الكتاب: نهج البلاغة
المؤلف: خطب الإمام علي (ع)
الجزء: ١
الوفاة: ٤٠
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ قسم الفقه
تحقيق: شرح : الشيخ محمد عبده
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٢ - ١٣٧٠ ش
المطبعة: النهضة - قم
الناشر: دار الذخائر - قم - ايران
ردمك:
ملاحظات: نهج البلاغة وهو ما جمعه السيد الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) / طبعة جديدة مصححة ومنقحة

نهج البلاغة
وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام سيدنا
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
شرح الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبدة
مفتي الديار المصرية سابقا
الجزء الأول
الناشر:
دار المعرفة
للطباعة والنشر
بيروت لبنان
1

من هو الإمام علي؟
اجتمع للإمام علي بن أبي طالب من صفات الكمال، ومحمود الشمائل،
والخلال، وسناء الحسب وباذخ الشرف، مع الفطرة النقية، والنفس المرضية،
ما لم يتهيأ لغيره من أفذاذ الرجال.
تحدر من أكرم المناسب، وانتمى إلى أطيب الأعراق، فأبوه أبو
طالب عظيم المشيخة من قريش. وجده عبد المطلب أمير مكة وسيد البطحاء
ثم هو قبل من هامات بني هاشم وأعيانهم، وبنو هاشم كانوا كما وصفهم
الجاحظ: " ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلى العالم، والسنام الأضخم،
والكاهل الأعظم، ولباب كل جوهر كريم، وشر كل عنصر شريف،
والطينة البيضاء، والمغرس المبارك والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم،
وينبوع العلم. "
واختص بقرابته القريبة من الرسول عليه السلام، فكان ابن عمه،
وزوج ابنته وأحب عترته إليه، كما كان كاتب وحيه، وأقرب الناس إلى
فصاحته، وبلاغته، وأحفظهم لقوله وجوامع كلمه، أسلم على يديه صبيا قبل
أن يمس قلبه عقيدة سابقة أو يخالط عقله شوب من شرك موروث،
ولازمه فتيا يافعا، في غدوه ورواحه وسلمه وحربه، حتى تخلق بأخلاقه،
واتسم بصفاته وفقه عنه الدين، وثقف ما نزل به الروح الأمين، فكان من
أفقه أصحابه وأقضاهم، وأحفظهم وأوعاهم، وأدقهم في الفتيا، وأقربهم
إلى الصواب، وحتى قال فيه عمر: لا بقيت لمعضلة ليس فيها أبو الحسن،
وكانت حياته كلها مفعمة بالأحداث، مليئة بجلائل الأمور، فعلى عهد الرسول
عليه السلام، ناضل المشركين واليهود، فكان فارس الحلبة ومسعر الميدان
صليب النبع جميع الفؤاد. ذلك هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
2

مقدمة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبدة
بسم الله الرحمن الرحيم
حمد لله سياج (1) النعم. والصلاة على النبي وفاء الذمم. واستمطار الرحمة على آله
الأولياء، وأصحابه الأصفياء، عرفان الجميل وتذكار الدليل (2): وبعد فقد أوفى لي
حكم القدر بالاطلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة بلا تعمل. أصبته على تغير
حال وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال. فحسبته تسلية، وحيلة للتخلية
فتصفحت بعض صفحاته، وتأملت جملا من عباراته. من مواضع مختلفات،
وموضوعات متفرقات. فكان يخيل إلي في كل مقام أن حروبا شنت وغارات شنت
وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة. وأن للأوهام عرامة (3) وللريب دعارة. وأن
جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة، في عقود النظام وصفوف الانتظام، تنافح
بالصفيح الأبلج (4) والقويم الأملج. وتمتلج المهج برواضع الحجج. فتفل من دعارة
الوساوس (5) وتصيب مقاتل الخوانس. والباطل منكسر ومرج الشك في خمود (6)
وهرج الريب في ركود. وأن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، هو حامل
لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

(1) السياج: ما أحيط به على شئ (2) معرفة طريق الحق والهداية إليه.
(3) العرمة الشراسة. والدعارة سوء الخلق. والجحافل الجيوش. والكتائب الفرق منها
والذرابة حدة اللسان في فصاحة. والكلام تخيل حرب بين البلاغة وهائجات الشكوك والأوهام.
(4) تنافح تضارب أشد المضاربة. والصفيح السيف والأبلج اللامع البياض. والقويم الرمح
والأملج الأسمر. وهي مجازات عن الدلائل الواضحة والحجج القويمة المبددة للوهم وإن خفي مدركها
وتمتلج أي تمتص. والمهج دماء القلوب لا تبقي للأوهام شيئا من مادة البقاء.
(5) فل الشئ ثلمه والقوم هزمهم. والخوانس خواطر السوء تسلك من النفس مسالك الخفاء.
(6) المرج الاضطراب. والهرج هيجان الفتنة
3

بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد. وتحول المعاهد
فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية. في حلل من العبارات الزاهية
تطوف على النفوس الزاكية. وتدنو من القلوب الصافية: توحي إليها رشادها.
وتقوم منها مرادها. وتنفر بها عن مداحض المزال. إلى جواد الفضل والكمال.
وطورا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة (1)، وأنياب كاشره. وأرواح
في أشباح النمور، ومخالب النسور. قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب
فخلبت القلوب عن هواها، وأخدت الخواطر دون رماها. واغتالت فاسد
الأهواء وباطل الآراء.
وأحيانا كنت أشهد أن عقلا نورانيا، لا يشبه خلقا جسدانيا، فصل عن الموكب
الإلهي، واتصل بالروح الإنساني. فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت
الأعلى. ونما به إلى مشهد النور الأجلي. وسكن به إلى عمار جانب التقديس. بعد
استخلاصه من شوائب التلبيس (2). وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء
الكلمة، وأولياء أمر الأمة، يعرفهم مواقع الصواب ويبصرهم مواضع الارتياب
ويحذرهم مزالق الاضطراب. ويرشدهم إلى دقاق السياسة. ويهديهم طرق الكياسة،
ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير
ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي رحمه الله من كلام
سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. جمع متفرقة وسماه
بهذا الاسم (نهج البلاغة) ولا أعلم اسما أليق بالدلالة على معناه منه. وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه اسمه، ولا أن آتي بشئ في بيان
مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار كما سترى في مقدمة الكتاب. ولولا أن غرائز
الجبلة، وقواضي الذمة، تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه، وشكر المحسن على
إحسانه، لما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج للبلاغة، من فنون الفصاحة.
وما خص به من وجوه البلاغة، خصوصا وهو لم يترك غرضا من أغراض الكلام
إلا إسابة ولم يدع للفكر ممرا إلا جابه (3).

(1) باسرة: عابسة.
(2) التلبيس: التخليط التدليس
(3) جابه يجوبه: خرقه ومضى به
4

إلا أن عبارات الكتاب لبعد عهدها منا، وانقطاع أهل جيلنا عن أصل لساننا
قد نجد فيها غرائب ألفاظ في غير وحشية، وجزالة تركيب في غير تعقيد،
فربما وقف فهم المطالع دون الوصول إلى مفهومات بعض المفردات أو مضمونات بعض
الجمل. وليس ذلك ضعفا في اللفظ أو وهنا في المعنى وإنما هو قصور في ذهن المتناول.
ومن ثم همت بي الرغبة أن أصحب المطالعة بالمراجعة والمشارفة بالمكاشفة، وأعلق
على بعض مفرداته شرحا وبعض جمله تفسيرا وشئ من اشاته تعيينا، واقفا عند
حد الحاجة مما قصدت. موجزا في البيان ما استطعت. معتمدا في ذلك على المشهور
من كتب اللغة والمعروف من صحيح الأخبار. ولم أتعرض لتعديل ما روي عن الإمام
في مسألة الإمامة أو تجريحه، بل تركت للمطالع الحكم فيه بعد الالتفات إلى أصول
المذاهب المعلومة فيها، والأخبار المأثورة الشاهدة عليها، غير أني لم أتحاش تفسير
العبارة، وتوضيح الإشارة لا أريد في وجهي هذا إلا حفظ ما أذكر، وذكر
ما أحفظ. تصونا من النسيان وتحرزا من الحيدان (1). ولم أطلب من وجه الكتاب
إلا ما تعلق منه بسبك المعاني العالية في العبارات الرفيعة في كل ضرب من ضروب
الكلام. وحسبي هذه الغاية فيما أريد لنفسي ولمن يطلع عليه من أهل اللسان العربي.
وقد عني جماعة من أجلة العلماء بشرح الكتاب وأطال كل منهم في بيان
ما انطوى عليه من الأسرار، وكل يقصد تأييد مذهب وتعضيد مشرب. غير أنه
لم يتيسر لي ولا واحد من شروحهم إلا شذرات وجدتها منقولة عنهم في بطون الكتب،
فإن وافقت أحدهم فيما رأى فذلك حكم الاتفاق، وإن كنت خالفتهم فإلى صواب
فيما أظن على أني لا أعد تعليقي هذا شرحا في عداد الشروح، ولا أذكره كتابا
بين الكتب، وإنما هو طراز لنهج البلاغة وعلم توشى به أطرافه (2).
وأرجو أن يكون فيما وضعت من وجيز البيان فائدة للشبان من أهل هذا الزمان
فقد رأيتهم قياما على طريق الطلب، يتدافعون لنيل الأرب من لسان العرب.
يبتغون لأنفسهم سلائق عربية وملكات لغوية، وكل يطلب لسانا خاطبا، وقلما
كاتبا، لكنهم يتوخون وسائل ما يطلبون في مطالعة المقامات وكتب المراسلات مما

(1) الحيدان، كفيضان: الميل والجور. (2) العلم ما ينصب في الطريق ليهتدي به.
5

كتبه المولدون. أو قلدهم فيه المتأخرون. ولم يراعوا في تحريره إلا رقة الكلمات،
وتوافق الجناسات. وانسجام السجعات. وما يشبه ذلك من المحسنات اللفظية والتي
وسموها بالفنون البديعة. وإن كانت العبارات خلوا من المعاني الجليلة، أو فائدة
الأساليب الرفيعة.
على أن هذا النوع من الكلام بعض ما في اللسان العربي وليس كل ما فيه،
بل هذا النوع إذا نفرد يعد من أدنى طبقات القول، وليس في حلاه المنوطة بأواخر
ألفاظه ما يرفعه إلى درجة الوسط. فلو أنهم عدلوا إلى مدارسة ما جاء عن أهل
اللسان، خصوصا أهل الطبقة العليا منهم لأحرزوا من بغيتهم ما امتدت إليه أعناقهم،
واستعدت لقبوله أعراقهم. وليس في أهل هذه اللغة إلا قائل بأن كلام الإمام
علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وآله
- وأغزره مادة وأرفعه أسلوبا وأجمعه لجلائل المعاني.
فأجدر بالطالبين لنفائس اللغة، والطامعين في التدرج لمراقيها أن يجعلوا هذا
الكتاب أهم محفوظهم، وأفضل مأثورهم، مع تفهم معانيه في الأغراض التي جاءت
لأجلها وتأمل ألفاظه في المعاني التي صيغت للدلالة عليها. ليصيبوا بذلك أفضل غاية
وينتهوا إلى خير نهاية، وأسأل الله نجاح عملي وأعمالهم. وتحقيق أملي وآمالهم.
ولنقدم للمطالع موجزا من القول في نسب الشريف الرضي جامع الكتاب،
وطرفا من خبره. فهو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى
ابن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين
ابن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وأمه فاطمة بنت الحسين بن الحسن الناصر
صاحب الديلم ابن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين علي بن أبي
طالب رضي الله عنه. ولد الشريف الرضي في سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. واشتغل
بالعلم ففاق في الفقه والفرائض وبذ أهل زمانه في العلم والأدب.
قال صاحب اليتيمة هو اليوم أبدع أبناء الزمان وأنجب سادات العراق، يتحلى
مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر، وفضل باهر، وحظ من جميع
6

المحامد وافر، تولى نقابة نقباء الطالبيين بعد أبيه في حياته سنة ثمانية وثمانين وثلاثمائة،
ضمت إليه مع النقابة سائر الأعمال التي كان يليها أبوه، وهي النظر في المظالم، والحج
بالناس. وكان من سمو المقام بحيث يكتب إلى الخليفة القادر بالله العباسي أحمد بن
المقتدر من قصيدة طويلة: نفتخر بها ويساوي نفسه بالخليفة:
عطفا أمير المؤمنين فإننا * في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت * أبدا، كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني * أنا عاطل منها وأنت مطوق
ويروى أن القادر قال له عند سماع هذا البيت: على رغم أنفك الشريف
ومن غرر شعره فيما يقرب من هذا قوله:
رمت المعالي فامتنعن ولم يزل * أبدا ينازع عاشقا معشوق
وصبرت حتى نلتهن ولم أقل * ضجرا: دواء الفارك (1) التطليق
وابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل. قال صاحب اليتيمة، وهو
أشعر الطالبيين: من مضى منهم ومن غبر على كثرة شعرائهم المفلقين ولو قلت أنه
أشعر قريش لم أبعد عن الصدق. وقال بعض واصفيه رحمه الله: كان شاعرا مفلقا
فصيح النظم ضخم الألفاظ قادرا على القريض متصرفا في فنونه، إن قصد الرقة في
النسيب أتى بالعجب العجاب، وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح وغيره أتى
بما لا يشق له فيه غبار، وإن قصد المراثي جاء سابقا والشعراء منقطعة الأنفاس. وكان
مع هذا مترسلا كاتبا بليغا متين العبارات سامي المعاني. وقد اعتنى بجمع شعره في
ديوان جماعة، وأجود ما جمع منه مجموع أبي حكيم الحيري، وهو ديوان كبير يدخل
في أربع مجلدات كما ذكره صاحب اليتيمة. وصنف كتابا في معاني القرآن العظيم قالوا
يتعذر وجود مثله، وهو يدل على سعة اطلاعه في النحو واللغة وأصول الدين. وله
كتاب في مجازات القرآن. وكان علي الهمة تسمو به عزيمته إلى أمور عظام لم يجد من
الأيام عليها معينا فوقفت به دونها حتى قضى. وكان عفيفا متشددا في العفة بالغا فيها
إلى النهاية لم يقبل من أحد صلة ولا جائزة حتى أنه رد صلات أبيه! وقد اجتهد
بنو بويه على قبوله صلاتهم فلم يقبل. وكان يرضى بالإكرام وصيانة الجانب وإعزاز

(1) الفارك: المرأة الكارهة لزوجها.
7

الأتباع والأصحاب. حكى أبو حامد محمد بن محمد الأسفرائيني الفقيه الشافعي. قال:
كنت يوما عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان
الدولة فدخل عليه الرضي (صاحب كلامنا الآن) أبو الحسن فأعظمه وأجل مكانه
ورفع من منزلته وخلى ما كان بيده من القصص والرقاع وأقبل عليه يحادثه إلى أن
انصرف. ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو قاسم (أخو الشريف الرضي) فلم يعظمه
ذلك التعظيم ولا أكرمه ذلك الاكرام وتشاغل عنه برقاع يقرأها فجلس قليلا ثم سأله
أمرا فقضاه ثم انصرف. قال أبو حامد فقلت: أصلح الله الوزير هذا المرتضى هو
الفقيه المتكلم صاحب الفنون وهو الأمثل والأفضل منهما وإنما أبو الحسن شاعر. قال
فقال لي إذا انصرف الناس وخلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة. قال وكنت مجمعا
على الانصراف فعرض من الأمر ما لم يكن في الحساب فدعت الضرورة إلى ملازمة
المجلس حتى تقوض الناس. وبعد أن انصرف عنه أكثر غلمانه ولم يبق عنده غيري
قال لخادم له هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام وأمرتك بوضعهما في السفط
الفلاني، فأحضرهما فقال هذا كتاب الرضي اتصل بي إنه قد ولد له ولد فأنفذت إليه
ألف دينار وقلت هذا للقابلة فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء وذوو مودتهم مثل
هذا في مثل هذه الحال، فردها وكتب إلي هذا الكتاب فاقرأه، فقرأته فإذا هو
اعتذار عن الرد وفي جملته: إننا أهل بيت لا يطلع على أحوالنا قابلة غريبة، وإنما
عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا ولسن ممن يأخذن أجرة ولا يقبلن صلة. قال
فهذا هذا. وأما المرتضى فإنا كنا وزعنا وقسطنا على الأملاك ببعض النواحي تقسيطا
نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى، فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية
المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهما ثمنها دينار واحد، وقد كتب منذ أيام
في هذا المعنى هذا الكتاب فاقرأه وهو أكثر من مائة سطر يتضمن من الخشوع والخضوع
والاستمالة والهزء والطلب والسؤال في أسقاط هذه الدراهم المذكورة ما يطول شرحه
قال فخر الملك فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل: هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد
ونفسه هذه النفس، أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة ونفسه تلك النفس؟.
فقلت وفق الله سيدنا الوزير والله ما وضع الأمر إلا في موضعه ولا أحله إلا في محله.
8

وتوفي الرضي في المحرم سنة أربع وأربعمائة ودفن في داره بمسجد الأنباريين بالكرخ
ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر عليه السلام لأنه لم
يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه، وصلى عليه الوزير فخر الملك أبو غالب، ومضى
بنفسه آخر النهار إلى المشهد الشريف الكاظمي فألزمه بالعود إلى داره. ومما رثاه به
أخوه المرتضى الأبيات المشهورة التي من جملتها:
يا للرجال لفجعة جذمت يدي * ووددت لو ذهبت علي برأسي
ما زلت أحذر وردها حتى أتت * فحسوتها في بعض ما أنا حاسي
ومطلتها زمنا فلما صممت * لم يثنها مطلي وطول مكاسي
لا تنكروا من فيض دمعي عبرة * فالدمع غير مساعد ومواسي
لله عمرك من قصير طاهر * ولرب عمر طال بالأدناس
وحكى ابن خلكان عن بعض الفضلاء أنه رأى في مجموع أن بعض الأدباء اجتاز
بدار الشريف الرضي (صاحب الترجمة) بسر من رأى وهو لا يعرفها، وقد أخنى عليها
الزمان وذهبت بهجتها وأخلقت ديباجتها، وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة وحسن
الشارة، فوقف عليها متعجبا من صروف الزمان وطوارق الحدثان، وتمثل بقول
الشريف الرضي:
ولقد بكيت على ربوعهم * وطلولها بيد البلي نهب
فبكيت حتى شج من لغب * نضوي، ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمذ خفيت * عني الطلول تلفت القلب
فمر به شخص وهو ينشد الأبيات فقال له: هل تعرف هذه الدار لمن هي؟ فقال
لا. فقال هذه الدار لصاحب الأبيات الشريف الرضي، فعجب كلاهما من حسن
الاتفاق. وفي رواية العلماء من مناقب الشريف الرضي ما لو تقصيناه لطال الكلام،
وإنما غرضنا أن يلم القارئ بسيرته بعض الالمام. والله أعلم.
9

مقدمة السيد الشريف الرضي
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه. ومعاذا من بلائه. وسبيلا إلى
جنانه (1) وسببا لزيادة إحسانه. والصلاة على رسوله نبي الرحمة، وإمام الأئمة،
وسراج الأمة. المنتخب من طينة الكرم (2) وسلالة المجد الأقدم. ومغرس الفخار
المعرق (3) وفرع العلاء المثمر المورق وعلى أهل بيته مصابيح الظلم، وعصم الأمم (4)
ومنار الدين الواضحة، ومثاقيل الفضل الراجحة. صلى الله عليهم أجمعين صلاة تكون
إزاء لفضلهم (5) ومكافأة لعملهم. وكفاء لطيب فرعهم وأصلهم. ما أنار فجر ساطع
وخوى نجم طالع (6) فإني كنت في عنفوان السن (7)، وغضاضة الغصن، ابتدأت
بتأليف كتاب خصائص الأئمة عليهم السلام يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر
كلامهم: حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب وجعلته أمام الكلام. وفرغت
من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا عليه السلام. وعاقت عن إتمام بقية الكتاب

(1) في بعض النسخ ووسيلا وهو جمع وسيلة وهي ما يتقرب به. ورواية سبيلا أحسن
(2) طينة الكرم أصله وسلالة المجد فرعه
(3) الفخار قال بعضهم بالكسر ويغلط من يقرأ بالفتح لأنه مصدر فاخر، والمصدر من فاعل الفعال بكسر أوله، غير أنه لا يبعد أن يكون مصدر فخر. والثلاثي إذا كانت عينه أو لامه حرف حلق جاء المصدر منه على فعال بالفتح نحو سمح سماحا
(4) العصم جمع عصمة وهو ما يعتصم به: والمنار الأعلام واحدها منارة. والمثاقيل جمع مثقال
وهو مقدار وزن الشئ، تقول مثقال حبة ومثقال دينار، فمثاقيل الفضل زناته أي أن الفضل
يعرف بهم مقداره
(5) إزاء لفضلهم أي مقابلة له
(6) خوى النجم سقط وخوت النجوم انحلت فلم تمطر كأخوت وخوت بالتشديد
(7) عنفوان السن أولها.
10

محاجزات الزمان (1) ومماطلات الأيام. وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا.
وفصلته فصولا فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام
القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة.
فاستحسن جماعة من الأصدقاء والإخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين
ببدائعه ومتعجبين من نواصعه (2) وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على
مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه، ومتشعبات غصونه، من
خطب وكتب ومواعظ وآداب علما أن ذلك يتضمن عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة
وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعا في كلام (3) ولا
مجموع الأطراف في كتاب. إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة
وموردها (4) ومنشأ البلاغة ومولدها. ومنه عليه السلام ظهر مكنونها. وعنه
أخذت قوانينها. وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب (5) وبكلامه استعان كل واعظ
بليغ. ومع ذلك فقد سبق وقصروا. وتقدم وتأخروا. لأن كلامه عليه السلام
الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي (6) وفيه عبقة من الكلام النبوي. فأجبتهم
إلى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع ومنشور الذكر ومذخور الأجر.
واعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفضيلة مضافة
إلى المحاسن الدائرة والفضائل الجمة (7). وأنه عليه السلام انفرد ببلوغ غايتها عن جميع
السلف الأولين الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر والشاذ الشارد (8). وأما كلامه
فهو من البحر الذي لا يساجل (9)، والجم الذي لا يحافل (10) وأردت أن يسوغ لي

(1) محاجزات الزمان ممانعاته ومماطلات الأيام مدافعاتها.
(2) النواصع الخالصة، وناصع كل شئ خالصه
(3) الثواقب المضيئة ومنه الشهاب الثاقب، ومن الكلم ما يضئ لسامعها طريق
الوصول إلى ما دلت عليه فيهتدي بها إليه
(4) المشرع تذكير المشرعة مورد الشاربة كالشريعة
(5) حذا كل قائل اقتفى واتبع
(6) عليه مسحة من جمال، أي علامة وأثر، وكأنه يريد بهاء منه وضياء. والعبقة الرائحة
(7) اعتمدت قصدت، والدائرة بفتح فسكون الكثيرة
(8) يؤثر أي ينقل عنهم ويحكي
(9) لا يغالب في الامتلاء وكثرة الماء
(10) لا يغالب في الكثرة من قولهم ضرع حافل أي ممتلئ كثير اللبن
11

التمثل في الافتخار به عليه السلام بقول الفرزدق
- أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع
ورأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة: أولها الخطب والأوامر. وثانيها
الكتب والرسائل وثالثها الحكم والمواعظ. فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء
باختيار محاسن الخطب (1) ثم محاسن الكتب ثم محاسن الحكم والأدب، مفردا
لكل صنف من ذلك بابا ومفصلا فيه أوراقا لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ
عني عاجلا ويقع إلي آجلا. وإذا جاء شئ من كلامه عليه السلام الخارج في أثناء
حوار (2) أو جواب سؤال أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها
وقررت القاعدة عليها نسبته إلى أليق الأبواب به وأشدها ملامحة لغرضه (3). وربما جاء
فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة، ومحاسن كلم غير منتظمة، لأني أورد النكت
واللمع ولا أقصد التتالي والنسق. ومن عجائبه عليه السلام التي إنفرد بها وأمن المشاركة
فيها أن كلامه عليه السلام الوارد في الزهد والموعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله
المتأمل وفكر فيه المتفكر وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره
وأحاط بالرقاب ملكه لم يعترضه الشك في أنه من كلام من لا حفظ له في الزهادة
ولا شغل له بغير العبادة، وقد قبع في كسر بيت (4) أو انقطع في سفح جبل. لا يسمع
إلا حسه ولا يرى إلا نفسه ولا يكاد يوقن بأنه كلام من يتغمس في الحرب مصلتا
سيفه (5) فيقطع الرقاب ويجدل الأبطال (6) ويعود به ينطف دما ويقطر مهجا، وهو
مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال (7). وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه

