لم يتغيرا فما
السبب في ذلك؟ فقال: إني عملت جوارشا من ستة أخلاط آخذ منه في كل
يوم شيئا فهو الذي أبقاني على ما ترون. قالوا: فصفه لنا فعسى أن يبتلى بمثل
بلواك من إخواننا أحد فيستعمله أو نصفه له. قال: الخلط الأول: الثقة بالله
عز وجل، والخلط الثاني: علمي أن كل مقدر كائن، والخلط الثالث: أن الصبر
خير ما استعمله الممتحن، والخلط الرابع: ان لم أصبر فأي شئ أعمل، والخلط
الخامس: قد يمكن أن أكون في أشر مما أنا فيه، والخلط السادس: من ساعة
إلى ساعة فرج. قال فبلغ كسرى كلامه فعفا عنه.
38

فصل لبعض الكتاب: وهو علي بن نصر بن علي بن بشر
النصراني. وكما أن الله عز وجل يأتي بالمحبوب من الوجه الذي قد ورد المكروه
منه يأتي بالفرج عند انقطاع الامل واستبهام وجوه الحيل، ليحض سائر
خليقته بما يريهم من تمام قدرته على صرف الرجاء إليه، وإخلاص التوكل
عليه، وأن لا يزووا وجوههم في قوت من الأوقات على من تتوقع الروح منه،
ولا يعدلوا بآمالهم على حال من الحالات عن انتظار فرج يصدر عنه، فكذلك
أيضا سرهم فيما ساءهم بأن كفاهم بمحنة يسيرة أعظم منها، وأفداهم بملة سهلة
بما هو أنكى فيهم لو لحقهم.
قال إسحاق العابد: ربما امتحن الله العبد بمحنة عظيمة يخلصه بها من
الهلكة فتكون تلك المحنة أجل نعمة. وقال سمعان: من احتمل المحنة ورضى
بتدبير الله عز وجل في النكبة، وصبر على الشدة كشف الله له عن منفعتها
حتى يقف على المستور عنه في مصلحتها. وقال عبد الله بن المعتز: ما أوطأ
راحلة الواثق بالله تعالى، وآنس مثوى المطيع لله.
حكى بعض النصارى أن بعض الأنبياء عليهم السلام قال: المحن تأديب
من الله عز وجل، والأدب لا يدوم، وطوبى لمن يصبر على التأديب،
ويثبت عند المحنة فيجب له لبس إكليل الغلبة، وتاج الفلاح الذي وعد
الله عز وجل محبيه وطائعيه.
وقال بزرجمهر: انتظار الفرج بالصبر يعقب الاغتباط.
39

فصل لبضع الكتاب: وهو علي بن نصر بن بشر. وكما أن
الرجاء مادة الصبر والمعين عليه، فكذلك علة الرجاء ومادته حسن الظن بالله
عز وجل الذي لا يجوز أن يخيب، فانا قد نستقري الكرماء فنجدهم يرفعون
من أحسن ظنه بهم، ويخيبون من يخيب أمله فيهم، ويتحرجون من اخفاق
رجاء من قصدهم. فكيف بأكرم الأكرمين الذي لا يعوذه أن بمنح مؤمليه
ما يزيد على آمالهم فيه، وأعدل الشواهد بمحبة الله جل جلاله أن يمسك عبده
برجائه، وانتظاره الروح من ظله وفنائه. إن الأسنان لا يأتيه الفرج، ولا
تدركه النجاة إلا بعد إخفاق أمله في كل ما كان يتوجه فنحوه بأمله ورغبته،
وعند انفلاق مطالبه وعجز حيله وحيلته، وتناهى ضره ومحنته، ليكون ذلك
باعثا له على صرف رجائه أبدا إلى الله تعالى، وزاجرا له عن تجاوز حسن
الظن بالله تعالى. وروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال.
الفرج والروح في اليقين، والرضا والهم والحزن في الشك والغضب.
قال أبان بن ثعلب سمعت أعرابيا يقول: من أفضل آداب الرجال أنه إذا
نزلت بأحدهم جائحة استعمل الصبر عليها، وألهم نفسه الرجاء لزوالها حتى
كأنه بصبره يعاين الخلاص والغناء توكلا على الله وحسن ظن به، فمتى لزم هذه
الصفة لم يلبث أن يقضى الله حاجته، ويزيل كربته، وينجح طلبته، ومعه
دينه وعرضه ومروءته. وكان يقال: الصبور يدرك أحمد الأمور. حكى
الأصمعي عن أعرابي قال: خف الشر من موضع الخير، وارج الخير من موضع
الشر، فرب حياة سببها طلب الموت، وموت سببه طلب الحياة. وأكثر
ما يأتي الا من ناحية الخوف.
قال مؤلف هذا الكتاب: ما أقرب هذا الكلام من قول قطري بن
الفجاءة الخارجي (1) ذكره أبو تمام الطائي في كتابه المعروف بالحماسة:
لا يركبن أحد إلى الاحجام * يوم الوغى متخوفا لحمام
فلقد أراني للرماح دريئة * من عن يميني مرة وأمامي

(1) من رؤساء الخوارج.
40

حتى خضبت بما تحدر من دمى * اكناف سرجي أو عنان لجام
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب * جزع البصير قارح الاقدام
هذا لمن أحب الموت طلبا لحياة الذكر، وقد أفصح بهذا الحصين بن
الحمام المرى حيث يقول:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد * لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وهذا كثير متسع ليس هو مما نحن فيه بسبيل فنستوعبه ونستوفيه،
ولكن الحديث ذو شجون، والشئ يذكر بالشئ. ونعود إلى ما كنا فيه قال
بعض عقلاء التجار: ما أصغر المصيبة إذا عادت بسلامة الأرواح، وكأنه
من قول بعض العرب: إن تسلم الحلة فالسخل هدر. ومن كلامهم لا تيبس
أرض من عمران وإن جفاها الزمان. والعامة تقول نهر جرى فيه الماء لابد
أن يعود إليه. وقال بيسمطيوس: لم تتفاضل أهل العقول والدين إلا باستعمال
الفضل في حال القدرة والنعمة، وابتذال الصبر في حال الشدة والمحنة.
وقال بعض الحكماء: العاقل يتعزى فيما نزل به من المكروه بأمرين
أحدهما: السرور بما بقي له. والآخر: رجاء الفرج مما نزل به. والجاهل يجزع
في محنته بأمرين أحدهما: استكثار ما أتى إليه. والآخر: تخوفه مما هو أشد
منه. وكان يقال المحن آداب الله تعالى لخلقه، وتأديب الله يفتح القلوب
والاسماع والابصار.
ووصف الحسن بن سهل المحن فقال: معها تمحيض من الذنوب، وتنبيه
من الغفلة، وتعرض للثواب بالصبر، وتذكير بالنعمة، واستدعاء للتوبة،
وفى نظر الله عز وجل وقضائه الخيار، وبلغني هذا الخبر على وجه آخر.
وقرئ على أبى بكر الصولي وأنا أسمع في كتابه " كتاب الوزراء " حدثكم
أبو ذكوان القاسم بن إسماعيل. قال: سمعت إبراهيم بن العباس بن محمد
يصف الفضل بن سهل ويذكر تقدمه وعلمه وكرمه، وكان مما حدثني به أنه
برأ من علة كان فيها فجلس للناس فهنوه بالعافية. فلما فرغ الناس من كلامهم
قال الفضل: إن في العلل لنعما لا ينبغي للعقلاء أن يجهلوها، تمحيص للذنوب،
41

وتعرض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وإذكار بالنعمة في حال الصحة،
واستدعاء للمثوبة، وحض على الصدقة، وفى قضاء الله تعالى وقدره بعد
الخيار. كتب محمد بن الحنفية إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حين سيره
ابن الزبير عن مكة إلى الطائف: " أما بعد فقد بلغني أن ابن الزبير سيرك
إلى الطائف، فأحدث الله لك بذلك ذخرا، وحط عنك به وزرا، يا ابن
عم: إنما يبتلى الصالحون، وتعد الكرامة للأخيار، ولو لم تؤجر إلا فيما تحب
لقل الاجر، وقد قال الله تبارك وتعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير
لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم (1) عزم الله لنا ولك بالصبر على
البلاء، والشكر على النعماء، ولا أشمت بنا عدوا، والسلام.
كتب بعض الكتاب إلى صديق له في محنة لحقته: إن الله تبارك وتعالى
ليمتحن العبد ليكثر التواضع له، والاستغاثة به، ويجدد الشكر على ما يوليه
من كفايته، ويأخذ بيده في شدته، لان دوام النعم والعافية تبطر الانسان
حتى يعجب بنفسه، ويعدل عن ذكر ربه، وقد قال الشاعر.
لا يترك الله عبدا لا يذكره * بمن يؤدبه ومن يؤنبه
في نعمة تقتضي شكرا يدوم له * أو نقمة حين ينسى الشكر ينكبه
وقال الحسن البصري رحمه الله: الخير الذي لا شر فيه الشكر مع العافية،
والصبر عند المحنة، فكم من منعم عليه غير شاكر، وكم من مبتلى بمحنة وهو
صابر، والجزع لا ينفع ما لم تنصرم أيام المحنة.
وكان ابن شبرمة إذا نزلت به شدة قال: سحابة ثم تنقشع، وقال بعض
الحكماء: أخر الهم أول الفرج، وكان جعفر بن سليمان يقول: جربناه فوجدناه
كذلك، وذكر القاضي أبو الخير في كتابه قال: حدثنا الحسن بن مكرم يرفعه
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(1) البقرة 216
42

" إني لان أكون في شده أتوقع بعدها رخاء أحب إلى من أن أكون في رخاء
أتوقع بعده شدة ". وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير إسناد أنه قال:
" لو كان العسر في كوة لجاء يسران فأخرجاه ".
قال مؤلف هذا الكتاب: كان لي في هذا الحديث خبر طريف وذلك
أنى كنت قد لجأت إلى البطيحة هاربا من نكبة لحقتني، فاعتصمت بأميرها
معين الدولة أبى الحسن بن عمران بن شاهين السلمى، فألقيت هناك جماعة
من معارفي بالبصرة، وواسط خائفين على أنفسهم قد هربوا من ابن تعية
الذي كان في الوقت وزيرا ولجؤا إلى البطيحة. فكنا نجتمع في الجامع فنتشاكى
أحوالنا ونتمنى الفرج مما نحن فيه من الخوف والشدة والشقاء، فحدث
أبو الحسن بن جيشان التاجر الصالحي قال: حدثني أبو محمد الحسن بن
عثمان بن قنيف بالاسناد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو دخل
العسر كوة لجاء يسران فأخرجاه ". فلما سمعت ذلك فكرت ساعة ثم عملت
بيتين من الشعر.
إنا روينا عن النبي رسول الله * فيما أفيد من أدبه
لو دخل العسر كوة لاتى يسران * فاستخرجاه من ثقبه
فما مضى على هذا المجلس إلا أربعة أشهر حتى فرج الله عنى وعن كثير
ممن حضر ذلك المجلس وردنا الله تعالى إلى عوائده الجميلة عندنا، فالحمد
والشكر لله رب العالمين.
ووجدت هذا الخبر على غير هذا فقد حدثت عن ابن مسعود أنه قال:
" لو أن العسر دخل في حجر لجاء اليسر حتى يدخل معه ". قال الله تبارك وتعالى:
(فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا (1)، وروى عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه أنه قال: عند تناهى الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق
البلاء يكون الرخاء، ومع العسر يكون يسر. وروى عنه كرم الله وجهه

(1) الانشراح 5 و 6
43

أنه قال: ما أبالي باليسر رميت أو بالعسر، لان حق الله عز وجل في العسر
الرضا والصبر، وفى اليسر البر والشكر.
قال مؤلف هذا الكتاب حدثني بعض الشيعة بغير إسناد قال: قصد
أعرابي أمير المؤمنين عليا عليه السلام فقال: إني لذو محن فعلمني شيئا أنتفع
به؟ فقال يا اعرابي: إن للمحن أوقاتا ولها غايات فاجتهاد العبد في محنته
قبل إزالة الله تعالى إياها يكون زيادة فيها لقوله تعالى: (إن أرادني الله
بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل
حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون (1) لكن استعن بالله واصبر، وأكثر من
الاستغفار، فان الله عز وجل وعد الصابرين خيرا كثيرا وقال: (استغفروا
ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا (2). فانصرف الرجل
فقال أمير المؤمنين كرم الله وجهه:
إذا لم يكن عون من الله للفتى * فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده
حدثنا أبو محمد الحسين بن محمد المهلبي في وزارته قال: كنت في وقت
من الأوقات قد وقعت لي شدة شديدة وخوفه عظيم لا حيلة لي فيه، فأقمت
ليلتي قلقا ولم أعرف الغمض، فلجأت إلى الصلاة والدعاء، وأقبلت على
البكاء في سجودي والتضرع ومسألة الله تعالى ففرج عنى ما كنت فيه على
أفضل ما أردت فقلت شعرا:
بعثت إلى رب العطاء رسالة * تؤمل لي فيما دعاء مناصح
فجاء جوابي بالإجابة فانجلت * بها كرب ضاقت بهن جوانحي
وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " اشتدي أزمة تنفرجي ".
قيل أراد جعفر بن محمد بن علي الحج فمنعه المنصور فقال: " الحمد
لله الكافي، سبحان الله الاعلى، حسبي الله وكفى، ليس من الله منجى،

(1) الزمر 38
(2) نوح 10 و 11
44

ما شاء الله قضى، ليس وراء الله منتهى، توكلت على الله ربى وربكم،
ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربى على صراط مستقيم، اللهم إن
هذا عبد من عبيدك خلقته كما خلقتني، ليس له على فضل إلا ما فضلته به
على فاكفني شره، وارزقني خيره، واقدح لي المحبة في قلبه، واصرف عنى
أذاه، لا إله إلا أنت سبحان الله رب العرش العظيم، وصلى الله على سيدنا
محمد وآله كثيرا ". قال: فأذن له المنصور في الحج.
45

الباب الثالث
من بشر بالفرج فنجا من محنة بقول أو دعاء أو ابتهال
أخبرني الصولي قال: حدثنا البر القاضي قال: رأيت امرأة بالبادية وقد
جاء البرد فذهب بزرع لها فجاء الناس يعزونها، فرفعت رأسها إلى السماء
وقالت: " اللهم أنت المأمول لأحسن الخلف، وبيدك العوض عما تلف، فافعل
ما أنت أهله، فان أرزاقنا عليك، وآمالنا منصرفة إليك " قال: فلم أبرح
حتى مر رجل من الاجلاء فحدث بما كان لها فوهب لها خمسمائة دينار.
حدثني أبي في المذاكرة من لفظه وحفظه ولم أكتبه عنه في الحال وعلق بحفظي
والمعنى واحد ولعل اللفظ يزيد أو ينقص، عن أبي محمد عبد الله بن أحمد
ابن حمدون نديم المعتضد بالله قال: حدثني أبي عن المعتضد أنه قال: لما
سعى إسماعيل بن بلبل بيني وبين أبى الموفق فأوحشه منى حتى حبسني الحبسة
المشهورة، وكنت أتخوف القتل صباحا ومساء ولا آمن أن يرفع عنى إسماعيل
ما يزيد في غيظ الموفق على فيأمر بقتلى، فكنت كذلك حتى خرج الموفق
إلى الجند فازداد خوفي، وأشفقت أن يكاتبه إسماعيل عنى بكذب يجعل غيبته
طريقا إليه ويأمر بقتلى، فأقبلت على الدعاء والتضرع إلى الله تعالى والابتهال
في تخليصي، وكان إسماعيل يجيئني في كل يوم مراعيا خبري ويوريني أن ذلك
خدمة لي، فدخل إلى يوما وبيدي المصحف وأنا أقرأ فتركته وأخذت
أحادثه. فقال أيها الأمير: اعطني المصحف لآخذ فألك منه، فلم أجيه بشئ
فأخذ المصحف ففتحه وكان في أول سطر منه: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم
ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون (1) فاسود وجهه واربد،
ثم خلط الورق ففتح المصحف ثانية فخرج: (ونريد أن نمن على الذين
استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (2) فازداد ولها

(1) الأعراف 129
(2) القصص 5
46

واضطرابا، وفتح المصحف ثالثة فخرج: (وعد الله الذين آمنوا منكم
وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم (1)
فوضع المصحف وقال: أنت الخليفة والله بلا شك، فما حق بشارتي عليك؟
فقلت: الله الله في دمى، واسأل الله أن يبقى أمير المؤمنين الأمير الناصر
الموفق وما لنا وهذا ومثلك في عقلك لا يطلق مثل هذا القول بمثل هذا الاتفاق
قال: فأمسك وما زال يحادثني ويخرجني من حديث ويدخلني في حديث إلى
أن جرى حديث ما بيني وبين أبى فأقبل يحلف بالايمان الغليظة أنه لم يكن له
في أمري صنع ولا سعاية على بمكروه، فصدقته ولم أزل أخاطبه بما تطيب به
نفسه خوفا من أن يزيد وحشة فيسرع إلى التدبير في تلفي إلى أن انصرف،
ثم صار أي وقت جاءني أخذ معي في الاعتذار والتنصل، وأنا أظهر التصديق
له والتقبل حتى سكن، ولم يشك انى معتقد لبراءة ساحته فما كان بأسرع من
أن جاء الموفق وقد اشتدت عليه ومات، فأخرجني الغلمان من الحبس فصيروني
مكانه وفرج الله عنى وفاجأني بالخلافة ومكنني من عدو الله وعدوي إسماعيل
فأنفذت الحكم فيه.
حكى عن عبد الله بن سليمان بن وهب، عن أبيه أنه قال: أصبحت
يوما وأنا في حبس محمد بن عبد الملك الزيات في خلافة الواثق آيس
ما كنت من الفرج، وأشد محنة وغما حتى وردت على رقعة أخي الحسن
ابن وهب ونسختها.
محن أبا أيوب أنت محلها * فإذا جزعت من الخطوب فمن لها
إن الذي عقد الذي انعقدت به * عقد المكاره فيك يحسن حلها
فاصبر فإن الله يعقب فرجة * ولربما أن تنجلي ولعلها
وعسى تكون قريبة من حيث لا * ترجو وتمحو عن جديدك ذلها
قال فتفاءلت بذلك وقويت نفسي فكتبت له:
صبرتني ووعظتني فأنا لها * وستنجلي بل لا أقول لعلها

(1) النور 55
47

ويحلها من كان صاحب عقدها * ثقة به إذا كان يحسن حلها
قال: فلم أصل العتمة ذلك اليوم حتى أطلقت فصليتها في داري. ووجدت
في هذا الخبر ان هذه الرقعة وقعت في يد الواثق من الابتداء والجواب،
فأمر باطلاق سليمان وقال: والله لا تركت الفرج يموت في حبسي لا سيما من
خدمني، فأطلقه وابن الزيات كاره لذلك.
وروى أن الحسن البصري دخل على الحجاج واسط فرأى بناءه فقال:
" الحمد لله ان هؤلاء الملوك ليرون في أنفسهم عبرا، وانا لنرى فيهم عبرا،
يعمد أحدهم إلى قصر فيشيده، وفرس فيتخذه وقد حف به ذباب طمع
وفراش نار، ثم يقول ألا فانظروا ما صنعت فقد رأينا يا عد والله ما صنعت
فماذا يا أفسق الفاسقين، أما أهل السماء فمقتوك، وأما أهل الأرض فلعنوك،
ثم خرج وهو يقول: إنما أخذ الله الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه،
فتغيظ الحجاج عليه غيظا شديدا وقال يا أهل الشام: هذا عبيد أهل البصرة
يدخل على فيشتمني في وجهي فلا يكون له مغير ولا نكير والله لأقتلنه،
فمضى أهل الشام إلى الحسن فحملوه إلى الحجاج وعرف الحسن ما قاله، فكان
طول طريقه يحرك شفتيه. فلما دخل وجد السيف والنطع بين يدي الحجاج
وهو متغيظ، فلما رآه الحجاج كلمه بكلام غليظ فرفق به الحسن ووعظه،
فأمر الحجاج بالسيف والنطع فرفعا ولم يزل الحسن يمر في كلامه حتى دعا
الحجاج بالطعام فأكلا، وبالوضوء فتوضأ، وبالغالية فغلفه بيده وصرفه
مكرما. قال صالح بن مسمار: فقيل للحسن بم كنت تحرك شفتيك؟ قال
قلت: يا غياثي عند دعوتي، ويا عدتي في ملتي، ويا ربى عند كربتي، ويا صاحبي
في شدتي، ويا ولي في نعمتي، ويا إلهي وإله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق،
ويعقوب، والأسباط، وموسى، وعيسى، ويا رب النبيين كلهم أجمعين،
ويا رب كهيعص، وطه، وطس، ويس، ويا رب القرآن الكريم، صل
على محمد وآله الطيبين الطاهرين، وارزقني مودة عبدك الحجاج وخيره
ومعروفه، واصرف عنى أذاه وشره ومكروهه ومعرته، قال صالح: فما
دعونا بها في شدة إلا فرج عنا.
48

حدثنا علي بن أبي الطيب قال: حدثنا بن الجراح قال: حدثنا ابن أبي
الدنيا قال: حدثنا الفضل بن يعقوب قال: لما أخذ أبو جعفر المنصور
إسماعيل بن أمية آمر به إلى السجن فمر على حائط مكتوب عليه: " يا ولي في
نعمتي، وصاحبي في وحدتي، وعدتي في كربتي " فلم يزل يدعو بها حتى خلى
سبيله. فمر على ذلك المكان فلم ير شيئا مكتوبا. حدثني أبو القاسم محمد بن
أحمد الأثرم المقرئ بإسناده: ان عبد الملك بن مروان كتب إلى عامله بالمدينة
هشام بن إسماعيل: أن الحسن بن الحسن قد كاتب أهل العراق، فإذا جاءك
كتابي فابعث إليه الشرط فليأتوا به. قال: فأتوا به فشغله عنه شئ فقام
إليه علي بن الحسين وقال له يا ابن العم: قل كلمات الفرج يفرج الله عنك وهي:
" لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب
السماوات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين. " قال
وانصرف علي بن الحسين وأقبل الحسن يكررها فلما فرغ هشام من
قراءة الكتاب ونزل قال: أرى وجها قد قذف بكذبة خلوا سبيله،
وأنا أراجع أمير المؤمنين فيه فأخروه، وكتب إلى عبد الملك فكتب إليه
فأطلقه بعد أيام.
وروى في الاخبار أنه كان في بني إسرائيل رجل في صحراء قريبة من
جبل يعبد الله عز وجل فيها إذ مثلت له حية وقالت: قد فجأني من يريد قتلى
فأجرني أجارك الله وأخبئني قال: فرفع ذيله وقال ادخلي فتطوقت على بطنه
وجاء رجل بسيف وقال يا رجل: حية هربت منى الساعة أردت قتلها فهل
رأيتها؟ فقال: ما أرى شيئا. فانصرف الرجل. فقال العابد لها: أخرجني فقد
أمنت. قالت بل أقتلك وأخرج. فقال لها الرجل: ليس هذا جزائي منك.
قالت: لابد. قال: فامهليني حتى آتي سفح هذا الجبل فأصلي ركعتين وأدعو
الله وأحفر لنفسي قبرا فإذا نزلته فشأنك وما تريدين. قالت: افعل. وبقيت
معلقة بجسمه فصلى بسفح الجبل، ودعا الله فأوحى الله إليه إني قد رحمت
ثقتك بي، ودعاءك إياي فاقبض على الحية فإنها تموت في يدك ولا تضرك
49

ففعل ذلك فنجا، وعاد إلى موضعه وتشاغل بعبادته.
ووقعت لي هذه الحكاية على سياقة أخرى وذلك: أن الرجل خبأ الحية
في جوفه فقالت له الحية: اختر منى إحدى خصلتين أن أنكثك نكثة فأقتلك،
أو اكرث كبدك فتلقيها من أسفل قطعا؟ قال: والله ما كافأتيني. قالت:
فلم تضع المعروف عند من لا يعرفه؟ وقد عرفت عداوة ما بيني وبين أبيك
قديما، وليس معي مال فأعطيك ولا دابة فأحملك؟ فبهذا أكافئك. قال:
فامهليني حتى آتي سفح الجبل، وأمهد لنفسي قبرا. فبينما هو يمشى إذا فتى
حسن الوجه، طيب الرائحة، حسن الثياب فقال له يا شيخ: مالي أراك
مستسلما للموت، آيسا من الحياة؟ قال من عدو في جوفي يريد هلاكي فاستخرج
شيئا من كمه فدفعه إليه وقال: كله، فلما أكله وجد مغصا شديدا ثم ناوله
أخرى فأكلها فرمى بالحية من أسفله قطعا. فقال له من أنت؟ يرحمك الله فما
أحد أعظم منة على منك. قال: أنا المعروف الذي صنعت لان أهل السماء لما
رأوا غدر الحية بك اضربوا كل يسأل ربه أن يغيثك. قال الله عز وجل
يا معروف: أدرك عبدي فإياي أراد بما صنع * بلغني أن رجلا جنى على عهد
عبد الملك بن مروان جناية فأهدر دمه، وأمر بطلبه وأهدر دم من يأويه،
فتحاماه الناس فكان يأوى الجبال والمفاوز مستخفيا لا يذكر اسمه ويضاف
اليوم واليومين فإذا عرف طرد. فقال الرجل: كنت يوما أسيح في بطن واد
فإذا بشيخ أبيض عليه ثياب بيض قائم يصلى فقمت فصليت إلى جانبه فلما
سلم قال لي: من أنت؟ فقلت رجل أخافني السلطان وقد تحامني الناس ولم
يجرني أحد فأنا أسيح في هذه البرية خائفا على نفسي. قال: فأين أنت من
السبع؟ قلت وأي سبع. قال: " تقول سبحان الله الواحد الذي ليس غيره،
سبحان الدائم الذي لا يعادله شئ، سبحان القائم القديم الذي لا بدء له،
سبحان الذي يحي ويميت، سبحان الذي كل يوم هو في شأن الذي خلق ما يرى
ومالا يرى، سبحان الذي علم كل شئ بغير تعليم. اللهم إني أسألك بحق هذه
الكلمات وحرمتهن أن تفعل بي كذا وكذا فأعادهن على حتى حفظتهن. قال
الرجل: وفقدت صاحبي فألقى الله عز وجل الامن في قلبي فخرجت من وقتي
50

متوجها إلى عبد الملك بن مروان حتى وقفت ببابه واستأذنت فأذن لي فلما
دخلت قال: أوقد تعلمت السحر؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين ولكنه كان من شأني
كذا وكذا وقصصت الخبر فأمنني وأحسن إلى * أخبرني بعض أصحابنا أن صديقا
له من الكتاب دفع إلى محنة صعبة فكان من دعائه: " يا كاشف الضر بك
استغاث من اضطر " قال: ورأيته نقشه على فص خاتمه، وكان يردد الدعاء به
فكشف الله عز وجل محنته عن قرب * حدثني علي بن هاشم، قال: حدثني
أحمد بن محمد. قال مؤلف هذا الكتاب: قال لي أبو القاسم عيسى بن علي في
كلام جرى بيننا غير هذا طويل: كان أحمد بن محمد أشار على المقتدر وقد
استشاره فيمن يقلده الوزارة قال: فأسميت له نفرا وقال سمعت عبيد الله بن
سليمان بن وهب يقول: كان المتوكل من أغلظ الناس على ايتاخ، فذكر فيه حديثا
طويلا وصف فيه كيف قبض المتوكل على ايتاخ وابن ببغداد لما رجعا من
الحج بيد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب قال سليمان ابن وهب: وساعة قبض
على ايتاخ ببغداد قبض على بسر من رأى وسلمت إلى عبيد الله بن يحي وكتب
المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم بدخوله بسر من رأى ليتقوى به على الأتراك
لأنه كان معه بضعة عشر ألفا لكثرة الظاهرية بخراسان وشدة شوكتهم،
فلما دخل إسحاق أمر المتوكل بتسليمي إليه وقال: هذا عدوى ففصل عظامه.
هذا كان يلقاني في أيام المعتصم فلا يبدأني بالسلام وأبدأه لحاجتي فيرد على
كما يرد المولى على عبده وكل ما دبره ايتاخ فعن رأيه. فأخذني إسحاق وقيدني
بقيد ثقيل وألبسني جبة صوف وحبسني في كنيف وأغلق على خمسة أبواب
فكنت لا أعرف الليل من النهار، فأقمت كذلك نحو عشرين يوما لا يفتح على
الباب إلا حملة واحدة في كل يوم وليلة، ويدفع إلى فيهما خبز شعير وملح وماء
حار، فكنت آنس بالخنافس وبنات وردان وأتمنى الموت لشدة ما أنا فيه
فعرض لي ليلة من الليالي أن أطلت الصلاة وسجدت ودعوت الله عز وجل
بالفرج وقلت في دعائي: " اللهم ان كنت تعلم أنه كان لي في دم نجاح بن
مسلمة صنع فلا تخلصني مما أنا فيه، وإن كنت تعلم أنه لا صنع لي فيه ولا
في غيره من الدماء التي سفكت ففرج عنى. فما استممت الدعاء حتى سمعت
51

صوت الاقفال تفتح فلم أشك في أنه القتل، ففتحت الأبواب وجئ بالشمع
وحملني الفراشون لثقل حديدي، فقلت لحاجبه سألتك بالله أصدقني عن
أمري فقال: ما أكل الأمير اليوم شيئا لان أمرك غليظ. وذلك أن أمير
المؤمنين وبخه بسببك. وقال سلمت إليك سليمان بن وهب لتسمنه أو
تستخرج ماله؟ فقال الأمير أنا صاحب شرطة وسيف ولا أعرف وجوه
المناظرة على الأموال وان تقرروا أمره على شئ طالبته به، فأمر الكتاب
بالاجتماع عند الأمير لمناظرتك والزامك ما يؤخذ به خطك وتطالب به،
وقد اجتمعوا واستدعيت لذلك. قال: فحملت إلى مجلس إسحاق فإذا فيه موسى
ابن عبد الملك صاحب ديوان الخراج. والحسن بن محمد صاحب ديوان
الضياع، وأحمد بن إسرائيل الكاتب، وأبو نوح، وعيسى بن إبراهيم كاتب
الفتح بن خاقان، وداود بن الجراح صاحب الزمام فطرحت في آخر المجلس،
فشتمني إسحاق بن إبراهيم أقبح شتم وقال: يا فاعل يا صانع تعرضني لاستبطاء
أمير المؤمنين والله لا فرق بين لحمك وعظمك. ولأجعلن بطن الأرض
أحب إليك من ظهرها، أين الأموال التي جمعتها من غير وجهها؟ فاحتججت
بنكبة ابن الزيات فبدأني الحسن بن محمد فقال: أخذت ممن الناس أضعاف
ما أديت، وعادت يدك إلى كتبة إيتاخ فأخذت ضياع السلطان واقتطعتها
لنفسك وحزتها سرقة إليك وأنت تستغلها الفي ألف درهم وتتزيا بزي الوزراء،
وقد بقيت عليك جملة من تلك المصادرة لم تؤدها وأخذت الجماعة تواجهني
بكل قبيح، إلا موسى بن عبد الملك فإنه ساكت لصداقة كانت بيني وبينه
فأقبل من بينهم على إسحاق فقال يا سيدي: تأذن لي في الخلوة لافصل الامر
فقال له إسحاق افعل. فاستدناني فحملت إليه فسار إلى وقال عزيز على
يا أخي حالك، وبالله لو كان خلاصك بنصف ما أملكه لافتديتك به،
ولكن صورتك قبيحة وإن خالفتني فأنت والله هالك. فقلت: لا أخالفك.
فقال: الرأي أن تكتب خطك بالتزام عشرة آلاف ألف درهم تؤديها في
في عشرة أشهر كل شهر ألف ألف درهم وتترفه عاجلا مما أن فيه
52

فكست سكوت مبهوت. فقال لي مالك؟ فقلت: والله ما أرجع إلى ربعها
إلا بعد بيع عقاري ومن يشترى منى وأنا منكوب، وكيف يتوفر
الثمن. فقال: أنا أعلم أنك صادق ولكن احرس نفسك عاجلا بعظم
ما تبذله ويطمع فيه من جهتك، وأنا وراء الحيلة لك في شئ أميل به رأى
الخليفة إلى صلاحك والله المعين، ومن ساعة إلى ساعة فرج، والا
تتعجل الموت، ولا تستفيد الراحة مما أنت فيه يوما. فقلت لست أتهم
ودك ولا رأيك وأنا أكتب. فأقبل على الجماعة وقال يا سادتي: إني قد
أشرت عليه أن يكتب بشئ لا طاقة له بأكثر منه، ورجوت أن
تعاونه بأموالنا وجاهنا ليمشي أمره، وقد أوقفته ليكتب بكذا وكذا
فقالوا الصواب أن تفعل هذا. فدعا له بدواة وقرطاس وأخذ خطه بالمال.
فلما أخذ قام موسى بن عبد الملك وقال لإسحاق يا سيدي: هذا رجل قد
صار للسلطان عليه مال، وسبيله أن يرفه ويحرس نفسه، وينقل عن هذه
الحال ويغير زيه، ويرد جاهه بانزاله في دار كبيرة واخدامه بفرش وآلة
حسنة ويمكن من يؤثر لقاءه من أهله وولده وحاشيته ومعامليه ليجد في
تمحل الأموال وتبعة الناس ويبيع أملاكه، ويرتجع ودائعه ممن هي عنده.
فقال إسحاق: أفعل ذلك الساعة، وغدا أخرجه إلى دار كبيرة كما وصفت،
وأمكنه من جميع ما التمست له ونهضت الجماعة. فأمر إسحاق بأخذي في
الحال وإدخالي الحمام وجاؤني بخلعة نظيفة فلبستها، وبخور طيب فتبخرت
واستدعاني إسحاق فلما دخلت إليه نهض إلى ولم يكن في مجلسه أحد
واعتذر إلى مما خاطبني به وقال: أنا صاحب سيف ومأمور، ولقد لحقني
اليوم من أجلك سماع كل مكروه حتى امتنعت والله عن الطعام بأن ابتلى
بقتلك أو يعتب الخليفة على من أجلك، وإنما خاطبتك بذلك إقامة عذر عند
هؤلاء الاشراف ليبلغوا الخليفة ذلك وجعلته وقاية من الضرب والعذاب،
فشكرته وقلت ما حضرني من الكلام. فلما كان من غد حولني إلى دار
53

كبيرة حسنة مفروشة ووكل على فيها باحسان وإجلال، واستدعيت كل من
أردت وتسامع الناس بأمري وجاؤني ففرج عنى ومضت سبعة وعشرون
يوما وقد أعددت ألف ألف درهم وأنا أتوقع أن يرد المحل فأطلب فأؤدي
المال، وإذا أنا بموسى بن عبد الملك قد دخل إلى فقمت إليه فقال: أبشر.
فقلت ما الخبر؟ فقال ورد كتاب صاحب مصر بمبلغ مالها لهذه السنة مجملا،
ومبلغ الجمل في النفقات يبلغ ذلك حسابا مفصلا فقرأ عبيد الله ذلك على أمير
المؤمنين فوقع إلى باخراج مال مصر ليعرف آثار العامل، فأخرجتها من
ديوان الخراج والضياع لان ضياع مصر تجرى في ديوان الضياع وتجرى في
ديوان الخراج وينفد حسابها إلى الدواوين كما علمت، فجعلت سنتك التي
توليت فيها عمالة مصر مصدرة، وأفردت بعدها السنين الناقصة عن سنتك
توصلا في خلاصك وجعلت أقول النقصان في سنة كذا وكذا من التي صدرتها
كذا وكذا. فلما قرأ عبيد الله المفصل على المتوكل قال: فهذه السنة الوافرة
من كان يتولاها؟ فقلت يا أمير المؤمنين: سليمان بن وهب. فقال المتوكل
لم لا يرد إليها؟ فقلت يا أمير المؤمنين وأين سليمان بن وهب ذاك مقتول
بالمطالبة، قد استصفى وافتقر. فقال تزال عنها المطالبة، ويعاون بمائة ألف درهم
، ويعجل إخراجه. فقلت يا أمير المؤمنين: وترد ضياعه ليرتفع جاهه.
قال: ونفعل ذلك. وقد تقدم إلى عبيد الله بذلك واستأذنته في أن أجيئك
وأخرجك فأذن لي فقم بنا إلى الوزير. قال وقد كان أرسل إلى إسحاق برسالة
الخليفة يأذن له في إطلاقي فخرجت من وقتي ولم أؤد من المال حبة واحدة
ورددته إلى موضعه وجئت إلى عبيد الله فوقع لي بمائة ألف معونة على سفري
ودفع إلى عهد مصر فخرجت إليها مسرورا.
حدثني عبيد الله الأسناتي قال: أحزنني أمر ضقت به ذرعا فأتيت يحي
ابن خالد الأزرق وكان مستجاب الدعوة فرآني مكروبا قلقا فقال: ما شأنك؟
قلت: دفعت إلى كيت وكيت. فقال استعن بالله واصبر فإن الله جل جلاله
وعد الصابرين أجرا. فقلت: ادع الله فحرك شفتيه بشئ لا أعلم ما هو فانصرفت
54

على جملة قلقي فبت بليلة عظيمة فلما أصبحت أتاني الله بالفرج. حدثني أحمد
ابن عبد الله بن داسه قال: اعتللت علة عظيمة يئست فيها من نفسي فعادني
بعض أصحاب سهل بن عبد الله التستري فقال: كان سهل يدعو في علله بدعاء
ما دعا به أحد إلا عوفي. فقلت: ما هو؟ فقال: " اللهم اشفني بشفائك،
وداوني بدوائك، وعافني من بلائك ". فواصلت الدعاء فعوفيت * حدثني
أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق قال: حدثني أبو الحسين البواب المقرئ
قال: كان يصحبنا على القرآن رجل مستور صالح يكنى أبا أحمد وكان يكتب
كتب العطف للمستورين من الناس فحدثني قال: بقيت يوما بلا شئ وأنا
جالس في دكاني، فدعوت الله عز وجل ليسهل لي سببا فما استتمت الدعاء
حتى فتح باب دكاني غلام أمرد حسن الوجه جدا فسلم بأدب حسن وجلس.
فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أنا عبد مملوك وقد طردني مولاي وغضب على
وقال: انصرف عنى إلى حيث شئت، وما أعددت لنفسي من أن أطرحها
عليه في مثل هذا الوقت، ولا أعرف من أقصده وقد بقيت متحيرا في أمري
وقد قيل لي إنك تكتب كتاب العطف فاكتب فكتبت الكتاب الذي كنت
أكتبه وهو: بسم الله الرحمن الرحيم (الحمد لله رب العالمين (1)) - إلى آخر -
السورة، و (المعوذتين (2)) (وآية الكرسي (3)) (ولو أنزلنا هذا
القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله (4) إلى آخر السورة،
وكتبت آيات العطف (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم
ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (5) (ومن آياته أن خلق لكم من
أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات
لقوم يتفكرون (6) (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف
بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا - إلى قوله - لعلكم تهتدون (7)

(1) الفاتحة 1
(2) الفلق والناس.
(3) البقر 255
(4) الحشر 21
(5) الأنفال 63
(6) الروم 21
(7) آل عمران 103
55

وقلت له: خذ هذه الرقعة، فشدها على عضدك الأيمن ولا تعلقها عليك إلا إذا
كنت طاهرا. قال: فأخذها وقام ووضع بين يدي دينارا عينا فتداخلني
رحمة له فصليت ركعتين ودعوت الله عز وجل أن ينفعه بالكتاب، ويرضى
عليه قلب مولاه وجلست. فما مضت إلا ساعتان فإذا بأبي الجود خليفة عجيف
غلام ناذوك وكان على الشرطة قد جاءني فقال: أجب الأمير ناذوك. قال:
فخفت. فقال: لا ترع وأركبني بغلا وجاء بي إلى دار ناذوك فتركني في الدهليز
ودخل فلما كان بعد ساعة أدخلت إلى ناذوك فإذا هو جالس في دست عظيم
وبين يديه الغلمان قياما نحو ثلاث مائة غلام وأكثر، وكاتبه أبو القاسم جالس
بين يديه ورجل لا أعرفه، فارتعت وأهويت لاقبل الأرض. فقال: مه
عافاك الله لا تفعل هذه من سنن الجبارين، ما نريد نحن هذا اجلس يا شيخ
لا تخف. قال: فجلست فقال جاءك اليوم غلام أمرد فكتبت له كتابا للعطف؟
فقلت: نعم. قال فأصدقني عما جرى بينكما حرفا حرفا، قال فأعدته عليه
حتى لم أخرم منه حرفا، وتلوت عليه الآيات. قال فلما قلت له: إن الغلام
قال أنا عبد مملوك وما أعددت لنفسي من أقصده لهذا الحال ولا أعرف جهة
ألجأ إليها وقد طردني مولاي بكيت أنا لما تداخلني من رحمتي للفتى ومحبتي
للدينار الذي أعطانيه. قال: فدمعت عين ناذوك ثم تجلد واستوفى الحديث
وقال قم يا شيخ بارك الله فيك وعليك، ومهما عرضت لك حاجة أو لجارك
أو لصديقك فاسألني إياها فانى أقضيها إن شاء الله تعالى، وأكثر الحضور
عندنا، وانبسط في هذه الدار فإنك غير محجوب عنها، فدعوت له وخرجت
فلما صرت في الدهليز إذا بالفتى فعدل بي إلى موضع وأجلسني فقلت:
ما خبرك؟ قال أنا غلام الأمير وكان قد عضب على وطردني فجئتك فلما جلست
عندك طلبني فرجعت فإذا برسل قد انبثوا في طلبي، فلما حضرت قال أين
كنت فحدثته، فلم يصدقني فطلبك فلما حدثته بمثل ما حدثته أنا حرفا بحرف
وخرجت الساعة أحضرني وقال يا بنى إنك الساعة من أجل غلماني عندي،
وأمكنهم من قلبي، وأخصهم بي إذ كنت لما عاملتك بهذا ما غيرك ذلك
56

عن محبتي والرغبة في خدمتي، وطلب الحيل في الرجوع إلى، وانكشف لي
أنك ما أعددت لنفسك بعد الله عز وجل سواي، ولا عرفت وجها تلجأ إليه
في الدنيا غيري، فما ترى بعد هذا إلا كل ما تحبه وسأ على منزلتك، وأبلغ بك
مراتب نظرائك، ولعل الله عز وجل استجاب فيك دعاء هذا الشيخ ونفعك
بالآيات من القرآن العظيم، فبأي شئ كافأت الرجل؟ فقلت: ما أعطيته غير
ذلك الدينار. فقال سبحان الله: قم إلى الخزانة وخذ ما تريد واعطه فأخذت
هذا من الخزانة وجئتك به. وأعطاني خمسمائة درهم. وقال: الزمنى فانى
أحسن إليك إن شاء الله تعالى فجئته بعد مدة فإذا هو قائد جليل، وصار لي
عدة على الزمان.
قال وحدثنا أبو الحسن محمد بن محمد المعروف بابن المهتدين، قال: حدثني
أبو مروان الحامدي، قال: لما ظلم الناس بواسط أحمد بن سعيد الكوفي
وهو إذ ذاك يتقلدها لناصر الدولة وقد تقلد ناصر الدولة أمرة الامراء ببغداد
كنت أحد من ظلم ظلمني وأخذ من ضيعي بالحامدية نيفا وأربعين كرا أرزا
بالنصف من حق الدهقنة بغير تأويل سوى ما أخذه من حق بيت المال
وظلم فيه، فتظلمت إليه وكلمته فلم ينصفني وكان الكر الأرز بالنصف إذ ذاك
يساوى ثلاثين دينارا فقلت له: قد أخذ سيدنا أيده الله منى ما أخذ ووالله
ما عندي أنا وعيالي شئ سواه، ومالي ما أقوتهم به باقي سنتي، ولا ما أعمر
به ضيعتي وقد طابت نفسي أن يطلق لي من جملته عشرة أكرار وأجعل
الباقي له حلالا. فقال: لا أفعل. وبكيت بين يديه وقبلت يده ورققته
وقلت: فهب لي ثلاثة أكرار وتصدق بها على وأنت من جميعه في حل، فقال:
والله ولا رزة واحدة. قال فتحيرت وقلت له فإني أتظلم إلى الله عز وجل
منك. فقال كن على ظلامتك يكررها دفعات ويكسر الميم بلسان أهل
الكوفة، فانصرفت محترق القلب منقطع الرجاء، فجمعت عيالي وما زلت أدعو
الله عليه ليالي كثيرة، فهرب من واسط في الليلة الحادية عشرة من أخذ الأرز
فجئت إلى البيدر وأرزي مطروح فيه، وأخذته وحملته إلى منزلي، وما عاد
57

الكوفي إلى واسط ولا أفلح * حدثني غير واحد من الكتاب عمن سمع أبا
علي بن مقلة لما عاد من فارس وزيرا يتحدث قال: من طريف ما أتفق في
نكبتي هذه التي أدتني إلى الوزارة أنى أصبحت وأنا محبوس مقيد في حجرة
من دار ياقوت أمير فارس، وقد لحقني من الإياس من الفرج وضيق الصدر
بها من أقنطني وكاد يغلب على عقلي، وكنت أنا وفلان محبوسين مقيدين في
بيت واحد من الحجرة إلا أنا على سبيل ترفيه واكرام. فدخل علينا كاتب
لياقوت كان كثيرا ما يجيئنا برسالته. فقال الأمير يقرأ عليكما السلام ويعرف
أخباركما، ويعرض عليكما قضاء أي حاجة كانت لكما. فقلت له: تقرأ على
الأمير السلام وتقول له: قد ضاق والله صدري، واشتهيت أن أشرب على غناء
طيب، فان جاز أن يسامحنا بذلك سرا فيتخذ به عندنا منة وبرا تفضل بذلك.
قال: والمحبوس معي يخاصمني ويقول يا هذا: والله ما في قلوبنا فضل لهذا.
فقلت للكاتب أعد عنى ما قلت لك. قال: السمع والطاعة ومضى ثم جاء وقال:
الأمير يقول لك حبا وكرامة لك وعزازة أي وقت شئت فقلت الساعة، فلم
يمض إلا ساعة حتى جاؤوا بالطعام فأكلنا والمشام والفاكهة والنبيذ وصفف
المجلس فجلست والمحبوس معي مقيدا، وقلت له تعال حتى نشرب ونتفاءل
بأول صوت يغنى به لنا في هذه الساعة في سرعة الفرج مما نحن فيه فلعله يصح
الفأل، فقال: أما أنا فلا أشرب فلم أزل أرفق به حتى شرب وجاءت المغنية
فكان أول صوت غنته شعر:
قواعد للبين الخليط لينبوا * وقالوا لراعي الذود موعدك السبت
ولكنهم بانوا ولم أدر بغتة * وأفظع شئ حين يفجؤك البغت
فقال لي: ما هذا مما يتفاءل به، وأي معنى فيه يدل على فرجنا؟ فقلت: ما هو إلا فأل
مبارك، ولعل الله أن يفرق بيننا وبين هذه الحال التي نحن فيها بالفرج والصلاح
يوم السبت. قال وشربنا يومنا وسكرنا وانصرفت المغنية ومضت بقية أيام ذلك
الأسبوع. فلما كان يوم السبت لم يمض من النهار إلا دون ساعتين فإذا بياقوت
قد دخل علينا فجأة فارتعنا وقمت إليه فقال أيها الوزير: الله الله في واقبل
58

مسرعا إلى وعانقني وأجلسني وأخذ يهنيني بالوزارة فتهنيت ولم يكن عندي علم
من شئ من الامر، ولا مقدمة له فأخرج كتابا قد ورد عليه من القاهر بالله
يعلمه فيه تقليده إياي الوزارة، ويأمره فيه بطاعتي وسلم إلى كتابا من القاهر بمثل
ذلك يأمرني فيه بالنظر في أمر فارس والأولياء بها واستصحاب ما يمكنني من
المال وتدبير أمر البلدة بما أراه والبدار إلى حضرته فإنه قد استخلف لي إلى
وقت حضوري الكلوباذي. فحمدت الله تعالى وشكرته وإذا الحداد واقف
فتقدمت إليه يفك قيودي وقيود الرجل ففكت ودخلت الحمام وأصلحت من
أمري وأمر الرجل وخرجت فجلست ونظرت في الأعمال والأموال وجمعت
مالا جليلا في مدة يسيرة وقررت أمور البلدة واستصحبت الرجل إلى
الحضرة حتى جلست هذا المجلس وفرج الله عنى وعنه في يوم السبت *
وقال إبراهيم بن العباس: كنت أكتب لأحمد بن أبي خالد فدخلت عليه
يوما فرأيته مطرقا مفكرا مغموما، فسألته عن خبره فاخرج لي رقعة فإذا
فيها: ان حظية من أعز جواريه يخالف إليها وتوطئ فراشه غيره،
ويستشهد في الرقعة خادمين على ذلك كانا ثقتين عنده. قال، فدعوت الخادمين
وسألتهما عن ذلك فأنكراه فتهددتهما بالقتل فأقاما على الانكار فضربتهما
فاعترفا بذلك على الجارية بكل ما في الرقعة، وإني لم أذق أمس واليوم ذواقا
وقد هممت بقتل الجارية. قال: فوجدت بين يديه مصحفا ففتحه فكان أول
ما خرج فيه: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا (1) الآية
قال: فشككت أنا في صحة الحديث ورأيته ما خرج في الفأل وقلت دعني
أتلطف في كشف هذا. فخلوت بأحد الخادمين وناجيته عن الامر فقال
النار ولا العار، وذكر أن امرأة أحمد بن أبي خالد وجهت إليه بكيس فيه
ألف دينار وسألته الشهادة على الجارية وأمرته أن لا يذكر شيئا إلا بعد أن
يقع به مكروه ليكون أثبت للخبر، وأحضر الكيس مختوما بختم المرأة،
ودعوت بالآخر فخلوت به فاعترف بمثل هذا فبادرت إلى أحمد بالبشارة فما

