الكتاب: نهج البلاغة
المؤلف: خطب الإمام علي (ع)
الجزء: ٢
الوفاة: ٤٠
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ قسم الفقه
تحقيق: شرح : الشيخ محمد عبده
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٢ - ١٣٧٠ ش
المطبعة: النهضة - قم
الناشر: دار الذخائر - قم - ايران
ردمك:
ملاحظات: نهج البلاغة وهو ما جمعه السيد الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) / طبعة جديدة مصححة ومنقحة

نهج البلاغة
وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام سيدنا
أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام
شرح الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبدة
مفتي الديار المصرية سابقا
الجزء الثاني
الناشر:
دار المعرفة
للطباعة والنشر
بيروت لبنان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
123 - ومن كلام له عليه السلام
قاله لأصحابه في ساحة الحرب
وأي امرئ منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء (1)،
ورأى من أحد من إخوانه فشلا فليذب عن أخيه (2) بفضل نجدته التي
فضل بها عليه كما يذب عن نفسه. فلو شاء الله لجعله مثله. إن
الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب. إن أكرم
الموت القتل (3). والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف
أهون علي من ميتة على الفراش (منه) وكأني أنظر إليكم تكشون
كشيش الضباب (4). لا تأخذون حقا ولا تمنعون ضيما. قد خليتم
والطريق (5). فالنجاة للمقتحم والهلكة للمتلوم 124 - (منه) فقدموا
2

الدارع (1) وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف
عن الهام (2). والتووا في أطراف الرماح (3) فإنه أمور للأسنة. وغضوا
الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب. وأميتوا الأصوات فإنه
أطرد للفشل. ورأيتكم فلا تميلوها ولا تخلوها، ولا تجعلوها إلا
بأيدي شجعانكم والمانعين الذمار منكم (4)، فإن الصابرين على
نزول الحقائق (5) هم الذين يحفون براياتهم، ويكتنفون حفافيها:
وراءها وأمامها. ولا يتأخرون عنها فيسلموها، ولا يتقدمون عليها
فيفردوها. أجزأ امرؤ قرنه (6)، وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه
إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه. وأيم الله لئن فررتم من
سيف العاجلة لا تسلموا من سيف الآخرة. وأنتم لهاميم العرب (7)
3

والسنام الأعظم. إن في الفرار موجدة الله (1)، والذل اللازم والعار
الباقي. وإن الفار لغير مزيد في عمره ولا محجوز بينه وبين يومه.
الرائح (*) إلى الله كالظمآن يرد الماء. الجنة تحت أطراف العوالي (2).
اليوم تبلى الأخبار (3). والله لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم.
اللهم فإن ردوا الحق فافضض جماعتهم، وشتت كلمتهم، وأبسلهم
بخطاياهم (4). إنهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك (5). يخرج
منه النسيم، وضرب يفلق الهام، ويطيح العظام، ويندر السواعد
والأقدام (6). وحتى يرموا بالمناسر تتبعها المناسر (7)، ويرجموا بالكتائب
تقفوها الحلائب (8)، وحتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس، وحتى
تدعق الخيول في نواحر أرضهم (9)، وبأعنان مساربهم ومسارحهم (10)

* في نسخة: من رائح.
4

(أقول: الدعق: الدق، أي تدق الخيول بحوافرها أرضهم. ونواحر
أرضهم متقابلاتهما. يقال: منازل بني فلان تتناحر، أي تتقابل)
125 - ومن كلام له عليه السلام
في التحكيم
إنا لم نحكم الرجال وإنما حكمنا القرآن. وهذا القرآن
إنما هو خط مستور بين الدفتين (1) لا ينطق بلسان، ولا بد له من
ترجمان. وإنما ينطق عنه الرجال. ولما دعانا القوم إلى أن نحكم
بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله تعالى. وقد
قال الله سبحانه " فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ".
فرده إلى الله أن نحكم بكتابه، ورده إلى الرسول أن نأخذ بسنته،
فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق الناس به، وإن حكم
بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله فنحن أولاهم به. وأما قولكم
لم جعلت بينك وبينهم أجلا في التحكيم، فإنما فعلت ذلك
ليتبين الجاهل ويتثبت العالم. ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة
أمر هذه الأمة، ولا تؤخذ بأكظامها (2) فتعجل عن تبين الحق
5

وتنقاد لأول الغي. إن أفضل الناس عند الله من كان العمل بالحق أحب
إليه - وإن نقصه وكرثه (1) - من الباطل وإن جر إليه فائدة وزاده.
فأين يتاه بكم!. ومن أين أتيتم!. استعدوا للمسير إلى قوم حيارى
عن الحق لا يبصرونه، وموزعين بالجور (2) لا يعدلون به. جفاة عن
الكتاب. نكب عن الطريق (3). ما أنتم بوثيقة يعلق بها (4)،
ولا زوافر عز يعتصم إليها (5). لبئس حشاش نار الحرب أنتم (6). أف
لكم لقد لقيت منكم برحا (7)، يوما أناديكم ويوما أناجيكم، فلا
أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاء (8)
126 - ومن كلام له عليه السلام
لما عوتب على التسوية في العطاء
أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله
6

ما أطور به ما سمر سمير (1)، وما أم نجم في السماء نجما (2). لو كان المال لي
لسويت بينهم فكيف وإنما المال مال الله. ألا وإن إعطاء المال في
غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في
الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله. ولم يضع امرؤ ماله
في غير حقه ولا عند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم، وكان لغيره
ودهم. فإن زلت به النعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشر خدين (3)،
وألام خليل
127 - ومن كلام له عليه السلام للخوارج أيضا
فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت، فلم تضللون عامة
أمة محمد صلى الله عليه وآله بضلالي، وتأخذونهم بخطأي،
وتكفرونهم بذنوبي. سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء
والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب. وقد علمتم أن رسول الله
صلى الله عليه وآله رجم الزاني المحصن ثم صلى عليه ثم ورثه أهله. وقتل
القاتل وورث ميراثه أهله. وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن.
7

ثم قسم عليهما من الفئ ونكحا المسلمات، فأخذهم رسول الله
صلى الله عليه وآله بذنوبهم، وأقام حق الله فيهم، ولم يمنعهم
سهمهم من الاسلام، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله (1). ثم أنتم
شرار الناس، ومن رمى به الشيطان مراميه، وضرب به تيهه (2).
وسيهلك في صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض
مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس في حالا النمط الأوسط،
فالزموه والزموا السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة. وإياكم والفرقة
فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب ألا من دعا
إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه (3) وإنما حكم الحكمان
ليحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن. وإحياؤه الاجتماع عليه،
وإماتته الافتراق عنه. فإن جرنا القرآن إليهم اتبعناهم، وإن جرهم
إلينا اتبعونا. فلم آت - لا أبا لكم - بجرا (4)، ولا ختلتكم عن أمركم (5)
8

ولا لبسته عليكم، إنما اجتمع رأي ملاكم على اختيار رجلين
أخذنا عليهما أن لا يتعديا القرآن فتاها عنه، وتركا الحق وهما يبصرانه،
وكان الجور هواهما فمضيا عليه. وقد سبق استثناؤنا عليهما - في
الحكومة بالعدل والصمد للحق - سوء رأيهما (1) وجور حكمهما
128 - ومن كلام له عليه السلام
فيما يخبر به من الملاحم بالبصرة (2)
يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا
لجب (3)، ولا قعقعة لجم، ولا حمحمة خيل (4). يثيرون الأرض بأقدامهم
كأنها أقدام النعام (يومي بذلك إلى صاحب الزنج. ثم قال عليه السلام): ويل
لسكككم العامرة (5)، والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة
النسور (6)، وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يندب
9

قتلهم (1)، ولا يفتقد غائبهم. أنا كأب الدنيا لوجهها، وقادرها بقدرها،
وناظرها بعينها
(منه، ويومي به إلى وصف الأتراك) كأني أراهم قوما كأن
وجوههم المجان المطرقة (2)، يلبسون السرق والديباج (3)، ويعتقبون
الخيل العتاق (4). ويكون هناك استحرار قتل حتى (5) يمشي المجروح على
المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور (فقال له بعض أصحابه:
لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك عليه السلام، وقال
للرجل وكان كلبيا): يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب، وإنما هو
تعلم من ذي علم. وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدد الله سبحانه بقوله
" إن الله عنده علم الساعة " الآية، فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر
10

أو أنثى، وقبيح أو جميل، وسخي أو بخيل، وشقي أو سعيد، ومن
يكون في النار حطبا، أو في الجنان للنبيين مرافقا. فهذا علم الغيب
الذي لا يعلمه أحد إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه
فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطم عليه جوانحي (1)
129 - ومن خطبة له عليه السلام
في ذكر المكاييل والموازين
عباد الله، إنكم - وما تأملون من هذه الدنيا أثوياء.
مؤجلون (2) ومدينون مقتضون. أجل منقوص وعمل محفوظ. فرب
دائب مضيع (3)، ورب كادح خاسر. وقد أصبحتم في زمن لا يزداد
الخير فيه إلا إدبارا، ولا الشر إلا إقبالا، ولا الشيطان في هلاك الناس إلا
طمعا. فهذا أوان قويت عدته (4)، وعمت مكيدته، وأمكنت
فريسته (5). اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلا فقيرا
11

يكابد فقرا، أو غنيا بدل نعمة الله كفرا، أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله
وفرا، أو متمردا كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرا. أين خياركم وصلحاؤكم
وأين أحراركم وسمحاؤكم وأين المتورعون في مكاسبهم، والمتنزهون
في مذاهبهم. أليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدنيا الدنية والعاجلة المنغصة.
وهل خلقتم إلا في حثالة (1) لا تلتقي بذمهم الشفتان، استصغارا لقدرهم،
وذهابا عن ذكرهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ظهر الفساد فلا منكر
مغير، ولا زاجر مزدجر. أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار
قدسه، وتكونوا أعز أوليائه عنده؟ هيهات لا يخدع الله عن جنته،
ولا تنال مرضاته إلا بطاعته. لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له،
والناهين عن المنكر العاملين به
130 - ومن كلام له عليه السلام
لأبي ذر رحمه الله لما خرج إلى الربذة (2)
يا أبا ذر، إنك غضبت لله فارج من غضبت له. إن القوم خافوك
على دنياهم وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه،
12

واهرب منهم بما خفتهم عليه. فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عما
منعوك. وستعلم من الرابح غدا، والأكثر حسدا. ولو أن السماوات
والأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا، ولا
يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل. فلو قبلت دنياهم
لأحبوك، ولو قرضت منها لأمنوك (1).
131 - ومن كلام له عليه السلام
أيتها النفوس المختلفة والقلوب المتشتتة. الشاهدة أبدانهم،
والغائبة عنهم عقولهم، أظأركم على الحق (2) وأنتم تنفرونه عنه نفور
المعزى من وعوعة الأسد، هيهات أن أطلع بكم سرار العدل (3)، أو
أقيم اعوجاج الحق. اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة
في سلطان ولا التماس شئ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم
من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك. فيأمن المظلومون من
عبادك، وتقام المعطلة من حدودك. اللهم إني أول من أناب وسمع
13

وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله صلى الله عليه وآله بالصلاة
وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء
والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم
نهمته (1)، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا
الحائف للدول (2) فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم
فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع (3)، ولا المعطل للسنة
فيهلك الأمة
132 - ومن خطبة له عليه السلام
نحمده على ما أخذ وأعطى، وعلى ما أبلى وابتلى (4). الباطن لكل
خفية. الحاضر لكل سريرة. العالم بما تكن الصدور وما تخون
العيون. ونشهد أن لا إله غيره، وأن محمدا نجيبه وبعيثه (5) شهادة
يوافق فيها السر الاعلان والقلب اللسان (منها) فإنه والله الجد لا
14

اللعب، والحق لا الكذب. وما هو إلا الموت أسمع داعيه (1)
وأعجل حاديه. فلا يغرنك سواد الناس من نفسك (2)، فقد رأيت من
كان قبلك ممن جمع المال. وحذر الاقلال وأمن العواقب، طول أمل (3)
واستبعاد أجل، كيف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه، وأخذه من
مأمنه، محمولا على أعواد المنايا، يتعاطى به الرجال الرجال، حملا على
المناكب وإمساكا بالأنامل. أما رأيتم الذين يأملون بعيدا ويبنون
مشيدا ويجمعون كثيرا، أصبحت بيوتهم قبورا، وما جمعوا بورا.
وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين، لا في حسنة
يزيدون، ولا من سيئة يستعتبون. فمن أشعر التقوى قلبه برز مهله (4)
وفاز عمله. فاهتبلوا هبلها، واعملوا للجنة عملها (5). فإن الدنيا لم تخلق
لكم دار مقام، بل خلقت لكم مجازا لتزودوا منها الأعمال إلى
دار القرار. فكونوا منها على أوفاز (6). وقربوا الظهور للزيال
15

133 - ومن خطبة له عليه السلام
وانقادت له الدنيا والآخرة بأزمتها، وقذفت إليه السماوات
والأرضون مقاليدها (1)، وسجدت له بالغدو والآصال الأشجار الناضرة.
وقدحت له من قضبانها النيران المضيئة (2)، وآتت أكلها بكلماته
الثمار اليانعة (منها) وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيى لسانه،
وبيت لا تهدم أركانه، وعز لا تهزم أعوانه (منها) أرسله على حين
فترة من الرسل وتنازع من الألسن، فقفى به الرسل، وختم به الوحي،
فجاهد في الله المدبرين عنه والعادلين به (منها) وإنما الدنيا منتهى بصر
الأعمى (3)، لا يبصر مما وراءها شيئا، والبصير ينفذها بصره ويعلم أن
الدار وراءها. فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص. والبصير
منها متزود، والأعمى لها متزود. (منها) واعلموا أنه ليس من شئ إلا
ويكاد صاحبه يشبع منه ويمله إلا الحياة فإنه لا يجد له في الموت
راحة (4). وإنما ذلك بمنزلة الحكمة التي هي حياة للقلب الميت،
16

وبصر للعين العمياء، وسمع للأذن الصماء وري للظمآن وفيها الغنى
كله والسلامة. كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به
وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض. لا يختلف في الله، ولا
يخالف بصاحبه عن الله. قد اصطلحتم على الغل فيما بينكم (1)، ونبت
المرعى على دمنكم. وتصافيتم على حب الآمال، وتعاديتم في كسب
الأموال. لقد استهان بكم الخبيث (2)، وتاه بكم الغرور، والله
المستعان على نفسي وأنفسكم
17

134 - ومن كلام له عليه السلام
وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم بنفسه
وقد توكل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة (1)، وستر العورة.
والذي نصرهم وهم قليل لا ينتصرون، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون:
حي لا يموت
إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم بشخصك فتنكب لا تكن
للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم (2). ليس بعدك مرجع يرجعون
إليه. فابعث إليهم رجلا محربا، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة (3)،
فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءا للناس (4)
ومثابة للمسلمين.
135 - ومن كلام له عليه السلام (5)
وقد وقعت مشاجرة بينه وبين عثمان فقال المغيرة بن الأخنس
لعثمان أنا أكفيكه فقال علي كرم الله وجهه للمغيرة:
يا بن اللعين الأبتر، والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع، أنت
18

تكفيني؟ والله ما أعز الله من أنت ناصره، ولا قام من أنت منهضه. اخرج
عنا أبعد الله نواك (1)، ثم أبلغ جهدك فلا أبقى الله عليك إن أبقيت
136 - ومن كلام له عليه السلام
لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحدا. إني
أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم. أيها الناس، أعينوني على
أنفسكم، وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم
بخزامته (2)، حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها
137 - ومن كلام له عليه السلام
في معنى طلحة والزبير
والله ما أنكروا علي منكرا، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا (3).
وإنهم ليطلبون حقا هم تركوه، ودما هم سفكوه. فإن كنت
شريكهم فيه فإن لهم نصيبهم منه، وإن كانوا ولوه دوني فما الطلبة
19

إلا قبلهم (1). وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم. إن معي لبصيرتي
ما لبست ولا لبس علي. وإنها للفئة الباغية فيها الحما والحمة (2)، والشبهة
المغدفة (3). وإن الأمر لواضح. وقد زاح الباطل عن نصابه (4)،
وانقطع لسانه عن شغبه (5) وأيم الله لأفرطن لهم حوضا (6) أنا ماتحه لا
يصدرون عنه بري، ولا يعبون بعده في حسي (7)
(منه) فأقبلتم إلي إقبال العوذ المطافيل على أولادها (8)، تقولون
البيعة البيعة. قبضت كفي فبسطتموها، ونازعتكم يدي فحاذبتموها
20

اللهم إنهما قطعاني وظلماني، ونكثا بيعتي، وألبا الناس علي (1). فاحلل
ما عقدا، ولا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما أملا وعملا.
ولقد استثبتهما قبل القتال (2)، واستأنيت بهما أمام الوقاع، فغمطا النعمة
وردا العافية (3)
138 - ومن خطبة له عليه السلام
يومي فيها إلى ذكر الملاحم
يعطف الهوى على الهدى (4) إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف
الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي
(منها) حتى تقوم الحرب بكم على ساق باديا نواجذها (5)، مملوءة
أخلافها، حلوا رضاعها، علقما عاقبتها. ألا وفي غد - وسيأتي غد بما
لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوي أعمالها (6)
21

وتخرج له الأرض أفاليذ (1) كبدها، وتلقي إليه سلما مقاليدها.
فيريكم كيف عدل السيرة. ويحيي ميت الكتاب والسنة.
(منها) كأني به قد نعق بالشام وفحص براياته في ضواحي كوفان،
فعطف عليها عطف الضروس (2)، وفرش الأرض بالرءوس. قد فغرت
فاغرته، وثقلت في الأرض وطأته. بعيد الجولة، عظيم الصولة. والله
ليشردنكم في أطراف الأرض (3) حتى لا يبقى منكم إلا قليل
كالكحل في العين، فلا تزالون كذلك حتى تؤوب إلى العرب
عوازب أحلامها (4). فالزموا السنن القائمة والآثار البينة والعهد
القريب الذي عليه باقي النبوة. واعلموا أن الشيطان إنما يسني لكم
طرقه لتتبعوا عقبه (5).
139 - ومن كلام له عليه السلام في وقت الشورى
لم يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق، وصلة رحم، وعائدة كرم
22

فاسمعوا قولي، وعوا منطقي. عسى أن تروا (1) هذا الأمر من بعد هذا
اليوم تنتضى فيه السيوف، وتخان فيه العهود، حتى يكون بعضكم
أئمة لأهل الضلالة، وشيعة لأهل الجهالة.
140 - ومن كلام له عليه السلام
في النهي عن عيب الناس
وإنما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة (2) أن يرحموا
أهل الذنوب والمعصية، ويكون الشكر هو الغالب عليهم والحاجز
لهم عنهم، فكيف بالعائب الذي عاب أخا وعيره ببلواه. أما ذكر
موضع ستر الله عليه من ذنوبه مما هو أعظم (3) من الذنب الذي عابه به.
وكيف يذمه بذنب قد ركب مثله، فإن لم يكن ركب ذلك الذنب
بعينه فقد عصى الله فيما سواه مما هو أعظم منه. وأيم الله لئن لم يكن
عصاه في الكبير وعصاه في الصغير لجرأته على عيب الناس أكبر
يا عبد الله، لا تعجل في عيب أحد بذنبه فلعله مغفور له، ولا
تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك معذب عليه. فليكفف من
23

علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، وليكن الشكر
شاغلا له على معافاته مما ابتلى به غيره
141 - ومن كلام له عليه السلام
أيها الناس، من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق فلا يسمعن
فيه أقاويل الرجال. أما إنه قد يرمي الرامي وتخطئ السهام ويحيل
الكلام (1)، وباطل ذلك يبور والله سميع وشهيد. أما إنه ليس بين
الحق والباطل إلا أربع أصابع (فسئل عليه السلام عن معنى قوله
هذا، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثم قال): الباطل أن تقول
سمعت والحق أن تقول رأيت
142 - ومن كلام له عليه السلام
وليس لواضع المعروف في غير حقه وعند غير أهله من الحظ فيما أتى
إلا محمدة اللئام، وثناء الأشرار، ومقالة الجهال، ما دام منعما عليهم. ما أجود
يده وهو عن ذات الله بخيل!. فمن آتاه الله مالا فليصل به القرابة،
وليحسن منه الضيافة، وليفك به الأسير والعاني، وليعط منه الفقير
24

والغارم، وليصبر نفسه على الحقوق والنوائب ابتغاء الثواب، فإن
فوزا بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا ودرك فضائل الآخرة
إن شاء الله
143 - ومن خطبة له عليه السلام
في الاستسقاء
ألا وإن الأرض التي تحملكم والسماء التي تظلكم مطيعتان
لربكم، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجعا لكم ولا زلفة
إليكم ولا لخير ترجوانه منكم، ولكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا،
وأقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا
إن الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس
البركات، وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب ويقلع مقلع،
ويتذكر متذكر، ويزدجر مزدجر. وقد جعل الله سبحانه الاستغفار
سببا لدرور الرزق ورحمة الخلق فقال: " استغفروا ربكم إنه كان
غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين " فرحم
الله امرأ استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيته
25

اللهم إنا خرجنا إليك من تحت الأستار والأكنان، وبعد عجيج
البهائم والولدان، راغبين في رحمتك، وراجين فضل نعمتك، وخائفين
من عذابك ونقمتك. اللهم فاسقنا غيثك ولا تجعلنا من القانطين،
ولا تهلكنا بالسنين (1)، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا أرحم
الراحمين. اللهم إنا خرجنا إليك نشكو إليك ما لا يخفى عليك حين
ألجأتنا المضايق الوعرة، وأجاءتنا المقاحط المجدبة (2)، وأعيتنا
المطالب المتعسرة، وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة. اللهم إنا نسألك
أن لا تردنا خائبين، ولا تقلبنا واجمين (3). ولا تخاطبنا بذنوبنا (4)،
ولا تقايسنا بأعمالنا. اللهم انشر علينا غيثك، وبركتك، ورزقك
ورحمتك. واسقنا سقيا نافعة مروية معشبة تنبت بها ما قد فات، وتحيي
بها ما قد مات. نافعة الحيا (5)، كثيرة المجتنى، تروي بها القيعان (6)، وتسيل
البطنان (7). وتستورق الأشجار، وترخص الأسعار إنك على ما تشاء قدير
26

144 - ومن خطبة له عليه السلام
بعث الله رسله بما خصهم به من وحيه، وجعلهم حجة له على
خلقه، لئلا تجب الحجة لهم بترك الإعذار إليهم. فدعاهم بلسان
الصدق إلى سبيل الحق. ألا إن الله قد كشف الخلق كشفة (1)، لا
أنه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم ومكنون ضمائرهم، ولكن
ليبلوهم أيهم أحسن عملا، فيكون الثواب جزاء والعقاب بواء (2).
أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذبا وبغيا علينا أن
رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم. بنا يستعطى
الهدى ويستجلى العمى. إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن
من هاشم. لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم (منها)
آثروا عاجلا وأخروا آجلا، وتركوا صافيا وشربوا آجنا (3). كأني أنظر
إلى فاسقهم وقد صحب المنكر فألفه، وبسئ به ووافقه (4)، حتى
شابت عليه مفارقه، وصبغت به خلائقه (5). ثم أقبل مزبدا كالتيار
27

لا يبالي ما غرق. أو كوقع النار في الهشيم لا يحفل ما حرق (1). أين
العقول المستصبحة بمصابيح الهدى، والأبصار اللامحة إلى منار
التقوى. أين القلوب التي وهبت لله وعوقدت على طاعة الله. ازدحموا
على الحطام وتشاحوا على الحرام. ورفع لهم علم الجنة والنار فصرفوا
عن الجنة وجوههم، وأقبلوا إلى النار بأعمالهم. دعاهم ربهم فنفروا
وولوا. ودعاهم الشيطان فاستجابوا وأقبلوا
145 - ومن كلام له عليه السلام
أيها الناس، إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه
المنايا (2)، مع كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص. لا تنالون منها
نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم
آخر من أجله. ولا تجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه.
ولا يحيى له أثر إلا مات له أثر. ولا يتجدد له جديد إلا بعد أن يخلق
له جديد (3). ولا تقوم له نابتة إلا وتسقط منه محصودة. وقد مضت
أصول نحن فروعها فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله (منها) وما أحدثت
بدعة إلا ترك بها سنة. فاتقوا البدع والزموا المهيع (4). إن
28