(1) أجمع عليه عزم، والمحاسن جمع حسن على غير قياس
(2) بالفتح وبالكسر المحاورة
(3) الملامحة الإبصار والنظر، والمراد هنا المناسبة لأن من ينظر إلى شئ ويبصره كأنه يميل إليه
ويلائمه
(4) قبع القنفذ كمنع أدخل رأسه في جلده، والرجل أدخل رأسه في قميصه، أراد منه
انزوى وكسر البيت جانب الخباء، وسفح الجبل أسفله
(5) أصلت سيفه جرده من غمده، ويقط الرقاب يقطعها عرضا، فإن كان القطع طولا قيل يقد، قال ابن عائشة: كانت ضربات علي أبكارا إن اعتلى قد وإن اعترض قط، ومنه قط القلم
(6) يجدل الأبطال يلقيهم على الجدالة كسحابة وهي وجه الأرض وينطف من نطف كنصر وضرب نطفا وتناطفا سال، والمهج جمع مهجة وهي دم القلب والروح
(7) الأبدال قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم، إذا مات منهم واحد أبدل الله مكانه آخر
12

اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد، وألف بين الأشتات (1). وكثيرا ما أذكر الإخوان
بها واستخرج عجبهم منها. وهي موضوع للعبرة بها والفكرة فيها. وربما جاء في أثناء
هذا الاختيار اللفظ المردد والمعنى المكرر والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف
اختلافا شديدا. فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه، ثم وجد بعد
ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول، إما بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن
عبارة، فتقتضي الحال أن يعاد استظهارا للاختيار، وغيرة على عقائل الكلام (2). وربما
بعد العهد أيضا بما اختير أولا فأعيد بعضه سهوا أو نسيانا لا قصدا واعتمادا. ولا أدعي
مع ذلك أني أحيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام (3) حتى لا يشذ عني منه شاذ
ولا يند ناد، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلى، والحاصل في ربقتي دون
الخارج من يدي (4) وما على إلا بذل الجهد وبلاغ الوسع، وعلى الله سبحانه نهج
السبيل (5) ورشاد الدليل إن شاء الله
ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها.
ويقرب عليه طلابها. فيه حاجة العالم والمتعلم وبغية البليغ والزاهد، ويمضي في أثنائه
من الكلام في التوحيد والعدل وتنزيه الله سبحانه وتعالى عن شبه الخلق ما هو
بلال كل غلة (6) وجلاء كل شبهة. ومن الله سبحانه أستمد التوفيق والعصمة.
وأتنجز التسديد والمعونة، وأستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان، ومن زلة الكلام
قبل زلة القدم. وهو حسبي ونعم الوكيل.
باب المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السلام وأوامره
ويدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحصورة والمواقف
المذكورة والخطوب الواردة

(1) موضع العجب أن أهل الشجاعة والإقدام والمغامرة والجرأة يكونون في العادة قساة فتاكين
متمردين جبارين. والغالب على أهل الزهد وأعداء الدنيا وهاجري ملاذها المشتغلين بالوعظ والنصيحة
والتذكير أن يكونوا ذوي رقة ولين وضعف قلوب وخور طباع. وهاتان حالتان متضادتان فاجتماعهما
في أمير المؤمنين كرم الله وجهه مما يوجب العجب، فكان كرم الله وجهه إشجع الناس وأعظمهم إراقة
للدم، وأزهدهم وأبعدهم عن ملاذ الدنيا وأكثرهم وعظا وتذكيرا وأشدهم اجتهادا في العبادة، وكان أكرم
الناس أخلاقا وأسفرهم وجها وأوفاهم هشاشة وبشاشة حتى عيب بالدعابة.
(2) عقائل الكلام كرائمه، وعقيلة الحي كريمته
(3) أقطار الكلام جوانبه. والناد النافر
(4) الربقة عروة حبل يجعل فيها رأس البهيمة
(5) نهج السبيل إبانته وإيضاحه
(6) الغلة العطش وبلالها ما تبل به وتروى.
13

1 - ومن خطبة له عليه السلام
" يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم "
الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون. ولا يحصي نعماءه
العادون. ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم (1)
ولا يناله غوص الفطن (2). الذي ليس لصفته حد محدود (3) ولا نعت
موجود. ولا وقت معدود ولا أجل ممدود. فطر الخلائق بقدرته.
ونشر الرياح برحمته. ووتد بالصخور ميدان أرضه (4). أول الدين
معرفته (5) وكمال معرفته التصديق به. وكمال التصديق به توحيده.
14

وكمال توحيده الاخلاص له. وكمال الإخلاص له نفي الصفات
عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير
الصفة. فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه. ومن قرنه فقد ثناه ومن
ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله (1). ومن جهله فقد أشار إليه.
ومن أشار إليه فقد حده (2). ومن حده فقد عده، ومن قال فيم
15

فقد ضمنه. ومن قال علام فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث (1)
موجود لا عن عدم. مع كل شئ لا بمقارنة. وغير كل شئ لا
بمزايلة (2). فاعل لا بمعنى الحركات والآلة. بصير إذ لا منظور إليه
من خلقه (3). متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش
لفقده (4). أنشأ الخلق إنشاء. وابتدأه ابتداء. بلا روية أجالها (5). ولا تجربة
استفادها. ولا حركة أحدثها. ولا همامة نفس اضطرب فيها (6). أحال
الأشياء لأوقاتها (7). ولأم بين مختلفاتها (8). وغرز غرائزها (9) وألزمها
أشباحها (10) عالما بها قبل ابتدائها محيطا بحدودها وانتهائها. عارفا بقرائنها
16

وأحنائها (1). ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء (2) وشق الارجاء وسكائك
الهواء (3). فأجرى فيها ماء متلاطما تياره (4)، متراكما زخاره. حمله
على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة. فأمرها برده (5)، وسلطها
على شده، وقرنها إلى حده. الهواء من تحتها فتيق (6)، والماء من فوقها
17

دفيق. ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها (1) وأدام مربها. وأعصف
مجراها وأبعد منشاها. فأمرها بتصفيق الماء الزخار (2)، وإثارة موج
البحار. فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء. ترد أوله
إلى آخره، وساجيه إلى مائره (3). حتى عب عبابه، ورمى بالزبد ركامه
فرفعه في هواء منفتق، وجو منفهق (4). فسوى منه سبع سماوات
جعل سفلاهن موجا مكفوفا (5) وعلياهن سقفا محفوظا. وسمكا
مرفوعا. بغير عمد يدعمها، ولا دسار ينظمها (6). ثم زينها بزينة
الكواكب، وضياء الثواقب (7). وأجرى فيها سراجا مستطيرا (8)،
وقمرا منيرا. في فلك دائر، وسقف سائر، ورقيم مائر (9) ثم فتق
18

ما بين السماوات العلا. فملأهن أطوارا من ملائكته (1) منهم
سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون
ومسبحون لا يسأمون. لا يغشاهم نوم العين. ولا سهو العقول.
ولا فترة الأبدان. ولا غفلة النسيان. ومنهم أمناء على وحيه،
وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره. ومنهم الحفظة لعباده
والسدنة لأبواب جنانه. ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم،
والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم،
والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم (2).
19

متلفعون تحته بأجنحتهم. مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب
العزة وأستار القدرة. لا يتوهمون ربهم بالتصوير. ولا يجرون
عليه صفات المصنوعين. ولا يحدونه بالأماكن. ولا يشيرون
إليه بالنظائر
صفة خلق آدم عليه السلام
ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها (1)،
تربة سنها بالماء حتى خلصت. ولاطها بالبلة حتى لزبت (2). فجبل منها
صورة ذات أحناء ووصول (3) وأعضاء وفصول. أجمدها حتى استمسكت،
وأصلدها حتى صلصلت (4). لوقت معدود. وأمد معلوم. ثم نفخ
20

فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها (1). وفكر يتصرف بها،
وجوارح يختدمها (2)، وأدوات يقلبها. ومعرفة يفرق بها بين الحق
والباطل والأذواق والمشام والألوان والأجناس. معجونا بطينة
الألوان المختلفة (3)، والأشباه المؤتلفة. والأضداد المتعادية
والأخلاط المتباينة. من الحر والبرد. والبلة والجمود. واستأدى
الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم (4) وعهد وصيته إليهم. في
الاذعان بالسجود له والخشوع لتكرمته. فقال سبحانه اسجدوا
لآدم فسجدوا إلا إبليس اعترته الحمية وغلبت عليه الشقوة (5)
21

وتعزز بخلقة النار واستهون خلق الصلصال. فأعطاه الله النظرة
استحقاقا للسخطة واستتماما للبلية. وإنجازا للعدة. فقال إنك من
المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم. ثم أسكن سبحانه آدم دارا
أرغد فيها عيشته، وآمن فيها محلته، وحذره إبليس وعداوته. فاغتره
عدوه نفاسة عليه بدار المقام ومرافقة الأبرار (1). فباع اليقين بشكه
والعزيمة بوهنه. واستبدل بالجذل وجلا (2). وبالاغترار ندما. ثم بسط
الله سبحانه له في توبته. ولقاه كلمة رحمته، ووعده المرد إلى جنته.
22

وأهبطه إلى دار البلية (1)، وتناسل الذرية (2). واصطفى سبحانه من
ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم (3)، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لما
بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم (4) فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد معه (5).
واجتالتهم الشياطين عن معرفته (6)، واقتطعتهم عن عبادته. فبعث فيهم
رسله وواتر إليهم أنبياءه (7) ليستأدوهم ميثاق فطرته (8). ويذكروهم
منسي نعمته. ويحتجوا عليهم بالتبليغ. ويثيروا لهم دفائن العقول (9)
23

ويروهم الآيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم
موضوع. ومعايش تحييهم وآجال تفنيهم. وأوصاب تهرمهم (1).
وأحداث تتابع عليهم. ولم يخل سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو
كتاب منزل. أو حجة لازمة، أو محجة قائمة (2). رسل لا تقصر بهم
قلة عددهم. ولا كثرة المكذبين لهم. من سابق سمي له من بعده،
أو غابر عرفه من قبله (3). على ذلك نسلت القرون (4). ومضت
الدهور. وسلفت الآباء. وخلفت الأبناء. إلى أن بعث الله سبحانه
محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله لإنجاز عدته (5)، وتمام نبوته.
مأخوذا على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته (6)، كريما ميلاده. وأهل
24

الأرض يومئذ ملل متفرقة. وأهواء منتشرة. وطوائف متشتتة.
بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه أو مشير إلى غيره (1). فهداهم به
من الضلالة. وأنقذهم بمكانه من الجهالة. ثم اختار سبحانه لمحمد
صلى الله عليه وآله لقاءه. ورضي له ما عنده وأكرمه عن دار الدنيا
ورغب به عن مقارنة البلوى. فقبضه إليه كريما صلى الله عليه وآله:
وخلف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها إذ لم يتركوهم هملا. بغير
طريق واضح. ولا علم قائم (2): كتاب ربكم فيكم مبينا حلاله
وحرامه (3) وفرائضه وفضائله وناسخه ومنسوخه. ورخصه وعزائمه.
وخاصه وعامه. وعبره وأمثاله. ومرسله ومحدوده. ومحكمه
25

ومتشابهه مفسرا مجمله ومبينا غوامضه. بين مأخوذ ميثاق في علمه
وموسع على العباد في جهله. وبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم
في السنة نسخه، وواجب في السنة أخذه، ومرخص في الكتاب
تركه. وبين واجب بوقته. وزائل في مستقبله. ومباين بين محارمه (1)
من كبير أوعد عليه نيرانه. أو صغير أرصد له غفرانه. وبين مقبول
في أدناه موسع في أقصاه (2).
26

(منها ذكر في الحج) وفرض عليكم حج بيته الحرام الذي
جعله قبلة للأنام يردونه ورود الأنعام ويألهون إليه ولوه الحمام (1)
جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته وإذعانهم لعزته. واختار من
خلقه سماعا أجابوا إليه دعوته. وصدقوا كلمته. ووقفوا مواقف
أنبيائه. وتشبهوا بملائكته. المطيفين بعرشه يحرزون الأرباح في
متجر عبادته. ويتبادرون عند موعد مغفرته. جعله سبحانه وتعالى
للاسلام علما والعائذين حرما. فرض حجه وأوجب حقه وكتب
عليكم وفادته (2) فقال سبحانه ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
2 - ومن خطبة له بعد انصرافه من صفين (3)
أحمده استتماما لنعمته. واستسلاما لعزته. واستعصاما من
معصيته. وأستعينه فاقة إلى كفايته إنه لا يضل من هداه. ولا يئل
من عاداه (4) ولا يفترق من كفاه. فإنه أرجح ما وزن (5) وأفضل ما
27

خزن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. شهادة ممتحنا
إخلاصها. معتقدا مصاصها (1) نتمسك بها أبدا ما أبقانا. وندخرها
لأهاويل ما يلقانا (2) فإنها عزيمة الإيمان. وفاتحة الإحسان ومرضاة
الرحمن. ومدحرة الشيطان (3) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أرسله
بالدين المشهور. والعلم المأثور (4) والكتاب المسطور. والنور
الساطع. والضياء اللامع. والأمر الصادع. إزاحة للشبهات.
واحتجاجا بالبينات. وتحذيرا بالآيات. وتخويفا بالمثلات (5) والناس في
فتن انجذم فيها حبل الدين (6) وتزعزعت سواري اليقين (7) واختلف
النجر (8) وتشتت الأمر. وضاق المخرج وعمي المصدر (9) فالهدى
خامل والعمى شامل. عصي الرحمن. ونصر الشيطان. وخذل الإيمان
28

فانهارت دعائمه (1)، وتنكرت معالمه (2)، ودرست سبله (3)، وعفت
شركه. أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه. ووردوا مناهله (4) بهم
سارت أعلامه. وقام لواؤه في فتن داستهم بأخفافها. ووطئتهم بأظلافها (5)
وقامت على سنابكها. فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون في
خير دار وشر جيران (6). نومهم سهود وكحلهم دموع. بأرض عالمها
ملجم وجاهلها مكرم (ومنها يعني آل النبي عليه الصلاة والسلام)
موضع سره ولجأ أمره (7) وعيبة علمه (8) وموئل حكمه وكهوف
29

كتبه. وجبال دينه. بهم أقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائصه (1).
(ومنها يعني قوما آخرين) زرعوا الفجور: وسقوه الغرور. وحصدوا
الثبور (2) لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الأمة أحد
ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا. هم أساس الدين. وعماد
اليقين. إليهم يفئ الغالي. وبهم يلحق التالي (3) ولهم خصائص حق
الولاية. وفيهم الوصية والوراثة. الآن إذ رجع الحق إلى أهله (4)
ونقل إلى منتقله
3 - ومن خطبة له وهي المعروفة بالشقشقية (5)
أما والله لقد تقمصها فلان (6) وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب
30

من الرحى. ينحدر عني السيل (1) ولا يرقى إلي الطير. فسدلت دونها
ثوبا (2) وطويت عنها كشحا. وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء (3)
أو أصبر على طخية عمياء (4) يهرم فيها الكبير. ويشيب فيها الصغير.
ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه (5) فرأيت أن الصبر على هاتا
أحجى (6) فصبرت وفي العين قذى. وفي الحلق شجا (7) أرى تراثي نهبا
31

حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده (1) (ثم تمثل بقول
الأعشى)
شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر (2)
فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته (3) إذ عقدها لآخر بعد وفاته
32

لشد ما تشطرا ضرعيها (1) فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها (2)
ويخشن مسها. ويكثر العثار فيها. والاعتذار منها، فصاحبها
كراكب الصعبة (3) إن أشنق لها خرم. وإن أسلس لها تقحم فمني
الناس لعمر الله بخبط وشماس (4) وتلون واعتراض. فصبرت على طول
المدة وشدة المحنة. حتى إذا مضى لسبيله. جعلها في جماعة زعم أني
33

أحدهم فيا لله وللشورى (1) متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى
34

صرت أقرن إلى هذه النظائر (1) لكني أسففت إذ أسفوا (2) وطرت إذ
طاروا. فصغى رجل منهم لضغنه (3) ومال الآخر لصهره (4) مع هن
وهن (5) إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه (6) بين نثيله ومعتلفه.
وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع (7) إلى
أن انتكث فتله. وأجهز عليه عمله (8) وكبت به بطنته (9) فما راعني
35

إلا والناس كعرف الضبع إلي (1) ينثالون علي من كل جانب. حتى
لقد وطئ الحسنان. وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم (2)
فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون (3)
كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول. (تلك الدار الآخرة نجعلها
للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) بلى والله
لقد سمعوها ووعوها. ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم (4) وراقهم
زبرجها. أما والذي فلق الحبة. وبرأ النسمة (5) لولا حضور الحاضر (6)
وقيام الحجة بوجود الناصر. وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على
كظة ظالم ولا سغب مظلوم (7)
36

لألقيت حبلها على غاربها (1) ولسقيت آخرها بكأس أولها. ولألفيتم
دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (2) (قالوا) وقام إليه رجل
من أهل السواد عند (3) بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله
كتابا فأقبل ينظر فيه. قال له ابن عباس رضي الله عنهما. يا أمير
المؤمنين لو أطردت خطبتك من حيث أفضيت. فقال هيهات
يا ابن عباس تلك شقشقة (4) هدرت ثم قرت. قال ابن عباس فوالله
ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير
المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد (قوله كراكب الصعبة
إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم) يريد أنه إذا شدد عليها في
جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها وإن أرخى لها شيئا مع
صعوبتها تقحمت به فلم يملكها. يقال أشنق الناقة إذا جذب رأسها
37

بالزمام فرفعه وشنقها أيضا، ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح
المنطق. وإنما قال أشنق لها ولم يقل أشنقها لأنه جعله في مقابلة
قوله أسلس لها فكأنه عليه السلام قال إن رفع لها رأسها بمعنى
أمسكه عليها.
4 - ومن خطبة له عليه السلام
بنا اهتديتم في الظلماء. وتسنمتم العلياء (1) وبنا انفجرتم عن
السرار. وقر سمع لم يفقه الواعية (2) وكيف يراعي النبأة من أصمته
الصيحة (3). ربط جنان لم يفارقه الخفقان (4) ما زلت أنتظر بكم عواقب
38

الغدر. وأتوسمكم بحلية المغترين (1) سترني عنكم جلباب الدين (2)
وبصرنيكم صدق النية. أقمت لكم على سنن الحق في جواد
المضلة (3)، حيث تلتقون ولا دليل. وتحتفرون ولا تميهون (4). اليوم
أنطق لكم العجماء ذات البيان (5) غرب رأي امرئ تخلف عني (6)
ما شككت في الحق مذ أريته. لم يوجس موسى عليه السلام
خيفة على نفسه (7) أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال. اليوم تواقفنا
على سبيل الحق والباطل من وثق بماء لم يظمأ
39

5 - ومن خطبة له عليه السلام لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وخاطبه
العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة
أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة. وعرجوا عن طريق
المنافرة وضعوا عن تيجان المفاخرة (1). أفلح من نهض بجناح. أو
استسلم فأراح (2) هذا ماء آجن (3). ولقمة يغص بها آكلها. ومجتني
الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه (4) فإن أقل يقولوا حرص
على الملك. وإن أسكت يقولوا جزع من الموت (5) هيهات بعد
40

اللتيا والتي (1) والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي
أمه. بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب
الأرشية في الطوي البعيدة (2).
6 - ومن كلام له لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال (3)
والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم (4). حتى يصل
إليها طالبها ويختلها راصدها. ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر
عنه. وبالسامع المطيع العاصي المريب أبدا. حتى يأتي علي يومي
41

فوالله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا علي منذ قبض الله نبيه صلى
الله عليه وسلم حتى يؤم الناس هذا
7 - ومن خطبة له عليه السلام
اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا (1)، واتخذهم له أشراكا.
فباض وفرخ في صدورهم (2). ودب ودرج في حجورهم (3). فنظر بأعينهم
ونطق بألسنتهم. فركب بهم الزلل وزين لهم الخطل (4) فعل من
قد شركه الشيطان في سلطانه ونطق بالباطل على لسانه.
8 - (ومن كلام له عليه السلام يعني به الزبير في حال اقتضت ذلك)
يزعم أنه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه. فقد أقر بالبيعة وادعى
الوليجة (5) فليأت عليها بأمر يعرف. وإلا فليدخل فيما خرج منه
9 - ومن كلام له عليه السلام
وقد أرعدوا وأبرقوا، ومع هذين الأمرين الفشل. ولسنا نرعد
42

حتى نوقع (1). ولا نسيل حتى نمطر.
10 - ومن خطبة له عليه السلام
ألا وإن الشيطان قد جمع (حزبه). واستجلب خيله ورجله. وإن
معي لبصيرتي ما لبست علي نفسي ولا لبس علي. وأيم الله لا أفرطن
لهم حوضا أنا ماتحه (2) لا يصدرون عنه ولا يعودون إليه (3)
11 - ومن كلام له عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية
لما أعطاه الراية يوم الجمل
تزول الجبال ولا تزل. عض على ناجذك (4). أعر الله جمجمتك. تد
في الأرض قدمك (5). أرم ببصرك أقصى القوم. وغض بصرك (6) واعلم
43

أن النصر من عند الله سبحانه
12 - ومن خطبة له عليه السلام
لما أظفره الله بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه وددت
أن أخي فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك. فقال
له عليه السلام أهوى أخيك معنا؟ (1) فقال نعم، قال فقد شهدنا. ولقد
شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء،
سيرعف بهم الزمان (2) ويقوى بهم الإيمان.
13 - ومن كلام له عليه السلام في ذم أهل البصرة
كنتم جند المرأة. وأتباع البهيمة (3). رغا فأجبتم. وعقر
44

فهربتم. أخلاقكم دقاق (1) وعهد كم شقاق، ودينكم نفاق،
وماؤكم زعاق (2). والمقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، والشاخص
عنكم متدارك برحمة من ربه. كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة (3)
قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها.
(وفي رواية) وأيم الله لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها
كجؤجؤ سفينة. أو نعامة جاثمة (4). (وفي رواية) كجؤجؤ طير في
لجة بحر. (وفي رواية) أخرى بلادكم أنتن بلاد الله تربة، أقربها
من الماء وأبعدها من السماء. وبها تسعة أعشار الشر. المحتبس فيها
بذنبه والخارج بعفو الله. كأني أنظر إلى قريتكم هذه قد طبقها
الماء حتى ما يرى منها إلا شرف المسجد كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر
45

14 - ومن كلام له عليه السلام في مثل ذلك
أرضكم قريبة من الماء. بعيدة من السماء. خفت عقولكم
وسفهت حلومكم. فأنتم غرض لنابل (1)، وأكلة لآكل، وفريسة
لصائل.
15 - ومن كلام له عليه السلام فيما رده على المسلمين
من قطائع عثمان رضي الله عنه (2)
والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته فإن
في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق (3).
16 - ومن كلام له عليه السلام لما بويع بالمدينة
ذمتي بما أقول رهينة (4). وأنا به زعيم إن من صرحت له العبر
46

عما بين يديه من المثلات (1) حجزته التقوى عن تقحم الشبهات. ألا
وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيكم صلى الله عليه
وآله (2) والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة. ولتغربلن غربلة. ولتساطن
سوط القدر (3) حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم.
وليسبقن سابقون كانوا قصروا. وليقصرن سباقون كانوا سبقوا (4).
47