(1) الحجرات 6
59

وصلت إليه حتى وردت رقعة الحرة تعلمه أن الرقعة الأول كانت من فعلها
غيرة عليه من الجارية، وأن جميع ما فيها باطل، وأنها هي التي حملت
الخادمين على ذلك وأنها تائبة إلى الله عز وجل من هذا الفعل
وأمثاله. فجاءته براءة الجارية من كل جهة فسر بذلك وزال ما كان فيه
وأحسن لي الجائزة.
وقال الحسن بن الحسن: إن عبد الله بن جعفر زوج ابنته فلما أراد أن
يهديها إلى زوجها خلا بها فقال: إذا نزل بك الموت أو أمر من أمر الدنيا
فظيع فاستقبليه بأن تقول: " لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله
رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين ". قال الحسن بن الحسن فبعث إلى
الحجاج فقلتهن فلما مثلت بين يديه قال: لقد بعثت إليك وأنا أريد أن أضرب
عنقك. ودخلت إلى وما من أهل بيت على أكرم منك سل حاجتك.
عن الشعبي قال: كنت جالسا عند زياد فجاء رجل إليه يحمل ولم نشك في
قتله فحرك الرجل شفتيه بشئ لا ندري ما هو فخلى سبيله. فقلت للرجل: ما قلت؟
قال قلت: " اللهم رب إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط،
ورب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومنزل التوراة، والإنجيل،
والقرآن العظيم، ادرأ عنى شر زياد " فدر أعنى شره * حدثني أبو عبد الله
الحزنبل قال: أمر الرشيد خادمه قال: إذا كان الليلة فصر إلى الحجرة
الفلانية فافتحها فخذ من رأيت فائت به موضع كذا وكذا من الصحراء فإنك
تجد قليبا مفحورا فارم به فيه وطمه بالتراب وليكن معك فلان الحاجب.
(قال): فجاء إلى باب الحجرة ففتحها فإذا فيها غلام كأنه الشمس الطالعة قال فجذبه
إليه جذبا عنيفا. فقال له: اتق الله في فإني ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فالله الله أن تلقى جدي بدمي. قال فلم يلتفت إليه وأخرجه إلى الموضع (قال):
فلما أشرف الفتى عل التلف قال يا هذا: إنك على فعل ما لم تفعل أقدر منك
على رد ما فعلت. فدعني أصلى ركعتين وأمض ما أمرت به. فقال له شأنك
وما تريد فافعل. فقام الفتى فصل ركعتين ثم سمعناه يقول: " يا خفى اللطف
أغثني في وقتي هذا، والطف بي بلطفك الخفي ". فلا والله ما استتم دعاءه
60

حتى هبت ريح باردة، وغبرة فلم ير بعضنا بعضا، ووقعنا لوجوهنا، واشتغلنا
بأنفسنا عن الفتى، ثم سكنت الريح والغبرة فرأينا الكواكب وطلبنا الفتى
فلم نجده. ورأينا قيوده مرمية بحضرتنا. قال فقال الحاجب للخادم هلكنا
سيقع لأمير المؤمنين أنا أطلقناه فماذا نقول لئن نحن كذبناه لم نأمن أن يبلغه
حبر الفتى، ولئن صدقناه ليعجلن المكروه علينا؟ فقال أحدهما للآخر لئن
كان الكذب ينجى فالصدق أنجى. فلما دخلوا عليه قال هلم ما فعلتما؟ فقال
الحاجب يا أمير المؤمنين الصدق أولى ما اتبع ومثلي لا يجترئ أن يكذب على
أمير المؤمنين، وأنه كان من الخبر كذا وكذا فقصه عليه. فقال الرشيد:
والله لقد تداركه اللطف الخفي، والله لأجعلنها من مقدمات دعائي امض
لشأنك واكتم ما جرى.
وعن أبي سلمة عبيد الله بن منصور قال: جرت على رجل شدة هاضته
فلح في الدعاء ذات ليلة فهتف به هاتف يا هذا: " قل يا سامع كل صوت،
ويا بارئ النفوس بعد الموت، ويا من لا تغشاه الظلمات، ويا من لا يشغله
شئ عن شئ ". قال فدعا بها ففرج الله عنه ولم يسأل ربه حاجة تلك الليلة
إلا أعطاه * وعن إسحاق العرواني قال: زحف إلينا ابن ادمهو مرد عند مدينة
الكرج في ثمانين فيلا فكادت تنقض الصفوف والخيول فكرب لذلك محمد
ابن القاسم، فنادى عمران بن النعمان أمير أهل حمص وأمر الأجناد فنهضوا
فما استطاعوا فلما أعيته الأمور نادى مرارا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
. فكف الله الفيلة بذلك وسلط عليها الحر فأنضجها فنزعت إلى الماء فما
استطاع سواقها ولا أصحابها حبسها وحملت الخيل عند ذلك فكان الفتح *
قال كان حبيب بن سلمة يستحب إذا لقى العدو أو ناهض حصنا قول:
لا حول ولا قوه إلا بالله. وانه ناهض يوما حصنا فانهزم الروم فقالها
المسلمون فانصدع الحصن.
حدثني الحسين بن عبد الرحمن: أن بعض الوزراء نفاه الملك لموجدة
وحدها عليه فاغتم لذلك غما شديدا فبينما هو ذات ليلة في مستتر له إذ أنشد
رجل معه بيتين من شعر وهما:
61

أحسن الظن برب عودك * حسنا أمس وسوى أودك
إن ربا كان يكفيك الذي * كان بالأمس سيكفيك غدك
قال: فسرى عنه ما كان فيه وأمر له الملك بعشرة آلاف درهم.
وعن محمد بن رجاء قال: أصابني غم شديد لأمر كنت فيه فرفعت مقعدا
لي كنت جالسا عليه فإذا رقعة فنظرت فيها فإذا مكتوب بيت شعر.
يا صاحب الهم إن الهم منقطع * لا تيأسن كان قد فرج الله
قال: فذهب عنى ما كنت أجده من الغم، ولم ألبث أن فرج الله عنى *
حدثني أبو بكر الثقفي قال: قال رجل أصابني غم ضقت به ذرعا فنمت فرأيت
في المنام كان قائلا يقول هذه الأبيات:
كن للمكارم بالغرام مقطعا * فلعل يوما أن ترى ما تكره
ولربما ابتسم الوقور من الأذى * وضميره من حره يتأوه
قال مؤلف هذا الكتاب: حدثني علي بن الحسن الشاهد من حفظه قال
حدثني أبو الحسن بن أبي الطاهر محمد بن الحسن الكاتب صاحب الجيش
قال: قبض محمد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب في وزارته
للقاهر بالله على أبى، وعلى معا فحبسنا في حجرة من دار ضيقة وأجلسنا على
التراب، وشدد علينا، وكان يخرجنا كل يوم فيطالب أبى بمال المصادرة،
واضرب أنا بحضرته ولا يضرب هو، فلاقينا من ذلك شدة صعبة. فلما كان
بعد أيام قال لي أبى إن هؤلاء الموكلين بنا قد صارت لنا بهم حرمة، فتوصل
إلى مكاتبة أبى بكر الصيرفي وكان صديقه حتى ينفذ إلينا ثلاثة آلاف درهم
نفرقها عليهم. ففعلت ذلك فأنفذ الدارهم من يومه فقلت للموكلين في عشية
ذلك اليوم: قد وجبت لكم علينا حقوق خذوا الدراهم فانتفعوا بها.
فامتنعوا من ذلك فقلت: ما سبب امتناعكم؟ فوروا عنى. فقلت أما قبلتم
وأما عرفتموني السبب؟ فقالوا نشفق عليك من ذكره، ونستحي. فقلت
لأبي: قل لهم اذكروه على كل حال. فقالوا: قد عزم الوزير على قتلكما الليلة
62

ولا نستحسن أخذ شئ منكما مع هذا الحال. فقمت وتغير حالي فقال أبى أردد
الدراهم على أبى بكر فدفعتها إلى من جاء بها فردها عليه، وكان أبى يصوم
تلك الأيام كلها فلما غابت الشمس ذلك اليوم وتطهر لم يفرط وصلى المغرب
وصليت معه ثم أقبل على الصلاة والدعاء إلى أن صلى العشاء الآخرة. ثم دعاني
فقال: اجلس يا بنى جائيا على ركبتيك ففعلت، وجلس هو كذلك ثم رفع
رأسه إلى السماء فقال يا رب: " محمد بن القاسم قد ظلمني، وحبسني على ما ترى،
وأنا بين يديك، قد استغثت إليك، وأنت أحكم الحاكمين، فاحكم بيننا ".
لا يزيد عليها، ثم صاح بها إلى أن ارتفع صوته ولم يزل يكررها بصياح
وبكاء، واستغاثة إلى أن ظننت أنه قد مضى ربع الليل. فوالله ما قطعها حتى
سمعت الباب يدق فذهب عنى أمري، ولم أشك أنه القتل وفتحت الأبواب
فدخل قوم بشموع، فتأملت فإذا فيهم سابور خادم القاهر. فقال: أين
أبو طاهر؟ فقام أبى فقال: ها أنا ذاك. فقال أين ولدك؟ فقال: هو ذا.
فقال انصرفا إلى منزلكما. فإذا هو قد قبض على محمد بن القاسم وأخذه
إلى دار القاهر فانصرفنا وعاش محمد في الاعتقال ثلاثة أيام ومات.
لما خرج طاهر بن الحسين إلى محاربة علي بن عيسى بن ماهان جعل ذات
يوم في كمه دراهم يفرقها على الفقراء، ثم أسبل كمه ناسيا فانتقضت الدراهم
فتطير من ذلك واغتم فانتصب له شاعر فقال:
هذا تفرق جمعهم لا غيره * وذهابه منه ذهاب الهم
شئ يكون الهم نصف حروفه * لا خير في إمساكه في الكم
فسلى همه وما به وأمر له بثلاثين ألف درهم.
انصرف يحيى بن خالد البرمكي من عند الهادي وقد ناظره في تسهيل
خلع العهد عن هارون الرشيد ويحيى يحلف أنه قد فعل ذلك وجهد به فامتنع
هارون. فقال له الهادي: كذبت هذا من فعلك، والله لأفعلن بك
ولأصنعن، وتوعده بكل عظيمة وصرفه، فجاء إلى داره فكلم غلامه في شئ
فأجابه بما أعاظه، فلطمه يحيي فانقطعت حلقة خاتمه وضاع الفص.
63

فاشتد ذلك عليه وغمه فدخل عليه الشياري الشاعر عقيب ذلك فأخبره
بالقصة فقال في الحال.
أخلاك من كل الهموم سقوطه * وأتاك بالفرج انفراج الخاتم
قد كان ضاق فقلت حلقة ضيق * فاصبر فما ريب الزمان بدائم
فما أمسى حتى ارتفعت الناعية على موسى وصار الامر إلى هارون،
وأعطى يحيى الشياري مائة ألف درهم.
قال أبو علي العتائي: حدثني جدي، قال: بكرت يوما إلى موسى بن
عبد الملك، وحضر داود بن الحاج فوقف إلى جانبي فقال: كان بي أمس
خبر طريف انصرفت من عن موسى بن عبد الملك فوجدت في منزلي امرأة
شريفة من شرائف النساء فشكته إلى وقالت: قد حاول أن يأخذ ضيعتي
الفلانية وأنت تعلم أنها عمدتي في معيشتي، وان في عنقي صبية أيتاما فأي شئ
تدبر في أمرى وتشير على؟ فقلت لها: من معك وراء الستر؟ قالت: ما معي
أحد فقلت لها أما التدبير في أمرك فما لي فيه حيلة، وأما المشورة فقد قال
النبطي: لا تبع أرضك من اقدام الرجل الردئ، فإن الردئ يموت،
والأرض تبقى. فدعت لي وانصرفت فنحن كذلك إذ خرج موسى فقال
لداود بن الحاج، يا أبا سليمان: لا تبع أرضك من اقدام الشرير فإنه يموت
والأرض تبقى. فقال لي داود: سمعت هذا والله هو الموت، أين أهرب أين
أمضى، ما آمنه والله على نفسي، ولا نعمتي فأشر على ما اصنع قبل نفاد طريقنا
إلى الديوان؟ فقلت ما ادرى فرفع طرفه إلى السماء وقال: " اللهم اكفني
شره وضره وأمره، فإنك عالم بقصتي وما أردت بما قلت إلا الخير،.
واشتد قلقه وكثر بكاؤه وقربنا من الديوان. فقال موسى وهو على حالته:
متى حدث هذا الجبل الأسود في طريقنا ومال على سرجه حتى سقط
واستكت أسنانه وحمل إلى منزله وكان آخر العهد به.
ذكر المدايني في كتابه قال: قال أبو سعيد - وانا احسبه الأصمعي: نزلت
يوما بحي من كليب مجدبين، وقد توالت عليهم سنون موتت الماشية، ومنعت
64

الأرض خروج نباتها وأمسكت السماء قطرها، فجعلت أنظر إلى السحابة
ترتفع من ناحية القبلة سوداء متقاربة حتى تطبق السماء ويشرف لها الحي
ويرفعون أصواتهم بالتكبير ثم يعدلها الله عنهم مرارا. فلما كثر ذلك
خرجت عجوز فعلت شرفا ثم نادت بأعلى صوتها: " يا ذا العرش اصنع كيفما
شئت فإن أرزاقنا عليك " فما نزلت من موضعها حتى تغمت السماء فمطرت
مطرا كاد أن يغرقهم وأنا حاضر.
حدثنا علي بن أبي الطيب بالاسناد عن وضاح بن خيثمة قال: أمرني عمر
ابن عبد العزيز بإخراج من في السجن فأخرجتهم إلا يزيد بن أبي مسلم فهدر
دمى. فقال: والله إني لبإفريقية إذ قيل قدم يزيد بن أبي مسلم فهربت منه،
فأرسل في طلبي فأخذت فأتى بي. فقال وضاح: فقلت: نعم فقال أما والله
لطالما سألت الله تعالى أن يمكنني منك. فقلت: وأنا والله لطالما استعذت
الله من شرك. فقال: والله ما أعاذك الله، ووالله لأقتلنك، والله لو سابقني
ملك الموت على قبض روحك لسبقته. على بالسيف والنطع. قال فجئ بهما
وأقعدت فيه وكتفت وقام قائم على رأسي بالسيف مشهورا، وأقيمت الصلاة
فخرج إليها فلما خر ساجدا أخذته السيوف من أهل الهند فقتل، فجاءني رجل
وقطع كتافي بسيفه وقال انطلق. حدثني أبو الطيب عبد العزيز حماد باسناد
كثير، عن القاضي التنوخي الأنباري قال: حدثني أبو عبد الله بن أبي عوف
البزوري، قال: دخلت على أبى العباس بن ثوابة وكان محبوسا فقال لي
احفظ عنى فقلت نعم فقال شعرا:
عواقب مكروه الأمور خيار * وأيام شر لا تدوم قصار
وليس بباق بؤسها ونعيمها * إذا كر ليل ثم كر نهار
فلم يمض أيام يسيرة حتى أطلق من محبسه * حدثني أحمد بن عبد الله
الوراق، عن أبي بكر المعروف بالمستعيني بإسناد عن بعض تجار المدينة
قال: كنت أختلف إلى جعفر بن محمد وكنت له خليطا وكان يعرفني
65

بحسن حال فتغيرت حالتي فرق لي فأتيته فجعلت أشكو إليه سوء حالتي
فقال شعرا:
فلا تجزع وإن أعسرت يوما * فقد أيسرت في الدهر الطويل
ولا تيأس فإن اليأس كفر * لعل الله يغنى عن قليل
ولا تظنن بربك ظن سوء * فإن الله أولى بالحميل
قال فخرجت من عنده وأنا أغنى الناس. وفى رواية أخرى زيادة وهي:
فان العسر يتبعه يسار * وقيل الله أصدق كل قيل
فلو أن العقول تسوق زرقا * لكان المال عند ذوي العقول
وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه بالاسناد عن محمد بن موسى بن الفرات
قال: كنت أتولى ماء سيدان، وكان صاحب البريد بها علي بن زيد، وكان قديما
يكتب للعباس بن المأمون فحدثني: أن العباس غضب عليه وأخذ كل ما كان
يملك حتى بقي بسر من رأى لا بملك شيئا إلا برذونه بسرجه ولجامه ومنطقته
وطيلسانا وقميصا وشاشية، وانه كان يركب في أول النهار فيلقى من يحتاج
إلى لقائه، ثم ينصرف فيبعث برذونه إلى الكراء فيكسب عليه ما يعلفه وما
ينفق هو وغلامه عليه. فاتفق في بعض الأيام أن الدابة لم يكسب عليها شيئا
فبات هو وغلامه طاويين. قال: ونالنا من الغد مثل ذلك. فقال لي الغلام:
نحن نصبر ولكن الشأن في الدابة إنا نخاف أن تعطب. فقلت يا بنى فنعمل
ماذا:؟ ليس إلا السرج واللجام والمنطقة والطيلسان والقلنسوة ومتى بعنا منها
شيئا بطلت الحركة وبطل التصرف. قال: فانظر في أمرك. قال فنظرت فإذا
فراشي حصير خلق، ومخدتي لبنة أغشيها بخرقة وما أتمسح فيه للصلاة مطهرة
خزف فلم أجد شيئا غير منديل ديبقي خلق قد بقي منه الاسم فقلت للغلام
بع هذا المنديل واشترى لنا لحما بدرهم واشوه فقد قرمت إليه. فمضى الغلام
وأخذ المنديل وبقيت في الدار وحدي وفيها شاهمرج قد جاع، فلم أشعر
إلا بعصفور قد سقط في المظهرة التي فيها الماء لظهري عطشا فشرب ونهض
إليه الشاهمرج فناهضه فلضعفه قصر عنه، وطار العصفور فوقف الشاهمرج
66

فأخذه بحمية فابتلعه. فلما صار في حوصلته دخل المطهرة فتغسل ونشر جناحيه
وصاح ونشط فبكيت ورفعت رأسي إلى السماء. فقلت: " اللهم كما فرجت
عن هذا الشاهمرج ففرج عنى وارزقني ". فما رددت طرفي حتى دق الباب داق
فقلت: من؟ فقال: إبراهيم بن نوح، وكان للعباس وكيل هذا اسمه. فقلت
ادخل، فنظر إلى صورتي فقال: مالي أراك على هذه الحالة. فكتمته خبري.
فقال: الأمير يقرأ عليك السلام وقد أصبح في هذا اليوم وهو يذكرك وأمر
لك بخمسمائة دينار وأخرج الكيس ووضعه بين يدي. فحمدت الله تعالى
ودعوت للعباس ثم أريته قصتي وأطلعته داري وبيوتي وعرفته خبر الدابة
والمنديل والشاهمرج والدعوة فتوجع لي وانصرف. فلم يلبث أن عاد وقال:
قد صرت إلى الأمير وحدثته حديثك كله فتوجع وأمر لك بخمسمائة دينار
أخرى ثانية لتلك وأنفق هذه إلى أن يصنع الله عز وجل. وعاد غلامي وقد
باع المنديل ببضع عشرة درهما فاشترى ما أمرته فأريته الدنانير وحدثته
الحديث وما زال صنع الله يتعاهدني * قال المدايني في كتابه وحدث القاضي
أبو الحسن في كتابه عن المدايني بغير إسناد واللفظان متقاربان: ان أعرابية
كانت تخدم نساء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت كثيرا تتمثل بهذا البيت:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا * إلا أنه من ظلمة الكفر أنجاني
فقيل لها: إنك لتكثرين التمثل بهذا البيت وإنا لظنه لأمر فما هو؟
فقالت أجل كنت عسيفة على قوم من البادية - والعسيف الأجير -
فجاءت جارية منهن فاختطف وشاحها عقاب ونحن لا ندري. فقلن إن الوشاح
أنت صاحبته، فحلفت واعتذرت فأبين قبول قولي واستدعين الرجال فجاؤوا
وفتشوني فلم يجدوا شيئا. فقال بعضهم احتملته في فرجها، فأرادوا أن
يفتشوا فرجى فما ظنكم بامرأة تخاف ذلك. فلما خفت الشر رفعت رأسي
إلى السماء وقلت: " يا رباه أغثني ". فمرت العقاب فطرحته بيننا فندموا وقالوا
ظلمنا المسكينة وجعلوا يعتذرون إلى فما وقعت في كربة إلا ذكرت ذلك وهو
يوم الوشاح ورجوت الفرج * حكى القاضي أبو الحسين في كتابه قال: حدثني
67

أبو الحسين بن نمير الخزاعي، قال: سار الفضل بن الربيع إلى الفضل بن يحيى
البرمكي في حاجة له فلم يرفع له رأسا، ولا قضى له حاجة له فقام مغضبا، فلم
يدع به ولا اكترث بغضبه، وفى المجلس يحيى بن خالد فقال لبعض خاصته،
اتبعه فانظر ماذا يقول؟ فان الرجل ينبئ عما في نفسه من ثلاثة أماكن:
إذا أضجع على فراشه، وإذا خلا بفرسه، وإذا استوى على سرجه. قال
الرجل: فاتبعته فلما استوى على سرجه عض على شفتيه وقال شعرا:
عسى وعسى يثنى الزمان عنانه * بعثرة دهر والزمان عثور
فتدرك آمال وتقضى مآرب * ويحدث عن بعد الأمور أمور
قال: فلم يكن بين ذلك وبين سخط الرشيد على البرامكة إلا أيام يسيرة.
وفى رواية أخرى: أن يحيى بن خالد رده وقضى حوائجه. أخبرني علي بن
عبد الله الوراق المعروف بابن لؤلؤ بالاسناد عن عبد الله بن جعفر: أنه
أصابه مرض فمنعه من الطعام والنوم. فبينما هو ذات ليلة ساهر إذ سمع وجبة
في حجرته فإذا هو يسمع كلاما فوعاه فبرئ مكانه. والكلام: " اللهم أنا
عبدك ولك أملى، فاجعل الشفاء في جسدي، واليقين في قلبي، والنور في
بصرى، وذكرك في الليل والنهار ما بقيت في لساني، وارزقني منك رزقا
غير ممنوع ولا محظور ".
68

الباب الرابع
من استعطف غضب السلطان بصادق لفظ، واستوفف مكروها
بموقظ بيان أو وعظ
قرئ على أبى بكر الصولي بالبصرة وأنا أسمع في كتابه: " كتاب
الوزراء ". وجدت بخط إبراهيم بن جاهين، حدثني علي بن محمد النوفلي:
أن المأمون ذكر عمرو بن مسعدة واستبطأه في أشياء، وكان ذلك بحضرة
أحمد بن أبي خالد فأخبر به عمروا أحمد، فدخل عمرو إلى المأمون فرمى بنفسه
وقال: أنا عائذ بالله من سخطك يا أمير المؤمنين، أنا أقل من أن يشكوني
أمير المؤمنين إلى أحد، ويسر على ضغنا يظهر منه لمكانة ما ظهر. فقال له
المأمون وما ذاك؟ فأخبره بما بلغه. فقال لم يكن كذلك، وإنما جرى معنى
أوجب ذكر ما ذكرت فقدمته قبل أن أخبرك به وكان ذلك عزمي، ومالك
عندي إلا ما تحب فليفرج روعك، وليحسن ظنك وسكن ما به حتى شكره
وجعل ماء الحياة يدور في وجهه. فلما دخل أحمد بن أبي خالد قال له: أشكو
إليك من بحضرتي من أهلي وخدمي فما للمجلس حرمة حتى تؤدى ما يجرى
فيه إلى عمرو بن مسعدة فقد أبلغ لي شيئا قلته فيه فاتهمت به بعض بني هاشم
ممن كان حاضرا، وذلك أن عمرا دخل على فأعاد ما كان واعتذر، فجعلت
أعتذر إليه بعذر لم يبن الحق نسجه، ولم يتسق القول فيه، وان لسان الباطل
ينبئ عن الظاهر بالباطن. فقال له أحمد: لا يتهم أمير المؤمنين أحدا أنا
أخبرت عمرا. قال: ما دعاك إلى ذلك؟ قال الشكر لله والله لاصطناعك.
والنصح بك والمحبة لاتمام نعمتك على أوليائك وخدمك، وقد علمت أن أمير
المؤمنين يحب إصلاح الأعداء والبعداء، فكيف بالأولياء والقرباء، لا سيما
مثل عمرو في موضعه من الدولة، وموقفه من الخدمة، ومكانه من أمير
المؤمنين فأخبرته بما أنكره عليه ليقوم أود يقينه، ويتلافى ما فرط منه. وإنما
العيب لو أزعت سرا فيه قدح على السلطان أو نقض تدبير له. فقال له
69

المأمون: أحسنت والله يا أحمد إذ أخبرتني بخاصة الظن، وصدقتني عن
نفسك * أخبرني أبو الفرج الأصفهاني، عن الحسين بن علي السلومي، عن
أحمد بن سعيد بالاسناد: أنه لما قتل إبراهيم بن عبد الله بباخمرى حشرنا من
المدينة فلم يترك فيها محتلم حيت قدمنا الكوفة فمكثنا فيها شهرا نتوقع القتل،
ثم خرج إلينا الربيع الحاجب فقال يا هذه الأمة العلوية: أدخلوا على أمير
المؤمنين رجلين منكم من ذوي الحجى. قال: فدخلت أنا والحسين بن زيد
فلما صرت بين يديه قال لي: أنت الذي تعلم الغيب؟ قلت لا يعلم الغيب إلا الله
جل ثناؤه. قال: أنت الذي يجبى إليك هذا الخراج؟ قلت: إليك يجيئ يا أمير
المؤمنين الخراج. قال: أتدرون لم دعوتكم؟ قلت: لا، قال: أردت أن
أهدم رباعكم، وأغور قليبكم، وأعقر نخلكم، وأنزلكم بالسراة لا يجيئكم
أحد من أهل الحجاز وأهل العراق، فإنهم لكم مفسدة. قلت يا أمير
المؤمنين: ان سليمان أعطى فشكر، وأن أيوب ابتلى فصبر، وان يوسف
ظلم فغفر، وأنت من ذلك القبيل. قال فتبسم وقال: أعد فأعدت. قال:
مثلك فليكن زعيم القوم قد عفوت عنكم، ووهبت لكم خراج أهل البصرة *
قلت حدثني أبي، عن آبائه، عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال: " الأرحام معلقة بالعرش تقول: صل من وصلني،
واقطع من قطعني ". قال: زد من هذا. قلت: حدثني أبي، عن علي رضي الله عنه
، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يقول: أنا الرحمن
خلقت الرحم، وشققت له اسما من اسمى فمن وصلها وصلته ومن قطعها
قطعته " * حدثنا علي بن الحسن بالاسناد قال: حج أبو جعفر المنصور في سنة
سبع وأربعين ومائة فقدم المدينة فقال: ابعث إلى جعفر بن محمد من يأتيني
به تعبا قتلني الله إن لم أقتله، فأمسكت عنه رجاء أن ينساه، فأغلظ في الثانية
فقلت: جعفر بن محمد بالباب. فقال: ائذن له فدخل. فقال: السلام عليك
يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال لا سلم الله عليك يا عدو الله تلحد
في سلطاني. وتبغي الغوائل في ملكي. قتلني الله إن لم أقتلك. قال جعفر
يا أمير المؤمنين: ان سليمان أعطى فشكر، وان أيوب ابتلى فصبر، وإن
70

يوسف ظلم فغفر، وأنت من ذلك النسخ. فسكت طويلا ثم رفع رأسه وقال:
أنت عندي يا أبا عبد الله البرى الساحة، السليم الناحية، القليل الغائلة،
جزاك الله من ذي رحم أفضل ما يجزى به ذوو الأرحام عن أرحامهم، ثم
تناول يده فأجلسه على مفرشه ثم قال: يا غلام علي بالمنفخ. والمنفح مدهن
كبير فيه غالية فأتى به فغلغه بيده حتى خلت لحيته قاطرة ثم قال: في حفظ
الله وكلاءته. يا ربيع: الحق أعط أبا عبد الله جائزته وكسوته وانصرف.
فلحقته فقلت: إني قد رأيت ما لم ير، ورأيت بعد ذلك ما قد رأيت، وقد
رأيتك تحرك شفتيك فما الذي قلت؟ فقال: نعم. إنك رجل منا أهل البيت،
ولك محبة وود، قلت: " اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بكنفك
الذي لا يرام، وارحمني بقدرتك على، لا أهلك وأنت رجائي يا رب، كم من
نعمة أنعمت بها على، قل لك عندها شكري فلم تحرمني، فيا من قل عند بليته
صبري فلم يخذلني، ويا من رآني على المعاصي فلم يفضحني، يا ذا المعروف الذي
لا ينقضى أبدا، ويا ذا النعم التي لا تحصى عددا، أسألك أن تصلى على محمد
وعلى آل محمد، بك أدرأ في نحره، وأعوذ بك من شره، اللهم أعنى على
ديني بدنياي، وعلى آخرتي بالتقوى، واحفظني فيما غبت عنه، ولا تكلني
إلى نفسي فيما حضرته، يا من لا تضره الذنوب، ولا تنقصه المغفرة
اغفر لي مالا يضرك، وأعطني ما لا ينفعك، إنك أنت الوهاب، أسألك
فرجا قريبا، وصبرا جميلا، ورزقا واسعا، والعافية من جميع البلايا
وشكر العافية ".
وذكر محمد بن عبدوس في " كتاب الوزراء " أن موسى الهادي سخط
على بعض كتابه ولم يسمه فجعل يقرعه بذنوبه ويتهدده ويتوعده فقال له
الرجل يا أمير المؤمنين: ان اعتذاري فيما تقر عنى به رد عليك، وإقراري
بما بلغك يوجب ذنبا على لم أجنه لكنني أقول شعرا:
إذا كنت ترجو في العقاب تشفيا * فلا تزهدن عند التجاوز في الاجر
فصفح عنه وأمر بترك التعرض له وأحسن إليه حدثني علي بن هشام
ابن عبيد الله الكاتب، عن أبي عبد الله بن يحيى الكاتب قال: لما نكب
71

أبو الحسن ابن الفرات أبا علي بن مقلة في وزارته الثالثة لم أدخل إليه في
حبسه، ولا كاتبته متوجعا له، ولا راسلته خوفا من أن يلقى ذلك إلى ابن
الفرات. وكانت بيني وبين ابن مقلة مودة لطيفة فلما طالت نكبته كتب
إلى رقعة طويلة فيها:
ترى حرمت كتب الأخلاء بينهم * أبن لي أم القرطاس أصبح غاليا
فما كان لو ساءلتنا كيف حالنا * وقد دهمتنا نكبة هي ماهيا
صديقك من راعاك عند شديدة * وكل تراه في الرخاء مراعيا
فهبك عدوى لا صديقي فربما * تكاد الأعادي يرحمون الأعاديا
ثم اتبع ذلك بكلام يعاتبني فيه ويقول: إنه قد أنفذ إلى في طي رقعته
رقعة إلى الوزير يسألني إعراضها عليه وقت خلوة لا يكون فيها ابنه أبو أحمد
المحسن ففتحت رقعته إلى الوزير فإذا هي " بسم الله الرحمن الرحيم: أقصرت
أطال الله بقاء الوزير فعلى وصنعي على الاستعطاف والشكوى، حتى تناهت
بي المحنة والبلوى، في النفس والمال والجسم والحال إلى ما فيه شفاء للمنتقم،
وتقويم للمحترم حتى أفضت إلى الحيرة والتبلد، وعيالي إلى الهتكة والتلدد
وما أقول إن حالا أتاها الوزير أيده الله في أمرى الا بحق واجب، وظن
صدق غير كاذب الا أن القدرة تذهب الحفيظة، والاعتراف يزيل
الاقتراف، والمعروف يؤثره أهل الفضل والدين، والاحسان إلى المسئ من
أفعال المتقين، وعلى كل حال فلى ذمام وحرمة، وتأميل وخدمة، فان كانت
الإساءة تضيعها فرعاية الوزير أيده الله تحفظها، فان رأى الوزير أطال الله
بقاءه أن يلحظ عبده بعين رأفته، وينعم عليه بإحياء مهجته، ويخلصها من
العذاب الشديد، والجهد الجهيد، ويجعل له من معروفه نصيبا، ومن البلوى
فرجا قريبا، فعل إن شاء الله ". قال ابن يحيى: فأقامت الرقعة في كمي أياما
لا أتمكن من عرضها إلى أن رسم الوزير بن الفرات بكتابة نسخة إلى جعفر
ابن أبي القاسم وهو عامله حينئذ في فارس في مهم، وان أحررها بين يديه،
وأعرضها عليه وخلا بي لهذا السبب فعملت النسخة، وأوقفته عليها، فأمرني
بتحريرها فاغتنمت خلوته من كل أحد وقلت: قد عرف الوزير أيده الله
72

ما بيني وبين ابن مقلة من الألفة والعشرة التي جمعتنا عليها خدمتك، والله
ما كاتبته ولا راسلته ولا قضيت لها حقا بمعونة ولا غيرها مذ سخط الوزير
عليه، وهذه رقعته إلى تدل على ذلك ويسأل إعراض رقعة له على الوزير
أيده الله وهي معي، فان أذن عرضتها؟ فقال: ادفع رقعته إلى. فقلت:
اسأل الوزير أيده الله أن يكتم ذلك عن سيدي أبى أحمد يعنى المحسن ابنه فانى
أخافه. قال: أفعل. ثم قرأ رقعة ابن مقلة فقال والله يا أبا عبد الله: لقد
تناهى هذا الرجل في السعاية على دمى ومالي وأهلي، ولقد صح عندي أنه
قال لما أسلم إلى حامد، والله لو قد علمت أن ابن الفرات يبقى بعد صرفه
يوما وحدا ما سعيت به، ووالله لقد كنت أدعو في حبسي بأن لا يمكنني الله
عز وجل منه ولا من الباقطائي، أما هو فلاحساني العظيم عليه، وأما
الباقطائي فلقبح إساءته إلى. وإنه شيخ من شيوخ الكتاب وخفت العار بما
كنت أعامله به لو حصل في يدي فأجيبت دعوتي في الباقطائي، ولم تجب
فيه، والآن فوحق محمد وآله عليهم السلام لا جرى على ابن مقلة
مكروه أبدا بعد هذا، وأنا أتقدم بأخذه من يد المحسن فأنفذه مع سليمان
ابن الحسن إلى فارس وأخبره في الامر بحراسة نفسه وباقي حاله،
وأزيدك يا أبا عبد الله ما أحسبك فهمته. قلت: فما هو؟ فانى لم أزل
أستفيد الفوائد أيدك الله تعلما وانعاما. قال: فقد بقيت له بقية وافرة من
حاله ولولاها ما قال قولا شديدا، ولا فرغ قلبه لنظم شعر، ولا بلاغة في سر
فلما كان من الغد أنفذ من انتزعه من يد المحسن فأخرجه مع سليمان إلى
فارس مسلما.
أخبرني أبو الفرج الأصفهاني قال: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي بالاسناد:
أن طريح بن إسماعيل الثقفي دخل على أبى جعفر " فقال له لا حياك الله ولا
بياك أما اتقيت الله عز وجل حيث تقول للوليد:
لو قلت لليل دع طريقك والى * موج عليه كالهضب يعتلج
لساح وارتد أو لكان له * إلى طريق سواك منعرج
فقال له طريح: قد علم الله أنني قلت ذلك ويدي ممدودة إليه عز وجل
73

إياه عتبت تبارك وتعالى اسمه وثناؤه. فقال أبو جعفر يا ربيع: أما ترى
هذ التخلص.
أخبرني أبو الفرج الأصفهاني عن محمد بن أبي الأزهر قال: كنت بين
يدي المأمون واقفا فادخل عليه ابن البواب الحاجب رقعة فيها أبيات
شعر وقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إنشادها. فظنها له
فقال: هات فأنشده:
أجرني فانى قد ظلمات إلى الوعد * متى ينجز الوعد المؤكد بالعهد
أعيذك من خلف الملوك وقد ترى * تقطع أنفاسي عليك من الوجد
رأى الله عبد الله خير عباده * فملكه والله أعلم بالعبد
ألا إنما المأمون للناس بهجة * مميزة بين الضلالة والرشد
فقال المأمون: أحسنت يا عبد الله. فقال يا أمير المؤمنين: بل أحسن قائلها.
قال: ومن هو؟ قال: عبدك الحسين بن الضحاك. فغضب ثم قال لا خير ولا حيا
الله من ذكرت ولا بياه، ولا قربه ولا أنعم به عينا. أليس هو القائل شعرا:
أعيني جودا وابكيا لي محمدا * ولا تدخرا دمعا عليه وأسعدا
فلا تمت الأشياء بعد محمد * ولا زال شمل الملك فيه مبددا
ولا فرح المأمون بالملك بعده * ولا زال في الدنيا طريدا مشردا
هذا بذاك ولا شئ له عندنا. فقال له ابن البواب: فأين فضل أمير المؤمنين
وسعة حلمه وعادته في العفو. فأمر بإحضاره، فلما حضر سلم عليه فرد عليه ردا
خافتا، ثم أقبل عليه فقال أخبرني: هل عرفت يوم قتل أخي محمد رحمه الله
هاشمية قتلت أو هتكت؟ قال: لا. قال: فما معنى قولك:
ومما شجى قلبي وكفكف عبرتي * محارم من آل النبي استحلت
ومهتوكة بالجلد عنها سجوفها * كعاب كقرن الشمس حين تبدت
إذا حفزتها روعة من منازع * لها المرط عادت بالخضوع وذلت
وسرب ظباء من ذؤابة هاشم * هتفن بدعوى خير حي وميت
أرد يدا منى إذا ما ذكرته * على كبد حرا وقلب مفتت
فلا بات ليل الشامتين بغبطة * ولا بلغت آمالها ما تمنت
74

فقال يا أمير المؤمنين: لوعة غلبتني وروعة فجأتني، ونعم فقدتها بعد أن
أغرقتني، وإحسان شكرته فأنطقني، فدمعت عين المأمون وقال: قد عفوت
عنك وأمرت بإرداد أرزاقك عليك واعطائك ما فاتك منها، وجعلت عقوبة
ذنبك امتناعي من استخدامك.
أخبرني محمد بن يحيى الصولي عن عون بن محمد قال: حدثني الحسين بن
الضحاك قال غضب على المعتصم في شئ جرى على فقال: والله لا أدنيته
وحجبني أياما فكتبت إليه:
غضب الامام أشد من أدبه * وقد استجرت وعذت من غضبه
أصبحت معتصما بمعتصم * أثنى الآله عليه في كتبه
لا والذي لم يبق لي سببا * أرجو النجاة به سوى سببه
مالي شفيع غير رحمته * ولكل من أشفى على عطبه
قال فلما قرئت عليه التفث إلى الواثق وقال: مثل هذا الكلام يستعطف
الكرام. ما هو إلا أن سمعت أبيات حسين هذه حتى أزالت ما بنفسي
عليه. فقال له الواثق: هو حقيق بأن يوهب له ذنبه ويتجاوز عنه، فرضى
عنى وأمر بإحضاري، وإنما كتب هذا الشعر إلى المعتصم لأنه بلغه أنه مدح
العباس بن المأمون وتمنى له الخلافة فطلبه فاستتر فحيث ظهر هجى العباس بن
المأمون فقال شعرا:
خل اللعين وما اكتسب * لا زال منقطع النسب
يا عرة الثقلين لا * دينا رعيت ولا حسب
حسد الامام مكانه * جهلا هداك على العطب
وأبوك قدمه لنا * لما تخير وانتخب
ما تستطيع سوى التنفس * والتجرع للكرب
لا زلت عند أبيك * منتقص المروة والأدب
وجدت في بعض الكتب عن يزدجر أنه قال: غضب كسرى أبرويز على
بعض أصحابه من جرم عظيم فحبسه زمانا ثم ذكره فقال للسجان: هل يتعاهده
أحد؟ فقال: لا إلا القلهند المغنى فإنه يوجه إليه في كل يوم بسلة فيها طعام. فقال الكسرى
75

للقلهند: غضب الملك على فلان وحبسه فقطعه الناس غيرك فإنك تعاهده
بالبر في كل يوم. فقال أيها الملك: إن البقية التي بقيت له عندك فبقت روحه
في بدنه أبقت له عندي بقدر ما أرسله إليه من الطعام. قال: أحسنت قد
وهبت لك ذنبه. وأطلقه * وجدت في بعض كتبي أن رجلين أتى بهم إلى
إلى بعض الولاة وقد ثبت على أحدهما الزندقة وآخر شرب الخمر فسلم الوالي
الرجلين إلى بعض أصحابه وقال: اضرب عنق هذا وأوما إلى الزنديق.
واجلد هذا الحد وأومأ إلى الشارب. وتسلمهما وذهب ليخرج فقال له الشارب
أيها الأمير: سلمني إلى غيره ليجلدني فانى لا آمن أن يغلط فيضرب عنقي
ويجلد صاحبي، والغلط في هذا لا يتلافى. فضحك الأمير وأمر بتخليته
وضرب عنق الزنديق.
وجدت في كتاب أبى الفرج المخزومي عن أبي محمد الحسن بن طالب
كاتب عيسى بن فرحا نشاه قال: لما وليت ديار مصر لم تزل وجوهها
يصفون لي محمد بن يزيد الأموي الحصيني بالفضل وينشدوني قصيدته التي
أجاب بها عبد الله بن طاهر لما فخر بأبيه، ويذكرون قصته معه لما دخل
عبد الله الشام وأشرف الحصيني على الهلاك خوفا منه، وكيف كفى أمره بلا
سبب فكنت أفتقد أمره في ضيعته وأحسن إليه في معاملتي وكانت كتبه ترد
على بالشكر بأحسن عبارة إلى أن علمت على طوف كور عملي، وتصفح أمر
الرعية والعمال، فخرجت لذلك حتى وردت الكورة التي حصن محمد بن يزيد
في ناحية منها، فخرج مستقبلا لي وراغبا إلى في النزولي عليه، فلما التقينا قال:
لم أخف مع فضلك أن تتجاوزني، ولم آمن أن يعارضك ظن يصور لك أن
عدو لك عنى إبقاء على وإشفاقا من نسب السلطان لك يدعو إلى ائثار لذتك
في عدم لقائي فتطويني، فحملت نفسي على خلاف ما كنت أحب أن يشيع
لك من ابتدائي بالقصد قبل غيبتي فيه إليك. فالحمد لله الذي جعل لك السبق
إلى الكرم. ومررنا على حصنه فأقبل يقفني على المواضع المذكورة في الخبر
والشعر، إلى أن دخلنا حصنه فلم يأخذ أهبة النزول به أدبا ومروءة وسبق
76

بما حضر من القرى، ولم يقض من يخدمنا عن إحضار ما أعد في سفرتنا
ووجدت خدمته كلها تدور على جارية سوداء نذرة خفيفة الحركة، يدل على
نشاطها اعتيادها على الطراق إلى أن رفع الطعام وحضر الشرب وحضرت
السوداء في غير الزي الأول فجلست تغنى، فأنكرتها حتى سألته عنها
فوصف لي قديم حرمتها وقال: هي كانت طلعتي حين قصدني عبد الله بن طاهر
فاستفتحني مسألته عن الخبر فسألته. فقال: لما بلغني خبر اجماع عبد الله على
الخروج لطلب نصر بن شبث بنفسه أيقنت بالهلاك، وخفت أن يقرب
فتنالني بادرته، ولم أشك في ذهاب النعمة إن سلمت النفس لما كان بلغه من
إجابتي إياه عن قصيدته التي فخر بها وأنشدنيها:
مدمن الاغضاء موصول * ومديم العتب مملول
وأخو الوجهين حيث رمى * بهواه فهو مدخول
وقليل من يبرره * في يد التهذيب تحصيل
فاتئد تلق النجاح به * فاعتساف الامر تضليل
واعم عن عيب أخيك يدوم * لك حبل فيه موصول
من يرد حوض الردا صردا * لا يسعه الري تعليل
من بنات الروم لي سكن * وجهه للشمس إكليل
عتبت والعتب من سكن * فيه تكثير وتقليل
اقصري عما لهجت به * ففراغي عنك مشغول
أنا من قد تعرفي نسبه * سلفي الغر البهاليل
مصعب جدي نقيب بنى * هاشم والامر مجهول
وحسين رأس دعوتهم * ودعاء الحق مقبول
سل بهم تنبيك نجدتهم * مشرفيات مصاقيل
كل غضب مسرف عللا * وحرار الحر مغلول
وأبى من لا كفاء له * من يساوى مجده قولوا
سل به والخيل ساهمة * حوله جرداء نأبيل
77

وربات الخدور وقد * جعلت تبدوا الخلاخيل
من ثنى عنه الخيول بأكنافها * الخطية الشول
انظر لمخلوع كلكله * وحواليه المقاويل
فثوى والتراب مضجعه * غال عنه ملكه غول
قاد جيشا نحو نائلة * ضاق عنه العرض والطول
من خراسان مصمصهم * كليوث ضمها عنيل
هبو الله أنفسهم * لا معاذيل ولا ميل
ملك تجتاح سطوته * ونداه الدهر مبذول
قطعت عنه تمائمه * وهو مرهوب ومأمول
قال: وكنت لما بلغني هذه القصيدة، امتعصت للعرب، وأنفت
أن يفخر عليها رجل من العجم، لأنه قتل ملكا من ملوكهم بسيف أخيه
لا بسيفه، فيفخر عليها هذا الفخر ويضع منها هذا الوضع، فرددت
عليه قصيدته، ولم أعلم أن الأيام تجمعنا، لا أن الزمان يضطرني إلى
الخوف منه فقلت شعرا:
لا يرعك القال والقيل * كلما بلغت تضليل
ما هوى لي حيث أعرفه * بهوى غيرك موصول
أين لي عنك إلى بدل * ابديل عنك مقبول
أو وعدت العذل فيك إذا * أنا فيك الدهر معذول
حمليني كل لائمة * كلما حملت محمول
فاحكمي ما شئت واحتكمي * فحرامي لك تحليل
والذي أرجو النجاة به * ما لقلبي عنك تحويل
ما لداري منك مقفرة * وضميري منك مأهول
أيخون العهد ذو ثقة * لا يخون العهد مسؤول
وأخو حبيبك في تعب * مطلق مرا ومغلول
ما فراغي عنك مشتغل * بل فراغي بك مشغول
78

وبدت يوم الوداع لنا * غادة بيضاء عطبول
حاسرا وذات منعة * ذات تاج فيه إكليل
آي عطفيها به انصرفت * أرج بالمسك معلول
تتعاطى شد معجزها * ونطاق الخصر منحول
بأكاليل لها قبل * حبذا تلك الأكاليل
فبنفسي دمج مشطتها * ومثانيها المراسيل
سبقت بالدمع مقلتها * فلما بالدمع تفضيل
ورمت بالسحر من كتب * فدفين الداء مقتول
لاحظت بالسحر عابثة * فشجاع الصبر مغلول
شملنا إذ ذاك مجتمع * وجناح البين مشكول
لا يخاف الدهر طائره * فأذاه عنه معقول
أيها الباري بنطقته * لأغاليط وتحصيل
قد تأولنا على جهة * ولتأويلك تأويل
قاتل المخلوع مقتول * ودم القاتل مطلول
سارأ وحل فمتبع * بالتي يكبو لها القيل
لا تنجيه مذاهبه * نهر سيحون ولا النيل
ومدين القتل مرتهن * بدماء القوم مقتول
بيد المخلوع طلت يدا * لم يكن في باعها طول
وبنعماه التي سلفت * فعلت تلك الأفاعيل
وبراع غيري ذي شفق * حالت الخيل الأنابيل
يا ابن بنت النار موقدها * ما لحاديها سراويل
أي مجد لك تعرفه * أو نسيب لك بهلول
من حسين وأبوك ومن * مصعب غالتهم غول
وزريق إذ تخلفه * نسب لعمرك مجهول
تلك دعوى لا تنافسها * وأبواب مراذيل
أسرة غير مباركة * غيرها الشم البهاليل
79

ما جرى في عود سلافكم * ماء مجد فهو مدخول
قدحت فيه أسافله * فأعاليه مهازيل
إن خير القول أصدقه * حين تصطلك الأقاويل
كن على منهاج معرفة * لا تغرنك الأباطيل
إن للاصعاد منحدرا * فيه للهادي أهاويل
ولريب الدهر عن عرض * بالردى عل وتنهيل
يعسف الصعبة رائضها * ولها بالعسف تذليل
ويخون الرمح عامله * وسنان الرمح مصقول
وينال الوتر طالبه * بعد ما يسلو المثاكيل
مضمرا حقدا ومنصلة * معمد في الجفن مسلول
قال: فلما قرب عبد الله بن ظاهر استوحشت من المقام خوفا على
نفسي، ورأيت بعدى وتسليم حرمي عارا باقيا ولم يكن لي إلى هربي بجرمي
سبيل، فأقمت على أتم خوف مستسلما للاتفاق حتى إذا كان اليوم الذي قيل
أنه ينزل بهذه النواحي أغلقت حصني، وأقمت هذه السوداء رئيبة لي على شرف
الحصن وأقمتها وأمرتها أن تعرفني الموضع الذي ينزل فيه العسكر قبل أن
يفجأني ولبست ثياب الموت أكفانا، وتطيبت وتحنطت، فلما رأت الجارية
أن العسكر يقصد الحصن نزلت فعرفتني فلم يرعني إلا دق باب الحصن
فخرجت فإذا عبد الله بن طاهر واقف وحده منفردا عن أصحابه فسلمت
عليه سلام خائف، فرد على غير رد مستوحش وأومأت إلى تقبيل رجله في
الركاب، فمنع الطف منع وأحسن رد، وجلس على دكان على باب الحصن،
ثم قال: ليسكن روعك فقد أسأت الظن بنا. ولو علمنا أننا بزيارتنا لك
نروعك ما قصدناك. ثم أطال الانتظار في المسألة حتى رأى الثقة منى قد
ظهرت، فسألني عن سبب مقامي في البر وإيثاري إياه على الحاضرة ورفاهة
العيش، وعن حال ضيعتي ومعاملتي، فأجبته بما حضرني حتى لم يبق من
التأنيس شيئا أفضى الامر إلى مسائلتي عن حديث نصر بن شبث وكيف الطريق،
80

إلى الظفر به فأخبرته بما عندي في ذلك. ثم أقبل على وقد انبسطت في محادثته
انبساطا شديدا فقال أحب أن تنشدني القصيدة التي فيها:
يا ابن بنت النار موقدها * ما لحاديها سراويل
فقلت أصلح الله الأمير: قد أربت نعمتك على قدر همتي فلا تذكرها
بما ينغصها. فقال: إنما أريد الزيادة في طمأنينتك وتأنسك بأن لا تراني
متحفظا مما خفت وعزم على إنشاد القصيدة عزم مجد، فقلت يريد أن تطرأ
على سمعه فيزيد ما في نفسه فيوقع بي ولم أجد من إنشاده بدا فأنشدته
القصيدة فلما فرغت منها عاتبني عتابا شديدا، وكان منه أن قال: يا هذا
ما حملك على تكلف إجابتي؟ فقلت: الأمير أصلحه الله حملني على ذلك فقال
بماذا؟ فقلت بقوله:
وأبى من لا كفاء له * من يسامي مجده قولوا
فقلت كما تقول العرب وتفتخر السوقة على الملوك، وكان لما بلغت
إلى قولي:
يا ابن بنت النار موقدها * ما لحاديها سراويل
قال لي والله يا ابن مسلمة: لقد أحصينا في خزائن ذي اليمينين بعد موته
ألفا وثلاثمائة من السراويل ما أصلح في إحداهن تكة سوى ما استعمل في
اللبس، على أن الناس لا يفكرون في إدخال السراويل في كساهم، فاعتذرت
إليه بما حضرني من القول في هذا وجميع ما تضمنته القصيدة فقبل القول
وبسط العذر وأظهر الصفح وقال: قد دللتنا على ما احتجنا إليه من أمر نصر
ابن شبث فنستحسن القعود معنا في حربه والا يكون لك في الظفر به أثر
يشاكل إرشادك لوجوه مطالبه فاعتذرت إليه بلزوم منزلي وضيعتي وعجزي
عن السفر للقصور عن النفقة فقال: نكفيك ذلك وتقبله منا بإذنك
ودعا بصاحب دوابه فأمر بإحضار خمس مراكب من الخيل الهماليج بلجمها
وسروجها المحلاة، وبثلاث دواب من دواب الشاكرية، وبخمسة أبغل من
بغال النقل، واستقرأ ذلك وأمر صاحب كسوته بإحضار ثلاث تخوت من
81