عوازم الأمور أفضلها (1). وإن محدثاتها شرارها
146 - ومن كلام له عليه السلام
(وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه)
إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة. وهو
دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ وطلع
حيث طلع. ونحن على موعود من الله. والله منجز وعده وناصر جنده.
ومكان القيم بالأمر (2) مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه. فإن
انقطع النظام تفرق وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا.
والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالاسلام وعزيزون
بالاجتماع. فكن قطبا، واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار
الحرب، فإنك إن شخصت (3) من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من
أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم
إليك مما بين يديك
29

إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا هذا أصل العرب فإذا
قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك.
فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانه
هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره. وأما ما
ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما
كنا نقاتل بالنصر والمعونة
147 - ومن خطبة له عليه السلام
فبعث محمدا صلى الله عليه وآله بالحق ليخرج عباده من عبادة
الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآن قد بينه
وأحكمه، ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه، وليقروا به إذ جحدوه،
وليثبتوه بعد إذ أنكروه. فتجلى سبحانه لهم في كتابه من غير أن
يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته، وخوفهم من سطوته. وكيف محق
من محق بالمثلات (1)، واحتصد من احتصد بالنقمات. وإنه سيأتي
عليكم من بعدي زمان ليس فيه شئ أخفى من الحق ولا أظهر من
الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله. وليس عند أهل
30

ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا أنفق منه (1)
إذا حرف عن مواضعه. ولا في البلاد شئ أنكر من المعروف،
ولا أعرف من المنكر. فقد نبذ الكتاب حملته، وتناساه حفظته.
فالكتاب يومئذ وأهله منفيان طريدان (2)، وصاحبان مصطحبان في
طريق واحد لا يؤويهما مؤو. فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس
وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم، لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا.
فاجتمع القوم على الفرقة. وافترقوا عن الجماعة. كأنهم أئمة الكتاب وليس
الكتاب إمامهم. فلم يبق عندهم منه إلا اسمه، ولا يعرفون إلا خطه
وزبره (3). ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثلة (4)، وسموا صدقهم
على الله فرية (5)، وجعلوا في الحسنة عقوبة السيئة
وإنما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم وتغيب آجالهم، حتى
نزل بهم الموعود (6) الذي ترد عنه المعذرة، وترفع عنه التوبة، وتحل
معه القارعة والنقمة (7)
31

أيها الناس إنه من استنصح الله وفق، ومن اتخذ قوله دليلا هدي
للتي هي أقوم فإن جار الله آمن، وعدوه خائف. وإنه لا ينبغي لمن
عرف عظمة الله أن يتعظم، فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمته أن
يتواضعوا له، وسلامة الذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له. فلا
تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والباري من ذي السقم (1).
واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن
تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به
حتى تعرفوا الذي نبذه. فالتمسوا ذلك من عند أهله فإنهم عيش العلم
وموت الجهل. هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم، وصمتهم عن
منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم. لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه،
فهو بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق
148 - (ومن خطبة له عليه السلام في ذكر أهل البصرة)
كل واحد منهما يرجوا الأمر له ويعطفه عليه دون صاحبه، لا يمتان
إلى الله بحبل، ولا يمدان إليه بسبب (2). كل واحد منهما حامل ضب
32

لصاحبه (1). وعما قليل يكشف قناعه به. والله لئن أصابوا الذي
يريدون لينتزعن هذا نفس هذا، وليأتين هذا على هذا. قد قامت
الفئة الباغية فأين المحتسبون (2). فقد سنت لهم السنن وقدم لهم
الخبر. ولكل ضلة علة، ولكل ناكث شبهة. والله لا أكون
كمستمع اللدم (3) يسمع الناعي ويحضر الباكي ثم لا يعتبر
149 - ومن كلام له عليه السلام
قبل موته
أيها الناس كل امرئ لاق ما يفر منه في فراره. والأجل مساق
النفس (4). والهرب منه موافاته. كم اطردت الأيام أبحثها عن مكنون
هذا الأمر فأبى الله إلا إخفاءه. هيهات. علم مخزون. أما وصيتي: فالله
لا تشركوا به شيئا. ومحمد صلى الله عليه وآله فلا تضيعوا سنته.
أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين. وخلاكم ذم ما لم
تشردوا (5). حمل كل امرئ منكم مجهوده (6). وخفف عن الجهلة.
33

رب رحيم، ودين قويم، وإمام عليم. أنا بالأمس صاحبكم. وأنا
اليوم عبرة لكم. وغدا مفارقكم. غفر الله لي ولكم
إن تثبت الوطأة في هذه المزلة فذاك. وإن تدحض القدم (1)
فإنما كنا في أفياء أغصان، ومهب رياح. وتحت ظل غمام اضمحل في
الجو متلفقها (2)، وعفا في الأرض مخطها. وإنما كنت جارا جاوركم بدني
أياما، وستعقبون مني جثة خلاء (3): ساكنة بعد حراك، وصامتة بعد
نطق. ليعظكم هدوي، وخفوت أطرافي (4)، وسكون أطرافي،
فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ والقول المسموع. وداعيكم
وداع امرئ مرصد للتلاقي (5)، غدا ترون أيامي ويكشف لكم
عن سرائري، وتعرفونني بعد خلو مكاني وقيام غيري مقامي
34

150 - ومن خطبة له عليه السلام
يومي فيها إلى ذكر الملاحم
وأخذوا يمينا وشمالا طعنا في مسالك الغي، وتركا لمذاهب
الرشد. فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد. ولا تستبطئوا ما يجئ به
الغد. فكم من مستعجل بما إن أدركه ود أنه لم يدركه. وما أقرب
اليوم من تباشير غد (1). يا قوم هذا إبان ورود كل موعود (2). ودنو
من طلعة ما لا تعرفون. ألا ومن أدركها منا يسري فيها بسراج منير،
ويحذو فيها على مثال الصالحين ليحل فيها ربقا (3)، ويعتق رقا، ويصدع
شعبا، ويشعب صدعا (4)، في سترة عن الناس لا يبصر القائف أثره (5)
ولو تابع نظره. ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين النصل (6). تجلى
بالتنزيل أبصارهم (7). ويرمى بالتفسير في مسامعهم
35

ويغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح (1). (منها) وطال الأمد بهم (2)
ليستكملوا الخزي، ويستوجبوا الغير (3)، حتى إذا اخلولق
الأجل (4)، واستراح قوم إلى الفتن، وأشالوا عن لقاح حربهم (5). ولم
يمنوا على الله بالصبر (6). ولم يستعظموا بذل أنفسهم في الحق. حتى
إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء حملوا بصائرهم على أسيافهم (7)،
ودانوا لربهم بأمر واعظهم. حتى إذا قبض الله رسوله صلى الله عليه
وآله رجع قوم على الأعقاب. وغالتهم السبل، واتكلوا على الولائج (8)
ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا
البناء عن رص أساسه، فبنوه في غير موضعه. معادن كل خطيئة،
وأبواب كل ضارب في غمرة (9).
36

قد ماروا في الحيرة (1)، وذهلوا في السكرة على سنة من آل فرعون:
من منقطع إلى الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين
151 - ومن خطبة له عليه السلام
وأحمد الله وأستعينه على مداحر الشيطان ومزاجره (2)، والاعتصام من
حبائله ومخاتله. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ونجيبه
وصفوته. لا يوازى فضله، ولا يجبر فقده. أضاءت به البلاد بعد الضلالة
المظلمة، والجهالة الغالبة، والجفوة الجافية. والناس يستحلون الحريم،
ويستذلون الحكيم. يحيون على فترة (3)، ويموتون على كفرة. ثم إنكم
معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت. فاتقوا سكرات النعمة، واحذروا
بوائق النقمة (4) وتثبتوا في قتام العشوة (5)، واعوجاج الفتنة عند
طلوع جنينها، وظهور كمينها، وانتصاب قطبها ومدار رحاها. تبدأ
في مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية. شبابها كشباب الغلام (6)
37

وآثارها كآثار السلام. تتوارثها الظلمة بالعهود. أولهم قائد لآخرهم
وآخرهم مقتد بأولهم. يتنافسون في دنيا دنية. ويتكالبون على
جيفة مريحة (1) عن قليل يتبرأ التابع من المتبوع، والقائد من
المقود. فيتزايلون بالبغضاء (2)، ويتلاعنون عند اللقاء. ثم يأتي
بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف (3)، والقاصمة الزحوف. فتزيغ
قلوب بعد استقامة، وتضل رجال بعد سلامة. وتختلف الأهواء
عند هجومها، وتلتبس الآراء عند نجومها (4). من أشرف لها قصمته
ومن سعى فيها حطمته. يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة (5).
قد اضطرب معقود الحبل، وعمي وجه الأمر. تغيض فيها الحكمة (6)،
وتنطق فيها الظلمة. وتدق أهل البدو بمسحلها (7)، وترضهم
بكلكلها. يضيع في غبارها الوحدان (8)، ويهلك في طريقها
38

الركبان. ترد بمر القضاء. وتحلب عبيط الدماء (1). وتثلم منار
الدين (2)، (وتنقض عقد اليقين. تهرب منها الأكياس (3)، وتدبرها
الأرجاس (4). مرعاد مبراق، كاشفة عن ساق. تقطع فيها الأرحام،
ويفارق عليها الاسلام. بريها سقيم وظاعنها مقيم
(منها) بين قتيل مطلول (5) وخائف مستجير. يختلون بعقد
الأيمان بغرور الإيمان (6). فلا تكونوا أنصاب الفتن (7) وأعلام البدع.
والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، وبنيت عليه أركان الطاعة.
واقدموا على الله مظلومين ولا تقدموا عليه ظالمين. واتقوا مدارج
الشيطان ومهابط العدوان. ولا تدخلوا بطونكم لعق الحرام (8)
فإنكم بعين من حرم عليكم المعصية (9)، وسهل لكم سبيل الطاعة
152 - ومن خطبة له عليه السلام
الحمد لله الدال على وجوده بخلقه. وبمحدث خلقه على أزليته.
39

وباشتباههم على أن لا شبه له. لا تستلمه المشاعر (1)، ولا تحجبه
السواتر، لافتراق الصانع والمصنوع، والحاد والمحدود، والرب
والمربوب. الأحد لا بتأويل عدد، والخالق لا بمعنى حركة ونصب (2)،
والسميع لا بأداة (3)، والبصير لا بتفريق آلة (4)، والشاهد لا بمماسة
والبائن لا بتراخي مسافة (5)، والظاهر لا برؤية، والباطن لا بلطافة.
بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها. وبانت الأشياء منه بالخضوع
له والرجوع إليه. من وصفه فقد حده (6) ومن حده فقد عده، ومن
عده فقد أبطل أزله، ومن قال كيف فقد استوصفه، ومن قال أين
فقد حيزه. وعالم إذ لا معلوم. ورب إذ لا مربوب. وقادر إذ لا مقدور
(منها) قد طلع طالع ولمع لامع، ولاح لائح (7) واعتدل
مائل. واستبدل الله بقوم قوما، وبيوم يوما. وانتظرنا الغير انتظار
المجدب المطر (8). وإنما الأئمة قوام الله على خلقه، وعرفاؤه على عباده،
لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من
40

أنكرهم وأنكروه. إن الله تعالى خصكم بالاسلام واستخصكم
له، وذلك لأنه اسم سلامة وجماع كرامة (1). اصطفى الله تعالى منهجه
وبين حججه من ظاهر علم وباطن حكم. لا تفنى غرائبه، ولا تنقضي
عجائبه. فيه مرابيع النعم (2)، ومصابيح الظلم. لا تفتح الخيرات
إلا بمفاتيحه، ولا تكشف الظلمات إلا بمصابيحه. قد أحمى حماه (3)
وأرعى مرعاه. فيه شفاء المشتفى، وكفاية المكتفي
153 - ومن خطبة له عليه السلام
وهو في مهلة من الله يهوي مع الغافلين (4)، ويغدو مع
المذنبين. بلا سبيل قاصد، ولا إمام قائد (منها) حتى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم. واستخرجهم من
جلابيب غفلتهم، استقبلوا مدبرا، واستدبروا مقبلا. فلم ينتفعوا
بما أدركوا من طلبتهم، ولا بما قضوا من وطرهم. إني أحذركم
ونفسي هذه المنزلة. فينتفع امرؤ بنفسه، فإنما البصير من سمع
فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر ثم سلك جددا واضحا يتجنب
41

فيه الصرعة في المهاوي، والضلال في المغاوي (1). ولا يعين على
نفسه الغواة بتعسف في حق، أو تحريف في نطق، أو تخوف من
صدق. فأفق أيها السامع من سكرتك، واستيقظ من غفلتك
واختصر من عجلتك، وأنعم الفكر فيما جاءك على لسان النبي الأمي
صلى الله عليه وآله مما لا بد منه ولا محيص عنه، وخالف من
خالف ذلك إلى غيره، ودعه وما رضي لنفسه. وضع فخرك واحطط
كبرك، واذكر قبرك فإن عليه ممرك، وكما تدين تدان. وكما
تزرع تحصد. وما قدمت اليوم تقدم عليه غدا، فامهد لقدمك (2)
وقدم ليومك. فالحذر الحذر أيها المستمع. والجد الجد أيها الغافل
" ولا ينبئك مثل خبير "
إن من عزائم الله في الذكر الحكيم التي عليها يثيب ويعاقب
ولها يرضى ويسخط، أنه لا ينفع عبدا - وإن أجهد نفسه وأخلص
فعله - أن يخرج من الدنيا لاقيا ربه بخصلة من هذه الخصال لم يتب
منها: أن يشرك بالله فيما افترض عليه من عبادته، أو يشفي غيظه
42

بهلاك نفس، أو يقر بأمر فعله غيره، أو يستنجح حاجة إلى الناس
بإظهار بدعة في دينه (1)، أو يلقى الناس بوجهين، أو يمشي فيهم
بلسانين. اعقل ذلك فإن المثل دليل على شبهه
إن البهائم همها بطونها. وإن السباع همها العدوان على غيرها.
وإن النساء همهن زينة الحياة الدنيا والفساد فيها. إن المؤمنين
مستكينون (2). إن المؤمنين مشفقون. إن المؤمنين خائفون
154 - ومن خطبة له عليه السلام
وناظر قلب اللبيب به يبصر أمده (3)، ويعرف غوره ونجده.
داع دعا، وراع رعى، فاستجيبوا للداعي واتبعوا الراعي
قد خاضوا بحار الفتن، وأخذوا بالبدع دون السنن. وأرز
المؤمنون (4). ونطق الضالون المكذبون. نحن الشعار (5) والأصحاب
43

والخزنة والأبواب. لا تؤتى البيوت إلا من أبوابها فمن أتاها من
غير أبوابها سمي سارقا
(منها) فيهم كرائم القرآن (1)، وهم كنوز الرحمن. إن نطقوا
صدقوا، وإن صمتوا لم يسبقوا (2). فليصدق رائد أهله، وليحضر
عقله، وليكن من أبناء الآخرة، فإنه منها قدم وإليها ينقلب.
فالناظر بالقلب العامل بالبصر يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعمله
عليه أم له. فإن كان له مضى فيه، وإن كان عليه وقف عنه.
فإن العامل بغير علم كالسائر على غير طريق. فلا يزيده بعده عن
الطريق إلا بعدا من حاجته. والعامل بالعلم كالسائر على الطريق
الواضح، فلينظر ناظر أسائر هو أم راجع. واعلم أن لكل ظاهر
باطنا على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه. وما خبث ظاهره خبث
باطنه. وقد قال الرسول الصادق صلى الله عليه وآله " إن الله يحب
العبد (3)، ويبغض عمله، ويحب العمل ويبغض بدنه (*) " واعلم أن لكل
44

عمل نباتا. وكل نبات لا غنى به عن الماء، والمياه مختلفة. فما طاب
سقيه طاب غرسه وحلت ثمرته، وما خبث سقيه خبث غرسه
وأمرت ثمرته
155 - ومن خطبة له عليه السلام
يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
الحمد لله الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته (1) وردعت
عظمته العقول فلم تجد مساغا إلى بلوغ غاية ملكوته. هو الله
الحق المبين أحق وأبين مما ترى العيون، لم تبلغه العقول
بتحديد فيكون مشبها. ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون
ممثلا، خلق الخلق على غير تمثيل ولا مشورة مشير، ولا معونة
معين. فتم خلقه بأمره، وأذعن لطاعته، فأجاب ولم يدافع، وانقاد
ولم ينازع. ومن لطائف صنعته وعجائب خلقته ما أرانا من غوامض
45

الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شئ.
ويبسطها الظلام القابض لكل حي. وكيف عشيت أعينها (1) عن أن
تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها، وتتصل بعلانية
برهان الشمس إلى معارفها. وردعها بتلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات
إشراقها (2) وأكنها في مكامنها عن الذهاب في بلج ائتلاقها (3)،
فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها. وجاعلة الليل سراجا تستدل
به في التماس أرزاقها. فلا يرد أبصارها إسداف ظلمته (4). ولا تمتنع
من المضي فيه لغسق دجنته. فإذا ألقت الشمس قناعها، وبدت أوضاح
نهارها (5)، ودخل من إشراق نورها على الضباب في وجارها (6) أطبقت
الأجفان على مآقيها (7) وتبلغت بما اكتسبت من فئ ظلم لياليها (8).
فسبحان من جعل الليل لها نهارا ومعاشا. والنهار سكنا وقرارا.
وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران
46

كأنها شظايا الآذان (1)، غير ذوات ريش ولا قصب (2). إلا أنك ترى
مواضع العروق بينة أعلاما (3). لها جناحان لما يرقا فينشقا (4). ولم
يغلظا فيثقلا. تطير وولدها لاصق بها لاجئ إليها يقع إذا وقعت.
ويرتفع إذا ارتفعت. لا يفارقها حتى تشتد أركانه. ويحمله للنهوض
جناحه. ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه. فسبحان الباري لكل
شئ على غير مثال خلا من غيره (5).
156 - ومن كلام له عليه السلام
خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم
فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على الله عز وجل فليفعل. فإن
أطعتموني فإني حاملكم إن شاء الله على سبيل الجنة، وإن كان
ذا مشقة شديدة ومذاقة مريرة
47

وأما فلانة فأدركها رأي النساء، وضغن غلا في صدرها
كمرجل القين (1)، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إلي لم تفعل،
ولها بعد حرمتها الأولى والحساب على الله تعالى
(منه) سبيل أبلج المنهاج أنور السراج. فبالإيمان يستدل على
الصالحات. وبالصالحات يستدل على الإيمان. وبالإيمان يعمر العلم.
وبالعلم يرهب الموت وبالموت تختم الدنيا. وبالدنيا تحرز الآخرة (2).
وإن الخلق لا مقصر لهم عن القيامة (3). مرقلين في مضمارها إلى
الغاية القصوى
(منه) قد شخصوا من مستقر الأجداث (4)، وصاروا إلى مصائر
الغايات. لكل دار أهلها، لا يستبدلون بها ولا ينقلون عنها. وإن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله سبحانه.
48

وإنهما لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق. وعليكم بكتاب الله
فإنه الحبل المتين والنور المبين. والشفاء النافع، والري الناقع (1)
والعصمة للمتمسك والنجاة للمتعلق. لا يعوج فيقام ولا يزيغ
فيستعتب (2). ولا تخلقه كثرة الرد وولوج السمع (3). من قال به
صدق ومن عمل به سبق.
(وقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة وهل
سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عنها فقال عليه السلام)
لما أنزل الله سبحانه قوله (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا
آمنا وهم لا يفتنون) علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى الله عليه
وآله بين أظهرنا. فقلت يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى
بها (4) فقال: " يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي " فقلت يا رسول الله:
أوليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين
49

وحيزت عني الشهادة (1) فشق ذلك علي فقلت لي: " أبشر فإن الشهادة
من ورائك " فقال لي: " إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذا (2) "
فقلت: يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن
البشرى والشكر (3). فقال: " يا علي إن القوم سيفتنون بأموالهم،
ويمنون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته، ويأمنون سطوته.
ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية. فيستحلون
الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية. والربا بالبيع " قلت يا رسول الله:
بأي المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردة أم بمنزلة فتنة؟ فقال:
" بمنزلة فتنة "
50

157 - ومن خطبة له عليه السلام
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحا لذكره. وسببا للمزيد من فضله
ودليلا على آلائه وعظمته. عباد الله إن الدهر يجري بالباقين كجريه
بالماضين. لا يعود ما قد ولى منه، ولا يبقى سرمدا ما فيه. آخر فعاله
كأوله. متسابقة أموره (1)، متظاهرة أعلامه. فكأنكم بالساعة
تحدوكم حدو الزاجر بشوله. فمن شغل نفسه بغير نفسه تحير في
الظلمات، وارتبك في الهلكات. ومدت به شياطينه في طغيانه،
وزينت له سيئ أعماله. فالجنة غاية السابقين. والنار غاية المفرطين
اعلموا عباد الله أن التقوى دار حصن عزيز. والفجور دار حصن
ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه (2). ألا وبالتقوى تقطع
حمة الخطايا (3). وباليقين تدرك الغاية القصوى
51

عباد الله، الله الله في أعز الأنفس عليكم، وأحبها إليكم.
فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق وأنار طرقه. فشقوة لازمة أو
سعادة دائمة. فتزودوا في أيام الفناء (1) لأيام البقاء. فقد دللتم على الزاد
وأمرتم بالظعن (2). وحثثتم على المسير. فإنما أنتم كركب وقوف
لا يدرون متى يؤمرون بالمسير. ألا فما يصنع بالدنيا من خلق
للآخرة وما يصنع بالمال من عما قليل يسلبه، وتبقى عليه تبعته
وحسابه (3)
عباد الله، إنه ليس لما وعد الله من الخير مترك، ولا فيما نهى
عنه من الشر مرغب. عباد الله، احذروا يوما تفحص فيه الأعمال.
ويكثر فيه الزلزال. وتشيب فيه الأطفال
اعلموا عباد الله أن عليكم رصدا من أنفسكم (4)، وعيونا من
52

جوارحكم، وحفاظ صدق يحفظون أعمالكم. وعدد أنفاسكم.
لا تستركم منهم ظلمة ليل داج، ولا يكنكم منهم باب ذو رتاج (1)
وإن غدا من اليوم قريب
يذهب اليوم بما فيه، ويجئ الغد لاحقا به، فكأن كل امرئ
منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته (2)، ومخط حفرته. فيا له
من بيت وحدة، ومنزل وحشة، ومفرد غربة. وكأن الصيحة قد
أتتكم، والساعة قد غشيتكم، وبرزتم لفصل القضاء. قد زاحت
عنكم الأباطيل (3). واضمحلت عنكم العلل. واستحقت بكم
الحقائق. وصدرت بكم الأمور مصادرها. فاتعظوا بالعبر، واعتبروا
بالغير، وانتفعوا بالنذر
158 - ومن خطبة له عليه السلام
أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم (4)،
53

وانتقاض من المبرم. فجاءهم بتصديق الذي بين يديه، والنور
المقتدى به. ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم
عنه. ألا إن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم،
ونظم ما بينكم
(منها) فعند ذلك لا يبقى بيت مدر ولا وبر (1) إلا وأدخله
الظلمة ترحة، وأولجوا فيه نقمة. فيومئذ لا يبقى لكم في السماء
ولا في الأرض ناصر. أصفيتم بالأمر غير أهله (2)، وأوردتموه غير
مورده. وسينتقم الله ممن ظلم مأكلا بمأكل ومشربا بمشرب،
من مطاعم العلقم ومشارب الصبر والمقر (3). ولباس شعار الخوف
ودثار السيف (4). وإنما هم مطايا الخطيئات وزوامل الآثام (5).
فأقسم ثم أقسم، لتنخمنها أمية من بعدي كما تلفظ النخامة (6) ثم
54

لا تذوقها ولا تتطعم بطعمها أبدا ما كر الجديدان
159 - ومن خطبة له عليه السلام
ولقد أحسنت جواركم، وأحطت بجهدي من ورائكم.
وأعتقتكم من ربق الذل. وحلق الضيم (1) شكرا مني للبر القليل،
وإطراقا عما أدركه البصر وشهده البدن من المنكر الكثير
160 - ومن خطبة له عليه السلام
أمره قضاء وحكمة، ورضاه أمان ورحمة. يقضي بعلم، ويعفو
بحلم. اللهم لك الحمد على ما تأخذ وتعطي، وعلى ما تعافي وتبتلي:
حمدا يكون أرضى الحمد لك، وأحب الحمد إليك، وأفضل الحمد
عندك. حمدا يملأ ما خلقت، ويبلغ ما أردت. حمدا لا يحجب عنك
ولا يقصر دونك. حمدا لا ينقطع عدده، ولا يفنى مدده. فلسنا
نعلم كنه عظمتك، إلا أنا نعلم أنك حي قيوم لا تأخذك سنة ولا
نوم. لم ينته إليك نظر، ولم يدركك بصر. أدركت الأبصار،
وأحصيت الأعمال، وأخذت بالنواصي والأقدام. وما الذي نرى
55