والله ما كتمت وشمة (1) ولا كذبت كذبة. ولقد نبئت بهذا المقام
وهذا اليوم. ألا وإن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت
لجمها فتقحمت بهم في النار (2). ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها
أهلها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة. حق وباطل. ولكل أهل (3)
فلئن أمر الباطل لقديما فعل. ولئن قل الحق فلربما ولعل. ولقلما
أدبر شئ فأقبل (4). أقول إن في هذا الكلام الأدنى من مواقع
48

الاحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان. وإن حظ العجب منه أكثر
من حظ العجب به وفيه مع الحال التي وصفنا زوائد من الفصاحة لا
يقوم بها لسان. ولا يطلع فجها إنسان (1). ولا يعرف ما أقول إلا
من ضرب في هذه الصناعة بحق. وجرى فيها على عرق (2). (وما
يعقلها إلا العالمون).
ومن هذه الخطبة
شغل من الجنة والنار أمامه (3) ساع سريع نجا (4) وطالب بطئ
49

رجا ومقصر في النار هوى. اليمين والشمال مضلة. والطريق الوسطى
هي الجادة (1). عليها باقي الكتاب وآثار النبوة. ومنها منفذ السنة
وإليها مصير العاقبة. هلك من ادعى وخاب من افترى. من أبدى
صفحته للحق هلك (2) وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره. لا يهلك
على التقوى سنخ أصل (3). ولا يظمأ عليها زرع قوم. فاستتروا
ببيوتكم. وأصلحوا ذات بينكم. والتوبة من ورائكم ولا يحمد
حامد إلا ربه ولا يلم لائم إلا نفسه
50

17 - ومن كلام له عليه السلام في صفة من يتصدى
للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل
إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجل وكله الله إلى نفسه (1)
فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة. ودعاء ضلالة. فهو
فتنة لمن افتتن به. ضال عن هدي من كان قبله. مضل لمن اقتدى
به في حياته وبعد وفاته. حمال خطايا غيره. رهن بخطيئته (2) ورجل
قمش جهلا. (3)
51

موضع في جهال الأمة (1) عاد في أغباش الفتنة. عم بما في عقد
الهدنة (2) قد سماه أشباه الناس عالما وليس به. بكر فاستكثر من جمع
ما قل منه خير مما كثر (3) حتى إذا ارتوى من آجن. واكتنز من
غير طائر (4). جلس بين الناس قاضيا. ضامنا لتخليص ما التبس على
52

غيره (1). فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشوا رثا من رأيه
ثم قطع به (2). فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت (3).
لا يدري أصاب أم أخطأ فإن أصاب خاف أن يكون أخطأ. وإن
أخطأ رجا أن يكون قد أصاب. جاهل خباط جهالات. عاش ركاب
عشوات (4) لم يعض على العلم بضرس قاطع (5) يذري الروايات إذراء
الريح الهشيم. لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه. ولا هو أهل لما
53

فوض إليه (1). لا يحسب العلم في شئ مما أنكره * ولا يرى أن
من وراء ما بلغ مذهبا لغيره. وإن أظلم أمر اكتتم به (2) لما يعلم
من جهل نفسه. تصرخ من جور قضائه الدماء. وتعج منه المواريث (3)
إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالا (4) ويموتون ضلالا ليس
فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته (5). ولا سلعة
أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه. ولا
عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر.
18 - ومن كلام له عليه السلام في ذم اختلاف العلماء في الفتيا
ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها
54

برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ثم
يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم (1) فيصوب آراءهم
جميعا وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد. أفأمرهم الله تعالى
بالاختلاف فأطاعوه. أم نهاهم عنه فعصوه. أم أنزل الله دينا ناقصا
فاستعان بهم على إتمامه. أم كانوا شركاء له. فلهم أن يقولوا وعليه
أن يرضى أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول صلى الله عليه
وآله عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول (ما فرطنا في الكتاب من
شئ) فيه تبيان كل شئ وذكر أن الكتاب يصدق بعضه
بعضا وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه (ولو كان من عند غير الله
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). وإن القرآن ظاهره أنيق (2). وباطنه
عميق. لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات
إلا به
55

19 - ومن كلام له عليه السلام
قاله للأشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة يخطب فمضى في بعض
كلامه شئ اعترضه الأشعث فقال يا أمير المؤمنين هذه عليك
لا لك (1) فخفض عليه السلام إليه بصره فقال
ما يدريك ما علي مما لي عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين. حائك
ابن حائك (2) منافق بن كافر (3) والله لقد أسرك الكفر مرة والاسلام
أخرى (4). فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك وإن امرأ دل
56

على قومه السيف. وساق إليهم الحتف. لحري أن يمقته الأقرب.
ولا يأمنه الأبعد (1). *
20 - ومن كلام له عليه السلام
فإنكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم
ووهلتم (2) وسمعتم وأطعتم. ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا.
وقريب ما يطرح الحجاب (3) ولقد بصرتم إن أبصرتم وأسمعتم إن
57

سمعتم وهديتم إن اهتديتم. بحق أقول لكم لقد جاهرتكم العبر (1)
وزجرتم بما فيه مزدجر. وما يبلغ عن الله بعد رسل السماء إلا
البشر (2)
21 - ومن خطبة له عليه السلام
فإن الغاية أمامكم (3) وإن وراءكم الساعة تحدوكم. تخففوا
تلحقوا (4). فإنما ينتظر بأولكم آخركم (5) (أقول إن هذا الكلام
لو وزن بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله صلى الله عليه
58

وآله بكل كلام لمال به راجحا وبرز عليه سابقا. فأما قوله عليه
السلام تخففوا تلحقوا فما سمع كلام أقل منه مسموعا ولا أكثر
محصولا وما أبعد غورها من كلمة. وأنقع نطفتها من حكمة (1).
وقد نبهنا في كتاب الخصائص على عظم قدرها وشرف جوهرها.)
22 - ومن خطبة له عليه
ألا وإن الشيطان قد ذمر حزبه (2) واستجلب جلبه. ليعود
الجور إلى أوطانه. ويرجع الباطل إلى نصابه (3). والله ما أنكروا
علي منكرا، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا (4) وإنهم ليطلبون حقا
هم تركوه. ودما هم سفكوه. فلئن كنت شريكهم فيه فإن
لهم لنصيبهم منه ولئن كانوا ولوه دوني فما التبعة إلا عندهم. وإن
أعظم حجتهم لعلى أنفسهم يرتضعون أما قد فطمت (5). ويحيون
59

بدعة قد أميتت. يا خيبة الداعي. من دعا وإلام أجيب (1) وإني لراض
بحجة الله عليهم. وعلمه فيهم. فإن أبوا أعطيتهم حد السيف.
وكفى به شافيا من الباطل وناصرا للحق. ومن العجب بعثهم إلي أن
أبرز للطعان. وأن أصبر للجلاد هبلتهم الهبول (2) لقد كنت وما
أهدد بالحرب ولا أرهب بالضرب. وإني لعلى يقين من ربي. وغير
شبهة من ديني.
23 - ومن خطبة له عليه السلام
أما بعد فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطرات المطر
إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان فإذا رأى أحدكم لأخيه
غفيرة في أهل أو مال أو نفس (3) فلا تكونن له فتنة؟ فإن المرء المسلم
البرئ من الخيانة ما لم يغش دناءة تظهر فيخشع لها إذا ذكرت وتغرى بها
لئام الناس كان كالفالج الياسر (4) الذي ينتظر أول فورة من قداحه
60

توجب له المغنم. ويرفع بها عنه المغرم وكذلك المرء المسلم
البرئ من الخيانة ينتظر من الله إحدى الحسنيين. إما داعي الله فما
عند الله خير له. وإما رزق الله فإذا هو ذو أهل ومال ومعه دينه
وحسبه. إن المال والبنين حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة
وقد يجمعهما الله لأقوام فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه.
واخشوه خشية ليست بتعذير (1). واعملوا في غير رياء ولا سمعة فإنه
من يعمل لغير الله يكله الله إلى من عمل له (2). نسأل الله منازل
الشهداء. ومعايشة السعداء ومرافقة الأنبياء.
61

أيها الناس إنه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عشيرته
ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم وهم أعظم الناس حيطة من ورائه (1)
وألمهم لشعثه وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به. ولسان الصدق
يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه غيره (2) (منها) ألا لا
يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا
يزيده إن أمسكه ولا ينقصه إن أهلكه (3). ومن يقبض يده عن
عشيرته فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة وتقبض منهم عنه أيد
كثيرة ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة (أقول الغفيرة
ههنا الزيادة والكثرة من قولهم للجمع الكثير الجم الغفير والجماء
الغفير. ويروى عفوة من أهل أو مال. والعفوة الخيار من الشئ
يقال أكلت عفوة الطعام. أي خياره. وما أحسن المعنى الذي أراده
عليه السلام بقوله. ومن يقبض يده عن عشيرته إلى تمام الكلام
فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة فإذا احتاج
62

إلى نصرتهم واضطر إلى مرافدتهم (1) قعدوا عن نصره وتثاقلوا عن
صوته فمنع ترافد الأيدي الكثيرة وتناهض الأقدام الجمة.
24 - ومن خطبة له عليه السلام
ولعمري ما علي من قتال من خالف الحق وخابط الغي من إدهان
ولا إيهان (2) فاتقوا الله عباد الله وفروا إلى الله من الله. وامضوا في الذي
نهجه لكم وقوموا بما عصبه بكم (3). فعلي ضامن لفلجكم آجلا وإن
لم تمنحوه عاجلا (4)
25 - ومن خطبة له عليه السلام
وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد
وقدم عليه عاملاه على اليمن وهما عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران
لما غلب عليها بسر بن أبي أرطاة (5) فقام عليه السلام إلى المنبر
63

ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي فقال
ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها (1). إن لم تكوني إلا أنت
تهب أعاصيرك (2). فقبحك الله (وتمثل بقول الشاعر)
لعمر أبيك الخير يا عمرو إنني * على وضر من ذا الإناء قليل (3)
(ثم قال عليه السلام) أنبئت بسرا قد اطلع اليمن (4) وإني والله
64

لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم
وتفرقكم عن حقكم (1). وبمعصيتكم إمامكم في الحق وطاعتهم
إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم.
وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم. فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت
أن يذهب بعلاقته (2). اللهم إني قد مللتهم وملوني وسئمتهم وسئموني
فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني. اللهم مث قلوبهم كما
يماث الملح في الماء (3). أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من
بني فراس بن غنم (4)
هنالك لو دعوت أتاك منهم * فوارس مثل أرمية الحميم

* في نسخة: لو دعوت أتاك. بخطاب المؤنث
65

ثم نزل عليه السلام من المنبر. أقول الأرمية جمع رمي وهو
السحاب. والحميم هاهنا وقت الصيف. وإنما خص الشاعر سحاب الصيف
بالذكر لأنه أشد جفولا وأسرع خفوفا (1) لأنه لا ماء فيه. وإنما
يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء وذلك لا يكون في
الأكثر إلا زمان الشتاء. وإنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا
دعوا والإغاثة إذا استغيثوا. والدليل على ذلك قوله: هنالك لو دعوت
أتاك منهم.
26 - ومن خطبة له عليه السلام
إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وآله نذيرا للعالمين.
وأمينا على التنزيل. وأنتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار.
متنخون * بين حجارة خشن وحيات صم (2) تشربون الكدر وتأكلون
الجشب (3)

* تنخ بالمكان: أقام به
66

وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم. الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة (1). (ومنها) فنظرت فإذا ليس لي معين إلا
أهل بيتي فضننت بهم عن الموت. وأغضيت على القذى. وشربت
على الشجى. وصبرت على أخذ الكظم (2) وعلى أمر من طعم العلقم
(ومنها) ولم يبايع حتى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمنا (3) فلا ظفرت
يد البائع وخزيت أمانة المبتاع. فخذوا للحرب أهبتها. وأعدوا
لها عدتها. فقد شب لظاها وعلا سناها. واستشعروا الصبر فإنه أدعى
إلى النصر.
27 - ومن خطبة له عليه السلام
أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة
أوليائه وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة (4).
فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشملة البلاء. وديث
67

بالصغار والقماءة (1) وضرب على قلبه بالأسداد (2) وأديل الحق منه
بتضييع الجهاد وسيم الخسف (3) ومنع النصف. ألا وإني قد دعوتكم
إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم
اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا (4)
فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت الغارات عليكم وملكت عليكم
الأوطان. وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار (5) وقد قتل حسان
ابن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها (6) ولقد بلغني أن
الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة
68

فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها (1) ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع
والاسترحام (2) ثم انصرفوا وافرين (3) ما نال رجلا منهم كلم ولا
أريق لهم دم. فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به
ملوما بل كان به عندي جديرا. فيا عجبا والله يميت القلب ويجلب
الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم فقبحا
لكم وترحا (4) حين صرتم غرضا يرمى يغار عليكم ولا تغيرون.
وتغزون ولا تغزون. ويعصى الله وترضون فإذا أمرتكم بالسير
إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارة القيظ (5) أمهلنا يسبخ عنا الحر (6)
وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبارة القر (7) أمهلنا
ينسلخ عنا البرد، كل هذا فرارا من الحر والقر فإذا كنتم من الحر
69

والقر تفرون فإذا أنتم والله من السيف أفر. يا أشباه الرجال
ولا رجال. حلوم الأطفال. وعقول ربات الحجال (1). لوددت أني لم
أركم ولم أعرفكم. معرفة والله جرت ندما وأعقبت سدما (2)
قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا. وشحنتم صدري غيظا. وجرعتموني
نغب التهمام أنفاسا (3). وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد
قالت قريش إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب
لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني (4)
لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت على الستين (5).
ولكن لا رأي لمن لا يطاع
28 - ومن خطبة له عليه السلام
أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع (6) وإن الآخرة
70

قد أشرفت باطلاع ألا وإن اليوم المضمار (1). وغدا السباق. والسبقة
الجنة (2) والغاية النار. أفلا تائب من خطيئته قبل منيته؟ ألا عامل
لنفسه قبل يوم بؤسه (3)؟ ألا وإنكم في أيام أمل (4) من ورائه أجل. فمن
عمل في أيام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله. ولم يضرره أجله. ومن
قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله. وضره أجله. ألا
فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة (5). ألا وإني لم أر كالجنة
71

نام طالبها. ولا كالنار نام هاربها (1). ألا وإنه من لا ينفعه الحق
يضرره الباطل (2). ومن لم يستقم به الهدى يجر به الضلال إلى الردى.
ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن (3). ودللتم على الزاد. وإن أخوف ما
أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل. تزودوا من الدنيا ما
تحرزون أنفسكم به غدا (4) (أقول) لو كان كلام يأخذ بالأعناق
إلى الزهد في الدنيا ويضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام.
وكفى به قاطعا لعلائق الآمال. وقادحا زناد الاتعاظ والازدجار. ومن
أعجبه قوله عليه السلام (ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق.
والسبقة الجنة والغاية النار) فإن فيه مع فخامة اللفظ وعظم قدر
المعنى وصادق التمثيل وواقع التشبيه سرا عجيبا ومعنى لطيفا وهو
قوله عليه السلام (والسبقة الجنة والغاية النار) فخالف بين اللفظين
لاختلاف المعنيين. ولم يقل السبقة النار كما قال: السبقة الجنة لأن
72

الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب وغرض مطلوب وهذه صفة
الجنة وليس هذا المعنى موجودا في النار نعوذ بالله منها فلم يجز أن
يقول والسبقة النار بل قال والغاية النار، لأن الغاية ينتهي إليها من لا
يسره الانتهاء ومن يسره ذلك، فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معا فهي
في هذا الموضع كالمصير والمال قال الله تعالى (قل تمتعوا فإن
مصيركم إلى النار) ولا يجوز في هذا الموضع أن يقال سبقتكم
" بسكون الباء " إلى النار فتأمل ذلك فباطنه عجيب وغوره بعيد.
وكذلك أكثر كلامه عليه السلام. (وفي بعض النسخ) وقد جاء
في رواية أخرى (والسبقة الجنة) بضم السين. والسبقة عندهم اسم
لما يجعل للسابق إذا سبق من مال أو عرض والمعنيان متقاربان لأن
ذلك لا يكون جزاء على فعل الأمر المذموم وإنما يكون جزاء على
فعل الأمر المحمود
29 - ومن خطبة له عليه السلام
أيها الناس المجتمعة أبدانهم. المختلفة أهواؤهم (1). كلامكم
يوهي الصم الصلاب (2) وفعلكم يطمع فيكم الأعداء. تقولون
73

في المجالس كيت وكيت. فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد (1). ما عزت
دعوة من دعاكم ولا استراح قلب من قاساكم (2). أعاليل بأضاليل.
دفاع ذي الدين المطول (3) لا يمنع الضيم الذليل. ولا يدرك الحق إلا
بالجد. أي دار بعد داركم تمنعون. ومع أي إمام بعدي تقاتلون. المغرور
والله من غررتموه. ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب (4).
ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل (5) أصبحت والله لا أصدق
74

قولكم. ولا أطمع في نصركم. ولا أوعد العدو بكم. ما بالكم؟
ما دواؤكم؟ ما طبكم؟ القوم رجال أمثالكم. أقولا بغير عمل
وغفلة من غير ورع. وطمعا في غير حق.
30 - ومن كلام له عليه السلام في معنى قتل عثمان
لو أمرت به لكنت قاتلا. أو نهيت عنه لكنت ناصرا (1) غير
أن من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه. ومن خذله
لا يستطيع أن يقول نصره من هو خير مني (2) وأنا جامع لكم أمره:
75

استأثر فأساء الأثرة. وجزعتم فأسأتم الجزع (1) ولله حكم واقع
في المستأثر والجازع
31 - ومن كلام له عليه السلام
لابن العباس لما أرسله إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل
حرب الجمل (2)
لا تلقين طلحة فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصا قرنه (3)
يركب الصعب ويقول هو الذلول. ولكن الق الزبير فإنه ألين
عريكة (4) فقل له يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني
76

بالعراق فما عدا مما بدا (1) (أقول هو أول من سمعت منه هذه الكلمة
أعني " فما عدا مما بدا ")
32 - ومن خطبة له عليه السلام
أيها الناس إنا قد أصبحنا في دهر عنود. وزمن كنود (2). يعد
فيه المحسن مسيئا. ويزداد الظالم فيه عتوا. لا ننتفع بما علمنا. ولا
نسأل عما جهلنا. ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا (3). فالناس على
أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه الفساد إلا مهانة نفسه وكلالة حده
ونضيض وفره (4). ومنهم المصلت لسيفه. والمعلن بشره. والمجلب
بخيله ورجله. قد أشرط نفسه وأوبق دينه. لحطام ينتهزه. أو مقنب
77

يقوده. أو منبر يفرعه (1). ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا
ومما لك عند الله عوضا. ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب
الآخرة بعمل الدنيا قد طامن من شخصه وقارب من خطوه وشمر من
ثوبه وزخرف من نفسه للأمانة واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية (2)
ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه (3). وانقطاع سببه.
فقصرته الحال عن حاله فتحلى باسم القناعة وتزين بلباس أهل الزهادة
وليس من ذلك في مراح ولا مغدى. وبقي رجال غض أبصارهم
ذكر المرجع (4). وأراق دموعهم خوف المحشر. فهم بين شريد
78

ناد (1). وخائف مقموع. وساكت مكعوم. وداع مخلص. وثكلان
موجع. قد أخملتهم التقية (2) وشملتهم الذلة فهم في بحر أجاج.
أفواههم ضامزة (3). وقلوبهم قرحة. وقد وعظوا حتى ملوا (4)
وقهروا حتى ذلوا. وقتلوا حتى قلوا. فلتكن الدنيا في أعينكم
أصغر من حثالة القرظ وقراضة الجلم (5) واتعظوا بمن كان قبلكم.
قبل أن يتعظ بكم من بعدكم. وارفضوها ذميمة فإنها قد رفضت من
كان أشغف بها منكم (6). (أقول) هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم
له إلى معاوية وهي من كلام أمير المؤمنين عليه السلام الذي لا
79

يشك فيه وأين الذهب من الرغام (1) والعذب من الأجاج. وقد دل
على ذلك الدليل الخريت (2) ونقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ
فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب البيان والتبيين وذكر من نسبها
إلى معاوية ثم قال هي بكلام علي عليه السلام أشبه، وبمذهبه في تصنيف
الناس وبالإخبار عما هم عليه من القهر والإذلال ومن التقية والخوف
أليق (3) قال ومتى وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه
مسلك الزهاد. ومذاهب العباد)
33 - ومن خطبة له عليه السلام عند خروجه لقتال أهل البصرة (4)
قال عبد الله بن العباس دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام
بذي قار (5) وهو يخصف نعله (6) فقال لي ما قيمة هذا النعل فقلت لا
قيمة لها، فقال عليه السلام والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن
أقيم حقا أو أدفع باطلا ثم خرج عليه السلام فخطب الناس فقال:
إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله وليس أحد من العرب
80

يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة. فساق الناس حتى بوأهم محلتهم
وبلغهم منجاتهم (1) فاستقامت قناتهم (2) واطمأنت صفاتهم. أما والله
إن كنت لفي ساقتها (3) حتى تولت بحذافيرها ما ضعفت ولا جبنت
وإن مسيري هذا لمثلها (4) فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه (5)
مالي ولقريش. والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتونين. وإني
81

لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم * (والله ما تنقم منا قريش
إلا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا فكانوا كما قال الأول،
أدمت لعمري شربك المحض صابحا
وأكلك بالزبد المقشرة البجرا
ونحن وهبناك العلاء ولم تكن
عليا وحطنا حولك الجرد والسمرا)
34 - (ومن خطبة له عليه السلام في استنفار الناس إلى أهل الشام)
أف لكم لقد سئمت عتابكم. أرضيتم بالحياة الدنيا من
الآخرة عوضا. وبالذل من العز خلفا. إذا دعوتكم إلى جهاد
عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة (1). ومن
الذهول في سكرة يرتج عليكم حواري فتعمهون (2) فكأن

* ما بين القوسين زيادة في بعض النسخ.
82

قلوبكم مألوسة (1) فأنتم لا تعقلون. ما أنتم لي بثقة سجيس
الليالي (2) وما أنتم بركن يمال بكم ولا زوافر عز يفتقر إليكم (3)
ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها. فكلما جمعت من جانب انتشرت
من آخر. لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم (4) تكادون ولا
تكيدون. وتنقص أطرافكم فلا تمتعضون (5) لا ينام عنكم وأنتم
في غفلة ساهون. غلب والله المتخاذلون وأيم (6) الله إني لأظن بكم
أن لو حمس الوغى واستحر الموت قد انفرجتم عن ابن أبي طالب
انفراج الرأس (7) والله إن امرأ يمكن عدوه من نفسه يعرق لحمه (8)
83

ويهشم عظمه. ويفري جلده لعظيم عجزه ضعيف ما ضمت عليه
جوانح صدره (1) أنت فكن ذاك إن شئت (2) فأما أنا فوالله دون أن
أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام. وتطيح السواعد
والأقدام (3). ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء
أيها الناس إن لي عليكم حقا ولكم علي حق. فأما حقكم
علي فالنصيحة لكم. وتوفير فيئكم عليكم (4) وتعليمكم كيلا
تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة
والنصيحة في المشهد والمغيب. والإجابة حين أدعوكم. والطاعة
حين آمركم
35 - ومن خطبة له عليه السلام بعد التحكيم
الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح (5) والحدث الجليل.
84

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ليس معه إله غيره وأن
محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله
أما بعد فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث
الحسرة وتعقب الندامة. وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة
أمري ونخلت لكم مخزون رأيي (1) لو كان يطاع لقصير أمر (2)
فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة والمنابذين العصاة. حتى ارتاب
85

الناصح بنصحه
(1). وضن الزند بقدحه فكنت وإياكم كما قال
أخو هوازن
أمرتكم أمري بمنعرج اللوى
فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد
36 - ومن خطبة له عليه السلام في تخويف أهل النهروان (2)
فأنا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر وبأهضام هذا
86