أصناف الثياب الفاخرة، وأمر خازنه بإحضار خمس بدر دراهم فأحضر الجميع
فوضع على الدكان الذي كان جالسا عليه بباب الحصن ثم قال: كم مدة تأخرك
عنا إلى أن تحلق بنا فنزلت فقام ليركب فبادرت إلى يده لأقبلها فمنعني وركب
وسار وتبعه العسكر فما نزل منهم واحد، وخرجت السوداء فنقلت تلك الثياب
والبدر، وأخذ الغلمان الكراع وما لقيت عبد الله بعدها. قال عيسى بن
فرحا نشاه: أقمت عند محمد بن يزيد يومى وليلتي فأضافني أحسن ضيافة
وكانت مذاكرته لي بذلك أحب إلى من كل شئ فأسقطت عنه جميع خراجه
في تلك السنة وانصرفت.
حدثني عبد الله بن أحمد بن ذاسة المصري قال: سمعت أن بعض الجند
اغتصب امرأة على نفسها من الطريق فعرض الجيران ليمنعوه فضربهم هو
وغلمانه حتى تفرقوا وأدخل المرأة داره وقال: أغلقوا الباب. فأغلقوا الباب
وراودها عن نفسها فامتنعت فأكرهها ولحقها منه شدة حتى جلس منها مجلس
الرجل من المرأة فقالت له يا هذا: اصبر حتى يغلق باب قد بقي عليك. قال
أي باب؟ قالت الباب الذي بينك وبين الله. فقام وقال: قد فرج الله عنك
انصرفي لا أتعرض لك أبدا * وجدت في بعض الكتب أن الجاحظ أنفذ إلى
أحمد بن أبي دؤاد بعد نكبة محمد بن عبد الملك الزيات مقيدا في قميص رث
فأوقف بين يديه ليأمر فيه بأمره فقال له ابن أبي دؤاد: والله يا عمرو ما علمتك
إلا سبابا للنعمة، جاحدا للصنيعة، معددا للمثالب، مخفيا للمناقب وان الأيام
لا تصلح مثلك. لفساد طويتك، وسوء اختيارك. فقال الجاحظ: خفض
عليك فوالله لان تكون المنة لك على خير من أن تكون لي عليك، ولان
أسئ وتحسن أحسن في الأحدوثة عنك، ولان تعفو في حال قدرتك أجمل
بك من أن تنتقم. فقال لي ابن أبي دؤاد ما علمتك الا كثير رونق اللسان،
قد جعلت ثيابك أمام قلبك، ثم اصطفيت فيه النفاق. أعزب قبحك الله.
فانهض في قيوده ثم قال يا غلام: الحقه وخذ قيوده وصر به إلى الحمام واحمل
إليه خلعة يلبسها، واحمله إلى منزل يأوى به بفرش وفراش وآلة وقماش،
ويزاح فيه علله وادفع إليه عشرة آلاف درهم لنفقته إلى أن يصح من علته.
82

ففعل ذلك فلما كان من الغد رؤى الجاحظ متصدرا في مجلس ابن أبي دؤاد
وعليه خلعة من ثيابه، وطويلة من قلانسه وهو مقبل عليه بوجهه يقول
هات يا أبا عثمان.
أخبرني أبو الفرج الأصفهاني بإسناده عن إسحاق الموصلي قال: لم أر قط
مثل جعفر بن يحيى كانت له فتوة، وظرف وأدب، وحسن غناء، وضرب
بالطبل، وكان يأخذ بأجزل حظ من كل فن فحضرت باب الرشيد يوما فقيل
لي: إنه نائم فانصرفت. فلقيني جعفر بن يحيى قال لي ما الخبر؟ فقلت أمير
المؤمنين نائم. فقال لي قف مكانك ومضى إلى دار أمير المؤمنين فاعلم أنه
نائم. فرجع فقال سر بنا إلى المنزل حتى نخلو بقية يومنا وأغنيك ونأخذ
في شأننا من وقتنا هذا. فقلت نعم فصرنا إلى منزله فطرحنا ثيابنا. ودعا
بالطعام فطعمنا، وأمر بإخراج الجواري وقال ابرزن فليس عندنا من
نحتشمه. فلما وضع الشراب دعا بقميص حرير فلبسه، ودعا بخلوق فتخلق،
ودعا لي بمثل ذلك وجعل يغنيني وأغنيه، وكان قد تقدم إلى الحاجب ان لا يأذن
لاحد من الناس كلهم وان جاء رسول أمير المؤمنين اعلمه أنه مشغول واحتاط
في ذلك وتقدم إلى جميع الحجاب والخدم ثم قال إن جاء عبد الملك فأذنوا له.
يعنى رجلا كان يأنس به ويمازحه ويحضر خلواته، ثم أخذنا في شأننا
فوالله انى لعلى حالة سارة إذ رفع الستر وإذا عبد الملك بن صالح الهاشمي،
وغلط الحاجب ولم يفرق بينه وبين الذي يأنس به جعفر وكان عبد الملك
الهاشمي من جلالة القدر والتقشف والامتناع عن منادمة أمير المؤمنين على
أمر جليل، وكان أمير المؤمنين قد اجتهد أن يشرب قدحا فلم يفعل ترفعا
لنفسه، فلما رأيناه مقبلا أقبل كل واحد منا ينظر إلى صاحبه وكاد جعفر ينشق
غيظا وفهم الرجل حالنا، وأقبل نحونا حتى إذا صار إلى الرواق الذي نحن فيه
نزع جبته فرمى بها مع طيلسانه جانبا ثم قال: أطعمونا شيئا. فدعى له جعفر
بالطعام وهو منتقح غيظا ثم دعا برطل فشربه ثم أقبل إلى المجلس الذي نحن
فيه ثم أخذ بعضادتي الباب وقال: أشركونا فيما أنتم فيه. فقال له جعفر ادخل فدخل
بقميص حرير وخلوق فلبس وتخلق ثم دعا برطل ورطل حتى شرب عدة أقداح
83

ثم اندفع يغنينا فكان والله أحسن غناء. فلما طابت نفس جعفر بن يحيى
وسرى عنه ما كان فيه التفت إليه وقال له: ارفع حوائجك؟ فقال له:
ليس هذا موضع حوائج. قال لتفعلن، ولم يزل يلح عليه حتى قال أمير
المؤمنين على واجد كما علمت فأحب أن يرضى عنى. قال أمير المؤمنين قد
رضى عنك. فهات حوائجك: قال: هذه حاجتي، قال ارفع حوائجك كما أقول
لك؟ قال: على دين فادح. قال كم مبلغه؟ قال أربعة آلاف ألف درهم. قال هذه
أربعة آلاف ألف درهم. فإن أحببت أن تقبضها منى فاقبضها في منزلي الساعة
فإنه لم يمنعني من إعطائك إياها إلا أن قدرك يجلك عندي من أن يصلك مثلي
ولكني ضامن لها حتى تحمل إليك من مال أمير المؤمنين غدا. فسل أيضا:
فقال ابني تكلم أمير المؤمنين حتى ينوه باسمه. قال: قد ولاه أمير المؤمنين
مصرا وزوجه الغالية ابنته ومهرها عنه الفي ألف درهم من ماله. قال إسحاق:
فقلت في نفسي قد سكر الرجل أعني جعفرا فلما أصبحت حضرت دار
الرشيد فإذا جعفر بن يحيى البرمكي ووجدت في دار الرشيد جلبة فإذا أبو يوسف
القاضي رحمه الله تعالى ونظراؤه وقد دعى بهم، ثم دعى بعبد الملك بن صالح
وابنه فدخلا على الرشيد فقال الرشيد لعبد الملك: إن أمير المؤمنين قد كان
واجدا عليك وقد رضى عنك، وأمر لك بأربعة آلاف ألف درهم فاقبضها
من جعفر بن يحيى الساعة، ثم دعا بابنه فقال اشهدوا أنى قد زوجته الغالية
بنت أمير المؤمنين ومهرتها عنه من مالي الفي درهم ووليته مصرا، فلما خرج
جعفر سألته عن الخبر فقال: بكرت إلى أمير المؤمنين فحكيت له جميع ما كنا فيه
وما كان منا حرفا بحرف ووصفت له دخول عبد الملك وما كان منه فعجب
ثم سر به ثم قال لي وقد ضمنت له على أمير المؤمنين ضمانا فأوف بضمانك،
فأمر بإحضاره فكان ما رأيت.
أخبرني أبو الفرج الأصفهاني قال: جرى بين محمد الأمين وبين إبراهيم
ابن المهدى كلام وهما على مسرة فنفر الأمين لذلك ووجد على إبراهيم وبانت
لإبراهيم الوحشة منه فانصرف إلى منزله فأمر بحجابه عنه، وبلغ ذلك
84

إبراهيم فبعث إلى الأمين بالطاف ورقعة يسأل فيها صرف غضبه فرد الأمين
الهدية ولم يجب على الرقعة. فوجه إبراهيم إليه وصيفة مليحة مغنية كان قد
رباها وعلمها وبعث معها عودا معمولا من العود الهندي، مكللا بالجوهر
وألبسها حلة منسوجة بالقصب وقال أبياتا وغنى فيها وألقاها عليها، حتى
أخذت الصوت، وأحكمت الصنعة فيه فوقفت الجارية بين يدي أمير المؤمنين
وقالت له: عمك يا أمير المؤمنين يقول لك واندفعت تغنى شعرا:
هتكت الضمير برد اللطف * وكشفت هجرك لي فانكشف
فان كنت تحقد شيئا جرى * فهب للعمومة ما قد سلف
وجد لي بصفحك عن زلتي * فبالفضل يأخذ أهل الشرف
فقال لها الأمين: أحسنت يا صبية فما اسمك؟ قالت: هدية قال: أفأنت كاسمك
أم أنت عارية؟ قالت: أنا كاسمى وبه سماني لما أهداني إلى أمير المؤمنين،
فسر بها الأمين وبعث إلى إبراهيم بن المهدى فأحضره ورضى عنه وأمر له
بخمسين ألف دينار
وقف أحمد بن عروة بين يدي أمير المؤمنين المأمون لما عزله عن الأهواز
فقال له: خربت البلاد، وقتلت العباد، والله لأفعلن بك ولأفعلن. فقال
يا أمير المؤمنين ما تحب أن يفعل الله بك إذا وقفت بين يديه وقد قرعك
بذنوبك. قال: العفو والصفح. قال: فافعل بعبدك ما تحب أن يفعل بك
مولاك. قال قد فعلت ارجع إلى عملك، فوال مستعطف خير من وال
مستأنف، وروى أنه جنى غلام للحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم
أجمعين جناية توجب العقاب فأمر به أن يضرب فقال يا مولاي (والكاظمين
الغيظ) قال خلوا عنه. فال يا مولاي: (والعافين عن الناس) قال: قد
عفوت عنك. قال يا مولاي (والله يحب المحسنين) قال أنت حر لوجه الله تعالى
ذلك ضعف ما كنت أعطيك * قال الأصمعي أتى عبد الملك بن مروان برجل
قامت عليه البينة بسرقة فأمر بقطع يده فقال الرجل
يدي يا أمير المؤمنين أعيذها * بعفوك من عار على يشينها
85

فلا خير في الدنيا ولا في نعيمها * إذا شمال فارقتها يمينها
قال هذا حد من حدود الله تعالى ولابد من إقامته عليك، فقامت أمه
وكانت عجوزا كبيرة السن فقالت يا أمير المؤمنين: كادي وكاسبي وابني وواحدي
فهبه لي. فقال لها بئس الكاد والابن والواحد هو لابد من إقامة حد الله
فقالت يا أمير المؤمنين: فاجعله بعض ذنوبك التي تستغفر الله تعالى منها. قال
خلوه وأطلقه * أخبرني الفضل بن الربيع قال: رأيت مروان بن أبي حفصة
وقد دخل على المهدى بعد وفاة معن بن زائدة في جماعة من الشعراء فيهم سلم
الحاسر وغيره فأنشده مديحا فقال له: من أنت؟ فقال له: شاعرك يا أمير
المؤمنين وعبدك مروان بن أبي حفصة فقال له المهدى ألست القائل:
أقمنا بالمدينة بعد معن * مقاما لا نريد به زوالا
وقلنا أين نرحل بعد معن * وقد ذهب النوال فلا نوال
قد ذهب النوال كما زعمت فلم جئت تطلب نوالنا؟! جروا برجله
فجروا رجله حتى أخرج، فلما كان في العام المقبل تلطف حتى أدخل مع
الشعراء وإنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء في كل عام مرة فمثل بين
يديه وأنشده بعد رابع أو خامس شعرا:
طرقتك زائرة فحى خيالها * بيضاء تخلط بالحياء دلالها
نادت فؤادك فاستقاد ومثلها * قاد القلوب إلى الضنا فأمالها
قال فأنصت له حتى بلغ إلى قوله:
هل تطمسون من السماء نجومها * بأكفكم أو تسترون هلالها
أو تجحدون مقالة عن ربه * جبريل بلغها النبي فقالها
شهدت من الأنفال آخر آية * بتراثيم فأردتم أبطالها
قال: فرأت المهدى قد زحف من صدر مصلاه حتى صار على البساط
إعجابا بما سمع ثم قال: كم هي؟ قال: مائة بيت فأمر له بمائة آلف درهم فكانت
أول مائة ألف أعطيها شاعر في أيام بنى العباس.
أخبرني أبو الفرج الأصفهاني عن الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم
86

ابن مهرويه، عن عبد الله بن سعيد قال: غضب الرشيد على العباس وحجبه فدخل
سرا مع المتظلمين بغير إذن فمثل بين يدي الرشيد فقال له يا أمير المؤمنين:
قد أدبتني الناس لك ولنفسي فيك وردني ابتلاؤهم إلى شكرك وما مع ذكرك
قناعة بأحد غيرك، ولنعم الصائر لنفسي كنت لو أعانني عليك الصبر ولذلك
أقول شعرا:
أخضني المقام الغمر إن كان غرني * نسا حلب أو زلت القدمان
أتتركني جدب المعيشة مقفرا * وكفاك من ماء الندا يكفان
وتجعلني سهم المطامع بعدما * بللت يدي من ماء الندا ولساني
قال فخرج وعليه الخلع وقد أمر له بجائزة فما رأيت العباس قد أنشط
منه يومئذ. قال أبو الفرج في البيتين الأولين غناء لمخارق ثاني ثقيل بالوسطى
حدثني عون بن محمد قال: حدثنا سعيد بن هريم قال: قال المأمون للفضل بن
الربيع: يا فضل ما كان من حقي عليك وحق آبائي ونعمهم عند أبيك وعندك
أن تثلبني وتشتمني وتحرض على دمى أتحب أفعل بك مع القدرة عليك
ما أردته بي؟ فقال الفضل: يا أمير المؤمنين إن عذرى لا يقوم عندك وإن كان
واضحا جميلا فكيف إذا عفته العيوب وقبحته الذنوب فلا يضيق عنى من
عفوك ما وسع غيري منه فأنت والله كما قال الشاعر فيك:
صفوح عن الاجرام حتى كأنه * من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى * إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
قال الصولي: والشعر للحسن بن رجاء * وقرئ على أبى بكر الصولي في
كتابه " كتاب الوزراء " بالاسناد عن الحسن بن عيسى الأنباري الكاتب قال:
أمر المأمون محمد بن بزوان والوزير أحمد بن أبي خالد أن يناظرا عمرو بن مسعدة
في مال الأهواز فناظراه فتحصل عليه ستة عشر ألف ألف درهم فأعلم محمد
المأمون بذلك. فقال له المأمون: أقبل كل حجة له وكل ادعاء وكل تعلق. قال قد
فعلت. قال عد لذلك فعاد فتعلق عمرو بأشياء لا أصل لها فسقطت من المال
عشرة آلاف الف وبقى ستة آلاف ألف درهم لا حجة له فيها أخذ خطه بها
87

فأخذ المأمون الرقعة ثم أحضر عمرا بعد خروج محمد فقال: هذه رقعتك؟ فقال
نعم. فقال: وهذا المال واجب عليك؟ قال: نعم قال: فخذ رقعتك فقد وهبناه
لك قال إذا تفضلت به يا أمير المؤمنين فإنه واجب لو أجزت به على أحمد بن
عروة عامل الأهواز وهو مقر به، وأشهدك أنى قد وهبته له. فاغتاظ
المأمون وخرج عمرو وقد عرف غيظ المأمون وخطأه فيما عمله فلجأ
إلى أحمد بن أبي خالد فأخبره بالخبر وكان يخصه. فقال لا عليك فدخل
إلى المأمون فلما رآه قال: ألا نعجب يا أحمد من عمرو وهبنا له ستة آلاف
ألف درهم بعد أن تجافينا له عن أضعافها فوهبها بي يدي من أحمد بن عروة
كأنه أراد أن يباريني ويصغر معروفي؟ قال أو فعل هذا يا أمير المؤمنين؟! قال
نعم. قال لو لم يفعل هذا لوجب أن يسقط حاله. قال وكيف؟ قال لأنه لو استأثر
به على أحمد بن عروة وآخذ أحمد بالمال وأداه إليه كان قد أخرجه من
معروفك صفرا، ولما كانت نعمتك على عمرو نعمة على أحمد وهما خادمان،
وكان الأجمل أن يتضاعف معروفك عندهما فقصد عمرو ذلك فصار المال
تفصلا منك على عمرو وعلى أحمد بن عروة. ومع ذلك فأنت سيد عمرو
ولا يعرف سيدا غيرك، وعمرو سيد أحمد فاقتدى في أمر أحمد بما فعلته في
أمره، وأراد أيضا أن يسير في ملوك الأمم أن خادما من خدمك اتسع قلبه
لهبة هذا المال من فضل احسانك إليه فيزيد في جلالة المملكة وجلالة قيمتها
فيكسر ذلك الأعداء الذين يكاثرونك. فسرى عن المأمون وزال ما بقلبه على
عمرو * وغضب الرشيد على محمد بن الأشعث غضبا شديدا من كلام جرى
بينهما فخاف جعفر أن يستفزه الغضب فقال يا أمير المؤمنين: إنما تغضب لله فلا
تغضب له بما لم يغضب به لنفسه، فانعطف له الرشيد * أحضر هشام بن
عبد الملك إبراهيم بن أبي عيلة الذي تقلد ديوان الحكم لمروان بن محمد فقال
له: إنا قد عرفناك صغيرا وخبرناك كبيرا وأريد أن أخلطك بحاشيتي وقد
وليتك الخراج بمصر فاخرج إليها، فأبى إبراهيم وقال ليس الخراج من عملي
ولا لي بصر به. فغضب هشام عليه غضبا شديدا حتى خاف إبراهيم بادرته فقال
يا أمير المؤمنين: تأذن لي في الكلام؟ قال: قل، قال: يقول الله عز وجل: (انا
88

عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال (1)). الآية فوالله ما كرهها
ولا سخط عليها ولقد ذم الانسان لما قبلها. فقال هشام: أبيت الا رفقا، فأعفاه
ورضى عنه * استسلف موسى بن عبد الملك من بيت المال الخاصة مالا إلى
أجل قريب، وضمن للمتوكل رده فحل الاجل والمال متأخر فاغتاظ المتوكل
من مدافعته به، وقال لعبد الله بن يحيى بن خلعان: وقع إليه عنى برد المال
اليوم وضيق عليه في المطالبة، وأنفذ التوقيع مع عتاب بن عباب ومره
بأن يطالبه فان أخر المال فاضربه بالمقارع في ديوان الخراج بحضرة الناس
ولا ترفع المقارع عنه الا بحضور المال. فأدى بعض الخدم إلى موسى بالخبر
فجلس ينظر في وجوه يرد منها المال ويجد وصار إليه عتاب بالتوقيع مختوما
وكان ذلك اليوم شديد الحر وقد انتصف النهار وموسى في خيش له في حجرة
من ديوانه يتناوب عليه فراشان يروحانه بها، فدخل عتاب، وفى يد موسى
كتاب طويل يقرأه، وقد أكب موسى عليه يتشاغل به عن خطاب عتاب،
وأصاب عتابا برد الخيش والمروحة فنام جالسا وقد ثقل، وكان عتاب قد
أخرج الكتاب الذي معه حين جلس فوضعه على دواة موسى فغمز موسى
بعض غلمانه فأخذ الكتاب بعينه وما زال عتاب ينام وينتبه، وموسى يعمل
إلى أن انقضت الهاجرة وقد توجه بعض المال. وأنفذ بعض أصحابه لقبضه
فقال له عتاب أنظر فيما جئنا به. قال أصلحك الله: فيم جئت به؟ قال فيما تضمن
الكتاب، قال: أي كتاب؟ قال الكتاب الذي أوصلته إليك من أمير
المؤمنين. قال متى؟ قال: الساعة وضعته على دواتك. قال أحسبك رأيت
في النوم شيئا. فطلب عتاب الكتاب فلم يجده فقال: سرق الكتاب والله
يا أصحاب الاخبار اكتبوا. فقال موسى: يا أصحاب الاخبار اكتبوا كذب
فيما ادعاه ما أوصل إلى كتابا وأنتم حضور فهل رأيتموه أوصل إلى شيئا؟
لعلك يا أبا محمد ضيعت الكتاب في طريقك فانصرف عتاب إلى عبد الله
فأخبره فدخل عبد الله إلى المتوكل فحدثه فضحك وقال: احضروا موسى
الساعة. فحضر. فقال له المتوكل: يا موسى سرقت الكتاب من عتاب؟ قال:

(1) الأحزاب 72
89

أي والله يا سيدي خمنت أنه كتب بمكروه، ونام عتاب قبل أن يوصل
الكتاب، فأمرت من سرق منه الكتاب، وقد أعددت نصف المال والساعة
أحمله إلى بيت المال الخاصة، وأحمل النصف الباقي بعد خمسة أيام وأقبل
يتضرع فأنفذ المتوكل معه من يقبض المال وانصرف وقد رضى عنه * ذكر
المدايني في كتابه قال أرسل زياد إلى رجل من بنى تميم من قعدة الخوارج
فاستدعاه، فجاءه خائفا فقال له زياد: ما يمنعك من إتياني؟ قال قدمت علينا
وقلت لا أعدكم خيرا ولا شرا إلا وفيت به وأنجزته وقلت من كف لسانه
ويده لم أتعرض له فكففت لساني ويدى، وجلست في بيتي فأمر له بصلة
وخرج والناس لا يشكون أنه قتيل فقالوا له: ما قال لك الأمير؟ فقال ما كلكم
أستطيع أن أخبره بما كان عندنا ولكني وصلت إلى رجل لا يملك لنفسه
ضرا ولا نفعا فرزق الله تعالى فيه خيرا * أخبرني أبو الفرج الأصفهاني
بإسناده أن المأمون أقام بعد قدومه إلى بغداد عشرين شهرا، لم يسمع حرفا
من الأغاني، ثم كان أول من تغنى بحضرته أخوه أبو عيسى بن الرشيد، ثم
واظبه على السماع مستترا متشبها بالرشيد في أول أمره فأقام المأمون كذلك
أربع حجج ثم ظهر للندماء والمغنين وكان حين أحب السماع سأل عنى فخرجت
بحضرته فقال الطاعن على ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلفاء
ما أبقى هذا من التيه شيئا إلا استعمله، فأمسك عن ذكرى وجفاني من
كان يصلني، لسوء رأيه الذي ظن في، فأضر ذلك بي حتى جاءني علوية
يوما فقال: أتأذن لي في ذكرك فانا قد دعينا اليوم. فقلت: لا ولكن
غنه بهذا الشعر فإنه سيبعثه على أن يسألك لمن هو ذا؟ فإذا سألك لمن هو
انفتح لك ما تريده فكان الجواب أسهل عيك من الابتداء قال: هات فألقيت
عليه لحني في شعري:
يا سرحة الماء قد سدت موارده * أما إليك طريق غير مسدود
لحائم حام حتى لا حيام له * مخلاءة عن طريق الماء مطرود
قال أبو الفرج: والغناء فيه لا سحق الموصلي رمل بالوسطى * رجع
90

الحديث. فغنى علوية لما استقر المجلس غناء بالشعر الذي أمره به فقال:
ويلك يا علوية لمن هذا الشعر؟ فقلت: سيدي لعبد من عبيدك جفوته
وطردته من غير جرم فقال: إسحاق المغنى قلت نعم، قال: يحضر الساعة
فجاءني رسوله فصرت إليه فلما دخلت عليه قال: ادن منى فدنوت إليه
فرفع يديه فانكببت فاحتضنني بيديه وأظهر من برى وإكرامي ما لو أظهره
صديق لصديقه لسره.
91

الباب الخامس
من خرج من حبس أو أسر أو اعتقال، إلى سراح
وسلامة وصلاح حال
حدثنا أبو العباس أحمد المعروف بالأشرم المقرئ الخياط البغدادي
بالبصرة بالاسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين أنه لما أصاب
من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركته هوازن بالجعرانة قد
أسلموا، فقالوا يا رسول الله: إنا أهل عشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم
يخف عليك فامنن علينا من الله عليك، وقام خطيهم زهير بن صرد فقال
يا رسول الله: إن ما في الحظائر من النساء خالاتك وعماتك وحواضنك
اللاتي تكفلنك ولو إنا صابحنا ابن أبي شمر الغساني أو النعمان بن المنذر *
ثم أصابنا منهم الذي أصابنا منك، رجونا عائدهما أو عطفهما، وأنت خير
المكفولين ثم أنشده شعرا:
امنن علينا رسول الله في كرم * فإنك المرء نرجوه وننتظر
امنن على بيضة قد عاقها قور * مفرق شملها في دارها غير
أبقت لنا الحرب أقواها على حذر * على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تبشرهم * يا أرجح الناس حلما حين تختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك تملاه من محضها درر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فانا معشر زهر
إنا لنشكر للنعماء إذ كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
يا خير من مرحت كمت الجياد به * عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
فالبس العفو من قد كنت ترضعه * من أمهاتك إن العفو مشتهر
إنا نؤمل عفوا منك نلبسه * هادي البرية إذ تعفو وتنتصر
عفوا عفا الله عما أنت وأهبه * يوم القيامة إذ يهدى لك الظهر
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشعر قال: " ما كان لي ولبنى
92

عبد المطلب فهو لكم ". فقالت قريش: ما كان لنا فهو لله عز وجل ولرسوله
صلى الله عليه وسلم فأطلقهم * أخبرني أبو بكر الصولي قال. كان القاسم بن
عبد الله الوزير قد تقدم عند وفاة المعتضد بالله إلى صاحب الشرطة يونس
الخازن أن يوجه إلى عبد الله ابن المعتز، وقصي بن المؤيد، و عبد العزيز بن
المعتمد فيحبسهم في دار ففعل ذلك وكانوا في الحبس خائفين إلى أن قدم
المكتفى بالله بغداد فعرف خبرهم وأمر بإطلاقهم ووصل كل واحد منهم بألف
دينار * حدثنا عبد الله بن المعتز قال: سهرت ليلة قدم في صبيحتها المكتفى إلى
بغداد فلم أنم خوفا على نفسي وقلقا بوروده، فمرت بي في السحر طير فصاحت
فتمنيت أن أكون مثلها لما يجرى على من النكبات ثم فكرت في نعم الله عز وجل
وما رخاه لي من الاسلام والقربة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أؤمله
من البقاء الدائم في الآخرة فقلت في الحال:
يا نفس صبرا لعل الخير عقباك * حاشاك بعد طول الا من دنياك
مرت بنا سحرا طير فقلت لها * طوباك يا ليتني إياك طوباك
لكن هو الدهر فألقيه على حذر * فرب مثلك ينزو تحت اشراك
فلما أصبحت أفرج عنى ووصلني بأشياء لم تكن في حسابي * حدثني علي بن
هشام الكاتب عن أبي القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد قال: لما بعد أبي إلى مصر
لازمت أبا عبادة البحتري وأبا معشر المنجم وكنت أسر بهما في وحدتي
وملازمتي البيت وكانا في أكثر الأوقات عندي يحدثاني ويعاشراني فحدثاني
يوما أنهما ضاقا إضاقة شديدة وكانا مصطحبين فعن لهما أن يلقيا المعتز
بالله وهو محبوس فيتوددا إليه ويؤصلا عنده أصلا فتوصلا حتى لقياه
في حبسه. قال البحتري: فأنشدته أبياتي التي قلتها في محمد بن يوسف الثغري
لما حبس وخاطبت بها المعتز كأني عملتها إليه في الحال:
جعلت فداك الدهر ليس بمنفك * من الحادثات المشكو والنازل المشكى
وما هذه الأيام إلا منازل * فمن منزل رحب ومن منزل ضنك
93

وقد هذبتك الحادثات وإنما * صفى الذهب الابريز قبلك بالسبك
أما في رسول الله يوسف أسوة * لمثلك محبوسا على الظلم والإفك
أقام جميل الصبر في الحبس برهة * فنال به الصبر الجميل إلى الملك
على أنه قد ضيم في حبسك العلى * وأصبح عز الدين في قبضة الشرك
فأخذ الرقعة التي فيها الأبيات فرفعها إلى خادم كان واقفا على رأسه وقال
احفظها وغيبها فان فرج الله عز وجل عنى فذكرني بها لأقضي حق هذا
الرجل الحر: وقال لي أبو معشر وقد كنت أنا أخذت مولده وقت عقد له
العقد ووقت عقدت البيعة للمستعين بالخلافة فنظرت في ذلك وصححت الحكم
للمعتز بالخلافة بعد فتنة تجرى وحروب وحكمت على المستعين بالقتل فسلمت
ذلك إلى المعتز وانصرفنا وضرب الدهر ضربه وصح الحكم فأمره قال لي
أبو معشر: فدخلت أنا والبحتري إلى المعتز بالله وهو خليفة بعد المستعين
وتغريقه فقال لي المعتز: لم أنسك وقد صح حكمك وقد أجريت لك في كل
شهر مائة دينار رزقا وثلاثين دينارا نزلا وجعلتك رئيس المنجمين في دار
الخلافة وأمرت لك عاجلا باطلاق ألف دينار صلة فقبضت ذلك كله من
يومى وقال لي البحتري فتقدمت وأنشدت المعتز قصيدة مدحته بها وهنأته
بالخلافة وهجوت فيها المستعين أولها:
يجانبنا في الحب من لا نجانبه * ويبعد عنا في الهوى من نقاربه
حتى انتهيت إلى قولي:
وكيف رأيت الحق قر قراره * وكيف رأيت الظلم آلت عواقبه
ولم يكن المعتز قد سرى * ليعجز والمغتر بالله طالبه
رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر * وعرى من برد النبي مناكبه
وقد سرني إن قيل وجد عاريا * من الشرق تحدو سقبه وركائبه
إلى واسط حيث الدجاج ولم يكن * لينشب إلا في الدجاج مخالبه
قال فاستعاد منى هذه الأبيات مرارا فأعدتها ودعا بالخادم الذي كان
معه في الحبس وطلب الرقعة التي كنت أنشدته الشعر الذي فيها في حبسه
94

فأحضره إياها بعينها فقال: قد أمرت لك بكل بيت منها بألف دينار، وكانت
ستة أبيات فأعطيت ستة آلاف دينار، ثم قال لي: كأني بك قد بادرت
فاشتريت منها غلاما وفرسا وجارية والتفت وقال: لا نفعل فإن لك فيما نستأنف
معنا في أيامنا ومع وزرائنا وأسبابنا إذا عرفوا موضعك عندنا غناء عن
ذلك، ولكن أفعل بهذا المال كما فعل ابن قيس الرقيات بالمال الذي وصل إليه
من عبد الله بن جعفر اشتر به ضيعة جليلة تنتفع بغلتها ويبقى عليك وعلى
ولدك أصلها. فقلت: السمع والطاعة وخرجت فاشتريت بالمال ضيعة جليلة *
أخبرني أبو بكر الصولي إجازة ونقلته من خطله قال: حدثني إبراهيم القنوي،
قال: طولب أبو سعيد الثغري بعد عزواته المشهورة وسلم إلى أبى الخير
النصراني الجهبذ ليستخرج المال منه فجعل يعذبه فشق ذلك على المسلمين وقالوا
آخذه بثار النصرانية فقال البحتري:
أيا ضيعة الدنيا وضيعة أهلها * والمسلمين وضيعة الاسلام
طلبت دخول الشرك في دار الهدى * بين المداد وألسن الأقلام
هذا ابن يوسف في يدي أعدائه * يجزى على الأيام بالأيام
نامت بنو العباس عنه ولم تكن * عنه أمية لو دعت بنيام
فقرئ هذا الشعر على المتوكل، فأمر بإطلاق أبي سعيد وأمر بإحضار
البحتري واتصل به وكان أول شعر أنشده:
* جعلت فداك الدهر ليس بمنفك *
وجدت في كتاب صاحب أبى الفرج المخزومي الخطى، عن أبي طالب
الجعفري، أنه سمع رجلا يحدث، عن محمد بن الفضل الجرجاني في وزارته
للمعتصم قال: كنت أتولى ضياع عجيف بكسكر فرفع على أنى خنته وأخربت
الضياع فانفذ إلى من يقيدني فأدخلت عليه في داره بسر من رأى على تلك الحالة،
فإذا هو يطوف على ضياع فيها، لما نظرني شتمني فقال: أخربت الضياع
ونهبت الأموال، والله لأقتلنك هاتوا السياط. فأحضرت وسحبت للضرب،
فلما رأيت ذلك ذهب على أمرى وبلت على ساقى، ونظر كاتبه إلى فقال
95

لعجيف أعز الله الأمير: أنت مشغول القلب بهذا البناء وضرب هذا وقتله
في أيدينا ليس يفوت، فمر بحبسه وانظر في أمره فان كانت الوقيعة صحيحة
فليس يفوتك عقوبته، وإن كانت باطلة لم تتعجل الاثم وتنقطع عما أنت
بسببه من الهم. فأمر بي إلى الحبس فمكثت به أياما وغزا أمير المؤمنين
المعتصم فاتصل بكاتبه الخبر فأمر بإطلاقي وأطلقني، وخرجت وما اهتدى إلى
حبة فضة فما فوقها فقصدت صاحب الديوان بسر من رأى فتوجع من سوء
حالي وعرض على ماله فقلت بل تتفضل بتصريفي في شئ أستتر بجائزته،
فقلدني عملا بنواحي ديار ربيعة واقترضت من التجار لما سمعوا خبر ولايتي
ما تجملت به إلى العمل، وخرجت وكان من ضياع العمل ضيعة تعرف
بكراثا فرأيتها في بعض طريقي ونزلت دارا منها، فلما كان السحر وجدت
المستحم ضيقا غير نظيف. وخرجت من الدار فإذا بتل فجلست أبول
عليه وخرج صاحب الدار فقال: أتدري على أي شئ بلت؟ قلت على تل
تراب. فضحك وقال: هذا قبر رجل يعرف بعجيف من قواد السلطان، كان
سخط عليه وحمل مقيدا فلما صار إلى ههنا قتل وطرح في هذا المكان تحت
حائط. فما انصرف العسكر طرحنا الحائط عليه لنواريه من الكلاب.
قال فتعجبت من بولي خوفا منه وبولي على قبره * وروى ابن دريد عن أبي
حاتم، عن أبي معمر عن رجل من أهل الكوفة قال: كنا مع مسلمة بن
عبد الملك ببلاد الروم فسبا سبيا كثيرا وأقام ببعض المنازل فعرض السبي
على السيف فقتل خلقا حتى عرض عليه شيخ ضعيف فأمر بقتله. فقال:
ما حاجتك إلى قتل شيخ مثلي؟ إن تركتني جئتك بأسيرين من المسلمين شابين.
قال: ومن لي بذلك؟ قال: إني إذا وعدت وفيت. قال: لست أثق إليك.
قال: فدعني أطوف في عسكرك لعلى أعرف من يكفلني إلى أن امضى وأجئ
بالأسيرين فوكل به من أمره بالطواف معه في عسكره والاحتفاظ به فما زال
الشيخ يطوف ويتصفح الوجوه حتى مر بفتى من بنى كلاب قائما يحسن فرسه.
فقال يا فتى: اضمني من الأمير وقص عليه قصته. قال: أفعل. وجاء الفتى معه
إلى مسلمة فضمنه فأطلقه مسلمة فلما مضى. قال: أتعرفه؟ قال: لا والله.
96

قال ولم ضمنته؟ قال رأيته يتصفح الوجوه فاختارني من بينهم وكرهت أن
أخلفه ظنه. فلما كان من الغد عاد الشيخ ومعه أسيران من المسلمين شابان
فدفعهما إلى مسلمة وقال: يأذن الأمير في هذا الفتى أن يصير معي إلى حصني
لأكافئه على فعله معي؟. قال مسلمة للكلبي: إن شئت فامض معه. فلما مضى
وصار معه إلى حصنه. قال له يا فتى: تعلم والله أنك ابني. قال: وكيف أكون
ابنك وأنا رجل من العرب مسلم وأنت من الروم نصراني؟ قال أخبرني عن
أمك ما هي؟ قال رومية. قال فانى أصفها لك فبالله إن صدقت الا صدقتني.
قال: افعل. فأقبل الرومي يصف أم الصبي ما خرج منها شيئا. فقال: هي
كذلك. فكيف عرفت انى ابنها قال بالشبه، وتعارف الأرواح، وصدق
الفراسة. ثم أخرج إليه امرأة فلما رآها الفتى لم يشك في أنها أمه لشدة شبهها
بها، وخرجت معها عجوز كأنها هي فأقبلن يقبلن رأس الفتى. فقال له الشيخ:
هذه جدتك وهذه خالتك. ثم طلع من حصنه فدعا بشباب في الصحراء
فأقبلوا فكلمهم بالرومية فجعلوا يقبلون رأس الفتى ويديه ورجليه ويترشفونه.
فقال: هؤلاء أخوالك وبنو خالاتك وبنو عم والدتك، ثم أخرج إليه حليا
كثيرا وثيابا فاخرة فقال: هذا لوالدتك عندنا منذ سبيت فخذه معك فادفعه
إليها فإنها ستعرفه، ثم أعطاه لنفسه مالا كثيرا وثيابا جليلة وحمله على عدة
دواب وبغال وألحقه بعسكر مسلمة وانصرف. فأقبل الفتى قافلا حتى دخل
منزله فأقبل يخرج الشئ بعد الشئ مما عرفه الشيخ أنه لامه فتراه فتبكى.
فيقول لها: قد وهبته لك فلما أكثر هذا عليها قالت يا بنى: أسألك بالله من أي
بلد صارت إليك هذه الثياب، وهل قتلتم أهل هذا لحصن الذي كان هذا فيه؟
فقال لها الفتى: صفة الحصن كذا وكذا، وصفة البلد كذا وكذا. ورأيت فيه
قوما من حالهم كذا فوصف لها أمها وأختها وأولادهما وهي تبكى وتقلق.
فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: الشيخ والله والله أبى، والعجوز أمي وتلك
أختي فقص عليها الخبر وأخرج بقية ما كان معه مما أنفذه أبوها إليها فدفعه لها.
97

وجدت في كتاب أبى الفرج المخزومي الحنطي، عن أبي أمية الهشامي
بإسناده، عن منارة صاحب الخلفاء قال: رفع إلى هارون الرشيد أن رجلا
بدمشق من بقايا بنى أمية عظيم الجاه، واسع الدنيا كثير المال والاملاك،
مطاعا في البلد له جماعة وأولاد ومماليك وموال يركبون الخيل ويحملون
السلاح ويغزون الروم، وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمن
منه فعظم ذلك على الرشيد. قال منارة: وكان وقوف الرشيد على هذه الحال
وهو في الكوفة في بعض خرجاته إلى الحج في سنة ست وثمانين ومائة وقد
عاد من الموسم وبايع أمير المؤمنين الأمين والمأمون والمؤمن أولاده فدعاني
وهو خال فقال: إني دعوتك لأمر يهمني وقد منعني النوم فانظر كيف تعمل
وتكون، ثم قص على خبر الأموي وقال: اخرج الساعة فقد أعددت لك
الجهازات، وأزحت عنك في الزاد والنفقة والآلات، فضم إليك مائة غلام
واسلك البرية وهذا كتابي إلى أمير دمشق ليركب في جيشه، فاقبضوا عليه
وجئني به. وقد أجلتك لذهابك ستة، ولعودك ستة، ويوما لقعودك وهذا
محمل تجعله في شقة إذا قيدته وتجلس أنت في الشق الآخر، ولا تكل حفظه
إلى غيرك، حتى تأتيني به اليوم الرابع عشر من خروجك، فإذا دخلت داره
فتفقدها وجميع ما فيها وولده وأهله وحاشيته وغلمانه وما يقولون، وقدر
النعمة والحال والمحل واحفظ ما يقوله الرجل حرفا حرفا من جميع ألفاظه
مند وقوع طرفك عليه إلى أن تأتيني به، وإياك أن يشذ عليك شئ من
أمره انطلق. قال منارة: فودعته وخرجت فركبت الإبل وسرت أطوى
المنازل وأسير الليل والنهار، ولا أنزل إلا للجمع بين الصلاتين والبول
وتنفيس الناس قليلا إلى أن وصلت إلى دمشق في أول الليلة السابعة وأبواب
البلد مغلقة فكرهت طرقها ونمت بظاهرها إلى أن فتح بابها من غد فدخلت
على هيئتي حتى أتيت باب الرجل وعليه طفف كثيرة وحاشية كثيرة فلم أستأذن
ودخلت بغير إذن، فلما رأى القوم ذلك سألوا بعض من معي عنى
فقالوا: هذا منارة صاحب أمير المؤمنين أرسله أمير المؤمنين إلى صاحبكم
98

فأمسكوا فلما صرت في صحن الدار نزلت ودخلت مجلسا رأيت فيه قوما
جلوسا فظننت أن الرجل فيهم فقاموا إلى ورحبوا بي وأكرموني فقلت
أفيكم فلان؟. قالوا: لا نحن أولاده وهو في الحمام. قلت: فاستعجلوه فمضى
بعضهم يستعجله وأنا أفتقد الدار والأحوال والحاشية فوجدتها قد ماجت
بأهلها موجا شديدا فلم أزل كذلك حتى خرج الرجل بعد أن أطال فاستربت
واشتد قلقي وخوفي من أن يتوارى إلى أن رأيت شيخا قد أقبل بزي الحمام
يمشى في الصحن، وحواليه جماعة كهول وأحداث وصبيان هم أولاده، وغلمان
كثيره فعلمت أنه الرجل فجاء وسلم على سلاما خفيقا وسألني عن أمير المؤمنين
واستقامة أمر حضرته، فأخبرته بما وجب، وما قضى كلامه حتى جاءوه بأطباق
الفاكهة فقال لي: تقدم يا منارة كل معنا. فقلت ما بي إلى ذلك حاجة فلم
يعاودني فأقبل يأكل هو والحاضرون معه ثم غسل يده، ودعا بالطعام
فجاءوه بمائدة حسنة عظيمة لم أر مثلها إلا للخليفة. فقال لي: تقدم يا منارة
فساعدني على الاكل. لا يزيدني على أن يدعوني باسمي كما يدعوني الخليفة.
فامتنعت عليه فما عاودني وأكل هو وأولاده وكانوا تسعة وجماعة كثيرة من
أصحابه. وتأملت أكله في نفسه فوجدته أكل الملوك ووجدت جأشه رابضا
وذلك الاضطراب الذي في داره قد سكن ووجدته لا يرفع من بين يديه شئ
قد جعل على المائدة إلا ويوهب، وقد كان غلمانه لما نزلت الدار أخذوا جمالي
وجميع غلماني فعدلوا بهم إلى دار له فما أطاقوا مما نعتهم، وبقيت وحدي ليس
بين يدي إلا خمسة أو ستة غلمان وقوف على رأسي. فقلت في نفسي: هذا جبار
عنيد وإن امتنع على من الشخوص لم أطق أشخاصه بنفسي ولا بمن معي ولا حفظه
إلى أن يلحقني أمير البلد، وجزعت جزعا شديدا ورابني منه استخفافه بي وتهاونه
بأمري ويدعوني باسمي ولا يفكر في امتناعي من الاكل ويسألني عما جئت له
ويأكل مطمئنا وأنا أفكر في ذلك إذ فرغ من طعامه وغسل يده واستدعى
بالبخور فتبخر وأقام الصلاة فصلى الظهر وأكثر من الدعاء والابتهال ورأيت صلاته
حسنة فلما انفتل من صلاته أقبل على فقال: ما أقدمك يا منارة؟ فقلت أمر لك من
99

أمير المؤمنين وأخرجت الكتاب ودفعته إليه ففضه وقرأه، ولما استتم قراءته
دعا أولاده وحاشيته فاجتمع منهم خلق فلم أشك أنه يريد أن يوقع بي فلما
تكاملوا ابتدأ فحلف أيمانا غليظة فيها الطلاق، والعتاق، والحج، والصدقة،
والوقف، والحبس، ان لا يجتمع منهم اثنان في موضع، وأن ينصرفوا ويدخلوا
غلمانه وحاشيته منازلهم فلا يظهر منهم أحد إلى أن ينكشف له أمر يعمل
عليه. وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني بالمسير إلى بابه، ولست أقيم
بعد نظري فيه لحظة واحدة فاستوصوا بمن ورائي من الحرم خيرا، وما بي
حاجة أن يصحبني غلام. هات إقيادك يا منارة فدعوت بها وأنت في سفط،
واحضر حدادا ومد ساقيه فقيدته وأمرت غلماني بحمله حتى حصل في المحمل،
وركبت الشق الآخر وسرت من وقتي ولم ألق أمير البلد ولا غيره وسرت
بالرجل ليس معه أحد إلى أن صرنا بظاهر دمشق فابتدأ يحدثني بانبساط حتى
انتهينا إلى بستان حسن في الغوطة فقال لي: ترى هذا؟. قلت: نعم قال: إنه لي
ولى فيه غرائب من الأشجار كيت وكيت، ثم انتهى إلى بستان آخر. فقال لي
فيه مثل ذلك، ثم انتهينا إلى مزارع حسان وقرى سرية فأقبل يقول هذا لي
ويصف كل شئ فيه من ذلك فاشتد غيظي منه فقلت له: علمت أنى شديد
التعجب منك! قال: فلم؟ قلت. ألست تعلم أن أمير المؤمنين قد أهمه أمرك
حتى انفذ إليك من انتزعك من بين أهلك وولدك ومالك وأخرجك من جميع
حالك وحيدا فريدا مقيدا لا تدرى ما تصير إليه، ولا كيف تكون وأنت
فارغ القلب من هذا، تصف بساتينك وضياعك هذه، وأنت ساكن القلب
قليل الفكر؟ فقال لي مجيبا: إنا لله وإنا إليه راجعون أخطأت فراستي فيك
قدرتك رجلا كامل العقل، وإنك ما حللت من الخلفاء هذا المحل إلا بعد أن
عرفوك بذلك فإذا عقلك وكلامك يشبه كلام العوام وعقولهم والله المستعان،
أما قولك في أمير المؤمنين وإزعاجه وإخراجه إياي إلى بابه على صورتي
هذه فإني على ثقة بالله عز وجل الذي بيده ملكوت السماوات والأرض
شاهد كل نجوى، وكاشف كل بلوى، وحاضر كل سريرة، وبيده ناصية أمير
المؤمنين لا يملك معه لنفسه نفعا ولا ضرا إلا بإذن الله ومشيئته، ولا ذنب
100

لي عند أمير المؤمنين أخافه. وبعد: فإذا عرف أمرى وعلم سلامتي وصلاح
حالي وإن الحسدة والأعداء رموني عنده بما لست في طريقه، وتقولوا على
الأقاويل الكاذبة، لم يستحل دمى ويخرج من ذمتي وإزعاجي وردي مكرما
أو إقامتي ببابه معظما، وإن كان قد سبق في علم الله تعال أنه يبدو منه إلى
بادرة سوء وقد حضر أجلى، وحان سفك دمى على يده فلو اجتهدت الملائكة
والأنبياء وأهل السماء والأرض على صرف ذلك عنى ما استطاعوا، فلم أتعجل
الغم وأتسلف الفكر فيما قد فرغ منه، وأين حسن الظن بالله عز وجل الذي
خلق ورزق، وأحيا وأمات، وفطر وجبل، وأحسن وأجمل، وأين الصبر
والرضا والتفويض والتسليم إلى من يملك الدنيا والآخرة، وقد كنت أحسب
أنك تعرف هذا؟. فإذا قد عرفت مبلغ فهمك لا أكلمك أبدا بكلمة واحدة،
حتى تعرف حضرة أمير المؤمنين بيننا إن شاء الله تعالى. ثم أعرض عنى فما
سمعت له لفظة بغير القرآن والتسبيح إلا بطلب ماء أو حاجة تجرى مجراه
حتى شارفنا الكوفة في اليوم الثالث عشر بعد الظهر، فإذا النجب قد استقبلتني
على فراسخ من الكوفة يتجسسون خبري فحين رأوني رجعوا متقدمين لي
بالخبر إلى أمير المؤمنين فانتهيت إلى الباب في آخر النهار فحططت، ودخلت
على الرشيد فقبلت الأرض بين يديه ووقفت فقال: هات ما عندك وإياك
أن تغفل منه عن لفظة واحدة. فسقت الحديث إلى آخره حتى انتهيت إلى
الفاكهة، والطعام، والغسل، والبخور، والصلاة. وما حدثت به نفسي من
امتناعه والغضب يظهر في وجهه يتزايد حتى انتهيت إلى فراغ الأموي من
الصلاة وإقباله إلى ومسألته عن سبب قدومي ودفعي الكتاب إليه ومبادرته
إلى إحضار ولده وأنسابه وأهله وأصحابه. وحلفه لهم أن لا يتبعه أحد منهم
وصرفه إياهم ومد رجله حتى قيدته فما زال وجه الرشيد يسفر فلما انتهيت
إلى ما خاطبني به عند توبيخي إياه لما ركب المحمل قال: صدق والله، ما هذا
إلا رجل محسود على النعمة، مكذوب عليه ولعمري قد أزعجناه وروعناه
وأرعنا أهله فبادر بنزع قيوده عنه وائتني به. فخرجت ونزعت قيوده
وأدخلته إلى الرشيد فما هو إلا أن رآه حتى رأيت ماء الحياة يجول في وجهه
101