من خلقك ونعجب له من قدرتك ونصقه من عظيم سلطانك،
وما تغيب عنا منه، وقصرت أبصارنا عنه، وانتهت عقولنا دونه،
وحالت سواتر الغيوب بيننا وبينه أعظم. فمن فرغ قلبه وأعمل
فكره ليعلم كيف أقمت عرشك، وكيف ذرأت خلقك (1)، وكيف
علقت في الهواء سمواتك، وكيف مددت على مور الماء أرضك (2)
رجع طرفه حسيرا، وعقله مبهورا، وسمعه والها، وفكره حائرا (3)
(منها) يدعي بزعمه أنه يرجو الله. كذب والعظيم، ما باله لا يتبين
رجاؤه في عمله؟ فكل من رجا عرف رجاؤه في عمله. وكل رجاء إلا رجاء
الله تعالى فإنه مدخول (4) وكل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول
56

يرجو الله في الكبير، ويرجو العباد في الصغير، فيعطي العبد
ما لا يعطي الرب. فما بال الله جل ثناؤه يقصر به عما يصنع لعباده؟
أتخاف أن تكون في رجائك له كاذبا؟ أو تكون لا تراه للرجاء
موضعا؟ وكذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا
يعطي ربه، فجعل خوفه من العباد نقدا، وخوفه من خالقهم ضمارا
ووعدا (1). وكذلك من عظمت الدنيا في عينه، وكبر موقعها في قبله
آثرها على الله تعالى فانقطع إليها وصار عبدا لها. ولقد كان في رسول الله
صلى الله عليه وآله كاف لك في الأسوة (2). ودليل لك على ذم
الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها،
ووطئت لغيره أكنافها (3)، وفطم عن رضاعها، وزوي عن زخارفها.
وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول
" رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " والله ما سأله إلا خبزا
يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة البقل
57

ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله وتشذب لحمه (1). وإن شئت
ثلثت بداود صلى الله عليه صاحب المزامير وقارئ أهل الجنة،
فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده (2)، ويقول لجلسائه
أيكم يكفيني بيعها. ويأكل قرص الشعير من ثمنها. وإن شئت قلت
في عيسى بن مريم عليه السلام، فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن
ويأكل الجشب. وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر. وظلاله
في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها (3)، وفاكهته وريحانه ما تنبت
الأرض للبهائم. ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا
مال يلفته، ولا طمع يذله. دابته رجلاه، وخادمه يداه. فتأس (4)
بنبيك الأطيب الأطهر صلى الله عليه وآله، فإن فيه أسوة لمن
تأسى، وعزاء لمن تعزى وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتص
لأثره. قضم الدنيا قضما (5)، ولم يعرها طرفا. أهضم أهل الدنيا
58

كشحا (1)، وأخمصهم من الدنيا بطنا. عرضت عليه الدنيا فأبى أن
يقبلها. وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره،
وصغر شيئا فصغره. ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله
وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله لكفى به شقاقا لله ومحادة عن أمر الله (2).
ولقد كان صلى الله عليه وآله يأكل على الأرض، ويجلس جلسة
العبد، ويخصف بيده نعله (3)، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار
العاري ويردف خلفه. ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه
التصاوير فيقول يا فلانة - لإحدى أزواجه - غيبيه عني فإني إذا
نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها (4). فأعرض عن الدنيا بقلبه،
وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا
يتخذ منها رياشا (5)، ولا يعتقدها قرارا ولا يرجو فيها مقاما، فأخرجها
59

من النفس، وأشخصها عن القلب (1)، وغيبها عن البصر. وكذا من
أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده
ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وآله ما يدلك على مساوي
الدنيا وعيوبها. إذ جاع فيها مع خاصته (2)، وزويت عنه زخارفها مع
عظيم زلفته. فلينظر ناظر بعقله أكرم الله محمدا بذلك أم أهانه؟
فإن قال أهانه فقد كذب والعظيم، وإن قال أكرمه فليعلم
أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب
الناس منه. فتأسى متأس بنبيه (3)، واقتص أثره، وولج مولجه،
وإلا فلا يأمن الهلكة فإن الله جعل محمدا صلى الله عليه وآله
علما للساعة (4)، ومبشرا بالجنة، ومنذرا بالعقوبة. خرج من الدنيا
خميصا (5)، وورد الآخرة سليما. لم يضع حجرا على حجر حتى مضى
لسبيله، وأجاب داعي ربه. فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم
علينا به سلفا نتبعه، وقائدا نطأ عقبه (6). والله لقد رقعت
60

مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها (1). ولقد قال لي قائل ألا
تنبذها؟ فقلت اغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى (2)
161 - ومن خطبة له عليه السلام
بعثه بالنور المضئ والبرهان الجلي، والمنهاج البادي (3) والكتاب
الهادي. أسرته خير أسرة (4)، وشجرته خير شجرة. أغصانها معتدلة
وثمارها متهدلة (5). مولده بمكة وهجرته بطيبة (6). علا بها ذكره
وامتد بها صوته. أرسله بحجة كافية، وموعظة شافية، ودعوة
متلافية (7). أظهر به الشرائع المجهولة، وقمع به البدع المدخولة،
وبين به الأحكام المفصولة (8. فمن يتبع غير الاسلام دينا تتحقق
61

شقوته، وتنفصم عروته، وتعظم كبوته (1). ويكون مآبه إلى
الحزن الطويل والعذاب الوبيل. وأتوكل على الله توكل الإنابة
إليه. وأسترشده السبيل المؤدي إلى جنته، القاصدة إلى محل رغبته (*).
أوصيكم عباد الله بتقوى الله وطاعته فإنها النجاة غدا والمنجاة
أبدا. رهب فأبلغ، ورغب فأسبغ (2). ووصف لكم الدنيا
وانقطاعها، وزوالها وانتقالها. فأعرضوا عما يعجبكم فيها لقلة
ما يصحبكم منها. أقرب دار من سخط الله، وأبعدها من رضوان
الله. فغضوا عنكم - عباد الله - غمومها وأشغالها لما قد أيقنتم به
من فراقها وتصرف حالاتها. فاحذروها حذر الشفيق الناصح (3) والمجد
الكادح. واعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم.
قد تزايلت أوصالهم (4)، وزالت أبصارهم وأسماعهم، وذهب شرفهم
وعزهم، وانقطع سرورهم ونعيمهم. فبدلوا بقرب الأولاد فقدها،
وبصحبة الأزواج مفارقتها. لا يتفاخرون، ولا يتناسلون، ولا
62

يتزاورون، ولا يتجاورون. فاحذروا عباد الله حذر الغالب لنفسه،
المانع لشهوته، الناظر بعقله. فإن الأمر واضح، والعلم قائم،
والطريق جدد، والسبيل قصد (1)
162 - ومن خطبة له عليه السلام
لبعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم
عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال:
يا أخا بني أسد إنك لقلق الوضين (2) ترسل في غير سدد، ولك
بعد ذمامة الصهر وحق المسألة، وقد استعلمت فاعلم. أما الاستبداد
علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا، والأشدون برسول الله
صلى الله عليه وآله نوطا (3)، فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس
63

قوم، وسخت عنها نفوس آخرين. والحكم، الله والمعود إليه القيامة
ودع عنك نهبا صيح في حجراته (1)
وهلم الخطب في ابن أبي سفيان (2)، فلقد أضحكني الدهر بعد
إبكائه. ولا غرو والله فيا له خطبا. يستفرغ العجب، ويكثر
الأود. حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه، وسد فواره من
ينبوعه (3)، وجدحوا بيني وبينهم شربا وبيئا (4). فإن ترتفع عنا وعنهم
محن البلوى أحملهم من الحق على محضه (5)، وإن تكن الأخرى (6)
" فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون "
64

163 - ومن خطبة له عليه السلام
الحمد لله خالق العباد، وساطح المهاد، ومسيل الوهاد، ومخصب
النجاد (1). ليس لأوليته ابتداء، ولا لأزليته انقضاء. هو الأول لم
يزل، والباقي بلا أجل. خرت له الجباه، ووحدته الشفاه. حد الأشياء
عند خلقه لها إبانة له من شبهها (2). لا تقدره الأوهام بالحدود
والحركات، ولا بالجوارح والأدوات. لا يقال له متى، ولا يضرب
له أمد بحتى. الظاهر لا يقال مما (3)، والباطن لا يقال فيما. لا شبح
فيتقضى (4)، ولا محجوب فيحوى. لم يقرب من الأشياء بالتصاق،
ولم يبعد عنها بافتراق. لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة (5)،
ولا كرور لفظة، ولا ازدلاف ربوة (6)، ولا انبساط خطوة في ليل
65

داج (1)، ولا غسق ساج، يتفيأ عليه القمر المنير (2)، وتعقبه الشمس
ذات النور في الأفول والكرور (3)، وتقلب الأزمنة والدهور.
من إقبال ليل مقبل وإدبار نهار مدبر. قبل كل غاية ومدة (4)، وكل
إحصاء وعدة. تعالى عما ينحله (5) المحددون من صفات الأقدار،
ونهايات الأقطار. وتأثل المساكن (6)، وتمكن الأماكن. فالحد
لخلقه مضروب، وإلى غيره منسوب. لم يخلق الأشياء من أصول
أزلية، ولا أوائل أبدية، بل خلق ما خلق فأقام حده، وصور
ما صور فأحسن صورته (7) ليس لشئ منه امتناع (8)، ولا له بطاعة
66

شئ انتفاع. علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين،
وعلمه بما في السماوات العلى كعلمه بما في الأرضين السفلى
(منها) أيها المخلوق السوي (1)، والمنشأ المرعي في ظلمات
الأرحام، ومضاعفات الأستار. بدئت من سلالة من طين (2)، ووضعت
في قرار مكين، إلى قدر معلوم، وأجل مقسوم. تمور في بطن أمك
جنينا لا تحير دعاء ولا تسمع نداء. ثم أخرجت من مقرك إلى دار
لم تشهدها، ولم تعرف سبل منافعها. فمن هداك لاجترار الغذاء من
ثدي أمك، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك. هيهات،
إن من يعجز عن صفات ذي الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه
أعجز. ومن تناوله بحدود المخلوقين أبعد
67

164 - ومن كلام له عليه السلام
لما اجتمع الناس عليه وشكوا ما نقموه على عثمان
وسألوه مخاطبته عنهم واستعتابه لهم، فدخل عليه فقال
إن الناس ورائي وقد استسفروني بينك وبينهم (1) ووالله ما أدري
ما أقول لك؟ ما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك
لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شئ فنخبرك عنه، ولا خلونا بشئ فنبلغكه.
وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول الله صلى الله
عليه وآله كما صحبنا. وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب أولى بعمل
الحق منك، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
وشيجة رحم منهما (2). وقد نلت من صهره ما لم ينالا. فالله الله في
نفسك، فإنك والله ما تبصر من عمى ولا تعلم من جهل، وإن الطرق
68

لواضحة، وإن أعلام الدين لقائمة. فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله
إمام عادل هدي وهدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة مجهولة.
وإن السنن لنيرة لها أعلام، وإن البدع لظاهرة لها أعلام. وإن
شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به، فأمات سنة مأخوذة،
وأحيى بدعة متروكة. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول " يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر
فيلقى في جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى ثم يرتبط في قعرها (1) "
وإني أنشدك الله أن لا تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه كان
يقال: يقتل في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم
القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويبث الفتن عليها، فلا يبصرون
الحق من الباطل. يموجون فيها موجا، ويمرجون فيها مرجا (2). فلا
تكونن لمروان سيقة (3) يسوقك حيث شاء بعد جلال السن وتقضي
العمر. فقال له عثمان رضي الله عنه: " كلم الناس في أن يؤجلوني
حتى أخرج إليهم من مظالمهم " فقال عليه السلام: ما كان بالمدينة
فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصول أمرك إليه
69

165 - ومن خطبة له عليه السلام
يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس
ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان وموات، وساكن وذي حركات.
فأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت
له العقول معترفة به ومسلمة له. ونعقت في أسماعنا دلائله على
وحدانيته (1)، وما ذرأ من مختلف صور الأطيار (2) التي أسكنها أخاديد
الأرض وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها. من ذات أجنحة مختلفة،
وهيئات متباينة، مصرفة في زمان التسخير (3) ومرفرفة بأجنحتها في
مخارق الجو المنفسح، والفضاء المنفرج. كونها بعد أن لم تكن في
عجائب صور ظاهرة، وركبها في حقاق مفاصل محتجبة (4). ومنع
70

بعضها بعبالة خلقة أن يسمو في السماء خفوفا، وجعله يدف دفيفا.
ونسقها على اختلافها في الأصابيغ (1) بلطيف قدرته ودقيق صنعته.
فمنها مغموس في قالب (2) لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه. ومنها
مغموس في لون صبغ قد طوق بخلاف ما صبغ به ومن أعجبها خلقا
الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، ونضد ألوانه في أحسن
تنضيد (3)، بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال مسحبه. إذا درج إلى
الأنثى نشره من طيه، وسما به مطلا على رأسه (4) كأنه قلع داري
عنجه نؤتيه. يختال بألوانه، ويميس بزيفانه. يفضي كإفضاء الديكة،
ويؤر بملاقحة أر الفحول المغتلمة (5) في الضراب. أحيلك من ذلك

* في المنجد بكسر الدال.
71

على معاينة (1)، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده. ولو كان كزعم من
يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه (2)، فتقف في ضفتي جفونه
وأن أنثاه تطعم ذلك، ثم تبيض لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس
لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب (3). تخال قصبه مداري من
فضة وما أنبت عليها من عجيب داراته وشموسه خالص العقيان
وفلذ الزبرجد (4) فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت
72

جني جني من زهرة كل ربيع (1). وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشي
الحلل (2)، أو مونق عصب اليمن. وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات
ألوان قد نطقت باللجين المكلل (3). يمشي مشي المرح المختال (4)
ويتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه (5)
فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولا بصوت يكاد يبين عن استغاثته،
ويشهد بصادق توجعه، لأن قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية (6)
وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية خفية (7). وله في موضع العرف
قنزعة خضراء موشاة (8). ومخرج عنقه كالإبريق. ومغرزها إلى حيث
73

بطنه كصبغ الوسمة اليمانية (1)، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال (2)
وكأنه متلفع بمعجر أسحم (3). إلا أنه يخيل لكثرة مائه وشدة
بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به. ومع فتق سمعه خط كمستدق
القلم في لون الأقحوان (4) أبيض يقق. فهو ببياضه في سواد ما هنالك
يأتلق (5). وقل صبغ إلا وقد أخذ منه بقسط (6)، وعلاه بكثرة صقاله
وبريقه وبصيص ديباجه ورونقه (7). فهو كالأزاهير المبثوثة (8) لم تربها
أمطار ربيع (9) ولا شموس قيظ. وقد يتحسر من ريشه (10)، ويعرى من
لباسه، فبسقط تترى، وينبت تباعا، فينحت من قصبه انحتات أوراق
74

الأغصان (1)، ثم يتلاحق ناميا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه. لا يخالف
سالف ألوانه، ولا يقع لون في غير مكانه. وإذا تصفحت شعرة
من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية، وتارة خضرة زبرجدية، وأحيانا
صفرة عسجدية (2). فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن (3)، أو
تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين. وأقل
أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه، والألسنة أن تصفه. فسبحان
الذي بهر العقول (4) عن وصف خلق جلاه للعيون فأدركته محدودا
مكونا، ومؤلفا ملونا. وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقعد بها
عن تأدية نعته. وسبحان من أدمج قوائم الذرة (5) والهمجة إلى ما فوقهما
من خلق الحيتان والأفيلة. ووأى على نفسه أن لا يضطرب شبح مما
أولج فيه الروح إلا وجعل الحمام موعده، والفناء غايته (6)
(منها في صفة الجنة) فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك
منها لعزفت نفسك (7) عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها
75

ولذاتها وزخارف مناظرها، ولذهلت بالفكر في اصطفاق أشجار (1)
غيبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها، وفي تعليق كبائس
اللؤلؤ الرطب في عساليجها وأفنانها (2)، وطلوع تلك الثمار مختلفة في
غلف أكمامها (3). تحنى من غير تكلف (4) فتأتي على منية مجتنيها،
ويطاف على نزالها في أفنية قصورها بالأعسال المصفقة (5)، والخمور
المروقة. قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتى حلوا دار القرار (6)،
وأمنوا نقلة الأسفار. فلو شغلت قبلك أيها المستمع بالوصول إلى
ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة (7) لزهقت نفسك شوقا إليها،
ولتحملت من مجلسي هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالا بها. جعلنا
الله وإياكم ممن سعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته.
(تفسير بعض ما في هذه الخطبة من الغريب (*)
قوله عليه السلام ويؤر بملاقحة الأر كناية عن النكاح، يقال أر المرأة

* هذا التفسير غير موجود في بعض النسخ
76

يؤرها أي نكحها، وقوله كأنه قلع داري عنجه نوتيه: القلع شراع
السفينة، وداري: منسوب إلى دارين، وهي بلدة على البحر يجلب منها
الطيب. وعنجه أي عطفه. يقال عنجت الناقة - كنصرت - أعنجها عنجا
إذا عطفتها. والنوتي الملاح. وقوله ضفتي جفونه، أراد جانبي جفونه.
والضفتان الجانبان. وقوله وفلذ الزبرجد، الفلذ: جمع فلذة، وهي
القطعة. وقوله كبائس اللؤلؤ الرطب، الكباسة: العذق (1).
والعساليج الغصون، واحدها عسلوج).
166 - ومن خطبة له عليه السلام
ليتأس صغيركم بكبيركم (2)، وليرأف كبيركم بصغيركم.
ولا تكونوا كجفاة الجاهلية لا في الدين يتفقهون، ولا عن الله
يعقلون. كقيض بيض في أداح (3) يكون كسرها وزرا. ويخرج
حضانها شرا
77

(منها) افترقوا بعد ألفتهم، وتشتتوا عن أصلهم. فمنهم آخذ
بغصن أينما مال مال معه. على أن الله تعالى سيجمعهم لشر يوم لبني أمية
كما تجتمع قزع الخريف (1) يؤلف الله بينهم، ثم يجعلهم ركاما
كركام السحاب. ثم يفتح لهم أبوابا يسيلون من مستثارهم
كسيل الجنتين، حيث لم تسلم عليه قارة، ولم تثبت عليه أكمة،
ولم يرد سننه رص طود، ولا حداب أرض. يزعزعهم الله في بطون
أوديته (2)، ثم يسلكهم ينابيع في الأرض يأخذ بهم من قوم حقوق
قوم، ويمكن لقوم في ديار قوم. وأيم الله ليذوبن ما في أيديهم بعد
78

العلو والتمكين (1) كما تذوب الألية على النار
أيها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين
الباطل. لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقو من قوي
عليكم. لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل. ولعمري ليضعفن لكم
التيه من بعدي أضعافا (2) بما خلفتم الحق وراء ظهوركم، وقطعتم
الأدنى ووصلتم الأبعد. واعلموا أنكم إن اتبعتم الداعي لكم
سلك بكم منهاج الرسول، وكفيتم مؤونة الاعتساف، ونبذتم
الثقل الفادح عن الأعناق (3)
167 - ومن خطبة له عليه السلام
في أول خلافته
إن الله تعالى أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشر. فخذوا نهج
الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشر تقصدوا (4). الفرائض الفرائض،
أدوها إلى الله تؤدكم إلى الجنة. إن الله حرم حراما غير مجهول، وأحل
حلالا غير مدخول (5)، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد
79

بالاخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها (1). فالمسلم من
سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق. ولا يحل أذى المسلم إلا بما
يجب. بادروا أمر العامة وخاصة أحدكم وهو الموت (2) فإن الناس
أمامكم، وإن الساعة تحدوكم من خلفكم. تخففوا تلحقوا، فإنما
ينتظر بأولكم آخركم. اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون
حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير
فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه
168 - ومن كلام له عليه السلام
بعد ما بويع بالخلافة، وقد قال له قوم من الصحابة
لو عاقبت قوما ممن أجلب على عثمان؟ فقال عليه السلام:
يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوة
والقوم المجلبون على حد شوكتهم، يملكوننا ولا نملكهم.
80

وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، والتفت إليهم أعرابكم،
وهم خلالكم (1) (يسومونكم ما شاؤوا. وهل ترون موضعا لقدرة
على شئ تريدونه. إن هذا الأمر أمر جاهلية. وإن لهؤلاء القوم
مادة (2). إن الناس من هذا الأمر - إذا حرك - على أمور: فرقة ترى
ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك، فاصبروا
حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق مسمحة (3)
فاهدأوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم به أمري. ولا تفعلوا فعلة
تضعضع قوة، وتسقط منة، وتورث وهنا وذلة (4). وسأمسك الأمر
ما استمسك. وإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي (5)
169 - ومن خطبة له عليه السلام
عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة
إن الله بعث رسولا هاديا بكتاب ناطق وأمر قائم، لا يهلك عنه
إلا هالك (6). وإن المبتدعات المشبهات هن المهلكات (7) إلا ما حفظ
81

الله منها. وإن في سلطان الله عصمة لأمركم. فأعطوه طاعتكم غير
ملومة ولا مستكره بها (1). والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان
الاسلام، ثم لا ينقله إليكم أبدا حتى يأرز الأمر إلى غيركم (2)
إن هؤلاء قد تمالاوا على سخطة إمارتي (3) وسأصبر ما لم أخف
على جماعتكم. فإنهم إن تمموا على فيالة هذا الرأي (4) انقطع نظام
المسلمين، وإنما طلبوا هذه الدنيا حسدا لمن أفاءها الله عليه، فأرادوا
رد الأمور على أدبارها. ولكم علينا العمل بكتاب الله تعالى وسيرة
رسول الله صلى الله عليه وآله والقيام بحقه والنعش لسنته (5)
170 - ومن كلام له عليه السلام
كلم به بعض العرب وقد أرسله قوم من أهل البصرة لما قرب
عليه السلام منها ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول
الشبهة من نفوسهم فبين له عليه السلام من أمره معهم ما علم به
أنه على الحق، ثم قال له بايع، فقال إني رسول قوم ولا أحدث حدثا
82

حتى أرجع إليهم. فقال عليه السلام:
أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث
فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء فخالفوا إلى المعاطش
والمجادب ما كنت صانعا؟ قال كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ
والماء. فقال عليه السلام فامدد إذا يدك. فقال الرجل فوالله ما
استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة علي، فبايعته عليه السلام. والرجل
يعرف بكليب الجرمي
171 - ومن كلام له عليه السلام
لما عزم على لقاء القوم بصفين
اللهم رب السقف المرفوع، والجو المكفوف (1)، الذي جعلته
مغيضا لليل والنهار، ومجرى للشمس والقمر، ومختلفا للنجوم السيارة.
وجعلت سكانه سبطا من ملائكتك لا يسأمون من عبادتك. ورب
هذه الأرض التي جعلتها قرارا للأنام ومدرجا للهوام والأنعام، وما
83

لا يحصى مما يرى ومما لا يرى. ورب الجبال الرواسي التي جعلتها
للأرض أوتادا، وللخلق اعتمادا (1)، إن أظهرتنا على عدونا فجنبا البغي
وسددنا للحق. وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة واعصمنا من الفتنة.
أين المانع للذمار (2) والغائر عند نزول الحقائق من أهل الحفاظ. العار
وراءكم والجنة أمامكم
172 - ومن خطبة له عليه السلام
الحمد لله الذي لا تواري عنه سماء سماء (3) ولا أرض أرضا
(منها) وقال قائل: إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص،
فقلت بل أنتم والله لأحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، وإنما طلبت
حقا لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه (4). فلما
84

قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب لا يدري ما يجيبني به
اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم (1)، فإنهم قطعوا رحمي،
وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي. ثم قالوا إلا
أن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تتركه (2)
(منها في ذكر أصحاب الجمل) فخرجوا يجرون حرمة رسول الله
صلى الله عليه وآله كما تجر الأمة عند شرائها، متوجهين بها إلى
البصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول الله صلى الله
عليه وآله لهما ولغيرهما (3) في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني
الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعا غير مكره فقدموا على عاملي بها وخزان
بيت مال المسلمين (4) وغيرهم من أهلها. فقتلوا طائفة صبرا (5)،
وطائفة غدرا. فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا
معتمدين لقتله (6) بلا جرم جره، لحل لي قتل ذلك الجيش كله
85

إذ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد. دع ما
أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم (1)
173 - ومن خطبة له عليه السلام
أمين وحيه، وخاتم رسله، وبشير رحمته، ونذير نقمته
أيها الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر
الله فيه. فإن شغب شاغب استعتب (2) فإن أبى قوتل. ولعمري لئن
كانت الإمامة لا تنعقد حتى يحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل،
ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع
ولا للغائب أن يختار
ألا وإني أقاتل رجلين: رجلا ادعى ما ليس له، وآخر منع الذي
عليه. أوصيكم بتقوى الله فإنها خير ما تواصى العباد به،
وخير عواقب الأمور عند الله. وقد فتح باب الحرب بينكم وبين
86

أهل القبلة (1)، ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر (2) والعلم
بمواضع الحق. فامضوا لما تؤمرون به، وقفوا عندما تنهون عنه. ولا
تعجلوا في أمر حتى تتبينوا، فإن لنا مع كل أمر تنكرونه غيرا (3)
ألا وإن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها وترغبون فيها، وأصبحت
تغضبكم وترضيكم ليست بداركم، ولا منزلكم الذي خلقتم له
ولا الذي دعيتم إليه. ألا وإنها ليست بباقية لكم ولا تبقون عليها.
وهي وإن غرتكم منها فقد حذرتكم شرها. فدعوا غرورها
لتحذيرها، وإطماعها لتخويفها. وسابقوا فيها إلى الدار التي دعيتم إليها
وانصرفوا بقلوبكم عنها. ولا يخنن أحدكم خنين الأمة على ما زوي
عنه منها (4). واستتموا نعمة الله عليكم بالصبر على طاعة الله والمحافظة
على ما استحفظكم من كتابه. ألا وإنه لا يضركم تضييع شئ
من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم. ألا وإنه لا ينفعكم بعد
تضييع دينكم شئ حافظتم عليه من أمر دنياكم. أخذ الله
87

بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق. وألهمنا وإياكم الصبر
174 - ومن كلام له عليه السلام
في معنى طلحة بن عبيد الله
قد كنت وما أهدد بالحرب، ولا أرهب بالضرب. وأنا على ما قد
وعدني ربي من النصر. والله ما استعجل متجردا للطلب بدم عثمان (1)
إلا خوفا من أن يطالب بدمه لأنه مظنته، ولم يكن في القوم أحرص
عليه منه (2)، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلبس الأمر (3) ويقع
الشك. ووالله ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث: لئن كان ابن عفان
ظالما - كما كان يزعم - لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه (4) أو ينابذ
ناصريه. ولئن كان مظلوما لقد كان ينبغي له أن يكون من
المنهنهين عنه (5)، والمعذرين فيه (6). ولئن كان في شك من
الخصلتين لقد كان ينبغي له أن يعتزله ويركد جانبا (7) ويدع
88

الناس معه، فما فعل واحدة من الثلاث، وجاء بأمر لم يعرف بابه، ولم
تسلم معاذيره
175 - ومن خطبة له عليه السلام
أيها الغافلون غير المغفول عنهم، والتاركون المأخوذ منهم (1).
ما لي أراكم عن الله ذاهبين، وإلى غيره راغبين. كأنكم نعم أراح
بها سائم إلى مرعى وبي ومشرب دوي (2). إنما هي كالمعلوفة للمدي
لا تعرف ماذا يراد بها، إذا أحسن إليها تحسب يومها دهرها (3)، وشبعها
أمرها. والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه
وجميع شأنه لفعلت (4)، ولكن أخاف أن تكفروا في برسول الله
صلى الله عليه وآله. ألا وإني مفضيه إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه (5).
89

والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ما أنطق إلا صادقا. وقد عهد
إلي بذلك كله، وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو، ومآل هذا
الأمر. وما أبقى شيئا يمر على رأسي إلا أفرغه في أذني وأفضى به إلي.
أيها الناس إني والله ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا
أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها
176 - ومن خطبة له عليه السلام
انتفعوا ببيان الله، واتعظوا بمواعظ الله، واقبلوا نصيحة الله. فإن
الله قد أعذر إليكم بالجلية (1). واتخذ عليكم الحجة. وبين لكم
محابه من الأعمال ومكارهه منها لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه، فإن
رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول " إن الجنة حفت بالمكاره
وإن النار حفت بالشهوات " وأعلموا أنه ما من طاعة الله شئ إلا يأتي في
كره (2). وما من معصية الله شئ إلا يأتي في شهوة. فرحم الله رجلا
نزع عن شهوته (3). وقمع هوى نفسه، فإن هذه النفس أبعد شئ
90

منزعا. وإنها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى. واعلموا عباد الله أن
المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا ونفسه ظنون عنده (1)، فلا يزال زاريا
عليها ومستزيدا لها. فكونوا كالسابقين قبلكم والماضين أمامكم
قوضوا من الدنيا تقويض الراحل (2) وطووها طي المنازل. واعلموا أن
هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل،
والمحدث الذي لا يكذب. وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه
بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان في عمى. واعلموا أنه
ليس على أحد بعد القرآن من فاقة (3)، ولا لأحد قبل القرآن من غنى
فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم (4)، فإن فيه شفاء
من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال. فاسألوا الله به (5)،
91

وتوجهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه إنه ما توجه العباد إلى الله
بمثله. واعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدق. وأنه من شفع
له القرآن يوم القيامة شفع فيه (1)، ومن محل به القرآن يوم القيامة
صدق عليه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة: " ألا إن كل حارث مبتلى
في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن " فكونوا من حرثته وأتباعه
واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه
آراءكم (2)، واستغشوا فيه أهواءكم. العمل العمل، ثم النهاية النهاية.
والاستقامة الاستقامة، ثم الصبر الصبر، والورع الورع. إن لكم
نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. وإن لكم علما فاهتدوا بعلمكم (3).
وإن للاسلام غاية فانتهوا إلى غايته. واخرجوا إلى الله بما افترض
عليكم من حقه (4)، وبين لكم من وظائفه. أنا شاهد لكم
92

وحجيج يوم القيامة عنكم (1)
ألا وإن القدر السابق قد وقع، والقضاء الماضي قد تورد (2).
وإني متكلم بعدة الله وحجته، قال الله تعالى: " إن الذين قالوا
ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا
تخزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون " وقد قلتم ربنا الله
فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من
عبادته. ثم لا تمرقوا منها ولا تبتدعوا فيها ولا تخالفوا عنها. فإن
أهل المروق منقطع بهم عند الله يوم القيامة. ثم إياكم وتهزيع
الأخلاق وتصريفها (3). واجعلوا اللسان واحدا. وليخزن الرجل
لسانه (4). فإن هذا اللسان جموح بصاحبه. والله ما أرى عبدا يتقي
93

تقوى تنفعه حتى يختزن لسانه. وإن لسان المؤمن من وراء قلبه (1).
وإن قلب المنافق من وراء لسانه. لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم
بكلام تدبره في نفسه، فإن كان خيرا أبداه، وإن كان شرا واراه.
وإن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وما ذا عليه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " لا يستقيم إيمان عبد حتى
يستقيم قلبه. ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه " فمن استطاع
منكم أن يلقى الله تعالى وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم،
سليم اللسان من أعراضهم فليفعل. واعلموا عباد الله أن المؤمن يستحل
العام ما استحل عاما أول، ويحرم العام ما حرم عاما أول. وإن ما أحدث
الناس لا يحل لكم شيئا مما حرم عليكم (2)، ولكن الحلال ما أحل
الله والحرام ما حرم الله. فقد جربتم الأمور وضرستموها (3)،
ووعظتم بمن كان قبلكم وضربت الأمثال لكم ودعيتم إلى
الأمر الواضح. فلا يصم عن ذلك إلا أصم، ولا يعمى عن ذلك إلا أعمى
ومن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشئ من العظة.
94

وأتاه التقصير من أمامه (1) حتى يعرف ما أنكر، وينكر ما عرف.
وإنما الناس رجلان: متبع شرعة، ومبتدع بدعة ليس معه من الله
سبحانه برهان سنة ولا ضياء حجة. وإن الله سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا
القرآن، فإنه حبل الله المتين وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب
وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره، مع أنه قد ذهب المتذكرون
وبقي الناسون والمتناسون. فإذا رأيتم خيرا فأعينوا عليه، وإذا
رأيتم شرا فاذهبوا عنه فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول:
" يا ابن آدم اعمل الخير ودع الشر فإذا أنت جواد قاصد (2) "
ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم
مغفور لا يطلب. فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، قال الله تعالى:
" إن الله لا يغفر أن يشرك به " وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد
نفسه عند بعض الهنات (3). وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد
بعضهم بعضا. القصاص هناك شديد، ليس هو جرحا بالمدى (4) ولا
95

ضربا بالسياط، ولكنه ما يستصغر ذلك معه (1). فإياكم والتلون
في دين الله، فإن جماعة فيما تكرهون من الحق خير من فرقة فيما
تحبون من الباطل (2). وإن الله سبحانه لم يعط أحدا بفرقة خيرا ممن
مضى ولا ممن بقي
يا أيها الناس طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وطوبى
لمن لزم بيته، وأكل قوته، واشتغل بطاعة ربه، وبكى على
خطيئته (3)، فكان من نفسه في شغل، والناس منه في راحة
177 - ومن كلام له عليه السلام
في معنى الحكمين
فأجمع رأي ملئكم على أن اختاروا رجلين فأخذنا عليهما أن
96

يجعجعا عند القرآن (1)، ولا يجاوزاه، وتكون ألسنتهما معه وقلوبهما
تبعه. فتاها عنه وتركا الحق وهما يبصرانه. وكان الجور هواهما،
والاعوجاج دأبهما. وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل
والعمل بالحق سوء رأيهما (2) وجور حكمهما، والثقة في أيدينا لأنفسنا (3)
حين خالفا سبيل الحق، وأتيا بما لا يعرف من معكوس الحكم
178 - ومن خطبة له عليه السلام
لا يشغله شأن. ولا يغيره زمان، ولا يحويه مكان. ولا يصفه
لسان. ولا يعزب عنه عدد قطر الماء (4)، ولا نجوم السماء، ولا
سوافي الريح في الهواء، ولا دبيب النمل على الصفا، ولا مقيل الذر
97

في الليلة الظلماء. يعلم مساقط الأوراق وخفي طرف الأحداق (1).
وأشهد أن لا إله إلا الله غير معدول به (2)، ولا مشكوك فيه،
ولا مكفور دينه ولا مجحود تكوينه (3). شهادة من صدقت نيته
وصفت دخلته (4)، وخلص يقينه، وثقلت موازينه. وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله المجتبى من خلائقه، والمعتام لشرح حقائقه (5)
والمختص بعقائل كراماته. والمصطفى لكرائم رسالاته.
والموضحة به أشراط الهدى (6). والمجلو به غربيب العمى
أيها الناس إن الدنيا تغر المؤمل لها والمخلد إليها (7)، ولا تنفس بمن
نافس فيها، وتغلب من غلب عليها. وأيم الله ما كان قوم قط في غض
نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها (8)، لأن الله ليس
بظلام للعبيد. ولو أن الناس حين تنزل بهم النقم وتزول عنهم النعم
98

فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم ووله من قلوبهم لرد عليهم كل
شارد، وأصلح لهم كل فاسد. وإني لأخشى عليكم أن تكونوا
في فترة (1). وقد كانت أمور مضت ملتم فيها ميلة كنتم فيها
عندي غير محمودين، ولئن رد عليكم أمركم إنكم لسعداء.
وما على إلا الجهد، ولو أشاء أن أقول لقلت. عفا الله عما سلف.
179 - ومن كلام له عليه السلام
وقد سأله ذعلب اليماني، فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟
فقال عليه السلام: أفأعبد ما لا أرى؟ فقال: وكيف تراه؟ فقال:
لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب
بحقائق الإيمان. قريب من الأشياء غير ملامس (2). بعيد منها غير
مباين. متكلم لا بروية، مريد لا بهمة. صانع لا بجارحة. لطيف
99

لا يوصف بالخفاء. كبير لا يوصف بالجفاء (1) بصير لا يوصف
بالحاسة. رحيم لا يوصف بالرقة. تعنو الوجوه لعظمته (2)، وتجب
القلوب من مخافته
180 - (ومن خطبة له عليه السلام في ذم أصحابه)
أحمد الله على ما قضى من أمر وقدر من فعل، وعلى ابتلائي بكم
أيها الفرقة التي إذا أمرت لم تطع، وإذا دعوت لم تجب. إن أمهلتم
خضتم (3)، وإن حوربتم خرتم. وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم.
وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم. لا أبا لغيركم (4). ما تنتظرون
نصركم والجهاد على حقكم؟. الموت أو الذل لكم. فوالله
لئن جاء يومي - وليأتيني - ليفرقن بيني وبينكم وأنا لصحبتكم
قال (5)، وبكم غير كثير. لله أنتم. أما دين يجمعكم؟ ولا حمية
100

تشحذكم (1)؟ أوليس عجبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه (2)
على غير معونة ولا عطاء. وأنا أدعوكم - وأنتم تريكة الاسلام (3)
وبقية الناس - إلى المعونة وطائفة من العطاء فتفرقون عني وتختلفون
علي. إنه لا يخرج إليكم من أمري رضى فترضونه (4)، ولا سخط
فتجتمعون عليه وإن أحب ما أنا لاق إلى الموت. قد دارستكم
الكتاب (5)، وفاتحتكم الحجاج، وعرفتكم ما أنكرتم،
وسوغتكم ما مجعتم، لو كان الأعمى يلحط (6)، أو النائم يستيقظ.
وأقرب بقوم من الجهل بالله قائدهم معاوية، ومؤدبهم ابن النابغة (7)
101

181 - ومن كلام له عليه السلام
وقد أرسل رجلا من أصحابه يعلم له علم أحوال قوم من
جند الكوفة قد هموا باللحاق بالخوارج وكانوا على خوف
منه عليه السلام، فلما عاد إليه الرجل قال له: " أأمنوا
فقطنوا أم جبنوا فظعنوا؟ " (1). فقال الرجل: بل ظعنوا
يا أمير المؤمنين. فقال عليه السلام:
بعدا لهم كما بعدت ثمود. أما لو أشرعت الأسنة إليهم (2)،
وصبت السيوف على هاماتهم. لقد ندموا على ما كان منهم. إن الشيطان
اليوم قد استفلهم (3)، وهو غدا متبرئ منهم ومتخل عنهم.
فحسبهم بخروجهم من الهدى (4)، وارتكاسهم في الضلال والعمى،
وصدهم عن الحق، وجماحهم في التيه (5)
102

182 - ومن خطبة له عليه السلام
روي عن نوف البكالي (1) قال خطبنا هذه الخطبة بالكوفة
أمير المؤمنين عليه السلام وهو قائم على حجارة نصبها له
جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوف (2)
وحمائل سيفه ليف، وفي رجليه نعلان من ليف، وكأن
جبينه ثفنة بعير (3). فقال عليه السلام
الحمد الله الذي إليه مصائر الخلق، وعواقب الأمر. نحمده على
عظيم إحسانه ونير برهانه، ونوامي فضله وامتنانه (4)، حمدا يكون
لحقه قضاء ولشكره أداء، وإلى ثوابه مقربا ولحسن مزيده موجبا.
ونستعين به استعانة راج لفضله، مؤمل لنفعه، واثق بدفعه، معترف
103

له بالطول (1)، مذعن له بالعمل والقول. ونؤمن به إيمان من رجاه
موقنا، وأناب إليه مؤمنا، وخنع له مذعنا (2)، وأخلص له موحدا،
وعظمه ممجدا، ولاذ به راغبا مجتهدا. لم يولد سبحانه فيكون في
العز مشاركا (3). ولم يلد فيكون موروثا هالكا. ولم يتقدمه وقت
ولا زمان. ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان (4) بل ظهر للعقول بما أرانا
من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم. فمن شواهد خلقه
خلق السماوات موطدات بلا عمد (5)، قائمات بلا سند. دعاهن فأجبن
طائعات مذعنات، غير متلكئات ولا مبطئات (6). ولولا إقرارهن له
بالربوبية وإذعانهن بالطواعية لما جعلهن موضعا لعرشه، ولا مسكنا
لملائكته، ولا مصعدا للكلم الطيب والعمل الصالح من خلقه.
جعل نجومها أعلاما يستدل بها الحيران في مختلف فجاج الأقطار. لم
يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف الليل المظلم (7). ولا استطاعت
104

جلابيب سواد الحنادس أن ترد ما شاع في السماوات من تلألؤ نور
القمر. فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج ولا ليل ساج (1) في
بقاع الأرضين المتطأطئات، ولا في يفاع السفع المتجاورات. وما
يتجلجل به الرعد في أفق السماء، وما تلاشت عنه بروق الغمام، وما
تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء وانهطال السماء (2)
ويعلم مسقط القطرة ومقرها، ومسحب الذرة ومجرها، وما يكفي
البعوضة من قواتها، وما تحمل الأنثى في بطنها. الحمد لله الكائن
قبل أن يكون كرسي أو عرش، أو سماء أو أرض أو جان أو إنس
لا يدرك بوهم. ولا يقدر بفهم. ولا يشغله سائل، ولا ينقصه نائل (3)
105

ولا يبصر بعين. ولا يحد بأين. ولا يوصف بالأزواج، ولا يخلق بعلاج.
ولا يدرك بالحواس. ولا يقاس بالناس. الذي كلم موسى تكليما،
وأراه من آياته عظيما. بلا جوارح ولا أدوات، ولا نطق ولا لهوات (1).
بل إن كنت صادقا أيها المتكلف لوصف ربك (2) فصف جبرائيل
وميكائيل وجنود الملائكة المقربين في حجرات القدس مرجحنين (3)،
متولهة عقولهم أن يحدوا أحسن الخالقين. فإنما يدرك بالصفات
ذوو الهيئات والأدوات، ومن ينقضي إذا بلغ أمد حده بالفناء، فلا إله
إلا هو أضاء بنوره كل ظلام، وأظلم بظلمته كل نور
أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ألبسكم الرياش (4) وأسبغ
عليكم المعاش. ولو أن أحدا يجد إلى البقاء سلما، أو إلى دفع الموت
106

سبيلا، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام الذي سخر له ملك
الجن والإنس مع النبوة وعظيم الزلفة. فلما استوفى طعمته (1)،
واستكمل مدته، رمته قسي الفناء بنبال الموت. وأصبحت الديار
منه خالية، والمساكين معطلة، وورثها قوم آخرون، وإن لكم في
القرون السالفة لعبرة. أين العمالقة وأبناء العمالقة. أين الفراعنة وأبناء
الفراعنة. أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين وأطفأوا
سنن المرسلين. وأحيوا سنن الجبارين (2). وأين الذين ساروا بالجيوش
وهزموا الألوف. وعسكروا العساكر ومدنوا المدائن
107

(منها) قد لبس للحكمة جنتها (1). وأخذها بجميع أدبها من
الاقبال عليها والمعرفة بها والتفرغ لها. وهي عند نفسه ضالته التي
يطلبها، وحاجته التي يسأل عنها. فهو مغترب إذا اغترب الاسلام (2)،
وضرب بعسيب ذنبه، وألصق الأرض بجرانه. بقية من بقايا حجته (3)،
خليفة من خلائف أنبيائه (ثم قال عليه السلام):
أيها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها
أممهم. وأديت إليكم ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم. وأدبتكم
بسوطي فلم تستقيموا. وحدوتكم بالزواجر فلم تستوثقوا (4). لله أنتم!
أتتوقعون إماما غيرى يطأ بكم الطريق، ويرشدكم السبيل؟
ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، وأقبل منها ما كان
مدبرا، وأزمع الترحال عباد الله الأخيار، وباعوا قليلا من الدنيا
108

لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى. ما ضر إخواننا الذين سفكت
دماؤهم وهم بصفين أن لا يكونوا اليوم أحياء؟ يسيغون الغصص
ويشربون الرنق (1). قد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم، وأحلهم
دار الأمن بعد خوفهم. أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا
على الحق؟ أين عمار (2)؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟
وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، وأبرد برؤوسهم
إلى الفجرة. (قال ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة
فأطال البكاء، ثم قال عليه السلام):
أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه (3)، وتدبروا
الفرض فأقاموه، أحيوا السنة وأماتوا البدعة. دعوا للجهاد فأجابوا،
ووثقوا بالقائد فاتبعوه (ثم نادى بأعلى صوته): الجهاد الجهاد عباد
الله. ألا وإني معسكر في يومي هذا فمن أراد الرواح إلى الله
فليخرج
109

قال نوف: وعقد للحسين عليه السلام في عشرة آلاف، ولقيس
ابن سعد رحمه الله في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة
آلاف، ولغيرهم على أعداد أخر وهو يريد الرجعة إلى صفين، فما
دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله، فتراجعت
العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان
3 18 - ومن خطبة له عليه السلام
الحمد الله المعروف من غير رؤية، والخالق من غير منصبة (1). خلق
الخلائق بقدرته، واستعبد الأرباب بعزته، وساد العظماء بجوده.
وهو الذي أسكن الدنيا خلقه، وبعث إلى الجن والإنس رسله
ليكشفوا لهم عن غطائها، وليحذروهم من ضرائها، وليضربوا لهم
أمثالها، وليبصروهم عيوبها، وليهجموا عليهم بمعتبر من تصرف
مصاحها وأسقامها (2)، وحلالها وحرامها. وما أعد الله للمطيعين منهم
110

والعصاة من جنة ونار وكرامة وهوان. أحمده إلى نفسه كما استحمد
إلى خلقه (1) جعل لكل شئ قدرا، ولكل قدر أجلا، ولكل أجل
كتابا.
(منها) فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق. حجة الله على خلقه.
أخذ عليهم ميثاقه. وارتهن عليه أنفسهم (2). أتم نوره، وأكمل به
دينه، وقبض نبيه صلى الله عليه وآله وقد فرغ إلى الخلق من أحكام
الهدى به. فعظموا منه سبحانه ما عظم من نفسه. فإنه لم يخف
عنكم شيئا من دينه. ولم يترك شيئا رضيه أو كرهه إلا وجعل له
علما باديا وآية محكمة تزجر عنه أو تدعو إليه. فرضاه فيما بقي
واحد، وسخطه فيما بقي واحد. واعلموا أنه لن يرضى عنكم بشئ
سخطه على من كان قبلكم، ولن يسخط عليكم بشئ رضيه ممن
كان قبلكم، وإنما تسيرون في أثر بين، وتتكلمون برجع قول قد
قاله الرجال من قبلكم. قد كفاكم مؤونة دنياكم، وحثكم
على الشكر، وافترض من ألسنتكم الذكر. وأوصاكم بالتقوى
111

وجعلها منتهى رضاه وحاجته من خلقه. فاتقوا الله الذي أنتم بعينه (1)
ونواصيكم بيده، وتقلبكم في قبضته. وإن أسررتم علمه، وإن
أعلنتم كتبه. قد وكل بذلك حفظة كراما لا يسقطون حقا، ولا
يثبتون باطلا. واعلموا أنه من يتق الله يجعل له مخرجا من الفتن ونورا
من الظلم، ويخلده فيما اشتهت نفسه، وينزله منزل الكرامة
عنده. في دار اصطنعها لنفسه. ظلها عرشه. ونورها بهجته. وزوارها
ملائكته. ورفقاؤها رسله. فبادروا المعاد. وسابقوا الآجال. فإن
الناس يوشك أن ينقطع بهم الأمل، ويرهقهم الأجل (2)، ويسد
عنهم باب التوبة. فقد أصبحتم في مثل ما سأل إليه الرجعة من كان
قبلكم (3). وأنتم بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم، وقد
أوذنتم منها بالارتحال، وأمرتم فيها بالزاد. واعلموا أنه ليس لهذا
الجلد الرقيق صبر على النار، فارحموا نفوسكم فإنكم قد جربتموها
في مصائب الدنيا. أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه،
112