الغائط (1) على غير بينة من ربكم ولا سلطان مبين معكم. قد
طوحت بكم الدار (2). واحتبلكم المقدار. وقد كنت نهيتكم عن
هذه الحكومة فأبيتم علي إباء المخالفين المنابذين (3). حتى صرفت
رأيي إلى هواكم. وأنتم معاشر أخفاء الهام (4). سفهاء الأحلام ولم
آت - لا أبالكم - بجرا (5) ولا أردت لكم ضرا
87

7 3 - ومن كلام له عليه السلام يجري مجرى الخطبة (1)
فقمت بالأمر حين فشلوا وتطلعت حين تقبعوا (2) ونطقت
حين تعتعوا. ومضيت بنور الله حين وقفوا. وكنت أخفضهم صوتا (3)
وأعلاهم فوتا (4). فطرت بعنانها واستبددت برهانها (5). كالجبل
لا تحركه القواصف. ولا تزيله العواصف. لم يكن لأحد في
88

مهمز (1) ولا لقائل في مغمز. الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق
له. والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه. رضينا عن الله
قضاءه وسلمنا لله أمره (2). أتراني أكذب على رسول الله صلى الله عليه
وآله والله لأنا أول من صدقه فلا أكون أول من كذب عليه
فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي وإذا الميثاق في عنقي
لغيري (3).
38 - ومن خطبة له عليه السلام
وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق. فأما أولياء الله
فضياؤهم فيها اليقين. ودليلهم سمت الهدى (4). وأما أعداء الله
89

فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى. فما ينجو من الموت من خافه
ولا يعطى البقاء من أحبه
39 - ومن خطبة له عليه السلام
منيت بمن لا يطيع إذا أمرت (1) ولا يجيب إذا دعوت.
لا
أبا لكم ما تنتظرون بنصركم ربكم. أما دين يجمعكم ولا حمية
تحمشكم (2) أقوم فيكم مستصرخا وأناديكم متغوثا فلا تسمعون لي
قولا. ولا تطيعون لي أمرا. حتى تكشف الأمور عن عواقب
المساءة (3) فما يدرك بكم ثار ولا يبلغ بكم مرام. دعوتكم إلى
نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر. وتثاقلتم تثاقل
النضو الأدبر (4) ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف كأنما
يساقون إلى الموت وهم ينظرون (5). (أقول) قوله عليه السلام
90

متذائب أي مضطرب من قولهم تذاءبت الريح أي اضطرب
هبوبها. ومنه سمي الذئب ذئبا لاضطراب مشيته
40 - ومن كلام له عليه السلام
في الخوارج لما سمع قولهم لا حكم إلا لله قال عليه السلام.
كلمة حق يراد باطل. نعم إنه لا حكم إلا لله. ولكن
هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله: وإنه لا بد للناس من أمير بر أو
فاجر (1) يعمل في إمرته المؤمن. ويستمتع فيها الكافر. ويبلغ الله
فيها الأجل. ويجمع به الفئ، ويقاتل به العدو. وتأمن به السبل.
ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به بر ويستراح من فاجر
(وفي رواية أخرى أنه عليه السلام لما سمع تحكيمهم قال) حكم.
الله أنتظر فيكم (وقال) أما الإمرة البرة فيعمل فيها التقي. وأما
الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي إلى أن تنقطع مدته وتدركه منيته
91

41 - ومن خطبة له عليه السلام
إن الوفاء توأم الصدق (1) ولا أعلم جنة أوقى منه. ولا يغدر
من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله
الغدر كيسا (2) ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم قاتلهم
الله قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه
فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له
في الدين (3)
42 - ومن كلام له عليه السلام
أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى،
92

وطول الأمل (1). فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق. وأما طول الأمل
فينسي الآخرة. ألا وإن الدنيا قد ولت حذاء (2) فلم يبق منها إلا
صبابة (3) كصبابة الإناء اصطبها صابها. ألا وإن الآخرة قد أقبلت
ولكل منهما بنون. فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا أبناء
الدنيا، فإن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة. وإن اليوم عمل ولا
حساب وغدا حساب ولا عمل. (أقول) الحذاء السريعة. ومن الناس
من يرويه جذاء (4).
43 - ومن كلام له عليه السلام
وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد للحرب بعد إرساله جرير
ابن عبد الله البجلي إلى معاوية
إن استعدادي لحرب أهل الشام وجرير عندهم إغلاق للشام
وصرف لأهله عن خير إن أرادوه. ولكن قد وقت لجرير وقتا
93

لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا. والرأي عندي مع الأناة، فأرودوا
ولا أكره لكم الإعداد (1)
ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه (2). وقلبت ظهره وبطنه،
فلم أر لي إلا القتال أو الكفر، إنه قد كان على الناس وال أحدث
أحداثا وأوجد للناس مقالا فقالوا ثم نقموا فغيروا (3).
44 - ومن كلام له عليه السلام
لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية وكان قد ابتاع
سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام
94

وأعتقهم (1) فلما طالبه بالمال خاس به وهرب إلى الشام (2)
قبح الله مصقلة. فعل فعل السادات وفر فرار العبيد. فما أنطق
مادحه حتى أسكته، ولا صدق واصفه حتى بكته. ولو أقام لأخذنا
ميسوره (3). وانتظرنا بماله وفوره (4)
45 - (ومن خطبة له عليه السلام)
الحمد لله غير مقنوط من رحمته. ولا مخلو من نعمته. ولا
مأيوس من مغفرته. ولا مستنكف عن عبادته. الذي لا تبرح
منه رحمة. ولا نفقد له نعمة. والدنيا دار مني لها الفناء (5) ولأهلها
95

منها الجلاء. وهي حلوة خضرة (1) وقد عجلت للطالب (2) والتبست
بقلب الناظر. فارتحلوا عنها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد (3). ولا
تسألوا فيها فوق الكفاف (4) ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ (5)
46 - ومن كلام له عليه السلام
عند عزمه على المسير إلى الشام (6)
اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر (7) وكآبة المنقلب وسوء
المنظر في الأهل والمال. اللهم أنت الصاحب في السفر وأنت الخليفة
في الأهل ولا يجمعهما غيرك لأن المستخلف لا يكون مستصحبا
والمستصحب لا يكون مستخلفا
96

47 - ومن كلام له عليه السلام في ذكر الكوفة
كأني بك يا كوفة تمدين مد الأديم العكاظي (1) تعركين
بالنوازل وتركبين بالزلازل. وإني لأعلم أنه ما أراد بك جبار
سوءا إلا ابتلاه الله بشاغل ورماه بقاتل
48 - (ومن خطبة له عليه السلام عند المسير إلى الشام)
الحمد الله كلما وقب ليل وغسق (2) والحمد لله كلما لاح نجم
وخفق (3). والحمد لله غير مفقود الإنعام ولا مكافإ الإفضال
أما بعد فقد بعثت مقدمتي (4). وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط
حتى يأتيهم أمري. وقد أردت أن أقطع هذه النطفة إلى شرذمة
97

منكم موطنين أكناف دجلة (1) فأنهضهم معكم إلى عدوكم
وأجعلهم من أمداد القوة لكم (2). (أقول يعني عليه السلام بالملطاط ها هنا
السمت الذي أمرهم بلزومه وهو شاطئ الفرات. ويقال ذلك أيضا
لشاطئ البحر، وأصله ما استوى من الأرض. ويعني بالنطفة ماء
الفرات. وهو من غريب العبارات وعجيبها)
49 - ومن كلام له عليه السلام
الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور (3). ودلت عليه أعلام
الظهور. وامتنع على عين البصير. فلا عين من لم يره تنكره. ولا قلب
من أثبته يبصره (4). سبق في العلو فلا شئ أعلى منه. وقرب في الدنو
98

فلا شئ أقرب منه (1). فلا استعلاؤه باعده عن شئ من خلقه. ولا
قربه ساواهم في المكان به. لم يطلع العقول على تحديد صفته.
ولم يحجبها عن واجب معرفته. فهو الذي تشهد له أعلام الوجود.
على إقرار قلب ذي الجحود (2) تعالى الله عما يقول المشبهون به
والجاحدون له علوا كبيرا
50 - ومن كلام له عليه السلام
إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع. وأحكام تبتدع. يخالف
فيها كتاب الله. ويتولى عليها رجال رجالا (3) على غير دين الله. فلو
أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين. ولو أن
الحق خلص من لبس الباطل لانقطعت عنه ألسن المعاندين (4) ولكن
99

يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث (1) فيمزجان، فهنالك يستولي
الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى
1 5 - ومن خطبة له عليه السلام
لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السلام على شريعة
الفرات بصفين ومنعوهم من الماء (2)
قد استطعموكم القتال (3) فقروا على مذلة. وتأخير محلة. أو
رووا السيوف من الدماء ترووا من الماء. فالموت في حياتكم مقهورين.
والحياة في موتكم قاهرين. ألا وإن معاوية قاد لمة من الغواة (4).
وعمس عليهم الخبر (5) حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية
100

52 - ومن خطبة له عليه السلام (*))
ألا وإن الدنيا قد تصرمت وآذنت بوداع وتنكر معروفها.
وأدبرت حذاء (1). فهي تحفز بالفناء سكانها (2) وتحدر بالموت جيرانها (3)
وقد أمر منها ما كان حلوا. وكدر منها ما كان صفوا (4). فلم يبق
منها إلا سملة كسملة الإداوة (5). أو جرعة كجرعة المقلة، لو تمززها
الصديان لم ينقع (6). فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار، المقدور
على أهلها الزوال (7). ولا يغلبنكم فيها الأمل ولا يطولن عليكم

* في نسخة زيادة: " قد تقدم مختارها برواية ونذكرها هاهنا برواية أخرى لتغاير الروايتين "
101

الأمد. فوالله لو حننتم حنين الوله العجال (1). ودعوتم بهديل الحمام (2)
وجأرتم جؤار متبتل الرهبان (3). وخرجتم إلى الله من الأموال والأولاد
التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده أو غفران سيئة أحصتها
كتبه، وحفظها رسله (4)، لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه
وأخاف عليكم من عقابه، والله لو انماثت قلوبكم انمياثا (5) وسالت
عيونكم من رغبة إليه أو رهبة منه دما، ثم عمرتم في الدنيا ما الدنيا
باقية (6) ما جزت أعمالكم - ولو لم تبقوا شيئا من جهدكم - أنعمه
عليكم العظام وهداه إياكم للإيمان (7)
53 - في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية
ومن كمال الأضحية استشراف أذنها (8) وسلامة عينها. فإذا سلمت
102

الأذن والعين سلمت الأضحية وتمت. ولو كانت عضباء القرن (1)
تجر رجلها إلى المنسك (2) (قال الرضي والمنسك هنا المذبح)
54 - ومن خطبة له عليه السلام
فتداكوا على تداك الإبل الهيم يوم وردها (3) قد أرسلها راعيها
وخلعت مثانيها (4) حتى ظننت أنهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لدي.
وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره. فما وجدتني يسعني إلا قتالهم
أو الجحود بما جاءني به محمد صلى الله عليه وآله (5) فكانت معالجة
القتال أهون علي من معالجة العقاب. وموتات الدنيا أهون علي من
موتات الآخرة
103

55 - ومن كلام له عليه السلام
وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين
أما قولكم أكل ذلك كراهية الموت فوالله ما أبالي أدخلت
إلى الموت أو خرج الموت إلي (1). وأما قولكم شكا في أهل الشام
فوالله ما دفعت الحرب يوما إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي
بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحب إلي من أن أقتلها على ضلالها وإن
كانت تبوء بآثامها
56 - ومن كلام له عليه السلام
ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله نقتل آباءنا وأبناءنا
وإخواننا وأعمامنا. ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما ومضيا على اللقم (2)
104

وصبرا على مضض الألم وجدا في جهاد العدو. ولقد كان الرجل منا
والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين. يتخالسان أنفسهما (1)
أيهما يسقي صاحبه كأس المنون. فمرة لنا من عدونا. ومرة لعدونا
منا. فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت (2) وأنزل علينا النصر
حتى استقر الاسلام ملقيا جرانه (3). ومتبوئا أوطانه. ولعمري لو
كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود. ولا أخضر للإيمان عود. وأيم
الله لتحتلبنها دما (4)، ولتتبعنها ندما
57 - ومن كلام له عليه السلام لأصحابه
أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق
البطن (5)
105

يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد. فاقتلوه ولن تقتلوه (1). ألا وإنه
سيأمركم بسبي والبراءة مني. فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة
ولكم نجاة. وأما البراءة فلا تتبرأوا مني فإني ولدت على الفطرة،
وسبقت إلى الإيمان والهجرة (2)
58 - ومن كلام له عليه السلام
كلم به الخوارج (3)
أصابكم حاصب (4) ولا بقي منكم آبر. أبعد إيماني بالله
وجهادي مع رسول الله أشهد على نفسي بالكفر. لقد ضللت إذا وما
أنا من المهتدين. فأوبوا شر مآب. وارجعوا على أثر الأعقاب. أما
إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملا. وسيفا قاطعا. وأثرة يتخذها الظالمون
فيكم سنة (5)
106

(قوله عليه السلام) ولا بقي منكم آبر يروى بالباء والراء من
قولهم رجل آبر للذي يأبر النخل أي يصلحه. ويروى آثر وهو الذي
يأثر الحديث أي يرويه ويحكيه، وهو أصح الوجوه عندي. كأنه عليه
السلام قال (لا بقي منكم مخبر. ويروى آبز بالزاي المعجمة وهو
الواثب. والهالك أيضا يقال له آبز)
59 - قال عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج
وقيل له إنهم قد عبروا جسر النهروان
مصارعهم دون النطفة. والله لا يفلت منهم عشرة (1) ولا يهلك
منكم عشرة. (يعني بالنطفة ماء النهر وهو أفصح كناية عن الماء
وإن كان كثيرا جما)
60 - ولما قتل الخوارج فقيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم
(قال عليه السلام) كلا والله إنهم نطف في أصلاب الرجال
وقرارات النساء (2). كلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم
107

لصوصا سلابين. 61 - (وقال عليه السلام فيهم) لا تقتلوا الخوارج بعدي
فليس من طلب الحق فأخطأه كمن الباطل فأدركه. (يعني
معاوية وأصحابه (1))
62 - ومن كلام له عليه السلام
لما خوف من الغيلة (2)
وإن علي من الله جنة حصينة (3)، فإذا جاء يومي انفرجت عني
وأسلمتني، فحينئذ لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلم (4)
63 - ومن كلام له عليه السلام
ألا وإن الدنيا دار لا يسلم منها إلا فيها (5). ولا ينجى بشئ
108

كان لها (1). أبتلي الناس بها فتنة فما أخذوه منها لها أخرجوا منه وحوسبوا
عليه (2). وما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه وأقاموا فيه. وإنها عند
ذوي العقول كفئ الظل (3) بينا تراه سابغا حتى قلص (4)، وزائدا
حتى نقص
64 - ومن خطبة له عليه السلام
واتقوا الله عباد الله. وبادروا آجالكم بأعمالكم (5) وابتاعوا
ما يبقى لكم بما يزول عنكم (6). وترحلوا فقد جد بكم (7). واستعدوا
109

للموت فقد أظلكم (1). وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا (2). وعلموا
أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا. فإن الله سبحانه لم يخلقكم
عبثا ولم يترككم سدى (3). وما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا
الموت أن ينزل به (4). وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة
لجديرة بقصر المدة (5). وإن غائبا يحدوه الجديدان: - الليل والنهار - لحري
بسرعة الأوبة (6). وإن قادما يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل
110

العدة. فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا (1)
فاتقى عبد ربه. نصح نفسه. قدم توبته. وغلب شهوته (2) فإن أجله
مستور عنه. وأمله خادع له. والشيطان موكل به يزين له المعصية
ليركبها ويمنيه التوبة ليسوفها (3) حتى تنجم منيته عليه أغفل ما
يكون عنها (4) فيالها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة (5)
وأن تؤديه أيامه إلى شقوة. نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن
لا تبطره نعمة (6) ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية. ولا تحل به بعد
الموت ندامة ولا كآبة
111

65 - ومن خطبة له عليه السلام
الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا (1). فيكون أولا قبل أن
يكون آخرا. ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا كل مسمى
بالوحدة غيره قليل (2). وكل عزيز غيره ذليل. وكل قوي غيره
ضعيف. وكل مالك غيره مملوك. وكل عالم غيره متعلم. وكل
قادر غيره يقدر ويعجز. وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات
ويصمه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها (3). وكل بصير غيره يعمى عن
112

خفي الألوان ولطيف الأجسام. وكل ظاهر غيره باطن. وكل
باطن غيره غير ظاهر (1). لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان. ولا
تخوف من عواقب زمان. ولا استعانة على ند مثاور (2). ولا شريك
مكاثر ولا ضد منافر. ولكن خلائق مربوبون. وعباد داخرون (3)
لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن. ولم ينأ عنها فيقال هو منها
بائن (4) لم يؤده خلق ما ابتدأ (5) ولا تدبير ما ذرأ (6) ولا وقف به عجز
عما خلق. ولا ولجت عليه شبهة فيما وقدر (7). بل قضاء متقن
113

وعلم محكم. وأمر مبرم (1) المأمول مع النقم والمرهوب مع النعم
66 - ومن كلام له عليه السلام
كان يقوله لأصحابه في بعض أيام صفين
معاشر المسلمين استشعروا الخشية (2) وتجلببوا السكينة
وعضوا على النواجذ (3) فإنه أنبى للسيوف عن الهام وأكملوا
اللامة (4) وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلها (5) والحظوا الخزر (6)
واطعنوا الشزر (7) ونافحوا بالظبا (8) وصلوا السيوف بالخطا (9). واعلموا
114

أنكم بعين الله (1) ومع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله.
فعاودوا الكر واستحيوا من الفر (2) فإنه عار في الأعقاب ونار يوم
الحساب. وطيبوا عن أنفسكم نفسا. وامشوا إلى الموت مشيا سجحا (3)
وعليكم بهذا السواد الأعظم. والرواق المطنب (4). فاضربوا ثبجه (5)
فإن الشيطان كامن في كسره (6). قد قدم للوثبة يدا وأخر للنكوص
رجلا فصمدا صمدا (7). حتى ينجلي لكم عمود الحق (وأنتم الأعلون
والله معكم ولن يتركم أعمالكم) (8)
115

67 - ومن كلام له عليه السلام في معنى الأنصار
قالوا لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السلام
أنباء السقيفة (1) بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله
قال عليه السلام: ما قالت الأنصار؟ قالوا قالت منا أمير ومنكم أمير
قال عليه السلام
فهلا احتجتم عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصى
بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم (قالوا وما في هذا من
الحجة عليهم) فقال عليه السلام لو كانت الإمارة فيهم لم تكن
الوصية بهم. ثم قال عليه السلام. فما ذا قالت قريش؟ قالوا احتجت
بأنها شجرة الرسول صلى الله عليه وسلم. فقال عليه السلام احتجوا
بالشجرة وأضاعوا الثمرة (2)
68 - ومن كلام له عليه السلام
لما قلد محمد بن أبي بكر مصر فملكت عليه فقتل
وقد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة ولو وليته إياها لما خلى
لهم العرصة (3)
116

ولا أنهزهم الفرصة. بلا ذم لمحمد بن أبي بكر (1) فلقد كان إلي
حبيبا وكان لي ربيبا (2)
69 - ومن كلام له عليه السلام في ذم أصحابه
كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة (3) والثياب المتداعية (4)
كلما حيصت من جانب تهتكت من آخر (5) أكلما أطل عليكم
منسر من مناسر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه وانجحر
انجحار الضبة في جحرها والضبع في وجارها (6). الذليل والله من
نصرتموه. ومن رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل (7). وإنكم والله
117

لكثير في الباحات (1) قليل تحت الرايات. وإني لعالم بما يصلحكم
ويقيم أودكم (2) ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي. أضرع
الله خدودكم (3). وأتعس جدودكم (4) لا تعرفون الحق كمعرفتكم
الباطل. ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحق
70 - وقال عليه السلام في سحرة اليوم الذي ضرب فيه (5)
ملكتني عيني وأنا جالس (6) فسنح لي رسول الله صلى الله عليه
وآله فقلت يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد! فقال
ادع عليهم، فقلت أبدلني الله بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا لهم
مني (يعني بالأود الاعوجاج وباللدد الخصام وهذا من أفصح الكلام)
71 - ومن خطبة له عليه السلام في ذم أهل العراق
أما بعد يا أهل العراق فإنما أنتم كالمرأة الحامل حملت فلما
أتمت أملصت (7) ومات قيمها وطال تأيمها وورثها أبعدها (8) أما والله
118

ما أتيتكم اختيارا ولكن جئت إليكم سوقا (1) ولقد بلغني
أنكم تقولون علي يكذب. قاتلكم الله فعلى من أكذب.
أعلى الله؟ فأنا أول من آمن به. أم على نبيه؟ فأنا أول من صدقه (2). كلا
والله ولكنها لهجة غبتم عنها (3) ولم تكونوا من أهلها. ويلمه كيلا
بغير ثمن (4) لو كان له وعاء، ولتعلمن نبأه بعد حين
119

72 - ومن خطبة له عليه السلام
علم فيها الناس الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله
اللهم داحي المدحوات (1). وداعم المسموكات. وجابل القلوب
على فطرتها (2) شقيها وسعيدها. اجعل شرائف صلواتك ونوامي
بركاتك (3) على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق. والفاتح لما
120

انغلق. والمعلن الحق بالحق والدافع جيشات الأباطيل. والدامغ
صولات الأضاليل. كما حمل فاضطلع (1) قائما بأمرك مستوفزا في
مرضاتك غير نأكل عن قدم. ولا واه في عزم (2). واعيا لوحيك
حافظا لعهدك. ماضيا على نفاذ أمرك. حتى أورى قبس القابس
وأضاء الطريق للخابط (3) وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن.
121

وأقام موضحات الأعلام ونيرات الأحكام. فهو أمينك المأمون
وخازن علمك المخزون (1). وشهيدك يوم الدين (2) وبعيثك بالحق (3).
ورسولك إلى الخلق. اللهم افسح له مفسحا في ظلك (4) واجزه
مضاعفات الخير من فضلك. اللهم أعل على بناء البانين بناءه (5)
وأكرم لديك منزلته، وأتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له
مقبول الشهادة ومرضي المقالة (6) ذا منطق عدل. وخطة فصل. اللهم
122

اجمع بيننا وبينه في برد العيش وقرار النعمة (1)، ومنى الشهوات.
وأهواء اللذات ورخاء الدعة. ومنتهى الطمأنينة. وتحف الكرامة (2)
73 - ومن كلام له عليه السلام قاله لمروان بن الحكم بالبصرة
(قالوا أخذ مروان بن الحكم أسيرا يوم الجمل فاستشفع الحسن
والحسين عليهما السلام (3) إلى أمير المؤمنين عليه السلام
فكلماه فيه فخلى سبيله. فقالا له يبايعك يا أمير المؤمنين فقال عليه
السلام)
أو لم يبايعني بعد (*) قتل عثمان لا حاجة لي في بيعته إنها. كف (4)

* في نسخة: قبل قتل عثمان.
123

يهودية. لو بايعني بكفه لغدر بسبته (1) أما إن له إمرة كلعقة
الكلب أنفه (2). وهو أبو الأكبش الأربعة (3) وستلقى الأمة منه
ومن ولده يوما أحمر
74 - ومن كلام له عليه السلام لما عزموا على بيعة عثمان
لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري. ووالله لأسلمن ما سلمت
أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة التماسا لأجر ذلك
وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه (4)
124

75 - ومن كلام له عليه السلام
لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان
أو لم ينه أمية علمها بي عن قرفي (1). أوما وزع الجهال سابقتي
عن تهمتي. ولما وعظهم الله به أبلغ من لساني (2). أنا حجيج المارقين (3)
وخصيم المرتابين. وعلى كتاب الله تعرض الأمثال (4) وبما في الصدور
تجازى العباد
76 - ومن خطبة له عليه السلام
رحم الله امرأ سمع حكما فوعى. ودعي إلى رشاد فدنا (5).
125