فدنا الأموي وسلم بالخلافة ووقف. فرد عليه الرشيد ردا جميلا وأمره
بالجلوس فجلس فأقبل عليه الرشيد يسائله عن حاله، ثم قال له: إنه بلغنا عنك
فضل هيئة، وأمور أحببنا معها أن نراك ونسمع كلامك ونحسن إليك فاذكر
حاجاتك. فأجاب الأموي جوابا جميلا وشكر ودعا وقال: أما حاجاتي فما لي
إلا حاجة واحدة. قال: مقضية. فما هي؟ قال يا أمير المؤمنين تردني إلى
بلدي وأهلي وولدي. قال نحن نفعل ذلك، ولكن سل ما تحتاج إليه من مصالح
جاهك ومعاشك، فإن مثلك لا يخلوا أن يحتاج إلى شئ من هذا؟. فقال: عمال
أمير المؤمنين منصفون وقد استغنيت بعدلهم عن مسألته من ماله، وأموري
منتظمة وأحوالي مستقيمة وكذلك أمور أهل البلد بالعدل الشامل في ظل دولة
أمير المؤمنين. فقال الرشيد: انصرف محفوظا إلى بلدك. واكتب لنا بأمر
إن عرض لك. فودعه الأموي فلما ولى خارجا قال الرشيد يا منارة: أحمله
من وقتك وسر راجعا كما سيرته حتى إذا أوصلته إلى المجلس الذي أخذته منه
فدعه وانصرف ففعلت ذلك.
حدثني علي بن هشام قال: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى يتحدث قال:
سمعت عبيد الله بن سليمان بن وهب يقول: حدثني أبي قال: كنت أنا والعباس
ابن الخصيب مع خلق من العمال والكتاب معتقلين في يدي محمد بن عبد الملك
في آخر وزرائه للواثق نطالب ببقيا مصادرات، ونحن في إياس من
الفرج إذ اشتدت علة الواثق وحجب ستة أيام عن الناس فدخل إليه
أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد القاضي فقال له الواثق يا أبا عبد الله: وكان يكنيه
ذهبت منى الدنيا والآخرة. قال: كلا يا أمير المؤمنين. قال: بلى والله قد
ذهبت منى الدنيا بما ترى من حضور الموت، وذهبت الآخرة بما أسلفت
من العمل القبيح فهل عندك شئ من دواء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قد عزل
محمد بن عبد الملك كثيرا من الكتاب والعمال وملا بهم الحبوس ولم يتحصل
من جهتهم على شئ كثير وهم عدد كثير ووراءهم ألف يد ترفع إلى الله
عز وجل بالدعاء عليك فتأمر بإطلاقهم لترتفع تلك الأيادي بالدعاء لك فلعل
الله يهبك العافية، وعلى كل حال أنت محتاج إلى أن تقل خصومك. فقال:
102

نعم ما أشرت به، وقع إليه عنى باطلاقهم. فقلت ان رأى خطى عاند ولج
ولكن يغتنم أمير المؤمنين الثواب ويتساند ويحمل على نفسه ويوقع بخطه
فوقع الواثق بخط مضطرب إلى ابن الزيات بإطلاقهم وإطلاق كل من في
الحبس من غير استئمار ولا مراجعة وتقدم إلى إيناخ أن يمضى بالتوقيع،
ولا يدعه يعمل شيئا أو يطلقهم وأن يحول بينه وبين الوصول إليه أو كتب
رقعة أو اشتغال بشئ البتة إلا بعد إطلاقهم، وأنه إن لقيه في الطريق أن
ينزله عن دابته ويجلسه في الطريق حتى يفرغ من ذلك. فتوجه ايناخ فلقى
ابن الزيات راكبا يريد الخليفة فقال له: تنزل عن دابتك وتجلس على غاشيتك
فارتاع وظن الحال به قد وقعت فنزل وجلس على غاشيته فأوصل إليه التوقيع
فامتنع وقال إذا أطلقت هؤلاء فمن أين أنفق الأموال وأقيم الأتراك؟ فقال:
لابد من ذلك، فقال اركب واستأذنه. فقال لا سبيل إلى ذلك قال: فدعني
أكاتبه قال ولا هذا فما برح من موضعه حتى وقع بإطلاق الناس فصار ايناخ
إلينا ونحن في الجس إياس من الفرج وقد بلغنا التلف وبلغنا اشتداد علة
الواثق وأرجف لابنه بالخلافة وكان صبيا فخفنا أن يتم ذلك فيجعل ابن الزيات
الصبي شيخا، ويتولى التدبير فيتلفنا وقد امتنعنا لفرط الغم من الاكل. فلما
دخل ايناخ الحبس لم نشك إنه قد حضر لبلية فأطلقنا وعرفنا الصورة فدعونا
الله عز وجل لابن أبي دؤاد وللخليفة وانصرفنا إلى منازلنا لحظة ثم خرجنا
فوقفنا لأبي عبد الله بن أبي دؤاد على الطريق ننتظر عوده من دار الخلافة
إلى داره فحين رأيناه ترجلنا له ودعونا له وشكرناه، فأكبر ذلك عليه ومنعنا
من الترجل فلم نمتنع فوقف حتى ركبنا وسايرنا إلى منازلنا، وأخذ يخبرنا
بالخبر ونحن نشكره وهو يقتصر ما فعل ويقول: هذا أقل حقوقكم وكان
الذي لقيه أنا، وأحمد بن الخصيب وقال: ستعلمان ما أعمله مستأنفا ورجع
ابن أبي دؤاد إلى دار الخلافة عشيا فقال له الواثق قد تبركت برأيك يا أبا
عبد الله ووجدت خفا من العلة ونشطت للاكل فأكلت وزن خمسة دراهم من
الخبز بصدر دجاج. فقال له أبو عبد الله، يا أمير المؤمنين: تلك الأيدي
التي كانت تدعو عليك غدوة صارت تدعو لك عشية، ويدعو لك بسببهم
103

خلق كثير من رعيتك إلا أنهم قد صاروا إلى دور خراب وأحوال قبيحة
بلا فرش ولا كسوة ولا دواب ولا ضياع موتى جوعا وهزالا قال: فما
ترى؟ قال يا أمير المؤمنين: في الخزائن والأصطبلات بقايا ما أخذ منهم فلو
أمرت أن ينظر في ذلك فكل من وجد له شئ باق من هذا رد عليه وأطلقت
عن ضياعهم لعاشوا وخف الاثم وتضاعف الدعاء وقويت العافية. قال:
فوقع بذلك عنى. فوقع عنه ابن أبي داود فما شعرنا من الغد إلا وقد رجعت
نعمنا علينا ومات الواثق بعد ثلاثة أيام وفرج الله عز وجل عنا بابن أبى دؤاد
وبقيت له المكرمة العظيمة في أعناقنا.
حدثني أبو الحسن علي بن هشام، قال: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى وأبا
الحسن الأيادي الكاتب يقولان: كان عبيد الله بن سليمان يقول كنت بحضرة
أبى في ديوان الخراج بسر من رأى وهو يتولاه إذ دخل عليه أحمد بن خالد
الصرفيني الكاتب فقام إليه أبى قائما من مجلسه وأقعده في صدره وتشاغل
به ولم ينظر في عمل حتى نهض ثم قام معه وأمر غلمانه بالخروج بين يديه
فاستعظمت أنا وكل من في المجلس هذا، لان رسم أصحاب الدواوين
صغارهم وكبارهم لا يقومون في الديوان لاحد ممن خلق الله تعالى ممن يدخل
إليهم فتبين أبى ذلك في وجهي فقال لي يا بنى: إذا خلونا فاسألني عن السبب
فيما عملته مع هذا الرجل. قال: وكان أبى يأكل في الديوان وينام فيه ويعمل
عشيا فلما جلسنا نأكل لم أذكره إلى أن رأيت الطعام كاد ينقضى فقال لي
هو: يا بنى شغلك الطعام عما قلت لك أن تذكرني به فقلت: لا ولكن أردت
أن يكون ذلك على خلوة. فقال يا بنى: هذه خلوة ألست أنكرت أنت
والحاضرون قيامي لأحمد بن خالد عند دخوله وخروجه وما عاملته به؟ قلت:
نعم. فقال: كان هذا يتقلد مصر فصرف عنها، وقد كانت مدته فيها طالت
فوطئت آثار رجل لم أر أجمل آثارا منه، ولا أعف عن أموال السلطان
والرعية ولا رأيت رعية لعامل أشكر من رعيته له، وكان الحسين المعروف
بعرق الموت الخادم صاحب البريد بمصر أصدق الناس لنفع هذا، وهو
من أبغض أناس إلى وأشدهم اضطراب أخلاق فلم أتعلق عليه بحجة
104

ووجدته قد أخر رفع الحساب لسنة متقدمة لسنته التي هو فيها ولم ينفذه إلى
الديوان فسألته أن يحط من الدخل ويزيد في النفقات والأرزاق ويكثر من
البقايا في كل سنة مائة ألف دينار لآخذها لنفسي فامتنع من ذلك فأغلظت
له وتوعدته، ونزلت معه إلى مائة ألف واحدة في السنتين وحلفت بإيمان
مؤكدة أنى لا أقنع منه بأقل من هذا. فأقام على امتناعه وقال أنا لا أخون
لنفسي فكيف أخون لغيري، وأزيل ما قام به جاهي من العفاف فحبسته
وقيدته فلم يجب، وأقام مقيدا في الحبس شهورا وكتب عرق الموت يضرب
على عند المتوكل ويحلف أن أموال مصر لا تفي بنفقتي ومؤنتي، ويصف أحمد
ابن خالد ويذكر ميل الرعية إليه وعفته فأنا ذات يوم على المائدة آكل إذ
وردت إلى رقعة أحمد بن خالد يسألني استدعاءه لمهم يلقيه إلى فلم أشك أنه
قد ضاق بالحبس والقيد، وقدم عزم على الاستجابة لمرادي فلما غسلت يدي
دعوته فاستخلاني فأخليته فقال: أما آن لك يا سيدي أن ترق لي مما أنا فيه
من غير ذنب إليك، ولا جرم ولا قديم دخل، ولا عداوة؟ فقلت: أنت
اخترت لنفسك هذا، وقد سمعت يميني وليس منها مخرج. فاستجب لما
أمرت به واخرج فأخذ يستعطفني ويخدمني ويخدعني فقال لي يا سيدي:
فليس الآن عندك غير هذا؟ فقلت: لا. فقال إذا كان ليس غير هذا
فاقرأ يا سيدي وأخرج إلى كتابا لطيفا مختوما في ربع قرطاس ففضضته
فإذا هو بخط المتوكل الذي أعرفه وهو إلى يأمرني فيه بالانصراف
وتسليم ما أتولاه إلى أحمد بن خالد والخروج إليه مما يلزمني، ورفع
الحساب فورد على أقبح مورد لقرب عهد الرجل بشتمي له وإساءتي إليه
فأمسكت مبهوتا. ولم ألبث أن دخل أمير البلد في أصحابه وغلمانه فوكل
بداري وبجميع ما أملكه وبأصحابي وغلماني وجهابذي وكتابي وجعلت
أزحف من صدر المحل حتى صرت بين يدي أحمد بن خالد، ودعا أمير البلد
بحداد فحل قيدة فوثب قائما وقال لي: يا أبا أيوب أنت قريب عهد بعمالة هذا
البلد، ولا منزل لك فيه ولا صديق ومعك حرم وحاشية كثيرة وليست تسعك
إلا هذه الدار وكانت دار العمالة، وأنا أجد عدة مواضع غيرها وليس لي
105

كثير حاشية ومن نكبة خرجت فأقم بمكانك وخرج وصرف المتوكل بالدار
وأخذ كاتبي وأسبابي إليه فلما انصرف قلت لغلماني: هذا الذي نراه في النوم
انظروا من وكل بنا؟ فقالوا: ما وكل بنا أحد فعجبت من ذلك عجبا عظيما
وما صليت العصر حتى عاد إلى من كان حمله معه من المتصرفين والكتاب
والجهابذة مطلقين وقالوا: أخذ خطوطنا برفع الحساب وأمرنا بالملازمة
وأطلقنا. قال: فازداد عجبي فلما كان من غد باكرني مسلما ورحت إليه في
عشية ذلك اليوم وأقمت ثلاثين يوما ان سبقني إلى المجئ والا رحت إليه
وإن راح إلى والا باكرته، وفى كل يوم تجيئني هداياه وألطافه من الثلج
والفاكهة والحيوان والحلوى فلما كان بعد الثلاثين يوما جاءني وقال: قد
عشقت مصر يا أبا أيوب، والله ما هي طيبة الهواء، ولا عذبة الماء، وإنما
تطيب بالولاية والاكساب. ولو قد دخلت إلى سر من رأى لما أقمت بها
إلا شهرا واحدا حتى تتقلد أحد الأعمال. فقلت: والله ما أنا إلا متوقع لأمرك
في الخروج فقال: أعطني خط كاتبك بأن عليه القيام بالحساب واخرج في
حفظ الله فأحضرت كاتبي وأخذت خطه كما أراد وسلمته إليه وقال لي أخرج
أي يوم شئت فخرجت من غد فخرج هو وأمير البلد وقاضيه وأهله فشيعوني
إلى ظاهر البلد وقالوا لي تقيم في أول منزل على خمسة فراسخ إلى أن أزيح علة
قائد ويصحبك برجاله إلى الرملة فان الطريق فاسد، فاستوحشت لذلك وقلت
هذا إنما غرني حتى أخرج كل ما أملكه فيتمكن منه في ظاهر البلد فيغتصبه
ثم يردني إلى الحبس والتوكيل والمطالبة ويحتج على بكتاب ثان يذكر أنه ورد
من المتوكل، فخرجت فأقمت بالمرحلة التي أمر بها مستسلما متوقعا للشر إلى
أن رأيت أوائل عسكر مقبل من مصر فقلت لعله القائد الذي يريد أن يصحبني
إياه أو لعله الذي يريد أن يقبض على به فأمرت غلماني بمعرفة الخبر؟ فقالوا:
العامل أحمد بن خالد قد جاء فلم أشك في أنه قد ورد البلاء بوروده فخرجت
من مضربي فلقيته وسلمت عليه، فلما جلس وسلم قال أخلونا فلم أشك أنه
للقبض على وطار عقلي فقام من كان عندي فلما لم يبق أحد قال: أنا أعلم أن
106

أيامك لم تطل في مصر ولا حظيت بكثير فائدة، وذلك الباب الذي سألتنيه في
ولايتك فلم أجب إليه إنما أخرت الاذن لك في الانصراف منذ أول الأمر
إلى الآن لأني تشاغلت بالفراغ لك منه، وقد حططت من الارتفاع وزدت
في النفقات كل سنة خمسة عشر ألف دينار تكون في السنتين ثلاثين ألف
دينار وهو يقرب ولا يظهر ويكون أيسر مما أردته منى في ذلك الوقت وقد
تشاغلت به حتى جمعته لك، وهذا المال على البغال فقدم إلى من يستلمه
فتقدمت لقبضه وقبلت يده وقلت: قد والله يا سيدي فعلت ما لم تفعل البرامكة
فأنكر ذلك منى وتقبض منه وقبل يدي ورجلي وقال: ها هنا شئ آخر أريد
أن تقبله منى فقلت: ما هو؟ قال خمسة آلاف دينار قد استحقيتها من رزقي
فامتنعت وقلت فيما قد تفضلت به كفاية فحلف أنى أقبلها منه فقبلتها. فقال:
وهذه الطاف من هدايا مصر أحببت أن أصحبك إياها فإنك ستصير إلى كتاب
الدواوين ورؤساء الحضرة ويقولون لك وليت مصر فأين نصيبنا من هداياها
ولم تطل أيامك فتعد ذلك لهم وقد جمعت لك منه ما يشتمل عليه هذا الثبت
واخرج درجا فيه ثبت جامع لكل شئ في الدنيا حسن ظريف جليل القدر
من ثياب ديبقي وقصب وخدم، وبغال ودواب وحمير، وفرش وطيب كثير
وما يكون فيه الجميع مال كثير فأمرت بتسلمه وزدت في شكره فقال لي يا سيدي
أنا مغرى بحب الفرش وقد عملت لي بيت أرمني بأرمينية وهو عشر مصليات
بمخادها ومساندها ومطارحها وبساطها وهو مذهب بطرز مذهبة قد قام على
بخمسة آلاف دينار على شدة احتياطي فان أهديته إلى الوزير عبدك، وان
أهديته إلى الخليفة ملكته به، وإن أبقيته لنفسك وتجملت به كان أحب إلى
وحمله إلى فما رأيت مثله قط ولم تسمح نفسي باهدائه إلى أحد ولا استعماله
فما ابتذلت منه شيئا إلا يوم اعذارك. فهل تلومني يا بنى بعد ذلك على أن أقوم
لهذا الرجل؟ قال: فقلت: لا والله يا أبى ولا على ما هو أكثر من القيام لو
كان مستطاعا. قال: فكان أبى بعد ذلك إذا صرف رجلا عامله بكل جميل
يقدر عليه ويقول: علمنا أحمد أحمد بن خالد حسن التصرف.
107

حدثنا أبو علي الحسين بن محمد بن موسى الأنباري الكاتب الذي كان
زوج ابن المهلبي بن محمد رحمه الله بإسناده: أن القاسم بن عبد الله لما تفرد
بالوزارة بعد موت أبيه كان يحب الشرب واللعب ويخاف أن يتصل بالمعتضد
خبره فيستنقصه وينسبه إلى الصبوة والتهتك والتشاغل واللذات عن الأعمال،
وكان لا يشرب إلا في حالين على إخفاء وأستر ما يكون، وأنه خلا يوما مع
جوار مغنيات ولبس من ثيابهن المصبغات وأحضر فواكه كثيرة وشرب
ولعب من نصف نهار يوم إلى نصف الليلة الأخرى ونام بقية الليلة وبكر
إلى المعتضد للخدمة على رسمه فما أنكر شيئا، وبكر في اليوم الثاني فحين
وقعت عين المعتضد عليه قال له: يا قاسم ما كان عليك لو دعوتنا إلى خلوتك
وألبستنا معك من ثيابك المصبغات؟ قال فقبل الأرض وروى عن الصدق
وأظهر الشكر على هذا البسط وخرج وقد كاد يتلف غما لوقوف المعتضد
على هذا القدر من أمره وكيف لا تخفى عليه مواقفه فجاء إلى داره كئيبا وكان
له في داره صاحب خبر يقال له خالد يرفع إليه أمورها فأحضره وعرفه بما
جرى بينه وبين المعتضد وقال له: إن بحثت لي عمن أخرج هذا الخبر إليه
زدت في رزقك وأجزتك كذا، وإن لم تعرفه نفيتك إلى عمان وحلف له على
الامرين فخرج صاحب خبره من حضرته متحيرا كئيبا لا يدرى ما يعمل يومه
ويفكر ويحتال ويجتهد فما وقع له رأى يعمل عليه. قال صاحب الخبر: فلما
كان من الغد بكرت إلى دار القاسم زيادة تبكير على ما جرى به رسمي لفرط
سهري وقلقي تلك الليلة ومحبتي للبحث فجئت ولم يفتح باب دار القاسم بعد
فجلست فإذا برجل يزحف في ثياب المكدين ومعه مخلاة كما يكون مع المكدين
فلما جاء إلى الباب جلس حتى فتح فسابقني إلى الدخول فأولع به البوابون
وقالوا أي شئ خبرك يا فلان وصفعوه فمزحهم وطايبهم وشتمهم وشتموه
وجلس في الدهليز فقال: الوزير يركب اليوم. قالوا: نعم الساعة يركب
قال: وأي وقت نام البارحة؟ قالوا وقت كذا وكذا. فلما رأيته يسأل عن هذا
خمنت أنه صاحب خبر فأصغيت إليه ولم أرهم يحفلون بأمره وهو لم يدع بوابا
ممن وصل إلى الوزير وممن لم يصل إلا سأله عنه وحدثه به. ويبدؤه
108

بأحاديث أخر على سبيل الفضول، ثم زحف فدخل إلى جنب أصحاب
أصحاب الستور فأخذ معهم في مثل ذلك وأخذوا معه في مثله، ثم زحف فدخل
إلى دار العامة فقلت لأصحاب: الستور من هذا؟ فقالوا: رجل زمن فقير أبله
طيب النفس يدخل الدار ويتطايب ويتصدق فيهب له الغلمان والمتصرفون
فتبعته، إلى أن دخل المطبخ فسأل عما أكل الوزير ومن كان معه على المائدة
وفى أي شئ أفاضوا والطباخ وغلمانه وغلمان صاحب المائدة كل واحد
يخبره بشئ، ثم خرج يزحف حتى دخل حجرة الشراب فلم يزل يبحث عن
كل شئ ويحدث، ثم خرج إلى خزانة الكسوة فكانت حالته وصورته
هذه. ثم جاء إلى مجلس الكتاب في الديوان فقصد وأقبل يسمع ما يجرى
ويسأل الصبي بعد الصبي، والحدث بعد الحدث عن الشئ بعد الشئ، ويستخبر
الخبر في كل موضع من تلك المواضيع ويتتبعه، ويخلط الجد بالمزاح
والتطايب بكلامه، والاخبار تنجر إليه وتتساقط عليه، والقطع تجيئه وهو
يملا تلك المخلات فلما فرغ من هذا أقبل راجعا يريد الباب فلما بلغه
قبضت عليه فأدخلته بيتا وأغلقت عليه وجلست على بابه، فلما خلا الوزير
أعلمته. فقال: أحضر لي الرجل.
وفى رواية أخرى أنه لما بلغ الباب تبعته فرجع حتى جاء إلى موضع
من الخلد فدخل إليه ووقفت انتظره فإذا هو بعد ساعة قد خرج بثياب
حسان ماشيا بغير قلبة فتبعته حتى جاء إلى دار قرب دار الخادم الموكل
بحفظ دار ابن طاهر فدخلها. فسألت عنها فقالوا: هذه دار فلان الهاشمي
رجل متجمل فرصدته إلى وقت المغرب، فجاء خادم من دار ابن طاهر
فدق الباب فكلمه من خوخة له فصاح إليه ورمى إليه برقعة لطيفة فأخذها
الخادم وانصرف. فجئت فطلبت من الوزير غلمانا فسلم إلى ما طلبت فبكرت
من سحر إلى الدار التي في الخلد فإذا أنا بالرجل قد جاء بزيه الذي دخل به
داره بقرب دار ابن طاهر فكبسته في الموضع، فإذا هو قد نزع تلك
الثياب ولبس ثياب المكدين التي رأيتها عليه أولا فحملته وغطيت وجهه
109

وكتمت أمره حتى أدخلته دار القاسم ودخلت إليه وقصصت عليه الخبر.
قال: فقوض القاسم شغله وخلا واستدعاه. فقال: لتصدقني عن أمرك
أولا ترى ضوء الدنيا، ولا تخرج من هذه الحجرة والله أبدا. قال تؤمنني؟
قال: أنت آمن. فنهض لا قلبة به فتحير القاسم وقال الرجل أنا أخبرك
أنا فلان بن فلان الهاشمي رجل متجمل، وأنا أتخبر عليك للمعتضد منذ
كذا وكذا فأنزل بدرب يعقوب بقرب دار ابن طاهر يجرى على المعتضد
خمسين دينارا في الشهر، وأخرج كل يوم بالزي الذي لا ينكره جيراني
فأدخل دارا في الخلد بيدي منها بيت بأجرة فيظن أهلها أن منهم ولا ينكروني
للزي، فأخرج من هناك بهذه الثياب وأتزامن من الموضع وألبس لحية
فوق لحيتي مخالفة للوني حتى إن لقيني في الطريق بالاتفاق بعض من يعرفني
أنكرني، وأمشي زحفا من الخلد إلى دارك فأعمل جميع ما عرفت وأقتفي
أخبارك من غلمانك وهم لا يعرفون غرضي. ويخرجون إلى بالاسترسال ما لو
بذل لهم فيه من الأموال لم يظهروه، ثم أخرج فأجئ إلى موضع من الخلد فأغير
ثيابي وأعطى ذلك الذي قد اجتمع معي في المخلات للمكدين وألبس ثيابي التي
يعرفوني بها جيراني وأعود إلى منزلي وآكل وأشرب وألعب بقيت يومى،
فإذا جاء المغرب جاءني خادم من خدم دار ابن طاهر مندوب لهذا فأرمي
إليه من روزنة لي برقعة فيها خبر ذلك اليوم ولا افتح له بابا، فإذا كان
بعد تسعة وعشرين يوما جاءني الخادم فأنزل إليه فأعطيه رقعة ذلك اليوم
ويعطيني جائزة ذلك الشهر، ولولا أنى لم أر صاحب خبرك ولا فطنت له
لما تم على هذا. ولو كنت لحظته لحظة واحدة لما خفى على أنه صاحب خبر
ولكنت رجعت من الموضع الذي أراه فيه فلا يعرف خبري وبعد ذلك
فإنما تم على هذا لان أجلى قد حضر فالله الله في دمى. قال فأصدقني عما رفعته
عنى إلى المعتضد؟ قال فحدثه بأشياء رفعها منها خبر الثياب المصبغات. قال:
فحبسه القاسم أياما وأخفى أمره وأنفذني إلى منزله وقال راع أمرهم وانظر
ما يجرى فمضيت إلى داره التي وصفها بدرب يعقوب فجلست إلى المغرب فجاء
الخادم فاصح به فقالت له الجارية ما رجع اليوم ولم يكن له بهذا عادة قط،
110

وقد قامت قيامتنا والله. فانصرف الخادم وانصرفت وعدت من غد وقت
المغرب وجاء الخادم فقالت الجارية: ما جاء اليوم أبدا وقد والله اشتد همنا
وأشفقنا أن يكون قد حدثت عليه حادثة لا نعرفها. فانصرف الخادم وانصرفت
وعدت من غد وعاد الغلام فقالوا له: يا هذا قد والله يئسنا منه ولا شك في أنه
هلك والماتم قد أقيمت عليه في منزل أمه وعمومته فانصرف الخادم وجئت
إلى القاسم بالخبر. فلما كان من الغد ركب القاسم إلى المعتضد فحين رآه
استدعاه وساره وقال: إبراهيم الهاشمي المتزامن بحياتي أطلقه وأحسن إليه وأنت
آمن بعدها من أن أنصب عليك صاحب خبر، ووالله لئن أحدثت به حادثة
لا عرفت في دمه أحدا غيرك. فقبل الأرض وانصرف فعاد إلى داره وحمد
الله تعالى إذ لم يعجل بقتله وأخبرنا الخبر وأحضر الهاشمي وخلع عليه ووصله
بمال له قدر وصرفه وانقطعت أخباره عن المعتضد * حدثنا أبو الحسن أحمد
ابن يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن البهلول التنوخي بالاسناد عن أبي القاسم
عبيد الله بن سليمان وهو وزير في يوم من أيام جلوسه للمظالم إذ وقعت في يده
رقعة فقرأها وتوقف ساعة كالمفكر ثم قال: أين عمر بن محمد بن عبد الملك؟
فأدخل عليه. فقال: أنت عمر؟ قال: نعم أعز الله الوزير أنا عمر بن محمد بن
عبد الملك الزيات. قال فتوقف أيضا ساعة ثم قام إلى خلوة له ولم يطل وعاد
إلى موضعه فوقع لعمر بن محمد بجائزة ولم يزل كالمفكر إلى أن تفرق الناس
وخلا المجلس ممن يحتشم فقال لنا: وقفتم على خبر هذا الرجل؟ قلنا قد وقفنا
على ما كان من الوزير أعزه الله في أمره ولم نقف على السبب. فقال: أحدثكم
بحديثه فإنه طريف، حدثني أبي أبو أيوب رحمه الله تعالى قال: كنت في يدي محمد
ابن عبد الملك الزيات يطالبني وأنا منكوب. وكان: يحضرني كل يوم بغير
سبب ولا مطالبة وأنا في قيودي وعلى جبة صوف، وكان أخي الحسن يكتب
بين يديه ولم يكن يتهيأ له في أمرى شئ إلا أنه كان إذا رآني استقبلني،
فإذا رجعت إلى موضعي شيعني إذ أقبل في يوم خادم لمحمد ومعه ولد صغير
فوثب كل من في المجلس إلى الصبي يقبلونه ويدعون له سواي فكنت مشغولا
111

بنفسي فلم أتحرك فأخذه محمد وضمه إليه وقال يا سليمان: لم لا تفعل بهذا الصبي
كما فعله أهل المجلس؟ قلت: اشتغلني عن ذلك ما أنا فيه. قال: لا ولكنك
لم تطق ذلك عداوة لأبيه وله وكأني بك وقد ذكرت عبيد الله فأملت فيه
الآمال والله لا رأيت فيه شيئا تؤمله، وأشرف بعد ذلك في الاستماع فعلمت
أنه قد بغى ووثقت من الله عز وجل بجميل عادته وأنه سيبلغني ما آمله فيه
عنادا لبغيه. قال: ولم يمض إلا مدة يسيرة حتى سخط المتوكل على محمد بن
عبد الملك وقلدني مناظرته وإحصاء متاعه فوافيت داره فرأيت ذلك الخادم
بعينه ومعه الصبي يبكى. فقلت ما خبر هذا الصبي؟ فقال: قد منع من كل ماله
وأدخل في الاحصاء فقلت: لا بأس عليه، فدخلت فسلمت إليه كل ما كان له
ثم قال لي: فينبغي يا بنى إن تهيأت لك حال ورأيت الصبي وهو عمر بن محمد
أن تحسن إليه وتقابل نعمة الله تعالى فيه بما يجب لها، فلما رأيته في هذا
الوقت تذكرت ما قاله أبو أيوب رحمه الله تعالى فامتثلت فيه ما أشار به وأنا
أتقدم بعد الذي فعلته به إلى أبى الحسين بتصريفه، وكانت لعمر خرجة قويت
بها حاله عند أبي الحسين إلى أن استخلفه في دار أبى النجم مدبرا بين يديه،
وقد ذكر محمد بن عبدوس في كتابه " كتاب الوزراء " أنه وجد بخط ميمون
ابن هارون عن أبي محمد داود بن الجراح وقد وقع إلى من وجه آخر على
خلاف ذلك بإسناده عن جماعة قالوا كلهم: حضرنا مجلس عبيد الله بن سليمان
في أول وزارته للمعتضد وقد حضر رجل رث الهيئة بثياب غلاظ فعرض
عليه رقعة، وكان جالسا للمظالم فقرأها قراءة متثاقل لها متفكر فتعجب ثم
قال: نعم وكرامة ثلاث مرات أفعل ما قال أبى لا ما قال أبوك، وكرره ذا القول
أيضا ثلاث مرات ثم قال له: عد إلى وقت العصر لأنظر في أمرك. ثم قال لنا:
إذا خلوت فذكروني بحديث هذا لأخبركم منه بعجب عجيب وعمل بقية المجلس
ثم قام واستراح ودعا بالطعام فلما أكلنا أكثر الاكل قال لنا: ما أراكم
ذكرتموني بحديث صاحب الرقعة؟ فقلنا أنسينا. فقال: حدثني أبي قال:
كنت في زمن محمد بن عبد الملك في أيام الواثق لما صادرني عن كتابة ايناخ
112

على أربعمائة ألف دينار، وقد أديت منها مائتي ألف ونيفا وأربعين ألف
دينار فاستحضرني يوما وطالبني بالباقي وحدني فيه وأرهبني ولم يرض منى
إلا إن أجبت أن أؤدي خمسين ألف دينار قاطعة للمصادرة على أن يطلق
ضياعي. قال: ونحن في ذلك ولم يأخذ خطى به بعد إذ خرج إليه خادم من
دار حرمه برقعة فقرأها ونهض فكان بحضرته أخي أبو علي الحسين بن وهب
وهو غالب عليه إلا أنه يخافه أن يتكلم في أمرى وهو يرى ما يجرى ولا يقدر
أن يكلمني ولا يكلمه، فلما قام الوزير رمى إلى أخي برقعة لطيفة فوقعت في
حجري فإذا فيها: جاءني الخبر الساعة من دارك ان قد رزقت ابنا خلقا سويا
وهو جسم بغير اسم فما تحب أن يسمى ويكنى؟ فقلت له: عبيد الله أبو القاسم.
فكتب بذلك في الحال إلى منزلي قال: وتداخلني سرور بذلك وقوة نفس
وحدثت نفسي بأنك تعيش وتبلغ وانتفع بك قال: وعاد محمد إلى مجلسه
فأعاد خطابي فلم أستجب له وأخذت أدافع. فقال لي يا أبا أيوب: ما ورد
عليك بعدى، أرى عينيك ونفسك ووجهك بخلاف ما خلفتك منذ ساعة.
فقلت ما ورد على شئ. فقال: والله لئن لم تصدقني لأفعلن وأصنعن. فقلت
ما عندي ما أصدق عنه. فأقبل على أخي فقال لتخبرني بشأنه فخافه أخي فصدقه
عن الصورة فسكن وقال له: أتعرف لأي شئ قمت أنا؟ فقال: لا. قال
كوتبت بأن ولدا ذكرا سويا قد ولد لي فدخلت فرأيته وأسميته باسم أبى
وكنيته بأبي مروان. قال سليمان: فقمت إليه وقبلت يديه ورجليه وهنأته
وقلت: أيها الوزير هذا يوم مبارك وقد رزقت ابنا فارحمني، وارع سالف
خدمتي لك، واجعل ابني موسوما بخدمة ابنك، يسلم معه في المكتب،
ويتعلمان وينشوان في دولتك، فيكون كاتبا له فحملته اللدادة والقسوة
التي فيه إلى أن قال يا أبا أيوب: أعلى تجوزني وتستفز وتخاتل قد حدثتك
نفسك بأن ابنك هذا يبلغ المبالغ، وتؤمل له الوزارة؟ ورجوت في نوائب
الزمان وقلت: أرجو أن يحتاج ابنه إلى ابني حتى يطلب منه الاحسان
والفضل. فإذا استحلفك بالله وأحرج عليك ان بلغ ابنك هذا المبلغ الا
113

وصيته أن جاءه ابني لشئ من هذا أن لا يحسن إليه. قال فأعظمت الخطاب
وتنصلت واعتذرت ووقع في قلبي في الحال أن هذا غاية البغى، فان الله
عز وجل سيخرج ابنه إلى ابني فيحقق فيهما ما قاله وظننته وما مضت إلا مدة
مديدة حتى فرج الله عنى، ثم قال لي أبى يا بنى: بالله إن رفعك الله والزمان
ووضع ابنه حتى يحتاج إليك الا أحسنت إليه قال: وضرب الدهر مضربه
فما عرفت لأبي مروان خبرا حتى رأيته اليوم فكان ما شاهدتم، ثم أمر
بطلب أبى مروان فأحضر فوهب له مالا وخلع عليه وجمله، وقلده ديوان
البريد والخرائط، قال أبو الحسين: فما زال يتقلده منذ ذلك الوقت إلى
آخر وزارة ابن الفرات الثالثة فإنه مات فيها وقد تقلده ثلاثين سنة أو أكثر.
وكان: كتب إلى عبيد الله أول ما كاتبه بعد تقلده هذا الديوان: عبد الوزير
وخادمه عبد الملك بن محمد، فأراد عبيد الله أن يتكرم عليه. فقال له أنت
على كل حال ابن وزير وما أحب أن تتعبد لي، فاكتب اسمك فقط على
الكتب فقال: لا تسمح نفسي بهذا ولكني أكتب عبد الملك بن محمد عبد
الوزير وخادمه فقال: اكتب. فكتب بذلك فصارت عادة فكتب بها إلى
جميع الوزراء إلى أن مات في وزارة ابن الفرات الثالثة فصار كالمترتب عليهم
بما عامله من ذلك عبيد الله وغلب عليه أن عرف بأبي مروان الخرايطي
ونسي نسبه إلى ابن الزيات إلا من كأني يعرفه من الكتاب وغيرهم أخبرني بذلك
جماعة من الشيوخ.
ووجدت في بعض الكتب بغير إسناد أن عبيد الله بن زياد لما بنى داره
البيضاء بالبصرة بعد قتل الحسين رضي الله عنه صور في بابها رؤسا
مقطعة، وصور في دهليزها أسدا وكلبا وكبشا، وقال: أسد كالح، وكبش
ناطح، وكلب نائم، فمر بالباب أعرابي فقال: أما ان صاحبها لا يسكنها
إلا ليلة لا يتم. فرفع الخبر إلى ابن زياد فأمر بالاعرابي فضرب وحبس،
فما أمسى حتى قدم رسول ابن الزبير إلى قيس بن السكن ووجوه أهل
البصرة في أخذ البيعة له ودعا الناس إلى طاعته فأجابوه وأرسل بعضهم بعضا
114

بالوثوب عليه من ليلتهم، وأنذره قوم منهم كانت له عندهم صنائع فهرب من
داره في ليلته تلك فأجاروه ووقعت الحروب المشهورة بينهم وبين تميم
بسببه حتى أخرجوه فألحقوه بالشام وكسر الحبس فخرج الاعرابي ولم يعد
ابن زياد إلى داره وقتل في وقعة الجازر * حدثني القاضي محمد بن
عبد الواحد الهاشمي قال: سمعت ابن عمرو الغنوي يقول: لما أسرني أبو سعيد
الجنابي القرمطي وكسر العسكر الذي كان أنفذه معي المعتضد بالله لقتاله
وحصلت في يده أسيرا آيست من الحياة فأنا يوم على تلك الصورة إذ جاءني
رسوله فأخذ قيودي، وغير ثيابي وأدخلني إليه فسلمت وجلست فقال لي:
أتدري لم أستدعيك؟ قلت: لا. قال: أنت رجل عربي ومن المحال أن
أستودعك أمانة أن تحقرها ولا سيما منى عليك بنفسك. فقلت: هو
كذلك. قال: إني فكرت فإذا لا طائل في قتلك، وإذا في نفسي رسالة إلى
المعتضد لا يجوز أن يؤديها غيرك فرأيت إطلاقك وتحميلك إياها فان
حلفت لي أن تؤديها سيرتك إليه؟ فحلفت فقال: تقول للمعتضد يا هذا: لم
تخرق هيبتك وتقتل رجالك وتطمع أعداءك في نفسك وتتعبها في طلبي
وإنفاذ الجيش إلى وانا رجل مقيم في فلاة لا زرع عندي ولا ضرع، ولا غلة
ولا بلد، وإنما أنا قد رضيت لنفسي بخشونة العيش والامن على المهجة والعز
بأطراف هذه الرماح، وما اغتصبتك بلدا كان في يدك، ولا أزلت سلطانك
عن عمل جليل ومع هذا فوالله لو أنفذت إلى جيشا من الجيوش مع الثلج
والريح والندى فيجيئون من المسافة البعيدة والطريق الشاق وقد قتلهم السفر
وقبل قتالنا فإنما غرضهم أن يبدوا عذرا في مواقفتنا ساعة ثم يهربون، فان
ثبتوا مع ما لحقهم من وعثاء السفر، وشدة الجهد التي هي أكثر أعواني عليهم
فما هو إلا أن أخفق عليهم حتى انهزموا وكثر ما تقدر عليه أن يجيئوا
فيستريحوا ويقيموا، ويكونوا عدة لا قبل لي بهم فيهزموني إذا قاتلوني
لا يقدر جيشك على أكثر من ذلك. فما هو إلا أن انهزم حتى قد بعدت عن
هذا الموضع عشرين فرسخا أو ثلاثين، وحولت من الصحراء شهرا أو اثنين
ثم أكبسهم على غرة فقتلت جميعهم، ولو لم يستولى هذا وكانوا متحرزين
115

فما يمكنهم الطواف خلفي في البراري فلا ينبغي طلبي في الصحارى، ثم
لا يحملهم البلد في المقام ولا الزاد إن كانوا كثيرين فان انصرف الجمهور وبقى
الأقل فهم قتلى سيوفى أول يوم ينصرف الجيش ويبقى من يتخلف، هذا
إن سلموا من وباء هذا البلد ورداءة مائة وهوائه للذين نشؤا في ضده،
وربوا في غيره، ولا عادة لأجسامهم بالصبر عليه، ففكر في هذا وانظر:
هل يفي تعبك وتغريرك بجيشك وعسكرك، وانفاقك الأموال وتجهيزك
الرجال، وتكلفك هذه الاخطار، وتحملك هذه المشاق لطلبي، وأنا مع ذلك
خالي الدرع منها، سليم النفس والأصحاب من جميعها، وهيبتك تنقص في
الأطراف وعند ملوكها كلما جرى عليك شئ من هذا، ثم لا تظفر من بلدي
بطائل، ولا تصل منه إلى مال أو حال، فإن اخترت بعد هذا محاربتي فاستخر
الله تعالى وانفذ من شئت، وإن أمسكت فذاك إليك. قال: فأنفذني ثم جهزني
وأنفذ معي عشرة من أصحابه إلى الكوفة فسرت منها إلى الحضرة، فدخلت
على المعتضد فتعجب من سلامتي وسألني عنها فقلت: سبب أذكره سرا
لأمير المؤمنين فتشوق إليه وخلا بي وسألني فقصصت عليه القصة فرأيته
يتمعط في جلده غيظا، حتى ظننت أنه سيسير بنفسه إليه وخرجت من بين يديه
فما رأيته بعد ذلك ذكره بحرف.
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي الموصلي رحمه
الله تعالى قال: حدثني جماعة من ثقات أهل الموصل: ان فاطمة بنت أحمد بن علي
الكردي زوجة ناصر الدولة أم أبى تغلب اتهمت عاملا كان لها يقال له
ابن أبي قبيصة من أهل الموصل بخيانة في مالها، فقبضت عليه وحبسته في
قلعتها، ثم رأت أن تقتله فكتبت إلى المتوكل بالقلعة بقتله، فورد عليه الكتاب
وكان لا يحسن أن يقرأ ولا يكتب وليس عنده من يقرأ ويكتب الا ابن أبي
قبيصة فدفع الموكل بالقلعة الكتاب إليه وقال له: اقرأ فلما رأى فيه الامر
بقتله قرأ الكتاب بأسره إلا حديث القتل ورد الكتاب عليه وقال ابن
116

أبى قبيصة: ففكرت وقلت أنا مقتول ولا آمن أن يرد كتاب آخر في هذا
المعنى ويتفق حضور من يقرأه غيري فينفذ الامر في سبيلي أن أحتال عليه بحيلة
فإن تمت سلمت، وان لم تتم فليس يلحقني أكثر من القتل الذي أنا حاصل
فيه، فتأملت القلعة فإذا فيها موضع يمكن أن أطرح نفسي منه إلى أسفل إلا
أن بينه وبين الأرض أكثر من ثلاثة آلاف ذراع، وفيه صخر لا يجوز
أن يسلم معه من يقع عليه قال: فلم أجسر ثم ولد لي الفكر أنى تأملت الثلج
قد سقط عدة ليال قطعا فغطى تلك الصخور فصار فوقها أمر عظيم يجوز ان
سقطت عليه وفى أجلى تأخير أن ينكسر بعض بدني وأسلم قال: وكنت
مقيدا فقمت لما نام الناس فطرحت نفسي من الموضع قائما على رجلي فحينما
حصلت في الهواء ندمت وأقبلت أستغفر الله، وأتشهد وغمضت عيني حتى
لا أرى كيف أموت وجمعت رجلي بعض الجمع، لأني كنت سمعت قديما
أن من اتفق عليه أن يسقط قائما من مكان عال إذا جمع رجليه، ثم أرسلها
إذا بقي بينه وبين الأرض قدر ذراع أو أكثر قليلا أن يسلم وينكسر حد
السقطة ويصير كأنه بمنزلة من سقط من ذراعين. قال: ففعلت ذلك فلما
سقطت إلى الأرض ذهب عنى أمرى وزال عقلي ثم آب إلى فلم أجد ما كان
ينبغي أن يلحقني من ألم السقوط من ذلك الموضع فأقبلت أجس أعضائي
شيئا فشيئا فأجدها سالمة وقمت وقعدت وحركت يدي ورجلي فوجدت
ذلك كله سالما، فحمدت الله تعالى على تلك الحال، وأخذت صخرة وكان
الحديد الذي قد صار في رجلي كالزجاج لشدة البرد. قال: فضربته ضربا
شديدا فانكسر فطن حتى ظننت أنه سيسمعه من في القلعة لعظمه فينتبهون
إلى فسلم الله عز وجل من هذا أيضا، وقطعت تكتي وشددت ببعضها القيد
على ساقى وقمت أمشى في الثلج فمشيت طويلا ثم خفت أن يروا آثاري من
غد في الثلج على المحجة فيتبعوني فلا أفوتهم فعدلت عن المحجة إلى نهر يقال
له الخابور، فلما وصلت إليه وصرت على شاطئه نزلت في الماء إلى ركبتي
وأقبلت أمشى كذلك فرسخا حتى انقطع أثرى، ثم خرجت لما كادت أطرافي
117

تسقط من البرد فمضيت على شاطئه ثم عدلت أمشى فيه وربما حصلت في
موضع لا أقدر على المشي فيه لأنه يكون جرفا فأسبح، واستمريت على ذلك
أربعة فراسخ حتى حصلت في خيم فيها أقوام فأنكروني وهموا بي فإذا هم
أكراد. فقصصت عليهم قصتي واستجرت بهم فرحموني، وأوقدوا بين
يدي وأطعموني وستروني وانتهى الطلب من غد إليهم فما أعطوا خبري أحدا،
فلما انقطع الطلب سيرني حتى دخلت الموصل مستترا، وكان ناصر الدولة
ببغداد إذ ذاك فانحدرت إليه وأخبرته بخبري كله فعصمني من زوجته
وأحسن إلى وصرفني.
حدثني أبو علي بن عبيد الله الحسين بن عبد الله الجصاص الجوهري،
قال: سمعت أبي يحدث قال: لما نكبني المقتدر وأخذ منى تلك الأموال
العظيمة أصبحت يوما في الحبس آيسا من الفرج فجاءني خادم، فقال:
البشرى. فقلت: ما الخبر؟ قال: قم قد أطلقت. فقمت معه فاجتاز بي في
بعض طرق دور الخليفة يريد إخراجي إلى دار السيدة لتكون هي التي
تطلقني لأنها هي التي شفعت في، فوقعت عيني في اجتيازي على أعدال خيش
لي أعرفها كان مبلغها مائة عدل. فقلت للخادم: أليس هذا من الخيش الذي
حمل من داري؟ فقال: بلى. فتأملته فإذا هو بشدة وعلاماته وكانت هذه
أعدالا قد حملت إلى من مصر كل عدل منها فيه ألف دينار من مال كان لي
هناك كتبت بحمله فخافوا عليه من الطريق فجعلوه في أعدال الخيش لأنها مما
لا تكاد أن ينهبه اللصوص وإن وقعوا به لا يفطنون لما فيه فوصلت سالمة،
ولاستغنائي عنها وعن المال لم أخرجه من الاعدال وتركته بحاله في بيت في
داري وأقفلت عليه وتوخيت بذلك أيضا سر حديثه فتركته شهورا على حاله
لأنقله كما أريد في أي وقت أرى، ولما حبست أخذ الخيش في جملة ما أخذ
من داري، ولخسته عندهم تهاونوا به ولم يعرف أحد ما فيه فطرح في تلك
الدار، فلما أريته عندهم بشدة طمعت في خلاصه والحيلة في إرجاعه فسكت.
118

فلما كان بعد أيام من خروجي راسلت السيدة وشكوت حالي إليها وسألتها
أن تدفع إلى ذلك الخيش لأنه لا قدر له عندهم وأنا أنتفع بثمنه. قال:
فاستحمقتني وقالت: وأي قدر لهذا الخيش ردوه عليه. فسلم إلى بأسره
ففتحته وأخذت منه المائة ألف دينار وما ضاع منها دينار واحد، وأخذت
من الخيش ما احتجت إليه وبعت باقيه بجملة وافرة وقلت في نفسي إنه قد
بقيت لي بقية اقبال جيدة.
حدثني علي بن هشام، قال: سمعت حامد بن العباس يقول: ربما انتفع
الانسان في نكبته بالرجل الصغير أكثر من منفعته بالكبير، فمن ذلك:
ان إسماعيل بن بلبل لما حبسني جعلني في يد بواب كان يخدمه قديما (قال):
وكان رجلا حرا فأحسنت إليه وبررته فكنت أعتمد على عناية أبى العباس
ابن الفرات وكان ذلك البواب لقدم خدمته لإسماعيل يدخل إلى مجالسه الخاصة
ويقف بين يديه لا ينكر ذلك عليه لسالف الصحبة، فصار إلى في بعض
الليالي وقال: قد حرد الوزير على ابن الفرات بسببك وقال له: ما يكسر
المال على حامد غيرك، ولابد من الجد في مطالبته بباقي مصادرته، وسيدعو
بك الوزير في غد إلى حضرته ويتهددك، فشغل ذلك قلبي. فقلت له: فهل
عندك من رأى؟ فقال: تكتب رقعة إلى رجل من معامليك تعرف شحه
وضيق نفسه فتلتمس منه لعيالك ألف درهم يقرضك إياها وتسأله أن يجيبك
على رقعتك، فان الشحة توجبه أن يردك بعذر وتحتفظ على الرقعة فإذا طالبك
الوزير تخرجها على غير مواطأة وتقول: قد أفضت حالي إلى هذا فلعل ذلك
ينفعك. ففعلت ما قال وجاءني الجواب بالرد كما خمنا وشددت الرقعة معي
فلما كان من الغد أخرجني الوزير وطالبني فأخرجت الرقعة إليه وأقرأته إياها
ورققته وكلمته فلان واستحى، وكان ذلك سبب خفة أمرى وزوال محنتي.
فلما تقلدت في أيام عبيد الله بن سليمان سألت عن البواب وجذبته إلى خدمتي
فكنت أجرى عليه خمسين دينارا في كل سنة وهو باق إلى الآن * أخبرني
119