والعثرة تدميه، والرمضاء تحرقه؟ فكيف إذا كان بين طابقين من
نار، ضجيع حجر وقرين شيطان. أعلمتم أن مالكا إذا غضب على
النار حطم بعضها بعضا لغضبه (1)، وإذا زجرها توثبت بين أبوابها
جزعا من زجرته
أيها اليفن الكبير (2) الذي قد لهزه القتير، كيف أنت إذا
التحمت أطواق النار بعظام الأعناق! ونشبت الجوامع (3) حتى أكلت
لحوم السواعد. فالله الله معشر العباد وأنتم سالمون في الصحة قبل
السقم. وفي الفسحة قبل الضيق، فاسعوا في فكاك رقابكم من
قبل أن تغلق رهائنها (4). أسهروا عيونكم، وأضمروا بطونكم
واستعملوا أقدامكم، وأنفقوا أموالكم، وخذوا من أجسادكم
وجودوا بها على أنفسكم، ولا تبخلوا بها عنها فقد قال الله سبحانه
" إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " وقال تعالى " من ذا
الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم " فلم
يستنصركم من ذل، ولم يستقرضكم من قل، استنصركم وله
113

جنود السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم. واستقرضكم وله
خزائن السماوات والأرض وهو الغني الحميد. أراد أن يبلوكم (1)
أيكم أحسن عملا. فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في
داره. رافق بهم رسله، وأزارهم ملائكته، وأكرم أسماعهم أن
تسمع حسيس نار أبدا (2)، وصان أجسادهم أن تلقى لغوبا ونصبا (3)
" ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " أقول
ما تسمعون والله المستعان على نفسي وأنفسكم، وهو حسبي
ونعم الوكيل.
184 - ومن كلام له عليه السلام
قاله للبرج بن مسهر الطائي (4)، وقد قال له بحيث يسمعه:
لا حكم إلا لله، وكان من الخوارج
أسكت قبحك الله يا أثرم (5)، فوالله لقد ظهر الحق فكنت
فيه ضئيلا شخصك، خفيا صوتك، حتى إذا نعر الباطل نجمت
114

نجوم قرن الماعز
185 - ومن خطبة له عليه السلام
الحمد الله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا
تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر، الدال على قدمه بحدوث خلقه،
وبحدوث خلقه على وجوده، وباشتباههم على أن لا شبه له. الذي
صدق في ميعاده، وارتفع عن ظلم عباده. وقام بالقسط في خلقه،
وعدل عليهم في حكمه. مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته،
وبما وسمها به من العجز على قدرته، وبما اصطرها إليه من الفناء
على دوامه. واحد لا بعدد، ودائم لا بأمد (1) وقائم لا بعمد.
تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة (2). وتشهد له المرائي لا بمحاضرة. لم
تحط به الأوهام، بل تجلى لها بها، وبها امتنع منها، وإليها حاكمها (3)
ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما، ولا بذي عظم
115

تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا. بل كبر شأنا، وعظم سلطانا.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصفي، وأمينه الرضي، صلى الله
عليه وآله. أرسله بوجوب الحجج (1)، وظهور الفلج وإيضاح
المنهج، فبلغ الرسالة صادعا بها، وحمل على المحجة دالا عليها.
وأقام أعلام الاهتداء ومنار الضياء. وجعل أمراس الاسلام متينة (2)
وعرى الإيمان وثيقة
(منها في صفة خلق أصناف من الحيوان): ولو فكروا في
عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق
ولكن القلوب عليلة، والبصائر مدخولة. ألا تنظرون إلى صغير
ما خلق كيف أحكم خلقه، وأتقن تركيبه، وفلق له السمع
والبصر، وسوى له العظم والبشر (3). انظروا إلى النملة في صغر
جثتها ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر،
كيف دبت على أرضها، وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها،
وتعدها في مستقرها. تجمع في حرها لبردها، وفي ورودها لصدرها (4)،
116

مكفولة برزقها مرزوقة بوفقها. لا يغفلها المنان، ولا يحرمها
الديان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس (1) ولو فكرت في
مجاري أكلها في علوها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها (2)
وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجبا، ولقيت من
وصفها تعبا. فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبناها على دعائمها، لم
يشركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه في خلقها قادر. ولو ضربت في
مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر
النملة هو فاطر النخلة، لدقيق تفصيل كل شئ (3)، وغامض اختلاف
كل حي، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف
في خلقه إلا سواء، وكذلك السماء والهواء والرياح والماء. فانظر
إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذا
الليل والنهار، وتفجر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه
القلال (4) وتفرق هذه اللغات، والألسن المختلفات. فالويل لمن
117

جحد المقدر وأنكر المدبر. زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع،
ولا لاختلاف صورهم صانع. ولم يلجأوا إلى حجة فيما ادعوا (1)،
ولا تحقيق لما أوعوا. وهل يكون بناء من غير بان، أو جناية من
غير جان. وإن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين.
وأسرج لها حدقتين قمراوين (2). وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها
الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، ونابين بهما تقرض، ومنجلين
بهما تقبض (3) يرهبها الزراع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبها (4).
ولو أجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها (5)، وتقضي منه
شهواتها. وخلقها كله لا يكون إصبعا مستدقة
فتبارك الله الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها،
ويعنو له خدا ووجها، ويلقي إليه بالطاعة سلما وضعفا، ويعطي له
القياد رهبة وخوفا. فالطير مسخرة لأمره. أحصى عدد الريش منها
والنفس، وأرسى قوائمها على الندى واليبس (6). وقدر أقواتها، وأحصى
118

أجناسها. فهذا غراب وهذا عقاب. وهذا حمام وهذا نعام. دعا
كل طائر باسمه، وكفل له برزقه. وأنشأ السحاب الثقال فأهطل
ديمها (1) وعدد قسمها، فبل الأرض بعد جفوفها، وأخرج نبتها بعد
جدوبها.
186 - ومن خطبة له عليه السلام في التوحيد
وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة
ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله. ولا إياه عني
من شبهه. ولا صمده من أشار إليه وتوهمه (2). كل معروف بنفسه
مصنوع (3). وكل قائم في سواه معلول. فاعل لا باضطراب آلة.
مقدر لا بجول فكرة. غني لا باستفادة. لا تصحبه الأوقات، ولا
119

ترفده الأدوات (1) سبق الأوقات كونه. والعدم وجوده والابتداء
أزله. بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له (2). وبمضادته بين
الأمور عرف أن لا ضد له. وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين
له. ضاد النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة والجمود بالبلل،
والحرور بالصرد (3). مؤلف بين متعادياتها (4). مقارن بين متبايناتها
مقرب بين متباعداتها. مفرق بين متدانياتها (5) لا يشمل بحد،
ولا يحسب بعد، وإنما تحد الأدوات أنفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها.
منعتها منذ القدمية، وحمتها قد الأزلية. وجنبتها لولا التكملة (6).
120

بها تجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون. لا يجري عليه
السكون والحركة. وكيف يجري عليه ما هو أجراه، ويعود فيه ما هو
أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه. إذا لتفاوتت ذاته (1)، ولتجزأ كنهه،
ولامتنع من الأزل معناه. ولكان له وراء إذ وجد له أمام. ولالتمس
التمام إذ لزمه النقصان. وإذا لقامت آية المصنوع فيه، ولتحول دليلا
بعد أن كان مدلولا عليه. وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر
فيه ما يؤثر في غيره (2) الذي لا يحول ولا يزول، ولا يجوز عليه
الأفول (3). ولم يلد فيكون مولودا (4)، ولم يولد فيصير محدودا (5).
121

جل عن اتخاذ الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء. لا تناله الأوهام
فتقدره، ولا تتوهمه الفطن فتصوره. ولا تدركه الحواس فتحسه
ولا تلمسه الأيدي فتمسه. لا يتغير بحال، ولا يتبدل بالأحوال.
ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء والظلام. ولا يوصف
بشئ من الأجزاء (1)، ولا بالجوارح والأعضاء. ولا بعرض من
الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض. ولا يقال له حد ولا نهاية،
ولا انقطاع ولا غاية. ولا أن الأشياء تحويه، فتقله أو تهويه (2)، أو أن
شيئا يحمله فيميله أو يعدله. ليس في الأشياء بوالج (3)، ولا عنها بخارج.
يخبر لا بلسان ولهوات (4)، ويسمع لا بخروق وأدوات. يقول ولا يلفظ،
ويحفظ ولا يتحفظ (5)، ويريد ولا يضمر. يحب ويرضى من غير رقة،
ويبغض ويغضب من غير مشقة. يقول لمن أراد كونه كن فيكون.
لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع. وإنما كلامه سبحانه فعل منه (6)
122

أنشأه. ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا، ولو كان قديما لكان
إلها ثانيا.
لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات،
ولا يكون بينها وبينه فصل (1)، ولا له عليها فضل، فيستوي الصانع
والمصنوع، ويتكافأ المبتدئ والبديع. خلق الخلائق على غير مثال
خلا من غيره، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه. وأنشأ الأرض
فأمسكها من غير اشتغال. وأرساها على غير قرار. وأقامها بغير
قوائم. ورفعها بغير دعائم. وحصنها من الأود والاعوجاج (2). ومنعها
من التهافت والانفراج (3). أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض
عيونها وخد أوديتها (4). فلم يهن ما بناه (5)، ولا ضعف ما قواه. هو
الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته،
والعالي عل كل شئ منها بجلاله وعزته. لا يعجزه شئ منها طلبه،
ولا يمتنع عليه فيغلبه، ولا يفوته السريع منها فيسبقه، ولا يحتاج
إلى ذي مال فيرزقه. خضعت الأشياء له، وذلت مستكينة لعظمته،
123

لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضره،
ولا كفؤ له فيكافئه، ولا نظير له فيساويه. هو المفني لها بعد
وجودها، حتى يصير موجودها كمفقودها.
وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها.
وكيف لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها، وما كان من
مراحها وسائمها (1)، وأصناف أسناخها وأجناسها (2)، ومتبلدة أممها
وأكياسها على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت
كيف السبيل إلى إيجادها. ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت،
وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة حسيرة (3) عارفة بأنها مقهورة
مقرة بالعجز عن إنشائها. مذعنة بالضعف عن إفنائها.
وإن الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شئ معه. كما
كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها. بلا وقت ولا مكان،
ولا حين ولا زمان. عدمت عند ذلك الآجال والأوقات، وزالت السنون
124

والساعات. فلا شئ إلا الواحد القهار الذي إليه مصير جميع
الأمور. بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع منها كان
فناؤها. ولو قدرت على الامتناع دام بقاؤها. لم يتكاءده صنع شئ
منها إذ صنعه (1)، ولم يؤده منها خلق ما خلقه وبرأه. ولم يكونها
لتشديد سلطان. ولا خوف من زوال ونقصان، ولا للاستعانة بها
على ند مكاثر (2)، ولا للاحتراز بها من ضد مثاور. ولا للازدياد
بها في ملكه، ولا لمكاثرة شريك في شركه. ولا لوحشة
كانت منه فأراد أن يستأنس إليها. ثم هو يفنيها بعد تكوينها
لا لسأم دخل عليه في تصريفها وتدبيرها، ولا لراحة واصلة إليه.
ولا لثقل شئ منها عليه. لم يمله طول بقائها فيدعوه إلى سرعة
إفنائها. لكنه سبحانه دبرها بلطفه، وأمسكها بأمره، وأتقنها
بقدرته، ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها، ولا استعانة
بشئ منها عليها، ولا لانصراف من حال وحشة إلى حال استئناس،
ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس. ولا من فقر وحاجة
125

إلى غنى وكثرة. ولا من ذل وضعة إلى عز وقدرة
187 - ومن خطبة له عليه السلام
ألا بأبي وأمي هم من عدة أسماؤهم في السماء معروفة، وفي
الأرض مجهولة (1)، ألا فتوقعوا ما يكون من إدبار أموركم،
وانقطاع وصلكم، واستعمال صغاركم. ذاك حيث تكون ضربة
السيف على المؤمن أهون من الدرهم من حله (2). ذاك حيث يكون
المعطى أعظم أجرا من المعطي (3). ذاك حيث تسكرون من غير
شراب، بل من النعمة والنعيم، وتحلفون من غير اضطرار،
وتكذبون من غير إحراج (4). ذلك إذا عضكم البلاء كما يعض
القتب غارب البعير (5). ما أطول هذا العناء وأبعد هذا الرجاء
126

أيها الناس ألقوا هذه الأزمة التي تحمل ظهورها الأثقال من
أيديكم (1)، ولا تصدعوا على سلطانكم فتذموا غب فعالكم.
ولا تقتحموا ما استقبلتم من فور نار الفتنة (2). وأميطوا عن
سننها (3)، وخلوا قصد السبيل لها. فقد لعمري يهلك في لهبها المؤمن
ويسلم فيها غير المسلم.
إنما مثلي بينكم مثل السراج في الظلمة يستضئ به من
ولجها. فاسمعوا أيها الناس وعوا، وأحضروا آذان قلوبكم تفهموا
188 - ومن خطبة له عليه السلام
أوصيكم أيها الناس بتقوى الله وكثرة حمده على آلائه إليكم،
ونعمائه عليكم، وبلائه لديكم (4). فكم خصكم بنعمة،
وتدارككم برحمة: أعورتم له فستركم (5)، وتعرضتم لأخذه
127

فأمهلكم. وأوصيكم بذكر الموت وإقلال الغفلة عنه. وكيف
غفلتكم عما ليس يغفلكم (1)، وطمعكم فيمن ليس يمهلكم.
فكفى واعظا بموتى عاينتموهم. حملوا إلى قبورهم غير راكبين (2)،
وأنزلوا فيها غير نازلين. فكأنهم لم يكونوا للدنيا عمارا، وكأن
الآخرة لم تزل لهم دارا. أوحشوا ما كانوا يوطنون (3)، وأوطنوا
ما كانوا يوحشون. واشتغلوا بما فارقوا، وأضاعوا ما إليه انتقلوا.
لا عن قبيح يستطيعون انتقالا، ولا في حسن يستطيعون ازديادا.
أنسوا بالدنيا فغرتهم، ووثقوا بها فصرعتهم. فسابقوا - رحمكم
الله - إلى منازلكم التي أمرتم أن تعمروها، والتي رغبتم فيها ودعيتم
إليها. واستتموا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة
لمعصيته فإن غدا من اليوم قريب. ما أسرع الساعات في اليوم،
وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين
في العمر
189 - ومن كلام له عليه السلام
فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب. ومنه ما يكون
128

عواري بين القلوب والصدور إلى أجل معلوم (1). فإذا كانت
لكم براءة من أحد فقفوه حتى يحضره الموت (2)، فعند ذلك يقع
حد البراءة. والهجرة قائمة على حدها الأول (3). ما كان لله في أهل
الأرض حاجة من مستسر الأمة ومعلنها (4). لا يقع اسم الهجرة على
أحد إلا بمعرفة الحجة في الأرض. فمن عرفها وأقر بها فهو مهاجر.
ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه
ووعاها قلبه
إن أمرنا صعب مستصعب، لا يحمله إلا عبد مؤمن امتحن
الله قلبه للإيمان، ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة وأحلام رزينة (5)
129

أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني، فلانا بطرق السماء أعلم مني
بطرق الأرض، قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها (1)، وتذهب
بأحلام قومها
190 - ومن خطبة له عليه السلام
أحمده شكرا لإنعامه، وأستعينه على وظائف حقوقه. عزيز الجند
عظيم المجد. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله دعا إلى طاعته، وقاهر
أعداءه جهادا على دينه. لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه والتماس
لاطفاء نوره. فاعتصموا بتقوى الله فإن لها حبلا وثيقا عروته، ومعقلا
منيعا ذروته (2). وبادروا الموت في غمراته. وامهدوا له قبل حلوله، وأعدوا
له قبل نزوله. فإن الغاية القيامة. وكفى بذلك واعظا لمن عقل، ومعتبرا لمن
جهل. وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس (3)، وشدة الإبلاس.
130

وهول المطلع، وروعات الفزع. واختلاف الأضلاع واستكاك
الأسماع. وظلمة اللحد، وخيفة الوعد. وغم الضريح، وردم
الصفيح
فالله الله عباد الله فإن الدنيا ماضية بكم على سنن، وأنتم والساعة
في فرن (1). وكأنها قد جاءت بأشراطها، وأزقت بأفراطها، ووقفت بكم
على صراطها. وكأنها قد أشرفت بزلازلها، وأناخت بكلاكلها (2).
وانصرمت الدنيا بأهلها، وأخرجتهم من حضنها. فكانت كيوم
مضى أو شهر انقضى. وصار جديدها رثا (3) وسمينها غثا. في موقف
ضنك المقام، وأمور مشتبهة عظام. ونار شديد كلبها (4)، عال لجبها
ساطع لهبها، متغيظ زفيرها، متأجج سعيرها، بعيد خمودها، ذاك
131

وقودها، مخيف وعيدها، غم قرارها (1) مظلمة أقطارها. حامية
قدورها، فظيعة أمورها " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا "
قد أمن العذاب، وانقطع العتاب. وزحزحوا عن النار، واطمأنت بهم
الدار، ورضوا المثوى والقرار. الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية،
وأعينهم باكية. وكان ليلهم في دنياهم نهارا، تخشعا واستغفارا. وكان
نهارهم ليلا توحشا وانقطاعا (2). فجعل الله لهم الجنة مآبا، والجزاء
ثوابا. وكانوا أحق بها وأهلها. في ملك دائم، ونعيم قائم
فارعوا عباد الله ما برعايته يفوز فائزكم. وبإضاعته يخسر
مبطلكم. وبادروا آجالكم بأعمالكم. فإنكم مرتهنون بما
أسلفتم، ومدينون بما قدمتم. وكأن قد نزل بكم المخوف. فلا
رجعة تنالون، ولا عثرة تقالون، استعملنا الله وإياكم بطاعته وطاعة
رسوله، وعفا عنا وعنكم بفضل رحمته
الزموا الأرض (3)، واصبروا على البلاء. ولا تحركوا بأيديكم
132

وسيوفكم في هوى ألسنتكم، ولا تستعجلوا بما لم يعجله الله
لكم. فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه
وحق رسوله وأهل بيته مات شهيدا ووقع أجره على الله، واستوجب
ثواب ما نوى من صالح عمله. وقامت النية مقام إصلاته لسيفه.
وإن لكل شئ مدة وأجلا
191 - ومن خطبة له عليه السلام
الحمد الله الفاشي حمده، والغالب جنده، والمتعالي جده (1).
أحمده على نعمه التؤام (2)، وآلائه العظام. الذي عظم حلمه فعفا،
وعدل في كل ما قضى، وعلم ما يمضي وما مضى. مبتدع الخلائق
بعلمه. ومنشئهم بحكمه، بلا اقتداء ولا تعليم، ولا احتذاء
لمثال صانع حكيم. ولا إصابة خطأ ولا حضرة ملأ وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله. ابتعثه والناس يضربون في غمرة (3)، ويموجون
في حيرة. قد قادتهم أزمة الحين، واستغلقت على أفئدتهم أقفال الرين.
133

أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها حق الله عليكم، والموجبة
على الله حقكم (1). وأن تستعينوا عليها بالله وتستعينوا بها على الله.
فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة، وفي غد الطريق إلى الجنة.
مسلكها واضح، وسالكها رابح، ومستودعها حافظ (2). لم تبرح
عارضة نفسها على الأمم الماضين والغابرين لحاجتهم إليها غدا إذا أعاد
الله ما أبدى، وأخذ ما أعطى، وسأل ما أسدى (3). فما أقل من
قبلها وحملها حق حملها. أولئك الأقلون عددا. وهم أهل صفة الله
سبحانه إذ يقول: " وقليل من عبادي الشكور ". فأهطعوا
بأسماعكم إليها (4)، وكظوا بجدكم عليها. واعتاضوها من كل
سلف خلفا، ومن كل مخالف موافقا. أيقظوا بها نومكم،
134

واقطعوا بها يومكم، وأشعروها قلوبكم، وارحضوا بها
ذنوبكم (1)، وداووا بها الأسقام، وبادروا بها الحمام. واعتبروا بمن
أضاعها، ولا يعتبرن بكم من أطاعها (2). ألا فصونوها وتصونوا
بها (3)، وكونوا عن الدنيا نزاها، وإلى الآخرة ولاها. ولا تضعوا
من رفعته التقوى، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا. ولا تشيموا بارقها (4)
ولا تستمعوا ناطقها، ولا تجيبوا ناعقها. ولا تستضيئوا بإشراقها، ولا
تفتنوا بأعلاقها، فإن برقها خالب (5) ونطقها كاذب. وأموالها محروبة،
وأعلاقها مسلوبة. ألا وهي المتصدية العنون (6)، والجامحة الحرون
135

والمائنة الخؤون. والجحود الكنود، والعنود الصدود، والحيود
الميود. حالها انتقال، ووطأتها زلزال، وعزها ذل، وجدها هزل،
وعلوها سفل. دار حرب وسلب (1)، ونهب وعطب. أهلها على
ساق وسياق، ولحاق وفراق (2). قد تحيرت مذاهبها، وأعجزت
مهاربها (3)، وخابت مطالبها. فأسلمتهم المعاقل، ولفظتهم المنازل،
وأعيتهم المحاول (4). فمن ناج معقور (5)، ولحم مجزور، وشلو
مذبوح، ودم مسفوح. وعاض على يديه، وصافق بكفيه،
ومرتفق بخديه (6)، وزار على رأيه، وراجع عن هرمه. وقد أدبرت
136

الحيلة وأقبلت الغيلة (1)، ولات حين مناص. وهيهات هيهات قد فات
ما فات وذهب ما ذهب، ومضت الدنيا لحال بالها (2) " فما بكت عليهم
السماء والأرض وما كانوا منظرين "
192 - ومن خطبة له عليه السلام تسمى القاصعة (3)
وهي تتضمن ذم إبليس على استكباره وتركه السجود
لآدم عليه السلام، وأنه أول من أظهر العصبية (4) وتبع الحمية
وتحذير الناس من سلوك طريقته
الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء واختارهما لنفسه دون
خلقه، وجعلهما حمى وحرما على غيره (5)، واصطفاهما لجلاله، وجعل
اللعنة على من نازعه فيهما من عباده. ثم اختبر بذلك ملائكته
137

المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه
وهو العالم بمضمرات القلوب، ومحجوبات الغيوب: " إني خالق
بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس " اعترضته الحمية فافتخر
على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله. فعدو الله إمام المتعصبين،
وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء
الجبرية. وادرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل
ألا ترون كيف صغره الله بتكبره، ووضعه بترفعه. فجعله في
الدنيا مدحورا، وأعد له في الآخرة سعيرا
ولو أراد الله أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه،
ويبهر العقول رواؤه (1)، وطيب يأخذ الأنفاس عرفه لفعل. ولو فعل
لظلت له الأعناق خاضعة، ولخفت البلوى فيه على الملائكة. ولكن
الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم
ونفيا للاستكبار عنهم، وإبعادا للخيلاء منهم
فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذا أحبط عمله الطويل
138

وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أمن سني
الدنيا أم سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة (1). فمن ذا بعد إبليس يسلم
على الله بمثل معصية (2)؟ كلا، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا
بأمر أخرج به منها ملكا إن حكمه في أهل السماء وأهل الأرض
لواحد. وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه
على العالمين (3)
فاحذروا عباد الله أن يعديكم بدائه (4)، وأن يستفزكم بندائه،
وأن يجلب عليكم بخيله ورجله. فلعمري لقد فوق لكم سهم
الوعيد، وأغرق لكم بالنزع الشديد (5)، ورماكم من مكان قريب (6).
وقال: " رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين "
قذفا بغيب بعيد، ورجما بظن مصيب. صدقه به أبناء الحمية (7)،
139

وإخوان العصبية، وفرسان الكبر والجاهلية. حتى إذا انقادت له
الجامحة منكم (1)، واستحكمت الطماعية منه فيكم، فنجمت الحال
من السر الخفي إلى الأمر الجلي. استفحل سلطانه عليكم، ودلف
بجنوده نحوكم. فأقحموكم ولجات الذل، وأحلوكم ورطات القتل،
وأوطأوكم إثخان الجراحة طعنا في عيونكم، وحزا في حلوقكم،
ودقا لمناخركم، وقصد لمقاتلكم، وسوقا بخزائم القهر إلى النار
المعدة. فأصبح أعظم في دينكم جرحا (2)، وأورى في دنياكم
قدحا من الذين أصبحتم لهم مناصبين وعليهم متألبين. فاجعلوا عليه
حدكم (3)، وله جدكم، فلعمر الله لقد فخر على أصلكم، ووقع
140