وأخذ بحجزة هاد فنجا (1). راقب ربه. وخاف ذنبه. قدم خالصا
وعمل صالحا. اكتسب مذخورا (2). واجتنب محذورا. رمى غرضا
وأحرز عوضا (3) كابر هواه. وكذب مناه. جعل الصبر مطية نجاته
والتقوى عدة وفاته. ركب الطريقة الغراء (4)، ولزم المحجة البيضاء.
إغتنم المهل (5) وبادر الأجل وتزود من العمل
77 - ومن كلام له عليه السلام
إن بني أمية ليفوقونني تراث محمد صلى الله عليه وآله تفويقا والله لئن
بقيت لهم لأنفضنهم اللحام الوذام التربة (ويروى التراب الوذمة.
وهو على القلب (6)) قوله عليه السلام ليفوقونني أي يعطونني من
126

المال قليلا قليلا كفواق الناقة. وهو الحلبة الواحدة من لبنها.
والوذام جمع وذمة وهي الحزة من الكرش أو الكبد تقع في التراب
فتنفض (1)
78 - ومن كلمات كان يدعو بها عليه السلام
اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني. فإن عدت فعد علي بالمغفرة.
اللهم اغفر لي ما وأيت من نفسي ولم تجد له وفاء عندي (2). اللهم
اغفر لي ما تقربت به إليك بلساني ثم خالفه قلبي (3). اللهم اغفر لي
رمزات الألحاظ. وسقطات الألفاظ. وشهوات الجنان. وهفوات
اللسان (4)
127

79 - ومن كلام له عليه السلام
قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج فقال له
يا أمير المؤمنين إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر
بمرادك من طريق علم النجوم فقال عليه السلام
أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء.
وتخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر (1)؟. فمن صدق
بهذا فقد كذب القرآن واستغنى عن الإعانة بالله في نيل المحبوب
ودفع المكروه. وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد
دون ربه لأنك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع
وأمن الضر (ثم أقبل عليه السلام على الناس فقال)
أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر (2)
فإنها تدعو إلى الكهانة والمنجم كالكاهن (3) والكاهن كالساحر
128

والساحر كالكافر والكافر في النار سيروا على اسم الله
80 - ومن خطبة له عليه السلام بعد حرب الجمل في ذم النساء
معاشر الناس إن النساء نواقص الإيمان (1) نواقص الحظوظ نواقص
العقول. فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام
حيضهن. وأما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الانصاف من مواريث
الرجال. وأما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل
الواحد. فاتقوا شرار النساء. وكونوا من خيارهن على حذر ولا
تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر (2)
129

81 - ومن كلام له عليه السلام
أيها الناس الزهادة قصر الأمل. والشكر عند النعم. والورع
عند المحارم (1). فإن عزب ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم (2)
ولا تنسوا عند النعم شكركم فقد أعذر الله إليكم بحجج
مسفرة، ظاهرة وكتب بارزة العذر واضحة (3)
82 - ومن كلام له عليه السلام في صفة الدنيا
ما أصف من دار أولها عناء. وآخرها فناء. في حلالها حساب. وفي
130

حرامها عقاب من استغنى فيها فتن. ومن افتقر فيها حزن. ومن
ساعاها فاتته (1). ومن قعد عنها واتته. ومن أبصر بها بصرته (2). ومن
أبصر إليها أعمته. (أقول وإذا تأمل المتأمل قوله عليه السلام
من أبصر بها بصرته وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد
ما لا تبلغ غايته، ولا يدرك غوره، ولا سيما إذا قرن إليه قوله:
ومن أبصر إليها أعمته. فإنه يجد الفرق بين أبصر بها وأبصر إليها
واضحا نيرا وعجيبا باهرا).
131

83 - ومن خطبة له عليه السلام وهي من الخطب العجيبة وتسمى الغراء
الحمد لله الذي على بحوله (1). ودنا بطوله (2). مانح كل غنيمة
وفضل. وكاشف كل عظيمة وأزل (3) أحمده على عواطف كرمه.
وسوابغ نعمه (4). وأومن به أولا باديا (5). وأستهديه قريبا هاديا.
وأستعينه قادرا قاهرا. وأتوكل عليه كافيا ناصرا. وأشهد أن محمدا
صلى الله عليه وآله عبده ورسوله. أرسله لإنفاذ أمره وإنهاء عذره (6)
132

وتقديم نذره (1). أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب لكم الأمثال (2)
ووقت لكم الآجال. وألبسكم الرياش وأرفع لكم المعاش،
وأحاطكم بالإحصاء. وأرصد لكم الجزاء. وآثركم بالنعم
السوابغ والرفد الروافغ. وأنذركم بالحجج البوالغ. وأحصاكم
عددا. ووظف لكم مددا في قرار خبرة ودار عبرة. أنتم مختبرون
فيها ومحاسبون عليها فإن الدنيا رنق مشربها (3) ردغ مشرعها. يونق
منظرها (4) ويوبق مخبرها. غرور حائل (5). وظل زائل. وسناد
133

مائل (1) حتى إذا أنس نافرها واطمأن ناكرها قمصت بأرجلها (2). وقنصت
بأحبلها. وأقصدت بأسهمها. وأعلقت المرء أوهاق المنية (3). قائدة
له إلى ضنك المضجع (4) ووحشة المرجع. ومعاينة المحل (5) وثواب
العمل. وكذلك الخلف يعقب السلف. لا تقلع المنية اختراما (6)
ولا يرعوي الباقون اجتراما (7). يحتذون مثالا ويمضون أرسالا إلى
غاية الانتهاء. وصيور الفناء (8) حتى إذا تصرمت الأمور وتقضت
134

الدهور وأزف النشور (1) أخرجهم من ضرائح القبور وأوكار
الطيور. وأوجرة السباع. ومطارح المهالك سراعا إلى أمره.
مهطعين إلى معاده (2). رعيلا صموتا قياما صفوفا ينفذهم البصر (3)
ويسمعهم الداعي. عليهم لبوس الاستكانة (4). وضرع الاستسلام
والذلة. قد ضلت الحيل. وانقطع الأمل. وهوت الأفئدة كاظمة (5)
وخشعت الأصوات مهينمة. وألجم العرق. وعظم الشفق وأرعدت
135

الاسماع لزبرة الداعي إلى فصل الخطاب (1) ومقابضة الجزاء. ونكال
العقاب. ونوال الثواب. عباد مخلوقون اقتدارا. ومربوبون اقتسارا (2)
ومقبوضون احتضارا. ومضمنون أجداثا. وكائنون رفاتا. ومبعوثون
أفرادا. ومدينون جزاء. ومميزون حسابا. قد أمهلوا في طلب المخرج (3)
136

وهدوا سبيل المنهج. وعمروا مهل المستعتب. وكشفت عنهم سدف
الريب (1) وخلوا لمضمار الجياد (2). وروية الارتياد. وأناة المقتبس
المرتاد (3) في مدة الأجل ومضطرب المهل. فيالها أمثالا صائبة. ومواعظ
شافية. لو صادفت قلوبا زاكية. وأسماعا واعية. وآراء عازمة. وألبابا
حازمة. فاتقوا الله تقية من سمع فخشع. واقترف فاعترف (4) ووجل
فعمل، وحاذر فبادر. وأيقن فأحسن. وعبر فاعتبر. وحذر فازدجر
وأجاب فأناب (5). ورجع فتاب. واقتدى فاحتذى. وأري فرأى.
137

فأسرع طالبا. ونجا هاربا. فأفاد ذخيرة (1) وأطاب سريرة. وعمر معادا.
واستظهر زادا (2). ليوم رحيله. ووجه سبيله. وحال حاجته. وموطن فاقته. وقدم أمامه لدار مقامه. فاتقوا الله عباد الله جهة ما خلقكم
له (3). واحذروا منه كنه ما حذركم من نفسه (4) واستحقوا منه ما
أعد لكم بالتنجز لصدق ميعاده (5) والحذر من هول معاده
" منها " جعل لكم أسماعا لتعي ما عناها. وأبصارا لتجلو عن عشاها (6)
وأشلاء جامعة لأعضائها. ملائمة لأحنائها (7). في تركيب صورها ومدد
138

عمرها. بأبدان قائمة بأرفاقها (1) وقلوب رائدة لأرزاقها. في مجللات
نعمه (2) وموجبات مننه. وحواجز عافيته. وقدر لكم أعمارا سترها
عنكم. وخلف لكم عبرا من آثار الماضين قبلكم من مستمتع
خلاقهم ومستفسح خناقهم. أرهقتهم المنايا دون الآمال. وشذ بهم
عنها تخرم الآجال. لم يمهدوا في سلامة الأبدان، ولم يعتبروا في أنف
الأوان (3). فهل ينتظر أهل بضاضة الشباب إلا حواني الهرم. وأهل
غضارة الصحة إلا نوازل السقم. وأهل مدة البقاء إلا آونة الفناء (4)
مع قرب الزيال (5) وأزوف الانتقال وعلز القلق. وألم المضض
وغصص الجرض. وتلفت الاستغاثة بنصرة الحفدة والأقرباء والأعزة
139

والقرناء. فهل دفعت الأقارب أو نفعت النواحب (1) وقد غودر في محلة
الأموات رهينا (2) وفي ضيق المضجع وحيدا. قد هتكت الهوام
جلدته (3) وأبلت النواهك جدته. وعفت العواصف آثاره. ومحا
الحدثان معالمه (4) وصارت الأجساد شحبة بعد بضتها، والعظام نخرة
بعد قوتها (5) والأرواح مرتهنة بثقل أعبائها (6) موقنة بغيب أنبائها.
لا تستزاد من صالح عملها، ولا تستعتب من سئ زللها (7) أو لستم
أبناء القوم والآباء، وإخوانهم والأقرباء. تحتذون أمثلتهم. وتركبون
قدتهم (8) وتطأون جادتهم. فالقلوب قاسية عن حظها. لاهية عن
140

رشدها سالكة في غير مضمارها. كأن المعني سواها (1) وكأن الرشد
في إحراز دنياها. واعلموا أن مجازكم على الصراط ومزالق دحضه
وأهاويل زلله وتارات أهواله (2) فاتقوا الله تقية ذي لب شغل التفكر
قلبه. وأنصب الخوف بدنه (3)، وأسهر التهجد غرار نومه وأظمأ
الرجاء هواجر يومه وظلف الزهد شهواته، وأرجف الذكر بلسانه
وقدم الخوف لإبانه، وتنكب المخالج عن وضح السبيل، وسلك أقصد
المسالك إلى النهج المطلوب، ولم تفتله فاتلات الغرور (4)، ولم تعم
141

عليه مشتبهات الأمور. ظافرا بفرحة البشرى وراحة النعمى (1) في
أنعم نومه وآمن يومه. قد عبر معبر العاجلة حميدا (2). وقدم زاد
الآجلة سعيدا. وبادر من وجل. وأكمش في مهل ورغب في طلب
وذهب عن هرب (3) وراقب في يومه غده. ونظر قدما أمامه (4) فكفى
بالجنة ثوابا ونوالا. وكفى بالنار عقابا ووبالا. وكفى بالله منتقما
ونصيرا. وكفى بالكتاب حجيجا وخصيما (5) أوصيكم بتقوى الله
الذي أعذر بما أنذر. واحتج بما نهج (6). وحذركم عدوا نفذ في
الصدور خفيا ونفث في الآذان تجيا (7)، فأضل وأردى، ووعد فمنى،
142

وزين سيئات الجرائم. وهون موبقات العظائم. حتى إذا استدرج
قرينته (1) واستغلق رهينته أنكر ما زين (2) واستعظم ما هون وحذر
ما أمن.
ومنها في صفة خلق الإنسان أم هذا الذي أنشأه في ظلمات
الأرحام (3) وشغف الأستار نطفة دهاقا وعلقة محاقا. وجنينا وراضعا، ووليدا
ويافعا (4). ثم منحه قلبا حافظا ولسانا لافظا وبصرا لاحظا. ليفهم معتبرا.
ويقصر مزدجرا. حتى إذا قام اعتداله واستوى مثاله (5) نفر مستكبرا
وخبط سادرا (6). ماتحا في غرب هواه (7)، كادحا سعيا لدنياه. في لذات
143

طربه، وبدوات أربه لا يحتسب رزية (1) ولا يخشع تقية. فمات في
فتنته غريرا، وعاش في هفوته يسيرا. لم يفد (2) عوضا ولم يقض مفترضا.
دهمته فجعات المنية في غبر جماحه، وسنن مراحه (3)، فظل سادرا (4) وبات
ساهرا. في غمرات الآلام. وطوارق الأوجاع والأسقام. بين أخ
شقيق ووالد شفيق. وداعية بالويل جزعا. والأدمة للصدر قلقا (5).
والمرء في سكرة ملهية. وغمرة كارثة (6) وأنة موجعة. وجذبة
مكربة. وسوقة متعبة. ثم أدرج في أكفانه مبلسا (7) وجذب منقادا
144

سلسا. ثم ألقي على الأعواد. رجيع وصب (1) ونضو سقم تحمله حفدة
الولدان (2) وحشدة الإخوان، إلى دار غربته. ومنقطع زورته (3) حتى
إذا انصرف المشيع. ورجع المتفجع أقعد في حفرته نجيا لبهتة السؤال
وعثرة الامتحان (4). وأعظم ما هنالك بلية نزول الحميم (5) وتصلية
الجحيم وفورات السعير وسورات الزفير. لا فترة مريحة (6). ولا دعة
مزيحة. ولا قوة حاجزة. ولا موتة ناجزة. ولا سنة مسلية بين
أطوار الموتات (7) وعذاب الساعات إنا بالله عائذون
عباد الله أين الذين عمروا فنعموا (8) وعلموا ففهموا وأنظروا
فلهوا (9)
145

وسلموا فنسوا (1). أمهلوا طويلا. ومنحوا جميلا. وحذروا أليما.
ووعدوا جسيما. احذروا الذنوب المورطة والعيوب المسخطة (2)
أولي الأبصار والأسماع. والعافية والمتاع. هل من مناص أو
خلاص. أو معاذ أو ملاذ. أو فرار أو محار (3) أم لا فأنى تؤفكون (4)
أم أين تصرفون. أم بما ذا تغترون وإنما حظ أحدكم من الأرض ذات
الطول والعرض. قيد قده (5) متعفرا على خده الآن. عباد الله والخناق
مهمل (6) والروح مرسل. في فينة الإرشاد (7) وراحة الأجساد وباحة
الاحتشاد (8). ومهل البقية. وأنف المشية (9). وإنظار التوبة وانفساح
الحوبة (10) قبل الضنك والمضيق. والروع والزهوق (11) وقبل قدوم
الغائب المنتظر (12) وأخذة العزيز المقتدر
146

وفي الخبر أنه عليه السلام لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها
الجلود. وبكت العيون ورجفت القلوب. ومن الناس من يسمى
هذه الخطبة الغراء
84 - ومن خطبة له عليه السلام في ذكر عمرو بن العاص
عجبا لابن النابغة (1) يزعم لأهل الشام أن في دعابة (2) وأني امرؤ
تلعابة أعافس وأمارس (3) لقد قال باطلا ونطق آثما. أما وشر القول
الكذب إنه ليقول فيكذب. ويعد فيخلف. ويسأل فيلحف (4)
ويسأل فيبخل. ويخون العهد. ويقطع الإل (5) فإذا كان عند الحرب
فأي زاجر وآمر هو. ما لم تأخذ السيوف مآخذها (6) فإذا كان ذلك
كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبته (7) أما والله إني ليمنعني
من اللعب ذكر الموت. وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة.
147

إنه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه أتية ويرضخ له على ترك
الدين رضيخة (1)
85 - ومن خطبة له عليه السلام
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. الأول لا شئ قبله.
والآخر لا غاية له. لا تقع الأوهام له على صفة ولا تقعد القلوب
منه على كيفية (2) ولا تناله التجزئة والتبعيض. ولا تحيط به الأبصار
والقلوب (منها) فاتعظوا عباد الله بالعبر النوافع. واعتبروا بالآي
السواطع (3) وازدجروا بالنذر البوالغ (4) وانتفعوا بالذكر
والمواعظ. فكأن قد علقتكم مخالب المنية. وانقطعت منكم
علائق الأمنية. ودهمتكم مفظعات الأمور (5) والسياقة إلى الورد
المورود (6) وكل نفس معها سائق وشهيد. سائق يسوقها إلى محشرها
148

وشاهد يشهد عليها بعملها
(ومنها في صفة الجنة) درجات متفاضلات. ومنازل متفاوتات.
لا ينقطع نعيمها ولا يظعن مقيمها. ولا يهرم خالدها. ولا يبأس
ساكنها (1).
86 - ومن خطبة له عليه السلام
قد علم السرائر. وخبر الضمائر. له الإحاطة بكل شئ. والغلبة
لكل شئ والقوة على كل شئ. فليعمل العامل منكم في أيام مهله
قبل إرهاق أجله (2) وفي فراغة قبل أوان شغله. وفي متنفسه قبل أن
يؤخذ بكظمه (3) وليمهد لنفسه وقدومه. وليتزود من دار ظعنه لدار
إقامته. فالله الله أيها الناس فيما استحفظكم من كتابه واستودعكم
من حقوقه. فإن الله سبحانه لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدى
ولم يدعكم في جهالة ولا عمى. قد سمى آثاركم (4) وعلم أعمالكم
وكتب آجالكم. وأنزل عليكم الكتاب تبيانا لكل شئ
149

وعمر فيكم نبيه أزمانا (1) حتى أكمل له ولكم فيما أنزل من
كتابه دينه الذي رضي لنفسه وأنهى إليكم على لسانه محابه من
الأعمال ومكارهه (2) ونواهيه وأوامره. فألقى إليكم المعذرة واتخذ
عليكم الحجة. وقدم إليكم بالوعيد. وأنذركم بين يدي عذاب
شديد. فاستدركوا بقية أيامكم. واصبروا لها أنفسكم (3) فإنها قليل
في كثير الأيام التي تكون منكم فيها الغفلة والتشاغل عن الموعظة.
ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرخص فيها مذاهب الظلمة (4) ولا
تداهنوا فيهجم بكم (5) الأدهان على المصيبة. عباد الله إن أنصح الناس
لنفسه أطوعهم لربه. وإن أغشهم لنفسه أعصاهم لربه والمغبون من
غبن نفسه (6) والمغبوط من سلم له دينه (7). والسعيد من وعظ بغيره
والشقي من انخدع لهواه. واعلموا أن يسير الرياء شرك (8) ومجالسة أهل
الهوى منساة للإيمان (9). ومحضرة للشيطان. جانبوا الكذب فإنه مجانب
للإيمان. الصادق على شرف منجاة وكرامة. والكاذب على شفا مهواة
150

ومهانة ولا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار
الحطب. ولا تباغضوا فإنها الحالقة (1). واعلموا أن الأمل يسهي العقل
وينسي الذكر (2) فأكذبوا الأمل فإنه غرور. وصاحبه مغرور
87 - ومن خطبة له عليه السلام
عباد الله إن من أحب عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه فاستشعر
الحزن وتجلبب الخوف (3) فزهر مصباح الهدى في قلبه وأعد القرى
ليومه النازل به (4) فقرب على نفسه البعيد وهون الشديد (5). نظر
فأبصر. وذكر فاستكثر (6) وارتوى من عذب فرات. سهلت له
151

موارده فشرب نهلا (1) وسلك سبيلا جددا (2) قد خلع سرابيل الشهوات
وتخلى من الهموم إلا هما واحدا انفرد به (3) فخرج من صفة العمى
ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق
أبواب الردى. قد أبصر طريقه. وسلك سبيله. وعرف مناره. وقطع
غماره (4) استمسك من العرى بأوثقها. ومن الحبال بأمتنها. فهو من
اليقين على مثل ضوء الشمس. قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع
الأمور من إصدار كل وارد عليه. وتصيير كل فرع إلى أصله (5)
مصباح ظلمات. كشاف عشاوات. مفتاح مبهمات. دفاع معضلات (6)
دليل فلوات (7). يقول فيفهم ويسكت فيسلم. قد أخلص لله
فاستخلصه. فهو من معادن دينه. وأوتاد أرضه. قد ألزم نفسه العدل
152

فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه. يصف الحق ويعمل به. لا يدع
للخير غاية إلا أمها (1) ولا مظنة إلا قصدها (2). قد أمكن الكتاب من
زمامه (3) فهو قائده وإمامه. يحل حيث حل ثقله (4) وينزل حيث كان
منزله. وآخر قد تسمى عالما وليس به (5). فاقتبس جهائل من جهال،
وأضاليل من ضلال. ونصب للناس شركا من حبائل غرور وقول زور.
قد حمل الكتاب على آرائه. وعطف الحق على أهوائه (6) يؤمن من
العظائم ويهون كبير الجرائم. يقول أقف عند الشبهات وفيها وقع.
واعتزل البدع وبينها اضطجع. فالصورة صورة إنسان. والقلب قلب
حيوان. لا يعرف باب الهدى فيتبعه. ولا باب العمى فيصد عنه.
فذلك ميت الأحياء فأين تذهبون. وأنى تؤفكون (7). والأعلام
153

قائمة، والآيات واضحة، والمنار منصوبة فأين يتاه بكم (1). بل كيف
تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمة الحق وأعلام الدين
وألسنة الصدق. فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن (2) وردوهم ورود
الهيم العطاش (3)
أيها الناس خذوها عن خاتم النبيين صلى الله عليه وآله
إنه يموت من مات منا وليس بميت (4) ويبلى من بلي منا وليس ببال
فلا تقولوا بما لا تعرفون. فإن أكثر الحق فيما تنكرون (5)
واعذروا من لا حجة لكم عليه. وأنا هو. ألم أعمل فيكم بالثقل
الأكبر (6) وأترك فيكم الثقل الأصغر. وركزت فيكم راية
الإيمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام. وألبستكم العافية من
154

عدلي وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي (1) وأريتكم كرائم
الأخلاق من نفسي. فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر
ولا تتغلغل إليه الفكر (منها) حتى يظن الظان أن الدنيا معقولة على
بني أمية (2) تمنحهم درها. وتوردهم صفوها. ولا يرفع عن هذه
الأمة سوطها ولا سيفها. وكذب الظان لذلك، بل هي مجة من لذيذ
العيش (3) يتطعمونها برهة ثم يلفظونها جملة
88 - ومن خطبة له عليه السلام
أما بعد فإن الله لم يقصم جباري دهر قط (4) إلا بعد تميل ورخاء.
ولم يجبر عظم أحد من الأمم إلا بعد أزل وبلاء (5) وفي دون ما
استقبلتم من عتب وما استدبرتم من خطب معتبر (6). وما كل ذي
155

قلب بلبيب. ولا كل ذي سمع بسميع. ولا كل ناظر ببصير. فيا عجبي
- ومالي لا أعجب - من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها.
لا يقتصون أثر نبي. ولا يقتدون بعمل وصي. ولا يؤمنون بغيب. ولا
يعفون عن عيبب (1). يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات. المعروف
عندهم ما عرفوا. والمنكر عندهم ما أنكروا (2). مفزعهم في المعضلات
إلى أنفسهم. وتعويلهم في المبهمات على آرائهم كأن كل امرئ منهم
إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات
89 - ومن خطبة له عليه السلام
أرسله على حين فترة من الرسل. وطول هجعة من
الأمم واعتزام من الفتن (3) وانتشار من الأمور. وتلظ من
156

الحروب (1) والدنيا كاسفة النور ظاهرة الغرور. على حين اصفرار من
ورقها (2) وإياس من ثمرها. واغورار من مائها. قد درست منار الهدى.
وظهرت أعلام الردى. فهي متجهمة لأهلها (3) عابسة في وجه طالبها
ثمرها الفتنة. وطعامها الجيفة. وشعارها الخوف ودثارها السيف (4)
فاعتبروا عباد الله. واذكروا تيك التي آباؤكم وإخوانكم بها
مرتهنون (5). وعليها محاسبون. ولعمري ما تقادمت بكم ولا بهم
العهود. ولا خلت فيما بينكم وبينهم الأحقاب والقرون (6) وما أنتم
اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيد والله ما أسمعهم الرسول شيئا
إلا وها أنا ذا اليوم مسمعكموه. وما أسماعكم اليوم بدون أسماعهم
بالأمس. ولا شقت لهم الأبصار ولا جعلت لهم الأفئدة في ذلك
157