أبو الفرج علي بن الحسين المعروف بالأصفهاني، بالاسناد عن محمد بن أبي
العتاهية، قال: حدثني أبي قال لما امتنعت من قول الشعر وتركته أمر
المهدى بحبسي في السجن سجن الجرائم فأخرجت من بين يديه إلى الحبس فلما
دخلته استوحشت ودهشت وذهل عقلي ورأيت منظرا هائلا ورميت بطرفي
أطلب موضعا آوى فيه أو رجلا آنس بمجالسته فإذا أنا بكهل حسن السمت
نظيف الثياب يبين عليه سيما الخير فقصدته وجلست إليه من غير أن أسلم
عليه وأسأله عن شئ من أمره لما أنا فيه من الجزع والحيرة فمكثت كذلك
مليا وأنا مطرق مفكر في حالي فأنشد الرجل:
تعودت مس الضر حتى لقيته * وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
وصيرني يأسى من الناس واثقا * بحسن صنيع الله من حيث لا أدرى
قال فاستحسنت البيتين وتبركت بهما وثاب إلى عقلي فأقبلت على الرجل
وقلت له: تفضل أعزك الله بإعادة هذين البيتين. فقال لي: ويحك يا إسماعيل
ولم لم تكنني ما أسوأ أدبك وأقل عقلك ومروءتك، دخلت ولم تسلم تسليم
المسلم على المسلم، ولا توجعت لي توجع المبتلى للمبتلى، ولا سألتني سؤال
الوارد على المقيم حتى إذا سمعت بيتين من الشعر لم يجعل الله عز وجل فيك
خيرا، ولا أدبا ولا جعل لك معاشا غيره لم تتذكر ما سلف منك فتتلافاه،
ولا اعتذرت مما قدمت وأفرطت فيه من الحق حتى استنشدتني مبتدئا كأن
بيننا انسا قديما أو صحبة تبسط المنقبض فقلت له: فاعذرني متفضلا فان دون
ما أنا فيه يدهش. قال: وفى أي شئ أنت؟ إنما تركت قول الشعر الذي
كان جاهك عندهم وسبيلك إليهم فحبسوك حتى تقوله وأنت لابد أن تقوله
فتطلق، وأنا يدعى بي الساعة فأطالب باحضار عيسى بن زيد بن رسول الله
صلى لله عليه وسلم فإن دللت عليه فقتل لقيت الله عز وجل بدمه، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم خصمي فيه وإلا قتلت. فأنا أولى بالحيرة منك. وأنت
ترى احتسابي وصبري. فقلت: يكفيك الله عز وجل. وأطرقت وجهي
خجلا منه فقال لي: لا أجمع عليك التوبيخ والمنع اسمع البيتين واحفظهما
120

فأعادهما على مرارا حتى حفظتهما ثم دعى به وبى فلما وقف بين يدي المهدى
قال له: أين عيسى بن زيد؟ قال: ما يدريني أين عيسى بن زيد طلبته وأخفته
فهرب منك في البلاد، فأخذتني وحبستني فمن أين أقف على موضع هارب منك
وأنا محبوس؟ قال له: فأين كان متواريا ومتى آخر عهدك به وعند من لقيته؟
فقال ما لقيته منذ توارى ولا أعرف له خبرا. قال: والله لتدلني عليه أو
لأضربن عنقك الساعة؟ قال: اصنع ما بدالك أنا أدلك على ابن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لتقتله فألقى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم
يطالباني بدمه؟! والله لو كان بين ثوبي وجلدي ما كشفت لك عنه. فقال
اضربوا عنقه. ثم دعاني فقال: أتقول الشعر أو ألحقك به؟ قلت: بل أقوله.
قال: فاطلقوه. قال محمد بن القاسم بن مهرويه والبيتان اللذان سمعهما
لا يحضرني الآن من هما من شعره. قال القاضي أبو علي: وأنشدني بعض
أصحابنا معهما بيتا آخر زيادة.
إذا أنا لم أقنع من الدهر بالذي * تكرهت منه طالب عتبى على الدهر
وجدت في كتاب أعطانيه أبو الحسين عبد العزيز بن إبراهيم صاحب
النعمان وهو يومئذ كاتب الوزير أبو محمد المهلبي على ديوان السواد وذكر لي:
أنه نسخه من كتاب أعطاه إياه أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الحصيني
وكان فيه إصلاحات بخط أبى الحسين بن مابيداد، قال أبو الحسين علي بن
الحسين بن عبد الإسكافي: كان داود كاتب أم جعفر قد حبس وكيلا لها
وجب عليه في حسابه مائة ألف درهم فكتب الوكيل إلى عيسى بن فلان،
وسهل بن الصباح وكانا صديقين له بخبره فسارا ليتكلما له فلقيهما الفيض بن
صالح فسألهما عن خبرهما فأخبراه، فقال: أتحبان أن أكون معكما؟ قالا:
نعم. فصاروا إلى داود فكلموه في إطلاق الرجل. فقال: أكتب إلى أم
جعفر فكتب إليها يعلمها خبر القوم وحضورهم ومسألتهم في الوكيل فوقعت
في الرقعة أن يعرفهم ما وجب لها عليه من المال، ويعلمهم أن لا سبيل إلى اطلاقه
121

دون أداء المال فاقرأهم داود التوقيع واعتذر إليهم: فقال عيسى، وسهل بن
الصباح: قد قضينا حق الرجل فقد أبت أم جعفر أن تطلقه إلا بالمال فقوموا
ننصرف فقال لهما الفيض بن صالح: كأنا إنما جئنا لنؤكد حبس الرجل؟
قالا له: فماذا تصنع؟ قال: نؤدى عنه المال. قال: ثم أخذ الدواة فكتب
إلى وكيله في حمل ما على الرجل كتابا دفعه إلى داود كاتب أم جعفر وقال:
قد أجزنا في المال فادفع إلينا صاحبنا. قال: لا سبيل إلى ذلك حتى أعرفها
الخبر. قال فكتب إليها بالخبر فوقعت في رقعته أنا أولى بالمكرمة من الفيض
ابن صالح فاردد عليه كتابه بالمال، وادفع إليه الرجل وقل له: لا يعاود مثل
ما كان منه " قال ": ولم يكن الفيض يعرف الرجل وإنما ساعد عيسى وسهلا
على الكلام في أمره.
أخبرني أبو الفرج علي بن الحسين المعروف بالأصفهاني بالاسناد أنه لما
كان أعشى همدان أبو المصبح ممن أغزاه الحجاج بلد الديلم ونواحي دستي
فأسر فلم يزل أسيرا في أيدي الديلم، ثم أن بنت العلج الذي كان أسره
هوته وصارت إليه ليلا ومكنته من نفسها فأصبح وقد واقعها ثماني مرات.
فقالت له الديلمية: يا معشر المسلمين أهكذا تفعلون بنسائكم؟ فقال لها هكذا
نفعل كلنا. فقالت له بهذا العمل نصرتم. أرأيت إن خلصتك تصطفيني لنفسك،
قال لها: نعم، وعاهدها فلما كان من الليل حلت قيوده وأخذت به طريقا
تعرفها حتى خلصته فقال شاعر من أسراء المسلمين:
فمن كان يفديه من الأسر ماله * فهمدان يفديها الغداة أيورها
وقال الأعشى يذكر ما لحقه من أسر الديلم:
لمن الظعائن سيرهن ترجف * عزن السفين إذا تقاعس يجدف
وذكر أبو الفرج القصيدة وهي طويلة اخترت منها ما يتعلق بالفرج بعد
الشدة وهي قوله:
أصبحت رهنا للعداة مكبلا * أمسى وأصبح في الأداهم أرسف
122

ولقد أراني قبل ذلك ناعما * جذلان آبى ان أضام وآنف
واستنكرت ساقى الوثاق وساعدي * وأنا أمرؤ بادي الأشاجع أعجف
وأضامني قوم وكنت أضيمهم * فالآن أصبر للزمان وأعرف
وإذا تصبك من الحوادث نكبة * فاصبر لها فلعلها تتكشف
وذكر أبو عبد الله بن عبدوس في " كتاب الوزراء ": أن نجاح بن سلمة حبس
إبراهيم بن المدبر مكايدة لأخيه وذلك في أيام المتوكل، فلما طال حبس
إبراهيم ولم يجد حيلة في الخلاص عمل أبياتا أنفذها إلى المشدود الطنبوري
وسأله أن يعمل فيها لحنا ويغنى بها المتوكل فإذا سأل عن قائلها عرفه أنها له.
ففعل المشدود ذلك وسأله المتوكل فقال لعبدك إبراهيم بن المدبر فذكره فأمر
بإطلاقه والابيات هي:
بأبي من بات عندي * طارقا من غير وعدى
بات يشكو شدة الشوق * وأشكو فرط وجدى
وتجنى فبكى فانهل * در فوق وردي
قيد تحت يد طورا * وخد فوق خدى
وذكر أيضا أن إسحاق بن سعيد، قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن عيسى
المروروذي صاحب يحيى بن خاقان عنه، قال: كان المأمون الزمني خمسة
آلاف ألف درهم فأعلمته أنى لا أملك إلا سبعمائة ألف درهم وحلفت
على ذلك أيمانا مغلظة اجتهدت فيها فلم يقبل منى وحبسني عند أحمد بن هشام
وكان بيني وبينه شر قد شهر وعرف وكان يتقلد الحرس فقال أحمد للموكلين
بي: احفظوا واحذروا أن يسم نفسه. ففطن المأمون لمراده. فقال له
يا أحمد: لا يأكل يحيى بن خاقان إلا ما يؤتى به من منزله، قال: فأقمت على
ذلك ووجه إلى فرج الرجحي بألف ألف درهم، ووجه إلى الحسن بن سهل
بألف ألف درم فأضفت ذلك إلى ما كان عندي حتى جمعت خمسة آلاف
ألف درهم. فلما اجتمعت كتبت إلى المأمون بحضور المال الذي ألزمنيه فأمر
123

بإحضاري فدخلت عليه وبين يديه، أحمد بن خالد، وعمرو بن مسعدة، وعلى
ابن هشام فلما رآني قال لي: أو لم تخبرني وتحلف لي أنك لا تملك إلا سبعمائة ألف
درهم فمن أين لك هذا المال؟ فصدقته عن أمره وقصصت عليه قصته. فأطرق
طويلا ثم قال: قد وهبته لك. فقال الحضور أتهب له خمسة آلاف ألف
درهم وليس في بيت المال درهم وأنت محتاج إلى ما دون ذلك بكثير فلو أخذته
منه قرضا وإذا جاءك مال رددته إليه؟ فقال لهم: أنا على المال أقدر من
يحيى وقد وهبته له فرددت على القوم ما كانوا حملوه إلى وتخلصت. وقال
محمد بن عبدوس في كتابه " كتاب الوزراء ": أن محمد بن يزداد سعى إلى
المأمون بعمرو بن بهنوني فقال المأمون: يا فضل خذ عمرا إليك وقيده
وضيق عليه ليصدق عما صار إليه من مالي فقد احتاز مالا جليلا وطالبه به
فقلت: نعم، وأمرت باحضار عمرو فاحضر فأخليت له حجرة في داري
وأقمت له ما يصلحه، وتشاغلت عنه بأمور السلطان في يومى وغده فلما كان
اليوم الثالث أرسل إلى عمرو يسألني الدخول إليه فدخلت وأخرج إلى رقعة
قد أثبت فيها كل ما يملكه من الدور والضياع والعقار والأموال والكسوة
والفرش والجوهر والكراع والقماش وما يجوز بيعه من الرقيق فكان قيمة
ذلك عشرين ألف ألف درهم وسألني أن أوصل رقعته إلى المأمون وأعلمه
أن عمرا قد جعله من دون ذلك في حل وسعة، فقلت له: فإن أمير المؤمنين
أكبر قدرا من أن يسلبك نعمتك عن آخرها. فقال عمرو إنه كما وصفت
في كرمه ولكن الساعي لا ينام عنى ولا عنك، وقد بلغني ما أمرت به في
أمرى من الغلظة وقد عاملتني بضد ذلك وقد طبت نفسا بأن أشترى عدل
أمير المؤمنين لك في أمرى ورضاه عنى بجميع مالي فلم أزل أنزله حتى وافقته
على عشرة آلاف ألف درهم. فقلت هذا شطر مالك وهو صالح للفريقين
وأخذت خطه بالتزام ذلك صلحا عن جميع ما جرى على يديه وصرت إلى
المأمون فوجدت محمد بن يزداد قد سبقني إليه وإذا هو يكلمه، فلما رآني
قطع الكلام وخرج. فقال المأمون يا فضل: قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: ما هذا الجرأة منك وعلينا؟ فقلت يا أمير المؤمنين أنا عبد طاعتك
124

وغرسك، فقال: أمرتك بالتضييق على النبطي عمرو بن نهنوني فقابلت
أمرى بالضد ووسعت عليه وأقمت له الانزال؟ فقلت يا أمير المؤمنين: إن
عمرا يطالب بأموال كثيرة عظيمة فلم آمن أن أجعل محبسه في بعض الدواوين
فيبذل مالا يرغب في مثله فيتخلص فجعلت محبسه في داري، وأشرفت على
طعامه وشرابه لا حرس نفسه فان كثيرا من الناس اختانوا السلطان وتمتعوا
بالأموال ثم طولبوا بها فاحتيل عليهم ليبطنوا ويفوز بالأموال غيرهم. قال
الفضل: وإنما أردت بذلك تسكين غضب المأمون على، ولم أعرض الرقعة
عليه بما جرى بيني وبين عمرو لأني لا آمن سورته من ذلك الوقت لاشتداد
غضبه. فقال لي سلم عمرا إلى محمد بن يزداد. ففعلت فلم يزل يعذبه بأنواع
العذاب حتى يبذل له شيئا فلم يفعل فلما رآى أصحابه وعماله ما قد ناله جمعوا له
من بينهم ثلاثة آلاف ألف درهم وسألوا عمرا أن يبذلها لمحمد بن يزداد
فبذلها فصار محمد إلى المأمون متجها بها وواصل الخط بها إلى المأمون وأنا
واقف. فقال المأمون يا فضل: ألم نعلمك أن غيرك أقوم بأمورنا منك
وأطوع لما تأمر؟ فقلت يا أمير المؤمنين: أرجو أن أكون في حالي استبطاء
أمير المؤمنين أبلغ في طاعته من غيري. فقال المأمون: هذه رقعة عمرو
ابن بهنوني بثلاث آلاف ألف درهم. فقلت - وما اجترأت عيه قط اجترائي
عليه ذلك اليوم - فانى أخرجت ضيارة كانت مع غلامي فأخذت الرقعة منها
مسرعا وقلت والله لأعلمن أمير المؤمنين أنى مع رفقي أبلغ في حياطة أمواله
من غيري مع غلظته، وأريته رقعة عمرو التي كتبها لي وحدثته بحديثي
عن آخره. فلما تبين المأمون الخطين وعلم أنهما من خط عمرو قال: ما أدرى
أيكما أعجب؟ عمرو حيث تنكر برك وطاب نفسا بالخروج من ملكه بهذا
السبب، أم أنت ومحافظتك على أهل النعم وسترتك عليه ذلك في ذلك الوقت.
والله لا كنتما يا نبطيان بأكرم منى. ودفع الرقعة التي أخذها محمد بن يزداد
من عمرو إلى وأمرني بتمزيقها وتمزيق الأولى وأمر من يسلم عمرا من مجلسه
إلى وأمرني باطلاقه فخرجت من بين يديه وفعلت ذلك.
125

حدثني أبو الحسين عبيد الله بن أحمد بن الحسن بن عياش الخزري
البغدادي وكان خليفة أبى رحمه الله على الفتيا بسوق الأهواز بإسناده عن
القاضي أبى عمرو رحمه الله قال: لما جرى من أمر عبد الله بن المعتز ما جرى
حبست وما في لحيتي طاقة بيضاء، وحبس معي أبو المثنى القاضي، ومحمد بن
داود بن الجراح في دار واحدة في ثلاثة أبيات متلاصقة، وكان بيتي
في الوسط وكنا آيسين من الحياة وكنت إذا جن الليل حدثت أبا المثنى تارة،
ومحمد بن داود تارة وحدثاني من وراء الأبواب ويوصى كل واحد منا إلى
صاحبه ونتوقع القتل ساعة بساعة. فلما كان ذات ليلة قد أغلقت الأبواب
ونام الموكلون ونحن نتحدث عن بيوتنا إذ حسسنا بصوت الاقفال تفتح
فارتعتا ورجع كل منا إلى صدر بيته. فما شعرت الا وفتح الأبواب على محمد
ابن داود فأخرج واضجع على المذبح، فقال يا قوم ذبحا كما تذبح الشاة؟
أين المصادرات أين أنتم عن أموالي أفتدي بها نفسي على كذا وكذا. قال
فما التفتوا إلى كلامه وذبحوه وأنا أراه من شق الباب وقد أضاء السجن من
كثرة الشموع وصار كأنه نهار، واحتزوا رأسه فأخرجوه معهم وجردوا
جثته وطرحت في بئر الدار وغلقت الأبواب (قال): فأيقنت بالقتل وأقبلت
على الصلاة والدعاء والبكاء فما مضت إلا ساعة واحدة حتى أحسست بالأقفال
تفتح فعاودني الجزع، فإذا هم جاؤوا إلى بيت أبى المثنى ففتحوه وأخرجوه
وقالوا له: يقول لك أمير المؤمنين يا عدو الله، يا فاسق بما استحللت نكث
بيعتي وخلع طاعتي؟ فقال: لأني علمت أنه لا يصلح للإمامة. فقالوا له:
إن أمير المؤمنين قد أمرنا باستتابتك من هذا الكفر فان تبت رددناك إلى
محبسك وإلا قتلناك؟ فقال: أعوذ بالله من الكفر ما أتيت ما يوجب الكفر.
قال هو يتهوس معهم بهذا الكلام وشبهه فلا يرجع عنه، فلما آيسوا منه مضى
بعضهم وعاد فظننت أنه يستتيب في الاستئذان (قال): فأضجعوه ثم ذبحوه وأنا
أراه وحملوا رأسه وطرحوا جثته في البئر (قال): فذهب على أمرى وأقبلت
على الدعاء والبكاء والتضرع إلى الله عز وجل فلما كان في وجه السحر وقد سمعت
126

صوت الديادب فإذا بصورت الاقفال فقلت لم يبق غيري وأنا مقتول فاستسلمت
وفتحوا الباب عنى فأقاموني إلى الصحن وقالوا يقول لك أمير المؤمنين يا فاعل
يا صانع ما حملك على خلع بيعتي؟ فقلت: الخطأ وشقوة الجد وأنا نائب إلى الله
عز وجل من هذا الذنب. قال فأقبلت أتكلم بهذا وشبهه فمضى بعضهم وعاد فقال:
أجب ثم أسر إلى وقال: لا بأس عليك فقد تكلم فيك الوزير يعنون ابن الفرات وأنت
مسلم إليه (قال): فسكت وجاؤا إلى بخفى وطيلساني وعمامتي فلبست ذلك وأخرجت
فجئ بي إلى الدار التي كانت برسم ابن الفرات في دار الخليفة فلما رآني أقبل يخاطبني
بعظم جنايتي وخطئي وأنا أقر بذلك وأستقيل وأتنصل، ثم قال قد وهب لي
أمير المؤمنين دمك، وابتعت منه جرمك بمائة ألف دينار الزمتك إياها فقلت
أيها الوزير: والله ما رأيت بعضها قط مجتمعا فغمزني بأن اسكت وجذبني قوم
من وجوه الكتاب كانوا بحضرته ورائي فسكتوني فعملت أن ابن الفرات قد
أراد تخليص دمى فقلت كلما يأمر الوزير أعزه الله. فقال: احملوه إلى داري،
قال فأخذت وحملت إلى داره فقرر أمرى على مائة ألف دينار يؤدى منها النصف
عاجلا ويصير النصف في حكم الباطل على رسم المصادرات، فلما صرت في
دار ابن الفرات وسع على في الطعام والمشرب والمجلس وأدخلت الحمام،
ورفهت وأكرمت فرأيت لما خرجت من الحمام وجهي في المرآة فإذا طاقات
شعري قد ابيضت في مقدم لحيتي، فإذا أنا قد شبت في تلك الليلة الواحدة
" قال ": وأديت من المال نيفا وثلاثين ألف دينار ثم نظر إلى ابن الفرات
بالباقي وصرفني إلى منزلي وتخلص من دمى فمكثت في بيتي سنتين وبابي
مسدود على لا أرى أحدا ولا يراني إلا في الشاذ وتوفرت على دروس الفقه
والنظر في العلم إلى أن أذن الله عز وجل بالفرج وكشفت عنى، وأخرجت
من بيتي إلى ولاية الأعمال * وشبه هذا الحديث ويقاربه وإن لم يكن بالحقيقة
من " باب من خرج من حبس " إلا أنه من أخبار الفرج بعد الشدة من جملة
ما حدثني به أبو الحسين بن محمد بن علي بن موسى الأنباري الكاتب قال:
سمعت كلوي كاتب الحرم يتحدث قال: كان في دار المقتدر عريف على الفراشين
يخدمني وكان يضيفنا إذا أقمنا في دار الخليفة ففقدته مرة في الدار فظنت أنه
127

عليل فلما كان بعد شهور رأيته في بعض الطرق بزي التجار وقد شاب فقلت:
فلان؟ قال: نعم عبدك يا سيدي. فقلت ما هذا الشيب في هذه الشهور اليسيرة،
وما هذا الذي أراه، وأين كنت فتلجلج فقلت لغلماني احملوه إلى داري
وقلت: حدثني حديثك؟ قال: على إن لي الأمان والكتمان. فقلت: نعم.
فقال: كان الرسم على كل عريف من الفراشين في دار الخليفة أن يدخل يوما
من الأيام هو ومن في عرافته إلى دور الخدمة والحرم لرش الخيوش التي
فيها فبلغت النوبة إلى يوما كنت فيه مخمورا فدخلت ومعي رجالي إلى دار
فلانة وذكر حظية جليلة من حظايا المقتدر فلعظم ما كنت فيه من الخمر
ما رشيت قربتي، ولم أخرج بخروج الرجال وقلت لهم انصرفوا فهاتوا قربكم
لاتمام الرش فإذا رششتم فنبهوني فانى نائم هنا، ودخلت خلف الخيش إلى باب
باذاهنج يخرج منه ريح طيبة ونمت وغلب على النوم إلى أن جاء الفراشون
ففرغوا من رش الخيش فعلمت أنى مقتول ان أحس بي القوم فتحيرت فلم أدر
ما أعمل فدخلت الباذاهنج وكان ضيقا فجعلت رجلي على حائط الباذاهنج
وتعلقت فيه ووقفت متعلقا أترقب أن يفطن بي، فإذا بنسوة فراشات يكنسن
الخيش فلما فرغوا من ذلك فرشنه وهيئ فيه مجلس للشرب ولم يكن بأسرع
من أن جاء المقتدر وعدة جوار فجلس وأخذت الجواري في الغناء، وأنا أسمع
ذلك كله وروحي تكاد تخرج فإذا أعييت نزلت فجلست في أرض الباذاهنج
فإذا استرحت وخفت أن يفطن بي القوم وعدت وتعالقت إلى أن مضت
قطعة من الليل ثم عن للمقتدر جذب حظيته إليه التي هي صاحبة تلك الدار
فانصرف باقي الجواري وخلى الموضع فواقع المقتدر الجارية وأنا أسمع
حركتهما وكلامهما ثم ناما في مكانهما وأنا لا سبيل لي للنوم لحظة واحدة.
لما نابني من الخوف، ففكرت في أن أخرج وأصعد إلى بعض السطوح ثم
علمت أنى ان فعلت ذلك تعجلت القتل ولم تزل تلك حالي إلى أن انتبه المقتدر
في السحر وخرج من الموضع فلما كان في غد نصف النهار جاء عريف آخر
من الفراشين ومعه فراشيه فخرجت فاختلطت بهم. فقالوا أي شئ تعمل
128

هنا؟ فأومأت إليهم بالسكوت، وقلت الله الله في دمى فان حديثي يطول فتذمموا
على أن لا يفضحوني، وقال بعضهم: ما بال لحيتك قد ابيضت؟ فقلت: لا أعلم
وأخذت من قربة بعضهم فطريت قربتي وخرجت فلما صرت في موضع
من دار الخليفة وقعت مغشيا على وركبتني حمى عظيمة وذهب عقلي فمر بي
الفراشون وحملوني إلى منزلي وأما لا أعقل، فأقمت مبرسما مدة طويلة وقد
كنت عاهدت الله وأنا في الباذاهنج إن هو خلصني منه لا أخدم أحدا أبدا،
ولا أشرب النبيذ، وأقلع عن أشياء تبت منها. فلما تفضل الله عز وجل
على بالعافية وفيت بالنذر وبعث أشياء كانت لي وضممتها إلى دراهم كانت
عندي ولزمت دكانا لعمتي أتعلم فيه التجارة وأتجر وتركت الدار، فما عدت
إليها إلى الآن ولا أعود أبدا إلى خدمة الناس ولا انقض ما تبت منه ورأيت
لحيته قد كثر فيها الشيب.
حدثنا علي بن هشام، قال: كان أبو الحسن بن الفرات لما ولى الوزارة
الأولى وجد سلمان بن الحسن يتقلد مجلس المقابلة في ديوان الخلافة من قبل
علي بن عيسى والديوان إذ ذاك كله إلى علي بن عيسى، فقلد أبا الحسن بن
الفرات سلمان الديوان بأسره وأقام يتقلده نحو سنتين فأقام ليلة في دار ابن
الفرات يصلى المغرب فسقط من كمه رقعة رآها بعض من حضر فأخذها ولم
يفطن لها سلمان فقرأها فوجدها سعاية في حق ابن الفرات واشيا به إلى
المقتدر، وسعيا لابن عبد الحميد كاتب السيدة في الوزارة، فتقرب بها إلى ابن
الفرات فقبض على سلمان للوقت وأنفذه في زورق مطبق إلى واسط فحبسه
بها وصادره وعذبه وكان في العذاب دهرا وآيس من الخلاص. فبلغ ابن
الفرات أن أم سلمان بن الحسن ماتت ببغداد وأنها كانت تتمنى رؤيته قبل
موتها، فاغتم لذلك وتذكر المودة بينه وبين أبيه الحسن بن مخلد فكتب إليه
بخطه كتابا أقرأنيه سلمان بعد سنين كثيرة من ذلك الحال وحفظته ونسخته
وهو: " بسم الله الرحمن الرحيم: ميزت أكرمك الله بين حقك وجرمك،
فوجدت الحق يوفى عن الجرم، وتذكرت من سالف خدمتك في المنازل
129

التي فيها ربيت وبين أهلها غديت، فأثناني عليك وعطفني إليك، وأعادني لك
إلى أفضل ما عهدت، وأجمل ما ألفت، فثق أكرمك الله بذلك، واسكن
إليه، وعول في صلاح ما اختل من أمرك عليه، واعلم أنني أرى فيك حقوق
أبيك التي تقوم بتوكيد النسب مقام اللحمة والنسب، وتسهل ما عظم من
جنايتك، وتقلل ما كثر من إساءتك، ولم أدع مراعاتها والمحافظة عليها
بمشيئة الله، وقد قلدتك أعمال دستميسان سنة ثمان وتسعين ومائتين وبقايا
ما قبلها، وكتبت إلى أحمد بن محمد بن جيش بحمل عشرة آلاف درهم إليك،
فتقلد هذه الأعمال وأثر فيها أثرا جميلا يبين عن كفاءتك ويؤدى إلى ما أحبه
من زيادتك إن شاء الله ". قال أبو الحسين: وابن جيش هذا كان وكيل ابن
الفرات في ضياعه بواسط.
حدثني البهلول بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي رحمه الله،
قال: حدثني أبو علي الوكيل على أبواب القضاة ببغداد، ويعرف: بالناقد،
قال: كنت أقيم خبر المحبوسين في المطبق بمدينة السلام في أيام المقتدر
بالله فرأيت في المطبق رجلا مغلولا على ظهره لبنة حديد فيها ستون رطلا.
فسألته عن قصته؟ فقال: أنا والله مظلوم. فقلت: وكيف كان أمرك؟
فقال: كنت ليلة من الليالي في دعوة صديق لي بسوق يحيى فخرجت من عنده
مغلسا وفى الوقت فضل وأنا لا أعلم، فلما صرت في قطعة من الشارع رأيت
مشاعل الطائف فرهبته ولم أدر ما أعمل فرأيت شريحة مشوشة ففتحتها
ودخلت ودورتها كما كانت وقمت في الدكان ليجوز الطائف وأخرج، وبلغ
الطائف الموضع فرأى الشريحة مشوشة فقال فتشوا هذا الدكان فدخلت
الرجالة بمشعل فرأيت في ضوئه رجلا في الدكان مذبوحا وعلى صدره سكين
فجزعت ورأي الرجال ذلك ورأوني قائما فلم يفتكروا في إلا أنا قاتله،
وأخذني صاحب الشرطة ثم عرضت فضربت ضربا شديدا وعوقبت أصناف
العقوبات وأنا أنكر، وعندهم أنى أتجلد وهم يزيدوني فاجتمعت أهلي وكان لهم
شغب بأسباب السلطان فتكلموا في واستشهدوا خلقا كثيرا على سيرى فبعد
130

شدائد ألوان أعفيت من القتل ونقلت إلى المطبق، وفى هذا الحديد من منذ
ست عشرة سنة. قال: فاستعظمت محنته وبهت من حديثه. فقال مالك والله
ما آيس مع ذلك من فضل الله عز وجل فان من ساعة إلى ساعة فرجا. قال:
فوالله ما خلص كلامه من فيه حتى ارتفعت ضجة عظيمة وكسر الحبس
ووصلت العامة إلى المطبق ومكائده فأخرجوا كل من كان في الحبس وخرج
الرجل من جملتهم فانصرفت وأنا أريد بيتي فإذا نازوك قد أقبل والفتنة قد
ثارت، وفرج الله عز وجل عن الرجل * بلغني عن رجل من أهل كوثى قال:
كان يتقلد بلدنا عامل من قبل أبى الحسين بن الفرات في بعض وزارته فافتح
الخراج واشتد في المطالبة وكان في أطراف البلد قوم من العرب قد زرعوا
من الأرض مالا يتجاسر الأكرة على زراعته، وكان العمال يسامحونهم
ببعض ما يجب عليهم من الخراج فطالبهم هذا العامل بالخراج على التمام أسوة
الأكرة وأحضر أحدهم فحقق عليه المطالبة وهو يمتنع فأمر بصفعه حتى
أدى الخراج وانصرف فشكى إلى بنى عمه فتوافقوا على كبس العامل ليلا
وقتله وراسلوا غيرهم من العرب وتواعدوا على ليلة معلومة فلما كان اليوم
الذي يليه تلك الليلة ورد إلى الناحية عامل آخر صارفا للأول فقبض عليه
وصرفه وضربه بالمقارع وأخذ خطه بمال وقيده وأمر أن يحمل إلى قرية
أخرى على فراسخ من البلد فيحبس فيها، ووكل به عشرة من الرجال فسيروه
مرة ماشيا ومرة على حمار فكاد مما لحقه أن يتلف وحصل تلك القرية وكان
له غلام قد رباه وهو خصيص به عارف بجميع أموره فهرب عند ورود
الصارف، فلما كان من الغد لم يشعر المصروف المحبوس إلا وغلامه الذي رباه
قد دخل عليه فكانت محنته إليه أشد عليه من جميع ما لحقه اشقاقا على الغلام
وعلى نفسه مما يعرفه الغلام أن يكون قد دل عليه، فقال الغلام: هات
رجلك حتى أكسر قيودك وتقوم تدخل بغداد. فقال له: وأين الرجالة
الموكلون بي؟ فقال يا مولاي قد فرج الله تعالى وهرب الرجالة. فقال:
ما سبب هذا؟ قال إن الاعراب الذين كنت صفعت منهم واحدا وطالبته
بالخراج كبسوا البارحة دار العمالة وعندهم أنك أنت العامل وقد عملوا على
131

قتلك ولم يكن عندهم خبر صرفك ولا خبر ورود هذا العامل فقتلوه على أنه
أنت وهرب أصحابه وأهل البلد يخافونك فقم حتى تمشى إلى بغداد لئلا يبلغهم
كونك هنا فيقصدونك ويقتلونك وكسر القيد، وقام هو وغلامه يمشيان على
غير جادة إلى أن بعدا ودخلا قرية واستأجرا منها ما ركباه إلى بغداد ولقى
المصروف الوزير ودب على المقتول وأنه أفسد الناحية وأثار فتنة مع العرب
فأمره الوزير على الناحية وضم إليه جيشا إلى كوثى وتحصن بالجيش وأرهب
العرب وأرضاهم إلى أن صالحهم أثبتهم وسكن إليهم وسكنوا إليه وزال
خوفه واستقام له أمر عمله.
أخبرني أبو الفرج الأموي المعروف بالأصفهاني بإسناده عن إبراهيم بن
المهدى، قال: غضب على محمد الأمين في بعض هناته فسلمني إلى كوثر فحبسني
في سرداب وأغلقه على فمكثت فيه ليلتي فلما أصبحت فإذا أنا بشيخ قد خرج
على من زاوية السرداب ودفع إلى وسطا وقال: كل. فأكلت ثم أخرج قنينة
من شراب فشربت ثم قال: غن لي. فقلت:
لي مدة لابد أبلغها * معلومة فإذا انقضت مت
لو ساورتني الأسد ضارية * لغلبتها إن لم يجى الوقت
فغنيته فسمعني كوثر فصار إلى محمد وقال له: قد جن عمك! هو
جالس يغنى بكيت وكيت. فأمر بإحضاري فأحضرت وأخبرته بالقصة
فرضى عنى وأمر لي بسبعمائة ألف درهم * حبس عبد الله بن طاهر محمد بن
أسلم الطوسي فكتب إليه بعض إخوانه يعزيه على مكانه فأجابه ابن أسلم:
كتبت لي تعزيني وإنما كان يحب أن تهنيني أريت العجائب وعرضت لي المصائب
إني رأيت الله عز وجل يتحبب إلى من يؤذيه فكيف إلى من يؤذى فيه، إني
نزلت بيتا سقطت عنى فيه فروض وحقوق منها: الجمعة، والامر بالمعروف،
والنهى عن المنكر، وعيادة المريض، وقضاء حقوق الاخوان وما نزلت
بيتا خيرا في ديني منه. فأخبر بذلك عبد الله بن طاهر فقال: نحن في حاجة
إلى ابن أسلم أطلقوه * وكان المأمون قد غضب على فرج الزحمي فكلمه
132

عبد الله بن طاهر ومسرور الخادم في إطلاقه قال فرج: فبت ليلتي وأنا مفكر
إذ أتاني آت فقال لي:
لما أتى فرج من ربه فرجا * جئنا إلى فرج نبغي به الفرجا
فلما أصبحت لم أشعر إلا واللواء قد عقد لي على ولاية فارس والأهواز
وأطلق لي معونة خمسمائة ألف درهم، وإذا أبو البغا الشاعر قائم على باب
داري وقد كتب هذا البيت في رقعة فقلت له: متى قلت هذا؟ فقال في الوقت
الذي رضي عنك فيه. فأمرت له بعشرين ألف درهم * وقال عمار بن عقبة
ابن عمارة من آل سلمى ابن المطهر حدثني ملازم بن عدام الحنفي، وعن عمه
ملازم بن حريث الحنفي قال: كنت في حبس الحجاج بسبب الحرورية
فحبس معنا رجل فأقام حينا لا نسمعه يتكلم بكلمة حتى كان في اليوم الذي
مات الحجاج في الليلة التي تليه فأقبل غراب في عشية ذلك اليوم فوقع على
حائط السجن فنعق فقال الرجل: ومن يقدر على ما تقدر عليه يا غراب.
ثم نعق الثانية: فقال مثلك من بشر بخير يا غراب. ثم نعق الثالثة: فقال
من فيك إلى السماء يا غراب. فقلت له: ما سمعناك تكلمت مذ حبست إلى
الساعة، فما دعاك إلى ما قلت؟ قال: إنه نعق فقال: إني وقعت على ستر
الحجاج. فقلت: ومن يقدر على ما تقدر عليه؟ ثم نعق الثانية فقال: إن الحجاج
أصابه وجع. فقلت: مثلك من بشر بخير. ثم قال في الثالثة: الليلة يموت.
فقلت: من فيك إلى السماء. ثم قال الرجل إن انسلخ الصبح قبل أن أخرج فليس
على بأس، وإن دعيت الصبح فستضرب عنقي ثم تلبثون ثلاثة لا يدخل عليكم
أحد، ثم يدعى بكم في اليوم الرابع فيهتف على رؤسكم بالكفالة فمن وجد له
كفيلا خلى سبيله، ومن لم يجد له كفيلا فويل له طويلا. فلما دخل الليل
سمعنا الصراخ على الحجاج، ثم أخرج الرجل قبل الصبح فضرب عنقه، ثم لم
يدخل علينا أحد بعد ثلاثا، ثم دعى بنا وطلب منا الكفالة ثم صار الامر إلى
فمكثت طويلا حتى خفت أن أرد إلى الحبس، ثم تقدم رجل فضمني
فقلت له يا عبد الله: من أنت حتى أشكرك؟ فقال لي: اذهب ولست بمسؤول
عنك أبدا فانطلقت.
133

قال أبو الحسن علي بن عبد الأعلى الإسكافي كنت أكتب لبغاء الكبير
فصرفني ونكبني وأخذ ضياعي ومالي وحبسني بعد ذلك وتهددني ونالني
منه كل مكروه، وإني لفى حبسه إذ سمعت حركة فسألت عنها فقيل لي: قد
وافى إسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان صاحب الشرطة، فقلت: إنما هذا حضر
لعقوبتي فطارت نفسي جزعا، فلم ألبث أن دعيت فحملت في قيودي وعلى
ثياب في نهاية الوسخ فأدخلت وأنا كالميت لما بي ولعظم الخوف، فلما
وقعت عين إسحاق على تبسم فسكنت نفسي. فقال لي بغاء إن أخي أبا العباس
يعنى عبد الله بن طالب بن طاهر كتب إلى يشفع في أمرك وقد شفعته وأزلت
عنك المطالبة ورضيت عنك، ورددت عليك ضياعك فانصرف إلى منزلك
فبكيت بكاء شديدا لعظم ما قد ورد على قلبي من السرور، وفكت قيودي
وغيرت حالي، وانصرفت فبت في بيتي وبكرت في المسير إلى إسحاق لأشكره
واسأله عما أوجب ما جرى لأنه شئ ما طمعت فيه، ولا كانت لي وسيلة إلى
أبى العباس ولا إسحاق فلقيته وشكرته ودعوت له ولأبي العباس وسألته
فقال: ورد على كتاب الأمير أبى العباس يقول فيه قد كانت كتب أبى موسى
بغاء ترد على بمخاطبات توجب الانس والخلطة، وتلزم الشكر والمنة، ثم تغيرت
فبحثت عن السبب فعلمت أن ذلك الكاتب صرف، وأنه منكوب وحق لمن
أحسن عشرتنا ووكد المحبة بيننا وبين إخواننا حتى بان لنا موقعه وعرفنا
موضعه لما صرف أن نرعى حقه. فسر أبقاك الله إلى أخي أبى موسى واسأله
في أمر كاتبه المصروف عنى واستصفحه ما في نفسه منه واستطلقه واسأله رده
إلى كتابته وإن كان ما يطالبه به مما لا ينزل عنه فأده من مالنا كائنا ما كان.
فلقيته ففعل ما رأيت وأنا أعاود الخطاب في استكتابك وقد أمر لك الأمير
بكذا من المال فخذه. قال فأخذته وشكرت ودعوت للأميرين وانصرفت
فأمضيت الأيام حتى ردني إسحاق إلى كتابة بغاء بشفاعة أبى العباس وتأثلت
حالي معه ونعمتي.
حدثني علي بن أبي الطيب بإسناده إلى سليمان بن أبي زياد قال: كان عمرو
134

ابن هبيرة واليا على العراق من ولاة يزيد بن عبد الملك فلما مات يزيد
واستخلف هشام قال عمرو بن هبيرة سيولى هشام العراق أحد الرجلين
سعيدا الخرشي، أو خالد بن عبد الله القسري، فان ولى ابن النصرانية خالدا
فهو البلاء. فولى هشام خالدا فدخل واسطا وقد أوذن عمرو بن هبيرة بالصلاة
فهو يتهيأ والمرآة في يده يسوى عمته إذ قيل له هذا خالد قد دخل.
فقال عمرو بن هبيرة: هكذا تقوم الساعة تأتى بغتة. فقدم خالد فأخذ عمرو
ابن هبيرة فقيده وألبسه مدرعة صوف. فقال يا خالد: بئس ما سننت على
أهل العراق ما تخاف أن يوجد فيك بمثل هذا؟! فما طال حبسه جاءه موال
له فاكتروا دارا إلى جانب الحبس ثم نقبوا سردابا إلى الحبس، واكتروا
دارا أخرى إلى جانب حائط سور مدينة واسط فلما كانت الليلة التي أرادوا
أن يخرجوه فيها من الحبس أفضى النقب إلى الحبس فخرج منه في السرداب،
ثم خرج من الدار يمشى حتى بلغ الدار التي بجانب سور المدينة وقد نقب
فيها فخرج في السرداب منها، وقد هيئت له خيل خلف حائط المدينة فركب
وعلم به بعد ما أصبحوا وقد كان أظهر علة قبل ذلك لكي يتمسكوا عن تفقده
في كل وقت. فأتبعه خالد سعيدا الخرشي فلحقه وبينه وبى الفرات شئ
يسير فتعصب وتركه وقال الفرزدق شعرا:
ولما رأيت الأرض قد سد ظهرها * ولم تر إلا بطنها لك مخرجا
دعوت الذي ناداه يونس بعد ما * ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا
خرجت ولم يمنن عليك طلاقة * سوى زائد التقريب من آل أعوجا
فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة * وما سار سار مثلها حين أدلجا
قال سليمان بن أبي شيخ: فحدثني أبى خبرة عن أبي الجنحات قال:
حدثني حازم مولى عمرو بن هبيرة حين هرب من السجن فبلغنا دمشق بعد
العتمة فأتى مسلمة بن عبد الملك خلف الصبح فاستأذن مسلمة على هشام
ابن عبد الملك فدخل عليه. فلما رآه قال يا أبا سعيد: أظن ابن هبيرة قد
طرقك في هذه الليلة؟ قال أجل يا أمير المؤمنين: فقد أجرته فهبه لي. قال:
قد وهبه لك.
135

أخبرني أبو الفرج القرشي المعروف بالأصفهاني قال: قد ذكر ابن
الكلبي عن أبيه قال: خرج قيس بن قيسبة بن كلثوم السكوني وكان ملكا يريد
الحج وكانت العرب تحج في الجاهلية ولا يتعرض بعضها لبعض فمر ببنى عامر
ابن عقيل فوثبوا عليه وأسروه وأخذوا ماله وما كان معه وألقوه في الغل
فمكث فيه ثلاث سنين وشاع في اليمن أن الجن استطارته. فبينما هو
في يوم شديد البرد في بيت عجوز منهم وقد يئس من الفرج إذ قال لها:
أتأذنين لي أن آتي الأكمة فأتشرق عليها فقد أضرني القر؟. فقالت له:
نعم. وكانت عليه جبة صوف لم يترك عليه غيرها فتمشى في أغلاله وقيوده
حتى صعد الأكمة ثم أقبل يضرب ببصره نحو اليمين وتغشاه عبرة فبكى ثم
رفع رأسه إلى السماء فقال: " اللهم فاطر السماء فرج لي مما أصبحت فيه ".
فبينما هو كذلك إذ عرض عليه راكب يسير فأشار إليه أن أقبل فأقبل
الراكب فلما وقف عليه قال له ما حاجتك يا هذا؟ قال: أين تريد؟ قال:
أريد اليمن. قال: ومن أنت؟ قال: أبو الطمحان العيني. فاستعبر ابن قيسبة
فقال له أبو الطمحان: من أنت:؟ فإني أرى عليك سيما الخير ولباس
الملوك، ولست بدار فيها ملك. فقال: أنا ابن قيسبة بن كلثوم السكوني
خرجت عام كذا وكذا أريد الحج فوثب على هذا الحي وصنعوا بي ما ترى
وكشف عن أغلاله وقيوده. فاستعبر له أبو الطمحان. فقال له قيسبة: هل
هل لك من مائة ناقة حمراء؟ قال ما أحوجني إلى ذلك. قال أنخ. فأناخ ثم
قال له أمعك سكين؟ قال: نعم. قال: ارفع عن رجلك. فرفع له عن
رجله حتى بدت خشبة مؤخرة فكتب عليها قيسبة بالمسند ولم يكتب به
غير أهل اليمن.
بلغن كندة الملوك جميعا * حيث سارت بالأكرمين الجمال
إن ردوا الخيل بالخميس عجالا * وأصدروا عنه والروايا ثقال
هربت جارتي وقالت عجيبا * إن رأتني في جيدي الأغلال
أن يرى عارى العظام أسيرا * قد يراني تضعضع واختبال
فلقد أقدم الكتيبة بالسيف * على السلاح والسربال
136

وكتب محت الشعر إلى أخيه أن يدفع إلى أبى الطمحان مائة ناقة حمراء
ثم قال: أقرئ هذا قومي فإنهم سيعطونك مائة ناقة حمراء. فخرج تسير
به راحلته حتى أتى حضرموت فتشاغل ما ورد له ونسي أمر ابن قيسبة
حتى فرغ من حوائجه ثم سمع نسوة من عجائز اليمن يتذاكرن أمر ابن
قيسبة ويبكين فذكر أمره فأتى أخاه الجون بن مالك فقال له يا هذا: إني
أدلك على أخيك وقد جعل لي مائة ناقة حمراء. فقال له: فهي لك. فكشف
عن رجله فلما قرأه الجون بن مالك أمر له بمائة ناقة. ثم أنى قيس بن معدى
كرب الكندي أبا الأشعث بن قيس فقال له يا هذا: إن أخي في بنى عقيل
أسير فسر معي بقومك نخلصه. قال: أتسير معي تحت لوائي، حتى أطلب ثارك
وأنجدك؟ والا فامض راشدا. فقال له الجون: مس السماء أهون من ذلك
وأيسر على ما جئت به فصحب السكون ثم فاؤا فرجعوا فقال ما عليك من
هذا هو ابن عمك ويطلب لك بثأرك فانعم له بذلك فسار قيس وسار
الجون معه تحت لوائه وكندة والسكون معه فهو أول يوم اجتمعت
فيه السكون وكندة لقيس وبه أدرك الشرف وسار حتى أوقع ببنى
عامر بن عقيل فقتل منهم مقتلة واستنقذ ابن قيسبة وقال في ذلك سلامة
ابن صبيح الكندي:
لا تشتمونا إذ جلبنا لكم * ألفي كمية كلها سلهبة
نحن أنلنا الخير في أرضكم * حتى ثأرنا منكم ابن قيسبه
واعترضت من دونهم مذحج * فصادفوا من خيلنا مسغبه
حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق الكاتب بن يعقوب بن إسحاق
البهلول التنوخي قال: كنت وأنا حدث أتعلم في ديوان الزمام بالسواد
بين يدي كاتب فيه يقال له أبو الحسن علي بن الفتح، ويعرف: بالمطوق
عاش إلى بعد سنة عشرين وثلاثمائة. وأخرج إلينا كتابا قد عمله في أخبار
الوزراء منذ وفاة عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى آخر أيام القاهر بالله
137

وبعدها وسماه كتاب: " مناقب الوزراء، ومحاسن أخبارهم " فقرأنا عليه
بعضه وأخبرنا بالباقي مناولة. قال مؤلف هذا الكتاب: فأعطاني أبو الحسن
أحمد بن يوسف الكتاب مناولة فوجدت فيه أن القاسم بن عبيد الله اعتقل
أبا العباس أحمد بن محمد بن بسطام في داره أياما لأشياء كانت في نفسه عليه
وأراد أن يقع به، فلم يزل ابن بسطام يداريه ويتلطف إلى أن أطلقه
وقلده آمد وما يتعلق بها وأخرجه إليها وفى نفسه ما فيها ثم ندم على ذلك،
فوجه إليه في آخر أيام وزارته بقائد يقال له علي بن جيش أخر قوصرة
ووكله به، فكان يأمر وينهى في عمله، وهو موكل به في داره، خائف على
نفسه لما قد ظهر من إقدام القاسم على القتل. قال ابن بسطام: فأنا أخوف
ما كنت على نفسي وحالي وليس عندي خبر حتى ورد على كتاب عنوانه
لأبي العباس أطال الله بقاه من العباس بن الحسين، فلما رأيت العنوان ناقص
الدعاء علمت أن القاسم بن عبيد الله قد مات، وأن العباس بن الحسين قد
تقلد الوزارة فلم أملك نفسي فرحا وسرورا بالسلامة في نفسي وزال الخوف
عنى. وقرأت الكتاب فإذا هو بصحة الخبر وأمرني بالخروج إلى مصر
وقلدني الأمانة على الحسين بن أحمد المادرائي قال فخرج ابن بسطام إلى مصر
ولم يزل يتقلد الأمانة على الحسين بن أحمد إلى أن تقلد علي بن محمد بن
الفرات الوزارة فقلده مصر وأعمالها فلم يزل فيها أن توفى * حدثنا أبو محمد
عبد الرحيم الوراق المعروف بالصيرفي بن العباس بن محمود بن أحمد الأبرم
المعروف بالمقرئ البغدادي بالبصرة في المحرم سنة خمس وأربعين وثلاثمائة
" بكتاب المنتصر " لأبي العباس أحمد بن عبد الله بن عمار في خبر العلوي
الصوفي الخارج بالجوزجان على المعتصم، وهو: محمد بن القاسم بن علي بن
عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وكان عبد الله
ابن طاهر حاربه وأسره وبعث به إلى المعتصم وهو ببغداد. قال: حدثت
أن المعتصم أمر أن يبنى حبس في بستان موسى كان القيم به مسرورا مولى
الرشيد (قال): وكنت أرى هذا البناء من دجلة إذا ركبتها فخبرني من دخله
أنه كان كالبئر العظيمة قد حفرت إلى الماء أو قريب منه، ثم فيها بناء على
138