في حسبكم، ودفع في نسبكم، وأجلب بخيله عليكم، وقصد
برجله سبيلكم. يقتنصونكم بكل مكان، ويضربون منكم كل
بنان (1). لا تمتنعون بحيلة، ولا تدفعون بعزيمة. في حومة ذل. وحلقة
ضيق. وعرصة موت. وجولة بلاء. فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من
نيران العصبية وأحقاد الجاهلية، فإنما تلك الحمية تكون في المسلم
من خطرات الشيطان ونخواته، ونزغاته ونفثاته (2). واعتمدوا وضع
التذلل على رءوسكم، وإلقاء التعزز تحت أقدامكم، وخلع التكبر
من أعناقكم. واتخذوا التواضع مسلحة (3) بينكم وبين عدوكم
إبليس وجنوده، فإن له من كل أمة جنودا وأعوانا، ورجلا وفرسانا.
ولا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه من غير ما فضل جعله الله فيه
سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقدحت الحمية في
قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي
أعقبه الله به الندامة، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة
141

ألا وقد أمعنتم في البغي (1)، وأفسدتم في الأرض مصارحة لله
بالمناصبة، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة. فالله الله في كبر الحمية وفخر
الجاهلية. فإنه ملاقح الشنآن (2) ومنافخ الشيطان التي خدع بها
الأمم الماضية، والقرون الخالية. حتى أعنقوا في حنادس جهالته (3)،
ومهاوي ضلالته، ذللا على سياقه، سلسا في قياده. أمرا تشابهت القلوب
فيه، وتتابعت القرون عليه. وكبرا تضايقت الصدور به
ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبروا
عن حسبهم، وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة على ربهم (4)،
وجاحدوا الله ما صنع بهم. مكابرة لقضائه، ومغالبة لآلائه (5).
فإنهم قواعد أساس العصبية. ودعائم أركان الفتنة، وسيوف اعتزاء
الجاهلية (6). فاتقوا الله ولا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا، ولا لفضله
142

عندكم حسادا. ولا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم،
وخلطتم بصحتكم مرضهم (1)، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهم
أساس الفسوق وأحلاس العقوق. اتخذهم إبليس مطايا ضلال. وجندا
بهم يصول على الناس. وتراجمة ينطق على ألسنتهم. استراقا لعقولكم
ودخولا في عيونكم، ونفثا في أسماعكم. فجعلكم مرمى نبله (2)،
وموطئ قدمه، ومأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين
من قبلكم من بأس الله وصولاته، ووقائعه ومثلاته (3)، واتعظوا
بمثاوي خدودهم (4)، ومصارع جنوبهم، واستعيذوا بالله من لواقح
الكبر (5) كما تستعيذونه من طوارق الدهر. فلو رخص الله في الكبر
لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه. ولكنه سبحانه
143

كره إليهم التكابر ورضي لهم التواضع. فألصقوا بالأرض خدودهم،
وعفروا في التراب وجوههم. وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، وكانوا
أقواما مستضعفين. وقد اختبرهم الله بالمخمصة (1)، وابتلاهم
بالمجهدة. وامتحنهم بالمخاوف، ومخضهم بالمكاره. فلا تعتبروا
الرضا والسخط بالمال والولد (2) جهلا بمواقع الفتنة والاختبار في
مواضع الغنى والاقتدار، وقد قال سبحانه وتعالى: " أيحسبون أنما
نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " فإن
الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين
في أعينهم
ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما السلام على
فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي فشرطا له إن أسلم
بقاء ملكه ودوام عزه فقال:
" ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما
144

بما ترون من حال الفقر والذل، فهلا ألقي عليهما أساورة من ذهب "
إعظاما للذهب وجمعه، واحتقارا للصوف ولبسه. ولو أراد الله سبحانه
بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان (1)، ومعادن العقيان،
ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل،
ولو فعل لسقط البلاء (2)، وبطل الجزاء، واضمحلت الأنباء، ولما وجب
للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين،
ولا لزمت الأسماء معانيها (3). ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة
في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ
القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى (4)
ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام وعزة لا تضام، وملك تمتد
نحوه أعناق الرجال، وتشد إليه عقد الرحال لكان ذلك أهون على الخلق
145

في الاعتبار (1) وأبعد لهم في الاستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم
أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيات مشتركة والحسنات مقتسمة.
ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله والتصديق بكتبه
والخشوع لوجهه والاستكانة لأمره والاستسلام لطاعته أمورا له
خاصة لا تشوبها من غيرها شائبة. وكلما كانت البلوى والاختبار
أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل
ألا ترون أن الله سبحانه أختبر الأولين من لدن آدم صلوات
الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع (2)،
ولا تبصر ولا تسمع. فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما. ثم
وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا، وأقل نتائق الأرض مدرا. وأضيق
بطون الأودية قطرا. بين جبال خشنة، ورمال دمثة (3)، وعيون وشلة،
وقرى منقطعة. لا يزكو بها خف، ولا حافر ولا ظلف (4). ثم أمر
146

آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه (1)، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم،
وغاية لملقى رحالهم. تهوي إليه ثمار الأفئدة (2) من مفاوز قفار سحيقة
ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتى يهزوا مناكبهم
ذللا يهلون لله حوله (3). ويرملون على أقدامهم شعثا غبرا له. قد نبذوا
السرابيل وراء ظهورهم (4)، وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم،
ابتلاء عظيما وامتحانا شديدا واختبارا مبينا. وتمحيصا بليغا جعله الله
سببا لرحمته، ووصلة إلى جنته. ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام
ومشاعره العظام بين جنات وأنهار، وسهل وقرار (5)، جم الأشجار،
داني الثمار، ملتف البنا، متصل القرى، بين برة سمراء (6)، وروضة
147

خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، ورياض ناضرة، وطرق
عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء. ولو كان
الأساس المحمول عليها (1)، والأحجار المرفوع بها بين زمردة خضراء،
وياقوتة حمراء، ونور وضياء لخفف ذلك مسارعة الشك في الصدور،
ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من
الناس (2)، ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع
المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبر من قلوبهم،
وإسكانا للتذلل في نفوسهم. وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله (3)،
وأسبابا ذللا لعفوه
فالله الله في عاجل البغي، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكبر
فإنها مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى التي تساور قلوب
الرجال مساورة السموم القاتلة (4). فما تكدي أبدا (5)، ولا تشوي
148

أحدا، لا عالما لعلمه، ولا مقلا في طمره (1). وعن ذلك ما حرس الله
عباده المؤمنين (2) بالصلوات والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام
المفروضات تسكينا لأطرافهم (3)، وتخشيعا لأبصارهم، وتذليلا
لنفوسهم، وتخفيضا لقلوبهم، وإذهابا للخيلاء عنهم لما في ذلك من
تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعا (4)، والتصاق كرائم الجوارح
بالأرض تصاغرا، ولحوق البطون بالمتون من الصيام تذللا. مع ما في
الزكاة من صرف ثمرات الأرض وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر (5)
أنظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر (6)، وقدع
طوالع الكبر. ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب
لشئ من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط
بعقول السفهاء غيركم (7). فإنكم تتعصبون لأمر لا يعرف له سبب
149

ولا علة. أما إبليس فتعصب على آدم لأصله. وطعن عليه في خلقته
فقال: أنا ناري وأنت طيني
وأما الأغنياء من مترفة الأمم (1) فتعصبوا لآثار مواقع النعم.
فقالوا: " نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين " فإن كان
لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد
الأفعال، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من
بيوتات العرب ويعاسيب القبائل (2) بالأخلاق الرغيبة، والأحلام
العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة. فتعصبوا لخلال
الحمد من الحفظ للجوار (3)، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر،
والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والاعظام
للقتل، والانصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في
الأرض. واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات (4) بسوء
150

الأفعال وذميم الأعمال. فتذكروا في الخير والشر أحوالهم.
واحذروا أن تكونوا أمثالهم. فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم (1)
فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم (2)، وزاحت الأعداء له عنهم،
ومدت العافية فيه عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت
الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة (3)، واللزوم للألفة،
والتحاض عليها والتواصي بها، واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم (4)،
وأوهن منتهم. من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر
النفوس، وتخاذل الأيدي، وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين
قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء (5). ألم يكونوا
أثقل الخلائق أعباء، وأجهد العباد بلاء، وأضيق أهل الدنيا حالا.
اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب، وجرعوهم المرار (6)
فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة وقهر الغلبة. لا يجدون حيلة
151

في امتناع، ولا سبيلا إلى دفاع. حتى إذا رأى الله جد الصبر منهم
على الأذى في محبته، والاحتمال للمكروه من خوفه جعل لهم من
مضايق البلاء فرجا، فأبدلهم العز مكان الذل، والأمن مكان
الخوف فصاروا ملوكا حكاما. وأئمة أعلاما، وبلغت الكرامة
من الله لهم ما لم تبلغ الآمال إليه بهم
فانظروا كيف كانوا حيث كانت الاملاء مجتمعة (1)،
والأهواء متفقة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف
متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة. ألم يكونوا أربابا في
أقطار الأرضين (2)، وملوكا على رقاب العالمين. فانظروا إلى
ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة، وتشتتت الألفة
واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحازبين
قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته (3). وبقي
قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين
فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل
152

عليهم السلام. فما أشد اعتدال الأحوال (1)، وأقرب اشتباه
الأمثال.
تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة
والقياصرة أربابا لهم، يحتازونهم عن ريف الآفاق (2)، وبحر العراق
وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح، ومهافي الريح (3)، ونكد المعاش.
فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر ووبر (4)، أذل الأمم دارا،
وأجدبهم قرارا. لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها (5)، ولا إلى
ظل ألفة يعتمدون على عزها. فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة،
والكثرة متفرقة. في بلاء أزل (6)، وإطباق جهل! من بنات
موءودة (7)، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة
فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولا (8)،

* أي بفتح الهمزة مع سكون الزاي
153

فعقد بملته طاعتهم، وجمع على دعوته ألفتهم. كيف نشرت النعمة
عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها، والتفت الملة
بهم في عوائد بركتها (1). فأصبحوا في نعمتها غرقين، وعن خضرة
عيشها فكهين (2). قد تربعت الأمور بهم (3)، في ظل سلطان قاهر
وآوتهم الحال إلى كنف عز غالب. وتعطفت الأمور عليهم في
ذرى ملك ثابت. فهم حكام على العالمين، وملوك في أطراف
الأرضين. يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم. ويمضون
الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم. لا تغمز لهم قناة (4)، ولا تقرع
لهم صفاة
ألا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة. وثلمتم
حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية (5). فإن الله سبحانه
قد امتن على جماعة هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة
154

التي ينتقلون في ظلها، ويأوون إلى كنفها، بنعمة لا يعرف أحد من
المخلوقين لها قيمة لأنها أرجح من كل ثمن وأجل من كل خطر
واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعرابا (1)، وبعد الموالاة
أحزابا. ما تتعلقون من الاسلام إلا باسمه. ولا تعرفون من
الإيمان إلا رسمه
تقولون النار ولا العار، كأنكم تريدون أن تكفئوا
الاسلام على وجهه، انتهاكا لحريمه، ونقضا لميثاقه (2) الذي وضعه
الله لكم حرما في أرضه وأمنا بين خلقه. وإنكم إن لجأتم إلى
غيره حاربكم أهل الكفر، ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا
مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم إلا المقارعة بالسيف حتى يحكم
الله بينكم
وإن عندكم الأمثال من بأس الله وقوارعه، وأيامه ووقائعه.
فلا تستبطئوا وعيده جهلا بأحده، وتهاونا ببطشه، ويأسا من
155

بأسه. فإن الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا
لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلعن الله السفهاء
لركوب المعاصي، والحلماء لترك التناهي
ألا وقد قطعتم قيد الاسلام وعطلتم حدوده وأمتم أحكامه
ألا وقد أمرني الله بقتال أهل البغي والنكث (1) والفساد في الأرض
فأما الناكثون فقد قاتلت، وأما القاسطون فقد جاهدت (2). وأما
المارقة فقد دوخت. وأما شيطان الردهة فقد كفيته بصعقة سمعت
لها وجبة قلبه ورجة صدره (3). وبقيت بقية من أهل البغي. ولئن
أذن الله في الكرة عليهم لأديلن منهم (4) إلا ما يتشذر في أطراف
البلاد تشذرا
أنا وضعت في الصغر بكلا كل العرب (5)، وكسرت نواجم
156

قرون ربيعة ومضر. وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله
عليه وآله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة. وضعني في
حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني
جسده ويشمني عرفه (1). وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه. وما وجد
لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل (2). ولقد قرن الله به صلى
الله عليه وآله من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته
يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره.
ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه (3) يرفع لي في كل يوم من
أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كل سنة
بحراء (4) فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في
الاسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما.
أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة
ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه
157

وآله، فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال هذا الشيطان أيس
من عبادته. إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي.
ولكنك وزير وإنك لعلى خير. ولقد كنت معه صلى الله عليه
وآله لما أتاه الملأ من قريش، فقالوا له: يا محمد إنك قد ادعيت
عظيما لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمرا إن أجبتنا
إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر
كذاب. فقال صلى الله عليه وآله: وما تسألون؟ قالوا تدعو لنا هذه
الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك، فقال صلى الله عليه
وآله: إن الله على كل شئ قدير، فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون
وتشهدون بالحق؟ قالوا نعم، قال فإني سأريكم ما تطلبون، وإني
لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير (1)، وإن فيكم من يطرح في
القليب (2)، ومن يحزب الأحزاب. ثم قال صلى الله عليه وآله:
يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أني
رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله. فوالذي بعثه
158

بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصف
أجنحة الطير (1) حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله
مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله صلى الله عليه وآله،
وببعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه صلى الله عليه وآله
فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا - علوا واستكبارا -: فمرها فليأتك
نصفها ويبقي نصفها فأمرها بذلك، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال
وأشده دويا، فكادت تلتف برسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا
- كفرا وعتوا - فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان فأمره
صلى الله عليه وآله فرجع. فقلت أنا: لا إله إلا الله فإني أول مؤمن
بك يا رسول الله، وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله
تعالى تصديقا بنبوتك وإجلالا لكلمتك. فقال القوم كلهم: بل
ساحر كذاب، عجيب السحر خفيف فيه، وهل يصدقك في أمرك
إلا مثل هذا (يعنوني) وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم
سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم كلام الأبرار. عمار الليل ومنار
النهار (2). متمسكون بحبل القرآن. يحيون سنن الله وسنن رسوله.
159

لا يستكبرون ولا يعلون، ولا يغلون (1) ولا يفسدون. قلوبهم في
الجنان وأجسادهم في العمل
193 - ومن خطبة له عليه السلام
روي أن صاحبا لأمير المؤمنين عليه السلام يقال له همام
كان رجلا عابدا، فقال يا أمير المؤمنين صف لي المتقين
حتى كأني أنظر إليهم. فتثاقل عليه السلام عن جوابه ثم
قال: يا همام اتق الله وأحسن فإن الله مع الذين اتقوا والذين
هم محسنون، فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه،
فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله
ثم قال:
أما بعد، فإن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيا
عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم، لأنه لا تضره معصية من عصاه ولا
تنفعه طاعة من أطاعه. فقسم بينهم معيشتهم، ووضعهم من الدنيا
مواضعهم. فالمتقون فيها هم أهل الفضائل. منطقهم الصواب،
160

وملبسهم الاقتصاد (1) ومشيهم التواضع. غضوا أبصارهم عما حرم
الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم. نزلت أنفسهم
منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء (2). ولولا الأجل الذي كتب
لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب،
وخوفا من العقاب. عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم،
فهم والجنة كمن قد
رآها (3) فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد
رآها فهم فيها معذبون. قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة. وأجسادهم
نحيفة (4)، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة. صبروا أياما قصيرة
أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة (5) يسرها لهم ربهم. أرادتهم
الدنيا فلم يريدوها. وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أما الليل فصافون
أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا. يحزنون به أنفسهم
161

ويستثيرون به دواء دائهم (1). فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها
طمعا، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا، وظنوا أنها نصب أعينهم. وإذا
مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير
جهنم وشهيقها في أصول آذانهم (2) فهم حانون على أوساطهم،
مفترشون لجبابهم، وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون
إلى الله تعالى في فكاك رقابهم. وأما النهار فحلماء علماء، أبرار أتقياء.
قد براهم الخوف بري القداح (3) ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى
وما بالقوم من مرض ويقول قد خولطوا (4)
ولقد خالطهم أمر عظيم. لا يرضون من أعمالهم القليل. ولا
يستكثرون الكثير. فهم لأنفسهم متهمون. ومن أعمالهم
مشفقون (5) إذا زكي أحدهم (6) خاف مما يقال له فيقول: أنا أعلم
162

بنفسي من غيري، وربي أعلم بي من نفسي. اللهم لا تؤاخذني بما
يقولون، واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون
فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين، وحزما في لين،
وإيمانا في يقين. وحرصا في علم، وعلما في حلم. وقصدا في غنى (1)
وخشوعا في عبادة. وتجملا في فاقة. وصبرا في شدة. وطلبا في حلال
ونشاطا في هدى. وتحرجا عن طمع (2). يعمل الأعمال الصالحة وهو
على وجل. يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر. يبيت حذرا
ويصبح فرحا. حذرا لما حذر من الغفلة. وفرجا بما أصاب من
الفضل والرحمة. إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره (3) لم يعطها
سؤلها فيما تحب. قرة عينه فيما لا يزول. وزهادته فيما لا يبقى (4).
يمزج الحلم بالعلم. والقول بالعمل. تراه قريبا أمله. قليلا زلله.
خاشعا قلبه. قانعة نفسه. منزورا أكله. سهلا أمره. حريزا دينه (5)
ميتة شهوته. مكظوما غيظه. الخير منه مأمول، والشر منه مأمون.
163

إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين. وإن كان في الذاكرين
لم يكتب من الغافلين (1). يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه،
ويصل من قطعه. بعيدا فحشه (2). لينا قوله. غائبا منكره. حاضرا
معروفه. مقبلا خيره مدبرا شره. في الزلازل وقور (3)، وفي
المكاره صبور. وفي الرخاء شكور. لا يحيف على من يبغض. ولا
يأثم فيمن يحب (4). يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه. لا يضيع ما
استحفظ. ولا ينسى ما ذكر. ولا ينابز بالألقاب (5). ولا يضار بالجار
ولا يشمت بالمصائب. ولا يدخل في الباطل. ولا يخرج من الحق.
إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته. وإن بغي عليه
صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له. نفسه منه في عناء. والناس
منه في راحة. أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه. بعده
عمن تباعد عنه زهد ونزاهة. ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة. ليس
تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة
164

(قال) فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها (1). فقال أمير المؤمنين
عليه السلام: أما والله لقد كنت أخافها عليه. ثم قال: أهكذا تصنع
المواعظ البالغة بأهلها. فقال له قائل فما بالك يا أمير المؤمنين (2)؟
فقال: ويحك إن لكل أجل وقتا لا يعدوه وسببا لا يتجاوزه. فمهلا
لا تعد لمثلها فإنما نفث الشيطان على لسانك
194 - ومن خطبة له عليه السلام
يصف فيها المنافقين
نحمده على ما وفق له من الطاعة، وذاد عنه من المعصية (3).
ونسأله لمنته تماما وبحبله اعتصاما. ونشهد أن محمدا عبده ورسوله
خاض إلى رضوان الله كل غمرة (4)، وتجرع فيه كل غصة. وقد تلون
له الأدنون (5)، وتألب عليه الأقصون. وخلعت إليه العرب أعنتها،
165

وضربت لمحاربته بطون رواحلها، حتى أنزلت بساحته عداوتها من
أبعد الدار وأسحق المزار (1)
أوصيكم عباد الله بتقوى الله. وأحذركم أهل النفاق فإنهم
الضالون المضلون، والزالون المزلون (2). يتلونون ألوانا، ويفتنون
أفتنانا (3)، ويعمدونكم بكل عماد، ويرصدونكم بكل مرصاد.
قلوبهم دوية (4). وصفاحهم نقية. يمشون الخفاء (5)، ويدبون الضراء
وصفهم دواء، وقولهم شفاء، وفعلهم الداء العياء (6). حسدة الرخاء (7)،
ومؤكدوا البلاء، ومقنطوا الرجاء. لهم بكل طريق صريع (8) وإلى
166

كل قلب شفيع، ولكل شجو دموع (1). يتقارضون الثناء (2)،
ويتراقبون الجزاء. إن سألوا ألحفوا (3)، وإن عدلوا كشفوا، وإن
حكموا أسرفوا. قد أعدوا لكل حق باطلا، ولكل قائم مائلا،
ولكل حي قاتلا، ولكل باب مفتاحا، ولكل ليل مصباحا. يتوصلون
إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم، وينفقوا به أعلاقهم (4).
يقولون فيشبهون (5)، ويصفون فيموهون. قد هونوا الطريق (6)،
وأضلعوا المضيق. فهم لمة الشيطان (7) وحمة النيران " أولئك حزب
الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون "
195 - ومن خطبة له عليه السلام
الحمد لله الذي أظهر من آثار سلطانه وجلال كبريائه ما حير
167

مقل العيون من عجائب قدرته (1)، وردع خطرات هماهم النفوس عن
عرفان كنه صفته (2). وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة إيمان وإيقان،
وإخلاص وإذعان. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله وأعلام الهدى دارسة، ومناهج الدين طامسة (3). فصدع بالحق، ونصح
للخلق. وهدى إلى الرشد، وأمر بالقصد. صلى الله عليه وآله
واعلموا عباد الله أنه لم يخلقكم عبثا. ولم يرسلكم هملا.
علم مبلغ نعمه عليكم، وأحصى إحسانه إليكم. فاستفتحوه
واستنجحوه (4)، واطلبوا إليه واستمنحوه. فما قطعكم عنه حجاب،
ولا أغلق عنكم دونه باب. وإنه لبكل مكان، وفي كل حين
وأوان، ومع كل إنس وجان. لا يثلمه العطاء (5)، ولا ينقصه الحباء
168

ولا يستنفده سائل، ولا يستقصيه نائل. ولا يلويه شخص عن شخص،
ولا يلهيه صوت عن صوت. ولا تحجزه هبة عن سلب. ولا يشغله
غضب عن رحمة. ولا تولهه رحمة عن عقاب. ولا يجنه البطون عن
الظهور. ولا يقطعه الظهور عن البطون. قرب فنأى، وعلا فدنا.
وظهر فبطن، وبطن فعلن. ودان ولم يدن (1). لم يذرأ الخلق باحتيال (2)،
ولا استعان بهم لكلال
أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها الزمام والقوام (3). فتمسكوا
بوثائقها، واعتصموا بحقائقها تؤل بكم إلى أكنان الدعة (4)، وأوطان
السعة، ومعاقل الحرز ومنازل العز في يوم تشخص فيه الأبصار،
وتظلم له الأقطار. ويعطل فيه صروم العشار (5). وينفخ في الصور.
169

فتزهق كل مهجة، وتبكم كل لهجة. وتدك الشم الشوامخ (1)،
والصم الرواسخ. فيصير صلدها سرابا رقرقا (2)، ومعهدها قاعا سملقا.
فلا شفيع يشفع ولا حميم يدفع، ولا معذرة تنفع
196 - ومن خطبة له عليه السلام
بعثه حين لا علم قائم (3). ولا منار ساطع. ولا منهج واضح.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله. وأحذركم الدنيا فإنها دار شخوص (4)،
ومحلة تنغيص. ساكنها ظاعن. وقاطنها بائن (5). تميد بأهلها ميدان
السفينة تقصفها العواصف في لجج البحار (6). فمنهم الغرق الوبق (7).
170

ومنهم الناجي على بطون الأمواج تحفزه الرياح بأذيالها، وتحمله على
أهوالها. فما غرق منها فليس بمستدرك، وما نجا منها فإلى مهلك
عباد الله الآن فاعلموا والألسن مطلقة، والأبدان صحيحة،
والأعضاء لدنة (1)، والمنقلب فسيح، والمجال عريض، قبل إرهاق
الفوت (2)، وحلول الموت. فحققوا عليكم نزوله، ولا تنتظروا
قدومه.
197 - ومن كلام له عليه السلام
ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله (3)
أني لم أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط. ولقد واسيته بنفسي في
المواطن التي تنكص فيها الأبطال (4)، وتتأخر فيها الأقدام
171