الأوان إلا وقد أعطيتم مثلها في هذا الزمان. والله ما بصرتم بعدهم شيئا جهلوه. ولا أصفيتم به وحرموه (1) ولقد نزلت بكم البلية
جائلا خطامها (2) رخوا بطانها. فلا يغرنكم ما أصبح فيه أهل الغرور.
فإنما هو ظل ممدود إلى أجل معدود
90 - ومن خطبة له عليه السلام
الحمد لله المعروف من غير رؤية. والخالق من غير روية (3)
الذي لم يزل قائما دائما إذ لا سماء ذات أبراج. ولا حجب ذات
أرتاج (4) ولا ليل داج. ولا بحر ساج. ولا جبل ذو فجاج. ولا فج ذو
اعوجاج. ولا أرض ذات مهاد. ولا خلق ذو اعتماد. ذلك مبتدع الخلق
158

ووارثه (1) وإله الخلق ورازقه. والشمس والقمر دائبان في
مرضاته (2) يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد. قسم أرزاقهم.
وأحصى آثارهم وأعمالهم وعدد أنفاسهم وخائنة أعينهم. وما تخفي
صدورهم من الضمير (3). ومستقرهم ومستودعهم من الأرحام
والظهور. إلى أن تتناهى بهم الغايات. هو الذي اشتدت نقمته.
على أعدائه في سعة رحمته. واتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته
قاهر من عازه (4) ومدمر من شاقه ومذل من ناواه وغالب من عاداه.
ومن توكل عليه كفاه. ومن سأله أعطاه ومن أقرضه قضاه (5).
ومن شكره جزاه
عباد الله زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا. وحاسبوها من قبل أن
تحاسبوا. وتنفسوا قبل ضيق الخناق. وانقادوا قبل أنف السياق (6)
159

واعلموا أنه من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر
لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ (1)
91 - ومن خطبة له عليه السلام
تعرف بخطبة الأشباح وهي من جلائل خطبه عليه السلام
وكان سأله سائل أن يصف الله حتى كأنه يراه عيانا
فغضب عليه السلام لذلك
الحمد لله الذي لا يفره المنع والجمود (2) ولا يكديه الاعطاء
والجود. إذ كل معط منتقص سواه. وكل مانع مذموم ما خلاه.
وهو المنان بفوائد النعم. وعوائد المزيد والقسم. عياله الخلق.
ضمن أرزاقهم وقدر أقواتهم. ونهج سبيل الراغبين إليه. والطالبين
ما لديه. وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل. الأول الذي لم
يكن له قبل فيكون شئ قبله. والآخر الذي ليس له بعد
160

فيكون شئ بعده. والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو
تدركه (1). ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال. ولا كان في
مكان فيجوز عليه الانتقال ولو وهب ما تنفست عنه معادن الجبال (2)
وضحكت عنه أصداف البحار من فلز اللجين والعقيان (3) ونثارة
الدر وحصيد المرجان ما أثر ذلك في جوده. ولا أنفد سعة ما عنده
ولكان عنده من ذخائر الأنعام ما لا تنفده مطالب الأنام (4) لأنه
الجواد الذي لا يغيضه سؤال السائلين ولا يبخله إلحاح الملحين (5)
فانظر أيها السائل فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به (6).
161

واستضئ بنور هدايته. وما كلفك الشيطان علمه مما ليس في
الكتاب عليك فرضه ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وأئمة
الهدى أثره فكل علمه إلى الله سبحانه. فإن ذلك منتهى حق الله
عليك. واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام
السدد المضروبة دون الغيوب الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من
الغيب المحجوب (1)، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا
به علما. وسمي تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه
رسوخا. فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك
فتكون من الهالكين. هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك
منقطع قدرته (2) وحاول الفكر المبرأ من خطرات الوساوس
أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته (3) وتولهت القلوب إليه (4)
لتجري في كيفية صفاته (5) وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه
الصفات لتناول علم ذاته (6) ردعها وهي تجوب مهاوي سدف
162

الغيوب متخلصة إليه سبحانه فرجعت إذ جبهت (1) معترفة بأنه
لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته (2) ولا تخطر ببال أولي الرويات
خاطرة من تقدير جلال عزته (3) الذي ابتدع الخلق على غير مثال
امتثله (4) ولا مقدار احتذى عليه من خالق معهود كان قبله. وأرانا
من ملكوت قدرته، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته، واعتراف
الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قدرته ما دلنا باضطرار قيام الحجة
له على معرفته (5) وظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته وأعلام
163

حكمته. فصار كل ما خلق حجة له ودليلا عليه، وإن كان خلقا
صامتا فحجته بالتدبير ناطقة. ودلالته على المبدع قائمة. وأشهد
أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك. وتلاحم حقاق مفاصلهم (1)
المحتجبة لتدبير حكمتك. لم يعقد غيب ضميره على معرفتك (2).
ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ند لك وكأنه لم يسمع تبرأ التابعين
من المتبوعين إذ يقولون " تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم
برب العالمين " كذب العادلون بك (3) إذ شبهوك بأصنامهم ونحلوك
حلية المخلوقين بأوهامهم (4). وجزءوك تجزئة المجسمات بخواطرهم
وقدروك على الخلقة المختلفة القوى (5) بقرائح عقولهم. وأشهد
164

أن من ساواك بشئ من خلقك فقد عدل بك. والعادل بك كافر
بما تنزلت به محكمات آياتك. ونطقت عنه شواهد حجج بيناتك.
وأنك أنت الله الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهب فكرها
مكيفا (1) ولا في رويات خواطرها فتكون محدودا مصرفا (2).
(ومنها) قدر ما خلق فأحكم تقديره. ودبره فألطف تدبيره
ووجهه لوجهته فلم يتعد حدود منزلته. ولم يقصر دون الانتهاء
إلى غايته ولم يستصعب إذ أمر بالمضي على إرادته (3). وكيف وإنما
صدرت الأمور عن مشيئته. المنشئ أصناف الأشياء بلا روية فكر
آل إليها ولا قريحة غريزة أضمر عليها (4) ولا تجربة أفادها من حوادث
الدهور (5) ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور فتم خلقه
وأذعن لطاعته. وأجاب إلى دعوته ولم يعترض دونه ريث المبطئ (6)
165

ولا أناة المتلكئ (1) فأقام من الأشياء أودها (2). ونهج حدودها (3)
ولاءم بقدرته بين متضادها. ووصل أسباب قرائنها (4). وفرقها أجناسا
مختلفات في الحدود والأقدار والغرائز والهيئات (5). بدايا خلائق
أحكم صنعها (6) وفطرها على ما أراد وابتدعها (منها في صفة السماء)
ونظم بلا تعليق رهوات فرجها (7). ولاحم صدوع انفراجها (8)
ووشج بينها وبين أزواجها (9). وذلل للهابطين بأمره والصاعدين
بأعمال خلقه حزونة معراجها (10). ناداها بعد إذ هي دخان. فالتحمت
166

عرى أشراجها. وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها (1). وأقام رصدا
من الشهب الثواقب على نقابها (2) وأمسكها من أن تمور في خراق
الهواء بأيده (3). وأمرها أن تقف مستسلمة لأمره. وجعل شمسها
آية مبصرة لنهارها (4) وقمرها آية ممحوة من ليلها (5) فأجراهما في
مناقل مجراهما. وقدر سيرهما في مدارج درجهما. ليميز بين الليل
والنهار بهما. وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما. ثم علق في

* العبارة فيها تحريف في الأصل، والمعنى أن كلام الإمام دليل على ما أثبته العلم الحديث من أن
الشهب جعلت لتسد ما يحصل في بعض أجرام الكواكب من خروق، كما يدل عليه آخر العبارة
167

جوها فلكها (1). وناط بها زينتها من خفيات دراريها ومصابيح كواكبها (2)
ورمى مسترقي السمع بثواقب شهبها وأجراها على إذلال تسخيرها من ثبات
ثابتها ومسير سائرها وهبوطها وصعودها. ونحوسها وسعودها (3) (منها في
صفة الملائكة عليهم السلام) ثم خلق سبحانه لإسكان سماواته.
وعمارة الصفيح الأعلى (4) من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته
ملأ بهم فروج فجاجها. وحشى بهم فتوق أجوائها (5). وبين فجوات
تلك الفروج زجل المسبحين منهم في حظائر القدس وسترات الحجب
وسرادقات المجد (6). ووراء ذلك الرجيج الذي تستك منه الاسماع
سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها (7). فتقف خاسئة على حدودها (8).
أنشأهم على صور مختلفات وأقدار متفاوتات. أولي أجنحة تسبح جلال

* هذه العبارة طبق الأصل، وهي غير واضحة. وفي شرح ابن أبي الحديد ما يفيد أن النجوم تدل
بنحسها وسعدها على أمور عامة مما لا تخص أحدا بعينه كأن تدل على قحط عام أو مرض عام أو نحو ذلك
168

عزته لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعته. ولا يدعون أنهم
يخلقون شيئا مما انفرد به. بل عباد مكرمون " لا يسبقونه بالقول
وهم بأمره يعملون " جعلهم فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه. وحملهم
إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه. وعصمهم من ريب الشبهات فما
منهم زائغ عن سبيل مرضاته. وأمدهم بفوائد المعونة. وأشعر
قلوبهم تواضع إخبات السكينة (1) وفتح لهم أبوابا ذللا (2) إلى
تماجيده. ونصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده (3). لم تثقلهم
موصرات الآثام (4). ولم ترتحلهم عقب الليالي والأيام (5). ولم ترم
الشكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم (6). ولم تعترك الظنون على معاقد
يقينهم (7) ولا قدحت قادحة الإحن فيما بينهم (8). ولا سلبتهم
169

الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم (1). وما سكن من عظمته
وهيبة جلالته في أثناء صدورهم. ولم تطمع فيهم الوساوس فتقترع
برينها على فكرهم (2) منهم من هو في خلق الغمام الدلح (3) وفي
عظم الجبال الشمخ وفي فترة الظلام الأبهم (4) ومنهم من خرقت
أقدامهم تخوم الأرض السفلى. فهي كرايات بيض قد نفذت في
مخارق الهواء (5). وتحتها ريح هفافة تحبسها على حيث انتهت من
الحدود المتناهية. قد استفرغتهم أشغال عبادته (6) ووصلت حقائق
الإيمان بينهم وبين معرفته. وقطعهم الايقان به إلى الوله إليه (7)
ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره. قد ذاقوا حلاوة معرفته
وشربوا بالكأس الروية من محبته (8) وتمكنت من سويداء
قلوبهم (9) وشيجة خيفته (10) فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم.
170

ولم ينفد طول الرغبة إليه مادة تضرعهم (1) ولا أطلق عنهم عظيم
الزلفة ربق خشوعهم (2) ولم يتولهم الإعجاب فيستكثروا ما سلف
منهم. ولا تركت لهم استكانة الاجلال (3) نصيبا في تعظيم
حسناتهم. ولم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم ولم تغض رغباتهم (4)
فيخالفوا عن رجاء ربهم ولم تجف لطول المناجاة أسلات ألسنتهم (5)
ولا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم (6) ولم
تختلف في مقاوم الطاعة مناكبهم (7). ولم يثنوا إلى راحة التقصير
في أمره رقابهم. ولا تعدو (8) على عزيمة جدهم بلادة الغفلات ولا
تنتضل في هممهم خدائع الشهوات (9). قد اتخذوا ذا العرش ذخيرة
ليوم فاقتهم (10). ويمموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم (11)
171

لا يقطعون أمد غاية عبادته. ولا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته (1)
إلا إلى مواد من قلوبهم غير منقطعة من رجائه ومخافته (2). لم تنقطع
أسباب الشفقة منهم (3) فينوا في جدهم (4) ولم تأسرهم الأطماع
فيؤثروا وشيك السعي على اجتهادهم (5). ولم يستعظموا ما مضى من
أعمالهم. ولو استعظموا ذلك لنسخ الرجاء منهم شفقات وجلهم (6).
ولم يختلفوا في ربهم باستحواذ الشيطان عليهم. ولم يفرقهم سوء
التقاطع. ولا تولاهم غل التحاسد. ولا شعبتهم مصارف الريب (7)
ولا اقتسمتهم أخياف الهمم (8). فهم أسراء إيمان. لم يفكهم من
ربقته زيغ ولا عدول ولا ونى ولا فتور (9). وليس في أطباق السماوات
172

موضع إهاب (1) إلا وعليه ملك ساجد. أو ساع حافد (2). يزدادون
على طول الطاعة بربهم علما. وتزداد عزة ربهم في قلوبهم عظما.
(ومنها) في صفة الأرض ودحوها على الماء (3). كبس الأرض (4) على
مور أمواج مستفحلة. ولجج بحار زاخرة (5). تلتطم أواذي أمواجها (6)
وتصطفق متقاذفات أثباجها (7) وترغو زبدا كالفحول عند هياجها.
فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها. وسكن هيج ارتمائه إذ
وطئته بكلكلها (8). وذل مستخذيا (9) إذ تمعكت عليه بكواهلها (10)
فأصبح بعد اصطخاب أمواجه (11) ساجيا مقهورا (12). وفي حكمة الذل
منقادا أسيرا (13). وسكنت الأرض مدحوة في لجة تياره. وردت
من نخوة بأوه واعتلائه (14) وشموخ أنفه وسمو
173

غلوائه (1) وكعمته (2) على كظة جريته (3) فهمد بعد نزقانه (4). ولبد
بعد زيفان وثباته (5). فلما سكن هياج الماء من تحت أكنافها (6)
وحمل شواهق الجبال الشمخ البذخ على أكتافها (7) فجر ينابيع العيون
من عرانين أنوفها (8). وفرقها في سهوب بيدها وأخاديدها (9) وعدل
حركاتها بالراسيات من جلاميدها (10) وذوات الشناخيب الشم (11).
من صياخيدها (12). فسكنت من الميدان (13) لرسوب الجبال في قطع
أديمها (14)، وتغلغلها متسربة في جوبات خياشيمها (15)، وركوبها أعناق
174

سهول الأرضين وجراثيمها (1) وفسح بين الجو وبينها. وأعد الهواء
متنسما لساكنها. وأخرج إليها أهلها على تمام مرافقها (2) ثم لم يدع
جرز الأرض (3) التي تقصر مياه العيون عن روابيها (4) ولا تجد
جداول الأنهار ذريعة إلى بلوغها (5) حتى أنشأ لها ناشئة سحاب تحيي
مواتها (6) وتستخرج نباتها. ألف غمامها بعد افتراق لمعه (7) وتباين
قزعه (8)، حتى إذا تمخضت لجة المزن فيه (9). والتمع برقه في كففه (10)
ولم ينم وميضه في كنهور ربابه (11) ومتراكم سحابه أرسله سحا
175

متداركا. قد أسف هيدبه، تمريه الجنوب درر أهاضيبه (2) ودفع
شآبيبه (3) فلما ألقت السحاب برك بوانيها (4)، وبعاع ما استقلت به (5)
من العبء المحمول عليها (6) أخرج به من هوامد الأرض النبات (7)
ومن زعر الجبال الأعشاب (8)، فهي تبهج بزينة رياضها (9) وتزدهي (10)
بما ألبسته من ريط (11) أزاهيرها (12) وحلية ما سمطت به (13) من ناضر
176

أنوارها (1) وجعل ذلك بلاغا للأنام (2) ورزقا للأنعام. وخرق
الفجاج في آفاقها وأقام المنار للسالكين على جواد طرقها. فلما مهد
أرضه وأنفذ أمره اختار آدم عليه السلام خيرة من خلقه. وجعله
أول جبلته (3) وأسكنه جنته وأرغد فيها أكله، وأوعز إليه فيما نهاه
عنه. وأعلمه أن في الإقدام عليه التعرض لمعصيته والمخاطرة
بمنزلته. فأقدم على ما نهاه عنه موافاة لسابق علمه، فأهبطه بعد التوبة
ليعمر أرضه بنسله وليقيم الحجة به على عباده. ولم يخلهم بعد أن قبضه
مما يؤكد عليهم حجة ربوبيته، ويصل بينهم وبين معرفته، بل
تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه، ومتحملي ودائع
رسالاته، قرنا فقرنا حتى تمت بنبينا محمد صلى الله عليه وآله حجته،
وبلغ المقطع عذره ونذره (4). وقدر الأرزاق فكثرها وقللها. وقسمها
على الضيق والسعة فعدل فيها ليبتلي من أراد بميسورها ومعسورها.
وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرها. ثم قرن بسعتها
177

عقابيل فاقتها (1)، وبسلامتها طوارق آفاتها، وبفرج أفراحها (2) غصص
أتراحها (3)، وخلق الآجال فأطالها وقصرها. وقدمها وأخرها. ووصل
بالموت أسبابها (4). وجعله خالجا لأشطانها (5) وقاطعا لمرائر أقرانها (6).
عالم السر من ضمائر المضمرين. ونجوى المتخافتين (7). وخواطر رجم
الظنون (8)، وعقد عزيمات اليقين (9). ومسارق إيماض الجفون (10). وما
ضمنته أكنان القلوب وغيابات الغيوب (11)، وما أصغت لاستراقه
مصائخ الأسماع (12)، ومصائف الذر (13) ومشاتي الهوام (14) ورجع الحنين
178

من المولهات (1) وهمس الأقدام (2). ومنفسح الثمرة من ولائج غلف
الأكمام (3)، ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها (4). ومختبأ
البعوض بين سوق الأشجار وألحيتها (5)، ومغرز الأوراق من الأفنان (6)،
ومحط الأمشاج من مسارب الأصلاب (7)، وناشئة الغيوم ومتلاحمها.
ودرور قطر السحاب في متراكمها. وما تسفي الأعاصير بذيولها (8) وتعفو
الأمطار بسيولها (9). وعوم نبات الأرض في كثبان الرمال (10)، ومستقر
ذوات الأجنحة بذرى شناخيب الجبال (11)، وتغريد ذوات المنطق في
دياجير الأوكار (12)، وما أوعبته الأصداف (13)، وحضنت عليه أمواج
البحار (14)
179

وما غشيته سدفة ليل (1) أو ذر عليه شارق نهار (2). وما اعتقبت عليه
أطباق الدياجير (3) وسبحات النور. وأثر كل خطوة. وحس كل حركة
ورجع كل كلمة. وتحريك كل شفة، ومستقر كل نسمة، ومثقال كل
(ذرة)، وهماهم كل نفس هامة (4). وما عليها من ثمر شجرة (5)، أو ساقط
ورقة أو قرارة نطفة (6) أو نقاعة دم ومضغة (7). أو ناشئة خلق وسلالة.
لم تلحقه في ذلك كلفة. ولا اعترضته في حفظ ما ابتدعه من خلقه
عارضة (8). ولا اعتورته في تنفيذ الأمور وتدابير المخلوقين ملالة
ولا فترة (9). بل نفذ فيهم علمه، وأحصاهم عده، ووسعهم عدله، وغمرهم
فضله مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله.
اللهم أنت أهل الوصف الجميل والتعداد الكثير (10). إن تؤمل
فخير مؤمل: وإن ترج فأكرم مرجو. اللهم وقد بسطت لي فيما
لا أمدح به غيرك، ولا أثني به على أحد سواك، ولا أوجهه إلى معادن
180

الخيبة ومواضع الريبة (1). وعدلت بلساني عن مدائح الآدميين.
والثناء على المربوبين المخلوقين. اللهم ولكل مثن على من أثنى عليه
مثوبة (2) من جزاء أو عارفة من عطاء، وقد رجوتك دليلا على ذخائر
الرحمة وكنوز المغفرة. اللهم وهذا مقام من أفردك بالتوحيد الذي
هو لك ولم ير مستحقا لهذه المحامد والممادح غيرك. وبي فاقة إليك
لا يجبر مسكنتها إلا فضلك ولا ينعش من خلتها إلا منك وجودك (3)،
فهب لنا في هذا المقام رضاك، وأغننا عن مد الأيدي إلى سواك إنك
على كل شي ء قدير.
92 - ومن خطبة له عليه السلام
لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنه
دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان.
لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول (4). وإن الآفاق قد أغامت
والمحجة (5) قد تنكرت. واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم
181

ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب. وإن تركتموني فأنا كأحدكم
و لعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم. وأنا لكم وزيرا
خير لكم مني أميرا.
93 - ومن خطبة له عليه السلام
أما بعد أيها الناس. فأنا فقأت عين الفتنة (1)، ولم تكن ليجرأ
عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها (2) واشتد كلبها (3). فاسألوني قبل
أن تفقدوني. فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شئ فيما بينكم
وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها (4)
وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلا،
182

ويموت منهم موتا. ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأمور (1)
وحوازب الخطوب (2) لأطرق كثير من السائلين وفشل كثير من
المسؤولين. وذلك إذا قلصت حربكم (3) وشمرت عن ساق، وضاقت
الدنيا عليكم ضيقا تستطيلون معه أيام البلاء عليكم حتى يفتح
الله لبقية الأبرار منكم. إن الفتن إذا أقبلت شبهت (4) وإذا أدبرت
نبهت (5). ينكرن مقبلات ويعرفن مدبرات. يحمن حول الرياح يصبن
بلدا ويخطئن بلدا. ألا إن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني
أمية، فإنها فتنة عمياء مظلمة عمت خطتها (6) وخصت بليتها، وأصاب
البلاء من أبصر فيها (7)، وأخطأ البلاء من عمي عنها. وأيم الله لتجدن
بني أمية لكم أرباب سوء بعدي. كالناب الضروس (8) تعذم بفيها
وتخبط بيدها، وتزبن برجلها، وتمنع درها. لا يزالون بكم حتى لا
يتركوا منكم إلا نافعا لهم أو غير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم حتى
183

لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا كانتصار العبد من ربه. والصاحب
من مستصحبه (1). ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية (2) وقطعا جاهلية.
ليس فيها منار هدى، ولا علم يرى (3) نحن أهل البيت منها بمنجاة (4)
ولسنا فيها بدعاة. ثم يفرجها الله عنكم كتفريج الأديم (5) بمن
يسومهم خسفا (6) ويسوقهم عنفا، ويسقيهم بكأس مصبرة (7) لا يعطيهم
إلا السيف. ولا يحلسهم إلا الخوف (8). فعند ذلك تود قريش بالدنيا
وما فيها لو يرونني مقاما واحدا ولو قدر جزر جزور (9) لأقبل منهم
ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونني
94 - ومن خطبة له عليه السلام
فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم. ولا يناله حسن الفطن.
الأول الذي لا غاية له فينتهي. ولا آخر له فينقضي (منها في وصف
184

الأنبياء) فاستودعهم في أفضل مستودع، وأقرهم في خير مستقر.
تناسختهم كرائم الأصلاب (1) إلى مطهرات الأرحام. كلما مضى منهم
سلف قام منهم بدين الله خلف. حتى أفضت كرامة الله سبحانه
إلى محمد صلى الله عليه وآله، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا (2) وأعز
الأرومات مغرسا (3). من الشجرة التي صدع منها أنبياءه (4) وانتخب
منها أمناءه (5). عترته خير العتر (6)، وأسرته خير الأسر، وشجرته خير
الشجر. نبتت في حرم وبسقت في كرم (7)، لها فروع طوال وثمرة
لا تنال. فهو إمام من اتقى وبصيرة من اهتدى. سراج لمع ضوءه.
وشهاب سطع نوره، وزند برق لمعه. سيرته القصد (8) وسنته
الرشد. وكلامه الفصل. وحكمه العدل. أرسله على حين فترة
من الرسل (9)، وهفوة عن العمل (10)، وغباوة من الأمم. اعملوا رحمكم
185

الله على أعلام بينة. فالطريق نهج (1) يدعو إلى دار السلام. وأنتم
في دار مستعتب على مهل وفراغ (2). والصحف منشورة. والأقلام
جارية. والأبدان صحيحة. والألسن مطلقة. والتوبة مسموعة.
والأعمال مقبولة
95 - ومن خطبة له عليه السلام
بعثه والناس ضلال في حيرة. وخابطون في فتنة. قد استهوتهم
الأهواء، واستزلتهم الكبرياء (3)، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء (4).
حيارى في زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل. فبالغ صلى الله عليه وآله
في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة
96 - ومن خطبة أخرى
الحمد لله الأول فلا شئ قبله. والآخر فلا شئ بعده. والظاهر
فلا شئ فوقه. والباطن فلا شئ دونه (منها في ذكر الرسول صلى الله
186