هيئة المنارة مجوف من باطنه، وله من داخله مدرج قد جعل في مواضع من
التدريج مستراحات، وفى كل مستراح شبيه بالبيت يجلس فيه رجل وأحد
كأنه على مقداره يكون فيه مكبوبا على وجهه ليس يمكنه أن يجلس ولا يمد
رجله، فلما قدم بمحمد حبس في أسفل بيت منه، فلما استقر به أصابه من
الجهد لضيقته وظلمته، ومن البرد لندى الموضع ورطوبته ما كاد يتلفه من
ساعته، فتكلم بكلام دقيق سمعه من كان في أعالي البئر ممن وكل بالموضع فقال:
إن كان أمير المؤمنين يريد قتلى فالساعة أموت وإن لم يكن يريد ذلك فقد
أشفيت عليه. فأخبر المعتصم بذلك فقال: ما أريد قتله، وأمر بإخراجه
فأخرج وقد زال عقله وأغمى عليه فطرح في الشمس وطرحت عليه لحف،
وأمر بحبسه في بيت كان بنى في البستان فوقه غرفة وكان في البيت خلاء إلى
الغرفة التي تليها وفى الغرفة أيضا خلاء آخر إلى سطحها فلم يزل محبوسا فيه إلى
أن تهيأ له الخروج ليلة الفطر سنة تسع عشرة ومائتين (قال): فحدثني علي بن
الحسين بن عمر بن علي بن الحسين وهو ابن عم أبيه، قال: أصبحت يوم
الفطر أتهيأ للركوب فأنا أشد منطقتي في وسطى وقد لبست ثياب أبا در
الركوب إلى المصلى ما راعني إلا محمد بن القاسم قد دخل إلى منزلي فملئت رعبا
وذعرا، وقلت له كيف تخلصت؟ قال أنا أدبر أمرى في التخلص منذ
حبست، ثم وصف لي الخلاء الذي كان في البيت الذي حبس فيه إلى الغرفة
التي فوقه، والخلاء الذي كان في الغرفة إلى سطحها وأنه أدخل معي يوم
حبست لبد فكان وطائي وفراشي (قال): وكنت أرى بغرش وهي قرية من
قرى خراسان حبالا تعمل فيها من لبود مرصع كما يفعل بالسبور فتجئ
احكم شئ فسولت لي نفسي أن أعمل من اللبد التي تحتي حبلا وكان على باب
البيت قوم وكلوا بي يحفظوني لا يدخل على منهم أحد إنما يكلموني من
خلف الباب ويناولوني من تحته ما أتقوته. فقلت لهم: إن أظفاري قد
طالت جدا وقد احتجت إلى مقراض فجاءني رجل منهم كان يميل إلى
مذهب الزيدية بمقراض أحد جانبيه منقوش نقش المسحل. وقلت لهم:
إن في هذا البيت فيرانا يؤذونني ويقذرونني إذ قربوا منى فاقطعوا لي جريدة
139

من النخل تكون عندي أطردهم بها فقطعوا لي من بعض نخل البستان جريدة
فرموا بها إلى وكنت لا أزال أضرب بها في البيت وأسمعهم صوتها أياما، ثم
قشرت الخوص عنها وقطعتها على مقدار ما علمت أنها تعرض في ذلك الخلاء
إذا رميت بها فضممت كل ما قطعته منها بعضه إلى بعض وقطعت اللبد
وضفرت منه حبلا على ما كنت أرى يعمل بغرش، ثم شددت ما قطعته من
الجريدة في رأس الحبل ثم رميت به في الكوة وعالجته مرارا حتى أعترض
فيها ثم اعتمدت عليها وصعدت إلى الغرفة، ومن الغرفة إلى سطحها (قال):
ففعلت ذلك مرارا في أيام كثيرة وتمكنت من الحركة بأن سحلت بجانب
المقراض إحدى حلقتي القيد، ولم يمكنني إن أسحل الأخرى فكنت إذا
أردت الحركة شددت القيد مع ساقى فأتحرك وقد صرت مطلقا فلما كان في
هذه الليلة وشغل الناس بالعيد وانصرف من كان على الباب فلم أحس
منهم أحدا إلا شيخا واحدا كنت أسمع حركته وأطلع فأراه، فصعدت بين
المغرب والعشاء إلى الغرفة ومن الغرفة إلى سطحها وأشرفت فإذا المعتصم
يفطر والناس بين يديه والشموع فرجعت حتى إذا كان في جوف الليل
صعدت ولم يتحرك الناس ونزلت إلى البستان فإذا فيه قائد معه جماعة فصاح
بي بعضهم. فقال: من هذا؟ فقلت: مدينى من أصحاب الحمام. فقال: أين
تخرج اطرح نفسك حتى تصبح وتفتح الأبواب فطرحت نفسي بينهم حتى
فتح باب البستان في الغلس وتحرك الناس فصرت إلى دجلة لأعبره فإذا
الشيخ الذي كان أحد من يحفظني قد جاء ليعبر فطلب منى الملاح أجرته كما
أخذ من الناس. فقلت: ما معي شئ أنا رجل غريب ضعيف الحال. فقال لي
الشيخ: اعبر أنا أعطيه عنك، فأعطاه عنى وعبرت حتى جئتك قال علي بن
الحسين فقلت: والله ما منزلي بموضع لك. فاخرج عنه ولا تقر فيه لحظة واحدة
قال وركب إلى الموصل فصار إلى منزل رجل من الشيعة فأخفاه.
قال: وروى عن الفضل بن حماد الكوفي من أصحاب الحسين بن صالح
يحدث بوفاة عيسى بن زيد بن علي رضي الله عنهم بالكوفة وكيف ستر ذلك
عن المهدى فذكر حديثا طويلا قال فيه: فتواردت الاخبار عند الرشيد
140

بحسن طريقة أحمد بن عيسى بن زيد وميل الناس إليه، فأمر بحمله فحمل إلى
بغداد ومعه القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنهم وهو والد محمد بن القاسم الصوفي الخارج بخراسان في أيام
المعتصم فحبسا عند الفضل بن الربيع وكانا في حبسه في داره في الشارعة على
دجلة قريب رأس الجسر بمشرعة الصحن. وكان: حسن الصنيع إليهما
يؤتيان بمائدة كمائدته التي توضع بين يديه ويواصلان من الحلو والفاكهة
والثلج في الصيف بمثل ما يكون على مائدته، إلى أن أتيا بالمائدة ذات يوم
فتغديا ثم رفعت من بين أيديهما فوضعت بين أيدي الغلمان فأكلوا
وأكثروا ودخل وقت القائلة فناموا فخرج أحمد بن عيسى بن زيد إلى حب
في ناحية الدهليز فرأى القوم نياما، فغرف من الحب بالكوز الذي معه
فلما رجع قال للقاسم: يا هذا أعلم أنى قد رأيت فرصة بينة هؤلاء نيام
والباب غير مقفل لم يحكموه كما كانوا يفعلون وقد أغفلوه فاخرج بنا.
فقال له القاسم: أنشدك الله فإنك تعلم أنك في عافيه مما فيه كثير من أهل
الحبوس، وهذا الرجل يعنى الفضل بنا بر ولنا متعهد. فقال له أحمد: دعني
منك واعلم أن العلامة بيني وبينك ما أصف لك فإن تحرك القوم رجعت
إليك وكانت علتي بسبب الكوز، وإن لم يتحركوا فأنا والله خارج
وتاركك بموضعك. واعلم أنك لا تسلم بعدى. ثم خرج فغرف بذلك الكوز
من الحب ثم طرحه من قامته وكان أطول منك ومنى فما تحرك منهم أحد
ثم انثنى عليه فقال له: قد رأيت ما قد استظهرت به لك ولنفسي وأنا والله
خارج. ثم مضى واتبعه القاسم ففتحا الباب وخرجا فقالا لا نجتمع في طريق
ولكن موعدنا كذا. وكذا. قال فما جاز أحمد عتبة الباب إلا خمسين ذراعا
حتى لقيه غلام للفضل ابن الربيع مدنى أعرف به من نفسه فبهت الغلام لما
رآه وأومأ إليه أحمد بكمه كالآمر له بغضب ان تنح فما ملك الغلام نفسه ان فعل
ثم كان عزمه أن يستقيم في تلك الطريق فلما بلى من الغلام بما بلى عدل عن
تلك الطريق في طريق آخر للاستظهار على الغلام وأسرع حتى نجا وذكر
بقية الحديث.
141

ومن طرائف ما شاهدناه من هذا الباب أن أبا تغلب فضل الله عدة
الدولة ابن ناصر الدولة أبى محمد استوحش من أخيه محمد بعد موت أبيهما
فقبض عليه واستصفى ماله ونعمته وقبض عقاره وضياعه وثقله بالحديد
وأنفذه إلى القلعة المعروفة بأردمشت وهي مشهورة من أعمال الموصل حصينة
فحبسه في مطمورة ووكل به عجوزة يثق بها جلدة يقال لها: بازبانا، وأمرها أن
لا توصل إليه أحدا ولا تعرفه خبره وأن تخفى موضعه عن جميع سجنة القلعة
وحفظتها ففعلت ذلك فأقام على حاله تلك ثماني سنين، ثم اتفق أن انحدر
أبو تغلب معاونا بختيار بن المعز الدولة أبو الحسين ومعهما العسكر يقصدان
بغداد لمحاربة عضد الدولة وتاج الملة أبى شجاج، وخرج للقائهما فكانت بينهما
الوقعة المشهورة بقرب قصر الحصن فقتل فيها باختيار وانهزم أبو تغلب فدخل
الموصل وخاف من تخلص محمد فكتب إلى غلام له كانت القلعة مسلمة إليه
يقال له طاشتم في أن يمكن رئيسا من رؤساء الأكراد يقال له صالح بن
بن يابويه كان كالشريك لطاشتم في حفظ القلعة من محمد بن ناصر الدولة
ليمضى فيه ما أمره به، وكتب إلى صالح يأمره بقتل محمد، فمكن طاشتم صالحا
فلما أراد الدخول على محمد لقتله منعته بازبانا من ذلك وقالت له لا أمكن من
هذا إلا بكتاب يرد على، ودخل عضد الدولة إلى الموصلي وأجفل عنها أبو
تغلب وكدته العساكر واشتد عليه الطلب وورد عليه كتاب من القلعة بما
قالت بازبانا فإلى أن يجيب عليه أحاطت بعض عساكر عضد الدولة بقلعة
اردمشت ونازلوها فانقطع ما بين أبى تغلب وبينها ولم يصل إليها كتاب، ثم
فتحها عضد الدولة بعد شهور بأن واطأه صالح على القبض على طاشتم، وكتب
إليه يعرفه بما عمله ويستأذنه فيما يعمله، وكان لمحمد خادم أسود يسمى ناصحا
وكان بعد القبض على محمد قد رفع إلى عضد الدولة وهو بفارس وصار من
وجوه خدمه وحضر معه وقعة حصن الجص، فلما ورد خبر فتح القلعة أذكره
ناصح بوعد كان عليه في إطلاق مولاه فكتب إليه أن يطلبه في القلعة فإن
وجد حيا يطلق وينفذ إليه مكرما، فحين دخل صالح ومعه بعض من قد
142

صعد إلى القلعة من حاشية عضد الدولة إلى محمد في حبسه جزع جزعا شديدا
ولم يشك في أنهم دخلوا بأمر أبى تغلب لقتله، فأخذ يتضرع ويقول ما يدعو
أخي إلى قتلى. فقال له صالح: لا خوف عليك وإنما أمر الملك أن نطلقك
وتمضى إليه مكرما، فإنه قد ملك هذه البلاد. فقال: أغلب ملك الروم على هذه
النواحي وفتحت له القلعة؟ قال: لا. ولكن الملك عضد الدولة. قال الذي
كان بشيراز؟ قال: نعم وقد جاء إلى بغداد فقال محمد: وأين بختيار؟ فقالوا
قتل. قال وأين أبو تغلب؟ قالوا انهزم ودخل إلى بلاد الروم. قال: وأين
الملك عضد الدولة؟ قالوا بالموصل. وهو ذا تحمل إليه مطلقا مكرما فسجد
حينئذ وبكى بكاء شديدا وحمد الله عز وجل وجاؤا ليفكوا حديده وأغلاله
فقال لا أمكن من ذلك إلا بعد أن يشاهد حالي الملك فحمل إلى الموصل فرأيته
وقد أصعد به مقيدا من المعبر الذي عبر فيه في دجلة إلى دار أبى تغلب التي
نزلها عضد الدولة بالموصل وأنا إذ ذاك أتقلدها له وجميع ما فتحه مما كان في
يد أبى تغلب مضافا إلى حلوان وقطعة من طريق خراسان، فرأيت محمدا يمشى
في قيوده حتى دخل إليه فقبل الأرض بين يديه ودعا له وشكره، وأخرج
إلى حجرة من الدار فأخذ حديده وحمل على فرس فاره بمركب من ذهب،
وقيد بين يديه خمس دواب بمراكب فضة مذهبة وخمس بجلالها، وثلاثون
بغلا بأفكها محملة مالا صامتا، ومن صنوف الثياب الفاخرة والفرش السرى
والطيب والآلات المرتفعة القدر والعلوفات والحيوان والحلو والطعام ونقل
وفاكهة وأنبذة وغير ذلك ثم أقطعه بعد أيام أقطاعا بثلاثمائة ألف درهم
وولاه إمارة بلده وأعماله وهو الذي كان يتولاه لأبي تغلب.
وذكر الحسين القاضي في كتابه: " كتاب الفرج بعد الشدة " قال: بلغني
أن عمرو بن معدى كرب الزبيدي قال: خرجت في خيل من بنى زبيد أريد
غطفان فبينما أنا أسير وقد انفردت من أصحابي إذ سمعت صوت رجل ينشد
شعر فتفهمته فحفظته وهو هذا:
143

أما من فتى يخاف العطب * يبلغ عمرو بن معد يكرب
بانا نقوط في زمان * بأرجلنا اليوم نوط القرب
فإن هو لم يأتنا عاجلا * فيكشف عنا ظلام الكرب
وإلا استغثنا بعبد المدان * وعبد المدان لها إن طلب
قال: فعلمت أنه قول أسير في بنى مازان بن صعصعة فقلت لخيلي قفوا
حتى آتيكم واقتحمت على القوم وحدي وإذا هم يصطلون. فقلت: أنا أبو
ثور أين أسرى بنى مذحج؟ فبادرت الاسرى من الرجال وبادر القوم إلى
يقاتلونني فلم أزل أقاتلهم وأقتل منهم حتى استعفوني وقالوا: إنا والله لنعلم
أنك لم تأتنا وحدك فاكفف عنا ولك الاسرى، واكفف عنا خيلك. فنزلت
وأطلقت بعضهم وقلت ليحل مطلقكم موثقكم وليركب كل واحد منكم
ما وجد. قال: وأقبلت خيلي وجاءت الاسرى. فقلت لهم: هل علمتم موضعي
حتى أنشد منشدكم؟ قالوا: لا والله. ما سمعنا وما أصبحنا منذ سرنا أشد بأسا
ولا أتم إيقانا بالهلاك منا اليوم فذلك حين أقول:
ألم ترني إذ ضمني البلد القفر * سمعت ندا يصدع القلب يا عمرو
أغثنا فانا عصبة مذ حجية * نناط على وفر وليس لنا وفر
ثكلفنا يا عمرو ما ليس عندنا * هوازن فانظر ما الذي فعل الدهر
فقلت لخيلي انظروني فإنني * سريع إليكم حين ينصدع الفجر
وأقحمت مهري حين صادفت غرة * على الطف حتى قيل قد عقر المهر
فأنجيت أسرى مذحج من هوازن * ولم ينجهم إلا السكينة والصبر
ونادوا جميعا حل عنا وثاقنا * أخا البطش إن الامر يحدثه الامر
وأبت بأسرى لم يكن بين قتلهم * وبين طعاني اليوم ما دونه فتر
يزيد وعمرو والحصين ومالك * ووهب وسفيان وسابعهم وبر
روى نجيد كاتب إبراهيم بن المهدى ان إبراهيم حدثه أن مخلدا الطبري
الكاتب للمهدى على ديوان الرسائل أخبره أنه كان في ديوان عبد الملك يتعلم كما
144

يتعلم الاحداث في الدواوين إذ ورد كتاب صاحب بريد الثغور الشامية على
عبد الملك يخبره فيه أن خيلا من الروم تراءت للمسلمين فتفرقوا إليها ثم
رجعوا ومعهم رجل قد كان أسر في أيام معاوية بن أبي سفيان فذكروا أن
الروم لما توافقوا أعلموهم أنهم لم يأتوا لحرب، وإنما جاؤوا بهذا المسلم
ليسلموه إلى المسلمين لان عظيم الروم أمرهم بذلك. وذكر صاحب البريد
أن النافرين ذكروا أنهم سألوا المسلم عما قالت الروم فوافق قوله قولهم،
وذكر أن الروم قد أحسنوا إليه فانصرفوا عنهم وأخذوه وإني سألته عن
سبب مخرجه فذكر أنه لا يخبر بذلك أحدا دون أمير المؤمنين، فأمر عبد الملك
بإحضاره له، ولما حضر قال له: من أنت؟ قال أنا قبات بن رزين اللخمي
أسكن فسطاط مصر في الموضع المعروف بالحمراء أسرت في خلافة معاوية
وطاغية الروم إذ ذاك ورقاء بن مورقة. فقال عبد الملك بن مروان: فكيف
كان فعله بكم؟ قال لا أحد أشد عداوة للاسلام وأهله منه إلا أنه كان حليما،
وكان المسلمون في أيامه أحسن حلا منهم في أيام غيره إلى أن أفضى الامر
إلى ابنه فقال في أول ما ملك: إن الاسراء إذا طال مكثهم ببلد آنسوا به
ولو كان على غاية الرداءة، وليس شئ أنكر لقلوبهم من نقلهم من بلد إلى
بلد، وأمر باثني عشر قدحا، وكتب في رأس كل واحد منها اسم واحد من
بطارقته الاثني عشر يضرب بالقداح في كل سنة أربع مرات فمن خرج إليه
القدح الأول حول إليه المسلمون فاحتبسهم عنده شهرا، ومن صار إليه
القدح الثاني صاروا إليه بعد البطريق الذي كانوا عنده في الشهر الأول،
ومن خرج إليه القدح الثالث حولهم إليه بعد الشهر الثاني، ثم أعيدت القداح
بعد ذلك. قال قبات: فكنا لا نصير إلى واحد من البطارقة إلا قال: إحمدوا
الله عز وجل حيث لم يبتليكم ببطريق الرخان. قال: فكنا نرتاع لذكره
ونحمد ربنا عز وجل على أن لم يكن يبتلينا برؤيته (قال): فمكثنا عدة سنين
ثم ضرب بالقداح فخرج القدح الأول والثاني لبطريقين من البطارقة، وخرج
145

الثالث لبطريق الرخان فمر بنا في الشهرين غم طويل نترقب المكروه، ثم
انقضى الشهران فحملنا إليه فرأينا على بابه من الجمع على خلاف ما كنا نعاين،
ورأينا من رثاجته والغلظة خلاف ما كنا نرى، ثم وصلنا إليه فتبين لنا من
فظاظته وغلظته ما أيقنا معه بالهلكة ثم دعا بالحدادين وأمر بتقييد المسلمين
بأمثال ما كان يقيدهم غيره (قال): فلم يزل الحديد يجعل في رجل واحد
واحد حتى صار الحداد إلى قال: فنظرت في وجه البطريق فوجدته قد نظر
إلى بخلاف العين التي كان ينظر بها إلى غيري، ثم كلمني بلسان عربي فسألني
عن اسمى وعن نسبي ومسكني مثل ما سألني عن أمير المؤمنين فصدقته عما سألني
عنه، ثم قال لي كيف حفظك لكتابكم؟ (قال): فأعلمته أنى حافظ له. فقال:
اقرأ آل عمران. فقرأت عليه منها نحو خمسين آية. فقال: إنك لقارئ
فصيح، ثم سألني عن روايتي للعشر فأعلمته أنى راوية فاستنشدني لجماعة من
الشعراء فأنشدته فقال: إنك لحسن الرواية ثم قال لخليفته قد وثقت بهذا
الرجل فلا تحدده، ثم قال: وليس من الانصاف أن أسوءه في أصحابه ففك
عن جماعته وأحسن مثواهم، ولا تقصر في قراهم ثم دعا صاحب مطبخه فقال
لست أطعم طعاما ما دام هذا العربي عندي إلا معه فاحذر أن يدخل المطبخ
مالا يحل للمسلمين أكله، واحذر أن تجعل الخمر في شئ من طبيخك، ثم
دعا بمائدته واستدناني حتى قعدت إلى جانبه فقلت له: فدتك نفسي وبأبي
أنت أحب أن تخبرني من أي العرب أنت؟ فضحك. ثم قال: لست أعرف
لمسألتك جوابا لأني لست عربيا فأجيبك عن سؤالك. فقلت له: مع هذه
الفصاحة بالعربية. فقال: إن كان باللسان تنقل الأنساب من جنس إلى
جنس فأنت إذا رومي، فان فصاحتك بلسان الروم ليست بدون فصاحتي
بلسان العرب فعلى قياس قولك يجب أن تكون روميا وأكون عربيا.
(قال): فصدقت قوله وأقمت عنده خمسة عشر يوما لم أكن منذ خلقت
في نعمة أكثر منها فلما كانت ليلة ستة عشر، فكرت في أنه قد مضى نصف
الشهر وإن الأيام تقربني من الانتقال إلى غيره فبت مغموما وصار إلى
146

رسوله يدعوني لحضور طعامه فلما جعل الطعام بين أيدينا رأى أكلي مقصرا
عما كان يعهده، فضحك ثم قال أحسبك يا عربي لما مضى النصف من شهرك
فكرت في أن الأيام تقربك من الانتقال عنى إلى غيري فلا يعاملك مثل
معاملتي ولا يكون عيشك معه مثل عيشك معي، فسهرت واعتراك لذلك
غم ثم غير طبعك، فأعلمته أنه قد صدق. فقال: ما أنا إن لم أحسن الاختيار
لصديقي بحر. كل فقد آمنك الله مما حذرت، ولم أبت في اليوم الذي رمقتك فيه
حتى سألت الملك أن يصيرك عندي ما دمت في أرض الروم فلست تنتقل عن
يدي ولا تخرج منها إلا إلى بلدك فإني أرجو أن يسبب الله عز وجل ذلك
على يدي. قال: فطابت نفسي ولم أزل مقيما عنده إلى أن انقضى الشهر وضرب
بالقداح، وخرج لبطارقة غير البطريق الذي نحن عنده وتحول إليه أصحابي
وبقيت وحدي وتغديت في ذلك اليوم مع البطريق. وكان من عادتي أن
أنصرف من عنده بعد غدائي إلى إخواني المسلمين فنتحدث ونأنس، ونقرأ
القرآن، ونجمع الصلوات، ونتذاكر الفرائض ويسمع بعضنا بعضا ما حفظ
من العلم وغيره. قال: فانصرفت ذلك اليوم إلى الموضع الذي كنت أجتمع
فيه مع المسلمين فلم أر أحدا منهم فضاق صدري ضيقا تمنيت أن أكون مع
أصحابي، وبت بليلة صعبة لم أطبق فيها بين أجفاني فأصبحت أكثف خلق الله
عز وجل بالا، وأسوأهم حالا، وصار إلى رسول البطريق في وقت الغداء
فلما صرت إليه تبين الغم في وجهي ومددت يدي إلى الطعام فرأى مد يدي إليه
خلاف عادتي. فضحك ثم قال: أحسبك اغتممت لفراق أصحابك فأعلمته
أن قد صدق، وسألته هل عنده حيلة في ردهم إلى يده. فقال: إن الملك لم
يرد بتنقل أصحابك من يد إلى يد غيري إلا ليغمهم بما يفعل، ومن المحال أن
يدع تدبيرهم في الاضرار بهم لميلي إليك ومحبتي لك، وما عندي في هذا
الباب حيلة. فسألته أن يسأل الملك إخراجي عن يده وضمي إلى أصحابي
لاكون معهم حيث كانوا. فقال: ولا في هذه أيضا حيلة لأني لا أستجيز أن
أنقلك من سعة إلى ضيق، ومن كرامة إلى هوان، ومن نعمة إلى شقاء،
147

(قال): فلما قال لي ذلك تبين في الانكسار وغلبة الغم. فقال لي: ما بلغ بك
من الغم فأعلمته أنه بلغ بي ما نغص إلى الحياة وجب لي الموت لعلمي أنه
لا راحة لي بغيره. فقال لي إن كنت صادقا فقد دنا فرجك فسألته عما دله
على قوله. فقال لي إني وقعت في نكبات أشد هولا مما أنت فيه وكان عاقبتها
الفرج فاسمع بحكايتي واتعظ. إعلم ان بطرقة ذلك لم تزل منذ مئين سنين في أهلي
يتوارثونها وأن عددهم كان كثيرا فتفانوا ولم يبق منهم غير أبيه وعمه، وكانت
البطرقة إلى عمه دون أبيه فأبطأ على أبيه وعمه الولد فبذلا للمتطببين الكثير
من الأموال لعلاجهما بما يعالج به المتطببون الرجال والنساء. إلى أن بطل
العم ويئس من الانتشار فصرف عنايته إلى معالجة أبى البطريق فعلقت أمي
بي فلما علم العم أنها علقت وجه فجمع عدة من الحبالى من ألسنة مختلفة فيها
اللسان العربي والرومي والإفرنجي والكردي والصقلبي والخزري فوضعن
في داره فلما ولدتني أمي أمر بتصبير أولئك النساء كلهن معي يرضعنني، ثم
أمر بتصبير ملاعبيه ومؤدبيه من أجناس النساء اللواتي ربينه. قال البطريق:
فكانوا يعلمونني الكتابة وقراءة كتب دينهم فلم ينقض عليه تسع سنين حتى
علم أمر دينهم وقرأ كتبهم وأجابهم عنها، ثم أمر عمه أن يضم إليه جماعة من
الفرسان يعلمونه الثقافة والمساواة وجميع ما نعلمه الفرسان ومنعه من سكنى
المنازل وأمره أن ينزل في المضارب وأن يمنع من أكل اللحم إلا ما ناله بصيد
طائر يحمله على يده، أو صيد كلب يسعى بين يديه، أو صيد بسهمه فكانت
تلك حاله حتى استوفى عشر سنين ثم رمى الله عز وجل في عصب عمه فمات
وولى البطرقة بعد عمه أبوه. فأمره بالقدوم عليه فقدم ورأي شمائله وفهم
أدبه فاشتد عجبه به فتسمح له بما لم تكن ملوك الروم تتسمح به لولاة أمورها
وأعتد له مضارب وفساطيط الديباج وضم إليه من الفرسان جماعة كثيفة
ووسع على الجميع في كل ما تحتاج إليه ورده إلى سكنى المضارب وأمره
بالاستبعاد عن منازل أبيه. قال البطريق: فلما استتمت لي خمس عشرة سنة
ركبت يوما لارتياد مكان أكون فيه فبصرت بغدير من ماء طوله ألف
ذراع وعرضه ما بين ثلاثمائة ذراع فأمرت بضرب مضاربي على ذلك
148

الغدير، وتوجهت لطلب الصيد فرزقت ذلك اليوم منه ما لم أطمع في مثله
كثرة، ثم نزلت وقد ضربت المضارب فأمرت الطباخين فطبخوا لي ما اشتهيت
من الطعام ثم نصبت المائدة بين يدي وإني لأنتظر الطبيخ يغرف إذ سمعت
ضجة ما فهمت خبرها حتى رأيت رؤس أصحابي تتساقط عن أبدانهم،
فتخبيت عن مكاني وخلعت ثيابي، ولبست ثياب بعض عبيدي ثم نظرت
يمنة وشمالا فلم أر حولي إلا مقتولا، وأرى فاعل ذلك كله بأصحابي منسر
من مناسر الرخان ثم أسرت كما يؤسر العبيد واحتملوا كل ما كان معنا من
مضرب وغيره، وصاروا بي إلى ملك الرخان فلما رآني لم يكن له ولد ذكر
أمر بالتوسعة على وأن أكون واقفا على رأسه وسماني ابنه قال: وكان له
ابنة كان مغرما بها وقد علمها الفروسية ومساواة الاقران ومقاتلتهم
ومراكدتهم قال: فقال لجماعة من بطارقته من منكم يتوجه إلى ملك الروم
فيجئني بكاتب من بلده ليعلم ابنتي الكتابة، فأعلمته أن رسولا لا يأتيه بأكتب
منى فأمرني أن أكتب بين يديه فكتبت فاستحسن خطى وقرنه بكتب كانت
ترد عليه من والدي فرأى خطى أجود فدفع ابنته إلى وأمرني أن أعلمها
الكتابة فهويتها وهويتني فمكثت معي حتى استوفت ثلاثة عشر سنة ثم عادت
إلى يوما وهي باكية فقلت لها ما يبكيك يا سيدتي؟ فقالت إني كنت جالسة
بين يدي أمي وأبى في هذه الليلة وغلبتني عيناي فنمت فسمعت أبي يقول لامي
أرى ثدي ابنتك قد ثقل، وأرى خلق هذا الرومي قد غلظ وليس ينبغي
أن يجتمعا بعد هذا الوقت فإذا جلست غدا معه فابعثي إليها من يفرق بينها
وبينه حتى لا يراها ولا تراه قال البطريق: من سنة الرخان أن يكون الرجل
يخطب لابنته حتى يزوجها ولا يخطب الرجل لابنته زوجا دون أن تختاره
البنت. قال البطريق: فقلت لابنة الملك إذا سألك أبوك عمن تحبين أن يخطب
لك من الرجال فقولي لست أريد إلا هذا الرومي فغضبت وقالت: كيف
يجوز لي أن أسأل أن تخطب لي وأنت عبد؟ قال فقلت ما جعلني الله عز وجل
عبدا. وإني ابن الملوك وأبى ملك الروم. قال البطريق وأهل الرخان يسمون
البطريق الرومي الذي يتولى جند رخان ملك الروم فسألتني: هل ما أعلمتها
149

حق؟ فقلت لها: إنه حق فما مضى على كلامنا حين حتى جاء رسول الملك ففرق
بيني وبينها ولم يمض لي بعد ذلك إلا ثلاثة أيام حتى دعاني الملك فدخلت عليه
فرأيت أمارات البشر مستحكمة في وجهه ثم قال لي: يا شقى ما حملك على الكذب
في نسبك فأنا أحكم على من انتسب إلى غير أبيه بالقتل. فقلت: ما انتسبت
إلى غير أبى. فقال لي ابنتي تقول أنك ابن ملك الروم فأعلمته أنى أقول
ذلك، ودعوته ليكشف الامر وينظر فيه. فقال: إني لست أحتاج إلى أن
أكشف أمرك برسول أرسله ليعرف خبرك ولى أشياء أمتحنك بها فأعرف
صدقك من كذبك. فدعوته إلى كشفها بما شاء فدعا بدابة ولبد وسرج
ولجام وأمرني بتناول الدابة فأخذتها من يد السائس، ثم أمرني بأخذ اللبد
فأخذته، وأمرني بالقائه على الدابة ففعلت ثم أمرني بشد الحزام والثفر
واللبب وأخذ اللجام والجام الدابة ففعلت ذلك كله، ثم أمرني بركوب الدابة
فركبته وأمرني بالسير فسرت، ثم أمرني بالاقبال فأقبلت، ثم أمرني بالنزول
فقال عند آخر ذلك كله أشهد أنه ابن ملك الروم، لأنه أخذ الدابة أخذ ملك،
وعمل سائر الأشياء مثل ما تعمله الملوك، فاشهدوا أنى قد زوجته ابنتي.
فلما قالوا إنا قد شهدنا قال: لا تشهدوا قال البطريق فلما سمعت قوله لا تشهدوا
نزلت على الكلمة نزول الصاعقة وخفت أن تأتى على نفسي ثم قال لي لم أنههم
عن الشهادة رغبة عنك ولكن لنا شرط لا يمكن أن نخالفه، ولم آمن أن
نضطر فنحملك على شرطنا وهو ما لم نخبرك به ونقفك عليه فنكون قد
ظلمناك أو ندع سنة بلدنا فنكون قد فارقنا ملتنا. إن سنتنا يا رومي أن لا نفرق
بين الزوجين إذا مات أحدهما فان مات الرجل قبل المرأة جعلناها في سريرها
وجعلنا زوجها معها وصيرناهما جميعا في البئر فان رضيت بهذا الشرط فبارك
الله لك في زواجها; وإن لم ترض بها فليست راضية بك ولا يستقيم لك أن
تتزوجها على خلاف سنتنا فأحوجتني الصبابة بها إلى أن قلت قد رضيت بهذه
السنة فأمر بتجهيزها وتجهيزي، وجمع ما بيننا فأقمت معها أربعين يوما لا يرى
كل واحد منها ومنى إلا أنه قد فاز بملك الدنيا ثم اعتلت علة كان معها غشية
150

لم نشكك وجميع من رآها أنها قد قضت نحبها. قال: فجهزت بفاخر ثيابها وجهزت
مثل ذلك وحملنا في نعش واحد وركب الملك وأهل مملكته فشيعونا حتى
وافوا بنا شفير البئر ثم شدوا أسافل السرير بالحبال وجعلوا معنا في النعش
طعاما وشرابا لثلاثة أيام، ثم دلونا حتى صرنا إلى قرار البئر ثم أرخيت
علينا الحبال فسقط حبل منها على وجه الجارية فأزال ما أصابها من الغشى
فانتبهت، فلما أفاقت رأيت أنا الدنيا قد جمعت لي واستمرت عيني على الظلمة
فرأيت في الموضع الذي أنا فيه من الخبز اليابس ماله دهر كثير فأخذت أغتذي
وأغذيها في تلك البئر وكنا لا نعدم في كل يوم أن يدلى سرير فيه زوجان،
أحدهما حي والآخر ميت فكان النازل إذ كان رجلا حيا توليت قتله لئلا
يكون معي ومع امرأتي رجل وإن كانت امرأة تولت بنت الملك قتلها غيرة
على من أن يكون معي امرأة سواها قال فمكثنا في البئر وهذه حالنا أكثر
من سنة إذ دلى إلى البئر دلو فعلمت أن مدليه غير راخاني ولابد أن يكون
فاعل ذلك رومي، ووقع لي أن أقدم الجارية فتتخلص ثم تعرفه حالي فيرد
الدلو فأخرج قال: فحملت ابنة الملك فجعلتها في الدلو بكسوتها وحليها
وجوهرها واجتذب القوم الدلو فخرجت إليهم الجارية وإذا القوم مماليك
لأبي ولم ينتبهوا على السؤال عنى وهابتهم الجارية وقد كانوا رأوا ما كان فيه
أبى وأمي من غلبة الحزن عليهما من فقدي فدبروا بالمصير بالجارية إلى
أبوى ليتخذوا عندهم يدا وليتخذاهما الجارية ولدا يسكنان إليها ويتعزيان
بها فصاروا بها إليهما فسرا بها وسكنا إليها واستمرت إلفتهما بالجارية
فحصلت خير محصل وقد كان صديق لأبي له أدب وحكمه وعلم بالتصاوير
صور له صورتي في خشية وزوقها وجعلها لأبوي في بيت وقال لهما متى ما ذكرتما
ابنكما واشتد جزعكما فادخلا وانظرا إلى هذه الصورة فإنكما ستبكيان بكاء
شديدا يعقبكما سلوة (قال البطريق): ولما صارت الجارية إلى والدي ورأتهما
يدخلان ذلك البيت ويخرجان وقد بكيا سبقتهما مرة وهما داخلان فبصرت
بالصورة فلما رأتها لطمت وجهها ومزقت شعرها وثيابها فسألاها عن
151

السبب فيما أحلت بنفسها؟ فقالت: هذه الصورة صورة زوجي فسألاها عن
اسمه واسم أبيه وأمه فأسمتهم جميعا فقالا لها وأين زوجك هذا؟ قالت: في
البئر التي أخرجت منها فركب أبى وأمي في أكثر أهل البلد ومعه الغلمان
الذين أخرجوا الجارية من البئر حتى وافوا البئر فدلوا الدلو قال البطريق
فلما رأيت الدلو وكنت قد سللت سيفي الذي أنزل معي من غمده وجعلت
ذؤابته بين ثدي لأتكي عليه فأخرجه من ظهري فأستريح من الدنيا لغلبة
الغم على فوثبت وقعدت في الدلو واجتذبني من كان فوق البئر حتى خرجت
منها فوجدت أبى وأمي وامرأتي على شفيرها وقد أحضروا لي الدواب
لانصرف إلى بيت أبى وأمي وكان أبى قد صار ملك تلك البلاد فلم أطعهما
وأعلمتهما أن الأصوب البعثة إلى أبى الجارية وأمها حتى يرى ابنتهما مثل
ما رآني أبواي ففعلا ذلك ووجها إلى أبى الجارية وهو صاحب الرخان فخرج
في أهل مملكته حتى عايناها، وأقاما لها عرسا وحدثت مهادنة بين الروم
والرخان جرت فيها أيمان أنه لا يغزو أحد منهما صاحبه ثلاثين سنة وصار
القوم إلى بلادهم، وصرنا إلى منازلنا ومات أبى فورثت البطرقة منه ورزقت
من ابنة الملك الولد، وأنت يا عربي إن كان الغم قد بلغ منك ما ذكرت فقد
جاءك الفرج. قال: فلما انقضى كلام البطريق حتى دخل عليه رسول ملك
الروم فقال له: يقول لك الملك صر إلى فخرج إليه ثم عاد فقال يا عربي قد
جاءك الفرج. ثم قال لي: إني كنت عند الملك وجرى ذكر العرب فرمتهم
البطارقة عن قوس واحد وذكروا أنهم لا عقول لهم ولا أدب، وإن قهرهم
الروم هو بالغلبة لا بحسن التدبير فأعلمت الملك أن الامر على خلاف
ما ذكروا وأن للعرب آدابا وأذهانا فقال لي الملك: أنت لمحبتك لضيفك
العربي مفرط في اعطاء العرب ما ليس لها فقلت إن رأى الملك أن يأذن لي
في إحضار العربي للجمع بنيه وبين هؤلاء المتكلمين ليعرف فضيلته فأمرني
بحملك إليه. فقال قبات: فقلت له بئسما صنعت بي لأني أخاف ان غلبتني أصحابه
أن يستخف بي، وإن غلبتهم أن يضهدني فقال صفتك هذه صفة العامة
والملوك على خلافها وإني أخبرك أنك إن غلبتهم جللت في عين الملك وكنت
152

عنده بمكان يقضى لك فيه حاجة، وإن غلبوك سره غلبة أهل دينه لك
فأوجب لك بذلك ذماما، وان أقل ما نرى أن يقضى لك به حاجة وإن غلبت
أو غلبت فاسأله إخراجك عن بلده وردك إلى بلدك فإنه سيفعل ذلك. قال
قبات: فلما دخلت على الملك استدناني وقربني وأكرمني وقال لي ناظر
هؤلاء البطارقة فأعلمته أنى لا أرضى لنفسي بمناظرتهم، وإني لا أناظر إلا
البطريق الكبير فأمر بإحضاره. فلما دخل سلمت عليه وقلت له مرحبا
بهذا الشيخ الكبير القدر: ثم قلت له: يا شيخ كيف أنت؟ قال: في عافية.
فقلت له فكيف حالك كلها؟ فقال: كما تحب. فقلت وكيف ابنك؟ قال:
فتضاحك البطارقة كلهم. وقالوا: زعم البطريق يعنون الذي هو صديقي إن
هذا أديب وإن له عقلا وهو لا يعلم بجهله أن الله عز وجل قد صان هذا البطريق
أن يكون له ابن فقلت: كأنكم ترفعونه عن أن يكون له ابن؟ فقالوا: أي
والله إنا لنرفعه إن كان الله عز وجل قد رفعه عنه. فقلت: واعجبا ان لا يحل
لعبد من عبيد الله أن يكون له ابن، ويحل لله تعالى ذكره وهو خالق
الخلائق كلها أن يكون له ابن. قال: فنخر البطريق نخرة أفزعتني، ثم قال:
أيها الملك أخرج الساعة هذا من بلدك لئلا يفسد عليك أهله. فدعا
الملك بالفرسان وضمني إليهم وأحضر لي دواب البريد وأمر بحملي عليها
وببدرقتي. وتسليمي إلى من يلقانا في أرض الاسلام من المسلمين فسلموني
إلى من تسلمني من أهل الثغور ثم ذكر حديثا لعبد الملك مع الرجل
لا يتعلق بهذا الباب.
153

الباب السادس
من فارق شدة إلى رخاء بعد بشرى منام ولم يشب
صدق تأويله كذب الأحلام
قال أبو علي: أخبرني أبو بكر محد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن
يحيى بن أبي عياد الجيشي قال: رأى المعتضد وهو في حبس أبيه كأن شيخا
جالسا على دجلة يمد يده إلى ماء دجلة فيصير في يده وتجف دجلة ثم يرده
من يده فتعود دجلة كما كانت فسألت عنه فقيل لي هذا علي بن أبي طالب
رضي الله عنه فقمت إليه فسلمت عليه فقال لي يا أحمد: إن هذا الامر صائر
إليك فلا تتعرض لولدي وصنهم ولا تؤذهم. فقلت السمع والطاعة لك يا أمير
المؤمنين * وحدثني أبي رحمه الله تعالى بهذا الحديث على أتم من هذا بإسناد
ذكره عن ابن حمدون النديم قال: قال لي المعتضد وهو خليفة لما قدم أبى
وهو عليل العلة التي مات فيها وأنا في حبسه ازداد خوفي على نفسي ولم أشكك
في أن إسماعيل بن بلبل سيحمله على قتلى أو يحتال بحيلة يسفك دمى بها إذا
وجد أبى قد ثقل في علته وآيس منه، فقمت ليلة من تلك الليالي وأنا من
الخوف على أمر عظيم وقد صليت صلاة كثيرة ودعوت الله عز وجل فرأيت
في منامي كأني على شاطئ دجلة فرأيت رجلا جالسا على الشط وهو يدخل
يده في الماء فيقبض عليه فتقف دجلة ولا يخرج من تحت يده جرعة من
ماء حتى يجف ما تحت يده ويتزايد الماء إلى فوق يده ويقف كالطود العظيم
ثم يخرج يده من الماء فيجرى ففعل ذلك دائما فهالني ما رأيت فدنوت
منه فسلمت عليه وقلت له من أنت يا عبد الله الصالح؟ قال: أنا علي بن أبي
طالب! قلت يا أمير المؤمنين ادع على. قال: ان هذا الامر صائر إليك
فاعتضد بالله تبارك وتعالى واحفظني في ولدى. قال: فانتبهت وكأني أسمع
كلامه لسرعة المنام فوثقت بأنى أتقلد الخلافة وقويت نفسي وزال خوفي
فقلت لغلام كان معي في الحبس لم يكن معي غيره من غلماني إذا أصبحت
154

فامض وابتع لي فصا، واكتب عليه: أحمد المعتضد بالله، واصنعه خاتما
وائتني به. ففعل، ولبسته وقلت: إذا وليت الخلافة جعلت لقبي المعتضد بالله
قال: ثم أخذت أقطع ضيق صدري في الحبس بتصفح أحوال الدنيا وأعمال
فكرى في تدبير عمارة الخراب منها، ووجه فتح المنغلق منها، وتعيين العمال
للنواحي والامراء للبلدان ثم أخذت رقعة وكتبت فيها بدرا الحاجب
وعبيد الله بن سليمان الوزير، وفلان أمير البلد الفلاني، وفلان عامل البلد
الفلاني، وفلان للديوان الفلاني. إلى أن أتيت على ما في نفسي من ذلك،
ودفعتها إلى الغلام وقلت: احتفظ بها فان دمى ودمك مرتهنان بما فيها فحفظها
وما مضى على الامر إلا أيام يسيرة حتى لحقت الموفق غشية لم يشك الغلمان
في أنه قد مات. فجاؤوا إلى فأخرجوني فصرت إلى بيت فيه الموفق فلما رأيته
علمت أنه غير ميت، فجلست عنده وأخذت يده أقبلها وأترشفها، فأفاق فلما
رآني أفعل ذلك أظهر التقبل وأومأ إلى الغلمان أن أحسنتم فيما فعلتم ثم مات
الموفق في ليلته تلك، ووليت مكانه فأمضيت بقايا تلك التدبيرات كلها. قال
لي أبي: قال ابن حمدون: فما تعرض المعتضد في أيامه للعلويين ولا آذاهم ولا
قتل منهم أحدا لهذا المعنى.
قال علي بن هاشم بن عبد الله الكاتب بإسناده: أن أبا الحسين بن
ميمون الأفطس كاتب المتقى في أيام أبيه ووزيره لما استخلف قال:
كان بيني وبين أبى أيوب بن سليمان بن وهب مودة وكيدة فلما تسهلت محنته
بعد قتل إيناخ صرت إليه وهو محبوس مقيد إلا أنه مرفه في الكسوة وكبر
الدار والفرش وحسن الخدمة، وقد صلحت حاله بالإضافة إلى ما كان عليه
في أول نكبته من الضرب والتضييق فحدثني أنه رأى في ليلته تلك في منامه
كأن قائلا يقول هذا البيت:
اصبر ورب البيت لا يقتادها * أحد سواك وحظك الموفور
قال: فصرت إلى أخيه أبى علي بن الحسن بن وهب فحدثته بذلك فسر به
155

وكان كالمستثر الممتنع من ملاقاة السلطان فعمل شعرا ضمه إلى البيت وسألني
إيصاله إلى أبى أيوب فأخذته فأوصلته وهو:
الدمع من عين أخيك غزير * في ليله ونهاره محذور
بأبي وأمي حظوك المقصور * ومقيد ومصفد وأسير
وزاد فيه غيره في هذه الرواية:
فكر يجول بها الضمير كأنما * يذكر بها دون الشغاف سعير
وجوى دخيل ليس يعرف كنهه * ممن يلاهيه أخ وعشير
فيظنه خدانه متسليا * والبث في أحشائه مستور
رجع إلى الرواية الأولى:
ما كنت أحسبني أعيش ومهجتي * تحت الخطوب تدور كيف تدور
قلقا فإنك بالعزاء جدير * وعلى النوائب منذ كنت صبور
عثرات مثلك في الزمان كثيرة * ولهن بعد مثابة وحبور
ان تمش في حلق الحديد فحشوها * منك السماحة والندى والخير
والفصل للشبهات رأيك ثاقب * فيها يضئ سداده وينير
وتحمل العبء الثقيل بثقله * منك المجرب عزمه المخبور
فاصبر ورب البيت لا يقتادها * أحد سواك وحظك الموفور
ماذا بقلب أخيك مذ فارقته * ليكاد من شوق إليك يطير
فكأنما هو قرحة مقرونة * منها البلابل والهموم تثور
والله مرجو لكربتنا معا * وعلى الذي نرجوه منك قدير
قال: فما مضت إلا أيام يسيرة حتى أطلق سليمان بن وهب ثم انتهى بعد
ذلك إلى الوزارة:
حدثني علي بن هشام قال: حدثني أبو الفرج محمد بن جعفر بن حفص
الكاتب قال: حدثني أبو القاسم عبيد الله بن سليمان قال: كان أبو محمد الحسن
ابن مخلد أول من رفعني واستخلفني على ديوان الضياع فكنت أخلفه عليه
156

إلى أن ولى شجاع بن القاسم الوزارة مع كتابة أو تامش في أيام المستعين
واشتد جزع أبى محمد منه فسألته عن ذلك؟ فقال: هذا رجل حمار لا يغار
على صناعته وهو مع هذا من أشد الناس حيلة وشدة، وهو يعرف كبر
نفسي وصغر نفسه وقد بدأ بأبي جعفر بن إسرائيل فصرفه عن ديوان الخراج
ونكبه ونفاه إلى انطاكيا ولست آمن أن يجعلني في أثره. (قال): فما مضى
إلا أسبوع حتى ظهر أن أبا موسى عيسى بن فرخان شاه القناني الكاتب وكان
من صنائع الحسن وقد أسلم إذ ذاك قد سعى مع شجاع في تقلده ديوان
الضياع ثم تقلده صارفا للحسن بن مخلد وخلع عليه فازداد جزع أبى محمد
الحسن وأغلق بابه وقطع الركوب فأنا عنده في بعض العشيات إذ أتت رقعة
شجاع يستدعيه ويؤكد عليه في البدار فارتفع ونهض وتعلق قلبي به فانتظرته
إلى أن عاد وهو مهموم مكروب. فقلت: ما خبرك؟ قال قد فرغ شجاع من
التدبير على وذاك أنه قد صح عندي بعد افتراقنا أن أو تامش قال البارحة
لبعض خواصه قد ثقلنا على شجاع وحملناه مالا يطيق من كتابتي والوزارة
وتركنا هذا الشيخ يعنى الحسن بن مخلد متعطلا لابد من أن يفرج له شجاع
إما عن كتابتي، وإما عن الوزارة لأقلده إحداهما. فلما بلغ ذلك شجاعا أنفذ
إلى في الوقت. فلما رأيته الساعة قال لي يا أبا محمد: أنت شيخي ورئيسي وأنت
اصطنعتني وأنا معترف لك بالحق وآخر مالك عندي من الانعام أنك قلدتني
عمالة همدان فانتقلت منها إلى هذه المنزلة والأمير يحذرك الحذر كله وقد أقام
على أنه لابد من نكبتك وإفقارك فلأجل ما أقمت من الامتناع عليه من هذا
وسألته في أمرك فجرت خطوب تقررت على أن لا تجاوره وتشخص إلى
بغداد ورضيته بذلك وصرفت عنك النكبة وقد أمرني بإخراجك من
ساعتك. فما زلت حتى استنظرته ثلاثة أيام أولها يومنا هذا فاعمل على هذا
فإنك تمضى إلى بلد الآمر فيه والناهي أبو العباس محمد بن عبد الله ابن طاهر وهو
صديقك، ويخدمك الناس كلهم ولا تخدم أحدا، وتقرب من ضيعتك فأظهرت
له الشكر وضمنت له الخروج، وأنا خائف منه أن يدعني حتى أخرج آلاتي
157

والحرم وتجملي ثم يقبض على ذلك كله وينكبني. فقلت: الوجه أن تفرق
جميع مالك من الحرم والأمتعة والدواب وتودعه ثقاتك وإخوانك. من
وجوه قواد الأتراك وكتابهم، وتطرح الثقل الذي لا قيمة له من خيش
وستائر وأسرة وآلات مطبخ في الزواريق وتجلس في الحراقة العجائز اللواتي
لا تفتكر في هن ليظن أنهن الحرم وتخرجهن، وتجتهد أن يكون خروجك
خروجا ظاهرا ولا تكاشف بالاستتار بل على سبيل توق ومراوغة فإذا
حصلت ببغداد أمنت. فقال: هذا رأى صحيح وأخذ يصلح أمره على
هذا فلما كان في ليلة اليوم الثالث لم أنم أكثر الليل فكر فيه ثم نمت لما
غلبتني عيني فرأيت في السحر كأن قائلا يقول لا تغتم فقد ركب الأتراك من
أصحاب وصيف وبغا إلى أوتامش، وكاتبه شجاع وقد هجموا عليها وقتلوهما
واسترحتم. قال: فانتبهت مفزوعا ووجدت الوقت قد جاوز انفجار الفجر
فصليت وركبت إلى الحسن بن مخلد فدخلت عليه من باب له غامض لأنه
قد كان أغلق أبوابه المعروفة فسألته عن خبره فقال هذا آخر الاجل وقد
خفت أن يعاجلني شجاع بالقبض على فأغلقت أبوابي واستظهرت بغلماني
براعون رسله فإذا جاؤوا ورأوا أمارة الشر فيهم أنذروني فأخرج من هذا
الباب الغامض وإن يسألوا خبر شجاع فإن كان في داره قالوا لمن يجيئني
فيطلبني من جهته أنى في دار أوتامش، وإن كان في دار أوتامش قالوا
للرسل أنى في دار شجاع مدافعة عنى حتى أهرب. قال: فقصصت عليه
الرؤيا فتضاحك وقال ما ظننتك بهذه الغفلة نحن في اليقظة كما ترى كيف
يصح لنا خبرك في المنام لهذا إنما نمت وأنت متمني خلاصي فرأيت ذلك في
منامك. قال: فخرجت من عنده أريد داري فلقيني في الطريق جماعة كثيرة
فعرفوني أن الأتراك قد ركبوا بالسلاح فصرت إلى منزلي وأغلقت بأبي
ووصيت عيالي بحفظ الدار وعدت فدخلت إلى الحسن فأخبرته بالخبر فأمر
بمراعاة الامر، فما زلنا نتعرف الاخبار ساعة بساعة إلى أن جاء الناس
فعرفونا قتل الأتراك لشجاع، ثم دخل رجل فقال: أنا رأيت الساعة
158