نجدة أكرمني الله بها (1)
ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وإن رأسه لعلى صدري.
ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي (2). ولقد وليت غسله
صلى الله عليه وآله والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية (3)
ملأ يهبط وملأ يعرج وما فارقت سمعي هينمة منهم (4). يصلون عليه
حتى واريناه في ضريحه. فمن ذا أحق به مني حيا وميتا؟ فانفذوا على
بصائركم (5)، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم. فوالذي لا إله إلا هو
إني لعلى جادة الحق وإنهم لعلى مزلة الباطل (6). أقول ما تسمعون
وأستغفر الله لي ولكم
198 - ومن خطبة له عليه السلام
يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات،
واختلاف النينان في البحار الغامرات (7)، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات
172

وأشهد أن محمدا نجيب الله (1) وسفير وحيه ورسول رحمته
أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله الذي ابتدأ خلقكم، وإليه
يكون معادكم، وبه نجاح طلبتكم، وإليه منتهى رغبتكم،
ونحوه قصد سبيلكم، وإليه مرامي مفزعكم (2). فإن تقوى الله
دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم،
وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم
وأمن فزع جأشكم (3)، وضياء سواد ظلمتكم. فاجعلوا طاعة الله
شعارا دون دثاركم (4)، ودخيلا دون شعاركم، ولطيفا بين أضلاعكم
وأميرا فوق أموركم، ومنهلا لحين ورودكم (5)، وشفيعا لدرك طلبتكم
وجنة ليوم فزعكم، ومصابيح لبطون قبوركم، وسكنا لطول
وحشتكم، ونفسا لكرب مواطنكم. فإن طاعة الله حرز من
متألف مكتنفة، ومخاوف متوقعة، وأوار نيران موقدة (6). فمن
173

أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوها (1)، واحلولت له الأمور
بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له
الصعاب بعد إنصابها (2)، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها،
وتحدبت عليه الرحمة بعد نفورها (3)، وتفجرت عليه النعم بعد
نضوبها، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها
فاتقوا الله الذي نفعكم بموعظته، ووعظكم برسالته، وامتن
عليكم بنعمته. فعبدوا أنفسكم لعبادته (4)، وأخرجوا إليه من
حق طاعته.
ثم إن هذا الاسلام دين الله الذي اصطفاه لنفسه، واصطنعه على
عينه، وأصفاه (5) خيرة خلقه، وأقام دعائمه على محبته أذل الأديان
بعزته، ووضع الملل برفعه، وأهان أعداءه بكرامته، وخذل
174

محاديه بنصره (1)، وهدم أركان الضلالة بركنه. وسقى من عطش
من حياضه، وأتأق الحياض بمواتحه (2). ثم جعله لا انفصام لعروته،
ولا فك لحلقته، ولا انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه، ولا انقلاع
لشجرته، ولا انقطاع لمدته، ولا عفاء لشرائعه (3)، ولا جذ لفروعه،
ولا ضنك لطرقه، ولا وعوثة لسهولته، ولا سواد لوضحه، ولا عوج
لانتصابه، ولا عصل في عوده، ولا وعث لفجه، ولا انطفاء لمصباحه،
ولا مرارة لحلاوته، فهو دعائم أساخ في الحق أسناخها (4)، وثبت لها
أساسها وينابيع غزرت عيونها، ومصابيح شبت نيرانها، ومنار
اقتدى بها سفارها (5)، وأعلام قصد بها فجاجها، ومناهل روي بها
ورادها. جعل فيه منتهى رضوانه، وذروة دعائمه، وسنام طاعته.
175

فهو عند الله وثيق الأركان، رفيع البنيان، منير البرهان، مضئ
النيران، عزيز السلطان، مشرف المنار (1) معوز المثار. فشرفوه
واتبعوه، وأدوا إليه حقه، وضعوه مواضعه. ثم إن الله بعث محمدا
صلى الله عليه وآله بالحق حين دنا من الدنيا الانقطاع، وأقبل من
الآخرة الاطلاع (2). وأظلمت بهجتها بعد إشراق (3)، وقامت بأهلها
على ساق. وخشن منها مهاد، وأزف منها قياد. في انقطاع من مدتها،
واقتراب من أشراطها (4)، وتصرم من أهلها، وانفصام من حلقتها،
وانتشار من سببها، وعفاء من أعلامها، وتكشف من عوراتها،
وقصر من طولها. جعله الله بلاغا لرسالته، وكرامة لأمته،
وربيعا لأهل زمانه، ورفعة لأعوانه، وشرفا لأنصاره
176

ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه، وسراجا لا يخبو
توقده (1)، وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجا لا يضل نهجه (2)، وشعاعا
لا يظلم ضوءه، وفرقانا لا يخمد برهانه، وتبيانا لا تهدم أركانه
وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزا لا تهزم أنصاره، وحقا لا تخذل
أعوانه. فهو معدن الإيمان وبحبوحته (3)، وينابيع العلم وبحوره،
ورياض العدل وغدرانه (4)، وأثافي الاسلام وبنيانه، وأودية الحق
وغيطانه (5). وبحر لا ينزفه المستنزفون (6)، وعيون لا ينضبها الماتحون
ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون،
وأعلام لا يعمى عنها السائرون وآكام لا يجوز عنها (7) القاصدون.
177

جعله الله ريا لعطش العلماء، وربيعا لقلوب الفقهاء، ومحاج لطرق
الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونورا ليس معه ظلمة وحبلا وثيقا
عروته، ومعقلا منيعا ذروته، وعزا لمن تولاه، وسلما لمن دخله،
وهدى لمن ائتم به، وعذرا لمن انتحله، وبرهانا لمن تكلم به،
وشاهدا لمن خاصم به، وفلجا لمن حاج به (1)، وحاملا لمن حمله،
ومطية لمن أعمله، وآية لمن توسم، وجنة لمن استلام (2). وعلما
لمن وعى، وحديثا لمن روى، وحكما لمن قضى
199 - ومن كلام له عليه السلام يوصي به أصحابه
تعاهدوا أمر الصلاة وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقربوا
بها، فإنها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا. ألا تسمعون إلى جواب
أهل النار حين سئلوا: " ما سلككم في سقر؟ قالوا لم نك من
المصلين " وإنها لتحت الذنوب حت الورق (3)، وتطلقها إطلاق الربق (4)

* أي بفتح الفاء مع سكون اللام
178

وشبهها رسول الله صلى الله عليه وآله بالحمة (1) تكون على باب
الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات فما عسى أن يبقى
عليه من الدرن. وقد عرف حقها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم
عنها زينة متاع ولا قرة عين من ولد ولا مال. يقول الله سبحانه " رجال
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة "
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله نصبا بالصلاة (2) بعد التبشير له
بالجنة لقول الله سبحانه " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها "
فكان يأمر أهله ويصبر عليها نفسه
ثم إن الزكاة جعلت مع الصلاة قربانا لأهل الاسلام فمن أعطاها
طيب النفس بها فإنها تجعل له كفارة، ومن النار حجازا ووقاية.
فلا يتبعنها أحد نفسه (3)، ولا يكثرن عليها لهفه. فإن من أعطاها
غير طيب النفس بها يرجو بها ما هو أفضل منها فهو جاهل بالسنة
مغبون الأجر. ضال العمل. طويل الندم
179

ثم أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها. إنها عرضت على
السماوات المبنية، والأرضين المدحوة (1)، والجبال ذات الطول
المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها. ولو امتنع
شئ بطول أو عرض أو قوة أو عز لامتنعن، ولكن أشفقن من
العقوبة، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن وهو الإنسان " إنه كان
ظلوما جهولا "
إن الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه ما العباد مقترفون في ليلهم
ونهارهم (2). لطف به خبرا، وأحاط به علما، أعضاؤكم شهود،
وجوارحكم جنود، وضمائركم عيونه، وخلواتكم عيانه
200 - ومن كلام له عليه السلام
والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر. ولولا كراهية
الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل
فجرة كفرة. ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة. والله ما أستغفل
180

بالمكيدة، ولا أستغمز بالشديدة (1)
201 - ومن كلام له عليه السلام
أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس
قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير (2)، وجوعها طويل
أيها الناس إنما يجمع الناس الرضاء والسخط (3). وإنما عقر ناقة
ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال سبحانه:
" فعقروها فأصبحوا نادمين " فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة (4)
خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة
أيها الناس من سلك الطريق الواضح ورد الماء، ومن خالف
وقع في التية
181

202 - ومن كلام له عليه السلام
عند دفن سيدة النساء فاطمة عليها السلام
السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك
والسريعة اللحاق بك. قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورق عنها
تجلدي. إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك (1)، وفادح مصيبتك
موضع تعز. فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري
وصدري نفسك. إنا لله وإنا إليه راجعون. فلقد استرجعت الوديعة،
وأخذت الرهينة. أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد (2) إلى أن
يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم. وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك
على هضمها (3) فأحفها السؤال واستخبرها الحال. هذا ولم يطل العهد.
ولم يخل منك الذكر. والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا
سئم (4). فإن أنصرف فلا عن ملالة. وإن أقم فلا عن سوء ظن بما
وعد الله الصابرين
182

203 - ومن كلام له عليه السلام
أيها الناس إنما الدنيا دار مجاز (1) والآخرة دار قرار، فخذوا من
ممركم لمقركم. ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم.
وأخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم. ففيها
اختبرتم، ولغيرها خلقتم. إن المرء إذا هلك قال الناس ما ترك
وقالت الملائكة ما قدم. لله آباؤكم فقدموا بعضا يكن لكم
قرضا ولا تخلفوا كلا فيكون عليكم
204 - ومن كلام له عليه السلام
كان كثيرا ما ينادي به أصحابه
تجهزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل. وأقلوا العرجة
على الدنيا (2). وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد فإن أمامكم
عقبة كؤودا، ومنازل مخوفة مهولة لا بد من الورود عليها والوقوف
عندها. واعلموا أن ملاحظ المنية نحوكم دانية (3). وكأنكم
183

بمخالبها وقد نشبت فيكم، وقد دهمتكم فيها مفظعات الأمور
ومعضلات المحذور. فقطعوا علائق الدنيا، واستظهروا بزاد التقوى (1)
(وقد مضى شئ من هذا الكلام فيما تقدم بخلاف هذه الرواية)
205 - ومن كلام له عليه السلام
كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة
وقد عتبا من ترك مشورتهما والاستعانة في الأمور بهما
لقد نقمتما يسيرا (2) وأرجأتما كثيرا. ألا تخبراني أي شئ لكما
فيه حق دفعتكما عنه، وأي قسم استأثرت عليكما به، أم أي
حق رفعه إلى أحد من المسلمين ضعفت عنه أم جهلته، أم أخطأت بابه
والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة (3).
ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها. فلما أفضت إلي نظرت
إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استسن
النبي صلى الله عليه وآله فاقتديته. فلم أحتج في ذلك إلى
رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما
184

وإخواني المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما.
وأما ما ذكرتما من أمر الأسوة (1) فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه
برأيي ولا وليته هوى مني. بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله
صلى الله عليه وآله قد فرغ منه، فلم أحتج إليكما فيما فرغ
الله من قسمه وأمضى فيه حكمه. فليس لكما والله عندي ولا
لغيركما في هذا عتبى. أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق، وألهمنا
وإياكم الصبر
(ثم قال عليه السلام) رحم الله امرأ رأى حقا فأعان عليه، أو
رأى جورا فرده وكان عونا بالحق على صاحبه
206 - ومن كلام له عليه السلام
وقد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين
إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم
أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر،
وقلتم مكان سبكم إياهم. اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح
185

ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله
ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به (1)
207 - وقال عليه السلام في بعض أيام صفين
وقد رأى الحسن عليه السلام يتشرع إلى الحرب
املكوا عني هذا الغلام لا يهدني (2)، فإنني أنفس بهذين (يعني
الحسن والحسين عليهما السلام) على الموت لئلا ينقطع بهما نسل
رسول الله صلى الله عليه وآله (وقوله عليه السلام املكوا عني
هذا الغلام من أعلى الكلام وأفصحه)
208 - ومن كلام له عليه السلام
قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة
أيها الناس إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب حتى نهكتكم
الحرب (3)، وقد والله أخذت منكم وتركت، وهي لعدوكم أنهك.
186

لقد كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا. وكنت أمس
ناهيا فأصبحت اليوم منهيا. وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم
على ما تكرهون
209 - ومن كلام له عليه السلام
بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي
وهو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره قال
ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا. أما أنت إليها في
الآخرة كنت أحوج، وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة تقري فيها
الضيف وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها (1)، فإذا
أنت قد بلغت بها الآخرة
فقال له العلاء يا أمير المؤمنين أشكوا إليك أخي عاصم بن زياد، قال
وما له؟ قال لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال علي به. فلما جاء قال:
يا عدي نفسه (2) لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك.
187

أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على
الله من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك
وجشوبة مأكلك. قال:
ويحك إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا
أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره (1)
0 21 - ومن كلام له عليه السلام
وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس
من اختلاف الخبر (2)، فقال عليه السلام
إن في أيدي الناس حقا وباطلا. وصدقا وكذبا. وناسخا ومنسوخا
وعاما وخاصا. ومحكما ومتشابها. وحفظا ووهما. ولقد كذب على
رسول الله صلى الله عليه وآله على عهده حتى قام خطيبا فقال:
188

" من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "
وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:
رجل منافق مظهر للإيمان، متصنع بالاسلام لا يتأثم ولا
يتحرج (1)، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدا، فلو
علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله،
ولكنهم قالوا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله رأى وسمع منه
ولقف عنه (2) فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما
أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك، ثم بقوا بعده عليه وآله السلام
فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم
الأعمال وجعلوهم حكاما على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا.
وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله فهو (*) أحد الأربعة (3)
ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه (4)
ولم يتعمد كذبا فهو في يديه ويرويه ويعمل به ويقول أنا سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وآله، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم

* في نسخة: فهذا أحد الأربعة
189

يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه
ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا يأمر
به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو
لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ
لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب
خوفا من الله وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وآله ولم يهم (1)، بل
حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص
منه، فحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنب عنه (2)،
وعرف الخاص والعام فوضع كل شئ موضعه، وعرف المتشابه
ومحكمه (3).
وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله الكلام له
وجهان: فكلام خاص وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عني الله
به ولا ما عني رسول الله صلى الله عليه وآله، فيحمله السامع
190

ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله. وليس
كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يسأله ويستفهمه
حتى أن كانوا ليحبون أن يجئ الأعرابي والطارئ فيسأله عليه
السلام حتى يسمعوا. وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألت عنه
وحفظته. فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم
211 - ومن خطبة له عليه السلام
وكان من اقتدار جبروته وبديع لطائف صنعته أن جعل من ماء
البحر الزاخر المتراكم المتقاصف يبسا جامدا (1). ثم فطر منه
أطباقا (2) ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها فاستمسك بأمره، وقامت
على حده. وأرسى أرضا يحملها الأخضر المثعنجر والقمقام المسخر (3).
191

قد ذل لأمره، وأذعن لهيبته، ووقف الجاري منه لخشيته. وجبل
جلاميدها (1) ونشوز متونها وأطوادها. فأرساها في مراسيها. وألزمها
قرارتها فمضت رؤوسها في الهواء، ورست أصولها في الماء. فأنهد
جبالها عن سهولها (2)، وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع
أنصابها. فأشهق قلالها (3)، وأطال أنشازها (4). وجعلها للأرض عمادا،
وأرزها فيها أوتادا فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها (5) أو
192

تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها. فسبحان من أمسكها بعد موجان
مياهها، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها. فجعلها لخلقه مهادا (1)، وبسطها
لهم فراشا فوق بحر لجي راكد لا يجري (2)، وقائم لا يسري.
تكر كره الرياح العواصف (3). وتمخضه الغمام الذوارف " إن في
ذلك لعبرة لمن يخشى "
212 - ومن خطبة له عليه السلام
اللهم أيما عبد من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة،
والمصلحة في الدين والدنيا غير المفسدة فأبى بعد سمعه لها إلا
النكوص عن نصرتك، والإبطاء عن إعزاز دينك، فإنا نستشهدك
عليه بأكبر الشاهدين شهادة (4). ونستشهد عليه جميع من أسكنته
أرضك وسمواتك، ثم أنت بعد المغني عن نصره والآخذ له بذنبه
193

213 - ومن خطبة له عليه السلام
الحمد لله العلي عن شبه المخلوقين (1)، الغالب لمقال الواصفين.
الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين، الباطن بجلال عزته عن فكر
المتوهمين. العالم بلا اكتساب ولا ازدياد ولا علم مستفاد، المقدر
لجميع الأمور بلا روية ولا ضمير. الذي لا تغشاه الظلم ولا يستضئ
بالأنوار، ولا يرهقه ليل (2) ولا يجري عليه نهار. ليس إدراكه
بالأبصار ولا علمه بالأخبار
(منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله): أرسله بالضياء
وقدمه في الاصطفاء فرتق به المفاتق (3)، وساور به المغالب. وذلل
به الصعوبة، وسهل به الحزونة حتى سرح الضلال عن يمين وشمال.
194

214 - ومن كلام له عليه السلام
وأشهد أنه عدل عدل وحكم فصل. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
وسيد عباده كلما نسخ الله الخلق فرقتين (1) جعله في خيرهما. لم يسهم
فيه عاهر (2) ولا ضرب فيه فاجر
ألا وإن الله جعل للخير أهلا وللحق دعائم، وللطاعة عصما (3)
وإن لكم عند كل طاعة عونا من الله يقول على الألسنة ويثبت
الأفئدة. فيه كفاء لمكتف (4) وشفاء لمشتف
واعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه (5) يصونون مصونه،
ويفجرون عيونه. يتواصلون بالولاية (6). ويتلاقون بالمحبة.
ويتساقون بكأس روية (7). ويصدرون برية. لا تشوبهم الريبة (8)
195

ولا تسرع فيهم الغيبة. على ذلك عقد خلقهم وأخلاقهم (1). فعليه
يتحابون وبه يتواصلون. فكانوا كتفاضل البذر ينتقى (2)، فيؤخذ
منه ويلقى. قد ميزه التخليص، وهذبه التمحيص (3). فليقبل امرؤ
كرامة بقبولها (4). وليحذر قارعة قبل حلولها. ولينظر امرؤ في قصير
أيامه، وقليل مقامه في منزل حتى يستبدل به منزلا (5). فليصنع
لمتحوله ومعارف منتقله (6). فطوبى لذي قلب سليم أطاع من
يهديه، وتجنب من يرديه، وأصاب سبيل السلامة ببصر من بصره (7)
وطاعة هاد أمره. وبادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه وتقطع أسبابه.
واستفتح التوبة وأماط الحوبة فقد أقيم على الطريق وهدى نهج السبيل
196

215 - ومن دعاء كان يدعو به عليه السلام كثيرا
الحمد الله الذي لم يصبح بي ميتا ولا سقيما (1)، ولا مضروبا على
عروقي بسوء، ولا مأخوذا بأسوأ عملي، ولا مقطوعا دابري، ولا
مرتدا عن ديني، ولا منكرا لربي، ولا مستوحشا من إيماني، ولا
ملتبسا عقلي، ولا معذبا بعذاب الأمم من قبلي. أصبحت عبدا
مملوكا ظالما لنفسي، لك الحجة علي ولا حجة لي. لا أستطيع أن آخذ
إلا ما أعطيتني، ولا أتقي إلا ما وقيتني
اللهم إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك، أو أضل في هداك، أو
أضام في سلطانك، أو أضطهد والأمر لك
اللهم اجعل نفسي أول كريمة تنتزعها من كرائمي، وأول وديعة
ترتجعها من ودائع نعمك عندي
اللهم إنا نعوذ بك أن نذهب عن قولك، أو نفتتن عن دينك.
أو تتابع بنا أهواؤنا (2) دون الهدى الذي جاء من عندك
197

216 - ومن خطبة له عليه السلام بصفين
أما بعد فقد جعل الله لي عليكم حقا بولاية أمركم، ولكم
علي من الحق مثل الذي لي عليكم. فالحق أوسع الأشياء في
التواصف (1)، وأضيقها في التناصف. لا يجري لأحد إلا جرى عليه،
ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا
يجري عليه لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه لقدرته
على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه. ولكنه جعل
حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب
تفضلا منه وتوسعا بما هو من المزيد أهله. ثم جعل سبحانه من
حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في
وجوهها ويوجب بعضها بعضا. ولا يستوجب بعضها إلا ببعض (2).
وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية
وحق الرعية على الوالي. فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل،
فجعلها نظاما لألفتهم وعزا لدينهم. فليست تصلح الرعية إلا
198

بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدت
الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم،
وقامت، مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها
السنن (1) فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع
الأعداء. وإذا غلبت الرعية واليها، وأجحف الوالي برعيته اختلفت
هنالك الكلمة. وظهرت معالم الجور. وكثر الأدغال في الدين (2)
وتركت محاج السنن. فعمل بالهوى. وعطلت الأحكام. وكثرت
علل النفوس. فلا يستوحش لعظيم حق عطل (3). ولا لعظيم باطل
فعل. فهنالك تذل الأبرار وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله عند
العباد. فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه، فليس أحد
وإن اشتد على رضاء الله حرصه وطال في العمل اجتهاده ببالغ حقيقة
ما الله أهله من الطاعة له. ولكن من واجب حقوق الله على العباد
النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم. وليس
199

امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته بفوق
أن يعاون على ما حمله الله من حقه (1)، ولا امرؤ وإن صغرته النفوس
واقتحمته العيون (2) بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه
(فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر
فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته له) فقال عليه السلام:
إن من حق من عظم جلال الله في نفسه، وجل موضعه من
قلبه أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه (3). وإن أحق من كان
كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه (4) ولطف إحسانه إليه. فإنه لم
تعظم نعمة الله على أحد إلا ازداد حق الله عليه عظما، وإن من أسخف
حالات الولات عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر (5)، ويوضع
أمرهم على الكبر. وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب
الاطراء واستماع الثناء (6). ولست بحمد الله كذلك. ولو كنت أحب
200

أن يقال ذلك لتركته انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به
من العظمة والكبرياء. وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء (1). فلا
تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في
حقوق لم أفرغ من أدائها (2)، وفرائض لا بد من إمضائها، فلا
تكلموني بما تكلم به الجبابرة (3)، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به
عند أهل البادرة. ولا تخالطوني بالمصانعة. ولا تظنوا بي استثقالا في
حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي. فإنه من استثقل الحق أن
يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه. فلا
تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق
أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو
أملك به مني (4). فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره.
.
201

يملك منا ما لا نملك من أنفسنا، وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا
عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى
217 - ومن كلام له عليه السلام
اللهم إني أستعديك على قريش (1) فإنهم قد قطعوا رحمي، وأكفأوا
إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري، وقالوا:
ألا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه، فاصبر مغموما أو مت
متأسفا، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد (2) إلا أهل
بيتي، فضننت بهم عن المنية فأغضيت على القذى، وجرعت ريقي
على الشجى، وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم، وآلم
للقلب من حز الشفار (3) (وقد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدمة
إلا أني كررته ههنا لاختلاف الروايتين)
218 - (ومنه في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عليه السلام)
202

فقدموا على عمالي وخزان بيت مال المسلمين الذي في يدي، وعلى
أهل مصر كلهم في طاعتي وعلى بيعتي، فشتتوا كلمتهم، وأفسدوا
علي جماعتهم. ووثبوا على شيعتي فقتلوا طائفة منهم غدرا، وطائفة
عضوا على أسيافهم (1) فضاربوا بها حتى لقوا الله صادقين
219 - ومن كلام له عليه السلام
لما مر بطلحة وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل
لقد أصبح أبو محمد بهذا المكان غريبا. أما والله لقد كنت
أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب. أدركت
وتري من بني عبد مناف (2) وأفلتتني أعيان بني جمح، لقد أتلعوا
أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله (3) فوقصوا دونه.
203

220 - ومن كلام له عليه السلام
قد أحيى عقله (1) وأمات نفسه، حتى دق جليله ولطف غليظه،
وبرق له لامع كثير البرق فأبان له الطريق وسلك به السبيل،
وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة، وثبتت رجلاه
بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربه
221 - ومن كلام له عليه السلام
بعد تلاوته " ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر " (2)
يا له مراما ما أبعده (3)، وزورا ما أغفله، وخطرا ما أفظعه. لقد
استخلوا منهم أي مدكر (4)، وتناوشوهم من مكان بعيد أفبمصارع
204