عليه وآله) مستقره خير مستقر. ومنبته أشرف منبت. في معادن
الكرامة، ومماهد السلامة (1). قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، وثنيت
إليه أزمة الأبصار (2). دفن به الضغائن (3). وأطفأ به الثوائر (4). ألف به
إخوانا، وفرق به أقرانا (5). أعز به الذلة (6)، وأذل به العزة. كلامه
بيان وصمته لسان
97 - ومن خطبة له عليه السلام
ولئن أمهل الظالم فلن يفوت أخذه (7). وهو له بالمرصاد على مجاز
طريقه. وبموضع الشجى من مساغ ريقه (8). أما والذي نفسي بيده
ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولى بالحق منكم، ولكن
لإسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقي. ولقد أصبحت
187

الأمم تخاف ظلم رعاتها. وأصبحت أخاف ظلم رعيتي. استنفرتكم
للجهاد فلم تنفروا. وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سرا وجهرا
فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا. أشهود كغياب (1) وعبيد
كأرباب؟ أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها. وأعظكم بالموعظة
البالغة فتتفرقون عنها. وأحثكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر
القول حتى أراكم متفرقين أيادي سبا (2) ترجعون إلى مجالسكم
وتتخادعون عن مواعظكم. أقومكم غدوة وترجعون إلي عشية
كظهر الحية (3)، عجز المقوم وأعضل المقوم (4)
أيها الشاهدة أبدانهم. الغائبة عقولهم. المختلفة أهواؤهم.
المبتلى بهم أمراؤهم. صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه. وصاحب
أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه. لوددت والله أن معاوية صارفني
بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلا
منهم. يا أهل الكوفة منيت بكم بثلاث واثنتين: صم ذوو أسماع،
188

وبكم ذوو كلام، وعمي ذوو أبصار. لا أحرار صدق عند اللقاء (1) ولا
إخوان ثقة عند البلاء. تربت أيديكم. يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها
كلما جمعت من جانب تفرقت من جانب آخر. والله لكأني بكم فيما
إخال (2) أن لو حمس الوغى وحمي الضراب وقد انفرجتم عن ابن
أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها (3). وإني لعلى بينة من ربي، ومنهاج
من نبيي. وإني لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطا (4). انظروا أهل
بيت نبيكم فالزموا سمتهم (5) واتبعوا أثرهم فلن يخرجوكم من هدى،
ولن يعيدوكم في ردى. فإن لبدوا فالبدوا (6) وإن نهضوا فانهضوا.
ولا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا. لقد رأيت
أصحاب محمد صلى الله عليه وآله فما أرى أحدا يشبههم، (*) لقد
كانوا يصبحون شعثا غبرا (7) وقد باتوا سجدا وقياما يراوحون بين

* في بعض النسخ " فما أرى أحدا منهم يشبهه ".
189

جباههم وخدودهم (1) ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم. كأن
بين أعينهم ركب المعزى (2) من طول سجودهم. إذا ذكر الله
هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم. ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح
العاصف خوفا (3) من العقاب ورجاء الثواب
98 - ومن كلام له عليه السلام
والله لا يزالون حتى لا يدعوا لله محرما إلا استحلوه (4) ولا
عقدا إلا حلوه. وحتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله
ظلمهم (5) ونبا به سوء رعيهم (6) وحتى يقوم الباكيان يبكيان
باك يبكي لدينه وباك يبكي لدنياه. وحتى تكون نصرة أحدكم
190

من أحدهم كنصرة العبد من سيده. إذا شهد أطاعه، وإذا غاب
اغتابه. وحتى يكون أعظمكم فيها غناء أحسنكم بالله ظنا. فإن
أتاكم الله بعافية فأقبلوا. وإن ابتليتم فاصبروا. فإن العاقبة للمتقين
99 - ومن خطبة له عليه السلام
نحمده على ما كان ونستعينه من أمرنا على ما يكون. ونسأله
المعافاة في الأديان كما نسأله المعافاة في الأبدان
عباد الله أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم
تحبوا تركها. والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبون تجديدها.
فإنما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنهم قد قطعوه (1)
وأموا علما (2) فكأنهم قد بلغوه. وكم عسى المجرى إلى الغاية أن
يجري إليها (3) حتى يبلغها. وما عسى أن يكون بقاء من له يوم
لا يعدوه وطالب حثيث يحدوه في الدنيا حتى يفارقها (4) فلا تنافسوا
191

في عز الدنيا وفخرها. ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها. ولا تجزعوا
من ضرائها وبؤسها. فإن عزها وفخرها إلى انقطاع. وإن زينتها
ونعيمها إلى زوال، وضراءها وبؤسها إلى نفاد (1). وكل مدة فيها إلى
انتهاء. وكل حي فيها إلى فناء. أوليس لكم في آثار الأولين
مزدجر (2) وفي آبائكم الماضين تبصرة ومعتبر إن كنتم تعقلون.
أو لم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون. وإلى الخلف الباقين
لا يبقون. أو لستم ترون أهل الدنيا يصبحون ويمسون على أحوال
شتى، فميت يبكى وآخر يعزى، وصريع مبتلى. وعائد يعود وآخر
بنفسه يجود (3). وطالب للدنيا والموت يطلبه. وغافل وليس بمغفول
عنه. وعلى أثر الماضي ما يمضي الباقي
ألا فاذكروا هادم اللذات، ومنغص الشهوات، وقاطع
الأمنيات. عند المساورة للأعمال القبيحة (4). واستعينوا الله على أداء
192

واجب حقه. وما لا يحصى من أعداد نعمه وإحسانه
100 - ومن خطبة له أخرى
الحمد لله الناشر في الخلق فضله. والباسط فيهم بالجود يده.
نحمده في جميع أموره. ونستعينه على رعاية حقوقه. ونشهد أن لا إله
غيره وأن محمدا عبده ورسوله. أرسله بأمره صادعا (1)، وبذكره
ناطقا. فأدى أمينا ومضى رشيدا. وخلف فينا راية الحق من تقدمها
مرق (2)، ومن تخلف عنها زهق (3). ومن لزمها لحق دليلها مكيث
الكلام (4). بطئ القيام، سريع إذا قام. فإذ أنتم ألنتم له رقابكم
وأشرتم إليه بأصابعكم، جاءه الموت فذهب به، فلبثتم بعده
ما شاء الله، حتى يطلع الله لكم من يجمعكم ويضم نشركم (5).
فلا تطمعوا في غير مقبل (6)، ولا تيأسوا من مدبر. فإن المدبر
193

عسى أن تزل إحدى قائمتيه (1)، وتثبت الأخرى وترجعا حتى تثبتا
جميعا. ألا إن مثل آل محمد صلى الله عليه وآله كمثل نجوم
السماء إذا خوى نجم طلع نجم (2)، فكأنكم قد تكاملت من الله
فيكم الصنائع، وأراكم ما كنتم تأملون
101 - ومن خطبة له أخرى
الأول قبل كل أول. والآخر بعد كل آخر. بأوليته وجب
أن لا أول له. وبآخريته وجب أن لا آخر له. وأشهد أن لا إله إلا الله
شهادة يوافق فيها السر الاعلان والقلب اللسان
أيها الناس لا يجرمنكم شقاقي (3)، ولا يستهوينكم عصياني،
ولا تتراموا بالأبصار عندما تسمعونه مني (4). فوالذي فلق الحبة
وبرأ النسمة إن الذي أنبئكم به عن النبي الأمي صلى الله عليه وآله.
ما كذب المبلغ ولا جهل السامع. ولكأني أنظر إلى ضليل (5) قد
194

نعق بالشام، وفحص براياته (1) في ضواحي كوفان (2). فإذا فغرت
فاغرته (3)، واشتدت شكيمته (4)، وثقلت في الأرض وطأته عضت
الفتنة أبناءها بأنيابها، وماجت الحرب بأمواجها. وبدا من الأيام
كلوحها (5)، ومن الليالي كدوحها (6). فإذا أينع زرعه (7)، وقام على
ينعه (8). وهدرت شقاشقه، وبرقت بوارقه، عقدت رايات الفتن
المعضلة، وأقبلن كالليل المظلم، والبحر الملتطم. هذا وكم
يخرق الكوفة من قاصف (9)، ويمر عليها من عاصف. وعن قليل
تلتف القرون بالقرون (10)، ويحصد القائم ويحطم المحصود
195

102 - ومن كلام له يجري مجرى الخطبة
وذلك يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين لنقاش الحساب (1)
وجزاء الأعمال، خضوعا قياما قد ألجمهم العرق، ورجفت بهم الأرض.
فأحسنهم حالا من وجد لقدميه موضعا ولنفسه متسعا (منه) فتن
كقطع الليل المظلم. لا تقوم لها قائمة (2)، ولا ترد لها راية،
تأتيكم مزمومة مرحولة، يحفزها قائدها ويجهدها راكبها. أهلها
قوم شديد كلبهم، قليل سلبهم (3). يجاهدهم في سبيل الله قوم أذلة
عند المتكبرين. في الأرض مجهولون، وفي السماء معروفون. فويل
لك يا بصرة عند ذلك من جيش من نقم الله لا رهج له ولا حس (4).
196

وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر والجوع الأغبر
103 - ومن خطبة له عليه السلام
انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها، الصادفين عنها (1). فإنها
والله عما قليل تزيل الثاوي الساكن (2)، وتفجع المترف الآمن (3).
لا يرجع ما تولى منها فأدبر، ولا يدرى ما هو آت منها فينتظر.
سرورها مشوب بالحزن. وجلد الرجال فيها إلى الضعف والوهن. فلا
يغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها، لقلة ما يصحبكم منها
رحم الله امرأ تفكر فاعتبر. واعتبر فأبصر. فكأن ما هو
كائن من الدنيا عن قليل لم يكن (4)، وكأن ما هو كائن من الآخرة
عما قليل لم يزل. وكل معدود منقض، وكل متوقع آت، وكل
آت قريب دان (منها) العالم من عرف قدره. وكفى بالمرء جهلا
197

ألا يعرف قدره. وإن من أبغض الرجال إلى الله لعبدا وكله الله إلى نفسه.
جائرا عن قصد السبيل، سائرا بغير دليل. إن دعي إلى حرث
الدنيا عمل، وإن دعي إلى حرث الآخرة كسل، كأن ما عمل له واجب
عليه (1)، وكأن ما ونى فيه ساقط عنه (2)
(منها) وذلك زمان لا ينجو فيه إلا كل مؤمن نومة (3) إن شهد
لم يعرف وإن غاب لم يفتقد. أولئك مصابيح الهدى، وأعلام السرى (4).
ليسوا بالمساييح ولا المذاييع البذر أولئك يفتح الله لهم أبواب
رحمته. ويكشف عنهم ضراء نقمته
أيها الناس سيأتي عليكم زمان يكفأ فيه الاسلام كما يكفأ
الإناء بما فيه. أيها الناس إن الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم، ولم
يعذكم من أن يبتليكم (5) وقد قال جل من قائل " إن في ذلك لآيات وإن
كنا لمبتلين ". أما قوله عليه السلام (كل مؤمن نومة) فإنما أراد به
الخامل الذكر القليل الشر. والمساييح جمع مسياح وهو الذي يسيح
198

بين الناس بالفساد والنمائم. والمذاييع جمع مذياع: وهو الذي
إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها ونوه بها. والبذر جمع بذور: وهو الذي
يكثر سفهه ويلغو منطقه (1)
104 - ومن خطبة له عليه السلام
وقد تقدم مختارها بخلاف هذه الرواية
أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وآله وليس
أحد من العرب يقرأ كتابا، ولا يدعي نبوة ولا وحيا. فقاتل بمن
أطاعه من عصاه. يسوقهم إلى منجاتهم، ويبادر بهم الساعة أن تنزل
بهم. يحسر الحسير (2) ويقف الكسير فيقيم عليه حتى يلحقه غايته
إلا هالكا لا خير فيه. حتى أراهم منجاتهم، وبوأهم محلتهم
فاستدارت رحاهم (3)، واستقامت قناتهم. وأيم الله لقد كنت من
199

ساقتها حتى تولت بحذافيرها، واستوسقت في قيادها، ما ضعفت ولا
جبنت، ولا خنت ولا وهنت. وأيم الله لأبقرن الباطل (1) حتى أخرج
الحق من خاصرته
105 - ومن خطبة له عليه السلام
حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله شهيدا وبشيرا ونذيرا: خير البرية طفلا، وأنجبها كهلا. أطهر المطهرين شيمة، وأجود
المستمطرين ديمة (2). فما احلولت لكم الدنيا، في لذتها ولا تمكنتم
من رضاع أخلافها (3)، إلا من بعد ما صادفتموها جائلا خطامها (4)،
قلقا وضينها. قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السدر المخضود (5)،
200

وحلالها بعيدا غير موجود. وصادفتموها والله ظلا ممدودا إلى أجل
معدود. فالأرض لكم شاغرة (1)، وأيديكم فيها مبسوطة، وأيدي
القادة عنكم مكفوفة، و سيوفكم عليهم مسلطة، وسيوفهم
عنكم مقبوضة. ألا إن لكل دم ثائرا (2)، ولكل حق طالبا. وإن
الثائر في دمائنا كالحاكم في حق نفسه (3). وهو الله الذي لا يعجزه
من طلب، ولا يفوته من هرب. فأقسم بالله يا بني أمية عما قليل
لتعرفنها في أيدي غيركم وفي دار عدوكم. ألا وإن أبصر الأبصار
ما نفذ في الخير طرفه. ألا إن أسمع الأسماع ما وعى التذكير وقبله
أيها الناس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعظ. وامتاحوا
من صفو عين قد روقت من الكدر (4)
عباد الله لا تركنوا إلى جهالتكم، ولا تنقادوا لأهوائكم،
فإن النازل بهذا المنزل (5) نازل بشفا جرف هار، ينقل الردى على
201

ظهره من موضع إلى موضع (1) لرأي يحدثه بعد رأي، يريد أن يلصق
ما لا يلتصق ويقرب ما لا يتقارب. فالله الله أن تشكوا إلى من لا
يشكي شجوكم (2)، ولا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم. إنه ليس
على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه. الابلاغ في الموعظة، والاجتهاد
في النصيحة، والإحياء للسنة، وإقامة الحدود على مستحقيها، وإصدار
السهمان على أهلها (3). فبادروا العلم من قبل تصويح نبته (4)، ومن قبل
أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار العلم من عند أهله (5). وانهوا عن
المنكر وتناهوا عنه، فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي
202

106 - (ومن خطبة له عليه السلام)
الحمد لله الذي شرع الاسلام فسهل شرائعه لمن ورده، وأعز
أركانه على من غالبه فجعله أمنا لمن علقه (1)، وسلما لمن دخله (2)،
وبرهانا لمن تكلم به، وشاهدا لمن خاصم به، ونورا لمن استضاء
به، وفهما لمن عقل، ولبا لمن تدبر، وآية لمن توسم، وتبصرة
لمن عزم، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، وثقة لمن توكل،
وراحة لمن فوض، وجنة لمن صبر (3). فهو أبلج المناهج (4) واضح
الولائج (5)، مشرف المنار (6)، مشرق الجواد (7)، مضئ المصابيح
كريم المضمار (8)، رفيع الغاية، جامع الحلبة (9)، متنافس السبقة (10)
شريف الفرسان. التصديق منهاجه، والصالحات مناره، والموت
203

غايته (1). والدنيا مضماره (2)، والقيامة حلبته، والجنة سبقته (3)
(منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله) حتى أورى قبسا
لقابس (4)، وأنار علما لحابس (5)، فهو أمينك المأمون، وشهيدك يوم
الدين وبعيثك نعمة (6). ورسولك بالحق رحمة. اللهم أقسم له مقسما
من عدلك (7)، واجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللهم أعل على بناء
البانين بناءه، وأكرم لديك نزله (8)، وشرف لديك منزلته. وآته
الوسيلة وأعطه السناء والفضيلة (9)، واحشرنا في زمرته غير خزايا (10)
ولا نادمين ولا ناكبين (11)، ولا ناكثين (12)، ولا ضالين، ولا
مضلين، ولا مفتونين (وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم إلا أننا
204

كررناه ههنا لما في الروايتين من الاختلاف) (منها في خطاب أصحابه)
وقد بلغتم من كرامة الله لكم منزلة تكرم بها إماؤكم، وتوصل
بها جيرانكم، ويعظمكم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم
عنده، ويهابكم من لا يخاف لكم سطوة، ولا لكم عليه إمرة.
وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون، وأنتم لنقض ذمم آبائكم
تأنفون. وكانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم
ترجع. فمكنتم الظلمة من منزلتكم، وألقيتم إليهم أزمتكم
وأسلمتم أمور الله في أيديهم. يعملون في الشبهات، ويسيرون في
الشهوات. وأيم الله لو فرقوكم تحت كل كوكب لجمعكم الله
لشر يوم لهم (1)
107 - ومن خطبة له عليه السلام في بعض أيام صفين
وقد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم
الجفاة الطغام (2)، وأعراب أهل الشام، وأنتم لهاميم العرب (3) ويآفيخ
205

الشرف (1) والأنف المقدم، والسنام الأعظم. ولقد شفى وحاوح صدري (2)
أن رأيتكم بأخرة (3) تحوزونهم كما حازوكم، وتزيلونهم عن مواقفهم
كما أزالوكم. حسا بالنضال (4)، وشجرا بالرماح (5). تركب أولاهم
أخراهم، كالإبل الهيم المطرودة (6) ترمى عن حياضها. وتذاد عن
مواردها.
108 - ومن خطبة له عليه السلام
وهي من خطب الملاحم
الحمد لله المتجلي لخلقه بخلقه، والظاهر لقلوبهم بحجته. خلق
الخلق من غير روية، إذ كانت الرويات لا تليق إلا بذوي الضمائر
وليس بذي ضمير في نفسه. خرق علمه باطن غيب السترات (7)،
وأحاط بغموض عقائد السريرات (منها في ذكر النبي صلى الله عليه
وآله) اختاره من شجرة الأنبياء ومشكاة الضياء (8)، وذؤابة
206

العلياء (1) وسرة البطحاء (2). ومصابيح الظلمة، وينابيع الحكمة (منها)
طبيب دوار بطبه قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه (3). يضع
ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم.
متبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة. لم يستضيئوا بأضواء
الحكمة (4)، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة. فهم في ذلك كالانعام
السائمة، والصخور القاسية. قد انجابت السرائر لأهل البصائر (5). ووضحت
محجة الحق لخابطها (6)، وأسفرت الساعة عن وجهها، وظهرت العلامة
لمتوسمها. مالي أراكم أشباحا بلا أرواح، وأرواحا بلا أشباح، ونساكا بلا
صلاح، وتجارا بلا أرباح. وأيقاظا نوما، وشهودا غيبا، وناظرة
عميا، وسامعة صما، وناطقة بكما. رأيت ضلالة قد قامت على قطبها (7)،
207

وتفرقت بشعبها (1)، تكيلكم بصاعها (2)، وتخبطكم بباعها (3).
قائدها خارج من الملة، قائم على الضلة. فلا يبقى يومئذ منكم إلا
ثفالة كثفالة القدر (4)، أو نفاضة كنفاضة العكم (5). تعرككم
عرك الأديم (6)، وتدوسكم دوس الحصيد (7)، وتستخلص المؤمن
من بينكم استخلاص الطير الحبة البطينة (8) من بين هزيل الحب. أين
تذهب بكم المذاهب، وتتيه بكم الغياهب، وتخدعكم الكواذب.
ومن أين تؤتون وأنى تؤفكون. فلكل أجل كتاب، ولكل غيبة،
إياب. فاستمعوا من ربانيكم (9)، وأحضروا قلوبكم، واستيقظوا
إن هتف بكم (10). وليصدق رائد أهله (11)، وليجمع شمله، وليحضر ذهنه.
208

فلقد فلق لكم الأمر فلق الخرزة، وقرفه قرف الصمغة (1). فعند
ذلك أخذ الباطل مآخذه، وركب الجهل مراكبه، وعظمت الطاغية،
وقلت الداعية. وصال الدهر صيال السبع العقور. وهدر فنيق الباطل
بعد كظوم (2). وتواخى الناس على الفجور. وتهاجروا على الدين. وتحابوا
على الكذب. وتباغضوا على الصدق. فإذا كان ذلك كان الولد غيظا (3)،
والمطر قيظا، وتفيض اللئام فيضا، وتغيض الكرام غيضا (4). وكان
أهل ذلك الزمان ذئابا، وسلاطينه سباعا، وأوساطه أكالا، وفقراؤه
أمواتا. وغار الصدق، وفاض الكذب: واستعملت المودة باللسان.
وتشاجر الناس بالقلوب. وصار الفسوق نسبا، والعفاف عجبا.
ولبس الاسلام لبس الفرو مقلوبا
109 - ومن خطبة له عليه السلام
كل شئ خاشع له. وكل شئ قائم به. غني كل فقير. وعز كل
209

ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف. من
تكلم سمع نطقه، ومن سكت علم سره، ومن عاش فعليه
رزقه. ومن مات فإليه منقلبه. لم ترك العيون فتخبر عنك. بل
كنت قبل الواصفين من خلقك لم تخلق الخلق لوحشة، ولا
استعملتهم لمنفعة. ولا يسبقك من طلبت، ولا يفلتك من أخذت (1).
ولا ينقص سلطانك من عصاك، ولا يزيد في ملكك من أطاعك،
ولا يرد أمرك من سخط قضاءك، ولا يستغني عنك من تولى عن
أمرك. كل سر عندك علانية، وكل غيب عندك شهادة. أنت
الأبد لا أمد لك، وأنت المنتهى لا محيص عنك، وأنت الموعد
لا منجا منك إلا إليك. بيدك ناصية كل دابة، وإليك مصير كل
نسمة. سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك وما أصغر عظيمه في جنب
قدرتك، وما أهول ما نرى من ملكوتك، وما أحقر ذلك فيما غاب
عنا من سلطانك، وما أسبغ نعمك في الدنيا. وما أصغرها في نعم
الآخرة.
(منها) من ملائكة أسكنتهم سمواتك ورفعتهم عن أرضك،
210

هم أعلم خلقك بك، وأخوفهم لك، وأقربهم منك. لم يسكنوا
الأصلاب، ولم يضمنوا الأرحام، ولم يخلقوا من ماء مهين (1)، ولم
يشعبهم ريب المنون (2). وإنهم على مكانهم منك، ومنزلتهم عندك،
واستجماع أهوائهم فيك، وكثرة طاعتهم لك، وقلة غفلتهم عن أمرك،
لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك لحقروا أعمالهم، ولزروا على
أنفسهم (3). ولعرفوا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك، ولم يطيعوك حق
طاعتك. سبحانك خالقا ومعبودا بحسن بلائك عند خلقك (4). خلقت
دارا وجعلت فيها مأدبة (5): مشربا ومطعما وأزواجا وخدما وقصورا
وأنهارا وزروعا وثمارا. ثم أرسلت داعيا يدعو إليها. فلا الداعي
أجابوا، ولا فيما رغبت رغبوا، ولا إلى ما شوقت إليه اشتاقوا.
أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها، واصطلحوا على حبها، ومن عشق
شيئا أعشى بصره (6)، وأمرض قلبه. فهو ينظر بعين غير صحيحة،
211

ويسمع بأذن غير سميعة. قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه،
وولهت عليها نفسه. فهو عبد لها، ولمن في يده شئ منها. حيثما زالت زال إليها
وحيثما أقبلت أقبل عليها. ولا يزدجر من الله بزاجر، ولا يتعظ منه بواعظ.
وهو يرى المأخوذين على الغرة (1) - حيث لا إقالة ولا رجعة كيف
نزل بهم ما كانوا يجهلون، وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون،
وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون. فغير موصوف ما نزل بهم،
اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت. ففترت لها أطرافهم،
وتغيرت لها ألوانهم. ثم ازداد الموت فيهم ولوجا (2). فحيل بين
أحدهم وبين منطقه، وإنه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع بأذنه،
على صحة من عقله، وبقاء من لبه. يفكر فيم أفنى عمره، وفيم أذهب
دهره. ويتذكر أموالا جمعها أغمض في مطالبها (3)، وأخذها من
مصرحاتها ومشتبهاتها. قد لزمته تبعات جمعها (4)، وأشرف على فراقها،
تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتعون بها. فيكون المهنأ لغيره (5)،
212