رأس أوتامش. قال وصح الخبر بقتلهما ونهبت سر من رأى كلها فما أفلت
من النهب أحد أحسن من إفلات الحسن بن مخلد لان ماله كله كان قد
جعل عند القواد وكتابهم ولم يضع منه شئ وكان متعطلا فلم
تقصد النهابة داره وما أمسينا إلا على سرور بالفرج الذي لم يكن لنا
في الحساب.
حدثني أبو الفرج المخزومي المعروف بالببغاء الشاعر قال: كان بحلب
رجل بزار يعرف بأبي العباس بن الموصل فاعتقله سيف الدولة بخراج كان
عليه مدة. وكان: الرجل محدقا في تفسير الرؤيا فلما كان في بعض الأيام
كنت بحضرة سيف الدولة وقد أوصلت له رقعة إليه يسأله فيها حضور
مجلسه فأمر باحضاره وقال له: لأي شئ سألت الحضور؟ قال لعلمي أنه
لابد أن يطلقني الأمير سيف الدولة من الاعتقال في هذا اليوم فقال له:
ومن أين لك ذلك؟ قال لأني رأيت البارحة في آخر الليل رجلا قد سلم إلى
مشطا وقال سرح لحيتك. ففعلت ذلك فتأولت التسريح سراحا من شدة
واعتقال، ولكون المنام في آخر الليل حكمت أن تأويله يصح سريعا. ووثقت
بذلك فجعلت الطريق إلى الأمير مسألة الحضور ولاستعطفه فقال له: أحسنت
التأويل والامر على ما ذكرت وقد أطلقتك وسوغتك خراجك في هذه
السنة فخرج الرجل وهو يدعو له ويشكر.
أخبرني القاضي أبو طالب محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي فيما
أجاز لي رواية عنه بعدما سمعته منه قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثني
أبو سهل الداري القاضي قال: حدثنا أبو حسان الزيادي القاضي قال: جاءني
رجل من أهل خراسان فأودعني بدرة دراهم فأخذتها مضمونة وأسرعت
فيها وكان قد عزم على الخروج إلى مكة ثم بدا له فعاود فطلبها فاغتممت وقلت
له: تعود غدا ثم فزعت إلى الله عز وجل ودعوته، ثم ركبت بغلتي في الغلس
159

وأنا لا أدرى أين أتوجه وعبرت الجسر وأخذت نحو المخرم وما في نفسي
أحد أقصده فاستقبلني رجل راكب فقال إليك بعثت. فقلت: ومن بعثك؟
قال دينار بن عبد الله فأتيته وهو جالس فقال لي: ما حالك؟ فقال نمت الليلة
فأتاني آت فقال لي أغث أبا حسان فحدثته بحديثي فدعا بعشرين ألف درهم
فدفعها إلى فرجعت فصليت في مسجدي الغدا فجاء الرجل فقضيته وأنفقت
الباقي * ووقع لي هذا الخبر من طريق آخر بأسانيد قالوا: حدثنا أبو حسان
الزيادي قال أضقت إضاقة بلغت منها الغاية حتى ألح على القصاب، والبقال،
والخباز، وسائر المعاملين ولم تبق لي حيلة. وإني ليوم من الأيام على تلك
الحال وأنا مفكر فيما أعمل إذ دخل على غلامي فقال: حاجى بالباب
يستأذن. فقلت له ائذن له. فدخل رجل خراساني فسلم وقال ألست أبا حسان؟
فقلت: نعم. فما حاجتك قال أنا رجل غريب وأريد الحج ومعي جملة مالي
وقد أحضرته في بدرة معي وهو عشرة آلاف درهم وأنا محتاج أن يكون
قبلك حتى أقضى حجى وأرجع فاخذه إذ كنت غريبا بهذه البلد لا أعرف به
أحدا. فقلت هات البدرة فأحضرها ووزن ما فيها وختمها فلما خرج فككت
الختم على المكان ثم أحضرت المعاملين فقبضت كل من كان له عندي دين
واتسعت وأنفقت وقلت أضمن هذا المال للخراساني فإلى أن يجئ يأتي
الله بفرج من عنده فكنت يومى ذلك في سعة ولست أشك في خروج
الخرساني إلى الحج، فلما أصبحت من غد ذلك اليوم دخل إلى الغلام فقال:
الخرساني الذي كان عندك أمس بالباب. فقلت أئذن له فدخل إلى فقال:
انى كنت عازما على ما أعلمتك به ثم ورد على الخبر بوفاة والدي وقد عزمت
على الرجوع إلى بلدي فتأمر لي بالمال الذي أعطيتك أمس فورد على أمر لم
يرد على مثله قط، وتحيرت فلم أدر بماذا أجيبه، وتفكرت ماذا أقول للرجل
ان جحدته قدمني واستحلفني فكانت الفضيحة في الدنيا والآخرة والهتك
وان دافعته صاح وهتكني. فقلت نعم عافاك الله منزلي هذا ليس بالحريز
ولما أخذت مالك وجهت به إلى من هو قبله فتعود في غد فتأخذه. فانصرف
160

وبقيت متحيرا لا أدرى ما أصنع، وغلظ على الامر جدا فأدركني الليل
وفكرت في بكور الخراساني فلم يأخذني نوم ولم أقدر على الغمض. فقمت
إلى الغلام وقلت له: أسرج لي البغلة. فقال يا مولاي: هذه العتمة بعد وما
مضى من الليل شئ فإلى أين تمضى؟! فرجعت إلى الفراش فإذا النوم ممتنع على
فلم أزل أقوم إلى الغلام وهو يردني حتى فعلت ذلك ثلاث مرات وأنا
لا يأخذني القرار حتى طلع الفجر وأسرج الغلام البغلة وأقبلت أفكر وهي
تسير حتى بلغت الجسر فعدلت بي إليه فتركتها فعبرت ثم قلت إلى أين أعبر
ولكن إن رجعت وجدت الخراساني على بابى فأعدها تمضى حيث شاءت فلما
عبرت الجسر أخذت بي يمنة دار المأمون فتركتها ومرت فلم أزل كذلك إلى
أن قربت من دار المأمون والدنيا بعد مظلمة وإذا بفارس قد تلقاني ونظر
في وجهي ثم سار وتركني ثم رجع إلى وقال: ألست أبا حسان الزيادي؟
قلت: نعم. قال بعثت إليك. فقلت وما تريد يرحمك الله؟ ومن بعثك إلى فقال
الأمير حسن بن سهل. فقلت في نفسي ما يريد منى ثم قلت فها أنا ذا أمضى
إليه فمضى حتى أستأذن لي عليه فدخلت عليه فقال أبا حسان. ما خبرك،
وكيف حالك، ولم انقطعت عنا؟ قلت: لأسباب، وذهبت أعتذر من
التخلف. فقال دع ذا عنك أنت في لوثة وأمر ما هو فانى رأيتك البارحة
في النوم في تخليط كثير. فابتدأت فشرحت له قصتي من أولها إلى آخرها
إلى أن لقيني صاحبه ودخلت عليه فقال: لا أغمك الله يا أبا حسان قد فرج
الله عنك هذه بدرة للخراساني مكان بدرته، وبدرة أخرى تتسع بها فإذا
نفدت اعلمنا. فرجعت من ساعتي فقضيت دين الخراساني واتسعت بالباقي
وفرج الله عز وجل عنى * وحدثني بهذا الحديث أبو الفرج محمد بن محمد بن
جعفر قال حدثنا أبو القاسم علي بن محمد بن أبي حسان الزيادي، وكان
محدثا ببغداد ثقة مشهورا قال: حدثني أبي عن أبيه قال: كنت وليت
القضاء من قبل أبى يوسف القاضي رحمه الله ثم صرفت وتعطلت وضقت
إضاقة شديدة وركبني دين فادح، لخباز، وبقال، وقصاب، وعطار
161

وبزاز، وغيرهم حتى قطعوا معاملتي لكثرة مالهم على وثآبتهم من أن أقضيهم
فتضاعفت إضاقتي واشتدت حيلتي فإني يوما في مسجدي قد صليت بأهله
الغداة ثم أقبلت أدرس أصحابي الفقه إذ جاءني رجل خراساني وذكر
الحديث على نحو ما ذكره طلحة إلا أنه قال: فلما بلغت بغلتي مربعة الجسر
استقبلني موكب فيه من الشموع والنفاطات ما أضاء منه الطريق فصار
كالنهار فطلبت زقاقا أستخفي فيه حتى يجوز الموكب فلم أجد فإذا رجل من
أهل الموكب يقول أبو حسان؟ فتأملته فإذا هو دينار بن عبد الله فسلمت
عليه فقال: إليك جئت أرسل أمير المؤمنين إلى الساعة وأمرني أن أركب
إليك بنفسي وأحضره إياك قال: وأدخلني على المأمون فقال: قصتك فإني
رأيتك في منامي البارحة وأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بإغاثتك؟.
قال فحدثته بحديثي. فقال المأمون: أعطوا أبا حسان ثلاث بدر وولاني الري
وأمرني بالخروج إليها. قال: فعدت وما طلع الفجر، فلما كان وقت صلاتي
في مسجدي خرجت فإذا الخراساني فلما قضيت الصلاة أدخلته الدار
وأخرجت البدر فلما رآها قال: ما هذا؟ فقصصت عليه الحديث وأعطيته
بدرة فأخذها وانصرف * وذكر محمد بن عبدوس في: " كتاب الوزراء "
في أخبار دينار بن عبد الله: أن رسوله لقى أبا حسان في طريقه فقال له: قسمت
شيئا على عيالي فذكرت عيالك فأنفذت إليك عشرة آلاف درهم فأخذها
ورجع من الطريق، وباكره الخراساني فأعطاه إياها كلها لأنه كان أنفق
جميع مال الخراساني ثم عاد من غد إلى دينار فعرفه وشكره وعرفه الحديث
فقال: فكأنما قضينا دين الخراساني ثم أمر له بعشرة آلاف درهم أخرى
ولم يذكر ابن عبدوس في خبره ذكر المنام ولا المأمون * وحدثني أبي هذا
الحديث في المذاكرة قال: حدثني شيخ ذكره أبى وأنسيته أنا، عن أبي
حسان الزيادي بنحو ما ذكره محمد بن جعفر في حديثه إلا أنه قال فيه:
إن الخراساني قال في حديثه لأبي حسان إن رجع الحجاج ولم ترني قد
رجعت إليك فاعلم أنى قد هلكت والبدرة هبة منى إليك، وإن رجعت فهي
لي. ثم يتقارب لفظ الحديثين إلى أن لقيه في الجانب الشرقي قوم فلما رآهم
162

تنحى عن طريقهم فلما رأوه بطيلسان بادروا إليه وقالوا له: أتعرف منزل
رجل يقال له أبو حسان الزيادي؟ فقال أنا هو. فقالوا له: أجب أمير
المؤمنين، وحمل فدخل على المأمون فقال له من أنت؟ قال رجل من أصحاب أبي
يوسف القاضي من الفقهاء. قال بأي شئ تكنى؟ قال: بأبي حسان.
قال: بمن تعرف؟ قال: فقلت بالزيادي. ولست منهم إنما سكنت بينهم
فنسبت إليهم. فقال: قصتك فشرحت له خبري. قال فبكى بكاء شديدا ثم
قال ويحك ما تركني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنام الليلة بسببك إذ أتاني
في أول الليل فقال: أغث أبا حسان الزيادي فانتبهت ولم أعرفك، وأثبت
اسمك ونسبك ونمت فأتاني. فقال كمقالته فانتبهت منزعجا. ثم نمت فأتاني
وقال ويحك أغث أبا حسان. فما تجاسرت على النوم وأنا ساهر منذ ذلك
الوقت وقد بثثت الناس في طلبك ثم أعطاني عشرة آلاف درهم فقال هذه
للخراساني. ثم أعطاني عشرة آلاف درهم أخرى فقال اتسع بها، وأصلح
أمرك، وأعمر دارك واشتر مركبا سريا وثيابا حسنة وعبدا يمشى بين يدي
دابتك، ثم أعطاني ثلاثين ألف درهم فقال جهز بناتك بهذه وزوجهن فإذا
كان يوم الموكب فصر إلى لأقلدك عملا وأحسن إليك. قال فخرجت والمال
محمول معي فجئت إلى مسجدي فصليت الغداة والتفت فإذا الخراساني فأدخلته
إلى البيت وأخرجت بدرة فقلت: خذ هذه. فلما رآها قال: ليس هي عين
مالي. فقلت: نعم. فقال: ما سبب هذا الامر؟ فقصصت عليه القصة فبكى
وقال: والله لو صدقتني في أول الأمر عن خبرك ما طلبتك بها، وأما الآن
فوالله لا دخل مالي شئ من مال هؤلاء، وأنت في حل. وقام فانصرف
فأصلحت أمرى وبكرت يوم الموكب إلى باب المأمون فأدخلت عليه وهو
جالس جلوسا عاما فلما مثلت بين يديه استدناني ثم أخرج عهدا من تحت
مصلاه فقال: هذا عهدك على قضاء المدينة الشرقية من الجانب الغربي من
مدينة السلام، وقد أجريت عليك في كل شهر كذا. كذا. فاتق الله تدم
لك عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فعجب الناس من كلامه
وسألوني عن معناه فأخبرتهم الخبر فانتشر فما زال أبو حسان قاضى
163

المدينة الشرقية إلى أن مات في آخر أيام المأمون.
أخبرني محمد بن الحسن بن المظفر عن بعض الهاشميين قال: حبس المهدى
يعقوب بن داود وزيره فطال حبسه قال فأتاني آت في منامي فقال: قل يا رفيق
يا شفيق أنت ربى الحقيق ادفع عنى الضيق إنك على كل شئ قدير. فما
شعرت إلا والأبواب تفتح، فأدخلت على الرشيد فقال: أتاني الذي أتاك فاحمد
الله عز وجل وخلى سبيلي * وقد روى هذا الخبر على خلاف هذا بروايات مختلفة
قالوا: حدثنا عبد الله بن يعقوب بن داود، قال: قال لي أبى حبسني المهدى في
بئر وبنيت عليها قبة فكنت فيها خمس عشرة سنة حتى مضى صدر من خلافة الرشيد
وكان يدلى إلى في كل يوم رغيف وكوز ماء وأوذن بأوقات الصلاة فما كان
رأس سنة ثلاث عشرة حجة أتاني آت في منامي فقال:
حن على يوسف رب فأخرجه
من قعر جب وبئر حوله غمم
قال: فحمدت الله تعالى وقلت أتى الفرج. قال: فمكثت حولا
آخر لا أرى شيئا، فلما كان في رأس الحول الرابع عشر أتاني ذلك الآتي
فقال لي:
عسى فرج يأتي به الله إنه * له كل يوم في خليفته أمر
ثم أقمت حولا آخر لا أرى شيئا، ثم أتاني الآتي بعد الحول فقال لي:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان * ويأتي أهله الرجل الغريب
قال: فلما أصبحت نوديت فظننت أنى أوذن بالصلاة فدلى إلى حبل وقيل
لي شد به وسطك. ففعلت وأخرجوني فلما تأملت الضوء غشى على بصرى
فانطلقوا بي إلى الرشيد فقيل لي سلم على أمير المؤمنين. فلت: السلام عليك يا أمير
المؤمنين المهدى. قال: لست به. فقلت السلام عليك يا أمير المؤمنين الهادي قال:
لست به قلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته الرشيد. فقال
الرشيد: يا يعقوب بن داود ما شفع فيك أحد. غير أنى حملت الليلة صبية لي
164

على عنقي فذكرت حملك إياي على عنقك فرثيت لك من المحل الذي كنت فيه
وأخرجتك. قال وأكرمني وقرب مجلسي ثم إن يحيى بن خالد تنكر لي كأنه
خاف على أن أغلب على أمير المؤمنين دونه فخفته فاستأذنت في الحج فأذن لي،
ثم لم يزل مقيما بمكة حتى مات بها * وجدت في بعض الكتب أن المهدى
استحضر صاحب شرطته ليلا وقد انتبه من منامه فزعا مرعوبا فقال: ضع
يدك على رأسي واحلف بما استحلفك به. فقال: هي تقصر عن رأس أمير
المؤمنين ولكن على وعلى وحلف بأيمان البيعة انني أمتثل ما تأمرني به.
فقال سر إلى المطمرة واطلب فلانا العلوي الحسيني فإذا وجدته فأخرجه
وخيره بين الإقامة عندنا مطلقا مكرما محبورا. أو الخروج إلى أهله فإن
أراد الخروج قدمت إليه كذا وكذا، وإن أراد المقام أعطيته كذا وكذا.
وهذه توقيعات بذلك. قال فأخذتها وصرت إلى من أزاح علتي في الجميع
وصرت المطبق فطلبت الفتى فأخرج إلى وهو كالشن البالي فعرفته أمر أمير
المؤمنين وعرضت عليه الحالين، فاختار الرجوع إلى أهله بالمدينة فسلمت
إليه الصلات والحملان فلما جاء ليمضى قلت له: بالذي فرج عنك هل تعلم ما دعا
أمير المؤمنين إلى اطلاقك؟ قال أي والله: كنت الليلة نائما فرأيت النبي
صلى الله عليه وسلم في منامي كأنه أيقظني وقال: " أي بنى ظلموك؟ قلت: نعم
يا رسول الله. قال قم فصل ركعتين وقل بعدهما، يا سابق الفوت، ويا سامع
الصوت، ويا ناشر العظام، بعد الموت صل على محمد وعلى آل محمد، واجعل لي
فرجا ومخرجا إنك تعلم ولا أعلم وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب يا أرحم
الراحمين. " قال فوالله لقد قمت وفعلت ذلك وما زلت أكررها حتى دعوتني
قال: فحمدت الله عز وجل على توفيقي في مسألته وعدت إلى المهدى وحدثته
بالحديث. فقال: ويحك صدقك والله كنت نائما في فراشي فرأيت
في منامي زنجيا بعمود حديد قائما على رأسي يقول لي اطلق فلانا
العلوي الحسيني وإلا قتلتك فانتبهت. فزعا فوالله ما جسرت على العود
إلى النوم حتى جئتني باطلاقه.
165

أخبرني أبو بكر محمد بن يحيى الصولي عن أحمد بن يزيد المهلبي قال: كنا
ليلة ين يدي المعتمد فحمل عليه النبيذ فجعل يخفق برأسه نعاسا فقال:
لا يبرحن أحد ثم نام مقدار نصف ساعة وانتبه، وكأنه ما شرب شيئا. فقال:
أحضروا لي من الحبس رجلا يعرف بمنصور الجمال. فأحضر فقال له منذ كم
أنت محبوس؟. فقال منذ ثلاث سنين. قال: فأصدقني عن خبرك؟ قال أنا
رجل من أهل الموصل كان لي جمل أعمل عليه وأعود بكرائه على أهلي فضاق
الكسب على بالموصل، فقلت أخرج إلى سر من رأى فان العمل ثم أكثر
فخرجت فلما قربت منها إذا جماعة من الجنة قد ظفروا بقوم يقطعون الطريق
وكتب صاحب البريد بعددهم وكانوا عشرة فأعطاهم واحد من العشرة مالا
على أن يطلقوه فأطلقوه وأخذوني مكانه وأخذوا جملي فسألتهم بالله عز وجل
وعرفتهم خبري فأبوا ثم حبسوني فمات بعض القوم وأطلق بعضهم وبقيت
وحدي. فقال المعتمد: أحضروني خمسمائة دينار فجاؤوا بها. فقال: ادفعوها
إليه وأجرى عليه ثلاثين دينارا في كل شهر وقال اجعلوا أمر جمالنا إليه.
ثم أقبل علينا فقال: رأيت الساعة النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال:
" يا أحمد وجه الساعة إلى الحبس واخرج منصورا الجمال فإنه مظلوم وأحسن
إليه " ففعلت ما رأيتم قال: ثم نام من وقته وانصرفنا * ووقع إلى هذا
الخبر بطريق آخر بأتم من هذه الرواية بإسناد غير هذا قال: كان المعتمد مع
مع سماحة أخلاقه وكثرة جوده شديدا لعربدة على ندمائه إذا سكر لا يكاد
يسلم له من العربدة مجلس إلا قل. قال: فاشتهى يوما أن يطبخ الأترج فجمع
له شئ كثير مفرط العدة وعبى وخزم بعضه فاطبخ عليه فما ترك شيئا من
الخلع والخملانات والصلات إلا عمله ذلك اليوم مع جلسائه وخصني منه
بأوفر نصيب وكان كثير الشرب وكانت علامته إذا أراد ينهض جلساؤه
التفت إلى سرير لطيف كان إذا جلس استند إليه ويشيل برجله كأنه يريد
أن يصعد فيقوموا فإن كان يريد النوم صعده وإن لم يرد النوم رد رجله إذا
قمنا ويتم شربه إما مع الحرم أو الخدم، فلما كان ذلك اليوم جلسنا بحضرته
نهارنا أجمع وقطعة من الليل ثم شال رجله فقمنا وانصرفت إلى حجرة
166

موسومة كانت لي، فلما انتصف الليل إذا بخدم يدقون باب حجرتي فانتبهت
مرعوبا فقالوا: أجب أمير المؤمنين. فقمت وقلت إنا لله وإنا إليه راجعون.
قد مضى يومنا وبعض ليلتنا أحسن مضى، وقدرت أنى أفلت من عربدته
وقد عن له أن يعربد على فاستدعاني لهذا ولم أزل أفكر كيف أشاغله عن
العربدة إلى أن صرت بحضرته. فلما رآني قائما لم يستجلسني وقال يا غلام
صاحب الشرطة فزدت جزعا وقلت لم تجر عادته في العربدة باستدعاء صاحب
الشرطة وما هو إلا لبلية احتيل بها على عنده. فأقبلت أنظر إليه واجتهد أن
يفاتحني بكلمة فأداريه بالجواب وهو لا يرفع رأسه من الأرض إلى أن جاء
صاحب الشرطة فرفع رأسه وقال: في حبسك رجل يعرف بفلان بن فلان
الجمال أحضرنيه الساعة فمضى ليحضره فسهل على الامر قليلا ووقفت وهو
لا يخاطبني إلى أن حضر الرجل فقال له المعتمد: من أنت؟ قال: أنا فلان
ابن فلان الجمال. قال: وما قصتك؟ قال: أنا محبوس ظلما منذ كذا وكذا.
سنة. وذاك انى رجل من أهل الجبل وكان لي جمال أعيش من فضل أجرتها وكان
يتقلدنا فلان الأمير فاستدعى إلى الحضرة فأخذ جمالي غصبا يستعين بها في حمل
سواده فتظلمت إليه وضججت فلم ينصفني وقال إذا صرت بالحضرة رددت
جمالك. فخرجت لئلا تذهب جمالي، أصلا فكنت مع جمالي أخدمها في الطريق
فلما قربت من حلوان سل الأكراد منها جملا محملا فبلغه الخبر فأحضرني وقال
أنت سرقت الجمل بما عليه فقلت غلمانك يعلمون أن الأكراد سلبوه فقال
الأكراد إنما جاؤه بمواطأة منك ثم أمر فضربت ضربا عظيما، وقيدت
وطرحت على بعض جمالي فلما وردت الحضرة أنفذت إلى الحبس وتملك
الجمال ولم يكن لي متظلم ولا مذكر فطالت بي المحنة إلى الآن فقال لبعض
الخدام امض الساعة إلى فلان يعنى الأمير واقعد على دماغه ولا تبرح أو يرد على
هذا جماله أو قيمتها على ما يدعى الجمال فإذا قبض فاحمله إلى الخزانة واكسه
كسوة حسنة وادفع إليه كذا وكذا دينارا واصرفه إلى شأنه، ثم في حبسك
رجل يعرف بفلان بن فلان الحداد؟ قال: نعم قال: هاته الساعة فأحضره
فأحضر. فقال: ما قصتك؟. فقال أنا رجل حبست بظلم منذ كذا. وكذا
167

قال: ما كان سبب ذلك فقص عليه قصة طويلة، فقال لصاحب الشرطة: خل
عنه. وقال لخادم آخر: خذه فغير حاله واكسه وادفع إليه كذا وكذا دينارا.
وقال لصاحب الشرطة انصرف، ثم رفع رأسه وقال يا ابن حمدون: الحمد لله
الذي وفقني لهذا الفعل ففرج عنى. فقلت وكيف تكلف أمير المؤمنين النظر
في هذا بنفسه في مثل هذا الوقت؟ فقال: ويحك إني رأيت الساعة رجلا
في منامي يقول في حبسك رجلان مظلومان يقال لأحدهما فلان بن فلان
الجمال، والآخر فلان بن فلان الحداد. فاطلقهما الساعة وانصفهما من
خصومهما وأحسن إليهما فانتبهت مذعورا ثم نمت فما استثقلت حتى رأيت
الشخص بعينه. فقال ويلك آمرك أن تطلق رجلين مظلومين في حبسك قد طال
مكثهما وتحسن إليهما فلا تفعل وترجع إلى نومك لصممت أن أوجعك وكان
يمد يده إلى فقلت يا هذا: من أنت قال محمد رسول الله. فكأني قد قبلت
يده وقلت يا رسول الله: ما عرفتك ولو عرفتك ما تجاسرت على النوم. ولا
على تأخير أمرك. فقال: قم فافعل في أمرهما الساعة ما أمرتك به فانتبهت
واستدعيتك لتشاهد ما يجرى فقلت هذه عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم
واهتمام لأمير المؤمنين بما أصح دينه وثبت ملكه ومنة عظيمة لله عز وجل
ولرسوله صلى الله عليه وسلم فليشكر الله تعالى أمير المؤمنين وليكثر من
الصدقة. فقا امض فقد أزعجتك فعدت إلى حجرتي فلما كان من غد عشيا
دخلت إليه وهو جالس على الرسم للشرب فأحببت أعرف الجلساء ما جرى
ليس هو بذلك، وكنت أعرف من طبعه أنه يحب الاطراء والمدح ونشر ما هذا
سبيله إذا عمل جميلا أكثر من ذكره ويتبجح به وإن كان صغيرا، فقلت
أرى أمير المؤمنين لم يخبر خدمه بما كان من المعجزة البارحة من أمر صاحب
الشرطة والجمال والحداد ورؤياه النبي صلى الله عليه وسلم وما أمره به وما
تقدم به إلى أمير المؤمنين من إنصافهما والاحسان إليهما. فقال: والله ما أذكر
من هذا شيئا وما كنت إلا سكرانا نائما طول ليلتي ما انتبهت. فقلت يا سيدي
فتنكر؟! وقال يا ابن حمدون: أتغالطني وتخادعني بالكذب؟ فقلت أعيذ
أمير المؤمنين بالله هذا أمر مشهور في الدار عند الخدم الخاصة فقال: من
168

كان حاضرا؟ قلت: فلان الخادم وفلان صاحب الشرطة واقتصصت القصة
وشرحتها فاستدعى الخدم فحدثوه بمثل ذلك فأظهر عجبا شديدا وحلف بالله
عز وجل وبالقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأنه نفى من العباس
ابن عبد المطلب أنه لم يذكر من هذا كله شيئا، ولا يعلم إلا أنه كان نائما
ولا رأى مناما ولا انتبه ولا جلس ولا استدعى أحدا ولا أمر بأمر فما
رأيت بأعجب من المنام والحال ولا أظرف من نسيانه.
ووجدته في بعض الكتب على قريب من هذه الألفاظ إلا أنه ليس فيه
حديث الأترج وذكر فيه: أن الجمال كان يسمى نصرا وأن قصته إنه كان من
أهل نهاوندا وله جمال يكريها فاكترى عامل المعونة منها عشرين جملا وحمل
عليهم عشرين رجلا من الأكراد أسرى ليحملهم إلى الحضرة فسار الجمال
فهرب في بعض الطريق واحد من جماله فوقع لصاحب المعونة أن نصرا الجمال
هربه فقيده وحمله مكانه فلما دخلوا الحضرة أنفذ الجمال مع القوم إلى الحبس
وأخذ صاحب المعونة جماله * وإن قصة الحداد أنه كان رجلا من أهل الشام
وكانت له نعمة فزالت عنه فهرب من بلده فاتصلت محنته إلى أن وافى الحضرة طالبا
للتصرف فتعذر عليه حتى تلف جوعا فسأل عن عمل يعمله ليلا بيديه ليتوفر نهارا
عن طلب التصرف وينفق من أجرة ما يكسبه ليلا فأرشد إلى حداد يعمل بالليل
فقصده فاستأجره بدرهم في كل ليلة فكان يعمل معه هو وغلام آخر يضربان
بالمطرقة فأفسد ذلك الغلام على الحداد نعلا كان يطرقها فاغتاظ عليه فرماه
بالنعل الحديد فوقعت على قلبه فتلف في الحال فهرب الحداد وبقيت أنا في الموضع
متحيرا لا أدرى أين أمضى وأحس الحارس بما أنكره في الدكان فهجم فوجد
الغلام ميتا ووجدني قائما فلم يشك أنى القاتل فقبض على فحبست ثم تتقارب
الروايتان * وحدثني أبو محمد المصلحي قال: حدثني أبو بكر محمد بن علي المارداني
بمصر وكان شيخا جليل عظيم الحال والنعمة والجاه قديم الرياسة والولايات
الكبار للأعمال وقد وزر لخمارويه بن أحمد بن طولون وتقلد مصر مرات وعاش
نيفا وتسعين سنة ومات في سنة نيف وأربعين وثلاثمائة (قال): لما كتبت
لخمارويه كنت حدثا فركبتني الاشغال وقطعتني ترادف الأعمال عن تصفح أحوال
169

المتعطلين، وكان ببابي شيخ من شيوخ الكتاب قد طالت عطلته وقد غفلت
عن تصريفه فرأيت ليلة في منامي أبى وكأنه يقول: ويحك يا بنى أما تستحى
من الله عز وجل أن تتشاغل بأعمالك والناس ببابك يتلفون ضرا وهزالا
هذا فلان من شيوخ الكتاب، وقد أفضى أمره إلى أن تقطع سراويله وما
يمكنه أن يشترى بدلها انظر أن لا تغفل أمره أكثر من هذا. فانتبهت متعجبا
واعتقدت الاحسان إلى الشيخ من غد ونمت وأصبحت وقد أنسيت أمره
فركبت إلى دار خمارويه وإذا بالرجل على دويبة له ضعيفة ثم أومى إلى
الترجل فانكشف فإذا هو لابس خفا بال سروايل فحين وقعت عيني عليه
ذكرت المنام وقامت قيامتي فوقفت في موضعي واستدعيته وقلت يا هذا:
ما حالك؟ وما صنعت بنفسك في ترك أذكاري أمرك ما كان في الدنيا من يوصل
إلى رقعة أو يخاطب في أمرك الآن قد قلدتك الناحية الفلانية وعينت لك
رزقها وهو في كل شهر مائتا دينار وأطلقت لك من خزانتي ألف دينار
معونة وأمرت لك من الثياب والحملان بكذا وكذا فاقبض ذلك واخرج فان
حسن أثرك في عملك زدتك وفعلت بك وصنعت. قال: وضممت إليه من
ينجز له ذلك.
حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن البهلول التنوخي قال:
خرج أخي أبو محمد الحسن بن يوسف يقصد أخاه أبا يعقوب إسحاق بن يوسف
وهو حينئذ بمصر ومعه زوجة كانت لأبي يعقوب ببغداد وصبية منها
فلما عاد حدثني أنه سلك في قافلة كبيرة من هيت على طريق السماوة يريد
دمشق قال: فلما حصلت في أعماق السماوة أخفرتنا خفراؤنا وجاء قوم من
الاعراب ظاهروهم علينا وأظهروا أنهم من غيرهم وقطعوا علينا واستاقوا
ركابنا وبقيت أنا والناس مطروحين على الماء الذي كنا نزلنا عليه بلا جمل
ولا زاد فأيسنا من الحياة فقلت للناس: إن الموت لابد منه على كل حال
أقمنا في مكائنا أو سرنا، ولان نسير في طلب الخلاص فلعل الله سبحانه وتعالى
يرحمنا ويخلصنا أولى من أن نموت ها هنا، وإن متنا في سيرنا كان أعذر
فساعدوني وسرنا يومنا وليلتنا وأنا أحمل الصبية بنت أخي لان أمها عجزت
170

عن حملها ولما طال الطريق ولم نر محجة ولا إنسانا أحسسنا بالهلاك ومات منا
قوم (قال): وأنا في خلال ذلك قد بدأت بختمة وأنا متشاغل بها وبالدعاء
إلى أن وقعنا في اليوم الثالث على حلة أعراب فأنكرونا فلم أعمل أنا عملا
حتى ولجت بيت امرأة منهم وأمسكت ذيلها وكنت سمعت أن هذا إذا عمله
الانسان فهو آمن من شرهم وقد وجب حقه عليهم قال فتفرقنا في بيوتهم،
واختلف أحوال الناس فأما أنا فإن صاحب البيت الذي أنزلت عليه لما رأى
هيبتي ودرسي للقرآن وأنى لم أزل أحادثه وأرفق به قال لي: ما تشاء؟ قلت
تركبني وهذه المرأة وهذه الطفلة راحلة لك وتسير معي إلى دمشق حتى
أعطيك ثمن راحلتك واهبها لك وأقضى حقك بعد هذا فتذمم واستحيا
وقدرت أنى إذا دخلت إلى دمشق وجدت بها من أصدقاء أخي من آخذ
منه ما أريده. فكساني الاعرابي وكسا المرأة والصبية ووطأ لي راحلة ولهما
راحلة وحمل معنا من الزاد والماء ما يكفينا وركب معنا راحلة وكان أكثر
من وصل معنا إلى ذلك الموضع قد تأتى له مثل ما تأتى لي قال فسرنا ونحن
رفقة صالحة العدد فلما كان بعد أيام شارفنا دمشق مع طلوع الشمس فإذا
أهلها قد طلعوا يستقبلون الناس، وكل من له صديق أو معرفة يسأل عنه
وقد بلغهم خبر القطع. فما شعرت إلا وإنسان يسأل عن كنيتي ونسبتي فقلت
ها أنا ذا فعدل إلى فقال: أنت أبو محمد بن الأزرق الأنباري؟ قلت: نعم.
فقام إلى فأخذ بخطام راحلتي وتبعني الاعرابي برواحله حتى دخلنا مع الرجل
إلى دمشق فجاء بنا إلى دار حسنة تدل على نعمة حسنة فأنزلنا فلم أشك في أنه
صديق لاخى فنزلت والأعرابي، وأخذت جمالنا، وأدخلنا الحمام، وألبست خلعة
نظيفة وفعل بالمرأة والصبية كذلك وأقمت يومى وغده في خفض عيش
لا أسأله عن شئ ولا يسألني، فلما كان في اليوم الثالث قال لي: ما صورة هذا
الاعرابي فأخبرته بما أخذنا منه. فقال خذ ما تريد من الدنانير فقلت كذا
وكذا دينارا فأعطانيها فدفعتها إلى الاعرابي وسلمت إليه الجمال، وسألت
الرجل أن يزوده زادا لا يكون مثله في البادية فأخرج له شيئا كثيرا وخرج
الاعرابي شاكرا. فقال الرجل: أين تريد الآن من البلاد وكم يكفيك من النفقة،
171

فلما قال لي ذلك ارتبت به وقلت لو كان هذا من أصدقاء أخي الذين كاتبهم
بتفقدي لكان قد علم مقصدي فقلت له كم كاتبك أخي أن تعطيني؟ قال:
ومن أخوك؟ فقلت: أبو يعقوب بن الأزرق الكاتب الأنباري المقيم بمصر.
قال والله ما سمعت باسم هذا الرجل قط ولا أعرفه، فورد على أعجب مورد
فقلت: يا هذا إني ظننتك صديقا له وإن ما عاملتني به من الجميل بسببه فانبسطت
إليك بالطلب ولو لم أعتقد هذا لانقبضت فما السبب فيما عاملتني به قال أمر
هو أوكد من أمر أخيك يحب أن يكون انبساطك به أتم. فقلت ما هو؟
قال: ان خبر الوقعة بالقافلة التي كنت فيها بلغنا في يوم كذا وكذا فما بقي
بدمشق أحد إلا وردت عليه مصيبة عظيمة إما بذهاب مال، أو بغم على
صديق غيري فإنه لم يكن لي بشئ من ذلك تعلق واستعد الناس للخروج إلى
تلقى المنقطعين وإصلاح أحوالهم، ولم أعزم أنا، فلما كان في الليل رأيت
النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، وكأنه يقول لي: أدرك أبا محمد بن الأزرق
الأنباري فأغثه وأصلح شأنه بما يبلغه مقصده، فلما أصبحت خرجت مع
الناس اسأل عنك، فكان ما رأيت فهات فاذكر الآن ما تريده. قال: فبكيت
بكاء شديدا لم أقدر معه على خطابه مدة، ثم نظرت ما يبلغني مصر فطلبته
منه وأخذته وأصلحت أمرى وسألت الرجل عما يعرف به؟ فقال: أنا فلان
ابن فلان الصابوني. ذكره أبو محمد وأنسيه أبو الحسن. فلما بلغت إلى مصر
حدثت أخي بالحديث فتعجب منه وبكى. وقال أبو الحسن: وضرب الدهر
من ضربه، وورد أخي أبو محمد إلى بغداد بعد سنين كثيرة فتذاكرنا هذا
الحديث. فقال لي: لما عرفني أخي أبو محمد ما عامله به ابن الصابوني الدمشقي
جعلته صديقا وكنت أكاتبه فلما وردت إلى دمشق وجدت حال الرجل قد
اختلفت بمحن لحقته فوهبت له ضيعتي بدمشق وكانت جليلة الغلة والقيمة
وسلمتها إليه مكافأة على ما فعل وعامل به أخي أبا محمد.
قال محمد بن عبدوس في: " كتاب الوزراء " حدثني الحسين بن علي
الباطقائي قال: حدثني أبي، قال: قال أحمد بن المدبر: لما أمر محمد بن
عبد الملك بحبسي أدخلت محبسا فيه أحمد بن إسرائيل وسليمان بن وهب،
172

وهما يطالبان قال: فجعلت في بيت ثالث وكنا نتحدث ونأكل جميعا، وربما
أدخل إلينا النبيذ فنشرب، وكان أحمد بن إسرائيل شديد الجبن، وكان ينكر
علينا ويمنعنا أن نتحدث بشئ أو نرجو لأنفسنا فجاءني يوما سليمان بن وهب
فقال: رأيت البارحة في نومي كأن قائلا يقول لي: يموت الواثق إلى ثلاثين
ليلة، فقم بنا إلى أبى جعفر حتى نحدثه. فقلت: والله لئن سمع أبو جعفر
هذا ليشقن ثوبه وليسدن أذنه. فقال لي قم على كل حال فقمنا فدخلنا عليه
فأخبره سليمان بالخبر فقال يا هذا: أنت أحسن الناس وأشدهم تحننا على
نفسك وعلينا، وإنما تريد أن يشيع هنا فتقتل. فقال له: فتكتب هذه الرؤيا
عندك لنمتحن صدقها، فنفر، وقال: أنا لا أكتب مثل هذا. فكتبت أنا
في رقعة صغيرة اليوم. فلما جاز يوم الثلاثين دخل إلى أحمد بن إسرائيل فقال
لي: يا أبا الحسن هذا يوم الثلاثين. فأخرجت الرقعة فإذا هو قد حفظ اليوم
قال: ومضى يومنا إلى آخره فلما كان في الليل لم نشعر بالباب إلا وقد دق
دقا شديدا، وصاح بنا صائح: البشرى قد مات الواثق واخرجوا. فقال
أحمد: قوموا بنا فقد حقق الله الرؤيا وأتى بالفرج. فقال سليمان بن وهب:
كيف نمشي مع بعد منازلنا، ولكن نوجه من يجيئنا بما نركب فاغتاظ أحمد
ابن إسرائيل وقال: نعم نقعد حتى يجلس خليفة آخر، ويقال له في الحبس
جماعة من الكتاب عليهم أموال فيأمر بالتوثق بنا إلى أن ينظر في أمرنا قم
عافاك الله تعالى حتى نخرج. فخرج وخرجنا على أثره فقبل أن نخرج من باب
الهادوني، رأينا رجلين يقول أحدهما لصاحبه: سئل أمير المؤمنين جعفر
عمن في الحبس فقيل له جماعة من الكتاب، فقال: يكونون فيه إلى أن
ينظر في أمورهم فجدينا في السير وقصدنا غير منازلنا فاستترنا وبحثنا عن
الاخبار، فبلغنا إقرار الخليفة محمد بن عبد الملك فكتبت إليه رقعة عن
جماعتنا نعرفه خبرنا واتساع آمالنا ونستأذن فيما نفعل، فلما وصلت إليه وقع
على ظهرها، ولم استخفيتم وليس منكم إلا من عنايتي تخصه ورأيي فيه جميل
أما أبو أيوب فقد تكلم في أمره أبو منصور إيناخ واستوهبه فوهبته له،
وأمرت بإحضاره ليخلع عليه فليحضر عليه، وأما أبو جعفر فإنه طولب بما ليس
173

يلزمه وقد وضحت حجته في بطلانه فليصر إلى، وأما أبو الحسن فإنه قذف
بباطل فأظهروا جميعا واثقين بما عندي من حياطتكم ورعاية حرماتكم
فصرنا إليه جميعا وزال عنا ما كنا فيه وخلع على سليمان بن وهب خاصة،
قال: وفى هذه الحبسة كتب سليمان بن وهب إلى أخيه الحسن بن وهب
فيما حكاه محمد بن داود:
هل رسول وكيف لي برسول * إن ليلى إن نمت حد طويل
هل رسول إلى أخي وشقيقي * ليت أنى مكان ذاك الرسول
يا أخي لو ترى مكاني في الحبس * وحالي وزفرتي وعويلي
وعثارى إذا أردت قياما * وقعودا في مثقلات الكبول
لرأيت الذي يغمك في الأعداء * إذ يسلكوا جميعا سبيلي
هذه جملة أراني غنيا * معها عن أداك بالتفصيل
ولعل الاله يأتي بصنع * وخلاص وفرجة عن قليل
وذكر أبياتا آخر تماما لهذه الأبيات لم أذكرها لأنها ليست من هذا
المعنى ثم قال: وقد ذكر محمد بن داود في كتابه المسمى: " كتاب الوزراء "
من أمر خروج سليمان بن وهب من حبس الواثق غير هذا وتركت ذكره
وإعادته * حدثني علي بن محمد الأنصاري الخطمي، قال: حدثني أبو عبد الله
الحسن بن محمد السمرى كاتب الديوان بالبصرة قال: كان أبو محمد المهلبي
في وزارته قد قبض على بالبصرة وطالبني فأطال حبسي حتى آيست من
الفرج فرأيت ليلة في المنام كأن قائلا يقول: اطلب من ابن الزاهبوني
دفترا قديما خلقا عنده على ظهره دعاء فادع الله به فإنه عز وجل يفرج
عنك. قال: فكان ابن الزاهبوني صديقا لي من أهل ثناة واسط وهو
بالبصرة فلما كان من غد قلت له: عندك دفتر على ظهره دعاء؟ فقال: نعم.
فقلت فجئني به، فرأيت على ظهره مكتوبا: " اللهم أنت أنت انقطع الرجاء
إلا منك، وخابت الآمال إلا فيك، صلى على محمد وعلى آل محمد،
ولا تقطع اللهم رجائي ولا رجاء من يرجوك في شرق الأرض وغربها،
174

يا قريبا غير بعيد، يا شاهدا لا يغيب، ويا غالبا غير مغلوب، اجعل لي من أمرى
فرجا ومخرجا وارقني رزقا واسعا من حيث لا أحتسب إنك على كل شئ
قدير. قال: فواصلت الدعاء بذلك فما مضت إلا مدة يسيرة حتى وجه المهلبي
فأخرجني من الحبس وقلدني الاشراف على أحمد بن محمد الطويل في أعماله
بأسافر الأهواز.
حدثني أبو الربيع سليمان بن داود وكانت جدته تعرف بشمسة
قهرمانة كانت في دار القاضي أبى عمرو محمد بن يوسف رحمه الله قال: كان
في جوار القاضي قديما رجل انتشرت عنه حكاية وظهر في يده مال جليل
بعد فقر طويل وكنت أسمع أن أبا عمرو حماه من السلطان فسألت عن الحكاية
فدافعني طويلا ثم حدثني فقال: ورثت عن أبي مالا جليلا فأسرفت فيه
وأتلفته حتى أفضيت إلى بيع أبواب داري وسقوفها، ولم يبق لي في الدنيا حيلة
وبقيت مدة لا قوت لي إلا من بيع أمي لما تغزله وتطعمني ونفسها منه
فتمنيت الموت فرأيت ليلة في منامي كأن قائلا يقول لي غناك بمصر فاخرج
إليها فبكرت إلى أبى عمرو القاضي وتوسلت إليه بالجوار والخدمة التي كانت
من أبى لأبيه وسألته أن يزودني كتابا إلى مصر لا تصرف بها ففعل وخرجت
فلما حصلت مصرا وصلت الكتاب وسألت التصرف فسد الله على التصرف
حتى لم أظفر بتصرف ولا لاح لي شغل، ونفذت نفقتي فبقيت متحيرا وفكرت
في أن أسأل الناس وأمد يدي إلى الطريق فلم تسمح نفسي بذلك فقلت أخرج
ليلا وأسأل الناس بين العشاءين فما زلت أمشى في الطريق وتأبى نفسي المسألة
ويحملني الجوع عليها وأنا ممتنع إلى أن مضى من الليل نصفه فلقيني الطائف
فقبض على فوجدني غريبا فأنكر حالي فسألني فقلت رجل غريب ضعيف
فلم يصدقني وبطحني وضربني مقارع فصحت وقلت له أنا أصدق فقال هات
فقصصت عليه قصتي من أولها وحديث المنام فقال لي: أنت رجل ما رأيت
أحمق منك والله لقد رأيت منذ كذا وكذا سنة في النوم كأن قائلا يقول لي
ببغداد بالشارع الفلاني بالمحلة الفلانية - قال - فذكر شارعي ومحلتي فسكت
175

وأصغيت وأتم الشرطي الحديث فقال -: دار يقال لها دار فلان فذكر داري
واسمى وفيها بستان فيه سدرة تحتها مدفون ثلاثون ألف دينار فامض فخذها
فما فكرت في هذا الحديث ولا التفت إليه وأنت أحمق فارقت وطنك وأهلك
وجئت إلى مصر بسبب منام قال: فقوى قلبي بذلك وأطلقني الطائف فبت في
مسجد وخرجت في غد من مصر وقدمت بغداد فقلعت السدرة وأثرت
مكانها فوجدت فيها قمقما فيه ثلاثون ألف دينار، فأخذتها ودبرت
أمرى فأنا أعيش من تلك الدنانير، وكلما ابتعته منها من ضيعة وعقار
إلى الآن.
وجدت في كتاب أبى الفرج عبد الواحد المخزومي الخبطي، عن علي
ابن العباس النحو بختى قال: حدثني أحمد بن عبد الله التغلبي قال: كان من
بقايا شيوخ خراسان ممن يلزم دار العامة بسر من رأى شيخ يكنى أبا عصمة
وكان يحدثنا كثيرا بأخبار الدولة وأهلها فحدثنا أن خزيمة ابن حازم كان
يجلس في داره للناس في كل يوم ثلاثا فلا يحجب عنه أحد ولا يستأذن لمن
يحضره إنما يدخلون إرسالا بغير إذن فمن كان من أشراف الناس ووجوهم
سلم وانصرف، ومن كان من طلاب الحوائج أو خطاب التصرف دفع
رقعة إلى الحاجب، وكان قد أفرد لهذا كاتبا حصيفا يقال له الحسن بن سلمة
يتصفح الرقاع قبل عرضها عليه فما كان يجوز أن يوقع فيه عنه وقع وسلمه
إلى أربابه، وما كان لابد من وقوفه عليه وتوقيعه فيه بخطه عرضه عليه،
وما كان من زائر ومسترفد عرضه عليه رقعته فيكون هو الموقع فيها بما
يراه. ولا يكاد أن ينصرف أحد من هذا الجمع العظيم المفرط إلا وهو مسرور
بقضاء حاجته. قال أبو عصمة وكان ممن يتصرف في الأعمال رجل من العرب
له لسان وفصاحة يقال له حامد بن عمرو الحراني، وكان فيه إلحاح شديد
وملازمة تامة إذا تعطل فيؤذي بذلك ويبرم ولا يقنع بذلك حتى يلازم بابه
في كل يوم، وإذا ركب خاطبه على الطريق وبما تعرض له في الدار الخليفة
فيخاطبه ولم يكن في طبع خزيمة الاحتمال لمثل هذا. قال أبو عصمة فحدثني
176