آبائهم يفخرون؟ أم بعديد الهلكى يتكاثرون؟ يرتجعون منهم
أجسادا خوت (1)، وحركات سكنت. ولإن يكونوا عبرا أحق من
أن يكونوا مفتخرا، ولإن يهبطوا بهم جناب ذلة أحجى من أن
يقوموا بهم مقام عزة (2). لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة (3). وضربوا
منهم في غمرة جهالة. ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار
الخاوية (4) والربوع الخالية لقالت ذهبوا في الأرض ضلالا، وذهبتم
في أعقابهم جهالا. تطأون في هامهم (5)، وتستثبتون في أجسادهم،
وترتعون فيما لفظوا، وتسكنون فيما خربوا، وإنما الأيام بينكم
وبينهم بواك ونوائح عليكم (6)
205

أولئكم سلف غايتكم (1)، وفراط مناهلكم الذين كانت
لهم مقاوم العز وحلبات الفخر ملوكا وسوقا. سلكوا في بطون
البرزخ سبيلا (2) سلطت الأرض عليهم فيه، فأكلت من لحومهم
وشربت من دمائهم. فأصبحوا في فجوات قبورهم جمادا لا ينمون،
وضمارا لا يوجدون. لا يفزعهم ورود الأهوال، ولا يحزنهم تنكر
الأحوال، ولا يحفلون بالرواجف، ولا يأذنون للقواصف. غيبا لا
ينتظرون، وشهودا لا يحضرون. وإنما كانوا جميعا فتشتتوا، وآلافا
فافترقوا (3). وما عن طول عهدهم ولا بعد محلهم عميت أخبارهم
وصمت ديارهم (4)، ولكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا،
206

وبالسمع صمما، وبالحركات سكونا. فكأنهم في ارتجال الصفة
صرعى سبات (1). جيران لا يتأنسون، وأحباء لا يتزاورون. بليت
بينهم عرى التعارف (2) وانقطعت منهم أسباب الإخاء. فكلهم وحيد
وهم جميع. وبجانب الهجر وهم أخلاء. لا يتعارفون لليل صباحا ولا
لنهار مساء. أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا (3). شاهدوا
من أخطار دارهم أفظع مما خافوا، ورأوا من آياتها أعظم مما قدروا.
فكلتا الغايتين مدت لهم إلى مباءة (4) فاتت مبالغ الخوف والرجاء.
فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بصفة ما شاهدوا وما عاينوا (5) ولئن
عميت آثارهم وانقطعت أخبارهم
لقد رجعت فيهم أبصار العبر (6)، وسمعت عنهم آذان العقول،
وتكلموا من غير جهات النطق. فقالوا كلحت الوجوه النواضر (7)
207

وخوت الأجساد النواعم. ولبسنا أهدام البلى (1). وتكاءدنا ضيق
المضجع. وتوارثنا الوحشة. وتهكمت علينا الربوع الصموت
فانمحت محاسن أجسادنا، وتنكرت معارف صورنا، وطالت في
مساكن الوحشة إقامتنا. ولم نجد من كرب فرجا، ولا من ضيق
متسعا. فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك وقد
ارتسخت أسماعهم بالهوام فاستكت (2)، واكتحلت أبصارهم
بالتراب فخسفت، وتقطعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها، وهمدت
القلوب في صدورهم بعد يقظتها. وعاث في كل جارحة منهم جديد
بلى سمجها (3)، وسهل طرق الآفة إليها، مستسلمات فلا أيد تدفع،
ولا قلوب تجزع لرأيت أشجان قلوب (4)، وأقذاء عيون. لهم في كل
208

فظاعة صفة حال لا تنتقل، وغمرة لا تنجلي (1). وكم أكلت الأرض
من عزيز جسد وأنيق لون كان في الدنيا غذي ترف (2) وربيب شرف.
يتعلل بالسرور في ساعة حزنه (3)، ويفزع إلى السلوة إن مصيبة
نزلت به ضنا بغضارة عيشه وشحاحة بلهوه ولعبه. فبينا هو يضحك
إلى الدنيا وتضحك إليه في ظل عيش غفول (4) إذ وطئ الدهر به
حسكه، ونقضت الأيام قواه، ونظرت إليه الحتوف من كثب (5).
فخالطه بث لا يعرفه، ونجي هم ما كان يجده. وتولدت فيه فترات
علل آنس ما كان بصحته (6). ففزع إلى ما كان عوده الأطباء من
تسكين الحار بالقار (7)، وتحريك البارد بالحار، فلم يطفئ ببارد إلا
ثور حرارة، ولا حرك بحار إلا هيج برودة، ولا اعتدل بممازج
209

لتلك الطبائع إلا أمد منها كل ذات داء (1) حتى فتر معلله (2)،
وذهل ممرضه. وتعايا أهله بصفة دائه (3)، وخرسوا عن جواب
السائلين عنه. وتنازعوا دونه شجي خبر يكتمونه، فقائل يقول هو
لما به (4)، وممن لهم إياب عافيته، ومصبر لهم على فقده، يذكرهم أسى
الماضين من قبله (5). فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا وترك
الأحبة، إذ عرض له عارض من غصصه فتحيرت نوافذ فطنته (6)،
ويبست رطوبة لسانه. فكم من مهم من جوابه عرفه فعي عن
رده (7)، ودعاء مؤلم لقلبه سمعه فتصام عنه من كبير كان يعظمه أو صغير
كان يرحمه. وإن للموت لغمرات هي أفظع من أن تستغرق بصفة أو
تعتدل على قلوب أهل الدنيا (8)
210

222 - (ومن كلام له عليه السلام)
قاله عند تلاوته " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله "
إن الله سبحانه جعل الذكر جلاء للقلوب (1) تسمع به بعد الوقرة،
وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة. وما برح لله - عزت
آلاؤه - في البرهة بعد البرهة وفي أزمان الفترات (2) عباد ناجاهم
في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في
الاسماع والأبصار والأفئدة (3). يذكرون بأيام الله، ويخوفون مقامه
بمنزلة الأدلة في الفلوات (4). من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه (5)
وبشروه بالنجاة. ومن أخذ يمينا وشمالا ذموا إليه الطريق، وحذروه
من الهلكة، وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وأدلة تلك الشبهات
وإن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا فلم تشغلهم تجارة ولا بيع
عنه، يقطعون به أيام الحياة ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع
211

الغافلين (1). ويأمرون بالقسط ويأتمرون به، وينهون عن المنكر
ويتناهون عنه. فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا
ما وراء ذلك، فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة
فيه (2)، وحققت القيامة عليهم عداتها. فكشفوا غطاء ذلك لأهل
الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس، ويسمعون ما لا يسمعون.
فلو مثلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة (3)، ومجالسهم المشهودة
وقد نشروا دواوين أعمالهم، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم عن كل صغيرة
وكبيرة أمروا بها فقصروا عنها، أو نهوا عنها ففرطوا فيها، وحملوا
ثقل أوزارهم ظهورهم (4) فضعفوا عن الاستقلال بها فنشجوا نشيجا
وتجاوبوا نحيبا. يعجون إلى ربهم من مقاوم ندم واعتراف لرأيت
212

أعلام هدى، ومصابيح دجى. قد حفت بهم الملائكة، وتنزلت
عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء وأعدت لهم مقاعد
الكرامات في مقام أطلع الله عليهم فيه فرضي سعيهم وحمد مقامهم
يتنسمون بدعائه روح التجاوز (1). رهائن فاقة إلى فضله، وأسارى ذلة
لعظمته. جرح طول الأسى قلوبهم (2)، وطول البكاء عيونهم. لكل
باب رغبة إلى الله منهم يد قارعة يسألون من لا تضيق لديه المنادح (3)
ولا يخيب عليه الراغبون. فحاسب نفسك لنفسك فإن غيرها من
الأنفس لها حسيب غيرك
223 - ومن كلام له عليه السلام
قاله عند تلاوته " يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم "
أدحض مسؤول حجة (4)، وأقطع مغتر معذرة. لقد أبرح
جهالة بنفسه
يا أيها الإنسان ما جرأك على ذنبك، وما غرك بربك، وما آنسك
213

بهلكة نفسك. أما من دائك بلول (1). أم ليس من نومتك يقظة.
أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك. فربما ترى الضاحي لحر
الشمس فتظله (2)، أو ترى المبتلي بألم يمض جسده (3) فتبكي رحمة
له، فما صبرك على دائك، وجلدك على مصابك، وعزاك عن البكاء على
نفسك. وهي أعز الأنفس عليك. وكيف لا يوقظك خوف بيات
نقمة (4) وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته. فتداو من داء الفترة
في قلبك بعزيمة، ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظة (5). وكن لله
مطيعا، وبذكره آنسا. وتمثل في حال توليك عنه إقباله عليك (6).
يدعوك إلى عفوه ويتغمدك بفضله وأنت متول عنه إلى غيره. فتعالى
من قوي ما أكرمه (7)، وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته
وأنت في كنف ستره مقيم، وفي سعة فضله متقلب. فلم يمنعك فضله
214

ولم يهتك عنك ستره، بل لم تخل من لطفه مطرف عين، في نعمة
يحدثها لك (1)، أو سيئة يسترها عليك، أو بلية يصرفها عنك. فما
ظنك به لو أطعته؟ وأيم الله لو أن هذه الصفة كانت في متفقين في
القوة، متوازيين في القدرة لكنت أول حاكم على نفسك بذميم
الأخلاق ومساوي الأعمال. وحقا أقول ما الدنيا غرتك (2) ولكن
بها اغتررت. ولقد كاشفتك العظات وآذنتك على سواء. ولهي بما
تعدك من نزول البلاء بجسمك والنقص في قوتك أصدق وأوفى من أن
تكذبك أو تغرك. ولرب ناصح لها عندك متهم (3)، وصادق من
خبرها مكذب. ولئن تعرفتها في الديار الخاوية (4) والربوع الخالية
لتجدنها من حسن تذكيرك وبلاغ موعظتك بمحلة الشفيق عليك
والشحيح بك (5). ولنعم دار من لم يرض بها دارا، ومحل من لم يوطنها
محلا (6). وإن السعداء بالدنيا غدا هم الهاربون منها اليوم
215

إذا رجفت الراجفة (1). وحقت بجلائلها القيامة. ولحق بكل
منسك أهله، وبكل معبود عبدته، وبكل مطاع أهل طاعته، فلم
يجز في عدله وقسطه يومئذ خرق بصر في الهواء (2)، ولا همس قدم في
الأرض إلا بحقه. فكم حجة يوم ذاك داحضة، وعلائق عذر
منقطعة. فتحر من أمرك ما يقوم به عذرك (3)، وتثبت به حجتك.
وخذ ما يبقى لك مما لا تبقى له (4). وتيسر لسفرك. وشم برق النجاة.
وارحل مطايا التشمير
224 - ومن كلام له عليه السلام
والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا (5)، وأجر في الأغلال
مصفدا، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض
216

العباد، وغاصبا لشئ من الحطام. وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى
البلى قفولها (1)، ويطول في الثرى حلولها
والله لقد رأيت عقيلا (2)، وقد أملق حتى استماحني من بركم
صاعا، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما
سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكدا (3) وكرر علي القول
مرددا فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده (4) مفارقا
طريقي، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها فضج
ضجيج ذي دنف من ألمها (5)، وكاد أن يحترق من ميسمها. فقلت له
ثكلتك الثواكل يا عقيل (6)، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه،
وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه. أتئن من الأذى ولا أئن من
217

لظى. وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها (1)، ومعجونة
شنئتها كأنما عجنت بريق حية أو قيئها، فقلت أصلة أم زكاة أم
صدقة فذلك محرم علينا أهل البيت. فقال لا ذا ولا ذاك ولكنها
هدية. فقلت هبلتك الهبول (2)، أعن دين الله أتيتني لتخدعني،
أمختبط أنت أم ذو جنة أم تهجر (3). والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما
تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة (4) ما
فعلت وإن دنياكم عندي لاهون من ورقة في فم جرادة تقضمها (5)
ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى. نعوذ بالله من سبات العقل (6)
وقبح الزلل وبه نستعين
225 - (ومن دعاء له عليه السلام)
اللهم صن وجهي باليسار (7)، ولا تبذل جاهي بالإقتار فأسترزق
218

طالبي رزقك، وأستعطف شرار خلقك، وابتلى بحمد من أعطاني،
وأفتتن بذم من منعني، وأنت من وراء ذلك كله ولي الإعطاء والمنع
" إنك على كل شئ قدير "
226 - ومن خطبة له عليه السلام
دار بالبلاء محفوفة، وبالغدر معروفة. لا تدوم أحوالها، ولا
تسلم نزالها (1) أحوال مختلفة، وتارات متصرفة. العيش فيها مذموم
والأمان فيها معدوم. وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم
بسهامها وتفنيهم بحمامها (2)
وأعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل
من قد مضى قبلكم (3) ممن كان أطول منكم أعمارا، وأعمر ديارا،
وأبعد آثارا. أصبحت أصواتهم هامدة، ورياحهم راكدة (4)،
وأجسادهم بالية، وديارهم خالية وآثارهم عافية. فاستبدلوا بالقصور
219

المشيدة والنمارق الممهدة (1) الصخور والأحجار المسندة، والقبور
اللاطئة الملحدة (2). التي قد بني بالخراب فناؤها (3)، وشيد بالتراب
بناؤها. فمحلها مقترب، وساكنها مغترب. بين أهل محلة موحشين
وأهل فراغ متشاغلين (4) لا يستأنسون بالأوطان، ولا يتواصلون
تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار ودنو الدار. وكيف
يكون بينهم تزاور وقد طحنهم بكلكله البلى (5)، وأكلتهم الجنادل
والثرى. وكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه (6)، وارتهنكم ذلك
المضجع، وصمكم ذلك المستودع. فكيف بكم لو تناهت بكم
الأمور (7)، وبعثرت القبور " هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت (8)،
وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون "
220

227 - (ومن دعائه عليه السلام)
اللهم إنك آنس الآنسين لأوليائك (1). وأحضرهم بالكفاية
للمتوكلين عليك. تشاهدهم في سرائرهم، وتطلع عليهم في ضمائرهم
وتعلم مبلغ بصائرهم. فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك
ملهوفة (2). إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك، وإن صبت عليهم
المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك، علما بأن أزمة الأمور بيدك،
ومصادرها عن قضائك
اللهم إن فههت عن مسألتي (3) أو عميت عن طلبتي فدلني على
مصالحي، وخذ بقلبي إلى مراشدي، فليس ذلك بنكر من
هداياتك (4) ولا ببدع من كفاياتك
اللهم احملني على عفوك (5) ولا تحملني على عدلك
221

228 - ومن كلام له عليه السلام
لله بلاء فلان (1) فقد قوم الأود وداوى العمد. خلف الفتنة وأقام
السنة. ذهب نقي الثوب، قليل العيب. أصاب خيرها وسبق شرها.
أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه. رحل وتركهم في طرق متشعبة (2)
لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي
229 - ومن كلام له عليه السلام
في وصف بيعته بالخلافة وقد تقدم مثله بألفاظ مختلفة
وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم
علي (3) تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى انقطعت النعل
وسقطت الرداء ووطئ الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي
أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير (4) وتحامل نحوها العليل،
وحسرت إليها الكعاب
222

230 - ومن خطبة له عليه السلام
فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد. وعتق من كل
ملكة (1)، ونجاة من كل هلكة. بها ينجح الطالب، وينجو
الهارب، وتنال الرغائب. فاعملوا والعمل يرفع (2)، والتوبة تنفع،
والدعاء يسمع. والحال هادئة، والأقلام جارية: وبادروا بالأعمال عمرا
ناكسا، ومرضا حابسا أو موتا خالسا. فإن الموت هادم لذاتكم،
ومكدر شهواتكم، ومباعد طياتكم (3). زائر غير محبوب، وقرن
غير مغلوب، وواتر غير مطلوب. قد أعلقتكم حبائله
وتكنفتكم غوائله، وأقصدتكم معابله. وعظمت فيكم سطوته
223

وتتابعت عليكم عدوته (1)، وقلت عنكم نبوته. فيوشك أن
تغشاكم دواجي ظلله، واحتدام علله. وحنادس غمراته، وغواشي
سكراته، وأليم إزهاقه، ودجو إطباقه، وجشوبة مذاقه. فكأن
قد أتاكم بغتة فأسكت نجيكم (2)، وفرق نديكم، وعفى آثاركم،
وعطل دياركم، وبعث وراثكم يقتسمون تراثكم بين حميم خاص
لم ينفع، وقريب محزون لم يمنع، وآخر شامت لم يجزع. فعليكم
بالجد والاجتهاد، والتأهب والاستعداد، والتزود في منزل الزاد. ولا
تغرنكم الدنيا كما غرت من كان قبلكم من الأمم الماضية
والقرون الخالية الذين احتلبوا درتها (3)، وأصابوا غرتها، وأفنوا
عدتها، وأخلقوا جدتها. أصبحت مساكنهم أجداثا (4)، وأموالهم
224

ميراثا. لا يعرفون من أتاهم، ولا يحفلون من بكاهم (1)، ولا يجيبون من
دعاهم فاحذروا الدنيا فإنها غدارة، غرارة خدوع، معطية منوع، ملبسة
نزوع (2). ولا يدوم رخاؤها، ولا ينقضي عناؤها، ولا يركد بلاؤها
(منها في صفة الزهاد) كانوا قوما من أهل الدنيا وليسوا من أهلها
فكانوا فيها كمن ليس منها. عملوا فيها بما يبصرون، وبادروا فيها ما
يحذرون (3). تقلب أبدانهم بين ظهراني أهل الآخرة (4)، يرون أهل
الدنيا يعظمون موت أجسادهم وهم أشد إعظاما لموت قلوب أحيائهم
231 - ومن خطبة له عليه السلام
خطبها بذي قار وهو متوجه إلى البصرة
ذكرها الواقدي في كتاب الجمل
فصدع بما أمر به (5)، وبلغ رسالات ربه فلم الله به الصدع. ورتق
225

به الفتق. وألف به ذوي الأرحام بعد العداوة الواغرة في الصدور،
والضغائن القادحة في القلوب
232 - ومن كلام له عليه السلام
كلم به عبد الله بن زمعة وهو من شيعته وذلك أنه قدم
عليه في خلافته يطلب منه مالا فقال عليه السلام:
إن هذا المال ليس لي ولا لك وإنما هو فئ للمسلمين (1) وجلب
أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم، وإلا فجناة
أيديهم لا تكون لغير أفواههم
233 - ومن كلام له عليه السلام
ألا إن اللسان لضعة من الانسان (2) فلا يسعده القول إذا امتنع
ولا يمهله النطق إذا اتسع. وإنا لأمراء الكلام، وفينا تنشبت عروقه
وعلينا تهدلت غصونه
226

واعلموا رحمكم الله أنكم في زمان القاتل فيه بالحق قليل، واللسان
عن الصدق كليل (1)، واللازم للحق ذليل. أهله معتكفون على العصيان.
مصطلحون على الإدهان فتاهم عارم (2)، وشائبهم آثم، وعالمهم منافق،
وقارئهم مماذق. لا يعظم صغيرهم كبيرهم، ولا يعول غنيهم فقيرهم
234 - ومن كلام له عليه السلام
(روى اليماني عن أحمد بن قتيبة عن عبد الله بن يزيد عن
مالك بن دحية قال: كنا عند أمير المؤمنين عليه
السلام وقد ذكر عنده اختلاف الناس فقال):
إنما فرق بينهم مبادئ طينهم (3) وذلك أنهم كانوا فلقة
من سبخ أرض وعذبها، وحزن تربة وسهلها. فهم على حسب
قرب أرضهم يتقاربون، وعلى قدر اختلافها يتفاوتون. فتام الرواء (4)
ناقص العقل، وماد القامة قصير الهمة، وزاكي العمل قبيح المنظر،
227

وقريب القعر بعيد السبر، ومعروف الضريبة منكر الجليبة، وتائه
القلب متفرق اللب، وطليق اللسان حديد الجنان
235 - ومن كلام له عليه السلام
قاله وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وتجهيزه
بأبي أنت وأمي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من
النبوة والأنباء وأخبار السماء. خصصت (1) حتى صرت مسليا عمن سواك
وعممت حتى صار الناس فيك سواء. ولولا أنك أمرت بالصبر
ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشؤون (2)، ولكان الداء مماطلا
والكمد محالفا وقلا لك (3)، ولكنه ما لا يملك رده (4) ولا يستطاع
دفعه. بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك
228

236 - ومن كلام له عليه السلام
اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة
النبي صلى الله عليه وآله ثم لحاقه به
فجعلت أتبع مأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله فأطأ ذكره
حتى انتهيت إلى العرج (1) (في كلام طويل)
(قوله عليه السلام: فأطأ ذكره. من الكلام الذي رمى به
إلى غايتي الايجاز والفصاحة، أراد أني كنت أعطى خبره (2) صلى الله
عليه وآله من بدء خروجي إلى أن انتهيت إلى هذا الموضع فكنى
عن ذلك بهذه الكناية العجيبة)
237 - ومن خطبة له عليه السلام
فاعملوا وأنتم في نفس البقاء (3) والصحف منشورة، والتوبة
مبسوطة. والمدبر يدعى، والمسئ يرجى. قبل أن يخمد العمل،
وينقطع المهل، وينقضي الأجل، ويسد باب التوبة وتصعد الملائكة (4)
229

فأخذ امرؤ من نفسه لنفسه (1). وأخذ من حي لميت، ومن فان
لباق، ومن ذاهب لدائم. امرؤ خاف الله (2) وهو معمر إلى أجله،
ومنظور إلى عمله، أمرؤ ألجم نفسه بلجامها وزمها بزمامها (3)،
فأمسكها بلجامها عن معاصي الله وقادها بزمامها إلى طاعة الله
238 - ومن كلام له عليه السلام
في شأن الحكمين وذم أهل الشام
جفاة طغام (4)، وعبيد أقزام. جمعوا من كل أوب، وتلقطوا من
كل شوب ممن ينبغي أن يفقه ويؤدب (5)، ويعلم ويدرب، ويولى
230

عليه ويؤخذ على يديه. ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من
الذين تبوأوا الدار
ألا وإن القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما تكرهون (1)،
وإنما عهدكم بعبد الله بن قيس بالأمس يقول: " إنها فتنة فقطعوا
أوتاركم وشيموا سيوفكم " فإن كان صادقا (2) فقد أخطأ بمسيره
غير مستكره، وإن كان كاذبا فقد لزمته التهمة. فادفعوا في صدر
عمرو بن العاص بعبد الله ابن العباس، وخذوا مهل الأيام وحوطوا
قواصي الاسلام. ألا ترون إلى بلادكم تغزى، وإلى صفاتكم ترمى
231

239 - ومن خطبة له عليه السلام
يذكر فيها آل محمد صلى الله عليه وآله
هم عيش العلم وموت الجهل. يخبركم حلمهم عن علمهم.
وصمتهم عن حكم منطقهم. لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه. هم
دعائم الاسلام وولائج الاعتصام (1) بهم عاد الحق في نصابه (2)،
وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته. عقلوا الدين
عقل وعاية ورعاية (3)، لا عقل سماع ورواية. فإن رواة العلم كثير
ورعاته قليل
240 - ومن كلام له عليه السلام
قاله لعبد الله بن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان وهو محصور
* = قواصي الاسلام أي احفظوها من غارة أهل الفتنة عليها، واجعلوا كل قاصية لكم لا عليكم.
وقواصي الاسلام أطرافه. ورمى الصفاة - بفتح الصاد - كناية عن طمع العدو فيما باليد.
وأصل الصفاة الحجر الصلد يراد منها القوة وما يحميه الإنسان
232

يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس باسمه للخلافة (1)
بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل، فقال عليه السلام:
يا ابن عباس ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملا ناضحا بالغرب (2)
أقبل وأدبر، بعث إلي أن أخرج، ثم بعث إلي أن أقدم، ثم هو الآن
يبعث إلي أن أخرج. والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن
أكون آثما
241 - ومن خطبة له عليه السلام
(ومن كلام له عليه السلام يحث فيه أصحابه على الجهاد)
والله مستأديكم شكره (3) ومورثكم أمره، وممهلكم في
مضمار محدود (4)
233

لتتنازعوا سبقه. فشدوا عقد المآزر (1)، واطووا فضول الخواصر،
ولا تجتمع عزيمة ووليمة (2). ما أنقض النوم لعزائم اليوم (3)،
وأمحى الظلم لتذاكير الهمم
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله مصابيح الدجى
والعروة الوثقى وسلم تسليما كثيرا
234