والعبء على ظهره (1). والمرء قد غلقت رهونه بها (2). فهو يعض
يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره (3)، ويزهد فيما كان
يرغب فيه أيام عمره. ويتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها
قد حازها دونه. فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانه
سمعه. (4). فصار بين أهله لا ينطق بلسانه، ولا يسمع بسمعه، يردد
طرفه بالنظر في وجوههم، يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع
كلامهم. ثم ازداد الموت التياطا به (5). فقبض بصره كما قبض سمعه.
وخرجت الروح من جسده، فصار جيفة بين أهله قد أوحشوا من
جانبه، وتباعدوا من قربه. لا يسعد باكيا، ولا يجيب داعيا. ثم
حملوه إلى مخط في الأرض، وأسلموه فيه إلى عمله، وانقطعوا عن زورته (6).
حتى إذا بلغ الكتاب أجله، والأمر مقاديره وألحق آخر الخلق
بأوله، وجاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه، أماد السماء وفطرها (7)
وأرج الأرض وأرجفها، وقلع جبالها ونسفها. ودك بعضها بعضا من
213

هيبة جلالته ومخوف سطوته. وأخرج من فيها. فجددهم بعد أخلاقهم (1)
وجمعهم بعد تفرقهم ثم ميزهم لما يريد من مسألتهم عن خفايا الأعمال
وخبايا الأفعال. وجعلهم فريقين أنعم على هؤلاء وانتقم من هؤلاء.
فأما أهل طاعته فأثابهم بجواره، وخلدهم في داره، حيث لا يظعن النزال،
ولا تتغير بهم الحال. ولا تنوبهم الأفزاع (2)، ولا تنالهم الأسقام،
ولا تعرض لهم الأخطار، ولا تشخصهم الأسفار (3). وأما أهل
المعصية فأنزلهم شر دار، وغل الأيدي إلى الأعناق، وقرن النواصي
بالاقدام، وألبسهم سرابيل القطران (4)، ومقطعات النيران (5). في عذاب
قد اشتد حره، وباب قد أطبق على أهله في نار لها كلب ولجب (6)،
ولهب ساطع وقصيف هائل (7)، لا يظعن مقيمها، ولا يفادى أسيرها
ولا تفصم كبولها (8). لا مدة للدار فتفنى، ولا أجل للقوم فيقضى،
(منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله) قد حقر الدنيا وصغرها
214

وأهون بها وهونها. وعلم أن الله زواها عنه اختيارا (1)، وبسطها لغيره
احتقارا. فأعرض عنها بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحب أن
تغيب زينتها عن عينه لكيلا يتخذ منها رياشا (2)، أو يرجو فيها مقاما.
بلغ عن ربه معذرا (3)، ونصح لأمته منذرا، ودعا إلى الجنة مبشرا
نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة (4)،
ومعادن العلم، وينابيع الحكم. ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة، وعدونا
ومبغضنا ينتظر السطوة
110 - ومن خطبة له عليه السلام
إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه الإيمان به
وبرسوله والجهاد في سبيله، فإنه ذروة الاسلام، وكلمة الاخلاص
فإنها الفطرة. وإقام الصلاة فإنها الملة. وإيتاء الزكاة فإنها فريضة
واجبة. وصوم شهر رمضان فإنه جنة من العقاب. وحج البيت
واعتماره فإنهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب (5). وصلة الرحم،
215

فإنها مثراة في المال، ومنسأة في الأجل (1). وصدقة السر فإنها تكفر
الخطيئة. وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء. وصنائع المعروف
فإنها تقي مصارع الهوان
أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر. وارغبوا فيما وعد
المتقين فإن وعده أصدق الوعد. واقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى.
واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن. وتعلموا القرآن فإنه أحسن
الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه
شفاء الصدور. وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص، فإن العالم العامل
بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه
أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند الله ألوم (2)
111 - ومن خطبة له عليه السلام
أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات
وتحببت بالعاجلة، وراقت بالقليل، وتحلت بالآمال، وتزينت
216

بالغرور. لا تدوم حبرتها (1)، ولا تؤمن فجعتها. غرارة ضرارة. حائلة
زائلة (2) نافدة بائدة (3)، أكالة غوالة (4). لا تعدو - إذا تناهت
إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضاء بها (5) - أن تكون كما قال الله تعالى
سبحانه " كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما
تذروه الرياح (6) وكان الله على كل شئ مقتدرا " لم يكن امرؤ
منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة (7)، ولم يلق في سرائها بطنا (8) إلا
منحته من ضرائها ظهرا. ولم تطله فيها ديمة رخاء (9) إلا هتنت عليه
مزنة بلاء. وحرى إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكرة
وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمر منها جانب فأوبى (10). لا ينال
امرؤ من غضارتها رغبا (11) إلا أرهقته من نوائبها تعبا (12).
217

ولا يمسي منها في جناح أمن إلا أصبح على قوادم خوف (1). غرارة
غرور ما فيها، فانية فإن من عليها. لا خير في شئ من أزوادها إلا
التقوى. من أقل منها استكثر مما يؤمنه. ومن استكثر منها
استكثر مما يوبقه (2)، وزال عما قليل عنه. كم من واثق بها فجعته (3)،
وذي طمأنينة إليها قد صرعته. وذي أبهة قد جعلته حقيرا (4) وذي نخوة
قد ردته ذليلا (5). سلطانها دول (6)، وعيشها رنق (7)، وعذبها أجاج (8)
وحلوها صبر (9)، وغذاؤها سمام (10)، وأسبابها رمام (11). حيها بعرض
موت. وصحيحها بعرض (*) سقم. ملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب
وموفورها منكوب (12). وجارها محروب (13). ألستم في مساكن
من كان قبلكم أطول أعمارا، وأبقى آثارا وأبعد آمالا، وأعد
عديدا، وأكثف جنودا. تعبدوا للدنيا أي تعبد، وآثروها أي إيثار.

* في نسخة: بضم العين وسكون الراء.
218

ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ ولا ظهر قاطع (1) فهل بلغكم أن الدنيا
سخت لهم نفسا بفدية (2)، أو أعانتهم بمعونة أو أحسنت لهم صحبة.
بل أرهقتهم بالقوادح (3)، وأوهنتهم بالقوارع، وضعضعتهم بالنوائب (4)
وعفرتهم للمناخر (5)، ووطئتهم بالمناسم (6)، وأعانت عليهم ريب
المنون. فقد رأيتم تنكرها لمن دان لها (7)، وآثرها وأخلد لها (8)،
حتى ظعنوا عنها لفراق الأبد (9). وهل زودتهم إلا السغب (10)، أو
أحلتهم إلا الضنك (11)، أو نورت لهم إلا الظلمة (12)، أو أعقبتهم
إلا الندامة. أفهذه تؤثرون أم إليها تطمئنون؟ أم عليها تحرصون؟.
فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها فاعلموا - وأنتم
تعلمون - بأنكم تاركوها وظاعنون عنها. واتعظوا فيها بالذين قالوا
" من أشد منا قوة ". حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا (13)،
219

وأنزلوا الأجداث (1). فلا يدعون ضيفانا. وجعل لهم من الصفيح
أجنان (2)، ومن التراب أكفان (3)، ومن الرفات جيران (4)، فهم
جيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما، ولا يبالون مندبة. إن جيدوا
لم يفرحوا (5)، وإن قحطوا لم يقنطوا. جميع وهم آحاد، وجيرة
وهم أبعاد. متدانون لا يتزاورون (6)، وقريبون لا يتقاربون. حلماء قد
ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم. لا يخشى فجعهم (7)، ولا
يرجى دفعهم استبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسعة ضيقا، وبالأهل
غربة، وبالنور ظلمة. فجاءوها كما فارقوها (8)، حفاة عراة. قد ظعنوا
عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة والدار الباقية، كما قال سبحانه " كما
بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين "
220

112 - ومن خطبة له عليه السلام
ذكر فيها ملك الموت وتوفية النفس
هل تحس به إذا دخل منزلا؟، أم هل تراه إذا توفى أحدا؟، بل كيف
يتوفى الجنين في بطن أمه. أيلج عليه من بعض جوارحها (1)؟، أم
الروح أجابته بإذن ربها؟ أم هو ساكن معه في أحشائها؟. كيف يصف
إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله
113 - ومن خطبة له عليه السلام
وأحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة (2)، وليست بدار نجعة (3). قد
تزينت بغرورها، وغرت بزينتها. دار هانت على ربها، فخلط حلالها بحرامها
وخيرها بشرها، وحياتها بموتها، وحلوها بمرها. لم يصفها الله تعالى
لأوليائه، ولم يضن بها على أعدائه. خيرها زهيد، وشرها عتيد (4).
وجمعها ينفد، وملكها يسلب، وعامرها يخرب. فما خير دار تنقض
221

نقض البناء، وعمر يفنى فناء الزاد، ومدة تنقطع انقطاع السير.
اجعلوا ما افترض الله عليكم من طلبكم (1)، واسألوه من أداء حقه
ما سألكم. وأسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم. إن
الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا، ويشتد حزنهم وإن
فرحوا، ويكثر مقتهم أنفسهم وإن اغتبطوا بما رزقوا (2). قد غاب
عن قلوبكم ذكر الآجال، وحضرتكم كواذب الآمال. فصارت
الدنيا أملك بكم من الآخرة، والعاجلة أذهب بكم من الآجلة،
وإنما أنتم إخوان على دين الله ما فرق بينكم إلا خبث السرائر،
وسوء الضمائر. فلا توازرون ولا تناصحون، ولا تباذلون ولا توادون.
ما بالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه ولا يحزنكم
الكثير من الآخرة تحرمونه. ويقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم
حتى يتبين ذلك في وجوهكم وقلة صبركم عما زوي منها عنكم (3)
كأنها دار مقامكم. وكأن متاعها باق عليكم. وما يمنع أحدكم
222

أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلا مخافة أن يستقبله بمثله. قد
تصافيتم على رفض الآجل وحب العاجل، وصار دين أحدكم لعقة
على لسانه (1). صنيع من قد فرغ من عمله وأحرز رضا سيده
114 - ومن خطبة له عليه السلام
الحمد لله الواصل الحمد بالنعم والنعم بالشكر. نحمده على
آلائه كما نحمده على بلائه. ونستعينه على هذه النفوس البطاء عما أمرت
به (2)، السراع إلى ما نهيت عنه. ونستغفره مما أحاط به علمه وأحصاه
كتابه: علم غير قاصر وكتاب غير مغادر (3). ونؤمن به إيمان من
عاين الغيوب ووقف على الموعود، إيمانا نفى إخلاصه الشرك ويقينه
الشك. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا
عبده ورسوله صلى الله عليه وآله شهادتين تصعدان القول
وترفعان العمل. لا يخف ميزان توضعان فيه، ولا يثقل ميزان
ترفعان عنه
أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاد: زاد
223

مبلغ ومعاد منجح. دعا إليها أسمع داع واع (1). فأسمع
داعيها وفاز واعيها
عباد الله إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه (2). وألزمت قلوبهم
مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم (3). فأخذوا الراحة
بالنصب (4)، والري بالظمأ. واستقربوا الأجل فبادروا العمل، وكذبوا
الأمل فلاحظوا الأجل. ثم إن الدنيا دار فناء وعناء وغير وعبر فمن
الفناء أن الدهر موتر قوسه (5)، لا تخطئ سهامه، ولا توسى جراحه (6).
يرمي الحي بالموت، والصحيح بالسقم، والناجي بالعطب. آكل
لا يشبع، وشارب لا ينقع (7). ومن العناء أن المرء يجمع ما لا يأكل
ويبني ما لا يسكن. ثم يخرج إلى الله لا مالا حمل، ولا بناء نقل.
ومن غيرها (8) أنك ترى المرحوم مغبوطا والمغبوط مرحوما ليس
ذلك إلا نعيما زل (9)، وبؤسا نزل. ومن عبرها أن المرء يشرف على
224

أمله فيقطعه حضور أجله. فلا أمل يدرك ولا مؤمل يترك، فسبحان
الله ما أغر سرورها وأظمأ ريها وأضحى فيئها (1). لا جاء يرد (2)، ولا
ماض يرتد. فسبحان الله ما أقرب الحي من الميت للحاقه به، وأبعد
الميت من الحي لانقطاعه عنه
إنه ليس شئ بشر من الشر إلا عقابه، وليس شئ بخير من
الخير إلا ثوابه. وكل شئ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه. وكل
شئ من الآخرة عيانه أعظم من سماعه. فليكفكم من العيان
السماع، ومن الغيب الخبر. واعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في
الآخرة خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا. فكم من
منقوص رابح ومزيد خاسر. إن الذي أمرتم به أوسع من الذي
نهيتم عنه. وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم. فذروا ما قل
لما كثر، وما ضاق لما اتسع. قد تكفل لكم بالرزق وأمرتم بالعمل،
فلا يكونن المضمون لكم طلبه أولى (3) بكم من المفروض
عليكم عمله، مع أنه والله لقد اعترض الشك ودخل اليقين (4)،
225

حتى كأن الذي ضمن لكم قد فرض عليكم، وكأن الذي قد فرض
عليكم قد وضع عنكم. فبادروا العمل وخافوا بغتة الأجل،
فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق (1). ما فات
من الرزق رجي غدا زيادته. وما فات أمس من العمر لم يرج اليوم
رجعته. الرجاء مع الجائي، واليأس مع الماضي. فاتقوا الله حق تقاته
ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون
115 - (ومن خطبة له عليه السلام)
في الاستسقاء
اللهم قد انصاحت جبالنا (2)، واغبرت أرضنا، وهامت دوابنا.
وتحيرت في مرابضها، وعجت عجيج الثكالى على أولادها، وملت
التردد في مراتعها، والحنين إلى مواردها. اللهم فارحم أنين الآنة،
وحنين الحانة. اللهم فارحم حيرتها في مذاهبها، وأنينها في موالجها (3).
226

اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين، وأخلفتنا
مخائل الجود (1). فكنت الرجاء للمبتئس (2)، والبلاغ للملتمس.
ندعوك حين قنط الأنام، ومنع الغمام، وهلك السوام (3)، أن
لا تؤاخذنا بأعمالنا، ولا تأخذنا بذنوبنا. وانشر علينا رحمتك بالسحاب
المنبعق (4)، والربيع المغدق (5)، والنبات المونق (6). سحا وابلا (7)
تحيي به ما قد مات، وترد به ما قد فات. اللهم سقيا منك محيية
مروية، تامة عامة، طيبة مباركة، هنيئة مريعة (8). زاكيا
نبتها (9)، ثامرا فرعها، ناظرا ورقها، تنعش بها الضعيف من عبادك،
وتحيي بها الميت من بلادك. اللهم سقيا منك تعشب بها نجادنا (10)،
وتجري بها وهادنا، ويخصب بها جنابنا (11)، وتقبل بها ثمارنا،
وتعيش بها مواشينا، وتندى بها أقاصينا (12)،
227

وتستعين بها ضواحينا (1). من بركاتك الواسعة، وعطاياك الجزيلة
على بريتك المرملة (2)، ووحشك المهملة. وأنزل علينا سماء مخضلة (3)
مدرارا هاطلة. يدافع الودق منها الودق (4)، ويحفز القطر منها القطر (5)
غير خلب برقها (6)، ولا جهام عارضها (7)، ولا قزع ربابها (8)، ولا
شفان ذهابها (9)، حتى يخصب لإمراعها المجدبون، ويحيى ببركتها
المسنتون (10)، فإنك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا، وتنشر رحمتك
وأنت الولي الحميد
تفسير ما في هذه الخطبة من الغريب
قوله عليه السلام: (انصاحت جبالنا) أي تشققت من المحول،
يقال: انصاح الثوب إذا انشق. ويقال أيضا: انصاح النبت وصاح
وصوح إذ جف ويبس. وقوله: (وهامت دوابنا) أي عطشت،
والهيام العطش. وقوله:
(حدابير السنين) - جمع حدبار - وهي
228

الناقة التي أنضاها السير، فشبه بها السنة التي فشا فيها الجدب،
قال ذو الرمة:
- حدابير ما تنفك إلا مناخة * على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا
وقوله: (ولا قزع ربابها) القزع القطع الصغار المتفرقة من
السحاب. وقوله: (ولا شفان ذهابها) فإن تقديره ولا ذات شفان
ذهابها. والشفان الريح الباردة، والذهاب الأمطار اللينة. فحذف
ذات لعلم السامع به
116 - ومن خطبة له عليه السلام
أرسله داعيا إلى الحق وشاهدا على الخلق. فبلغ رسالات ربه
غير وان ولا مقصر (1)، وجاهد في الله أعداءه غير واهن ولا معذر (2).
إمام من اتقى، وبصر من اهتدى (منها) لو تعلمون ما أعلم مما طوي
عنكم غيبه، إذا لخرجتم إلى الصعدات (3) تبكون على أعمالكم،
وتلتدمون على أنفسكم (4). ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا
229

خالف عليها (1)، ولهمت كل امرئ نفسه (2) لا يلتفت إلى غيرها.
ولكنكم نسيتم ما ذكرتم، وأمنتم ما حذرتم، فتاه عنكم
رأيكم، وتشتت عليكم أمركم. ولوددت أن الله فرق بيني
وبينكم وألحقني بمن هو أحق بي منكم. قوم والله ميامين
الرأي (3)، مراجيح الحلم، مقاويل بالحق، متاريك للبغي. مضوا قدما (4)،
على الطريقة وأوجفوا على المحجة (5)، فظهروا بالعقبى الدائمة والكرامة
الباردة (6). أما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيال الميال (7).
يأكل خضرتكم ويذيب شحمتكم إيه أبا وذحة. (أقول:
الوذحة الخنفساء. وهذا القول يومئ به إلى الحجاج، وله مع الوذحة
حديث (8) ليس هذا موضع ذكره)
230

117 - (ومن كلام له عليه السلام)
فلا أموال بذلتموها للذي رزقها، ولا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها.
تكرمون بالله على عباده (1)، ولا تكرمون الله في عباده. فاعتبروا
بنزولكم منازل من كان قبلكم، وانقطاعكم عن أوصل إخوانكم
118 - ومن كلام له عليه السلام
أنتم الأنصار على الحق، والإخوان في الدين، والجنن يوم البأس (2)،
والبطانة دون الناس (3). بكم أضرب المدبر، وأرجو طاعة المقبل.
فأعينوني بمناصحة خلية من الغش سليمة من الريب. فوالله إني
لأولى الناس بالناس
119 - ومن كلام له عليه السلام
وقد جمع الناس وحضهم على الجهاد فسكتوا مليا (4)
فقال عليه السلام: ما بالكم أمخرسون أنتم؟ (فقال قوم منهم: يا أمير
231

المؤمنين إن سرت سرنا معك، فقال عليه السلام: ما بالكم:
لا سددتم لرشد (1)، ولا هديتم لقصد، أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟
إنما يخرج في مثل هذا رجل ممن أرضاه من شجعانكم وذوي بأسكم،
ولا ينبغي لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض والقضاء
بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين، ثم أخرج في كتيبة أتبع
أخرى أتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ (2)، وإنما أنا قطب الرحى
تدور علي وأنا بمكاني، فإذا فارقته استحار (3) مدارها واضطرب ثفالها (4)
هذا لعمر الله الرأي السوء. والله لولا رجائي الشهادة عند لقائي العدو
- لو قد حم لي لقاؤه - (5) لقربت ركابي (6)، ثم شخصت عنكم فلا
أطلبكم ما اختلف جنوب وشمال. إنه لا غناء في كثرة عددكم (7)
مع قلة اجتماع قلوبكم. لقد حملتكم على الطريق الواضح التي لا
232

يهلك عليها إلا هالك (1)، من استقام فإلى الجنة ومن زل فإلى النار
120 - (ومن كلام له عليه السلام)
تالله لقد علمت تبليغ الرسالات، وإتمام العدات (2)، وتمام
الكلمات. وعندنا أهل البيت أبواب الحكم وضياء الأمر. ألا وإن
شرائع الدين واحدة، وسبله قاصدة (3). من أخذ بها لحق وغنم،
ومن وقف عنها ضل وندم. اعملوا ليوم تذخر له الذخائر، وتبلى فيه
السرائر. ومن لا ينفعه حاضر لبه فعازبه عنه أعجز (4)، وغائبه أعوز (5).
واتقوا نارا حرها شديد، وقعرها بعيد، وحليتها حديد، وشرابها
صديد (6). ألا وإن اللسان الصالح يجعله الله للمرء في الناس خير له
من المال يورثه من لا يحمده (7)
121 - (ومن كلام له عليه السلام)
وقد قام إليه رجل من أصحابه فقال: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا
233

بها فما ندري أي الأمرين أرشد؟ فصفق عليه السلام إحدى يديه على
الأخرى ثم قال:
هذا جزاء من ترك العقدة (1). أما والله لو أني حين أمرتكم بما
أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيرا، فإن
استقمتم هديتكم، وإن اعوججتم قومتكم، وإن أبيتم
تداركتكم، لكانت الوثقى، ولكن بمن وإلى من؟. أريد أن
أداوي بكم وأنتم دائي، كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أن
ضلعها معها (2). اللهم قد ملت أطباء هذا الداء الدوي (3)، وكلت النزعة
بأشطان الركي (4). أين القوم الذين دعوا إلى الاسلام فقبلوه،
وقرأوا القرآن فأحكموه. وهيجوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح إلى
أولادها (5)، وسلبوا السيوف أغمادها. وأخذوا بأطراف الأرض زحفا
زحفا وصفا صفا. بعض هلك وبعض نجا. لا يبشرون بالأحياء (6)، ولا
234

يعزون عن الموتى. مره العيون من البكاء (1). خمص البطون (2) من
الصيام. ذبل الشفاه من الدعاء (3). صفر الألوان من السهر. على
وجوههم غبرة الخاشعين. أولئك إخواني الذاهبون. فحق لنا أن نظمأ
إليهم ونعض الأيدي على فراقهم. إن الشيطان يسني لكم طرقه (4)،
ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة، ويعطيكم بالجماعة الفرقة (5).
فاصدفوا عن نزغاته ونفثاته (6). واقبلوا النصيحة ممن أهداها إليكم،
واعقلوها على أنفسكم (7).
122 - ومن كلام له عليه السلام قاله للخوارج وقد خرج إلى معسكرهم
وهم مقيمون على إنكار الحكومة، فقال عليه السلام:
أكلكم شهد معنا صفين؟ فقالوا: منا من شهد ومنا من لم يشهد.
قال: فامتازوا فرقتين، فليكن من شهد صفين فرقة، ومن لم يشهدها
فرقة حتى أكلم كلا بكلامه. ونادى الناس فقال: أمسكوا عن
الكلام وانصتوا لقولي، وأقبلوا بأفئدتكم إلي، فمن نشدناه شهادة
فليقل بعلمه فيها. ثم كلمهم عليه السلام بكلام طويل (منه):
235

ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة، ومكرا وخديعة:
إخواننا وأهل دعوتنا، استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله سبحانه،
فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم. فقلت لكم: هذا أمر ظاهره
إيمان وباطنه عدوان، وأوله رحمة وآخره ندامة. فأقيموا على شأنكم،
والزموا طريقتكم، وعضوا على الجهاد بنواجذكم. ولا تلتفتوا إلى
ناعق نعق: إن أجيب أضل، وإن ترك ذل. وقد كانت هذه الفعلة،
وقد رأيتكم أعطيتموها (1)، والله لئن أبيتها ما وجبت علي فريضتها،
ولا حملني الله ذنبها. ووالله إن جئتها إني للمحق الذي يتبع. وإن
الكتاب لمعي. ما فارقته مذ صحبته. فلقد كنا مع رسول الله صلى
الله عليه وآله وإن القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات،
فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا إيمانا، ومضيا على الحق، وتسليما
للأمر، وصبرا على مضض الجراح. ولكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا
في الاسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل.
فإذا طمعنا في خصلة (2) يلم الله بها شعثنا ونتدانى بها إلى البقية فيما
بيننا رغبنا فيها وأمسكنا عما سواها.
236