الحسن بن سلمة كاتب خزيمة قال: نظر خزيمة يوما إلى هذا الرجل في داره
وكان لقيه وخاطبه قبل ذلك بيوم وأضجره ووافق من خزيمة ضجرا بشئ
حدث من أمور المملكة مع ما فيه من الجبروتية والكبر فحين خاطبه الرجل
صاح فيه وأمر بإخراجه من داره إخراجا عنيفا ثم دعاني فقال: والله لئن
دخل هذا الرجل داري لأضربن عنقه فأخبره بذلك وحذره، وتقدم إلى
البوابين والحجاب بذلك. وكان خزيمة إذا وعد أو توعد فليس إلا الوفاء
فخرجت إلى البوابين والحجاب وأصحاب المقارع فبالغت في تحذيرهم وعرفتهم
ما قال وأنه حلف أن يضرب أعناقهم وأكدت القصة والوصية بجهدي
مستظهرا لنفسي ومضيت خارج الدار فإذا الرجل واقفا فأعلمته أن دمه
مرتهن بنظرة ينظرها إليه خزيمة في دار السلطان، أو على بابه أو في بعض
الطريق وحذرته تحذيرا شديدا، وخوفته بالله عز وجل في دمه أن لا يجعل
لي نفسه سبيلا فشكرني على تحذيره وانصرف كئيبا. فلما أصبحنا من غد
غدوة إلى دار خزيمة على رسمي في الملازمة فلما دنوت من الباب إذا بالرجل
واقفا كما كان يقف منتظرا لركوبه فعظم ذلك على فقلت يا هذا: أما تخاف الله
عز وجل أتحب أن تقتل نفسك، أما تعرف الرجل؟ فقال: والله ما أتيت هذا
الرجل جهلا منى ولا اغترارا بل أتيته على أصل قوى وسبب وثيق وستري
من لطف الله عز وجل ما يسرك وتعجب منه. قال الحسن بن سلمة فزاد عجبي
منه ودخلت الدار فصادفت خزيمة في صحن الدار يريد الركوب فحين نظر
إلى قال لي ما فعل حامد بن عمرو؟ قلت رأيته الساعة بالباب وقد تهددته فلما
رأيته اليوم بالباب تعجبت من جهله وعوده مع ما أعذرت إليه من الوعيد
وأمرته بالانصراف فأجابني بجواب لا أدرى ما هو فأنا برئ من فعله. فقال:
بأي شئ أجابك؟ فأخبرته فسكت خزيمة وخرج فركب فحين رآه ترجل له
حامد فصاح خزيمة لا تفعل وألحقني إلى دار أمير المؤمنين قال وسرنا ودخل
إلى دار أمير المؤمنين الرشيد ودخلنا معه إلى حيث جرت عادتنا أن نبلغه
معه من الدار فجلسنا فيه ومضى خزيمة يريد دار الخليفة وجاء حامد فجلس
177

إلى فقلت: أصدقني عن خبرك والسبب في جسارتك على خزيمة ولينه لك
بعد الغلظة وعرفته ما جرى بيني وبين خزيمة ثانيا فقال: طب نفسا فما أبدى
لك شيئا إلا بعد بلوغ الامر. فبينما نحن كذلك إذ دعى بحامد بن عمرو وأدخل
إلى حيث كان بأن موسوما يدخل إليه من يخلع عليه فتحيرت فلم يكن بأسرع
من أن خرج وعليه خلع الخليفة، وبين يديه لواء عقده له وقد ولى طريق
الفرات بأسره. فقمت إليه وهنأته وقلت له: ولا الساعة تخبرني الخبر؟ فقال
ما فات شئ وودعني ومضى وأقمت بمكاني إلى أن خرج خزيمة فسرت معه
إلى داره فلما استقر فيها دعاني فسألني عن أمور من خدمته ثم قال: أظنك
قد أنكرت ما جرى في أمر حامد بن عمرو؟ قلت أي والله أيها الأمير، قال
فاسمع الخبر: إعلم انى كنت في نهاية الغيظ عليه فأمرت فيه بما أمرت فلما كان
البارحة رأيت فيما يرى النائم كأنه قائم يصلى ورفع يديه إلى الله عز وجل
يدعو على فكأنه قد وقع في نفسي أنه يريد أن يدعو على قال: فصحت به لا تفعل
وادن منى فانفتل من صلاته فجاء فوقف بين يدي فقلت له ما حملك على أن
تدعو على؟ فقال لأنك أهنتني واستخففت بي وأخرجتني من دارك ذليلا
آيسا وأشمت بي أعدائي ووعدتني بالقتل ظلما، وقطعت أملى في طلب رزقي
وقوتي، فأنا أشكوك إلى الله عز وجل، واستعينه عليك فكأني أقول له
طب نفسا ولا تدع على فإني أحسن إليك غدا وأوليك عملا واستعطفته.
فعجبت من المنام، وعملت أنى ظلمت الرجل وقلت في نفسي شيخ من العرب
وله سن وشرف أسأت إليه بغير جرم، وأرعبته وماذا على إذا لحح في طلب
الرزق، وعلمت أن المنام موعظة في أمره وحث على حفظ النعم ولا أنفرها
بقلة الشكر واستعمال الظلم واعتقدت أن أوليه كما وعدته في المنام فكان
ما رأيت. قال الحسن بن سلمة: فصوبت رأيه في هذا ودعوت وانصرفت
فجاءني من العشى حامد بن عمرو مسلما ومودعا ليخرج إلى عمله فقلت: هات
الآن خبرك؟ قال: نعم انصرفت من باب خزيمة موجع القلب قلقا مرتاعا
فأخبرت عيالي بما جرى فكأنه في داري مأتم عظيم، ولم أطعم أنا ولا عيالي
178

يومى وليلتي طعاما وأمسيت على ذلك، فلما هدأت العيون توضأت واستقبلت
القبلة وصليت ما شاء الله وتضرعت إليه عز وجل ودعوته بإخلاص طوية
وصدق نية وأطلت فحملتني عيني وأنا ساجد في القبلة فرأيت في منامي كأني على
حالي في الصلاة والدعاء وكأن خزيمة بن حازم قد وقف على وأنا أدعو فصاح
بي لا تفعل، وعد إلى فإني أحسن إليك وأوليك. فانتهت مذعورا، وقد قويت
نفسي فقلت أبكر إليه فلعل الله عز وجل أن يطرح في قلبه الرقة لي. فغدوت
إليه فكان ما رأيت فقال الحسن: فكثر تعجبي لاتفاق المنامين وقلت لحامد
لقد أخبرني الأمير بمثل هذا لم يخرم منه حرفا. وبكرت إلى خزيمة وحدثته
الحديث وأحضر حامدا حتى سمع ذلك منه فعجب منه وأمر له بصلة وكسوة
وحملان ولم يزل بعد ذلك متعهدا إكرامه ولا يتعطل * ويقارب هذا الحديث
حديثان: أحدهما حدثني به غير واحد من أهل بغداد أن عطارا من أهل
الكرخ بها كان مشهورا بالستر والأمانة فارتكبه دين وقام عن دكانه ولزم
بيته مستترا وأقبل على الدعاء والصلاة إلى أن صلى ليلة جمعة صلاة كثيرة
ودعا ونام. قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي وهو يقول اقصد على
ابن عيسى وكان إذ ذاك وزيرا فقد أمرته لك بأربعمائة دينار فخذها وأصلح بها
أمرك. قال: وكان على ستمائة دينار، فلما كان من غد قلت: قال النبي صلى الله
وسلم: " من رآني في منامه فقد رآني حقا فان الشيطان لا يتمثل بي " فلم لا أقصد
الوزير قال: فقصدته فما صرت ببابه منعت من الوصول إليه فجلست إلى أن
ضاق صدري وهممت بالانصراف فخرج الشافعي صاحبه وكان يعرفني معرفة
ضعيفة، فأخبرته الخبر فقال يا هذا: الوزير والله في طلبك منذ السحر إلى
الآن، وقد سألني عنك فأنسيتك وما عرفك أحد والرسل مبثوثة في طلبك
فكن بمكانك ورجع ودخل فما كان بأسرع من أن دعا بي فدخلت على على
ابن عيسى فقال: ما اسمك؟ فقلت فلان بن فلان. قال من أهل الكرخ؟
قلت: نعم. فقال يا هذا أحسن الله جزاءك في قصدك إياي فوالله ما تهنأت
بالعيش منذ البارحة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءني البارحة
179

في منامي فقال لي: أعط فلان بن فلان العطار بالكرخ أربعمائة دينار يصلح بها
شأنه فكنت اليوم طول نهاري في طلبك وما عرفك أحد. فقلت: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني البارحة في منامي فقال لي كيت كيت.
قال فبكى علي بن عيسى وقال أرجو أن تكون هذه عناية من رسول الله صل
الله عليه وسلم بي. ثم قال: هاتوا ألف دينار فجاء بها عينا فقال خذ أربعمائة
دينار امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وستمائة دينار هبة منى
لك: فقلت ما أحب أن أزداد على عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإني أرجوا البركة فيه لا فيما عداه. فبكى علي بن عيسى وقال: هذه ألف دينار
فخذ ما بدا لك. فأخذت أربعمائة دينار وانصرفت فقصصت قصتي على صديق لي
وأريته الدنانير وسألته أن يقصد غرمائي ويخبرهم ويتوسط بيني وبينهم ففعل
ذلك فقالوا: نؤخر بالمال ثلاث سنين فليفتح دكانه فقلت لأولئك تأخذون
منى الثلث في كل سنة فأعطيتهم مائتي دينار وفتحت دكاني بالمائتي الباقية فما حال
الحول إلا ومعي ألف دينار، فقضيت ديني كله وما زال مالي يزيد وحالي يصلح
إلى الآن * والآخر حدثني به أبو الحسن علي بن يوسف الأزرق التنوخي،
قال: حدثني أبو القاسم بن مأجور المنجم، قال: حججت فرأيت عند طاهر
ابن يحيى العلوي بالمدينة رجلا خراسانيا كان يحج في كل سنة فإذا دخل المدينة
جاء إلى طاهر بن يحيى فأعطاه مائتي دينار من ماله كانت كالجراية له
منه. فلما كان سنة قبل ذلك جاء يريد داره ليعطيه المال فاعترضه رجل
من أهل المدينة فسب عنده طاهرا وقال: تضيع دنانيرك التي تدفعها
إليه وهذا يأخذ منك ومن غيرك فيصرفه فيما يكرهه الله عز وجل فيفعل
ويصنع؟ وتكلم فيه بكل قبيح قال الخراساني: فلما سمعت ذلك عرضت نفسي
عن دفع شئ إليه وتصدقت بالدنانير وخرجت من المدينة فلم ألقه، فلما كان
في العام الثاني دخلت المدينة فتصدقت بما كنت أريد أن أتصدق به وطويت
طاهرا فلم أمض إليه. فلما كان في العام الثالث تأهبت للحج فرأيت النبي
صلى الله عليه وسلم في منامي وهو يقول: ويحك قبلت في ابني طاهر بن يحيى
180

قول أعدائه، وقطعت عنه ما كنت تبره به؟! لا تفعل واقصده بما فاته ولا
تقطعه عنه ما استطعت. قال: فانتبهت فزعا ونويت ذلك وأخذت صرة
فجعلت فيها ستمائة دينار وحملتها معي فلما صرت بالمدينة بدأت بدار طاهر
فدخلت وجلست ومجلسه حافل، فلما رآني قال يا أبا فلان: لو لم يبعث بك
إلينا ما جئت فتغافلت عنه، وقلت: ما معنى هذا الكلام أصلحك الله؟ قال
قبلت في قول عدو الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وعدوى، وقطعت
عادتك حتى لامك رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامك، وأمرك أن تعطيني
الستمائة دينار هاتها، ومد يده إلى فتداخلني من الدهش ما ذهلت معه. فقلت:
أصلحك الله هكذا والله كانت القضية فما علمك بذلك؟ قال: إنه بلغني خبر دخولك
المدينة في السنة الأولى فلما خرج الحاج ولم تجئني أثر ذلك في حالي. وسألت
عن القضية فعرفت أن بعض أعدائنا لقيك فسبني عندك فألمني ذلك. فلما
كان في الحول الثاني بلغني دخولك وأنك قد عملت على قوله في فازداد بذلك
غمي، فلما كان منذ شهور ازدادت إضاقتي وامتنع النوم على غما بما دفعت
إليه ففزعت إلى الصلاة فصليت ما قضى لي ودعوت الله سبحانه وتعالى
بالفرج مما أنا فيه، ونمت في المحراب، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في
منامي وهو يقول: لا تغتم فقد لقيت فلانا الخراساني وعاتبته على قبوله فيك
قول أعدائك، وأمرته أن يحمل إليك ما فاتك لسنتين، ولا يقطع عنك بعدها
ما استطاع. فحمدت الله عز وجل وشكرته فلما رأيتك الآن علمت أن المنام
جاء بك. فأخرجت الصرة التي فيها ستمائة دينار فدفعتها إليه وقبلت رأسه وبين
عينيه وسألته أن يجعلني في حل من قبول قول ذلك الرجل فيه.
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي الموصلي قال:
كانت في شارع دار الرقيق ببغداد جارية علوية أقامت مزمنة نحو خمس
عشرة سنة وكان أبى أيام نزولنا من هذا الشارع في دار شفيع المقتدري التي
كان اشتراها يتفقدها ويبرها، وكانت مسجاة لا تنقلب من جنب إلى جنب
حتى تقلب، ولا تقعد حتى تقعد، وكان لها من يخدمها في ذلك وكانت فقيرة
181

لا قوت لها هي وخادمتها إلا مما تبرها الناس، فلما مات أبى اختل أمرها،
وبلغ تجنى جارية الوزير المهلبي خبرها فكانت تقوم بأمرها، وأجرت عليها
جرابة في كل شهر وكسوة في كل سنة. قال فباتت ليلة من الليالي على حالها
تلك. ثم أصبحت من غد وقد برئت، ومشت، وقامت. وقعدت، وكنت
مجاورا لها فكنت أرى الناس يتناوبون باب دارها فأنفذت امرأة من داري
ثقة تعرفها حتى شاهدتها وسمعتها تقول: إني ضجرت من نفسي ضجرا شديدا،
فدعوت الله عز وجل طويلا بالفرج مما أنا فيه أو بالموت، وبكيت بكاء متصلا
وبت وأنا قلقلة متألمة ضجرة وكان سبب ذلك: أن الخادمة تضجرت
وخاطبتني بما ضاق منه صدري فلما استثقلت في نومي دخل على رجل
فارتعدت منه وقلت: يا هذا كيف تستحل أن تراني؟ فقال أنا أبوك فظننته
أمير المؤمنين. فقلت: يا أمير المؤمنين ما ترى ما أنا فيه؟ فقال: أنا أبوك
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكيت، وقلت يا رسول الله: ادع لي
بالعافية. قال فحرك شفتيه بشئ لم أفهمه ثم قال: هاتي يديك فأعطيته يدي،
فأخذها وجذبني بهما فقمت، فقال لي: أمشي على اسم الله تعالى. فقلت:
كيف أمشى؟ فقال: يديك فأخذهما وما زال يمشى وهما في يديه ساعة.
ثم أجلسني حتى فعل بي ذلك ثلاث مرات، ثم قال: قد وهب الله عز وجل
لك العافية فاحمديه واتقيه، وتركني ومضى. فانتبهت وأنا لا أشك أنه واقف
لسرعة المنام. فصحت فظنت الجارية أنى أريد البول فتثاقلت. فقلت:
ويحك أسرجي السراج فانى رأيت النبي صلى الله عليه وسلم. فانتبهت المرأة
فوجدتني مسجاة فشرحت لها المنام. فقالت: أرجو أن يكون الله عز وجل
قد وهب لك العافية هاتي يديك فأعطيتها يدي فأجلستني. ثم قالت لي: قومي
فقمت معها ومشيت متوكئة عليها ثم جلست وفعلت ذلك ثلاث مرات.
الأخيرة منهن مشيت وحدي فصاحت الخادمة سرورا بالحال وإعظاما لها
فقدر الجيران أنى قدمت فجاؤني فقمت ومشيت معهم. قال أبو محمد: وما
زالت قوتها تزيد إلى أن رأيتها قد جاءت إلى والدتي في خف وإزار بعد
أيام ولا قلبة بها فبررتها وهي باقية وهي من أصلح النساء. وأورعهن
182

من أهل زماننا، وقد زوجت من رجل علوي موسر وصلحت حالها ولا
تعرف الآن إلا بالعلوية المزمنة، ومضى على هذا الحديث شهور كثيرة
فجرى بيني وبين أبى بكر محمد بن عبد الرحمن بن فريعة مذاكرة بالمنامات
فحدثني بحديث منام هذه العلوية وقصتها وعلتها على ما حدثني به أبو محمد بن فهد،
قال: قال لي أبو بكر: أنا كنت أحمل إليها جرايتها من عند تجنى جارية
الوزير أبى محمد المهلبي وكسوتها على طول السنين. وسمعت منها هذا المنام
ورأيتها تمشى بعد ذلك صحيحة بلا قلبة وتجئ إلى تجنى وتجنى زوجتها من
العلوي، وأعطتني مالا قمت منه بتجهيزها وأمرها حتى اعرس بها زوجها.
وهي الآن من خيار النساء.
قال مؤلف هذ الكتاب: وحدثني بهذا الحديث جماعة أسكن إليهم من
أهل الشارع دار الرقيق بخبر هذه العلوية على مثل هذا وهي باقية إلى الآن
وآخر معرفتي بخبرها في سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة ولا تعرف الآن إلا
بالعلوية الزمنى * حدثني أبو محمد يحيى بن فهد الأزدي الموصلي، قال: سمعت
أبا القاسم السعدي يحدث أبى رحمه الله قال: كنت وأنا حدث السن مشغوفا
بغلام لي شغفا شديدا وكنت منهمكا على الفساد، وكان ربما هجرني فأترضاه
بكل ما أقدر عليه حتى يرضى (قال): وانه غضب على مرة عضبا شديدا
وهرب واستتر عنى حتى لحقني من الحيرة والوله ما قطعني عن النظر في أمرى،
واجتهدت في صرف ذلك عنى فلم ينصرف، وحضر وقت خروج الناس إلى
الحائر على ساكنة أفضل الصلاة والسلام فكتبت رقعة أسأل الله الفرج مما
أنا فيه ودفعتها إلى بعض من خرج وسألته أن يدفعها في ناحية من القبر
واتت ليلة النصف من شعبان ففزعت إلى الله عز وجل في كشف ما بي،
وصليت ودعوت، ثم غلبني النوم فرأيت في منامي كأنني في مقابر قريش
والناس مجتمعون فيها إذ قيل جاء الحسين بن علي، وفاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم للزيارة فتشوقت لرؤيتهما، فإذا بالحسين رضي الله عنه
في صورة كهل، وعليه دراعة وعمامة ومعه فاطمة عليهما السلام متنقبة بنقاب
بياض، فاعترضت الحسين رضي الله عنه وقلت له يا ابن رسول الله: كتبت
183

إليك رقعة في حاجة لي أسألك فان رأيت أن تعمل فيها. فلم يجبني ودخل
القبة بالمدفن ودخلت فاطمة وكأن قوما قد وقفوا يمنعون الناس من الدخول
إليهما. فلم أزل أتوصل إلى أن دخلت. فأعدت الخطاب عليه فلم يجبني،
فقلت يا سيدة: إني رأيت على أن تعملي في أمرى. فقالت على أن تتوب.
قلت: نعم. فقالت: قل الله. فقلت الله. فكررت على ثلاثا أومأت إلى
جماعة ممن كانوا قياما ودفعت إليهم خاتما كان في يدها وكلمتهم بما لم أفهمه
فحملوني حتى غبت عنهما، ثم حلوا سراويلي وشدوا ذكرى بخيط شدا
قويا ثم وضعوا عى الشد طيبا وختموه بالخاتم فورد على من الألم ما أنبهني
فانتبهت وأثر الخيط في الموضع، وصار أثر الختم كالجدري مستديرا حول
الموضع ثم قال: ان شئت كشفت لك فأريتك فقد أريته لجماعة. فقلت إني
لا أستحل النظر إلى ذلك. قال السعدي فأصبحت من غد ولم يبق في قلبي شئ
من الغلام فاشتريت الجواري وكنت لا أنكر من جماعي شيئا. ثم طالبتني
نفسي بالغلمان وغلبتني الشهوة فاستدعيت غلاما فلم أقدر عليه وبطل العضو قال
فلما فارقته أتعظت، فعاودته فاسترخى. فجربت ذلك مع عدة غلمان فكانت
صورتي واحدة فجددت التوبة بعد ذلك وما نقضتها إلى الآن.
حدثنا أبو علي الحسين بن محمد الأنباري الكاتب، قال: كان ابن الفرات
يتتبع أبا جعفر بن بسطام بالأذية، ويقصده بالمكاره فلقى منه في ذلك شدائد
كثيرة، وكانت أم أبى جعفر محمد قد عودته مذ كان طفلا أن تجعل في كل
ليلة تحت مخدته التي ينام عليها رغيفا، فإذا كان من غد تصدقت به عنه، فلما
مضت مدة من أذية ابن الفرات له دخل إلى ابن الفرات في شئ احتاج إليه
فيه. فقال ابن الفرات يا أبا جعفر: لك مع أمك حبر في رغيف؟ فقال: لا.
قال لابد أن تصدقني. فذكر أبو جعفر الحديث فحدثه به على سبيل التطاير
بأحوال النساء فقال ابن الفرات: لا تفعل فإني بت البارحة وأنا أدبر عليك
أمرا لو تم لاستأصلتك، ونمت فرأيت في منامي كأن بيدي سيفا مسلولا،
وقد قصدتك فاعترضتني أمك بيدها رغيف تترسك به منى فما وصلت إليك
184

وانتبهت. فعاتبه أبو جعفر على ما كان بينهما، وجعل ذلك طريقا على
استصلاحه، وبذل له من نفسه ما يريده ولم يبرح حتى أرضاه وصارا صديقين.
وقال له ابن الفرات: لا رأيت بعدها منى سوءا ما عشت أبدا * وروى عن
محمد بن علي بن يونس عن أبيه أنه كتب لرجاء بن أبي الضحاك وهو بدمشق،
وان علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ كان يتقلد خلافة خمار تكين على المعونة
على دمشق، فوثب على رجاء فقيده وقبض على جماعة من أسبابه وأمر بحبسي
فحبست في يدي سجان كان جارا لي، وكان يأتيني بالخبر ساعة بعد ساعة.
فدخل إلى وقال: اخرج والله رأس صاحبك رجاء على قناة، ثم جاءني وقال:
قد قتل مطببه، ثم جاءني فقال: قد قتل ابن عمه، ثم جاءني فقال: قد قتل
كاتبه الآخر فلان، ثم قال: الساعة يدعى بك لتقتل. فلما سمعت ذلك نالني
جزع شديد وخرج السجان وقفل الباب ودعى بي فدافع عنى وقال: مفتاح
القفل مع شريكي والساعة يحضر، فنالني في تلك الساعة نعاس فرأيت في
منامي كأني ارتمطت في طين كثير، وكأني قد خرجت وما بلت قدمي واستيقظت
وتأولت الفرج، وسمعت حركة شديدة فلم أشك أنها لطلبي فعاودني الجزع،
فدخل السجان وقال ابشر: فقد أخذ الجند علي بن إسحاق فحبسوه، فلم البث
حتى جاءني الجند فأخرجوني وجاءوا بي إلى مجلس علي بن إسحاق الذي كان
فيه جالسا وقدامه دواية وكتاب قد كان كتبه إلى المعتصم في تلك الساعة
يخبره بخبر قتله رجاء وجعل له ذنوبا ولنفسه معاذير ويسمى رجاء المجوسي
الكافر. فحرقت الكتاب وكتبت بالخبر كما يجب إلى المعتصم من نفسي وما
أجرى إليه علي بن إسحاق وأنفذت الكتاب، ولم أزل أدبر العمل حتى تسلم
منى وحمل إلى المعتصم فحبس حبسا طويلا، وأظهر الوسواس وتكلم فيه
أحمد بن أبي داود فأطلق * وجدت في بعض الكتب أن المنصور استيقظ
من منامه ليلة من بعض الليالي وهو مذعور لرؤيا رآها فصاح بالربيع وقال
له: صر الساعة إلى الباب الذي يلي باب الشام فإنك ستصادف هناك رجلا
مجوسيا مستندا إلى الباب الحديد فجئني به. فمضى الربيع مبادرا وعاد والمجوسي
معه. فلما رآه المنصور قال: نعم هو هذا ما ظلامتك؟ فقال: إن عاملك بالأنبار
185

جاورني في ضيعتي فساومني أن أبيعه إياها فامتنعت لان معيشتي منها، وقوت
عيالي. فغصبني عليها. فقال له المنصور: فأي شئ دعوت به قبل أن يصل
إليك رسولي؟ قال قلت: اللهم إنك حليم ذو أناة ولا صبر لي على أناتك.
فقال المنصور للربيع: أشخص إلى هذا العامل وأحسن أدبه وانتزع الضيعة من
يده وسلمها إلى هذا المجوسي وابتع من العامل ضيعته وسلمها إليه أيضا ففعل
الربيع ذلك كله في بعض نهار وانصرف المجوسي وقد فرج الله عنه وزاده
وأحسن إليه * وجدت في كتاب حديث القاسم بن كرسوع صاحب أبى جعفر
بخبره وقال: إن ابن أبي عون صاحب الشرطة قد وعد مخبره أن يجيئه للإقامة
عنده والشرب مصطبحا على ستارته في يوم ثلاثاء فأبطأ عنه وتعلق قلب مخبره
بتأخره فبعث غلاما له في طلبه وتعرف خبره فعاد إلى مخبره، وقال: وجدته
في مجلس الشرطة يضرب رجلا بالسياط وقد ذكر أنه يجئ الساعة. فلما
كان بعد ساعة جاء ابن أبي عون. فقال له أبو جعفر: قد وعدتني ببكورك
وشغلتني بتأخرك فما سبب ذلك؟ فقال إني رأيت البارحة في منامي كأني بكرت
بليل لأجيئك وليس معي سوى غلام واحد، فسرت في خراب إسحاق بن
إبراهيم بن مصعب لاجئ إلى رحبة الجسر فإني لأسير في القمر إذ رأيت
شيخا بهيا نظيف الثوب وعلى رأسه قلنسوة لاطية وفى يده عكاز فسلم على
وقال: إني أرشدك على ما فيه مثوبة لك. في حبسك شيخ مظلوم وافى البارحة
من المداين في وقت ضيق فإنهم أنه قتل رجلا وهو برئ من دمه وقد ضرب
وحبس، وقاتل الرجل غيره وهو في غرفة وسطى من ثلاث غرف مبنية
على طاق التك بالكرخ واسمه فلان بن فلان ابعث من يأخذه فإنك ستجده
عريان سكران وفى يده سكين مخضبة بدم، فاصنع ما ترى به وأطلق الشيخ
البائس. فقمت فانتبهت فركبت وسرت حتى وافيت رحبة الجسر فقلت
ما حدث في هذه الليلة؟ فقالوا: وجدنا هذا القتيل وهذا الشيخ معه فضربناه
فلم يقر فرأيت به أثر ضرب عظيم فسألته عن خبره. فقال أنا معروف
بالمداين بسلامة الطريقة ومعاشي التغيح أنفذني فلان بن فلان إلى فلان بن
186

فلان من أهل بغداد بهذه الكتب فأخرج إضبارة فدخلت وقت العتمة أوائل
بغداد فوجدت في الطريق رجلا مقتولا فخرجت ولم أدر أين آخذ فأنا على
حالي إذ أدركني الأعوان فظنوني قتلته، والله ما أعرفه ولا رأيته قط، ولا
أدرى من هو ولا من قتله. ولا قتلت أحدا قط وقد ضربوني وحبسوني
فالله الله في دمى. فقلت قد فرج الله عنك. انطلق حيث شئت ثم أخذت
الرجالة ومضيت إلى طاق التك فوجدت الغرف مصفة كما وصف الشيخ
فهجمت على الوسطى فإذا رجل سكران عليه سراويل فقط، وفى يده سكين
مخضبة بالدم وهو يقول أخ عليك نعم يا سيدي أنا جرحته ابن القحبة،
وإن مات فأنا قتلته فأنزلته مكتوفا وبعثت به إلى الحبس وانحدرت إلى
الموفق فحدثته الحديث فتعجب منه وتقدم إلى أن اضرب القاتل بالسياط
إلى أن يتلف، وأصلبه في موضع جنايته فتشاغلت بذلك إلى أن فرغت
ثم جئتك.
حدثني محمد بن علي بن إسحاق قال: خرجت مع أبي وهو يكتب لمحمد بن
القاسم الكرخي المكنى بأبي جعفر لما تقلد الموصل والديارات، وكان قد
ضم إلى أبى جعفر جماعة من قواد السلطان فلما صرنا بنصيبين كان أبى قد مضى
وأنا معه إلى أبى العباس أحمد بن كشمرد مسلما عليه فتحدثا فسمعته يحدثه
قال: لما أسرني أبو طاهر القرمطي فيمن أسره بالهبير فحبسني، وأبا الهيجاء،
والغمر في ثلاث حجر متقاربة ومكننا من أن نتزاور ونجتمع على الحديث
فمكن أبا الهيجاء خاصة واختص به وعمل على إطلاقه وشفعه في أشياء
فسألت أبا الهيجاء أن يسأله إطلاقي فوعدني واستدعاه القرمطي. فمضى إليه
وعاد إلى حجرته فجئت وسألته هل خاطبه فدافعني فقلت لعلك أنسيت فقال:
لا والله ولوددت أنى ما ذكرتك له إني وجدته متغيظا عليك. فقال والله
لأضربن عنقه عند طلوع الشمس في غد، ورحل أبو الهيجاء فورد على أمر
عظيم وعدت إلى حجرتي وقد يئست من الحياة فلما كان في الليل رأيت في منامي
كأن قائلا يقول لي اكتب في رقعة " بسم الله الرحمن الرحيم من العبد الذليل،
187

إلى المولى الجليل، مسني الضر والخوف وأنت أرحم الراحمين. فبحق محمد
وآل محمد اكشف همى، وحزني وفرج عنى ". واطرح الرقعة، في هذا النهر
وأومأ إلى ساقية كانت تجرى هناك في المطبخ فانتهت من نومي وكتبت الرقعة
وطرحتها في الساقية فلما كان السحر استدعاني القرمطي فلم أشك أنه القتل. فلما
دخلت إليه أدناني وأجلسني وقال: قد كان رأيي فيك غير هذا إلا أنى قد رأيت
تخليتك فخرجت فإذا على الباب راحلة ورجل يصحبني فركبت ودخلت البصرة
سالما ولحقت أبا الهيجاء بها فدخلنا معا إلى بغداد * وقال أبو الحسن على
ابن زكى. قال: كنت مع صاحبي عيسى البوسري وكان مضافا لمحمد بن سلمان
الكاتب على حرب الطولونية إلى أن افتتحت مصر فتقلد قال: قال عيسى خرج
يوما محمد بن سليمان إلى ظاهر الفسطاط فانتهى به السير إلى قبة كانت لأحمد
ابن طولون يقال لها قبة الهواء مطلة على النيل وعلى البر فجلس فيها ومعه الحسين
ابن حمدان، وجماعة من القواد ثم قال: الحمد لله الذي بيده الامر كله يفعل
ما يشاء. فقال له: الحسين بن حمدان لا شك أن تجديدك الحمد لأمر؟ قال:
نعم. وهو عجيب ظريف ذكرته الساعة وهو أنى نزعت إلى مصر وأنا في حال
رثة في زي صغار الاتباع فضاق على المعاش بها فاتصلت بلؤلؤ الطولوني
فأجرى على دينارين في كل شهر، وصيرني مشرفا في اصطبله على كراعه
فكنت هناك من حيث لا يعرف وجهي جيدا ولا أقدم على الوقوف بين
يديه، فلما كان بعض الأيام أحضرني فقال: ويحك من أين يعرفك الأمير؟ يعنى:
أحمد بن طولون. فقلت: والله ما رآني قط ولا وقعت عينه على إلا في الطريق
ولا محلى محل من يتصدى للقائه. فقال دعاني الساعة وهو في قبة الهواء فقال: معك
رجل أشقر أشهل يقال له محمد بن سليمان. فقلت: ما أعرفه فقال: بل هو في
جنبتك فأبعده عنك فإني رأيته البارحة وفى يده مكنسة يكنس داري بها.
فتوق ويحك ولا تتعرف إلى أحد من حاشيته وأقرني على أمري فامتثلت
أمره ومضت لهذا الحديث شهور ثم دعاني ثانية فقال: ويحك ماذا بليت
به منك وبليت أنت به من هذا الأمير دعاني بعدة من أصحاب الرسائل
188

فوافيته وأنا في غاية الوجل فقال: أليس أمرتك بصرف محمد بن سليمان
الأزرق الأشقر. فقلت: قد عرفتك يا سيدي أنى ما استخدمت من هذه
سبيله. ولا وقعت لي عليه عين. فقال لي: كذبت وهو معك في اصطبلك
فأخرجه عن البلد الساعة، فانى رأيته في النوم أيضا وفى يده مكنسة وهو يكنس
بها سائر دورى وحجري ونسأل الله الكفاية. فقلت للؤلؤ أي ذنب لي
يا سيدي في الأحلام؟ فقال لي صدقت فاستتر إلى أن يتناسى الأمير ذكرك
وكان يجرى على رزقي في كل شهر وأنا لا أعمل شيئا فلما تهيأ من إنفاذ لؤلؤ
إلى الشام ما تهيأ نهضت معه وتخلف عنه كتابه لما كانوا علموا من تغيير حاله عند
صاحبه فأدناني وقربني واجري على عشرة دنانير في كل شهر وحملني على دابة
فلزمت خدمته ولقيته واستحمدت إليه فزادني من رأيه ولم ينتبه أحمد بن
طولون من استيحاش لؤلؤ فكتب له بالرجوع إلى مصر، فشاورني فأشرت
إليه بالانحدار إلى نواحي ديار مصر وأخذ كل ما استخف نيله من المال.
ولم أترك غاية إلا أتيتها في تضريته وتأليبه حتى أوردته مدينة السلام. ثم
تقلبت بي الأحوال في خدمة السلطان وخدمة الدولة وتوفى أحمد بن طولون
وحبس ابنه وقتل أبو الجيش وتولى بعدهم هارون بن خمارويه بن أحمد وضم
لي القواد والرجال وكان فيهم لؤلؤ صاحبي وكان أصغرهم حالا، فلم أقصر
في صلاح حاله والاحسان إليه ومعرفة حقه فلم ادن من الشام حتى تلقاني
بدر الحمامي مطيعا، وتلاه طغج بن حف مسرعا وصرت إلى مصر فلما
شارفتها وثب شيبان بن أحمد بن طولون ومن معه من جند مصر فقتلوا
هارون وتولى شيبان الامر أياما وانثال إلى القواد في الأمان ولحق بهم
شيبان وتخلف الرجالة وقطعة من الفرسان، وأظهروا الخلاف فأوقعت بهم
وأفنيتهم قتلا وأسرا، ودخلت الفسطاط عنوة وحويت النعم والمهج
وأشخصت الطولونية من البلد إلى الحضرة حتى لم يبقى فيها منهم أحد وصح
بذلك منام أحمد بن طولون فسبحان الذي ما شاء فعل، وإياه نسأل خير ما تجرى
به أقداره، وأن يختم لنا بخير رحمته.
189

حدثني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر الكاتب المعروف بالببغاء قال:
اعتللت بحلب علة خف منها بدني كله فكنت كالخشبة لا أقدر أن أتحرك،
ونحل جسمي وتقلبت في إغلال متصلة متضادة وأنا من هذا ألقى خلف
فراش ثلاث سنين متواليات وآيس الأطباء من برئي، وقطعوا مداواتي وكان
لي صديق يعرف بأبي الفرج بن دارم من أهل بلدي يعنى نصيبين مقيم بحلب
يلازم عيادتي وكان لفرط اغتمامه بي وان الأطباء أيسوا منى يظهر لي حزنا
يؤلم قلبي ويؤيسني من نفسي ويجاوز ذلك إلى التصريح لي باليأس. وتوطيني
ثم تعدى هذا إلى أن صار لا يملك دمعته إذا خاطبني فضعفت عن تحمل ذلك،
وتضاعفت به علتي وخارت معه قوتي فاعتقدت أن أقول لغلامي أن يترصده
فإذا جاء ليدخل على قال له عنى أنى لا أستحسن حجابه، وإن علتي قد تضاعفت
بما أشاهده واسمع من خطابه، ويسأله أن ينقطع عنى أو يقطع مخاطبتي بما
فيه إياسي، وقررت عزمي على ذلك في ليلة من الليالي ولم أخاطب به غلامي.
فلما كان في صبيحة تلك الليلة باكرني ابن أبي دارم فحين وقعت عيني عليه
تثاقلت به خوفا من أن يسلك معي مذهبه، وهممت أن أفتتح مخاطبته بما كنت
عزمت على مراسلته به فسبقني بأن قال لي: قد جئتك مبشرا فقلت بماذا؟
قال: رأيت البارحة كأني بالرقة والناس يهرعون إلى زيارة قبور الشهداء.
فقال أبو الفرج: وهم ممن قتلوا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
بصفين منهم عمار بن ياسر رضي الله عنه، وحملوا إلى ظاهر الرقة فدفنوا
بها والحال في ذلك مشهور والقبور إلى الآن مغشية معمورة، فقال ابن أبي
دارم: ورأيت كأن أكثر الناس مطيفون بقبة فسألت عنها. فقيل لي:
قبر عمار بن ياسر. فقصدتها وأطلعت فيها فإذا القبر مكشوف وفيه رجل
شيخ جالس بثياب بيض وفى رأسه ضربات بينة دامية، وعلى لحيته دم والناس
يقولون: هذا عمار بن ياسر. وكأني سلمت عليه والناس يسألونه فيجيبهم.
فلحقتني حيرة ولم أدر عما أسأله. فقلت يا سيدي: لعلك عارف بأبي الفرج
عبد الواحد بن نصر المخزومي المعروف بالببغاء قال: أنا عارف به. قلت:
أتعرف ما به من الجهد والبلاء بالعلة الطويلة؟ فقال: نعم. قلت: أفيعيش
190

ويبرأ أم لا؟ فقال: يعيش ويبرأ، ولكن أنت لك ابن الحذر عليه من علة
تلحقه قريبا واستيقظت. قال: وأخذ يهنيني بالعافية ويقول قد سرني لك
ما جرى، ولكن قد أوحشني في أمر ابني فاسأل الله الكفاية. قال أبو الفرج
وكان للرجل ابن عمره نحو الثلاثين سنة وهو في الحال معافى فلما مضت خمسة
أيام من الرؤيا حم الفتى فقويت نفسي في صحة المنام وما مضت إلا أيام يسيرة
حتى مات الفتى وأدبر مرضى، ولم تزل العافية تتزايد إلى أن قويت وعاودت
إلى عادتي بعد مدة قريبة * وجدت في بعض الكتب أنه لما اشتدت الحرب
بين الإسكندر وبين دار ابن دارا استظهر دارا عليه فأشرف الإسكندر
على الهلاك وآيس من النصر وحال المساء بينهما فانصرف الإسكندر إلى
معسكرة قلقا مغموما متحيرا مهموما عامة ليلته ثم نام فرأى في منامه كأنه صارع
دارا فصرعه دارا، فانتبه وقد زاد همه وغمه فقص رؤياه على بعض فلاسفته.
فقال: إبشر أيها الملك بالغلبة والنصر وإنك تملك على دارا الأرض لأنك
كنت قلبها لما صرعك. فلما كان بعد أيام يسيرة انهزم دارا وقتل وجاؤا برأسه
إلى الإسكندر وملك ممالكه.
قال مؤلف هذا الكتاب رحمه الله: ومثل هذا مشهور في روايات أصحاب
السير والاخبار أن عبد الله بن الزبير رأى في منامه كأنه صارع عبد الملك بن
مروان فصرع عبد الملك وسمره في الأرض بأربعة أوتاد فأرسل راكبا
إلى البصرة وأمره أن يلقى ابن سيرين ويقص الرؤيا عليه ولا يذكر له من
أنفذه ولا يسمى عبد الملك، فسار الراكب حتى أناخ بباب ابن سيرين فقص
عليه المنام فقال له ابن سيرين من رأى هذا؟ فقال: أنا رأيته في رجل بيني
وبينه عداوة. فقال ليس هذه رؤياك هذه رؤيا ابن الزبير، أو عبد الملك
ابن مروان أحدهما في الآخر فسأله الجواب. فقال: ما أفسرها أو تصدقني
فلم يصدقه فامتنع من التفسير وانصرف الراكب إلى ابن الزبير فأخبره بما
جرى. فقال له: أرجع إليه فأصدقه إني رأيتها في عبد الملك. فرجع الراكب
إلى ابن سيرين برسالة ابن الزبير فقال له: قل له أيها الأمير عبد الملك يغلبك
191

على الأرض، ويلي هذا الامر من ولده لصلبه بعده أربعة بعدد الأوتاد التي
سمرته بها في الأرض * قال: وحدثني أبو القاسم الحسين بن بشر الأدمدي
الكاتب المقيم بالبصرة إلى أن مات بها قال: لما سعى أبو أحمد طلحة بن
الحسين بن المتنبي مع جيش أبى القاسم بن أبي عبد الله اليزيدي في أن يقبضوا
عليه ويحبسوه عند أبي أحمد وأن يرد المطيع لله أو جيش له بالبصرة
فيملكوها ويتسلموا منه أبو القاسم اليزيدي وكانت القصة مشهورة في ذلك،
فبلغتني فخلوت بأبي أحمد وكنت أكتب له حينئذ وكان لا يحتشمني في أموره
ونبهته على هذا الرأي، وعرفته وجوه الغلط عليه، والغلط في ذلك والمخاطرة
والغدر بدمه ونعمته وهو غير قابل لمشورتي إلى أن أكثرت عليه. فقال لي:
إعلم أنى رأيت رؤيا وأنا بها واثق في تمام ما شرعت فيه من القبض على هذا
الرجل. فعجبت من نفسي في رجل يخالف الحزم الظاهر، والرأي الواضح
من أجل منام ثم قلت له: ما الرؤيا؟ قال: رأيت كأن حية عظيمة قد خرجت
على من حائط هذا العرض. قال: وكان جالسا في عرض ذكره قال: وكأني
قد رميتها فأثبتها في الحائط فذكرت تأويل ابن سيرين لمنام ابن الزبير وقص
المنام الذي ذكرته. قال فسبق إلى قلبي تأويل منام أبى أحمد أنه قد أثبت
عدوه في حائطه وأنه سيغلبه على البلد. فأمسكت وقطعت الكلام. فما مضت
مدة يسيرة حتى شاع التدبير وصح الخبر عند القاسم اليزيدي فبادر بالقبض
على فائق الأعسر، وكان هو الذي ندبه أبو أحمد للقبض على اليزيدي، وأن
يكون أمير البلد إلى أن يرد جيش الخليفة فقرره فأقر بالخبر على شرحه فقبض
أبو القاسم على أبى أحمد بعد قبضه على فائق بيومين أو ثلاثة أيام فاستصفاه
وأهله وولده ثم قتله بعد ذلك بأيام.
بلغني عن إبراهيم بن المهدى أنه قال: كنت في جفوة شديدة من أخي
الرشيد أثرت في جاهي، ونقصت حالي وأفضيت معها إلى الإضافة بتأخر رزقي
وظهور اطراحه إياي، واختلت لذلك ضيعتي، وركبني دين فادح فبلغ منى
القلق بذلك والفكر فيه ليلة من الليالي مبلغا شديدا، ونمت فرأيت في منامي
192

كأني واقف بين يدي المهدى وهو يسألني عن حالي وأنا أشكو إليه ما نكبني
به الرشيد وأنهيت حالي إليه وأقول: ادع عليه يا أمير المؤمنين فكأنه يقول:
اللهم أصلح ابني هارون. يكررها فكأني أقول له يا أمير المؤمنين: أشكو
إليك ظلم هارون لي وأسألك أن تدعو عليه فتدعو له. فقال لي: وما عليك
إذا أصلحه الله لك وللكافة أن يبقى على حاله هو ذا أمضى إليه الساعة وآمره
أن يرجع لك ويقضى دينك ويوليك جند دمشق فكأني أومى إليه بسبابتي
وأقول له دمشق. دمشق استقلالا لها؟! فكأنه يقول حركت مسبحتك استقلالا
لدمشق انها رؤيا. وكيف قل حظك منها كان في العاقبة أجود لك.
فانتبهت وأحضرت مؤدبا كان لي في أيام المهدى فسألته عن المسبحة فقال:
كان عبد الله بن العباس يسمى السبابة بالمسبحة فما سبب سؤالك أيها الأمير
عنها؟ فقصصت عليه الرؤيا وأمتنع النوم عنى، فأخذ يحدثني وأنا جالس في
فراشي إذ جاءني رسول الرشيد فارتعت له ارتياعا شديدا ولم أعبأ بالمنام،
وخفت أن يكون يريدني بسوء يوقعه بي فخفت وقلت أدافعه إلى أن تطلع
الشمس ثم أدخل عليه نهارا فإن كان أراد بي غيلة لم تتم. فتقاطرت رسله
حتى أعجلوني عن الرأي واضطروني إلى الركوب في الحال فدخلت عليه
وأنا شديد الجزع، وهو جالس في فراشه ينتحب فلما رآني قال سألتك بالله
يا أخي هل رأيت الليلة في منامك شيئا؟ قلت: نعم. الساعة رأيت المهدى
فلما قلت له ازداد بكاؤه. ثم قال ويحك: بالله شكوتني إليه وسألته أن
يدعو على. قلت كان ذلك، ولكنه قال: كذ، وكذا. وشرحت عليه
ما قال. فقال: والله الساعة جاءني في منامي فقص على ما ذكرت. وقد وفى
بعهده، والله لأمتثلن أمره ولأصلن رحمي منك، كم دينك؟ قلت: كذا.
وكذا. فأمر بقضائه وقال: لا تبرح حتى أصلى وأعقد لك على دمشق.
فانتظرت حتى وجبت الصلاة فاستدعاني فأظهر تكرمتي، وعقد لي لواء على
دمشق، وأمر الناس فصاروا معي إلى منزلي فعاد جاهي وصلحت حالي *
وقال: حدثني أبو القاسم طلحة بن محمد الشاهد، قال: حدثني أبو الحسين
193

عبد الواحد بن محمد الحصبي، قال: حدثني أبو الفضل ميمون بن مهران، قال:
حدثني موسى بن عبد الملك، قال: رأيت في منامي وأنا في الحبس قائلا يقول
هذه الأبيات:
لا زلت تعلو بك الجدود * نعم وحفت بك السعود
ابشر فقد نلت ما تريد * بيد أعدائك المبيد
لم يمهلوا ثم لم يقالوا * والله يأتي بما يريد
فاصبر فصبر الفتى حميد * واشكر ففي شكرك المزيد
فانتبهت وقد طفئ السراج فطلبت شيئا حتى كتبت الأبيات على الحائط
وأصبحت وقد قويت نفسي وأطلقت بعد مدة يسيرة.
وقال: وذكر المدايني في كتابه " الفرج بعد الشدة والضيقة " قال: توبة
العنبري: أكرهني يوسف بن عمر على العمل، فلم رجعت حبسني حتى لم
يبق في رأسي شعرة سوداء فأتاني آت في منامي وعليه ثياب بيض فقال
يا توبة: أطالوا حبسك؟ فقلت: أجل. فقال: سل الله العفو والعافية في
الدنيا والآخرة ثلاثا، فاستيقظت فكتبتها، ثم توضأت وصليت ما شاء الله، ثم
جعلت أدعو حتى وجبت الصلاة للصبح. فصليتها فجاء حرسي فقال: أين توبة
العنبري، ثم حملني في قيودي وأنا أتكلم بهن فلما رآني يوسف بن عمر أمر
بإطلاقي. قال توبة العنبري: وكنت علمتها وأنا في السجن رجلا فقال لي: لم ادع
إلى عذاب قط فقلتهن إلا خلى عنى. فجئ بي يوما إلى العذاب فجعلت أتذكرها
ولا أذكرها حتى جلدت مائة سوط، ثم ذكرتهن بعد فدعوت بهن فخلى
سبيلي * وروى المدايني أيضا في كتابه عن أبي المثنى علي بن القاسم، قال:
حدثني رجل، قال: رأيت في أيام الطاعون في المنام أنهم أخرجوا من
داري اثنتي عشرة جنازة، وأنا وعيالي اثنا عشر نفسا فمات عيالي وبقيت
وحدي فاغتممت فضاقت على الأرض، فخرجت من الدار ثم رجعت من
الغد فإذا لص قد دخل ليسرق فطعن في الدار، فخرجت جنازته منها فسرى
عنى ما كنت فيه ووهب الله عز وجل السلامة.
194

وذكر القاضي أبو الحسن في كتابه " كتاب الفرج بعد الشدة ": أن وهب
ابن منبه قال أملقت حتى قنطت أو كدت فأتاني آت في منامي ومعه شبيه
بالفستقة فدفعها إلى وقال: افضض فضضتها فإذا فيها حرير فقال: انشرها
فنشرتها فإذا هي ثلاثة أسطر ببياض. الأول: لا ينبغي لمن عرف من الله
عدله. الثاني أو عقل عن الله أمره. الثالث: إن يستبطئ الله في رزقه.
قال فأعطاني الله عز وجل بعدها فأكثر * وذكر الواقدي أنه قال: ضقت
ضيقة شديدة، وهجم شهر رمضان وأنا بغير نفقة، فضاق ذرعي لذلك
فكتبت إلى صديق لي علوي أسأله أن يقرضني ألف درهم فبعث إلى بها في
كيس مختوم فتركتها عندي، فلما كان عشى ذلك اليوم وردت على رقعة
صديق لي يسألني إسعافه لنفقة شهر رمضان بألف درهم، فوجهت بالكيس
إليه بخاتمه، فلما كان من الغد جاءني صديقي الذي اقترض منى والعلوي
الذي اقترضت منه فسألني العلوي عن خبر الدراهم. فقلت صرفتها في المهم،
فأخرج الكيس بختمه وضحك وقال: اعلم أنه قرب هذا الشهر وما عندي إلا
هذه الدريهمات فلما كتبت إلى وجهت بها إليك، وكتبت إلى صديقنا هذا
أقترض منه ألف درهم فوجه إلى الكيس فسألته عن القصة فشرحها لي.
وقد جئناك لنقسمها وإلى أن تنفقها يأتي الله عز وجل بالفرج قال الواقدي
فقلت لهما: لست أدرى أينا أكرم واقتسمناها ودخل شهر رمضان فأنفقت
أكثر ما حصل لي منها، وضاق صدري فجعلت أفكر في أمرى فبينما أنا
كذلك إذ بعث إلى يحيى بن خالد البرمكي في سحرة يومى فقال لي يا واقدي:
رأيتك البارحة فيما يرى النائم وأنت على حال دلتني أنك في غم شديد وأذى
فاشرح لي أمرك، فشرحت له إلى أن بلغت إلى حديث العلوي وصديقي والألف
درهم فقال والله لا أدرى أيكم أكرم وأمر لي بثلاثين ألف درهم ولهما
بمثلها وقلدني القضاء.
(انتهى الجزء الأول من كتاب الفرج بعد الشدة)
(ويليه الجزء الثاني أوله الباب السابع)
195